قد كان لي فيما مضى خاتم ... واليوم لو شئت تمنطقت به
وذبت من شوق فلو زج بي ... في مقلة النائم لم ينتبه
وقول المظفر بن كيغلغ:
عبدك أمرضته فعده ... أتلفه إن لم تكن ترده
ذاب فلو فتشت عليه ... كفك في الفرش لم تجده
وقول ابن دانيال:
محب غدا جسمه ناحلا ... يكاد لفرط الضنى أن يذوبا
ورق فلو حركته الصبا ... لصار نسيما وعادت قضيبا
وقول بعضهم:
ولو شئت في طي الكتاب لزرتكم ... ولم تدر عني أحرف وسطور
وقول الوزير ابن العميد:
لو أن ما أبقيت من جسمي قذى ... في العين لم يمنع من الإغفاء
ومن هنا أخذ الشيخ جعفر الخطي من شعراء هذا القرن فقال:
لقد تضائل حتى لو قذفت به ... في مقلة ما أحسته مآقيها
وأكثر من ذلك غلوا قول أبي عثمان الخالدي:
بنفسي حبيب بأن صبري ببينه ... وأودعني الأحزان ليلا ودعا
وأنحلني بالهجر حتى لو أنني ... قذى بين جفني أرمد ما توجعا
وتجاوز المتنبي أبعد من ذلك فقال:
أراك ظننت السلك جسمي فعقته ... عليك بدر عن لقاء الترائب
ولو قلم ألقيت في شق رأسه ... من السقم ما غيرت من خط كاتب
ومنه قول الشيخ جعفر الخطي رحمه الله:
وعبرة لو دعي نوح ليسلكها ... بفلكه قال بسم الله مجريها
ومقلة ألفت فرط السهاد فلو ... رد الرقاد عليها كاد يؤذيها
وقولي من أبيات خمرية:
رقت فلولا الكأس لم تبصر لها ... جسما ولم تلمس براحة لامس
فكأنها عند المزاج لطافة ... وهمٌ يخيله توهم هاجس
وقول الشريف الرضي رضي الله عنه:
لو أن قومك نصلوا أرماحهم ... بعيون سربك ما أبل طعين
ومن أحسن أنواع الغلو أيضاً ما تضمن نوعا حسنا من التخييل, وإن لم يأت فيه بأداة التقريب, ومثل له الخطيب في الإيضاح والتلخيص بقول أبي الطيب:
عقدت سنابكها عليها عثيرا ... لو تبتغي عنقا عليه لا مكنا
وتبعه على ذلك ابن حجة فقال: ومن الغلو المقبول بغير أداة التقريب قول أبي الطيب - وأنشد البيت - وأعترض ذلك بعض المتأخرين فقال: قد عدوا من أدوات التقريب (لو) وصرح بذلك ابن حجة في الإغراق فقال: ولم يقع شيء من الإغراق والغلو في الكتاب العزيز, ولا في الكلام الفصيح إلا مقرونا بما يخرجه من باب الاستحالة, ويدخله في باب الإمكان مثل (كاد) و (لو) وما يجري مجرهما, ثم قال: ومن شواهد تقريب نوع الإغراق (بلو) قول زهير:
لو كان يقعد فوق الشمس من كرم ... قوم لأولهم أو مجدهم قعدوا
قال (لو تبتغي عنقا عليه لأمكنا) وهو محل الشاهد, فإن صدره لا غلو فيه البتة, فكيف يقال أنه من الغلو بغير أداة التقريب؟.
وقد جمع القاضي الأرجاني بين حسن التخييل وأداة التقريب في قوله:
يخيل لي أن سمر الشهب في الدجى ... وشدت بأهدابي إليهن أجفاني
فقوله (يخيل) هي أداة التقريب, فإنه جعل المدعى توهما لا حقيقة وأما حسن التخييل فهو ما أدعاه من أنه لطول ليلة وشدة سهره يوقع في خياله أن الشهب محكمة بالمسامير لا تزول عن مكانها. وشدت أجفانه إليها بأهدابه لعدم انطباقها والتقائها, فجعل الأهداب بمنزلة الحبال. ولا خفاء بما في هذا التخييل من الحسن.
وإلى هذا المعنى لمح ابن نباتة في قوله - وإن لم يستوفه -:
كم ليلة بت أشكو من تطاولها ... علي والليل داجي القلب كافره
وأرقب الشهب فيه وهي ثابتة ... كأنما سمرت منها مسامره
ومن الغلو المقبول, ما أخرج مخرج الهزل والخلاعة كقول أبي الشكر محمود بن سليمان بن سعيد الموصلي المعروف بابن المحتسب من قصيدة:
أمر بالكرم خلف حائطه ... تأخذني نشوة من الطرب
أسكر بالأمس إن عزمت على الشرب غدا إن ذا من العجب
فإن السكر في الأمس للعزم على الشرب في الغد محال, لكنه مقبول لإخراجه مخرج الهزل والخلاعة, وذلك مما تميل إليه الطباع.
وقول ابن الحجة أنه من الغلو الذي هو غير مقبول, فقد نص على ما ذكرناه الخطيب في كتابه, وغيره من المحققين, فلا عبرة بقوله.
ومنه قول أبي الحسن أحمد بن المؤمل:
وقائلة ما بالك بالدهر طافحا ... وأنت مسن لا يليق به السكر(1/318)
فقلت لها أفكرت في الخمر مرة ... فاسكرني ذاك التوهم والفكر
ومن الغلو بغير أداة التقريب قول أبي نواس في الخمر:
فلما شربناها ودب دبيبها ... إلى موضع الأسرار قلت لها قفي
مخافة أن يسطو على شعاعها ... فيطلع ندماني على سري الخفي
قوله أيضاً:
وأخفت أهل الشرك حتى أنه ... لتخافك النطف التي لم تخلق
روي أن العتابي الشاعر لقي أبا نواس فقال: ما استحييت من الله بقولك (وأخفت أهل الشرك - البيت) فقال له أبو نواس: وأنت ما استحييت من الله بقولك:
ما زلت في غمرات الموت مطرحاً ... يضيق عني وسيع الرأي من حيلي
فلم تزل دائبا تسعى بلطفك لي ... حتى اختلست حياتي من يدي أجلي
فقال العتابي: قد علم الله, وعلمت أن مثل هذا ليس قول مثلك, ولكنك قد أعددت لكل ناصح جوابا.
وقد استعمل أبو نواس معنى البيت ثانيا فقال:
حتى الذي في الرحم لم يك صورة ... لفؤاده من خوفه خفقان
ومنه قوله أيضاً:
لا ينزل الليل حيث حلت ... فدهر شرابها نهار
وقول الآخر:
منعت مهابتك القلوب كلامها ... بالأمر تكرهه وإن لم تعلم
وقول النظام:
نظرت إليه نظرة فتحيرت ... دقائق وهمي في جليل صفاته
فأومى إليه الوهم أني أحبه ... فأثر ذاك الوهم في وجناته
وقوله أيضا:
حركات الضمير تؤثر في الخد ... ويدميه وهم لحظ العيون
رق حتى لو لامسته أذابت ... هـ بإيمائها يد المكنون
وقول أبي العتاهية في فرس للرشيد. حدث ابن الأعرابي قال: أجرى هارون الرشيد الخيل فجاء فرس يقال له المشمر سابقا, وكان الرشيد معجبا بذلك الفرس, فأمر الشعراء أن يقولوا فيه فبدرهم أبو العتاهية فقال:
جاء المشمر والأفراس يقدمها ... عفوا على رسله منها وما انبهرا
وخلف الريح حسرى وهي جامدة ... ومر يختطف الأبصار والنظرا
قال: فأجزل وصلته, وما جسر أحد بعد أبي العتاهية أن يقول شيئا.
وقول الآخر في فرس أيضا:
كم سابح أعددته فوجدته ... عند الكريهة وهو نسر طائر
لم يرم قط بطرفه في غاية ... إلا وسابقه إليها الحافر
وقول ابن حجاج في مرثية فرس له:
قال له البرق وقالت له الريح ... جميعا وهما ما هما
أأنت تجري معنا قال لا ... إن شئت أضحكتكما منكما
هذا ارتداد الطرف قد فته ... إلى المدى سبقا فمن أنتما
وقول ابن خفاجة الأندلسي:
وأبلق خوار العنان مطهم ... طويل الشوى والساق أقود أتلعا
جرى وجرى البرق اليماني عشية ... فأبطأ عنه البرق عجزا وأسرعا
وحسب الأعادي أن يزجروا به ... مغيرا غربا صبح القوم أبقعا
ومعنى البيت الأخير في غاية الحسن.
وقول الشيخ صفي الدين الحلي رحمه الله:
وأغر تبري الإهاب مورد ... سبط الأديم محجل ببياض
وأخشى عليه أن يصاب بأسهمي ... لما يسابها إلى الأغراض
وقوله أيضا:
وأدهم يقق التحجيل ذي مرح ... يميس من عجبه كالشارب الثمل
مضمر مشرف الأذنين تحسبه ... موكلا باستراق السمع عن زحل
ركبت منه مطاليلٍ تسير به ... كواكب تلحق المحمول بالحمل
إذا رميت سهامي فوق صهوته ... مرت بهاديه وانحطت عن الكفل
وقول الشيخ صلاح الدين الصفدي:
يا حسنه من أشقر قصرت ... عنه بروق الجو في الركض
لا تستطيع الشمس من جريه ... ترسمه ظلا على الأرض
فهذه الأمثلة كلها من نوع الغلو الذي لم يؤت فيه بأداة التقريب, ومنها البديع المستحسن, والمقبول غير المستهجن كما ترى, فظهر لك أن حسن الغلو غير مقصور على ما قرب من الإمكان بأداة التقريب كما زعم ابن حجة في شرح بديعيته.
ومن الغريب أن ابن حجة عد من أدوات التقريب (لو) كما مر ببيانه, ثم قال: ومن الغلو بغير أداة التقريب قول بعضهم:
قد كان لي فيما مضى خاتم ... واليوم لو شئت تمنطقت به
وذبت حتى صرت لو زج بي ... في مقلة النائم لم ينتبه
قال: ومثل هذا لا يقبله العقل, ولا عليه رونق القبول. انتهى. وقد ترى أن الغلو في هذين البيتين كليهما مقرون (بلو) فهل هذا إلا تناقض؟.(1/319)
وأما الغلو المردود القبيح الذي يجب اجتنابه, ويهجر جنابه, فهو ما آل بصاحبه إلى الكفر والاستخفاف بقدرة الله تعالى, والمدح الذي لا يليق إلا بجنابه عز وجل, سواء قرن بشيء من أدوات التقريب أم لا.
كقول ابن دريد في مقصورته يخاطب الدهر:
ما رست من لو هوت الأفلاك من ... جوانب الجو عليه ما شكا
يقال: أنه أصابه فالج بطل له من محزمه إلى قدمه, فكان إذا دخل عليه الداخل صاح وتألم لدخوله وإن لم يصل إليه. قال تلميذه أبو علي إسماعيل بن القاسم القالي: فكنت أقول في نفسي أن الله عز وجل عاقبه لقوله المذكور, فكان يصيح لذلك صياح من يمشي عليه, أو يشك بالمسال؛ أعاذنا الله من ذلك.
ويقرب من ذلك ما حكي أن الشيخ عمر بن الفارض لما نظم قوله:
وبما شئت في هواك اختبرني ... فاختباري ما كان فيه رضاكا
ابتلي بحصر البول, حتى أنه صار يأتي للصبيان في المكاتب ويقول: ادعوا لعمكم الكذاب.
ومن غلو ابن دريد القبيح في مقصورته هذه قوله أيضاً في ممدوحه:
ولو حمى المقدار عنه مهجة ... لرامها أو يستبيح ما حمى
تغدو المنايا طائعات أمره ... ترضى الذي يرضى وتأبى ما أبى
وقول أبي العتاهية:
فإذا أضرم حربا كان في ... مهج القوم شريكا للقدر
وقول علي بن جبلة المعروف بالعكوك:
أنت الذي تنزل الأيام منزلها ... وتنقل الدهر في حال إلى حال
وما مددت مدى طرف إلى أحد ... إلا قضيت بأرزاق وآجال
وبهذين البيتين استحل المأمون دم الشاعر المذكور.
ذكروا أن المأمون لما بلغه قول علي بن جبلة في أبي دلف:
كل من في الأرض من عرب ... بين باديه ومحتضره
مستعير منك مكرمة ... يكتسيها يوم مفتخره
استشاط من ذلك وغضب غضباً شديداً وقال: ويلي على ابن الفاعلة, يزعم أنا لا نعرف مكرمة إلا مستعارة من أبي دلف وقال: اطلبوه حيث ما كان, وأتوني به. فطلبوه ولم يقدروا عليه, لأنه كان مقيما بالجبل. فلما اتصل به الخبر هرب إلى الجزيرة الفراتية, حتى توسط الشامات فظفروا به وأخذوه, وحمل مقيدا إلى المأمون. فلما صار بين يديه قال: يابن اللخناء أنت القائل في قصيدتك للقاسم بن عيسى - وهو أبو دلف - (كل من في الأرض من عرب) وأنشد البيتين, جعلتنا ممن يستعير المكارم منه يوم الافتخار؟ قال: يا أمير المؤمنين أنتم أهل بيت لا يقاس بكم, لأن الله اختصكم لنفسه على عباده, وآتاكم الكتاب والحكم وآتاكم ملكا عظيما. وإنما ذهبت في قولي إلى أقران وأشكال القاسم بن عيس من الناس. فقال: والله ما أبقيت أحدا, ولقد أدخلتنا في الكل, وما استحل دمك بكلمتك هذه, ولكن استحله بكفرك في شعرك, حيث قلت في عبد ذليل مهين فأشركت بالله وجعلت معه ملكاً قادراً, وهو (أنت الذي تنزل الأيام منزلها) وأنشد البيتين.
ثم قال: أخرجوا لسانه من قفاه, فمات, وكان ذلك في سنة ثلاث عشرة ومائتين ببغداد.
والشعراء المشهورون بالاستكثار من الغلو المردود والقبيح: أبو نواس وأبو الطيب المتنبي, وابن هاني الأندلسي وهو أشهرهم بذلك, وأبو العلاء المعري, والمتأخرين ابن النبيه.
فمن غلو أبي نواس القبيح قوله يمدح الفضل بن العباس:
يداه في الأرض والسماء فما ... تجوز قطريه كف مخلوق
وقوله في الرشيد:
فلا يتعذرن عليك عفو ... وسعت به جميع العالمينا
وهذا إنما هو عفو الله سبحانه لا عفو الرشيد.
وقوله فيه أيضاً:
يا ناق لا تسأمي أو تبلغي ملكا ... تقبيل راحته والركن سيان
وقوله في الغزل:
متتايه بجماله صلف ... لا يستطاع كلامه تيها
للحسن في وجناته بدع ... ما إن ميل الدرس قاريها
لو كانت الأشياء تعقله ... أجللته إجلال باريها
وقال أبو منصور الثعالبي في يتيمة الدهر عند ذكره ما نعي على أبي الطيب المتنبي من معائب شعره ومقابحه: منها الإفصاح عن ضعف العقيدة, ورقة الدين. على أن الديانة ليست عيارا على الشعر, ولا سوء الاعتقاد سببا لتأخر الشعر, ولكن الإسلام حقه من الإجلال الذي لا يسوغ الإخلال به, قولا وفعلا ونظما ونثرا, ومن استهان بأمره, ولم يضع ذكره وذكر ما يتعلق به في موضع استحقاقه فقد باء بغضب من الله تعالى, وتعرض لمقته في وقته.(1/320)
وكثيرا ما قرع المتنبي هذا الباب بمثل قوله:
يترشفن من فمي رشفات ... هن فيه أحلى من التوحيد
قلت: وقال أبو الفتح بن جني: أنه أنشده حلاوة التوحيد, أي هي عندي مثل حلاوة التوحيد. وأبعد وأغرب بعض الشراح حيث جعل التوحيدي بياء النسبة, وقال: أنه نوع من التمر.
وقوله:
تتقاصر الإفهام عن إدراكه ... مثل الذي الأفلاك فيه والدنى
وقد أفرط جداً, لأن الذي الأفلاك فيه والدنى هو علم الله تعالى.
وقوله:
الناس كالعابدين آلهة ... وعبده كالموحد اللاها
وقوله:
لو كان علمك بالإله مقسما ... في الناس ما بعث الإله رسولا
أو كان لفظك فيهم ما أنزل ال ... توراة والفرقان والإنجيلا
وقوله:
لو كان ذو القرنين أعمل رأيه ... لما أتى الظلمات صرن شموسا
أو كان صادف رأس عازر سيفه ... في يوم معركة لاعيا عيسى
عازر: اسم الرجل الذي أحياه المسيح عليه السلام:
أو كان لج البحر مثل يمينه ... ما أنشق حتى جاز فيه موسى
وكأن المعاني أعيته حتى التجأ إلى استصغار أمور الأنبياء عليهم السلام وفي هذه القصيدة:
يا من نلوذ من الزمان بظله ... أبدا ونطرد باسمه إبليسا
وقوله وقد جاوز حد الإساءة:
أي محل أرتقى ... أي عظيم اتقى
وكل ما قد خلق ال ... له وما لم يخلق
محتقر في همتي ... كشعرة في مفرقي
وقبيح بمن أوله نطفة مذرة, وآخره جيفة قذرة, وهو فيما بينهما محمل العذرة, أن يقول مثل هذا الكلام.
ومن غلو ابن هاني الشنيع قوله في المعز لدين الله:
ما شئت لا ما شاءت الأقدار ... فاحكم فأنت الواحد القهار
وكأنما أنت النبي محمد ... وكأنما أنصارك الأنصار
أنت الذي كانت تبشرنا به ... في كتبها الأحبار والأخبار
ومنها:
جلت صفاتك أن تحد بمقول ... ما يصنع المصداق والمكثار
وقوله فيه من أخرى:
هذا ضمير النشأة الأولى التي ... بدأ الإله وغيبها المكنون
من أجل هذا قدر التقدير في ... أم الكتاب وكون التكوين
وبذا تلقى آدم من ربه ... عفوا وفاء ليونس اليقطين
لو يلتقي الطوفان قبل وجوده ... لم ينج نوحا فلكه المشحون
ومنها يخاطبه:
والنور أنت وكل نور ظلمة ... والفوق أنت وكل قدر دون
لو كان رأيك شائعا في أمة ... علموا بما سيكون قبل يكون
وقوله من أخرى فيه أيضا:
وعلمت من مكنون علم الله ما ... لم يؤت جبريلا وميكائيلا
لو كنت آونة نبيا مرسلا ... نشرت بمبعثك القرون الأولى
أو كنت نوحا منذرا في قومه ... ما زادهم بدعائه تضليلا
لله فيك سريرة لو أظهرت ... أحيا بذكرك قاتل مقتولا
لو كان آتى الخلق ما أوتيته ... لم يخلق التشبيه والتمثيلا
لولا حجاب دون علمك حاجز ... وجدوا على علم الغيوب سبيلا
وقال وأساء في المقال:
وجد العيان سناك تحقيقا ولم ... تحط الظنون بكنهه تصريحا
أخشاك تنسي الشمس مطلعها كما ... أنسى الملائك ذكرك التسبيحا
أقسمت لولا أن دعيت خليفة ... لدعيت من بعد المسيح مسيحا
شهدت بمعجزك السماوات العلى ... وتنزل القرآن فيك مديحا
وقوله وقد تجاوز الحد:
أتبعته فكري حتى إذا بلغت ... غاياتها بين تصويب وتصعيد
رأيت موضع برهان يبين وما ... رأيت موضع تكييف وتحديد
وهذا مدح يليق بالخالق سبحانه لا بالمخلوق, وهو في شعره كثير جدا حتى قال القاضي ابن خلكان في ترجمته: ولولا ما في ديوانه من الغلو في المدح والإفراط المؤدي إلى الكفر لكان من أحسن الدواوين. وليس من المغاربة من هو في طبقته, لا من متقدميهم ولا متأخريهم, بل هو أشعرهم على الإطلاق. وهو عندهم كالمتنبي عند المشارقة, وكانا متعاصرين والله أعلم.
ومن غلو أبي العلاء المعري قوله في قصيدة:
ولولا قولك الخلاق ربي ... لكان لنا بطلعتك افتتان
وقوله أيضاً من أخرى:
خاضعات لك الكواكب تختص ... مواليك بالمحل الأثير
لا يؤثرن في الولي ولا الحاسد حتى تشير بالتأثير
ومنها في تهنئة ممدوحه بالزواج:(1/321)
كنت موسى وافتك بنت شعيب ... غير أن ليس فيكما من فقير
وقوله:
وقد علمت هذي البسيطة أنها ... تراثك فلتشرف بذاك وتزدد
وإن شئت فأرغم من فوق ظهرها ... عبيدك واستشهد إلهك يشهد
نعوذ بالله من هذا الغلو القبيح, فإن فوق الأرض من عباد الله الأخيار والصلحاء الأبرار, والأقطاب والإبدال, ما لا يعلمهم إلا الله تعالى, فما له يقول هذا القول الشنيع الذي تصم منه الأسماع, وتنفر منه الطباع.
ومنه قوله أيضاً:
فلو زار أهل الخلد عتبك زورة ... لأوهمهم أن الجنان جحيم
وقوله في رثاء فقيه:
واكسواه الأكفان من ورق المص ... حف كبرا عن أنفس الأبراد
ومن غلو ابن النبيه قوله يمدح الخليفة الناصر لدين الله:
بغداد مكننا وأحمد أحمد ... حجوا إلى تلك المناسك واسجدوا
يا مذنبين ضعوا بها أوزاركم ... وتطهروا بترابها وتهجدوا
فهناك من جسد النبوة بضعة ... بالوحي جبري لها يتردد
باب النجاة مدينة العلم التي ... ما زال كوكب هديها يتوقد
هذا هو الستر الذي بهر الورى ... في ظهر آدم والملائك سجد
هذا الذي يسقي العطاش بكفه ... والحوض ممتنع الحمى لا يورد
هذا الصراط المستقيم حقيقة ... من زل عنه ففي جهنم يخلد
ومنها وقد جاوز الحد:
يا من لمبغضه الجحيم قراراة ... ولمن يواليه النعيم السرمد
لولا التقية كنت أول معشر ... غالوا فقالوا أنت رب تعبد
وقوله من أخرى فيه:
له على سرِّ سرِّ الغيب مطلع ... فما موارده إلا مصادره
يقضي بتفضيله سادة عترته ... لو كان صادقه حيا وباقره
كل الصلاة خداج لا تمام لها ... إذا تقضت ولم يذكره ذاكره
كل الكلام قصير عن مناقبه ... إلا إذا نظم القرآن شاعره
وقوله من أخرى فيه:
فيك سر لوه ما قسم الل ... هـ على الناس جنة وسعيرا
قد هدانا بك السبيل فإما ... مؤمنا شاكراً وإما كفورا
وقوله في الملك الأشرف:
ملك له الفضل على آدم ... والفضل لا يكسب بالمولد
لو لم تر الأملاك في صلبه ... غرته الغراء لم تسجد
ومن هذا النمط في شعره كثير وهو مشهور بذلك, فلا حاجة إلى الإكثار منه.
ومن الغلو القبيح, قول عضد الدولة:
ليس شرب الراح إلا في المطر ... وغناء من جوار في السحر
غانيات سالبات للنهى ... ناغمات في تضاعيف الوتر
مبرزات الكأس من مطلعها ... ساقيات الراح من فاق البشر
عضد الدولة وابن ركنها ... ملك الأملاك غلاب القدر
يقال أنه ما عاش بعد هذه الأبيات إلا قليلا, ولما احتضر لم يكن لسانه ينطق إلا بتأوه (ما أغنى عني ماليه هلك عني سلطانيه) ومنه أيضاً قول الشيخ جعفر الخطي من شعراء هذا القرن:
وزفرة لو ثوى يوم الخليل بها ... أودى ولم يغن عنه برده فيها
ومنها:
ماذا على الطير إذ أبلى الضنا جسدي ... فخف لو حملتني في خوافيها
أن تقعد الطير عن حملي لكم وسرت ... ريح الصبا فاطلبوني في مساريها
تلقي لكم جسدا لو أن علته ... يدعى المسيح لها ما كان يبريها
وأنا استغفر الله تعالى من إثبات هذه الأشياء, فليحذر الأديب الأريب الوقوع في مثل ذلك, وليتجنب هذه المسالك, فأن عن ذلك للشاعر مندوحة, ولا يعود عليه إلا منه إلا المقت من رحمة الله وخلقه. (ومن يعظم شعائر الله فإنها من تقوى القلوب) .
وبيت بديعية الشيخ صفي الدين الحلي في هذا النوع قوله:
عزيز جار لو الليل استجار به ... من الصباح لعاش الناس في الظلم
هذا الغلو في مدحه صلى الله عليه وآله وسلم بديع مقبول, لائحة عليه إشارات القبول, لا كقوله في ممدوحه:
ولو أتاه الليل مستجيرا ... آمنه من سطوات الفجر
وبيت بديعية ابن جابر الأندلسي قوله:
تكاد تشهد أن الله أرسله ... إلى الورى نطف الأبناء في الرحم
هذا الغلو في مديحه عليه وآله الصلاة والسلام أيضاً حسن مقبول, لو لم يشنه بذكر الرحم والنطف الذي لا يليق بالمديح النبوي.
وبيت بديعية عز الدين الموصلي قوله:
في مدحه نفحات لا غلو بها ... يكاد يحيي شذاها بالي الرمم(1/322)
نفحات غلو هذا البيت أخجلت نفحات الغالية, ونشر شذاه عطر مسام الأرواح حتى كاد يحيي الرمم البالية, مع تمام الانسجام والرقة, وتمكن القافية. ولا شك أنه من البيوت التي أذن الله أن ترفع بمديح نبيه المصطفى ذي المقام الأرفع صلى الله عليه وآله الكرام, وأصحابه العظام.
وبيت بديعية ابن حجة قوله:
بلا غلو إلى السبع الطباق سرى ... وعاد والليل لم يحفل بصحبهم
غالى ابن حجة في الإعجاب بغلو هذا البيت, وظن أنه لا يتحكم عليه لو, (ولا, وليت) , والذي أقوله: إنه إنما نظم أمرا واقعا لا غلو فيه, إلا لو لم يقع, وأما بعد وقوعه فادعاء استحالته عقلا وعادة كما هو معنى الغلو قد يكون كفرا - نعوذ بالله من ذلك - فإنه صلى الله عليه وآله وسلم سرى إلى السماوات السبع ليلة الإسراء, ودوخ طباقها, وعاد قبل طلوع الفجر, لاشك في ذلك. فتسمية هذا غلوا فيه مالا يخفى.
وبيت بديعية الشيخ عبد القادر الطبري قوله:
بلا غلو لو الدهر استجار به ... من الفنا لم يكن يوما بمنعدم
هذا أيضاً من الغلو المقبول في مدح الرسول صلى الله عليه وآله وسلم.
وبيت بديعيتي هو قولي:
ولا غلو إذا ما قلت عزمته ... تكاد تثني عهود الأعصر القدم
دعوى إعادة عهود الأزمان الماضية مما يستحيل عقلا وعادة, إلا أن فعل التقريب وهو (تكاد) قرب ذلك من الصحة, وأخرجه عن الاستحالة, فهو من الغلو المقبول, على أنه لا غلو في ذلك كما أشرنا إليه في نفس البيت, لكونه في مديحه صلى الله عليه وآله وسلم.
وبيت بديعية الشيخ إسماعيل المقري قوله:
عريض جاه لو أن الدهر طال مدى ... كجاهه آمن الدنيا من العدم
التفريق
قاسوه بالبحر والتفريق متضح ... أين الأجاج من المستعذب الشبم
التفريق في اللغة ضد الجمع لا الاجتماع كما وهم ابن حجة, وضد الاجتماع إنما هو الافتراق لا التفريق. وفي اصطلاح البديعيين هو إيقاع تباين أمرين من نوع واحد في المدح أو غيره.
كقول الشاعر:
قاسوك بالغصن في الثني ... قياس جهل بلا أنتصاف
هذاك غصن الخلاف يدعى ... وأنت غصن بلا خلاف
وقول رشيد الدين الوطواط:
ما نوال الغمام وقت ربيع ... كنوال الأمير يوم سخاء
فنوال الأمير بدرة عين ... ونوال الغمام قطرة ماء
وقد تلاعب الشعراء بمعنى هذين البيتين كثيرا, فللوأواء الدمشقي:
من قاس جدواك بالغمام فما ... أنصف في الحكم بين شكلين
أنت إذا جدت ضاحك أبدا ... وهو إذا جاد دامع العين
ولبعضهم فيه:
من قاس جدواك يوما ... بالسحب أخطأ مدحك
السحب تعطي وتبكي ... وأنت تعطي وتضحك
وللأديب يعقوب النيسابوري:
رأيت عبيد الله يضحك معطيا ... ويبكي أخوه الغيث عند عطائه
وكم بين ضحاك يجود بماله ... وآخر بكاء يجود بمائه
ولأبي الفتح البستي:
يا سيد الأمراء يا من جوده ... أوفى على الغيث المطير إذا همى
الغيث يعطي بالحيا متجهما ... ونداك يعطي بالجدا متبسما
ولشرف الدين النجاري:
ما قست بالغيث العطايا منك إذ ... يبكي وتضحك إذ توالي للندى
وإذا أفاض على البرية جوده ... ماء تفيض لنا غيوثك عسجدا
وقلت أنا في ذلك:
من قاس جدوى راحتيك إذا همت ... بالغيث أخطأ في القياس وما درى
إذ أنت تعطي ضاحكا مستبشر ... والغيث يعطي باكيا مستعبرا
وقلت أيضاً:
من قاس جدوى يديك يوما ... بالغيث ما بر في امتداحك
الغيث ينهل وهو باك ... وأنت تعطي وأنت ضاحك
وما أبدع قول البديع الهمداني من قصيدته المقدم ذكرها:
وكاد يحيك صوب الغيث منسكبا ... لو كان طلق المحيا يمطر الذهبا
والدهر لو لم يخن والشمس لو نطقت ... والليث لو لم يصد والبحر ولو عذبا
وما زلت معجبا بقول ابن اللبانة في المعتمد بن عباد:
سألت أخاه البحر عنه فقال لي ... شقيقي إلا أنه البارد العذب
لنا ديمتا مال وماء فديمتي ... تماسك أحيانا وديمته سكب
إذا نشأت برية فله الندى ... وإن نشأت بحرية فله السحب
وقال أبو العلاء المعري:(1/323)
تنازع فيك الشبه بحر وديمة ... ولست إلى ما يزعمان بمائل
إذا قيل بحر فهو ملح مكدر ... وأنت نمير الجود عذب الشمائل
ولست بغيث فوك للدر معدن ... ولم تلف دار في الغيوث الهواطل
ومنه قول السيد علي بن محمد الحماني في الغزل: وجه هو البدر إلا أن بينهما=فضلا تحير عن حافاته النور
في وجه ذاك أخاليط مسودة ... وفي مضاحك هذا الدر منثور
وقول بعضهم:
يا غيوث السماء دمعك يفنى ... عن قليل وما لدمعي فناء
أنا أبكي طوعا وتبكين كرها ... ودموعي دم ودمعك ماء
وقول مهيار الديلمي:
أبكي وتبكي غير أن الأسى ... دموعه غير دموع الدلال
أخذه السيد أحمد الصفوي الدمشقي فقال:
صه يا حمام فلست المشوق ... ولا بات فيها كحالي
فما من تباكي كما من بكى ... ودمع الأسى غير دمع الدلال
والشعر في هذا المعنى يضيف عن الإحاطة به نطاق الحصر, وفي هذا النموذج كفاية.
وبيت بديعية الشيخ صفي الدين الحلي في هذا النوع قوله:
فجود كفيه لم تقلع سحائبه ... عن العباد وجود السحب لم يدم
هذا من بيت ابن اللبانة المقدم ذكره وهو:
لنا ديمتا ماء ومال فديمتي ... تماسك أحيانا وديمته سكب
وبيت بديعية ابن جابر الأندلسي:
لا يستوي الغيث مع كفيه نائل ذا ... ماء ونائله مال فلا تهم
ثقل تركيب هذا البيت, وتعقيد ألفاظه, وتداعي قافيته, ظاهرة مع سهولة نظم هذا النوع وخفة محمله.
على أنه مأخوذ من قول الأول:
فنوال الأمير بدرة مال ... ونوال الغمام قطرة ماء
وبيت بديعية عز الدين الموصلي قوله:
قالوا هو البحر والتفريق بينهما ... إذ ذاك غم وهذا فارج الغمم
قال ابن حجة: ليس في بديعية الموصلي بيت يناظر هذا البيت في علو طباقه, فإنه مشتمل على التورية باسم النوع, ولطف الانسجام والسهولة.
وبيت بديعية ابن حجة قوله:
قالوا هو البدر والتفريق يظهر لي ... في ذاك نقص وهذا كامل الشيم
أغار ابن حجة على صدر بيت عز الدين الموصلي أغارة قبيحة, لا يرضى بها من له في الأدب خطوة فسيحة, على أنه مأخوذ من قول الأول:
حسبت جماله بدرا منيرا ... وأين البدر من ذاك الجمال
وبيت بديعية الشيخ عبد القادر الطبري قوله:
فاق النبيين والتفريق يظهر من ... دوام معجزة للغير لم تدم
لنظر الأديب في هذا البيت مجال يستغني عن المقال.
وبيت بديعيتي هو قولي:
قاسوه بالبحر والتفريق متضح ... أين الأجاج من المستعذب الشبم
التفريق في هذا البيت من جهتين: إحداهما أن البحر ملح, وهو مستعذب. والثانية أن البحر حار وهو بارد. والتفريق في أبيات البديعيات المذكورة كلها من جهة واحدة.
ولست أدعي في هذا البيت الاختراع بل هو من قول ابن اللبانة المقدم:
سألت أخاه البحر عنه فقال لي ... شقيقي إلا أنه البارد العذب
ولكن في بيتي تلميح إلى قوله تعالى (وما يستوي البحران هذا عذب فرات سائغ شرابه وهذا ملح أجاج) .
وبيت بديعية إسماعيل المقري قوله:
أين السحاب وأين البحر منه ندى ... البحر ملح وجود السحب لم يدم
هذا البيت فيه تفريقان كلاهما مأخوذ مما تقدم.
التلميح
تلميحه كم شفى في الخلق من علل ... وما لعيسى يد فيها فلا تهم
التلميح - قال العلامة التفتازاني في شرح التلخيص: صح بتقديم اللام على الميم, من لمحه, إذا أبصره ونظر إليه. وكثيرا ما تسمعهم يقولون في تفسير الأبيات: في هذا البيت تلميح إلى قول فلان, وقد لمح هذا البيت فلان إلى غير ذلك من العبارات.
وأما التلميح - بتقديم الميم - فهو مصدر ملح الشاعر: إذا أتى بشيء مليح, وهو ههنا خطأ محض, نشأ من قبل الشارح العلامة, حيث سوى بين التمليح والتلميح, وفسرهما: بأن يشار إلى قصة أو شعر. ثم صار الغلط مستمرا, وأخذ مذهبا لعدم التمييز. انتهى.
فلا عبرة بقول ابن حجة: وسماه قوم التمليح - بتقديم الميم - كأن الناظم أتى في بيته بنكتة زادته ملاحة.(1/324)
وهو في الاصطلاح, أن يشار في الكلام إلى آي من القرآن, أو حديث مشهور, أو شعر مشهور أو مثل سائر, أو قصة, من ذكر شيء من ذلك صريحا. وأحسنه وأبلغه, ما حصل به زيادة في المعنى المقصود. قال الطيبي في التبيان: ومنه قوله تعالى (ولقد فضلنا بعض النبيين على بعض وآتينا داود زبورا) . وقال جار الله: قوله: وآتينا داود زبورا, دلالة على تفضيل محمد صلى الله عليه وآله وسلم وهو خاتم الأنبياء وأن أمته خير الأمم, لأن ذلك مكتوب في الزبور. قال تعالى (ولقد كتبنا في الزبور من بعد الذكر أن الأرض يرثها عبادي الصالحون) , وقال: وهو محمد صلى الله عليه وآله وأمته.
ولنرتب شواهد هذا النوع على فصول.
الفصل الأول فيما وقع التلميح فيه إلى آية من القرآن فمنه قول نصر بن أحمد الخبز أرزي رحمه الله:
أستودع الله أحبابا فجعت بهم ... بانوا وما زودني غير تعذيب
بانوا ولم يقض زيد منهم وطرا ... ولا انقضت حاجة في نفس يعقوب
لمح في المصراع الأول إلى قوله تعالى (فلما قضى زيد منها وطرا زوجناكها) , وفي الثاني قوله تعالى (إلا حاجة في نفس يعقوب قضاها) .
ولمح إلى الآية الأولى البهاء زهير في مطلع قصيدة له فقال:
لم يقض زيدكم من حبكم وطره ... ولا قضى ليله من حبكم سمره
يا صارفي القلب إلا عن مودتهم ... وسالبي الطرف إلا عنهم نظره
ولمح في الثانية أيضاً الشريف الرضي رضي الله عنه في قوله:
وحاجة أتقاضاه وتمطلني ... كأنها حاجة في نفس يعقوب
ومنه قول بعضهم:
ما في الصحاب وقد سارت حمولهم ... إلا محب له في الركب محبوب
كأنما يوسف في كل راحلة ... والحي في كل بيت منه يعقوب
يشير إلى ما قصه سبحانه في القرآن العظيم من أمر يوسف. وحرض يعقوب عليهما السلام.
ولهذين البيتين حكاية لطيفة, وهي ما حكي أن الشيخ شهاب الدين السهروردي صاحب عوارف المعارف لما رجع من الشام إلى بغداد, وجلس على عادته للوعظ, أخذ يقلل أحوال الناس, ويهضم جانب الرجال ويقول: أنه ما بقي من يلقى وقد خلت الدنيا.
وأنشد:
ما في الصحاب أخو وجد نطارحه ... حديث نجد ولا خل نجاريه
وجعل يكرره ويتواجد, فصاح عليه من أطراف المجلس شاب عليه قبا وكلونة: يا شيخ كم تشطح وتتنقص بالقوم, والله إن فيهم من لا يرضى أن يجاريك, وقصاراك أن تفهم ما يقول, هلا أنشدت؟ (ما في الصحاب وقد سارت حمولهم) وأنشد البيتين. فصاح السهروردي ونزل عن كرسيه وقصد الشاب ليعتذر إليه فلم يجده, ووجدت مكانه حفرة فيها دم كثير لشدة ما كان يفحص برجليه عند إنشاد الشيخ البيت. وهو من قصيدة لابن المعلم الوسطى تقدم إنشاد بعضها في نوع الانسجام.
وقلت ملمحا التلميح المذكور لغرض سنح:
لله من واله عان بأسرته ... ومن محب غدا يبكيه محبوب
كأنه يوسف في السجن مضطهدا ... وكل ذي خلة في الحي يعقوب
ومن بديع هذا النوع قول أبي نصر محمد الأصبهاني في ذم مملوك له:
بليت بمملوك إذا ما بعثته ... لأمر أعيرت رجله مشية النمل
بليد كأن الله خالقنا عنى ... به المثل المضروب في سورة النحل
يشير إلى قوله تعالى (وضرب الله مثلاً رجلين أحدهما أبكم ولا يقدر على شيء وهو كل على مولاه أينما يوجهه لا يأت بخير) الآية.
ومنه قول الباخرزي يمدح جعفر بن داود:
والله لولا حسن نيته لما ... لقي الشقاء ببأسه مسعود
كان الحديد فلان يوم لقائه ... حتى تحقق أنه دواد
يشير إلى قوله تعالى في داود (وألنا له الحديد) ومنه ما ذكره ابن الأبار في تحفة القادم: أن أبا بكر الشبلي جلس يوما على الجسر, فتعرض له بعض الجواري للجواز, فلما أبصرته رجعت بوجهها, وسترت ما ظهر له من محاسنها, فقال أبو بكر المذكور:
وعقيلة لاحت بشاطئ نهرها ... كالشمس طالعة لدى آفاقها
فكأنما بلقيس وافت صرحها ... لو أنها كشفت لنا عن ساقها
حورية قمرية بدوية ... ليس الجفا والصد من أخلاقها
قال بعضهم: ويمكن تغيير البيتين الأولين بأن يقال:
وعقيلة لاحت بشاطئ نهرها ... كالشمس تتلو في المشارق صبحها
لو أنها كشفت لنا عن ساقها ... لحسبتها بلقيس وافت صرحها(1/325)
الإشارة في ذلك إلى قوله تعالى في قصة بلقيس مع سليمان عليه السلام (قيل لها أدخلي في الصرح فلما رأته حسبته لجة وكشفت عن ساقيها) الآية.
وجمع النفيس القطرسي بين التلميح إلى القرآن والشعر في قوله:
يسر بالعيد أقوام لهم سعة ... من الثراء وأما المقترون فلا
هل سرني وثيابي فيه قوم سبا ... أو راقني وعلى رأسي به ابن جلا
يشير إلى قوله تعالى عن قوم سبا (ومزقناهم كل ممزق) .
وإلى قول الشاعر:
أنا ابن جلا وطلاع الثنايا ... متى أضع العمامة تعرفوني
ومنه ما حكاه صاحب كتاب التبر المسبوك: أن السلطان محمودا كتب إلى الخليفة القادر بالله كتابا يتهدده فيه بالفيل, وخراب بغداد, وأن يحمل تراب دار الخلافة على ظهور الفيلة إلى غزنة. فكتب إليه القادر بالله كتابا صغيرا فيه بعد البسملة (ألم) لا غير, فلم يدر السلطان ما معناه, وتحيرت علماء حضرته في حل هذا الرمز, وجمعوا كل سورة من القرآن, أولها (ألم) فلم يكن فيها ما يناسب الجواب. وكان في الجماعة شاب فقال: إن أذن لي الملك أعزه الله حللت الرمز, فقال له الملك: قل, فقال: ألست كتب إليه تهدده بالفيلة وأنك تنقل تراب دار الخلافة على ظهورها إلى غزنة؟ قال: بلى, قال: فإنه كتب إليك (ألم تر كيف فعل ربك بأصحاب الفيل) , فاستحسن الحاضرون منه ذلك, ثم اصطلح السلطان والخليفة.
ومن خفيه ما حكاه صاحب نزهة العشاق: أن الملك محمود بن صالح ظفر بعدو له فأعتقله, وكان لذلك العدو أخ, فأراد الملك أن يقبض على الأخ كما قبض على أخيه, فأمره أن يكتب إلى أخيه كتابا يدعوه إلى خدمة الملك, ويذكر في الكتاب أن الملك أكرمه وأحسن إليه. فأمتثل ما أمره, وكتب في آخر الكتاب: فعجل القدوم تنل الخير إن شاء الله تعالى, وجعل على رأسه النون تشديدة. فلما وصل الكتاب إلى أخيه فرح وطابت نفسه, فلما انتهى إلى التشديد على رأس النون أنكر ذلك واستراب, وقال: ما شددت هذه النون إلا لخطب شديد. فلم يزل يعمل فكره حتى فطن أن أخاه قصد قوله تعالى (إن الملأ يأتمرون بك ليقتلوك) . ثم كتب إلى أخيه كتابا, وذكر في آخره: أنا آت عقب كتابي إلى الملك أعزه الله, وشدد النون من (أنا آت) فلما وصل الكتاب إلى أخيه, ورأى ذلك طابت نفسه وفهم أن أخاه أشار إلى قوله تعالى (إنا لن ندخلها أبدا ما داموا فيها) .
ومنه قول علاء الدين الوداعي فيمن وعده بسمك:
يا مالكا صدق مواعيده ... خلي لنا في جوده مطعما
لم نعد في السبت فما بالنا ... لم تأتنا حيتاننا شرعا(1/326)
يشير إلى قوله تعالى (وأسئلهم عن القرية التي كانت حاضرة البحر إذ يعدون في السبت إذ تأتيهم حيتانهم يوم سبتهم شرعا) . وكان بنو إسرائيل في زمن داود عليه السلام في قرية بأيلة على ساحل البحر, بين المدينة والشام, وحرم الله عليهم صيد السمك يوم السبت, فكان إذا دخل السبت اجتمعت الحيتان من كل مكان حتى لم يبق حوت إلا اجتمع هناك, يخرجن خراطيمهن من الماء, حتى لا يرى الماء لكثرتها. فإذا مضى السبت تفرقن فلا يرى منها شيء. ثم أن الشيطان وسوس لهم وقال: إنما نهيتم عن أخذها يوم السبت, فعمد رجال فحفروا حياضا نحو البحر, وشرعوا منه إليها الأنهار, فإذا كان عشية الجمعة فتحوا تلك الأنهار فأقبل الموج بالحيتان إلى الحياض فلا تقدر على الخروج لبعد عمقها, وقلة مائها, فيأخذونها يوم الأحد, أو كانوا ينصبون آلات الصيد يوم الجمعة ويخرجونها يوم الأحد. وفعلوا ذلك مدة, فلما لم ينزل بهم عقوبة قالوا: ما نرى إلا أنه أحل لنا السبت, فأخذوا وأكلوا وملحوا وباعوا وكثر مالهم. فلما فعلوا ذلك صار أهل القرية - وكانوا نحو سبعين ألفا - ثلاثة أصناف: صنف أمسك ونهى, وصنف أمسك ولم ينه, وصنف انتهك الحرمة. فكان الناهون أثني عشر ألفا. ولما أبى المجرمون قبول نصحهم قالوا: والله لا نساكنكم. فقسموا القرية بجدار وتجبروا كذلك سنتين, فلعنهم داود, وغضب الله عليهم لإصرارهم على المعصية. فخرج الناهون ذات يوم من ديارهم, ولم يخرج من المجرمين أحد, ولم يفتحوا لهم بابا, فلما أبطأوا تسوروا عليهم الحائط فإذا هم قردة لها أذناب يتعاوون, صار الشباب قردة, والمشايخ خنازير. فمكثوا ثلاثة أيام ثم هلكوا, ولم يبق مسخ فوق ثلاثة أيام, ولم يتوالدوا. وقال مجاهد: مسخت قلوبهم دون صورهم, وهذا خلاف الإجماع وما نطق به القرآن العظيم.
وفي الأمثال المولدة: عليه ما على أصحاب السبت. يعنون بذلك اللعنة.
قال الإمام فخر الدين الرازي في تفسيره: فان قيل: لما كان الله تعالى نهاهم عن الاصطياد يوم السبت, فما الحكمة في أن نثر الحيتان يوم السبت دون سائر الأيام, كما قال (تأتيهم حيتانهم يوم سبتهم شرعا ويوم لا يسبتون لا تأتيهم) وهل هذا إلا إثارة الفتنة واردة الإضلال؟.
قلنا: أما على مذهب أهل السنة, فإرادة الإضلال جائزة من الله تعالى, وأما على مذهب المعتزلة فالتشديد في التكاليف حسن لغرض ازدياد الثواب.
الفصل الثاني فيما وقع التلميح فيه إلى حديث مشهور فمن ذلك قول بعضهم مع التورية:
يا بدر أهلك جاروا ... وعلموك التجري
وقبحوا لك وصلي ... وحسنوا لك هجري
فيفعلوا ما أرادوا ... لأنهم أهل بدر
يشير إلى قوله عليه السلام لعمر حين سأله قتل حاطب: لعل الله قد أطلع على أهل بدر فقال: اعملوا ما شئتم فقد غفرت لكم.
وما أحسن ما لمح إلى هذا الحديث أيضاً الشيخ عمر بن الفارض بقوله مع التورية:
ليهن ركب سروا ليلا وأنت بهم ... مسيرهم في صباح منك منبلج
فليصنع الركب ما شاؤا بأنفسهم ... هم أهل بدر فلا يخشون من حرج
ونظم ذلك بعضهم في مواليا فقال وأجاد:
يا بدر أهلك يقولوا لك علي جور ... وعلموك التجافي يا بهي النور
فليصنعوا ما أرادوا يا شقيق الحور ... لأنهم أهل بدر ذنبهم مغفور
ومنه ما حكي أن ابن الصابوني حضر مجلس أحد الفضلاء فقدم للحاضرين خيارا, فجعل أحد الأدباء يقشره بسكين, فخطف ابن الصابوني السكين من يده, فألح عليه في استرجاعها, فقال له ابن الصابوني: كف عني وإلا جرحتك بها, فقال صاحب المنزل لذلك الأديب: كف عنه لئلا يجرحك, فيكون جرحا جبارا, يلمح إلى قوله عليه السلام: جرح العجماء جبار. فأغتاض ابن الصابوني وخرج من عقله, وهجر بلسانه, وما كف إلا بعد الرغبة والتضرع إليه, وخرج عن ذلك المجلس مغضبا.
ومنه قول الحريري في المقامة السابعة والثلاثين: فلم أزل أتقرب إليه بالإلمام, وأتنفق عليه بالاجمام, حتى صرت صدى صوته, وسلمان بيته. يشير إلى قول النبي صلى الله عليه وآله وسلم في سلمان الفارسي: سلمان منا أهل البيت.
الفصل الثالث في ما وقع فيه التلميح إلى شعر مشهور.(1/327)
فمنه ما حكاه ابن قتيبة قال: تمازح معاوية والأحنف - فما رئي مازحان أوقر منهما - قال معاوية: يا أبا بحر ما الشيء الملفف في البجاد؟ فقال: السخينة يا أمير المؤمنين.
وإنما أشار معاوية إلى ما رمي به بنو تميم من النهم وحب الأكل في قول القائل:
إذا ما مات ميت من تميم ... وسرك أن يعيش فجئ بزاد
بخبز أو بتمر أو بسمن ... أو الشيء الملفف في البجاد
تراه يطوف بالآفاق حرصا ... ليأكل رأس لقمان بن عاد
وأراد الشاعر بالشيء الملفف في البجاد: وطب اللبن, والبجاد ككتاب: كساء مخطط. وأشار الأحنف إلى ما كانت تعير به قريش من أكل السخينة قبل الإسلام, لأن أكثر زمانها كان زمان قحط ومحل, والسخينة: ماء يسخن بالنار ويذر عليه دقيق, وغلب ذلك على قريش حتى سميت سخينة.
قال حسان:
زعمت سخينة أن ستغلب ربها ... وليغلبن مغلب الغلاب
ومثل ذلك ما روي أن عبد الله بن ثعلبة المحاربي دخل على عبد الملك أبن يزيد الهلالي - وهو يومئذ والي أرمينية - فقال له: ماذا لقينا البارحة من شيوخ محارب؟ منعونا النوم بضوضاتهم ولغطهم. فقال عبد الله بن ثعلبة: أنهم - أصلح الله الأمير - أضلوا البارحة برقعا فكانوا يطلبونه.
أراد عبد الملك قول الشاعر:
تكش بلا شيء شيوخ محارب ... وما خلتها كانت تريش ولا تبري
ضفادع في ظلماء ليل تجاوبت ... فدل عليها صوتها حية البحر
وأراد عبد الله قول القائل:
لكل هلالي من اللؤم برقع ... ولابن يزيد برقع وجلال
وكان سنان بن أحمر النميري يساير الأمير عمر بن هبيرة الفزاري وهو على بغلة له, فتقدمت البغلة على فرس الأمير فقال: أغضض بغلتك يا سنان, فقال: إنها مكتوبة أصلح الله الأمير, فضحك الأمير وقال: قاتلك الله, ما أردت ذلك, قال: ولا أنا.
وإنما أراد ابن هبيرة قول جرير:
فغض الطرف إنك من نمير ... فلا كعبا بلغت ولا كلابا
وأراد سنان قول الأخطل:
لا تأمنن فزاريا خلوت به ... على قلوصك واكتبها بأسيار
وكانت فزارة تعير بإتيان الإبل, ولذلك قال الفرزدق يهجو عمر بن هبيرة هذا ويخاطب يزيد بن عبد الملك حين ولاه العراق:
أمير المؤمنين وأنت بر ... تقي لست بالجشع الحريص
أأطعمت العراق ورافديه ... فزاريا أحذ يد القميص
ولم يك قبلها راعي مخاض ... ليأمنه على وركي قلوص
الرافدان: دجلة والفرات. وأخذ يد القميص: كناية عن السرقة والخيانة. وتفنق: تنعم وسمن, يقال: جارية فنق, أي سمينة. والبيت الآخر تلميح إلى إتيان الإبل الذي كانوا يعيرون به.
وعلى هذه الأبيات روى أبو عبيدة عن عبد الله بن عبد الأعلى قال: كنا نتغدى مع الأمير عمر بن هبيرة فاحضر طباخه جام خبيص, فكرهه للبيت السابق في هذه الأبيات, إلا أن جلده أدكه فقال: ضعه يا غلام, قاتل الله الفرزدق, لقد جعلني أرى الخبيص فاستحي منه.
قال المبرد: وقد يسير البيت في الواحد فيرى أثره عليه أبدا, كقول أبي العتاهية في عبد الله بن معن بن زائدة:
فما تصنع بالسيف ... إذا لم تك قتالا
فكسر حلية السيف ... وصغها لك خلخالا
فكان عبد الله إذا تقلد السيف فرأى من يرمقه بأن أثره عليه وظهر الخجل منه.
ومثل ذلك ما يحكى أن جريرا قال: والله لقد قلت في بني تغلب بيتا لو طعنوا بعده الرماح في أستأهم ما حكوها وهو:
والتغلبي إذا تنحنح للقرى ... حك استه وتمثل الأمثالا
وحكى أبو عبيدة عن يونس قال: قال عبد الملك بن مروان يوما وعنده رجال: هل تعلمون أهل بيت قيل فيهم شعر ودوا أنهم افتدوا منه بأموالهم؟ فقال أسماء بن خارجة الفزاري: نحن يا أمير المؤمنين, قال: وما هو؟ قال: قول الحارث بن ظالم المري:
وما قومي بثعلبة بن سعد ... ولا بفزارة الشعر الرقابا
فو الله أني لا لبس العمامة الصيفية فيخيل لي أن شعر فقاي قد بدا منها.
وقال هاني بن قبيصة النميري: نحن يا أمير المؤمنين, قال: وما هو؟ قال: قول جرير:
فعض الطرف أنك من نمير ... فلا كعبا بلغت ولا كلابا
كان النميري إذا قيل ممن أنت, يقول: من نمير, فصار يقول بعد هذا البيت من عامر بن صعصعة.(1/328)
وكان عبد الملك بن عمير القاضي يقول: والله أن التنحنح والسعال ليأخذاني وأنا في الخلا فأردهما حياء من قول القائل:
إذا ذات دل كلمته لحاجة ... وهم بأن يقضي تنحنح أو سعل
رجع إلى أمثلة التلميح إلى الشعر.
ومنه ما حكي أن تميميا قال لشريك النميري: ما أحب إلي من البازي, فقال شريك: خاصة إذا كان يصيد القطا.
أشار التميمي إلى قول جرير:
أنا البازي المطل على نمير ... أتيح من السماء له أنصبابا
وأشار شريك إلى قول الطرماح:
تميم بطرق اللؤم أهدى من القطا ... لو سلكت طرق المكارم ضلت
ومثله ما حكي أن تميميا نزل بفزاري فقال له: قلوصك يا أخا تميم لا تنفر القطا, فقال: أنها مكتوبة, أشار الفزاري إلى بيت الطرماح المذكور, وأشار التميمي إلى قول الأخطل المقدم ذكره.
(ومثله) ما يحكى أن محمد بن عقال المجاشعي دخل على يزيد بن مزيد الشيباني وعنده سيوف تعرض عليه, فرفع سيفا منها إلى يد محمد فقال: كيف ترى هذا السيف؟ فقال: نحن أبصر بالتمر منا بالسيوف.
أراد يزيد قول جرير في الفرزدق:
بسيف أبي رغوان سيف مجاشع ... ضربت ولم تضرب بسيف ابن ظالم
ضربت به عند الإمام فأرعشت ... يداك وقالوا محدث غير صارم
وأراد محمد قول مروان بن أبي حفصة:
لقد أفسدت شيبان بكر بن وائل ... من التمر ما لو أصلحته لمارها
ولبيتي جرير المذكورين قصة يأتي ذكرها في نوع المواردة إنشاء الله تعالى.
وقد غلط السكاكس على جلالة قدره في تفسير قوله (ولم تضرب بسيف ابن ظالم) فقال: أن الفرزدق كان عرض عليه سيف غير صالح للضرب فقال: بل أضرب بسيف أبي رغوان مجاشع, يعني سيفه, وكأنه قال: لا يستعمل ذلك السيف إلا ظالم وابن ظالم, فلما نبا سيفه وبلغ جرير ذلك قال البيتين, وأشار بقوله: ابن ظالم إلى ذلك.
وتبعه على هذا جماعة من أهل الفضل. ولم يرد جرير ذلك قط, مع أن معنى البيت لا يستقيم على هذا التفسير كما لا يخفى. وإنما أراد جرير بابن ظالم, الحارث بن ظالم المري وكان فاتكاً, فتك بخالد بن جعفر بن كلاب وهو إذ ذاك نازل على النعمان بن المنذر, وإنما قال جرير ذلك لان ابن ظالم المذكور من قومه, وهو مشهور بالفتك فيهم, فقال: ضربت بسيف جدك فينا ولم يقطع, ولو ضربت بسيف ابن ظالم الذي هو من قومي لم ينب, ولكنك لم تضرب به. هذا معنى البيت المقصود لا ما ذكره السكاكي وغيره فأعلم.
ومن لطيف التلميح أيضاً ما روي, أن الفضل بن محمد الضبي بعث بأضحية هزيل إلى شاعر, فلما لقيه سأله عنها فقال: كانت قليلة الدم, فضحك الفضل وقال: مهلا يا أبا فلان.
أراد الشاعر قول القائل:
إذا ذبح الضبي بالسيف لم تجد ... من اللؤم للضبي لحما ولا دما
وروى ابن الأعرابي في الآمالي قال: رأى عقال بن شبة بن عقال المجاشعي على أصبع بن عياش وضحا فقال: ما هذا البياض على إصبعك يا أبا الجراح؟ قال سلح النعامة يابن أخي.
أراد قول جرير:
فضح العشيرة يوم يسلح إنما ... سلح النعامة شبه بن عقال
وكان شبة قد برز يوم الطوانة مع العباس بن الوليد بن عبد الملك إلى رجل من الروم, فحمل عليه الرومي فنكص وأحدث. فبلغ ذلك جريرا باليمامة فقال فيه ذلك.
ورأى الفرزدق مخنثا يحمل قماشة كأنه متحول من دار إلى دار فقال: إلى أين راحت عمتنا؟ فقال: قد نفاها الأغر يا أبا فراس.
يريد قول جرير في الفرزدق:
نفاك الأغر ابن عبد العزيز ... بحقك تنفى عن المسجد
وإنما قال جرير ذلك لأن الفرزدق ورد المدينة والأمير عليها عمر بن عبد العزيز, فأكرمه حمزة بن عبد الله بن الزبير وأعطاه, وقعد عنه عبد الله بن عمرو بن عثمان وقصر به, فمدح الفرزدق حمزة.
وهجا عبد الله فقال:
ما أنتم من هاشم في سرها ... فأذهب إليك ولا بني العوام
قوم لهم شرف البطاح وأنتم ... وضر البلاط وموطئ الأقدام
فلما تناشد الناس ذلك بعث إليه عمر بن عبد العزيز فأمره أن يخرج من المدينة, وقال له: إن وجدتك بها بعد ثلاث عاقبتك. فقال الفرزدق: ما أراني إلا كثمود حين قيل لهم تمتعوا في داركم ثلاثة أيام.
وأنشد:
توعدني وأمهلني ثلاثاً ... كما وعدت لمهلكها ثمود
فبلغ ذلك جريرا فقال يهجوه:(1/329)
نفاك الأغر ابن عبد العزيز ... بحقك تنفى عن المسجد
وسميت نفسك أشقى ثمود ... فقالوا ضللت ولم تهتد
وقد أجلوا حين حل العذاب ... ثلاث ليال إلى الموعد
وجدنا الفرزدق بالموسمين ... خبيث المداخل والمشهد
وروى أبو بكر بن دريد في كتاب الأمالي عن أبي حاتم عن العيبي عن أبيه: أنه عرض على معاوية فرس وعنده عبد الرحمن بن الحكم بن أبي العاص فقال: كيف ترى هذا الفرس يا أبا مطرف؟ فقال: أراه أجش هزيما, قال معاوية: أجل, لكنه لا يطلع على الكنائن. فقال: يا أمير المؤمنين ما استوجبت منك هذا الكلام كله, قال: لقد عوضك عنه عشرين ألفا.
قال ابن دريد: أراد عبد الرحمن التعريض لمعاوية بما قاله النجاشي في أيام صفين:
ونجى ابن حرب سابح ذو غلالة ... أجش هزيم والرماح دواني
إذا قلت أطراف الرماح تنوشه ... مرته به الساقان والقدمان
فلم يحتمل معاوية منه هذا المزاح وقال: لكنه لا يطلع على الكنائن, لأن عبد الرحمن كان يتهم بنساء أخوته.
قال: وروى صاحب الأغاني هذا الخبر على وجه آخر فقال: عرض معاوية على عبد الرحمن بن الحكم خيله, فمر به فرس فقال له: كيف تراه؟ فقال: هذا سابح, ثم عرض عليه آخر فقال: هذا ذو غلالة, ثم مر به آخر فقال: وهذا أجش هزيم, فقال له معاوية: أبي تعرض؟ قد علمت ما أردت.
إنما أردت قول النجاشي في:
ونجى ابن حرب سابح ذو علالة ... أجش هزيم والرماح دواني
سليم الشظى عبل الشوى شنج النسا ... كسيد الغضا ماض على النسلان
أخرج عني فلا تساكنني في بلد. فذهب إلى أخيه مروان وشكى إليه معاوية فقال له مروان: هذا عملك لنفسك؟ فانشأ يقول:
أتقطر آفاق السماء لها دما ... إذا قلت هذا الطرف أجرد سابح
فحتى متى لا نرفع الطرف ذلة ... وحتى متى تعيا علينا المنادح
فدخل مروان على معاوية فقال: حتى متى هذا الاستخفاف بآل أبي العاص؟ أما والله لتعلم قول النبي صلى الله عليه وآله وسلم فينا. ولقلَّ ما بقي من الأمد, فضحك معاوية وقال: قد عفوت لك عنه يا أبا عبد الملك.
ورواه أيضاً على وجه غير هذا فقال: قدم عبد الرحمن بن الحكم (على معاوية) وكان قد عزل أخاه مروان وجهه قبله وقال له: ألق معاوية وعاتبه لي واستصلحه.
فلما دخل عليه وهو يعشي الناس فأنشأ يقول:
أتتك العيس تنفخ في براها ... تكشف عن مناكبها القطوع
بأبيض من أمية مضر حي ... كأن جبينه سيف صنيع
فقال له معاوية: أزائرا جئت أم مفاخرا أم مكاثراً؟ فقال: أي ذلك شئت, فقال: ما أشاء من ذلك شيئا. وأراد معاوية أن يقطعه من كلامه الذي عن له فقال: أي الظهر أتيتنا عليه؟ قال له على فرس, قال: وما صفته؟ قال: أجش هزيم.
يعرض له بقول النجاشي له:
ونجى ابن حرب سابح ذو علالة ... أجش هزيم والرماح دواني(1/330)
فغضب معاوية وقال: أما أنه لم يركبه صاحبه في الظلم إلى الريب, ولا هو ممن يتسور على جاراته, ولا يتوثب على كنائنه بعد هجعة الناس - وكان عبد الرحمن يتهم في امرأة أخيه - فخجل عبد الرحمن وقال: يا أمير المؤمنين ما حملك على عزلك ابن عمك؟ ألجناية أوجبت سخطا أم لرأي رأيته وتدبير استصلحته؟ فقال: بل لرأي رأيته وتدبير استصوبته, قال: فلا بأس بذلك, وخرج من عنده فلقي أخاه مروان فأخبره بما جرى بينه وبين معاوية فاستشاط غيظا وقال لعبد الرحمن: قبحك الله ما أضعفك عرضت للرجل بما أغضبته, حتى إذا انتصر منك أحجمت عنه. ثم لبس حلته وركب فرسه وتقلد سيفه ودخل على معاوية, فقال له معاوية حين رآه والغضب يتبين في وجهه: مرحبا بأبي عبد الملك, لقد زرتنا عند اشتياق إليك منا, قال: لا والله ما زرتك لذلك, ولا قدمت عليك فألفيتك إلا عاقا قاطعا والله ما أنصفتنا ولا جزيتنا جزاء, لقد كانت السابقة من بني عبد شمس لآل أبي العاص, والصهر برسول الله صلى الله عليه وآله وسلم لهم, والخلافة فيهم, فوصلوكم يا بني حرب, وشرفوكم, وولوكم فما عزلوكم, حتى إذا وليتم أبيتم إلا سوء صنيعة, وقبح قطيعة, فرويدا رويدا, قد بلغ بنو الحكم وبنو أبيه نيفا وعشرين, وإنما هي أيام قلائل حتى يكملوا أربعين ويعلم امرؤ أين يكون حينئذ منهم, ثم هم للجزاء بالحسنى والسوأى بالمرصاد. فقال له معاوية: عزلتك لثلاث, لو لم يكن إلا واحدة منهن لأوجبت عزلك: إحداهن أني أمرتك على عبد الله بن عامر وبينكما ما بينكما فلم تستطع أن تشتفي منه.
والثانية, كراهيتك لأمر زياد.
والثالثة, أن ابنتي رملة استعدتك على زوجها عمرو بن عثمان فلم تعدها. فقال مروان: أما ابن عامر فإني لا أنتصر منه في سلطاني, ولكن إذا تساوت الأقدام علم أين موقعه.
وأما كراهتي لأمر زياد, فإن سائر بني أمية كرهوه, وجعل الله لنا في ذلك الكره خيرا.
وأما استعداء رملة على عمرو, فو الله أنه ليأتي علي سنة أو أكثر وعندي بنت عثمان فما أكشف لها ثوبا - يعرض له بأن رملة إنما تستعدي عليه بطلب النكاح - فقال له معاوية: يا بن الوزغ, لست هناك, فقال مروان: هو ذاك. ألآن والله إني أبو عشرة, وأخو عشرة, وعم عشرة, وقد كاد ولدي يكملون العدة, ولو قد بلغوها لعلمت أين تقع مني.
فانخزل معاوية ثم قال:
فإن أك في شراركم قليلا ... فإني في خياركم كثير.
بغاث الطير أكثرها فراخا ... وأم الصقر مقلاة نزور
فلما فرغ مروان من كلامه خضع له معاوية وقال: لك العتبى وأنا رادك إلى عملك, فوثب مروان وقال له: كلا وعيشك, لا رأيتني عائدا إليه أبدا, وخرج.
فقال الأحنف بن قيس لمعاوية - وكان حاضرا -: ما رأيت قد لك سقطة مثلها, ما هذا الخضوع لمروان؟ وأي شيء يكون منه ومن بني أبيه إذا بلغوا أربعين؟ وأي شيء تخشاه منهم؟. فقال أدن مني حتى أخبرك بذلك. فدنا منه فقال له: أن الحكم بن أبي العاص كان أحد من قدم مع أختي أم حبيبة لما زفت إلى النبي صلى الله عليه وآله وسلم, وهو تولى نقلها, فجعل رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم يحد النظر إليه, فلما خرج من عنده قيل له: يا رسول الله لقد أحددت النظر إلى الحكم؟ فقال: ابن المخزومية ذلك الرجل إذا بلغ ولده ثلاثين, أو قال: أربعين, ملكوا الأمر بعدي, فوالله لقد تلقاها مروان من عين صافية. فقال له الأحنف: لا يسمعن هذا منك أحد, فإنك تضع من قدرك وقدر ولدك, وأن يقض الله أمرا يكن, فقال معاوية: فاكتمها علي يا أبا عمرو إذن, فقد لعمري صدقت ونصحت.
ومن لطيف التلميح المذكور أيضاً, ما حكي أنه دخل عبد الحميد بن سعيد بن مسلم الباهلي ومعه ابنه الأفوه - وكان مبغما - فتخلى الناس حتى بلغ إلى عمر بن فرح المذحجي, فلما قرب منه قال له: من هذا؟ قال: ابني أصلحك الله, وهل يخفى القمر؟ فقال: إن كان كذلك فرفع عنه حاشية الأزرار.
أراد قول بشار بن برد:
إذا أعيتك نسبة باهلي ... فرفع عنه حاشية الأزرار
على أستاه سادتهم كتاب ... موالي عامر وسما بنار(1/331)
ومنه حمزة بن بيض الحنفي الشاعر قدم على بلال بن بردة, وكان كثير المزاح معه, فقال لحاجبه: استأذن لحمزة بن بيض الحنفي, فدخل الحاجب فأخبره به, فقال: أخرج فقل له: حمزة بن بيض ابن من؟ فقال له: أدخل فقل له: الذي جئت إليه وأنت أمرد, فسألته أن يهب لك طائرا, فأدخلك وناكك ووهب لك الطائر, فشتمه الحاجب, فقال له: ما أنت ذا؟ بعثتك برسالة فأخبره الجواب, فدخل الحاجب وهو مغضب, فلما رأه بلال ضحك وقال: ما قال لك قبحه الله؟ فقال: ما كنت لأخبر الأمير بما قال. فضحك حتى فحص برجله الأرض وقال له: قد عرفنا العلامة فأدخله, فدخل وأكرمه, وسمع مديحه, وأحسن وصلته.
وأراد بلال: ابن بيض ابن من؟ قول القائل فيه:
أنت ابن أبيض لعمري لست أنكره ... فقد صدقت ولكن من أبو بيض
ومن التلميح الدقيق ما حكي أن قتيبة بن مسلم دخل على الحجاج وبين يديه كتاب قد ورد إليه من عبد الملك وهو يقرأه ولا يعلم معناه وهو مفكر, فقال: ما الذي أحزن الأمير؟ قال كتاب ورد من أمير المؤمنين لا أعلم معناه, فقال: إن رأى الأمير أعلامي به, فناوله إياه وفيه: أما بعد فأنك سالم والسلام. فقال قتيبة: مالي أن استخرجت لك ما أراد؟ قال: ولاية خرسان, قال: إنه ما يسرك أيها الأمير ويقر عينك.
إنما أراد قول الشاعر:
يديرونني عم سالم وأديرهم ... وجلدة بين العين والأنف سالم
أي أنت عندي مثل سالم عند هذا الشاعر. فولاه خرسان.
ويشبه هذه الحكاية: أن الحجاج كتب إلى عبد الملك كتابا يغلظ فيه أمر الخوارج, ويذكر فيه حال قطري وغيره وشدة شوكتهم, فكتب إليه عبد الملك: أوصيك بما أوصى به البكري زيدا والسلام.
فلم يفهم الحجاج ما أراد عبد الملك, فاستعلم ذلك من كثير من العلماء بأخبار العرب فلم يعلم أحد منهم ما أراد. فقال: من جاءني بتفسيره فله عشرة آلاف درهم. وورد رجل من أهل الحجاز متظلم من بعض العمال, فقال له قائل: أتعلم ما أوصى به البكري زيدا؟ قال: نعم أعلمه, فقيل له: فأت باب الأمير فأخبره ولك عشرة آلاف درهم.
فدخل عليه وسأله فقال: نعم أيها الأمير أنه يعني قوله:
أقول لزيد لا تترتز فإنهم ... يون المنايا دون قتلك أن قتلي
فإن وضعوا حربا فضعها وان أبوا ... فعرضه نار الحرب مثلك أو مثلي
وإن رفعوا الحرب العوان التي ترى ... فشب وقود النار بالحطب الجزل
فقال الحجاج: أصاب أمير المؤمنين فيما أوصاني, وأصاب البكري فيما أوصى به زيدا, وأصبت أيها الأعرابي, ودفع إليه الدراهم.
وكتب الحجاج إلى المهلب, إن أمير المؤمنين أوصاني بما أوصى به البكري زيدا, وأنا أوصيك بذلك, وبما أوصى به الحارث بن كعب بنيه. فنظر وصية الحارث بن كعب فإذا فيها: يا بني كونوا جميعا ولا تكونوا شيعا فتفرقوا, وترووا قبل أن تنزوا, فموت في قوة وعز, خير من حياة في ذل وعجز. فقال المهلب: صدق البكري, وصدق الحارث وأصاب.
ومن لطائف التلميح قصة المنصور مع الهذلي. فقد روي أنه وعده بجائزة ثم نسي, فحجا معا ثم مرا في المدينة الشريفة ببيت عاتكة, فقال الهذلي: يا أمير المؤمنين هذا بيت عاتكة الذي يقول فيه الأحوص:
يا دار عاتكة التي أتغزل ... حذر العدى وبه الفؤاد موكل
فأنكر عليه المنصور ابتداءه بالخبر من غير سؤال, ثم أمر المنصور القصيدة على خاطره ليعلم ما أراد, فإذا فيها:
أراك تفعل ما تقول وبعضهم ... مذق اللسان يقول ما لا يفعل
فعلم أنه أراد هذا البيت, فتذكر ما وعده به فأنجزه.
ومثله ما حكي أن أبا العلاء المعري كان يتعصب للمتنبي, وشرح ديوانه وسماه معجز أحمد, وكان يقول: إن المتنبي نظر إلي بلحظ الغيب حيث يقول:
أنا الذي نظر الأعمى إلى أدبي ... وأسمعت كلماتي من به صمم
فاتفق أنه حضر يوما مجلس الشريف المرتضى فجرى فيه ذكر أبي الطيب المتنبي, فأخذ المرتضى في هضم جانبه, فقال المعري: يا مولانا لو لم يكن للمتنبي من شعر إلا قوله (لك يا منازل في القلوب منازل) لكفاه. فغضب الشريف وأمر الغلمان بسحبه وإخراجه, فأخرج مسحوبا. فلامه الحاضرون على ذلك, فقال لهم: أنكم لا تدرون ما عنى بذكر هذا البيت.
إنما عنى به قوله في هذه القصيدة:
وإذا أتتك مذمتي من ناقص ... فهي الشهادة لي بأني كامل(1/332)
فعجبوا من ذكاء الشريف فهمه لما عناه.
ومن لطيف التلميح بهذا البيت أيضاً ما حكاه صاحب الحدائق: أن الفتح بن خاقان ذكر ابن الصائغ في كتابه - قلائد العقيان - فقال فيه: رمد عين الدين, وكمد نفوس المهتدين, أشتهر سخفا وجنونا, وهجر مفروضا ومسنونا, ناهيك من رجل ما تطهر من جنابة, ولا أظهر مخيلة إنابة, ولا استنجى من حدث, ولا شجى فؤاده مواراة في حدث, ولا قر بباريه ومصوره, ولا فر عن تباريه في ميدان تهوره. الإساءة إليه أجدى من الإحسان, والبهيمة لديه أهدى من الإنسان, إلى غير ذلك. فبلغ ابن الصائغ انتقاصه له, فمر يوما على الفتح وهو جالس في جماعة فسلم على القوم, وضرب على كتف الفتح وقال له: شهادة يا فتح, ومضى, فلم يدر أحد من القوم ما أراد بذلك إلا الفتح, فأنه تغير لونه, فقيل له: ما قال لك؟ فقال: إني وصفته بكتابي بما تعملون, فما بلغت بذلك عشر ما بلغ هو مني بهذه الكلمة.
فإنه يشير إلى قول المتنبي:
وإذا أتتك مذمتي من ناقص ... فهي الشهادة لي بأني كامل
ويقرب من هذا التلميح الدقيق ما حكاه أبو الوليد إسماعيل الشقندي - نسبة إلى شقندة, بالشين المعجمة, قرية مطلة على نهر قرطبة, مجاورة لها من جهة الجنوب - قال: كنت يوما بين يدي الفقيه الرئيس أبي بكر بن زهر, فدخل علينا رجل عجمي من فضلاء خرسان - وكان ابن زهر يكرمه - فقلت له: ما تقول في علماء الأندلس وكتابهم وشعرائهم؟ فقال: كبرت, فلم أفهم مقصده, واستبردت ما أتى به, وفهم عني أبو بكر بن زهر أني نظرته نظرة المستبرد المنكر فقال لي: أقرأت شعر المتنبي؟ قلت: نعم وحفظت جميعه, قال: فعلى نفسك إذن فلتنكر, وخاطرك بقلة الفهم فلتتهم.
فذكرني بقول المتنبي:
كبرت حول ديارهم لما بدت ... منها الشموس وليس فيها المشرق
فاعتذرت إلى الخرساني وقلت له: والله قد كبرت في عيني بعدما صغرت نفسي عندي حين لم أفهم نيل مقصدك.
ومن ذلك أيضاً قصة السري الرفاء مع سيف الدولة بن حمدان بسبب المتنبي, فإنهما كانا من شعرائه ومداحه فجرى ذكر المتنبي يوما بحضرة سيف الدولة, فبالغ سيف الدولة في الثناء عليه وعلى شعره, فقال له السري: أشتهي أن الأمير ينتخب لي قصيدة من غرر قصائده لا عارضها, ويتحقق بذلك أنه أركب في غير سرجه. فقال له سيف الدولة على الفور عارض لنا قصيدة القافية التي مطلعها:
لعينيك ما يلقى الفؤاد وما لقي ... وللحب ما لم يبق منه وما بقي
قال السري: فكتبت القصيدة واعتبرتها فلم أجدها من مختارات أبي الطيب, ولكني رأيته يقول فيها:
إذا شاء أن يلهو بلحية أحمق ... أراه غباري ثم قال له الحق
فعلمت أن سيف الدولة إنما أشار إلى هذا البيت فأعرضت عن معارضته.
ومن ذلك أيضاً ما حكاه الشيخ الفاضل الأديب عبد علي بن ناصر الشهير بابن رحمة الحويزي في كتابه - المعول في شرح شواهد المطول -: أنه جرى بين السيّد علي بن بركات الحسني والشريف زيد بن محسن أمير مكة المشرفة عتاب طال به الخطاب, وكان السيّد علي بن بركات شيخا عالي السن, والشريف زيد شابا.
فأنشد السيّد علي قول الطفرائي:
هذا جزاء امرئ أقرانه درجوا ... من قبله فتمنى فسحة الأجل
فغضب الشريف زيد وقال: لم ترد هذا, وإنما أردت ما قبله وهو:
ما كنت أحسب أن يمتد بي زمني ... حتى أرى دولة الأوغاد السفل
انتهى بالمعنى.
ومن الطريف التلميح أيضاً ما يحكى أن رجلا قعد على جسر بغداد, فأقبلت امرأة بارعة الجمال من ناحية الرصافة إلى جانب الغربي, فاستقبلها شاب فقال لها: رحم الله علي بن الجهم, فقالت المرأة: رحم الله أبا العلاء المعري, وما وقفا بل سارا مشرقا ومغربا. قال الرجل: فتبعت المرأة وقلت لها: لئن لم تخبريني بما أراد بابن الجهم, وما أردت بأبي العلاء المعري فضحكت.
فقالت: أراد بابن الجهم قوله:
عيون المها بين الرصافة والجسر ... جلبن الهوى من حيث أدري ولا أدري
وأردت أنا بأبي العلاء قوله:
فيا دارها بالخيف أن مزارها ... قريب ولكن دون ذلك أهوال(1/333)
ومثل ذلك بعينه ما حكاه الشيخ فتح الدين بن السيّد الياس: أن الشيخ بهاء الدين النحاس دخل إلى الجامع الأزهر يوما, فوجد أبا الحسين الجزار جالسا إلى جانبه وإلى جانبه مليح, ففرق بينهما وصلى ركعتين, ولما فرغ قال لأبي الحسين الجزار: ما أردت إلا قول ابن سناء الملك, فقال أبو الحسين: وأنا تفاءلت بقول صاحبنا السراج الوراق.
أراد ابن النحاس قول ابن سناء الملك:
أنا في مقعد صدق ... بين قواد وعلق
وأراد الجزار قول السراج الوراق:
ومهفهف راض الأبي فقاده سلس القياد
لما توسط بيننا ... جرت الأمور على السداد
ومن لطيفه أيضاً ما روي: أن أحمد بن يوسف الوزير دخل على المأمون, وعريب جاريته تغمز رجله, فخالسها النظر وأومى إليها بقبلة فقالت: كحاشية البرد, فلم يدر ما أرادت, فحدث بذلك محمد بن بشير فقال له: أنت تدعي الفطنة ويذهب عليك مثل هذا؟ أرادت طعنة وعنت قول الشاعر:
رمى ضرع ناب فاستمر بطعنة ... كحاشية البرد اليماني المسهم
ومنه قول الحريري: وإني والله لطالما تلقيت الشتاء بكافاته, وأعددت له الأهب قبل موافاته.
يريد قول ابن سكرة:
جاء الشتاء وعندي من حوائجه ... سبع إذا الغيث عن حاجاتنا حبسا
كن وكيس وكانون وكأس طلا ... مع الكباب وكس ناعم وكسا
وقال الآخر وفيه تلميحان:
يقولون كافات الشتاء كثيرة ... وما هن إلا واحد غير مفترى
إذا صح كاف الكيس فالكل حاصل ... لديك وكل الصيد في باطن الفرى
لمح بكافات الشتاء إلى بيتي ابن سكرة, ولمح بقوله (وكل الصيد في باطن الفرى) إلى المثل المشهور (كل الصيد في جوف الفرى) وأصله: أن قوما خرجوا للصيد, فصاد أحدهم ظبيا, والآخر أرنبا, وأخر فرى, أي حمارا وحشيا, فقال لأصحابه في جوف القرى, يعني أن ما صاده كلكم يسير بالنسبة إلى ما صدته. ومن أظرف ما وقع من التلميح إلى بيتي ابن سكرة ما حكي: أن امرأة بارعة الجمال والأدب مرت بقوم وهي ملتفة بكساء, فقال لها بعضهم: من أنت؟ فقالت: أنا السادس في السابع. تشير إلى قوله (وكس ناعم وكسا) فكأنها قالت: أنا الكس الناعم في الكساء ونظم بعضهم هذا المعنى فقال:
رأيتها ملفوفة في كسا ... خوفا من الكاشح والطامع
قلت لها من أنت يا هذه ... قالت أنا السادس في السابع
وما ألطف قول أبي الحسين الجزار ملمحا إلى بيتي ابن سكرة أيضا:
وكافات الشتاء تعد سبعا ... ومالي طاقة بلقاء سبع
إذا ظفرت بكاف الكيس كفي ... ظفرت بمفرد يأتي بجمع
فائدة - قال في القاموس: الكس بالضم للحر ليس من كلامهم وإنما هو مولد. وقال الأنباري في شرح المقامات الكس والسرم لغتان مولدتان وليستا بعربيتين, وإنما يقال: دبر وفرج. وقال الحافظ السيوطي في المزهر: في لفظة الكس ثلاثة مذاهب لأئمة العربية, أحدها هذا, والثاني أنه عربي ورجحه أبو حيان في تذكرته, ونقله عنه الأسنوي في المهمات, وكذا الصغاني في كتاب خلق الإنسان ونقله عنه الزركشي في تتمات المهمات.
قلت: وحكى أبو حيان عن النحاس أنه سمع من كلام العرب:
وا عجبا للساحقات الورس ... الواضعات الكس فوق الكس
الثالث أنه فارسي معرب, وهو رأي الجمهور ومنهم المطرزي في شرح المقامات.
ومنه أيضاً قول بعضهم:
لعمرو مع الرمضاء والنار تلتظي ... أرق وأحنى منك في ساعة الهجر
ولمح فيه إلى قول الشاعر:
المستجير بعمرو عند كربته ... كالمستجير من الرمضاء بالنار
وقول ابن حجاج وفيه تلميحان:
نبهت منه لحاجتي عمرا ... ولم أعول فيها على عمرو
لمح في الصراع الأول إلى قول القائل:
إذا أيقضتك حروب العدى ... فنبه لها عمرا ثم نم
وفي المصراع الثاني إلى البيت المذكور.
الفصل الرابع فيما وقع فيه التلميح إلى مثل. فمنه قول كعب بن زهير:
كانت مواعيد عرقوب لها مثلا ... وما مواعيدها إلا الأباطيل(1/334)
يشير إلى المثل المشهور (أخلف من عرقوب) وهو رجل من العمالقة, وهو عرقوب بن زهي, أحد بني شمس بن ثعلبة, أو عرقوب بن صخر, على خلاف في ذلك. وكان من خبره أنه وعد أخا له ثمرة نخلة, وقال له: ائتني إذا طلع النخل, فلما أطلع قال: إذا أبلح قال: إذا أزهى (فلما أزهى) قال: إذا رطب قال: إذا أتمر, فلما أتمر جذه ليلا ولم يعطه شيئا.
وقال ( ... ) أو علقمة الأشجعي:
وعدت وكان الخلف منك سجية ... مواعيد عرقوب أخاه بيترب
قال التبريزي: والناس يروون (يثرب) في هذا البيت, بالثاء المثلثة والراء المكسورة, وإنما هو بالمثناة وبالراء المفتوحة: موضع بقرب مدينة الرسول صلى الله عليه وآله وسلم, قال ابن الكلبي. قال ابن هشام: وقاله أبو عبيدة, وقد خولفا في ذلك.
قال ابن دريد: اختلفوا في عرقوب فقيل: هو من الأوس فيصح على هذا أن يكون بالمثلثة المكسورة. وقيل: من العماليق فيكون بالمثناة وبالمفتوحة, لأن العماليق كانت من اليمامة إلى وبار, ويترب هناك. قال: وكانت العماليق أيضاً في المدينة, انتهى.
قال الحافظ أبو الخطاب بن دحية: سميت المدينة يثرب باسم الذي نزلها من العماليق, وهو يثرب بن عبيد, وبنو عبيدهم الذين سكنوا الحجفة, فأحجفت بهم السيول فسميت الحجفة.
ولا يجوز الآن أن تسمى المدينة يثرب لقول النبي صلى الله عليه وآله وسلم: يقولون: يثرب هي المدينة. وكأنه كره هذا الاسم, لأنه من مادة التثريب, وأما قوله تعالى (يا أهل يثرب) فحكاية عمن قاله من المنافقين.
ومنه قول المتلمس:
لذي الحلم قبل اليوم ما تفرع العصا ... وما علم الإنسان إلا ليعلما
يشير إلى المثل (إن العصا قرعت لذي الحلم) يضرب لمن إذا تنبه انتبه.
وذو الحلم هو عامر بن الظرب العدواني كان من حكماء العرب لا تعدل بفهمه فهما, ولا بحكمه حكما. فلما طعن في السن أنكر من عقله شيئاً فقال لبنيه: أنه قد كبرت سني, وعرض لي سهو فإذا رأيتموني خرجت من كلامي وأخذت في غيره فاقرعوا لي المحجن بالعصا. يقال: أنه عاش ثلاثمائة سنة.
وهو الذي يقول:
تقول ابنتي لما رأتني كأنني ... سليم أفاع ليله غير مودع
وما الموت أغناني ولكن تتابعت ... علي سنون من مصيف مربع
ثلاث مئين قد مررن كواملا ... ها أنا هذا ارتجي مر أربع
فأصبحت مثل النسر طارت فراخه ... إذا رام تطيارا يقال له قع
أخبر أخبار القرون التي مضت ... ولابد يوما أن يطار بمصرعي
قال ابن الإعرابي: أول من قرعت له العصا عامر بن الظرب العدواني, وربيعة تقول: بل هو قيس بن خالد بن ذي الجدين, وتميم تقول: بل هو ربيعة بن مخاشن أحد بني أسيد بن عمرو بن تميم, واليمن تقول: بل هو عمرو بن حممه الدوسي.
قال: وكانت حكام تميم في الجاهلية: أكثم بن صيفي, وحاجب بن زرارة, والأقرع بن حابس, وربيعة بن مخاشن, وضمرة بن ضمرة. غير أن ضمرة حكم فأخذ رشوة فعذر.
وحكام قيس: عامر بن الظرب, وغيلان بن سلمة الثقفي. وكانت له ثلاثة أيام: يوم يحكم بين الناس, ويوم ينشد فيه شعره, ويوم ينظر فيه إلى جماله. وجاء الإسلام وعنده عشر نسوة, فخيره النبي صلى الله عليه وآله وسلم, فأختار أربعا فصار سنة.
وحكام قريش: عبد المطلب, وأبو طالب, والعاص بن وائل.
وحكيمات العرب: صخر بنت لقمان, وهند بنت الحسن, وجمعة بنت حابس, وابنة عامر بن الظرب الذي يقال له: ذو الحلم.
ومنه قول أبي العلاء المعري:
إذا وصف الطائي بالبخل مادرٌ ... وعير قسا بالفهاهة باقل
وقال السها للشمس أنت خفية ... وقال الدجى للصبح لونك حائل
وطاولت الأرض السماء سفاهة ... وفاخرت الشهب الحصى والجنادل
فيا موت زر أن الحياة ذميمة ... ويا نفس جدي أن دهرك هازل
فلمح في البيت الأول إلى أربعة أمثال. فإن الطائي وهو حاتم ويضرب به المثل في الجود, فيقال: أجود من حاتم. وقسا يضرب به المثل في البلاغة فيقال: أبلغ من قس. ومادرا يضرب به المثل في البخل, فيقال: أبخل من مادر. وباقلا يضرب به المثل في العي, فيقال: أعيا من باقل.(1/335)
فأما حاتم, فهو حاتم بن عبد الله بن سعد بن الحشرج. كان جوادا شجاعا شاعرا مظفرا, إذا قاتل غلب, وإذا غنم أنهب, وإذا سئل وهب, وإذا ضرب بالقداح سبق؛ وإذا أسر أطلق, وإذا أثرى أنفق. وكان أقسم بالله لا يقتل واحد أمه.
ومن حديثه, أنه خرج في الشهر الحرام يطلب حاجة, فلما كان بأرض عنزة ناداه أسير لهم, يا أبا سفانة, أكلني الأسار والقمل, فقال: ويحك ما أنا في بلاد قومي, وما معي شيء, وقد أسأت بي إذ نوهت باسمي ومالك مترك. ثم ساوم به العنزيين واشتراه منهم فخلاه وأقام مكانه في قده حتى أتي بفدائه فأداه إليهم.
ومن حديثه. أن ماوية امرأة حاتم حدثت: أن الناس أصابتهم سنة فأذهبت الخف والظلف فبتنا ذات ليلة بأشد الجوع, فأخذ حاتم عديا, وأخذت سفانة, فعللناهما حتى ناما. ثم أخذ يعللني بالحديث لأنام, فرفقت به لما به من الجهد فأمسكت عن كلامه لينام ويظن أني نائمة. فقال لي: أنت؟ مرارا فلم أجبه, فسكت: ونظر من وراء الخباء فإذا شيء قد أقبل, فرفع رأسه فإذا امرأة تقول: يا أبا سفانة أتيتك من عند صبية جياع, فقال: أحضريني صبيانك. فو الله لأشبعنهم. قالت: قمت سريعا فقلت: بماذا يا حاتم؟ فو الله ما نام صبيانك من الجوع إلا بالتعليل. فقام إلى فرسه فذبحه ثم أجج نارا. ودفع إليها شفرة وقال: أشوي وكلي وأطعمي ولدك. وقال لي: أيقظي صبييك, فأيقضتهما. ثم قال: والله (أن) هذا للؤم أن تأكلوا وأهل الصرم حالهم كحالكم, فجعل يأتي الصرم بيتا بيتا ويقول: عليكم بالنار, فاجتمعوا وأكلوا. وتقنع بكسائه, وقعد ناحية, حتى لم يوجد من الفرس على الأرض قليل ولا كثير, ولم يذق منه شيئا.
وزعم الطائيون أن حاتما أخذ الجود عن أمه غنية بنت عفيف الطائية, وكانت لا تليق شيئاً سخاء وجودا.
وأما مادر, فهو رجل من بني هلال بن عامر بن صعصعة, وبلغ من بخله أنه سقى أبله فبقي في أسفل الحوض ماء قليل فسلخ فيه ومد الحوض به فسمي مادرا لذلك, واسمه مخارق.
وفي بني هلال يقول الشاعر:
لقد جللت خزيا هلال بن عامر ... بني طرأ بسلحة مادر
فأف لكم لا تذكروا الفخر بعدها ... بني عامر أنتم شرار المعاشر
قال حمزة: وحدثني أبو بكر بن دريد قال: حدثني أبو حاتم, عن أبى عبيدة, أنه قرأ عليه حديث مادر فضحك. قال: فقلت له: ما الذي أضحك؟ فقال: تعجبي من تسيير العرب من أمثال لها, ولو سيروا ما هو أهم منها لكان أبلغ لها, قلت: مثل ماذا؟ قال: مثل مادر هذا جعلوه في البخل مثلا بفعلة صدرت منه تحتمل التأويل. وتركوا مثل ابن الزبير مع ما يؤثر على لفظه وفعله من دقائق البخل فتركوه كالغفل.
فمن ذلك أنه نظر إلى رجل من أصحابه - وهو يومئذ خليفة يقاتل الحجاج بن يوسف على دولته, وقد دق الرجل في صدور أهل الشام ثلاثة أرماح - فقال له: يا هذا اعتزل حربنا, فإن بيت المال لا يقوى على هذا. وقال في تلك الحرب لجماعة من جنده: أكلتم تمري وعصيتم أمري.
وسمع أن مالك بن أشعر الرزامي من بني مازن أكل من بعير وحده وحمل ما بقي على ظهره. فقال: دلوني على قبره أنبشه.
وقال لرجل أتاه مجتدياً - وقد أبدع به فشكى إليه حفى ناقته -: أخصفها بهلب, وأرقعها بسبت وأنجد بها يبرد خفها. فقال الرجل: يا أمير المؤمنين جئتك مستوصلا لا مستوصفا, فلا بقيت ناقة حملتني إليك. فقال: إن وصاحبها.
قال أبو عبيدة: فلو تكلف الحارث بن كلدة طبيب العرب, أو مالك بن زيد مناة, وحنفيف الحاتم أطباء العرب من وصف علاج ناقة الإعرابي ما تكلفه هذا الخليفة لما كانوا يعشرونه, وكان مع هذا يأكل في كل أسبوع أكلة ويقول في خطبته: إنما بطني شبر في شبر, وعندي ما عسى يكفيني.
فقال فيه الشاعر:
لو كان بطنك شبرا وقد شبعت وقد ... أفضلت فضلا كثيرا للمساكين
فإن تصبك من الأيام جانحة ... لا نبك منك على دنيا ولا دين
وأما قس, فهو قس بن ساعدة بن حذاقة بن زهير بن أياد بن نزار الإيادي وكان من حكماء العرب, وأعقل من سمع به منهم, وهو أول من كتب من فلان إلى فلان, وأول من أقر بالبعث من غير علم, وأول من قال: أما بعد وأول من قال: البينة على من أدعى واليمين على من أنكر. وقد عمر مائة وثمانين سنة.
قال الأعشى:
وأبلغ من قس وأجرى من الذي ... بذي الغسيل من خفان أصبح خادرا(1/336)
وأخبر عامر بن شراحيل الشعبي عن عبد الله بن عباس: أن وفد بكر بن وائل قدموا على رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم, فلما فرغ من حوائجهم قال: هل فيكم أحد يعرف قس بن ساعدة الإيادي؟ قالوا كلنا نعرفه, قال: فما فعل؟ قالوا: هلك, فقال صلى الله عليه وآله وسلم: كأني به على جبل أحمر بعكاظ قائما يقول: أيها الناس اجتمعوا واسمعوا وعوا, كل من عاش مات, وكل من مات فات, وكل ما هو آت آت. أن في السماء لخبرا, وأن في الأرض لعبرا. مهاد موضوع, وسقف مرفوع, وبحار تموج, وتجارة لن تبور. ليل داج, وسماء ذات أبراج. أقسم قس حقا لئن كان في الأمر رضى ليكونن بعده سخط. مالي أرى الناس يموتون فلا يرجعون؟ أرضوا؟ أم تركوا فناموا؟..
ثم أنشد أبو بكر رضي الله تعالى عنه شعرا حفظه له وهو قوله:
في الذاهبين الأولين ... من القرون لنا بصائر
لما رأيت مواردا ... للموت ليس لها مصادر
ورأيت قومي نحوها ... يسعى الأصاغر والأكابر
لا يرجع الماضي إلي ... ولا نم الباقي غابر
أيقنت أني لا محا ... لة حيث صار القوم صائر
وأما باقل, فهو رجل من ربيع, وقيل من أياد. يقال: أنه أشترى ظبيا بأحد عشر درهما, فمر بقوم فقالوا له: بكم اشتريت الظبي. فلم يقدر على الكلام, فمد يديه ونشر أصابعهما, ودلع لسانه مشيرا يردي أحد عشر, وخلى الظبي فشرد.
ومنه قول بعضهم:
عشن بجد ولا يضرك نوك ... إنما عيش من ترى بالجدود
عش بجد وكن هبنقة القي ... سي نوكا أو شيبة بن الوليد
يشير إلى حمق هبنقة المضرب به المثل واسمه يزيد بن ثروان, ويلقب بذي الودعات, أحد بني قيس بني ثعلبة, وبلغ من حمقه أنه ضل له بعير فجعل ينادي: من وجد بعيري فهو له, فقيل له: فلم تنشده؟ قال: فأين حلاوة الوجدان؟.
ومن حمقه أنه اختصمت الطفاوة وبنو راسب إلى عرباض في رجل ادعاه هؤلاء وهؤلاء, فقال الطفاوة: هذا من عرافتنا, وقال بنو راسب: بل هو من عرافتنا, ثم قالوا: رضينا بأول من يطلع علينا؟ فلما دنا قصوا عليه قصتهم فقال هبنقة: الحكم عندي, أن يذهب به إلى نهر البصرة فيلقى فيه, فإن كان راسبيا رسب فيه, وإن كان طفاوياً طفا. فقال الرجل: لا أريد أن أكون واحد من هذين الحيين, ولا حاجة لي بالديوان.
ومن حمقه أنه جعل في عنقه قلادة من ودعة وعظام وخزف, وهو ذو لحية طويلة, فسئل عن ذلك فقال: لا عرف بها نفسي, ولئلا أضل. فبات ذات ليلة وأخذ أخوه قلادته فتقلدها, فلما أصبح ورأى القلادة في عنق أخيه قال: يا أخي أنت أنا فمن أنا؟.
ومن حمقه أنه كان يرعى غنم أهله, فيرعى السمان في العشب, وينحي المهازيل, فقيل له: ويحك ما تصنع؟ قال: لا أفسد ما أصلح الله, ولا أصلح ما أفسده.
ولنكتف من شواهد التلميح بهذا المقدار فإنه باب لا ينتهي حتى ينتهي عنه, ونورد الآن أبيات البديعيات.
فبيت بديعية الصفي الحلي قوله:
إن ألقها تتلقف كلما صنعوا ... إذا أتيت بسحر من كلامهم
التلميح فيه هو الإشارة إلى قصة موسى عليه السلام مع السحرة لما ألقى العصا.
وبيت بديعية ابن جابر الأندلسي قوله:
وتقرع السمع عن حق زواجره ... قرع الرماح ببدر ظهر منهزم
وبيت بديعية الشيخ عز الدين الموصلي قوله:
وبان في كتب التاريخ من قدم ... تلميح قصة موسى مع معدهم
قال ابن حجة: لم ألمح من خلال بيت الشيخ عز الدين غفر الله له لمحة تلدني على نور التلميح, لكنه ساق حكاية مضمونها: أن كتب التاريخ القديمة بان فيها تلميح قصة موسى عليه السلام مع معد, والله أعلم. انتهى, وهو في محلة.
وبيت بديعية ابن حجة قوله:
ورد شمس الضحى للقوم خاضعة ... وما ليوشع تلميح بركبهم
قد تقدم أن هذا التلميح استعملته الشعراء كثيرا في أقوالهم, أعني التلميح برد الشمس ليوشع, فما زاد ابن حجة عليهم بشيء يعلم, إلا بإعجابه بنظمه له, وتزكيته لنفسه بما تمجه الأسماع, وتنفر عنه الطباع.
وبيت بديعة الطبري قوله:
بمعجزات أتت كم أبهرت خصما ... كشاة خيبر تلميحا بعجزهم(1/337)
التلميح فيه إلى قصة الشاة التي أهدتها اليهودية إليه صلى الله عليه وآله وسلم بخيبر, وكانت قد صلتها وسمتها, فأكل منها وأكل القوم, فقال: أرفعوا أيديكم فأنها أخبرتني أنها مسمومة, والقصة مشهورة.
وبيت بديعيتي هو قولي:
تلميحه كم شفى في الخلق من علل ... وما لعيسى يد فيها فلا تهم
التلميح فيه هو الإشارة إلى إبراء عيسى عليه السلام للمرضى. قال البغوي في تفسيره: قال وهب: ربما اجتمع على عيسى عليه السلام من المرضى في اليوم الواحد خمسون ألفا, من أطاق منهم أن يبلغه بلغه, ومن لم يطق مشى إليه عيسى. وكان يداويهم بالدعاء على شرط الإيمان.
وأما إبراء نبينا صلى الله عليه وآله وسلم للمرضى فقد وردت به روايات كثيرة.
روي أن عين قتادة بن النعمان أصيبت يوم أحد حتى وقعت على وجنته, فردها صلى الله عليه وآله, فكانت أحسن من عينه. وبصق على أثر سهم في وجه أبي قتادة في يوم ذي قرد, قال: فما ضرب علي ولا قاح.
وروى النسائي عن عثمان بن حنيف أن أعمى قال: يا رسول الله, أدع الله أن يكشف لي عن بصري, قال: فانطلق فتوضأ, ثم صلّى الله عليه وسلّم ركعتين, ثم قل: اللهم إني أسألك وأتوجه إليك بنبيي محمد نبي الرحمة. يا محمد إني أتوجه بك إلى ربك أن يكشف عن بصري. اللهم شفعه في. قال: فرجع وقد كشف الله عن بصره.
وروي أن ابن ملاعب الأسنة أصابه استسقاء, فبعث إلى النبي صلى الله عليه وآله وسلم, فأخذ بيده جثوة من الأرض, فتفل عليها ثم أعطاها رسوله. فأخذها متعجبا يرى أن قد هزئ به, فأتاه بها - وهو على شفا - فشربها فشفاه الله.
وذكر العقيلي عن حبيب بن فديك - يقال: فويك - أن أباه ابيضت عيناه, فكان لا يبصر بهما شيئا, فنفث رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم في عينه فأبصر, فرأيته يدخل الخيط في الإبرة وهو ابن ثمانين.
ورمي كلثوم بن الحصين يوم أحد في نحره, فبصق رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم فيه فبرأ. وتفل على شجة عبد الله بن أنيس فلم تمد. وتفل في عيني علي يوم خيبر وكان رمدا فأصبح بارئا. ونفث على ضربة بساق سلمة بن الأكوع يوم خيبر فبرئت. وفي رجل زيد بن معاذ حين أصابها السيف إلى الكعب (حين قتل ابن الأشرف) فبرئت. وعلى ساق علي بن الحكم يوم الخندق إذ انكسرت فبرأ مكانه وما نزل عن فرسه.
واشتكى عليه بن أبي طالب عليه السلام فجعل يدعو, فقال رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم: اللهم اشفه (أو عافه) , ثم ضربه برجله فما اشتكى ذلك الوجع بعد.
وقطع أبو جهل يوم بدر يد معوذ بن عفراء. فجاء يحمل يده, فبصق عليها رسول الله صلى الله عليه وآله, وألصقها فلصقت. رواه ابن وهب. ومن روايته أيضاً, أن حبيب بن يساف أصيب يوم بدر مع رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم بضربة على عاتقه, حتى مال شقه, فرد رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم ونفث عليه حتى صح.
وأتته امرأة من خثعم معها صبي به بلاء لا يتكلم, فأتي بما فمضمض فاه, وغسل يديهن ثم أعطاها إياه وأمره بسقيه, ومسه به, فبريء الغلام وعقل عقلا يفضل عقول الناس.
وعن ابن عباس, جاءت امرأة بابن لها به جنون, فسمح صدره فثع ثعة فخرج من جوفه مثل الجرو الأسود وشفي.
وانكفأ القدر على ذراع محمد بن حاطب وهو طفل, فسمح عليه ودعا له, وتفل فيه فبريء لحينه.
وكانت في كف شرحبيل الجعفي سلعة تمنعه من القبض على السيف وعنان الدابة, فشكاها للنبي صلى الله عليه وآله وسلم فما زال يطحنها بكفه حتى رفعها ولم يبق لها أثر.
وسألته جارية طعاما وهو يأكل, فناولها من بين يديه - وكانت قليلة الحياء - فقالت: إنما أريد من الذي في فيك, فناولها ما في فيه - ولم يكن يسأل شيئاً فيمنعه - فلما استقر في جوفها ألقى عليها من الحياء ما لم يكن امرأة بالمدينة أشد حياء منها.
وبيت بديعية الشيخ إسماعيل المقري قوله:
أهل الفضائل سيماهم تبين ولا ... سيماهم وهي نور في وجوههم(1/338)
وقال ناظمة في شرحه: معناه هم أهل الفضائل (سيماهم تبين) أي تظهر. ولا سيماهم: الأصل, ولاسيما, بياء متحركة, وهي مركبة من سي, وما؛ يستثنى بها؛ فسكنت الياء بضرورة الشعر وهو جائز؛ والضمير المتصل يعود إلى الصحابة. وقوله: وهي نور في وجوههم, يعين أثر السجود. وفي البيت التجنيس الملفق. انتهى كلامه, وكأنه يريد التلميح إلى قوله تعالى (سيماهم في وجوههم من أثر السجود) .
العنوان
وآدم إذ بدا عنوان زلته ... به توسل عند الله في القدم
العنوان بضم وقد يكسر, والأول أفصح. قال أبو الهيثم: أصله عنان كرمان, فلما كثرت النونات قلبت إحداهما واوا. ومن قال: علوان, جعل النون لاما, لأنها أخف وأظهر من النون. قال: وكلما استدللت بشيء تظهره على غيره فهو عنوان له. قال: وعننت الكتاب, وعنيته, وعنونته, وعلونته بمعنى واحد. قال: وسمي عنوان الكتاب عنوانا لأنه يعزله نم ناحيته.
وقال الجوهري: ويقال: عينان. وقال الليث: العلوان لغة في العنوان غير جيدة.
قال في المصباح: وعنوان كل شيء ما يستدل به عليه, ويظهره.
وفي اصطلاح البديعيين قال ابن أبي الإصبع: هو أن يأخذ المتكلم في غرض فيأتي لقصد تكميله وتأكيده بأمثلة في ألفاظ تكون عنوانا لأخبار متقدمة وقصص سالفة. ومنه نوع عظيم جدا, وهو عنوان العلوم, بأن يذكر في الكلام ألفاظ تكون مفاتيح لعلوم ومداخل لها.
فمن الأول قوله تعالى (واتل عليهم نبأ الذي آتيناه آياتنا فانسلخ منها) الآية, فإنه عنوان قصة بلعام.
ومن الثاني قوله تعالى (انطلقوا إلى ظل ذي ثلاث شعب) الآية فيها عنوان علم الهندسة, فإن الشكل المثلث أول الأشكال, وإذا نصب في الشمس على أي ضلع من أضلاعه لا يكون له ظل, لتحديد رؤوس زواياه. فأمر الله تعالى أهل جهنم بالانطلاق إلى ظل هذا الشكل تهكما بهم. وقوله (وكذلك نري إبراهيم ملكوت السماوات والأرض) الآيات, فيها عنوان علم الكلام, وعلم الجدل, وعلم الهيئة. انتهى.
وكثيرا ما يقع هذا النوع في أشعار المتقدمين بخلاف أقوال المتأخرين.
فمن ذلك قول أبي فراس الحارث بن سعيد بن حمدان وقد كتب إليه بعض إخوانه يوصيه بالصبر, وأجابه بقوله:
ندبت لحسن الصبر قلب نجيب ... وناديت للتسليم خير مجيب
ولم يبق مني غير قلب مشيع ... وعود على ناب الزمان صليب
وقد علمت أمي بأن منيتي ... بحد سنان أو بحد قضيب
كما علمت من قبل أن يهلك ابنها ... بمهلكه في الماء أم شبيب
فهذا عنوان لخبر أم شيب الخارجي. فإنها كانت قد رأت أنها ولدت نارا, فلم تزل النار تشتعل حتى بلغت السماء وعمت بضيائها أقطار الأرض ثم وقعت في ماء فطفئت. وكان إذا قيل لها: أن ابنك قتل لم تصدق, وإذا قيل لها: إنه مات قالت: لا, فلما قيل لها: أنه غرق, ناحت عليه. وكان وثب به فرسه في دجلة من أعلى الجسر فوقع في الماء, وأثقله الحديد الذي عليه فغرق. وحكي أن أصحاب الحجاج غاصوا عليه فأخرجوه من الماء, وشقوا بطنه, واستخرجوا قلبه فوزنوه فكان سبعة أرطال, ويقال: أنهم كانوا يضربون فيه الأرض فيطفر, وإن أحدهم كان يغمزه بأصبعه فيجده كالحجر صلابة, وحديثه معروف.
ومن هذه القصيدة أيضا:
تحملت خوف العار أعظم خطة ... وأملت نصرا كان غير قريب
وللعار خلى رب غسان ملكه ... وفارق دين الله غير مصيب(1/339)
هذا أيضاً من نوع العنوان, فإنه يشير إلى قصة جبلة بن الأيهم, وهو آخر ملوك غسان, وهو بن الأيهم بن الحارث الغساني, وهو أول من ملك الشام من آل غسان, وكان طوالا, يقال: أن طوله كان اثني عشر ذراعا. وكان من خبره أنه قدم إلى عمر ليسلم, فخرج في خمسمائة فارس من عكل وجفنة. فلما قربوا من المدينة ألبسهم ثياب الوشي المنسوجة بالذهب, والخز الأصفر, وحملهم على الخيل, وقلدها قلائد الفضة والذهب, ولبس تاجه, وفيه قرطا مارية, فلم يبق في المدينة إلا من خرج إليه. وفرح المسلمون بقدومه وإسلامه. ثم حضر الموسم مع عمر, فبينما هو يطوف بالبيت إذ وطئ أزاره رجل من فزارة فحله, فالتفت إليه مغضبا فلطمه فهشم أنفه, فاستعدى عليه الفزاري عمر, فقال له: ما دعاك إلى لطم أخيك؟ قال: إنه وطئ أزاري, ولولا حرمة البيت لأزلت الذي فيه عيناه. فقال له عمر: أما أنت فقد أقررت, فأما أن ترضيه, وأما أن أقيده منك. قال: أتقيده مني وهو سوقه؟ قال: قد شملك وإياه الإسلام, فما تفضله إلا بالعافية, قال: قد رجون أن أكون في الإسلام أعز مني في الجاهلية, قال: وهو ذاك, قال: إذن أتنصر, قال: إذا تنصرت ضربت عنقك. واجتمع وفد فزاره, ووفد جبلة حتى كادت تكون فتنة. فقال جبلة: أنظرني إلى غد أنظر في أمري, قال: ذلك إليك. فلما جنح الليل خرج في قومه من عكل وجفنة, فتنصر وقدم على هرقل, فأعظم هرقل قدومه وسر به, وأقطعه الأموال والرباع.
فلما بعث عمر رسوله إلى هرقل يدعوه للإسلام, وأجابه إلى المصالحة, قال للرسول: ألقيت ابن عمك الذي أتانا في ديننا؟ قال: لا, قال: ألقه ثم ائتني وخذ الجواب مني. قال: فذهبت إليه فوجدت على بابه هيبة وجمعا ما رأيت مثله على باب هرقل, فلما أذن لي دخلت عليه فإذا هو على سرير من ذهب, أربع قوائمه أسد من ذهب, وعليه ثياب صفر, وعلى رأسه تاج فيه قرطا مارية. فلما رآني رحب بي وأكرمني وقال: أجلس على ذلك الكرسي, فاستعفي لمكان الذهب, فضحك وقال: إذا طهر قلبك فلا تبالي ما لبست, وعلى ما جلست, فقلت له: إن رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم نهى عن ذلك. ثم أشار إلى خادم, فما كان أسرع من أن جاء ومعه وصائف يحملن صناديق الأطعمة, فوضعت, ثم أتي بمائدة من ذهب عليها صحائف الفضة, وأتيت بطبق من خيزران, وبآنية من الخلنج والزجاج. فلما رفعنا أيدينا, أتي بطست وكوز من ذهب فشرب به خمسة. ثم وضعت بين يديه كراسي عشرة فجلست عليها جوار مثل الدمى, وجاءت جارية في يمينها جام ذهبي, وفي شمالها جام فضي, وعلى رأسها حمام أبيض مزخرف, فوضعت الجامين, فإذا في الذهبي ماء ورد, وفي الفضي سحيق المسك. ثم نفرت الحمام, فوقع في ذلك مرة, وفي هذا أخرى. ثم طار بما لزق بجناحيه من ماء الورد والمسك حتى وقع على تاجه فانتفض.
ثم أقبل جبلة على الجواري فقال: أطربنني, فتغنين بقولهم:
لله در عصابة نادمتهم ... يوما بجلق في الزمان الأول
يسقون من ورد البريص عليهم ... راح تصفق بالرحيق السلسل
أولاد جفنة حول قبر أبيهم ... قبر ابن مارية الجواد المفضل
يغشون حتى ما تهر كلابهم ... لا يسألون عن السواد المقبل
فضحك ثم قال: أتدري من قائل هذا؟ قلت: لا, قال: حسان بن ثابت شاعر رسول الله صلّى الله عليه وآله وسلّم, وأول الأبيات المذكورة (أسألت رب الدار أم لم تسأل) : ثم ألتفت إلى الجواري وقال: ابكينني, فتغنين بقولهم:
تنصرت الأشراف من أجل لطمة ... وما كان فيها لو تجافيت من ضرر
تداخلني فيها لجاج ونخوة ... فكنت كمن باع السلامة بالغرر
فيا ليت أمي لم تلدني وليتني ... رجعت إلى القول الذي قاله عمر
ويا ليتني أرعى المخاض بقفرة ... وكنت أسيرا في ربيعة أو مضر
ويا ليت لي في الشام أدنى معيشة ... أجالس قومي ذاهب السمع والبصر
فبكى حتى بل لحيته. ثم سألني عن حسان, قلت: عمي وقلت ذات يده, فدعى بخمسمائة دينار هرقلية وخمسة أثواب, ونزع جبة كانت عليه, وقال: أدفعها إليه.
فلما وفدت على عمر وقصصت عليه القصص, وأنه بعث معي إلى حسان كذا وكذا قال: أدع حسانا ولا تعلمه, فلما دخل حسان قال: السلام عليك يا أمير المؤمنين, إني لأجد روائح آل جفنة, قال له: نعم قد آتاك على رغم أنفه معونة.
فأخذها وخرج وهو يقول:(1/340)
أن ابن جفنة من بقية معشر ... لم يغذهم آباؤهم باللوم
لم ينسني بالشام إذ هو ربها ... كلا ولا متنصرا بالروم
يعطي الجزيل ولا يراه عطية ... إلا كبعض عطية المحروم
وحكي أن حسان دخل يوما على جبلة فقال له: قد دخلت علي ورأيتني ورأيت النعمان فكيف وجدتنا؟ فقال: والله لشمالك أندى من يمينه, ولقفاك أحسن من وجهه, وأمك خير من أبيه.
وفي خبر رسول عمر المذكور, إنه لما سمع جبلة يصلي على النبي صلى الله عليه وآله وسلم, طمع في إسلامه فقال له (ويحك يا جبلة الإسلام فقد عرفته وفضله) فقال: أبعد ما كان مني؟ قلت: نعم قد فعل رجل من فزارة أكثر مما فعلت, أرتد وضرب وجه المسلمين, ثم أسلم وقبل منه, فقال: زدني من هذا, إن كنت تضمن لي أن يزوجني عمر ابنته, ويوليني الأمر من بعده رجعت إلى الإسلام. فضمنت له التزويج, ولم أضمن له الخلافة.
قال: فرجعت إلى عمر فأخبرته, فقال: هلا ضمنت له الأمر, فإذا أسلم قضى الله علينا بحكمه. ثم جهزني عمر إلى قيصر وأمرني أن أضمن لجبلة الشرط, فقدمت القسطنطينية فوجدت الناس منصرفين من جنازته, فعملت أن الشقاء قد سبق عليه.
ومن قصيدة أبي فراس المذكورة:
ولم يرتغب في العيش عيسى بن مصعب ... ولا خف خوف بالحرون حبيب
وهذا عنوان لخبر عيسى بن مصعب بن الزبير, فإنه كان في حرب عبد الملك بن مروان مع أبيه وهو غلام حدث فقال له أبوه: انج بنفسك, فقال: ما كنت لأفارقك. فتقدم فقاتل حتى قتل بين يديه.
والحرون, هو حبيب بن المهلب بن أبي صفرة, وسمي الحرون لثباته في الحرب.
ومنه قوله أيضاً وقد أسرته الروم وساموا فداءه, فكتب إلى سيف الدولة (يسأله أن يفديه) قصيدة أولها:
دعوتك للجفن القريح المسهد ... لدي وللنوم الطريد المشرد
أناديك لا أني أخاف من الردى ... ولا أرتجي تأخير يوم إلى غد
وما ذاك بخلا بالحياة وإنها ... لأول مبذول لأول مجتدي
وما الأسر مما ضقت ذرعا بحمله ... وما الخطب مما أن أقول له قدى
وما زال عني أن شخصي معرض ... لنبل العدى إن لم يصب فكأن قد
ولكنني أختار موت بني أبي ... على صهوات الخيل غير موسد
إلى أن قال:
دعوتك والأبواب ترتج دوننا ... فكن خير مدعو وأكرم منجد
فمثلك من يدعى لكل عظيمة ... ومثلي من يفدى بكل مسود
ولا تقعدن عني وقد سيم فديتي ... فلست عن الفعل الكريم بمقعد
فإن مت بعد اليوم عابك مهلكي ... معاب الزرازيين مهلك معبد
هم عضلوا عنه الفداء فأصبحوا ... يهذون أطراف القصيد المقصد
ولم يك بدعا هلكه غير أنهم ... يعابون إذ سيم الفداء مما فدي
هذا عنوان لواقعة معبد بن زرارة التميمي أخي حاجب بن زرارة, وذلك أن بني عامر بن صعصعة كانوا قد أسروه فأشترى نفسه بأربعمائة بعير, فأبى أخوه لقيط أن يبذلها فيه, واعتذر بأن أباه أوصاه أن لا تطعموا العرب أثمان بني زرارة, فحبسه بنو عامر بن صعصعة حتى مات في الأسر, فندم أخوه لقيط, وانشأ فيه المراثي.
وما أحسن قول أبي فراس بعد هذا:
فإن تفتدوني تفتدوا لعلاكم ... فتى غير مردود اللسان ولا اليد
وأن تفتدوني شرق العدى ... أسرع عواد إليها معود
يدافع عن أحبابكم بلسانه ... ويضرب عنكم بالحسام المهند
متى تخلف الأيام مثلي لكم فتى ... طويل نجاد السيف رحب المقلد
وقال فيها يخاطب سيف الدولة:
فيا ملبسي النعمى التي جل قدرها ... لقد أخلقت تلك الثياب فجدد
ألم تر أني فيك صافحت حدها ... وفيك شربت الموت غير مصرد
وفيك لقيت الألف زرقا عيونها ... بسبعين فيهم كل أشأم أنكد
يقولون جنب عادة ما عرفتها ... عسير على الإنسان ما لم يعود
فقلت أما والله لا قال قائل ... شهدت له في الرب ألأم مشهد
وبكر سألقاها فإما منية ... هي الظن أو بنيان عز موطد
وهذا النوع في شعر أبي فراس كثير, ومنه قوله أيضا:
جمعت سيوف الهند من كل بلدة ... وأعددت للهجاء كل مجاهد
وأكثرت للغارات بيني وبينهم ... بنات البكيريات حول المذاود
إذا كان غير الله للمرء عدة ... أتته الزرايا من وجوه الفوائد(1/341)
فقد جرت الحنفاء حتف حذيفة ... وكان يراها عدة للشدائد
الحنفاء: فرس حذيفة بن بدر الفزاري, وهذا عنوان لخبره معها. فإن الحنفاء كان حافرها كبيرا جدا ولم ير حافر مثله, فلما كان يوم الهباءة انهزم حذيفة عليها, فلم يدر أين توجه. فقال قيس بن زهير: اتبعوا أثر الحنفاء, فتبعوه حتى لحقوه بماء الهباءة, فقتل هو وجماعة من أهله, وكانت الحفناء سبب قتله.
وقال بعده:
وجرت منايا مالك بن نويرة ... عقيلته الحسناء أيام خالد
يشير إلى حكاية مالك بن نويرة مع خالد بن الوليد. فإن مالكا لما أمتنع أن يؤدي الصدقات إلى أبي بكر أنفذ إليه خالد بن الوليد. فيذكر أن خالدا أعطاه الأمان, فلما رأى امرأة مالك أعجبته وكانت ذات جمال, فقتل مالكا وتزوج بها وبنى عليها من ليلته, والقضية في ذلك مشهورة.
وقال بعده:
وأردى ذؤابا في بيوت عتيبة ... أبوه وأهله بشدو القصائد
يشيير إلى خبر ذؤاب بن ربيعة قاتل عتيبة بن الحارث اليربوعي, وذلك أن بني يربوع أسروا ذؤابا ولم يعلموا أنه قاتل عتيبة, وباعوه من أبيه إلى وقت, فجاء أبوه, وتخلف اليربوعيون لمانع منعهم, فظن أبو ذؤاب أنهم قتلوه بعتيبة.
فقال أشعارا منها قوله:
إن يقتلوك فقد ثللت عروشهم ... بعتيبة بن الحارث بن شهاب
فبلغ اليربوعيين الشعر فقالوا: إنك لقاتل عتيبة؟ فقتلوه.
ومنه قول الفرزدق يخاطب جريرا من قصيدة هجاه بها:
وإني لأخشى لو خطبت إليهم ... عليك الذي لاقى يسار الكواعب
وهذا عنوان لخبر يسار المضروب به المثل. قال أبو عبيدة: إنه عبد لبني غدانة بن يربوع, أراد مولاته على نفسها, فنهته مرة بعد مرة, فلما أبى إلا طلبها أطعمته في نفسها, وأوعدته أن يأتيها ليلا. فأخبر بذلك عبدا كان معه فقال: يا يسار كل من لحم الحوار, واشرب من لبن الغزار, وإياك وبنات الأحرار. فلم يستمع منه, وأتى مولاته بموعدها, وقد أعدت له موسى فلما دخل عليها قالت: إني أريد أن أدخنك فإنك منتن الريح, قال: افعلي ما بدا لك, ثم أدخلت تحته مجمرة وقبضت على مذاكيره فبترتها, فلما وجد حر الحديد قال صبراً على مجامر الكرام, فذهبت مثلا.
وزعم ابن الكلبي: أن يسار الكواعب, كان عبدا للجبابن حنظلة بن نهد بن زيد بن ليث بن سود بن اسلم بن الحاف بن قضاعة - وليس في العرب أسلم إلا هذا, وأسلم بن القيانة بن عك, وكل شيء في العرب أسلم - وإن يسارا تعشق الرائقة بنت الجبا, بنت مولاه, فخضع لها بالقول فزبرته, فشكا عشقها إلى رفيقه وكان يرعى معه فقال: يا يسار كل لحم الحوار, أشرب لبن العشار, وإياك وبنات الأحرار. فعصاه, وخضع لها ثانية فضحكت إليه, فرجع فقال لصاحبه فأعاد عليه القول الأول ونهاه, ثم عاد إليها وخضع لها فقالت له: ائت مرقدي الليلة, فصار إليها وقد أحدت له موسى, فلما جاء قالت: إن للحرائر طبيبا فإن صبرت عليه أمكنتك من نفسي, فقال: شأنك, فجبته وجدعت أذنيه وشفتيه, فوقع مغشيا عليه, فلم تزل تضربه بالعصي حتى أفاق. فرجع إلى صاحبه مجدوعا, فضرب به العرب المثل.
