والرفع لا يكون فيه الاستغراق، لكونه جواب هل فتى وهل عرف، فلا يمتنع أن يكون السؤال عن واحد من الجنس ويكون الجواب على حده. وقوله ما تزال ركابه من صفة فتى، وتجود بمعروف خبر ما تزال.
وارتفع فتى حنظلي على أنه خبر مبتدأ محذوف، ولو نصبه على المدح والاختصاص لجاز، وقصده إلى أنه أمار بالمعروف، ونهاء عن المنكر، ولا يرضى بذلك فيما يليه من البلاد، بل ترى الركبان تطوف به، فيأتيهما في الأباعد مثل ما يأتيهما في الأقارب. وقوله ركابه أراد أصحاب ركابه يعني رسله.
وقله لحى الله قوما أسلموك تصريح بأن أصحابه خذلوه وتقاعدوا عن نصرته حتى تمكن منه الأعداء فقتلوه. وقوله جردوا عناجيج أعطتها يمينك ضمرا بيان لأن الخيل التي جردوها للركض في الهرب مما سمحت به يده، فلم يراعوا ذمة، ولم يحافظوا حرمة، ولا راجعوا أنفسهم فيما تنتجه الأحدوثة، وتسير به الركب من سيئ القالة. والعناجيج: الخيل الطوال، واحدها عنجوج. ومعنى لحى الله يجوز أن يكون من اللحاء: السب والذم. ويجوز أن يكون من اللحى: القشر. وكيف جعلته فهو دعاء عليهم، تسويداً لوجوههم، وإلحاقاً للعار بهم، وتقبيحاً لفعلهم، وجزاء على صنعهم. وفائدة قوله ضمرا أنهم لم يؤتوا من عدة ولا عدد، وإنما أتوا من عجزهم وجبنهم، وسوء نياتهم، وسقوط همتهم.
وقال آخر:
أضحى أبو القاسم الثاوي ببلقعة ... تسفي الرياح عليه من سوافيها
قوله أضحى ها هنا لاتصال الوقت، والباء من قوله ببلقعة تعلق بالثاوي، وخبر أضحى تسقى الرياح عليه، والكلام توجع وتحسر بأنه استبدل بمجالسه الفضاء، ومن ندمائه وخلطائه الخلاء، ومن رفيع دسته ونبيه فرشه التراب، والرياح السوافي تأتي بها إليه، وتجمعه عليه. والسفا والسافياء: التراب. ويقال سفت الريح التراب وغيره تسفيه(1/696)
سفياً، والريح سافية، والجميع السوافي، لتراب والورق واليبيس. وقيل السافياء: الريح تحمل تراباً كثيراً تهجم به على الناس. والسفا: اسم ما تسفيه. والبلقع: المكان الخالي.
هبت وقد علمت أن لا هبوب به ... وقد تكون حسيراً إذ يباريها
يقول: هبت الرياح عليه رافعة الحشمة في ابتذالها إياه، عالمة أنه لا هبوب لريح دولته، ولا نفاذ لأمره، ولا استقامة لصولته، وقد كانت إذا همت بمباراته تقف حسيراً بهيراً لا انخراق لها، ولا مجر لذيلها. وقوله أن لا هبوب أن مخففة من الثقيلة، كأنه قال: أنه لا هبوب به. والضمير للأمر والشأن، وإن شئت كان للمرثي. ولا هبوب في موضع خبرأن، والجملة سدت مسد مفعولي علمت.
أضحى قرى للمنايا رهن بلقعة ... وقد يكون غداة الروع يقريها
يقول: صار طعمه للمنايا هذا المفقود ومرتهناً في قبره، لا انفكاك له ولا دفاع به، وقد كان وهو حي غداة الروع يقرى المنايا من لحوم الأعادي، ويجعلهم قراها وطعمها. ويقارب هذا قول الآخر:
وإنا للحم السيف غير نكيرة ... ونلحمه حيناً وليس بذي نكر
وقال عقيل بن علفة
لتغد المنايا حيث شاءت فإنها ... محللة بعد الفتى ابن عقيل
فتى كان مولاه يحل بنجوة ... فحل الموالي بعده بمسيل
طويل نجاد السيف وهم كأنما ... تصول إذا استنجدته بقبيل
كأنه أذن لأنواع الموت أن تبتكر حيث شاءت، وتنال من الناس من أرادت، فقد حل لها ذلك بعد أخذها الفتى ابن عقيل، لأنه هو الذي كان يخشى عليه منها، ويرتجي يومه وغده، وإذ قد أصيب الناس به فلا خطر على المنايا، ولا خوف من الرزايا. ويقال: حللته من كذا تحليلاً، إذا أطلقته له.(1/697)
وقوله كان مولاه يحل بنجوة فالنجوة: اسم المكان المرتفع، والجميع النجاء. وقيل هو اسم لما إذا أويت إليه نجوت من محذورك. وقد دخل تحت قوله مولاه ابن العم وكل من ينتسب إليه بولاء. ألا ترى أنه لما أعاد ذكره قال: فحل الموالي بعده بمسيل. وإنما قال ذلك لأنهم كانوا بأجمعهم يتعززون به ويستظهرون على الدهر بحياته، فلما أصيبوا به تمكنت الأقدار من التأثير فيهم، وتسلقت الآفات من كل جانب عليهم، وصاروا بمنزلة من نزل في مسيل من الأرض فلعبت السيول به، وتهجمت نؤب الزمان عليه، وقد كان من قبل في يفاع لا يرتفع إليه الأتي وإن طما، ولا يرتقى إليه الأبي وإن استعلى.
وقوله طويل نجاد السيف وصفه بامتداد القامة، وهذا كما أن الفرس إذا وصف بطول الخد قيل: هو طويل العذار. ومثله قول أبي نواس:
سبط البنان إذا احتبى بنجاده ... غمر الجماجم والسماط قيام
وهذا المعنى مضاد لما وصف به بعضهم تأبط شراً، وكان يلقب بالشعل، فسلب بز قتيسل له وتقلد سيفه، وكان القتيل حسن الشطاط، وتأبط شراً قصير القامة، فطال عليه حمائل السيف المسلوب وانجر على الأرض، فقال فيه:
فويلم بز جر شعل على الحصى ... فوقر بز ما هنالك ضائع
أراد بالبز السيف، ومعنى وقر وقع فيه وقرات وهزمات، لتأثير الحصى فيها. وجعل البز ضاعاً لما لبسه غير صاحبه. فأما قوله يصول إذا استنجدته بقبيل فإنه يصفه بغنائه إذا استغيث به وكمال آلاته، حتى صار المستنصر له والمستغيث به، إذا أجابه واحتضره، كأنه أجابه قبيل لا رجل. والوهم: العظيم التام الخلق. ويقال: جمل وهم، وهو القوي العظيم المنقاد، المطيع لصاحبه.
وقال مسافع العبسي
أبعد بني عمرو أسر بمقبل ... من العيش أو آسى على إثر مدبر
وليس وراء الشيء شيء يرده ... عليك إذا ولى سوى الصبر فاصبر(1/698)
قوله أبعد بني عمرو أسر بمقبل كأنه قال منكراً مستقبحاً. يريد أسر بعد أ، فجعت بهؤلاء القوم بقدر يساعد، أو عيش يقبل، أو زمان يطاوع، أو أحزن في إثر فائت، أو أجزع لتولي مدبر. والمعنى: أن السرور كان يتصل بحياتهم، والغم كان يحذر مخافة أن يكون فيهم، وإذا قد مضوا لسبيلهم فلا شيء من أعراض الدنيا يلحق له حبور إذا نيل، ولا شيء من أعلاق المنى يحزن له إذا أفيت.
وقوله وليس وراء الشيء شيء يرده عليك أي يرجعه إليك. فالاعتصام بحبل الصبر هو الأولى؛ والأحب ديناً ودنيا، فاصبر وقوله سوى الصبر موضعه من الإعراب استثناء خارج، لأن الصبر ليس من الشيء الراد الفائت في شيء، فقد انقطع مما قبله.
سلام بني عمرو على حيث هامكم ... جمال الندي والقنا والسنور
أولاك بنو خير وشر كليهما ... جميعاً ومعروف ألم ومنكر
لما استسلم للجزع وما اعتاده من الهلع، وصبر نفسه مسلياً، وتتبع أثر المصيبة معفياً، حياهم فقال: عليكم التحية من الله يا بني عمرو حيث قرت هامكم. وهامكم ترتفع بالابتداء وخبره محذوف، كأنه قال: حيث هامكم حاصلة موجودة. والجملة أضيف إليها حيث لينشرح بها، لأن حيث يقتضي جملتين، فهي في الأمكنة مثل حين في الأزمنة. ثم قال جمال الندى أي أذكر جمال المجلس يوم الحفل، وزين السلاح غداة الروع، فانتصب جمال على الاختصاص والمدح. وذكر الهام على عادة العرب، في زعمهم أن عظام الموتى تصير هامة تطير. والندي والنادي: المجلس. ويقال: نداهم المجلس، أي جمعهم، فانتدوه.
وقوله أولاك بنو خير وشر كليهما إيذان منه بأنهم كانوا مستصلحين لكل ما يعن ويحدث من السراء والضراء، فكانوا بني الخير لاستدرار المنافع من مالهم وجاههم، وبني الشر لاستدفاع البلايا ببأسهم. وكانوا يسعدون مواليهم ببرهم وتفقدهم، ويشقون معاديهم بحدهم وسطوتهم. وقوله كليهما جميعاً انجر كليهما على البدل من خير وشر، ولا يجوز أن يكون توكيداً لهما، لأن توكيد ما لا يعرف لا فائدة فيه. والكوفيون يجوزون توكيد ما يدخله التجزئة من النكرات، يقولون: قرأت كتاباً كله، وأكلت رغيفاً كله، على التوكيد. وأصحابنا البصريون يجيزون الكلام بمثل هذا، ولكنهم يمتنعون من إجراء الآخر على الأول على طريق التأكيد ويجعلونه بدلاً،(1/699)
كأنه قال بنو كلا الخير والشر. انتصب جميعاً على الحال. وكلا يضاف إلى المثنى، إلا أن المعطوف والمعطوف عليه والحرف العاطف الواو بمنزلة المثنى وفائدة قوله معروف ألم ومنكر أن يصرفا إلى النوازل الملمة والحوادث الطارئة، فيكون الخير ولاشر مقصورين على أفعالهما، فلذلك قال ومعروف ألم ومنكر ليتميز ما يكون من فعلهما عما يحدث من غير فعلهما.
وقال الربيع بن زياد العبسي
في مالك بن زهير العبسي:
إني أرقت فلم أغمض حار ... من سيئ النبأ الجليل الساري
من مثله تمسي النساء حواسراً ... وتقوم معولة مع الأسحار
يقول: لما تساقط الخبر الموجع الساري بليل، والعظيم في شأنه، الفظيع عند وقوعه إلى، سهرت فلم أغمض يا حار. كأنه ذكر ابتداء حاله لابتداء نعيه. والأرق: السهر. ويقال غمضت عيني بالتشديد، وغمضتها، واغتمضت. وأضاف السيئ إلى النبأ لأنه جعل النبأ للجنس، فهو كإضافة البعض إلى الكل. ويقال: أساء ما صنع، فهو سيئ، وساءني الشيء مساءة، وسؤتني بما فعلت مساءة ومسائية. ويقال السيئ والسيئة والسوءى. والسيئة كالخطيئة، وهو بإزاء الحسنة، والسوءى بإزاء الحسنى. والسوء: الاسم الجامع للآفات والأدواء. وقوله من مثله تمسي النساء حواسرا أي يأتي عليهن المساء وقد طرحن خمرهن فهن كاشفات الرءوس، مسبلات الشعور، لا يكتسين ولا يستترن، ويقمن مع السحر صائحات عائدات إلى عادتهن من النياحة والبكاء. وقيل الإمساء من الظهر إلى المغرب، وقيل بل إلى نصف الليل من الإمساء. وروى بعضهم: " تمشي النساء " أي يمشين متبرزات لا يدفعهن عن ذلك حشمة ولا يحجزهن رقبة. والأول أجود، حتى يكون المساء في مقابلة الصباح، ويكون الشاعر قد ذكر طرفي النهار من أوقاتهن.
أفبعد مقتل مالك بن زهير ... ترجو النساء عواقب الأطهار
ما إن أرى في قتله لذوي القوى ... إلا المطي تشد بالأكوار(1/700)
هذا فيه ما في قول الأخطل:
قوم إذا حاربوا شدوا مآزرهم ... دون النساء ولو باتت بأطهار
وإلى هذا أشار أبو تمام في قوله:
لبيت صوتاً زبطرياً هرقت له ... كأس الكرى ورضاب الخرد العرب
وقوله أفبعد لفظه لفظ الاستفهام، والاستفهام يطلب الفعل، فكأنه قال: أترجو النساء عواقب الأطهار بعد مقتل مالك؟ وهو ينكر أن يكون ذلك أو يستجاز وقوعه. والمراد بعواقب الأطهار مراجعة البعولة إلى مضاجعة النساء بعقب أطهارهن والتمتع بهن. والمعنى أن الأمر أفظع من أن يتوهم ذلك، والخطب في المصاب به أنكى في القلوب والنفوس من أن يتذكر لذات، أو يتحدث بتناسل وولادات. وقوله ابن زهير جعل عروض الضرب الثاني من الكامل مقطوعة، ولو قال زهير لاستفام له وكان يكون متفاعلن. وهم يدخلون على الأعلام التغيير كثيراً، لكنه مال إلى هذا وجعله فعلاتن. وقد فعل في أول المقطوعة مثل ذلك، لكنه في ذلك أعذر لأنه جعلها مصرعة، ولم يرض بأن جعله فعلاتن حتى سكن العين منه وجعل مفعولن، ويسمى مقطوعاً مضمراً. وفعل أيضاً مثله في قوله:
ومجنبات ما يذقن عذوفاً
والعذر فيه كالعذر في قوله " أفبعد مقتل مالك بن زهير " ولو قال " عذوفة " لاستقام له. وربما مالوا إلى المزاحف من غير ضرورة. على ذلك قول المتنخل في الطائية:
أبيت على معار فاخرات ... بهن ملوب كدم العباط
رووا أن كل العرب ترويه معار فاخرات بالتنوين، وإنما هو من الضرب الأول من العروض الأولى من الوافر: مفاعلتن مفاعلتن فعولن، فجعل مفاعلتن الثاني مفاعلين بالعصب، وهو في زحاف هذا البحر جائز، لكنه لو روى معارى بفتح الياء لسلم، ولم يفعل. وقوله " ما إن أرى في قتله لذوي القوى " أضاف المصدر إلى(1/701)
المفعول والمراد في قتلهم لمالك، ويعنى بذوي القوى ذوي الرأي والفعل، والعدد والعدة، فيقول: لا أرى لمن كان هكذا من أولياء دمه وطلاب ثأره، إلا امتطاء الإبل وتجنيب الخيول، وركوب كل صعب وذلول، إلى أن ينال من العدو مثل ما ناله منهم، فإن في ركوب الجد مساعدة من الجد، ولن ترى العزم أصرخ بالفعل إلا وثم مطاوعة من القدر. وقوله تشد بالأكوار يريد تشد الأكوار عليها، فرمى بالكلام.
ومجنيات ما يذقن عذوفاً ... يقذفن بالمهرات والأمهار
ومساعراً صداً الحديد عليهم ... فكأنما تطلى الوجوه بقار
عطف قوله ومجنبات على إلا المطي والمراد أرى لهم أعدادهم مطايا مرحولة، وخيلاً مجنوبة. وكذا كانت عادتهم في مقصدهم الغارات، وركوبهم إلى الوقعات، أن يركبوا الإبل ويجنبوا الخيل إلى أن ينتهوا إلى موضع الغارة، أو ملتقى القوم للمحاربة، فحينئذ ينيخون الإبل ويركبون الخيل وهي وادعة لم يلحقها كبير تعب، ولم يمتلكها سآمة ضجر، فيعلمونها كما يحبون.
وهذا كما قال النابغة يصف خيل عمرو بن هند:
مقرنة بالأدم والعيس كالقطا ... عليها الخبور محقبات المراجل
ويقذفن بالأولاد في كل منزل ... تشحط في أسلائها كالوصائل
ومعنى ما يذقن عذوفاً أي أدنى ما يؤكل. وقال الخليل: يستعمل في الطعام والشراب. ويقال: ما ذقت عذفاً ولا عذوفاً ولا عذوفة ولا عذفاً أي ذواقاً. والفعل منه قد يبنى فيقال تعذفت عذوفة. وقوله بالمهرات والأمهار أي لما يلحقهن من الكلال، والتحامل عليه في طي المنازل بها والترحال والمساعر: جمع المسعر، وهو كأنه آلة في إسعار نار الحرب وإيقادها. وإنما قال صدأ الحديد عليهم لاتصال لبسهم الدروع، وكأنما تطلى الوجوه بقار لأن المراد أن السموم والحرور قد لفحت وجوههم، وغيرت ألوانهم، لأنهم تعودوا قصد الغارات، وقطع المشاق. وجعل الخيل كالفرسان والفرسان كالخيل في الصبر والثبات.
من كان مسروراً بمقتل مالك ... فليأت ساحتنا بوجه نهار(1/702)
يجد النساء حواسراً يندبنه ... يلطمن أوجههن بالأسحار
كانت العادة مستمرة مستحكمة فيهم، أنهم لا يندبون القتيل أو يدرك ثأره. فيقول: من كان فرحاً بمقتل مالك، شامتاً بأوليائه، فلينزع ملابس المسرة وليطرح أردية الشماتة، فقد أدركت الأثار وأريقت الدماء، وشفيت الأدواء، وليحضر ساحتنا في أول النهار، ليرى أن ما كان محرماً من الرثاء قد حل، وأن الحظر الواقع ببكائه قد رفع، ويجد النساء مكشوفات الرءوس يذكرنه بما كان من فضائله، ويندبنه بأشهر أوصافه، وأعلى مراتبه ومحاله، فإن ذلك متصل من فعلهن غير منقطع في أطراف الليل والنهار، والآصار والأسحار، وبعضهم يرويه:
من كان محزوناً بمقتل مالك
والمراد الموالون، كما كان المراد بالأول المنابذين. وأكثر من رأيناه كان يروى فليأت نسوتنا ورأيت الأستاذ الرئيس أبا الفضل ابن العميد يقول: إني لأتعجب من أبي تمام مع تكلفه رم جوانب ما يختاره من الأبيات، وغسله من درن بشع الألفاظ، كيف ترك تأمل قوله فليأت نسوتنا. وهذه لفظة شنيعة. وكيف ذهب عليه تأمل قوله:
قلت لقوم في الكنيف تروحوا ... عشية بتنا عندما وان رزح
تنالوا الغنى أو تبلغوا بنفوسكم ... إلى مستراح من حمام مبرح
حتى جمع بين كنيف ومستراح في بيتين. وتأمل أمثال ما ذكره وبينه من شرائط الاختيار.
قد كن يخبأن الوجوه تستراً ... فاليوم قد أبرزن للنظار
يضربن حر وجوههن على فتى ... عف الشمائل طيب الأخبار
يصفهن بأنهن ابتذلن أنفسهن للمصيبة وقد كان من قبل ستر الصيانة مسبلاً عليهن، لا يظهرن المعاري من الوجوه وسائر الأعضاء لأحد من الناس، لتسترهن وارتفاع محالهن ومناصبهن عن التبرز والتبرج، إذ كن بيضات خدور وربات حجال وستور. وقوله فاليوم قد أبرزن للنظار يريد الوجوه. وهن وإن رمين قناعهن،(1/703)
وأظهرن محياهن فإن أحداً لا يطمع في الدنو منهن، والنظر إليهن، فيخرج إلى حد المنكر. وقوله يضربن حر وجوههن على فتى يريد ما ينلن من أنفسهن بالضرب والإهانة، إجلالاً للرزيئة، وافتداء للمرثى. والعف: العفيف، ومصدره العفة والعفاف. والشمائل: خليقة الرجل وطبيعته، واحدها شمال. وقولهه طيب الأخبار أي حديثه حسن في الناس لا يؤبن بدنية، ولا يوسم بنقيصة.
وقال كعب بن زهير
لعمرك ما خشيت على أبي ... مصارع بين قو فالسلى
ولكني خشيت على أبي ... جريرة رمحه في كل حي
من الفتيان محلول ممر ... وأمار بإرشاد وغي
ألا لهف الأرامل واليتامى ... ولهف الباكيات على أبي
قوله لعمرك مبتدأ وخبره مضمر، وفيه معنى اليمين، وجوابها ما خشيت. فكأن هذا المتوفي مضى لسبيله لعارض عرض له بين قو والسلى. وإنما قال " مصارع " لأنه جعل كل قطعة مما بين هذين الموضعين كالمصرع لواحد من الناس. فيقول توجعاً: وبقائك ما خشيت على هذا الرجل أن يصرع بين هذين الموضعين، ولكني كنت أخشى عليه جرائره في الأحياء، وتراته في القبائل. وعلى ما يدل عليه كلامه كان مات هذا المرثي حتف أنفه، فلهذا قال: لم أختش عليه القدر ين هذين المكانين ما خشيت عليه من جرائر رمحه في الأحياء.
وقوله من الفتيان محلول ممر تعلق من بمحذوف، كأنه قال: كان من بين الفتيان سهل الخلق، وطيء الجانب. والمحلولى هو الذي تناهى حلاوته. قال الخليل: افعوعل: بناء للمبالغة. على ذلك قولهم اعشوشب المكان، إذا تناهى عشبه؛ واحلولى، إذا تناهى حلاوته. والممر: الذي صار مراً. وليس هذامن قولهم: ما أمر وما أحلى، لأن ذلك معناه ما أتى بحلو ولا مر، ولكن يجب أن يكون من أمر الشيء فهو ممر، وفي بعض اللغات مر. قال:
لئن مر في كرمان ليلى لطالما(1/704)
حتى يكون مثل محلول. وقوله أمار بإرشاد وغي وضع إرشاداً موضع رشاد، ألا ترى أنه قال وغي. وهم كما يستعيرون الاسم للمصدر يستعبرون المصدر للاسم، وكما يوضع العطاء موضع الإعطاء في قوله القطامى:
وبعد عطائك المائة الرتاعا
يضعون الإعطاء موضع العطاء. فعلى هذا وضع الإرشاد موضع الرشاد. وإذا كان كذلك فيجب أن يكون إرشاد هذا لا يتعدى، لوقوعه موقع الرشاد. وقوله ألا لهف الأرامل واليتامى الصدر من البيت تحسر لما أصاب الفقراء واليتامى بعد موته، إذ لم يكن في الدهر من يؤوبهم أو يمونهم. والأرامل: جمع أرمل، وهذه الصفة يشترك فيها المؤنث والمذكر، واشتقاقه من أرمل القوم، إذا نفدت نفقاتهم، وحقيقته صاروا من الفقر في الرمل، كما يقال أترب الرجل. والشهادة في اشتراك الرجل والمرأة في هذه الصفة قول جرير:
هذي الأرامل قد قضيت حاجتها ... فمن لحاجة هذا الأرمل الذكر
وقوله ولهف الباكيات على أبي هذا العجز تحسر للمتعلقين بحبله، والراجين ليومه وغده، والواصلين سببهم بسببه دون أولئك، فتكريره اللفظ يشتمل على هذا المعنى.
وقال:
في بعض تطواف ابن طع ... مة آمناً لاقى حمامه
وصدا له من خلفه ... يغتره لا بل أمامه
غر امرؤ منته نف ... س أن تدوم له السلامة
هيهات أعيا الأولي ... ن دواء دائك يا دعامة(1/705)
قوله في بعض تطواف ابن طعمة قد أبرز اسمه، يقول: يا دعامة. فهو دعامة بن طعمة. وتطواف: بناء لما يشوبه في الوقوع أدنى تكلف. فكأن هذا الرجل كان جوالة، فاتفق عليه أن مات آمن ما كان، فأخذ يقتص حاله ويتحزن له، وجعل التطواف للجنس، وأضاف البعض إليه. وانتصب آمناً على الحال من لاقى حمامه، وإذا كان العامل في ذي الحال فعلا جاز تقديم الحال عليه.
وقوله وصدا له خفي عليه كيف اتفق مصرعه. ومعنى صدا له دعاه. ويجوز أن يكون فعل بمعنى تفعل، كأن صدا بمعنى تصدى له قائداً. والتصدي تعرض يختلط بازورار وإعراض. على ذلك قوله تعالى: " فأنت له تصدى ". يقول: تصدى له الحين سائقاً له يأتيه على غرة، بل تصدى قائداً لا سائقاً. كأنه لما خفي عليه من أين أتى لم يقطع الكلام على وجه واحد، بل تدارك وانتقل وهو بعد شاك، ولكن كأنه أومأ إلى جماع الطرق. وقوله:
غر امرؤ منته نف ... س أن تدوم له السلامه
معنى غر خدع على وجه له في الاستنامة إليه غرر. ويقال: ما غرك بفلان؟ أي لم أجترأت عليه وكان الوجه أن لا تجتزئ. على ذلك قوله تعالى: " ما غرك بربك الكريم ". ويقال: من غرك من فلان؟ أي من الذي جذبك عنه وحال بينك وبينه، وكان الوجه أن تكون مقبلاً عليه. ويقال: ما غرك من فلان؟ أي لم وثقت به وكان الحكم أن لا تثق به. فأما قوله منته نفس فإنما نكره لغرض ما، وهو أن لكل رجل فيما يهم به أو يرجوه أو يخافه نفسين: نفس تبعثه عليه، ونفس تصرفه عنه، فلهذا قال: منته نفس أن تدوم له السلامة، أي غرت تلك النفس امرأ جعلت من أمانيه دوام السلامة. يشهد لهذا الذي قلناه قول الآخر:
شاور نفسي طمع وخيبة ... تقول هاتي: لا، وهاتيك: بلى
ثم قال:
فشجعته نفس حرص طعمت ... وحذرته نفسه الأخرى الردى
وقوله:
هيهات أعيا الأولين دواء دائك يا دعامة
أراد بالأولين الأمم السالفة، وقد أعجزهم دواء الموت. وقوله هيهات استبعاد لوقوع ما تقدم ذكره، وهو أن تدوم له السلامة. وهيهات: اسم للفعل وهو(1/706)
بعد، وفاعله ما دل عليه ما قبله، وكأنه قال: بعد ذاك أن يكون. على هذا قوله:
فهيهات هيهات العقيق ومن به ... وهيهات خل بالعقيق تواصله
وقال غوية بن سلمى بن ربيعة
ألا نادت أمامة باحتمال ... لتحزنني فلا بك ما أبالي
فسيري ما بدا لك أو أقيمي ... فأيا ما أتيت فعن تقال
يقول: أظهرت هذه المرأة من نفسها ارتحالاً عني لتجلب علي حزناً وغماً، ونادت بالفراق وكثرته على ألسنة الناس. ثم انصرف عن الإخبار عنها وأقبل عليها يخاطبها فقال: لا بك ما أبالي. وهذه اليمين فيها تهكم وسخرية، لأن من يحل من قلبه امرأة محلها لا يجعلها أهلاً للإقسام بها. فقولك لا بك، كقولك لا بالله. وما أبالي جواب القسم. وقيل: أراد لا بك أبالي، أي لا أبالي بك، ويكون ما صلة، والقسم في هذا الكلام على هذا. وروى فآبك ما أبالي فيكون دعاء عليها. ومعنى آبك: أبعدك الله، والشاهد في ذلك قوله:
وخبرتني يا قلب أنك ذو نهي ... بليلى فذق ما كنت قبل تقول
فآبك هلا والليالي بغرة ... تلم وفي الأيام عنك غفول
فإذا رويت لا بك فالبيت على كلامين، لأن لا بك ينفصل عما قبله، ويصير ما أبالي متصلاً به لأنه جوابه. وإذا رويت آبك فالكلام على فصول ثلاثة: فالفصل الأول أنها أرادت أن تدخل عليه جزعاً بالفراق، فكأنه أقبل قبلها ودعا عليها، ويكون الدعاء حشواً حسناً، وما أبالي كلاماً آخر، وينفصل ما أبالي عن الدعاء وعن الأول.
وقوله فسيري ما بدا لك أو أقيمي استهان بها وبفراقها، فخيرها بين السير ما بدا لها وأرادته، وبين الإقامة، ثم قال: فأي الأمرين اخترت فعن تقال لي إياه. وإنما قال تقال ولم يقل قلى، لأن في التقالي زيادة معنى، وهو أن يحدث الفعل شيئاً بعد(1/707)
شيء. على ذلك قوله تداعى البناء وما أشبهه. وقوله فأياً ما أتيت أياً انتصب بأتيت، وما صلة، ومن شرط أي أن يجيء مضافاً، فأفرده هنا لما كان المضاف إليه معلوماً. على ذلك قوله تعالى: " أيا ما تدعوا فله الاسماء الحسنى ". ألا ترى أن المعنى أي الأسماء تدعوا. ولما كان السير منها أحب إليه علقه بما وسع أمده فقال: ما بدا لك، ولم يشترط في الإقامة شيئاً. وقوله فعن تقال، عن تقتضي فعلاً مضمرا، كأنه قال: أي الأمرين أتيت أتيت عن تقال مني، فحذف الثاني، لأن الأول يدل عليه. وحذف مني أيضاُ لأن في الكلام عليه دليلاً. وما بدا لك في موضع الظرف. وبدا هذا من البدوك الظهور، وليس من البداء: التحول، لأن المعنى سيري مدة ظهور السير في رأيك. ففاعل بدا السير، ودل عليه سيري لأن الفعل يدل على مصدره كما أن المصدر يدل على فعله.
فكيف تروعني امرأة ببين ... حياتي بعد فارس ذي طلال
وبعد أبي ربيعة عبد عمرو ... ومسعودد وبعد أبي هلال
أصابتهم حميدين المنايا ... فدى عمي لمصبحهم وخالي
أولئك لو جزعت لهم لكانوا ... أعز علي من أهلي ومالي
أخذ يتعجب من نفسه وممن يظن به أنه يقف موقف من يفزعه امرأة بفراق، فقال: كيف يكون ذلك مدة حياتي بعد أن فجعت بفارس هذا الفرس. وذو طلال كان اسم فرسه، وحياتي انتصب على الظرف، أي مدة حياتي؛ لأنه حذف اسم الزمان معه. ثم عدد بعد ذكر هذا الفارس من فجع به من عشيرته حالاً بعد حال، ووقتاً بعد وقت، ذكر أبا ربيعة ومسعوداً وأبا هلال، وهؤلاء كانوا حماة العشيرة وفرسان الكتيبة، فلهذا خصهم بالذكر وشهر نفسه بالتوجع لهم. ولو كانوا على غير هذه الصفة لما استحسن لنفسه الاعتداد بهم في الحالة التي ذكرها.
وقوله أصابتهم حميدين المنايا حميدين انتصب على الحال، يريد أن أيامهم سلمت من شوب العار، وقباحة الذكر، وأنهم أصيبوا وهم مشكورون محمودون بلسان القريب والبعيد، والأجنبي والنسيب. وقوله فدى عمي لمصبحهم وخالي كلام منقطع مما قبله، وهو كالالتفات. كأنه أقبل على مخاطب فقال: أفدى ممساهم ومصبحهم بأطرافي العمومة والخوؤلة. وذكر المصبح وكأن الممسي معه منوي، لأن طرفي النهار مذكوران في الغارة والضيافة وما يشبههما من الإساءة والإحسان. وقيل(1/708)
الممسي يتصل بأول حد الليل، وكذلك المصبح يبتدئ من أول حد النهار. وقيل إن الممسي يستحقه الوقت إلى أن ينقضي شطر من الليل، وكذلك المصبح يستحق إلى أن ينقضي شطر من النهار. والغرض في التفدية التي تبرع بها هو إظهار اليأس والتفجع في إثر أوقاتهم وأفعالهم فيها.
وقوله أولئك لو جزعت لهم لكانوا إقرار بأنه لم يوف الجزع فيهم حقه، ولو وفي لكان ذلك يوجب عليه الزهد في العشيرة والأهل والمال، وسائر ما يطيب العيش به وله. فالشرط الذي ذكره ليس هو شرطاً فيما يوجبه التوجع في كونهم عزيزاً، لأنهم أعزاء عليه في كل حال، وإنما هو شرط فيما يوجبه التوجع للمتوفي لو تكلف على وجهه وكنهه، لكأنه قال: لو أعطيت الجزع حكمه لكان حالي حينئذ بخلاف حالي الساعة، ولكان لي عذر في ذلك، لأنهم أعز علي من أهلي ومالي، لكني تركت ذلك اقتداء بالناس في جزعهم لمصابهم. فذكر السبب في أن ما يظهر منه ليس يعده شيئاً مغنيا مع ما يستحقونه. وهم يكتفون بذكر السبب عن المسبب وبذكر المسبب عن السبب كثيرا.
وقال قراد بن غوية
ألا ليت شعري ما يقولن مخارق ... إذا جاوب الهام المصيح هامتي
ودليت في زوراء يسفى ترابها ... علي طويلاً في ثراها إقامتي
تقدم القول في ليت شعري وأن خبر ليت يحذف أبداً كما يحذف خبر المبتدأ بعد لولا، وأن شعري بمعنى علمي، ويصير ما بعده ساداً مسد مفعوليه كما يسد جواب لولا مسد خبر المبتدأ بعده. وإنما تمنى أن يعلم موقع مصابه من مخارق على حسن تربيته له، وحميد تعطفه عليه، وميله مدة عيشه إليه. وكيف يجزع له ويقلق لفراقه إذا حدث به قضاء الله ودخل في جملة الأموات، وجاوب صداه أصداءهم. وهذا على عادتهم فيما كانوا يقولونه من أن عظام الموتى تصير أصداء وهاماً؛ حتى قال النبي صلى الله عليه وسلم: " لا عدوى ولا هامة ولاصفر ". ويقال صاح يصيح، فإذا أريد(1/709)
المبالغة قالوا صيح. ويقال: سمعت الصيحة في الغارة وما أشبهها، وسمعت الصائحة، في صيحة المناحة. وقوله " ما يقولن مخارق " أدخل النون الخفيفة لتؤذن بالاستقبال، وموضع النونين الخفيفة والثقيلة الاستفهام وكل ما ليس بواجب، وإذا ظرف ليقولن، وجاوب جملة مضاف إليها وشرح إذا بها.
وقوله " ودليت في زوراء يسقى ترابها " أي أدخلت فأرسلت في حفرة معوجة، يعني اللحد، وقوله " يسفى ترابها علي " أي يهال ترابها عليه إذا دفن فيها. وقد مضى القول في السافياء والسوافي، إلا أنه يقال سفت الريح التراب سفياً، ثم قالوا: سفى التراب يسفى، والتراب ساف، وهو من باب فعل وفعلته. وقال بعضهم: كان يجب أن يقال في التراب مسفى فقيل ساف، كقولهم عيشة راضية وإنما هي مرضية. وقال الخليل: السفا: اسم ما تسفيه الريح من التراب وغيره. وطويلاً: انتصب على الحال، والعامل فيه دليت، وإقامتي في موضع الرفع على أنه فاعل طويلاً. والمقبور هكذا مقامه في الثرى. وهذا اقتصاص حاله عند ما تمنى معرفته من جهة مخارق إذا حصلت له من التلهف والتوجع. ثم استمر في ذكر الحال فقال:
وقالوا ألا لا يبعدن اختياله ... وصولته إذا القروم تسامت
وما البعد إلا أن يكون مغيباً ... عن الناس منى نجدتي وقسامتي
يريد: وقال الناس مكبراً ما يقع بي، ومظهراً الفجيعة لي: لا يبعدن اختياله وصولته، يعني كبره وحميته، وبأسه وبطشه، إذا حصل بين الصفين، فتدافعت فحولة الرجال، وتزاحمت أركانهم في القتال أو الجدال. وقد تقدم القول في لا يبعدن وما أشبهه. والقرم: جمع القروم، وهو الفحل أقرم، أي ترك حتى استقرم، وهو المكرم لا يحمل عليه شيء، وإنما يترك للفحلة. ويقال قرم ومقرم. على ذلك قوله:
إذا مقرم منا ذرا حدّ نابه ... تخمط فينا ناب آخر مقرم.
ومعنى تسامت تبارت في السمو ذكراً وحالاً.
وقوله وما البعد إلا أن يكون مغيباً يقول: إن الانتفاع بهذا القول إعظاماً للرزء ليس يقع، لأن البعد كل البعد في الموت، الذي يتغيب به عن الناس ما شملهم من(1/710)
معونتي ومغوثتي، وإحساني وإفضالي، ويقال رجل نجد، وهو ظاهر النجدة. ورجل قسيم وسيم: ظاهر القسمة والوسامة. كأنه أراد بالقسامة ما قسم في الخلق من طوله. وكذلك قولهم: رجل مقسم الوجه، يرجع إلى هذا، لأن المعنى ما قسم في أعضائه من الحسن، فكل عضو يمت بمثل ماتة صاحبه. والقسامة: الجماعة يشهدون على الشيء ويقسمون مع الشهادة.
أيبكي كما لو مات قبلي بكيته ... ويشكر لي بذلي له وكرامتي
وكنت له عماً لطيفاً ووالداً ... رؤوفاً وأماً مهدت فأنامت
قوله " أيبكي " هو بيان ما تمنى معرفته من أحوال مخارق عند مفارقته له، فقال: ليتني علمت هل يوفى الجزع حقه، كما لو أصبت به كنت أوفيه، ويرثي لي بمثل ما كنت أرثيه؛ وهل يشكر آلائي لديه، وإقبالي عليه، وإحساني إليه مدة حياتي أم لا. فحذف لا لأن المراد مفهوم، أنه يريد أيكون ذلك أم لا. وعلى ذلك قول القائل: ليتني علمت أزيد في الدار إذا سكت عليه، فلا بد من أن تريد أم لا.
وقوله " وكنت له عماً لطيفاً "، أي كنت جمعت له مدة عمري وما اطرد في نفسي، بين حدب الآباء وشفقتهم، ولطف العمومة وتوفرهم، وتفقد الأمهات وإشبالهن. والمعنى: كنت أتنقل له في الأحوال بين ما يأتيه العم في وقت لطفه أو يأتيه الوالد وقت رأفته، أو الأم وقت تربيتها ولطفها. وقد سارت هذه اللفظة، وهي أم مهدت فأنامت مثلاً فيما ينشر من إحسان الغير إلى الغير. ويقال: ما امتهد فلان عندي مهد ذلك، أي ما وطد لنفسه. وقد أخرج في معرض آخر فقيل:
كما مهدت للبعل حسناء عاقر
وروى بعضهم: " ويشكرني بذلي له وكرامتي " على أن يكون بذلي بدلاً من المضمر في يشكرني.(1/711)
وقال مسجاح بن سباع
لقد طوفت في الآفاق حتى ... بليت وقد أنى لي لو أبيد
وأفناني ولا يفنى نهار ... وليل كلما يمضي يعود
وشهر مستهل بعد شهر ... وحول بعده حول جديد
ومفقود عزيز الفقد تأتى ... منيته ومأمول وليد
يقول: جلت في نواحي الأرض شرقها وغربها، عافياً وطالباً بما يطلب به مثلي المال والجاه، والعز والفخر، إلى أن مسني الكبر، وتسلط علي البلى والهرم، وضعف الأمل في البقاء بحسب قوة الخوف من الفناء، فقد آن لي أن ألحق السابقين إن قدر لي ذلك. وقوله أنى لي يقال أنى وآن بمعنى، وفاعله ما دل عليه لو أبيد، والمعنى أنى لي البيود إن كتب وقضى علي.
وقوله وأفناني ولا يفنى نهار جمع بين فعلين، على قوله نهار، لكنه أعمل الثاني، وهو المختار. المراد: أُثر في قواي مضى نهار لا يتقضى، وتجدد ليل لا يتصرم، بل كلما يمضي واحد عاد بدله آخر، وكذلك أفناني، أي أفنى جدتي وغنائي، شهر ينسلخ بعد استهلاله، إلى وقت استكماله، وسنة يتبعها مثلها، فلا يعرف قضاؤها. ثم ما يلحقني في أثناء تلك الليالي والأيام، والسنين والأعوام، من فقد من أعتمده ليومي وغدي، وخلافتي بعد موتي وأستكفله ولدي، وأسترعيه هملي. هذا مع كماله في فضله، وبراعته وطوله، والإشادة بالتنويه إليه من كل جانب، والشهادة له بالتبريز من كل فاضل. ومن ولادة طفل يعلق الرجاء بنشئه، وتجمع أسباب الطمع في حياته، ويشغل الوقت بتربيته والترفرف عليه عوضاً مما كان له من كاسبه وكافله، ورحمة لبقائه بعد من كان يعز عليه، وعقب من هنئ فيه فلم يهنأه.
وإذا تأمل الناظر ما اقتصه هذا الشاعر في هذه الأبيات على قلتها، من امتحانه بالكبرة والسن، وتراجع القوة بمآخذ الدهر، ومع التجوال في البلدان، ومقاساة الشقاء في الحل والترحال، والتنقل في الأحوال، ثم مرور الأيام وكرورها بما لا يسر عليه، إلى أن رفع الطمع عما كان تجمعه يده ونفض اليد مما كان يشده قبضه، ثم المصاب(1/712)
في الكامل البارع، وتعليق الرجاء بالطفل الدارج وجد عيشه على العكس مما وصفه امرؤ القيس في قوله:
ألا أنعم صباحاً أيها الطلل البالي ... وهل ينعمن من كان في العصر الخالي
وهل ينعمن من كان أقرب عهده ... ثلاثين شهراً أو ثلاثة أحوال
وهل ينعمن إلا خلي مخلد ... قليل الهموم ما يبيت بأوجال
فتأملها فإنها عجيبة.
؟؟؟؟؟؟؟؟ //وقال حران بن عمرو بن عبد مناة يرثى زيد الفوارس وغيره من أبناء عمومته:
تبكي على بكر شربت به ... سفها تبكها على بكر
هلا على زيد الفوارس زي ... د اللات أو هلا على عمرو
تبكين لارقأت دموعك أو ... هلا على سلفى بنى نصر
هذه امرأة ضايقت الشاعر - وهي من بطائنه - في بكر باعه واشترى بثمنه خمراً، فأخذ يذكر حالها وينكر بكاءها، فقال: تبكي هذه المرأة على بكر شربت به، أي شربت خمراً سبأت بثمنه. ويروى (شربت به) ، ويكون أظهر.
ثم قال، بعد أن أخبر عنها بما أخبر، كالمتلفت إلى إنسان بحضرته: سفها تبكيها على بكر. فانتصب سفها على المصدر، وهو المفعول له. وتبكيها في موضع رفع بالابتداء، وعلى بكر في موضع الخبر، أي لسفها فعلت ذلك، لأنه لم يبلغ من قدر بكر ماتكلفته. ولو روى: سفه تبكيها على بكر، فجعل التبكي هو السفه لم يمتفع، وكان خبراً مقدما، وعلى بكر يكون لغواً.(1/713)
قوله (هلا زيد الفوارس) إلى آخر البيت، هلا حرف تحضيض وهو يطلب الفعل، وذلك الفعل هو تبكين. يخاطبها، أي هلا تبكين على هؤلاء الجبال التي انهدت، والبحور التي غاضت بزيد الفوارس أو عمرو. ثم دعا عليها فقال: لاأرقأ الله دمعك، أم هلا تبكين على سلفى بني نصر. وإنما ثنى السلف لأنه أراد العمومة والخؤولة.
خلوا على الدهر بعدهم ... فبقيت كالمنصوب للدهر
إن الرزيئة ما أولاك إذا ... هز المخالع أقدح اليسر
أهل الحلوم إذا الحلوم هفت ... والعرف في الأقوام والنكر
يقول: مضوا لسبيلهم، وانتقلوا إلى جوار من هو أملك بهم، وتركوا أعباء الدهر على ظهري، فهي تثقل علي وتعرضني لنوائبه وأحداثه، فأنا كالغرض المنصوب له، ليس لي من يتحمل عني، ولا من يؤازرني أو يشد أزرى. ومعنى (خلوا على الدهر) أي صرت فريسة للدهر، فكأنهم هم الذين أغرزوه بي لما ذهبوا عني وأفردوني. وهذه اللفظة تستعمل في إغراء الجوارح على الصيد.
وقوله (إن الرزيئة ما أولاك) إلى آخر البيت، يريد: المصيبة كل المصيبة هم أولاك إذا اشتد الزمان وأسنت الناس، واحتيج إلى مجامع الآيسار، لإصلاح أمر الفقراء والأيتام، فلم يوجد من يرجع إليه أو يعتمد على إفضاله وتفقده. وقوله (ما أولاك) ماصلة. ومعنى هز أجال. والمخالع: المقامر. والمخالعة: القمار. وقيل إنما سمى مخالعاً لأنه هو المولع باليسر، فهو الذي يخلع مال غيره وينخلع هو أيضاً من ماله، منافسة وحرصاً على الميسر واكتساب الحمد فيه وله. وقوله (إذا هز) هو ظرف لما دل عليه (ما أولاك) .
يريد أن الرزيئة افتقار الناس إلى أولئك في مثل هذا الوقت فلا ينالون. وقوله (أهل الحلوم إذا الحلوم هفت) بصفهم بالرزانة فيقول: إذا دهم من الأمر ما تهفو فيه العقول وتزل فيه الأقدام، فهؤلاء لأصالة آرائهم يثبتون عند المزاولة، ويداوون الأمور بدوائها من غير طيش ولا سفه، ولا تجاوز حد وعنت. وقوله (والعرف في الأقوام) أراد: وهم أهل العرف والنكر في الأقوام. يعنى أنهم ينزلون الأقوام منازلهم من الموالاة والمداجاة، فمن داجى كان له النكر منهم، ومن والى كان له العرف.(1/714)
وقال زويفر بن الحارث بن ضرار
ألم تر أني يوم فارقت مؤثراً ... أناني صريح الموت لو أنه قتل
يروى (صريخ الموت) بالخاء المعجمة (ألم تر كيف فعل ربك بأصحاب الفيل) والنبي عليه السلام لم ير ذلك. فيقول: أعلم أني يوم فارقت هذا الرجل ورد على مايجري مجرى الموت الصريح الخالص لو أنه قتلني وأنى علي، ولكن القدر ثبت قدمي في الأحياء، فلم يخلني للموت. ومن روى (صريخ) بالخاء و (قبل) بالباء فالمراد: أتاني داعي الموت. والصريخ يكون المستغيث والمغيث جميعاً، والمراد أتاني داعي الموت لو أنه قبلني لكنت لا امتنع من إجابته لما استدعى، وإغاثته لما استغاث، لكنه لما بقاني ولم يأخذني فكأنه لم يقبلني.
وكانت علينا عرسه مثل بومه ... غداة غدت منا يقاد بها الجمل
تقدير البيت إذا أزيل ما فيه من هجنة التقديم والتأخير: وكانت علينا عرسه غداة غدت منا يقاد بها الجمل مثل يومه. والمعنى: كانت مفارقة عرسه لنا غداة انتقالها عنا، وقد حملت الجمال وقيد بها ظعينتها مثل يوم فقده، أي كان ذلك اليوم مثل ذلك اليوم. كأنهم كانوا ألفوا من مقامها أيام عادتها أنسابها، وببقاء دارها على ماكانت تعهد من قبل، فلما رأت من التنقل مارأت، وخلت الديار منها ومن أسبابها وتغيرت، عادت المصيبة على أحيائها جذعاً، والشر مستفحلاً.
وكان عميدنا وبيضة بيتنا ... فكل الذي لاقيت من بعده جلل
أي كان رئيسنا والمصمود بالحاجات فينا، وأصل بيتنا وأساس فخر، وقد تقدم القول في بيضة البلد، وأنه يستعمل في المدح والذم. فاما بيضة الخدر وبيضة البيت فلا يستعملان إلا في المدح. وقد صيغ من البيضة هذا فعل، حكى ابن الأعرابي قال: يقال اجتاحوهم وابتاضوهم، إذا استأصلوهم. وقوله فكل الذي لاقيت من بعده جلل أي صغير هين في جنب مالاقيناه فيه. والجلل يستعمل في الصغير والكبير. وقال بعضهم: المراد ببيضة البلد أنه المعروف الموضع، المرجوع(1/715)
إليه في كل مهم، كما يرجع صاحب الأدحى إلى أدحيه كيف توجه فيه المرعى، وأنى انتجع ورعى. والأجواد أن يكون المراد به وقد أضيفت إلى البيت، وهو بيت الفخر والعز، أنه الأصل والجرثومة، كما حكى عن أبي بكر رضي الله عنه أنه قال: " نحن عترة رسول الله التي خرج منها، وبيضته التي تفقأت عنه ".
وقال ابن عنمة الضبي
في مقتل بسطام بن قيس:
لأم الأرض ويل ما أجنت ... بحيث أضر بالحسن السبيل
يعظم شأن الارض كيف ترشحت لستر بسطام فيها، ومن أين صارت يتسع بطنها له ميتاً وهي تضيق عن أفعاله وذكره حياً. وقال الأصمعي في تفسير ويل إنه قبوح. ولك أن تقول لإم تتبع حركة الهمزة حركة اللام. وارتفع ويل بالابتداء وإن كان نكرة، لأنه علم أنه دعاء، فحصل به مثل فائدة المعارف. ومعنى لام الأرض ويل، فهو في لفظ ما وقع. وقوله " ما أجنت " ما استفهام، وموضعه مفعول أجنت. يقول: سترت رجلاً وأي رجل، أي سترت جليلاً من الأملاك رفيع بناء العز، واسع باع الفخر. وقوله بحيث أضر جعل حيث اسماً. ومعنى أضر: دنا. والحسن، حتى نكون مثلناه على المذهبين جميعاً.
نقسم ماله فينا وندعو ... أبا الصهباء إذ جنح الأصيل
يقول: نقسم فواضل ماعندنا من غنائم غزواته وما بقاه ولم يقسم فينا لوقت يختاره له، فبقى بعده. وفي اقتسام تلك الأموال ما يهيج الحسرات، لأوقات الغارة في البكرات. ثم قال وندعو أبا الصهباء إذ جنح الأصيل يشير إلى وقت الأضياف، وأن الحي في ذلك الوقت يصير ضجة واحدة، تلهفاً في إثر الفائت، وتذكراً له، وتوجعاً لما فقد من المستانف من تلك الرسوم واستمرارها. ومعنى ندعوه نندبه(1/716)
ونقول: وابسطاماه! وإنما قال ماله لأن ما اجتمع بسعيه وحده، وبأسه وسطوته، كان له. ومعنى جنح مال. والأصيل العشية. وأبو الصهباء: كنية بسطام.
أجدك لن تراه ولن تراه ... تخب به عذافرة ذمول
ألم في هذا بقول النابغة:
يقولون حصن ثم تأبى نفوسهم
كأنه لشدة الأمر عليه يكذب المشاهدة ويدع التصديق بها في الوقت بعد الوقت، إما استعظاماً للحال، وإما لآفة تلحق العقل، وضعف يتخلل التحصيل، فكأنه بعدما اقتص من الحال ما اقتص، وشرح من الفجع ماشرح عاودته تلك الحالة وعادته، فاقبل على نفسه يستثبتها وقال: أعلى جد منك، وانجد جدك، أنك في مستقبل الأوقات لا تراه متمكناً منه قريباً، على عادتك في حال الأمن معه، ولا تراه أيضاً من بعيد في الغزو وتسير به الخبب راحلة قوية خفيفة.
وقد ظهر بما ذكرته فائدة تكرار حرف النفي في كلامه، لأن لن نفى قول القائل أسيفعل كذا زيد؟ فيقول: لن تفعل. فقوله لن تراه نفي الرؤية في حال السلم، ولن تراه نفى لها في حال الغزو. وتخبء به في موضع الحال.
حقيبة رحلها بدن وسرج ... تعارضها مريبة دؤول
إلى ميعاد أرعن مكفهر ... تضمن في جوانبها الخيول
يقول: تخب به ناقة بهذه الصفات وقد شد في الحقيبة التي ارتدفها درع قدر ما يستر البدن، وسرج لما جنب معه من فرس تعارض هذه الناقة في السير؛ وهي لعزها وكرمها على ربها، ربت في البيوت ولم تترك هملاً، وسيرها الذميل. ويقال رببته بالتشديد بمعنى. والدألان: ضرب من السير. والاحتقاب: شد الحقيبة من خلف، وكذلك الاستحقاب.(1/717)
وقوله: إلى ميعاد أرعن يعنى به جيشاً كانه رعن جبل. وقيل: جيش أرعن: له فضول. والرعن: أنف يتقدم من الجبل، والجميع الرعان والرعون. مكفهر، أي مرتفع عال. وقوله تضمن في جوانبها الخيول أي تقرن الخيل بالإبل في جوانبها، إذ كان لكل رجل راحلة وفرس يقوده معه.
ومثل هذا قوله:
خصفن بآثار المطي الحوافرا
يقول: تسير به راحلة معها جنيبة، إلى ميعاد أرعن، أي جيش كثير ضمن جوانب رواحلها الخيول. ويروى: (تضمر في جوانبها) بالراء، والمعنى تصنع الخيول وتعدى في القرتين في جوانبها. والمراد أن فرسان هذه الكتيبة دأبهم ذلك.
لك المرباع منها والصفايا ... وحكمك والنشيطة والفضول
أقبل يخاطب المرثى بعد الإخبار، على عادتهم في الكلام.
وقال أبو عبيدة: كان رئيس القوم في الجاهلية إذا غزا بهم فغنم أخذ من جماعة الغنيمة ومن الأسرى والسبى على أصحابه المرباع، وهو الربع، فلذلك قال (لك المرباع منها) فصار هذا الربع الذي كان في الجاهلية للرئيس في الاسلام خمساً. وكان له الصفى: واحد الصفايا من جماعة الغنائم والأسلاب والكراع قبل القسمة، وهو أن يصطفى لنفسه شيئاً: جارية أو سيفاً أو فرساً أو ماشاء، وبقى الصفى على حاله في الإسلام: اصطفى النبي صلى الله عليه وسلم سيف منبه ابن الحجاج ذا الفقار يوم بدر، واصطفى جوير ية بنت الحارث من بني المصطلق يوم المريسيع، فجعل صدقتها عتقها وتزوج بها، واصطفى صفية بنت حي ففعل ذلك بها.
وقال أبو عبيدة: وكان له النقيعة أيضاً، وهو بعير ينحره قبل القسمة فيطعمه الناس كذلك. قال:
إنا لنضرب بالسيوف رؤوسهم ... ضرب القدار نقيعة القدام
قال: وسقط في الإسلام النقيعة.(1/718)
قال: وله حكمه، وهو أن يبارز الفارس فارساً قبل التقاء الجيشين فيقتله ويأخذ سلبه. والحكم فيه إلى الرئيس، إن شاء نفله وإن شاء رده إلى جملة المغنم. وهذا باق في الاسلام.
وله أيضاً (النشيطة) وهو ما انتشط من الغنائم ولم يوجفوا عليه بخيل ولا ركاب. فبقيت في الإسلام. وفدك من ذلك، لم يوجفوا عليه فكان للنبي صلى الله عليه وسلم خاصة.
قال: وكان للرئيس البسيطة، وبعضهم يسميها البسط، وهي الناقةأو الحجر معها ولدها، فتجعل هي وولدها في ربع الرئيس ولا يعتد عليه بالولد.
وقال: وسقط البسيطة في الاسلام.
وكان له (الفضول) وهو ما فضل بعد القسمة ويعجز عن عدد الغزاة، أو لا يتناوله القسم، وهذا سقط أيضاً في الاسلام. قال أبو عبيدة: غير أني حدثت عن مجاهد أنه قال في قوله تعالى: (يسألونك عن الأنفال قل الأنفال لله والرسول) ، قال: هو ما شذ من الغنائم، كالفضول. وقيل إنها منسوخة.
أفاتته بنو زيدبن عمرو ... ولا يوفى ببسطام قبيل
فخر عللا الألاءةلم يوسد ... كأن جبينه سيف صقيل
قوله (أفاتته) فات يتعدى إلى مفعول. تقول: فاتني الشيء، فإذا أدخلت عليه حرف التعدية تعدى إلى مفعولين. فإذا كان كذلك فأحد المفعولين محذوف، كأنه قال: أفاتت الناس بنو زيد بن عمرو بسطاماً، أي الانتفاع ببسطام. وقوله (ولا يوفي ببسطام قبيل) بالباء يروى، والمعنى لا يوفى بدمه قبيل، كأن القبيلة بأسرها مطالبون بدمه ووافون به إذا أتى بهم كلهم. وهذه الرواية أقرب إلى مايدل عليه صدر البيت وأشبه. ويروى (قتيل) بالتاء، ويكون الكلام تحسراً، والمعنى لا يوفى بدم بسطام دم قتيل. ويقال وفى وأوفى بمعنى واحد.
وقوله (فخر على الألاءة) ، معناه سقط. والألاءة: شجرة ولم يوسد، يستعملونه كثيراً في القتيل، وليس ذلك لأن القتلى بعضهم يوسدون. وقد يقال (وسد يمينه في ضريحه) ، وهذا أيضاً مثل؛ لأن الميت لا يوسد يمينه، وإنما(1/719)
يراد: تجافى المكان به في حالتي الدفن والقتل، وقوله (كأن جبينه سيف صقيل) يريد وجهه وإشراق لونه.
وقال الهذلول بن هبيرة
ألكني وفر لابن الغريرة عرضه ... إلى خالد من آل سلمى بن جندل
فما أبتغى في مالك بعد دارم ... ولا ابتغى في دارم بعد نهشل
وماأبتغى في نهشل بعد جندل ... إذا ما دعا الداعي لأمر مجلل
وما أبتغى في جندل بعد خالد ... لطارق ليل او لعان مكبل
قوله (ألكني) أي أعنى على أداء ألوكتي، وهي الرسالة. وقد تقدم القول في هذه اللفظة؛ وأن أصلها آلكني، فقلب وقدم اللام على الهمزة فصار ألئكني، ثم حذفت الهمزة استخفافاً وألقيت حركتها على اللام فصار ألكني.
وقوله (وفر لابن الغريرة عرضه) معناه اترك عرضه وافرا. يقال وفرته أفره وفرا، وهو موفور. والمراد: خص برسالتي خالداً واترك ابن الغريرة جانباً، لا تذكر له قبيحاً ولا توله مكروهاً. والرسالة ابتداؤها: (فما أبتغى في مالك) . والشاعر رتب أفخاذاً وبطوناً، وذكر أن كل واحد منها كان له رئيس يدور أمره عليه، ويعتصم بأمره في الملمات. وأنه بعد افتقاد ذلك فيهم فلا طائل ولا خير عند واحد منهم. ألا تراه قال: فما أبتغى في بني مالك بعد خروج بني دارم منهم، وماأبتغى في بني دارم بعد خروج بني نهشل منهم، وما أبتغى في بني نهشل إذا صرخ الصارخ لأمر عظيم بعد خروج جندل منهم، وما أبتغى في بني جندل لسار يسري بليل يطلب الضيافة، أو أسير مكبل يطلب من يفك أسره بعد أفتقاد خالد. كأنه كان يأخذ بعضهم بما يتماسك به البعض الآخر، وذلك البعض يتماسك بآخر إلى آخر القصة. وهذا على مارتبه في نهاية الحسن. وقوله (أمر مجلل) أي معظم. والكبل: القيد، ورجل مكبل.
وقال إياس بن الأرت
ولما رأيت الصبح أقبل وجهه ... دعوت أبا أوس فما إن تكلما(1/720)
وحان فراق من أخ لك ناصح ... وكان كثير الشر للخير توءما
لما علم للظرف، وهو لتوقع الشيء لوقوع غيره، ولذلك احتاج إلى الجواب، وجوابه هنا دعوت. فيقول: لما دنا الصبح وأقبل وجهه ينفلق ويقبل، دعوت هذا الرجل - يعني المرثى - فما أجاب. وإنما خص وقت تنسم الصبح، لأن المريض يخف فيه، فكأنه على عادته في تمريضه، وتعرف خبره، وتحدبه عليه في العارض له، دعاه فوجده ثقيلاً، لا يجيب ولا ينطلق لسانه، فتيقن منه قرب المفارقة، والبعاد بعد المقاربة، فلذلك قال: (وحان فراق من أخ لك ناصح) . ومعنى حان: قرب. والنصاحة: صفاء الود، وخلوص العقيدة من الغل. وقوله (وكان كثير الشر) يعني مع منابذيه ومشاقيه. ولن يكمل الفتى حتى يكون مستصلحاً للخير والشر، فيحل الناس محالهم، ويوفيهم مستحقاتهم، إن خيراً فخيراً، وإن شراً فشراً.
وقد عمل لطيفة في الصفة الثانية فقال (للخير توءما) فجعل الخير ولد معه فنشأ بنشئه. يقال: غلام توءم، للذي ولد معه غيره. وأتأمت المرأة فهي متئم. واشتقاقه من الوأم، والتاء فيه بدل من الواو، كالتاء في تكأة وما أشبهها، والجمع تؤام، وفعال في الجمع قليل. كأن الولد واءم غيره في الاتيان، أي وافق وفي المثل: (لولا الوئام هلك اللئام) . وقد استقصيت القول فيه شرح كتاب الفصيح.
تتابع قروش بن ليلى وعامر ... وكان السرور يوم ذاك مدمدماً
يريد: أنهم قد تداعوا في الذهاب، وتقاطروا في الموت، فمات الواحد بعقب الواحد، كأنهم دعوا بلسان واحد فأجابوا، وكان السرور يوم مات ملقى مهلكاً غير باق، لأن كل من سمع بموته أخذ قسطاً من الجزع له فخفى سرور الناس وظهر جزعهم، وقوله (يوم مات) يعني أبا أوس. هذا من باب ما خص البعض بشيء من دون الجملة، فأعيد ذكره. والدمدمة: الإهلاك والاستئصال. وفي القرآن: فدمدم(1/721)
عليهم ربهم بذنبهم. ويروى: (وكان السرور يوم ذاك مذمما) :
هممت بأن لا أطعم الدهر بعدهم ... حياة فكان الصبر أبقى وأكرما
قوله: (بأن لا أطعم الدهر بعدهم) انتصب أطعم بأن، ولو رفع لجاز على أن يكون أن مخففة من الثقيلة، ويكون إسمه مضمراً، والفعل مع ما بعده خبر كأنه قال: هممت بأني لاأطعم حياة بعدهم، أي كنت وطنت نفسي على الزهد في الحياة، وجعلت قتل نفسي من همي، ثم نظرت فكان الائتساء بالناس في مصائبهم، والصبر على مقاساة البلاء معهم، أبقى في الذكر، وأحسن في الأحدوثة، وأكرم عند عد الأفعال وعرضها على العقول. وروى: (أتقى) بالتاء المعجمة، والمعنى أوقى، لأن التاء مبدلة من الواو، أي أصون للدين والعرض.
وقال قبيصة بن النصراني الجرمى
ألا يا عين فاحتفلي وبكى ... على قرم لريب الدهر كاف
وما للعين لا تبكي لحوط ... وزيد وابن عمهما ذفاف
وعبد الله يا لهفي عليه ... وما يخفى بزيد مناة خاف
وجدنا أهونالأموال هلكاً ... وجدك ما نصبت له الأثافى
يقول: ياعين جاء وقت البكاء فتهيئي له، واجمعي دموعك ثم فرقيها، ولا مساغ لتقصير، ولا مجال لتعذير. والحافل من الغنم: التي جمعت اللبن في ضرعها. ومعنى بكى: أكثري البكاء أو كرريه. والقرم: الكريم من الرجال، وأصله في الفحول، وكذلك المقرم، وقد تقدم ذكره.
وقوله (لريب الدهر كاف) قد حذف أحد مفعولي كفى، كأنه كاف الناس ريب الدهر، أي ما راب من أحداثه.
ثم عدد من فجع به من أعزته فوجب البكاء له، ليعلم عظيم شقائه وما أصيب به في أودائه.(1/722)
وقوله (يالهفي عليه) يجوز أن يكون المنادى محذوفاً كأنه قال: وعبد الله لهفي عليه يا قوم. ويجوز أن يكون نادى اللهف ليرى عظيم حسرته، وكمال شقوته في فجيعته.
وقوله (وما يخفى بزيد مناة خاف) يجوز أن يكون موضعه رفعاً على أنه يرتفع بيخفى، فكأنه قال: ما يخفى خاف بزيد، أي زيد مناة لا يخفى، لأن الخافي هو زيد، وهذا كما تقول: لقيت بزيد أسداً. ويجوز أن يكون قوله (بزيد) هو الفاعل والباء فيه مثل الباء في قوله تعالى: (وكفى بالله شهيداً) . والمعنى ما يخفى زيد مناة خفاء، وخاف في موضع خفاء، لكنه لم ينصبه كما لم ينصب قوله:
كأن أيديهن بالقاع القرق
ومثله:
كفى بالنأي من أسماء كاف
وقمت قائماً، وعذت بالله عائداً. وقد مضى مثله.
وقوله (وجدنا أهون الأموال هلكاً) كأنه نبه به على ما كانوا يقيمونه من الضيافة، وينفقونه من الأموال في العفاة وأبواب البر والإحسان، وأن أهون الأموال هلاكاً على نفوس الكرام وأخفها في الصدور والقلوب ما وقف على الأضياف، وصرف إلى مآكلهم، وكذلك من أشبه الأضياف. وانتصب (هلكاً) على التمييز. ومعنى (وجدك) وحق جدك.
وقوله (ما نصبت له الأثافى) في موضع المفعول الثاني لوجدنا. والأثافى، واحدتها أثفية. ويقال: ثفيت القدر وأثفيتها. فأثفية أفعولة. ومن قال أثفتها فأثفية عندي فعلية؛ لأن الهمزة أصلية. من ذلك قول النابغة:
وإن تاثفك الأعداء بالرفد(1/723)
وقال أبو صفرة البولاني
زكيرة وابنا أمة الهم والمنى ... وفي الصدر منهم كلما غبت هاجس
أودهم وداً إذا خامر الحشا ... أضاء على الأضلاع والليل دامس
بني رجل لو كان حياً أعانني ... على ضر أعدائي الذين أمارس
يعني بزكيرة وأخويه أولاد أخيه، وكان توفى والدهم فصار هو كافلهم. فيقول: هم الذين أهتم لهم، وأتمنى خيرهم وبقاءهم، وأقصر همي على ما تستقيم به أحوالهم، وتستتب له أمورهم، ومتى غبت عنهم كان في صدري هاجس من الفكر فيهم، وسانح من التوفر عليهم، يحولان بيني وبين الذهاب عنهم؛ فجسمي غائب عنهم، وهواي حاضرهم. فهذه التي أشار إليها نتائج العناية بهم، ومسببات الرعاية في النيابة عن اخيه فيهم. ثم أخذ يذكر ما غرسه الحب في قلبه لهم، ورعاه صدره من التحنن والشفقة في بابهم، فقال: أودهم وداً إذا خالط الحشا في ظلمة الليل أضاء على الأضلاع. وإنما قال هذا لأن الشيء إذا أشرق بالليل وعند التباس الظلام، فهو بالنهار أولى بالأشراق. فكأن المعنى أن طلائع حبهم في مكامن صدره مضيئة الأرجاء، نيرة الأكناف، في كل حال ووقت.
وقوله (بني رجل) يعني أخاه، كأنه ذكر ما يقتضيه في أمرهم بما يأتيه، فأشار إلى الدواعي القائمة بينه وبين أولاد الأخ، فقال: أذكر بني رجل لو كان في جملة الاحياء لأعانني على الأعداء، وأنصفني من الزمان، ودفع عني من مضراتهم ومناكداتهم ما يخفف معه ظهري، ويقوى فيه نهوضي وجذابي.
وقال الغطمش
من بني شقرة بن كعب بن ثعلة:
ألا رب من يغتابني ود أنني ... أبوه الذي يدعى إليه وينسب
على رشدة من أمة أو لغية ... فيغلبها فحل على النسل منجب
قوله (من يغتابني) من نكرة ويغتابني في موضع الصفة له، و (ود أنني) جواب رب. فيقول: رب إنسان يأكل لحمي بظهر الغيب ويتنقصني، ومع ذلك(1/724)
يتمنى أن أكون أباه الذي الذي يسعى به وينسب إليه، وإنما يبعثه على ذلك الحسد والبغضاء.
وقوله (على رشدة من أمه أو لغية) فإن على ما يتعلق بقوله أنني أبوه، كأنه يريد: ود أبوتي سواء كان ولد حلال أو حرام. والرشدة: أسم الهيئة في الرشاد. والغية: الفعلة الواحدة من الغي. وهكذا يختار أن يقال هو لرشدة بكسر الراء، ولغية بفتح الغين. وقوله (فيغلبها) نصب جواب التمني بالفاء، والعامل فيه أن مضمرة. وهذا شرح الغية، كأنه قال: تمنى أن يكون ولدي على رشدة، أو يغلبها فحل منجب على النسل فتاتي به لغية. وأراد بالفحل المنجب نفسه، ويعني بيغلبها على النسل غلبة الشبه ليبرئه من هجنها. وإذا قال القائل وددت أنني أجيئك فتكرمني، فقوله فتكرمني انتصب ولم يعطف عل أجيئك، لمخالفة آخر الكلام أوله، وذلك ان قوله أنني أجيئك متمنى غير واجب، وفتكرمني ليس من التمني بل هو واجب، فلما خالفه نوى بالأول الأسم، وأضمر بعد الفاء أن، لتكون الفاء عاطفة لاسم على اسم، فكأنه قال: وددت مجيئي إليك فإكرامك لي. وكذلك إذا قال: ألا ماء فأشربه، يراد: لو كان لي ماء لشربته، تقديره: ألا ماء فشربه.
فبالخير لا بالشر فارج مودتي ... وأي امرىء يقتال منه الترهب
كأنه اقبل على هذا المغتاب له، الناحت أثلته، المداجى له بعداوة كامنة مستحكمة في الصدر فقال له: هذه المودة التي تظهرها من نفسك لي، أرج انتفاعك بالخير لا بالشر، لأنك إن فعلت غير ذلك فإنما تحتاج إلى إصلاحه من نفسك، فأما إذا كانت المودة صافية، والعقيدة خالصة، فإن صاحبها لا يرجو بها إلا خيراً، وكيف لا يرجو غيره من ثماره وهو يغرس الخير لا الشر. وقوله (ارج مودتي) أي ارج مودتك لي، والمصدر يضاف إلى المفعول كما يضاف إلى الفاعل. وقوله (أي امرىء يقتال منه الترهب) فمعنى يقتال يحتكم، وهو يفتعل من القول، يريد أي رجل يحتكم عليه ومنه الترهب، التخوف، وترك السكون والإمنة إليه. أي كيف يطلب وده على الرهبة منه.
أفول وقد فاضت بعيني عبرة ... أرى الأرض تبقى والأخلاء تذهب
أخلاء لو غير الحمام أصابكم ... عتبت ولكن ما على الهر معتب(1/725)
قوله (وقد فاضت بعيني عبرة) اعتراض بين الفعل ومعموله. وقوله (أرى الأرض تبقى) متصل بقوله (وقد فاضت بعيني عبرة) ، وهو من جملة الاعتراض. ومفعول أقول البيت الثاني. فيريد: أقول وقد اتصل البكاء مني، وسالت العبرات من عيني، إذ كنت أرى الأرض باقية، والإخوان الخلص ذاهبة، وأنا لا أملك شيئاً: أخلاى إني مغيظ مغلوب، مأخوذ عن عزائي لما أتاه الدهر، ولكني إذا فكرت وكان سبب اخترامكم الموت الذي تتساوى فيه الاقدام فلا يبقى على شريف ولا وضيع، ولا صغير ولا كبير، صدني ذلك عن العتب، لأن الموت لا معتب علي؛ ولو كان الجاني فيكم، والسالب لكم غير الموت لعتبت على الدهر، وقلت وأكترث في موضع القول، وانتصفت وأسرفت في موضع الفعل. ويقال عتبته فأعتب، أي لمته فأرضى. ويروي (أخلاى) بالقصر وإثبات ياء الإضافة و (أخلا) بالمد وحذف ياء الإضافة، وهذا أجود.
وقالت امراة
ألا فاقصرى من دمع عينيك لن ترى ... أباً مثله تنمى إليه المفاخر
وقد علم الأقوام أن بناته ... صوادق إذ يندبنه وقواصر
تقول متسلية ورافعة الطمع من أن يكون الجزع يرد فائتاً، فقالت كفى من دمع عينيك، ونهنهي عبراتك، فإنك لن ترى من تعتاضيه من أبيك الذي كان إليه ينتمي المفاخر. ومعنى (تنمى إليه المفاخر) أنه غاية المفاخر، فهي إليه تنتمي. ويروى: (ينمو إليه المفاخر) بضم الميم، والمعنى يرتقى إليه المفاخر إذا نافر خصمه وجاذبه.
وقولها (وقد علم الأقوام أن بناته صوادق) استشهدت بطوائف الأقوام على اختلافها، وذكرت أنهم قد علموا أن ينات هذا المتوفى فيما ينبدبن به أباهن ويذكرنه من فضائله وإفضاله، آتيات بالصدق غير الكذب، وعاجزات عن بلوغ الغاية التي يستحقها أبوهن المرثى، فإن القول لا يحيط بحده، والوصف لا ينظم كنه حقه.(1/726)
وقال آخر:
سقى جدثاً وارى أريب بن عسعس ... من العين غيث يسبق الرعد وابله
ملث إذا ألقى بأرض بعاعه ... تغمد سهل الأرض منه مسابله
دعا لقبر المرثى بالسقيا، وهو أريب بن عسعس. ومعنى (من العين) من السحابات التي تنشأ من عين القبلة وهي أغزر، فلذلك خصها. وقوله (يسبق الرعد وابله) يطلب به الكثرة. والوابل: المطر الضخم القطر، وإذا سبق المطر الرعد كان النوء أغزر.
وقوله (ملث) لم يرض بأن يكون سقياه عارضاً، ولكن جعل الغيث ملثاً، وهو بمعنى مقيم. وقوله (إذا ألقى بأرض بعاعه) يريد إذا جاء مطره على أرض فوضع أثقاله بها امتلأت الوهاد، وتغمدت المسايل بطون الأباطح السهلة. والبعاع: الثقل، والجهاز. يقال: بع السحاب بعا وبعاعا، إذا ألح بمكان فألقى بعاعه فيه.
فما من فتى كنا من الناس واحداً ... به نبتغي منهم عميداً نبادله
ليوم حفاظ أو لدفع كريهة ... إذا عي بالحمل المعضل حامله
قوله (فما من فتى) بيت فيه تقديم وتأخير، وتلخيصه مبيناً معاداً كل شيء إلى موضعه: مامن فتى من الناس كنا نبتغي به واحداً منهم عميداً نبادله فعلى هذا قوله (من الناس) من صفة الفتى، وبه يعود الضمير إلى الفتى. والمعنى: كنا بسببه نبتغي واحداً منهم - أي من الناس - عميداً، من صفة الواحد، لأنا جعلنا واحداص مفعولاً لنبتغي. نبادله، أي نبادل به الناس، فحذف الجار وقال نبادله، على هذا قول عارق الطائي:
وليس من الفوت الذي هو سابقه
أي سابق به. وخبر ما محذوف، كأنه قال: ما فتى ذا صفته بموجود في الدنيا، وما أشبهه.(1/727)
وقوله (ليوم حفاظ) اللام تعلق بقوله نبادله، أي نبادل به لهذا الشأن، وهو أن يحافظ على حسبه محافظة الكرام، أو يدافع الكرائه والشدائد لدى الجدل والخصام، في وقت من الزمان يعز من العشير من يكفيه الهضمية، وترى الناهض بالأثقال لتضاعف المؤن والبلايا يعيا بما يحمله فيعده داء عضالاً. وأصل العضل: المنع والتضييق. ويقال عضلت المرأة وعضلتها، إذا منعتها من التزويج. وعضلت، إذا عسر ولادها.
وذي تدرا مالليث في أصل غابة ... بأشجع منه عند قرن ينازله
قبضت عليه الكف حتى تقيده ... وحتى يفي للحق أخضع كاهله
قوله (وذي تدرا) الواو عاطفة، وانجر ذي بإضمار رب. وتدرأ: تفعل من الدرء، وهو الدفع بشدة. فيقول: رب رجل هكذا ما الأسد في خدره بأقوى قلباً منه نظير له في بأسه وشدته ينازله. فقوله (ما الليث) إلى آخر البيت، من صفة ذي تدرا. والغابة: الأجمة. وإنما قال (في أصل غابة) إشارة إلى دخوله وتمكنه من غايتها. والمنازلة إنما تكون عند تضايق المجال وتداني أطراف موضع الالتقاء، عن الإقدام والإحجام.
وقوله (قبضت عليه الكف) يقول جمعت عليه قبضتك فمنعته عن الانفصال عند الخروج من إسارك، حت أمكنك من الاقتياد منه، وحتى عاد كاهله خاضعاً للحق راضياً به. والخطاب بجميع هذا للمرثى. وإنما يصفه بحسن الثبات في معاركة الخصوم ومزاولتهم، وأنه باقي الصبر في استيفاء الحقوق عليهم. وقوله (كاهله) يجوز ان يرتفع بقوله يفى ويجوز أن يرتفع أخضع فيكون خبراً مقدماً وكاهله يكون مبتدأ. والأخضع: الذي في عنقه انخفاض وتطاطؤ.
فتى كان يستحي ويعلم أنه ... سيلحق بالموتى ويذكر نائله
راجع الإخبار عنه ثانياً فيقول: هو فتى كان الحياء يملكه فلا يتعاطى ما يقبح ي الأحدوثة، ولا يسمع منكراً إلا ألغاه، ولا رأى مستشنعاً إلا رفضه وأقصاه، ليطيب(1/728)
مسمع ما يروى عنه، ومنظره فيما يشاهد منه. وقوله (ويعلم أنه سيلحق بالموتى) يقول: تيقن أن الخلود لا مطمع فيه، فإن الذي له من المال ما يقدمه لمثوبة، وادخاراً لأكرومة، إذا تحدث عنه بها كان ذكره حياً وإن الشخص فينا مغيباً.
وقال الضبي
أأبى لا تبعد وليس بخالد ... حي ومن تصب المنون بعيد
أأبى إن تصبح رهين قرارة ... زلج الجوانب قعرها ملحود
فلرب مكروب كررت وراءه ... فمنعته وبنو أبيه شهود
أنفاً ومحمية وأنك ذائد ... إذ لا يكاد أخو الحفاظ يذود
ولرب ءان قد فككت وسائل ... أعطيته فغدا وأنت حميد
يثنى عليك وأنت أهل ثنائه ... ولديك إما يستردك مزيد
البيت الأول يشتمل على أنواع ثلاثة من الكلام: فقوله (لا تبعد) ما يندب به الموتى على إظهار الفاقة إلى حياته، وقد مر القول فيه. وقوله (وليس بخالد حي) تسل وإيمان بمحتوم القدر، وأن ذلك يوجب على المصاب الصبر والائتساء بفرق الخلق. وقوله (ومن تصب المنون بعيد) تبرو من الجري على عادة الناس في المصائب واعتراف بأن الموت يبعد الالتقاء بين الأحياء والأموات، فلا تزاور ولا تراسل، ولا تخاطب ولا تكاتب. فكل هذا تحشر وتوجع.
وقوله (أأبى إن تصبح رهين قرارة) جواب الشرط أول البيت الذي يليه، وهو قوله (فلرب مكروب) . والمعنى: إن خليت مكانك من الدنيا وصرت مرهوناً في قرارة قبر زلق الجوانب، صريعه لا ينعش، ورهينه لا يفك، وأسيره لا يتخلص بمن ولا فداء، ولزيمه لا يتملس لوقت وعداد، فلربما فعلت كذا وكذا. وقوله (قعرها ملحود) ، تصوير للقبر بلحده.
وقوله (فلرب مكروب كررت وراءه) يريد: رب مضيق عليه أسلمه بنو أبيه لما امتحن به حتى تمكن العدو منه، أنت تعطفت عليه، وصرفت عنايتك إليه، فخففت(1/729)
ثقله، وألقيت عنه وزره، ودفعت من فورته دونه، ومواليه من بني الأعمام وغيرهم حضور لا يرعون له إلا، ولا يحفظون له عهداً.
وقوله (أنفاً ومحمية) انتصب على أنه مفعول له، وما بعده معطوف عليه وفي معناه، كأنه ذكر العلة الموجبة لما أتاه فقال: فعلت ذلك حمية وأنفة، وأن عادتك المدافعة عن كل من يتعلق بحبلك، أو يتمسك بعروة من عرى عنايتك، غريباً كان أو نسيباً؛ وهذا تفعله في وقت يزهد الناس في الإحسان، لشدة الزمان، ويرى المحافظ ممسكاً والمراعي مهملا.
وقوله (ولرب عان قد فككت) فالعانى: الأسير، وأصله من عنا يعنو، إذا خضع. على ذلك قوله تعالى: (وعدت الوجوه للحي القيوم) . فيقول: رب مأسور أخرجته من ضيق الإسار إلى سعة الأمان، فأطلقت كبله، ونزعت غله؛ ورب سائل اجتداك فأغنيته، وعن التجوال أقعدته، فانصرف عنك وهو يثني عليك ويتشكر نعمتك؛ وقد استحققت عليه ذلك بما أسديته إليه، ولو عاد إليك لوجد معاداً لا ضجر منك يلحقه، ولاسآمة فيك تمحقه، وإن استزاد زدته، لا يمنع من موجود، ولا يحال على مفقود.
وقال عكرشة أبو الشغب
يرثي ابنه شغبا:
قد كان شغب لو أن الله عمره ... عزاً تزاد به في عزها مضر
فارقت شغباً وقد قوست من كبر ... لبئست الخلتان: الشكل والكبر
يعظم شأن ابنه، وذلك أنه كان قد برع في فضله، وورد أبواب الملوك فقبلته العيون والقلوب نباهة وحلاوة، وتوجهاً وتقدماً. فقال: لو أن القضاء أمهل ابني شغباً ولم يعاجله عن استكماله، وعن الاستمتاع بما توحد به من فضائله لكان بقاؤه عزاً مستجداً لقبائل مضر كلها، تضيفه إلى عزها، وتتبجح باستقرارها.
وقوله (فارقت شغبا) عاد إلى ما يخص نفسه من الفجع بموته، والجزع لفراقه، فقال: فارقته والكبر قد صافحني، وحنى ظهري، وانتقص جلدي، وأوهن(1/730)
قواي، ولا أمل في إدراك مثله، ولا استقلال بالنهوض بأعباء أهله. ثم قال متحسراً: بئست الخلتان المجتمعتان لي: ثكل من لا يتعاض منه أبد الدهر، والكبر المقصر للأمل، المقرب ليوم الأجل.
وقال آخر يرثي ابنه
لله در الدافنيك عشية ... أما راعهم في القبر مثواك أمردا
مجاور قوم لا تزاور بينهم ... ومن زارهم في دارهم زار همدا
قوله (لله در الدافنيك) ، فدر، وإن كان في الأصل مصدراً فقد لزم هذا الموضع وجرى الكلمة به لكثرة الاستعمال مجرى: لله خيرك، فلا يعمل في ظرف ولا في حال؛ ولا في شيء مما يعمل فيه أمثاله من المصادر. فيقول على وجه التعجب من الذين تولوا دفنه في عشية يومه: لله درهم، أما أفزعهم مقامك في القبر على استقبال شبابك، ونضارة غصنك وقرب ميلادك، حين لم تجتمع نفسك، ولا توجه وجهك. وفي طريقته قول الآخر:
أيا شجر الخابور مالك مورقاً ... كأنك لم تحزن على ابن طريف
وأبلغ منهما قول الآخر:
أبعد قتيل بالمدينة أظلمت ... به الأرض تهتز العضاه بأشواق
وانتصب (أمرد) على الحال، وأصل التمرد والتملس والانجراد. يقال صخرة مرداء، إذا لم ينبت عليها شي.
وقوله (مجاور قوم لا تزاور بينهم) هذا حال الأموات فيما بينهم، يتجاورون ولا يتزاورون، ومن زارهم من الأحياء منا انصرف عنهم بالخيبة، والزيادة في الغمة والحسرة. والهمد: جمع هامد، وهو الميت؛ وأصله من همود النار. ويقال للثوب إذا بلى: قد همد.(1/731)
وقال لبيد
لعمري لئن كان المخبر صادقاً ... لقدرزئت في حادث جعفر
أخاً لي أما كل شيء سألته ... فيعطى وأما كل ذنب فيغفر
يرثي بهذا أربد أخاه. وقوله (إن كان المخبر صادقاً) فهو قد علم صدق الحديث، لكنه لاستعظامه للنبأ، وفخامة أمر المتوفى في النفوس وعنده، يرجع على المخبر بالتكذيب، ويدخل الشك على المشهود والمسموع، كما قال الآخر:
يقولون حصن ثم تأبى نفوسهم
واللام من (لعمري) لام الابتداء، ومن قوله (لئن) هي الموطئة للقسم، ومن قوله (لقد) هي جواب القسم.
والمعنى: وبقائي لئن ورد هذا الخبر من صادق بريء من الحسد والتزيد مؤد لما تحققه سماعاً أو عياناً. لقد أصيبت قبيلة جعفر بن كلاب فيما حدث من ريب الدهر بمرزئة عظيمة فظيعة.
وقوله (أخاً لي) انتصب عن (رزئت جعفر) ، أي رزئت شقيقاً لي هذا صفته، وهو أن سماحته وتكرمه كانا يبعثانه عل بذل كل حسنة تقترح عليه، وأن سلاسته وسهولته تدعوانه إلى التجافي عن كل سيئة تبدر إليه.
وقالت زينب بنت الطثرية ترثي أخاها
أرى الأثل من بطن العقيق مجاوري ... مقيماً وقد غالت يزيد غوائله
الأئل: شجر. وإنما قالت ما قالت منكرة ومستوحشة، إذ كان الحكم عندها أن تتغير الأمور عن مقارها لموت أخيها، فتتحول الأحوال وتتبدل الأبدال، وتتخشع(1/732)
الجبال، وتقتلع الأشجار؛ فلما جرى الأمر بخلافه أخبرت متوجعة ومتحسرة، فقالت: إن بطن العقيق ومنابت أثله بما تحويه أرى مقيماً في جواري على ماكان عليه، وأخي يزيد قد دعاه محتوم القضاء فذهب به غوائله. ويقال غالته الغوائل، أي أهلكته المهلكات، وهذا كما يقال: علقت به العلوق. وانتصب (مقيماً) على أنه مفعول ثان لأرى، ومجاورى في موضع الجر على أنه صفة لبطن العقيق.
فتى قد قد السيف لا متضائل ... ولا رهل لباته وأباجله
وصفه بأنه في خلقةالسيف تجريداً واقتضاباً، وعلى خلقه مضاء ونفاذاً. وقوله (لا متضائل) يريد أنه شهم حي النفس والقلب، جريء المقدم، لا يتخاشع لشيء ولا يتماوت على حدث. والضؤولة، أصله الدقة. والرهل: المسترخي. يصفه بقلة اللحم على الصدر والساق. والأباجل: جمع أنجل، وهو عرق. وذكر الأباجل وهو يريد مواضعها. وجمعه كما يقال وهو ضخم الثعانين، كأنه أراد ما حوله.
اذا نزل الأضياف كان عذوراً ... على الحى حتى تستقل مراجله
العذور: السئ الخلق، القليل الصبر فيما يطلبه ويهم به. واذا ظرف " لقوله (كان عذوراً) . وصفه بأنه يجمع الحى لأمره فيطاع، لسيادته وجلالة محله، وأنه اذا نزل به الأضياف قام بنفسه في اقامة القرى لهم، غير معتمد على أحد فيه، وأنه يعرض له وفي خلقه عجلة يركبها، وتشدد في الأمر والنهي على جماعة الحي به يصرفها، حتى تنصب المراجل، وتهيأ المطاعم؛ فاذا ارتفع ذاك على مراده عاد الى خلقه الأول. والمراجل: جمع مرجل، وهي القدر العظيمة النحاسية، واستقلالها: انتصابها على الأثافى. وحتى تستقل، أراد لتستقل وكى تستقل. أي كان عذوراً لذلك الشأن.
مضى وورثناه دريس مفاضة ... وأبيض هنديا طويلا حمائله
يقول: أجاب داعيه فمضى لوجهه، وورثناه دريس مفاضة. فانتصب دريس على أنه مفعول ثان. ويقال: ورثته كذا وورثت منه كذا. فعلى هذه اللغة كان أصله ورثنا منه، فحذف الجار، ووصل الفعل فعمل. والدريس: الخلق من الدرع وغيره، لأنه كأنه فعيل بمعنى مفعول. والجمع الدرسان. والمفاضة: الدرع الواسعة. وأبيض، أي(1/733)
وسيفاً أبيض. وجعله طويل الحمائل لطول قوامه. والمعنى أنه أنفق ماله في ماادخر له أجراً، ونشر له حمداً وشكراً، فلم يكن ارثه الا ما ذكر من السلاح.
وقد كان يروى المشرفى بكفه ... ويبلغ أقصى حجرة الحي نائله
وصفه بأنه كان غزاء شديد النكاية في الأعداء، فكان يعطى السيف حقه اذا أعمله، ويرويه من دماء مشاقيه ومنابذيه اذا جرده، ويبلغ أبعد ناحية الحى عطاياه. وانما قالت (يروى المشرفى بكفه) لأنها تريد أن نهضته في ذلك بنفسه خاصة من غير اعتماد على حميم او غريب؛ لأنه كان لايجر الجرائر على ذويه ثم يتركهم لها، ولكن كل ما أتاه أو تجشمه فبنفسه لابغيره.
كريم اذا لاقيته متبسماً ... واما تولى أشعث الرأس جافله
قولها " كريم " ارتفع على أنه خبر مبتدأ محذوف. أرادت: هو كريم اذا لاقيته متبسماً. فانتصب " متبسماً " على الحال. وجواب اذا يدل عليه كريم. فتقول اذا لقيته راضياً ساكناً متبسما لاقيت منه طلعة الكرام وأفعالهم، وان أعرض عنك وولى وجدته أغبر الرأس كثير الشعر، لايهمه أمر نفسه في اللباس والطعام، وانما به الغزو والسعي في اصلاح أمر العشيرة، وما يكسبه الجمال والشرف. وقولها " أشعث الرأس " أي اغبرشعره وتلبد. والفعل منه شعث شعثاًوشعوثة، وهوأشعث وشعث. وقولها " جافله " من قولهم: أخذت جفلةمن الصوف، أى جزة منه. وفي كلام لهم عن الضائنة: " أجز جفالاً ". ويقال: جافل، ومجفل.
اذا القوم أموا بيته فهو عامد ... لأحسن ما ظنوا به فهو فاعله
يجوز أن يريد بالقوم رجال الحى خاصة، ويجوز أن يريد به طوائف الرجال، ويكون المراد به الكثرة. وانما وصفته بأنه مدبر العشيرة عندما يدهمهم، والمشير عليهم فيما يحز بهم، فاذا قصدوا حضرته قائلين ما نأتمر وكيف نصنع؟ أرشدهم وهداهم، وتحمل عنهم ما يثقل عليهم. ثم بعد ذلك تعمد الى أحسن ظنونهم به(1/734)
فيأتيه معهم لامتبرماً ولا متكرهاً، بل باسطاً من آمالهم، وجامعاً الحسن في كل باب لهم.
ترى جازريه يرعدان وناره ... عليها عداميل الهشيم وصامله
يجران ثنياً خيرها عظم جارة ... بصيراً بها لم تعد عنها مشاغله
جعلت له جازرين على عادتهم في جعلهم اصحاب المهن فيهم اثنين اثنين، كالبائن والمستعلى في الحلب، والماتح والقابل في الاستغناء. وجعلهما يرعدان لشدة البرد، وانما تعنى وقت الجدب وعند امحال الناس. والعداميل: العتيق من الخشب الغليظ، واحدها عدمول على القياس وعدملى. والصامل: اليابس. والمعنى: اذا اشتد الزمان وشمل القحط واشتد البرد، كان له جازران ينحران، وناره عظيمة وقودها من الحطب الغلاظ العتق؛ وترى العفاة والمضرورين بالفناء نازلين، وذوى الحاجة من جوانب الحى يعترون، وهو يقتسم فيها ما يرضيهم. وقولها " يجران ثنياً " يعنى الجازرين. والثنى: التي ولدت بطنين، وهي مما يضن بها. وقولها " خيرها " تريد: خير أبدائها ومفاصلها البدء الذي يجعل لجارة له قد عرفها، فهو بصير بها وبحالها، وليست تعني جارةً بعينها، انما المراد الكثرة، فالجارات علىذلك لاتتخطاها أشغاله المزدحمة، ولايغض العناية بها الأسباب المتراكمة، بل قد وصى بها وبأمثالها فيتفقدن بأوفر الانصباء عند قسمة الجزور. وقالت " بصيراً بها " والفعل للمرثى، فجرى على غيره من هوله، لأنه تبع الجارة، واذا كان كذلك فالواجب كان عليها أن تظهر ضميره فتقول بصيراً بها هو، لأن اسم الفاعل والصفة المشبهة اذا جرى واحد منهما على ماقبله صفةً أو صلةً أو حالاً أو خبراً لم يحتمل الضمير كما يحتمله الفعل، لضعفه وانحطاط منزلته. وأكثر أصحابنا على أنه لابد من ذلك، حتى أبا الحسن كان يلحن الكلام اذا لم يجر على هذ السنن. والكوفيون وبعض أصحابنا يجوزون ترك اظهاره. وهذه الشاعرة دعتها الضرورة الى وضع المتصل موضع المنفصل، فتركت التغيير. وقولها " لم تعد عنها " أي لم تصرف. يقال:
عدت بيننا عواد، اى صرفت صوارف(1/735)
وقال ابو حكيم المرى
وكنت أرجى من حكيم قيامه ... على اذا ما النعش زال ارتدانيا
فقدم قبلى نعشه فارتديته ... فياويح نفسي من رداء علانيا
النعش: شبيه بالمحفة، كان يحمل عليه الملك اذا مرض؛ ثم كثر حتى سمى النعش الذي فيه الميت نعشاً. يقول: كنت أؤمل في حكيم ابنى أن يمهل وينفس من عمره، فيقوم على اذا مت، ويرتدى نعشى اذا حملت، ثم بعد ذلك يقضى فيما أخلفه عليه، وأعتمد على كفايته وخلافته، فخاب ٍأملي وكذبني ظني، وقدم قبلى فارتديت أنا نعشه، فوابلاء نفسي من رداء علاني بنعشه. وقوله " ارتدانيا " تفسير لقيامه عليه وقد وضع الماضي موقع المستقبل؛ أي يرتديني في ذلك الوقت. ولو ساق الكلام على تلاؤم لقال: قيامه على وارتداءه اياي اذا ما النعش زال ارتدانيا، أي يرتديني، فيكون اذا ما النعش زال ظرفاً، وارتداني مفعول أرجى. أي أرجوه يرتديني اذا ما النعش زال.
وقال منقذ الهلالي
الدهر لاءم بين ألفتنا ... وكذاك فرق بيننا الدهر
وكذاك يفعل في تصرفه ... والدهر ليس يناله وتر
نسب ما اتفق عليه وعلى محبيه الى الدهر، فقال: الدهر جمع بيننا وسوى ألفتنا، فلما أراد كل منا أن يفرح بصاحبه كما يهواه، ويتمتع به ويتملاه، فرق بيننا وشتت شملنا، فعاد ما كنا نأمله من التملي والاستمتاع تبايناً وتوجعاً. ومعنىوكذاك فرق بيننا: ومثل ذك. وأشار الى مادل عليه لاءم من التأليف. يريد: وكتأليفه فرق أيضاً. وكرر لفظ الدهر تفخيماً. وموضع كذاك نصب على الحال من فرق بيننا. وقوله " وكذاك يفعل في تصرفه " يريد أن الدهر في مصارفه فعال لمثل ما فعل بنا، يهب ويرتجع، ويؤلف ويفرق، ولايترك شيئاً على حاله الا ريث ما(1/736)
يسلط عليه التغيير. وقوله:
والدهر ليس يناله وتر
يريد أنه يتر غيره فلا يوتر، وينكى فلا يجازى، فليس معه الا الاستسلام لحكمه، والرضا بمحتومه. وهذا الذي جعله للدهر، الفاعل له القادر على كل شيء، تعالى عن الأشباه.
كنت الضنين بمن أصبت به ... فسلوت حين تقادم الأمر
ولخير حظك في المصيبة أن ... يلقاك عند نزولها الصبر
قوله " كنت الضنين " تشك من الفراق الواقع بينه وبين من يرثيه، واظهار لضنه كان به، وتنافسه فيه. فيقول: كنت لاأصبر عنه، وأعد الأوقات التي لاأراه فيهاكثلمة في العيش، ونقيصة من زاكي الحظ، اذ كنت لاأرى طيب العيش الا معه، ولا أعرف طعم الحياة الا في صحبته فلما افترقنا وتقادم العهد بيننا سلوت عنه، حتى كأنني لم يجمعني واياه حال. وهذا الكلام منه استقصار لجزعه، واعتراف بأنه لم يفعل كنه الواجب عليه عند الرزيئة. وقوله: " ولخير حظك " يريد: خير انصبائك فيما تصاب به وتعنوله، أن يتلقاك الصبر عند الصدمة الأولى لتصون به دينك ونفسك وعقلك؛ لأن المرجع اليه، فألايتسلى الانسان تسلي البهائم أحسن وفي هذه الطريقة قول الخريمي:
واني وان أظهرت صبراً وحسبةً ... وصانعت أعدائي عليك لموجع
ولو وشيت أن أبكي دماً لبكيته ... عليك ولكن ساحة الصبر أوسع
وقالت ابنة ضرار الضبية
ترثي أخاها قبيصة بن ضرار:
لا تبعدن وكل شيء ذاهب ... زين المجالس والندى قبيصا
(لا تبعدن) لفظة قد مر القول فيها فيما تقدم. وقوله (وكل شيء ذاهب) تسل. كأنها قالت متوجعة: لا تبعد، ثم عقبته بالتسلى فقالت: وكل حي منا ميت، وكل أمر فينا متغير يا زين المجالس والندى يا قبيصة. وقولها (وكل شيء ذاهب) اعتراض(1/737)
بين المنادى وبين الدعاء له. والجمل المعترضة بين أنواع الكلم تفيد فيها التأكيد وتحقيق معانيها. وقولها (زين المجالس والندى) ، إنما ذكرتهما وهما واحد لأنها أرادت بالمجالس مجالسة خاصة إذا قصد لإنزال الحاجات به، واستخراج المطالب منه، وأرادت بالندى نادي الحي. وانتصب قبيصة على أنه عطف البيان ليا زين. ويجوز أن يكون على تكرير النداء وقد رخمه، فكأنه قال: يا زين المجالس يا قبيصة.
يطوى إذا ما الشح أبهم قفله ... بطناً من الزاد الخبيث خميصاً
يصفه بقلة الشره، وأنه لا يرغب من أعراض الدنيا إلا فيما يزين ولا يشين، ويستطاب ولا يستخبث. وقوله (إذا ما الشح أبهم قفله) ، يريد إذا اشتد الزمان فصار كل مالك لشيء يبخل به حتى لا يمكن انتزاعه منه. وإذا رويت (أبهم قفله) على ما لم يسم فاعله، فالمعنى أحكم أمره وجعل كالفرض الذي لا يحتمل التجوز، وإذا رويت (أبهم قفله) جعل الفعل للشح، كأن له قفلاً يبهمه. وإبهامه: أن يجعله على وجه لا يدري كيف يفتح. فيقول: هذا الرجل يطوي بطناً له صغيراً مضطمراً من الزاد السيء، إذا تملك البخل الناس لشدة الزمان، فجعلهم كذلك.
وقال عكرشة الضبي يرثي بنيه
سقى الله أجداثاً ورائي تركتها ... بحاضر قنسرين من سبل القطر
مضوا لا يريدون الرواح وغالهم ... من الدهر أسباب جرين على قدر
الأجداث: القبور، وكذلك الأجداف بالفاء. ويعني بالأجداث قبور بنيه. ودعا لها بالسقيا وجعل موضعها بحاضر قنسرين، إجلالاً لها وتنبهاً عليها. وقوله (من سبل القطر) مفعول ثان لسقى الله. والمعنى سقى الله هذه القبور التي وصفتها من ماء السحاب ما سال على عجلة وبشدة. وخص ذلك لأنها أعذب المياه عندهم. والقصد في طلب السقيا لها أن تبقى عهودها غضة محمية من الدروس، طرية لا يتسلط عليها ما يزيل حدتها ونضارتها. ألا ترى أنه لما أراد ضد ذلك قال:
فلا سقاهن إلا النار تضطرم(1/738)
وقوله (مضوا لا يريدون الرواح) يريد: ساروا لا يعرجون على شيء، فلا يريدون لبثاً ولا مقاماً، بل استعجلوا فتعجلوا، وأهلكهم من أحداث الدهر أسباب جاءت على قدر، فكأنهم كما دعوا أجابوا، وكما تهيئوا أخذوا، لا تلوم ولا اختلاف، ولا قصور ولا امتناع.
ولو يستطيعون الرواح تروحوا ... معي وغدوا في المصبحين على ظهر
يقول: ولو قدروا فيما هموا به من سيرهم على النزول رواحاً لتروحوا معي، ولغدوا في صباح اليوم الثاني على ظهر الأرض ولم يصيروا مع الأموات في بطنها مأخوذين عن حظوظهم، لكنهم استمروا في المفارقة فعل من لايملك إلا ذاك، ولا اختيار له فيما يركبه.
وهذا الكلام منه توجع وتحسر، حين أتوا من حيث لم يشعروا، وطولبوا بما لا رجعة فيه ولا استبقاء وإن استنظروا.
لعمري لقدوارت وضمت قبورهم ... أكفا شداد القبض بالأسل السمر
يذكر نيهم كل خير رأيته ... وشر فما أنفك منهم على ذكر
يقول: وبقائي، لقد اشتملت قبورهم على فرسان شجعان يملكون بالطعن أكفا شداد القبض على الرماح. وإنما قال (وارت وضمت) لأن الموارى هو الساتر، وساتر الشيء يكون ضامناً وغير ضامن. وإنما أراد أن يجعل القبور موارية وضامنة، فلذلك جمع بين اللفظين. ثم عقب هذا بأن قال: يذكرنهم الأمور التي أنتهى إليها على اختلافها، فإنها لا تخلو من أن تكون نافعة أو ضارة؛ فإن كانت نافعة كانت خيراً، وكانت عمله ديمة مع من يتسبب إليه بحرمة، أو يدل بآصرة. وإن كانت ضارة كانت شراً، وهو الذي يشقى به من يشاقه ويعانده، حتى لا يخليه منه أمن من ترقبه ساعة، فلا أزال ذاكراً له بما أعتبره من أمور الدنيا وأحوالها، وأنتهى إليه فأتأمله من مسبباته في طوائف الناس بعده. ويقال: ما انفك يفعل كذا، بمعنى مازال. والذكر، بضم الذال، يكون بالقلب؛ والذكر بكسر الذال، يكون باللسان.(1/739)
وقال رجل من بني أسد
يرثي أخاه وكان مرض في غربة، فسأل الخروج به هرباً من موضعه، فمات في الطريق:
أبعدت من يومك الفرارفما ... جاوزت حيث انتهى بك القدر
لو كان ينجى من الردى حذر ... نجاك مما أصابك الحذر
يروى: (أبعطت) ، والإبعاط والإبعاد متقاربان. فالإبعاط: الإسراع في السير. ويقال: أبعطت من الأمر، إذا أبيته وهربت منه. ويروى: (أسرعت من يومك الفرار) والأول أشهر وأجود، لأن من يتعلق فيها بأبعدت. والمعنى: فررت من أجلك فراراً بعيداً. ومعنى (من يومك) من آخر أمدك. وإذا رويت (أسرعت) احتجت إلى إضمار فعل يتعلق به من، ولا يجوز تعلقه بأسرعت، ولا بالفرار لأنه يكون من صلته وقد قدم عليه. وقوله (فما جاوزت حيث انتهى بك القدر) يريد أن الحذر لا يغني من القدر، وأنك وإن تحزمت في تغيير الأماكن تباعداً من المحذور، وتنقلت في المنازل هرباً من القدر المحتوم، فما وجدت فيه واقية لنفسك، ولا جاوزت الوقت المرصد لحينك. وجعل قوله (حيث انتهى) اسماً، فهو في موضع المفعول لجاوزت. ومثله في القرآن: (الله أعلم حيث يجعل رسالاته) . ومن محكى كلامهم وفصيحه: (هي أحسن الناس حيث نظر ناظر) يعني وجهها.
وقوله: (لو كان ينحني) جواب لو قوله (نجاك) . والمعنى: إنك لم تؤت من تضجيع وقع منك، أو إغفال اعترض دون طالبك؛ فلو كان يخلص من الموت توق لوقاك ما أخذت به نفسك من الحذر الشديد، والهرب البعيد؛ ولكن هو الموت الذي لا منجى منه ولا تهرب عنه. وكل هذا النوع توجع وتحسر، واعتراف بالقصور والعجز لدى مبرم القضية.
يرحمك الله من أخي ثقة ... لم يك في صفو وده كدر
فهكذا يذهب الزمان ويف ... نى العلم فيه ويدرس الأثر(1/740)
قوله (يرحمك الله) استسلام. والرحمة من الله: الإحسان والعفو. ومعنى (من أخي ثقة) دخل من للتنبين، أي من أخ يوثق بوده، ويؤمن غله ووبال حسده، وإذا صافى الوداد وافق باطنه ظاهره، ولم يك ذا وجهين يعطيك حضرته خلاف ما يعطيك غيبته.
وقوله (فهكذا يذهب الزمان) يريد أن ما رآه وأصابه ليس بمستبدع من حدثان الدهر ونوائبه، بل استمراره قديماً وحديثاُ على وجه واحد ينقرض أهله كما أتاه، ويفنى فيه كل معلوم حواه، ويدرس كل أثر اقتناه ووعاه. وهذا الكلام إظهار اليأس من المفقود، وتضعيف الطمع في بقاء الموجود.
؟؟؟؟؟؟؟؟؟؟؟؟؟؟؟؟؟؟؟؟؟؟؟؟؟؟؟؟؟؟؟؟؟؟؟؟؟؟؟؟؟؟؟؟؟؟؟؟؟؟؟؟؟؟؟
وقالت أم قيس الضبية
من للخصوم إذا جد الضجاج بهم ... بعد ابن سعد ومن للضمر القود
قوله (إذا جد الضجاج بهم) أي صار ضجاجهم جداً. ويقال: ضج يضج ضجيجاً، والإسم الضجاج، قال العجاج يصف حرباً:
وأغشت الناس الضجاج الأضججا ... وصاح خاشى شرها وهجهجا
وقوله (من للخصوم) لفظه استفهام، والمعنى التوجع والاستفظاع. فيقول: من يفصل بين الخصوم إذا اشتد بهم النزاع، وطال الجدال والدفاع، فاحتيج إلى من يرد الجامح، ويلين الكامح، حت إذا رجع كل منهم إلى ما يقرب مسمعه، ولا يبعد عن الفحص مستنزعة، أنفذ قضيته فقطعها، لا يلفتهم عن القبول مراجعة، ولا تخلجهم عن الإلتزام مماتنة ومدافعة بعد ابن سعد. ومن للضمر القود بعدة، أي من أصحاب الخيل المضمرة، وتريد: من يدفعهم عن اشتطاطهم إذا جاءوا واترين أو موتورين. ويجوز أن تريد أنه كان غزا بها فمن لها بعده. والضمرة جمع ضامر. والقود: الطوال العناق.
ومشهد قد كفيت الغائبين به ... في مجمع من نواصى الناس مشهود
فرجته بلسان غير ملتبس ... عند الحفاظ وقلب غير مزءود(1/741)
يقول: ورب مشهد عظيم الشأن يسأل عن حال حاضريه، ويستمع إلى ما ينشر عنه من حجاج منافريه، تكلمت فيه عن نفسك ونبت عن الغائبين من معتلقي حبلك، واليوم يوم مشهود، ورؤساء الناس وأماثلهم فيه شهود؛ ثم كشفت الغمة، وأثبت الحجة بكلام فصيح لا يلتبس، وجدال راجح لا يخيل ولا يغتمص، وقلب ثابت لا يرتدع إذا استنهض، ولا ينتكس إذا استقدم. وقوله (نواصى الناس) أي أشراقهم والمقدمين منهم. وهذا كما وصفوا بالذوائب، يقال: فلان ذؤابة قومه، وناصية عشيرته. وقوله (بلسان غير ملتبس) يريد بكلام. وفي القرآن: (وما أرسلنا من رسول إلا بلسان قومه) ، وتسمى الرسالة لساناً. وقال:
إني أتتنى لسان لا أسربها
وقوله (غير مزءود) فالزؤد: الذعر، والفعل منه زند فهو مزءود. وقوله (عند الحفاظ) أي فعلت ذلك كله عند المحافظة على الشرف، والإحتماء من عار الهضمية والعنت.
إذا قناة امرىء أزرى بها خور ... هز ابن سعد قناة صلبة العود
ذكرالقناة مثل للإباء والامتناع، وأن المكره لا يخرج منهم الخضوع والانقياد. ألا ترى قول سحم بن وئيل:
وإن قناتنا مشظ شظاها ... شديد مدها عنق القرين
ويقال: مشظت يده تمشظ مشظاً. والشظية والشظا من العصا كالليطة منها، تدخل ي اليد فتمشظ منها. ومثل هذا قول عمرو بن كلثوم:
عشورنة إذا غمزت أرنت ... تشج قفا المثقف والجبينا
وقال أيضاً:
وإن قناتنا ياعمرو أعيت ... على الأعداء قبلك أن تلينا(1/742)
وزاد الآخر عليهم فقال:
ولنا قناة من رديئة صدة ... زوراء حاملها كذلك أزور
وقال الجعدي
ألم تعلمي أني رزئت محارباً ... فما لك منه اليوم شيء ولا ليا
ومن قبله ما قد رزئت بوحوح ... وكان ابن أمي والخليل المصافيا
يخاطب صاحبته أم محارب، ومحارب ابنه. وقوله (ألم تعلمي) ظاهره تقرير، وإنما هو تحسر وتوجع. لذلك قال: (فما لك منه اليوم شيء ولا ليا) أي قد فجعنا به فأصبحنا خلوا من الاستمتاع بحياته، والانتفاع بمكانه، ثم ذكرأنه قد فجع قبله بأخيه أيضاً وكان نسيباً قريباً وصديقاً مصافياً حبيباً.
فتى كملت خيراته غير أنه ... جواد فما يبقي من المال باقيا
فتىتم فيه ما يسر صديقه ... على أن فيه ما يسوء الأعاديا
قوله " فتى كملت خيراته " يجوز أن يكون في موضع رفع على أنه خبر مبتدأ محذوف، كأنه قال: هو فتى. وقوله " غير أنه جواد " استثناء منقطع، وقد تقدم الكلام في مثله، وأن من كان عيبه والمستثنى من خصاله المحمودة ما يذكر بعد غير فناهيك به رجلاً كاملا. وقوله " فتى تم فيه ما يسر صديقه " مثله، وقد تقدم في مواضع وشرحناه.
وقال رجل من بني هلال يرثي ابن عم له
أبعد الذي بالنعف من آل ماعز ... يرجى بمران القرى ابن سبيل
لقد كان للسارين أى ممرس ... وقد كان للغادين أي مقيل
بني المحصنات الغر من آل مالك ... يربين أولاداً لخير خليل
يقول على وجه الانكار: أيرحى ابن السبيل القرى بمران بعد المدفون بالنعف من آل ماعز. أي لايكون ذلك، لأن من كان يشمل خيره ويرتجى النزول مكرماً(1/743)
ضيفه قد مات. والنعف: ما ناعفك من الجبل، أي استقبلك، وقيل: هو ماانحدر عن السفح وغلظ، فكان فيه صعود وهبوط. ذكره الدريدي، قال: وجمعه نعاف. وقوله " لقد كان للسارين " جواب قسم محذوف. والتعريس: النزول عند الصبح. والمقيل: موضع القيلولة، فيقول: من أسرى ليلة ثم طلب من ينزل به، كان هذا الرجل معرساً له كريماً، وأي معرس. وهذا الكلام فيه تعجب وتفخيم. وكذلك من ارتحل غدواً ثم أراد الرواح كان فناؤه له مقيلاً طيباً وأي مقيل. وقوله " بني المحصنات " جمع الى ذكره ذكر اخوته، فقال: اذكر قوماًكرام الأطراف، أمهات من الحصانة والطهارة في أعلى محل، وأبعد رتبة، ويرببنأولاداً لبعول لايوازى بهم، علو منصب، وزكاء منسب وتقدماً في الشرف والافضال. وبراعةً في جميع الأحوال.
وقال كبد الحصاة العجلى
ألا هلك المكسر يال بكر ... فأودى الباع والحسب التليد
ألا هلك المكسر فاستراحت ... حوافي الخيل والحي الحريد
افتتح كلامه بألا، ثم أخذ يعظم الخطب ويفظع الشأن، فقال: مات هذا الرجل فمات بموته الكرم العميم، الشرف الصميم. وقوله " يال بكر " استغاثة مما دهاه. وقد مر القول في هذه الام والفصل بينها وبين لام التعجب من قولك يا لبكر. ومعنى أودى: هلك. والباع ها هنا الكرم. ويقال: باع الرجل يبوع بوعاً، اذا مد باعه، وتبوع. وكذلك تبوع البعير، اذا مد ضبعه. والحسب: الشرف، وأصله من الحساب، لأن الحسيب يعد لنفسه مآثر فتلك المآثر حسب. كما يقال نفضت نفضاً، ثم يسمى المنفوض نفضاً. والتليد والتالد: ضد الطريف والطارف. والتلاد: ما ولد عندك من مالك. قالوا: وأصل هذه التاء الواو.(1/744)
وقوله (ألا هلك المكسر) كرره لتفظيع الأمر. ومعنى (استراحت حوافي الخيل) وصفه بأنه يبعد الغزو فلا يبقى على الخيل وان حفيت، فلما مضى نالت الراحة وتودعت. وقال (حوافي الخيل) على أن يصفها بما كان آل أمرها اليه بعد الغزو. وكذلك قوله (الحي الحري) هو المنفرد والمتباعد عن غيره. كأنه لايسلم عليه وان حذر وتباعد. ويقال: كوكب حريد، اذا طلع في أفق السماء متنحياً عن الكواكب. ورجل حريد المحل، اذا لم يخالط الناس ولم ينزل معهم. وقال:
أما بكل كوكب حريد
وقال آخر:
حريد المحل غويا غيورا
وقال ابن أهبان الفقعسي
يرثي أخاه:
على مثل همام تشق جيوبها ... وتعلن بالنوح النساء الفواقد
فتى الحي أن تلقاه في الحي أة يرى ... سوى الحي أو ضم الرجال المشاهد
يقول: عظم الرزءبموت همام فلا مخبأ للجزع ولا مصطبر، ولا اسرارللالتياع ولامدخر. وأنى يكون للسامع به معدل الى التجمل والتجلد، وقد فقد به من يستباح في ندبته كل محظور، ويستجاز في الرثاء له كل مذكور، فلا منع من شق الجيوب، وصدع الأكباد والقلوب، واعلان النياحة، وامتداد المآتم في الاعوال الى كل غاية. وقوله (على مثل همام) يذكر المثل والمقصود نفسه لاغير صيانة له ونزاهة. على ذلك قول القائل: مثلك لايحسن به كذا معناه: أنت لايحسن به ذلك؛ ولكن الغرض ما ذكرته، وقوله (بالنوح) يراد به مصدر ناح. وقد يراد به في غير هذا المكان النساء النائحات.
وقوله (فتى الحي أن تلقاه) جعل له الفتوة والرياسة مسلمة له في كل حال، وعلى كل وجه. ألا ترى أنه قال: هو الفتى بين رجال الحي وعند لقائك اياه فيهم.(1/745)
فمعنى أن تلقاه، هو الفتى لأن تلقاه في الحي، ووقت تلقاه في الحي. وقوله (أو يرى سوى الحي) أيفي مكان آخر وفي قوم آخرين. بدلا من الحي. لأنك اذا قلت: عندي رجل سوى زيد، معناه: عندي رجل مكان زيد، وبدلاً من زيد.
وقوله (أو ضم الرجال المشاهد) معناه وهو الفتى اذا حصلت وفود القبائل وألسنتهم ورؤساؤهم في مجامع الملوك الأعاظم، ومشاهد السادة الأكابر. وقوله (أو ضم) محمول على المعنى. يريد: وهو الفتى لأن ضم الرجال. والقسمة بما رتبه قد استوفت الأحوال كلها.
اذا نازع القوم الأحاديث لم يكن ... عييا وعبئاً على من يقاعد
طويل بحاد السيف يصبح بطنه ... خميصاً وجاديه على الزاد حامد
وصفه بالبراعة وتمام الآلة، وأنه سهل الخلق، سهل الجانب، يباسط منازعه في الأحاديث ويطاوله، لاعى يقصر حديثه، ولا كبر ينفر قعيده، فهو طيب المجلس، خفيف الملتزم، واذا تاملت خلقته كان حسن القوام، تام الجسم، طويل حمائل السيف. هذا في الحي ما أقام، وفي السفر تراه يؤثر غيره بالزاد، فبطنه خميص، ومجتديه والمعول عليه حامد له شكور. وأبلغ من قوله (طويل نجاد السيف) قول مسلم:
يطول مع الرمح الرديني قامة ... ويقصر عنه طول كل مجاد
وقال ابن عمار الأسدي يرثي ابنه
ظللت بجسر سابور مقيماً ... يؤرقني أنينك يا معين
وناموا عنك واستيقظت حتى ... دعاك الموت وانقطع الأنين
أصل الظلول العكث في النهار، ولكنه يتوسع فيه فيجعل للأوقات كلها. على ذلك قوله تعالى: (واذا بشر أحدهم بالأنثى ظل وجهه مسوداً) وذلك لايختص بالنهاردون الليل. وهذا الكلام اقتصاص حاله معه في تمريضه، وتوليه منه ما تفرد به، وفيه التشكي مما قاساه وتجرع الغصص عنه، فيقول: بقيت(1/746)
مقيماً بذلك المكان يسهرني تألمك وأنينك، ونام كل من صحبته فاستيقظت أنا متجرداً فيك، ومتحملا ما أمكن تحمله عنك، الى أن أجبت داعيك، واطلقت من أسر الانتظار ناعيك، فانقطع الأنين، وجد منى لفقدك العويل.
وقال أبو وهب العبسي يرثي ابنه
أرابع مهلا بعض هذا وأجملى ... ففي اليأس ناه والعزاء جميل
فان الذي تبكين قد حال دونه ... تراب وزواء المقام دحول
سلك فيما مسلك أوس بن حجر، حين قال:
أيتها النفس أجملى جزعا ... ان الذي تحذرين قد وقعا
والمرأة المخاطبة فيما نظن أم المرثى. (مهلابعض هذا) انتصب بعض باضمار فعل، كأنه قال: رفقاً كفى بعض ما تأتينه، وأحسني العزاء، ففي اليأس ممن قد مضى ناه لك عن الاسراف في الجزع، والافراط في الالتياع والهلع؛ والصبر جميل كيف كان، فإن من تبكينه حجز بينه وبيننا تراب مهيل، ولحد قعير، وحفرة معوجة، وهوة مهولة، فلا طمع في الالتقاء، ولا في الرجوع والانكفاء.
وقوله (وزوراء المقام) أي معوجة الموضع الذي يقام فيه منها. وقوله دحول، يقال بثر دحول، أي ذات تلجف.
نحاه للحد زبرقان وحارث ... وفي الأرض للأقوام قبلك غول
فأي فتى واروه ثمت أقبلت ... أكفهم تحثي معاً وتهيل
اللحد: ما حفر في عرض القبر. ويقال لحدث القبر وألحدته، وقبر ملحود وملحد ولاحد، أي ذو لحد، يقول: ولاه للحد قبره هذان الرجلان، والعادة مستمرة في فناء الأمم السالفة قبلنا؛ لأن الأرض لا تخلو مما يغتال الأحياء ويهلكهم. والغول: الهلكة، ويقال: غالة الموت. وقال الشاعر:
وما ميتة إن متها غير عاجز ... بعار إذا ما غالت النفس غولها(1/747)
والكلام فيه تأس وتعز، بعد أن اقتص دفنه ومن تولى ذلك منه. ثم قال على وجه التعجب: أي فتى غيبوه ودفنوه؟! يعظم أمره ويفخم شأنه. وقوله (ثمت أقبلت) التاء من ثمت علامة التأنيث، وهو تأنيث الخصلة. وكما تتصل هذه العلامة بالاسم نحو امرىء وامرأة، وبالصفة نحو قائم وقائمة، تتصل بالفعل، والاسم والفعل هما موضعها، إلا أنها في الاسم يبدل منها الهاء في الوقف، وينتقل الإعراب عن آخر الاسم إليها. وفي الفعل يسكن إلا أن يلاقيه ساكن آخر، ويكون تاء في الوصل والوقف جميعاً. وفي الحرفيقل دخوله، وإذا دخل حرك بالفتح، نحو ربت وثمت، وتبقى تاء في كل حال.
وقوله (تحثي معاً) انتصب معاً على الحال. والحثى: أن ترفع يدك بالتراب أو غيره فتفرقه في الجو. قال:
الحصن أدنى لو تآبيته ... من حثيك الترب على الراكب
والحاثياء: تراب يجمعه اليربوع، من هذا: والهيل: أن تجرفة من غير أن ترفع اليد به. ويقال: هلت التراب وأهلته. وفي المثل (محسنة فهيلى) ويقال: (جاء بالهيل والهيلمان) أي بالشيء الكثير، ويجوز أن يكون من هذا، لأن المعنى جاء بما اجتمع هيلاً لا كيلاً.
وفي الطريقة التي سلكها من اقتصاص الحال في الدفن والحثي، قد أحسن من قال:
ألم ترني أبني على الليث بيته ... وأحثى عليه الترب لا أتخشع
كأنى أدلى في الحفيرة باسلاً ... عقيراً ينوء للقيام ويصرع
تخال بقايا الروح فيه، لقربه ... بعهد الحياة، وهو ميت مقنع
ألا تراه كيف صور التهيب منه والإعظام له في تلك الحالة.(1/748)
وظلت في الأرض الفضاء كأنما ... تصعد بي أركانها وتجول
وشد إلى الطرف من كان طرفه ... بعهد عبيد الله وهو كليل
يقول: دبر بي لما شاهدت من أمره ما أنكرت، واسودت الأرض في عيني فصارت على سعتها كأنما جمعت جوانبها، فأصعد فيها وهي تجول فلا تهدأ، وتدور فلا تقر.
وقوله (وشد إلى الطرف) أي نظر إلى بشدة وتحديق. وفي الحديث: قيل لأبي محذورة وشد أذانه: (أما خشيت أن تنشق مريطاؤك) . ويقال: شددنا على يد فلان وشددنا يده، أي قويناه، والطرف: تحريك الجفن في النظر. يقول: شخص بصره فما يطرف. وقوله (من كان طرفه) كان هذه هي التامة. والمعنى من وقع طرفه وحدث طرفه وحدث طرفه في زمن عبيد الله وبعهده وهو كليل، يريد: من كان لا يملأ عينه منى في حياته تهيباً صار ينظر إلى شزرا ونظراً شديداً. وإنما قواه تجاسره وما حدث له وفي تقديره، من منة استجدها، وقوة عاودته واستظهر بها. وقوله (وهو كليل) الواو واو الحال.
لئن كان عبد الله خلى مكانه ... على حين شيبي بالشباب بديل
لقد بقيت منى قناة صليبة ... وإن مس جلدي نهكة وذبول
وما حالة إلا ستصرف حالها ... إلى حالة أخرى وسوف تزول
اللام من (لئن) موطئة للقسم المضمر، وجوابه (لقد بقيت) . وخلى مكانه، أي ترك مكانه من العيون والقلوب خالياً. ويجوز أن يريد ترك مكانه من دنياه لمن شاء. على حين شيبي، أي في وقت استبدلت بالشباب شيباً، وبالقوة ضعفاً، لقد بقي مني إباء شديد، ولجاج على من يقصد اهتضامي بليغ؛ فقناتي صلبة على غامزها، ممتنعة على مثقفها، وإن كانت المصيبة نالت مني فنحل جسمي، وذبل جلدي، وحال لوني، وتحول عما كان عليه أمري وشأني. وقد تقدم القول في القناة(1/749)
وطريقتهم في استعارتها وجعلها مثلاً. وقوله (وما حالة إلا ستصرف حالها) يريد: وما خطه إلا ستحول صورتها إلى صورة أخرى ما بقيت وأمهلت، ثم من بعد سوف تزول فلا تبقى، ونحول عن المعهود فتفنى. والمعنى: إن شيئاً من أسباب الدنيا وأعراضها لا يدوم على حد، ولا يستمر على طريق ووجه، لكن يسلط عليه التغير والتبدل، فيزداد عما يكون عليه، أو يتراجع هذا إذا سلم، ومن بعد سوف يكون مغيره مهلكة، ومدبرة مدمرة.
وأنشد أيضاً:
وقاسمني دهري بنى بشطره ... فلما تقضى شطره عاد في شطري
ألا ليت أمي لم تلدني وليتني ... سبقتك إذ كنا إلى غاية نجري
كانت رواية الناس برهة (وقاسمني دهري بني بشطره) مضافاً، (فلما تقضى شطره) بالضاد، وارتفاع الشطر به، فجاء شيخ لنا فرواه:
بشطرة فلما تقصى شطره
وكان يقول: هذه ضالة أنا وجدتها، وهو مما حكاه أبو زيد من قولهم: بنو فلان شطرة، إذا كان ذكورهم بعدد إناثهم. يريد: ناصفني. ومعنى (تقصى شطره) بلغ أقصاه واستوفاه. والذي أختاره أن يروى (بشطره) على الإضافة. ومن الظاهر أن تقصى أحسن من تقضى في اللفظ، وأبلغ في المعنى. ومعنى بشطره كأن الدهر ادعى أنه قسيمة في بنيه وأن له منهم الشطر، وهو النصف، فقاسمه على ذلك، فلما استوفى حظه أقبل بأخذ من نصيبه الذي كان أفر له به، وساهمه عليه، وإنما اخترت بشطره على (شطرة) ، لأن شطرة لم يستعمل في الانصباء والسهم، والشطر في النصف معروف ومستعمل، ومنه شاة شطور، إذا يبس أحد ضرعيها. وكذلك قولهم: حلب الدهر أشطرة، إذا جرب الأمور، وأصله من الحلب، أي حلب شطراً من الخير وشطراً من الشر، حتى تبصر وعرف مواضع النجاة من مواضيع العطب والهلكة.(1/750)
وقوله (ألا ليت أمي لم تلدني) تمنى السلامة بأن كان لا يخلق ولا يخترع فينجو من الابتلاء، وملابسة أنواع البلاء، والتردد بين السعادة والشقاء؛ وتمنى بعد أن أوجد وخلق ألا يكون فاقدة والمعزى فيه، بل كان السابق له والمقدم عليه، سيما وهما جاريان إلى غابة من العطب لا محيص عنها، ولا مفر منها.
وكنت به أكنى فأصبحت كلما ... كنيت به فاضت دموعي على نحري
وقد كنت ذا ناب وظفر على العدى ... فأصبحت لا يخشون نابي ولا ظفري
جرى على افتتنانهم في تحويل الكلام عن الاخبار إلى الخطاب، وصرفه عن العموم إلى تخصيص بعضهم بالذكر. ألا ترى أنه أخبر في قوله (وقاسمني دهري بني) ثم قال (ليتني سبقتك) فرجع إلى خطاب واحد منهم، ثم قال (وكنت به أكني) فأخبر به عن أحد بنيه. والمعنى: كنت اكتنيت به حباً لذكره واسمه، وتفاؤلاً ببقائه وداومه، فبقي الاسم والشخص مفقود، فلا جرم أني متى كنيت به تجدد لي حزن أفاض عبرتي، وأغاض ماء عيشتي.
وقوله (وقد كنت ذا ناب وظفر على العدى) يريد: إني كنت تام السلاح بهم، موفور العدد والعدد بمكانهم، مخشي الجانب، لا يطمع في استنزالي عن حجة أركبها، أو شبهة اتعلق بها. وذكر الناب والظفر مثل ضربه لسلاحه وآلاته التي كان يدفع الخصوم بها، ويقهر الأعداء باستعمالها. وقوله (لا يخشون نابي ولا ظفري) يريد لا ناب لي بعدهم ولا ضفر فيخشى. فهو مثل:
ولا ترى الضب بها ينجحر
وأنشد لامرأة ترثي أباها
إذا ما دعا الداعي عليا وجدتني ... أراع كما راع العجول مهيب
وكم من سمى ليس مثل سميه ... وإن كان يدعي بأسمه فيجيب
يقول: متى قرع أذني دعاء داع بإسم ولدي أذعن وأقلق، كما يذعر الثكلى مهيب، وهو الداعي. والثكلى تفزع لأدنى صبحة ترهقها، أو قرعة تصدم قلبها.(1/751)
ويجوز أن يريد بالعجول ناقة فقدت ولدها بنحر أو موت، فهي في حنينها تنفر من أخفض إهابة، وأدنى بعث وإزعاجة.
ويقال لأمثالها من النوق: المعاجيل أيضاً. ووجدهن يزيد على كل وجد. لذلك قال:
فما وجد أظار ثلاث روائم ... رأين مجراً من حوار ومصرعاً
يذكرن ذا البث الحزين ببثه ... إذا حنت الأولى سجعن لها معاً
وقوله (وكم من سمى) يقول: ليس التوافق في الأسماء مما يوجب التعادل والتشابه في المسميات، لأن الأعلام لا تفيد في المسمين شيئاً، لكن التشابه إنما يكون بالأوصاف الحاصلة، والمعاني المتماثلة، وإذا كان كذلك فالتشارك في الأسماء وإن حصلت به الإجابة عند الدعاء لا يوجب تقارب المسمين ولا تباعدهم.
وقال رجل من كلب
لحى الله دهراً شره قبل خيره ... ووجدا بصيفي أتى بعد معبد
بقية إخواني أتى الدهر دونهم ... فما جزعي أم كيف عنهم تجلدي
فلو أنها إحدى يدي رزيتها ... ولكن يدي بانت على إثرها يدي
قياليت أسى بعدهم إثر هالك ... قدي الأن من وجد على هالك قدى
لحى الله: دعاء على الدهر الذي وصفه، وقد تقدم القول في حقيقته. ومعنى (شره قبل خيره) أي ما كان يختشى من شره في الأحبة سبق ماكان يرتجى من خيره بهم.
ثم دعا على وجد تعجل له بصيفي بعد وجد تقدم في معبد، كأنه كان لايأمن من أحداث الدهر فيما حبى وأنعم عليه في اخوة كرام تناسقوا في الولاد والوداد، وتقابلوا في جواز تعليق الرجاء بهم عند الحفاظ، فيخاف. وعلى ذلك كان يغلب في(1/752)
نفسه وعلى قلبه سلامتهم وبقاؤهم، حسن ظن بالواهب، وشدة طمع في الموهوب، فيسكن ولا يهاب. فلما جرى الأمر على خلاف ما ظن زعم أن شر الدهر سبق خيره، فدعا عليه. وقوله (ووجداً بصيفي) يقول: ولحى أيضاً جزعاً تجدد بصيفي بعد معبد. وهذا تبرم منه بما قاسى من الدهر، وكابد من جزع بعد جزع. وفيه اشارة الى معنى قول الآخر:
نوكل بالأدنى وان جل ما يمضى
وقوله (بقية اخواني) يجوز أن يكون المراد به خيار اخواني، كما يقال: فلان من بقية الناس. ويجوز أن يريد به أنه كان في اخوانه وفور ففقد منهم عدةً، وجعل يأنس ببقيتهم، فأتى الدهر عليهم أيضاً. وقوله (فما جزعي أم كيف عنهم تجلدي) كأنه كان لايعتد بالجزع الواقع لهم ومن أجلهم، ليقصوره عن الواجب، ووقوعه دون اللازم، ولا يطمع من نفسه في مسكة يتعلقها، أو سلوة يتكلفها، اذ كان الخطب أعظم، والرزء أملك.
وقوله (فلو أنها احدى يدي رزيتها) جواب لو محذوف، يريد: لو أصبت ببعضهم لسهل ما تعذر أو خف ما ثقل، ولكنهم تجاوبوا للدعوة، وتتابعوا في النقلة، ففدحت المصيبة، وجلت الرزيئة.
وقوله (وآليت آسى بعدهم) يريد: حلفت لا آسى بعدهم في اثر هالك، فحذف لا ولم يخف التباسه بالواجب، اذ كان للواجب صيغة مفردة باللام واحدى النونين الثقيلة أو الخفيفة، وقد مر مثله. والمعنى أن خوفي كان فيهم، واذ أصيب بهم فاني لا أجزع لفائت، فحسبي على الهلاك ما بي حسبي. وقال (قدى) ولو قال: قدني، فأتى بنود العماد ليسلم سكون قد، لجاز. قال الشاعر:
قدني من نصر الخبيبين قدى
فأتى بهما جميعاً.
وقوله (اثر هالك) انتصب على الظرف.(1/753)
وأنشدني لأعرابي
لحى الله دهراً شره قبل خيره ... تقاضى فلم يحسن الينا التقاضيا
فتى كان لا يطوى على البخل نفسه ... اذا ائتمرت نفساه في السر خاليا
قد مر القول في بيان الدعاء على الدهر وشرحه، وفي معنى (شره قبل خيره) فأما قوله (تقاضى فلم يحسن الينا التقاضيا) فالمعنى طالبنا برد ما منحنا فلم يحسن في التقاضي، لاسرافه في الفعل، واستعجاله في الرد، واعتسافه في الأخذ، ولأن العواري قد ترتجع، ة المنائح قد تسترد، على وجه لايخل فيه بالاجمال، ولايفسد به ماتقدم من الافضال.
وقوله (فتى كان لايطوى على البخل نفسه) يريد أنه اذا اجتداه المجتدي لايرى لنفسه أن تطوى على البخل والامساك، والضن بم في يده عليه، اذا ائتمرت نفساه، أي تشاورت فيما بينه وبينهما، فأقبلت واحدة تأمر بالبذل، والأخرى تشير بالامساك. ففي ذلك الوقت يصمم على ترك الائتمار للآمر بالبخل ويخرج من طاعته الى العطاء والبذل. والائتمار: التشاور ها هنا. فأما قوله:
ويعدو على المرء ما يأتمر
فالمراد به ما يجعله من أمره وهمه، فيقول: اذا ائتمر المرء لغيره ما ليس برشاد فانه يعدو عليه فيهلكه. وهذا كما قيل: من حفر مهواةً وقع فيها.
وقال الأبيرد اليربوعي:
ولما نعى الناعي يزيد تغولت ... بي الأرض فرط الحزن وانقطع الظهر(1/754)
يقول: لما خبر المخبر بموت يزيد تلونت الأرض في عيني فابيضت تارةً واسودت أخرى، لشدة حزني، وانقطع ظهري، وتساقطت قواي، وقوله (تغولت) اشتقاقه من الغول. وهم يعتقدون في هذا القبيل من الجن أنهم يتصورون بما شاءوا من الصور. ويقال: غولتهم الغول وتغولتهم، اذا توهتهم. وانتصب (فرط الحزن) على أنه مفعول له. والكلام تسل من غير الدهر وتأثير المصيبة فيه، حتى انكسر قناة ظهره، واختل ما كان قويماً من أمره.
عساكر تغشى النفس حتى كأنني ... أخو سكرة دارت بهامته الخمر
العساكر: جمع عسكرة، وهي الشدة. قال:
ظل في عسكرة من حبها
فيقول: غشيت نفسي أنواع البلاء، فزال عقلي لها، حتى صرت كأني سكران دبت الخمر في عقله ودماغه، حتى دارت هامته، وزال تماسكه وقوته. ولك أن تروي: (دارت بهامتي الخمر) لأنه لما كان أخو السكرة نفسه جاز أن يجعل الضمير الراجع اليه ضمير نفسه. وهم يفعلون في الصفات والصلات هذا. على ذلك قوله:
أنا الذي سمتن أمي حيدره
ولم يقل أمه، وان كان وجه الكلام. وان رويت (دارت بهامته الخمر) فهو الصواب المختار.
فتى ان هو استغنى تخرق في الغنى ... وان قل مال لم يضع متنه الفقر
فتى لايعد الرسل يقضي ذمامه ... اذا نزل الأضياف أو تنحر الجزر(1/755)
البيت الأول يشبهه قول الهذلي:
أبو مالك قاصر فقره ... على نفسه ومشيع غناه
وقوله (تخرق في الغنى) أي تكرم في غناه وتوسع. وهو تفعل من الخرق: الكريم من الرجال، الذي يتخرق بالمعروف.
وقوله (وان قل مال) أراد ماله. ومعنى (لم يضع متنه الفقر) أي لم يورثه اقلاله تخضعاً وتخشعاً حتى تطأطأ ظهره وانخفض شخصه. وان رويت (وان قل مالاً) بالنصب جاز، ويكون فاعل قل ما استكن فيه من ضمير الفتى، وانتصب مالاً على التمييز، كقوله عزوجل: (واشتعل الرأس شيباً) .
وقوله (فتى لايعد الرسل يقضي ذمامه) يريد اذا نزل الأضياف به لايعد اللبن قاضياً ذمام قراهم، ولا كافياً فيما يجب عليه لهم، حتى ينحر جزره، ويوسع مطاعمه. وقوله (أو تنحر) أو بدل من الا، وانتصب الفعل باضمار أن.