ومنه قوله أيضاً يجيب جريرا عن قصيدته التي هجا بها عياش بن الزبرقان بن بدر:
وأن تهج آل الزبرقان فإنما ... هجوت الطوال الشم من هضب يذبل
وقد نبح الكلب النجوم دونه ... فراسخ تنضي الطرف للمتأمل
لهم وهب الجبار بردي محرق ... لعز معد والعديد المحصل(1/342)
يريد بالجبار المنذر بن ماء السماء, وهي أمهن وأبوه امرؤ القيس, وابنه محرق وهو عمرو بن المنذر. ذكروا أن المنذر أبرز سريره وقد اجتمعت عنده وفود العرب, فدعا ببردي ابنه المحرق فقال: ليقم أعز العرب قبيلة, وأكثرهم عددا فليأخذ هذين البردين. فقام عامر بن أحيمر بن بهدلة فأخذهما فأتزر بواحد وارتدى الآخر. فقال له المنذر: ما أنت أعز العرب قبيلة, وأكثرهم عدد. قال: العز والعدد من العرب في معد, ثم في نزار, ثم في مضر, ثم في خندف, ثم في سعد, ثم في كعب؛ ثم في عوف؛ ثم بهدلة؛ فمن أنكر هذا في العرب فلينافرني. فسكت الناس, فقال المنذر عند ذلك لعامر: هذي عشيرتك ما تزعم, فكيف أنت في أهل بيتك وفي بدنك؟ قال: أنا أبو عشرة, وعم عشرة, وخال عشرة, وأخو عشرة, يعينني الأكابر على الأصاغر, والأصاغر على الآكابر. فأما قولك: كيف أنت في بدنك, فشاهد العز شاهدي, ثم وضع قدمه على الأرض وقال: من أزالها عن مكانها فله مائة من الإبل, فلم يقم إليه أحد من الناس. فذهب بالبردين, فسمي ذو البردين.
فقال الزبرقان بن بدر:
وبردا ابن ماء المزن عمي اكتساهما ... لعز معد حين عدت محاصله
رآه كرام الناس أولاهم به ... ولم يجدوا في غيرهم من يعادله
ومما وقع من نوع العنوان في الغزل قول الأرجاني:
ما في جفائكم إذا أنا لم أخن ... سبب يعاف حديثه ويعاب
سخط النبي على البريء وما درى ... مما جناه الآفك الكذاب
حتى استبان له بوحني نازل ... أن الذي قال الوشاة كذاب
يشير إلى واقعة الإفك على عائشة. وكان من أمرها أن رسول الله صلّى الله عليه وآله وسلّم لما أقبل من غزوة بني المصطلق, حتى إذا كان قريبا من المدينة قال أهل الإفك في عائشة أم المؤمنين ما قالوا. وحدثت, قالت: كان رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم إذا أراد السفر أقرع بين نسائه, فأيتهن خرج سهمها خرج بها معه. فلما كانت غزوة بني المصطلق خرج سهمي عليهن, فخرج بي رسول الله صلّى الله عليه وآله وسلّم. وكان الناس إذ ذاك خفافا, إنما يأكلن العلق لم يهجهن اللحم فيثقلن. وكنت إذا رحل بي بعيري جلست في هودجي, ثم يأتي القوم ويحملونني, ويأخذون بأسفل الهودج ويرفعونه ويضعونه على ظهر البعير فيشدونه بحباله, ثم يأخذون برأس البعير وينطلقون به.
فلما فرغ رسول الله صلّى الله عليه وآله وسلّم من سفره ذلك, ونزل منزلا قريبا من المدينة فبات به بعض الليل, ثم أذن في الناس بالرحيل, فارتحل الناس, وخرجت لحاجتي وفي عنقي عقد لي فيه جزع ظفار, فلما فرغت انسل من عنقي ولا أدري. فلما رجعت إلى الرحل ذهبت التمسه في عنقي فلم أجده - وقد أخذ الناس في الرحيل - فرجعت إلى مكاني الذي ذهبت إليه فالتمسته حتى وجدته. وجاء القوم الذين كانوا يرحلون لي البعير - وقد فرغوا من رحلته - فأخذوا الهودج وهم يظنون أنني فيه كما كنت أصنع, فاحتملوه وشدوه على البعير, ثم أخذوا برأس البعير فانطلقوا به.
ورجعت إلى المعسكر وما فيه من داع ولا مجيب, فتلففت بجلبابي, واضطجعت في مكاني, وعرفت أن لو افتقدت لرجع إلي. فو الله إني لمضطجعة إذ مر بي صفوان بن المعطل السلمي - وكان قد تخلف عن العسكر لبعض حاجته فلم يبت مع الناس - فرآى سوادي فأقبل حتى وقف علي - وقد كان يراني قبل أن يضرب علينا الحجاب - فلما رآني قال: إنا لله وإنا إليه راجعون, ظعينة رسول الله صلّى الله عليه وآله وسلّم - وأنا متلففة في ثيابي - قال: ما خلفك رحمك الله؟ قالت: فما كلمته, ثم قرب البعير فقال: أركبي - واستأخر عني - فركبت, وأخذ برأس البعير وأنطلق حتى أصبحت, ونزل الناس, فلما أطمأنوا طلع الرجل يقود بي, فقالوا أهل الإفك ما قالوا, فارتج العسكر, ووالله ما أعلم بشيء من ذلك.(1/343)
ثم قدمنا المدينة, فلم ألبث أن اشتكيت شكوى شديدة, ولا يبلغني من ذلك شيء, وقد انتهى الحديث إلى رسول الله صلّى الله عليه وآله وسلّم وإلى أبوي, لا يذكرون لي منه قليلا ولا كثيرا. إلا أنني قد أنكرت من رسول الله صلّى الله عليه وآله وسلّم بعض لطفه بي, فكنت إذا اشتكيت رحمني ولطف بي, فلم يفعل بي ذلك في شكواي, فأنكرت ذلك منه. وكان إذا دخل علي وعندي أمي تمرضني قال: كيف تيكم؟ ولا يزيد على ذلك, حتى وجدت في نفسي حين رأيت ما رأيت من جفائه, فقلت: يا رسول الله لو أذنت لي فانتقلت إلى أمي فمرضتني؟ قال: لا عليك, فانتقلت إلى أمي, ولا أعلم بشيء مما كان, حتى نقهت من وجعي بعد بضع وعشرين ليلة. وكنا قوما عربا لا نتخذ في بيوتنا هذه الكنف التي تتخذها الأعاجم, نعافها ونكرهها إنما كنا نذهب في فيح المدينة. وإنما كان النساء يخرجن في كل ليلة في حوائجهن, فخرجت ليلة في بعض حاجتي, ومعي أم مسطح بنت أبي رهم بن المطلب بن عبد مناف إذ عثرت في مرطها فقالت: تعس مسطح, فقلت: بئس ما قلت لرجل من المهاجرين قد شهد بدرا, قالت: أو ما بلغت الخبر يا بنت أبي بكر؟ قلت: وما الخبر؟ فأخبرتني بالذي كان من قول أهل الإفك, قلت: أو قد كان هذا؟ قالت: نعم والله لقد كان.
قالت: فو الله ما قدرت على أن أقضي حاجتي ورجعت. فو الله ما زلت أبكي حتى ظننت أن البكاء سيصدع في كبدي, وقلت لأمي: يغفر الله لك, تحدث الناس بما تحدثوا به ولا تذكرين لي من ذلك شيئا؟ قالت: أي بنية خفضي عليك الشأن, فو الله لقلما كانت امرأة حسناء عند رجل يحبها, لها ضرائر, إلا كثرن وكثر الناس عليها.
قالت: وقد قام رسول الله صلّى الله عليه وآله وسلّم في الناس وخطبهم - ولا أعلم بذلك - فحمد الله وأثنى عليه ثم قال: أيها الناس ما بال رجال يؤذونني في أهلي, ويقولون عليهم غير الحق, والله ما علمت منهم إلا خيرا ويقولون ذاك لرجل والله ما علمت منه إلا خيرا, وما يدخل بيتا من بيوتي إلا وهو معي.
قالت: وكان قد كثر ذلك عند عبد الله بن أبي, في رجال من الخزرج مع الذي قال مسطح وحمنة بنت جحش, ولم يكن من نسائه امرأة تناصيني في المنزلة غيرها. فأما زينب فعصمها الله بدينها, فلم تقل إلا خيرا, وأما حمنة فأشاعت من ذلك ما أشاعت, تضار بي لأختها فشقيت بذلك. فلما قال رسول الله صلّى الله عليه وآله وسلّم تلك المقامة قام أسيد بن حضير فقال: يا رسول الله أن يكونوا من الأوس نكفيكهم, وأن يكونوا من أخواننا من الخزرج فمرنا بأمرك, فو الله أنهم لأهل أن تضرب أعناقهم. فقام سعد ابن عبادة فقال: كذبت لعمر الله لا تضرب أعناقهم, أم والله ما قلت هذه المقالة إلا أنك عرفت أنهم من الخزرج, ولو كانوا من قومك ما قلت هذه المقالة, فقال أسيد: كذبت لعمر الله ولكنك منافق تجادل عن المنافقين. قالت: وتساور الناس حتى كاد يكون بين هذيين الحيين من الأوس والخزرج شر. ونزل رسول الله صلّى الله عليه وآله وسلّم فدعا علي بن أبي طالب عليه السلام وأسامة بن زيد فاستشارهما, فأما أسامة فأثنى خيرا ثم قال: يا رسول الله أهلك ولا نعلم إلا خيرا, وهذا الكذب والباطل. وأما علي فإنه قال: يا رسول الله أن النساء لكثير, وإنك لمقتدر أن تستخلف, وسل الجارية فإنها ستصدقك. فدعا رسول الله صلّى الله عليه وآله وسلّم بريرة ليسألها فقام لها علي وهو يقول: أصدقي رسول الله صلّى الله عليه وآله وسلّم فتقول: والله ما أعلم إلا خيرا وما كنت أعيب على عائشة شيئا, إلا إني كنت أعجن عجيني فآمرها أن تحفظه فتنام فتأتي الشاة فتأكله.
قلت وورد عن علي عليه السلام أنه قال: طلقها يا رسول الله. قال الشيخ محمد القابلي: وما أراد بذلك تنقيص قدرها, وإنما تعارض في حقه أمران مشكلان: إضرار عائشة بالطلاق, وإضرار النبي صلّى الله عليه وآله وسلّم بما نزل به من الأمر العظيم في شأن الإفك, والقاعدة فيما إذا تعارض إضراران, أن يرتكب أخفهما, ولاشك أن إضرار عائشة هو الأخف, فأراد راحته صلّى الله عليه وآله وسلّم مما حصل عنده, وعلم أنه ولابد أن ينزل عليه صلّى الله عليه وآله وسلّم في ذلك شيء, لأنه يعتقد نزاهتها وعظيم قدرها, وإن له صلّى الله عليه وآله وسلّم سبيلا إلى مراجعتها.(1/344)
قالت عائشة: ثم دخل علي رسول الله صلّى الله عليه وآله وسلّم وعندي أبواي وعندي امرأة من الأنصار, وأنا أبكي وهي تبكي معي, فجلس فحمد الله وأثنى عليه ثم قال: يا عائشة إنه قد كان ما بلغك من قول الناس فاتقي الله, فإن كنت قارفت سوء مما يقول الناس فتوبي إلى الله, فإن الله يقبل التوبة من عباده. قالت: فو الله ما هو إلا أن قال لي ذلك فقلص دمعي حتى ما أحس منه شيئا, وانتظرت أبوي أن يجيبا عني فلم يتكلما.
قالت: وأيم الله لأنا كنت أحقر نفسي وأصغر شأنا أن ينزل الله فيّ قرآنا يتلى في المسجد ويصلى به, ولكني كنت أرجو أن يرى رسول الله صلّى الله عليه وآله وسلّم في نومه شيئاً يكذب الله به عني لما يعلم من برائتي, أو يخبر خبرا. فأما قرآن ينزل فيّ فو الله لنفسي كانت أحقر عندي من ذلك.
قالت: فلما لم أر أبوي يتكلمان قلت لهما: ألا تجيبان رسول الله صلّى الله عليه وآله وسلّم؟ فقالا: والله ما ندري بماذا نجيبه. قالت: ووالله ما أعلم أهل بيت دخل عليهم ما دخل على آل أبي بكر في تلك الأيام. فلما استجمعا عليّ استعبرت فبكيت ثم قلت: والله لا أتوب إلى الله, لا أتوب إلى الله عما ذكرت أبدا, والله إني لأعلم لئن أقررت بما يقول الناس - والله يعلم أني منه بريئة - لأقولن ما لم يكن, ولئن أنا أنكرت ما يقول الناس لا يصدقونني. ثم التمست اسم يعقوب فما أذكره فقلت: ولكني أقول كما قال أبو يوسف (فصبر جميل ولله المستعان على ما تصفون) .
قالت: فو الله ما برح رسول الله صلّى الله عليه وآله وسلّم مجلسه حتى تغشاه من الله ما كان يتغشاه, فتسجى بثوبه, ووضعت له وسادة من أدم تحت رأسه. فأما أنا حين رأيت من ذلك ما رأيت فو الله ما فزعت ولا باليت قد عرفت أني بريئة, وإن الله غير ظالمي. وأما أبواي, فو الذي نفس عائشة بيده, ما سري عن رسول الله صلّى الله عليه وآله وسلّم حتى ظننت لتخرجن أنفسهما فرقا من أن يأتي من الله تحقيق ما قال الناس. ثم سري عن رسول الله صلّى الله عليه وآله وسلّم, فجلس وأنه لينحدر منه مثل الجمان في يوم شات, فجعل يمسح العرق عن جبينه ويقول: ابشري يا عائشة فقد أنزل الله براءتك. فقلت: بحمد الله.
ثم خرج إلى الناس فخطبهم وتلا عليهم ما أنزل الله عليه من القرآن في ذلك, ثم أمر بمسطح بن أثاثة, وحمنة بنت جحش, وحسان بن ثابت - وكانوا ممن أفصح بالفاحشة - فضربوا حدهم.
قالت: ولما نزل في القرآن ذكر من قال من أهل الإفك فقال (إن الذين جاؤا بالإفك عصبة منكم لا تحسبوه شرا لكم بل هو خير لكم لكل امرئ منهم ما أكتسب من الإثم والذي تولى كبره منهم له عذاب عظيم) قيل: إنه حسان وأصحابه, وقيل: عبد الله بن أبي وأصحابه. ثم قال (لولا إذ سمعتوه ظن المؤمنون والمؤمنات بأنفسهم خيرا وقالوا هذا إفك مبين) أي هلا قلتم إذ سمعتوه كما قال أبو أيوب الأنصاري وصاحبته أم أيوب, وذلك أنها قالت لزوجها: يا أبا أيوب ألا تسمع ما يقول الناس في عائشة؟ فقال بلى, وذلك الكذب, أكنت يا أم أيوب فاعلته؟ قالت: لا والله ما كنت لأفعله, قال: فعائشة والله خير منك. ثم قال تعالى (إذ تلقونه بألسنتكم وتقولون بأفواهكم ما ليس لكم به علم وتحسبونه هينا وهو عند الله عظيم) . فلما نزل هذا في عائشة قال أبو بكر - وكان ينفق على مسطح لقرابته وحاجته -: والله لا أنفق على مسطح أبدا, ولا أنفعه بنفع أبدا بعد الذي قال لعائشة. قالت: فأنزل الله في ذلك (ولا يأتل أولوا الفضل منكم والسمعة أن يؤتوا أولي القربى والمساكين والمهاجرين في سبيل الله وليعفوا وليصفحوا ألا تحبون أن يغفر الله لكم والله غفور رحيم) . قالت: فقال أبو بكر: بلى والله إني لأحب أن يغفر الله لي, فرجع إلى مسطح نفقته التي كان ينفقها وقال: والله لا أنزعها منه أبدا.
وكان حسان قد عرض بصفوان بن المعطل بقوله:
أمس الخلابيس قد عزوا وقد كثروا ... وابن الفريعة أمسى بيضة البلد
فلما بلغ ذلك صفوان اعترض حسان فضربه بالسيف ثم قال:
تلق ذباب السيف عني فإنني ... غلام إذ هوجيت لست بشاعر
ولما سري عن رسول الله صلّى الله عليه وآله وسلّم قال: يا عائشة أما والله لقد برأك الله. فقالت أمي: قومي إليه, قالت عائشة: فقلت: والله لا أقوم إليه ولم أحمد إلا الله.
وبيت بديعية الصفي الحلي رحمه الله قوله:(1/345)
والعاقب الحبر في نجران لاح له ... يوم التباهل عقبى زلة القدم
العنوان في هذا البيت هو الإشارة إلى قصة المباهلة التي ذكرها الله سبحانه في القرآن المجيد فقال (فمن حاجك فيه من بعد ما جاءك من العلم فقل تعالوا ندع أبناءنا وأبناءكم ونساءنا ونساؤكم وأنفسنا وأنفسكم ثم نبتهل فنجعل لعنه الله على الكاذبين) .
قال الإمام في تفسيره: روي أنه عليه السلام لما أورد الدلائل على نصارى نجران, ثم أنهم أصروا على جهلهم قال عليه السلام: إن الله أمرني إن لم تقبلوا الحجة أن أباهلكم. فقالوا: يا أبا القاسم بل نرجع في أمرنا ثم نأتيك. فلما رجعوا قالوا للعاقب وكان ذا رأيهم: يا عبد المسيح ما ترى؟ فقال: والله لقد عرفتم يا معشر النصارى أن محمدا نبي مرسل, ولقد جاءكم بالكلام الحق في أمر صاحبكم, والله ما باهل قوم نبيا قط فعاش كبيرهم ولا نبت صغيرهم, ولئن فعلتم لكان الاستيصال, فإن أبيتم إلا الإصرار على دينكم, والإقامة على ما أنتم عليه فوادعوا الرجل, وانصرفوا إلى بلادكم.
وكان رسول الله صلّى الله عليه وآله وسلّم خرج وعليه مرط من شعر أسود, وكان احتضن الحسين وأخذ بيد الحسن, وفاطمة تمشي خلفه, وعلي عليه السلام خلفها, وهو يقول: إذا دعوت فأمنوا. فقال أسقف نجران: يا معشر النصارى إني لأرى وجوها لو شاء الله أن يزيل جبلا من مكانه لأزاله بها, فلا تباهلوا فتهلكوا, ولا يبقى على وجه الأرض نصراني إلى يوم القيامة. ثم قال: يا أبا القاسم رأينا أن لا نباهلك وإن نقرك على دينك. فقال صلوات الله عليه: فإذا أبيتم المباهلة فاسلموا يكن لكم ما للمسلمين وعليكم ما على المسلمين. فأبوا, فقال: إني أناجزكم الحرب, فقالوا: مالنا بحرب العرب طاقة, نصالحك على أن لا تغزونا, ولا تردنا عن ديننا, على أن نؤدي إليك كل عام ألفي حلة: ألف في صفر, وألف في رجب وثلاثين درعا عادية من حديد. فصالحهم على ذلك وقال: والذي نفسي بيده أن الهلاك قد تدلى على أهل نجران, ولو لاعنوا لمسخوا قردة وخنازير, ولاضطرم عليهم الوادي نارا, ولاستأصل الله نجران وأهله حتى الطير على رؤوس الشجر, ولما حال الحول على النصارى كلهم حتى يهلكوا.
وروي أنه عليه السلام لما خرج في المرط الأسود فجاء الحسن رضي الله عنه فأدخله, ثم جاء الحسين رضي الله عنه فأدخله ثم فاطمة, ثم علي رضي الله عنهما, ثم قال (إنما يرد الله ليذهب عنكم الرجس أهل البيت ويطهركم تطهيرا) .
قال: وأعلم أن هذه الرواية كالمتفق على صحتها بين أهل التفسير والحديث.
وابن جابر لم ينظم هذا النوع في بديعيته.
وبيت بديعية الشيخ عز الدين الموصلي قوله:
بشرى المسيح أتت عنوان دعوته ... وقبله كل هاد صادق القدم
يريد بعنوانه قوله تعالى (وإذ قال عيسى ابن مريم يا بني إسرائيل إني رسول الله إليكم مصدقا لما بين يدي من التوراة ومبشرا برسول يأتي من بعدي اسمه أحمد) . وعن كعب أن الحواريين قالوا لعيسى عليه السلام: يا روح الله هل بعدنا من أمة؟ قال نعم أمة أحمد حكماء علماء أبرار أتقياء, كأنهم من الفقه أنبياء, يرضون من الله باليسير من الرزق, ويرضى الله منهم باليسير من العمل.
وبيت بديعية ابن حجة قوله:
به العصا أثمرت عزا لصاحبها ... موسى وكم قد محت عنوان سحرهم
هذا البيت عنوانه ظاهر لم يحتج إلى شرح.
وبيت بديعية الطبري قوله:
رجم الشياطين من عنوان بعثته ... وحين أرسل دين الكفر لم يقم
والعنوان في هذا البيت ظاهر أيضاً.
وبيت بديعيتي هو قولي:
وآدم إذ بدا عنوان زلته ... به توسل عند الله في القدم(1/346)
العنوان في هذا البيت هو الإشارة إلى ما ذكره الإمام أبو محمد الحسن بن علي العسكري عليهما السلام في تفسيره قوله تعالى (فتلقى آدم من ربه كلمات فتاب عليه إنه هو التواب الرحيم) قال: لما ذلت من آدم الخطيئة وأعتذر إلى ربه عز وجل وقال: يا رب تب علي وأقبل معذرتي, وأعدني إلى مرتبتي, وأرفع لديك درجتي, فلقد تبين بعض الخطيئة وذلها بأعضائي, وسائر بدني. قال الله تعالى (يا آدم أما تذكر أمر إياك بأن تدعوني بمحمد وآله الطيبين عند شدائدك ودواهيك, وفي النوازل التي تبهظك؟ قال آدم: يا رب بلى. قال الله عز وجل: فبهم, وبمحمد وعلي وفاطمة والحسن والحسين صلوات الله عليهم خصوصاً فادعني, أجبك إلى ملتمسك, وأزدك فوق مرادك. فقال آدم: يا رب وإلهي قد بلغ عندك من محلهم أنك بالتوسل إليهم وبهم تقبل توبتي, وتغفر خطيئتي؟ وأنا الذي أسجدت له ملائكتك, وأبحته جنتك, وزوجته حواء أمتك, وأخدمته كرائم ملائكتك. قال الله: يا آدم إنما أمرت الملائكة بتعظيمك في السجود إذ كنت وعاء لهذه الأنوار, ولو كنت سألتني بهم قبل خطيئتك أن أعصمك منها, وأن أفطنك لدواعي عدوك أبليس حتى تحترز منها, لكنت قد جعلت ذلك, ولكن المعلوم في سابق علمي يجري موافقا لعلمي. فالآن فبهم فادعني لأجيبك. فعند ذلك قال آدم: اللهم بجاه محمد وآله الطيبين, بجاه محمد وعلي وفاطمة والحسن والحسين والطيبين من آلهم لما تفضلت بقبول توبتي, وغفران زلتي, وإعادتي من كرامتك إلى مرتبتي.
فقال الله عز وجل: قد قبلت توبتك, وأقبلت برضواني عليك, وصرفت الآئي ونعمائي إليك, وأعدتك إلى مرتبتك من كراماتي, ووفرت نصيبك من رحماتي. فذلك قوله عز وجل (فتلقى آدم من ربه كلمات فتاب عليه إنه هو التواب الرحيم) .
وبيت بديعية الشيخ إسماعي المقري قوله:
وحاز حدا وجاز الحد حيث دنا ... كقاب قوسين أو أدنى ولم يرم
والعنوان فيه ظاهر والله أعلم.
التسهيم
به دعا إذ دعا فرعون شيعته ... موسى فأفلت من تسهيم سحرهم
التسهم مأخوذ من البرد المسهم أي المخطط, وهو الذي يدل أحد سهامه على الذي يليه لكون لونه يقتضي أن يليه لون مخصوص بمجاورة اللون الذي قبله أو بعده منه. والمراد به في الاصطلاح, أن يؤسس الكلام على وجه يدل على بناء ما بعده, ومناسبته للمعنى اللغوي ظاهرة.
وقيل: سمي تسهيما لأن المتكلم يصوب ما قبل عجز الكلام إلى عجزه. والتسهيم: تصويب إلى الغرض. ومنهم من سماه (الأرصاد) من أرصد له, بمعنى أعد أول الكلام لآخره, أو لأن السامع يرصد ذهنه لعجز الكلام بما دل عليه مما قبله.
قال الشيخ صفي الدين: ومن المؤمنين من سماه (التوشيح) والتوشيح غيره, والفرق بينهما من ثلاثة أوجه: أحدها, أن التسهيم يعرف به من أول الكلام آخره, ويعلم مقطعه من حشوه, من غير أن تتقدم سجعة النثر أو قافية الشعر, والتوشيح لا يعلم السجعة والقافية منه إلا بعد تقدم معرفتها.
والآخر, أن التوشيح لا يدلك أوله إلا على القافية فحسب, والتسهيم يدلك تارة على عجز البيت, وطورا على مادون العجز, بشرط الزيادة على القافية.
والثالث, أن التسهيم يدل تارة أوله على آخره, وطورا آخره على أوله, بخلاف التوشيح. فهذه الفروق ظاهرة. انتهى.
إذا عرفت ذلك فأعلم, أن التسهيم ضربان: أحدهما ما دلالته لفظية كقوله تعالى (مثل الذين اتخذوا من دون الله أولياء كمثل العنكبوت اتخذت بيتا وإن أوهن البيوت لبيت العنكبوت) فلو وقف على (أوهن البيوت) علم أن بعده (بيت العنكبوت) .
ومنه قول البحتري:
أحت دمي من غير جرم وحرمت ... بلا سبب يوم اللقاء كلامي
فليس الذي حللته بمحلل ... وليس الذي حرمته بحرام
وقوله أيضا:
فإذا حاربوا أذلوا عزيزا ... وإذا سالموا أعزوا ذليلا
وقول القائل - وينسب إلى أمير المؤمنين علي عليه السلام:
ولي فرس بالجهل للجهل ملجم ... ولي فرس بالحلم للحلم مسرج
فمن شاء تقويمي فإني مقوم ... ومن شاء تعويجي فإني معوج
وقول ابن هاني الأندلسي:
وإذا حللت فكل واد ممرع ... وإذا ظعنت فكل شعب ما حل
وإذا بعدت فكل شيء ناقص ... وإذا قربت فكل شيء كامل(1/347)
الثاني, ما دلالته معنوية, وأحسن شواهدها, ما روي أنه حين بلغت قراءته صلّى الله عليه وآله وسلّم في سورة المؤمنين إلى قوله تعالى (ثم أنشأناه خلقا آخر) قال عبد الله بن أبي سرح: (فتبارك الله أحسن الخالقين) فقال له صلّى الله عليه وآله وسلّم: أكتب هكذا نزل, فقال: إن كان محمد نبيا يوحى إليه, فأنا نبي يوحى إلي, ولحق مرتدا بمكة. فلما كان يوم الفتح أهدر النبي صلّى الله عليه وآله وسلّم دمه, فأستأمن له عثمان (وكان أخاه من الرضاعة) فأمنه وأسلم يومئذ.
ومن غريب أمثلة هذا النوع - لأنوع التوشيح كما زعم ابن حجة وغيره لما عرفته في وجوه الفرق بينهما - ما حكى جعفر بن سعيد بن عبيدة العماري قال: أتى عمر بن أبي ربيعة عبد الله بن العباس رضي الله عنهما وهو في حلقة في المسجد الحرام قال: أمتعني الله بك, إن نفسي قد تاقت إلى قول الشعر وقد أكثر الناس في الشعر, فجئت حتى أنشدك. فأقبل عليه عبد الله بن عباس فقال: هات, فأنشده: - (تشط غد دار جيراننا) فقال ابن عباس: - (وللدار بعد غد أبعد) فقال عمر: والله ما قلت إلا كذا, فقال ابن عباس: وهكذا يكون.
وقريب من ذلك ما يحكى أن عدي بن الرقاع أنشد الوليد بن عبد الملك بحضرة جرير والفرزدق قصيدته التي مطلعها: (عرف الديار توهما فأعتادها) حتى انتهى إلى قوله فيها: - (تزجي أغن كأن إبرة روقه) ثم شغل الوليد عن الاستماع بأمر عرض له فقطع عدي الإنشاد, فقال الفرزدق لجرير - في خلال ذلك -: ما تراه قائلا؟ فقال جرير: أراه يستلهب بها مثلا, فقال الفرزدق: إنه سيقول: - (قلم أصاب من الدواة مدادها) . فلما عاد الوليد إلى الاستماع, وعاد إلى الإنشاد قال كما قال الفرزدق. فقال الفرزدق: فو الله لقد سمعت صدر البيت فرحمته, فلما أنشد عجزه انقلبت الرحمة حسدا.
قال زكي الدين بن أبي الأصبع: الذي أقول: أن بين ابن العباس وبين الفرزدق في استخراجهما العجزين كما بينهما في مطلق الفضل, وفضل ابن العباس معلوم, وأنا أذكر الفرق. فإن بيت عدي بن الرقاع من جملة قصيدة تقدم سماع مطلعها مع معظمها, وعلم أنها دالية مردفة بألف, وهي من وزن قد عرف, ثم تقدم في صدر البيت ذكر ظبية تسوق خشفا لها قد أخذ الشاعر في تشبيه طرف قرنه, مع العلم بسواده, وهذه القرائن لا تخفى على أهل الذوق الصحيح, أن فيها ما يدل على عجز البيت, بحيث يسبق إليه من هو دون الفرزدق من حذاق الشعراء. وبيت عمر بيت مفرد لم تعلم قافيته من أي ضرب هي القوافي, ولا رويه من أي الحروف, ولا حركة رويه من أي ضرب هي من القوافي, ولا رويه من أي الحروف, ولا حركة رويه من أي الحركات, فاستخرج عجزه ارتجالا في غاية العسر, ونهاية الصعوبة, لولا ما أمد الله به هؤلاء الأقوام من المواد التي فضلوا بها غيرهم. انتهى كلام ابن أبي الإصبع. وإنما قال: إن بيت عمر بيت مفرد لم تعلم قافيته ولا رويه, لأنه هو مطلع القصيدة ولم يتقدمه شيء يعلم به ذلك.
ومثل ذلك ما روي عن أبي عبيدة قال: أقبل راكب من اليمامة فمر بالفرزدق, فقال له: هل رأيت ابن المراغة؟ قال: نعم, قال: فأي شيء أحدث بعدي؟ فأنشده:
هاج الهوى بفؤادك المهتاج ... فقال الفرزدق
فانظر بتوضح باكر الأحداج ... فأنشد الرجل
هذا هوى شغف الفؤاد مبرح ... فقال الفرزدق
ونوى تقاذف غير ذات خداج ... فأنشد الرجل
إن الغراب بما كرهت لمولع ... فقال الفرزدق
بنوى الأحبة دائم التشحاج ... فقال الرجل: هكذا والله قال أفسمعتها من غيري؟ قال: لا ولكن هكذا ينبغي أن يقال.
وحكي أن جريرا لما أنشد الراعي النميري قصيدته التي هجاه بها كان الفرزدق حاضرا, فلما وصل إلى قوله: (ترى برصا بمجمع إسكتيها) غطى الفرزدق عنفقته فقال جرير: (كعنفقة الفرزدق حين شابا) فقال له الفرزدق: أخزاك الله, والله لقد علمت أنك لا تقول غيرها.
ومدح أبو الرخاء الأهوازي الصاحب بن عباد لما ورد الأهواز بقصيدة منها:
إلى ابن عباد أبي القاسم ال ... صاحب إسماعيل كفاي الكفاة
فاستحسن جمعه بين اسمه وكنيته لقبه واسم أبيه في بيت واحد. ثم ذكر وصوله إلى بغداد, وملكه إياها إلى أن قال: (ويشرب الخيل هنيئا بها) فقال له: أمسك, ثم قال: تريد أن تقول:(1/348)
(من بعد ماء الري ماء الفرات) فقال: هو كذا والله, فضحك.
وبيت بديعية الصفي المحلي قوله:
كذاك يونس ناجى ربه فنجا ... من بطن حوت له في اليم ملتقم
وبيت بديعية الشيخ عز الدين الموصلي قوله:
تسهيمه في الوغى حسم لمتصل ... تسليمه في الرضا وصل لمنحس
قال ابن حجة: بيت عز الدين رماه بالتسهيم في العكس فتشوش, إذ صار كل من النوعين يجاذبه. انتهى.
والذي أعتقده أنا أن الشيخ عز الدين أخطأ سهم تسهيمه الغرض في هذا البيت.
وبيت بديعية ابن حجة قوله:
كذا الخليل بتسهيم الدعاء به ... أصابهم ونجا من حر نارهم
وبيت بديعية الطبري قوله:
وكل مقتحم في الحرب مبتدر ... لم يثنه ذاك عن تسهيم لحمهم
ما أحق الطبري أن ينشد في هذا المقام:
على نفسه فليبك من ضاع عمره ... وليس له فيها نصيب ولا سهم
وبيت بديعيتي هو قولي:
به دعا إذ دعا فرعون شيعته ... موسى فأخطأه تسهيم سحرهم
وبيت بديعية الشيخ إسماعيل المقري قوله:
ساقي البرايا غدا ماء على قدم ... صدق فبورك من ساق على قدم
التشريع
لاح الهدى فهدى تشريع ملته ... لما بدا لسلوك المنهج الأهم
التشريع في اللغة مصدر شرع بالتضعيف. يقال: شرع بابا إلى الطريق تشريعا, أي فتحه وبينه, كأشرعه إشراعا, وشرع الناقة تشريعا إذا أدخلها في شريعة الماء - وهي مورد الإبل على الماء - والتشريع أيضاً إيراد أصحاب الإبل إبلهم شريعة لا يحتاج معها إلى الاستقاء من البئر, ومنه حديث علي عليه السلام: إن أهون السقي التشريع. ومن المعنى الأول نقل الاصطلاح وهو أن تبنى القصيدة على وزنين من أوزان العروض وقافيتين, فإذا أسقط من أجزاء البيت جزء أو جزآن صار ذلك البيت من وزن آخر, كأن الشاعر شرع في بيته بابا إلى وزن آخر. ولما خفي على ابن أبي الإصبع وجه مناسبة التشبيه بين اللغوي والاصطلاحي, أو استعبده, سمى هذا النوع التوأم ليطابق بين الاسم والمسمى.
قال الحافظ السيوطي في الإتقان: وزعم قوم اختصاصه بالشعر, وقال آخرون: بل يكون في النثر, بأن يبنى على سجعتين لو أقتصر على الأولى منها كان الكلام تاما مفيدا, وإن ألحقت به السجعة الثانية كان في التمام والإفادة على حاله مع زيادة معنى ما زاد من اللفظ.
قال ابن الإصبع: وقد جاء من هذا الباب معظم سورة الرحمن, فإن آياتها لو اقتصر فيها على أولى الفاصلتين دون فبأي آلاء ربكما تكذبان لكان تاما مفيدا, وقد كمل بالثانية فأفاد معنى زائدا عن التقرير والتدبيج.
قلت: التمثيل غير مطابق, والأولى يمثل بالآيات التي في أثنائها ما يصلح أن يكون فاصلة, كقوله (لتعلموا أن الله على كل شيء قدير وأن الله قد أحاط بكل شيء علما) وأشباه ذلك.
ومن أمثلته في الشعر قول بعض العرب المتقدمين:
وإذا الرياح مع العشي تناوحت ... هوج الرمال بكثبهن شمالا
ألفيتنا نقري العبيط لضيفنا ... قبل القتال ونقتل الأبطالا
فإنه لو اقتصر على الرمال والقتال لكان الشعر من الضرب المجزو المرفل من الكامل وهو:
وإذا الرياح مع العشي ... تناوحت هوج الرمال
ألفيتنا نقري العبيط ... لضيفنا قبل القتال
فأما إذا أتم البيتين صارا من الضرب التام المقطوع منه, وصار لكل بيت منهما قافيتان, ومنه قول الحريري في مقاماته:
يا خاطب الدنيا الدنية إنها ... شرك الردى وقرارة الأكدار
دار متى ما أضحكت في يومها ... أبكت غدا أف لها من دار
ولا بأس بإيراد صدر المقامة المشتملة على هذه الأبيات, فإن فيه مع إيراد الشاهد على النوع بيان تشريعها, ولطف معانيها وبديعها.(1/349)
قال: حدث الحارث بن همام قال: نبا بي مألف الوطن, في شرخ الزمن, لخطب خشي, وخوف غشي. فأرقت كأس الكرى, ونصصت ركاب السرى, وجبت في سيري وعورا لم تدمثها الخطى, ولا اهتدت إليها القطا, حتى وردت حمى الخلافة, والحرم العاصم من المخافة. فسروت إيجاس الروع واستشعاره, وتسربلت لباس الأمن وشعاره. وقصرت همي على لذة أجتنيها, وملحة أجتليها فبرزت يوما إلى الحريم لأروض طرفي, وأجيل في طرقه طرفي. فإذا فرسان متتالون, ورجال منثالون, وشيخ طويل اللسان, قصير الطيلسان, وقد لبَّبَ فتى جديد الشباب, خلق الجلباب, فركضت في أثر النظارة, حتى وافينا باب الإمارة. وهناك صاحب المعونة متربعا في دسته, ومروعا بسمته. فقال له الشيخ: أعز الله الوالي وجعل كعبه العالي, إني كفلت هذا الغلام فطيما, وربيته يتيما, ثم لم آله تعليما, فلما مهر وبهر؛ جرد سيف العدوان وشهر, ولم أخله يلتوي علي ويتقح حتى يرتوي مني ويلتقح. فقال له الفتى: علام عثرت مني حتى تنشر هذا الخزي عني؟ فو الله ما سترت وجه برك, ولا هتكت حجاب سترك, ولا ألغيت تلاوة شكرك, ولا شققت عصا أمرك. فقال له الشيخ: ويلك وأي ريب أخزى من ريبك؟ وله عيب أفحش من عيبك؟ وقد أدعيت سحري واستحلقته, وانتحلت شعري واسترقته. واستراق الشعر عند الشعراء, أفظع من سرقة البيضاء والصفراء, وغيرتهم على بنات الأفكار كغيرتهم على البنات الأبكار. فقال الوالي للشيح: وهل حين سرق سلح أم مسخ أم نسخ؟ فقال: والذي جعل الشعر ديوان العرب, وترجمان الأدب, ما أحدث سوى أن بتر شمل شرحه, وأغار على ثلثي سرحه.
فقال له أنشد أبياتك برمتها, ليتضح ما احتازه من جملتها. فقال:
يا خاطب الدنيا الدنية إنها ... شرك الردى وقرارة الأكدار
دار متى ما أضحكت في يومها ... أبكت غدا بعدا لها من دار
وإذا أظل سحابها لم ينتقع ... منه صدى لجهامه الغرار
غاراتها ما تنقضي وأسيرها ... لا يفتدى بجلائل الأخطار
كم مزدهى بغرورها حتى بدا ... متمردا متجاوز المقدار
قلبت له ظهر الجن وأولغت ... فيه المدى ونزت لأخذ الثار
فاربأ بعمرك أن يمر مضيعا ... فيها سدى من غير ما استظهار
واقطع علائق حبها وطلابها ... تلق الهدى ورفاهة الأسرار
وارقب إذا ما سالمت من كيدها ... حرب العدى وتوثب الغدار
واعلم بأن خطوبها تفجا ولو ... طال المدى وونت سرى الأقدار
فقال له الوالي ثم ماذا صنع هذا؟ قال: أقدم للؤمة في الجزاء, على أبياتي السداسية الأجزاء فحذف منها جزأين, ونقص من أوزانها وزنين, حتى صار الرزء فيها رزءين. فقال: بين ما أخذ ومن أين فلذ. فقال: أرعني سمعك, وأخل للتفهم عني ذرعك, حتى تتبين كيف أصلت علي وتقدر قدر اجترامه إلي.
ثم أنشد وأنفاسه تتصعد:
يا خاطب الدنيا الدني ... ة إنها شرك الردى
دار متى ما أضحكت ... في يومها أبكت غدا
وإذا أظل سحابها ... لم ينتقع منه سدى
غاراتها ما تنقضي ... وأسيرها لا يفتدى
كم مزدهى بغرورها ... حتى بدا متمردا
قلبت له ظهر المجن وأولغت فيه المدى
فاربأ بعمرك أن يمر ... مضيعا فيها سدى
واقطع علائق حبها ... وطلابها تلق الهدى
وارقب إذا ما سالمت ... من كيدها حرب العدى
وأعلم بأن خطوبها ... تفجا ولو طال المدى
فالتفت الوالي إلى الغلام وقال: تبا لك من خريج مارق, وتلميذ سارق. فقال الفتى: برئت من الأدب وبنيه, ولحقت بمن يناويه ويقوض مبانيه, إن كانت أبياته نمت إلى علمي, قبل أن ألفت نظمي. وإنما اتفق توارد الخواطر, كما قد يقع الحافر على الحافر. انتهى ما أردنا إيراده من هذه المقامة.
وأغرب ما وقع من هذا النوع ما جاء من غير قصد الشاعر, وقد وقع كثير منه في شعر المتأخرين.
فمنه قول الشيخ العارف عفيف الدين التلمساني من قصيدة أولها:
باكر إلى داعي الصبوح صباحا ... واجعل زمانك كله أفراحا
واجل التي تجلو همومك في الدجى ... حتى ترى لظلامه مصباحا
يا طالب الراحات ليس ينالها ... إلا الذي في الراح يجلو الراحا
أو مغرم أعطى الصبابة حقها ... تدعوه صبوته إليه كفاحا(1/350)
نشوان من خمر الصبا فكأنه ... غصن يميل مع الصبا مرتاحا
الشاهد في البيت الأخير, فإنك إذا أسقطت من كل شطر من البيت جزء صار البيت هكذا:
نشوان من خمر الصبا ... غصن يميل مع الصبا
وقوله من أخرى وأولها:
يا برق نجد هل حكيت فؤادي ... في ذا التلهب والخفوق البادي
لولا اشتراك هواكما لم تسفحا ... دمعيكما في سفح ذاك الوادي
أترى سويكنة الحمى بجمالها ... سلبت رقادك في الهوى ورقادي
فإذا سقط من كل شطر من البيت الأخير جزء صار هكذا:
أترى سويكنة الحمى ... سلبت رقادك في الهوى
وقوله أيضاً من جملة قصيدة:
مهما انثنى فأنا الطعين بقامة ... هيفاء تهزء بالقنا المياد
وإذا رنا فأنا القتيل بمقلة ... نجلاء أمضى من حدود حداد
فإنك إذا أسقطت من البيت الأول قوله (تهزء بالقنا المياد) ومن الثاني قوله (أمضى من حدود حداد) صار البيتان هكذا:
مهما انثنى فأنا الطعين ... بقامة هيفاء
وإذا رنا فأنا القتي ... ل بمقلة نجلاء
وقوله أيضاً في مطلع قصيدة:
بالله بلغ سلامي أيها الحادي ... إلى غزال الصريم الرائح الغادي
فإنه يخرج منه بيت من منخرق المجتث وهو:
بالله بلغ سلامي ... إلى غزال الصريم
ومنه قول التلعفري:
نهاري كله قلق وفكر ... وليلي كله أرق وذكر
فإنه يخرج منه بعد إسقاط جزء من كل من الشطرين بيت وهو:
نهاري كله قلق ... وليلي كله أرق
وقول ابن النبيه:
خذ من حديث شؤونه وشجونه ... خبرا تسلسله رواة جفونه
لولا فضيحة خده بدموعه ... مازال شك رقيبه بيقينه
فإن البيت الثاني يخرج منه بيت وهو.
لولا فضيحة خده ... مازال شك رقيبه
ومن ألطف ما وقع من هذا النوع عن قصد قول ابن جابر صاحب البديعية:
يرنوا بطرف فاتر مهما رنا ... فهو المنى لا أنتهي عن حبه
يهفو بغصن ناضر حلو الجنى ... يشفي الضنى لا صبر لي عن قربه
لو كان يوما زائري زال العنا ... يحلو لنا في الحب أن نسمى به
أنزلته في خاطري لما دنا ... قد سرنا إذ لم يحل عن صبه
وهذه الأبيات من الرجز التام, وهو الضرب الأول منه, فإن تركتها كانت على حالتها من التام, وإذا أسقطت من البيت الأول (لا انتهي عن حبه) , ومن الثاني (لا صبر لي عن قربه) , ومن الثالث (في الحب أن نسمى به) , ومن الرابع (إذ لم يحل عن صبه) , صارت من الرجز المجزو. وإن أسقطت من البيت الأول (فهو المنى) إلى آخره, ومن الثاني (يشفي الضنا) إلى آخره, ومن الثالث (يحلو لنا) إلى آخره, ومن الرابع (قد سرنا) إلى آخره, صارت من الرجز المشطور. وأن أسقطت من الأول قوله (مهما رنا) ومن الثاني) (حلو الجنى) ومن الثالث (زال العنا) ومن الرابع (لما دنا) إلى آخره صار الرجز المنهوك.
ومثل ذلك قول بعضهم:
جمر غرامي واقد يحكي لظى ... شراره في القلب ليس ينطفي
ودمع عيني شاهد على الهوى ... مدراره والوجد ما لا يختفي
والنوم مني شارد لا يرتجى ... غراره فيا لطب مدنف
هل في الهوى مساعد ما قد عنى ... اعذاره في حب ظبي أهيف
مائل قد مائد إذا انثنى ... خطاره كالغصن المهفهف
فلحظه لي صائد أن ينتضى ... بتاره هل في الجفون مشرفي
قلبي عليه واجد لما نأى ... قراره بين الأسى والأسف
أرغب وهو زاهد وهو المنى ... أختاره من لي به فأشتفي
أسهر وهو راقد لما جفا ... نفاره عرضني للتلف
وجدي عليه زائد من الجوى ... أسعاره بين الدموع الذرف
ولأبي جعفر الغرناطي على أسلوب أبيات الحريري:
يا راحلا يبغي زيارة طيبة ... نلت المنى بزيارة الأخيار
حي العقيق إذا وصلت وصف لنا ... وادي منى يا طيب الأخبار
وإذا وقفت لدى المعرف داعيا ... زال العنا وظفرت بالأوطار
ولابن جابر الأندلسي:
من لي بآنسة تنام لحظها ... من غير نوم بل تتيه وتفتن
قالت ألست تخاف حين تزورني ... سطوات قومي كم تبوح وتعلن
فأجبتها في نيل وصلك لم أكن ... لأخاف لومي فهو عندي هين
ومنه قولي:(1/351)
من مستهل دموعي يوم فرقته ... أمطرت سحبا غزارا فهي تنهمر
ومن لهيب ضلوعي في محبته ... أوقدت في الحي نارا فهي تستعر
وكم كتمت ولوعي خوف شهرته ... فزاد فيه اشتهارا والهوى عبر
فإنه يخرج من كل بيت بيت من مجزو المجتث هكذا:
من مستهل دموعي ... أمطرت سحبا غزارا
ومن لهيب ضلوعي ... أوقدت في الحي نارا
وكم كتمت ولوعي ... فزاد فيه اشتهارا
وبيت بديعية الشيخ صفي الدين الحلي قوله:
فلو رأيت مصابي عندما رحلوا ... رثيت لي من عذابي يوم بينهم
فإنك إذا أسقطت من كل شطر من البيت جزء صار البيت هكذا:
فلو رأيت مصابي ... رثيت لي من عذابي
وابن جابر نظم هذا النوع في بيتين فقال وتكلف ما شاء:
واف كريم رحيم قد وفى ووقى ... وعم نفعا فكم ضر شفى وكم
فقم بنا فلكم فقر كفى كرما ... وجود تلك الأيادي قد صفا فقم
قال ابن حجة - ونعم ما قال - أقول: لو اختصر العميان هذين البيتين, وأضافوهما إلى ما اختصروه من البديع لكان أجمل بهم, فإنهم أسقطوا من أنواع البديع نحو السبعين.
وقصد الناظم فيهما - أعني البيتين - أنك إذا أسقطت من البيت الكلمة الموازنة (فعلن) من آخر كل نصف وهما قوله (ووقى) وقوله (وكم) صار الوزن من الضرب الأول من البسيط وهو التام, إلى الضرب الثالث منه وهو المجزو.
لأنه قد حذف منه جزء من آخر كل نصف فصار:
واف كريم رحيم قد وفى ... وعم نفعا فكم ضر شفى
فقم بنا فلكم فقر كفى ... وجود تلك الأيادي قد صفا
وهذا مع ركية وثقالة نظمه, غير المشهور من البسيط, فإنه لم يشتهر منه غير العروض الأولى المخبونة, ووزنها (فعلن) ولها ضربان, المشهور منها الأول وهو مخبون مثلها.
وبيت بديعة الشيخ عز الدين الموصلي قوله:
وفي الهوى ضل تشريع العذول لنا ... وكم هوى في مقال ذل من حكم
هذا البيت يخرج منه بيتان أحدهما من منهوك الرجز وهو:
وفي الهوى ... وكم هوى
والثاني من العروض الثالثة المحذوفة المخبونة من المديد وهو:
ضل تشريع العذول لنا ... في مقال ذل من حكم
ولقد برز الشيخ عز الدين على من تقدمه في هذا البيت, فإن الصفي وابن جابر لم يتحصل لهما بيتان من بيت ولهذا قال في شرحه: إن هذا النمط ما وقع للمتقدمين وهو معجز ليس لأديب عليه قدرة.
وقد نسج ابن حجة على منواله فقال:
طاب اللقا لذ تشريع الشعور لنا ... عل التقا فنعمنا في ظلالهم
فإنه يخرج منه بيتان أيضاً أحدهما:
طاب اللقا ... على النقا
والثاني:
لذ تشريع الشعور لنا ... فنعمنا في ظلالهم
وزاد على الشيخ عز الدين بتمام معنى البيت الأول الذي هو من منهوك الرجز, فإن بيته لا تتم به الفائدة, ولا يحسن السكوت عليه.
والطبري حاك على منوال الشيخ صفي الدين فقال:
تسرعوا بولائي إذ وثقت بهم ... لأن فيهم رجائي وفق شرعهم
وبيت بديعيتي محوك على منوال بيتي الموصلي وابن حجة وهو:
لاح الهدى فهدى تشريع ملته ... لما بدا لسلوك المنهج الأمم
فإنه يخرج منه بيتان أيضاً أحدهما:
لاح الهدى ... لما بدا
والثاني:
فهدى تشريع ملته ... لسلوك المنهج الأمم
والبيت الأول أعني الذي من منهوك الرجز تام المعنى, مستقل بنفسه, يحسن السكوت عليه كبيت ابن حجة, لا بيت الموصلي.
وبيت الشيخ إسماعيل المقري قوله:
فلو ترى ما أقاسي لأبليت به ... هوى يهد الرواسي غير منصرم
وهو كبيت الشيخ صفي الدين أيضاً يخرج منه:
فلو ترى ما أقاسي ... هوى يهد الرواسي
المذهب الكلامي
والله لولا هداه ما اهتدى أحد ... لمذهب من كلام الله ذي الحكم
هذا النوع أول من ذكره الجاحظ, وهو عبارة عن أن يأتي البليغ بحجة على ما يدعيه على طريقة المتكلمين, وهي أن تكون بعد تسليم المقدمات مستلزمة للمدعى.
قال بعضهم: وإنما نسبت طريقة الاستدلال إلى المتكلمين والمتكفل ببيانها أهل الميزان, لكمال اجتهادهم في استعمال قواعد الاستدلال في المطالب الكلامية, حتى صاروا علما يضرب بهم المثل في البحث وإلزام الخصوم بأنواع الدليل.(1/352)
وزعم الجاحظ أن هذا النوع - أعني المذهب الكلامي - لا يوجد منه شيء في القرآن, ورد بأنه مشحون به.
قال العلماء: قد اشتمل القرآن العظيم على جميع أنواع البراهين والأدلة. ما من برهان, ولا دلالة وتقسيم وتحديد ينهي من كليات المعلومات العقلية والسمعية إلا وكتاب الله قد نطب به, لكن أورده على عادة العرب دون دقائق طرق المتكلمين, لأمرين: أحدهما, بسبب ما قاله (وما أرسلنا من رسول إلا بلسان قومه ليبين لهم) .
والثاني, أن المائل إلى دقيق المحاجة هو العاجز عن إقامة الحجة بالجلي من الكلام, فإن من استطاع أن يفهم بالأوضح الذي يفهمه الأكثرون, لم ينحط إلى الأغمض الذي لا يعرفه إلا الأقلون ولم يكن ملغزا, فاخرج تعالى مخاطباته في محاجة خلقه في أجلى صورة لتفهم العامة من جليها ما يقنعهم ويلزمهم الحجة, ويفهم الخواص من أثنائها ما يربي على ما أدركه فهم الخطباء.
ومن بديع ما ورد من هذا النوع في القرآن المجيد قوله تعالى (وفي الأرض قطع متجاورات وجنات من أعناب وزرع ونخيل صنوان وغير صنوان يسقى بماء واحد وتفضل بعضها على بعض في الأكل إن في ذلك لآيات لقوم يعقلون) .
فإنه تعالى ذكر الدليل على فساد قول من يضيف هذه الحوادث إلى الطبع, وحرره على وجه أسقط كثيرا من الأسئلة, بأن بين أن في الأرض قطعا متجاورات يقرب بعضها من بعض, ليسقط قوله من قال: إن الأرض إذا تباعدت أطرافها اختلفت التربة, وكان منها الطيب والخبيث, لأن ذلك يبعد في المتقارب منها. وكذلك الهواء لا يمكن أن يدعى أن تغيره هو المؤثر لأن الأراضي ما لم يتباعد بعضها من بعض لا يظهر في أهويتها التغير, وكذلك الماء إذا كان واحدا لا يمكن لأحد أن يدعي أن اختلاف الأكل راجع إلى اختلاف الماء. فدل بذلك كله أنه بفعل القادر الحكيم, تبارك وتعالى.
فينبغي للمتأمل أن يتأمل هذا الكلام, ويتصفح كلام المتكلمين, هل لشيء منه هذا الحسن الرائع؟ فإنه تعالى جمع فيه بين حسن المعنى وشرف الموضوع, وجزالة اللفظ وعذوبته, مع جمع المقاصد الكثيرة في ألفاظ يسيرة, ربط بعضها ببعض بحيث حسم عنها مطاعن المعترض, فسبحانه من صانع عليم.
ومنه قوله تعالى أيضا: (وهو الذي يبدأ الخلق ثم يعيده وهو أهون عليه) أي الإعادة أهون وأسهل عليه من البدء, وكل ما هو أهون فهو أدخل في الإمكان. فالإعادة أدخل في الإمكان وهو المطلوب.
وقوله تعالى حكاية عن إبراهيم عليه السلام (فلما أفل قال لا أحب الآفلين) أي القمر آفل وربي ليس بآفل, فالقمر ليس بربي.
وقوله تعالى: (قل فلم يعذبكم بذنوبكم) أي أنتم تعذبون والبنون لا يعذبون, فلستم ببنين له.
ومما ورد منه في الحديث, ما روي عن ابن عباس رضي الله عنه قال: لما نزل قوله تعالى: (وانذر عشيرتك الأقربين) صعد صلّى الله عليه وآله وسلّم على الصفا فجعل ينادي: يا بني فهر, يا بني عدي لبطون قريش حتى اجتمعوا, فجعل الرجل منهم إذا لم يستطع أن يخرج يرسل رسولا لينظر ما هو. فجاء أبو لهب وقريش, فقال صلّى الله عليه وآله وسلّم: يا معشر قريش, أرأيتكم لو أخبرتكم أن خيلا بالوادي تريد أن تغير عليكم أكنتم مصدقي؟ قالوا: نعم, ما جربنا عليك إلا صدقا, قال: فإني نذير لكم بين يدي عذاب شديد. فألزمهم الاعتراف أولا بأنه مخبر صادق, ليلزمهم تصديقه فيما يخبر به, ثم إذا أخبرهم حملهم اللجاج والعناد على أن لم يصدقوه. فقال أبو لهب - تبت يداه -: تبا لك لهذا جمعتنا؟ فنزلت سورة تبت.
ومنه قول أمير المؤمنين علي عليه السلام لما انتهت إليه أنباء السقيفة بعد وفاة رسول الله صلّى الله عليه وآله وسلّم, قال: ما قالت الأنصار؟ قالوا: قالت: منا أمير ومنكم أمير, قال عليه السلام: فهلا احتججتم عليهم بأن رسول الله صلّى الله عليه وآله وسلّم أوصى بأن يحسن إلى محسنهم, ويتجاوز عن مسيئهم قالوا: وما في هذا من الحجة عليهم؟ فقال عليه السلام: لو كانت الإمارة فيهم لم تكن الوصية بهم, ثم قال: فماذا قالت قريش؟ قالوا: احتجت بأنها شجرة الرسول صلّى الله عليه وآله وسلّم فقال: احتجوا بالشجرة وأضاعوا الثمرة.(1/353)
تقرير الاحتجاج: - لو كانت الإمارة حقا لهم لما كانت الوصية بهم, لكنها بهم فليست الإمارة لهم. بيان الملازمة أن العرف قاض بأن الوصية والشفاعة ونحوهما إنما يكون إلى الرئيس في حق المرؤوس من غير عكس. وإما بطلان الثاني فللخبر المذكور. وأما قوله عليه السلام: احتجوا بالشجرة وأضاعوا الثمرة, فهو كلام في قوة احتجاج له على قريش بمثل ما احتجوا به على الأنصار, وتقريره: إنهم إن كانوا أولى من الأنصار لكونهم شجرة رسول الله صلّى الله عليه وآله وسلّم فنحن أولى لكوننا ثمرته, وللثمرة اختصاص بالشجرة من وجهين: أحدهما القرب وميزته ظاهرة. والثاني أن الثمرة هي المطلوبة بالذات من الشجرة وغرسها, فإن كانت الشجرة معتبرة, فبالأولى اعتبار الثمرة. وإن لم يلتفت إلى الثمرة فبالأولى لا التفات إلى الشجرة.
ويلزم من هذا الاحتجاج أحد أمرين: إما بقاء الأنصار على حجتهم لقيام هذه المعارضة, أو كونه عليه السلام أحق بهذا الأمر وهو المطلوب.
ومنه ما حكي أن الوليد قال لأبي الأقرع: أنشدني قولك في الخمر فأنشده:
كميت إذا شجت ففي الكاس وردها ... لها في عظام الشاربين دبيب
تريك القذى من دونها وهي دونه ... لوجه أخيها في الإناء قطوب
فقال الوليد: شربتها ورب الكعبة, فقال: لئن كان وصفي لها رابك لقد رابني معرفتك بها.
وقصد شاعر أبا دلف العجلي فقال: ممن أنت؟ قال: من تميم, فقال:
تميم بطرق اللؤم أهدى من القطا ... ولو سلكت طرق المكارم ضلت
قال: نعم بتلك الهداية جئتك, فخجل أبو دلف, واستكتمه وأجازه.
ومنه قول النابغة من قصيدة يعتذر فيها إلى النعمان بن المنذر وقد كان مدح آل جفنة بالشام فتنكر النعمان من ذلك:
حلفت فلم أترك لنفسي ريبة ... وليس وراء الله للمرء مطلب
لئن كنت قد بلغت عني خيانة ... لمبلغك الواشي أغش وأكذب
ولكنني كنت امرءاً لي جانب ... من الأرض فيه مستراد ومذهب
ملوك وأخوان إذا ما مدحتهم ... أحكم في أموالهم وأقرب
كفعلك في قوم أراك اصطنعتهم ... فلم تر هم في مدحهم لك أذنبوا
يعني لا تلمني, ولا تعاتبني على مدح آل جفنة وقد أحسنوا إلي, كما لا تلوم قوما مدحوك وقد أحسنت إليهم, فكما أن مدح أولئك لك لا يعد ذنبا, كذلك مدحي لمن أحسن إلي.
وهذه الحجة على صورة التمثيل الذي يسميه الفقهاء قياسا. ويمكن رده إلى صورة قياس استثنائي بأن يقال: لو كان مدحي لآل جفنة ذنبا, لكان مدح أولئك القوم لك أيضاً ذنبا, لكن اللازم باطل, وكذا الملزوم.
وقول مالك بن المرحل الأندلسي:
لو يكون الحب وصلا كله ... لم تكن غايته إلا الملل
أو يكون الحب هجرا كله ... لم تكن غايته إلا الأجل
إنما الوصل كمثل الماء لا ... يستطاب الماء إلا بالعلل
البيتان الأولان قياس شرطي, والثالث قياس فقهي, فإنه قاس الوصل على الماء, فكما أن الماء لا يستطاب إلا بعد العطش, فالوصل مثله لا يستطاب إلا بعد الهجر.
وقال الآخر:
دع النجوم لطرفي يعيش بها ... وبالعزائم فانهض أيها الملك
إن النبي وأصحاب النبي نهوا ... عن النجوم وقد أبصرت ما ملكوا
يعني لو كان الظفر والفوز بالمطالب بالنجوم لم يظفروا بشيء مما ظفروا به, لأنهم نهوا عنها, لكنهم مع ذلك ظفروا, فلم يكن الظفر بها.
ومنه قولي:
تريك إذا بدت ليلا محيا ... يضيق لوصفه وسع العباره
ولولا أنه قمر تجلى ... لما دار الخمار عليه داره
وبيت بديعية الشيخ صفي الدين الحلي قوله:
كم بين من أقسم الله العلي به ... وبين من جاء باسم الله في القسم
مدعاه تفضيله صلّى الله عليه وآله وسلّم على غيره من الأنبياء, واحتج على ذلك بقسم الله سبحانه به في قوله تعالى (لعمرك إنهم لفي سكرتهم يعمهون) ولم يقسم بغيره منهم, بل هم أقسموا به سبحانه؛ وشتان بين المنزلتين.
والعمر بالفتح بمعنى العمر بالضم, إلا أنهم خصوا القسم بالفتح لإيثار الأخف. قال المفسرون: خاطب سبحانه رسول الله صلّى الله عليه وآله وسلّم, وأقسم بحياته كرامة له, وما أقسم بحياة أحد قط, وذلك يدلك على أنه أكرم الخلق على الله سبحانه.
وبيت بديعية ابن جابر الأندلسي قوله:(1/354)
لو لم تحط كفه بالبحر ما شملت ... كل الأنام وأروت قلب كل ظمى
احتج على ما تقدم من الحكم بأن كفه صلّى الله عليه وآله وسلّم محيطة بالبحر, بأنها لو لم تكن كذلك لما شملت كل إنسان, وأروت كل ظمئ لكنها شملت وأروت, فثبت أنها محيطة به.
وبيت بديعية ابن حجة قوله:
ومذهب في كلامي أن بعثته ... لو لم تكن ما تميزنا على الأمم
وبيت بديعية الطبري قوله:
أليس لولاه ما كنا الخيار ولا ... بمذهب من كلام لاحق ملتزم
وبيت بديعيتي هو قولي:
والله لولا هداه ما اهتدى أحد ... لمذهب من كلام الله ذي الحكم
تقرير الاحتجاج فيه: - أنه لو لم يثبت هداه لما اهتدى أحد لمذهب من كلام الله, لكن اهتدى كثير له ثبت هداه صلّى الله عليه وآله وسلّم, لأنه هو الذي جاء بكلام الله سبحانه.
وبيت بديعية الشيخ إسماعيل المقري قوله:
هل من ينادي غدا رب النجاة كمن ... به ينادى اشفعن للعرب والعجم
نفي الشيء بإيجابه
نفى بإيجابه عنا بسنته ... جهلا نضل به عن وأضح اللقم
لأهل البديع في تفسير هذا النوع عبارتان إحداهما ما فسره به ابن رشيق في العمدة, وهو أن يكون الكلام ظاهره إيجاب الشيء, وباطنه نفيه, بأني نفي ما هو من سببه كوصفه وهو المنفي في الباطن. والثانية ما فسره به غيره, وهو أن ينفى الشيء مقيدا والمراد نفيه مطلقا مبالغة في النفي وتأكيدا له. وسماه بعضهم: نفي الشيء بنفي لازمه.
ومنه قوله تعالى: (لا يسألون الناس إلحافا) أي ليس لهم سؤال فيكونوا ملحفين, فإذن لا سؤال لهم أصلا, أو ليس لهم سؤال في حالة الاضطرار, بناء على أن المضطر من شأنه الإلحاف في السؤال, فانتفاؤه في غيرها بالطريق الأولى, أي لو وجد منهم سؤال لم يكن إلا على ذلك التقدير فأفاد أنهم يشرفون على الهلاك ولا يسألون.
وقوله تعالى: (ما للظالمين من حميم ولا شفيع يطاع) الغرض نفي الشفيع رأسا, وإنما ضمت إليه الصفة ليؤذن بأن انتفاء الموصوف أمر لا نزاع فيه, وبالغ في تحققه إلى أن صار كالشاهد على نفي الصفة.
ومثله قوله تعالى: (فما تنفعهم شفاعة الشافعين) أي لا شافعين لهم فتنفعهم شفاعتهم ...
ومنه قول أمير المؤمنين علي عليه السلام في صفة مجلس رسول الله صلّى الله عليه وآله وسلّم: لا تنثني فلتانه, أي لا فلتات ولا انثناء.
وقول الشاعر:
لا تفزع الأرنب أهوالها ... ولا ترى الضب بها ينجحر
أي لا أرنب يفزعها هول, ولا ضب ولا انجحار.
وقول امرئ القيس (على لاحب لا يهتدي بمناره) أي لا منار ولا اهتداء.
وقول سويد بن أبي كاهل:
من أناس ليس في أخلاقهم ... عاجل الفحش ولا سوء الجزع
أي لا فحش ولا جزع أصلا.
وقول مسلم بن الوليد بن يزيد بن مزيد:
لا يعبق الطيب خديه ومفرقه ... ولا يسمح عينيه من الكحل
وقصده نفي الطيب والكحل مطلقا, ولذلك قال الممدوح لما أنشده الشاعر هذا البيت لقد حرمتني الطيب والكحل ما بقيت.
حكى مسلم المذكور قال: خلت على الأمير يزيد بن مزيد وهو جالس على كرسي, وعلى رأسه وصيفة بيدها غلاف مرآة وبيده هو مرآة ومشط يسرح لحيته, فقال لي: يا مسلم ما الذي أبطأك عنا؟ قلت: قلة ذات اليد أيها الأمير, قال: فأنشدني.
فأنشدته قصيدتي التي أولها:
أجررت حبل خليع في الصبا غزل ... وشمرت همم العذال في عذلي
رد البكاء على العين الطموح هوى ... مفرق بين توديع ومرتحل
أما كفى البين أن أرمى بأسهمه ... حتى رماني بسهم الأعين النجل
فلما صرت إلى قولي منها في مدحه:
لا يعبق الطيب خديه ومفرقه ... ولا يمسح عينيه من الكحل
وضع المرآة في غلافها وقال للجارية: انصرفي, فقد حرم علينا مسلم الطيب والكحل.
ومنه قول أبي الطيب المتنبي:
أفدي ظباء فلاة ما عرفن بها ... مضغ الكلام ولا صبغ الحواجيب
ولا برزن من الحمام مائلة ... أوراكهن صقيلات العراقيب
مراده أنهن لا يدخلن الحمام مطلقا, لأنهن بدويات لا يعرفن الحمام, وإن كان ظاهر الكلام أنهن لا يبرزن من الحمام على تلك الهيئات, والغرض أن حسنهن مستغن عن التصنع والتطرية.
كما قال قبله:
ما أوجه الحضر المستحسنات به ... كأوجه البدويات الرعابيب(1/355)
حسن الحضارة مجلوب بتطرية ... وفي البداوة حسن غير مجلوب
وبيت بديعية الشيخ صفي الدين الحلي قوله:
لا يهدم المن منه عمر مكرمة ... ولا يسوء أذاه نفس متهم
فمراده نفي المن والإساءة, وإن قديهما بالمكرمة والمتهم.
ولم ينظم ابن جابر هذا النوع في بديعيته.
وبيت بديعية العز الموصلي قوله:
لم ينف ذما بإيجاب المديح فتى ... إلا وعاقدت فيه الدهر بالسلم
هذا البيت ليس فيه من نفي الشيء بإيجابه إلا لفظا النفي والإيجاب, وأما المعنى الذي تقرر في تفسير هذا النوع فليس فيه بوجه. وقال ناظمه في شرحه: معناه أنه ما نفى الذم بإيجاب المديح كريم إلا وكان النبي صلّى الله عليه وآله وسلّم قد عاقد الدهر بالسلم على ذلك المعنى, قبل الذي فعل هذا الفعل المحمود, فإنه هو الأصل في الأسباب الخيرية. هذا كلامه بنصه, فلم يزد إلا بعدا عن الغرض من هذا النوع.
وبيت بديعية ابن حجة قوله:
لا ينتفي الخير من إيجابه أبدا ... ولا يشين العطا بالمن والسأم
ظاهره نفي انتفاء الخير في إيجابه صلّى الله عليه وآله وسلّم, والمن والسأم في العطاء, والمراد نفي ذلك مطلقا.
وبيت بديعية الطبري قوله:
لم ينف إيجاب ما أعطاه آمله ... بالمن مستكثرا حاشاه من وصم
مراده عدم نفي إيجاب ما أعطاه مطلقا, وإن قيده بالمن والاستكثار.
وبيت بديعيتي هو:
نفى بإيجابه عنا بسنته ... جهلا نضل به عن وأضح اللقم
ظاهره نفي الجهل الموصوف بالضلال به عن واضح سواء الصراط, والغرض نفي الجهل مطلقا. واللقم بالتحريك: وسط الطريق.
وبيت بديعية الشيخ إسماعيل المقري قوله:
ما راع جارا رعاه وجه حادثة ... ولا انثنى مازجا دمعا جرى بدم
قال ناظمه في شرحه: إنه نفى ارتياع جاره من وجود الحادثات فقط, فكأنها تطرقه ولا تروعه. ومراده نفي الحوادث من أصلها, والزيادة قوله: رعاه, فكأنه نفى ارتياع جار رعاه فقط, والمراد نفيه عنه مطلقا. وكذلك قوله: ولا انثنى مازجا, ظاهره نفي مزج الدمع بالدم, والمراد نفي البكاء من أصله.
الرجوع
ولا رجوع لغاوي نهج ملته ... بلى بإرشاده الكشاف للغمم
هذا النوع جعله بعضهم من نوع الاستدراك وليس كذلك, بل الصحيح أن كلا منهما نوع برأسه. أما الاستدراك فقد سبق ذكره. وأما الرجوع فهو العود على الكلام السابق بنقضه وإيطاله لنكتة, وليس المراد أن المتكلم غلط ثم عاد, لأن ذلك يكون غلطا لا بديع فيه, بل المراد أنه أوهم الغلط وإن كان قاله عن عند إشارة إلى تأكد الإخبار بالثاني, لأن الشيء المرجوع إليه يكون تحققه أشد.
كقول زهير:
قف بالديار التي لم تعفها القدم ... بلى وغيرها الأرواح والديم
فإن أول الكلام دل على أن تطاول الزمان, وتقادم العهد لم يعف الديار, ثم عاد إليه ونقضه لنكتة, وهي إظهار الكآبة والحزن, والحيرة والدهش. كأنه لما وقف على الديار تسلط عليه كآبة أذهلته, فأخبر بما لم يتحقق, ثم ثاب إليه عقله, وأفاق بعض الإفاقة فتدارك كلامه السابق قائلا: بلى عفاها القدم, وغيرها الأرواح والديم.
ومثله قول الآخر:
فأف لهذا الدهر لا بل لأهله ... وإن كنت منهم ما أمل وأعذرا
وقول أبي البيداء:
ومالي انتصار إن عدا الدهر جائرا ... علي بلى إن كان من عندك النصر
وعد كثير منه قول ابن الطثرية:
أليس قليلا نظرة إن نظرتها ... إليك وكلا ليس منك قليل
وتعقبه بعض المحققين: بأن القليل الأول المثبت هو باعتبار القلة الحقيقية, والقليل الثاني النفي باعتبار المعنى والشرف فلم يتواردا على معنى واحد فلا رجوع.
ومنه قول المتنبي:
لجنية أم غادة رفع السجف ... لوحشية لا ما لوحشية شنف
وما أحسن قول أبي بكر الخوارزمي مع حسن التخلص:
لم يبق في الأرض من شيء أهاب له ... فلم أهاب انكسار الجفن ذي السقم
أستغفر الله من قولي غلطت بلى ... أهاب شمس المعالي أمة الأمم
وقول ابن اللبانة:
بكت عند توديعي فما علم المركب ... أذاك سقيط الطل أم لؤلؤ رطب
وتابعها سرب وإني لمخطئ ... نجوم الدياجي لا يقال لها سرب
وقول المتنبي أيضاً:(1/356)
أقاضينا هذا الذي أنت أهله ... غلطت ولا الثلثان هذا ولا النصف
يقول: هذا الذي أثنيت به عليك أنت أهله, ثم قال: غلطت ليس هذا ثلثي ما أنت أهله ولا نصفه.
وقوله أيضا:
دمعي جرى فقضى في الربع ما وجبا ... لأهله وشفى أنى ولا كربا
يعني أنه بكى في أطلال الأحبة ما وجب لهم, وشفاه من وجده بهم, ثم رجع عن ذلك وقال: أنى أي كيف قضى ذلك ولا كرب, أي ولا قارب ذلك, يعني أنه لم يقض الحق, ولا شفى الوجد, وذلك أنه لما أكثر البكاء غلب على ظنه أنه بلغ قضاء حقهم وشفى وجده, ثم أنه عرف قصوره فرجع عما قال.
وعد منه الشيخ صفي الدين الحلي قول بشار:
نبت فاضح قومه يغتابني ... عند الأمير وهل علي أمير
ومثله قولي من قصيدة:
ما على من حملوها قمرا ... يهتدي الركب به إن جن جنح
لو أصاخوا للمعنى ساعة ... يشرح الوجد وهل للوجد شرح
قال ابن حجة: الذي أقول: إن هذا النوع لا فرق بينه وبين السلب والإيجاب. فإن السلب والإيجاب هو أن يبني المتكلم كلامه على نفي شيء من جهة, وإثبات من جهة أخرى, والرجوع هو العود على الكلام السابق بالنقض, وكل من التقريرين لائق بالنوعين. انتهى.
قلت: إني لا عجب من غباوة ابن حجة في هذا المقال, فإنه جعل ما هو حجة عليه حجة له, والفرق بين النوعين ظاهر من الحدين المذكورين للنوعين ظهور فلق الصباح, وأين نفي شيء من جهة وإثباته من أخرى, من العود على الكلام السابق بالنقض, فإن مفاد حد الرجوع: أن النفي والإيجاب يتواردان على معنى واحد, وحد السلب والإيجاب: أن النفي يكون باعتبار, والإيجاب باعتبار آخر, وبين الحالتين بون بائن فاعلم.
وبيت بديعية الصفي الحلي قوله:
أطلتها ضمن تقصيري فقام بها ... عذري وهيهات أن العذر لم يقم
وبيت بديعية ابن جابر قوله:
قلوا ببدر ففلوا غرب شانئهم ... به وما قل جمع بالرسول حمي
وبيت بديعية الشيخ عز الدين الموصلي قوله:
رمت الرجوع عن الأمداح أنظمها ... سوى مديح سديد القول محترم
ليس في هذا البيت - كما قال ابن حجة - سوى الرجوع عن حشمة الألفاظ في مديح الرسول صلّى الله عليه وآله وسلّم, فإن قوله: سديد القول دون مقدار من أنزل القرآن في صفاته, وأقسم الرحمن بحياته.
وبيت بديعية ابن حجة قوله:
وما لنا من رجوع عن حماه بلى ... لنا رجوع عن الأوطان والحشم
لا يخفى أنه قد تقدم في حد هذا النوع أنه العود على الكلام السابق بنقضه وإبطاله, وابن حجة لم يبطل ما تقدم, بل نفى رجوعه عن حماه, وأثبت رجوعا آخر, وهذا من نوع السلب والإيجاب, لا من هذا النوع. لكن قد علمت أنه لم يفرق بين هذين النوعين فبنى بيته على حسب اعتقاده, وقد مر البحث معه آنفا.
وبيت بديعية الشيخ عبد القادر الطبري قوله:
بلا رجوع فمدحي فيك قام بما ... يليق هيهات ذاك المدح لم يقم
لا يخفى ما في هذا البيت من قلة الأدب مع سيد العجم والعرب, ولعمري أنه قام بما لا يليق, لا بما يليق وإن كان قد رجع, إلا أنه ما رجع حتى اشمأزت النفوس, وملت الظنون, وبلغت القلوب الحناجر. ولا ريب أنه أراد أن يحوك على منوال بيت الشيخ صفي الدين, وهيهات أين حشمة بيت الشيخ صفي الدين من هذا.
وبيت بديعيتي هو قولي:
ولا رجوع لغاوي نهج ملته ... بلى بإرشاده الكشاف للغمم
دل أول البيت على أن من ضل طريق ملته صلّى الله عليه وآله لا رجوع له بوجه - فإن النكرة في سياق النفي تعم - ثم رجع إليه ونقضه لنكتة, وهي إظهار استعظام رجوع من ضل سبيل دينه صلّى الله عليه وآله وسلم حتى كأنه أخبر أولا بما لم يتأمل فيه, ثم تأمل فتدارك الكلام السابق فقال: بلى له رجوع بإرشاده الكشاف للغمم.
وبيت بديعية الشيخ إسماعيل المقري قوله:
قد كرر العبد مدحا كافيا وثنا ... هيهات لا مدحي تكفي ولا كلمي
1 @التورية
ردت بمعجزه من غير تورية ... له الغزالة تعدو نحو أفقهم
التورية أقرب اسم سمي به هذا النوع لمطابقته المسمى, لأنه مصدر وريت الحديث: إذا أخفيته وأظهرت غيره. قال أبو عبيد: لا أراه إلا مأخوذاً من وراء الإنسان, فإذا قال: وريته فكأنه جعله وراءه بحيث لا يظهر. ويسمى الأبهام, والتوجيه, والتخييل.(1/357)
وهي في الاصطلاح أن يذكر لفظ له معنيان, أما بالاشتراك, أو التواطيء, أو الحقيقة والمجاز. أحدهما قريب ودلالة اللفظ عليه ظاهرة, والآخر بعيد ودلالة اللفظ عليه خفية, فيقصد المتكلم المعنى البعيد, ويوري عنه بالقريب, فيتوهم السامع أنه يريد القريب من أول وهلة, ولهذا سمي أبهاما.
قال العلامة الزمخشري: لا ترى بابا في البيان أدق ولا ألطف من التورية, ولا أنفع ولا أعون على تعاطي تأويل المتشابهات من كلام الله تعالى وكلام الأنبياء عليهم السلام.
قال شيخ الأدب صلاح الدين الصفدي في ديباجة كتابه المسمى بفض الختام عن التورية والاستخدام: ومن البديع ما هو نادر الوقوع, ملحق بالمستحيل الممنوع, وهو نوع التورية والاستخدام, فإنه نوع تقف الأفهام حسرى دون غايته عن مرامي المرام.
نوع يشق على الغبي وجوده ... من أي باب جاء يعدو مقفلا
لا يفرع هضبته فارع, ولا يقرع بابه قارع, إلا من تنحو البلاغة نحوه في الخطاب, ويجري ريحها بأمره رخاء حيث أصاب. انتهى.
وإذا عرفت معنى التورية فاعلم أنها تنقسم إلى أربعة أنواع: مجردة, ومرشحة, ومبينة, ومهيأة.
فالنوع الأول وهي المجرد.
هي التي تنجرد عما يلائم كلا من المعنيين, أعني المورى به والمورى عنه. قالوا: فأعظم أمثلة هذا النوع قوله تعالى "الرحمن على العرش استوى" فإن الاستواء يطلق على معنيين, فالتورية لم يجامع شيئا مما يلائم المورى به ولا المورى عنه. واعترض بعض المحققين: بان فيه ما يلائم المورى به وهو العرش, لأنه ملائم للاستقرار, فهي إذن مرشحة لا مجردة. ومنه قوله صلى الله عليه وآله سلم في خروجه إلى بدر, وقد قيل له: من أنتم؟ فلم يرد أن يعلم السائل فقال: من ماء, أراد أنا مخلوق من ماء فورى عنه بقبيلته من العرب.
وقول صاحبه في خروجهما إلى المدينة من الغار وقد سئل عنه صلى الله عليه وآله وسلم, فقيل له: يا أبا بكر من هذا؟ فقال: هاد يهديني السبيل. أراد سبيل الخير فورى عنه بهادي الطريق.
وفي النهاية لابن الأثير: لقيهما في الهجرة رجل بكراع الغميم فقال من أنتم؟ فقال أبو بكر: باغ وهاد. عرض ببغاء الإبل, أي طلبها, وهداية الطريق, وهو يريد الطلب, والهداية من الضلالة.
وعد الصلاح الصفدي من هذا النوع _وتبعه ابن حجة_ قول القاضي عياض:
كأن كانون أهدى من ملابسه ... لشهر تموز أنواعا من الحلل
أو الغزالة من طول المدى خرفت ... فما تفرق بين الجدي والحمل
يعني كأن الشمس من كبرها وطول مدتها صارت خرفة قليلة العقل فنزلت في برج الجدي في أوان الحلول ببرج الحمل. والشاهد في الغزالة, فإنه لم يذكر معها شيء من لوازم الغزالة الوحشية, وهو المورى به كطول العنق, وحسن الالتفات, وسرعة النفور, وسواد العين. ولا شيء من لوازم الغزالة الشمسية, كالإشراق؛ والطلوع, والأفول.
قال: وليس القائل أن يقول: إن الغزالة قد ترشحت بالجدي والحمل, وهي مرشحة لهما, لأنا نشترط في لوازم التورية أن لا يكون لفظا مشتركا, والغزالة هنا مشتركة, وكذا الجدي والحمل فإنهما يطلقان على الحيوان المعروف, وعلى بعض البروج. انتهى بالمعنى.
والذي مشى عليه الخطيب في الإيضاح, والعلامة التفتازاني في المطول أنها من المرشحة.
قال في المطول: أراد بالغزالة معناها البعيد, أعني الشمس, وقد قرن بها ما يلائم المعنى القريب الذي ليس بمراد, أعني الرشأ, حيث ذكر الخرافة وكذا ذكر الجدي والحمل. انتهى.
وقد يقال: أنه فسر الخرافة بقلة العقل وهي لا تناسب الرشأ, لأنه لا عقل له, ويجاب بأن المراد به قلة الإدراك. لا يقال: الغزالة بالتاء مخصوصة بالشمس, ولا يقال لأنثى الغزال: غزالة, بل ظبية, كما نص عليه اللغويون فلا تصح التورية فيها. لأنا نقول: لم يثبت إجماع اللغويين على ذلك, بل حكى بعض الثقات منهم أنه يقال لأنثى الغزال: غزالة. قال أبو حاتم وهو أعلم اللغويين وأضبطهم بلا خلف: ولد الظبية أو ما يولد فهو طلا, ثم هو غزال والأنثى غزالة. وقال ابن السيد: الغزال: ابن الظبي إلى أن يقوى ويطلع قرناه, والجمع غزلة وغزلان, مثل غلمة وغلمان, والأنثى غزالة.(1/358)
تنبيه, قال بعض علماء هذا الفن: إذا أتيت في التورية بلازم لكل من المعنيين فتكافئا ولم يترجح أحدهما على الآخر فكأنك لم تذكر شيئاً من اللازمين, وصار المعنى القريب والمعنى البعيد بذلك في درجة واحدة فتلحق هذه التورية بالمجردة, وتعد منها قسما ثانيا وتصير مجردة بهذا الاعتبار.
كقول ابن الوردي:
قالت إذا كنت تهوى ... وصلي وتخشى نفوري
صف ورد خدي وإلا ... أجور ناديت جوري
فقوله: ورد خدي, يلائم أن يراد بقوله: جوري, اسم نوع من الورد, وهو المعنى المورى وهو المقصود. وقوله: وإلا أجور يلائم لأن يراد به فعل الأمر المستند إلى ضمير الواحدة, وهو المعنى القريب المورى به.
والنوع الثاني وهي المرشحة.
هي التي تجامع ملائما للمعنى المورى به إما قبل التورية أو بعده فهي قسمان: الأول ما جامع قبل التورية, كقوله تعالى "والسماء بنيناها بأيد" فإنه أراد (بأيد) معناها البعيد, أعنى القدرة, وقد قرن بها ما يلائم المعنى القريب, أعنى الجارحة, وهو قوله (بنيناها) هكذا قاله غير واحد, لكن قال السبكي في عروس الأفراح: وفيه نظر, لأن قوله تعالى (بأيد) له معنيان ... إلى آخره من الحواشي. انتهى.
وألطف تورية وقعت من هذا النوع المتقدم, قول يحيى بن منصور من شعراء الحماسة:
وجدنا أبانا كان حل ببلدة ... سوى بين قيس قيس عيلان والفزر
فلما نأت عنا العشيرة كلها ... أنخنا فحالفنا السيوف على الدهر
فلما أسلمتنا عند يوم كريهة ... ولا نحن أغضينا الجفون على وتر
فإن لفظ (أغضينا) قبل (الجفون) رشحه للتورية, ورجحه في الظاهر لإرادة إغماض جفون العيون على إغماض السيوف, بمعنى إغمادها, لأن السيف إذا أغمد انطبق عليه, وإذا جرد انفتح للخلاء الحاصل بين الدفتين, لكن دل سياق كلامه على إرادة أنهم لا يغمدون سيوفهم ولهم وتر عند أحد.
وقول الآخر:
حملناهم طرا على الدهم بعدما ... خلعنا عليهم بالطعان ملابسا
الشاهد في الدهم, فإنه يحتمل الخيل الدهم وهو المعنى القريب المورى به, وقد تقدم لازمه المرشح له وهو لفظ الحمل, لأنه من لوازم الخيل, ويحتمل القيود وهو المعنى البعدي المورى عنه وهو المراد, لأنه أراد تقييد العدى, الثاني ما جامع ملائما بعد التورية.
كقول الصاحب عطاء الملك في امرأة اسمها شجر:
يا حبذا شجر وطيب نسيمها ... لو أنها تسقى بماء واحد
الشاهد في شجر, فإنه يحتمل ماله ساق من النبات وهو المعنى المورى به, وقد رشحه بعد التورية بما يلائمه وهو طيب النسيم والسقي بماء واحد ويحتمل اسم المرأة وهو المعنى المورى عنه وهو المقصود.
النوع الثالث وهي المبينة.
هي التي تجامع ملائما للمعنى البعيد المورى عنه إما قبلها أو بعدها, فهي أيضاً قسمان. الأول, ما جامع ملائما قبل التورية.
كقول شيخ الشيوخ بحماة:
قالوا أما في جلق نزهة ... تنسيك من أنت به مغرى
يا عاذلي دونك من لحظة ... سهما ومن عارضه سطرا (ى)
الشاهد هنا في السهم وسطرى, فإن المعنى المورى عنه هما الموضعان المشهوران من منتزهات دمشق, وقد جامعا ما يلائمهما قبلهما وهو ذكر النزهة, وإما المعنى القريب فسهم اللحظ, وسطر العارض. الثاني, ما جامع ملائما بعد التورية.
كقول ابن سناء الملك:
أما والله لولا خوف سخطك ... لهان علي ما ألقى برهطك
ملكت الخافقين فتهت عجبا ... وليس هما سوى قلبي وقرطك
فإنه أراد بالخافقين قلبه وقرط محبوبته, وهذا هو المعنى البعيد المورى عنه, وقد بينه بالنص عليه في المصراع الأخير. ويحتمل أن يريد المشرق والمغرب, وهذا هو المعنى القريب المورى به.
والنوع الرابع وهي المهيأة.
هي التي تفتقر إلى ذكر شيء يهيئها لاحتمال المعنيين, أما قبلها, أو بعدها, وإلا لم تتهيأ التورية, أو تكون بلفظين أو أكثر لولا كل منها لم تتهيأ التورية في الآخر. فهي بهذا الاعتبار ثلاثة أقسام.
الأول, ما تهيأت بلفظ قبلها.
كقول الشيخ أحمد ابن عيسى المرشدي في شداد ناقة لشريف مكة المشرفة. والشداد في عرف أهل الحجاز: الرحل.
أفق الشداد بدت به ... شمس الخلافة والهلال
ومن العجائب جمعه ... ليث الشرافة والغزال(1/359)
الشاهد في الهلال والغزال, فإنهما يحتملان أن يكونا بمعنى القمر وولد الظبي, وهذا هو المعنى القريب المورى به, ويحتمل أن يراد به جزآن من الرحل. فإن الهلال في اصطلاحهم منفرج مقدم الرحل, والغزال للرحل كالقربوس للسرج, وهذا هو المعنى البعيد المورى عنه. ولولا ذكر الشداد قبلهما لما تهيأت التورية فيهما.
وأما ما استشهد به ابن حجة وغيره على هذا القسم من قول ابن سناء الملك يمدح الملك المظفر صاحب حماة:
وسيرك فينا سيرة عمرية ... فروحت عن قلب وأفرجت عن كرب
وأظهرت فينا من سميك سنة ... فأظهرت ذاك الفرض من ذلك الندب
وقولهم: لولا ذكر السنة لما تهيأت التورية في الفرض والندب, ولا فهم منهما الحكمان الشرعيان اللذان صحت بهما التورية, فليس بصحيح. فإن كلا من الفرض والندب يهيئ الآخر للتورية ولو لم يذكر السنة -كما هو ظاهر- فهو القسم الثالث من أقسام التورية المهيأة, لا من هذا القسم.
الثاني _ ما تهيأت بلفظ بعدها. قال ابن حجة: ومن أمثلته نثرا قول علي عليه السلام في الأشعث بن قيس: انه كان يحوك الشمال باليمين. فالشمال يحتمل أن تكون جمع شملة, وهذا هو المعنى البعيد المورى عنه, ويحتمل أن يراد به الشمال التي هي إحدى اليدين, وهذا هو المعنى القريب المورى به. ولولا ذكر اليمين بعد الشمال ما تنبه السامع لمعنى اليد. انتهى.
قال بعض المحققين: توارى وجه التورية عن هذا المثال, وليس فيه غير إبهام الطباق بين اليمين والشمال, لما قالوه: من أن التورية إطلاق لفظ له معنيان يمكن حمله على كل منهما. ووصف الشمال بالحياكة نفى أن يراد بها مقابل اليمين, فانحصر لفظ الشمال في معنى الجمع كما لا يخفى. انتهى, وهو في محله.
والمثال الصحيح لهذا القسم قول ابن الربيع:
لولا التطير بالخلاف وإنهم ... قالوا مريض لا يعود مريضا
لقضيت نحبي في جنابك خدمة ... لأكون مندوبا قضى مفروضا
فإن المندوب يحتمل أن يكون اسم مفعول من ندب الميت: إذا بكاه, وهو المعنى البعيد الذي قصده الناظم وورى عنه, ويحتمل أن يكون خلاف المفروض, وهذا هو المعنى القريب المورى به, وذكر المفروض بعده هو الذي هيأه للتورية, ولو لم يكن لما كان فيه تورية البتة.
الثالث - ما وقعت فيه التورية بلفظين أو أكثر, لولا كل منهما لم تتهيأ التورية في الآخر.
كقول عمر ابن أبي ربيعة في محبوبته الثريا بنت عبد الله بن الحارث بن أمية الأصغر, وقد تزوجها بن عبد الرحمن بن عوف:
أيها المنكح الثريا سهيلا ... عمرك كيف يلتقيان
هي شامية إذا ما استقلت ... وسهيل إذا استقل يماني
فإن كلا من الثريا وسهيل هيأ صاحبه للتورية, فلفظ الثريا هيأ سهيلا لاحتمال أن يراد به الكوكب المعروف, ولفظ سهيل هيأ الثريا لاحتمال أن يراد بها المنزلة المعروفة, لكون أحدهما شماليا والآخر جنوبيا, وهذا هو المعنى القريب المورى به. ومراد الشاعر إنما هو صاحبته الشامية الدار والقبيلة, لأنها من بني أمية الأصغر بن عبد شمس, وسهيل اليماني الدار لا القبيلة, وهذا هو المعنى البعيد المورى عنه, فتم له ما أراد من الإنكار على من جمع بينهما بألطف وجه.
ومنه قول المعري:
إذا صدق الجد افترى العم للفتى ... مكارم لا تكري وإن كذب الخال
فإن كلا من الجد والعم والخال يهيئ صاحبه للتورية بظاهر معناه, ومراده بالجد: الحظ, وبالعم: الجماعة, وبالخال: المخيلة.
تنبيهات الأول - الفرق بين اللفظ الذي تتهيأ به التورية, واللفظ الذي تترشح به, واللفظ الذي تتبين به: أن الأول لو لم يذكر لما تهيأت التورية أصلا, والثاني والثالث إنما هما مقويان للتورية, ولو لم يذكرا لكانت التورية موجودة. غير أن الثاني يكون من لوازم المعنى القريب المورى به, والثالث يكون من لوازم المعنى البعيد المورى عنه.
الثاني - ليس كل لفظ مشترك يتصور فيه التورية, بل لا بد من اشتهار معانيه وتداولها على الألسنة بخلاف اللغات الغريبة, إلا أن يختص قوم باشتهار لغة غريبة بينهم, فينبغي اعتبار حال المخاطب بها.(1/360)
وإذ قد كشفنا اللثام عن عرائس أنواع التورية بأسرها, وفككنا رقاب أقسامها من وثاقها وأسرها, فها نحن نورد شيئاً من أمثلتها لتتميم الفائدة وتكملتها, ولم نرتبها حسب ترتيب الأنواع والأقسام, تشحيذا للأذهان, وتهذيبا للأفهام.
فمنها قول الشيخ تقي الدين السروجي:
في الجانب الأيمن من خدها ... نقطة مسك أشتهي شمها
حسبته لما بدا خالها ... وجدته من حسنه عمها
ومنه أخذ الشيخ عز الدين الموصلي فقال وأجاد:
لحظت في وجنتها شامة ... فابتسمت تعجب من حالي
قالت قفوا واستمعوا ما جرى ... قد هام عمي الشيخ في خالي
وقال آخر:
مذ همت من وجدي في خالها ... ولم أصل منه إلى اللثم
قالت تعالوا واسمعوا ما جرى ... خالي قد هام به عمي
والأصل في ذلك كله ما أنشده القاضي شمس الدين بن خلكان في تاريخه لبعضهم:
ومورد الوجنات أغيد خاله ... بالحسن من فرط الملاحة عمه
كحل الجفون وكان في أجفانه ... كحل فقلت سقى الحسام وسمه
قلت: وقد صدرت وعجزت أنا هذين البيتين ولم أخرج الأول عن التورية فقلت:
ومورد الوجنات أغيد خاله ... قد كاد يفتن بالوسامة عمه
إن خص قلبي بالغرام فربه ... بالحسن من فرط الملاحة عمه
كحل الجفون وكان في أجفانه ... عضب حكى ناب الشجاع وسمه
وبكى بطرف ذي أحورار زانه ... كحل فقلت سقى الحسام وسمه
ومن مخترعات القاضي الفاضل في التورية قوله:
وهذا الترب أم خد لثمنا ... فآثار الشفاه عليه شامة
وهذي روضة تندى وسطري ... بها غصن وقافيتي حمامة
ومثله قوله:
أما الثريا فنعل تحت أخمصه ... وكل قافية قالت لذلك طا
وقوله:
وكنت وكنا والزمان مساعد ... فصرت وصرنا وهو غير مساعد
وزاحمني في ورد ريقك شارب ... ونفسي تأبى شركة في المورد
ومنه أخذ الشيخ عز الدين الموصلي فقال:
لقد كنت لي وحدي ووجهك حضرتي ... وكنا وكانت للزمان مواهب
فعارضني في ورد خدك عارض ... وزاحمني في ورد ثغرك شارب
وأول شارب ورد منهل هذه التورية -فيما أظن- قول الأول:
ليس في صحة لناظره ... حصة فهو دائم السقم
صرت من ريقه وطلعته ... شارب الخمر عابد الصنم
وله نسخة قد اختصرت ... من فؤادي ولقبت بفم
فوه عين الحياة شاربها ... خضر لم يصل إلى الظلم
ومن بديع التورية أيضاً قول القائل:
وأعجب ما شاهدته فيه أنه ... يكلم قلبي لحظه وهو ساكت
ومثله قولي من قصيدة:
وما كلمتني يوم زمت رحالها ... ولكن قلبي راح وهو مكلم
ومنه قول مجير الدين بن تميم:
يا أيها الملك المنصور لا برحت ... أعوام عمرك لا يحصى له عدد
تجر في جمعة ذيل الخميس فلا ... يبقى إلى السبت في أرض العدى أحد
وقوله في رئيس اسمه الصدر:
بودي أرى في خدمة الصدر دائما ... وأنفق ما تبقي من العمر
واصحبه حتى الممات منعما ... كفى شرفا ادعى به صاحب الصدر
وقوله في شكوى الزمان وذم أهله:
تعبدت أصنام الزمان جهالة ... وضيعت عمري عند من لا له عند
فما فيهم إلا يعوق فقدته ... ولا يرتجى منهم يغوث ولا ود
وقوله في رئيس صرف واعتقل:
لئن صرفت وحاشا ... ك فالدنانير تصرف
وما اعتقلت كريما ... إلا وأنت مثقف
وقوله:
وكيف أخفي غراما ... أقام بين ضلوعي
والمرسلات جفوني ... والذاريات دموعي
ومنه قول ابن سيناء الملك:
ومع المشيب فبعد عندي صبوة ... يبلي القميص وفيه عرف المندل
أنا جد أنصار النبي لأنني ... يا أشهل العينين عبد الأشهل
وقوله:
ليس إلا دمعي الذي من رأى جف ... ني رآه كأن دمعي هدبي
أنجم الدمع لا تغيب شروقا ... مع أني ريتها في الغرب
وممن أولع بالتورية كثيرا الشيخ سراج الدين الوراق فإنه ممن جعلها له بضاعة, وساعده عليها اللقب والصناعة, حتى قيل له: لولا قلبك وصناعتك لذهب نصف شعرك. فمما ورى فيه بلقبه قوله:
إلهي قد جاوزت سبعين حجة ... فشكرا لنعماك التي ليس تكفر(1/361)
وعمرت في الإسلام فازددت بهجة ... ونورا كذا يبدو السراج المعمر
وعمم نور الشيب رأسي فسرني ... وما ساءني أني سراج منور
وقوله:
بني اقتدى بالكتاب العزيز ... وراح لبري سعيا وراجا
فما قال لي أف مذ كان لي ... لكوني أبا ولكوني سراجا
وقوله:
وكنت حبيبا إلى الغانيات ... فألبسني الشيب هجر الحبيب
وكنت سراجا بليل الشباب ... فأطفأ نوري نهار المشيب
وكتب لي بعض الرؤساء:
بكتبك راج لي أملي وقصدي ... وفي يدك النجاح لكل راج
ولولا أنت لم يرفع مناري ... ولا عرف الورى قدر السراج
وقال وقد اجتمع برئيسين يلقب أحدهما شمس الدين, والآخر بدر الدين:
لما رأيت الشمس والبدر معا ... قد انجلت دونهما الدياجي
حقرت نفسي ومضيت هاربا ... وقلت ما ذي ساعة السراج
وقال فيمن يلقب بضياء الدين:
أمولانا ضياء الدين دم لي ... وعش فبقاء مولانا بقائي
فلولا أنت ما أغنيت شيئا ... وما يغني السراج بلا ضياء
ومما أجاد فيه قوله:
كم قطع الجود من لسان ... قلَّد في نظمه النحورا
وها أنا شاعر سراج ... فاقطع لساني أزدك نورا
ومما ورّى فيه بصناعة الوراقة قوله:
يا خجلتي وصحائفي مسودة ... وصحائف الأبرار في إشراق
وموبخ لي في القيامة قائل ... أكذا تكون صحائف الوراق
وكتب إلى أبي الحسين الجزار في عيد الأضحى:
أجبت بعيد النحر من كان سائلي ... عن الحال في عيدي وقد مر ذكره
إذا بطل الجزار والعيد عيده ... فلا تسأل الوراق فالعذر عذره
وقوله:
نصب الحشا غرضا فقرطس إذ رمى ... وهي القلوب سهامها الأحداق
وسألته وصلا فقال يحجني ... يا ليت شعري أينا الوراق
ومن لطائفه في غير لقبه وصناعته:
رفضوا الشعر جهدهم ورموه ... بينهم بالهوان والازدراء
فلو أن الكتاب كان بأيديه ... م محوا منه سورة الشعراء
وقوله في المعنى:
وأحمق أضافنا ببقله ... لنسبة بينهما ووصله
فمن أقل أدبا من سفله ... قد مد في وجه الضيوف رجله
وقوله وهو في غاية الحسن:
ومهفهف عني يميل ولم يمل ... يوما إلي فقلت من ألم الجوى
لما لا تميل إلي يا غصن النقا ... فأجاب كيف وأنت من جهة الهوى
ومنه قوله:
وقفت بأطلال الأحبة سائلا ... ودمعي يسقي ثم عهدا ومعهدا
ومن عجب أني أروي ديارهم ... وحظي منها حين أسألها الصدا
ومنه قوله:
وبي من البدو كحلاء الجفون بدت ... في قومها كمهاة بين آساد
بنت عليها المعالي من ذوائبها ... بيتا من الشعر لم يمدد بأوتاد
وأوقدت وجنتاها النار لا لقرى ... لكن لأفئدة منا وأكباد
فلو بدت لحسان الحضر قمن لها ... على الرؤوس وقلن الفضل للبادي
وممن رفعت له راية التورية فكان عرابتها, وأهل في مانوس مقطوعاته غرابتها, الشيخ أبو الحسين الجزار فمن مقاطيعه قوله موريا في صناعته:
أني لمن معشر سفك الدماء لهم ... دأب وسل عنهم إن رمت تصديقي
تضيء بالدم إشراقا عراصهم ... وكل أيامهم أيام تشريق
وكتب إليه الشيخ نصير الدين الحمامي موريا عن صناعته:
ومذ لزمت الحمام صرت بها ... خلا يداري من لا يداريه
أعرف حر الأشيا وباردها ... وآخذ الماء من مجاريه
فأجابه أبو الحسين الجزار بقوله:
حسن التأني مما يعين على ... رزق الفتى والخطوب تختلف
والعبد مذ صارت في جزراته ... يعرف من أين تؤكل الكتف
ومن لطائفه البديعة ما كتب إلى بعض الرؤساء, وقد منع من الدخول إلى بيته في يوم فرح:
أمولاي ما من طباعي الخروج ... ولكن تعملته من خمولي
أتيت لبابك أرجو الغنى ... فأخرجني الضرب عند الدخول
وكتب إلى بعض الرؤساء يستهديه قطرا:
أيا علم الدين الذي جود كفه ... براحته قد أخجل الغيث والبحرا
لئن أمحلت أرض الكنافة إنني ... لأرجو لها من سحب راحتك القطرا
هذا القطر تحلى به الشيخ جمال الدين محمد بن نباتة بقوله:(1/362)
لجود قاضي القضاة أشكو ... عجزي عن الحلو في صيامي
والقطر أرجو ولا عجيب ... للقطر يرجى من الغمام
ومن لطائف مجون أبي الحسين الجزار قوله:
تزوج الشيخ أبي شيخة ... ليس لها عقل ولا ذهن
لو برزت صورتها في الدجى ... ما جسرت تبصرها الجن
كأنها في فرشها رمة ... وشعرها من حولها قطن
وقائل قل لي ما سنها ... فقلت ما في فمها من سن
وقوله يمدح رئيسا اسمه علي:
أقول لفقري مرحبا لتيقني ... بأن عليا بالمكارم قاتله
وقوله في مطلع قصيدة:
يمضي الزمان وأنت هاجر ... أو ما لهذا الهجر آخر
يا من تحكم في القلوب ... بحاجب منه وناظر
مولاي لا تنس المحب فإن ... هـ لهواك ذاكر
وإذا رقدت منعما ... فاذكر شقيا فيك ساهر
شتان ما بيني وبينك ... في الهوى لو كنت عاذر
النار في كبدي وظلم ... ك بارد والجفن فاتر
وممن علا في التورية مقامه, وتحلى بدررها نظامه, ناصر الدين حسن بن النقيب فمن بدايع تغزلاته قوله:
وما لي سوى عين نظرت لحسنها ... وذاك لجهلي بالعيون وغرتي
وقالوا به في الحب عين ونظرة ... لقد صدقوا عين الحبيب ونظرتي
ومن لطائفه قوله:
أنت طوقتني صنيعا وأسمع ... تك شكرا كلاهما ما يضيع
فإذا ما شجاك سجعي فإني ... أنا ذاك المطوق المسموع
وقوله:
أبيات شعرك كالقصور ... ولا قصور بها يعوق
ومن العجائب لفظها ... حر ومعناها رقيق
وقوله:
جودوا لنسجع بالمدي ... ح على علاكم سرمدا
فالطير أحسن ما يغر ... د عندما يقع الندا
ومن لطائف الحكيم شمس الدين بن دانيال قوله:
يا سائلي عن حرفتي في الورى ... وضيعتي فيهم وإفلاسي
ما حال من درهم إنفاقه ... يأخذه من أعين الناس
وقوله:
ما عاينت عيناي في عطلتي ... أقل من حظي ومن بختي
قد بعت عبدي وحماري معا ... وصرت لا فوقي ولا تحتي
ومن بدائع القاضي محي الدين بن عبد الظاهر قوله:
لقد قال كعب في النبي قصيدة ... وقلنا عسى في فضلها نتشارك
فإن شملتنا بالجوائز رحمة ... كرحمة كعب فهو كعب مبارك
وقوله:
شكرا لنسمة أرضكم ... كم بلغت عني تحية
لا غرو إن حفظت أحا ... ديث الهوى فهي الذكية
وهذه النكتة أخذها الشيخ صلاح الدين الصفدي وقال:
يا طيب نشر هب لي من نحوكم ... فأثار كامن لوعتي وتهتكي
أهدى تحيتكم وأشبه لطفكم ... وروى شذاكم إن ذا نشر ذكي
وأشار إلى هذه السرقة الشيخ شهاب الدين بن أبي حجلة بقوله: -ولم يخرج عما نحن فيه من التورية-
إن ابن أبيك لم تزل سرقاته ... تأتي بكل قبيحة وقبيح
نسب المعاني في النسيب لنفسه ... جهلا فراح كلامه في الريح
لا تسلني عن أول العشق أني ... أنا فيه قديم هجر وهجره
من دموعي ومن جبينك أرخ ... ت غراما بمستهل وغره
لكن تعقبه بعضهم, بان المستهل في البيت بكسر الهاء, لأنه يناسب الدموع, والمستهل الذي يؤرخ به إنما هو بفتح الهاء, من قولهم: استهل الهلال, ببناء الفعل لما لم يسم فاعله, فقولهم, كتب لمستهل شهر كذا؛ أي لوقت استهلاله, فلا تصح التورية في مستهل.
وقال البدر الدماميني في شرح التسهيل: فإن قلت: فهل له من وجه؟ قلت: يمكن أن يجعل المستهل اسم فاعل من قولهم: استهل الهلال, بمعنى تبين -ذكره في الصحاح- فيكون المراد بالمستهل بكسر الهاء, الهلال المتبين, ويصير حاصل قولهم: كتب لمستهل شهر كذا, بمثابة قولك: كتب لهلال كذا, أي وقت هلاله على حذف المضاف, وإقامة المضاف إليه مقامه والمراد بوقت الهلال وقت ظهوره, وهذا غاية ما يظهر فيه.
وقد زاحمه الشيخ جمال الدين بن نباتة على هذه التورية فقال:
أخط سؤالي بالرقاع ولا أرى ... جفاءك يا هذا بوصلك ينسخ
ويذبح جفني بالدموع وماله ... سوى الشهر بعد الشهر في البعد يسلخ
ترى هل لعامي من جبينك غرة ... بها لا بدمعي المستهل يؤرخ
لئن أشبهت منك الغصون معاطفا ... لقد أصبحت أيضاً تنبيه وتشمخ(1/363)
ومن بديع اقتباس القاضي المذكور بالتورية قوله:
بأبي فتاة من كمال صفاتها ... وجمال بهجتها تحار الأعين
كم قد دفعت عواذلي من وجهها ... لما تبدت بالتي هي أحسن
وألم به الشيخ عز الدين الموصلي وما خرج عن إيضاحه بقوله رحمه الله تعالى:
قد سلونا عن المليح بخود ... ذات وجه به الجمال تفنن
ورجعنا عن التهتك فيه ... ودفعناه بالتي هي أحسن
ومنه قوله:
يا سيدي إن جرى من مدمعي ودمي ... للعين والقلب مسفوح ومسفوك
لا تخش من قود يقتص منك به ... فالعين جارية والقلب مملوك
ومنه قوله:
ذو قوام يجور منه اعتدال ... كم طعين به من العشاق
سلب القضيب لينها فهي غيظا ... واقفات تشكوه بالأوراق
ومنه قوله:
يا رب كأس صرت من شربها ... من بعد رشفي ريق معشوقي
ملتهب الأحشاء نارا لأن ... شربتها منه على الريق
ومن لطائف الشيخ عبد العزيز الأنصاري شيخ الشيوخ بحماة قوله:
أفدي حبيبا رزقت منه ... عطف محب على حبيب
بوجنة ما أتم ربحي ... وقد غدا وردها نصيبي
ومنه قوله:
ولا تنس وجدي بك يا شادنا ... بحبه أنسيت أحبابي
ما لي على هجرك من طاقة ... فهل إلى وصلك من باب
ومنه قوله:
مرضت ولي جيرة كلهم ... عن الرشد في صحبتي حائد
فأصبحت في النقص مثل الذي ... ولا صلة لي ولا عائد
ومن لطائفه قوله:
أكملت ستا وأربعين بها ... أخلت همومي من راحتي ربعي
وجزت في السبع خائفا وجلا ... لأنني جائز على سبع
ومن لطائف مجونه قوله:
سألته من ريقه شربة ... أطفئ بها من كبدي حره
فقال أخشى يا شديد الظما ... أن تتبع الشربة بالجر
ومن بدائع الأمير مجير الدين بن تميم قوله:
لما لبست لبعده ثوب الضنى ... وغدوت من ثوب اصطباري عاريا
أجريت واقف أدمعي من بعده ... وجعلته وقفا عليه جاريا
ومن نكتة الغريبة قوله في سجادة:
أيا حسنها سجادة سندسية ... يرى للتقى والزهد فيها توشم
إذا ما رآها الناسكون ذووا الحجى ... أمامهم صلوا عليها وسلموا
ومن لطائفه قوله:
وعيرني بالشيب قوم أحبهم ... فقلت وشأن العاشقين التجمل
بعثتم إلى رأسي المشيب بهجركم ... ومهما أتى منكم على الرأس يحمل
ومن بدائع نكتة قوله:
وليلة بت أسقى في غيابها ... راحا تسل شبابي من يد الهرم
ما زلت أشربها حتى نظرت إلى ... غزالة الصبح ترعى نرجس الظلم
ومن لطائف نكتة في أغزاله قوله:
خليلي قد صاد الفؤاد بحسنه ... غزال به عذر المحبين واضح
ولا غرو أن صاد الفؤاد بلحظة ... ألم تعلما أن العيون جوارح
ومن لطائف نكته قوله:
قالوا رأيناك كل وقت ... تهيم بالشرب والغناء
فقلت أني فتى قنوع ... أعيش بالماء والهواء
وقال في إهداء مهرة حمراء وهي من مخترعاته:
هنيتها يا مالكي مهرة ... جميلة الخلق بوجه جميل
مؤخرها والعنق قد أوقعا ... قلب الأعادي في العريض الطويل
قد لبست من شفق حلة ... تخبرنا أن أباها أصيل
ومن محاسن بدر الدين يوسف بن لؤلؤ الذهبي قوله:
عرج على الزهر يا نديمي ... ومل إلى ظله الظليل
فالروض يلقاك بابتسام ... والريح تلقاك بالقبول
ومنه قوله:
وحديقة مطلولة باكرتها ... والشمس ترشف ريق أزهار الربا
يتكسر الماء الزلال على الحصى ... فإذا جرى بين الرياض تشعبا
ومن هنا أخذ الشيخ برهان الدين إبراهيم القيراطي فقال من قصيدة:
وكأن ذاك النهر فيه معصم ... بيد النسيم منقش ومكتب
وإذا تكسر ماؤه أبصرته ... في الحال بين رياضه يتشعب
ومنه قوله:
أدر كؤوس الراح في روضة ... قد نمقت أزهارها السحب
الطير فيها شبق مغرم ... وجدول الماء بها صب
ومن هنا أخذ الشيخ جمال الدين بن نباته قوله:
دمعي عليك مجانس قلبي ... فارث على الحالين للصب
ومنه قوله:
البرد قد ولى فمالك راقدا ... يا أيها المدثر المزمل(1/364)
أو ما ترى وجه الربيع وحسنه ... والروض يضحك والحيا يتهلل
ومن لطائف تغزلاته قوله:
حلا نبات الشعر يا عاذلي ... لما بدا في خده الأحمر
فشافني ذاك العذار الذي ... نباته أحلى من السكر
ومثله في اللطف قوله:
شوقي إليك على البعاد تقاصرت ... عنه خطاي وفصرت أقلامي
واعتلت النسمات فيما بيننا ... مما أحملها إليك سلامي
ومنه قوله أيضاً:
تعشقته لدن القوام مهفهفا ... شهي اللما أحوى المراشف أشنبا
وقالوا بدا حب الشباب بوجهه ... فيا حسنه وجها إلينا محببا
ومن نكته اللطيفة الغريبة البديعة قوله:
وذى قوام أهيف ... بين الندامى قد نشط
قام يقط شمعة ... فهل رأيت البدر قط
ومنه قوله:
وبمهجتي المتحملون عشية ... والركب بين ملازم وعناق
وحداتهم أخذت حجازا بعدما ... غنت وراء الركب في عشاق
ومن لطائفه الغريبة قوله:
رفقا بصب مغرم ... أبليته صدا وهجرا
وافاك سائل أدمعي ... فرددته في الحال نهرا
ومن لطائف قوله:
يا عاذلي فيه قل لي ... إذا بدا كيف أسلو
يمر بي كل وقت ... وكل ما مر يحلو
ومن لطائف القاضي محي الدين بن قرناص الحموي قوله:
مذ أتينا نبغي زيارة دوح ... قد حبانا بالجود والأكرام
ناولتنا أيدي الغصون ثمارا ... أخرجتها لنا من الأكمام
وقوله في مليح معذر:
ووجنة قد غدت كالورد حمرتها ... وأشبه الآس ذاك العارض النضر
كأن موسى كليم الله أقبسها ... نارا وجر عليها ذيله الخضر
وهذا المعنى استعمله في شجرة نارنج فقال:
نارنجة برزت في منظر عجب ... زبرجد ونضار صاغه المطر
كأن موسى كليم الله أقبسها ... نارا وجر عليها ذيله الخضر
ومن لطائفه في أغزاله قوله:
هويت في مكتب غلاما ... قلبي بهجرانه جريح
أهيف أضحى ضعيف خط ... وإنما شكله مليح
ومنه قوله:
قبلت خط عذراه لما بدا ... وهصرت لين قوامه المياس
وطلبت لي من خده المحمر ما ... يشفي الجوى فجاءني بآلاس
ومن لطائفه في أغزاله قوله:
إن الذين ترحلوا ... نزلوا بعين ناضرة
أنزلتهم في مقلتي ... فإذا هم بالساهرة
ومن طرائف الشاب الظريف شمس الدين محمد بن العفيف التلمساني قوله فيما يكتب على كأس: -وأجاد: -
أدور لتقبيل الندامى ولم أزل ... أجود بنفسي للندامى وأنفاسي
وأكسو أكف الشرب ثوبا مذهبا ... فمن أجل هذا لقبوني بالكاس
ومن هنا أخذ الشيخ شهاب الدين بن أبي حجلة فقال مضمنا:
يا صاح قد حضر الشراب ومنيتي ... وحظيت بعد الهجر بالإيناس
وكسى العذار الخد حسنا فاسقني ... واجعل حديثك كله في الكاس
وقوله وقد أهدى مجموعا:
يا أيها الصدر الذي وجه العلا ... منه يزان بمنظر مطبوع
لا يعتقد قلبي يحبك وحده ... ها قد بعثت لسيدي مجموعي
ومن نكته البديعة التي لم يسبق إليها قوله:
كان ما كان وزالا ... فاطرح قيلا وقالا
أيها المعرض عنا ... حسبك الله تعالى
أخذه القاضي مجد الدين فقال:
يا غصنا في الرياض مالا ... حملتني في هواك مالا
يا رائحا بعدما سباني ... حسبك رب السما تعالى
ومن لطائفه أيضاً قوله:
يا ساكنا قلبي المعنى ... وليس فيه سواء ثاني
لأي معنى كسرت قلبي ... وما التقى فيه ساكنان
وقد أورد على البيتين إيراد حسن, وهو أن الساكنين إذا اجتمعا كسر أحدهما وهو الأول, وكلامه يؤدي إلى أن المكسور غيرهما.
قال بعضهم: يمكن توجيه ما في البيتين بجعل في للسببية, أي لأي سبب كسرت قلبي والحال انه ما التقى فيه ساكنان, بسبب سكونه وإخلاده إلى حضيض الاطمئنان, وعدم تحركه واضطرابه خوفا من طروق نار الهجر, فيكون القلب إذا أحد الساكنين. ويحسن توجه السؤال عن كسره بلامين فتدبر. انتهى كلامه.
ونظم بعضهم جوابا للبيتين وهما:
سكنته وهو ذو سكون ... لم يثنه عن هواي ثاني
فكان كسري له قياسا ... لما التقى فيه ساكنان
وقال في مليح بدوي:(1/365)
بدوي كم جدلت مقلتاه ... عاشقا في مقاتل الفرسان
ذو محيا يصيح يا لهلال ... ولحاظ تقول يا لسنان
وقال في مليح جرح بسكين:
لم تجرح السكين كف معذبي ... إلا لمعنى للغرام يحقق
هي مثل ما قد قيل جارحة له ... ولكل جارحة إليه تشوق
وقال يصف بساطا:
بساط يملأ الأحداق حسنا ... ويهدي للقلوب به سرورا
ويشرح حين يبسط كل صدر ... وخير البسط ما شرح الصدورا
وقوله وقد احتجب بعض أصحابه عنه:
ولقد أتيت إلى جنابك قاضيا ... باللثم للعتبات بعض الواجب
وأتيت أقصد زورة أحيا بها ... فرددت يا عيني هناك بحاحب
ومنه قوله:
أيسعدني يا طلعة البد طالع ... ومن شقوتي خط بخدك نازل
ولو أن قسا واصف منك وجنة ... لأعجزه نبت بها وهو باقل
أخذه الشيخ جمال الدين فقال:
تطاولت الأغصان تحكي قوامه ... وعند التناهي يقصر المتطاول
وأعيا فصيح الوقت نبت عذاره ... وعير قسا بالفهامة باقل
ومن لطائف نكت ابن العفيف قوله:
وافى بوجه كالهلال مركب ... في قامة غصنية هيفاء
وبمقلة خفق الفؤاد وقد رنت ... وكذا الجنون يكون عن سوداء
ومن لطائف اختراعاته قوله:
بدا وجهه من فوق أسمر قده ... وقد لاح من ليل الذوائب في جنح
فقلت عجيب كيف لم يذهب الدجى ... وقد طلعت شمس النهار على رمح
ومنه قوله والنكتة بديعية غريبة:
أسكرني باللفظ والمقلة ال ... كحلاء والوجنة والكاس
ساق يريني قلبه قسوة ... وكل ساق قلبه قاسي
ومنه قوله مع حسن التضمين:
جلا ثغرا وأطلع لي ثنايا ... يسوق بها المحب إلى المنايا
وانشد ثغره يبغي افتخاراً ... أنا ابن جلا وطلاع الثنايا
ومن لطائفه قوله:
بأبي شادن غدا الوجه منه ... يخجل النيرين في الإشراق
سلب القضب لينها فهي غيظا ... واقفات تشكوه بالأوراق
ومن نكته البديعة الغريبة قوله:
ومستتر من سنا وجهه ... بشمس لها ذلك الصدغ في
كوى القلب منى بلام العذار ... فعرفني أنها لام كي
ومن نكته التي تطفل الناس بعده عليها قوله:
بأبي أفدي حبيبا ... تيم القلب غراما
عذر العازل فيه ... مذ رأى العارض لاما
ومن محاسن سيف الدين بن المشد في التورية قوله:
ومجلس راق من واش يكدره ... ومن رقيب له باللوم إلمام
ما فيه ساع سوى الساقي وليس به ... على الندامى سوى الريحان نمام
ومن لطائفه قوله:
لئن صرفت وحاشا ... ك فالدنانير تصرف
وما اعتقلت كريما ... إلا وأنت مثقف
ومن لطائفه أيضاً قوله:
لعبت بالشطرنج مع شادن ... رشاقة الأغصان من قده
أحل عقد البند من خصره ... والثم الشامات من خده
ومن بدايع الشيخ علاء الدين الوادعي قوله:
أثخنت عينها الجراح ولا إث ... م عليها لأنها نعساء
زاد في عشقها جنوني فقالوا ... ما بهذا فقلت بي سوداء
وقوله:
والروض يهدي مع نسيم الصبا ... نشر خزاماه وريحانه
وراسل القمري ورقاءه ... يشدو على أوتار عيدانه
وقوله:
لي مع الطرف كاتب يكتب الشو ... ق إليه إذا الفؤاد أمله
سلسل الدمع في صحيفة خدي ... هل رأيتم مسلسلات ابن مقلة
وقوله:
قلبي مطيع في هواك وأنت لي ... من بين دوح الحسن غصن خلاف
وقوله:
كيف أقوى لحمل سخط وبعد ... بعد ما كان عن رضى وتداني
فتكرم بعطفة والتفاف ... مثلها في الأغصان والغزلان
وقوله:
قال لي العاذل المفند فيها ... يوم وافت وسلمت مختاله
قم بنا ندعي النبوة في العش ... ق فقد سلمت علينا الغزالة
وقوله:
وليلة خلت مجلسنا سماء ... وصحبي كالثريا في اجتماع
فبات الطرف يرعى البدر منهم ... إلى أن حل منزلة الذراع
وقوله:
يا عز والله العزيز الذي ... قضى على نفسي بإذلالها
ما خطرت من نحوكم نسمة ... إلا تمسكت بأذيالها
وقوله:
رمتني سود عينيه ... فأصمتني ولم تبطي(1/366)
وما في ذاك من بدع ... سهام الليل لا تخطي
وقوله:
أهل نجد هل تنجدون محبا ... صاده بالغوير ظبي ملول
كم دماء مطلولة في هواه ... وبها روض خده مطلول
وحديث عن السقام صحيح ... قد رواه عن طرفه مكحول
ومن بدايع الشيخ جمال الدين بن نباتة قوله:
ومولع بفخاخ ... يمدها وشباك
فقالت العين ماذا ... يصيد قلت كراك
وقوله:
أسعد بها يا قمري برزة ... سعيدة الطالع والغارب
صرعت طيرا وسكنت الحشا ... فما تعديت عن الواجب
وقوله:
وبمهجتي رشأ يميس قوامه ... فكأنني نشوان من شفتيه
شغف العذار بخده وأراه قد ... نعست لواحظه فدب عليه
وقوله:
بروحي عاطر الأنفاس ألمى ... ملي الحسن حالي الوجنتين
له خالان في دينار خد ... تباع له القلوب بحبتين
أخذه الشيخ صلاح الدين الصفدي وقال:
بروحي عاطر الأنفاس أضحت ... عليه شامة شرط المحبة
كأن الحسن يعشقه قديما ... فنقطة بدينار وحبه
فلما وقف الشيخ جمال الدين على هذين البيتين قال: لا إله إلا الله, سرق الشيخ صلاح الدين _كما يقال_ من الحبتين حبة.
قال الشيخ جمال الدين: قلت:
يا عاذلي شمس النهار جميلة ... وجمال فاتنتي ألذ وأزين
فانظر إلى حسنيهما متأملا ... وادفع ملامك بالتي هي أحسن
(فأخذه الشيخ صلاح الدين مع البحر, بل أخذ الكل مع القافية وقال:
بأبي فتاة من كمال صفاتها ... وجمال بهجتها تحار الأعين
كم قد دفعت عواذلي عن وجهها ... لما تبدت بالتي هي أحسن)
وقوله:
فديتك أيها الرامي بقوس ... وطرفك يا ضنا جسدي عليه
لقوسك نحو حاجبك انجذاب ... وشبه الشيء منجذب إليه
وقوله:
أشكوا إلى الله ما أكابد من ... دمامل مسني بها الضر
فالليل عندي من حالها سنة ... فما لليلي ولا لها فجر
وقوله:
بروحي فاتر الأجفان ساج ... كأن الحسن لفظ وهو معنى
تفرد وهو فتان التثني ... فيا الله من فرد تثنى
أخذه الشيخ صلاح الدين الصفدي وقال:
وأهيف حاز قدا ... قد حار فيه المعنى
تراه في الحسن فردا ... لكنه يتثنى
وقوله:
بروحي جيرة أبقوا دموعي ... وقد رحلوا بقلبي واصطباري
كأنا للمجاورة اقتسما ... فقلبي جارهم والدمع جاري
وقوله:
لك يا أزرق اللواحظ مرأى ... قمري أضحى على الخلق ينهى
يا لها من سوالف وخدود ... ليس تحت الزرقاء أحسن منها
وقوله:
يا مجريا دمعي وموقف لوعتي ... من جسمي المضني على الأطلال
يا من إذا سألوه عن بدر الدجى ... والمسك قال أخي الشقيق وخالي
وقوله:
هنيتم آل الشهيد بنجمكم ... وبوجه مولود لكم ما أزهره
من قبل ما عملت لديه عقيقة ... عملت له المدح الجواري جوهره
أخذه الشيخ صلاح الدين الصفدي وقال:
أيا أندى الورى كفا ووجها ... وأقومهم إلى العليا طريقة
لقد جاءتك جوهرة المعاني ... فلا تبخل علينا بالعقيقة
وقوله:
يا غائبين تعللنا لغيبتهم ... بطيب عيش ولا والله لم يطب
ذكرت والكاس في كفي لياليكم ... فالكأس في راحة والقلب في تعب
وقوله:
بقلت وجنة المليح وقد ولى ... زمان الصبا الذي كنت أملك
يا عذار الحبيب دعني فإني ... لست في ذا الزمان من خل بقلك
وقوله:
إني إذ آنست هما طارقا ... عجلت باللذات قطع طريقه
ودعوت ألفاظ المليح وكاسه ... فنعمت بين حديثه وعتيقه
وقوله:
لله خال على خد الحبيب له ... والعاشقين كما شاء الهوى عبث
أورثته حبة القلب القتيل به ... وكان عهدي أن الخال لا يرث
وقوله:
وأغيد جارت في القلوب لحاظه ... وأسهرت الأجفان أجفانه الوسنا
أجل نظرا في حاجبيه وطرفه ... ترى السحر منه قاب قوسين أو أدنى
وقوله:
بروحي مشروط على الخد أسمر ... دنا ووفى بعد التجنب والسخط
وقال على اللثم اشترطنا فلا تزد ... فقبلته ألفا على ذلك الشرط
وقوله:(1/367)
وا حربا من هوى رشيق ... معتدل كالقضيب مائل
عذراه لا يجيب دمعي ... وسائل لا يجيب سائل
وقوله:
وضعت سلاح الصبر عنه فما له ... يقاتل بالألحاظ من لا يقاتله
وسال عذار فوق خديه جائر ... على مهجتي فليتق الله سائله
وقوله:
أفديه لدن القوام منعطفا ... يسل من مقلتيه سيفين
وهبت قلبي له فقال عسى ... نومك أيضاً فقلت من عيني
وقوله:
مبقل الخد أدار الطلا ... وقال لي في حبها عاتبي
عن أحمر المشروب ما تنتهي ... قلت ولا عن أخضر الشارب
وقوله:
يا واصف الخيل بالكميت وبال ... نهد أرحني من طول وسواس
لا نهد إلا من صدر غانية ... ولا كميت إلا من الكاس
ومن هنا أخذ الشيخ فخر الدين ابن مكانس وقال:
ان ذكرت الخيل في الميدان ... فاشرب كميتا واعل فوق نهد
وقوله:
إذا سألوني عن هوى قد كتمته ... سكت أراعي واشيا ورقيا
وجاوب عني سائل من مدامعي ... فيا لك دمعي سائلا ومجيبا
ومن اختراعاته الغريبة مع بديع التضمين قوله:
لما رأيت نهودها قد أقبلت ... ورأت لقلبي عشقه يتجدد
قالت وقد رأت اصفراري من به ... وتنهدت فأجبتها المتنهد
وقوله:
وتاجر قلت له اذرنا ... رفقا بقلب صبره خاسر
ومقلة ينهب طيب الكرى ... منها على عينيك يا تاجر
وهذه النكتة زاحمه فيها الشيخ زين الدين بن الوردي وزنا وقافية ومعنى وقال:
وتاجر شاهدت عشاقه ... والحرب فيما بينهم دائر
قال علام اقتتلوا هكذا ... قلت على عينيك يا تاجر
وقوله:
يا حبذا خد الحبيب ... وقد أضاء شريقه
إن لم يكن في الحسن نف ... س الروض فهو شقيقه
أخذه الشيخ صلاح الدين الصفدي وقال:
فديت حبيبا ضرج الحسن وجهه ... وصب على خديه ذوب عقيق
إذا أبصر الروض المدبج خده ... يقول لنا هذا أخي وشقيقي
وقوله:
نسبوه حسنا للهلال وعينه ... للظبي تنسب لا رميت ببينه
فإذا بدا فإلى هلال أصله ... وإذا رنا فهو الغزل بعينه
وقوله:
يرنو فيشرق حسنه ... في ناظري ولهانه
فهو الغزالة والغزا ... ل بعينه وعيانه
وقوله:
دعوني في حلي من العيش ما شيا ... ومرتقبا من بعده عفو راحم
أمد إلى ذات الأساور مقلتي ... وأسأل للأعمال حسن الخواتم
وقوله:
سلت مهجة قد كان صدعها الأسى ... فلا آخذ الله الأسى بصدوعها
وعين على حالي بعاد وجفوة ... عفا الله عما قد جرى من دموعها
ومن نكتة البديعة في المدائح قوله:
لنا ملك قد قاسمتنا هباته ... فنشر العطا ونظم الثنا منا
يذكرنا أخبار معن بجوده ... فننشي له لفظا وينشي لنا معنا
وقوله:
لا عدمنا لابن الأثير يراعا ... جاريا للعفاة بالأرزاق
كلما ماس في المهارق كالغص ... ن رأيت الندى على الأوراق
وقال وقد كتب إليه الملك المؤيد صاحب حماة:
فديتك من ملك يكاتب عبده ... بأحرفه اللاتي حكتها الكواكب
ملكت بها رقي وأنحلني الأسى ... فها أنا ذا عبد رقيق مكاتب
وقال يهنئ الصاحب شمس الدين بخلعة:
تهن مدى الأيام بالخلع التي ... وجدنا بها الأيام واضحة الأنس
أضاء بها وجه الزمان وأهله ... ولم لا ومن أطواقها مطلع الشمس
وقوله:
قصدت معاليك أرجو الندى ... وأزجي من العسر داء فينا
فما كان بيني وبين اليسار ... سوى أن مددت إليك اليمينا
وقوله يهني محتسبا:
تهن بها حسبة أدركت ... بأيام فضلك ما ترتقب
فإنك من أسرة تصطفي ... وترزق من حيث لا تحتسب
ومنه بقوله يهني بعيد النحر:
تهن بعيد النحر وابق ممتعا ... بأمثاله سامي العلي نافذ الأمر
تقلدنا فيه قلائد أنعم ... وأحسن ما تبدو القلائد في النحر
ومنه قوله _وقد أرسل إليه شرف الدين خالد القيسراني هدية جليلة في وقتها:
لك الله ما أزكى وأشرف همة ... وأحمد صنعا حيث تبلى المحامد
فأنت الذي قرت برؤيته العلى ... وهنئت الدنيا بأنك خالد
وقوله:(1/368)
فديناك يا بن المحسنين مجودا ... بأقلامه أو جائدا بمكارمه
فحاتم عند الجود في بطن كفه ... وياقوت عند الخط في فص خاتمه
وقال يداعب صديقا له يروم ولاية القضاء:
رب إن ابن عامر مولع الفك ... ر معنى في صبحه والمساء
يتمنى عند الجود في بطن كفه ... وياقوت عند الخط في فص خاتمه
ومن لطائفه في هذا الباب قوله:
لقد عدناكم لما ضعفتم ... فلا والله ما جاز يتمونا
أقيموا في ضناكم أو أفيقوا ... فإن عدنا فإنا ظالمونا
ومن لطائفه قوله:
فقد لقبوا الراح بالعجوز وما ... تخرج ألقابهم عن العاد
ألانت الغادة التي امتنعت ... فصح إن العجوز قواده
وقال يداعب صديقاً له طلق زوجة تسمى دنيا:
قل لابن بغلان الذي أصبحت ... كرته بين الورى خاسره
ظلمت دنياك وفارقتها ... ورحت لا دنيا ولا آخره
وقوله:
تبسم الشيب بذقن الفتى ... يوجب سح الدمع من جفنه
حسب الفتى بعد الصبا ذلة ... أن يضحك الشيب على ذقنه
وقوله:
لله تصنيف له رونق ... كرونق الحبات في عقدها
كادته تصانيف الورى عنده ... تمت للهيبة في جلدها
وقوله وقد توفي له ولد لم يبلغ حولا:
يا راحلا من بعدها بعدما أقبلت ... مخائل للخير مرجوة
لم تكتمل حولا وأورثتني ... ضعفا فلا حول ولا قوة
ومثله قوله في ولده عبد الرحيم:
يا لهف قلبي على عبد الرحيم ويا ... شوقي إليه ويا شجوتي ويا دائي
في شهر كانون وافاه الحمام لقد ... أحرقت بالنار يا كانون أحشائي
ومنه قوله فيه:
آه لشمل قد وهي سلكه ... وكان ذا در بعبد الرحيم
فليتني لاقيت عنه الردى ... وعاش ذاك الدر درا يتيم
وقال في رثاء طفل:
بدا وفي خاله توار ... فيا لها طلعة شريقه
جوهرة ما عملت إلا ... دموع عيني لها عقيقه
وقال في رثاء ولده أيضاً:
قالوا فلان قد جفت أفكاره ... نظم القريض فلا يكاد يجيبه
هيهات نظم الشعر منه بعدما ... سكن التراب وليده وحبيبه
ومن محاسن الشيخ صلاح الدين الصفدي في باب التورية قوله:
أفديه ساجي العيون حين رنا ... أصاب مني الحشا بسهمين
أعدمني الرشد في هواه ولا ... أفلح شيء يصاب بالعين
وقوله:
لقد شب جمر القلب من فيض عبرتي ... كما أن رأسي شاب من موقف البين
فإن كنت ترضى لي مشيبي والبكا ... تلقيت ما ترضاه بالرأس والعين
وقوله:
ان عيني مذ غاب شخصك عنها ... يأمر السهد في كراها وينهى
بدموع كأنهن الغوادي ... لا تسل ما جرى على الخد منها
وقوله:
ان لم تصدقني تصدق بالكرى ... ليزورني فيه الخيال الزائل
وانظر إلى فقري لوصلك واغتنم ... أجري وقل للدمع قف يا سائل
وقوله:
كن كيف شئت فإن قد ... رك قد علا عندي وعزا
مات السلو تعيش أن ... ت أما رأيت الصبر عزا
وقوله:
قالوا حكى بدر الدجى وجه الذي ... تهوى فقلت لهم قفوا وتربصوا
أنا ما أصدق من عليه كلفة ... فإذا حكى شيئاً يزيد وينقص
وقوله:
يقولون حاكاه الهلال فلا تزغ ... عن الحق واعرف ذاك إن كنت تنصف
فقلت إذا ما صار بدرا مكملا ... حكاه ومع هذا عليه تكلف
وقوله:
أقول وحر الرمل قد زاد وقده ... ومالي إلى شم النسيم سبيل
أظن نسيم الجو قد مات وانقضى ... فعهدي به في الشام وهو عليل
وقوله:
قل للعذول يسترح من عذلي ... ما أصبح المعشوق عندي مشتهى
وارتد قلبي عن سيوف لحظه ... وكل شيء بلغ الحد انتهى
وقوله:
أنفقت كنز مدائحي في ثغره ... وجمعت فيه كل معنى شارد
وطلبت منه جزاء ذلك قبلة ... فأبى وراح تغز لي في البارد
وقوله:
سكن البدو من أحب فقالوا ... زاد أهل الغرام في البعد بعدا
قلت بالله هل سمعتم ببدر ... غاب عن عاشقيه لما تبدا
وقوله:
أملت أن تتعطفوا بوصالكم ... فرأيت من هجرانكم ما لا يرى
وعلمت أن بعادكم لا بد أن ... يجري له دمعي وكذا جرى
وقوله:(1/369)
تناءى الذي أهوى فمت صبابة ... فقال عجيب كل أمرك في الهوى
صبرت لطرفي إذ رمتك سهامه ... ولم تتصبر إذ رمتك يد النوى
وقوله:
بأسياف الجفون قتلت نفسا ... مبرأة عن الشكوى زكية
فما أقوى جفونك وهي مرضى ... وأقدرها على قتل البرية
وقوله:
جاء بقد قد ثنته الصبا ... ورنحت أعطافه السامية
ومذ غدا في لينه واحدا ... كانت له ريح الصبا ثانية
وقوله:
يا قلب صبرا على الفراق ولو ... روعت ممن تحب بالبين
وأنت يا دمع أن أبحت بما ... أخفيت وجدا سقطت من عيني
وقوله:
لولا شفاعة شعره في صبه ... ما كان زار ولا أزال سقاما
لكن تطاول في الشفاعة عنده ... وغدا على أقدامه يتراما
وقوله:
قالوا علا نيل مصر في زيادته ... لقد بلغ الأهرام حين طما
فقلت هذا عجيب في بلادكم ... إن ابن ستة عشر يبلغ الهرما
وقوله:
لجود قاضي القضاة أشكو ... عجزي عن الحلو في صيامي
والقطر أرجو ولا عجيب=فالقطر يرجى من الغمام وقوله:
قلت له إذ هز لي ذقنه ... ولام فيمن همت في عشقها
تذكر إذ غنت فنادى نعم=فقلت وا شوقي إلى حلقها وقوله:
مللت كتابا أخلق الدهر جلده ... وما أحد في دهره بمخلد
إذا عاينت كتبي الجديدة حاله ... يقولون لا تهلك أسى وتجلد
ومن محاسن الشيخ زين الدين بن الوردي:
يا سائلي تصبرا ... عن لثم فيه لا تسل
ما تستحي تبدلني ... بالصبر عن ذاك العسل
وقوله:
ومليح إذا النحاة رأوه ... فضلوه على بديع الزمان
برضاب عن المبرد يروي ... ونهود تروي عن الرماني
وقوله:
قالت إذا كنت تهوى ... أنسي وتخشى نفوري
صف ورد خدي وإلا ... أجور ناديت جوري
وقوله:
ضممتها عند اللقا ضمة ... منعشة للكلف الهالك
قالت تمسكت وإلا فما ... هذا الشذا قلت بأذيالك
وقوله:
وأغيد يسألني ... ما المبتدأ والخبر
مثلهما لي مسرعا ... فقلت أنت القمر
وقوله:
مهفهف القد إذا ما انثنى ... يقول لا تخش من الرد
ما أنت حملي يا كثيب النقا ... ولست يا غضن النقا قدي
لو نلت من خديه تقبيلة ... تزين الريحان بالورد
وقوله:
هويت أعرابية ريقها ... عذب ولي فيها عذاب مذاب
رأسي من شيبان والطرف من ... نبهان والعذال فيها كلاب
وقوله:
تقويم قدك مال يا من يغره ... در يقصر دونه التقويم
إني لأبكي من جفاك ولي أب ... وثغر يضحك منه وهو يتيم
وقوله:
قلت لفرا فرى أديمي ... وزاد صدأ وزاد هجرا
قد فر صبري وفر نومي ... قال نعم مذ عشقت فرا
وقوله:
ووعدت أمس بأن تزور فلم تزر ... فغدوت مسلوب الفؤاد مشتتا
ي مهجة في النازعات وعبرة ... في المرسلات وفكرة في هل أتى
ومن أغراضه اللطيفة قوله في صديق له بالمعرة يقال له شمس:
لي بالمعرة شمس ... رضاه غير مرادي
فلا تذموه اني ... أدري بشمس بلادي
وقوله:
يا شمس أشعلت شمعا ... عليك عشر الأصابع
رغما لمن قال قبلي ... الشمع في الشمس ضائع
ومنه قوله في آل النصيبي بحلب:
فؤادي إلى آل النصيبي مائل ... وودي لهم في محضري ومغيبي
فبيني وبين القوم تجانس ... إذا طاب أصل الورد كان نصيبي
وقوله:
لي صاحب واسمه سراج ... ما قر لي عنده قرار
لسانه محرق لقلبي ... إن لسان السراج نار
وقوله:
مرض الفؤاد وصح ودي فيهم ... وأقام تذكاري وصبري نازح
إنسان عيني كم سهادا كم بكا ... يا أيها الإنسان إنك كادح
وقوله:
يا آل بيت النبي بذلت ... في حبكم روحه فما غبنا
من جاء عن بيته يحدثكم ... قولوا له البيت والحديث لنا
وقوله:
من ولي الحسبة يصبر على ... تعرض الواقف والسائر
فليس يحظى بالمنى والغنى ... فيهم سوى المحتسب الصابر
زوجة مجد الدين والداها ... في أخذ عرض المجد أشبهاها(1/370)
أن أباها وأبا أباها ... قد بلغا في المجد غايتاها
ومن تحريرات القيراطي قوله:
لما تبدا قوام قامته ... وحاجباه لناظر العين
رأيت موتي بسيف ناظره ... من قيد رمح وقاب قوسين
وقوله:
تنفس الصبح فجاءت لنا ... من نحوه الأنفاس مسكيه
وأطربت في العود قمرية ... وكيف لا تطرب عوديه
وقوله:
أرتاح للأقمار وهي طوالع ... وشموس راح للمغارب تجنح
ويهزني زجل الطيور بلحنها ... والروض بالزهر النظيم موشح
وقوله:
شبه السيف والسنان بعيني ... من لقتلي بين الأنام استحلا
فأبي السيف والسنان وقالا=حدنا دون ذاك حاشا وكلا وقوله:
أهيم بأعطاف القدود صبابة ... وإن هي زادتني جفا وتباعدا
ويعجبني بين الأنام تطفلي ... عليها إذا شاهدتهن موائدا
وقوله:
عبدك يا من جفا وصد وما ... درى بصب يموت بالكمد
جرى على الخد من مدامعه ... في الحب ما لا جرى على أحد
وقوله:
جزت النقا فحويت لين غصونه ... وكثيب واديه وجيد غزاله
وأخذت حسن البدر منه وقد بدا ... في أفقه بتمامه وكماله
وقوله:
يا هاجرا أوقعني هجره ... وصده في حالة صعبه
أخذت قلبي بالتجني وما ... تركت لي منه ولا حبه
ومن لطائف ابن المعمار:
لما تبدا عذار الحب قلت له ... رفقا ومهلا عليه أيها الجاني
ولا تخشن فما في الخد محتمل ... بأن تخط عليه عرق ريحان
وقوله:
تملك قلبي خادم قد هويته ... من الهند معسول اللمى أهيف القد
أقول لصحبي حين يرنو بلحظه ... خذوا حذركم قد سل صارمه الهندي
ومن لطائفه قوله مع التضمين:
عزمت على رقيا محاسن وجهه ... بأنوار آيات الضحى حين أقبلا
فلما بدا يفتر عن نظم ثغره ... بدأت ببسم الله في النظم أولا
وقوله:
أيا بدر المحاسن حزت جودا ... وفضلا شاع بين العالمينا
وكنت من الكرام فحزت خطا ... فصرت من الكرام الكاتبينا
وقوله:
قسما بما أوليت من أحسانه ... وجميله ما عشت طول زماني
هذا وإن كنتم على سفر به ... فتيمموا منه صعيدا طيبا
وقوله:
قد ذبت من كربي لفقد النسا ... أفور كالتنور من ناريه
وقد طغى الماء فمن لي بأن ... أحمل بالجود على جارية
ومن لطائف العلامة شمس الدين بن الصائغ الحنفي رحمه الله تعالى في باب التورية قوله:
من هجر سلمى ما سلمت ومن ترى ... يقوى لحمل الشوق والهجران
لا تغترر يوما بحلو رضابها ... فلقد بدا من قدها مران
وقوله:
ثنى غصنا ومد عليه فرعا ... كحظي حين أطلب منه وصلا
وأسبله على الأرداف منه ... ولم أرى مثل ذاك الفرع أصلا
وقوله:
هجرت فأحشائي توقد جمرها ... هذا وليست في المحبة فاتره
وتظل تحرقني بنيران الجفا ... ومن الذي يقوى لنار الهاجره
وقوله:
يا مليحا رووا لنا عنه حسنا ... وقبيح إن لم يكن ثم حسنى
طبت لفظا مع الرواة ولكن ... ينبغي أن تكون في الدهر معنى
وقوله:
بروحي أفدي خاله فوق خده ... ومن أنا في الدنيا فأفديه بالمال
تبارك من أخلى من الشعر خده ... وأسكن كل الحسن في ذلك الخالي
وقوله في الشيخ تقي الدين بن دقيق العيد:
لتقي الدين ذقن ... تملأ الكف وتفضل
فاعمل المنخل منها ... لدقيق العيد وانخل
وقوله:
جفني عليك ساهر ... بحرقة قد ذقتها
ودمعتي جارية ... إن زرتني أعتقتها
وقوله في قيم حمام:
وقيم قيم في حسن صنعته ... حاز الجمال على حسن من الترف
لو يخدم البدر أنقى من البدر من كلف ... لكنه لم يزل ما بي من الكلف
ومن أغراضه البديعة في الشطرنج قوله:
تأمل ترى الشطرنج كالدهر دولة ... نهارا وليلا ثم بؤسا وأنعما
محركها باق وتفنى جميعها ... وبعد الفنا تحيا وتبعث أعظما
وقوله:
فاخرت الأقلام سمر القنا ... والسعد في الأقسام مكتوب
فقلت للخطي لا تستطل ... كلاكما للخط منسوب
وقوله:(1/371)
ولائم زاد لوما ... في أسود أشتهيه
وقال أسود تهوى ... فقلت عينك فيه
ومن مختارات الشيخ شهاب الدين بن أبي حجلة قوله:
قل للهلال وغيم الأفق يستره ... حكيت طلعة من أهواه بالبلج
لك البشارة فاخلع ما عليك فقد ... ذكرت ثم على ما فيك من عوج
وقوله في غلام يدعى مقبلا:
يا من تحجب عن محب صادق ... ما زال عنه كل حين يسأل
من لي بيوم فيه تقبل باللقا ... ويقال لي هذا حبيبك مقبل
وقوله في فانوس مع حسن التضمين:
وكأنما الفانوس نجم نير ... منع الظلام من الهجوم طلوعه
أو عاشق أجرى الدموع بحرقة ... من حر نار تحتويه ضلوعه
وقوله:
يحكي سنا الفانوس من بعد لنا ... برقا تألق موهنا لمعانه
فالنار ما اشتملت عليه ضلوعه ... والماء ما سمحت به أجفانه
ومن نكته الغريبة في باب التورية قوله -وكتب به إلى ابن الزين المعروف بلبيكم-:
يا شاعرا قد حاز حسن بديهة ... وتطيعه درر النجوم إذا نظم
وتجيبه قبل السؤال لنقده ... وتقول يا ابن الزين لبيكم نعم
ومن بدائع الشيخ بدر الدين الزغاري قوله:
قالت وقد أنكرت سقامي ... لم أر ذا السقم يوم بينك
لكن أصابتك عين غيري ... فقلت لا عين بعد عينك
وقوله:
قيل لي إذا رأيت أقمار تم ... عن بدور السماء للطرف تلهي
أي وجه أضناك قلت دعوني ... فسقامي قد صح من كل وجه
وقوله مضمنا وأجاد:
يقول العاذلون نرى رمادا ... على خديه من شعر العذار
فقلت لهم صدقتم غير إني ... أرى خلل الرماد وميض النار
وقوله:
وافى كتابك يا خليلي بعدما ... حكمت علي ببعدك الأيام
لكن أرى نار اشتياقي لم تكن ... بردا علي وفيه منك سلام
وقوله:
سرت من بعيد الدار لي نفحة الصبا ... وقد أصبحت حسرى من السير ظالعه
فمن عرق مبلولة الجيب بالندى ... ومن تعب أنفاسها متتابعه
ومن لطائف الشيخ شهاب الدين الحاجبي قوله:
لها عين لها غزل وغزو ... مكحلة ولي عين تباكت
وحاكت في فعايلها المواضي ... فيا لك مقلة غزلت وحاكت
وقوله:
وصفت خصره الذي ... أخفاه ردف راجح
قالوا وصف جبينه ... فقلت ذاك واضح
وقوله:
عودوا لصب بكى عليكم ... يا جيرة ودعوا وساروا
فدمع عينه عاد بحرا ... وقلبه ماله قرار
وقوله:
لا تبعثوا غير الصبا بتحية ... ما طاب في سمعي حديث سواها
حفظت أحاديث الهوى وتضوعت ... نشرا فيا لله ما أذكاها
وقوله:
وخذوا حديثا قد ألم بمهجتي ... وازداد حتى أهملته العذل
ثاني المعاطف كنت أول عاشق ... في حبه ولكل ثان أول
يرنوا فيحلوا للمتيم لحظه ... إذ ذاك لحظ بالنعاس معسل
وتميل منه شمائل لم أدر من ... مشموله أو حركتها الشمال
متلون الأوصاف سيف لحاظه ... ماض ولكن هجره مستقبل
منها قوله:
أيجود لي دهر بطيف خياله ... وأظنه برجوع ذلك يبخل
أم كيف يأتي الطيف جفنا بابه ... بالفتح من أرق الصبابة مقفل
وقوله:
لم أنس أيام الصبا والهوى ... لله أيام النجا والنجاح
ذاك زمان مر حلو الجنى ... ظفرت فيه بحبيب وراح
ومن محاسن الشيخ زين الدين بن العجمي:
وافى وفي كميه ورد أحمر ... حيا به مذ شب تحت لثامه
فرشفت حلو الراح من خرطومه ... وجنيت ورد الخد من أكمامه
وقوله:
أنظر إلى الغدران كيف تجمدت ... أمواجها فزهت وراقت منظرا
وحكت سطورا في طروس خطها ... قلم النسيم بلطفه لما انبرا
وقوله:
أفدي الذي ساقت حروب الهوى ... بحسن ساقيها لمشتاقها
جادلت عذالي على حسنها ... فقامت الحرب على ساقها
وقوله:
قاسوا حماة بجلق فأجبتهم ... هذا قياس باطل وحياتكم
فعروس جامع جلق ما مثلها ... شتان بين عروسنا وحماتكم
وقوله:
غنى على القانون حتى غدا ... من طرب يهتز عطف الجليس
داوى قلوبا من غليل الأسى ... وكان فيها من هواها رسيس(1/372)
وصاحت الجلاس عجبا به ... يا صاحب القانون أنت الرئيس
ومن لطائف الشيخ عز الدين الموصلي في باب التورية قوله:
يقول وقد بدا قمرا وغصنا ... حباه حسنه هيفا بلين
تنشق مسك أصداغي حلالا ... فهذا الطيب من عرق الجبين
وقوله:
حديث عذار الحب باد وساقه ... له أوجه تبدي لقلبي اشتياقه
درى إننا نسعى إلى الحسن كلنا ... فأبدى لنا ذاك الحديث وساقه
وقوله:
حديث عذار الحب في خده جرى ... كمسك على الورد الجني مسطرا
فقبلته حتى محوت رسومه ... كأن لم يكن ذاك الحديث ولا جرى
وقوله:
ذو حور أصابني ... بعينه لما نظر
فليس قتل صبه ... إلا كلمح بالبصر
وقوله:
وبي ناتف للعارضين يقول صف ... نبات عذار زان في الحسن منظري
فناديت يا حلو الشمائل ما الذي ... يقول لساني في النبات المكرر
ومن محاسن الشيخ جمال الدين عبد السوسي في باب التورية قوله:
أهوى غزالا عليه صبري ... قد بان في الحب وهو عذري
قد أسرت مقلتاه قلبي ... فرحت مملوكه بأسري
وقوله:
تهاون بي شمس الندى وهو صاحب ... وأظهر لي أضعاف ما تظهر العدى
نزلت به أبغي الندى وهو طالع ... وعند طلوع الشمس يرتفع الندى
وقوله:
زجرت النفس عن نذل لئيم ... أقر بموعدي غلطا وأنكر
وقد ذكرته عنه مرارا ... وهيهات المؤنث لا يذكره
ومن محاسن الصاحب فخر الدين بن مكانس قوله:
يقول مفندي إذا همت وجدا ... بخد خلت فيه الشعر نملا
أتعرف خده للعشق أهلا ... فقلت له نعم أهلا وسهلا
وقوله:
زارت معطرة الشذا ملفوفة ... كي تختفي فأبى شذا العطر
يا معشر الأدباء هذا وقتكم ... فتناظموا في اللف والنشر
وقوله:
علقتها معشوقة خالها ... إذ عمها بالحسن قد خصصا
يا وصلها الغالي ويا حبسها ... لله ما أغلى وما أرخصا
وقوله:
ومقلة ظبي يرشق القلب سهمها ... ولكنه رشق يزال به الهم
على نفسه فليبك من ضاع عمره ... وليس له منها نصيب ولا سهم
ومن أغراضه الغريبة (قوله في ولده) مجد الدين:
أرى ولدي قد زاده الله بهجة ... وكمله في الخلق والخلق مذ نشا
سأشكر ربي حيث أوتيت مثله ... وذلك فضل الله يؤتيه من يشا
وقال يمدح الإمام علي بن أبي طالب عليه السلام:
يا بن عم النبي إن أناسا ... قد توالوك بالسعادة فازوا
أنت للعمل في الحقيقة باب ... يا إماما وما سواك مجاز
وقوله:
وا سوأتاه إذا وقفت بموقف ... ما مخلصي فيه سوى الاقرار
وسواد وجهي عند أخذ صحيفتي ... وتطلعي فيها شبيه القار
ومن محاسن (ولده) مجد الدين فضل الله بن (عبد الرحمن) قوله:
وأغيد بت منه ... في نار خديه أقلى
رمى من اللحظ سهما ... به نموت ونبلى
وقوله:
قالوا وقد هزوا لنا ... قاماتهم والأعينا
إن رمت تلقانا فلج ... بين السيوف والقنا
وقوله:
يقولون هل من الحبيب بزورة ... ومناكم المطلوب قلت لهم منا
فقالوا لنا غوصوا على قده وما ... يحاكي إذا ما اهتز قلت لهم غصنا
وقوله:
بحق الله دع ظلم المعنى ... ومتعه كما يهوى بأنسك
وكف الصد يا مولاي عمن ... بيومك رحت تهجره وأمسك
وقوله:
قال خلي لحبيبي صل فتى ... بك قد أضحى معنى مغرما
قال هل يولم إن واصلته ... قال إن فاز بثغر أولما
وقوله:
يا لائمي إن فقدت الصبر في قمر ... أصداغه سلبت أهل الهوى وسبت
كلت سيوف اصطباري عنه حين بدا ... آس العذار على وجناته ونبت
ومن مدائحه يهني والده بعوده من السفر:
هنيت يا أبتي بعودك سالما ... وبقيت ما طرد الظلام نهار
ملئت بطون الكتب فيك مدائحا ... حتى لقد عظمت بك الأسفار
وقال فيه أيضاً وقد أهدى له هدية حسنة:
تناهيت في بري إلى أن هديتني ... ولولاك كنت الدهر في الغي ساديا
وأهديت لي ما حير العقل حسنه ... فلا زلت في الحالين للعبد هاديا(1/373)
ومن لطائف الشيخ أبي الفضل بن أبي الوفاء:
عبدك الصب المعنى ... عرف الفقر وذاقه
فلكم فاخر محتا ... جا شكا فقرا وفاقه
ومن مخترعاته في باب التورية مع بديع التضمين:
ما خادم واسمه في در مبسمه ... إلا أغن غضيض الطرف مكحول
وريقه مع ثناياه التي انتظمت ... كأنه منهل بالراح معلول
وقوله:
سألتها رشف ريق ... مستعذب الطعم حلو
قالت فصفني ارتجالا ... فقلت بعد التروي
وقوله:
ذكرك لي في اللوم مستحسن ... واللوم عندي غير مستحسن
كم قلت للمعرب في لومه ... إن جئت نحوي قط لا تلحني
وقوله:
تعنت دهر لج فينا بخطبه ... وذللنا من بعد عز وأنكانا
قسا وانثنى يختال في جبروته ... وجرر أذيالا علينا وأردانا
ومن محاسن الشيخ بدر الدين الدماميني:
قلت له والدجى مول ... ونحن في مجلس التلاق
قد عطس الصبح يا حبيبي ... فلا تشمته بالفراق
وقوله:
يا عذولي في مغن مطرب ... حرك الأوتار لما سفرا
كم تهز العطف به طربا ... عندما تسمع منه وترا
وقوله:
بدا وقد كان اختفى ... وخاف من مراقبه
فقلت هذا قاتلي ... بعينه وحاجبه
وقوله:
أمنيتي أنت يا مليحا ... ما مثله في الزمان ثان
فكيف يبدي جفاك خوفا ... وأنت لي غاية الأمام
وقوله:
وعزيز الجمال أوجب ذلي ... وهواه علي أصبح فرضا
فهو في الحسن والجمال سماء ... صرت يا صاح منه بالذل أرضا
وقوله:
تناسبت أوصاف من وصله ... ينفي عن القلب جميع الكرب
في الخد تسهيل ومن ثغره ... يطيب للصب ارتشاف الضرب
وقوله:
لا ما عذاريك هما أوقعا ... قلب المحب الصب في الحين
فجد له بالوصل واسمح به ... ففيك قد هام بلامين
وقوله:
في ليلة البدر أتى ... حبي فقرت مقلتي
وقال لي يا بدر قم ... فقلت هذي ليلتي
وقوله:
قم بنا نركب طرف الل ... هو سبقا للمدام
واثن يا صاح عناني ... لكميت ولجام
ومن مختارات الشيخ الحافظ أحمد بن حجر العسقلاني:
سألوا عن عاشق في ... قمر باد سناه
أسقته مقلتاه=قلت لا بل شفتاه وقوله:
أتى من أحبائي رسول فقال لي ... ترفق وهن واخضع تفز برضانا
فكم عاشق قاسى الهوى إن يحبنا ... فصار عزيزا حين ذاق هوانا
وقوله:
خاض العواذل في حديث مدامعي ... لما رأو كالبحر سرعة سيره
فحبسته لأصون سر هواكم ... حتى يخوضوا في حديث غيره
وقوله:
يا عاذلي وسهام اللحظ ترشقني ... عن قوس حاجب بدر خده قبسي
أن تستطع لنجاتي في الهوى سببا ... فاستنبط العلم لي من أسهم وقس
وقوله:
ولم أنس إذ زار الحبيب بروضة ... فغارت من المحبوب أعينها المرضى
ولاحت بخد الورد حمرة خجلة ... حياء رأينا طرف نرجسها غضا
وقوله:
نحن أهل الهوى بلوناه قدما ... بين خوف من أهله وأمان
وشربنا خمر الهوى كل حين ... بكؤوس قد أترعت وأوان
وقوله:
سرت وخلفتني غريبا ... في الربع أصلي جوى بنازك
أغث حشا أحرقت غراما ... في ربعك المعتلي ودارك
وقوله:
وبدر تم جميل ... محجب بالدلال
إذا همست بأني ... أسلو هواه بدالي
وقوله:
نهاني حبيبي أن أطيع عواذلي ... لكي أتهنا بالوصال الذي سرا
فقلت فدتك النفس سمعا وطاعة ... فلم أر نهيا منه أهنأ ولا أمرا
وقوله:
وأهيف حياني بطيب وصاله ... ومن ريقه الخمر الحرام حلالي
أدار لي الكأسين خمرا وريقة ... ونزهني عن جفوة وملال (لي)
وقوله:
تجرد من أحب فقال لي من ... يلوم وأظهر الحسد المكتم
أجاد لك الحبيب بلمس جسم ... له كالخز قلت نعم وأنعم
وقوله:
تيه فلان الدين مع فقره ... أقوى دليل أنه جاهل
لثوبه بالصقل من فوقه ... قعاقع ما تحتها طائل
وقوله:
يا أيها الشيخ المطيع هواه دع ... هذي الدعابة قد أتى داعي الردى(1/374)
وخيوط هذا الشيب لا تنسج بها ... ثوب التصابي فهي ما خلقت سدا
وقوله:
خليلي ولي العمر منا ولم تنب ... وننوي فعال الصالحين ولكنا
في وصفها ألسن الأقلام قد نطقت ... وطال شرحي في لامية العجم
وقوله:
أرخت لنا ذوائبا من شعرها ... عشرا وفرق الفجر فيها يسري
فصرت بالفجر لها معوذا ... لما بدا بين ليال عشر
وقوله:
أرشفني ريقه وعانقني ... وخصره يلتوي من الدقه
فصرت من خصره وريقته ... أهيم بين الفرات والرقه
وقوله:
قال أراك الحمى تعوض ... بغصن قدي إذا جفاكا
فقلت من بعد قد حبي ... والله ما أشتهي أراكا
وقوله:
برامة لي ظبي ... تخشى الأسود مرامه
كم هام قلبي فيه ... بين العذيب ورامه
وقوله:
هويت غصنا لأطيار القلوب على ... قوامه في رياض الوجه تغريد
قالت لواحظه إنا نسود على ... بيض الظبا قلت أنتم أعين سود
وقوله:
جاد النسيم على الربا ... بندى يديه وقال لي
أنا ما أقصر عن ندى ... وكما علمت شمائلي
ومن التواري التي وقعت لناظمها عفوا بل سحرا من غير كد قول القائل:
قاسوك بالغصن في التثني ... قياس جهل بلا انتصاف
فذاك غصن الخلاف يدعي ... وأنت غصن بلا خلاف
ومن ذلك قول جلال الدين شاعر ماردين قديما:
ويوم يرد يد أنفاسه ... تخمش الأوجه من قرصها
يوم تود الشمس من برده ... لو جرت النار إلى قرصها
ومثله قول شرف الدين بن منقذ:
ولرب ليل تاه فيه نجمه ... وقطعته سهرا فطال وعسعسا
وسألته عن صبحه فأجابني ... لو كان في قيد الحياة تنفسا
ومثله قول أمين الدين السليماني:
أضيف الدجى معنى إلى لون شعره ... فطال ولولا ذاك ما خص بالجر
وحاجبه نون الوقاية ما وقت ... على شرطها فعل الجفون من الكسر
ومنه قول محاسن الشواء:
ولما أتاني العاذلون عدمتهم ... وما فيهم إلا للحمى قارض
وقد بهتوا لما رأوني ساهيا ... وقالوا به عين فقلت وعارض
ومثله قول إبراهيم بن عبد الله الغرناطي:
يا رب كأس لم تشج شمولها ... فأعجب لها جسما بغير مزاج
لما رأينا السحر من أشكالها ... جملا نسبناها إلى الزجاجي
ومنه قول فخر الدين بن الجنان الشاطبي:
تؤمون الحجاز وما علمتم ... بأن القلب بيتكم العتيق
وألفاظي العذيب وأضلعى المنحن ... ى ودموع مقلتي العقيق
ومثله قول الشريف محمد قاضي الجماعة بغرناطة وهو:
حدائق أنبتت فيها الغوادي ... ضروب النور رائقة البهاء
فما يبدو بها النعمان إلا ... نسبناه إلى ماء السماء
ومنه قول الشيخ شمس الدين الأدفوي:
كم للنسيم على الربا من نعمة ... وفضيلة بين الورى لن تجحدا
ما زارها وشكت إليه فاقة ... إلا وهز لها الشمائل بالندى
ومثله في الحسن واللطافة قول الشيخ موفق الدين الحكيم:
لله أيامنا والشمل مجتمع ... نظما به خاطر التفريق ما شعرا
وا لهف قلبي على عيش ظفرت به ... قطعت مجموعة المختار مختصرا
وقول علاء الدين بن البطريق ناظر الجيش ببغداد:
دار السراج بديعة ... فيها تصاوير بمكنه
تحكي كتاب كليلة ... فمتى أراها وهي دمنة
ويعجبني في هذا الباب قول القائل في حمام:
إن حمامك التي نحن فيها ... أي ماء لها وأية نار
قد نزلنا فيها على ابن معين ... وروينا عنه صحيح البخار
ويعجبني من نظم المواليا في هذا الباب قول القائل:
حبي ومحبوبتي مذ بان يوم البين ... رأوا عشا ليلة الاثنين قبل الحين
فصرت أنظر إلى زينة وألمح زين ... وأقول يا قلب ما أحلى ليلة الاثنين
ويعجبني قول الشيخ حامد الحكاك:
ثار الغرام الذي في مهجتي خامد ... وسال دمعي الذي كنت أعهدو جامد
وأنا ببغداد والمحبوب في آمد ... مصيبتي عظمت وأنا لها حامد
قال المؤلف عفا الله عنه:(1/375)
هذا الذي أوردته من شواهد التورية هو عيون ما أورده ابن حجة في شرح بديعيته, فإنه جاء بالطم والرم, ولم يميز بين الروح والجرم, أورد الغث والسمين, وجمع بين الرخيص والثمين. وهذا حين أورد ما للمتأخرين والمعاصرين في هذا الباب, مما يرق ويروق لأولي الألباب: فمن محاسن الشيخ الأديب يحيى بن محمد بن حامد الصفدي المعروف بابن مليك الحموي قوله:
ومذ تاه الليل وقد ضللنا ... بليل ليس يهدي سالكوه
فأشرق وجه من أهوى ونادى ... أنا ابن جلا ألا لا تنكروه
ووجه الصبح وافانا سريعا ... وقال وقد حكاه أنا أخوه
فقلت لصاحبي أنعم صباحا ... لعمرك قد تعارفت الوجوه
وقوله:
قلت مذ سل فؤادي ... وانثنى عني وولى
يا رشيق القد رفقا ... بمحب مات ملا
وقوله:
بأبي من رنت وماست دلالا ... ربة الحسن والحياء البديع
لا تقل كالغزال والغصن قدا ... لا ولا البدر فهي ست الجميع
وقوله:
قد كان لي فرو جديد طالما ... قد كنت أقلبه بغير تكلف
واليوم لي قد قال حين قلبته ... قلبي يحدثني بأنك متلفي
وقوله:
ووالله إني ما تركتك سلوة ... ولم يحل لي هجر ولا مر في بالي
ولكن أرى القالين زادوا وإنني ... عليك الذي يخشى من القيل والقال
وقوله:
بي سكري قد تلج ثغره ... وحلا ممازجة بماء الكوثر
بالله حلو حديثه كرر على ... سمعي فما أحلى حديث السكري
وقوله:
وعدت أصيلا بالزيارة بكرة ... لما رأتني بالصدود بخيلا
فعليك يا طرفي الرقاد محرم ... حتى تشاهد بكرة وأصيلا
وقوله:
بأبي رشا قد دق منه خصره ... عذب اللمى حلو القوام رشيق
مالي جعلت تغزلي في خصره ... إلا لعلمي فيه وهو دقيق
وقوله:
يا جارة لصدودها لي ألبست ... ثوب السقام ولم تخف من عار
دمعي لطول جفاك أضحى جاريا ... فعلام لا ترعي حقوق الجار
وقوله:
وقالوا هلال الأفق في الوضع قد حكى ... لحسن الذي تهواه واتضح الحق
فقلت نعم حاكى الهلال جبينه ... ولكن غدا في الحسن بينهما الفرق
وقوله:
تهنيك تاج الدين من خلعة ... في حسنك الباهي عليها خفر
من فلك الأزرار قد أطلعت ... شمسا وبدر التم منها ظهر
وقد غدا السعد لها ناظرا ... لما بدا الطالع فيها القمر
وقوله:
يا عاذلي عاد لي مفتاح وانتعشت ... روحي فكن عاذري ان رمت اصلاحا
أما ترى لي أبواب الهنا فتحت ... لما اتخذت لها في الحب مفتاحا
وقوله:
إن عيني مذ غاب مثقال عنها ... أورثتني البكا وعز اصطباري
وعلى مثل مثقال عيني تبكي ... لا على درهم ولا دينار
وقوله:
أتيتك أعرج يا ذا العلا ... وغير نوالك لا أرتجي
عساك تحدث عن جابر ... حديث صحيح عن الأعرج
وقوله:
رب بدر بات يجلي ليلة ... شمس راح من لماه معتصر
وعجيب تحت أذيال الدجى ... اجتماع الشمس عندي والقمر
وقوله:
فرطت في ذا الخريق حتى ... مني قد استملك الخطاما
وصحت إذ لم أجد سبيلا ... إليه يا حسرتي على ما
وقوله:
تهن بشكل مولود سعيد ... بديع الوصف زاد على السماع
أتى والشمل مجتمع فأكرم ... بشمل قد تولد في اجتماع
وقوله:
سهام عينيك دائي ... وأصل ما بي وسقمي
وقد أخذت نصيبي ... منها ورحت بسهمي
وقوله:
لقد طال بي وجدي ولازمني الأسى ... وضاقت على المشتاق في حبك السبل
وقد أصبح القلب الكئيب كما ترى ... معنى بوراق وما عنده وصل
وقوله:
عذار حبي لام ... والثغر كالميم أضحى
وعذلي فيه ولوا ... مذ عاينوا الصدغ كالحا
وقوله:
كتبت إليك أشكوا شجو حالي ... وما ألقاه من ألم افتقاري
لعل إذا قرأت اليوم خطي ... ترق لحالتي يا خير قاري
وقوله:
أمولاي إن الفقر قد صال وقد طغى ... ومال على ضعفي وبالغ في جرحي
لعل إذا ضاقت وسدت مذاهبي ... أتوب ونصر الله يؤذن بالفتح
وقوله:(1/376)
أنا قاصم الأعداء في يوم الوغى ... ومجدل الفرسان عند طعان
وإذا تكنَّت في الحروب أنالها ... وتطاولت ناديت يال سنان
وقوله:
أهديتموا لي لبنا طيبا ... في طاسة عن فضلكم تعرب
أمسكها والله عيبا أرى ... وردها فارغة أعيب
وإنما أطعمني فيكم ... أصلكم واللبن الطيب
وقوله:
ألا يا بني الروم القتال فدونكم ... فأنا تدرعنا الحديد إلى الحشر
وما برحت للفتح تتلو رماحنا ... وأسيافنا تتلو بها آية النصر
وقوله:
علقتها خودا لها مقلة ... تزري بالحاظ الظبا السارحة
يا فتية العشق خذوا حذركم ... فإنما مقلتها جارحة
وقوله:
رجوتك عونا فخاب الرجا ... وقل الوفاء وعز الطلب
لذا انقطع الحبل ما بيننا ... وقد زاد قبضي بهذا السبب
ومن بدائع العلامة ابن الحجاج الغرناطي قوله في الحافظ علم الدين أبي القاسم بن محمد بن يوسف البزالي:
نوى النوى علم الدين الرضى فأنا ... من بعد فرقته بالشام ذو ألم
فلا تلمني على حبي دمشق فقد ... أصبحت فيها زمانا صاحب العلم
وقال في الحافظ شمس الدين الذهبي:
رحلت نحو دمشق الشام متبعا ... رواية عن ذوي الأحلام والأدب
ففزت في كتب الآثار حين غدت ... تروى بسلسلة عظمى من الذهب
وقال في قاضي القضاة العالم الشهير صاحب التفسير عماد الدين الكندي:
ولما اختبرت ذوات الورى ... تعجبت من حسن ذات العماد
فتلك التي لم أكن مبصرا ... مدى عمري مثلها في البلاد
وقال:
بكيت شجا ففاض الدمع يحكي ... يتامى الدر إذ يهوي تواما
وسلت من محاجرها سيوفا ... فخفت على المحاجر واليتاما
وقال:
لعمرك ما ثغره باسم ... ولكنه حبب لاعب
ولو لم يكن ريقه مسكرا ... لما دار من حوله الشارب
وقال وقد وقف حاجب السلطان على عين ماء ببعض الثغور وشرب منها:
تعجبت من ثغر هذي البلاد ... ومولاي من عينها شارب
فلله ثغر أرى شاربا ... وعين بدا فوقها حاجب
وقال:
وحمراء في الكأس مشمولة ... تحث على العود في كل بيت
فلا غزو أن جائني سابقا ... إلى الأنس خل بحث الكميت
وقال:
أتوني فعابوا من أحب جماله ... وذاك على سمع المحب خفيف
فما فيه عيب غير أن جفونه ... مراض وإن الخصر منه ضعيف
وقال:
أيا عجبا كيف تهوى الملوك ... محلي وموطن أهلي وناسي
وتحسدني وهي مخدومة ... وما أنا إلا خديم بفاس
وقال:
لي المدح يروى حيث كنت كأنما ... تصورت مدحا للورى وثناء
ومالي هجاء فأعجبن لشاعر ... وكاتب سر لا يقيم هجاء
وقال:
ومهاة تقول أن هي كلت ... ودعا للمزاج خل ممازج
دار ذا الردف إن في الأزر مني ... رمل يبرين يا طبيب وعالج
وقال:
أيا ضوء الصباح ارفق بصب ... تسيل دموعه في الخد سيلا
وكنت بليلة ليلاء طالت=فها أنا في الورى مجنون ليلى وقال يخاطب شيخه سيف الدين:
لمولاي سيف الدين في الفقه بيننا ... مقام اجتهاد ليس يلحقه الحيف
فتقليده فرض على أهل عصرنا ... ولا عجب عندي إذا قلد السيف
وقال:
رعى الله معطار النسيم فإنه ... رأى من غصون البان ما شاء من عطف
وأيدي من حديث الغيث وهو مسلسل ... لذاك لعمري ليس يخلو من الضعف
وترشحت التورية بكون المحدثين يقولون الحديث المسلسل لا يخلو من الضعف, ولو في التزام التسلسل, مع كون متن الحديث صحيحا, كما قرر في محله.
وقال:
نظرت إلى روض الجمال بخده ... وسقيته دمعا به العين تكلف
فصح حديث الحسن عن ورد خده ... وإن كان أضحى وهو راو مضعف
ويعجبني قول الشيخ علاء الدين المارديني:
أنظر صحاح المبسم السكري ... رواية صحت عن الجوهري
وصحح النظام في ثغره ... ما قد رواه خاله العنبري
معتزلي أصبح لما بدا ... في خده عارضه الأشعري
قد كتب الحسن على خده ... يا أعين الناس قفي وانظري
أمطر دمعي عارض قد بدا ... يا مرحبا بالعارض الممطر(1/377)
وجه لأزهار إليها جامع ... من لي بذاك الجامع الأزهر
أشهرت لحظا يا فقيها به ... قد راحت الروح على الأشهر
وللأستاذ الشيخ محمد البكري:
أنا المعشوقة السمرا ... وأجلى في الفناجين
وعود الهند لي طيب ... وذكري شاع في الصين
وللشيخ أحمد المدني المعروف باليتيم:
أرسلت رسلي لقهوة سحرا ... فما أتوا سرعة من الكسل
فقيل صفها فقلت مقتبسا ... جاءت على فترة من الرسل
وله أيضاً:
ما الحال قالوا صف لنا ... فلعل ما بك أن يزاح
فأجيب ما يخفاكم ... حال السراج مع الرياح
وقد سبقه لمثله في كثير من شعره السراج الوراق.
وللشيخ عبد الرحمن بن كثير المكي:
كبار زماننا أضحوا صغارا ... وقد غضب الزمان على الكبار
كان زماننا من قوم لوط ... له ولع بتقديم الصغار
وللعلامة محمد بن حجر المكي:
يا ذا الذي من خاله حبة ... سوداء في الخد الشديد الصفا
دعني أقبلها تزيل الضنى ... فالحبة السوداء فيها الشفا
وله في مليح اسمه علي:
لعلي محاسن ... ما لها قط مشبه
وبشامات خده ... كرم الله وجهه
ولمحمد الخياط المحلي:
لنا صاحب ما زال يتبع بره ... بمن وذاك البر بالمن لا يسوى
سلوناه لا بغضا ولا عن ملالة ... ولكن لأجل المن تستعمل السلوى
ومثله قول التلمساني: هواكم هو المن الذي ماله سلوى=وحبكم عندي هو الغاية القصوى ومن محاسن الأردبيلي قوله في غلام يهودي:
من آل إسرائيل علقته ... أوقعني بالصد في التيه
قد أنزل السلوى على قلبه ... وأنزل المن على فيه
وللشيخ يوسف المغربي في رجل يعرف بالعاملي:
إن اليهودي غدا عاملا ... في الناس بالجور وبالباطل
يعمل في الدين كما يشتهي=فلعنه الله على العامل وله من قصيدة أخرى:
اشرب ولا تعيب على عاذل ... فشله في الناس لم يعتب
وإن تسكن يا سيدي طالبا ... درا وياقوتا من المطلب
فالكأس والصهباء فيها المعنى ... فخذ حديث الكنز عن مغربي
وله يمدح أستاذه يحيى الأصيلي:
مدحت البحر إذ أضحى يحاكي ... علوم البر ذي الفخر الجليل
وإني إن مدحت يوما ... فمدحي فيه للبر الأصيلي
وللشيخ يحيى الأصيلي:
من منصفي من ظالم ... بيت المظالم بيته
أخفيه خشية بأسه ... وأود لو سميته
وهذا كقول السراج الوراق:
رزقت بنتا ليتها لم تكن ... في ليلة كالدهر قضيتها
فقيل ما سميتها قلت لو ... مكنت فيها كنت سميتها
وقد قيل أن التورية لم تعقد له, لأنه إنما قال: سممتها, وقيل: مثله يسمى إبهام التورية, والصحيح أنه من باب (تقضى البازي) بمعنى تقضض وفي كلام بعضهم ما يقتضي اطراده.
وله أيضاً:
إلا أن لي يا آل صديق أحمد ... لشمس الهدى منكم به الكرب ينجلي
فلي منه أستاذ ولي منه مرشد ... ولي منه قطب ذو اتصال ولي ولي
ومثله قول ابن مكانس:
نعم نعم محضتهم ... صدق الولا تطولا
وما رعوا عهدا ولا ... مودة ولا ولا
وله أيضاً:
لي صاحب متمرض ... متقلق في ذاته
يا رب صبرني عسى ... أقوى على مرضاته
وهذا مأخوذ من قول جارية المعتمد بن عباد لمولاها: يا مولاي لا نقوى على مرضاتك في مرضاتك.
وله:
أتيت جنينة أستاذنا ... وقد جمعت كل معنى كمل
بها آي ورد وآس به ... تفرق شمل عداه وفل
والفل نوع من الياسمين بلغة أهل اليمن, ذكي الرائحة, ولم يذكره أهل اللغة, فهو لغة مولدة, وسماه البيطار في مفرداته: النمارق.
وكتب لخالة بالإسكندرية:
لخالي في الإسكندرية رغبة ... ومن بعده قد حال لي في الهوى حال
فإن يك أضحى ثغرها موطنا له ... فيا حبذا في ذلك الثغر لي خال
وله:
مذ بان من أهوى همت ... عيني بماء منهمر
فقلت للقلب إذا ... لم تلق صبرا فاستعر
وللشيخ عبد الواحد الرشيدي:
قلت للنائب الذي ... قد رأينا معائبه
لست عندي بنائب ... إنما أنت نائبه
وهو كقول آخر:(1/378)
وقاض لنا حكمه باطل ... وأحكام زوجته ماضيه
فيا ليته لم يكن قاضيا ... ويا ليتها كانت القاضية
وللشيخ محمد بن بدر الدين الزيات في الفاضل العزي:
إلى الفاضل العزي وجهت مطلبي ... لأظفر منه بالذخيرة والكنز
وقالوا تذلل تبلغ المجد والعلى ... فقلت لهم قد نلت ذلك بالعز
ولصفي الدين بن محمد العزي في مليح متجانس:
علي رفقا بمن ذابت حشاشته ... صب أزل الكرى عن مقلتيه وصب
حديد قلبك يا نحاس يمنعه ... لجين جسمك والنوم المصون ذهب
وله في صديقه الصحافي:
يا عاذلي في هواه ... تلاف قبل تلافي
وهات لي الدن واجمع ... بيني وبين الصحافي
وللشيخ أحمد بن عواد في بعض الحبوش:
حبشية حسنية أبصرتها ... تهتز كالغصن الرطيب المثمر
فسألتها عن جنسها ما خفي ... قالت فما تبغيه جنسي أم حري
وهذا كقول آخر:
بي أمحري ناعم الخدين ذو ... شرطين فعلهما كفعل الخنجر
لم أدر مذ صافحت صفحة خده ... ورد زها هو أم خديد أم حر
وها هو هنا أمر لا كما قال فيه:
من كل معنى بديع لو يمر على ... فهم السقيم ولو في نومه شفيا
وقلما أبصرته عين ذي أدب ... إلا وراح بذاك البرء مكتفيا
ويعجبني قول بعض المتأخرين:
أسرفت في الصد فخف خالقا ... لا يرتضي إسراف مخلوق
يا هاجرا من لم يذق وصله ... جرعته الصبر على الريق
وللشيخ شهاب الدين أحمد المعروف بقعود:
لي حبيب من هجره زاد سكري ... وسلوي هواه أقبح ذنب
جاءني داعيا وقال أنت إني ... أولم اليوم قلب المحب
ومثله لابن مكانس:
قال خلي لحبيبي صل فتى ... فيك قد أضحى معنى مغرما
قال هل يولم إن واصلته ... قال إن فاز بثغر أو لما
وله: وحقك لو أتلفت مالي جميعه=لما رضي الواشون فيك مكارمي
ولو أنني أولمت ألف وليمة ... لأجلك لم يشكر عذولي ولا يمي
وللشيخ سري الدين بن الصايغ الحنفي:
قلت لتاج الدين في خلوة ... وقد علاه عبده الأكبر
التاج يعلو فوقه غيره ... قال نعم ياقوت أو جوهر
وللشيخ محي الدين الغزي (أحمد الدين الغزي ابنه) :
يا راكب البغلة الشموص ... وقائد المهر والقلوص
بساحل المرج لا تعرج ... وانزل على ساحل الخصوصي
بساحل المرج لا تعرج ... وانزل على ساحل الخصوصي
أحب مصر التي تسامت ... ففضلها جاء بالنصوص
لأن مقت الإله ربي ... قد حل في الروم بالخصوص
وللشيخ نور الدين بن الجزار الشافعي في (الوجه) وهو منهل معروف بطريق مكة شرفها الله تعالى:
ولما رأيت الوجه سال من الحيا ... وقد طاب فيه للحجيج مقام
وعاينت ركب الحج حل بسفحه ... وقد ضربت في جانبيه خيام
ومدوا إلى الغيث الهطول أكفهم ... فجاد عليهم بالعطاء غمام
فقلت على الوجه المليح تحية ... مباركة من ربنا وسلام
وللقيراطي فيه أيضاً:
أتيت إلى الحجاز فقلت لما ... تبدى وجهه لي وارتويت
وكم في الأرض من وجه مليح ... ولكن مثل وجهك ما رأيت
وللحافظ ابن حجر العسقلاني وقد مر به فوجده مسننا:
أتينا إلى الوجه المرجى نواله ... فشح ولم يسمح بطيب نداه
وأسفر عن وجه وما فيه من حيا ... فقلت دعوه ما أقل حياة
ولما عاد إليه وجده ممطرا قد صفت مشاربه واخضرت جوانبه, وطاب به القيل فقال:
أرانا الجميل الوجه معتذرا لنا ... فأوليته شكرا وما زلت مثنيا
وأطرقت نحو الأرض رأسي خجلة ... وما أسطعت رفع الرأس من كثر الحيا
وللأديب أبي عبد الله الفيومي فيه:
ولما وجدنا الوجه عند وروده ... خليا من الماء القراح فناؤه
زممت مطي ثم قلت ترحلوا ... فلا خير في وجه إذا قل ماؤه
وللشهاب المنصوري في مليح اسمه يونس:
لست لأغصان النقا مادحا ... لأن حبي قده أميس
ولست بالأقمار مستأنسا ... لأن عندي قمري يونس
وللشيخ نور الدين علي العسيلي:
بكفك طوفان تروى به الورى ... وعهدي بالطوفان يأتي بتنكيد(1/379)
ولا غرو أن أرست بنا سفن الرجا ... ببابك يا مولى النوال على الجودي
وله في عيد يسمى فرجا:
إني ابتليت بزنجي قبائحه ... ليست تعد على ما فيه من عوج
كل الأمور إذا ضاقت لها فرج ... إلا أموري إذا ضاقت فمن فرج
وللشيخ علي الحنائي:
أرى من صدغك المعوج دالا ... ولكن تقطعت من مسك خالك
فصارت داله بالنقط ذالا=فها أنا هائم من أجل ذلك وهو أحسن من قول الخوارزمي:
وأراك خديه ولاح عليهما ... صدغان ذو خال وآخر خالي
فكأن ذا ذال خلت من نقطة ... وكأن ذا دال ونقطة ذال
ومن قول أبي بكر الزوزني:
نقطت خدك ذالا ... فالويل من شكل ذلك
لو أن ذلك ذالي ... سجدت من أجل ذلك
وله:
أسروه من ثغر العدو فأصبحوا ... أسرى بمبسمه الشهي وثغره
أسروه كي يمسي أمير جماله ... فهو الذي ملك الفؤاد بأسره
وله:
وافي وأنفاسي تصعد من جوى ... فقال أمن كأس الصبابة تغتبق
وهل تحت رق الحب قلبك في لظى ... فقلت أجل ان القلوب لتحترق
ولابن المبلط نحوه:
يا نائما وقنه ... من فوقه كفحل جن
يحقنه بمائه ... مالي أراك تحت قن
وللشهاب المنصوري:
قلبي بحبك قد علق ... فامنن له وصلا ورق
يا من يحمل مهجتي ... في حبه ما لم تطق
ها قد ملكت جوا نحي ... فانظر تجدها تحترق
عيناك تسترق الحشا=ولكل حر تسترق وللأديب ماميه الرومي:
قال عواذلي بدعد في الهوى ... فتنت أم بزينب وسلما
أم الرباب أم سعاد قل لنا ... أجبتهم إن هي إلا أسما
وله:
إذا شمت برق الأبرقين على النقا ... تذكرت ثغرا قد تبسم بالضيا
ولو شاهدت سحب الغمام مدافعي ... وما قد جرى منها لأدركها الحيا
وله:
فديت من الهلال غدا نطاقه ... يصد وليس للهجران طاقه
وكم أدنى فؤادا في هواه ... إلى الأشجان معصمه وساقه
وله:
لمرسل الدمع فوق الوجنتين نبا ... وأمر قلبي غدا بين الورى عجبا
صبا إلى وصب يشكو تحكمه ... فيا له من فؤاد قد شكا وصبا
وله:
هل من جانب الحجاز هلال ... هام فيه قلبي الشجى ورامه
ولقد لعلع المنى لمحب ... قد رأى بارق العذيب وشامه
وله:
ميز بني العسال تلقى منهم ... رشا يصول بلحظه الغزال
لا غرو إن طعن الفؤاد قوامه ... فالطعن منسوب إلى العسال
وله:
بي غزال قد غزاني لحظه ... فاطر القلب بصاد وسبا
جسمه الأبيض يحكي فضة ... وبه كنز اصطباري ذهبا
وله:
هذا زمان أصبحت فيه ... غني فضل فقير مال
إن كنت أضحيت ذا افتقار ... فهل لأهل الغنى كمالي
وله:
يا تاج دين سما بين الأنام ومن ... غدا مدى الدهر كهف الخائف الراجي
أهديت در نظامي بالمديح لكم=والدر أحسن ما يهدى إلى التاج وللقاضي تاج الدين المالكي في البرقع الشرقي المعروف بالحجاز وهو أول من ابتكر هذا المعنى:
بدا البرقع الشرقي كالشفق الذي ... على فرقه لاح الهلال بلا فرق
وأبدى عجيبا في عجيب لأنه ... أرانا هلال الأفق يبدو من الشرق
وتلاه القاضي أحمد بن عيسى المرشدي فقال:
وخود كبدر التم في جنح مضون ... حماها عن الأبصار برقعها الشرقي
سوى طرة مثل الهلال بدت لنا ... على شفق والفرق كالفجر في الأفق
فقلت لها لاح والفجر طالع ... من الغرب أم لاح الهلال من الشرق
وللقاضي تاج الدين المالكي أيضاً:
غنيت بحلية حسنها ... عن لبس أصناف الحلي
وبدت بهيكلها البديع ... تقول شاهد واجتلى
تجد المحاسن كلها ... قد جمعت في هيكلي
وتلاه أيضاً القاضي أحمد المرشدي فقال:
أنا ربة الحسن الجلي ... لمؤملي المتأمي
صدري ووجهي منية ... للمجتني والمجتلي
فالحظ بديع محاسني ... من تحت أنواع الحلي
تجد المحاسن والحلي ... جمالها من هيكلي
وللقاضي يحيى بن سيد عمر الحسيني المكي في ذلك:
أفدي كعوبا ذات حسن ناهدا ... قد صاغها الباري بأجمل هيكل(1/380)
خطرت بهيكل قدها وبهيكل ... في جيدها الباهي السني المنهل
بين الغواني المبدعات بحسنها ... وجمالها مهدي الجمالة للحلي
وتقول عجبا بينهن ورفة ... هل هيكل في الحسن يحكي هيكلي
وأنشدني الوالد لنفسه في ذلك:
خود جلا الأنوار نور جبينها ... والفرع منها كالبهيم الأليل
تزهو بجيد الريم إلا انه ... هاد إلى الوجه المنير الأجمل
قالت لصب قد تزايد وجده ... من صدها بتعزز وتدلل
أنا نزهة الأبصار ذاتا فاجتلي ... مني محاسن قد هواها هيكلي
وأنشدني لنفسه في المعنى أيضاً:
خود جلالي وجهها ... بدرا منيرا معتلي
قالت لمدنف هجرها ... بتعزز وتدلل
أنا نزهة الأبصار ذا ... تا والبها بي يعتلي
ومحاسن الدنيا جميعا ... قد هواها هيكلي
وللشيخ أحمد الجوهري المكي:
وأهيف كالسيف ألحاظه ... وقده المياس كالسمهري
أخجلني ثغر له باسم ... فاعجب لثغر مخجل الجوهري
وله:
قال عذولي إذ رأى ... أخا الغزال الأعفر
هذا الذي مبسمه ... فتت قلب الجوهري
وله:
جرح اللحظ خال خد غلام ... فضح البان قده باعتداله
فإذا ثار طاعنا لفؤادي ... قال خذها من طالب ثار خاله
ومما قلته أنا في هذا الباب قولي:
رأيت قوما من بني هاشم ... دنوا من العليا وما أبعدوا
قد وصفوا بالحمد آباءهم ... وأظهروا في المجد ما شيدوا
حتى إذا ما سألوا عن أبي ... قلت لهم أن أبي أحمد
وقلت:
لما حنى الطرف ورد وجنته ... عذب قلبي بنار هجران
فقلت قد جرت يا فديتك بي ... عذبت قلبي وطرفي الجاني
وقلت:
لما رأت عيني الذي ... عاد لقربي بعد أبعادي
قالت لقلبي لا تشك الصدى ... ما أقرب العين من الصادي
وقلت:
يا حسنها جارية أقبلت ... في الليل والليل بها كالنهار
لما رأتني خفضت طرفها ... فقلت ما أحسن خفض الجوار
وقلت:
قال العواذل لما ... رأوا أخا البدر لاحا
وعلني من لماه ... ما زاد قلبي ارتياحا
أراح يسقيك شهدا ... من ثغره قلت راحا
وقلت من قصيدة:
بدا بدرا ولاح لنا هلالا ... وأشرق كوكبا واهتز غصنا
وثنى قده الحسن ارتياحا ... فهام القلب بالحسن المثنى
وقلت من أخرى:
لها خد تسعر جل ناري ... به لما أراني جلناره
توق أخا الغرام رضاب فيها ... فكم شقت حلاوته مراره
وقلت:
ورب ساق قلبه قلبه ... أفديه من قاس ومن ساق
تحارب العشاق في حبه ... فقامت الحرب على ساق
وقلت:
لله روض بات نرجسه به ... ساهي الجفون ملاحظا نمامه
والورد رومي الملابس والحلى ... أو ما تراه مزررا أكمامه
وبيت بديعية والبرهان صفي الدين الحلي قوله:
خير النبيين والبرهان متضح ... في الحجر نقلا وعقلا واضح اللقم
وبيت بديعية ابن جابر الأندلسي قوله:
لا يرفع العين للراجين يمنحهم ... بل يخفض الرأس قولا هاك فاحتكم
ربيت بديعية عز الدين الموصلي قوله:
يمشى الورى خلفه رسل وغيرهم ... يتلون آثار ما أوتي من الحكم
وبيت بديعية ابن حجة قوله:
أوصافه الغر قد حلت بتورية ... جيدي وعقد لساني بعد ذا وفمي
وبيت بديعية الطبري قوله:
خير الخلائق ذو جد يناصره ... وعمه للعدى ورى بغزوهم
وبيت بديعيتي هو قولي:
ردت بمعجزه من غير تورية ... له الغزالة تعدو نحو أفقهم
وبيت بديعية المقري قوله:
لا تطعني هند فالأنساب واحدة ... ونحن أن نفترق نرجع إلى حكم
أراد: حكم بن سعد العشيرة.
تجاهل العارف
تجاهل العارف الباغي فقال له ... أمعجز ما نرى أم سحر مجترم
تجاهل العارف هو كما سماه السكاكي: سوق المعلوم مساق غيره لنكتة. قال: ولا أحب تسميته بالتجاهل, لوروده في كلام الله تعالى.
والتسمية الأولى لابن المعتز, وخصه بعضهم بأن يكون على طريق التشبيه, ليوهم أن شدة التشبيه بين المشبه والمشبه به أحدثت التباس أحدهما بالآخر, وفائدته المبالغة كقول البحتري:(1/381)
ألمع برق سرى أم ضوء مصباح ... أم ابتسامتها بالمنظر الضاحي
فإنه يعلم أن الابتسام غير لمع البرق وضوء المصباح, لكنه لما قصد المبالغة في وصفه باللمعان والضياء, استفهم استفهام من لا يعلم, حتى كأنه من شدة الشبه بينهما التبس عليه أحدهما بالآخر, والمشهور الأول, أعني سوق المعلوم مساق المجهول, سواء كان على طريق التشبيه أو غيره, لكن لا بد له من نكتة, كالمبالغة في المدح, أو الذم, أو التعظيم, أو التحقير؛ أو التوبيخ؛ أو التقرير؛ أو التدله؛ أو التعريض, أو غير ذلك.
قال التفتازاني: ونكت التجاهل أكثر من أن يضبطها العالم.
فمما ورد منه للمبالغة في المدح قول حسان بن ثابت:
أنسيم ريقك أخت آل العنبر ... هذا أم استنشأته من مجمر
وبديد ثغرك ما أرى أم لمحة ... من بارق أم معدن من جوهر
وقول مهيار الديلمي رحمه الله وفيه التعظيم والتدله:
أمن بابل أم من نواظرك السحر ... أمن حانة أم من مراشفك الخمر
وهل ما أراه أم حادث النوى ... وهل هو شوق بين جنبي أم جمر
سلوا بعدكم وادي الحمى ما أساله ... دمي أم دموع العاشقين أم القطر
وقول ظافر بن القاسم الحداد:
يا أيها الرشأ الذي من طرفه ... سهم إلى حب القلوب نفاذه
در يلوح بفيك من نظامه ... خمر يجول عليه من نباذه
وقناة ذاك القد كيف تقومت=وسنان ذاك اللحظ ما فولاذه وقول مهذب الدين الطرابلسي:
من ركب البدر في صدر الرديني ... وموه السحر في حد اليماني
وأنزل القمر الأعلى إلى فلك ... مداره في القباء الخسرواني
وقول عمر بن أبي ربيعة:
نظرت إليها بالمحصب من منى ... ولي نظر لولا التحرج عارم
فقلت أشمس أم مصابيح راهب ... بدت لك خلف السجف أم أنت حالم
بعيدة مهوى القرط أما لنوفل ... أبوها وأما عبد شمس وهاشم
ومما ورد من هذا النوع للمبالغة في التعجب, وقد نص الشاعر عليه قول نصر بين سيار:
أرى خلل الرماد وميض جمر ... ويوشك أن يكون لها ضرام
فإن النار بالزندين تورى ... وإن الحرب أولها كلام
أقول من التعجب ليت شعري ... أأيقاض أمية أم نيام
ومنه للمبالغة في المدح قول ابن مليك الحموي:
أوميض برق بالحمى يتوهم ... أم ثغر صبح نواله يتبسم
وسحاب مزن أم غمام ماطر ... أم بحر جود بالمكارم مفعم
وأخو حروب عند مشتبك القنا ... أم فيلق قد سار وهو عرمرم
ومحله حرم غدا أم ملجأ ... أم كعبة الراجين حين تيمموا
وقوله:
طراز ذاك العذار من رقمه ... ودر دمعي بفيه من نظمه
وخاله فوق كنز مبسمه ... بالمسك قفلا عليه من ختمه
وقول التلعفري:
أتلك قدود أم غصون موائد ... ونور نضيد فوقها أم قلائد
وهاتيك غيد آنسات نواعم ... بدت أم ظباء نافرات شوارد
وقولي:
معاطف أم رماح سمهريات ... وأعين أم مواض مشرفيات
يا قاتل الله ألحاظا سفكن دمي ... أكان عندي لها في الحب ثارات
وقلت بعده:
سل عن دمي عندما تلقاك مسفرة ... تخبرك عنه الخدود العندميات
ما بلبل القلب من وجد ومن وله ... هواي لولا العيون البابليات
وما أبرئ نفسي إنها حكمت ... بالحب فاحتكمت فيها الصبابات
وليس بدعا فكم بالعشق قد بليت ... قبلي نفوس عن البلوى أبيات
يا عاذلي في الهوى أسرفت في عذلي ... وكأن يكفيك لو أجدت إشارات
كيف السلو وأشواقي في مضاعفة ... وبين حبي وسلواني منافات
هيهات قلبي عصاني في محبتهم ... لما غدا وله في الحب طاعات
وما ربوع الهوى يوما بدارسة ... وقد وفت لي الحسان العامريات
لي من سعاد سعادات أفوز بها ... يوم اللقاء ومن لبنى لبانات
وفي غرامي سر لا أبوح به ... وللمحبين أسرار خفيات
لا أنكرن الهوى من بعدما تليت ... علي من سور الأحباب آيات
فخذ صحيح الهوى عني ومسنده ... فكم بإسناده عندي روايات
ومن يناظرني فيه وقد نشرت ... على مفارق لهوي منه رايات
واستفرغته صباباتي فما بقيت ... بعدي لأهل الهوى إلا صبابات(1/382)
ومن البديع في هذا الباب قول ابن هاني المغربي من قصيدة يمدح جعفر بن علي أمير الزاب:
أبني العوالي السمهرية والموا ... ضي المشرفية والعديد الأكثر
من منكم الملك المطاع كأنه ... تحت السوابغ تبع في حمير
يحكى أنه لما أنشدها ترجل العسكر كله, ولم يبق أحد راكبا سوى المعز, فلا يعلم بيت شعر كان جوابه نزول عسكر جرار غيره.
وقول القاضي الفاضل, يمدح الملك العادل:
أهذه سير في المجد أم سور ... وهذه أنجم في السعد أم غرر
وأنمل أم بحار والسيوف لها ... موج وافر ندها في لجها درر
وأنت في الأرض أم فوق السماء وفي ... يمينك البحر أم في وجهك القمر
وقول ابن نباتة السعدي:
والله لا أدري أكانت مدامة ... من الكرم تجنى أم من الشمس تعصر
إذا صبها جنح الظلام وعبها ... رأيت ظلام الليل يطوى وينشر
وقول الآخر:
والله ما أدري بأي صفاته ... ملك القلوب فأوثقت في أسره
أبوجهه أم شعره أم نحره ... أم ثغره أم ردفه أم خصره
ومما ورد للتقرير قول مهيار الديلمي:
طرفك والمسحور يقسم بالسحر ... أعمدا رماني أم أصاب ولا يدري
وما أحسن ما قال بعده, ولم يخرج بالاستطراد عما نحن فيه:
تعرض لي في القانصين مسدد ... الإشارة مدلول السهام على النحر
رنا اللحظة الأولى فقلت مجرب ... فكررها أخرى فأحسست بالشر
فهل ظن ما قد حرم الله من دمي ... مباحا له أم نام قومي على الوتر
ومن بديع هذا النوع في المبالغة في النحول, قول أبي العباس أحمد بن محمد النامي:
حقا أن قاتلت زرود ... وإن عهودها تلك العهود
وقفت وقد فقدت الصبر حتى ... تبين موقفي أني الفقيد
وشكت في عذالي فقالوا ... لرسم الدار أيكما العميد
ومنه قول الثعالبي:
لي فاتن سيد يعلمني ... بحسنه كيف يعبد الصنم
لما رآني وفي يدي قلم ... لم يدر مولاي أينا القلم
وقول السري الرفاء:
إذا ما الراح والأترج لاحا ... لعينك قلت أيهما الشراب
هتف الصبح بالدجى فاسقنيها ... خمرة تترك الحليم سفيها
لست أدري لرقة وصفاء ... هي في كأسها أم الكأس فيها
وقول أبي إسحاق الصابي: تورد دمعي إذ جرى ومدامتي=فمن مثل ما في الكأس عيني تسكب
فو الله ما أدري أبالخمر أسبلت ... جفوني أم من عبرتي كنت أشرب
وقول أحمد بن المغلس:
أبروق تلألأت أم ثغور ... وليال دجت أم شعور
وغصون تأودت أم قدود ... حاملات رمانهن الصدور
وقول القاضي أبي الحسن علي بن عبد العزيز:
من أين للعارض الناري تلهبه ... وكيف طبق وجه الأرض صيبه
هل استعان جفوني فهي تنجده ... أم استعار فؤادي فهو يلهيه
وقول أبي الفتح المحسر بن علي البديع من أهل حمص:
بالذي ألهم تعذي ... بي ثناياك العذابا
ما الذي قالته عينا_ك لقلبي فأجابا ومنه في المدح قول البديع الهمذاني:
تعالى الله ما شاء ... وزاد الله إيماني
أأفريدون في التاج ... أم الإسكندر الثاني
أم الرجعة قد عادت ... إلينا بسليمان
وقول مهيار الديلمي:
أتراها يوم صدت أن أراها ... علمت أني من قتلى هواها
أم رمت جاهلة ألحاظها ... لم تميز عمدها لي من خطاها
وما أحسن ما قال بعده:
لا ومن أرسلها مفتنة ... تجرح النسك بجمع وقضاها
ما رمى نفسي إلا واثق ... أنه يقضي عليها من رماها
وقول شيخنا العلامة محمد بن علي الشامي:
ليت شعري أمليك في الورى ... أنت يا إنسان عيني أم ملك
وقولي في مطلع قصيدة:
من عم طلعتك الغراء بالبلج ... وخص مبسمك الدري بالفلج
وموه السحر في جفنيك فاتفقا ... على استلاب النهى بالغنج والدعج
وضاعف الورد في خديك حين بدا ... ريحان عارضك السبكي بالضرج
وقول مهيار الديلمي:
سألت طيبة ما هذا النحول ... أسقام باح أم هم طويل
أهلالا بعد أن أقمر لي ... أم قضيبا ومشى فيه الذبول
أنت والأيام ما أنكرته ... وبلاء المرء يوم أو خليل(1/383)
قتلتني وانبرت تسأل بي ... أيها الناس لمن هذا القتيل
وقول الآخر:
إنسانة الحي أن أدمانة السمر ... بالنهي رقصها لحن من الوتر
ياما أميلح غزلانا شدن لنا ... من هؤليائكن الضال السمر
تالله يا ظبيات القاع قلن لنا ... ليلاي منكن أم ليلى من البشر
وقول شيخنا محمد الشامي:
بالله قولا لنسيم الصبا ... لا تعجلن إني كسير الجناح
وناشدا عني عيون المها ... أكان جدا كسرها أم مزاح
وقوله:
بيني وبينك يا ظباء الأجرع ... عهد أضيع وحق دين مارعي
لي عندكن وديعة وأظنها ... قلبي فإني لا أرى قلبي معي
قالت وقد خطرت بعطفيها الصبا ... هيل الكثيب على كواعب أربع
أي القلوب فإنهن كثيرة ... عندي فقلت أخفهن إذ دعي
وقول أبي فراس:
تسائلني من أنت وهي عليمة ... وهل بفتى مثلي على حاله نكر
فقلت كما شاءت وشاء لها الهوى ... قتيلك قالت أيهم فهم كثر
فأيقنت أن لا عز بعدي لعاشق ... وإن يدي مما علقت به صفر
وما أحسن قول أبي الحسن علي بن محمد التهامي:
وموقف لولا التقى لالتقى ... فيه نجادي ونظام الوشاح
قلت لخلي وثغور الربى ... مبتسمات وثغور الملاح
أيهما أبهى ترى منظرا ... فقال لا أعلم كل أقاح
أبان لنا من درة ودعا ... عقودا وألفاظا وثغرا وأدمعا
وأبدى لنا من دله وجبينه ... ومنطقة ملهى ومرأى ومسمعا
فقلت أوجه لاح من تحت برقع ... أم البدر بالغيم الرقيق تبرقعا
وقوله:
أرأيت طرفك نابل أم سائف ... أم نافث للسحر أم خمار
وقوله:
لعينك وخزة في كل قلب ... أأشفار جفونك أم شفار
وقوله:
أتاني منك ذكر لو ينادي ... به الأموات كان لهم معادا
ثناء أم ثنايا أقحوان ... تبسم عن مباسمها فرادى
ومن التحقير قوله يمدح أبا نصر الكاتب:
من حاتم جودا إذا ذكر الندى ... من سيف ذي يزن من الأقوام
من قسهم نظما ومن فصحاؤهم ... نثرا ومن لقمان في الأحكام
من يوسف في عفة وصباحة ... من مثله علما من الأعلام
ولا يخفى ما في البيت الأخير من المبالغة القبيحة.
ومنه قول الآخر:
أسائل عن ثمالة كل حي ... وكلهم يقول وما ثمالة
فقلت محمد بن سعيد منهم ... فقالوا الآن زدت بهم جهالة
ومنه في المديح قول ابن قلاقس:
أكوكب بشر من جبينك لائح ... وصيب يسر من يمينك سافح
وإلا فماذا البرق والغيم مقنع ... وماذا النوال السكب والجو واضح
ومما هو للتوبيخ قول حسان بن ثابت:
أتهجوه ولست له بكفء ... فشركما لخيركما الفداء
ومما هو للتقرير قول جرير:
ألستم خير من ركب المطايا ... وأندى العالمين بطون راح
ومما هو للذم قول زهير:
وما أدري وسوف إخال أدري ... أقوم آل حصن أم نساء
وفيه دلالة على أن (القوم) للرجال خاصة. قال تعالى "لا يسخر قوم من قوم عسى أن يكونوا خيرا منهم ولا نساء من نساء".
ومما هو للتحقير قول الآخر:
يقولون هذا عندنا ليس ثابتا ... ومن أنتم حتى يكون لكم عند
وقول الباخرزي:
قالت وقد فتشت عنها كل من ... لاقيته من حاضر أو باد
أنا في فؤادك فارم لحظك نحوه ... ترني فقلت لها وأين فؤادي
وقول العميد أبي سهل محمد بن الحسن:
يا دهرنا أينا أشجى ببينهم ... أأنت أم أنا أم ريا أم الدار
وقول أبي الطيب المتنبي:
من الجآذر في زي الأعاريب ... حمر الحلى والمطايا والجلابيب
وما أحسن ما قال بعده منكرا على نفسه هذا التجاهل:
إن كنت تسأل شكا في معارفها ... فمن بلاك بتسهيد وتعذيب
ومما ورد منه للتوبيخ قول الخارجية:
أيا شجر الخابور ما لك مورقا ... كأنك لم تجزع على ابن طريف
وقوله تعالى "فهل عسيتم إن توليتم أن تفيدوا في الأرض وتقطعوا أرحامكم".
فلو عدل عن الاستخبار المتضمن للتوبيخ إلى تصريح الأخبار, بأنكم إذا توليتم أمر الناس أفسدتم, وقطعتم الأرحام, للبسوا له جلد النمر, ولكن إذا تأملوا في الاستخبار أنصفوا وأذعنوا.(1/384)
ومما ورد للتدله, ما وقع كثيرا في خطابهم للأطلال والرسوم والمنازل والأيام وغيرها, والاستفهام عنها كقول مهيار:
نشدتك يا بانة الأجرع ... متى رفع الحي من لعلع
وهل مر قلبي بالتابعين ... أم خار ضعفا فلم يتبع
وقول ذي الرمة:
أمنزلتي مي سلام عليكما ... هل الأزمن اللاتي مضين رواجع
وهل يرجع التسليم أو يكشف العمى ... ثلاث الأثافي والديار البلاقع
ومما ورد للتحقير قوله تعالى حكاية عن الكفار"هل ندلكم على رجل ينبئكم إذا مزقتم كل ممزق إنكم لفي خلق جديد" يعنون محمدا صلى الله وآله وسلم, كأن لم يكونوا يعرفون منه إلا أنه رجل ما, وهو عندهم أظهر من الشمس. قال بعضهم: وينبغي أن يسمى هذا تجهيل العارف, لأنهم جهلوهم مع كونهم عارفين به صلى الله عليه وآله وسلم لغرض فاسد لهم لعنهم الله.
وبيت بديعية الشيخ صفي الدين قوله:
يا ليت شعري أسحر كان حبكم ... أزال عقلي أم ضرب من اللمم
وبيت بديعية ابن جابر قوله:
إذا بدا البدر تحت الليل قلت له ... أأنت يا بدر أم مرأى وجوههم
وبيت بديعية الشيخ عز الدين الموصلي قوله:
وعارف مذ بدا بدري تجاهل لي ... وقال حبك أم ذا البدر في الظلم
وبيت بديعية ابن حجة قوله:
وافتر عجبا تجاهلنا بمعرفة ... قلنا أبرق بدا أم ثغر مبتسم
وبيت بديعية الطبري قوله:
سراة حسن بدوا قلنا سنا قمر ... تجاهلا أم سنا برق على أضم
وبيت بديعيتي هو:
تجاهل المعارف الباغي فقال له ... أمعجز ما نرى أم سحر مجترم
لا يقال ما في هذا البيت من المدح شيء سوى أنه حكاية حال لتجاهل الكفار. لانا نقول المدح في مفهومه, وهو بيان أن من شك في معجزه صلى الله عليه وآله وسلم إنما شك عنادا, وأظهر شكه تجاهلا, فهو من باب تجاهل العارف المعاند, وإلا فمعجزه صلى الله عليه وآله قد تحقق إعجازه لكل ذي بصر, آمن من آمن, وكفر من كفر.
وبيت بديعية المقري قوله:
هل بين بدري وبين الأفق من نسب ... فالكل للجد سام قد عزي ونمي
الاعتراض
وما عليه اعتراض في نبوته ... وهو الصدق فثق بالحق والتزم
الاعتراض, هو أن يؤتى في أثناء الكلام, أو بين كلامين متصلين معنى, بجملة أو أكثر لا محل لها من الإعراب -لنكتة- سوى دفع الإبهام, فخرج الاحتراس. وسماه قدامة -لالتفات الصاحب بن عباد - حشو اللوزينج. ومتى خلا عن نكتة سمي حشوا, فلا يعد حينئذ من البديع, بل هو من المستهجن. والنكتة في الاعتراض كثيرة: - منها التنزيه.
كما في قوله تعالى "ويجعلون لله البنات -سبحانه- ولهم ما يشتهون" فإن قوله (سبحانه) جملة لكونه بتقدير الفعل وقعت في أثناء الكلام, لأن قوله (ولهم ما يشتهون) عطف على قوله (لله البنات) , والنكتة فيه تنزيه الله وتقديسه عما ينسبون إليه.
ومنها الدعاء كما في قول الشاعر:
إن الثمانين وبلغتها ... وقد أحوجت سمعي إلى ترجمان
فقوله (وبلغتها) يفيد الدعاء, وهو جملة معترضة بين اسم إن وخبرها, والواو فيه اعتراضية ليست عاطفة ولا حالية.
ومثله قول عبد الرحيم بن عبد المالك يخاطب أخاه وهو في حبس الرشيد:
فلو بك ما بي لا يكن بك لا أغتدي ... إليك وراح البر بي والتقرب
ومنها التنبيه كما في قوله:
وأعلم فعل المرء ينفعه ... أن سوف يأتي كل ما قدرا
وقول الشاعر:
لو أن الباخلين وأنت فيهم ... رأوك تعلموا منك المطالا
و (منها) تخصيص أحد المذكورين بزيادة التأكيد في أمر علق بهما: كقوله تعالى: "ووصينا الإنسان بوالديه حملته أمه وهنا على وهن وفصاله في عامين أن أشكر لي ولوالديك" فقوله (أن أشكر لي ولوالديك) وقوله (حملته) إلى آخره, اعتراض بينهما, إيجابا للتوصية بالوالدة خصوصا, وتذكيرا لحقها العظيم مفردا. ولذلك قيل: حق الوالد أعظم وحق الوالدة ألزم.
ومنها المطابقة والاستعطاف كما في قول أبي الطيب:
وخفوق قلب لو رأيت لهيبه ... يا جنتي لرأيت فيه جهنما
فقوله (يا جنتي) اعتراض للمطابقة مع جهنم وللاستعطاف.
ومنها بيان السبب لأمر فيه غرابة كما في قول الشاعر:
فلا هجره يبدو وفي اليأس راحة ... ولا وصلة يصفو لنا فنكارمه(1/385)
فإن كون هجر الحبيب مطلوبا للمحب أمر غريب, فبين سببه: بأن في اليأس راحة.
ومنها المدح كما في قول أبي محمد الخازن:
فأية طربة للعفو أن ال ... كريم وأنت معناه طروب
ومما جاء بين كلامين متصلين معنى وهو أكثر من جملة أيضاً, قوله تعالى "قالت رب إني وضعتها أنثى والله أعلم بما وضعت وليس الذكر كالأنثى وإني سميتها مريم" فإن قوله تعالى (والله أعلم بما وضعت وليس الذكر كالأنثى) ليس من قول (أم) مريم وإنما هو اعتراض من كلام الله سبحانه, والنكتة فيه تعظيم الموضوع وتجهيلها بقدر ما وهب لها منه, ومعناه: والله أعلم بالشيء الذي وضعت, وما علق به من عظائم الأمور, وجعلها وولدها آية للعالمين, وهي جاهلة بذلك لا علم لها به, ولذلك تحيرت وتحزنت. ثم زاده بيانا وإيضاحا بالجملة الثانية من الاعتراض فقال: وليس الذكر الذي طلبت كالأنثى التي وهبت لها.
قال السعد التفتازاني: ومثل هذا الاعتراض كثيرا يلتبس بالحال, والفرق دقيق أشار إليه صاحب الكشاف, حيث ذكر في قوله تعالى "ثم اتخذ تم العجل من بعده وأنتم ظالمون". إن قوله (وأنتم ظالمون) حال, أي عبدتم العجل وأنتم واضعون العبادة في غير موضعها, واعتراض, أي وأنتم قوم عادتكم الظلم. انتهى.
وحاصله أن الحال مقيد, فيراد بالظلم اتخاذ العجل, وعلى تقدير الاعتراض, لا يختص الظلم به بل يراد المطلق, وأيضا يراد الدوام على تقدير الاعتراض دون الحال, وبينهما فروق أخر تطلب من مظانها.
ولنذكر جملة من محاسن أمثلة هذا النوع على جاري عادتنا في هذا الكتاب, من غير تنبيه على النكت, اعتمادا على فهم الناظر.
فمن المستحسن منها قول العباس بن الأحنف:
قد كنت أبكي وكنت راضية ... حذار هذا الصدود والغضب
إن تم ذا الهجر يا ظلوم ولا ... ثم فمالي في العيش من أرب
وقول أبي الفتح البستي:
أراح الله قلبي من زمان ... محت يده سروري بالإساءة
فإن حمد الكريم صباح يوم ... وأنى ذاك لم يحمد مساءه
وقول الفقيه عمارة اليمني:
له راحة ينهل جود بنانها ... ووجه إذا قابلته يتهلل
ترى الحق للزوار حتى كأنه ... عليهم وحاشا قدره يتطفل
على أنه أخذه من قول أبي الطيب:
وتحتقر الدنيا احتقار مجرب ... يرى كل ما فيها وحاشاك فانيا
وأخذه أبو الحسين الجزار أيضاً فقال:
ويهتز للجدوى إذا ما مدحته ... كما اهتز حاشا وصفه شارب الخمر
وأخذه ابن الساعاتي أيضاً فقال:
يهزه المدح هز الجود سائله ... أولا وحاشاه هز الشارب الثمل
وقول ابن اللبانة في ناصر الدولة صاحب ميورقة:
وغمرت بالإحسان أفق ميورقة ... وبنيت فيها ما بنى الإسكندر
فكأنها بغداد أنت رشيدها ... ووزيرها وله السلامة جعفر
فقوله (وله السلامة) من مليح الاعتراض, مع ما فيه من التلميح إلى قصة جعفر البرمكي.
وقول أبي الوليد محمد بن يحيى بن حزم:
أتجزع من دمعي وأنت أسلته ... ومن نار أحشائي ومنك لهيبها
وتزعم أن النفس غيرك علقت ... وأنت ولا من عليك حبيبها
وقول القاسم صاحب أذربيجان:
سعاد تسبني ذكرت بخير ... وتزعم أنني ملق خبيث
وإن مودتي كرب ومين ... واني بالذي أهوى بثوت
وليس كذا ولا رد عليها ... ولكن الملول هو النكوث
رأت شغفي بها ونحول جسمي ... فصدت هكذا كان الحديث
وقول السراج الوراق:
إن عيني وهو عضو دنف ... ما على ما كابدته جلد
ما كفاها بعدها منك إلى ... أن دهاها وكفيت الرمد
ومثله قوله:
وما بي إلى ماء النيل حاجة ... ولو أنه أستغفر الله زمزم
وقول ابن النبيه:
سقيا لأيامنا التي سلفت ... كانت بطيب الحياة مقترنة
لو بيع يوم منها وكيف به ... كنت بعمري مسترخصا ثمنه
وقول الشريف الرضي رضي الله عنه:
لا تحسبيه وإن أسأت به ... يرضى الوشاة ويقبل العذلا
لو كنت أنت وأنت مهجته ... واشي هواك إليه ما قبلا
ويعجبني قول السيد عز الدين المرتضى:
أفي الحق أن يمضي ثلاث وأربع ... وخمس وسبع بعدهن ثماني
وما أن أرى شمس الضحى قمر الدجى ... ولا هو حاشاه الخسوف يراني(1/386)
نأى لا نأى لما دنا الهجر لا دنا ... فيا ليت ذا ناء وذلك داني
ومنه قولي:
لاموا على كثر البكا ناظري ... ولم يروا منظره الناضرا
ولو رأى العاذل لي لا أرى ... أصبح لا أصبح لي عاذرا
وبيت الشيخ صفي الدين الحلي قوله:
فإن من أنفذ الرحمن دعوته ... وأنت ذاك لديه الجار لم يضم
وابن جابر لم ينظم ذلك النوع.
وبيت الشيخ عز الدين الموصلي قوله:
فلا اعتراض علينا في السؤال به ... أعني الرسول لكي أنجو من الضرم
وبيت ابن حجة قوله:
فلا اعتراض علينا في محبته ... وهو الشفيع ومن يرجوه يعتصم
وبيت بديعية الطبري قوله:
لي منك عهد عسى أني أكون به ... أرعى بدون اعتراض من ذوي الخدم
وبيت بديعيتي هو:
وما عليه اعتراض في نبوته ... وهو الصدوق فثق بالحق والتزم
وبيت المقري قوله:
صلى الإله ووالاها عليك كما ... صلت ظباك على القتلى ولم تضم
حصر الجزئي وإلحاقه بالكلي
هو العوالم عن حصر بأجمعها ... وملحق الجزء بالكلي في العظم
هذا النوع من مستخرجات ابن الأصبع, وعرفه بان يأتي المتكلم إلى نوع ما فيجعله له جنسا بعد حصر أقسام الأنواع فيه والأجناس, كقوله تعالى "وعنده مفاتح الغيب لا يعلمها إلا هو ويعلم ما في البر والبحر" فإنه سبحانه وتعالى تمدح بأنه يعلم ما في البر والبحر من أصناف الحيوان والنبات والجماد, لاحتمال أن يظن ضعيف, أنه جل جلاله يعلم الكليات دون الجزئيات, فإن المولدات وإن كانت جزئيات بالنسبة إلى جملة العالم, فكل واحد منها كلي بالنسبة على ما تحته من الأجناس والأنواع والأصناف, فقال لكمال التمدح "وما تسقط من ورقة إلا يعلمها" وعلم أن علم ذلك يشاركه فيه كل ذي إدراك, فتمدح بما لا يشاركه فيه أحد ففال "ولا حبة في ظلمات الأرض" ثم ألحق هذه الجزئيات بالكليات حيث قال "ولا رطب ولا يابس إلا في كتاب مبين".
ومثاله من النظم قول السلامي:
إليك طوى عرض البسيطة جاعل ... قصارى المطايا أن يلوح لها القصر
فكنت وعزمي في الظلام وصارمي ... ثلاثة أشياء كما اجتمع النسر
فبشرت آمالي بملك هو الورى ... ودار هي الدنيا ويوم هو الدهر
فإنه قصد تعظيم الممدوح, وداره التي قصده فيها, ويومه الذي لقيه فيه, فجعل الممدوح جميع الورى وهو جزء منه, وداره الدنيا وهي جزء منها, ويومه الدهر وهو جزء منه, فجعل الجزئي كليا وحصر أقسام الجزئي. لأن العالم عبارة عن أجسام وظروف زمان ومكان, فقد حصر ذلك. قال الصفي وفي هذا الحصر نظر.
وقد أخذ هذا المعنى القاضي الأرجاني فقال من قصيدة:
يا سائلي عنه لما جئت أمدحه ... هذا هو الرجل العاري من العار
رأيته فرأيت الناس في رجل ... والدهر في ساعة والأرض في دار
وكرر السلامي هذا المعنى في شعره لكنه لم يكمله, فأتى ببعضه في بيت من قصيدة وهو:
أنت الأنام فمن أدعو وحضرتك ال ... دنيا فأين أقضي بعض أوطاري
واستعمله المتنبي أيضاً فقال:
هي الغرض الأقصى ورؤيتك المنى ... ومنزلك الدنيا وأنت الخلائق
وقوله أيضاً:
هديه ما رأيت مهديها ... إلا رأيت العباد في رجل
وقوله:
ولقيت كل الفاضلين كأنما ... رد الإله نفوسهم والأعصرا
والسابق إلى هذا المعنى أبو نواس في قوله يمدح الأمين والخطاب لناقته:
متى تحطي إليه الرحل سالمة ... تستجمعي الخلق في تمثال إنسان
وقوله في الفضل بن الربيع:
ليس على الله بمستنكر ... أن يجمع العالم في واحد
وقال آخر في مرثية:
فيا قبره كيف احتويت على الورى ... ويا لحده كيف اشتملت على البحر
والأصل في هذا كله قوله تعالى "إن إبراهيم كان أمة قانتا لله حنيفا ولم يك من المشركين" قال المفسرون في أحد الوجوه: أي أنه كان وحده أمة من الأمم لكماله في جميع صفات الخير.
وبيت بديعية الصفي قوله:
شخص هو العالم الكلي في شرف ... ونفسه الجوهر القدسي في عظم
قال في شرحه: هذا من جعل الجزئي كليا فقط, لكون البيت الواحد لا يسع جميع تلك القيود. ولم ينظم ابن جابر هذا النوع.
وبيت بديعية العز الموصلي قوله:(1/387)
فألحق الجزء بالكلي منحصرا ... إذ دينه الجنس للأديان كلهم
هذا البيت ليس فيه من هذا النوع إلا الإشارة إلى اسمه في صدر البيت, وأما المعنى الذي تقرر له فلم يسلم به. ولا يخفى ما في النصف الأخير من المحذور معنى ولفظا.
وبيت البديعية ابن حجة قوله:
ألحق بحصر جميع الأنبياء به ... فالجزء يلحق بالكلي للعظم
أطنب ابن حجة على جاري عادته في الإعجاب بكلام نفسه في وصف هذا البيت, حتى قال: وما أعلم له في هذا الباب نظيرا لتحرير هذا النوع الذي يدق عن أفهام كثيرة إيضاحه.
ومن تأمل تعريف هذا النوع الذي قرره له مخترعه زكي الدين بن أبي الأصبع, علم أن بيت ابن حجة ليس فيه جعل الجزئي كليا بوجه, فضلا عن حصر أقسام الجزئي, نعم لو قال مثلا: نبي هو الأنبياء, كما قال السلامي: ملك هو الورى, وكما قال الصفي: شخص هو العالم, كان قد جعل الجزئي كليا بالمعنى المذكور. وأما قوله (ألحق بحصر جميع الأنبياء به) فلا يدل على هذا المعنى, بل مدلوله: انك اجعل جميع الأنبياء مثله, أو أتبعهم إياه ليلحقوا به, من قولك: ألحقت هذا بهذا, أي جعلته مثله وفي رتبته. ومنه إلحاق الجزئي بالكلي أي جعله كليا, أو من ألحقت زيدا بعمرو أي أتبعته إياه فلحق, وليس في هذا ما يدل على المقصود من هذا النوع والله أعلم.
وبيت الطبري قوله:
جزئي هو العالم الكلي في رتب ... عليا فما فوقها مرقى لمستنم
وصفه صلى الله عليه وآله وسلم بالجزئي لا يخفى قبحه, وإن كان قد جعله كليا, على أنه قد فاته نصف الاسم من هذا النوع.
وبيت بديعيتي هو:
هو العوالم عن حصر بأجمعها ... وملحق الجزء بالكلي في العظم
وبيت المقري قوله:
فرد أتى سابقا وهو الورى معه ... آي هي الدين والدنيا لمعتصم
قال ناظمه في شرحه: وصف الممدوح بأنه فرد, ثم قال: وهو الورى معه آي, ثم قال: هي الدين والدنيا, فالحق الجزئي بالكلي بوصفين, بعد أن حصرهما. انتهى.
وأقول: أما إلحاق الجزئي بالكلي فمسلم, وأما حصرهما فممنوع, إذ المراد بحصر الجزئي في هذا النوع حصر الأقسام والأنواع فيه, وأين هذا المعنى في البيت؟.
التهذيب والتأديب
تهذيب فطرته أغناه عن أدب ... في القول والفعل والأخلاق والشيم
هذا النوع ليس له شاهد يخصه وإن كان من مستحسنات البديع, لأنه وصف يعم كل كلام مهذب محرر لفظيا كان أو نثرا, وهو عبارة عن تهذيب المتكلم كلامه, وتنقيحه ومراجعته بالنظر والفكر فيه, فيسقط ما يجب إسقاطه, ويصلح ما يتعين إصلاحه, ويحرر مقاصده ومباينه, ويبين أغراضه ومعانيه, بحيث لا يمكن أن يقال فيه: لو كان غير هذا لكان أحسن, ولو زيد هذا لكان يستحسن, ولو قدم هذا لكان أجمل, ولو ترك هذا لكان أفضل.
وقلما راجع الإنسان كلاما قاله إلا وعنت له هذه المقالة, كما قيل:
ما خط كف امرء شيئاً وراجعه ... إلا وعن له تبديل ما فيه
وقال ذاك كذا أولى وذاك كذا ... وهكذا إن يكن تسمو قوافيه
فإذا سلم البيت من لو, وليت, عد من مستحسنات البديع, وشمله حد التهذيب والتأديب, وإلا فهو خارج عما نحن فيه, مردود على من خرج من فيه.
وكان زهير بن أبي سلمى يضرب به المثل في تنقيح الشعر وتهذيبه, فيقال: حوليات زهير, لأنه كان يعمل القصيدة في ليلة, ثم تبقى حولا ينقحها.
وقيل: بل كان ينظمها في شهر وينقحها في أحد عشر شهرا. وقيل: بل كان ينظمها في أربعة أشهر وينقحها في أربعة أشهر, ويعرضها على علماء أصحابه أربعة أشهر, ولهذا كان عمر بن الخطاب يعتقد أنه شاعر الشعراء.
روي عن ابن عباس أنه قال: خرجت مع عمر بن الخطاب سنة ست عشرة إذ خرج إلى الشام, وهي أول خرجة, حتى إذا كنا باشراف الشام -ولم يكن علي بن أبي طالب صلوات الله وسلامه عليه خرج معه- فصلى المغرب, ثم بيت حتى صلى العشاء الآخرة, ثم وثب حتى ركبت, وأخذ كل إنسان زميله ومحدثه, وأخذت معه, فسار شيئا لا يتكلم, ثم رفع سوطه وقرع به وبسط رجله, ثم رفع صوته يتغنى بشعر أنس بن زنيم الدئلي يمدح النبي صلى الله عليه وسلم.
وما حملت من ناقة فوق رحلها ... أبر وأوفى ذمة من محمد
حتى أتى على الشعر, ثم قال: استغفر الله, وسكت هينهة لا يتكلم, ثم قرع وبسط رجله واندفع يتغنى بشعر أبي طالب:(1/388)
وأبيض يستسقى الغمام بوجهه ... ثمال اليتامى عصمة للأرامل
حتى أتى على الأبيات, ثم قال: استغفر الله, هيه يا بن عباس, ما منع عليا أن يخرج في هذه الغزاة؟ قلت: أو لم تبعث إليه فجاءك وذكر عذره لك؟ قال: بلى, قلت: فهو ما أعتذر به, فقال: يا بن عباس, أبوك عم رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم؟ قلت: بخ بخ, ما منع قومكم منكم؟ قلت: لا أدري, قال: إنهم يكرهون ولايتكم, قلت: ولم يكرهون ذلك؟ فوا لله ما زلنا لهم كالخير, قال: اللهم غفرا, يكرهون أن تكون النبوة والخلافة فيكم فتكونون خفجا خفجا. لعلكم تقولون: إن أبا بكر فعل بنا ذلك, والله ما قصده, ولكنه حضره أمر لم يكن بحضرته أحزم منه, ولو جعل لكم من الأمر نصيبا لما هناكم مع قومكم.
يابن عباس أنشدني لشاعر الشعراء, قلت: من هو؟ قال: ألا تعرفه؟ قلت لا, قال: هو ابن أبي سلمى, قلت: يا أمير المؤمنين, فكيف صار شاعر الشعراء؟ قال لأنه لا يتبع حوشي الكلام, ولا يعاظل بين المنطق, ولا يقول إلا ما يعرف, ولا يمدح الرجل إلا بما يكون في الرجال, أو ليس الذي يقول:
إذا ابتدرت قيس بن عيلان غاية ... إلى المجد من يسبق إليها يسود
سبقت إليها كل طلق مبرز ... سبوق إلى الغايات غير مجلد
كفضل جواد الخيل يسبق عفوه الس ... راع وإن يجهد ويجهدن يبعد
أنشدني له, فأنشدته حتى برق النور, ثم قال: حسبكن اقرأ علي, قلت: ما أقرأ؟ قال: اقرأ إذا وقعت الواقعة, فقرأتها.
وكان الحطيئة يقول: خير الشعر الحولي المحكك, اقتداء بمذهب زهير.
وروى الحطيئة أن أبا العتاهية لقي يوما أبا نواس فقال له: كم تعمل في اليوم من الشعر؟ قال: البيت والبيتين, فقال أبو العتاهية: لكني أعمل المائة والمائتين, فقال أبو نواس: لأنك تعمل مثل قولك:
يا عتب مالي ولك ... يا ليتني لم أرك
مللكتني فانتهك ... ما شئت أن تنتهك
ولو أردت مثل هذا لعملت الألف والألفين, ولكني أعمل مثل قولي:
صفراء لا تنزل الأحزان ساحتها ... لو منها مسها حجر مسته سراء
من كف ذات حر في زي ذي ذكر ... لها محبان لوطي وزناء
ولو أردت مثل هذا لأعجزك الدهر ومثل هذا الحكاية, ما يحكى أنه اجتمع مع مسلم بن الوليد, فجرى بينهما كلام, فقال مسلم, لو كنت أرضى أن أقول مثل قولك:
الحمد والنعمة لك ... والملك لا شريك لك
لبيك إن الملك لك
لقلت في اليوم عشرة آلاف بيت, لكني أقول:
موف على رهج في يوم ذي رهج ... كأنه أجل يسعى إلى أمل
ينال بالرفق ما يعيا الرجال به ... كالموت مستعجلا يأتي على مهل
يكسو السيوف نفوس الناكثين به ... ويجعل الروس تيجان القنا الذبل
وقال عدي بن الرفاع في تهذيبه لشعره:
وقصيدة قد بت أجمع بيتها ... حتى أقوم ميلها وسنادها
نظر المثقف في كعوب قناته ... حتى يقيم ثقافه منآدها
وتبيت حتى ما أسائل عالما ... عن حرف واحدة لكي أزدادها
وقال أبو تمام:
خذها ابنة الفكر المهذب في الدجى ... والليل أسود رقعة الجلباب
وقال ابن عنين:
معنى بديع وألفاظ منقحة ... عن نية وقواف كلها نخب
وما أحسن ما قال أبو محمد يحيى بن علي المنجم:
رب شعر نقدته مثلما ين ... قد رأس الصيارف الدينارا
ثم أرسلته فكانت معاني ... هـ وألفاظه معا أبكارا
لو تأنى لقالة الشعر ما أس ... قط منه حلوا به الأشعارا
إن خير الكلام ما يستعير ال ... ناس منه ولم يكن مستعارا
ولله الآخر حيث يقول:
لا تعرضن على الرواة قصيدة ... ما لم تكن بالغت في تهذيبها
فإذا عرضت الشعر غير مهذب ... عدوه منك وساوسا تهذي بها
قيل لبشار بن برد: بم فقت أهل عصرك, وسبقت أهل أندادك في دهرك, في حسن معاني الشعر, وتهذيب ألفاظه؟ فقال: لأني لم أقبل كل ما تورده علي قريحتي, وتناجيني به طبيعتي, وتبعثه فكرتي. ونظرت إلى مغارس الفطن ومعادن الحقائق, ولطائف التشبيهات فصرت إليها بفهم جيد, وغريزة قوية فأبحت سرها, وانتقيت حرها, وكشفت عن حقائقها, واحترزت عن متكلفها, لا والله ما ملك قيادي قط الإعجاب بشيء مما آتي به.(1/389)
وقال أبو عبادة البحتري الشاعر رحمه الله: كنت في حداثتي أروم الشعر, وكنت أرجع فيه إلى طبع سليم (ولم أكن وقفت له على تسهيل مأخذ ووجوه اقتضاب) حتى قصدت أبا تمام وانقطعت إليه, واتكلت في تعريفه عليه, فكان أول ما قال لي: يا أبا عبادة, تخير الأوقات وأنت قليل الهموم, صفر من الغموم, واعلم أن العادة في الأوقات إذا قصد الإنسان (تأليف بيت أو حفظه أن يختار وقت السحر) , وذلك أن النفس تكون قد أخذت حظها من الراحة, وقسطها من النوم, وخف عنها ثقل الغذاء, وصفا من أكثر الأبخرة والأدخنة جسم الهواء, وسكنت الغماغم, ورقت النسائم, وتغنت الحمائم (وإذا شرعت في التأليف) تغن بالشعر فإن الغناء مضماره الذي يجري فيه. واجتهد في إيضاح معانيه, فإن أردت التشبيب فاجعل اللفظ رقيقا, والمعنى رشيقا, وأكثر فيه من بيان الصبابة, وتوجع الكآبة, وقلق الأشواق والفراق, والتعلل باستنشاق النسائم وغناء الحمائم, والبروق اللامعة, والنجوم الطالعة, والتبرم (من العذال والوقوف على الأطلال) , وإذا أخذت في مدح (سيد) فأشهر مناقبه, (وأظهر مناسبه, وأرهف من عزائمه) , ورغب في مكارمه, واحذر المجهول من المعاني, وإياك أن تشين شعرك بالعبارة (الردية) والألفاظ الحوشية, وناسب بين الألفاظ والمعاني في تأليف الكلام, وكن كأنك خياط يقدر الثياب على مقادير الأجسام. وإذا عارضك الضجر فأرح نفسك, ولا تعمل إلا وأنت فارغ القلب (ولا تنظم إلا بشهوة) فإن الشهوة نعم المعين (على حسن النظم) , وجملة الحال أن تعتبر شعرك بم سلف من أشعار الماضيين, فما استحسن العلماء فاقصده, وما استقبحوه فاجتنبه.
وقال أبو الفتح نصر الله بن الأثير: جيد الشعر ما كانت ألفاظه حلوة, ومخارجه سهلة, وقوافيه مألوفة, ووزنه حسنا تقبله النفس, سالما من الزحاف. واعلم أن اللفظ كالصورة والمعنى كالروح, فإن اتفقا وقع الكمال, وإن اختلفا وقع النقص. وأحسن الألفاظ ثلاثة: التطبيق, والتجنيس, والمقابلة. وأحسن المعاني ثلاثة: الاستعارة, والتشبيه, والمثل. فعليك بها على سبيل الاقتصاد. وينبغي أن يرغب الشاعر في الحلاوة واللطافة, والجزالة والفخامة, ويتجنب السوقي القريب, والحوشي الغريب, كما قال بعضهم:
عليك بأوساط الأمور فإنها ... نجاة ولا تركب ذلولا ولا صعبا
وينبغي أن يحصل المعنى قبل اللفظ, والقوافي قبل الأبيات, ويكتب كل لفظ يسنح, وكل معنى يلمح, ويترنم بالشعر وهو يصنعه, ويقصد علمه وقت السحر وهو خال من الهم, لأن النفس تكون قد أخذت حظها من الراحة, ويجعل شهوته لقول الشعر التوصل إلى من نظمه فإنها نعم المعين, ويعرف أغراض المخاطب كأئناً من كان, لأن لكل مقام مقالا, فيخاطب الناس على قدر طبقاتهم وتعلقاتهم. فإن نسب ذل وخضع, وإن مدح أطرى وأسمع, وإن هجا أقل وأوجع, وإن فخر خب ووضع, وإن عاتب خفض ورفع, وإن استعطف حن ورجع. ويحسن الفواتح والخواتم والمطالع, ويلطف الخروج إلى المدح والهجاء, لأن حسن الافتتاح داعية الانشراح, وخاتمة الكلام أبقى في السمع, وألصق بالنفس لقرب العهد بها, فتقع من الأسماع والألقاب على حسبها, ولطافة الخروج أشد ارتياحا للممدوح, ويتفقد خاطره بالمذاكرة, فإنها زناده, وتشب أيقاده. وتفجر عيون المعاني, وتثبت قواعد المباني بمطالعة الأشعار وترنم جيدها, فإنهما يولدان الشهوة. وقيل: ما استدعي شارد الشعر بمثل الماء الجاري, والشرف العالي, والمكان الخالي, وتملي الحالي (يراد الحالي من الروض) .
وقال الشيخ زكي الدين بن أبي الأصبع في وصية له: لا ينبغي للشاعر أن يكره الخاطر على وزن مخصوص, وروي مقصود (بل ينبغي أن يتوخى الكلام الجزل) دون الرذل, والسهل دون الصعب, والعذب دون المستكره, والمستحسن دون المستهجن. ولا تعمل نظما ولا نثرا عند الملل فإن الكثير معه قليل, والنفيس معه خسيس. والخواطر ينابيع, إذا رفق بها جمعت, وإذا كثر استعمالها نزحت. واكتب كل معنى يسنح, وقيد كل فائدة تعرض, فإن نتائج الأفكار كلمعة البرق, ولمحة الطرف إن لم تقيدها شردت وندت, وإن لم يستعطف عليها بالتكرار صدت, والترنم بالشعر مما يعين عليه, فقد قال الشاعر:
تغن بالشعر أما كنت قائله ... إن الغناء لقول الشعر مضمار(1/390)
(وقد يكل خاطر الشاعر ويعصي) عليه الشعراء زمانا. كما روي عن الفرزدق أنه قال: لقد يمر علي (زمان وقلع) ضرس من أضراسي أهون علي من أقول بيتا واحدا. فإذا كان كذلك فاتركه حتى يأتيك عفوا, وينقاد إليك طوعا. وإياك وتعفيد المعاني (وتقعير) الألفاظ, وتوخ حسن النسق عند التهذيب, ليكون كلامك بعضه آخذا بأعناق بعض. وكرر التنقيح وعاود التهذيب, ولا تخرج عنك ما نظمته إلا بعد تدقيق النقد, وإمعان النظر. انتهى.
وما أحسن ما قال أبو محمد الخازن:
لا يحسن الشعر ما لم يسترق له ... حر الكلام وتستخدم له الفكر
انظر تجد صور الأشعار واحدة ... وإنما لمعان تعشق الصور
وإذ قد ذكرنا تهذيب بن الأثير: يستحب للشاعر أن يكون حسن الأخلاق, حلو الشمائل, مأمون الجانب, طلق الوجه, طلق اليدين, وإلا هو كما قال ابن أبي فنن:
وإن أحق الناس باللوم شاعر ... يلوم على البخل الرجال ويبخل
قان اتصف بذلك كان أملأ في العيون, وألوط بالقلوب.
ويستحب له أن يكثر من حفظ شعر العرب لاشتماله على ذكر أخبارهم وآثارهم, وأنسابهم وأحسابهم, وفي ذلك تقوية لطبعه, وبه يعرف المقاصد, ويسهل عليه اللفظ, ويتسع المذهب, فإنه إذا كان له طبع وأخل بذلك فربما طلب معنى فلا يصل إليه, وهو ماثل بين يديه لضعف آلته, كالمقعد يجد في نفسه القوة على النهوض فلا تعنيه آلته.
وسئل رؤبة عن الفحل من الشعراء فقال: هو الراوية, انه إذا روى استفحل, قال ابن حبيب: لأنه يجمع إلى جيد شعره معرفة جيد شعر غيره, فلا يحمل نفسه إلا على بصيرة.
وقال رؤبة في صفة شاعر:
لقد خشيت أن يكون ساحرا ... راوية مرا ومرا شاعرا
فاستعظم حاله حتى قرنها بالسحر.
وكان امرأ القيس راوية أبي داود الأيادي, مع فضل نخيرته, وقوة غريزته.
وكان زهير راوية أوس بن حجر, وطفيل الغنوي.
وكان الحطيئة راوية زهير.
وكان الفرزدق على فضله يروي للحطيئة كثيرا.
وكان كثير راوية جميل, ولم يكن بدون الفرزدق وجرير, بل كان يقدم عليهما عند أهل الحجاز, ولا يستغني عن تصفح أشعار المحدثين المجيدين لما فيها من حلاوة اللفظ, وقرب المأخذ, وإشارات الملح, ووجوه البديع, وأن يكون متصرفا في أنواع الشعر, من جد وهزل, وحلو وجزل, ومدح وهجاء, ورثاء وافتخار واعتذار, فإن كان كذلك لم يمل شعره, فيحكم له بالتصرف والتقدم.
وقد ادعى ذلك حبيب في القصيدة الواحدة فقال:
الجد والهزل في توشيع لحمتها ... إلا التصرف والسخف والأشجان والطرب
وقال إسماعيل بن القاسم أبو عتاهية:
لا يصلح النفس إذا كانت مركبة ... إلا التصرف من حال إلى حال
ويكره للشاعر أن يكون معجبا بنفسه, مثنيا على شعره وإن كان مجيدا, إلا أن يريد ترغيب ممدوح أو ترهيبه, وقد جوز له ذلك مسامحة. انتهى.
وقد تقدم أن هذا النوع ليس إلا شاهد يخصه, فلنكتف من شواهده على أبيات البديعيات: فبيت بديعية الشيخ صفي الدين قوله:
هو النبي الذي آياته ظهرت ... من قبل مظهره للناس في القدم
ولم ينظم ابن جابر هذا النوع.
وبيت بديعية عز الدين الموصلي قوله:
والله هذبه طفلا وأدبه ... فلم يحل هديه الزاكي ولم يرم
وبيت بديعية ابن حجة قوله:
تهذيب تأديبه قد زاده عظما ... في مهده وهو طفل غير منفطم
وبيت بديعية الطبري قوله:
ما ذاك باليمن محفوظ العناية من ... تهذيب تأديبه المرعي في اليتم
وبيت بديعيتي هو:
تهذيب فطرته أغناه عن أدب ... في القول والفعل والأخلاق والشيم
وبيت بديعية المقري قوله:
كلتا يديه يمين بالندى انبسطت ... فاقبض يسارك يا أخا الندم
الاتفاق
ما زال آباؤه بالحمد مذ عرفوا ... فكان أحمدهم وفق اتفاقهم
هذا النوع وإن سمي بالاتفاق إلا أنه قليل الاتفاق لعزة وقوعه, وهو عبارة عن أن يتفق للمتكلم واقعة وأسماء يطابقها, إما مشاهدة أو سماعا, كما اتفق للرضي بن أبي حصينة المصري في حسام الدين لؤلؤ حاجب الملك الناصر صلاح الدين, حين أرسله غازيا للإفرنج الذين قصدوا الحجاز من بحر القلزم, فظفر بهم, فقال الشاعر المذكور يخاطب الإفرنج:
عدوكم لؤلؤ والبحر مسكنه ... والدر في البحر لا يخشى من الغير(1/391)
وأحسن اتفاق وقع في هذا النوع, ما اتفق للشيخ شمس الدين بن الكوفي الواعظ في الوزير مؤيد الدين بن العلقمي حيث قال:
يا عصبية الإسلام نوحي والطمي ... حزنا على ما حل بالمستعصم
دست الوزارة كان قبل أوانه ... لابن الفرات فصار لابن العلقمي
فاتفق له أن المذكورين وزيران, وأن المورى نهران معروفان, مع المطابقة بين الفرات العذب والعلقم المر.
ومنه قول الملك الأفضل علي بن السلطان صلاح الدين يوسف لما تعصب عليه عمه أبو بكر وأخوه عثمان, فكتب إلى الإمام الناصر صاحب بغداد:
مولاي إن أبا بكر وصاحبه ... عثمان قد غضبا بالسيف حق علي
وهو الذي كان قد ولاه والده ... عليهما فاستقام الأمر حين ولي
فخالفاه وحلا عقد بيعته ... والأمر بينهما والنص فيه جلي
فانظر إلى حظ هذا الاسم كيف لقي ... من الأواخر ما لاقى من الأول
فاتفق له قضية طابقتها أسماء من كانت قضيتهم كقضيته حسب اعتقاده, ولما وصل كتابه إلى الإمام الناصر كتب إليه:
وافى كتابك يا بن يوسف معلنا ... بالحق يخبر أن أصلك طاهر
غصبوا عليا حقه إذ لم يكن ... بعد النبي له بيثرب ناصر
فاصبر فإن غدا عليه حسابهم ... وابشر فناصرك الإمام الناصر
وكتب إليه ابن عنين من الهند قصيدة يقول فيها (وفيه شاهد لما نحن فيه أيضاً) :
هيهات أن آتي دمشق وملكها ... يعزي إلى غير المليك الأفضل
ومن العجائب أن يقوم بها أبو ... بكر وقد علم الوصية في علي
مهلا أبا حسن فتلك سحابة ... صيفية عما قليل تنجلي
وبيت بديعية الصفي قوله:
محمد واسمه بالاتفاق له ... وصف يشاكله في اسمه العلم
وبيت بديعية ابن حجة قوله: ووصفه لابنه قد جاء تسمية=فانه حسن حسب اتفاقهم قال في شرحه: اتفاق هذا البيت في لفظي (حسن وحسن) وهو أن النبي صلى الله عليه وآله وسلم أشار إلى ولده الحسن عليه السلام وقال: إن ابني هذا سيد, وسيصلح الله به بين فئتين من المسلمين عظمتين.