وأنشد لسلمة الجعفى يرثي أخاه لأمه:
أقول لنفسي في الخلاء ألومها ... لك الويل ما هذا التجلد والصبر
ألم تعلمي أن لست ما عشيت لاقيا ... أخي اذ أتى من دون أوصاله القبر
يقول: اني اتسخط ما أقيمه من الهلع فيمن أصبت به، حتى أرجعالى نفسي اذا خلوت بها باللوم والتعنيف، وأقول حل بك الويل، ما الذي يظهر منك من تكلف الجلد والصبر فيما بليت به. أما علمت أني مدة عيشي لا ألاقي أخي وقد حجز بيني وبينه الثرى؟؟؟؟؟؟؟؟؟؟؟؟؟؟؟؟؟؟؟؟؟؟؟؟؟؟؟ وقوله (ألومها) في موضع الحال، (ولك الويل) في موضع المفعول لأقول، و (ما هذا التجلد) استفهام على طريق التقريع والتوبيخ. وارتفع التجلد على أنه عطف البيان. وقوله (ألم تعلمي) تقرير فيما هو واجب، لأن حرف الاستفهام قد ضامه حرف النفي، والاستفهام غير واجب فهو كالنفي، ونفي النفي ايجاب.(1/756)
وقوله (أن لست) أن مخففة من الثقيلة، واسمه يجوز أن يكون ضمير الرجل، أراد أني لست، ويجوز أن يكون ضمير الأمر والشان. و (ماعشت) في موضع الظرف. و (لاقيا) خبر ليس. و (اذ اتى) ظرف له. والأوصال: جمع وصل، وهو اسم للأعضاء المتصل بعضها ببعض. ويقال: وصل ووصل، بالفتح والكسر.
وكنت أرى كالموت من بين ليلة ... فكيف ببين كان ميعاده الحشر
وهون وجدي أنني سوف أغتدي ... على اثره يوماً وان نفس العمر
قوله (كالموت) جعل الكاف وحده اسماً. وكان أبو العباس يتبع أبا الحسن الأخفش في جواز وقوعه اسماً في غير الضرورة، وأنشد:
أتنتهون ولن ينهى ذوي شطط ... كالطعن يهلك فيه الزيت والفتل
وبجعل الكاف في موضع فاعل ينهى. وسيبويه لايرى ذلك الا في الضرورة، كأنه قال: وكنت أرى شيئاً أو أمراً مثل الموت.
وقوله (من بين ليلة) من دخل للتبيين، والمعنى: كنت أعد مفارقت له في ليلة كالموت، أو قاسى مثل الموت من أجل مفارقة ليلة منه، فكيف يكون حالي وقد فرق بيني وبينه بين موعد الالتقاء بعده يوم القيامة. ومثل قوله (من بين ليلة) قوله تعالى: (فاجتنبوا الرجس من الأوثان) . ولك أن تجعل من بين، في موضع المفعول لأرى، وتجعل من زائدة على طريقة الأخفش في جواز دخوله زيادةً في الواجب، فيكون التقدير: كنت أرى بين ليلة، أي فراق ليلة، كالموت. فيكون كالموت في موضع المفعول الثاني. وقوله (كان ميعاده) وضع الماضي موضع المستقبل أي يكون ميعاده، والهاء يرجع الى البين، كأنه وعده الزوال والالتقاء معه من بعده في يوم الحشر.
وقوله (وهون وجدي أنني) موضع رفع، لأنه فاعل هون والمعنى: خفف وجدي وقلقي أنني ذاهب في إثره، ومخل مكاني في الدنيا بعده يوماً، وإن أطيل عمري، ونفس في أجلي.(1/757)
فتى كان يعطي السيف في الروع حقه ... إذا ثوب الداعي وتشقى به الجزر
فتى كان يدينه الغنى من صديقه ... إذا ما هو استغنى ويبعده الفقر
يريد أن المرثي كان إذا حضر الوغى تصور السيف عليه حقاً، فجاهد نفسه في توفير ذلك الحق عليه إذا أعاد الداعي وكرر: يال فلان!! مراراً. والتثويب في الآذان معروف. وقوله (وتشقى به الجزر) يريد وقت نزول الأضياف، وأنه كان لا يرضيه أقرب المنازل في نزل الضيف، بل كان يرتقى إلى أعلاها.
وهذا المعنى قد مضى قريباً، وكذلك البيت الثاني قد مضى مثله. ومعنى يدينه الغنى من صديقه أنه كان يعد التفرد بالغنى لؤماً، وكان يشرك أصدقائه فيه، كما يعد في حال الإضافة والفقر ملابسة الأصدقاء كالتعرض لخيرهم، فيبتعد عنهم.
وقالت عمرة الخثعمية، ترثي ابنيها
لقد زعموا أني جزعت عليهما ... وهل جزع أن قلت: وا بأباهما
الزعم يستعمل كثيراً فيما لا حقيقة له، لذلك قالت فيما حكمت عن القوم: زعموا. كأنها لما استشرف الناس جزعها وهلعها، فتذاكروا أمرها فيما بينهم أظهرت الانكار والتكذيب فيما توهموه، فقالت: وهل جزع أن قلت وأباباهما، من التوجع لهما على قدر القائل: وأباباهما. ولفظة (وا) تألم وتشك، وهي حرف للندبة. و (بأباهما) أرادت: بأبي هما، ففر من الكسرة وبعدها ياء إلى الفتحة فانقلبت ألفاً. على ذلك قولهم: باداة وناصاة، في بادية وناصية. وقولها (وهل جزع) ارتفع جزع على أنه خبر مقدم، (وأن قلت) في موضع المبتدأ، وبأبا خبره. هذا على طريقة سيبويه، وعلى مذهب الأخفش يرتفع بالظرف. ورواه بعضهم: (بأناهما) ، أي أفديهما بنفسي وأنا هو ضمير المرفوع، وقد وقع موقع المجرور، وكقولهم: هو كأنا، وأنا كهو.(1/758)
هما أخوا في الحرب من لا أخا له ... إذا خاف يوماً نبوة فدعاهما
ألمت في هذا بقوله:
إذا لم أجن كنت مجن جان
تقول: كان ينصران من لا ناصر له من القوم إذا خشي نبوة من نبوات الدهر يوماً فاستغاث بهما. وقولها (أخوا في الحرب من لا أخا له) فصلت فيه بين المضاف إليه والمضاف بالظرف، فلذلك حذفت النون من أخوان فهو كقوله:
كأن أصوات من إيغالهن بنا ... أواخر الميس أصوات الفراريج
ففصل بقوله (من إبغالهن بنا) . قولها (من لا أخا له) نوت الإضافة ثم أدخلت اللام تأكيداً للإضافة التي قصدتها، لذلك أثبتت الألف من لا أخا، لأن هذه الألف لا تثبت إلا في الإضافة إذ كان في الأفراد يقال اخ. وخبر لا محذوف كأنها قالت: لا أخا موجوداً وفي الدنيا. ولوقالت: لا أخ له، لكان له خبراً للا، على قولهم: لا أب لك، وإنما قلت أدخلت اللام لتوكيد الإضافة التي قصدتها، لأن الإضافة غير معتد بها هنا، فلا تعرف الأخ، واللام تبطل الإضافة في الأصل. وهذه اللام لا تدخل إلا في بابين: أحدهما باب النفي، وهو ما نحن فيه، والثاني باب النداء في مثل قولهم: يابوس للحرب، لأن المراد: يابوس الحرب.
هما يلبسان المجد أحسن لبسة ... شحيحان ما اسطاعا عليه كلاهما
وصفتهما بأنهما يكتسبان المجد ويستمتعان به أحسن استمتاع وأجمل اكتساب، وأنهما يضنان به حيث ظهر وطلع فلا يتركانه لأحد ماداما يستطيعان كسبه والفوز به. وانتصب (أحسن لبسة) على أنه مصدر. وارتفع (شحيحان) على أنه خبر مقدم،(1/759)
والمبتدأ (كلاهما) ، و (ما اسطاعا) في موضع الظرف وإسم الزمان محذوف معه. واسطاع منقوص عن استطاع. وتقدير الكلام: كلاهما شحيحان به مااسطاعا عليه، أي ما قدروا عليه، ومعنى (يلبسان المجد) ، أي يتمليانه ويمتعان به. وقال:
لبست أبي المجد أبي تمليت عيشه ... وبليت أعمامي وبليت خاليا
شهابان منا أوقدا ثم أخمدا ... وكان سداً للمدلجين سناهما
ارتفع (شهابان) على أنه مبتدأ، وجاز الأبتداء به لكونه موصوفاً بمنا، وأوقد في موضع الخبر، والمعنى: أنهما لم يمهلا للتمام والكمال، بل كانا كنارين أوقدتا ثم أنبعتا بالإخماد. والكلام توجع وتلهف. وقولها (وكان سداً للمدلجين سناهما) تريد نارهما الموقدة للضيفان وللطراق بالليل، وأنهم كانوا يستضيئون بها فيردون فناءه مستمسكين أرماقهم به، ومتخلصين من سلطان البرد والجوع وشقة السفر إليه. ولا يمتنع أن يرتفع شهابان على أنه خبر مبتدأ محذوف أي هما شهابان.
إذا الأرض المخوف بها الردى ... يخفض من جاشيهما منصلاهما
تصفها بالصبر في دار الحفاظ، وأنهما إذا نزلا مكاناً مخوفاً لا يؤمن الردى فيه يسكن من قلقها سيفاهما. وهذا فيه إعلام بأنهما كانا لايعتمدان في الشدة تنزل بساحتهما على غيرهما، وأنهما كانا يتحملان الأثقال بأنفسهما، فلا صاحب لهما يتكل عليه، ولا معين يسكن إليه، إلا السيف. فهو كقول الآخر:
ولم يرض إلا قائم السيف صاحبا
إذا استغنينا حب الجميع إليهما ... ولم ينأ عن نفع الصديق غناهما
تقول: وإذا نالا الغنى وساعدها الحال حبب جماعة الحي والمتعلقين بحبلهما، فازداد توفرا عليهم، وتفقدا لهم، ولم يبعد غناهما من انتفاع الغرباء والأجانب، ومن يتسبب بود صداقة إليهما. فقولها (حب الجميع إليهما) مقصور(1/760)
على النسب، وآخر البيت مصروف إلى الصديق الغريب. وساغ أن يراد بالجميع الحي كلهم لاجتماعهم حوله. والجميع والجمع: المجتمعون. والجماع: المتفرقون. قال:
من بين جمع غير جماع
إذا افتقرا لم يجثما خشية الردى ... ولم يخش رزءا منهما مولياهما
تريد أنهما إذا مسهما الفقر، وضاق بهما الأمر، لم يلزما بيوتهما تاركين للغزو والتجوال في طلب المال، خوفاً من الهلاك، وميلاً إلى الراحة عن التسيار لكنهما يسعيان للاكتساب، ويتحملان من المشاق ما ينالان به مناهما، أو يقيمان به العذر عند من راعى أحوالهما. وقولها (ولم يخش رزءاً منهما مولياهما) تريد أنهما لا يستحملان موليهما عبثاً من فقرهما، ولم يضعا أنفسهما في موضع الارتزاء منهما، وجبر الحال بمالهما ويسارهما. وهذا كقول الآخر:
أبو مالك قاصر فقره ... على نفسه ومشيع غناه
وقولها (لم يحثما) من جم الطائر. وهم يسمون من رضى بفقره وصار لبيته كبعض أحلاسه: الضايع والضجعى؛ لأن الضجعة خفض العيش. وإلى هذا المعنى يشير القائل في ذمة قوماً:
أولئك معشر كبنات نعش ... ضواجع لا تسير مع النجوم
يروى: (رواكد) . وانتصب خشية الردى على أنه مفعول له. وقولها (مولياهما) ليس يراد به التثنية، بل المراد به الكثرة. وعلى ذلك. وعلى ذلك قولهم: لبيك وسعديك.
لقد ساءني أن عنست زوجتاهما ... وأن عريت بعد الوجى فرساهما
ولن يلبث العرشان يستل منهما ... خيار الأواسي أن يميل غماهما(1/761)
يقال: عنست المرأة وعنست بالتشديد، إذا قعدت بعد بلوغ النكاح أعواماً لا تنكح. ويستعمل في الرجل أيضاً. قال:
حتى أنت أشمط عانس
كأنهما كانا تزوجا بامرأتين ولم يحولاهما، ولما اتفق عليهما ما اتفق بقيتا على حالهما زهداً في النكاح بعدهما، وعلماً بألا اعتياض منهما. فتقول: زاد ذلك في مساءتي، وزاد فيها أيضاً تعرية من الإسراج والإلجام، بعد أن كانا يستعملان على ما يعترض لهما من الحفي في غزو الأعداء وغيره. وإنما ساءها ما حصل من الأمنة في الجوانب التي كانا يقصدان ويوقعان بها بعد الرقبة الشديدة، وما علم أنهم وجدوه ولزموه من الشماتة وإظهار الفرح والمسرة.
وقولها: (لن يلبث العرشان) جعلت لكل واحد عرشاً به كان يثبت ويقوم، فيقول: العرش إنما بقاؤه بعمده، فإذا انتزع خيارها منه فلن يلبث أن يميل سقفه فيسقط. وهذا مثل ضربته لعز ذويهما، وإذ قد مضيا فيوشك أن يتثلم وينخفض. والأواسي: جمع آسية، وهي الأساطين. والغماء، بكسر العين والمد: سقف البيت. والغما بالفتح والقصر لغة.
وقال الآخر:
صلى الإله على صفي مدرك ... يوم الحساب ومجمع الأشهاد
نعم الفتى زعم الرفيق وجاره ... وإذا تصبصب آخر الأزواد
يروى: (ومجمع الأشهاد) تجره وتعطفه على الحساب، ويكون مجمع في معنى جمع. ويروى (ومجمع) بالنصب، ويكون ظرف مكان ومعطوفاً على يوم الحساب. والصلاة من الله تعالى: الرحمة. والمراد: رحم الله مدركاً صفي في الود، رحمة تأتي من وراء ذنوبه، وتعفى على سوابق فرطاته يوم القيامة، إذا حضر الشهود ووضع الحساب على تحاكم الخصوم، وقام الجزاء من الثواب والعقاب على المطيعين والعصاة.(1/762)
وقوله: (نعم الفتى) الممدوح محذوف، كأنه قال نعم الفتى مدرك. قال: وليست هذه الشهادة مني ومن جهتي، ولا من جملة مدحي، على عادة الناس في تأبين الهلاك، ولكنها مما أداه وكثره رفقاؤه في السفر، وجيرانه في الحضر؛ فهي حكاية ألسنتهم، ومؤادة قضيتهم. وقوله (وإذا تصبصب آخر الزواد) معنى تصبصب قرب من النفاد. يريد: ونعم الفتى هو في ذلك الوقت، لأنه يؤثر غيره بالطعم على نفسه. وتلخيص الكلام: نعم الفتى مدرك في المرافقة والمجاورة، وعند نفاد الزاد. والأشهاد: جمع الشهود. واكتفى زعم بالفاعل في اللفظ، لأن مفعوليه دل على الكلام عليهما:
وإذا الركاب تروحت ثم اغتدت ... حتى المقيل فلم تعج لحياد
يريد: ونعم الفتى هو إذا وصلت الركاب السير باسرى، فلم تعطف لا محراف وازورار، ولم تعرج لإصلاح شأن، لكنها استمرت وجدت لما أزعجهم وبعثهم على استدامة التشمير، وتعجيل الحركة وترك التقصير، وطي المنازل، واستقصار المراحل. ومعنى تروحت راحت. والرواح: العشي. وراحت الأبل رواحاً. والإراحة: رد الإبل عشياً من المرعى. يقال: سرحتها بالغداة وأرحتها بالعشى. ومعنى اغتدت حتى المقيل: سارت غدواً إلى وقت القيلولة. أي كان في هذه الحالة يأتي بما يستحق به المدح من أصحابه ورفقائه، لكرم صحابته، وحسن رفاقته. ومعنى (لم تعج) لم تعطف. يقال: عاج عوجا وعياجا. والحياد: الإعراض عن السير للنزول. والفعل منه حاد.
ويقال: مالك عن هذا محيد وحيدان وحياد.
حثوا الركاب تؤوبها أنضاؤها ... فزها الركاب مغنيان وحاد
لما رأوهم لم يحسوا مدركاً ... وضعوا أناملهم على الأكباد
وصف وراد فنائه بعد فنائه، وزاور قبره طلباً لحبائه، فيقول: استعجلوا رواخلهم وحضوها على قصده والوصول إلى بابه، ومهازيلها التي قد أثر بعد الشقة فيها فأنضاها، تؤوب إليها إذا نزلت، أي تسير النهار كله حت يتصل سيرها بالليل،(1/763)
طلباً للتلاحق معها، فاستخفها ونشطها مغنيان بالحداء، وسائق يحدوها حتو وصلوا، فلما رأوا أنفسهم قد فقدت مدركاً، يعني المرثى، أمسكوا على أكبادهم خوفاً من تصدعها، إذ لو أدركوا حياً لم يكن بينهم وبين الغنى إلا مالا يعد حاجزاً ولا مانعاً.
إن قيل: لم جاز لما رأوهم، والفاعلون هم المفعولون، وأنت لا تقول ضربتني ولا ضربتك، بل تأتي بدل ضمير المنصوب بالنفس، تقول: ضربت نفسي وضربتنفسك؟ قلت: إن أفعال الشك واليقين جوز فيها ذلك. تقول: حسبتني ورأيتك وعلمتني، لمخالفتها سائر الأفعال في دخولها على المبتدأ والخبر. وقوله (تؤوبها أنضاؤها) في موضع الحال من الركاب.
وقال الشماخ
في عمر بن الخطاب رضي الله عنه:
جزى الله خيراً من أمير وباركت ... يدالله في ذاك الأديم الممزق
فمن يسع أو يركب جناحي نعامة ... ليدرك ما قدمت بالأمس يسبق
يقول: جزاه الله عن الرعية خيراً من بين الأمراء، وباركتنعمة الله - تعالى جده وإحسانه - في أديمه الممزق، يعني جلد عمر رضي الله عنه، ومنه برك البعير بروكاً. وبراكاء القتال: حيث يبتركون، أي يبحثون، على ركبهم. وقوله (فمن يسع) يريد أن شأوه في الإيالة واستصلاح الرعية وتفقد مصالحهم لا يدرك، فمن أراد بلوغه والارتقاء إلى غايته بقي حسيراً مسبوقاً ولوركب جناح النعامة. يريد: لو أسرع إسراعها. وقوله (بالأمس) ذكره على طريق تقريب الأمد. وقوله (يسبق) هو جواب الجزاء.(1/764)
قضيت أموراً ثم غادرت بعدها ... بوائج في أكمامها لم تفتق
يقول: أحكمت أموراً بصائب نظرك، وجميل رأيك، وحسن تألهك ثم أعجلت فتركت بعدها دواهي وخطوباً عظيمة، هي في أغطيتها لم تظهر ولم يكشف عنها. والفتق: ضد الرتق، وكل متصل مستو رتق، فإذا انفصل وانكشففهو فتق. والبوائج: الدواهي العامة. ويقال: باجهم الشر، أي عمهم. قال الشاعر:
فبجته وأهله بشر
والأكمام: الأغطية، منه كم الثمرة. ويقال: لكل شجرة مثمرة كم وهو برعومتها.
أبعد قتيل بالمدينة أظلمت ... له الأرض تهتز العضاه بأسواق
قوله (أبعد قتيل) لفظه استفهام، ومعناه التفظيع والإنكار. وحرف الاستفهام يطلب الفعل، فكأنه قال: أتهتز العضاه على أسؤقها بعد قتيل بالمدينة أظلمت له الأرض. هذا عجب.
وقوله (أظلمت له الأرض) من صفة قتيل. والمعنى أن حصول هذا الأمروجريانه على ماكان منكر فظيع، بعد ما اتفق على قتيل هذا صفته. والعضاه: شجر، واحدتها عضة. قال:
ومن عضة ما ينبتن شكيرها
وقد مضى القول في مثل هذا البيت. ويشبهه قول الآخر:
أيا شجر الخابور ما لك مورقاً ... كانك لم تخزن على ابن طريف
تظل الحصان البكريلقى جنينها ... نثا خبرها فوق المطى معلق
وماكنت أخشى أن تكون وفاته ... بكفى سبنتي أزرق العين مطرق(1/765)
الحصان: العفيفة وقد أحصنت وحصنت. والبكر: التي حملت أول حملها، فهي بكر والولد بكر. والنثا، استعمل في الخير والشر. يقال: نثوت الكلام أنثوه نثواً، إذا أظهرته. فيقول: ترى الحامل يسقط حملها ما ينثى من خبر سار به الركبان، وتقاذفته الأقطار، استفظاعاً لوقوعه، واستشعاراً لكل بلاء وخوف منه.
وقوله (وما كنت أخشى) يقول: إن ةإن لم آمن الحدثان عليه، وصرت أرقب جميع أسباب الردى فيه حتى ظنت ظنون المشفقات، مستدفعاً للآفات عنه، فإنه لم يخطر ببالي أن يكون في جلالته وارتفاع محله يرديه عبد جسور لئيم جريء، أزرق العين، مسترخي الأجفان. وإنما حلى قاتله بهذه الحلية تنبيهاً على حقارته في نفسه وجنسه، وذما لأصله وفرعه، وإعلاماً بأن الصغير من الرجال يجنى الكبير من الأمور، وأن ما لايقع في الوهم استبعاداً لكونه، يشاهده الإنسان أقرب من كل قريب، ثم لا يملك إلا استغرابه وقضاء العجب منه والتزام الجزع فيه، والسبنتي والسبندي، أصله في النمر، ويستعمل في الجريء المقدم. وقال الدريدي؛ المطرق: الغليظ الجفن الثقيلة.
وقال صخر بن عمرو أخو الخنساء
وقالوا ألا تهجو فوارس هاشم ... ومالي وإهداء الخنا ثم ماليا
أبى الهجر أنى قد أصابوا كريمتي ... وأن ليس إهداء الخنا من شماليا
يريد: قال الناس باعثين لي على هجاء من أصابني في أخ معاوية ونحت أثنتهم، وذكر أعراضهم: ألا تنتقم منهم بالقول إلى أن يتسهل الفعل فتذكر معايبهم، وتكشف عن مستور مخازبهم، ومجهول مقابحهم ومساويهم؟ فأجبتهم وقلت: مالي وذكر القبيح وإهداء الفواحش ثم مالي؟ أما تعلمون أن ما بيني وبينهم أقذع من(1/766)
الهجاء، وأن جزاء من أصاب كريمتي أفضع من الإهجار، وأنه ليس قول القبيح وتنقص الناس من عادتي وطبيعتي، إذ كنت أرباً بقدري عن الوقوف موقف المغتابين والطاعنين في الأنساب والأعراض. وقوله (ومالي وإهداء الخنا) انتصب إهداء بفعل مضمر، وتكريره لمالي دلالة على استقباحه لما بعث عليه، ودعى إليه. والخنا هو الفحش، كأنه قال: مالي ألابس الخنا وأتكلفه. وقوله (أصابوا كريمتي) فالكريمة أخرج إخراج المصادر، وعلى ذلك ماروى على النبي صلى الله عليه وسلم (إذا أتا كم كريمة قوم فأكرموه) .
ويجوز أن تكون الهاء للمبالغة. وقوله (وأن ليس إهداء الخنا) أن مخففة من الثقيلة، واسمه مضمر، والجملة التي بعده في موضع الخبر، وموضع أن رفع بكونه معطوفاً على أنى قد أصابوا، وأنى فاعل أبي الهجر.
إذا ماامرو أهدى لميت تحية ... فحياك رب الناس عني معاوياً
لنعم الفتى أدى ابن صرمة بزه ... إذا راح فحل الشول أحدب عارياً
يقول: اذا رجل حيا ميتا فتولى الله تعالى عني تحيتك يا معاوية. والتحية من الله تعالى: الاكرام والاحسان، والتفضل عليه بما هو أهله.
وقوله (لنعم الفتى) المحمود بهذا الكلام محذوف، كأنه قال: لنعم الفتى الذي ذا صفته. وقوله (ادى ابن صرمة بزه) اراد سلاحه وسلبه. وقوله (اذا راح) ظرف لما دل عليه نعم الفتى. أي يحمد في هذا الوقت اذا اشتد الزمان وأجدبت الأرض، وانصرف فحل الشول من مرعاه عارياً من اللحم مهزولاً، لكثرة أفضاله، وحسن تفقده واتصال بره بمن يجمعه اليه نسب أو سبب. والشول: النوق القليلة الألبان، واحدتها شائلة. وابن صرمة المذكور يجوز أن يكون القاتل لمعاوية أو المعين عليه.
وطيب نفسي أنني لم أقل له ... كذبت ولم أبخل عليه بماليا
وذي اخوة قطعت أقران بينهم ... كما تركوني واحداً لا أخاليا(1/767)
تسلى فيما أوجعه من الرزء بأن لم يكن جفاه وهو حي قولاً ولا فعلاً، ثم تسلى أيضاً بأنه كما فرق بينه وبين اخوته وترك فريداً وحيدا، قد تولى مثل ذلك من معاديه، فرب اخوة متناصرين صارت كلمتهم واحدةً، وأهواؤهم متفقة، وهم في تألفهم وتشابههم، وتلاؤمهم وترافدهم، كالحلقة المفرغة لايدرى أين رأسهم، أنا قطعت علائق بينهم، ووصل نظامهم، فتفرقوا وتفاقدوا حتى صاروا في التشتت مثلا، كما كانوا في التجمع مثلا. وهذا بازاء ما فعل بي، وفي مقابلة مانيل مني. والدهر تارات، و (ومن ير يوماً يرى به) . وقد مر القول في قوله (لاأخاليا) . وانتصب (واحداً) على الحال من تركوني، ولا أخالياصفة له، كأنه قال: تركوني وحيداً فريداً. وقوله (أقران بينهم) أي وصل بينهم. وأصل الأقران الحبال، والواحد قرن. يريد: إني قطعت الأسباب الجامعة بينهم بقتلهم وتفريقهم. و (بين) جعله اسماً. وفي القرآن: لقد تقطع بينكم.
وقالت أخت المقصص
ياطول يرمي بالقليب فلم تكد ... شمس الظهيرة تتقي بحجاب
ومر جم عنك الظنون رأيته ... ورآك قبل تأمل المرتاب
قول (ياطول يومي) لفظه نداء، ومعناه تعجب واشتكاء، وإنما استطاله لأنه كان يوم نحس ومكروه. فيقول: يومي بالقليل امتد وطال حتى كادت الشمس لا(1/768)
تحتجب عن الأبصار بحجابها المعلوم؛ فيا له من يوم ما أطوله. والقليب: موضع. وأضاف الشمس إلى الظهيرة كأنه لما قام قائم الظهيرة وقفت حيرى فلم تكن تجنح إلى المغيب، ولا كانت تسير فتهوى للغروب.
وقوله (ومرجم عنك الظنون) وصفه بأن الآفاق على بعدها كانت قريبة عليه لما أيد به من العزم وتسهل له وفي نفسه من وعورة السير، فيقول: رب مكاشح لك كان على تنائيه عنك، وتحزمه معك، واستظهاره بإبعاد الدار منك، يرجم الظن فيك، ويوسوسإليه ما يعرفه من إبعادك في الغزو، وقلة احتفالك فيما تركبه بلواحق التعب، وعوارض الخطر - أنك تقصد وتوقع به آمن ماكان منك، وهو فيه وسواسه لم يحدث نفسه بتأمل ما وقع في خلده، ولا بالكشف عما ارتاب له، إذ أنت أتيته من حيث لا يحتسبه، واستبحت حريمه، واتسغنمت. وقوله (قبل تأمل المرتاب) يجوز أن يريد به قبل تأمله، فيكون المرتاب هو المرجم المكاشح. ويجوز أن يكون جعله مثلاً.
وقد ألم بهذا المعنى أبو تمام في قوله:
أسرت لك الآفاق عزمة همة ... جبلت على أن المسير مقام
فأفأت أدماً كالهضاب وجاملاً ... قد عدنا مثل علائف المقصاب
لكم المقصص لا لنا إن أنتم ... لم تأتكم خيل ذوو أحساب
يقول: غزوته فجعلت ماله فيئاً وغنيمةً: نوقاً كالجبال سماناً، وذكورةً عظاماً ضخاماً، عدنا كالتي يسمنها الجزار للنحر.
وقوله: (لكم المقصص لا لنا) يقول: إن لم تأتكم خيل إذا طلبوا الثأر طلبوه عن إمتعاض وشدة أنفة، وجد في الأمر واجتهاد، فعل الحسيب الكريم الذي لا يغمض عن قذى، ولا يصبر فيما يحق له على أذى، فأنتم أولياء دمه من دوننا، والمالكون له سوانا. وقد تركنا لكم، وفزتم بما أصبتموه، واستمرأتم ما طعمتموه.(1/769)
وقوله (أفأت) من الفيء: الغنيمة، لا من الفيء الرجوع. والجامل موحد اللفظ مصوغ للجمع، ويراد به الإبل، لكنه مشتق من لفظ الجمل كالباقر من البقر. والعلائف: جمع العلوف، وهو ما يسمن في البيوت. ويقال: شاة معلفة، أي مسمنة. والمقصاب، بناه بناء مايكون آلة، فهو كالمفتاح، لا بناء ما يكون الحرفة والمزوالة. والواجب أن يكون (القصاب) ، وهو من القصب: القطع والفصل، لأنه يقصب الشاة أي يقطعها.
وأبو اليتامى ينبتون ببابه ... نبت الفراخ بمكلىء معشاب
فكه إلى جنب الخوان إذا غدت ... نكباء تقلع ثابت الأطناب
قوله (وأبة اليتامى) أي كان يكفلهم ويعولهم، ويشفق عليهم ويتحدب، حتى كأنه ابوهم. وارتفع (أو) كأنه خبر ابتداء محذوف كأنها قالت: وهو لليتامى أب. ومعنى (ينبتون ببابه) يروى (فناءه) ، وانتصابه على أنه أخرجه الى باب الظروف، كما فعل ذلك بمقعد القابلة، ومناط تاثريا وما أشبههما. والمعنى أنهم يتربون في فنائه ويتنعمون، تري فراخ الطير بمكان كثير العشب والكلأ. ويقال: أكلأ الموضع، اذا صار ذا كلإ وعشب. والمعشاب: الكثير العشب.
وقوله (فكه الى جنب الخوان) فالفكه: الكثير المزاح واللعب، تأنيساً للضيف وبسطاً منه، كما قال الآخر:
أحدثه إن الحديث من القرى
وقوله (اذا غدت) ظرف للفكه. يريد: يفاكه الضيف عند الأكل بملح الكلام، كي يستأنس ويتسع الوقت له فيستوفى. والى من قوله (إلى جنب الخوان) تعلق بفعل مضمر دل عليه فكه، كانه مع قرب الخوان يفكه. و (اذا غدت نكباء) يريد البرد وهبوب الريح الباردة المزعزعة للبيوت، القالعة لأوتادها وحبالها. وأطناب البيوت: حبالها. ومنه إطنابة الحزم والقسى. والجميع الأطانيب.(1/770)
قال:
يركضن قد قلقت عقد الأطانيب
وقالت عمرة بنت مرداس ترثي أخاها عباساً
أعيني لم أختلكما بخيانة ... أبى الدهروالأيام أن تتصبرا
وما كنت أخشى أن أكون كأنني ... بعير اذا ينعى أخي تحسرا
ترى الخصم زوراً عن أخى مهابةً ... وليس الجليس عن أخى تحسرا
ترى الخصم زوراً عن أخى مهابةً ... وليس الجليس عن أخى بأزورا
تقول: يا عيني لاأقول إنكما لم تجزعا ولم تذرفا، ولم تخلطا بدمع دماً، فاكون قد خدعتكما بخيانة استعملتها معكما. وكيف لا تكونان كذلك والأيام والليالي امتنعت عليكما أن تتصبرافيها، اذ كانت حملتكما من أعباء الرزية ما استنفد وسعكما، واستغرق طوقكما، حتى نزفت دموعكما، وتوقفت عن الإجابة شؤونكما، فما بقي منكما إلا شفاً.
وقولها: (وما كنت أخشى) يقول: كنت قبل هذه الرزيئة واثقاً بقوتي وصبري، ومسكتي وعقلي، حتى لا أخشى - اذا أخطرت ببالي أحداث الدهر وتأثيرها في الأحبة والأهل - سوء احتمال فيها، وضعف منة عنها، إلى أن نعى أخى فورد له على نفسي ما أبدلني بالتماسك تهالكا، وبالتثبت تساقطا، حتى صرت كأني بعير ألح عليه فتحسر ورزح، وعقل في مبركه بالعجز فما برح.
وقولها (ترى الخصم زوراً) جعلت الخصم للجمع فلذلك قالت زوراً. والمصدر اذا وصف به بقي على حاله فلم يثن ولم يجمع. وقد قيل: خصمان وخصوم، لما غلبت عليه الوصفية وكثر في الاستعمال أجرى عليه حكم الصفة. والمعنى: ترى منابذي أخي منحرفين عنه وعن كل متصل به، مسلمين له ولمن اعلق حبله بحبله، إعظاماً له وتهيباً، وإكباراً وتخوفاً. وترى جلساءه وندماءه مباسطين له ومستأنسين به، لايتداخلهم منه رعب، ولا يقبضهم عنه تجبر وكبر. والختل:(1/771)
المكر. وقال الخليل: هو تخادع عن غفلة. وإنما قال الدهر والأيام، لأنه أراد بالأيام الأحداث. وهذا كما قيل للوقعات: الأيام. وإنما صغرت الأخ لتلطيف المحل. هذا على قولهم صديقي. والتحسر: الضعف عن الاعياء. ويقال: الحسر والحسور أيضاً. وحسرت الناقة فهي حسير والجمع الحسرى. ولك أن تروى: (أختي) وهو الأصل، و (أخي) فتحذف ياءً استثقالاً لاجتماع الياءات، وتبنيه على الفتح لأنه أخف الحركات. وانتصب (مهابة) لأنه مفعول له.
وقالت ريطة بنت عاصم
وقفت فأبكتني بدار عشيرتي ... علىرزئهن الباكيات الحواسر
غدوا كسيوف الهند وراد حومة ... من الموت أعيا وردهن المصادر
فوارس حاموا عن حريم وحافظوا ... بدار المنايا ز القنا متشاجر
ولو أن سلمى نالها مثل رزئنا ... لهدت ولكن تحمل الرزءعامر
تقول: دعاني ما أصبت به في عشيرتي إلى الوقوف بدارهم، فشجيت بشجى النساء النوادب الحواسر، حتى بكيت لبكائهن على حادث الرزء، واقتفرت آثارهن في الهلع والحزن.
وقولها (غدوا كسيوف الهند) أخذت تصف حال عشيرتها فقالت: ابتكروا وهم في خلقهم وتجردهم، وصفائهم ونفاذهم كسيوف الهند، فوردوا حومة من الموت أعجزهم الصدر عنها. والحومة: معظم الحرب وغيرها. وحومة البحر: أكثر موضع منه ماء، وكذلك حومة الحوض. ويقال: حام الطائر على الماء يحوم حوماً، إذا دار عليه في الطيران.
وقولها (فوارس حاموا عن حريم) وصفتهم بأنهم حفظوا ما وجب عليهم حفظه من حرمهم. وفي المثل: (لا بقيا للحمية بعد الحرام) أي عند الحرمة، والحرمة: مالا يحل لك انتهاكه، وكذلك المحارم، واحدتها محرمة. قال:
ومحرمات هتكها بجري(1/772)
ومن ذلك قيل: حريم الدار، لما كان من حقها.
وقولها (وحافظوا بدار المنايا) أي ثبتوا في دار الحفاظ، ودافعوا وصبروا، ولم ينتقلواعنها طلباً للسلامة، وحرصاً على نيل الخصب والأمنة. وفي هذه الطريق قول من الآخر:
وتحل في دار الحفاظ بيوتنا ... زمناً ويظعن غيرنا للأمرع
وقولها (والقنا متشاجر) الواو منه واو الحال. وأشار بذلك إلى قيام الحرب بينهم، وانتصاب الشر فيهم، وأن للطعن تلاحقاً كما أن للقنا في الأختلاف تداخلا.
وقولها (ولوأن سلمى) فسلمى: أحد جبلي طيء. والمعنى: لو أن ما نزل بنا من الرزء مثله نزل بهذا الجبل لانهد، ولكن الإنسان صبور شديد، يتحمل كل ما حمل؛ وإن ضوعف على وسعه وثقل. وعامر: قبيلتهم.
وقالت عاتكة بنت زيد بن نفيل
آليت لا تنفك عيني حزينة ... عليك ولا ينفك جلدي اغبرا
فلله عيناً من رأى مثله فتى ... أكر وأحمى في الهياج وأصبرا
إذا شرعت فيه الأسنة خاضها ... إلى الموت حتى يترك الموت أحمرا
روى بعضهم أن علياً عليه السلام استأذن عمر رضي الله عنه في مكالمة عاتكة بنت زيد، وهي يومئذ زوجته، فقال عمر رضي الله عنه: لا غيره منك يا أبا الحسن! فقال علي عليه السلام مازحاً: آنت القائلة:
آليت لا تنفك عيني قريرة ... عليك ولا ينفك جلدي أصفرا
فقالت: لم أقل كذا. وعاودت حزنها وجزعها. ومعنى (لا تنفك) لا تزال.(1/773)
وقولها (فلله عينا) تعجب، وهي في تعظيم الشيء ينسبونه إلى الله عز وجل، وإن كانت الأشياء كلها له تعالى وفي ملكته.
وقولها (أكر) أي لأكثر كرا. و (أحمى) يجوز أن يكون من الحماية ويجوز أن يكون من الحمية. والمعنى: لله عينا رجل رأى فتى مثله أكر منه وأحمى. وقولها (من) نكرة يرتيد رجلاً أو إنساناً. و (رأى مثله) صفة لمن. وقولها (إذا أشرعت فيه الأسنة) ، تريد: في الهياج. ويجوز أن تريد في المرثى، أي قبله. والهياج يجوز أن يكون مصدر هائج، ويجوز أن يكون جمع هيج، والراد به الحرب وقد هاجت. فتريد: إذا هيئت الرماح لطعنه اقتحمها وتلقاها، لا يحيد عنها حتى يخوض الموت بها، فيتركه أحمر، أي شديداً.
ويقال: ميتة حمراء، وسنة حمراء، وسنون حمراوات. ويقولون: (الحسن أحمر) ، أي طلب الجمال تتجشم فيه المشاق.
وقالت امرأة من طيء
تأوب عيني نصبها واكتئابها ... ورجيت نفساً رث عنها إيابها
أعلل نفسي بالمرجم غيبة ... وكاذبتها حتى أبان كذابها
أصل التأوب والتأويب: سير النهار كله حتى يتصل بالليل. وقد فسر ابن الأعرابي قول النابغة:
وليس الذي يتلو النجوم بآيب
على أنه من هذا لا من الأوبة الرجوع. والنصب، من قولهم أنصبه المرض والحزن، إذا أثر فيه. قال:
تعناك نصب من أميمة منصب
وقال الدريدي: يقال نصبه أيضاً. والاكتئاب: الحزن. والمعنى أنه ناب عيني، وواظب عليها من السهر والكآبة والهم الناصب، ماأثر فيها، وعلقت رجائي بنفس غائبة عني قد استعجمت أخبارها علي، فأبطأ رجوعها إلي.(1/774)
وقولها (أعلل نفسي بالمرجم غيبة) تريد: أزجى وقتي وأرضي نفسي بظن مرجوم وأمل مرجو، وحديث مؤلف، وتمن مزخرف فيما لا حقيقة يعتمد عليها، ولا أمارة يتأكد الطمع فيها. ويقال: رجم الرجل بالغيب، إذا تكلم بما لا يعلم.
وقولها (وكاذبتها حتى أبان كذابها) أي استعلمت ملفق الأحاديث ومموه الأباطيل معها، إلى أن برح الخفاء، وانكشف عن جلية الأمر الغطاء، وتعلى رغوة الكذب عن مصدوقة الخبر. والمكاذبة تكون من اثنين، كأنه كان يكذب نفسه فتقتربهوتزيد عليه.
فلهفي عليك ابن الأشد لبهمة ... أفز الكماة طعنها وضرابها
متى يدعه الداعي إليه فإنه ... سميع إذا الآذان صم جوانبها
هو الابيض الوضاح لو رميت به ... ضواح من الريان زالت هضابها
تتلهف على مافات عشيرتهمنه من حسن الدفاع، والثبات في وجه الشجاع الذي لا بدري كيف يدفع، وأنى يؤتى ويقدع، وقد طرد الشجعان وطرقهم ذعراً، شدة مطاعنته، وقوة مضاربته. وقال الخليل: أفزه: أفزعه. واستفزوه: أخرجوه من داره وخدعوه حتى ألقوه في الجهل. وفي القرآن: وإن كادور ليستفزوانك من الأرض ليخرجوك منها. والبهمة تقع على الواحد والجماعة، وهاهنا هي للواحد، بدلالة قولها (متى يدعه الداعي إليه) فلم تقل إليهم، فأما قولها (طعنها وضرابها) فالضمير جاء فيه على لفظ البهمة.
ومعنى (متى يدعه الداعي إليه) ، أنه إذا الداعي لمارزة هذه البهمة ومنازلته، فإنه كان يسمع ويجيب، في وقت تستك فيه المسامع لشدة الأمر، وإلباس الخوف. وجعل الصمم للجواب مجازاً، وإنما تصم الآذان عن السماع فينقطع الجواب.
وقولها (هو الابيض الوضاح) تريد خلوص النسب وزكاء المنصب، واشتهار الذكر في الأفق. وقولها (لورميت به ضواح) تريد نفاذه وحسن خروجه مما يدخل فيه وشدة صدمته للأمور، ولجاجه في إبرامها. فيقول: لو رميت بوارز هذا الجبل به لزعزعها، وهد جوانبها.(1/775)
وقالت العوراء ابنه سبيع
أبكي لعبد الله إذ ... حشت قبيل الصبح ناره
طيان طاوى الكشح لا ... يرخي لمظلمة إزاره
يعصى البخيل إذا أرا ... د المجد مخلوعاً عذاره
تريد أنها إذا تذكرت حال المرثي فيما كان تجري أموره عليه، ويأخذ نفسه به، عاودها البكاء والنحيب. ومعنى (حشت ناره) ضم ما تفرق من الخطب إليها وأوقدت. وإنما تريد نار الضيافة. ومعنى (طيان) صغير البطن، مهضوم الجنبين، قليل الطعم. وقولها (طاوى الكشح) أي يمضى في الأمور لوجهه لا يعرج على شيء ولا ينثني. ويقال: انطوى كشحاً فيصير من باب تصبب عرقاً. قال:
أخ قد طوى كشحاً وأب ليذهبا
وقولها (لا يرخى لمظلمة إزاره) تريد أنه إذا نابته النوائب تجرد لها وفيها وهو مشمر الإزار، مقلص الذيل، فدواها بدوائها، ونهض فيها نهض المقتدرعليها، الفاصل لها.
وقولها (يعصى البخيل) تقول: وإذا أراد اكتساب المجد أهان ماله للفقراء والعفاة، وفي إصلاح أمر العشيرة، وعصى المشير عليه بالإمساك والبخل، فخلع ربقة طاعته، وعذار احتشامه.
وقالت عاتكة بنت زيد
من لنفس عادها أحزانها ... ولعين شفها طول السهد
جسد لفف في أكفانه ... رحمة الله على ذاك الجسد
فيه تفجيع لمولى غارم ... لم يدعه الله يمشي بسبد(1/776)
قولها (من لنفسي) توجع وتشك واستغاثة. وعادها، أي اعتادها. قال:
عاد قلبي من اللطيفة عيد
والمعنى من يؤمن نفساً مما اعتادها من الأحزان، واجتمع عليها في رزئها من الأوصاب والآلام، ومن لعين آذان طول الأرق، ودوام السهر.
وقولها (جسد لفف في أكفانه) لفف بما بعده صفة للجسد، ورحمة الله بما بعده، اعتراض بين الأوصاف، لأن قولها (فيه تفجيع) صفة أيضاً. والكلام تحسر وتلهف. فتقول: رحم الله جسداً جهز بما يجهز به الموتى، وفجع به مواليه الذين كانوا يعيشون في فنائه، فإذا لحق أحدهم غرم وقد ضاقت حاله عن احتماله وشع له في جنابه، وأعانه على دهره بماله. وقولها: (لم يدعه الله يمشي بسبد) تريد أفقره فلم يبق له شيئاً. ويقال: (ماله سبد ولا لبد) ، فالسبد: الشعر، واللبد: الصوف.
وقالت امرأة من بني الحارث
فارس ما غادروه ملحماً ... غير زميل ولا نكس وكل
لو يشا طار به ذو ميعة ... لاحق الآطال نهد ذو خصل
غير أن البأس منه شيمة ... وصروف الدهر تجري بالأجل
قولها: (فارس ما غادروه) ماصلة، والكلام فيه تفخيم لأمر المرثي وتعظيم لشأنه. تريد: تركوا فارساً رفيع المحل ملحماً، أي طعمة لعوافي السباع والطير. قال:
قد ألحمتني المنايا السبع والرحما
وقولها (غير زميل) فالزميل والزمال والزمل: الضعيف، كأنه زمل في العجز كما يزمل الرجل في الثوب. وقولها (ولا نكس وكل) فالنكس: المقصر عن غاية النجدة والكرامة، وأصله في السهام، وهو الذي انكسر فجعل أسفله أعلاه، فلا يزال ضعيفاً. والوكل: الجبان الذي يتكل على غيره فيضيع أمره.(1/777)
وقولها (طار به ذر ميعة) حكى الحال، والمراد لو شاء أنجاه فرس له ذو نشاط. وقال الخليل: ميعة الحضر والنشاط: أولهما وجدتهما. وقولها (لا حق الآطال) تريد: ذامر الجنبين. نهد، أي غليظ، ذو خصل أي من الشعر.
وقولها: (غير أن البأس منه شيمة) تقول: ثبت ولم ير لنفسه الانقباض والإحجام، لأن الصبر في الشدة والبأس عادة منه وطبيعة، ولأن صروف الدهر تجري إلى النفوس بآجالها، ولكل حي وقت من يوم معلوم، فإذا انتهى العمر به إلى ذلك الوقت انقطع.
وقال جرير يرثي قيس بن ضرار
وباكية من نأى قيس وقد نأت ... بقيس نوى بين طويل بعادها
أظن انهمال الدمع ليس بمنته ... عن العين حت يضمحل سوادها
وحق لقيس أن يباح له الحمى ... وأن تعقر الوجناء إن خف زادها
قوله (وباكية من نأى قيس) ألم فيه بقول الآخر:
وكنت أرى كالموت من بين ليلة ... فكيف ببين كان ميعاده الحشر
فيقول: رب امرأة باكية لبعد قيس عن مقر عزه، ومسكن فخره، ونأى قيس الساعة لمنتوى بعده طويل. والنوى: وجهة القوم التي ينوونها، وهي مؤنثة. وأضاف النوى إلى البيتين - وهو الفراق - لأن الغرض في تلك النوى كان مفارقة الأحياء، والتنقل إلى دار القار، فالبين سببها ومقتضيها. وارتفع (بعادها) بطويل، والضمير منها يعود إلى النوى. والواو من قوله (وقد نأت) واو الحال.
وقوله (أظن انهمال الدمع) يريد أن أوقات البكاء متصلة، وآماد سيلان الدموع غير منقطعة، والعين وشؤونها لا تثبت لذلك ولا تقوى به، فلا شكأن سوادها يبطل. وذللك أن مسببات الأشياء إنما تقوى وتدوم بقوة أسبابها ومقتضياتها، فما دام سب البكاء - وهو الحزن والهلع - يملك الباكي ويقود زمامه، فالدمع سائل ذارف، وسواد العين مشف على البطول هالك.(1/778)
وقوله (وحق لقيس أن يباح له الحمى) الأصل في الحمى الماء والكلأ، ولما كان العزيزمنهم يستبيح الأحمية ويحفظ حمى نفسه ويمنع منه كل أحد، وإذا قال أحميت هذا المكان، أي جعلته حمى، كان يتجنب ويتحامى إجلالاً وخوفاً منه - استعير من بعد للقلب وما يمتلك منه الحب أو الحزن أو غيرهما وما لا يمتلك منه، فيصير كأنه حمى العقل. فيقول: حق لقيس وللمصاب به أن يباح له من القلوب ما كان حمى، فلا ينزل به غم، ولا ولا يمتلكه سرور، أي حق للجزع به أن يبلغ من القلب حداً لم يبلغ منه شيء. وقد أخرجوا هذا المعنى في معارض لأنه صحيح حكيم الشريف، فقال كثير في الحب يصف إمرأة:
أباحت حمى لم يرعه الناس قبلها ... وحلت تلاعاً لم تكن قبل حلت
يريد: بلغت من القلب هذا المبلغ.
وأخذه منه عبد الله بن الصمة القشيري، فقال:
فحلت محلاً لم يكن حل قبلها ... وهانت مراقيها لريا وذلت
وأخذه أبو نواس فقال:
مباحة ساحة القلوب له ... يرتع فيها أطالب الثمر
بصحن خد لم يغض ماؤه ... ولم يخضه أعين الناس
فنقل إلى الخد وغمض كما ترى.
وقال آخر يصف ناقة:
حمراء منها ضخمة المكان
يريد عظيمة المكان من القلب. ذكره الأصمعي. يريد أنها محببة. وقد قيل فيه غير هذا. وقوله: (وأن تعقر الوجناء أن خف زادها) كان الواحد منهم إذا مر بقبر رئيس وهو في صحبة أحب أن ينوب عن المقبور في الضيافة، فإذا لم يساعده من الطعام ما(1/779)
يدعو الناس إليه عقر ناقته؛ إكراماً له. لذلك قال (وأن تعقر الوجناء إن خف زادها) . والوجناء: الناقة الصلبة، أخذ من الوجين، وهو الأرض الصلبة. فمن روى (أن خف زادها) بفتح الهمزة، فالمراد لأن خف زادها. ومن روى (إن خف) بكسر الهمزة فهي للشرط. وقد اعتذر بعضهم من ترك ذلك فقال:
لولا السفار وبعد خرق مهمة ... لتركتها تحبو على العرقوب
يعني ناقته.
وقد حكى ابن الأعرابي حكاية مليحة، قال: كان رجل يواصل امرأة فخرج في سفر له وعاد وقد استبدلت به، فأتاها لعادته، فقالت:
ألم تر أن الماء بدل حاضراً ... وأن شعاب القلب بعدك حلت. فأجابها:
فإن تك حلت فالشعاب كثيرة ... وقد نهلت منها قلوصي وعلت
تم باب المراثي بحسن توفيق الله وجميل صنعه، وله على تواتر نعمه، وتتابع أياديه، أجزل الحمد.(1/780)
باب الأدب
قال مسكين الدارمي
وفتيان صدق لست مطلع بعضهم ... على سر بعض غير أتى جماعها
قوله: (وفتيان صدق) أضاف الفتيان إلى الصدق، كما يقال فتيان خير. والمعنى أنهم يصدقون في الود ولا يخونون. وقال الخليل: يقال رجل سوء وإذا عرفت قلت الرجل السوء، ولم تضف، بل تحعله نعتاً. وتقول: عمل سوء وعمل السوء، وقول صدق وقول الصدق، ولا تقل الرجل الصدق، لأن الرجل ليس من الصدق.
فيقول: رب فتيان هكذا استناموا إلي واستودعوني أسرارهم، فكنت أنا نظامها لا يفوتني من خبيثات صدورهم شيء، ثم أردت كلاً منهم بالوفاء له، وكتمان ماأودعني من سره، ولا أطلع بعضهم على ما يستكتمني البعض الآخر، بل أصونه من الإذاعة، وأحفظه من النشر بالطي والصيانة. وذاك لأن حفظ السر يجري مجرى أداء الأمانات، فهو في الدين والدنيا مأخوذ به ومبعوث عليه. وقوله (جماعها) هو كما يقال نظام، لأن النظام اسم لما ينظم به الشيء فهو كالوثائق والرباط، وكذلك الجماع: اسم لما يجمع به الشيء. والضمير من جماعها يرجع إلى الفتيان، ويجوز أن يرجع إلى ما دل عليه الكلام من ذكر الأسرار. وانتصب (غير) على أنه استثناء منقطع.
لكل امرىء شعب من القلب فارغ ... وموضع نجوى لا يرام اطلاعها(1/783)
يظلون شتى في البلاد وسرهم ... إلى صخرة أعيا الرجال انصداعها
قوله (لكل امرىء) يريد لكل رجل منهم جانب من القلب، وشق قد فرغ له وخص بموضع سره ونجواه، لا يطلب الاطلاع عليه والكشف عنه، لما عرف من محافظتي ووفائي. والنجوى يجري على أحكام المصادر: الدعوى، والعدوى، وألفه للتأنيث، ويوصف به الأمر المكتوم. ويقال: نجوته فهو نجى. وقد وصف بالنجوى والنجى الواحد والجمع. وفي القرآن: خلصوا نجيا، وإذ هم نجوى، وما يكون من نجوى ثلاثة. ويقال: تناجوا وانتجوا. وقوله (يظلون شتى في البلاد) يريد أنهم يفارقونه فيتغيبون في أقطار الأرض، وسرهم مكتوم محصن، كأنه أودع صخرة أعجز الرجال صدعها، ويقال: شت الأمر شتاً وشتاتاً، وهو شتيت وشت، وهم أشتات وشتى. فأشتات جمع شت، وشتى: جمع شتيت. ويروى (أعيا الجبال اتضاعها) والمعنى أن هذه الصخرة لإشرافها وثبوتها في موضعها لو رام الجبال حطها لأعجزها ذلك. وقوله (إلى صخرة) أي مضموم إلى صخرة. فتعلق إلى بفعل مضمر دل عليه الكلام.
وقال يحيى بن زياد
لما رأيت الشيب لاح بياضه ... بمفرق رأسي قلت للشيب مرحبا
ولو خفت أني إن كنت كففت تحيتي ... تنكب عني رمت أن يتنكا
ولكن إذا ما حل كره فسامحت ... به النفس يوماً كان للكره أذهبب
قوله (لما رأيت الشيب) لما علم للظرف، وهو لوقوع الشيء لوقوع غيره. وجوابه (قلت للشيب مرحبا) . وكان الواجب أن يقول: قلت له مرحباً ولكنهم يكررون الأعلام وأسماء الأجناس كثيراً، والقصد بالتكرير التفخيم. والمعنى: لما وجدت الشيب اشتعل رأسي ببياضه، طيبت نفسي بطلوعه وقلت له: أتيت رحباً وسعةً. وقوله (مرحباً) انتصب على المصدر. ويقال: رحبت بلادك رحباً ورحابة.(1/784)
وحكى رحبت بلادك بكسر الحاء ترحب رحباً. والرحبة والرحبة، واحد وهما ساحة المسجد.
في قوله (ولو خفت) يريد بخفت رجوت، وهم يضعون كل واحد من الرجاء والخوف موضع الآخر. ألا ترى قولع تعالى: إنهم كانوا لا يرجون حساباً، أي لا يخافون. وقول الآخر، وهو الهذلي: (يرجون لسعه) . يعني النحل. فيقول: لو رجوت أني إذا تكرهت الشيب وتسخطته، وكففت عن إظهار الرضا به والسرور لطلعته فارقني وانحرف عني، لرمت ذلك، ولكن إذا حل مايكرهه فطاوعت نفسه به، وتلقاه بالصبر عليه، كان ذلك أعون على زوال الكراهة فيه، وإلا اجتمع وجهان مما يشق نزوله به، واغتنامه له. وقوله (فسامحت به النفس) أي ساهلت. ومنه قيل: عود سمح أي لا ابن فيه. ومما يجري مجرى المثل: (إذا لم تجد عزا فسمح) أي لن وهن. وقوله (كان للكره أذهبا) كان الحكم أن يقول أشد إذهاباً، لأن الفعل منه ليس بثلاثي. ولكن على طريقة سيبويه يحىء أن يبنى فعل التعجب مما كان على أفعل أيضأ، وإن كان الباب على الثلاثي. ةقد يمكن أن يقال: إنما قال (أذهبا) على حذف الزوائد. ألا ترى قوله:
فإن وجدنا العرض أفقر ساعة ... إلى الصون من برد يمان مسهم
والفعل لم يجيء إلا افتقر، فكأنه نوى حذف الزوائد ورده إلى فة، وعليه جاء (فقير) وإن لم يستعمل الفعل.
وقوله (ولكن إذا) لكن جاء في هذا المكان لترك قصة إلى قصة، وهي إذا جاءت عاطفة كانت لاستدراك بعد النفي. وجواب (لو) في قوله: لو خفت (رمت أن يتنكبا) ، وجواب إذا من قوله (إذا ما حل كره) : (كان للكره أذهبا) . ويوماً انتصب على الظرف، والعامل فيه حل، واسم كان ما دل عليه قوله سامحت، كأنه قال: كان المسامحة أذهب للكره.(1/785)
وقال المرار بن سعيد
إذا شئت يوماً أن تسود عشيره ... فبالحلم سد لا بالتسرع والشتم
وللحلم خير فاعلمن مغبة ... من الجهل إلا أن تشمس من ظلم
جواب وقوله (إذا شئت) قوله فبا لحلم، والمعنى أن السيادة لها آلات، وإليها مراق ودرجات، فمن أتاها من وجهها ومأتاها تمت له؛ وذاك أن منها استعمال الحلم، وترك التعجل، وكظم الغيظ، وتسهيل الجانب، والاحتمال في النفس والمال والجاه، إلى غير ذلك مما يطول ذكره. فمن صبر في طلب الرياسة وحصول سيادة العشيرة، على هذه الخصال، فهو حقيق بإدراكها، فإن أخذ يخشن جانبه ويقطب وجهه، ويغلظ كلامه، ويوسع غيظه ويفظظ قلبه، ويعجل الطاعة له، نفرت العشيرة منه، وبانوا عنه. لذلك قال من قال:
فإن كنت سيدنا سدتنا ... وإن كنت للخال فاذهب فخل
وقوله (وللحلم خير فاعلمن مغبة) انتصب على التمييز. قوله (فاعلمن) حشو. فإن قيل: كيف اختير هذا البيت بهذا الحشو، والمتكلم إذا استعمل في كلامه مع المخاطب أعلم وأسمع وما يجري مجراهما، عد ذلك منه عيا؟ قلت: إن هذه اللفظة في هذا المكان محتاج إليها في عمدة المعنى المقصود، وإن ما أشرت إليه إنما يكون زوائد وفضولاً لا يحتاج إليه، فإذا وصل المتكلم بها كلامه مستعيناً بها عد منه خطلاً وعيا، وهو في هذا الكان وصاه بالفكر فيما أورده والتبين له، وبمعرفة الحلم ووقته حتى يدري كيف يأخذ به. فقوله: فاعلمن، فاعرفن، ومفعوله محذوف، والمراد فاعلمن الحلم ومغبته، فأطلق. رجع فيما أشار به مطلقاً، واستثنى في كلامه فقال: إلا أن تنفر من ظلم يركبك، وهضيمة تنالك؛ فإن الجهل في ذلك الوقت أرجح في الاختيار من الحلم، إذ كان صدم الشر بالشر أقرب، ودفع الجهل بالجهل أحلم. ويقال: غبت الأمور، إذا صارت إلى أواخرها. وإن لهذا الأمر لمغبة محمودة، أي عاقبة. وقوله (تشمس) ، يقال إنه لذو شماس شديد، إذا كان عسراً. وشمس لي فلان إذا تنكر وهم بالشر.(1/786)
؟
وقال عصام بن عبيد الله
أبلغ أبا مسمع عني مغلغلة ... وفي العتاب حياة بين أقوام
أدخلت قبلي قوما لم يكن لهم ... في الحق يدخلوا الأبواب قدامى
قوله (مغلغلة) أي رسالة يغلغلها إلى صاحبها. وهو من قولهم: تغلغل الماء، إذا دخل بين الأشجار، وغلغلته أنا. وقال الدريدي: الغلغلة: دخول الشيء في الشيء. وقال الخليل: الغلغلة: سرعة السير. يقال تغلغلوا ومضوا. ورسالة مغلغلة: محمولة من بلد إلى بلد. وقوله (وفي العتاب حياة بين أقوام) اعتراض، وقد مر القول في فائدة الاعتراضات. والمعنى أنهم ماداموا بتعاتبون فإن نياتهم تعاود الصلاح وتراجعه، وإذا ارتفع العتاب من بينهم انطوت صدورهم عن الإحن والضغائن، وظهر الشر على صفحات أقوالهم وأفعالهم، فاهتاجت الحميات، وأنتجت من سوء عقائدهم البليات. وفي طريقته قال أبو تمام:
إن الدم المغتر يحرسه الدم
وقال غيره: (القتل أقل للقتل) . فأما قول الله تعالى: ولكم في القصاص حياة فإن بلاغة القرآن لا تدانيها بلاغة، وكل كلام وإن علا ينحط دونه. والرسالة قوله: أدخلت قبللي يوماً. والمعنى أنك قدمت على في الإذن والدخول قوماً لم يكن من حقهم أن يتقدموا على إذا وردنا الأبواب، ولا بلغت من محالهم ورتبهم أن ترفع على ما يقسم لي في مجالس الكبار. وقوله (أن يدخلوا الأبواب) حقه عند سيبويه أن يقال أن يدخلوا في الأبواب، يجعله مما يتعدى في الأصل بحرف الجر ثم يحذف الجار من اللفظ تخفيفاً. ومسألة الكتاب: دخلت البيت. وغيره يذهب إلى أنه مما يتعدى تارة بنفسه وتارة بحرف الجر، وفي أنهم يقولون دخلت في الأمر فيعدى بفي لا غير، وأن ضده وهو خرجت يتعدى بحرف الجر، بيان لصحة قول سيبويه.
ولو عد قبر وقبر كنت أكرمهم ... ميتاً وأبعدهم من منزل الذام(1/787)
فقد جعلت إذا ماحاجتي نزلت ... بباب دارك أدلوها بأقوام
قوله: (لو عد قبر وقبر) المراد به والأصل فيه: لو عدت القبور قبراً قبراً، إلا أنه اختصر الكلام وحذف القبور ورفع قبراً على أن يقوم مقام الفاعل، فلما رفعه وأزاله عن سنن الحال في نحو قولهم: بعت الشاء شاة شاة، وقبضت المال درهماً درهماً، وصمت رمضان يوماً يوماً، رد حرف العطف، وإنما قلت هذا لأنه من مواضع العطف، لكنهم اتسعوا في الحال لعلم المخاطب. وقال سيبوبه: إن الغالب على هذا الباب كله أن يكون انتصابه من إحدى الجهتين: الحال أو الظرف، لأن الاتساع منهم على هذا الحد والجواز لم يكن إلا فيهما. والظرف كقوله: لقيته يوم يوم، وصباح مساء، وماجانسهما. قال: والإفراد في هذا الباب لا يجوز حماية على المعنى الذي يتضمنه التكرار.
وإن قيل: هل يجوز على ما بينت: لو عدت القبور قبر وقبر، على البدل، وكذلك بين حسابه باب وباب؟ قلت: لا يجوز ذلك، لأن القصد والغرض من الكلام، وقد أجرى على ماتقدم، التفصيل والتتابع، ومن الإبدال على ما ذكرت لا يتبين ذلك. ومع ذكر القبور يحذف من الاسمين المترجمين عن الحال بعده. لا يجوز بعت الشاء شاة وشاة؛ فكذلك هذا، على أن بابي الحال والظرف يحتملان من التوسع ما يضيق عنه أكثر أبواب الإعراب ويعجز، وإذا كان كذلك لم يجز تجاوزهما بالاتساع فيهما إلى غيرهما. ألا ترى أنه لو قال: لو عد قبران كنت أكرمهما ميتاً، لم يجز، ولم يتبين منه ذلك المعنى، وإن كان المعطوف والمعطوف عليه إذا قلت جاءني رجل ورجل بمثابة جاءني رجلان.
ومعنى البيت: لو عدت القبور منوعة مفصلة - وإنما يعني أسلاف من قدم عليه في الإذن والدخول خؤولة وعمومة - لكنت أكرمهم أباً، وأشرفهم بيوتاً. فكنى عن البيت والمنصب بقوله (وأبعدهم من منزل الذام) أي من منزل العيب، لأن الذام والذم بمعنى. يقال: ذامه يذيمه، كما يقال ذمه يذمه، وحيث يحصل العيب يحصل الذم، أظهر أو لم يظهر.
وقوله (فقد جعلت إذا ماحاجتي نزلت) يريد بجعلت طفقت وأقبلت. يقال: جعل يفعل كذا. والمعنى: أنى قعدت عنك وتركت زيارتك، وإذا اتفق مالا بد لي منك ومن معونتك من حاجة أو عارض سبب فإني معتمد على غيري في التنجز(1/788)
والاستسعاف. ومعنى (أدلوها) من قولك دلوت الدلو، إذا أخرجتها من البئر، أي أتسبب بغيري، وأصون من التبذل عرضي.
وقال شبيب بن البرصاء
وإني لتراك الضغينة قد بدا ... ثراها من المولى فما أستثيرها
مخافة أن تجنى علي وإنما ... يهيج كبيرات الأمور صغيرها
يقول: إني أصابر موالي وأحتمل أذاهم، وأعفى على فرطاتهم ما وجدت سبيلاً إلى الصبر، فأترك ضغائهم تبدو أوائلها، وتظهر مخابلها، ولا أكشف عنها ولا أطلب ثورانها، مخافة أن يستفحل الشر ويرجع الصغير منه كبيراً، وسهله عسيراً؛ فإن أوائل الأمور كلها ضعيفة ضيقة، فإذا اتفق لها من يهيجها ويزيد في موادها قويت واتسعت. والتراك: بناء المبالغة، وهو الكثير الترك للشيء، وليس هو باسم الفاعل من ترك. والضغينة والضغن والضغن واحد، وهي الحقد والعداوة. ويقال: ضغن على واضغن. وقال الخليل: الضغن في الدابة: عسره والتواؤه. ودابة ضغنة، إذا نزعت إلى وطنها. والثرى: الندى، والفعل منه ثرى. والمراد به هاهنا ما يستدل به على كامن الحقد. ويقال: ثار الأرنب من موضعها، واستثرتها أنا. وقوله (مخافة) انتصب على أنه مفعول له، و (أن تجنى) في موضع المفعول منها، وقد أضافها إليه، وقوله (صغيرها) يراد به الكثرة، أي صغائرها.
لعمري لقد أشرفت يوم عنيزة ... على رغبة لو شد نفسي مريرها
تبين أعقاب الأمور إذا مضت ... وتقبل أشباها عليك صدورها
قوله (على رغبة) أي على مرغوب فيه، كأنه كان ظهر له من الفرص في صاحبه مالو انتهزها ولم يغفل عنها لكان فيها الاشتفاء منه، ودرك المطلوب في بابه، فلما لم يفعل وأصر صاحبه على مساءته أخذ يتحسر. وقوله (لو شد نفسي مريرها) يريد: لو قوى نفسي عزيمها، وحصيف رأيها. والمرير: الممر المحكم. ووصف(1/789)
الحبل به لذلك. ويقال: استمر مرير فلان، إذا استحكم رأيه واستحصف. وعنيزة: موضع.
وقوله (تبين أعقاب الأمور إذا مضت) مثله قول القطامي:
ولا يعلم الغيب امرؤ قبل ما يرى ... ولا الأمر حتى تستبين دوابره
وأكشف منه قول حميد بن ثور:
أشبه غب الأمر ما دام مقبلاً ... ولكنما تبيانه في التدبر
وأعقاب الأمور: أواخرها. ويروي: (تبين أدبار الأمور إذا انقضت) يراد به تتبين. وانتصب (أشباها) على الحال.
إذا افتخرت سعد بن ذبيان لم تجد ... سوى ما ابتنينا ما يعد فخورها
ألم تر أنا نور قو وإنما ... يبين في الظلماء للناس نورها
يقول: مفاخر سعد ومباني مكارمها على ما أسسه قديمنا، وعمره حديثنا، فمتى استعرضت المساعي في منافرة الخصوم لم تجد بنو سعد ما يعتمده فخورها، ويكاثر به خصيمها، إلا ما شيدناه على مر الأيام، وتعاقب الأحوال. فقوله (سوى ما ابتنينا) استثناء مقدم. و (ما) يعد في موضوع مفعول لم تجد.
وقوله (ألم تر) تقرير لمن تصوره مخاطباً فيقول: أما علمت أنا لأهل قو بمنزلة النور للأبصار، فهم بنا يهتدون، وبمعالنا يقتدون، ولمراسمنا يقتفرون، وبسنا رأينا يستضيئون، ولولا ذلك لكانوا يتوقفون في مراشدهم فلا يقضون، ويتحيرون في آرائهم فلا يمضون، كما أن الناس لولا ما يمد به النور أبصارهم في رواكد الظلم حتى يتبينوا المرئيات، ويتميزوا أشباح المدركات على حقائقها، لوقفوا حيارى لا يتقدمون ولا يتأخرون.
ومفعول (يبين) محذوف، والضمير من نورها يعود إلى الظلماء لما كان يتعقبها. وهم يضيفون الشيء إلى الشيء لأدنى تناسب بينهما.(1/790)
وقال معن بن أوس
لعمرك ما أدرى وإني لأوجل ... على أينا تعدو المنية أول
لعمرك مبتدأ، وخبره مضمر، وفيه معنى القسم، وقد تقصى القول فيه. وقوله (إني لأوجل) مما جاء فيه أفعل ولا فعلاء له، كأنهم استغنوا عن وجلاء بوجلة. ويقال: وجلت أوجل وآجل وجلاً، وهو وجل وأوجل. وقلبي من كذا أوجل وأوجر، بمعنى. ويروى: (تعدو المنية) و (تغدو) ومعناهما ظاهر. وأول، بني على الضم، كما فعل ذلك بقبل وبعد، وذاك انه لما كان أصله أفعل الذي يتم بمن، وأضيف من بعد، وجعل الإضافة فيه بدلاً من من، والمضاف إليه من تمامه ثم حذف المضاف إليه ليعلم المخاطب به، وجعل في نفسه غاية، وكان معرفة كما كان قبل وبعد كذلك وجب أن يبنى كما بنيا. وموضعه نصب على الظرف. ومعنى البيت: وبقائك ما أعلم أينا يكون المقدم في عدو الموت عليه، وانتهاء الأجل إليه، وإني لخائف مترقب. فموضع (على أينا) نصب لأنه مفعول ما أدرى، والذي لا يدريه هو مقتضى هذا السؤال. وقوله (إني لأوجل) اعتراض.
وأني أخوك الدائم العهد لم أحل ... إن ابزاك خصم أو نبا بك منزل
أحارب من حاربت من ذي عدواة ... وأحبس مالي إن غرمت فأعقل
يقول: إني وديدك الذي يدوم عهده، ويتصل على تقلب الأحوال وتبدل الأبدال، ولا يحول إن تطاول عليك الخصم، أو بطش بك عدو، أو ضاق عنك منزل، فاحتجت إلى التحول عنه والاستبدال به. وقال الخليل: يقال أبزيت بفلان، إذا بطش به وقهرته. وحكى الدريدي: بزاه يبزوه بزواً، إذا قهره. وأنشد:
جارى ومولاي لا يبزي حريمهما ... وصاحبي من دواء السر مصطحب
ويبزى يكون مستقبل بزى وأبزى جميعاً. والله أعلم. ويجوز أن يكون أبزى منقولاً بالألف عن بزى يبزى بزى فهو أبزى، وامرأة بزواء؛ وهو دخول الظهر(1/791)
وخروج البطن. ويكون المعنى: إن خفض منك خصم، أو طأطأ من إشرافك عدو، وحملك من الثقل ما يبزى له ظهرك، فلا تطيق الثبات تحته، والنهوض به.
وقوله (أحارب من حاربت) هو تفسير دوام عهده وثبات وده. والمعنى تجدني ذاباً نك واقعاً معك، أرصد الشر لأعدائك، وأدافعهم دونك، وإن أصابك غرم حبست مالي عليك، واحتملت فيه الثقل عنك. وكان الواجب أن يقول: فأعقل عنك، لأنه يقال عقلته إذا أعطيت دبته، وعقلت عنه إذا غرمت ما لزمه في ديته. وقال الخليل: الغرم لزوم نائبة في مال من غير جناية. والمال إذا أطلق يراد به الأبل. ويجوز أن يكون معنى فأعقل: أشدها بعقلها بفنائك، لندفعا في غرامتك.
كأنك تشفى منك داء مساءتي ... وسخطى وما في ريثي ما تعجل
قوله (مساءتي) يريد مساءتك إلى، وكذلك (سخطى) يريد سخطك علي، فأضافهما إلى المفعول. ويقال: مساءة ومسائية. والسخط والسخط لغتان، ومثله السقم والسقم، والعدم العدم، وهو نقيض الرضا. ويقال: سخطته وتسخطته، إذا لم ترض به، وإن كان في التفعل فضل تكلف. ومعنى البيت أنك تستمر في إساءتك إلى وسخطك علي، حتى كأن بك داء ذاك شفاؤه، وما تطلبه من عجلتي لا تجده في بطئي، أي ما تقدره يتعجل لك من المكاشفة بيني وبينك، واستثارة الحقد الكامن فيك، لا يحصل لك مني متباطئاً أيضاً. والمعنى أني أصابرك وأتركك على مداجاتك.
وإن سؤنني يوماً صفحت إلى غد ... ليعقب يوماً منك آخر مقبل
ستقطع في الدنيا إذا ما قطعتني ... يمينك فانظر أي كف تبدل
قوله (وإن سؤنني يوماً) يقال: سوؤت فلاناً، وسؤت له وجهه مساءة ومسائية. والمعنى: أني لا أؤاخذك بما يظهر من مساءتك، بل أقابله بصفح جميل عنك، انتظاراً لفيئة تظهر منك في مقتبل أمرك، ومراجعة تعفى على قبيحك، فإن لم يتفق منك عقبى حسنة تنسى زلاتك، بل تتابع بين مسببات القطيعة وموجباتها بما تظهره من الجفاء والعقوق فيما يجمعني وإياك، فإنك تقطع أخاً هو في مظاهرتك، وانطواؤ(1/792)
على مساعدتك، والدخول تحت طاعتك في كل ما يعن ويعرض لك، بمنزلة يدك اليمنى، فانظر من بعد من تعتاض منه، وعلى من تعول إذا صارمته. وانتصب (أي كف) ب (تبدل) . وقوله (ليعقب يوماً منك آخر) يجوز أن يكون من قولهم أعقب هذا ذاك، أي صار مكانه، ويكون المعنى: ليصير مكان يوم من أيامك مذموم يوم آخر منها مقبل محمود. وهذا حسن. ويجوز أن يكون أعقب غير متعد، بيعقب، ويكون قوله يوماً منك ظرفاً. والمعنى: ليصير ما يقبل من أمرك يوماً ذا عاقبة محمودة. ويجوز أن يكون من أعقب فلان عزا، أي أبدل، ويكون المعنى: ليعقبنا يوماً منك محموداً أمر آخر مؤتنف. ورأيت من يرويه: (ليعقب يوماً منك آخر) بفتح الياء، ويكون من قولهم عقب فلان فلاناً إذا خلفه، وهما عقيبان، وقد اعتقبا ةتعاقبا. ويكون المعنى: ليخلف يوماً منك يوم آخر مقبل.
وفي الناس إن رئت حبالك واصل ... وفي الأرض عد دار القلى متحول
إذا أنت لم تنصف أخاك وجدته ... على شرف الهجران إن كان يعقل
ويركب حد السيف من أن تضيمه ... إذا لم يكن عن شفرة السيف مزحل
قوله (وفي الناس إن رثت حبالك واصل) إظهار للزهد في وداده إذالم يستقم معه. ويقال: رث الثوب يرث رثوثاً ورثاثة. وقال أبو زيد وأبو عبيدة: رث المتاع وأرث جميعاً. وأنشد لعدي:
أرث جديد الوصل من أم معبد
وفي طريقة ما قاله لبيد:
واحب المجامل بالجزيل وصرمه ... باق إذا ضلعت وزاغ قوامها
وقول أوس:
وإن قال لي ماذا ترى يستشيرني ... يجدنب ابن عم مخلط الأمر مزيلا(1/793)
فيقول: إذا رغبت عن مواصلتي، وتقطعت حبال الود بيني وبينك ففي الناس واصل غيرك، وإذا نبا بي جوارك، وضاق عني أرضك وديارك ففي جوانب الأرض سعة ومزحل عنك، سيما والتحول عن دار البغض والنبو لى عادة أعتادها، وسنة أسيرها ولا أعدل عنها، وأعلم أنك إذا لم تعط أخاك النصفة ولم توفر حقوقه متوخياً المعدلة، ولم يوجب به عليك مثل ما توجبه لنفسك عليه، ألفيته هاجراً لك، مشارفاً قطيعتك، مستبدلاً بك وبمؤاخاتك إن كانت به مسكة، أو يمتلكه عقل ومعرفة، ثم لا يبالي أن يركب من الأمور ما يقطعه تقطيع حد السيف ويؤثر تأثيره فيه، مخافة أن يدخل عليه ضيم، أو يلحقه عار واهتضام، متى لم يجد عن ركوبه مبعداً ومعدلاً. وكما قال هذا (دار القلى) قال غيره:
دار الهوان لمن رآها داره
وقوله (من أن تضيمه) معناه بدلاً من أن تضيمه. ويجوز أن يريد بركوب السيف على الحرب والموت. وشفرة السيف: حده. والشفير: حرف كل شيء، منه.
وكنت إذا ما صاحب رام ظنتي ... وبدل سوءا بالذي كنت أفعل
قلبت له ظهر المجن فلم أدم ... على ذاك إلا ريث ما أمحول
إذا انصرفت نفسي عن الشيء لم تكد ... إليه بوجه آخر الدهر تقبل
يقول واذا رأيت صاحبي يتجنى علي ويتجرم، ويتطلب على ما ينتج ظنه ويولد تهممة، وطفق يفبح آثاري، ويبدل حسناتي، اتخذته عدواً، وقلبت له ظهر الترس متقياً منه، ومدفعاً له، ولم أدم على تلك الحال المتقدمة معه إلا قدر ما أتحول، وبطء ما أتثقل. فقوله (رام ظنتي) أي رام ارتفاع التهنة علي. وقوله (بالذي كنت أفعل) أي أفعله، فحذف الضمير استطالةً لصلة الذي.
وقوله (إذا انصرفت نفسي) يريد أني أمد نفسي التصبر ما أمكن، فاذا أعجزتني الحال العارضة عن الاحتمال انصرفت مالكاً عناني، ثم لايثنيني على ما أعرضت (عنه) شيء أبد الدهر. (وقوله بوجه) الباء تعلق بقوله تقبل أي لم تكد تقبل إليه بوجه من الوجوه، وعلى لون من الالوان.(1/794)
وقال عمرو بن قمية
يالهف نفسي على الشباب ولم ... أفقد به إذ فقدته أمما
إذ أسحب الريط والمروط إلى ... أدنى تجاري وأنفض اللمما
لاتغبط المرء أن يقال له ... أضحى فلان لعمره حكما
إن سره طول عيشه فلقد ... أضحى على الوجه طول ما سلما
يتحسر على ما فاته من الشباب وحسن أيامه، ونضارة العيش به، فقال: يا حسرة نفسي على مقتضى الشباب ومتوليه، فإن ما فاتني منه لم أفارق به أمراً قريباً، وشيئاً هيناً، لكني فقدت به صحة بدني، وروعة وجهي، وطيب عيشي، وقوة روحي، حين كنت أجر ريطتي (وهو الإزار الذي ليس بملفق) ومروطي (وهو جمع مرط، وهو ملحفة يؤتزر بها) إلى أقرب الخمارين إلى وأنفض شعر رأسي إعجاباً به، واستحسانا له، وطرباً يداخلني في جميع أسبابي معه. ثم قال مزرياً بالشيب وبما يكتسبه المرء اذا علاه، من إكبار الناس له، وتقديمهم في المجالس إياه، ومن الرجوع إلى قوله، واستشارتهم فيما يعز من الخطوب رأيه، فقال: لاتغبطن الرجل ولا ترمقن ولاتجعلن محسداً اذا قيل فيه: صار فلان حكماً في عشيرته لكثرة تجاربه، وامتداد عمره، ودوام مزاولته للأمور، واتصال لقائه للناس وممارسته لهم وفيهم، لأنه إن سره امتداد عمره، وتنفس عيشه فلقد ظهر في نفسه من ضعف وانحناء، وعلى وجهه من ذبول وسهوم إلى غيرها مما يدل على طول سلامته التي هي الداء الذي لادواء له. ومثل هذا قول الشاعر:
وحسبك داءً أن تصح وتسلما
وقول الآخر:
فدعوت ربي بالسلامة جاهداً ... ليصحني فإذا السلامة داء(1/795)
وقوله (أن يقال له) أراد لايغبط لأن يقال له، ومن أجل أن يقال له. وقوله (أدنى تجاري) إظهار لغلوه في سباء الخمر وسرفه، ثم تبجح بإضافتهم إلى نفسه.
وقال إياس بن القائف
يقيم الرجال الأغنياء بأرضهم ... وترمي النوى بالمفترين المراميا
يفضل الغنى على الفقر ويبعثه على طلبه وارتياده. فقال: ترى الموسرين يتودعون، وتطول إقامتهم في دورهم وأرضهم يمتعون، والفقراء تراهم ترتمي بهم البلدان النائية، وتقذف النوى بهم المقاذف البعيدة، والمهالك المستصعبة، فلا يهدؤون ولا يقرون. والنوى: وجهة القوم التي ينوونها. والمرامي: جمع مرمى، وهو المكان لاغير هنا، لأنه قابل الأغنياء بالمقترين، وأرض الأغنياء بمرامى الفقراء، لأنهم لاتذوبهم دار أبداً، فمجال تسيارهم لكسبهم وتصرفهم كدور أولئك لهم. ومفعل يكون اسماً للحدث، وزمانه، ومكانه.
فأكرم أخاك الدهر ما دمتما معاً ... كفى بالممات فرقة وتنائياً
إذا زرت أرضاً بعد طول اجتنابها ... فقدت صديقي والبلاد كما هيا
يقول: أحسن صحبة أخيك وصاحبك. وتناوله بالإكرام طول الدهر ومدة العمر، فإن المنايا كفتك مفرقةً ومبعدةً. وقوله (الدهر) انتصب على الظرف، وما دمتما انتصب على أنه بدل من الدهر. وانتصب (معاً) على أنه خبر ما دمتما. ومعنى ما دمتما معاً: مدة بقائكما ودوامكما مجتمعين. وقوله (كفى بالمنايا) موضع بالمنايا رفع على أنه فاعل كفى. وانتصب (فرقةً) على التمييز، أو يكون في موضع الحال، كأنه قال: كفى بفرقة المنايا فرقةً. والتقدير: كفى فرقةً بالمنايا من فرقة، أو كفى المنايا مفرقة ومتنائية.
وقوله (إذا زرت أرضاً بعد طول اجتنابها) هذا الكلام توجع وتشك من نوائب الدهر. يقول: أرى الإخوان تخترمهم المنايا فهم يتفاقدون، وبلادهم وأروضهم على ما كانت عليه، فمتى زرت مكاناً بعد طول العهد به وجدت أصدقائي مفقودين،(1/796)
وأماكنهم كما كانت. وقد تقدم القول في إعراب (كما هيا) وقول صديقي يراد به الكثرة لا الواحد.
وقال ربيعة بن مقروم
وكم من حامل لي ضب ضغن ... بعيد قلبه حلو اللسان
ولو أني أشاء نقمت منه ... بشغب أو لسان تيحان
كم لفظة وضعت للتكثير، كما أن رب وضع للتقليل، إلا أنه اسم ورب حرف وله موضعان: الاستفهام، والخبر، وهو من باب الخبر هنا. والضب: الحقد. قال:
فما زالت رقاك تسل ضغني ... وتخرج من مكامنها ضبابي
وأضافه إلى الضغن لأن الضغن العسر، فكأنه حقد عسر ولجاج. فيقول: كثير من الرجال يحملون لي الضغائن، ويسرون لي البغضاء، وقد حلا منطقهم لي جرياً على سنتهم في المداجاة، وبعد قلبهم مني استمراراً في طريق الشنآن لي والمعاداة، ولو شئت لانتقمت منه بالفعل أو بالقول، فإني لساني عريض ويدي عالية، يتأتى له مكافأة كل الناس على مقدار فعله، ونقمت منه بمعنى انتقمت. ونقم ونقم لغتان. والتيحان لا يكسر ياؤه، وقد مضى القول فيه.
ولكني وصلت الحبل منى ... مواصلةً بحبل أبى بيان
وضمرة إن ضمرة خير جار ... علقت له بأسباب متان
هجان الحي كالذهب المصفى ... صبيحة ديمة يجنيه جان
قوله (ولكني وصلت الحبل منى) يقول: أبقيت على من يعاديني ولم أعجل مؤاخذته بإساءته وإصراره. وتماديه فيما أكرهه ولجاجه، لأني قد واصلت أبا بيان(1/797)
وعلقت حبلي بحبله؛ وكذلك احتشمت ضمرة لأنه خير جار، وقد استحكمت بيني وبينه أواصر حفظها عن القطيعة واجب، ولأن العصم المتينة التي تجمعنا تلزمني الوقوف فيما يكرهانه، وترك ما لا يؤمنني استيحاشهما، وهما مع ذلك كرام الحي لا غائلة لهما، ولاشبهة في مصافاتهما وحسن عقيدتهما، فما ودهما إلا كإبريز الذهب، المصفى، وما يظهر من معادن الذهب صبيحة مطرة تكشف عن عروق الذهب، فيجتنيه المجتنون، أي يلتقطه الملتقون. وهذا الذي وصفه يقال إنها تكثر في نواحي اليمن واليمامة، وتسمى تلك المعادن معادن اللقط، فإذا مطرت وانكشفت الهبوات والغبار عن وجوه حجارتها يظهر من عروق الذهب في صفائحها مثل ماوصفه أو أحسن.
وقوله (هجان الحي) ارتفع على أنه خبر مبتدأ محذوف، كأنه قال: هم هجان الحي. وهجان جمع، وواحده هجان أيضاً، لأن فعيلا وفعالاً يشتركان في الجمع كثيراً؛ فهجان جاء من هجان واحداً كظراف من ظريف. وقوله (كالذهب) في موضع الحال، وكذلك قوله (يجنيه جان) حال من الذهب المصفى. وقوله (مواصلةً) يجوز أن يكون مصدراً في موضع الحال، أي مواصلاً، ويجوز أن يكون موضوعاً موضع صلة فيكون مصدراً من غير لفظه، مثل قوله تعالى: (والله أنبتكم من الأرض نباتاً) : وقوله (يجنيه جان) وضعه موضع يلقطه.
؟؟
وقال سلم بن ربيعة
إن شواءً ونشوةً ... وخبب البازل الأمون
يجشمها المرء في الهوى ... مسافة الغائط البطين
والبيض يرفلن كالدمى ... في الريط والمذهب المصون
والكثر والخفض آمناً ... وشرع المزهر الحنون
من لذة العيش والفتى ... للدهر والدهر ذو فنون
واليسر كالعسروالغنى ... كالعدم والحي للمنون(1/798)
هذه المقطوعة خارجة عن البحور التي وضعها الخليل بن أحمد، وأقرب ما يقال فيها أنها تجيء على السادس من البسيط، وليس هذا موضعاً لبسط الكلام فيه.
والنشوة: الخمر والسكر. والخبب والخبب: ضرب من السير. والبازل: التي قد استكمل لها تسع سنين فتناهى قوتها. والأمون: الموثقة الخلق. وخبر إن في قوله (من لذة العيش) .
وقوله (يجشمها المرء) من صفة البازل والمعنى يكلفها صاحبها قطع المسافة البعيدة فيما يهواه. والمسافة مأخوذة من السوف، وهو الشم. وكان الدليل إذا اشتبه عليه الطريق يفعل ذلك. والغائط: المطمئن من الأرض. والبطين: الواسع الغامض.
وقوله (والبيض يرفلن كالدمى) يعنى به النساء. ويرفلن: يتبخترن في الريط، وهي الملاءة الواسعة. والمذهب المصون؛ يراد به الثياب الفاخرة المطرزة بالذهب. وتعلق في من قوله (في الريط) بيرفلن، وكا الدمى في موضع الحال. والمعنى: والنساء البيض يتبخترن في المصونات من الثياب الكريمات وهن مشبهات للصور. والكثر انعطف على البيض، كما أن البيض انعطف على (وخبب البازل الأمون) . والمراد بالكثرة كثرة المال ومساعدة الحال، وضده القل. وقال الخليل: كثر الشيء: أكثره، وكذلك قله أقله. والخفض: التودع. وانتصب (آمناً) على الحال، وانعطف (وشرع) على الخفض. فيقول: إن لذات الدنيا من مأكول ومشروب وملبوس، ومركوب وقد استعمله صاحبه فيما يهواه، وكلفه قطع المسافات فيما تدعوه إليه نفسه، والنساء البيض بالصفة التي ذكرها، والغنى والراحة في الأمن والملاهي، جميع ذلك من لذة العيش. وقوله (وشرع المزهر) أي الأوتار، واحدها شرعة. والمزهر: العود. والحنون: يريد به الصبت من الحنين، فكأنه أشار إلى المزهر منقوراً ينقره الملهى. فانظر فإنه جمع كل ما يلتذ به النفس، وجعلها تامة بما قرن به من حال الأمن، لأن جميع ذلك إذا عرى من الأمن لم يستعطب ولم يستمراً.
ثم قال: (والفتى للدهر والدهر ذوفنون) الواو واو الحال، وذو فنون أي ضرب. يريد: أن كل ذلك مما يتلذ العائش به، لكن الفتى مهدف للدهر، والدهر ذو تارات: كما يهب يرتجع، وكما يسلم بعل، وكما يودع يتعب، وكما يصفى(1/799)
يكدر، وبعد ذلك قال:
واليسر كالعسر والغنى ... كالعدم والحي للمنون
يريد أن شيئاً من هذه الأحوال لا يدوم إلا ريث ما يسلط عليه القواطع والمغيرات، فاليسار إذا حصل كالإعسار، في أن واحداً منهما لا يبقي، وغنى النفس كفقرها، ثم انتهاء كل ذلك للحي منا إلى الموت الذي لا غاية وراءه، وليس يتخلص منه بحيلة تنقذ، أو روية تعمل.
وقال آخر:
وأنت امرؤ إما ائتمنتك خالياً ... فخنت وإما قلت قولاً بلا علم
فأنت من الأمر الذي كان بيننا ... بمنزلة بين الخيانة والإثم
يقول: أنت رجل إما وثقت بك في شيء يحتاج إلى أداء الأمانة فيه، وقد خلوت معك وأظهرت السكون إليك فخنتني، وإما أستنيم إلى ناحيتك في الخير فكذبت علي، وخبرت بما لا علم لك به، فأنت مما بيني وبينك واقف في محل بين الخيانة فيما ائتمنت فيه. والإثم فيما رجع إليك في الكشف عنه. وقوله (ائتمنتك) هو افتعل من الأمانة، ولك أن تخفف الهمزة وتبدل منها ياء، ولك أن تعوض من الهمزة تاء فتدغمه في التاء التي بعدها فتقول: اتمنتك.
وخالياً انتصب على الحال، وذو الحال يجوز أن يكون الشاعر. والمعنى: جعلتك موضعاً للأمانة وقد خلوت بك لئلا يتجاوزنا السر الذي أودعتك. ويجوز أن يكون حالاً للمخاطب، والمعنى منفرداً.
ويروى أن رجلاً أتى عبيد الله بن زياد فأخبره أن عبد الله بن همام السلولي سبه وأسرف جهاراً، لا حشمة تردعه، ولا رقبة تمنعه. فأرسل عبيد الله إلى ان همام واستحضره ليقابله بالرجل، ويتبين من حضورهما صحة الخبر، فأتاه ابن همام، فلما استقر به المجلس قال عبيد الله: يا ابن همام، إن هذا يزعم أنك قلت كذا وكذا. فأقبل ابن همام على الرجل وخاطبه بقوله: (أنت امرؤ إما ائتمنتك خاليا) ... البيتين.(1/800)
فإن قيل: ما موضع (إما ائتمنتك) من الإعراب؟ قلت: هو في موضع الرفع على أن يكون صفة لامرىء. وإما هذه هي التي تعد في حروف العطف، والكلام خير. يريد: أنت رجل لا تخلو مما تصك به وجهي من أحد الأمرين اللذين أذكرهما. فهو كما تقول: أنت رجل إما صالح وإما طالح. وقوله (فخنت) انعطف على ائتمنتك، كأنه قال: أنت رجل إما مؤتمن فخائن، وإما قاتل قولاً لا علم لك به. وقوله (وإما) الواو هي العاطفة. وإما كأو في أنه لأحد الأمرين، إلا أن (أو) يبنى الكلام فيه على اليقين، ثم يعترض ما يخرج به عنه؛ و (إما) يبنى الكلام فيه على عين اليقين. ولهذا الذي قلناه قال حذاق أصحابنا: إنه ليس من حروف العطف، وكيف يكون منها وهو يحيء قبل ما يعطف عليه أو مع حرف العطف. تقول: رأيت إما زيداً وإما عمراً. فإما الأولى سابق المعطوف عليه وهو زيد، وإما الثانية معها الواو العاطفة. وقوله (فأنت من الأمر الذي كان بيننا) مبتدأ وخبره (بمنزلة) وبين الخيانة صفة للمنزلة. والمعنى: أنت مما بيننا في موقف يشفي بك إما على الخيانة فيما ائتمنت فيه، وإما على الإثم فيما تستشهد فيه، فتقول بما لا علم لك به.
وقال شبيب بن البرصاء
قلت لغلاق بعرنان ما ترى ... فما كاد لي عن ظهر واضحة يبدي
عرنان: إسم واد. وقوله (عن ظهر واضحة) يجوز أن يريد عن ظهر خصلة بينة والمراد: لما استشرته وقد حصلنا بعرنان ارتبك فلم يكد يكشف لي عما يصح المراد به، ويمكن الإعتماد عليه. ويجوز أن يريد بالواضحة السن. والمعنى: لم يكد يتهلل أو يكشف عن أسنانه به ضاحكاً أو كاشراً. ويكون استعمال الواضحة كما قال طرفة:
كل خليل كنت عاهدته ... لا ترك الله له واضحه
وقوله (تبسم كرها) يدل على الوجه الثاني.(1/801)
تبسم كرهاً واستنبت الذي به ... من الحزن البادي ومن شدة الوجد
إذا المرء أعراه الصديق بدا له ... بأرض الأعادي بعض ألوانها الربد
انتصب كرها على أنه مصدر في موضع الحال. يقول: بسم لي كارهاً فتبينت الذي به من حزن ظهر عليه، ومن وجد استكن في قلبه. ويقال استنبت وتبينت بمعنى واحد. وبسم وابتسم بمعنى واحد، إلا أن في تبسم زيادة معنى التكلف، كأنه تكلف منه ما تكلف على كراهية. وقوله (إذا المرء أعراه الصديق) يريد به: إذا الرجل خذله صديقه وقعد عن نصرته، وتركه بالعراء، في أرض الأعداء، بدا له من ألوان الأرض يكون إذا اسودت بعضها. وهذا التفصيل والتبعيض دل على أن اسوداد الأرض يكون من وجوه عدة، وللحالة التي أشار إليها ما يختص بها، ويجب أن يكون شدها. وهذا لأن ما يرد على النفس من المكاره مراتب، فاسوداد الأرض عليه لها حسب مقاديرها في أنفسها.
وقال سالم بن وابصة
أحب الفتى ينفي الفواحش سمعه ... كأن به عن كل فاحشة وقرا
سليم دواعي الصدر لا باسط أذى ... ولا مانع خيراً ولا قائل هجرا
يقول: أحب من أخلاق الفتى أن يكون متكرماً إذا طرق أذنه ذكر الفواحش، فلا بعيها ولا يجعلها من نفسه ببال، حتى كأن به صمماً عن أنواع الفواحش كلها.
وقوله (سليم دواعي الصدر) ، ارتفع سليم لأنه خبر مبتدأ محذوف، كأنه قال: هو سليم، ويكون ما بعده صفات له. ويريد بالدواعي ما يتعلق بالأغيار منه لاما يخصه في نفسه. ألا ترى أنه فسره بقوله (لا باسط أذى ولا مانع خيرأ ولا قائل هجراً) وكل ذلك للغير لا للنفس. ويكشف هذا أنه إذا بسط أسباب الأذى عاد الضرر منها لا عليه. وإذا منع خيره كذلك عاد الضرر على المنتفع به وعلى هذا إذا قال هجراً. والهجر: الفحش. ويقال: أهجر الرجل، إذا أنى به. وقد(1/802)
كان من فلان هاجرة. على ذلك قوله:
إذا ما شبت نالك هاجراتي
ولك أن تنصب (سليم) بما بعده، فيكون في موضع الحال، وما يتبعه صفات له، وهو لا باسطاً أذى ولا مانعاً خيراً ولا قائلاً هجراً.
إذا ما أتت من صاحب لك زلة ... فكن أنت محتالاً لزلته عذرا
غنى النفس مايكفيك من سد حاجة ... فإن زاد شيئاً عاد ذاك الغنى فقراً
يقول واعظاً ومهدئاً: إذا اتفقت من صديق لك زلة، أو وقوف موقف تهمة، فحسن أمره في ذلك واحمله على ضروب مما يبسط عذره فيه، بل كن أنت المحتال لعذره، فلا تحوجه إلى تكلف الأعتذار.
وقوله (غنى النفس ما يكفيك من سد حاجة) يقول: خذ من دنياك ما تسد به فقرك، فإن غنى النفس ما يضمن الكفاية، فإن زاد قليلا عاد ذلك بزيادتك فيه الفقر، وذاك أن الدواعي إنما تكثر وتتوسع الأسباب وكثرتها، وما يفضل عن الكفاية يمت كل جزء منه بماتة صاحبه فلا يكاد يكتفي ببعضه إلا وما عداه يمت بمثل ماتته. وإذا صار الأمر على ذلك فكل منزلة ينتهي إليها طلب الفضل تدعوه إلى مافوقها، فيبقى أبداً متعباً فقيراً. وقوله (فإن زاد، شيئاً) انتصب شيئاً على المصدر، لأنه واقع موقع زيادة. وزاد هاهنا بمعنى ازداد، فلا يتعدى. وانتصب فقراً على الحال.
وقال آخر:
وكم من لشيم ود أنى شتمته ... وإن كان شتمي فيه صاب وعلقم(1/803)
وللكف عن شتم اللئيم تكرما ... أضر له من شتمه حين يشتم
اللئيم: الذي اجتمع فيه خصال مذمومة في نفسه وأبويه. فيقول: كم من رجل دنى النفس والأصل، يتمنى أن أتخذه نظيراً لي أكابله وزناً بوزن، وأكافيه لفظاً بلفظ، وإن كان في هجوى له وشتمي إياه ما يجري مجرى الصاب والعلقم في المرارة. والصاب: شجرة لها لبن فإذا أصاب العين حلبها. والعلقم: الحنظل. وقال الخليل: يقال: علقم الحنظل، إذا اشتدت مرارته. ثم قال: لإمساكي عن مشاتمة اللئام آخذاً بالكرم، أصون لعرضي، وأعود عليهم بالضرر من كل ذم وهجو. وانتصب (تكرما) على أنه مصدر في موضع الحال، أي متكرما، ويجوز أن يكون مفعولاُ له، أي للتكرم.
وقال عقيل بن علفة
وللدهر أثواب فكن في ثيابه ... كلبسته يوماً أجد وأخلقا
وكن أكيس الكيسي إذا كنت فيهم ... وإن كنت في الحمقى فكن أنت أحمقا
ذكر الأثواب مثل، وإنما يريد تلون الدهر بأهله، وتصرفه بأحداثه وتاراته وغيره. واللبسة: اسم حالة اللابس. أي البس ثيابه لبسته مجداً أو مخلقاً، وإن أجد أو أخلق، لأن الحال يتضمن معنى الجزاء. والقصد إلى توصية المخاطب بأن يطلب موافقة الناس في دهرهم، ويتخلق بأخلاقهم. والقصد إلى توصية المخاطب بأن يطلب موافقة الناس في دهرهم، ويتخلق بأخلاقهم. ومعنى أجد: جعل ثوبه جديداً. وكذلك أخلق الثوب نفسه فهو مخلق؛ وهذا أشهر من الأول. وقد قيل في الدعاء للآبس الجديد: (أبل وأجدد) يراد به فعل مثله في المستأنف، واتصال عمره. وقد صرح عن المعنى فيما بعده، لأنه قال: وكن أكيس الكيسى إذا كنت فيهم. والمعنى: تكيس مع الأكياس، بل اجتهد أن تفوقهم في كيسهم وإن ابتليت بحمقى فتحامق معهم. وقوله (كن أنت) أنت توكيد للمضمر في كن. و (أحمقا) يجوز ألا يريد به أفعل الذي يتم بمن ويكون المعنى تحامق. ويجوز أن يكون أفعل الذي يتم بمن، وقد حذف منه من لأنه خبر فجاز ذلك فيه. ويدل على هذا أنه قال: كن أكيس الكيسى. وقد قيل: ما أحمقه، لأنه ليس من الخلق في شيء. ألا ترى أن صاحبه يوبخ على ما يأتيه منه. فأما قوله (الحمقى) ففعلي جمع فيما يكون بلاء وزمانة. على ذلك(1/804)
الجرحى والمرضى، فشبهت الحماقة به، ثم حمل الكيسى عليه، لأنهم يحملون النقيض على النقيض كثيراً.
وقال بعض الفراريين
أكنيه حين أناديه لأكرمه ... ولا ألقبه والسوءة اللقبا
كذاك أدبت حتى صار من خلقي ... إني وجدت ملاك الشيمة الأدبا
يصف حسن عشرته لصاحبه وجليسه، ومؤاخذة نفسه بصيانته وإكرامه فيقول: إذا خاطبته خاطبته بأحب أسمائه إليه، وهو الكنية، وأعدل عن نبزه ولقبه؛ لأني على هذا أدبت، حتى به تطبعت، فصار خلقاً ثانياً لي وإن كان أصله تخلقا؛ إني وجدت الأدب ملاك الأخلاق. والملاك: اسم لما يمتلك به الشيء، فهو كالرباط والنظام وماأشبهما. وقوله (ولا ألقبه والسوءة اللقبا) ينصب السوءة. فتنصب اللقب من ألقب، وينتصب السوءة على أنه مفعول معه، فيكون من باب: جاء البرد والطيالة. والتقدير: لا ألقبهاللقب مع السوءة. ويجري هذا المجرى قوله تعالى: فأجمعوا أمركم وشر كاءكم، لأن المعنى مع شركائكم. ويكون المراد: لا أجمع بين اللقب ومايسوءه من فحش الكلام. فهذا وجه للنصب. ويجوز أن يكون انتصاب السوءة على المعنى، كأنه قال: ولا آتي السوءة، فعمل فيه معنى لا ألقبه، فيكون على هذا من باب:
ياليت بعلك قد غذا ... متقلداً سيفاً ورمحاً
وعلفتها تبنا وماء بارداً
ويجوز أن يمون السوءة مفعولاً به، وقد عمل ماقبل الواو فيه، كما تقول: مازلت وزيداً حتى فعل كذا، أي مازلت بزيد حتى فعل. وتقدير الباب في هذا أكشف(1/805)
من تقدير مع وإن تقارب معنياهما، كأنه قال: لا ألقبه اللقب بالسوءة. ويقال: سميته كذا وبكذا، ولقبته كذا وبكذا. قال الله تعالى: ولا تنابزوا بالألقاب. وإن رفع فارتفاعه يجوز أن يكون بالإبتداء ويكون الخبر مضمراً، كأنه قال: والسوءةذاك، يعني إن لقبته فالفحش فيه. ويجوز أن يكون مبتدأ وخبره للقبا، ويكون مصدراً كالجمزى والوكرى وما أشبههما. والمراد: والفحش استعمال اللقب معه، ويكون تفظيعاً للأمر لو فعل. ويجوز أن يكون خبر مبتدأ محذوف، كأنه قال: لا ألقبه اللقب، وهو السودة. وهذا أقرب. والسوءة: الفعلة القبيحة. قال الشاعر:
يالقوم للسوءة السواء
ويسمى الفرج السوءة، لقبحه. وفي القرآن: فبدت لهما سواتهما. ويقال: سوءة لفلان! دعاء عليه.
وقال رجل من بني قريع
متى ماير الناس الغنى وجاره ... فقير يقولوا عاجز وجليد
وليس الغنى والفقر من حيلة الفتى ... ولكن أحاظ قسمت وجدود
أخرج هذا الكلام مخرج الإنكار لما تعوده الناس في الحكمعلى الأغنياء والفقراء. فيقول: مما يقضى به الناس على الغنى وإلأى جنبه فقير، ان يقولوا: هذا من عجزه أتى، وهذا لجلادته أغنى. وهذا خطأ، لأن الغنى والفقر مما قدر الله تعالى وأجرى به قسمه في خلقه، وليس المعتم فيه على احتيالهم، وسعيهم واجتهادهم، لكنها جدود وحظوظ درجوا عليها، وخلقوا لها، على ماعرف الله تعالى من صالح خلقه.
وجواب (متى ما ير) قوله (يقولوا) . وارتفع عاجز على أنه خبر مبتدأ محذوف، كأنه: هذان عاجز وجليد.(1/806)
إذا المرء أعيته المرورءة ناشئاً ... فمطلبها كهلاً عليه شديد
وكأن رأينا من غنى مذمم ... وصعلوك قوم مات وهو حميد
قوله (إذا المرء أعيته) بعث وتحضيض على النهوض في طلب المعالي في ابتداء النشء، وحين كان في القوة فضلة، وفي العمر مهلة، حتى تتلاقى أوائل عمره وأواخرهفي طلب الرياسة، وإقامة المروءة، وأنه إن دافع بما عليهفي ذلك وماطل انتظاراً لأحوال تجتمع له، فاكتهل ولما تساعده تلك الأحوال فإنه يتعذر عليه طلبها، ويشتد عليه إدراكها. وانتصب (ناشئاً) على الحال، والعامل فيته أعيته. ويقال: فتى ناشىء، أي شاب. قال الخليل: ولا يوصف به الجارية. والناشئة: أول الوقت، من هذا. وينتصب (كهلاً) على الحال أيضاً، والعامل فيه مطلبها، لأن المعنى مطلبه لها وهو كهل، فالمصدر مضاف إلى المفعول، أو مطلبه لها إذا كان كهلاً، ومثله: هذا تمراً أطيب منه بسراً.
وقوله (وكائن رأينا) كائن بمعنى كم. وكأنه أخذ يفضل الفر إذا جرى صاحبه في محمود الطرائق من التجمل، والإكتفاء والتعفف، على الغنى وصاحبه يبطر، ويطفى ويأشر، ثم لا يؤدي حق النعمة عليه، فقال: كم من غنى ساعدته الدنيا والأقدار، ثم أصبح مذمماً حين لم يلتزم شروط محمود الغنى، وكم من فقير قوم لما جرى في ميدان العفاف والتجمل، والرضا بماله والتشكر، مات وهو حميد الطريقة، رضى السريرة. والصعلوك: الفقير. ويقال: صعلكته، أي ذهبت بماله كله.
وقال بعضهم:
وأضحت أمور الناس بغشين عالماً ... بما يتقى منها وما يعتمد
جدير بإلا أستكين ولا أرى ... إذا الأمر ولى مدبراً أتبلد
قوله (يغشين عالماً) أي يغشين منى عالماً، لأن العالم هو هو، فحذف منى. والمعنى: إني باشرت الأمور العظيمة، ولا بست الخطوب الجليلة، فصرت بطول تجربتي، واتصال ممارستي، عالماً من أمور الناس إذا وردت أخبارها على بما يتحامى منها ويحذر، وما يتمنى منها فيطلب. فلا جرم أني خليق بألا أضرع عند نوائب الدهر(1/807)
ولا أخضع، ولا أرى إذا فاتني أمر أتحسر في إثره وقد ولى، وأضرب بلدة إحدى كفى بالأخرى، ثوجعاً وتلهفاً، إذا كنت واثقاً بأن الأمور يملكها التغير، وأن الفائت يتلافى، فلا يدوم شيء على حال إلا ريث ما يتسلط عليه انتقال.
وقال الدريدي: تبلد الرجل، إذا تحير في أمره فأقبل يضرب بلدة نحره بيده. وبلدة النحر: الثغرة وما حواليها. وقال الخليل: التبلد: نقيض التجلد وهو استكانة وخضوع. وبلد الرجل، إذا انكسر في العمل وضعف.
وقال آخر:
وإنك لا تدري إذا جاء سائل ... أأنت بما تعطيه أم هو أسعد
عسى سائل ذو حاجة إن منعته ... من اليوم سولاً أن يكون له غد
وفي كثرة الأيدي لذي الجهل زاجر ... وللحلم أبقى للرجال وأعود
هذه الأبيات تشبه قول الآخر:
وأكرم كريماً إن أتاك لحاجة ... لعاقبة إن العضاه تروح
وقوله الأخر:
لا تهين الفقر علك أن ... تركع يوماً والدهر قد رفعه
وقوله (أأنت بما تعطيه أم هو أسعد) تقديره أأنت أسعد بما تعطيه أم هو. وأم هذه هي المتصلة المعادلة لألف الاستفهام، فانعطف هو به على أنت. وقد يجيء الخبر في مثله مكرراً، كقول الشاعر:
بات يقاسي أمره أمبرمه ... أعصمه أم السحيل أعصمه
فيكون التكرار فيه على طريق التأكيد. ويجري (بين) هذا المجرى في نحو قولهم: بين زيد وبين عمرو خلاف، ولو لم يكرر بين لكان الوجه. والشاعر يقول:(1/808)
اذا زارك سائل فتوفر عليه، ولين قولك وجانبك له، فإنك لاتعلم أأنت أسعد بما يناله منك أم هو، واعلم أن المحتاج إليك إن منعته سؤله وطلبته فهو حقيق بأن ينال ما منعته في غده. وقوله (أن يكون له غد) في موضع خبر عسى، والضمير من له يعود إلى السائل، والمعنى: عساه إن منعته سؤله من يوم كان عليه، أن يكون غد ذلك اليوم له، ولهذا قال الله عز وجل: وتلك الأيام نداولها بين الناس، فغد يرتفع بيكون، وله في موضع الخبر.
وقوله (وفي كثرة الأيدي لذي الجهل زاجر) يريد استبق إخوانك وذويك، واعلم أن في التكاثر بهم مزجرةً للجاهل، ولتعاون أيديهم مدفعة لأذى المغلب الخامل. ومع ذلك فالحلم أبقى شأناً وأمراً للرجال، وأرد عليهم وأنفع لهم. وهذه الوصاة اشتملت على أمرين: أحدهما اكتساب مودات الإخوان لكي يكونوا إذا احتيج إليهم عوناً. والثاني استعمال الحلم مع الأعداء، والجري معهم على حد لايخرجهم إلى المكاشفة، ولا يحوجهم إلى خرق الهيبة. وقوله (من اليوم سولا) يقال: أعطى فلان سوله، فيهمز ولا يهمز.
وقال آخر:
إياك والأمر الذي إن توسعت ... مداخله ضاقت عليك المصادر
فما حسن أن يعذر المرء نفسه ... وليس له من سائر الناس عاذر
انتصب (والأمر) بفعل مضمر. وإياك ناب عن أحذرك، فكأنه قال: أحذرك أن تلابس الأمر الذي إن توسعت موالجه ضاقت عليك مخارجه. والمعنى: تأكل كل ما تلابسه، واعرف أواخره وإن اشتبهت، كما تعرف أوائله وإن تبينت، لأنه يقبح بالمرء أن يكون فيما يقتحمه عند نفسه معذوراً، وعند الناس ملوماً.
وقوله (فما حسن أن يعذر المرء نفسه) في إعراب (أن يعذر) وجوه: أحدها أن يرتفع بالابتداء وخبره متقدم عليه، وهو حسن، لأن ما النافية إذا قدم خبره على اسمه يبطل عمله. ويجوز أن يكون موضعه رفعاً بفعله وفعله حسن، ويرتفع حسن بالابتداء، ويستغنى بفاعله عن خبره، وجاز الابتداء بحسن وإن كان نكرةً لاعتماده على حرف النفي. والمعنى: ما يحسن عذر المرء نفسه فيما يتولاه(1/809)
وليس له من الناس عاذر. ويجوز أن يرتفع (أن يعذر) بأنه خبر المبتدأ الذي هو حسن، وهذا أضعف الوجوه. ويروى: (إن توسعت موارده ضاقت عليك المصادر) وقوله (من سائر الناس) أي من باقي الناس، وهو من السؤر. ومن موضع الجميع فقد أخطأ.
وقال العباس بن مرداس
ترى الرجل النحيف فتزدربه ... وفي أثوابه أسد مزير
ويعجبك الطرير فتبتليه ... فيخلف ظنك الرجل الطرير
ينبه بهذا الكلام على أن الرجال ليسوا بجزر يطلب عظمها وسمنها، لأن المرء بأصغريه: قلبه ولسانه. فيقول: ترى الرجل النحيف المهزول الدقيق، فتستحقره لضؤولته، واذا فتشت عنه واستشفقت ما وراء ظاهره وجدته أسداً مزيراً. والمزير هو الجلد الخفيف النافذ في الأمور. ويروى: (يزير) وليس بجيد من طريق المعنى، فكأنه أصله يزئر فنقلت الحركة إلى الزاء وأبدل من الهمزة ياءً، كما يقال المراة والكماة، في المرأة والكمأة. وإنما ضعف من طريق المعنى لأن تشبيهه إياه بالأسد لا فائدة لذكر الزئير معه، إذ لاتدوم حاله على ذلك. ووجهه على ضعفه أن يكون مورد (يزئر) تأكيداً للتشبيه، كما يستعار صفة المشبه به للمشبه وإن كان حصوله لو حصل ذماً فيه، تأكيداً للتشبيه. على ذلك قوله:
أزل إن قيد وإن قاد نصب
والزلل من صفة الذئب. ومثله قول الآخر:
صكاء ذعبلة إذا استدبرتها
والصكك من صفة النعام.(1/810)
وقوله (فيعجبك الطرير) فالطرير: الشاب الناعم ذو الكدنة. فيقول: ويتفق في الرجال من يعجبك خلقته، فإذا بلوته وامتحنت أخلاقه وجدته لايصدق ظنك فيه، بل يخلف ويخالف في كل ما تعتمد عليه، أو تكله إليه.
فما عظم الرجال لهم بفخر ... ولكن فخرهم كرم وخير
ضعاف الطير أطولها جسوماً ... ولم تطل البزاة ولا الصقور
بغاث الطير أكثرها فراخاً ... وأم الصقر مقلات نزور
صرح عن الغرض المقصود فيما تقدم فقال: إنما يحمد من المرء كرمه وفضله وكثرة محاسنه وخيره، وكل ذلك يرجع إلى الأخلاق لا إلى الخلق، فلا اعتبار بالعظم، ولا فخر في البسطة إذا حصلت في الجسم خاصةً من دون العلم. ثم أخذ يمثل فقال: ترى الطير ضعافها كالكراكي وطيور الماء أطولهاجسوماً، وأمدها أعناقاً وسوقاً، ثم كرائمها كالبزاة والصقور، وهي تصيد ما وزنه يتضاعف على وزنها. وما طوله وعرضه يتزايد على طولها وعرضها، ثم بغائها وهي صغارها ومصطادها أكثر فراخاً وأوسع نسلاً، وأم الصقر قليلة الفراخ مقلات لايبقى لها أيضاً ما تفرخه. وانتصب (جسوماً) و (فراخاً) على التمييز. والمقلات: مفعال من القلت، وهو الهلاك. والنزور: القليلة الأولاد، من النزر، وهو القليل.
لقد عظم البعير بغير لب ... فلم يستغن بالعظم البعير
يصرفه الصبي لكل وجه ... ويحبسه على الخسف الجرير
وتضربه الوليدة بالهراوي ... فلا غير لديه ولا نكير
لما ضرب المثل بذوات الأجنحة والماشية على رجلين، عاد يذكر من ذوات الربع مثل ذلك فقال: ترى البعير مع عظمه وقوته، وصبره على النهوض بالأعباء الثقيلة، والأحمال العظيمة، لما لم يصحب عظمه اللب، وقوته التمييز، لم يستغن بما أعطي من ذلك، بل تراه مسخراً لأن يديره الصبي على وجه من وجوه التذ ليل، ةيحبسه زمامه على كل خسف وهضم، حتى أن الوليدة تضربه أوجع الضرب، فلا إنكار منه ولا ذهاب عنه، ولاتغيير إليه ولا نكير لديه.(1/811)
وقوله (الهراوي) جمع هراوة، ووزنه فعائل هرائي، لأن فعيلة وفعالة يشتركان في هذا البناء من التكسير، تقول: صحيفة وصحائف، ورسالة ورسائل، إلا أنهم فروا من الكسرة وبعدها ياء إلى الفتحة، فصار هراءا، فاجتمع همزة وألفان فكأنه قد اجتمع ثلاث ألفات أو ثلاث همزات، فأبدلوا من الهمزة واواً فصار هراوى. فإن قيل: هلا أبدلت منه الياء، كما فعلته في مطايا وما أشبهها؟ قلت: أرادوا أن يظهر في الواو كما ظهر في الواحد ليتميز بنات الياء عن بنات الواو.
فإن أك في شراركم قليلاً ... فإني في خياركم كثير
يقول: إن كثرني شراركم وأراذلكم، لوفور عددهم وكوني واحداً فيهم، فإني أكثر خياركم وأغلبهم لقلتهم وكثرتي، وذلك أني أنوب عن جماعة إذا عد الأخابر. ويجوز أن يريد أنه لاخيار لكم، فأنا وإن كنت واحداً من حيث العدد، كثير إذا طلب الخيار منكم، إذ لم يكن لكم خيار. وقد مضى القول في غير موضع في حذف النون من لم أك وإن أك.
وقال بعضهم:
أعاذل ماعمري وهل لي وقد أتت ... لداتي على خمس وستين من عمري
رأيت أخا الدنيا وإن كان خافضاً ... أخاً سفر يسرى به وهو لايدري
مقيمين في دار نروح ونغتدي ... بلا أهبة الثاوي المقيم ولا السفر
وقوله (ما عمري) استفهام على طريق التحقير والاستقلال، فكأنه العاذلة كانت عتبت عليه في تبذير وإنفاق، وخوفته العواقب وما تؤدى إليه باتفاق، فأخذ يجيبها ويقول: يا عاذلة، أي شيء عمري، وكيف يدوم بقائي حتى أخوف بالفقر، وهل لي عمر وأقراني يعدون خمساً وستين سنة. ثم أخذ يذم الحريص على الدنيا وأعراضها، ويقص ما تستوي فيه أقدام الخلائق من إرصاد الفناء لها فقال: رأيت صاحب الدنيا وإن كان متودعاً مقيماً، كامسافر يسار به وهو لا يعلم؛ وذلك لأن له أجلاً يساق إليه، ومنتهى من العمر يحال عليه، فالأيام تأخذ منه، وتنقص من عمره، فهو كالمسافر وقد انتوى نيةً فما يقطعه من المسافة يقربه من مقصده، ويعجل وصوله إلى أمده.
وقوله (مقيمين في دار) انتصب على الحال من قوله (أخا الدنيا) ، لأنه أراد به الكثرة، فهو كأسماء الأجناس. وقال: (نروح ونغتدي) لأنه من إخوان الدنيا، فادخل(1/812)
نفسه فيهم. وقوله (بلا أهبة الثاوي المقيم ولاالسفر) يريد: لانأمل البقاء في هذه الدنيا، ولا نأمن الفناء، فلسنا كالثاوي فنتأهب أهبته، ولا كالمسافر فنعد عدته. واراد بالثاوي المقيم الكثرة لا الواحد. وقد تقدم القول في حقيقة العمر.
وقال بعضهم:
لاتعترض في الأمر تكفى شؤونه ... ولاتنصحن إلا لمن هو قابله
ولاتخذل المولى إذا ما ملمه ... ألمت ونازل في الوغى من ينازله
يوصى مخاطبه بأن يعرض عن الأمر الذي لايعنيه، ويترك الاعتراض فيه، والا يتنصح إلا لمن يرجو قبول النصح منه، وبألا يخذل ابن عمه إذا نزلت به نازلة، بل من ينازله، ويناوىء من يناوئه. وهذا على طريقتهم في قولهم: (انص أخاك ظالماً أو مظلوماً) . وأصل الوغى هو الجلبة والصوت. وقوله (في الأمر تكفى شؤونه) يريد تكفى أسبابه وجوانبه. والضمير من (قابله) لما دل عليه قوله لاتنصحن، وهو النصح.
وقال منظور بن سحيم
ولست بهاج في القرى أهل منزل ... على زادهم أبكى وأبكى البواكيا
فإما كرام موسرون أتيتهم ... فحسبي من ذي عندهم ما كفانيا
وإما كرام معسرون عذرتهم ... وإما لئام فادكرت حيائيا
يصف نفسه بالتعفف عن المطامع الدنية، والمطامع الذميمة، فيقول: لاأهجو بسبب القرى، وهو ما يقدم إلى الضيف، ولا أشكو أهل دار فأبكي على ما يفوتني من زادهم وأبكي غيري معي. وقوله (أبكي وأبكي البواكيا) لا بكاء ثم، وإنما أراد(1/813)
تفظيع التأسف. فيريد: لا آسف لما أرى من الحرمان أسف من يبكي ويبكي غيره تهالكاً على مال غيره، وتوجعاً لشدة نهمته.
وقوله (فإما كرام) فصل بين حرف الجزاء والفعل بقوله كرام، فارتفع بفعل مضمر دل عليه الفعل الذي بعده. كأنه قال: فإما يقصد كرام موسرون أتيتهم. وقوله (فحسبي) في موضع الابتداء، و (ما كفاني) في موضع الخبر، والفاء ما بعده جواب الشرط. وقوله (من ذي عندهم) أراد من عندهم. والعرب تقول: هذا ذو زيد، يريدون: هذا زيد. وهذا من إضافة المسمى إلى الاسم. قال الكميت:
إليكم ذوي آل النبي تطلعت
يريد أصحاب ذا الاسم. وقال الأ عشى:
فكذبوها بما قالت فصبحهم ... ذو آل حسان يزجى الموت والشرعا
أي العسكر الذي يقال له آل حسان.
ويروى: (من ذو عندهم) ويكون ذو بمعنى الذي، وعندهم في صلته، وذو هذه طائية. والمعنى: لايخلو من أقصده وأنزل به من وجوه: إما أن يكونوا قوماً يرجعون إلى كرم ويسار، فيتوفرون على حسب ما يقتضيه كرمهم وأكتفى من الذي عندهم لي بما يكفيني، وإما أن يكونوا كراسسماً مضيقين أثر الدهر فيهم، فأعذرهم لإضاقتهم، وعلمي بحالهم. فقوله (وإما كرام معسرون) بيانه: وإما قصد كرام مضيقون عذرتهم في تقصيرهم، وإما أن يكونوا قوماً لئاماً في أخلاقهم دناءة، وفي أعراقهم نذالة، فتذكرت حيائي وصيانتي لنفسي، فلم أبذل لهم وجهي، ولم أبتذل بتقاضيهم ومطالبتهم جاهي.
وعرضي أبقى ما ادخرت ذخيرةً ... وبطني أطويه كطي ردائيا
قوله (أبقى ما ادخرت) ما في موضع الجر، كأنه قال: عرضي أبقى شيء أدخره ذخيرة، أي اكتسبه ذخيرة. فعلى هذا ينتصب (ذخيرة) على الحال المؤكدة لما(1/814)
قبله. وادخر: افتعل من الذخر لكنه ابدل من التاء دالاً فأدغم الدال فيه، فلك أن تقول ادخر ولك أن تقول اذخر.
وهذا الكلام بيان ما يأخذ به نفسه من الصيانة والقناعة، وسلوك طرائق الانقباض عما يشين ولايزين من الانبساط إلى اللئام. فكأنه قال: أبقي على عرضي، لأنه أعز الذخائر لي، وأطوي بطني عن المآكل المردية كما أطوي ردائي، إذ كان التزهد قيما يخزي أولي عندي.
وقال سالم بن وابصة
ونيرب من موالي السوء ذي حسد ... يقتات لحمي وما يشفيه من قرم
داويت صدراً طويلاً غمره حقداً ... منه وقلمت أظفاراً بلا جلم
النيرب: النميمة والعداوة وقوله (ونيرب) أراد وذي نيرب، والمصدر وما يجري مجراه إذا وصف به إما أن يكون على حذف المضاف، وإما أن يجعل الموصوف نفس الحدث لكثرة وقوعه منه. فيقول رب ذي نيرب حسود من موالي السوء، يغتابني بظهر الغيب، ويأكل لحمي ولا يشفيه ذلك من قرم. والقرم: شهوة اللحم. والمعنى أنه لايكفيه ما يتناول مني وإن كان لا يألو جهداً في ثلبي. وجواب رب قوله (داويت) من البيت الثاني. ويقتات: يفتعل من القوت، وهو فعل المطاوعة. ويقال: قاته كذا فاقتاته.
ومعنى (داويت صدراً طويلاً غمره) أي صابرته على مداجاته وانطوائه على حقدي، فدفعت شره عن نفسي بطول مداواتي، وفللت حده بترك مكاشفته حتى لم يجد إلى إثارة كامن غمره طريقاً، فاحتاج إلى الإمساك عن أذاتي، لدوام تمسكي بمجاملته شاء أو أبى. وقوله حقداً هو اسم الفاعل من حقد، وهولغة في حقد. يقال حقد يحقد فهو حقود، وحقد يحقد فهو حقد.
بالحزم والخير أسديه وألحمه ... تقوى الإله وما لم يرع من رحمي
فأصبحت قوسه دوني موترةً ... يرمي عدوى جهاراً غير مكتم
الباء من قوله (بالحزم) تعلق بقلمت او داويت من البيت المتقدم. والخير: الكرم، وقيل: هو الهيئة والطبيعة، يقال: هو كريم الخيم والخير جميعاً وقوله(1/815)
(أسديه وألحمه) خبران لف أحدهما بالآخر. فقوله (تقوى الإله) يرجع إلى أسديه، و (ما لم يرع من رحمي) رجع إلى ألحمه. والمعنى: داويت صدره أي مكنون صدره، وقلمت ظفره باستعمال الحزم والخير معه، ثم جعلت تقوى الله تعالى سدى ما بيني وبينه، وألحمته رعاية ما ضيعه من الرحم، فلا جرم أنه كف من شأو شره وغرب عداوته، وأقبل في الظاهر يعادي من يعاديني، فقوسه الآن موترة دوني يرمي منها أعدائي بأسهم النصرة. مجاهرةً لا مكاتمةً.
إن من الحلم ذلاً أنت عارفه ... والحلم عن قدرة فضل من الكرم
نبه بهذا الكلام على أن تحلمه عن أدانيه كان عن قدرة لا عن عجز ونقيصة، ولو شاء لانتقم منهم. وأنه لم يكسبه إمساكه عن مجاذبتهم ذلاً، ولو كان يفضي به الحال إلى ذلك لما فعل، فتحلمه كرم، وإبقاؤه على ما يجمعه وإياهم من قربي وقرابة تقي وتفضل. وقوله (فضل من الكرم) يريد أنه نوع من الفضل يعد في خصال الكرم. ومثل هذا قول الآخر:
جهول إذا أزرى التحلم بالفتى ... حليم إذا أزرى بذي الحسب الجهل
وقال بعضهم:
وأعرض عن مطاعم قد أراها ... فأتركها وفي بطني انطواء
فلا وأبيك ما في العيش خير ... ولا الدنيا إذا ذهب الحياء
يماثل هذا قول الآخر:
ولقد أبيت على الطوى وأظله ... حتى أنال به كريم المطعم
قوله (وأظلله) يريد أظل عليه، فحذف حرف الجر، كما قال:
لولا الأسى لقضاني(1/816)
أي لقضى علي.
وقال نافع بن سعد الطائي
ألم تعلمي أني إذا النفس أشرفت ... على طمع لم أنس أن أتكرما
ولست بلوام على الأمر بعدما ... يفوت ولكن عل أن أتقدما
يقول: أما علمت من أخلاقي الكف عن كثير من المباغي الجالبة لقالة الناس وتصرفهم في الحكم عليه وله، وأنني إذا أمكنني الفوز بالمطامع القريبة والمآكل الهنيئة، فأشرفت منها على تحصيلها لم أنس أخذ النفس بالنظر فيها، واستعمال الكرم في ترك ما يجمع على عاراً منها. وقوله (على طمع) أي على مطموع فيه، ومنه قيل لأرزاق الجند: أطماعهم.
وقوله (ولست بلوام) يقول: إذا فاتني أمر لا أرجع على نفسي بللوم الكثير تحسراً في إثرهم، لكنني حقيق أن أتقدم في تحصيله قبل فواته إن كان مما يهم وقوله (ولكن عل) هو أصل لعل، وهو حرف موضوع للطمع والإشفاق، واسمه مضمر كأنه قال ولكن لعلني أن أتقدم. وهويجيء بأن وبغير أن، فإذا كان معه أن أفاد فائدة عسى، وإذا جاء بغير أن كان الفعل أقرب وقوعاً، لأن أن للاستقبال، ولعل وإن كان حرفاً يعد مع أفعال المقاربة وهي عسى وكاد ولوام بناء المبالغة، وليس بمبنى على لوم لأن المبني عليه هو ملوم.
وقال بعض بني أسد
إني لأستغني فما أبطر الغنى ... وأعرض ميسوري على مبتغى قرضي
وأعسر أحياناً فنشتد عسرتي ... فأدرك ميسور الغنى ومعي عرضي
ومانالها حتى تجلت وأسفرت ... أخو ثقة منى بقرض ولا فرض(1/817)
يعدد في هذه الأبيات عاداته في حالتي الغنى والفقر، فقال: إني أنال الغنى فلا يكسبني أشراً ولا بطراً، لكني أشكر الواهب وأبقى على حالتي الأول، بل يقربني ما أناله من المتصلين بي، والمضمين إلى بسبب من الأسباب، فأعرض ما يتيسر لي عن طلاب قرضي، وأشرك من يمت إلى في الخير المتاح. وقد يتعقب الإيسار إعسار في الوقت بعد الوقت، فأصبر وإن اشتد عسري، وأسبل على نفسي جناح تحملي وتعففي حتى أدرك ميسور الغنى ونفسي معي، لم أبتذلها ولم أدنسها بتعريض أو تصريح لمفضل أطلب بهما عنده مطمعاً، وأجتلب مرغبا. وقوله: (وما نالها) يريد وما نال تلك العسرة أخ لي يوثق بوده لا بعارية ولا بعطية، إلى أن انكشف وفارقت.
وقوله: (أبطر الغنى) معناه أبطر في الغنى حتى أذهب عن سنن الشكر فأتجاوزه وأخلفه ورائي، غمطاً للنعمة، أو جهلاً بحق الصنيعة. وقال الله تعالى: وكم أهلكنا من قرية بطرت معيشتها. وقوله (أعرض ميسوري) وضعه بلفظ المفعول للمصدر، يريد اليسر. ومثله ماله معقول. وضده حمل عليه وهو العسر، فقيل معسور. وإنما قال (ومعي عرضي) لأنه إذا صانهعن القبائح ولم يسلط عليه من يتملكه بهبة أو صلة، فكأنه معه لم يفارقه. ولو أجراه على غير هذا لكان مفارقاً له، وداخلاً في ملكه غيره.
ولكنه سيب الإله ورحلتي ... وشدى حيازيم المطية بالغرض
الهاء من قوله (ولكنه) يعود إلى الميسور الغنى. واستدراك النفي من قوله (ما نالها حتى تجلت) بقوله لكن، يريد: لكن الغنى المتجدد، وهو عطية الله تبارك وتعالى، وتقلبي وارتحالي، وشدى حيازيم المطايا بالغروض. كأنه ذكر الأسباب التي يسرت له الغنى، وأنها لم تخرج من تفضل الله تعالى واجتهاده. وقوله (المطية) أراد بها الجنس، لذلك قال (حيازيم) وجمعها. والسبب: العطاء والمعروف، وكثر في الاستعمال حتى سمى الكنوز سيوباً، وقيل لكا تخرجه المعادن سيوب. والغرض والغرضة: البطان، وهو للبعير بمنزلةالحزام للدابة. والمعرض منه كالمحزم.
وأستنقذ المولى من الأمر بعدما ... يزل كما زل البعير عن الدحض
وأمنحه مالي وودي ونصرتي ... وإن كان محي الضلوع على بغضي(1/818)
يقول: إني أتعطف على أبناء عمي، فأخلصهم من الشدائد، وآخذ بأضباعهم إذا زلت أقدامهم، فأقيمهم بعد أن كانت زلتهم كزلة البعير عن المزلفة. وإنما خص البعير لأن سقطته أفظع وأسرع في المزل. يقال: مكان دحض ومدحضة. ودحضت رجل البعير، إذا زلقت. قال:
وحدت كما حاد البعير عن الدحض
ومنه: حجتهم داحضة أي لا تثبت. ودحضت الشمس عن كبد السماء: زالت.
وقوله (وأمنحه مالي) يريد: أني بعد استنقاذي إياه أتوفر عليه ببذل المال، وإخلاص الود، وتقريب النصرة، وإن كان منطوياً على العداوة والبغضاء.
وقوله (محنى الضلوع) أي معطوفها. ويقال: حنيت الشيء وحنونه حنياً وحنواً، فهو محني.
وقال حاتم الطائي
وما أنا بالساعي بفضل زمامها ... لتشرب ماء الحوض قبل الركاب
وما أنا بالطاوي حقيبة رحلها ... لأبعثها خفا وأترك صاحبي
يقول: لا أجتذب إلى نفسي الفضل مع خلطائي وشركائي في الشرب وغيره فلا أتسرع في الورود مستعجلاً براحلتي لتشرب ماء الحوض قبل ورورد ركائبهم. ومعنى(1/819)
قوله (بالساعي بفضل زمامها) السابق بما أعطى راحلتي من زمامها. وهذا مثل. والركائب: جمع ركوب، وهو إسم يجمع ما يركب، ويقال: ركوبة، فهي كالحلوبة والحمولة، وتقع للواحد والجمع. وقوله (وما أنا بالطاوي حقيبة رحلها) ، يقول: وإذا كان لي رفيق في السفر وسعت جنابي له، ولا أتركه يمشي وقد خففت حقيبة رحل ناقتي طلباً للإبقاء عليها، ولكني أردفه أو أركبه. والحقيبة: ما يشد خلف الرحل. قال:
والبر خير حقيبة الرحل
والفعل منه احتقب واستحقب. واستعير فقيل: احتقب إثما. قال:
فاليوم فاشرب غير مستحقب ... إنما من الله ولا واغل
وقال آخر:
وإني لأنسى عند كل حفيظة ... إذا قيل مولاك، احتمال الضغائن
وإن كان مولي ليس فيما ينوبني ... من الأمر بالكافي ولا بالمعاون
يصف نفسه بأن الحقد ليس من طبعه ولا عادته، فيقول: إني أشفق على موالي حتى إذا اتفق لواحد ما يحتاج منى إلى معونة نسيت سيئته، ولم أحتمل في صدري له ضغنة، فأخذت بيده وأعنته على دهره، وإن كان فيما ينوبني ليس بكاف لي ولا معين، إذ كنت أوجب له بكونه مولى ما ينسى تباغضه وجفاءه. والحفيظة: الخصلة يحفظ لها الإنسان، أي يغضب. ويقال: (أهل الحفائظ أهل الحفاظ) ، لأنهم يحامون من وراء إخوانهم. وانتصب (احتمال) بأنسى. والضغائن: جمع الضغينة، وقد مر ذكرها.(1/820)
وقال آخر:
ومولى جفت عنه الموالى كأنه ... من البوس مطلى به القار أجرب
رئمت إذا لم ترأم البازل ابنها ... ولم يك فيها للمبسين محلب
يقول: رب ابن عم زهد أقاربه في الإحسان إليه فاطرحوه وانثنوا عن الفكر فيه والتوفر عليه، نبوا عنه وعن اصطناعه، فأثر فيه البؤس، وأحلط بجوانبه الشقاء والضر، حتى صار كالبعير الجرب وقد طلى بالقار، هيئة ولوناً، وضؤولة وانخزالاً، وتباعداً عن الناس وتجافياً، أنا عطفت عليه، وأشركته فيما وهب الله لي في وقت من الزمان لا يؤوي أحد من أهله غيره، لشمول القحط، وغلبة الضر والفقر، حتى أن النوق تؤثر التباعد عن أهلها فلا ترأمها، وترى الذين يبسون بذوات الألبان عند الحلب، لا يجدون في ضرعها خيراً، وترى الذين يبسون بذوات الألبان عند الحلب، لا يجدون في ضرعها خيراً. ويقال: بس بالناقة وأبس، إذا دعاها للحلب. ومن أمثالهم: (لا أفعل كذا ما أبس عبد بناقة) ، أي دعاها للحلب. ويقال: رئمت الناقة رئماناً، إذا عطفت.
وقال عروة بن الورد
دعيني أطوف في البلاد لعلني ... أفيد غنى فيه لذي محمل
أليس عظيماً أن تلم ملمة ... وليس علينا في الحقوق معول
يخاطب عاذلة له فيما هم به من الترحال في طلب المال، فقال: اتركيني وما اختاره من التجوال، والتنقل في البلدان، طمعاً في خير أستفيده، وغنى أستجده، لكي إذا نابنا ذو حق وجد على مالنا محملاً وعلينا في التزام واجبه متكلاً؛ لأن من جال نال، ومن قرع باباً وجد ولوجاً، وأول درج الحرمان الوقوف عند أدنى الهمتين، وآخرها الرضا بأودع العيشين.
وقوله (أليس عظيماً) يريد تقريرها على فضاعة الفقر والفاقة، وقباحة إمساك الناس عن تعليق الرجاء بهم والطاعة، فقال: ألا تستعظم أن تنوب الحي نائبة فلا يعولون علينا في الإحتمال عنهم، ولا يرتجون منا تعطفاً عليهم، لا تضاع حالنا، وتأكد(1/821)
اليأس من نيلنا. وقوله (أفيده) بمعنى أستفيد. وأليس يقرر به في الواجب الواقع، وأن تلم في موضع الرفع بليس.