وبيت بديعية الطبري قوله:
من اسم جد أبيه وصف ساعده ... وذاك هاشم الأعدا باتفاقهم (كذا)
وبيت بديعيتي هو:
ما زال آباؤه بالحمد مذ عرفوا ... فكان أحمدهم وفق اتفاقهم
الاتفاق فيه اشتراك لفظي أحمد, الذي هو علم له صلى الله عليه وآله وأحمد هو اسم تفضيل. فإن قلت: العلم لا يضاف لأن شرط الإضافة الحقيقية تنكير المضاف, قلت قد يضاف العلم إذا جرد عن التعريف, بان يجعل واحدا من جملة من سمي بذلك اللفظ كقوله:
علا زيدنا يوم النقا رأس زيدكم ... بأبيض ماضي الشفرتين يماني
وبيت المقري قوله:
الرسل أحمد أوصافا وأحمدهم ... في الوصف أحمدنا فاشكر يد النعم
ومن الاتفاق أني اتفقت والشيخ في هذا الاتفاق من قبل أن أقف على بيته هذا.
الجمع مع التفريق
ضياؤه الشمس في تفريق جمع دجى ... وقدره الشمس لم تدرك ولم ترم
هذا النوع عبارة عن أن يدخل المتكلم شيئين في معنى واحد, ثم يفرق جهتي الإدخال كقوله تعالى "يتوفى الأنفس حين موتها والتي لم تمت في منامها فيمسك التي قضى عليها الموت ويرسل الأخرى" أدخل النفسين في حكم التوفي, ثم فرق بين جهتي التوفي بالحكم بالإمساك والإرسال, أي الله يتوفى الأنفس التي تقبض, والنفس التي لا تقبض, فيمسك الأولى ويرسل الأخرى.
ومن أمثلته في الشعر قول مروان بن أبي حفصة:
تشابه يوماه علينا فأشكلا ... فما نحن ندري أي يوميه أفضل
أيوم نداه الغمر أم يوم بأسه ... وما منهما إلا أغر محجل
فإنه أدخل يوميه في التشابه والإشكال, ثم فرق بينهما, فجعل أحدهما للبذل والسماحة, والثاني للنجدة والشجاعة.
وقول البحتري:
ولما التقيا والنقا موعد لنا ... تعجب رائي الدر حسنا ولاقطه
فمن لؤلؤ تجلوه عند ابتسامها ... ومن لؤلؤ عند الحديث تساقطه
فجمع المرئي من الدر والملقوط منه في كونهما متعجبا منهما, ثم فرق بينهما, فجعل الأول مجلوا عند الابتسام وهو ثغره, وجعل الثاني مسقطا عند المحادثة وهو حديثه.
وقول الفخر عيسى:
تشابه دمعانا غداة فراقنا ... مشابهة في قصة دون قصة(1/392)
فوجنتها تكسو المدامع حمرة ... ودمعي يكسو حمرة اللون وجنتي
وما ألطف قول مهيار الديلمي في هذا الباب:
جاءت تثنى بين ريحانة ... تعبق مسكا وكثيب يهال
فلا وعينيها وأردافها ... وشقوة الدعص بها والغزال
ما قدها هز نسيم الصبا ... وإنما ميل غصنا فمال
حتى إذا الليل قضى ما قضى ... خفت مع الفجر خطاها الثقال
أبكي وتبكي غيران الأسى ... دموعه غير دموع الدلال
أخذه السيد أحمد الصفوي فقال:
صه يا حمام فلست المشوق ... ولا بات حالك فيها كحالي
فما من تباكي كما من بكى ... ودمع الأسى غير دمع الدلال
ومنه قول التهامي:
قالوا تأس بجفنها في سقمه ... شتان بين سقامه وسقامي
سقم الجفون وإن تزايد صحة ... أبدا وسقمي قد أذاب عظامي
وحدث يعقوب بن بشر, قال: كنت مع إسحاق الموصلي في نزهة, فمر بنا إعرابي فوجه إسحاق خلفه فوافانا, فلما شرب وسمع حنين الدواليب قال:
بكرت تحن وما بها وجدي ... وأحن من وجد إلى نجد
فدموعها تحيا الرياض بها ... ودموع عيني قرحت خدي
وبساكني نجد كلفت وما ... يغني لهم كلفي ولا وجدي
لو قيس وجد العاشقين إلى ... وجدي لزاد عليه ما عندي
قال فما انصرف إسحاق إلا محمولا سكرا, وما شرب إلا على هذه الأبيات.
ومنه قول العفيف التلمساني:
بين فؤادي وخدها نسب ... كلاهما بالجحيم يلتهب
هما سواء والفرق بينهما ... أنهما ساكن ومضطرب
وقول الوطواط: فوجهك كالنار في ضوئها=وقلبي كالنار في حرها وقول الآخر: وسهيل كوجنة الحب في اللو_ن وقلب المحب في الخفقان وقولي في مطلع القصيدة:
ما بين قلبي وبرق المنحنى نسب ... كلاهما من سعير الوجد يلتب
قلبي لما فاته من وصل ساكنه ... والبرق إذ فاته من ثغره الشنب
وبيت بديعية الصفي قوله:
سناه كالنار يجلو كل مظلمة ... والبأس كالنار يفني كل مجترم
أدخل السناء والبأس في كونهما كالنار, ثم فرق بينهما, بأن وجه إدخال السنا فيه أنه يجلو الظلام, وإدخال البأس فيه أنه يفني المجرمين, كما تفني النار الحطب.
وبيت بديعية ابن جابر الأندلسي قوله:
فلذ بمن كفه والبحر ما افترقا ... إلا بكف وبحر في كلامهم
وبيت بديعية عز الدين الموصلي, شن فيه الغارة على بيت الشيخ صفي الدين فقال:
وعزمه النار في جمع يفرقه ... ووجهه النور يجلو ظلمة الغشم
وبيت بديعية ابن حجة قوله:
سناه كالبرق أن أبدوا ظلام وغى ... والعزم كالبرق في تفريق جمعهم
وبيت بديعية الطبري قوله:
كالشمس في الجمع والتفريق ملته ... وفي الضيا وجهه يا حسرة الظلم
وبيت بديعيتي هو:
ضياؤه الشمس في تفريق جمع دجى ... وقدره الشمس لم تدرك ولم ترم
وبيت بديعية الشيخ إسماعيل المقري قوله: إن أنكروا الشمس منه فهي مقل=تعشي وفي مقل تجلو دجى الظلم قال ناظمه في شرحه: جعل ما جاء به النبي صلى الله عليه وآله كالشمس, ثم فرق ما جمع فقال: إنها في عيون جلاء, وفي عيون عشاء, انتهى بنصه.
الجمع مع التقسيم
وكم غزا للعدى جمعا فقسمه ... فالزوج للأيم والمولود لليتم
هذا النوع عبارة عن جمع متعدد تحت حكم, ثم تقسيمه أو بالعكس, أي تقسيم متعدد ثم جمعه.
فالأول كقوله تعالى "ثم أورثنا الكتاب الذين اصطفينا من عبادنا فمنهم ظالم لنفسه ومنهم مقتصد ومنهم سابق بالخيرات".
وكقول أبي الطيب في سيف الدولة:
قاد المقانب أقصى شربها نهل ... على الشكيم وأدنى سيرها سرع
لا يعتقي بلد مسراه عن بلد ... كالموت ليس له ري ولا شبع
حتى أقام على أرباض خرشنة ... تشفى به الروم والصلبان والبيع
للسبي ما أنكحوا والقتل ما ولدوا ... والنهب ما جمعوا والنار ما زرعوا
فجمع أولاء شقاء الروم بالممدوح, الشامل للسبي والقتل والنهب والإحراق, ثم قسم ثانيا وفصله, وذكر صاحب المقتاح (وتبعه ابن حجة) قبل البيت الأخير من هذه الأبيات قوله:
والدهر معتذر والسيف منتظر ... وأرضهم لك مصطاف ومرتبع(1/393)
وقال: انه جمع فيه أرض العدو وما فيها في كونها خالصة للممدوح, وقسم في الثاني. والمذكور فيما رأيناه من نسخ ديوان أبي الطيب ما ذكرناه وأما البيت الذي ذكره صاحب المفتاح وهو قوله (والدهر معتذر) إلى آخره فهو بعد بيت التقسيم بأبيات كثيرة.
والثاني كقول حسان:
قوم إذا حاربوا ضروا عدوهم ... أو حاولوا النفع في أشياعهم نفعوا
سجية تلك منهم غير محدثة ... إن الخلائق فاعلم شرها البدع
فقسم في البيت الأول صفة الممدوحين إلى ضر الأعداء, ونفع الأولياء, ثم جمعهما في البيت الثاني في قوله (سجية) .
ومن لطيف هذا النوع قول بعضهم:
لو كان ما أنتم فيه يدوم لكم ... ظننت ما أنا فيه دائما أبدا
لكن رأيت الليالي غير تاركة ... ما سر من حادث أو ساء مطردا
فقد سكنت إلى أني وإنكم ... سنستجد خلاف الحالتين غدا
فقوله سنستجد جمع لطيف, ولما كان الأول أحلى في الأسماع وأعلق بالطباع, لم يعول أرباب البديعيات إلا عليه, ولا جنحوا في أبياتهم إلا إليه.
وبيت صفي الدين قوله:
أبادهم فلبيت المال ما جمعوا ... والروح للسيف والأجساد للرخم
وبيت بديعية ابن جابر قوله:
والمال والماء في كفيه قد جريا ... هذا لراج وذا للجيش حين ظمي
وبيت عز الدين الموصلي قوله:
علم ومال على جمع تقسمه ... هذا لغمر وهذا نفع مغترم
وبيت بديعية ابن حجة قوله:
أثرت كرايمه جمعا فقسمها ... كالحوض للورد والعظمى لهولهم
وبيت بديعيتي هو:
وكم غزا للعدى جمعا فقسمه ... فالزوج للأيم والمولود لليتم
وبيت بديعية المقري قوله:
حوى الفضائل فالعليا لهمته ... والحسن للوجه والإحسان للشيم
الجمع مع التفريق والتقسيم لم ينظم الشيخ صفي الدين ولا غيره من أرباب البديعيات الجمع مع التفريق والتقسيم, إما اكتفاء بالجمع مع التفريق, والجمع مع التقسيم, أو لأن البيت الواحد لا يتسع لنظمه. وقد ذكره السكاكي في المفتاح, والقزويني في التلخيص والإيضاح, والطيبي في التبيان, والسيوطي في الاتقان وجماعة آخرون. وهو عبارة عن أن يجمع المتكلم متعددا تحت أمره, ثم يفرق, ثم يضيف إلى كل ما يناسبه, كقوله تعالى في سورة هود "يوم يأتي لا تكلم نفس إلا بإذنه فمنهم شقي وسعيد فأما الذين شقوا ففي النار لهم فيها زفير وشهيق, خالدين فيها ما دامت السنوات والأرض إلا ما شاء ربك إن ربك فعال لما يريد, وأما الذين سعدوا ففي الجنة خالدين فيها ما دامت السماوات والأرض إلا ما شاء ربك عطاء غير مجذوذ". فجمع الأنفس في عدم التكلم بقوله (لا تكلم نفس) لأن النكرة في سياق النفي تعم, ثم فرق بأن أوقع التباين بينها بأن بعضها شقي, وبعضها سعيد, لقوله (فمنهم شقي وسعيد) إذ الأنفس وأهل الموقف واحد, ثم قسم وأضاف إلى السعداء ما لهم من نعيم الجنة, وإلى الأشقياء ما لهم من عذاب النار.
فان قلت: ما معنى الاستثناء في قوله تعالى (إلا ما شاء ربك) قلت: هو استثناء من الخلود في عذاب النار والخلود في نعيم الجنة. فالاستثناء الأول محمول على أن فساق المؤمنين لا يخلدون في النار, والثاني محمول على أن أهل الجنة لهم سوى نعيمها ما هو أكبر وأجل وهو رضوان الله ولقاؤه عز وجل. وللمفسرين أقوال أخر في هذا الاستثناء هذا أصوبها.
وأما قوله (ما دامت السماوات الأرض) فهو كناية عن التأييد ونفي الانقطاع, كقول العرب: لا أفعله ما أقام ثبير, وما لاح كوكب.
ومن أمثلة هذا النوع من الشعر قول إبراهيم بن العباس:
لنا إبل كوم يضيق بها الفضا ... ويفتر عنها أرضها وسماؤها
فمن دونها أن تستباح دماؤنا ... ومن دوننا أن تستباح دماؤها
حمى وقرى فالموت دون مرامها ... وأيسر خطب يوم حق فناؤها
وقول ابن شرف القيرواني:
لمختلفي الحاجات جمع ببابه ... فهذا له فن وهذا له فن
فللمخامل العليا وللمعدم الغني= وللمذنب العتبي وللخائف الأمن وقول ابن نباتة السعدي:
وكم لليل عندي من نجوم ... جمعت النثر منها في نظام
عتابا أو نسيبا أو مديحا ... لخل أو حبيب أو همام
المماثلة
فمن يماثله أو من يجانسه ... أو من يقاربه في العلم والعلم(1/394)
المماثلة هي أن تتماثل الألفاظ أو بعضها في الرنة من غير تقفية, كقوله تعالى "وما أدريك ما الطارق, النجم الثاقب, إن كل نفس لما عليها حافظ" فالطارق والثاقب والحافظ متماثلات في الزنة بدون تقفية. ومثله قوله تعالى "فاصبر جميلا, إنهم يروونه بعيدا, ونراه قريبا".
ومن أمثلته في الشعر قول التهامي:
أهوى الحجاز وطلحه وسياله ... وأراكه وبشامة وغضاه
فسقى الإله سهوله وحزونه ... ومروجه ووهاده ورباه
وقوله أيضاً:
أهدى لنا في النوم نجدا كله ... ببدوره وغصونه وظبائه
وقول ابن الحديد يمدح عليا عليه السلام:
الصافح الفتاك والمتطول ... المناع والآخاذ والتراك
وقول أبي حصين علي عبد الملك في أبي فراس بن حمدان:
من ذا يطاوله أم من يماجده ... أم من يساجله أم من يكاثره
أم من يقاربه في كل مكرمة ... أم من يناضله أم من يساوره
أم من يبارزه أم من يوافقه ... في كل معركة أم من يصابره
وقول ابن هاني:
وكفاك من حب السماحة أنها ... منه بموضع مقلة من محجر
فغمامه من رحمة وعراصه ... من جنة ويمينه من كوثر
والفرق بين المماثلة والمناسبة اللفظية: توالي الألفاظ المتزنة في المماثلة دون المناسبة. ولا يخفى أن هذا النوع -أعني المماثلة- ليس تحته كبير أمر, لما كان أمرا زائدا على ما خلا عنه من الكلام عد من البديع.
وبيت بديعية الشيخ صفي الدين الحلي قوله:
سهل خلائقه صعب عرائكه ... جم عجائبه في الحكم والحكم
وبيت بديعية الشيخ عز الدين الموصلي قوله:
يبدي مماثلة يعطي مناسبة ... يجزي مجانسة في الكلم والكلم
وبيت بديعية ابن حجة قوله:
فالخير رافقه والعفو جاوره ... والعدل جانسه في الحكم والحكم
وبيت بديعية الطبري قوله:
من ذا يماثله جلت فضائله ... والله مادحه في النون والقلم
ليس هذا البيت من المماثلة في شيء لما علمت من أنها تماثل الكلمات في الزنة دون التقفية, فقوله: يماثله, وفضائله, تماثلا وزنا وتقفية. وقوله: مادحه, لا يماثل ما قبله في الزنة.
وبيت بديعيتي قولي:
فمن يماثله أو من يجانسه ... أو من يشاكله في العلم والعلم
وبيت المقري قوله:
فامدح عوارفه واعرف مدائحه ... وانظم محاسنه يا حسن منتظم
التوشيع لقد تقمص بردا وشعته له=فخرا يد الأعظمين البأس والكرم التوشيع هو أن يؤتى في عجز الكلام -نظما كان أم نثراً- بمثنى مفسر باسمين, ثانيهما معطوف على الأول نحو, يشيب ابن آدم وتشب فيه خصلتان: الحرص وطول الأمل.
قال الصفي في شرح بديعيته: هو مأخوذ من الوشيعة, وهي الطريقة الواحدة في البرد المطلق, فكأن الشاعر أهمل البيت كله إلا آخره فإنه أتى فيه بطريقة تعد من المحاسن.
وقال السعد التفتازاني: سمي توشيعا لأن التوشيع لف القطن المندوف فكأنه يجعل التعبير عن المعنى الواحد بالمثنى المفسر باسمين بمنزلة اللف, وتفسيره باسمين متعاطفين بمنزلة اللف, وتفسيره باسمين متعاطفين بمنزلة الندف فكان الأظهر أن يقول: بمنزلة ندف القطن بعد لفه.
وأجيب: بأن اللف المقصود في القطن يتأخر عن ندفه, فيكون المثنى بعمومه بحسب مفهومه وشيوعه بمنزلة المندوف, وتفسير المراد منه بالاسمين المتعاطفين بمنزلة اللف, فيكون التوشيع من قبل اللف بعد الندف, ولا حاجة إلى اعتبار القلب وغيره.
ومن أمثلته في الشعر قول الأديب (أبي) محمد بن سارة:
يا من يصيخ إلى داعي السفاه وقد ... نادى به الناعيان الشيب والكبر
إن كنت لا تسمع الذكرى ففيم ثوى ... في رأسك الواعيان السمع والبصر
ليس الأصم ولا الأعمى سوى رجل ... لم يهده الهاذيان العين والأثر
لا الدهر يبقى ولا الدنيا ولا الفلك الأع ... لى ولا النيران الشمس والقمر
ليرحلن عن الدنيا وإن كرها ... فراقها الثاويان البدو والحضر
وقول الفقيه عمارة يمدح صاحب مصر الفائز بن الظافر:
حيث الخلافة مضروب سرادقها ... بين النقيضين من عفو ومن نقم
وللخلافة أنوار مقدسة ... تجلو البغيضين من ظلم ومن ظلم
وللنبوة آيات تنص لنا ... على الخفيين من حكم ومن حكم(1/395)
وللمكارم أعلام تعلمنا ... مدح الجزيلين من بأس ومن كرم
وللعلا ألسن تثني محامدها ... على الحميدين من فعل ومن شيم
وراية الشرف البذاخ ترفعها ... يد الرفيعين من مجد ومن همم
وقول الآخر:
أمسي وأصبح من تذكاركم قلقا ... يرثي لي المشفقان الأهل والولد
وغاب عن مقلتي نومي لغيبتكم ... وخانني المسعدان الصبر والجلد
لا غرو للدمع أن تجري غواربه ... وتحته المظلمان القلب والكبد
كأنما مهجتي شلو بمسبعه ... ينتابه الضاربان الذئب والأسد
لم يبق غير خفي الروح في جسدي ... فدى لك الباقيان الروح والجسد
وانتقد أهل الأدب قول هذا الشاعر في أول أبياته (يرثي لي المشفقان الأهل والولد) وقالوا: ان شفقة الأهل والولد, ليست أمرا عجيبا, فكان ينبغي أن يقول (يرثي لي المبغضان الضد والحسد) , كما قال الآخر:
يرثي له الشامت مما به ... يا ويح من يرثي له الشامت
وما أحسن قول الشريف ابن الهبارية في أول الصادح والباغم:
الحمد لله الذي حباني ... بالأصغرين القلب واللسان
وقول شيخنا العلامة محمد بن علي الشامي من قصيدة:
إني منيت وما الأقدار واحدة ... بجائر طرفه أمضى من القدر
بواحد الحسن ثاني الريم في الحور ... وثالث النيرين الشمس والقمر
وبيت بديعية صفي الدين قوله:
أمي خط أبان الله معجزه ... بطاعة الماضيين السيف والقلم
ولم ينظم ابن جابر هذا النوع وبيت بديعية عز الدين الموصلي قوله:
ومن عطاياه روض وشعته يد ... تغني عن الأجودين البحر والديم
وبيت بديعية ابن حجة قوله:
ووشع العدل منه الروض فاتشحت ... بحلة الأمجدين العهد والذمم
وبيت بديعية الطبري قوله:
عمت مواهبه ما وشعت يده ... أثرى ذوي المتعبين الهم والألم
هذا البيت سكيت هذه الحلبة وبيت بديعيتي هو:
لقد تقمص بردا وشعته له ... فخرا يد الأعظمين البأس والكرم
وبيت بديعية المقري قوله:
لم يقر في كتب مقرى كتابته ... فوائد الزاخرين العلم والكرم
التكميل
تكميل قدرته بالحلم متصف ... مع المهابة في بشر وفي أضم
التكميل عبارة عن أن يأتي المتكلم بمعنى تام في فن من الفنون, فيرى الاقتصار عليه ناقصا فيكمله بمعنى آخر في غير ذلك الفصل الذي أتى به أولا, كمن مدح إنسانا بالحلم فيرى الاقتصار عليه بدون مدحه بالبأس ناقصا فيكمله بذكره.
كقول كعب بن سعد الغنوي:
حليم إذا ما الحلم زين أهله ... مع الحلم في عين العدو مهيب
فان المدح بالحلم تم في المصراع الأول, ولكن أراد تكميله بالهيبة, فانه إذا لم يعرف منه إلا الحلم لم يهبه العدو, فقال (مع الحلم في عين العدو مهيب) . وتكلف من جعله احتراسا. نعم قوله: إذا ما الحلم زين أهله, احتراس.
وقول الفرزدق:
لعن الإله بني كليب أنهم ... لا يغدرون ولا يفون لجار
وقد تقدم بيان التكميل فيه في باب الطباق. واعلم أن أكثر علماء المعاني جعلوا التكميل والاحتراس شيئا واحدا, والمحققون من المتأخرين وأصحاب البديعيات على أن كلا منهما نوع برأسه. فإن التكميل يرد على المعنى التام فيكمل أوصافه, والاحتراس يرد على المعنى الموهم خلاف المقصود, فيدفع ذلك الوهم, كما ستعرفه في بابه إنشاء الله تعالى.
ومن العجيب أن ابن حجة فرق بين الاحتراس والتكميل تبعا للصفي, ثم قال في البيت المذكور: قوله (إذا ما الحلم زين أهله) احتراس لولاه لكان المعنى في المدح مدخولا, إذ بعض التغاضي قد يكون عن عجز يوهم أنه حلم, فإن التجاوز لا يكون حلما محققا إلا عن قدرة, وهو الذي قصده الشاعر بقوله (إذا ما الحلم زين أهله) فإن الحلم ما يزين أهله إلا إذا كان عن قدرة, وهذا القدر غاية في باب التكميل. انتهى.(1/396)
وهل هذا إلا تهافت؟ وقد أورد الصفي وابن حجة لنوع التكميل أمثلة هي بنوع الاحتراس أولى, منها قوله تعالى "فسوف يأتي بقوم يحبهم ويحبونه أذلة على المؤمنين أعزة على الكافرين". قال الصفي وتبعه ابن حجة: انه لو اقتصر سبحانه على قوله (أذلة على المؤمنين) كان مدحا تاما بالرياضة والانقياد لإخوانهم, فوصفهم أيضاً بالعز والمنعة والغلب بقوله (أعزة على الكافرين) انتهى.
والحق أن قوله (أعزة على الكافرين) احتراس, لأنه لو اقتصر على قوله (أذلة على المؤمنين) لأوهم أن الذلة لضعفهم فدفعه بقوله (أعزة على الكافرين) تنبيها على أن ذلك تواضع منهم للمؤمنين, ولهذا عدى الذل (بعلى) لتضمنه معنى العطف. قال التفتازاني: ويجوز أن يقصد بالتعدية (بعلى) الدلالة على أنهم مع شرفهم وعلو طبقتهم وفضلهم على المؤمنين خافضين لهم أجنحتهم. انتهى.
ومنها قول السموأل:
وما مات منا سيد حتف أنفه ... ولا طل منا حيث كان قتيل
قال الصفي: فانه لما وصف قومه بأنهم لا يموتون موت الأذلاء والجبناء كمل مدحهم بأنهم مع ذلك لا يضيع لهم دم. انتهى.
والصحيح انه من الاحتراس أيضاً, فانه لو اقتصر على وصف قومه بشمول القتل إياهم, لا وهم إن ذلك لضعفهم وقلتهم, فأزل الوهم بوصفهم بالانتصار.
قال ابن حجة ومن التكميل الحسن قول كثير عزة:
لو أن عزة خاصمت شمس الضحى ... في الحسن عند موفق لقضى لها
قال: فقوله (عند موفق) تكميل حسن, فانه لو قال: عند محكم لتم المعنى, لكن في قوله (عند موفق) زيادة تكميل بها حسن البيت, والسامع بجد لهذه اللفظة من الموقع في النفس ما ليس في الأولى, إذ ليس كل محكم موفق, فإن الموفق من الحكام من قضى بالحق لأهله. انتهى.
واعترض بان الشاعر لم يقل: عند محكم حتى يكون قوله: موفق, تكميلا لذكر محكم لما تم المعنى بدونه فلا يكون من هذا النوع.
قال ابن حجة أيضاً: وقد غلط غالب المؤلفين في هذا الباب, وخلطوا التتميم بالتكميل, وساقوا في باب التتميم شواهد التكميل, فمن ذلك قول عوف الخزاعي:
إن الثمانين وبلِّغتها ... قد أحوجت سمعي إلى ترجمان
هذا البيت ساقوه من شواهد التتميم, وهو أبلغ شواهد التكميل, فإن معنى البيت تام بدون لفظة (وبلغتها) وإذا لم يكن المعنى ناقصا فكيف يسمى هذا تتميما؟ وإنما هو تكميل حسن. انتهى كلامه.
قلت: لئن غلط من خلط التتميم بالتكميل, فقد غلط ابن حجة فخلط التكميل بالاعتراض. والبيت المذكور أبلغ شواهد الاعتراض, وقد أنشده هو أيضاً شاهدا عليه. وليس كل زيادة جيء بها مع تمام المعنى تسمى تكميلا وإلا لم يبق بين الاعتراض والتكميل فرق. بل التكميل الزيادة التي جيء بها تكميلا للمعنى الأول الذي ذكره المتكلم, والاعتراض هو الزيادة التي جيء بها لنكتة ليس الغرض بها تكميل المعنى السابق. وكذلك قوله في البيت (وبلغتها) فإنها زيادة جاء بها الشاعر للدعاء لا لتكميل غرضه من الاعتذار الذي قصده. على ما يحكى: أن عوف بن محلم الخزاعي صاحب البيت سلم عليه عبد الله بن طاهر, فلم يسمع, فأعلم بذلك, فدنا منه وأنشده قصيدة منها البيت المذكور. وبذلك يتضح الفرق بين الاعتراض والتكميل والتتميم.
وأما الفرق بين التكميل والتتميم, فهو أن التتميم يرد على المعنى الناقص فيتم, والتكميل -كما علمت- يرد على المعنى التام فيكمله, إذ الكمال أمر زائد على التمام.
وأنشد ابن حجة ممثلا للتكميل قول الشيخ جمال الدين بن نباتة:
نفس عن الحب ما حادت ولا غفلت ... بأي ذنب وقاك الله قد قتلت
قال: معنى البيت تام بدون قوله (وقاك الله) ولكن التكميل بوقاك الله قبل قوله (قد قتلت) لا يصدر إلا من مثل الشيخ جمال الدين. انتهى.
وقد علمت أن هذا من باب الاعتراض لا التكميل. وأنشد أيضاً لنفسه أبياتا أكثرها من هذا القبيل.
ومن الشواهد الصحيحة للتكميل قول أبي تمام:
فتى عند خير الثواب وشره ... ومنه الإباء المر والكرم العذب
وقوله:
يتلو رضاه الغنى بأجمعه ... وتحذر الحادثات من غضبه
تزل عن عرضه العيوب وقد ... تنشب كف المغني في نشبه
وقول البحتري:
هل العيش إلا أن تساعفنا النوى ... بوصل سعاد أو يساعدنا الدهر
على أنها ما عندها لمواصل ... وصال ولا عنها لمصطبر صبر(1/397)
فقوله (ولا عنها لمصطبر) من أحسن التكميل.
وبيت بديعية صفي الدين قوله:
نفس مؤيدة بالحق تعضدها ... عناية صدرت عن بارئ النسم
فقوله: تعضدها وما بعده تكميل.
وبيت عز الدين الموصلي قوله:
تمت محاسنه والله كمله ... فقدره في الورى في غاية العظم
وبيت بديعية ابن حجة قوله:
آدابه تممت لا نقص يدخلها ... والوجه تكميله في غاية العظم
وبيت بديعية الطبري قوله:
حاز المكارم تكميلا وفاز بما ... لم يؤت ذو شرف من خير مستلم
وبيت بديعيتي هو:
تكميل قدرته بالحلم متصف ... مع المهابة في بشر وفي أضم
فقولي (مع المهابة) تكميل. وقولي (في بشر وفي أضم) تكميل آخره. والأضم بالتحريك: الغضب.
وبيت بديعية المقري قوله:
نجب الرجال بحبل المصطفى اعتصموا ... من الشقاء ونالوا الفوز بالنعم
التكميل فيه قوله (ونالوا الفوز بالنعم) .
شجاعة الفصاحة
ساوت شجاعته فيهم فصاحته ... فردهم معجزا بالكلم والكلم
هذا النوع لم يذكره أحد من علماء البديع, ولا نظمه أحد من أصحاب البديعيات. وهو من مستخرجات الشيخ أبي الفتح عثمان بن جني.
قال: هو عبارة عن حذف شيء من لوازم الكلام وثوقا بمعرفة السامع به.
قال الشريف الرضي في كتاب المجازات: كان شيخنا أبو الفتح يسمي هذا الجنس شجاعة الفصاحة, لأن الفصيح لا يكاد يستعمله إلا وفصاحته جريئة الجنان غزيرة المواد.
ومثاله قوله تعالى "حتى توارت بالحجاب" أي الشمس ولم يجر لها ذكر. وقوله "ولو دخلت عليهم من أقطارها" أي المدينة, ولم يجر لها ذكر. وقوله "إذا بلغت التراقي" أي الروح, ولم يجر فها ذكر. وقوله "إننا أنزلناه في ليلة القدر" أي القرآن, ولم يجر له ذكر. وقول نبيه عليه السلام وقد تذاكر الناس عنده الطاعون وانتشاره في الأمصار والأرياف (أرجو أن لا يطلع علينا نقابها) والنقاب جمع نقب, وهو الطريق في الجبل, يريد نقاب المدينة ولم يجر لها ذكر. لكنه أقام علم المخاطبين بها مقام تصريحه بذكرها.
وقول حاتم الطائي:
لعمرك يا يغني الثراء عن الفتى ... إذا حشرجت يوما وضاق بها الصدر
يريد النفس وقول العباس بن عبد المطلب يمدح النبي صلى الله عليه وآله وسلم:
من قبلها طبت في الظلال وفي ... مستودع حيث يخصف الورق
أي في ظلال الجنة. أراد أنه كان طيبا في صلب آدم عليه السلام. وقوله: من قبلها, أي من قبل الأرض, ومثل ذلك في كلامهم كثير.
وأكثر الأمثلة المذكورة عند علماء المعاني من وضع المضمر موضع المظهر, إما لاشتهاره ووضوح أمره, أو لأن الذهن لا يلتفت إلى غيره, أو لغير ذلك من الاعتبارات. وليس من الحذف في شيء كما لا يخفى, لكن أبن جني مثل لهذا النوع بالحديث السابق, فكأنه لاحظ أن المتكلم حذف من الكلام مرجع الضمير لعلم السامع به.
إذا عرفت ذلك فالشاهد في بيت البديعية في قوله (ردهم) يريد العرب الذين لم يؤمنوا به, ولم يجر لهم ذكر, لكنه أقام معرفة السامع مقام التصريح بذكرهم والله أعلم.
التشبيه
ماضيه كالبرق والتشبيه متضح ... ينهل في أثره ما لاح صوب دم
التشبيه ركن من أركان البلاغة. قال أبو العباس المبرد: لو قال قائل: هو أكثر كلام العرب لم يبعد. ولهم في تعريفه عبارات, فعرفه جماعة: بأنه الدلالة على مشاركة أمر لأمر آخر في معنى.
وقال الزنجاني: هو الدلالة على اشتراك شيئين في وصف, هو من أوصاف الشيء في نفسه, كالشجاعة في الأسد, والنور في الشمس. وقال الطيبي: هو وصف الشيء بمشاركة الآخر في معنى.
وقال ابن أبي الأصبع: هو إخراج الأغمض إلى الأظهر.
وقال بعضهم: هو إلحاق شيء بذي وصف في وصفه.
وقال آخر: هو أن يثبت للمشبه حكما من أحكام المشبه به.
إذا عرفت ذلك فاعلم أن التشبيه مما اتفق العقلاء على شرف قدره, وفخامة أمره في فن البلاغة, وأنه إذا جاء في أعقاب المعاني أفادها جمالا, وزادها كمالا, وضاعف قواها في تحريك النفوس إلى المقصود بها على اختلاف فنونها, وإن أردت تحقيق ذلك, فانظر إلى.
قول البحتري:
دان على أيدي العفاة وشاسع ... عن كل ند في الندى وضريب
كالبدر أفرط في العلو وضؤه ... للعصبة السارين جد قريب
وقول السري وفاء:(1/398)
أصبحت أظهر شكرا عن صنايعه ... وأضمر الود فيه إضمار
كيانع النخل يبدي للعيون ضحى ... طلعا نضيدا ويخفي غض جمار
وقال ابن لنكك:
إذا أخو الحسن أضحى فعله سمجا ... رأيت صورته من أقبح الصور
وهبك كالشمس في حسن ألم ترنا ... نفر منها إذا مالت إلى الضرر
وقول ابن الرومي:
بذل الوعد للأخاء سمحا ... وأبى بعد ذاك بذل العطاء
فغدا كالخلاف يورق للعي ... ن ويأبى الاثمار كل الإباء
وقول أبي تمام:
وإذا أراد الله نشر فضيلة ... طويت أتاح لها لسان حسود
لولا اشتعال النار فيما جاورت ... ما كان يعرف طيب عرف العود
وقس حالك وأنت في البيت الأول لم تنته إلى الثاني, على حالك وأنت قد انتهيت إليه ووقفت عليه, تعلم بعد ما بين حالتيك في تمكن المعنى لديك. وشاهد بعد الفرق بين أن تقول: الدنيا لا تدوم وتقتصر على ذلك, وبين أن تذكر عقيبه ما روي عنه عليه السلام: من في الدنيا ضيف وما في يديه عارية والضيف مرتحل, والعارية مردودة.
أو تنشد قول لبيد:
وما المال والأهلون إلا وديعة ... ولا بد يوما أن ترد الودائع
وبين أن تقول: أرى قوما لهم منظر وليس لهم مخبر وتسكت, وأن تتبعه.
وقول ابن لنكك:
في شجر السرو منهم مثل ... له رواء وماله ثمر
وانظر في جميع ذلك في الحالة الثانية كيف يتزايد شرفه عليه في الحالة الأولى, وسببه أن أنس النفوس موقوف على أن تخرجها من خفي إلى جلي وتأتيها بصريح بعد مكني, وأن تردها فيما تعلمه إلى ما هي بشأنه أعلم ولهذا كان التمثيل بالمشاهد أوقع, ولمادة الشبه أقطع.
واعلم أن التشبيه يستدعي خمسة أشياء: أحدها: الطرفين, أعني المشبه والمشبه به ليحصل التشبيه, لأنه من الأمور النسبية المفتقرة إلى المنتسبين.
الثاني: الوجه المشترك, ليجمع الطرفين.
الثالث: الغرض, ليصح العدول إليه من أصل المعنى, فلا يعد عيبا.
الرابع: الأحوال, ليحسن التشبيه برعاية مقبولها, والاحتراز عن مردودها.
الخامس: الأداة, لتوصل أحد الطرفين بالآخر لفظا, كما يوصله الوجه معنى, ولنبين ذلك في خمسة فصول.
الفصل الأول في الطرفين وهما إما حسيان كما في تشبيه الخد بالورد, والقد بالغصن, والفيل بالجبل في المبصرات, والصوت الضعيف بالهمس, وأطيط الرجل بأصوات الفراريج في المسموعات, والنكهة بالعنبر والمسك في المشمومات, والريق بالعسل والخمر في المذوقات, والجلد الناعم بالحرير, والخشن بالمسح في الملموسات. وإما عقليا, كتشبيه العلم بالحياة, والجهل بالموت.
وإلى هذا أشار الشاعر بقوله:
أخو العلم حي خالد بعد موته ... وأوصاله تحت التراب رميم
وذو الجهل ميت وهو ماش على الثرى ... يظن من الأحياء وهو عديم
وقال آخر:
رب حي كميت ليس فيه ... أمل يرتجى لنفع وضر
وعظام تحت التراب وفوق الأ ... رض منها آثار حمد وشكر
وإما مختلفان بأن يكون المشبه عقليا, والمشبه به حسيا, أو بالعكس, فالأول كتشبيه المنية بالسبع, فإن المنية وهو الموت, عقلي, لأنه عدم الحياة عما من شأنه الحياة والسبع حسي.
والثاني كما في تشبيه العطر بخلق كريم, فإن العطر -وهو الطيب- محسوس بالشم, والخلق وهو كيفية نفسانية تصدر عنها الأفعال بسهولة, عقلي.
قال الزنجاني في المعيار: وهذا القسم -أعني تشبيه المحسوس بالمعقول- غير جائر, لأن العلوم العقلية مستفادة من الحواس ومنتهية إليها, ولذلك قيل: من فقد حسا فقد علما. وإذا كان المحسوس أصلا للمعقول, فتشبيهه به يكون جعلا للفرع أصلا, والأصل فرعا, وهو غير جائز. ولذلك لو حاول محاول المبالغة في وصف الشمس في الظهور, والمسك في الطيب, فقال: الشمس كالحجة في الظهور, والمسك كخلق فلان في الطيب, كان سخيفا من القول. وأما ما جاء في الأشعار من تشبيه المحسوس بالمعقول, فوجهه أن يقدر المعقول محسوسا, فيجعل كالأصل في ذلك المحسوس على طريق المبالغة, فيصح التشبيه حينئذ. انتهى.
واعلم أن المراد بالحسي المدرك -هو أو مادته- بإحدى الحواس الخمس الظاهرة, وهي البصر, والسمع, والشم, والذوق؛ واللمس. فدخل فيه الخيالي, وهو الذي فرض مجتمعا من أمور كل واحد منها مدرك بالحس.
كما في قوله:(1/399)
كأن محمر الشقيق ... إذا تصوب أو تصعد
أعلام ياقوت نشر ... ن على رماح من زبرجد
فان الأعلام الياقوتية المنشورة على الرماح الزبرجدية مما لم يدركه الحس, لأن الحس إنما يدرك ما هو موجود في المادة, حاضر عند المدرك, على هيئات محسوسة مخصوصة به لكن مادته التي تركب هو منها كالأعلام والياقوت والرماح والزبرجد, كل واحد منها محسوس بالبصر.
والمراد بالعقلي, ما لا يكون -هو ولا مادته- مدركا بإحدى الحواس الخمس الظاهرة. فدخل فيه الوهمي, أي ما هو غير مدرك بها, ولكنه بحيث لو أدرك لكان مدركا بها.
كما في امرئ القيس:
أيقتلني والمشرفي مضاجعي ... ومسنونة زرق كأنياب أغوال
فان الأنياب الأغوال مما لا يدركه الحس لعدم تحققها, مع أنها لو أدركت لم تدرك إلا بحس البصر. وعليه قولع تعالى "طلعها كأنه رؤوس الشياطين". ودخل فيه أيضاً ما يدرك بالوجدان كالشبع والجوع واللذة والألم الحسيين.
الفصل الثاني في الوجه أعني وجه التشبيه, وهو المعنى الذي قصد اشتراك الطرفين فيه تحقيقا كالشجاعة في الأسد, إذا قلت: زيد كالأسد, أو تخيلا, والمراد به أن لا يوجد ذلك في أحد الطرفين أو كلاهما إلا على سبيل التخييل, والتأويل.
كقول القاضي التنوحي:
وكأن النجوم بين دجاها ... سنن لاح بينهن ابتداع
فان وجه الشبه فيه هو الهيئة الحاصلة من حصول أشياء مشرقة بيض في جوانب شيء مظلم أسود, فهي غير موجودة في المشبه به إلا على سبيل التخييل, وذلك أنه لما كانت البدعة وكل ما هو جهل تجعل صاحبها كمن يمشي في الظلمة, فلا يهتدي الطريق, ولا يأمن أن ينال مكروها شبهت بها. ولزم بطريق العكس إذا أريد التشبيه أن تشبه السنة وكل ما هو علم بالنور, وشاع ذلك حتى تخيل أن الثاني مما له بياض وإشراق, نحو: أيتتكم بالحنيفية البيضاء, والأول مما له سواد وظلمة, كقولك: شاهدت سواد الكفر من ناصية فلان, فصار تشبيه النجوم بين دجاها, بسنن بين الابتداع كتشبيهها ببياض الشيب في سواد الشباب. فظهر اشتراك النجوم بين الدجى والسنن بين الابتداع, في كون كل منهما شيئا ذا بياض بين شيء ذي سواد على طريق التأويل, وهو تخييل ما ليس يتلون, متلونا. وعلم أن قوله (لاح بينهم ابتداع) على سبيل القلب, والمعنى: سنن لاحت بين الابتداع. قيل: وكانت النكتة بيان كثرة السنن, حتى كأن البدعة هي التي تلمع من بينها.
ومن التشبه التخييلي قول أبي طالب الرقي:
لقد ذكرتك والظلام كأنه ... يوم النوى وفؤاد من لم يعشق
فإنه لما كانت أيام المكاره توصف بالسواد توسعا فيقال: من لم يعشق في عيني, وأظلمت الدنيا علي, وكان الغزل يدعي القسوة على من لم يعشق, والقلب القاسي يوصف بالسواد توسعا. تخيل يوم النوى, وفؤاد من لم يعشق شيئين لهما سواد, وجعلهما أعرف به وأشهر من الظلام فشبهه بهما.
ومثله قول الآخر:
رب ليل كأنه أملي في ... ك وقد رحت منك بالحرمان
وقول أبي العلاء المعري:
خبرني ماذا كرهت من الشي ... ب فلا علم لي بذنب المشيب
أضياء النهار أم وضح اللؤ ... لؤ أم كونه كثغر الحبيب
واذكري لي فضل الشباب وما ... يجمع من منظر يروق وطيب
غدره بالخليل أم حبه لل ... غي أم أنه كدهر الأديب
وقول الشيخ محمد باقشير المكي يصف سوداء:
زنجية من بنات الزنج تحسبها ... حظي تجسم جثمانا من البشر
وقول ابن طباطبا:
زاهرات كأنها زمن الجا ... هل في حندس كدهر الأديب
ومنه قول القاضي التنوخي:
أما ترى البرد قد وافت عساكره ... وعسكر الحر كيف انصاع منطلقا
فانهض بنار إلى فحم كأنهما ... في العين ظلم وإنصاف قد اتفقا
فانه لما كان يقال في الحق: أنه منير واضح فيستعار له صفة الأجسام المنيرة, وفي الظلم خلاف ذلك تخيلهما شيئين لهما إنارة وإظلام, فشبه النار والفحم بهما مجتمعين.
وقول ابن بابك:
وأرض كأخلاق الكرام قطعتها ... وقد كحل الليل السماك فأبصرا
فان الأخلاق لما كانت توصف بالسعة والضيق تشبيها لها بالأماكن الواسعة والضيقة, تخيل أخلاق الكرام شيئا له سعة, وجعله أصلا فيها فشبه الأرض الواسعة بها.
ثم وجه التشبيه إما واحد حقيقة, أو حكماً, وإما متعدد.(1/400)
فالأول وهو الواحد حقيقة, إما حسي وطرفاه حسيان كالحمرة, والخفاء وطيب الرائحة, والحلاوة, ولين الملمس؛ في تشبيه الخد بالورد, والصوت الضعيف بالهمس, والنكهة بالعنبر, والريق بالعسل, والجلد الناعم بالحرير, كما سبق. وإما عقلي وطرفاه حسيان, كمطلق حصول النجاة في تشبيه أهل البيت عليهم السلام بسفينة نوح عليه السلام في حديث أبي ذر, مثل (أهل بيتي مثل سفينة نوح, من ركبها نجا, ومن تخلف عنها هلك) .
ومطلق الاهتداء في قول الحماسي:
هينون لينون أيسار ذوو يسر ... سواس مكرمة أبناء أيسار
من تلق منهم تقل لاقيت سيدهم ... مثل النجوم التي يسري بها الساري
شبههم بالنجوم في مطلق حصول الاهتداء. وأما عقلي وطرفاه عقليان كالعراء عن الفائدة في تشبيه الشيء العديم النفع بعدمه, وجهة الإدراك في تشبيه العلم بالحياة.
ومنه قول الأرجاني:
أخلاقه نكت في المجد أيسرها ... لطف يؤلف بين الماء والنار
وإما عقلي والمشبه عقلي, والمشبه محسوس, كالهداية في تشبيه العلم بالنور, وتحصيل الزيادة والنقصان في تشبيه العدل بالقسطاس.
ومنه قول أبي الفراس:
كأن ثباته للقلب قلب ... وهيبته جناح للجناح
وإما عقلي والمشبه حسي, والمشبه به عقلي, كاستطابة النفس في تشبيه العطر بخلق كريم.
ومنه قول الصاحب بن عباد وقد أهدى إلى القاضي أبي الحسين عطرا:
يا أيها القاضي الذي نفسي له ... مع قرب عهد لقائه مشتاقه
أهديت عطرا مثل طيب ثنائه ... فكأننا أهدي له أخلاقه
وقول ابن المعتز:
معتقة صاغ المزاج لرأسها ... أكاليل در ما لمنظومها سلك
وقد خفيت من لطفها فكأنها ... بقايا يقين كاد يذهبها الشك
تنبيه: اعلم أن الوجه الحسي يرجع إلى العقلي لأنه مشترك بين الطرفين, والمشترك كلي, فوجه الشبه كلي والكلي لا يدرك بالحس بل بالعقل, فوجه الشبه لا يكون محسوسا البتة, وإنما سمي في نحو تشبيه الخد بالورد حسيا لأنه منتزع من أمرين محسوسين, وفي التسمية تسامح, وقول صاحب الإيضاح: إن المراد بكون وجه حسيا, كون أفراده مدركة بالحس لا يدفع التسامح.
الثاني وهو كون وجه الشبه واحدا حكما, والمراد به أن يكون غير واحد, لكنه بمنزلة الواحد لكونه مركبا من أمرين أو أمور, بمعنى أن يقصد إلى عدة أشياء مختلفة أو عدة أوصاف لشيء واحد, فتنتزع منها هيئة تجعل وجه تشبيه, وهو إما حسي.
كقول أبي بركات:
ترى أنجم الجوزاء والنجم فوقها ... كباسط كفيه ليقطف عنقودا
شبه الهيئة الحاصلة من النجوم المجتمعة على هيئة الباسط كفه لقبض نجوم كهيئة العنقود. فوجه الشبه وهو الهيئة المخصوصة منتزع في المشبه من هيئة الجوزاء, وهيئة النجوم التي هي يدها, وهيئة الثريا, وكونها فوق الجوزاء قريبة من يدها. وفي المشبه به من هيئة القاطف وبسط يده, وهيئة العنقود. وكونه القاطف قريبا من يده. فهو أمر منتزع من عدة أمور.
وقول الآخر:
كأن شعاع الشمس في كل غدوة ... على ورق الأشجار أول طالع
دنانير في كف الأشل يضمها ... لقبض فتهوى من فروج الأصابع
شبه الهيئة الحاصلة من شعاع الشمس في أول طلوعها عند هبوب النسيم الذي قلما يفقد في الغدوات, لأنها حينئذ تثقب بإشراقها الكوى والفرج, بخلاف ما إذا أخذت في الاستواء على ورق الأشجار المضطربة بسبب تموج الهواء, بالهيئة الحاصلة من الدنانير المجلوة في كف الأشل, حين يهم بالقبض عليها, فتمنعه حركته الغير الإرادية, فتهوي الدنانير من فروج الأصابع متناثرة على غير نظام. فوجه الشبه -وهو أصول أشياء مستديرة لها صفرة ولمعان, تتناثر لا على نظام عقيب حركة مضطربة, هيئة مدركة بالحس- من عدة أمور كما ترى.
وقول الآخر, وهو من بديع هذا النوع:
كانت سراج أناس يهتدون بها ... في سالف الدهر قبل النار والنور
تهتز في الكف من ضعف ومن هرم ... كأنها قبس في كف مقرور
شبه الهيئة الحاصلة من حركة الخمر وانعدامها, ومنع الكأس إياها عنه من شروق أشعتها, بالهيئة الحاصلة من حركة النار الضعيفة في كف من أصابه البرد الشديد, وهو يريد أن يصونها من الإطفاء. ويحتمل أن يؤخذ مجرد الحركة فيهما مع الإشراق, فلا يكون فيه دقة.
ومنه قول الوزير المهلبي:(1/401)
والشمس من مشرقها قد بدت ... مشرقة ليس لها حاجب
كأنها بوتقة أحميت ... يجول فيها ذهب ذائب
شبه الهيئة الحاصلة من استدارة الشمس مع الإشراق, والحركة السريعة المتصلة, وما يحصل في الإشراق بسبب تلك الحركة من التموج والاضطراب, حتى يرى الشعاع كأنه يهم بأن ينبسط حتى يفيض من جوانب الدائرة, ثم يبدو له فيرجع من الانبساط إلى الانقباض, كأنه يجمع من الجوانب إلى الوسط, بالهيئة الحاصلة من البوتقة إذا حميت, وذاب فيها الذهب, وتشكل بشكلها في الاستدارة, وأخذ يتحرك فيها بجملته تلك الحركة العجيبة, كأنه يهم بأن ينبسط حتى يفيض من جوانبها, لما في طبعه من النوم, ثم يبدو له فيرجع إلى الانقباض, لما بين أجزائه من شدة الاتصال والتلاحق. ولذلك لا يقع فيه غليان على الضفة التي تكون في الماء ونحوه مما يتخلله الهواء.
ومن لطيف هذا النوع قول سعيد بن حميد:
حفت بسرو كالقيان تحلفت ... خضر الحرير على قوام معتدل
فكأنها والريح جاء يميلها ... تبغي التعانق ثم يمنعها الخجل
فان فيه تفصيلا دقيقا, وذلك انه راعى حركة التهيؤ للدنو والعناق, وحركة الرجوع إلى أصل الافتراق. وأدى ما يكون في الحركة الثانية من سرعة زائدة تأدية لطيفة, لأن حركة الشجرة المعتدلة في حال رجوعها إلى اعتدالها أسرع لا محالة من حركة من يهم بالدنو, لأن إزعاج الخوف أقوى أبدا من إزعاج الرجاء.
وما أحسن قول الجدلي:
لدى اقحوانات حففن بناصع ... من الورد مخضل الغصون نضيد
تميلها أيدي الصبا فكأنها ... ثغور هوت شوقا لعض خدود
وإما عقلي كما في قوله تعالى "مثل الذين حملوا التوراة ثم لم يحملوها" أي لم يعملوا بها "كمثل الحمار يحمل أسفارا" فإن وجه الشبه وهو حرمان الانتفاع بأبلغ نافع مع تحمل التعب في استصحابه, أمر عقلي منتزع من عدة أمور, لأنه روعي من الحمار فعل مخصوص هو الحمل, وأن يكون المحمول شيئا مخصوصا وهو الأسفار التي هي أوعية العلوم, وإن الحمار جاهل بما فيها, وكذا في جانب المشبه.
تنبيه: -قد يقع بعد أداة التشبيه أمور يظن أن المقصود أمر منتزع من بعضها, فيقع الخطأ لكونه أمرا منتزعا من جميعها.
كقوله:
كما أبرقت قوما عطاشا غمامة ... فلما رأوها أقشعت وتجلت
فانه ربما يظن أن الشطر الأول منه تشبيه مستقل بنفسه لا حاجة إليه ولكن التأمل بظهر أن غرض الشاعر في تشبيهه أن يثبت ابتداء مطمعا متصلا بانتهاء مؤيس, وذلك يتوقف على البيت كله.
فان قيل: هذا يقتضي أن يكون بعض التشبيهات المجتمعة كقولنا: زيد يصفو ويكدر, تشبيها واحدا, لأن الاقتصار على أحد الخبرين يبطل الغرض من الكلام, لأن الغرض منه وصف المخبر عنه بأنه يجمع بين الصفتين, وإن إحداهما لا تدوم.
قلت: الفرق بينهما أن الغرض في البيت أن يثبت ابتداء مطمعا متصلا بانتهاء مؤيس كما مر, وكون الشيء ابتداء الآخر زائد على الجمع بينهما, وليس في قولنا: يصفو ويكدر, أكثر من الجمع بين الصفتين, ونظير البيت قولنا: يصفو ثم يكدر, لإفادة ثم, الترتيب المقتضي ربط الوضعين بالآخر.
وقد ظهر بما ذكرنا أن التشبيهات المجتمعة تفارق التشبيه المركب في مثل ما ذكرنا بأمرين: أحدهما لا يجب فيها ترتيب, والثاني: إنه إذا حذف بعضها لا يتغير حال الباقي في إفادة ما كان يفيد قبل الحذف, فإذا قلنا: زيد كالأسد بأسا, والبحر جودا, والسيف مضاء, لا يجب لهذه التشبيهات نسق مخصوص, بل لو قدم التشبيه بالسيف جاز, ولو أسقط واحد من الثلاثة لم يتغير حال غيره في إفادة معناه. قاله الخطيب في الإيضاح.
الثالث -وهو أن يكون وجه الشبه أمورا متعددة, إما حسي كلها كاللون والطعم والرائحة في تشبيه فاكهة بأخرى.
ومنه قول المطراني:
مهفهفة لها نصف قضيب ... كخوط البان في نصف رداح
حكت لونا ولينا واعتدالا ... ولحظا قاتلا سمر الرماح
وإما عقلي كله, كحدة النظر, وكمال الحذر, وإخفاء السفاد في تشبيه طائر بالغراب.
ومنه قول المعري:
والخل كالماء يبدي لي ضمائره ... مع الصفاء ويخفيها مع الكدر
وإنما جعلناه في هذا النوع ولم نجعله من الواحد حكما, لأن كلا من الأمرين العقليين المذكورين يستقل وجها للشبه.(1/402)
وإما مركب منهما, كحسن الطلعة, ونباهة الشأن في تشبيه إنسان بالشمس.
ومنه قول ابن الفارض:
لها البدر كأس وهي شمس يديرها ... هلال وكم يبدو إذا مزجت نجم
شبه الكأس بالبدر في الاستدارة, وهي حسية, وفي اقتباس النور واستفادة التسمية عند الكمال, وهما عقليان, وشبه المدامة بالشمس في الإشراق؛ وهو حسي؛ وفي إفاضة النور, وهو عقلي, وشبه الساقي بالهلال في سرعة الدوران, وهو حسي؛ وفي استجلاب النواظر, وهو عقلي, وشبه الحبب بالنجم في الهيئة المخصوصة من الاستعارة, والبياض والمقدار المخصوص, وذلك أمر محسوسن وفي أنه يحدث بواسطة المزج بالماء الكاسر سورتها, كما أن ضوء النجم إنما يبدو إذا حجب سلطان الشمس, وهذا الوجه العقلي.
تنبيهات الأول: الوجه الحسي لا يكون طرفاه -أعني المشبه والمشبه به- إلا حسيين, سواه كان بتمامه حسيا أو متعددا مختلفا, لامتناع أن يدرك بالحس من غير الحسي شيء. والعقلي أعم, فيجوز أن يكون طرفاه حسيين, وإن يكون عقليين, وأن يكون أحدهما حسيا والآخر عقليا, لجواز أن يدرك بالعقل من الحسي شيء, إذ لا امتناع في قيام المعقول بالمحسوس, بل كل محسوس, فلها أوصاف بعضها حسي وبعضها عقلي, ولذلك يقال: التشبيه بالوجه الحسي بمعنى أن كلما يصح فيه التشبيه أن يكون بالوجه الحسي يصح بالوجه العقلي دون العكس.
الثاني: من حق وجه التشبيه أن يكون شاملا للطرفين, كما إذا جعل وجه الشبه في قولهم: النحو في الكلام كالملح في الطعام, كون استعمالها مصلحا, وإهمالها مفسدا, دون كون القليل مصلحا, والكثير مفسدا, لأن النحو لا يحتمل القلة والكثرة بخلاف الملح.
ومما يتصل بهذا, ما حكي أن ابن شرف القيرواني أنشد ابن رشيق قوله:
غير جني وأنا المعاقب فيكم ... فكأنني سبابة المتندم
وقال له: هل سمعت بهذا المعنى؟ فقال ابن رشيق: نعم سمعته, وأخذته أنت وأفسدته.
أما الأخذ فمن النابغة الذبياني حيث يقول:
لكلفتني ذنب امرئ وتركته ... كذي العر يكوي غيره وهو رائع
وأما الإفساد, فلأن سبابة المتندم أول شيء يتألم منه, فلا يكون المعاقب غير الجاني, وهذا بخلاف بين النابغة, فإن المكوي يتألم وما به عر وصاحب العر لا يتألم جملة.
الثالث: قد يعتبر في القسم الثاني من أقسام وجه التشبيه -وهو المتعدد حقيقة- الواحد حكما مجرد الهيئة الحاصلة وقت التشبيه دون سائر الأوصاف, من اللون والشكل وغيرهما.
كما في قول ابن المعتز:
وكأن البرق مصحف قار ... فانطباقا مرة وانفتاحا
فانه يشبه حركة البرق بحركة المصحف حين يتم القاري قراءة صفحته فيضم دفتي المصحف ليفتح من الورقة الأخرى, ولم ينظر فيه إلى شيء من أوصاف المشبه والمشبه به, سوى الهيئة الحاصلة من حركة انبساطية عقيب حركة انقباضية.
كما اعتبر مجرد الصفة دون المقدار أيضاً في قوله:
والليل كالحلة السوداء لاح به ... من الصباح طراز غير مرقوم
شبه الليل بالحلة, والصباح بطراز الثوب, ووجه الشبه ظهور شيء أبيض مستطيل خلال سواد شامل, من غير نظر إلى مقدار السواد والبياض, فإن تفاوت المقدار بين الليل والحلة والصبح والطراز شديد. ومنه قوله تعالى "والقمر قدرناه منازل حتى عاد كالعرجون القديم" فانه شبه الهلال في هيئة نحوله وتقوسه بالعرجون لا في المقدار, لان في مقدار الهلال عظما في الحقيقة, والعرجون في مرأى النظر أعظم منه.
ومن هذا الباب قوله تعالى "إن مثل عيسى عند الله كمثل آدم خلقه من تراب" من وجه, فإن تشبيه عيسى بآدم عليهما السلام في كونهما وجدا بغير أب, من غير نظر إلى أن آدم عليه السلام وجد بغير أم أيضاً بخلاف عيسى عليه السلام. وهذا القدر من المخالفة لا يمنع من إيراد التشبيه. فإن المماثلة مشاركة في بعض الأوصاف.
الرابع: قد يتسامح في وجه, فيسمى ملزوم الوجه وجها, تسهيلا للتناولن كما في تشبيه فصيح الكلام بالعسل في الحلاوة, وبالماء في السلاسة وبالنسيم في الرقة, وتشبيه الحجة البينة التأليف بالشمس في الظهور. فإن الوجه فيها ميل الطبع اللازم للسلاسة, والرقة, وإزالة الحجاب اللازم للظهور, فأقيمت الملزومات مقام اللوازم.
الفصل الثالث في الغرض(1/403)
وهو ما يقصده المتكلم من إيراد التشبيه, وهو يعود في الأغلب إلى التشبيه, وقد يعود إلى المشبه به. فالأول على وجوه: أحدها, بيان حاله, كما في تشبيه ثوب بثوب آخر في السواد, إذا علم لون المشبه به دون المشبه. وهذا الوجه يقتضي كون المشبه أعرف بوجه الشبه.
الثاني: بيان مقدار حاله في القوة والضعف, والزيادة والنقصان.
كما إذا شبهت أسود بخافية الغراب, قال:
مداد مثل خافية الغراب ... وأقلام كمرهفة الحراب
وعليه قول الآخر:
فأصبحت من ليلى الغداة كقابض ... على الماء خانته فروج الأصابع
أي بلغت في بوار سعيي في الوصول إليها, وأن أمنع عنها, أقصى الغايات, حتى لم أحظ بما قل ولا كثر, وهذا الوجه يقتضي كون المشبه به أخص من المشبه بوجه الشبه, مساويا له في المقدار حقيقة أو ادعاء.
الثالث: بيان وجوده, كما إذا شبه معقول في الذهن بأحد أفراده في الخارج, دلالة على وجوده, نحو الكلمة, كزيد, ويسمى مثلا.
الرابع: بيان إمكان وجوده, وذلك عند ادعاء ما لا يكون إمكانه بينا, فيمكن أن يخالف فيه ويدعى امتناعه, فيؤتى بالتشبيه لبيان إمكانه.
كقول ابن الرومي:
كم من أب قد علا بابن ذرى شرف ... كما علت برسول الله عدنان
وقول أبي الطيب:
فإن نفق الأنام وأنت منهم ... فان المسك بعض دم الغزال
فانه أراد أن يقول: إن الممدوح قد فاق الناس, بحيث لم يبق بينهم وبينه مشابهة, بل صار أصلا برأسه, وجنسا بنفسه. وهذا في الظاهر كالممتنع, لاستبعاد أن يتناهى بعض آحاد النوع في الفضائل الخاصة بذلك النوع, إلى أن يصير كأنه ليس منها, فاحتج لهذه الدعوى وبين إمكانها, بان شبه حاله بحال المسك الذي هو من الدماء, ثم أنه لا يعد من الدماء, لما فيه من الأوصاف الشريفة التي لا توجد في الدم.
فان قلت: أين التشبيه في هذا البيت؟.
قلت: يدل البيت عليه ضمنا, لأن المعنى: إن نفق الأنام مع أنك واحد منهم, فلا استبعاد في ذلك, لأن المسك بعض دم الغزال وقد فاته حتى لا يعد منه, فحالك شبيه بحال المسك. وليسم مثل هذا تشبيها ضمنيا, أو تشبيها مكنيا عنه. قاله التفتازاني في شرح التلخيص. وهذا الوجه كالذي قبله يقتضي كون المشبه به مسلم الحكم, فيكون أعرف به لا محالة.
الخامس: تقدير حاله عند السامع, وتقوية شأنه, كما إذا شبهت من لا يحصل من سعيه على طائل, بمن يرقم على الماء, فانك تجد فيه من تقرير عدم الفائدة, وتقوية شأنه ما لا تجد في غيره, وما ذلك إلا لان إلف النفس بالحسيات أتم من إلفها بالعقليات, لتقدم الحسيات على العقليات بالزمان.
ألا ترى انك إذا أردت الإشارة إلى تنافي شيئين فأشرت إلى ماء ونار, وقلت: هذا وذاك هل يجتمعان؟ كان تأثير ذلك زائدا على قولك: هل يجتمع الماء والنار؟ وكذلك لو قلت في وصف طول يوم: يوم كأطول ما يتوهم, أو كأنه لا آخر له.
أو أنشدت قول الشاعر:
في ليل صول تناهى العرض والطول ... كأنما ليله بالليل موصول
لم يجد فيه السامع من الأنس ما يجده في قول الآخر:
ويوم كظل الرمح قصر طوله ... دم الزق عنا واصطكاك المزاهر
وما ذاك إلا للتشبيه المحسوس, وإلا فالأول أبلغ, لأن طول الرمح متناه, وفي الأول حكمت بان الليل موصول. وكذلك إذا قلت في قصر اليوم: يوم أقصر ما يكون, وكأنه ساعة أو لمحة بصر.
لم تجد فيه ما تجده في قول القائل:
ظللنا عند دار أبي أنيس ... بيوم مثل سالفه الذباب
وقوله:
ويوم كإبهام القطاة مزين ... إلي صباه غالب لي باطله
وهذا الوجه يقتضي كون وجه الشبه في المشبه به أتم, وهو به أشهر.
السادس: تقرير تحقيقه كيلا يستبعد وقوعه كقوله تعالى "وإذا نتقنا الجبل فوقهم كأنه ظلة" قرر ما لم تجربه العادة من نتق الجبل فوق رؤوسهم, بالتشبيه بما جرت به العادة من الظلة المحسوسة, وهي كل ما أظلك, وهذا الوجه يقتضي كون وجه الشبه في المشبه به أشهر.
والفرق بينه وبين قول المتنبي (وإن تفق الأنام) البيت, إن ذاك مستبعد عقلا, وهذا لا يستبعده العقل أصلا, لجزمه بان مثله سهل على الله جلت قدرته, لكنه خارق للعادة, وللنفس بالعادة إلف عظيم, فشبه بما هو معتاد.
السابع: إظهار التزيين للترغيب فيه, كما في تشبيه وجه أسود بمقلة الظبي.(1/404)
وعليه قول القائل:
رب سواد وهي بيضاء معنى ... يحسد المسك عندها الكافور
مثل حب العيون تحسبه النا ... س سوادا وإنما ونور
الثامن: إظهار التشويه للتنفير عنه, كما في تشبيه وجه مجدور بسلحة جامدة قد نقرتها الديكة, وهذا الوجه والذي قبله يقتضيان كون الاستحسان والاستقباح, في المشبه به أتم. قال بعضهم: والتشبيه في طرفي الترغيب والتنفير أبلغ من سائر الصفات.
كقول البحتري في الورد:
أما ترى الورد يحكي خجله ظهرت ... في صحن خد من المعشوق منعوت
كأنه فوق ساق من زبرجدة ... نثر من التبر في محمر ياقوت
حيث شبهه بصورة خد المعشوق, ومثله بالتبر والياقوت والزبرجد وبضده فعل ابن الرومي لا شكر سعيه فيه حيث قال:
وقائل لم هجوت الورد مقتبلا ... فقلت من شؤمه عندي ومن سخطه
كأنه سرم بغل حين أخرجه ... عند البراز وباقي الروث في وسطه
التاسع: قصد استطرافه, وذلك أن يكون المشبه به أمرا غريبا نادر الحضور في الذهن مطلقا, فيكتسي المشبه غرابة منه, فيستطرف كما في تشبيه فحم فيه جمر متوقد, ببحر من المسك موجه الذهب لإبرازه في صورة الممتنع عادة.
وقط نظمت ذلك فقلت:
انظر إلى الفحم فيه الجمر متقد ... كأنه بحر مسك موجه الذهب
أو يكون نادر الحضور عند ذكر المشبه, كما في قول ابن المعتز في البنفسج:
ولازوردية تزهو برزقتها ... بين الرياض على حمر اليواقيت
كأنها فوق قامات ضعفن بها ... أوائل النار في أطراف كبريت
فان صورة اتصال النار بأطراف الكبريت لا يندر حضورها في الذهن ندرة حضور بحر من المسك موجه الذهب, وإنما النادر حضورها عند حضور البنفسج, فإذا حضر مع صحة الشبه استطرف لمشاهدة عناق بين صورتين لا تتراءى ناراهما.
ووجه آخر: وهو أنه أثبت التماثل بين أوراق رطبة غضة ناضرة يجري فيها ماء الحسن, وجسم ذابل يابس استولى عليه لهب النار, مع أنهما لا يتعانقان في خيال أبدا, ولذلك بلغ من الاستطراف حدا يتنافس فيه.
يحكى أن جريرا قال لما أنشد عدي بن الرقاع قوله:
عرف الديار توهما فاعتادها ... من بعد ما لبس أبلادها
إلى قوله: (تزجي أغن كان إبرة روقه) رحمته, وقلت: قد وقع, ما عساه أن يقول وهو أعرابي جلف جاف.
فلما قال: (قلم أصاب من الدواة مدادها) استحالت الرحمة حسدا وما كنت رحمته أولاً, وحسده ثانياً, إلا لأنه رآه حين افتتح التشبيه بذكر ما لا يحضر له في بدء الفكر شبه, وهو أعرابي جلف ليس ممن يتعمق في الفكر, ويمعن النظر, حتى يفوز بما هو مناسب, رحمه, وحين رآه ظفر بأقرب صفة لا يجتمع معه في أبدى ذهن حسده.
ومن النادر الحضور, لتباعد الطرفين وندرة اجتماع أحدهما مع الآخر ما يحكى أن أبا تمام لما انتهى في قصيدته البائية إلى قوله:
يرى أقبح الأشياء خيبة آمل ... كسته يد المأمول حلة خائب
وأحسن من نور تفتحه الصبا ... .............................
وقف يردده ويطلب مشبها به, فإذا سائل بالباب يقول: من بياض عطاياكم في سواد مطالبنا, فقال (بياض العطايا في سواد المطالب) .
والثاني, وهو كون الغرض عائدا إلى مشبه به على نوعين.
أحدهما: إيهام أن المشبه به أتم في وجه التشبيه للمبالغة, لان المشابه حقه أن يكون أعرف بوجه التشبيه وأقوى, فإذا عكس كان مبالغة.
كقول محمد بن وهيب:
وبدا الصباح كأن غرته ... وجه الخليفة حين يمتدح
فانه قصد إيهام أن وجه الخليفة أتم من الصباح في الوضوح والإنارة, وفي قوله: حين يمتدح, دلالة على إنصاف الممدوح بمعرفة حق المادح, وتعظيم شأنه عند الحاضرين بالإصغاء إليه والارتياح له, وعلى كونه كاملا في الكرم, يتصف بالبشر والطلاقة عند استماع المديح.
ويسمى هذا النوع: التشبيه المقلوب, وقد يسمى بالطرد والعكس, لأن عود الفائدة إلى ما هو مشبه حقيقة مطرد وإن عكس التشبيه. وتقرير ذلك أن الغرض العائد إلى المشبه لا يتفاوت إذا كان منعكسا إلا في بيان المبالغة, لأنك إذا قلت: الأسد كزيد, كان الغرض يعود إلى وصف زيد, لكن أبلغ من الأول, ففي كلا الحالتين الغرض عائد إلى المشبه, ومطرد في حقه.(1/405)
ومنه قوله تعالى حكاية عن مستحلي الربا "إنما البيع مثل الربا" فإن مقتضى الظاهر هو أن يقال: إنما الربا مثل البيع, لان الكلام في الربا لا في البيع, فخالفوا بجعلهم الربا في الحل أقوى من البيع وأعرف به.
الثاني: بيان الاهتمام بالمشبه به, كتشبيه الجائع وجها كالبدر في الإشراق والاستدارة, بالرغيف, إظهارا للاهتمام بشأن الرغيف لا غير, وهذا يسمى: إظهار المطلوب, ولا يحسن المصير إليه إلا في مقام الطمع في تسني المطلوب.
كما يحكى عن الصاحب بن عباد, أن قاضي سجستان دخل عليه فوجده الصاحب متفننا فأخذ يمدحه, حتى قال (وعالم يعرف بالسجزي) وأشار إلى الندماء أن ينظموا على أسلوبه, ففعلوا واحدا بعد واحد, إلى أن انتهت النوبة إلى شريف في البين فقال (أشهى إلى النفس من الخبز) فأمر الصاحب أن تقدم له مائدة.
هذا كله -أعنى ما ذكرناه- من جعل أحد الشيئين مشبها, والآخر مشبها به, إنما يكون إذا أريد إلحاق الناقص بالزائد حقيقة أو دعاء. فإن أريد الجمع بين شيئين في أمر من الأمور من غير قصد إلى كون أحدهما زائدا والآخر ناقصا, سواء وجدت الزيادة والنقصان أو لم توجد, فالأحسن ترك التشبيه إلى الحكم بالتشابه, ليكون كل واحد من الشيئين مشبها ومشبها به, احترازا من ترجيح المتشابهين في وجه الشبه.
كقول ابن نباتة السعدي:
فو الله ما أدري أتلك مدامة ... من الكرم تجنى أم من الشمس تعصر
إذا صبها جنح الظلام وعبها ... رأيت رداء الشمس يطوى وينشر
وقول الصاحب:
رق الزجاج ورقت الخمر ... فتشابها وتشاكل الأمر
فكأنما خمر ولا قدح ... وكأنما قدح ولا خمر
وقول أبي إسحاق الصابي:
جرت الدموع دما وكأسي في يدي ... شوقا إلى من لج في هجراني
فتخالف الفعلان شارب قهوة ... يبكي دما وتشابه اللونان
فكأن ما في الجفن من كأسي جرى ... وكأن ما في الكأس من أجفاني
ويجوز التشبيه أيضاً كتشبيه غرة الفرس بالصبح, والصبح بغرة الفرس, متى أريد إظهار منير في مظلم أكثر منه, وتشبيه الشمس بالمرآة المجلوة, والدينار الخارج من السكة, وبالعكس, متى أريد استدارة متلالي متضمن لخصوص من اللون, وإن عظم التفاوت بين بياض الصبح وبياض الغرة, ولون المرآة والدينار, وبين الجرمين, فانه ليس شيء من ذلك بمنظور إليه في التشبيه.
الفصل الرابع في الأحوال وهي كيفيات يحصل بها حسن التشبيه وقبحه, وقبوله ورده. أما أحوال الحسن فعلى وجوه: أحدها: أن يكون سليما من الابتذال لا تستعمله العامة. كقولهم في السواد كالفحم, وفي البياض كالثلج, لان تجدد صورة عند النفس أحب من مشاهدة معاد, ألا ترى أن الثمرة البالغة حد الكمال في النضج لا يرغب فيها رغبة الباكورة, والبدر التام لا يلتفت إليه التفات الهلال, والشمس في الشتاء أعز منها في الصيف, ولا يتجشم للأهل والأقارب ما يتجشم للضيف.
الثاني: أن يكون أدراك وجه الشبه فيه مرتفعا عن أذهان العامة, كقول فاطمة الأنمارية في بنيها الكملة, وهم, ربيع الكامل, وعمارة الوهاب, وقيس الحفاظ, وأنس الفوارس أولا زياد العبسي -وقد سئلت أيهم أفضل- فقالت: عمارة؛ لا؛ بل أنس؛ لا؛ ثم قالت: ثكلتهم إن كنت أعلم أيهم أفضل؛ وهم كالحلقة المفرغة لا يدرى أين طرفاها؛ أي هم متناسبون في الفضل, يمتنع تعيين بعضهم فاضلا, وبعضهم أفضل منه. كما أن الحلقة المفرغة متناسبة الأجزاء في الصورة؛ يمتنع تعيين بعضها طرفا وبعضها وسطا؛ لكونها مفرغة مصمتة الجوانب. فوجه الشبه في هذا التشبيه (وهو التناسب) لا يدركه إلا الخاصة الذين ارفعوا عن طبقة العامة.
الثالث: أن يكون التشبيه بعيدا غريبا لا يدرك في بدء الفكر. أما لندور حضور المشبه به عند حضور المشبه كما مر من تشبيه البنفسج بنار الكبريت, أو مطلقا لكونه وهميا كتشبيه نصال السهام بأنياب الأغوال, أو مركبا عقليا كتشبيه مثل أحبار اليهود بمثل الحمار يحمل أسفارا, أو لقلة تكرره على الحس كقوله (والشمس كالمرآة في كف الأشل) فإن المرآة في كف الأشل قليل التكرار على الحس, بل ربما يقضي الرجل دهره ولا يتفق له أن يرى مرآة في يد الأشل.
ولهذا كان قول الصنوبري:
وكأن أجرام النجوم لوامعا ... درر نثرن على بساط أزرق
أفضل من قول ذي الرمة:(1/406)
كحلاء في برج صفراء في دعج ... كأنها فضة قد مسها ذهب
لأن الأول مما يندر وجوده, دون الثاني فإن الناس أبدا يرون في الصياغات فضة قد موهت بذهب, ولا يكاد يتفق أن يوجد درر قد نثرن على بساط أرزق.
وإما لكونه كثير التفصيل, كتشبيه المرآة بالشمس في كف الأشل, فإن وجه التشبيه فيه هو الهيئة الحاصلة من الاستدارة, مع الإشراق والحركة السريعة المتصلة, مع تموج الإشراق واضطرابه, حتى يرى الشعاع كأنه يهم بأن ينبسط حتى يفيض من جوانب الدائرة, ثم يبدو له فيرجع إلى الانقباض وهذه الهيئة لا تقع في نفس الرائي للمرآة الدائمة الانقباض إلا بعد أن يستأنف تأملا, ويكون في نظره متمهلا, فالغرابة في هذا التشبيه من وجهين: أحدهما: قلة تكرار المشبه به على الحس.
والثاني: كثرة التفصيل في وجه الشبه.
والمراد بالتفصيل أني يعتبر في الأوصاف وجودها أو عدمها, أو وجود بعضها وعدم بعضها, كل من ذلك من أمر واحد, أو أمرين أو ثلاثة أو أكثر.
ويقع على وجوه كثيرة أعرفها وأبلغها وجهان: أحدهما: أن تأخذ بعضا من الأوصاف وتدع بعضا.
كما في قول امرئ القيس:
حملت ردينيا كأن سنانه ... سنا لهب لم يتصل بدخان
ففصل السنا عن الدخان وأثبته مجردا.
والثاني: أن يعتبر الجميع.
كما في قول الآخر:
وقد لاح في الصبح الثريا كما ترى ... كعنقود ملاحية حين نورا
فانه اعتبر من الأنجم الشكل والمقدار, واجتماعها على المسافة المخصوصة في القرب, ثم اعتبر مثل ذلك في العنقود المنورة من الملاحية -وهي بضم الميم- وهي عنب أبيض في حبه طول.
وكلما كان التركيب من أمور أكثر كان التشبيه أبعد وأبلغ, كقوله تعالى "إنما مثل الحياة الدنيا كماء أنزلناه من السماء فاختلط به نبات الأرض مما يأكل الناس والأنعام حتى إذا أخذت الأرض زخرفها وازينت وظن أهلها أنهم قادرون عليها أتاها أمرنا ليلا أو نهارا فجعلناها حصيدا كأن لم تغن بالأمس" فإنها عشر جمل فصلت. وهي وإن دخل بعضها في بعض حتى صارت كلها كأنها جملة واحدة, فإن ذلك لا يمنع من أن تشير أليها واحدة واحدة, ثم إن التشبيه منتزع من مجموعها من غير أن يكون فصل بعضها عن بعض, حتى لو أخذت منها جملة أخل ذلك بالمغزى من التشبيه.
ومن أبلغ الاستقصاء في التفصيل وعجيبه قول ابن المعتز:
كأنا وضوء الصبح يستعجل الدجى ... نطير غرابا ذا قوادم جون
شبه ظلام الليل حين يظهر فيه ضوء الصبح بأشخاص الغربان, ثم شرط أن يكون قوادم ريشها أيضاً, لأن تلك الفرق من الظلمة تقع حواشيها من حيث يلي معظم الصبح وعموده لمع نور يتخيل منها في العين كشكل قوادم بيض. وتمام التدقيق في هذا التشبيه, أن جعل ضوء الصبح لقوة ظهوره ورفعه ظلام الليل, كأنه يحفز الدجى ويتسعجلها, ولا يرضى منها بأن تتمهل في حركتها, ثم لما راعى ذلك في التشبيه ابتداء راعاه آخرا, حيث قال (نطير غرابا) ولم يقلك غراب يطير نحوه, لأن الطائر إذا كان واقعا في مكان فازعج وأطير منه, أو كان قد حبس في يد أو قفص فارسل كان لا محالة أسرع لطيرانه, وأدعى له أن يستمر على الطيران حتى يصير إلى حيث لا تراه العيون, بخلاف ما إذا طار عن اختيار, فانه يجوز أن لا يسرع في طيرانه وإن يصير إلى مكان قريب من مكانه الأول.
وإذا قد تحققت ما ذكرنا في التفصيل علمت أن قول امرئ القيس في وصف السنان أعلى طبقة من قول الآخر:
يتابع لا يبتغي غيره ... بأبيض كالقبس الملتهب
لخلو هذا من التفصيل الذي تضمنه قول امرئ القيس, وهو قصر التشبيه على مجرد السنا, وتصويره مقصورا عن الدخان, ومعلوم أن هذا لا يقع في الخاطر أول وهلة, بل لا بد فيه من أن يثبت وينظر في حال كل من الفرع والأصل حتى يقع في النفس أن في الأصل شيئا يقدح في حقيقة التشبيه, وهو الدخان الذي يعلو رأس الشعلة.
وكذا قول بشار:
كأن مثار النقع فوق رؤوسنا ... وأسيافنا ليل تهاوت كواكبه
أعلى طبقة من قول أبي الطيب:
يزور الأعادي في سماء عجاجة ... أسنته في جانبيها الكواكب
وقول الآخر:
تبني سنابكها من فوق أرؤسهم ... سقفا كواكبه البيض المباتير(1/407)
لأن كل واحد منهما وإن راعى التفصيل في التشبيه فانه اقتصر على أن أراك لمعان السيوف في أثناء العجاجة, بخلاف بشار, فانه لم يقتصر على ذلك بل عبر عن هيئة السيوف وقد سلت من أغمادها وهي تعلو وترسب وتجئ وتذهب, وهذه الزيادة زادت التفصيل تفصيلا, لأنها لا تقع في النفس إلا بالنظر إلى أكثر من جهة واحدة, وذلك أن للسيوف في حال احتدام الحرب, واختلاف الأيدي فيها للضرب اضطرابا شديدا, وحركات سريعة ثم لتلك الحركات جهات مختلفة وأحوال تنقسم بين الاعوجاج والاستقامة والارتفاع والانخفاض, ثم هي باختلاف هذه الأمور تتلاقى وتتداخل ويصدم بعضها بعضا, ثم أشكالها مستطيلة, فنبه على هذه الدقائق بكلمة واحدة هي قوله (تهاوى) فإن الكواكب إذا تهاوت اختلفت جهات حركاتها, وكان لها في تهاويها تدافع وتداخل, ثم إنها بالتهاوي تستطيل أشكالها.
وأبلغ التشبيه ما كان من هذا النوع لغرابته, ولان نيل الشيء بعد طلبه والاشتياق إليه ألذ, وموقعه من النفس ألطف, وبالمسرة أولى, ولهذا ضرب المثل لكل ما لطف ببرد الماء على الظماء.
كما قال:
وهن ينبذن من قول يصير به ... مواقع الماء من ذي الغلة الصادي
لا يقال عدم الظهور ضرب من التعقيد, والتعقيد مذموم, لانا نقول التعقيد له سببان: سوء ترتيب الألفاظ, واختلال الانتقال من المعنى الأول إلى المعنى الثاني الذي هو المراد باللفظ, وهذا هو المذموم المردود. والمراد بعدم الظهور في التشبيه ما كان سببه لطف المعنى, ودقته, أو ترتيب بعض المعاني على بعض, كما يشعر بذلك قولنا في بدء الفكر, فإن المعاني الشريفة قلما تنفك عن بناء ثان على أول, ورد تال إلى سابق. ألا ترى إلى قوله صلى الله عليه وآله وسلم (إن من الشعر لحكمة, وإن من البيان لسحرا) فمن الذي بأول وهلة ينفذ السحر, ويهجم على حكمة الشعر؟ ثم هل شيء أحلى من الفكر إذا صار فيه نهجا قويما وطريقا مستقيما يوصل إلى المطلوب ويظفر بالمقصود؟.
الرابع: من وجود الحسن, أن يكون المشبه به معقولا, والمشبه محسوسا, لما تقدم من أن وجهه أن يقدر المعقول محسوسا, ويجعل كالأصل في ذلك المحسوس على طريقة المبالغة, وذلك لا يخلو من غرابة وبعد تناول.
وما أحسن قول أبي نواس في هذا النوع:
وندمان سقيت الراح صرفا ... وسر الليل منسدل السجوف
صفت وصفت زجاجتها عليها ... كمعنى دق في ذهن لطيف
ولمؤلفه عفا الله عنه من أبيات:
رقت فلولا الكأس لم تبصر لها ... جسما ولم تلمس براحة لامس
فكأنها عند المزاج لطافة ... وهم يخيله توهم هاجس
وقال الآخر:
كأن القلب والسلوان ذهن ... يلوح عليه معنى مستحيل
وقال جحظة البرمكي:
ورق الجو حتى قيل هذا ... عتاب بين جحظة والزمان
وإلى هذا البيت أشار من قال: بيننا عتاب لحظة, كعتاب جحظة.
وقال ابن الهبارية:
كم ليلة بت مطويا على شجن ... أشكوا إلى النجم حتى كاد يشكوني
والصبح قد مطل الشرق العيون به ... كأنه حاجة في نفس مسكين
وقال أبو القاسم أسعد بن إبراهيم:
تنفس الصهباء في لهواته ... كتنفس الريحان في الآصال
كأنما الخيلان في وجناته ... ساعات هجر في زمان وصال
وهو من قول الآخر:
أسفر ضوء الصبح في وجهه ... فقام خال الخد فيه بلال
كأنما الخال على خده ... ساعة هجر في زمان الوصال
والأصل في هذا المعنى قول المعتمد بن عباد:
أكثرت هجرك غير أنك ربما ... عطفتك أحيانا علي أمور
فكأنما زمن التهاجر بيننا ... ليل وساعات الوصال بدور
وقال ابن طباطبا:
كأن انتصار البدر من تحت غيمة ... نجاة من البأساء بعد وقوع
وزعم بعضهم ان هذا أعلى مراتب التشبيه طبقة, لأنه يفتقر إلى لطف ذوق, وسلامة فطرة, وصحة تخيل, فهو صعب على من يرومه, متقاعس عمن جذب إليه زمامه.
الخامس: أن يكون مستحلى عند الذوق, تهش النفس عند سماعه, ويميل الطبع إليه.
كقول القائل في الورد:
كأنه وجنة الحبيب وقد ... نقطه عاشق بدينار
وقول ابن المعتز:
على عقار صفراء تحسبها ... شيبت بمسك في الدن مفتوت
للماء فيها كتابة عجب ... كمثل نقش في فص ياقوت
وقوله في الهلال:(1/408)
أنظر إليه كزورق من فضة ... قد أثقلته حمولة من عنبر
وقول بان طباطبا:
أما والثريا والهلال جلتهما ... لي الشمس إذ ودعت كرها نهارها
كأسماء إذ زارت عشاء وغادرت ... دلالا لدينا قرطها وسوارها
وإذا علم أحوال الحسن, علم أحوال خلافه بالتقابل, فيقابل السليم عن الابتذال المبتذل العامي كما مر من تشبيه السواد بالفحم والبياض بالثلج ويقابل ما ارتفع عن أذهان العامة إدراك وجهه ما هو ظاهر يدركه كل أحد نحو زيد كالأسد, ويقابل البعيد القريب المبتذل, كتشبيه العنبة الكبيرة السوداء بالإجاصة في الشكل والمقدار, والجرة الصغيرة بالكوز كذلك. وهذا يقابل الخامس أيضاً وهو تشبيه المحسوس بالمعقول, لأن وجه الحسن فيه غرابته وبعد تناوله, لا تشبيه المعقول بالمحسوس, ويقابل المستحلى عند الذوق المكروه الذي ينفر عنه الطباع.
كقول النابغة:
نظرت إليك بحاجة لم تقضها ... نظر المريض إلى وجوه العواد
فان الأصمعي عاب عليه هذا التشبيه بين يدي الرشيد فقال: يكره تشبيه المحبوب بالمريض.
وقول أبي محجن الثقفي:
ترجع العود أحيانا وتخفضه ... كما يظن ذباب الروضة الغرد
فانه ما زاد على أن شبه هذه المطربة بالذبابة.
وقول جعفر المصحفي:
صفراء تطرق في الزجاج فإن سرت ... في الجسم دبت مثل صل لاذع
قال الثعالبي: لم يحسن في تشبيه دبيب الخمر في جسم شاربها بدبيب الحية اللاذعة, بل تباغض, ومن يعجبه دبيب الحية في جسمه؟.
قلت: وأين هو عن قول أبي نواس:
وتمشت في مفاصلهم ... كتمشي البرء في السقم
ومثله قول ابن عون في الخمرة الممزوجة:
وتزيد من تيه عليه كأنها ... عزيزة خدر قد يحبطها المس
فان بشاعة هذا التشبيه مما تنفر عنه الطباع, ومن الذي يطيب له أن يشرب شيئا يشبه زبد المصروع.
قالوا: ومن التشبيه المستبشع قول الآخر:
أن شقائق النعمان فيه ... ثياب قد روين من الدماء
فإن الثياب المضرجة بالدماء مما تعاف الأنفس رؤيتها.
وانتقدوا على الحاجري قوله:
وما اخضر ذاك الخد نبتا وإنما ... لكثرة ما شقت عليه المرائر
فان شق المرائر على خد المحبوب مما تشمئز منه القلوب. قالوا: ما زاد على أن جعل خد محبوبه مسلخا.
وما اكتفى الآخر بشق المرائر على خد محبوبه حتى سفك عليها الدماء فقال:
وما احمر ذاك الخد واخضر فوقه ... عذارك إلا من دم ومرائر
وما أحسن قول الصنوبري في شق المرارة:
أتت في لباس لها أخضر ... كما لبس الورق الجلناره
فقلت لها ما اسم هذا اللبا ... س فأدت جوابا لطيف العبارة
شققنا مرارة قوم به ... فنحن نسميه شق المراره
هذا إذا لم يكن الغرض من التشبيه التشويه والتنفير. أما إذا كان غرض المتكلم التنفير فلا يستهجن ذلك, وكذلك إذا كان الغرض الهجو فانه لا يستهجن فيه ما يستهجن في الغزل.
كما قال الثعالبي في قول الرقي:
لقد جل حظي في التي رق خصرها ... وأسهر جفني جفنها وهو نائم
إذا كان أصداغ الخدود عقاربا ... فإن ذوابات الرؤوس أراقم
هذا البيت صعب عندي إذ جمع بين العقارب والحيات في الغزل, والطبع يأنف منها, ولو كان في الهجاء كان جيدا.
كما قال ابن الرومي في هجاء قينة:
فقرطها بعقرب شهرزور ... إذا غنت وطوقها بأفعى
وأما أحوال القبول فهي أن يكون التشبيه وافيا بأداء الأغراض المتقدم ذكرها, بان يكون المشبه به أعرف بالوجه إذا قصد بيان حال المشبه, ومع العلم به مساويا له إذا قصد بيان مقداره, ومسلم الحكم إذا قصد بيان إمكان وجوده, وأتم معنى فيه إذا أريد زيادة التقرير, أو إلحاق الناقص بالكامل, أو قصد الترغيب أو التعبير, ونادر الحضور إذا قصد غرابته واستطرافه كما مر. والمردود بخلافه.
قال الزنجاني: ومن فساد التشبيه أن يكون منكوسا كقول الفرزدق:
والشيب ينهض في الشباب كأنه ... ليل يصيح بجانبيه نهار
فذكر أن الشيب يبدو في الشباب, ثم ترك ما ابتدأ به, ووصف الشباب بأنه كالليل والذي تقتضيه المقابلة الصحيحة أن يقول: كمنا ينهض نهار في جانبي الليل. انتهى.
قلت: وقريب من ذلك قول الصلاح الصفدي في تشبيه إشراق القمر من خلال الأغصان:(1/409)
كأنما الأغصان لما انثنت ... أمام بدر التم في غيهبه
بنت مليك خلف شباكها ... تفرجت منه على موكبه
قال البدر الدماميني: ظاهر عبارته تشبيه الأغصان في حالة انثنائها أمام البدر في الدجى ببنت مليك تطل من شباكها للنظر في موكب أبيها, وذلك عن مظان التشبيه بمعزل, ومقصوده أن البدر في حالة ظهوره من خلال الأغصان المنثنية على الصفة المذكورة, يشبه بنت مليك على تلك الحالة تمثيلا للهيئة الاجتماعية, لكن اللفظ لا يساعده على ذلك المطلوب, فانه جعل الأغصان مبتدأ وأخبر عنه بقوله: بنت مليك, فلم يتم له المراد.
على انه مع ما فيه مأخوذ من قول ابن قرناص الحموي:
وحديقة عناء ينتظم الندى ... بفروعها كالدر في الأسلاك
والبدر يشرق من خلال غصونها ... مثل المليح يطل من شباك
ومما عابوه من التشبيه قول ابن وزير في تشبيه الماء الجاري على الرخام:
لله يوم بحمام نعمت به ... والماء ما بيننا من حوضه جار
كأنه فوق شفاف الرخام ضحى ... ماء يسيل على أثواب قصار
وإياه عنى ابن الذروي بقوله:
لشاعر أوقد الطبع الذكاء له ... فكاد يحرقه من فرط الذكاء
أقام يجهد أياما قريحته ... فشبه الماء بعد الجهد بالماء
وبلغ الآخر من السخافة أقصى غاياتها حيث قال:
كأننا والماء من حولنا ... قوم جلوس حولهم ماء
وقد يتصرف في التشبيه القريب المبتذل بما يجعله غريبا, ويخرجه من الابتذال, كقول أبي الطيب:
لم تلق هذا الوجه شمس نهارها ... إلا بوجه ليس فيه حياء
فان تشبيه الوجه الحسن بالشمس قريب مبتذل, لكن حديث الحياء أخرجه نم الابتذال إلى الغرابة, لاشتماله على زيادة دقة وخفاء.
ومثله قول الآخر:
إن السحاب لتستحي إذا نظرت ... إلى نداك فقاسته بما فيها
وكقول رشيد الدين الوطواط:
عزماته مثل النجوم ثواقبا ... لو لم يكن للثاقبات أفول
وقول البديع الهمذاني:
وكاد يحكيك صوب الغيث منسكبا ... لو كان طلق المحيا يمطر ذهبا
والبدر لو لم يغب والشمس لو انطلقت ... والأسد لو لم تصد والبحر لو عذبا
فان الشروط المذكورة أخرجت التشبيهات المبتذلة إلى الغرابة. وهذا يسمى التشبيه المشروط, وقد يتصرف في القريب الإجمالي بما يخرجه إلى الغريب التفصيلي.
كقول ابن بابك:
ألا يا رياض الحزن من أبرق الحمى ... نسيمك مسروق ووصفك منتحل
حكيت أبا سعد فنشرك نشره ... ولكن له صدق الهوى ولك الملل
فان تشبيه نشر الرياض بنشر الممدوح قريب إجمالي, ولكن ادعاء كونه مسروقا من نشر الممدوح, والاستدراك المذكور, أخرجه إلى الغرابة والتفصيل.
ومثله قول الآخر:
فو الله ما أدري أزهر خميلة ... بطرسك أم در يلوح على نحر
فإذا كان زهرا فهو صنع سحابة ... وإن كان درا فهو من لجة البحر
فإذا نظرت إلى تشبيه الخط الحسن بالزهر والدر, كان قريبا إجماليا, وإذا قيد بقوله: خميلة, المفيدة لنضارة الزهر الموجبة لزيادة الحسن, وقوله: على نحر, المفيد لملاحظة بياض الطرس خرج إلى الغرابة والتفصيل, لكن يقرب تعاطيها, فإذا أخذ معهما معنى حسن التحليل الذي يلوح من قوله: صنع سحابة, ولج البحر, بعدا وزاده في الحسن.
وقد يعتبر الحسن بالجمع بين عدة تشبيهات, وإن كان كل واحد منها منفردا غير مستحق للتحسين, لأن الواحد منها قد يسبق إليه كل ذهن, وأما الجمع بينها فيتوقف على فكر وهو على نوعين: أحدهما, أن يؤتى لمشبه واحد بتشبيهات كثيرة كقول البحتري:
كأنما يبسم عن لؤلؤ ... منضد أو برد أو أقاح
الثاني, أن تؤخذ أعضاء أو أحوال الشخص, فيشبه كل منها بشيء على الترتيب كقول ابن سكرة:
أنا من خده وعينيه والثغ ... ر ومن ريقه البعيد المرام
بين ورد ونرجس وتلالي ... أقحوان وبابلي المدام
الفصل الخامس في الأداة.(1/410)
وهي ما يتوصل به إلى وصف المشبه بمشاركته للمشبه به في الوجه وهي (الكاف) نحو قولك: زيد كالأسد, و (كأن) نحو زيد كأنه أسد, و (مثل) نحو قولك: هو مثل الأسد, وما في معنى (مثل) كلفظة (نحو) وما يشتق من لفظة (مثل) و (شبه) من المسائلة والمشابهة وما يؤدي معنى ذلك: كالمضاهاة, والمحاكاة, والمساواة, والمناظرة.
والأصل في الكاف ونحوها أن يليها المشبه به, وقد يليها مفرد لا يتأتى التشبيه به, وذلك إذا كان المشبه به مركبا, كقوله تعالى "مثل الحياة الدنيا كماء أنزلناه من السماء فاختلط به نبات الأرض فأصبح هشيما تذروه الرياح" إذ ليس المراد تشبيه حال الدنيا بالماء, بل المراد تشبيه حالها في نضرتها وبهجتها, وما يتعقبها من الهلاك والفناء, بحال النبات الحاصل من الماء, يكون أخضر ناضرا شديد الخضرة ثم ييبس فتطيره الرياح كأن لم يكن.
وأما قوله تعالى "يا أيها الذين آمنوا كونوا أنصار الله كما قال عيسى بن مريم للحواريين من أنصاري إلى الله" فليس من هذا القبيل, أعنى مالا يلي المشبه به (الكاف) لأن التقدير: كونوا كالحواريين أنصارا لله وقت قول عيسى: من أنصاري إلى الله, على أن (ما) مصدرية, والزمان مقدر, كقولهم: آتيك خفوق النجم؛ أي زمان خفوقه, فالمشبه به وهو كون الحواريين أنصارا لله مقدر يلي الكاف, حذف لدلالة ما أقيم مقامه عليه, إذ لا يخفى أن ليس المراد تشبيه كون المؤمنين أنصارا بقول عيسى للحواريين: من أنصاري إلى الله. وقد يذكر فعل ينبئ عن حال التشبيه من القرب والبعد, كما في (علمت زيدا أسدا) , إن قرب التشبيه أو أريد أنه مشابه للأسد مشابهة قوية لما في العلم من التحقيق, وكما في (حسبت) أو (خلت زيدا أسدا) أن بعد التشبيه أدنى بعد, لما في الحسبان من الدلالة على الظن دون التحقيق.
وهذا تمام الكلام في الأشياء الخمسة التي يستدعيها التشبيه. وبقى الكلام في أقسامه, فإن له تقسيما باعتبار طرفيه, وآخر باعتبار الغرض, وآخر باعتبار الأداة.
وأما تقسيمه باعتبار طرفيه فهو أربعة أقسام: الأول - تشبيه المفرد بالمفرد.
وهما غير مقيدين, كتشبيه الخد بالورد, أو مقيدان كقولهم: هو الراقم على الماء, فإن المشبه هو الساعي المقيد بان لا يحصل من سعيه على شيء, والمشبه به هو الراقم المقيد بكون رقمه على الماء, لان وجه الشبه فيه هو التسوية بين الفعل وعدمه, وهو موقوف على اعتبار هذين القيدين. أو مختلفان, أي أحدهما غير مقيد والآخر مقيد, كقوله: والشمس كالمرآة في كف الأشل, فإن المشبه وهو الشمس غير مقيد, والمشبه به وهو المرآة مقيد بكونه في كف الأشل, وعكسه كتشبيه المرآة في كف الأشل بالشمس.
الثاني -تشبيه المركب بالمركب.
وهو ما طرفاه كثرتان مجتمعان, كما في قول البحتري:
ترى أحجاله يصعدن فيه ... صعود البرق في الغيم الجهام
لا يريد به تشبيه بياض الحجول على الانفراد بالبرق, بل مقصوده الهيئة الخاصة الحاصلة من مخالفة أحد اللونين بالآخر, ومنه بيت بشار السابق ذكره.
الثالث -تشبيه المفرد بالمركب.
كما مر من تشبيه الشقيق بأعلام ياقوت منشورة على رماح من زبرجد.
الرابع -تشبيه المركب بالمفرد.
كقول أبي تمام:
يا صاحبي تقصيا نظريكما ... تريا وجوه الأرض كيف تصور
تريا نهارا مشمسا قد شابه ... زهر الربى فكأنما هو مقمر
شبه النهار المشمس الذي اختلط به أزهار الربوات, فنقصت باخضرارها من ضوء الشمس حتى صارت تضرب إلى السواد, بالليل المقمر, فالمشبه مركب, والمشبه به مفرد. وأيضا أن تعدد طرفاه فهو إما ملفوف أو مفروق فالملفوف أن يؤتى على طريق العطف أو غيره بالمشبهات أولا, ثم بالمشبه به.
كقول امرئ القيس:
كأن قلوب الطير رطبا ويابسا ... لدى وكرها العناب والحشف البالي
والمفروق أن يؤتى بمشبه ومشبه به, ثم آخر وآخر.
كقول ابن سكرة: الخد ورد والصدغ غالية=والريق خمر والثغر من برد وإن تعدد طرفه الأول (أعني المشبه) دون الثاني سمي تشبيه التسوية.
كقول الآخر:
صدغ الحبيب وحالي ... كلاهما كاليالي
وثغره في صفاء ... وأدمعي كاللآلي
وإن تعدد طرفه الثاني -أعني المشبه به- دون الأول, سمي تشبيه الجمع.
كقول الصاحب بن عباد:(1/411)
أتتني بالأمس أبياته ... تعلل روحي بروح الجنان
كبرد الشباب وبرد الشراب ... وظل الأمان ونيل الأماني
وعهد الصبا ونسيم الصبا ... وصفو الدنان ورجع القيان
وأما تقسيمه باعتبار وجهه فهو: إما تمثيل, وإما مجمل أو مفصل, وإما قريب أو بعيد.
فالتمثيل: ما وجهه وصف منتزع من متعدد أمرين, أو أمور, كما مر من تشبيه الثريا, والتشبيه في بيت بشار, وتشبيه الشمس بالبوتقة المحماة, وتشبيهها بالمرآة في كف الأشل, إلى غير ذلك, وغير التمثيل ما كان بخلاف ذلك كما سبق في الأمثلة المذكورة.
كقول أبي بكر الخالدي:
يا شبيه البدر حسنا ... وضياء ومنالا
وشبه الغصن لينا ... وقواما واعتدالا
أنت مثل الورد لونا ... ونسيما وملالا
زارنا حتى إذا ما ... سرنا بالقرب زالا
والقريب: هو الذي ينتقل فيه من المشبه إلى المشبه به من غير تدقيق نظر لظهور وجهه.
والبعيد بخلافه, وقد سبق بيانهما في الفصل الرابع.
وأما تقسيمه باعتبار الغرض فهو: إما مقبول أو مردود, وقد مر بيان ذلك في الأحوال.
وأما (تقسيمه) باعتبار الأداة فهو: إما مؤكد أو مرسل.
فالمؤكد: ما حذفت أداته كقوله تعالى "وهي تمر مر السحاب".
وقول الحماسي:
هم البحور عطاء حين تسألهم ... وفي اللقاء إذا تلقاهم بهم
والمرسل: ما ذكرت أداته كقوله تعالى "مثلهم كمثل الذي استوقد نارا" وقوله تعالى "عرضها كعرض السماء والأرض" إلى غير ذلك.
واعلم أن المشبه قد ينتزع من نفس التضاد, لاشتراك الضدين فيه, ثم ينزل منزلة بواسطة تمليح أو تهكم, فيقال للجبان: ما أشبهه بالأسد, وللبخيل: هو حاتم.
ولنقتصر من الكلام على التشبيه على هذا المقدار, فقد طال بنا السرح وخرجنا عن شرط الاختصار, على أننا قد جاوزنا مخدراته في منصات الظهور, وأوردنا ما لا يسعى الأديب عن معرفته في المنظوم والمنثور, ولم نقتد بشراح البديعيات في طي الكلام على عزته في هذا الباب, فإن مقام التشبيه أشرف قدرا من أن يطوى عنه كشحا, ويضرب صفحا عند أولي الألباب.
ولنذكر الآن جملة من محاسن التشبيهات على جاري عادتنا في هذا الكتاب.
فمنها قول محمد بن عبد الله الكاتب:
كأن الثريا صدر باز محلق ... سما حيث لا يبدو له غير جؤجؤ
حكت طبقا فيروزجيا أديمه ... نثرن عليه سبع حبات لؤلؤ
وقول ابن المعتز: كأن الثريا في أواخر ليلها=تفتح نور أو لجام مفضفض وقوله:
وأرى الثريا في السماء كأنها ... قدم تبدت من ثياب حداد
وقوله:
كأن الثريا فيه در تقاربت ... جمان وهي من سلكه فتبددا
وقول التهامي:
وللثريا ركود فوق أحلنا ... كأنها قطعة من فروة النمر
(وقال) آخر:
كأن الثريا والصباح يكدها ... قناديل رهبان دنت لخمود
وقول ابن هاني الأندلسي من قصيدة:
كأن رقيب النجم أجدل مرقب ... يقلب تحت الليل في ريشه طرفا
كأن بني نعش ونعشا مطافل ... بوجرة قد أضللن في مهمه خشفا
كأن سهيلا في مطالع أفقه ... مفارق ألف لم يجد بعده ألفا
كأن سهاها عاشق بين عواد ... فآونة يبدو وأونة يخفى
كأن معلى قطبها فارس له ... لواءان مركوزان قد ذكره الزحفا
كأن قدامى النسر والنسر واقع ... قصصن فلم تسمو الخوافي به ضعفا
كأن أخاه حين دوم طائرا ... أتى دون نصف البدر فاختطف النصفا
كأن الهزيع الآبنوسي لونه ... سرى بالنسيج الخسرواني ملتفا
كأن ظلام الليل إذ مال ميلة=صريع مدام بات يشربها صرفا
كأن عمود الصبح خاقان معشر ... من الترك نادى بالنجاشي فاستخفى
كأن لواء الشمس غرة جعفر ... رأى القرن فازدادت طلاقته ضعفا
أبو الحسن حازم بن محمد القرطاجني من قصيدة عارض بها قصيدة ابن هاني:
كأن الدجى لما تولت نجومه ... مدبر حرب قد هزمنا له صفا
أن عليه للمجرة روضة ... مفتحة الأنوار أو نثرة زغفا
كأنا وقد ألقى إلينا هلاله ... سلبناه جاما أوب قصمنا له وقفا
كان السها إنسان عين غريقة ... من الدمع يبدو كلما ذرفت ذرفا
كأن سهيلا فارس عاين الوغى ... ففر ولم يشهد طرادا ولا زحفا(1/412)
كأن سنا المريخ شعلة قابس ... تخطفها عجلان يقذفها قذفا
كأن أفول النسر طرف تعلقت ... به سنة ما هب منها ولا أغفى
وقول مؤلفه عفا الله عنه من قصيدة أولها:
سرت سحرا والنجم للغرب مائل ... ولون الدجى من رهبة الصبح حائل
وقد همت الظلماء بالأفق بالسرى ... كماهم بالسير الخليط المزائل
كأن النجوم الزهر عيس نوافر ... كأن الدجى ركب من الزنج قافل
كأن الثريا إذ تجلت خواتم ... تحدثت بها من كف خود أنامل
كأن سهيلا للنجوم مراقب ... كأن السها صب من العشق ناحل
كأن عري الأفق بيداء سملق ... كأن مبادي الصبح فيه مناهل
فوافت يباريها الصباح مماثلا ... وهل يستوي مثلان حال وعاطل
وله أيضاً من أخرى أولها:
أحباي من الود مني فراسخ ... وإن حال دوني عن لقاكم فراسخ
كأن نهاري بعدكم ناب حية ... وليلي إذا ما جن أسود سالخ
نأيتم فما حر الفراق مفارق ... فؤادي ولا جمر الصبابة بايخ
وكيف وأنفاسي من الشوق والجوى ... لنار الأسى بين الضلوع نواقح
لئن نسخ البين المشت وصالنا ... فما هو للحب المبرح ناسخ
وليل كيوم الحشر طولا أرقته ... وبين جفوني والمنام برازخ
وكم ليلة مدت دجاها كأنما ... كواكبها فيها رواس رواسخ
أرقت بها والصبح قد حالف الدجى ... فما نسرها سار ولا الديك صارخ
كأن نجوم الأفق غاصة لجة ... توحلن فالأقدام منها سوائخ
كأن حناديس الظلام أداهم ... لها غرر ملء الجباه شوادخ
كأن سهيلا راح قابس جذوة ... فوافى وأنضاء النجوم روابخ
كأن صغار الشهب في غسق الدجى ... فراخ نسور والبروج مفارخ
كأن معلى القطب فارس حومة ... على قرنه في ملتقى الكر شامخ
كأن رقيق الجو برد مفوف ... له موهن الظلماء بالمسك ضامخ
كأن ذكا باعت من المشتري ابنها ... فلم تستقل بيعا ولا هو فاسخ
ابن نباتة السعدي:
وخطه ضيم قد أبيت وليلة ... سريت فكان المجد ما أنا صانع
هتكت دجاها والنجوم كأنها ... عيون لها ثوب السماء براقع
ابن طبا طبا:
وقد لاحت الشعرى العبور كأنها ... تقلب طرف بالدموع هموع
أبو نواس:
ويمين الجوزاء تبسط باعا ... لعناق الدجى بغير بنان
وكأن النجوم أحداق روم ... ركبت في محاجر السودان
هارون العلمي دليل بن المهلب حين هرب من سجن عمر بن عبد العزيز:
وقوم هم كانوا الملوك هديتهم ... بظلماء لم يؤنس بها المعين كوكب
ولا قمر إلا ضئيل كأنه ... سوار حناه صائغ السور مذهب
ابن المعتز:
انظر إلى حسن هلال بدا ... يهتك من أنواره الحندسا
كمنجل قد صيغ من عسجد ... يحصد زهر الدجى نرجسا
وله:
قد انقضت دولة الصيام وقد ... بشر سقم الهلال بالعيد
قال آخر:
يتلو الثريا كفاغر شره ... يفتح فاه لأكل عنقود
السري الرفاء:
ولاح لنا الهلال كشطر طوق ... على لبات زرقاء اللباس
وله:
أما رأيت الهلال يرمقه ... قوم أن رأوه أهلال
كأنه قيد فضة حرج ... فض عن الصائمين فاختالوا
علاء الدين النابلسي:
هلال شوال ما زالت مطالعه ... يرنو إليه الورى من شدة الفرح
كأصبعي كف ندمان أشار إلى ... ساق لطيف يروم الأخذ للقدح
وقد جمع بعض الأفاضل في تشبيه الهلال ما يقارب السبعين.
بديع الزمان الهمذاني:
سماء الدجى ما هذه الحدق النجل ... أصدر الدجى حال وجيد الفصحى عطل
لك الله من حزم أجوب جيوبه ... كأني في أجفان عين الردى كحل
كأن الدجى نقع وفي الجو حومة ... كواكبها جند طوائرها رسل
كأن القرى سكرى ولا سكر بالقرى ... كأن الثرى ثكلى وما بالثرى ثكل
كأن مطايانا سماء كأننا ... نجوم على أقتابها برجها الرحل
كأن السرى ساق كأن الكرى طلى ... كأنها لها شرب كأن المنى نقل
كأنا جياع والمطي لنا فم ... كأن الفلا زاد كأن السرى أكل
كأن ينابيع الثرى ثدي مرضع ... وفي حجرها مني ومن ناقتي طفل(1/413)
كأن فمي قوس لساني لها يد ... مديحي له نزع به أملي نبل
كأن دوائي مطفل حبشية ... كأني لها بعل ونقشس لها نسل
كأن يدي في الطرس غواص لجة ... له كلمي در به قيمي تغلو
السكب المازني:
كأن الرباب دوين السحاب ... نعام تعلق بالأرجل
الصاحب بن عباد في الثلج: وكأن السماء صاهرت الأر_ض فكان النثار من كافور بعض شعراء المغرب في كوكب منقض:
وكوكب أبصر العفريت مسترقا ... للسمع فانقض يذكي أثره لهبه
كفارس حل أعصار عمامته ... فجرها كلها من خلفه عذبه
سيف الدولة بن حمدان في قوس قزح:
وساق صبيح للصبوح دعوته ... فقام في أجفانه سنة الغمض
يطوف بكاسات العقار كأنجم ... فما بين منفض علينا ومنقض
وقد نشرت أيدي الجنوب مطارفا ... على الجو دكناء الحواشي على الأرض
يطرزها قوس السحاب بأصفر ... على أحمر في أخضر أثر مبيض
كأذيال خود أقبلت في غلائل ... مصبغة والبعض أقصر من بعض
قال الثعالبي: هذا من التشبيهات الملوكية التي لا يكاد يحضر مثلها السوقة.
والبيت الأخير أخذ معناه أبو علي المؤدب البغدادي فقال في فرس أدهم محجل:
لبس الصبح والدجنة بردي ... ن فأرخى بردا وقلص بردا
الأديب أبو بكر بن بقي المغربي:
وفتية لبسوا الأدراع تحسبها ... سلخ الأراقم إلا أنها رسب
إذا الغدير كسا أعطافهم حلقا ... طفا من البيض في هاماتهم حبب
المعتمد بن عباد:
ولما اقتحمت الوغى دارعا ... وقنعت وجهك بالمغفر
حسبنا محياك شمس الضحى ... عليها سحاب من العنبر
بعضهم:
وفحم كأيام الوصال فعاله ... ومنظره في العين يوم صدود
كأن لهيب النار بين خلاله ... بوارق لاحت في غمائم سود
الصنوبري في الشمعة:
مجدولة في قدها ... حاكية قد الاسل
كأنها عمر الفتى ... والنار فيها كالأجل
غيره فيها:
كأنها نخلة بلا سعف ... تحمل جمارة من النار
وقول الآخر:
كأن دخان الند من فوق جمرها ... بقايا ضباب في رياض شقيق
أبو علي الصنعي في المجمرة:
هذي الشقائق قد أبصرت حمرتها ... مع السواد على قضبانها الذلل
كأنها دمعة قد غسلت كحلا ... حارت بها وقفة في وجنتي خجل
بعضهم في باكورة الورد:
كم وردة تحكي بسبق الورد ... طليعة تسرعت من جند
قد ضمتها في الغصن قرص البرد ... ضم فم لقبلة من بعد
مجير الدين بن تميم:
سيقت إليك من الحدائق وردة ... وأتتك قبل أوانها تطفيلا
طمعت بلثمك إذ رأتك فجمعت ... فمها إليك كطالب تقبيلا
أيدمر المحيوي في النرجس:
وكأن نرجسه المضاعف خائض ... في المياه لف ثيابه في رأسه
القاضي التنوخي:
ورياض حاكت لهن الثريا ... حللا كان غزلها للرعود
نثر الغيث در دمع عليها ... فتحلت بمثل در العقود
أقحوان معانق لشقيق ... كثغور تعض ورد الخدود
وعيون من نرجس تتراءى ... كعيون موصولة التسهيد
وكأن الشقيق حين تبدى ... ظلمة الصدغ في خدود الغيد
وكأن الندى عليها دموع ... في جفون مفجوعة بفقيد
السري الرفاء:
وبكر شربناها على الورد بكرة ... فكانت لنا وردا إلى ضحوة الغد
إذا قام مبيض اللباس يديرها ... توهمته يسعى بكم مورد
أبو بكر الخالدي وهو نهاية في الخلاعة والظرف:
كأنما من ثناياها ومبسمها ... أيدي الغمام سرقن البرق والبردا
وقوله:
ومدامة صفراء في قارورة ... زرقاء تحملها يد بيضاء
فالراح شمس والحباب كواكب ... والكف قطب والأناء سماء
أخوه أبو عثمان الخالدي:
إن شهر الصيام إذ جاء في فص ... ل ربيع أودى بحسن وطيب
فكأن الورد المضعف في الصو ... م حبيب يمشي بجنب رقيب
بعضهم في (تشبيه) النار:
انظر إلى النار وهي مضرمة ... وجمرها بالرماد مستور
شبه دم من فواخت ذبحت ... وفوقه ريشهن منثور
ابن نباتة السعدي في فرس محجل:
تختال منه على أغر محجل ... ماء الدياجي قطرة من مائه(1/414)
وكأنما لطم الصباح جبينه ... فاقتص منه فخاض في أحشائه
ابن القيرواني:
وأسرى نعاس يمموا كعبة الندى ... فهم سجد فوق المذاكي وركع
على كل نشوان العنان كأنما ... جرى في وريديه الرحيق المشعشع
شكائمها معقودة بسياطها ... تخال بأيدينا أراقم تلسع
والبيت الآخر مأخوذ من قول أبي الطيب:
تجاذب فرسان الصباح أعنة ... كأن على الأعناق منها أفاعيا
ظافر الحداد:
أنظر لقرن الشمس بازغة ... في الشرق تبدو ثم ترتفع
كسبيكة الزجاج ذائبة ... حمراء ينفخها فتتسع
ابن المعتز في الشمس والغيم:
تظل الشمس ترمقنا بلحظ ... مريض مدنف من خلف ستر
تحاول فتق غيم وهو يأبى ... كعنين يريد نكاح بكر
ابن خفاجة الأندلسي:
والنقع يكسر من سنا شمس الضحى ... فكأنه صدأ على دينار
ابن النبيه:
والظل يسبح في الغدير كأنه ... صدأ يلوح على حسام مرهف
بعضهم:
صل الراح بالراحات واغنم مسرة ... بأقداحها واعكف على لذة الشرب
ولا تخش أوزارا فأوراق كرمها ... أكف غدت تستغفر الله للذنب
آخر في مصلوب, وهو من الغايات:
كأنه عاشق قد مد ساعده ... يوم الفراق إلى توديع مرتحل
أو قائم من نعاس فيه لوثته ... مواصل لتمطيه من الكسل
وأما أحسن قول ابن حمديس فيه أيضاً:
ومرتفع في الجذع إذ حط قدره ... أساء إليه ظالم وهو محسن
كذي غرق مد الذراعين سابحا ... من الجو بحرا عومه ليس يمكن
وتحسبه من جنة الخلد دانيا ... يعانق حورا لا تراهن أعين
ولعمر الخياط فيه أيضاً:
انظر إليه كأنه متظلم ... في جذعه لحظ السماء بطرفه
بسط اليدين كأنه يدعو على ... من قد أشار على الأمير بحتفه
ابن خفاجة:
وأسود يسبح في لجة ... لا تكتم الحصباء غدرانها
كأنها في شكلها مقلة ... زرقاء والأسود إنسانها
الماموني في كوز أخضر:
وبديعة للريم منها جيدها ... تتحير الأبصار في إبداعها
كخريدة في مرط خز أخضر ... رفعت يدا لترد فضل قناعها
بعضهم:
بأبي حبيب زارني متنكرا ... فبدأ الوشاة له فولى معرضا
فكأنني وكأنه وكأنها ... أمل ونيل حال بينهما القضا
العناياتي:
قلبي على قدك الممشوق بالهيف ... طير على الغصن أو همز على الألف
الشيخ جمال الدين العصامي:
فنجان قهوة ذا المليح وعينه ال ... كحلاء حارت فيهما الألباب
فسوادها كسوادها وبياضها ... كبياضها ودخانها الأهداب
ابن المعتز:
كأنه وكأن الكأس في فمه ... هلال أول شهر غاب في الشفق
ابن المنير الطرابلسي في النواعير:
لنواعيرها على الماء ألحان ... تهيج الشجى لقلب المشوق
فهي مثل الأفلاك شكلا وفعلا ... قسمت قسم جاهل بالحقوق
بين عال خال ينكسه الده ... ر ويعلو بسافل مرزوق
المفجع البصري في مغن جميل جدر فازداد حسنا:
يا قمرا جدر حين استوى ... فزاده وزادت هموم
كأنما غنى لشمس الضحى ... فنقطته طربا بالنجوم
أبو جعفر الأعمى المغربي:
هل استمالك جسم ابن الأمير وقد ... سالت عليه من الحمام أنداء
كالغصن باشر حر النار من كتب ... فظل من أعطافه الماء
وقول الأبيوردي:
بأبي ريم تبلج لي ... عن رضى في طية غضب
وسعى بالكأس مترعة ... كضرام النار تلتهب
فهي شمس في يدي قمر ... وكلا عقديهما الشنب
وما أحسن قوله بعده:
ولها من ذاتها طرب ... فلهذا يرقص الحبب
آخر:
وكأنه والكأس في يده ... فلهذا يرقص الحبب
ابن المعتز في إبريق في فمه قطرة:
كأن أبريقها والراح في فمه ... ديك تناول ياقوتا بمنقار
ابن مكنسة:
إبريقنا عاكف على قدح ... كأنه الأم ترضع الولدا
أو عابد من بني المجوس إذا ... توهم الكأس شعلة سجدا
أبو منصور البغوي:
تراءت لنا من خدرها بسوالف ... كما لاح بدر من خلال سحاب
وهز الصبا صدغا لها فوق خدها ... كما روحت نار بريش غراب
أبو الفرج الببغاء:(1/415)
والتهب نارها فمنظرها ... يغنيك عن كل منظر
إذا رمت بالشرار واضطرمت ... على ذراها مطارف اللهب
رأيت ياقوتة مشبكة ... تطير منها قراضة الذهب
أبو الفضل الميكالي:
تصوغ لنا كف الربيع حدائقا ... كقعد عقيق بين سمط لآلي
وفيهن أنوار الشقائق قد حكت ... خدود عذارى نقطت بغوالي
ابن المعتز:
زارني والدجى أحم الحواشي ... والثريا في الغرب كالعنقود
وهلال السماء طوق عروس ... بات يجلى على غلائل سود
الصابي:
قبلت منه فما مجاجته ... تجمع معنى المدام والشهد
كأن مجرى سوكه برد ... وريقه ذوب ذلك البرد
وتشبيه الشيخ صفي الدين الحلي في بديعيته قوله:
كأنما حلق السعدي منتثر ... على الثرى بين منفض ومنفصم
حروف خط على طرس مقطعة ... جاءت بها يد غمر غير مفتهم
ومن الغريب أن ابن جابر لم ينظم نوع التشبيه في بديعيته.
وبيت بديعيتي العز الموصلي قوله:
وقيل للبدر تشبيه إليه نعم ... نجم الثريا له كالنعل في القدم
وبيت بديعية ابن حجا قوله:
والبدر في التم كالعرجون صار له ... فقل لهم يتركوا تشبيه بدرهم
الذي أراه أن هذا التشبيه غير صحيح, فإن القمر لا يطلق عليه اسم البدر إلا ليلة كماله, فتشبيهه بالعرجون لا وجه له. نعم لو قال: والقمر, كان صحيحا, كما قال تعالى "والقمر قدرناه منازل حتى عاد كالعرجون القديم". ثم قوله: في التم, حشو قبيح, لما علمت أن البدر اسم القمر ليلة تمامه.
وبيت بديعية المقري قوله:
أذكى مصابيح أنوار الهدى فمشت ... في ظلمة الشرك مشي النار في الظلم
وبيت بديعية السيوطي قوله:
وكم له معجزات لم يشن كسف ... شموسها لا كتشبيه بسحرهم
وبيت بديعية العلوي:
كأنه الموت أو كالشهد مطعمه ... في الحرب والسلم للأعداء والحشم
وبيت بديعية الطبري:
فاق الأنام فلا تشبيه بينهما ... صغرى عزائمه تزكو على الهمم
هذا البيت ليس من التشبيه في شيء كما هو في الظاهر, ولا أعلم كيف خفي عليه ذلك مع ظهوره.
وبيت بديعيتي هو قولي:
ماضيه كالبرق والتشبيه متضح ... يلوح في أثره ما لاح صوب دم
الفرائد
إذا فرائد جيش عنده اتسقت ... مشى العرضنة والشعواء في ضرم
هذا النوع يختص بالفصاحة دون البلاغة, لأنه عبارة عن الإتيان بلفظة فصيحة, تتنزل منزلة الفريدة من القصيدة, وهي الجوهرة التي لا نظير لها, تدل على عظم فصاحة المتكلم وقوة عارضته, وجزالة غريبته, بحيث لو أسقطت من الكلام عري من الفصاحة, كقوله تعالى "الآن حصحص الحق" فلفظة (حصحص) فريدة, يعسر على الفصحاء الإتيان بمثلها في مكانها. ومثلها لفظة (الرفث) في قوله تعالى "أحل لكم ليلة الصيام الرفث إلى نسائكم". ولفظة (فزع) في قوله تعالى "حتى إذا فزع عن قلوبهم". و"خائنة" في قوله تعالى "خائنة الأعين".
ومثاله في الشعر قول أبي بكر الهدلي:
ومبرء من كل غبر حيضة ... وفساد مرضعة وداء مغيل
فقوله: غبر, بضم الغين المعجمة وتشديد الباء الموحدة وبعدها راء مهملة, بمعنى بقايا الحيض, أنصح لفظ لمثل هذا المكان, وقوله: مغيل, اسم فاعل من أغيلت المرأة ولدها, إذا أرضعته وهي حامل, ويقال: أغالته أيضاً فهي مغيل, كمفيد, والولد مغال ومغيل. وفي حديث (لقد هممت أن أنهي عن الغيلة, ثم ذكرت أن فارس والروم يفعلون ذلك فلا يضرهم) .
وقول حسان:
كم قد ولدنا من نجيب قسور ... دامي الأظافر أو ربيع ممطر
سدكت أنامله بمرهف باتر ... وتثير فائدة وذروة منبر
الشاهد, في قوله: سدكت أنامله, فإن لفظة (سدكت) فريدة لا يقوم مقامها غيرها. يقال: سدك به كف, أي لزمة.
وبيت بديعية الشيخ صفي الدين الحلي قوله:
ومن له حاور الجذع اليبيس ومن ... بكفه أورقت عجراء من سلم
الشاهد في قوله: عجراء وهي العصا المعقدة. قال في شرحه: ولا يعبر عن صلابة العصا وتعقدها بمثلها.
ولم ينظم ابن جابر الأندلسي هذا النوع في بديعيته.
وبيت بديعية العز الموصلي قوله:
وشم وميض بروق من فرائده ... وانظم حنانيك عقدا غير منفصم(1/416)
قال في شرحه الفرائد في هذا البيت ثلاثة, هي, شم وحنانيك ومنفصم.
وأنا أقول: أما قوله: شم, فمسلم على أنها لفظة فصيحة في نفسها, إلا أنها وقعت في غير موقعها, لأن معناها -على ما في القاموس- تحنن علي مرة بعد مرة, وهذا المعنى لا يناسب المقام كما لا يخفى. وأما قوله: منفصم, فليس بتلك المثابة من الفصاحة, والفصم -على ما في الصحاح- كسر الشيء من غير أن يبين, فجعله صفة للعقد إنما هو على طريق التوسع, فلو لم تكن القافية ميمية إذا أسقطت عري الكلام عن الفصاحة. والفرائد في بيت ابن حجة جرى على العكس من ذلك في اللفظين المذكورين والله أعلم.
وبيت بديعية المقري قوله:
لقد سما في تضاعيف السما رتبا ... حديثها كان قبل الكون في القدم
قال في شرحه: الفريدة فيه: تضاعيف.
وبيت بديعية العلوي قوله:
فالقبض والبسط للأكوان قد جمعا ... في كفه ونمير مقنع لظمي
الفريدة فيه: نمير مقنع.
وبيت بديعيتي قولي:
إذا فرائد جيش عنده اتسقت ... مشى العرضنة والشعواء في ضرم
الفرائد فيه: اتسقت, والعرضنة, والشعواء. يقال: هو يمشي العرضنة: إذا مشى مشية في شق من نشاطه, وهي بكسر العين وفتح الراء المهملتين وبعدها ضاد معجمة ساكنة ثم نون مفتوحة, والشعواء: الغارة الغاشية المتفرقة.
ولم ينظم السيوطي, ولا الطبري, هذا النوع والله أعلم.
التصريع
كفاه نصرا على تصريع جيشهم ... رعب تراع له الآساد في الأجم
التصريع عبارة عن استواء آخر جزء في صدر البيت وعجزه, في الوزن والروي والإعراب, ولا يعتبر فيه قاعدة العروضيين في الفرق بين المصرع والمقفى باصطلاحهم.
قال قدامه: الفحول والمجيدون من الشعراء, من القدماء والمحدثين, يجعلون قافية المصراع الأول من القصيدة مثل قافيتها, وربما صرعوا أبياتا أخر من القصيدة بعد البيت الأول, وذلك يكون من اقتداء الشاعر, وسعة تبحره.
كقول أوس بن حجر في قصيدة أولها:
ودع لميس وداع الصارم اللاحي ... قد فنكت في فساد بعد إصلاح
ثم أتى بأبيات أخر وقال:
إني أرقت ولم تأرق معي صاحي ... لمستكف بعيد النوم نواح
وقال ابن الأثير: التصريع ينقسم إلى سبع مراتب: الأولى: أن يكون كل مصراع مستقلا بنفسه في فهم معناه, ويسمى التصريع الكامل.
كقول امرئ القيس:
أفاطم مهلا بعض هذا التدلل ... وإن كنت قد أزمعت صرما فأجملي
الثانية: أن يكون الأول غير محتاج إلى الثاني, فإذا جاء, جاء مرتبطا به.
كقوله أيضاً:
قفا نبك من ذكرى حبيب ومنزل ... بسقط اللوى بين الدخول فحومل
الثالثة: أن يكون المصراعان بحيث يصح وضع كل واحد منهما موضع الآخر.
كقول ابن الحجاج:
من شروط الصبوح في المهرجان ... خفة الشرب مع خلو المكان
الرابعة: أن لا يفهم معنى الأول إلا بالثاني.
كقول أبي الطيب:
مغاني الشعب طيبا في المغاني ... بمنزلة الربيع من الزمان
الخامسة: أن يكون التصريع بلفظة واحدة في المصراعين, ويسمى التصريع المكرر, وهو ضربان, لأن اللفظة إما متحدة المعنى في المصراعين.
كقول عبيد بن الأبرص:
فكل ذي غيبة يؤب ... وغائب الموت لا يؤب
وإما مختلفة المعنى لكونه مجازا كقول أبي تمام:
فتى كان شربا للعفاة ومرتعا ... فأصبح للهندية البيض مرتعا
السادسة: أن يكون المصراع الأول معلقا على صفة يأتي ذكرها في أول الثاني, ويسمى التعليق.
كقول امرئ القيس:
ألا أيها الليل الطويل إلا انجلي ... بصبح وما الاصباح منك بأمثل
وهذا معيب جدا.
السابعة: أن يكون التصريع في أول البيت مخالفا لقافيته (ويسمى التصريع) المشطور.
كقول أبي النواس:
أقلني قد ندمت الذنوب ... وبالإقرار عذت من الجحود
فصرع بالباء, ثم قفاه بالدال. انتهى. ولا يخفى أن هذه خارجة عما نحن فيه.
وبيت بديعية الصفي قوله:
لاقاهم بكماة عند كرهم ... على الجسوم دروع من قلوبهم
ولم ينظم ابن جابر الأندلسي هذا النوع وبيت بديعية العز الموصلي قوله:
لا زال بالعزمات الغر والهمم ... يصرع الضد بالتشطير للقمم
وبيت بديعية ابن حجة قوله:(1/417)
تصريع أبواب عدن يوم بعثهم ... يلقاه بالفتح قبل الناس كلهم
وبيت بديعية المقري:
يسطو بكف يد كفت يد العدم ... تجلو الخطوب وتمحو البؤس بالنعم
وسيأتي بيتا بديعيتي السيوطي والطبري في نوع التصريع, فإنهما جمعا بين النوعين في بيت واحد.
وبيت بديعية العلوي قوله:
فاق النبيين في فضل وفي كرم ... وفي فخار وفي عز وفي شيم
وبيت بديعيتي قولي:
كفاه نصرا على تصريع جيشهم ... رعب تراع له الآساد في الاجم
مثل ضربة في الاستعمال, فجعل لها قافية مثل قافيته, ولوازم كلوازمه من الحروف والحركات, سمي البيت مقفى, وإن كان عروضه مخالفا لضربه في الاستعمال, فجعلت في البيت كالضرب, فيلزمها ما يلزم الضرب, سمي البيت مصرعا. وكل بيت مصرع فعروضه على زنة ضربه, أو على ما يجوز أن يكون ضربه عليه, وإذا لم يكن مقفى ولا مصرعا سمي مصمتا. والعروض آخر المصراع الأول من البيت, والضرب آخر المصراع الثاني منه, والله أعلم.
الاشتقاق
لم تبق بدر لهم بدرا وفي أحد ... لم يبق من أحد عند اشتقاقهم
هذا النوع استخرجه أبو هلال العسكري في كتابه المعروف بالصناعتين, وذكره في آخر أبواب البديع منه, وعرفه بأن قال: هو أن يشتق من الاسم العلم معنى في غرض يقصده المتكلم من مدح, أو هجاء, أو غير ذلك.
كقول ابن زيد في نفطويه النحوي:
لو أوحي إلى نفطويه ... ما كان هذا النحو يعزى إليه
أحرقه الله بنصف اسمه ... وصير الباقي صراخا عليه
ومنه قول ابن الرومي:
كأن أباه حين سماه صاعدا ... رأى كيف يرقى في المعالي ويصعد
وقول أبي العلاء المعري:
وقد سماه سيده عليا ... وذلك من علو القدر فال
وهو مأخوذ من قول أبي الطيب:
في رتبة حجب الورى عن نيلها ... وعلا فسموه علي الحاجبا
واستأذن الحاجب يوما على الصاحب لإنسان يعرف بالطرسوسي, فقال: الطرفي لحيته والسوس في حنطته.
وكتب ابن سكرة إلى ابن العصب الملحي:
يا صديقا أفادنيه زمان ... فيه ضن بالأصدقاء
بين شخص وبين شخصك بعد ... غير أن الخيال بالوصل سمح
إنما باعد التآلف منا ... إنني سكر وانك ملح
فأجابه بأبيات منها:
هل يقول الأخوان يوما لخل ... شاب منه محض المودة قدح
بيننا سكر فلا تفسدنه ... أو يقولون بيننا وبينك ملح
ومنه قول أبي الحسن الباخرزي:
غيداء أغوى وأودى حبها وكذا ال ... غيداء غي وداء لفقا لقبا
وبيت صفي الدين قوله:
لم يلق مرحب منه مرحبا ورأى ... ضد اسمه عند هد الحصن والأطم
ولم ينظم ابن جابر الأندلسي هذا النوع وبيت بديعية العز الموصلي قوله:
ميم وحا في اشتياق الاسم محو عدى ... والميم والدال مد الخير للأمم
وبيت بديعية ابن حجة قوله:
محمد أحمد المحمود مبعثه ... كل من الحمد تبيين اشتقاقهم
وبيت السيوطي قوله:
وأحمد الناس والمحمود شق له ... من وصفه الحمد وصفا غير منهضم
وبيت العلوي قوله:
بالوضع كسرى التقى كسرا بدولته ... وقيصر قصرت عنه علا الهمم
وبيت الطبري قوله:
محمد المصطفى المحمود في خلق ... أكرم بمشتق حمد مفرد علم
وبيت بديعيتي قولي:
لم تبق بدر لهم بدرا وفي أحد ... لم يبق من أحد عند اشتقاقهم
الاشتقاق في هذا البيت ظاهر, وهو في موضعين, أحدهما: اشتقاق بدر, بمعنى القمر ليلة كماله من بدر بمعنى الموضع الذي كان فيه الوقعة المشهورة, التي نصر الله فيها رسوله صلى الله عليه وآله وسلم. والثاني: اشتقاق أحد, بمعنى واحد من أحد بضمتين: اسم جبل بقرب المدينة المنورة, وكانت به الوقعة المشهورة أيضاً في أوائل شوال سنة ثلاث من الهجرة.(1/418)
فان قلت: إن وقعة أحد لم ينتصر فيها المسلمون, بل انكسر فيها عسكر الإسلام, فكيف قلت: وفي أحد لم يبق من أحد؟ قلت: قال الواقدي: قالوا: ما ظفر الله نبيه في موطن قط ما ظفره وأصحابه يوم أحد, حتى عصوا الرسول, وتنازعوا الأمر. لقد قتل أصحاب لواء المشركين, وانكشف المشركون لا يلوون, ونساؤهم يدعون بالويل والثبور, بعد ضرب الدفاف والفرح. وقد روى كثير من الصحابة ممن شهد أحدا قال كل واحد: إني لأنظر إلى هند وصواحبها ينهزمن ما دون أخذهن شيئا لمن أراده, ولكن لا مرد لقضاء الله. والواقعة مشهورة مسطورة في كتب السير, والله أعلم.
السلب والإيجاب
لا يسلب القرن إيجابا لرفعته ... ويسلب النقص من أفضاله العمم
هذا النوع, زعم ابن أبي الأصبع انه من مستخرجاته, وهو موجود في كتب القدماء الذين نقل عنهم ككتاب الصناعتين لأبي هلال العسكري, وسر الفصاحة لابن سنان الخفاجي, وبديع شرف الدين التيفاشي, وذكره عز الدين الزنجاني في معيار النظار.
قال العسكري: هو أن يتبنى الكلام على نفي الشيء من جهة, وإثباته من جهة أخرى, أو الأمر به من جهة, والنهي من جهة أخرى, وما أشبه ذلك, كقوله تعالى "فلا تخشوا الناس واخشون".
ومن النظم قول امرئ القيس:
هضيم الحشا لا يملأ الكف خصرها ... وتملأ منها كل حجل ودملج
وقول الحماسي:
لا يفطنون لعيب جارهم ... وهم لحفظ جواره فطن
وقوله:
وننكر أن شيئاً على الناس قولهم ... ولا ينكرون القول حيث نقول
وقال ابن أبي الاصبع في تقرير هذا النوع: هو أن يقصد المادح أفراد ممدوح بصفة لا يشركه فيها غيره, فينفيها في أول كلامه عن جميع الناس, ويثبتها لممدوحه بعد ذلك.
كقول الخنساء:
وما بلغت كف امرئ متناول ... من المجد إلا والذي نلت أطول
ولا بلغ المهدون للناس مدحة ... وإن أطنبوا إلا الذي فيك أفضل
وهذا التقرير داخل في حد العسكري لهذا النوع.
ومن أمثلته قول الآخر:
خلقوا وما خلقوا لمكرمة ... فكأنهم خلقوا وما خلقوا
رزقوا وما رزقوا سماح يد ... فكأنهم رزقوا وما رزقوا
وقول ابن عياش الأندلسي:
ولله سيف ليس يكهم حده ... على أنه إن لم تقلده يكهم
وبيت بديعية الصفي قوله:
أغر لا يمنع الراجين ما طلبوا ... ويمنع الجار من ضيم ومن حرم
ولم ينظم ابن جابر الأندلسي هذا النوع.
وأما الشيخ عز الدين الموصلي, فرأيت ابن حجة أورد له في هذا النوع بيت نفي الشيء بإيجابه بعينه, وهو:
لم ينف ذما بإيجاب المديح فتى ... إلا وعاقدت فيه الدهر بالسلم
وقد مر الكلام على هذا البيت في النوع المذكور, وأسلفنا أنه ليس فيه معنى غير لفظتي النفي والإيجاب. وإما كونه يصلح شاهدا لهذا النوع -أعني السلب والإيجاب- كما تقتضيه إعادته في هذا النوع, فمنعه أظهر.
وبيت بديعية ابن حجة قوله:
إيجابه بالعطايا ليس يسلبه ... ويسلب المن منه سلب مخترم
وبيت بديعية المقري قوله:
ما مل حرب أعادي الله صارمه ... ومل أحشاءهم في كل مضطرم
قال في شرحه: الإيجاب فيه بلفظة مشتركة حملها لمعنى آخر, فإن قوله (ما مل حرب أعادي الله) من الملالة, وقوله (ومل أحشاءهم) يعني, أحرقها بالنار, ولا يخفى أنه خرج بهذا الحمل عما نحن فيه.
ولم ينظم السيوطي, ولا الطبري هذا النوع.
وبيت بديعية العلوي قوله:
ولا يمن ولو أعطى الوجود فتى ... لكن يمن على الأسرى بفكهم
وبيت بديعيتي قولي:
لم يسلب القرن إيجابا لرفعته ... ويسلب النقص من أفضاله العمم
المشاكلة
يجزي العداة بعدوان مشاكلة ... والفضل بالفضل ضعفا في جزائهم
المشاكلة في اللغة: المشابهة والموافقة, وفي الاصطلاح: ذكر الشيء بلفظ غيره, لوقوعه في صحبته تحقيقا أو تقديرا.
فالأول: كقوله تعالى "وجزاء سيئة سيئة مثلها" فإن الثانية لكونها حقة لا تكون سيئة, لكن لوقوعها في صحبة الأولى عبر عنها بالسيئة. وقوله تعالى "تعلم ما في نفسي ولا أعلم ما في نفسك" أي تعلم ما أخفيه من معلوماتك فلما عبر عن الأول بما في نفسي, عبر عن الثاني بما في نفسك مشاكلة, لأن الحق تعالى وتقدس لا يستعمل في حقه لفظة النفس.
وقول الشاعر:(1/419)
قالوا اقترح شيئا نجد لك طبخة ... قلت اطبخوا لي جبة وقميصا
ذكر خياطة الجبة بلفظ الطبخ لوقوعها في صحبة الطعام, ولا يلزم تقديم الصاحب لمجيئه متأخرا, كقوله عليه السلام (أحب الأعمال إلى الله أدومها وإن قلَّ فعليكم من الأعمال بما تطيقون فإن الله لا يمل حتى تملوا) فعبر عن قطع الثواب بالملل لوقوعه في صحبته وهو متأخر عنه.
وقول أبي تمام:
من مبلغ أفناء يعرب كلها ... إني بنيت الجار قبل المنزل
فبناء الجار إنما سوغه بناء المنزل وهو متأخر عنه.
وأحسن ما اعتذر به عن قول أبي تمام:
لا تسقني ماء الملام فإنني ... صب قد استعذبت ماء بكائي
انه من هذا الباب, وإن إثبات الماء للملام بمشاكلة ماء البكاء المتأخر عنه.
واستشهد كثير لهذا النوع بقول ابن كلثوم:
ألا لا يجهلن أحد علينا ... فنجهل فوق جهل الجاهلينا
قالوا: سمى جزاء الجهل جهلا مشاكلة. واعترض بأنه إنما كان جهلا للزيادة على جهل الأول, فهو أيضاً جاهل متعد كالأول, وغاية ما يمكن أن يقال في جوابه: إن الزيادة على جهل الظالم في مكافأة ظلمه ليس ظلما في اعتقاد الشاعر, لأن الجهل عنده ما لا يكون له سبب يحال عليه عادة, والأول كذلك, وأما الثاني وإن زاد فيصح أن يحال على الأول.
والثاني: وهو ما يكون وقوعه في صحبة غيره تقديرا, كقوله تعالى "صبغة الله ومن أحسن من الله صبغة ونحن له عابدون" فقوله: صبغة الله, مصدر مؤكد منتصب عن قوله: آمنا بالله, لأن الإيمان يطهر النفوس, فعبر عن الإيمان بالصبغة وإن لم يقع في الصبغ. لأن سبب النزول دال عليه, وذلك أن النصارى كانوا يغمسون أولادهم في ماء أصفر يسمونه المعمودية ويقولون هو تطهير لهم, فعبر عن مقابله من تطهير القلوب بالإيمان بصبغة الله مشاكلة, لوقوعه في صحبة صبغة النصارى تقديرا وإن لم يذكر ذلك لفظا, وهذا كما تقول لمن يغرس الأشجار: اغرس كما يغرس فلان, تريد رجلا يصطنع الكرام ويحسن إليهم, فتعبر عن الاصطناع بلفظ الغرس للمشاكلة, وقرينة الحال, حيث كان مشغولا بالغرس وإن لم يكن له ذكر في المقال.
حكي أن فقيراً وقف على بعض الولاة وهو يغرس فسيلا فأنشده:
إن الولاية لا تدوم لواحد ... إن كنت تنكره فأين الأول
فاغرس من الفعل الجميل غرائسا ... فإذا عزلت فإنها لا تعزل
وأرباب البديعيات إنما بنوا أبياتهم على النوع الأول, وهو ما يكون وقوعه في صحبة غيره تحقيقا لأنه الأشهر والأكثر في الاستعمال.
وبيت بديعية الصفي قوله:
يجزي إساءة باغيهم بسيئة ... ولم يكن عاديا منهم على ارم
وبيت بديعية ابن جابر قوله:
سقاهم الغيث واستسقى لهم ذهبا ... فغير كفيه إن أمحلت لا تشم
وبيت بديعية عز الدين الموصلي قوله:
يجزي بسيئة للضد سيئة ... معنى مشاكلة من خير منتقم
وبيت بديعية ابن حجة قوله:
من اعتدى فبعدوان يشاكله ... لحكمة هو فيها خير منتقم
وبيت بديعية المقري قوله:
يضاعف الأجر والحسنى ويردع عن ... ظلم بظلم ويعفو عن كثيرهم
وبيت بديعية العلوي قوله:
إن الرحيم جزى بالسوء سيئة ... قطيعة العفو للأصحاب والرحم
وبيت بديعية الطبري قوله:
جازى بالإحسان إحسانا مشاكلة ... وألف اللفظ بالمعنى لملتئم
وبيت بديعيتي قولي:
يجزى العداة بعدوان مشاكلة ... والفضل بالفضل ضعفا في جزائهم
ما لا يستحيل بالانعكاس
ألم يفد أجر بر جاد في ملأ ... لم يستحل بانعكاس عن عطائهم
هذا النوع سماه السكاكي مقلوب الكل, وبعضهم المقلوب المستوي, وعرفه الحريري في مقاماته بما لا يستحيل بالانعكاس, وهو أن يكون الكلام بحيث إذا قلبته أي ابتدأت به من حرفه الأخير إلى حرفه الأول كان إياه, وهو قد يقع في النثر وقد يقع في النظم.
أما وقوعه في النثر فكقوله تعالى "كل في فلك" وقوله "ربك فكبر" وقول النبي صلى الله عليه وآله وسلم (يقال لصاحب القرآن يوم القيامة اقرأ وارقا) .
وقول الحريري: كبر أجر ربك.
وقول القاضي الفاضل: أبدا لا تدوم إلا مودة الأدباء.
وقال العماد الكاتب للقاضي الفاضل وقد مر عليه راكبا فرسا: سر فلا كبابك الفرس, فقال له القاضي الفاضل: دام علا العماد.(1/420)
وقال ابن البارزي: سور حماة بربها محروس.
وقول الصفي الحلي: كن كما أمكنك.
وقول آخر: كبرت آيات ربك.
وقوله: مودتي يحيى تدوم.
وقوله: حوت فمه مفتوح.
وقوله: عقرب تحت برقع.
وقول مؤلفه: أمحمد دم حما.
وأما وقوعه في النظم فقد يكون في شطر البيت كقوله (أرانا الإله هلالا أنارا) , وقد يكون في البيت بتمامه.
كقول الأرجاني:
مودتي تدوم لكل هول ... وهل كل مودته تدوم
وقول الآخر:
أراهن نادمنه ليل لهو ... وهل ليلهن مدان نهار
وقول الآخر:
عج تنم قربك دعد آمنا ... إنما دعد كبرق منتجع
وقول البحتري:
أس أرملا إذا عرا ... وارع إذا المرء أسا
وبيت بديعية صفي الدين الحلي قوله:
هل من ينم بحب من ينم له ... إذا رموه بمن لم يدر كيف رمي
ولم ينظم ابن جابر هذا النوع.
وبيت بديعية العز الموصلي قوله:
لم يستحل بانعكاس في سجيته ... مدن أخا طعم معط أخا ندم
وبيت بديعية ابن حجة قوله:
بحر وذو أدب بدا وذو رحب ... لم يستحل بانعكاس ثابت القدم
وبيت بديعية المقري قوله:
معط أخا كرم مرض أخا ندم ... مدن أخا ضرم مرك اخا طعم
تبجح الشيخ بهذا البيت فقال: إن تكلف هذا البيت وركة ألفاظه ومعناه مما لا تسيغه الأسماع, ولا تقبله الطباع, ولاسيما الشطر الأخير, فإن الحرس عن مثله أفضل من النطق بكثير.
وبيت بديعية العلوي قوله:
أنلتنا موئلا واليوم أنت لنا ... حصن منيع به ننجو من السقم
وبيت بديعية الطبري قوله:
لم يستحل بانعكاس في مودته ... مسر أخا دهم مهد أخا رسم
الذي أراه أن الطبري إنما لاحظ في هذا البيت عكس الألفاظ فقط, ولم يلتفت إلى أنه يفيد معنى أم لا.
وبيت بديعيتي قولي:
ألم يفد اجر بر في ملأ ... لم يستحل بانعكاس عن عطائهم
أشرت في هذا البيت إلى ما صنعه صلى الله عليه وآله وسلم مع هوزان لما أسرهم, وأصاب من أموالهم وهم أظآره عليه السلام, لأن هوزان جد سعد بن بكر الذين هم قبيلة حليمة السعدية ظئره صلوات الله عليه, وهو سعد بن بكر بن هوزان.
روى ابن فارس في كتابه في أسماء النبي صلى الله عليه وسلم: أن في يوم حنين جاءته امرأة فأنشدته شعرا تذكره أيام رضاعته في هوزان, فرد عليهم ما أخذ, وأعطاهم عطاء كثيرا, حتى قوم ما أعطاهم ذلك اليوم فكأن خمسمائة ألف أوقية, وهذا نهاية الجود الذي لم يسمع بمثله.
وروي عن زهير بن صرد الجشمي أنه قال: لما أسرنا رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم يوم حنين ويوم هوزان, وذهب يفرق السبي, قمت بين يديه وقلت: يا رسول الله, إنما في الحظائر خالاتك, وحواضنك اللاتي كفلنك, ولو أنا صافحنا ابن أبي شمر, أو النعمان بن المنذر, ثم أصابنا منهما مثل ما أصابنا منك, رجونا عفوهما وعطفهما, ثم أنشدته أبياتا منها:
أمنن علينا رسول الله عن كرم ... فانك المرء نرجوه وننتظر
أمنن على نسوة قد كنت ترضعها ... إذ فوك تملؤه من محضها الدرر
إذ أنت طفل كنت ترضعها ... وإذ يزينك ما تأتي وما تذر
وألبس العفو من قد كنت ترضعه ... من أمهاتك إن العفو مشتهر
فقال رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم: أما ما كان لي ولبني عبد المطلب فهو لكم, وقالت قريش كذلك, وقالت الأنصار كذلك. وأطلقهم جميعهم.
إذا عرفت ذلك, فقولي: ألم يفد, استفهام إنكار, معناه: أفاد, أي أعطى, لأن الإنكار نفي وقد دخل على النفي, ونفي النفي إثبات.
ومثل ذلك قوله تعالى "ألم نشرح لك صدرك" أي شرحنا.
وقولي: أجر بر, أي جزاء بر, فإن الأجر معناه الجزاء على العمل, والبر: الصلة. وقولي: جاد, أي مطر, من قولهم: جادت السماء جودا بالفتح, أي أمطرت, والضمير فيه راجع إلى الأجر أفاده. وقولي: في ملأ, أي في قوم, والمراد بهم أظآره المذكورون الذين أعطاهم أجر برهم له صلوات الله وسلامه عليه, والله أعلم.
التقسيم
إن مد كفا لتقسيم النوال فهم ... ما بين معطى ومستجد ومستلم
التقسيم في اللغة: التجزئة والتفريق, وفي الاصطلاح على نوعين: أحدهما: أن يذكر قسمة ذات جزئين أو أكثر, ثم يضيف إلى كل واحد من الأقسام ما يليق به.
كقول المتلمس:(1/421)
ولا يقيم على ضيم يراد به ... إلا الأذلان غير الحي والوتد
هذا على الخسف مربوط برمته ... وذا يشج فلا يرثي له أحد
ذكر العير والوتد, ثم أضاف إلى الأول الربط مع الخسف, وإلى الثاني الشج.
وقول ربيعة الرقي:
لشتان ما بين اليزيدين في الندى ... يزيد سليم والأغر ابن حاتم
يزيد سليم سالم المال والفتى ... فتى الأزد للأموال غير مسالم
فهم الفتى الأزدي إتلاف ماله ... وهم الفتى القيسي جمع الدراهم
وقول أبي الفتيان ابن حيوس:
ثمانية لم تفترق مذ جمعتها ... فلا افترقت ما ذب عن ناظر شفر
يقينك والتقوى وجودك والغنى ... ولفظك والمعنى وسيفك والنصر
الثاني: أن يتقصى تفصيل ما ابتدأ به, ويستوفي جميع الأقسام الذي يقتضيها ذلك المعنى, كقوله تعالى "هو الذي يريكم البرق خوفا وطمعا" إذ ليس في رؤية البرق إلا الخوف من الصواعق والطمع في الغيث ولا ثالث لهذين القسمين, وقوله تعالى "الذين يذكرون الله قياما وقعودا وعلى جنوبهم" استوفى جميع هيئات الذاكر, وقوله تعالى "يهب لمن يشاء إناثاً ويهب لمن يشاء الذكوراً, ويزوجهم ذكرانا وإناثا ويجعل من يشاء عقيما" استوفى جميع أحوال المشروحين ولا خامس لها.
وكان الحسن البصري يقول: لا توبة لقاتل المؤمن متعمدا, فدس إليه عمرو بن عبيد رجلا وقال: قل له: لا يخلو من أن يكون مؤمنا أو كافرا أو منافقا (أو فاسقا) . فإن كان مؤمنا, فإن الله سبحانه يقول "يا أيها الذين آمنوا توبوا إلى الله توبة نصوحا", ويقول "توبوا إلى الله جميعا أيها المؤمنون لعلكم تفلحون", وإن كان كافرا فانه تعالى يقول "قل للذين كفروا إن ينتهوا يغفر لهم ما قد سلف", وإن كان منافقا فانه تعالى يقول "إن المنافقين في الدرك الأسفل من النار ولن تجد لهم نصيرا إلا الذين تابوا", وإن كان فاسقا فانه يقول "أولئك هم الفاسقون إلا الذين تابو".
فقال الحسن للرجل: من أين لك هذا؟ قال: شيء اختلج في صدري, قال: محال: أصدقني, فقال: عمرو بن عبيد, فقال عمرو وما عمرو, إذا قام بأمر قعد به, وإذا قعد بأمر قام به. ورجع عن قوله.
وحكي أنه قدم وفد من العراق على هشام بن عبد الملك وفيهم رجل من بني أسد, فقال: يا أمير المؤمنين, أصابتنا سنون ثلاث. أما الأولى فأذابت الشحم, وأما الثانية فنخست اللحم, وأما الثالثة, فهاضت العظم, وفي أيديكم فضول أموال, فإن كانت لله فبثوها في عباد الله, وإن كانت لهم فلا تمنعوهم إياها, وإن كانت لكم فتصدقوا إن الله يجزي المتصدقين.
فقال هاشم: ما ترك لنا في واحدة عذرا, ثم قال له: قد قلت في حاجة العامة فقل في حاجة نفسك, فقال: ما لي حاجة في خاصة دون عامة.
ولما ورد قتيبة من مسلم خراسان قال: بلغني أن لعبد الله بن حازم بهذه البلدة مالا فمن كان في يده شيء منه فلينبذه, ومن كان في فمه فليلفظه, ومن كان في صدره فلينفثه, فتعجبوا من حسن تفصيله.
ومثاله في الشعر قول نصيب:
فقال فريق الحي لا وفريقهم ... نعم وفريق قال ويحك لا ندري
وقول زهير:
وأعلم علم اليوم والأمس قبله ... ولكنني عن علم ما في غد عم
وقوله:
فإن الحق مقطعه ثلاث ... يمين أو شهود أو جلاء
وروي أن عمر لما سمع هذا البيت قال: لو أدركت زهيراً لوليته القضاء.
وقول الشماخ يصف صلابة سنابك الحمار:
متى ما تقع أرساغه مطمئنة ... على حجر يرفض أو يتدحرج
فليس في أقسام ما وطي الوطي الشديد إلا أن يوجد إما رخوا فيرفض, أو صلبا فيتدحرج.
وقول عمرو بن الأهتم:
اشربا ما شربتما فهذيل ... من قتيل أو هارب أو أسير
وقول أبي تمام في مجوسي أحرق بالنار:
صلى لها حيا وكان وقودها ... ميتا ويدخلها مع الفجار
وقول الآخر:
ولا بد من شكوى إلى ذي مروءة ... يواسيك أو يسليك أو يتوجع
فان المشكو إليه إما أن يواسي الشاكي وهي الرتبة العليا, وإما أن يسليه وهي الرتبة الوسطى, وإما أن يتوجع وهي الرتبة السفلى.
وفساد التقسيم يكون إما بالتكرار كقوله:
فما برحت تومي إليك بطرفها ... وتومض أحيانا إذا خصمها غفل
فتومي بطرفها وتومض متساويان في المعنى.
أو بدخول أحد القسمين في الآخر كقول عدي:(1/422)
غير ما أن أكون نلت نوالا ... من نداها عفوا ولا مهنيا
فيجوز أن يكون العفو مهنيا وبالعكس.
وقول البحتري:
قف مشوقا أو مسعدا أو حزينا ... أو مغيثا أو عاذرا أو عذولا
قال ابن الأثير في المثل السائر: وهذا من فساد التقسيم, فإن المشوق يكون حزينا, والمسعد يكون مغيثا, وكذلك قد يكون المسعد عاذرا.
أو بترك بعض الأقسام كقول جرير:
صارت حنيفة أثلاثا فثلثهم ... من العبيد وثلث من مواليها
وقال بواب المأمون يوما للوقوف على الباب: كم تقفون على الباب؟ اختاروا واحدة من ثلاث: إما أن تقفوا ناحية الباب, وإما أن تجلسوا في المسجد, ثم سكت, فقالوا: فالخصلة الثالثة؟ فلم يحسن أن يثلث, فقال: جئتمونا بكلام الزنادقة؟. فحدث به المأمون فضحك وأمر له بألف درهم, وقال: لولا أنها نادرة جهل لاستحق بها أكثر.
وبيت بديعية الصفي قوله:
أفنى جيوش العدى غزوا فلست ترى ... سوى قتيل ومأسور ومنهزم
وبيت بديعية ابن جابر قوله:
عيثان أما الذي من فيض أنمله ... فدائم والذي للمزن لم يدم
وبيت بديعية العز الموصلي قوله:
تقسيمه الدهر يوما أمسه كغد ... في الحلم والجود والأيفاء للذمم
وبيت بديعية ابن حجة قوله:
هداه تقسيمه حالي به صلحت ... حيا وميتا ومبعوثا مع الأمم
رأيت في شرح بديعية ابن حجة مكتوبا على الهامش بإزاء هذا البيت ما نصه: شكر الله فضل أبي تمام, وجزاه عن المصنف خيرا. انتهى. يشير إلى أن التقسيم فيه مأخوذ من بيت أبي تمام المقدم ذكره, وهو:
صلى لها حيا وكان وقودها ... ميتا ويدخلها مع الفجار
وبيت بديعية المقري قوله:
في الله أعطى وهل أبقت يد سمحت ... بالنفس والمال والأهلين والحشم
هذا البيت فيه فساد التقسيم, فإن الأهل يدخلون في الحشم. قال في القاموس: حشم الرجل: خاصته الذين يغضبون له من أهل, وعبيد, وجيرة, وهو عيالة والقرابة أيضاً. انتهى.
وبيت بديعية السيوطي قوله:
تقسيمه الخزي في الكفار يوم وغى ... قتلا وسبيا وتشريدا لمنهزم
وبيت بديعية العلوي قوله:
مرآه كالبرق ترجوه وترهبه ... والقبض في كفه والبسط للاضم
وبيت بديعية الطبري قوله:
تقسيم آياته كالضب كلمه ... والجذع حن ونبع الما لريهم
قال الشيخ صفي الدين في شرح بديعيته: اشترط البديعيون في التقسيم أن يستوفي أقسام القسمة, فلا يغادر منها قسما. انتهى. وعلى هذا فبيت الطبري خارج عن شرط البديعيين, لأنه لم يستوف أقسام الآيات.
وبيت بديعيتي قولي:
إن مد كفا لتقسيم النوال فهم ... ما بين معطى ومستجد ومستلم
هذه الأقسام الثلاثة لا رابع لها, لأن العفاة عند مد الكف للعطاء, إما معطى, أو سائل, أو مستلم. لا يقال: قد يكون كل من هذه الأقسام داخلا في الآخر, لانا نقول: المراد في تلك الحالة الراهنة, فلا تداخل, والله أعلم.
الإشارة
درى إشارة من وافاه مجتديا ... فجاد ما جاد مرتاحا بلا سأم
هذا النوع من مستخرجات قدامة. وهو عبارة عن أن يشير المتكلم إلى معان كثيرة بكلام قليل يشبه الإشارة باليد. فإن المشير بيده يشير دفعة واحدة إلى أشياء لو عبر عنها لاحتاج إلى ألفاظ كثيرة.
ومن شواهدها في الكتاب العزيز قوله تعالى "وفيها ما تشتهيه الأنفس وتلذ الأعين". قال بعضهم: جمع بهاتين اللفظتين ما لو اجتمع الخلق كلهم على وصف ما فيها على التفصيل لم يخرجوا عنه. وقوله تعالى "أخرج منها ماءها ومرعيها" دل بهاتين الكلمتين على جميع ما أخرجه من الأرض, قوتا ومتاعا للأنام, من العشب والشجر والحب والثمر, والعصف والحطب واللباس, والنار والملح. لأن النار من العيدان, والملح من الماء. وقوله تعالى "فأصدع بما تؤمر". قال ابن أبي الأصبع: المعنى: صرح بجميع ما أوحي إليك, وبلغ كل ما أمرت ببيانه وإن شق بعض ذلك على بعض القلوب فانصدعت كالزجاجة.
والمشابهة بينهما فيما يؤثره التصريح في القلوب, فيظهر ذلك على ظاهر الوجوه من التقبض والانبساط, ويلوح عليها من علامات الإنكار والاستبشار كما يظهر على ظاهر الزجاجة المصدوعة. فانظر إلى جليل هذه الاستعارة وعظم أيجازها, وما انطوت عليه من المعاني الكثيرة.(1/423)
وقد حكي: إن بعض الأعراب لما سمع هذه الآية سجد وقال: سجدت لفصاحة هذا الكلام. انتهى.
وقوله تعالى "فغشيهم من اليم ما غشيهم" أي غشي آل فرعون وجنوده من البحر ما لا يدخل تحت العبارة, ولا يحيط به إلا علم الله تعالى من العذاب, والهلاك, والغضب والانتقام, والاستئصال إلى غير ذلك. دل على ذلك كله كلمة (ما) في قوله (ما غشيهم) . ومثل ذلك قوله تعالى "فأوحى إلى عبده ما أوحى".
ومن الشعر قول امرئ القيس:
على هيكل يعطيك قبل سؤاله ... أفانين جري غير كز ولا وان
فانه أشار بقوله: أفانين جري, إلى جميع صنوف عدو الخيل المحمودة التي لو عبر عنها لاحتاج إلى ألفاظ كثيرة, واحترز بنفي الكزوزة والونى من الحران, والجمام والعثور.
وقوله:
تظل لنا يوم لذيذ بنعمة ... فقل في مقيل نحسه متغيب
فدل باليوم اللذيذ على جميع ما احتوى عليه من المآكل والمشارب اللذيذة, والملاذ السماعية, وسرور النفس والارتياح, إلى غير ذلك مما لا يتسع له الحصر. وكذا في قوله: تحسه متغيب, من ذهاب الغموم والهموم, والمكاره والمخاوف ونحو ذلك.
وبيت بديعية الصفي قوله:
يولي الموالين من جدوى شفاعته ... ملكا كبيرا عدا ما في نفوسهم
قال في شرحه: الإشارة فيه قوله: ملكا كبيرا.
ولم ينظم ابن جابر هذا النوع في بديعيته.
وبيت بديعية العز الموصلي قوله:
ما تشتهي النفس يهدى في إشارته ... تعطى فنونا بلا من ولا سأم
وبيت بديعية المقري قوله:
محرم قعدة لا في ربيع ندى ... أصب ما فيه لم يخطر على الهمم
قال في شرحه: الإشارة فيه قوله: ما فيه لم يخطر على الهمم.
وبيت بديعية السيوطي قوله:
يا أكرم الرسل يا من في إشارته ... حوز المنى وبلوغ القصد من أمم
وبيت بديعية العلوي قوله:
يفيد بعض نوال أمته ... عزاً وذاماً عظيماً غير منصرم
وبيت بديعية الطبري قوله:
حوى فصائل لا حد يشار لها ... به فيفصح عنه واصف بفم
وبيت بديعيتي قولي:
درى إشارة من وافاه مجتدياً ... فجاد ما جاد مرتاحا بلا سأم
الإشارة فيه قولي: فجاد ما جاد, على حد قوله تعالى "فأوحى إلى عبده ما أوحى" و"فغشيهم من أليم ما غشيهم" والله أعلم.
تشبيه شيئين بشيئين
شيئان شبههما شيئان منه لنا ... نداه في المحل مثل البرء في السقم
هذا النوع عبارة عن أن يأتي المتكلم بشيئين, ويقابلهما بشيئين لأجل التشبيه, وهو على نوعين: أحدهما, أن يكون المقصود تشبيه كل جزء من جزء أحد طرفي التشبيه بما يقابله من الطرف الآخر.
كقول امرئ القيس:
كأن قلوب الطير رطبا ويابسا ... لدى وكرها العناب والحشف البالي
شبه الرطب والطري من قلوب الطير بالعناب, واليابس بالحشف البالي. وليس تحت هذا أمر كبير, إذ ليس لاجتماعهما هيئة مخصوصة يعتد بها ويقصد تشبيهها, ولذا قال الشيخ في أسرار البلاغة: إنه إنما يستحق الفضيلة من حيث اختصار اللفظ وحسن الترتيب فيه, لا لأن للجمع فائدة في عين التشبيه.
الثاني, أن يكون المقصود تشبيه هيئة حاصلة من مجموع جزئي أحد الطرفين بالهيئة الحاصلة من مجموع الطرف الآخر وإن كان الظاهر فيه تشبيه شيئين بشيئين, وهذا النوع هو الذي تعقد عليه الخناصر, ويعز وقوعه, لا مطلق تشبيه شيئين بشيئين, كما يقتضيه إطلاق شراح البديعيات, وهو على قسمين: أحدهما, ما يكون بحيث يحسن تشبيه كل جزء من جزئي أحد طرفيه بما يقابله من الطرف الآخر كقوله:
وكأن أجرام النجوم لوامعا ... درر نثرن على بساط أزرق
فانك لو قلت: كأن النجوم درر, وكأن السماء بساط أزرق, كان تشبيها مقبولا حسنا, ولكن أين هو من المقصود من التشبيه وهو الهيئة التي تملأ القلوب سرورا وعجبا من طلوع النجوم صغارها وكبارها, مؤتلفة ومفترقة في أديم السماء وهي زرقاء رزقتها الصافية.
الثاني, ما لا يكون بهذه الحيثية.
كقول القاضي:
أنما المريخ والمشتري ... قدامه في شامخ الرفعه
منصرف بالليل عن دعوة ... قد أسرجت قدامه شمعه(1/424)
فانك لو قلت: كأن المريخ منصرف بالليل عن دعوة, وكأن المشتري شمعة, لم يكن شيئا, إذ المقصود تشبيه الهيئة الحاصلة من المريخ حال كون المشتري أمامه بالهيئة الحاصلة من المنصرف عن الدعوة مسرجا الشمعة قدامه.
وإلى هذا أشار صاحب الكشاف حيث قال: أن العرب تأخذ شيئاً فرادى معزولا بعضها عن بعض وتشبهها بنظائرها, وتشبه كيفية حاصلة من مجموع أشياء قد تضامت وتلاءمت وتلاصقت, حتى عادت شيئا واحدا بأخرى مثلها. وهذا النوع يسميه أرباب البيان: تشبيه المركب بالمركب, وإنما أطلق عليه البديعيون: تشبيه شيئين بشيئين, باعتبار تعدد طرفيه.
حكي عن بشار أنه قال: ما زلت منذ سمعت قول امرئ القيس يصف العقاب:
كأن قلوب الطير رطبا ويابسا ... لدى وكرها العناب والحشف البالي
لا يأخذني الهجوع حسدا له, إلى أن نظمت في وصف الحرب قولي:
كأن مثار النقع فوق رؤوسنا ... وأسيافنا ليل تهاوى كواكبه
وقد تقدم الكلام على هذا البيت في نوع التشبيهن ومرت لهذا النوع شواهد كثيرة هناك.
وبيت بديعية الصفي قوله:
تلاعبوا تحت ظل السمر من مرح ... كما تلاعبت الأشبال في الأجم
ولم ينظم ابن جابر الأندلسي هذا النوع.
وبيت بديعية العز الموصلي قوله:
شيئان تشبيه شيئين أتنبه لهما ... حلم وجهل هما كالبرء والسقم
الشيخ عز الدين جهل في هذا التشبيه جهلا لا يسعه حلم, فانه وقع في القصيدة من جملة المديح النبوي, وفيه الإيهام القبيح ما لا يخفى. نعوذ بالله من آفة الغفلة.
وبيت بديعية ابن حجة:
شيئان قد أشبها شيئين فيه لنا ... تبسم وعطا كالبرق في الديم
وبيت بديعية المقري قوله:
تراه في جيشه كالبدر في شهب ... بالبلق قد جال في الهيجاء بالدهم
وبيت بديعية السيوطي قوله:
شيئان قد أشبها شيئين منه على ... وجه وشعر كمثل البدر في الظلم
وبيت بديعية العلوي قوله:
فحوصه ولواه شافيان كما ... قدما شفى كفه والنفث من ألم
وبيت بديعية الطبري قوله:
تشبيه شيئين بالشيئين فيه هما ... النور والفيض مثل البدر والديم
وبيت بديعيتي قولي:
شيئان شبههما شيئان منه لنا ... نداه في المحل مثل البرء في السقم
الكناية
سامي الكناية مهزول الفصيل إذا ... ما جاءه الضيف أبدى بشر مبتسم
الكناية في اللغة: مصدر قولك: كنبت بكذا عن كذا, وكنوت: إذا تركت التصريح. وفي الاصطلاح: ترك التصريح بذكر الشيء إلى ذكر لازمه المساوي, لينتقل الذهن منه إلى اللزوم المطوي ذكره, كما يقال: فلان طويل النجاد, أي طويل القامة, فترك التصريح بطول القامة إلى ذكر لازمه المساوي وهو طول النجاد, لينتقل الذهي منه إلى طول القامة. وقولهم: فلان كثير الرماد, كناية عن أنه كثير القرى, لأن القرى إذا كثر كثر الرماد, وهي أبلغ من التصريح أجماعا, لأنك إذا أثبت كثرة القرى مثلا بإثبات شاهدها ودليلها, وما هو علم على وجودها, فهو كالدعوى التي معها شاهد ودليل, وذلك أبلغ من إثباتها بنفسها وأن كان لا يلزم من وجود اللازم وجود الملزوم. ألا ترى أنك تقول: فلان طويل النجاد, وإن لم يكن له نجاد قط, ولكن تجد اطمئنان النفس حينئذ أكثر.
ومن أمثلتها في الشعر قول عمر بن أبي ربيعة:
بعيدة مهوى القرط إما لنوفل ... أبوها وإما عبد شمس وهاشم
كني عن طول جيدها ببعد مهوى القرط.
وقول امرئ القيس:
ويضحى فتيت المسك فوق فراشها ... نؤوم الضحى لم تنتطق عن تفضل
أي أنها مرفهة مخدومة, غير محتاجة إلى السعي بنفسها في أصلاح المهمات. وذلك أن وقت الضحى وقت سعي نساء العرب في أمر المعاش, وكفاية أسبابه, وتحصيل ما يحتاج أليه من تهيئة المتناولات وتدبير إصلاحها, فلا ينام فيه من نسائهم إلا من يكون لها خدم ينوبون عنها في السعي لذلك.
وإنها في بيتها متفضلة لا تشد نطاقها للخدمة.
وقول ليلى الأخيلية:
ومخرق عنه القميص تخاله ... بين البيوت من الحيا سقيما
كنت عن الجود بخرق القميص لجذب العفاة له عند ازدحامهم عليه لأخذ العطاء.
وقول الحضرمي:
قد كاد بعجب بعضهن براعتي ... حتى سمعن تنحنحي وسعالي
كنى عن كبر السن بالتنحنح والسعال.
وقول زهير:(1/425)
ومن يعص أطراف الزجاج فانه ... يطيع العوالي ركبت كل لهذم
أراد أن يقول: من لم يرض بأحكام الصلح, فكنى عنه بقوله: ومن يعص أطراف الزجاج, وذلك أنهم كانوا إذا طلبوا الصلح قلبوا زجاج الرماح وجعلوها قدامها مكان الأسنة, وإذا أرادوا الحرب أشرعوا الأسنة وأخروا الزجاج.
وقد تجمع في البيت كنايتان الغرض منهما واحد, ولكن لا تكون إحداهما كالنظير للأخرى, بل كل واحدة منهما أصل بنفسه كقوله:
وما يك في من عيب فإني ... جبان الكلب مهزول الفصيل
فقوله: جبان الكلب مهزول الفصيل, كنايتان, الغرض منهما واحد, وهو كونه كثير الأضياف, لأن كثرة ترددهم على داره تجبن الكلب عن الهرير في وجوههم, وكثرتهم لديه تقتضي أن لا يبقى في ضرع المتلية إذا حلبها ما يغتذي به فصيلها.
قال بعضهم: ولا يعدل عن التصريح إلى الكناية إلا لسبب, ولها أسباب: أحدها: قصد المدح, كأكثر الأمثلة المذكورة.
الثاني: قصد الذم, كقولهم كناية عن الأبله: عريض القفا, فإن عرض القفا وعظم الرأس مما يستدل به على بلاهة الرجل.
الثالث: ترك اللفظ إلى ما هو أجمل كقوله تعالى "إن هذا أخي له تسع وتسعون نعجة ولي نعجة واحدة" فكنى بالنعجة عن المرأة كعادة العرب في ذلك, لأن ترك التصريح بذكر النساء أجمل, ولهذا لم يذكر في القرآن امرأة باسمها إلا مريم عليها السلام. قال السهيلي: وإنما ذكرت مريم باسمها على خلاف عادة الفصحاء لنكتة وهي: أن الملوك والأشراف لا يذكرون حرائرهم في ملأ, ولا يبتذلون أسمائهن, بل يكتفون عن الزوجة بالعرس, والعيال ونحو ذلك, فإذا ذكروا الإماء لم يكنوا عنهن ولم يصونوا أسمائهن عن الذكر. فلما قالت النصارى في مريم ما قالوا صرح الله باسمها ولم يكن تأكيدا للعبودية التي هي صفة لها, وتأكيدا لأن عيسى لا أب له وإلا لنسب إليه.
ومن ذلك قول الشاعر:
ألا يا نخلة من ذات عرق ... عليك ورحمة الله السلام
كنى بالنخلة عن المرآة.
الرابع: أن يكون التصريح مما يستهجن ذكره, كما كنى الله سبحانه عن الجماع بالملامسة, والمباشرة, والإفضاء, والسر, والدخول, والغشيان. وكنى عنه أو عن المعانقة باللباس في قوله "هن لباس لكم وأنتم لباس لهن". وكنى عن البول ونحوه بالغائط في قوله "أو جاء أحد منكم من الغائط" وأصله المطمئن من الأرض. وكنى عن قضاء الحاجة بأكل الطعام في قوله في مريم وابنها "كانا يأكلان الطعام" وكنى عن الاستاه بالأدبار في قوله "يضربون وجوههم وأدبارهم".
أخرج ابن أبي حاتم في هذه الآية عن مجاهد قال: يعني أستاهم, ولكن الله يكني. حكي أن عبد الله بن الزبير قال لامرأة عبد الله بن حازم: أخرجي المال الخفي الذي وضعته تحت أستك, فقالت: ما ظننت أن أحدا يلي شيئا من أمور المسلمين يتكلم بهذا. فقال بعض الحاضرين: أما ترون الخلع الخفي الذي أشارت إليه.
ومن الحجاج أنه لام عبد الرحمن بن الأشعث: عمدت إلى مال الله فوضعته تحت ذيلك. فكنى لئلا يعاب بما عيب به ابن الزبير.
ومنه قول امرئ القيس:
فصرنا إلى الحسنى ورق كلامنا ... ورضت فذلت صعبة أي إذلال
كنى بالذلة عن إسعافها وتمكينها إياه من قضاء وطره.
لخامس: قصد المبالغة كقوله تعالى "ولما سقط في أيديهم" كناية عن اشتداد ندمهم وحسرتهم على عبادة العجل, لأن من شأن من اشتد ندمه وحسرته أن يعض يده غما فتصير يده مسقوطا فيها, لأن فاه قد وقع فيها. السادس: قصد الاختصار, كالكناية عن ألفاظ متعددة بلفظ فعل نحو "لبئس ما كانوا يفعلون" "فإن لم تفعلوا ولن تفعلوا" "فأتوا بسورة من مثله", إلى غير ذلك من الأسباب التي لا يكاد يضبطها الحصر.
ثم الكناية أن لم يكن الانتقال منها إلى المطلوب بواسطة فقريبة, كقولهم كناية عن طول القامة: طويل النجاد, وإن كان بواسطة فبعيدة, كقولهم كناية عن المضياف: كثير الرماد, فانه ينتقل من كثرة الرماد إلى كثرة إحراق الحطب تحت القدر, ومنها إلى كثرة الطبائخ, ومنها إلى كثرة الأكلة, ومنها إلى كثرة الضيفان, ومنها إلى المقصود. وبحسب قلة الوسائط وكثرتها تختلف الدلالة على المقصود وضوحا وخفاء.
وبيت بديعية الصفي قوله:
كل طويل نجاد السيف يطربه ... وقع الصوارم كالأوتار والنغم
ولم ينظم ابن جابر هذا النوع.
وبيت بديعية العز الموصلي قوله:(1/426)
داع كثير رماد القدر إن وصفت ... كناية بطنها والظهر بالدسم
وبيت بديعية ابن حجة قوله:
قالوا طويل نجاد السيف قلت لهم ... لناره السن تكني عن الكرم
تبجح ابن حجة على جاري عادته بهذا البيت وقال: إن الناس كنوا بطول النجاد عن طول القامة, ولكن الكناية بألسن النيران عن كثرة الكرم والقرى لا يخفى استعارتها التي كادت تقوم مقام الحقيقة من المحاسن الظاهرة. انتهى.
وأنا أقول: كلامه يفهم أن هذه الكتابة والاستعارة هو أبو عذرها, وليس كذلك, فانه سرقهما من قول صردر الشاعر وأخل بكثير من محاسنه, حيث يقول:
قوم إذا حيا الضيوف جفانهم ... ردت عليهم ألسن النيران
فما زاد ابن حجة على أن نقص محاسن هذه الاستعارة, ونظمها في بيته, ثم جعل يتبجح المخترع المبتكر, وما أشبه حاله بما حكي أن رجلا كان واقفا بين الناس ينظر إلى خيل تتسابق, فسبق منها جواد, فصفق بيديه وكاد يطير فرحا, فقيل له: أهذا الجواد لك؟ فقال ولكن اللجام لي.
وبيت بديعية المقري قوله:
بيض تركن وجوه الضاربين بها ... كمثلها وقنا أجرت قناة دم
قال في شرحه: الكناية فيه قولها: كمثلها, أي تركن وجوههم بيضا, كنى بذلك عن كونها قاطعة, لأن الضارب إذا قطع سيفه أبيض وجهه, وإذا خانه سيفه أخجله.
وبيت بديعية العلوي قوله:
إذ شاهد الآية الكبرى بمقلته ... خصيصة دون خلق الله كلهم
وبيت بديعيتي قولي:
سامي الكناية مهزول الفصيل إذا ... ما جاءه الضيف أبدى بشر مبتسم
الكناية في قولي: مهزول الفصيل, وهو كناية عن المضياف, وفسرت على وجهين: أحدهما ما تقدم من أنه يستفرغ للضيفان جميع ما في ضروع أبله من اللبن, بحيث لا يبقى لفصالها ما تغتذي به, فلا تزال مهزولة. والثاني أنه ينجز المتليات من الإبل للضيفان, فتفقد الفصال أمهاتها فتهزل بسبب ذلك, وهذا الوجه أحسن من الأول لما فيه من المبالغة في المدح, فإن العرب لكمال عنايتها بالنوق قلما تنحر المتليات منها, والله أعلم.
الترتيب
شمس وبدر ونجم يستضاء به ... ترتيبه ازدان من فرع إلى قدم
هذا النوع استخرجه شرف الدين التيفاشي, وسماه بهذا الاسم وقال: هو إيراد أوصاف شتى لموصوف واحد, في بيت أو أكثر, على ترتيبها في الخلقة الطبيعية, من غير إدخال وصف زائد عما يوجد علمه في الذهن, أو في العيان.
كقول مسلم بن الوليد:
هيفاء في فرعها ليل على قمر ... على قضيب على حقف النقا الدهس
فان الأوصاف الأربعة فيه على ترتيب خلق الإنسان من الأعلى إلى الأسفل.
وبيت بديعية صفي الدين الحلي:
كالنار منه رياح الموت قد عصفت ... روى صرى مائه أرض الوغى بدم
قال في شرحه: هو على ترتيب العناصر الأربعة: النار والهواء والماء والتراب.
وبيت بديعية العز الموصلي قوله:
له الملائك والإنسان أجمعهم ... والجن والوحش في الترتيب كالخدم
قال في شرحه: على ترتيب المخلوقات: الملائك والأنس والجن والوحش.
وبيت بديعية ابن حجة قوله: ترتب الحيوانات السلام له=والنبت جماد الصخر في الأكم قال في شرحه: هو على ترتيب الموجودات, وهي الحيوان والنبات والجماد.
وبيت بديعية المقري قوله:
في وجهه قمر في درعه زأر ... في كفه قدر فيه ضرى الضرم
قال في شرحه: الترتيب فيه ظاهر, فإن ما في الوجه مقدم على ما فيه من الضرم, لأن الصفة تابعة للموصوف. هذا نصه, ولا أعجب من دعوى الظهور مع هذا الخفاء.
وبيت بديعية العلوي قوله:
فالرأس مغمدها والحلق موردها ... والقلب مسلكها والترب في القدم
ولم ينظم السيوطي ولا الطبري هذا النوع.
وبيت بديعيتي قولي:
شمس وبدر ونجم يستضاء له ... ترتيبه ازدان من فرع إلى قدم
الترتيب فيه ظاهر, فانه شبهه صلى الله عليه وآله وسلم بالنيرات الثلاث, ورتبها في الذكر على ترتيبها في الخلقة الطبيعية, فإن الشمس أعظم من البدر وصفا وجرما, والبدر أعظم من النجم كذلك, والله أعلم.
المشاركة
جلت معاليه قدرا عن مشاركة ... وهو الزعيم زعيم القادة البهم.(1/427)
هذا النوع -ويسمى الاشتراك أيضاً- عبارة عن أن يأتي الشاعر بلفظة مشتركة بين معنيين اشتراكا أصليا وعرفيا, فيسبق ذهن السامع إلى المعنى الذي لم يقصده الشاعر, فيأتي بما يبين قصده.
كقول كثير عزة:
فأنت التي حببت كل قصيرة ... إلي ولم تعلم بذاك القصائر
عنيت قصيرات الحجال ولم أرد ... قصار الخطى شر النساء البحاتر
فان قوله في البيت الأول: قصيرة, مشترك بين قصيرة القامة, وبين المقصورة بمعنى المحبوسة, ومنه قوله تعالى "حور مقصورات في الخيام" وهو المعنى الذي قصده, فلولا بيانه بقوله في البيت الثاني: عنيت قصيرات الحجال, أي المقصورات في الحجال, لتوهم السامع أنه أراد القصار بالمعنى الأول. والبحاتر جمع بحترة, وهي القصيرة المجتمعة الخلق. والفرق بين هذا النوع وبين التوهيم, أن هذا النوع يكون باللفظة المشتركة فقط, والتوهيم يكون بها وبغيرها, كتصحيف أو تحريف, أو تبديل, أو سبق الذهن لغير المطلوب. والفرق بينه وبين الإيضاح, إن الإيضاح في المعاني لا الألفاظ وهذا بالعكس.
وبيت بديعية الصفي قوله:
شيب المفارق يروي الضرب من دمهم ... ذوائب البيض بيض الهند لا اللمم
ولم ينظم ابن جابر هذا النوع.
وبيت بديعية العز الموصلي قوله:
وللغزالة تسليم به اشتركت ... مع التي هي ترعى نرجس الظلم
هذا البيت غير منطبق على حد هذا النوع كما لا يخفى, وقد أطال الكلام عليه ابن حجة بما لا طائل تحته.
وبيت بديعية ابن حجة قوله:
بالحجر ساد فلا ند يشاركه ... حجر الكتاب المبين الواضح اللقم
وبيت بديعية المقري قوله:
كم سد بالفتح من ثغر وأضحكه ... فتح المدائن أعني لا ثغورهم
وبيت بديعية السيوطي قوله:
والصهر من شارك الصديق في قدم ... في سبق الإسلام لا في الفضل من قدم
وبيت بديعية العلوي قوله:
صدر المجلس يخشى الصدر سطوته ... صدر الكتائب ماضي السيف والقلم
وبيت بديعية الطبري قوله:
له الوسيلة أعني في الجنان بما ... قد خص نفيا لإبهام اشتراكهم
قال في شرحه: الاشتراك في الوسيلة, لأنها اسم لما يتوسل به, واسم لأعلى درجة في الجنة مخصوصة بنبينا صلى الله عليه وآله وسلم.
وبيت بديعيتي قولي:
جلت معاليه قدرا عن مشاركة ... وهو الزعيم زعيم القادة البهم
الاشتراك فيه في لفظة (زعيم) فإنها مشتركة بين معنيين, أحدهما بمعنى الكفيل, ومنه قوله [تعالى] "ولمن جاء به حمل بعير وأنا به زعيم" أي كفيل, والثاني بمعنى سيد القوم ورئيسهم وهو المعنى المقصود الذي بينه بقوله: زعيم القادة البهم, لئلا يسبق ذهن السامع إلى أنه أراد المعنى الأول. والقادة جمع قائد وهو أمير الجيش الذي يقوده, والبهم جمع بهمة بالضم, وهو الشجاع الذي لا يدري من أين يؤتى لشدة بأسه, والله أعلم.
التوليد
للواصفين علاه كل آونة ... توليد معنى به الألفاظ لم تقم
التوليد في اللغة: مصدر ولدت القابلة المرأة, إذا تولت ولادتها, وولدت الشيء عن غيره: أنشأته عنه, وهو المنقول عنه إلى الاصطلاح. وفي الاصطلاح على ضربين: أحدهما لفظي, وهو التوليد من الألفاظ ولا يعد من المحاسن, بل هو إلى السرقة أقرب, لأنه عبارة عن أن يستحسن الشاعر ألفاظا من شعر غيره فيسلبها منه, ويضمنها معنى غير معناها الأول, ويوردها في شعره.
كقول امرئ القيس في وصف الفرس:
وقد أغتدي والطير في وكناتها ... بمنجرد قبد الأوابد هيكل
فاستحسن أبو تمام استعارته في قوله: قيد الأوابد, فنقله إلى الغزل فقال:
لها منظر قيد النواظر لم يزل ... يروح ويغدو في خفارته الحب
والأوابد في بيت امرئ القيس: الوحوش, من أبدت: إذا نفرت من الأنس, وجعل الفرس قيدها, لأنه يدركها ويمنعها المضي والخلاص من الطالب, كما يمنعها القيد.
الثاني معنوي, وهو التوليد من المعاني, وهذا يعد من المحاسن, وهو الغرض هنا, وذلك بأن ينظر الشاعر إلى معنى لمتقدم ويكون محتاجا إلى استعماله, لكونه آخذا في ذلك الغرض فيورده ويزيد فيه.
كقول القطامي:
قد يدرك المتأني بعض حاجته ... وقد يكون مع المستعجل الزلل
أخذه السالم الشاعر ونقص في الألفاظ وزاده تذييلا وتمثيلا وتأكيدا فقال:(1/428)
عليك بالقصد فيما أنت طالبه ... أن التخلق يأتي بعده الخلق
فمعنى صدر هذا البيت معنى بيت القطامي بكماله, ومعنى عجزه زائد عليه لأنه تذييل, حيث أتى بعد تمام الكلام بجملة تشتمل على معناه تجري مجرى المثل السائر لتوليد المتقدم وتحقيقه.
وكقول ابن المعتز (فالشمس نمامة والليل قواد) أخذه أبو الطيب وكساه من شرف الألفاظ وبراعة النسج مالا مزيد عليه, وزاد فيه من حسن الطباق وملاحة التقسيم ما لم يسبق إلى مثله فقال:
أزورهم وسواد الليل يشفع لي ... وأنثني وبياض الصبح يغري بي
قال ابن جني: حدثني المتنبي وقت القراءة عليه قال: قال لي ابن خنزابة وزير كافور: أعلمت أني أحضرت كتبي كلها, وجماعة من الأدباء, يطلبون لي من أين أخذت هذا المعنى فلم يظفروا بذلك -وكان أكثر من رأيت كتبا-. قال ابن جني ثم إني عثرت على الموضوع الذي أخذه منه وهو قول ابن المعتز المذكور.
وكقول أبي تمام:
يمدون بالبيض القواطع أيديا ... فهن سواء والسيوف القواطع
أخذه أبو الطيب أيضاً وزاده مبالغة بتجاهل العارف فقال:
همام إذا ما فارق الغمد سيفه ... وعاينته لم تدر أيهما النصل
وقول النابغة الذبياني:
وعيرني بنو ذبيان خشيته ... وهل علي بأن أخشاه من عار
أخذه الأخطل وزاده تشبيها وتذييلا فقال:
وأن أمير المؤمنين وفعله ... لكا لدهر لا عار بما صنع الدهر
وأمثلة هذا النوع أكثر من أن تحصى.
وبيت بديعية الصفي قوله:
من سبق لا يرى سوط لها سملا ... ولا جديد من الأرسان واللجم
قال في شرحه: أنه مولد من قول ابن الحجاج:
خرقت صفوفهم بأقب نهد ... مراح السوط متعوب العنان
ولم ينظم ابن جابر هذا النوع.
وبيت بديعية العز الموصلي قوله:
مالي بتوليد مدحي في سواه هدى ... لمعشر شبهوا الهندي بالجلم
قال في شرحه: انه ولده من قول أبي الطيب:
فالعيس أعقل من قوم رأيتهم ... عما يراه من الإحسان عميانا
ثم قال في شرحه: ما شبه السيف بالمقص إلا أعمى. انتهى. وهو نوع من التعمية غريب, فإن بيت أبي الطيب بمعزل عن معنى بيته كما هو ظاهر.
وبيت بديعية ابن حجة قوله:
توليد نصرتهم يبدو بلطعته ... ما السبعة الشهب ما توليد رملهم
قال في شرحه: هذا المعنى ولدته من قول أبي تمام:
والنصر من شهب الأرماح طالعة ... بين الخميسين لا في السبعة الشهب
أقول: إن ابن حجة لم يستحسن نوع التوليد من البديع, وقال في شرح بديعيته: هذا النوع ليس تحته كبير أمر, وهو على ضربين من الألفاظ والمعاني, فالذي من الألفاظ تركه أولى من استعماله, لأنه سرقة ظاهرة. انتهى. ومع ذلك فقد استعمل في بيت بديعيته قسمي التوليد, فأخذ من ألفاظ بيت أبي تمام النصر, والطلوع, والسبعة الشهب. وهذا هو التوليد اللفظي الذي ذكر أن تركة أولى من استعماله. وأخذ من معناه ما هو شاهد لنوع المقصود, وهذا هو التوليد المعنوي. وغيره من أصحاب البديعيات إنما استعمل التوليد المعنوي الذي هو من محاسن البديع.
وبيت بديعية المقري قوله:
فما يجار على مولاه في طلب ... لكن يجير ولا يكمو عليه كمي
قال في شرحه: هو مولد من قول صاحب البردة:
ومن تكن برسول الله نصرته ... إن تلقه الأسد في آجامها تجم
وبيت بديعية العلوي قوله:
لو مر في قلبه أن لا يضر فتى ... من الجحيم لما بالى من الضرم
قال في شرحه: هو مولد من قول كذا.
ولم ينظم السيوطي والطبري هذا النوع.
وبيت بديعيتي قولي:
للواصفين علاه كل آونة ... توليد معنى به الألفاظ لم تقم
هذا المعنى ولدته من قول أبي الطيب:
وقد وجدت مكان القول ذا سعة ... فان وجدت لسانا قائلا فقل
والزيادة في معنى بيتي ظاهرة وهي في قولي: كل آونة, وفي قولي: به الألفاظ لم تقم. والله أعلم.
الإبداع
إبداع مدحي لمن لم يبق من بدع ... أفاد ربحي فإن أطنبت لم ألم(1/429)
الإبداع, بالباء الموحدة, هو أن يكون البيت من الشعر, أو الفصل من النثر, أو الجملة المفيدة مشتملا على عدة ضروب من البديع, ولم يوجد في هذا النوع من الكلام مثل قوله تعالى "وقيل يا أرض ابلعي ماءك ويا سماء اقلعي وغيض الماء وقضي الأمر واستوت على الجودي وقيل بعدا للقوم الظالمين" فإنها اشتملت على ثلاثة وعشرين نوعا من البديع وهي سبعة عشر لفظة: 1- المناسبة التامة: بين (ابلعي) و (اقلعي) .
2- الاستعارة فيهما.
3- الطباق: بين (الأرض) و (السماء) .
4- المجاز: في قوله (يا سماء) فإن الحقيقة: يا مطر السماء.
5- الإشارة: في (وغيض الماء) فانه عبر به عن معان كثيرة, لأن الماء لا يغيض حتى يقلع مطر السماء, وتبلع الأرض ما يخرج منها من عيون الماء, فيغيض الحاصل على وجه الأرض من الماء.
6- الأرداف: في قوله (واستوت على الجودي) فانه عبر عن استقرارها في المكان بلفظ قريب من لفظ المعنى.
7- التمثيل: في قوله (وقضي الأمر) فانه عبر عن هلاك الهالكين, ونجاة الناجين بلفظ بعيد عن المعنى الموضوع.
8- التعليل: فإن غيض الماء علة الاستواء.
9- صحة التقسيم: فانه استوعب أقسام الماء حالة نقصه, إذ ليس إلا احتباس ماء السماء, والماء النابع من الأرض, وغيض الماء الذي على ظهرها.
10- الاحتراس: في قوله (وقيل بعدا للقوم الظالمين) إذ الدعاء يشعر بأنهم استحقوا الهلاك احتراسا من ضعيف يتوهم أن الهلاك لعمومه ربما شمل غير مستحق.
11- المساواة: لأن لفظ الآية لا يزيد على معناها.
12- حسن النسق: فإنه تعالى قص القصة, وعطف بعضها على بعض بحسن الترتيب.
13- ائتلاف اللفظ مع المعنى: لأن كل لفظة لا يصلح معها غيرها.
14- الإيجاز: فانه تعالى أمر فيها ونهى, وأخبر ونادى, ونعت وسمى, وأهلك وأبقى, وأسعد وأشقى, وقص من الأنباء ما لو شرح لجفت الأقلام.
15- التسهيم: لأن أول الآية يدل على آخرها.
16- لأن مفردتها موصوفة بصفات الحسن, كل لفظة سهلة مخارج الحروف, عليها رونق الفصاحة, سليمة عن التنافر, بعيدة عن البشاعة وعقادة التركيب.
17- حسن البيان: لأن السامع لا يتوقف في فهم معنى الكلام, ولا يشكل عليه شيء منه.
18- الاعتراض: وهو قوله (وغيض الماء واستوت على الجودي) .
19- الكناية: فانه لم يصرح بمن غاض الماء, ولا بمن قضي الأمر وسوى السفينة, ولا بمن قال: وقيل بعدا, كما لم يصرح بقائل: يا أرض أبعلي ويا سماء اقلعي في صدر الآية, سلوكا في كل واحد من ذلك سبيل الكناية, إن تلك الأمور العظام لا تتأتى إلا من ذي قدرة قهار لا يغالب فلا مجال لذهاب الوهم إلى أن يكون غيره جلت عظمته قائل: يا أرض أبلعي ويا سماء, ولا أن يكون غايض ما غاض, ولا قاضي مثل ذلك الأمر الهائل غيره.
20- التعريض: فانه تعالى عرض بسالكي مسلكهم في تكذيب الرسل ظلما, وإن الطوفان وتلك الهمور الهائلة ما كانت إلا لظلمهم.
21- التمكين: لان الفاصلة مستقر في محلها, مطمئنة في مكانها.
22- الانسجام: لأن الآية بجملتها منسجمة كالماء الجاري في السلاسة.
23- الإبداع: الذي هو شاهد هذا النوع: وفي هذه الآية الكريمة تفريعات أخر مثل: أن الاستعارة منها في موضعين, والمجاز في موضعين, وأمثال ذلك مما يستنبط بقوة النظر والاستقراء بمعرفة الناقد البصير, وقد أفردت بلاغة هذه الآية بالتأليف.
وفي العجائب للكرماني: أجمع المعاندون على أن طوق البشر قاصر عن الإتيان بمثل هذه الآية, بعد أن فتشوا جميع كلام العرب والعجم فلم يجدوا مثلها في فخامة ألفاظها, وحسن نظمها, وجودة معانيها في تصوير الحال مع الإيجاز من غير إخلال.
وبيت بديعية الصفي الحلي قوله:
ذل النضار كما عز النظير لهم ... بالبذل والفضل في علم وفي كرم
قال في شرحه: فيه من البديع: المطابقة, والتجنيس, والتمثيل, والتسجيع, واللف والنشر, والاحتراس, والتمكين, والكناية, والمبالغة؛ والإيغال؛ والاستنباع, والتسهيم, وائتلاف اللفظ مع المعنى, وائتلاف اللفظ مع الوزن. فهذه أربعة عشر نوعا من البديع زائدة على عدد لفظات البيت.
ولم ينظم ابن جابر هذا النوع, ولا السيوطي, ولا الطبري.
وبيت بديعية العز الموصلي قوله:
كم أبدعوا روض عدل بعد طولهم ... وأترعوا حوض فضل قبل قولهم(1/430)
ذكر في شرحه أن فيه ثلاثة عشر نوعا من البديع.
وبيت بديعية المقري قوله:
بالغيث والليث أزرى في عطا وسطى ... فالغيث يبكي حيا والليث في أجم
ذكر في شرحه أن فيه خمسة وعشرين نوعا من البديع, وقد شرحها في شرحه.
وبيت بديعية العلوي قوله:
وذلل الشرك إذ عز الشريك له ... بالفصل والفضل في حكم وفي حكم
وبيت بديعيتي قولي:
إبداع مدحي لمن ل يبق من بدع ... أفاد ربحي فإن أطنبت لم ألم
فيه من البديع: 1- الجناس المطلق, بين إبداع وبدع.
2- والجناس المطرف, في لم ألم.
3- والمناسبة التامة. بين مدحي وبحي.
4- والتشريع, فانه يخرج منه بيت وهو (إبداع مدحي أفاد ربحي) .
5- والاستعارة, في أفاد ربحي.
6- والتعليل, فإن إفادة الربح علة لإطناب المدح.
7- والتسجيع, في مدحي وبحي.
8- والإيغال , فإن الكلام تم بقوله: أفاد ربحي, لكنه أتى بما بعده إيغالا للتعليل.
9- والمساواة, فإن ألفاظه مساوية لمعناه.
10- وائتلاف اللفظ مع المعنى, فإن كل لفظة لا يصلح تبديلها بغيرها.
11- والتورية باسم النوع.
12- وائتلاف اللفظ مع الوزن, إذ ليس فيه تقديم وتأخير يفسد تصور المعنى ويذهب رونق اللفظ.
13- والانسجام, وهو ظاهر.
14- والتهذيب, فإن ألفاظه غير متنافرة ولا فيها بشاعة, ولا عقادة تركيب.
15- والإبداع الذي هو المقصود, فهذه خمسة عشر نوعا زائدة على عدد ألفاظ البيت والله أعلم.
الإيغال
ما أوغل الفكر في قول لمدحته ... إلا وجاء بعقد غير منفصم
الإيغال في اللغة, مصدر وغل في البلاد, إذا ذهب وبالغ وأبعد فيها, وفي الاصطلاح, هو ختم الكلام نثرا كان أو نظما بما يفيد نكتة يتم المعنى بدونها, كقوله تعالى "أولئك الذين اشتروا الضلالة بالهدى فما ربحت تجارتهم وما كانوا مهتدين", فقوله: وما كانوا مهتدين, إيغال تم المعنى بدونه أفاد به زيادة المبالغة في ضلالتهم, لأن مطلوب التجار في متصرفاتهم سلامة رأس المال, وحصول الربح, وربما تضيع الطلبات ويبقى لهم معرفة التصرف في طريق التجارة, فيهتدون بطرق المعاش, وهؤلاء قد أضاعوا الطلبتين لاشتراكهم الضلالة بالهدى, وعدم حصول الربح, وضلوا الطرق أيضاً فدمروا تدميرا, وقوله تعالى "قال يا قوم اتبعوا المرسلين. اتبعوا من لا يسألكم أجرا وهم مهتدون" فإن قوله: وهم مهتدون, مما يتم المعنى بدونه, لأن الرسول مهتد لا محالة, لكنه إيغال أفاد زيادة حث على الإتباع وترغيب في الرسل, لا تخسرون معهم شيئا في دنياكم, وتربحون صحة دينكم, فينتظم لكم خير الدنيا والآخرة. وبهذا يظهر بطلان قول من زعم أن هذا النوع خاص بالشعر, فلذا عرفه بأنه ختم البيت بما يفيد نكتة يتم المعنى بدونها.
كزيادة المبالغة في قول الخنساء:
وإن صخرا لتأتم الهداة به ... كأنه علم في رأسه نار
فإن قولها: كأنه علم واف بالمقصود, وهو تشبيه بما هو معروف بالهداية, لكنها أتت بقولها: في رأسه نار, إيغالا لزيادة المبالغة, كتحقيق التشبيه.
في قول امرئ القيس:
كأن عيون الوحش حول خبائنا ... وأرحلنا الجزع الذي لم يثقب
شبه عيون الوحش حول خبائهم وأرحلهم بالجزع -وهو بالفتح-: الخرز اليماني الذي فيه سواد وبياض تشبه به العيون, وهو واف بالغرض من التشبيه, لكنه أتى بقوله: لم يثقب, إيغالا وتحقيقا للتشبيه, لأن الجزع إذا كان غير مثقوب كان أشبه بالعيون. قال الأصمعي: الظبي والبقرة إذا كانا حيين فعوينهما كلها سواد, وإذا ماتا بدا بياضها, وإنما شبهها بالجزع وفيه بياض وسواد بعدما موتت. والمراد كثرة الصيد, يعني لكثرة ما أكلنا منه كثرت العيون عندنا.
كذا في شرح ديوان امرئ القيس, وبه تبين بطلان ما قيل: أن المراد به. قد طالت مسايرتهم في المفاوز حتى ألفت الوحوش رحالهم وأخبيتهم.
ومثله قول زهير:
كأن فتات العهن في كل منزل ... نزلن به حب الفنا لم يحطم
فقوله لم يحطم إيغال حقق به التشبيه, لأن حب الفنا -وهو حب أحمر تنبته الأرض- تتخذ منه القلائد, إذا كسر كان داخله أبيض, فلا يشبه العهن -وهو الصوف الأحمر- وقد تكون في الإيغال دفع توهم غير المقصود.
كقول أبي العلاء المعري:
فسقيا من فم مثل خاتم ... من الدور لم يهمهم بتقبيله خال(1/431)
فانه لما جعل الفم كأٍسا ضيقا مثل خاتم من الدر, وكان الكأس غالبا مما يكرع فيه كل واحد من أهل المجلس, حتى كأنه يقبله, دفع ذلك بأنه لم يحدث الملك المختال المتكبر نفسه بتقبيله, فكيف غيره؟.
فالفرق بين الإيغال والتتميم: أن التتميم يجعل المعنى الناقص تاما, والإيغال يفيد المعنى التام نكتة لا يتوقف تمامه عليها.
قال ابن حجة: وبين الإيغال والتكميل تجاذب يكاد أن ينتظم كل منهما في سلك الآخر. ومفهومه أنه لا فرق بينهما, وليس كذلك. فإن الفرق بينهما من وجهين: أحدهما, إن التكميل يؤتى به لإفادته معنى آخر يكمل المعنى الأول كما مر في بابه, والإيغال يؤتى به لإفادته نكتة في ذلك المعنى بعينه, كما رأيت في الأمثلة المذكورة.
الثاني, أن التكميل قد يكون في أثناء الكلام, وقد يكون في آخره, والإيغال لا يكون إلا ختما للكلام كما هو صريح حده, فظهر الفرق بينهما ظهورا لا يخفى إلا على ابن حجة.
وبيت بديعية الصفي الحلي قوله:
كأن مرآه بدر غير مستتر ... وطيب رياه مسك غير مكتتم
الإيغال فيه في موضعين وهما غير مستتر, وغير مكتتم.
وبيت بديعية العز الموصلي قوله:
أضحت أعاديه في الأقطار طائرة ... وأوغلت في الهوى خوفا مع العصم
قال في شرحه: الإيغال في قوله: خوفا من العصم.
وبيت بديعية ابن حجة قوله:
للجو في السير إيغال إليه وكم ... حبا الأنام بود غير منصرم
الإيغال في قوله: غير منصرم, ولكن استعارة السير والإيغال للجود لا وجه لها, لأن الجود من الغرائز, والغريزة طبيعة لا تنفك عن الإنسان حتى تسير إليه, أو توغل في سيرها إليه, وهذا من الغلط في الكلام.
وبيت بديعية المقري قوله:
كأن الشمس الضحى من حسنه كسبت ... ورونق الحسن منه صيغ القدم
وبيت بديعية الطبري قوله:
هو الكريم بإيغال فلست ترى ... أمد منه عطاء غير منحسم
وبيت بديعيتي قولي:
ما أوغل الفكر في قولي بمدحته ... إلا وجاء بعقد غير منفصم
الإيغال فيه قولي: غير منفصم, والله أعلم.
النوادر
فهل نوادر قولي إذ أتت علمت ... بأنها مدح خير العرب والعجم
النوادر, جمع نادرة. قال الجوهري: ندر الشيء يندر ندرا: إذا شذ, ومنه النوادر. وفي القاموس: نوادر الكلام: ما شذ وخرج من الجمهور. وسماه قدامة ومن تبعه: الإغراب بالغين المعجمة, والطرافة. قال قدامه: هو أن يأتي الشاعر بمعنى غريب لقلته في الكلام, لأنه لم يسمع مثله, كالورد, وغيره إذا جاء في غير وقته سمي طريفا نادرا, لأنه لم ير مثله.
كقول المتنبي:
يطمع الطير فيهم طول أكلهم ... حتى تكاد على هاماتهم تقع
وقال ابن أبي الأصبع: هو أن يعمد الشاعر إلى معنى مشهور مبتذل فيتصرف فيه تصرفا يخرجه إلى الغرابة بعد شهرته وابتذاله.
كقول القاضي الفاضل:
تراءى ومرآة السماء صقيلة ... فأثر فيها وجهه صفحة البدر
فان تشبيه الوجه الحسن بالبدر معنى مشهور مبتذل, لكنه تصرف فيه التصرف الذي جعله غريبا نادرا.
ومثل ذلك قول أبي الفتح البستني:
أرأيت ما قد قال لي بدر الدجى ... لما رأى طرفي يديم سهودا
حتام ترمقني بطرف ساهر ... أقصر فلست حبيبك المفقودا
وقول الآخر:
نظر الصباح إلى صفاء جبينه ... فتعلقت أنفاسه الصعداء
والليل فكر في سواد فروعه ... فتشبثت بمزاجه السوداء
وقول الآخر:
عرض المشيب بعارضيه فأعرضوا وتفو ... ضت خيم الشباب فقوضوا
وقد سمعت ما سمعت بمثلها ... بين غراب البين فيه أبيض
وقول مؤلفه عفا الله عنه:
سقى صوب الغمام عريش كرم ... جنينا من جناه العذب أنا
وأمسى عاصر العنقود فيه ... يكسر أنجما ويصوغ شمسا
وقوله أيضاً:
يا سحب نيسان روي الكرم عن كرم ... ففي الحباب غنى عن لؤلؤ الصدف
وبيت بديعية الصفي الحلي قوله:
كأنما قلب معن ملء فيه فلم ... يقل لسائله يوما سوى نعم
قال في شرحه: النادر في البيت (قلب معن) بنعم.
ولم ينظم ابن جابر هذا النوع.
وبيت بديعية العز الموصلي قوله:
نوادر من جناني كالجنان زهت ... أم هل بدت واضحة الحسن من إرم
وبيت بديعية ابن حجة قوله:(1/432)
نوادر المدح في أوصافه نشقت ... منها الصبا وأتتنا وهي في شمم
قال في شرحه: الشمم للنسيم نادرة, بل نكتة لم أسبق إليها.
وبيت المقري قوله:
فصدره البحر بر القلب من كرم ... وقبله البر صدر البحر في عظم
ولم ينظم السيوطي هذا النوع.
وبيت بديعية العلوي قوله:
بحر له ساحل يغني الأنام إذا ... جاءوه قبل دخول البحر من عدم
وبيت بديعية الطبري قوله:
نوادر المدح فاحت غير آونة ... ريح الصبا شممت أكرم بذي الشمم
قال في شرحه: النادرة فيه نسبة الشمم إلى الريح. انتهى. وهي نادرة بيت ابن حجة بعينها.
وبيت بديعيتي قولي:
فهل نوادر قولي إذ أتت علمت ... بأنها مدح خير العرب والعجم
النادرة فيه التعجب الذي أفهمه الاستفهام من مجيء نوادر الكلام حتى كأنها علمت أنها مدح أشرف الأنام عليه الصلاة والسلام.
التطريز
تطريز مدحي في علياه منتظم ... في خير منتظم في خير منتظم
التطريز في اللغة: مصدر طرزت الثوب إذا جعلت له طرازا أي علما, وهو معرب, وثوب مطرز بالذهب وغيره, أي معلم. وفي الاصطلاح يطلق علي معنيين: أحدهما: أن يؤتى في الكلام بمواضع متقابلة كأنها طراز.
هكذا عرفه الطيبي في البيان, ومثله بقول أبي تمام:
أعوام وصل كاد ينسى طولها ... ذكر النوى فكأنها أيام
ثم انبرت أيام هجر أعقبت ... بأسى فخلنا أنها أعوام
ثم انقضت تلك السنون وأهلها ... فكأنها وكأنهم أحلام
الثاني: أن يبتدي المتكلم من ذوات غير مفصلة, ثم يخبر عنها بصفة واحدة من الصفات مكررة بحسب العدد الذي قدره في تلك الجمل الأول, فتكون الذوات في كل جملة متعددة تقديرا, والجمل متعددة لفظا, وعدد الجمل التي وصفت بها الذوات (لا عدد الذوات) عدد تكرار واتحاد لا تعداد تغاير, هكذا قرره الشيخ صفي الدين الحلي في شرح بديعيته.
ومثله بقول ابن الرومي:
أموركم بني خاقان عندي ... عجاب في عجاب في عجاب
قرون في رؤوس في وجوه ... صلاب في صلاب في صلاب
ومنه قول عضد الدولة:
طربت إلى الصبوح مع الصباح ... وشرب الكأس والغرور الملاح
وقد حبس الدجي عنا براح ... تسل نفوسها فوق الجسوم
شموعك والكؤوس مع الندامى ... نجوم في نجوم في نجوم
وبيت بديعية الصفي قوله:
فالجيش والنقع تحت الجو مرتكم ... في ظل مرتكم في ظل مرتكم
قال ابن حجة: هذا البيت لا يخلو من أن يكون للعقادة فيه بعض تركم. انتهى. والعقادة في لفظه لا في معناه.
ولم ينظم ابن جابر هذا النوع في بديعيته.
وبيت بديعية الموصلي قوله:
للدين والنقع تطريز لمحترم ... في نظم محترم في نظم محترم
قال ابن حجة في وصف هذا البيت: لم أفهم منه غير لفظة التطريز.
وبيت بديعية ابن حجة قوله:
شملي بتطريز مدحي فيه منتظم ... يا طيب منتظم يا طيب منتظم
وبيت بديعية المقري قوله:
شعري ونائله والخلق منسجم ... في أي منسجم في أي منسجم
ولم ينظم السيوطي, ولا الطبري هذا النوع.
وبيت بديعية العلوي قوله:
فالوصل والقرب في التمكين منتظم ... في ضمن منتظم في خير منتظم
وبيت بديعيتي قولي:
تطريز مدحي في علياه منتظم ... في خير منتظم في خير منتظم
التكرار
تكرار قولي حلا في الباذخ العلم اب ... ن الباذخ العلم ابن الباذخ العلم
التكرار, وقد يقال: التكرير, فالأول اسم, والثاني مصدر من كررت الشيء: إذا أعدته مرارا, وهو عبارة من تكرير كلمة فأكثر باللفظ والمعنى لنكتة, ونكتة كثيرة:(1/433)
منها التوكيد, كقوله تعالى "كلا سوف تعلمون, ثم كلا سوف تعلمون". فالتكرير تأكيد للردع والإنذار, فقوله: كلا: ردع وتنبيه, على أنه لا ينبغي للناظر لنفسه أن يكون الدنيا جميع همه, وأن لا يهتم بدينه. وسوف تعلمون: إنذار, ليخافوا فينتبهوا من غفلتهم, أي سوف تعلمون الخطأ فيما أنتم عليه, إذا عاينتم ما قدامكم من هول لقاء الله. وفي الإتيان بلفظ (ثم) دلالة على أن الإنذار الثاني أبلغ من الأول, كما تقول لمن تنصحه, أقول لك: لا تفعل ثم لا تفعل, وذلك لأن أصل ثم للدلالة على تراخي الزمان, لكنها قد تجيء لمجرد التدرج في درج الارتقاء, من غير اعتبار التراخي والبعد بين تلك الدرج, ولا لأن الثاني بعد الأول في الزمان, وذلك إذا تكرر الأول بلفظ الأول نحو والله ثم والله. وكقوله تعالى "وما أدريك ما يوم الدين, ثم ما أدريك ما يوم الدين".
وقول كثير عزة:
فو الله ثم الله ما حل قبلها ... ولا بعدها مخلوقة حيث حلت
ومنها زيادة التنبيه على ما ينفى التهمة والإيقاظ من سنة الغفلة, ليكمل تلقي الكلام بالقبول, كما في قوله تعالى "وقال الذي آمن يا قوم اتبعوني أهدكم سبيل الرشاد, يا قوم إنما هذه الحياة الدنيا متاع" فانه كرر فيه النداء لذلك.
ومنها تذكر ما قد بعد بسبب طول الكلام, وهذا التكرير قد يكون مجردا عن رابط كما في قوله تعالى "ثم أن ربك للذين هاجروا من بعد ما فتنوا ثم جاهدوا وصبروا أن ربك من بعدها لغفور رحيم".
وكما في قول الشاعر:
لقد علم الحي اليماني أنني ... إذا قلت أما بعد إني خطيبها
وقد يكون مع رابط كما في قوله تعالى "لا تحسبن الذين يفرحون بما أتوا ويحبون أن يحمدوا بما لم يفعلوا فلا تحسبهم بمفازة من العذاب", فقول: فلا تحسبهم, تكرير لقوله: لا تحسبن الذين يفرحون, لبعده من المفعول الثاني.
ومنها زيادة التوجع والتحسر كما في قول الحسين بن مطير:
فيا قبر معن أنت أول حفرة ... من الأرض خطت للسماحة مضجعا
ويا قبر معن كيف واريت جوده ... وقد كان منه البر والبحر مترعا
ومنها التهويل نحو "الحافة ما الحافة" و"القارعة ما القارعة".
ومنها زيادة الاستبعاد كما في قوله تعالى "هيهات هيهات لما توعدون".
وقول الشاعر:
وهيهات هيهات العقيق وأهله ... وهيهات خل بالعقيق نواصله
ومنها زيادة المدح كقول أبي تمام:
بالصريح الصريح والأروع الأر ... وع منهم وباللباب اللباب
ومنها التعظيم كقوله تعالى "وأصحاب اليمين ما أصحاب اليمين".
ومنها التلذذ بذكر المكرر كما في قوله:
سقى الله نجدا والسلام على نجد ... ويا حبذا نجد على النأي والبعد
نظرت إلى نجد وبغداد دونه ... لعلي أرى نجدا وهيهات من نجد
فكرر لفظة نجد خمس مرات لتلذذه بذكرها, كما قيل:
أعد ذكر نعمان لنا أن ذكره ... هو المسك ما كررته يتضوع
ومنها التنويه بشأن المذكور, كقول أبي الطيب:
العارض الهتن ابن العارض الهتن اب ... ن الفارض الهتن ابن الفارض الهتن
وقول ابن النبيه: الطاهر النسب ابن الطاهر النسب اب_ن الطاهر النسب ابن الطاهر النسب وقد عاب قوم علي أبي الطيب هذا التكرار وقالوا: انه من العي تكرار اللفظ.
قال العكبري في شرحه: سمعت شيخي أبا الفتح يقول: إن كان هذا من العي, فحديث رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم أصله, فقد قال عليه السلام: الكريم بن الكريم بن الكريم بن الكريم يوسف بن يعقوب بن إسحاق بن إبراهيم.
وأما ابن الأثير فانه عاب ألفاظ البيت من حيث هي, واستثقل لفظ العارض والهتن وقال: لو قال بدل العارض, السحاب, لم يكن هجنا. وليس كما زعم, فإن لفظ العارض والهتن فصيح عذب.
وقال ابن وكيعك لولا انتهاء القافية لمضى في العارض الهتن إلى آدم عليه السلام. وبانتهاء الغاية أعلمنا أن نهاية عدد آبائه المستحقين للمدح ثلاثة ثم يقف هناك.
وأحسن من هذا قول البحتري:
الفاعلون إذا لدينا بجودهم ... ما يفعل الغيث في شؤبوبه الهتن
فجاء بالمعنى عاما من غير عدد ولا لفظ مستبرد, فهو أرجح كلاما وأحسن لفظا.
وما أشبه برد بيت أبي الطيب ببيت قاله امرؤ القيس وهو:
ألا أنني بال على جمل بال ... يقود بنا بال ويتبعنا بال(1/434)
انتهى كلام ابن وكيع.
قال الصفدي: وقد أخطأ في هذا الكلام من عدة وجوه: أولها, أنه قال: لولا انتهاء القافية لمضى إلى آدم عليه السلام, ولو قال: لولا انتهاء الوزن لكان أكثر تحقيقا, لأن القافية حصلت في ربع البيت من أول ذكر الهتن.
الثاني, أنه قال: أعلمنا أن عدد آبائه الممدوحين ثلاثة, ولا يلزم في المديح أن يؤتى بجميع الآباء في الذكر, ويكفي من ممدوح أصلان, تقول: أنت كريم ووالدك, ووالده ووالده. وقد مدح الشعراء بالنسب القصير.
قال أبو العلاء المعري يرثي الشريف الطاهر:
أنتم ذوو النسب القصير وطولكم ... باد على الكبراء والأشراف
كالراح إن قيل ابنة العنب أكتف ... بأب عن الأسماء والأوصاف
أراد بهذا ما حكاه الفرزدق قال: خرجت من البصرة أريد العمرة, فرأيت عسكرا في البرية, فقلت: عسكر من هذا؟ فقالوا: عسكر حسين بن علي عليهما السلام, فقلت: لأقضين حق رسول الله صلى الله وعليه وآله وسلم, فأتيته فسلمت عليه, فقال: من الرجل؟ فقلت: الفرزدق بن غالب, فقال: هذا نسب قصير, فقلت: أنت أقصر مني نسبا, أنت ابن بنت رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم.
لا تمدحنه بآباء له كرموا ... وأحرزوا الأمد الأقصى أبا فأبا
فالراح قد أكثر المداح وصفهم ... لها ولم يذكروا مع وصفه العنبا
الثالث, انه مثله ببيت البحتري, وليس من الباب الذي حاوله, ولفظا (الفاعلون وشؤبوبه) ثقيلان على السمع.
الرابع, شبهه ببرد بيت امرئ القيس, وليس منه, وإنما الجامع بينهما التكرار, ولم يكن بيت أبي الطيب ببرد ذلك. انتهى كلام الصفدي.
ولا ريب في قبح التكرار إذا خلا من نكتة, كما في قول عون بن....
وكتبه إلى محمد بن عبد الملك:
قد بعثنا بتحفة البستان ... بكر ما قد جنى من الريحان
ياسمينا ونرجسا قد بعثنا ... وبعثنا شقائق النعمان
فأجابه بقوله:
عون فض إلا له فاك وأدما ... هـ وأقصاك يا عيي اللسان
حشو بيتيك قد وقد فالى كم ... قدك الله بالحسام اليماني
وبعث إلى الوليد بن عبد الملك عمه عبد الله [بن] مروان قطيفة, وكتب إليه: بعثت إليك بقطيفة خز حمراء حمراء. فكتب إليه الوليد: وصلت القطيفة يا عم, وأنت أحمق أحمق أحمق.
وقالت جارية ابن السماك له: ما أحسن كلامك لولا أنك تكثر تكراره. فقال: أكرره حتى يفهمه من لا يفهمه. فقالت: فالي أن يفهمه من لم يفهمه فقد مله من فهمه.
وأرباب البديعيات نسجوا على منوال بيت أبي الطيب المذكور.
فبيت بديعية الصفي الحلي قوله:
الطاهر الشيم ابن الطاهر الشيم اب ... ن الطاهر الشيم ابن الطاهر الشيم
ولم ينظم ابن جابر هذا النوع.
وبيت بديعية العز الموصلي قوله:
تكرير مدحي في الشامل النعم اب ... ن الشامل النعم ابن الشامل النعم
وبيت بديعية ابن حجة قوله:
تكرير مدحي في الزائد الكرم اب ... ن الزائد الكرم ابن الزائد الكرم
وبيت بديعية المقري قوله:
المفرد العلم ابن المفرد العلم اب ... ن المفرد العلم ابن المفرد العلم
وبيت بديعية السيوطي قوله: كرر أحاديث مدح السابغ النعم اب_ن السابغ النعم ابن السابغ النعم وبيت بديعية العلوي قوله:
السيد العلم ابن السيد العلم اب ... ن السيد العلم ابن السيد العلم
وبيت بديعية الطبري قوله:
كرر أحاديث نشر الناشر العلم اب ... ن الناشر العلم ابن الناشر العلم
وبيت بديعيتي قولي:
تكرار قولي حلا في الباذخ العلم اب ... ن الباذخ العلم ابن الباذخ العلم
التنكيت
وآله الطاهرون المجبتون أتى ... في هل أتى ظاهرا تنكيت فضلهم
التنكيت في اللغة, مصدر نكت, إذا أتى بنكتة, وأصله من النكت, وهو أن تضرب في الأرض بقضيب ونحوه فتؤثر فيها, لأن المتكلم إذا أتى في كلامه بدقيقة احتاج السامع في استخراجها إلى فضل تأمل وتفكر ينكت معه الأرض, كما هو شأن المتأمل.(1/435)
وفي الاصطلاح: هو أن يقصد المتكلم إلى شيء بالذكر دون غيره مما يسد مسده لأجل نكتة في المذكور, ترجح اختصاصه بالذكر على غيره, ولولاها لكان ذكره دون ما يسد مسده خطأ طاهرا عند أهل النقد, كقوله تعالى "وأنه هو رب الشعرى", خص الشعرى بالذكر دون غيرهما من النجوم وهو تعالى رب كل شيء, لأن قوما من العرب في الجاهلية كانوا عبدوا الشعرى العبور, وكان رجل يعرف بابن أبي كبشة أول من عبدها ودعا إلى عبادتها وقال: قطعت السماء عرضا, ولم يقطع السماء عرضا نجم غيرها نعبدها. فأنزل الله تعالى: وأنه هو رب الشعرى, التي ادعيت فيها الربوبية.
وهذا ابن أبي كبشة هو الذي كان المشركون ينسبون إليه رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم, لأنه خالف قريشا في عبادة الأوثان, فلما بعث رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم ودعا إلى الله عز وجل, وترك الأوثان قالوا: هذا ابن أبي كبشة, أي شبهه ومثله في الخلاف, كما قال بنوا إسرائيل لمريم: يا أخت هارون, أي شبه هارون في الصلاح. وقيل: أبو كبشة كنية وهب بن عبد مناف جده صلى الله عليه وآله وسلم من قبل أمه, لأنه كان نزع إليه في الشبه. وقيل: كنية زوج حليمة السعدية, أو كنية عم ولدها.
ومثال هذا النوع من الشعر قول الخنساء:
يذكرني طلوع الشمس صخرا ... وأذكره لكل غروب شمس
خصت هذين الوقتين بالذكر دون سائر الأوقات لما فيها من النكتة المتضمنة للمبالغة في وصفه بصفتي الشجاعة والكرم, لأن طلوع الشمس وقت شن الغارات على العدى, وغروبها وقت إيقاد النيران للقرى.
وقول أبي تمام في القصيدة التي يهني بها المعتصم بفتح عمورية (بتشديد الميم والياء) وهي بلد بالروم:
تسعون ألفا كآساد الشرى نضجت ... جلودهم قبل نضج التين والعنب
خص التين والعنب بالذكر دون سائر الثمار, لأن التخمين كانوا قد زعموا أنها لا تفتح إلا بعد أن ينضج التين والعنب. ومن لم يقف على هذا الخبر عاب عليه تخصيصها بالذكر, وأول من انتقد عليه ذلك أبو الطيب المتنبي في مناظرته لأبي علي الحاتمي, حتى قال له الحاتمي: لهذا البيت خبر لو استقريته وتصفحته لأقصرت عن تناوله بالطعن فيه, ثم قص عليه الخبر.
وبيت بديعية الحلي قوله:
وآله أمناء الله من شهدت ... لقدرهم سورة الأحزاب بالعظم
قال في شرحه: النكتة المخصصة فيه: ذكر سورة الأحزاب, هي أن فيها دون غيرها تصريحا يمدح أهل البيت في قوله تعالى "إنما يريد الله ليذهب عنكم الرجس أهل البيت ويطهركم تطهيرا" ولولا هذا الاختصاص لكانت كغيرها من السور.
ولم ينظم ابن جابر هذا النوع.
وبيت بديعية الموصلي قوله:
في براءة تنكيت بمدحته ... معناه في الشرح يشفي ذي البكم
قال في شرحه: النكتة في ذكر سورة براءة قوله تعالى "ثاني اثنين إذ هما في الغار إذ يقول لصاحبه لا تحزن إن الله معنا".
وبيت بديعية ابن حجة قوله:
وآلة البحر آل أن يقس بندى ... كفوفهم فافهموا تنكيت مدحهم
قال في شرحه: خصصت الندى بالذكر لنكتة, وهي الغلو في أن البحر يصير عند هذا الندى سرابا, وهو كما تراه.
وبيت بديعية المقري قوله:
إن شئت تعجب من حب الإله له ... فاقر الضحى ثم فاقرأ سورة القلم
قال في شرحه: النكتة في سورة الضحى وسورة القلم ما فيهما من ذكره صلى الله عليه وآله وسلم, وخطاب الله تعالى إياه باللطف به ما هو ظاهر. ولم أقف على بيت بديعية السيوطي في هذا النوع.
وبيت بديعية العلوي قوله:
قد خصصت خلق منه سمت شرفا ... بالذكر إذ وصفت في نون والقلم
النكتة فيه كالذي قبله من خطاب الله تعالى له عليه السلام باللطف في سورة القلم.
وبيت بديعيتي قولي:
وآله الطاهرون المجتبون أتى ... في هل أتى ظاهرا تنكيت فضلهم
التنكيب فيه تخصيصه سورة هل أتى بالذكر, لما اشتملت عليه من مدح أهل البيت عليهم السلام, وذلك قوله تعالى "عينا يشرب عباد الله يفجرونها تفجيرا. يوفون بالنذر ويخافون يوما كان شره مستطيرا. ويطعمون الطعام على حبه مسكينا ويتيما وأسيرا" _ الآيات.(1/436)
روي عن ابن عباس رضي الله عنه أن الحسن والحسين عليهما السلام مرضا فعادهما رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم فقال: يا أبا الحسن لو نذرت على ولديك. فنذر علي وفاطمة عليهما السلام وفضة جارية لهما صوم ثلاثة أيام إن برئا. فشفيا, وما معهم شيء, فاستقرض علي عليه السلام من شمعون الخيبري ثلاثة أصوع من شعير, فطحنت فاطمة عليها السلام صاعا, واختبزت خمسة أقراص, فوضعوها بين أيديهم ليفطروا, فوقف مسكين, فآثروه وباتوا لم يذوقوا إلا الماء. وأصبحوا صياما, فلما أمسوا ووضعوا الطعام وقف عليهم يتيم, فآثروه, ثم وقف عليهم في الليلة الثالثة أسير ففعلوا مثل ذلك. فنزل جبرئيل بهذه السورة وقال: خذها يا محمد, هناك الله في أهل بيتك. ذكر ذلك القاضي ناصر الدين البيضاوي في تفسيره, وإجماع المفسرين على ذلك والله أعلم.
@أنوار الربيع في أنواع البديع
حسن الإتباع
هم عصمة للورى ترجى النجاة بهم ... يا فوز من زانه حسن إتباعهم.
هذا النوع عبارة عن أن يأتي المتكلم إلى معنى لغيره فيحسن إتباعه فيه، بحيث يستحقه بوجه من الوجوه التي توجب استحقاقه له، إما بحسن سبك، أو قصر وزن، أو تمكين قافية، أو زيادة وصف، أو تتميم نقص، أو تحلية بحلية من البديع يحسن بمثلها النظم، وتوجب الاستحقاق.
كحسن إتباع أبي نواس جريرا في قوله:
إذا غضبت عليك بنو تميم ... حسبت الناس كلهم غضابا.
فإنه نقله من الفخر إلى المدح:
ليس من الله بمستنكر ... أن يجمع العالم في واحد.
فزاد على جرير بقصر الوزن، وحسن السبك، وإخراج كلامه من مخرج الظن، وذكره العالم وهو أعم من الناس في بيت جرير، وغير ذلك.
ومن شواهده المستحسنة: حسن إتباع ابن الرومي لمحمد بن عبد الله النميري قي قوله يتغزل بزينب أخت الحجاج وأترابها، وهو يقول:
فهن اللواتي إن برزن قتلنني ... وإن غبن قطعن الحشا زفرات.
فقال ابن الرومي وأحسن الإتباع:
ويلاه إن نظرت وإن هي أعرضت ... وقع السهام ونزعن أليم.
فزاد عليه بزيادات أو حببت استحقاقه، ولم تبق للسمع معه على سماع بيت النميري طاقة.
وقال بشار:
من راقب الناس لم يظفر بحاجته ... وفاز بالطيبات الفاتك اللهج.
فأحسن إتباعه سلم الخاسر فقال:
من راقب الناس مات غما ... وفاز باللذة الجسور.
فيقال عن بشار لقي بعد ذلك سلما فقال له: أولى لك يا ابن الفاعلة، تذهب ببيتي؟ والله لأسلخن جلدك هجاء، فوقع سلم على قدميه يقبلهما ويسأله العفو، حتى قال له: على أن لا تعود لمثل ذلك، فحلف، فكف عنه.
وقال مسلم بن الوليد:
تجري محبتها في قلب وامقها ... مجرى السلامة في أعضاء منتكس.
فأحسن إتباعه أبو نواس فقال:
فتمشت في مفاصلهم ... كتمشي البرء في السقم.
حكى الأصمعي قال: حضرت مجلس الرشيد وعنده مسلم بن الوليد إذ دخل أبو نواس فقال له الرشيد: ما أحدثت بعدنا يا أبو نواس؟ فقال: يا أمير المؤمنين ولو في الخمر، فأنشده:
يا شقيق النفس من حكم ... نمت عن ليلي ولم أنم.
حتى أتى على آخرها فقال: أحسنت، يا غلام فأعطه عشرة ألاف درهم وعشر خلع، فأخذها وخرج، فلما خرجنا من عنده قال لي مسلم بن الوليد: ألم ترى يا ابن سعيد أبا الحسن كيف سرق لي شعري وأخذ به مالا وخلعا؟ قلت: وأي معنى سرق؟ قال: قوله: فتشمت في مفاصلهم.... الخ البيت، فقلت: وأي شيء قلت؟ قال: قلت:
غراء في فرعها ليل على قمر ... على قضيب دعص النقا الدهس.
أذكى من المسك أنفاسا وبهجتها ... أرق ديباجة من سرقة النفس.
كأن قلبي وشاحاها إذا خطرت ... وقلبها قلبها في الصمت والخرس.
تجري محبتها في قلب وامقها ... مجرى السلامة في أعضاء منتكس.
فقلت: ممن سرقت أنت هذا المعنى؟ فقال: لا أعلم أنني أخذته من أحد، فقلت: بلى، من عمر بن أبي ربيعة حيث يقول:
أما والراقصات بذات عرق ... ورب البيت والركن العتيق.
وزمزم والمطاف ومشعريها ... ومشتاق يحن إلى مشوق.
لقد دب الهوى لك في فؤادي ... دبيب دم الحياة إلى عروقي.
فقال: ممن سرق عمر بن أبي ربيعة هذا المعنى؟ فقلت: من بعض العذريين حيث يقول:(1/437)
منع البقاء تقلب الشمس ... وخروجها من حيث لا تمسي.
وطلوعها حمراء صافية ... وغروبها صفراء كالورس.
تجري على كف السماء كما ... يجري حمام الموت في النفس.
وأخذ أبو الشيبص قول عمر بن أبي ربيعة فقال:
أما وحرمة كأس ... من المدام العتيق.
وعقد نحر بنحر ... ومزج ريق بريق.
فقد جرى الحب مني ... مجرى دمي في عروقي.
وأخذه أبو الطيب أيضاً فقال:
جرى حبها مجرى دمي في مفاصلي ... فأصبح لي عن كل شغل بها شغل.
وقال بشار بن برد:
يا أطيب الناس ريقا غير مختبر ... إلا شهادة أطراف المساويك.
وأحسن إتباعه التهامي فقال:
ولم أشهد لهن جنى ولكن ... شهدن بذاك أعواد البشام.
وزاد عليه ابن الساعاتي فقال:
يخبر عن لثم السلاف لثامه ... وتشهد أطراف الأراك بشهده.
وقال مؤلفه وهو أحسن من الكل سبكا:
وبثغر ماء الحياة لأنفس ... أودى بهن من الصدود هلاك.
ما ذقت مورده ولكن هكذا ... نقل الأراك وحدث المسواك.
وقال أبو تمام:
كانت مساءلة الركبان تخبرني ... عن أحمد بن سعيد أطيب الخبر.
حتى التقينا فلا والله ما سمعت ... أذني بأحسن مما قد رأى بصري.
فأحسن أبو الطيب إتباعه فقال:
وأستكبر الأخبار قبل لقائه ... فلما التقينا صدق الخبر الخبر.
فبالغ وأوجز، وجاء بالطباق والجناس.
حكى ابن الأنباري قال: لما قدم العلامة السري جار الله الزمخشري بغداد قاصا للحج، قصده الشريف أبو السعادات بن الشجري نقيب السادات الأشراف، فلما اجتمع به أنشده (كانت مساءلة الركبان تخبرني ... الخ البيتين) فقال الزمخشري: روينا من طريق صحيحة الإسناد: أنه لما وفد زيد الخيل على النبي صلى الله عليه وسلم قال له: يا زيد ما وصف لي أحد من الجاهلية فوجدته في الإسلام فوق ما وصف غيرك. قال ابن الأنباري: فخرجنا ونحن نتعجب كيف يستشهد الشريف بالشعر، والزمخشري بالحديث وهو رجل أعمى.
وقال أبو تمام أيضاً يرثي طفلين:
لهفي على تلك الشواهد فيهما ... لو أمهلت حتى تكون شمائلا.
نجمان شاء الله أن لا يطلعا ... ألا ارتداد الطرف حتى يأفلا.
فأحسن أبو الطيب أيضاً إتباعه فقال يرثي عبد الله بن سيف الدولة:
بنفسي وليد عاد من بعد حمله ... إلى بطن أم لا تطرق بالحمل.
بداوله وعد السحابة بالروى ... وصد فينا غلة البلد المحل.
فأجاد السبك وزاد بمراعاة النظير بين السحابة والروي، والغلة والمحل، وأربى عليه في المعنى بقوله (وصد فينا غلة البلد المحل) لأن مقدار حاجتهم إلى وجوده.
وقال البحتري:
أخجلتني بندى يديك فسودت ... ما بيننا تلك اليد البيضاء.
صلة غدت في الناس وهي قطيعة ... عجبا وبر راح وهو جفاء.
فأحسن إتباعه أبو العلاء المعري فقال:
لو اختصر تم من الإحسان زرتكم ... والعذب يهجر للإفراط في الخصر.
فاستوعب معنى البيتين في صدر بيته، وزاد عليه في التمثيل في العجز، وأخرجه مخرج المثل السائر مع حسن السبك والإيجاز، والإيضاح وحسن البيان.
وقال أبو الطيب:
ولذا اسم أغطية العيون جفونها ... من أنها عمل السيوف عوامل.
وأحسن سبط ابن التعاويذي أتباعه فقال:
بين السيوف وعينيه مشاركة ... من أجلها قيل للأغماد أجفان.
فإنه أخذ المعنى من قطعة خشب وأودعه في سبيكة ذهب.
وقال أبو الطيب أيضاً:
لو قلت للدنف الحزين فديته ... مما به لأغرنه بفدائه.
فأحسن إتباعه ابن الخياط فقال:
أغار إذا آنست في الحي أنة ... حذاراً وخوفاً أن تكون لحبه.
وقال ابن المعتز:
وتحت زنانير شددن عقودها ... زنانير أعكان معاقدها السرر.
فأحسن التهامي أتباعه فقال:
لولاه لم يقض في أعدائه قلم ... ومخلب الليث لولا الليث كالظفر.
ما صر إلا وصلت بيض أنصله ... في الهام أوطأت الأرماح في الثغر.
وغادرت في العدى طعنا يحف به ... ضرب كما حفت الأعكان بالسرر.(1/438)
الشاهد في البيت الثالث. قال الباخرزي في دمية القصر: هذا والله المعنى البديع والربيع المريع، والتشبيه اللائق، والغرض الموافق، وقد كان يملكني الإعجاب بقول ابن المعتز، فزاد التهامي عليه، وفي المثل: من زاد ركب.
وقال النابغة:
يقولون حصن ثم تأبى نفوسهم ... فكيف بحصن والجبال جنوح.
وأحسن ابن بسام أتباعه فقال:
قد استوى الناس ومات الكمال ... وصاح صرف الدهر أين الرجال.
هذا أبو القاسم في نعشه ... قوموا انظروا كيف تزول الجبال.
وقال عمر بن كلثومك
فآبوا بالنهاب وبالسبايا ... وأبنا بالملوك مصفدينا.
فأحسن أبو تمام أتباعه فقال:
إن الأسود إسود الغاب همتها ... يوم الكريهة في المسلوب لا السلب.
وقال منصور النمري: فكأنما وقع الحسام بهامه=خدر الأسنة أو نعاس الهاجع.
فأحسن أبو الطيب أتباعه فقال:
كأن الهام في الهيجا عيون ... وقد طبعت سيوفك من رقاد.
وقال بكر بن النطاح:
يتلقى الندى بوجه حيي ... وصدور القنا بوجه وقاح.
فأحسن السري الرفاء أتباعه فقال:
يلقى الندى برقيق وجه مسفر ... فإذا التقى الجمعان عاد صفيقا.
وما أحسن ما قال بعده:
رحب المنازل ما أقام فإن سرى ... في جحفل ترك الفضاء مضيقا.
وقال الأول:
خلقنا لهم في كل عين وحاجب ... بسمر القنا والبيض عينا وحاجبا.
فأحسن ابن نباتة السعدي أتباعه فقال: خلقنا بأطراف القنا في ظهورهم=عيونا لها وقع السيوف حواجب.
وماى أحسن قوله بعده:
لقوا نبلنا مرد العوارض وانثنوا ... بأوجههم منها لحي وشوارب.
وشواهد هذا النوع أكثر من أن يحيط بها نطاق الحصر، فلنكتف منها بهذا القدر والله أعلم.
وبيت بديعية الصفي قوله:
ينازع السمع فيها الطرف حين جرت ... فيرجعان إلى الآثار في الأكم.
قال في شرحه: موضع حسن الأتباع منه، إني سمعت بيتا مجهولا قائله، ومعناه يحتمل الزيادة وهو:
وطرف يفوت الطرف في حركاته ... ولكن للأسماع فيه نصيب.
فلما احتجت أن لا أخلى القصيدة من هذا النوع، زدت فيه استعارة المنازعة بين السمع والطرف والمحاكمة في الرجوع إلى الآثار، وزيادة أن الآثار في الأكم مما يدل على صلابة الحوافر والسنابك، وهو مما يمدح به الخيل، وفيه زيادة الإيغال وتمكين القافية.
ولم ينظم ابن جابر هذا النوع.
وبيت بديعية الموصلي قوله:
والجذع حن عليه بعد فرقته ... حسن إتباع لتلك الأربع الحرم.
قال في شرحه: إنه اتبع الفرزدق في قوله يمدح علي بن الحسين عليه السلام:
يكاد يمسكه عرفان راحته ... ركن الحطيم إذا ما جاء يستلم.
وبيت بديعية ابن حجة قوله:
ذكراه تطربهم والسيف ينهل من ... أجسامهم لم يشن حسن إتباعهم.
قال في شرحه: غنه اتبع فيه قول ابن العارض:
ولي ذكرها يحلو على كل صيغة ... ولو مزجزه عذلي بملام.
وبيت بديعية المقري قوله:
قد مس راحته من مس راحته ... فكم من المس أبرى كل ذي لمم.
قال في شرحه أنه اتبع فيه قول صاحب البردة:
كم أبرأت وصبا باللمس راحته ... وأبرأت أربا من ربقة اللمم.
ولم ينظم السيوطي ولا الطبري هذا النوع.
قل ما أردت سوى الإشراك فهو إذن ... من فوق ما قلت من عز ومن عظم.
قال في شرحه أنه اتبع فيه قول البوصيري في البردة:
دع ما أدعته النصارى في نبيهم ... واحكم بما شئت مدحا فيه واحتكم.
وبيت بديعيتي قولي:
هم عصمة للورى ترجى النجاة بهم ... يا فوز من زانه حسن إتباعهم.
هذا البيت أتبعت فيه قول الفرزدق من قصيدته في علي بن الحسين عليه السلام:
من معشر حبهم دين وبغضهم ... كفر وقربهم منجى ومعتصم.
ووجه حسن الإتباع فيه إني استوفيت معنى البيت كله في الشطر الأول، فإن من كان عصمة للورى وبه ترجى النجاة، كان من المعلوم أن حبه دين وبغضه كفر. وزدت عليه بالحض على حسن إتباعهم والترغيب في موالاتهم في الشطر الثاني صريحا مع حسن البيان وتمكين القافية، والله أعلم.
الطاعة والعصيان
أطعمهم وأحذر العصيان تنج إذا ... بيض الوجوه غدت في النار كالفحم.(1/439)
قال الشيخ صفي الدين الحلي في شرح بديعيته: هذا النوع استخرجه أبو العلاء المعري عند شرحه شعر أبي الطيب المتنبي بالكتاب الذي سماه معجز أحمد، لما وقف على قوله:
يريد يداً عن ثوبها وهو قادر ... ويعصي الهوا في طيفها وهو راقد.
قال إنما أراد أبو الطيب: يرد يدا عن ثوبها وهو مستيقظ، بحيث تطيعه المطابقة في قافية البيت بقوله: راقد، فلما لم يطعه الوزن عدل عن لفظة راقد وهو من صنف التجنيس المقلوب، حيث لم يؤثر إخلاء البيت من إحدى صنا يع البديع، فقد عصته المطابقة، وأطاعه التجنيس. وهذا النوع لم يسمع له مثال بعد أبي العلاء المعري في سائر كتب البديع لقلة وقوعه، وتعذر اتفاقه، وإنما وقع للمتنبي نادرا. انتهى كلام الشيخ صفي الدين، وهو مأخوذ من كتاب تحرير التحبير لأبن أبي الإصبع.
واستشهد الأستاذ أبو بكر الخوارزمي على هذا النوع بقول المتنبي:
أرأيت همة ناقتي في ناقة ... نقلت يدا سرحا وخفا مجمرا.
قال: أراد أن يقول: خفا خفيفا ليتفق له جناس الاشتقاق، فلما لم يطعه الوزن ولا القافية عدل عن لفظة خفيف، إلى لفظة مجمر، لما فيها من معنى السرعة والخفة، فكان تجنيسا معنويا، فقد عصاه الجناس اللفظي، وأطاعه الجناس المعنوي. والمجمر اسم فاعل من أجمر البعير: إذا أسرع. والسرح بضمتين: السهلة السير.
قال ابن أبي الأصبع: تقريرهم هذا النوع، وجهه أن القوم أضربوا عن النظر فيه، أما لحسن ظنهم بالمعري وموضعه من الأدب، واعتقادهم فيه من العصمة من الخطأ والسهو وإما يكون مر عليهم ما مر عليه في بيت أبي الطيب المذكور أولا، وليس فيه شيء أطاع الشاعر، ولا شيء عصاه، ودليل ذلك قول المعري: إن المتنبي أراد (مستيقظا) ليحصل بينه وبين لفظه (راقد) طباق، فعصته لفظة (مستيقظ) لامتناعها من الدخول في هذا الوزن، وهذا محال، لأنه لو أراد ذلك لقال: يرد يدا عن ثوبها وهو ساهر، فكان يحصل له غرضه من الطباق ولم يعصه الوزن، وإنما أراد أن يكون في بيته جناس وطباق، فعدل عن لفظه (ساهر) إلى (قادر) لأن القادر (ساهر) وزيادة، وحصل بين (قادر وراقد) الطباق المعنوي، وجناس العكس.
ومذهب المتنبي ترجيح المعاني على الألفاظ، ولاسيما بالعدول عن الطباق اللفظي حصل في البيت الطباق والجناس معا. وما كان فيه الطباق والجناس معا أفضل مما ليس فيه سوى الطباق. ولو عدل المتنبي إلى ما قاله المعري لفاته هذا الفضل. انتهى كلام ابن أبي الأصبع. وتقريره هذا لا يجري في البيت الثاني لأبي الطيب الذي خرجه الخوارزمي على هذا كما لا يخفى.
وبيت بديعية الصفي الحلي قوله:
لهم تهلل وجه بالحياء كما ... مقصورة مستهل من أكفهم.
قال في شرحه: أراد أن يقول: لهم تهلل وجه بالحياء، وأكفهم مستهلة، ليحصل التجانس بين الحياء والحيا، فلما عصاه التجنيس، ولم يؤثر أخلاء البيت من صنعة البديع عدل إلى لفظة (مقصورة) التي هي ردف (الحيا) فأطاعه الأرداف والتوجيه والجناس المعنوي. انتهى ملخصا.
وتعقبه ابن حجة بأنه لو قال:
لهم تهلل وجه بالحيا كما ... لنا الحيا مستهل من أكفخم.
لحصل له ما أراد من الجناس. فدعوى العصيان هنا محال. انتهى.
وأنا أقول: يكفي الشاعر في دعوى العصيان أنه حاول ذلك في وقت النظم فلم يطعه، وإن أطاعه وأطاع غيره في وقت آخر. ألا ترى أن الشاعر قد يحاول نظم معنى من المعاني في وقت من الأوقات فلا يتسهل له، ويتسهل له في وقت آخر، وكفاك شاهدا على ذلك قول النابغة: أنه ليمضي علي وقت ولقلع ضرس من أضراسي أسهل علي من نظم بيت واحد.
وبيت بديعية الموصلي قوله:
أطاعه وعصاه المؤمنون ومن ... ناوى لدى الفرق بين الإنس والنعم.
قال في شرحه: أراد الطباق بين المؤمنين والكافرين، فعصاه الوزن وتعذرت المطابقة، فأتى بلفظ (ناوى) فأطاعته المطابقة وعصاه الوزن.
وتعقبه ابن حجة أيضاً بأنه لو قال:
أطاعه وعصاه المؤمنون وجم ... ع الكافرين ولم يحفل بجمعهم.
لحصل له ما أراد من المطابقة بين المؤمنين والكافرين. والجواب عنه ما تقدم.
وبيت بديعية ابن حجة قوله:
طاعاتهم تقهر العصيان قدرهم ... له العلو فجانسه بمدحهم.(1/440)
قال في شرحه: أردت أن أجانس فيه بين العلو والغلو فلم يطع فيها الوزن، فعدلت إلى لفظة (جانسه) فحصل الجناس المعنوي بإشارة ردفه إليه. فهذا البيت مشتمل على الطاعة والعصيان حقيقة. انتهى.