وقال آخر:
تناقلت إلا عن يد أستفيدها ... وخلة ذي ود أشد به أزرى
هذا في طريقة ما تقدم. والمعنى: أني أتباطأ عن المطالب والمباغى كلها إلا إذا اتفق مصنع عند حر، فإني أتسرع إليه، وأتخفف في تحصيله، مخافة أن يفوز به غيري، لأن اعتقاج المنن في أعناق الرجال أعده غنيمة تغتنم، وفائدة تدخر؛ وإلا صداقة أخ وديد أعتمدها في مدافعة شر، ولا شتداد أزر، فإني أجمع يدي عليها، ولا أصبر على المزاحمة فيها. ويقال: شد فلان أزره، إذا شد معقد إزره. ويقال: آزره على امره، إذا ظاهره وعاونه عليه.
وقال عبد الله بن الزبير
لا أحسب الشر جاراً لا يفارقني ... ولا أخر على ما فاتني الودجا
وما نزلت من المكروه منزلة ... إلا وثقت بأن ألقى لها فرجا
يصف حسن ثقته بربه، وجميل ظنه بتفضله، وأنه قد جرب وتبصر، وعرف من أعقاب الأمور ما جعله لا يذل لنائبة، ولا يتخشع لنازلة، فلا يظن الشر إذا بلى به ضربة لازم لا يخالف، وجار سوء لا يفارقز قال: وإذا فاتني أمر وإن جل لا أهلك أسى في إثره، ولا أقتل نفسي جزعاً لفوته، ولا أنزل من مظان الماره منزلة إلا وثقتي بتلى الفرج وتعجله على أقرب مسافة مني. والودجان: عرقان يقطعهما الذابح. ويقال: ودجت الدابة، إذا أصبت ودجها.
وقال مالك بن حزيم
أنبيت والأيام ذات تجارب ... وتبدي لك الأيام ما لست تعلم
بأن ثراء المال ينفع ربه ... ويثنى عليه الحمد وهو مذمم(1/822)
وأن قليل المال للمرء مفسد ... يحز كما حز القطيع المحرم
يرى درجات المجد لا يستطيعها ... ويقعد وسط القوم لا يتكلم
قوله (والأيام ذات تجارب) اعتراض وقع بين أنبيت ومفعوليه، وهما في قوله (بأن ثراء المال ينفع ربه) لأن أنبيت ونبيت وأخواتها كل واحدة منها تتعدى إلى ثلاثة مفاعيل. وقوله (وتبدي لك الأيام) اعتراض ثان وإن عطف على ماقبله. والمعنى أن الأيام والليالي تفيد أربابها تجارب بما يحدث فيها من الحوادث، ويتحول من الأحوال، وتعلمهم بما ينكشف عنها ويشتملعليها من غوامض الأمور وخفياتها، مالا يخطر لهم ببال، ولا يؤديهإليهم رسم ولا مثال. فيقول: أخبرت والأيام هذه حالها أن كثرة المال، والتوسع في الحال، يرجعان بالنفع على صاحبهما فيصورانه بصورة المشكور والمحمود، وإن كان عند التحقيق والتحصيل مشكواً مذموماً؛ وأن قي قلة المال مفسدة لحال المقل وجاهه ونفسه، حتى يبريه ويقطعه بري السوط الجديد الذي لم يلين بعد، المضروب به، فتراه يبخع نفسه، وبتخشع للاقيه والناظر إليه، ويلزم السكوت في نادي الحي فلا ينبس تماوتاً وتصاغراً، إذ كان قد علم من نفسه أنه لا يستطيع الترقي في مدارج الفضل والإفضال، وانه تقعد الحال به عن النهوض بما ينهض به أماثل الرجال، فهو يسلم الأمر لهم، ويبرأ من التدبير إليهم إليهم. وقوله (بأن ثراء المال) تعلق بأنبيت بأن الأمر كذا وأن الأمر كذا. والقطيع: السوط. والمحرم: الذي لم يمرن بعد.
وقال محمد بن بشير
لأن أوجى عند العرى بالخلق ... وأجتزي من كثير الزاد بالعلق
خير وأكرم لي من أن أرى منناً ... خوالداً للئام الناس في عنقي
يصف رضاه بيسير الحظ من الدنيا، وعفافه عن كثير ما يستغني عنه فيتوقى، فيقول: لأن أتبلغ عند التعري باكتساء الخلق، وأكتفي من الزاد الكثير بما يمكن به سد(1/823)
الفاقة - أصون لي وأرد على من أرى مننا معقودة في عنقي، مثقلةً لظهري، باقيةً على أعقاب الزمان للئام الناس عندي. والعلق: جمع العلقة، وهي اليسير من الشيء يتبلغ به ويعتلقه المحتاج إليه. ويجوز أن يكون من علق يعلق، إذا رعى. ومنه الحديث: (إن أرواح الشهداء لتعلق في الجنة) وتكون العلقة كالغرفة والطعمة وما أشبههما. وقوله (لأن أزجي) اللام لام الابتداء، وأن أزجى مبتدأ وخبره قوله (خير وأكرم بي) .
إني وإن قصرت عن همتي جدتي ... وكان مالي لايقوى على خلقي
لتارك كل أمر كان يلزمني ... عاراً ويشرعني في المنهل الرنق
نبه على تمام الظلف والعفاف إذا أخذ به الإنسان، فيقول: أنا وإن عجزت غنيتي عما توجبه همتي، وكان في حالي قصور عما يدعو إليه خلقي، معرض عن كل أمر إذا نلته رجع منه على أذكر به، ويوردني مشارع الكدر، فإذا صدرت عنها لم أتهنأ بشربي منها. ولك أن تروى: (في منهل الرنق) فيكون المنهل مضافاً إلى المصدر، ولك أن تروى: (في المنهل الرنق) بكسر النون فيكون صفة له. والمنهل: موضع النهل. والناهل: العطشان، والريان جميعاً. والوجد والجدة: مصدر وجدت، في المال. ويقال: شرعت في الماء، إذا خضت. وأشرعني فيه فلان وشرعني أيضاً. وفي المثل: (أهون الورد التشريع) .
وقال أيضا:
ماذا يكلفك الروحات والدلجا ... البرطوراً وطوراً تركب اللججا
كم من فتى قصرت في الرزق خطوته ... ألفيته بسهام الرزق قد فلجا
قوله (ماذا) لفظة استفهام، والمعنى الإنكار، ويجوز أن يكون (ما) مع ذا بمنزلة اسم واحد مبتدأ، ويكلفك خبره. ويجوز أن يكون وحده اسماً، وذا في موضع الخبر، ويكلفك من صلته؛ كأنه قال في الأول: أي شيء يكلفك، وفي الثاني: ما الذي يكلفك السير في الليل والنهار متصلاً، لاتفتر تركب البر تارةً، والبحر أخرى. والروحات: جمع الروحة، وهو يريد به السير رواحاً. والدلج والدلجة: السير بالليل. وقوله (طرواً) انتصب على الظرف، والبر انتصب بفعل مضمر دل عليه الفعل الذي(1/824)
بعده. واشتقاق الطور من قولهم: لاأطور به، ومن طوار الدار، وهو ما كان ممتداً معها.
وقوله (كم من فتى) أفاد كم التكثير، والكلام خبر، والمراد: كثير من الفتيان تودعوا في منازلهم، وقصرت خطواتهم للسعي في طلب أرزاقهم، ألفوا قد نالوا ما غلبوا به المجد في الطلب، المتعب نفسه في التنقل. ومعنى فلج: غلب. وسهام الرزق، يراد به قداح الرزق، كأنه فاز لما خرج له من عند الإجابة بما غلب به مقامره ومزاحمه. ويجوز أن يري بسهام الرزق ما حظ له من الحظ، وأسهم له وقسم في الرزق.
إن الأمور إذا انسدت مسالكها ... فالصبر يفتق منها كل ما ارتتجا
لاتيأس وإن طالت مطالبة ... إذا استعنت بصبر أن ترى فرجا
يقول: استعن بالصبر في كل ما تزاوله وتراوده، فإن الأمور إذا انسدت طرقها، وأعيت الحيل في تحصيلها، فإن الصبر يسهل مدارجها، ويوسع موالجها، ويفتح ما انغلق منها، ويفتق ما ارتتق من أسبابها، ولا يتسلطن عليك من اليأس ما يفتر عزمك، أو يقصر سعيك، وإن دامت مطالبتك، واتصلت مواظبتك. واعتقد أن الفرج يتلقاك، والنجح بأقرب المنازل منك؛ فإنك إذا فعلت ذلك فزت بكل ما ترومه، وتعجل لك كل ما تهواه. وقوله (أن ترى) في موضع المفعول من تيأسن. وقوله (فالصبر يفتق) جواب إذا، وخبر إن الأمور في الشرط والجواب. ويقال رتجت الباب وأرتجته، إذا أغلقته، وباب مرتج ومرتوج. والرتاج: الباب نفسه.
أخلق بذي الصبرأن يحظى بحاجته ... ومدمن القرع للأبواب أن يلجا
أبصر لرجلك قبل الخطو موضعها ... فمن علا زلقاً عن غرة زلجا
يقول: إن مدمن الصبر في الأمور، وملازم التثبت والتلوم عند الخطوبحقيق بأن يظفر بطلبته، وبنجاح السعي في مرامه وبغيته. كما أن من أدام قرع أبواب(1/825)
مداخله، وغمز مفاصل آرابه، حقيق بولوجه ووصوله، ومعرفة متيح ما يرجوه ومريحه.
ثم قال: وإذا سعيت في أمر فاعرف مواطىء قدمك قبل أن تعلوها، ومواقع خطوك قبل أن تعدوها، واقسمها بين نظرك واختبارك، وتحقيقك وحدسك؛ فإن من ركب مزلقةً عن غرة وغفلة، يوشك أن يسقط ليديه وفمه، وتزل به قدمه إلى قرار هلكته وحينه. والزلج: السرعة في المشي والسقوط وغيره. وفرس زلوج: سريع السير. وكذلك يقال قدح زلوج. ومزلاج الباب: الخشبة التي يغلق بها.
وقال آخر:
لججنا ولجت هذه في التغضب ... وشد الحجاب بيننا والتنقب
تلوم على مال شفاني مكاني ... إليك فلومي ما بدا لك واغضبي
كان هذا الشاعر اطلع من أحوال أيتام أخيهعلى ماساءهوأنف منه، ثم دعاه التحنن والإشفاق مما يتداوله الناس في مجالسهم من أحاديث البر والعقوق، وتصرفهم في صرف المقت إلى مستحقه، والحمد إلى مكتسبه، إلى أن أمر عبديه الراعيين بإراحة ما ردا إلى فنائه من مسارح إبله عليهم، فاغتاظت امرأته من ذلك وأنكرت فعله، وخوفته في أثناء ملامها بالفقر وهجرته، فأخذ يقتص ما كان منها ومنه فقال: تمادت امرأتي في الغضب والهجران، واللوم والإحتجاب، وكل ذلك منها في مالي شفاني موضعه الذي وضعته فيه، ومصرفه الذي صرفته إليه. ثم أقبل عليها مستهيناً بها وبفعلها فقال: إليك فلوميما بدلك. والمعنى: اجمعي أمرك واستمريي عتبك وغضبك ما بدا لك، فإن الرشاد فيما آثرته، والصلاح في قران ما اخترته. و (إليك) : اسم من أسماء الأفعال هنا، كما يكون عليك، وعندك. ولذلك عطف عليه قوله (فلومي) . و (ما بدالك) في موضع الظرف. وقد تقدم القول في أمثاله.(1/826)
رأيت اليتامى لا تسد فقورهم ... هدايا لهم في كل قعب مشعب
فقلت لعبدينا أريحا عليهم ... سأجعل بيتي مثل آخر معزب
عيالي أحق أن ينالوا خصاصة ... وأن يشربوا رنقاً إلى حين مكسبي
يعني باليتامى أولاد أخيها المتوفي. يريد: رأيتهم لا تسد مفاقرهم ولا تقيم مختل أحوالهم، تحف توجه إليهم، وهدايا تحمل نحوهم في قعاب مشعوبة. يشير بذلك إلى ما كانت امرأته تتولاه وتأتيه من برهم وتفقدهم قبل ذلك. وفي قوله: (هدايا لهم في كل قعب مشعب) إزراء بصنيعها، وبالألبان المنقولة إليهم وظروفها. وجمع الفقور لاختلاف وجوهها.
وقوله (فقلت لعبدينا) يعني راعييه اللذين أمرا بسوق الإبل المردود من المراعي إلى فناء أولاد أخيه. وإنما ثنى على عادتهم في تثنية مزاولي أعمالهم، كالبائن والمستعلى في الحلب وما أشبههما. وقوله: (سأجعل بيتي مثل آخر) ، يريد مثل بيت آخر وقد عزبت إبله وتباعدت، فإن عيالي ولهم كاسب مثلي أحق بمزاولة الفقر، ورثاثة العيش، والصبر على المشرب الرنق، إلى أن أكسب ما تعود به حالهم إلى ما ألفوه من الخطب والسعة، والخفض والدعة. ويقال: أعزب الرجل، إذا عزبت عنه إبله في المرعى.
ذكرت بهم عظام من لو أتيته ... حريباً لآساني لدى كل مركب
أخوك الذي إن تدعه لملمة ... يجبك وإن تغضب إلى السيف يغضب(1/827)
يقول: تذكرت بهؤلاء الأولاد أباهم الذي لو أتيته محزوناً مسلوباً، ومتعباً بأعباء الفقر مبهوراً، لضمني إلى صدره، وشملني تضاعيف بره، وجعلني إسوة نفسه في كل ما أركبه، والمسعف بطلبته عند جميع ما أخطبه، لأن الأخ الكامل الأخوة هو الذي يشد أزرك، ويحمي ظهرك، وإن دعوته لنائبة تنوب أجابك سريعاً، وإن أعملت سيفك أعمل سيفه معه حثيثاً.
وقال المقنع الكندي
يعاتبني في الدين قومي وإنما ... ديوني في أشياء تكسبهم حمداً
أسد به ما قد أخلوا وضيعوا ... ثغور حقوق ما أطاقوا لها سداً
وفي جفنة ما يغلق الباب دونها ... مكللة لحماً مدفقة ثردا
وفي فرس نهد عتيق جعلته ... حجاباً لبيتي ثم أخدمته عبداً
كأن قومه ينعون عليه سرفه في الإنفاق، وتخرقه في الإفضال، وتجاوزه ما تساعده به حاله وتتسع له ذات يده إلى الاستقراض، وبذل الوجه في الأديان، فقال: كثرت لأئتمتهم فيما يركبني من الديون، وإنما هي مصروفة في وجوه مؤنها علي، وجمالها لهم، وقضاؤها في أنفسهم يلزمني، ومحامدها موفرة عليهم. ثم أخذ يعد فقال: من تلك الوجوه أن ما ينوب من الحقوق فيخلون بها ويضيعونها عجزاً عن الوفاء بواجبها، أنا أسد ثغورها، وأقيم فروصها.
ومنها: أن لي دار ضيافة قدورها مشبعة موفورة، وجفانها معددة منصوبة، لا يمنع منها طالبها ولا يحجب عنها رائدها، فلحمانها كلأكاليل على رءوسها، وثرئدها قد نمق تدقيقها.
ومنها: أن بفنائي فرساً مربوطاً قد أعد للمهمات، على عادة لأمثالي من الأكابر والرؤساء. ولكرمه وما يتوفر عليه من إكرامي إياه قد صار كالحجاب لباب بيتي، وقد شغلت بخدمته عبداً يتفقده بمرأى مني، لا أهمله ولا أغفل عنه.(1/828)
قوله: (مدفقة) أي مملوءة. والأحسن أن يروى معه: (ثرداً) بضم الثاء. ويروى (مدفقة ثردا) بفتح الثاء. والمراد مثردة ثرداً دقيقاً. والنهد: الجسم المشرف من الخيل.
وإن الذي بيني وبين أبي ... وبين بني عمي لمختلف جداً
فإن يأكلوا لحمي وفرت لحومهم ... وإن هدموا مجدي بنيت لهم مجدا
وإن ضيعوا غيبي حفظت غيوبهم ... وإن هم هووا غي هويت لهم رشداً
وإن زجروا طيري بنحس تمر بي ... زجرت لهم طيراً تمر بهم سعدا
ذكر بعد ما عدد معاذيره فيما أنكروه عليه، أن إخوته وأبناء عمه يحسدونه ويأتمرون العداوة والغواية له، وهو يصابرهم ويجاملهم، ويتغابى معهم، فقال: إن ما بيني وبينهم في طرفي نقيض، وعلى لون من الخلاف عجيب؛ فإنهم إن اغتابوني وتطعموا لحمي أمسكت عنهم، وتركت أعراضهم موفورة، لم يتخونها مني إذالة ولا ثلب، وأعراقهم محفوظة لم يتحيفها تحامل ولا غض. وإن سعوا في نقض ما أبرمته من مسعاة كريمة، وهدم ما أسسته من خطة مجد علية، جازيتهم باببتناء شرف لهم مستحدث، وإعلاء شأن لهم مستأنف. وإن أهملوا غيبي فلم براعوه بحسن الدفاع عنه، وإسباغ ثوب المحاماة عليه حفظت أنا غيبهم، وأرصدت الغوائل لمن اغتالهم. وإن أحبوا لي الغواية، والتسكع في الضلالة والبطالة، اخترت لهم المراشد، وهويت في مباغهم المناجح. وإن تمنوا لي المنحسة، وزجروا من بوارح الطير وسوانحها في المشأمة، جعلت عيافتي لهم فيما يمر بي منها المسعدة والطيرة الحميدة. وقوله: (سعدا) صفة لطيراً.
ولا أحمل الحقد القديم عليهم ... وليس رئيس القوم من يحمل الحقدا
لهم جل مالي إن تتابع لي غنى ... وإن قل مالي لم أكلفهم رفدا
وإني لعبد الضيف مادام نازلا ... وما شيمة لي غيرها تشبه العبدا
أثبت لنفسه الرياسة عليهم في هذا البيت. والمعنى أنه متى استعطفوه عطف عليهم، وإن استقالوه أقالهم وأسرع الفيئة لهم، غير حامل الضغن واللجاج معهم، ولا معتقداً انتهاز الفرص فيهم، لما اكتمن من عوادي الحقد عليهم.(1/829)
وقوله: (وليس رئيس القوم من يحمل الحقدا) يجري مجرى الالتفات، كأنه أقبل على مخاطب فقال: إني لا أتجمل بترك مؤاخذتهم، وأطراح الحقد في مساوقتهم، فإن الرئيس يحب ذلك عليه في شروط الرياسة. وقوله: (لهم جل مالي) يريد إن تواصل الغنى لي أشركتهم في معظمه، من غير امتنان ولا تكدير، وإن تحيف مالي حادث يلم، أو عارض يحدث، لم أنتظر من جهتهم معونة، ولا كلفتهم فيما يخف أو يثقل مؤونة.
وقوله (وإني لعبد الضيف) أراد أن يبين ما عنده للغريب الطارق، والضيف النازل، بعد أن شرح حاله مع مواليه، وخصاله في مرافقة ذويه، فقال: وابلغ في خدمة الضيوف مبالغ العبيد فيها. ثم أكد ما حكاه بقوله (وما شيمة لي غيرها تشبه العبدا) ، فانتصب (غير) على أنه مستثنى مقدم؛ وذاك لأنه لما حال بين الموصوف والصفة، وهما شيمة وتشبه، وتقدم على الوصف صار كأنه تقدم على الموصوف، لأن الصفة والموصوف بمزنلة شيء واحد. وقوله (تشبه العبدا) يريد: تشبه شيم العبد، فحذف المضاف وأقام المضاف إليه مقامه.
فليتأمل الناظر في هذا الباب وفي مثل هذه الأبيات، وتصرف قائلها فيها بلا اعتساف لا تكلف، وسلاسة ألفاظها، وصحة معانيها، فهو عفو الطبع، وصفو القرض.
وقال رجل من الفزاريين
إلا يكن عظمي طويلاُ فإنني ... له بالخصال الصالحات وصول
ولا خير في حسن الجسوم ونبلها ... إذا م تزن حسن الجسوم عقول
إذا كنت في القومالطوال أصبتهم ... بعارفة حتى يقال طويل
يقول: إن لم يكن في طولي امتداد، ولا في خلقي بسطة وكمال، فإني لا أزال أصل نقص جسمي، وأمد قصر قامتي بما أتولاه من الأفعال الكريمة، وأختاره من الخصال الحميدة، حتى أمحو سمة الإزراء عن نفسي. ومن أوتي الفضل في خلقه ونفسه، وعاداته وشيمه، خير ممن أوتي العظم في خلقه، والبراعة في جسمه، فلا فضيلة لمن حسن وجهه ونبل منظره، إذا لم يزينه عقل وافر، ومخبر رائق.(1/830)
ومتى حصلت بين أقوام طوال القامات، قابلت طولهم بطول يدي فبهم، وأنلتهم معروفي حتى عظمت في أعينهم، وامتلأت من حبهم لي وميلهم إلى قلوبهم، فأنساهم طول باعي بالغطية قصر قامتي بين قاماتهم. وقوله (حتى يقال طويل) ارتفع طويل على أنه خبر مبتدأ محذوف، كأنه قال: هو طويل. أي يسلمون له فضيلة الطول عندهم.
وكم رأينا من فروع كثيرة ... تموت إذا لم تحيهن أصول
ولم أر كالمعروف أما مذاقه ... فحلو وأما وجهه فجميل.
هذا مثل ضربه للخصال المجتمعة في الانسان، لا تعد فضائل إلا إذا اقترنت بخصال أخر، وهي كالأصول لها. ومثال ذلك ما قدمه من ذكر عبالة الخلق إذا عربت من نباهة الخلق، وما شاكلها من صباحة الوجه إذا خلت من صحابة العقل. ثم قال: ولو أر شيئاً كإسداء المعروف وبث العطاء والإحسان، فإن من ذاقه استجلاه، ومن رآه استحسنه وارتضاه. وهذا تأكيد ما ذكر من قوله: (أصبتهم بعارفة حتى يقال طويل) .
وقال عبد الله بن معاوية
أرى نفسي تتوق إلى أمور ... ويقصر دون مبلغهن مالي
فنفسي لا تطلوعني ببخل ... ومالي لا يبلغني فعالي
قد مضى له أمثال، ومعناه ظاهر، ويروى: (لا يقوم له فعالي) .
وقال مضرس بن ربعي
إنا لنصفح عن مجاهل قومنا ... ونقيم سالفة العدو الأصيد
ومتى نخف يوما فساد عشيرة ... نصلح وإن نر صالحاً لا نفسد(1/831)
يصف صفاء نيتهم لقومهم، وأنهم يسلكون معهم طرائق ما يعود على المسود بالصلاح، وعلى السائد باستكمال الرياسة والارتفاع، فقال: إذا جهلوا علينا صفحنا عنهم، وأبقينا على الحال بيننا وبينهم، واستفأنا إقامتهم ورجعتهم. كل ذلك لئلا ينفروا فيزداد ما بيننا وبينهم تفاقماً. فأما الأعداء فإنا نكسرهم ونستل عنهم كبرهم وخنزواتهم، وانلين أعناقهم حتى ينقادوا على ضغن منهم. والسالفة: صفحة العنق. والصيد: ميل في العنق من الكثير كما ما يكون الصغر في الخد، وكما أن الصاد يستعمل في الناظر.
وقوله: (ومتى نخف يوماً فساد عشيرة) يريد: إنا نسعى في إصلاح ذات بينهم، ولا ندعهم يتدابرون ويتضاغنون؛ لأن عز الرجل بعشيرته. ثم إن رأيناهم على حد مت الصلاح زدنا في قوة نياتهم، وحملناهم على ما يزدادون به استقامة واستمراراً.
وإذا نموا صعداً فليس عليهم ... منا الخبال ولا نفوس الحسد
ونعسين فاعلنا على ما نابه ... حتى نيسره لفعل السيد
يقول: وإذا ارتقوا في درجات العز وتبوءوا منازل الفضل، لم نحسدهم، ولم نضيق عليهم طرائق مقاصدهم، فيورثهم ذلك خبلاً وفتوراً. والساعي منهم إذا جد في إقامة ما ينوبه من الحقوق أعنا على إتمام ما يشيده، والزيادة فيما يؤيده، حتى نبلغ به فعل السيد، علماً بأن رفعتهم لنا، وجمالهم جمالنا.
ونجيب داعية الصباح بثائب ... عجل الركوب لدعوة المستنجد
فنفل شوكتها ونفثأ حميها ... حتى تبوخ وحمينا لم يبرد
ونحل في دار الحفاظ بيوتنا ... رتع الجمائل في الدرين الأسود
قوله (ونجيب داعية الصباح) ، يريد: وإن استعان بنا من أغير عليه صباحاً من ذي محرم أو جار، أو متسبب بإل وقرابة، أجبناه سريعاً بجيش سريع الركوب لدعوة المستصرخ، فنكسر شوكة المغيرين، ونخمد نائرتهم ونسكن حماهم حتى تبرد، وحمانا لم تسكن ولم تبرد. وجعل الشوكة كناية عن السلاح والقوة جميعاً، وقوله (نفثأ) هو من فثأت القدر، إذا سكنت غليانها. وقوله (حتى تبوخ) يقال باخت النار إذا طفئت.(1/832)
ومعنى (ونحل في دار الحفاظ بيوتنا) نصبر في دار المحافظة على الشرف إذا اشتد الزمان، وإذا قصد غيرنا للخصب أو طلب الإنتجاع أقمنا مرتعين في الدرين مالنا، ولانمكن أعدائنا من أرضنا وحمانا. والدرين: اليابس من الكل القديم العهد. وجعله أسود لفساده وطول قدمه. ويروى (وتحل في دار الحفاظ بيوتنا) . وانتصب (رتع الجمائل) على أنه مصدر في موضع الحال. ومثله قول الآخر:
ونحل في دار الحفاظ بيوتنا ... زمناً ويظعن غيرنا للأمرع
وقال المتوكل الليثي
إني إذا ما الخليل أحدث لي ... صرماً ومل الصفاء أو قطعا
لاأحتسي ماءه على رنق ... ولا يراني لبينه جزعا
يقول: إذا اعوج صديق لي والتوى، وطلب الخلاف علي فأحدث لي نبواوجفاء، وتبرم من مصافاتي فاقبل يتجنى علي، فإني لا أروم منه العود، ولا أعرض عليه الرجوع، بل أصارحه ولا أتجرع ماء الود بيني وبينه علىكدر فأحتمل مكروهه، ولا أظهر جزعاً لاستحداث فراق من، أو تنكر ينطوي عليه فأخبث له، لأني وصال صروم، أصافي من يصافيني، وأجامل من يجاملني، وأداجي من يداجيني.
أهجر ثم تنقضي غبر ال ... هجران عني ولم أقل قذعا
اخذر وصال اللئيم إن له ... عضها إذا حبل وصله انقطعا
الغبر: البقايا، واحدتها غبرة. ويقال: تغبرت الناقة، إذا احتلبت غبرتها. وغبر الليل: مآخيره. قال:
فيا صبح كمش غبر الليل مصعداً ... ببم ونبه ذا العفاء الموشح
والقذع والقذيعة: الفحش. يقال: قذعته، إذا رميته بالقذع. وأقذع الرجل: أتى بالفحش. وكلام قذع. ويتوسع فيه فيقال للقذر: القذع، حتى يقال: قذع ثوبه بالبول(1/833)
وغيره. يقول: أقطع العلائق بيني وبينه فأنصرف عنه هاجراً، وتنقضي مدة الهجران عنا ولم أعتبه ةلا قلت فيه فحشاً، ولا ذكرته بزلة كانت منه.
ثم قال: احذر مواصلة اللئيم ومؤاخاته، لأنه إذا انقطع حبل وصله، وانصرم ما يجمعك وإياه من وده يتكذب عليك، ويخلق من الإفك فيك ما لم تكتسبه لابيدك ولا لسانك، وهذا كأنه لما نفى عن نفسه في البيت الأول ما نفى بين في البيت الثاني أنه لايفعل ذلك، لكونه من فعل اللئام. والعضه: ذكر القبيح كذباً وزوراً. ويقال: عضهته، إذا رميته بالزور. واعضه الرجل أتى بالعضيهة، وهي الإفك. ومن كلامهم: يا للعضيهة! ويا للأفيكة! وقال بعضهم:
خليلي بين السلسلين لو أنني ... بنعف اللوى أنكرت ما قلتما ليا
ولكنني لم أنس ما قال صاحبي ... نصيبك من ذل إذا كنت خاليا
النعف: ما ناعفك، أي عارضك من الجبل أو المكان المرتفع. واللوى: مسترق الرمل. وجواب لو (أنكرت) ، وكأن نعف اللوى كان أرضه ودياره، فيقول: لوكنت في أرضي ومعي عشيرتي وأهلي، ثم سمتماني ما سمتماني لأنكرته ولم أقبله، ولكنني لم أذهب عما وصاني به صاحبي من قوله: الزم نصيبك من الذل إذا كنت في دار غربة، ومتباعداً عن نصارك والمشفقين عليك. وانتصب (نصيبك) بإضمار فعل.
وقال قيس بن الخطيم
وما بعض الإقامة في ديار ... يهان بها الفتى إلا بلاء
وبعض خلائق الأقوام داء ... كداء البطن ليس له دواء
يريد المرء أن يعطى مناه ... ويأبى الله إلا ما يشاء
وكل شديدة نزلت بحي ... سيأتي بعد شدتها رخاء(1/834)
قوله (وما بعض الإقامة) إنما بعضها لأنه أشار إلى الإقامة التي أوائلها تنزاح معها العلل، ويسهل في اختيارها الانفصال والترحل، وأواخرها تتغير بما يعرض فيها حتى يشق لها التلوم والتلبث. وارتفع (بلاء) لأنه خبر المبتدأ، وهوبعض الإقامة، (ويهان بها الفتى) في موضع الصفة لقوله في ديار. فيقول: إذا أمكن الارتحال عن دار الهوان، ولادافع ولامانع يوجبا الصبر فالإقامة بها بلاء، ويجب على الحر طلب الانفكاك منه، وروم الخلاص من أذاه.
وقوله (وبعض خلائق الأقوام) يريد أن يعض ما يتخلق به الناس يتعذر مفارقته ومداواة إزالته، فهو كالداء الذي يكون بالإنسان وقد استصحبه من بطن أمه. يريد أن ما اعتاده الإنسان من الأخلاق يصير لإذا أتت الأيام عليه، وقوى الإلف له، كالخلقة أو ما يجري مجراها.
وقوله (يريد المرء أن يعطي مناه) معناه أن الإنسان يتمنى أن يحصل له ما يتعلق به شهوته، ويرتاده هواه وإرادته، ويمنع الله تبارك وتعالى إلا ما يكون بشيئته، ويعرفه من مصالح خليقته.
وقوله (وكل شديدة) يريد أن الشيء لايدوم على حال، فالشدائد إذا نزلت يتعقبها الخير ورخاء العيش وسعته، لأن لكل أمر أمداً يمد له الوقت، فإذا تناهى انقطع.
ولايعطى الحريص غنىً لحرص ... وقد ينمي إلى الجود الثراء
غنى النفس ما عمرت غنى ... وفقر النفس ماعمرت شقاء
وليس بنافع ذا البخل مال ... ولا مزر بصاحبه السخاء
وبعض الداء ملتمس شفاه ... وداء النوك ليس له شفاء
قوله (ولا يعطى الحريص) يريد أن حرص الإنسان في طلب الغنى لايجدي عليه نفعاً، ولايقرب منه بعيداً، لأن ميسر اليسر والغنى هو من له الخلق والأمر، وإليه الإبرام والنقض.
وقوله (وقد ينمي إلى الجود) يريد أن الثروة والكثر هما ينميان مع الجود. وإنما يقدح بهذا الكلام في البخل والإمساك، وأن زيادة المال وبقاءه لايحصلان لهما وبهما. وقوله (إلى الجود) إلى بمعنى مع. تقول: هذا إلى ذاك.(1/835)
وقوله (غنى النفس ما عمرت غنى) ، يريد أن غنى النفس خير من كثرة المال؛ لأن من كان راضياً بماله، غنياً عن غيره بما يحصل في يده، تراه باكتفائه اغنى الموسرين، وفقير النفس وإن ساعده المال، وأطاعه القدر يزداد على مر الأيام وزيادة الحال، حرصاً ونهمةً وشقاء.
وقوله (وليس بنافع ذا البخل مال) ، يريد أن البخيل لاينتفع بماله، لنه يجمعه ويتركه لغيره، والسخاء لايقصر بصاحبه، بل يرفع منه، ويكسبه الحمد والأحدوثة الجميلة.
وقوله (وبعض الداء ملتمس شفاه) جعل الداءللجنس فناب عن الجمع فقال: بعضها يعرف شفاؤه فيطلب إزالته، وداء الحمق لاشفاء له، ولامحيد لصاحبه عنه. وقوله (شفاه) قصر الممدود، وهذا لاخلاف في جوازه على المذهبين.
وقال يزيد بن الحكم
يا بدر والأمثال يض ... ربها لذي اللب الحكيم
دم للخليل بوده ... ما خير ود لا يدوم
قوله (والأمثال يضربها) اعتراض دخل بين قوله (يا بدر) وبين دم للخليل من البيت الثاني، ونبه بهذا الاعتراض على أن وصيته وصية حكيم، وأن اللبيب العاقل يأخذ بها ويتأدب.
ومعنى قوله (دم للخليل بوده) أي بودك له، فأضافه إلى المفعول، والمصدر كما يضاف إلى الفاعل يضاف إلى المفعول. وقوله (ما خير ود) استفهام على طريق الاستثباب والقصد إلى النفي والمعنى: أن الوداد إذا لم يصف ولم يدم فلا خير فيه. وقوله (لايدوم) صفة لود. تلخيصه: أي شيء خير ود غير دائم.
واعرف لجارك حقه ... والحق يعرفه الكريم
واعلم بأن الضيف يو ... ماً سوف يحمد أو يلوم
والناس مبتنيان مح ... مود البناية أو ذميم
يقول: ارعف حق الجوار لمجاورك، فإن الكريم هو الذي يعرف حق مثله. وقوله (والحق يعرفه) الواو واو الحال، وهو واو الابتداء. فإذا رويته بالواو يكون حالاً لقوله حقه، كأنه قال: اعرف حقه معروفاً للكرام، وهو معروف للكرام.
وقوله (واعلم بأن الضيف) يقال علمت كذا، وبكذا. وهذه الوصاة بالضيف قد عللها بقوله (سوف يحمد أو يلوم) . والمعنى: أحسن إليه وتفقده، عالماً بأن نزوله بك يجلب حمداً إن أحسنت إليه، أو لوماً إن أسأت إليه أو قصرت في حقه.
وقوله (محمود البناية) أتى بالبناية غير مبنى على مذكر حصل من قبل، ثم ادخل تاء التانيث عليه، فهو كالثناية اسم الحبل، والشقاوة والرعاية والغباوة. ولو كان مبنياً على مذكر لكان (البناءة) لأن الواو والياء إذا كانا حرفي إعراب بعد ألف زائدة تبدل منهما الهمزة. على ذلك: الرعاء والكساء والرداء والباب كله.
ومعنى البيت: ان افعال عقلاء الناس لاتخلو من أن تكون مما يستحق به حمد او ذم، فهم يبنون مبانيهم، ويؤسسون مكاسبهم على أحد هذين الركنين، وذلك لأن الأفعال تابعة للأغراض، وغرض العاقل إليهما ينقسم، فانظر ماذا تجلب على نفسك بما من فعلك، وتدخره من كسبك.
وارتفع (محمود) على أنه بدل من (مبتنيان) ، أو خبر مبتدأ محذوف، كأنه قال: هما محمود البنية أو ذميم.(1/836)
واعلم بني فإنه ... بالعلم ينتفع العليم
أءن الأمور دقيقها ... مما يهيج له العظيم
والتبل مثل الدين تق ... ضاه وقد يلوى الغريم
والبغي يصرع أهله ... والظلم مرتعه وخيم
قوله (بني) إن ضممته فهو منادى مفرد، وإن كسرته فهو منادى مضاف وقد حذف ياء الإضافة. وإذا كان ياء الإضافة في المنادى يحذف في نحو يا غلام لأن الكسرة تدل عليه، وهو واقع موقع ما يحذف في هذا الباب وهو التنوين وباب النداء باب حذف، لكثرة الاستعمال، فهو في بني أولى بالحذف، لاجتماع الياءات(1/837)
والكسرات. في آخرهاوقوله (فإنه بالعلم يتنفع العليم) الهاء ضمير الأمر والشأن، والجملة اعتراض بين اعلم ومفعوليه. والمراد باستعمال العلم، وذاك أن من علم طرق الرشاد ثم لم يسلكها كان معرفته بها وبالاً عليه.
وقوله (إن الأمور) مفعول واعلم، ودقيقها مبتدأ وما بعده خبره، والجملة خبر إن. ولك أن تكسره فتقول (إن) عل الاستئناف، ويكون واعلم معلقاً والمعنى: أن الشر يبدؤه أصغره، كما أن السيل أوله مطر ضعيف. وهذا الكلام بعث على النظر في ابتداءات الأمور وتصور عواقبها.
وقوله (والتبل مثل الدين) ، التبل: الذخل، ومعنى يلوي يمطل، ومصدره اللي والليان. وفي الحديث: (لي الواجد يحل عقوبته) . وقد روى (يلوى) و (يلوى) فإذا رويت يلوى بالكسر، فمعناه يذهب بالحق، يقال: الوى بالشيء إذا ذهب به، و (يلوى) هو بناء ما لم يسم فاعله، لوى إذا مطل. والغريم: اسم لمن له الدين، وللذي عليه الدين. وأصل الغرامة اللزوم، ولكون كل واحد منهما ملازماً لصاحبه إلى أن ينقضي ما بينهما أجرى الاسم عليهما. والمعنى أن الوتر والذحل كالدين على الواتر، فهو بعرض المطالبة به كالغريم ثم، قد يقضي وقد يمطل، فلا تكتسبه، لأن العداوات وخيمة الأواخر، سيئة المبادىء.
وقوله (والبغي يصرع أهله) يقول: وإذا كان لك خصم في شيء فلا تستهن به، ولا تستعمل البغي معه، فإن من بغى عليه بعرض النصرة، والباغي بعرض التلف والهلكة، ولاتظلم فإن الظلم ذميم المرتع وبيله، وفظيع المسمع قبيحه. ويقال: ظلمته ظلماً بفتح الظاء وهو المصدر، وظلما بضم الظاء وهو الاسم.
ولقد يكون لك الغري ... ب أخاً ويقطعك الحميم
والمرء يكرم للغنى ... ويهان للعدم العديم
قد يقتر الحول التق ... ي ويكثر الحمق الأثيم
يملى لذاك ويبتلي ... هذا فأيهما المضيم
قوله (ولقد يكون) معناه أن لوفاء قد يكون في الغريب إذا آخيته، والخيانة تتفق من القريب إذا صافيته، فانظر لنفسك إذا اخترت، ولا تعتمد القربى(1/838)
والقرابة، فإن المواخاة مبنية على الأصول الزكية، والنفوس الوفية، لا على الأنسا والأسباب.
وقوله (والمرء يكرم) يقول: ادخر المال واسع في جمعه، وإياك واستعمال التبذير فيه، فإن اليسير منه مع حسن التدبير يتصل بقاؤه، وكرامة المرء متسببة عن غناه، كما أن هوانه في قران فقره. وقوله (والمرء) ارتفع بالابتداء، وخبره يكرم، وقد عطف على هذه الجملة جملة مخلفة لها من التقارب لما صلح ذلك. ومثله قول الآخر:
أموف بأدراع ابن ظبية أم تذم
على العكس من هذا قول الله تعالى: سواء عليكم أدعوتموهم أم أنتم صامتون، لأن هذا عطف فيه على المبتدأ والخبر على الفعل والفاعل.
وقوله (قد يقتر الحول) فالحول: الكثير الحيلة. وصحح بناؤه ولم يقل إخراجاً له على أصله، وتنبيهاً أن ما علل من نظائره كان حكمه أن يجيء على هذا. ومما جاء على القياس من نظائره: رجل مال وصات وما أشبههما. وكذلك هذا كان يجب أن يقال حال. والمعنى أن الكثير الحيل، الخراج الولاج، وهو سديد في طرائقه، قد يفتقر فيكون مقلاً، وأن المائق الناقص في عقله، المكتسب بجهله، المرتكب للأوزار بحرصه، قد يستغنى هو فيكون مكثراً، إذ كانت القسم والحظوظ لا تقف علي كيس المرء وخرقه، ولا على تقاه وفسقه.
وقوله (يملى لذاك) أشار بذاك إلى الحمق الأثيم، وبهذا إلى الحول التقى. وقد طابق بذاك وهذا فيقول: أملي لذاك الجاهل وأرخى له الحبل فنال ما نال، وابتلى هذا الحول التقي حتى شقى وحرم، فأيهما المظلوم. والمعنى أن ذلك من قسمة من عرف مصالح خلقه، وعلم ما يتأدى إليه حال كل واحد منهم، فاختار الأحكم في التدبير، والأصلح للصغير والكبير.
والمرء يبخل في الحقو ... ق وللكلالةما يسيم
ما بخل من هو للمنو ... ن وريبها غرض رجيم(1/839)
ويرى القرون أمامه ... همدوا كما همد الهشيم
يقول: ترى الرجل يسوف بما يلزمه من أداء الحقوق، فيبخل بإخراجه وأدائه، فيموت عما يجمعه ويبخل به، ويتركه للكلالة. والكلالة هم الوارث وقد خلوا من الوالد والولد. وأصله من تكلله النسب، إذا أحاط به. وقيل هو من الكلال: الإعياء؛ كأن بعد النسب أكله. وقوله (مايسيم) يجوز أن يكون مصدراً، كأنه قال: فإسامته لماله للغيرلا لنفسه. ويجوز أن يكون ما بمعنى الذي، وقد حذف الضمير العائد إليه من يسيم، كأنه قال: وللورثة ما له الذي يسيمه. والإسامة: إخراج المال إلى المرعى. ويقال أسمت البعير فسام. ومنه السائمة للمال: الراعية.
وقوله (ما بخل من هو) استفهام على طريق الإنكار. فيقول: ما يغنى بخل من هو للحوادث كالغرض المنصوب للرمي، فإذا علم من نفسه أنه غير مخلد، بل هو منقول من دار الفناء إلى دار البقاء، فلماذا يمسك ولا ينفق، ويجمع ولا يفرق. هذا وقد رأى الأمم الخالية قبله ماتوا وفنوا فعادوا رميماً، كما يهمد النبات فيصير بعد نضارته دريبنا هشيماً، وهو اليابس المتشهم الأسود لطول القدم. والمنون يكون اسماً للدهر فيذكر، ويراد به المنية فيؤنث. وهو من المن: القطع. فلك أن تروى: (وريبه) (وريبها) جميعاً. ومعنى (وريبها) نزولها، قال أبو عبيدة: راب عليه الدهر، أي نزل. وقد يراد بريب الزمان أحدائه وصروفه الرائبة.
وتخرب الدنيا فلا ... بؤس يدوم ولانعيم
كل امرىء ستئيم من ... هـ العرس أو منخها يئيم
ما علم ذي ولد أيث ... كله أم الولد اليتيم
يقول: وإذا كانت الدنيا مبنيةً للفناء لا للبقاء، والخراب لا للعمارة، وكذلك أعراضها مخلوقة للزوال لا للدوام، وقرب الأمد في الاستمتاع بالمعار لا الإملاء، فلماذا يفرح الإنسان بما ينال، ويجزع لما يفوت، وكل بائد غير ثابت، ومستلب غير موفر.
وقوله (كل امرىء) ، يقول: إن الأليفين فيها لابد من فقدان أحدهما للآخر، والبعل يموت فتبقى العرس منه أيماً، لتقدم موته، والعرس تموت فيبقى هو منها أيماً(1/840)
لتقدمها. ويقال: رجل أيم وامرأة أيم. وقد آمت تئيم أيمةً. وكذلك ذو الولد لايدري أيموت فيتيم الولد، أم يهلك الولد فيثكل الوالد، فإن سكان الدنيا موعودون آجال منتظرة، مدعوون لأحوال مؤخرة.
وقوله (ما علم ذي ولد) استفهام معناه النفي، والمراد: لايعلم الوالد ما يكون منه ومن ولده في الإمهال والاستعجال، أي لايدري أي الأمرين يقع. وقد عطف قوله (أم الولد اليتيم) وهو جملة من ابتداء وخبر على (أيثكله) وهو فعل وفاعل. وجاز ذلك لما قدمته.
والحرب صاحبها الصلي ... ب على تلاتلها العزوم
من لايمل ضراسها ... ولدي الحقيقة لايخيم
واعلم بأن الحرب لا ... يسطيعها المرح السؤوم
والخيل أجودها المنا ... هب عند كبتها الأزوم
الصليب: الصلب ذو الصلابة. والتلاتل: الشدائد، ويقال: تلتله، إذا حركه، يقول: وصاحب الحرب هو الصبور على شدائدها، القوى العزم في مصارفها، الحامي الشكة على نوائبها، فلا يمل عضاضها، ولايخيم عند حقائقها. ومعنى يخيم: يجبن.
وقوله (من لايمل ضراسها) في موضع الرفع على أن يكون بدلاً من قوله الصليب. والضرس: العض، وأصله إصابة الشيء بضرسه.
ثم قال: واعلم أن الحرب لايطيقها الملول النزق، العجول الطرف، لأن مبانيها على الصبر والثبات، والتدبير السديد، والحذر الشديد، واستعمال الإقدام في وقته، والإحجام لدى موجبه. وقوله (لايسطيعها) يريد لايستطيعها. والماضي منه اسطاع يستطيع بكسر الهمزة، وأصله استطاع، وقوله (والخيل أجودها) يريد: خير الخيل ما ينتهب الأرض انتهاباً في سعيه. وقال الخليل: المناهبة: المباراة في الجري والحضر. ومعنى (عند كبتها) أي حملتها. وسئل رجل: كيف طعنت قتيلك؟ قال: (طعنته في الكبة، طعنةً في السبة فأنفدتها من اللبة) . وكل ما جمعته فقد كببته ومن كبة الغزل.(1/841)
والأزم: العض، وكنى به عن الاحتماء فقيل: (نعم الدواء الزم) ، فكأنه أراد بالأزم هنا الصبر والثبات.
وقال منقذ الهلالي
أي عيش عيشي إذا كنت منه ... بين حل وبين وشك رحيل
كل فج من البلاد كأني ... طالب بعض أهله بذحول
ما أرى الفضل والتكرم إلا ... كفك النفس عن طلاب الفضول
وبلاء حمل الأيادي وأن تس ... مع منا تؤتىبه من منيل
قوله (أي عيش) استفهام مبتدأ. والمعنى الإزراء به والذم له. (وإذا) تعلق بما دل عليه عيشي. والمراد؛ إذا كنت من عيشي بين سفر متواصل، ونزول وارتحال متتابع، ولاأنال دعةً، ولا أحصل خفضاً وراحة، فكأنه لا عيش لي. وقوله:
كل فج من البلاد كأني ... طالب بعض أهله بذحول
قد سلك مثل هذا المسلك أبو تمام في قوله:
كأن به ضغناً على كل جانب ... من الأرض أو شوقاً إلى كل جانب
والمعنى: أني لا أقتصر على قصد منتوى، ورمى نفسي في جانب من الأرض مرتمى، ولكني أتنقل في أطراف الأرض وآفاقها، وأضرب في أعراض البسيطة وأعماقها، كأني أطلب بعض أهلها بترة، فهو في الهرب وأنا في الطلب.
وقوله (ما أرى الفضل) ينبه به على أن سعيه في إصلاح عيشه، وترك ما لايعنيه من شأنه، فقال: ليس الفضل والعفاف، وحبس النفس فيما بينك وبين الناس على التكرم والكفاف، إلا إذا زممت نفسك عما يتجاوز رم الحال، ووقفت عندما يمكن الاكتفاء به من المعاش. فمن البلاء العظيم تحمل النعم عن المفضلين، وسمعك امتنان المنيلين. وهذا دأبى فيما ألتزمه من التعب، وأحمل عليه نفسي من التجوال في البلاد والتقلب. وارتفع (بلاء) على أنه خبر مقدم، والمبتدأ حمل الأيادي. وقوله (تؤتى به) من صفة المن.(1/842)
وقال محمد بن أبي شحاذ
إذا أنت أعطيت الغنى ثم لم تجد ... بفضل الغنى ألفيت مالك حامد
إذا أنت لم تعرك بجنبك بعض ما ... بريب من الأدنى رماك الأباعد
قوله (إذا أنت) جوابه ألقيت، وهو الفعل الواقع فيه، لأن إذا بتضمنه للجزاء يطلب جواباً ويكون ظرفاً له، فيقول: إذا نلت اليسار والغني، ومكنت من أطماع الدنيا فملكتها، ثم لم تتسخ بما يفضل من وجدك، وجدت لا يثنى عليك حامد، ولا يحفظ غيبك ذائد، وفي الثناء الباقي على الدهر خلف من نفاذ العمر، فإن لم تكتسبه بما تناله لحقك الذم ممن ألحاظهم سهام، وألفاظهم سمام. وقوله (إذا أنت لم تعرك) جوابه رماك الأباعد. وكما بعث في البيت الأول على الإفضال وذم الإمساك مع القدرة، بعث في هذا البيت على مصابرة العشيرة واستبقائهم، وترك مؤاخذتهم بما يتفق من هفواتهم، وتدقيق محاسبتهم علي بدوائهم وزلاتهم. فقال: لا يؤمنك إقبال الدنيا عليك إدبارها عنك، ولا دولة لك من إدالة منك. وأعلم أنك إذا لم تعف عما يريبك من أدانيك، ولم تحتمله في عفوك وحلمك، اجترأ عليك الأباعد فرموك بما لا صبر لك عليه من أذاهم ومكروههم. ويقال: عركت كذا بجنبي، أي احتملته وجعلته مني بظهر. والعرك والدلك بمعنى واحد. وقال: (بعض ما يريب من الأدنى) ، إشارة إلى ما يكون فيه على الحلم محمل. لأنه ليس كل ما يريب يعد التجافي عنه حسناً.
إذا الحلم لم يغلب لك الجهل لم تزل ... عليك يروق جمة ورواعد
إذ العزم لم يفرج لك الشك لم تزل ... جنيباً كما استتلى الجنيبة قائد
قوله (إذا الحلم) جوابه لم تزل، فيقول: تحلم في كثير مما يعروك ويطرقك، وانظر أن تكون لك الغلبة على جهلك، والتملك لاحتدادك وصولك، فإنك إن لم تستعمل الأناة في مقارضاتك، وتسرعت إلى المكافأة على ما يظهر لك، ولم تضن بمن بلوته فعرفت مذاهبه، وخبرت خلائفه وصار مستمد رأيك ومشتكي حزنك لم تنتفع بغيره، واجتمعت عليك البروق والرواعد ممن تعده لك وعليك. وهذا مثل لأنواع الأذى والمكروه، والتوعد بضروب القول، وفنون الفعل.(1/843)
وقوله (إذا العزم لم يفرج) جوابه لم تزل جنيباً. والمعنى: أنظر لنفسك فيما تشرف عليه طالباً للحزم ثم اعزم، ودع التشكك والتلوم فيما يريك رأيك وإلا بقيت تابعاً لغيرك، متوقفاً فيما يمسك، كما يستتبع قائد الخيل مجنوباً له. وهذا بعث على اقتحام الأمور، واستعمال الإستبداد فيها بعد النظر والتحزم في الظاهر، وترك التعرج على قول مانع، أو دفع مزاحم، أو مذكر بعاقبة. كما وصى في البيت الذي قبله بالرفق في الأمور التي تكسب العداوات، واستعمال الصبر فيما يجلب الضغائن ويهيج التراث.
وقل غناء عنك مال جمعته ... إذا كان ميراثاً وواراك لأحد
تجللت عاراً لا يزال يشبه ... سباب الرجال نثرهم والقصائد
المراد بذكر القلة هاهنا النفي، لا إثبات شيء قليل. وانتصب (غناء) على الحال، أي مغنياً عنك. فيقول: لا يعني عنك مال تجمعه إذا ذهبت عنه وتركته لورثتك، فإن ما تملكه هو ماتنفقه أيام حياتك، وتصرفه فيما يدخر لك أجراً، أو يكسب لك حمداً، فأما إذا سترك من يلحد قبرك، فما تتركه لغيرك لا حظ لك فيه ولا نصيب، بل تكتسي عاراً منه لا يزال يوقد ناره، ويرفع في المحافل ذكره سباب الرجال، من النثر تارة، ومن النظم أخرى، لأن الباخل مذموم بكل لسان حياً وميتاً، وفي كل زمان موجوداً ومفقوداً، ثم تراه كالجاني على كل من يعرفه، فهم يذمونه بظهر الغيب، ويقذعونه في الحضور، فلا يزال مسبوباً، مأكول اللحم مدحوراً.
وقال:
ويلم لذات الشباب معيشة ... مع الكثر يعطاء الفتى المتلف الندى
وقد يعقل القل الفتى دون همه ... وقد كان لولا القل طلاع أنجد
لفظه (ويل) إذا أضيفت بغير اللام فالوجه فيها النصب، تقول: ويل زيد، والمعنى ألزم الله زيداً ويلاً، فإذا أضيفت باللام فقيل: ويل لزيد، فحكمه أن يرفع(1/844)
فيصير مع ما بعده جملة، ابتدىء بها وهي نكرة لأن معنى الدعاء منه مفهوم. والمعنى: الويل ثابت لزيد. كأنه عدد محصلاً له، كما يقال: رحيم الله زيداً! فيجعل اللفظ خبراً. وإذا كان حكم ويل هذا وقد ارتفع في قوله (ويلم لذات الشباب) فمن الظاهر أن أصله ويل لأم لذات الشباب، فحذف من أم الهمزة، واللام من ويل، وقد أبقى حركة الهمزة على اللام الجارة، فصار ويلم. وقيل: ويلم، كما قيل: الحمد لله والحمد لله إتباعاً إحدى الحركتين الأخرى، وقصده إلى مدح الشباب وحمد لذاته بين لذات المعاش وقد طع لصاحبه الكثر، وهو كثرة المال، فاجتمع الغنى والشباب له وهو سخي مبذر فيما يكسبه ذكراً جميلاً، وصيتاً عالياً. ثم قال: وقد يحبس قلة المال صاحبه دون ما يهتم له أو يهتم به. وقد كان لولا إضافته وقلة المال صاحبه دون ما يهتم له أو يهتم به. وقد كان لوللا إضافته وقلة ذات يده طلاباً للترقي في درجات الفضل والإفضال، طلاعاً على عوالي الرتب في النهايات. وانتصب (معيشة) على التمييز.
وقالت حرفة بنت النعمان
بينا نسوس الناس والأمر أمرنا ... إذا نحن منهم سوقة نتنصف
فأف لدنيا لا يدوم نعيمها ... تقلب تارات بنا وتصرف
بينا: كله تستعمل في المفاجآت، وهي من ظروف الزمان. وقد يقال بينما؛ كأنهم أرادوا أن يصلوه بدلا مما كان يضاف إليه من قبل الناس وندبر أمرهم بما نريد، وطاعتنا واجبة، وأحكامنا نافذة، إذا الأمر انقلب فانضعت الأحوال، وتسلطت الأبدال. وصرنا سوقة نخدم الناس. والناص في اللغة: الخادم. والسوقة: من دون الملك. ومعنى (والأمر أمرنا) ، أي لا يد فوق أيدينا. والعامل في بينا مادل عليه قولها (إذا نحن منهم سوقة) . وإذا هذه ظرف مكان، وهي للمفاجأة، وقد تقدم القول فيه.
وقوله (فأف) فيه لغات عدة، يفتح ويكسر ويضم، وينون في كل ذلك ويترك التنوين فيه. وهو اسم من أسماء الفعل، وأسماء الفعل أكثر ما تقع في الأمر والنهي، وفي باب الخبر تقع قليلاً، فمنها أف هذه، وواها، وهيهات وأحرف أخر. ومعنى أف(1/845)
الحقير. كأنه قال: حقارة لدنيا نعيمها يزول، وحالها لا يدوم، بل تقلب بأهلها وتتحول، وتتصرف بطلابها وتتبدل. فمن فتح أف فلخفة الفتحة، ومن كسر فلالتقاء الساكنين؛ لأن الكسر فيه أولي، ومن ضم فلإنباع الضمة الضمة. والتنوين فيه أمارة للتنكير، وترك التنوين أمارة للتعريف.
وقال الحكم بن عبدل
أطلب ما يطلب الكريم من ال ... رزق بنفسي وأجمل الطلبا
وأحلب الثرة الصفى ولا ... أجهد أخلاف غبرها حلبا
يقول: مطالبى من الدنيا ومراغبي على حد من استعمال الكرم والتعفف، لايزري بي نظر الناظر إلي، لأني إذا طلبت أجملت، وإذا سدت مفاقري اكتفيت، ثم لاأعول فيما أزاوله إلا على نفسي، متهماً سعي غيري، وكل ذلك أبقى على مراعاة العفاف والكفاف.
وقوله: (وأحلب الثرة الصفي) يقول: أعلق طمعي بمن إذا استدر حلبه كان غزيراً، لأني لاأسف للمطامع الدنية، ولا أضع نفسي في المواضع الخسيسة. والثرة: الغزيرة. ويقال: عين ثرثار، إذا كانت كثيرة الماء. والصفى: الجامع بين محلبين في حلبة. وقوله (ولا أجهد أخلاف غبرها حلبا) انتصب الحلب على أنه مصدر في موضع الحال. والمعنى: أني لاأطلب الزهيد الحقير القدر، ولا أستدر البكى القليل الدر. والحلب قد يراد به المصدر، وقد يراد به المحلوب.
إني رأيت الفتى الكريم إذا ... رغبته في صنيعة رغبا
والعبد لايطلب العلاء ولا ... يعطيك شيئاً إلا إذا رهبا
مثل الحمار الموقع السوء لا ... يحسن مشياً إلا إذا ضربا
قوله (إني رأيت الفتى الكريم) يقول: إن من تكرم عروقه وتزكو أصوله، إذا دعوته إلى اصطناع صنيعة، وهززته لابتناء مكرمة، أجابك حريصاً على استغنامه. وترى الدنى الخسيس الهمة والنفس لايطلب ارتفاعاً ولا يكسب ادخاراً، ولا يسمح بشيء إلا عن رهبة، فعل من لايبتغي في مصارفه حمداً، ولايقتني ليومه وغده(1/846)
خلاً، فهو كالحمار السوء، الذي بظهره آثار دبر وقد ذلل في العمل، لايجيب إلا إذا استحث حتى يضرب، بلادةً منه وكسلاً. وقوله (لايحسن) موضعه من الإعراب نصب على الحال. وارتفع (مثل) على أنه خبر مبتدأ مضمر.
وقوله (مثل الحمار الموقع) يجوز أن يراد منه الذي في ظهره أثر الإكاف أو الدبر، ويجوز أن يراد به المذلل، كما يقال: طريق موقع. ويجوز أن يكون من وقعت الحديدة، إذا ضربتها بالميقعة، كأنه لبلادته يضرب كثيراً.
ولم أجد عروة الخلائق إلا ... الدين لما اعتبرت والحسبا
قد يرزق الخافض المقيم وما ... شد بعنس رحلاً ولاقتبا
ويحرم المال ذو المطية والرحل ومن لا يزال مغتربا
قوله (لم أجد) يريد أن مساك الخلائق الشريفة، ووثائق عراها، إنما هي إذا اعتبره المعتبر في الدين وعمارته، وفي الشرف وتحصيله. كأنه جعل طلب الحسب للدنيا وأسبابها والاعتلاء فيها، وجعل الدين للآخرة وتقديم ما يفوز به من رضا الله عز وجل، والثواب الجسيم.
وقوله (قد يرزق الخافض المقيم) سلك فيه مسلك الآخر في قوله:
ماذا يكلفك الروحات والدلجا ... البرطوراً وطوراً تركب اللججا
البيتين، وقد تقدما.
والخافض: الوداع الذي لم يحدث نفسه بتجوال وارتحال. فيقول: قد ينال الرزق الواسع من لايؤثر على الإقامة في وطنه شيئاً، وقد ترى قاطع الشقة البعيدة، وصاحب الرحل والمطية، الصابر على الغربة، محروماً مضيق العيش، مكدود العمر. والرحل: مركب البعير؛ والرحالة نحوه؛ وهوالسرج أيضاً. والقتب: إكاف الجمل، كذا ذكره الخليل. وقوله (ذو المطية والرحل) ، الرحل: مصدر رحلت البعير، إذا شددت عليه الرحل.(1/847)
وقال آخر:
يأيها العام الذي قد رابني ... أنت الفداء لذكر عام أولا
أنت الفداء لذكر عام لم يكن ... نحساً ولا بين الأحبة زيلا
يفضل أيامه الماضية على أيامه الحاضرة، فقال كالمخاطب لها: أيها العام الذي قد أتى بما يريبني، جعلك الله فداءً لعام أول من عامي، تقضى بما سرني. وقوله (عام أولا) مما ألف فيه كثرة الاستعمال، فوصف بصفة لم توصف به نظائره، اعتماداً على التعارف. والمراد بهذا أنه لم يقل شهر أول ولا حول أول، ول سنهة أولى، وإنما خص هو بذلك لكثرة الاستعمال، ولأن دلالة الحال وتعارف المتكلمينبه سوغ الحذف والإجراء على ما ألف قيه.
وقوله (أنت الفداء) يريد تكرير الدعاء على التضجر بحاضر وقته وعامه، والتنبيه على ما رابه منه. فيقول: جعلك الله فداء لذكر عام لم يعد بمنحسة، ولاحكم بين الأحبة بفرقة. وإنما قال (لذكر عام) لأن العام وقد تقضى لايصح فيه التفدية. والنحس: ضد السعد، وقد وصف به الغبرة والأمر المظلم. وفي القرآن: في أيام نحسات. ويقال: رجل منحس أي محزون.
وقال الفرزدق
إذا ما الدهر جر على أناس ... حوادثه أناخ بآخرينا
فقل للشامتين بنا أفيقوا ... سيلقى الشامتون كما لقينا
يقول: إذا صروف الدهر أناخت على قوم بإزالة نعمهم، وتكدير عيشهم، فجرت عليهم أذيال الشر والتغيير، ودرست آثارهم ومحت دولهم، تراها تنتقل إلى آخرين، لأنها كما تهب ترتجع، وكما تولى تستلب.
ثم قال: قل لمن شمت بنا فيما رأى من أثر الزمان فينا: انتبهوا من رقدتكم واصحوا من شمانتكم، فستلقون كما لقينا، وتمتحنون كما امتحنا؛ لأن حياتنا وجميع ما في أيدينا عوار، والعواري تسترد وإن طالت المهلة.(1/848)
وقال الصلتان العبدي
أشاب الصغير وأفنى الكبير ... كر الليالي ومر العشى
إذا ليلة هرمت يومها ... أتى بعد ذلك يوم فتى
نروح ونغدو لحاجاتنا ... وحاجة من عاش لاتنقضي
ذكر في الأبيات ما تدور عليه دوائر الأيام، وصروف الأزمان، وأنها لاتقف عند غابة، ولا تعرف فيما تجري فيه مقر نهاية، وأن من عادتها تغيير الأمور، وفي تقضيها وقضاياها تحويل الأحوال، فقال: إن كرور الأيام، ومرور الليالي والأوقات، تراها تجعل الصغير كبيراً، والكبير حقيراً، وتجعل الطفل شاباً، والشيخ فانياً، فكلما خلقت جدة يوم جاء بعدها يوم آخر فتى جديد، ونحن فيها ندأب في حاجاتنا، فلا نحن نمل، ولا حاجاتنا تفنى أو تقل، ولا الوقت بنا يقف، ولا واحد منا ينتظر أو يتوقف، إذ كان ذو العيش مآربه متصلة، كما أن أوقاته دائرة متتابعة.
معنى هرمت يومها: ضعفته مسلماً للزوال. ويقال: هو ابن هرمة أبيه، كما يقال: هو ابن عجزة أبيه، لآخر الأولاد، كأنه من الهرم. والهرمى من الخشب: مالاً دخان له، لعتقه وذهاب قوته. والفتى مصدره الفتاء، وضده الذكي. ويقال: فتاء فلان كذكاء فلان وكتذكية فلان.
تموت مع المرء حاجاته ... ويبقى له حاجة ما بقي
إذا قلت يوماً لمن قد ترى ... أروني السرى أروك الغنى
يقول: تموت مع المرء حاجاته. يريد أن المرء ما دام حياً فمآربه وشهواته تتجدد تجدد الأوقات، وأمانيه تتصل ما اتصل عمره، فإذا جاء أجله وتناهى أمده، انتهت مآربه، ووقفت مطالبه.
وقوله (إذا قلت يوماً لمن قد ترى) يريد: وإن سألت كل من تقع عينك عليه من المميزين، عن سراة الرجال وكرامهم، أحالوا على المثرين وإن ضعفت رغباتهم(1/849)
في اكتساب الخير، واستجلاب الحمد. والسرو: سخاء في مروة. ويقال: سرو الرجال يسرو، وهو سري من قوم سراة. وكأن هذا سلك مسلك الآخرحين قال:
وأن ثراء المال ينفع ربه ... ويثني عليه الحمد وهو مذمم
ألم تر لقمان أوصى بنيه ... وأوصيت عمراً ونعم الوصي
بني بدا خب نجوى الرجال ... فكن عند سرك خب النجى
وسرك ما كان عند أمرىء ... وسر الثلاثة غير الخفى
معنى (ألم تر) : اعلم. ويريد التنبيه على أن له في وصاته ابنه اقتداءً بالحكماء قبله، فكما ساغ للقمان أن يوصي ابنه ساغ للصلتان أن يوصي عمراً ولده. والمحمود في قوله (نعم الوصى) محذوف، كأنه قال: ونعم الوصى هو. وهذا ترغيب منه لعمرو في الاحتذاء بما يرسم له. وقوله (بني بدا خب نجوى الرجال) فالخب: المكر بكسر الخاء، والخب بفتحها: المكار. ومثله رجل صب. والنجوى: مصدر، وهو يستعمل فيما يتحدث فيه اثنان على طريق الستر والكتمان. فيقول: إذا ناجيت صاحباً لك فكن خباً فيما تودعه من سرك، فإن نجوى الرجال إذا بدا خبها، ومكر أربابها فيها، عادت وبالاً وفضيحة. والنجي يقع على الواحد والجمع، وكذلك النجوى. وفي القرآنإذ هم نجوى.
وقوله (وسرك ما كان عند امرىء) ذهب فيه مذهب من قال:
إذا جاوز الاثنين سر فإنه ... ببث وتكثير الوشاة قمين
وقد قيل في (الاثنين) من هذا البيت أراد به الشفتين. وكأن من فسر هذا التفسير يريد: لاتتفش سرك إلى أحد.
آخر باب الأدب، والحمد لله وحده، والصلاة على نبيه محمد وآله بعده.(1/850)
وقال الصمة بن عبد الله القشيري
حننت إلى ريا ونفسك باعدت ... مزارك من ريا وشعبا كما معا
فما حسن أن تأتي الأمر طائعاً ... وتجزع أن داعي الصببابة أسمعا
الحنين: تألم من الشوق وتشك. وريا؛ اسم امرأة. فإن قيل: هلا قيل روى، لأن فعلى إذا جاء اسماً من بنات الياء يقلب ياؤه واواً، على هذا الفتوى والشروى والتقوى والبقوى؟ قلت: إنه سمي به منقولاً عن الصفة، وفعلى صفة يصح فيه الياء، على هذا قولهم: خزيا وصديا وريا كأنه تأنيث ريان في الأصل، كما يقال عطشان وعطشى، ثم نقل من باب الصفات إلى بابالتسمية بها فترك على بنائه. وقوله (ونفسك باعدت) الواو واو الحال، وهي للابتداء، ومعنى باعدت بعدت، وهو كمل يقال ضاعفت وضعفت. وفي القرآن: باعد بين أسفارنا، والمزار: اسم مكان الزيارة. والشعب. شعب الحي، يقال: التأم شعبهم، أي اجتمعوا بعد تفرق، وشت شعبهم، إذا افترقوا بعد تجمع. وقوله (وشعبا كما معا) الواو واو الحال أيضاً، والعامل في (ونفسك باعدت) حننت، وفي قوله: (وشعبا كما) باعدت. ومعنى قوله: (معا) مجتمعان ومصطحيان، وموضعه خبر المبتدأ.(1/851)
وقوله (فما حسن أن تأتي الأمر طائعاً) في حسن وجوه: يجوز أن يكون مبتدأ، وجاز الابتداء به وهو نكرة لاعتماده على حرف النفي، و (أن تأتى) في موضع الفاعل لحسن، واستغنى بفاعله عن خبره، والتقدير: ما يحسن إتيانك الأمر طائعاً. وانتصب طائعاً على الحال من أن تأتي. ويجوز أن يرتفع حسن على أنه خبر مقدم، وأن تأتي في موضع المبتدأ. ويجوز أن يرتفع حسن بالابتداء وأن تأتي في موضع الخبر، وهذا أضعف الوجوه لكون المبتدأ نكرةً والخبر معرفة. وقوله (وتجزع أن داعي الصبابة) أن مخففة من أن الثقيلة، والمراد: وتجزع من أن داعي الصبابة أسمعك صوته ودعاك. ومعنى البيتين: شكوت شوقك إلى هذه المرأة، وأنت آثرت البعد عنها بعد أن كان حياً كما مجتمعين، وليس بجميل اختيارك الأمر طائعاً غير مكره. وجزعك بعده، لأن داعي الشوق والعائد منه إليك أسمعك وحرك منك.
قفا ودعا نجداً ومن حل بالحمى ... وقل لنجد عندنا أن يودعا
وليست عشيات الحمى برواجع ... عليك ولكن خل عينيك تدمعا
يخاطب صاحبين له يستوقفهما ويكلفهما توديع نجد معه والناول بالحمى منه. ثم استأنف فقال ملتفتاً: ويقل لنج وساكنه التوديع من، لأن حقهما أعظم من ذلك، ولكنا لانقدر على غيره. والحمى: موضع فيه ماء وكلأ يمنع منه الناس. ويقال: أحميت المكان، إذا جعلته حمى. وحكى ابن الأعرابي أنهم يقولون للمكان وقد أبطل وأبيح ولم يحم: بهرج. وأنشد:
فخيرت بين حمىً وبهرج ... ما بين أجراذ إلى وادي الشجى
وقوله (أن يودعا) في موضع الفاعل لقل. ومعنى قوله (وليست عشيات الحمى برواجع) أنك وإن أفرطت في الجزع، فإن أوقات المواصلة بالحمى مع أحبابك لاتكاد تعود، ولكن أدم البكاء لها، مع التوجع في إثرها، تجد فيه راحةً. وفي هذا إلمام بقول الآخر:
فنلت له إن البكاء لراحة ... به يشتفي من ظن ألا تلاقيا
وقوله (تدمعا) جواب الأمر. ولو قال تدمعان، لكان حالاً للعينين.
ولما رأيت البشر أعرض دوننا ... وحالت بنات الشوق يحنن نزعا(1/852)
بكت عيني اليمنى فلما زجرتها ... عن الجهل بعد الحلم أسبلتا معا
البشر: جبل. وأعرض دوننا: ابدى عرضه. وحالت: تحركت. يقال: استحلت الشخص، إذا نظرت هل يتحرك. ومنه لاحول ولا قوة إلا بالله! والمعنى: لما تباعدنا عن نجد؛ وحجز بيننا وبينه البشر، تحركت بنات الشوق نوازع كثيرة الحنين، مظهرةً ضعف الصبر. وجواب لما قوله (بكت عيني اليمنى) . وأراد ببنات الشوق مسبباته. وهذا كما قال الآخر:
يضم إلى الليل أطفال حبها ... كما ضم أزرار القميص البنائق
فأطفال الحب كبنات الشوق. والنزع، الأشهر فيه أن يكون جمع نازع بمعنى كاف، فوضعها موضع نوازع، واللفظتان المتواخيتان لكونهما من أصل واحد يستعار ما إحداهما للأخرى. وإنما قال (بكت عيني اليمنى) لأنه كان أعور ممتعا بعينه اليسرى. والعين العوراء لاتدمع. فيقول: بكت عيني الصحيحة؛ فاجتهدت في زجرها عن تعاطي الجهل بعد أن كنت تحلمت وتركت الصبي، فلما تكلفت ذاك لها أقبلت العوراء تدمع معها وتبكي. ونبه بهذا على عصيان النفس والقلب، وقلة ائتمارهما له، وأنهما إذا زجرا وردا عن مواردهما زادا على المنكر منهما
تلفت نحو الحي حتى وجدتني ... وجعت من الإصغاء ليتاً وأخدعا
وأذكر أيام الحمى ثم أنثني ... على كبدي من خشية أن تصدعا
يقول: أخذت في مسيري من لما أبصرت حال نفسي في تأثير الصبابة فيها، ملتفتاً إلى ما خلفته من الحي وأرض نجد، حتى وجدتني وجع الليت - وهو عرق فيها - لطول إصغائي، ودوام التفاتي؛ كل ذلك تحسراً في إثر الفائت من أحبابي وديارها، وتذكراً لطيب أوقاتي معهم فيها. وقد قيل فيه: إن من رموزهم أن من خرج من بلد فالتفت وراءه رجع إلى ذلك البلد. وأنشد فيه أبيات منها قوله:
عيل صبري بالثعلبية لما ... طال ليلى وملني قرنائي
كلما سارت المطايا بناميلاً تنفست والتفت ورائي
قالوا: التفت لكي يقضى له الرجوع، لكونه عاشقاً(1/853)
وانتصب (ليتاً) لأنه تمييز، وهذا من باب ما نقل الفعل عنه، كأن الأصل: وجع ليتني وأخدعي، فلما شغل الفعل عنهما بضميره أشبها المفعول فنصبهما. ومثله: تصببت عرقاً، وقررت به عيناً.
وقوله (وأذكر أيام الحمى ثم أنثني) يقول: وأتذكر أوقاتي بالحمى لما كان من أسباب الوصال تساعد، وبين دورنا ودور الأحبة تقارب، وللتراسل إمكان، ومع الحبيب في الوقت بعد الوقت تلاق واجتماع، ثم أنعطف على كبدي وأقبض عليها مخافة تشققها، وخروجها من مواضعها، شوقاً إلى أمثالها، وحسرة في إثر منقطعها. وقد ذكر هذه الأبيات أبو عبد الله المفجع رحمه الله، في حد الغزل من كتابه المعروف بالترجمان، فنذكر بيتين منها في (باب الصبابة) ، وهما:
حننت إلى ريا ونفسك باعدت
وفما حسن أن تأتي الأمر طائعاً
وقال في تفسيرهما: (يقول: الحرب بينك وبين قومك تمنعك من قربها ولقائها) . وذكر مع البيتين قول عنترة:
علقتها عرضاً وأقتل قومها ... زعماً لعمر أبيك ليس بمزعم
ثم جاء إلى (باب الحنين) ، فذكر ما في الأبيات،
وأذكر أيام الحمى
ووليست عشيات الحمى برواجع
وبكت عيني اليمنى
الأبيات، وقال في تفسيرها: هذا كان مجروراً لأحبابه وهم منتجعون بجنوب الحمى فنشأت عين - والعين: سحابة تجيء من ناحية القبلة - فنشأت من عين يسار القبلة، فارتاع لذلك، وخشى الفرقة إذا اتصل الغيث، فذلك معنى قوله: بكت عيني(1/854)
اليسرى، كنايةً عن السحاب. وجهلها: كثرة مطرها. وجعل ارتياعه منها زجراً لها. ثم نشأت أخرى من عن يمين القبلة، فأيقن حينئذ بالفراق. فذلك معنى قوله: أسبلتا معا. ثم قال معترفاً بالبين: خل عينيك تدمعا، يعني السحابتين. وقال جرير:
إن السواري والغوادي غادرت ... للريح منخرقاً بها ومجالا) .
هذا كلامه في كتابه، وقد حكيناه على ما أورده لازيادة فيه ولا نقصان. وأظن أنه تذكر أبيتاً غير هذه، ثم تصرف في تفسيرها وذكر هذه الأبيات في أثناء تفسير ما ذكره، ولم يأت بها. وقد أحسنت الظن مستطرفاً فعله. والله أعلم.
وقال آخر:
ونبئت ليلى أرسلت بشفاعة ... إلى فهلا نفس ليلى شفيعها
أأكرم من ليلى علي فتبتغي ... به الجاه أم كنت امرأ لا أطيعها
نبىء يحتاج إلى ثلاثة مفاعيل، وقد حصلت إلى قوله (أرسلت بشفاعة إلى) . وقوله (هلا نفس ليلى) هلا: حرف تحضيض، وهو يطلب الفعل، وقد وقع في البيت بعده جملة من مبتدأ وخبر. وفارق (هلا) هذه أختها (لولا) في قوله:
تعدون عقر النيب أفضل مجدكم ... بنى ضوطري لولا الكمي المقنعا
وذاك لأن تأثير الفعل بالنصب بعد لولا من البيت دل عليه، فأمره في إضمار الفعل بعده قوى. وهذا لم يصلح له أن ينصب النفس بعد هلا، فكان يجيء التقدير: فهلا أرسلت نفسها شفيعها؛ لأن القوافي مرفوعة، فجعل ما بعده مبتدأ لما لم يتأت له ما تأتي لذاك. وقد يفعلون هذا في الحروف المختصة بالأفعال إذا كان في الكلام دلالة على المضمر من الفعل. ألا ترى أن ويطلب الفعل. ثم جاء قوله تعالى: قل لو أنتم تملكون خزائن رحمة ربي إذا لأمسكتم خشية الإنفاق.(1/855)
وعلى ذلك جاء إن الجازمة الدالة على الشرط في وقوع الإسم بعده، وإن كان يطلب الفعل عاملاً فيه بالجزم، وذلك نحو: إن زيد أتاني أكرمته. وقول الشاعر:
إن ذو لوثة لانا
وما أشبهه. فإن قيل: هلا جعلت المضمر بعد هلا فعلاً رافعاً فيرتفع النفس به لا بالإبتداء، كما يفعل ذلك في: إن زيد أتاني أكرمته، فيصير هلافي ذلك أجرى في بابه من أن يكون ارتفاعه بالإبتداء؟ قلت: إن قولك إن زيد أتاني أكرمته، ارتفع زيد بفعل هذا الظاهر تفسيره، وأكرمته جواب إن، فساغ فيه مالم يسغ هاهنا، لأنه ليس هاهنا شيء يكون تفسيراً لذلك الفعل. وإنما جاء بد الفعل المفسر شفيعها، ويكون خبراً، ويكون خبراً لا غير، وإذا كان كذلك لم يمكن حمل هذا عليه.
ومعنى البيت: خبرت أن ليلى أرسلت إلى ذا الشفاعة في بابها، تطلب به جاهاً عندي، مستكفية عن ذكرها في الشعر وعن إتيانها وما يجري مجراه. ثم قال: هلا جعلت نفسها شفيعاً. فقوله (بشفاعة) حذف المضاف وأقام المضاف إليه مقامه، الفعل الذي يقتضيه هلا دل عليه شفيعها، لو قال: هلا نفسها شفيعها - لكان أقرب في الإستعمال، إلا أنه قصد إلى التفخيم بتكرير اسمها.
ثم قال: (أأكرم من ليلى علي) ، فأتى بلفظ الاستفهام، والمراد التقريح والإنكار، كأنه أمكر منها استعانتها بالغير عليه، وطلب الشفيع فيما أرادت لديه. وقوله (فتبتغي) في موضع النصب على أن يكون جواب الاستفهام بالفاء. وقوله (أم كنت) هي أم المتصلة، كأنه قال: أي هذين توهمت: طلب إنسان أكرم علي منها، أم اتهامها لطاعتي لها. وخبر أكرم علي محذوف، كأنه قال: أأكرم منها موجود، أو في الدنيا.
وقال آخر:
أما يستفيق القلب إلا انبرى له ... توهم صيف من سعاد ومربع(1/856)
أخادع عن أطلالها العين إنه ... متى تعرف الأطلال عينك تدمع
عهدت بها وحشاً عليها براقه ... وهذي وحوش أصبحت لم تبرقع
استفاق وأفاق بمعنى صحا. وانبرى: تعرض. وأراد بالصيف المصيف. وقوله (من سعاد) أراد من دار سعاد وأرضيها. و (أما) هي ما النافية أدخل عليها ألف الاستفهام تقريراً او إنكارا. والمراد: لا يحدث القلب بالسلو والإقامة مما تداخله من علائق حب هذه المرأة، وتشبث به فألهاه عن كل شيء، إلا اعترض له تذكر مصيف ومربع من أرضيها بعد التوهم. كأنه كان يقف على منازلهم فيتوهمها بآياتها وعلاماتها، ثم يعرفها. وأكثر ما يذكرون التوهم في الديار يعقبونه بالعرفان دون العلم. وهذا أحد ما نفصل به بين العلم والمعرفة، ولهذا وأشباهه ممتنع من أن نصف الله تعالى بأنه عارف. لذلك، قال زهير:
فلآياً عرفت الدار بعد توهم
أشباهه كثير. وقوله (أخادع عن أطلالها العين) يريد أني إذا وقفت على آثار دارها وجوانب محلها رمت خداع النفس والعين عن تأملها، تفادياً مما يتسلط من الوجد بها، ويتجدد لي من الصبابة نحوها. ولائلا أتذكر بما أتفرس فيها أحوالي قبلها، ولأن العين إذا عرفتها وكفت بالدمع، والنفس إذا تبينتها أشقيت بالوجد.
وقوله (عهدت بها وحشاً) هذا تحسر فيما رأى الدار عليه من الإستبدال وحوشاً، فقال: عهدت بها نساء مبرقعة - يشير بذلك إلى عفافها وقلة تبرجها - كالوحش كمالاً وحسناً، ونفوراً عن الريب، وأرى الآن وحوشاً تختلف فيها غير(1/857)
مبرقعة. وفي هذه الطريقة قول الآخر:
يعز على أن يرى عوض الدمى ... بحافاته هام وبوم وهجرس
وقوله (عليها براقع) صفة للوحش، وكذلك (أصبحت لم تبرقع) .
وقال آخر:
فيا رب إن هلك ولم ترو هامتي ... بلبلى أمت لا قبر أعطش من قبري
وإن أك عن ليلى سلوت فإنما ... تسليت عن يأس ولو ألمن صبر
وإن يك عن ليلى غنى وتجلد ... فرب غنى نفس قريب من الفقر
حذف الياء من (يارب) لوقوعها موقع ما يحدث في باب النداء، البتة، وهو التنوين، ولأن الكسرة تدل عليه، وإن باب النداء باب حذف وإيجاز، لكثرة تردده في الكلام، وقوله (أمت) جواب الشرط. وقوله (لا قبر أعطش من قبري) الجملة في موضع الحال. وقد روى: (ترو) بفتح التاء ويكون الفعل للهامة، (وترو) بضم التاء والفعل لله عز وجل. فيقول متألماً من برح الصبابة، وعطش الاشتياق، ومتشكياً إلى الله تعالى: يا رب إن مت ولم أنل شفاء من دائي، وريا من عطشي إلى هذه المرأة مت ولا قبر لعاشق أشد عطشاً من قبري. وإنما قال: لم ترو هامتي، لأنهم كانوا يزعمون أن عظام الموتى تصير هاماً فتطير. والأصلح في هذا المكان أن يكون جعل نفسه مقتتلاً لحبها. ومعنى (ترو هامتي) لم تطلب دمي من قاتلي، تبق هامتي أعطش من كل هام. وكانوا يقولون: إنه يخرج من رأس المقتول هامة فتصيح وتقول: اسقوني اسقوني! إبى أن يدرك ثأره.
إنما آثرت هذا لتوحيده هامة. والرةايتان في ترو وترو معنياهما ظاهران وقوله (وإن أك عن ليلى سلوت) قد تقدم القول في حذف النون من أكن. وجواب الشرط قزله (فإنما) بما بعده والمعنى: إن اك في الظاهر حصل لي سلو عنها لمن يتأمل حالي، فإنما تكلفت ما ظن مني سلوا لغلبة اليأس منها على، فأما نفسي فهي كما كانت، ذهاباً فيها وولوعاً بها. وقوله (سلوت) مهناه طبت نفساً. وتسليت معناه تكلفت ذلك، والتفعل لا يكون إلا عن تكلف في أكثر(1/858)
الأحوال، وكذلك التفاعل، فأتى بسلوت بناء على ظنهم واعتقادهم، وتسليت بناء على حاله.
وقوله (وإن يك عن ليلى غنى) يريد: وإن كان ظاهر أمري أني استغنيت عنها بخلو قلبي من حبها، أو أني أتجلد للوهن العارض في الإشتياق إليها، فرب غني نفس يقرب من الفقر، والمعنى أن باطن أمري بخلاف ظاهره. وإنما يتصور مني غنى يقرب من الفقر إذا حصل وتؤمل. ومن روى (أمر من الفقر) فالمعنى ظاهر والفاء من فرب بما يعده جواب للشرط. وفائدة رب التقليل، كأنه استقل الحالات التي تشبه حاله، فلذلك أتى برب.
وقال آخر:
يوم ارتحلت برحلي قبل برذعتي ... والعقل متله والقلب مشغول
ثم انصرف إلى نضوى لأبعثه ... إثر الحدوج الغوادي وهو معقول
انتصب (يوم) بإضمار فعل، كأنه أراد: أذكر يوم هذا الأمر والشأن. وأضاف اليوم إلى الفعل تشيهراً له وتعظماً لما اتفق فيه. وذلك أنه باغته حديث الفراق وما هم به المجتمعون معه في النجمة من الارتحال، فلما ورد عليه مالم يحسبه ولم يحدث نفسه به تولة وخولط، حتى صار لا يدري ماذا يأتي عندما هم به من تشييعهم، والتهيؤ للكون معهم، فقال: أذكر يوم أقبلت أضع الرحل على الناقة قبل البرذعة، وعقلي فاسد وقلبي مشغول بما دهمه من الحال. وقوله (متله) هو مفتعل من الوله، وأصله مؤتله، فأبدل من الواو تاء كما تقول في اتقى واتجه وما أشبههما، ثم أدغم إحدى التاءين في الأخرى. ويروى: (مختبل) والخبل: الفساد.
وقوله (ثم انصرفت إلى نضوى) تتميم لبيان حاله فيما انعكس عليه من قصده، وفسد من همه، فقال: ثم رجعت إلى بعيري لأقيمه في إثر الظغائن الباكرة، وهو مشدود بعقالة لم أحله. وهذا غاية ما يقال في انحلال العقدة، واسترخاء المسكة، وسوء الضبط وانقلاب القلب. ومعنى أبعثه أهيجه. والنضو: البعير المهزول. والحدوج: مراكب النساء الظاعنة. وانتصب إثر على الظرف.
وقد سلك أبو تمام هذا المسلك فقال:
أصمني سرهم أياهم فرقتهم ... هل كنت تعرف سراً يورث الصمما(1/859)
نأوا فظلت لوشك البين مقلته ... تندى نجيعاً ويندى جسمه سقما
أظله البين حتى إنه رجل ... لو مات من شغله بالبين ما علما
وقال جران العود
أيا كبداً كادت عشية غرب ... من الشوق إثر الظاعنين تصدع
عشية ما فيمن أقام بغرب ... مقام ولا فيمن مضى متسرع
يروى (ياكبدا) والمراد يا كبدي على الإضافة، ففر من الكسرة وبعدها ياء إلى الفتحة، فانقلبت ألفا. ويروى (ياكبدا) والمراد به كبده وإن نكرها، بدلالة أنه وصفها بقوله (كادت عشية غرب من الشوق) ... البيت. وهذه الصفة لم تحصل إلا لها. والمراد أنه تألم مما دهمه من أمر الفراق بعد الاجتماع الحاصل في مواضع الانتجاع، وكأن المجتمعين تحزبوا حزبين، ارتحل أحدهما وصاحبته معهم، وأقام أحدهما بالتهيؤ والاستعداد وهوفيهم، فالمتقدمون ليس فيهم متسرع، لانتظارهم المتخلفين، والمتخلفون لا مقام لهم لاستعجالهم اللحاق بهم. فشكا الحالة الواقعة في أثناء ذلك، وهو مع ذلك يحن ويشتاق. وغرب: موضع. وأضاف المشية إليه تخصيصاً. وفصل بين كاد وبين الفعل الذي تناوله بالظرف على ما اتصل به. و (وإثر) انتصب على الظرف من الشوق، و (عشية) من البيت الثاني بدل من العشية الأولى. وكما أضاف الأولى إلى غرب تبيينا أضاف الثانية إلى قوله (ما فيمن أقام بغرب) تبيينا، وهما عشية واحدة وإن اختلف مبينهما.
وقال الحسين بن مطير
لقد كنت جلداً قبل أن توقد النوى ... على كبدي ناراً بطيئاً خمودها
وقد كنت أرجو أن تموت صبابتي ... إذا قدمت أيامها وعهودها(1/860)
يقول: كنت قوى النفس، ثابت القلب، راجح العقل، صبوراً في الشدائد، قبل أن بليت بفراق الأحبة، فلما أوقدت نيته التي انتوها نار الصبابة على كبدي فأبطأ سكونها ضعفت عن الثبات لها، وظهر عجزي عن تحمل أعبائها، وقد كنت أؤمل إذا أتت الأيام على ما أقاسيه، واستمرت النفس في التألم تارة وفي التصبر أخرى، أن يتنقص ذلك صبابتي، وأن قدم الأيام وانحاء العهود يؤثر في تسكين نائرتها، ويبطل ما تسلط على من أذاها ومكروعها. وقوله (إذا قدمت) ظرف لتوت صبابتي.
فقد جعلت في حبة القلب والحشا ... عهاد الهوى تولى بشوق يعيدها
يريد أن ما كان يرجوه من سكون صبابته قد ازداد، لأنها صيرت في حبة القلب وأحشائه أمطار الهوى، تجدد وتتبع بولي من الشوق يردها كما كانت، وانتصب (عهاد) على أنه مفعول أول لجعلت. وتولى بشوق في موضع المفعول الثاني، ويعيدها في موضع الصفة للشوق. ومعنى (تولى) تمطر الولى. والولى المطرة الثانية لأن الأولى منها تسمى الوسمى. والعهاد: جمع العهد، وهو المطر الذي يجيء ولما تقدمه عهد باق لم يذهب. وحبة القلب هي العلفة السوداء في جوفه. ويورى (عهاد الهوى - بالرفع - يولى - بالياء - بشوق بعيدها، بالباء) ، فيكون معنى جعلت طفقت وأقبلت، ويكون غير متعد، ويرتفع عهاد بجعلت، وبعيدها يقوم مقام فاعل يولى. فيكون المعنى: فقد طفقت أوائل هواها يمطر أبعدها بشوق يجددها.
بسود نوصيها وحمر أكفها ... وصفر تراقيها وبيض خدودها
مخصرة الأوساط زانت عقودها ... بأحسن مما زينتها عقودها
يمنيننا حتى ترف قلوبنا ... رفيف الخزامى بات طل يجودها
الباء من قوله (بسود نواصيها) يجوز أن يتعلق بقوله تموت صبابتي، ويجوز أن يتعلق بجعلت إذا ارتفع عهاد الهوى به يريد: جعلت العهاد تفعل هذا بسبب نساء هكذا. وإنما جاز أن يجمع سود وحمر وغيرهما وإن ارتفع ما بعدها بها، لأن هذه(1/861)
الجموع لها نظائر في هذه الأسماء المفردة، ولو كانت جموع سلامة أو مالا نظير له في الواحد لما جاز جمعه. تقول: مررت برجال ظراف آباؤهم، لم يجز.
وقوله (يمنيننا) يصف لطافتهن في مواعيدهن، وتقريبهن أمر الوصال بينه وبينهن، وأنها لا تزال تمنى وتضمن من حسن الإجابة ما يصير للقلوب به بريق ونضارة، كبريق الخزامى إذا بفي ليلته يطل بالجود، والرفيف كثرة الماء في النبات ونضارتها. ومعنى (حتر ترف) إلى أن ترف.
وقال أبو صخر الهذلي
أما والذي أبكي وأضحك والذي ... أمات وأحيا والذي أمره الأمر
لقد تركتني أحسد الوحش أن أرى ... أليفين منها لا يروعهما الذعر
تكريره للذي ليس بتكثير للأقسام، لأن اليمين يمين واحدة بدلالة أن لها جواباً واحداً، ولو كانت أيماناً مختلفة لوجب أن يكون لها أجوبة مختلفة، وفائدة التكرير التفخيم والتهويل. وعلى هذا إذا قال القائل: والله والله لقد كان كذا، فاليمن واحدة. وما في القرآن من قوله: والليل إذا يغشى. والنهار إذا تجلى. وما خلق الذكر والأنثى. إن سعيكم لشتى مثله. على أن ما في البيت من اختلاف الأفعال الداخلة في الصلات جعل الكلام أحسن، والتفخيم أبلغ. وجواب القسم (لقد تركتني) ، وفاعل تركتني ضمير المرأة المستكن فيه. والمعنى: أنى إذا تأملت الوحوش وهي تأتلف في مراعيها ومتصرفاتها اثنين اثنين، لا يفزعها رقيب، ولا يدخل فيما بينها تنفير، حسدتها وتمنيت أن تكون حالتي مع صاحبتي كحالها في ألافها.(1/862)
وقوله (أحسد الوحش) في موضع الحال، وأن أرى، في موضع البدل من الوحش. وقوله (لا يروعهما) في موضع الصفة لأليفين، لأن أرى من رؤية العين، ويكتفي بمفعول واحد، وهو أليفين.
فيا حبذا زدني جوى كل ليلة ... وياسلوة العشاق موعدك الحشر
عجبت لسعي الدهر بيني وبينها ... فلما انقضى ما بيننا سكن الدهر
تجلد في الهوى وادعى اللذاذة به، حتى استزاد من أجزاء الجوى الحاصلله، وهو داء الجوف، ما يتضاعف بتجدد الأوقات، واستبعد التسلي منها حتى جعل الموعد بينهما يوم النشر. وهذا غاية التفتى في الهوى، والتصبر على الردى.
وقوله (عجبت لسعي الدهر) يجوز أن يريد به سرعة تقضي الأوقات مدة الوصال بينهما، وأنه لما انقضى الوصل عاد الدهر إلى حالته في السكون. وهذا على عادتهم في استقصار أيام السرور واللهو، واستطالة أيام الفراق والهجر. ويجوز أن يريد بسعي الدهر سعاية أهل الدهر وإيقادهم نار الشر بينهما بالنمائم والوشايات، وأنه لما فترت أسواقهم بالتهاجر الواقع منهما، وارتفع مرادهم فيما طلبوه من الفساد بينهما، سكنوا. وكما أراد بسعي الدهر سعى أهل الدهر، كذلك أراد بسكون الدهر سكون أهل الدهر.
وقال:
بيد الذي شعف الفؤاد بكم ... تفريج ما ألقى من الهم
ويقر عيني وهي نازحة ... مالا يقر بعين ذي الحلم
الذي شغف القلب به من زعمه هو الله تعالى. ومعنى شعف الفؤاد: أصاب شعفته. وشعفة كل شيء أعلاه. وقوله (بكم) أراد بحبكم، ويقال: فلان مشعوف بكذا، إذا شغل قلبه به وأصيب. وارتفع (تفريج) بالابتداء، وخبره بيد الذي، على طريقة سيبويه، وعلى مذهب أبي الحسن الأخفش ارتفع تفريج بالظرف، والمعنى: بيد الله الذي ابتلاني بكم، وشغل قلبي بحبكم، كشف ما أقاسيه من الهم. وهذا للشاعر في الهوى على الضد ممن تقدم ذكره، لأن شكواه في نهاية القوة والعلو، كما أن التذاذ ذاك في نهاية الجدة والغلو.(1/863)
وقوله (ويقر عيني وهي نازحة) يريد أنه يسره فيها على بعدها منه مالا يسر به عاقل. وإنما نبه بهذا على شدة تمنعها، وعلى قوة يأسه منها، حتى أنه مع البعاد إذا أخطر بباله شيئاً من أحوالها التي يشاركه فيها، عده مرزئة منها، واستمتاعاً بها. وقد شرح ذلك فيما بعده. وقد روى بعضهم: (بعين ذي الحلم) بضم الحاء، وليس بشيء.
إني أرى وأظن أن سترى ... وضح النهار وعالي النجم
لك أن تروى (أني) وتجعله في موضع الرفع بدلاً من (مالا يقر) ؛ ولك أن تكسر إن، كأنك تستأنف شرح ما قدم، وتفصل ما أجمل. ويكون المعنى: بقر عيني أني أرى بياض النهار وعالي الكواكب بالليل، وهو أضوؤها وأعلنها، وأظن أنها تشاركني في رؤيتها، فأفرح بذلك، وهذا مما لا يفرح به عاقل، ولا يعتده لذة، ويروى والمعنى ما بينته، على غير هذا، وهو:
إني الذي سأظن أن سترى ... وضح النهار وعالي النجم
فيرتفع وضح على أن يكون خبر إن، وأتى بعالي النجم على أصله فضم الياء منها. والمعنى ذلك المعنى، إلا أنه زاد الظن تراخياً بإدخال السين عليه. ويروى:
إني أرى وأظن أن سترى ... وضح النهار عوالي النجم
فينتصب وضح على الظرف، وعوالي على أنه مفعول أرى. والمعنى: أرى الكواكب ظهراً، فيما أقاسيه من برح الهوى، وأظن أنها ستمتحن في حبها لي بمثل ما امتحنت في حبي لها، وأن أسباب الهوى تفارقني وتعود إليها، فترى مثل ما أرى، فأفرح بذلك وتطيب له نفسي، وهذا مما لا يفرح به عاقل.
ولليلة منها تعود لنا ... في غيرما رفث ةلا إثم
أشهى إلى نفسي ولو نزحت ... مما ملكت ومن بني سهم
نبه بهذا الكلام على تهالكه في هواها، وتناهى صبابته بها، وأن اليسير إذا عاد عليه منها عده كثيراً. وقد أظهر العفاف في بلواه، وأنه يتمنى ما يتمنى فيها حلالاً لا(1/864)
حراماً، فيقول: ولليلة من أوقاتها تحصل لنا في غير فحش تذكر به، أو إثم تكتسبه، ألذ إلى نفسي وأطيب في قلبي من ملكي كله، ومن عشيرتي بأسرهم.
وقوله (أشهى إلى نفسي) في موضع المبتدأ، وهو ولليلة منها. وقوله ولو نزحت شرط فيما تمنى حصوله، وقد فصل بها بين أشهى إلى نفسي وبين ما ملكت أي وإن بعدت تلك الليلة فعادت إلى أولى أحوالها في التمنع علي والتفصى مني.
قد كان صرم في الممات لنا ... فعجلت قبل الموت بالصرم
ولما بقيت ليبقين جوى ... بين الجوانح مضرع جسمي
فتعلمي أن قد كلفت بكم ... ثم افعلي ما شيت عن علم
عاد إلى مخاطبتها، بعد أن تألم مما تألم، فقال يعتب عليها: قد كان لنا في الموت قطيعة وافتراق، لكنك لم تصبري إلى حين وقوعه، ولم تنتظري نزوله، فتعجلت الصرم قبل الموت، فلا جرم أن بين جوانحي داء يبقى مدة بقائي فيها، ويذيب جسمي، ويكسف بالي. وقوله (ولما بقيت) أدخل اللام الموطئة للقسم على مابقيت، وهو مصدر في موضع الظرف، لما يتضمن من معنى الشرط. وقوله (ليبقين جوى) جواب القسم المضمر، والكلام كأنه: لئن بقيت ليبقين جوى؛ لأن المعنى: ولمدة بقائي ليبقين جوى. فمحصول الكلام يعود إلى ذلك.
وقوله (فتعلمي أن قد كلفت بكم) يضعون تعلم موضع أعلم، إلا أن المخاطب ليس له في الجواب أن يقول تعلمت، لكن يقول: علمت. والمعنى: اعلمي كلفي بكم، وانحطاطي في هواكم، وكنه ما أقاسيه في حبكم، ثم آثرى في بابي ما أردت بعد علمك بالحال، لأن الذي أطلبه رضاك، ثم لا أبالي بما يلحقني من بقاء أو فناء، أو سراء او ضراء.
وقال آخر:
إن التي زعمت فؤادك ملها ... خلقت هواك كما خلقت هوى لها(1/865)
بيضاء باكرها النعيم فصاغها ... بلباقة فأدقها وأجلها
يقول: إن المرأة التي ادعت عليك ملال قلبك منها، وإعراضك عنها، ونيتك في استبدالك بها، خلقت هوى لك كما خلقت أنت هوى لها. والمعنى أن دعواها تجن منها، وتسخط لما يظهر من شعفك بها، وهي لك لا انفكاك لقلبك من عشقها، كما تدعي أنها لك بهذه المنزلة، فأنت تهواها كما أن تلك تهواك، لا مرية في ذلك ولا شك.
وقوله (بيضاء باكرها النعيم) يريد أنها نشأت في النعمة والنعمة، وأن خفض العيش رباها وحسن خلقها بحذق ولباقة، فجعل محاسنها مرتبة بين ما يستحب دقتها، وبين ما يستحب 4فخامتها. ومعنى (باكرها) سبق إليها في أول أحوالها؛ لأن البكور: اسم لابتداء الشيء؛ على ذلك باكورة الربيع. واللباقة: الحذق؛ يقال: هو لبق ولبيق، أي حاذق. ومعنى أدقها وأجلها: أتى بها دقيقة جليلة، فما يستحب دقتها منها مثل الأنف والعين والثغر والخصر جعلها دقيقة، وما يستحب جلالتها منها مثل الساق والفخذ والعجز والصدر جعلها جليلة. وهذا كما قال الآخر:
فدقت وجلت واسبكرت وأكملت ... فلو جن إنسان من الحسن جنت
وكما قال:
يمانيه تلم بنا فتبدي ... دقيق محاسن وتكن غليلا
حجبت تحيتها فقلت لصاحبي ... ما كان أكثرها لنا وأقلها
وإذا وجدت لها وساوس سلوة ... شفع الضمير لها إلى فسلها
كأنها لما لامته في ملامه وظهور التسلي منه، هجرته وأقبلت لا تقبل تحية ولا ترد جوابها. فيقول: لما أعرضت وتحجبت عن رسلي، وأظهرت اطراح ودي، قلت متأسفاً ومتعجباً: ماكان أكثرها لنا حين كانت متوفرة علينا وما أقلها لنا الساعة وقد زهدت فينا هذا الزهد المسرف، وضجرت بنا الضجر المفرط. والذي استكثره واستقله هو نيلها وميلها. هذا إذا جعلت الضمير من (أكثرها) و (أفلها) راجعاً إلى(1/866)
المرأة، ويجوز أن يرجع الضمير إلى التحية، والمراد: ما كان أكثرها لنا لو حصلت، إذ كان فيه مساك أرماقنا، وحياة قلوبنا. وما كان أقلها في نفسها. وهذا كما قال الآخر:
إن ما قل منك يكثر عندي ... وكثير ممن يحب القليل
وقوله (وإذا وجدت لها وساوس سلوة) يبين به استحكام حبتها في قلبه، وأنه كلما تداخله ضجر بدلالها وتأبيها، فحدت نفسه بالتسلي عنها والتصبر دونها، أقبلت دواعي الميل إليها، والأسباب المتسلطة على قلبه والمشتملة على لبه، ولها تشفع وتعصب، فنزعت ما خطر، بالبا من ذلك، وصارت شوافع الضمير أغلب على تدبيره، وأملك لمتصرفاته، حتى يصير الحكم لها، والغلب لقضاياها. وفي طريقته قول كثير:
أريد لأنسى ذكرها فكأنما ... تمثل لي ليلى بكل سبيل
وقال آخر:
أما الذي حجت له العيس وأرتمى ... لمرضاته شعث طويل ذميلها
لئن نائبات الدهر يوماً أدلن لي ... على أم عمرو دولة لا لأقيلها
افتتح كلامه بأما، ثم أقسم بالله، لأن الذي قصدت العيس بيته، وطلبت الحجاج الغبر الوجوه الطوال الذميل مرضاته، هو الله تبارك وتعالى.
واللام من (لئن) هي الموطئة للقسم، وجواب القسم (لا أقيلها) . والمعنى: والله لئن جعلت نوائب الدهر لي دولة على أم عمرو لعددت ذلك ذنباً لا أقيلها منه. فالضمير من لا أقيلها يرجع إلى النائبات، كأن لذته كان في الهوى، وأن يكون لتلك عليه البسطة في الأمر، والتمكن من التصريف فيما يسوءه أو يسره، فإذا تغير الأمر عن ذلك عدة شقاء وضرراً فادحاً. وهذا الوجه حسن. ويجوز أن يكون الضمير يعود إلى المرأة، فيكون المعنى: إنى إن صارت لي اليد عليها، وجعلت أملك من أمرها مثل ما تملك من أمري جازيتهاحينئذ بما تعاملني به كيل الصاع بالصاع، وتركتها لا أنعشها من صرعتها، ولا أقيلها عثرتها. وهذا المعنى وهذا المعنى إذا قايسته إلى ما تقدم ذكره كان(1/867)
منحطاً عنه، وواقعاً دونه، وفيه إظهار العجز عن مكابدة الصبابة، والتصريح بسوء الملكة. ومثل هذه الطريقة لا يرتضيها أرباب الهوى، والحكام على مدعي العشق ولهم. ومعنى (أدلنني) جعلن لي دولة. ويروى: أدرن لي فينتصب دولة على أنه مفعول به. والدائرات كالدائلات لا فصل. ومن روى (أدلن لي) انتصب دولة على أنه مصدر، فيكون موضوعاً موضع الإدالة. ويقال: أدالك الله من عدوك، أي جعل لك عليه دولة.
وقال آخر:
وكنت إذا أرسلت طرفك رائداً ... لقلبك يوماً أتبعتك المناظر
رأيت الذي لا كله أنت قادر ... عليه ولا عن بعضه أنت صابر
الرائد: الذي يتقدم القوم فيطلب لهم الماء والكلأ، ولذلك قيل في المثل: (لا يكذب الرائد أهله) لأنه إن كذبهم هلك معهم. فيقول: إنك إذا جعلت عينك رائداً لقلبك تطلب له مصب هواه، ومقلا لهوه وصباه، أتعبتك مناظرها في مطالبك، وأوقعتك مواردها في أشق مكارهك؛ وذلك أنها تهجم بالقلب في ارتياده لها على مالا يصبر في بعضه على فراقه مع مهيجات اشتياقه، ولا يقدر على السلو عن جميعه مع تذكر غرائب الحسن منه، فهو الدهر ممتحن ببلوى مالا يقدر على كله، ولا يصبر عن بعضه. والجناية فيهما للعين، لكونها قائداً للفؤاد إلى الردى وسائقاً، وهادياً لدواعي الحب إليه وحادياً.
وقد ألم بهذا المعنى أبو تمام حيث يقول:
لم تطلع الشمس المضيئة مذ رأت ... عيني خلال الخدر شمساً تغرب
لأعذبن جفون عيني إنما ... بجفون عيني حل ما أتعذب
وأبين من هذا قول الآخر:
ألا إنما العينان للقلب رائد ... فما تألف العينان فالقلب يألف(1/868)
وقوله (رائداً) انتصب على الحال، وجواب إذا أرسلت (أتعبتك المناظر) . وقد حصل خبر كنت فيه ومعه. وقوله (رأيت الذي) تفصيل لما أجمله قوله (أتعبتك المناظر) .
وقال الصمة بن عبد الله القشيري
أقول لصاحبي والعيسى تهوى ... بنا بين المنيفة فالضمار
تمتع من شميم عرار نجد ... فما بعد العشية من عرار
العيس: بياض في ظلمة خفية. والعرب تجعله في الإبل العراب خاصة. والمنيفة: موضع، أو هضبة مرتفعة. ومنه: أناف على كذا، أي أشرف، وقولهم: مائة ونيف. والضمار: مكان أو واد منخفض يضمر السائر فيه، لذلك قال الأعشى:
نراناإذا أضمرتك البلا ... د نجفى وتقطع منا الرحم
ومنه قيل للعدة المسوفة: الضمار، وقيل لما لايرجى رجوعه من المال: الضمار. قال:
وعينه كالكالىء الضمار
يذمه بأن حاضره كغائبه. يقول: إني أجاري رفيقي وأباثه قصتنا، والرواحل تسرع بين هذين الموضعين، وأقول في أثناء ذلك متلهفاً: استمتع بشم عرار نجد، فإنا نعدمه إذا أمسينا بخروجنا من أرض نجد ومنابته.
والشميم: مصدر، وأكثر ما يجيء فعيل مصدراً في الأصوات، كالصهيل والشحيج؛ ومثله العذير والنكير. ويقال: تمتعت بكذا ومن كذا. والعرار: بقلة صفراء ناعمة طيبة الريح، والواحدة عرارة. قال الخليل: العرارة البهارة البرية، وقيل هو شجر. وقد شبه لون المرأة بها. قال(1/869)
الأعشى:
بيضاء صحوتهاوصف ... راء العشية كالعراره
وقوله (من عرار) من لاستغراق الجنس، وموضع (من عرار) رفع على أن يكون اسم ما. والواو من قوله (والعيس تهوى بنا) واو الحال، وموضع (تمتع من شميم) نصب لأنه مفعول أقول. وقوله (بين المنيفة فالضمار) أجود الروايتين (بين المنيفة والضمار) لأن بين يدخل لشيئين يتباين أحدهما عن الآخر فصاعداً، وإذا كان كذلك لا يكتفي بقوله المنيفة فيرتب عليه الضمار بالفاء العاطفة، اللهم إلا أن تجعل بين الأجزاء (المنيفة) فتصير المنيفة كاسم الجمع، نحو القوم والعشيرة وما أشبههما. وعلى هذا قول امرىء القيس:
بين الدخول فحومل
وكان الأصمعي يرده ويرويه بالواو.
ألا يا حبذا نفحات نجد ... وريا روضة غب القطار
وأهلك إذ يحل الحي نجداً ... وأنت على زمانك غير زار
شهور ينقضين وما شعرنا ... بأنصاف لهن ولا سرار
ألا: حرف لافتتاح الكلام، والمنادى في ياحبذا محذوف كأنه قال ياقوم أو يا ناس، حبذا نفحات نجد. وارتفع نفحات بالابتداء، وخبره حبذا، كأنه قال: محبوب في الأشياء نفحات نجد، وهو تضوع الرياح بالنسيم الطيب. ويقال: له نفحة طيبة وخبيثة. وقوله (ريا روضه) يراد بها الرائحة هنا. وارتفع قوله (وأهلك) عطفاً على وريا، وهما جميعاً معطوفان على (نفحات) وكأنه قال: وحبذا أزمان أهلك حين كانوا نازلين بنجد وأنت راض من الزمان، لمساعدته إياك بما تهواه وتريده، فلا تعيبه ولا تشكوه. ويقال: زريت عليه، إذا عبت عليه؛ وأزريت به، إذا قصرت به. وقوله (وأنت) الواو واو الحال، وارتفع (شهور) على أنه مبتدأ، وهو تفسير الزمان الذي حمده وتلهف على إنقضائه. وقوله (ينقضين) خبره. ويجوز أن يرتفع شهور(1/870)
على أنه خبر مبتدأ محذوف، وما ينقضين حينئذ يكون صفة له. وقوله (وما شعرنا) أي ما علمنا. يقال: شعرة وشعراً. ومنه الشعر. يقال: شعر الرجل، إذا قال الشعر، فشعر بكسر العين أي صار شاعراً. وسرار الشهر: آخره؛ لأن القمر يستسر فيه. وقد حكى كسر السين فيه، وليس بكثير. والمعنى: يا قوم، محبوب فيما تقضى نسيم أرواح نجد وروائح رياضه عقب إتيان المطر عليه، وهز الريح لنباتها. ومحبوب أيضاً زمان أهلك وإقامتهم بنجد، حين كنت تشكر وقتك وترضيه، إذ كانت شهوره وأيامه تنقضي وأنت لا تشعر بأنصافها، ولا بأواثلها وأواخرها، لاشتغالك بلهوك، وذهابك في غفلتك. وهم يستقصرون أيام السلامة والسعادة ومواصلة الأحبة، وعند طاعه الدهر والأقدار لهم، كما يستطيلون ما كان على خلافه من الشهور والأعوام.
وقال آخر:
ومما شجاني أنها يوم لأعرضت ... تولت وماء العين في الجفن حائر
فلما أعادت من بعيد بنظرة ... إلى التفاتاً أسلمته المحاجر
يقول ملما بالمعنى الذي شرحه أبو تمام حين قال:
لأودعنك ثم تدمع مقلتي ... إن الموع هي الوداع الثاني
يقول: ومما حزني وصار نصب عيني وحلف قلبي تذكرنيه الأحوال فلا أنساه، وتمثله لناظري الأوقات فلا أتغاباه، أن صاحبتي يوم الفراق عند الوداع أعرضت لي ودمعها يترقرق في جفن عينها ويتحير، لامتلائها به، إلا أنها كانت تحسبه فلا تسيله، فلما أعادت التفاتها إلى بعد إعراضها عني، بنظرة جددتها، أسلمت محاجر عينها ما اجتمع فيها من الدمع، فتحدر في مدامعها؛ لأن ذلك كوداع ثان منها، وكمتعة متعتني بها وزيادة زاد في الحب زودتنيها. وقوله (أنها) مبتدأ و (مما شجاني) خبره. ويقال: شجاه يشجوه شجواً فشجى يشجى؛ فهو شج. وحار الماء والدمع، إذا تحير في موضعه وقد ملأه فلا موضع له. وقوله (أعرضت) : أبدت عرضها. وخبر أن تولت.(1/871)
وقوله (فلما أعادت) يجوز أن يكون التفاتاً مفعول أعادت، وموضع بنظرة حالاً، كأنه قال: لما أعادت التفاتها ناظرة من بعيد إلى أسلمته. وجواب لما (أسلمته) وإلى تعلق بنظرة. ولا يجوز أن يتعلق بالتفاتاً، لأنه إذا جعل كذلك يكون صلة المصدر وقد قدمت على الموصول. ويجوز أن يكون بنظرة في موضع المفعول لأعادت، والباء إن شئت جعلتها مؤكدة، كما جاء في قول الآخر:
سود المحاجر لا يقرأن بالسور
ويصير (التفاتاً) مصدراً في موضع الحال، والتقدير: لما أعادت نظرتها من بعيد إلى ملتفتة أسلمته. والهاء من أسلمته للدمع كما قدمته. والمحاجر: جمع المحجر، وهو ما يبدو من نقاب المرأة إذا تنقبت. والكية حول العينين يقال لها: التحجير. ويقال: حجر القمر، إذا استدار حوله خط رقيق.
وقال آخر:
ولما رأيت الكاشحين تتبعوا ... هوانا وأبدوا دوننا نظراً شزرا
جعلت وما بي من جفاء ولا قلي ... أزوركم يوماً زأهجركم شهراً
الكشح: ما بين الخاصرة إلى الضلع، والكاشح: العدو الباطن العداوة. ويقال: هو بين الكشاحة والمكاشحة؛ ويقال: طوى فلان كشحه على كذا، إذا استمر عليه. وهذا كلام مبق على المحبوب، كاره لانتشار القالة فيهما، مختار لاستتار الهوى بينهما. فيقول: لما رأيت الوشاة يتتبعون أحوالنا بالنميمة وإفشاء أسرارنا، وأخذوا ينظرون إلينا نظر الأعداء بتحديق شديد، واستكشاف لما خفي من أمرنا بليغ، أقبلت أحترز وأقصر أشواطهم فيما ينتحونه من مساءتنا، والقعود والقيام بذكرنا، فأتأخر عن زيارتكم شهراً وأوفيكم يوماً؛ هذا ولا أقصد جفاء ولا أضمر بغضاً، وإنما بي مضى أيامنا بالسلامة منهم، ورد كيدهم في نحورهم، ولئلا يجدوا مقالاً فيركبون عليه قصصاً وأنباء. وقوله (نظراً شزراً) يقال: هو يشزر الطرف إلى، إذا نظر نظراً منكراً يتبين(1/872)
فيه العداوة. قال أوس:
إذ يشزرون إلى الطرف عن عرض ... كأن أعينهم من بغضتي عور
وقوله (جعلت) لا يحتاج إلى مفعول لأنه في معنى طفقت وأقبلت. وانتصب يوماً وشهراً على الظرف، و (تتبعوا هواناً) في موضع المفعول الثاني لرأيت.
وقال بعض القرشيين
بينما نحن بالبلاكث فالقا ... ع سراعاً والعيس تهوى هوياً
خطرت خطرة على القلب من ذك ... راك وهنا فما استطعت مضيا
قلت لبيك إذ دعاني لك الشو ... ق وللحاديين كرا المطيا
قد تقدم القول في (بيننا) و (بينما) جميعاً، وأنهما يستعملان في المفاجأة. وانتصب (سراعا) على الحال، لأنه جعل بالبلاكث مستقراً. والواو من قوله (والعيس) واو الابتداء وهو للحال أيضاً.
وقوله (خطرت خطرة) هي الحالة التي فاجأتهم. وانتصب (وهنا) على الظرف، ومعناه بعد ساعة من الليل. وقوله (خطرت خطرة) يقال: خطر ببالي خطوراً، وخطر البعير بذنبه خطرانا. ويقال: سنح لي سانح، وهجس هاجس، وخطر خاطر. وكأنه أجرى خطرت خطرة مجرى قوله: دعت دعوة من ذكراك، لقوله: (قلت لبيك إذ دعاني لك الشوق) . والشاعر وصف ما هو عليه من طاعة الهوى، وأنه في ملكته، إذا دعاه أجاب حتى لايقدر إلا على ذلك. فيريد: بينما نحن بهذين الموضعين نسير مسرعين، والرواحل تهوي بنا في أثنائهما ومعاطفهما، وتقطع المسافة(1/873)
بينهما، خطرت ذكرة ببالي، وقد مضى من الليل ساعة، فتحيرت حتى لم أقدر على التوجه في المقصد الذي كنت أؤمه، وحتى لم أملك إلا إجابة داعي الشوق إليك بالتلبية والوقوف له، وبعد ذلك قلت للحادين: انصرفا واعطفا برؤوس مطيكما، فقد منع ما طاعته أوجب، ودفع في صدورنا من أمره أنفذ. وقد تقدم الفرق بين الهوى والهوى.
وقوله (بالبلاكث فالقاع) رتب القاع على البلاكث بالفاء العاطفة، كأنه ارتقى منها إليها، ويجوز أن البلاكث اسم لبقاع مختلفة؛ لأن بناءه بناء الجمع.
وقوله (لبيك) هو من ألب بالمكان، إذا أقام؛ إلا أنه لاينصرف كما أن سبحان الله لاينصرف. والكلمة مثناة عند سيبويه، والمراد عنده إقامة للداعي تتبعها إقامة ودوام على طاعته ومتابعته. ويقرن بها سعديك، المعنى: مساعدة بعد مساعدة واستمرار على مشايعته. وحصل التكثير والاتصال فيه بالتثنية، كما حصل بالتكرير في قولك: ادخلوا الأول فالأول. قال سيبويه: أخبرنا أبو الخطاب أنه يقال للمداوم على الشيء لايقلع عنه ولايفارقه: قد ألب عليه. أنشد للتثنية فيه قول الشاعر:
دعوت لما نابني مسوراً ... فلبي فلبي يدي مسور
هكذا روايته وإنشاده عن العرب بهذا اللفظ. وحكى أيضاً عن بعضهم: لب بالكسر، يجعله صوتاً مثل غاق. وعند يونس أنه موحد لبي، وانقلب ألفه ياءً كما انقلب في على ولدي عند الإضافة إلى مضمر. وعلى مذهبه يجب أن يكون (فلبي يدي) كما أن على وإلى ولدي إذا أضيفت إلى الظاهر لا يتغير ألفها. تقول: على زيد وإلى عمرو.
وقال آخر:
استبق دمعك لا يود البكاءبه ... واكفف مدامع من عينيك تستبق(1/874)
ليس الشؤون وإن جادت بباقية ... ولا الجفون على هذا ولا الحدق
بقوله (لايود البكاء به) يجوز أن يكون جواب الأمر، ويجوز أن يكون نهياً وهو أحسن وإن لم يكن معه حرف العطف، لأنه قد ذكر بعده (واكفف مدامع من عينيك) ولم يأت له بجواب، كأنه أمره بكف المدامع وهي تستبق. وإذا كان الكلام نهياً بعد أمر وأمراً بعد نهي، كان أبلغ. ومعنى أودى بكذا أهلكه. والاستباق في المدامع مجاز؛ لأن الذي استبق في التحدر هو الدمع. والمدمع: مجرى الدمع، وهو مصدر دمعت، ويكون المراد به أيضاً العين الذي هو الجاري؛ لأن الاستباق لايصح إلا فيه.
وقوله (ليس الشؤون وإن جادت بباقية) يريد: أنك إن أدمت البكاء استهلكت منابع الدمع ومجاريها، وأطباق العين وحماليقها؛ لأن شيئاً من هذه الآلات وإن سمحت بالإجابة مدة لايدوم على فعلك، ولايقوم لتكليفك. وقوله (على هذا) أشار بهذا إلى فعله، وعلى تعلق بباقية، وهو مضمر دل عليه الباقية المذكورة، كأنه قال: ولا الجفون باقية على هذا، وجعل (لا) من قوله والجفون بدلا من ليس، والجفن في اللغة: المنع والحبس؛ لذلك سمي غلاف السيف الجفن.
وقال آخر:
قد كنت أعلو الحب حيناً فلم يزل ... بي النقض والإبرام حتى علانيا
يقول: بقيت أزاول الحب وأجاذبه، وهو معي متردد بين أن أعلوه تارةً فأدفعه عن نفسي بجهدي، وبين أن يعلوني فيغلبني على مرادي، ويأخذ مقره من فؤادي، فلم نزل بين النقض والإمرار، أنقض عليه وهو يمر، وينقض علي وانا أمر، إلى أن صار الغلب له.(1/875)
وهذا الذي أشار إليه حالة الحب إذا لم يكن عن اعتراض. لذلك قال أبو تمام:
هوى كان خلساً إن من أبرح الهوى ... هوى جلت في أفيائه وهو جائل
كأنه يريد المحبوب فيفكر في محاسنه حالاً بعد حال، ووقتاً بعد وقت، ويستحلبها شيئاً بعد شيء، إلى أن يصير لها في قلب قادح ونازع، فيدفعه عن نفسه بأن يزيف تلك المحاسن، ويتناسى ويدرأ في صدر ذلك القادح من الهوى ويتأنى، فكلما قدر أنه تخلى عاوده الوسواس جذعاً، فلا يزال بين القبول والامتناع، والتماسك والانهيار، ومدافعة الداء بالدواء، إلى أن يصير الغلب للهوى.
والمعترض من الهوى هو الذي يقع عن أول وهله، فيسبي القلب في دفعة واحدة، إلا أن تركه أسرع، كما أن أخذه أسرع. على ذلك قول الأعشى:
علقتها عرضا
ومايجري مجراه. وهم يشبهون مثل هذا الهوى بنار توقد بضرام أو بعرفج وما يجري مجراه، فترتفع سريعاً وترجع سريعاً. وأنشد ابن الأعرابي بيتاًفي قسمة الهوى زعم أنه لاثاني له، وأ، قائله لايعرف وهو:
ثلاثة أحباب فحب علاقة ... وحب تملاق وحب هو القتل
يعني ما يكون من تعمل وطول تأمل.
ولم أر مثلينا خليلي جنابة ... أدش على رغم العدو تصافيا
نبه بهذا الكلام على أنها مع المجانية واستعمال الحذر، واستدفاع شر الرقباء والحافظين بترك الورود والصدر، وإكساد سوق الوشاة والنمامين بإخماد نائرة الخبر، يصافي كل واحد منهما صاحبه، حتى لاخلل في الهوى ولافساد، ولا استزادة في الحب ولاعتاب، ولاتسلط تهمة لعارض تسل وحؤول عن عهد.(1/876)
وإنما قال (على رغم العدو) استهانة بهم. وهو من الرغام: التراب. وإذا قيل: أرغم الله أنفه فالمعنى أذله الله وأسخطه. وانتصب (تصافيا) على التمييز. وقوله (خليلي جنابة) انتصب على أنه بدل من مثلينا، وأشد مفعول ثان لأرى.
خليلين لا نرجو لقاءً ولا ترى ... خليلين إلا يرجوان التلاقيا
ذضكر أن اليأس قد استقر في قلب كل واحد منهما من ملاقاة صاحبه والتصافي بينهما هو أن ذلك من كمال البلاء، إذ لا يوجد خليلان غيرهما إلا وهما على شفا الرجاء في الاجتماع، وقوة من الطمع في الالتقاء والاستمتاع، واليأس لذي أشار إليه كأنه لارتفاع منزلة المحبوب عن منزلته: أو لكثرة أوليائه وقوة عشيرته أو لعفافه وتألهه، وما يجري مجراها.
وقال آخر:
وكل مصيبات الزمان رأيتها ... سوى فرقة الأحباب هينة الخطب
موضع (سوى فرقة الأحباب) نصب على أنه مستثنى مقدم، لأن تقدمه على صفة المستثنى منه كتقدمه عليه نفسه. ومعنى البيت ظاهر.
وقال الحسين بن مطير
فيا عجبا للناس يستشرفونني ... كأن لم يروا بعدي محباً ولا قبلي
قوله (يستشرفونني) أي ينظرون إلي، وتطمح أبصارهم نحوي. ويودون أني على شرف من الأرض، لأكون معرضاً لهم.
والشاعر أخذ يتعجب من أحوال الناس فيما رأوه عليه، واستطرافهم لحالته في حبه، واستشرافهم لما يشاهدونه عليه، حتى كأنه بدع من الحوادث لم يشاهد مثله، ولم يقع في تقدير أحد جواز صورته، فقال: يا عجباً للناس في حال استشرافهم لي،(1/877)
واستطلاعهم من جهتي ما أنا عليه، وإفراطهم في التعجب مما يجدونني مبتلي به، ومرهوناً له كأنهم لم يشاهدوا قبل مشاهدتهم لي، ولابعد مشاهدتهم لي محباً، وكأن الحب شيء أنا ابتدعته، وكأن مسبباته لم توجد قط إلا في. وليس الأمر كذلك، لأن الدنيا وأهلها إذا تؤملت أحوالهم فيها لم يعوز تقديراً أو تحصيلاً من حاله حال مثلي فيه زائداً على ما أنا عليه، أو قاصراً عنه. هذاإذا جعلت (لم يروا) بمعنى لم يشاهدوا. فإن جعلته بمعنى لم يعلموا كان المعنى أكشف وأبين، إلا أنه يكون بمعنى يعرف، ويكتفي بمفعول واحد. وقوله (بعدي) أي بعد رؤيتهم لي، وقوله (يا عجباً) يجوز أن يكون منادى مضافا، ويجوز أن يكون مفرداً، وقد تقدم القول فيه وفي أشباهه.
يقولون لي اصرم برجع العقل كله ... وصرم حبيب النفس أذهب للعقل
يقول: يشير الناس علي بالتسلي عنها، ةالأخذ في مصارمتها، وأخذ النفس على الانفكاك منها، فإن في ذلك يزعمهم إذا تدرجت فيه مراجعة العقل كاملا، وانتزاع ربقة الذل عاجلاً. وإذا تأملت حالي في قبول ما يشيرون به وركوب الجد في قطيعتها، والحيلولة بين النفس ومرادها فيها، وجدت ذلك أدعى إلى زوال العقل كله، وإن كان الباقي منه شفافةً، وأجلب لهلاك النفس، وحرج الصدر، وإن كنت عائشاً بصبابة. وقوله (أذهب للعقل) قد تقدم القول في أن سيبويه يجوز بناء فعل التعجب بعد الثلاثي مما كان على أفعل خاصة، فإذا جاز ذلك فبناء التفضيل يتبعه.
ويا عجبا من حب من هو قاتلي ... كأني أجزيه المودة من قتلى
تعجب من حال نفسه في مقاساة ما يقاسى منا، وبقائه على حبها فيقول: إني أداوم اعتقاد الجميل لها، وقيام القلب بعمارة الهوى فيها، حتى كأني أجازيها على قتلها إياي بأن أزيد في ودها وإخلاص العقيدة لها. وقوله (من قتلى) أراد من قتلها لي. والمصدر يضاف إلى المفعول كما يضاف إلى الفاعل، وكذلك قوله (من حب من هو قاتلي) أي من حبي من هو قاتلي، لأن من في موضع المفعول. وقوله (يا عجبا) يجوز أن يكون الألف بدلاً من ياء الإضافة ويجوز أن يكون ألف الندبة وزيدت ليمتد الصوت به، ويكون يا عجب منادى مفرداً، وامتداد الصوت يدل على عظم البلية، وتفخيم أمر العجيبة.(1/878)
ومن بينات الحب أن كان أهلها ... أحب إلى قلبي وعيني من أهلي
يقول: ومن آيات حبي البينة، وشواهده الصادقة، على تكامله لها، وتناهيه في استحكامها، أني أوثر أهلها على أهلي، وأن رتبتهم في العين والقلب أعلى من رتبة عشيرتي عندي. وقد خلص هذا المعنى عنترة حيث قال:
علقتها عرضاً وأقتل قومها ... زعماً لعمر أبيك ليس بمزعم
لأن في قضية الهوى والعقل أن حبها مع عداوة أهلها ليس بمتسق ولا متسبب، بل ينافي كل واحد صاحبه، وأن الواجب أنها إذا كرمت عليه فكل متسبب إليها بسبب، ومنتسب بنسب، يجب أن يكون مؤثراً عنده مبجلاً في حكمه.
وأبين من ذلك كله قول الآخر:
وأقسم لو أني أرى نسباً لها ... ذئاب الفلا حبت إلى ذئابها
وقوله (أن كان أهلها) أن مخففة من الثقيلة، أراد أنه كان أهلها، والهاء من أنه ضمير الأمر والشأن، وقد تقدم مثله. وموضع أن بما بعده رفع بالإبتداء وخبره قوله ومن بينات الحب.
وقال عمر بن أبي ربيعة
ولما تفاوضنا الحديث وأسفرت ... وجوه زهاها الحسن أن تتقنعا
فقلت لمطريهن ويحك إنما ... ضررت فهل تستطيع نفعاً فتنفعا
قوله (لما) يحتاج إلى جواب، لأنه لوقع الشيء لوقوع غيره، إذا كان علماً للظرف، فيقول: لما تنازعنا الحديث، واندفعنا فيه، وأشرقت وجوه تلألأ نوراً، استخف أربابها الحسن الجائل في جوانبها، ومنعها من أن يسترها بقناع عجباً بها،(1/879)
والتذاذاً بخوض عيون الناس في محاسنها، قلت للمثنى عليهن: إن ثناءك يضرنا، لتنبيهك على كثير مما لعله يخفي عليهن من دقائق الجمال، ولطائف الكمال. إذ كان ذلك يزيد في الإعجاب بأنفسهن، ويكسب الكبر في أخلاقهن، فهل تقدر بدل ذلك على ما ينفعنا معهن. وجواب لما إن شئت جعلته (فقلت) على أن يكون الفاء زائدة، وإن شئت جعلته محذوفاً، كأنه قال: لما فعلنا ذلك كله توانسنا، أو ما يجري مجراه. وقد تقدم القول في أن لو ولما وحتى يحذف أجوبتها، ويكون لإبهامها لحذقها أبلغ في المعنى. ويقال: أطرى فلان فلاناً إذا مدحه بأحسن ما قدر عليه. وقوله (تسطيع) منقوص عن تستطيع. وويح، قال الأصمعي: هو ترحم، فإذا أضيف بغير اللام بنصب، ويكون العامل فيه فعلاً مضمراً، كأنه قال: ألزمه الله ويحاً، وانتصب فتنفعا بأن مضمرة، وهو جواب الاستفهام. ومعنى (زهاها الحسن) استخفها ويقال: زهت الأمواج السفينة والرياح النبات. وقوله (أن تتقنعا) أراد من أن تتقدما، وهم يحذفون الجار مع أن كثيراً.
وقال أبو الربيس التغلبي
هل تبلغي أم حرب وتقذفن ... على طرب بيوت هم أقاتله
مبينة عنق حسن خد ومرفقاً ... به جنف أن يعرك الدف شاغله
قوله (على طرب) يجوز أن يتعلق بتبغلني، ويجوز أن يتعلق بوتقذفن، والفعلان جمعا على قوله (مبينة عنق) وهي ناقة. والاختيار عند أصحابنا البصريين أن يرتفع بالأقرب، وهو تقذفن، ويجوز أن يرتفع بتبلغني، وعلى هذا: جاءني وأكرمني زيد. والطرب: خفة تلحق لنشاط وجذل، واهتمام وجزع. وبيوت هم، فعول من قولك: باب يبيت. كأنه هم جاءه ليلاً فلازمه. وعلى هذا قيل في الصقيع: البيوت. وانتصب (حسن خد) على التمييز. والجنف: الميل. ورجل أجنف: في خلقه ميل، وقيل: هو الطويل المنحني. والعرك: الدلك والغمز. وقوله (به جنف) في موضع النصب، لأنه صفة لمرفق. و (شاغله) صفة لجنف. وإضافته على طريق التخفيف، فهو نكرة والتنوين منوى، كأنه شاغل له. ويريد بقوله (به جنف) أن المرفق متباعد عن الزور، لأن الناقة فتلاء؛ ولولا بعده عنه لكان يكون ناكتاً أو حازاً(1/880)
أو ضاغطاً، أو ناقراً وذلك عيب يمنع من إدامة السير. فيقول عى وجه التمني: هل أراني راكب ناقة وصلني إلى هذه المرأة، نشيطة طربة، وتطرح عني ثقل هم أزواله وأدافعه، وهي تلازمني بالليل ولا تفارقني. وهذه الناقة لها شواهد توجب عتقها وكرمها، من حسن الخد والمرفق المتجانف عن الزور.
مطارة قلب إن ثنى الرجل ربها ... بسلم غرز في مناخ تعاجله
هذا يرجع إلى صفة الناقة، والمراد أنها ذكية الفؤاد، شهمة النفس، فكأن بها لنشاطها وذكائها جنوناً أطار قلبها، وأزال مسكتها. وقوله (إن ثنى الرجل ربها) جواب الشرط فيه قوله (تعاجله) وأصله تعاجله، اللام ساكنة للجزم، ولكنه نقل إليها حركة الهاء، وهو ضمير يرجع إلى (ربها) . ومثله قول طرفة:
لو أطيع النفس لم أرمه
يريد: لم أرمه، فنقل. والمعنى أنها لخفتها وحدتها، متى هم صاحبها بركوبها فثنى رجلها، أي غطف بغرزها الذي هو كالسلم، وهو الركاب، عاجلته فنهضت به قبل تمكنه من ركوبها، واستقراره على ظهرها.
وقد سلك هذا المسلك ذو الرمة في البائية التي أولها:
ما بال عينك منها الماء ينسكب
حدثت عن الكسروي علي بن مهدي الأصفهاني عن شيوخه، أن ذا الرمة أنشد هذه القصيدة كثير عزة، فلما انتهى إلى قوله:
حتى إذا ما استوى في غرزها تئب.
قال له: أهلكت والله راكبها، هلا قلت كما قال الراعي:
تراها إذا قمت في غرزها ... كمثل السفينة أو أوقر(1/881)
فهذا ما روى لنا. وقد ذكر الراعي في موضع آخر فقال:
وكأن ريضها إذا ياسرتها ... كانت معاودة الرحيل ذلولا
وحكى لي أن سعيد بن سلم الباهلي، قال: قرأنا هذه القصيدة على الأصمعي من شعر الراعي، فلما انتهينا رواه:
وكأن ريضها إذا باشرتها
فقلت: ما معنى (باشرتها) ؟ قال: ركبتها، من المباشرة. فسألنا ذلك أبا عبيدة عنه، فقال: صحف والله، إنما هو (إذا ياسرتها) أي لم أعازها ولم أقتسرها. ومثله قوله.
إذا يوسرت كانت وقوراً أديبة ... وتحسبها إن عوسرت لم تؤدب
يباري بها القود النوافخ في البري ... قليل النزول أغيد الخلق عاطله
مراجع نجد بعد فرك وبغضة ... مطلق بصرى أصمع القلب جافله
يقول: يعارض بهذه الرالة التي وصفتها رواحل طوال الأعناق، تنفخ في براها لنشاطها، رجل قليل النزول عنها، ناعم الخلق عاطله، يعني نفسه، أي أنه يجد في السير ويديمه. وقوله: (مراجع نجد) أي أنه بعد أن فارق نجداً وأبغضه لخلوه من حبيبه يريد أن يراجعه وينتقل عن بصري - وهي قرية بالشأم تطبع فيها السيوف البصرية - ويخليها. ومعنى أصمع القلب: حديده. جافله، أي مسرعه. ويقال: أجفل الظليم وجفل، إذا نشر جناحيه ومر يعدو، وكل هارب من شيء فقد أجفل عنه. والظليم مجفل وجافل جميعاً. وذكر الرماجعة والتطليق، واستعارة للانتقال والتخلية. وقد فعل أبو تمام مثل هذا فقال:
فبها وطلقت السور ثلاثاً
إلا أن ماقاله هذا الشاعر أحسن، حين زاوج التطليق بالمراجعة. وقوله (نوافخ في البري) النوافخ: المتنفسات نفخاً لنشاطها. والبري: الحلق التي في(1/882)
أنوفها. وقوله (أغيد الخلق) أي منثنيه، وعاطله أي يعطله من الترفه، ويفطمه عن النعمة. وكل مهمل متروك فهو معطل وعاطل.