وأنا أقول: لو أردنا أن نورد عليه مثل ما "أورده هو على بيتي الصفي والموصلي أمكننا أن نقول: أنه لو قال:
طاعاتهم تقهر العصيان قدرهم ... له غلو علة بارتفاعهم.
لحصل له ما أراد من جناس التصحيف بين العلو والغلو، فلم يكن بيته مشتملا على الطاعة والعصيان حقيقة كما ادعاه.
وبيت بديعية المقري قوله:
مكرم الأب سامي الجد عم ندى ... يوفي العقود وكم قد حلها وكم.
قال في شرحه: أراد أن يقول: يوفي العقود، وكم قد حل العقود، ليحصل له التجنيس التام فعصاه ولم يقم الوزن، فعدل إلى قوله: وكم قد حلها، فأطاعه الاستخدام. انتهى. وإذا أوردنا عليه إيراد ابن حجة قلنا أنه لو قال (يوفي العقود وكم حل العقود كم) لحصل له ما أراد فلم يعصه تجنيس ولا وزن.
وبيت بديعية العلوي قوله:
تلقاه مبتسما في موقف ضنك ... وكل قرن له وجه من الظلم.
أراد أن يقول: وكل قرن له عابس، ليقابل بينه وبين المبتسم فلم يطعه الوزن، فعدل عنه إلى قوله: له وجه من الظلم، فحصل له الكناية.
وبيت بديعيتي قولي:
أطعهم واحذر العصيان تنج إذا ... بيض الوجوه غدت في النار كالفحم.
أراد أن يقول بيض الوجوه غدت في النار سودا، ليحصل له المطابقة بين البيض والسود فلم يطعه فعدل إلى قوله: كالفحم، فحصل له التشبيه ومراعاة النظير بين النار والفحم. فقد عصاه نوع من البديع وهو الطباق، وأطاعه نوعان وهما التشبيه ومراعاة النظير، والله أعلم.
البسط.
بسط الكف يرون الجود مغنمة ... لا يعرفون لهم لفظا سوى نعم.
البسط هو الإطناب، وهو خلاف الإيجاز، ومنهم من خصه بالإطناب بتكثير الجمل، فقسم الإطناب إلى قسمين: بسط، وزيادة. فالأول الإطناب بالجمل، والثاني الإطناب بغيرها والبديعيون لا يعرفون ذلك.
وأعلم أن الإيجاز والإطناب من أعظم أنواع البلاغة، حتى نقل صاحب سر الفصاحة عن بعضهم، أنه قال: البلاغة هي الإيجاز والإطناب.
قال الزمخشري: كما أنه يجب على البليغ قي مظان الإجمال أن يجمل ويوجز، فكذلك الواجب عليه في موارد التفصيل أن يفصل ويشبع.
أنشد الجاحظ:
يرمون بالخطب الطوال وتارة ... وحي الملاحظ خيفة الرقباء.
واختلفوا في تفسير الإيجاز والإطناب، فقال السكاكي وجماعة: الإيجاز هو أداة المقصود من الكلام بأقل من عبارة المتعارف من الأوساط الذين ليس لهم فصاحة وبلاغة، ولاعي وفهاهة، أي كلامهم في مجرى عرفهم في تأدية المعاني عند المعاملات والمحاورات. والإطناب أداؤه بأكثر منها، لكون المقام خليقا بذلك. وعلى هذا التفسير فيكون بين الإيجاز والإطناب واسطة وهي المساواة، وسيأتي الكلام عليها في بابها مبسوطا إن شاء الله تعالى.
وتعقب الخطيب القزويني تفسير السكاكي المذكور للنوعين، بأنه رد إلى الجهالة، لأنه لا يعرف كمية متعارف الأوساط وكيفيتها لاختلاف طبقاتهم حتى يقاس عليه ويحكم بأن المذكور أقل منه أو أكثر.
وأجيب بأن الألفاظ قوالب المعاني، والقدرة على تأدية المعاني بعبارات مختلفة في الطول والقصر والتصرف في ذلك بحسب مناسبة المقام، إنما هي من أدب البلغاء. وأما المتوسطون بين الجهال والبلغاء، فلهم في تفهيم المعاني حد معلوم من الكلام يجري فيما بينهم في الحوادث اليومية، يدل بحسب الوضع على المعاني المقصودة، وهذا معلوم للبلغاء وغيرهم، فالبناء على المتعارف واضح بالنسبة إليهما جميعا، فلا رد إلى الجهالة.
ولما لم يرفض القزويني تفسير السكاكي قال: الأقرب أن يقال: إن المقبول من طرق التعبير عن المعنى هو تأدية أصل المراد، وهو إما بلفظ مساوٍ له، أو ناقص عنه واف، أو زائد عليه لفائدة. الأول: المساواة، الثاني: الإيجاز، والثالث: الإطناب. واحترز بقوله: واف، عن الإخلال، وبقوله: لفائدة، عن الحشو والتطويل، فأثبت المساواة التي هي الواسطة أيضاً.
وقال ابن الأثير وجماعة: الإيجاز: التعبير عن المراد بلفظ غير زائد، والإطناب بلفظ أزيد لفائدة، فلم يثبتوا واسطة.(1/441)
والإطناب، قيل: بمعنى الإسهاب وألحق أنه اخص منه. فإن الإسهاب التطويل لفائدة، أو لا لفائدة، كما ذكره التنوخي وغيره.
وإذا عرفت ذلك، فالبسط عند البديعين هو الإطناب بالجمل وغيرها، نحو قوله تعالى: (إن في خلق السماوات والأرض واختلاف الليل والنهار والفلك التي يجري في البحر بما ينفع الناس وما أنزل الله من السماء من ماء فأحيا به الأرض بعد موتها وبث فيها من كل دابة وتصريف الرياح والسحاب المسخر بين السماء والأرض لآيات لقوم يعقلون. أطنب فيها أبلغ إطناب، وزاد على المتعارف، وهو أن يقول: عن في وقوع كل ممكن على نظام مخصوص لآيات للعقلاء، لكون الخطاب مع الثقلين، وفي كل عصر وحين، للعالم منهم والجاهل، والموافق والمنافق.
وقول نبيه عليه الصلاة والسلام (الدين النصيحة) ، قيل: لمن يا رسول الله؟ قال: لله وكتابه ونبيه وللأئمة المسلمين وعامتهم، فبسط الكلام وزاد على المتعارف، وهو أن يقول: لله وكتابه ونبيه والمسلمين، فإنها لفظة جامعة للأئمة والعامة، لأجل التخصيص وأفراد الأئمة بالذكر.
ومثاله من الشعر قول ابن المعتز يصف الخير:
قد نفض العاشقون ما صنع ال ... الدهر بألوانهم على ورقه.
فإن حاصل هذا الكلام: الإخبار بصفرة الخيري، بأن يقول: الخير أصفر، فبسط هذا اللفظ الذي لو اقتصر عليه حصل الغرض لما فيه من حسن إدماج الغزل في الوصف بغير لفظة تشبيه ولا قرينة، إذ مفهوم اللفظ: إن صفة الخيري تشبه ألوان العاشقين.
وقول أبي العلاء المعري:
والحمد والكبر ضدان اتفاقهما ... مثل اتفاق فتاء السن والكبر.
يجنى تزايد هذا من تناقص ذا ... والليل إن طال غال اليوم بالقصر.
وحاصل ذلك: ذم الكبر، وكان أصله أن يقول: الكبر ممقوت ابلغ مقت، فأطنب بوضعه موضعه قوله: ضدان، وأردفه التشبيه التمثيلي وهو قوله: اتفاقهما مثل اتفاق فتاء السن والكبر، ثم بين الوجه على سبيل الاستيناف يقوله: يجنى تزايد هذا من تناقض ذا، ثم ذيله بالاستعارة التمثيلية وهي قوله: والليل إن طال غال اليوم بالقصر. كل ذلك لأجل المبالغة في ذم الكبر، وتصوير عدم اجتماعه والحمد في الوجود ليعلم أنه من أقبح الأخلاق.
وقول الطغرائي:
والحب حيث العدى والأسد رابضة ... حول الكناس لها غاب من الأسل.
فإن الغرض من جميع البيت: ما قاله ابن هاني المغربي في شطر بيت وهو (الحب حيث المعشر الأعداء. ولكنه بسط الكلام للمبالغة في وصف محبوبه بأنه مصون محتجب لا سبيل إلى الوصول إليه والحال هذه.
وبيت بديعية الشيخ صفي الدين الحلي:
سهل الخلائق سمح الكف باسطها ... منزه لفظه عن ل ولن ولم.
وبيت بديعية الموصلي قوله:
ذو بسط كف وخلق زانه خلق ... أثنى عليه إله العرش بالعظم.
وبيت بديعية ابن حجة:
هم معشر بسطوا جودا سقاه حيا ... فأخضر العيش في أكناف أرضهم.
وبيت بديعية المقري قوله:
ما ذاك عم عدد جم ولا عدد ... وهل يقال لفضل الله ذا بكم.
وبيت بديعية السيوطي:
عن كنه معناه كل المطنبون وقد ... أوتى البلاغة والإيجاز في الكلم.
وبيت بديعية العلوي قوله:
منه الندى والعطا والجود منبعه ... يزري عطاه عطاء الوابل الرزم.
وبيت بديعيتي قوله:
بسط الأكف يرون الجود مغنمة ... لا يعرفون لهم لفظا سوى نعم.
الحاصل من جميع البيت: وصفهم بالكرم، وبسط الكلام لتأكيد مدحهم بذلك والله أعلم.
المدح في معرض الذم.
إن شئت في معرض الذم المديح فقل ... لا عيب فيهم سوى إكثار نيلهم.
هذا النوع من مستخرجات ابن المعتز، وسماه قوم: تأكيد المدح بما يشبه الذم، وآخرون: النفي والجحود. وهو ضربان: أحدهما، وهو أفضلهما، أن يستثنى من صفة ذم منفية صفة مدح يتعذر دخولها فيه.
كقول النابغة الذبياني:
لا عيب فيهم غير إن سيوفهم ... بهن فلول من قراع الكتائب.(1/442)
فالعيب صفة ذم منفية استثنى منها صفة مدح، وهي أن سيوفهم ذات فلول، أي لا عيب فيهم غير أن سيوفهم بهذه الصفة، إن كان فلول السيف من قراع الكتائب عيبا. فأثبت شيئا من العيب على تقدير كون فلول السيوف منه، وهو محال، لأنه كناية عن كملل الشجاعة، فهو بالمعنى تعليق بالمحلل كقولهم: حتى يبيض القار، فتأكيد المدح ونفي الذم في هذا الضرب من جهتين، إحداهما: انه كدعوى الشيء بينية، لأنه علق نقيض المطلوب وهو إثبات شيء من العيب بالمحال محال، فعدم العيب ثابت، والثانية: الأصل في الاستثناء أن يكون متصلا، وهو دخول المستثنى في المستثنى منه، على تقدير السكوت على الاستثناء، ليكون ذكر المستثنى إخراجا له عن الحكم الثابت للمستثنى منه، وذلك لأن الاستثناء المنقطع مجاز على ما تقرر في محله. وإذا كان الأصل في الاستثناء أن يكون متصلا فذكر ما بعدها يوهم السامع أن ما يأتي بعدها مخرج مما قبلها، فيظن إن غرض المتكلم إخراج من أفراد ما نفاه من العيب، وإرادة أثباته، حتى يحصل فيهم شيء من العيب، فإذا أتت بعدها صفة مدح وتحول الاستثناء من الاتصال إلى الانقطاع تأكد المدح، لكونه مدحا على مدح، وللإشعار بأنه لم يجد فيهم صفة ذم حتى يثبتها، فاضطر إلى استثناء صفة مدح، مع ما فيه من نوع خلابة وتأخيذ للقلوب.
الضرب الثاني: أن يثبت لشيء صفة مدح، ويعقب بأداة استثناء يليها صفة مدح أخرى، كقوله عليه السلام: أنا أفصح العرب بيد أني من قريش، أي غير أني من قريش، وهذا الضرب لا يفيد التأكيد إلا من الجهة الثانية من الجهتين المذكورتين في الضرب الأول، وهو أن الأصل في مطلق الاستثناء أن يكون متصلا، فذكر أداته قبل ذكر المستثنى يوهم إخراج شيء مما قبلها، من حيث أنه استثناء، فإذا ذكر بعد الأداة صفة مدح أخرى تأكد المدح، ولا يتأتى فيه التأكيد إلا من الجهة الأولى، وهي أنه كدعوى الشيء بينية، لأنها مبنية على التعليق بالمحال المبني على تقدير الاستثناء متصلا، ولهذا كان الضرب الأول أفضل.
ومن هذا الضرب قول النابغة الجعدي:
فتى كملت أخلاقه غير أنه ... جواد فما يبقي من المال باقيا.
وقول بديع الزمان الهمذاني:
هو البدر إلا انه البحر زاخرا ... سوى انه الضرغام لكنه الوبل.
والاستدارك في هذا البيت يجري مجرى الاستثناء.
ومما وقع في هذا النوع في التنزيل قوله تعالى: (لا يسمعون فيها لغوا ولا تأثيما، إلا قيلا سلاما سلاما.) وهو يحتما أن يكون من الضرب الأول، بأن يقدر السلام داخلا في اللغو والتأثيم فيفيد التأكيد من جهتين، وأن يكون من الضرب الثاني بأن لا يقدر ذلك ويجعل الاستثناء من أصله منقطعا. وأصحاب البديعيات بنوا أبياتهم على الضرب الأول لكونه أفضل عما علمت.
وبيت بديعية الصفي الحلي قوله:
لا عيب فيهم سوى أن النزيل بهم ... يسلوا عن الأهل والأوطان والحشم.
وبيت بديعية ابن جابر قوله:
لا عيب فيهم سوى أن لا يرى لهم ... ضيف بجوع ولاجار بمهتضم.
وبيت بديعية الموصلي قوله:
في معرض الذم أن قيل المديح فهم ... لا عيب فيهم سوى الإعدام للنقم.
وبيت بديعية ابن حجة قوله:
في معرض الذم إن رمت المديح فهم ... لا عيب فيهم سوى إكرام وفدهم.
وبيت بديعية المقري قوله:
لا عيب فيه سوى أن العصاة به ... يلقون عفو كبير الإثم واللمم.
وبيت بديعيتي قولي:
إن شئت في معرض الذم المديح فقل ... لا عيب فيهم سوى إكثار نيلهم.
ولم ينظم الطبري هذا النوع في بديعيته، والله سبحانه وتعالى أعلم.
الإيضاح
وضنهم زاد إيضاحا وبخلهم ... بعرضهم ونداهم فاض كالديم.(1/443)
قال أهل البيان: إذا أردت أن تبهم ثم توضح، فأنك تطنب، وفائدته غما رؤية المعنى في صورتين مختلفتين، الإبهام والإيضاح، أو ليتمكن المعنى في النفس تمكنا زائدا، لما طبع الله النفوس عليه من ظان الشيء إذا ذكر مبهما ثم بين كان أوقع فيها من أن يبين أولا، أو لتكمل لذة العلم فإن الشيء إذا علم من وجه دون وجه تشوقت النفوس على العلم بالمجهول، فيحصل لها بسبب العلم لذة، وبسبب حرمانها من الباقي ألم، فإذا حصل العلم من بقية الوجوه حصلت بها لذة أخرى، واللذة عقيب الألم أقوى من اللذة التي لم يتقدمها ألم، كقوله تعالى (قال رب اشرح لي صدري) ، فإن قوله: اشرح لي، يفيد طلب شرح شيء لشيء ما له، وقوله: صدري، يفيد إيضاحه، وقد يكون لتفخيم الأمر وتعظيمه، كقوله تعالى (وقضينا إليه ذلك الأمر أن دابر هؤلاء مقطوع مصبحين) ففي إبهامه وإيضاحه تفخيم للأمر وتعظيم.
قال البديعيون: الإيضاح أن يذكر المتكلم في كلامه مفردا لا يفهم معناه لغرابته حتى يوضحه في بقية كلامه، أو جملة في ظاهرها لبس وخفاء لا يستقل الفهم بالمراد منها حتى يوضحها في آخر الكلام.
فالأول كقوله تعالى: (إن الإنسان خلق هلوعا، إذا مسه الشر جزوعا، وإذا مسه الخير منوعا. وقد سأل عبد بن طاهر أحم بن يحيى: ما الهلع؟ فما زاد على التلاوة. وسئل الأصمعي عن معنى الألمعي فأنشد: قول أوس بن حجر:
الألمعي الذي يظن بك الظ ... ن كأن قد رأى وقد سمعا.
وقال أبو العالية: القيوم: لا تأخذه سنة ولا نوم. وقال القرظي: الصمد: لم يلد ولم يولد. وهو في القرآن كثير.
والثاني كقوله تعالى: (إن مثل عيسى عند الله كمثل آدم خلقه من تراب ثم قال له كن فيكون. فقوله: خلقه وما بعده، إيضاح للجملة الأولى. قال المفسرون: قوله: خلقه من تراب جملة مفسرة للتمثيل، مبينة لما له الشبه، وهو انه خلق بلا أب كما خلق آدم من التراب بلا أب وأم، شبه حاله بما هو أغرب إفحاما للخصم وقطعا لمواد التشبيه.
ومثاله من الشعر قول أبي الطيب:
وكم لظلال الليل عندك من يد ... تخبر أن المانوية تكذب.
وقال ردى الأعداء تسري إليهم ... وزارك فيه ذو الدلال المحجب.
قال أبو العلاء: المانوية منسوبة إلى ماني، وهو رجل يعظمه أهل مذهبه، ويقال: أن طائفة من الترك عظيمة يرون مذهبه، وإن أهل الصين على مذهبه، وإن لأصحابه كتبا ومناظرات، ويزعمون باثنين: رب يفعل الخير لا غير، وهو في بعض الألسنة الذي يسمى يزدان، وضده يفعل الشر ويسمونه أهرمن. ويذكر عنهم أنهم يقولون: الخير من النهار، والشر من الليل، وأنهما أصلان للعالم حيان حساسان دراكان، فرد عليهم أبو الطيب بالبيت الأول فقال:
كم نعمة لظلام الليل تكذب قولهم. ثم أوضح ذلك في البيثاني.
ومنه قول الآخر:
يذكر نيك الخير والشر كله ... وقيل الخنا والحلم والعلم والجهل.
فألقاك عن مكروهها متنزها ... وألقاك كن محبوبها ولك الفضل.
فإن البيت الأول معناه ملتبس لكونه يقتضي المدح والذم، فأوضحه في البيت الثاني بما أزال اللبس.
وقول أبي الحسن الباخرزي:
ألا لا سقى صوب العوارض قبره ... ففي قبره من فيض كفيه أبحر.
ولا غفر الرحمن ذنبا أتى به ... إذا لم يكن ذنب فمن أن يغفر
والفرق بين الإيضاح والتفسير إصطلاحي، وقد تقدم بيانه في نوع التفسير فليرجع إليه.
وبيت بديعية الصفي قوله:
قادوا الشوازب كالأجيال حاملة ... أمثالها ثبتة في كل مصطدم.
قال في شرحه: قوله: ثبتة في كل مصطدم، يوضح قوله أمثالها.
وبيت الموصلي قوله:
هذا وتزداد إيضاحا مخافتهم ... في كل معترك من بطش ربهم.
وبيت بديعية المقري قوله:
مثبت الجأش يحمي الجيش إذا فرقوا ... وباذل العفو إذ يردي لكل كمي.
وبيت بديعيتي قولي:
وضنهم زاد إيضاحا وبخلهم ... بعرضهم ونداهم فاض كالديم.
فقولي: بعرضهم إيضاح للضن والبخل الذي أضافه إليهم في صدر البيت والله أعلم.
التوهيم.
محققون لتوهيم العدى أبدا ... كأنهم يعشقون البيض في القمم.(1/444)
هذا النوع عبارة عن أن يأتي المتكلم بكلمة يوهم ما قبلها أو بعدها من الكلام أن المتكلم أراد تصحيفها أو تحريفها باختلاف بعض إعرابها، أو اختلاف معناها، أو اشتراك لغتها بأخرى، وغير ذلك من وجوه الاختلاف، والأمر بضد ذلك.
فمثال التصحيف قوله تعالى: (أصيب به من أشاء) ، فإن إصابة العذاب أوهمت السامع أن لفظة (أشاء) بالسين المهملة من الإساءة، ولذلك قرأها حماد الراوية كذلك، وكان لا يحسن القرآن.
وقوا أبي الطيب:
وأن الفيام التي حوله ... لتحسد أرجلها الأرؤس.
فأن لفظة الأرجل أوهمت السامع أنه أراد (القيام) بالقاف، ومراده بالفاء- كما وردت به الرواية- وهي الجماعات، وهو الذي تقتضيه المبالغة، لأن القيام بالقاف يصدق على أقل الجمع.
ومثال اختلاف الأعراب قوله تعالى (وإن يقاتلوكم يولوكم الأدبار ثم لا ينصرون) فإن القياس يقتضي أن يقول: ثم لا ينصروا، بالجزم، عطفا على ما قبله، لكن لما كان الغرض الإخبار بأنهم لا ينصرون أبدا ألغى العطف، وأبقى صيغة الفعل على حالها لتدل على الحال والاستقبال.
وقول الشاعر:
إن من يدخل الكنيسة يوما ... يلق فيها جآذرا وضباء.
فإن لفظة (إن) في البيت توهم السامع أن (من) اسمها، وليس كذلك، بل اسمها ضمير شأن محذوف، والجملة خبرها، أي (أنه من يدخل الكنيسة. وإنما لم يجعل (من) اسمها لأنها شرطية بدليل جزمها الفعلين، والشرط له الصدر فلا يعمل فيما قبله.
ومثال اختلاف المعنى قوله تعالى: (ومن يكرههن فإن الله من بع إكراههن غفور رحيم) ، فإنه يوهم السامع أنه غفور للمكره، وإنما هو لهن.
ومنه قول الشاعر:
يلقاك مرتديا بأحمر من دم ... هبت بخضرته الطلى والأكبد.
فإن قوله: بأحمر من دم، يوهم السامع أن معناه: بأشد حمرة من الدم، وهذا يقتضي كونه اسم تفضيل وهو ممتنع في الألوان وإنما قوله: من دم، تعليل، أي أحم من اجل التباسه بالدم أو صفة، كأن السيف لكثرة التباسه بالدم صار دما.
ومثاله قول المتنبي:
إبعد بعدت بياضا لا بياض له ... لأنت أسود في عيني من الظلم.
أي أسود كائن من جملة الظلم، لا أشد سوادا من الظلم.
ومثال توهمه بالاشتراك قوله تعالى: (الشمس والقمر بحسبان، والنجم والشجر يسجدان) ، فإن ذكر الشمس والقمر يوهم السامع أن النجم احد النجوم السماوية، وإنما المراد به النبت الذي لا ساق له وبالشجر الذي له ساق.
وقول الصفي الحلي:
وساق من بني الأتراك طفل ... آتيه به على جمع الرفاق.
أملكه قيادي وهو رقي ... وأفديه بعيني وهو ساقي.
فإن ذكر العين يوهم أنه أراد بقوله (ساقي) العضو المعروف الذي هو ما بين الركبة والقدم، وإنما أراد الساقي. وتوهم ابن حجة انه قصد بذلك التورية، فأورد لبيتين في باب التورية وقال: لا شك أن مراده بالمعنى الواحد من التورية ساقي الراح وهو ظاهر صحيح. وبالمعنى الثاني أن يكون هذا الساقي ساقيا للشيخ صفي الدين وهو غير ممكن. انتهى.
وهذا عمى بصيرة من ابن حجة عن المقصود، ولم يقصد الشيخ صفي الدين التورية، وإنما قصد التوهيم. وهذا أحد وجوه الفرق بين التورية والتوهيم، فإن الفرق بينهما من ثلاثة أوجه: أحدها، إن التورية توهم وجهين صحيحين قريبا وبعيدا، والمراد البعيد منهما، والتوهيم يوهم صحيحا وفاسدا والمراد الصحيح منهما. وكذلك هو في البيتين المذكورين.
الثاني: أن التورية لا تكون إلا باللفظة المشتركة، والتوهيم بها وبغيرها.
الثالث: أن إيهام التورية مما يتعمده الناظم، والتوهيم مما يتوهمه القارئ أو السامع. إذا عرفت ذلك فقول ابن حجة: هذا النوع أعني التوهيم كان لا يليق به أن ينتظم في سلك التورية، ليس بصحيح.
وبيت بديعية الصفي قوله:
حتى إذا صدروا والخيل صائمة ... من بعد ما صلت الأسياف في القمم.
قال في شرحه قوله: صائمة، يوهم أن مراده بقوله صلت الأسياف من الصلاة، مراده الصليل، وهو صوت الحديد.
وبيت بديعية الصفي قوله:
يا سائرا مفردا أعربت لحنك في ... توهيم منع رضاع الشاء من حلم.
وبيت بديعية ابن حجة قوله:
والبعض ماتوا من التوهيم وأطرحوا ... والسمر قد قبلتهم عند موتهم.
وبيت بديعية المقري قوله:(1/445)
واري الزناد ولا قدح ينال به ... بر يقصر عنه البحر في الكرم.
وبيت بديعية العلي قوله:
وكم نجا لصلاة منه ذو خطأ ... وصام في الحشر كي ينجي أولي الوضم.
وبيت بديعتي قولي:
محققون لتوهيم العدى أبدا ... كأنهم يعشقون البيض في القمم.
بيان التوهيم فيه أن قوله: يعشقون، يوهم السامع أن مراده بالبيض، الحسان، وإنما المراد بها السيوف، والله أعلم.
الألغاز.
من كل كاسر جفن لا هدو له ... من الغرار فخذ ألغاز وصفهم.
الألغاز مصدر الغزت الكلام، وفيه: أتيت بها مشتبها. قال ابن فارس: اللغز: ميلك بالشيء عن وجهه. وفي الإصطلاح: أن يأتي المتكلم بكلام يعمي به المقصود، بحيث يخفى على السامع فلا يدركه إلا بفضل تأمل ومزيد نظر.
ألقى يحيى بن أكثم على المتوكل قوله:
وباسطة بلا نصب جناحا ... وتسبق ما يطير ولا تطير.
إذا ألقمتها الحجر اطمأنت ... وتجزع أن يباشرها الحرير.
وقال أبو العلاء المعري في الآبر:
سعت ذا سم في قميصي فغادرت دبه أثرا والله يشفي من السقم.
كست قيصرا ثوب الجمال وتبعا ... وكسرى وجاءت وهي عارية الجسم.
وقال آخر في القلم:
وذي خضوع راكع ساجد ... ودمعه من جفنه جار.
مواظب الخمس لأوقاتها ... منقطع في خدمة الباري.
وقال موفق الدين علي بن الجزار في قرية السباحة:
وذات فم طورا تسبح ربها ... ولم تكتسب أجرا بتسبيحها قط.
معانقة الصبيان مضمرة الهوى ... كأن بقايا قوم لوط لها رهط.
وقال في قصب السكر:
وذي هيف كالغصن قدا إذا بدا ... يفوق القنا حسنا بغير سنان.
وأعجب ما فيه يرى الناس أكله ... مباحا قبيل العصر في رمضان.
وقال في خلخال:
ومضروب بلا ذنب ... مليح القد ممشوق.
حكى شكل الهلال على ... رشيق القد معشوق.
وأكثر ما يرى أبدا ... على الأمشاط في السوق.
قيل: أن بعض الناس لما سمع هذه الأبيات قال: دخلت السوق فلم أجد على الأمشاط شيئا.
ولما غلب عبد الله بن معاوية بن عبد الله بن جعفر الطيار رضي الله عنه على أصبهان في آخر أيام بني أمية، واجتمع عليه الناس، كتب إلى عمران بن هند يخبره بذلك، فأجابه عمران:
أتاني كتاب منك بالله سرني ... تخبرني فيه بإحدى العجائب.
تخبرني إن العجوز تزوجت ... على كبر منها كريم الضرائب.
فهناكم الله الكريم نكاحها ... وراش بها كل ابن عم وصاحب.
أراد بالعجوز الخلافة.
وحكي أن الشيخ نجم الدين الفقير سأل جماعة من الطلبة المشتغلين عليه عن قول الشاعر:
يا أيها الحبر الذي ... علم العروض به امتزج.
أبن لنا دائرة ... فيها بسيط وهزج.
ففكر بعضهم ساعة طويلة ثم قال: هذا في الدولاب، لأنه أراد بالبسيط: الماء، وبالهزج: صوته حال دورانه. فقال الشيخ: صدقت، إلا أنك أدرت الدولاب زمانا حتى ظهر لك المقصود.
وكتب شرف الدين شيخ الشيوخ بحماة إلى والده ملغزا في باب بقوله:
وواقف بالمخرج ... يذهب طورا ويجري.
لست تخاف شره ... ما لم يكن بمرتج.
فكتب إليه والده: ذهاب ومجيء، وخوف وشر، هذا باب خصومة السلام.
ويحكى عن أبي عطاء السندي الشاعر المشهور، أنه كانت في لسانه عجمة أهل السند، فاجتمع حماد الراوية، وحماد عجرد، وحماد بن الزبرقان النحوي، وبكر بن مصعب المزني في بعض الليالي ليتذاكروا، فقالوا: ما بقي شيء ألا تهيا لنا في مجلسنا هذا، فلو بعثنا إلى أبي عطاء السندي ليحضر عندنا ويكمل به المجلس. فأرسلوا إليه، فقال حماد بن الزبرقان: أيكم يحتال لأبي عطاء حتى يقول: جرادة، وزوج، وشيطان- وإنما اختار له هذه الألفاظ لأنه كان يبدل الجيم زالا، والشين سينا- فقال حماد الراوية: أنا أحتال له في ذلك. فلم يلبثوا أن جاءهم أبو عطاء، فقال: هياكم الله، فقالوا له مرهبا مرهبا- يريدون مرحبا مرحبا على لغته- فقالوا: ألا تتعشى؟ فقال: تعسيت- بالسين- فهل عندكم نبيذ؟ فقالوا: نعم، فأتي بنبيذ فشرب حتى استرخى، فقال له حماد الراوية: يا أبا عطاء، كيف معرفتك باللغز؟ فقال: هسن- يريد حسن- فقال: له ملغزا في جرادة:(1/446)
فما صفراء تكنى أم عوف ... كأن رجليتيها منجلان.
فقال: زرادة، فقال: صدقت. ثم قال ملغزا في زج:
فما اسم حديدة في الرمح ترسى ... دوين الصدر ليست بالرماح.
فقال: زز، فقال: أصبت. ثم قال ملغزا في مسجد بجوار بني شيطان، وهو بالبصرة.
أتعرف مسجدا لبني تميم ... فويق الميل دون بني أبان.
فقال: هو بني سيطان، فقال: أحسنت. ثم تنادموا وتفاكهوا إلى سحرة في أرغد عيش. وهذا أبو عطاء من الشعراء الجيدين، واسمه مرزوق، وكان عبداً أحزب- والأحزب المشقوق الأذن- وله في كتاب الحماسة مقاطيع نادرة.
وقال ابن منقذ ملغزا في الضرس:
وصاحب لا أمل الدهر صحبته ... يشقى لنفعي ويسعى سعي مجتهد.
لم ألقه مذ تصاحبنا فمذ وقعت=عيني عليه تفارقتا إلى الأبد.
وكتب النصير الحمامي إلى السراج الوراق ملغزا في سيل:
قصدت سراج الدين في ليل فكرة ... فكاد جواد الفكر في سبله يكبو.
ليرشدني شيئا به يدرك المنى ... له قلب صب كم فؤاد له يصبو.
إذا ركب البيداء يخشى ويتقى ... ولم يفنه طعن ول
م يفنه ضرب.
بقلب يهد الصخر عند لقائه ... ومن عجب الأشياء ليس له قلب.
فأجابه السراج الوراق:
أراك نصير الدين هذبت خاطري ... وقد لذ لي من لغزك السلسل العذب.
وأثبت قلبا منه ثم نفيته ... وأعرفه صبا وهام له قلب.
وأعرف منه أعينا لا تحفها ... جفون كعادات العيون ولا هدب.
فدونك ما ألغزته لي مبينا ... وذلك ما يحتاجه العجم والعرب.
وأنشد ابن الأعرابي في أيام الجمعة:
يا سبعة كلهم إخوان ... ليسوا يموتون وهم شبان.
لم يرهم في موضع إنسان.
وقال بعضهم في فتيلة المصباح:
وحية في رأسها درة ... تسبح في بحر قصير المدى.
إذا تناءت فالعمى حاضر ... وإن دنت بأن سبيل الهدى.
ومن الألغاز النحوية قول الشاعر:
إن هند المليحة الحسناء ... وأي من أضمرت لخل وفاء.
برفع هند والمليحة، ونصب الحسناء، فيقال: كيف رفع اسم إن وصفته الأولى؟ والجواب: أن الهمزة فعل أمر، وأي- كوفي ويفي- بمعنى وعد، والنون للتوكيد، والأصل (أين) بهمزة مكسورة، وياء ساكنة للمخاطبة، ونون مشددة ثم حذفت الياء لالتقائها ساكنة مع النون المدغمة، وهند منادى مثل (يوسف أعرض عن هذا) ، والمليحة: نعت لها على اللفظ، والحسناء: إما نعت لها على الموضع، إما تقدير أمدح، وإما نعت لمفعول به محذوف، أي عدي يا هند المرآة الحسناء. وعلى الوجهين الأولين فإنما يكون أمرها بإيقاع الوعد الوفي من غير أن يعين لها الموعود، وقوله (وأي) من مصدر نوعي منصوب بفعله، والأصل (وأيا مثل وأيا من) فحذف أولا (وأيا) ثم (مثل) وأنيب (وأي) منابه. ومثله (فأخذناهم أخذ عزيز مقتدر. وقوله: (أضمرت) بالتأنيث ومحمول على المعنى مثل: من كانت أمك؟.
وقول أخر:
أقول لعبد الله لما سقاؤنا ... ونحن بوادي عبد شمس وهاشم.
ويقال: أين فعلا (لما) ؟ والجواب: إن (سقاؤنا) فاعل لفعل محذوف يفسره (وها) بمعنى سقط، والجواب محذوف تقديره (قلت) بدليل قوله (أقول) ، وقوله (شم) آمر، من قولك (شمت البرق) إذ نظرت إليه، والمعنى: لما سقط سقاؤنا قلت لعبد شمسه.
ومن الألغاز العربية قول الشاعر:
عافت الماء في الشتاء فقلنا ... برديه تصادفيه سخينا.
فيقال: كيف يكون التبريد سببا لمصادفته سخينا، وجوابه: إن الأصل (بل برديه) ثم كتب على لفظه للألغاز.
وبيت بديعية الصفي قوله:
حران ينقع حر الكر غلته ... حتى إذا ضمه برد المقيل ظمي.
وبيت بديعية الموصلي قوله:
إن المنافق لغز قلبه زغل ... وهو المعمى كمثل الأرزة الرزم.
قال ابن حجة: لم يأت الشيخ عز الدين في بيته بغير الجناس المقلوب في (لغز وزغل) وأما التعمية ب (الأرزة الرزم) فما علمت مار المراد منها حتى نظرت في شرحه فوجدته قد قال: الرزم: القائم. والأرزة: شجرة الصنوبر. فما ازددت في التعمية غير تعمية.
وبيت بديعية ابن حجة ملغزا في الرمح قوله:
وكلما ألغزوه حله لسن ... مذ طال تعقيده أزرى بفهمهم.
وبيت بديعية المقري قوله:(1/447)
أقيم ضربا عليه الحد حال تقى ... وحين أسرف لم يضرب ولم يضم
وهذا أيضاً لغز في السيف.
وبيت بديعيتي قولي ملغزا في السيف:
من كل كاسر جفن لا هدو له ... من الغرار فخذ الغاز وصفهم.
الجفن: غطاء العين، وغمد السيف، والهدو: السكون، والغرار: القليل من النوم، وحد السيف. فهذه ألفاظ تدل بظاهرها على غير المقصود وهو وصف السيف، بأنه يكسر غمده من ذلاقة حده، فلا قرار له في غمده، والله أعلم.
الإرداف.
هم أردفوا عذب الخطي جائلة ... حيث الوشاح بضرب الصارم الخذم.
الإرداف في اللغة، مصدر أردفه: إذا حمله خلفه على ظهر الدابة، فهو رديف، وردف. وفي الإصطلاح، هو والكناية شيء واحد عند علماء البيان، وفرق بينهما أئمة البديع، كقدامة، والحاتمي، والرماني، وغيرهم. قالوا: هو أن يريد المتكلم معنى فلا يعبر عنه بلفظه الموضوع له، بل بلفظ هو ردفه وتابعه، كقوله تعالى (وقضي الأمر) والأصل: وهله من قضى الله هلاكه، ونجى من قضى الله نجاته. وعدل عن ذلك إلى لفظ الإرداف لما فيه من الإيجاز، والتنبيه على أن هلاك الهالك ونجاة الناجي بأمر آمر مطاع، وقضاء من لا يرد قضاؤه، والأمر يستلزم آمرا، فقضاؤه يدل على قدرة الآمر به وقهره، وأن الخوف من عقابه والرجاء من ثوابه يحضان على طاعة الآمر، ولا يحصل ذلك كله من اللفظ الخاص.
وكذا قوله (واستوت على الجودي) حقيقة ذلك (جلست) فعدل عن اللفظ الخاص بالمعنى إلى مرادفه، لما في الإستواء من الإشعار بجلوس متمكن لازيغ فيه ولا ميل، وهذا لا يحصل من لفظ الجلوس.
ومثاله من الشعر قول الشاعر:
الضارين بكل أبيض مخذم ... والطاعنين مجامع الأضغان.
الضغن بالضاد والغين المعجمتين: الحقد، ومراده القلوب، فذكرها بلفظة الإرداف.
ومثله قول البحتري في قصيدته التي يذكر فيها قتله للذئب ويصف طعنه له:
فأتبعته أخرى فأضللت نصلها ... بحيث يكون اللب والرعب والحقد.
ومراده القلب أيضاً.
وعند علماء البيان، أن فيه ثلاث كنايات لا كناية واحدة، لاستقلال كل واحدة منها بإفادة المقصود.
وقول ابن أبي الحديد:
كأن ضباة المشرفية من كرى ... فما تبتغي إلا مقر المحاجر.
أراد بمقر المحاجر: الرؤوس، والمحاجر جمع محجر كمسجد، وهو ما حول العين.
قال بعضهم: والفرق بين الكناية والإرداف، أن الكناية انتقال من لازم إلى ملزوم، والإرداف مذكور إلى متروك.
وبيت بديعية الشيخ صفي الدين الحلي قوله:
بفتية أسكنوا أطراف سمرهم ... من الكماة محل الضغن والأضم.
وبيت بديعية الموصلي قوله:
للطعن والضرب أرداف يحل به ... في موضع العقل يحكيه ذوو الحكم.
وبيت بديعية ابن حجة قوله:
وفي الوغى أردفوا لسن القنا سكنا ... من العدى في محل النطق بالكلم.
وبيت بديعية المقري قوله:
مازال يضرب في الأفاق معترضا ... بالبيض ما فيه عينا كل مجترم.
وبيت بديعية العلوي قوله:
مثبت سيد الكونين لا صعق ... يحل منه محل اللب والحكم.
فقوله: محا اللب والحكم هو الإرداف.
وبيت بديعيتي قولي:
هم أردفوا عذب الخطي جائلة ... حيث الوشاح بضرب الصارم الخذم.
فقولي: حيث الوشاح هو الإرداف، والمراد به الكشح الذي يجري عليه الوشاح، والله أعلم.
الاتساع. قل في علي أمير النحل غرتهم=ما شئت وفق اتساع المدح واحتكم.
هذا النوع عبارة عن أن يأتي المتكلم في كلامه نثرا كان أو نظما بلفظ أو فأكثر يتسع فيه التأويل في هاتين اللفظين على ثلاثة وعشرين قولا: أ- هما الزوج والفرد من العدد. قال أبو مسام: وهو تذكير بالحساب لعظم نفعه، وما يضبط به من المقادير، وهو قول الحسن.
ب- هما كما خلقه الله، لأن الأشياء إما زوج أو فرد، وهو قول ابن أبي زيد والجبائي.
ج- الشفع، هو الخلق لكونه أزواجا، كما قال تعالى (وخلقناكم أزواجا) كالكفر والإيمان، والشقاوة والسعادة، والضلالة والهدى، والليل والنهار، والسماء والأرض، والظلمة والنور، والجن والإنس. والوتر هو الله تعالى وحده، وهو في حديث الخدري عنه عليه السلام.(1/448)
د- إن الشفع صفات الخلق لتبديلها بأضدادها كالقدرة والعجز، والوتر صفات الله تعالى، لأنه سبحانه دون خلقه فهو عز بلا ذل، وغنى بلا فقر، وقوة بلا ضعف، وحياة بلا موت، ونحو ذلك.
هـ- إنهما الصلاة، لأن فيها شفعا ووترا، فهو في حديث ابن حصين عنه عليه السلام.
و إن الشفع، النحر، لأنه عاشر أيام الليالي العشرة المذكورة من قبل في قوله (وليال عشر) والوتر يوم عرفة، لأنه تاسع أيامها.
ز- إن الشفع، يوم التروية، والوتر، يوم عرفة، روي عن أبي جعفر الباقر، وأبي عبد الله الصادق عليهما السلام.
ح- إن الشفع شفع العشر الآخر من شهر رمضان، والوتر وترها.
ط- إن الشفع، الليالي والأيام، والوتر يوم القيامة.
ي- إن الشفع شفع العشر التي أتم الله بها ليالي موسى عليه السلام، والوتر وترها.
يا- إن الشفع، الصفا والمروة، والوتر البيت الحرام.
يب- إن الشفع، قوله تعالى (فمن تعجل في يومين) والوتر من تأخر إلى اليوم الثالث.
يج- إن الشفع، آدم وحواء، والوتر هو الله تعالى.
يد- إن الوتر، آدم، والشفع، شفع بحواء.
يه- إن الشفع، الركعتان من صلاة المغرب، والوتر الركعة الثالثة.
يو- إن الشفع، درجات الجنان، لأنها كلها شفع، والوتر، دركات النار؛ لأنها وتر؛ كأنه تعالى أقسم بالجنة والنار.
يز- إن الشفع هو الله سبحانه وتعالى، وهو الوتر أيضاً لقوله (ما يكون من نجوى ثلاثة إل هو رابعهم) الآية (سورة لمجادلة.
يح- إن الشفع، مسجدا مكة والمدينة، والوتر مسجد بيت المقدس.
يط- إن الشفع، القرآن في الحج والتمتع فيه، والوتر الإفراد فيه.
ك- إن الشفع، الفرائض، والوتر السنن.
كا- إن الشفع الأعمال، والوتر النية، وهو الإخلاص.
كب- إن الشفع، العبادة التي تتكرر كالصوم والصلاة والزكاة، والوتر العبادة التي لا تتكرر كالحج.
كج- إن الشفع، الروح والجسد إذا كانا معا، والوتر الروح بلا جسد، فكأنه تعالى اقسم بها في حالتي الاجتماع والافتراق.
ومن هذا الباب فواتح السور المشتملة على حروف التهجي، فإن التأويل فيها متسع أيضاً.
ومثاله من الشعر قول الجماسي:
بيض مفارقنا تغلي مراجلنا ... نأسو بأموالنا آثار أيدينا.
فالتأويل من الشرائح اتسع في قوله: بيض مفارقنا، فقيل: أراد بذلك الطهارة والعفاف كقولهم: أبيض العرض والشيم والحسب. وقيل: أراد أنهم كهول ومشايخ قد حنكتهم التجارب وليسوا بالإغمار. وقيل: أراد أنهم ليسوا بعبيد، لأن فرق الإنسان إذا كان أبيض كان جميع جسده أبيض. وقيل: أراد انحسار الشعر عن مقدم رؤوسهم لمداومتهم لبس البيض والمغافر. وقيل: معناه نحن كبار نكثر استعمال الطيب أسرع الشيب له. وقيل: معناه نحن مكشوفوا الرؤوس، لا عيب فينا، فعبر عن النقاء بالبياض، والعرب تقول في مدح الرجل، الأبيض.
قال الأعشى:
أبيض لا يرهب الهزال ولا ... يقطع رحما ولا يخون إلا.
وقيل: معناه نحن كبار فشابت مفارقنا دون القفا، لأنه قيل: شيب الكرام يبدو في المفارق.
قال الشاعر:
فشيب لئام الناس في نقرة القفا ... وشيب كرام الناس تعلوا المفارقا.
وقيل: المفارق هنا: الطرق، يقول: قد ابيضت مفارق الطرق التي تؤدي إلى رحالنا، لكثرة ما يأتينا من العفاة، فهي بيض لائحة لم تعف لكثرة سالكيها، وهذا الوجه أولى لمشاكلته ما بعده، وهو قوله: تغلي مراجلنا، والمراجل: القدور الكبار من نحاس، ذكر ذلك أبو عبد الله محمد بن عبد الله الخطيب في شرح كتاب الحماسة.
وقال الصغاني في كتاب الجملة والذيل والصلة: قد قيل في البيت المذكور مائتي قول.
وقد أفرد لتفسره كتاب. والبيت يروى لمسكين الدرامي وليس له، ولبشامة النهشلي، ولبعض بني قيس بن ثعلبة.
والشيخ صفي الدين الحلي نسج في بديعيته على هذا المثال ليسوغ له اتساع الأقوال فقال:
بأن اتساع المعالي في الصحابة كال ... فاروق ثم شهيد الدار في الحرم.
وبيت بديعية ابن حجة قوله:
نور القبائل ذو النورين ثالثهم ... وللمعالي اتساع في عليهم.
وبيت بديعية المقري قوله:
يلقى المسيء بصدر حقده طلل ... يسر عاف نداه غير منصرم.
قال في شرحه: الاتساع في لفظة عاف.
وبيت بديعية العلوي قوله:(1/449)
وأبيض الوجه بيض الشم تخدمه ... وكل أروع زاكي الأصل والشيم.
وبيت بديعيتي قولي:
قل في علي أمير النحل غرتهم ... ما شئت وفوق اتساع القول واحتكم.
الاتساع في موضعين: أحدهما، قولي: أمير النحل، لقب بذلك لتقدمه وسبقه إلى الإسلام، كما يتقدم النحل أميرها فتتبعه. وقيل: لأن المؤمنون يلوذون به كما تلوذ النحل بأميرها، ولذلك قال له النبي صلى الله عليه وآله: أنت يعسوب الدين، والمال يعسوب الكفار، أي يلوذ بك المؤمنون، ويلوذ الكفار بالمال، كما تلوذ النحل بيعسوبها. وقيل لأنه سيد المؤمنين ورئيسهم الذي لا يتم لهم أمرا إلا به، كما لا يتم للنحل إلا بأميرها.
قال الشيخ كمال الدين الدميري: قيل لأمير المؤمنين علي كرم الله وجهه: أمير النحل، وأمير النحل: يعسوبها، وهو ملكها الذي لا يتم لها رواح وإياب ولا عمل إلا به، فهي مؤتمرة بأمره، سامعة لرأيه، يدبرها كما يدبر الملك أمر رعيته، حتى إنها إذا آوت إلى بيوتها يقف على باب البيت فلا يدع واحدة تزاحم الأخرى، ولا تتقدم عليها، بل تعبر واحدة بعد واحدة بغير تزاحم وتصادم ولا تراكم كما يفعل الأمير إذا انتهى بعسكره إلى مضيق انتهى.
وفي هذا اللقب تشبيه للمؤمنين بالنحل. قال عليه السلام: المؤمن كالنحلة لا تدخل إلا طيبا ولا تخرج إلا طيبا. الثاني، قوله: غرتهم، فإنه يحتمل أن يراد به سيدهم، يقال: فلان غرة قومه، أي سيده. ويحتمل أن يراد بهم أكرمهم، وغرة كل شيء أكرمه. ويحتما أن يراد أولهم، وغرة كل شيء أوله، ومنه الغرر لثلاث ليال من أول الشهر. قال عليه السلام لمحلم الليثي لما قتل عامر بن الأضبط الأشجعي: قتلته في غرة الإسلام، أراد في أوله. ويحتمل أن يراد بهم شريفهم، يقال: فلان غرة في قومه، أي شريف فيهم، ويحتمل أن يراد به خيارهم، وغرة المال خياره، كالفرس النجيب، والعبد، والأمة فارهين. ويحتمل أن يراد به أحسنهم وأجملهم، يقال: فلان غرة قومه، أي أحسنهم وأجملهم. ويحتمل أن يراد به العين المنظور إليه، يقال: فلان غرة في قومه، إذا كان المنظور إليه منهم، والمشار إليه، والله أعلم.
التعريض.
لا تعرضن لتعريضي بمدحته ... فأنني في ولادي غير متهم.
التعريض، هو الإتيان بكلام مشار به إلى جانب هو مطلوب، وإبهام أن الغرض جانب أخر وسمي تعريضا لما فيه من الميل عن المطلوب إلى عرض- بالضم، أي جانب- ويقال: نظر إليه بعرض وجهه- بالضم أي- بجانبه، ومنه المعارض في الكلام وهي التورية بالشيء عن الشيء، وفي المثل: إن في المعارض لمندوحة عن الكذب، أي سعة وفسحة، وهو إما لتنويه جانب الموصوف ما يقال: أمر المجلس السامي نفذ، والستر الرفيع قاصدا لكذا، تعريضا بأن المعبر عنه أرفع قدرا وشأنا من أن يسع الذاكر له التصريح باسمه وترك تعظيمه بالسكينة.
وق أشار إلى هذا المعنى زهير حيث قال:
فعرض إذا ما جزت بالبان والحمى ... وإياك أن تنسى فتذكر زينبا.
ستكفيك من ذاك المسمى إشارة ... فدعه مصونا بالجلال محجبا.
ولما سئل الحطيئة عن أشعر الناس ذكر زهيراً والنابغة، ثم قال: ولو شئت لذكرت الثالث، يعرض بنفسه، ولو صرح لم يفخم هذا التفخيم البليغ، كأنه قال الذي تعورف واشتهر، وعليه قوله تعالى: (تلك الرسل فضلنا بعضهم على بعض منهم من كلم الله ورفع بعضهم درجات) أراد به محمدا صلى الله عليه وآله وسلم فلم يصرح بذكره بل عرض إعلاء لقدره، أي أن العلم الذي لا يشتبه، والمتميز الذي لا يلتبس، وأما لملاطفة، كما يقول المخاطب لمن يريد خطبتها: إنك لجميلة صالحة، وعسى الله أن ييسر لي امرأة صالحة، عملا بقوله تعالى: (ولا جناح عليكم فيما عرضتم به من خطبه النساء.
وأما فاستعطافه واستماحته، كما يقول المحتاج: جئتك لأسلم عليك، ولأنظر إلى وجهك الكريم.
قال الشاعر:
أروح لتسليم عليك وأغتدي ... وحسبك مني بالسلام تقاضيا.
وسئل عطاء عن معنى قوله عليه السلام: خير الدعاء دعائي، ودعاء الأنبياء من قبلي وهو (لا إله إلا الله وحده لا شريك له، له الملك وله الحمد، يحيي ويميت وهو لا يموت، بيده الخير وهو على كل شيء قدير) وليس هذا دعاء إنما تقديس وتمجيد.
فقال: قال أمية بن أبي الصلت في ابن جدعان:
إذا أثنى المرء عليك يوما ... كفاه من تعرضه الثناء.(1/450)
أفيعلم ابن جدعان ما يراد منه بالثناء عليه، ولا يعلم الله تعلى ما يراد منه بالثناء عليه؟.
ومن أحسن التعريض من هذا الضرب ما كتبه عمرو بن مسعدة للمأمون في أمر بعض من استشفع به من أصحابه: أما بعد فإن أمير المؤمنين لم يجعلني في مراتب المستشفعين، وفي ابتدائي به في حق فلان تعدى طاعته. فوقع المأمون في جوابه: قد عرفنا تصريحك لفلان، وتعريضك لنفسك، وأجبناك إليهما.
وأما للملامة والتوبيخ كقوله تعالى: (وإذا المؤودة سئلت بأي ذنب قتلت) والذب للوائد، دون المؤودة، ولكن جعل السؤال لها إهانة للوائد، وتوبيخا على ما ارتبكه، فأخرجه عن إستئهال أن يخاطب ويسئل عما فعله. وقوله تعالى لعيسى: (أنت قلت للناس اتخذوني وأمي ألهين من دون الله) ولا ذنب لعيسى عليه السلام، وإنما هو تعريض بمن عبدهما من النصارى، لكنه عدل من خطابهم إهانة لهم وتوبيخا.
وإما للإستدراج، وهو إرخاء العنان مع الخصم ليعثر حيث يراد تبكيته وإفحامه، وهو من مخادعات الأقوال والتصرفات الحسنة التي هي السحر الحلال، حيث يسمعه الحق على وجه لا يغضبه كقوله تعالى: (لا تسألون عما أجرمنا ولا نسأل عما تعلمون) لم يقل عما تجرمون احترازا عن التصريح بنسبة الجرم إليهم وإكتفاء بالتعريض في قوله تعالى: عما أجرمنا، لئلا يلبسوا جلد النمر، وليتفكروا في حالهم وحال مخالفيهم، فيدركوا بالتأمل ما هو الحق منهما.
وأما للاحتراز عن المخاشنة والمفاحشة، كما تقول معرضا بمن يؤذي المسلمين: المسلم من سلم المسلمون من لسان ويده، تتوسل بذلك إلى نفي الإسلام عنه، وكما تقول معرضا بمن يشرب الخمر ويعتقد حليتها وأنت تريد تفكيره: أنا لا أعتقد حل الخمر، تريد إثبات صفة الكفر. وهذا الضرب من التعريض هو أشهر ضروبه.
حكى الزمخشري في ربيع الأبرار قال: سمع إسماعيل بن حماد بن أبي حنيفة يحيى بن أكثم يغض من جده فقال: ما هذا جزاؤه منك، قال: حين فعل ماذا؟ قال: حين أباح النبيذ ودرء الحد عن اللوطي.
وحكى القاضي شمس الدين بن خلكان عن يحيى بن أكثم المذكور أيضاً: أنه كان إذا نظر إلى رجل يحفظ الفقه سأله عن الحديث، وإذا رآه يحفظ الحديث سأله عن النحو، وإذا رآه يحفظ النحو سأله عن الكلام، ليقطعه ويخجله، فدخل إليه رجل من خراسان ذكر أنه حافظ، فناظره فرآه مفننا فقال له: نظرت في الحديث؟ قال: نعم، قال: ما تحفظ من الأصول؟ قال: أحفظ عن أبي إسحاق عن الحارث أن عليا رضي الله عنه رجم لوطيا، فأمسك يحيا ولم يكلمه.
وكان يحيى قاضيا على عهد المأمون، وفيه يقول أحم بن نعيم: ط
قاض يرى الحد في الزناء ولا ... يرى على من يلوط من باس.
وذكر أبو العباس المبرد في كتاب الكامل: أن قتيبة بن مسلم لما فتح سمرقند أفضى إلى أثاث لم ير مثله، وآلات لم يسمع بمثلها، فأراد أن يري الناس عظم ما فتح الله عليه ويعرفهم أقدار القوم الذين ظهر عليهم، فأمر بدرا ففرشت وفي صحنها قدور يرتقى إليها بالسلام، فإذا بالحضين بن المنذر قد أقبل والناس جلوس على مراتبهم- والحضين شيخ كبير- فلما رآه عبد الله بن مسلم قال لأخيه قتيبة: أتئذن لي في معابثته، قال: لا ترده فإنه خبيث الجواب، فأبى عبد الله إلا أن يؤذن له- وكان عبد الله يضعف، وكان قد تسور حائطا إلى امرأة قبل ذلك- فأقبل على الحضين فقال: أمن الباب دخلت يا أبا ساسان؟ قال: أجل، أسن عمك عن تسور الحيطان، قال: أرأيت هذه القدور؟ قال: هي أعظم من ألا ترى، قال: ما أحسب بكر بن وائل رأى مثلها، قال: أجل، ولا عيلان، ولو رآها سمي شبعان ولم يسم عيلان.
فقال عبد الله: أتعرف يا أبا ساسان الذي يقول:
عز لنا وأمرنا وبكر بن وائل ... تجر خصاها تبتغي من تحالف.
قال: أعرفه وأعرف الذي يقول:
فأذى العزم من نادى منيرا ... ومن كانت له أسرى كلا.
وخيبة من يخيب عل غني ... وباهلة بن أعصر والرباب.
قال: أتعرف الذي يقول:
كأن فقاح الأزد حول ابن مسمع ... وقد عرقت أفواه بكر بن وائل.
قال: نعم أعرفه واعرف الذي يقول:
قوم قتيبة أمهم وأبوهم ... لولا قتيبة أصبحوا في مجهل.(1/451)
قال: أما الشعر فأراك ترويه، فهل [تقرأ من] القرآن شيئا؟ قال: أقرا الأكثر الأطيب (هل أتى على الإنسان حين من الدهر لم يكن شيئا مذكورا) فأغضبه فقال: والله لقد بلغني أن امرأة الحضين حملت إليه وهي حبلى من غيره. قال: فما تحرك الشيخ عن هيئته الأولى، بل قال على رسله: وما يكون؟ تلد غلاماً على فراشي فيقال: فلان بن الحضين، كما يقال عبد الله بن مسلم. فأقبل قتيبة على عبد الله وقال: لا يبعد الله غيرك.
التعريض في هذه الحكاية المستحسنة في موضعين: أحدهما قوله: أجل أسن عمك عن تسور الحيطان، يعرض بفاحشة عبد الله. والثاني: في تلاوة الآية يعرض بأنهم ليس لهم قديم ذكر، وغنما هم حديثو عهد بالرياسة.
ومن أمثلته في الشعر قول الحماسي:
أنا ابن زيابة أن تلفني ... لا تلف
ني في النعم العازب.
ومراده أني لست راعيا وأنك راعي.
وقول الحجاج بن يوسف يعرض بمن تقدمه من الأمراء:
لست براعي إبل ولا غنم ... ولا بجزار على ظهر وضم.
وقول أبي فراس بن حمدان من قصيدة يمدح العلويين، ويعرض ببني عباس:
ما في ديارهم للخمر معصر ... ولا بيوتهم للسوء معتصم.
ولا تبيت لهم خنثى تنادمهم ... ولا يرى لهم قرد له حشم.
أراد بالخنثى: عبادة نديم المتوكل، وبالقرد، قردا كان لزبيدة طالبت الناس بالسلام عليه، وجعلت له حشما وأتباعا، حتى قتله يزيد بن مزيد الشيباني.
وأجمع العلماء على أن التعريض أرجح من التصريح لوجوه: أحدها، أن النفس الفاضلة لميلها إلى استنباط المعاني تميل إلى التعريض شفعا باستخراج معناه بالفكر. ثانيها: أن التعريض لا ينتهك معه سجف الهيبة، ولا يرتفع به ستر الحشمة. ثالثهما: أنه ليس للتصريح الأوجه واحدة، وللتعريض وجوه وطرق عديدة. رابعها: أن النهي صريحا يدعو إلى الإغراء، بخلاف التعريض كما يشهد به الوجدان.
والفرق بين الكناية والتعريض، أن الكناية ذكر الشيء بغير لفظه الموضوع له، والتعريض أن تذكر شيئا يدل به على شيء لم تذكره، قاله الزمخشري.
وبيت بديعية الصفي قوله:
ومن أتى ساجدا لله ساعته ... ولم يكن سا
جدا في العمر للصنم.
وبيت بديعية العز الموصلي قوله:
تطويل تعريض شانيهم يعظمه ... والرفض أقبح شيء موجب الأضم.
وبيت بديعية ابن حجة قوله:
تعريض مدح أبي بكر يقدمني ... في سبق حليهم مع موصليهم.
وبيت بديعية المقري قوله:
أوحى إليه بما أوحى وثبتته ... عند الخطاب فلم يصعق ولم يهم.
وبيت بديعية العلوي قوله:
وقد تسلسل من صلب إلى رحم ... بكل عقد صحيح الحكم منتظم.
وبيت بديعيتي قولي:
لا تعرضن لتعريضي بمدحه ... فإنني في ولادي غير متهم.
بقال: لا تعرضن له- بكسر الراء وفتحها- أي لا تعترض فتمنعه باعتراضك أن يبلغ مراده، لأنه يقال: سرت فعرض لي في الطريق عارض، من جبل ونحوه أي مانع من المضي. والولاد مصدر بمعنى ولادة، والتعريض في البيت ظاهر والله سبحانه وتعالى اعلم.
جمع المؤتلف والمختلف.
هم هم ائتلفوا جمعا وما اختلفوا ... لولا الأبوة قلنا لاستوائهم.
هذا النوع اختلف فيه أقوال المؤلفين، وعبروا عنه بعبارات غير سديدة، ومثلوا له بأمثلة غير مطابقة، والذي استقر عليه رأي المحققين أنه عبارة عن أن يريد المتكلم التسوية بين ممدوحين، فيأتي بمعان مؤتلفة في مدحهما، ويروم بعد ذلك ترجيح احدهما على الأخر بزيادة فضل لا ينقص بها مدح الأخر، فيأتي لأجل الترجيح بمعان تخالف معنى التسوية، كقوله تعالى: (وداود وسليمان غذ يحكمان في الحرث إذ نفشت فيه غنم القوم وكنا لحكمهم شاهدين، ففهمناها سليمان وكلا آتينا حكما وعلما) سوى بينهما في الحكم والعلم وزاد فضل سليمان بالفهم.
وكقول زهير يصف أبوي ممدوحه:
هو الجواد فإن يلحق بشأوهما ... على تكاليفه فمثله لحقا.
أو يسبقاه على ما كان من مهل ... فمثل ما قدما من صالح سبقا.
وقول الخنساء في أخيها وقد أرادت أن تساوي بينه وبين أبيه مع مراعاة حق الوالد:
جارى أباه فاقبلا وهما ... يتعاوران ملاءة الفخر.
وهما وقد برزا كأتهما ... صقران قد حطا إلى وكر.(1/452)
حتى إذا نزت القلوب وقد ... لزت هناك العذر بالعذر.
وعلا هتاف الناس أيهما ... قال المجيب هناك لا أدري.
برزت صحيفة وجه والده ... ومضى على غلوائه يجري.
أولى فأولى أن يساويه ... لولا جلال السن والكبر.
وقال الكميت بن زيد في مخلد بن يزيد بن المهلب وأبيه:
ما أن أرى كأبيك أدرك شأوه ... أحد ومثلك طالبا لم يلحق.
تتجاريان له فضيلة سنة ... [وتلوت بعد مصليا لم يسبق] .
[أن تنزعا وله فضيلة سبقه] ... من بعد غايته فأحج وأخلق.
وقول الشريف الرضي يخاطب الخليفة القادر بالله العباسي:
مهلا أمير المؤمنين فإننا ... في دوحة العلياء لا تتفرق.
ما بيننا يوم الفخار تفاوت ... أبدا كلانا في المعالي معرق.
إلا الخلافة ميزتك فإنني ... أنا عاطل منها وأنت مطوق.
روي أنه لما بلغت هذه الأبيات القادر بالله قال: على رغم أنف الرضي.
وبيت بديعية الصفي قوله:
هم هم في جميع الفضل ما عدموا ... سوا الإخاء ونص الذكر والرحم.
هذا البيت غير مطابق لحد هذا النوع عند التأمل لما عرفت في حده أن الزيادة التي يؤتى بها للترجيح ينبغي أن لا ينقص بها مدح الآخر، والشيخ صفي الدين سلب بزيادته جميع الفضل عن الصحابة رضوان الله عليهم كما ترى، فلا يصلح شاهدا لهذا النوع.
وبيت بديعية الموصلي:
جمع لمؤتلف فيهم ومختلف ... في العلم والحلم مع تقديم ذي قدم.
وبيت بديعية ابن حجة قوله:
جمعت مؤتلفا فيهم ومختلفا ... مدحا وقصرت عن أوصاف شيخهم.
هذا البيت ليس فيه من هذا النوع إلا الاسم، وإما مسماه فهو عنه بمعزل كما لا يخفى.
وبيت بديعية المقري قوله:
وكلهم خيرة الله اصطفاه فما ... فضل النبي عليهم ضائرا بهم.
وبيت بديعية العلوي قوله:
وبالشفاعة في الدنيا وآخرة ... وباللواء وحوض للورى شبم.
وبيت بديعيتي قولي: هم هم ائتلفوا أجمعا وما اختلفوا=لولا الأبوة قلنا باستوائهم.
الإيداع.
إيداع قلبي هواهم شادلي بهم ... من العناية ركنا غير منهدم.
الإيداع في اللغة مصدر أودعته مالا، إذا دفعته إليه ليكون عنده وديعة، وأودعته أيضاً إذا أخذت منه وديعة، فيكون من الأضداد، لكنه بمعنى الأول أشهر، والثاني بالمعنى الإصطلاحي أنسب.
وفي الاصطلاح هو أن يودع الشاعر شعره بيتا فأكثر، أو مصارعا فما دونه من شعر غيره، بعد أن يوطئ له في شعره توطئة تناسبه وتلائمه. ويسمى التضمين، والرفو أيضاً.
ومن قال: إن التضمين معدود من العيوب، وهو أن لا يقوم معنى البيت بنفسه حتى يؤتى بما بعده.
كقول الشاعر:
لا صلح بيني فأعلموه ولا ... بينكم ما حملت عاتقي.
سيفي وما أن مريض وما ... غرد قمري الواد بالشاهق.
فقد أخطأ، كابن حجة، لأن التضمين بهذا المعنى اصطلاح العروضيين، لا البديعيين، والخلط بين الاصطلاحين خطأ محض. ألا ترى أن العرضين يسمون التضمين بهذا المعنى، التتميم أيضاً، والتتميم عند البديعيين بمعنى أخر- كما عرفته- ويسمون كون بعض الكلمة في أخر البيت إدماجا، وهو أن عيوب القوافي أيضاً.
كقول بشر بن أبي خازم:
فسعدا فسائلهم والرباب ... وسائل هوازن عنا أذاما.
لقيناهم كيف تفريهم ... بوانر يفرين بيضا وهاما.
والإيداع عند البديعيين من المحاسن كما ستعرفه في بابه، وإنكار كون التضمين بمعنى الإيداع- بعد أن اصطلح عن ذلك كثير من أرباب هذا الفن، بل هو أشهر من الإيداع في هذا المعنى- لا وجه له.
ومنهم من خص إيداع البيت وما فوقه باسم الاستعانة، والمصراع وما دونه باسم الإيداع، وعلى ذلك جرى الشيخ صفي الدين الحلي في بديعيته.
وشرط قوم في الإيداع مطلقا أن ينبه الشاعر في شعره على ما أودعه من شعر غيره. إن لم يكن مشهورا عند البلغاء، وعاب ذلك قوم منهم ابن رشيق وقال: إنه من سوء ظن الشاعر بنفسه، ووافقه ابن أبي الإصبع وجماعة، قال الشيخ صفي الدين: وهو الصحيح.
تنبيهات. الأول، أحسن التضمين ما صرف عن معنى غرض الشاعر الأول، وما زاد على الأصل بنكتة كالتورية والتشبيه ونحو ذلك.
كقول ابن أبي الإصبع:(1/453)
إذا الوهم أبدى لي لماها وثغرها ... تذكرت ما بين العذيب وبارق.
وتذكرني من قدها ومدامعي ... مجر عوالينا ومجرى السوابق.
الثاني: يجوز في التضمين أن يجعل صدر البيت عجزا وبالعكس.
كقول الحريري:
على أني سأنشد عند بيعي ... أضاعوني وأي فتى أضاعوا.
المصراع الثاني صدر البيت للعرجي وتمامه (ليوم كريهة وسداد ثغر.
الثالث: لا يضره التغيير اليسير لما قصد تضمينه ليدخل في معنى الكلام.
كقول بعضهم في يهودي به داء الثعلب:
أقول لمعشر غلطوا وغضوا ... من الشيخ الرشيد وأنكروه.
هو ابن جلا وطلاع الثنايا ... متى يضع العمامة تعرفوه.
البيت لسحيم بن وثيلة، وأصله قوله:
أنا ابن جلا وطلاع الثنايا ... متى أضع العمامة تعرفوني.
فغيره إلى طريق الغيبة ليدخل في المقصود.
ومن بديع التضمين قول بعضهم في طبيب يسمى النعمان ويكنى ابن المنذر:
أقول لنعمان وقد ساق طبه ... نفوسا نفيسات إلى باطن الأرض.
أبا منذر أفنيت فأستبق بعضنا ... حنانيك بعض الشر أهون من بعض.
وقول أبي الحسن اللحام مضمنا بيتا للنابغة في وصف الأقحوان:
يا سائلي عن جعفر علمي به ... رطب العجان وكفه كالجلمد.
كالأقحوان غداة غب سمائه ... جفت أعاليه وأسفله ند.
وقول أبي عبد الله الحسين بن الحجاج:
صاح أيرى ورمحه فوق خصييه ولا رمح ضمرة بن هلال.
قربا مربط النعامة مني ... لقحت حرب وائل عن حيال.
ثم أهوى بطعنة بات منها ... سرم ستي ذاك الشقاء بحالي.
فتولى يقول وهو طعين ... دمعه مع خراه مثل البزال.
لم أكن من جناتها علم الل ... هـ وإني بحرها اليوم صال.
وما أحسن ما ضمن هذا البيت شمس الدين محمد بن العفيف التلمساني في قوله:
وعيون أمرضن جسمي وأضرم ... ن بقلبي لواعج البلبال.
وخدود مثل الرياض زواره ... ما الأيام حسنها من زوال.
لم أكن من جناتها علم الل ... هـ وإني بحرها اليوم صال.
فإنه صرف فيه لفظة جناتها من الجناية إلى معنى الجنة.
ومن محاسن التضمين أيضاً ما حكاه القاضي شمس الدين بن خلكان في تاريخه: إن الحيص بيص الشاعر خرج ليلة من دار الوزير شرف الدين بن طراد الزينبي، فنبح عليه جرو، وكان متقلدا سيفا فوكزه بعقب السيف فمات. فبلغ ذلك أبي القاسم هبة الله بن الفضل المعروف بابن القطان الشاعر فنظم أبياتا وضمنها بيتين لبعض العرب قتل أخوه ابنا له فقدم إليه ليقتاد منه، فألقى السيف فأنشدهما (البيتين المذكوران يوجدان في الباب الأول من كتاب الحماسة) ثم إن الفضل المذكور جعل الأبيات في ورقة وعلقها في عنق كلبة لها جرو، ورتب معها من يطردها مع أولادها إلى باب الوزير المذكور كالمستغيثة، فأخذت الورقة من عنقها وعرضت على الوزير فإذا فيها:
يا أهل بغداد فإن الحيص بيص أتى ... بفعلة أكسبته الخزي في البلد.
هو الجبان الذي أبدى تشاجعه ... على جري ضعيف البطش والجلد.
وليس في يديه مال يديه به ... ولم يكن ببواء عنه في القود.
فأنشدت جعدة من بعد ما احتسبت ... دم الأبيلق عند الواحد الصمد.
أقول للنفس تأساء وتعزية ... إحدى يدي أصابتني ولم ترد.
كلاهما خلف من فقد صاحبه ... هذا أخي حين أدعوه وذا ولدي.
قال القاضي شمس الدين: وهذا التضمين في نهاية الحسن، ولم أسمع مثله مكثرة استعمال الشعراء التضمين في أشعارهم ألا ما أنشدني الشيخ مهذب الدين أبو طالب المعروف بابن الخيمي لنفسه، وأخبرني أنه كان بدمشق وقد أمر السلطان بحلق لحية شخص له وجاهة بين الناس، فحلقت بعضها وحصلت فيه شفاعة فعفا عنه في الباقي، ولم يصرح باسمه بل رمزه وستره وهو:
زرت ابن آدم لما قيل قد حلقوا ... جميع لحيته من بعد ما ضرب.
فلم أرى النصف محلوقا فعدت له ... مهنيا بالذي منهما له وهبا.
فقام ينشدني والدمع يخنقه ... بيتين ما نظما مينا ولا كذبا.
إذا أتتك لحلق الذقن طائفة ... فأخلع ثيابك منها ممعنا هربا.
وإن أتوك وقالوا إنها نصف ... فإن أطيب نصفيها الذي ذهبا.(1/454)
والبيتان الأخيران منها في كتاب الحماسة أيضاً في باب مذمة النساء، لكن الأول منهما فيه تغيير، فأن بيت الحماسة هكذا: لا تنكحن عجوزا إن أتيت بها=وأخلع ثيابك منها ممعنا هربا.
وتلطف الحريري في تضمين البيت (من) (8) أبيات للفارابي في وصف الدنيا، فنقله إلى معنى آخر فقال:
أنبات عانتها وفتح مبالها ... وليان ملمسها من الجثمان.
مرأى كخضراء الديار ومبسم ال ... ليث الهصور وملمس الثعبان.
ومما جاد في التضمين وبلغ فيه الغاية الشيخ مجير الدين محمد بن تميم وهو القائل:
أطالع كل ديوان أراه ... ولم أزجر عن التضمين طيري.
أضمن كل بيت في معنى ... فشعري نصفه من شعر غيري.
ومن محاسنه في هذا الباب قوله:
أزهر اللوز أنت لكل زهر ... من الأزهار يأتينا أمام.
لقد حسنت بك الأيام حتى ... كأنك في فم الدنيا ابتسام.
وقوله:
إذا هجرتني الصهباء يوما ... ألاقي النار في كبدي اشتعالا.
كأن الهم مشغوف بقلبي ... فساعة هجرها يجد الوصالا.
وقوله في مليح ينظر في مرآة: سقيا لمرآة الحبيب فإنها=جليت بكف مثل غصن أينعا.
واستقبلت قمر السماء بوجهها ... فأرتني القمرين بوقت معا.
وقوله:
عاينت في الحمام أسود واثبا ... من فوق أبيض كالهلال المسفر.
فكأنما هو زورق من فضة ... قد أثقلته حمولة من عنبر.
وقوله:
إن تاه ثغر الأقاحي إذا تشبهه ... بثغر حبك واستولى به الطرب.
فقل له عندما يحكيه مبتسما ... لقد حكيت ولكن فاتك الشنب.
وقوله:
أفدي الذي أهوى بفيه شاربا ... من بركة راقت وطابت مشرعا.
أبدت لعيني وجهه وخياله ... فأرتني القمرين في وقت معا.
ومن محاسن الشيخ صلاح الدين الصفدي قوله:
أرى فضل المشيب على شباب ... يخالف في بعضه الأغبياء.
وهبني قلت هذا الصبح ليل ... أيعمى العالمون عن الضياء.
وقوله وقد عاد مليحا أرمد:
أيقظته منكراه بعدما رمدت ... عيناه لامسه م بعدها الألم.
قد زرته وسيوف الهند مغمدة ... وقد نظرت إليه والسيوف دم.
وقوله مضمنا قول أبي العلاء المعري في السيف:
ما كنت أحسب لولا نبت عارضه ... أن ينبت الآس وسط الجمر في النهر.
ولا ظننت صغار النمل يمكنها ... مشيا على اللج أو سعيا على السعر.
ومن مليح التضمين قول الشيخ زكي الدين بن أبي الإصبع وقد نقل المعنى من الحماسة إلى الغزل:
له من ودادي ملء كفيه صافيا ... ولي منه ما ضمت عليه الأنامل.
ومن قده الزاهي ونبت عذاره ... صدور رماح أشرعت وسلاسل.
وقول الشيخ شهاب الدين بن (أبي) حجلة:
قل للهلال وغيم الأفق يستره ... حكيت طلعه من أهواه بالبلج.
لك البشارة فأخلع ما عليك فقد ... ذكرت ثم على ما فيك من عوج.
وقول الشيخ عز الدين الموصلي: نادمت قوما لا خلاق لهم ولا=ميل إلى طرب ولا سمار.
يستيقظون إلى نهيق حمارهم=وتنام أعينهم عن الأوتار.
وقول الشيخ عبد الرحمن المرشدي:
إذا الحبشي راوده مريد ... أجاب ولو تسمط بالعذار.
فلا تمنعك من أرب لحاهم ... سواء ذو العمامة والخمار.
وقد ضمن الشيخ جمال الدين بن نباتة، والشيخ زين الدين بن الوردي كثيرا من أشطار الملحة للحريري، وأورد أبن حجة نبذة من ذلك في شرح بديعيته.
أما تضمين شيء من ألفية ابن مالك المسماة بالخلاصة فلم أقف عليه إلا الشيخ محمد بن يوسف المراكشي التاولي من علماء هذا القرن فإنه نظم أرجوزة مدح به بلدية الشيخ أحمد بن محمد المقري، وضمن فيها أشطارا من الألفية المذكورة وأجاد في ذلك ما شاء، فمنها قوله:
ذاك الإمام ذو العلاء والهمم ... كعلم الأشخاص لفظا وهو عم.
فلن ترى في علمه مثيلا ... مستوجبا ثنائي الجميلا.
ومدحه عندي لازم أتى ... في النظم والنثر الصحيح مثبتا.
أوصاف سيدي بهذا الرجز ... تقرب الأقصى بلفظ موجز.
فهو الذي له المعالي تعتزي ... وتبسط البذل بوعد منجز.
رتبته في العلم يا من قد فهم ... كلامنا لفظ مفيد فاستقم.(1/455)
وكم أفاد دهره من تحف ... مبدي تأول بلا تكلف.
لقد رقى على المقام الباهر ... كطاهر القلب جميل الظاهر.
وفضله للطالبين وجدا ... على الذي في رفعه قد عهدا.
وقد حصل العلم وحرر السير ... وما بالا أو بأنما انحصر.
في كل فن باهر صفة ولا ... يكون إلا غاية الذي تلا.
سيرته سارت على نهج الهدى ... ولا يلي إلا اختيارا أبدا.
وعلمه وفضله لا ينكر ... مما به عنه مبينا يخبر.
يقول دائما بصدر انشرح ... أعرف بنا فإننا نلنا المنح.
يقول مرحبا لقاصديه من ... يصل إلينا يستعن بنا يعن.
والزم جنابه وإياك الملل ... إن يستطل وصل وإن لم يستطل.
واقصد جنابه ترى مآثره ... والله يقضي بهبات وافره.
وانسب له فإنه ابن معط ... ويقتضي رضا بغير سخط.
وأجعله نصب العين والقلب ولا ... تعدل به فهو يضاهي المثلا.
وبيت بديعية صفي الدين الحلي قوله:
إذا رأته الأعادي قال حازمهم ... حتام نحن نساري النجم في الظلم.
ضمن صدر المطل قصيدة للمتنبي وعجزه (وما سراه على خف ولا قدم.
وبيت ابن جابر قوله:
اسمح بنفسك وأبذل في زيارته ... كرائم المال من خيل ومن نعم.
ضمن المصراع الثاني من بيت الشريف الرضي، وصدره (ماض من العيش لو يفدى بذلت له. وبيت بديعية العز الموصلي قوله:
إيداعه الفضل في الأصحاب شرفهم ... بين الرجال وإن كانوا ذوي رحم.
ضمنه من قول المتنبي:
ولم تزل قلة الأنصاف قاطعة ... بين الرجال وإن كانوا ذوي رحم.
وبيت بديعية ابن حجة قوله:
وأودعوا للثرى أجسامهم فشكت ... شكوى الجريح إلى العقبان والرخم.
ضمنه من قول المتنبي أيضاً:
ولا تشك إلى خلق فتشمته ... شكوى الجريح إلى العقبان والرخم.
وبيت بديعية المقري قوله:
بيض يقول الأعادي حين تطرفه ... لانت أسود في عيني من الظلم.
ضمنه من قول المتنبي أيضاً:
ابعد بعدت بياضا لا بياض له ... لانت أسود في عيني من الظلم.
وبيت بديعية العلوي قوله:
فهو الذي تم معناه وصورته ... حتى غدا مفردا كالنار في العلم.
ضمن المصراع الأول من قول البوصيري في البردة، وتمامه فيها قوله: (ثم اصطفاه حبيبا بارئ النسم.
وبيت بديعيتي قولي:
إيداع قلبي هواهم شادلي بهم ... من العناية ركنا غير منهدم.
هذا التضمين من قول البوصيري في البردة أيضاً هو:
بشرى لنا معشر الإسلام أن لنا ... من العناية ركنا غير منهدم.
المواردة.
الحمد لله حمدا دائما أبدا ... على مواردتي قومي بحبهم.
هذا النوع عبارة عن أن يتفق الشاعر إن على معنى، من غير أخذ إحداهما من الآخر، كالشخصين اجتمع ورود أحدهما [على الآخر اتفاقا] ويسمى الحافر على الحافر. وسئل أبو عمرو بن العلاء: كيف يتفق الشاعران؟ فقال: عقول رجال توافت على ألسنتها. وهو نوعان [الأول] ما اتفقا فيه لفظا ومعنى من غير تغيير، أو مع تغيير لا يعتد به.
كما روي عن ابن ميادة أنه أنشد لنفسه:
مفيد ومتلاف إذا ما أتيتيه ... تهلل واهتز اهتزاز المهند.
فقيل له: أين يذهب بك؟ هذا للحطيئة، قال: كذلك هو؟ قيل: نعم، فقال: الآن علمت أني شاعر حين وافقته على قوله، وما سمعت به إلا الساعة.
وكما اتفق لامرئ القيس وطرفة بن العبد في بيتين في معلقتهما، فقال: امرؤ القيس:
وقوفا بها صحبي علي مطيهم ... يقولون لا تهلك أسى وتجمل.
وقال طرفة البيت في داليته بحاله، غير أنه جعل القافية (وتجلد) فلما تنافسا أحضر طرفة خطوط أهل بلده، أي يوم نظم البيت، فكان اليوم الذي نظما فيه واحدا.
وقال النابغة الذبياني:
لو أنها عرضت لأشمط راهب ... عبد الإله صرورة المتعبد.
لرنا لبهجتها وحسن حديثها ... ولخاله راشدا وإن لم يرشد.
وقال ربيعة بن مقرم الضبي:
لو أنها عرضت لأشمط راهب ... عبد الإله صرورة متبتل.
لرنا لبهجتها وحسن حديثها ... ولهم من تاموره بتنزل.
وقال الآقيشر:
جريت مع الهوى طلق العتيق ... وهان علي مأثور الفسوق.(1/456)
وجدت ألذ عارية الليالي ... قران النغم بالوتر الخفوق.
ومسمعة إذا ما شئت غنت ... متى نزل الأحبة بالعقيق.
تمتع من شباب ليس يبقى ... وصل بعرى الصبوح عرى الغبوق.
وقال أبو نواس:
جريت مع الهوى طلق الجموع ... وهان علي مأثور القبيح.
وجدت ألذ عارية الليالي ... قران النغم بالوتر الفصيح.
ومسمعة إذا ما شئت غنت ... متى كان الخيام بذي طلوح.
تمتع منة شباب ليس يبقى ... وصل بعرى الغبوق عرى الصبوح.
وحكى الثعالبي في يتيمة الدهر قال: من عجيب ما يحكى عن أبي الطيب طاهر بن محمد بن طاهر الطيب بن طاهر بكرة يوم رام بهذين البيتين:
وإني والمؤذن يوم رام ... لمختلفان في هذا الصباح.
أنادي بالصبوح له كيادا ... إذا نادى بحي على الفلاح.
وإذا برسول أبي طاهر جاءه قبل وصوله رقعته إليه برقعة فيها:
وإني والمؤذن يوم رام ... لمختلفان في هذه الغداة.
أنادي بالصبوح له كيادا=وإذا نادى بحي على الصلاة.
وكان التقاء رسولهما بالرقعتين على منتصف الطريق. الثاني: ما اتفقا فيه على المعنى دون اللفظ.
قال الثعالبي: اتفق لي في أيام الصبا معنى بديع لم أقدر أي سبقت إليه، ولا ظننت أني شوركت فيه، وهو قولي في آخر هذه الأبيات الأربعة:
قلبي وجدا مشتعل ... على الهموم مشتمل.
وقد كستني في الهوى ... ملابس الصب الغزل.
إنسانة فنانة ... بدر الدجل منها خجل.
إذا رنت عيني بها=فبالدموع تغتسل.
فأنشدني أبو حفص عمر بن علي المطوعي لأبي الفرج علي بن الحسين بن هندو وهو:
يقولون لي ما بال عينك إذا رأت ... محاسن هذا الظبي أدمعها هطل.
فقلت عيني بطلعة وجهه ... فكان له من صوب أدمعها غسل.
فصح عندي توارد الخواطر وتشاركها في المعاني، إذا لم يكن مجال للظن في سرقة أحدنا من الآخر والله أعلم بحقيقة الحال.
وإذا كان احد المتواردين أقدم من الآخر وأرفع منه طبقة حكم له بالسبق، وإلا فلكل منهما ما سبقه.
ولأحمد بن أبي طاهر يعتذر لشعر ادعى البحتري أنه سرق منه:
الشعر ظهر طريق أنت راكبه ... فمنه منشعب أو غير منشعب.
وربما ضم بين الركب منهجه ... وألصق الطنب العالي إلى الطنب.
وبيت بديعية الشيخ صفي الدين الحلي قوله:
تهوى الرقاب مواضيهم فتحسبها ... حديدها كان أغلالا من القدم.
حكى في شرحه: أنه كان نظم بيتا قديما من أبيات وهو:
تهوى الرقاب مواضيك كأنها ... من قبل كان حديدها أغلالا.
ثم سمع بيتا لا يعلم قائله وهو:
تهوى الرقاب مواضيه فتحسبها ... تود. لو أصبحت أغلال من أسرا.
فأسقط ذلك البيت خوفا من القدح بالسرقة، ثم احتاج إلى ذكره هنا شاهد لهذا النوع فذكره كيلا تخلو القصيدة منه.
وبيت بديعية الموصلي قوله:
ليت المدائح تستوفي علاه ولو ... تواردت في مديح غير منصرم.
زعم في شرحه: أنه توارد هو وأبو الطيب المتنبي عليه.
وأبو الطيب يقول:
ليت المدائح تستوفي مناقبه ... فمن زهير وأهل الأعصر الأول.
وبيت بديعية ابن حجة قوله:
كأنما الهام أحداق مسهدة ... ونومها واردته في سيوفهم.
ذكر في شرحه: أنه وارد المتنبي على هذا المعنى، وقوله: ولم يكن يسمع به حتى نبه عليه وهو:
كأن الهام في الهيجا عيون ... وقد طبعت سيوفك من رقاد.
وبيت بديعيتي قولي:
الحمد لله حمدا دائما أبدا ... على مواردتي قومي بحبهم.
المواردة في صدر هذا البيت وقعت بيني وبين الصاحب بن عباد، فإني لما دخلت الهند واجتمعت بالوالد قدس روحه في سنة ثمان وستين وألف، ولي من العمر حينئذ خمسة عشر سنة، ولم أكن أتعلق على شيء من النظم، ولا طالعت شيئا من الكتب الأدبية ما عدا ديوان ابن الفارض، عن لي نظم شيء في الاجتماع بالوالد.
فقلت:
الحمد لله حمدا دائما أبدا ... على اجتماع به صبح الرجاء بدا.(1/457)
فاتفق أن جاء إلى زيارتي ذلك اليوم الذي نظمت فيه هذا البيت شيخنا العلامة محمد بن علي الشامي وذلك قبل الاشتغال عليه، فأنشدته البيت فقال: هذا الصدر صدر بيت للصاحب بن عباد، قاله لما ولد سبطه أبو الحسن عباد بن علي الحسني وهو:
الحمد لله حمدا دائما أبدا ... إذا صار سبط رسول الله لي ولدا.
فحلفت له أني لم أسمع به فقال: اعلم ذلك، وهذا من نوع المواردة. ثم لما وصلت غلى هذا النوع من البديعية احتجت إلى إيراده شاهدا عليه فأوردته والله أعلم.
ولم ينظم سوى من ذكرناه من أصحاب البديعيات هذا النوع، ولعله لم يتفق لهم والله أعلم.
الالتزام.
إن التزامي في ديني بجدهم ... ما زال يفعم قلبي صدق ودهم.
هذا النوع كما يسمى الالتزام يسمى لزوم ما لا يلزم، وسماه قوم الأعنات من العنت وهو المشقة، وآخرون التضييق، وبعضهم التشديد، وهو عبارة عن أن يلتزم المتكلم في النثر أو الشعر حرفا أو حرفين فصاعدا قبل الروي، بشرط عدم الكفلة، كقوله تعالى: (فأما اليتيم فلا تقهر وأما السائل فلا تنهر) ، وقوله: (فلا أقسم بالخنس الجوار الكنس) ، وقوله: (في سدر مخضود وطلح منضود) ، وقوله: (والطور وكتاب مسطور) ، وقوله: (بلغت التراقي وقيل من راق) وهو في الكتاب العزيز كثير.
ومثاله من الشعر قول امرئ القيس وقد نظر إلى قبر امرأة من بنات الروم بأنقرة وهو يجود بنفسه فقال:
أجارتنا إن المزار قريب ... وإني مقيم ما أقام عسيب.
أجارتنا أنا غريبان ههنا ... وكل غريب للغريب نسيب.
وقول العباس بن الأحنف:
الله يعلم ما تركي زيارتكم ... إلا مخافة أعدائي وحراسي.
لو قدرت على الإتيان جئتكم ... سحبا على الوجه أو مشيا على الرأس.
قال ابن جريح: ما ظننت أن الله ينفع أحدا بشعر عمر بن أبي ربيعة حتى سمعت وأنا باليمن منشدا ينشد قوله:
بالله قولي له في غير معتبة ... ماذا أردت بطول المكث في اليمن.
إن كنت حاولت دنيا أو رضيا بها ... فما أصبت من ترك الحج من ثمن.
فحركني ذلك على الخروج إلى مكة، فخرجت مع الحجاج، وحججت.
وقال اسحق الموصلي: أنشدت الأصمعي- على أنه لشاعر قديم:
هل إلى نظرة إليك سبيل ... فيروى الصدى ويشفى الغليل.
غن ما قل منه يكثر عندي=وكثير من الخليل القليل.
فقال: هذا والله الديباج الخزرواني، فقلت: هو ابن ليلة، فقال: لا جرم أثر التوليد فيه، فقلت: لا جرم أثر الحسد فيك.
قال الصولي: كان اسحق يظن أن لم يسبق إلى هذا المعنى، حتى أنشد الأعرابي:
أليس قليلا نظرة إن نظرتها ... إليك وكلا ليس منك قليل.
فحلفت أنه ما كان سمعه.
ومنه قول عمرو بن أحمر الباهلي:
ومن يطلب المعروف من غير أهله ... يجد مطلب المعروف غير يسير.
إذا أنت لم تجعل لعرضك جنة=من الذم سار الذم كل مسير.
وقول السيد البطليوسي:
ترى ليلنا شابت نواصيه كبرة ... كما شبت أم في الجو روض بهار.
كأن الليالي السبع في الليل جمعت ... ولا فصل فيما بينها لنهار.
وقول بعضهم:
بدا فكأنما قمر ... على أزراره طلعا.
بفت المسك عن طرر ال ... جبين بنانه ولعا.
وقد خلعت عليه الرا ... ح من أصوابها خلعا.
وقول الوأواء الدمشقي:
وزائر راع كل الناس منظره ... أحلى من الأمن عند الخائف الوجل.
ألقى على الليل جنحا من ذوائبه ... فهابه الصبح أن يبدو من الخجل
أراد بالهجر قتلي فاستجرت به ... فاستل بالوصل روحي من يدي أجلي.
وقول الحسن بن علي الواسطي:
براني الهوى بري المدى وأذابني ... صدودك حتى صرت أنحل من أمس.
فلست أرى حتى أراك وإنما ... يبين هباء الذر في أفق الشمس.
وقول أبي إسحاق الصابي:
ولما تعذر أن نلتقي ... وطال النزاع وزاد الألم.
مشيت إليكم برجل الرسول ... وخاطبتكم بلسان القلم.
وألف الشيخ أبو العلاء المعري كتابا سماه لزوم ما لا يلزم، ولكن جمع فيه بين الغث والسمين وقرن بين الرخيص والثمين، فمنه قوله:
دنياك غانية إذا عاهدتها ... غدرت فكيف تروم حسن وفائها.
لم تصف قط لعاقل فكأنما ... عبرت عن فقد النهى بصفائها.(1/458)
المين من أترابه والدين من ... أضدادها والهم من حلفائها.
لا تأسفن لها فإن نعيمها ... كشقائها وسقامه كشفائها.
تلقى مناياها النفوس بقوة ... حتى تكون الأسد من ضعفائها.
ومنه قوله أيضاً:
وعند الليالي عادة مستمرة ... من الجور في بعد من الأرض أو أقرب.
تصد عليا عن تراث محمد ... وتدعوا زيادا في ملوك بني حرب.
ومنه قوله أيضاً:
لا تطلبن بآلة لك رفعة ... قلم البليغ بغير حظ مغزل.
سكن السما كان السماء كلاهما ... هذا له رمح وهذا أعزل.
ومنه قوله أيضاً: ضحكنا وكان الضحك منا سفاهة=وحق لسكان البسيطة أن يبكوا.
يحطمنا صرف الزمان كأننا ... زجاج ولكن لا يعاد لنا سبك.
قيل: هذا البيت يشهد بأنه كان دهريا، ولعله رجع عن ذلك بقوله في مرثية:
ضل الذي قال البلاد قديمة ... بالطبع زعما والأنام كنبتها.
وللأبيوردي في بعض أهل عصره من كان يستعمل هذا النوع كثيرا:
شعر المراغي وحوشيتهم ... كعقله أسلمه أسقمه.
يلزم ما ليس له لازما ... لكنه يترك ما يلزمه.
ولمؤلفه عفا الله عنه في نحو ذلك:
وشاعر قريضة ... من كل حسن معدم.
لم يلتزم شيئا سوى ... لزوم ما لا يلزم.
وبيت بديعية الصفي قوله:
من كل مبتدر للموت مقتحم ... في مأزق بغبار الخيل ملتحم.
وبيت بديعية ابن جابر قوله:
وميل سمعي لنيل القرب من شيمي ... وسيل دمعي بذيل الترب كالديم.
وبيت بديعية الموصلي قوله:
لي التزام بمدحي خير معتصم ... بربه وارتباط غير منفصم.
وبيت بديعية ابن حجة قوله:
لأن مدح رسول الله ملتزمي ... فيه ومدحي سواه ليس من لزمي.
وبيت بديعية المقري قوله:
تطول إن عرضت في كل منهزم ... بها الموالي وينجو كل ملتزم.
وبيت بديعية العلوي قوله:
ونال عزا وفضلا غير منفصم ... وخصه الله بالنعماء والعصم.
وبيت بديعيتي قولي:
إن التزامي في ديني بجدهم ... مازال يفعم قلبي صدق ودهم.
ولم أقف على بيت السيوطي في هذا النوع. وأما الطبري فلم ينظمه، والله أعلم.
المزاوجة.
إذا تزاوج إثمي فاقتضى نقمي ... حققت فيهم رجائي فاقتضى نعمي.
المزاوجة: ويقال: التزاوج، هو أن يتزوج المتكلم بين معنيين في الشرط والجزء، أي يجعل معنيين واقعين في الشرط والجزاء مزدوجين في أن يرتب على كل منهما معنى رتب على الآخر.
كقول البحتري:
إذا ما نهى الناهي فلج بي الهوى ... أصاخت إلى الواشي فلج بها الهجر.
زواج بين نهي الناهي، وأصاختها إلى الواشي، الواقعين في الشرط والجزاء، في أن رتب عليهما لجاج لشيء.
ومثله قوله أيضاً:
إذا احتربت يوما ففاضت دماؤها ... تذكرت القربى ففاضت دموعها.
زواج بين الاحتراب وتذكر القربى الواقعين في الشرط والجزاء، في ترتيب فيضان شيء عليهما.
قال السع التفتازاني في شرح التلخيص: ومن تتبع الأمثلة المذكورة للمزاوجة علم أن معناها ما ذكر، لا ما يسبق إلى الوهم من أن معناها من أن يجمع بين معنيين في الشرط ومعنيين في الجزاء، كما جمع بين الشرط بين نهي الناهي ولجاج الهوى، وفي الجزاء بين أصاختها إلى الواشي ولجاج الهجر، إذ لا يعرف أحد يقول بالمزاوجة في مثل قولنا: إذا جاءني زيد فسلم علي أجلسته فأنعمت عليه. انتهى.
وقال في شرح المفتاح: وقيل: معنى المزاوجة أن يجعل معنى لازما للشرط، ثم يجعل معنى مقارنا له في الجزاء، كما جعل لجاج الهوى به لازما للشرط الذي هو نهي الناهي، ثم جعل لجاج الهجر مارنا له في الجزاء الذي هو الإصاخة إلى الواشي. انتهى.
وبيت بديعة الصفي قوله:
ومن إذا خفت من الحشري وكان له ... مدحي نجوت فكان المدح معتصمي.
وبيت بديعية ابن جابر قوله:
إذا تبسم في حرب وصاح بهم ... يبكي الأسود ويرمي اللسن بالبكم.
وبيت بديعية الموصلي قوله:
[إذا تزاوج خوف الذنب في خلدي ... ذكرت أن نجاتي في مديحهم]
وبيت بديعية ابن حجة قوله:
إذا تزاوج ذنبي وانفردت له ... بالمدح من ونجاني من النقم.
وبيت بديعية المقري قوله:(1/459)
إذا سعوا فاشتروا مدح النفوس سعى ... فابتاع مدحك بالغالي من القيم.
وبيت بديعية العلوي قوله:
ومن إذا رمت أحصي مدحه وبقى ... عمري عجزت وعشر العشر لم أقم.
وبيت بديعيتي قولي:
إذا تزوج إثمي فاقتضى نقمي ... حققت فيهم رجائي فاقتضى نعمي.
زاوج بين تزاوج الإثم وتحقيق الرجاء الواقعين في الشرط والجزاء، في أن رتب عليهما اقتضاء شيء على حده في بيتي البحتري المقدم ذكرهما، وتأمل سائر أبيات البديعيات المذكورة فإن أكثرها لا ينطبق على تعريفهم المذكور للمزاوجة والله أعلم.
المجاز.
هم المجاز إلى باب الجنان غدا ... فلست أخشى وهم لي زلة القدم.
المجاز خلاف الحقيقة، وهو في اللغة مفعل من جاز المكان يجوز إذا تعداه، نقل إلى اللفظ الجائز أي المتعدي مكانه الأصلي، واللفظ المجوز به، على معنى أنهم جازوا به مكانه الأصلي.
وفي الاصطلاح، وهو اللفظ المستعمل في غيرها وضع له بالوضع الشخصي أو النوعي، لعلاقة بين المعنيين، مع قرينة عدم إرادة ما وضع له، فخرج الغلط لعدم العلاقة كقولك خذ هذا الفرس، تشير إلى كتاب، وخرجت الكناية لأنها مستعملة فيما وضعت له مع جواز إرادته، ثم العلاقة إن كانت المشابهة بين المعنى المجازي والمعنى الحقيقي فه استعارة، وإلا فغير استعارة، ويسمى مجازا مرسلا.
وشمل هذا الحد المجاز بنوعيه، أعني المفرد سواء كان استعارة أيضاً كقولك للمتردد: أراك تقدم رجلا وتؤخر أخرى.
أو مرسلا كقوله:
هواي مع الراكب اليماني مصعد ... جنيب وجثماني بمكة موثق.
فإن هذا المركب موضوع بالوضع النوعي للأخبار، والغرض منها إظهار التحزن والتحسر، والعلاقة فيه استعمال ما وضع للازم في الملزوم، لأن إظهار التحزن والتحسر ملزوم للأخبار غالبا، فظهر أن حصر المجاز المركب في الاستعارة- كما وقع لأكثرهم- عدول عن الصواب، كما حققه السعد التفتازاني في شرح التلخيص، وهذا التعريف للمجاز هو رأي أهل المعاني والبيان.
وقال البديعيون: المجاز هو تجوز الحقيقة، بحيث يأتي المتكلم إلى اسم موضوع لمعنى فيحتضره إما بأن يجعله مفردا بعد أن كان مركبا، أو غير ذلك من وجوه الاختصار.
مثال الأول قول جرير:
إذا نزل السماء بأرض قوم ... رعيناه وإن كانوا غضابا.
يريد بالسماء مطر السماء، فجعله مفردا، ويريد بالضمير في رعيناه ما ينبته مطر السماء.
ومثال غير ذلك قول العتابي:
يا ليلة لي بحوارين ساهرة ... حتى تكلم في الصبح العصافير.
فقوله: ساهرة مجاز، قاله الشيخ صفي الدين الحلي في شرح بديعيته. وإنما كان قوله: ساهرة من الاختصار، لأن الأصل: أنا ساهر فيها، فاختصر ذلك بأن أسند السهر إلى الليلة، وهو عند أهل البيان مجاز إسنادي، ويسمى المجاز الحكمي، والعقلي. وهو عندي داخل في باب الاستعارة كما حقق في محله.
تنبيهات: الأول المجاز المرسل، يقع على وجوه كثيرة. أحدها إطلاق السبب على المسبب، كاليد على النعمة لصدورها عنها، وعلى القدرة لظهور سلطانها بها، ومنه قولهم: رعينا غيثا أي نباتا، لأن الغيث سبب للنبات.
الثاني إطلاق المسبب على السبب، وهو عكس الأول كقولهم: أمطرت السماء نباتا، أي غوثا لكون النبات مسببا عنه.
الثالث تسمية الشيء باسم ما كان عليه، كقوله تعالى: (وآتوا اليتامى أموالهم) أي الذين كانوا يتامى، إذ لا يتم بعد البلوغ.
الرابع تسميته باسم ما يؤل إليه كقوله تعالى: (أني أرآني أعصر خمرا) أي عنباً يؤل إلى الخمرية (لا يلدوا إلا فاجرا كفارا) أي صائرا إلى الفجور والكفر.
الخامس إطلاق اسم الكل على الجزء، ويشترط فيه أن يكون أصلا فيما وقع المجاز بسببه، كقوله تعالى: (ولا تكتموا الشهادة ومن يكتمها فإنه آثم قلبه) أي ذاته لأن معدن كتمان الشهادة القلب، ومنهم قولهم للربيئة عين، لأنها المقصود من كون الرجل ربيئة دون سائر ما عداها.
السادس إطلاق الجزء على الكل، وهو عكس ما قبله، والشرط ما سبق كقوله تعالى: (يجعلون أصابعهم في آذانهم) أي أناملهم.
السابع إطلاق الحال على المحل، كقوله تعالى: (في رحمة الله هم خالدون) أي في الجنة، لأنها محل الرحمة.(1/460)
الثامن إطلاق اسم المحل على الحال، وهو عكس ما قبله، كقوله تعالى: (فليدع ناديه) أي أهل نادية، أي مجلسه.
التاسع تسميته الشيء باسم آلته نحو (واجعل لي لسان صدق في الآخرين) أي ثناء، لأن اللسان آلته (وما أرسلنا من رسول إلا بلسان قومه) أي بلغة قومه.
العاشر إطلاق الفعل، والمراد مشارفته وقارنته وإرادته، كقوله تعالى: (فإذا بلغن أجلهن فامسكهن) أي قاربن بلوغ الأجل، أي انقضاء العدة، لأن الإمساك لا يكون بعده. وقوله تعالى: (فإذا جاء أجلهم لا يستأخرون ساعة ولا يستقدمون) أي فإذا قري مجيئه وبه يندفع السؤال المشهور وهو أن عند مجيء الأجل لا يتصور تقديم ولا تأخير، وقوله تعالى: (إذا قمتم إلى الصلاة فاغسلوا) أي أردتم القيام.
الحادي عشر إطلاق اسم اللازم على الملزوم، كقوله عليه السلام العباس بن مرداس: (اقطعوا عني لسانه) وأمر له بمائة ناقة، أراد عليه السلام: أسكتوه عني، لأن قطع اللسان ملزوم للسكوت.
الثاني عشر إطلاق اسم الملزوم على اللازم، وهو عكس ما قبله، كما ورد أنه عليه السلام كان إذا دخل العشر الأخير من شهر رمضان شد المئزر، والمراد الاعتزال عن النساء، لأن شد المئزر لازم لاعتزالهن، قال:
قوم إذا حاربوا شدوا مآزرهم ... دون النساء ولو باتت بأطهار.
وغير ذلك مما يتعذر حمل اللفظ فيه على معناه الحقيقي.
الثاني: أنكر بعضهم وقوع المجاز في القرآن. وشبهته أن المجاز أخو الكذب، إن القرآن منزه عنه، وأن المتكلم لا يعدل إليه إلا إذا ضاقت به الحقيقة فيستعين بالمجاز، وذلك محال على الله تعالى، وهذه شبهة باطلة، ولو سقط المجاز من القرآن سقط منه شطر الحسن، فقد اتفق البلغاء على أن المجاز أبلغ من الحقيقة، ولو وجب خلو القرآن من المجاز وجب خلوه من الحذف والتوكيد وتثنية القصص وغيرها.
الثالث: اختلف في أنواع، هل هي من المجاز أم لا؟ أحدها الحذف، والمشهور أنه من المجاز، وأنكره بعضهم، لأن المجاز استعمال اللفظ في غير موضوعه، والحذف ليس كذلك، وقال الخطيب في الإيضاح: متى تغير إعراب الكلمة بحذف أو زيادة فهي مجاز، نحو اسأل القرية، ليس كمثله الشيء. فإن كان الحذف والزيادة مما لا يوجب تغير الإعراب نحو: أو كصيب من السماء، أي مثل ذو صيب، فبما رحمة، أي فبرحمة. فالكلمة لا توصف بالمجاز.
الثاني التشبيه، زعم قول انه كجاز وتبعهم ابن حجة في شرح بديعيته، والصحيح انه حقيقة. قال الزنجاني في المعيار: لأنه معنى من المعاني، وله ألفاظ تدل عليه وضعا، فليس فيه نقل اللفظ عن موضوعه. وقال الشيخ عز الدين: إن كان بحرف فهو حقيقة، أو بحذفه فمجاز، بناء على أن الحذف من باب المجاز.
الثالث الكناية وفيها أربعة مذاهب: احدها: أنها حقيقة، قال ابن عبد السلام: وهو الظاهر، لأنها استعملت فيما وضعت له وأريد به الدلالة على غيره. الثاني: أنها مجاز. والثالث: أنها لا حقيقة ولا مجاز. والرابع: أنها تنقسم إلى حقيقة ومجاز. فإن استعمل اللفظ في معناه مرادا منه لازم المعنى أيضاً فهو حقيقة، وإن لم يرد المعنى بل عبر بالملزوم عن اللازم فهو مجاز، لاستعماله في غير ما وضع له، ليفيد غير ما وضع له.
الرابع: التقديم والتأخير. عده قوم من المجاز. قال في البرهان: والصحيح أنه ليس منه، فإن المجاز نقل إلى ما وضع له إلى ما لم يوضع له.
الخامس: قيل بالواسطة بين الحقيقة والمجاز في ثلاثة أشياء: احدها اللفظ قبل الاستعمال. ثانيها الإعلام. ثالثها اللفظ المستعمل في المشاكلة، نحو: ومكروا ومكر الله، لأنه لا يوضع لما استعمل فيه فليس حقيقة، ولا علاقة معتبرة فليس مجازا، كذا عن بعضهم في شرح بديعية ابن جابر لرفيقه، قال السيوطي: والذي يظهر انه مجاز، والعلاقة المصاحبة.
وبيت بديعية الصفي الحلي قوله:
صالوا فنالوا الأماني من مرادهم ... ببارق في سوى الهيجاء لم يشم.
قال في شرحه: لفظة بارق مجاز في السيف.
ولم ينظم ابن جابر الأندلسي هذا النوع في بديعيته.
وبيت بديعية العز الموصلي قوله:
أحيا فؤادي مجازي نحو حجرته ... وقد دهشت لجمع فيه مزدحم.
وبيت بديعية ابن حجة قوله:
هو المجاز إلى الجنات إن عمرت ... أبياته بقبول سابغ النعم.
وبيت بديعية المقري قوله:(1/461)
أبكى بها الدين جفن الكفر حين جفت ... أجفانها وابتغت غمدا من القمم.
وبيت بديعيتي قولي:
هم المجاز إلى باب الجنان غدا ... فلست أخشى وهم لي زلة القدم.
فلفظة المجاز مجاز عن الهداة، لأنه بمعنى الطريق، من قولهم: جعلت كذا مجازا إلى حاجتي، أي طريقا إليها، وغنما جعله مجازا عن الهداية لاستلزام الهداة إياه، ولك أن تجعل من المجاز في البيت مصدرا ميميا بمعنى الجواز، فيكون من وصف الفاعل بالمصدر مثل رجل عدل، وهو أيضاً من المجال الحكمي عند أهل البيان، ومن تجوز الحقيقة بالاختصار عند البديعيين. ولم أقف على بيت السيوطي في هذا النوع. وأما الطبري فلم ينظمه في بديعيته، والله أعلم.
التفريع.
ما الروض غب الندى فاحت روائحه ... يوما بأضوع من تفريع نعتهم.
التفريع مصدر قولك: فرعت من هذا الأصل فروعا إذا استخرجتها. وفي الاصطلاح يطلق على معنيين: أحدهما ما ذكر الخطيب في التلخيص والإيضاح، وهو أن يثبت لمتعلق أمر حكما بعد إثبات ذلك الحكم لمتعلق له آخر، على وجه يشعر بالتفريع والتعقيب.
كقول الكميت:
أحلامكم لسقام الجهل شافية ... كما دماؤكم تشفي من الكلب.
فرع على وصفهم بشفاء أحلامهم لسقام الجهل، وصفهم بشفاء دمائهم من داء الكلب، وهو بفتح اللام، شبه جنون يحدث للإنسان الكلب الكَلِب بكسر اللام، وهو الذي يأكل لحوم الناس فيأخذه بذلك شبه جنون لا يعض إنساناً إلا كلب، ولا دواء له انجح من شرب دم ملك. يعني انتم أرباب العقول الراجحة وملوك وأشراف.
وفي طريقته قول الحماسي:
بناة مكارم وأساة كلم ... دماؤكم من الكلب الشفاء.
وهذا المعنى للتفريع غير المشهور، ولم ينظمه أرباب البديعيات.
الثاني ما ذكره البديعيون والزنجاني في معيار النظار، وسماه بعضهم النفي والجحود، وهو أن يأخذ المتكلم في وصف فيقول: ما كذا، ويصفه بمعظم أوصافه اللائقة به في الحسن والقبح، ثم يجعله أصلا يفرع منه معنى فيقول: بأفعل من كذا، وهو المعنى المشهور للتفريع، وهو الذي نظمه أصحاب البديعيات.
ومثاله قول الأعشى:
ما روضة من رياض الحزن معشبا ... خضراء جاد عليها مسبل هطل.
يضاحك الشمس منها كوكب شرق ... مؤزر بعميم النبت مكتهل.
يوما بأطيب منه نشر رائحة ... ولا بأحسن منها إذ دنا الأصل.
وقول أبي علي تميم ابن المعز صاحب الديار المصرية:
وما أم خشف ضل يوما وليلة ... ببلقعة بيداء ظمآن صاديا.
تهيم فلا تدري إلى أين تنتهي ... مولهة حرى تجوب الفيافيا.
أضر بها حر الهجير فلم تجد ... لغتها من بارد الماء شافيا.
فلما دنت من خشفها انعطفت له ... فالفته ملهوف الجوانح طاويا.
بأوجع مني يوم شدت حمولهم ... ونادى منادي الحي أن لا تلاقيا.
وما ألطف قول شهاب الدين محمود:
وفرع الحب الضنا في الحشا ... من مقل فيه منايا العباد.
فما ظبى أرهفها مرهف ... ليوم حرب من سيوف حداد.
يوماً بأمضى من سيوف بدت ... من كحل خالطها في حداد.
وقول ابن سناء الملك:
إليك فما بدر المقنع طالعا ... بأسحر من ألحاظ بدري المعمم.
يشير إلى المقنع الخراساني واسمه عطا، وكان قد ادعى الربوبية، وغلب على عقول قوم من العامة، بتمويهات أظهرها لهم بالسحر والنيرنجات، وكان في جملة ما أظهر لهم صورة قمر يطلع ويراه الناس من مسيرة شهرين من موضعه ثم يغيب، فعظم اعتقادهم فيه.
وقد ذكر أبو العلاء المعري هذا القمر أيضاً في قوله:
أفق غنما البدر المقنع رأسه ... ضلال وغي مثل بدر المقنع.
وأنشد تغلب لبعض العرب:
وما وجد مغلول بصنعاء موثق ... بساقيه من ماء الحديد كبول.
قليل الموالي مسلم بجريرة ... له بعد نومات العيون عويل.
يقول له الحداد أنت معذب ... غداة غد أو مسلم فقتيل.
بأكثر مني لوعة يوم راعني ... فراق حبيب ما إليه سبيل.
لأم فروة الفطفانية:
وما ماء مزن أي مزن تقوله ... تحدر من غر طوال الذوائب.
نفت نسمة الريح القذى عن متونه ... فليس به عيب تراه لشارب.
بمنعرج من بطن وادي تقابلت ... عليه رياح الصيف من كل جانب.(1/462)
بأطيب مما يقصر الطرف دونه ... تقى الله واستحياء بعض العواقب.
ولبعضهم:
وما شوق أعرابية بأن دارها ... وحنت إلى وادي الحجاز ورنده.
بأكثر من شوقي إليكم وإنما ... رماني زماني بالبعاد بجهده.
وري أنه لما قتل عمار بن ياسر رضي الله عنه يوم صفين احتمله أمير المؤمنين علي كرم الله وجهه إلى خيمته، وجعل يمسح الدم عن وجهه ويقول:
وما ظبية تسبي القلوب بطرفها ... إذا التفتت خلنا بأجفانها سحرا.
بأحسن من كلل السيف وجهه ... دما في سبيل الله حتى قضى صبرا.
ولأبي الوليد بن زيدون:
وما شوق مغلول الجوانح بالصدى ... إلى نطفة زرقاء أضمرها وقط.
بأبرح من شوقي إليكم ودون ما ... أدير المنى عنه القتادة والخرط.
وأنشدني لنفسه الشيخ الأديب حسين بن شهاب الدين الشامي:
وأقسم ما الفلك الجواري تلاعبت ... بها صرصر نكباء في لجة البحر.
بأكثر من قلبي وجيبا وشملنا ... جميع ولكن خوف حادثة الدهر.
وله من قصيدة مدح بها الوالد قدس الله روحه:
فما روضة بالحزن باكرها الحيا ... بأرعن رجاس من المزن مسبل.
إذا خطرت فيها الصبا عبقت بها ... عوابق من ريا عبير ومندل.
بأطيب نشرا من خلائق أحمد ... ومن شك أو لم يدر ما قلت يسأل.
ولبعض المتأخرين:
ما الورد تنضج بالندى أثوابه ... والروض يهتك بالحيا جلبابه.
الهائم الممطول فاز بوصل ... والأشيب الموخوط عاد شبابه.
والنازح المهجور يقرع بغتة ... بيدي حبيبته المليحة بابه.
يوما بأوفر بهجة ومسرة ... مني إذا وافى إلي كتابه.
وبيت بديعية الشيخ صفي الدين الحلي قوله:
ما روضة وشع الوسمي بردتها ... يوما بأحسن من آثار سعيهم.
وبيت بديعية العز الموصلي قوله:
ما الدوح تفريعه بالزهر متسق ... نظما بأطيب من تعريف ذكرهم.
وبيت بديعية ابن حجة قوله:
ما الدوح إن فاح نشرا أو شدا طربا ... يوما بأطيب من تفريع وصفهم.
وبيت بديعية المقري قوله:
ما المسك فتت أو فضت نوافجه ... عنه بأطيب من ذكراه في الكلم.
وبيت بديعية العلوي قوله:
ما جبرئيل أمين الله في شرف ... يوما بأشرف منه ليلة الكلم.
وبيت بديعيتي في قولي:
ما الروض غب الندى فاحت روائحه ... يوما بأضوع من تفريع نعتهم.
التدبيج.
بيض المكارم سود النقع حمر ظبي ... خضر الديار فدبج وصف حالهم.
التدبيج مشتق من الديباج، وهو ثوب سداه ولحمته ابريسم، وهو معرب (ديبا) بدون الجيم، ثم كثر حتى اشتقت العرب منه فقالوا: دبج الغيث الأرض دبجا- من باب ضرب- ودبجها تدبيجا- بالتضعيف- إذا سقاها فأنبتت أزهارا مختلفة، لأنه عندهم اسم للمنقش.
وفي الاصطلاح عبارة عن أن يذكر المتكلم ألوانا يقصد التورية بها والكناية بذكرها عن أشياء، من نسيب أو مدح أو وصف أو غير ذلك من الأغراض، كقوله تعالى (ومن الجبال جدد بيض وحمر مختلف ألوانها وغرابيب سود) .
قال ابن أبي الإصبع: المراد بذلك- والله أعلم- الكناية عن الواضح والمشتبه من الطرق، لأن الجادة البيضاء هي الطريقة التي كثر السلوك عليها جدا، وهي أوضح الطرق وأبينها، ودونها الحمراء ودون الحمراء السوداء كأنها في الخفاء والالتباس ضد البياض في الظهور والوضوح، ولما كانت هذه الألوان الثلاثة في الظهور للعين طرفين وواسطة، فالطرف الأعلى في الظهور البياض، والطرف الأدنى في الخفاء السواد، والأحمر بينهما على وضع الألوان في التركيب، وكانت ألوان الجبال لا تخرج عن هذه الألوان الثلاثة، بكل علم نصب منقسمة هذه القسمة، أتت الآية الكريمة منقسمة كذلك، فحصل فيها التدبيج وصحة التقسيم.
ومنه قول الحريري: فمذ اغبر العيش الأخضر، وازور المحبوب الأصفر، اسود يومي الأبيض، وابيض فودي الأسود، حتى رثي لي العدو الأزرق، فحبذا الموت الأحمر.
قال الصفدي: أخبرني الشيخ ثناء الدين أبو الثناء محمود أن القاضي الفاضل شرع في إنشاء مقامات، فكان يعارض كل فصل من مقامات الحريري بفصل من كلامه، فلما انتهى إلى هذا الفصل من التدبيج قال: من أين يأتي المتكلم بمثل هذا؟ وغسل ما عمله من المقامات.(1/463)
ومن إنشاء بعض الكتاب: وصل كتابك فاستلمته استلام الحجر الأسود وتمتعت منه بالعيش الأخضر، وجمعت منه يدي على الكبريت الأحمر والبازي الأشهب وملك بن الأصفر.
ومن رسالة لبعضهم: قد أوردنا الحديد الأخضر في ماء الوريد الأحمر من عدو الله الأزرق من بني الأصفر.
ومن إنشاء القاضي الفاضل في وصف كتاب: ففضضته فكم لحفتني من شرارة، وقضضته فإذا جبال النور منه مستعارة، كأن شرارته الجمالات الصفر؛ أو القصور الحمر أوالنصول الزرق والليالي السود والبروق البيض.
ومنه قول الحسين بن مطير:
مخصرة الأوساط زانت عقودها ... بأكثر مما زينتها عقودها.
بصفر تراقيها وحمر أكفها ... وسود نواصيها وبيض خدودها.
وقال ابن حيوس:
إن ترد علم حالهم عن يقين ... فالقهم يوم نائل أو نزل.
تلق بيض الوجوه سود مثار ال ... نقع خضر الأكناف حمر النصال.
وقوله:
ببياض عزم واحمرار صوارم ... وسواد نقع واخضرار رحاب.
وقول مهيار الديلمي:
بيضاء في الغادين يومي أسود ... من بعدها وبكاي أحمر قاني.
وقول ابن النبيه:
دع النوح خلف حدوج الركاب ... وسل فؤادك عن كل ذاهب.
ببيض السوالف حمر المراش ... ف صفر الترائب سود الذوائب.
وقوله أيضاً: بيض الأيادي حمر أطراف القنا=سود العجاج تحل ربعا أخضرا.
وقوله أيضاً:
وفي الكلة الحمراء بيضاء طفلة ... بزرق عيون السمر يحمى احورارها.
أثار لها نقع الجياد سرادفا ... به دون ستر الخدر عنا استتاره.
وقال بعضهم:
الغصن فوق الماء تحت شقائق ... مثل الأسنة خضبت بدماء.
كالصعدة السمراء تحت الراية ال ... حمراء فوق اللامة الخضراء.
وقول الصفدي:
ما أبصرت عيناي أحسن منظرا ... فيما ترى من سائر الأشياء.
كالشامة الخضراء فوق الوجنة ال ... حمراء تحت المقلة السوداء.
وبيت بديعيتة الصفي الحلي قوله:
خضر المرابع حمر السمر يوم الوغى ... سود الوقائع بيض الفعل والشيم.
وبيت بديعية العز الموصلي قوله:
خضر المرابع حمر البيض سود ردى ... بيض الثنا فاستمع تدبيج وصفهم.
وبيت بديعية ابن حجة قوله:
واخضر أبيض عيشي حين دبجه ... بياض حظي من زرق العداة حمي.
وبيت بديعية المقري قوله:
تبيض ما اسود يوم شبهه دهم ... وجها إذا احمر سمر فوق سمرهم.
وبيت بديعية العلوي قوله:
قد بيض الوجه حين اسود وجه الوغى ... خضر الديار فدبج وصف حالهم.
ولم ينظم ابن جابر ولا السيوطي ولا الطبري هذا النوع أيضاً، والله أعلم.
التفسير.
تفسير ومزاياهم وفخرهم ... بعلمهم ومعاليهم وجودهم.
التفسير في اللغة تفعيل من الفسر وهو البيان والكشف، وقيل: هو مقلوب السفر، يقال: أسفر الصباح: إذا أضاء.
وفي الاصطلاح (سماه ابن مالك وآخرون التبيين) عبارة عن أن يأتي المتكلم في أول الكلام نثرا كان أو نظما بمعنى لا يستقل الفهم بمعرفة فحواه دون أن يفسر. فإن كان الكلام نظما فالتفسير إما في البيت الأخير أو في بقية البيت إن كان الكلام الذي يحتاج إلى التفسير في أوله. ويقع التفسير على أنحاء: منها أن يقع بعد الفعل وفاعله كقوله:
صالوا وجادوا وضاؤا واحتبوا فهم ... أسد ومزن وأقمار وأجبال.
ومنها أن يقع بعد الحروف المتضمنة معنى الشرط كقول الفرذدق:
لقد جئت قوما لو لجأت إليهم ... طريد دم أو حاملا ثقل مغرم.
لا لفيت منهم معطيا أو مطاعنا ... وراءك شزرا بالوشيج المقوم.
ففسر قوله: حاملا ثقل مغرم، بقوله: أنه يلقى فيهم من يعطيه، وفسر قوله: طريد دم، بقوله: أنه يلقى فيهم من يطاعن دونه ويحميه. ولم يراع الترتيب، لأن عدم الترتيب مع حسن الجوار وقرب الملائم لا ينقص حسن الكلام البليغ، ألا ترى غلى قوله تعالى: (يوم تبيض وجوه وتسود وجوه فأما الذين اسودت وجوههم) ثم قال سبحانه بعد ذلك: (وأما الذين ابيضت وجوههم) .
ومنها أن يقع بعد الجار والمجرور كقول الحسين بن مطير:
أشكو إلى الله من نارين واحدة ... في وجنتيه وأخرى منه في كبدي.
ومن سقامين سقم قد أحل دمي ... من الجفون وسقم حل في جسدي.(1/464)
ومن نمومين دمعي حين أذكره ... [يذيع سري وواش منه بالرصد] .
[ومن ضعيفين صبري حين أذكره] ... ووده ويراه الناس طوع يدي.
مهفهف رق حتى قلت من عجب ... أخصره خنصري أم جلده جلدي.
ومنها أن يقع بعد المبتدأ، وهو- أعني التفسير- خبره، أو بعد تمام المبتدأ والخبر، ومثال النوعين: قول ابن المغربي:
المدنفان من البرية كلها ... جسمي وطرف بابلي أحور.
والمشرقات النيرات ثلاثة ... الشمس والقمر المنير وجعفر.
وقول ابن الرومي:
آراؤكم ووجوهكم وسيوفكم ... في الحادثات إذا دجون نجوم.
منها معالم للهدى ومصابح ... تجلو الدجى والأخريات رجوم.
فقوله في أخر البيت الأول: نجوم، تفسير للمبتدآت المذكورة في أوله، والبيت الثاني تفسير تفصيل لما في النجوم من الأجمال. وقد أحسن فيهما كل الإحسان من جودة الترتيب واستيفاء ما ذكر الله من منافع النجوم، من كونها معدة للمعالم والمصابح والرجوم.