وقال عبد الله بن عجلان النهدي
وحقة مسك من نساء لبستها ... شبابي وكأس باكرتني شمولها
جديدة سربال الشباب كأنها ... سقية بردى نمتها غيولها
قوله (وحقة مسك) كناية عن امرأة جعلها لطيب رباها كظرف مسك. ومعنى (لبستها) تمتعت بها. وقال ابن أحمر:
لبست أبي حتى تمليت عيشه ... وبليت أعمامي وبليت خاليا
وموضع قوله: (شبابي) نصب على الظرف. والمعنى زمن شبابي، ومدة شبابي. والمصادر تحذف منها أسماء الزمان كثيراً. وقوله (وكاس) انعطف على قوله (وحقة مسك) والعامل فيها رب، والواو واو العطف، وليست بنائبة عن رب، بدلالة أنه لو كان كذلك لوجب أن يدخل الحرف العاطف عليه، فيقال ووحقة مسك. والشمول: الخمرة التي لها عصفة كعصفة الشمال وقد قيل: هي التي تشتمل على العقل فتملكه وتذهب به.
وقوله (جديدة سربال الشباب) أدخل الهاء على جديدة، والأكثر أن يقال: ملحفة جديدة. وطريقة سيبويه فيه أنه صفة مذكرة تبعت مؤنثاً، وينوي في ذلك المؤنث ما يكون لفظه مذكراً، كأنه ينوي بالملحفة إزاراً، وما يجري هذا المجرى. وبعضهم يذهب إلى أنه فعيل في معنى فاعل، فلحقه الهاء قياساً، فهو كظريف وظريفة، لأن الفعل منه جد الثوب يجد جدة وبعضهم ذهب إلى أنه فعيل في معنى مفعول، كأن ناسجها جدها قريباً، أي قطعها، فلهذا يستنكر إلحاق الهاء به. ومعنى (جديدة سربال الشباب) أنها في عنفوان شبابها، وأن عليها غضارة الحدوث، ونضارة النشىء، فكأنها سقية بردى. والسقيه في معنى مسقية، جعلها اسماً، فهي كالبنية(1/883)
واللقيطة. وشببها بها لزيادة خلقتها وحسن بنيتها. ألا ترى أنه قال: (نمتها غيولها) . والغيول: جمع الغيل، وهو الماء الذي يجري بين الأشجار. وقال الدريدي: الغيل: الماء الذي بين الحجارة في بطن واد. والغيل، بكسر الغين: الماء يجري بين الأشجار، وربما سموا الشجر الملتف غيلاً. ويشبه هذا قول الآخر:
بردية سبق النعيم بها ... أقرانها وغلابها عظم
وفي طريقته قول الآخر:
لم تلتفت للداتها ... ومضت على غلوائها
وإنما يكون ذلك من نتائج الترفه، ولوائح النعمة. وقد ظهر معنى البيتين بما ذكرته، لأنه تبجح بتعاطيه الصبا واللهو، وشرب الخمر مدة الصبا وأيام الشباب.
ومخملة باللحم من دون ثوبها ... تطول القصار زالطوال تطولها
كأن دمقسا أو فروع غمامة ... على متنها حيث ستقر جديلها
قوله (زمخملة) من جملة صفاتها وإن عطفتها بالواو، فعلى هذا لك أن تقول: مررت برجل فاضل عاقل أديب، وأن تقول: برجل فاضل وعاقل وأديب. ومعنى (ومخملة) أن أعضاءها تساوت في ركوب اللحم إياها، وظهور السمن والبدن عليها، فكأن اللحم جعل خملاً لها. وفائدة (من دون ثوبها) أنها ملء درعها، فهي سمينة المعري. وإلى هذا أشار الأعشى في قوله:
صفر الوشاح وملء الدرع بهكنة
وقوله (تطول القصار) يريد أنها ربعة، فإذا حصلت في القصار طالتهن، وإذا حصلت في الطوال طلنها يشير إلى التوسط الذي هو المختار في كل عقل،(1/884)
ولذلك قيل: (خير الأمور أوساطها) ولأن الغلو والإفراط مذمومان، كما أن القصور والتفريط مذمومان. و (تطول) في البيت معدي، لأنه بمعنى تغلب في الطول، فهو من طاولته فطلته.
وقوله (كأن دمقساً أو فروع غمامة) الدمقس: الحرير الأبيض. وفروع الغمامة، أشار إلى أطرافها وجوانبها والشمس تحتها، لأن تلك الأطراف بشعاع الشمس تشرق أبداً. والمعنى أنها لينة المجس براقة اللون، كأن الحرير وأطراف غمامة استكنت الشمس تحتها على متنها. وقوله (حيث استقر جديلها) تخصيص لما عمه قوله (على متنها) . والجديل، هو الوشاح، وما تشده المرأة في حقوها من الأدم المضفور. وليس هذا من عادات العرب. وإذا كان من لونين فهو البريم. وهذا يشد في أحقي الصبيان يدفع به العين.
وقال عبد الله بن الدمينة الخثمعي
ولما لحقنا بالحمول ودونها ... حميص الحشا توهي القميص عواتقه
قليل قذى العينين نعلم أنه ... هو الموت إن لم تلو بوائقه
قوله (ولما لحقنا) جوابه ما دل عليه البيت الثالث، وهو (عرضنا) . وأراد بالحمول الظعائن وأثقالها. وقوله (ودونها خميص الحشا) يريد قيمهن. فيقول: لما دعانا الشوق إلى اللحوق بالظعائن بعد تشييعنا لها، وإلى تجديد العهد بها، فأدركناها ودونها رجل قليل اللحم على بدنه، لطيف طي البطن، مديد القامة، حتى إن عواتقه، وهي النواحي من عاتقي الإنسان، تكاد أن توهي قميصه. وهذا مما تتمدح به العرب، لأن السمنة عندهم مذمومة.
وقد كشف عن هذا المعنى قول الآخر:
فتى لا يرى قد القميص بخصره ... ولكنما تفرى الفرى مناكبه
وقوله (قليل قذى العينين) يصف امتعاضه وقلة صبره على درن العار. ويقال: فلان لا يغضى على قذى، إذا لم يحتمل ضيماً. وقوله (نعلم أنه ع هو الموت) يصفه بشدة الحمية عند غضبه. وأن ناره لا يصطلى بها إذا غار على حرمه. والمعنى أنا(1/885)
مع تعرضنا له نحذره نخافة أن يحمى، لتحققنا أن شره لا يقام له إذا سطا. والبوائق: جمع بائفة، وهي الخصلة المنكرة في شمولها، فيقال: باقتهم بائفة. والبوقة. الدفعة الشديدة من المطر، منه. قال رؤبة:
من باكر الوسمى نضاح البوق
وقول (تلو عنا) أي تصرف. ويرى (تلق عنا) من الإلقاء.
عرضنا فسلمنا فسلم كارهاً ... علينا وتبريج من الغيظ خانقه
فساي رته مقدار ميل وليتني ... بكرهي له ما دام حيا أرافقه
يقول: لما لحقنا بالظعائن عرضنا لهن، وسلمنا على قيمهن والمحامي دونهن، فأجابنا جواب الكاره لنا، والمنكر لتسليمنا، قد خنقه غيظ مبرح. ويقال: لحقته ولحقت به. وانتصب (كارهاً) على الحال. والتبريج: التشديد. ويقال: برح بي كذا وكذا، ومنه قول الأعشى:
أبرحت ربا وأبرحت جارا
ويقال: هو في برح من الشوق بارح. وقوله (خانقة) يريد أنه امتلأ صدره من الغيظ فارتقى إلى ما هو فوقه حتى خنقه. وقوله (فسايرته مقدار ميل) انتصب مقدار على الظرف. ومعنى ساريرته صاحبته في السير، ثم قال: وليتني أرافقه مادام حياً، على كره مني، لأنه استطاب صحبته لما له من الذاذة في النظر إليهن، واستكره الكون معه لما يخاف على نفسه منه، إلا أنه غلب الالتذاذ. و (مادام حياً) انتصب على الظرف، و (أرافقه) في موضع خبر ليت. وقوله (بكرهي له) نصب على الحا، والعامل فيه أرافقه.
فلما رأت أن لا وصال وأنه ... مدى الصرم مضروب علينا سرادقه
رمتني بطرف لو كمياررمت به ... لبل نجيعاً نحره وبنائقه
ولمح بعينها كأن وميضه ... وميض الحيا تهدى لنجد شقائقه(1/886)
قوله (أن لا وصال) أن فيه مخففة من أن الثقيلة، يريد أنه لا وصال. ألا ترى أنه عطف عليه (وأنه مدى الصرم) . ووصال انتصب بلا، وخبره محذوف، كأنه قال: لا وصال بيننا. والجملة في موضع خبر إن، والضمير في أنه الأولى والثانية ضمير الأمر والشأن. وقوله (مدى الرم) في موضع الإبتداء، و (مضروب علينا) خبره. وسرادقه ارتفع بمضروب، لأنه قام مقام الفاعل. وقوله (رمتني بطرف) جواب لما. كأنه لما تأملت حاله في مسايرته، وضيق الوقت عن مجاذبته، لما كان يجو بينهما من مراقبته، ثم رأت تغيظ الرقيب وكراهيته، مع معرفتها بنتائج ضجره، نظرت إلى الشاعر نظر إنكار استدل منه على ضلاله فيما يأتيه، وسوء توفيقه فيما يلح فيه، فكأنه رمته بسهم لو لم يكن نظراً، بل كان سهماً رمي به شجاع في معركة، لأصيب مقله، فكان يبتل نحره وبنائق قميصه نجيعاً. والنجيع: دم الجوف. ويقال: تنجع به، أي تلطخ.
وقوله (ولم بعينيها) انعطف على قوله بطرف. واللمح: النظر، ويستعمل في البرق والبصر. وكذلك الطرف هو النظر هنا، كأن الرمي بالطرف كان إنكاراً منها. واللمح بالعينين مواعدة وتوحية بجميل بعد تعذر المطلوب: والومض والوميض: اللمع. وأومضت له فلانة بعينها، إذا برقت. لذلك شبه وميض لمحها بوميض الحيا، وهو الغيث المحي للأرض وأهلها وقد هدبت أي أرشدت شقائقه، وهي قطع سحابه، لنجد. كأنه جعلها قاتلة في رميها، محيية بلمحها. والشقيقة: البرقة إذا استطارت في عرض السحاب وتكشفت ايضاً.
وقال أبو الطمحان القيني
ألا عللاني قبل صدح النوائح ... وقبل ارتقاء النفس فوق الجوانح
وقبل غد يالهف نفسي عى غد ... إذا راح أصحابي ولست برائح
يروي (يا لهف نفسي من غد) . والصدح: شدة صوت الديك والغراب وغيرهما. والصيدحي: الشديد الصوت. والجوانح: ضلوع الصدر. وارتقاء النفس(1/887)
فوقها، كما يقال: بلغت نفسه التراقي. فيقول: عللاني بالمقترح عليكما قبل أن أموت فتقوم النوائح علي يندبنني، وقبل ميقات أجلي. وأو أن تخلفي عن أصحابي وقد راحوا عني، لنزول القدر المقدور بي.
فإن قيل: كيف قدم ذكر صدح النوائح على ذكر الموت، وإنما يكون بعده؟ قلت: إن العطف بالواو لا يوجب ترتيباً. ألا ترى أن الله تعالى قال: واسجدي واركعي، والركوع قبل السجود في تريب أفعال الصلاة. وقوله (إذا راح أصحابي) يجوز أن يكون إذا في موضع الخبر بدلاُ من غد، والبدل إذا جاء مؤكداً للمبدل منه ومفصلاً جمله قد لا يستغني عن المبدل منه، وإذا كان كذلك فليس لأحد أن يقول: من شرط البدل أن يلقي المبدل منه ويجعل هو مكانه. وإذا كان كذلك لم يجز أن بلى إذا العامل في غد، وهو (على) أو (من) في الروايتين جميعاً. على أن أبا العباس قد جوز وقوع إذا في موضع المجرور والمرفوع. ويجوز أن يكون نصباً بدلاً من موضع (من غد) أو (على غد) العامل والمعملول فيه جميعاً، لأن موضعهما نصب على المفعول مما دل عليه قوله يالهف نفسي، وهو: أتلهف من غد.
وإنما جاز أن يودع البيتين باب النسيب لرقتهما ولأن المتعلل به كان لذة من اللذات. وهذا عادته في أبواب اختياره.
آخر:
هلة الوجد إلا أن قلبي لودنا ... من الجمر قيد الرمح لاحتراق الجمر
أفي الحق أني نغرم بك هائم ... وأنك لا خل هواك ولا خمر
فإن كنت مطبوباً فلا زلت هكذاوإن كنت مسحوراً فلا برأ السحرقوله: هل الوجد استفهام لفظه ومعناه النفي، بدلالة وقوع إلا بعده، كأنه قال: ما الوجد، أوليس الوجد إلا هذا الذي بي، وهو أن قلبي لو قرب من الجمر حتى لايكون بينهما إلا قدر رمح لغلب ناره نار الجمر، وكان يحترق. وقوله(1/888)
" الوجد " مبتدأ وخبره إلا مع ما بعده. وانتصب " قيد الرمح " على الظرف. ويقال: بيني وبينه قاب قوس، وقيد رمح، وغلةوة سهم. وحكى بعض أهل التفسير في قوله تعالى: " فكان قاب قوسين " أن لكل قوي قابين، وهو ما بين المقبض والسية. وأهل اللغة على ما قدمته.
وقوله " أفي الحق أني مغرم بك هائم " فالمغرم: الذي قد لزمه الحب يقال: حبه غرام، أي لاتفصى منه. ومنه عذاب غرام. والهائم: المتحير. والهيام كالجنون من العشق، ومنه المهيم: الذي يهذي بالشيء ويكثر ذكره. والمعنى أنه لايدخل في الحق ووجوهه، وأنواع قسمه. أن يكون حبي لك غراماً، وحبك لايرجع إلى معلوم، ولايحصل على حد محصور. ويقال: ما هو بخل ولاخمر، والمعنى أنه ليس بشيء يخلص ويتبين.
وقوله " فإن كنت مطبوباً " فالطب: السحر والعلم جميعاً. وهو طب، أي عليم. وفي الحديث: " حين طب " أي سحر. وهو مطبوب، أي مسحور. ومعنى البيت: إن كان الذي بي وأقاسيه داءً معلوماً يعرف دواؤه، فلا فارقى فأني ألتذ به - وهذا هو الفتيانية في الهوى، والتجلد على البلاء - وإن كنت مسحوراً، يريد وإن كان الذي بي لايعلم ما هو، وأعيا الوقوف عليه الأطباء، والعلماء بالأدواء، حتى يسلم للسحر فلا فارقني أيضاً. وإنما قال هذا من عادة العامة، لأنهم كذا يعتقدون في الأوصاب والعلل. ولايجوز أن يكون معنى مطبوباً مسحوراً، لأنه يصير الصدر والعجز لمعنى واحد.
آخر:
تشكى المحبون الصبابة ليتني ... تحملت ما يلقون من بينهم وحدي
وكانت لنفسي لذة الحب كلها ... فلم يلقها قبلي محب ولابعدي
هذا كلام من تجلد في الهوى وادعى التلذذ به وإن برح به وأثر فيه، فيقول: شكا المحبون جناية الصبابة عليهم، وجريرة العشق لديهم، وبودي أني تحملت أعباءها كلها وحدي، وخلص للصبر فيها ولها عفوي وجهدي، وكانت نفسي تنال لذة(1/889)
مجموعها ومفرقها، وتنفرد بمكابدة مجهولها ومعرفها، فأفوز بادعائها، وتسقط المشاركة بيني وبين أربابها ممن سبقني لتقدم زمانه، أو تأخر عني لتأخر ميلاده.
وقال شبرمة بن الطفيل
ويوم شديد الحر قصر طوله ... دم الزق عنا واصطكاك المزاهر
لدن غدوةً حتى أروح، وصحبتي ... عصاة على الناهين شم المناخر
كأن أباريق الشمول عشية ... إوز بأعلى الطف عوج الحناجر
قوله " ويوم " انجر بإضمار رب، وجوابه قصر طوله. يقول: رب يوم من أيام الصيف شديد الحر، جعل طوله قصيراً، ما اشتغلنا به فيه من الشرب والقصف. وأراد بدم الزق الخمر. واصطكاك المزاهر: ودافعة أوتار البربط بعضها لبعض بالضرب. ويقال: ازدهر الرجل، إذا فرح. فيجوز أن يكون العود وقوله " لدن غدوةً " انتصب غدوةً عن النون من لدن، ولاينتصب به غيره، فهو شاذ. والمعنى: باكرنا الشرب، فلما رحنا كان أصحابي قد سكروا واكتسبوا كبراً ونبلاً، وذهاباً عما يشير به الناهي والمسدد.
وقوله " كأن أباريق الشمول عشيةً " شبه أواني الخمر وقد فرغت وأمليت بطيور ماء اجتمعت عشيةً بأعلى الساحل، معوجة الحناجر والحلوق.
وأدخل هذه القطعة في باب النسيب لرقتها ودلالتها على اللهو والخسارة.
؟؟؟؟؟؟؟؟؟؟ ؟؟؟؟؟؟ وقال جابر بن ثعلب الجرمي:
ومستخبر عن سر ريا رددته ... بعمياء من ريا بغير يقين
فقال انتصحني إنني لك ناصح ... وما أنا إن خبرته بأمين
يروي: " انتصحني إنني ذو أمانة، وهذا في كتمان سر المحبوب، والمحافظة على الذمام والحرم. يقول: رب مستدرج لي فيما بين ريا وبيني، طالب للوقوف على المكتوم من أمرها وأمري، رددته عن نفسي بقصة عمياء لايهتدي فيها لمطلوب، ولا(1/890)
يرجع فيها الى يقين، فلما لم يمكنة انزالى عما حاوله قال: انتصحنى، أي أدخلني في أمرك، وأجرني مجرى نصحائك، إني أمين لادغل في همتي، ولا خيانا في شأني، ولو خبرته بما التمس، وأطلعته على ما استشرح، كنت أنا غير أمين، فكيف أصير معه مؤتمناً، وذاك أني إن بحت بسرها فقد ضيعت أمانتها، والسر إذا جاوز اثنين خرج من أن يكون سراً. ومثل هذا قول جرير:
ولقد تسقطني الوشاة فصادفوا ... حصراً بسرك يا أميم ضنينا
؟؟ وقال نفر بن قيس، وبنو نفر رهط الطرماح:
ألا قالت بهيشة ما لنفر ... أراه غيرت منه المرأة ازدرته وأنكرت شحوبه وهزاله، وتغيره الدهور
وأنت كذاك قد غيرت بعدي ... وكنت كأنك الشعري العبور
كأن عما عهدته، فصرفت ذلك إلى أنه من مقتضيات الكبر، ومسببات القشف، وقالت مستفهمةً: ما لنفر، أرى الأيام أثرت فيه، والأحداث أضنته وهزلته، فأجابها من طريق إنكارها وقال: إن كان ذلك من عقب الأيام فإنها لم تغفل عنك ولم تهمل تغييرك أيضاً، فما أنكرته مني موجود فيك وظاهر على سحنتك ولونك، فقد كنت كالشعري العبور إشراقاً وتلألؤا، وقد حلت وتغيرت و " العبور " قيل فيه: هو من عبرت النهر، إذا جزته. وقيل: بل هو من عبرت به، إذا أشفقت عليه، كأنها إذا طلعت تعبر المال الراعية بحرها، وإذا سقطت فببردها. وقوله: وأنت كذاك "، الكاف الأولى للتشبيه، و " ذا " أشار به إلى ما أنكرت منه، والكاف الأخيرة للخطاب ولاموضع له من الإعراب، فهو حر؟؟؟؟؟؟؟؟؟؟ ف.
وقال برج بن مسهر
وندمان يزيد الكأس طيباً ... سقيت إذا تعرضت النجوم
رفعت برأسه وكشفت عنه ... بمعرفة ملامة من يلوم(1/891)
الندمان والنديم: من ينادمك على الشراب، ومثله في البناء سلمان وسليم، وحمدان وحميد، ورحمن ورحيم. ومعنى يزيد الكأس طيباً، أي بحسن عشرته، وأدب مجالسته يزداد شرب المدام وإدارة الكأس معه لذة. والمعنى: رب نديم على ما وصفته سقيته إذا تعرضت النجوم، أي أبدت عرضها للغيوب. ويقال: تعرضت الجبل، أي أخذت يميناً وشمالاً فيه، ولم أصتقم في الصعود. وقال:
تعرضى مدارجاً وسومى ... تعرض الجوزاء للنجوم
ومعنى قوله رفعت برأسه أنبهته من منامه، وأزلت عنه ماكان يداخله من الغم بلوم اللائمين إياه على معاطاة الشرب وإدمانه اللهو، بأن سقيته معرقة - وهي الصرف من الخمر، وقيل هي القليلة المزاج. ويقال: تعرقت الخمرة، إذا مزجتها. وأعرقه الساقي، إذا سقاه معرقاً. وقوله إذا تعرضت النجوم يشير به إلى الاصطباح.
فلما أن تنشى قام خرق ... من الفتيان مختلق هضوم
إلى وجناء ناوبة فكاست ... وهي العرقوب منها والصميم
انتشى ونشى وتنشى بمعنى سكر. والنشوة: السكر. وأراد بالخرق نفسه، وهو الكريم المتخرق بالعروف. والمختلق: التام الخلق. والهضوم، قال الأصمعي: هو المنفاق في الشتاء. وقال غيره: هو الكريم المفضال، كأنه يهضم ماله بأن يخرج منه أكثر من الواجب فيه. والوجناء، هي الناقة الغليظة الوجنتين. وقيل بل هي الصلبة، مأخوذ من الوجين، وهي الأرض الغليظة. قال الخليل: وقل ما يقال للجمل أو جن. والناوية: السمينة.
وقوله فكاست اختصر الكلام، والمراد فعرقبها فكاست. والكوس: المشي على ثلاث قوائم. وأراد بالصميم العضو الذي به القوام؛ يقال: هذا صميم الوظيف، وصميم الرأس. والعرقوب: عقب موتر خلف الكعبين فويق العقب من الإنسان وبين مفصل الوظيف والساق من ذوات الأربع. وعرقبته: قطعت عرقوبه. وقوله وهي(1/892)
العرقوب إظهار للعلة في كوسها. والوهى: الشق والخرق. وفي المثل " غادر وهية لا ترقع "، أي فتقة لا يطاق إصلاحها ورتقها. والمعنى: لما أيم رسم الاصطباح، وانتشى الندمان، قام هو إلى ناقة بهذه الصفة فعرقبها.
كهاة شارف كانت لشيخ ... له خلق يحاذره الغريم
فأشبع شربه وجرى عليهم ... بإبريقين كأسهما رذوم
تراها في الإناء لها حمياً ... كميتاً مثل ما فقع الأديم
ترنح شربها حتى تراهم ... كأن القوم تنزفهم كلوم
الكهاة: الناقة الضخمة كادت تدخل في السن، وكذلك الكيهاة. والشارف: المسنة. وقوله كانت لشيخ كان الكريم منهم المحسان إلى عشيرته، المفضال على رفقائه وندمائه، يتعمد إذا نحر لهم في الشرب وعند السكر، أن يفعل ذلك في غير ملكه، يستام مالك الجزور بها أغلى الأثمان فيغرمه، ويعد ذلك الغرم غنماً، والصبر على سوء خلقه وإنكاره التبسط في ملكه بغير إذنه كرماً. لذلك قال: له خلق يحاذره الغريم، يريد البخل منه والاستقصاء.
وقد سلك هذا المسلك طرفة فقال ووفى المعنى حقه، وكأنه صب في قالب هذا الشاعر:
وبرك هجود قد أثارت مخافتي ... نواديها أمشى بعضب مجرد
فمرت كهاة ذات خيف جلالة ... عقيلة شيخ كالوبيل ألندد
يقول وقد تر الوظيف وساقها ... ألست ترى أن قد أنيت بمؤيد
وقال ألا ماذا ترون بشارب ... شديد علينا بغية متعمد
فقال ذروه إنما نفعها له ... وإلا تكفوا قاصي البرك يزدد(1/893)
فظل الإماء يمتللن حوارها ... ويسعى علينا بالسديف المسرهد
قوله فأشبع شربه يعني من النافة المعقورة. وجعل الجاري عليهم بأبريقين والكأس ملأى تقطر؛ لأن شربهم كان بداراً. ثم وصف الخمرة فقال: أحمر فاقع. ويروى مثل ما نصع والمراد خلص. والحميا مصغر لا مكبر له، وقد تقدم القول في بنائه. وكميت: مصغر مرخم، والمراد به تكبيره، وهو أكمت، لذلك جمع على كمت. ومثله فرس ورد، ثم قيل خيل ورد، لأنه أريد به أفعل. ومما جاء مصغراً قولهم كعيت، وهو طائر، وجميل، والثريا، والغبيراء، والمريطاء، واللجين، وهنيدة.
وقوله ترنح شربهم أي لشدتها تويل قواهم، فكأنهم أسارى نزفت دماؤهم. ويقال: ضربته حتى رنحته، أي غشى عليه.
فقمنا والركاب مخيسات ... إلى فتل المرافق وهي كوم
كأنا والرحال على صوار ... برمل خزاق أسلمه الصريم
يروى محبسات أي معقولات مناخة بالفناء، وهو الوجه. وروى بعضهم: مخيسات أي مذللات، لكي إذا ركبت للهو، وفي حالة السكر كما فعله هؤلاء، لم تعسف بركبانها، ولم تأت العرضنة فس سيرها. والفتل: جمع أفتل وفتلاء، وهي البعيدة المرفق عن الزور. والكوم: العظام الأسمنة. وقال الخليل. الكوم، العظم في كل شيء. وقوله كأنا والرحال شبه ركائبهم بقطيع من البقر بالرمل الذكور، أسلمه الصريم إلى الصيادين والكلاب، فخفت وعدت. والصريم استعمل في الصبح والليل جميعاً، لأن كل واحد منهما ينصرم عن صاحبه وقت السحر. وإنما ركبوا بعد الاصطباح للتنزه أو في بطالة حضرتهم.
فبتنا بين ذاك وبين مسك ... فيا عجبا لعيش لو يدوم
وفينا مسمعات عند شرب ... وغزلان يعد لها الحميم(1/894)
تبجح بأنهم نالوا أكثر أنواع اللذات، من شرب وقصف، وتنزه ولهو، ومعاشرة وطرب، وتسخ وإفضال، وتند على الندماء وإكرام، وتترف وتعطر، وتمتع بالنساء وتغزل. وقوله فيا عجبا إنما تعجب من استمرار الوقت بمثل العيش الذي وصف، وكيف سمح الزمان به ثم غفل عنه حتى اتصل. والمسمعات: المغنيات. والسماع: الغناء. وذكر الحميم لتنعمهن، ولأن بلادهن كانت صروداً. وعلى هذا قال عمرو بن كلثوم:
مشعشعة كأن الحص فيها ... إذا ما الماء خالطها شخينا
قال ابن الأعرابي: سخيناً حال بمعنى مسخن، لأن البرد اقتضاهم بذلك الماء.
وقوله فبتنا بين ذاك يريد أن حاضر وقتهم كان على ذلك ثم تغير.
نطوف ما نطوف ثم يأوى ... ذوو الأموال منا والعديم
إلى حفر أسافلهن جوف ... وأعلاهن صقاح مقيم
يقول: يكثر الواحد منا التطواف على اللذات، والتجوال في الأطراف لطلب البطالة، وليس مآل الجميع مقترناً وغنينا إلا حفر، يعني بها القبور. ثم وصفها بأنها جوف الأسافل للحودها، وأن أعاليها نصبت عليها حجارة عراض كالسقوف لها، وهي دائمة على هذه أبداً.
وقوله نطوف ما نطوف أي مدة تطوافنا. ويقال: أوى إلى كذا أويا.
وقال إياس بن الأرت
هلم خليلي والغواية قد تصبي ... هلم نحي المنتشين من الشرب
نسل ملامات الرجال برية ... ونفر شرور اليوم باللهو واللعب
قوله والغواية قد تصبي اعتراض، وكرر هلم على طريق التأكيد. والفائدة في هذا الاعتراض تحقيق القصة المدعو إليها.
وللعرب في هلم طريقتان: منهم من يحريه مجرى أسماء الأفعال، وحينئذ يقع الواحد والجمع مؤنث والمذكر على حالة واحدة، والقرآن نزل به، لأنه قال(1/895)
تعالى ذكره: " يقولون لإخوانهم هلم إلينا ". ومنهم من يجعل أصلها ها التبيه ضم إليه لم، وهو فعل، جعلا معاً كالشيء الواحد، فيثنبه ويجمعه ويؤنثه. وكان الفراء يقول: هو هل أم تركبا معاً. وليس لهل في الكلام إلا موضعان: أحدهما - وهو الأكثر - أن يكون للاستفهام؛ ولا معنى للاستفهام ها هنا. والثاني: أن يكون بمعنى قد، على ذلك فسر قوله تعالى " هل أتى على الإنسان "، وليس لمعنى قد في هذا مدخل. وإذا كان كذلك فما قاله فاسد. وقوله والغواية قد تصبي يريد أن الغي يدعو صاحبه إلى أمور كثيرة مختلفة، وقد يحمله على الصبا واللهو في الوقت بعد الوقت. وطلب من صاحبه مساعدته على تحيته للشرب، والدخول في جملتهم، وتسلية النفوس عن ملامات من يدعو إلى الرشاد، ويحمل على سلوك طرق الصلاح والسداد، بشرب رية، وهي الكأس الممتلئة خمراً، وقطع وقت الشر والغم باللهو واللعب. وقوله نسل في موضع الجزم، لأنه جواب الأمر. ونفر، معطوف عليه. ويقال: فريت الأديم، إذا قطعته على جهة الصلاح، وأفريته إذا قطعته للفساد.
إذا ما تراخت ساعة فاجعلنها ... لخير فإن الدهر أعصل ذو شغب
فإن يك خير أو يكن بعض راحة ... فإنك لاق من غموم ومن كرب
قوله: إذا ما رتاخت ساعة فاجعلنها في طريقته ماأنشده ابن الأعرابي:
إذا كان يوم صالح فاقبلنه ... فأنت على يوم الشقاوة قادر
وقوله فإن الدهر أعصل، العصل: اعوجاج الأنياب. قال الخليل: ولا يقال أعصل إلا لكل معوج فيه صلابة وكزازة. والمعنى: أن ما يعض عليه الدهر لا يمكن انتزاعه منه، كما لا يمكن انتزاع الشيء من الناب التي فيها عصل. والشغب: تهييج الشر. ويقال: رجل مشغب.
وقوله فإن يك خير أو يكن بعض راحة، يريد أن الدهر لا تصفو أحواله من الكدر، ولا عطاياه من التعب والأذى، فلا تعنه على نفسك، واجتهد في إصلاح ما يفسده، وإلأقاء ما يشق منه. وقوله فإنك لاق من غموم، من زائدة على مذهب الأخفش، كأنه قال: إنك لاق غموماً. وسيبويه لا يرى زيادة من في(1/896)
الواجب، فطريقته في مثله أنه صفة لمحذوف، كأنه قال: إنك لاق ما شئت من غموم.
وقال آخر:
أحب الأرض تسكنها سليمتي ... وإن كانت توارثها الجدوب
وما دهري بحب تراب أرض ... ولكن من يحل بها حبيب
يذكر حنينه إلى محل سليمى ومكانها، وميله وإن كان قفراً متردداً في الجدوبة متناهياً أقطاره في اليبوسة، وأن ذلك زعيله لكونها به، فأما حب الأرضين مجردة فليس من دأبة وعادته. وقوله وما دهري بحب تراب أرض، جعل الحب للدهر على طريقتهم في قولهم: نهاره صائم، وليله قائم. والمعنى: ليس حب الأرضين مني بعادة في دهري، وقوله ولكن من يحل بها حبيب يشبه قول الآخر:
ألا يا بيت بالعلياء بيت ... ولولا حب أهلك ما أتيت
يريد أن بيوت في الموضع الذي جئت منه قد كثرت، ولكني قصدتك لحب أهلك. وقوله توارثها أي تتوارثها. فحذف إحدى التاءين استثقالاً. وقد مضى مثله.
أعاذل لو شربت الخمر حتى ... يكون لكل أنملة دبيب
إذن لعدرتني وعلمت أني ... بما أتلفت من مالي مصيب
كأن عاذلة أفرطت في لومه على ما يدمنه من الشرب، ويذهب فيه من طرق اللهو، فقال لها: لو شربت الخمر فأخذت منك، ودبت في عروقك ومفاصلك، وجمعت السار لك، وكشفت أنواع الغم عنك، لعرفت من لذاتها ومنافعها، وحدوث الطرب والجذل في النفوس لها، واستمتاع الروح بنشوتها وقواها، ما يبعثك على بسط عذرى في الولوع بها، والثبات على هواها، ولعلمت أني راكب ثبح الصواب، وغير(1/897)
عادل عن الواجب في إنفاق المال. معنى لما أتلفت أي من أجل إتلافي. ويروى: بما أتلفت والمعنى أني مصيب بسببه ومن أجله.
وقال أبو صعترة البولاني
فما نطفة من حب مزن تقاذفت ... به حسن الجودي والليل دامس
فلما أقرته اللصاب تنفست ... شمال لأعلى مائه فهو قارس
بأطيب من فيها وما ذقت طعمه ... ولكنني فيما ترى العين فارس
قوله حسن الجودي رواه البرقي: به حزن الجودي، وكثير من الناس يرويه: به جنبتا الجودي. وقيل في حسن الجودي: إنه قطعة متصلة بالجودي، والجودي: جبل. وقال صاحب العين: حسن: اسم رمل لبني سعد. وذكر البرقي أن الحزنة والحزن من الأرض والدواب: ما فيه خشونة، والفعل منه حزن حزونة، ورجل حزن: شرس، وقوم حزن. ومن روى: به جنبتا الوادي فالمراد به الكنف والناحية. وبعضهم استدل على أن قول الناس: فلان في جنبة فلان ليس بشيء، وإنما الصواب في جنبة فلان، بسكون النون، استدلالاً بهذا البيت.
وقد روى الأصمعي:
والناس في جنب وكنا جنباً
فيقول: ما ماء اجتمع من حب مزن - وهو البرد، لأن المزن اسم يجمعأنواع السحاب، فهو كالغيم - ترامت به جوانب هذا الجبل والليل مظلم إلى أن زال رنقه، وانقطع كدره. وخبرما قوله بأطيب. ثم وصف الماء بأنه لما حصل في القرارات بعد تقطعه بنضد الحجارة، وجوانب المذانب والأدوية، فزال عنه أكثر شوبه، هبت عليه شماللينة فصفته وبردته. يريد: ما ماء ساربة بهذه الصفة بأعذب من رضاب فم هذه المرأة، ولا أقول هذا عن ذواق واختبار، ولكن عن صدق فراسة، واعتبار مشاهدة.(1/898)
وفي طريقته قول الآخر:
يا أطيب الناس ريقاً غير مختبر ... إلا شهادة أطراف المساويك
واللصاب: جمع لصب، وهو شقوق في الجبل. والقارس: البارد. وقوله فارس أراد به المتفرس. ويقال: هو فارس على الخيل بين الفروسة، وإذا كان يتفرس في الأشياء ويحسن النظر فيها قلت: هو فارس بين الفراسة. والدامس: المظلم، ويقال: دمس، أي أظلم؛ وأتيته دمس الظلام.
وقال الحارث بن خالد المخزومي
إني وما نحروا غداة منى ... عند الجمار تؤودها العقل
لو بدلت أعلى مساكنها ... سفلاً وأصبح سفلها يعلو
لعرفت مغناها لما ضمنت ... منى الضلوع لأهلها قبل
أقسم بالقرابين التي ينحرها الحجيج عند المحصب غداة منى وهي معقولة أنه لو غيرت ديار هذه المرأة عن خططها المعهودة، ورسومها المشهورة، حتى جعلت أعاليها أسافلها، وأسافلها أعاليها لعرف مغناها المختص بها، ومثواها الجامع لأسبابها لما انطوت عليه محاني ضلوعه من ود أهلها أيام مواصلتها، حتى كان لا يلتبس عليه شيء منها. ومعنى تؤودها تثقلها. وجواب اليمين لعرفت. والمغنى: المنزل. ويقال غنينا بمكان كذا نغنى به غنى.
وجواب لو بدلت ماهو إلا جواب القسم، وهو لعرفت.
آخر:
مريضات أوبات التهادي كأنها ... تخاف على أحشائها أن تقطعا
تسيب أنسياب الأيم أخصره الندى ... فرفع من أعطافه ما ترفعا(1/899)
التهادي: المشي بين اثنين؛ يقال: رأيته يهادى بين اثنين ويتهادى. يصفها بالنعمة والرقة وضعف الحركة، لثقل ردفها، ودقة خصرها، وترفتها المتملكة لأعضائها وحواملها، فيقول: إذا تهادت بين اثنين فعطفات حركاتها مريضة، ونهضات اندفاعها بطيئة، فكأنها تجذب أعاليها أسافلها، تخاف على خصرها التقطع إن انبسطت في المشي، أو تسرعت في القصد. وقوله تسيب انسياب الأين. فالأين: الجان من الحيات. ويروى الأيم أيضاً، وهي الحية. والحبة لا تصبر على البرد، لأنه إذا أثر فيها يبس جرمها فتكسرت. فيقول: هي تنساب أي تتدافع في مشيها تدافع الحية وقد أثر فيها الندى فخصرت وأخذت من جرمها وأعطافها ما أطاعها وأمكنها. كأن الحية وقد خصرت شق عليها ما ينالها من خصر الندى وبرده، فهي في انسيابها تجافي عن الأرض جهدها. ويقال: ساب وانساب بمعنى واحد. وفي القرآن: " ولا سائبة ". قال الدريدي: ساب الماء، إذا جرى.
آخر:
أبت الروادف والثدي لقمصها ... مس البطون وأن تمس ظهورا
وإذا الرياح مع العشي تناوحت ... نبهن حاسدة وهجن غيورا
لف في البيت الأول الخبرين لفا، ثم رمى بتفسيرهما جملة، ثقة بأن السامع لكلامه يرد إلى كل ماله، وذلك لأنه قال أبت الروادف والثدي لقمصها، فجمع بين ما يكون خلفاً وقداماً من الردف والثدي. وهو يريد أن يصفها بأنها ناهدة الثديين، دقيقة الخصر، لطيفة البطن، وأنها عظيمة الكفل والردف، فالثدي تمنع القمص أن تلتصق ببطنها، والردف يمنعها أن تلتصق بظهرها، فبين في التفسير في عجز البيت ما لفه في صدره كما ترى.
وقوله وإذا الرياح مع المشي تناوحت، يريد: وإذا دنت الأصل وهبت رياح الصيف، فتقابلت ريحان كالشمال والجنوب، أو الصبا والدبور، وابتردت هذه، التصق من درعها ببطنها وظهرها ما كان يمنعه ثديها وردفها قبل هبوبها، وظهر من(1/900)
محاسنها ما ينبه الحاسد ويهيج الغيور، لأن ما هفي منها ظهر للعيون والمناظر، فالغيور يكره، والحاسد يتنبه. وقوله وأن تمس جاز انعطافه على مس البطون لكون العامل والمعمول فيه في موضعه ومعناه. والبطون مع لفظ مس، كظهوراً مع أن تمس.
وقال بكر بن النطاح
بيضاء تسحب من قيام فرعها ... وتغيب فيه وهو وحف أسحم
فكأنها فيه نهار ساطع ... وكأنه ليل عليها مظلم
وصف شعرها بالطول، وكثرة الأصول، فإذا قامت سحبته، وإذا أرسلته سترها فتغيب فيه، وهو مع ذلك شديد السواد، مسترسل في جعودة وارد في جثولة، فكأنها لشدة بياضها إذا تغشاها، نهار يسطع من خلل الظلام، وكأن شعرها لشدة سوداه عليها، ليل مظلم تغشى بياض نهاره.
آخر:
تأملتها مغترة فكأنما ... رأيت بها من سنة البدر مطلعا
إذا ما ملأت العين منها ملأتها ... من الدمع حتى أنزف الدمع أجمعا
يقول: نظرت إليها على غرة منها اختسلتها، وقفلة ترصدتها، فكأنني رأيت بها بدراً طالعاً. وسنة البدر، أراد وجهه. ويقال: اغتر فلان، إذا فوحى عن غرة.
وقولهإذا ما ملأت العين منها ملأتها من الدمع، يقول: إذا تزودت عيني من حسنها فنظرت في أعطافها، امتلأت متحيرة من جمالها، كما يتحير ظرف الماء إذا امتلأ منه. وإنما قال ملأتها من الدمع، لأنه كان يتقطع وصل تحمله، وتنحل عقد نجلده، وجداً بها، وتحسراً فيها. والذي يدل على أن نظره لم يكن عن اتفاق أنه قال: تأملتها مغترة، ومعنى أنزف الدمع، أفنيه كله. يقال: نزفت الماء وأنزفته بمعنى واحد.(1/901)
وقال كثير
وددت وما تغنى الودادة أنني ... بما في ضمير الحاجبية عالم
فإن كان خيراً سرني وعلمته ... وإن كان شراً لم تلمني اللوائم
يقول: تمنيت أنني عالم بما ينطوي عليه قلب هذه المرأة لي، وما ينفع التمني إذا لم يساعد القدر. وقوله: وما يغني الودادة اعتراض بين وددت ومفعوله، وهو أنني. ويقال: وددت ودادة وودادة، بفتح الواو وكسرها. وقوله فإن كان خيراً يريد: فإن كان ما تضمره لي وداً صافياً، وميلاً ناصعاً سرني ذلك وسكنت إليه، فلا يذهب ما أتكلفه في هواه باطلاً، وإن كان ما تضمره وتنطوي عليه اعتراضاً خالصاً، وجفاء مراً، قتلت نفسي وأرحتها من لوم اللائمات. وقوله وعلمته أكتفى بمفعول واحد لأنه بمعنى عرفته.
وما ذكرتك النفس إلا تفرقت ... فريقين منها عاذر لي ولائم
يقول: ما أخطرتها ببالي على ما أقاسي فيها، ويوافيني من اطراحها وزهدها إلا تفرقت نفسي فريقين: ففريق يعذرني ويقول: إن مثلها في كمالها وظرفها وحسبها ومنصبها، وشرفها وسرورها، يصبر على كل أذى يعرض في اكتسابها ويعتلق على جميع علاتها، احتفالاً باسمها في العشاق، وتكثراً بمكانها بين ذوي الأهواء. وفريق يلومني ويقول: إنك جاهل بمالك وعليك، مبتذل الروح في هوى من لا يشفق عليك ولا يرفق بك، ولا يرجع إلى شيء مما تؤثره، وإن امتج مدى ذهابها عنك. وهذا قاله عاى عادة الناس فيما يهمون، وتردهم بين ما يقوى العزم عليه وبين ما يضعفه، فجعل كل واحد منهما كأنه نفس على حيالها.
وقال أيضاً:
وأنت التي حببت شغباً إلى بدا ... إلي وأوطاني بلاد سواهما(1/902)
وحلت بهذا حلة ثم أصبحت ... بهذا فطاب الواديان كلاهما
خاطبها في البيت الأول معتمداً عليها بأنه كما آثرها على أهله وعشيرته، آثر بلادها على بلاده، فذكر طرفيى محالها فقال: " أحب لك وفيك شغباً إلى بدا، وبلادي " بلاد غيرها. ثم أخبر عنها في البيت الثاني فقل: ونزلت بهذا - يشير إلى شغب - نزلة، ثم أصبحت ببدا، ففاح الوديان وتضوعها برياها. ومثله قول الآخر:
استودعت نشرها الرياض فما ... تزداد إلا طيباً على القدم
ومثله أيضاً:
تضوع مسكاً بطن نعمان أن مشت ... به زينب في نسوة خفرات
وقال نصيب
لقد هتفت في جنح ليل حمامة ... على فنن وهنا وإني لنائم
كذبت وبيت الله لو كنت عاشقاً ... لما سبقتني بالبكاء الحمائم
هتفت: صاحت. في جنح الليل، أي فيما مال من الليل. والفنن: الغصن. وهنا: بعد ساعة من الليل. يقول: جددت لي حمامة بتغريدها وجداًوصبابة. وهي على غصن فيما مال من الليل، وإني لساكن نائم، ولوكنت عاشقاً وحق بيت الله لما سبقتني الحمائم بالبكاء، لكني كاذب في دعواي متزيد. وهذا كلام مستقصر فيما هو عليه، مستزيد لنفسه فيما يجري إليه، يصورها بصورة المتشبع بما ليس فيه. وهذه الطريقة زائدة على طريقة الملتذ بالهوى. وقوله " لما سبقتني "، على عادتهم فيما يعتقدون من شجو الحمام. لذلك قال أبو تمام:
لاتشجين لها فإن بكاءها ... ضحك وإن بكاءك استغرام(1/903)
وسلك مسلك نصيب عدي بن الرقاع فيما أظن فقال:
فلو قبل مبكاها بكيت صبابةً ... بلبني شفيت النفس قبل التندم
ولكن بكت قبلي فهاج لي البكا ... بكاها فقلت الفضل للمتقدم
وقوله " لما سبقتني بالبكاء الحمائم " اشتمل على جواب اليمين، وعلى جواب لو.
وقال الشماطيط الغطفاني
أرار الله مخك في السلامي ... إلى من بالحنين تشوقينا
فإني مثل ما تجدين وجدي ... ولكني أسر وتعلنينا
وبي مثل الذي بك غير أني ... أجل عن العقال وتعقلينا
قوله: " أراد الله " يخاطب ناقته ووجدها تحن فقال داعياً عليها: جعل الله مخك ريراً. والرير: الرفيق من المخ. والقصد في الدعاء إلى أن يجعلها الله نضواً مهزولاً، وخص اللامى لأنها والعين آخر ما يبقى فيه المخ عند الهزال. لذلك قال الشاعر:
لايشتكين ألماً ما أنقين ... مادام مخ في السلامي أو عين
وقوله: " إلى من بالحنين تشوقينا "، يجوز أن يكون إنكاراً منه على الناقة في حنينها، ويجوز أن يريد تفخيم شأن المشتاق إليه، كأنه قال: تشوفينني بحنينيك إلى إنسان وأي إنسان، ويكون " من " اسماً نكرةً، ويكون الكلام خبراً، وفي الأول يكون استفهاماً. وإنما أنكر ضجراً بها، لأنه لم يدر أحنينها إلى ولد أو وطن أو صاحب.
وقوله: " فإني مثل ما تجدين " يجوز أن يكون " وجدي " في موضع النصب، على أن يكون بدلاً من المضمر في إني، ويكون مثل في موضع خبر إن، فكأنه قال: إن وجدي مثل ما تجدين، ويجوز أن يكون وجدي في موضع الرفع على الابتداء،(1/904)
ومثل خبر له مقدم، والجملة في موضع خبر إن، كأنه قال: إني وجدي مثل ما تجدين.
وقوله: " ولكني أسر وتعلنينا " يريد إن عقلي يمسكني، وإن كان وجدي مثل وجدك وبرحي مثل برحك، عن إظهار التألم، وفي القلب ما فيه، وأنت تعلنين وتصيحين.
وقوله: " وبي مثل الذي بك " يقول: إن نزاعي مثل نزاعك، ولكني يؤمن مني أن أهيم على وجهي، إذ كنت أضبط نفسي بما أعطيت من تمييزي وإبقائي، وأنت تعقلين مخافة أن تندي على وجهك، إذ لا مسكة بك، ولا رقبة لك، ولا حياء يردعك، ولا رعة تمسكك.
وقال:
ولما أبى إلا جماحاً فؤاده ... ولم يسل عن ليلى بمال ولا أهل
تسلى بأخرى غيرها فإذا التي ... تسلى بها تغري بليلى ولاتسلي
يقول: لما عصى قلبه وتأبى إلا جماحاً في لجاجته، وخروجاً عن طاعته، ولم تنصرف نفسه عن ليلى شغلاً بتئمير مال، وترقيح عيش، ولا بإرضاء أهل واستصلاح عشيرة، أخذ يطلب السلو عنها في مواصلة غيرها من النساء وشغل القلب بحبها دونها، فإذا التي طلب التسلي بها تبعث على الرجوع إلى ليلى، وتحض على ترك الإيثار عليها، لأنه يظهر من زيادات محاسنها، وأنواع ما توحدت به من فضائلها، ما يدعو إلى التشبث بها، وعمارة هواها. وجواب لما أبى " تسلى ". والجماح من قولهم: جمح الفرس، إذا جرى جرياً غالباً لراكبه. وقوله " فإذا التي تسلى بها " إذا هي هذه التي للمفاجأة، ومن الظروف المكانية لا الزمانية، وما بعده مبتدأ وخبر، فإنه لم يجعل مستقراً.
498- اخر:
1- عجبت لبرئى منك يا عز بعدما ... عمرت زمانا منك غير صحيح(1/905)
فإن كان برء النفس لي منك راحةً ... فقد برئت إن كان ذاك مريحي
تجلى غطاء الرأس عني ولم يكد ... غطاء فؤادي ينجلي لسريح
يقول: قضيت العجب من انصراف قلبي عنك، وبرئي من الداء فيك، بعد ما بقيت زماناً مبتلي النفس في هواك، عليل القلب بوجدك، مبرحاً بي حبك؛ فإن كان برء النفس يعقب لي راحةً منك وفي هواك فقد برئت والراحة منتظرة، إن كانت من نتائجه ومسبباته. ثم قال " تجلى غطاء الرأس " يريد شبت واستبدلت بلون وسواد شعري لوناً آخر حديثاً، فكأن المتقدم كان كالغطاء على رأسي، تكشف بالتأني، ولم يكد ما تغشى قلبي من حبك ينكشف بالهويني.
فإن قيل: في ظاهر هذا الكلام تناقض، لأن القائل إذا قال كدت أفعل كذا معناه شافهت فعله وشارفته، ولا يكون قد فعله؛ وإذا قال: لم يكد فلان يفعل كذا، معناه يقرب وقوع ذلك منه. فإذا كان كذلك فقد نفى عن نفسه ما أثبته بقوله " تجلى غطاء الرأس " لقوله: ولم يكد غطاء فؤادي ينجلي لسريح؟ قلت: لو أمسك عند قوله " ولم يكد غطاء فؤادي ينجلي " لكان الأمر على ما قلت، لكنه لما قال " لسريح " بين أنه لم يكن عن سهولة وبعجلة، وقلة تعب ومشقة، فنفيه في الحقيقة لقلة التعب والسهولة لا للانجلاء، وإذ كان كذلك يكون الغطاء قد انجلى عن القلب، لكنه انجلى بعد طول مزاولة نصب، ومقاساة كمد، وعن شدة تفاقم، وبلاء ملازم. ويقال في الدعاء للمرأة إذا طلقت عند الولادة: اللهم اجعله سهلاً سرحاً. فالسراح والتسريح والسريح كلها في طريق واحد، وهو السهولة والعجلة. ويقال: سرحه اللهتعالى للخير، أي وفقه له وعجله. وفي المثل: " السراح من النجاح ".
وقال عروة بن أذينة
إلفان يعنهما للبين فرقته ... ولايملان طول الدهر ما اجتمعا
مستقبلان نشاصاً من شبابهم ... إذا دعا دعوةً داعي الهوى سمعا
لايعجبان بقول الناس عن غرض ... ويعجبان بما قالا وما صنعا(1/906)
البين يقع على وجوه: أحدهما أن يكون مصدر بان يبين وبينونة. والثاني أن يكون ظرفاً، تقول: بين القوم كذا، وهو لشيئين يتباين أحدهما ن الآخر فصاعداً. والثالث أن يفيد معنى الوصل، على ذلك قوله تعالى: " لقد تقطع بينكم ". ألا ترى معناه تقطع وصلكم، ولا يصح أن يكون المراد تقطع افتراقكم، لفساج المعنى. وعلى هذا قولهم: سعى فلان لإصلاح ذات البين من عشيرته، لأن المراد إصلاح الوصل لا الافتراق. والذي في البيت هو الثالث، لأن المعنى: هما متحابان قد ألف كل منهما صاحبه، والذي يهمهماويعنيهما للوصل ما يخشى تعقبه له من الفرقة، فخوفها منها وفكرهما فيها، ولا يكتسبان ملالاً من اتصال طول الدهر. فقوله طول الدهر يجوز أن يكون مفعول يملان، أي لا يملان تطاول الوقت إذا اجتمعا، ومدة اجتماعهما. ويجوز أن يكون طول الدهر. وقوله مستقبلان نشاصاً فالنشاص أصلهالسحاب إذا ارتفع من قبل العين حين ينشأ ويعلو، فاستعير هنا لما يقتبل من الشباب وأيام الصبا واللهو. كأنه يمطرهما النشاط والسرور كما يمطر السحاب الغيث. وجعل ذلك فيهما بحيث يسمعان قريباً دعاء منادى اللهو ويحييانه؛ لأن الوقت وقت التصابي والبطالة. وإلى هذا أشار أبو النواس في قوله:
قد عذب الحب هذا القلب ما صلحا ... فلا تعدن ذنباً أن يقال صحا
وقوله لا يعجبان بقول الناس عن عرض، هو من قولهم: نظرت إليه عن عرض، أي عن ناحية. والمعنى أنه لا يعجبها من مقال الناس وفعالهم شيء، ولا يأخذ قلبهما وعينيهما حديث ولا إبلاع ممن كان عن ناحية وشق، لكن الحسن عندهما فيما يتفاوضانه أو يتقارضانه، والإعجاب يتعلق بما يصنعانه ويؤثرانه؛ إذ كان كل واحد منهما قد صار في ملكة هوى صاحبه، وفي رفاق قبيله، فلا يبصر إلا بعينه، ولا يسمع إلا بأذنه.
وقال:
ولما بدا لي منك ميل مع العدى ... سواى ولم يحث سواك بديل(1/907)
صددت كما صد الرمى تطاولت ... به مدة الأيام وهو قتيل
قال سيبويه: معنى سوى بدل ومكان تقول. عندي رجل سوى زيد، معناه ومكان زيد وبدل زيد، وعلى ما فسره يكون معنى البيت: ولما بدا لي ميلك مع الأعداء بدل ميلكك إلى ومكان ميلك، ولم يحدث لي بديل مكانك وعوضاً منك أعرضت عنك إعراض المرمى من الصيد المصاب بسهم الصياد، وهو قتيله، لأن الإصابة عملت عملها، لكن المدة تطاولت به، فهو رهين بإصابته. يريد: صددت عنك صدود يأس لا صدود مقلبة، وأنا أعلم أن هواك قاتلي كهذا المرمى الذي لا يشك في كونه قتيلاً وإن طال نفس مهلته، ومد من أمد منيته.
وقال آخر:
أحبا على حب وأنت بخيلة ... وقد زعموا أن لا يحب بخيل
بلى والذي حج الملبونيته ... ويشفي الهوى بالنيل وهو قليل
وإن بنا لو تعلمين لغلة ... إلي كما بالحائمات غليل
الألف من قولهأحبا لفظه الإستفهام ومعناه التوبيخ. وانتصب حبا باضمار فعل، كأنه قال: أتجمعين على حبا على حب، أو أتزيدينني حبا بعد حب، مع بخلك وإيثار زهدك، وعند الناس وفي أحكامهم واعتقادهم أن البخيل لا يكون محبوباً. كأنه عاتبها وقرعها من أمر الذي بينهما، وأنهما من أجله في طرفي نقيض، وفي لون من العشق طريف، وذلك أن معاملتها له معاملة من لا ينتدى عليه ولا يرحمه، ولا يتسخى بشيء له، وأن جذبها إياه في الهوى جذب من لا يكتفي معه بعفوه حتى يجهده ويزيده وجداً على وجد، وألما بعد ألم. قال: هذا حالي معك، وفي زعمات الناس أن القلوب جبلت على حب المحسنين الباذلين، لا المسيئين الباخلين، ثم استدرك فقال: بلى والله المحجوج بيته، المعظم حرمه، المداوي من داء الهوى باليسير الخفيف من النيل، إن البخيل ليحب. ودل على المقسم له بقوله: وإن بنا لو تعلمين لغلة، وهي حرارة العطش، كما يكون غلة الحائمات، وهي الطيور التي تحوم على الماء وتدور من شدة العطش ثم تقع عليه، وقد تكون العطاش أنفسها. وقوله: وأنت بخيلة، الواو واو الحال. وقوله ألا يحب إن شئت جعلت أن الناصبة للفعل فنصبت يحب به، وإن شئت جعلته المخففة من الثقيلة فيرتفع يحب، يريد أنه لا يحب. ثم قال: بلى، وهو جواب استفهام مقرون بنفي. على ذلك قول(1/908)
الله عز وجل: " أليت بربكم قالوا بلى ". كأنه قيل له مستفهماً منه: أيحب البخسيل الممسك؟ فقال: بلى وأقسم أيضاً، تأكيداً. والحج: القصد. والنيل: مصدر فلته أناله. وقوله لو تعلمين، كالعذر لها، وقد أقامه مستعطفاً، يصورها بأنها لو علمت ما به كانت لا تستجيز ما يجري عليه.
وقال آخر:
إذا كنت لا يسليك عن من توده ... تناء ولا يشفيك طول تلاق
فهل أنت إلا مستعير حشاشة ... لمهجة نفس آذنت بفراق
يخاطب نفسه متوجعاً لها، ومستوحشاً من الحالة التي منى بها، فيقول: إذا لم تستوفق مع من تحب التباعد عنه، وأخذ النفس بالتفصى منه، ليورثك سلوا دونه، ولم يقرب شفاءك من الداء فيه طول الاجتماع معه، واتصال التردد منه، والمريض في العرف والعادة إذا اشتكى من دواء عولج به نقل إلى ما يضاده، فإن لم يغن سلم لعلته، فكذلك أنت إذا لم ينفعك فيما تقاسيه لا التنائي ولا التداني، فما ذاك إلا غرام، وما أنت فيه إلا مستعير حشاشة، وهي روح القلب، ورمق من حياة النفس وقد آذنت بالمفارقة. والمهجة: خالصة النفس؛ ومنه لبن أمهجان.
وقال عبد الله بن الدمينة
ألا يا صبا نجد متى هجت من نجد ... فقد زادني مسراك وجداً على وجد
أأن هتفت ورقاء في رونق الضحى ... على فنن غصن النبات من الرند
بكيت كما يبكي الوليد ولم تزل ... جليداً وأبديت الذي لم تكن تبدي
الصبا: القبول. يقال: صبت الريح تصبوا صبواً. ومتى هجت، أي متى ثرت واهتجت. يقال: هاج الفحل والريح هياجاً. وهم يخاطبون الريح والبرق إذا كانا من نحو أرض المحبوب. فيقول: متى اهتجت من أرضي نجد فقد زادني سيرك شوقاً، وجدد لي هبوبك على ماكنت أكابده من الوجد وجداً.(1/909)
وقوله: أأن هتفت، يخاطب نفسه مبكتاً فيقول. ألأن صاحت حمامة ورقاء في أول الضحى واقعة على غصن غض من شجر الرند بكيت بكاء الصبى إذا أعياه مطلوبه، وأظهرت العجز عما حملته، وعهد الناس بك فيما مضى من أيامك ولم تزل ثابت القدم فيما ينوبك، دائم الصبر على بلواك، إن هذا منكر.
وقد زعموا أن المحب إذا دنا ... يمل وأن النأي يشفي من الوجد
بكل تداوينا فلم يشف ما بنا ... على ذاك قرب الدار خير من البعد
على أن قرب الدار ليس بنافع ... إذا كان من تهواه ليس بذي ود
يقول: زعم الناس أن الاستكثار من المحبوب والتداني منه يكسب المحب ملالاً، وأن الاستقلا من زيارته والتنائي عن محله وداره ينتج له سلواً، فداويت بكل واحد من ذلك فلم ينجع؛ إلا أنه على الأحوال كلها وجدت قرب الدار منه خيراً من بعدها عنه، لما توسوس به النفس في الوقت بعد الوقت من طمع فيه، ولتطلع المجاورين له، وتجدد الحديث عنه، إلى كثير مما يعدم في البعاد. ثم رجع فيما أعطى فقال: على أن تقارب الديار لا يكاد ينفع إذا كان المحبوب لا ود له، ولا ميل له. ويروى: ليس بذي عهد، أي لا يبقى على ما عهده عليه.
آخر:
إذا مشت أن تسلى خليلاً ... فأكثر دونه عدد الليالي
فما سلى خيلك مثل نأى ... ولا بلى جديدك كابتذال
معناهما ظاهر بما تقدم، ويقال: بمعنى سلوت. قال:
لو أشرب السلوان ما سليت
وقال آخر:
ألا طرقتنا آخر الليل زينب ... عليك سلام هلى لما فات مطلب(1/910)
وقالت تجنبنا ولا تقربننا ... فكيف وأنتم حاجتي أتجنب
يقول: أتتنا هذا المرأة سحراً فقلت مسلماً عليها: عليك سلام الله هل لما فات من أيام الوصال والإقبال على الإحسان مطلب لي فأسأله. فقالت لي مجيبة: جانبنا ولا تدنون منا. فقلت: أنى يكون مني مجانبة وأنتم في الدنيا حاجتي ومناي، ولا اختيار مع الضرورة، كما أنه لا غنى عن الفاقة. هذا هو ظاهر الكلام. وقد رأيت من يفسره على أن المراد بآخر الليل آخر أيام الشباب. وكان يروى: عليك سلام بفتح الكاف، ويجعل الخطاب والتسليم من المرأة للرجل، ويقول: إنما حيته بتحية الموتى لتولي أيامه، وتناهي عمره، وقولها: هل لما فات مطلب من كلامها معاتبة، كأنها أنكرت التعرض لها وقد فاته دالة الشباب، وشفاعة النضارة والإقتبال. والأولى ما قدمته.
يقولون هل بعد الثلاثين ملعب ... فقلت وهل قبل الثلاثين ملعب
لقد جل خطب الشيب إن كنت كلما ... بدت شيبة يعرى من اللهو مركب
المضمر في يقولون المتعصبون للمرأة والناس. يريد: عيروني بتعاطي الصبا واللهو واللعب، بعد تقضي الثلاثين من أيام عمري فقالوا: هل بعد الثلاثين ملعب، أي لا ينبغي اللهو لمثلك، فقلت لهم: وهل قبل الثلاثين ذلك. والمعنى أن من عد ما دون الثلاثين فهو في عداد الصبيان، لا يعرف اللذات، ولا يصلح للبطالات. ويجوز أن يكون المراد: وهل تسهل لي قبل الثلاثين شيء من مباغي اللهو واللعب فينكر مني طلبي إياه بعده.
وقوله: لقد جل خطب الشيب، لقد جواب يمين مضمرة، ولك أن تروي أن كنت كلما، والمعنى لأن كنت كلما. ولك أن تكسر الهمزة فتكون إن المفيدة للشرط، والمراد: إن كنت كلما بدت في رأسي لمعة من الشيب يلزم منها أن أعرى مركباً من مراكب اللهو، فلقد عظم خطب الشيب، ويكون جواب إن في قوله لقد جل خطب الشيب، وكلما في موضع الظرف.
وقال كثير
وأد نيتني حتى إذا ما فتنتني ... بقول يحل العصم سهل الأباطح(1/911)
تناهيت عني حين لا لي حيلة ... وغادرت ما غادرت بين الجوانح
يقول: توفرت علي ولطفت لي المقال والفعال، على تطلق من وجهك، وهشاشة ظاهرة منك، حتى أوقعتني في حبالتك، وخببت قلبي بكلام يقرب البعيد، ويسهل العسير، ويؤنس النافر، ويطمع اليائس، فلما استكمل مرادك في ضممت أطرافك إليك، وقبضت ما انبسط من أملي فيك. والعصم: جمع أعصم وعصماء، وهي الوعول الجبلية التي في قوائمها بياض. وجواب إذا تناهيت عني. والمعنى: بعد ما كسبتني خبالاً، وجلبت على عقلي وقلبي فساداً، كففت عني، وتباعدت مني وقت أعيتني الحيل في الانفكاك، وتأبى تمازج الهوى وتلاصقه من الإنسلاخ، وتركت بين جوانحي ما تركت من وجد متصل، وحزن دائم.
فإن قيل: إن كثير علم في النسيب، فلم لم يرض بإظهار التوجع من المعاملة، والتألي من التهاجر والقطيعة، حتى اعتد على صاحبته ذنباً. ونسب إليها خيانة ووزراً؛ لأن الذي وصف من افتتانها في افتتان الرجال ليس من شأن العفائف؟ إن كثيراً لم يصف صاحبته إلا بصفة العفائف. ألم تسمع قول الآخر:
برزن عفافاً واحتجبن تستراً ... وشب بقول الحق منهن باطل
فذو الحلم مرتاب وذو الجهل طامع ... وهن عن الفحشاء حيد نواكل
كواس عوار، صامتات نواطق ... بعف الكلام، باذلات بواخل
فتأمل ما قاله فإنه غاية في استقامة الطريقة، وإن هلكت نفوس، وخبلت عقول. وحدثت عن أبي حاتم عن الأصمعي عن أبي عمرو بن العلاء، عن رواية كثير قال: كنت مع جرير وهو يريد الشام، فطرب فقال: أنشدني لأخي بن مليح، يعني كثيراً، فأنشدته حتى انتهيت إلى قوله: وأدنيتني حتى إذا ما فتنتني، الأبيات، قال جرير: لولا أنه لا يحسن بشيخ مثل النخير لنخرت حتى يسمع هشام على سريره.
وقال آخر:
تعرضن مرمى الصيد ثم رميننا ... من النبل لا بالطائشات الخواطف(1/912)
ضعائف يقتلن الرجال بلا دم ... فيا عجبا للقاتلات الضعائف
وللعين ملهى في التلاد ولم يقد ... هوى النفس شيء كاقتياد الطرائف
قوله: مرمى الصيد، موضعه نصب على الظرف، أي تعرضن لنا وبيننا وبينهن غلوة سهم، فعل المتعرض للصيد إذا أراد رميه. ويراد بالصيد المصيد، كما يراد بالخلق المخلوق. وقوله: ثم رميننا من النبل، يريد: ثم نظرن إلينا وعرضن محاسنهن علينا، وتلك نبالهن التي لا تخف فتعدل، ولا تخطف فتقصر. والخاطف من السهام: الذي يقع على الأرض ثم يحبو إلى الهدف كأنه يخطف من الأرض شيئاً. والطائش: الخفيف الذي لا يستقيم؛ ومنه الطيش والطياش، كأنه يرى لخفته عادلاً عن سواء السبيل. ومفعول رميننا الثاني محذوف كأنه قال: رميننا لا بالطائشات، ولكن بالصائبات الناقرات. والناقر: الذي ينقر الهدف.
وقوله ضعائف يقتلن الرجال بلا دم، يريد بلا ترة وذحل. والضعف الذي أشار إليه يريد في الخلقة والخلق، أي يقتلن الرجال وإن ضعفن عن جذابهم كيداً وفعلاً. ثم قال: يا عجباً لمن يقتل القوى على ضعفه. ويا عجباً يجوز أن يكون على طريق الندبة، ويكون منادى مفرداً ألحق به الألف ليمتد به الصوت، ويدل على فرط الشكو. ويجوز أن يكون منادى مضافاً ففر من الكسرة وبعدها ياء فانقلبت ألفاً. واللام من قوله للقاتلات هي التي تفسر بأنها لام العلة، كأنه علل تعجبه بقوله للقاتلات، فارتفع ضعائف على أنه خبر مبتدأ محذوف.
وقوله وللعين ملهى في التلاد، يريد أن للعين لهواً وراحة إذا نظرت في التلاد الرائق المعجب - والتلاد: ما قدم ملكه - ولم يجذب هوى النفس شيء كما يجذبه الطرائف، وهي المستحدثات، وهذا كما يقال: لكل جديدة لذة، وما أشبهه. وقاد واقتاد بمعنى واحد، والملهى كما يجوز أن يراد به الحدث، وهو اللهو، يجوز أن يراد به موضع الحدث ووقته.
وقال آخر:
لئن كان يهدي برد أنيابها العلى ... لأفقر مني إنني لفقير(1/913)
قوله يهدي يجوز أن يكون من الإهداء الإتحاف، ويجوز أن يكون من الهداء الزفاف. وقوله أنيابها العلي، يراد به الشريفة العالية الشأن. ويجوز أن يراد بالعلي الأعالي من الأسنان، لأنها موضع القبل. ويعني ببرد الأسنان عذوبة الرضاب عند المذاق. وقوله إنني لفقير، فعيل بناء المبالغة، ولا سيما إذا أطلق إطلاقاً، فلا يقال فقير إلى كذا وكذا فيخصص. والمعنى: إن كان يتربص بمتسق مضحكها، وواضح مقبلها، وطيب رضابها، وبراد أسنانها، لمن هو أفقر مني إليها، فإنني الفقير مطلقاً. والمعنى: لا غاية وراء فقري. ومما يجري مجرى فقير إذا أطلق، قولهم سقيم. ألا ترى قول الآخر:
لئن لبن المعزى بماء مويسل ... بغاني داء إنني لسقيم
يريد المتناهي في السقم حتى لا غاية وراءه. وأفقر، كأنه بني على فقر المرفوض في الاستعمال. وإنما قلت هذا لأن فقيراً كان حكمه أن يكون فعله على فقر، ولم يجيء منه إلا افتقر. وشرط فعل التعجب وما يتبعه من بناء التفضيل أن لا يجيء إلا من الثلاثي في الأكثر، وما كان علي أفعل خاصة، وإذا كان كذلك فأفقر لا يصح أن يكون مبنياً على افتقر ولكن على فقر؛ فهذا طريق. ولك أن تقول: بنى منه على حذف الزوائد، كما جاء: ريح لاقح والمراد ملقح، وما أشبهه.
فما أكثر الأخبار أن قد تزوجت ... فهل يأتيني بالطلاق بشير
قوله أن قد تزوجت، أراد: بأن قد تزوجت. وحذف الجار مع أن كثير، وموضعه من الإعراب مفعول من قوله الأخبار. والأخبار: جمع خبر، ووضع خبراً موضع الإخبار، كما يوضع الطاعة موضع الإطاعة، ثم عداه وهو مجموع، ومثله:
مواعيد عرقوب أخاه بيثرب
ألا تراه أنه انتصب أخاه عن جمع وهو مواعيد. ومعنى البيت: كثر في أفواه الناس الإخبار بتزوجها، واشتغالها ببعلها عن غيره، فهل يأتيني مبشر بتطليقها. وهذا ليس باستفهام وإنما هو تمن.(1/914)
وقال آخر:
يقر بعيني أن أرى رملة الغضى ... إذا ما بدت يوماً لعيني قلالها
ولست وإن أحببت من يسكن الغضى ... بأول راج حاجة لا ينالها
أضاف الرملة إلى الغضى تشهيراً لها. وقوله يقر بعيني، هذه الباء تزداد كثيراً مع أقر، والأصل يقر عيني، وزيدت الباء تأكيداً. تقول قرت عيني وأٌرها الله. وقوله أن أرى في موضع الفاعل ليقر، والمراد: إذا بدت يوماً لعيني قلاق الغضى - وهو جمع القلة وهي أعلى الجبل - فقره عيني في أن أرى رمالها أيضاً وبطحاواتها. ثم قال على طريق اليأس من ذلك: ولست بأول من رجا مؤملا. وائتمر مقدراً، ثم لم يحصل منهما على طائل. يريد: ولا غرو إن كنت أحببت سكان الغضى أن يكون هذا حالي معهم. كأنه كان بين أهل الغضى وبين قومه عداوة، أو حالة مانعة من المزاورة والمواصلة، فلذلك قال ما قال.
وقال آخر:
سلى البانة الغناء بالأجرع الذي ... به البان هل حييت أطلال دارك
وهل مت في أظلالهن عشية ... مقام أخي البأساء واخترت ذلك
ليهنك إمساكي بكفي على الحشا ... ورقراق عيني رهبة من زيالك
سلي، أصله اسألي فحذف الهمزة تخفيفاً وأبقيت حركتها على السين فصار اسلي، ثم استغنى عن همزة الوصل لتحرك ما بعدها فحذفت فصارت سلي. وهذا كما تقول في الأحمر إذا خففته: لحمر. ومن قال الحمر يقول: اسلى فيبقي ألف الوصل. ويروى: البانة الغيناء، والغناء: الملتفة الكثيرة الورق والأغصان، فإذا(1/915)
ضربتها الريح غنت. وهذا كما قال الآخر:
للثرى تحتها سبات وللما ... ء خرير وللغصون غناء
والأجرع من الأماكن: السهل المختلط بالرمل. والغيناء، هي العظيمة الواسعة، من قولهم غان عليه كذا إذا ستر، وبه سمى السحاب الغين. وإنما قال: الذي به البان، لأنه كان منبته. وهل حيا أطلاله تحية المتقرب إليها، والقاضي لوازمها، وهل قام في أظلال البان بها مقام الضرير البائس، والكسير الرزاح، تذللاً لها، وتلؤماً بها؛ وهل ذلك كله عن اختيار وقصد أو كما اتفق. ثم قال: ليهنك إمساكي، كأنه لما وقف على الدار وتذكر العهود فتصور له ما كان درس من آيات هواه، وتجدد ما أخلق منها، خشي على كبده التصدع فأمسك بكفه على حشاه، تثبيتاً لها وتقوية، وبكى فترقرق الدمع في عينيه ثم سال. فقال: هناك الله ذلك كله مني. وانتصب رهبة لأنه مفعول له. وهذا من باب التجلد في الهوى. والزيال: مصدر زايل. وفي هذه الطريقة قول الآخر:
يرفع يمناه إلى ربه ... يدعو وفوق الكبد اليسرى
وقال آخر:
تمتع بها ما ساعفتك ولا تكن ... عليك شجى في الصدر حين تبين
وإن هي أعطتك الليان فإنها ... لغيرك من خلانها ستلين
وإن حلفت لا ينقض النأي عهدها ... فليس لمخضوب البنان يمين
يصف النساء وأخلاقهن في الانقياد والتأبى إذا روودن، واستمالهن الوفاء من بعد غدرهن، ويوصي باستبقاء المقاربة معهن، وترك تدقيق محاسبتهن، والرضا بالميسور من مصافاتهن، فيقول: عليك في الاستمتاع بهن مدة انقيادهن لك، وإسعافهن بالمراد من جهتهن، لا يشجونك تنكرهن لك، وبينونتهن إذا عدلن عنك، وأعلم أن الواحدة منهن إذ لانت لك فهي بعرض أن تلين لغيرك، فلا تعتمد عليهن(1/916)
وإن حلفت لك أنها تفي وتيقي على عهدها معك، وأعلم أنه لا يمكين لمثلها يستوثق بها، أو يستنام إليها، وفي طريقته قول بشار:
لا يوئسنك من مخبأة ... قول تغلطه وغن جرحا
عسر النساء إلى مياسرة ... والصعب يمكن بعد ما جمحا
وقال العباس بن مرداس
قليلة لحم الناظرين يزبنها ... شباب ومخفوض من العيش بارد
أرادت لتنتاش الرواق فلم تقم ... إليه ولكن طأطأته الولائد
تناهى إلى لهو الحديث كأنها ... أخو سقطة قد أسلمته العوائد
الناظران: عرقان في مدمع العينين: يصفها بأنها ليست بجهمة الوجه، لكنها أسيلة الخدين، ويزينها شباب مقتبل، ورفاهة من العيش ودعة، ويقال: عيش خفض، وخفضت عيشه فهو مخفوض. والبارد: الثابت. ويقال: برد لي على فلان حق، أي ثبت.
وقوله أرادت لتنتاش الرواق، فالانتياش: التناول. يصفها بأنها مخدمة لا تبتذل نفسها في مهنة، ولا في عارض خدمة، حتى أنها إذا أرادت تناول رواق البيت - والرواق: ما مد مع البيت من ستارة - لم تترك والقيام إليه، ولكن قدمته الولائد، وأملنه لها حتى نظرت إلى ماوراءه، فإذا كانت في مثل هذا تودع وتكفي، فما هو أثقل منه أبعد من استعمالها فيه. والطأطأة: خفض الرأس وغيره عن الاشتراف. ويقال للفارس إذا ضبط فرسه بفخذيه ثم حركه للحضر: طأطأ فرسه. وقوله: تناهى إلى لهو الحديث أراد أنها تنصب من كل أحوالها إلى اللهو، وتنتهي إليه، إذ كان ما عدا اللهو قد كفيت، فهي منعمة لا تتعلل إلا باللعب والهزل، فكأنها عليل يترفرف عليه ويشفق، حتى يترك لا يهمه شيء، ولا يشغله شأن، يعني أنها في توفرها على الحديث والملاهي على نعمتها وكسلها، كذلك العليل في توفره على مقاساته ما به.(1/917)
آخر:
ولو أن ليلى الأخيلية سلمت ... على ودوني تربة وصفائح
لسلمت تسليم البشاشة أوزقا ... إليها صدى من داخل القبر صائح
واعبط من ليلى بمالا أناله ... ألا كل ما قرت به العين صالح
يقول: لو أن هذه المرأة سلمت علي وقدمت فحال بيني وبينها صفائح القبر، وثرى اللحد، لتسرعت إلى جوابها، وقابلت سلامها ببشاشة مني لها وطلاقة وجه، لتلقيها وإجابتها. فإن حصل منع دون المراد صاح إليها صدى لي من داخل قبري بدل جواب مني. وهذا على اعتقادهم كان، أن عظام الموتى تصير هاماً وأصداء. وقوله: وأغبط من ليلى، يقول: إني مرموق ومحسود منذ عرفت بلبلي وإن لم أنبل منها مطلوباً، ولا حصلت من الشقاء بها طائلاً. ثم قال: ألا كل مافرت به العين صالح، يريد أني قرير العين بأن أذكر بها وتعرف بي دون طلابها، وهذا القدر نافع وإن تجرد مما سواه.
وقال آخر:
فإن تمنعوا ليلى وحسن حديثها ... فلن تمنعوا مني البكا والقوافيا
فهلا منعتم إذ منعتم حديثها ... خيالاً يوافيني على النأي هاديا
يقول: إن حلتم بيني وبين ومنازعتها الكلام، والتأنس بحديثها، وحبس النفس على التزود منها ومن مغازلتها، فإنكم لا تقدرون على ما أنا بصده من البكاء لها وجداً فيها، ومن قرض الشعر في النسيب بها؛ وإذ قد منعتم حديثها والدنو منها، فهلا حبستم عني خيالاً عارفاً بالطريق على البعد بيني وبينها، حسن الاهتداء إلى حيث ذهبت عنها، يزورني في المنام فيطري من الشوق ما أخلق، ويعيد من الهوى مادرس. وهذا الكلام تحسير لهم، وتشهير بمكايدتهم، وتذكير بما يسوؤهم، وإعلام أن العهد بينهما مرعي، والهوى مما يقدح فيه من الجانبين(1/918)
محفوظ، بدلالة أنه لو استجفاها لامتنع خيالها، لزوال نومه، وذهاب هدوه. ألا ترى الآخر يقول:
وكان يزورني منه خيال ... فلما أن جفا منع الخيالا
وقال نصيب
كأن القلب ليلة قيل يغدى ... بليلى العامرية أو يراح
قطاة عزها شرك فباتت ... تجاذبه وقد علق الجناح
يقول: لما أحسست بالليلة التي رسمت بوقوع الفراق في صبيحتها، أو في وقت الرواح من غدها، وتصورت أن المتواعد به حق، والمتحدث به واقع، صار قلبي في الخفقان والاضطراب كقطاة وقعت في شرك يحبسها، فيقيت ليلتها تجاذبه والجناح علق لا متخلص له، نشب لا متنزع منه، وكمثل ذلك قلبي قلق في حشاه، غلق عند بلواه.
وارتفع قطاة على أنه خبر كأن، وعزها في موضع الصفة لقطاة، يريد غلبها. وانتصب ليلة على الظرف مما دل عليه كأن القلب من التشبيه، ولا يجوز أن يكون ظرفاً بقيل، لأنه بما بعده مضاف إليه، والمضاف إليه لا يعمل في المضاف. وقوله تجاذبه والمفاعلة تكون في الأكثر من اثنين، فلأنه جعل منع الشرك للقطاة من التخلص جذباً منه.
وقال أبو حية النميري
رمتني وستر الله بيني وبينها ... ونحن بأكناف الحجاز رميم(1/919)
فلو أنها لما رمتني رميتها ... ولكن عهدي بالنضال قديم
رميم: اسم المرأة، وارتفع لأنها فاعلة، وقد بنى على رمتني. وأراد بستر الله الإسلام. فيقول: نظرت إلى رميم، ى فكأنها رمتني بسهم، ونحن مقيمون بأكناف الحجاز، والإسلام حاجز بيني وبينها، يمنع من مغازلتها ومراودتها. ومثل قول الهذلي:
فليس كعهد الدار يا أم مالك ... ولكن أحاطت بالرقاب السلاسل
وعاد الفتى كالكهل ليس بقائل ... سوى الحق شيئاً واستراح العواذل
كنى عن الإسلام في منعه عن القبائح وأنواع الفحش والظلم بالسلاسل في الأغلال المحيطة بالأيدي والأعناق. وقوله فلو أنها لما رمتني رميتها، جواب لو محذوف، والمراد لو تعرضت لها وقابلتها في عرض محاسنها بمثل ما يكون للشبان بمنزلة الشفعاء عند النساء، لحق الأمر وكان القدر يجري إلى القدر، ولكني قد شخت وكبرت، فعهدي بمناضلة النساء قديم.
؟ وقال آخر:
أسجناً وقيداً واشتياقاً وعبرةً ... ونأى حبيب إن ذا لعظيم
وإن امرأ دامت مواثيق عهده ... على كل ما قاسيته لكريم
انتصب سجناً بإضمار فعل، كأنه قال: أتجمع علي حبساً وتقييداً، واشتياقاً إلى حبيب وبكاء، مع بعد بيني وبينه، إن ذلك أمر منكر فظيع، يتضايق نطاق الصبر عن احتماله والبقاء معه، وأشار بذا إلى اجتماع هذه الأشياء عليه، ونبه على عجزه في احتمالها لولا كرم عرقه، واستحكام عقده. ألا ترى أنه تحمد بحاله، واعتد على حبيبه بقاءه على العهد له. ودوام وده على اجتماع هذه الأحوال عليه، فقال: إن امرأ دامت مواثيق عهده، يريد: إن رجلاً ثبت على أولية شأنه، ومبادىء مواثيقه،(1/920)
مع ما يقاسيه من تزاحم هذه البلايا على قلبه، لكريم المهد، نببه الشأن، وثيق العقيدة.
ويروى: أسجن وقيد بالرفع، والمراد: أتجمع هذه الأشياء على طريق التفظيع والتهويل.
وقال آخر:
رعاك ضمان الله يا أم مالك ... ولله أن يشفيك أغنى وأوسع
يذكرنيك الخير والشر والذي ... أخاف وأرجو والذي أتوقع
أشار بقوله: ضمان الله إلى ما في القرآن من قوله تعالى: " أدعوني أستجب لكم "، فقال: أنا أدعو بأن يشفيك الله عز وجل يا أم مالك، وقد ضمن الإجابة للداعي فرعاك ضمانه. ثم قال: ولله بأن يشفيك، فحذف حرف الجر، والجار يحذف مع أن كثيراً، لأن حذفه حذفه أظهر غناء وأوسع قدرة. ونبه بهذا الكلام أنه في كلته الأمر إلى الله تعالى الغني القادر اعتمد على ما لا بد من وقوعه. وقوله يذكرنيك الخير والشر، يريد: أنه لا ينساها في شيء من الأحوال والأوقات، فما يتقلب فيه من خير باكر، أو شر طارق، فهو يذكره، وكذلك ما يخاف وقوعه أو يرجوه، ولم يصر منهما على يقين يذكره أيضاً، وكذلك ما صار منه على يقين، فهو يتوقعه، يذكر أيضاً. وإذا تأملت حوادث لدهر وجدتها لا تنقسم إلا إلى قسمته، لأنها لا تخلو من أن تكون محبوبة أو مكروهة، أو واقعة أو منتظرة، أو مخوفة أو مرجوة.
وقال الحكم الخضري
تساهم ثوباها ففي الدرع رادة ... وفي المرط لفاوان ردفهما عبل(1/921)
فوالله ما أدرى أزيدت ملاحة ... وحسناً إلى النسوان أم ليس لي عقل
معنى تساهم تقاسم، ولذلك قيل: سهمة فلان من هذا كذا، أي قسمته ونصيبه. ويجوز أن يكون أصله من السهام: القداح التي تجال بين الخصوم إذا تقارعوا ليستبد كل بما خرج له لقسمته وبدنه. وفي القرآن: " فساهم فكان من المدحضين "، فكأنه استعار - وإن كان أصله ما ذكرت - للتقاسم، إذ كان يفعل للقسم وما يشبهه لاغير، فيقول: انقسم جسم هذه المرأة بين درعها وإزارها، ففي درعها بدن ناعم وخصر دقيق، وفي مرطها فخذان غليظتان عليهما ردف ضخم. وقوله: فوالله ما أدرى، يريد: أن الحيرة قد ملكته في أمرها، لما يرى من ميل قلبه إليها، وشدة افتتانه بها، فهو لايدري أزيدت حسناً وملاحة على نساء الدنيا كلها، أم هو فائل الرأي في الإختيار، مخبول العقل في الإعتبار، ضعيف التبصر، في الإرتياد والتخير. والرادة والرؤدة: الناعمة. واللفاء: الكثيرة اللحم والعبل: الضخم، ومصدره العبالة.
آخر:
أروح ولم أحدث لليلى زيارة ... لبئس إذا راعى المودة والوصل
تراب لأهلي لا ولا نعمة لهم ... لشد إذاً ما قد تعبدني أهلي
كأن من صحبه من أهله استعجلوه عن زيارة ليلى، فيقول منكراً ومفظعاً: أروح من غير أن أقضى حفها، أو أجدد الإلمام بها، لبئس راعي المودة والمواصلة أنا. حذف المذموم ببئس لأن المراد مفهوم، ومثله في القرآن: " نعم العبد إنه أواب "، والمعنى: نعم العبد أيوب، فحذف الممودح بنعم، لكون المراد مفهوماً. وإذاً جواب وجزاء، وكأنه حشا به الكلام ليعلم أن ما يقوله جواب لما سيم. واللام من لبئس لام الابتداء، وارتفع راعى المودة به. وقوله تراب أهلي دعء عليهم، وتحقير لهم، واستخفاف بهم. وجاز الابتداء بقوله تراب وهو نكرة، لأن معنى الدعاء منه مفهوم. ومثله قوله:
فترب لأفواه الوشاة وجندل(1/922)
والمراد في الدعاء طلب الذل لهم.
وقوله: لا ولا نعمة لهم، يجوز أن يكون المنفي بلا الأولى حذف لما دل عليه الكلام، فكأنه قال: لأهله التراب لا عز لهم ولا نعمة. ويجوز أن يكون لا رداً لما عرضوا عليه. وهذا كما يقال للإنسان. افعل لفلان كذا وكذا، فيقول: لا ولا كرامة، أي لا أفعل ذلك ولا أكرم من يسومنيه. قوله: لشد إذاً ما قد تعبدني أهلي، تعبده واستعبده بمهنى واحد، أي استذله، ولشد ما، هو كما يقال: لعز ما. والمعنى الإنكار فيما عرض عليه ودعي إليه، وأنهم تجاوزوا كل حد في امتهانه حين عرضوا عليه مثل ذلك. وهذا الكلام مشتمل على الخلاف وقلة الاحتفال. ويجوز أن يجري شد ما، مجرى نعم وبئس.
وقال أو دهبل الجمحي
أأترك ليلى ليس بيني وبينها ... سوى ليلة إني إذا لصبور
قوله: أأترك، لفظه الاستفهام والمعنى معنى الإنكار، كأنه أنكر من نفسه أن يترك التعريج على ليلى وبينهما مسيرة ليلة، فقال: أأخل بزيارتها وأداء واجبها مع قرب المسافة بيني وبينها؟ إني إذاً لمتناه في الصبر عن الأحباب، كسول عن البر بذوي الأذمة والأسباب. وإنما قال هذا باعثاً لصحبه على مساعدته، وطالباً منهم تمكينه من من مراده. لذلك قال:
هبوني امرأ منكم أضل بعيره ... له ذمةإن الدمام كبير
وللصاحب المتروك أعظم حرمة ... على صاحب من أن يضل بعير
عفا الله عن ليلى الغداة فإنها ... إذا وليت حكماً على تجور
قوله هبوني، معناه احسبوني واجعلوني، وهو يتعدى إلى مفعولين. وحكى ابن الأعرابي: وهبني الله فداءك بمعنى جعلني فداءك. وقوله أضبل بعيره، يقال(1/923)
في الشيء الزائل عن مكانه إذا فقد: أضللته، فإن ثبت في مكانه ولم يهتد إليه قيل: ضللته. وقوله: إن الذمام كبير، كالتفات، وقوله: أضل بعيره في موضع الصفة لامرأ، وكذلك له ذمة صفة أخرى. ومعنى منكم من خاصتكم وبطانتكم، وهو يفيد معنى الوصف أيضاً، والمعنى: أجروني مجرى رجل منكم ند له بعير، وله ذمام الصحبة والنسب والقرابة، فإن للذمام حقه، وحرمه المرافقة كبيرة، ودعوني أقض من حق ليلى واجبه، ولا تستعجلوني في ذلك ولا تمنعوني عنه، ثنم قال: فإنكم إذا تركتموني ولم توفروني على ماأهم به فيما يختص بي لها، كنتم وتركتم رفيقاً لكم وضيعتموه أشد ما كان حاجة إليكم، والرفيق أعظم حرمة في صاحبه المتروك من ضلال بعير. يريد: وإذا عد ترك الاستبناء بمن أراد نشدان ضالته، تجوزا في المحافظة، وتعديا في حكم المرافقة كان مثل ذلك إذا فعل مع من يروم تجديد العهد بروحه، والاستبقاء على لبه، أعظم في الجناية، وأقبح في الأحدوثة.
وقوله: عفا الله عن ليلى الغدة، تشك وتألم من سوء معاملتها وأنها متى حكمت فيه وفيما يتعلق به جارت ولم تنصف. وهذا الكلام منه إيذان بأنها تستعظم الصغير إذا وقع منه، بل تعده كبيرة وتغلظ العقوبة عليها، والمؤاخذة بها.
وقال آخر:
أآخر شيء أنت في كل هجعة ... وأول شيء أنت عند هبوبي
مزيدك عندي أن أقيك من الردى ... وود كماء المزن غير مشوب
قوله: في كل هجعة، العامل فيه أآخر، وكذلك عند هبوبي العامل فيه أول شيء. يقول: لا أخلو من ذكراك ساعة؛ لأني إن نمت كان خيالكسميري مدة هجوعي، وإن أوقظت كنت لزيم ذكراك مدة يقظتي، فأنت في النوم آخر شيء لي، ولا فاصل بين الحالين. ثم قال: والذي يزيدك من عندي ألا أشهر بك، ولا أبوح بسرك، ولا أعلن النسيب بإسمك، إذ كان في جمعية تنفيرك، وتعريضك للردى: فضيحتك، فأنا أقيك من ذلك، وأنا أصفي لك الود حتى لا يشركك في قلبي أحد، فيصير ثاوي الود مشوباً، وصافي الهوى مكدراً ويجوز أن يكون المراد: مزيدك عندي أن أدعو الله تعالى بالصيانة لك، وتوفير الحياطة عليك من كل ما تكرهينه، أو يؤدي إلى شينك فيما ترومينه.(1/924)
والذي يشهد لقوله من الردى وأن المراد به الفضيحة قول امرىء القيس:
صرفت الهوى عنهن من خشية الردى ... ولست بمقلي الخلال ولا قال
ألا ترى أنه كان ملكاً لا يخاف معارضاً له فيما يتعاطى من اللهو، ويختاره من الصبا والبطالة مع من كان وفيمن اتفق، فكيف ما يتعداه من طلب الغوائل له، لكنه عند انتشار الحديث فيه، وقيام الناس وقعودهم يذكره هلاكاً وعطباً. وقوله أن أقيك في موضع خبر المبتدأ وهو مزيدك، وانعطف عليه قوله وود كماء المزن.
وقال آخر:
ما أتصف ذلفاء أما دنوها ... فهجر وأما نأيها فيشوق
تباعد ممن واصلت فكأنها ... لآخر ممن لا تود صديق
يقول: جارت هذه المرأة علي في حكم الهوى ولم تنصف، لأني إن طلبت التداني منها هجرتني واطرحتني، وإن رمت التنائي منها شوقتني وهاجتني، وإذا كانت من مواصلها متباعدة، ولموادها مهاجرة، فكأنها تصادق معاديها، وتخالص منابذها من دون مواصلها ومقاربها، وهذ عجب من مثلها. وقوله أما دنوها فهجر، المعنىى في دنوها فتهجر. ألا ترى أنه قال وأما نأيها فيشوق، كأنه: وأما في نأيها فتشوق. إلا أنه جعل فعلها منسوباًإلى دنوها ونأيها.
وقال عبد الرحمن الزهري
ولما نزلنا منزلاً طله الندى ... أنيقاً وبستاناً من النور حاليا
أجد لنا طيب المكان وحسنه ... منى فتمنينا فكنت الأمانيا
جواب لما قوله أجد لنا. فيقول: لما خرجنا إلى ظاهر محالنا متنزهين، ونزلنا موضعاً رياضه ركبها الطل بالليل، فتناثر عنها القطر بالغدوات، ونباته شرقت(1/925)
بالري بعد الشمس، وضاحكت الشمس بعد الشروق؛ وبساتين تحلت بالأزاهير، وتحفت من بركة الله بآثار الصنع، دعتنا نفوسنا إلى أن نتذكر لطيب المكان، ومساعدة الوقت والزمان، ما يكمل به السرور، ونتمنى ما إليه تتناهى في الاقتراح العيون والقلوب، فوجدنا الأماني كلها لا تتعلق إلا بك، ولا تحوم فيما تجال فيه وتراود عنه إلا عليك، ذهاباً فيك وشعفاً بك.
ويقال: طلت الأرض فهي مطلولة. والأنيق: المعجب. ويقال: حلي بكذا، وتحلى بكذا.
وقال معدان بن مضرب
إن كان ما بلغت عني فلامتني ... صديقي وشلت من يدي الأنامل
وكفنت وحدي منذراً في ردائه ... وصادف حوطاً من أعادي قاتل
قد مضى تفسيره في باب الحماسة.
وقال آخر:
صفا ود ليلى ما صفا لم نطع به ... عدواً ولم نسمع به قيل صاحب
فلما تولى ود ليلى لجانب ... وقوم تولينا لقوم وجانب
وكل خليل بعد ليلى يخافني ... على الغدر أو يرضى بود مقارب
سلك في هذا مسلك ذي الرمة حين قال:
فيا مي هل يجزى بكاي بمثله ... مراراً وأنفاسي إليك الزوافر
وقد زيف النقاد هذا وقالوا: ذو الهوى لا يستدعي ممن يهواه المكافأة على ما يتحمله فيه، وقد عاب ابن أبي عتيق على كثير قوله:
ولست براض من خليلي بنائل ... قليل ولا راض له بقليل
وقال: هذا كلام مكاف لا كلام محب. فقوله ود ليلى، يجوز أن يكون الود مضافاً إلى المفعول، والمراد ودنا لليلى، فينتصب موضع قولهما صفا، لكون(1/926)
ظرفاً، والمعنى: صفا ودنا لليلى مدة بقائه خالصاً مما يشوبه ويفسده من طاعة عدو لها، وإصغاء إلى قيل ناصح يتنصح فيها. ويجوز أن يكون المراد: صفا ودنا لليلى مدة صفاء ودها لنا، فحميناه من قدح الأعداء فيه والإصغاء إلى قيل اللائمين وعتبهم له. ويدل على هذا التفسير قوله من بعد:
فلما تولى ود ليلى لجانب ... وقوم تولينا لقوم وجانب
فإن قيل: كيف زعمت أن المعنى ما صفا ودها لنا، وقد ذكرت أن الود مضاف إلى المفعول؟ قلت: إن المضمر في الثاني هو ود ليلى، والمصدر كما يضاف إلى المفعول يضاف إلى الفاعل أيضاً، واللفظ لفظ واحد. وإذا كان كذلك صلح أن ينوي في قوله ما صفا عود الضمير إلى ود ليلى، ويكون ليلى فاعلة لأن اللفظ ذلك اللفظ، فيكون التقدير: صفا ود ليلى ما صفا ود ليلى. والمعنى: صفا ودنا لليلى ما صفا ودها لنا، أي صافيناها ما دامت تصافينا. ويجوز أن يكون ود ليلى أضاف الود إلى ليلى، وهي الفاعلة، لكنه حذف لمضاف وأقام المضاف إليه مقامه، والمراد: صفا جزاء ود ليلى منا ما صفا هو في نفسه لنا. وقد روى: لم تطع بها عدواً فيعود الضمير إليها، وكذلك ولم نسمع بها. وإذا رويت به يعود الضمير إلى الود. وقوله: فلما تولى ود ليلى، يرد: ود ليلى لنا. والمعنى: لما مالت إلى جنبة غير جنبتي، وقوم غير قومي، نفضت يدي من الاعتماد عليها، وأخليت قلبي من هواها، وصرفت نفسي إلى جنبة أخرى غير جنبتها، وطائفة أخرى غير طائفتها، لأني كما أصل أقطع، وكما أخالط أزايل، ولست ممن يقتل نفسه في إثر من لا يريدني إذا تولى عني. وقوله تولى، يجوز أن يكون من التولي الإعراض والذهاب، ويجوز أن يكون من الولاء والطاعة.
وقوله: وكل خليل بعد ليلى يخافني، يريد أن الناس لما رأوا ولوعي بليلى، وصفاء عقيدتي في الميل إليها والبقاء على العهد معها، ثم رأوا بعده انصرافي عنها في أقرب المدد، ولأدنى السبب، صار كل خليلي فيما بيني وبينه يخافني على الغدر. ويتهمني في الود، فلا يطلب مني التناهي فيما يجمعني وإياه، خوفاً من الإعراض عنه، أو يرضى معي ومن جهتي بود قريب لا سرف فيه ولا اشتطاط.(1/927)
وقال آخر:
ألا ليت شعري هل أبيتن ليلة ... وذكرك لا يسري إلي كما يسري
وهل يدع الواشون إفساد بيننا ... وحفرا لنا العاثور من حيث لا ندري
هذا كلام متبرم بالهوى، مستقيل من الوشاة وإفسادهم، متفاد من تحريشهم وألبهم، متمن أن تنقطع أسباب الهوى، وتنقلع أغراس الود.
وقوله " ليت شعري " موضع شعري نصب لأنه اسم ليت. وقوله " هل أبيتن ليلةً " سد مسد مفعولي شعري، لأن معناه علمي، وبتعدي تعديه، وخبر ليت مضمر لايظهر. والتقدير: ليت علمي واقع، وما يجري مجراه والمعنى: أتمنى أن أعلم هل أبقى أنا ليلةً من ليالي الدهر وخيالك لايسري الساعة، وهل أرى نفسي سليمةً من رمي الوشاة وطلبهم إفساد ما بين وبينك، وحفر المغواة لنا إذا غبنا عنهم من حيث لانشعر ولاندري فنتقيه ونحذره. فإن قيل: كيف جاز أن يكنى عن الخيال بالذكر حتى قال: " وذكراك لايسري إلي "؟ قلت: إن الخيال في المنام لايكون إلا عن التذكر في اليقظة، يشهد لذلك قول أبي تمام الطائي.
نم فما زارك الخيال ولكن ... ك بالفكر زرت طيف الخيال
وهذا ظاهر وعليه مباني وصف الخيال.
والعائور: مصيدة للبهائم، ويجعل اسماً للمتالف، وهو فاعول من العثار والعثور، وكذلك استعير للنقص في الحسب، لأن صاحبه يعثر به عن غاية السابق. وانتصب قوله " العاثور " من المصدر المنون وهو حفراً، وأقوى ما يكون المصدر في العمل إذا كان منوناً، إذ كان شبه الفعل فيه أقوى. وقال بعض أصحاب المعاني: إنما يتمنى أن يملكها على حد يسقط تسوق المفسدين فيه، ويأمن التبعة معه، ويرتفع العشق والهوى من بينهما.
آخر:
إن كان هذا منك حقاً فإنني ... مداوى الذي بيني وبينك بالهجر
ومنصرف عنك انصراف ابن حرة ... طوى وده والطى أبقى من النشر(1/928)
يقول: إن كان هذا الذي يظهر منك موافقاً لما يبطن، وهذا الإعراض عن جفاء وقلىً لادلال وهوى، فإني سأداوي ما بيني وبينك بالتهاجر، وقاعد عنك قعود حر لايصبر على الجفاء والتدابر، ولايرضي من وديده بالمماذقة دون الصفاء، فأطوي ودي معه وأصونه عن النشر، لأن الطي أوقى فيه، وصيانته عن الإبتذال أوعى له.
وإنما قال: ابن حرة، والقصد إلى الكريم من الرجال، الذي يصون نفسه ونفس صاحبه فلا يوحش مع التهاجر، ولا يفحش على التنكر والتباغض، لكنه يلزم المجاملة والمساترة في كل حال، لأن الأم إذا كانت متملكة تبعها الولد في الرق، فيحصل الرق والهجنة معاً، ومتى كانت حرة لم يتبع الولد أباه في الرق وإن كان عبداً مملوكاً، ولكنه يكون هجيناً غير عربي خالص.
آخر:
وفي الجيرة الغادين من بطن وجرة ... غزال كحيل المقلتين ربيب
فلا تحسبي أن الغريب الذي نأى ... ولكن من تنأين عنه غريب
كان شعبا الشاعر وصديقته مجتمعين ببطن وجرة زماناً، فوقعت الألفة بينهما ثم افترقوا، فقال متأسفاً في إثرها، ومتلهفاً لما فاته من الاجتماع بينهما: وفي الخلطاء الباكرين من هذا المكان امرأة كأنها غزال مكحل العينين مريب في البيوت، منعم بالاقتناء، ملك قلبي. ثم قال مخاطباً لها: لا تظني أن الغريب من بعد عن سكنه، ونأى عن إلفه ووطنه، ولكن الغريب هو من تبعدين عنه وفي يدك قياده، فعلى البعد تجذبينه، ومن مراده تمنعينه، وقد ضاق عنه مكانه حتى صار فيه كمن نأى عن أهله، وحصل في غير أرضه ومنزله.
وقال آخر:
بنفسي وأهلي من إذا عرضوا له ... ببعض الأذى لم يدر كيف يجيب
ولم يعتذر عذر البريء ولم تزل ... به سكتة حتى يقال مريب(1/929)
تعلق الباء من قوله " بنفسي " بفعل مضمر، كأنه قال: أفدي بنفسي وعشيرتي إنساناً - ويعني به محبوبه - إذا اجتمع عليه اللوام، وتصرفوا في فنون الغض منه والعتب عليه، فآذوا قلبه وضيقوا صدره، ارتبك في الجواب وحار، ولم يدر لغرارته بماذا يجيب، ولسوء اهتدائه بوجود الحيل كيف يتخلص، فلا عذره عذر من لا جناية له، ولاسكوته سكوت من لااحتفال بهم معه، فهو في إطراقه وخفوته إذا قضيتم نفذت فيه بأنه مريب، مرتكب، ولما رمى به مكتسب، استدلالاً بسكوته على الذنب، وبإمساكه عن إقامة المعاذير على صحة القرف.
وقال آخر:
أرى كل أرض دمنتها، وإن مضت ... لها حجج، يزداد طيباً ترابها
ألم تعلمن يا رب أن رب دعوة ... دعوتك فيها مخلصاً لو أجابها
يقول: أرى كل مكان أقامت فيه هذه المرأة زمناً فأثرت فيه أثراً يزداد على استمرار السنين والأحقاب ترابه طيباً، وإن لم يكن لإقامتها أوان ممتد وزمان متصل، فقوله " يزداد " في موضع المفعول الثاني لأرى. ودمنتها: فعل مبني من الدمنة: أثر الدار وما سود بالرماد وغيره، فكأن معنى دمنتها أثرت فيها بالإقامة. وانتصب " طيبا " على التمييز، وقد نقل الفعل عنه لأن الأصل يزداد طيب ترابها، فجعل الفعل للتراب فأشبه " طيباً " المفعول. وعلى هذا: قررت به عيناً. فإن قيل: هل في هذا دلالة على صحة قول المخالف لسيبويه في جواز تقديم التمييز إذا كان العامل فيه فعلاً، وهل يفصل بين هذا البيت وبين ما استدلوا به من قول الآخر:
وما كان نفساً بالفراق تطيب
قلت: لادلالة في هذا الذي نحن فيه وإن كان البيت الذي أوردته أمكن التعلق به، حتى ذكر أصحاب سيبويه أن الرواية على غيره، وهو:
وما كان نفسي بالفراق تطيب(1/930)
وذلك أن " طيباً " لم يقدم على العامل وهوالفعل، وإنما قدم على ما صار فاعلا، وإذا كان كذلك لم يصح الاحتجاج به له، لأن الموضع المختلف فيه هو جواز تقدمه على العامل فيه وامتناعه منه لاغير، فأما مادام واقعاً بعد الفعل فلا مستدل به على موضع الخلاف.
وقوله " ألم تعلمن يا رب أن رب دعوة "، أن مخففة من أن الثقيلة، والتقدير: أنه رب دعوة. وفي رب لغات: إحداها التخفيف. وكأنه يتضرع في هذا الكلام إلى خالقه ومن يستغيث به فيما يقاسيه، ويقرر في الدعاء عليه أنه قد ضمن الاستجابة في قوله تعالى: " ادعوني استجب لكم " فقال: إنك تعلم يا رب أني قد أخلصت دعاءك في أوقات كثيرة لطلبتي لو اقترن بالدعاء إجابة وإسعاف، وضمانك الأصح الأوفى، فاستجب. وفيه أيضاً ما يجري مجرى الاستزادة إذا توجه إلى غيره تعالى. وانتصب " مخلصاً " على الحال. وقوله " لو أجابها " يريد به لو أجاب فيها.
وأقسم لو أني أرى نسباً لها ... ذئاب الفلا حبت إلى ذئابها
لعمر أبي ليلى لئن هي أصبحت ... بوادي القرى ما ضر غيري اغترابها
قوله " أقسم " جملة تنوب عن اليمين، والجواب " حبت إلى ذئابها " متعلقاً بالشرط المذكور، وهو أن تكون مناسبة. وجواب لو هو ما صار جواباً لليمين، وكذا يقع الشرط والجزاء بعدها، تقول: والله لئن جئتني لأكرمنك ويروى: " حبت " بفتح الحاء والأصل حببت، وفعل في المضعف قليل. ويروى " حبت " بضم الحاء، وهو بناء لما لم يسم فاعله. ويقال: حببته فهو محبوب، لغة في أحببته.
وقوله " لعمر أبي ليلى " إقسامه بأبيها تعظيم لها، وتنبيه على محله من قلبه، وأنه إلى من يجمعه وإياها علقة وإن ضعفت، فكيف أبوها والمختص بها. وفي هذا زيادة على ما قاله الآخر، وهو:
ومن بينات الحب أن كان أهلها ... أحب إلى قلبي وعيني من أهلي
واللام من " لئن " موطئة للقسم، وجواب القسم ما ضر، والمعنى: إن عادت هذه المرأة إلى موضعها من وادي القرى لم يضر غير ي البعد منها، والاغتراب عنها. وقوله " اغترابها " يريد اغترابي عنها، ويجوز أن يريد تباعدها(1/931)
وقال آخر:
لعمرك ما ميعاد عينيك والبكا ... بداراء إلا أن تهب جنوب
أعاشر في داراء من لا أحبه ... وبالرمل مهجور إلى حبيب
إذا هب علوي الرياح وجدتني ... كأني لعلوي الرياح نسيب
يقول: وبقائك ما الموعد بين البكاء وأنت بداراء إلا عند هبوب الجنوب، وإنما قال هذا لأن الجنوب كان مهها من أرض صاحبته، فعلى هذا التأويل يكون " والبكا " في موضع الجر عطفاً على عينيك. ولا يمتنع أن يكون المراد. ما ميعاد عينيك مع البكا بهذا المكان إلا إذا هبت الجنوب؛ فيكون مفعولاً معه. ولإنما قال ذلك لأنها تهدي إليه أريجتها، أو يعتقد أنها رسولها، فتجدد ذكراها، وتطري الوجد بها، فيبكي شوقاً إليها. وقال الخليل: الميعاد لايكون إلا وقتاً أو موضعاً. وإذا كان كذلك فالميعاد مبتدأ وخبره أن تهب، والمراد وقت هبوبها، حتى يكون الآخر هو الأول، إلا أنه حذف المضاف.
وقوله " أعاشر في داراء من لا أوده " شكو من الدهر حين جمع بينه في داراء وبين من لاهوى له معه، وفرق بينه وبين محبوبه فجعله بالرمل.
وقوله " إذا هب علوي الرياح " يريد: إذا هبت الريح من نحو عالية نجد، فكأني يجمعني وإياها نسب، لاهتزازي لها، وارتياحي لهبوبها، فأنا أنتظرها ترقب المسافر وقد دنا موافاته.
آخر:
هل الخب إلا زفرة بعد زفرة ... وحر على الأحشاء ليس له برد
وفيض دموع العين يا مي كلما ... بدا علم من أرضكم لم يكن يبدو
الاستفهام هنا في معنى النفي، كأنه حاجته صاحبته أو إنسان لائم أو غيرهما، فيما يدعيه من الحب، فقال راداً عليه حين كذبه في دعواه: ما الحب إلا تتابع الزفرات تحسرا، والتهاب توجدفي الحشا لايتعقبه ابتراد، وسيلان دمع من العين لا(1/932)
يرقئه انقطاع، في كل وقت ظهر في مرأى العين له جبل من أعلام ارضكم لم يكن يبدو من قبل، وجميع ذلك أعتاده من نفسي، ويدركه من يتأمل حالي، وتصدقه المشاهدة مني.
وقال ابن ميادة
كأن فؤادي في يد ضبئت به ... محاذرةً أن يقضب الحبل قاضيه
وأشفق من وشك الفراق وإنني ... أظن لمحمول عليه فراكبه
الضبث: القبض على الشيء؛ ومنه ناقة ضبوث، أي لايشك في سمنها إذا ضبث على سنامها. وانتصب " محاذرة " لأنه مفعول له، وموضع " أن يقضب " نصب من محاذرةً. فيقول: كأن قلبي يعصر بقبض قابض عليه، لخوفي من أن يقطع الوصل قاطعه من البين، ومع ذلك أخاف من وقوعه سريعاً لقوة الأمارات، وتتابع المحذرات المنذرات. وإنما قال " أظن لمحمول عليه، والظن بمعنى اليقين، فهو مثل قوله تعالى: " الذين يظنون أنهم ملاقوا ربهم ". وقوله " لمحمول عليه " إيذان بأنه ليس يقع عن اتفاق معه أو مشاركة في تدبيره. وأظن مقعوله الأول، والثاني مستدل عليه، لأن المراد ذلك في ظني أو علمي، فهو ملغىً. والقضب: القطع، ومنه سيف مقضب وقضاب. ووشك الفراق: سرعة القطيعة. ويقال أوشك هذا أن يكون، أي أسرع.
فوالله ما أدري أيغلبني الهوى ... إذا جد البين أم أنا غالبه
فإن أستطيع أغلب وإن يغلب الهوى ... فمثل الذي لاقيت يغلب صاحبه
يقول: شارفت فراق الأحبة بالدلائل اللائحة، وأحلف بالله ما أعلم من حالي إذا وقع، أأجزع أم أصبر.
وقوله " إذا جد جد البين " يجوز أن يكون المراد: إذا ازداد جده جداً، كأنه يظهر من جلية أمره ما يزول اللبس والشبهة معه. ويجوز أن يريد: إذا صار هزله جداً، فسماه بما يؤول إليه، كما يقال: خرجت خوارجه، وريع روعه. والمراد أنه(1/933)
التبس عليه إذا باغته الفراق حاله معه، فلا يدري أي الأمرين يقع: أيغلبه الهوى فيسلبه التجمل، ويلبسه التهتك، أم يغلب بدوام مسكته وكمال تثبته الهوى فيستمر حال السلامة به. ثم قال كالمتسلي والمنقاد لخاتمة الكائنة: فإن أطقت وكان في مقدوري - إذا اجتهدت - غلب الهوى فهو المراد؛ وإن جرى القدر بخلافه فمثل ما أقاسيه يغلب معانيه، ويجتذبه إلى ما يكرهه، وعذره لائح.
وقال آخر:
فيا أهل ليلى أكثر الله فيكم ... من أمثالها حتى تجودوا بها ليا
فمامس جنبي الأرض إلا ذكرتها ... وإلا وجدت ريحها في ثيابيا
بنى الكلام على أن عشيرتها والمالكين أمرها إنما ضنوا بها لأنها معدومة النظير فيهم، وأقبل يستعطفهم ويدعو لهم بأن يكثر الله أمثالها وأشباهها فيهم، حتى يتركوا المنافسة، وتحتمل قلوبهم الجود له بها. وقوله فما مس جنبي الأرض إلا ذكرتها يريد: ما اضجعت للمنام خالياً بنفسي إلا امتنع النوم فقام ذكرها مقام خيالها، ثم صرت من الشوق والتحفي أتصورها معي، وأجد رائحتها في ثيابي. وهذا المعنى هو مخالف لمعنى الأنس بالخيال.
وقال آخر:
تقول العدى لا بارك الله في العدى ... قد أقصر عن ليلى ورثت وسائله
ولو أصبحت ليلى تدب على العصا ... لكان هوى ليلى حديثاً أوائله
يروى: وارثت وسائله. المراد بالعدى الوشاة المفسدون. وأصل البركة الثبات مقترناً بالنماء ومنه مبرك الإبل، وبراكاء القتال. ويقال: أقصر عن الشيء، إذا كف عنه وهو يقدر عليه؛ وقصر عنه، إذا عجز؛ وقصر، إذا فرط. يقول: ادعى الوشاة أني قد كففت عن ليلى وزال ولوعي بها، وأن وسائلي لديها قد أخلقت وتقطعت، فلا بارك الله فيهم فإنهم ادعوا باطلاً، واختلفوا إفكاً، ومرادهم إفساد قلبها علي، وصرفها عن الإنطواء على الجميل لي وفي. ثم ذكر ما دل به على بقائه على العهد، واستمراره في(1/934)
عمارة الود، وعلى بطلان قولهم فيما صنفوه، وبهتهم وتمويههم فيما نسبوه إليه ووضعوه، فقال: لو شاخت ليلى حتى يصير مشيها دبيباً وهي متوكئة على عكاز، لكان هواها في قلبي جديداً أوائله، شديداً أركانه وقواعده.
وقال حفص بن عليم
أقول لحلمي لا تزعني عن الصبا ... وللشيب لا تذعر علي الغوانيا
طلبت الهوى الغوري حتى بلغته ... وسيرت في نجديه ما كفانيا
يصف انهماكه في البطالة، وتماديه في الغواية، والتذاذه للصبا واللهو والخسارة فقال: أقول لحلمي: تباطأ عني، ولا تعاجلني فتكفني عما أهواه وقصرت شغلي عليه؛ وللشيب: تراخ ولا تبادر فتروع النساء وتنفر. وهذا الكلام وإن كان ظاهره تلطفاً وسؤالاً فإنه يجري مجرى التمني في استدامة ما كان يشتهيه، ويوزع به.
وقوله طلبت الهوى الغوري يريد: تفننت في الهوى فأنجد بي طوراً، وغار بي طوراً، إلى أن تناهيت، وبلغت أقصى الغايات فوقفت. وموضع ما من قوله ما كفانيا نصب على المصدر من سيرت، يريد: سيرت في نجديه سيراً كفانيا. ومعنى سيرت أكثرت السير وكررته. والغواني من النساء: اللاتي تستغني بجمالها عن التحلي. وقيل: الغانية: التي تستغني بزوجها عن الرجال.
فيارب إن لم تقضها لي فلا تدع ... قذور لهم واقبض قذور كما هيا
وياليت أن الله إن لم ألاقها ... قضى بين كل اثنين ألا تلاقيا
البيت الأول دل به على ضيق صدره بحاله، وشدة ضنه بصاحبته، فدعا ربه أن يقبض قذور إليه إن لم يقدر بينهما مرافأة والتحاماً، ويتوفاها بالموت ليأمن أن يملك أمرها غيره. وهذا يدل على شدة غيرة فيه، ومضايقة للناس كافة في شيء يتمناه ثم يقصر عنه. فأما قوله كما هي فموضعه من الإعراب نصب على الحال، وما من قوله كما، يجوز أن يكون بمعنى الذي ويكون هي خبراً لمبتدأ محذوف، كأنه قال: كالذي هو هي. ويجوز أن يكون ما كافة الكاف عن عمل الجر ويكون هي في موضع المبتدأ والخبر محذوف، والمعنى: أقبضها كما هي عليه.(1/935)
والبيت الثاني وهو ياليت أن الله إن لم ألاقها، دل به على حسد شديد منه، وقلة رضا بمساعدة القدر في شيء يجرم المشاركة فيه. وقوله ياليت يريد: يا قوم ليت، والمنادى محذوف، والكلام بعده تمن في ألا يحصل الاجتماع بين متحابين إن لم يرزق مثله في صديقه. وقوله ألا تلاقيا أن فيه مخففة من الثقيلة، والمعنى أنه لا نلاقي لنا، فخبر لا محذوف، والجملة في موضع خبر أن، والضمير المقدر ضمير الأمر والشأن، وخبر أن الله قضى وقد حصل في الجملة جواب الشرط، وهو إن لم ألاقها، وخبر ليت.
وقال آخر:
وقفت لليلى بالملا بعد حقبة ... بمنزلة فانهلت العين تدمع
وأتبع ليلى حيث سارت وودعت ... وما الناس إلا آلف ومودع
كأن زماماً في الفؤاد معلقاً ... تقود به حيث استمرت فأتبع
يقول: وقفت من أجل ليلى ومن أجل منازلاً بالملا، بعد زمان ممتد، ودهر متصل، فتجدد لي من الوجد ما هيج لي بكاء، وطرى لي عهوداً فإني أسير هواها، وتبيع البلوى فيها، فقلبي معها حيث ظعنت وأقامت. وقوله ودعت معناه تودعت. ثم قال: وما الناس إلا آلف ومودع يريد: أن الناس من بين آلف لها لكونه مسافراً معها ومرافقاً لها في طريقها، أو منصرف عنها بعد توديعها وتشييعها، وأنا على خلافهم كلهم، لأني ملازمها في كل حال.
وقد كشف عن هذا الغرض بما بينه في قوله:
كأن زماماً في الفؤاد معلقاً ... تقود به حيث استمرت فأتبع
يريد طاعة قبله وانقياده لها. ومثل ودعت ومودع يسمى التجنيس الناقص.
وقال ورد الجعدي
خليلي عوجاً بارك الله فيكما ... وإن لم تكن هند لرضكما قصداً(1/936)
وقولا لها ليس الضلال أجارنا ... ولكننا جرنا لنلقاكم عمدا
يخاطب خليلين له متلطفاً لهما، وسائلاً تعويجها على ديار هند وإن لم تكن مسامته لقصدهما، وأن يبلغاها إذا التقيا معها أنا تعمدنا زيارتك طلياص لقضاء ذمامك، وتجديداً للعهد بك، ولم يكن العدول إليك عن ضلال ملك قيادنا، وصرفنا عن وجه رشادنا، ليقع الاعتداد منها بتحرينا وفعلنا.
وقال:
وما في الخلق أشقى من محب ... وإن وجد الهوى حلو المذاق
تراه باكياُ في كل حين ... مخافة فرقة أو لاشتياق
فيبكي إن نأوا شوقاً إليهم ... ويبكي إن دنوا خوف الفراق
فتسخن عينه عند التنائي ... وتسخن عينه عند التلاقي
وفي هذه الأبيات حق القسمة، وأقام شرط المقسوم على حده المألوف من التجربة. فيقول: ليس فمن خلقه الله من البشر أو في شقاء، وأعظم بلاء من المحب، وإن استحلى ذواق الحب واستلان جسه، إذ كنت تجده كل وقت متألماً من حاله، ضجراً بعيشه؛ ذلك أنه لا يخلو من إحدى حالتين: إما أن يكون مجتمعاً مع محبوبه فيخاف الافتراق، أو يكون بعيداً منه فيكده الاشتياق، ولا حالة ثالثة للاجتماع والافتراق، وهو سخين العين في كل منهما، قليل التودع فيعقبهما. وقوله وإن وجد الهوى جواب الشرط منه في قوله ما في الخلق أشقى من محب. وقوله شوقاً إليهم انتصب على أنه مفعول له وكذلك قوله خوف الفراق ومخافة فرقة. ألا ترى أنه عطف عليه أو الاشتياق فجعل حرف الجر فيه اللام.
وقال ابن الطثرية
عقيلية أما ملاث إزارها ... فدعص وأما خصرها فبتيل(1/937)
تقيظ أكناف الحمى وبظلها ... بنعمان من وادي الأراك مقيل
الملاث: الموضع الذي يدار به الشيء. ويقال: لثت على رأسي العمامة لوثاُ. ومنه قوله:
كانوا ملاويث فاحتاج الصديق لهم
أي كانوا الذين يدار بهم، ويطاف عليهم، ويرجى خيرهم. والمراد بالملاث هاهنا العجز. وشبهها بالدعص، وهو الرمل المجتمع، لكثرة اللحم عليها واكتنازه، والبتيل: الهضم الدقيق، وأصل البتل القطع، ومنه قول الله تعالى: " وتبتل إليه تبتيلاً ". وصف المرأة بالنعمة والنعمة، ومطاوعة الخير لها والسعة، فيقول: هي دقيقة الخصر، قليلة العجز، وهي في فصول سنتها تنتقل في المواضع الطيبة المخصبة، لا تكابد ضيقاً ولا تعاني جهداً. وتقيظ بالمكان: أقام قيظه فيه. ونعمان: وادي الأراك. وأصل تقيظ تتقيظ، فحذف إحدى التاءين.
أليس قليلاً نظرة إن نظرتها ... إليك، وكلا، ليس منك قليل
فياخلة النفس التي ليس دونها ... لنا من أخلاء الصفاء خليل
ويا من كتمنا حبه لم يطع به ... عدو ولم يؤمن عليه دخيل
أما من مكان أشتكي غربة النوى ... وخوف العدى فيه إليك سبيل
قوله: أليس، يقرر به في الواجب الثابت، وكذلك ألم وألا؛ وذلك أن حرف الاستفهام يضارع حرف النفي، ونفي النفي إيجاب، فإذا قال القائل: ألم أحسن إليك؟ يجب أن يكون قد أحسن، فتقريره به فيما قد وقع وثبت. وفي القرآن: " ألست بربكم ". فكأنه قال مدلاً بما يقاسيه فيها، ويتحمله من أجلها: أليس قليلاً نظرة منك إذا حصلت لي. ثم استدرك على نفسه راجعاً فيما أطلقه، وناقضاً لما اعتقده، فقال: كلا - وهو حرف ردع ونفي - لا قليل منك.(1/938)
ومثلى هذا قول الآخر:
هل إلى نظرة إليك سبيل ... فيروى الظما ويشفي الغليل
إن ما قل منك يكثر عندي ... وكثير ممن يحب القليل
فقوله: القليل مبتدأ، وكثير ممن يحب خبره.
وقوله فياخلة النفس في هذا الكلام اعتداد في المناداة بما يتوخاه معها، فيقول: يا صديقة النفس التي تفردت بملكها واجتذبها من أيدي خطابها ففازت بها، فليس لنا خليل ممن يصافى المودة من دونها، ويامن سترنا حبه عن الناس كافة، صيانة له عن الانتشار والابتذال، فلم نطع فيه في حماه واشياً فيفسد ذات بيننا ولا مضرباً، ولم نأمن عليه دخيله يزاحمه في حماه فيصير موضعه مشتركاً، أما عندك مقام لي فيه إليك سبيل أشتكي غربة النوى، وخوف العدى. فالمنادى له قوله: أما من مقام أشتكي.
فديتك أعدائي كثير وشقتي ... بعيد وأشياعي لديك قليل
وكنت إذا ما جئت بعلة ... فأفنيت علاتي فكيف أقول
فما كل يوم لي بأرضك حاجة ... ولا كل يوم إليك رسول
الشقة: بعد مسير أرض إلى أرض بعيدة، وإنما لم يقل بعيدة، لأن فعيلاً كثيراً ما يقع للمؤنث والمذكر على حالة واحدة، حملاً على النسب أو على فعول. يقول: تفديك نفسي، في أعدائي بحضرتك وفي الطريق إليك كثرة، وفي المسير بيني وبينك بعد ومشقة، وفي النصار لي بحضرتك قلة، وكنت متى جئتك من قبل، ولم تبلغ الحال منا هذا المبلغ، أقيم معذرة وأنصب لفعلي علة. وقد كثر ذلك مني حتى فنيت المعاذير والعلل، فلا أدري ماذا أقول، ومن أين أتوصل، بأي شيء أتبلغ، وعلى ماذا أعول، ومع ذلك فالحاجات بأرضك لا تكاد تعرض كل يوم فتذكر، والرسل لا توجد فتتقاطر، فإذا تومل حالي فإنى حبيس على المكاره، أسير في أيدي النوائب، ضيق المجال والشأو في الزيادة، موفور الحظ من الأسباب الصادة، عظيم(1/939)
المحنة فيما اجتمع على من أنواع البلاء، وموانع القضاء. وقوله فكيف أقول، يريد: كيف أقول ما أقوله، فحذف المفعول، ويجوز أن يكون المراد بأقول اتكلم، فيستغني عن المفعول، كقول الآخر:
بحاجة نفس لم تقل في جوابها ... فتبلغ عذرا والمقالة تعذر
أي لم تتكلم في جوابها.
وقال آخر:
أبعد الذي قد لج تتخذينني ... عدواً وقد جرعتني السم منقعا
وشفعت من يبغي علي ولم أكن ... لأرجح من يبغي عليك مشفعا
ألف الاستفهام تطلب الفعل، وإن كان المراد به هنا القريع والمعنى: أتتخذينني عدواً بعد ما لج من الحب فيك والهوى، وغلب من عصيان القلب والسى، وبعد أن سقيتني جرع السم المنقع، وأذقتني مرارة المنع الجامد، فوجدتني صابراً على الأذى، منصباً إليك بنوازع الصبا، لا يخلى ورده وإن حلى، ولا يكدر صفاء وده وإن دوفع. والمنقع: المثبت، يقال: أنقع له الشر حتى يسأم. وقوله وشفعت من يبغي علي أي رددت الباغي على مشفعا بما جاء له في معناي وطليه، وبقيت أنا لا أقبل نصح النصاح، ولا أصدق قول الوشاة، ولا أوحى الشفيع عني منجحا، ولا أصرف الباغي عليك مظفراً.
فقالت وما همت برجع جوابنا ... بل أنت أبيت الدهر إلا تضرعا
فقلت لها ما كنت اول ذي هوى ... تحمل حملاً فادحاً فتوجعا
يقول: أجابتني بعد أن كانت في صورة من لا يعبأ بما يبدأ به فلا يجيب، ولا يرق لمن يشكو إليه فيستجيب: بل أنت تأبى إلا ضراعة وتوجعاً، وانخزالا وتألماً. هذا عادتك والمألوف من طرائفك، فإلى متى هذه الشكوى، وأنى يكون مني في مقابلة عتبك العتبي؟ فقلت في جوابها: ما أنا ببدع في الهوى، ولست بأول من حمل مالا يطيقه، أوثقل عليه ماكلفه فتشكى. والفادح: المثقل. يقال: دين فادح، وقد(1/940)
فدحه الدين. والتضرع: التصاغر والتذلل. يقال: رجل ضرع وضارع وقوم صرع. ويقال: خده ضارع، وجنبه ضارع.
وقال آخر:
أبى القلب إلا أم عمرو وحبها ... عجوزاً ومن يحبب عجوزاً يفند
كسحق اليماني قد تقادم عهده ... ورقعته ما شئت في العين واليد
انتصب عجوزاً على الحال. والتنفيد: التوبيخ. والسحق: الخلق من الثياب الذي قد انسحق وانجرد، وأضافة إلى اليماني إضافة البعض إلى الكل. هذا إذا جعلت اليمامي البرد. ولك أن تجعله التاجر صاحب البرد، فيكون الإضافة إليه. والمعنى: أبي قلبي إلا هذه المرأة وحبه لها في حال تعجيزها، ومن صرف وده إلى العجائز وبخ، لكنها في النساء كخلق البرد اليماني في الثياب، وقد قدم عهده، أي معهوده، وإذا مسته أو نظرت إليه وجدت رقعته زائدة على كل رقعة دقة ومتانة، ومنظره راجحاً على كل منظر حسناً وجودة، وكذلك منظر أم عمرو ومختبرها. وقوله وحبها أضاف المصدر إلى المفعول. وقوله ما شئت يريد ما شئته، فحذف المفعول من الصلة تخفيفاً. وقوله في العين يريد في النظر. وفي اليد يريد عند اللمس.
وقال آخر:
هجرتك أياماً بذي الغمر إنني ... على هجر أيام بذي الغمر نادم
وإنى وذاك الهجر لو تعلمينه ... كعازبة عن طفلها وهي رائم
الكلام اعتذار من إخلاله بزيارتها، وهجرانه لها لعارض عرض بذي الغمر، ثم أظهر تندمه على ذلك، وأنه مدة هجره في وجده بها وشفقته عليها وتشوقه لها، كأم(1/941)
حيل بينها وبين طفل لها، وهي بعيدة عنه بنفسها، ورئمانها - أي عطفها - متوفر عليه. قال: وكذلك كنت في انقطاعي بالنفس، وتوفري بالقلب. شبه نفسه بالعازبة، والمهجورة بالطفل.
فإن قيل: إنمت قال: وإني وذاك الهجر، فيقتضى كلامه أن يكون التشبيه متناولاً له ولهجره؟ قلت: يجوز أن يريد إنى مع ذاك الهجر، وهذا كما يقال: إن الرجال وأعضادها، أي مقرونان؛ وإن النساء وأعجازها، أي مقرونان، لأن المراد مع أعضادها ومع أعجازها.
ويجوز أن يكون أراد بالهجر المهجور، لأن المصدر يوسف به؛ ويجوز أن يكون ذكر الهجر لما كان من سببها، والمراد تلك. وقوله لو تعلمينه الضمير منه يعود إلى الهجر، والمراد ما ذكرته. والعازبة: البعيدة. ويقال: عزب عنه عقله. والعازب أيضاً، الكلأ البعيد المطلب.
وقال آخر:
ما أحدث النأي المفرق بيننا ... سلوا ولا طول اجتماع تقاليا
خليلي إلا تبكيا لي أستعن ... خليلاً إذا أفنيت دمعي بكي ليا
كأن لم يكن بين إذا كان بعده ... تلاق ولكن لا إخال تلاقيا
قوله ما أحدث النأي يصف أن الوجد الذي به قد صار غراماً، فلا البعد منها يحدث سلوا عنها، والاجتماع معها يوجب ملالاً منها، لكنه في الحالتين. جميعاً على حد واحد من تباريح الهوى. ثم أقبل على صاحبين له يخالفهما فطلب منهما إسعاده في البكاء، وأنهما متى لم يسعفا له بمطلوبه استعان بغيرهما، حتى إذا نزف دمعه بكى له نائباً عنه.
وقوله كأن لم يكن بين شبه البين إذا تعقبه المواصلة أو الاجتماع بما لم يكن، لكنه زعم أنه يائس لا يظن تسهل التلاقي بينه وبين محبوبه واقعاً. وقوله ولا طول اجتماع ارتفع بفعل مضمر، كأنه قال: أحدث طول اجتماع.
وقوله خليلي غلا تبكيا لي، تألم وتشك من زمانه، حين لم يكن له من يساعده في شدة أو رخاء، وبتحمل عنه ثقلاً في مسرة أو مضرة.(1/942)
وقوله كأن لم يكن كان هذه هي التامة، والمراد: كأن لم يقع بين. وكأن مخففة من الثقيلة، وقع على محذوف، كأنه قال: كأن الأمر والشأن لم يكن بين إذا حصل بعده التقاء. وقوله لا إخال تلاقيا، المفعول الثاني محذوف كأنه قال: لا أحسب تلاقيا بعده. وساغ ذلك لتقدم ذكره، فهو في حكم الملفوظ به.
وقال جميل
وقد حارب الفخذ الين منهم بثينة:
تفرق أهلانا بثين فمنهم ... فريق أقام واستقل فريق
فلو كنت خواراً لقد باخ ميسمى ... ولكنني صلب القناة عتيق
كأن لم نحارب يا بثين لو انها ... تكشف غماها وأنت صديق
قوله أهلانا أراد شعبيهما. وقال الخليل: أهل الرجل: أخص الناس به. وأهل البيت: سكانه. وأهل الإسلام: من يدين به. وبثين: نداءمفرد مرخم. وقوله فمنهم فريق أقام، تفصيل لما أجمله في تفرق. وإنما افترقوا حتى ارتحل قوم وأقام قوم للخلاف الواقع كان بينهما.
وقوله فلو كنت خواراً، تنبيه على كراهته لما حدث، وإظهار أن ميله مع أهل بثينة، فقال: لو كنت ضعيف المسكة منحل العقدة، لكان ميسمي وقد بخ، أي زالت حرارته، وسكنت حميته، بما أقاسيه وأشاهده حالاً بعد حال، من عوارض الدهر ونوائب الزمان، ولكنني عتيق النبع، صليب القناة. وهذا مثل ضربه لإبائه، وبقائه على طريقة واحدة في العهد والوفاء. ثم اعتذر بعد ذلك فقال: كأن لم نحارب يا بثين، يريد أن جميع ما يجرى عليه يخف ويهون إذا بقيت له على ما فارقها عليه، وتعاقدا له، حتى كأنه لم يقع تجاذب بين الحيين، ولا تحارب بين الأهلين، إذا انكشفت الغيابة الحاصلة، وارتفعت العناية الراكدة، وتلك باقية على المصافاة. ويقال: باخت النار بوخا وبؤوخاً، إذا خمدت. والغمى، هي الخصلة المظلمة. ولك أن تروى تكشف بالرفع، يريد تتكشف، فحذفت إحدى التاءين استثقالاُ لاجتماعهما. وإنما عدل عن الإدغام إلى الحذف؛ لأنه كان يحتاج عند الإدغام لسكون أول الحرفيين، إلى جانب ألف الوصل، وألف الوصل لا تدخل على الفعل المضارع. ولك أن تروى تكشف على أن يكون التاء للماضي. وجواب لو في قوله كأن لم نحارب، والواو من وانت واو الحال. وذكر صديق لأن المراد ذات(1/943)
صداقة، ولو قال صديقه لجاز. قال:
إذ الناس ناس والزمان بغرة ... وإذ أم عمار صديق مساعف
وقال آخر:
شيب أيام الفراق مفارقي ... وأنشزن نفسي فوق حيث تكون
يقول: أثرت أيام الفراق في فأبدلني بالشاب مشيباً، وبالجدة والقوة خلوقة ووهناً شديداً، وأزعجت نفسي من مقرها فارتفعت من مركزها إلى ما فوقها، فالشيب وإن جاء قبل حينه يؤذنني باقتراب المهل، ونشوز النفس يبشرني بدنو الأجل. هذا إلى ما اعانيه من حوادث الفراق، ولواذع الاشتياق. وقوله فوق حيث تكون جعل حيث اسماً وأضاف فوق إليه. وحيث في الأمكنة بمنزلة حين في الأزمنة. ولذلك احتاج إلى جمليتن. وتكون: مستقبل كان التامة، ومعناه يقع ويحصل. ويقال للرجل إذا تزحف عن مجلسه فارتفع فويق ذلك: نشز نشوزاً، وأنشزته إنشازا. وقوله أيام الفراق مفارقي، يسمى التجنيس الناقص. وفرق الرأس ومفرق واحد.
وقد لان أيام اللوى ثم لم يكد ... من العيش شيء بعدهن يلين
يقولون ما أبلاك والمال غامر ... عليك وضاحي الجلد منك كنين
فقلت لهم لا تعذلوني وانتظروا ... إلى النازع المقصور كيف يكون
حمد أيامه باللوى إذ كان فيه اجتماع مع الأحبة، ومساعفة من المقدار والأقضية. ثم تعقب بزعمه ما صعب منها وخشن، لما حدث من البعاد فيه فاستنكر، فلم يستوفق بعدها شيئاً من الأوقات، ولا ارتضى حالاً من الأحوال، لتعسر العيش، ونكد الفراق.
وقوله: يقولن ما أبلاك والمال غامر، يريد أن الناس متعجبون من شأني وأمري، مستنكرون ما يشاهدون من حؤولي وضمري، فيرجعون بالسؤال علي، ويقولون: ما الذي بلاك، وهزلك وأنضاك، وفي مالك وفور، والضاحي من جلدك بالكسوة مستور، فلا تبذل للحرور اعتراك، ولا إضافة في المعاش تغشاك. قال:(1/944)
فأجبتهم بأن اصرفوا عني العقب والملام، واعتبروا حالي بالنظر إلى البعير الحان إلى وطن، مع أنه أغلظ ما خلقه كبداً، وأثبت على الشدائد نفساً وجلداً، كيف يضج، ولو خلى كيف يهيم على وجهه ويند. واعلموا أن ما يبلغ به من العجة والغباوة، حقيق بأن يكمد مثلي ما توحدت به من التمييز والتحصيل، والفرق بين أحناء الأمور وأبحاثها. وقد أخذ أبو تمام هذا المعنى فنقله إلى الدار وقد خلت من السكان فقال:
إن شئت الا ترى صبراً لمصطبر ... فانظر على أي حال أصبح الطلل
وقال أبو دهبل الجمحي
أقول والركب قد مالت عمائمهم ... وقد سقى القوم كأس النعسة السهر
يا ليت أنى بأثوابي وراحلتي ... عبد لأهلك هذا الشهر مؤتجر
أول البيت الثاني، وهو ياليت أنى بأثوابي، في موضع المفعول لأقول. والواو من قوله والركب، واو الابتداء، وهو للحال. وقوله وقد مالت عمائمهم، يريد لغلبة النوم عليهم، ومجاهدة السير والسرى فيهم، ومزاولتهم السهر، حتى كأنهم سقاهم كؤوس النعاس فسكروا، والمعنى أن أقول، على معاناة هذه الأحوال: بودي أنى مستعبد لأهلك طول الشهر الذي نحن فيه، مؤنجر بكسوتي وزادي وراحلتي، لا أكلفهم مؤونة، ولا أحملهم مرزئة، كل ذلك رغبة في التقرب إليك، والاستسعاد بخدمة أهلك، والفوز بالتعريج على محلك ومرتحلك. وقوله يا ليت، المنادى محذوف، كأنه قال: يا قوم يا ليت أنى.
إن كان ذا قدراً يعطيك نافلة ... منا ويحرمنا، ما أنصف القدر
جنية أو لها جن يعلمها ... رمى القلوب بسهم ما له وتر
جواب الشرط في قوله ما أنصف القدر، على إرادة الفاء. وقوله يعطيك نافلة، في موضع الصفة لقدراً. وأشار بهذا إلى ما بينه وبين محبوبه. والمعنى: إن(1/945)
كان ما يرى بيننا ويشاهد قدراً قدره الله تعالى، يعطيك منا ما تستغنيه وتستفضلينه، ثم يمنعنا مثل ذلك منك فلا يوجبه لنا، فما أعطانا النصفة في القضية، ولا سار بالسيرة المحمودة في الحكومة.
وقوله جنية، يريد أن فعلها مباين لفعل الإنس، وكذلك شكلها وحسنها، فإما أن تكون من الجن، أو لها من الجن من يعلمها فتتان العقول، واختبال الأفئدة في الصدور. وقوله بسهم ماله وتر، يريد سهماً لا ينزيه الوتر على القسي، بل تهيئه مقل العيون، ونواظر الفتون، إصابة حبات القلوب، وانتظام غرات النفوس.
وقال توبة بن المضرس
يقول أناس لا يضيرك نأيها ... بلى كل ما شفت النفوس يضيرها
اليس بضير العين أن ترد البكا ... ويمنع منها نومها وسرورها
يقال: ضاره يضيره، في معنى ضره يضره. وشف النفوس، أي آذاها وأذابها. والمعنى: أن الناس يطيبون قلبي ويرومون بمحاجتهم لي تسليتي، ويقولون إن بعدها لا يورثك خبالاً، ولا يكسبك ضرراً ووبالاً، بل يعقبك سلوة، ويبدلك من التأنس بالاجتماع معها نفرة، فأثبت ما نفوه، وأبطلت ما ألقوه، وقلت: بلى كل ما يذيب النفس ويهزلها، ويسلبها القرار ويقلقها، فهو عائد بأكمل الضرر عليها، ثم رددتهم إلى الشاهد مستدلاً بها، فقلت: أليس العين إذا أديم البكاء بها، ومنسع النوم وما يلتذ به من مسارح اللهو والسرور منها، يضرها ذلك؟ كذلك النفس إذا جمع عليها مالا تهواه، وفرق بينها وبين ما تلتذه وترضاه.
وقال ابن أبي دباكل الخزاعي
يطول اليوم لا ألقاك فيه ... وحول نلتقي فيه قصير(1/946)
وقالوا لا يضيرك نأى شهر ... فقلت لصاحبي فمتى يضير
يقول: إن السنة الكاملة إذا اتصل الالتقاء بيننا فيها، أستقصرها وأحرص على الاستزادة منها، التذاذاً بها وبعدا من الملال لها، وإن اليوم الواحد إذا حيل بيني وبينك فيه استطيله تقالياً له، وتفادياً منه، وكراهية لامتداده والناس يقولون لي: إن الشهر لا يجلب عليك ضرراً، فقلت لصاحبي: فمتى يضير إذاً؟ استبعاداً للأجل المضروب. ويروى: لصاحبي فمن يضير، والمعنى: إذا لم يضرني الفطم عما لم أرتو منه فمن فمن المضرور إذاً.
وقال عبيد الله بن عبد الله بن عتبة
شققت القلب ثم ذررت فيه ... هواك فليم فالتام الفطور
تغلغل حيث لم يبلغ شراب ... ولا حزن ولم يبلغ سرور
يصف استحكام أمر الهوى وشدة تسلطه على قلبه وتمكنه من عقله، فيقول: شققت قلبي، وجعلت هواك ذروراً فيه، فرسخ في جوانبه بعد أن دب في مسامه وموالجه، ثم جمعت فتوقه حتى التأمت شقوقه، فتوصل الهوىمنه إلى حيث أعجز كل سرور وحزن. والمعنى أن الهوى ملك مجامع قلبي فأحمي منه ما كان محرماً على غيره. وقوله ليم أصله الهمز فأبدل من همزته ياء وانكسر اللام لها. والتغلغل: التوصل على مقاساة تعب وشدة. ولا يقال لمن توصل والمذهب سهل: تغلغل. ويقال: ذر الشيء، إذا فرقه؛ وذر الحب في الأرض. وقوله التام الفطور، أراد الفطور منه، فحذف تخفبفاً، لأن المراد معلوم. والفطر: الشق، ومنه تفطر الورق.(1/947)
وقال ابن ميادة
وما أنس ملى أشياء لا أنس قولها ... وأدمعها يذرين حشوالمكاحل
تمتع بذا اليوم القصير فإنه ... رهين بأيام الشهور الأطاول
انجزم أنس بما، وما موضعه نصب على المفعول من أنس. والمعنى: إن أنس شيئاً من الأشياء لا أنس قولها. فلا أنس أنجزم على انه جواب الشرط وقوله مل أشياء أصله من الأشياء، وجعل الحذف بدلاً من الإدغام لما تعذر إتيانه في المتقاربين، وقد مر مثله مستقصي. وقوله يذرين يريد يسقطن حشو المكاحل. أراد كحلاء، فكان الدمع حين ذرف صحبه الكحل.
وقوله تمتع بذا اليوم القصير، موضعه من الإعراب نصب على أنه مفعول من قولها، أي لا أنسى قولها، وقد شافهنا الفراق من يوم التوديع والتشييع وهي تبكي: تمتع بيومك القصير لكون يوم اجتماع، فإنه مرتهنمن الشهور الطويلة، لكونها أيام التباين؛ أي مثل هذا اليوم لا يفك من الارتهان، ولا يحصل بعد تلك الأيام المستطالة.
وقال محمد بن بشير
بيضاء آنسة الحديث كأنها ... قمر توسط جنح ليل مبرد
موسومة بالحسن ذات حواسد ... إن الحسان مظنة للحسد
وترى مدامعها ترقرق مقلة ... سوداء ترغب عن سواد الإئمد
وصف المرأة بإشراق اللون. ومعنى آنسة ذات أنس، لأن الحديث يؤنس ولا يأنس، كقولهم: هم ناصب، والمراد منصب. ثم شبهها بقمر توسط السماء فيما جنح من ليل كان فيه غيم وبرد. والقمر إذا خرج من حلك الغمام في ليلة مطيرة كان أضوأ وأحسن. ويجوز أن يكون قوله ليل مبرد، يراد به ليل ذو برد أو برد، ويكون من باب أشملنا، أي دخلنا في الشمال، وأشتينا، أي دخلنا في الشتاء. ويقال: بردت(1/948)
الأرض، إذا مطرت البرد، فهي مبرودة. وأبردنا، أي دخلنا في البرد أو البرد، وكذلك قزله شملنا: أصابتنا ريح الشمال، وأشملنا: دخلنا في الشمال. وقال الخليل: يقال أبرد القوم، إذا صاروا في وقت القر في آخر النهار. والأبردان: طرفا النهار. وقال الشاعر:
إذا الأرطي توسد أبرديه ... خدود جوازي بالرمل عين
يصف بقرة وحشية بأنها تتوسد غصون الأرطي التي تلي الغرب بالغداة، فإذا دارت الشمس دارت معها إلى ناحية الشرق، فتوسدت الغصون التي مالت الشمس عنها. وقوله موسومة بالحسن، يريد أنه جعل سيماها الحسن، فهي ممسوحة به موسومة. وأصل السمة العلامة، ومنه السيما. ومعنى ذات حواسد، أي من يراها من الناس يحسدها، لأن الحسان معلم للحسد. وهكذا كما يقال: إن الحسد يتبع النعم.
وقوله وترى مدامعها ترقرق مقلة، فالمدامع مسابل الدمع من القبائل في الرأس. ومعنى ترقرق مقلة، أي ترقرق الدمع في مقلة. والرقراق: الدمع الذي يترقرق في العين ولا يسيل. قال:
أو الدر رقراقة المنحدر
والمعنى أنها كحلاء، وأن الدمع يتجمع في مقلة لها مستغنية عن سواد الكحل، لكحلها.
وقال آخر:
صفراء من بقر الجواء كأنما ... ترك الحياء بها رداع سقيم
من محذيات أخي الهوى جرع الأسى ... بدلال غانية ومقلة ريم
وقصيرة الأيام ود جليسها ... لو دام مجلسها بفقد حميم(1/949)
وصفها بأنها درية اللون، وأن فيها مشابه من بقر الجواء، وأنها حيية قليلة الحركات لنعمتها، قليلة الكلام لفرط حيائها، فكأن بها نكس سقم لما الفته من الكسل. وقال الخليل: الردع والرداع: النكس؛ ورجل مردوع. وقيل الرداع: الوجع في الجسد. فأما قول الأعشى:
بيضاء ضحوتها وصفرا ... والعشية كالعراره
فجعل لها لونين: بياضاً في أول النهار، وصفرة في آخره حتى لونها لون العرار. وإنما يريد أنها تقيل فيمتد النوم بها إلى آخر النهار، والقائم من نومه أبداً يكون متغير اللون. ومثل قوله ترك الحياء بها رداع سقيم، قول الآخر:
كأن لها في الأرض نسياُ تقصه ... على أمها وإن تكلمك تبلت
وقوله من محذيات أخي الهوى، يريد أنها من النساء اللاتي تسقى الشبان وهي الحذيا والحذوة. والأسى: الحزن.
وقوله بدلال غانية تعلق الباء منه بمحذيات. والغانية: التي تستغني بجمالها عن الحلي. والريم: الظبي الخالص البياض. والمعنى: أنها تفتنه بعينها وكلامها وغنجها.
وقوله " وقصيرة الأيام " يريد أنها لاتمل، فالأيام في ملازمتها قصيرة، حتى أن مجالسها يود أن يدوم مجلسها له وإن فقد أقاربه. والقصد إلى أنها طيبة الحديث، مؤنسة المجلس، مصرفة الملازم في أصناف الملاذ حتى ينسى كل شيء غيرها، ويبشم جميع المناظر سواها.
وقوله " بفقد حميم " الباء فيه يفيد معنى العوض، فهو كما يقال: هذا لك بكذا، أي عوضاً منه.
وقال آخر:
ونار كسحر العود يرفع ضوءها ... مع الليل هبات الرياح الصوارد(1/950)
أصد بأيدي العيس عن قصد أهلها ... وقلبي إليها بالمودة قاصد
شبه النار في حمرتها وتصاعدها بسحر العود. والسحر: الرئة وما تعلق بالحلقوم. ويقال لمن نزت به البطنة: انتفخ سحره؛ كما يقال: عدا طوره. وأكثر ما يقال ذلك لمن جبن عن شيء. والعود: الجمل المسن؛ وقد عود، أي نيب، والجميع العودة، وفي لغة: العيدة. ويستعمل العود في السؤدد القديم، والطريق العادي.
وقوله " يرفع ضوءها " يريد أن هبات الرياح الباردة تهيجها، فكأنها ترفع من ضوئها في ظلام الليل ومعه. والصوارد: البوارد، وهي من صفة الهبات.
وقوله " أصد بأيدي العيس " جواب رب.
ويشبه البيت الثاني قول الآخر:
يا بيت عاتكة الذي أتعزل ... حذر العدى وبه الفؤاد موكل
ومثل البيت الأول قوله:
تنورتها من أذرعات وأهلها ... بيثرب أدنى دارها نظر عال
وهذا منهم على التشوق والتحفي. ألا إنهم كانوا يتعللون بما كان من نحو أرض الحبيب.
وقال الحسين بن مطير
وكنت أذود العين أن ترد البكا ... فقد وردت ما كنت عنه أذودها
خليلي ما بالعيش عتب لو أننا ... وجدنا لأيام الحمى من يعيدها
يقول: كنت أصبر النفس فيما ركبها وثقل عليها من الوجد، وأحبس العين مما ترومه من البكاء، فقد عيل الصبر، وتسلط الحزن، وغلب البكاء، فقد وردت عيني المورد الذي كنت أحلها منه، وأدفعها عنه.(1/951)
وقوله " خليلي ما بالعيش عتب " رواه بعضهم: " ما بالعيش عيب "، وذكر العتب أحسن هاهنا. والمراد أنه لامعتبة على العيش، لأن صفاءه بأن تتصل له أيام كأيام الحمى، فلو وجدنا من يعيد أمثالها فساعد فيها قرب المزار، وإمكان الوصال، لطاب وصفا كما كان من قبل فلا ذنب للعيش، إنما الذنب لما يكدره ويشحنه بالمكاره.
وقال آخر:
ولي نظرة بعد الصدود من الجوى ... كنظرة ثكلي قد أصيب وليدها
هل الله عاف عن ذنوب تسلفت ... أو الله إن لم يعف عنها معيدها
يقول: قذيت عيني بما حصل من صدود الحبيب، فلي نظرة بعده لجوي القلب والجوف، كنظرة أم أصيبت بوليدها فثكلته. ثم قال متمنياً: هل يعفو الله عما سلف لنا من ذنوب، أو يعيد لنا تسهيل أمثالها والتمكين من اقتراف مشابهها إن ضاق عفوه عنها. وهذا كلام من حرج صدره بمستقبل أمره، وامتلأ قلبه من التأسف في إثر مستدبره.
وقال سوار بن المضرب
يأيها القلب هل تنهاك موعظة ... أو يحدثن لك طول الدهر نسيانا
إني سأستر ما ذو العقل ساتره ... من حاجة وأميت السر كتمانا
عتب على قلبه في عصيانة له، واطراحه مواعظه، وولوعه المستمر على تطاول الدهر، وتقادم الأمر، وقال: هل لين الوعظ منك أو أحداث مواصلة الأيام واستمرارها نسياناً لك، فتكف عما يكره منك، أو تقبل بعض ما تدعى إليه من رشدك.
وقوله " أو يحدثن " زاد النون الخفيفة في المعطوف من غير أن حصل في المعطوف عليه، وهو " ينهاك " مثله؛ وساغ ذلك لأنهم ألفوا زيادة إحدى النونين فيما ليس بواجب من الأفعال، فكأنه قدر أن الأول حصل فيه النون فزاد في الثانية، لتوهم مثله في الأولى، واستمرار العادة بزيادته. وهذا كما عطف في بيت امرىء(1/952)
القيس:
فظل طهاة اللحم من بين منضج ... صفيف شواء أو قدير معجل
قوله أو قدير معجل، وهو مجرور، على صفيف شواء وهو منصوب، لنيته حذف التنوين، وجعل الإضافة بدلاً منه في منضج.
وقوله " إني سأستر ما ذو العقل ساتره "، وصف نفسه بحسن التماسك فيما يأتيه، واستعمال العقل في ستر ما يجب إخفاؤه من حاجاته، وضبطه للسر، وقوة كتمانه، حتى يصير السر كالميت الذي لاأثر له. ويشير بذلك كله إلى دوام وفائه، واتصال عهده، وكتم ما يجري بينه وبين محبوبه. وانتصب " كتماناً " لأنه مفعول له، ويجوز أن يكون في موضع الحال، كأنه قال: كاتماً له.
وحاجة دون أخرى قد سنحت لها ... جعلتها للتي أخفيت عنواناً
إني كأني أرى من لاحياء له ... ولا أمانة بين الناس عريانا
يريد: رب حاجة عرضت لها ولأظهرتها وفي النفس خلافها، لأني جعلت المظهر في التوصل به إلى المضمر كعنوان الكتاب الذي يظهر وما ينطوي عليه الكتاب مستور. يصف نفسه بالذكاء وجودة الفطنة، وحسن التأني، والاهتداء فيما يرومه للحيل اللطيفة. وكل ذلك لئلا يقف مةقفاً يوجه إليه الظنون السيئة، ويجلب عليه القالة المنكرة.
والعنوان يجوز أن يكون فعوالاً من عن لي الشيء، إذا اعترض؛ ويجوز أن يكون فعلاناً من عناء كذا. وفيه لغات وكلام طويل أتيت عليه في (شرح الفصيح) .
وقوله إني كأني أرى من لا حياء له، يريد: من خلع ربقة الحياء، واطرح حشمة الناس، وعرض الأمانة للضياع، والمروءة للزوال، فحكمة حكم من أظهر عورته، وهتك لعائبيه ستره، ورضى بما نيل منه، وتحيف من عرضه ودينه.
وقال آخر:
أها بك إجلالاً وما بك قدرة ... علي ولكن ملء عين حبيبها(1/953)
وما هجرتك النفس أنك عندها ... قليل ولكن قل منك نصيبها
انتصب إجلالاً لأنه مفعول له، جعله علة في تهيبه لها. ويجوز أن يكون في موضع الحال، فيقول: أحتشمك بظهر العيب، وأخافك ليس لاقتدار سلطاني منك علي، وامتلاك لضرى ونفعي في يديك، ولكن رفعاً منك، وإكباراً لقدرك، ولأن العين تمتلىء ممن تحبه استكباراً. واستعظاماً، لأنه يحمدها والضمير من حبيبها للعين، وإن جعلتها للمرأة، أي ما تحبه وترضاه يملأ العين، جاز. والملء: القدر الذي يمتلىء منه الشيء؛ والملء، بفتح الميم: مصدر ملأت.
وقوله وما هجرتك النفس، يريد أن الإخلال بالزيارة؛ والتأخر عن إقامة العادة ليس لزهد ولا لاستقلال للحال، وإزراء بالحق، ولكن قل حظي منك، ودام إعراضك عني، فرمت رضاك في البعد عنك، وترك التثاقل عليك وقوله ملء عين جاز الابتداء به وإن كان نكرة لحصول الفائدة في تعليق الخير.
وقال ابن الدمينة
ألا لا أرى وادي المياه يثيب ... ولا النفس عن وادي المياه تطيب
أحب هبوط الواد بين وإنني ... لمشتهر بالواد بين غريب
قوله يثيب أي يجعل لي ثواباً، ويقسم لي لتوفري عليه رداءا ونفعا، ويجوز أن يكون من قولهم: بئر لها ثائب، إذا كان ماؤها ينقطع أحياناً ثم يعود؛ فيكون أثاب بمعنى صار لها ثائب، كأن الوادي كان كان اتفق فيه مواصلة بينه وبين محبوبه ثم انقطع، فكان لا يثوب خيره، وهذا الذي قلناه في أثاب ذكره أبو زيد. ويجوز أن يكون ذكر الوادي كالكناية عنها، فيقول: ليست تسلو نفسي عن وادي المياه وما يتصل به وعن أحبتي فيهما، وأراه لا يوجب لي مثل ما أوجبه، ولا يرضخ لي جزاء على ما أتحمله، وأنا أحب النزول بالواديين والانتعاش بزيارتهما، لكني مشتهر بهما غريب لا ناصر لي فيهما، فأحتاج أن أحاذر الرقباء خوفاً على نفسي، وتفادياً مما يلحق صاحبي من المروه والإعنات بسبي.
أحقا عباد الله أن لست وارداً ... ولا صادراً إلا على رقيب(1/954)
ولا زائراً فرداً ولا في جماعة ... من الناس إلا قيل أنت مريب
هذا شرح للاشتهار الذي أجمله، والاغتراب الذي اشتكى منه. وقوله أحقا، في موضع الظرف، كأنه قال: أفي حق. وأن لست أن مخففة من الثقيلة، وموضعه بما يعده موضع الابتداء، وأحقا في موضع الخبر. وقوله فرداً، انتصب على الحال، والعامل ما دل عليه ولا زائراً، من الفعل، فيقول: أفي حق يا عباد الله أنى لا أراد الوايين، يعني وادي المياه، وما ذكره فيما بعد من ذكر الكئيب الفرد، ولا أصدر عنهما إلا وعلى رقيب محافظ، يعد لحظاتي وأنفاسي، ويتأمل قصودي وإرادتي، ولا أزورهما منفرداً ولا في صحابة إلا وسلطت على التهم، ونسبت فيما أتعاطاه إلى الريب، حتى ضاق علي المجال، وأظلم لي المسرح والمطاف.
وقوله إلا قيل، في موضع الحال، أي لا أزورهما إلا مقولاً فيه ذلك. وموضع أنت مريب، الجملة رفع على أنه قام مقام فاعل قيل.
وهل ريبة في أن تحن نجيبة ... إلى إلفها أو أن يحن نجيب
وإن الكئيب الفرد من جانب الحمى ... إلى وإن لم آته لحبيب
قوله هل ريبة، لفظه استفهام ومعناه النفي، فيقول: لا ريبة في حنين أحد المتألفين الكريمي العهد إلى الآخر، ولا استنكار فيما تنطوي عليه النفس من الهوى والود، ولا محاسبة فيما يوجب المتحابان ويؤثرانه من المصافة على البعد، وإن موضع الحبيب من جانب الحمى قلبي موكل به وإن لم أزره، إذ كان مجانيتي إياه، وتأخرى عنه، لإبقائي على الحال بيني وبين من أحتشمه، ولإيثاري صيانته من تحدث الوشاة فيه، لا لغيره.
لك الله إني واصل ما وصلتني ... ومثن بما اوليتني ومثيب
فلا تتركي نفسي شعاعاً فإنها ... من الوجد قد كادت عليك تذوب
وإني لأستحييك حتى كأنما ... علي بظهر الغيب منك رقيب
قوله لك الله، يجوز أن يكون جعاء لها، والمعنى: إحسان الله لك، وحفظه مشتمل عليك. ويجوز أن يكون قسماً، كما يقال أعطيك الله، وجوابه إني واصل.(1/955)
وكأنه أقسم لها أو دعا لها بأنه يبقى على العهد لها مدة دوام مواصلتها وبقائها على المصافاة والإيثار له، وأنه يوجب من إعظامها والثناء عليها، ومكافأتها بالحسنى فيما تسدى إليه وتوليه ما ينتفي عنه سمة التقصير والإقصار. ووجه الدعاء لها استعطافها وترقيق قلبها، ويكون كالتشبيب من السائل.
وقوله فلا تتركي نفسي شعاعا، فالشعاع: المنتشر، وكذلك الشع والفعل منه شع. ويقال: تطاير القوم شعاعاً، أي متفرقين. فيقول: أحفظي نفسي عن الانتشار والزوال، فإنها شارفت الذوب والسيلان وجداً بك، وشافهت التلف والبوار شوقاً إليك. ثم قال: وإني مستحي منك على البعد، إعظاماً لك، وتهيباً منك، حتى كلأن لك رقيباً معي في كل حال، فأتفف عن المنكرات، وأتنزه عن ذميم المقالات، فكوني لي على ما توجبه صورتي، وتقتضيه قصتي. ومثل هذا قول الآخر:
وإني لأستحي فطيمة طاوياً ... خميصاً وأستحي فطيمة طاعما
وإني لأستحييك والخرق بيننا ... مخافة أن تلقي أخا لي لائما
وقال آخر:
تحمل أصحابي ولم يجدوا وجدي ... وللناس أشجان ولي شجن وحدي
أحبكم ما دمت حيا فإن أمت ... فوا كبدا ممن يحبك بعدي
الشجن: الحاجة، والجميع الأشجان والشجون. قال:
والنفس شتى شجونها
وموضع وحدي نصب على المصدر، وهو موضوع موضع الإيحاد. يقول: ارتحل أصحابي ولم ينلهم من الوجد ما نالني، وفي نفوس الناس حاجات وقد أوحدت نفسي بحاجة إيحاداً. ثم أقبل على المحبوب مفسراً لشجنه الذي تفرد به، فقال أحبكم مدة حياتي، وإذا مت فواكبدا ممن يلي حبكم بعدي. وهذا تحسر في إثر ما يفوته من الهوى إذا فارق الدنيا. ويروى: من ذا يحبكم بعدي.(1/956)
وقد عيب الشاعر بهذا فقيل: لم يرض بأن جعل لها محباً حتى صار يتحزن له. وقال بعض أصحاب المعاني: في هذا ظلم للشاعر، وذلك أن غرضه في التماسه محباً لها إشادة ذكرها، وإعلاء قدرها، وتشهيرها عند الناس حتى يصير لها الجاه عند السلاطين. قال: وكثير من نساء العرب طلبن التشبيب من الشعراء مع العفة، كعزة، وليلى، ومية. ولخلفاء بني أمية وأقرانها من الأمراء معهن محاورات.
ويروى عن بعض السلف الصالحين أنه حج، فلما قضى نسكه قال لصاحب له: هلم نتمم حجنا! ألم تسمع قول ذي الرمة:
تمام الحج أن تقف المطايا ... على خرقاء واضعة اللثام
والطريقة في تصرفه وتحسين قوله ما قدمته.
وأشنع من هذا قول الآخر:
أهيم بدعد ما حييت فإن أمت ... أوكل بدعد من يهيم بها بعدي
وقد قيل في هذا أيضاً: إنه لو قال:
فلا صلحت دعد لذي خلة بعدي
لكان صواباً، سالماً مما يهجنه.
أبو حية النميري
رمته أناة من ربيعة عامر ... رقود الضحى في مأتم أي مأتم
فجاء كخوط البان لا متتابع ... ولكن بسيما ذي وقار وميسم
أناة أصله وناة، لأنه من الونى: الفتور والكسل.
والواو المفتوحة لم تبدل منها الهمزة إلا في أحرف قليلة، وهي أناة في صفة المرأة الثقيلة الناعمة؛ وأحد صفة وإسماً للعدد؛ وما جاء في الحديث من قولهم: أي مال أديت زكاته فقد ذهبت أبلته، يراد وباله. وقال أبو زيد: الأبلة في الطعام(1/957)
أصله الوبلة. ويقال: أجمعت أجوماً، في وجمت. فهذه الأحرف جاءت على ما ترى.
وقوله رقود الضحى وصفها بالترفة، وأنها مكفية الخدمة، فهي تنام القيلولة. وهذا كما قال امرؤ القيس:
نؤوم الضحى لم تنطلق عن تفضل
والمأتم: النساء يجتمعن في الخير والشر. يقول: نظرت إلى هذا الرجل امرأة طلعت عليه في جملة نساء، مترفة منعمة سمينة، تنام عن شؤونها أوقات الضحى، لأن لها من يكفيها كل ما تهتم له ففتنته، ثم اقتص كيف نصبت الحبالة له، ومن أين وقع فيها حتى اصطادته، فقال: جاء الرجل وكأنه غصن بان لحسن شطاطه وطراءة شابه، لا متهافت في مشيه وتصرفه، ولا خفيف طائش في وروده وصدره، ولكن بعلامة ذي سكون، وميسم ذي صلاح وهدو. والتتابع يوصف به الحيران والسكران إذا رمى بنفسه. وتتابع البعير في مشيته، إذا حرك ألواحه حتى كأنه يتفكك. والمأتم أصله من الأتم، وهو أن تلتقي الخرزتان فتصيرا واحدة. وموضع كخوط نصب على الحال من جاء. والخوط: الغصن الناعم لسنة. وقوله لا متتابع ارتفع لأنه خبر مبتدأ محذوف، كأنه قال: لا هو متتابع. وقوله ولكن استدراك بعد نفي، أي جاء غير متتابع ولكن بهذه السيما.
فقلن لها سراً فديناك لا يرح ... صحيحاً وإن لم تقتليه فألمى
فألقت قناعاً دونه الشمس واتقت ... بأحسن موصولين: كف ومعصم
وقالت فلما أفرغت في فؤاده ... وعينيه منها السحر قلن له قم
قوله سراً يجوز أن يكون مصدراً في موضع الأمر، كلأنه قال ساريه. مسارة، فوضع السر موضع المسارة، ويكون على هذا قوله لا يرخ جواب الأمر الذي دل عليه سراً. ويجوز أن يكون مصدراً في موضع الحال، ويكون لا يرح مجزوماًبلا النهي. وجعل النهي في اللفظ للرجل والمرأة هي المنهية، كما يقال: لا أرينك هنا. والمعنى: لا تكن هناك فأراك، والمراد: لا تدعيه يروح صحيحا. يقول قالت النساء(1/958)
المحتفة بالاناء المذكورة لها: أشيري إليه في السر إشارة تفتنه، واعرضي عليه محاسنك ما يخبل قلبه بعد تعرضه لنا في سمته ووقاره حتى لا يروح عنا صحيحاً، وإن لم تبالغي في استغوائه وفتله عن رشاده، وإهلاكه، فكوني منه على أوفى محل. فائتمرت لهن وألقت قناعاً وراءه الشمس، أي وجه إشراقه كإشراق الشمس، فعرضت وجهها ثم سترته فأيدت كفها ومعصمها - وهو موضع السوار من يدها - أيضاً، وتكلمت بكلام كالمنكرة من نفسها ما اتفق عليها، والمستححية المتذممة من حالها، فلما علم النساء أنها أفرغت في فؤاده بالكلام، وفي عينيه بالكف والوجه السحر أي صبت - قلن للشاب المتعرض: قم عنا فابك لما نابك وأنت لا تعلم. والسحر: إخراج الشيء في أحسن معراضه حتى يفتن، لذلك قيل للرائق المعجب: هو السحر الحلال. يقال: سحرت الفضة، إذا طليتها بالذهب. إن قيل: أين مفعول قالت؟ قلت: إنه هنا في معنى تكلمت، فاستغنى عن المفعول، ومثله قول عمر بن أبي ربيعة:
لحاجة نفس لم تقل في جوابها
أي لم تتكلم.
فود بجدع الأنف لو أن صحبه ... تنادوا وقالوا في المناخ له نم
يقول: انصرف عنهن وهو يتمنى أن جدع أنفه في وقت ما هم بالخروج إليهن، ويمنعه أصحابه من التعرض لهن، وقالوا له: نم في المناخ ولا تبرح، ويجوز أن يكون معناه: ود أن يتركه صحبه ويقولوا له: نم في المناخ ولا تتبعنا، وأن أنفه قطع. والباء من قوله بجدع هو الذي يفيد معنى العوض. تقول: هذا بذاك، أي عوض من ذاك.
وقوله تنادوا يجوز أن يكون معناه تجمعوا، من الندى وهو المجلس؛ ويجوز أن يكون من النداء، أي تداعوا وقالوا له ذلك.
وقال آخر:
نظرت كأني من وراء زجاجة ... إلى الدار من فرط الصبابة أنظر(1/959)
فعيناي طوراص تغرقان من البكا ... فأعشى وحيناً تحسران فأبصر
يقول: وقفت بدار الأحبة فتوهمت آياتها، ثم عرفتها فتمثل لي من كان بها، وتطرى ما كان دار بيني وبينها، فأغرورقت عيناي من الدمع تحسراً وتوجعاً، وبقيت إذا نظرت إلى الدار كأني أنظر من وراء زجاجة فلا أتبين الآثار، وإذا انهملتا بما فيهما عدت في صحة الإدراك بهما إلى ما كنت عليه من قبل. وقد مر القول في حقيقة النظر.
فأما تحسران فيجوز أن يكون من قولهم: حسر البحر، إذا نضب الماء عن ساحله؛ ويجوز أن يكون من حسرت القناع، ويكون على هذا مفعوله محذوفاً. والأول أحسن. ومن الثاني قولهم: امرأة حسنة المحاسر، كما يقال حسنة المعاري. وتلخيص البيت الأول: كأني من فرط الصبابة أنظر إلى الدار من وراء زجاجة. والطور: التارة. ويقال: الناس أطوار، أي على أحوال شتى.
وقال آخر
فما شنتا خرقاء واهية الكلى ... سقى بهما ساق فلم يتبللا
بأضيع من عينيك للدمع كلما ... توهمت ربعاً أو تذكرت منزلا
الخرقاء: التي لا رفق لها في الأعمال ولا بصيرة. والشنة، أراد بها هنا الدلو الخلق، وهي السقاء البالي في الأصل. ويقال: لقطران الماء من الشنة شيئاً بعد شيء: الشنين، ثم يستعمل في الدمع. قال:
يا من لدمع دائم الشنين
ولم يرض بأن جعل الدلو خلقاً حتى يجعلها لامرأة لا تحسن عملاً من خرز وغيره، فكانت تصلحها، ثم جعل سقى الإبل بها قبل تهللها وانسداد خرزها وثقبها. فيقول: ما دلوان هذه صفتهما بأشد إضاعة للماء من عينيك للدمع كلما توهمت دار الحبيب وهي مأهولة، أو تذكرت منزلاً من منازل سفرها وهي منتجعة.(1/960)
وقوله بأضيع من عينيك، كان الواجب أن يقول: بأشد إضاعة للدمع، فجاء به على حذف الزوائد، أو على طريقة سيبويه في جواز بناء التعجب مما كان على أفعل مما زاد على الثلاثي خاصة.
وقال أبو الشيص
وقف الهوى بي حيث أنت فليس لي ... متأخر عنه ولا متقدم
أجد الملامة في هواك لذيدة ... حباً لذكراك فليلمني اللوم
يقول: حبسني الهوى في الموضع الذي تستقرين فيه فألزمه ولا أفارقه، فأنا معك مقيمة وظاعنة، لا أعدل عنك ولا أميل إلى سواك، ومن لا منى فيك أستلذ لومه محبة لذكرك، ووجداً باسمك، فليستمر اللائمون في أقوالهم، ولتندم عظاتهم علي وإنكارهم، فإنهم لا يجدون مني اتباعاً ولا رجوعاً، ولا ملالاً ولا قصوراً. وقوله حباً لذكرك، انتصب لأنه مفعول له، وبيان لعلة لذته، بما يجلب على غيره ضجراً، وهو اللوم.
ومثل هذا قول الآخر:
وأسأل عنها الركب عهدهم عهدي
يريد، أن يستلذ ذكرها.
وقوله حيث أنت، خبر المبتدأ وهو أنت محذوف، كأنه قال: حيث أنت واقفة، لأن حيث في الأمكنة بمنزلة حين في الأزمنة، في حاجته إلى جملتين، والمتأخر والمتقدم بنمزلة التأخر والتقدم، فهما مصدران.
أشبهت أعدائي فصرت أحبهم ... إذ صار حظي منك حظي منهم(1/961)
وأهنتني فأهنت نفسي صاغراً ... ما من يهون عليك ممن أكرم
يقول: وافقت في مواصلتي أعدائي أخذا فيما أكرهه وأتسخطه، وذهاباً عما أحبه وأرضاه، ولأن حظي منك فيم أرومه يماثل حظي من أعدائي فيما أسومهم فأشرب قلبي حبهم، وانصب إلى جانبهم الميل معهم لمشابهتك لهم، ومماثلة فعالك لفعالهم، وأذللتني فأذللت نفسي على صغر مني، اقتداء بك، ومجانبة للخلاف عليك، ولأني لا أرى كرامة من ترين هوانه، ولا إرضاء من ترين إشخاصه. وانتصب صاغراً على الحال من أهنت. وقوله ممن أكرم العائد إلى الموصول محذوف، كأنه قال: ممن أكرمهم. وقوله حظي منهم يريد به التشبيه، كأنه قال: كحظي منهم، ومنك في موضع الحال، وكذلك منهم.
وقال آخر:
ولا غرو إلا ما بخير سالم ... بأن بني أستاهها نذورا دمي
ومالي من ذنب إليهم علمته ... سوى أنني قد قلت يا سرحة أسلمي
نعم فاسلمي ثم اسلمى ثمت أسلمى ... ثلاث تحيات وإن لم تكلمي
معنى لاغرو لاعجب، وخبر لا محذوف، كأنه قال: لا غرو في الدنيا، أو موجود. وموضع ما يخبر رفع على أنه بدل من موضع لا غرو. وإنما قال بني أستاهها لأنه يريد أنهم مخروون لا مولودن. فيقول متهانفاً: لا عجب إلا ما يخبر به سالم، بأن سقاطها والذين لا عقول لهم فيها، قالوا: لله علينا سفك دمه. ثم قال: هذا اعتقادهم وأقوالهم؛ ولا جناية لي عليهم، ولا ذنب مني اهتدي إليه فيهم سوى قولي: يا سرحة أدام الله لك السلامة - وكان جعل سرحة، وهي شجرة، كناية عن امرأة فيهم - نعم قد قلت وأقوله مكرراً: أسلمي أسلمي. يغايظهم ويناكدهم بهذا المقال. وقوله سوى أنني موضعه من الإعراب استثناء خارج. ويا سرحة إذا ضممته فالضمة الأصل في استعمال المنادى المفرد المعرفة، وإذا فتحته فلاعتيادهم الترخيم في مناداة ما في آخره هاء التأنيث، أتموه ونووا الترخيم فجعلوا حركته حركة المرخم منه. وهي الفتحة. وقوله نعم وإن كان في الأصل حرفاً بوجب به ويجاب في الاستفهام المحض فقد يتوصل به إلى بسط الكلام وصلته. وقوله ثلاث تحيات، انتصب على(1/962)
المصدر من فعل دل عليه أسلمي، كأنه قال: أحيي ثلاث تحيات، وإن لم ترجعي الجواب إلي. والسرح من العضاه، ويكون دوحه محلالاً يحل الناس تحها في الصيف. وقال الفراء: كل شجرة لا شوك فيها فهي سرحة، ذهب إلى السرح، وهو السهل.
وقال ابن هرمة وكنى بها عن امرأة:
سقى السرحة لمحلال دون سويقة ... نجاء الثريا مرثعنا هطولها
وقد تسمى المرأة سرحة.
وقال خليد مولى العباس بن محمد
أما والراقصات بذات عرق ... ومن صلى بنعمان الأراك
لقد أضمرت حبك في فؤادي ... وماأضمرت حباً من سواك
أريت الآمر يك بصرم حبلى ... مريهم في أحبتهم بذاك
فإن هم طاوعوك فطاوعيهم ... وإن عاصوك فاعصي من عصاك
أقسم بالحجيج وبرواحلهم التي ترقص بهم في السير متوجهين بوادي عرفة وذات عرق إلى بيت الله عز وجل. وأضاف نعمان إلى الأراك لكثرتها بها. وجواب اليمين قوله لقد أضمرت حبك. والمعنى أنه أقسم أن وده لها مكتوم انطوى عليه قلبه، وخالص فيها قد أكنه ضميره لا يشاركها فيه عديل، ولا يجاذبها بسببه قسم، وإنما يتحمد عليها بحفظ السرار، وتخليص العقيدة، وشغل القلب والعقل بعمارة الهوى لها. ثم أقبل عليها فقال يخاطبها: أعلمت الذين يشيرون عليك بقطيعتي والتنكر لي، وجد الأسباب والمواثيق بيني وبينك؟ كرى عليهم مستدرجة لهم، وعاجمة تنصحهم، وأمريهم في أحبتهم بمثل ماأمروك في، فإن وجدتهم سامعين لك، وإن وجدتهم متأبين عليك مخالفين لك، فأعصى من عصاك، ودعي الاستنامة إلى رأي من(1/963)
لا يرى لك مثل ما يراه لنفسه. وكان الواجب في قضية سياق الكلام أن يقول: وإن عاصوك فعاصيهم؛ فعدل عن الإتيان بالضمير إلى ذكر الظاهر، ليبين فيه ما يشنع به عليهم، وليظهر السبب الموجب للإغراء بهم، والانصراف عن رأيهم. ولو قال: فاعصيهم لم يبين ذلك فيه.
وقوله أريت أصله أرأيت، حذف الهمزة منه حذفاً كما حذف في يرى، وترى، ونرى.
وقال ابو القمقام الأسدي
إقرأ على الوشل السلام وقل له ... كل المشارب مذ هجرت ذميم
سقياً لظلك بالعشي وبالضحى ... ولبرد مائك والمياه حميم
لو كنت أملك منع مائك لم يذق ... ما في قلاتك ما حييت لئيم
الوشل هاهنا: ماء معروف في أرض محبوبه. وقال الدريدي: الوشل: موضع معروف بعينه. والوشل: الماء القليل يترقرق على وجه الأرض. وقال صاحب العين: الوشل محرك: الماء القليل يتحلب من صخرة أو جبل، يقطر منه قليلاً قليلاً. والوشل: القاطر، يقال: جبل واشل: يقطر منه الماء. والشاعر أهدى إليه التحية، وراسله أن المشارب كلها مذمومة عنده منذ تحول عنه وترك وروده. ثم دعا لظله بالسقيا فقال: سقيا لظلك بالعشى وبالضحى. والظل يكون للشجرة وغيرها بالغداة، والفيء بالعشى، فكان في الواجب أن يقول: سقيا لظلك بالغداة، ولفيئك بالعشى. ألا ترى قول الآخر:
فلا الظل من برد الضحى نستطيعه ... ولا الفيء من برد العشى نذوق
إلا أنه سمى الفيء ظلاً لتشابههما في منظر العين والغناء. فلما تساويا وأجرى عليهما معاً لفظة الظل، وكان الواو يفيد الجمع من دون الترتيب - لم يبال أن يقول بالعشى وبالضحى، فيقدم بالعشى، وإن كان الظل أليق بأن يليق بالضحى لو جرد. ولم يشبه هذا قول القائل: فلان أشعر الجن والإنس، لتركه فيما تقدمه من المعطوف والمعطوف عليه طلب المطابقة والموافقة. ألا ترى أن الوجه في هذا أن يقال: فلان أشعر الإنس والجن ليصح لفظ الأول، ويضاف أشعر إلى ماهو بعضه ثم يجيء الثاني؛ وأن قولك: سقياً لظلك وقد نويت إجراء الظل للفيء أيضاً صار حكمه حكم(1/964)
اللفظة الموضوعة لشيئين، فإذا كان كذلك فأيهما أوليته من العشي والضحى فقد وقع إلى جنب ما يطابقه ويوافقه. فإن قيل: لو سلم لك ما نقوله وتدعيه من الاستعارة لما سلم الكلام المتنازع من أنه جاء على غير حده؛ وذاك أن الظل يكون في الضحى حقيقة علىالمجاز. قلت: إن الظل فيما حكاه الخليل ضد الضح، ويقال: أفاء الظل وتفيأ. وفي القرآن: " يتفيأ ظلاله عن اليمين والشمائل "، فهو ظل قبل التفيؤ وبعده، وإنما نسخة للشمس هو الذي صار به فيئاً، وإذا كان كذلك لم يكن من باب ما يكون حقيقة في شيء، ومجازاً في آخر. وهذا بين. وقوله والمياه حميم فالواو فيه للابتداء، وهو واو الحال.
وقوله لو كنت أملك منع مائل جواب لو هو قوله لم يذق. وهذا الكلام فيه إظهار الضنانة بالماء المذكور، واستمراره في الحسد إلى كل حد معلوم بسببه، حتى كان بزعمه يمنع اللئام مدة حياته، ويعني به أربابه فيما أظنه، لأنهم أعداؤه. والقلات: جمع القلت، وهي حفرة في الجبل يستنقع فيها ماء المطر.
وقال ابن الدمينة
وقد كتب بها إلى أمامه:
وأنت التي كلفتني دلج السرى ... وجون القطا بالجلهين جثوم
وأنت التي قطعت قلبي حزازة ... وقرفت قرح القلب وهو كليم
وأنت التي أحفظت قومي فكلهم ... بعيد الرضا داني الصدود كظيم
قوله دلج السرى، فالسرى: سير الليل، والدلج: السير في بعض الليل. ويقال: سار دلجة، أي ساعة من أول، فلذلك أضاف الدلج إلى السرى، فجرى مجرى إضافة البعض إلى الكل. والشاعر يعدد عليها ما ناله حالاً بعد حال من ضروب المشقات والمتالف فيها، فيقول: تجملت فيك كل عظيمة وبلية، فأنت التي(1/965)
كلفتني السرى والسير، وركوب الخطر بالليل والطيور ساكنة في عششتها لم تبرح، وأنت التي قطعت جوانحي، وصدعت جوانب كبدي حزازة بدوام تمنعك وتشددك، واتصال جفائك واطراحك - والحزازة: وجع في القلب - فنكأت الكلم من قلبي قبل اندماله، وقشرت جلبته عند صلاحه والتئامه، فأراه أبداً دامي الظاهر فاسد الباطن؛ وأنت التي أغضبت على معشري، وأفسدت على رهطي وأعزني، فكل واحد منهم إذا خبر واستكشف بعيد الرضا عني، قريب الهجران لي، ممتلىء الصدر من بغضي، يكظم غيظه تجملاً، ويسر نكره تصبرا. وقوله جون القطا، جمع جونية. قال:
جونية كحصاة القسم
وهذا كما يقال عربي وعرب، وهذا الجمع كالجمع الذي ليس بينه وبين واحده في اللفظ إلا طرح الهاء نحو تمرة وتمر وما أشبهه. وجثوم: جمع جاثم. وجم الطائر، إذا ألصق صدره بالأرض، ويستعمل في السبع وغيره، ومنه الجثمان لجسم الإنسان. وقال الأصمعي: الجثمان الشخص، والجسمان الجسم. والجلهلة: ما استقبلك من الوادي. ومعنى قرفت: قشرت ولم بكن رأ. ويقال: كطم غيظه، إذا جرعه. وكظم البعير جرته، إذا ابتلعها. والظم: مخرج النفس. ويقال للمحزون: إنه لمكظوم وكظيم.
فأجابته أمامة
وأنت الذي أخلفتني ما وعدتني ... وأشمت بي من كان فيك يلوم
وأبرزتني للناس ثم تركتني ... لهم غرضاً أرمى وأنت سليم
فلو أن قولاص يكلم الجسم قد بدا ... بجسمي من قول الوشاة كلوم
أخذت تقابله بمثل الذي ابتدأها، وتعدد من جناياته عليها كفاء ما عدده وعصب به رأسها، فقالت: إن ما ارتكبته مني أشنع، وما خملته وقتاً بعد وقت أفظع، لأنك الذي نكثت عهودي، ونقضت مواعيدي، وأشمت بي كل ناصح فيك، وصدقت مقال كل لائم بسببك، فظنوني بك مكذبة، وظنون النصاح واللوام(1/966)
مصدقة؛ ثم جعلتني مضغة في أفواه الناس، وأكلة لمجامعهم، يتعللون بحديثي، ويتغلبون عند أعدائي بقصتي، فقد صرت كالغرض المنصوب لكل قدح مبري، والعلم المقصود لكل مشاء بنميم، يغرى بي من كان لي سلماً، ويرق لي من آل لي حرباً، وأنت سليم من المكاره، بعيد عن المتاعب، تعرك بجنبك ما يمسني، وتتقي بقلة الاكتراث ما ينضجني؛ لأن نار الوشاية اعتمادها بالإحراق في النساء أبلغ منه في الرجال، وعار الشناعة ألصق بجوانبهن منه بجوانب أمثالك، فلو أن كلاماً كلم جسماً لبدت بجسمي ندوب ومنافذ وجرزح بأنياب المغتابين، ونبال الرماة المراصدين. وقد عدل في هذه الأبيات وفيما تقدمها في صلات الذي والتي عن الإخبار إلى الخطاب، وقد مضى القول في جوازه مشروحاً، وبينا كيف ساغ تعرى الصلة من الضمير العائد إلى الموصول.
وقال المعلوط الأسدي
إن الظعائن يوم حزم سويقة ... أبكين عند فراقهن عيوناً
غيضن من عبراتهن وقلن لي ... ماذا لقيت من الهوى ولقينا
بل لو يساعدنا الغيور بداره ... يوماً لقد مات الهوى وحيينا
الظعينة: المرأة، لأنها تظعن إذا ظعن زوجها، أي تشخص. وقيل: الظعينة: الجمل الذي تركبه، سميت به كما قيل للمزادة رواية. والحزم: ما غيظ من الأرض. وإنما وصف حالهن عند التوديع ووقت الفراق، فيقول: غنهن بكين وأبكين، وبجهد منهن كففن الدموع، وخفضن ما علا من النشيج، ثم قلن متحسرات: أي شيء لقيته أنت وقاسيت من أحداث الهوى وأسبابه، وقاسينا نحن، ولو ساعدنا الغيور ودانانا بداره يوماً لقضينا من أوطارنا ما تحيا به نفوسنا وقلوبنا، ويموت له كلفنا وهوانا.
وذكر موت الهوى كما قال الآخر:
فلما التقى الحيان ألقيت العصا ... ومات الهوىلما أصيب مقاتله(1/967)
وقوله غيضن أي قللن. ويقال: هذا من ذاك غيض من فيض، أي قليل من كثير. والمعنى مسحنه بأصابعهن تسترا.
واخذ ذو الرمة هذا فقال:
ولما تلاقينا جرت من عيوننا ... دموع وزعنا غربها بالأصابع
ونلنا سقاطا من حديث كأنه ... جنى النحل مزوجاً بماء الوقائع
ومعنى يساعفنا الغيور بداره، يقار بنا بمحله. والإسعاف: قضاء الحاجة وإدناؤها. ولك أن تجعل ماذا بمنزلة اسم واحد، فينتصب بلقيت: ولك أن تجعل ذا بمعنى الذي، ويكون ضميره العائد من الصلة محذوفاً، كأنه قال: لقيته ولقيناه.
وقال جميل
وماذا عسى الوشوان أن يتحدثوا ... سوى أن يقولوا إنني لك وامق
نعم صدق الواشون أنت كريمة ... علينا وإن لم تصف منك الخلائق
ماذا في موضع المبتدأ، كأنه قال: أي حديث عسى الواشوان يتدثونه سوى قولهم: إنني لك محب. فهو كقولك: أي ضرب عسى زيد أن يضربه، وسبيله سبيل المصدر والمضاف إلى المصدر إذا ابتدى بهما. ولا يجوز أن ينتصب بيتحدثوا، لأنه في صلة أن، فلا يعمل فيما قبل الموصوف، ولا يجوز أن يكون ذا منه بمنزلة الذي، لأن عسى لا يصلح لكونه غير واجب أن يقع صلة له، وكذلك أخوات عسى. ألا ترى أن الاستفهام والنفي وأخواتهما لا يقعن صلات، إذ كانت الصلات إنما تكون من الجمل الخبرية الواجبة والمعنى أنهم لا يقدرون في وشايتهم على أكثر من قطع القول بأنني لك محب وعاشق. ثم أوجب بنعم فقال: قد صدقوا فيما ادعوا ولفقوا، أنت تكرمين علينا وإن لم يعد علينا منك خير، ولا صادفنا من إحسانك صفاء ولين. كأنه يبري ساحتها، ويرى أن ميله وهواه لا يشبنها مع سلامة طريقتها، واستحكام عفافها.(1/968)
وقال آخر:
وإذا عتبت على بت كانني ... بالليل مختلس الرفاد سليم
ولقد أردت الصبر عنك فعاقني ... علق بقلب من هواك قديم
يبقي على حدث الزمان وريبه ... وعلى جفائك إنه لكريم
يقول: اليسير من إنكارك ولومك يعظم عندي ويصعب علي، حتى أبقى له ليلتي ساهراً مؤرقاً، وسادماً قلقاً، كأنني لديغ حية، أو مسلم لعارض علة. ولقد رمت التسلي عنك، والتصبر منك، فدفني عن المراد ما علق بقلبي من هواك قديماً وملك قيادي لك، حتى لا أجد دونك منصرفاً ومحياً. ثم يوصف العلق اللازم له، والحب الغالب عليه فقال: إنه يبقى على تغير الزمان، وتلون الحدثان، فلا يعض له فتور ولا نكوص؛ وعلى ما يتجدد عليه في كل حال من جفاء فيك شديد، وإعراض أليم، فلا يبدله قصور ولا نبوء؛ إن هذا العلق لكريم المحتد، محكم العقد، ثابت الأساس والبناء، مقدم الذكر في صحف الوداد والصفا.
وهذا الكلام، اعني قوله إنه لكريم يسمى الالتفات.
وقال آخر:
ألمم على دمن تقادم عهدها ... بالجزع واستلب الزمان جمالها
رسم لقاتله الغرانق ما به ... إلا الوحوش خلت له وخلا لها
ظلت تسائل بالمتيم أهله ... وهي التي فعلت به أفعالها
لإلمام: الزيارة الخفيفة. يخاطب صاحباً له ويسأله مساعدته في زيارة دار أحبته، فقال: زر آثار دار متقادمة العهد بسكانها. مسلوبة الجمال لتأثير نوائب الزمان فيها، بالجزع - وهو منعطف الوادي. وروى بعضهم: جلالها، ويكره هذا لما حكاه الأصمعي من أنه لا يقال الجلال إلا في الله تعالى، ولأنه وإن جاء في غيره عز وجل فهو قليل في العرف والاستعمال.(1/969)
وقوله رسم لقاتلة الغرانق، ابتداء كلام، أي هو رسم دار لامرأة كانت تصيد الغرانق وتقتتلهم بالحب. والغرانق: الشاب الناعم الحسن، بضم الغين، وجمعه الغرانق بفتحها العراعر، والجوالق والجوالق. وقد استبدلت بأهلها وحوشاً فهي خالية لها، وهي رائعة فيها، لا تعدل عنها. وقوله ظلت تسائل، أي تبقى نهارها تسأل عشيرة العاشق عنه وعن استهتاره وعلته، وهي أعرف الناس بأخباره، إذ كانت المتولية لفتنته وخباله. والمتيم: المعبد؛ يقال: تيمه الحب، أي عبده واستعبده. وقوله خلت له، في موضع الصفة للرسم.
وقال آخر:
وما برح الواشون حتى ارتموا بنا ... وحتى قلوبنا عن قلوب صوادف
وحتى رأينا أحسن الوصل بيننا ... مساكتة لا يقرف الشر قارف
قد تقدم القول في ما برح وأنه في معنى ما زال. فيقول: لم ينفك السعاة عن الوشاية والتقاط الأحاديث للنميمة، واستدراج المختلطين بنا، واستشفاف المتبلغين بأخبارنا وأخبار غيرنا، حتى فرقوا بيننا، فأققبلوا يرمي بعضها بعضاً بمصاير أمورنا، وحتى صدفت القلوب، فمال كل من عشيرتنا إلى الاستبدال بموضعه، والانتقال عن جوار صاحبه، وإلى أن رأينا أحين المواصلة بيننا ملازمة السكوت، واطراح الإيحاء والرموز، توقياً من فرقة تتوجه، وتفادياً من تهمة تتسلط. هذا إذا رويت لا يقرف بضم الفاء. ويروى لا يقرف بكسر الفاء، ويكون في موضع الجزم جواباً للأمر الذي يدل عليه قوله مساكتة، لأنه في هذا الوجه مصدر في معنى الأمر، والجملة في موضع النصب على أن يكون مفعولاً ثانياً لقوله رأينا. والمساكتة تكون مواصلة تجعل بدلاً منها. ويكون هذا مثل قول الآخر:
تحية بينهم ضرب وجيع(1/970)
ويكون المعنى: رأينا أحسن المواصلة بيننا تواصينا بأن ساكتوا الأحبة ومن يختلف بيننا وبينهم، لا يقرف الشر قارفه. وفي الوجه الأول يكون مساكتة مفعولاً ثانياً. والمعنى سكوتاً من الجانبين، أي كفافاً لا يتولد منه قرف ولا تهمة، ويكون قوله لا يقرف الشر، تفسيراً للمساكتة، وبياناً لاختيارهم لها. ويروى صوارف بالراء، والمعنى قلوب تصرف الود بما تأتيه وتستعمله عن القلوب الأخر.
وقال آخر:
فإن ترجع الأيام بيني وبينها ... بذي الأثل صيفاً مثل صيفي ومربعي
أشد بأعناق النوى بعد هذه ... مرائر إن جاذبتها لم تقطع
رجع هذا معدى، لأنه بمعنى رد. يقال: رجعته رجعاً فرجع رجوعاً. وصيفاً انتصب على المفعول من قوله ترجع. وكان الواجب أن يقول: صيفاً ومربعاً مثل صيفي ومربعي، أو يقول: بذي الأثل صيفي ومربعي، أي أياماً كأيامها، فلما لم يلتبس المراد قال: صيفاً مثل صيفي ومربعي. وقوله أشد بأعناق النوى، أشد في موضع الجزم، لأنه جواب الشرط. ولك أن تضم الدال منه إتباعاً للضمة الضمة، وأن تكسرها لالتقاء الساكنين وأن تفتحها، لأن الفتحة أخف الحركات. والمعنى إن ردت الأيام الدائرة بيني وبينها ربيعاً مثل مربعي، وصيفاً مثل مصيفي معها، استظهرت على النوى بأن أوثق أواخيها، وأمر حبالها التي أربطها بها، حتى إن جاذبتها قاومتك فلم تتقطع. وهذا مثل. والمراد أنى أحكم التألف والتجمع بما يؤمن معه تعقب الآراء بالمزايلة والافتراق.
وقال كلثوم بن صعب
دعا داعياً بين فمن كان باكياً ... معي من فراق الحي فليأتني غدا
فليت غداً يوم سواه وما بقي ... من الدهر ليل يحبس الناس سرمدا
لتبك غرانيق الشباب فإنني ... إخال غداً من فرقة الحي موعدا
كان شعباهما متجاورين في النجعة، فلما تقضى أيامها وهموا بالانصراف إلى المزالف وجوانب القرى، دعا داعي الفراق في كل شعب منهما، وبعثوا على التهيؤ، لذلك ثنى فقال: داعياً بين. وقوله فمن كان باكياً، يريد: فمن آلمه ما أحس به(1/971)
من النوى، وأزعجه ما عزم عليه من شق عصا الهوى، وأراد إسعادي على البكاء فليحضرني غداً، فإنه اليوم الموعود، والمشهد المشهود. وقوله فليت غذاً يوم سواه وما بقى، يقول: بودي أن يكون بدل يوم غد يوم آخر غيره، تفادياً مما يجرى ويحدث، وليت بدل الليلة الحائلة دائماً. وما بقي لغة طيء، كأنهم فروا من الكسرة وبعدها ياء إلى الفتحة فانقلبت الياء الفاً.
وقوله لتبك غرانيق الشباب، فالغرانيق جمع، واحدها غرانق. وقال الخليل: يقال: شباب غرانق. وأنشد:
ألا إن تطلاب الصبا منك زلة ... وقد فات ريعان الشباب الغرانق
وقال أيضاً: الغرنوق: الشاب الأبيض الجميل، والجمع غرانيق. ومراد الشاعر: لتبك من استصلح للصبا من الشبان وأرباب الهوى، فإن غدا فيما أظن أو أتيقن يوم مواعدة الحي بالزيال. وانتصب سرمدا على الظروف، ويجوز أن يكون صفة لمصدر محذوف، كأنه قال: حبساُ سرمدا.
وقال زياد بن حمل، وقيل زياد بن منقذ
حبذا انت يا صنعاء من بلد ... ولا شعوب هوى مني ولا نقم
ولن أحب بلاداً قد رأيت بها ... علماً ولا بلداً حلت به قدم
صنعاء: مدينة اليمن. وشعوب ونقم: موضعان باليمن. وعنس وقدم: حيان من اليمن. وقوله لا أحبذا أنت، ذا اشير به إلى لفظة الشيء، والتقدير: لا محبوب في الأشياء أنت يا صنعاء من بين البلاد، وكما أنت لست بمحبوب إلي، فكذلك شعوب ونقم ليسا بهوى مني، أي لا أهواهما ولا أحن أليهما. وقوله ولن أحب بلاداً، يريد: ولن أحب أيضاً منازل هذين الحيين. كأنه كره المواضع بأهلها فاجتواها وذمها. وقوله بلاداً قد رأيت بها عنساً، ضم إلى لفظة بلاد من الصفة ما يخصصها.(1/972)
وقوله حبذا حب فعل، والأصل في حبب، وذا أشير به إلى الشيء، ولذلك وقع للمذكر والمؤنث على حالة واحدة فقلت: حبذا زيد، وحبذا هند؛ لأن لفظة الشيء يشمل المذكر والمؤنث، والواحد والجمع. فهو كما، وضع للجنس.
إذا سقى الله أرضاً صوب غادية ... فلا سقاهن إلا النار تضطرم
لما كان القصد في الدعاء بالسقيا بقاء المدعو له على نضارته، والزيادة في طرواته، واستمرار الأيام به سالماً، مما يؤثر في عنفوان حسنه، أو يغير رونق مائه، جعل عند الدعاء على المذموم عنده السقيا بالنار، لكون النار ضداً للماء ومميتاً لما يجيبه. فيقول: إذا أطال الله تعالى جده تنعم أرض بما يقيم من خصبها، ويديم من رفاغتها ورفاهتها، بتأتي الأمطار عليها، وتبكير الغوادي نحوها، فلا سقى هذه الديار إلا ناراً يهيج ضرامها، ويؤجج لهبا وسعارها، لتبيد خيرها، وتفيت حسنها وزهرتها. وقوله تضطرم في موضع الحال للنار.
وحبذا حين تمسي الريح باردة ... وادي أشى وفتيان به هضم
الواسعون إذا ما جر غيرهم ... على العشيرة والكافون ما جرموا
والمطمعون إذا هبت شامية ... وباكر الحي ن صرداها صرم
قوله وحبذا حين تمسي الريح باردة، جعل ما نفاه من الحب والحمد عما قدم ذكره من البلدان ثابتاً لوادي أشي وأهله، ونبه على انهم في أوان الجدب والقحط يشركون غيرهم من العشيرة في خيرهم، ويستنفذون الأموال التي يتنافس فيها فيما يجلب الحمد، وبيب النشر، إذا هبت الريح باردة، واقتشعرت البلاد هامدة، حتى يصير وسعهم مبذولاً لهم يتوسعون فيه إذا جر غيرهم الجرائر على عشيرته، وذوي لحمته، ثم من اكتسب جريمة منهم تكلفوا باستنقاذة منها، وأقاموا ظل الحماية والصيانة عليه فيها.
وقوله والمطعمون حذف مفعوله، وإنما يصقهم بأنهم يقيمون القرى للأضياف إذا هبت الريح شمالاً، وغادي الحي السحائب الباردة طوائف وفرقا. وقوله هضم جمع هضوم، وهو المنفاق في الشتاء. وقوله هبت شامية انتصب على الحال. وقوله الواسعون مأخوذ من الوسع وهو الطاقة، ويقال: لا يسعك كذا، أي لست منه في سعة. والصرم، أصله في أقطاع الإبل، فاستعاره.(1/973)
وشتوة فللوا أنياب لزبتها ... عنهم إذا كلحت أنيابها الأزم
حتى انجلى حدها عنهم وجارهم ... بنجوة من حذار الشر معتصم
فللوا: كسروا. واللزبة: السنة المجدبة، وجعل الأنياب مثلاً لشدائدها. والكلوح: بدو الأسنان عند العبوس. والأزم: جمع أزوم، وهي العواض، وقوله وجارهم بنجوة، أي عز ومنعة. والنجوة: المرتفعة من الأرض لا يبلغها السيل، فضربه مثلاً للملاذ الذي أووا إليه في فنائهم حذراً من الشر، فيقول: دب شتوة دفعوا أذاها ومعرتها عن العشيرة أشد ما كانت، بما قاموا به من إصلاح أمورهم، وإزالة ضررها عنهم، إلى أن انكشف حدها عنهم، وجارهم معتصم فيهم بأحمى مكان، وأمنع عز وملاذ.
هم البحور عطاؤ حين تسألهم ... وفي اللقاء إذا تلقى بهم بهم
وهم إذ الخيل حالوا في كوائبها ... فوارس الخيل لا ميل ولا قزم
انتصب عطار على التمميز، ويجوز أن يكون مفعولاً له. وارتفع بهم بالابتداء، وخبره في اللقاء، ومفعول تلقي محذوف، كأنه قال: إذا تلقى بهم الأعداء. والبهم: جمع بهمة، وهو الشجاع الذي لا يدري كيف يوتى له، لاستبهام شأنه وتناهى شجاعته. والمعنى: هم البحور إذا اجتداهم المجتدى، لكثرة عطائهم، أي لا ينفذ عطاؤهم على كثرة الاجتداء، كما لا ينفد ماء البحر على كثرة الوراد، وهم بهم في اللقاء إذا لقيت بهم الأعداء، وإذا ركب الفرسان الخيل وثبتوا في كواثبها - والكاثبة: قدام المنسج منها - ففرسانها لالثام ضعاف صغار الأجسام، ولا ماثلون عن وجوه الأعداء. والميل: جمع أميل، وهو الذي يعرض عن وجه الكتيبة عند الطعان، وقيل: هو الذي لا يثبت على ظهر الدابة. ويقال: حال في ظهر دابته، إذا ركبها. وارتفع ميل على أن يكون معطوفاً على فوارس الخيل، ويجوز أن يكون خبر مبتدأ محذوف، كأنه قال: لاهم ميل ولا قزم. وقد مضى القول في فوارس وشذوذه:
لم ألق بعدهم حياً فأخبرهم ... إلا يزيدهم حياً إلى هم
كم فيهم من فتى حلو شمائله ... جم الرماد إذا ما أخمد البرم
يقول: لم أخالط بعد فراقي لهم حياً من الأحياء فخيرتهم إلا وازدادوا في عيني ورجحوا، إذا قستهم بمن سواهم في قياسي ونظري، كمال آلة وتناهى رياسة،(1/974)
وتوفراً على من متحرم بذمة، أو مدل بقرابة. وارتفع هم الأخير بيزيد، وقد وضع الضمير المنفصل موضع المتصل لأنه كان لوجه أن يقول: إلا يزيدونهم حباً إلي. وهذا كما يوضع الظاهر موضع المضمر والمضمر موضع الظاهر إذا أمن الالتباس. وانتصب فأخبرهم لأنه جواب النفي بالفاء، والعامل أن مضمرة بين الفاء والفعل.
وقوله كم فيهم من فتى حلو شمائله فكم للكتثير، وموضعه رفع بالابتداء وخبره من فتى. ومعنى جم الرماد أي كثير الأضياف، لأن الرماد إنما يكثر بحسب اتساع ضيافته، وكثرة غاشيته. والبرم: الذي لا يدخل مع القوم في الميسر، ومفعول أخمد محذوف، والمراد ما أخمد البرم النار لبخله ولشدة الزمان ونكده. فجعل الفتى حلو الشمائل، وهي الطبائع؛ لأن الضيافة إنما تكرم وتشرف بحسن خلق المضيف وخفته في الخدمة، وملاطفته لضيوف، وتحفيه وبره بهم.
تحب زوجات أقوام حلائله ... إذا الأنوف امترى مكنونها الشيم
وصف النساء منهم بحسن التوفر على أشباههن، وكمال التفقد بما يهدين إليهن إذا قلت الهدايا واشتد الزمان، وبلغ البرد حداً يستخرج مكنون الأنوف من الرعام فيقول: زوجات الأبرام ومن يشبههم من ذوي الحاجة، أو الممتنعين من الميسر، يحببن أزواج هؤلاء الفتيان إذا أمحل الزمان واشتد القحط والجدب، لحسن تعطفهن عليهن، وصرف العناية وجميل التفقد إليهن. وامترى: استخرج. والشيم: البرد. وأراد بالمكنون المخاط. والحلائل: النساء المتزوجات سمين بذلك لأنها تحال أزواجها، أي تنزل معها؛ والواحدة حليلة وفعيلة بمعنى مفاعلة، كقعيدة، وجليسة.
ترى الأرامل والهلاك تتبعه ... يستن منه عليهم وابل رزم
كأن أصحابه بالقفر يمطرهم ... من مستجير غزير صوبه ديم
الأرامل: جمع الرمل والأرملة، لأنه يقع الذكر والأنثى، وهم الذين قد انقطع زادهم وضاقت الأحوال بهم. والهلاك، هم الفقراء الذين أشرفوا على الهلاك، وإنما قال تتبعه لأنهم كانوا يتفيئون بظله، ويعيشون في أفنيته من خيره. وقوله يستن منه عليهم وابل، مثل لما كانوا ينصب عليهم ويجري ويدوم، من إحسانه لهم، لأن الحيا يحي الأرض، كما أن معروف هؤلاء كان يحييهم.(1/975)
والرذم السائل. ومعنى: يستن ينصب. سنت الماء وأسنته بمعنى. والوابل: المطر الضخم القطر. وقوله كأن أصحابه بالقطر يمطرهم، يريد أنهم في دورهم ومحلهم ذك فعلهم مع عشيرتهم، ومع روادهم ومؤمليهم، فإذا سافروا ترى الصحابة في المكان الخالي يمطرهم من نواله ما يجري مجرى الصوب من سحاب متحير ممتلىء ماء، غزيزر النوء، دائم السيل. والديم: جمع ديمة، وهي المطر يدوم بسكون، والمستحير والمتحير. بمعنى واحد. وهذا التحير إنما هو كناية عن الامتلاء. ويقال: استحار شبابه.
غمر الندى لا يبيت الحق بثمده ... إلا غدا وهو سامي الطرف يبتسم
إلى المكارم يبنيها ويعمرها ... حتى ينال أموراً دنها قحم
الغمر: الواسع العطاء. ومعنى بثمده يكثر عليه حتى يفنى ما عنده. والماء المثمود: المزدحم عليه حتى ينزر نزفاً. وقوله وهو سامي الطرف، أي لا يكسبه امتداد العطاء منه، ودوام الإحسان، غضاضة طرف وانكسار نشاط، بل يرى بعقبه ضحوكاً عالي النظر. وقوله لا يبيت الحق يثمده إلا غدا، يشتمل على معنى الشرط والجزاء، أي كلما بات الحق يثمدها عنده غدا سامي الطرف مبتسماً.
وقوله يبنيها ويعمرها، في موضع الحال، أي بانياً عامراً. وقوله إلى المكارم، اتصل إلى بقوله إلا غدا. والقحم: الشدائد، واحدتها قحمة، والمعنى أنه بذال سخي جم المعروف، لا يبيت تورد الحقوق نحوه يستغرق ماله إلا ابتكر وهو ضحاك عالي النظر إلى ابتناء المكارم، جرياً على العادة وألفاً لها، وهو يعمرها ويصل جوانبها بأمثالها حتى يصيب أموراً تحول بينها وبين من يريد نيلها والوصول إليها شدائد وتكاليف. وقحم الطريق: ما صعب منها، وفي الحديث: إن للخصومة قحماً، أي يتقحم على المهلك.
تشقى به كل مرباع مودعة ... عرفاء يشتو عليها تامك سنم
ترى الجفان من الشيزى مكللة ... قدامة زانها التشريف والكرم(1/976)
ينوبها الناس أفواجاً إذا نهلوا ... علوا كما على بعد النهلة النعم
المرباع: الناقة التي من شأنها أن تضع ولدها في الربيع، وهي المحمود من النتاج، ولذلك قال:
أفلح من كان له ربعيون
ومرباع: بناء المبالغة. والمودعة: المكرمة الموفرة على التناسل لا تعمل ولا تحمل. والعرفاء: التي لسمنها صار لها كالعرف. والتامك: تلسنام المشرف. والسنم: العالي، ويقال: بعير سنم، أي مشرف السنام، والمعنى: تبقى شتوتها سمينة لا يغيرها الجدب والقحط، وإنما قال تشقى به، وهو يريد الفتى لأن المراد لا ينحر من الجزر إلا ما يتنافس فيه مثل ناقة هذه صفتها. وقوله ترى الجفان من الشيزى مكللة، يريد أن الجفان المعدة للأضياف عليها كالأكاليل من فدر اللحم، وقد زينها كرم بارع، وتشريف فاخر، وهذا بما يستعمله من اللطف والتأنيس مع الأضياف، ومن توفر خدمة الخدم عليهم، ولكمال بهاء المجلس وكونه مشحوناً بما يروق ويعجب. وقوله ينوبها أي ينتابوها طائفة بعد طائفة، وفوجاً بعد فوج، فإذا تنالوا النهل رجعوا فأعقبوه العلل، كما يفعل ذلك النعم عند وروده الماء. وانتصب أفواجاً على الحال. والنعم يقع على الأزواج الثمانية، والغالب عليها الإبل.
زارت رويقة شعثاً بعدما هجعوا ... لدى نواحل في أرساغها الخدم
وقمت للزور مرتاعاً وأرقني ... فقلت أهي سرت أم عادتي حلم
وكان عهدي بها والمشي يبهظها ... من القريب ومنها النوم والسأم
يصف الخيال فيقول: زارت خيال هذه المرأة قوماً غبراً، أنضاء مرها، بعدما ناموا عند إبل ضوامر مهازيل، شدت في أرساغها سيور الغد، لشدة سيرها وتأثير الكلال فيها، فقمت من مضجعي للطيف الزائر خائفاً، وطار النوم عني، وأخذني القلق، ووساوس النفس والزمع، فميلت الفكر بين شيئين أحدهما زيارتها بنفسها، والثاني حلم نائم اعتادني فأرانيها، وصرت أراجع نفسي وأقول: كيف يجوز مجيئها،(1/977)
وكنت أعهدها وقطع المسافة القريبة كانت تتكلفه بشق النفس، وتحمل الثقل والكد. هذا والغالب عليها الملال مما يتعب وإن خف، وطلب الراحة بالنوم ليسير الخطب منها ببال ولو قل. وانتصب مرتاعاً على الحال.
وقوله أم عادني حلم، أم هذه هي المعادلة، والمعنى أي هذين الأمرين كان. وقوله أهي سرت، أسكن الهاء من هي مع ألف الاستفهام، لأنه أجراها مجرى واو العطف وفائه، فكلما يسكن معها لأنها لا تقوم بنفسها ولا تستقل كذلك أسكن مع الألف. ومعنى يبهظها: يثقل عليها ويشق. وقوله: والمشي يبهظها، خبر كان فيه. وقوله: وكان عهدي بها الواو واو الحال من قوله أهي سرت.
وبالتكاليف تأتي بيت جارتها ... تمشي الهوينا وما تبدو لها قدم
سود ذوائبها بيض ترائبها ... درم مرافقها في خلقها عمم
يقول: ومما عهدتها عليه أنها كانت تأتي بيت جارتها قضاء لذمام، او أداء لواجب حق، بعد الجهد والشدة، ومداورة النفس على أدنى الكلفة والمشقة، ومشيتها الهوينا، أي على رفق لا استعجال فيها ولا تهافت، ولا تقاذف في أعضائها ولا تتابع، ولذيلها على الأرض سحب وجر، فقدمها لا تبدو، ووقراها المتسبب من كبرها وعجبها لا يهفو. والهوينا: تصغير الهوني والهوني: تأنيث الأهون، وموضعها من الإعراب نصب على المصدر. وقوله تمشي الهوينا، في ضمنه ما يوصف به مثلها من الترفة وفرط الحياء، كما قال:
كأن لها في الأرض نسياص تقصه ... على أمها وإن تكلمك تبلت
وقوله سود ذوائبها يصفها بأنها في عنفوان شبابها، ففرعها أسود، وصدرها بما حواليه أبيض، ومرافقها لا حجم لها لكثرة لحمها، وخلقها تام لاستكمالها.
روبق إنى وما حج الحجيج له ... وما اهل بجنبي نخلة الحرم
قوله: وما حج الحجيج له يجوزأن يكون ما بمعنى الذي، كأنه أقسم بالبيت الذي حج إليه الحجاج، وبإهلال الحرم، وهو رفع الصوت بالتلبية، بجنبي نخلة،(1/978)
وهو مكان بقرب مدينة الرسول عليه السلام يقال له بطن نخلة. ويجوز أن يكون ما موضوعاً موضع من، على ما حكى أبو زيد من قولهم: سبحان ما سبح الرعد بحمده، ويكون الله تعالى المقسم به.
وقوله ما أهل يراد به وما أهل له، فحذف له لتقدم ذكره وطول الكلام به. ويجوز أن يكون الضمير من له يعود إلى الله تعالى وإن لم يجر ذكره، لأن المراد مفهوم، أي حجوا له إقامة لطاعته، وابتغاء لمرضاته. وجواب القسم في قوله لم ينسني. ويقال: أحرم الرجل بالحج فهو محرك، وقوم حرام وحرم ومحرمون.
لم ينسني ذكركم مذ لم ألاقكم ... عيش سلوت به عنكم ولا قدم
ولم تشاركك عندي بعد غانية ... لا والذي أصبحت عندي له نعم
حلف بما حلف أنه لم يشغله عن ذكرهم منذ حصل الفرق بينهم، لا عيش استطابة لمساعدة الزمان له بما سره فتسلى عنهم، ولا بلى ما كان يستجده كل وقت من الوجد بهم وتذكار عهودهم تقادم أيام فتناساهم، ولا شاركها في مستوطن هواها ومقر حبه لها امرأة غانية، فتضايق عنها حماها. ثم ثنى اليمين توكيداً فقال: لا والله الذي أصبحت له عندي نعم مقابلتها بالشكر واجبة للأمر كما قلت، فحذف لأن المراد مفهوم.
وقوله لم ينسني ذكركم يجاب اليمين من حروف النفي بما، ولكنه اضطر فوضع لم ينسى موضع ماأنساني. ولا يمتنع أن ينفرد القسم الأول به جواباً، ويكون جواب القسم الثاني: ولم تشاركك عندي، لأنه خبر ثان، فقدم المقسم له على المقسم به، كما تقول: ما فعلته والله.
متى أمر على الشقراء معتسفاً ... خل النقا بمروح لحمها زيم
والوشم قد خرجت منها وقابلها ... من الثنايا التي لم أقلها برم
قوله: متى أمر استبعاد واستعجال بما يتمناه من العود إلى هذه الأماكن التي ذكرها. وراوه بعضهم حتى أمر، ويتعلق حتى بقوله لا والذي أصبحت عندي له(1/979)
نعم، أي حصلت له نعم عندي كي أمر، لأن لحتى موضعين، والفعل بعدهما منصوب: أحدهما أن يكون بمعنى لأن وكي، والثاني أن يكون بمعنى إلى أن، تقول: جئتك حتى تكرمني، والمعنى لأن تكرمني، وكي تكرمني. وتقول: انتظر حتى تخرج، والمعنى إى أن تخرج. والشقراء، قال الأصمعي: يعني فرسه، وعلى هذا يكون الشقراء والمروح فرساً واحداً. والباء من بمروح، يتعلق بقوله معتسفاً، وعلى الشقراء بأمر، ويكون في موضع الحال، أي راكباً الشقراء. وانتصب معتسفاً على الحال. والاعتساف: الأخذ على غير هداية ولا دراية. يقال: فلان يتعسف الناس، أي يأخذهم بغيرالحق. والخل: الطريق في الرمل. والنقا: الرمل. والمروح: النشيط. ومعنى زيم: متفرق. ووشم وبرم: موضعان. والثنايا: العقاب. ويروى: من العقاب التي لم أقلها ثرم، وهي جمع ثرمة، وهي صدع يكون في الثنية. ومنه قولهم: فلان أثرم، إذا سقط بعض ثناياه فصارت بينهما فرجة. ولم أقلها: لم أبغضها. وقد قيل في الشقراء: إنه موضع أو هضبة. وانعطف الوشم عليه، وبمروح حينئذ يتعلق الباء منه بحتى أمر. وعلى الوجه الأول تنصب الوشم وتعطف على خل النقا.
ياليت شعري عن جنبي مكشحة ... وحيث يبني من الحناءة الأطم
عن الأشاءة هل زالت مخارمها ... وهل تغير من آرامها إرم
وجنة ما يذم الدهر حاضرها ... جبارها بالندى والحمل محتزم
قوله ياليت شعري يا حرف النداء، والمنادى محذوف. وهذا الكلام تحسر في إثر ما فاته من أمر الأرضيين المذكورة. وشعري أسم ليت، وخبره محذوف لا يظهر البتة، ومفعولاً شعري قوله هل زالت مخارمها. وقوله عن جنبي مكشحة بيان ما تمنى علمه، وفي أي جانب هو. ويروى: عن جزعي مكشحة وحوث. والجزع: جانب الوادي. ومكشحة: أرض. وحوث لغة في حيث، لأن فيه أربع لغات: حيث، وحيث، وحوث، وحوث. فالضم تشبيهاً له بالغايات قبل وبعد، والفتحة لخفته. والحناءة: أرض. والأطم: الحصن وكل بناء مرتفع، والجمع آطام.(1/980)
وقوله عن الأشاءة، فإن كان الأشاءة موضعاً وبعض ما يقع عليه مكشحة فإنه بدل من عن جنبي مكشحة، وقد أعيد حرف الجر معه. وإن كان النخلة فإنه يجوز أن يريد بقعتها، فحذف المضاف وأقام المضاف إليه مقامه. ولا يمتنع أن يكون أراد: وعن الأشاءة، فحذف العاطف كما تقول: رأيت زيداً، عمراً، خالداً. وأنشدنا أبو علي الفارسي:
كيف أصبحت كيف أمسيت مما ... يزرع الحب في فؤاد الكريم
فيقول: ليت علمي كان واقعاً بأحوال هذه المواضع، وهل هي باقية على ما عهدتها من قبل، أو هل تغيرت أعلامها وزالت مخارمها. وإنما يدل على حنينه إليها، وتأسفه على البعد عنها. وقوله وجنة يريد وعن جنة حاضرها يرضي عن الدهر ويحمده، فلا يتسخط أيامه، ولا يذم عوارضه. والجبار من النخل: ما فات اليد طولاً. وقوله بالندى والحمل محتزم تنبيه على الخصب فيها، وعلى غضارة عيش سكانها. والاحتزام كالالتفاف، ويروى جبارها بالندى والخير.
فيها عقائل أمثال الدمى خرد ... لم يغذهن شقا عيش ولا يتم
ينتابهن كرام ما يذمهم ... جار غريب ولا يؤذي لهم حشم
مخدمون ثقال في مجالسهم ... وفي الرحال إذا صاحبهم خدم
قوله فيها أي في الجنة. عقائل، أي نساء كريمات، كأنهن الصور المنقوشة حسناً، منعمات لم تمسهن فاقة وفقر، ولا جهدن بأيام أدبرت عنهن، ولا شقين بمناكدة عيشهن، ولا أصبن بموت كافلهن أو قيمهن، عفيفات، حييات، لا يعرفن منكر الأخلاق، ولا مايشين من الأفعال، فهن ربائب النعم، وغرائر الزمن، ومدللات العشائر والسكن.
وقوله: ينتهابهن كرام مدح الرجال عطفاً على مدحهن فقال: يدبر هؤلاء النسوة رجال كرام أعزاء، يحمدهم الجار الغريب، لوفائهم له بالعقد، وحسن تعطفهم عليه عند البلاء والجهد، ويرضى عنهم الخليط النسيب لجمال عشرتهم،(1/981)
وكرم أخلاقهم، لا كبر فيهم، ولا ترفع نعهم، ثم ترى حشمهم يسالمهم في الحضر رزان سادة يخدمهم من يغشاهم، وفي السفر خفاف لطاف يكرمون الصابة والمرافقة، ويخدمون الغاشية والمجاورة، ويتحملون في أحوالهم المؤن المجحفة، وفي أموالهم النوب المثقلة. والحشم: خدم الرجل ومن يحتشم له، أي يغضب عند النازلة، ويدافع دونه لطروق الكائنة. وقوله ينتابهن، يروى: يأتابهن يفتعل من الإياب.
بل ليت شعري متى أغدوا تعارضني ... جرداء سابحة أو سامح قدم
نحو الأميلح من سمنان مبتكراً ... بفتية فيهم المرار والحكم
ليست عليهم إذا يغدون أردية ... إلا جياد قسى النبع واللجم
بل: حرف يدخل للإضراب عن الأول والإثبات للثاني، كأنه لما صرف الكلام عما كان فيه وشغله بغيره أتى ببل، إيذاناً بذلك. فيقول: ليت علمي واقع بما يقتضي هذا السؤال، وهو متى ابتكر من سمنان نحو الأميلح - وهما موضعان - وتعارضني في السير حجر قصيرة الشعر، تسبح في عدوها، أو ذكر سابق يسبق أصحابه ويتقدمها من حيث جرى، ومعي فتيان فيهم هذان المذكوران، ثم وصف الفتيان بأنهم لا يهمهم إلا الفروسية وركوب الخيل، وإعداد آلات الحرب، والصيد والطرد. وقوله إلا جياد رفعة والوجه الجيد النصب، لأنه منقطع مما قبله، لكن بني تميم يرفعون مثل هذا على البدل. وهذا يشبه بدل الغلط، لهذا ضعف في الإعراب.
والبيت يشبه قول لبيد:
فرط وشاحي إذ غدوت لجامها
وانتصب مبتكراً على الحال. وقسى مقلوب، وأصله قووس، ويروى: قياس النبع. والمرار قيل هو أخوه. والحكم: ابن عمه، كذا ذكره الأصمعي.
من غير عدم ولكن من تبذلهم ... للصيد حين يصيخ القانص اللحم(1/982)
فيفزعون إلى جرد مسحجة ... أفنى دوابرهن الركض والأكم
قولهمن غير عدم ولكن، تعلق من بقوله ليست عليهم إذا يغدون أردية. والمعنى أن إخلالهم بلبس الأردية واستسرائها والتأنق فيها، لا لفقر وفاقة، لكن لولعهم بالصيد، وتبذلهم له في الوقت الذي يستمع الصائد القرم إلى اللحم إلى أصحابه، في اختيار مواضع الصيد، وافتقاره لقلته. ويروى: حين ينادي السائف اللحم. قال الأصمعي: يريد يرتدون بقسيهم ولجم خيلهم إذا ابتكروا، لا هم لهم غيره. والسائف: الذي يحوش الصيد على أصحابه، أي ينادي أصحابه باعثاً على الأخذ، ومحذراً من الفوت. وقوله فيفزعون إلى جرد مسحجة أي يلتجئون إلى خيل قصيرة الشعر، نشيطة، قد سحج بعضها بعضاً بالعض والاستنان. ويجوز أن يريد أن العمل والكد سحجها، ألا ترى أنه قال: أفنى مآخير حوافزهن ركض الفرسان لها، واستحثاثهم إياها، وتأثير الإكام في حوافرها، لأن جريها كان عليها. ويقال: أكمة وأكم، وإكام وأكم.
يضرحن صم الصفا في كل هاجرة ... كما تطايح عن مرضاحه العجم
يغدو أمامهم في كل مربأة ... طلاع أنجدة في كشحه هضم
أصل الضرح الرمي. وإنما وصف الخيل بصلابة الحوافر، وأنها تكسر ما تطأه من صلاب الصفا إذا سارت في الهاجرة. ثم شبه ما يتطاير من حوافرها من الحصي بما يتطاير من النوى عن مرضاحه. والمرضاح: الحجر الذي يكسر عليه النوى أو به. ومعنى تطايح: تطاير. وقوله: يغدو أمامهم يعني في التصيد. والمربأة: المحرسة. وقوله طلاع أنجدة جمع كفرخ وأفرخة، ولا يمتنع أن يكون أنجدة جمع نجاد، ونجاد جمع نجد، فيكون أنجدة جمع الجمع. ويقال: طلع الجبل، إذا علاه. والهضم: انضمام الضلوع. يصف خفته وشهامته، وابتذاله نفسه في الصيد والفروسية.(1/983)
وقال عمرو بن ضبيعة الرقاشي
تضيق جفون العين عن عبراتها ... فتسفحها بعد التجلد والصبر
وغصة صدر أظهرتها فرفهت ... حزازة حر في الجوانح والصدر
العبرة: الدمعة، وقد استعبر، أي جرى عبرته، ويقال: لامه العبر، وأراه عبر عينه، أي سخنه عينه وما أبكاه. فيقول: تمتلىء العين دمعاً حتى تتضايق جفونها عن احتباسه، فتصبها بعد تجلد منها في الإخفاء، وتصبر على مدافعة البكاء.
وقوله وغصة صدر يريد غمة اغتص بها الصدر فأظهرتها، بعد أن كانت لا تسوغ بتنفس الصعداء، فسكنت تفظيع لوعة تمكنت بين الجوانح والصدر. والجزازة: وجع القلب من أذى يصيبه. والجوانح: الأضلاع القصيرة، الواحدة جانحة. وقوله: رفهت: وسعت؛ وعيش رافة.
ألا ليقل من شاء ما شاء إنما ... يلام الفتى فيماا استطاع من الأمر
قضى الله حب المالكية فاصطبر ... عليه فقد تجرى الأمور على قدر
ألا: افتتاح كلام. واللام من ليقل لام الغائب، وقد يدخل في فعل الحاضر، على ذلك ما روى عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قرأ: " فبذلك فليفرحوا ". وقوله ماشاء أراد ماشاء أن يقوله، فحذف المفعول، وكذلك قوله من شاء محذوف المفعول، أي من شاء القول؛ فإن الملام يستحقة الفتى فيما يطيقه ويدخل تحت مقدوره ثم لايفعله، فأما ما لا يطيقه فقد سقط اللوم فيه عنه.
وقوله " قضى الله حب المالكية "، يريد حتمه الله عليك وأوجبه، فتكلف الصبر فيه، فقد تجري الأمور على قدر، أي على تقدير، تضيق السبل عن الانفكاك منه، فلا حيلة فيه إلا التزامها. وهذا تسلية منه لنفسه وبعث لها على الرضا بما قسم له. وقضي عليه.
وقالت وجيهة بنت أوس الضبية
وعاذلة تغدو على تلومني ... على الشوق لم تمح الصبابة من قلبي(1/984)
فما لي إن أحببت أرض عشيرتي ... وأبغضت طرفاء القصيبة من ذنب
تقول: رب لائمة همها مقصور على لومي وعتبي، فيما أهواه وأميل إليه، وأعد نفسي به فتتشوقه، فلا يؤدي عتبها إلى طائل لها، لأن تنصحها مردود، ووعظها مدفوع؛ ولا إلى طائل لي، إذ كان لاتزداد الصبابة في قلبي إلا تمكناً وثباتاً، ولا الاشتياق اللازم لي إلا ازدياداً ودواماً؛ وأنا إذا أحببت أرض عشيرتي ورهطي، ووطن أحبتي وأهلي، ومسقط رأسي، وحيث حل الشباب تميمتي، وأبغضت القصيبة منبت الطرفاء، أرضاً لم أقض مأربةً فيها، ولا أوجبت مذمة لها، فلا ذنب لي ألام فيه، ولا جريرة مكتسبة فأعتب عليها.
وقوله " من ذنب " في موضع الرفع، لأنه اسم مالي، وجواب الجزاء من قوله " إن أحببت أرض عشيرتي " في قوله " مالي من ذنب "، وجواب رب في قوله " لم تمح الصبابة ".
فلو أن ريحاً أبلغت وحي مرسل ... حفي، لناجيت الجنوب على النقب
فقلت لها أدى إليهم تحيتي ... ولاتخلطيها، طال سعدك، بالترب
فإني إذا هبت شمالاً سألتها ... هل ازداد صداح النميرة من قرب
الوحي: مصدر وحيث لك بخير، أي أجبرت؛ ويستعمل أوحى ووحي في معنى البعث والإلهام. والإيحاء: الإيماء والإشارة. فيقول: لو أن ريحاً أدت خبر مرسل، أو بعث ملح منفذ لساررت ريح الجنوب على الطريق - والحفي يكون الملح، ويكون اللطيف، ومصدره الحفاية. والنقب: الطريق في الجبل - ولقلت: ياريح بلغيهم تحيتي، وصونيها عن الإذالة، وخلطها بالتراب، أطال الله سعادتك. وقوله " طال سعدك " دعاء لها، وهو من الاعتراضات المستحسنة، ومثله قول الآخر:
فما مكثنا دام الجميل عليكما ... بثهلان إلا أن تزم الأباعر
وقول الآخر:
إن الثمانين وبلغتها ... قد أحوجت سمعي إلى ترجمان(1/985)
وقوله: فإني إذا هبت الريح شمالاً، انتصابه على الحال. وساغ ذلك فيه لكونه صفةً لااسماً. وعلى هذا الجنوب والقبول والدبور، يجوز في جميعها أن تقع أحوالاً لكونها صفات. وكأن الجنوب كانت تهب من نحو أرضه مستقبلةً لديار أحبته، فلذلك جعلها رسوله. وكانت الشمال تهب من ناحية أرض حبيبه مستقبلةً بلاده، فلذلك زعم أنه يسائلها عما استعجم عليه من أخبارهم.
وقال ابن الأعرابي: مهب الجنوب يمان من قبل اليمن، وقلما تسري بالليل، وهي مباركة. والشمال شآمية، فهي أكثر الرياح هبوبا، وهي صاحبة الشتاء.
و" صداح النميرة " الصدح: الصوت، يقال: صدح الديك والغراب، إذا صوتا. ويعني جلبة الصوت ونداء داعيهم. والمنادى بالرحيل فيهم كأنه ينتظرهم لحضور وقت انتجاعهم ونهضاتهم، وكان يتعرف ذلك ليستبشربه.
وقال مرداس بن هماس الطائي
هويتك حتى كاد يقتلني الهوى ... وزرتك حتى لامني كل صاحب
وحتى رأى مني أدانيك رقةً ... عليك ولولاأنت ما لان جانبي
ألاحبذا لوما الحياء وربما ... منحت الهوى ما ليس بالمتقارب
بأهلي ظباء من ربيعة عامر ... عذاب الثنايا مشرقات الحقائب
يقول: بلغت الغاية القصوى في كل ما كان فيك ولك، فحملت نفسي من أعباء الهوى وطلب التناهي فيه ما كاد يأتي علي، أعد ذلك واجباً لك أؤديه، وفرضاً من حقوقك أقيمه وآتيه، ثم أدمنت الزيارة خادماً، وترددت في التعرف والاستعطاف متقرباً، حتى توجه إلى اللوم من أصحابي، واستسرفني في البرجيرتي وأودائي، وإلى أن ظهر لأقاربك شفقتي عليك ورقتي، ووضح ما اشتهر به أمري عندهم وعرف. ولولا أنت لبقيت على ما وجدت عليه قديماً من صبانة النفس وإكرامها وتبعيدهاعن المراكب الشائنة المؤدية إلى ابتذالها، فلم يلن جانبي، ولم يزل جماحي وصعوبتي.(1/986)
وقوله " ألا حبذا " المحبوب محذوف، كما حذف المحمود في قولهتعالى: " نعم العبد إنه أواب "، والمراد حبيب إلى التهتك في الهوى، وتجاوز المألوف فيه إلى المستشنع القبيح، لولا الحياء، على أني ربما منحت هواي مالا مطمع في بلوغه ودنوه. وهذا كما قال أبو تمام:
غالي الهوى، مما يرقص هامتي ... أروية الشعف التي لم تسهل
وقوله " بأهلي ظباء " رجوع منه إلى استلذاذ الهوى وإظهار التجلد فيه، فيقول: أفدي بأهلي نساء من ربيعة عامر، عذاب المباسم، حسان الثغور والمضاحك، عظيمات الأكفال، مشرفات الأرداف.
والحقائب: جمع الحقيبة، وهي عجز الرجل والمرأة جميعاً. ويقال: امرأة نفج الحقيبة. والقصد بالتفدية في قوله " بأهلي ظباء " إلى صاحبته، وإن كان لفظه عاماُ لها ولغيرها.
وقال بعض بني أسد
تبعت الهوى يا طيب حتى كأنني ... من أجلك مضروس الجرير قؤود
تعجرف دهراً ثم طاوع أهله ... فصرفه الرواض حيث تريد
وإن ذياد الحب عنك وقد بدت ... لعيني آيات الهوى لشديد
يقول: أعطيت الهوى مقادتي فيك، فتبعته حيث جرني، لاأتمنع عليه، ولا أطلب معدولاً إليه، حتى صرت كأنني بعير قد عضه الجرير فلان وانقاد.
والجرير: جبل مضفور من أدم. والضرس: العض. والقؤود: فعول في معنى مفعول، فهو كالقتوب والركوب، والهمزة فيه بدل من العين.
وقوله " تعجرف "، أي أخذ غير القصد زماناً، لأنه كان صعباً ثم تذلل ودخل في طاعة مداوره، وهذا مثل ضربه للنفس في ابتداء هواه، وأنه تأبى عليه مدة، فتردد بين جده وهزله، واقتساره وليانه، حتى ركب منه كل مركب، واستوطأ ظهره كل كل استيطاء. فهذا معنى " وصرفه الرواض حيث تريد ".(1/987)
وقوله " وإن ذياد الحب عنك "، يريد أن دفاع حبه عنها وصرفه عسر صعب وقد بدت آيات الهوى. والمعنى أن للهوى علامات حيث مالت بالإنسان ذهب معها، فيعد الغي رشداً، ويرى التهالك فيه حياةً، ولورام دفع حبه عنه، ولي نفسه دونه، لتعذر وامتنع.
وما كل ما في النفس للناس مظهر ... ولاكل مالا تستطيع تذود
وإني لأرجو الوصل منك كما رجا ... صدى الجوف مرتاداً كداه صلود
يقول: ليس جميع ما يشتمل عليه صدري، ويشقى في الهوى بتحمله جوانحي، ممكناً إظهاره؛ ولا كل ما تطيقه النفس، أو لاتنهض به، يسهل دفعه؛ فأنا أسير الهوى وتبيعه، متردد في بلواه، لاأجد منه مخلصاً، ولا استطيع عنه ملجأً ومناصاً.
وقوله " وإني لأرجو الوصل منك " يقول: وعلى ما أصفه من حالي فيك أرجو وصالك رجاء إنسان شديد العطش، يطلب الماء من موضع حفره فأكدى، أي بلغ كديته، وهي حجر يعرض في البئر عند الاحتفار فيمتنع قطعه بالمعاول، وجمعها كدي. وهذا مثل، والمعنى أن رجائي في خيرك مع حاجتي رجاء رجل عطشان يطلب الماء ويرجوه من بئر هكذا. والصلود: اليابس، ويقال للبخيل: أصلد وصلد وصلود، تشبيهاً به، وكذلك زند صلود إذا لم يور. والمرتاد: الطالب، ومفعوله محذوف، ويجوز أن يعنى بالمرتاد المطلوب، ويراد به الماء، وقد أقام الصفة مقام الموصوف، وعلى الوجه الأول ينتصب على الحال.
وكيف طلابي وصل من لو سألته ... قذى العين لم يطلب وذاك زهيد
ومن لو رأى نفسي تسيل لقال لي ... أراك صحيحاً والفؤاد جليد
يصف بخلها وتمنعهافيقول: كيف أستجيز طلب وصال إنسان لو سألته إزالة قذى العين لم يجبني إليه، وذاك قليل فيما يسأل ويلتمس. فحذف المضاف، وأقام المضاف إليه مقامه، كما قال الآخر:
يا صخر وراد ماء قد تناذره ... أهل الموارد ما في ورده عار(1/988)
يريد: ما في ترك وروده عار، فحذف المضاف. ويجوز أن يريد لو سألته ألا يقذى عيني، كما تقول: سألت فلاناً ضرب فلان، أي استوهبته صربه لم يطلبني. ويجوز أن يريد من لو سألته تافهاً لا خطر له ولا اعتداد به، فضرب المثل بالقذى، والمعنى: لو سألته ما يقذي العين.
وقوله " من لو رأى نفسي " عطفه على من لو سألته، يريد: ولو رأى دمي يسيل لقال لقسوة قلبه علي: أراك صحيحاً لاداء بك ولا آفة، وقلبه جليد، أي يرق لي ولا يرحمني، والمراد على هذا بالقلب قلب المرأة، ويكون الواو في " والفؤاد " واو الحال، ويجوز أن يكون من تمام الحكاية ومن كلام المرأة، والمعنى أنها تقول مع ما ترى من سيلان دمي: أرى نفسك صحيحة، وقلبك ثابتاً ماضياً، لا آفة بك ولا غائلة.
فيأيها الريم المحلى لبانه ... بكرمين كرمي فضة وفريد
أجدي لاأمسي برمان خالياً ... وغضور إلا قيل أين تريد
كأنه استعطفها وذكرها اشتهاره بها، وتوجه التهم إليه بسببها، حتى ضاق بهذين الموضعين مجاله، وتعسر عليه وإن تفرد فيها إمساؤه.
والرئم: الظبي الخالص البياض. والمحلى لبانه، أي ترائبه. بكرمين، أي بقلادتين. والفريد: الدر. واللبان: الصدر. وقوله " وفريد " إن جعلته معطوفاً على فضة يكون إقواءً، ولك أن ترفعه بالابتداء والخبر محذوف، كأنه قال: وفريد فيهما. ويروى: " كرما فضة وفري "، فينعطف الفريد على " كرما " ويكون الكلام على الاستئناف لا الإبدال، كأنه قال: هما كرما فضة وفريد. وهذا أصح وأجود.
وقوله " أجدى " يريد: أعلى جد منى هذا الأمر، وهو أني لا أمسي منفرداً بنفسي برمان وغضور إلا قيل: أين مرادك. و " أجدى " في موضع المصدر، والفعل العامل فيه محذوف، وذكر الإمساء والمراد الإمساء والإصباح جميعاً، لكنه اكتفى بذكر أحدهما لعلم الناس بأن حاله فيما ذكره يستوي فيه الليل والنهار.
وقال رجل من بني الحارث
منىً إن تكن حقاً تكن أحسن المنى ... وإلا فقد عشنا بها زمناً رغدا(1/989)
أماني من سعدى حساناً كأنما ... سقتك بها سعدى على ظمإ بردا
المنى: جمع منية، وموضعها من الإعراب رفع على أنه خبر مبتدأ محذوف، كأنه قال: هي منىً. فيقول: هذه الخصال التي نعد بها أنفسنا في هذه المرأة وتعدنا بها، لاتخلو من أن تكون صادقةً أو كاذبةً؛ فإما نعيش بذكرها منتظرين لها زمناً ممتداً، وعيشاً واسعاً رافها.
وقوله " أماني من سعدى " نصب بإضمار فعل، كأنه قال: أذكر أماني من سعدى. وكرر لفظ سعدى تلذذاً لاسمها، وقد تقدم القول في أن الأعلام وأسماء الأجناس يفعل بها ذلك. والمعنى أذكر أماني من هذه المرأة جميلةً تزجى أوقاتنا، وكأن موقعها من قلوبنا موقع الماء البارد من ذي الغلة الصادي. وقوله " زمناً رغداً " الرغد: السعة في العيش. ويقال: عيش راغد ورغيد. وانتصاب رغداً على أنه صفة لمصدر محذوف، كأنه قال: عشنا عيشاً رغداً بها زمناً. ولا يمتنع أن يكون صفةً لقوله زمناً، كأنه قال عيشاً واسعاً. وقوله " على ظمإ بردا " يريد ماءً ذا برد.
آخر:
وخبرت سوداء القلوب مريضةً ... فأقبلت من أهلي بمصر أعودها
فوالله ما أدري إذا أنا جئتها ... أأبرئها من دائها أم أزيدها
قوله " خبرت " تتعدى إلى ثلاثة مفاعيل، ومريضةً المفعول الثالث. وقوله " أعودها " في موضع الحال من أقبلت. ويجوز أن يريد بقوله " سوداء القلوب " أنها تحل من القلوب محل السويداء منه، كأن القلوب على اختلافها تميل إليها وتنطوي على حبها. ويجوز أن يكون كان اسمها سوداء وأضافها إلى القلوب، كما قال ابن الدمينة:
قفي يا أميم القلب نقض تحيةً ... ونشكو الهوى ثم افعلي ما بدالك(1/990)
ويجوز أن يكون أراد أنها قاسية القلب سوداؤه، فجمع القلب بما حوله فقال القلوب، أو لأنها كأن لها مع كل متيم بها قلباً، فقال القلوب على ذلك. فيقول: نبيت أنها تألمت لعارض علة، فأقبلت من أهلي بمصر عائداً لها، ووالله أحلف ما أدري إذا حصلت عندها أأصبر شفاءً مما بها، أو أزيد في شكواها لتبرمها بي؛ كأنه ظن بها تنكراً وحؤولاً عن العهد. وقوله " أم أزيدها " يريد: أم أزيدها داءً، فحذف لأن المراد مفهوم.
وقال آخر:
إني وإياك كالصادي رأى نهلاً ... ودونه هوة يخشى بها التلفا
رأى بعينيه ماءً عز مورده ... وليس يملك دون الماء منصرفاً
يقول: مثلي ومثلك في مساس حاجتي إليك، وتناهى رغبتي في وصلك والنيل منك، وفي احتجازك عني وامتناعك منى، مثل رجل عطشان شاهد ماءً، وقد حال بينه وبين وروده وهدة عميقة يخشى من اقتحامها الهلاك، فالماء بمرأى منه، وقد غلبه المانع عنه، ليس يقدر على انصرافه من دونه، لغلبة العطش عليه، وشدة الفاقة إليه، فكذلك أنا وأنت. وقوله " رأى نهلاً " في موضع الحال، وقد مقدرة في الكلام، لأن رأى بناء للماضي. والنهل والمنهل: الماء، وموضع الماء. وقوله " ودونه هوة " في موضع الصفة للنهل، كما أن عز مورده في موضع الصفة للماء. وإنما قال " رأى بعينيه " فذكرالعين تأكيداً للرؤية. ومثله قوله تعالى: " ولاطائر يطير بجناحيه " وما أشبهه.
وقال آخر:
ألا بأبينا جعفر وبأمنا ... نقول إذا الهيجاء سار لواؤها
ولا عيب فيه غير ماخوف قومه ... على نفسه ألا يطول بقاؤها
قوله ألا بأبينا، الجملة في موضع المفعول لقوله نقول. والباء من بأبينا تعلق بفعل مضمر، والمراد: نفدى بأبينا وأمهاتنا جعفراً إذا سار الخميس وحمل لواء الجيش قاصداً إلى الهيجاء. وأضاف اللواء إلى ضمير لحاجتها إليه.(1/991)
وقوله ولا عيب فيه يريد أن جعفراً بريء من العيوب إلا من مخافة قومه على نفسه ألا تطول مدتها، ولا يتنفس مهلها. وليس ذلك بعيب، وإنما يشفقون مما ذكر تنافساً في حياته، ورغبة في الانتفاع به وبمكانه، لكنه أراد أن من ذلك معيبه، فكيف يكون مرضيه. فإن قيل: لم أدخل هذا في جملة النسيب وليس هو منه؟ قلت: لطافة لفظه وحلاوة معناه، ومناسبته بذلك للنسيب، أدخلته في هذا الباب. وقد فعل لمل هذه العلة مثل هذا فيما تقدم، ونبهنا عليه.
وقال آخر:
وإني على هجران بيتك كالذي ... رأى نهلاً ريا وليس مناهل
يرى برد ماء ذيد عنه وروضة ... برود الضحى فينانة بالأصائل
يقول: إني على ما أجرى عليه من تعزلي لبيتك، ومهاجرتي لفنائك، ولما أتقى به من مكاشفة الرقباء على ترصدهم بالمكروه لي ولك، واختلافهم في التقاط حديثي وحديثك، لكالعطشان وقد رأى ماء مروياً كثيراً، بارداً شهياً، فمنع منه، وشافه روضة باردة الظل عند الضحاء، كثيرة الأفنان والغصون، إذا هبت رياح العشاء فحيل بينه وبينها. والنهل: الماء. والناهل: الريان هاهنا، ويكون العطشان أيضاً في غير هذا. وذيد عنه، أي منسع منه. والفينانة: الكثيرة الأفنان؛ وهو فيعال. والفنن: الغصن. والأصائل: العشيات.
وقوله يرى برد ماء، فيقول: يرى ماء بارداً، لأن البرد لا يدرك بالعين. وإن شئت قلت: جعله للمبالغة في الوصف كالمحسوس.
وقال آخر:
فمرا على أهل الغضي إن بالغضى ... رقارق لا زرق العيون ولا رمدا
أكاد غداة الجزع أبدى صبابة ... وقد كنت غلاب الهوى ماضياً جلدا
يخاطب صاحبين له يسألهما أن يجوزا بأهل الغضى، لأن فيها نساء يترقرق ماء الشباب فيهن، لا زرق في عيونهن ولا رمد. ويقال: فتى رقراق، وفتاة رقراقة،(1/992)
والمراد به ابتداء الشباب. وذكر بعضهم أن المراد بالرقارق مياه رقيقة، وأن الزرق الصافية، والرمد المتغيرة الألوان، والأول أقرب، لأن الرمد لا يستعمل إلا في الحاسة، ولأن الفائدة في كون مياه بالغضي على هذه الصفة قليلة. وقصد الشاعر فيما كلف صاحبيه أن يجددا عهد بأهل الغضى، ويتعرفا من أخبار محبوبته، ما تسكن نفسه إليه. وفي قوله إن بالغضي رقارق، إذا جعلت الرقارق نساء، نسيب بها وبصواحبها: وقوله لا زرق العيون، ثبت لهن كحل العيون وسلامتها من الآفات، بنفي الأضداد عنها، وهذا كتحديد الشيء بالسلب.
وقوله أكاد غداة الجزع يصف ما ناله يوم البين، وأنه مع ثباته في الشدائد، وصبره على النوائب، وحسن تمسكه عن جوالب الهوى، يفتضح ويظهر عليه من الاكتئاب والوجد ما يستدل به على مستكنات صبابته، وخفيات أحواله.
فلله درى أي نظرة ذي هوى ... نظرت وأيدى العيس قد نكبت رقدا
يقربن ما قدامنا من تنوفة ... ويزددن ممن خلفهن بنا بعدا
قوله لله درى يجري مجرى: لله خيري. ومن عادتهم أن ينسبوا ما يعجبهم إلى الله تعالى ذكره، وإن كانت الأشياء كلها في الحقيقة له. وقد فارق درى بالاستعمال على هذا الوجه المصادر، فلا يتعلق به شيء من متعلقاتها. وقوله أي نظرة ذي هوى تعجب، وانتصب أي بنظرت. وكأنه لما صبر عندما رأى من أيات الفراق ولواذع البين، وصار بمرأى منه وبمسمع، من التهيؤ للارتحال، ومن تدبير عوارض السفر، عد ذلك من نظره وجلده شيئاً عجيباً. ومعنى نكبت رقدا وهو موضع كان يجمعهم. ويجوز أن يريد بذلك نظره في إثر الظعائن تحسراً وصاحبته معهن، كما قال الآخر:
بعيني ظعن الحي لما تحملوا ... لدى جانب الأفلاج من جنب تيمرا
وقوله:
ولما بدا حوران في الآل دونها ... نظرت فلم تنظر بعينيك منظرا(1/993)
ويكون على هذا قوله نكبت رقدا معناه انحرفن عنه وتركنه، لكونه مفرق الطرق.
وقوله يقربن ما قدامنا من تنوفة وصف العيس بالسرعة. والتنوفة: المفازة. والمراد أن ما يقطعه غيرها في يومين تقطعها هذه في يوم. والكلام تحسر وتوجع، لتباعده عمن هواه معهم. ومثله قول الاخر:
إذا نحن قلنا وردهن ضحى غد ... تمطين حتى وردهن طروق
وتعلق الباء من قوله بنا بقوله يزددن. وبعدا، انتصب على التمييز.
وقال ابن هرم الطائي
إني على طول التجنب والنوى ... وواش أتاها بي وواش بها عندي
لأحسن رم الوصل من أم جعفر ... بحذ القوافي والمنوفة الجرد
يصف حسن تأتيه في عمارة الهوى والحب، وبليغ لطفه في تلافي ما يخاف انقطاعه من علائق الوصل، وانتكائه من وثائق العهد، لوشاية واش، أو تضريب مفسد، أو قدح ساع بالنمائم متزيد. فيقول: إني على مطاولة البعاد، ومعاونة الوشاة بالتحريش والإفساد، لأحسن عمارة الحال بيني وبينها، ورم ما يسترم من جوانب وصالها، بما أنظمه من الشعر، وأحكمه من عقد السحر في رسائلي، وأردده من الرسل المتوجهين إليها على رواحلي. وقيل في الحذ: إنها الأبيات النافذة، وقيل: هي الخفيفة الوزن، اللطيفة السبك. وقيل: إنها المستقلة بأنفسها، ويقال: بيت أحذ، إذا لم يكن مضمناً. والمنوقة: المروضة المذللة من النوق. كذا قال الخليل. والجرد: السراع. ويقال: نجاء أجرد. قال الشاعر:
جذب القرينة للنجاء الأجرد
وخبر إن في قوله لأحسن رم الوصل.
وأستخبر الأخبار من نحو أرضها ... وأسأل عنها الركب عهدهم عهدي
فإن ذكرت فاضت من العين عبرة ... على لحيتي نثر الجمان من العقد(1/994)
قوله وأستخبر الأخبار، يجوز أن يكون على حذف المضاف وإقامة المضاف إليه مقامه. والمراد: وأستخبر ذوي الأخبار من نحو أرضها. ويجوز أن يريد أرجع فيما أعرف من أخبارها فيما بيني وبين نفسها حالاً بعد حال، طالباً لاستخراج زيادة فيها، ومستمتعاً بما يكون حاصلاً فيها، فكأني أستخبر نفس الخبر. وقوله وأسأل عنها الركب عهدهم عهدي مثله قول الآخر:
وذكرك من بين الحديث أريد
استحلاء لاسمها، وتلذذاً بذكرها.
وقوله فإن ذكرت يقول: وإذا قرع سمعى ذكرها بكيت شوقاً إليها، ووجداً بها، فسال الدمع من عيني، وانتثر ما غشى لحبتي منه نثر الجمان من قلادة لم يتفقد نظامها، وخان سلكها، وتناثر حباتها. وانتصب نثر على المصدر من غير لفظه، فهو كقولك: تبسمت وميض البرق، وقوله عهدهم عهدي، الجملة في موضع الحال من أسأل.
وقال عمرو بن حكيم
خليلي أمسى حب خرفاء عامدي ... ففي القلب منه وقرة وصدوع
ولو جاورتنا العام خرقاء لم نبل ... على جدبنا ألا يصوب ربيع
جعل أمسى لاتصال الوقت. وخرقاء: اسم امرأة. وقوله عامدي: ممرضى، يقال: أي شيء يعمدك، أي يوجعك. والوفرة: الهزمة والأثر. يقال: وقر الشيء، إذا جعل فيه وقرأت. قال الهذلي:
فوقر بز ما هنالك ضائع
يعني بالبز سيفا.
يقول: يا خليلي، إن حب خرقاء أمسى يقدح في قلبي، فقد صار فيه من أجله صدوع، وآثار وشقوق، ولو اتفق في هذا العام معها اجتماع لم نبال وإن أجدينا ألا(1/995)
يقع مطر؛ إذ كان التبرك بها، والاستسعاد الشامل بمكانها، يقوم مقام كل خصب. وقوله لم نبل جزمه مرتين لأنه كان نبالي، فدخل الجازم عليه فحذف له الياء فصار لم نبال، ثم أسكن اللام بعد أن طلب تخفيفه لكثرته في الكلام، فالتقى ساكنان: الألف واللام، فحذفت الألف لالتقاء الساكنين، فصار لم نبل، ومثل هذا لا ينقاس. وقوله على جدبنا في موضع الحال، تقديره مجدبين. ويقال: صاب المطر يصوب، إذا وقع. والربيع: المطر. ويقال: ما باليت بكذا وكذا وبالية. أي لم نبال بأن تنقطع الأمطار على ما بنا من جدب.
وقال آخر:
ألما على الدار التي لو وجدتها ... بها أهلها ما كان وحشاً مقيلها
وإن لم يكن إلا معرج ساعة ... قليلاً فإنى نافع لي قليلها
يامر صاحبيه بزيارة دار حبيبه، ولو كان ساعة. وخصص الدار بقوله التي لو وجدتها بها أهلها، والمعنى التي لو وجدتها مأهولة ما كان موضعها وحشاً، أي خالياً موحشاً، لكثرة أهلها وكثرة غواشي النعم فيها. وفي الحديث. أن قريشاً قالوا للنبي صلى الله عليه وسلم: إنا لأكرم مقاماً وأحسن مقيلاً، أي موضعاً، فأنزل الله عز وجل: " أصحاب الجنة " - يعني النبي عليه السلام وأصحابه - " يومئذ خير مستقرا وأحسن مقيلا ". ويقال: بات فلان وحشاً، أي خالي البطن؛ وتوحش للدواء. وقوله وإن لم يكن إلا معرج ساعة، يريد إلا تعريج ساعة، وعطف ساعة. ولم يرض بأن أضاف المعرج إلى الساعة حتى وصفه بقوله قليلاً، وهذا على هذا التقدير يكون من الصفات المؤكدة، لا المفيدة، كما يجيء الحال كذلك. ولا يمتنع أن يريد تعريجاً قليلاً في ساعة، فيكون الصفة مفيدة. وقوله فإني نافع لي قليها، يجوز أن يرتفع قليلها بنافع، ونافع خبر إن، كأنه قال: فإنى ينفعني قليها. ويجوز أن يكون قليلها مبتدأ ونافع خبر له مقدم عليه، والجملة في موضع خبر إن، والتقدير إنى قليلها نافع لي، وانتصب معرج على أنه خبر لم يكن، أراد: وإن لم يكن الإلمام إلا معرج ساعة.(1/996)
وقال آخر:
ماذا عليك إذا خبرتني دنفاً ... رهن المنية يوماص أن تعودينا
أوتجعلي نطفة في القعب باردة ... وتغمسي فاك فيها ثم تسقينا
قوله دنفاً أي مشرقاً على الهلاك، وانتصابع على أنه مفعول ثالث الخبر. وقوله ماذا عليك لفظه استفهام ومعناه تقريع وبعث. وانتصب رهن المنية لأنه صفة لدنفا، ومعناه في ضمن المنية وملكتها، وكالرهن عندها، إن شاءت أغلقته، وإن شاءت فكته. والمراد: أي شيء عليك من أن تعودينا، إذا أخبرتني عليلاً. فقوله عليك يقتضى فعلاً، وذلك الفعل يعمل في أن تعودينا، وقد حذف حرف الجر منه، أي لا عار عليك ولا ضرر من عيادتنا، ولا من مداواتنا بماء هذه صفته، فهلا فعلت. وقوله يوماً ظرف لخبرتني. وقد تقدم القول في ماذا في مواضع.
وقال جميل
بثينة ما فيها إذا نا تبصرت ... معاب ولا فيها إذا نسيت أشب
لها النظرة الأولى عليهم وبسطة ... وإن كرت الأبصار كان لها العقب
إذا ابتذلت لم يزرها ترك زينة ... وفيها إذا ازدانت لذي نيقة حسب
تبصرت، أي استقصى النظر إليها، والكشف عن حالها. والمعاب: العيب. والأشب: الخلط: يقول: إنها عند السبر والنظر، والكشف والتأمل، نقية من العيب، بريئة من الشوب، فلها عند المبالغة في البحث النظرة الأولى، ولها البسطة وهي النظرة الثانية، ويعني بها أن يبسط التميز على ما يتجلي من أمرها، ويسلط التنقير على كثير مما يخفي من أحوالها. قال: ولها العقب أيضاً، وهو النظر بعد النظر، وفي موضع آخر الجري بعد الجري. والعرب تقول: النظرة الأولى حمقاء، فلهذا قال: لهذه المرأة النظرة الأولى، ولها الكشفة النانية وهي البسطة، ولها البحثة الثالثة، وهي تعقب التجربتين بتجربة ثالثة. وقوله إذا ابتذلت يقول: إذا تركت التزين واكتست المباذل لم يقصر بها ذلك، وإن تزينت كان فيها للمتأنق الكفاية من جميع ما يطلب فيها نفساً وخلقاً،(1/997)
ومنسباً وخلقاً. وقوله لم يزرها أي لم يزر بها، يقال: زريت عليه وأزريت به، لكنه حذف الجار. وقوله حسب أي كاف، فهو مبتدأ. على هذا تقول: حسبي الله وحده، ومثل هذا قول جرير:
إذا جليت فالحلى منها بمعقد ... مليح وإلا لم يشنها عواطله
وقال الحارثي
سلبت عظامي لحمها فتركتها ... مجردة تضحى إليك وتحضر
وأخليتها من مخها فكأنها ... قوارير في أجوافها الريح تصفر
يقول: أذيتني بهوك، وانحسر اللحم من عظامي وتعرت، فهي بارزة في النهار للشمس، وعند الليل للبرد، إذا أوبت إليك وأسأدت. وإليك موضعه بالفعل الذي يقتضيه نصب على الحال، وإنما قال هذا لأن المهزول الحر والبرد إليه أسرع وأشد تأثيراُ فيه. ويقال: ضحى بضحى ضحى، أصاب حر الشمس، ولغة: ضحا يضحو ضحواً وضحواً.
وقوله وأخلبتها من مخها، يريد أنها أذهبت النقي من العظام أيضاُ ورققتها، فخلت من مخها واستنشقت، فهي كالقوارير الخالية لو هبت الريح لصفرت بما يتخللها من الريح صفيرها.
وقوله في أحوافها الريح تصفر الجملة في موضع الصفة للقوارير، وموضع تصفير نصب على الحال إن جعلت الريح ترتفع بالظرف، وكذلك مجردة في موضع الحال. ويروى: فكأنها أنابيب في أجوافها الريح، والأول أحسن.
إذا سمعت باسم الفراق تقعقعت ... مفاصلها من هول ما تنتظر
خذي بيدي ثم انهضي بي تبيني ... بي الضر إلا أنني أتستر(1/998)
جعل الإخبار عن العظام، وإن كان ما وصفه حالاً للجملة لا لها وحدها، لقوله: سلبت عظامي لحمها. والمعنى إن ذكر الفراق يبلغ منها هذا المبلغ العظيم. وهي أنها لارتعادها تتداخل مفاصلها ويحتك بعضها ببعض حتى تسمع لها قعقعة، وذلك لهول ما ينتظره من وقوعه في نفسه، واستعظامه للخطب وفي وله. وقوله خذي بيدي أراد أن يريها ما تستعبده من وصف حاله بالخبر مشاهدة، فقال: خذي بيدي مستنهضة لي يبن لك أمري، ويظهر المكنون فيك من ضري، والمجلول علي من هزالي، والمستور عنك من سوء حالي، وقوله إلا أنني أتستر استثناء منقطع من الأول، كأنه أراد: لكني أتستر بتجلد أظهره، وبصبر أتقى الناس به. وفي البيت طباق بقوله تبيني وأتستر. وأصل تبيني تتبني، فحذف إحدى التاءين.
تم باب النسيب، والحمد لله على تظاهر آلائه، وتوالي نعمائه، والصلاة على سيدنا محمد وآله.(1/999)
باب الهجاء
قال موسى بن جابر
كانت حنيفة لا أبالك مرة ... عند اللقاء أسنة لا تنكل
فرأت حنيفة ما رأت أشياعها ... والريح أحياناً كذاك تحول
هذا الكلام تهكم وسخرية. ولا أبالك: بعث وتحضيض، وليس بنفي للأبوة، وخبر لا محذوف، لأن النية في لا أبالك الإضافة، ولذلك أثبت الألف في أبا؛ فكأنه قال لا أباك موجود أو في الدنيا. وقد مضى القول فيه مشروحاً. فيقول: كانت هذه القبيلة فيما مضى من الأيام، وتقصى من المرار، عند لقاء الأعداء وفيما تباشره من الأمور والأحوال، أسنة لا تكبو ولا تضعف، نفاذاً في العزائم ومضاء، ولا تنبو ولا تقف، كلولاً في الصرائم ونكولاً، فقد عادت الآن مقتدية بأشياعها، وآخذة إخذهم في الارتداد والنكوص، والإحجام والنبو؛ والريح تتحول أحياناً كذلك، مرة تكون شمالاً ومرة جنوباً. وقوله كذا موضعه من الإعراب نصب على المصدر من تحويل. أراد: والريح تتحول أحياناً تحولاً كذلك. أي كما عرفت.
وقال قراد بن حنش الصادري
لقومي أرعى للعلى من عصابة ... من الناس يا حار بن عمرو وتسودها
وأنتم سماء يعجب الناس رزها ... بابدة تنحى شديد وئيدها(1/1000)
تقطع أطناب البيوت بحاصب ... وأكذب شيء برقها ورعودها
فويلمها خيلاً بهاء وشارة ... إذا لاقت الأعداء لولا صدودها
يقول: لقومي أحسن رعاية وتفقداً، وأوفر عناية وتكسباً لأسباب العلى وحفظ أواخيها وموادها، من طائفة من الناس أنت تسوسها وتدبرها، وما أشبهكم في كثرة دعاويكم وقلة فعالكم إلا بسحابة تكثر بروقها ورعودها، ويعجب متأملها ومستمعها ربابها وهديرها، بريح تعد آبدة - أي أعجوبة أو داهية تبقى على الأبد - شديدة الخفيف، قطاعة لحبال البيوت بما يجيء منها بالحصباء، ثم تراها مخلفة فيما وعدت من المطر، فأكذب شيء برقها اللماع، ورعدها النباح. والباء من قوله بآبدة تعلقت بقوله يعجب الناس أي يعجب رزها بآبدة، أي ومعها آبدة.
وقوله فويلمها خيلاً انتصب خيلاً على التمييز، وحذفت الهمزة من أم في قوله ويلمها لكثرة الاستعمال، وليس الحذف هذا بقياس. واللفظة تفيد التعجب. وبهاء انتصب على انه مفعول له، فيقول ساخراً: ويلمها من خيل، لكمال بهائها، وحسن شارتها، عند لقاء الأعادي، لولا انهزامها وإعراضها. وروى: لقومي أدعى للعلى بالدال، والأول أحسن وأصوب. والعصابة: الجماعة. وقوله يا حار بن عمرو الترخيم في قول من يقول في النداء يا حارث بن عمرو، فيضم وينون في غير النداء، فيقول: هذا زيد بن عمرو. وأحسن منه في قول من يقول: يا حارث بن عمرو، فيفتح ويجعل الأول والثاني بمنزلة شيء واحد، وذلك أنه يخرج آخر الاسم إذا جعل مع الصفة شيئاً من أن يكون آخراً، والترخيم يدخل الأواخر لا الأوساط.
وقوله وأنتم سماء يسمون السحاب سماء، وكذلك المطر. ألا ترى قوله:
إذا سقط السماء بأرض قوم ... رعيناه وإن كانوا غضابا
والرز والوئيد جميعاً: الصوت. ومعنى تنحي تقبل. وقوله لولا صدودها جواب لولا في صدر البيت، وقد تقدم القول في المبتدأ بعده ومجيئه بلا خبر.(1/1001)
وقال عمارة بن عقيل
من مبلغ عني عقيلاً رسالة ... فإنك من حرب على كريم
ألم تعلم الأيام إذ أنت واحد ... وإذا كل ذي قربى إليك مليم
وإذ لا يقيك الناس شيئاً تخافه ... بأنفسهم إلا الذين تضيم
تمنى أن يتفق من يبلغ عقيلاً عنه رسالته، فأتى بلفظ الاستفهام، والرسالة إنك من حرب على كريم، وما بعده. وبنى كلامه على الاستعطاف، ثم أخذ في التقريع. ومعنى قوله: إنك من حرب على كريم، إنك تكرم على من جملة من ينتسب إلى بني حرب.
وقوله: ألم تعلم الأيام تذكير له بخذلان عشيرته إياه، وتفرده بما كان يقاسيه، فيقول: أتذكر حين كنت فرداً وحيداً لا ناصر لك، وإذ كان كل قريب ونسيب لك مليماً عندك - والمليم: الذي يأتي بما يلام عليه - وحين لا واقي لك من شيء تخافه إلا الذين أنت تظلمهم الساعة. فقوله إلا الذين استثناء بدل، ويجوز أن يكون في موضع النصب على الاستثناء المطق، والضمير العائد إلى الذين من الصلة محذف، استطالة للاسم، والتقدير: تضيمهم، أي تظلمهم. وقوله: ألم تعلم الأيام، ألم: يقرر به فيما ثبت ووقع. ويروى الأيام بالرفع، والأيام بالنصب. فإذا رويت الآيام بالنصب يكون الخطاب لعقيل، ويكون تعلم بمعنى تعرف. والمعنى: أما عرفت الأيام التي كان حالك فيها ما ذكرت، وأتنسى تلك الأيام. والمراد بالأيام حوادث الدهر. وقوله إذ أنت ظرف لها، وإذا رفعت الأيام يكون المعنى: ألم تعرف الأيام حالتك وقصتك - والمعنى أهل الأيام وأصحاب الأيام - حين كنت كذا وكذا. فيكون الكلام على حذف المضاف.
أترفع وهي الأبعدين ولم يقم ... لو هيك بين الأقربين أديم
فأما إذا عضت بك الحرب عضة ... فإنك معطف عليك رحيم
وأما إذا أنست أمناً ورخوة ... فإنك للقربى ألد خصوم(1/1002)
وقوله: أترقع لفظه استفهام، ومعناه التقريع، فيقول: إنك تسعى في استعطاف الأباعد وإدنائهم، وإصلاح الفاسد من أحوالهم، رجاء التئام أمرك بهم، وقد أفت نفسك حظك من أقاربك، ومن تحد بهم عليك، لسعيك في إفساد أحوالهم، ونحت أثلتهم، وتضييع غيبتهم. وهذا رأى فائل، وتوفيق سيء. وقوله لم يقم لو هيك، يريد بالوهي الذي يحصل بك وبثلبك واغتيابك. وذكر الأديم مثل، أي لا يبقى أصله لتمزيقك، ولا يثبت صحته لتخريفك. ويقال: فلان صحيح الأديم، وفلان نغل الأديم. وفي المثل: أوسعت وهيا فارقعه.
وقوله فأما إذا عضت بك الحرب عضة، يريد: أنك إذا نابتك نائبة، وأصابتك من أزمات الزمان وعضاته أزمة، وألجأتك من مصارف الحرب ضغطة فإنك تستعطف عليك ذويك وعشيرتك، وتعتمد رحمتهم لك، وتطلب شفقتهم والأخذ بالفضل فيك. وقوله رحيم هو فعيل في معنى مفعول، أي إنك معطوف عليك مرءوم. وقوله وأما إذا آنست، يقول: أما إذا أمنت ووجدت من مضايقك رخاء، ومن شدائدك ليناص، على حسب عادة الدهر في تلونه، فإنك تخرج خصماً ألد لهم، نطلب إعلاق الحجج عليهم، وتسد أبواب الخير دونهم، وتصرف مفاتح الرشد عن وجوههم وطرقهم، وهذا غاية للؤم وسوء الاختيار. والألد: الشديد الخصومة، العسر الانقياد. وهو اليلندد واللندد. والخصوم: بنا المبالغة، وهو أبلغ من خصيم، لأنه أشد تباعداً من أبنية أسماء الفاعلين.
وقال أرطأة بن سهية المرىء
تمنت وذاكم من سفاهة رأيها ... لأهجوها لما هجتني محارب
معاذ الإله، إني بقبيلتي ... ونفسي عن ذاك المقام لراغب
ارتفع قوله محارب بفعلها وهو تمنت. فيقول: تمنت هذه القبيلة لما تحككت بي وهجنتني، وتشهت مقابلتي إياها بمثل ما فعلت، وذلك لخفة رأيها، وتناهي جهلها. فقوله وذاكم الواو واو الابتداء، وهي للحال، وذاكم ابتداء، ومن سفاهة خبره. وتلخيص البيت: تمنت محارب لما هجتني لأن أهجوها، وذاكم من(1/1003)
سفاهة رأيها. والمراد: حدثت منيتها لهجوى لها. ومثله:
أريد لأنسى ذكرها
وفي القرآن: " يريد الله ليبين لكم ".
وقوله معاذ الإله انتصب على المصدر، أي أعوذ بالله معاذاً من أن آتي ذلك، لأنني أرغب بنفسي بأصلي عن الوقوف في ذلك المقام، وأصون شرفي وأرفع عقلي عن مساوقتهم لفظاً بلفظ؛ وفعلاً بفعل.
وقال زميل
إني امرؤ أطوى لمولاي شرتي ... إذا أثرت في أخدعيك الأنامل
خلقت على خلق الرجال بأعظم ... خفاف تطوى بينهن الأنامل
وقلب جلت عنه الشؤون وإن تشأ ... يخبرك ظهر الغيب ما أنت فاعل
يصف نفسه في البيت الأول بأنه يكف أذاه عن مولاه، وأنه إذا أجمع أهل الرأي على نسبة مخاطبه إلى الغدر، والخيانة والشر، فأشاروا بأصابعهم إذا ولى إلى قفاه، فقالوا: هذا قفا غادر، فإنه ينطوي نسيباً، ولا يؤذي جاراً قريباً ولا غريباً.
وقوله: خلقت على خلق الرجال، تبجح في هذا البيت بأنه شخت من الرجال قليل اللحم، مديد القامة، فخلقه خلق الرجال لا خلق النساء، فلا يشينه سمنة ولا فشل، ولا يقعد به آفة ولا كسل، فأعظمه خفاف، ومفاصله بينها مطوية ممحصة لطاف.
وقوله: وقلب عطفه علي بأعظم، يريد: وبقلب هذبة الأمور، وكشف عنه الطبع والرين مزاولة الشؤون، فهو بتجاربه يتصور ما لم يكن بصورة ما قد كان، ومتى شئت أخبرك بخبره ومعرفته، وفرط شهامته وتمييزه، وحدة نظره وبصيرته بما أنت فاعله بعد الغيب. وانتصب ظهر الغيب على الظرف، وما أنت ما فيه بمعنى(1/1004)
الذي، وأنت فاعل من صلته، وقد حذف حرف الجر معه، كأنه قال: يخبرك بما أنت فاعله. ويقال: خبرته كذا وخبرته بكذا، وحدثته كذا وحدثته بكذا.
ولست بربل مثللك احتملت به ... عوان نأت عن فحلها وهي حافل
فجئت ابن أحلام النيام ولم تجد ... لصهرك إلا نفسها من تباعل
كان رواية الناس قبلنا احتملت به والصواب احتلمت به، بدلالة قوله فجئت ابن أحلام النيام. والربل: السمين الرطب، وقد تقدم ذكره وتصاريفه. والعوان: النصف من النساء، والفعل منه عونت، ويقال: عانت البقرة عوناً، صارت عواناً. وحرب عوان: قوتل فيها مرة بعد أخرى فيقول: لست برطب مسترخ مثلك، احتملت به امرأة عوان بعد عهدها بفحلها، وهي ممتلئة شبقاً، فحملت فجاءت من احتلامها بك. والمعنى: أنه لا والد لك إلا ما رأت أمك عند شدة غلمتها من احتلامها، فأنت شر ممن يجيء لزنية. ومعنى ولم تجد لصهرك، أي لم تصاهره فيك، أي تخالطه. وقال الخليل: الصهر حرمه الختن. وختن القوم: صهرهم. وحكي عن أبي الدفيش: أصهر بهم الختن، أي صار فيهم صهراً. فيقول: لم تجد ختناً إلا نفسها، إذا كان ذلك الاحتلام لم يتجاوزها، وغذ كان مباعلة النفس على ما وصفه إنما حصلت عن شبق ولوزم ذكر الجماع في اليقظة، وإلا نفسها: مستثنى مقدم. وقوله ابن أحلام النيام، نصب على الحال، لأن أحلام النيام لا يتخصص، فلا يصير المضاف إليه معرفة.
وقال خارجة بن ضرار المري
أحارج هلا إذ سفهت عشيرة ... كففت لسان السوء أن يتدعرا
وهل كنت إلا حوتكياً ألاقه ... بنو عمه حتى بغى وتجبرا(1/1005)
فإنك واستبضاعك الشعر نحونا ... كمستبضع تمراً إلى أهل خيبرا
قوله سفهت عشيرة، قال يونس: سفه لغة في سفه، وعلى هذا تنصب عشيرة على المفعول به، ويجوز أن يكون مما نقل عنه الفعل، كأه قال: سفهت عشيؤتك فنقل السفه إلى نفسه فقال: سفهت، فأشبه عشيرة المفعول، فنصب نصب التمييز. وقوله يتدعر أي يخبث ويفجر. يقال: رجل داعر بين الدعارة. وحكى: في خلقه دعارة، في معنى زعارة، وعلى زنته. ومنه عود دعر، أي كثير الدخان. والحوتكي: القصير الصغير. ومعنى ألاقه: ألصقه وضمه أبناء عمه إلى أنفسهم، فبغى لما رأى ذلك. واستبضاع السلعة: أن تحملها بنفسك؛ وإبضاعها: بعثها، وكما قيل في المثل: " كمستبضع تمراً إلى أهل خيبر، لكثرة نخلها، قيل أيضاً كمستبضع التمر إلى أهل هجر، وهذا كما قيل كمستبضع الملح إلى بارق.
ومعنى الأبيات: هلا إذ كنت سفيه العشيرة لئيم الفصيلة، أمسكت عن الحنا والفحش، وصنت نفسك ولم تعرضها للهجاء الممض: هذا وما كنت إلا حقيراً قليلاً؛ قميئاً صغيراً، رق له أقاربه بعد كا كانوا ينفونه ويتبرمون منه، فألصقوه بأنفسهم، فطغى من ذلك واستلى. وأما علمت أنك وحملك الهجاء إلينا في الندم والخسران، وسوء العاقبة، كمن حمل التمر إلى خيبر يتجر فيه، فرجع نادماً، وحصل خاسراً.
عمارة بن عقيل
بنى منقذ لا آمن الله خوفكم ... وزادكم ذلاً ورقة جانب
فمن يرتجيكم بعد نائلة التي ... دعت ويلها لما رأت ثأر غالب
دعته وفي أثوابه من دمائها ... خلبطاً دم من ثوبه غير ذاهب
نائله: امرأة زوجت قاتل أبيها أو أخيها، فجعل عمارة يعيرهم ذلك.
والعرب تقول: دم فلان في ثوب فلان، إذا كان قاتله.(1/1006)
قال أوس بن حجر:
نبيت أن دماً حراماً نلته ... فهريق في ثوب عليك محبر
وقال الفرزدق:
تمشي حرام بالبقيع كأنها ... نشاوي وفي أثوابها دم سالم
فيقول: أبدلكم الله يا بني منقذ بالأمن خوفاً لا يفارقكم، وزادكم على مر الأيام ذلاً وخضوعاً، ولين مجس وسقوطاً، فإنه لا يعلق الرجاء بكم، ولا يستنم أحد إليكم؛ بعد نائلة التي دعت بالويلات لما رأت ثأر غالب أخيها أو أبيها، وقد ملكتموه أمرها، وجعلتموه بالتزويج قيمها، ثم قال: دعت نائلة الويل وفي أثواب زوجها لها خليطا دم هما دم أبيها أوأخيها، بقتله له؛ والثاني دم عذرتها، لتزوجه بها، فهما لازمان لثوبه لا يفارقانه. ويروى شريجا دم. وكل لونين اجتمعا فيهما شريجان. وقوله غير ذاهب، غير صفة لدم، ويروى: مهرقاة غير ذهب، ويكون الجملة صفةلدم أيضاً. وقوله من يرتجيكم استفهام على طريق التقريع، وفيه معنى النفي، أي لا يرجوكم أحد. ومعنى دعت ويلها صاحت بالويل لي. وفي القرآن: " وآخر دعواهم أن الحمد لله رب العالمين ".