ومنها قول محمد بن وهيب:
ثلاثة تشرق الدنيا ببهجتها ... شمس الضحى وأبو إسحاق والقمر.
يحكي أفاعيله في كل نائبة ... الغيث والليث والصمصامة الذكر.
وقوا أبي مسهر:
غيث وليث فغيث حين تسأله ... عرفا وليث لدى الهيجاء ضرغام.
وفساد التفسير أن يأتي في إزاء الشيء بما لا يكون مقابلا له، فلا يكون مفسرا له.
كقول الشاعر:
فيا أيها الحيران في ظلم الدجى ... ومن خاف أن يلقاه بغي من العدى.
تعال إليه تلق من نور وجهه ... ضياء ومن كفيه بحرا من الندى.
فأتى بالندى في إزاء بغي العدى، وكان يجب أن يأتي في إزائه بالنصر أو الملجأ أو نحو ذلك، أو يذكر في موضع بغي العدى الفقر والعدم، أو ما شابه ذلك لتصح المقابلة.
والفرق بين التفسير والإيضاح: أن التفسير تفصيل الإجمال، والإيضاح رفع الإشكال، لأن المفسر من الكلام لا يكون في إشكال.
وبيت بديعية الصفي الحلي قوله:
هم النجوم بهم تهدى الأنام وين ... جاب الظلام ويهمي صيب الديم.
وبيت بديعية العز الموصلي قوله:
ذكر الإمام وابنيه يفسره ... علي والحسنان أكرم بذكرهم.
وبيت بديعية ابن حجة قوله:
بدر وبحر فبدر في دجى نوب ... وبحر جود إذا رطب الغمام ظمي.
وبيت بديعية العلوي قوله:
حلو ومر فحلو للوفود على ... عدوه علقم كالسم لم يرم.
وبيت بديعيتي قولي:
تفسيرهم ومزاياهم وفخرهم ... بعلمهم ومعاليهم وجودهم.
ولم ينظم ابن جابر ولا السيوطي ولا الطبري هذا النوع، والله تعالى أعلم.
التعديد.
لا يستطيع الورى تعديد فضلهم ... في العلن والحلم والأفضال والهمم.
هذا النوع ذكره الفخر الرازي وغيره، وسماه قوم سياقة الأعداد، وهو إيقاع أسماء مفردة على سياق واحد، فإن روعي في ذلك ازدواج، أو تجنيس، أو مطابقة، أو مقابلة أونحوها فذلك الغاية في الحسن. ومما وقع منه في التنزيل قوله تعالى: (ولنبلونكم بشيء من الخوف والجوع ونقص من الأموال والأنفس والثمرات وبشر الصابرين) .
ومن النظم قول أبي الطيب:
على ذا مضى الناس على اجتماع وفرقة ... وميت ومولود وقال ووامق.
وقوله:
ألا أيها السيف الذي لست مغمدا ... ولا فيك مرتاب ولا منك عاصم.
هنيئا لضرب الهم والمجد والعلى ... وراجيك والإسلام أنك سالم.
وقوله:
ولكن بالفسطاط بحرا أزرته ... حياتي ونصحي والهوى والقوافيا.
وقوله:
فالخيل والليل والبيداء تعرفني ... والسيف والرمح والقرطاس والقلم.
وقوله:
أنت الجواد بلا من ولا كدر ... ولا مطال ولا وعد ولا مذلز
وقول محمد بن هاني المغربي:
للناس أجماع على تفضيله ... حتى استوى اللؤماء والكرماء.
واللكن والفصحاء والبعداء وال ... قرباء والخصماء والشهداء.
في الله يسري جوده وجنوده ... وعديده والحزم والآراء.
نزلت ملائكة السماء بنصره ... وأطاعه الأصباح والأمساء.
والفلك والفلك الدار وسعده ... والغزو في الدأماء والدأماء.
والدهر والأيام في تصريفها ... والناس والخضراء والغبراء.
وقول علي بن المقرب:(1/465)
ما اعتذاري والوغى تعرفني ... والعوالي والمواضي والهوادي.
قد تساوى في مضاء صارمي ... وسناني ولساني وفؤادي.
وقول مؤلفه عفا الله عنه:
حيا الله بها يوما روحا عاشقة ... فإنما هو للأرواح ريحان.
قد جل في حسنه عن أن يقاس به ... بدر وظبي وأغصان وكثبان.
وبيت بديعية الصفي الحلي قوله:
يا خاتم الرسل يا من علمه علم ... والعدل والفضل والإيفاء بالذمم.
ولم ينظم ابن جابر الأندلسي هذا النوع.
وبيت بديعية الموصلي قوله:
[تعديد أوصافهم في المدح يعجزنا ... أهل التقى والنقى والمجد والهمم]
وبيت بديعية ابن حجة قوله:
تعديد فضلهم يبدي لسامع علما وذوقا وشوقا عند ذكرهم.
وبيت بديعية المقري قوله:
بالجد والجد جد صارمه ... والعزم والحزم يوم الكر والكرم.
وبيت بديعية السيوطي قوله:
عدد صفاتهم العلياء من حسب ... والعلم والجود والإيفاء للذمم.
وبيت بديعية العلوي قوله:
يا أكرم الخلق فقت الكل في شرف ... بالعلم والحلم والإحسان والكرم.
وبيت بديعية الطبري قوله:
يا خاتم الرسل يا من وصفه عدد ... ربا كعلم وحلم وعزم ذي همم.
وهو خارج عما نحن فيه.
وبيت بديعيتي قولي:
لا يستطيع الورى تعديد فضلهم ... في العلم والحلم والأفضال والهمم.
حسن النسق.
الحسن ناسق والإحسان وافق وال ... أفضال طابق ما بين انتظامهم.
النسق- بالتحريك- اسم للفعل من نسقت الدار نسقا- من باب نصر- إذا نظمته، ونسقت الكلام نسقا: عطفت بعضه على بعض، ودر نسق- بفتحتين- بمعنى منسوق، كالولد، بمعنى مولود، وكلام نسق أي على نظام واحد؛ مستعار من الدر.
وفي الاصطلاح يطلق على معنيين: أحدهما، ما يسمى تنسيق الصفات، وهو أن يذكر للشيء صفات متوالية كقوله تعالى: (هو الله الذي لا إله إلا هو الملك القدوس السلام المؤمن المهيمن العزيز الجبار المتكبر) .
وقول أبي طالب في النبي صلى الله عليه وسلم:
وأبيض يستسقى الغمام بوجهه ... ثمال اليتامى عصمة للأرامل.
وقول أبي الطيب:
دانٍ بعيد محب مبغض بهج ... أغر حلو ممر لين شرس.
ند أبي غر واف أخي ثقة ... جعدسري نهٍ ندب رض ندس.
الثاني، أن يؤتى بكلمات متتاليات معطوفات متلاحمات تلاحما سليما مستحسنا، بحيث إذا أفردت كل جملة منه قامت بنفسه، واستقل معناها بلفظها كقوله تعالى: (وقيل يا أرض ابلعي ماءك ويا سماء أقلعي وغيض الماء وقضي المر واستوت على الجودي وقيل بعدا للقوم الظالمين) فإن جمله معطوف بعضها على بعض بواو النسق، على الترتيب الذي تقتضيه البلاغة من الابتداء بالأهم الذي هو انحسار الماء عن الأرض المتوقف عليه غاية مطلوب أهل السفينة من الإطلاق من سجنها، ثم انقطاع ماء السماء المتوقف عليه تمام ذلك من دفع أذاه بعد الخروج ومن إخلاف ما كان بالأرض، ثم الإخبار بذهاب الماء بعد انقطاع المادتين الذي هو متأخر عنه قطعا، ثم قضاء الأمر الذي هو هلاك من قدر هلاكه ونجاة من سبق نجاته وأخر عما قبله لأن علم ذلك لأهل السفينة بعد خروجهم موقوف على ما تقدم، ثم أخبر باستواء السفينة واستقرارها المفيد ذهاب الخوف وحصول الأمن من الاضطراب، ثم ختم بالدعاء على الظالمين لإفادة أن الغرق وأن عم الأرض فلم يشمل إلا من استحق العذاب لظلمه.
ومثاله من الشعر قول أبي الطيب المتنبي:
جاءت بأشجع من يسمى وأسمح من ... أعطى وأبلغ من أملى ومن كتبا.
لو حل خاطره في مقعد لمشى ... أو جاهل لصحا أو اخرس خطبا.
وقوله أيضاً:
سرى النوم عني في سراي إلى الذي ... صنائعه تسري إلى كل نائم.
إلى مطلق الأسرى ومخترم العدى ... ومشكي ذوي الشكوى ورغم المراغم.
وقول بديع الزمان الهمذاني:
يقولون وافى حضرة الملك الذي ... له الكنف المأهول والنائل الجزل
فقيد له طرف وحلت له حبى ... وخير له قصر ودر له نزل.
وقول ابن هاني المغربي:
قد جالت الأوهام فيك ودقت الألباب عنك وجلت الآلاء.
فعنت الأمصار وانقادت لك الأقدار واستحيت لك الأنواء.
وبيت بديعية الصفي الحلي قوله:(1/466)
والذيب سلم والجني أسلم وال ... ثعبان كلم والأموات في الرجم.
وبيت بديعية الموصلي قوله:
فالضيق أذهب والتوفيق سبب ... والتنسيق رتب في تصديق حكمهم.
وبيت بديعية ابن حجة قوله:
من ذا يناسقهم من ذا يطابقهم ... من ذا يسابقهم في حلبة الكرم.
وبيت بديعية المقري قوله:
ونالوا عليا وما نالوا بمدحتها ... جهدا وفاض عليه فائض الكرم.
وبيت بديعية العلوي قوله:
والثدي در له والغيم ظلله ... والبدر شق له والطرف عنه عم.
وبيت بديعيتي قولي:
الحسن ناسق والإحسان وافق والأفضال طابق ما بين انتظامهم.
ولم ينظم ابن جابر ولا الطبري هذا النوع، والله أعلم.
حسن التعليل.
ما حسن تعليل نشر الريح إذا نسمت ... إلا لإلمامها يوماً بأرضهم.
هذا النوع عبارة عن أن يدعى لوصف علة مناسبة له باعتبار لطيف غير حقيقي بحيث لا يكون علة له في الواقع، وإلا لما عد من محسنات الكلام لعدم التصرف فيه. وهو أربعة أقسام، لن الوصف الذي أدعي له علة مناسبة، إما ثابت أريد إثباته أو غير ثابت، والأول: إما أن لا يظهر له في العادة علة أو أن يظهر له علة غير المذكور، والثاني إما ممكن أو غير ممكن.
أما الأول وهو الذي لا يظهر له في العادة علة.
فكقول أبي الطيب:
لم تحك نائلك السحاب وإنما ... حمت به فصبيبها الرخصاء.
الرخصاء: العرق في أثر الحمى، أي المصبوب من السحاب هو عرق الحمى. فنزول القطر من السحاب وصف ثابت لها لا يظهر له في العادة علة وقد علله بأنه عرق حماها الحادثة بسبب نائل الممدوح وتفوقه عليها.
ومن لطيف هذا القسم قول أبي هلال:
زعم البنفسج أنه كعذاره ... حسنا فسلوا من قفاه لسانه.
وقول ابن نباتة السعدي في صفة فرس أغر محجل:
وأدهم يستمد الليل منه ... وتطلع بين عينيه الثريا.
سرى خلف الصباح يطير زهوا ... ويطوي خلفه الأفلاك طيا.
فلما خاف وشك الفوت منه ... تشبث بالقوائم والمحيا.
وقول الشيخ جمال الدين الحلي:
ولما نضا وجه الربع نقابه ... وفاحت بأطراف الرياض نسائم.
فطارت عقول الطير لما رأينه ... وقد بهتت من بينهن الحمائم.
خشين جنونا بالرياض وحسنها ... فرحن وفي أعناقهن التمائم.
وحكى ابن رشيق قال: كنت أجالس محمد بن حبيب وكان كثيرا ما يجالسنا غلام ذو خال تحت حنكه، فنظر إلي ابن حبيب يوما وأشار إلى الخال، ففهمت أنه يريد أن يصنع فيه شيئا، فصنعت أنا بيتين، فلما رفع رأسه قال لي: اسمع وأنشدني:
يقولون لي من تحت صفحة خده ... تنزل خال كأن منزله الخد.
فقلت رأى حسن الجمال ... فهابه
فحط خضوعا مثل ما يخضع العبد.
فقلت له: أحسنت ولكن أسمع:
حبذا الخال كامنا منه بين ال ... خد والجيد رقبة وحذارا.
رام تقبيله اختلاسا ولكن ... خاف من سيف لحظه فتوارى.
وأما الثاني وهو الذي يظهر له العادة علة غير المذكورة.
فكقول المتنبي:
ما به قتل أعاديه ولمن ... يتقي إخلاف ما ترجوا الذئابا.
فإن قتل الملوك أعداءهم إنما يكون في العادة لدفع مضرتهم، ليصفوا لهم ملكهم عن المنازع المزاحم، لا لما ادعاه، من أن طبيعة الكرم قد غلبت عليه، ومحبته أن يصدق رجاء الراجين، بعثته على قتل أعدائه، لما علم أنه لما غدا للحرب غدت الذئاب ترجوا أن بتسع عليها الرزق من قتلاهم، وهذا مبالغة في وصفه بالجود. ويتضمن المبالغة في وصفه بالشجاعة على وجه تخييلي، أي تناهى في الشجاعة حتى ظهر ذلك للحيوانات العجم، فإذا غدا للحرب رجت الذئاب أن تنال من لحوم أعدائه. وفيه نوع آخر من المدح وهو أنه ليس ممن يسرف في القتل طاعة للغيظ والحنق. أيضاً قصور أعدائه عنه، وفرط أمنه منهم، وأنه لا يحتاج إلى قتلهم واستئصالهم.
وقول أبي طالب المأموني في بعض الوزراء:
مغرم بالثناء صب بكسب المجد يهتز للسماح ارتياحا.
لا يذوق إلا غفا إلا رجاء ... أن يرى طيف مستميح رواحا.
فإن الإعفاء علته في العادة غير ما ذكره، وكان تقييده بالرواح ليشير إلى أن العفاة إنما يحضرونه في صدر النهار- على عادة الملوك- فإذا كان الرواح قلوا فهو يشتاق إليهم ليأنس برؤية طيفهم.(1/467)
واصله قول الآخر:
وإني لأستغشي وما بي نعسة ... لعل خيالا منك يلقى خياليا.
وهذا غير بعيد أن يكون أيضاً من هذا الضرب، إلا أنه لا يبلغ في الغرابة والبعد عن العادة ذلك المبلغ، فأنه قد يتصور أن يريد المغرم المتيم إذا بعد عهده بحبه أن يراه في المنام فيريد النوم لذلك خاصة.
ومن لطيف هذا القسم قول ابن المعتز:
قالوا اشتكت عينه فقلت لهم ... م كثرة القتل مسها الوصب.
حمرتها من دماء من قتلت ... والدم في النصل شاهد عجب.
وقول الآخر:
أتتني تؤنبني بالبكا ... فأهلا بها وبتأنيبها.
تقول وفي عينه حشمة ... أتبكي بعين تراني بها.
فقلت إذا استحسنت غيركم ... أمرت الدموع بتأديبها.
فإن العادة في دمع العين أن يكون السبب فيه إعراض الحبيب واعتراض الرقيب ونحو ذلك من الأسباب الموجبة للاكتئاب، لا ما جعله من التأديب على الإساءة باستحسان غير الحبيب.
وأما الثالث وهو الوصف الغير ثابت، الذي أريد إثباته وهو ممكن.
فكقول مسلم بن الوليد:
يا واشيا حسنت فينا إساءته ... نجى حذارك إنساني من الغرق.
فإن استحسان إساءة الواشي وصف غير ثابت له أراد إثباته، وهو ممكن، فلما حالف الناس فيه عقبة بذكر سببه، وهو أن حذاره من الواشي منعه من البكاء، فسلم إنسان عينه من الغرق في الدموع، وما حصل به ذلك فهو حسن.
وقول الآخر:
ولقد هممت بقتلها من حبها ... كيما تكون خصيمتي في المحشر.
حتى يطول على الصراط وقوفنا ... فيلذ عيني من لذيذ المنظر.
لما ادعى أمرا غير ثابت ولا معتاد، وهو هم العاشق بقتل محبوبته، علله بطول الوقوف معها للمخاصمة يوم المحشر على الصراط، لتلتذ عينه بالنظر إليها.
ويقرب من هذا ما نقل عن بعض العارفين أنه قال: وددت أن يكون جميع ذنوب الخلق علي ليكون لي بكل ذنب مع الله حساب.
وأما الرابع وهو الوصف المذكور غير الممكن.
فكقول الخطيب القزويني وهو معنى بيت فارسي ترجمه:
لو لم تكن نية الجوزاء خدمته ... لما رأيت عليها عقد منتطق.
فنية الجوزاء خدمة الممدوح وصف غير ممكن أراد إثباته، وجعل الانتطاق علة له، ومما يحلق بحسن التعليل ما بني على الشك، وإنما الحق به ولم يجعل منه، لأن حسن التعليل فيه ادعاء وإصرار والشك ينافيه.
ومثاله قول أبي تمام:
ربي شفعت ريح الصبا بنسيمها ... إلى المزن حتى جادها وهو هامع.
كأن السحاب العز غيبن تحتها ... حبيبا فما ترقى لهن مدامع.
فعلل على سبيل الشك نزول المطر من السحاب بأنها غيبت حبيبا تحت تلك الربى فهي تبكي عليه.
وهذا المعنى يشير إلى قول محمد بن وهيب:
طلان طال عليهما الأمد ... درسا فلا علم ولا نضد.
لبسا البلى فكأنما وجدا ... بعد الأحبة مثل ما أجد.
وبيت بديعية الصفي قوله:
لهم أسام سوام غير خافية ... من أجلها صار يدعى الإسم بالعلم.
وبيت بديعية ابن جابر قولك:
لم تبرقت إلا أنها فرحت ... إذا ظللته فأهدت حسن مبتسم.
وبيت بديعية الموصلي قوله:
تعليل طيب نسيم الروض حتى سرى ... بأنه نال بعضا من ثنائهم.
وبيت بديعية ابن حجة قوله:
نعم وقد طال تعليل النسيم لنا ... لأنه مر في آثار تربهم.
وبيت بديعية المقري قوله:
لو لم يكن أصله في طيب عنصره ... مسكا لما جا ختام الرسل كلهم.
وبيت بديعية العلوي قوله:
لولا العناية فيه قبل ما سبقت ... لم يخلق الناس والدنيا من العدم.
وفي كون هذا من حسن التعليل نظر ظاهر.
وبيت بديعيتي قولي:
ما حسن تعليل نشر الريح إذ نسمت ... إلا لإلمامها يوما بأرضهم.
التعطف.
من التعطف مازالوا على خلق ... إن التعطف معروف لخلقهم.
التعطف في اللغة مصدر تعطف الشيء إذا تثنى ومال بعضه إلى بعض. وفي الاصطلاح، أن يأتي الشاعر في المصراع الأول من البيت بلفظة ويعيدها بعينها، أو بما يتصرف منها بالمصراع الثاني، فشبه مصراعا البيت في انعطاف أحدهما على الأخر بالعطفين، في كون كل عطف منهما يميل إلى الجانب الذي يميل إليه الآخر. وهو شبيه بالترديد، والفرق بينهما من وجهين:(1/468)
الأول: أن الترديد لا يشترط فيه إعادة اللفظة في المصراع الثاني، بل لو أعيدت في المصراع الأول صح بخلاف التعطف.
والثاني: أن الترديد يشترط فيه إعادة اللفظة بصيغتها، والتعطف لا يشترط فيه ذلك، بل يجوز أن تعاد اللفظة بصيغتها وبما يتصرف منها.
كلفظتي (ساق) و (سقت) في قول أبي الطيب:
فساق إلي العرف غير مكدر ... وسقت إليه الشكر غير مجمجم.
ومنه ما انشده الأصمعي وقد قال له الرشيد: أنشدني أبياتا تجمع محاسن الأخلاق، وتشتمل على صالح الأعمال في الدنيا والآخرة، فأنشده هذه الأبيات، وفي كل منها مثال النوع المذكور وهي:
فلا تعجل على أحد بظلم ... فإن الظلم مرتعه وخيم.
ولا تفحش وإن مليت غيظا ... على أحد فإن الفحش لوم.
ولا تقطع أخاً لك عند ذنب ... فإن الذنب يغفره الكريم.
ولا تجزع لريب الدهر واصبر ... فإن الصبر في الدنيا سليم.
ومنه قول أبي عمر أحمد بن محمد الأندلسي (3) من قصيدة:
تخوفني طول السفار وآته ... لتقبيل كف العامري سفير.
دعيني أرد ماء المفاوز آجنا ... إلى حيث ماء المكرمات نمير.
فإن خطيرات المهالك ضمن ... لراكبها أن الرجاء خطير.
وفيها:
وطار جناح البين بي وهفت بها ... جوانح من ذعر الفراق تطير.
لأن ودعت مني غيورا فإنني ... على عزمتي من شجوها لغيور.
وقول الآخر:
إذا قلت أهدى الهجر لي حلل البلى ... تقولين لولا الهجر لم يطب الحب.
وإن قلت هذا القلب أحرقه الهوى ... تقولين لي أن بالهوى يشرق القلب.
وإن قلت ما أذنبت قلت مجيبة ... حياتك ذنب لا يقاس به ذنب.
وبيت بديعية الصفي قوله:
وصحبه من لهم فضل إذا افخروا ... ما أن يقصر عن غايات فضلهم.
وبيت بديعية الموصلي قوله:
تعطفوا برضى أحبابهم وعلى ... أعدائهم عطفوا بالصارم الخذم.
وبيت بديعي ابن حجة قوله:
تعطف الخير كم أبدوا لمذنبهم ... والخير ما زال في أبواب صفحهم.
وبيت بديعية المقري قوله:
المرسلون ندا المرسلون مدى ... الشافعون عطا الشافعون الأمم.
هذا البيت لا ينطبق على حد هذا النوع.
وبيت بديعية السيوطي قوله:
تعطفا لمحب فيك ليس له ... تعطف عنك معدود من الخدم.
وبيت بديعية العلوي قوله:
بفضله كل من في الكون معترف ... فضل يعم جميع الخلق كلهم.
وبيت بديعية الطبري قوله:
تعطفا بي أرجو منك ليس له ... تعطف بك مني غي منصرم.
وبيت بديعيتي قولي:
من التعطف مازالوا على خلق ... إن التعطف معروف لخلقهم.
ولم ينظم ابن جابر هذا النوع في بديعيته، والله أعلم.
الاستتباع.
يعفون عن كل ذي ذنب إذا قدروا ... مستتبعين نداهم عند عفوهم.
هذا النوع سماه العسكري: المضاعف، وابن أبي الإصبع ومن بعده: التعليق، وسماه الزناجي: الموجه، والسكاكي: الاستتباع. ولم يغير أحد منهم الشواهد.
وهو عبارة عن الوصف بشيء يستتبع وصفا آخر من جنس الوصف الأول، مدحا كان أو ذما أو غير ذلك.
كقول أبي الطيب:
عمر العدو إذا لاقاه في رهج ... أقل من عمر ما يحوي إذا وهبا.
فمدحه بفرط الشجاعة، واستتبع في آخر البيت وصفه بفرط الجود.
وقوله أيضاً:
نهبت من الأعمار ما لو حويته ... لهنئت الدنيا بأنك خالد.
مدحه بالنهاية في الشجاعة إذا أكثر قتلاه، بحيث لو ورث أعمارهم لخلد في الدنيا، على وجه استتبع مدحه بكونه سببا لصلاح الدنيا ونظامها، حيث جعل الدنيا مهنأة بخلوده، إذ لا معنى لتهنئة أحد بشيء لا فائدة له فيه.
قال علي بن عيسى الربعي: وفيه وجهان آخران من المدح، أحدهما: نهبت الأعمار دون الأموال، وهو ما ينبئ عن علو الهمة. والثاني: أنه لم يكن ظالما في قتل أحد من مقتوليه، لأنه لم يقصد بذلك إلا صلاح الدنيا وأهلها، لأن تهنئة الدنيا تهنئة لأهلها، فلو كان ظالما في قتل من قتل ما كان لأهل الدنيا سرور بخلوده.
ومما ورد من ذلك في الذم قول ابن هانئ المغربي:
إن لفظا تلوكه لشبيه ... بك في منظر الجفاء الجليف.(1/469)
وصفه بالعي وقبح اللهجة، على وجه يستتبع وصفه بجفاء الخلقة والجلافة. يقال: رجل جافي الخلقة: إذا كان كزا غليظا، والجليف- بالجيم- الجلف الجافي.
ومنه قولي من قصيدة وصفت فيها خروجي من الأسر وفوتي الأعداء، وقد جدوا في طلبي لم يلحقوا بي:
وبثوا الجياد السابحات ليلحقوا ... وهل يدرك الكسلان شأو أخي المجد.
فساروا وعادوا خائبين على وجى ... كما خاب من قد بات منهم على وعد.
وصفهم بخيبة السعي في طلبهم له على وجه يستتبع وصفهم بخلف الوعد.
والفرق بين هذا النوع وبين التكميل، إن التكميل يكمل ما وصف به أولا، والاستتباع لا يلزم به ذلك.
وبيت بديعية الشيخ صفي الدين الحلي قوله:
الباذلوا النفس بذل الزاد يوم القرى ... والصائنوا العرض صون الجار والحرم
وبيت بديعية ابن جابر قوله:
تجري دماء الأعادي من سيوفهم ... مثل المواهب تجري من أكفهم.
وبيت بديعية الموصلي قوله:
يستتبعون ببذل العلم بذل ندى ... ويحفظون المعالي حفظ عرضهم.
وبيت بديعية ابن حجة قوله: يحمون مستتبعين العفو إن ظفروا=ويحفظون وفاهم حفظ دينهم.
وبيت بديعية المقري قوله:
أفنى العداة كما أفنى النقاد ندى ... فماله والأعادي منه في نقم.
وبيت بديعية العلوي قوله: له الشفاعة في الدنيا وآخرة=وباللواء وحوض للورى شبم.
وبيت بديعيتي قولي:
يعفون عن كل ذي ذنب إذا قدروا ... مستتبعين نداهم عند عفوهم.
ولم ينظر السيوطي ولا الطبري هذا النوع، والله أعلم.
التمكين. تمكين عدل لهم أرسوا قواعده=يرعى به الذئب في المرعى مع الغنم.
هذا النوع سماه قدامة وابن مالك: ائتلاف القافية، وسماه الباقون: تمكين القافية، وهو الأولى، وهو عبارة عن أن يمهد الناثر للقرينة، والشاعر للقافية تمهيدا تأتي به القرينة والقافية متمكنة من مكانها، مستقرة في قرارها، مطمئنة في موضعها، متعلقا معناها بمعنى الكلام كله تعلقا تاما، بحيث لو طرحت لأختل المعنى واضطرب الفهم، وبحيث لو سكت دونها كملها السامع بطبعه. وأكثر القرائن التي وقعت في التنزيل من هذا القبيل.
ومثاله في الشعر قول أبي العتاهية:
أعلمت عتبة أنني ... منها على شرف مطل.
وشكوت ما ألقى إلي ... ها والمدامع تستهل.
حتى إذا برمت بما ... أشكو كما يشكو الأذل.
قالت فأي الناس يع ... لم ما تقول فقلت كل.
قال ابن المعتز: أجمع أهل الأدب على أنهم لم يسمعوا قافية أحق بمكانها من قوله (فقلت كل) .
وقول أبي الطيب:
يا من يعز علينا أن نفارقهم ... وجداننا كل شيء بعدكم عدم.
وبيت بديعية الصفي قوله:
به استغاث خليل الله حين دعا ... رب العباد فنال البرد في الضرم
وبيت بديعية العز الموصلي قوله:
تمكين حبك في قلبي نسخت به ... محبة الكل من عرب ومن عجم.
وبيت بديعية ابن حجة قوله:
تمكين سقمي بدا من خيفة حصلت ... لكن مدائحه قد أبرأت سقمي.
وبيت بديعية المقري قوله:
وبيض هند إذا ضلت مضاربها ... على طلى سجدت هام على القمم.
وبيت بديعية العلوي قوله:
وحط عن آدم الرحمن زلته ... به وأيوب قد عوفي من السقم.
وبيت بديعيتي قولي:
تمكين عدل لهم أرسو قواعده ... يرعى به الذئب في المرعى مع الغنم.
التجريد. جردت منهم لأعناق العدى قضبا=تبري الرقاب بحد غير منثلم.
التجريد في اللغة: مصدر جردته من ثيابه إذا نزعتها عنه.
وفي الاصطلاح: أن ينتزع من أمر متصف بصفة أمر آخر مثله في تلك الصفة مبالغة لكمالها فيه، حتى كأنه بلغ من الإتصاف بها مبلغا يصح أن ينتزع منه أمر آخر موصوف بتلك الصفة، كقولهم: مررت منهم بالرجل الكريم، والنسمة المباركة. جردوا من الرجل الكريم والنسمة المباركة آخر مثله متصفا بصفة البركة، وعطفوا عليه كأنه غيره، وهو هو في نفس الأمر.
وهو- أعني [التجريد- على] أقسام: أحدها، أن يكون بمن التجريدية الداخلة على المنتزع منه.
نحو قولهم: لي من فلان صديق حميم، أي قد بلغ من الصداقة مبلغا صح معه أن يستخلص منه صديق آخر مثله فيها.
وقول الشاعر:(1/470)
وبي ظبية أدماء ناعمة الصبا ... تحار الظباء البيض من لفتاتها.
أعانق غصن البان من لين قدها ... وأجني جني الورد من وجناتها.
وقول أبي العلاء المعري:
ماجت نمير فهاجت منك ذا لبد ... والليث أفتك أفعالا من النمر.
وقول ابن (2) هانئ المغربي:
لي منهم سيف إذا جردته ... يوما ضربت به رقاب الأعصر.
وقول الآخر:
جزيل الندى ذو إياد غدت ... يحدث عنهم في كل ناد.
يلاقيك منه إذا جئته ... كثير الرماد طويل النجاد.
الثاني، أن يكون بالباء التجريدية الداخلة على المنتزع منه.
نحو قولهم: لئن سألت فلانا لتسألن به البحر. بالغ في اتصافه بالسماحة حتى انتزع منه بحرا في السماحة.
وقول الشاعر: دعوت كليبا دعوة فكأنما=دعوت به ابن الطود أو هو أسرع.
جرد من كليب شيئا يسمى ابن الطود، وهو الصدى، والحجر إذا تدهده، يريد به سرعة إجابته.
الثالث، أن يكون بدخول باء المعية والمصاحبة في المنتزع كقوله:
وشوهاء تعدو بي إلى صارخ الوغى ... بمستلئم مثل الفنيق المرحل.
المستلئم: اللابس اللامة وهي الدرع. والفنيق بالفاء والنون كأمير: الفحل المكرم عند أهله. والمرحل من رحل البعير: أشخصه عن مكانه، أي أرسله، أي تعدو بي ومعي من نفسي لابس درع لكمال استعدادي للحرب.
بالغ في اتصافه بالاستعداد، حتى انتزع منه شخصا آخر لابسا للدرع ومسرعا إلى الحرب مثل الفحل المكرم عند أهله إذا أرسل.
الرابع، أن يكون بدخول (في) على المنتزع منه.
كقوله تعالى (لهم فيها دار الخلد) أي في جهنم وهي دار الخلد، لكنه انتزع منها دار أخرى وجعلها معدة في جهنم لأجل الكفار تهويلا لأمرها ومبالغة في اتصافها بالشدة.
وقول الشاعر:
أفاءت بنو مروان ظلما دماءنا ... وفي الله إن لم يعدلوا حكم عدل.
فجرد منه تعالى حكما عدلا وهو هو.
الخامس، أن يكون بدون توسط حرف، كقول قتادة بن (مسلمة) الحنفي:
فلئن بقيت لأرحلن بغزوة ... تحوي الغنائم أو يموت الكريم.
يعني بالكريم نفسه، فكأنه انتزع من نفسه كريما، مبالغة في كرمه، ولذا لم يقل: أو أموت، وقيل: تقديره أن يموت مني كريم، فيكون من القسم الأول الذي هو (بمن التجريدية) ولا حاجة إلى هذا التقدير لحصول التجريد بدونه ولا قرينة عليه.
السادس، أن يكون بطريق الكناية كقول الأعشى:
يا خير من يركب المطي ولا ... يشرب كأسا بكف من بخلا.
أي يشرب الكأس بكف جواد من فقد انتزع من الممدوح جوادا يشرب هو الكأس بكفه عن طريق الكناية، لأنه إذا نفى عنه الشرب بكف البخيل فقد أثبت له الشرب بكف كريم، ومعلوم أنه يشرب بكفه، فهو ذلك الكريم.
السابع، أن يكون بطريق خطاب المرء لنفسه.
وبيان التجريد فيه أن ينتزع من نفسه شخصا آخر مثله في الصفة التي سبق لها الكلام، ثم يخاطبه.
كقول أبي الطيب:
لا خيل عندك تهديها ولا مال ... فليسعد النطق إن لم تسعد الحال.
كأنه انتزع من نفسه شخصا آخر مثله في فقد الخيل والمال والحال الذي هو الغنى.
ومثله قول الأعشى:
ودع هريرة إن الركب مرتحل ... وهل تطيق وداعا أيها الرجل.
وأرباب البديعيات بنوا أبياتهم على القسم الأول من أقسام التجريد، وهو ما كان (بمن التجريدية) لأنه أشهر وأكثر استعمالا من سائر الأقسام.
وبيت بديعية الصفي قوله:
شوس ترى منهم في كل معترك ... أسد العرين إذا حر الوطيس حمي.
وبيت بديعية ابن جابر قوله:
من وجه أحمد لي بدر ومن يده ... بحر ومن لفظه در لمنتظم.
وبيت بديعية العز الموصلي قوله:
من لفظه واعظ بالنصح جرد لي ... يا نفس توبي وللتجريد فالتزمي.
وبيت بديعية ابن حجة قوله:
لي في المعاني جنود في البديع وقد ... جردت منها لمدحي فيه كل كمي.
وبيت بديعية المقري قوله:
يسل منها بروقا قد كثرن حيا ... عند اللقا فهي تهمي من دمائهم.
ولم أقف على بيت بديعية السيوطي في هذا النوع.
وبيت بديعية العلوي قوله:
بدرا إذا اشتدت الهيجاء تشهده ... ليثا يقد العدى في كل مصطدم.
ولم ينظم الطبري هذا النوع من بديعيته التي شرحها.
وبيت بديعيتي قولي:(1/471)
جرت منهم لأعناق العدى قضبا ... تبري الرقاب بحد غير منثلم.
إيهام التوكيد.
حققت إيهام توكيدي لحبهم ... ولم أزل مغريا وجدي بهم بهم.
إيهام التوكيد استخرجه الشيخ زين الدين عمر بن الوردي، وسماه بهذا الاسم، وهو عبارة عن أن يعيد المتكلم في كلامه كلمة فأكثر، مرادا بها غير المعنى الأول، حتى يتوهم السامع من أول وهلة أن الغرض التأكيد وليس كذلك، ولذلك سمي إيهام التوكيد. ولم أقف عليه في شيء من كتب هذا الفن، وإنما أشار إليه الشيخ صلاح الدين الصفدي في شرح لامية العجم استطرادا وقال: إنه في غاية الحسن، يظن السامع من أول وهلة أنه من باب التكرار وتحصيل الحاصل، إلى أن يعيره ذهنه ويتأمل معنى الشاعر في ذلك فيرقص طربا. انتهى.
ومثاله في القرآن المجيد قوله تعالى (لمسجد أسس على التقوى من أول يوم أحق أن تقوم فيه فيه رجال يحبون أن يتطهروا والله يحب المطهرين) فقوله: فيه فيه، هو إيهام التوكيد، فإن السامع يظن من أول وهلة أن الثانية تأكيد للأولى وليس كذلك.
ومن الشعر قول أبى نصر أحمد بن علي بن (أبي) بكر. (الزوزني) :
ألا حل بي عجب عاجب ... تقاصر وصفي عن كنهه.
رأيت الهلال على وجه من ... رأيت الهلال على وجهه.
وقول أبي عبد الله محمد بن أحمد صاحب الجيش بمصر في عبد الحميد بن الحسين بن علي بن الوزير المغربي:
قد أطلع الفال منه معنى ... يدركه العالم الذكي.
رأيت جد الفتى عليا ... فقلت جد الفتى علي.
وقول القائل:
قالت لترب معها منكرة ... لو قفتي هذا الذي نراه من.
قالت فتى يشكو الهوى متيم ... قالت بمن قالت بمن قالت بمن.
معناه: قالت بمن هو متيم؟ تستفهم من تربها، قالت لها: بالذي قالت بمن، وهو مأخوذ من قول أبي الطيب:
قالت وقد رأت اصفراري من به ... وتنهدت فأجبتها المتنهد.
قال الصلاح الصفدي: في البيتين عيب لم أر أحد تنبه له وهو الإيطاء قي القافية، وهو أن (من) في القافيتين للاستفهام، ولو كانت أحدهما للاستفهام والأخرى موصولة كالوسطى في قوله (قالت بمن) لكان أكمل وأخلص من الايطاء في بيتين.
وأنشد الشيخ زين الدين (بن) الوردي لنفسه في هذا النوع:
تعشقت أحوى إليه وسائل ... وإصلاح أحوالي لديه لديه.
أمر به مستعطفا ومسلما ... فيثقل تسليمي عليه عليه.
فلا كان واش كدر الصفو بيننا ... وبغض تحبيبي إليه إليه.
ومثله قول ابن نقادة:
يثبت تأليف الهوى حسنها ... وقدها إن ماح للصب ماح.
وطرفها مسكرة خمرة ... إذا أديرت يا صاح صاح.
واضحها موضع عذري فما ... يلومني فيه إذا لاح لاح.
ولم ينظم أحد من أصحاب البديعيات هذا النوع، وقد تفردت أنا في نظمه في بديعيتي، وهو في قولي في آخر البيت (ولم أزل مغريا وجدي بهم بهم) .
فإن قولي بهم بهم، يوهم التوكيد وليس توكيدا، بل (بهم) الأولى متعلقة بوجدي، والثانية بقولي: مغريا، والله أعلم.
الترصيع.
بهم ترصيع نظمي وانجلى ألمي ... وكم توسع علمي واعتلى علمي.
الترصيع في اللغة، التركيب، يقال: رصعت الجوهر في التاج، أي ركبته فيه.
وفي الاصطلاح، هو أن يقابل الناثر والناظم كل لفظة من الفقرة الأولى، أو صدر البيت، بلفظة مثلها وزنا وتقفية في الفقرة الأخرى وعجز البيت، وهو مأخوذ من ترصيع العقد، وذلك بأن يكون في أحد جانبيه من الجوهر مثل ما في الجانب الأخر، كقوله تعالى (إن إلينا إيابهم، ثم إن علينا حسابهم) .
وقول الطبري:
وزند ندى فواضله وري ... ورند ربى فضائله نضير.
ودره جلاله أبدا ثمين ... ودر نواله أبدا غزير.
وأحسنه ما خلا عن تكرار الألفاظ التي ليست من الترصيع، بحيث لا يكون في لفظ البيت لفظة إلا وفي عجزه أخت تماثلها حتى في العروض والضرب.
كقول ابن النبيه:
فحريق جمرة سيفه للمعتدي ... ورحيق خمرة شهده للمغتدي.
فإن روعي فيه الطباق كقوله تعالى (إن الأبرار لفي نعيم وإن الفجار لفي جحيم) والجناس.
كقول اليوسفي:
فيا يومها كم من مناف منافق ... ويا ليلها كم من مناف موافق.(1/472)
كأن أحسن. قال العلامة نجم الدين الكرماني في قلائد العقيان: ولم يبلغ في هذا النوع شأو الإمام رشيد الدين المشتهر بالوطواط، فإن له قصائد باللسانين التزم فيها الترصيع من أولها إلى أخرها، فمنها.
قوله من قصيدة يمدح بها بعض من أكابر قومه:
جناب ضياء الدين للبر موقع ... وباب ضياء الدين للحر مربع.
وسيرته الزهراء للحق معلم ... وسدته الشماء للخلق مجمع.
فجدد منه للمراشد أرسم ... وشيد منه للمحامد أربع.
وعلياه فيها للخواطر مسرح ... ولقياه فيها للنواظر مرتع
فمنهل من يروي ثناءك مفعم ... ومنزل من ينوي جفاءك بلقع.
وصولك للأشرار متو ومتلف ... وطولك للأخيار مرو ومشبع.
وهي نيف وأربعون بيتا.
قلت: والوطواط المذكور هو رشيد الدين محمد بن محمد الجليل، ينتهي نسبه إلى عمر بن الخطاب. قال يا ياقوت: كان من نوادر الزمان وعجائبه، وأفراد الدهر وغرائبه، أفضل أهل زمانه في النظم والنثر، فاق في كلام العرب وأسرار النحو والأدب، وكان ينشئ في حالة واحدة بيتا بالعربية من بحر وبيتا بالفارسية من آخر ويمليهما معا. مولده ببلخ، ومات سنة ثلاث وسبعين وخمسمائة. انتهى ملخصا، وأرخ بعض مؤرخي العجم وفاته سنة ثمان وسبعين وخمسمائة، قال: وتوفي عن سبع وتسعين سنة. واشتهر أنه أول من دون علم المعنى، وكان في أول أمره في خدمة بعض الملوك، وكان الملك يأنس إلى منادمته وصحبته كثيرا، وكان الرشيد أقرع فعيره بعض من يحسده بالقرع بحضرة الملك، فقال الملك: إن الرشيد لوفور فضله لم يزل يماس السماء برأسه، فلا عجب إن زال شعر رأسه، ثم التفت إلى الرشيد وقال: إن رأسك عندي كعيني والعين لا ينبت عليها شعر، فانقطع ذلك الرجل. ومن تصانيفه: حدائق السحر في دقائق الشعر رسالة بالعربي وأخرى بالفارسي، وله غير ذلك.
وبيت بديعية الصيفي قوله:
من حاسر بغرار العضب ملتحف ... وسافر بغبار الحرب ملتثم.
وبيت بديعية ابن جابر قوله:
فهجر ربعي لذاك الربع مغتنمي ... ونثر جمعي لذاك الجمع معتصمي.
وبيت بديعية الموصلي قوله:
كم رصعوا كلما من در لفظهم ... كم أبدعوا حكما في سر علمهم.
وبيت بديعية ابن حجة قوله:
نعم ترصع شعري واعتلت هممي ... وكم ترفع قدري وانجلت غممي.
وبيت بديعية المقري قوله:
غيث بواكره موجودة النعم ... ليث بوادره محذورة النقم.
وبيت بديعية السيوطي قوله:
مرصع بنظم النطق في الكلم ... مصرع بعظيم الخلق والحكم.
وبيت بديعية العلوي قوله:
من غاير مقنع أو عاير مسرع ... وساير متبع أو باتر خذم.
وبيت بديعية الطبري قوله:
ترصيع ذكرى بوصف فيه محترم ... تصريع شعري بوصف فيه منتظم.
وبيت بديعيتي قولي:
بهم ترصع نظمي وانجلى ألمي ... وكم توسع علمي واعتلى علمي.
التفصيل.
طويت عن كل أمر يستلذ به ... كشحا وقد لذ لي تفصيل مدحهم.
التفصيل بصاد مهملة في اللغة: مصدر فصلت الشيء تفصيلا إذا جعلته فصولا متمايزة.
وفي الاصطلاح: عبارة عن أن يأتي المتكلم بشطر بيت من شعر له متقدم في نثره أو نظمه، صدرا كان أو عجزا، يفصل به كلامه به كلامه بعد أن يوطئ له توطئة ملائمة.
وقد يطلق التفصيل على معنى آخر في الاصطلاح، وهو أن يقدم الشاعر ما حقه التقديم، أو يفصل فيما حقه الاتصال، وهو من العيوب العامة للشعر، وقد تقدم مثاله في النوع التهذيب والتأديب، والمقصود هنا المعنى الأول، وغالب علماء البديع لم يذكروه في مصنفاتهم، وأورده الشيخ صفي الدين الحلي في بديعيته. ولا فرق بينه وبين الإيداع، سوى أن الإيداع إيراد الشاعر شطر بيت لغيره، والتفصيل إيراده شطر بيت لنفسه، وليس تحته كبير أمر.
وبيت بديعية الصفي الدين الحلي قوله:
صلى عليك إله العرش ما طلعت ... شمس وما لاح نجم في دجى الظلم.
قال في شرحه: صدر هذا البيت هو بحاله لي في قصيدة في مدح النبي صلى الله عليه وسلم وآله، أولها:
فيروز الصبح أم ياقوتة الشفق ... بدت فهيجت الورقاء في الورق.
والبيت الذي أتيته بصدره منها لئلا تخلو القصيدة من هذا النوع هو:(1/473)
صلى عليك إله العرش ما طلعت ... شمس النهار ولاحت أنجم الغسق.
ولم ينظم ابن جابر هذا النوع في بديعيته.
وبيت بديعية الموصلي قوله:
تفصيل مدحك تجميل لذي أدب ... أوصاله كفت البلوى من الرقم.
صدر هذا البيت كان عجز بيت له من قصيدة بائية مطلعها.
لو أن وجه رضائي غير منتقب ... ما سر قلبي بلوغي غاية الأرب.
والبيت الذي جعل عجزه صدرا في بيت بديعيته لأجل نوع التفصيل هو قوله منها:
كسوتني حللا بين الأنام بها ... تفصيل مدحك تجميل لذي أدب.
قال ابن حجة: هذا البيت كان تفصيل حلله كاملا في موضعه، ولما نقل عجزه وجعله صدرا في بديعيته ظهر في تفصيله نقص بقبوله، مع العقادة في العجز كفت البلوى من الرقم، فإن الرقم بفتح الراء وكسر القاف: الداهية، والداهية إذا دخلت بيتا تركته خرابا. انتهى، وهو في محله.
وبيت بديعية ابن الحجة قوله:
قد مال غصن النقا عن صبه هيفا ... ياليته بنسيب العتب لو عطفا.
قلت: ولا يخفى أن في قوله في عجز بيت البديعية (في غير تفصيل مدح) نقص ظاهر، لأنه أطلق المدح وكان حقه أن يقول (له، أو فيه، أو مدحه) ليختص المدح بالممدوح بالبديعية، وقوله في شرحه: وبيت بديعيتي أقول فيه عن النبي صلى الله عليه وسلم، لا يجيده في دفع هذا الاعتراض.
وبيت بديعية المقري قوله:
سلت ظبي وثنت للكسر أغمدها ... والموت إن كسرت جفنا ولم نشم.
قال في شرحه: هذا البيت أودعته شطرا من بيت لي في الغزل، فنقلته إلى معنى أخر، وصورة البيت:
ترنو بلحظ له جفن تكسره ... والموت إن كسرت جفنا ولم ينم.
وبيت بديعية العلوي قوله:
فشاة جابر أحياه وقد ذكروا ... عنه حياة أناس بعد موتهم.
وبيت بديعيتي قولي: طويت عن كل أمر يستلذ به=كشحا وقد لذ لي تفصيل مدحهم.
صدر هذا البيت كان صدر بيت لي من قصيدة رائية مدحت بها أبو الوالد قدس الله روحه في سنة إحدى وسبعين ألف، وذلك قبل نظم البديعية بست سنين. وقد عنا لي إيرادها بجملتها هنا لجزالتها وغرابة أسلوبها وهي:
أربة الخدر ذات الريط والخمر ... إليك عني فما التشبيب من وطري.
في كل قامة عسال تأوده ... كفاي لي غنية عن قدك النضر.
طويت عن كل أمر يستلذ به ... كشحا وأغضيت عن ورد وعن صدر.
غنيت بالمجد لا أبغي سواه هوى ... في هزة السمر ما يغني عن السمر.
وما أسفت على عصر قضيت به ... عيش الشبيبة في فسح من العمر.
إلا لفرقة إخوان ألفتهم ... من كل أصيد مثل الصارم الذكر.
طهر المآزر مذ نيطت تمائمهم ... نالوا من المجد ما نالوا من الظفر.
شادوا قباب المعالي من بيوتهم ... واستوطنوا ذروة العلياء من مضر.
كم فيهم من كريم زانه شمم ... تغريك غنته عن طلعة القمر.
سقى الحيا ربع أنس ضم شملهم ... ولا عدا سوحه مستعذب المطر.
يا للرجال لصب بالعلاء فمن ... يمسي ويصبح من دهر على غرر.
لو أنصفتني الليالي حزت مطلبي ... ولم أبت حلف وجد عاقر الوطر.
ألآن أحرز آمالي وأدركها ... بماجد غير ذي من ولا ضجر.
مسدد الرأي لم يعبأ لحادثه ... ولم تخنه يد الأيام والغير.
بدر يلوح بأفق الدست محتبيا ... ليث يصول بباع غير ذي قصر.
كم مهمة جبته بالسيف مشتملا ... والعزم يكحل جفن العين بالسهر.
في ليلة قد أضلتني غيا هبها ... حتى اهتديت إلى بيت من الشعر.
بطلعة كضياء الشمس غرتها ... ونفحة حملتها نسمة السحر.
فظلت والليل تغريني كواكبه ... أراقب الصبح من خوف ومن كدر.
وفي الكنائس من هام الفؤاد بها ... ترنوا إلي بطرف طامح النظر.
فأقبلت وتجارينا معانقة ... كأننا تلاقينا على قدري.
حتى بدت غرة الإصباح واضحة ... وطرة الليل قد شابت من الكبر.
ثم انثنينا ولم يدنس مضاجعنا=إلا بقايا شذى من نشرها العطر.
فاستعجلت تحكم الزنار عقدته ... وتسحب الذيل من خوف على الأثر.
واستقبلت دير رهبان قد اعتكفوا ... يزمزمون بألحان من الزبر.
يا ابن النبي دعاء قد كشفت له ... عن وجه لا واجم عيل ولا حصر.(1/474)
إليك لولاك لم أصعد نشوز ربى ... ولم أواصل سرى الادلاج بالبكر.
كم نعمة لك لا تحصى مآثرها ... نفعا أنافت على الهطالة الهمر.
وكم لي اليوم من جدواك من أمل ... أثقلت فيه قرا المهرية الصغر.
كم فيك من نعم ترجى ومن نقم ... تخشي العداة من نفع ومن ضرر.
أنت الذي خلقت للتاج هامته ... وكفه لطوال السمر والبتر.
ووقفة لك فلت كل منصلت ... والسمر ما بين منآد ومنكر.
سررت كل صديق في مواقفها ... ما كاد يسأل حتى سر بالخبر.
وليلة من عجاج النقع حالكة ... جلوتها منك بالأوضاح والغرر.
ما إن قدحت زنادا يوم ملحمة ... إلا وأتبعت فيه القدح بالشرر.
شهدت فيك سجايا قد سمعت بها ... ففزت منك بملء السمع والبصر.
وأنعم بعيدك في عز وفي دعة ... والدهر يفتر عن أيامك الزهر.
وخذ إليك عروسا طالما حجبت ... زفت إليك وقد صيغت من الدرر
واسلم على رتب العلياء مرتقيا ... مؤيد العزم في بدو وفي حضر.
ولم ينظم السيوطي ولا الطبري هذا النوع من بديعيتهما والله أعلم.
الترشيح.
إذا أتيت بترشيح لمدحتهم ... حلى لساني وجيدي فضل ذكرهم.
الترشيح في اللغة بمعنى التربية، يقال: رشح الندى النبت ترشيحا: رباه فترشحن وفلان يرشح للملك: يربى ويؤهل له.
وفي الاصطلاح، هو أن يأتي المتكلم بلفظة تؤهل غيرها لضرب من المحاسن البديعية: أما التورية كقول التهامي:
وإذا رجوت المستحيل فإنما ... تبني الرجاء على شفير هار.
فذكر الشفير يرشح الرجاء للتورية برجاء البئر، وهو ناحيتها، ولولا ذكره لما كان فيه تورية، ولكان من رجوت بمعنى ضد اليأس فقط، لقوله أولا: وإذا رجوت المستحيل.
أو الطباق كقول أبي الطيب:
وخفوق قلب لو رأيت لهيبه ... يا جنتي لرأيت فيه جهنما.
فقوله: يا جنتي، رشحت لفظة جهنم للمطابقة.
أو الاستخدام كقول أبي العلاء في صفة الدرع:
تلك مأذية وما لذباب الصي ... ف والسيف عندها من نصيب.
فإن ذكر السيف رشح الذباب لاستخدامه، بمعنى طرف السيف، ولولاه لا نحصر في معنى الطائر المعروف.
أو تحقيق المبالغة في التشبيه وذلك في الاستعارة والمرشحة، وهي التي قرنت بما يلائم المستعار.
كقوله تعالى (أولئك الذين اشتروا الضلالة بالهدى فما ربحت تجارتهم) فإنه استعار الاشتراء للاستبدال والاختيار، ثم رشحه بما يلائم الاشتراء من الربح والتجارة، فذكر الربح والتجارة يرشح حقوق المبالغة في التشبيه. وبيان ذلك: إن في الاستعارة مبالغة في التشبيه، فترشيحها بما يلائم المستعار تحقيق لذلك وتقوية. فظهر أن الترشيح لا يختص بنوع من البديع، فمن زعم أنه ضرب من التورية فلا معنى لجعله نوعا برأسه، فقد توهم.
وبيت بديعية الصفي قوله:
أن حل أرض الناس شد أزرهم ... بما أتاح لهم من حط وزرهم.
فقوله (سد) رشح لفظة (حل) للمطابقة، ولولاه لبقيت على عنى الحلول وفاتت المطابقة.
ولم ينظم ابن جابر هذا النوع في مطابقته.
وبيت بديعية الموصلي قوله:
في الفتح ضم من لأنصار شملهم ... جبرا لكسر بترشيح من الرحم.
رشح الفتح للتورية بذكر الصم، ورشح الضم للتورية بذكر الكسر.
وبيت بديعية ابن حجة قوله:
يس زادت على لقمان حكمته ... وبأن ترشيحه في نون والقلم.
فذكر لقمان رشح يس للتورية، وذكر نون والقلم رشح لقمان للتورية.
وبيت بديعية المقري قوله:
كم صاف في رمضي صيف وحر ظما ... من سامه رمضان الفطر لم يلم.
قال في شرحه: رمضان تثنية رمض، والمعنى (من كلفه رمض أن يفطر لم يلم) لأن رمضان هنا تثنية رمض، وقد شرحه لرمضان الذي هو شهر الصوم والفطر معه. وفي معنى البيت غرة. انتهى.
وبيت بديهية السيوطي قوله:
وكلما نسجوا حوكا بوشيهم ... عنى لهم رشحوه باختراعهم.
فذكر النسيج والحوك رشح الوشي للتورية بمعنى رقم الثوب ونقشه، ولولاه لبقي على معنى السعاية والنميمة.
وبيت بديعية العلوي قوله:
تراه أسود من لبس الدروع له ... بياض وجه يضي للوفد من الظلم.
وبيت بديعية الطبري قوله:(1/475)
عم الورى بيد سحنا يرشحها ... عطاؤه ليس يخشى فاقة النهم.
قال في شرحه: الشاهد فيه قولي: سحا عطاؤه، لأنهما رشحا باليد للنعمة دون الجارحة. انتهى، وفيه نظر ظاهر.
وبيت بديعيتي قولي:
إذا أتيت بترشح لمدحهم ... حلى لساني وجيدي فضل ذكرهم.
فذكر الجيد رشح وأهل لفظة حلى لاستخدامها بمعنى ألبسة الحلي، ولولاه لانحصرت في معنى جعله حلوا، والله أعلم.
الحذف.
حذفت ود سوى آل الرسول ولم ... أمدح سواهم ولم أحمد ولم أرم.
هذا النوع من مستخرجات الإمام أبي المعالي عز الدين بن الوهاب بن إبراهيم الزنجاني صاحب معيار النظار، وهو عبارة عن أن يحذف المتكلم من كلامه حرفا فأكثر من حروف الهجاء أو جميع الحروف المهملة، أو جميع المعجمة، بشرط عدم التكلف.
فالأول كالخطبة المعروفة بالمونقة لأمير المؤمنين (ع) إذ أخلاها من حرف الألف الذي هو أدخل في سائر الحروف في الكلام.
روى هشام بن محمد السائب الكلبي عن أبي صالح، أنه اجتمع أصحاب النبي صلى الله عليه وآله وسلم فتذاكروا، أي الحروف أدخل في الكلام؟ فأجمعوا أن الألف أكثر دخولا، فخطب علي عليه السلام بهذه الخطبة ارتجالا، وسماها المونقة وهي: حمدت من عظمت منيته، وسبقت رحمته، وتمت كلمته؛ ونفذت مشيته: وبلغت حجته، وعدلت قضيته.
حمدته حمد مقر بربوبيته، متخضع لعبوديته، متنصل من خطيئته، معترف بتوحيده، مؤمل من ربه مغفرة تنجيه، يوم يشغل عن فصيلته وبنيه.
ونستعينه ونسترشده ونؤمن به ونتوكل عليه، وشهدت له بضمير مخلص مؤمن موقن، وفردته تفريد مؤمن متيقن، ووحدته توحيد عبد مذعن، ليس له شريك في ملكه، ولم يكن له ولي في صنعه، جل عن مشير ووزير، وتنزه عن مثل ونظير.
علم فستر، وبطن فخبر، وملك فقهر، وعصي فغفر، وحكم فعدل. لم يزل ولن يزول وليس كمثله شيء، وهو (قبل كل شيء و) وبعد كل شيء، رب متفرد بعزته، متملك بقوته، متقدس بعلوه، متكبر بسموه؛ ليس يدركه بصر، ولم يحط به نظر، قوي منيع بصير سميع، علي حكيم، رؤوف رحيم.
عجز عن وصفه من يصفه، وضل في نعته من يعرفه. قرب فبعد، وبعد فقرب، يجيب دعوة من يدعوه، ويرزق عبده ويحبوه، ذو لطف خفي، وبطش قوي؛ ورحمة موسعة، وعقوبة موجعة، رحمته جنة عريضة مونقة، وعقوبته جحيم موصدة موبقة.
شهدت ببعث محمد عبده ورسوله، صفيه وحبيبه وخليله، بعثه خير عصر، وفي حين فترة وكفر، رحمة لعبيده، ومنة لمزيده، ختم به نبوته؛ وقوى به حجته، فوعظ ونصح، وبلغ وكدح، رؤوف بكل مؤمن، ولي سخي زكي رضي؛ عليه رحمة وتسليم، وبركة وتكريم، من رب غفور رحيم، قريب مجيب.
وصيتكم معشر من حضرني بوصية ربكم، وذكرتكم بسنة نبيكم. فعليكم برهبة تسكن قلوبكم، وخشية تذري دموعكم، وتقية تنجيكم قبل يوم يذهلكم ويبليكم، يوم يفوز فيه من ثقل وزن حسنته، وخف وزن سيئته، ولتكن مسألتكم مسألة ذل وخضوع، وشكر وخشوع، (بتوبة ونزوع) وندم ورجوع. وليغتنم كل مغتنم منكم صحته قبل سقمه، وشبيبته قبل هرمه، وسعته قبل عدمه، وخلوته قبل شغله، وحضره قبل سفره، قبل هو يكبر ويهرم، ويمرض ويسقم، ويمله طبيبه، ويعرض عنه حبيبه، ويتغير عقله (وينقطع عمره 6) ثم قيل هو موعوك، وجسمه منهوك، ثم جد في نزع شديد، وحضره كل قريب وبعيد، فشخص ببصره، وطمح بنظره، ورشح جبينه، وسكن حنينه، وجذبت نفسه، ونكبت عرسه؛ وحفر رمسه؛ ويتم ولده، وتفرق عنه عدده، وقسم جمعه، وذهب بصره وسمعه، وغمض ومدد، ووجه وجرد، وغسل ونشف، وسجي وبسط له، وهيئ، ونشر عليه كفنه وشد منه ذقنه، وقمص وعمم، (ولف) وودع وسلم، وحمل فوق سرير، وصلي عليه بتكبير، ونقل من دور مزخرفة، وقصور مشيدة، وحجر منجدة، فجعل في ضريح ملحود، ولحد ضيق مرصود، بلبن منضود، مسقف بجلمود. وهيل عليه حفرة، وحثي عليه مدره، فتحقق حذره، ونسي خبره، ورجع عنه وليه ونسيبه، وتبدل به قريبه وحبيبه (وصفيه ونديمه) ، فهو حشو قبر ورهين، يسعى في جسمه دود قبره، ويسيل صديده من منخره، ويسحق بدنه ولحمه، وينشف دمه، ويرمي عظمه حتى يوم حشره، فينشر من قبره، حين ينفخ في صور، ويدعى لحشر ونشور.(1/476)
فثم بعثرة قبور، وحصلت سريرة صدور، وجيء بكل نبي وصديق وشهيد (منطيق) ، وتوحد لفصل عند رب قدير بعبده خبير بصير. فكم من زفرة تضنيه، وحسرة تضنيه في موقف مهول عظيم، ومشهد جليل (جسيم 12) بين يدي ملك كريم، بكل صغيرة وكبيرة عليم. حينئذ يلجمه عرقه (ويخفره 13) قلقه عبرته غير مرحومة، وصرخته غير مسموعة، وحجته غير مقبولة (ونوول صحيفته، وتبين جريرته، ونطق كل عضو منه بسوء عمله 14) فشهدت عينه بنظره، ويده ببطشه، ورجله بخطوه، وجلده بمسه، وفرجه بلمسه، (ويهدده منكر ونكير، وكشف عنه بصره 15) ، فسلسل جيده، وغلت يده وسيق يسحب وحده، فورد جهنم بكرب شديد وظل يعذب في جحيم، وسقي شربة من حميم، تشوي وجهه، وتسلخ جلده، يضربه زبنيته بمقمح من حديد، يعود جلده كنضجه بعد كجلد جديد، يستغيث فتعرض عنه خزنة جهنم، ويستصرخ فيلبث حقبة بندم.
نعوذ برب قدير، من شر كل مصير، ونسأله عفو من رضى عنه، ومغفرة من قبل منه، فهو ولي مسألتي، ومنجح طلبتي، فمن زحزح عن تعذيب ربه سكن في جنته بقربه، وخلد في قصور مشيدة (ومكن من حور عين 18) وحفدة، وطيف عليه بكؤوس (وسكن خطيرة فردوس 19) ، وتقلب في نعيم، وسقي من تسنيم، وشرب من عين سلسبيل، ممزوجة بزنجبيل، مختومة بمسك وعبير (مستديم للحبور) ، مستشعر للسرور، يشرب من خمور في روض (مشرق) مغدق، ليس يصدع من شربه وليس ينزف. هذه مسالة من خشي ربه، وحذر نفسه، وتلك عقوبة من جحد مشيئة منشئه، وسولت له نفسه معصية مبدئه، وذلك قول فصل، وحكم عدل، خير قصص قص ووعظ، نص تنزيل من حكيم حميد، نزل به روح قدسي مبين، على قلب نبي مهتد مكين، صلت عليه رسل سفرة مكرمون بررة، عذت برب رحيم، من شر كل رجيم، فليتضرع متضرعكم، وليبتهل مبتهلكم (فسنستغفر رب كل مربوب لي ولكم) .
هذا آخر الخطبة المونقة لأمير المؤمنين علي عليه السلام. إنما آثرت إيرادها بجملتها مع تداولها وشهرتها، تبركا بها وبقائلها، وتيمنا بمأثور فضائلها.
وكان الصاحب إسماعيل بن عباد رحمه الله عمل قصيدة معراة من حروف الألف في مدح أهل البيت عليهم السلام تقع في سبعين بيتا أولها:
قد ظل يجرح صدري ... من ليس يعدوه فكري.
فتعجب الناس منها وتداولها الرواة، فاستمر على ذلك النهج، وعمل قصائد كل واحدة منها خالية من حرف من حروف الهجاء، بقيت عليه واحدة تكون معراة من حرف الواو، فانبرى لعملها صهره أب الحسن علي بن الحسين الهمذاني وقال قصيدة فريدة أخلاها من الواو، ومدح الصاحب في عرضها وأولها:
برق ذكرت به الحبائب ... لما بدا فالدمع يسكب.
أمدامعي منهلة ... هاتيك أم غزر السحائب.
نثرت لآليء أدمع ... لم تفترعها كف ثاقب.
يا ليلة أفنيتها ... بمضاجع فيها عقارب.
لما سرت ليلى تحث ... لنأيها عنا الركاب.
ظلت تجيل لحاظها ... كالسيف لم يخط المضارب.
للسحر في أرجائها ... مهما أرادتها ملاعب.
جعلت قسي سهامها ... أن ناضلته عقد حاجب.
لم يخط سهم أرسلت ... هـ إن سهم اللحظ صائب.
تسقيك ريقا سكره ... إن قسته للخمر غالب.
كم قد تشكى خصرها ... من ضعفها ثقل الحقائب.
كم أخجلت بضفائر ... أبدت لنا ظلم الغياهب.
أخجال كف الصاحب القرم المرجى للسحائب.
ملك تلألأ من معا ... قد عزه شرف المناصب.
نشأت سحائب رفده ... في الخلق تمطر في بالرغائب.
وهي طويلة تنيف على الستين [بيتا] .
والثاني هو حذف جميع البيوت المهملة.
كقول الحريري:
فتنتني فجننتني تجني ... بتفن يفتن غب تجني.
شغفتني بجفن ظبي غضيض ... غنج يقتضي تفيض جفني.
والقطعة مبينة على هذا مع صنعة أخرى، وهي أن حروفها كلها متصلة.(1/477)
والثالث هو حذف جميع الحروف المعجمة، كقوله في صدر خطبة: الحمد لله سامع الدعاء، وساطع اللألأء، وحاسم اللأواء، ومدمر الأعداء، وصلى الله على رسوله محمد أحمد الرسل أحكاما، وأعلاهم إعلاما، وأسعدهم طالعا، وأسماهم مطالعا، وأكرمهم ملة، وأوكدهم أدلة؛ المرسل إلى الأسود (و) الأحمر، والمعمل للحسام الصارم والرمح الأسمر، وعلى آله العلماء، وأهله الكرماء، ما طلع هلال السماء، واطلع لؤلؤ الدأماء. اسمعوا رحمكم الله وعوا، واسعوا إلى ما دعاكم الله وأسرعوا، ودعوا طول الأمل، وسارعوا إلى صالح العمل، واطرحوا سوء المطامع، وسدوا عما ألهاكم المسامع، وأصلحوا للمعاد أحوالكم، وأدركوا مصارعكم وأهوالكم. أما والله لو علم امرؤ ما أمامه، لصارم آرامه، وأهمل ما رامه، وسالم إسلامه، وسأل الله السلامة.
وللحريري خطبتان على هذا النمط من إسقاط حروف النقط، إحداهما أولها: الحمد لله الممدوح الأسماء، المحمود الألاء، والأخرى أولها: الحمد لله الملك المحمود المالك الودود.
ومن أمثلته الشعرية قول الحريري أيضاً:
أعدد لحسادك حد السلاح ... وأورد الأمل ورد السماح.
وصارم اللهو ووصل المها ... وأعمل الكوم وسمر الرماح.
واسع لإدراك محل سما ... عماده لا لاد راع المراح.
والله ما السؤدد حسو الطلا ... ولا مراد الحمد رود رداح.
واها لحر صدره واسع ... وهمه ما سر أهل الصلاح.
مورده حلو لسؤاله ... وماله ما سألوه مطاح.
ما أسمع الأمل ردا ولا ... ما طله والمطل لؤم صراح.
ولا أطاع اللهو لما دعا ... ولا كسا راحا له كأس راح.
وقلت أنا على هذا الوزن والروي:
لله ما أحلى وصال الملاح ... وما الردى إلا صدور الرماح.
لا أصلح الله عدوا لحى ... على الهوى لما رأى الوصل لاح.
لو علم اللائم ما رامه ... ملومه ما رام إلا الصلاح.
ما السعد إلا وصل سعدى ولا ... روح الهوى إلا كؤوس وراح.
والله لا أسلو هواها ولو ... لام مصرا ولحى كل لاح.
وللسيد عبد الله الطيلاواني قصيدة عاطلة في الموعظة أولها:
رد الحلم واسمع ما رواه امرؤ آس ... وأسس عماد العلم وأحكم آساس.
وراع عهود الله وأورع وعوده ... وحم حول إصلاح لواسع أرماس.
ودم سالكا سهل الكمال ووعره ... ودم صالح الأعمال حاسم وسواس.
ودع كلما ألهاك عما أراكه ... إلهك وارحم كل عال وكسكاس.
وصل وصل واسمح ورم ورم على ... وسد وسد واصدع ودع سكر الكاس.
وكل كل أمر لودود وصم وكل ... حلالا وواصل درس أحكام أطراس.
ورم صالح الأعمال والمال مصلحا ... لمورد إسراع ومصدر أعراس.
وعاد سماع اللهو واعدا مهرولا ... لداع دعا الله واعد لمدارس.
وهي طويلة تقع في اثنين وثمانين بيتا.
ومما لا بد من معرفته في هذا الموضع معرفة ما ينقط مالا ينقط من الحروف فنقول: الحروف على قسمين: أحدهما ما ينقط موصولا ومفصولا وهو الباء والتاء والثاء والجيم والخاء والزاي والشين والضاد والظاء والغين والفاء والقاف والنون والياء، وقيل في الأربعة الأخيرة أنها لا تلفظ إذا لم توصل بما بعدها لعد الاشتباه. وقد سوى الحريري في المقامات بينها متصلة ومنفصلة.
الثاني ما لا ينقط، إما لأنه لا مشابه له صورة، أو لأنه استغني عن نقطه بلزوم النقط لما شاركه في الصورة، وجميع ذلك الهمزة والألف والحاء والدال والسين والصاد والطاء والعين والكاف واللام والميم والواو والهاء. وأما تاء التأنيث في نحو، تمرة طيبة، وجارية زيد، فقد قال المطرزي: لم أجد في نقطها نصا ولأن كنا ننقطها، إلا أن الحريري لم يعدها في حروف النقط، ولهذا ضمن خطبته العرية من الإعجام قوله: ومساورة الإعلال، ومصارمة الأهل والمال، وذلك من إتباعهم الخط.
وأما رحمت الله بالتاء الممدودة، فلأنه لما لزم استعمالها مع الله وحده حتى صارت بمنزلة ما لا ينفصل، كتبت هكذا على اللفظ، كما اتصلت بالمضمر نحو جاريتي وجاريتك.
ونقط الهمزة في نحو قائل وبائع، عامي، والحريري نقطها في الرقطاء في حبائل ونائل وملائم، وعذره كونها على صورة الياء في الخط.(1/478)
وأما كلمة (لا) فعدها حرفا واحدا كما عدها الحريري في الرقطاء كقوله: أخلاق سيدنا، عامي.
والمشدد يعد حرفا واحدا، نظرا إلى الصورة، ولهذا سمي الخليل نحو (مد) و (ود) ثنائيا.
وبيت بديعية صفي الحلي في هذا النوع مبني على التعرية نمن النقط وهو:
آل رسول محل العلم ما حكموا ... لله إلا وعدوا سادة الأمم.
ولم ينظم ابن جابر هذا النوع في بديعيته.
قال ابن حجة: وأما الشيخ عز الدين فقد تعذر عليه نظم الحذف للحروف المنقوطة لأجل تسمية النوع في البيت، إذ فيه الذال، والفاء، ولا بد من التورية بتسمية النوع كما شرط أولا، فكل منا جنح (في) باب الحذف إلى جهة.
أما الشيخ عز الدين فإنه ذكر أنه نظم في بيت الحروف النورانية المقطعة، وسمى الحذف في بيته إسقاطا فقال:
أروم إسقاط ذنبي بالصلاة على ... محمد وعلى صديقه العلم.
وأما ابن حجة فإنه حذف من بيته الأحرف التي تنقط من تحت فقال:
وقد أمنت وزال الخوف منخذفا ... نحو العدو ولم أحقر ولم أضم.
وبيت بديعية المقري قوله:
شديد حلم سديد حلمه يقظ ... يقضي ويمضي ويرضي غير متهم.
قال في شرحه: المحذوف منه ثلاثة عشر حرفا، وهي عدا ما ذكر في البيت.
وبيت بديعية العلوي قوله:
الله أودعه سرا وعلمه ... علما سما محكم الإحكام والحكم.
وبيت بديعيتي التزمت فيه حذف الحروف المنقوطة من جميع ألفاظه، إلا اسم النوع ضرورة، والعذر فيه واضح، وهو قولي:
حذفت ود سوى آل الرسول ولم ... أمدح سواهم ولم أحمد ولم أرم.
ولم أقف على بيت السيوطي في هذا النوع. وأما الطبري فلم ينظمه، والله أعلم.
التوزيع.
توزيع لفظي لمدحي فيهم شرفي ... في النشأتين ففخري في مديحهم.
هذا النوع من مستخرجات الشيخ صفي الدين الحلي في بديعيته وشرحها، وهو أن يوزع المتكلم حرفا من حروف الهجاء في كل لفظة من كلامه نظما كان أو نثرا، بشرط عدم التكلف.
وقد حاء في الكتاب العزيز مثل ذلك بغير قصد، وذلك لإعجازه وانسجامه وفصاحته، وكونه لا يغادر صغيرة ولا كبيرة إلا أحصاها، وهو قوله تعالى: (كي نسبحك كثيرا، ونذكرك كثيرا، إنك كنت بنا بصيرا) فالكاف ملزوم في جميع الكلمات سوى الفاصلة.
وكقول سليم الهوى النبلي وهي قصيدة لزم في كلماتها القاف أولها:
رشقت قلبي أحاق الرشاق ... فسقامي لسقام بالحداق.
وقول الحظوري وفي كل كلمة همزة:
بأبي أغيد أذاب فؤادي ... إذ تناءي وأظهر الأغراضا.
رشأ يألف الخباء فإن [..=.] أبدي لآمليه انقباضا.
وبيت بديعية الصفي قوله (ولزم فيه حرف الميم) :
محمد المصطفى المختار من ختمت ... بمجده مرسلو الرحمن للأمم.
ولم ينظم ابن جابر ولا الموصلي ولا ابن حجة ولا السيوطي ولا الطبري هذا النوع، أما إغفالا أو إهمالا.
وبيت بديعية المقري قوله: (ولزم فيه حرف الراء) :
عسير حرب يسير الرعب ينصره ... شهرا بشير نذير طاهر الأرم.
وبيت بديعية العلوي قوله (ولزم فيه حرف الميم) :
محمد المجتبى المحبو من ملك ... بما يكرم من مجد ومن نعم.
وبيت بديعيتي قولي (والملزوم فيه حرف الياء) :
توزيع لفظي لمدحي فيهم شرفي ... في النشأتين ففخري في مديحهم.
التسميط.
سمطت من فرحي في وصفهم مدحي ... ولم أنل منحي إلا بجاههم.
التسميط مأخوذ من السمط- بكسر السين المهملة وسكون الميم- وهو خيط النظم، كأنهم جعلوا القافية كالسمط، والأجزاء المسجعة بمنزلة حبات العقد، أو من السمط بمعنى القلادة، كأنهم جعلوا البيت بتفصيله بالأجزاء المسجعة كالقلادة المفصلة بالجواهر المناسبة. وهو عبارة عن أن يجعل الشاعر البيت من قصيدة، أو كل بيت منها، أربعة أقسام، ثلاثة منها على سجع واحد مع مراعاة القافية في الرابع.
كقول جنوب الهذلية:
وحرب وردت ... وثغر سددت.
وعلج شددت ... عليه الحبالا.
ومال حويت ... وخيل حميت.
وضيف قريت ... يخاف الوكالا.
وكقول الحريري والشاهد فيما عدا المطلع:
أيا من يدعي الفهم ... إلى كم يا أخا الوهم.
تعبي الذم والذنب ... وتخطي الخطأ الجم.(1/479)
أما بان لك العيب ... أما أنذرك الشيب.
وما في نصحه ريب ... ولا سمعك قد صم.
أما نادى بك الموت ... أما أسمعك الصوت.
أما تخشى من الفوت ... فتحتاط وتهتم.
فكم تسدر في السهو ... وتختال من الزهو.
وتنصب إلى اللهو ... كأن الموت ما عم.
وحتام تجافيك ... وابطاء تلا فيك.
طباعا جمعت فيك ... عيوبا شملها انضم.
إذا أسخطت مولاك ... فما تقلق من ذاك.
وإن أخفق مسعاك ... تلظيت من الهم.
وإن لاح لك النقش ... من الأصفر تهتش.
وإن مر بك النعش ... تغاممت ولا غم.
تعاصي الناصح البر ... وتعتاص وتزور.
وتنقاد لمن غر ... ومن هان ومن نم.
وتسعى في هوى النفس ... وتحتال على الفلس.
وتنسى ظلمة الرمس ... ولا تذكر ما ثم.
ولو لاحظك الحظ ... لما طاح بك اللحظ.
ولا كنت إذا الوعظ ... جلا الأحزان تغتم.
ستذري الم لا الدمع ... إذا عاينت لا جمع.
يقي في عرصة الجمع ... ولا خال ولا عم.
كأني بك تنحط ... إلى القبر وتنغط.
وقد أسلمك الرهط ... إلى أضيق من سم.
هناك الجسم ممدود ... ليستأ كله الدود.
إلى أن ينخر العود ... ويمسي العظم قد رم.
ومن بعد فلا بد ... من العرض إذا اعتد.
صراط جسره مد ... على النار لمن أم.
فكم من مرشد ضل ... ومن ذي عزة ذل.
وكم من عالم زل ... وقال الخطب قد طم.
فبادر أيها الغر ... لما يحلو به المر.
فقد كاد يهي العمر ... وما أقلعت عن ذم.
ولا تركن إلى الدهر ... وإن لان وإن سر.
فتلقى كمن اغتر ... بأفعى تنفث السم.
وخفض من تراقيك ... فإن الموت لاقيك.
وسار في تراقيك ... وما ينكل إن هم.
وجانب صعر الخد ... إذا ساعدك الجد.
وزم النطق إن ند ... فما أسعد من زم.
ونفس عن أخي البث ... وصدقه إن نث.
ورم العمل الرث ... فقد أفلح من رم.
ورش من ريشه انحص ... بما عم وما خص.
ولا تأس على النقص ... ولا تحرص على اللم.
وعاد الخلق الرذل ... وعود كفك البذل.
ولا تستمع العذل ... ونزهها عن الضم.
وزود نفسك الخير ... ودع ما يعقب الضير.
وهيئ مركب السير ... وخف من لجة اليم.
بذا وصيت يا صاح ... وقد بحت كمن باح.
فطوبى لفتى راح ... بآدابي يأتم.
وقوله أيضاً:
لزمت السفار ... وجبت القفار.
وعفت النفار ... لا جني الفرح.
وخضت السيول ... ورضت الخيول.
لجر ذيول ... الصبي والمرح.
ومطت الوقار ... وبعت العقار.
لحسو العقار ... ورشف القدح.
ولولا الطماح ... إلى شرب راح.
لما كان باح ... فمي بالملح.
ولا كان ساق ... دهائي الرفاق.
بأرض العراق ... بحمل السبح.
فلا تغضبن ... ولا تصخبن.
ولا تعتبن ... فعذري وضح.
ولا تعجبن ... لشيخ أبن.
بمغنى أغن ... ودن طفح.
فإن المدام ... تقوي العظام.
وتشقي السقام ... وتنفي الترح.
وأصفى السرور ... إذا ما الوقور.
أماط ستور ... الحيا واطرح.
وأحلى الغرام ... إذا المستهام.
أزال اكتتام ... الهوى وافتضح.
فبح بهواك ... وبرد حشاك.
فزند أساك ... به قد قدح.
وداو الكلوم ... وسل الهموم.
ببنت الكروم ... التي تقترح.
وخص الغبوق ... بساق يسوق.
بلاء المشوق ... إذا ما طمح.
وشاد يشيد ... بصوت تميد.
جبال الحديد ... له إن صدح.
وعاص النصيح ... الذي لا يبيح.
وصال المليح ... إذا ما سمح.
وجل في المحال ... ولو بالمحال.
ودع ما يقال ... وخذ ما صلح.
وخالف أباك ... إذا ما أباك.
ومد الشباك ... وصد من سنح.
وصاف الخليل ... وناف البخيل.(1/480)
وأول الجميل ... ووال المنح.
ولذ بالمتاب ... أمام الذهاب.
فمن دق باب ... كريم فتح.
وبعضهم يسمي كل ذلك تسجيعا، والصحيح أن بينهما فرقا، وهو أن التسجيع يلزم فيه أن يكون سجع أجزائه على روي البيت، وأن تكون أجزاؤه متزنة، وعددها محصورا، بخلاف التسميط. وذهب الخليل رحمه الله إلى أن الشعر المسمط هو الذي يكون في صدر البيت أبيات مشطورة، أو منهوكة مقفاة، ثم تجمعها قافية مخالفة لازمة للقصيدة حتى تنقضي.
كقول امرئ القيس:
ومستلئم كشفت بالرمح ذيله ... أقمت بعضب ذي سفاسق ميله.
فجئت به في ملتقى الكر خيله ... تركت عناق الطير تحجل حوله.
كأن على سرباله نضح جريال.
وقول المطرزي:
يا خليلي اسقياني بالزجاج ... حلب الكرمة من غير مزاج.
أنا لا ألتذ سمعا باللجاج ... فاسقنيها قبل تغريد الدجاج.
قبل أن يؤذن صبحي بانبلاج.
إن أردت الراح فاشربها صباحا ... بعد أن تصحب أترابا ملاحا.
جمعوا حسنا وأنسا ومزاحا ... وغدوا كالبحر علما وسماحا.
فهم مفتاح باب الابتهاج.
وقول الحريري وهو شطور الأبيات المنهوكة:
خل ادكار الأربع ... والمعهد المرتبع.
والظاعن المودع ... وعد عنهم ودع.
واندب زمانا سلفا ... سودت فيه الصحفا.
ولم تزل معتكفا ... على القبيح الشنع.
كم ليلة أودعتها ... مآثما أبدعتها.
لشهوة أطعمتها ... في مرقد ومضجع.
وكم خطى حثثتها ... في خزية أحدثتها.
وتوبة نكثتها ... لملعب ومرتع.
وكم تجرأت على ... رب السماوات العلى.
ولم تراقبه ولا ... صدقت فيما تدعي.
وكم غمطت بره ... وكم أمنت مكره.
وكم نبذت أمره ... نبذ الحذا المرقع.
وكم ركضت في اللعب ... وفهت عمدا بالكذب.
ولم تراع ما يجب ... من عهده المتبع.
فالبس شعار الندم ... وسكب شآبيب الدم.
قبل زوال القدم ... وقبل سوء المصرع.
واخضع خضوع المعترف ... ولذ ملاذ المقترف.
واعص هواك وانحرف ... عنه انحراف المقلع.
إلام تسهو وتني ... ومعظم العمر فني.
فيما يضر المقتني ... ولست بالمرتدع.
أما ترى الشيب وخط ... وخط في الرأس خطط.
ومن يلح وخط الشمط ... بفوده فقد نعي.
ويحك يا نفس احرصي ... على ارتياد المخلص.
وطاوعي وأخلصي ... واستمعي النصح واعي.
واعتبري بمن مضى ... من القرون وانقضى.
واخشي مفاجاة القضا ... وحاذري أن تخدعي.
وانتهجي سبل الهوى ... وادكري وشك الردى.
وإن مثواك غدا ... في قعر لحد بلقع.
آهاً له بيت البلى ... والمنزل القفر الخلا.
ومورد السفر الألى ... واللاحق المتبع.
بيت يرى من أودعه ... قد ضمه واستودعه.
بعد الفضاء والسعة ... قيد ثلاث أذرع.
لا فرق أن يحله ... داهية أو أبله.
أو معسر أو من له ... ملك كملك تبع.
وبعده العرض الذي ... يحوي الحيي والبذي.
والمبتدي والمحتذي ... ومن رعى ومن رعي.
فيا مفاز المتقي ... وربح عبد قد وقي.
سوء الحساب الموبق ... وهول يوم الفزع.
ويا خسار من بغى ... ومن تعدى وطغى.
وشب نيران الوغى ... لمطعم أو مطمع.
يا من عليه المتكل ... قد زاد ما بي من وجل.
لما اجترحت من زلل ... في عمري المضيع.
فاغفر لعبد مجترم ... وارحم بكاه المنسجم.
فأنت أولى من رحم ... وخير مدعو دعي.
ومن التسميط نوع أخر يسمى تسميط التقطيع، وهو أن يسجع جميع أجزاء تفعيل البيت على روي يخالف القافية، وهو عزيز الوقوع.
كقول ابن أبي الإصبع:
وأسمر مثمر بمزهر نضر ... من مقمر مسفر عن منظر حسن.(1/481)
فإن جميع أجزاء تفعيل هذا البيت من سباعية وخماسية مسجع على خلاف سجعة الجزء الذي هو قافية البيت. ومنهم من سمى هذا النوع (الموازنة) وعده نوعا مستقلا، وسيأتي ذكره عن قريب إن شاء الله تعالى. وأصحاب البديعيات بنوا أبياتهم على التسميط بالمعنى الأول لأنه هو الأشهر.
وبيت بديعية الصفي الحلي قوله:
فالحق في أفق والشرك في نفق ... والكفر في فرق والدين في حرم.
ولم ينظم ابن جابر هذا النوع في بديعيته.
وبيت بديعية الموصلي قوله: تسميط ذي أدب تنظيم ذي أرب=تحقيق ذي غلب بالنصر ملتزم.
وبيت بديعية ابن حجة قوله:
تسميط جوهره يلفى بأبحره ... ورشف كوثره يروى لكل ظم.
وبيت بديعية المقري قوله:
كم مهجة وسما لما رقى وسما ... ما فوق سابع سما وخص بالكلم.
وبيت بديعية السيوطي قوله:
في رأسه غسق في وجهه فلق ... في ثغره نسق تسميط درهم.
وبيت بديعية العلوي قوله:
سرى إلى أفق والليل في غسق ... وجاز في طرق لم ترم لم ترم.
وبيت بديعية الطبري قوله:
على البراق سرى لربه نظرا ... ولات حين سرى في سمط سيرهم.
وبيت بديعيتي قولي:
سمطت من فرحي في وصفهم مدحي ... ولم أنل منحي إلا بجاههم.
التجزئة.
جزيت في كلمي أغليت في حكمي ... أبديت من هممي أرويت كل ظم.
هذا النوع عبارة عن أن يجزئ الشاعر جميع البيت أجزاء عروضية يسجعها كلها على رويين مختلفين، أحدهما على روي البيت والثاني مخالف.
كقول الشاعر:
هندية لحظاتها خطية ... خطواتها دارية نفحاتها.
وقول أبي الحسن السلامي:
ظلت تزف الدنيا له محاسنها ... وتستعد له الألطاف والتحفا.
كم ماطر وكفا أو باهر خطفا ... أو طائر هتفا أو سائر وقفا.
وقل شيخنا العلامة محمد الشامي:
قد كنت آمل أن تموت صبابتي ... حتى نظرت إليك يا ابنة يعرب.
فطربت ما لم تطربي ورغبت ما ... لم ترغبي ورهبت ما لم ترهبي.
وبيت بديعية الصفي قوله:
ببارق خذم في مأزق أمم ... أو سابق عرم في شاهق علم.
ولم ينظم ابن جابر هذا النوع في بديعيته.
وبيت بديعية الموصلي قوله:
ذي فضل أندية ذي عدل تجزية ... فالذيب في ظلم يمشي مع الغنم.
هذا البيت لا ينطبق عليه تعريفهم للتجزئة، فهو خارج عما نحن فيه.
وبيت بديعية ابن حجة قوله:
وريت في كلمي جزيت في قسمي ... أيديت من حكمي جليت كل عم.
وبيت بديعية المقري قوله:
جنابه حرمي أبوابه أجمي ... كتابه حكمي أبابه عصمي.
وبيت بديعية السيوطي قوله:
جزيت منتظمتي وفيت ملتزمتي ... أهديت من كلمي ألفيت مغتنمي.
وبيت بديعية العلوي قوله:
بوابل رزم في ( ... ) أمم ... ونائل جثم لسائل عدم.
وبيت بديعية الطبري قوله:
نداه مغتنمي هداه معتصمي ... جزيت من كلمي وفيت ملتزمي.
هذا البيت خارج عن حد هذا النوع أيضاً كما لا يخفى.
وبيت بديعيتي قولي:
جزيت في كلمي أغليت في حكمي ... أبديت من هممي أرويت كل ظم.
سلامة الاختراع.
نلت السلامة من بحر القريض وقد ... سلكته لاختراعي در وصفهم.
هذا النوع عبارة عن أن يخترع الشاعر معنى لم يسبق إليه، وسماهم بعضهم الإبداع وهو اسم مطابق للمسمى، غير أن أصحاب البديعيات وكثيرا من علماء البديع اصطلحوا على جعل الإبداع اسما للإتيان في البيت الواحد والفقرة الواحدة بعدة أنواع من البديع، وقد تقدم الكلام عليه. وسمعوا هذا النوع الاختراع ولك ما اصطلح.
قال عبد الحميد كاتب مروان بين محمد- وهو مضروب به المثل في البلاغة-: خير الكلام ما كان لفظه فحلا، ومعناه بكرا.
فمن المعاني المخترعة قول ابن الرومي:
توددت حتى لم أدع متوددا ... وأفنيت أقلامي عتابا مرددا.
كأني أستدني بك ابن حنية ... إذا النزع أدناه من الصدر أبعدا.
ثم تلاعب الشعراء بعده بعدة بنظم هذا المعنى، فقال كشاجم:
أرى وصالك لا يصفو لأمله ... والهجر يتبعه ركضا على الأثر.
كالقوس أقرب سهميها إذا عطفت ... عليه أبعدها من نزعة الوتر.
وقال ناصح الدين الأرجاني:(1/482)
فلا تنكروا حق المشوق فإننا ... لنا وعليكم أنجم الليل تشهد.
أرانا سهاما في الورى ونراكم ... حنايا فما تدنون إلا لتبعدوا.
وقال ابن (قسيم) الحموي:
فهو كالسهم كلما زدته من ... ك دنوا بالنزع زادك بعدا.
وآخر من نظمه شيخنا الشامي فقال:
كل شمل وإن تجمع حينا ... يوف يمنى بفرقة وشتات.
لا ألوم النوى فرب اجتماع ... كان أدنى لفرقة وبتات.
مثلما زيدت السهام غلوا ... في صدور العدى بقرب الرماة.
ومنها قول ابن الرومي في خباز رقاق:
ما أنس خباز أنس مررت به ... يدحو الرقاقة وشك اللمح بالبصر.
ما بين رؤيتها في كفه كرة ... وبين إلقائها قوراء كالقمر.
إلا بمقدار ما تنداح دائرة ... في صفحة الماء يلقى فيه بالحجر.
وقوله في قالي الزلالية:
ومستقر على كرسيه تعب ... روحي الفداء له من منصب تعب.
رأيته سحرا يقلي زلابية ... في رقة القش والتجويف للقصب.
كأنما زيته المغلي حين بدا ... كالكيماء التي قالوا ولم تصب.
يقلي العجين لجينا من أنامله ... فيستحيل شبابيكا من الذهب.
وقوله أيضاً:
وإذا امرؤ مدح امرءاً لنواله ... وأطال فيه فقد أراد هجاءه.
لو لم يقدر فيه بعد المستقى ... عند الورود لما أطال رشاءه.
وقوله أيضاً في ذم الخضاب، قال أبو الحسين جعفر بن علي الحمداني ما سبقه أحد إلى هذا المعنى:
إذا دام للمرء السواد وأخلقت ... شبيبته ظن السواد خضابا.
فكيف يظن الشيخ أن خضابه ... يظن سوادا أو يخال شبابا.
وقول أبي الطيب المتنبي:
خلقت ألوفا لو أعدت إلى الصبا ... لفارقت شيبي موجع القلب باكيا.
وقوله أيضاً:
صدمتهم بخميس أنت غرته ... وسمهريته في وجهه غمم.
وكان أثبت ما فيهم جسومهم ... يسقطن حولك والأرواح تنهزم.
الشاهد في البيت الثاني، وأما الأول فمأخوذ من قول الحماسي:
فلو أنا شهدناكم نصرنا ... بذي لجب أزب من العوالي.
والزبب في الإنسان كثرة الشعر، وفي الإبل كثرة شعر الوجه.
وقول أبي الطيب أيضاً في كافور:
فجاءت بنا إنسان عين زمانه ... وخلت بياضا خلفها ومآقيا.
قال أبو العباس أحمد بن محمد النامي الشاعر: كان قد بقي من الشعر زاوية دخلها المتنبي، وكنت أشتهي أن أكون قد سبقته إلى معنيين فإنهما ما سبق إليهما.
أحدهما قوله:
زماني الدهر بالإرزاء حتى ... فؤادي في غشاء من نبال.
فصرت إذا أصابتني سهام ... تكسرت النصال على النصال.
والآخر قوله أيضاً:
في جحفل ستر العيون غباره ... فكأنما يبصرن بالآذان.
ومن معانيه المخترعة قوله أيضاً:
فإن تفق الأنام وأنت منهم ... فإن المسك بعض دم الغزال.
وقوله أيضاً:
وما أنا منهم بالعيش فيهم ... ولكن معدن الذهب الرغام.
قال الثعالبي: هذا معنى قد اخترعه المتنبي، وكرره في تفضيل البعض على الكل، فأحسن غاية الإحسان حيث قال:
فإن تكن تغلب الغلباء عنصرها ... فإن في الخمر معنى ليس في العنب.
وقوله أيضاً:
فإن يكن سيار بن مكرم انقضى ... فإنك ماء الورد إن ذهب الورد.
ومن المعاني المخترعة قول أبي العلاء المعري:
كالنجم تستصغر الأبصار رؤيته ... والذنب لعين لا للنجم في الصغر.
وقوله أيضاً:
والخل كالماء يبدي لي ضمائره ... مع الصفاء ويخفيها مع الكدر.
وقول أبي إسحاق إبراهيم الغزي:
حملنا من الأيام مالا نطيقه ... كما حمل العظم الكسير العصابا.
قال الثعالبي: أنشدني أبو جعفر مجمد بن عبد الله الأسكافي لنفسه في معنى تفرد به وهو قوله:
الله يشهد والملائك أنني ... لعظيم ما أوليت غير كفور.
نفسي فداؤك لا لقدري بل أرى ... إن الشعير وقاية الكافور.
ومن سلامة الاختراع قول القاضي الأرجاني:
رثى لي وقد ساويته في نحوله ... خيالي ما لم يكن لي راحم.
فدلس بي حتى طرقت مكانه ... وأوهمت النفي أنه بي حالم.
وبتنا ولم يشعر بنا الناس ليلة ... أنا ساهر في جفنه وهو نائم.
وقول الأبيوردي في الخمر:(1/483)
ولها من ذاتها طرب ... فلهذا يرقص الحبب.
وقول ابن القيسراني: هو الذي سلب العشاق نومهم=أما ترى عينه ملأى من الوسن.
وقول أبي يوسف يعقوب بن صابر المنجيقي:
قبلت وجنته فألوى جيده ... خجلا ومال بعطفه المياس.
فانهل من خديه فوق عذاره ... عرق يحاكي الطل فوق الآس.
فكأنني استقطرت ورد خدوده ... بتصاعد الزفرات من أنفاسي.
قال القاضي شمس الدين بن خلكان: وأنشدني صاحبنا عفيف الدين علي بن عدلان المعروف بالمترجم لأبي يوسف المنجيقي المذكور، وذكر أنه لم يسبق إليه، وهو قوله:
لا تكن واثقا بمن كظم الغي ... ظ اغتيالاً وخف غرار الغرور.
فالظبي المرهفات أفتك ما كا ... نت إذا غاض ماؤها في الصدور.
وأنشدني الشيخ العلامة محمد بن علي الشامي رحمه الله تعالى لنفسه، قال: وهو مما لم أسبق إليه:
هجروا وما صبغ الشباب عوارضي ... عجلان ما علق المشيب بزيقي.
فكأنني والشيب أقرب غاية ... يوم الفراق كرعت من رواوق.
ومن معانيه المخترعة قوله أيضاً:
لم يضمروا قتل المدام فمالها ... تصفر من وجل ومن إشفاق.
خجلت لقهقهة الزجاج فجللت ... بقميصه الوردي وجه الساقي.
وقوله أيضاً من قصيدة تقدم بعضها:
قمر يفور النور من أطواقه ... فكأنها فوارة للنور.
وأنشدني لنفسه صاحبنا السيد الأجل حسين بن علي بن الأمير شرف الدين الحسني وذكر أنه لم يسبق إليه:
ومتى الفتى يوما نأى عن داره ... لقي الهوان ولو يكن جليلا.
كالسهم يبقى بعد فرقة قوسه ... فوق التراب
وإن أصاب
ذليلا.
ومما وقع لي من المعاني المخترعة قولي في وصف الخمر من قصيدة تقدم إنشادها في نوع الغلو:
فانهض إلى حمراء صافية ... قد كان يشرب بعضها بعض.
وقولي منها:
لا تنكرن لهوي على كبري ... فعلي من عصر الصبا قرض.
وقولي من أخرى:
يفتر ثغر حباب الكأس في يده ... كأنها حين يجلوها تمازحه.
وقولي في وصفة سيف الوالد قدس الله روحه:
لا تحسبن فرند صارمه به ... وشيا أجادته القرون فأبهر.
هذا ندى يمناه سال بمنته ... فغدا يلوح بصفحتيه جوهرا.
وقولي فيمن أورث شرب الخمر يده رعشة: لا تحسب الراح أورثت يده=من سوئها رعشة لها اضطرابا.
لكنه لا يزال يلمسها=بالكف تهتز دائما طربا.
وقولي أيضاً من قصيدة:
أرعى له العهد وكم ليلة ... حليت من ذكراه كأس النديم.
فليتني إذا لم يزرني سوى ... خياله من بعض أهل الرقيم.
وبيت بديعية الصفي قوله:
كادت حوافرها تدمي جحافلها ... حتى تشابهت الأحجال بالرثم.
الجحفلة (بتقديم الجيم والحاء المهملة) : بمنزلة الشفة للخيل والبغال والحمير، ولا تختص بالعليا كما زعم ابن حجة. والرثم- بالتحريك، بياض في طرف أنف الفرس، أو كل بياض أصاب الجحفلة العليا فبلغ الرسن، أو بياض في الأنف. يقول: إن هذه الخيل لسرعتها في الركض اتصلت أحجالها بجحافله، حتى تشابها في البياض.
ولم ينظم ابن جابر هذا النوع في بديعيته.
وبيت بديعية الموصلي قوله:
سلامة لاختراعي في على هممي ... اسمي وفعلي كحرف عند رسمهم.
قال في شرحه: اسمي علي، وفعلي علي، والحرف المشبه بهما في هذا المعنى على الذي هو معدود من حروف الجر.
قال ابن حجة: لو ألحق الشيخ عز الدين ما قاله هنا بالألغاز لكان أليق وأقرب، فإن سلامة الاختراع وغرابة المعنى عنه بمعزل.
وبيت بديعية ابن حجة قوله:
وقده باختراع سالم أنف ... يبدو بترويسه من رأس كل كمي.
قال في شرحه: هذا الاختراع يعد من المرقص والمطرب. قلت: لم أر في هذا البيت اختراعا سوى قوله: ترويسه، فإنها لفظة مخترعة لم ترد بها لغة، ولا نطق بها أحد قبله، وأما تشبيهي قد الرمح بالألف فهو من التشبيهات المبتذلة التي ليس فيها غرابة ولا سلامة اختراع.
وبيت بديعية المقري قوله:
أمضى من البرق يغشى الموت من خطفت ... يوم الكريهة قبل العلم بالألم.
ولم أقف على بيت بديعية السيوطي في هذا النوع.
وبيت بديعية العلوي قوله:
لو مر في قلبه أن لا يضر فتى ... حر الجحيم لما بالى من الضرم.(1/484)
ولم ينظم الطبري هذا النوع في بديعيته.
وبيت بديعيتي قولي:
نلت السلامة من بحر القريض وقد ... سلكته لاختراعي در وصفهم.
تضمين المزدوج.
وصحبة الأوفياء الأصفياء أتى ... تضمين مزدوج مدحي لجمعهم.
هذا النوع لم ينظمه الشيخ صفي الدين الحلي (ره) في بديعيته، ولا سائل أصحاب البديعيات التي ذكرناها، وهو من مستخرجات صاحب المعيار. قال: وهو أن يأتي المتكلم في أثناء قراين النثر، أو أحد شطري البيت، بلفظين مسجعين بعد مرعاة حدود الأسجاع والقوافي. كقوله تعالى "وجئتك من سبأ بنبأ يقينٍ" وقوله "ويدعوننا رغباً ورهباً" وقوله "ولا نطيع فيكم أحداً أبدا"، وقول رسوله عليه وآله السلام: المؤمنون هينون لينون.
ومثاله من النظم قول البحتري:
إن الظباء غداة سفح محجّر ... هيّجن حرَّ جوىً وفرط تذكر
من كل ساجي الطرف أغيد أجيد ... ومهفهف الكشحين أحوى أحور
وقول الآخر يرثي الصاحب بن عباد:
مضى الصاحب الكافي ولم يبق بعده ... كريم يروي الأرض فيض غمامه
فقدناه لما تمَّ واعتمَّ بالعلى ... كذاك خسوف البدر عند تمامه
وقول بعضهم:
تعود وسم الرهب والنهب في العلى ... وهذان وقت اللطف والعنف دابه
ففي اللطف أرزاق العفاة هباته ... وفي العنف أعمار العداة نهابه
والشاهد في بيت البديعية قولي: الأوفياء الأصفياء، والله أعلم.
ائتلاف اللفظ مع المعنى
لفظي ومعناي قد صحَّ ائتلافهما ... بمدح أروع ماضي السيف والقلم
هذا النوع عبارة عن أن تكون ألفاظ الكلام ملائمة للمعنى المراد منه فإن كان فخماً كانت ألفاظه مفخمة، أو غريباً فغريبة، أو متداولاً فمتداولة، أو متوسطاً بين الغرابة والاستعمال فكذلك، كقوله تعالى "ولا تركنوا إلى الذين ظلموا فتمسكم النار"، لما كان الركون إلى الظالم وهو الميل إليه دون مشاركته في الظلم، وجب أن يكون العقاب عليه دون العقاب على الظلم، فأتى بلفظ المس دون الإحراق والإصلاء، وقوله تعالى "لها ما كسبت وعليها ما اكتسبت" أتى بلفظ الاكتساب المشعر بالكلفة والمبالغة في جانب السيئة لثقلها.
ومثاله قول زهير:
أثافي سفعاً في معرس مرجل ... ونؤيا كجذم الحوض لم يتلثم
فلما عرفت الدار قلت لربعها ... ألا أنعم صباحاً أيها الربع واسلم
الأثافي، هي الأحجار التي تنصب عليها القدر، جمع أثفية - بضم الهمزة وتشديد الياء - والسفع: السود، جمع سفعاء كسود جمع سوداء. والمعرس: المنزل، من التعريس وهو النزول في وجه السحر، استعارة للمكان الذي ينصب فيه المرجل، والمرجل: القدر، والنؤي: حفيرة تحفر حول الخباء لئلا يدخله المطر. والجذم بالكسر: أصل الشيء. ولم يتلثم [أي] لم تحصل له ثلمة. وأثافي، منصوب على البدل أو الحال من الدار في البيت السابق وهو:
وقفت بها من بعد عشرين حجة ... فلأياً عرفت الدار بعد توهُّم
واللأي: النظر، أي عرفتها بعد نظر وتوهم. والشاهد في البيتين أنه أتى في البيت الأول بألفاظ غريبة لكون معناه متعارفاً، وهو الدعاء بالنعمة والسلامة.
وعن خلاد قال: قلت لبشار بن برد: إنك لتجيء بالشيء المتفاوت، قال: وما ذاك؟ قال: قلت: بينما تقول شعراً تثير به النقع، وتخلع به القلوب مثل قولك:
إذا ما غضبنا غضبة مضرية ... هتكنا حجاب الشمس أو قطرت دما
إذا ما أعرنا سيداً من قبيلة ... ذرى منبر صلى علينا وسلما
إلى أن تقول:
ربابة ربة البيت ... تصب الخل في الزيت
لها عشر دجاجات ... وديك حسن الصوت
فقال: لكل شيء وجه وموضع، فالقول الأول جدّ، وهذا قلته في جاريتي ربابة، وأنا لا آكل البيض من السوق، فربابة هذه لها عشر دجاجات وديك، فهي تجمع لي البيض وتحفظه، فهذا من قولي عندها أحسن من (قفا نبك من ذكرى حبيب ومنزل) عندك.(1/485)
وأنا أذكر هنا فصلاً من كتاب الوساطة للقاضي أبي الحسن علي بن عبد العزيز الجرجاني - ويليق ذكره بهذا النوع - وهو قوله (لا آمرك بإجراء أنواع الشعر كله مجرى واحداً، ولا أن تذهب بجميعه مذهب بعضه، بل أرى لك أن تقسم الألفاظ على مراتب المعاني، فلا يكون غزلك كافتخارك، ولا مديحك كوعيدك ولا هجاؤك كاستبطائك، ولا هزلك بمنزلة جدك، ولا تعريضك مثل تصريحك. بل ترتب كلاً مرتبته وتوفيه حقه، فتتلطف إذا تغزلت، وتفخم إذا افتخرت، وتتصرف للمديح تصرف مواقعه. فإن المدح بالشجاعة والبأس يتميز عن المدح باللباقة والظرف، ووصف الحرب والسلاح ليس كوصف المجلس والندام، ولكل واحد من الأمرين نهج هو أملك به، وطريق لا يشاركه الآخر فيه. وليس ما رسمته لك في هذا الباب بمقصور على الشعر دون الكتابة، ولا يختص بالنظم دون النثر، بل يجب أن يكون كتابك في الفتح أو الوعيد خلاف كتابك في الشوق أو التهنية، وخطابك إذا حذرت وزجرت أفخم منه إذا وعدت ومنيت. انتهى.
وبيت بديعية الصفي قوله:
كأنما حلق السعدي منتثراً ... على الثرى بين منفضٍّ ومنفصم
ولم ينظم ابن جابر هذا النوع في بديعيته.
وبيت بديعية الموصلي قوله:
تؤلف اللفظ والمعنى فصاحته ... تبارك الله منشي الدر في الكلم
وبيت بديعية ابن حجة قوله:
تألف اللفظ والمعنى بمدحته ... والجسم عندي بغير الروح لم يقم
قوله: عندي من الحشو القبيح.
وبيت بديعية المقري قوله:
بر رحيم ومن عاداه معترف ... يقرُّ بالفضل عيني كل محتكم
وبيت بديعية السيوطي قوله:
سهل رفيق رحيم لين رؤوفٌ ... تألّف اللفظ في معناه بالحكم
وبيت بديعية العلوي قوله:
وإن عدا ذو عناد غص ساعته ... بالموت عادا غداً أو كان من إرم
وبيت بديعية الطبري تقدم في أنواع المشاكلة.
وبيت بديعيتي قولي:
لفظي ومعناي قد صحَّ ائتلافهما ... بمدح أروع ماضي السيف والقلم
الموازنة
موازن مازن مستحسن حسن ... معاون صائن مستكمن شهم.
هذا النوع عبارة عن أن يقفي الشاعر جميع أجزاء البيت العروضية على قافية واحدة، أو روي واحد بخلاف روي البيت من غير حشو بلفظ أجنبي يفرق بين أجزائه وبين الأخر.
كقول امرئ القيس:
أفاد فساد وقاد فذاذ ... وشاد فجاد وعاد فافضل
وجعل ابن أبي الإصبع هذا النوع قسما من التسميط وسماه تسميط التقطيع، وقد مرت الإشارة إلى ذلك في نوع التسميط، ولا مشاحة في الاصطلاح.
ومنه قول ابن هاني المغربي:
يا دار أشبهت المها فيك المها ... والسرب إلا آتهن عوا طل.
إذ ذلك الوادي قنا وأسنة ... وإذ الديار مشاهد ومحافل.
وعوابس وقوابس وفوارس ... وكوانس وأوانس وعقائل.
وقوله أيضاً:
ملأوا البلد رغائباً وكتائباً ... وقواضباً وشوازباً إن ساروا.
وجداولاً وأجادلاً ومقاولاً ... وعواملاً وذوابلاً واختاروا.
وبيت بديعية الشيخ صفي الدين قوله:
مستقل قاتل مسترسل عجل ... مستأصل صائل مسنحفل خصم.
ولم ابن جابر ولا المعز الموصلي ولا ابن حجة ولا السيوطي ولا الطبري هذا النوع في بديعياتهم.
وبيت بديعية المقري قوله:
مصدق صادق مدّفق غدق ... موافق أفق مغدودق الديم.
وبيت بديعية العلوي قوله:
مستكمل كامل مستنفصل فصل ... مستفضل فاضل مستوصل الرحم.
وبيت بديعيتي قولي:
موازن مازن مستحسن حسن ... معاون صائن مستكمن شهم.
الموازن اسم فاعل من الموازنة بمعنى المكافأة، قال في القاموس: وإن فلانا: كافاه على فعاله. مازن اسم فاعل من مزن بمعنى أضاء وجهه، والشهم: الذكي المتوقد الفؤاد، والسيد النافذ الحكم، والله أعلم.
ائتلاف اللفظ مع الوزن.
تألف اللفظ والوزن البسيط به ... فاطرب له من بديع النظم منسجم.
هذا النوع عبارة عن تكون كلمات البيت صحيحة الترتيب واللغة والإعراب، بحيث لا يضطر الشاعر لأجل إقامة الوزن إلى تقديم بعض الألفاظ وتأخير بعضها فيفسد تصور المعنى ويذهب رونق اللفظ، وإلى فصل ما حقه الاتصال، وإلى إفساد اللغة بزيادة في الكلمة أو نقصان، أو إلى إفساد الإعراب.(1/486)
فالأول كقول الفرزدق يمدح إبراهيم بن هشام بن إسماعيل المخزومي خال هشام بن عبد الملك بن مروان:
وما مثله في الناس إلا مملك ... أبو أمه أبوه يقاربه.
أي ليس مثله في الناس حي يقاربه- أي أحد يشبه- في الفضائل، إلا مملك أبو أمه أبوه، ومقصوده: لا يماثله أحد إلا ابن أخته الذي هو هشام.
وقول أبي الطيب:
أتى يكون أبو البرايا آدم ... وأبوك والثقلان أنت محمد.
وتقديره: أن يكون آدم أبو البرايا وأبوك محمد وأنت الثقلان.
والثاني كقول معاوية: نجوت وقد بل المرادي سيفه=من ابن أبي شيخ الأباطح طالب.
التقدير: من ابن أبي طالب شيخ الأباطح، يعني به علي بن أبي طالب عليه السلام، ففصل بين المضاف والمضاف إليه.
والثالث كقول الكميت:
لا كعبد المليك أو كوليد ... أو سليمان بعد أو كهشام.
أراد: كعبد الملك. وقول الآخر (من نسج داود أبي سلام) أرد سليمان عليه السلام.
وقول نهار بن توسعة:
كانت خراسان أرضا إذ يزيد بها ... وكل باب من الخيرات مفتوح.
فاستبدلت قتبا جعدا أنامله ... كأنما وجهه بالخل منصوح.
فقوله: قتبا يعني به قتيبة بن مسلم.
وقول أبي الطيب:
فدى من على الغبراء أولهم أنا ... لهذا الأبي الماجد الجايد القرم.
ولم يسمع من العرب (الجايد) وإنما المسكوع: رجل جواد، ومطر جود.
والرابع كقول امرئ القيس:
يا راكب بلغ أخواننا ... من كان من كندة أو وائل.
فنصب قوله بلغ وحقه السكون. وقوله:
اليوم أشرب غير مستحقب ... إثما من الله ولا واغل.
فجزم قوله (اشرب) وحقه الرفع. إذا عرفت ذلك فهذا ليس له مثال يختص به بصورة معينة، بل كل شعر خلا من هذه التعسفات ونحوها صلح مثالا له.
وبيت بديعية الصفي قوله:
في ظل أبلج منصور اللواء له ... عدل يؤلف بين الذيب الغنم.
ولم ينظم ابن جابر هذا النوع في بديعيته.
وبيت بديعية الموصلي قوله:
أؤلف اللفظ مع وزن بمدحه مو ... لانا وذم عدو بين الثلم.
وبيت بديعية ابن حجة قوله:
واللفظ والزن في أوصافه ائتلفا ... فما يكون مديحي غير منسجم.
وبيت بديعية المقري قوله:
حتف المناوين ثبت القلب كاسره ... بقلبه شهبا في كل مصطدم.
وبيت بديعية العلوي قوله:
يمناه كالحوض يروي كل ذي ظمأ ... حباه كالرزق يأتي كل ذي نسم.
وبيت بديعيتي قولي:
تألف اللفظ والوزن البسيط به ... فاضطرب له من بديع النظم منسجم.
ولم أقف على بيت بديعية السيوطي في هذا النوع. وأما الطبري فلم ينظمه في بديعيته، والله أعلم.
ائتلاف الوزن مع المعنى.
وألف الوزن والمعنى له لسني ... بمقول غير ذي عي ولا وجم.
هذا النوع عبارة عن أن يكون البيت صحيح المعنى، مستقيم الوزن، لا يضطر الشاعر فيه لإقامة الوزن إلى إخراج المعنى عن وجه الصحة، أو تقديم أو تأخير أو حذ ف.
كما وقع للأجدع في قوله:
وأصبحن بالأجزاع أجزاع تريمٍ ... يقلبن هاما في عيون سواهم.
أراد يقلبن عيونا سواهم في هام. فقلب لأجل إقامة الوزن.
ومثله قول عروة بن الورد:
فلو أني شهدت أبا سعاد ... غداة غد بمهجته يفوق.
فديت بنفسه نفسي ومالي ... وما ألوه إلا ما أطيق.
أراد أن يقول: فديت نفسي، فلم يستقم له الوزن فقلب.
وقول الشماخ:
منه ولدت ولم يؤشب به حسبي ... ليا كما عصب العلباء بالعود.
أراد كما عصب العود بالعلباء، فقلب، والعلباء بالعين المهملة وبعد اللام باء موحدة: عصب عنق البعير.
وقول الحماسي على إحدى الروايتين:
ليهنك إمساكي على الكف بالحشا ... ورقراق دمعي خشية من زيالك.(1/487)
أراد إمساكي على الحشا بالكف. ومتى خلا الشعر عن مثل هذا كان مؤتلف الوزن والمعنى، وصح كونه مثالا لهذا النوع، هكذا قرره البديعيون. وقضية أن القلب مردود مطلقا، وهو مذهب قوم من أصحاب المعاني والبيان. وذهب قوم إلى أنه مقبول مطلقا، وهو رأي السكاكي. قال في المفتاح: إن هذا النمط يسمى فيما بيننا بالقلب، وهو شعبة من الإخراج لا على مقتضى الظاهر ولها شيوع في التراكيب، وهو مما يورث الكلام ملاحة، ولا يشجع عليها إلا كمال البلاغة. وتأتي في الأشعار، وفي التنزيل.
يقولون: عرضت الناقة على الحوض، يريدون: عرضت الحوض على الناقة.
وقال القطامي (كما طينت بالفدن السياعا) أراد: كما طينت الفدن بالسياع.
وقال رؤبة:
ومهمه مغبرة أرجاؤه ... كأن لون أرضه سماؤه.
أراد: كأن لون سمائها من غبرتها لون أرضه. وقال الآخر (يمشي فيقعس أو يكب فيعثر) أراد: ويعثر فيكب. وفي التنزيل "وكم من قرية أهلكناها فجاءها باسنا" أي جاءها بأسنا فأهلكناها- على أحد الوجهين- وفيه "ثم دنا فتدلى" يحمل على تدلى فدنا. وفيه "اذهب بكتابي هذا فألقه إليهم ثم تول عنهم فأنظر ماذا يرجعون" على ما يحمل من ألقه إليهم فانظر ماذا يرجعون فتول عنهم. انتهى كلامه.
وقال الخطيب في الإيضاح: الحق أن القلب أن تضمن اعتبارا لطيفا قبل، والأرد.
أما الأول فكقول رؤبة (كأن لون أرضه سماؤه) فعكس التشبيه للمبالغة.
ونحوه قول أبي تمام يصف قلم الممدوح:
لعاب الأفاعي القاتلات لعابه ... وأري الجنى اشتارته أيد عواسل.
وأما الثاني فكقول القطامي يصف ناقته بالسمن:
فلما أن جرى سمن عليها ... كما طينت بالفدن السياعا.
أمرت بها الرجال ليأخذوها ... ونحن نظن أن لن تستطاعا.
والفدن: القصر. والسياع: الطين المخلوط بالتبن.
وقول حسان:.؟
كأن سبيئة من بيت رأس ... يكون مزاجها عسل وماء.
على أنيابها أو طعم غض ... من التفاح هصره اجتناء.
السبيئة- بالهمزة-: الخمرة المشتراة للشرب، وأما المحمولة من بلد إلى بلد فبالياء لا غير. وبيت رأس: مدينة صغيرة بالشام بين رملة وغزة تعصر فيها الخمور.
وقول القطامي:
قفي قبل التفرق يا ضباعا ... ولا يك موقف منك الوداعا.
وقد ظهر من هذا قوله تعالى "وكم من قرية أهلكناها فجاءها بأسنا" ليس وارد على القلب، إذ ليس في تقرير القلب فيه اعتبار لطيف. وكذا قوله "ثم دنا فتدلى" وكذا قوله "اذهب بكتابي هذا فألقه إليهم ثم تول عنهم فانظر ماذا يرجعون". فأصل الأول: فأردنا إهلاكها فجاءها بأسنا، أي إهلاكنا.
وأصل الثاني: أراد الدنو من محمد فتدلى فتعلق في الهواء. ومعنى الثالث: تنح عنهم إلى مكان قريب تتوارى فيه، ليكون ما يقولونه بمسمع منك فانظر ماذا يرجعون. فيقال: أنه دخل عليها من كوة فألقى الكتاب إليها وتوارى في الكوة.
وقال أبو الحيان: لا ينبغي حمل القرآن على القلب، إذ أنه ضرورة، وإذا كان المعنى بدونه صحيحاً فما الحامل عليه؟ وليس في قولهم: عرضت الناقة على الحوض ما يدل على القلب، لأن عرض الناقة على الحوض، وعرض الحوض على الناقة كليهما صحيحان، والله تعالى أعلم.
وبيت بديعية الصفي قوله:
من مثله وذراع الشاة كلمه ... عن سمه بلسان صادق الرنم.
الرنم بالتحريك: الصوت. ولم ينظم ابن جابر هذا النوع.
وبيت بديعية الموصلي قوله:
تؤلف الوزن والمعنى مدائحه ... فللمعاني ترى الألفاظ كالخدم.
وبيت بديعية ابن حجة قوله:
والوزن صح مع المعنى تألفه ... في مدحه فأتى بالدر في الكلم.
وبيت بديعية المقري قوله:
وليس يثني ثنائي عنهم أحد ... إن رمت بالسعي أجري في مديحهم.
وبيت بديعية السيوطي قوله:
وفي ائتلاف المعاني والوزن تلا ... زين الهدى عمر الفاروق ذو الشيم.
وبيت بديعية العلوي قوله:
في كفه سبح الحصبا وحذره العضو السميم بسم دس في السم.
وبيت بديعية الطبري قوله:
تؤلف الوزن والمعنى زيادته ... وزنا على الكل من عرب وعجم.
وبيت بديعيتي قولي:
وألف الوزن والمعنى له لسني ... بمقول غير ذي عي ولا وجم.(1/488)
اللسن بالتحريك: الفصاحة. والمقول بالكسر كمنبر: اللسان. والعي بكسر العين المهملة: الحصر والعجز عن بيان الحجة. والوجم ككتف، من وجم عنده كوعد، أي سكت فزعا، والله أعلم.
ائتلاف اللفظ مع اللفظ.
وجاء بالفظ فيه وهو مؤتلف ... باللفظ يحدو به الحادون بالنغم.
هذا النوع للبديعين في تعريفه عبارتان: أحداهما ما ذكره الشيخ صفي الدين الحلي في شرح بديعيته، وتبعه عليه جميع أصحاب البديعيات، وهو أن يكون في الكلام معنى يصح معه واحد من عدة معان، فيختار منها ما بين لفظه وما بين الكلام ائتلاف وملائمة وإن كان غيره يسد مسده.
كقول البحتري:
كالقسي المعطفات بل الأس ... هم مبرية بل الأوتار.
فإن تشبيه الإبل بالقسي من حيث هو كناية عن هزالها يصح معه تشبيهها بالعراجين والأهلة والإطناب ونحوها، فاختار من ذلك تشبيهها بالأسهم والأوتار، لما بينهما وبين القسي من الملائمة والائتلاف. انتهى.
ولا يخفى أن هذا التعريف والتمثيل شاملان لمراعاة النظير، وما ذكره في الفرق بينهما من ائتلاف اللفظ مع اللفظ هو أن يكون في الكلام ائتلاف وملائمة وإن كان غيره يسد مسده، ومراعاة النظير عبارة عن الجمع بين المتشابهات في النوعية فقط، تمحل وتكلف لا داعي إليه، وقد أشرنا إلى ذلك في ما تقدم من الكلام على مراعاة النظير.
الثانية ما ذكره الجلال السيوطي في الإتقان، وهو أن تكون الألفاظ يلائم بعضها بعضا بأن يقرن القرين بمثله، رعاية لحسن الجوار والمناسبة، كقوله [تعالى] "تالله تفتؤ تذكر يوسف حتى تكون حرضا" أتى بأغرب ألفاظ القسم وهي التاء، فإنها أقل استعمالا وأبعد من أفهام العامة بالنسبة إلى الباء والواو، وبأغرب صيغ الأفعال التي ترفع الأسماء وتنصب الأخبار وهو (تفتؤ) فإن (تزال) أقرب إلى الإفهام، وأكثر استعمالا من (تفتؤ) ، وبأغرب ألفاظ الهلاك وهو (الحرض) فاقتضى حسن الوضع أن تجاور كل لفظة بلفظة من جنسها في الغرابة، توخيا لحسن الجوار ورغبة في ائتلاف الألفاظ، لتتعادل في الوضع، وتتناسب في النظم.
ولما أراد غير ذلك قال "واقسموا بالله جهد أيمانكم" فأتى بجميع الألفاظ ولا غرابة فيها، وهذا التعريف والتمثيل لهذا النوع هو الذي ينبغي المصير إليه والتعويل عليه، ليكون نوعا مستقلا مغايرا لمراعاة النظير. واعلم أن الكلام متى ائتلفت ألفاظه ومبانيه، وتناسبت مقاصده ومعانيه وقع من الفصاحة موقعه، وسكن من البلاغة موضعه، فاستهش الأنفس وأنق الأسماع، ونشط الأذهان واستخف الطباع، وربما نقل السامع من خلقه الطبيعي إلى ما يضاده، حتى أنه يسمع به البخيل، ويشجع به الجبان، ويحلم به الطائش.
ومن ثم قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: وإن من البيان لسحراً. ولما أنشد أبو العتاهية بين يدي المهدي (والأشجع وبشار حاضران) قوله:
ألا ما لسيدتي ما لها ... تدل فأحمل إدلالها.
ألا إن جارية للإما ... م قد أسكن الحسن سربالها.
لقد أتعب الله قلبي بها ... وأتعب في اللوم عذالها.
حتى بلغ قوله:
كأن بعيني من أثر ما ... نظرت من الأرض تمثالها.
قال بشار- وكان أعمى-: يا أشجع انظر، هل جروا برجله؟ فقال: لا، بل زحف حتى صار إلى طرف السرير.
واستنشد أبا دلف أبي تمام قصيدته التي رثى بها محمد بن حميد، فلما بلغ قوله:
توفيت الآمال بعد محمد ... وأصبح في شغل عن السفر السفر.
وما كان إلا مال من قل ماله ... وذخرا لمن أمسى وليس له ذخر.
تردى ثياب الموت حمرا فما أتى ... له الليل إلا وهي من سندس خضر.