وقال طرفة بن العبد
وفرق عن بيتيك سعد بن مالك ... وعمراً وعوفاً ما تشى وتقول
وأنت على الأدنى شمال عرية ... شامية تزوى الوجوه بليل
وأنت على الأقصى صبا غير قرة ... تذاءب منها مرزغ ومسيل
وأعلم علماً ليس بالظن أنه ... إذا ذل مولى المرء فهو ذليل
قوله ما تشى في موضع الفاعل لفرق. وما إن شئت جعلته بمعنى الذي، وصلته تشي، والضمير العائد من الصلة إليه محذوف كأنه قال: ما تشيه وتقوله. وإن شئت جعلت ما حرفاً ويكون مع الفعل في تقدير مصدر، ولا يحتاج إلى ضمير من(1/1007)
الصلة يعود إليه لكونه حرفاً، ويكون التقدير وشايتك وقولك. ويعني ببيتيك: أخواله وأعمامه. فيقول: فرق عن بيتي أهلك وذويك من قبل أبيك وأمك ما تأتيه من إبلاغات تتقولها، ونمائم تختلقها وتصنفها: سعد بن مالك وعمراً وعوفاً؛ وإنما يعني بهم أفخاذاً وبطوناً كان ضلعهم معهم، فلم يزل يسعى بالتحريش، ويمشي بالنميم، حتى فرق جمعهم، بما أوقع من الشر فيهم. وقوله وأنت على الأدنى شمال عرية، فالعرية: الباردة، ومنه قولهم: عرواء الحمى. فيقول: أنت على أقاربك في سوء اعتقادك لهم، وسوقك الشر إليهم، وجرك الجرائر عليهم، بمنزلة الريح الشمال الباردة، المرقة للوجوه، إذا هبت في الشتاء، ويصحبها بلل من المطر، وندى يقبض الجلد، ويجفف المفصل والوجه. وإنما قال شآمية، وإن كان الشمال لا تهب إلا من ناحية الشأم تأكيداً. وللصفات كما تجيء مفيدة مميزة تجيء أيضاً مؤكدة لا تفيد في الموصوف أكثر مما عرف فيه. وعلى هذا قد تجيء الأحوال أيضاً، لكونها صفات في الأصل.
وقوله وأنت على الأقصى صبا غير قرة يريد أنه على الأجانب في تعطفه عليهم، والانطواء على الجميل لهم، بمنزلة ريح الصبا تهب ولا برد معها. وقد تذاءب منها، أي تسهل واضطراب من اجلها. والذئب فيمن همزه منه اشتق، لأنه كلما طرد من جانب يتسهل ويحصل من جانب آخر، لوقاحته. والمرزغ: الذي يأتي بالرزغة، وهي الوحل. والمسيل: المذيب للجامد. والمعنى: أنت للأجانب بمنزلة القبول التي ترزغ الأرض في مهلبها، وتسيل التلاع، وتبث الخير، وتوسع الخصب. وقوله وأعلم علماً ليس بالظن لما كان لفظة العلم قد يطلق على الظن الغالب، ليقامه مقام ماهو علم في الحقيقة، أكد قوله وأعلم بقوله ليس بالظن، وبين بهذا الكلام الخطأ فيما يأتيه المخاطب، وأنه إذا أقامت نفسه حظه من أقاربه وعشائره بسوء معاملته، فإنه لا يستفيد من الأجانب ما عند الحاجة يغنى، وإذا ذل أتباعه ولم يستبقهم لنفسه فالذل لاحق له، ومحتف به. وبهذا الخطاب نعى عليه فعله، وبين له سوء التقدير فيما اختاره، وفعل الغواية فيما اعتقده واعتاده. والضمير من قوله إنه للأمر والشأن، كأنه قال: وإن الأمر الحق إذا ذل ابن عم المرء فهو ذليل.(1/1008)
بشير ابن أبي جذيمة
أتخطر للأشراف يا قرد حذيم ... وهل يستعد القرد للخطران
أبى قصر الأذناب أن يخطروا بها ... ولؤم بنى قرد بكل مكان
لقد سمنت قعدانكم آل حذيم ... وأحسابكم في الحي غير سمان
قوله أتخطر لفظ الاستفهام، والمعنى التبكيت. ولما كان المخاطب من بني قرد جعله قرداً في الحقيقة. والخطر: أصله إشالة الذنب من الفحل عند هياجه ومصاولته لفحل آخر، فاستعاره لفعل هؤلاء المخاطبين لما حدثوا أنفسهم بمباراة الأشراف ومساجلتهم. فيقول: أتحدث نفسك على باعك الضيق، وذنبك القصير، بمحاذاة الأشراف ومخاطرتهم، حتى تفعل ما يفعله الفحل في صياله؟ أنى لك ذلك، والقرد لا ذنب له يشاول به ويخطر؟ وهذا مثل، وفيه مع الإزراء تهكم. وقوله أبى قصر الأذناب أن يخطروا بها رجع الضمير لإللا القبيلة بأسرها. وقوله ولؤم بني قرد الواو للابتداء ومفيدة للحال: والحال اشتهارهم باللؤم حتى لا يخفي أمرهم في جوانب أرضهم، وعند أعلام معارفهم. وقوله أبى قصر الأذناب تفسير لما أنكره بقوله: وهل يستعد القرد للخطران، وتفصيل لما أبهمه. وقوله لقد سمنت قعدانكم فالقعدان: جمع القعود، وهي الناقة تقتعد، أي تركب. وقوله آل حذيم إضافة لآل إلى حذيم إضافة البعض إلى الكل وكذلك في قوله ياقرد حذيم، يكشف لك أنه قال: ولؤم بني قرد بكل مكان. وإنما ينسبهم إلى حسن تفقدهم لأموالهم، وسوء إهمالهم لحسبهم، فقد سمنت إبلهم بحسن رعيتهم لها، وتوفرهم على إصلاحها، وترقيح هيشهم بتثميرها وتكثير نسلها، وأن(1/1009)
أحسابهم مضيعة مهملة، متروكة من التفقد بائرة، لا ترم فروعها، ولا تضبط أصولها، ولا يحفظ بحسن المراعاة من السقوط والرزوح هزيلها.
وقال أبو منازل في ابنه
جزت رحم بيني وبين منازل ... جزاء كما يستنزل الدين طالبه
تربيته حتى إذا آض شيظما ... يكاد يساوي غارب الفحل غاربه
تغمد حقيظالماً ولوى يدي ... لوى يده الله الذي هو غالبه
قوله جزت رحم دعاء على ابنه منازل. وجعل فعل الجزاء للرحم. والجازي هو الله تعالى، لأنه السبب في الجزاء، ولتكون الشكوى أبلغ، فيقول: جزى الله منازلاً على الرحم التي بيني وبينه وقد قطعها ولم يقم بحقها، جزاء يستوفى له وعليه ما يحق، كما يستنزل طالب ممن عليه الدين حقه. ثم أخذ يقتص مادار بينهما، وما أوجب عليه الفرض الذي ضيعه فقال: تربيته طفلاً وناشئاً، حتى إذا صار شاباً طويل القامة يكاد غاربه يساوي غارب الفحل، أي بلغ قامته قامة الفحل. والغارب: مقدم السنام. والشيظم: الطويل الغليظ. ويروى: لربيته، ويكون اللام جواب قسم انطوى عليه الكلام. ويقال: ربيته وربيته وتربيته بمعنى واحد. حتى إذا آض، أي إلى أن صار. وإذا جوابه قوله تغمد حقي يريد: لما بلغ هذا المبلغ ستر حقي ولم يف به، متعدياً طوره، وباخساً ما استوجبته عليه بالولادة والتربية، فلما جاذبته بلساني مد يده فلوى يدي، أي فتلها وأزلها عن حالها وهيئتها ثم قال داعياً(1/1010)
عليه: لوى يده الله، أي أشلها وأبطلها، وهو القادر على ذلك منه، والغالب له وعليه.
وقال عارق الطائي
والله لو كان ابن جفنة جاركم ... لكما الوجوه غضاضة وهوانا
وسلاسلاً يثنين في أعناقكم ... وإذا لقطع منكم الأفرانا
ولكان عادته على جاراته ... مسكاً وربطاً رادعاً وجفاناً
لهذه الأبيات قصة طريفة، وأنا أذكرها بما عرض من السهو فيها.
ذكر هشام الكلبي أن عمرو بن المنذر بن ماء السماء - وأمه هند بنت الحارث الملك - كان عاقد طيئاً ألا بغزوا ولا يفاخروا، فاتفق أن غزا عمرو اليمامة فرجع منفضاً، فمر بطيء، فقال زرارة بن عدس: أبيت اللعن، أصب من هذا الحي شيئاً. فقال: ويلك، إن لهم عقداً! قال: وإن كان، فإنك لم تكتب العقد لهم كلهم. فلم يزل به حتى أصاب نسوة وأذواداً، فقال في ذلك قيس ابن جروة الأجئى:
ألا حي قبل البين من أنت عاشقة ... ومن أنت مشتاق إليه وشائقه
- وستجيء الأبيات في هذا الباب من الاختيار من بعد، لكن في آخرها قوله:
لئن لم تغير بعض ما قد صنعتم ... لأنتحين للعظم ذو أنا عارقه
فلقب يومئذ بعارق - فلما بلغ عمرو بن هند هذا الشعر قال له زرزارة: أبيت اللعن، إنه ليتوعدك على انتقامه بزعمه. فقال عمرو لثرملة بن شعاث الأجئي: أيهجوني ابن عمك ويتوعدني؟ فقال: والله ما هجاك، ولكنه قال:
والله لو كان ابن جفنة جاركم ... ما إن كساكم غضة وهوانا
وسلاسلاً يبرقن في أعناقكم ... وإذا لقطع منكم الأقرانا
ولكان عادته على جيرانه ... ذهباً وريطاً رادعاً وجفافا(1/1011)
يعني بابن جفنة عمرو بن الحارث، وإنما أراد ثرملة أن يقبح عليه فعلته، ومع ذلك يذهب شخيمته على ابن عمه، فقال عمرو: والله لأقتلنه! فيلغ ذلك عارقاً فقال:
من مبلغ عمرو بن هند رسالة ... إذا استحقبتها العيس تنضى من البعد
وستجيء من بعد أيضاً إن شاء الله.
قال الشيخ الإمام أبو علي رحمه الله: وإذا تأملت ما اقتصصت، بان لك أن هذه الأبيات التي أولها: والله لو كان ابن جفنة، ليس يهجو لابن جفنة وإنما هو مدح له، وقد عير بذكره عمرو بن هند، وأنه لو تولى من طيء ما تولاه عمرو بن هند كان معاملته إياهم بخلاف ما عاملهم به هو، فتصور أنها هجو لابن جفنة، وجعل بدل ما إن كساكم: لكسا الوجوه، وبدل قوله إذاً لقطع تلكم الأقرانا: منكم الأقرانا، وبدل قوله ولكان عادته على جيرانه: على جاراته، ومع هذه التغيرات ليس يخلص هجواً.
قال أبو علي: وأنا أعود إلا عادتي من تفسيرها وشرح معانيها: قوله غضة فعلة من غض، والغضاضة والغض: الفتور في الطرف. ونصب قوله وسلاسلاً على المعنى، فهو من باب قول الآخر:
يا ليت بعلك قد غدا ... متقلداً سيفاً ورمحاً
لأن السلاسل لس من كسوة الوجوه، فكأنه قال: ما إن كساكم غضة ولا قلدكم إذا غلكم سلاسل تبرق في أسناقكم. وقوله يثنين نعناه يعطفن ويلوين. وإذا لقطع تلكم الأقرانا فالأقران الحبال، والواحد قرن. وإذا رويت يبرقن فالمعنى ظاهر. ويشير إلى ما لحقهم من جهة عمرو بن هند. وقوله إذا أجاب لو بإذا كما أجابه باللام من قوله لكسا وبما على الأصل الأول. ومعنى لقطع تلم الأقرانا أي لو كنتم مأسورين لكان يفكم، ويقطع تلك الحبال التي صارت إساراً لكم. وإذا روى وإذا لقطع منكم الأقرانا كان معنى البيت: يشدكم في السلاسل ويبدد جمعكم. وقوله ولكان عادته على جيرانه، يريد أنه يفعل خلاف ما فعله عمرو بن هند، لأن(1/1012)
عادته في الجيران أن يمولهم ويصلهم، ويبرهم ويخلع عليهم، ويقريهم ويمونهم. وعلى الرواية الثانية يرميه ويقذفه بالجارات، ومعنى ذلك ظاهر. والرادع: المتغير اللون بالطيب والخلوق. ويقال: تردع بالخلوق، إذا تلطخ.
وقال آخر:
زعمتم أن إخوتكم قريش ... لهم إلف وليس لكم إلاف
أولئك أومنوا جوعاً وخوفاً ... وقد جاعت بنو أسد وخافوا
يخاطب بني أسد ويكذب دعواهم في انتمائهم إلى قريش، وتنسهم بالقربى والقرابة منهم، فقال: ادعيتم أن قريشاً إخوتكم، وسيماء الكذب ظاهرة علة هذه الدعوى، لأن لقريش إيلافاً في الرحلتين المعروفتين للتجارة، وليس لكم ذا؛ وقد آمنهم الله تعالى من الجوع والخوف، وأنتم خائفون جائعون. وإنما يشير إلى السورة المنزلة: لإيلاف قريش إيلافهم. رحلة الشتاء والصيف ... إلى آخرها. ويقال: ألف يألف إلفاً وإلافاً، وآلف يولف إيلافاً.
وقال آخر:
إن يسمعوا ريبة طاروا بها فرحاً ... منى وما سمعوا من صالح دفنوا
صم إذا سمعوا ذكرت به ... وإن ذكرت بشر عندهم أذنوا
جهلاً على وجبنا عن عدوهم ... لبئست الخلتان الجهل والجبن
انتصب فرحاً على انه مفعول له، وكان الواجب أن يقول: يطيروا بها فرحاً، لأنه لا يجوز أن يعمل حرف الشرط في الشرط بالجزم ويجعل الجواب فعلاً ماضياً في الكلام، وإن كان يجوز في الشعر. ومعنى البيت الأول أنهم إذا رأوا حسنة كتموها، وإذا رأوا سيئة أظهروها. وقوله منى أراد من جهتي. ومعنى طاروا بها أي كثروها في الناس وأذاعوها، ووصلوا القيام بالقعود في نشرها. وهذا ما ذكره من الدفن في قوله وما سمعوا من صالح دفنوا في المعنى.(1/1013)
وقوله صم إذا خيراً ارتفع صم على أنه خبر مبتدأ محذوف، كأنه قال: هم صم، أي يتصاءمون عما أنسب إليه من الخصال الصالحة. ويقال للمعرض عن الشيء: هو أصم عنه. على ذلك قوله:
أصم عما ساءه سميع
قال: ومتى ذكرت بشر أدركوه وعلموه. ويقال: أذن يأذن أذناً. قال:
بسماع يأذن الشيخ له
ويجوز أن يكون اشتقاقه من الأذن الحاسة. وانتصب جهلاً لأنه مصدر لعلة. ينسبهم إلى أنهم مع الأقارب يستعملون الجهل والحسد عليهم ومعهم، وأنهم جبناء عن الأعداء ضعفاء عجزة إذا طلب كفايتهم، لا يصلحون لدفع مكروه، ولا لجلب محبوب. ثم سوأ عليهم فعلهم فقال بئست الخصلتان جهلهم على أقاربهم، وجبنهم عن أعاديهم. وهذا تأكيد في التعبير، ومبالغة في التقريع.
وقال منصور بن مسجاح
ثأرت ركاب العير منهم بهجمة ... صفايا ولا بنيا لمن هو ثائر
من الصهب أثناء وجذعنا كأنها ... عذارى عليها شارة ومعاصر
قوله ركاب العير يروى ركاب القوم. وأراد بالعير السيد، وكان استيق لرئيسهم إبل فارتجع بدلاً منها على ما وصفه. ومعنى ثأرت ركاب العير أي أدركت الثأر فيها منهم بأن أخذت هجمة من الإبل - وهي المائة وما داناها - غزاراً سمينات، والثأثر ليس من حقه أن يبقى، والأصل في الثأئر القاتل، فوضعه موضع الواتر المنتقم. يقال: ثأرت فلاناً وثأرت بفلان، إذا قتلت قاتله. وقوله من الصهب أثناء وجذعنا، هذا تفسير للهجمة، وتفصيل للجملة، يريد: من الإبل الصهب. والصهبة: حمرة يعلوها بياض. وتعلق من بقوله هجمة.(1/1014)
وأثناء: جمع ثنى. والجذع: جمع جذع، وهو كخشب وخشب. والحجة في أن العير السيد قوله:
زعموا أن كل من ضرب العي ... ر موال لنا وأنا الولاء
وهذا أحد الوجوه التي قيل فيه. وقوله كأنها عذارى يعني حسنها، زالمعاصر: جمع المعصر، وهي من النساء التي شارفت الإدراك والبلوغ. قال:
قد أعصرت أو قد دنا إعصارها
والشارة: الهيئة. ويقال: رجل شير صير، من الصورة والشارة.
فإن نلق من سعد هنات فإننا ... نكاثر أقواماً بهم ونفاخر
لقد كان فيكم لو وفيتم لجاركم ... لحي ورقاب عردة ومناخر
بين أن الذين أدرك منهم ما أدرك هم بنو سعد. وهذا الكلام تهكم وسخرية. كأنه يريد: إن اتفق من سعد الزلة بعد الزلة، والسقطة المنكرة بعد السقطة، فإنا على ذلك نكاثر بهم الأعداء. ونفاخر بمكانهم. ثم أقبل عليهم وقد نقل الكلام عن الإخبار إلى الخطاب، فقال: لو رمتم الوفاء لجاركم، ولم تطعموا في ماله لقرب ذاك عليكم، فإن آلات الوفاء معدة فيكم: لحي موفورة، ورقاب غليظة، ومناخر واسعة منتفخة.
وقال حواس الضبي لامرأة
والله ما أخشى حكيماً ورهطه ... ولكنما يخشى أباك حكيم(1/1015)
وجدت أباك تابعاً فتبعته ... وأنت لعهار الرجال لزوم
رمى المرأة المخاطبة وقذفها بحكيم، فقال لها معيراً ومشهراً بها: إني لا أخاف صاحبك حكيماً ولا عشيرته، ولا أحتشمهم فيك، ولكن حكيم يخشى أباك لاجتماعه معك على الفاحشة. ثم قال: تعاطيك الفجور وراثة، لأنك وجدت أباك في الأبنة تابعاً لسلفه فيها، فاقتديت به، فهو يطلب من يشفيه من دائه، وأنت أيضاً شديد اللزام للزناة والفساق، والولد يتقيل أباه.
على كل وجه عائذي دمامة ... يوافي بها الأحياء حين تقوم
وأورثها شر التراث أبوهم ... قماءة جسم والرداء ذميم
تعداهما إلى فصيلتهما بل قبيلتهما فقال: على وجه من بنى عائذة قبح وخزى، إذا قامت أحياء العرب في أسواقهم ومجامعهم يوافيهم به. والمعنى أنهم مشهورون باللؤم ودناءة النفوس، فوجوههم مسودة بالعار، مشوهة بسوء الفعال عند القبائل، فمتى وافوا يوماً مجموعاً فيه الناس وجد آثار الخزى، وغضاضة الطرف للخزاية، تلوح على صفحات وجوههم. ودمامة الوجوه ضربها مثلاً لذلك. وقوله: وأورثها، يريد أن اللؤم فيهم وراثة، وقد عرفوا ذلك من أنفسهم واعترفوا به، فترى أجسامهم في المحافل والمشاهد قميئة تصاغراً وتذللاً، وتقاصراً وتخشعاً. وقد رداهم الله برداء أعمالهم من الغدر والخيانة، والغلول والسفاهة؛ فرادؤهم مذموم في الألسنة عند الخاصة والعامة. ويجوز أن يكون المراد أن سيماهم كالرداء عليهم، فهم مذمومون لها وعليها، ويروى: والرواء دميم، يعني قبح الطلعة. ودميم: اسم الفاعل من دممت دمامة. وفعلت في المضاعف قليل. والرواء يجوز أن يكون فعالاً من الرؤية، ويجوز أن يكون من الري.
كأن خروء الطير فوق رءسهم ... إذا اجتمعت قيس معاً وتميم
متى نسأل الضبي عن شر قومه ... يقل لك إن العائذى لئيم
لما كان يوصف الوقور المتثبت في الأمور إذا حصل مع أشباهه من أهل الأناة والرفق والرزانة وسكون الجأش في منتدى لهم، وتناجوا وتشاوروا، أو حضروا في(1/1016)
مجلس محتشم فتجاذبوا وتناظروا، بقولهم: كأن على رءوسهم الطير، وهذا التشبيه إنما حصل على أنهم من السكون ومفارقة التعجل بمنزلة من على رأسه طير فيخاف في تحركه ذهابها وطيرانها؛ ولما كان هذا الشاعر يهجو بني عائدة ويهزأ بهم، جعل بدل ذلك القول كأن خروء الطير فوق رءوسهم. وقوله إذا اجتمعت قيس معاً وتميم بيان لاختلاطهم بأهل الحل والعقد من وجوه القبائل ورؤساء المحافل. وكان الحكم أن يقول: إذا اجتمعت قيس وتميم معاً، فقدم معاً لأن العاطف ينبه على موضع المعطوف. وقوله متى تسأل الضبي عن شر قومه، يروى: عن سر قومه، وهو حسن، والمعنى أنهم لئام باعتراف من قومهم به، واتفاق منهم عليه، لكنهم يسرون أمرهم ويخفونه.
وقال محرز بن المكعبر الضبي
أبلغ عدياً حيث صار بها النوى ... وليس لدهر الطالبين فناء
كسالى إذا لاقيتهم غير منطق ... بلهى به المتبول وهو عناء
أخبر من لاقيت أن قد وفيتم ... ولو شئت قال المنبئون أساءوا
يقول: أد إلى بني عدي رسالتي حيث استقرت بها النوى بأن زمن طلاب الأوتار فيما عليهم من إدراك الثأر قد اتصل وامتد، فليس ينقطع لكسلهم عن السعي في ردء المغار عليه، واستيطائهم مراكب العجز عن نصرته، غير مواعيد خالية من الفعل يقربونها، وأقوال مزخرفة عند الالتقاء يبذلونها، إذا اعتمدها الموتور انصرف بها مغروراً، فكانت عند السامعين لها ضلالاً وبوراً، وعناء للقلوب والجوارح، لا يحلى منه بطائل، ولا يرجع على أحد بعائد. هذا وأنا أحسن أمركم، وأقول لمن يسأل عن أخبارنا وأخباركم: إنهم قد وفوا بالعهد، وأدوا مالزمهم من النصرة بحق الجوار والعقد، لكن للأمور أوقات، وللأقضية آجال وآماد، فينثنى الذم عنكم، وينحط العار دون فنائكم، ولو شئت لقال السائل والسامع: أساؤا حين بدلوا الخفارة بالإخفار، وضيعوا الحقوق بالتقصير والإقصار: وقوله أن قد وفيتم أن فيه مخففة من الثقيلة(1/1017)
واسمه مضمر، وهو ضمير الأمر، والجملة في موضع الخبر. وقوله غير منطق انتصب على أنه استثناء خارج. ويلهى به من لهوت عن كذا ولهيت، ألهو لهواً، وألهى لهيا، إذا انصرفت عنه. والمتبول: المصاب بذحل وتبل.
لهم رثية تعلو صريمة أمرهم ... وللأمر يوماً راحة فقضاء
وإنى لراجيكم على بطء سعيكم ... كما في بطون الحاملات رجاء
الرثية: الضعف. والصريمة: ما يقطع من العزيمة ويجزم إمضاؤه بعد العقيدة، فيقول مصوراً حالهم في التفريط والإهمال: متى هموا بإنفاذ عزائمهم، وتشديد شكائمهم، وإنجاز ما يتنجز عليهم من مواعدهم، أو يهتمون لرحض درن العار عن شيمهم وأخلاقهم، ولسد طريق العار والتعبيرعن مذاهبهم وأفعالهم، علا همهم وهمتهم وهن وفشل، وملك قيادهم ومقودهم ضعف وكسل. ثم أخذ يتهكم ويهزأ فقال: والمرء في أمره يمضي يوماً ويكف يوماً، فما يجبر كسر التعب إلا التعب ما يتعقبه من الراحة. وقوله فإنى لراجيكم على بطء سعيكم، يريدأنهم على تباطئهم وتأخر فعالهم عن مقالهم مرجوون، كما أن الحاملات على تأخر وضعهن مرجوات، فأنا ناظر في أعقاب الأمل متى يتحقق. وقوله فقضاء أي فقضاء يوماً آخر. وقوله كما في بطون الحاملات رجاء أي أرجوكم مثل ذلك الرجاء.
فهلا سعيتم سعى عصبة مازن ... وهل كفلائي في الوفاء سواء
لهم أذرع باد نواشر لحمها ... وبعض الرجال في الجروب غثاء
كأن دنانيراً على قسماتهم ... وإن كان قد شف الوجوه لقاء
هذا الكلام بعث وتحضيض. وهلا: حرف إغراء وتحضيض. وذكر بني مازن تحريكاً منهم، وليوجعهم بتفضيل غيرهم عليهم. وقوله وهل كفلائي، فالكفيل: الضامن للشيء: وهذا المصراع التفات، كأنه لما هجن فعلهم وقرعهم، وأطرى غيرهم مؤثراً عليهم. التفت إلى من حوله فقال: وهل ضمنائي مستوون في الوفاء(1/1018)
فأجريهم مجرى واحداً. وهذا أبلغ من كل نكير، ومن كل هجو فظيع. وسواء وإن كان في الأصل مصدراً؛ فقد صار هنا كأسماء الفاعلين لنيابته عنها، لذلك صح أن يعمل في الظرف قبله وهو قوله في الوفاء، لأن المصادر لا تعمل فيما قبلها إلا إذا أمر بخا، كقولك: صرباً زيداً، أو إذا أجرى هذا المجرى. وقوله لهم أذرع صفة للعصبة المازنية. وهم يتمدحون بالهزال. والنواشر: عروق ظاهر الذراع. وقوله وبعض الرجال في الحروب غثاء، تعويض بالآخرين، وهم بنو عدى. والغثاء: ما يعلو السيل من الغثر والزبد. والمعنى: بعضهم لاغناء عنده ولا كفاية، كيبيس النبات وقد احتمله الماء.
وقوله كأن دانيراً على قسماتهم، القسمات: الوجوه، وقيل هي مجاري الدموع. ويقال: وجه مقسم، أي حسن، والقسامة: الحسن. ومرجعه إلى القسمة، كأنه مسح كل جزء من الوجه بقسم من الجمال، فتعادلت الأجزاء وحسنت. وقوله وإن كان قد شف الوجوه لقاء تعريض أيضاً، والمعنى أن وجوههم تشرق في الحرب وتضيء، إذا صارت وجوه غيرهم مشفوفة متغيرة. ويقال: شفة المرض، إذا أذابه وهزله. وذكر الدنانير في إثبات ماء الوجه ونضارة الحسن قد جاء في النسيب، ألا ترى قوله:
النشر مسك والوجوه دنا ... نير وأطراف الأكف عنم
وقال شمعلة بن الأخضر
وضعنا على الميزان كوزاً وهاجراً ... فمالت بنو كوز بأبناء هاجر
ولو ملأت أعفاجها من رثيئة ... بنو هاجر مالت بهضب الأكادر
ولكنما اغتروا وقد كان عندهم ... قطيبان شتى من حليب وحازر
هذا الكلام هزء وسخرية. فيقول: نظرنا ما بين كوز وهاجر بالمقياس القائم، والميزان الحاكم، فوجدنا كفة بني كوز أرجح وأوزن، ولو علمت بنا وبفعلنا لملأت(1/1019)
بطونها من الرثيئة، فزادت زنتها على هضاب الأكادر، لكنها أصيبت غفلتها، وفوجئوا بالوزن قبل الشرب والامتلاء، والتجرد للأمر والاستعداد، وكانت الحال مساعدة، وأنواع الحليب ممكنة، وذاك أجلب لحسرتهم، وأدعى إلى ندامتهم.
والأعفاج: الأمعاء، والواحد عفج. ويقال: اغتر فلان، أي أخذ على غرة. والقطيب: الممزوج. والحازر: الجامض. والرثيئة: المجموع من الحازر والحليب. وقد رماهم بأن طعامهم ذلك لا غير.
وقال قرواش بن حوط الضبي
نبئت أن عقالاً ابن خويلد ... بنعاف ذي غذم وأن الأعلما
ينمي وعيدهما إلى وبيننا ... شم فوارع من هضاب يرمرما
الأجود في العلموقد وصف بالابن أو الابنة، إذا كانا مضافين إلى علم، أو ما يجري مجراه، ترك التنوين فيه. وقد نون هذا نون هذا الشاعر عقالاً، وإذ قد فعل ذلك فالأجود ابن خويلد أن يجعل بدلاً، ويجوز أن يجعل صفة على اللغة الثانية.
والنعاف: جمع نعف، وهو المكان المرتفع في اعتراض، وأعلى كل شيء؛ ومنه مناعف الجبل. والأعلم: اسم رجل، وأعاد أن معه توكيداً، والخبر قوله ينمي، والعامل فيه أن الأولى، لأن الثانية لا يعتد بها عاملاً إن كان مؤكداً. ومثل هذا قول الحطيئة:
إن العزاء وإن الصبر قد غلبا
ويكون على هذا الألف في غلبا ضمير المثنى. والشم: الجبال المرتفعة. والفوراع: العوالي. ويلملم: علم لجبل، ويروى: يرمرم.
غضا الوعيد فما أكون لموعدي ... قنصاً ولا أكلاً له متخضماً
ضبعا مجاهرة وليثاً هدنة ... وثعيلبا خمر إذا ما أظلما(1/1020)
لا تسأما لي من دسيس عداوة ... أبداً فليس بمسئمى أن تسأما
يقول: أقصرا إليكما من تهددكما، فإني لا أحتفل بكما ولا بوعيدكما، ولا أصطاد بإرعادكما وإبراقكما، ولا أصبر مأكلة لأحد فيأكلني بفمه كله خضماً كما يؤكل الرطب اللين، لا قضماً. ثم أخذ يعدد مخازيهما فقال: عند المكاشفة والملاقاة تخبثان وتحمقان، خبث الضبع وحماقته، وعند الاصطلاح والهدو تشجعان وتقدمان إقدام الأسد وشجاعته، وفي ظلام الليل تسرقان وتحتالان على الناس، وتراوغان مراوغة الثعلب وسرقته. والخمر: ما واراك من شجر وغيره. وإذا ما أظلما أي دخلا في الظلام. والعامل في إذا ما دل على جوابه وقد تقدمه.
وقوله لا تسأما يقول: لا تملأ مداجاتي وطلب الغوائل لي في السر وبظهر الغيب، فإني لكما على مثل حالتكما لي، ولا تفترا عنه فإني لا أفتر ولا أمل وإن مللتما أيضاً، فإن ملالكما لا يكسبني فتوراً ولا إمساكاً. والدس: إدخالك شيئاً تحت شيء، وهو الإخفاء. وفي القرآن: " أم يدسه في التراب " والداسوس والجاسوس يتقاربان. ويروى: من رسيس عداوة، ويكون مثل رسيس الحمى والهوى ورسهما، لما يبدأ منهما. وموضع أن تسأما من الإعراب رفع على أن يكون اسم ليس، كأنه قال: ليس بمسيئي سأمتكما فهو كقولك: ليس بمنطلق عمرو.
وقال سويد بن مشنوء
ذرى عنك مسعوداً فلا تذكرنه ... إلي بسوء واعرضي لسبيل
نهيتك عنه في الزمان الذي مضى ... ولا ينتهي الغاوي لأول قيل
قوله ذرى؛ أي دعى. والأمر يبني على المستقبل، وهو يذر، وقد استعمل. فأما وذر فمن المرفوض استعماله استغناء عنه بترك. وقوله: لا تذكرنه إلي كسر الراء منه لأنه مخاطبة مؤنث، والأصل تذكرينن، فحذف النون الأولى للجزم، ثم حذف الياء لالتقاء الساكنين، فصار تذكرن. والمعنى: لا ينتهين ذكره إلى، ولا يتجاوزن ذكره إلي بسوء. فعدى تذكرن تعدية تتجاوزن إلي، حملاً على المعنى. ومما(1/1021)
جاء على هذا قوله:
إذا تغنى الحمام الورق هيجنى ... ولو تعزيت عنها، أم عمار
عدي هيجني تعدية ذكرني، لأنه في معناه. وهذا كما يحملون في التعدية النقيض على النقيض، كقوله:
إذا رضيت على بنو قشير ... لعمر الله أعجبني رضاها
عدي رضيت تعدية غضبت لأنه نقيضه، كما عدي هيجني تعدية ذكرني لأنه نظيره. وكما حكى:
قد قتل الله زياداً عني
عدى قتل تعدية صرف.
وقوله نهيتك عنه، يقول: كنت أحذرك عنه فيما سلف من الزمان وتقضى، لكن الجاهل لا يرتدع للزجرة الأولى حتى يردع مرة بعد أخرى. وهذا مثل، أعني قوله:
ولا ينتهي الغاوي لأول قيل
وقوله واعرضي لسبيل أي إلى طريق غيره، واذكريه بسوء. ويقال: لا تعرض عرضه، أي لا تذكره بسوء.
وقال معدان بن عبيد
عجبت لعبدان هجوني سفاهة ... أن اصطبحوا من شأنهم وتقيلوه
بجاد وريسان وفهر وغالب ... وعون وهدم وابن صفوة أخيل
فأنا الذي يحصيهم فمكثر ... وأما الذي يطريهم فمقلل
يقال: عبدو أعبدو وعباد وعبيد وعبدي وعبدان ومعبوداء ومعبدة وعبد. فيعض هذه الأسماء مما صيغ للجمع، وبعضها جمع في الحقيقة. وانتصب سفاهة لأنه(1/1022)
مفعول له. وهم يكنون عن اللئام بالعبيد والعبدان، وبالقزم والقزمان. وأن اصطبحوا يريد لأن اصطبحوا، أي شربوا الصبوح، وهو ما يشرب صباحاً. والقيل، وهو شرب نصف النهار. وكما قال تقيلوا، يقال تصبحوا أيضاً. والمعنى عدوا طورهم فهجوني، لأنهم رأوا بأنفسهم ما لم يعهدوه. فطغوا عند الغنى، وأصابوا من شائهم الصبوح والقيل، بعد أن كانوا كلاً على غيرهم. ثم ذكرهم بأسمائهم تخضيعاً وتشنيعاً. ويرتفع بجاد إن شئت على الاستئناف، يريد: هم بجاد وريسان؛ وإن شئت على البدل من المضمرين في قوله اصطبحوا.
وقال من بعد: من يعدهم يكثر لوفور عددهم، ومن يئنى عليهم يقلل لقلة من يستحق الثناء فيهم ومنهم. ويجوز أن يكون أن من قوله أن اصطبحوا أن المفسرة، كأنه فسر لم طغوا فهجوه.
وقال يزيد بن قنانة
لعمري وما عمري على بهين ... لبئس الفتى المدعو بالليل حاتم
غداة أنى كالثور أحرج فاتقى ... بجبهته أقتاله وهو قائم
كأن بصحراء المريط نعامة ... تبادرها جنح الظلام نعائم
أعارنك رجليها وهافي لبها ... وقد جردت بيض المتون صوارم
قد مضى الكلام في قوله لعمري. وقوله وما عمري على بهين تحقيق لليمين، وأن عمره ليس يهون عليه فيحلف به كاذباً. وفي الكلام إزراء بالمخبر عنه.(1/1023)
وقوله المدعو بالليل كثير من النحويين يذهبون في مثله إلى أنه بدل لا صفة، لأن نعم وبئس يرفعان من المعارف ما فيه الألف واللام ودل على الجنس؛ وما يدل على الجنس لا يتأتى فيه الوصفية. والصواب عندي تجويز كونه وصفاً، بدلالة أنه يثنى ويجمع، فيقال: نعم الرجلان الزيدان، ونعم الرجال الزيدون، والتثنية والجمع أبعد الأشياء من أسماء الأجناس، إلا إذا اختلفت، فكما يجوز تثنية هذا وجمعه لدخول الأختلاف فيه، كذلك يجب أن يجوز وصفه لمثل هذه العلة، ولا فصل. وإذا كان كذلك كان قوله الدعو بالليل صفة للفتى، كأنه قال: مذموم في الفتيان المدعوين بالليل حاتم. وهذا ظاهر.
وذكر الليل لشدة الهول فيه.
وقوله غداة أتلى كالثور يعني حاتماً، وإنما يهزأ به. ومعنى أحرج: ضيق عليه وأخرج من عادته فأحوج إلى أن يعيث. والأقتال: الأقران والأعداء، والواحد قتل، فيقول متهكماً: جاء كالثور الهائج غضباً وحمية، وقد بان له من طلابه ترك الإبقاء عليه، فجعل بينه وبين أقرانه قرنية يتقيهم بهما، وييعدهم الشر بإعمالهما، فهو ثابت القدم متهيء للقتال. هذا كان حاله في المجيء، فلما جاء وقت الدفاع والمصادمة، والقراع والمكافحة، انهزم فكأن نعامة سابقها حين جنح الظلام نعائم إلى أداحيها، أعارت حاتماً رجليها وطائر قلبها، وهو يعدو مذعوراً، ويطلب النجاء مفلولاً، وقد جردت السيوف من أغمادها، وصار الأمر في الطلب والهرب جداً. وإنما قال أعارتك رجلها لأنه نقل الكلام عن الإخبار إلى الخطاب.
وقال عارق وهو قيس بن جروة الطائي
من مبلغ عمرو بن هند رسالة ... إذا استحقبتها العيس تنضى من البعد
أيوعدني والرمل بيني وبينه ... تبين رويد ما أمامة من هند
ومن أجأ حولي رعان كأنها ... قنابل خيل من كميت ومن ورد
كان عمرو بن هند غزا اليمامة على ما حكيت من قصته فيما تقدم، فأخفق ورجع منفضاً. فمر بطيىء، وكانوا في ذمته بكتاب عقداً كتبته لهم، وعهد أحكمه(1/1024)
معهم، فقال زرارة بن عدس له: أبيت اللعن، أصب من هذا الحي شيئاً. قال: ويلك إن لهم عقداً لا يجوز لنا تخطيه. فأخذ زرارة يهون أمر العهد عليه، ويحسن الإيقاع بهم؛ فلم يزل يفتل في الذروة والغارب معه لشيء كان في نفسه على طيىء حتى أصاب أذواداً ونساء، فهجا عارق عمرو ابن هند بأبيات يعصب رأسه فيها بالغدر الذي كان منه، فوقعت الأبيات إلى عمرو بن هند، فتوعد عارقاً وحلف أنه يقتله، فاتصلت مقالته بعارق فقال هذه الأبيات. ومعنى استحقبتها حملتها في الحقائب. وجعل الفعل للعيس اتساعاً. ومعنى تنضى: تهزل، لبعد المسافة.
وقوله أيوعدني استفهام على طريق التقريع لعمرو، واستعظام منه للأمر. والمعنى أنه لا ينالني مع حصانة حبلى ودارى، ولا يتمكن مني على بعد طرقي وأرضي، فلينظر برفق، وليميل بين أمه وأمي، وليكن التعلي والتوعد بمقدار فضله وقدرته. وذكر الأم إظهار لقلة المبالاة، وأنه يجسر على تناول الحرم منه باللسان.
وقوله ومن أجأ حولي رعان أجأ: أحد جبليهم. والرعان: جمع رعن، وهو أنف يتقدم من الجبل. والمراد بيان حال جبلي طيىء في وثاقتهما وحصانتهما، وأمن من ينزل بهما، وأن رعانه كأنها جماعات أحاطت بالجبل وأحدقت، فهي تذب عنها كمتاً وورداً. وذكر القنابل في التشبيه، والعز بأربابها يحصل.
غدرت بأمر كنت أنت اجتذبتنا ... إليه وبئس الشيمة الغدر بالعهد
وقد يترك الغدر الفتى وطعامه ... إذا هو أمسى جله من دم الفصد
يروى: أنت احتديتنا، وهو افتعل من الحدو: السوق. واجتذبتنا، من الجذب. ويروى: أنت دعوتنا. والشاعر يشير إلى ما كان في يد طيىء من عقد الجوار وكتاب العهد، فيقول: كنت أنت الباني لذلك، والمؤسس لمناره، فأبيت إلا أن تنقضه، وبئس العادة الغدر مع العقود، ونكث عرى العهود. والفتى قد يؤثر الإقامة على الوفاء مع الإضافة، وشدة الفاقة، ويطلب اكتساب المحمدة، وإن كان مسكيناً ذا متربة، حتى إذا أمسى يكون جل طعامه فيصيد الدم. ويروى: إذا هو أمسى حلبة من دم الفصد؛ والأول أحسن.(1/1025)
ويرتفع جله على أنه مبتدأ ثان، والجملة خبر المبتدأ الول، وهو طعامه. وينتصب إذا من قوله جله من دم الفصد، لأنه الدال على جوابه.
وقال آخر:
لعمري وما عمري على بهين ... لقد ساءني طورين في الشعر حاتم
أيقظان في بغضائنا وهجائنا ... وأنت عن المعروف والبر نائم
بحسبك أن قد سدت أخزم كلها ... لكل أناس سادة ودعائم
فهذا أوان الشعر سلت سهامه ... معابلها والمرهفات السلاجم
أقسم بحياة نفسه، وخبر المبتدأ محذوف، والمراد: لعمري ما أقسم به؛ لأن اللام منه لام الابتداء، وجواب القسم لقد ساءني. وقوله ما عمري اعتراض، وقد مر القول في فائدته. والطور: التارة. أي تعرض لي مرتين بما ساءني. ثم أقبل عليه فقال: أيقظان؟ والمعنى: أأنت يقظان، أي منتبه في هجونا وبغضنا وعدواتنا، ونائم عن الخير والإحسان، وإسداء المعروف والبر والإفضال؟! ثم أخذ يهزأ به فقال: بحسبك. والمراد حسبك، لكنهم يزيدون الباء في المبتدأ، نحو قولك: بحسبكأن تفعل كذا، وفي الخبر أيضاً يزيدون، نحو قوله:
ومنعكها بشيء يستطاع
أي شيء يستطاع. وهذا أحد ما قيل فيه، وقال آخر:
بحسبك في القومأن يعلموا ... بأنك فيهم غنى مضر
والمعنى: كافيك أن ترأست على أخزم، وأخزم: رهط حاتم. ثم أزرى برياسته وبهم، فقال: ولكل طائفة من طوائف الناس رؤساء وعمد، وهذا يجري مجرى الالتفات. كأنه بعد ما قال ذلك التفت إلى من حوله يؤنسهم ويقول: ليس ذا بمنكر، فلكل قوم من يسوسهم ويدعمهم.(1/1026)
وقوله فهذا أوان الشعر سلت سهامه، يعني شعره. فيقول: لكل زمان شيء يظهرفيه ويغلب، وزماننا هذا مع قرضك للشعر زمان الشعر، وقد انتزعت سهامه من كنايتها بعد أن نثرت، فجرت للرمي بها معابلها، وهي العراض، وسلاجمها وهي الطوال. المرهفات: المرفقات الحد. والمراد بهذا التنويع فنون الشعر وأساليبه. أي أنت فيه ذو فنون، والمعبل: الذي معه معابل. وعبلته: أصبته بمعبلة.
وقال رجل من طيىء
إن امرأ يعطي الأسنة نحره ... وراء قريش لا أعد له عقلا
يذمون لي الدنيا وقد ذهبوا بها ... فما تركوا فيها لملتمس ثعلا
وصف الأمراء الذين أشار إليهم بسوء المحافظة، وذهابهم عن معرفة الحقوق ومراعاتها، وإنزال الموالين منازلهم فيها فقال: إن من يغتربكم بعد هذا الوقت واعتمدكم، فبذل نفسه وراءكم للمتالف، وركب في هواكم المعاطب، لا عقل له ولا أرى.
ثم بين ما أشكاه منهم، وسوأ معاملتهم فقال: يذمون الدنيا لي، ويزهدونني فيها وفي الأخذ منها، وقد فازوا بها حتى لم يبقوا فيها فضالة لأحد، أي تغبروا كل محلوب فيها، ولم يبقوا في ضروعها شيئاً حتى لم يتركوا ثعلاً فيها. وهذا مثل، والثعل هو الطبي الزائد، والسن الزائدة. ويقال: ثعلت سنه. وشاة ثعول: لها ثعل. وذكر بعض أهل اللغة أن الثعلول من الشاء: التي يمكن أن يحلب من ثعلها أيضاً. وقوله وراء قريش يكون وراء بمعنى خلف وقدام، والأولى به هنا أن يكون بمعنى قدام. ومثله في القرآن: " وكان وراءهم ملك ".
وقال رويشد
وموقع تنطق غير السداد ... فلا جيد جزعك يا موقع
فما فوق ذلتكم ذلة ... ولا تحت موضعكم موضع(1/1027)
موقع: قبيلة. يريد أنهم يتكلمون بالفحش وغير الصواب، لسفهها وسوء تمييزها، ثم دعا عليها، فقال: لا مطر جانبك وفناء واديك بالجود، ولا أصابكم خصب.
وقوله فما فوق ذلكتكم طابق بتحت وفوق فيه، وهو غريب حسن. يريد: لا مرتبة في الذل أعلى من مرتبتكم، فإنها الغاية القصوى؛ ولا موضع أشد تأخراً وانحطاطاً في العز من موضعكم، فإنه المنزل الأخس الأدنى. وقوله غير السداد، يريد به تنطق النطق غير السداد. ويقال: جيد جوداً، في المطر، وتوسع فيه فقيل:
ومجود من صابات الكرى
ويقال جيد جواداً، إذا عطش.
وقال جابر
أجدوا النعال بأقدامكم ... أجدوا فويها لكم جرول
وأبلغ سلامان إن جئتها ... فلا يك شبهاً لها المغزل
يكسى الأنام ويعرى استه ... وينسل من خلعه الأسفل
يقول: استجدوا النعال لأقدامكم، أو في أقدامكم استجدوها يا جرول، ويهاً لكم. وإنما كرر الأمر تأكيداً للقول عليهم. ويقال في الدعاء: أبل وأجدد. وويهاً: اسم من أسماء الأفعال يعرى به، ولا يحىء إلا منوناً، وذاك علامة لتنكيره. وإنما قلنا هذا لأن في أسماء الأفعال ما ينكر ويعرف. ومنه ما لا يجيء إلا منكوراً. ومثل ويهاً إيهاً، ويستعمل في الكف، وواها وهو للتعجب، وكل ذلك يجيء منونة منكرة. وجرول: اسم رجل. وجعل أول الكلام خطاباً لجماعتهم، ثم خص بالنداء واحداً منهم وحعله المأمور بما أراد. ألا ترى أنه قال: وأبلغ سلامان إن جئتها. وسلامان: قبيلة. ومثل هذا التخصيص قول الهذلي:
أحيا أباكن يا ليلى الأماديح(1/1028)
فقال: أباكن، ثم قال: يا ليلى، وهذا التخصيص مثل التخصيص الذي في قوله تعالى: " حافظواعلى الصوات والصلاة الوسطى "، ومااشبهه. وقوله فلا يك شبهاً لها المغزل، لو قال لكمم لساغ، لأنهم يفتنون في مثل هذا الموضع بين الخطاب والإخبار؛ على هذا قول الله تعالى: " وإذ أخذنا ميثاق بني إسرائيل لا تعبدون إلا الله "، قرىء: " لا يعبدون " بالياء والتاء فالتاء للخطاب، والياء للإخبار. والرسالة التي يريد إبلاغها قوله:
فلا يك شبهاً لها المغزل
والمعنى لا يكونن سبيلكم سبيل من يتبع الغير ويضر نفسه، كالمغزل الذي يكسى الخلق ويجعل استه عريان. وهذا مثل. وكما ضرب المثل بالمغزل ضرب أيضاً له بالسراج فقيل:
ولا تكونن ذبالة نصبت ... تضيء للناس وهي تحترق
فأما قوله وينسل من خلعه الأسفل، فإنه كان يروى: من خلفه وليس يصح له معنى. والمستقيم كما روينا: من خلعه الأسفل. وذاك أن المغزل ينسل أسفله بأن يختلع كبته، وهذا ظاهر. وكأن سلامان كانت تقتحم أهوالاً غنمها يصير لغيرها، وغرمها يكون لها، فلذلك جعل المغزل مثلاً له.
فإن بجيراً وأشياعه ... كما تبحث الشاة إذ تذأل
أثارت عن الحتف فاغتالها ... فمر على حلقها المغول
وآخر عهد لها مونق ... غدير وجزع لها مبقل
قوله كما تبحث الشاة محمول على المعنى، لأن المعنى أن بحث بجير وأشياعه كبحث الشاة في ذألاتها، وهو جنس من عدوها، وذاك لأنه يشبه الحدث بالحدث، والذات بالذات، وإذا كان كذلك فقوله إن بجيراً حذف المضاف منه، لأن القصد تشبيه البحث بالبحث. وفي المثل: حتفها تحمل ضان بأظلافها، وكما(1/1029)
تبحث الشاة عن مديتها ولا تكن كالباحث عن الشفرة، وإنما ينهي بهذا من يجني على نفسه فيما يأتيه، ويسعى في إهلاكه برجله، فيقول: لا يكونن سبيله سبيل الشاة التي كشفت عن المدية، وقد استترت عن الذابح، بظلفها، حتى ذبحت بها. ومعنى أثارت عن الحتف، أثارت عن المدية، ثم كان الحتف فيها. ففيه توسع. وهو يقيمون السبب مقام المسبب كثيراً. واغتال: افتعل من الغول، وهو الهلاك. والمغول: السكين، وقد اشتهرت بها إذا جعلت في وسط السوط فصار كالغلاف لها. وقوله وآخر عهد لها مونق غدير، يعني الشاة بعد إثارتها السكين. وهو إظهارها إياها. فيقول: كان آخر عهدها المعجب لها روضة قد أبقلت، وغديراً امتلأ ماء وكان شبعه وريه منهما، فبطرت وأثارت عن حتفها حتى هلكت. ولك أن تروى مونق بالرفع، فيكون صفة لآخر عهد، ومونق بالجر فيكون للعهد. وجعل الإيناق للعهد لأن المراد بالعهد المعهود، وهو المرعي المعجب. ويجوز أن يجعل المونق من صفة الغدير وقد قدم عليه، وجعل هو بدلاً منه، ويكون التقدير: وآخر عهد لها غدير مونق وجزع مبقل. ويقال: أبقل المكان فهو باقل ومبقل. وأفعل فهو فاعل شاذ ليس بكثير.
وقال إياس بن الأرت
كأن مرعي أمكم إذ بدت ... عقربة يكومها عقربان
إكليلها زول وفي شولها ... وخز أليم مثل وخز السنان
كل عدو يتقي مقبلاً ... وأمكم سورتها بالعجان
قوله كأن مرعى أمكم، يجوز أن يكون مرعى اسماً لها، وأمكم بدلاً منه، ويجوز أن يكون لقبها الشاعر به. وسئل الأحنف عن شيء من أمور النساء، فقال: الرجال حمى والنساء مرعى، فعدت من سقطاته. ومثل قوله عقربة يكومها عقربان قول الآخر:
كالجعلين ركبا دحروجاً ... دمامة ومنظراً سميجا
والعقربان: ذكر العقارب. والكوم: السفاد. وقوله إكليلها زول، كنى عن قرني العقربة بالإكليل. والزول: الخفيف الظريف. وقوله وفي شولها وخز أي(1/1030)
فيما تشول العقربة من ذنبها. وزاد الهاء في عقربة توكيداً للتأنيث. وهذا كما قالوا: جمل وناقة، وكبش ونعجة، ووعل وأروية الحقوا الهاء توكيداً وتحقيقاً للتأنيث؛ ولو لم تلحق لم تحتج إليها. وحكى: عجوزة. والوخز: الطعن الشديد الموجع. وإنما يعني شوكتها إذا ضرب بها، فبه تأثيرها بتأثير السنان.
وقوله كل عدو يتقي مقبلاً، أراد أن يذكر السوءة فيها استهزاء واستهانة بذكرها، فقال: كل عدو يتقي شره إذا أقبل، وأمكم يتقي شرها إذا أدبرت. والعجان يريد الدبر به. وهو في الأصل ما بين الخصية إلى سم الدبر. والسورة: الوثبة.
وقال أدهم بن أبي الزعراء
بني خيبرى نهنهوا من قنازع ... أتت من لدنكم وانظروا ما شؤونها
فكائن بها من ناشص قد علمتم ... إذا نفرت كانت بطيئاً سكونها
هذا الكلام منه توعد واستهزاء. فيقول: يا بني خيبرى، كفوا عن أبيات هجاء وفخر جاءتنا من عندكم، وانظروا كيف ترسلونها وماذا شؤونها حتى اهتاجت وجاءت. والقناذع، اصله الفحش. ويقال للديوث: القنذع. وقوله فكائن بناء كائن لغة في كم. وبنا أي عندنا. ناشص أصله في المرأة، يقال: نشصت المرأة على زوجها ونشرت، إذا تمنعت. فاستعاره للشعر والهجو. يريد: كم من قافية إذا نفرت كانت بطيئاً سكونها. وهذا توعد، والمراد: إنما نمسك عن القول ما أمكن، فإذا تكلمنا استمر القول بنا فيبطؤ سكوننا؛ لأن للاحتمال غاية وللسكون نهاية، إذا بلغناهما فقد أقمنا العذر، وما وراء ذلك نبلغ فيه الأقصى، ولا نرضى بالمنزل الأدبي. والكناية عن القصائد والقوافي بالهدى والعروس مشهورة. وقد قيل: المراد بالناشص الحرب، وقيل: أراد به امرأة سيئة الخلق والعشرة، لعجبها بنفسها. كأنه لما جاءهم خاطباً زهدهم في نسائهم ترفعاً عنهم. والصواب فيما بدأت به.
وبالحجل المقصور حول بيوتنا ... نواشىء كالغزلان نجل عيونها(1/1031)
وإنا لمحقوقون حين غضبتم ... بأيمة عبد الله أن سنهينها
فلست لمن أدعى له إن تفقأت ... عليها دماميل استه وحبوبها
الحجل: جمع حجلة. والمقصور: المرسل عليه الستور. والنواشىء: النساء الشواب. وقصد الشاعر إلى أن يحسرهم ويقصر بشأنهم ويهينهم حين عدوا طورهم، فخطبوا غير كفوهم، فقال: إن عندنا نساء كالغزلان في جيدها، وبقر الوحش في عينها، مخدرات في الحجال، ممنعات حوالي بيوتنا، نربأ بأقدارها عن مواصلتكم بهن، فتحسروا وارجعوا عنا مقذوعين مذللين؛ فإنا أحقاء حين غضبتم بسبب أيمة عبد الله، وترفعنا عن مناكحته، بأنا لا نستعظمها بل نهونها، ونقل فكرنا فيها. وقوله أن سنهينها أن مخففة من الثقيلة. والمعنى: إنا لمحقوقون بأنا سنهينها لا محالة. ومثل هذا قول الآخر:
فما أكبر الأشياء عندي حزازة ... بأن أبت مزرياً عليك وزاريا
وقوله فلست لمن أدعي له يجري مجرى اليمين، أي للوالد الذي أنسب إليه، أن أنكح عبد الله فينا، وتشققت خراجات استه عليها. وهذا الكلام إزراء به، واحتقار له، بذكر السوأة منه. وذكر الدماميل تشنيع للحال، وأن العزبة بلغت به هذا المبلغ لزهد الناس في مناكحتهم. وقال دماميل لأنه أشبع كسرة الميم فأحدث عنها ياء. ومثله:
نفى الدراهيم تنقاد الصياريف
والأصل الدراهم والصيارف.
وقال حريث بن عناب
بنى ثعل أهل الخناما حديثكم ... لكم منطق غاو وللناس منطق(1/1032)
كأنهم معزى قواصع جرة ... من العي أو طير بخفان تنغق
ديافية غلف كأن خطيبهم ... سراة الضحى في سلحه يتمطق
قوله بنى ثعل أهل الخنا يجوز أن يكون أهل الخنا انتصابه على الذم والاختصاص، كأنه قال: يا بني ثعل، أذكر أهل الخنا. وقوله ما حديثكم يريد: ما لغتكم. ويفسره قوله بعده لكم منطق غاو وللناس منطق، ينسبهم إلى أنهم نبط، وأن لغتهم ذات غواية وزيغ. ويعني بقوله وللناس منطق العرب. ويجوز أن يكون معنى ما حديثكم: ما شأكم المستدث وما امركم؟ ينسبهم إلى أنهم لا قديم لهم ولا حديث. وقوله كأنهم معزى قواصع حرة، يقول: إنهم لعبهم إذا تكلموا كأنهم معزى تجتر، أو طير بخفان تنغق. يعني بالطير الغراب، ليكون أشأم، والقلوب من ذكرها أنفر. ويقال: قصع البعير بحرته، إذا دقعها من جوفه. وقوله ديافية، دياف: أرض بالشام. وقصده إلى أن يخرجهم من أن يكونوا عرباً، وجعلهم غلفاً إلحاقاً لهم بالعجم والغلفة والغرلة والقلفة تتقارب. ورجل أغرل وأغلف وأقلف. وقوله كأن خطيبهم أي الفصيح منهم، والمعد يوم فخارهم، والنيابة عنهم في نفارهم، كأنه يتمطق في سلحه. والتمطق: تذوق الشيء بضم إحدى الشفتين على الأخرى مع صوت بينهما. وجعلهم كذلك في سراة الضحى، أي أنهم يتباطؤون في كل حال، حتى لا يقوموا من فرشهم إلا في ذلك الوقت.
وقال شعيث من كنانة
أترجو حيّ أن تحيء صغارها ... بخير وقد أعيا عليك كبارها
إذا النجم وافى مغرب الشمس أجحرت ... مقاري حي واشتكى الغدر جارها
أجود الروايتين اترجو حييا، كأنه يخاطب إنساناً ويلومه في تعليقه الرجاء برشاد صغار حي، وقد أعياه كبارها. والمعنى أنهم لا يفلحون أبداً، وإذا كان رؤساؤهم واهل الحل والعقد منهم معجزين في دعائك إياهم إلى الخير والصلاح(1/1033)
فرذالهم أولى بذلك. وإذا رويت أترجو حي كأنه جعل الفعل للقبيلة بأسرها، أي إنهم وحالهم ذلك في ضلال إذا رجوا من صغارهم فلاحاً وحالهم مع كبارهم ذلك. وقوله إذا النجم وافى أشار بالنجم إلى الثريا. وهم يقولون:
طلع النج غديه ... وابتغى الراعي شكيه
فهذا يكون في الصيف وعند اشتداد الحر.
وطلع النجم عشاء ... وابتغى الراي كساء
وهذا يقال في شدة البرد. فيقول: إذا طلع النجم عند غروب الشمس، - يشير إلى تجرد المحل، وتكشف الجدب - أخرت مقاري هذه القبيلة وسترت، تفادياً من الضيافة، وهرباً من الضيفان. والمقاري: جمع مقراة، وهي ما يطعم فيه الضيف من الجفان. والمراد أنه لا مقراة نم؛ لأنهم في الشتاء يضيفون ويستضيفون، فإذا عطلت جفانهم في ذلك الوقت فلأنه لا قرى عندهم ولا مقاري. وقوله واشتكي الغدر جارها ينسبهم إلى أن إساءتهم مقصورة على الجار، وطمعهم فيه وفيمن جرى مجراه؛ فعند الحاجة لا يشقى بهم إلا جارهم. وجواب إذا النجم أجحرت. ومغرب الشمس يجوز أن يكون مفعولاً، وأن يكون اسماً لموضع الغروب، ويكون وافي من الموافاة. ويجوز أن يكون ظرفاً، ويكون معنى وافى طلع.
وقال آخر:
فما كنانة في خير بخائرة ... وما كنانة في شر بأشرار
يقال: خايرته فخرته خيراً. وأنا خائره، إذا كنت خيراً منه. واستخرت الله فخار لي. وهذه خيرتي، أي التي أختاره. والمعنى لا يرجعون إلى حال يعتد بهم لها، ويعتمد بمكانتهم عليها، فلا عند الخير وتعداد أهله يفوزون بسهمة، ولا في الشر وتعداد أهله يحصلون على خطة.(1/1034)
وقال حريث بن عناب
قولا لصخرة إذ جد الهجاء بها ... عوجى علينا يحييك ابن عناب
هلا نهيتم عويجاً من مقاذعتي ... عبد المقذ دعيا غير صياب
مستحقين سليمى أم منتشر ... وابن المكفف ردفاً وابن خباب
قوله يحييك، يجوز أن يكون في موضع الحال، أي عوجي محيياً لك هذا، ومثله: " فهب لي من لدنك وليا. يرثني وبرث " أي وارثاً. ويجوز أن يكون في موضع الجزم جواباً لقوله عوجى، وأجرى المعتل مجرى الصحيح. ومثله:
ألم يأتيك والأنباء تنمي ... بما لاقت لبون بن زياد
وهذا الكلام تهكم وسخرية. وإنما يخاطب صاحبين له يبعثهما على أن يبلغا بني صخرة ويبعثاها وقت تهيجها بالهجاء وكون تصرفهم فيه جداً منهم وهماً لهم على أن يعطفوا عليهم، ليسلم عليهم ابن عناب، يعني نفسه. وذكر التحية هاهنا عزء منه. وهذا كما قال الأخر:
تحية بينهم ضرب وجيع
إلا أن هذا في الأفعال، وابن عناب جعلها في الأفوال.
وقوله هلا نهيتم تقريع ولوم وتذكير بسوء تأتيهم، وقبح فعلهم. فيقول: هلا كففتم عن مفاحشتي عويجاً - وهو رجل منهم - وجعله عبد المقذ، أي لئيملاً ودعياً فيهم غير خالص النسب. المقاذعة: المفاحشة. ويقال: أقذع الرجل، إذا أتى بفحش. وانتصاب عبد المقذ يجوز أن يكون على البدل، ويجوز أن يكون على الذم، ويجوز أن يكون على الحال. والمقذ؛ منبت الشعر من مقدم الرأس ومؤخره. ويقال: فلان عبد القفا، وعبد المقذ، ويراد بالمقذ القفا. وهذا كما يقال في ضده:(1/1035)
هو حر الوجه، وكريم المحيا. والصياب: الخالص، كأنه يهجنه. وقال الخليل: الصياب والصيابة: أصل كل قوم. وقال أيضاً: الصياب: الخيار من كل شيء. وأنشد:
يحتل من كندة في الصياب
وقوله مستحقبين سلينى، أفحش فيه؛ أي جئتم لمهاجاتي وقد استحقبتم هذه المرأة وابن المكفف معها ردفاً وابن خباب. كأنه يرمي سليمى بهمات أو يعدهم جميعاً من مخازيه. فهذا هزء أيضاً. أي جازيتموني بمن هو شينكم، وجعلتم عيوبكم بمرأى ومسمع إذا كان غيركم يخفي أمره ويستره. يريد: استهدفتم لي بهؤلاء. وسليمى كانت لها قصة. والاستحقاب: شد الحقيبة من خلف، وكذلك الاحتقاب: وكنى عن العجز بالحقيبة لذلك.
يا شر قوم بني حصن مهاجرة ... ومن تعرب منهم شر أعراب
لا يرتجى الجار خيراً في بيوتهم ... ولا محالة من شتم وألقاب
ينسبهم إلى أنهم شر قوم هاجروا إلى الأمصار أو بقوا في البدو. وبني حصن يجوز أن يكون انتصب على النداء، كأنه قال: يا شر قوم يا بني حصن. وانتصب مهاجرة على الحال، ناداهم في هذه الحالة. أي أنتم شر قوم في مهاجرتكم. ومثله:
يا بوس للجهل ضراراً لأقوام
ويؤنس بوقوع الحال بعد النداء قولهم: يا زيد دعاء حقا. فإذا ساغ أن يقع المصدر بعده تأكيداً، فكذلك الحال. قوله ومن تعرب فيه معنى التكلف، لأن تفعل يجيء لذلك كثيراً. وصرف الكلام عن السنن الأول وجعله استئناف خبر. ويجوز أن يكون انتصب بني حصن على الذم والاختصاص. وقوله لا يرتجى الجار يريد أن جارهم مبتذل فيهم، يائس من خيرهم ما دام معهم، وملقى من جهتهم بالاستخفاف والتلقيب، والشتم القبيح. وأجرى قوله لا(1/1036)
محالة مجرى قولهم لابد، كأنه أراد: الجار لا يرجو خيراً فيهم، ولا بد له من شتم يقصد به، ولقب يعرف بذكره. وقال الخليل: يقولون في موضع لابد: لا محالة. ويقال: حال حولاً وحيلة، أي احتال.
وقال آخر:
بني أسد إلا تنحوا تطأكم ... مناسم حتى تحطموا وحوافر
وميعاد قوم إن أرادوا لقاءنا ... مياه تحامتها تميم وعامر
وما نام مياح البطاح ومنعج ... ولا الرس إلا وهو عجلان ساهر
يقول: يا بني أسد، خلوا الطريق وتباعدوا عنها، فإنكم إن لم تفعلوا ذلك وطئتكم الإبل والخيل فحطمتكم. ينسبهم إلى القلة والضعف، ويتهكم مع ذلك بهم. وقوله: وميعاد قوم يعني بني أسد وأنصارهم، والميعاد والوعد واحد، وإذا كان كذلك كان المعنى: وموضع الوعد لم أراد الالتقاء معنا مياه تتحاماها بنو تميم وبنو عامر - يعني أحميتهم - فلا تجسر على ورودها وإن كثروا. فحذف المضاف، وهو الموضع. وقوله وما نام مياح البطاح ومنعج والرس موارد الماء. والرس: البئر القديمة. جعل المستقي من هذه الآبار يميح. وأراد بمياح الكثرة؛ لأن لكل موضع من المواضع المذكورة ماحة. والميح: الدخول إلى أسفل البئر ليغرف الماء في الدلاء إذا قل الماء. والميح: الاستقاء، يريد: متحوا أولاً ثم ملحوا، لكثرة الواردة. وغنما وصف سكان هذه المواضع - وهو جيشهم - بوفور العدد، وأن سقاتهم بهذه الصفة من العجلة والسهر. وقوله: وما نام إلا وهو عجلان ساهر، يريد: نومهم ترك النوم، والاستعجال في السقي. وهذا كما قال الآخر:
فإن المندى رحلة فركوب(1/1037)
وكقول أبي تمام:
تعليقها الإسراج والإلجام
تضلءلتم منا كما ضم شخصه ... أمام البيوت الخارىء المتقاصر
ترى الجون ذا الشمراخ والورد يبتغي ... ليالي عشراً وسطنا وهو عائر
قوله تضاءلتم أن تصاغرتم منا وانزويتم، لفشلكم وذهاب منتكم، كما يفعله المتغوط أمام البيوت إذا استولى عليه الخجل لما يريده من قضاء الحاجة، فهو يتقاصر ويخفي شخصه لائلا يرى. وهذا التشبيه في المنخزل وقد مسه الحياء والخجل غاية.
وقوله ترى الجون ذا الشمراخ يريد به ذا الغرة السائلة على النف، والشمراخ من الجبل: المستدق الطويل، على التشبيه. والعائر: المختلف، والسهم العائر من هذا. يقول: إنا لكثرتنا واتساع منادحنا وأفطارنا، لو أفلت فينا فرس أدهم ذو غرة سائلة - وجعله كذلك ليكون أشهر أمراً وأقل خفاء - وفرس ورد أغر أيضاً، ثم طلب عشر ليال فيما بيننا لما ظفر به.
ولما رأينا لئاماً أدقة ... وليس لكم مولى من الناس ناصر
ضمناكم من غير فقر إليكم ... كما ضمت الساق الكسير الجبائر
وصف حالهم القديمة معهم، وكيفية اتصالهم بهم وانعطافهم عليهم حتى أبطرهم ذلك، فاستعصوا عليهم، ووسوست نفوسهم إليهم بالاستغناء عنهم، والاكتفاء من دونهم. فيقول: لما رأيناكم أدنياء في أنفسكم، أدقاء في أحوالكم لا ناصر لكم، ولا مدافع دونكم، تعطفنا عليكم لنرفع خسيستكم، رحمة لكم، وضمناكم إلى أنفسنا من غير حاجة إليكم ولا تكثر بكم، لنجبر كسركم، ونوفر نقصكم كما تضم العصائب التي يعصب بها الكسر، والجبائر التي يسوى بها العظم الكسير المجبور. وهذا من التشبيه الصائب، والكلام المتخير. والأدقة: جمع الدقيق، وهو الرجل(1/1038)
القليل الخير. والفعل دق دقة. وقال: الكسير، والساق مؤنثة لأنه فعيل في معنى مفعولة. وعند أصحابنا البصريين هذا لا ينقاس، بل يتبع فيه المحكى عنهم.
وقال أبو صعترة
أتهجونا وكنا أهل صدق ... وتنسى ما حباك بنو براء
هم نتجوك تحت الليل سقباً ... خبيث الريح من خمر وماء
وهم جهلوا عليك بغير جرم ... وبلوا منكبيك من الدماء
يخاطب رجلاً من عشيرته، ويقرعه على ما كان منه من ثلبه وهجوه، فيقول: أتذمنا مع إحساننا إليك، وكوننا أهل صدق لك، ورهط صفاء ووداد معك، وتنسى ما كان منك حتى تعرضت لني براء بمثل تعرضكلنا، وما قابلوك به من عطية وحباء، وحسن مكافأة وجزاء على فعلك، وقد كان في الحكم أن يؤدبك ذلك ويردعك، وينبهك على رشادك وصلاحك، ويمنعك من معاودة شبهه ويقمعك. ثم أخذ يصف الحباء الواصل إليه من جهتهم، والجزاء المعد له، فقال: هم نتجوك تحت الليل سقباً، أي ولدوك ليلاً سقباً خبيثاً. وهو في الأصل المذكر من أولاد الإبل. ويقال: أسقبت الناقة وهي مسقاب. والمعنى: ضربوك حتى سلحت شيئاً منكراً. والذكر أرذل النتاجين، فلذلك خصه. وقال تحت الليل لأن الليل أخفى للويل.
وقوله وهم جهلوا عليك بغير جرم، يعني أنهم فعلوا ذلك بك، ومن قبل ذلك كانوا أسلفوك، بلا جناية كانت منك عندهم، ولا جريرة سبقت عنك إليهم، أن جرحوك حتى بلوا منكبيك من الدماء السائلة عليك.
وقال الطرماح
إن بمعن لإن فخرت لمفخراً ... وفي غير تبنى بيوت المكارم
متى قدت يا بن النظلية عصبة ... من الناس تهديها فجاج المخارم(1/1039)
هذا الكلام هزء وسخرية، يقول: لك أن تفتخر ببني معن، فإنهم في موضع ذاك، لكونهم مجمع الفضائل، لكن مباني الكرم تؤسس في غيرهم. ثم أقبل عليه فقال: أخبرني مت حدثت نفسك بأن تكون قائد طائفة من الناس فتقدمهم وتهديهم الطرق، وهو يطؤون عقبك، ويدورون على مرادك؛ لقد رأيت ما لم تؤمله، ونلت ما لم ترتق إليه همتك. والفجاج: الطرق. والمخارم: جمع مخرم، وهو منقطع أنف الجبل. وهذا مثل، أي تصرفهم حيث أردت، وتوجههم كيف شئت.
إذا ما ابن جد كان ناهز طيىء ... فإن الذرى قد صرن تحت المناسم
فقد بزمام بظر أمك واحتفر ... بأير أبيك الفسل كراث عاسم
ابن جد يريد به صاحب جد وحظ في الدنيا. فيقول: إذا اتفق لمتقدم بنفسه مجدود، لاأولية له، خارجي، أن يكون ناهز طيىء، أي مدرهم وكبيرهم والذي ينهز الدلو من البئر، أي ينزعها، كأنه أراد: الذي يقوم بأمرهم عند السلطان، ويتنجز عليه حاجاتهم ومهماتهم، فقد اتقلب الدهر، وانحط الأعالي، وصارت الأشراف أذلاء، لأنه لا يتقدم الوضيع إلا بتأخر الرفيع. وحكى غير واحد من أهل اللغة أنه يقال: هو ناهز القوم، أي كاسبهم والساعي لهم. وقوله فقد بزمام استهزاء وإزراء بهم، وقلة احتفال، بتناول القبيح من ذكرهم. لذلك سمى السوءة من طرفيه. والفسل: الرذل. والفشل: الضعيف، وهما روايتان. وعاسم: موضع.
وقال الكروس بن زيد
ألا ليت حظي من عطائك أنني ... علمت وراء الرمل ما أنت صانع
فقد كان لي عما أرى متزحزح ... ومتسع من جانب الأرض واسع
وهم إذا ما الجبس قصر همه ... طلوع إذا أعيا الرجال المطالع(1/1040)
يقول: تمنيت أن يكون الذي حظيت بهمن عطائك لي أني علمت وأنا وراء الرمل ما أنت صانعه وقد قدمت عليك. فقوله وراء الرمل ظرف لعلمت، وأنني علمت خبر ليت، كأنه ود أن يكون بدل حظه من العطاء علمه بما يفعله، فكان اختياره بحسبه. ولا يجوز أن يكون وراء الرمل يتعلق بصانع، لأنك إن جعلت ما موصولاً فالصلة لا تتقدم هي على الموصول، ولا شيء مما يتعلق بها. وإن جعلت ما موصوفاً فالصفة لا تتقدم على الموصوف ولا ما يتعلق بها، وإن جعلت ما استفهاماً فما بعد الاستفهام لا يعمل فيما قبله. وإذا كان كذلك ظهر فساد تعلقه به على الوجوه كلها، من طريق الإعراب ومن طريق المعنى، فالصحيح ما قدمته. ألا ترى أنه قال: فقد كان لي عما أرى متزحزح ومتسع. والمتزحزح: المبعد. أي كان لي جانب من الأرض واسع أتزحزح فيه عما أراه وأرد عليه، وكان لي هم طويل ممتد الشأو يذهب صعداً، إذا كان هم الجبس قصيراً. طلوع إلى أعالي العز وذراه إذا أعجز الرجال مطالع العز. والجبس هو الثقيل الجافي. أي يقصرهم نفسه فيرضي بالحاصل له. وقوله إذا مالجبس ظرف لما دل عليه هم، وإذا أعيا ظرف لطلوع. ولا يمتنع أن يكون إذا ما الجبس ظرفاً لطلوع، ويجعل إذا أعيا بدلاً منه؛ لأن المعنيين يتقاربان. والأول أقرب وأجود.
وقال وضاح بن اسماعيل
من مبلغ الحجاج عني رسالة ... فإن شئت فاقطعني كما قطع السلا
وإن شئت أقبلنا بموسى رميضة ... جميعاً فقطعنا بها عقد العرى
وإن قلت لا إلا التفرق والنوى ... فبعداً أدام الله تفرقة النوى
فإني أرى في عينك الجذع معرضاً ... وتعجب أن أبصرت في عيني القذى
هذه أبيات ذهب الناس من طريق الرواية والمعنى فيها مذاهب طريفة، والصحيح ما أورده. وذاك أنه رتب ما بينه وبين الحجاج مراتب ثلاثاً، خبره فيها بالشروط المبينة.(1/1041)
فالشرط الأول قوله إن شئت فاقطعني كما قطع السلا وهذا يحتمل معنيين: أحدهما أن يريد إن شئت خصني بقطيعة لا وصال يتعقبها، كما أن السلا، وهو الجلدة التي يلتف فيها الولد عند خروجه من بطن أمه، إذا قطع عنه لم يعد إليه. ويجوز أن يكون المعنى: اقطعني قطيعة لا يرجى معها وصل؛ لأن السلا إذا انقطع في بطن الحامل لم يمكن استخراجه، ولا يرجي الخلاص معه. ولهذا ضرب المثل به في الشدائد فقيل: انقطع السلا في البطن. والمراد في هذه القطيعة المذكورة أن تبقى العلائق التي بينهما على ما حصلت وثبتت لا يغير منها شيء.
والشرط الثاني: وإن شئت أقبلنا بموسى رميضة، يقول: وإن شئت أخذ كل منا موسى محددة، فقطعنا بها الأواصر التي بيننا. وهذا مثل، والمعنى أن لنا الأسباب التي توصلنا بها فصارت مثل الأنساب، وحللنا عقد العرى الوثيقة فيما تواشجنا فيه حتى نصير كالأجانب لا وصل تجمعنا، ولا أواخي تنظمنا، إلا ما طوى البعاد بيننا من قرب الجوار والدار.
والشرط الثالث: ولإن قلت لا إلا التفرق بالأيدن معها، فيكون النوى مبددة شمائلنا، فلا نلتقي في شعب ومسلك، ولا نتحاذى في منزل ومجمع، ولا نتجاوز في محل ومقر، فإنا نبعد بعداً كما نختار؛ وأدام الله تفرقة النوى بيننا ولا جمع ما تشتت منها.
ويقال: سكين رميض: حاد. وكل حاد رميض، ومنه ارتمض من كذا، إذا اشتد عليه وأغضبه. وقوله فإني أرى عينك الجذع، يقول: إن العداوة بيننا رسختوثبتت واستحكمت من جهتك، فلا استبقاء معك، ولا صبر عللا أذى مضض منك، حتى تعجب لأدنى شيء يحول، وتستعظم أصغر ما يحدث ويدور، وأنا أرى الجذع يعترض في عينيك فلا أنكر، ولا أحاسب عليه ولا أضايق. وهذا كما يقال في المثل: " تبصر القذاة في عين أخيك، وتدع الجذع المعترض في حلقك ".(1/1042)
وقال جواس الكلبي من بني عدي بن جناب
ضربنا لكم عن منبر الملك أهله ... بجيرون إذ لا تستطيعون منبراً
وأيام صدق كلها قد علمتم ... نصرنا ويوم المرج نصراً مؤزراً
فلا تكفروا حسنى مضت من بلائنا ... ولا تمنحونا بعد لين تجبرا
يخاطب إذ لا تستطيعون منبرا، أي ارتقاء منبر وصعوده، فحذف المضاف. والمراد: إنا نصرناكم في طلب أمر كان لغسيركم لا لكم بجيرون، حين لا تقدرون على صعود منبر، ولا تستقيم لكم قناة ملك ونصرنا أيضاً يوم مرج راهط، وأياماً أخر قبله وبعده، صادقناكم فيها ونصرناكم نصراً قوياً، فلا تجحدوا نعمنا فيها، فكفران النعم ذميم، ولا تتكبروا علينا بعد ملاينتكم لنا، فإن التكبر منكم عظيم. وقوله حسنى مضت مصدر في معنى الإحسان، وليست بتأنيث الأحسن، لأن تلك تلزمه الألف واللام.
فكم من أمير قبل مروان وابنه ... كشفنا غطاء الغم عنه فأبصرا
ومستسلم نفسن عنه وقد بدت ... نواجذه حتى أهل وكبرا
إذا افتخر القيسى فاذكر بلاءه ... بزراعة الضحاك شرقي جوبرا
فما كان في قيس من ابن حفيظة ... يعد ولكن كلهم نهب أشقرا
قوله كم من أمير أراد به معاوية وأشياعه. أي ذببنا دونه وأزلنا كا كان تراكم عليه من رواكد الظلم حتى أبصر رشده، وعادت إليه بصيرته، بعد أن كان تحير في أمره، والتبس عليه ما يتنقل فيه، فلا يعرف ما عليه مما له.(1/1043)
وقوله ومستسلم عطفه على من أمير، والضمير في نفسن للخيل ولم يجر لها ذكر، ولكن عرف منه المراد. يريد: وكم من منقاد لما دهمه، مستسلم للشر المفاجيء له والمحيط به، نفست خيلنا عنه بعد أن يبس ريقه، وتقلصت شفتاه فظهرت نواجذه، لما مني به من شدة البلاء، وجهد البأساء، حتى أهل، أي رفع بالحمد لله صوته، وأظهر شكره، وعظمه وكبره لما أعقب من الأمن عقيب الخوف، والسلامة بعد الهلك. ويروى: كشفناغطاء الموت. ويروى: ومستلحم نفست عنه وقد بدت مقاتله والمعنى فيهما ظاهر. وقوله إذا افتخر القيس فاذكر بلاءه، يعيرهم ما كان منهم من التقصير والقصور في ذلك الموضع. وأخرج الكلام مخرج الهزء، لأنهم قصروا ولم يبلغوا؛ لذلك قال: اذكر بلاءه. والزراعات: مواضع الزرع، كالملاحات. والزريع: العثرى الذي يسقى من السماء، فكل ناعم زريع تشبيهاً به. وجوبر: نهر. وانتصب شرقي على الظرف، يعني ما ولى المشرق منه. والضحاك كان على شرطة معاوية، ثم صار مع ابن الزبير بعد موت يزيد.
وفي جملة هذه الأبيات:
فلو كنت من قيس بن عيلان لم أجد ... فخاراً ولم أعدل بأن اتنصرا
يقبح صورتهم كما ترى.
وقوله: فما كان في قيس من ابن كريهة يعد ويروى: فما كان في قيس بن عيلان سيد يعد، ويعني بنهب أشقر فرس طفيل بن مالك، وكان فراراً. يقول: كأنما انتهبهم طفيل في ذلك اليوم. وكان اسم فرس طفيل قرزلاً، لذلك قال الآخر يصف قوماً منهزمين:
يعدو بهم قرزل ويستمع النا ... س إليهم وتخفق اللم
جعل فرس كل منهم كقرزل لما هربوا.
وقال جواس الكلبي أيضاً:
أعيد المليك ما شكرت بلاءنا ... فكل في رخاء الأمن ما أنت آكل(1/1044)
بجابية الجولان لولا ابن بحدل ... هلكت ولم ينطق لقومك قائل
يعاتب عبد الملك بن مروان، وذلك أنه لما قتل ابن الزبير وسكنت الحرب وصفا له الأمر: أقبل يتألف قيساً وهو اعداؤه، ويوحش بني كلب على أعماله، وجعل أبدالهم من قيس، فقال جواس: يا عبد الملك، ما حمدت بلاءنا في نصرتك، ولا قابلت انقطاعنا إليك وسعينا ببعص ما وجب لنا عليك، فكل من دنياك في سعه الأمن وظل الهدو ما أنت آكله، لا مدافع لك ولا معترض عليك، فلولا ابن يحدل وقيامه بأمرك بجابية الجولان لهلكت ولم ينطق لقومك قائل، أي لم يكن فيهم خليفة يخطب على منبر فيدعو ويدعي له. وتعلق قوله بجابية الجولان بقوله ما شكرت بلاءنا. وهلكت جواب لولا، وخبر المبتدأ محذوف، وقد مر أمثاله.
فلما علوت الشأم في رأس باذخ ... من العز لا يسطيعه المتناول
نفحت لنا سجل العداوة معرضاً ... كأنك مما يحدث الدهر جاهل
يقول: فلما ملكت المطلوب وأدركت المأمول، واستويت على الشأم في عز باذخ وجد صاعد، لا يقدر على تناول مثله أحد بأمل أوهمة، اطرحتنا وأعرضت عنا، معطياً سجل العداوة لنا، كأنك جاهل بالدهر وفعلاته، وحوادثه وملماته. ومن روى: كأنك مما يحدث الدهر، يريد كأنك مماا أحدثه الدهر لك من الرياسة جاهل. أي اغتررت فكأنك استحدثت جهالة. ويروى: كأنك عما يحدث الدهر غافل فجاهل يجري مجرى غافل. وهذا يجري مجرى الوعيد. أي لا تأمن غير الأيام ومعاودتك ما يحتم عليك بالفقر إلينا ثانياً.
وفي هذه الطريقة ما أنشدته لمحمد بن غالب:
فتى مسمع أنت من مسمع ... بحيث السويداء والناظران
ملكت فأسجح وزع بالزمام ... وخف ما يدور به الدائران
وكنت إذا أشرفت في رأس رامة ... تضاءلت إن الخائف المتضائل
فلو طاوعوني يوم بطنان أسلمت ... لقيس فروج منكم ومفاتل(1/1045)
رامة: هضبة. يذكره ضيق أقطار الأرض عليه، فيقول: إنك حينئذ مت أشرفت في رأس هذه الهضبة تخاشعت وتذللت، لاستشعارك الخوف الشديد، واستظهارك بالاتقاء من أعدائك البليغ. والخائف هذا دأبه وعادته. على أنهم - يعني أصحابه - لو طاوعوني في هذا اليوم وقبلوا نصحي، وعملوا برأي، لأسلمت لقيس فروجكم، وهي مواضع المخافة، ومقاتلكم. والمعنى: كنا نخذلكم ونسلمكم حت يتمكن القتل منكم، وتعلو سمة الذل على أحوالكم. وإنما قال هذا لأن القيسية كانت تدعو إلى ابن الزبير، وكلب تدعو إلى المروائية، وكان الناس يومئذ إنما يعرفون بالبحدلية أصحاب مروان، والزبيرية، وهم أنصار ابن الزبير. لذلك قال عبد الرحمن بن الحكم أخو مروان:
وما الناس إلا بحدلي على الهدى ... وإلا وبيري عصى فتزبرا
وقال جواس أيضاً:
صبغت أمية بالدماء رماحنا ... وطوت أمية دوننا دنياها
أأمي رب كتيبة مجهولة ... صيد الكماة عليكم دعواها
كنا ولاة طعانها وضرابها ... حتى تجلت عنكم غماها
يقول: استنصرنا أمية ودافع الأعداء بنا، وعرضنا للقتل والقتال، والضراب والطعان، حتى رويت قناتنا من دماء مجاذبيهم، والمتكرهين لأيامهم ومقاصدها، استبدوا بطي الدنيا وزيها، والفوز بها وبأعراضها من دوننا. ثم أخذ يخاطبها فقال: يا أمية، رب كتيبة مجهولة الشان، لم ندر كيف يدفع في وجهها. ولا من أين يصرف شرها، متكبرى الأبطال، بهم الشجعان، دعواها عليكم لا لكم، ودفاعها فيكم لا عنكم، تولينا مطاعنتها ومكافحتا، وافترضنا على أنفسنا دفعها. ويجوز أن يكون المراد بقوله مجهولة أنا لا نعرفها، ولا مجاذبة بيننا وبينهم ولا معاملة، فهي مجهولة لنا، اتخذنا كالأعداء لنا في هواكم ونصرتكم. أما قوله صيد الكماة فإنما جمع فقال صيداً، حملاً على معنى الكتيبة، ولو حمل على اللفظ لقال: رب كتيبة صيداء الكماة. والصيد يستعمل على وجهين: يقال: ملك أصيد، أي متكبر لا يلتفت إلى الناس يميناً ولا شمالاً. وحكى الخليل أن الصيد ذباب يدخل في أذن البعير فيقلق له،(1/1046)
فيظل رافعاً رأسه. فشبه الملك ذو الزهو به. فهذا وجه. والوجه الآخر: أن يراد بالأصيد الذي لا يستطيع الالتفات من دائه. وقوله حتى تجلت عنكم غماها، هم من أمرهم في غماه، أي في شدة والتباس شديد عليهم. ومعنى حتى: إلى أن. والولاة: جمع الوالي، وهو المتولي للشيء والفاعل له. ولا يمتنع أن يريد به الملاك، كأنهم ملكوا تدبير الحي فصاروا كالولاة لها وفيها.
والله يجزي لا أمية سعينا ... وعلى شددنا بالرماح عراها
جئتم من الحجر البعيد نياطه ... والشأم تنكر كهلها وفتاها
إذ أقبلت قيس كأن عيونها ... حدق الكلاب وأظهرت سماها
يقول: الآن وقد جحدت أمية نعمتنا عندها، وبعدت عن الصلاح بكفرانها، فإن الاعتماد على الله تعالى جده في أن يتولى جزاء سعينا، ويعرف لنا ما أنكرته أمية من بلائنا، وعلى معال أحمكنا وثائقها، وشددنا عقدها وعلائقها، فتوجب لنا من إثابة الله عز وجل ما يكون فيه عوض من كل فائت. وقوله جئتم من الحجر أراد بالحجر الجنس. والمراد: جئتم من المكان الكثير الحجر، ومن بلاد الحجر، يعني الجاز. ومعنى البعيد نياطه البعيد معلقه. ويقال: نطت الشيء أنوطه نياطاً ونوطاً، إذا علقته. وروى بعضهم: من الحجر، بالزاء، وقال: يريد الحجاز. فهذا كما قيل في تهامة: التهم. قال:
نظرت والعين مبينة التهم
والحاجز والحجاز والحجز، واحد. قال: وسمى الحجاز حجازاً، لأنه يفصل بين الغور والشام وبين البادية. وقوله والشأم تنكر كهلها وفتاها، أي لم يكونوا من اهلها فاستغربتهم. وهذا كما قال في المقطوعة الأولى: رب كتيبة مجهولة.(1/1047)
وقوله إذا أقبلت قيس، إذ ظرف جئتم من الحجر، أي جئتم وقت إقبال قيس. ويجوز أن يكون ظرفاً لقوله تنكر كهلها أي تنكر في ذلك الوقت. ويروى: وتزبرت قيس كأن عيونها، أي صار هواها زييرياً. وقوله كلأن عيونها حدق الكلاب وأظهرت سيماها قصده إلى الذم وإلى أن نظرهم نظر الكلاب، لكنه جرد التشبيه أولاً، ثم قال: وأظهرت سيماها أي أظهرت سيما الكلاب في إقبالها، فترك لفظ التشبيه، وصار كأنه يخبر عن حقيقة.
وقال عبد الرحمن بن الكحم
لحا الله قيساً عيلان إنها ... أضاعت ثغور المسلمين وولت
فشاول بقيس في الرخاء ولا تكن ... أخاها إذا ما المشرفية سلت
قوله لحا الله، يجوز أن يكون بمعنى قشر الله، ويجوز أن يكون بمعنى سب الله. وقوله إنها أضاعت ثغور، يروى بفتح الهمزة، والمعنى لأنها، ويروى بالكسر على الاستئناف. ومعنى ولت انهزمت وأعرضت. وقوله فشاول بقيس، أي خاطر غيرك ورافعهم بهم في الرخاء والسعة، والأمن والدعة، ولإياك والاعتماد عليهم ومؤاخاتهم في الحرب وعند استلال السيوف؛ فإنهم يسلمونك وينهزمون، ويخذلونك ولا ينصرون. ويقال: شاول الفحل وخاطره، إذا هايجه.
وقال أبو الأسدفي الحسن بن رجاء
فلأنظرن إلى الجبال وأهلها ... وإلى منابرها بطرف أخزر(1/1048)
ما زلت تركب كل شيء قائم ... حتى اجترأت على ركوب المنبر
قوله بطرف أخزر تعلق الباء منه بقوله فلأنظرن، والمراد بنظر يميل إلى ناحية، أي نظر بغض وشنآن، لكونه متولياً لها والمعنى: هانت في عيني وصغر قدرها عندي، فصرت أتكرهها، وأبغض أهلها وكروها، ومواضع الدعوة منها، مذ صرت أميرها ومدبرها.
وقوله ما زلت تركب معناه ظاهر.
وقال آخر:
عجبت من السارين والريح قرة ... إلى ضوء نار بين فردة والرحى
إلى ضوء نار شتوي القد أهلها ... وقد يكرم الأضياف والقد يشتوي
فلما أتونا فاشتكينا إليهم ... بكوا وكلا الحيين مما به بكى
بكى معوز من أيلاموطارق ... يشد من الجوع الإزار على الحشا
يقول: تعجبت من العصبة التي سرت ليلاً إلى ضوء نار أوقدت في مكان يتوسط فردة والرحى؛ وهما موضعان. والرواية المستقيمة على كل وجه: بين فردة فالرحى وهذا هو ما كان الأصمعي ينكره في بيت امرىء القيس، وهو:
بسقط اللوى بين الدخول فحومل
وقد مر القول فيه وفي أشباهه، وفي حكم بين ومقتضاه أن الاسم الذي يليه يجب أن يكون كاسم الجمع في تناوله أكثر من واحد، حتى يصح ترتيب الفاء عليه في العطف.
وقوله والريح قرة أي تهب شمالاً ببرد شديد. والواو منه واو الحال.(1/1049)
وقوله إلى ضوء نار شتوي القد أهلها، أبدل إلى ضوء نار مما في البيت الأول بإعادة حرف الجر معه. ويعني ناراً لقوم مضرورين مجهودين لا خير عندهم، ولا طعام بفنائهم، مضطرين إلى شي القد، لأنهم أعوزهم ما هو خير منه. فتعجب وقد استضافهم هؤلاء السارون، ثم قال: وقد يكرم الأضياف مع مجاهدة الفقر، ومزاولة الضر، إذا كان المضيف لطيف الحيلة، رفيع الهمة.
ويقال: شويت اللحم واشتويته، فانشوى هو. وحكى سيبويه في بناء المطاوعة اشتوى أيضاً. ومثله نظمت الشيء وانتظمته فانتظم هو. وقوله فلما أتونا يقول: فلما حصلوا عندنا تباثثنا وتباكينا، وكل واحد من الحيين شكا إلى الآخر دهره وأنهى إليه في إضافته أمره.
وقوله بكى معوز، هذا بيان وجه العلة في البكاء. يقول: بكى فقير مخافة أن يتهم ولا يصدق ظاهر حاله فيما ينطق به من ضره، وأن تلحق به اللائمة إذا ذكر واجبات ضيفه؛ والضيف الطارق بكى لما مسه من نائبات دهره، ولما يظهر من مساس حاجته، ويقيم به العذر في إلمامه، حتى شد حشاه لخلاء جوفه.
فألطفت عيني هل أرى من سمينة ... ووطنت نفسي للغرامة والقرى
فأبصرتها كوماء ذات عريكة ... هجاناً من اللائي تمتنعن بالصوى
فأومأت إيماء خفياً لحبتر ... ولله عيناً حبتر أيما فتى
وقلت له ألصق بأيبس ساقها ... فإن يجبر العرقوب لا يرقأ النسا
وقوله ألطفت عيني أي نظرت بعيني نظراً لطيفاً، هل أرى في إبل المستضعفين ورواحلهم ناقة سمينة أنحرها لهم، وإذا ردت إبلى إلى باءتها أعوض صاحبها خيراً منها، وأغرم من بعد ذلك له ما ارضيه به. ويقال: ألطفت أخي بكذا، إذا أتحفته بما يعرف به برك ولطفك. وألطفت الأم بالولد، وأم لطيفة، أي أكرمته وبرته.
وقوله أبصرتها كوماء، الكوماء؛ الطويلة السنام الغليظة، وقيل: الكوم: العظم من كل شيء: والعريكة: السنام إذا عركه الجمل. وناقة عروك: لم يكن في سنامها إلا اليسير من الشحم. والهجان: الكريمة. ويقال: ناقة هجان ونوق هجان. وقد مر القول في وقوعه للواحد والجمع على صورة. وقوله تمتعن بالصوى فالصوى: الأعلام والحجارة. أي رعت الحزن والتسهل. ومعنى تمتعن، أي أفمن بها(1/1050)
ويقين حتى استمتعن. ويقال: متع الماء الشجرة، إذا أنشأها. ونخلة ماتعة، أي طويلة.
ويروى:
...... من سمنية ... تدارك فيها ني عامين والصرى
والنى: الشحم. والصرى: حبس الإبل في الرعي، ومنه سمى الماء الذي قد طال إنقاعه في موضع: الصرى: الصرى. ويروى: والصوى، وهو الإحسان إليها إليها والابقاء عليها.
وقوله فأومأت لإيماء خفياً لحبتر فحبتر: اسم ابنه، وإنما رسم له عرقبتها في السر بعد أن اختارها مخافة أن يمتنع صاحبها مما هم به فيها. وقوله عينا حبتر اعتراض. وانتصب أيما فتى على الحال، كأنه أحمده حين حسنت فطنته وتسرع إلى مراده. ويقالك مررت برجل أي رجل، فتجعله صفة للنكرة؛ وبزيد أي رجل، فيصير حالاً للمعرفة. وعلق المدح بعينيه، لأنه بهما أدرك إيماءه. وإذا عظموا الشيء نسبوا ملكه إلى الله عز وجل. وقوله ألص بأيبس ساقها الأيبس: ما قل عليه اللحم من الساق وغيرها. والسيف أعمل فيه. وقوله فإن يجبر العرقوب العرقوب: عقب موتر خلف الكعبين فويق العقب من الإنسان، وهو موصل الوظيف والساق من ذوات الأربع. والمعنى: أصب ساقها فإن العرقوب إن أمكن التلافي منه بالجبر والعلاج والشد، فإن نساه لا ينقطع الدم منه، فصاحبها ييئس منها عند ذلك. والمعنى: اضربها ضربة ليس في البرء منها مطمع، ليرضي صاحبها بالتعويض منها، ويستقيم أمر الضيف والضيافة، وإن لحقنا غرم فيها.
فأعجبني من حبتر إن حبتراً ... مضى غير منكوب ومنصله انتضى
كأني وقد أشبعتهم من سنامها ... جلوت غطاء عن فؤادي فانجلى
فبتنا وباتت قدرنا ذات هزة ... لنا قبل ما فيها شوء ومصطلى
قوله غير منكوب أي غير مدفوع في صدره. ويقال: حافر منكوب ونكيب، إذا أثر فيه ما يطؤه من حصى أو حجر. وقوله ومنصله انتضى أي جرد سيفه. وانتصب منصله لأنه مفعول مقدم. وقوله جلوت غطاء، يقول: كنت مهتماً قلقاً،(1/1051)
فلما شبعوا مما أعدت لهم وتمحلت من أجلهم سكنت فكأنه كان على قلبي غطاء من الغم ران عليه، فانجلى وذهب. وقوله فبتنا وباتت قدرنا خبر بتنا وقله لنا قبل ما فيها شواء، وشواء ارتفع بالابتداء. يريد: بتنا لنا قبل ما أودع القدر شواء واصطلاء بالنار، كأنه طال عليهم انتظار القدر، فعمد إلى أطاليب الجزور وشوى. وقوله ذات هزة خبر بانت قدرنا، أي لها هزيز بالغليان. ويجوز أن يريد: لقدر اللحم فيها اهتزاز واضطراب، كما قال:
قرشية يهتز موكبها
وهذا الذي اقتصه من حاله وحالهم، بيان اهتمامه بأمر الضيف وحسن التأني في تفقده.
وأصبح راعينا بريمة عندنا ... بستين أنقتها الأخلة والخلا
فقلت لرب الناب خذها ثنية ... وناب علينا مثل نابك في الحيا
يقول: أصبحنا وراعينا بريمة رد إبلنا من مرعاها، وهي ستون قد أنقتها - أي جعل لها نقياً - الأخلة، وهي جمع خلال، وهو مااختل واجتز من العشب وهو أخضر. والخلا: الرطب. وقال بعض أصحاب المعاني: لا يقال أنقت الناقة، إذ سمنت؛ ولكن لما سمن من الحشيش، وكان الحشيش والخلا سبب سمنها جعل الفعل لها على سعة الكلام، والأصل أنقت هي. قال:
لا يشتكين ألماً ما أنقين ... ما دام مخ في سلامي أو عين
وقال غيره: يجوز أن يكون أنقى هاهنا معدى، ويكون على غير ما فسرتموه، وهو أنه يقال: أنقيته فأنقي، كما يقال: أمأيت الدراهم فأمأت هي. والمعنى سمنته وجعلت له نقياً فسمن واحتمل. قال البرقي: الرواية الصحيحة عندي: أبقتها الأخلة، أي أبقتها على البرد والجدب، لأنا كنناها وخلينا لها. ورواه بعضهم: الأجلة بالجيم. قال: ويقال: جل وجلال وأجلة، أي لم ندعها ولم نهملها، بل ألبسناها وتفقدناها.(1/1052)
وقوله وقلت لرب الناب خذها ثنية، أي حكمت صاحب النب التي عقرتها في أن يختار من إبلى ثنية على ما يشتهيه، وتصطفيه عينه وتنتقيه، وقلت مضيفاً إلى العوض الواجب له: لك علينا ناب مثل نابك في السمن. والحيا من باب ما سمي باسم غيره إذ كان منه بسبب. فالحيا: المطر، لأنه يحيي العباد والبلاد، ثم يسمى النبت حيا لأنه بالمطر يكون، ويسمى الشحم حياً لأنه عن النبت يكون. وهذا الباب كثير واسع.
فقال في ذلك خنزر بن أقرم
بني قطن ما بال ناقة ضيفكم ... نعشون منها وهي ملقى قتودها
غدا ضيفكم يمشي وناقة رحله ... على طنب الفقماء ملقى قديدها
وبات الكلابي الذي يبتغي القرى ... بليلة نحس غاب عنها سعودها
أخذ يسائلهم عما غيرهم به تهكماً وسخرية. ومعنى الكلام الإنكار. يقول: لم تتعشون من ناقة ضيفكم؟ وكيف استجزتم ذلك حتى صارت قد ألقي قتودها وهي مطبوخة مأكولة؟ والقتود لا واحد لها عند أصحابنا البصريين. ثم قال مقبحاً الصورة: ابتكر ضيفكم يمشي وراحلته قد نحرت وقددت لحمومها، وشمست على طنب القماء. وهذا تفظيع للشأن. والطنب: حبل من حبال الخيمة. والفقماء يعني بها امرأة الراعي، لقبها بذلك.
وقوله: وبات الكلابي يعني به بات المستضيف الطالب للقرى عندكم بليلة شؤم قد فارقها السعود، لأنكم غصبتم ناقته، ولم ينل القرى عندكم.
أمن ينقص الأضياف أكرم عادة ... إذا نزل الأضياف أم من يزيدها(1/1053)
كأنكم إذ قمتم تنحرونها ... براذين مشدود عليها لبودها
فما فتح الأقوام من باب سوءة ... بني قطن إلا وأنتم شهودها
يقررهم على تقبيح ما كان منهم، فيقول: خبروني أي العادتين أقرب إلى الكرم، وأحرى في وفاء الشيم: أعادة من يستنزل الأضياف عن أموالهم وينقص ما توفر لهم، أم عادة من يزيدهم ويثمر حظوظهم. وقوله عادة انتصب على التمييز. وإذا نزل ظرف لقوله أمن ينقص الأضياف. وكرر لفظ الأضياف ولم يأت بالضمير على عادتهم في تكرير الأعلام والأجناس، وقد مضى مثله. وقوله كأنكم إذ قمتم تنحرونها براذين شبههم في العجز والثقل وقلة الغناء، والتباطؤ والبلادة، بالبراذين، وهم يضربونها مثلاً للمذموم. وجعلها شدت اللبود عليها تقبيحاً لصورها. وقوله: فما فتح الأقوام من باب سوءة، يريد: لا يسبق طوائف الناس وفرقهم إلى خصلة مذمومة أو سوءة مشوهة منكرة إلا وبنو قطن حضورها؛ أي لا يمكن الإغراب في المخازي عليهم، لأنهم السابقون في البدار إلى كل عار، والأولون عند الولوج في كل باب، والحاضرون لكل نكر وعاب.
فأجابه الراعي
ماذا ذكرتم من قلوص عقرتها ... بسيفي وضيفان الشتاء شهودها
فقد علموا أي وفيت لربها ... فراح على عنس بأخرى يقودها
قربت الكلابي الذي يبتغي القرى ... وأمك إذ تخذى إلينا قعودها
الرواية الجيدة: ماذا نكرتم. ويقال: نكرت الشيء وأنكرته واستنكرته بمعنى. فأما ذكرتم فمراده ماذا عيرتم فذكرتم من ناقة لغيري عقرتها حين عوبت إبلى لضيفان الشتاء بحضرتهم، وبمرأى منهم. وقد جرى رسم الكرام بمثل ذلك إذا دعت الحال إليه، موطنين أنفسهم للغرامة، ورد الاثنين بدل الواحد على الخصم فيه.(1/1054)
وقوله فقد علموا يستشهد بالضيفان فيقول: حضروا وتيقنوا أني وفيت لربها بمثلها وزدته أخرى، فراح راكباً إحداهما وقائداً الأخرى معها. ثم اقتص ما دعاه إليه فقال: قريت الكلابي المبتغي للقرى وقريت أمك، يعني أم خنزر بن أفرم المعير المنكر. والخدى: ضرب من السير. والقعود: البكر إذا بلغ الإثناء؛ والذي يقتعده الراعي فيركبه ويحمل زاده عليه قعود أيضاً. وفي ذكر الأم وأنه أضافها مع الكلابي بعض الغض والإيهام.
رفعنا لها ناراً تثقب للقرى ... ولقحة أضياف طويلاً ركودها
إذا أخليت عود الهشيمة أرزمت ... جوانبها حتى نبيت نذودها
إذا نصبت للطارقين حسبتها ... نعامة حرباء تقاصر جيدها
ويروى: رفعنا لها مشبوبة يهتدي بها. ومعنى تثقب تذكي وتضاء. وقيل: الكوكب الثاقب والحسب الثاقب، للضوء والتلألؤ. ومعنى للقرى الإقامة القرى، واللقحة يراد به القدر هاهنا، وأصله في الناقة الحلوب. وجعل ركودها طويلاً لثقلها وكبرها، ولأنها لا تنزل إلا للغسل ثم تعاد والجفنة الركود: الثقيلة الممتلئة. وقوله إذا أخليت أي جعل الحطب لها بمنزلة الولد، فهو لها كالولد، وهي له كالناقة الخلية، وهي التي تعطف على ولدها وترأمه. والهشيمة: اليابس من الشجر وغيره. وأرزمت: صاحت بغليانها، لكبرها، حتى نبيت نسكن منها. وإذا نصبت على الأثافي لزوار الليل - يعني الأضياف - حسبتها لإشرافها نعامة حزباء. والحزباء: الأرض الصلبة المرتفعة: شبد القدر بالنعامة، لأنها تكثر رفع رأسها ووضعه، لجبنها ونفورها، فكذلك القدر ترفع المحال وتخفضها، لشدة غليانها. وقال: تقاصر جيدها ليتبين وجه التشبيه منه ويصح. ومثله قول الآخر:
غضوب كحيزوم النعامة احمشت
تبيت المحال الغر في حجراتها ... شكارى مراها ماؤها وحديدها
بعثنا إليها المنزلين فحاولا ... لكي ينزلاها وهي حام حيودها(1/1055)
فباتت تعد النجم في مستجيرة ... سريع بأيدي الآكلين جمودها
المحال: فقر الضهر، والواحدة محالة. وجعلها غراً لسمنها. والحجرات: النواحي، وجعلها شكارى لامتلائها ودكاً. ويقال: شاة شكرة، إذا كانت غزيرة اللحم، وضرة شكرى، أي ممتلئة. وشكر النعم من ذلك، لأنه به تستدام وتمترى الزيادة. ويروى: سكارى بالسين غير معجمة، والمراد مثل ذلك لأن السكر من الامتلاء يكون. ومعنى مراها استخرج دسمها. ماؤها، أي مرقتها. وحديدها أي مغرفتها.
وقوله بعثنا إليها المنزلين إنما ثنى ليرى أن الواحد لا يطيقها ولا ينهض بتحريكها لثقلها. واللام من قوله لكي ينزلاها يجوز أن يتعلق بقوله بعثنا، كأنه قال: بعثنا المنزلين إليها لكي ينزلاها فحاولاه، وحذف مفعول حاول وكي هذه هي الناصبة للفعل، لذلك دخلها اللام الجارة. والمحاولة: مطالبة الأمر بالحيل، ويجوز أن يتعلق بحاولا. والحيود: الجوانب، أي إذا أراد إنزالها وفي جوانبها بعد حمى، استعجالاً. وقوله فباتت تعد النجم إخبار عن إم خنزر بن أقرم. والمتسحيرة: المتحيرة لامتلائها. أي في مرقة أو قدر قد تحيرت، فهي من صفائها وكثرة دسمها ترى فيها نجوم السماء. وقيل: شبه الراعي النفاخات التي كانت على رأسها من كثرة الدسم بالنجوم، ويجوز أن يكون أراد أن هذه القدر مرتفعة الشأن، عالية الأمر، فإمه كانت تعد النجوم فيها لما أطعمت منها كأنها بلغت النجوم في علوها، لنها لم تر مثلها قط. وهذا هو الوجه عندي، ليكون قد غض من أمه جزاء على ما قاله وأنكره. وقوله حيودها ارتفع بحاك، وكذلك جمودها ارتفع بسريع. ويجوز أن يروى: سريع بالرفع على أن يكون خبراً للمبتدأ وقد قدم عليه، والمبتدأ جمودها.
وقال رجل من بني أسد
دببت للمجد والساعون قد بلغوا ... جهد النفوس وألقوا دونه الأزرا
فكابر والمجد حتى مل أكثرهم ... وعانق المجد من أوفى من صبرا(1/1056)
لا تحسب المجد تمراً أنت آكله ... لن تبلغ المجد حتى تلعق الصبرا
يقول: تباطأ سعيك للمجد، ولما سعيت كان سعيك دبيباً وطلاب المجد قد جهدوا أنفسهم، وألقوا الأزر دونه، تخفيفاً عن أنفسهم، وتشهيراً في طلبهم وهذا مثل. والمراد أن ما يفعله الساعي في سعيه إذا طلب شيئاً من التجرد والتخفف ليدرك مطلوبه قد فعلوه. ثم اخذ يفصل مجهودهم من بعد، فقال: كابروا والمجد، أي جاهدوه ليبلغوا قسراً لا ختلاً، فمن صبر وأوفى ناله واحتواه ظافراً به، معانقاً له، ومن مل وقصر - وهم الأكثر - خاب وأخفق ورجع نادماً لاهياً عنه. وقوله لا تحسب المجد تقريع، والمراد: لا تظنن المجد يدرك بالسعي القصير، واستعمال التعذير، وعلى ملازمة الراحة دون توطين النفس على الكد الشديد والمجاهدة؛ فإنه لن ينال إلا بتجرع المرارات دونه، واقتحام المعاطب بسببه. ويقال: لعقت الصبر لعقاً. واسم ما يلعق هو اللعوق.
وقال آخر:
ومستعجل بالحرب والسلم حظه ... تلما استثيرت كل عنها محافره
وحارب فيها بامرىء حين شمرت ... من القوم معجاز لئيم مكاسره
فأعطى الذي يعطى الذليل ولم يكن ... له سعى صدق قدمته أكابره
يقال: استعجل بالشيء، إذا طلب عجلته ولم يصبر إلى وقته وإياه. فيقول: رب امرىء يعجلك في هيج الحرب له، ونصب الشر بينك وبينه، فتراه يرتقي في الإيذاء والمكاشفة إلى أعلى درجات القصد، وحظه في أن يسالم، لكنه بسوء تأتيه ونقص اختياره، أبى لنفسه إلا تعريضها لما يستوخم عاقبته، ويتعجل شره، فلما هيجت الحرب له وأجيب في إثارتها، وإيقاد نائرتها، إلى مراده منها، عجز فيها عن الإيفاء والاستيفاء، وكل عن مباشرة الورد والصدر، واستعان فيها برجل ركاب لرواحل العجز، لئيم المكسر والمختبر، ضيق العطن والمبرك، ويعني به نفسه، وهذا كما يقال: لقيتني لقيت بي قرناً باسلاً. ويعني بالقرن نفسه. وقوله حين شمرت يريد حين كشفت الحرب عن ساقها، وأبدت أعجازها وهوادبها، ففعل فعل الذليل، وأعطى من الانقياد ما يعطيه الضعيف الفريد، ولم يكن سعيه سعياً مصدوقاً فيه، ولا وقوفه وإمساكه إمساكاً يعذر له، فتراه عند الأماثل من جملة الأراذل، وعند طلاب الخير مقتحماً في الشر. ومعنى قدمته أكابره أسلافه وأماثل قومه.(1/1057)
وقال إسماعيل بن عمار
بكت دار بشر شجوها إذ تبدلت ... هلال بن مرزوق ببشر بن غالب
وهل هي غلا مثل عرس تحولت ... على رغمها، من هاشم في محارب
شجوها انتصب على أنه مفعول له، والشاعر يفضل بشراً على هلال، ويقول: إن الدار التي كان يستوطنها بشر لما ارتحل عنها وصار فيها بدلاً منه هلال بكت وتحسرت، وحق لها ذلك، فما هي في استبدالها إلا كعروس زوجت في هاشم، م انتقلت إلى محارب. ومحارب قبيلة فيها ضعة وخمول، حتى قال بعض الشعراء وهو يحلف:
فصيرني ربي إذاً من محارب
وقالت امرأة قتل زوجها
متى تردوا عكاظ توافقوها ... بأسماع مجادعها قصار
أجيران ابن مية خبروني ... أعين لابن مية أم ضمار
تجلل خزيها عوف بن كعب ... فليس لخلفها منه اعتذار
فإنكم وما تخفون منها ... كذات الشيب ليس لها خمار
عكاظ: واد للعرب فيه سوق لهم يجتمع فيها طوائف الناس من جميعالأحياء، فيتعارفون فيها ويتعلقون بالأخبار بعد التذاكر بها والتنسم لها، وبينهم المواعدات والمقايضات، والإحن والترات، والمنافرات والمناقضات، فكل فرقة تتجمل للأخرى وتود أن تسمع فيها ما ليس عندها من حسن وقبيح، ومحمود ومذموم، إلى غير ذلك من الأنباء السائرة، والأوابد العائرة، التي يتهادى بها، ويستطرف وقوعها، ويتبلغ باستماعها وأدائها. فيقول: متى وردتم عكاظ وافيتموها أذلاء قد اكتسيتم عاراً يخزيكم(1/1058)
ويلازمكم، فتصير كالمثلة عليكم، فكأن آذانكم قد استوعب صلمها، عقوبة لكم بما عاملتم به جاركم من إحفار وإسلام، حين قتل في جواركم، واستبيح محرماته في ذممكم. ثم قال مستهزئاً ومعيراً: يا جيران ابن مية، أنبئوني أنصرتكم له عين أم ضمار، ووفاؤكم بما عقدتم له حق أم كذاب. والعين: ما يحضر ويشاهد، لذلك قيل في المثل: يدع العين ويتبع الأثر. والضمار: الغائب الذي لست منه على ثقة. قال الأعشى:
نرانا إذا أضمرتك البلاد ... نجفى وتقطع منا الرحم
وقوله تجلل خزيها عوف بن كعب، يريد: لبس خزى هذه الغدرة وتغطى بذمها قبائل عوف بن كعب كلها لا أنتم فحسب، لأعقابها بعدها عذر يقبل، ولا تنصل يسنع.
وقوله وإنكم وما تخفون منها، يريد مثلكم في ستركم أمرها، وتقديركم إخفاءها، على إنتشارها وذهابها في الناس، وعلى تغشيكم بدرنها، واستقذار الناس لكم لوسخها، مثل امرأة شاب رأسها ولا خمار لها فتختمر، مع ميلها إلى أن لا يرى شيبها. والمعنى: الأمر أظهر من أن يكتم أو يدفن.
وقال آخر:
تولت قريش لذة العيش واتقت ... بنا كل فج من خراسان أغبرا
فليت قريشاً أصبحت ذات ليلة ... تؤم بها موجاً من البحر أكدرا
هذا كلام رجل قد جمره الوالي، وتبرم بغربته، وشقى بالتباعد عن أهله ووطنه، فيقول: تفرد قريش بالتنعم والتلذذ، واستأثر بالعيش الطيب والرتعة الهنيئة، ورمت بنا مرامي منكرة لا راحة معها، ولا طائل فيها، وسدت طرق المفاوز الغبر التي لا تسلك ولا تعبر، بينها وبين أهل المشرق، وبودي أن ثبتت قريش على ليلة تفضى بها صبيحتها إلى أن تسلمها إلى موج أكدر، يجرفها إلى البحر ويغرقها. وهذا مثل، والمعنى: أتمنى أن تشملها بلية تفنيها وتريح العباد والبلاد منها. والكدر: نقيض الصفاء. ويقال: عيش أكدر، وقد كدر. وجعل الموج كذلك تهويلاً، وتكثيراً لماء(1/1059)
بحره. وقوله ذات ليلة يريد الساعة التي يكون فيها الليلة المطلوبة. وعلى هذا قولك: فعلت كذا ذات العشاء، يريد الساعة التي فيها العشاء. والمعنى: أصبحت منا على هذه الحالة قريش، أي حصلت من ليلتها على صباح هكذا.
وقالت امرأة
حلفت ولم أكذب وإلا فكل ما ... ملكت لبيت الله أهديه حافيه
لو ان المنايا أعرضت لاقتحمتها ... مخافة فيه إن فاه لداهيه
فما جيفة الخنزير عند ابن مغرب ... قتادة إلا ريح مسك وغاليه
فكيف اصطباري يا قتادة بعدما ... شمعت الذي من فيك أثأى صماخيه
قولها ولم أكذب في موضع الحال أي حلفت صادقة في خبري، وإلا فما أملكه لبيت الله - تعني لمن حول بيت الله، فحذف المضاف - أهديه إليه بنفسي حافية لا حذاء لي. فقولها أهديه، يجوز أن يكون في موضع خبر المبتدأ، كأنها قالت: وإلا فما أملكه أهديه لبيت الله حافية، أي في هذه الحال. ويقال: أهديت إلى البيت وللبيت هدياً، إذا تقربت فيه بقربان. واللام من لبيت الله على هذا يتعلق بأهديه، ويجوز أن يكون لبيت الله خبر المبتدأ. وأهديه إن شئت كان مستأنفاً، وإن شئت كان خبراً ثانياً، وإن شئت كان بدلاً. وقولها لو أن المنايا أعرضت أي مكنت من النظر إلى عرضها، أي إلى الجانب الذي تجيء منه لاقتحمتها، أي لوقعت فيها وصرت في قحمتها. وانتصب مخافة فيه على أنه مفعول له. وقولها فما جيفة الخنزير تريد: ما رائحة جيفة الخنزير إلا ريح مسك لأن الحدث يشبه بالحدث، والعين بالعين.
وقولها فكيف اصطباري يا قتادة، يريد: كيف أتكلف صبراً على مجاورتك والكون معك. بعد ما بليت به من بخرك ونتن فمك، الذي أفسد على آلة الشم(1/1060)
والسمع. ومعنى أثأى صماخيه، أي أفسده. والصماخ: ثقب الأذن الذي يفضي إلى الرأس. وآلة الشم الأنف دون الأذن، ولكن تريد أنه فسد بمحاورته.
وقال عبد الله بن أوفى الخزاعي
نكحت ابنة المنتضى نكحةً ... على الكره ضرت ولم تنفع
ولم تغن من فاقة معدماً ... ولم تجد خيراً ولم تجمع
منجذةً مثل كلب الهراش ... إذا هجع الناس لم تهجع
مفرقة بين جيرانها ... وما تستطع بينهم تقطع
بقول رأيت لما لاترى ... وقيل سمعت ولم تسمع
قوله " على الكره " في موضع الحال من نكحت. وقوله " ضرت " من صفة نكحةً، وكذلك ما في البيت الثاني من الجمل كل في موضع الصفة لها. فيقول: نكحت هذه المرأة مكرهاً نكحةً ضارةً غير نافعة في شيء من الوجوه، فما أغنت من عدم عديما، ولا أنالت خيراً، ولا جمعت شملاً. وحذف مفعول " ولم تجمع "، لأن المراد مفهوم.
وقوله " منجذة " من الناجذ، وهوضرس الحلم. والنواجذ: أربعة أضراس، وقال بعضهم: هي الضواحك، محتجاً بحديث النبي صلى الله عليه وسلم " أنه ضحك حتى بدت نواجذه ". ويقال: نجذ فلاناً الخطوب، إذا أحكمته. وقال: " ونجذني مداورة الشؤون " فيقول: إنها قد جربت ومل منها وملت. وقوله مثل كلب الهراش يعني في خلقها وخلقها. ومعنى إذا هجع الناس لم تهجع، يصفها بأنها تمشي بالنمائم. ولذلك قال الآخر:
قوم إذا دمس الظلام عليهم ... حدجوا قنافذ بالنميمة تمرع(1/1061)
لأن القنفذ لاينام بالليل. فيقول: هي بوشايتها تفرق بين الخلطاء، وتقطع الوصل والأواصر بينهم. ولك أن تنصب منجذة ومفرقة على الحال، ولك أن ترفعهما على الاستئناف. وقوله وما تستطع شرط وجزاء، والمفعول محذوف، فهو كقولك: ما تطق تفعل. فأما قوله: يقول رأيت وقيل سمعت، فالباء تتعلق بقوله تقطع. والمعنى أنها تباهت وتكابر، وتتزيد في القول وتجاهر، فتدعي مشاهدة ما لاتشاهده، وسماع ما لاتدركه. وهذا زائد على ما قاله الآخر حين نفى هذه الطريقة، وهو:
وليست من اللائي يكون حديثها ... أمام بيوت الحي إن وإنما
ورواه بعضهم:
تقول رأيت لما لاترى ... وقالت سمعت ولم تسمع
والذي رويناه أحسن تلاؤماً وأقرب.
فإن تشرب الزق لايروها ... وإن تاكل الشاة لاتشبع
وليست بتاركة محرماً ... ولو حف بالاسل الشرع
ولو صعدت في ذرى شاهق ... تزل بها العصم لم تصرع
فبئست قعاد الفتى وحدها ... وبئست موقية الأربع
محرماً، أي حراماً. والحرمة: ما لايحل انتهاكه، وكذلك المحارم. وفي المثل لابقينا للحمية بعد الحرام أي عند الحرمة. وهو ذو محرم وحرمة في القرابة. والشرع: جمع شارع، ويقال: أشرعت الرمح قبله فشرع. وصفها بالنميمة وشدة الحرص على تناول المحرم ولو انتزعته من بين الأسنة. ثم وصفها بالتجليح، وحسن التنقيح، والحذق في التوصل إلى الممنوع، ولو احتاجت إلى أن تترقى في مصاعد الجبال، ومدارج الهضاب المعجزة للعصم.
وقوله فبءست قعاد الفتى وحدها انتصب قعاد وموفية على التمييز، لأنه وإن كان معرفةً في اللفظ، فلا اختصاص فيه. ويروي بالرفع في الموضعين. فإذا نصبت(1/1062)
فهو كقولك: بئست ربة البيت هند. وإذا رفعت فهو كقولك: بئست دار الكافر النار. وفي القرآن: " ولنعم دار المتقين ". والمذمومة بئست في الوجهين محذوفة. وانتصب وحدها على المصدر. فيقول: هي مذمومة في النساء تفردت أو اجتمعت مع ثلاث أخر. والقعاد والقعيدة واحدة، ويقال: ليست له قعيدة تقعده، أي امرأة تعزبه، أي تزيل عزبته. وحكى أن الأصمعي ألقى على أصحابه يوماً هذا البيت، وهو:
واحدة أعضلكم شأنها ... فكيف لو قمت على أربع
أربع يعنى النساء.
وقال بعض آل الملهب
قوم إذا أكلوا أخفقوا كلامهم ... واستوثقوا من رتاج الباب والدار
لايقبس الجار منهم فضل نارهم ... ولاتكف يد عن حرمة الجار
معناهما ظاهر ولا إعراب فيهما. والقبس: الشعلة من النار. والقابس طالب النار وآخذها، ويقال: قبست النار واقتبسها وأقبستها وأقبسنيها فلان. والمقياس نحو من القبس. والرتاج: الغلق. ويقال: رتجت الباب وأرتجته.
وقال آخر:
كاثر بسعد إن سعداً كثيرة ... ولاتبغ من سعد وفاءً ولا نصرا
ولاتدع سعداً للقراع وخلها ... إذا أمنت ونعتها البلد القفرا
يروعك من سعد بن عمروجسومها ... وتزهد فيها حين تقتلها خبرا
كاثر: أمر من كاثرته، إذا غلبته بالكثرة، ويقال: كاثرته فكثرته أكثر بضم العين. وعلى هذا يجيء هذا البناء، سواء كان مفتوحاً في الأصل أو مضموماً أو مكسوراً، إلا أن يكون البناء معتلاً، فإنه يترك على حاله. يقال باكيته فبكيته أبكيه لاغير. وذلك لئلا يلتبس بنات الياء ببنات الواو. وقوله: ونعتها البلد القفرا، يصفهم(1/1063)
بالسلامة في حال الأمن، وبحسن تصرفهم في فنون القول، وأن لهم المنظر الحسن دون المخبر، ثم لا وفاء لهم في الذمم والعقود ولا نصرة في الدفاع عند الحروب. ومعنى يروعك يعجبك. يريد: اعطوا البسطة في الأجسام، فإذا خبرتهم صغرهم الخبر، فأورثك الزهد فيهم. ويقال: لي بهم خبر وخبرة.
وقال آخر:
أعاريب ذوو فخر بإفك ... وأسنة لطاف في المقال
رضوا بصفات ما عدموه جهلاً ... وحسن القول من حسن الفعال
يقول: إنهم يفتخرون بمفاخر مأفوكة مكذوبة، ولهم ألسنة يلطفون بها، ويصورون الباطل من مفاخرهم بصورة الحق، فهم أصحاب مقال لا فعال، وأرباب كذب وزور، لاحق وصدق، ولجهلهم يرضون من أنفسهم ولها بأن يصفوها بما هو معدوم فيهم، وقنعوا بحسن الصفات من أنفسهم بقولهم، وإن عدموا شهادة الأشهاد على دعواهم، اعتقاداً منهم أن القول يغني عن الفعل، وأن الخبر يكتفي به عن الخبرة، وأن الكرم في الدعاوي لا في الحقائق.
وقال مالك بن أسماء
لو كنت أحمل خمراً حين زرتكم ... لم ينكر الكلب أني صاحب الدار
لكن أتيت وريح المسك تفغمني ... وعنبر الهند مشبوباً على النار
فأنكر الكلب ريحي حين أبصرني ... وكان يعرف ريح الزق والقار
قوله تفغمني، أي تسد خياشيمي وتملؤها. ويقال: الريح الطيبة تفغم المزكوم. وقوله مشبوباً على النار، يقال: رأيت شبة النار، أي اشتعالها، وقد(1/1064)
شببتها. وتوسعوا فيه فقالوا: فلانة يشبها فرعها، إذا أظهر بياض وجهها سواد شعرها. وانتصب مشبوباً على الحال. ومعنى الأبيات ظاهر.
وقال آخر:
هجوت الأدعياء فناصبتني ... معاشر خلتها عرباً صحاحا
فقلت لهم وقد نبحوا طويلاً ... على فلم أجب لهم نباحاً
أمنهم أنتم فأكف عنكم ... وأدفع عنكم الشتم الصراحا
وإلا فاحمدوا رأيي فإني ... سأنفي عنكم التهم القباحا
وحسبتك تهمة ببرىء قوم ... يضم على أخي سقم جناحا
هذه الطريقة في ذم الأدعياء غريبة حسنة جداً. وفيما قال أبو العتاهية في والبة بن الحباب ما هو مستبدع أيضاً، وهو:
ما بال من آباؤه عرب ال ... ألوان أصبح من بني قيصر
أكذا خلقت أبا أسامة أم ... لونت سالفتيك بالعصفر
وأخذ أبو نواس فقال أيضاً:
وابن الحباب صليبة وعموا ... ومن المحال صليبة أشقر
ومصدر الدعي الدعوة والدعاوة. وناصبتني، أي عادتني؛ ويقال: ناصبت فلاناً الحرب والعداوة، ونصبنا لهم حرباً. ويقال: العرب العاربة والعرباء، أي الخلص. والعرب المستعربة: الذين فيهم بعد. وقوله عرب الألوان مثل قولهم: سروج خز الصفات.
وعرباً صحاحا أي صحاح الأنساب. والنباح يستعمل في صوت التيس عند السفاد، وفي الهدهد والظبي. ويستعمل في الشاعر على طريق الذم. ويقال: نبحه(1/1065)
ونبح عليه. قال الهذلي:
ولو نبحتني بالشكاة كلابها
والمراد بقوله لهم نباحاً: لم أجب نباحهم. ولهم تبيين. وقوله أمنهم أنتم في موضع المفعول من قلت، وانتصب فأكف بإضمار أن، وهو جواب الاستفهام بالفاء. والصراح: الخالص من كل شيء، وكذلك الصريح والصراح. ورجل صريح: ضد هجين، من قوم صرحاء. وخمر صراح: لم تشب بمزاج. وقوله حسبك تهمة ارتفع على الابتداء، ويكتفي به لأن فيه معنى الأمر، أي اكتف. وانتصب تهمة على التمييز، ومعنى الأبيات ظاهر.
وقال مدرك
لقد كنت أرمي الوحش وهي بغرة ... وتسكن أحياناً إلى شرودها
فقد أمكنتني الوحش مذ رث أسهمي ... وما ضر وحشاً قانص لا يصيدها
فأعرضت عن سلمى وقلت لصاحبي ... سواء علينا بخل سلمى وجودها
جعل الوحش كناية عن النساء. وإنما يذكر أيام شبابه، ووقت صباه ولهوه، فيقول: كنت أتعرض للنساء وهي مغترة وفي غفلة عني، فأصيبها بمحاسني وأصطادها. والشاردة منها النافرة من الريب تسكن إلي وتميل نحوي وقتاً بعدوقت، وحالاً بعد حال. هذا فيما مضى من عمري، والآن قد شخت فسهامي قد رثت، وآلاتي كلت. وإنما يريد محاسنه عندهن من قبل، وأنها قد بارت، وما كان ينفقه عندهن من نفوذ نصاله عند الرماء فيهن كلت. قال: فالوحش تمكنني وأنا لا أرميها وتكتب لي وأنا غافل دونها. ومعنى تمكنني أن النساء تنبسط إلي فلا تنقبض، وتستنيم فلا تنفر لأمنها من توجه الريبة. قال: والصائد لا يضر الوحش إذا لم يصدها، يعني نفسه. وهذا الكلام يجري مجرى الأمثال. والمعنى أنهن لا ينفرن مني، وقد سكن إلي وأمن رميي.(1/1066)
وقوله فأعرضت عن سلمى، يقول: تركت صاحبتي التي كنت أولع بها؛ وأستلذ ذكرها، زاهداً فيها، وقلت لقربتي وأليفي: بخلها وجودها يستويان علي مع إعراضي وضعف حاجتي، وكلال حدي، وعجز قدرتي، وتسلط رثيات الشيب علي، وتمكن أبدال اللهو مني. وقوله سواء علينا سواء مصدر في الأصل، وقد وصف به.
فلا تحسدن عبساً على ما أصابها ... وذم حياة قد تولى زهيدها
تشتبه عبس هاشماً أن تسر بلت ... سرابيل خز أنكرتها جلودها
كان الوليد وسليمان ابنا عبد الملك أمهما عبسية، فارتفع شأن بني عيسى بها، واختلطوا بمدبري الخلافة وسواس الرعية، والذابين عن المملكة. فيقول مخاطباً لصاحب له: لا تحسدن بني عبس على ما نلته من الملك والرياسة، وذم زماناً ساعدها على ذلك وأهلها له، وحياة تولي زهيدها في الشقاء بها، ومكابدة الأوابد منهم فيها. والزهيد: القليل الخير، ويقال: رجل زهيد وامرأة زهيدة، وهما القليل الطعم، يريد أن أمرهم خلسة من خلس الدهر، وسينقطع منكره ويعود إلى دون ما يجب له. وقوله تشبه عبس هاشماً، يقال: شبهته كذا وبكذا، وتشبه زيد بكذا وكذا. يقول: تنعموا بلذات الدنيا وزخارفها، وشاركوا أرباب الخلافة وولاتها في ملابسهم التي تنكرها جلودهم، ومطامعهم التي لم تذقها لهواتهم، فحدثوا أنفسهم بأنهم أمثالهم، ووسوس الشيطان إليهم مماثلة حالهم لأحوالهم عند الحفل، وفي الخلوات. وقوله أن تسربلت يريد: لأن تسربلت. كأنهم لمساعدة الأحوال لهم فعلوا ما فعلوا. وإنما قال أنكرتها جلودها لأنها لم تعتمدها من قبل. ومثله قول الآخر:
بكى الخز من عوف وأنكر جلده ... وضجت ضجيجاً من جذام المطارف
فلا تحسبن الخير ضربة لازب ... لعبس إذا مافات عنها وليدها
فسادة عبس في الحديث نساؤها ... وقادة عبس في القديم عبيدها(1/1067)
هوذا يسلى صاحبه عما تداخله من الغيظ على زمان بلغ بيني عبس ما بلغ، فيقول: لا تظنن أن هذه الأمور تجري على ما تشاهدها سليمة من الحوادث، وأن الدولة تمتد لبني عبس وتصير كالواجب لها، بريئة من الصوارف، نقيةمن الشوائب؛ فإن كل ذلك بعرض الزوال والتغير، متى مات من تقدموا به، وهو الوليد بن عبد الملك. وحكى عن الحضين بن المنذر أنه قال لبعض بني عبس وقد تنازعا في شيء: إنما أنتم يا بني عبس بحر، فإن ابتل ابتللتم، وإن يبس يبتسم. وقوله فسادة عبس نساؤها، يعني أم الوليد والمتصلات بها. هذا في الحديث زعم. قال: وفي القديم كانوا بالعبيد، يعني به عنترة بن شداد، لأنه عيسى، وكان هجيناً، ولذلك قال:
إني امرؤ من خير عبس منصباً ... شطري وأحمي سائري بالمنصل
وقال أيضاً:
أنا الهجين عنترة ... كل امرىء يحمى حره
أسوده وأحمره وهو أحد الفرسان الذين جل أمرهم، وعظم شأنهم.
وقال آخر:
أقول حين أرى كعباً ولحيته ... لا بارك الله في بضع وستين
من السنين تملاها بلا حسب ... ولا حياء ولا قدر ولا دين
أجري جمع السلامة في أن أعرب آخره مجرى جموع التكسير، وقد جاء ذلك كثيراً. على هذا قول الآخر:
وقد جاوزت حد الأربعين(1/1068)
وقوله:
وابن أبى أبى من أبيين
وقوله من السنين تعلق بقوله في بضع. والبضع مختلف به، فمنهم من يقول: يتناول ما بين الثلاثة إلى العشرة كله، ومنهم من يجعله متناولاً للنصف من ذلك. والأول هو الصحيح. وقيل في قوله: " بضع سنين " إنها سبعة، وقد حكى الفتح في الباء منه أيضاً، وأصله من القطع. وقوله تملاها عاش ملاوتها. والملاوة تكسر ميمه وتضم. ومنه الملى من الدهر، وقولهم: ثمليت حبيباً.
وقال عويف القوافي
وما أمكم تحت الخوافق والقنا ... بثكلى ولا زهراء من نسوة زهر
ألستم أقل الناس عند لوائهم ... وأكثرهم عند الذبيحة والقدر
وصفهم بأنهم يتصونون، فلا يبتذلون في الحروب، فأمهاتهم تثكلهم تحت الأعلام إذا خفقت، والرماح إذا أشرعت. وقوله ولا زهراء، أي لسيت هي بكريمة في نفسها. وهذا ضد قول الآخر:
أمك بيضاء من قضاعة
يريد بياض الكرم لا بياض اللون.
وقوله: ألستم أقل الناس، ويقررهم على لؤمهم وتأخرهم في الحروب، وقلتهم عند خفق البنود، وعند عقدها للرياسات؛ وعلى أنهم يكثرون في المآدب، ويتزاحمون على الذبائح. وإنما يقرر بأليس وبألم وما أشبهه في الواجب، لأن(1/1069)
الاستفهام كالنفي، والنفي إذا دخل على النفي صار واجبا، وقد مر الكلام فيه فيما تقدم.
وقال آخر:
ونبيت ركبان الطريق تناذروا ... عقيلاً إذا حلوا الذناب فصرخدا
فتى بجعل المحض الصريح لبطنه ... شعاراً ويقرى الضيف عضباً مهندا
قوله تناذروا، أي أنذر بعضهم بعضاً، وموضعه من الإعراب نصب على أن يكون مفعولاً ثالثاً لنبئت. والذناب وصرخد: موضعان. والمعنى أن السفر والسابلة والمارة قد عرفوا عقيلا بالغدر والخيانة، والطمع في مال الضيف والجار والحليف، فإذا نزلوا هذين الموضعين وهما مما يقارب محل عقيل ومأواه، حذر بعضهم بعضاً، وتواصلوا بالاحترا منه، ثم قال: هو فتى يملأ بطنه من خالص المحض، فالمحض شعار بطنه، يليه ويشحنه ويلتبس به، ويعد لقرى ضيفه سيفاً قاطعاً. والأصل في الشعار ما يلي الجسد من الثياب، ثم توسع فيه فقيل: أشعر قلبي هما أي أبطنه. وحكى بعضهم: هندت السيف: شحذته وأحدودته. والمشهور نسبته إلى هند.
وقد استعمل القرى على هذا غيره فقال، وهو أبو وجزة:
وذاك القرى لا قرى قوم رأيتهم ... يقرون ضيفهم الملوية الجددا
يعني السياط.
وقال آخر:
أناخ اللؤم وسط بني رياح ... مطيته فأقسم لا يريم
كذلك كل ذي سفر إذا ما ... تناهى عند غايته مقيم
يقال: أنخت البعير فبرك، ولا يقال فناخ. وهذا من باب ما استغنى به من غيره، ومعنى لا يريم لا يبرح. وقوله كذلك في موضع الحال، لأن كل ذي سفر مبتدأ، ومقيم خبره، قال، وكل مسافر إذا ما انتهى إلى غايته يلقي عصاه، ويحط رحله. كذلك، أي مثل إقامة اللؤم فيهم.(1/1070)
وهذا المعنى قد نقله البحتري إلى المدح فيهم.
أو ما رأيت المجد ألقى رحله ... في آل طلحة ثم لم يتحول
وقال آخر:
إذا بكرية ولدت غلاماً ... فيا أؤماً لذلك من غلام
يزاحم في المآدب كل عبد ... وليس لدي الحفاظ بذي زحام
قوله يا لؤما لفظه لفظ النداء والمهنى معنى التعجب، أي ما أشده من لؤم. ومثله: " يا حسرة على العباد "، وقول الشاعر:
فيا شاعراً لا شاعر اليوم مثله ... جرير ولكن في كليب تواضع
وقوله يزاحم في المآدب يشبه قول عويف:
ألستم أقل الناس عند لوائهم ... وأكثرهم عند الذبيحة والقدر
وإن كان زاد عليه لما جعل مزاحمته على الطعام مع العبيد. وقوله من غلام أي لذلك الغلام من بين الغلمان. وواحد المآدب مأدبة، والفعل منه أديت.
وقال آخر:
ردي ثم اشربي نهلاً وعلاً ... ولا يغررك أقوال ابن ذيب
فلو كان القليب على لحاهم ... لأسهل وطؤها شفة القليب
يشجعها على الورود والصدر، وشرب العلل بعد النهل. وعلى ألا تحتفل بتهدد ابن ذئب وإرعاده وإبراقه، فإنه قول لا فعل معه، وقعقعة لا وقع بعدها. وكان التخاصم في بئر، فلذلك قال ما قال. وقوله فلو كان القليب على لحاهم استخفاف بهم وإهانة. ومعنى أسهل: وجدها سهلا، ويعني بوطئها وطء الإبل، ولم يجر لها ذكر، ولكن المراد مفهوم: والمعنى: كانت تجد حرف البئر سهلاً لا حزناً. يقول: لو كان موضع البئر(1/1071)
لحاهم ماجسروا على المنع، ولا على التمانع، ولا كان يتعقب ورودها إنكار ولا وبال.
وقال آخر:
إن تبغضوني فقد أسخنت أعينكم ... وقد أتيت حراماً ما تظنونا
وقد ضممت إلى الأحشاء جارية ... عذباً مقبلها مما تصونونا
يقول: لا ملام عليكم في بغضائكم لي، فقد نلت منكم ما استحققت به ذاك. وانتصب حراماً على الحال من أتيت، وما تظنونا في موضع المفعول، والضمير العائد من الصلة محذوف. وقوله مما تصونانا ولم يقل ممن، لأن القصد إلى الجنس وما للصفات والأجناس ولما دون الناطقين. فأما قوله تظنون فيجوز أن يكون من غالب الظن، ويجوز أن يكون من اليقين.
وقال آخر:
يا قبح الله أقواماً إذا ذكروا ... بني عميرة رهط اللؤم والعار
قوم إذا خرجوا من سوءة ولجوا ... في سوءة لم يجنوها بأستار
المنادى في قوله يا قبح الله محذوف، كأنه قال: يا قوم، أو يا ناس قبح الله أقواماً، أي أبعدهم الله. وبني عميرة انتصب على البدل من أقواماً، والمعنى في قوله إذا ذكروا أي وقت ذكروا فأبعدهم الله. ورهط اللؤم انتصب على الذم والاختصاص، والعامل فيه فعل مضمر، كأنه قال: أذكر رهط اللؤم. وقوله قوم ارتفع على أنه خبر المبتدأ، أي هم قوم إذا خرجوا من سوءة ومخزية، أي من اكتسابهما وفعلهما، دخلوا في مثلها أو أسوأ منها وأخرى لا يتسترون فيها ولا يستحيون منها.
يهجو الحضري ويمدح البدوي: وقال آخر:
جواب بيداء بها عروف(1/1072)
لا يأكل البقل ولا يريف
ولا يرى في بيته القليف
إلا الحمت المفعم المكشوف
للجار والضيف إذا يضيف
والحضري مبطن معلوف
للفسو في أثوابه شفيف
أعجب بيتيه له الكنيف
أوطاية مبقلة وسيف
قوله جواب بيداء يصف به البدوي، أي قطاع المفاوز بليغ المعرفة بها. ويقال: رجل عروف وعروفة وعريف، أي عارف. ويقال من العرف بكسر العين، وهو الصبر: عارف وعروف أي صبور؛ فيجوز فيه الوجهان. ويروى: جواب بيد أيه عروف، والأيه: الصيت المتيقظ الحي القلب والنفس: والبيد: جمع بيداء. وقوله لا يأكل البقل، أي هو قوى صلب العروق، لأن البقول ترخي الأعصاب. ولا يريف أي لا يدخل الحضر. والريف: الخضرة. وقال الدريدي: الريف: ما قارب السواد من أرض العرب، والجميع أرياف وريوف. وتريف القوم ورافوا: دنوا من الريف. وقوله: ولا يرى في بيته القليف أي طعامه طعام البدويين: اللبن والتمر، لا الخبز. وقلافة الخبز وقليفه: الذي يلزق منه بالتنور.
وقوله: إلا الحميت بدل من القليف، وهو نحى السمن. والمفعم: المملوء. وجعله مكشوفاً للجار والضيف ليدل على سخائه بما فيه، ولا ستر عليه ولا حجاب دونه، فاللام من قوله للجار يتعلق بالمكشوف. وقوله والحضري مبطن معلوف، أي بطيعه ما يأكله، ويرتع فيه فينهم فيه ويتجاوز حدود أكل الناس حتى يصير معلوفاً كما تعلف الدواب للسمن. والمبطن: الموسع البطن. وقد بطن بطناً، أي عظم بطنه، وأصابته البطنة. وفي المثل: البطنة(1/1073)
تذهب الفطنة، أي كثرة الأكل تحدث البلادة، ورجل بطين ومبطان: عظيم البطن. والمبطن: الخميص البطن. قال:
فأتت به حوش الفؤاد مبطنا
وقال متمم:
فتى غير مبطان العشيات أروعا
والشفيف: برد ريح في ندوة، واسم تلك الريح الشفان. وقوله أعجب بيتيه أي الذي يأكل فيه والذي يحدث فيه. والكنيف جعله أعجب إليه لكثرة أطيافه.
والطاية: الأرض الفضاء الواسعة. والسيف: ساحل البحر. وأبقل المكان: كثر بقله.
وقال ربعان
إذا كنت عميا فكن فقع قرقر ... وإلا فكن إن شئت أير حمار
فما دار عمى بدار خفارة ... ولا عقد عمى بعقد جوار
يعني بالفقع الكمأة. ويضرب المثل بهذا في الذل فيقال: أذل من فقع بقاع، وذلك لآنه يجتنيها من يشاء، وأضافه إلى قرقر منبته. ويقال: قاع قرقر، أي مستو. وأنى بالصفة لأن المراد مفهوم، والمعنى: إذا كنت عمياً فكن ذليلاً كالفقع، أو شيئاً يتحامى ذكره ومنظره كذلك العضو. وأخفرته، إذا نقضت عهده. والمعنى ظاهر. وجعل لا من قوله ولا عقد بدلاً من ما، ولذلك أدخل الباء في بقعد.(1/1074)
وقال آخر:
أراني في بني حكم غريباً ... على قتر أزور ولا أزار
أناس يأكلون اللحم دوني ... وتأتيني المعاذر والقتار
قوله على قتر أي على حرف. ويقال قتر وفتر. ويقول: ليس فيهم تمكن، لغربتي. والفتر والقطر والحرف والجانب تتقارب. وقد استعمل الحرف استعمال القتر، بل هو أشهر في هذا المعنى، وأكثر تصرفاً، يقال: هو على حرف من أمره، أي انحراف، وانحرفت بهم دنياهم، ومالي عن كذا محرف، أي مصرف ومنتحي. وفي القرآن: " ومن الناس من يعبد الله على حرف ": وإنما وصفهم بأن من جاورهم يسيئون عشرته ولا يرون له ما يراه لهم من قضاء ذمام، وإيجاب حق، بل يطرحونه ويهملونه. وقوله وتأتيني المعاذر، أراد ريح عذراتهم وأفنيتهم، فحذف المضاف. والقتار، أي وتأتيني ريح اللحم المشوي. وقيل في المعاذر: إنها جمع معذرة. والأول أبلغ. والمعاذر والعاذرة والعذرة: الحدث، وقد أعذر، أي أحدث. ويرتفع أناس على أنه خبر مبتدأ محذوف، كأنه أراد: هم أناس، وقد وصفوا بجملتين. وقدكان يجب أن يقول: وتأتيني المعاذر والقتار منهم، فحذف الضمير، ويجوز أن يكون وتأتيني على الاستئناف.
وقال آخر:
ما إن في الحريش ولا عقيل ... ولا أولاد جعدة من كريم
ولا البرص الفقاح بني نمير ... ولا العجلان زائدة الظليم
أولئك معشر كبنات نعش ... رواكد لا تسير مع النجوم
يعني بزائدة الظليم الخف، لأنه لا يكون للطير. أي هم زيادة في الناس بمنزلة تلك الزائدة في الظليم. وقوله أولئك معشر كبنات نعش، يريد أنهم لا ينهضون لا كتساب مكرمة. ولا يقومون لاجتلاب منقبة، فهم لا خير فيهم يلزمون مضاجعهم كسلاً وقصر همة، ورضى بأدنى الهمتين وأسقط العيشتين. والعرب تسمى من كان كذلك ضاجعاً وضجيعاَ وضجعة. وبنات نعش ليست من النجوم السيارة، فلذلك شبهه بها.(1/1075)
وقال رجل من بني جرم
دلفت إلى صميمك بالقوافي ... عشية محفل فهتفت فاكا
وصدق ما اقول عليك قوم ... عرفت أباهم ونفوا أباكا
الصميم: الخالص من النسب والفخر. وجعل له ذلك على طريق الهزء، فهو كقول الله تعالى: " ذق إنك أنت العزيز الكريم ". يقول: ما كان من حسبك خالصاً، ومن نسبك صافياً لا شوب فيه ولا لبس دونه، أبطلته بقوافي، وزيفته حين اختلفا في المجمعة بمرامى، فهتمت أسنانك، وأخرستك في دعاويك. والهتم: كسر الثنية من الأصل، وجعل الفم كناية عن الأسنان. أي جعلتك بحيث لا معض لك، ومشهدنا مشهود، وأهل التمييز حضور، وصدقني من له القدمة والسابقة عليك، وأنت تعرفهم وتعرف أوليتهم، وهم ينكرون سلفك، ويبطلون دعاويك.
وقال زيد الأعجم
ومن أنتم إنا نسينا من أنتم ... وريحكم من أي ريح الأعاصير
وأنتم أولى جئتم مع البقل والدبا ... فطار وهذا شخصكم غير طائر
فلم تسمعوا إلا بمن كان قبلكم ... ولم تدركوا إلا مدق الحوافر
قوله إنا نسينا من أنتم يجوز أن تجعل من استفهاما، وقد كرره، وعلق نسينا قبله، وإن لم يكن من أفعال الشك واليقين، لأنه أجراه مجرى نقيضه، وهو عرفت وذكرت؛ وهم يجرون النظير مجرى النظير، والنقيض مجرى النقيض. وقد مر له نظائر. ويجوز أن نجعل من بمعنى الذي. وقد حذف صلته، كأنه قال: إنا نسينا الذين هم أنتم والأول أوجه. ونظير الأول عند أصحابنا البصريين قوله تعالى: " لنعلم أي الحزبين أحصى لما لبثوا ". وفي باب الذي قوله تعالى:(1/1076)
" تماماً على الذي أحسن ". لأن المعنى من هو أحسن. وقوله من أي ريح الأعاصير، والأعاصر: جمع الإعصار، وهو الغبار الساطع المستدير، وفي المثل " إن كنت ريحاً فقد لاقيت إعصاراً ". وإنما خصها بالذكر لأنها تسوق غيثاً، ولا تدر سحاباً، ولا تلقح شجراً، فضرب المثل بها لقلة الانتفاع بهم. وهذا كما قال الآخر:
وأنت على الأدنى شمال عرية ... شآمية تزوى الوجوه بليل
وهم يجعلون الريح كناية عن الدولة، فيقال: فلان هبت له ريح، فكأنه جعل دولتهم لا تجدي ولا ترد نفعاً، بل تتوى وتجر شراً، وقوله وأنتم أولى جئتم، يريد الذين جئتم مع البقل. والمعنى أن شرفكم حديث. ومثله قول الآخر:
تموتون هزلى في السنين وأنتم ... أساريع تحيا كلما نبت البقل
وقوله فطار وهذا شخصكم غير طائر تضجر بهم وتعجب من بقائهم، وعتب على الزمان في استبقائهم. وقوله فلم تسمعوا إلا بمن كان قبلكم يريد أن كل من يذكر لكم وعندكم فهو سابق لكم، مقدم عليكم بالزمان والفضل، فأنتم على الساقة لم تدركوا ممن أحرز قصبات السبق إلا مدق الحوافر، ومواطىء الأقدام. جعلهم فساكل، ومتأخرين عند الفضائل.
وقال عمرو بن الهذلي
نحن أقمنا أمر بكر بن وائل ... وأنت بثأج ما تمر وما تحلي
وما تستوي أحساب قوم تورثت ... قديماً وأحساب نبتن مع البقل(1/1077)
ثأج: اسم ماء. وما تمر وما تحلي، أي لا تأتي بحلو ولا مر. يصف عجزه وضعفه، وقعوده عن المعونة أوان الحاجة. وقول زهير:
على صير أمر ما يمر وما يحلوا
فأمر فيه بمعنى صار مراً. ويقال في هذا مر أيضاً. وقولهم في المثل: " ما أمر فلان وما أحلى " فهو مثل المعنى الذي في البيت. والمعنى: ما أتى بحلو ولا مر. ومراد الشاعر في هذا البيت ظاهر، وهو المعنى المتقدم.
وقوله وما تستوي أحساب قوم تستوي بمعنى تساوي وتماثل، وقد يكون استوى بمعنى استعلى. على ذلك قولهم:
قد استوى بشر على العراق
وقالت كنزة في مية
ألا حبذا أهل الملا غير أنه ... إذا ذكرت مي فلا حبذا هيا
على وجه مي مسحة من ملاحة ... وتحت الثياب الجزى لو كان باديا
ألم تر أن الماء يخلف طعمه ... وإن كان لون الماء في العين صافيا
إذا ما أتاه وارد من ضرورة ... تولى بأضعاف الذي جاء ظاميا
كذلك مي في الثياب إذا بدت ... وأثوابها يخفين منها المخازيا
فلو أن غيلان الشقي بدت له ... مجردة يوماً لما قال ذا ليا
كقول مضى منه ولكن لرده ... إلى غير مي أو لأصبح ساليا(1/1078)
قوله ذا من لفظة حبذا أشير به إلى الشيء، وهو مع حب بمنزلة الرجل من نعم الرجل، إلا أنه أجرى معه مجرى الأمثال، لا يغير ولا يفصل بينهما. والمعنى: محبوب في الأشياء أهل الملا غير مي، فإنها إذا ذكرت لا تستحق مدحاً ولا اختصاصاً، ولا ثناء ولا إطراء، فلا تعطي هذا القول، ولا تذكر عند الدعاء بالسقيا، ولا تدخل عند الحمد أو الحب في الذكرى. وقولها فلا حبذا هي جعل ألف ذا على انفصالها تأسيساً، لأن الروى من اسم مضمر وهو هي. وقولها على وجه مي مسحة تريد أن ظاهرها حسن، كأن الله عز وجل قد مسها بالجمال مسحاً، ويكون أصله من المسح باليد، وقد استعمل في الدعاء فقيل للمريض: مسح الله ما بك من علة، وقيل أيضاً: هو ممسوح الوجه أي مستوى الخلقة. وقولها وتحت الثياب الخزى تريد أنها ما سوى المعاري منها مما هو مواري من بدنها، ومستور بثيابها، قبيح. وقولها لو كان بادياً جواب لو مقدم عليه. أرادت: لو ظهر الخافي منها كان خزياً. ثم شبهتها بالماء يتناهى صفاؤه ولونه، ويتراءى للناظر زرقته، ويحسب عذباً سلسالاً فإذا هو ملح أجاج، حتى إذا ورده الوارد فنظر إليه صار كأنه بعده من نفسه بظاهره عذوبة، فإذا طعمه يخلف ولا يفي، بل يعطيه مرارة. هذا إذا روى يخلف لأنه من الخلف في الوعد، وقد روى يخلف فيكون من الخلوف: التغير. وفي الحديث " خلوف فم الصائم أطيب عند الله من ريح المسك "، والمراد أن ظاهر هذه المرأة كظاهر هذا الماء، وباطنها كباطنه فكما أن وارد هذا الماء وقد اضطره العطش وساقه حرارة الجوف والغلة يصدر عنه وقد تضاعف ظمؤه وتزايدت حرته، كذلك هذه المرأة للكاشف عن أمرها، والذائق بعد الاغترار بها. وقولها بأضعاف الذي جاء، تريد جاء عليه، فحذف حرف الجر ووصل الفعل بنفسه، فصار جاءه، ثم حذف الضمير من الصلة استثقالاً واستطالة لكون أربعة أشياء شيئاً واحداً: الموصول، والفعل، والفاعل، والمفعول، ومن جوز حذف الجار والمجرور من الصلة فالأمر عنده أقرب. وانتصب ظامئاً على الحال.
وقولها فلو أن غيلان الشقي تعني به ذا الرمة، لأنه كان ينسب بمية، وكان يسميها مرة ميا ومرة مية. فتقول: لو أنها تجردت له لتبرأ منها وتندم على ما سيره من النسيب فيها. وانتصب مجردة على الحال. وأشارت بذا من قولها لما قال ذاليا إلى مجرد مية، أي ما حدث نفسه بأنه له. ويروى: لما قال آليا وهذا يتعلق بما(1/1079)
بعده. أرادت: لما قال كقوله فيما سلف ذاليا. وآليا، أي مقصراً عند نفسه في دعواه، ولصرف تشبيبه إلى غيرها، ولتسلى من النساء رأساً. وزهد فيهن استبشاعاً لها. وقولها: لرده، اللام جواب يمين مضمرة. وذكر بعضهم ان معنى آليا حالفاً، أي كان لا يقسم بها، وهذا خطأ، لأنه كان يجب أن يكون مولياً، ألا ترى أنه يقال: آليت في اليمين إيلاء. وقيل: آا: توجع فهو كأوه، والمعنى: لم يقل لما يستجد من الزهد فيها آالي، متأوهاً ومتوجعاً - وهذا كما يقال في الأمر وقد نكأ في متوليه: شقاء لي، بكاء لي، وأشقى لي، وأبكي لي - وجدا بها، فعلى هذا يكون آالى حكاية صوت موضعة رفع بالابتداء، ولي خبره، والأول أقرب عندي.
وقال أبو العتاهية
جزى البخيل على صالحة ... عني بخفته على ظهري
أعلى وأكرم عن يديه يدي ... فعملت ونزه قدره قدري
ورزقت من جداوه عافية ... ألا يضيق بشكره صدري
وغنيت خلواً من تفضله ... أحنو عليه بأحسن العذر
ما فاتني خير امرىء وضعت ... عني يداه مؤونة الشكر
يقول: جزى الله البخيل علي بماله خصبة صالحة، فقد خف محمله على ظهري، لسقوط منته عني، وذاك أن أجلني عن صنيعه، وأكرم محلي إذ أخلاني من عارفته، وصان قدري حين لم يبتذله لعطيته، ورفع يدي وكرمها حين لم يشنها بمرزيته، فرزقني الله عافية من ضيق الذرع بشكره، والتطوق بأفضاله، واستغنيت عنه خالياً من بره، منصرفاً من تفضله، متعطفاً عليه يبسط عذره حين لم يجد علي، ولم يتلق إقبالي عليه بقبوله لي.
ولما قال: أعلى يدي فعلت، كان الأحسن في مقابلته أن يقول: ونزة قدري فنزه. ويقال: فلان نزيه كريم، إذا كان بعيداً من اللؤم. وقوله ألا يضيق لك(1/1080)
أنن ترفعه وأن تنصبه، فالنصب على أن يكون أن الناصبة للأفعال، والرفع عل أن تكون أن مخففة من الثقيلة، ويكون اسمه مضمراً، كأنه قال: أنه لا يضيق، والجملى خبره. والعافية: مصدر كالعاقبة، ومثله ما أباليه بالية، وقم قائماً؛ لأنه لا خلاف أن اسم الفاعل يكون اسماً للمصدر وإن اختلفوا في بناء المفعول. وموضع ألا يضيق نصب بكونه بدلاً من قوله عافية. وانتصب خلوا على الحال. وجملة المعنى: أنه لم يفتني إحسان رجل لم يلزمني له شكر إفضال، ولم يجب بفعله بي علي اعتداء.
قال ابن عبدل الأسدي
أضحى عراجة قد تعوج دينه ... بعد المشيب تعوج المسمار
وإذا نظرت إلى عراجة خلته ... فرجت قوائمه بأير حمار
أراد أن يظهر أنه يجسر على تشبيهه بالسوءة. وضرب الخنا والفحش مثلاًله في هجوه، فأما المعنى فظاهر، وإنما شبه تعوج دينه على كبرته وسنه بتعوج المسمار في العمل، وقد عجز عما حمل، فإن أكره على النفاذ انكسر؛ وإن طلب نزعه ليجعل أقوى منه بدله تعسر، فكذلك عراجة في اعوجاج دينه والتوائه، لا صرفه وردعه ممكن، ولا احتماله عليه مسوغ.
وقالت أم عمرو بنت وقدان
إن أنتم لم تطلبوا بأخيكم ... فذروا السلاح ووحشوا بالأبرق
وخذوا المكاحل والمجاسد والبسوا ... نقب النساء فبئس رهط المرهق
ألهاكم ان تطلبوا بأخيكم ... أكل الخزير ولعق أجرد أمحق
تقول: إن ضيعتم دم أخيكم، وقعدتم عن الانتقام له، لتقصيركم في طلب ثأره، فضعوا السلاح واطرحوه بالأبرق. ويقال: وحش بثوبه وبسيفه، إذا رمى به بعيداً. وفي الحديث: " وحشوا برماحهم "، أي رموا بها. ويجوز أن تريد توحشوا، أي صيروا مع الوحش حياء من فعلكم، وهاجروا الناس وحانبوهم. والعرب تقول:(1/1081)
إذا أظلم الليل تأنس كل وحشتي، وتوحش كل إنسى. يريدون بتأنس استأنس، وبتوحش استوحش. ومثل وحش بمعنى توحش قدم بمعنى تقدم، ونبه بمعنى تنبيه. وعلى هذا يحمل قول امرىء القيس:
وأنا المنبه بعد ما قد نوموا ... وأنا المعالن صفحة النوام
لأنه لم يجعل منبه بمعنى متنبه يصير عجز البيت كصدره في أنهما بمعنى واحد. وقال بعضهم: وحشوا معناه اطلبوا صيد الوحش وتقوتوه. وهذا يرجع معناه إلى ما ذكرناه؛ لأن معناه فارقوا الناس والكون معهم. وخصت الأبرق لأنه كان مما وليهم، وهو المكان فيه حجارة سود وبيض. ويقال: جبل أبرق، إذا كانت طاقاته سوداً وبيضاً.
وقولها وخذوا المكاحل، تريد: اجعلوا بدل السلاح آلات النساء: والمجاسد: جمع المجسد، وهو الثوب المشبع صبغاً. والجساد: الزعفران. والنقب: جمع نقبة، وهي إزار تجعل له حجزة كحجزة السروايل تلبسه المرأة. قال:
بيضاء مثل القلب ... في نقبة وإنب
والإنب: القميص.
والمعنى: إن لم تثأروا لصاحبكم فتزيزا بزي النساء فإنكم إناث، وبئس رهط المرهق: المضيق عليه أنتم. وحذف المذموم ببئس، وهو أنتم، لأن المراد مفهوم. وهذا الكلام بعث وتحضيض على طلب الدم، فهو كقول أخت عمرو حين بعثت عمراً على طلب دم أخيه عبد الله فقالت:
فإن أنتم لم تثأروا بأخيكم ... فمشوا بآذان النعام المصلم
ولا تردوا إلا فضول نسائكم ... إذا ارتملت أعقابهن من الدم
وقولها ألهاكم أن تطلبوا تهييج وإغراء. والخزير: حساء يحسى. والأجرد: الأمحق، يراد به نحي أو زق دبي. والأمحق: القليل، كأنه يصير لكم محقاً لا يبارك(1/1082)
الله فيه، وأمحق من باب أفعل الذي لا فعلاء له واللعق، هو لما في النحي لا له، فتوسع فيه.
وقالت امرأة من طيىء
فلو أن قومي قتلتهم عمارة ... من السروات والرءوس الذوائب
صبرنا لما يأتي به الدهر عامداً ... ولكنما إثآرنا في محارب
قبيل لئام إن ظفرنا عليهم ... وإن يغلبونا يوجدوا شر غالب
العمارة: الحي العظيم يطيق الانفراد، وقد يفتح العين منه فيقال: العمارة، لغة. ومثله العميرة، وقيل: هما جميعاً البطن. والسروات: الرؤساء. والذوائب: الأعالي، وهو جمع ذوابة، واستعملوا الذنائب في خلافه، وهو جمع ذنابة، وهما اسمان في الأصل وصف بهما. وأثار: جمع الثأر. يقول: هم الذين أصابوبنا عن ذلتهم وخستهم، فالبلاء أعظم، وقرح القلب أوجع، ولو أصابنا غيرهم كان الخطب أيسر، والصبر عليه أوسع. وهذا كما يقال في المثل السائر: " وذات سوار لطمتني ". وقولها قبيل لئام، هو تفصيل ما أجمله. وقولها إن ظفرنا عليهم عدي ظفرنا تعدية علونا، لأنه في معناه، وهم يحملون الضمير على الضمير. والمعنى: لا اشتفاء في الانتقام منهم إذا نيلوا، ولا ينيمون طلاب الأوتار إذا ثأروا. وجواب الشرط، وهو قوله إن ظفرنا، متقدم يشتمل عليه قوله قبيل لئام، لأن فيه معنى الفعل.
ومثل قولها وإن يغلبونا يوجدوا شر غالب قول امرىء القيس:
ولم يغلبك مثل مغلب
إلا أنه السبب.(1/1083)
وقال آخر:
إذا ما الرزق أحجم عن كريم ... فألجأه الزمان إلى زياد
تلقاه بوجه مكفهر ... كأن عليه أرزاق العباد
الإحجام: النكوص عن القرن هيبة له. وقد توسع به هنا. وضده الإقدام. ويقال: نكص على عقبيه. والمكفهر: المستقبل بكراهة وتغصن وجه. ويقال: سحاب مكفهر، إذا تراكم، ووجه مكفهر. ويروى: بوجه مقشعر، والأصل في الإقشعرار تقبض الجلد وانتصاب الشعر، ثم يتوسع فيه فيقال: اقشعرت الأرض والنبات والسنة. والمعنى ظاهر، وهو أن العافي إذا ورد عليه تلقاه بعبوس، كأنه اجتمع عليه لورود واحد من الناس أرزاق الخلق كلهم. وجواب إذا تلقاه.
وقال أبو محمد اليزيدي
عجباً لأحمد والعجائب جمة ... أبي يلوم على الزمان تبذلي
إن العجب لما أبثك أمره ... من كل مثوج الفؤاد مهبل
وغد يلوك لسانه بلهانه ... وترى ضبابة قلبه لا تنجلي
متصرف للنوك في غلوائه ... زمر المروءة جامح في المسحل
وإذا شهدت به مجالس ذي النهى ... وبلت سحابته بنوك مسهل
غلب الزمان بجده فسما به ... وكبا الزمان لوجهه والكلكل
قوله والعجائب جمة اعتراض بين أحمد وقصته التي عجب منها. ويقال: أمر عجب وعجاب وعجيب وعاجب. وأبلغ هذه الأبنية العجاب. وانتصب عجباً على المصدر. يقول: أتعجب لأحمد كيف أنكر خلقي وطريقتي، حتى لامني في تبذلي على تنكر الأيام وتغيرها، ومن أين استطرف ما رأى من(1/1084)
حالي وقصتي، ومقتضى الوقت وموجب حكمه لا يدعوان إلى غيره. ثم أقبل يخاطب أحمد بعد الإخبار عنه فقال: إن العجب ما أطلعك عليه وأباثك فيه، وأكشف لك مستوره وخافيته، من كل رجل بطيء الفهم، ميت الخاطر، مدعو عليه بالهبل لثقله وعجزه غبي، إن حدث أدار لسانه في فيه يمضخ كلامه، وإن أئتمن خان، وكان ذا لونين لنفاقه، وكأن قلبه قد رين عليه لما يضمره من غل، فعليه لكل أحد ضبابة، فلا تصفو نيته، ولا تخلص طويته، متصرف في غلواء الحمق وارتفاعه وانتهائه، قليل المروءة، وزمر الحمية، يركب رأسه فيما يعن، ويغفل عن القصد فيما فيه يجد، ويمضي قدماً في الشر فلا يرتدع، ويعلو على زاجره فلا يرجع، ولا يقف وإن كبح بلجام المنع، ولا يرعوى وإن أوذن بالهلك؛ ثم إن حضرت به مجالس الفضل والعقل، سالت سحابة جهله بحمق تلتطم أمواجه، وتتدافع بصوبه أركانه؛ وعلى ما به من النذالة والجهالة رزق جداً فحظي، وغلب على أهل زمانه بما قسم له فعلى، وذل له الدهر فكبا لصدره ووجهه ضارعاً، وانقاد لأمره ونهيه صاغراص، حتى أدرك ما شاء ممتداً ي شأوه، مشترفاً في شأنه، آخذاً قصب السبق في ميدانه، فإن تعجبت فالعجيب هذا، وإن استنكرت فالنكير هذا. ويروى:
غلب الزمان بجده وسما به ... فكبا الزمان.................
فيجعل الفعل للزمان ويكون معنى سما به رفعه. ثم أخذ يدعو على الزمان فقال: سقط لوجهه وكلكله، حين اختار مثله لإحسانه، وهذا حسن جداً. والوغد: الدني، من قولك: وغدت القوم إذا خدمتهم. والنهي: العقول، والواحدة نهية. والنوك: الحمق. والمسحلان: جلقتا شكيم اللجام، والجميع المساحل. ومعنى على الزمان، على تصاريف الزمان؛ فحذف المضاف. وقوله: أبثك أمره أي أجعل أمره مما تبث وتحزن له. والمثلوج الفؤاد: البليد الخالي من الذكاء والحدة. واللؤك: المضخ.
ولقد سموت بهمتي وسما بها ... طلبي المكارم بالفعال الأفضل
لأنال مكرمة الحياة وربما ... عثر الزمان بذي الدهاء الحول
فلئن غلبت لتمضين ضريبتي ... كلب الزمان بعفة وتجمل(1/1085)
رجع إلى صفة نفسه على تنكر الزمان له، فقال: إني وإن لم تساعدني الحال، ولا يقوم لما أنويه المال، فلى همة رفيعة، ونفس أبية، يسمو بهما ارتقائي في درجات الفضل، وطلبي المعالي بأحسن الفعل، لأعيش مكرماً مصوناً، فلا يفةتني سلامة الدين والمروءة، وإن فاتتني الزيادة في الحال والمقدرة؛ والدهر قد يعثر بالرجل التام النكر، المرير القوة والحول، لجهله بموضع الصنيعة، فإن غلبني على حظي، وتخطاني عند القسم إلى غيري، فطبيعتي تسليني وترضيني، ومعرفتي بمن عنده المال والعتاد تصرف الهم عني، فتمنحني آثار الحدثان، وعرامة الليالي والأيام، بعفاف أستعمله، وتجمل ألتزمه، لئلا يشمت عدو، أو يفرح حسود.
تم باب الهجاء بحمد الله وعونه والحمد لله على تظاهر آلائه، والصلاة على سيدنا محمد وآله.
تم القسم الثالث من شرح المرزوقي للحماسة(1/1086)
باب الأضياف
قال عتبة بن بجير الحارثي
ومستنبح بات الصدى يستتيهه ... إلى كل صوت فهو في الرحل جانح
يعني بالمستنبح ضيفاً ألجأه الضلال عن الطريق ليلاً، أو دعاه ضيق الوقت وجهد المسير منفضاً إلى أن يتكلف نباح الكلب وحكايته، لتجاوبه كلاب الحي المتوهم نزولهم في سمته ووجهته فيهتدي إليهم بصياحها، ويستعين بهم على ضره وحيرته. وهكذا كان يفعله الضال والمقرور في ظلام الليل. وكانوا إذا قربوا من البيوت المظنون دنؤها، أو المعلوم حلولها، ريما حملوا رواحلهم على الرغاء أو البغام، إيذاناً بأنفسهم. ولذلك جاء في الأمثال السائرة: " كفى برغائها منادياً ". وأصله أن بعض المتعرضين للقرى أرغى ناقته فلم يتلق بالاستنزال، فجعل يذم، فقيل: لو ناديتهم ليعلموا بك؟ فقال: كفى برغائها منادياً. وقال متمم:
وضيف إذا أرغى طروقاً بعيره ... وعان ثوى في القد حتى تكنعا
وقوله بات الصدى يستتيهه، الصدى: صوت يرجع إليك من الجبل أو مما يجري مجراه في رد الصوت. يريد: أنه لما استنبح صار الصوت الراجع إليه يحمله على أن يتيه إلى كل صوت يدركه متبيناً للصدى من غير الصدى لكي يؤديه ما يبين له(1/1089)
الى مطلوبه من حي أو ما سبيله سبيلهم. وجعله في الرحل مائلاً لغلبة النوم عليه، أو لتهيئه لإدراك الصوت. ويقال: جنح يجنح جنوحاً، إذا مال. ومعنى يستتيهه إلى كل صوت جعل الفعل مضافاً إلى الصدى لغلبته عليه، واعتقاده في كل صوت أنه هو، فقد صار تائهاً إليه.
فقلت لأهلي ما بغام مطية ... وسار أضافته الكلاب النوابح
فقالواغريب طارق طرحت به ... متون الفيافي والخطوب الطوارح
رجع إلى أهله في التعرف لما غشيه بغام بعير الطارق، فقال سائلاً: ما بغام مطية. وما يستفهم به عما دون الناطقين، وعن صفات الناطقين. فكأنه سأل عن صفات الساري وعما أدركه من صوت المطية. وجعل الكلاب مضيفة للساري لاستنباحه ولإجابتها إياه.
وقوله غريب طارق هو بيان ما سأل عنه من صفة الساري، واكتفى بوصفه لأن البغام وإن سئل عنه أيضاً فهو من توابع الساري. ومعنى طرحت به رمت به. ومتون الفيافي: جمع متن، وهو ما ارتفع وغلظ من الأرض. وكل صلب غليظ متين. ويقال: ما تنت الرجل، إذا فعلت من ذلك ما يفعله. ومتن بالمكان: أقام به. وقوله: طرحت به المتون والخطوب، فيه دلالة قوية على ضلاله وضره وإنفاضه. ويروى: طوحت به و: الخطوب الطوائح. وكان يجب أن يقول: والخطوب المطوحات في الجمع بالألف والتاء، لأن اسم الفاعل من طوح مطوح، ولكنه أخرج الطوائح على حذف الزيادة من الفعل. ومثله قوله عز وجل: " وأرسلنا الرياح لواقح "، لأن أصله أن يجيء على ملاقح أو ملقحات، لكونها ملقحة للأشجار. والفعل منه ألقح، فأخرجه على حذف الزوائد فصار لقح ولواقح. وكذلك الطوائح قياسه أن يكون إذا عدل عن الجمع بالتاء: مطاوح. وارتفع غريب على انه خبر مبتدأ محذوف، كأنه قال: هو غريب طارق. ومعنى طوحت به: حملته على ركوب المهالك. والطائح: الهالك، والذاهب الفاني. ويقال: تطاوحنا الأمر بيننا، كما يقال تطارحنا
فقمت ولم أجثم مكاني ولم تقم ... من النفس علات البخيل الفواضح
وناديت شبلاً فاستجاب وربما ... ضمنا قرى عشر لمن لا نصافح(1/1090)
يقول: لما بان لي أمر الضيف الطارق قمت من مكاني مستعجلاً غير متلوم، حرصاً على إصلاح أمره، وتوطيد محله. ويقال: جثم مكانه وفي مكانه بمعنى. والجثوم، أصله إلصاق الصدر بالأرض ولزومها، ويستعمل كثيراً في الطير والسباع. والجثمان: الشخص منه اشتق. ومعنى لم تقم مع النفس علات البخيل يريد أن نفسي لما تهيأت للإضافة وتشمرت لم تقم معها العلات التي تفضح أربابها، والمعاذير التي تحسن التفريط في اللوازم عند مستعدها. وجعل العلات تفضح لما يتعقبها من ذميم القالة، وتضييق المعذرة، وتجاوب الناس في الإنكار إذا كانت العلل كاذبة، ووجوه التنصل مسودة. وقوله وناديت شبلاً يعني بشبل ابنه، يستعين به يقام من خدمة الضيف، فذكر أنه استجاب وتخفف منه. وذكر استجاب ها هنا أحسن من أجاب، وذاك أن قول القائل: دعوت زيداً فأجابني، كقوله: أمرته فأطاعني. وقوله: دعوته فاستجاب لي، أي تقبل ما قلته وطاوعني فيه. وعلى هذا يفسر أصحاب المعاني قوله تعالى: " فلسيتجيبوا لي وليؤمنوا بي ". وكذلك بيت كعب بن سعد:
وداع دعا يا من يجيب إلى الندى ... فلم يستجبه عند ذاك مجيب
أي لم يذعن لدعائه أحد. ويقال: استجبته واستجبت له. وقوله وربما ضمنا قرى عشر أي التزمنا قرى عشر نسمة، ولا معرفة بيني وبينهم سابقة، ولا ما يوجب عند الالتقاء مصافحة. والقصد بقوله ضمنا إلى توطينهم النفس على توسيع القرى لمن لا حرمة له سوى حرمة الضيافة. ولا يمتنع أن يريد بقوله قرى عشر قرى عشر ليال، وهم إن أرادوها بأيامها يغلبون التأنيث. قال سيبويه: وتقول: سار خمس عشرة من بين يوم وليلة، لأنك ألقيت على الليالي، أنه قد علم أن الأيام داخلة مع الليالي. وعندهم أن لليل قبل النهار، فلهذا يؤرخون بها. وتقول: أعطاه خمسة عشر من بين عبد وجارية، لا غير،(1/1091)
لاختلاطهما. قال سيبويه: وقد يجوز في القياس خمسة عشر من بين يوم وليلة، وليس على حد كلام العرب.
وقوله لمن لا نصافح يجوز أن يكون من المصافحة المعروفة، ويجوز أن يكون من صفحت الناس، أي نظرت في أحوالهم.
فقام أبو ضيف كريم كأنه ... وقد جد من فرط الفكاهة مازح
إلى جذم مال قد نهكنا سوامه ... وأعراضنا فيه بواق صحائح
يعني بأبي الضيف نفسه، وهذا كما يقال: هو أو مثواي، وهي أم مثواي. وجعله كالمازح المفاكه لما أظهره من التطلق والبشاشة، وإظهار السرور بما يأتي من توفير الضيافة والاحتفال فيه، وإيناس الضيف والبسط منه، محتفاً بالضيافة. وارتفع مازح على أنه خبر كأن. وموضع وقد جد موضع الحال، كأنه قال: يشابه المازح من فرط الفكاهة وهو جاد، لأنه قاضي ذمام، وباني مكارم. ويقال: فاكهته بملح الكلام، وهي الفكيهة والفكاهة.
وقوله إلى جذم مال تعلق إلى بقام، ويريد بالقيام غير الذي هو ضد القعود، وإنما يريد به الأشغال له بما يؤنسه ويرحب منزله ويطيب قلبه. على ذلك قوله تعالى: " إذا قمتم إلى الصلاة "، لأنه لم يرد القيام المضاد للقعود، بل أراد التهيؤ والتشمر له. والجذم: الأصل. ومعنى نهكنا سوامه أثرنا في السائمة من المال بما عودناها من النحر والتفريق. ويقال: نهكه المرض، إذا أضر به. وقوله: وأعراضنا فيه بواق صحائح، أي نفوسنا باقية على حدها من الظلف والصيانة، لم تشنها الأفعال الذميمة، ولا كسرتها التكاليف المبخلة، فهي سليمة لا آفة بها، ولا عار يكتنفها، وإن كانت أموالنا مشفوهة مقرفة.
جعلناه دون الذم حتى كلأنه ... إذا عد مال المكثرين المنائح
لنا حمد أرباب المئين ولا يرى ... إلى بيتنا مال مع الليل رائح
الضمير من قوله جعلناه، للمال، أي وقينا به أنفسنا من لوم اللائم، ودرن العائب. وقوله: كأنه المنائح، يريد أن إبلنا، وإن كانت ملكاً لنا، فهي كالعوارى عندنا، لما يتسلط عليها بأفعالنا من النقلة والتغييرات. والمنائح: جمع المنيحة، وهي(1/1092)
الناقة تدفع لينتفع بلبنها ما دام بها لبن، فإذا انقطع لبنها ردت. وإذا عد مال المكثرين، أشار به إلى قلة ماله. والمكثر: صاحب الكثير من المال، أي ما لنا في جنب المكثرين كذلك.
وقوله جعلناه دون الذم، يريد صيرناه دون الذم، فعلى ذلك يحتمل أن يكون ظرفاً، ويجوز أن يكون مفعولاً ثانياً، فيكون معنى دون الذم قاصراً عن الذم، فيبعد الذم عنا ولا يلحقنا، لأن مالنا يحول بيننا وبين الذم. ومعنى لنا حمد أرباب المئين، أي نكتسب بما لنا القليل حمد أرباب المال الكثير، أي الحمد الذي يكسبه أولئك هذا ولا يرى مال يروح إلى بيتنا مع الليل لأنها على قلتها باركة بالفناء، معدة للنوائب والحقوق، ولم تبلغ ما يصير منها سارحة ورائحة، وباركة بالفناء وسائمة.
وقال مرة بن محكان
يا ربة البيت قومي غير صاغرة ... ضمي إليك رحال القوم والقربا
في ليلة من جمادى ذات أندية ... لا يبصر الكلب من ظلمائها الطنبا
لا ينبح الكلب فيها غير واحدة ... حتى يلف على خرطومه الذنبا
خاطب امرأته، وبعثها على القيام للاحتفاف بالنازلين من الأضياف. وقوله: غير صاغرة، يقال: صغر يصغر صغاراً، إذا ذل وهان؛ وصغر يصغر صغراً: ضد كبر. والقرب: جمع قراب، وهو جراب واسع يصان فيه السلاح والثياب.
وقوله في ليلة، إن شئت جعلت الجار متعلقاً بضمي، وإن شئت جعلته متعلقاً بقومي. والأجود في الجمع بين الفعلين في باب الأمر أن يدخل الثاني حرف العطف، كقول الله عز وجل: " قم فأنذر. وربك فكبر "، وادن فاكتب، وما أشبه ذلك. وهذا قال: قومي غير صاغرة ضمي إليك، ولم يأت بالعاطف فيه، وهو جائز. وانتصب غير على الحال. وجعل الليلة من ليالي جمادى لأنها من شهور البرد، والمراد في ليلة من ليالي جمادى ذات أنداء وأمطار. وكانوا(1/1093)
يجعلون شهر البرد جمادى وإن لم يكن جمادى في الحقيقة، كأن الأسماء وضعت في الأصل مقسمة على عوارض الزمان، والحر والبرد، والريح والمطر، وتبدل الفصول، ثنم تغيرت فصارت تستعار. وقوله ذات أندية، تكلم الناس فيه، لأن جمع الندى أنداء. قال الشاعر:
إذا سقط الأنداء صينت وأشعرت ... حبيراً ولم تدرج عليها المعاوز
فكان أبو العباس المبرد يقول: هو جمع ندى المجلس. وكان أماثل الناس وأغنياؤهم إذا اشتد الزمان وجد القحط والجدب يجلسون مجالس يدبرون أمر الضعفاء، ويفرقون فيها ما حصل عندهم من فضل الزاد، وينصبون الميسر، وينحرون الجزر متبارين فيها ومتباهين. فيريد: في ليلة توجب ذلك وتقضي به. وقال غيره: هو جمع ندى، كأنه جمع فعلاً على فعال، ثم جمع فعالاً على أفعلة، كأنه ندى ونداء، ثم جمع النداء على الأندية ككساء وأكسية، ورواق وأروقة. وقيل أيضاً: هو شاذ استعير ما للممدود للمقصور. وهو يفعلون ذلك في المباني كما يفعلون في الألفاظ. قالوا: ومثله قفاً وأقفية، ورحى وأرحية. وهذا مما حكاه الكوفيون. وقال بعضهم: هو أفعله بضم العين، كأنه جمع فعلاً على أفعل، كما قيل زمن وأزمن، فجاء ندى وأند، ثم ألحق الهاء لتأنيث الجمع، كما تقول بعولة وحجارة، فصار أندية، ويكون في هذا الوجه شاذاً أيضاً. وقوله: لا يبصر الكلب من ظلمائها الطنبا، فيه مبالغة في وصف الظلمة وتراكمها. والطنب: حبل البيت. والكلب قويالبصر، فإذا بلغ أمره إلى ما وصفه فذاك لتكامل الظلام وامتداده. لذلك قال الآخر:
أناس إذا ما أنكر الكلب أهله ... حموا جارهم من كل شنعاء معضل
وقد قيل في هذا البيت وجه آخر. وموضع الجملة على الصفة لليلة، فهو جر، وساغ ذلك فيها لاحتمالها ضميرها، وكذلك قوله لا ينبح الكلب فيها غير واحدة. وانتصب غير على أنه مصدر، وأراد غير نبحة واحدة، ولما لم يجيء إلا مضافاً ولم(1/1094)
يكن له معنى إلا مخالفة ما يضاف إليه جاز أن يجيء فاعلاً، ومفعولاً، وحالاً، وظرفاً، ووصفاً، واستثناءً، ومصدراً. وقوله: حتى يلف انتصب الفعل بإضمار أن. وحتى بمعنى إلى، كأنه قال: إلى أن يلف الذنب على خرطومه، أي لا ينبح إلى أن يلف الذنب على خرطومه، أي لا ينبح إلى أن يلف الذنب إلا نبحة. ولو رفعت الفعل فقلت: حتى يلف لجاز ذلك، ويراد به الحال، والمعنى أن يكون الفعل الثاني متصلاً بالأول، أي لا ينبح إلا نبحة فهو يلف الذنب. وعلى هذا قولك: سرت متصلاً بالأول، أي لا ينبح إلا نبحة فهو يلف الذنب. وعلى هذا قولك: سرت حتى أدخلها، فقرن السير بالدخول، ومعناه أنه خرج من السير إلى الدخول، إلا أنه يخبر أنه في حال دخول، فمعناه كمعنى الفاء إذا قلت: سرت فأنا أدخلها، أي هذا متصل بهذا.
ماذا ترين أندنيهم لأرحلنا ... في جانب البيت أم نبني لهم قببا
لمرمل الزاد معنى بحاجته ... من كان يكره ذماً أو يقي حسبا
أقبل يشاورها ويستقي الرأي من عندها، ويبعثها على تعرف الحال منهم فيما يرافقهم ولا يخرج من مرادهم ورضاهم.
وقد تقدم القول في لفظة ماذا مشروحاً.
وترين: أصله ترأيين، لأنه تفعلين، فحذف الهمزة استخفافاً بعد أن ألقي حركتها على الراء، فصار تريين ثم قلبت الياء الأولى ألفاً لتحركها وانفتاح ما قبلها فاجتمع ساكنان، وحذفت الألف منهما فصار ترين. والمعنى: أخبريني بعد رجوعك إليهم ماذا نأتيه في شأنهم، وما الذي يرونه في إقامتهم وظعنهم، فإن أرادوا إطالة اللبث بنينا لهم قباباً يتفردون فيها، فذاك آنس لهم، وأبقى لحشمتهم؛ وإن أرادوا تخفيف اللبث خلطناهم بأنفسنا، وأدنيناهم من رحالنا في جوانب بيوتنا، لأن الصبر مع خفة التلوم منهم على ما يعترض من أحوالهم ممكن.
وقوله: لمرمل الزاد تعلق اللام بقوله: ماذا ترين، كأنه أعاد الذكر فقال: وذا السؤال والاستشارة من أجلهم، ولمكامنهم. والمرمل: الذي قد انقطع زاده. ويجوز أن يكون لمرمل الزاد بدلاً من المضمرين في نبني لهم، وقد أعاد حرف الجر معه.(1/1095)
وقوله: من كان يكره موضعه رفع بمعنى، كأنه قال: ذاك مني لمنقطع به، يعني بحاجته، من كان كارهاً لذم الناس، أوصائناً لشرفه. كأنه بين العلة في العناية به.
وقمت مستنبطاً سيفي وأعرض لي ... مثل المجادل كومم بركت عصبا
فصادف السيف منها ساق متلية ... جلس فصادف منه ساقها عطبا
زيافة بنت زياف مذكرة ... لما نعوها لراعي سرحنا انتحبا
انتصب مستبطناً على الحال من قمت، والمعنى: شغلت ربة بيتي بما رتبت من أمرهم، وقمت أنا حاملاً سيفي ومتقلداً له. ويقال: استبطنت فلاناً دونك، أي خاصصته؛ وتبطنت كذا: ودخلت فيه حتى عرفت باطنه. وقوله: أعرض لي أي أبدى عرضها لي نوق كأنها قصور، كمال جسم وبلوغ سمن. والكوم: جمع أكوم وكوماء، وهي العظام الأسمنة. وقوله: بركت إنما ضعف عين الفعل على التكثيرأو التكرير. وجعل إبله فرقاً باركة لشدة البرد، كما قال أبو ذؤيب الهذلي:
واعصوصبت بكراً من حرجف ولها ... وسط الديار رذيات مرازيح
وانتصب عصباً على الحال، وهو جمع عصبة.
وقوله: فصادف السيف منها ساق متلية أراد: عرقب ناقة منها. والمتلية هي التي لها ولد يتلوها، وقيل هي الحامل. والجلس: الصلبة المشرفة وقيل هي الواسعة الأخذ من الأرض. ومعنى: صادف منه، أي من السيف. والمعنى أن السيف والساق تصادما، فأبان السيف الساق منها. والزيافة، هي التي تزيف في مشيتها وتتبختر. جعلها بنت زياف استكراماً لعرقها وجوهرها. والمذكرة: التي تشبه الذكورة في خلقتها. وقوله: لما نعوها، الفاعلون هم الناس ولم يجر لهم ذكر، لكن المراد مفهوم فأضمره. أي بما ذكر الناس ما جرى عليها لراعي سرحنا، أي راعي مالنا السارحة(1/1096)
بكى بكاء فيه نحيب وصوت، ضنا بمثلها، وتحزناً لما فات منها، ولأن لبنها كان يبقى على محاردة الإبل، وشدة اللزبة.
والعطب: الهلاك، ويقال: عطب البعير، إذا انكسر.
أمطيت جازرنا أعلى سناسنها ... فصار جازرنا من فوقها قتبا
ينشنش اللحم عنها وهي باركة ... كماتنشنش كفا قاتل سلبا
يقال: امتطيت البعير، إذا ركبت مطاه، وهو الظهر، وأمتطيته غيري. وإنما يصف إشراف الناقة التي وصفها، فيقول: ركبها جازرنا لما نحرها، إذ كان أعلى سنامها لم تصل يده فصار منها لما علاها بمكان القتب حتى كانها مقتبة. والسناسن: أعالي السنام والخارج من فقار الظهر، واحدتها سنسة. ومعنى ينشنش يكشف ويفرق. وقيل: النشنشة معاسرة الشيء حتى تأخذه كما تريد. يقول: ركب مطاها لما يبلغ سنامها لعظمها ولم يمكنه أن يكشط الجلد عنها، فأقبل يقطع اللحم عنها وينتزعه منها، فعل القاتل السالب لثياب المقتول وسلاحه. وهذا تشبيه حن جاء على حقه. ورواه بعضهم: كما تنشنش كفا فاتل سلبا، وقال: شبه نشنشته بنشنشة فاتل الحبل من السلب، وهو نبات يخرج على صورة الشمع وعلى قدره، فيجز ويفتل منه الحبل. وبائعها ومتخذها السلاب.
هكذا حكاه أبو حنيفة الدينوري، والرواية الأولى أجود وأكثر مشابه.
وقلت لما غدوا أوصي قعيدتنا ... غدى بنيك فلن تلقبهم حقبا
أدعى أباهم ولم أقرف بأمهم ... وقد عمرت ولم أعرف لهم نسبا
أنا ابن محكان أخوالي بنو مطر ... أنمي إليهم وكانوا معشراً نجبا
قوله: لما غدوا أي هموا بالارتحال غدواً، لأن لما علم الظرف. وأوصى في موضع النصب على الحال، وتقديره: موصياً قعيدتنا. ومفعول قلت قوله غدي بنيك. والمعنى بالغي في تفقد أضيافك في هذه الغداة، فإن لقاءهم سيتأخر زماناً ممتداً. والحقب: السنون، واحدتها حقبة. والمعنى عدي الإحسان إليهم نهزة تفترصينها، وزاداً من اإحسان تدخرينها، فإنه لا يدري متى تظفرين بأمثالهم، وهل يكون فيما بقي من الزمان لهم عودة إلينا.(1/1097)
وإنما قال: أدعي أباهم، لأنه يقال للمضيف: أبو المثوى، وللمضيفة: أم المثوى. ولم أقرف بأمهم أي لم أتهم. والقرفة؛ التهمة. ومعنى عمرت: بقيت حياً. وقصد الشاعر أن ينبه على أنه لا عواطف بينهم، ولا أواصر تجمعهم، وقد التزم ما التزم لهم تكرماً واصطناعاً. ثم نبه على طرفيه فقال: أخوالي بنو مطر أنتمي إليهم وهم منجبون، وأعمامي بالفضل والإفضال معروفون، ونجل الجواد جريه يتقيل.
آخر:
ومستنبح قال للصدى مثل قوله ... حضأت له ناراً لها حطب جزل
فقمت إليه مسرعاً فغنمته ... مخافة قومي أن يفوزوا به قبل
فأوسعني حمداً وأوسعته قرى ... وأرخص بحمد كان كاسبه الأكل
قوله ومستنبح يريد به رجلاً ناكده الزمان في صفره، أو لم تساعده الحال فيه على مؤنه، فاستنبح كلاب الأحياء ليهتدي إليهم، فأقبل الصدى يحاكيه، ويؤدي إليه مثل صوته. ومعنى حضأت له ناراً فتحت عينها لترتفع وتلتهب وقد أوقدت بغلاظ الحطب وكبارها، فقمت إلى الضيف متعجلاً، واستغنمت خدمته مسارعاً لئلا أبادر إليه فيغتمنه غيري، ويفوز به سابقاً لي. وقوله حضأت له ناراً، جواب رب.
وانتصب مسرعاً على الحال، ومخافة قومي مفعول له، أي فعلت ما فعلت لهذه العلة فأكثر الضيف من إطرائي وتزكيتي، وشكري وتقريظي، وأكثرت القرى له محتفلاً ومتكثراً، ومتودداً ومتكرماً، وما أرخص حمداً جالبه أكل، وكاسبه إطعام. وقوله كان كاسبه أكل جعل النكرة اسم كان، والمعرفة خبراً. وابهام الحاصل من التنكير في هذا الموضع أبلغ في المعنى المستفاد. ومثله قول النابغة:
كأن مدامة من بيت رأس ... يكون مزاجها عسل وماء
وإن شئت رويت: وأرحص بحمد كان كاسبه الأكل؛ وأمره ظاهر.(1/1098)
آخر:
تركت ضأني تود الذنب راعيها ... وأنها لا تراني آخر الأبد
الذئب يطرقها في الدهر واحدة ... وكل يوم تراني مدية بيدي
قوله تود الذئب راعيها، لك أن تقول: عدي تود إلى المفعولين، ويسوغ ذلك فيه أنه عطف على مفعوله الأول قوله وأنها لا تراني آخر الأبد، ويكون التقدير لكشفه: وتود أنها لا تراني أبداً. ويشهد لهذا قول الآخر:
وددت وما تغني الودادة أنني ... بما في ضمير الحاجبية عالم
ألا ترى أن وقوع أن بعده يقرب الأمر في تعديه إلى مفعولين، وأن يجري مجرى أفعال الشك واليقين، كما تقول ظننت أن زيداً منطق، وأصحابنا النحويون بمثل هذا الاستدلال حكموا على زعمت بأنه يتعدى إلى مفعولين. ولا يمتنع أن يكون راعيها في موضع الحال، والمراد راعياً لها، ويتعدى تود حينئذ إلى مفعول واحد. والمعنى أن ضأني تتمنى أن يكون مدبرها في الرعية أعدى عدو لها، وتخرج من ملكتي وملكي، حتى لا أراها آخر الدهر، وذلك أن عدوها ينفع معه الحذر، بل لا يكاد يتمكن من الاضار بها طول الدهر إلا مرة واحدة، وذلك لعارض إهمال أو اتفاق سيء وإغفال، أو لما هو عادة الزمان في انتهاء الآماد من الإرصاد، وهي لا تحترز مني إذا أردتها وإن اجتهدت، ولا تطيق دفعها لي وإن احتفلت.
وقوله الذئب يطرقها هو بيان سبب تمنيتها وكشف العلة في تفاديها من أن تكون في ضمن سياسته لها. وانتصب واحدة على الظرف، مرة واحدة، ويجوز أن يكون صفة لمصدر محذوف، كأنه أراد طرقةً واحدةً. وقوله وكل يوم هو ظرف لقوله تراني حاملاً مدية لها، ومتهيئاً بآلة ذبحها. وإن شئت رويت مدية، ويكون بدلاً من المضمر في تراني، وهذا البدل هو بدل الاشتمال، أي ترى مدية. فأما وجه الرفع، فالضمير الذي استغنى عن الواو المعلقة للجمل بما بعدها وهي صفات أو أحوال، لأن الضمير يعلق كما يعلق العاطف. وفي الوجه الثاني وهو البدل مثله قول الله تعالى: " يسألونك عن الشهر الحرام قتال فيه ".(1/1099)
آخر:
ما أنا بالساعي إلى أم عاصم ... لأضربها إني إذاً لجهول
لك البيت إلا فينة تحسنينها ... إذا حان من ضيف على نزول
قوله لأضربها اللام منها لام كي. فإن قيل: كيف يكون كذلك وفي صدر الكلام ما النافية، ولم لا يكون لام الجحود؟ قلت: لام الجحود تقع بعد ما كان وما تصرف منه، كقول الله تعالى: " وما كان الله ليعذبهم وأنت فيهم ". وكقولك: ما كنت لأشتمك، لأنه جواب قول قائل: كنت ستشتمني، فأجيب: ما كنت لأشتمك، ولهذا لم يظهر معه لأن الناصبة للفعل وإن جاز ظهورها مع لام كي. وإذا رقع لغواً لافتقار ما قبلها إلى ما وقع بعدها. والجهول: الكثير الجهل وبناؤه للمبالغة. وهذا الكلام خارج على سبب، كأنه رأى إنساناً يضرب امرأته ويحول بينها وبين تدبيرها دارها، فنفى عن نفسه مثل ذلك بعد ان اعتقد فيه أنه يقتدي به حتى كأنه أجاب من قال له: أكنت لتضرب أم عاصم؟ فقال: ما انا بالساعي لذلك. وبين أن ذلك يفعله المتناهي في الجهل والغباوة. وقوله لك البيت إلا فينة حكى أو زيد أن قولهم فينة مما يعتقب عليه تعريفان: أحدهما بالوضع، والآخر بالآلف واللام، ومثله شعوب والشعوب، والمراد به المنية، كما أن المراد بالفنية الوقت. كأنه أقبل على امرأته فقال: إليك تدبير البيت ولك الأمر فيه نافذاً إلا وقتاً تحسنين فيه، وهو وقت حين نزول الضيف فيه علي، لأنه من أجله يجب أت تحسني إليه فيه، وتدبري له لا عليه، لأن البيت كأنه له ونحن من حوله. وقوله تحسنينها قدر الظرف تقدير المفعول الصحيح، كما قال:
ويوم شهدناه
وما أشبه. ويروى بعضهم: إلا فينة تحسبينها أي تظنين فيها أنه لغيرك لا لك، ويكون على هذا قد حذف مفعولاً يحسب وشغل بضمير الفينة. والمعنى في ذلك: تجعلين النظر له والتجمل، والاحتفال بسببه. وانتصب إلا فينة على الاستثناء(1/1100)
من واجب، كأنه قال: لك البيت كل وقت وساعة إلا ساعة كذا. وهذا الاستثناء من معنى لك البيت، ومما انطوى عليه فحوى الكلام. وقوله إذا حان من ضيف على نزول موضعه نصب على أنه بدل من فينة. وإنما قال إذا حان لأن الاستعداد والاحتشاد يتقدمان النزول.
وقال بعض بني أسد
وسوداء لا تكسي الرقاع نبيلة ... لها عند قرات العشيات أزمل
إذا ما قريناها قراها تضمنت ... قرى من عرانا أو تزيد فتفضل
أراد بالسوداء قدراً، ولا تكسي الرقاع في موضع الصفة لها.
وفي طريقته قول الآخر:
إذا النيران ألبست القناعا
وجعلها مكسوة قناعاً لأن الرقعة والرقعتين لا تكفي في سترها لعظمها. وإنما تستر القدور لشدة الزمان، بل تعطل وترفض لضيق الأحوال، وقصور الأيدي عن المراد، مع اتساع الغاشية وتورد الطلاب. ويشبه ما ذكره من جمع الرقاع لعظم القدر قول الأعشى، وقد وصف امرأة بعظم العجيزة:
تشد اللفاق عليها إزاراً
أي تلفق بين ثوبين حتى يتسع إزاراً لها.
ويجوز أن يريد أنها كبيرة لا يمكن سترها بالرقاع، أولا تستر، كما قال:
ولا ترى الضب بها ينجحر(1/1101)
والمعنى لا ضب هناك فينجحر.
وقوله نبيلة أي عظيمة الشأن، وخص قرات العشيات لأنها وقت الأضياف. والمراد: لها عند العشيات القرة أزمل، وهو الصوت، والمراد غليانها. والقر والقر والقرة: البرد.
وقوله إذا ما قريناها قراها، يريد إذا ملأناها فدراً وأوصالاً تضمنت لنا الكفاية لمن نابنا من حق، وأتانا من ضيف، أو تزيد عن المطلوب فتفضل على غيرهم ممن لا يعد في الوقت ولا يذكر. ويروى: فتفضل بفتح التاء، وهو ظاهر المعنى، والأول أحسن. وجعل المطبوخ في القدر قرى ليطابق قوله: تضمنت قرى من عرانا. وعادتهم في طباق الألفاظ ووفاقها في النظام معروفة.
وقال آخر:
سلي الطارق المعتر يا أم مالك ... إذا ما أتاني بين قدري ومجزرى
أيسفر وجهي أنه أول القرى ... وأبذل معروفي له دون منكري
الطارق: الآتي ليلاً. وسلى أصله أسألي فحذفت الهمزة وألقي حركتها على السين ثم استغنى عن الهمزة المجتنبة، لتحرك السين بالفتحة، فحذفت. والمعتر: المتعرض ولا يسأل. يقال: عره واعتره بمهنى. وفسر في التنزيل قوله تعالى: " فكلوا منها وأطعموا القانع والمعتر " على ذلك، لأن القانع قيل هو السائل، والمعتر الذي يتعرض ولا يتكلم. وقال الأصمعي: عراه واعتراه وعره واعتره، إذا أتاه طالباً لمعروفه. وقوله إذا ما أتاني بين قدري ومجزري يريد إذا أتاني في موضع الضيافة ودارها بين مسقط الجزر ومنصب القدور. والمعنى: سلي أضيافي عن أخلاقي معهم، وكيفية إكرامي لهم في مثواهم، وهل أتدرج في مدارج الخدمة وأتوصل بأنواع التودد والقربة من ابتداء نزولهم، إلى انتهاء ذهابهم عني وخفوفهم. وإنما خاطب امرأة على عادتهم في نسبة الملامات بسبب التبذير والإسراف والتوسع في الإنفاق إليهن، وإقامة الحجاج والجدال في الأنصباب إلى جوانب الخسارات معهن. ويجوز أن يكون التبجح عندها بما يحمد من خصاله، فلذلك خصها بالخطاب.(1/1102)
وقوله أيسفر وجهي ي موضع المفعول الثاني لسلي، وقد اكتفى به لأن في الكلام إضمار أم لا. وساغ حذفه لما يدل عليه من قرائن اللفظ والحال. وقال سيبويه: لو قلت علمت أزيد في الدار لاكتفى به من دون إضمار. ولو قلت: سواء علي، أو ما أبالي، لم يكن بد من ذكر أم لا بعدهما. ومعنى قوله أنه أول القرى، يريد أن إظهار البشاشة للضيف وتطلق الوجه معه، وإظهار السرور بقصده ومثواه من أوائل قراه. ثم الترجيب به وإيناسه من بعد حتى كان ينتظر كما ينتظر الغائب الآيب، ثم المبالغة في الإنزال وحط الأثقال، وإظهار سعة الرحل والمكان إلى غير ذلك - مما يبسط منه، ويزيل الحشمة والانقباض عنه؛ لذلك قال:
وأبذل معروفي له دون منكري
لأن قوله معروفي دخل تحته كل محمود من الأفعال والرسوم، كما أن قوله دون منكري اشتمل على نفي كل مذموم من الخصال والأمور. وقيل: إن المنكر هو أن يسأل عن حاله ونسبه، وقصده في صفره، وكيفية مأتاه حين نزل به؛ لأن جميع ذلك مما يجلب عليه حياء، ويوسعه نفوراً وإمساكاً. والضمير من قوله أنه أول القرى لما يدل عليه قوله أيسفر وجهي؛ لأن الفعل يدل على مصدره. والمراد أن الإسفار أول القرى، وعلى هذا قولهم: من كذب كان شراً له، وما أشبهه.
آخر:
وإنا لمشاؤون بين رحالنا ... إلى الضيف منا لاحف ومنيم
قذو الحلم منا جاهل دون ضيفه ... وذو الجهل منا عن أذاه حليم
قوله إنا لمشاؤون إبانة عن حسن خدمتهم للضيف، وعن قرب محطه من رحالهم ومقارهم. وقوله منا لاحف ومنيم يريد: ومنامنيم، فحذف لأن المراد مفهوم. وفي القرآن: " منها قائم وحصيد ". واللاحف والمنيم إنما ينهضان بعد تقضي الإطعام والإيناس. ألا ترى قول الآخر:
أحدثه إن الحديث من القرى ... وتعلم نفسي أنه سوف يهجع(1/1103)
وقوله قذو الحلم منا جاهل دون ضيفه في هذا البيت بعض ما في قول الآخر:
وأبذل معروفي له دون منكري
وإنما يتجاهل الحليم دون ضيفه إذا أوذى عند طلب ثأر من جهته أو تخشين جانب له بكلام أو فعال. وقوله: وذو الجهل منا عن أذاه حليم، يريد به وإن أخذ الضيف يؤذينا ترى الجهول يحتمله، ويغفر زلته، ولا يطلب مؤاخذته ومكافأته.
وقال ابن هرمة
أغشى الطريق بقبتي ورواقها ... وأحل في نشر الربى فأقيم
إن امرأ جعل الطريق لبيته ... طنباص وأنكر حقه للئيم
يقارب ما قاله قول الآخر:
يسط البيوت لكي يكون مظنة ... من حيث توضع جفنة المسترفد
وقول الآخر:
ويأبى الذم لي أني كريم ... وأن محلي القبل اليفاع
وذاك أن الكرام ينزلون الروابي والإكام، ويتوسطون الناس في أيام الجدب، وعند اشتمال القحط، لكي تهتدي إليهم السابلة والمارة، ويشترك في خيرهم الداني والقاصي. واللئام ينزلون الأهضام وبطون الأودية، ويتفردون عن الناس إبقاء على زادهم، وضناً بطعامهم، وتفادياً من أن تعرف أماكنهم فيكثر قصد أبناء السبيل لهم، ووطوهم إياهم، وتنضم الطوائف والفرق إليهم. لذلك قال المرقش:
وعاد الجميع نجعة للزعانف(1/1104)
أي تأوى الفرق القليلة إلى الجمع، لتعيش بعيشهم. فيقول: إني أنزل على الطريق وأبني عليها قبتي، وقد مد رواقها ورفع سمكها لتمتد العيون إليها، ويغشاني ذوو الحاجات فيها. وكذلك أحل التلاع والنشاز تشهيراً لمكاني، وتعرضاً لتعليق الآمال بي إذا اشتد الزمان، وأوثر الخمول والاندفان. والقباب يتخذها الرؤساء، فلذلك خصها بالذكر، ولم يرض بذلك حتى جعل لها روافاً ممدوداً، وموضعاً له من الطريق مغشياً موطوءاً.
ولمثل ذلك قال أبو تمام:
لولا بنو جشم بن بكر فيكم ... رفعت خيامكم بغير قباب
والنشز: ما ارتفع من الأرض. والربى: جمع ربوة. ولم يرض بالحلول حتى وصله بالإقامة. وقوله إن امرأ جعل الطريق لبيته طنباً، أراد جعل الطريق موضع طنب بيته، فحذف المضاف وأقام المضاف إليه مقامه. ويجوز أن يكون على القلب، أراد: جعل طنب بيته للطريق، أي مما يليه، ثم لم يقم بحقه ولم يلتزم مايجب عليه فيه، للئيم. وإنما أعاد هذا الذكر تأكيداً لما يأتيه، واعترافاً بالواجب فيه. والأطناب: حبال البيوت، قال الشاعر:
تقطع أطناب البيوت بحاصب
وقد تسمى عروق الشجر أطناباً على التشبيه، وهذا كما سميت أذناباً وأشطاناً. قال:
.....................تستقي ... بأذنابها قبل استقاء الحناجر
وقال آخر:
أشطانها في عذاب البحر تستبق(1/1105)
وقال آخر:
ومستنبح يستكشط الريح ثوبه ... ليسقط عنه وهو بالثوب معصم
عوى في سواد الليل بعد اعتسافه ... لينبح كلب أو ليفزع نوم
كشط واستكشط بمعنى. فهو كعجب واستعجب. والكشط يقارب الكشف. ويقال: كشط الجلد عن الجزور، ويستعمل في الجزور خاصة كثيراً ولإن أجرى على غيره أيضاً. والجلد يقال له الكشاط؛ يقال: ارفع عنه كشاطه. والمعصم والمستعصم واحد، وهو المستمسك بالشيء. وإنما أراد أن يصور حال المستنبح وما هو ممنو به من البرد والريح.
وقوله عوى في سواد الليل أي نبح وصاح. وفي المثل السائر: لولك عويت لم أعو. وأصله المستنبح أجابه الذئب. ويقال فلان ما يعوى ولا ينبح إذا استضعف. ويقال للداعي إلى الفتنة: عوى، تشبيهاً له بالكلب وإزراء به. فأما قولهم للحازم: والاعتساف: الأخذ في الطريق على غير هداية. وإنما قال أو ليفزع نوم لأنهم إذا انتبهوا لصوته أجابوه أو رفعوا النار له وذلك على حسب مكانه في القرب والبعد. وجواب رب: عوى.
فجاوبه مستسمع الصوت للقرى ... له مع إتيان المهبين مطعم
يكاد إذا ما أصبر الضيف مقبلاً ... يكلمه من حبه وهو أعجم
يعني بمستمع الصوت: الكلب. ويقال: استمع بمعنى سمع، فهو كاستعجب وعجب. وإنما قال مع إتيان المهبين مطعم لسعة عيش الكلب فيما ينحر للضيف. والمهبون: الأضياف. ويقال: هب من منامه، وأهببته. وقوله يكاد إذا ما أبصر الضيف مقبلاً يكلمه، أي يكاد الكلب يلكم الضيف حباً له إذا أقبل، على عجمته. وانتصب مقبلاً على الحال، والكلب مما يوصف به(1/1106)
حبه للضيف، لذلك قال الآخر:
حبيب إلى كلب الكريم مناخه ... بغيض إلى الكوماء والكلب أبصر
وحبه للظاعن، لذلك قيل في المثل: " أحب أهل الكلب إليه الظاعن " وحبه لوقوع الآفات في المال، لذلك قيل في المثل: نعيم كلب في بؤسي أهله. واللام من قوله للقرى يجوز أن يتعلق بقوله جاوبه، أي لهذه العلة جاوبه، ويجوز أن يتعلق بقوله مستسمع الصوت.
وقال سالم بن قحفان
لا تعذليني في العطاء ويسري ... لكل بعير جاء طالبه حبلا
فإني لا تبكي على إفالها ... إذا شبعت من روض أوطانها بقلا
فلم أر مثل الإبل مالا لمقتن ... ولا مثل أيام العطاء لها سبلا
كانت امرأته عاتبته وأنكرت منه تبذير المال، وقلة الفكرفي عواقب الأمور وحاضر العيال، وقال لها اطرحي اللوم معي فيما تعودته وأجري عليه من البذل والسخاء، وهيئي لكل بعير جاء طالب له حبلاً يقتاده به، حتى تكوني شريكاً لي في العطاء ومعيناً، واعلمي أني إن أبقيت على مالي وسعيت في توفيرها وتثميرها، وأهنت نفسي بإعزازها، فإنها لا تبكي على إفالها إذا مت وقد طاع لها المرتع من قبل فشبعت من بقول الرياض، وسمنت بالتوديع وحسن الإرعاء، ولا تذكرني بجميل، وإنما يفعل ذلك من أحسنت إليه في حياتي واصطفيته بإسدائي، وآثرته باتخاذ الأيادي إليه، وإكمال النعم عليه.(1/1107)
وقوله فلم أر مثل الإبل مالاً لمقتن فالمقتني: الذي يتخذها قنية للنسل، والمراد أنها إذا لم يوجد للإقتناء خير منها، فلا طريق تصرف إليه أصلح من طرق الجقوق الراتبة فيها. وانتصب بقلاً على التمييز. وإنما قال: لا تبكي على إفالها وهي الصغار منها، والواحد أفيل، إزراء بها إذ صارت إرثاً، ولم تدخل تحت ما فرقه في النوائب الطارقة، والفروض الواجبة.
وقال آخر:
ألا ترين وقد قطعتني عذلاً ... ماذا من البعد بين البخل والجود
إلا يكن ورقي غضاً أراح به ... للمعتفين فإني لين العود
يخاطب امرأة ويقررها على ما انكرت عليه في السخاء والبذل، ويريها أن الصواب فيما يختاره ويجري عليه من اكتساب الحمد ببذل ما تملكه يداه، وابتناء المكرمات بالتخرق في العطاء، فيقول: قد قطعتني لوماً، وحرقتني توبيخاً وعذلاً، ومتى راجعت نفسك، وناجيت عقلك، وخايرت تجربتك عرفت التفاةت بين الإمساك والبذل، وبين النسخي والبخل، وبان لك أن الصواب فيما أختاره، وعلى تغير الأحوال أراجعه واعتاده، وأن الخطأ فيما تبعثين عليه، وتسوقين إليه. ثم قال: إن كان في مالي قصور عن المراد، وقعود عند حضور المرتاد، فإن نفسي سمحة مجيبة، وعلى ما تقصر الحال عنه متحسرة، وسيعود عودي وريقاً، فحينئذ أرتاح للعفاة بورقي غضاً طرياً، وأزل معروفي موفوراً هنياً. ويقال: رحت له أراح، أي ارتحت. وقيل: الأريحي أفعلي من هذا. وذكر الورق كناية عن المال الكثير في كلامهم. قال زهير:
وليس مانع ذي قربى ولا رحم ... يوماً ولا معدماً من خابط ورقا
لما استعار الورق للمال وصله بالخابط تشبيعاً للفظه، وتحسيناً لكلامه، وكذلك هذا لما كنى عن معروفه بالورق وصله بالعود. وإذا لان العود اهتز، وعن الاهتزاز للخير يحصل التندي ويكرم الطبع.(1/1108)
وقال قيس بن عاصم
إني امرؤ لا يعتري خلقي ... دنس يفنده ولا أفن
من منقر في بيت مكرمة ... والفرع ينبت حوبه الغصن
خطباء حين يقوم قائلهم ... بيض الوجوه مصاقع لسن
لا يفطنون لعيب جارهم ... وهم لحفظ جواره فطن
قوله يفنده أي يفحشه، والفند: الفحش. ويقال: أفند الرجل، إذا أتى بالفحش. والأفن أصله في استخراج اللبن من الضرع حتى يخلو منه، ثم قيل: أفن الرجل فهو مأفون، إذا زال عقله. والمعنى: إني رجل لا يتسلط على خلقي ما يدنسه ويفحسه من تغير وتبدل، وتسرع إلى الشر وتلون، وزوال عن السنن المعهود، وذهاب في طريق المأفول المعتوه، ولكنني أبقى على حالة واحدة محمودة، لا أحول ولا أزول. ثم أنني من بني منقر في بيت من الكرم قد فرعته، والفرع من شأنه أن يلتف بأغصانه النابتة حوله. وهذا مثل ضربه للمحتفين به من أقاربه، والآخذين إخذه في طبائعه ومذاهبه. قم وصفهم فقال: هم خطباء إذا قام قائلهم يبين عن نفسه وعن عشيرته، كرام لا يسود وجوههم عار في الأصل، ولا شين مكتسب على وجه الدهر. المصاقع: جمع مصقع، وأصل الصقع الضرب، وكما وصف به اللسان وصف بالسق والصلق فقيل: خطيب مصقع مصلق مسلق سلاق. وفي القرآن: " سلقوكم بألسنة حداد ". واللسن: جمع اللسن. ويقال: لسن يلسن لسناص، إذا تناهى في البلاغة والفصاحة. ويقال لسنت فلاناً، إذا ضايقته فيما يجاذبه من الكلام. على هذا قوله:
وإذا تلسننس ألسنها(1/1109)
وقوله: لا يفطنون لعيب جارهم، يقول: هم يلابسون الجار على ظاهر أمره، لا يتجسسون عليه، ولا يتطلبون مشاينه ومقابحه، وإن اتفق له ما يوجب عليهم حفظه لعقد الجوار فطنوا له، وحافظوا عليه. وإنما قال هذا لما سار في الناس وجرى مجرى الأمثال، من أن التكرم مكيال ثلثاه حسن الفطنة وحدة الذكاء في العارضات، وأن اللؤم مكيال ثلثاه سوء الفطنة واستعمال التجوز في الواجبات. والفطن: جمع فطن وهو كخشن وخشن.
وقال ابن عنقاء الفزاري
رآني على ما بي عميلة فاشتكى ... إلى ماله حالي أسر كما جهر
دعاني فآساني ولو ضن لم ألم ... على حين لا باد يرجى ولا حضر
فقلت له خيراً وأثنيت فعله ... وأوفاك ماأسديت من ذم أو شكر
يقول: راعي حالي عميلة وتأملها على ما بها، فأنهى رثاثتها واختلالها إلى ماله، متحملاً الشكوى منها على قلبه ونفسه ظاهراً وباطناً، ومسراً ومعلناً، لا يشوبه مداجاة ولا نفاق، ولا يتخلل فعله مخاتلة ولا رياء، بل اعتنى بها على خلوص نية، واهتمام بإحسان مع نقاء طوية. وقوله دعاني فآساني، يقول: ابتدأ في تغيير حالي، وإزالة ما مسني من فقري من ذات نفسه، فجبرني وانتاشني، ولو سعى سعي غيره من البخلاء لم يلحقه مني عيب فيي وقت قد تساوى الناس في المنع واطراح الحقوق حتى لاذو البدو(1/1110)
يرجى ولا ذو الحضر. وقوله ولا حضر حذف المضاف وأقام المضاف إليه مقامه. وهذا كما يقال: الجود حاتم، يراد جود حاتم. وكان الوجه أن يقول: ولا حاضر، مع ذكر البادي، ليكون الكلام أشد التئاماً، أو يقول: فلا بدو يرجى، مع قوله ولا حضر. وقوله فقلت له خيراً، يقول: شكرته على اصطناعه، وأثنيت على فعله، وكثرته في الناس ما تكلفه لي وتبرع به ونشرته. وقد وفاك حقك في الآسداء من حمدك، كما وفاك في المكافأة من أسأت إليه إذا ذمك. وكان وجه الكلام أن يقول: وأوفاك ما أسديت أو أسأت من ذم أو شكر، فاقتصر على ذكر الإسداء وإن كان يستعمل في الخير لا غير. وأصله من السدى وهو ندى الليل خاصة. يقال: سديت ليلتنا، إذا كثر نداها، ولا يكاد يستعمل في النهار. قال:
فأنت الندى فيما ينوبك والسدى
وقيل أصله من السدو، وهو التذرع في المشي اتساع الخطو. يقال: سدى البعير وأسدتيه، والأول هو الصواب.
ومثل قوله وافاك ما أسديت من ذم أو شكر قول الآخر:
فما أدري إذا يممت أرضاً ... أريد الخير أيهما يليني
لأن المراد أريد الخير وأجتنب الشر، فاكتفى بذكر أحدهما، ألا ترى أنه قال من بعد:
أألخير الذي أنا أبتغيهأم الشر الذي هو يبتغيني وقوله وأثنيت فعله أصله على فعله، فحذف الجار ووصل الفعل نفسه.
غلام رماه الله بالخير مقبلاً ... له سيمياء لا تشق على البصر
كأن الثريا علقت فوق نحره ... وفي أنفه الشعري وفي خذه القمر(1/1111)
إذا قيلت العوراء أغضى كأنه ... ذليل بلا ذل ولو شاء لانتصر
قوله رماه الله بالخير معناه كساه الخير ومسحه به مقبلاً فيه لا مدبراً. وقد كشف معنى الرمي بقوله: له سيمياء لا تشق على البصر، يريد ما عليه من حسن القبول والتمن من النفوس والقلوب، حتى إن المبصرين له يجدون راحة في النظر إليه، فلا تملها العيون، ولا تنطبق دونها الجفون. ومثل قوله: رماه الله بالخير في باب الاستعارة، قوله تعالى: " وألقيت عليك محبة مني ". والسيمياء أصله العلامة، ومنه الخيل المسومة. ويقال سيماء وسيمياء جميعاً. وانتصب مقبلاً على الحال. وتحقيقب معنى سيمياء أي قد وسمه الله تعالى بسيمياء حسنة مقبولة، يلتذ الناظر بالنظر إليها. وقوله كأن الثريا علقت فوق نحره، يريد أنه قد غشي من كل جانب بما ينوره، فالثريا فوق نحره، والشعري، يعني العبور، مركزة في أنفه، والقمر متلألىء في خده، فهو نور على نور. وقوله إذا قيلت العوراء أغضى، كأن يصف فيه اجتواءه للخنا والفحش، واطراحه لقبح القول، ورفضه لأنواع الهجر، فمتى ذكرت عنده فحشاء أطرق مغضياً، عاركاً بجنبه متحلماً، فكأنه ذليل لتغابيه، وترك المحاسبة فيه، ولو شاء لانتقم. وهذا غاية ما يكون من حسن الاحتمال، ومصابرة الناس على أذاهم، مع التعزز والاقتدار.
آخر:
سأشكر عمراً إن تراخت منيتي ... أيادي لم تمنن وإن هي جلت
فتى غير محجوب الغنى عن صديقه ... ولا مظهر الشكوى إذا النعل زلت
رأى زلتي من حيث يخفي مكانها ... فكانت قذى عينيه حتى تجلت(1/1112)
يقول: إني سأنشر آلاء عمرو ونعمه عندي إن نفس من عمري، وتراخت غاية المقدار من منيتي، فإنها صافية من المن والأذى على جلالتها وفخامتها. وقوله لم تمنن يجوز أن يكون المراد ولم تقطع وإن عظمت، وقال ذلك لأن الأيادي السنية لا تكاد تتناسق. ويقال: حبل منين وممنون. وفي القرآن: " لهم أجر غير ممنون ". ويجوز أن يكون المراد به لم يخلط بمن.
وقوله فتى غير محجوب الغنى، أخذ يصفه. وارتفع فتى على أنه خبر مبتدأ محذوف، والمعنى هو يشرك صديقه في غناه مدة مساعدة الزمان له، فإن تولى الأمر وزلت النعل تراه لا يتشكى ولا يتألم. وهذا مثل قول الآخر:
أبو مالك قاصر فقره ... على نفسه ومشيع غناه
ويقال في الكناية عن نزول الشر وامتحان المرء: زلت القدم به، كما يقال: زات النعل به.
وقوله رأى خلتي من حيث يخفى مكانها زائد على ما تقدم من قول ابن عنقاء الفزارى، وهو:
رآني على ما بي عميلة فاشتكى ... إلى ماله حالي أسر كما جهر
وذاك لأن هذا قال: رأى خلتي من حيث يخفى مكانها، فكأنه أدرك الحال، من طريق الاستدلال، والاهتمام المبعوث من جودة التفطن، وإن كان صاحبه يتعفف عن السؤال ويتجمل، وابن عنقاء شاهد الحال عياناً، فاشتكى إلى ماله سراً وجهراً، وقال هذا بإزاء الاشتكاء: فكانت قذى عينيه، أي من حسن الاهتمام ما جعله كالداء الملازم له، حتى تلاقاه بالإصلاح، وإذا كان كذلك فموضع الزيادة في كلامه وقصده ظاهر.
آخر:
إن أجز علقمة بن سيف سعيه ... لا أجزه ببلاء يوم واحد(1/1113)
لأحبني حب الصبي ورمني ... رم الهدي إلى الغنى الواجد
ولقد نضحت مليلتي فتميثت ... عن آل عتاب بماء بارد
يقول: إن رمت القيام بواجب سعى علقمة لي، وأديت المفروض لحسن بلائه عندي، لم أقابله على صنيعة واحدة، ولا جازيته لبلاء معمة فاردة، لأن أياديه عندي كثيرة متظاهرة، وآلاءه لدى متواترة متناصرة، فوالله لقد أحبتني كما يحب الصبي، وأصلح من أموري ما يصلح من شأن العروس إذا زفت إلى الموسر الغنى، فتضاعف مؤنها، وتزايد التكاليف في هدائها وتحويلها. فقوله لأحبني، اللام جواب يمين مضمرة، وغنما قال: حب الصبي لأنه يخلط بمحبته زيادة الشفقة، وكفالة الترفرف عليه والمرحمة.
وسئل بعض حكماء العرب عن أحب أولاده إليه فقال: الصغير حتى يكبر، والغائب حتى يقدم، والعليل حتى يبرأ. وإذا تأملت وجدت حال الغائب والعليل كحال الصغير فيما ذكرت، فلذلك جمعها في قرن الذكر. وقوله: ولقد نضحت مليلتي يريد. ولقد رششت غليلي من آل عتاب وما امتله نار وجدي من أحشائي وصدري بماء بارد، فكنت وزال حميمها، حتى كأنها لم تكن. وإنما قال ذلك لأن آل عتاب كانوا وتروه فاشتد برح حميه واتسع قرح وتره، فأعانه على إدراك الثأر علقمة بن سيف، وشفاه من دائه. وإذا تؤمل ما عدده من أياديه لديه حصل فيه الميل والإكرام، والبر والإنعام، وإصلاح الحال، والمؤاساة بالمال، والشفاء من الداء، والانتقام من الأعداء، وذلك مالا مزيد عليه. ومعنى تميثت تذللت وتذوبت. ويقال: ميثت الشيء، إذا مرسته. والنضخ بالخاء المعجة ابلغ من النضح.(1/1114)
وقال أبو زياج الأعرابي
له نار تشب بكل واد ... إذا النيران ألبست القناعا
ولم يك اكثر الفتيان مالاً ... ولكن كان أرحبهم ذراعا
قوله تشب أي توقد، وموضع الجملة من افعراب رفع على أن يكون صفة لنا، والمعنى أن نار ضيافته توقد بكل واد ينزل به إذا النيران في الآفاق سترت وحجبت عن الاستدلال بها، مخافة طروق الأضياف. وجواب إذا مقدم عليه، كأنه قال: إذا النيران جعلت كذلك له نار توقد بكل واد. ويجوز أن يكون أوقدت ناره في جواب محله وفي كل من أودية فنائه وداره وإذا أخمدت نيران الناس، فلذلك قال: تشب بكل واد، وهذا يكون منه كإتمامهم الأيسار، ونياتهم عن غيرهم إذا عدم الشركاء. وقوله ولم يك أكثر الفتيان قد تقدم الكلام في حذف النون من يك في غير موضع. وانتصب مالا على التمييز، وكذلك ذراعا. والمعنى: أن ما تحمله وتكلفه لم يك السبب فيه اليسار، وكثرة المال. ولكن كرمه الفائض، وعرقة الزاخر.
وقال العرندس
أحد بني أبي بكر بن كلاب:
هينون لينون أيسار ذوو كرم ... سواس مكرمة أبناء أيسار
إن يسألوا الخير يعطوه وغن خبروا ... في العهد أدرك منهم طيب أخبار
وإن توددتهم لانوا وإن شهموا ... كشفت أذمار شر غير أشرار
العرندس في اللغة: الأسد العظيم، وكذلك الجمل. ويقال: هو هين لين وهين لين، والتشديد الأصل، والتخفيف على عادتهم في الهرب من ثقل التضعيف وما(1/1115)
يجري مجراه. والمعنى أنهم يلزمهم السكينة والوقار في مجالسهم. ويقال: جاء يمشي هوناً، وهو المصدر. والأيسار: جمع اليسر، وهم الذين يجتمعون في الميسر على الجزور عن الجدب والقحط، فيجيلون القداح عليها، ثم يفرقونه في الفقرار وأرباب الحاجة والضراء. ويقال: يسر إذا أجال قدحه، فهو ياسر ويسر. قال:
إذا يسروا لم يورث اليسر بينهم ... فواحش ينمي ذكرها بالمصايف
وقال أبو ذؤيب:
فكأنهن ربابة وكأنه ... يسر يفيض على القداح ويصدع
والمعنى أنهم يرجعون إلى سجاخة خلق، وسلامة طبع، موقرون في مجالسهم، متكرمون في عاداتهم وشؤونهم، متعطفون على الفقراء زمن الجدب بميسرهم، يسوسون المكارم ويعمرونها بعد ابتنائها، ولا يغفلون عنها؛ وأن هذا الخصال لم يرثوها عن كلالة، وأن آباءهم على ذلك درجوا وتقضوا. ثم قال: إن يسألوا الخير يعطوه، يريد أنهم لا يتقاعدون عن البذل في الحقوق والنوائب، ولا يحوجون إلى استخراج ذلك منهم بالعنف والاستقصاء بل يخرجون منها إلى أصحابها، والمطالبين بها؛ وإن جربوا عند جهد البلاء، واشتمال الشدة والبأساء، وحملوا أكثر مما يلزمهم، وأثل مما ينهض به حالهم، طابت أفعالهم، وحسنت أنباؤهم، والأحاديث عنهم. ومن انتمى بتقرب إليهم، أو تودد لهم، لانوا له، وانقادوا لما يريده من جهتهم. وإن أوذوا وأحرجوا انكشفوا عن أذمار شر - وهو جمع الذمر، وهو الشديد لا يطاق - وإن كانوا في أنفسهم وسجاياهم غير أشرار، إلا أنهم إذا جذبوا إلى الشر وألجئوا زادوا على الأشرار. وقوله شهموا أي هيجوا. ويقال: فرس شهم، أي حديد نشيط ذكي؛ ومنه الشبهم. ويقال شهم الرجل، إذا ذعر أيضاً، ويرجع في المعنى إلى الأول.(1/1116)
فيهم ومنهم يعد الخير متلداً ... ولا يعد نثا خزى ولا عار
لا ينطقون على الفحشاء إن نطقوا ... ولا يمارون إن ماروا بإكثار
من تلق منهم تقل لاقيت سيدهم ... مثل النجوم التي يسري بها الساري
وصفهم بأن الخير مرجو من جهتهم، ومعدود في خصالهم قديماً وحديثاً، وسلفاً وخلفاً، ولا يعد في أفعالهم ما يخزى ذكره، والتحدث به، أو يجلب عاراً عليهم لدى الكشف عنه والتأمل له، وذلك لخاوص مناقبهم عما يشين ولا يزين، وحسن قصودهم فيما يتصرفون فيه فيتناولونه بالنقض والإبرام، ثم إن تكلموا فليس عن فحشاء يضمرونها، ولا عن نكراء ينطوون عليها، فكانت الأقوال توافق الضمائر وتقفوها، والظواهر تطابق السرائر وتتلوها، بل يولون الكلمة العوراء إذا أدركوها الغفول عنها، والإغضاء على القذى فيها، تحلما وترفعا. وإن جاذبوا غيرهم وحملوا على لجاج في نزاعهم عرفت نهاية جدالهم، ونكتوا فيما يدلون به من حجاجهم، فقولهم فصل، وإمساكهم قصد وعدل، لا إكثار ولا إسراف، إذ كان من أكثر أهجر، ومن أسرف أفحش؛ ولأن عادتهم الاقتصاد فيما يخافون أداءه إلى القبيح، والامتداد إلى أبعد الغايات فيما يحسن مسمعه عند ذوى التحصيل. وقوله من تلق منهم، يريد ان النباهة تشملهم، فكل منهم يتسم بسيما الرياسة، ويتصور بصورة السيادة، وهم في الاشتهار والتميز عن طوائف الناس كالنجوم المعروفة النيرة، التي يهتدي بها السابلة والمارة، ويتفقد المعرفة بها في طلوعها وأفولها أولو النحل والممارسات. وقوله فيهم ومنهم يعد الخير متلدا يريد ما يلزمهم من الخصال وما يتعداهم. وانتصب متلدا على الحال. ويقال: تلد وأتلد بمعنى. والنثا يستعمل في الخير والشر، والثناء يستعمل في الخير لا غير، ويقال: نثا الخبر ينثوه نثواً.
آخر:
رهنت يدي بالعجز عن شكر بره ... وما فوق شكري للشكور مزيد(1/1117)
ولو ان شيئاً يستطاع استطعته ... ولكن ما لا يستطاع شديد
يقول: غمرني بره وعجز حواملي نعمه، فاعترفت بالقصور، والقعود ن الوفاء بأداء الفروض، وجعلت يدي مرتهنة بالعجز، ولساني معقولة عن التصرف في الشكر، وإن كان لا مزيد على ما اتولاه منه لمبالغ في الحمد، ولا فوق اجتهادي غاية يرتقي إليها في النشر والثناء مرتق؛ فإني لم أوت من تقصير يلزني، أو إقصاء مع قدرة يدفعني، ولكن لكون مننه معجزة غير داخلة تحت استطاعتي؛ ومالا يطاق تحمله منيع، والنهوض به عسر شديد.
وقال الحسن بن مطير
له يوم بوس فيه للناس أبوس ... ويوم نعيم فيه للناس أنعم
فيمطر يوم الجود من كفه الندى ... ويمطر يوم البأس من كفه الدم
ولو أن يوم البأس خلى عقابه ... على الناس لم يصبح على الأرض مجرم
ولو أن يوم الجود خلى يمينه ... على الناس لم يصبح على الأرض معدم
يقول: أيام هذا الممدوح مقتسمة بين إنعام وانتقام، من إحياء وإهلاك، وإفضال وإعدام، فله يوم بوس يشقى به أعداؤك، ويوم نعيم يحيا به ويسعد أولياؤه، فيوم جوده يعم نداه مؤمليه وعفاته، ويوم بؤسه يعم إهلاكه منابذيه وحساده، ولو أراد في اليوم المخصوص بالانتقام أن يجعل عقابه مخلى يتناول طبقات الناس، لم يبق في الأرض مجرم ولا حسود يضمر سوءاً له، ولكن أبى عفوه إلا إبقاء؛ كما أنه لو خلى يوم جوده منافع يمينه تعم طوائف الخلق لم يبق في الأرض فقير، ولكن أبى ذلك بعده عنهم، وقصور معرفته بهم. ويجوز أن يكون المراد بقوله لم يصبح على الأرض مجرم، أنه كان يغني الخلق حتى لا يبقى مجرم وغير مجرم.
وقال أبو الطمحان
إذا قيل أي الناس خير قبيلة ... وأصبر يوماً لا توارى كواكبه(1/1118)
فإن بني لأم بن عمرو وأرومة ... سمت فوق صعب لاتنال مراقبه
أضاءت لهم حسابهم ووجوههم ... دجى الليل حتى نظم الجزع ثاقبه
يقول: لو صمم الناس بالسؤال عنهم فقيل أيهم خير أصلاً وسلفاً وأيهم أصبر يوماً ومشهداً ترى كواكبه ظهراً، لكان يجيء في جواب هذا السؤال: بنو لأم بن عمرو؛ ولأن لهم منصباً علا شرفاً باذخاً، وعزا شامخاً لا تدرك مراقبه، ولا تنال مطالعه. والغرض من الجملة تفضيلهم على جميع الخلق. والأرومة: الأصل الثابت الراسي. وانتصب قبيلة على التمييز، وكذلك يوما. ويعني بذكر اليوم الوقعات والحروب. وعلى ذلك قولهم: يوم جبلة، ويوم الكلاب وما أشبههما. وقوله لا تواري كواكبه إن شئت فتحت فرويت: لا تواري كواكبه، والمعنى لا تتوارى كواكبه، فحذف إحدى التاءين تخفيفاً. ومعنى لا تواري بضم التاء لا تستر، والأصل في هذا، وهو يجري مجرى الأمثال، يوم حليمة، وذلك أنه سدت عين الشمس في ذلك الغبار الثائر في الجو فرئيت الكواكب ظهراً، فقيل: ما يوم حليمة بسر، وصار الأمر إلى أن قيل في التوعد: لارينك الكواكب ظهرا. وأصل الصبر حبس النفس على الشر، لذلك قيل: قتل فلان صبراً. وقوله سمت فوق صعب، يريد: فوق جبل صعب يشق الارتقاء إليه. والمراقب هي المحارس، واحدتها مرقبة، وكل ذلك أمثال. وقوله أضاءت لهم أحسابهم ووجوههم، يريد طهارة أنفسهم، وزكاء أصولهم وفروعهم، فهم بيض الوجوه نيرو الأحساب، فدجى ليلهم تنكشف من نور أحسامهم، حتى أن ثاقبه يسهل نظم الجزع فيه لناظمه، وهذا مثل أيضاً. ولهاء من ثاقبه يعود إلى ما دل عليه قوله أضاءت لهم أحسابهم، والثقوب: الإضاءة، ويقال: نار ثاقبة، وكوكب ثاقب، وحسب ثاقب، وقد ثقب أي اشتد ضوءه وتلألؤه. وكعنى نظم حمل على النظم وأقدر، فهو بمعنى انظم. ومثله كرم وأكرم. والضمير من ثاقبه يدل على ظاهره صدر البيت، فهو مثل قولهم: من كذب كان شراً له، ومن صدق كان خيراً له، يريد كان الكذب وكان الصدق، فكذلك هذا، كأنه قال: حتى نظم ثاقب حسبهم الجزع لناظمه.(1/1119)
وقال آخر:
يأيها المتمني أن يكون فتى ... مثل ابن زيد لقد خلى لك السبلا
أعدد نظائر أخلاق عددن له ... هل سب من أحد أو سب أو بخى
يقول: يا من يود ويشتهي أن يكون فتوته مثل فتوة عروة بن ويد الخيل، لقد خلى لك الطرق في اكتساب مناقب الفتوة وادخار أسبابها وموجباتها، فاسع واطلب، لأن مباغيك إن قدرت معرضة لك، وغير ممتنعة عليك، وسبلها غير منسدة ولا محجوبة عن ذهابك واختراقك، ثم قال: هات خصالك واعدد نظائر أخلاقه المعدودة له، وانظر هل أنت في اشتمال الكرم والتحاف العز بحيث لا تسب أحداً تعلياً وارتفاع منزلة، وفي نقاء الجيب وطهارة الأصل والفرع بحيث لا يسبك أحد توقياً وتعففاً، وهل تقف موقفاً تبعد فيه وتتنزه عن أن يقال: ما بخل بما في يده، ولا منع أحداً على رجائه به، فإنه حينئذ يبين لك تفاوت ما بينك وبينه.
وقال آخر:
لم أر معشراً كبني صريم ... تلفهم التهائم والنجود
أجل جلالة وأعز فقداً ... وأقضى للحقوق وهم قعود
وأكثر ناشئاً مخراق حرب ... يعين على السيادة أو يسود
قوله تلفهم التهائم أي تجمعهم، وانتصب جلالة على التمييز، وكذلك قوله فقداً، ولا يجوز أن يكون مصدراً، أعني قوله جلالة، لأن أفعل هذا لا يؤكد بالمصدر، فهو من باب شعر وموت مائت، لأن أصله مأخوذ من جلال جليل. وانتصب أجل بفعل مضمر، كأنه قال: لم أر أجل جلالة منهم، لكنه اختصر وحذف. وقوله تلفهم التهائم موضعه نصب لأنه صفة لقوله معشراً، والتقدير: لم أر معشراً تلفهم الأغوار والأنجاد كبني صريم، وام أر أجل جلالة منهم أيضاً. وتهامة من الغور، بل هو أعمقها. ثم بين ما فضلهم فيه بعد أن أبهم، وفصل ما أجمل،(1/1120)
فقال: هم أتمهم رياسة وأفخمهم فخامة، وأشدهم على الناس فقداً، وأحسنهم في قضاء الحقوق الواجبة عليهم أداء، هذا وهم قعود. وإنما قال ذلك لأن الرئيس ينفذ أمره في مطالبة وإن لم يبرح مكانه. وأعز فقداً، يريد شدة حاجة الناس إلى حياتهم، لوفور فضائلهم وإفضالهم.
وقوله وأكثر نائشاً يريد به الشاب المبتدىء في اكتساب ما يعتلي به ويفوق أقرانه. وانتصاب ناشئاً على التمييز. والمخراق: بناء الآلة، فهو كالمفتاح، يريد أنه يتخرق في الحرب ويسعى سعياً بليغاً. وأصل المخراق هو ما يتلاعب به الصبيان من منديل يفتلونه، أو زق ينفخونه، أو ما يجري مجراهما. وسمي مخراقاً لأنه يخرق الهواء في استعمالهم إياه. لذلك قال:
كأن يدي بالسيف مخراق لاعب
وقوله يعين على السيادة أو لا يسود جمع بين الأمرين، وذلك لأن الفضلاء إذا قسموا ودرجوا في مراتبهم فهم من بين سيد يقوم بنفسه ويكمل بخصاله، ومن بين معين على السيادة يصلح لأن يكون تابعاً لا متبوعاً، ومسوداً لا سيداً.
وقال شقران مولى سلامان
لو كنت مولى قيس عيلان لم تجد ... على الانسان من الناس درهماً
ولكنني مولى قضاعة كلها ... فلست ابالي أن أدين وتغرما
يقول: لوكان ولائي في قيس عيلان لاقتديت بهم، واستننت بسنتهم في الكف عن الانفاق، وحبس النفس على شرائط الانقباض والإمساك، فكنت أرى خفيف الظهر في جميع ما يعرض، فسيح الصدر بكل ما يعن ويسنح، لم يركبني دين فأستنزل، ولاعبء على قلبي من كتقاض فأتضجره، لكن ولائي في قضاعة كلها فأتبسط في أخذ القروض إذا استغرقت ملك يميني، وأتوسع في إضافة ما لغيري إلى(1/1121)
مالي ثقة بأنهم يتحملون عني الأثقال إذا استحملتهم، وأنهم يعدون الغرامة غنماً إذا أحلت عليهم، فلا أبالي كيف تخرقت، وفي أي وجه من وجوه البر أنفقت، وإن كانت معلومة من لازم حق أؤديه، وعارض مكرمة أوفيه، إلى كل ما يكون التبجح به مشتركاً، واكتساب الفخر والأجر فيه مشتملاً. وقوله فلست أبالي أصله من البلاء النعمة، وقد تقدم القول في شرحه وما حصل بالاستعمال عليه.
أولئك قومي بارك الله فيهم ... على كل ما أعف وأكرما
ثقال الجفان والحلوم رحاهم ... رحى الماء يكتالون كيلاً غذ مذما
جفاة المحز لا يصيبون مفصلاً ... ولا يأكلون اللحم إلا تخدما
أشار بقوله أولئك قومي إلى قضاغة، ثم أخبر عنهم بأنهم كثروا وطابوا ونموا بما جعل الله من البركة فيهم، فازدادوا. وقوله على كل حال تعلق بقوله بارك الله فيهم، وموضعه من الإعرابنصب على الحال، أي بارك الله فيهم متحولين في إبدال الدهر وتصاريفه من عسر ويسر، وسعة وضيق، وقلة وكثرة، وانحطاط وارتفاع. ثم قال مستأنفاً: ما أعفهم وأكرمهم، أي تمت عفتهم، وكملت أكرومتهم في حالتي الإعسار والإيسار، والإضافة والإيساع، والإقلال والإكثار. وقوله ثقال الجفان أي هم مطاعيم في الخصب والجذب، فجفانهم ثقيلة، وأفنيتهم بالواردوالطراق مأهولة معمورة، وحلومهم ثابتة قائمة، لا يستخفها جزع، ولا يطغبها فرح؛ وترى رحاهم لكثرة غاشيتهم وحشم دورهم، رحى الماء، إذ أنى الاكتفاء بيسير الزاد مع العدد الجم، والخير الدثر، والنعم الغمر، وإذ كان سائر الأرحام لا يستغني بها، ولا يفي بالمطلوب منه دورانها؛ ثم إذا كالوا اكتالوا واسعاً لااستقصاء فيه ولا مضايقة، فهو يجري مجرى ما يهال هيلاً، أو يؤخذ جزافاً لا كيلاً. والغذم: الأكل بسرعة، ومنه الغذمذم، وإن حضروا مقسم الجزر وتكرموا بتولي قسمها، وجدتهم يوسعون الحز، ويخطئون المفصل، إذ لم يكن فعل ذلك من عادتهم وطبائعم، لكونهم ملوكاً، ولأنهم متى تأخر الخدم عنهم لم يحسنوا التصرف في شيء من وجوه المهن، ولا دروا كيف تسلخ الجزر وتقتسم الأبداء، وإذا أكلوا اللحم على موائدهم لم تناوله إلا قطعاً بالسكاكين، لا نهشاً بالأسنان، إقامة للمروءات وذهاباً عن شنيع العادات.(1/1122)
وقوله إلا تخذماً انتصب تخذما على أنه مصدر في موضع الحال. والخذم: سرعة القطع، وفي التخذم زيادة تكلف. ويقال: سيف خذوم ومخذم. وقوله يكتالون كيلاً وضع كيلا موضع الاكتيال، كما وضع النبات موضع الإنبات، في قوله تعالى: " والله أنبتكم من الأرض نباتاً ".
وقال أبو دهبل الجمحي
إن البيوت معادن فنجاره ... ذهب وكل بيوته ضخم
عقم النساء فما يلدن شبيهه ... إن النساء بمثله عقم
متهلل بنعم، بلا متباعد ... سيان منه الوفر والعدم
نزر الكلام من الحياء تخاله ... ضمناً وليس بجسمه سقم
المعادن: جمع المعدن، وهو من عدن بالمكان إذا أقام عدنا وعدوناً، وقيل: بل هو من قولهم عدنت الحجر، إذا قلعته، لأن المعدن يقلع منه ما ضمن، ويرتجع منه ما اودع. وفي القرآن: " جنات عدن "، أي جنات إقامة. والمراد أن البيوت الناس وأصولهم مختلفة المسبر، متفاوتة المخبر، تتفاضل تفاضل المعادن، ونجار هذا الرجل أفضل النجر فهو كالذهب الإبريز. ويقال: هو من نجر كريم ونجار كريم، أي أصل كريم. وقوله وكل بيوته ضخم أي هو من أطرافه: أعمامه وأخواله، عظيم الشأن نبيه. وإنما قال ضخم لأن المراد بكل الاتحاد، أي كل واحد من بيوته. ومثل كل كلا لأن كلا يراد به مرة الجميع ومرة الاتحاد، وكذلك كلا يراد به مرة التثنية ومرة الاتحاد. وقد ذكرت أمرها مشروحاً في غير هذا الكتاب.
وقوله عقم النساء أصل العقم المنع، ويقال: عقمت المرأة وعقمت الرحم عقماً بضم العين فعقمت، وهي معقومة بناء على عقمت، وعقيم بناء على عقمت، ولهذا يجمع عقيم على عقم، لأنه فعيل بمعنى فاعل، ولم يلحق به الهاء للمؤنث لأن المراد به النسبة، فهو كقولهم طالق وحائض. ولو كان عقيم كجريح وصريع في أنه فعيل بمعنى مفعولة لوجب أن يقال في الجمع عقمى، كما قيل جرحى وصرعى. ويقال: رجل عقيم، وريح عقيم، والدنيا عقيم، والملك عقيم.(1/1123)
ومعنى البيت أن هذا الرجل لا شبيه له فضلاً وتفضلاً، وكمالاً وتبرعاً، لأن النساء منعن أن يأتين بمثله فعقمن، أي صرن كذلك. وقوله متهلل بنعم، يريد بلفظ نعم. وجعل نعم اسماً، أي هو بش طلق الوجه قريب المأخذ، مجيب فيما يسأل، وعند كل ما يطلب منه ويقترح عليه، بقوله نعم، وهو متهلل، أي ضاحك مستبشر. وقوله بلا متباعد أي يتباعد عن كل أحد بأن يصك في وجهه فيما يطلب نيله منه بأن يقول لا، ولا جعله كالإسم. فنعم كأنه اسم الإسعاف، ولا كأنه اسم المنع والدفاع. وقوله سيان منه الوفر والعدم أي مثلان عنده الغنى والفقر لا يخل بالمعهود منه، ولا يترك عادته فيه. وقوله نزر الكلام من الحياء، أي هو قليل الكلام حتى كأنه ملجم لغلبة الحياء عليه، وحتى يظن من لا يعرفه أنه لآفة يترك الكلام، ولا آفة ثم، إنما مانعه ما يمتلكه من حياء ممتزج بالكرم، ولقلة رضاه عن نفسه في كل مايرتئيه أو يأتيه، إذ كانت طباعه لا ترضي عنه بشيء يبلغه، فالحياء يمسكه، والكرم يسكته. لا تحمد منه ولا تبجح. ولا تسحب ولا تعلى. ومثل هذا قول الاخر:
راحوا تخالهم مرضى من الكرم
والضمين: الزمن، ومصدره الضمانة.
وقالت ليلى الأخيلية
يا أيها السدم الملوى رأسه ... ليقود من أهل الحجاز بريما
السدم والسادم: النادم الحزين، وقيل بل السادم مأخوذ من المياه الأسدام، وهي المتغيرة لطول المكث. والسدم أيضاً: الفحل العظيم الهائج. والسدم أيضاً: اللهج بالشيء. وحكى أبو حاتم قال: قلت للأصمعي يوماً: إنك تحفظ من الرجز ما(1/1124)
لم يحفظه أحد. فقال: إنه كان همنا وسدمنا. والبيت يحتمل الوجوه الثلاثة فيه. والملوى رأسه يجوز أن يكون مثل قول الآخر:.......... غارزاً رأسه في سنة...........
والمراد: كأنه ملكه التحير فهو يلوى رأسه. وتلويه الرأس كما يكون من الفكر والتحير فقد يكون من الكبر والتبجير، وقلة الاحتفال بالمحتضر كقوله تعالى: " فسينغصون إليك رءوسهم ويقولون متى هو ". فالنغص كالتلوية وإن كان النغص أقرب إلى الحقيقة.
وقولها ليقود من أخل الحجاز بريماً، فأصل خيط يفتل من قوى بيض وسود. ويقال: قطيع بريم، إذا كان خلطان ضأن ومعزى. وقال الدريدي: كل لونين اجتمعا مثل السواد والبياض فهو البريم، وإنما يتخذون البريم من الخيوط ليشد في أحقى الصبيان فيدفع به العين. والمراد به هنا جيش متفاوتون أدنياء، كالبريم وهو الخيط المبرم من عدة ألوان. والقصد فيما ذكرته إلى الإنكار على المخاطب فيما يأتيه، وتوبيخه فيما حدث به نفسه من قود جيش إلى عمروبن الخليع، كما وصفته.
أتريد عمرو بن الخليع ودونه ... كعب إذا لوجدته مرءوما
إن الخليع ورهطه في عامر ... كالقلب ألبس جؤجؤا وحزيما
تقول مقرعة ومقبحة لما أنكرته من مخاطبها وموبخة: أتقد بما هممت به من جمع الجموع الحجازية عمرو بن الخليع وحوله بنو كعب، إذا لوجدته معطوفاً عليه، محروساً منك ومن لفيفك. أما علمت أن الخليع وعشيرته من بني عامر بمكان القلب من النفس، قد التف به الصدر والحزيم، وحماه الحشا والجوف.
والحزيم والمحزم: موضع الحزام من الصدر. يقال للرجل إذا أريد تشمره: شد حزيمك للأمر، وحيازيمك وحيزومك. والحيزوم: وسط الصدر. والمعنى: أن مكانه من الحي مكين، ومحله من جانب المنع منه والدفاع دونه عزيز مصون. ويقال: رأمته رأماً ورئماناً. والمعنى: كيف يقع في نفسك نزاعهم، أو يتصور في وهمك غلبهم.(1/1125)
ثم أخذت تحذر فقالت: لا تغزونهم ولا تستشعرون ذلك فيهم.
لا تغزون الدهر آل مطرف ... لا ظالماً أبداً ولا مظلوما
قوم رباط الخيل وسط بيوتهم ... وأسنة زرق يخلن نجوماً
ومخرق عنه القميص تخاله ... وسط البيوت من الحياء سقيما
حتى إذا رفع اللواء رأيته ... تحت اللواء على الخميس زعيماً
نهته عن غزوهم على كل حال. وانتصب ظالماً على الحال. فيقول لا تقصدهم طامعاً فيهم ومحارباً لهم، لا منتقماً ولا مبتدئاً، فإنك لا تطيقهم، إذ كان همهم الغزو، ومربط خيولهم وسط بيوتهم، يضمرونها ويتفرسون على ظهووها، ولا يأتمنون عليها في سياستها وصنعتها إلا أنفسهم، فلا ترى إلا من يهذب آلته للحرب ويصلحها، فمركوبه صنيع، وسنان رمحه مجلو سنين، ونفسه مبتذلة فيما يحصل به أكرومة، لا يهمه مطعوم ولا ملبوس. ثم لفرط حيائه وتناهي كرمه تحسبه وسط بيوت الحي سقيماً، قلة كلام ولين جانب، وضعف مجاذبة، فإذا نصب لواء الجيش مجهزاً لطلب وتر، وانتواء غزو، أو محاماة على ولي، أو سد ثغر، رأيته مهيأ للزعامة، معتمداً للرياسة والسياسة، غير مزاحم ولا مدافع.
وقال آخر:
نحن الأخايل لايزال غلامنا ... حتى يدب على العصا مذكورا
تبكي السيوف إذا فقدن أكفنا ... جزعاً وتعلمنا الرفاق بحورا
ولنحن أوثق في صدر نسائكم ... منكم إذا بكر الصراخ بكورا
الأخايل جمع، وهي قبيلتها. ويقال للشاهين الأخيل، والجميع الأخايل. فأما قول الشاعر:
له بعد إدلاج مراح وأخيل(1/1126)
فهو الخيلاء، والفعل منه اختال. ومراد الشاعر: نحن المعروفون المشهورون، كما قال أو النجم:
أنا أبوالنجم وشعري شعري
أي أصحاب هذا الاسم النبيه الخطير. ولا يزال غلامنا أي الغلام منا وفينا، من وقت ترعرعه إلى وقت دبيبه، معتمداً على عكازه، رفيع الذكر على الشأن تقدماً وتكرماً. والسيوف إذا فقدت أيدينا بكت حنيناً إليها، وجزعاً على ما يفوتها منها. والمرافقون في الأصفار لنا تعلمنا بحوراً، لما يقسم لهم من إفضالنا، ويعمهم من تفضلنا، ولحسن توفرنا على الرواد والوارد، ويمن صحبتنا على الأداني والبعداء. وقوله ولنحن أوثق في صدور نسائكم، يريد انهن إذا صبحن بالغارة فارتفع لما يتداخلن من الرعب الصراخ، لأنهن خفن السباء وما يلحق من العار، فقلن: واصباحاه أو واسوء صباحنا! واسم ذلك الصوت الصرخة والصراخ، وفي المثل: لهم صرخة الحبلى. ومعنى البيت أنا في ذلك الوقت أوثق في اعتقاد النساء، وفيما يشتمل عليه ظنهن ويعتمده استقامتهن منكم، لما عرفن من ذبنا وحمايتنا، واشتهرنا به من غيرنا وحميتنا.
آخر:
يشبهون سيوفاً في صرائمهم ... وطول أنضية الأعناق والأمم
إذا غدا المسك يجري في مفارقهم ... راحوا تخالهم مرضى من الكرم
يقال: شبهته كذا وبكذا، كما يقال نصحتك ونصحت لك. والصرائم: العزائم، والواحدة صريمة. وقال الخليل: الصريمة إحكامك الأمر وعزمك عليه. وكان أصله من الصرم: القطع. والأنضية: جمع النضى؛ وهو مركب النصل في السيف في(1/1127)
الأصل، والمراد به هنا مركب الرأس في العنق. ونضى السهم: قدحه، وهو ما جاوز من السهم الريش إلى النصل. وأنشد الخليل في ذلك:
فمر نضى السهم تحت لبانه ... وجال على وحشية لم يعتم
والأمم: جمع أمة وهي القائمة؛ يقال: ما أحسن أمته. وقوله راحوا تخالهم مرضى من الكرم، أي من الحياء. وصفهم بالصرامة والنفاذ في الأمور، فكأنهم السيوف؛ وبطول القوام وحسن الشطاط، وباستعمال العطر وكرم النفس وشدة الحياء بعد الشرب، وبتمام الأبهة والمروءة في مجالس الأنس. وهذا وإن لم يصرح به فهو متبين من فحوى: إذا إذا المسك راحوا وكأنهم مرضى. على ذلك رسم الاصطباح، وعادة كرام شراب الراح.
وقال آخر:
فإن تكن الحوادث حرقتني ... فلم أر هالكاً كابني زياد
هما رمحان خطيان كانا ... من السمر المثقفة الصعاد
تهال الأرض أن يطئا عليها ... بمثلهما تسالم أو تعادي
يقول: إن كانت نوائب الزمان أثرت ي وأزالت تحملي بالصبر، وتجلدي لريب الدهر، فإني لم أر فيمن شاهدتهم هالكاً كهذين الرجلين؛ وابنا زياد لم يكونا منه بسبيل، لا قربي ولا قرابة، ولا آصرة ولا وسيلة، فيكون الكلام تأبيناً والشعر مرثية؛ وإنما كان من جملة من تأذى بهم، وساقوا الشر إليه بسعيهم، لكنه شهد لهما بما شهد، مورداً الحق، وتابعاً الصدق، فهو بالمدح أشبه منه بالمراثي، إذ كان الرثاء من شرطه التوجع والتحزن وقد عدما هنا، والثناء على العدو ثناء على نفسه. ويجوز أن يكون المراد: لي بهما على فضلهما ونفاذهما وتقدمها، أسوة في الرضا بما قدر لي، والصبر على حكم به علي، ولأن الأرض لو هابت ماشياً على ظهرها، لكانت تهاب هذين لما أوتيا من قدرة، وأبلغنا من عز وقوة. وشبههما برمحين استواء خلقة وامتداد قامة، وسرعة نفاذ وحسن وجه. والسمرة في ألوان الرماح محمودة. والصعدة: القناة تنبت مستوية. وقوله من السمر(1/1128)
المثقفة الصعاد، سوى بينهما في التشبيه حتى لا مخالفة، تنبيهاً على ما يقصد من المبالغة وتناهي البراعة. وقوله تهال الأرض أن يطئا عليها أي لأن يطئا عليها، فحذف الجر. يريد: أن قوتهما بالغة، ومشيهما شديد، والأرض لشدة وطئهما لها في هول عظيم، وزلزال فضيع. ويجوز أن يريد بالأرض أهل الأرض فحذف المضاف. ثم قال: وبمثلهما تسالم أو تعادي، يريد أنهما أهل الصلاح والفساد والخير والشر، والعدارة والصداقة. وأو من قوله أو تعادي أو الإباحة وقد نقل إلى الخير.
آخر:
كريم يغض الطرف فضل حيائه ... ويدنو وأطراف الرماح دوان
وكالسيف إن لا ينته لان مسه ... وحداه إن خاشنته خشنان
يصفه بأن خصال الكرم قد اجتمعت فيه، فلتناهى حيائه تراه يكسر طرفه عند النظر، فعل من عمل ما يستحيا منه، أو لزمه منة منعم توالي نعمه عليه، أو قصر في أداء واجب فيخاف عتبه فيه؛ ولكمال حميته في الحرب يقتحم على الشر، فلا يزداد والرماح شارعة نحوه إلا قرباً منها، وتهجماً عليها، ثم هو في طباعه كأنه السيف متى لاينته وجدت اللين في صفحتيه عند ملمسه، ومتى خاشنته وجدت القطع والخشونة في حديه ومضربه.
ومثل هذا قول الآخر:
ضرباً ترى منه الغلام الشطبا ... إذا أحس وجعا أو كربا
دنا فما يزداد إلا قربا ... تحكك الجرباء لاقت جربا
وقد مرت مستقصى شرحها في باب الحماسة.
وقال العجير السلولي
إن ابن عمي لابن زيد وإنه ... لبلاب أيدي جلة الشؤل بالدم(1/1129)
طلوع الثنايا بالمطايا وسابق ... إلى غاية من يبتدرها يقدم
افتخر بابن عمه، وبمكانه من قرابته، ذاكراً اسم أبيه، ومكتفياً به لاشتهاره، ثم وصفه بأنه أوان الجدب والقحط، وعند إسنات الناس، ووقت طروق الأضياف، يعرقب الإبل السمان فيبل أيديها من دماء عراقيها.
وقد أحسن لبيد كل الإحسان في قوله لما سلك هذا المسلك:
مدمن يجلو بأطراف الذرى ... دنس الأسواق بالعضب الأفل
وقوله طلوع الثنايا بالمطايا يريد أنه يعلو العقاب ويشرف عليها مرتبثاً فيها، أو نافضاً طرق الصيد عليها. ومثله قوله: طلاع مرقبة، وطلاع أنجدة، إلا أن هذا زاد على ما قولوا لقوله بالمطايا. وقوله وسابق إلى غاية مثله قول تأبط شراً:
سباق غايات مجد في عشيرته
وقوله من يبتدرها يقدم في موضع الصفة لغاية، والمعنى: من يبتدر مثل تلك الغاية في أقرانه ونظرائه، وسلم السبق له.
من النقر المدلين في كل حجة ... بمستحصد في جولة الرأي محكم
جديرون ألا يذكروك بريبة ... ولا يغرموك الدهر ما لم تغرم
يقال: أدلى بحجته، إذا أظهرها وقام بها؛ وأدلى رداءه في البئر ليبتل، ودلاه على كذا فتدلى. وقال الهذلي:
تدلى عليها بين سب وخيطة
وتوسعوا فيه فقالوا: دلاه بغرور. فيقول: هذا الرجل من القوم الذين إذا أوردوا حجة قوموها برأي محكم الفتل فيما يجول من الرأي محصف. والنفر يقع على ما(1/1130)
بين الثلاثة إلى العشرة، ولذلك صلح أن يقال ثلاثة نفر وأربعة نفر. ونافرة الرجل: بنو أبيه الذين يغضبون لغضبه. قال:
لو أن حولي من عليم نافره ... ما غلبتني هذه الضياطره
وقوله جديرون ألا يذكروك بريبة، يريد أنهم أحقاء بألا يغتابوك إذا غبت عنهم، لسلامة صدورهم من الدغل والغش والخيانة، ولا يقذفوك بريبة تشينك أو يقبح في الأحدوثة بها عنك، وبألا يجروا عليك أبداً جريرة يثقل وطأتها عليك فتحتاج أن تغرم لها ما لا تطيب نفصسك به، ولا تسمح بتحملها في مالك.
وله أيضاً:
أقول لعبد الله وهناً ودوننا ... مناخ المطايا من منى فالمحصب
لك الخير عللنا بها على ساعة ... تمر وسهوان من الليل يذهب
فقام فأدنى من وسادي وساده ... طوى البطن ممشوق الذراعين شرحب
بعيد من الشيء القليل احتفاظه ... عليك ومنزور الرضا حين يغضب
هو الظفر الميمون إن راح أو غدا ... به الركب والتلعابة المتحبب
وهناً، أي بعد ساعة من الليل؛ ومنه الموهن. ومفعول أقول أول البيت الثاني، وهو لك الخير؛ وموضع ودوننا مناخ المطايا موضع الحال. فيقول: أخاطب عبد الله وقد تقضى من الليل بعضه، ومبرك الإبل من منى فموضع الجمار منه بقرب منا: ملكت الخير ولقيت السعادة، عللنا في هذه الأرض بأحاديثك لعل ساعة تمر ترجع إلينا نفسنا وطائفة من الليل تمضي نطويها على بعض مرادنا، ولأن التعلل بالأحاديث وقطع الأوقات به، للنفس فيه راحة، ولها به اعتبار. وقوله وسهوان أي طائفة. ويروى: وسهواء ويقال: لقيته بعد سهواء من الليل، أي بعد مضى صدره. ويجوز أن يكون فعلاء من السهو، وتكون همزتها ملحقة، ويجوز أن يكون فعوالاً ويكون همزتها مبدلة من الواو. فأما سهوان فكأنه أربد به(1/1131)
الوقت الذي يسهو فيه الناس عن مباغيهم، وعلى ذلك يحمل يحتاج معهم إلى التوصية. ولا يمتنع أن يكون السهوان في الوقت مأخوذاً من الساهية، وهو ما استطال واتسع من الأرض من غير خمر يرد العين؛ فنقل من المكان إلى الزمان، أي طائفة من الليل ممتدة واسعة.
وقوله: فقام فأدنى من وسادي وساده جمع بين فعلين قام وأدنى. فيجوز أن يكون طوى البطن يرتفع بالأول منهما، وهو قام، ويجوز أن يرتفع بأدنى وقد أضمر في قام على شريطة التفسير فاعله. والمعنى: فقام به أو منه رجل هكذا فقرب مجلسه من مجلسي. الشرجب: الطويل. والطوى البطن: الصغيرة خلقة. والممشوق: الطويل القليل اللحم. وجارية ممشوقة: حسنة القوام قليلة اللحم. وقوله بعيد من الشيء القليل احتفاظه أي غضبه، يريد أنه سهل الجانب لا يكاد يحتمي من الشيء القليل الخطروالموقع من النفوس، لكنه قليل الرضا إذا غضب، لا يكاد يرجع إذا ذهب عنك بالهوينا. وذكر البعد هاهنا يريد النفي، وهذا كما يستعمل القليل والأقل ويراد بهما النفي. والمعنى لا يحتفظ بالشيء القليل ولا يؤاخذ بصغائر الذنوب.
وقوله هو الظفر الميمون يصف إقباله في متصرفاته، وأن المناجح والسعادات في رفاقه ولاحقة لمطالبه ومباغيه، والميامن تترفرف على جوانب آرائه وأهوائه، ثم هو حسن البشر، لين العريكة، ضحاك لعوب. والاحتفاظ: افتعال من الحفظة والحفيظة: الغضب. والتلعابة على بنائه التقوالة والتلقامة والهاء في آخره للمبالغة. ويقال: نزرت الشيء نزاراً، ثم يقال للمنزور هو نزر.
وقال أبو دهبل في الأزرق
ماذا رزينا غداة الخل من رمع ... عند التفرق من خيم ومن كرم
ظل لنا واقفاً يعطي فأكثر ما ... قلنا وقال لنا في وجهه نعم(1/1132)
الخل: الطريق في الرمل. ورمع: موضع، وقيل هو جبل باليمن. يقول: أصبنا وفجعنا غداة اجتماعنا لتوديع الفراق، بعظيم نبيه من الكرم والخيم، وهو سعة الخلق.
وقوله ظل لنا واقفاً يعطي يعني الأزرق. أي بقي نهاره واقفاً ونحن محتفون به ومجتمعون حوله، وأكثر ما قلناه في وجهه وخاطبناه به، وقال لنا في جوابه نعم. كأن القوم المعترين اكتفوا بعرض نفوسهم عليه من ذكر حاجاتهم لتمام كرمه، وكمال فطنته، وهو بعدهم الخير ويقرب لهم الإسعاف والبذل، ويقول لكل منهم: نعم، عالماً بما يقترحه، وضامناً لما يطلبه، وماء الوجوه في مواضعها لم تهرق.
ونعم: حرف إيجاب، ويعطي موضعه نصب على الحال.
ثم انتحى غير مذموم وأعيننا ... لما تولى بدمع سافح سجم
تحمله الناقة الأدماء معتجراً ... بالبرد كالبدر جلى ليلة الظلم
وكيف أنساك لا نعماك واحدة ... عندي ولا بالذي أسديت من قدم
يقول: اعتمد، بعد الوقوف لنا والنظر في مآربنا، لوجهته، وهو ممدح بالألسنة، محبب في الصدور والأفئدة، وأعيننا لنوازع نفوسنا لما ولي، سيالة بدموعها. ومعنى سافح: ذو سفح، أي ذو انصباب. والسجم: جمع سجوم. وقوله تحمله الناقة الأدماء متجرأص، يريد ملتفاً. والاعتجار: لف المعجر، وهو العمامة، في الرأس من غير إدارة تحت الحنك. وقيل: بل المعجر ضرب من ثياب اليمن. وشبهها بالبدر في تلالئه ونوره. ألا ترى أنه قال: جل ليلة الظلم. وقوله: وكيف أنساك، يريد أن أياديه عنده تذكره لأنها كثرت وعمت وغمرت فلا يعرج على منفسة إلا كانت منه، ولا يردد نظره في ذخيرة إلا وكان السبب فيها، ولم تأت الليالي والأيام عليها فتقادم عهدها، وحال النسيان دونها، بل هي غضة طرية تنادي على نفوسها، وتلوح الجدة على على صفحاتها، وتحمي من الدروس ذكر موليها. وقوله لا نعماك واحدة في موضع الحال من لا لأنساك. وقد تقدم القول في الإسداء وأصله.(1/1133)
وقال أيضاً فيه:
ما زلت في العفو للذنوب وإطلاق لعان بجرمه غلق
حتى تمنى البراة أنهم ... عندك أمسوا في القد والحلق
قوله في العفو في موضع النصب على أنه خبر مازال، والجار منه تعلق بمضمر، كأنه قال: مازلت آخذاً في العفو وداخلاً فيه، إلى أن تمنى من لا جرم له أن يكون جارماً عليك حتى يتوفر عليه نظرك وإحسانك.
وأم أبو تمام بهذا المعنى فقال:
وتكفل الأيتام عن آبائهم ... حتى وددنا أننا أيتام
فعده كثير من أصحاب المعاني خطأ فيه، وقالوا: جعله لا يعرف مواضع الصنيعة إذ صار الناس يمنون منزلة الأيتام عنده وحرماتهم لديه حتى ينالهم إفضاله، ولو ساغ هذا القول فيما قاله أبو دهبل، وهو تمني البراة أن يكونوا أسراء مصفدين لديه حتى يلحقهم إحسانه، إذ لا فرق بين الموضعين. ولم ينكر أحد من المتقدمين والمتأخرين ما قاله أبو دهبل ولا قدحوا فيه. وقد أحكمت القول في التسوية بينهما في رسالة الانتصار، من ظلمة أبي تمام، وبينت أن المعنى الذي انتحاه سليم من العيب صحيح.
والعاني: الأسير. والغلق: المتروك لا يفك.
وقال الفرزدق
علي بن الحسين بن علي بن أبي طالب كرم الله وجوههم:
إذا رأته قريش قال قائلها ... إلى مكارم هذا ينتهي الكرم
هذا الذي تعرف البطحاء وطأته ... والبيت يعرفه والحل والحرم(1/1134)
يكاد يمسكه عرفان راحته ... ركن الحطيم إذا ما جاء يستلم
فائدة إلى قوله إلى مكارم هذا الانتهاء، والجملة في موضع المفعول لقال. والمعنى أن الكريم إذا انتهى إلى درجة مكارم هذا وقف، لأنها الغاية السامية، والمرتبة التي لا متجاوز منها إلى ما هو أعلى. ثم قال: هذا، يعني علي بن الحسين بن علي صلوات الله عليه الذي تعرف البطحاء وطأته من بين وطآت الناس إذا مشوا عليها وفيها. والبطحاء: أرض مكة المنبطحة، وكذلك الأبطح. وبيوت مكة التي هي للأشراف بالأبطح، والتي هي فر الروابي والجبال للغرباء وأوساط الناس. والحطيم: الجدار الذي عليه ميزاب الكعبة، فكأنه حطم بعض حجره. والأبطح والبطحاء وإن كانا صفتين فإنهما قد لحقا بالأسماء، لذلك جمعا الأباطح والبطحاوات. وانتصب عرفان على أنه مفعول له أي يكاد يمسكه ركن الحطيم لأن عرف راحته. ويستلم، بمعنى يلمس الحجر الأسود. يريد: أنه ابن رسول الله صلى الله عليه وسلم الذي شرف به هذه المواضع، فهي عارفة به، وإذا جاء إلى المستلم يكاد يتمسك به الركن تمييزاً لراحته عن راحة غيره. وأصل يستلم تناول الحجر باليد أو بالقبلة أو مسحه بالكف، فكأنه من السلام: الحجارة. قال الخليل: ولم نسمع أحداً يفردها.
أي القبائل ليست في رقابهم ... لأولية هذا أو له نعم
بكفه خيزران ريحه عبق ... من كف أروع في عرنينه شمم
يغضى حياء ويغضي من مهابته ... فما يكلم إلا حين يبتسم
يريد: أن طوائف الناس مغمورون بنعمه أو نعم سلفه، يعني النبي والوصي عليهما السلام، لأنهم اهتدوا بدعائهم، وفارقوا الهلك والضلالة بإرشادهم ودلالتهم فلا قبيل إلا ورقابهم قد شغلت بما قلدت من مننهم، وذممهم قد رهنت بما حملت من عوارفهم. وقوله بكفه خيرزان يعني به المخصرة التي يمسكها الملوك بأيديهم يتعبثون بها. وقوله ريحه عبق، إذا فتح الباء فمخرجه مخرج المصادر، كأنه نفس الشيء، أو على حذف المضاف، والأصل ذات عبق. وإذا كسرت فهو اسم الفاعل، ومعناه(1/1135)
اللاصق بالشيء لا يفارقه. يريد أن رائحته تبقى فهي تشم الدهر من كف أروع، وهو الجميل الوجه. والشمم: الطول. والعرنين: الأنف وما ارتفع من الأرض، وأول الشيء، وتجعل العرانين كناية عن الأشراف والسادة. وإذا قرن الشمم بالعرنين أو الأنف، فالقصد إلى الكرم. لذلك قال حسان بن ثابت:
شم الأنوف من الطراز الأول
وقوله يغضي حياء، أي لحيائه يغض طرفه، فهو في ملكته وكالمنخزل له. ويغضى من مهابته أي ويغضي معه مهابة له، فمن مهابته في موضع المفعول له، كما أن قوله حياء انتصب لمثل ذلك، والمفعول له لا يقام مقام الفاعل، كما أن الحال والتمييز لا يقام واحد منهما مقام الفاعل. فإن قيل: إذا كان الأمر على هذا فأين الذي يرتفع بيغضى؟ قلت: يقوم مقام فاعله المصدر، كأنه قال: ويغضى الإغضاء من مهابته. والدال على الإعضاء يغضى، كما انك إذا قلت سير بزيد يومين، لك أن تجعل القائم مقام الفاعل المصدر، كأنه قيل: سير السير بزيد يومين، وهو أحد الوجوه التي فيه، فاعلمه.
آخر:
إذا انتدى واحتبى بالسيف دان له ... شوس الرجال خضوع الجرب للطالي
كأنما الطير منهم فوق هامهم ... لا خوف ظلم ولكن خوف إجلال
انتدى: جلس في نادي القوم، وهو مجمعهم. وقوله احتبى بالسيف، أي حضر لعقد جوار، أو فصل أمر حرب، أو إيقاع حلف، أو تسويد رئيس أو ما يجري هذا المجرى وذلك أن السيف في أمثال هذه الأحوال ربما مست الحاجة إليه، لذلك قال جرير:
ولا يحتبى عند عقد الجوار ... بغير السيوف ولا يرتدي
وفي غير هذه الأحوال إنما يحتبون بالأدوية وأشباهها. ودان له، أي خضع. وشوس الرجال: جمع أشواس، وهو الذي ينظر بمؤخر عينه عداوة أو كبراً. وانتصب(1/1136)
خضوع الجرب على أنه مصدر من غير لفظه، لأن معنى دان له، أي خضع له. ومثله:
ورضت فذلت صعبة أي إذلال
لأن معنى رضت أذللت. وانتصب أي إذلال نه.
وخص الجرب لأنها إذا هنئت بالطلاء طاب لها وطاعت لطالبها. لذلك قال امرؤ القيس:
كما شغف المهنوءة الرجل الظالي
وقوله كأنما الطير منهم فوق هامهم، أراد أن مجالسهم مهيبة، وأن حاضريها لا يموجون ولا يتخففون، بل يتوقرون ويسكنون فكأن على رءوسهم الطير، فإن حركوا رءوسهم طارت إعضاماً لها وتبجيلاً لصاحبها. وقوله لا خوف ظلم، أي يخافونه لا خوف ظلم وانتقام، ولكن خوف جلالة واحتشام، وتوقير وإعضام. ودل على يخافونه حتى انتصب عنه لا خوف قوله كأنما الطير منهم فوق هامهم. ولما كان غير هذا الشاعر أراد التخكم والسخربة قال في وصف قوم:
كأن خروء الطير فوق رؤوسهم
وقد مر ذلك.