كأن بني نبهان يوم وفاته ... نجوم سماء خر من بينها البدر.
بكى أبو دلف وقال: وددت أنها في، فقال أبو تمام: بل يطيل الله بقاء الأمير وأفديه بنفسي، فقال: إنه لم يمت من قيل فيه هذا. فانظر إلى هذه الكريمة التي ترغب في الذكر الجميل، فيتمنى لأجلها الحمام، وهل ذلك إلا للسر الذي أودعه الله في بليغ الكلام؟.
وبيت بديعية الصفي قوله:
خاضوا عباب الوغى والخيل سابحة ... في بحر حرب بموج الموت ملتطم.
ولم ينظم ابن جابر ولا السيوطي هذا النوع.
وبيت بديعية الموصلي قوله:
ساروا وجدوا النوى واللفظ مؤتلف ... من لسن دمعي بلفظ جد منسجم.(1/489)
وبيت بديعية المقري قوله:
رضاعه كان في سعد ومولده ... فيه ومبعثه بالسعد للأمم.
وبيت بديعية العلوي قوله:
منجي الورى من بحار الذنب إذ غرقوا ... بموجها بجواري موجها العمم.
وبيت بديعية الطبري قوله:
هذا نذير شفيع كم به ائتلفا ... لفظ به مع لفظ ألفة الرحم.
وبيت بديعتي قولي:
وجاء باللفظ فيه وهو مؤتلف ... باللفظ يحدو به الحادون بالنغم.
الإيجاز.
لا ترضى إيجاز مدحي فيهم أصغ إلى ... مدحي الذي شاع بين الحل والحرم.
الإيجاز في اللغة مصدر أوجز في كلامه: إذ قلله.
وقي الاصطلاح، قال السكاكي: هو أداء المقصود من الكلام (بأقل من عبارة المتعارف) .
وقال الخطيب: هو التعبير عن المراد بلفظ ناقص عنه، واف به.
وقال ابن الأثير وجماعة: هو التعبير عن المراد بلفظ غير زائد.
وقد استوفيت الكلام على ذلك في نوع البسط فليرجع إليه. وهو- أعني الإيجاز- قسمان، إيجاز قصر، وإيجاز حذف: - فالأول هو الوجيز بلفظه: قال الشيخ بهاء الدين السبكي: الكلام القليل إن كان بعض من كلام أطول منه فهو إيجاز قصر.
وقال بعضهم: إيجاز القصر هو تكثير المعنى بتقليل اللفظ.
وقال آخر: هو أن يكون اللفظ بالنسبة إلى المعنى أقل من قدر المعهود عادة.
وسبب حسنه أنه يدل على التمكين في الفصاحة، ولهذا قال صلى الله عليه وسلم: أوتيت جوامع الكلم. قال بعضهم: أي أعطيت قوة إيجاز في اللفظ مع بسط في المعاني، فأتيت بالكلمات اليسيرة والمعاني الكثيرة. ومن أمثلته قوله تعالى "إن الله يأمر بالعدل والإحسان وإيتاء ذي القربى وينهى عن الفحشاء والمنكر والبغي".
فإن العدل هو الصراط المستقيم المتوسط بين طرفي الإفراط والتفريط المشار به إلى جميع الواجبات اعتقادا وخلقا وعملا. والإحسان هو التطوع بالنوافل والإخلاص في مواجب العبودية، لقوله صلوات الله عليه: الإحسان أن تعبد الله كأنك تراه. أي تعبده مخلصا في نيتك، واقفا في الخضوع، آخذا أهبة الحذر إلى ما لا يحصى. وإيتاء ذي القربى، هو الزيادة على الواجب من النوافل. هذا من جانب الأوامر، وأما من جانب النواهي، فبالفحشاء: الإشارة عن الشهوانية الخارجية عن الأذن كالزنا وغيره. وبالمنكر: إلى الإفراط الحاصل من آثار القوة الغضبية.
وبالبغي: إلى الاستعلاء على الناس الفائض عن القوة الوهمية. ولا يوجد شر إلا وهو مندرج تحت أحد هذه الأقسام، ولهذا قال ابن مسعود: ما في القرآن آية أجمع للخير والشر من هذه الآية، أخرجه في المستدرك.
وروى البيهقي في شعب الإيمان عن الحسن، أنه قرأها يوما ثم وقف، قال: إن الله جمع لكم الخير كله والشر كله في آية واحدة، فوالله ما ترك العدل والإحسان من طاعة الله شيئا؛ ولا ترك الفحشاء والمنكر والبغي من معصية الله إلا جمعه. قوله تعالى "خذ العفو وأمر بالعرف واعرض عن الجاهلين" فإنها جامعة لمكارم الأخلاق، لأن في أخذ العفو: التساهل والتسامح في الحقوق واللين والرفق في الدعاء إلى الدين، وفي الأمر بالمعروف: كف الأذى وغض البصر وما شاكلها من المحرمات، وفي الأعراض: الصبر والحلم والتوأدة. روي عن جعفر الصادق عليه السلام أن الله تعالى أمر نبيه في هذه الآية بمكارم الأخلاق، وليس في القرآن آية أجمع لمكارم الأخلاق منها.
ومن بديع الإيجاز قوله تعالى: (قل هو الله أحد) إلى أخرها، فإنها نهاية التنزيه، وقد تضمنت الرد على نحو أربيعين فرقة، كما أفرد ذلك بالتصنيف بهاء الدين بن شداد. وقوله تعالى: (ولكم في القصاص حياة) فإن معناه كثير ولفظه يسير، لأن معناه أن الإنسان إذا علم أنه متى قَتَل قُتِل كان ذلك داعيا قويا له إلى أن لا يقدم على القتل، فارتفع بالقتل الذي هو قصاص، كثير من قتل الناس بعضهم لبعض، فكان ارتفاع القتل حياة لهم، وقد فضلت هذه الجملة على أوجز ما كان عند العرب في هذا المعنى، وهو قولهم (القتل أنفى للقتل) بعشرين وجها أو أكثر. وقد أشار ابن الأثير إلى إنكار هذا التفضيل وقال: لا نسبة بين كلام الخالق وكلام المخلوق وإنما العلماء يقدحون أذهانهم فيما يظهر لهم من ذلك.
ومن النظم قول لبيد:
واكذب النفس إذا حدثتها ... إن صدق النفس يزري بالأمل.(1/490)
المعنى، أخبر نفسك بما لا تثق بحصوله من الذكر والمجد الأثيل إذا حدثتها بعاقبة ما تحمله عليها من تحمل المشاق، فإن إخبارها بعدم الوثوق بما ترتجيه يقصر الأمل ويحقره فيثبطك عن السعي في طلب ما تروم، ويعقبه أسف المحروم.
وقول الحماسي:
فإن هو لم يحمل على النفس ضيمها ... فليس إلى حسن الثناء سبيل.
فإن في ضيم النفس أن يتكلف الشجاعة والسماحة والعفة الصبر وغيرها.
وقد أخذه أبو تمام وزاد عليه في الإيجاز حيث قال:
وظلمت نفسك طالبا إنصافها ... فعجبت من مظلومة لم تظلم.
ومعناه أنك لما حملتها على ما يشق عليها، ويخالف هواها، فقد ظلمتها في الظاهر، وفي الحقيقة أنصفتها لما جلبت إليها ذكرا جميلا، ومجدا مؤثلا، وأعجب لهذا الظلم الجالب للإنصاف.
وقول الشريف الرضي:
مالوا إلى شعب الرحال وأسندوا ... أيدي الطعان إلى قلوب تخفق.
فإنه لما أراد أن يصف هؤلاء الجماعة بالشجاعة في أثناء وصفهم بالتعب بالغرام عبر عن ذلك بقوله: (أيدي الطعان) وهذا من نهاية الإيجاز.
الثاني هو إيجاز الحذف وفيه فوائد: منها، مجرد اختصار والاحتراز عن العبث لظهور المحذوف.
ومنها، التنبيه على أن الزمان متقاصر عن الإتيان بالمحذوف، والاشتغال بذكره يفضي إلى تفويت المهم، وهذه هي فائدة باب التحذير والإغراء وقد اجتمعا في قوله تعالى: (ناقة الله وسقياها) فنافه الله تحذير، بتقدير: ذروا، وسقياها إغراء بتقدير: الزموا.
ومنه، التفخيم والإعظام لما فيه من الإبهام. قال حازم في منهاج البلغاء: إنما يحسن الحذف لقوة الدلالة عليه، أو يقصد بها تعديد أشياء فيكون في تعدادها طول وسآمة فيحذف ويكتفي بدلالة الحال، وتترك النفس تجول في الأشياء المكتفى بالحال عن ذكرها. قال: ولهذا القصد يؤثر في المواضع التي بها التعجب والتهويل على النفوس. ومنه قوله تعالى في وصف أهل الجنة "حتى إذا جاؤوها فتحت أبوابها" فحذف الجواب، إذ كان وصف ما يجدونه ويلقونه عند ذلك لا يتناهى، فجعل الحذف دليلا على ضيق الكلام عن وصف ما يشاهدونه، وتركت النفوس تقدر ما شاءته ولا تبلغ مع ذلك كله ما هناك. وكذا قوله تعالى "ولو تروا إذا وقفوا على النار". أي لرأيت أمرا فظيعا لا تكاد تحيط به العبارة.
ومنها، التخفيف لكثرة دورانه في الكلام، كما في حذف حرف النداء نحو "يوسف أعرض".
ومنها، صيانة اللسان عنه تحقيرا، نحو "صم بكم" أي هم أو المنافقون.
ومنه، قصد العموم نحو "وإياك نستعين" أي على العبادة وعلى أمورنا كلها، و"والله يدعوا إلى دار السلام" أي كل أحد، إلى غير ذلك من الفوائد والأسباب.
ثم المحذوف إما جزء جملة، أو جملة، أو أكثر من الجملة: فالأول، إما مضاف نحو قوله تعالى "وأسأل القرية التي" أي أهلها، وقوله "حرمت عليكم الميتة" أي تناولها، لأن الحكم الشرعي إنما يتعلق بالأفعال دون الأجرام، وقوله تعالى "وأنعام حرمت ظهورها" أي منافع ظهورها، وهو أولى من تقدير الركوب، لأنهم حرموا ركوبها وتحميلها.
وعليه قول أبي النواس:
وإذا المطي بنا بلغنا محمدا ... فظهورهن على الرجال حرام.
أي منافع ظهورهن من الركوب والتحميل، لأن غرضه إراحتها من التعب بعد ذلك.
وأما موصوف كقوله:
أنا ابن جلا وطلاع الثنايا ... متى أضع العمامة تعرفوني.
أي ابن رجل جلا الأمور، أي كشفها. وأما صفة نحو "وكان وراءهم ملك يأخذ كل سفينة" أي صحيحة، أو صالحة، أو نحو ذلك، بدليل ما قبله وهو قوله "فأردت أن أعيبها".
وإما شرط كقوله تعالى "أم اتخذوا من دونه أولياء فالله هو الولي"، أي إن أرادوا وليا بحق فالله هو الولي بالحق ولا سواه. وأما جواب شرط كقوله تعالى "ولو جئنا بمثله مددا" أي لنفذ، أو غير ذلك مما هو مذكور في مظانه.
والثاني، هو كون المحذوف جملة، أما مسبب ذكر سببه كقوله تعالى "ليحق الحق ويبطل الباطل" أي فعل ما فعل، وقوله تعالى "وما كنت بجانب الطور إذ نادينا ولكن رحمة" أي أخبرناك.
ومنه قول المتنبي:
أتى الزمان بنوه في شبيبته ... فسرهم وأتيناه على الهرم.
أي فساءنا. وبالعكس، أي مسبب ذكر مسببه كقوله تعالى "فتوبوا إلى بارئكم فاقتلوا أنفسكم ذلكم خير لكم عند بارئكم فتاب عليكم" أي فأسلمتم فتاب عليكم.(1/491)
والثالث، وهو كون المحذوف أكثر من جملة، كقوله تعالى "أنا أنبئكم بتأويله فأرسلون يوسف" أي إلى يوسف لأستعبره الرؤيا، فأرسلوه إليه فأتاه وقال له: يا يوسف.
فاعلم أن الحذف على ضربين، أحدهما أن لا يقام شيء مقام المحذوف كالأمثلة السابقة. الثاني أن يقام مقامه ما يدل عليه كقوله تعالى "وإن يكذبوك فقد كذبت رسل من قبلك" أي فأصبر ولا تحزن، فإنه قد كذبت رسل من قبلك. وأدلة الحذف كثيرة: ومنها العقل، كقوله تعالى "وجاء ربك" أي أمر ربك، أو عذابه، أو بأسه.
ومنها الشروع في الفعل، نحو باسم الله، فيقدر ما جعلت التسمية مبدأ له.
ومنها اقتران الكلام بالفعل، كقولهم للمعرس: بالرفاء والبنين، أي أعرست، فإن كون هذا الكلام مقارنا لأعراس هذا المخاطب+دل على أن المحذوف (أعرست) إلى غير ذلك من الدلالات الحالية والمقالية، والله أعلم.
وبيت بديعية الصفي قوله:
واستخدم الموت ينهاه ويأمره ... بعزم مغتنم في زي مغترم.
قال في شرحه: هذا البيت محتو على ضربي الإيجاز: إيجاز القصر وإيجاز الحذف، فقوله (واستخدم الموت) خاصة هذا مجاز في غاية الاختصار، وقوله (بعزم مغتنم في زي مغترم) يريد بعزم رجل مغتنم في زي رجل مغترم. انتهى. وتشادق ابن حجة هنا على جاري عادته السيئة فقال: لكنه ما تحته في بلاغة الإيجاز كبير أمر.
ولم ينظم ابن جابر هذا النوع.
وبيت بديعية الموصلي قوله:
وسل زمانك تلف الكتب راوية ... إيجاز معنى طويل الذكر مرتسم.
أراد أهل زمانك.
وبيت بديعية ابن حجة قوله:
أوجز وسل أول الأبيات عن مدح ... فيه وسل مكة يا قاصد الحرم.
قال في شرحه: الإيجاز البديع البليغ الغريب في قولي (وسل أول الأبيات) فإنه إشارة إلى أول بيت وضع للناس، والإيجاز الثاني في قولي (وسل مكة) أي أهل، فهذا البيت فيه إيجازان بليغان. انتهى.
وأنا أقول: إن الإيجاز الأول الذي ادعى أنه بديع بليغ غريب هو بنوع الألغاز أنسب وإلى التعمية اقرب.
وبيت بديعية المقري قوله:
مستقبل الصف ماضي الحد طلعته ال ... حياة والموت في حرب وفي سلم.
قال في شرحه: اشتمل هذا البيت على نوعي الإيجاز، فإن قوله (طلعته الحياة والموت) إيجاز عظيم، والحذف في قوله (الحياة والموت) فإن المراد: طلعته طلعة الحياة والموت، فحذف إيجاز.
وبيت بديعية السيوطي قوله:
عن كنه معناه كل المطنبون وقد ... أوتى البلاغة والإيجاز في الكلم.
وبيت بديعية العلوي قوله:
إن قال فالكون والأقدار قائلة ... أوصال فالموت في بتاره الخدم.
وبيت بديعية الطبري قوله:
دعا تحدى بآيات محكمة ... إيجازها في حمى الإعجاز لم يظم.
قال في شرحه: إيجاز هذا البيت من نوع إيجاز القصر وهو صدر البيت، وأما إيجاز الحذف فهو خال منه.
وبيت بديعيتي قولي:
لا ترض إيجاز مدح فيه وأصغ إلى ... مدحي الذي شاع بين الحل والحرم.
هذا البيت اشتمل على قسمي الإيجاز من القصر والحذف، لأن معناه: لا ترض اختصار المدح في ذاته وصفاته الشريفة، ودع موجز القول فيه، ومل إلى مدحي المطنب المشتهر الذي شاع وظهر بين أهل الحل والحرم.
التسجيع.
تسجيع منتظمي والغر من حكمي ... ألفاظها بفمي در من كلم.
السجع والتسجيع مأخوذان من سجع الحمامة وهد يرها وترديد صوتها تشبيها بها لتكرره على نمط واحد. ومنهم من خص السجع بالنثر، والصحيح عدم اختصاصه به، بل يجري في النظم أيضاً، وهو أن يأتي الشاعر في البيت بكلمات مقفاة على روي البيت، غير متزنة بزنة عروضية، ولا محصورة في عدد معين.
كقول أبي تمام:
تجلى به رشدي وأقرب به يدي ... وفاض به ثمدي وأروى به زندي.
وقول ابن هاني المغربي في قصيدة يمدح بها المعز الفاطمي:
ورث المقيم بيثرب فالمنبر الأ ... على له والترعة العليا.
والخطبة الزهراء فيها الحكمة ال ... غراء فيها الحجة البيضاء.
وربما اتفقت الكلمات في الوزن العروضي كقول أبي الطيب:
فنحن في جذل والروم في وجل ... والبر في شغل والبحر في خجل.
وأما السجع في النثر فهو تواطؤ الفاصلتين على حرف واحد، وهو ثلاثة أضرب:(1/492)
أحدهما المطرف، وهو أن تكون الفاصلتان مختلفتين في الوزن كقوله تعالى: (ما لكم لا ترجون لله وقارا، وقد خلكم أطوارا) فالوقار والأطوار مختلفان وزنا، وقولهم: من حسنت حاله استحسنت محاله.
الثاني المرصع، وهو أن يكون ما في أحد القرينتين أو أكثر مثل ما يقابله من الأخرى في الوزن والتقفية، كقول الحريري: فهو يطبع الأسجاع بجواهر لفظه، ويقرع الإسماع بزواجر وعظه، وقول البديع الهمذاني: أن بعد الكدر صفوا، وبعد المطر صحوا.
وقد تقدم الكلام على الترصيع في النظم.
الثالث المتوازي، وهو أن تكون الفاصلتان دون سائر ألفاظ القرينتين متفقتين في الوزن والتقفية، كقوله تعالى: (فيها سرر مرفوعة، وأكواب موضوعة) وقوله عليه السلام: اللهم أعط كل منفق خلفا، وأعط كل ممسك تلفا. ومنهم من لم يشترط في السجع التقفية في الفاصلتين، بل اكتفى باتفاقهما في الوزن فقط، وسماء المتوازن كقوله تعالى: (ونمارق مصفوفة، وزرابي مثبوثة) وقولهم: اصبر على حر اللقاء ومضض النزال، وشدة المصاع، ومداومة المراس. قال: فإن روعي الوزن في جميع كلمات القرينتين أو أكثرها، وقابل الكلمة منها بما يعادلها كن أحسن، كقوله تعالى: (وآتيناهما الكتاب المستبين، وهديناهما الصراط المستقيم) .
ثم السجع ينقسم بحسب القرائن إلى ثلاثة أقسام: الأول ما تساوت قراينه، كقوله تعالى: (في سدر مخضود، وطلح منضود، وظل مدود) ، وقوله: (فأما اليتيم فلا تقهر، وأما السائل فلا تنهر) .
الثاني ما طالت قرينته الثانية، كقوله تعالى: (خذوه فغلوه، ثم الجحيم صلوه) ، ويشترط في طول الثنائية أن لا يكون بحيث يخرجها من الاعتدال كثيرا وإلا كان قبيحا، وأما الثالثة فيجوز أن تكون مساوية في الطول للأوليتين، وأن تزيد عليهما طولا كقوله تعالى: (والعصر إن الإنسان لفي خسر إلا الذين آمنوا وعملوا الصالحات وتواصلوا بالحق وتواصلوا بالصبر) .
الثالث ما قصرت قرينته الثانية عن الأولى، وهو عيب فاحش، لأن السمع قد استوفى أمده من الأولى لطولها، فإذا جاءت الثانية أقصر يبقى الإنسان عند سماعه كمن يريد الانتهاء إلى غاية فيعثر دونها، والذوق يشهد بذلك ويقضي بصحته، ولذلك عابوا على الفتح بن خاقان المغربي افتتاحه خطبته في قلائد العقيان بقوله: الحمد لله الذي راض لنا البيان حتى انقاد في أعنتنا، وشاد مثواه أجنتنا.
قال ابن الأثير: السجع يحتاج إلى أربعة شرائط: اختيار مفردات الألفاظ، واختيار التأليف، وكون اللفظ تابعا للمعنى لا عكسه، وكون كل واحد من الفقر دالة على معنى آخر، وإلا لكان تطويلا كقول الصابي: الحمد لله الذي لا تدركه الأعين بلحاظها، ولا تحده الألسن بألفاظها، ولا تخلفه العصور بمرورها، ولا تهرمه الدهور بكرورها، والصلاة على من لم ير للكفر أثرا إلا طمسه ومحاه، ولا رسما إلا أزاله وعفاه. إذ لا فرق بين مرور العصور وكرور الدهور، ولا بين محو الأثر ةإعفاء الرسم. وقول الصاحب بن عباد في مهزومين: طاروا واقعين بظهورهم وصدورهم، وبأصلابهم نحورهم. ورد هذا الشرط الرابع ابن أبي الحديد في الفلك الدائر على المثل السائر بما لا طائل تحته.
ثم السجع إما القصير وهو الأحسن لقرب فواصل السجعة من سمع السامع، وأيضا هو أوعر مسلكا، إذ المعنى إذا صيغ بألفاظ قليلة عسر مواطاة السجع فيه. قيل للصاحب بن عباد: ما أحسن السجع؟ قال: ما خف على السمع، قيل: مثل ماذا؟ قال: مثل هذا. ومثاله في التنزيل قوله تعالى: (والمرسلات عرفا، فالعاصفات عصفا) .
وإما متوسط كقوله عز وجل: "اقتربت الساعة وانشق القمر، وأن يروا آية يعرضوا ويقولوا سحر مستمر".
وإما طويل كقوله تعالى: (إذ يريك الله في منامك قليلا ولو أراكم كثيرا لفشلتم ولتنازعتم في الأمر ولكن الله سلم أنه عليم بذات الصدور، وإذ يريكموهم إذ التقيتم في أعينكم قليلا ويقللكم في أعينهم ليقضي الله أمرا كان مفعولا وإلى الله ترجع الأمور) .
تنبيهات.(1/493)
الأول كلمات السجاع مبنية على أن تكون ساكنة الإعجاز موقوفا عليها، لأن الغرض من السجع أن يزاوج بين الفواصل، ولا يتم في كل سورة إلا بالوقف وبالبناء على السكون، كقولهم: ما أبعد ما فات، وما أقرب ما هو آت. فإنه لو اعتبر الحركة لفات السجع، لأن التاء من (فات) مفتوحة، ومن (آت) مكسورة منونة، وهذا غير واف بالغرض من تزاوج الفواصل. وإذا رأيتهم يخرجون الكلم عن أوضاعها للازدواج فيقولون (آتيك بالغدايا والعشايا) يريدون: الغدوات، و (هناني الطعام وراني) يريدون: أمراني، و (انصرفن مأزورات غير مأجورات) أي موزورات، و (أخذ ما قدم وما حدث) بالفتح، مع أن فيه ارتكابا لما يخالف اللغة، فما ظنك بهم في ذلك؟.
الثاني: الجمهور على أنه لا يقال في التنزيل إسجاع، تحرزا على معناه الأصلي الذي هو هدير الحمام، بل يقال: فواصل، لقوله تعالى: (كتاب فصلت آياته) ، وقال الرماني: السجع عيب، والفواصل بلاغة. قال الخفاجي في سر الفصاحة: قوله هذا غلط، فإنه إن أراد بالسجيع ما يتبع المعنى وهو غير مقصود، فذلك بلاغة والفواصل مثله، وإن أراد ما تقع المعاني تابعة له وهو مقصود متكلف، فذلك عيب والفواصل مثله. قال: وأظن الذي دعاهم إلى تسمية كل ما في القرآن فواصل، ولم يسموا ما تماثلت حروفه سجعا: رغبتهم في تنزيه القرآن عن الوصف اللاحق بغيره من الكلام المروي عن الكهنة وغيرهم، وهذا غرض من التسمية قريب، والحقيقة ما قلناه.
قال: والتحرير أن الأسجاع: حروف متماثلة في مقاطع الفواصل. انتهى.
وذهب كثير من غير الأشاعرة إلى إثبات السجع في القرآن، وقالوا: أن ذلك مما يبين به فضل الكلام، وأنه من الأجناس التي يقع بها التفاضل في البيان والفصاحة، كالجناس والالتفاف ونحوهما.
الثالث قال ابن النفيس: يكفي في حسن السجع ورود القرآن به، قال: ولا يقدح ذلك خلوه في بعض الآيات، لأن الحسن قد يقتضي المقام الانتقال إلى أحسن منه. وقال حازم: إنما نول القرآن على أساليب الفصيح من كلام العرب، فوردت الفواصل فيه بأزاء ورود الاسجاع جميعا أن يكونوا مستمرا على نمط واحد لما فيه من التكلف، ولما في الطبع من الملل، ولأن الافتتان في ضروب الفصاحة أعلى من الاستمرار على ضرب واحد، فلهذا وردت بعض آيات القرآن متماثلة المقاطع وبعضها غير متماثل. انتهى.
وإذ قد استوفينا الكلام على ما يتعلق بالسجع في هذا المقام، فلا بأس بإيراد شيء من الإنشاء البديع المشتمل على محاسن التسجيع.
فمن ذلك قول الصاحب بن عباد وكتبه إلى القاضي أبي بشر الفضل بن محمد الجرجاني عند وروده باب الري وافدا عليه:
تحدثت الركاب بسير أروى ... إلى بلد حططت به خيامي.
فكدت أطير من شوق إليها ... بقادمة كقادمة الحمام.
أفحق ما قيل من أمر القادم؟ أم ظن كأماني الحالم؟ لا والله بل هو درك العيان، وأنه ونيل المنى سيان، فمرحبا براحلتك ورحلك،) وأهلا بك وبجميع اهلك) ويا سرعة ما فاح نسيم مسراك، ووجدنا ريح يوسف من رياك، فحث المطي تزل علتي بلقياك، وتبرد غلتي بسقياك، ونص على يوم الوصول نجعله عيدا مشرفا، وتتخذه موسما ومعرفا، ورد الغلام أسرع من رجع الكلام، فقد أمرته أن يطير على نجاح نسر، وأن يترك الصبا في عقال أسر والسلام.
وقوله أيضاً في التهنئة ببنت: أهلا وسهلا بعقيلة النساء (وكريمة الآباء) وأم الأبناء، وجالبة الأصهار والأولاد الأطهار، والمبشرة بأخوة يتناسقون، ونجباء يتلاحقون.
فلو كان النساء كمثل هذي ... لفضلت النساء على الرجال.
وما التأنيث لاسم الشمس عيب ... ولا التذكير فخر للهلال.
فأدرع اغتباطا (وتهاتف نشاطا) فالدنيا مؤنثة ومنها خلقت البرية، وفيها كثرت الذرية، والسماء مؤنثة وقد زرينت بالكواكب، وحليت بالنجم الثاقب، والنفس مؤنثة هي قوام الأبدان، وملاك الحيوان، والجنة مؤنثة وبها وعد المدقون، (وفيها ينعم المرسلون) ، فهنيئا مليئا ما أوليت، وأوزعك الله شكر ما أعطيت.
ومنه قول بديع الزمان الهمذاني: بيننا عذراء زجاجه خدرها، وحبابها ثغرها، بل شقيقة حوتها كمامة، أو شمس حجبتها غمامة، إذا طاف بها الساقي فوردة على غصتها، أو شربها مقهقهة فحمامة على فننها.(1/494)
وقوله أيضاً: انظر إلى الكلام وقائله، فإن كان وليلا فهو الولاء وإن خشن، وإن كان عدوا فهو البلاء وإن حسن. ألا ترى إلى العرب تقول: (قاتلة الله) ولا يريدون الذم، و (لا أبا له) في الأمر إذا تم.
وقوله أيضاً: فائدة الاعتقاد، أفضل من الانتقاد، والسماح يكسر الرماح، والصفح يفل الصفاح، والجود أنصر من الجنود، وكشف الضر عن الحر أجمل من كشف الصدف عن الدرب، من عرف بالمنح قصد بالمدح، وخير الأخوان من ليس بخوان، وده ميمون وغيبه مأمون، فهو يخالفك ويرافقك ولا يفارقك، ويوافقك ولا ينافقك. إذا حضرت حنا عليك، وإذا غبت حن عليك.
وقوله أيضاً: ما أشبه وعد الشيخ بالخلاف إلا بشجر الخلاف، خضرة في العين، ولا ثمرة في البين، فما ينفع الوعد، ولا إنجاز من بعد، ومثل والوعد مثل الرعد، ليس له خطر، إن لم يتله مطر.
وقوله أيضاً: كتابي من هراة ولا هراة، فقط طحنتها المحن كما يطحن الدقيق، وقلبتها كما يقلب الرقيق، وبلعتها كما يبلع الريق، وقد خدمت الشيخ سنين، والله لا يضيع أجر المحسنين، ونادمته والمنادمة رضاع ثان، ومالحته والممالحة نسب دان، وسافرت معه والسفر والأخوة رضيعا لبان، وقمت بين يديه والقيام والصلاة شريكا عنان، وأثنيت عليه والثناء من الله بمكان، وأخلصت له والإخلاص محمود بكل لسان.
وقوله أيضاً: للشيخ من الصدور ما ليس للفؤاد، ومن القلوب ما ليس للأولاد، كأنما اشتق من جميع الأكباد، وولد بجميع البلاد، سواء الحاضر فيه والباد، فكل أفعاله غرة في ناصية الأيام، وزهرة في جنح الظلام. ألا أن ما أوجبه لفلان روض أنا وسميه، وغصن أنا قمرية، وعود جمره لساني وجود شكره ضماني.
وقوله أيضاً: المرء جزوع لكنه حمول، والإنسان في النوائب شموس ثم ذلول. ولقد عشت بعد الشيخ عيشة الحوت في البر، وبقيت لكن بقاء الثلج في الحر.
وقوله أيضاً: كتابي إلى البحر وان لم أره، فقد سمعت خبره، الليث وان لم ألقه فقد تصورت خلقه، والملك وان لم أكن لقبته، فقد لقيني صيته، ومن رأى من السيف أثره، فقد رأى أكثره. وهذه الحضرة وان احتاج إليها المأمون، ولم يستغن عنها قارون، فان أحب إلى من الرجوع عنها بمال. قدمت التعريف، وأنا انتظر الجواب الشريف.
وقوله أيضاً: حضرته التي هي كعبة المحتاج، أن أم تكن كعبة الحاج، ومشعر الكرام، آن لم تكن مشعر الحرام، ومنى الضيف، أن لم تكن منى الخيف، وقبلة الصلات، أن أم تكن قبلة الصلاة.
وقوله أيضاً: حرس الله هذه الدنانير، ورزقنا منها الكثير، أنها لتفعل مالا تفعل التوراة ة الإنجيل، وتغني مالا يغني التنزيل والتأويل، وتصلح ما يصلح جبرئيل وميكائيل.
وقوله في بعض من عزل من ولاية جماله، ونقص بدر حسنه بعد كماله: هذا الذي تاه بحسن قده، وزها علينا بورد خده، قد نسخ آية حسنه وأقام مائل غصنه، وانتصر لنا منه بشعرات كسفت هلاله، وأكسفت باله، ومسخت جماله، وغيرت حاله.
فمن لك بالعين التي كنت مرة ... إليك بها في سالف الدهر أنظر.
أيام كنت تتلفت، فاقصر الآن، عما صار وكان، فانه سوق كسد، ومتاع فسد، ودولة أعرضت، وأيام انقضت، ويوم صار أمس، وحسرة بقيت في النفس. فختام تدل وإلام، وكم نحتمل وعلام.
قلت: لعمري هذا هو السجع الذي فاق سجع الحمائم على الغصون، وأربى بحسنه على ثمين الدر المصون، وهذا الإمام هو الذي صلى الحريري خلفه في مقاماته، وتتبع آثاره في منشآته وكلماته، وعناه بقوله: أن المتصدي بعده لإنشاء مقامة، ولو أوتي بلاغة قدامة، لا يغترف ألا من فضالته، ولا يسري ذلك المسري إلا بدلالته.
وما ألطف قول بعض العلماء: -وقد سئل عن الحريري والبديع في مقاماتها- لم يبلغ الحريري أن يسمى بديع يوم، فكيف يقارب بديع الزمان.
ومن بديع الإنشاء قول أبي بكر محمد بن أحمد اليوسفي: الشوق الذي أقاسي يصدع الجبل القاسي، والذي مر براسي يهد الجبل الراسي، من نواكب أوهت المناكب، وعوارض شيبت العوارض، ومحن عظام أثرت في العظام، وللأيام دول متعاقبة، وللصبر الجميل أحمد عاقبة.(1/495)
وقول القاضي أبي أحمد منصور بن محمد الهروي وكتبه إلى صديق حياة بباكورة ورد: وصلت الوردة الفردة لا زال ذكره كرياها عرفا، ودهره كفضلها ظرفا، وحال أوليائه كأغصانها خضرة، ووجوه أعدائه كلونها صفرة، فسرت القلب، وسرت الكرب، وأدت الإرب، وأهدت الطرب، ودعت إلى الرسم المألوف، وأمرت بالمنكر المعروف. وافتنا والليل قد خط رواقه، وحل نطاقه، والصبح قد بسط رداءه، ورفع لواءه، والندى طل، والنسيم مبتل، والمزن منسجم، وثغر الصبح مبتسم، ونحن نبوح بما في الصدور، ونظير بأجنحة السرور، فوضعت الوردة على الرؤوس، وأديرت مع الكؤوس، ونطقت الأوتار، (وصدحت الأطيار) ولكل ذي لا فطنة فتنة، ولكل ذي توبة أوبة، وعند كل لفتة حسرة، ومع كل وردة سكرة.
وقوله أيضاً وكتبه إلى شمس الكفاءة عند عود الوزارة إليه:
الشمس في رأد الضحى ... والبدن في جنح الدجى
والماء في حر الصدى ... والغيث جاد على الثرى
والمزن يضحك في الربى ... والورد جمشه الندى
والصبح تقدمه الصبا ... والعيش في زمن الصبا
والقرب صب على النوى ... والقلب رق مع الهوى
والطرف غازله الكرى ... والصفو باعده القذى
والحلي في ثغر الدمى ... ومنازل لك الحمى
وعهود سعدى باللوى ... والدهر يسعف بالمنى
والبرء في عقب الضنى ... والفقر يطويه الغنى
والبشر يتبعه الندى ... والنشر من يعد البلى
والود في أثر القلى ... والمحل يطرده الحيا
والعتب يمحوه الرضا ... والكف تسمح باللهى
ومذكرات ذوى النهى ... والرأي يعضده الحجى
والجد ساعد واعتلى ... والحظ أدرك ما رجا
بها وبمالها من الأمثال، سارت سوائر الأمثال، فيما يونق النفوس والطباع، ويؤنس الأبصار والأسماع، وأحسن من كل هذا التمثيل أيام الشيخ الجليل، وقد أتاه اسم لم يزل معناه.
فيا حن الزمان وقد تجلى ... بهذا الفخر والإقبال صدره
وكان الدهر يغدر قبل هذا ... فحل وفاؤه وانحل غدره
فقل النصل وافقه نصاب ... واقل في الأفق أشرق فيه بدره
والحمد لله الذي زان الشجر بالثمر، وحلى البرج بالقمر، وآنس العرين بالأسد، وأهدى الروح إلى الجسد. ولم أنس (أدام الله علو مولانا) رسم التصدير، وما يجب من مراعاته على الصغير والكبير. وان التهنئة المرسومة يتهاداها الأكفاء، ويتعاطاها النظراء، فأما الخدم مع الصدور والنجوم التاليات مع الأهلة والبدور، (فالعادة ثمة أن تعذرت الإرادة) ولم تساعد السعادة، فالدعاء موصولا منشورا، والثناء منظوما منثورا، وعلى هذه الجملة عملت، وإلى هذا الجانب عدلت، فأصدت كلمة تتجها الود الصريح، ونسجها الولاء الصحيح
فجاءت تؤدي وجوه الريا ... ض أضحكها العارض الهامع
وليس لها غير عين الرضا ... لديك ذمام ولا شافع
وقول القاضي الفاضل عبد الرحيم البيساني: وقد كان يقال: إن الذهب الإبريز لا تدخل عليه آفة، وان يد الدهر البخيل عنه كافة. وأنتم - يا بني أيوب - آفة نفائس الأموال، كما أن سيوفكم آفة نفوس الأبطال. فلو ملكتم الدهر لأمطيتم لياليه أداهم، وقلدتم أيامه صوارم، ووهبتم شموسه وبدوره دنانير ودراهم، ووافتكم أعراس تم فيها على الأموال مآتم، والجود خاتم في أيديكم ونفس حاتم في نقش ذلك الخاتم.
وقوله أيضاً: سرنا وروضة السماء فيها الزهرة زهر، ومن المجرة نهر، والليل كالبنفسج تخلله من النجوم أتاح، وكالزنج شمله من الرياح جراح، والكواكب سائرات المراكب لا معرس لها دون الصباح، وسهيل كالظمآن تدلى إلى الأرض ليشرب، والكريم أنف المقام بدار الذل فتغرب، فكأنه قبس تتلاعب به الرياح، أو زينة قدمها بين يدي الصباح، والجوزاء كالسرادق المضروب، أو الهودج المنصوب، أو الشجرة المنورة، أو الحبرة المصورة، والثريا قد هم عنقودها أن يتدلى، وجيش الليل قد هم أن يتولى.
وقوله أيضاً من رسالة يصف فيها قلعة نجم: هي نجم في سحاب، وعقاب في عقاب، وهامة لها الغمامة عمامة، وأنملة إذا خضبها الأصيل كان لها الهلال قلامة.(1/496)
وقوله في جواب كتاب بعثه العماد في ورق أحمر، فقطعت العرب الطريق على حامله وأخذوه: ووصل منها كتاب تأخر جوابه، لان العرب قطعوا طريقه، وعقوا عقيقه، ثم أعادوه وما استطاعت أيديهم أن تقبض جمره، ولا ألبابهم أن تسيغ خمره، فقطف ورده من شوك أيديهم، وحيا حياة الذي جل عن واديهم، وحضر منه حاضر الفضل الذي ما كان الله ليعذبه بالغربة وأنت فيهم في بواديهم، وتشرف منه بعقيلة الأنس التي ما كان الله ليمتحنها بقتل واديهم، وسألته بأي ذنب قتلت، وأي شفاعة فيك قبلت، فقال عرفت الأعراب بضاعتها من الفصاحة، وتناجدت أهل نجد فكل صاح وإصباحه، وقالوا: هذه حقائقنا السحرية، وهذه حقائبنا السحرية، وهذه عتايدنا السرية محمولة، وهذه مواريث قيسنا وقسنا المأمولة. فقيل لهم: أن الفصاحة تنتقل عن الأنساب، وان العلم يناله فرسان فارس ولو كان في السحاب، فدعوا عنكم ثمرا علق بشجراته، اتركوا نهبا صيح في حجراته (وأن الفضل بيد الله يؤتيه من يشاء والله ذو الفضل العظيم.
وقوله يذكر كتابا جاء في ورق أخضر: ولما في الحلة الخضراء، مخضرا بسريرته السراء، قلت: الله أكبر من كان خاطره غيثا روض، وفاض فأعشب فذهب وفضض، وما شككت أنى دخلت الجنة لما فاض من أنهارها، وأفيض من سندسها، أو طلعت إلى سماء الدنيا لما ملأ سمعي وعيني من شهبها وحرسها، ولا أنني قد جاءني رسالة الروض الأرج لما فغمني من نفيس نفسها، فقلت لصحيفته ما هذه اللبسة الغريبة والحلة العجيبة؟ والورقة التي هزت عطفي ورق الشبيبة؟ والريحانة التي لا يدعيها عذار حبيبه؟ فقالت: شققنا مرائر قوم به فنحن نسميه شق المرارة) .
وقوله أيضاً: ومن مستهل ذي الحجة ما أستهل من يده كتاب، ولا استقل من تلقاء جهته سحاب، ولعل قلمه في الميقات قد أحرم فلم يمس الطيب من أنفاسه، ومسح المداد عنه لتمام الإحرام بكشف رأسه، والآن فقد انقضت الأيام المعلومة، فهلا قضى عنا الأيام التي تمادت فيها شقوة العيون المحرومة.
وقوله أيضاً في القلم: وقد أثمر هذا القلم أكرم الثمر وهو يابس، وأبر جودا على أخضر المغارس، وأتى أكله كل حين ووقت، وطال وان كان القصير فقصر عنه كل نعت.
قلت: وعلى ذكر القلم فقد عن لي أن أورد هنا رسالة القلم لخاتمة المحققين، مولانا جلال الدين الدواني، لما اشتملت عليه من المعاني الغريبة، والأسجاع التي لا يعتري السامع في حسنها ريبة، وهي: (آن القلم وما يسطرون) أن هذه تذكرة لقوم يعقلون. يا من فاق من البراعة، سألتني عن وصف اليراعة، فاستمع لما يتلى عليك (ذلك من أنباء الغيث نوحيه إليك) (أم حسبت أن أصحاب الكهف والرقيم كانوا من آياتنا عجبا، إذ أوى الفتية إلى الكهف فقالوا ربنا آتتا من لدنك رحمة وهي لنا من أمرنا رشدا) انه فتى من أصحاب الكهف والرقيم نشر له ربه من رحمته وهيأ له مرفقا ورفع له بخط مستقيم. نبي بعث من سرة البطحاء، وأيد بفصاحة أبكمت مصاقع البلغاء. كليم خص بالطور، والكتاب المسطور، والرق المنشور، وسفير بليغ نذير، وقد جاءنا بالبينات والزبر والكتاب المنير. قد بلغ من ذروة الشرف منتهاه، ومن سنام المعالي أعلاه، ينمي في شجرة النسب إلى أول ما خلق الله. (وذا النون إذ ذهب مغاضبا فظن أن لن نقدر عليه فنادى في الظلمات أن لا اله ألا أنت سبحانك أني كنت من الظالمين) يقول إذا برز من بطن النون وشرع في الزبور (الله ولي الذين آمنوا يخرجهم من الظلمات إلى النور. ألف يقارن نونا، وألف يؤلف به درا ُمكنونا، إذا شددت به أن، وان لنت به اطمأن. عالم من أهل الكتاب علا كعبه في الأحبار، مر على سائر الكتب السماوية من الصحف والأسفار. ذو القرنين يسير المغرب والمشرق في أقصر ساعة، استولى على الأقاليم كلها ومد فيها باعه. فصيح جزل الكلام، لكن لا ينفك كلامه عن الإلهام، وإشراقي في طرق التعلم والتعليم من المشائين بنميم.(1/497)
بادي البشرة أسود الرأس، فصيح ماش على قدميه لكن ليس من الناس. نشازي النبض ما به من ورم، ناحل الجسم ليس عليه سقم، أرى قدمه، أراق دمه، ولسانه مهد عدمه. كف نفسه عن الراحة، وزاحم بالركب أهل الفصاحة، حتى يضرب به المثل بين الأماثل، ويذعن لنظمه ونثره الأفاضل. ذو اللسانين وذو البيانين، قد هدي النجدين واقتحم العقبتين، وجمع بين العلم والعين. مهندس ينقش الخطوط على السطوح للتعاليم، منجم يصلح الزيجات والتقاويم.
ينقص بالأصابع طل الأقدام، ويرقم على الرخامات دقائق الليالي والأيام. لا يأبى السلاطين ما رسمه، ولا يتجاوز الأساطين عما رقمه. أعجم يعرف اللغات كلها، أدهم قد طوى المقامات جلها. يقول حين يبرز في نادي البيان: عند الامتحان يكرم المرء أو يهان. صوفي قطع المنازل وبلغ الغايات، ورجع القهقرى لتصحيح البدايات. إن لم يقطع لسانه لم يفصح بيانه، وان لم يشق سنانه لم ينطلق لسانه. عربي واسطي، أصله هندي، زنجي نسله طوطي، أسود المنقار كأن منقاره من قار، ذو ذؤابة يعلم من مسيرة طول حلول الآجال، ويفهم من ظهوره انتقال الدولة وتداول الإقبال، وتحول الأحوال. أحرز قصبات السبق في مضمار البيان، حتى صار بحيث تشير ليه المهرة في ذلك الفن بالبنان. كأنه عصا موسى، وقد ألقيت فإذا هي حية تسعى. أبو قلمون يتقلب في الأطوار، ويتحول من شعار إلى شعار، طورا ينظم القوافي والأشعار، وتارة تلقاه ينثر لأليء الحكم والأسرار ساعة تبصره أنيس الإعلام ذوي البراعة، وكرة تصادفه سمير أهل المجون والخلاعة. سحار يأتي بالغرائب، مكار يري الناظرين العجائب. يثبت في سماء مشرقة كواكب مظلمة، وينثر على صفحة النهار قطعا من الليل معتمة. كاتب شهيد، وحاسب عتيد. تجرع مرارة مذاق الكد حتى تضلع من فنون العلوم، وتحمل الصبر على استنشاق دخان السراج حتى برع بين الفضلاء ذوي الفهوم. لا يزال رطب اللسان في شكر باريه، عذب البيان بذكر باريه. محدث تحدث عنه الآثار، وتنتقل عنه الأخبار في الأقطار. بازي يمتطي أيدي الصناديد الصيد، لا يطير من أيديهم ويصيد. له إشارة مبهمة، وعبارة مفهمة. انقطع عن عبرته لنيل طلبته، حتى بلغ مبلغ الرجال، ونال من الشرف ما نال، فحق أن ينشد فيه.
قول من قال:
ورث النجابة كابرا عن كابر ... كالرمح أنبوبا على أنبوب
حكيم تنطوي إشارته على تلويحات إلى قانون الشفاء، وتحتوي على تنبيهات لمناهج النجاة عن درك الجهل والشقاء. له مواقف يحقق فيها مقاصد الكلام، وعوارف معارف يكشف بها عن وجوه الفرائد اللثام. يعرض ذات الشمال وهو من أهل اليمين. ويصدق في أكثر الأقوال ولكنه قد يمين. لا تنظم مصالح الأنام إلا بحسن مساعيه، ولا تنضبط حوادث الأيام إلا بيمن مراعيه. أجوف وهو مصدر المثال، مهموز سالم من الاعتلال. لفيف مفروق من إخوانه، خفيف ناقص من أوزانه. أصل واحد تصدر عنه الأمثلة لمعان مقصودة لا تحصل إلا به، نصل شاهد لا يصاب غرض المطالب ألا بنابه. نموم يسعى في هتك الأستار، غشوم نفوذ في كشف الأسرار، تقي لا يزال مولعا بافتضاض أبكار بنات الأفكار. خضر خاض الظلمات، حتى أرتوي من ماء الحياة. مستوف قد أحاط أبواب حواصل الأقاليم جمعا أو خرجا، وزير قد نظم غوامض أمور الممالك هرجا ومرجا. مشير ذوي النهى في النوائب ومؤنسهم (ما يكون من نجوى ثلاثة إلا هو رابعهم ولا خمسة إلا هو سادسهم) رشيق القد أسيل الخد، أليف الكد طويل المد، قد جاوزت شمائله حد العد. ألف ممدود لا يمنع الصرف، سالك مرتاض لكنه يعبد الباري على حرف. تعمم بشعار آل العباس، وأقام أمر النجدة والباس، فقال: أيها الناس.
أنا ابن جلا وطلاع الثنايا ... متى أضع العمامة تعرفوني.(1/498)
أجوف لا يحفظ السر في قلبه، لا فرق في لغة العجم بين اسمه وقلبه. له أسماء في لغة العرب تقاليبها كلها مستعملة، وذلك من خصاله التي قلما يتفق فيها شريك له. آلة تعصم مراعاتها الذهن عن الخطأ والنسيان، ينوب عن اللسان في البيان، وعن السنان المحدد بالسنان. إذا رقى البنان هو ملك لكنه يستكتب، فإذا أدى نجوم الكتابة خلي سبيله أين يذهب. نسخ محقق توقيعاته على الرقاع أدراج الياقوت، قد أقر بريحان قامته عيون ابن مقلة وياقوت. شكله أسطواني وهو مخروط، شاب مترعرع لكنه محظوظ. يحبه الناس ويراودونه، لكن إذا ظهر الشعر على عذاره طووا الكشح دونه. مسافر يسفر عن أخبار المشارق والمغارب، عارف محيط بجميع الأذواق والمشارب. لسانه نضناض، وبيانه فضفاض، وحكمه ماض، في السواد والبياض، يقضي فيها ما هو قاض. جارية تجري في البحر بأذن الباري، فتأتي بدرر معان كأنها غرر الدراري. ولقد أحسن من قاله فيه ملغزا، ولبعض أوصافه الغريبة مبرزاً.
وما غلام راكع ساجد ... أخو نحول دمعه جار.
ملازم الخمس لأوقاتها ... معتكف في خدمة الباري.
كأنه في يد السلطان ابن السلطان، أبي المظفر يعقوب خان، قصب السكر وقد نبت على ساحل عمان. عم الورى نائله وآوى السائلين ساحله، كلا أن نوال البحر بالنسبة إلى فيض كفه نزر ليس له قدر، كيف لا وله مد يعقبه جزر.
فلن أشبهه بالبحران له ... مدا يعاقبه جزرا بأرجاء.
أو هو - والحالة هذه - خط تخيل في نواطر الأوهام، من قطرة نازلة من غمام، وأي غمام يدر نواله على عواطف الأنام، من الخواص والعوام، وتغمر منحه الجسام، رياض آمال الأفاضل الأعلام بكل مقام. أين جود الغمام من جوده العميم، أم أين مدراره من مدرار كرمه الجسيم.
ما نوال الغمام وقت ربيع ... كنوال الأمير وقت سخاء
فنوال الأمير بدرة مال ... ونوال الغمام قطرة ماء.
اللهم خلد نفاذ أرقام أقلامه على صفحات الأقاليم ما دام القلم الأعلى، ونفذ مداد أعوان دولته وامتداد زمان صولته ما دامت نقوش الأنفاس في صحائف القراطيس تتلى، ومآثر السلاطين الكبار على صفحات الأوراق تروى. بحق من نسخ الكتب السالفة ولم يركب بنانه قلم، وهدى الحائرين إلى أقوام لقم، بعدما وقب غواسق الظلم.
انتهت الرسالة الرافلة من حلل البلاغة في غلالة، وقد عارضها غير واحد من المتأخرين، فلم يأت لقرينة منها بقرين. وإذا كان غرضنا الاختصار فلنكتف مما أردنا بهذا المقدار.
وبيت بديعية الصفي قوله: فعال منتظم الأحوال مقتحم الأهوال ملتزم بالله معتصم وبيت بديعية ابن جابر قوله:
من لي بمستلم للبيد معتصم ... بالعيس لا مسئم يوما ولا سئم
وبيت بديعية الموصلي قوله:
كم قاتل بصميم الجمع مقتحم ... وقائل لنظيم السجع ملتزم.
هذا النوع من نوع الترصيع لا نوع التسجيع، لاشتراطهم فيه أن يكون روي الأسجاع على روي البيت كما تقدم.
وبيت بديعية ابن حجة قوله:
سجعي ومنتظمي قد أظهرا حكمي ... وصرت كالعلم في العرب والعجم
وبيت بديعية المقري قوله:
نجاك من عدم أولاك منع دم ... أغناك عن كرم فالفقر عنك رمي
وبيت بديعية السيوطي قوله:
آثارهم عصمي وحبهم لزمي ... في مدحهم كلمي سجعي ومنتظمي
وبيت بديعية العلوي قوله:
من كف ذي الكرم الهامي على الأمم ال ... ثجاج بالنعم الواقي من النقم.
وبيت بديعية الطبري قوله:
أفاد من عدم وساد من حكم ... وحق ذو سدم سجعا بغير فم
وبيت بديعيتي قولي:
تسجيع منتظمي والغر من حكمي ... ألفاظها بفمي در من الكلم
التسهيل
وأنت يا سيد الكونين معتمدي ... في أن تسهل ما أرجو ومعتصمي
التسهيل أدخلها بعضهم في نوع الانسجام، وذكرها ابن سنان الخفاجي في كتاب سر الفصاحة وقال في مجمل كلامه: هي خلو اللفظ من التكليف والتعقيد والتعسف في السبك، لا كما قال بعضهم:
وقبر حرب بمكان قفر ... وليس قرب قبر حرب قبر
قال الجاحظ في كتاب البيان والتبيين:(1/499)
هذا بيت لا يطيق أحد أن يقوله ثلاث مرات متوالية ولا يتوقف فيه، لتنافر كلماته، وقيل: هو من شعر الجن. قال صاحب كتاب عجائب المخلوقات: في الجن نوع يقال له: الهاتف، صاح واحد منهم على حرب بن أمية بن عبد شمس فمات، فقال ذلك الجني هذا البيت فيه.
وقال التيفاشي: السهولة هي أن يأتي الشاعر بألفاظ سهلة ظريفة تتميز على ما سواها عند من له أدنى ذوق في الأدب، وهي مما يدل على رقة الحاشية وسلامة الطبع.
ومن أحسن أمثلة ذلك قول بعضهم:
أليس وعدتني يا قلب أني ... إذا ما تبت عن ليلى تتوب.
فها أنا تائب عن حب ليلى ... فمالك كلما ذكرت تذوب.
وان لا يكون كقول امرئ القيس:
غدائرها مستشزرات إلى العلا ... تضل العقاص في مثنى ومرسل.
قلت: ومن محاسن أمثلة هذا النوع أيضاً قول الحكم بن (قنبر المازني) :
ويلي على من أطار النوم وامتنعا ... وزاد قلبي على أوجاعه وجعا
كأنما الشمس من أعطافه لمعت ... حسنا أو البدر من أزراره طلعا
مستقبل بالذي تهوى وان كثرت ... منه الذنوب ومعذور متى صنعا
في وجهه شافع يمحو إساءته ... من القلوب وجيه حيثما شفعا
حكى أبو الحسين بن فارس قال: جرى في بعض الأيام بين الأستاذ ابن العميد ذكر أبيات استحسن الأستاذ وزنها، واستحلى ذوقها، فانشد جماعة من حضر ما حضرهم من ذلك الروي: وهو قول القائل:
لئن كففت وإلا ... شققت منك ثيابي.
فأصغى إلينا ابنه أبو الفتح ثم انشد في الوقت:
يا مولعا بعذابي ... أما رحمت شبابي
تركت قلبي جريحا ... نهب الأسى والتصابي
إن كنت تنكر ما بي ... من لوعتي واكتئابي
فارفع قليلا قليلا ... عن العظام ثيابي
قال الثعالبي: تأمل هذه الطريقة الظريفة، وانظر إلى هذا الطبع، فانه أتى بمثل ما أنشده في سياقته وخفته، وسهولته وظرافته، ولم يعد الجنس ولم يقصر دونه، فبذلك تعرف قدرة القادر على الخطابة والبلاغة.
وقول الوزير أبي محمد المهلبي: قال لي من أحب قد جسد ودمعي مواصل لشهيفي
ما الذي في الطريق تصنع بعدي ... قلت أبكي عليك طول الطريق.
وقوله أيضاً:
تصارمت الأجفان منذ صرمتني ... فما تلتقي ألا على عبرة تجري.
وقول أبي فراس بن حمدان:
يا ليل ما أغفل عما بي ... حبائي فيك وأحبابي
يا ليل نام الناس عن موجع ... ناء على مضجعه نابي
هبت له ريح شآمية ... متت إلى القلب بأسباب
أدت رسالات الهوى بيننا ... فهمتها من بين أصحابي.
وقوله أيضاً:
أساء فزادته الإساءة حظوة ... حبيب على ما كان منه حبيب
يعدُّ عليَّ الواشيان ذنوبه ... ومن أين للوجه المليح ذنوب
وقول أبي الفرج (المخزومي) الببغاء وهو مما يتغنى به:
يا سادتي هذه نفسي تودعكم ... إذ كان لا الصبر يسليها ولا الجزع
قد كنت أطمح في روح الحياة لها ... فاليوم مذ بنتم لم يبق لي طمع
لا عذب الله روحي بالبقاء فما ... أظنها بعدكم بالعيش تنتفع
وقول أبي الفرج المعروف بالوأواء الدمشقي:
بالله ربكما عوجا على سكني ... وعاتباه لعل العتب يعطفه
وعرضا بي وقولا في حديثكما ... ما بال عبدك بالهجران تتلفه
فان بدا لكما من سيدي غضب ... فغالطاه وقولا ليس نعرفه
وان تبسم قولا عن ملاطفة ... ما ضر لو بوصال منك تسعفه
وقوله وهو مما يتغنى به:
يا من سقام جفونه ... لفؤاد عاشقه طبيب.
حزت المودة فاستوى ... عندي حضورك والمغيب
كن كيف شئت من البعا ... د فأنت من قلبي قريب
وقوله أيضاً:
رماه ريم فأصا ... ب القلب منه اذ رمى
واحتج في قتلته ... بأنه ما علما
يا معشر الناس أما ... ينصفني من ظلما
علم سقم طرفه ... جسمي منه السقما
فسقم جسمي في الهوى ... من طرفه تعلما
لو قيل لي ما تشتهي ... مخيرا محكما
لقلت أن ألثمه ... نحرا وخدا وفما
وقول أبي الحسن بن المظفر بن نحرير البغدادي
خليلي ما أحلى صبوحي بدجلة ... وأطيب منه في الصراة غبوقي(1/500)
شربت على المائين من ماء كرمة ... وماء كدر ذائب وعقيق
على قمري أفق وأرض تقابلا ... فمن شائق حلو الهوى ومشوق
فما زلت أسقيه واشرب ريقه ... وما زال يسقيني ويشرب ريقي
وقلت لبدر التم تعرف ذا الفتى ... فقال نعم هذا أخي وشقيقي
قال القاضي شمس الدين بن خلكان: وهذه الأبيات من أملح الشعر وأظرفه.
وقول مؤيد الدولة أسامة بن مرشد:
شكا ألم الفراق الناس قبلي ... وروع بالنوى حي وميت
وأما مثل ما ضمت ضلوعي ... فإني ما سمعت ولا رأيت
ومن الشعر المشهور بالرقة والسهولة قول الحسن بن مطير على ما في الغرر والدرر للمرتضى:
ولي كبد مقروحة من يبيعني ... بها كبدا ليست بذات قروح
أباها جميع الناس لا يشترونها ... ومن يشتري ذا علة بصحيح
أئن من الشوق الذي في جوانحي ... أنين غصيص بالشراب قريح
وكان سلطان مكة المشرفة الشريف محسن بن الحسين بن الحسن الحسني يطرب لهذه الأبيات كثيراً ويعجب لها، فسأل ابن عمه السيد احمد بن مسعود بن الحسن تذييلها، فذيلها بقوله:
على سالف لو كان يشرى زمانه ... شريت ولكن لا يباع بروحي
تقضى وأبقى لا عجا ُيستفزه ... تألق برق أو تنم ريح
وقلباً إلى الأطلال والضال لم يزل ... نزوعاً وعن أفياه غير نزوح
فليت بذاك الضال نجب أحبتي ... طلاحاً فنضو الشوق غير طليح
يجشمه بالا برقين منيزل ... وبرق سرى وهنا وصوت صدوح
وموقف بين لو أرى عنه ملحداً ... ولقت بنفسي فيه غير شحيح
صرمت به ربعي وواصلت أربعي ... وأرضيت تبريحي وغظت نصيحي
وباينت سلواني وكل ملوح ... ولا يمت أشجاني وكل مليح
وكلفت نفسي فوق طوقي فلم أطق ... لعد سجايا محسن بمديح
وذيلتها أنا أيضاً فقلت:
ولي كبد مقروحة من يبيعني ... بها كبدا ليست بذات قروح
أباها جميع الناس لا يشترونها ... ومن يشتري ذا علة بصحيح
أئن من الشوق الذي في جوانحي ... أنين غصيص بالشراب قريح
وأبكي بعين لا تكف غروبها ... وأصبو بقلب بالغرام جريح
وألتاع وجدا كلما هبت الصبا ... بنشر خزامى أو بنفحة شيح
إلى الله قلباً لا يزال معذبا ... بتأنيب لاح أو بهجر مليح
فيا عصرنا بالرقمتين الذي خلا ... لك الله جد بالقرب بعد نزوح
أرقت وقد نام الخلي من الأسى ... بجفن على تلك السفوح سفوح
يهيج أشجاني ترتم صادح ... ويوقظ أحزاني تنسم ريح
فلله بالجرعاء حي عهدتهم ... يحلون منها في معاهد فيح
ليالي ليلى من بهيم ذوائب ... وصبحي من وجه أغر صبيح
هم نيل آمالي ونجح مآربي ... وصحة أسقامي وراحة روحي
لئن مر دهر بالتنائي فقد حلا ... غبوقي بهم فيما مضى وصبوحي
وبيت بديعية الصفي قوله:
وقلت هذا قبول جاءني سلفاً ... ما ناله أحد قبلي من الأمم
وبيت بديعية ابن حجة قوله:
يا رب سهل طريقي في زيارته ... من قبل أن تعتريني شدة الهرم
وبيت بديعية المقري قوله:
يا احمد الرسل هذا احمد الخلفا ... في الملك هذا المسمى باسمك العلم
وبيت بديعية العلوي قوله:
ومن يكن للإله الفرد فيه ثنا ... فمدح كل الورى ضرب من العدم
وبيت بديعيتي قولي:
وأنت يا سيد الكونين معتمدي ... في أن تسهل ما أرجو ومعتصمي
ولم ينظم سائر أصحاب البديعيات هذا النوع والله تعالى أعلم
الإدماج
أدمجت مدحك والأيام عابسة ... وأنت أكرم من يرجى لدى الازم
الإدماج في اللغة مصدر أدمج الشيء في الشيء: إذا أدخله فيه.
وفي الاصطلاح أن يضمن المتكلم كلاما ساقه لمعنى معنى آخر، بشرط أن لا يصرح به، ولا يشعر في كلامه بأنه مسوق لأجله. ومثاله من التنزيل قوله تعالى (له الحمد في الأولى والآخرة) فان الغرض منها تفرده تعالى بوصف الحمد، وأدمج فيه الإشارة إلى البعث والجزاء.(1/501)
وقوله تعالى (حملته أمة كرها وحمله وفصاله ثلاثون شهراً) فأنها سيقت لإثبات منة الوالدة على الولد، وأدمج فيها أن أقل مدة الحمل ستة أشهر، لأنه إذا وضع للفصال أربعة وعشرون شهرا ُلقوله تعالى (وفصاله في عامين) بقي للحمل ستة أشهر، وهي أقل مدته، ويسمى هذا النوع في أصول الحنفية بالإشارة.
ومن النظم قول أبي الطيب في وصف الليل:
أقلب فيه أجفاني كأني ... أعد بها الدهر الذنوبا
فإنه ضمن وصف الليل بالطول الشكاية من الدهر، يعني لكثرة تقليبي لأجفاني في ذلك الليل كأني أعد على الدهر ذنوبه.
وقول ابن المعتز في الخيري:
قد نفض العاشقون ما صنع ال ... هجر بألوانهم على ورقة
فان الغرض وصف الخيري بالصفرة فأدمج الغزل في الوصف، وفيه وجه آخر من الحسن وهو إيهام الجمع بين المتنافيين، أعني الإيجاز والإطناب، أما الإيجاز فمن جهة الإدماج، وأما الإطناب فلأن أصل المعنى أنه أصفر، فاللفظ زائد عليه لفائدة، وقد مر الاستشهاد به في نوع البسط.
ومنه قول ابن نباتة:
ولا بد من جهلة في وصاله ... فمن لي بخل أودع الحلم عنده
فأنه أدمج في الغزل الفخر بكونه حليماً، حيث كنى عن ذلك بالاستفهام عن وجود خليل صالح لأن يودعه حلمه، وضمن الفخر بذلك شكوى الزمان لتغير الأخوان، حيث اخرج الاستفهام مخرج الإنكار إشارة إلى أنه لم يبق في الإخوان من يصلح لهذا الشأن، ونبه بذلك على أنه لم يعزم على مفارقة حلمه أبداً، لكن لما كان مريداً لوصل هذا المحبوب المستلزم للجهل المنافي للحلم، عزم على أنه إن وجد من يصلح لأن يودعه حلمه أودعه إياه، فأن الودائع مستعارة آخر الأمر.
وأورد غير واحد، منهم صاحب المصباح، صفي الدين الحلي في شرح بديعيته، وابن حجة، وسائر أصحاب البديعيات في شروحهم مثالاً لهذا النوع قول عبيد الله بن عبد الله بن طاهر لعبيد الله بن سليمان بن وهب حين وزر للمعتضد، وهو:
أبى الدهر إسعافنا في نفوسنا ... فأسعفنا فيمن نجد ونكرم
فقلت له نعماك فيهم أتمها ... ودع أمرنا أن المهم المقدم
قالوا: أدمج شكوى الزمان، وشرح ما هو عليه من اختلال الأحوال في ضمن التهنية. ورد بان الشكوى مصرح بها في صدر البيتين فكيف تكون مدمجة؟ ولو جعل التهنية مدمجة في الشكوى لكان أقرب.
ومن بديع الإدماج قول الصاحب بن عباد يمدح الأستاذ أبا الفضل بن العميد:
إن خير المداح من مدحته ... شعراء البلاد في كل ناد
فأنه أدمج الافتخار في أثناء المدح، وهذا البيت من جملة قصيدة من عيون شعر الصاحب وهي:
من لقلب يهيم في كل واد ... وقتيل للحب من غير واد
إنما أذكر الغوالي والمق ... صد سعدى مكثراً للسواد
وإذا ما صدقت فهي مرامي ... ومنائي وروضتي ومرادي
وندى ابن العميد أني عميد ... من هواها ألية الأمجاد
لو درى الدهر أنه من بنيه ... لا زدرى قدر سائر الأولاد
أو رأى الناس كيف يهتز للجو ... دلما عددوه في الأطواد
أيها الآملون حطوا سريعاً ... برفيع العماد واري الزناد
فهو أن جاد ذم حاتم طي ... وهو إن قال فل قس أياد
وإذا ما ارتأى فأين زياد ... من دهاه وأين آل زياد
أقبل العيد يستعير حلاه ... من علاه العزيزة الأنداد
سيضحي فيه بمن لا يوالي ... هـ ويبقى بقية الأعياد
ومديحي إن لم يكن طال أبيا ... تاً فقد طال في مجالي الجياد
أن خير المداح من مدحته ... شعراء البلاد في كل ناد
على أنه ألم فيه بقول يزيد بن محمد المهلبي لابن المدبر وهو:
أن أكن مهدياً لك الشعراني ... لابن بيت تهدى له الأشعار
وبيت بديعية الصفي قوله:
لصدق قولك لو حب امرؤ حجرا ... لكان في الحشر عن مثواه لم يرم
قال في شرحه: الإدماج فيه سؤاله حسن الحشر في زمرة نبيه صلى الله عليه وآله وسلم في ضمن تصديق الحديث المأثور.
وبيت بديعية ابن جابر قوله:
لهم أحاديث مجد كالرياض إذا ... أهدت نواسم أحيت دارس السلم
قال رفيق الناظم في شرحه: جعل لهم أولا أحاديث مجد طيبة، وأدمج في ذلك وصف الرياض. انتهى. ولا يخفى ما فيه.
وبيت بديعية الموصلي قوله:(1/502)
أدمجت شكواي من ذنبي بمدحته ... عساك تشفع لي يا شافع الأمم
قال في شرحه: أنه أدمج فيه الشكوى من ذنبه. قال ابن حجة: لكن نوع الإدماج البديعي لا أعلم أين أدمجه.
وبيت بديعية ابن حجة قوله:
قد عز إدماج شوقي والدموع لها ... على بهار خدودي صبغة العنم
قال في شرحه: قدت شرح الحال في غرة إدماج الشوق بواسطة جريان الدموع، وأدمجت في ذلك صفرة اللون وحمرة الدموع.
وبيت بديعية المقري قوله:
واحفظه في سربه وارفع له علماً ... في السابقين وسر بي في حمى العلم
وبيت بديعية العلوي قوله:
يا طالبا من رسول الله بغيته ... أبشر فأمتنه في الحشر في حرم
وبيت بديعيتي قولي:
أدمجت مدحك والأيام عابسة ... وأنت أكرم من يرجى لدى الازم
أدمجت هنا بمعنى أحكمت، من قولهم: صلح دماج -بضم أوله وكسره- أي محكم، أو بمعنى ثقفت من قولهم: قدح مدمج، أي مثقف مستوي. وإلازم -بفتحتين، وكعنب- جمع أزمة وهي الشدة. والإدماج في تضمين المدح الذي سبق الكلام لأجله شكوى الأيام، وسؤال النجاة من شدائدها، نجانا الله بكرمه منها، والله تعالم أعلم.
الاحتراس
وكم مننت بلا من على رجل ... من احتراس حلول الخطب لم ينم
الاحتراس في اللغة: التحفظ. وفي الاصطلاح أن يأتي المتكلم بمعنى يتوجه عليه فيه دخل، أو يوهم خلاف المقصود، فيتنبه له فيأتي بما يخلصه من ذلك، وهو في التنزيل كثير، منه قوله تعالى (وأدخل يدك في جيبك تخرج بيضاء من غير سوء) فقوله من غير سوء: احترس عن البهق والبرص. وقوله تعالى (لا يحطمنكم سليمان وجنوده وهم لا يشعرون) احترس لئلا يتوهم نسبة الظلم إلى سليمان عليه السلام. ومثله] قوله تعالى [ (فتصيبكم] منهم [معرة بغير علم) .
وقوله تعالى (قالوا نشهد إنك لرسول الله والله يعلم أنك لرسوله والله يشهد أن المنافقين لكاذبون) فالجملة الوسطى احترس لئلا يتوهم أن التكذيب لما في نفي الأمر.
ومن أمثلته في النظم قول طرفة بن العبد:
فسقى ديارك غير مفسدها ... صوب الغمام وديمة تهمي
فقوله (غير مفسدها) احترس من عفا آثارها، ومحو معالمها، فأن نزول المطر قد يكون سبباً لذلك، وهكذا قال غير واحد. وتعقبه بعض بأن مجرد احتمال كون المطر للفساد لا يكفي في إيهام خلاف المقصود، بل لا بد من وقوع سبق إلى الذهن، ولا يسبق من السقي إلا الإصلاح لشيوعه في ذلك، فكون البيت من قبيل الاحتراس محل تأمل، اللهم إلا أن يقال سبق الذهن بالفساد من قوله: ديمة، فإن الديمة هي المطر الدائم الذي ليس فيه رعد ولا برق. وبعد لا يخلو من شوب، لأن تقدم قوله: غير مفسدها على قوله: وديمة تهمي، يدفع هذا التوجيه. انتهى.
قلت: ومما عيب على أبي الطيب قوله:
وإذا ارتحلت فشيعتك سلامة ... حيث اتجهت وديمة مدرار
قال الوزير الكاتب أبو محمد بن عبد الغفور المغربي وكتبه إلى أمير المسلمين وقد أراد الغزو:
سر حل حيث تحله النوار ... وأراك فيك مرادك المقدار
وإذا ارتحلت فشيعتك سلامة ... وغمامة لا ديمة مدرار
تنفي الهجير بظلها وتنيم بالرش القتام وكيف شئت تدار
وقضى الإله بأن تعود مظفرا ... وقضت بسيفك نحبها الكفار
هذا ما تمناه الولي، لا ما تمناه الجعفي، فأنه قال: حيث ارتحلت وديمة، وما تكاد تنعقد معها عزيمة، وإذا سفحت على ذي سفر، فما أحراها بأن تعوق عن الظفر، ونعتها فكان أبلغ في الأضرار.
منه قول الفرزدق:
لعن الإله بني كليب أنهم ... لا يغدرون ولا يفوق لجار
فقوله: لا يفون، احتراس لئلا يتوهم أن عدم غدرهم من الوفاء، فقال ولا يفون، ليفيد أنه للعجز، وقوله: لجار: إيغال، لأن ترك لوفاء للجار أشد قبحا.
وبيت بديعية الصفي قوله:
فوقني غير مأمور وعودك لي ... فليس رؤياك أضغاثاً من الحلم
ولم ينظم ابن جابر هذا النوع في بديعيته.
وبيت بديعية الموصلي قوله:
حبي له يتمشى في المفاصل قل ... بالاحتراس تمشي البرء في السقم
قال ابن حجة: الشيخ صفي الدين احترس في بيته بقوله: غير مأمور، وبيت الشيخ عز الدين عجزت عن تحقيقه، بل عن تحقيق معناه، وهو مأخوذ من قول أبي نواس في وصف الخمر:
فتمشت في مفاصلهم ... كتمشي البرء في السقم(1/503)
وبيت بديعية ابن حجة قوله:
فأن أقف غير مطرود بحجرته ... لم أحترس بعدها من كيد مختصم
قال في شرحه: قولي: غير مطرود، هو الاحتراس الذي يليق بمقام المادح بالنسبة إلى مقام النبي صلى الله عليه وإله وسلم.
وأنا أقول: الوقوف لا يشمل الطرد حتى يحترس عنه بقوله: غير مطرود بخلاف قول صفي الدين (فوقني) فأن هذه الصيغة يتبادر منها الأمر، فاحترس عنه بقوله: غير مأمور. فلو قال ابن حجة: فأن أعد، أو فأن أرجع كان له وجه.
وبيت بديعية المقري قوله:
والآل من فضل كل الآل عندهم ... كالآل لا الصحب ما يروي صدى لظمي
قال في شرحه: معناه وصل على الآل من فضل كل آل من فضلهم كالآل الذي هو السراب، ثم احترس لأجل الصحابة فقال: لا الصحب.
وبيت بديعية العلوي قوله:
فقل له وهو أدرى بالمقال وفي ... إحسانه الجم جبر الخلق كلهم
وبيت بديعيتي قولي:
وكم مننت بلا من على رجل ... من احتراس حلول الخطب لم ينم
فقولي (بلا من) هو الاحتراس لئلا يتوهم أن قوله (وكم مننت) من المن بمعنى تعديد ما فعل من الصنائع، مثل أن يقال: أعطيتك، وفعلت لك وهو تكرير وتعيير تنكسر منه القلوب، فلهذا نهى عنه الشارع بقوله (لا تبطلوا صدقاتكم بالمن والأذى) ومن هنا يقال: المن أخو المن، أي الامتنان بتعديد الصنائع أخو القطع والهدم. فأنه يقال مننت الشيء منا: إذا قطعته فهو ممنون، ومنه قوله تعالى (وإن لك لأجرا غير ممنون) والله سبحانه وتعالى أعلم.
حسن البيان
حسن البيان أرانا منك معجزة ... أضحت تقر لديها الفصح بالبكم
حسن البيان هو المنطق الفصيح المعرب عما في الضمير، وإنما سمي هذا النوع بحسن البيان لأنه عبارة عن الإفصاح عما في النفس بألفاظ سهلة بليغة، بعيدة عن البس من غير حشو مستغنى عنه، يكاد يستر وجه حسن البيان، ويغطي واضح التبيان، حتى لا يكون.
كقول امرئ القيس:
كأني غداة البين يوم تحملوا ... لدى سمرات الحي ناقف حنظل
فأن أصل معناه إلا بأنه عن أن عينيه تدمعان، وذلك حاصل بقوله: كأني ناقف حنظل، لأن الحنظل مما تدمع العين بنقفه، وباقي الألفاظ مستدعاة زائدة. إذا عرفت ذلك فهذا النوع ليس له مثال يختص به، بل كل كلام دل على ما في النفس، وأعرب عما في الضمير بعبارة بليغة دخل في حد هذا النوع، والعلم في ذلك بيان كلام الله العظيم الذي هو النور المبين، كقوله تعالى في الاحتجاج القاطع للخصم (وضرب لنا مثلاً ونسي خلقه قال مت يحي العظام وهي رميم، قل يحييها الذي أنشأها أول مرة وهو بكل خلق عليم) ، وقوله تعالى في الإنكار والتعجب والتوبيخ (كيف تكفرون بالله وكنتم أمواتاً فأحياكم ثم يميتكم ثم يحييكم) ، وقوله تعالى في الترغيب في طاعته وخشيته (ومن يطيع الله ورسوله ويخشن الله ويتقه فأولئك هم الفائزين) ، أيْ أي مكلف أطاع الله في فرائضه، ورسوله في سنته، وخشي الله على ما مضى من ذنوبه، واتقى فيما يستقبل فقد حاز الفوز بحذافيره.
ومما يدخل هذا النوع من الشعر قول أبي الطمحان:
وأني من القوم الذين هم هم ... إذا مات منهم سيد قام صاحبه
نجوم سماء كلما انقض كوكب ... بدا كوكب تأوي إليه كواكبه
أضاءت لهم أحسابهم ووجوهم ... دجى الليل حتى نظم الجزع ثاقبه
وما زال منهم حيث كانوا مسود ... تسير المنايا حيث سارت ركائبه
فأنه أبان عن وصف قومه بعموم الرياسة فيهم، وتوارثها صاغراً عن كابر أحسن ابانة، ومدحهم بما قيل: أنه أمدح بيت قيل في الجاهلية وهو البيت الثالث من الأبيات وقال معاوية لعرابة بن أوس: أنت الذي يقول فيك الشماخ:
رأيت عرابة الأوسي يسمو ... إلى الخيرات منقطع القرين
إذا ما راية رفعت لمجد ... تلقاها عرابة باليمين
فبم سدت قومك؟ قال: والله ما أنا بأكرمهم حسبا، ولا بأفضلهم نسبا ولكني أعرض عن جاهلهم، وأسمح لسائلهم، فمن عمل مثل عملي فهو مثلي ومن زاد فهو أفضل مني، ومن فأنا أفضل منه، فقال معاوية: هذا والله الكرم والسؤود. والشاهد في هذه القطعة في النظم والنثر كما لا يخفى.
ومنه قول أبي عبادة البحتري في الرضا بعد الغضب وأجاد:
ما كان إلا مكافأة وتكرمة ... هذا الرضا وامتحاناً ذلك الغضب(1/504)
وربما كان مكروه الأمور إلى ... محبوبها سببا ما مثله سبب
هذي مخايل برق خلفها مطر ... وذاك وري زناد خلفه لهب
وأبيض الفجر يبدو بعد أزرقه ... أول الغيث رش ثم ينسكب
وقول (شمس) المعالي قابوس في حلول الأخطار بذوي الأخطار:
قل للذي بصروف الدهر عيرنا ... هل حارب الدهر إلا من له خطر
أما ترى البحر تعلو فوقه جيف ... وتستقر بأقصى قعره الدرر
فأن تكن عبثت أيدي الزمان بنا ... ونالنا من تمادي بؤسه ضرر
ففي السماء نجوم ما لها عدد ... وليس يكسف إلا الشمس والقمر
وكم على الأرض من خضراء مونقة ... وليس يرجم إلا ما له ثمر
وقول اسماعيل بن أحمد الشامي في ذم أخوان الزمان:
أخلاي أمثال الكواكب كثرة ... وما كل ما يرمى به الأفق ثاقب
بلى كلهم مثل الزمان تلوناً ... إذا سر منهم جانب ساء جانب
مضى الود والانصاف والعهد بينهم ... وما بقيت إلا الظنون الكواذب
وكنت أرى أن التجارب عدة ... فخانت ثقاب الناس حتى التجارب
تدرع لإخوان الزمان مفاضة ... ولا تلقهم إلا وأنت محارب
وقول أبي بكر ابن بقي الأندلسي في شكوى الحال:
إلى الله أشكوها نوى أجنبية ... لها من أبيها الدهر شيمة ظالم
إذا جاش صدر الأرض بي كنت منجداً ... وإن لم يجش بي كنت بين التهائم
أكل مني الآداب مثلي ضائع ... فأجعل ظلمي أسوة في المظالم
ستبكي قوافي الشعر ملء جفونها ... على عربي ضاع بين الأعاجم
وقول القاضي أبي الحسن علي بن عبد العزيز الجرجاني في عزة النفس:
وقالوا توصل بالخضوع إلى الغنى ... وما علموا أن الخضوع هو الفقر
وبيني وبين المال بابان حرما ... علي الغنى نفسي الأبية والدهر
إذا قيل هذا اليسر أبصرت دونه ... مواقف خير من وقوفي بها العسر
وبين بديعية الصفي الحلي قوله:
وعدتني في منامي ما وثقت به ... من التقاضي بمدح فيك منتظم
ولم ينظم ابن جابر هذا النوع في بديعيته.
وبيت بديعية الموصلي قوله:
حسن البيان بحمد الله بين لي ... هدى النبي الرضي الواضح اللقم
وبيت بديعية ابن حجة قوله:
حتى بيت بديعي في محاسنه ... حسن البيان وأشدو في حجازهم
وبيت بديعية المقري قوله:
فجازه عن مديحي فهو باعثه ... وجازني في انتقاء الدر والحكم
وبيت بديعية العلوي قوله:
فكلما رام قلبي حصره التطمت ... أمواج فكري في بحر من الهمم
وبيت بديعيتي قولي:
حسن البيان أرانا منك معجزة ... أضحت تقر لديها الفصح بالبكم
ولم أقف على بيت السيوطي في هذا النوع، وأما الطبري فلم ينظمه والله أعلم
العقد
نصرت بالرعب من شهر على بعد ... وعقد نصرك لم يحلله ذو أضم
هذا النوع عبارة عن أن يعمد الشاعر إلى من كلام الله، أو كلام رسوله، أو السلف الصالح من الصحابة ومن بعدهم، أو كلام الحكماء المشهورين، فينظمه بلفظه ومعناه، أو معظم اللفظ فيزيد فيه، وينقص منه ليدخل في وزن الشعر، فأن نظم المعنى دون اللفظ لم يكن عقدا، بل نوعا من السرقة، خلافا لمن أدخله في العقد.
أما العقد من القرآن فكقول أبي نواس:
بنفسي غزال صار للناس قبلة ... وقد زرت في بعض الليالي مصلاه
ويقرأ في المحراب والناس خلفه ... ولا تقتلوا النفس التي حرم الله
فقلت تأمل ما تقول فأنها ... لحاظك يا من تقتل الناس عيناه
وقول الآخر:
أنلني بالذي اسقرضت خطاً ... وأشهد معشراً قد شاهدوه
فإن الله خلاق البرايا ... عنت لجلال هيبته الوجوه
يقول إذا تدانيتم بدين ... إلى أجل مسمى فاكتبوه
وقول الإمام أبي منصور عبد القاهر بن طاهر التميمي:
يا من عدا ثم اعتدى ثم اقترف ... ثم انتهى ثم ارعوى ثم اعترف
أبشر بقول الله في آياته ... أن ينتهوا يغفر لهم ما قد سلف
وقول أبي نصر سهل بن المرزبان:
لا تجزعن من كل خطب عرى ... ولا تر الأعداء ما يشمت
أما سمعت الله في قوله ... إذا لقيتم فئة فاثبتوا
وقول أبي محمد العبد لكاني:(1/505)
لا تكرهن خلقاً على مذهب ... لست من الإرشاد في شي
أما ترى الرحمن سبحانه ... المخرج الميت من الحي
يقول لا أكره في الدين قد ... تبين الرشد من الغي
وقول أبي جعفر الأندلسي:
إذا ظلم المرأ فامهل له ... فبالقرب يقطع منه الوتين
فقد قال ربك وهو القوي ... وأملي لهم أن كيدي متين
وأما العقد من الحديث فكقول الإمام الشافعي
عمدة الخير عندنا كلمات ... أربع قالهن خير البرية
اتق المشبهات وازهد ودع ما ... ليس يعنيك واعملن بنيه
عقد قول النبي صلى الله عليه وآله: الحلال بين الحرام بين وبينهما أمور مشتبهات.
وقوله: أزهد في الدنيا يحبك الله.
وقوله: من حسن إسلام المرء تركه ما لا يعنيه.
وقوله: إنما الأعمال بالنيات.
وقول عبد المحسن بن محمد الصوري:
وأخ مسه نزولي بقرح ... مثلما مسني من الجوع قرح
بت ضيقاً له كما حكم الده ... ر وفي حكمه على لحر قبح
قال لي مذ نزلت وهو من السكرة بالهم طافح ليس يصحو لم تغربت قلت قال رسول الله والقول منه نصح ونجح
سافروا تغنموا فقال وقد قا ... ل تمام الحديث صوموا تصحوا
قلت فالصوم لا يصح بليل ... قال إن الوصال فيه يصح
أما العقد من كلام الصحابة فكقول أبي تمام:
وقال علي في التعازي لأشعث ... وخاف عليه بعض تلك المآتم
أتصبر للبلوى عزاء وحسبة ... فتؤجر أم تسلو سلو البهائم
عقد فيه قول علي عليه السلام الذي عزى به الأشعث بن قيس في ولده وهو: إن صبرت صبر الأحرار، وإلا سلوت سلو البهائم.
وقول أبي جعفر الباقر عليه السلام:
عجبت من معجب بصورته ... وكان من قبل نطفة مذره
وفي غد بعد حسن صورته ... يصير في القبر جيفة قذره
وهو على عجبه ونخوته ... ما بين جنبيه يحمل العذره
عقد فيه قول علي عليه السلام: مالا بن آدم والفخر، وإنما أوله نطفة مذرة، وآخره جيفة قذرة، وهو فيما بين ذلك يحمل العذرة.
وقول الخليل بن أحمد رحمه الله:
لا يكون العلي مثل الدني ... لا ولا ذو الذكاء مثل الغبي
قيمة المرء قدر ما يحسن المر ... ء قضاء من الأمام علي
عقد فيه قول رضي الله عنه: قيمة كل امرئ ما يحسنه.
وقول أبي الفضل الميكالي:
تقصيرك الثوب حقاً ... أبقى وأنقى واتقى
عقد فيه قول علي عليه السلام: قصر ثوبك فأنه أبقى وأنقى وأتقى قال ابن أبي الحديد المعتزلي في شرح نهج البلاغة: روي أن الأشعث ابن قيس قال لغلي عليه السلام _وهو يخطب ويلوم الناس على تثبطهم وتقاعدهم -: هلا فعلت فعل ابن عفان؟ فقال له (إن فعل ابن عفان لمخزاة على من لا دين له، ولا وثيقة معه، إن امرءاً أمكن عدوه من نفسه يهشم عظمه، ويفري جلده، لضعيف رأيه، مأفون عقله. أنت فكن ذاك أن أحببت، فأما أنا فدون أن أعطي ذاك ضرب بالمشرفية.. الفصل) .
ثم قال ابن أبي الحديد: وقد نظمت أنا هذه الألفاظ في أبيات كتبتها إلى صاحب لي في ضمن مكتوب اقتضاها:
إن امرءاً أمكن من نفسه ... عدوه يجدع آرابه
لا يدفع الضيم ولا ينكر ال ... ذل ولا يحصن جلبابه
لآفن الرأي ضعيف القوى ... قد صرم الخذلان أسبابه
أنت فكن ذاك فإني امرؤ ... لا يرهب الخطب إذا نابه
إن قال دهر لم يطع أوشحا ... له فماً أدرد أنيابه
أو سامه الخسف أبى وانتضى ... دون مرام الخسف قرضابه
ومنه قول الآخر:
يا صاحب البغي إن البغي مصرعة ... فأربع فخير فعال المرء أعدله
فلو بغى جبل يوماً على جبل ... لاندك منه أعاليه وأسفله
عقد فيه قول ابن عباس رضي الله عنه: لو بغى جبل على جبل لدك الباغي.
وأما العقد من كلام الحكماء فكقول أبي الطيب:
والظلم من شيم النفوس فإن تجد ... ذا عفة فلعلة لا يظلم
عقد فيه قول بعض الحكماء: الظلم من طبع النفوس، وإنما يصدها عن ذلك إحدى علتين، أما علة دينية كخوف المعاد، أو علة سياسية كخوف القتل.
وقول الآخر:
أصلي وفرعي فارقاني معاً ... واجتث من حبلهما حبلي
فما بقاء الغصن في ساقه ... بعد ذهاب الفرع والأصل(1/506)
عقد فيه قول بعض الحكماء أيضاً: لقد مات أبوك وهو أصلك، وابنك وهو فرعك، فما بقاء شجرة ذهب أصلها وفرعها.
تنبيهات الأول، أورد الطيبي في التبيان من أمثلة هذا النوع عدة مقاطيع، منها: ما روى ابن الضحاك أن أبا نواس سمع صبيا يقرأ (يكاد البرق يخطف أبصارهم كلما أضاء لهم مشوا فيه وإذا أظلم عليهم قاموا) فقال في مثل هذا يجيء صفة للخمر حسنة، ثم قال:
وسيارة ضلوا عن القصد بعدما ... ترادفهم جنح من الليل مظلم
فلاحت لهم منا على النأي قهوة ... كأن سناها ضوء نار تضرم
إذا ما حسوناها أناخو مكانهم ... فأن مزجت حثو الركاب ويمموا
فحدث بذلك محمد بن الحسن الشيباني فقال: لا، ولا كرامة، بل أخذه من قول الآخر:
وليل بهيم كلما قلت غورت ... كواكبه عادت فما تنزيل
به الركب أما أومض البرق يمموا ... وإن لم يلح فالقوم بالسير جهل
ومنها قول ابن مطروح:
وذا يا كليم الشوق واد مقدس ... لذي الحب فاخلع ليس يمشيه محتذ
قال: عقد فيه قوله تعالى (فاخلع نعليك أنك بالواد المقدس طوى) ومنها قول المأمون في رسوله إلى حبيبته:
بعثتك مشتاقاً ففزت بنظرة ... وأغفلتني حتى أسأت بك الظنا
ورددت طرفا في محاسن وجهها ... ومتعت في أسماع نغمتها الاذنا
أرى أثراً منها بعينيك لم يكن ... لقد سرقت عيناك من وجهها حسنا
قال عقد قول عثمان لأنس، وكان قد وقعت عينه على امرأته، فدخل عليه فقال: أراكم تدخلون علي وآثار الزناء عليكم. قال أنس: أوحي بعد رسول الله صلى الله عليه وآله؟ قال: لا ولكن فراسة صادقة.
وكل ذلك عند الجمهور ليس من العقد في شيء، لأنه نظم للمعنى دون اللفظ، حتى أنهم اشترطوا أنه أن غير الناظم من اللفظ شيئاً وجب أن يكون المبقى منه أكثر من المغير، بحيث يعرف من البقية صورة الجمع كقوله:
إن القلوب لأجناد مجندة ... والأذن من ربها تهوى وتأتلف
فما تعارف منها فهو مؤتلف ... وما تناكر منها فهو مختلف
عقد فيه قوله صلى الله عليه وآله وسلم: الأرواح جنود مجندة، ما تعارف منها ائتلف، وما تناكر منها أختلف. فأن هذا الشاعر غير من لفظ الحديث، لكنه أتى بمعظمه، بحيث إذا سمعه السامع، وكان حافظا للحديث عرف أنه عقد له، بخلاف الأمثلة التي أوردها الطيبي.
الثاني، الفرق بين الاقتباس والعقد، أن الاقتباس ليس الغرض منه نظم معنى شيء من كلام الله أو رسوله] بل تضمين [شيء من ذلك على أنه ليس منه، بخلاف العقد كما عرفته في حد كل منهما.
الثالث، كما أن العقد وهو نظم المنثور معدود من المحاسن، كذلك عكسه وهو نثر المنظوم، ويسمى الحل، وشرف كونه مقبولاً أن يكون سبكه مختاراً لا يتقاصر عن سبك النظم، وأن يكون حسن الموقع، مسمرا في محله غير قلق، كقول الصاحب بن عباد في فتح قلعة (ما لبثوا أن رأوا معلقهم الحين، ومثواهم القديم نهزة الجفاف، وفرصة البوائق، ومجر العوالي ومجرى السوابق) .
حل قول أبي الطيب:
تذكرت ما بين العذيب وبارق ... مجر عوالينا ومجرى السوابق
وقول بعض المغاربة (فإنه لما قبحت فعلاته، وحنظلت نخلاته، لم يزل سوء الظن يقتاده، ويصدق توهمه الذي يعتاده.
حل فيه قول أبي الطيب أيضاً:
إذا ساء فعل المرء ساءت ظنونه ... وصدق ما يعتاده من توهم
وفال السيد البطليوسي (فلئن هريق الشباب، واستشن الأديم وأقشع الرباب فلعل في الأفق ربابة، وفي الحوض صبابة.
حل فيه قول بعض الأعراب:
فقلت لها يا أم عمران أنه ... هريق شبابي واستشن أديمي
وقول القاضي عبد الحق بن عطية (ويعلم أن الزمن أن سر حيناً فهمه ناصب، والدنيا إذا أخضر منها جانب جف جانب.
حل فيه قول ابن عبد ربه:
ألا إنما الدنيا غضارة أيكة ... إذا أخضر منها جانب جف جانب
وقول الوزير ابن الدباغ في تعزية (من أي الثنايا طلعت النوائب، وأي حمى رتعت فيه المصائب.
حل فيه قول الشريف الرضى (ره) :
من أي الثنايا طالعتنا النوائب ... وأي حمى منا رعته المصائب
وقول مؤلفة عفا الله عنه (رقائق تحسد رقتها أنفاس النسيم، وقلائد تروع حالية العذراى فتلمس جانب العقد النظيم.
حل فيه قول المنازي:(1/507)
تروع حصاه حالية العذراى ... فتلمس جانب العقد النظيم
وقوله في وصف كتاب الريحانة (فلله كتابه من ريحانة تنفست في ليلها البارد، وعطرت معاطس الأسماع بنشرها الوارد.
حل فيه قول ابن المعتز:
كأنني عانقت ريحانة ... تنفست في ليلها البارد
وقوله أيضاً (أحد السادة الذين رووا حديث السيادة برا عن بر، والساسة الذين فتقت لهم ريح الجلاد بعنبر فاقتطفوا نور الشرف من روض الحسب الأنضر، واجتنوا ثمر الوقائع يانعاً بالنصر من ورق الحديد الأخضر.
حل فيه قول ابن هاني المغربي:
فتقت لكم ريح الجلاد بعنبر ... وأمدكم فلق الصباح المسفر
وجنيتم ثمر الوقائع يانعاً ... بالنصر من ورق الحديد الأخضر
وبيت بديعية الصفي قوله:
ما شب خصلتي حرصي ومن أملي ... سوى مديحك في شيبي وفي هرمي
عقد فيه قوله صلى الله عليه وآله: يشيب المرء وتشب فيه خصلتان الحرص وطول الأمل. وتعقبه ابن حجة فقال: لم أصادف في بيته من عقد الحديث محلا، ولكن ذكر فيه حكاية حاله.
ولم ينظم ابن جابر هذا النوع في بديعيته.
وبيت بديعية الموصلي قوله:
عقد اليقين صلاتي والسلام على ... محمد دائماً مني بلا سأم
قال في شرحه: أنه عقد فيه قوله تعالى (إن الله وملائكته يصلون على النبي....) الآية، وقول النبي صلى الله عليه وآله: أكثروا من الصلاة علي. قال ابن حجة: ولم يظهر لي حل هذا العقد] في [أي موضع هو من البيت.
وبيت بديعية ابن حجة قوله:
قد صح عقد بياني في مناقبه ... وإن منه لسحراً غير سحرهم
عقد فيه الحديث المشهور: أن من البيان لسحراً وبيت بديعية المقري قوله:
والصحب من بذل ملء الأرض من ذهب ... من غيرهم لا يساوي نصف مدهم
عقد فيه قوله صلى الله عليه وآله مسلم -وقد ذكر أصحابه-: لو أنفق أحدكم ملء أرض ذهبا ما بلغ مد أحدهم ولا نصيفه.
وبيت بديعية العلوي قوله:
ففاق بالنثر أهل الشعر ثم له ... ما ينبغي قسمة فاقت أولي القسم
وبيت بديعيتي قولي:
نصرت بالرعب من شهر على بعد ... وعقد نصرك لم يحلله ذو أضم
العقد فيه لقوله صلى الله عليه وسلم: نصرت على العدو بالرعب ولو كان بيني وبينهم مسيرة شهر، وهي رواية عمرو بن شعيب. قال في المواهب: الظاهر اختصاصه به مطلقا، وإنما جعل الغاية شهرا لأنه لم يكن بين بلده وبين أحد من أعدائه أكثر من شهر، وفي رواية أخرى: نصرت بالرعب مسيرة شهر، والله أعلم.
التشطير
كم مارد حرد شطرته بيد ... تشطير منتقم بالله ملتزم
التشطير في اللغة مصدر شطرت الشيء: إذا جعلته أشطارا، والشطر من كل شيء: نصفه وجزؤه.
وفي الاصطلاح، هو أن يقسم الشاعر كلا ُمن صدر البيت وعجزه شطرين، ثم يسجع كل شطر منهما، لكنه يأتي بالصدر مخالفا للعجز في التسجيع.
كقول أبي تمام:
تدبير معتصم بالله منتقم ... لله مرتغب في الله مرتقب
وقول البوصيري في البردة:
كالزهر في ترف والبدر في شرف ... والبحر في كرم والدهر في همم
وقول ابن جابر الأندلسي:
يا أهل طيبة في مغناكم قمر ... يهدي إلى كل محمود من الطرق
كالغيث في كرم والليث في حرم ... والبدر في أفق والزهر في خلق
ومنه قول مسم بن الوليد:
موف على مهج في يوم ذي رهج ... كأنه أجل يسعى إلى أمل
إلا أن في تشطيره عيباً وهو اختلاف سجعتي العجز في الإعراب، فأن الأولى مرفوعة، والثانية مجرورة. وهذا البيت من جملة قصيدة من غرر قصائد مسلم بن الوليد يمدح بها يزيد بن مزيد بن زائدة الشيباني ابن أخي معن بن زائدة الجواد المشهور، وأولها:
أجررت حبل خليع في الصبا غزل ... وشمرت همم العذال في عذلي
هاج البكاء على العين الطموح هوى ... مفرق بين توديع ومرتحل
كيف السلو لقلب بات مختبلا ... يهذي بصاحب فلب غير مختبل
ومن مديحها:
حاط الخلافة سيف من بني مطر ... أقام قائمة من كان ذا ميل
كم صائل في ذرا علياء مملكة ... لولا يزيد بني شيبان لم يصل
ناب الإمام الذي يفتر عنه إذا ... ما افترت الحرب عن أنيابها العصل
يفتر عند افترار الحرب مبتسما ... إذا تغير وجه الفارس البطل(1/508)
موف على مهج في يوم ذي رهج ... كأنه أجل يسعى إلى أمل
ينال بالرفق ما يعيى الرجال به ... كالموت مستعجلا يأتي على مهل
لا يرحل الناس إلا عند حجرته ... كالبيت يضحي إليه ملتقى السبل
يكسو السيوف نفوس الناكثين به ... ويجعل الهام تيجان القنا الذبل
يغدو فتغدو المنايا في أسننه ... شوارعا تتحدى الناس بالأجل
إذا طغت فئة عن غب طاعته ... عبى لها الموت بين البيض والأسل
تراه الأمن في درع مضاعفة ... لا يأمن الدهر أن يدعى على عجل
لا يعبق الطيب كفيه ومفرقه ... ولا يسمح عينيه من الكحل
قد عود الطير عادات وثقن بها ... فهن يتبعنه في كل مرتحل
ذكر أبو الفرج الأصبهاني في كتاب الأغاني، عن يزيد بن مزيد قال: أرسل إلي الرشيد يوما في وقت لا يرسل فيه إلى مثلي، فآتيته لابسا سلاحي مستعدا لأمر أن أراده، فلما رآني ضحك إلي وقال: من الذي يقول فيك:
تراه في الأمن في درع مضاعفة ... لا يأمن الدهر أن يدعى على عجل
لله من هاشم في أرضه جبل ... وأنت وابنك ركنا ذلك الجبل
فقلت: لا أعرفه يا أمير المؤمنين، فقال: سوءة لك من سيد قوم يمدح بمثل هذا الشعر ولا يعرف قائله، وقد بلغ أمير المؤمنين فرواه ووصل قائلة وهو مسلم بن الوليد. فانصرفت ودعوت به ووصلته.
وبيت بديعية الصفي:
بكل منتصر للفتح منتظر ... وكل معتزم بالحق ملتزم
ولم ينظم ابن جابر هذا النوع في بديعيته.
وبيت بديعية الموصلي:
تشطير معتدل بالسيف مشتمل ... في جحفل لهم كالأسد في الأجم
وبيت بديعية ابن حجة قوله:
وانشق من أدب له بلا كذب ... شطرين في قسم تشطير ملتزم
وبيت بديعية المقري قوله:
لا تخش يا آملا من نهره سائلا ... في سيله العرم أمن من العدم
وبيت بديعية السيوطي قوله:
والعمر شطره فيهم وقدره ... تشطير مغتنم للحق ملتزم
وبيت بديعية العلوي قوله:
لله من رجل بالعز مشتمل ... بالحق متسم بالله معتصم
وبيت بديعية الطبري قوله:
والبدر شق له شطرين حق له ... تشطير ملتزم نصرا ومنتقم
وبيت بديعيتي قولي
كم مارد حرد شطرته بيد ... تشطير منتقم بالله ملتزم
المساواة
فمن يساويك في بأس وفي كرم ... وأنت أفضل مبعوث إلى الأمم
المساواة عبارة عن أن يكون اللفظ مساويا للمعنى، غير زائد عليه ولا ناقص عنه. واختلفوا في أمرين: أحدهما هل هي واسطة بين الإيجاز ة الإطناب، أم داخلة في قسم الإيجاز؟ فالسكاكي والتيفاشي والخطيب القزويني على الأول، وابن الأثير والطيبي وجماعة على الثاني، وسماها الطيبي إيجاز قصر. قال: وهو أن تقصر اللفظ على المعنى. وأغرب ابن حجة في قوله: أن المساواة معتبرة في قسمي الإيجاز والإطناب. ولا قائل به، بل لا يصح القول به، وتمثيله-لاعتبارها في قسم الإطناب- بقوله تعالى (أن الله يأمر بالعدل والإحسان وإيتاء ذي القربى) -الآية- أغرب، فأن هذه الآية من أعظم شواهد إيجاز القصر كما تقدم في نوع الإيجاز. ومثل لها القزويني في التلخيص يقوله تعالى (ولا يحق المكر السيئ إلا بأهله) .
ويقول النابغة:
فأنك كالليل الذي هو مدركي ... وان خلت أن المنتآى عنك واسع
وتعقب بأن في الآية إطنابا بلفظ السيئ، لأن المكر لا يكون إلا سيئاً من حيث كونه حيلة يجلب بها مضرة إلى الغير، وإيجازا بالحذف إذا كان الاستثناء غير مفرغ، لأن التقدير: ولا يحيق المكر السيئ بأحد إلا بأهله، وإيجازا بالقصر لكونها دالة على الكف عن جميع أنواع الأذى المؤدى إليه المكر وعن الأضرار بجميع الناس، ولأنها تدل على أن المكر السيئ يضر بصاحبه مضرة بليغة لا يقدر على التفصي منها، والتخلص من غائلتها بوجه من الوجوه، وذلك لمكان الاستعارة التبعية في يحيق، لأنه بمعنى يحيط، والإحاطة تختص بالأجسام، فشبه نزول تبعة المكر بصاحبه بإحاطة جسم بآخر من كل جانب بحيث لا يتيسر له الفرار منه.(1/509)
وأما البيت ففيه أيضاً إطناب من حيث أن أصل المعنى المقصور: لا أحد منك مهربا. وإيجاز بالحذف لأن الفاء تقتضي معطوفاً عليه، والشرط جزاء. وأيضا فوجه الشبه غير مذكور مع الاحتياج إلى ذكره، لأن تشبيه الممدوح بالليل تشبيه غريب لا يتبادر الذهن منه إلى وجه الشبه بينهما، وربما يوهم خلاف المدح لو لم يذكر الوجه، وإنما لم يعد تقصيرا لدلالة قوله: هو مدركي إلى آخر البيت عليه.
وإيجاز بالقصر، لدلالة تشبيهه بالليل على سعة مملكته، وطول يده، وأن له في جميع الآفاق من يطيع أوامره، ويرد عليه من هرب منه، وان الهارب إذا أدركه سخطه صار بحيث لا يهتدي إلى مهرب وإن كان أهدى من القطا كما أن سلطان الليل يعم ساكني البسيطة، ويسد عليه المسالك بحيث لا يمتاز الطول من العرض، فلا يصح التمثيل بهما للمساواة التي هي واسطة بين الإيجاز والإطناب، ومثل لها التيفاشي بقوله تعالى (ومن قتل مظلوما ُفقد جعلنا لوليه سلطاناً.
وقول زهير:
ومهما تكن عند امرئ من خليفة ... وإن خالها تخفى على الناس تعلم
ومثل صاحب المعيار بقول امرئ القيس:
فإن تكتموا الداء لا نخفه ... وإن تبعثوا الحرب لا نقعد
وإن تقتلونا نقتلكم ... وإن تقصدوا لدم نقصد
وقول خالد بن زهير:
فلا تجزعن من سنة أنت سرتها ... فأول راضي سيرة من يسيرها
والكلام في جميع هذه الأمثلة مجال.
وقال الشيخ صفي الدين الحلي في شرح بديعيته، وتبعه ابن حجة: معظم ما في الكتاب العزيز من قبيل المساواة.
وقال الجلال السيوطي في الإتقان: أن المساواة لا تكاد توجد خصوصا في القرآن. الثابي هل هي محمودة، أولا محمودة ولا مذمومة؟.
فالقويني والتيفاشي والزنجاني وجميع أصحاب البديعيات على أنها محمودة، بل معدودة من البلاغة التي وصف بها الوصاف أحد البلغاء كانت ألفاظه قوالب لمعانيه. وهذا قول من أدخلها في قسم الإيجاز أيضاً. وأما السكاكي وإتباعه فعلى الثاني، لأنهم فسروها بالمتعارف من كلام أوساط الناس الذين ليسوا في رتبة البلاغة.
وبيت بديعية الصفي قوله:
وقد مدحت بما تم البديع به ... من حسن مفتتح منه ومختتم
ولم ينظم ابن جابر هذا النوع في بديعيته.
وبيت بديعية الموصلي قوله:
خطت مساواة معناه وصورته ... في الحسن شاهده في آن والقلم
وبيت بديعية ابن حجة قوله:
تمت مساواة أنواع البديع به ... لكن يزيد على ما في بديعهم
وبيت بديعية المقري قوله:
أجارني عنك بالإحسان في مدح ... فيك اقترحن بأمر منه منحتم
وبيت بديعية العلوي قوله: كلامه من كلام الرب مأخذه=والاسم من اسمه قد شق حين سمي وبيت بديعيتي قولي: فمن يساويك في بأس وفي كرم=وأنت أفضل مبعوث إلى الأمم ولم ينظم السيوطي ولا الطبري هذا النوع والله أعلم.
براعة الطلب
براعتي أنت التصريح في طلبي ... لما رأت من غوادي جودك السجم
هذا النوع من مستخرجات الشيخ الإمام عز الدين عبد الوهاب الزنجاني في كتابه معيار النظار، وهو عبارة عن أن تكون ألفاظ الطلب مهذبة خالية عن الإلحاف، مشعرة بما نفس الطالب من غير تصريح، بعد تعظيم الممدوح، وتقديم الوسيلة الحاملة للمسؤول على إنجاح الطلب، وهذا هو الموضع الثالث من المواضع الأربع التي نبه أرباب البلاغة على التألق فيها لأنه إذا كان على الصفة المذكورة كان أنجح المطلب، وآكد في قضاء الغرض.
ومثاله من التنزيل قوله تعالى حكاية عن إبراهيم (فرأيتم ما كنتم تعبدون، أتم وآباؤكم الأقدمون، فإنهم عدو لي إلا رب العالمين، الذي خلقني فهو يهدين، الذي هو يطعمني ويسقين، وإذا مرضت فهو يشفين، والذي يميتني ثم يحيين، والذي أطمع أن يغفر لي خطيئتي يوم الدين.
ومن النظم قول أمية بن (أبي) الصلت:
أأذكر حاجتي أم قد كفاني ... حياؤك أن شيمتك الحياة
إذا أثنى عليك المرء يوماً ... كفاه من تعرضه الثناء
وقول أبي الطيب:
وفي النفس حاجات وفيك فطانة ... سكوتي بيان عندها وخطاب(1/510)
وحدث أبو الحسن محمد بن علي العلوي الحسني الهمذاني الوصي (ره) قال: كنت واقفا في السماطين بين سيف الدولة بحلب والشعراء ينشدونه، فتقدم إليه عربي رث الهيئة، فاستأذن الحجاب في الإنشاد، فآذنوا له فأنشد:
أنت علي وهذه حلب ... قد نقد الزاد وانتهى الطلب
بهذه تفخر البلاد وبالأمير تزهى على الورى العرب
وعبدك الدهر قد أضر بنا ... إليك من جور عبدك الهرب
فقال سيف الدولة: أحسنت ولله أنت، وأمر له بمائتي دينار.
وحكى الثعالبي في يتيمة الدهر قال: نظر الزعفراني يوما إلى جميع من في دار الصاحب من الخدم والحاشية عليهم الخزور الفاخرة الملونة، فاختزل ناحية وأخذ يكتب شيئا، فسأل الصاحب عنه فقيل: أنه في مجلس كذا يكتب، فقال: علي به، فاستمهل الزعفراني ريثما يتم مكتوبه، فأعجله الصاحب وأمر أن يؤخذ ما في يده من الدرج، فقام الزعفراني إليه وقال: أيد الله مولانا، أسمعه ممن قاله تزدد به عجبا، فحسن الورد في أغصانه.
فقال هات يا أبا القاسم فأنشدها أبياتا منها:
سواك يعد الغنى ما افتني ... ويأمره الحرص أن يخزنا.
وأنت ابن عباد المرتجى ... تعد نوالك نيل المنى.
وخيرك من باسط كفه ... وممن ثناها قريب الجنى.
غمرت الورى بصنوف الندى ... فأصغر ما ملكوه الغنى.
وغادرت أشعرهم مفحما ... وأشكرهم عجزا الكنا.
أيامن عطاياه تهدي الغنى ... إلى راحتي من نآى أو دنا.
كسوت المحلين والمحرمين ... كسى لم يخل مثلها ممكنا.
وحاشية الدار يمشون في ... ضروب من الخزي إلا أنا.
ولست أذكرني جاريا ... على العهد يحسن أن تحسنا.
فقال الصاحب: قرأت في أخبار معن بن زائدة أن رجلا قال له: أحملني أيها الأمير، فأمر له بناقة وفرس وبغلة وحمار وجارية، ثم قال: لو علمت أن الله خلق مركوبا غير هذا لحملتك عليه. وقد أمونا لك بجبة، وقميص، ودراعة، وسراويل، وعمامة، ومنديل؛ ومطرف؛ ورداء، وجورب. ولو علمنا لباسا آخر يتخذ من الخز لأعطيناكه. ثم أمر بإدخال الخزانة وصب تلك الخلع عليه، وتسليم ما فضل عن لبسه في الوقت إلى غلام.
وبيت بديعية الصفي قوله:
وقد علمت بما في النفس من أرب ... وأنت أكرم من ذكري له بفمي.
ولم ينظم ابن جابر هذا النوع في بديعيته.
وبيت بديعية الموصلي قوله:
براعة بأن فيها منتهى طلبي ... وأنت أكرم من نطق بلا ولم.
وبيت بديعية ابن حجة قوله:
وفي براعة ما أرجوه من طلب ... إن ام أصرح فلم أحتج إلى الكلم.
وبيت بديعية المقري قوله:
قد أصبح المر حالي فالحظوه عسى ... يحلو مذاقا فحالي غير منكتم.
وبيت بديعية السيوطي قوله:
ومطلبي أنت أولى بالنجاح له ... وأنت أدرى به يا مسبغ النعم.
وبيت بديعية العلوي قوله:
في النفس ما أنت أولى أن تحيط به ... لكبر قدرك لم ينطق بذاك فمي.
وبيت بديعية الطبري قوله:
ومطلبي أنت أدرى من براعته ... به فحالي منها غير منكتم.
وبيت بديعيتي قولي:
براعتي أبت التصريح في طلبي ... لما رأت من غوادي جودك السجم.
حسن الختام.
أحق بحسن ابتدائي ما أنال به ... حسن التخلص يتلو حسن مختتمي.
هذا النوع سماه التيفاشي حسن المطلع، وبعضهم براعة المطلع، وسماه ابن أبي الأصبع حسن الخاتمة وادعى أنه من مستخرجاته، وهو موجود في كتب غيره ممن تقدم بغير هذا الاسم. وهو عبارة عن أن يون أخر الكلام الذي يقف عليه الخطيب أو المسترسل أو الشاعر مستعذبا حسنا، وأحسنه ما أذن بانتهاء الكلام حتى لا يبقى للنفس تشوق إلى ما ورائه.
وهذا رابع المواضع التي نص أئمة البلاغة على التألق فيه، لأنه أخر ما يقرع السمع ويرتسم في النفس، وربما حفظ لقرب العهد به، فإن كان مختارا حسنا تلقاه السمع واستلذه حتى جبر ما وقع فيما سبق من التقصير، كالطعام اللذيذ الذي يتناول بعد الأطعمة التفهة، وإن كان بخلاف ذلك كان على العكس حتى ربما أنسى المحاسن الموردة فيما سبق.(1/511)
وجميع خواتيم السور كفواتحها، واردة على أحسن وجوه البلاغة وأكملها، لأنها بين أدعية، ووصايا وفرائض؛ وتحميد تهليل؛ ومواعظ وود ووعيد؛ إلى غير ذلك مما يناسب الاختتام، كتفصيل جملة المطلوب في خاتمة الفاتحة، إذ المطلوب الأعلى: الإيمان المحفوظ من المعاصي المسببة لغضب الله والضلال، فصل جملة ذلك بقوله: (الذين أنعمت عليهم) والمراد المؤمنون، ولذلك أطلق الأنعام ولم يقيده، ليتناول كل إنعام، لأن كل من أنعم الله عليه بنعمة الإيمان فقد أنعم عليه بكل نعمة لأنها مستتبعة لجميع النعم. ثم وصفهم بقوله: (غير المغضوب عليهم ولا الضالين) يعني أنهم جمعوا بين النعم المطلقة وهي نعمة الإيمان وبين السلامة من غضب الله والضلال المسببين عن معاصيه وتعدي حدوده وكالدعاء الذي اشتملت عليه الآيتان من أخر سورة البقرة.
وتأمل سائر خواتيم السور تجدها في نهاية الكمال. ومن أضح ما أذن بالختام، خاتمة سورة إبراهيم عليه السلام، وهو قوله تعالى: (هذا بلاغ للناس ولينذروا به واعلموا إنما هو غله واحد وليذكروا أولي الألباب. وكذا خاتمة الحجر بقوله تعالى: (واعبد ربك حتى يأتيك اليقين) فإنها في غاية البراعة، ومثلها خاتمة الزمر بقوله سبحانه: (وقضي بينهم بالحق وقيل الحمد لله رب العالمين) ، وأما خاتمة الصافات فإنها العلم في براعة الختام، حتى ضارت يختم بها كلام؛ وهي قوله تعالى: (سبحان ربك رب العزة عما يصفون، وسلام على المرسلين، والحمد لله رب العالمين) .
ومن أحسن براعات الختام قول أمير المؤمنين علي بن أبي طالب عليه السلام- وهو إمام أئمة البلغاء في الجاهلية والإسلام- في خاتمة خطبة الاستسقاء: ولا تؤاخذنا بما فعل السفهاء منا فإنك تنزل الغيث من بعد ما قنطوا وتنشر رحمتك وأنت الولي الحميد.
وأما حسن ختام الحريري للمقامات فإنه من البراعات التي تنتهي إليها الغايات، وهو قوله: ثم دنوت إليه كما يدنو المصافح، وقلت: أوصني أيها العبد الصالح، فقال: اجعل الموت نصب عينك، وهذا فراق بيني وبينك فودعته وعبراتي يتحدرن من المآقي، وزفراتي تتصعدن إلى التراقي، وكانت هذه خاتمة التلاقي.
ومن أمثلته في النظم قول أبي نواس في خاتمة قصيدته التي مدح بها الخطيب:
وإني جدير إذا بلغتك بالمنى ... وأنت بما أملت جدير.
فإن تولني منك الجميل فأهله ... وإلا فإني عاذر وشكور.
وقول أبي تمام في ختام قصيدة فتح عمورية:
إن كان بين صروف الدهر من رحم ... موصولة أو ذمام غير منقضب.
فبين أيامك اللاتي نصرت بها ... وبين أيام بدر أقرب النسب.
أبقت بني الأصفر الممراض كاسمهم ... صفر الوجوه وجلت أوجه العرب.
وقول أبي الطيب:
سما بك همي فوق الهموم ... فلست أعد يسارا يسارا.
ومن كنت بحرا له يا علي ... لم يقبل الدر إلا كبارا.
وقوله أيضاً:
أنلت عبيدك ما أملوا ... أنالك ربي ما تأمل.
وقوله أيضاً:
وأعطيت الذي لم يعط خلق ... عليك صلاة ربك والسلام.
وقول ابن هاني المغربي:
سموت إلى العليا إلى الذروة التي ... ترى الشمس فيها تحت قدرك تضرع.
إلى غاية ما بعدها لك غاية ... وهل خلف أفلاك السماوات مطلع.
إلى أين تبغي ليس خلفك مذهب ... لا لجواد من للحاقك مطمع.
وقوله أيضاً:
فتى كل مسعى من مساعيه قبلة ... يصلي إليها كل مجد ونائل.
وفي كل يوم فيه للشعر مذهب ... على أنه لم يبق قولا لقائل.
وقوله أيضاً:
لا زلت تسحب أذيال الندى كرما ... في نعمة غير مزجاة من النعم.
ما نمنم الروض أو حاكت وشائعه ... أيدي السحاب الغوادي العز بالديم.
وقول مهيار الديلمي في ختم قصيدته المشهورة:
ولا زالت الأيام تملك أمرها ... وتأمرها فيما تشاء وتنهاها.
وكنت بعين الله من كل خطة ... تحاذرها فيما تروم وتخشاها.
فإني متى علقت نفسي بجاجة ... وخفت عليها الفوت ضمنتها الله.
وقوله أيضاً:
ولا يزل جاري المقادير على ... ما تبتغي مساعدا معينا.
دعاء إخلاص إذا رفعته ... قال الحفيظان معي آمين.
وقول أبي العلاء المعري.
ولا تزال لك الأيام ممتعة ... بالحال والآل والعلياء والعمر.(1/512)
وقول إبراهيم الغزي:
بقيت بقاء الدهر يا كهف أهله ... وهذا دعاء للبرية شامل.
وقول ابن أبي الحديد في ختام أخر قصيدة من قصائده العلويات:
سمعا أمير المؤمنين قصائد ... يعنو لها بشر ويخضع جرول.
الدر من ألفاظها لكنه ... در له ابن أبي الحديد مفصل.
هي دون مدح الله فبك وفوق ما ... مدح الورى وعلاك منها أكمل.
وقولي في ختام قصيدة نبوية طنانة مع حسن التضمين:
عليك صلاة الله ثم سلامه ... مدى الدهر لا يفنى ولا يتصرم.
وآلك والصب الكرام أولي النهي ... بهم يبدأ الذكر الجميل ويختم.
وقولي في ختام أخرى مدحت بها الوالد، وقد تقدم شيء منها في براعة الاستهلال:
إليك نظام الدين وابن نظامه ... محبرة تزهى بحسن نظامها.
ظننت بها عن كل سمع وإنما ... مديحك كان لليوم فض ختامها.
وبيت بديعية الصفي قوله:
فإن سعدت فمدحي فيك موجبه ... وإن شقيت فذنبي موجب النقم.
وبيت بديعية ابن جابر قوله:
لكن وإن طال مدحي لأفي أبدا ... فاجعل العذر والإقرار مختتمي.
وبيت بديعية الموصلي قوله:
فاجعل له مخلصا من قبح زلته ... في حسن مفتتح منه ومختتم.
وبيت بديعية ابن حجة قوله:
حسن ابتدائي أرجو التخلص من ... حر الجحيم وهذا حسن مختتمي.
وبيت بديعية المقري قوله:
لكن ذلك مجهودي أتيت به ... ومن يقصر وراء الجهد لم يلم.
وبيت بديعية السيوطي قوله:
واكتب مدى العمر في الدنيا لنا حسنا ... حتى أرى عند موتي حسن مختتمي.
وبيت بديعية الطبري قوله:
فإن ظفرت به فالفضل معتمدي ... أولا فإن رجائي حسن مختتم.
وبيت بديعية العلوي قوله:
صلى عليه بعد الرمل متسقا ... وعد نبت الثرى والوابل السجم.
وبيت بديعيتي قولي:
أحق بحسن ابتدائي ما أنال به ... حسن التخلص يتلو حسن مختتمي.
كلمة الختام للمؤلف. قال المؤلف عفا الله تعالى عنه بمنه: هذا أخر أنواع البديع التي قصدت نظمها في سلك هذا العقد البديع وبانتهائه انتهى بناء الكلام على تقييد هذا الشرح المفيد، وتشييد قواعد هذا الصرح المشيد. وقد جاء بحمد الله سبحانه وافيا بالغرض، حاويا من هذا الفن للجوهر لا العرض، جامعا لما يشنف السمع بحسن الجمع، ويونق الخاطر بنشره العاطر. ولم اقتصر فيه على النقل دون النقد، ولم آل في تحريره وتقريره الجهد، حتى اشتمل على ما لم يشتمل عليه شرح من شروح البديعيات واحتوى على ما لم تنكر حسنه ثواقب الفطن الألمعيات. وقد ادعى ابن حجة في شرح بديعيته: أنه ما ترك نوعا من أنواع البديع إلا وأطلق عنان القلم في ميادين الطروس مستطردا إلى استيعاب ما وقع من جيده ورديه، وهذه دعوة منه لم تقم البينة على إثباتها، ولا أراها إلا من تبجحا ته التي لا يزال يتيه بسكراتها، ومن رام الامتحان فليقابل بين هذا الشرح وشرحه، وليحقق النظر في تعديل الشاهد وجرحه. على أنني لا أدعي العصمة في قول ولا عمل، ولا أزعم أنني أحرزت أدوات الكمال عن كمل.
بل لا آمن من تعقب يتعقب، وحاسد يرصد الزلة ويترقب، وقديما ما قيل: من صنف فقد استهدف. وأنا أسأل ممن حسنت شيمته، وغلت في سوق الأدب قيمته، إن يصطلح الخلل، ويستر الزلل، مما طغى به القلم؛ وزلت به القدم، مغتفرا ذلك في جنب ما نظمت له من الفرائد، ورددت عليه من الشرائد، وأهديت إليه من در المنظوم وزهر المنثور، ورويت له من مسلسل حديث الأدب المأثور، ولست أبالي بطعن معاند أو حاسد، ومن يغالي في المتاع الكاسد.
ومن أحسن الاتفاق أن جاء تاريخ عام التمام، موافقا لحساب طيب الختام، وهو عام ثلاث وتسعين وألف، فنظمته على وزن البديعية ورويها أيضاً فقلت:
تاريخ ختمي لأنوار الربيع أتى ... (طيب الختام) فيا طوبى لمختتم.
ونظمت ذلك فقلت:
بعون الله تم الشرح نظما ... ونثرا مخجلا در النظام.
ومسك ختامه مذ طاب نشرا ... أتى تاريخه طيب الختام.(1/513)
وقد وفق الله سبحانه للشروع فيه والفراغ منه في وقت لا يتصور فيه صحبة قلم لبنان، ولا يتخيل فيه تصور مسألة في جنان، بل لا تقع العين إلا على لمع مهند وسنان، ولا تصحب اليدين الأقائم حسام وجيل عنان، وذلك حين المرابطة بثغر العدو من الديار الهندية، والمنازلة لمنازلهم في كل صباح وعشية، والسمع لا يعي إلا صارخا يا خيل الله اركبي، أو صائحا لما دهمه يا غلام قرب مركبي.
والحمد لله على ما أنعم به من إتمامه، فشفع حسن ابتدائه بحسن ختامه، والصلاة والسلام على أشرف المرسلين، وخاتم النبيين محمد وأله الهادين، وصحبه الذين شادوا الدين آمين.
واتفق الفراغ من نسخ هذه النسخة المباركة التي هي الأصل، على يد مؤلفه الفقير علي صدر الدين بن أحمد نظام الدين الحسني الحسيني، إن لهما الله من فضله السني، ظهر يوم الخميس المبارك، تاسع عشر شهر ذي القعدة الحرام سنة ثلاث وتسعين وألف.(1/514)