وقالت ليلى الأخيلية
فإني لم أكد آتيك تهوى ... برحلي رادة الأصلاب ناب
قريح الظهر يفرح أن يراها ... إذا وضعت وليتها الغراب
قولها " لم أكد آتيك "، من قولهم: أعطاني الأمير ما لم يكد يعطى، وسمح بما لم يكد يسمح. تقول: لم أكد أزورك وقد زرتك تطير برحلي راحلة وثيقة الظهر(1/1137)
لينته، قد أخذت من السن والقوة بالنصيب الأوفر، دبرة الظهر يفرح الغراب إذا وضعت عنها برذعتها فنظر إلى ظهرها، لأنه ينقره ويدميه إن ترك. وقولها " رادة " من راد يرود، إذا جاء وذهب للينه؛ والأصل رائدة، فحذفت الهمزة تخفيفاً، كما قيل في شائك شاك السلاح. ويجوز أن يكون فعلة بنيت منه، وعلى ذلك قولهم: رجل مال، كأنه مول. ورواه بعضهم: " رارة الأصلاب ". وزعم أن عينه ياء، واحتج له بقول الآخر: " والساق منى باديات الرير " والرار والرير: المخ. وليس الصلب بموضع مخ، فاعلمه. ومثله على الوجه الأول قوله: " في صلب مثل العنان المؤدم " ألا ترى أنه شبهه بالعنان للينه.
وقال العريان
مررت على دار امرىء السوء حوله ... لبون كعيدان بحائط بستان
فقال ألا أضحت لبوني كما ترى ... كأن على لباتها طين أفدان
فقلت عسى أن يحوي الجيش سربها ... ولا واحد يسعى عليها ولا اثنان
يعني بامرىء السوء المبخل الملوم، الذي لاهم له إلا تثمير ماله وحفظها ومنعها من الحقوق الواجبة فيها. واللبون، أراد بها الجنس، لذلك قال " حوله لبون ". وأصل اللبون الإبل ذوات " الألبان ". والعيدان: النخل الطوال، واحدها عيدانة، وهو فيعالة من عدن بالمكان، إذا أقام. ومثله غيداق من غدق. ويعني بها الراسيات الثابتات على مر السنين. وعنى بالحائط موضع شجر. والبستان: النخل. والأصل في الحائط أنه اسم الفاعل من حاط، واستعمل استعمال اسم الفاعل الذي لم يشتق من الأفعال، ومثله من جنسه قولهم والد وصاحب، ومن المصادر: لله درك. وشبه الإبل(1/1138)
بالعيدان لطولها، ومثل هذا قول الآخر:
طيبة الأنفس بالدر نعس ... كأنها حائط نخل ملتبس
وقوله " فقال ألا أضحت لبوني كما ترى " أخذ يتبجح عنده بوفور ماله وسمنها، وتراكم اللحم والشحم على ظهورها، فأخذ يعجبه منها، ثم شبه اللحم للسمن على لباتها بطين قصور طينت به، فالإبل كالقصور، وما قذف به من زيادة اللحم كالطين. وهذا كقول القطامي: " كما بطنت بالفدن السياعا " وقوله " فقلت عسى أن يحوي الجيش "، هذه أسنية تمناها. أراد كايدته وقلت عسى أن يقبض الله لها جيشاً يحويها، ويحول بينك وبين التمتع بها، فلا يسعى عليها مالك واحد ولااثنان، لكنها تصير مقسمة في المغيرين، موزعة في السالبين. ويجوز أن يريد: لايتفقدها مصلحاً لها لا واحد ولا اثنان، لكنها تساق وتذال بالغارة وتهان.
ورحت إلى دار امرىء الصدق حوله ... مرابط أفراس وملعب فتيان
ومنحر مئناث يجر حوارها ... وملعب إخوان إلى جنب إخوان
فقلت له إني أتيتك راغباً ... بذعلبة تدمى وإني امرؤ عان
فقال ألا أهلاً وسهلاً ومرحباً ... جعلتك منى حيث أجعل أشجاني
فقلت له جادت عليك سحابة ... بنوء يندى كل فغو وريحان
وقلت سقاك الله خمر سلافة ... بماء سحاب حائر بين مصدان
قوله " دار امرىء الصدق " ضد قولهم: امرىء السوء، والمعنى فيهما نعم الرجل وبئس الرجل. وإذا قصد إلى الوصف به فتح فقيل الصدق. يقال: رجل صدق ونساء صدقات. والسوء يوصف به فيقال الرجل السوء. وقال الخليل: الصدق بفتح الصاد: الكامل من كل شيء. فتقول: عدلت رائحاً إلى الرجل الكريم الممدح بالألسنة، المرضى المحبب إلى كل طائفة، المرزأ في ماله، المنفاق على أضيافه(1/1139)
وزواره وحوله مرابط الخيل، وفناؤه ملعب الفتيان، إذ كان همه الاشتغال بالفروسية وما يكتسب به فنون الذكر الجميل وضروب المحمدة، وندماؤه الفتيان ذوو الكرم والحرية، والافتنان في اللعب والشطارة، وبقرب داره مدارج الكرامات، ومبوأ الضيافات، ومجزر النوق العشار الصحيحات الرائعات، فتجر حيرانها إذا بعجت عنها بطونها لكبرها. يريد أن ما يضن بأمثالها ويتنافس فيها، هو يبتذلها ويستهين بها، وله دار ندامةووفادة، تنصب فيها الموائد، وقد رتب عليها الإخوان على سنن الدوام، ولا يقع فيه خلل ولا تجوز، ولا فتور ولاتخون.
وقوله: " فقلت له إني أتيتك راغباً " يريد تعرضت له وأريته رغبتي في معروفه، وعرفته أني قصدته على ناقة سريعة من مكان بعيد، فقد دميت أخفاقها وحفيت، وأني رجل مضرور، أسير فاقة وفقر، محتاج من جهته إلى تفقد ومواساة. فقال في جوابي: أتيت أهلاً لا غرباء، ونزلت سهلاً من الجوانب لا حزناً، واخترت رحباً لاضيقاً، فأنت في قلبي وصدري بحيث أجعل مهماتي وحاجاتي، تشملك عنايتي، ويسعك إفضالي، فكن كالشريك فيما لنا، لاتمايز ولاتباين، ولا تمانع ولا تضايق. فقلت له في مقابلة ما أورده داعياً وشاكراً: هنأك الله ما أعطاك، ومطر أرضك ومأواك، بجود من سحابة نشأت بنوء يحيى كل نبت وريحان، بكل أرض ومكان. وقلت أيضاً: داعياً له بالسقيا: سقاك الله خمرةً صافية رقيقةً، ممزوجة بماء مطر حائر بين المنافع والغدران، بعد أن تقاذفته المدافع والمسلان، وتقطع بأنضاد الحجر، وتغلغل في جوانب الخمر. والمصدان: جمع مصاد، وهي شقوق الجبال. وقال الخليل: المصدان: الهضاب، واحدها مصاد، وفي أدنى العدد أمصدة، ومنه سمى المعقل مصادا. والفغو: ماله رائحة طيبة من النبات، وكذلك الفاغية. والذعلبة يوصف بها النعامة والناقة الشديدة السريعة. ويقال: اذلعب البعير إذا أسرع. وسلافة الخمر: أول ما يخرج من عصيرها. وإضافة الخمر إليها على طريق التبيين. وهذا كما يفيده " من " من قوله: " فاجتنبوا الرجس من الأوثان ".
وقال آخر:
لمست بكفي كفه أبتغى الغنى ... ولم أدر أن الجود من كفه يعدي(1/1140)
فلا أنا منه ما أفاد ذوو الغنى ... أفدت وأعداني فأتلفت ما عندي
قوله " أبتغي الغنى " في موضع الحال، وأفدت بمعنى استفدت. يقول: لما زرته صافحته واضعاً كفي في كفه، وملتمساً الغنى من عنده، وراجياً نيل الخير في قصده، ولم أعلم أن السخاء يعدي من يده، فلا أنا استفدت من جهته ما استفاده الأغنياء منه، وأعداني لمس كفه الجود فأهلكت ما عندي أيضاً.
وقوله " ما أفاد " في موضع المفعول من قوله أفدت.
وقال آخر:
إذا لاقيت قومي فاسأليهم ... كفى قوماً بصاحبهم خبيرا
هل اعفو عن أصول الحق فيهم ... إذا عسرت وأقتطع الصدورا
يتبجح قائله عند المرأة التي خاطبها، بسهولة جانبه، وترك المناقشة في استخراج حقوقه، وسماحة نفسه بما يملكه، فيقول: إذا رأيت قومي فارجعي إليهم سائلةً عني، ومستخبرةً حالي ومعتمدةً على ما تسمعينه من قصتي وأمري، فكفى بقومي عالماً بي وبأخلاقي. وقوله " كفى قوماً بصاحبهم " مقلوب وكان الواجب أن يقول: كفى بقومي خبيراً بصاحبهم، ويعني بصاحبهم نفسه. والخبير: ذو الخبرة التامة والمعرفة الكاملة. وانتصابه على الحال إن شئت، وإن شئت على التمييز وقد وضع خبيراً موضع خبراً، ومثله في القرآن: " وحسن أولئك رفيقاً ". وفاعل كفى قبل القلب " بقومي " وهذا كقوله تعالى: " كفى بالله شهيداً " والباء زائدة.
وقوله: " هل أعفو عن أصول الحق فيهم " يريد سليهم هل أسامح بما يجب لي من أصول حقي، وهل أترك الاستقصاء في استخراجها، وهل أعنف بهم إذا تعسرت عندهم، وهل أجبى صدر ما يحل لي ويجب راضياً به، وغير معرج على أواخره وأعجازه، لئلا أكون مناقشاً في الاستقصاء مضايقاً، ويكون هذا مثل قول(1/1141)
الآخر:
إنا إذا شاربنا شريب ... له ذنوب ولنا ذنوب
فإن أبي كانت له القليب وقيل معنى " أقتطع الصدور " أراد به مودات الصدور، فحذف المضاف. وقيل: بل أراد بالصدور الرؤساء. والمراد من البيت أني أسامح في معاملة أوساط قومي لأمتلكهم بذلك، وأجعل رؤساءهم منصبين إلى ومائلين نحوي، لأني أقتطعهم عن غيري، وأعدل بهم عمن سواي.
وقال عمرو بن الإطنابة
إني من القوم الذين إذا انتدوا ... بدءوا بحق الله ثم النائل
المانعين من الخنا جاراتهم ... والحاشدين على طعام النازل
والخالطين فقيرهم بغنيهم ... والباذلين عطاءهم للسائل
والضاربين الكبش يبرق بيضه ... ضرب المجهجهعن حياض الآيل
يفتخر بأنه من القوم الذين إذا عقدوا مجلساً للنظر في أحوال الجيران لشدة الزمان، ولإصلاح الأمور في جوانب الحي عند فسادها، وكان اليوم مشهوداً، والتوفر على المصالح في الأباعد بعد الأقارب شديداً، ابتدأوا بإخراج حق الله تعالى جده الواجب عليهم في أموالهم، ثم كروا على النائل من بعد. ويريد بالنائل العطايا التي لا تجب في فرائض الدين ونوافلها، وإنما يقيمون بها المروءات، ويتطلبون بفعلها وجوه التحمد والتشكر.
وقوله " المانعين من الخنا جاراتهم " قصد فيه إلى تعداد خصالهم، ورواتب سيرهم، مع الإفضال التام، والبر العام، فقال: يمنعون جاراتهم " من الفحش " ويصونونهن من درن الريبة وقبح القالة، وإذا نزل بهم نازل حشدوا الطعام له -(1/1142)
والحشد: مالا تكلف فيه - ذلك ليكون أدنى لانبساطه، وأدعى إلى إقامته. ولو قال بدل الحاشد محتشد أو متحشد لكان لابد من اقتران الكلفة بما يأتون به. وتعلق " على " من قوله " على طعام النازل " بالحاشد، كأنهم يجتمعون على إعداد الطعام له، ويتعاونون في إزالة الوهم في أنه زيد على الحاضر منه، ليكون أهنأ، وعلى المجموع له أخف.
وقوله " والخالطين فقيرهم بغنيهم "، يريد أنهم يسوؤن بين طوائف الأقارب فترى الفقير منهم لايتميز عن الغني ولا ينحط في الإكرام عنه، فينقبض أو يمتعض، ثم يبذلون للأجانب والغرباء فراطهم وورادهم، لايذخرون وقدوراً عليه، ولا يعتلون بما يكون سببا في حرمانهم. والمعنى أن حرمانهم ليس بمقصور على ما يدلي بقربي وقرابة، بل تشترك فيه الكافة.
وقوله " والضاربين الكبش " وصفهم بأنهم يقاتلون الرؤساء متدججين في السلاح، فيضربونهم ضرب المدافع غرائب الإبل عن حياض الآبل. والآبل: صاحب الإبل الكثيرة. وقوله " يبرق بيضه " في موضع الحال. والمجهجه والمهجهج: الزاجر بقوله: هج هج، وجه جه. وقد حذف مفعول قوله ضرب المجهجه.
ويقال: فلان آبل من فلان، أي أحذق برعي الإبل وتثميرها.
والقاتلين لدى الوغى أقرانهم ... إن المنية من وراء الوائل
خزر عيونهم إلى أعدائهم ... يمشون مشي الأسد تحت الوابل
قوله " والقاتلين لدى الوغى أقرانهم "، أصل الوغى هو الجلبة والصوت، ثم كثر استعماله فصار كنايةً عن الحرب، فيريد أنهم يقتلون نظراءهم من الكماة والأبطال في الوغى، ومن أعدائهم في حال من أحوالهم فالمنية من ورائهم، لأنهم يمهلون ولا يهملون، ويطلبون أوتارهم ولا يضيعون.
وقوله " خزر عيونهم إلى أعدائهم "، يريد أنهم يتخازرون إذا نظروا إلى أعدائهم، فعل المتكبر المتوعد، فلا يملؤون أعينهم منهم، ولا يسؤون النظر إليهم، بل يتبين في نظرهم ما تنطوي عليه قلوبهم، وإذا مشوا رأيتهم كالأسد تحت المطر الشديد وهي تبادر إلى مواضعها من العرين.
والقائلين فلا يعاب كلامهم ... يوم المقامة بالقضاء الفاصل(1/1143)
ليسوا بأنكاس ولا ميل إذا ... ما الحرب شبت أشعلوا بالشاعل
أجرى قوله: " القائلين " مجرى قوله المتكلمين والناطقين، لذلك عداه بالباء فقال " بالقضاء الفاصل ". ومثله قول عمر بن أبي ربيعة:
بحاجة نفس لم تقل في جوابها ... فتبلغ عذراً والمقالة تعذر
أي لم تتكلم. ومما يدل على ذلك قوله " فلا يعاب كلامهم " ولم يقل قولهم. ويقال: فلان يقول بالإمامة، أي يدين بها ويعتقدها مذهباً. فيجوز أن يكون قوله على هذه الطريقة. وإنما وصفهم بأنهم مفوهون خطباء يفصلون الأمور عند المجامع بالحكم العدل، والقضاء الفصل، ولا يتجاوز مرسومهم، ولا يعاب مقضيهم؛ ثم إذا حضروا الحرب وأوقد نارها فليسوا فيها بضعاف العقد.
والأنكاس: جمع النكس، والنكس أصله في السهام، تنكسر فيجعل أسفلها أعلاها فتضعف. والميل: جمع أميل، وهو الذي لايستقيم على الدابة. وقوله " أشعلوا بالشاعل " يقول أوقدوا وهيجوا. والشاعل يجوز أن يراد به يسير الايقاد، والإشعال له تقويته، والباء مقحمة، والمراد أشعلوا الشاعل وقووه وزادوا فيه. ويجوز أن يراد بالشاغل ذا الشعل أو الإشعال أو الاشتعال، ويكون معناه المشعل، كما يقال: لابن وتامر، وحينئذ يكون الباء داخلاً على حده. والمعنى أشعلوها بالمشعل. ويقال: أشعلت الخيل في الغارة فشعلت وهي شاعلة، وأشعلت النار في الحطب فاشتعلت.
وقالت حبيبة ابنة عبد العزى
أإلى الفتى بر تلكأ ناقتي ... فكسا مناسمها النجيع الأسود
إني ورب الراقصات إلى منىً ... بجنوب مكة هديهن مقلد
أولى على هلك الطعام أليةً ... أبداً ولكني أبين وأنشد
تريد أتتلكأ ناقتي، أي أتتحبس وتتبطأ، فحذف إحدى التاءين تخفيفاً، لأن الإدغام ممتنع هنا. وبر: اسم الممدوح. والمعنى الإنكار والإستفظاع، وإن كان اللفظ على الاستفهام. وانجر بر على البدل من الفتى، والمراد أن ذلك لايكون، ثم دعت على ناقتها بالعرقبة فقالت: إن تأخرت أو تلومت في المسير فعقرها الله حتى يسيل دم(1/1144)
أسود ثخين على مناسمها فيصير كاللباس لها. والنجيع في الأصل دم الجوف، ويقال: تنجع به، أي تلطخ.
وقولها إني ورب الراقصات إلى منى أقسمت بالله مالك رواحل الحجيج وهي تسير إلى منى من جوانب الحرم وفيها الهدى المقلد. والهدى: ما يهدي إلى البيت، وكانوا يقلدونه ويجعلون في عنقه لحاء الشجر أو الصوف المفتول ليكون علامة لإهدائها.
وقولها أولى على هلك الطعام ألية هو جواب القسم، أي لا أولى، فحذف حرف للنفي ولم يخف الالتباس، لأنه لو أريد الإيجاب لوجب أن يقال: لأولين باللام وإحدى النونين، والمعنى لا أحلف على أن أصون طعامي ولا أطعم الناس، مدعية أنه قد نفد وهلك، ولكني أظهره وأنشد من أطعمه. ويجوز أن يريد بأنشد: أقول للزائر والماربي: أنشدك الله أن تفارق حتى تطعم. وقولها هديهن مقلد في موضع الحال للراقصات، وامتفى بضميرها في الجملة عن إدخال العاطف عليه، لأن الضمير يعلق الحال بما قبله كما يعلق حرف العطف. ومثله في القرآن: " سقولون ثلاثة رابعهم كلبهم "، والمراد بهديهن التكثير لا الواحد. وأبدا في المستقبل بإزاء قط في المضي.
وصى بها جدي وعلمني أبي ... نفض الوعاء وكل زاد ينفد
فأحفظ حميتك لا أبالك واحترس ... لا تخرقنه فأرة أو جدجد
تريد أن هذه الأفعال التي ذكرتها هي مورةثة عن الأسلاف، ومأخوذة عن عاداتهم، جدي وصى بها أبي، وأبي علمنيها فهم قدوتي، وهذه دأبي وسجيتي، أصب الزاد صبا، وأنفض وعاءه بعد أن أخليه نفضاً. والزاد كله لا يبقى وإن بخل به، فلماذا يكتسب الذم فيه. ثم أقبلت على من تذمه وتبخله فقالت متهكمة وساخرة منه: احفظ نحى سمنك لا أبالك - وهذا بعث وتحضيض - واحذر عليه الفأر والجدجدلا يقطعه.
وقد مر القول في قولهم لا أبالك وإعرابه. والفأر مهموز، ويقال مكان فئر، إذا كثر فأره.(1/1145)
وقال مالك بن جعدة
وأبلغ صلهباً عني وسعداً ... تحيات مآثرها سفور
فإنك يوم تأتيني حريباً ... تحل على يومئذ نذور
تحل على مفرهة سناد ... على أخفافها علق يمور
لأمك ويلة وعليك أخرى ... فلا شاة تنيل ولا بعير
يقول على وجه الإزراء بالمخاطب والغض منه: أبلغ عني هذين الرجلين تحيات ما يؤثر منها وعنها، ويتحدث بها، تتسع لها وتستغرقها سفور إذا اكتتبت ونسخت. والسفور: جمع سفر وأسفار وسفور. وفي القرآن: " يحمل أسفاراً ". والمآثر، واحدتها مأثرة، ويجوز أن ييد مكارمها التي تؤثر، أي تروى وتنسب، واضحة كسفور الصبح. ويقال: سفر الصبح وأسفر، وكان الأصمعي يأبى إلا أسفر.
وقوله فإنك يوم تأتيني حريباً، أي سلبياً، وانتصابه على الحال. ويوم مضاف إلى تأتيني على وجه التبين، وهو ظرف لقوله تحل على يومئذ نذور. وانتصب يومئذ على البدل من يوم تأتيني، وكأن الشاعر أراد عراه سائلاً فحرمه، ووعده بما لم يف به له فقال: إنك إن تأتيني حريباً وجدتني لك بخلاف ما كنت لي، وعلى نذور يلزمني الوفاء بها متى احتجت إلي ورأيتك على الحالة الداعية إلى الألمام بي، والقصد لي. ومعنى تحل علي تجب محلاً. والمفرهة: الناقة التي تلد الفره من الأولاد. والسناد: القوية.
ويقال للمرتفع في قبل جبل سند وسناد. أي أعقر في جملة النذور لك ناقة هكذا، فيمور أي يسيل العلق، وهو الدم على أخفافها.
وقوله لأمك ويلة دعاء عليه مصرحاً بالذم وذاكراً الحرمة منه بقوله لأمك ويلة. وقوله وعليك أخرى أي ويلة أخرى. واللام وعلى هنا متقاربان في المعنى. وقوله فلا شاة تنيل لك أن تنصب شاة بتنيل، ويرتفع ولا بعير على الاستئناف، كأنه قال ولا بعير مطموع فيه منك ومنول. ولك أن ترفعهماجميعاص، ويكون مفعول(1/1146)
تنيل محذوفاً، والمراد لا يرجى من جهتك شاة ولا ما فوقها. ويقال: نلت الشيء فهو منيل نيلاً، إذا كنت تتناول بيدك، وليس هو من التناول، لأن التناول من النوال، ويقال منه نلت أنوال. ومن الول قوله تعالى: " ولا ينالون من عدو نيلاً "، ومن الثاني: نولك أن تفعل كذلك.
وقال عبد الله الحوالي
لما تعيا بالقلوص ورحلها ... كفى الله كعباً به كعب
دعونا لها قيناً رفيقاً بمدية ... يجزئها ينا كما يجزأ النهب
يقال: عييت الأمر وعييت بالأمر. والقلوص في الإبل، يمنزلة الجارية في الناس. يقول: لما أعيا كعباً مزاولة القلوص وشد الرحل عليها كفاه الله أمرها، لأنا دعونا لها جزاراً حاذقاً بسكين لينحرها ويقسمها فينا كما يقسم المهب، أي المال المنتهب. والقين: الحداد في الأصل، واستعاره. وهم في ذوى المهن وأسماء الصناع يفعلون هذا. ألا ترى قول الآخر:
وشعبتا ميس براها إسكاف
والرحل: مصدر رحلت البعير، وإنما كعباً ما أعياه منها لنشاطها وعرضنتها في سيرتها. والضمير من قوله ماتعيا به راجع إلى ما. ويقال: تعيا عليه كذا، أي أعياه، قال أوس:
..........................كلما ... تعايا عليه طول مرقى توصلا
لعمري لقد ضيعت يا كعب ناقة ... يسيراً عليها أن يضر بها الركب
موكلة بالأولين فكلما ... رأت رفقة فالأولون لها نصب
أقبل على كعب يوبخه في أمرها، وذاك أنه كان كثر شكوه منها، فيقول: وبقائي لقد ضيعت ناقة يا كعب يخف عليها ويقل في قوتها إضرار القوم بها في الحمل(1/1147)
والركوب والاستحثاث في السير، فلا تبالي بما تحمل أو تكلف، حتى أنها كانت كالموكلة بالسابق المتقدم، فكلما رأت رفقة فالهوادي منها نصب عينيها حتى تلحق بها أو تتقدمها. ومعنى التصنيع أنها لم تكن سمينة ولا مستصلحة للنحر، وإنما كانت للعمل لا غير.
وقال حجر بن خالد
سمعت بفعل الفاعلين فلم أجد ... كمثل أبي قابوس حرماً ونائلاً
فساق إلهي الغيث من كل بلدة ... إليك فأضحى حول بيتك نازلا
فأصبح منه كل واد حللته ... من الأرض مسفوح المذنب سائلاً
يقول: بلغني سعي طالبي الحمد، ومدخري الشرف والمجد، وما عليه ملوك الأرض في مضصارفهم ومباغيهم، وحزمهم ومساعيهم، فقسمت بعضه ببعض، فلم أجد كحزم أبي قابوس حزماً، ولا كنائله نائلاً. ثم دعا له بالسقيا ولمحله بالخصب والحيا فقال: جمع الله لك وفي فنائك ما هو مفرق في أطرار الأرض، وجوانب الأفق، من سواكب الغيث، فصار حواليك، فأي واد نزلته من الأرض جعله ممطور التلاع والمذاني، مخصب المسايل والمدافع، سائلاً بصوبه، مغموراً بنداه وبركته. وانتصب حزماً على التمييز، والكاف من كمثل أبي قابوس زائدة، ومثله:
لواحق الأقراب فيها كالمقق
أراد فيها المقق، كما أن هذا يريد: لم أر مثل أبي قابوس. وفي القرآن: " ليس كمثله شيء "، ويروى: فسيق إليه الغيث في كل بلدة إليك. وكأنه أخبر في صدر البيت ثم خاطب على عاداتهم. وقوله من كل بلدة إليك أي إليك أمرها وتدبيرها، فصرت تتولاها. وهذا كما قال: جعل بلد كذا إلى فلان. والمراد من البيت على هذه الرواية: جعل الله الدنيا تحت أمرك، ومنوطة بتدبيرك، ثم ساق إلى الغيث من آفاقها وأطرارها كلها إلى ما حولك فصار محتفاً ببيتك،(1/1148)
ومشتملاً على مخلك. فأين تنقلت ونزلت صحبك الخير وانساق معك الغيث. وعلى هذا يكون قوله من كل بلدة عاماً في أقطار الأرض وأبلادها. وروى أيضاً: فسيق الغمام الغر من كل بلدة وهو ظاهر المعنى. وقوله فأصبح منه، أي من الغيث. وقوله كل واد وصفه بقوله حللته وانتصب مسفوح المذانب على أنه خبر أصبح.
متى تنع ينع البأس والجود والندى ... وتصبح قلوص الحرب جرباء حائلاً
فلا ملك ما يدركنك سعيه ... ولا سوقة ما يمدحنك باطلا
يقول: بقاء السخاء والمروءة وتقوى الإله والشدة، متصل ببقائك، لأنها شيمك وطبائعك، فأنت تقيمها وتربها، وتحفظها عن الذهاب والدروس وتحرسها فإن هلكت فقد هلك جميعها، ويصبح الاستسلام والانقياد لهضمية والشر شاملين للناس، فلا يكون بهم دونها دفاع، ولا إباء منها ولا امتناع، وتصير قلوص الحرب سيئة الحال يقتطعها الحيال عن اللقاح، ويمتلكها ما بنفسها من الجرب والضعف عن النزو والجذاب. وهذا مثل لما يفارق الناس من العز والاقتدار، ويلازمهم من الذل والاكتئاب. وضد هذا قول زهير:
............................ وتلقح كشافاً ثم تحمل فتتئم
فتنتج لكم غلمان أشأم كلهم ... كأحمر عاد ثم ترضع فتفطم
وقوله فلا ملك ما يدركنك سعيه يصفه بأنه لا غاية وراء غايته لمرتق ولا فوق نهايته نهاية لمعتل، فكل ساع من الملوك يقف دونها، وينحط عن درجتها، وأن السوق وإن أسرفوا وأفرطوا في التفريظ والإطراء، يقصرون عن بلوغ حده بالوصف، وتصوير كنهه عند النعت، بل أحسن أحوالهم أن يقولوا بعض ما قيل من الحق.
وأدخل النون الثقيلة في يمدحنك ويدركنك لما في الكلام من من معنى النفي، ولأن ما الزائدة للتأكيد لفظه لفظ ما النافية. ومثله:
في عضة ما ينبتن شكيرها(1/1149)
وبألم ما تختننه. وقوله ما يمدحنك باطلاً أراد مدحاً باطلاً، فانتصب باطلاً على أنه صفة لمصدر محذوف.
ومثل البيت الأول قول النابغة:
فإن يهلك أبو قابوس يهلك ... ربيع الناس والشهر الحرام
ونأخذ بعده بذناب عيش ... أجب الظهرليس له سنام
وقول الآخر:
فإذا ولي أبو دلف ... ولت الدنيا على أثره
وقال آخر:
ومستنبح بعد الهدو دعوته ... بشقراء مثل الفجر ذاك وقودها
فقلت لها أهلاً وسهلاً ومرحباً ... بموقد نار محمد من يرودها
نصبنا له جوفاء ذات ضبابة ... من الدهم مبطاناً طويلاً ركودها
فإن شئت أثويناك في الحي مكرماً ... وإن شئت بلغناك أرضاً تريدها
يعني بالمستنبح طالب ضيافة، وقد تقدم الكلام فيه. ومعنى دعوتهبشقراء أي رفعت له نار شقراء حتى اهتدى بها، فكأني دعوته. وجعل النار شقراء، وربما قيل صفراء، لأنها أوقدت خالية من طرح اللحم عليها فاشتعلت شقراء، ولو كبب عليها اللحم لالتهبت كميت اللون من أجل دخانها. لذلك قال الأعشى:
وأوقدتها صفراء في رأسي تنضب ... وللمكثت أروى للنزيل وأشبع
وذاك وقودها، أي مضى اتقادها. فقلت له أهلاً، انتصب أهلا بفعل مضمر. والباء من قوله بموقد نار تعلق بفعل مضمر، كأنه قال: ينال ذلك كله بوقد نار يحمدها من يرودها. ومعنى محمد من يرودها أي مصادف الحمد من يطلبها. ويقال: أحمدت فلاناً، كما يقال أجبنته وأبخلته.(1/1150)
وقوله نصبنا له جوفاء يعني به قدراً كثيرة الأخذ، واسعة الجوف. والضبابة: ما يتعقب المطر من الظلمة الرقيقة والسحاب الركيك. وذكرها هاهنا مثل. ويروى: ذات صبابة، وهي البقية، أي يفضل ما فيها عن الآكلين لعظمها. والدهم: السود. والمبطان: العظيم البطن. ومفعال بناء المبالغة. وجعلها طويلة الركود لأنها إذا نصبت لم تنزل إلا بعد لأي كبرها، ولأنه لا يخف محملها فيتناول كل وقت. وقوله فإن شئت أثويناك، هذا تخيير منهم للضيف بعد إطعامه، ويقال: ثوى بالمكان، إذا أقام؛ وأثواه غيره. وانتصب مكرماً على الحال. والمعنى: إن أردت المقام أقمت مكرماً معظماً، وإن أردت التوجه في مقصدك، والارتحال لطيتك، بلغناك مقرك محمياً مشيعاً.
وقال آخر:
ومستنبح تهوى مساقط رأسه ... إلى كل شخص فهو للسمع أصور
يصفقه أنف من الريح بارد ... ونكباء ليل من جمادى وصرصر
حبيب إلى كلب الكريم مناخه ... بغيض إلى الكوماء والكلب أبصر
يعني بالمستنبح ضيفاً. ومساقط رأسه: جمع مسقط، ويعني به المصدر لا اسم المكان. ومعنى تهوي تقصد وتسرع. ويقال في القرس: إنه يساقط العدو سقاطاً. واسقط علينا، أي اقصدنا. وقال:
يساقط عنه روقة ضارياتها ... سقاط حديد القين أخول أخولاً
أي يزيلها ويبعدها. ومعنى تهوي مساقط رأسه، أي يساقط رأسه الشخوص سقاطاً سريعاً. وقوله فهو للسمع أصور أي مائل. والسمع: مصدر سمع. ومعنى البيت: رب مستضيف بنباحه يتسرع ميل رأسه ومهواه إلى كل شخص يمثل له، فهو مائل للسمع، ومنتظر متى يجيبه الكلام أو يتلقاه من ينزله.
وقوله يصفقه أي يضربه. والأنف من الريح: أوله. ومنه استأنفت الأمر. وكلأ ألف، إذا لم يرع. وقوله ونكباء ليل يريد: وريح تنكب عن مهاب الرياح الأربع، في ليلة من ليالي جمادى. وصرصر، أي ورد شديد. والصر والصرصر(1/1151)
بمعنى، وليس من بناء واحد، لأن صرصر رباعي وذلك ثلاثي. وجمادى، يريد به شهراً من شهور الشتاء وإن لم يكن جمادى في الحقيقة. وإنما وصف ما قد أشرف عليه المستنبح من أذى الريح والبرد والمطر، ليكون ذلك عذراً في الاستنباح وطلب النزول.
وقوله حبيب إلى كلب الكريم مناخه، يجوز أن يرتفع حبيب على أنه خر مقدم، والمبتدأ مناخه. ويجوز أن يكون صفة للمستبيح. وقد جعل خبر مبتدأ مضمر، فيرتفع مناخه على أنه مفعول لم يسم فاعله من حبيب. ويقال: أنخت البعير إناخة ومناخاً فبرك. واستغنى ببرك عن ناخ. وإنما حبب مناخ الضيف إلى الكلب لأنه يسعد بنزوله ويشركه في القرى المهيأ له. وأضاف الكلب إلى الكريم، لأن كلب اللئيم يعقر السابلة والمارة، ولا يعرف الاستضافة والاستنزال. وقوله بغيض إلى الكوماء لأنها تنحر. والكوماء: العظيمة السنام. وقوله والكلب أبصر مما وقع في أحسن موقع وشرف المعنى به وجاد البيت.
حضات له ناري فأبصر ضوءها ... وما كاد لولا حضأة النار يبصر
دعته بغير اسم هلم إلى القرى ... فأسرى يبوع الأرض والنار تزهر
فلما أضاءت شخصه قلت مرحباً ... هلم وللصالين بالنار أبشروا
قوله حضأت له ناري جواب رب المضمرة في قوله ومستنبح. ومعنى حضأت النار رفعتها وهيجتها له فأبصرها واستدل بها، ولولا رفعى النار وتهييجي إياها لكان لا يبصر الطريق ولا يرى مستدلاً به. وفصل بين كاد وخبره بقوله لولا حضأة النار، وفي كاد ضمير المستنبح، لولا ذلك لما جاز أن يقال: زيد كاد يخرج، لأن الفعل لا يلي الفعل.
وقوله حضأة ارتفع بالابتداء وخبره محذوف استغنى بجواب لولا عنه، وجواب لولا في قوله: وما كاد يبصر لولا حضأة النار. وقوله دعته بغير اسم يريد: دعت الضيف النار، كأنه سمي استدلاله بها وتصور النار له دعاء منها وإجابة من الضيف. وقوله بغير اسم إنما نكره ولم يقل بغير اسمه، لأن المدعو قد يدعى باسمه، وبكنيته، وبلقب له، وباسم جنسه، وبصفة له، كقولك يا رجل، ويا فتى، ويا مقبل، ويا راكب، ويا فلان، ويأبا فلان. والنار(1/1152)
لم تدع الضيف بشيء من ذلك، فلذلك قال بغير اسم، أي بغير اسم يدعى به مثله. يجوز أن يكون قال ذلك لأن دعوتها لم تكن بكلام، وإنما كان علامة واستدلالا، كما أن الإجابة كانت قصداً وإسراء. وكذلك قوله هلم إلى القرى من ذلك، لأن النار لم تتكلم بهذا الكلام. وهلم يجوز أن يكون أصله هاء التتنبيه ولم فعل، وعلى هذا يثنى ويجمع. ويجوز أن يكون اسماً للفعل، وحينئذ لا يثنى ولا يجمع ولا يؤنث، وهذا أفصح اللغتين. وفي القرآن: " يقولون لإخوانهم هلم إلينا ". وقوله أسرى، يقال سرى وأسرى بمعنى. ويبوع الأرض أي يقطعها بخو واسع وحركة سريعة. يقال: بعت الشيء أبوع بوعاً في هذا. وفرس بيع: واسع الخطو. وكما استعمل البوع في هذا استعمل الذرع أيضاً. ومنه قيل ناقة ذرعة، إذا كانت واسعة الخطو. وقوله والنار تزهر الواو واو الحال، وتزهر أي تضيء في صعود. وقوله فلما أصاءت شخصه قلت مرحبا، أي لما دنا مني وتراءى لي شخصه بضوء النار تلقيته بالترحيب والاستدناء، وقلت لمن حول النار من اصطلين ومن الأهل والخول: استبشروا بالضيف فقد طرق، وبمرادنا فإنه حصل. ويقال صليت بالنار، أي دنوت منها، أصلي صلياً. وقوله: مرحباً، هلم: كلامان، ولم يتوسطهما العاطف، لأن مرحباً تسليم عليه، وهلم أمر بالدنو، فكأنه استانف هذا الكلام بعد التسليم بهذا الكلام، ولم يجمعهما اللفظ به في حالة واحدة.
فجاء ومحمود القرى يستفزه ... إليها وداعي الليل بالصبح يصفر
تأخرت حتى لم تكد تصطفي القرى ... على اهله والحق لا يتأخر
يقول: جاء الضيف وما هيىء له من القرى المحمود يجتذبه ويهديه إلى النار الموقدة والديك يصفر مؤذناً بإصباح الليل. وإنما قال ومحمود القرى لأن طعام الكرام لا يستنكف منه، ويستطيبه كل متناول ويستمرئه، كما يستكرم المثوى عندهم كل نازل بهم.
وقوله تأخرت استبطاء من القاري للضيف. والمراد أنك تأخرت عن أول الليل حتى كأنك لم تكد تطلب اختيار صفو القرى على النازلين، ونحن وإن فعلت(1/1153)
ذلك فلك الواجب من حقك، والمفروض من قسطك، ولن يتأخر إن تأخرت. والمعنى أنا نستأنف لك ونحتفل، ونقيم الرسم ونتكلف، ونفردك بما يجب لك وإن تقدمك من تقدم. والهاء من قوله على أهله يعود إلى القرى.
وقمت بنصل السيف والبرك هاجد ... بهازره والموت في السيف ينظر
فأعضضته الطولي سناماً وخيرها ... بلاء وخير الخير ما يتخير
يقول: قمت مجرداً السيف ومتجرداً لعقر ناقة، والإبل الباركة بفنائي نائمة ساكنة، عظام سمان، والموت ينظر في سيفي: أيها المعد والموعود به. وإنما قال والبلارك هاجد ولم يقل هاجدة، رداً على لفظه، لأن لفظه لفظ الواحد وإن أريد به الكثرة. ورد بهازره على المعنى لا على اللفظ. والهجود: النوم، وقال الخليل: هجدوا، أي ناموا، هجوداً؛ وتهجدوا: استيقضوا، تهجداً. والبهازر: السمان الصفايا، واحدتها بهزار في القياس. والواو من قوله والموت في السيف ينظر واو الحال. وقد حسن موقع هذا العجز من صدر البيت. ويجوز أن يكون المعنى: والموت راكب في السيف ينتظر ماذا يكون مني.
وقوله أعضضته الطولى سناماً أي عرقبتها به، وجعلته يعض عليها. وانتصب سناماً على التمييز، وكان الواجب في مقابلة الطولي أن يقول: والخوري بلاء، أو خوارها بلاء، فعدل به الوزن عن تخير المقابلة. ومعنى خيرها بلاء يعني في العمل والولادة وغزارة الدر. وقوله وخير الخير ما بتخير يريد أن البرك كلها خيار، ثم أني اخترت من بينها خيرها، إكراماً للضيف، وخير الخير ما يتخير من الخير.
فأوفض عنها وهي ترغة حشاشة ... بذي مفسها والسيف عريان أحمر
فباتت رحاب جونة من لحامها ... وفوق بما في جوفها يتغرغر
قوله أوفض عنها يريد أن البرك لما جرى مني على صاحبتها التي اخترتها ما جرى من العرقبة نفرق وتفرقن عنها، وهي، يعني المعقورة، ترغو بروحها حشاشة، وقال بذي نفسها يريد خالصة نفسها. والحشاشة: البقية من ذمائها، وقال الخليل: روح القلب، وهو رمق من حياة النفس. وانتصابه على الحال، ويجوز أن ينتصب على التمييز، فيكون مما نقل الفعل عنه، كأنه كان وهي ترغو(1/1154)
حشاشتها، فنقل الفعل إليها، فصار تمييزاً كقولك طبت نفساً وما أشبهه. وقوله والسيف عريان أحمريريد انه متجرد من غمده. ولم يصرف عريان ضرورة، وجعله أحمر مما تلطخ من دمها. وقوله فباتت رحاب يعني القدر. ويقال: رحيب ورحاب، كما يقال: طويل وطوال، وعجيب وعجاب، وهي الواسعة. والجونة: السوداء. وقوله من لحامها خبر باتت، كقولك أنت مني. والمعنى: باتت مملوءة من لحامها. وقوله وفوها يتغرغر أي يسيل ما في جوفها، يعني عند غليانها علة النار. ومثله:
إذ لا تزال لكم مغرغرة ... تغلي وأعلى لونها كتر
والكثر: السنام، ويكون أبيض اللون.
آخر:
وما يك في من عيب فإني ... جبان الكلب مهزولي الفصيل
إنما قال جبان الكلب لأنه عود أن يسالم الطراق لئلا يتأذى به الضيوف إذا وردوا، فقد أدب لذلك ودرب عليه، ولأنه بطول اعتياده لنزول السابلة بهم ألفهم، فصار لا يستنفر منهم. وقال مهزول الفصيلي لأنه يؤثر بلبن أمه غيره أو تنحر عنه. ومثله قول الآخر:
ترى فصلانهم في الورد هزلى ... وتسمن في المقاري والحبال
وقال آخر:
سأقدح من قدري نصباً لجارتي ... وإن كان ما فيها كفافاً على أهلي
إذا أنت لم تشرك رفيقك في الذي ... يكون قليلاً لم تشاركه في الفضل
سأقدح، أي سأغرف من قدري نصيب الجارة وإن كان ما فيها كفافاً على أهلي، أي لا يفضل عنهم ولا ينقص من حاجتهم. وفي طريقته قول الآخر:
نقسم ما فيها فإن هي قسمت ... فذاك وإن أكرت فعن أهلها تكرى(1/1155)
قسمت بمعنى تقسمت، ومثله نبه بمعنى تنبه، ووجه بمعنى توجه. ومعنى أكرت نقصت، يريد أنه يوفر نصيب الغريب ولا ينقص منه، بل يجعل النقصان في نصيب العيال. وكذلك قول الآخر:
ليس العطاء من الفضول سماحة ... حتى تجود وما لديك قليل
يريد: والذي لديك قيليل وقال الراعي:
إني أقسم قدري وهي بارزة ... إذ كل قدر عروس ذات جلباب
أي مستورة مغطاة، لشدة الزمان.
وقال عمرو بن الأهتم
ذريني فإن الشح يا أم هيثم ... لصالح أخلاق الرجال سروق
ذريني وحطي في هواي فإنني ... على الحسب الزاكي الرفيع شفيق
يقول: اتركيني على أخلاقي وإن أنكرتها فإن ما تبعثين عليه من الإمساك والإبقاء على المال هو البخل، والبخل مزر بأخلاق الرجال الكريمة، ومستهلك متحيف لها، وواضع من عوالي رتبها. ذريني وحطي أي اتركيني واخفضي من كلامك ووصاتك فيما أهواه وأوثره. وكرر ذريني على طريق التأكيد ومظهراً التبرم بإفراطها. والمراد: انزلي عن مراكبك في اللوم واتبعي هواي، فإنني مشفق على الحسب الذي رفعت بناءه، إذ كانت الأحساب متى لم تتفقد بالعمارة استرم بناؤها وشيكاً، وتهدمت وبارت أخيراً.
ذريني فإني ذو فعال تهمني ... نوائب يغشى رزؤها وحقوق(1/1156)
وكل كريم يتقي الذم بالقرى ... وللحق بين الصالحين طريق
يقول: اتركيني واختياري، فإني قدمت مساعي تقتضيني مراعاتها، وأسست مباني تدعو إلى استكمالها وتبعث على الزيادة فيها، وعودت الناس مني عادات توجب على الصبر لها وعليها، وتغشاني نوائب تنوبني، وحقوق يلزمني الخروج منها. ثم إن الكرام يتقون ببذل القرى وإقامته على أشرف وجوهه ذم النزال، وشكو الطراق. ولقضاء واجبات الحقوق في الكرم والمروءة طريقة مسلوكة معروفة، متى أخل بها ولم تعمر باستطراقها والنظر في مصالحها والإنفاق في استبقائها، درست وخفيت. ويروى: وللحمد بين الصالحين طريق، والمعنى ولكسب الحمد. ومعنى يغشى رزؤها أي يغشاني رزؤها، فحذف المفعول، أي إصابة الناس وانتفاعهم بي. ويقال منه: هو مرزأ، إذا كان سخياً ينال الناس إفضاله.
وقال عروة بن الورد
إني امرؤ عافى إنائي شركة ... وأنت امرؤ عافى إنائك واحد
أتهزأ مني أن سمنت وأن ترى ... بوجهي شحوب الحق والحق جاهد
أقسم جسمي في جسوم كثيرة ... وأحسو قراح الماء والماء بارد
قوله عافي إنائي شركة أي يأكل معي عدة يشاركونني فيما في الإناء، وأنت رجل تأكل وحدك فعافى إنائك واحد. وأصل العافى من عفاه واعتفاه، إذا طلب معروفه، فأعفاه أي أعطاه، كما يقال: طلب منه فأطلبه، ومنه عافية الطير والسباع. وأنشد بعضهم فيه:
لعز علينا ونعم الفتى ... مصيرك يا عمرو للعافية
أي السباع والطيور، وقيل: بل أراد العواد. ومثله قول حاتم:
يرى البخيل سبيل المال واحدة ... إن الجواد يرى في ماله سبلا
لأن قوله سبيل المال واحدة يريد إنفاقه على نفسه دون غيره.(1/1157)
وقوله أتهزأ مني أن سمنت أي لأن سمنت ولأن ترى بوجهي شحوب الحق. وأضاف الشحوب إلى الحق لأن سببه كان توفره على إقامة الحقوق وأدائها في وجوهها. وهم يضيفون الشيء إلى الشيء لأدنى مناسبة بينهما، فكأنه قال الشحوب الذي كان سببه توفري علة الحق، وتوفيري الأزواد على طلابها. وقوله والحق جاهد يريد القيام بالحق في الشدائدوأدائه يجهد النفوس ويغير الألوان وينضي الأبدان.
وقوله أقسم أراد قوت جسمي وطعمته، لأني أوثر به الغير على نفسي وأجتزىء بحسو الماء القراح، وهو البحت الذي لا يخالطه شيء من اللبن وغيره، والماء بارد، أي والشتاء شات والبرد متناه. وقال بعضهم: المهزول يجد برد الماء أكثر مما يجده السمين. وأنشد:
عافت الماء في الشتاء فقلنا ... بل رديه تصادفيه سخينا
أي سمنت فرديه تصادفي حاراً ما صادفته بارداً. قال: ويدل على انه كنى عن الهزال ببرد الماء قوله:
أتهزأ مني أن سمنت وأن ترى ... بوجهي شحوب الحق والحق جاهد
وقال آخر:
أجلك قوم حين صرت إلى الغنى ... وكل غنى في القلوب جليل
وليس الغنى إلا غنى زين الفتى ... عشية يقرى او غداة ينيل
يقول: لما استغنيت عظمت في عيون الناس فأجلوا قدرك ورفعوا مكانتك، وكذا الأغنياء مواقعهم من النفوس عظيمة، ومحالهم في الأفئدة والقلوب جليلة رفيعة، وأقدارهم موقوفة على سعة أحوالهم، ومردودة إلى مقادير قدرهم، لكن الغنى المحمود المتفق على فضله عند التحصيل هو ما يزين الفتى فلا يشينه، ويكسب له الحمد والذخر فلا يذيمه، عشية ينزل الأضياف فيكرم مثواهم، أو غداة ينيل العفاة ويوسع في فنائه مأواهم.(1/1158)
وقال المثلم بن رياح
بكر العواذل بالسواد يلمنني ... جهلاً يقلن ألا ترى ما تصنع
أفنيت مالك في السفاه وإنما ... أمره السفاهة ما أمرنك أجمع
يقول: بكر اللوائم في سواد الليل، ولم تصبر إلى وقت الإصباح، حرصاً من نفوسهم على تقريعي وتوبيخي، لجهلهن وضعف رأيهن، وقصور بصائرهن عن معرفة ما لهن وعليهن، يقلن لي مستعظمات لما آتيه، ومستنكرات لما أنفقه وأفرقه: ألا ترى ما تأتي وما تذر. وإنما صلح أن يقول بكرن بالسواد لأن البكور الابتداء في الشيء، ومنه باكورة الربيع، والبكر في النساء.
وهذا كما قال غيره: " ألا بكرت عرسي بليل تلومني " وقوله " أهلكت مالك " هو تفسير ما أبهمه قوله " ألا ترى ما تصنع " والمعنى: صرفت مالك فيما هو سفه وضلال، وغباوة وضياع. ثم قال: وإذا تؤمل الحال فيما يراودنك عليه فالأمر بالسفاهة ما أمر نكه كله. جعل يخاطبنفسه بذلك. ويقال: أمرتك كذا وبكذا. قال الشاعر: " أمرتك الخير فافعل ما أمرت به " فجمع بين الوجهين. وفي القرآن: " فاصدع بما تؤمر ". ويجوز أن يكون معنى أمر السفاهة الأمر الذي تولد عن السفاهة، ويكون الإضافة فيه إضافة المسبب إلى السبب، كأنه جعل السفاهة فيهن ومنهن. وقوله " ما أمرنك " ما مع الفعل في تقدير المصدر، وأجمع توكيد له. والسفاهة والسفاه والسفه: الخفة والطيش. ويقال: زمام سفيه كما يقال زمام عيار. وسفهت الريح الغصن: حركته. وتسفهت الرياح: اضطربت. و " يلمنني " في موضع الحال.
وجهلاً يجوز أن تكون مفعولاً " له "، ويجوز أن تكون في موضع الحال. و " ألا ترى " ما تصنع " في موضع(1/1159)
مفعول يقلن. وما من قوله " ما تصنع " يجوز أن يكون بمعنى الذي، وقد حذف المفعول من صلته، يريد تصنعه. ويجوز أن يكون مفعولاً مقدماً لتصنع، والمعنى أي شيء تصنع.
وقتود ناجية وضعت بقفزة ... والطير غاشية العوافي وقع
بمهند ذي حلية جردته ... يبرى الأصم من العظام ويقطع
قوله " وقتود ناجية " انجر بإضمار رب، وجوابه وضعت بقفزة، والواو من قوله والطير واو الحال. فيقول: رب رحل ناقة سريعة وضعته بمكان خال وتركته، لأني عرقبتها، والطير عوافيها تغشاها وتقع عليها. وأكثر ما يجيء المجرور برب يجيء الجواب، وها هنا لم يصفه. وقوله " غاشية العوافي " وجب أن يكون فيه ضمير للناقة، حتى يكون بين ذي الحال وبينه تعلق، فحذف ذلك الضمير لأن المراد مفهوم، ولو أتى به لكان والطير غاشية العوافي إياها وقع عليها. والعوافي: جمع عافية، وهو من قولهم عفاه واعتفاه؛ وقد مر ذكره.
وقوله " بمهند " تعلق الباء منه بقوله وضعت بقفزة، لأنه لم يحط الرحل عن الناجية ولم يضعها " بالقفزة " إلا وقد عرقبها، فكأنه " جعل ": وضعت بقفزة دلالةً على العقر والعرقبة.
وقوله " ذي حلية " يريد أنه كان ملطخاً بالدم، فجعل ذلك الدم كالحلية لها. وقوله " يبرى الأصم من العظام ويقطع " يعني بالأصم ما ليس بأجوف، وذلك أصلب، فإذا برى الأصم فهو للمجوف أبرى.
لتنوب نائبة فتعلم أنني ... ممن يغر على الثناء فيخدع
إني مقسم ما ملكت فجاعل ... أجراً لآخرة ودنيا تنفع
قوله " لتنوب " تعلق اللام بفعل مضمر دل عليه ما تقدم، كأنه قال: فعلت ذلك لكي إذا نابت نائبة علمت أني أنهض فيها، وأطلب الأحدوثة الجميلة في دفعها، وأني أحمل على الغرر، وأخدع عن المال بالثناء والشكر. ثم قال: إني أقسم ما أملكه بين أمرين: مدخر للآخرة، ومنتفع به في الدنيا. وجعل قوله لآخرة ودنيا نكرتين، وقد جاء في غير هذا المكان دنيا في صورة المعرفة،(1/1160)
قال: " في سعي دنيا طال ما قد مدت " ووجه التنكير فيها وفي آخره أن يراد أجر عائد في أمد من آماد الآخرة، ومنفعة في مثله من الدنيا، وكان الواجب أن يقول ومنفعة لدنيا، حتى يكون لفق الأول فيما ساقه من الكلام، وتفسيراً لما قسمه من مصارف المال، إلا أنه رمى بالكلام على ما ترى لما لم يلتبس.
وقال أبو البرج القاسم بن حنبل
أرى الخلان بعد أبي خبيب ... وخجر في جنابهم جفاء
من البيض الوجوه بني سنان ... لو أنك تستضيء بهم أضاءوا
لهم شمس النهار إذا استقلت ... ونور ما يغيبه العماء
هم حلوا من الشرف المعلى ... ومن حسب العشيرة حيث شاءوا
الجناب: ناحية القوم. ويقال: فلان رحب الجناب، كأنه استجفى نبوهم فعتب عليهم، ثم أخذ يمدحهم ويستعطفهم، فيقول: أجد الأصدقاء بعد هذين الرجلين يجفو جنابهم عني وينبو جانبهم، وهم من القوم الكرام الغر الوجوه، أذكر بني سنان. فقوله بني سنان يجوز أن ينتصب على المدح والاختصاص، ويجوز أن يجعل مجروراً على البدل من البيض الوجوه. وإنما وصفهم بنقاء الحسب وانتفاء العار والعيب من الذمم. قال: فلو استضأت بنور وجوههم لأضاءوا في بهم الظلم، فلهم مننور الكرم مثل شمس النهار إذا ارتفعت وعلت، ومثل نور الليل لا يستره ظلام، ولا يخفيه عماء، وهو الغيم الرقيق، ومثل نور الليل الذي اكتسبوه، ويحميد أفعالهم شيدوه، المعلى يعني المرفع، إلى أبعد الغايات، وأقصى النهايات. ويجوز أن يكون أراد القدح المعلى، لأنه أشرف القداح وأكثرها أنصباء، فجعله مثلاً لأرفع المدارج وأسنى المراتب. وقوله ومن حسب العشيرة يريد به المتوارث، أي نزلوا منه حيث اختاروه وأحبوه. ومراده أنه جمع لهم بين المكتسب والمتوارث من الشرف ةالحسب. وأضاف الحسب إلى العشيرة لأنهم شركاء في التليد منه.(1/1161)
وأزيد مما قصده في قوله من البيض الوجوه بني سنان قول الآخر:
بناة مكارم وأساة كلم ... دماؤهم من الكلب الشفاء
فأما بيتكم إن عد بيت ... فطال السمك واتسع الفناء
وأما أسه فعلى قديم ... من المعادي إن ذكر البناء
فلو أن السماء دنت لمجد ... ومكرمة دنت لهم السماء
البناة: جمع بان. والأساة: جمع آس، وهذا الجمع يختص بالمعتل، كما أن فعلة نحو كفرة وظلمة يختص بالصحيح. والآسي: مداوي الجراحات. والكلم: الجرح. وهذا مثل لشدة الهوال واضطراب الأحوال. والمعنى: إذا تفاقمت الأمور، وحرجت بما اجتمعت فيها الصدور، فإنهم يتلافونها بعنفهم او لطفهم، وهم ملوك ففي دمائهم شفاء من عض الكلب الكلب، وهو الذي يكلب بأكل لحوم الناس، فيأخذه من ذلك شبه الجنون، فلا يعض إنساناً إلا كلب.
ويقال: إن من عضه ينبح نبيح الكلاب فينتظر به سبعة أيام، فإن بال هنات على خلقة الكلاب برأ، وإلا مات بزعمهم. ويقولون: إنه لا دواء له أنجع من شرب دم ملك. ومثله قول الفرزدق:
ولو تشرب الكلبى المراض دماءنا ... شفتها وذو الخبل الذي هو أدنف
وقوله فأما بيتكم إن عد بيت فإنه يريد: إذا عدت البيوت فبيتكم طويل السمك ثابت الأس، فسيح الساحة والفناء، واسع الأقطار والأرجاء. والسمك: أعلى البيت الداخل، فأما أعلاه الخارج فإنه الصهوة. والعادي: القديم، نسب إلى عاد. فيريد: بناء شرفكم قديم، ومكانه وسيع، وسموقة رفيع، ورسوخة عميق.
وقوله: فلو أن السماء دنت لمجد، يريد لو ملكت السماء الدنو والانحطاط عن موضعه الذي سمك فيه ليرتقي إليها مجدهم، أو ليشارك الأرض في إقلالهم وإيوائهم، والاحتواء على مكارمهم، لفعلت ذلك، ولكنها عاجزة غير مالكة.(1/1162)
وقال أرطاة بن سهية
لو أن ما نعطى من المال نبتغي ... به الحمد يعطي مثله زاخر البحر
لظلت قراقير صياماً بظاهر ... من الضحل كانت قبل في لجج خضر
قوله نبتغي موضعه نصب على الحال، وموضع يعطى مثله الجملة رفع على أنه خبر أن، وقد حذف الضمير العائد إلى ما من قوله نعطي، كأنه قال: لو أن الذي نعطيه من المال مبتغين به الحمد يعطى مثله طامي البحر ومرتفعه لظلت سفن راكدة وواقفة بظاهر من الماء قليل، كانت من قبل في معاظم من البحر خضر كثيرة. وقوله لظلت جواب لو. وقوله كانت قبل من صفة القراقير، وهي السفن، والواحد قرقور. وقد فصل بين الصفة والموصوف بخبر لظلت وهو قوله صياماً. يريد أن السفن التي كانت في الماء في بحر تعود بمثل العطايا منه إلى أن تكون واقفة في ضحل، إذ كان ماؤه لا يقوم مع الإغتراف منه لما يقوم له ما لنا على الإسراف العظيم منه. والضحل: الماء القليل، والجميع الضحول. وأتان الضحل: صخرة بعضها في الماء مغمور ةبعضها ظاهر مكشوف، فيصلب ويملاس. واللجج: جمع لجة، وهي معظم الماء. ويقال: التج البحر. والصيام: القيام. والزاخر من البحور: الطامي الماء، المرتفع الموج. وإذا جاش القوم لنفير أو حرب، قيل زخروا.
ولا نكسر العظم الصحيح تعذراً ... ونغني عن المولى ونجبر ذا الكسر
غلبنا بني حواء مجداً وسودداً ... ولكننا لم نستطيع غلب الدهر
يصف كرمهم في عشيرتهم، وأنهم يتعطفون على الضعاف الفقراء منهم ويتحدبون، فيجبرون كسرهم، ويسدون مفاقرهم، ويظهرون الغنى عن مواليهم، فلا يصلحون أحوال أنفسهم بل يوفرونهم على مصالح أمورهم، ويخلونهم واختياراتهم في مباغيهم ومكاسبهم، ومن كان مستقيم الأمر واسع المراد يقوم برم عيشه، وينهض بتدبير تجمله، لا يلحون عليه في نوائبه، ولا يضاعفون المؤن في مصارفه، متوصلين بذلك إلى الغض منه والحط من قدره، وجلاله ومكانه، لحسدهم واستعلائهم.(1/1163)
وقولهم غلبنا بني حواء، يريد أنا قهرنا الناس على طبقاتهم وتباين منازلهم رياسة وشرفاً، فلما جاء الدهر يغلبنا على ما نريده من استبقاء وبقاء، واستصلاح وصلاح، لم نستطيع دفعه، ولم نطق غلبته ومنعه. وانتصب قوله تعززاً على انه مصدر في موضع الحال، ولا يمتنع أن يكون مفعولاً له.
وقال حجر بن حية
ولا لأدوم قدري بعج ما نضجت ... بخلاً لتمنع ما فيها أثافيها
لا أحرم الجارة الدنيا إذا اقتربت ... ولا أقوم بها في الحي أخزيها
ولا أكلمها إلا علانية ... ولا أخبرها إلا أناديها
قوله لا أدوم يريد لا أطيل إدامة قدري بعد إدراكها على الأثافي، بخلاً بما فيها، ولتمنعها عن طلابها أثافيها. جعل المنع للأثافي، لأنها لما لم تغرف ما دامت منصوبة على الثافي جعل الفعل لها، كأنها هي المانعة. وانتصب بخلاً على التمييز أو على الحال إن شئت. ويقال: أدمت الشيء، إذا سكنته ودومته أيضاً. والماء الدائم: الساكن الذي لا يجري، وكأن البخيل منهم يفعل ذلك ليرى أن القدر لم تدرك، وأن ما فيها لم نضج، انتظاراً لمن تأخر عنه ويوجب الحال حضوره. وقوله لا أحرم الجارة الدنيا إذا اقتربت، يريد أنه يشركها في فصل نعمته بعج دنوها من داره، وأنه لا يطلب عثراتها ولا يقبح آثارها، فلا يقوم بذكرها في الحي مخزياً لها. وقال بعضهم: أراد لا أحكي عليها قبيحاً. يقال: قام بي فلان وقعد، أي نثا عني قبيحاً. وقوله أخزيها يجوز أن يكون ألف النقل دخل على خزي خزياً من الهوان، ويجوز أن يكون دخل على خزي خزاية من الاستحياء، وذاك لأنها إذا ذكرت بالقبيح أو شهرت بما تستره وكشفت، فقد تستحيي كما تذل، أو تذل كما تستحيي.
وقوله ولا أكلمها إلا علانية انتصب علانية على أنه مصدر في موضع الحال، وكذلك قوله إلا أناديها، الجملة في موضع الحال، ونظام الكلام يقتضيه أن يقول: ولا اخبرها، إلا أنه لما كان الغرض إلا منادياً لها، ناب الفعل عن المصدر، ولا يجوز في علانية أن يكون تمييزاً، بدلالة أن الصدر يجب أن يكون(1/1164)
حكمه حكم العجز، ومن الظاهر أن أناديها في موضع الحال، والمعنى أنه لا يقف، لسلامة طريقته وتكامل عفته، الجارة في مواقف التهمة، فلا يخفي مكالمتها، ولا يخاطبها مخبراً لها إلا برفع صوت ونداء عال. كل ذلك هرباً من قرفة تحصل، أو تهمة تتوجه، وهذا هو الغاية في العفاف، والدرجة القاضية في التوقي من العار.
وقال المساور بن هند بن قسيس بن زهير
فدي لبني عبد غداة دعوتهم ... بجو وبال النفس والأبوان
إذا جارة شلت لسعد بن مالك ... لها إبل شلت بها إبلان
خبر المبتدأ الذي هو فدي قوله النفس، وجو وبال أضاف الجو إلى وبال، وهو اسم ماء. وإنما دعا لبني عبد بالتفدية لأنه وجدهم عند الظن بهم لما استنصرهم على أعدائه بجو وبال. وقوله إذا جارة ظرف لقوله شلت به غبلان، وهو جوابه. وتلخيص الكلام: إذا شلت إبل لجارة لسعد بن مالك شلت بسببها ولمكانها إبلان، وذلك لكرم محافظتهم، وللعز اللاحق في معاقدة جوارهم. ومعنى شلت: طردت، شلا. وقد فصل بين المرتفع به وهو إبل، وبينه بقوله لسعد بن مالك، ولولا أن حكمه الظروف وقد توسعوا فيها، لكان ذلك غير جائز، لأن الفصل بين الفعل وبين المبنى عليه بأجنبي لا يجوز عندنا. ألا ترى أنهم امتنعوا من جواز قول القائل: كانت زيداً الحمي تأخذ، وإن جوزوا: كان في الدار زيد واقفاً، لكون الحائل هنا ظرفاً وفي ذاك غير ظرف. وأما قوله لها إبل فموقع لها أن يكون بعد إبل، لأنه صفة لها، والصفة لا تتقدم على الموصوف، كما أن الصلة لا تتقدم على الموصول، لكنها قدمت على ان تكون حالاً، والحال كما يتأخر يتقدم إذا لم يمنعه مانع، فهو كقول الآخر:
لمية موحشاً طلل ... كأن رسومها الخلل
وتقدم لها على إبل كتقدم موحشاً على طلل.(1/1165)
وقوله إبل، اسم صيغ للجمع، ويتناول الكثير دون القليل. وقد ثنى هاهنا على فرقتان، فقيل إبلان. وهذا كما يقال قومان ةعشيرتان وأهلان. وقوله شلت بها، أي من أجلها وبسببها. ويروى: شت لها إبلان، ويرجع معناه إلى معنى الباء، وذلك لأنه في معنى المفعول له، أي شلت عوضاً عما شل منها، فيكزن لها الأولى في موضع الحال كما قلت، لكونه صفة متقدمة، وضميرها يرجع إلى الجارة لا غير، أي إبل متملكة لجارة لقبيلة سعد بن مالك. ولها الثانية تكون في موضع المفعول له، والضمير منها يعود إلى الإبل إن شئت، وإن شئت إلى الجارة. فاعرف الفصل بينهما إن شاء الله.
إذا عقدت أثناء سعد بن مالك ... لها ذمة عزت بكل مكان
إذا سئلوا ما ليس بالحق فيهم ... أبى كل مجني عليه وجان
ودار حفاظ قد حللتم مهانة ... بها نيبكم والضيف غير مهان
قوله إذا عقدت أفناء سعد بن مالك، يصفهم بحسن التعاون والترافد فيما بينهم، وانتفاء التخاذل والتباين عن سيرهم وأخلاقهم، فإنهم يد واحدة على من سواهم، لا استبداد للكبيرفيهم، ولا انحطاط للصغير منهم، بل كل يرضى فعل صاحبه، واختصاص النفر منهم في الأمور كفعل الجمهور، فمتى دخل واحد من أفنائهم في الأمر العظيم وتكفل به، أعانه الرؤساء حتى يخرج منه، لا يهملون أمره، ولا يستهينون بشأنه. وإن عقدت أوساطهم أو المتأخرون منهم ذمة لها عزت تلك الذمة وغلبت في الأماكن كلها، وجب الوفاء فيها عليهم بأسرهم، لا اختلال منهم في دفعها، ولا انفكاك لهم من ملازمتها.
وقوله إذا سئلوا ما ليس بالحق فيهم، يريد أنهم إذا سيموا خطة الضيم اجتمعوا على اجتوائها والتسخط لها، واترين كانوا أو موتورين، وطالبين كانوا أو مطلوبين، لما يفرضونه على أنفسهم من إباء الدنية، والتشارك في طروق البلية، إلى أن تنقضي بمدافعتهم لها، وبالانتقام من جالبيها. وقوله ودار حفاظ قد حللتم، يعني أنهم نزلوا دار المحافظة على الشرف رأوا مراغمة الأعداء لدى الصبر على الكلف، وحسن ثيابهم، وكرم بلاؤهم، وطابت أخبارهم، وكثرت غاشيتهم، لأنهم يهينون كرائم أموالهم، ويعزون ضيوفهم.(1/1166)
وهذا كما قال الآخر:
ودار حفاظ أطلنا المقام ... بها فحللنا محلاً كريماً
إذا كان بعضهم للهوان ... خليط صفاء وأما رءوماً
وقال:
جزى الله خيراً غالباً من عشيرة ... إذا حدثان الدهر نابت نوائبه
فكم دافعوا من كربة قد تلاحمت ... علي وموج قد علتني غواربه
يقول متشكراً وداعياً: جزى الله غالباً من بين العشائر خيراً أشد ما كان حاجة إلى من يكافئه على مستحدث بلائه الحسن في أضيق أوقات النوب، فكممرة دافعوا دوني واشتلوني من كرب انضمت علي، وأطبقت لها الدنيا بظلامها لدي، فكأني غريق تتلاعب الأمواج بي، وتقامسني في غمارها، وترادني في لججها.
وقوله: حدثان الدهر، مصدر حدث. الكربة: الاسم من الكرب، وهو الغم الذي يأخذ بالنفس. والمتلاحم: الملازم بعد أن كان متبايناً. ويقال: التحم وتلاحم بمعنى. والغارب: أعلى الموج، وأعلى الظهر. ومنه قولهم: حبلك على غاربك. وكم موضعه من الإعراب نصب على الظرف، والمعنى فمراراً كثيرة دافعوا دوني.
إذا فلت عودوا عاد كل شمردل ... أشم من الفتيان جزل مواهبه
إذا أخذت بزل المخاض سلاحها ... تجرد فيها متلف المال كاسبه
يقول: إذا عرض على كل واحد من بني غالب معاودة الحروب والكرور فيها عاد منهم كل رجل تام الخلقة ممتد القامة، كريم النفس، كثير العطية. وأصل الشم ارتفاع الأنف. ولك ان تروى: أشم جزل، وأشم جزل، فالرفع على كل والجر على شمردل. والشمردل: الطويل. والشمم كناية عن الكرم.(1/1167)
وقوله إذا أخذت بزل المخاض سلاحها فالمراد بسلاحها محاسنها وأمارات عتقها وكرمها، كأنها تتحلى بتلك المحاسن في عين أربابها حتى تحلى، فيصير ذلك سبباً للضن بها. وقوله متلف المال كاسبه هو كقولهم: مفيد مفيت، ومخلاف متلاف، ومخلف متلف. والبزل: جمع بازل، وهو المتناهي قوة وشباباً. وأصل البزل الشق. والمخلض: النوق الحوامل، وهو اسم مصوغ للجمع كالقوم والنسوة. ومعنى تجرد فيها أي تشمر في عقرها ونحرها، يريد أن تحسنها بسلاحها في عينه لا يجدي عليها نفعاً، ولا يدفع عنها مكروهاً، لما به من إكرام الضيوف، ويوجب على نفسه من قضاء الحقوق.
وقال آخر:
أيا ابنة عبد الله وابنة مالك ... ويا ابنة ذي البردين والفرس الورد
إذا ما صنعت الزاد فالتمسيله ... أيلا فإني لست آكله وحدي
أخا طارقاً أو جار بيت فإنني ... أخاف مذمات الأحاديث من بعدي
وإني لعبد الضيف ما دام نازلاً ... وما في إلا تلك من شيم العبد
حسن تكرير ابنة وإن كان المراد واحدة لاختلاف المضاف إليه، والقصد إلى تفخيم أمرها وتعظيم شأنها. والذي يدل على ان المراد واحدة قوله إذا ما صنعت الزاد فالتمسي. ويعني بذي البردين عامر بن أحيمر بن بهدلة. وكان من حديث البردين حتى لقب به، أن وفود العرب اجتمعت عن المنذر بن ماء السماء - وهو المنذر بن امرىء القيس، وماء السماء أمه نسب إليها لشرفها. وقيل: ماء السماء لقبت به لصفاء نسبها، وقيل لنقاء لونها، يراد أنها كماء السماء لم يحتمل كدورة - فأخرج المنذر بن بردين يوماً يبلو الوفود، وقال: ليقم أعز العرب قبيلة فليأخذهما. فقام عامر بن أحيمر فأخذهما واترز بأحدهما وارتدى بالآخر، فقال له المنذر: بم أنت أعز العرب قبيلة؟ قال: العز والعدد في معد، ثم في نزار، ثم في مضر، ثم في خندف، ثم في تميم، ثم في سعد، ثم في كعب، ثم في عوف، ثم في بهدلة، فمن أنكر هذا فلينا فرني! فسكت الناس، فقال المنذر: هذه عشيرتك كما تزعم،(1/1168)
فكيف أنت في أهل بيتك وفي نفسك؟ فقال: أنا أبو عشرة، وخال عشرة، وعم عشرة؛ وأما أنا في نفسي فشاهد العز شاهدي. ثم وضع قدمه على الأرض فقال: من أزالها عن مكانها فله مائة من الإبل! فلم يقم إليه أحد من الحاضرين، وفاز بالبردين.
وقوله إذا ما صنعت الزاد، يريد إذا فرغت من اتخاذ الزاد وإعداده فاطلبي من أجله من يؤاكلني، فإني لم أعود نفسي التفرد في الأكل. وهذا الذي أنف منه حتى تبرأ من الرضا به قد ورد في الخبر ما يقوى استقباح العرب له، وتزييفهم إياه فيما يختارونه من كرم الطباع، وإقامة المروءات. ألا ترى أنه قال صلى الله عليه وسلم، فيما روى عنه: " ألا أخبركم بشر الناس؟ من اكل وحده، ومنع رفده، وضرب عبده ".
وموضع وحدي من الإعراب نصب على المصدر، والتقدير لست آكله وقد أوحدت نفسي في أكله إيحاداً، فوضع وحده موضع الإيجاد. والكوفيون يجعلون وحدي في موضع الحال، وإن كان لفظه معرفة، يجعلونه من باب: جاءوا قضهم بقضيضهم، وكلمته فاه إلى في، وما أشبهه. وجواب إذا قوله فالتمسي له أكيلا. وأكيل الرجل وشريبه ونديمه وجليسه، يقال كل منها فيمن عرف بالصفة. لا يقال لمن أكل مع صاحبه مرة واحدة هو أكيله، ولا لمن شرب معه مرة واحدة هو شريبه. وعلى ذلك قولهم: هو جليسه، لا يطلق إلا على من عرف بهذه الصفة فتكررت منه. فإن قيل: كيف نكره وقال التمسي له أكيلا؟ وهلا قال أكيلي؟ قلت: لا يمتنع أن يكون قد عرف بمواكلته عدة، فأراد التمسي من أجله بعد ما هيأته واحداً من المعروفين بمواكلتي، ألا ترى أنه قال مفصلاً لما جمله، وشارحاً لما أبهمه: أخاً طارقاً أو جار بيت، فأبدل من الأول وهو أكيلا ما أبدل. والمراد: التمسي أكيلاً من أحد هذين النوعين طارقاً آخيناه، أو جار بيت باسطناه. وقوله: فإنني أخاف مذمات الأحاديث من بعدي، بيان علة استضاعه من التفرد في الأكل. يريد: أخشى ما يلحق من العار في الأكل منفرداً إذا افتقدت أو ذكرت أحوال الناس، واستعرضت عاداتهم، فاستهجن الهجين منها، واستكرم الكريم. والمذمة بالفتح: الذم، وجمعها مذمات. والمذمة بالكسر: الذمام. وأضاف المذمات إلى الأحاديث ليرى أن خوفه مما يبقى من الذم فيما يتحدث به بعده.(1/1169)
وقوله: وإني لعبد الضيف ما دام ثاويا، يروى: نازلاً. ويقال: ثوى بالمكان وأثوى بمعنى. يريد أني أتكلف من خدمة الضيف ما يتكلفه العبيد، لا أستنكف ولا آنف، وليس لي من أخلاق العبيد وطبائعهم إلا تلك، يريد إلا تلك الخدمة، أو تلك الخليقة. وموضع ما دام نصب على الظرف أي مدة دوام ثوائه عندي. وموضع من شيم العبد رفع على أن يكون اسم ما، وخبره في وإلا تلك استثناء مقدم، وفائدة من التبيين فهو كمن الذي في قوله: " فاجتنبوا الرجس من الأوثان "، لأن الأوثان كلها رجس، وليس يريد التبعيض بذكر من، لكن المراد اجتنبوا الرجس من الضرب، إذ كان الأهم فيما يجب اجتنابه.
وقال آخر:
ليس في الفتيان من كل همه ... صبوح وإن أمسى ففضل غبوق
ولكن فتى الفتيان من راح أو غدا ... لضر عدو أو لنفع صديق
يقول: ليس المختار من الفتيان والكامل الفتوة فيهم من إذا أصبح كان معظم همه ما يشربه صباحاً، وإذا امسى كان معظم همه ما يشربه مساء. والصبوح: ما يصطبح به، اسماً له. والغبوق: ما يغتبق به. يريد أن الفتوة ليس في إعداد الأطعمة والأشربة، وإعطاء النفس مناها منهما، لكن الفتوة هو السعي غدواً ورواحاً في جر ضرر على منابذ مداج، أو جلب نفع إلى ناصح مواخ.
وقال حزاز بن عمرو، من بني عبد مناف
لنا إبل لن تهن ربها ... كرامتها والفتى ذاهب
هجان تكافأ فيها الصديق ... ويدرك فيها المنى الراغب
ونطعن عنها نحور العدى ... ويشرب منا بها الشارب
قوله لنا إبل لم تهن ربها كرامتها، يريد: أنا نوئر إكراماً للنفوس وصيانتها على إكرام المال وصيانته، لأن الأموال إذا لم تجعل واقية للنفس جلبت العار وكسبت(1/1170)
الشنار، فنحن نهينها ونبتذلها صوناً للنفس، ولئلا يكون المال كالمالك لنا، إذ كان عمر الفتى عارية مستردة، فهو هالك وإن أمهل مدة، وما يقدمه يذكر به، فصيانة مروءتنا من أن ترث أو تهون، أجدى وأوجب من صيانة المال وتثميرها والضن بها. وقد اعترض بقوله والفتى ذاهببين الصفة والموصوف، لأن قوله هجان من صفة الإبل، كما ان لم تهن ربها من صفتها أيضاً. ولولا تأكد الجملة به لكان يقبح مافعل، لكون الاعتراض أجنبياً مما قبله وبعده. والهجان يقع على الواحد والجميع، وذلك أن فعالاً كما يكون جمعاً لفعيل، نحو ظريف وظراف، وكريم وكرام، وكبير وكبار، كسروا عليه فعالاً أيضاً، فقالوا: درع دلاص وأدرع دلاص، وبعير هجان وإبل هجان، لأن فعيلاً متواخيان في أنهما من الثلاثي، وفي موقع الزائد منهما، وفي عدد حروفهما، فيتشاركان في أحكامهما، وإذا كان كذلك فهجان وهو للواحد، كضناك وكناز وماأشبههما، وهجان وهو للجميع، كظراف وكبار. وقال: سيبويه: يدلك على أن هجاناً ليس كالمصادر التي وصف بها نحو ضيف وجنب وزور وماأشبهها، أنك تقول هجانان فتنتيه، وإذا كان مرصداً للتثنية فهو للجمع كذلك. ومعنى تكافأ فيها الصديق تماثل، من الكفء المثل في المال والحسب وغيرهما. والمراد بالصديق الجنس، يريد يتساؤون فيها، لا استئثار منا بشيء منها دونهم ولا تفرد، بل كل منا ومن الأصدقاء يتصرف فيه على مراده نافذاً أمره، وبالغاً حكمه. وقوله ويدرك فيها المنى الراغب، أراد الراغبين، أي إن العفاة وطلاب الخير إذا نزلوا بساحتنا نالوا أمانيهم منها كاملة لا يتخللها خرم، ولا يتسلط عليها ثلم.
وقوله ونطعن عنها نحور العدى، لما عدد الوجوه التي ذكر أنهم يصرفون أموالهم غليها، ويقتسمونها فيما ذكر في أثنائها أنهم يدافعون عنها الأعداء فعليها حافظ من محافظتهم، ودونها دافع من مدافعتهم، لا يطمع الأعداء في الإغارة عليها، ولا في احتجان شيء منها، بل يمتلكها وجهان: مثوية أو صنيعة وقوله ويشرب منا بها الشارب، أراد أنهم يسبؤون بها الخمر ويجعلونها في أثمانها. فهو في هذا وفيما سلكه كقول الآخر:
نحابى بها أكفاءنا ونهيها ... ونشرب في أثمانها ونقامر(1/1171)
ونؤلفها في السنين الكلول ... إذا لم يجد مكسباً كاسب
ولم تك يوماً إذا روحت ... على الحي يلفى لها جادب
حبانا بها جدنا والإله ... وضرب لنا خذم صائب
قوله: ونؤلفها في السنين الكلول يعني بالسنين العوام التي تقل الأمطار فيها وتشمل الناس الآفات لها. يقال: أصابتهم السنة. وقد أسنت الرجل، إذا أصابه القحط والجدب. وأراد بالكلول من كان كلا على صاحبه وعيالاً لمعيله، لا يحسن التوجيه لكسب، ولا يهتدي لارتزاء خير وترقيح عيش، كالأيتام والأرامل وذوي العاهة. وقوله إذا لم يجد مكسباً كاسب بدل من قوله في السنين. أي إذا اشتد الزمان وتضايقت الخطوب بما يعم من القحط، وأعوز الكاسبين كسبهم فلزموا مقارهم آيسين من إقبال الزمان وأهله، جعلنا إبلنا يألفها كلول الناس فينالون منها، ويعيشون فيما يعود عليهم من أبانها ومنافعها.
وقوله ولم يك يوماً إذا روحت، يريد ردت في مراعيها رواحاً فوردت على الحي لم يوجد لها عائب يعيبها، أي لم يوجد لأربابها من يعيبهم فيرميهم بالخل والإمساك. وإنما قال يلفى لها لأنه يريد يلفي من أجلها. والجادب: العائب. كأن المراد اتفاق على حمدهم، ونفى العيب على العلات كلها عن أخلاقهم، وتسليم الفضل والإفضال لهم.
وقوله حبانا بها جدنا والإله أشار بالجد إلى استسعادهم بالزمان، فهم محظوظون فيه، وأن الله عز وجل خصهم بالغنى لما عرفه من استحقاقهم، ومن طولهم إذا مكنوا وملكوا. وقال والإله فأتى به على الأصل، وقلما يعدلون عن لفظه الله تعالى إلى الإله، إذ كان جارياً مجرى الأعلام بعد لزوم الألف واللام له عوضاً من المحذوف منه.
وأشار بقوله وضرب لنا خذم صائب إلى ما نالوا من الأعداء وإيقاع الغارات بهم. والخدام: القطع. ويقال: سيف مخذم وخذوم. ومعنى صائب ذو صواب، واخرجه مخرج النسب. ويجوز أن يكون من صاب المطر، إذا وقع، صوباً. فإن جعلته من الصواب كان المعنى ضرب يقع على حده من الاستحقاق والقصد، وإذا جعلته من الصوب فالمعنى واقع موقعه عند الحاجة إليه.(1/1172)
وهذه الأبيات يزيد تفاصيلها على جملها عند الفحص عنها. وقد وقع دون غايتها قول الآخر وقد سلك مسلكه في تعداد مصارف أموالهم:
ثلاثة أثلاث فإثمان خيلنا ... وإقواتنا وما نسوق إلى القتل
وإن اختلفت الطريقتان. وكل يدعو إلى نفسه في حسنه وشموله واستيفائه.
وقال منصور بن مسجاح
ومختبط قد جاء أو ذي قرابة ... فما اعتذرت إبلى عليه ولا نفسي
حبسنا ولم نسرح لكي لا يلومنا ... على حكمه صبراً معودة الحبس
فطاف كما طاف المصدق وسطها ... يخير منها في البوازل والسدس
أصل الاختباط في الورق. يقال: خبطت الورق واختبطته، إذا نفضته من الشجر؛ والمنفوض خبط ومختبط. وكما يستعار الورق فيكنى به عن المال يستعار الخبط فيكنى به عن طلبه. على ذلك قول زهير:
وليس مانع ذي قربى ولارحم ... يوماً ولا معدماً من خابط ورقا
وكأن الاختباط يختص بفعل من يسأل عن عرض، ولا يقف على تحرم أو توسل أو تذرع، ولكن يكون به السؤال وبذل الوجه كيف جاء. وفي الافتعال زيادة تكلف، فلذلك اختص هذا الاختصاص. وعلى هذا قولهم الاكتساب والكسب. وقوله " أو ذي " قرابة "، خص من يمت بالنسب أو السبب فيقول: رب سائل تعرض لنا، أو ذي " نسب اعتمدنا، فلا نفسي احتجزت عنه بمنع، ولا إبلى اعتذرت عليه بعذر. كأن عذر الإبل تأخرها عن مباءتها، أو ذكر وقوع آفة فيها أو تسلط جدب عليها. واحتجاز النفس: بخلها بها، وإقامة المعاذير الكاذبة دونها، وما يجري هذا المجرى.
وقوله " حبسنا ولم نسرح " جواب رب مختبط، وبيان ما تلقاه به عند استقباله من القبول. ويقال: سرحت الماشية بالغداة، إذا أخرجتها إلى مراعبها، وأرحتها إذا رددتها رواحاً إلى أفنيتها. ومفعول " حبسنا " قوله " معودة الحبس "، ومفعول " لم نسرح " محذوف، أي لم نسرحها.(1/1173)
وقوله " على حكمه " تعلق بحبسنا. وانتصب " صبراً " على أنه مصدر من غير لفظه، لأن معنى حبسنا وصبرنا واحد. وتقدير البيت: حبسنا على حكم هذا المختبط العافي أو النسيب إبلاً جعل من عادتها الحبس بالفناء صبراً، ولم نخرجها إلى المرعى لئلا يجد طريقاً إلى لومنا فيما يقدره عندنا. ويجوز أن ينتصب " صبراً " على أنه مصدر لعلة، أي لصبرنا على ما نمونه ونتحمله للعفاة فعلنا ذلك. ويجوز أيضاً أن يكون انتصابه على الحال، لأن المصادر تقع مواقع الأحوال، أي صابرين على ذلك لهم.
وقوله " فطاف كما طاف المصدق "، يريد أن هذا الطالب مكناه من إبلنا المحبوسة في الفناء فطاف فيها متخيراً منها في خيارها وكرائمها، وإذا كان متخيراً في بوازلها وسدسها وهي أكرم الإبل وأقواها، فما دونها أولى أن يكون مخيرأ فيها. وتشبيهه إياه بالمصدق وهو طالب الصدقة تحقيق لتحكمه وتبسطه وتسحبه. يريد أن إدلاله إدلال من يستخرج حقاً واجباً لله تعالى. وقوله " يخير منها "، إعرابه نصب في موضع الحال من طاف الأول. ومعنى يخير، يجعل له الاختيار منها. وهذا تحكيم ثان سوى ما سوغت له نفسه بإدلاله.
وقال عامر بن حوط، من بني عامر
ولقد علمت لتأتين عشية ... ما بعدها خوف على ولا عدم
وأزور بيت الحق زورة ماكث ... فعلام أحفل ما تقوض وانهدم
فلأتركن الساملين حياضهم ... ولأحبسن على مكارمي النعم
قوله: " ولقد علمت " يجري على القسم، ولذلك أجابه بلتأتين. ويعني بالعشية آخر النهار من يوم موته. فيقول: تيقنت والله أنه يأتي على عشية من يوم قد تخليت فيه من الدنيا وانقطعت الأسباب بيني وبينها، فلا أكون من الفقر على رقبة، ولا من حوادث الدهر على خيفة، وأزور القبر الذي هو " بيت الحق ". وأضاف البيت إلى الحق لأنه لاسكنى بعده، فكأنه الموضع الذي يؤوي إليه الحق ويفضي إليه من أنزله الموت ناقلاً من دار إلى دار. وقوله " زورة ماكث " أي أزوره زيارة المقيم المنتظر(1/1174)
الذي لاعجلة به، فلماذا أبالي بما تقوض منه أو انهدم. والمعنى أن تدبير أمره يصير إلى غيره فلا يهتم لمأواه اهتمامه له أيام حياته. ويقال: لاأحفل كذا، ولا أحفل بكذا. " وعلام " ما في الاستفهام إذا اتصل بحرف الجر يحذف الألف من آخره. وقد مضى مثله مشروحاً أمره.
وهذا الاستفهام هو على طريق الإنكار، أي لم أحفل. والأحوال في كون البيت عامراً أو غامراً تتساوى عندي. وقوله فلا تركن الساملين حياضهم السامل: المصلح. والمعنى: إني أرفض حال من همته مقصورة على تثمير ماله، وعمارة حياضه، والفكر في موارد إبله ومصادرها. ومن سمل الحوض سمى الماء الذي يبقى في أسفل الحوض السملة. قال:
ممغومة أعراضهم ممرطله ... في كل ماء آجين وسمله
والمراد: أهجر من هذا همته من عيشه، وأحبس نعمي على عمارة المكارم وتفقد ما تشيد لي من المعالي. والنعم يقع على الزواج الثمانية، والغالب عليه الإبل، وهو مذكر، يقال: هذا نعم وارد. وحبسه على المكارم هو أن يصرف منافعه إلىالمستحقين من الوارد والزوار، مقصورة عليهم ومشغولة بهم.
وقال زيد بن حصين
أقلي على اللوم يا ابنة منذر ... ونامي فإن لم تشتهي النوم فاسهري
ألم تعلمي أني إذا الدهر مسني ... بنائبة زلت ولم أتترتر
يخاطب لائمة له تبرم بلومها فقال: قللي من لومك علي ونامي عني، فإن تعذر النوم عليك ضجراً بالحالة التي تجمعنا فاسهري، فليس لك من عتبك مايرد نفعاً علي ولا عليك. ثم أخذ يقررها على قلة احتفاله بما يأتي به الدهر، فقال: أما علمت أن الزمان إذا مسني بحدثانه ذهب عني ولم أتردد في حيرته، ولم أتنكس في لواحق شره ونوائبه، بل أمضى قدماً على ما يمسني منه ويخصني، راضياً بما يقسم لي من عفوه، وملتزماً ما يعرض منه عند جهده.(1/1175)
وقوله زلت استعارة حسنة. كأن صبره على الشدة، وثباته في وجه المحنة، تزل النوب عنه كما يزل الماء الدنس عن الصخور، ويقال: قدح زلول، كما يقال للشيء السريع الدوران: درور. والتترتر: العجلة، فكأن المراد: زلت النائبة ولم تستخفني فكنت أعجل أو أتحول عما كنت عليه.
يراني العدو بعد غب لقائه ... خلياً نعيم البال لم أتغير
يقول: وإذا قاسيت من العدو مضارة ومناكدة فيما يتجاذبهومجاحشة، يراني بعد يوم لقائه بيوم وكأنه ما مسني أذى، ولا نالني مكروه، لأنه يجدني خلياً منعم البال، لم اتغير عما عهدت عليه قبل الامتحان به، ولم أتبذل. وقوله نعيم البال هو من الضوال التي وجدت الآن، وذاك لأن فعيلاً في معنى مفعل معدود محصور، وقد ذكرته في غير هذا الموضع وتقصيته. ونعيم البال من ذلك، يقال: أنعم الله بالك، وبال منعم ونعيم. ولا يمتنع أن يكون نعيم فعيلاً من نعم أو نعم عيشه، وأكثر ما يستعمل مصدراً. يقول: هو في نعيم لا يزول، وغذا كان كذلك فهو غريب إن جعلته اسم الفاعل، كقدم فهو قديم أو حزن فهو حزين؛ أو فعيلاً في معنى مفعل، كفرس حبيس ومحبس، وباب تريص ومترص. وانتصب خليا؟ ً على الحال من يراني، وهو الذي لا هم له. وفي المثل. ويل للشجي من الخلي وقد يكون في غير هذا المكان المخلى.
وراكدة عتبي طويل صيامها ... قسمت على ضوء من النار مبصر
طروقاً فلم أفحش وقسمت لحمها ... إذا اجتنب العافون نار العذور
يعني بالراكدة قدراً لانتصابها وبقائها على الأثافي. ويقال: ماء راكد، أي ساكن. وجعلها عتبى لغليانها كأنها تعتب وتشكو. وهذا من عتب عليه من الموجدة. يقال: عتبت عليه فأعتب. ويروى: غيري يكون من الغيرة، لأن صاحبها يحتد، فشبه غليانها بغليان الغيرى. وفي الحديث: " ردوني إلى أهلي غيري نغرة ". والصيام: القيام. ووصفه بالطول، فقال: طويل صيامها لكبرها. كأنه لا تنزل قريباً إذا نصبت.(1/1176)
وقوله قسمت على ضوء من النار مبصر، جعل الضوء مبصراً لما كان الإبصار فيه، على ذلك قوله تعالى: " وجعلنا آية النهار مبصرة ". وجعل قسمة القدر وهو يريد قسمة مرقها وما احتوت عليه ليلاً، وبضوء من النار، لشدة الزمان، وتناهي البرد، ولأنه وقت طروق الضيف. وقوله لم أفحش أي لم آت بفحش لا فعلاً ولا قولاً، ولم أقترف ما يقبح من الذكر ويستنكر. في السمع. وقوله إذا اجتنب العافون ظرف لقوله لم أفحش، وطروقاً ظرف لقسمت على ضوء، ويكون تقدير البيتين: وراكدة طويلة القيام قسمت مرقها ظلاماً وقت طروق العفاة والأضياف، وبددت لحمها، ولم أت بفحشاء، في وقت يتسرع الضجر من كثرة الوارد وازحام الأشغال إلى من كان سيء الخلق، سريع التغير، حتى اجتنب ناره، وزهد في ضيافته. وجعل لنفسه قسمين كان أحدهما للمرق على الثرد، والثاني لفدر اللحم. وعلى الأول قول الاخر:
وسع بمدك ماء اللحم تقسمه
وقال الهذيل بن مشجعة البولاني
إني وإن كان ابن عمي غائباً ... لمقاذف من خلفه وورائه
ومفيده نصري وإن كان امرأ ... متزحزحاً في أرضه وسمائه
يصف كرم محافظته وحسن نيابته عن غياب أهله وذويه، فيقول: إني لمدافع مرام دون ابن عمي إذا غاب عني، فأذب من قدامه وخلفه. والمعنى: أني أقاتل دونه كنت هادياً له وقد تخلف عني، أو حادياً له وقد تقدمني. فقوله من ورائه، من البين الظاهر أنه بمعنى القدام، وقد ذكر معه خلف. واشتقاقه من المواراة وهي المساترة، ولذلك صلح وقوعه موقع الخلف والقدام. وفي القرآن: " وكان وراءهم ملك يأخذ كل سفينة غصباً ". وموضع من خلفه نصب على الحال أي متخلفاً أو متقدماً. وقوله ومفيده نصري أي لا أمسك عن معونته وإن تباعد عني في أرضه وسمائه. والمعنى: أني بظهر الغيب لا أخذله وإن اشتغل عني بمصارف حياته في(1/1177)
بلاده وأوطانه. وعطف على أرضه السماء تأكيداً لتنائيه عنه، واشتغاله دونه بمباغيه، كأنه لما جعل له أرضاً مباينة لأرضه، جعل لأرضه سماء مباينة لسماء أرضه. ولا يمتنع أن يكون جعل ذلك مثلاً لاختلاف أحواله، كما يقال نفضت نهائم فلان ونجوده. والمعنى: جربته وكشفت عن أحواله. وعلى هذا قولهم: خبرت ضحى فلان ودجاه، والمعنى سره وإعلانه.
ومتى أجئه في الشديدة مرملا ... ألق الذي في مزودي لوعائه
وإذا تتبعت الجلائف مالنا ... خلطت صحيحتنا إلى جربائه
يقول: ومتى زرته في شدائد الزمان فوجدته منقطعاً به لم أحوجه إلى السؤال وبذل الوجه واستحمال المفاقر عنه، لكن ألقيت في وعائه ما كان في مزودي. أي أرم حاله في السر من غير أن يلحقه خجل، أو يمسه تعب. وقوله وإذا تتبعت الجلائف، يقول: وإذا تعاونت الآفات والسنون على أموالنا، وتتابعت الأزمات معترضة في أحوالنا، فقشرتها ولحتها، وأثرت بالسوءى فيها خلط ما سلم من مالنا بالمعيب من ماله. وذكر الصحيحة والجرباء مثل. والمعنى: أصلحنا فاسد حاله بصالح حالنا وتحملنا أوزار الأيام السيئة عنه بما خف من ظهورنا. والجلائف: جمع جليفة، وهي الأعوام المدبة. وأصل الجلف القشر. يقال: جلفت الدن، إذا قشرت الطين عنه.
وإذا أتى من وجهة بطريفة ... لم أطلع مما وراء خبائه
يروى: من وجهه، والمعنى من حيث ما توجه له كاسباً للمال. وقوله من وجهة وهو اسم وليس بمصدر، ولذلك سلم فاؤه. والمصدر الجهة، أعل كما أعل فعله، على ذلك العدة والزنة، والوعدة والوزنة إذا بنيت اسماً.
والطريفة، أراد ما استطرف من المال واستحدث، لكن القصد هنا إلى ما يستحسن من الأعراض، لكونه طرفة. وقوله لم أطلع مما وراء خبائه أي لم اتعرض له تعرض المتتبع لحاله، المتطلع على سرائر أمره. ووراء هاهنا بمعنى خلف.(1/1178)
ويجوز أن يكون المعنى: ام اعرض نفسي عليه متعرفاً ما جاء به ليشركني في طرفه، ويجعلني إسوة نفسه.
وإذا اكتسى ثوباً جميلاً لم أقل ... يا ليت أن على حسن ردائه
يصف طيب نفسه بما يناله صاحبه من الخير، وينفرد به من زيادة تجمل، أو ظهور أثر نعمة، وقلة حسده له، وأنه لا يشتمل صدره فيه على غل، ولا ينطوى قلبه له على مكنون حقد لما يرى به من ظهور غنى، واتساع أمر، حتى يتمنى مكانته، ويختار الاستبداد بما أوتيه، أو مشاركته فيه. وقوله ياليت المنادى محذوف، وموضع ياليت نصب على أنه مفعول لم أقل، كأنه قال: لم أقل يا ناس، ليت أن على رداءه الحسن.
وقال حسان بن حنظلة
تلك ابنة العدوى قالت باطلاً ... أزرى بقومك قلة الأموال
إنا لعمر أبيك يحمد ضيفنا ... ويسود مقترنا على الإقلال
انتصب باطلاً على أنه مفعول قالت. ومن شرط القول أن يحكي ما بعده إذا كان جملة، تقول: قال زيد عمر وخارج. فإن كان ما بعده معنى جملة ولم يكن جملة كاملة انتصب على أن يكون مفعوله، كقولك قال زيد حقا وقال كذبا وصدقا. وموضع قوله أزرى بقومك قلة الأموال نصب على البدل من قوله باطلاً. ويجوز أن ينتصب باطلاً على أنه صفة لمصدر محذوف، كأنه قال قالت قولاً باطلاً، ويكون أزرى بقومك في موضع المفعول لقالت وقد حكاه لكونه جملة. وقوله قالت باطلا رفع على أنه خبر المبتدأ، وابنة العدوى ارتفع على أنه عطف البيان لتلك. ومعنى البيت: قالت ابنة العدوى زوراً من القول وباطلاً: لقد قصر بقومك فقرهم وقلة مالهم، وإعراض الدنيا عنهم! فأجبتها بقولي: إنا لعمر أبيك يحمدنا الضيف، ويشكرنا الزائر والمجتاز. والمعنى: ليس الاعتبار بكثرة المال واتساع الحال، فإنا وحق أبيك يحمدنا ضيوفنا إذا نزلوا بنا، فينصرفون مادحين لنا، وترى مقلنا ينال السيادة على إقلاله، ولا يؤخره ذلك عن رتبة أمثاله. وحذف من قوله إنا(1/1179)
لعمر أبيك فأجبتها أو قلت لها. ومثل هذا يحذف في الكلام كثيراص. على ذلك قول الله عز وجل: " وأما الذين اسودت وجوههم أكفرتم بعد إيمانكم "، أي يقال لهم: أكفرتم بعد إيمانكم.
غضبت على أن اتصلت بطيء ... وأنا امرؤ من طيء الأجبال
وأنا امرؤ من آل حية منصبي ... وبنو جوين، فأسألي، أخوالي
يقول: أنكرت مني هذه المرأة انتسابي إلى طيء، وتأثلي فيهم، واعتزائي إليهم، وتغضبت لتجرني إلى تميم وتحولني فيهم، وذلك بعيد لا يقع في الوهم كونه، ولا يستجاز حصوله، وذلك أني رجل من طيء خرجت، وفي عشتها درجت، وعلى طرائقهم وشيمهم تخرجت، إذ كانوا الأصل الذي منه تفرعت، وعليهم إذا ذكرت المناسب نسبي أدرت. وقوله وأنا امرؤ من آل حية منصبي، وذكر طرفيه فزعم أن آل حية عمومته التي تؤويه، وأن بني جوين خؤولته التي تدنيه، والقصد إلى مراغمة تلك وتشهير نفسه بما تنكره منه. وقوله من طيء الأجبال يعني سلمى وأجأ. وهذه الإضافة على طرق التخصيص والتبيين، وذلك لأن طيئاً فرقتان: فرقة تنزل السفل من جبالهم، وفرقة تنزل العلو. وقوله منصبي يجوز أن يكون مبتدأ ومن آل حية خبره، والجملة في موضع الصفة لامرىء، ويجوز أن يكون من آل حية في موضع الصفة، ومنصبي في موضع الرفع على البدل من امرؤ، كأنه قال: أنا منصبي من آل حية. وقوله فاسألي اعتراض، وقد توسط المبتدأ والخبر، ومفعوله محذوف.
وإذا دعوت بني جديلة جاءني ... مرد على جرد المتون طوال
أحلامنا تزن الجبال رزانة ... ويزيد جاهلنا على الجهال
بنو جديلة: من طيىء. أراد أن يبين أنه كما يعتزى إليهم يقبلوله ويتبجحون بكونه منهم وينصرونه، فمتى استغاث بهم واستعانهم على دهره أو عدوه أعانه رجال مراد، على خيل جرد، وانتقموا له وانتصفوا من أعدائه. وقوله أحلامنا تزن الجبال، مدح نفسه وقبيلته والمراد أنهم من الوقار والسكون والرزانة والهدو في المنزل الأعلى، والمكان الأقصى، لا يتحلحلون للنوائب، ولا يتضعضعون للشدائد. هذا ما لم يحرجوا أو يحوجوا، فإن استجهلوا من بعد، واستجروا إلى الشر، وجد جاهلهم يزيد على الجهال قهراً وتأبياً، واشتطاطاً في(1/1180)
الحكم وتصعباً. وإنما افتخر بأن حلمهم موجود ثابت ما لم يساموا خسفاً، فإن عدل بهم عن طريق النصفة، وأروا في معاملتهم عسفاً، كان جهلهم معداً، وزائداً على كل ما يقدر فيعد عداً.
وقوله تزن الجبال رزانة الوزن: مثقال كل شيء، ثم كثر حتى قيل: هو راجح للوزن، أي راجح الرأي والعقل؛ وهو يزن كذا، أي هو على وزنه؛ وهو أوزن قومه، أي هو أرجحهم وأوجههم.
وقال إياس بن الأرت
إني لقوال لعافي مرحباً ... وللطالب المعروف إنك واجده
وإني للما أبسط الكف بالندى ... إذا شنجت كف البخيل وساعده
قوله عافى أصله عافوني، لكن الواو والياء إذا اجتمعا فأيهما سبق الآخر بالسكون يقلب الواو ياءً، ثم يدغم الأول في الثاني، وكسر الفاء لمجاورته للياء. وانتصب مرحباعلى المصدر، وقد وقع وهو يجري مجرى الجمل لمكان العامل فيه معه موقع المفعول من قوله قوال. وانعطف عليه قوله " وللطالب المعروف إنك واجده " كأنه قال: وقوال للطالب المعروف إنك واجده. فقوله إنك واجده واقع في مثل قوله مرحباً. والمعنى أن العفاة وطلاب العرف إذا نزلوا بي تلقيتهم بالترحيب والإكرام، وتلطيف القول في الإنزال، وأقول: إنكم تجدون ما تطلبون، لامنع ولاحرمان، ولادفاع ولامطال؛ لأني إذا تقبضت أكف البخلاء فلم تنبسط، وقصرت سواعدهم عن الامتداد في البذل فلم تطل، تنديت وعلت على أكف السؤال كفي فبسطت، لأن معروفي دار وخيري مبذول. وقوله: " لمما أبسط الكف " أي لمن الأمر أني أبسط الكف بالندى، ف " أبسط " شرح المبهم بلفظة ما. و " إذا شنجت " ظرف لأبسط، ويشير إلى زمان السوء، وشمول المحل، وظهور البخل.
لعمرك ما تدري أمامة أنها ... ثنى من خيال ما أزال أعاوده
فشقت على صحبي وعنت ركائبي ... وردت على الليل قرناً أكابده(1/1181)
لعمرك: مبتدأ وخبره محذوف، وقد مضى القول فيه فيما تقدم. فيقول: وبقائك، ما تعلم هذه المرأة أن خيالها يأتيني ثنىً، أي مرة بعد أخرى. وفي الحديث: " لاثنى في الصدقة "، أي لاتؤخذ في السنة مرتين. وقوله " ماأزال أعاوده " يريد أني ممتحن بمجيئها، لأنها تراجعني فتصرفني عن أسبابي، وتعوقني عن مهماتي. والمعنى أنها غافلة عما أكابده من خيالها في المنام، ومن ملازمة ذكرها لي عند الانتباه، لأنها لاتجد مثل وجدي، فلا الذكر يهيج الشوق، ولا الفكر يجدد الطيف. وهذا الكلام تشك منه وتعتب على صاحبته، يدل عليه قوله " فشقت على صحبي "، يعني الخيال؛ وذاك لأنه لما سهر بعث أصحابه على النهوض معه والانبعاث في السير مساعدين له، فهذا معنى الشقة عليه. وقوله " وعنت ركائبي " جمع ركوبة، وهي تجري مجرى الأسماء في انفرادها عن الموصوف، لايقال ناقة ركوبة. والمعنى: أتعبت رواحلي، لأن أزعجتها للسير، وبعثتها من القرار، وحلت بينها وبين الراحة. وقوله " وردت على الليل قرناً أكابده " أي جعلتني ممتطياً لليل، ومتخذاً قرناً لي أزاوله وأجاذبه، أي أشاقه وأناصبه. وأصله من الكبد، في قوله تعالى: " لقد خلقنا الإنسان في كبد "، أي في شدة ومشاقة. وقال الخليل: يقال كابدت ظلمة الليل بكابد شديد، أي مكابدة شديدة. وكل هذا الكلام تبجح منه عندها بأنها تملكه على غفلتها عنه، وانفراده بالبث فيها، فخيالها يصرفه التصريف الذي وصف. وانتصب قرناعلى الحال.
وقال آخر:
أثنى على بما لا تكذبين به ... يا بكر أي فتى للضيف والجار
إني أجاور ما جاورت في حسبي ... ولا أفارق إلا طيب الدار
قوله " بما لاتكذبين به " أي لاتصادقين بذكره كاذبة. يقال: خبرني فلان فأكذبته، أي وجدته كاذبا. والمعنى: ليكن ثناؤك على حقا، وبما لايستسرفه معه ولا يستنكره مخبره. ثم علمها فقال: قولي يا بكر، أي فتىً كنت للجار إذا استجار، والضيف إذا استضاف.(1/1182)
وقوله " إني أجاور ما جاورت في حسبي "، يريد أن من صاحبته مجاوراً له يجدني حسيباً في فعالي، كريماً عند مقالي. هذا مدة الجوار، ثم إن فارقته فارقته والدار تنطق بالثناء علي، فأخباري تستطاب في السماع إذا شهدت. وفي هذه الطريقة قول الآخر:
إذا كنت في دار فحاولت تركها ... فدعها وفيها إن رجعت معاد
وقوله في حسبي أي معي حسبي، فموضعه نصب على الحال. وإذا جاور ومعه حسبه منعه مما لايحسن. ألا ترى قوله تعالى في صفة المؤمنين: " وإذا مروا باللغو مروا كراماً "، أي الكرم منهم من التعريج على اللغو. ويقال: جاءنا فلان في درع، أي عليه درع، والعامل فيه لا أفارق. وقوله " أي فتى " مبتدأ وخبره مضمر، كأنه قال: أي فتى أنت؟ وقد جعل الطيب كنايةً عن الكريم؛ على ذلك قوله تعالى: سلام عليكم طبتم فادخلوها، أي كرمتم.
وقال آخر:
كم من لئيم رأينا كان ذا إبل ... فأصبح اليوم لامعط ولا قار
ولويكون على الحداد يملكه ... لم يسق ذا غلة من مائه الجاري
كم موضعه نصب على المفعول من رأينا. يريد: رأينا كثيراً من اللئام يملكون نفائس الأموال وكرامها، ثم ماتوا عنها أو أزيلت نعمهم وحيل بينهم وبينها، فصاروا من بعد لا هم معطون ولا فارون، أي عادوا وقد تغيرت حالهم، فلا يرجى ذلك من جهتهم. وقوله فأصبح اليوم وكان ذا إبل، كل ذلك مردود على لفظ لئيم، وإن كان من حيث المعنى يفيد الكثرة.
وقوله ولو يكون على الحداد، يريد: ولو ولى فيض الحداد، وهو اسم بحر، ممتلكاً له أيام غناه لما برد غليل رجل حران، ولا سقاء ماء لفيه، لبخله وقسوة قلبه. ومعنى على الحداد، أي متولياً له ومدبراً أمره، يقال: من عليكم؟ أي من يأمر عليكم ويلكم. وإذا كان كذلك فقوله على الحداد يتم الكلام به، لأنه خبر يكون،(1/1183)
ويملكه في موصع النصب على الحال. وقوله لا معط معط في موضع المبتدأ كأنه قال: لا هو معط. والكلام بعث على البذل والسخاء، وأن المال في الدنيا بعرض الحوادث ملقي، وعلى طريقي النوائب، فلا يبقى لمالكه، كما أن مالكه لا يبقي له، فما يقدمه في اجتلاب شكر واكتساب أجر هو الباقي له، دون ما يخلفه فيقتسمه الوارث بعده فائزين به وذامين له.
وقال حسان بن ثابت
المال يغشى رجالاً لا طباخ لهم ... كالسيل يغشى أصول الدندن البالي
أصون عرضي بمالي لا أدنسه ... لا بارك الله بعد العرض في المال
أحتال للمال إن أودي فأجمعه ... ولست للعرض إن أودي بمحتال
قوله لا طباخ لهم، أي لاخير عندهم. ويقال: هذا لحم لا جباخ له، أي لا دسم له. وشاب مطبخ، أملاً ما يكون شباباً وأرواه. وطبخ الغلام، إذا ترعرع وعمل. والدندن: المسود من الكلاء لقدمه ويبسه. والمعنى أن المرء لا يؤتى الغنى لفضل فيه وغناه لديه، وإنما ذلك لمقادير قدرت على حسب ما عرفه الله تعالى جده، وهو الذي يغني ويقني من مصالح خلقه. وإذا كان كذلك فقد يتفق حصول المال عند من لا يستحقه بفضل أوتيه، أو ذمام وجب له، بل يكون كالسيل يمتد من المذانب والتلاع حتى يقف حاصلاً في أصول يابس الكلاء ومسوده، في أنه لا ينتفع به ولا يرد خيراً على جامعه، كما لا ينتفع الدندن البالي بما يغشى أصوله من ماء المطر. وفي مثل هذا قول الراعي:
وخادع المجد أقوام لهم ورق ... راح العضاه به والعرق مدخول
وقد أخذ أبو تمام هذا المعنى فقال وأحسن:
لا تنكري عطل الكريم من الغنى ... فالسيل حرب للمكان العالي(1/1184)
وقوله أصون عرضي بمالي، يريد أني أجعل المال واقية لحسبي ونسبي، فأصونه ولا أدنسه بتثميره وتوفيره، وإن تقلدت العار له واكتسبت الإثم الفاحش في، فلا بارك الله في المال بعد النفس، لأن المال يحتاج إليه لتنتفع به النفس، ولتتنزه عن المعايب والمقاذر بإنفاقه. فأما قوله بارك فأصله من اللزوم، ومنه برك البعير، إذا لزم مكانه. فمعنى بارك الله فيه: بقاه الله. وعلى ذلك قول المسلمين: تبارك الله: أي بقي ودام، فهو تفاعل في معنى فعل لا تكلف فيه، تعالى الله عن ذلك. وقوله أحتال للمال إن أودي فأجمعه، يريد أن المال إذا استهلكه منفقه أمكن الاعتياض منه، ونفذ الاحتيال في جمعه وتثميره، وإذا هلك العرض فلا طريق إلى رده إلى ما كان عليه، ولا استطاعة في تنقيته من درن العار وقد جعل وقاية للمال.
وقال عبد العزيز بن زرارة الكلابي
دعوت إليها فتية بأكفهم ... من الجزر في برد الشتاء كلوم
إذا ما اشتهوا منها شواء سعى لهم ... به هذريان للكرام خدوم
فإلا أكن عين الجواد فإنني ... على الزاد في الظلماء غير شتيم
وإلا أكن عين الشجاع فإنني أرد سنان الرمح غير سليم
إليها، يعني إلى راحلته. وجعل الفتية مكلومي الأكف عندما يتولونه من قسمة الجزور وتفصيل أوصالها، لأنهم لا يهتدون إلى المفاصل، ولم يزاولوا نحر الإبل وجزرها قبل ذلك. فيقول: جمعت على قسمة ناقتي فتياناً قد تكلفوا ما دعوتهم إليه تكرماً، وإن لم يكن ذلك من شأنهم، ولا صار منهم ببال، لكن شدة الزمان، وتناهي الضر في الجيران وطوائف الناس فرض على أمثالهم تجشم فعله لهم، وحسن توليه فيهم.(1/1185)
وقوله إذا ما اشتهوا منها شواء، يريد: زإذا انبسطوا للتناول وتواضعوا وأظهروا في المعاون اهتزازهم فنشطوا، سعى في اتخاذ الشواء لهم وتهيئته رجل خفيف السعي، كثير الألطاف، حسن الخدمة للكرام، عارف برسومهم في اكتساب المكرمات. ويعني به نفسه.
وقوله: فإلا أكن عين الجواد، يريد إن لم أكن كل الجواد والجامع لأسباب السخاء، فإنني لا أشتم في الظلماء بعلة الزاد وحبسه عن مريده؛ وإن لم أكن حق الشجاع، والتام الآلات في المصاع، فإني أجر الرمح في المطعون وأرد سنانه كسرا. وليس الجود ولا الشجاعة إلا ما ذكره، ولكنه أراد أن تكون دعواه قاصرة عن الغاية المرموقة، ليكون أحسن في الأحدوثة، وأدخل في العقل، وأقرب في الذكر. وقد مر القول في مثله في باب الحماسة أشبع من هذا.
والهذريان والهيذار: الكثير الكلام فيما يحمد. والهذر والمهذار: الكثير الكلام في كل باب.
وقال آخر:
وسع بمدك ماء اللحم تقسمه ... وأكثرالشوب إن لم يكثر اللبن
وسع به وتلت حول حاضره ... إن الكريم الذي لم يخله الفطن
قوله بمدك مصدر مددت القدر، إذا أكثرت مرقها. ويقال: مددت الدواة أيضاً، إذا كثر مرق قدرك ليتسع لغاشيتها، وأكثر خلط اللبن إن لم يكثر في نفسه ولم يتسع لوارده. والشوب: مصدر شاب يشوب، إذا خلط وهذا مثل ما سار به المثل، وهو مثل الماء خير من الماء. وأصله أن رجلاً استسقى غيره لبناً، فقال: إنه مثل الماء، أي فضلة بقيت من لبن مشوب. فقال المستسقي: مثل الماء خير من الماء. يريد أن المشوب من اللبن خير من الماء القراح. ومثله قول الآخر:
نمد لهم بالماء من غير هونهم ... ولكن إذا ما ضاق شيء يوسع
وقوله وسع به وتلفت حول حاضره يريد كثره والتفت فيمن حولك من جار ومحتاج، ولا تنتظر بما تفرقه السؤال والطلب، ولكن ليكن من نفسك باعث على(1/1186)
تمييز المحتاج، والنظر له، والإفضال عليه؛ لأن الكريم هو الذي لا يخليه فطنه، والتفاته ونظره. واللؤم: سوء التغافل.
وهذا كما قال الآخر:
إن الكريم من تلفت حوله ... وإن اللئيم دائم الطرف أفود
وقال آخر
إذا هي لم تمنع برسل لحومها ... من السيف لاقت حده وهو قاطع
ندافع عن أحسابنا بلحومها ... وألبانها إن الكريم يدافع
ومن يقترف خلقاً سوى خلق نفسه ... يدعه وترجعه إليه الرواجع
قوله إذا هي لم تمنع، يعني الإبل. فيقول: إذا لم يكن في النوق لبن تحمي نفوسها به من العقر عند نزول الضيفان لاقت حد السيف وهو يجزرها ويقطعها. ومثله قول الآخر:
وإن تعتذر بالمحل من ذي ضروعها ... على الضيف يجرح في عراقيبها نصلي
وأبلغ منهما قول الآخر:
فتى لا يعد الرسل يقضي ذمامه ... إذا نزل الأضياف أو تنحر الجزر
وقوله ندافع عن احسابنا بلحومها، يريد بإطعام لحومها، وسقى ألبانها لأن عادتنا تفرض علينا المدافعة عن الكرم، والمحاماة على الشرف، وذلك خلقنا الذي ننشأ عليه، وننبت فيه، ومن يتعاط خلقاً مستجداً مخالفاً لما ألفه وتعوده يفارقه ويرجع إليه الخلق الأول. ومثله قول الآخر:
كل امرىء راجع يوماً لشيمته ... وإن تخلق أخلاقاً إلى حين
والقرف يكون من الذنب والجرم، يقال: هو يقترف ذنباً، أي يأتيه ويفعله، ويقال أيضاً: هو يقترف لعياله، أي يكتسب. واقترف حسنة، أي اكتسبها. وقوله:(1/1187)
وترجعه إلى الرواجع، يقال: رجع فلان من كذا رجوعاً، ورجعته أنا رجعاً، ومثله صد وصددته، وكسب وكسبته.
وقال مضرس بن ربعي
وإني لأدعو الضيف بالضوء بعدما ... كسا الأرض نضاح الجليد وجامده
لأكرمه إن الكرامة حقه ... ومثلان عندي قربه وتباعده
أبيت أعشيه السديف وإنني ... بما قال حتى يترك الحي حامده
يقول: إني أدعو الضيف بإيقاد النار وإعلاء ضوئها، عند اشتداد البرد، وامتساء الأرض من جامد الماء، ومنتضح الجليد أي نداه الذي يبسه البرد، لأقضى حقه بإكرامه وإلطافه. والنضح كالنضح، إلا أن النضح له أثر. والعين تنضح بالماء، وكذلك الكوز. والنضيح: العرق، لأن جرم الإنسان ينضح به. وسمى أبو ذؤيب الهذلي ساقي النخل نضاحاً، كما سمى البعير الذي يستسقي عليه الماء: الناضح، فقال:
.....................كما ... يسقي الجذوع خلال الدور نضاح
وقوله ومثلان عندي قربه وتباعده، يريد في النسب. أي يتساوى عندي تمازحه وتواشجه، وتنائيه وتباينه؛ لأن الواجب له على أقيمه لا أتحمد لذلك عليه، لأن إكرام الضيف فرض على ذي المروءة، ومسقط الفرض عن نفسه لا يستحق من الناس اعتداداً.
وقوله أبيت أعشيه السديف فالسديف: شحم السنام. والمراد: أبقى ليلتي مطعماً له خيار ما عندي ويحضرني من شطب السنام، ثم إن اقترح على شيئاً أعده نعمة تتجدد له يستوب منى حمداً وشكراً عليها، وذلك له طول مقامه إلى أن يفارقني، ويترك عشيرتي.
وقال حماس بن ثامل
ومستنبح في لج ليل دعوته ... بمشبوبة في رأس صمد مقابل(1/1188)
فقلت له أقبل فإنك راشد ... وغن على النار الندى وابن ثائل
المشبوبة: النار، وتوسعوا فقيل: شببت الحرب، كما قيل شببت النار. ولج الليل: معظم ظلمته، وكذلك لج البحر. والصمد: الجبل أو الأرض المرتفعة. جعل ناره في يفاع مقابل لسمت الضيف، فدعاه بها لما أعلاها ورفعها حتى اهتدى لها. وهذا مثل ما قد شرحته.
وقوله فقلبت له أقبل فإنك راشد أي قويت نفسه في النزول، وأريته استبشاري له وانتظاري إياه. ألا ترى أنه قال: وإن على النار الندى وابن بامل. ولولا اشتهاره بالطول والإفضال لما قال ذلك. وهذا مثل قول الأعشى:
وبات على النار الندى والمحلق
وداع دعا بعد الهدو كأنما ... يقاتل أهوال السري وتقاتله
دعا بائساً شبه الجنون وما به ... جنون ولكن كيد أمر يجاوله
يعني بالداعي مستنبحاً طلب بعد أن مضى من الليل قطعة من يغيثه ويستنقذه من هول الليل، وبلاء الضر، حتى كأنما كان يقاتل أسباب السري لشدة الأمر عليه، وتقاتله، أي بلغ الحال به حداً رأى السري تغالبه عن نفسه، وتصارعه عنها.
وقوله دعا بائساً يعني كلباً ذا بؤس لضرر القحط، ويكون على هذا مفعولاً. ويجوز أن ينتصب على الحال للداعي، أي دعا وهو ذو بؤس. ويجوز أن يريد دعا دعاء عن بؤس يشبه الجنون. فأما تكريره للدعاء فهو لتهويل الأمر وتفظيع الشأن. وانتصب شبه الجنون أي دعاء يشبه الجنون، فهو صفة للمصدر المحذوف. قال: وليس به جنون، لكنه يكابد أمراً، ويعاني مشقة وضراً، فهو يطلب الخلاص من محنة(1/1189)
لا طريق للمخلص الا على ذلك الوجة. وتحقيق الكلام: ليس به جنون، ولكن به كيد أمر يطلب دفعه والسلامة منه.
فلما سمعت الصوت ناديت نحوه ... بصوت كريم الجد حلو شمائله
فأبرزت ناري ثم أثقبت ضوءها ... وأخرجت كلبي وهو في البيت داخله
يقول: جمعت في تلقيه وإغائته بين الأسباب التي يستنزل بها الضيف، ويستقبل بها الجيران؛ لإشالته من صرعته، واشتلائه من محنته، فناديته بنفسي على رفع من صوتي، وهو صوت رجل كريم الأصل، حلو الطبائع، سهل الجانب، حسن الاشتمال على الضيف، وجعلت ناري في براز، وهو المرتفع من الأرض. ومثل البراز البرز. وقال:
يظل على البرز البفاع كأنه
قال: ثم أيدتها بثقوب يرتفع الضوء له، ويقوى به، وأخرجت كلبي من مقره، وهو لشدة البرد ملازم للبيت لا يخرج، كل ذلك فعلته تقريباً للأمر على الضيف، وتسهيلاً لهدايته. وقوله وهو في البيت داخله في البيت موضعه خبر الابتداء وليس بلغو، وداخله خبر ثان، والهاء من داخله يعود إلى البيت كأنه قال: وهو مستقر في البيت داخل فيه، ولا يمتنع أن يكون داخله في موضع البدل من قوله في البيت، ويكون كقولك زيد داخل البيت وخارجه.
فلما رآني كبر الله وحده ... وبشر قلباً كان جما بلا بله
فقلت له أهلاً وسهلاً ومرحباً ... رشدت ولم أقعد إليه أسائله
يقول: لما رآني هذا الضيف قال: الله أكبر! استبشاراً واغتباطاً بما تعجل له من الفرح، وفرح قلباً كانت غمومه مجتمعة عليه يأساً من الخير في مثل مكانه، وطمعاً فيما يستبقيه من حياته؛ فقلت له: أتيت أهلاً لا غرباء، ووردت سهلاً من الأفنية لا حزناً، وتعمدت رحباً من الأماكن لا ضيقاً، وصحبت الرشاد في عدولك إلى لا الضلال، ورافقت السعادة لا الشقاء والهلكة، ولم أقعد إليه مسائلاً عن أخباره وعما أداه إلى أرضي في انتقالاته، بل عمدت إلى الاحتفال له، وقصرت سعيي على ما يقتضيه إنزاله، وعلى تهيئة القرى والأنزال له. وانتصب وحده علىالمصدر، لأنه موضوع موضع الإيجاد، أي أوحد الله إيحاداً.(1/1190)
فقمت إلى برك هجان أعده ... لوجبة حق نازل أنا فاعله
بأبيض خطت نعله حيث أدركت ... من الأرض لم تخطل على حمائله
يقول: وقمت إلى إبل باركة بالفناء، كريمة بيض، أعدت لواجب حق ينزل بي. وزاد الهاء في وجبة للمرة الواحدة، ويجوز دخولها لهذا المعنى في المصادر كلها، وقد شرحت القول في لفظه هجان ووقوعه بلفظه للواحد والجمع. وقوله بأبيض تعلق الباء منه بقوله قمت. واللام من قوله لوجبة حق متعلق بقوله أعده، وموضع الجملة صفة للبرك، كما أن قوله أنا فاعله صفة للحق. والمعنى: قمت وقد تقلدت سيفاً مصقولاً، تخط حديدة جفنه في الأرض إذا أدركتها خطأ؛ وليس ذلك لأن حمائله اضطربت علي أو قصرت قامتي عن ارتدائها لطولها، ولكن تختط حيث تدرك، لارتفاع أرض أو عارض حال. والحمائل: جمع الحمالة. وإذا طال النجاد خطل على لابسه واضطرب. وافتخارهم بامتداد القامة وطول الحمالة معروف. والنعل: الحديدة التي يغشى بها أسفل الجفن. وعلى ذلك قوله:
طويل نجاد السيف ليس بجيدر
فجال قليلاً واتقاني بخيره ... سناماً وأملاه من الني كاهله
بقرم هجان مصعب كان فحلها ... طويل القرى لم يعد أن شق بازله
قوله جال قليلاً انتصب قليلاً على الظرف، أي زمناً قليلاً. وفاعل جال هو البرك. ويجوز أن ينتصب قليلاً على انه صفة لمصدر محذوف، كأنه قال: جال جولاً قليلاً؛ فأقام الصفة مقام الموصوف. لأن المراد مفهوم. والمعنى: لما بصر البرك بي ثارت من مباركها، لما يغشاها من الخوف المعتاد لها واضطربت، ثم انقتني - أي جعلت بيني وبينها - بأتمكها سناماً، وأملاها من الني كاهلاً. والني: الشحم واللحم. وانتصب سناماً على التمييز. وارتفع قوله كاهله بفعل مضمر دل عليه وأملاه، كأنه قال وأملاه من الني قال امتلأ كاهله. ويشبه قول الآخر في إضمار الفعل، وإن كان ناصباً وذاك رافعاً،(1/1191)
وهو:
وأضرب منا بالسيوف القوانسا
وانتصاب القوانس بفعل مضمر دل عليه وأضرب منا، كما ان ارتفاع الكاهل بفعل دل عليه: وأملاه. وقوله بقرم هجان أعاد حرف الجر فيه، وهو بدل من قوله: بخيره سناماً. ومثله في إعادة حرف الجر في المبدل قوله تعالى: " قال الذين استكبروا من قومه للذين استضعفوا لمن آمن منهم ". والهجان، وصف به الواحد هاهنا، فهو في زنة قولهم: ناقة دلاث، وخمار. وفي قوله برك هجان وصف الجمع به، فهو كظراف وحسان. والمصعب: الفحل الكريم الذي لا يبتذل في العوارض، بل يقصر على الفحلة. وقال الخليل: هو الذي لم يركب قط ولم يمسه حبل. ويقال أصعب الفحل فهو مصعب، وبه سمى الرجل إذا كان مسوداً مصعباً. وقوله كان فحلها رجع الضمير إلى البرك، أي كان هذا القرم فحل هذه البرك، وهو طويل الظهر لم يتجاوز بازله أن انشق اللحم عنه. يعني أنه كان في غاية ما يراعي من شبابه وقوته. والبزول: في السنة التاسعة. والمعنى أنه لم يعد هذه الحالة إلى ما وراءها، فكان يضعف.
فخر وظيف القرم في نصف ساقه ... وذاك عقال لا ينشط عاقله
بذلك اوصاني أبي وبمثله ... كذلك أوصاه قديماً أوائله
خر: سقط، يخر خروراً. وخر الماء يخر خريرا. في الطلام إضمار، كأنه قال اتقاني بخيره فعرقبته فخر وظيفه. ويروى: فحز وظيف القرم في نصف ساقه، وفاعل حز يكون السيف، أي عقرتها فعمل السيف في وظيفة وأندره من نصف ساقه، وذلك شد عاقله لا ينشط، أي لا يحتاج إلى إحكامه وإبرامه لأنه لا يقع إلا مبرماً. ويقال نشطت العقد تنشيطاً، إذا أحكمته؛ وأنشطته، إذا حللته. وعقد عليه بأنشوطة، إذا جعله مهيئاً للحل مقربا أمره فيه. ومما يجري مجرى المثل: " كأنما أنشط من عقال ". وذكر بعضهم أن الشاعر سها فوضع نشط موضع أنشط؛ لأن المراد ذاك عقال(1/1192)
عاقله لا يحله ولا ينقض مايبرم منه. وكلام الشاعر سليم من العيب قويم. والمعنى فيه ما ذكرت. وقوله بذلك أوصاني أبي وبمثله، يعني في أمر الضيف أتي، بذا الفعل الذي وصفت وصاني أبي وبما يماثله. ثم قال: كذلك أسلافه أوصوه قديماً. وموضع كذلك نصب على الحال، وانتصب قديماً على الظرف، والمعنى أني لم أرث ذلك عن كلالة، وإنما ورثناه أباً عن أب وخلفاً عن سلف.
وقال النابغة الذبياني
له بفناء البيت سوداء فخمة ... تلقم أوصال الجزور العراعر
بقية قدر من قدور تورثت ... لآل الجلاح كابراً بعد كابر
تظل الإماء يبتدرن قديحها ... كما ابتدرت سعد مياه قراقر
أراد بالسوداء قدراً. والفخمة: الضخمة. تلقم: تحتوي وتبتلع لعظمها أعضاء الجزور موفرة. والعراعر: الضخم السمين، وجمعه عراعر، بفتح العين. ومثله جوالق وجوالق. وعرعرة الجبل: معظمه. فيقول: لهذا الرجل بإزاء القوم وفناء الدار منهم، قدر هذه صفتها من العظم، وتضمن أعضاء الجزور موربة لم تنتقص، وهي بقية قدر من قدور تورثت من أسلافهم آل الجلاح كبيراً بعد كبير، ورئيساً بعد رئيس، ولم يوجد كابرا في معنى كبير إلا في هذا المكان. وقد بين بذكر لفظة بعد أن عن في قوله كابراً عن كابر بمعنى بعج. وكان أبو علي رحمه الله يقول قولهم كابراً ليس باسم الفاعل، كالقاعد والقائم والجالس، وإنما هو اسم صيغ للجمع، كالباقر والجامل. والمراد كبراء بعد كبراء.
وقوله تظل الإماء يبتدرن قديحها، يريد وقت القسمة، أي يستبقين طول النهار إليها، وإلى تناول الغرفات منها، استباق بني سعد مياه هذا المكان. وقراقر: موضع فيه ماء لقضاعة، وهو فراطة بين أحيائهم، أي شرع لا تناوب فيه، بل يفوز، بل يفوز السابق إليه. فشبه تبادر الإماء نحو القدر بتبادر بطون سعد إلى تلك المياه. والقديح: فعيل بمعنى مفعول، وهو المرق المقدوح.(1/1193)
وقال الفرزدق
وداع بلحن الكلب يدعو ودونه ... من الليل سجفا ظلمة وغيومها
دعا وهو يرجو أن ينبه إذ دعا ... فتى كابن ليل حين غارت نجومها
بعثت له دهماء ليست بلقحة ... تدر إذا ما هب نحساً عقيمها
قوله داع بلحن الكلب، يعني مستنبحاً تكلف نبيح الكلب في صوته، ولحن لحنه، وفعل ذلك إذ حال بينه وبين المناظر من الليل ستران من الظلم، والتباس الغيوم. وإنما قال سجفا ظلمة وغيومها تأكيداً، كما قيل: " ظلمات بعضها فوق بعض " ولهذا لم يرض بذلك حتى أضاف إليه ظلمة السحاب أيضاً المغطية للكواكب.
وقوله دعا وهو يرجو أن ينبه إذ دعا، يقول: استنبح، وهو يؤمل أن ينتبه لدعائه وينبعث فتى كغالب، حين غارت النجوم بالليل، والأهوال متراكمة، وظلم الليل والسحاب متراكبة، واستيدت فرج السماء وآفاق الجو. كأن الضيف تمنى أن يتفق له إجابة كإجابة غالب، وهو ابن ليلى، فاتفق أن هيىء له إجابة الفرزدق. يشهد لذلك قوله: بعثت له دهماء، يعني بها قدراً. وكشف عن مراده بقوله ليست بلقحة، أي ليست هي بناقة، وإنما هي قدر تدر مرفتها إذا هب عقيم الرياح بالنحس. ويعني به الدبور، لأنها لا تلقح، وبها هلكت الأمم السالفة. وجواب رب المضمرة في قوله داع قوله بعثت له دهماء. وقد اعترض بينهما بيت.
كأن المحال الغر في حجراتها ... عذارى بدت لما أصيب حميمها
غضوب كحيزوم النعامة أحمشت ... بأجواز خشب زال عنها هشيمها
محضرة لا يجعل الستر دونها ... إذا المرضع العوجاء جال بريمها
جعل المحال، وهي فقر الظهر، والواحدة محالة، في نواحي القدر وجوانبها لسمنها وبياضها مع تضمن القدر السوداء لها، وإحاطتها بها، كأبكار النساء، وقد لبسن ثياب السلاب لما أصبن بحميمهن، فيبدون بيض الوجوه، سود الثياب. وقد أحكم القول في أصل عذارى في غير هذا الموضع.(1/1194)
وقوله غضوب، يريد غليانها وهزتها، ثم شبه إشرافها بحيزوم النعامة، كما قال الآخر:
نعامة حزباء تقاصر جيدها
وجعلها قد أوقد تحتها النار بحطب جزل أفرد عنها دقاقها وا تهشم من ورقها، والقصد في هذا إلى تعظيم النار الموقدة تحتها لكبرها.
وقوله محضرة أي لا يمنع منها أحد ولا تقنع بما يسترها عن العيون إذا أمحل الزمان، واشتد القحط، وصارت المرأة المرضع قد اعوج خلقتها فجال عليها وشاحها، لانحسار اللحم عنها، وتأثير الهزال فيها. والبريم: خيط يفتل من صوف أبيض وأسود يشد في أحقى الصبيان لتدفع العين به عنها. وثل ما وصف قول الراعي:
إن أقسم قدري وهي بارزة ... إذ كل قدر عروس ذات جلباب
وقوله: إذا المرضع العوجاء جال بريمها ظرف لقوله محضرة، أو لقوله لا يجعل الستر دونها وفيهما جواب إذا. والحجرات: النواحي، واحدتها حجرة، ويقال: قعد حجرة، فيجعل ظرفاً. وإحماش النار: إلهابها. وأحمشت القدر، إذا أشبعت وقود النار تحتها حتى تغلى، ومنه حمش الشر والغضب، إذا اشتد. وقوله بأجواز خشب، جوز كل شيء: وسطه. وإنما أراد الغلاظ من الحطب.
وقال شريح بن الأحوص
ومستنبح يبغي المبيت ودونه ... من الليل ظلمة وكسورها
رفعت له ناري فلما اهتدى بها ... زجرت كلابي أن يهر عقورها
فبات وإن أسرى من الليل عقبة ... بليلة صدق غاب عنها شرورها(1/1195)
يريد: رب مستضيف بالنباح يطلب لنفسه مكاناً يبيت فيه، وقد سقط عنه كلف السير، وأسباب الجهد، وحجز بينه وبين الليل سجفاً ظلمة وكسورها. والسجف: الستر، وتكسر السين منه وتفتح. والكسور: جمع الكسر، وهو جانب البيت. قال الخليل: الكسر والكسر: الشقة السفلى من الخباء، يرفع أحياناً ويرخي أحياناً، وكذلك من كل قبة وغشاء، حتى يقال لناحيتي الصحراء كسراها. ولما استعار السجف لتراكم الظلمة استعار الكسور لها أيضاً، كأنه جعل الليلة كالبيت لظلامها وقد أرخى سجفاه وألبس كسراه، فأظلم داخله. وجواب رب قوله فعت له ناري، والواو من قوله ودونه واو الحال. وقوله فلما اهتدى بها يريد لما رفعت النار فأبصرها وأقبل نحوي منعت كلابي من أن يهر في وجهه عقورها. والعقور، يريد به السيئة الخلق منها، المولعة بالعقر. فإن قيل: ولم يجعل في كلابه العقور حتى احتاج إلى زجره عن ضيفه؟ قلت: كأنه كان في الكلاب ما لم يكن يلزم الفناء، وإنما يكون مع الراعي في السرح للحفظ، فاتفق أن حضر مع كلاب الحي، فلذلك احتاج إلى زجره.
وقوله فبات وإن أسرى من الليل عقبة خبر بات بليلة صدق وجواب إن الجزاء ما اشتمل عليه البيت. فيقول: مكث الضيف عندي في ليلة صدق لا نحس فيها ولا شر، والراحة تعاوده، والسلامة تلزمه وتتلقاه، وإن كان قد سرى عقبة منها، أي طائفة. وانتصب عقبة على الظرف، وأصلها أن يتعاقب اثنان على البعير، فإذا ركب أحدهما مشى صاحبه، ثم كثر استعماله فأجرى مجرى النوبة والفرصة، فيقال: سار عقبة كم يقال سار نوبة. وقال الخليل: العقبة فرسخان؛ وهما يتعاقبان الركوب بينهما. وقوله أن يهر في موضع النصب على البدل من كلابي. وقد تقدم القول في ليلة صدق وما أشبهه:
وقال مسكين الدرامي
كأن قدور قومي كل يوم ... قباب الترك ملبسة الجلال
كأن الموفدين لها جمال ... طلاها الزفت والقطران طال
بأيديهم مغارف من حديد ... أشبهها مقيرة الدوالي(1/1196)
جعل قدور قومه متبجحاً بها، منصوبة في كل وقت. وجعلها لكبرها مشبهة بخر كاهات الترك وقد جللت وألبست أغطية سوداء. وقوله كأن الموفدين لها، يريد المزاولين لها في نصبها وإنزالها، وطبخها وتهيئتها. والموفد: المشرف على الشيء العالي له. وانتصب ملبسة الجلال على الحال. وشبه الموفدين في سواد ثيابهم وتدنسها بالغمر وتلطخها بالدرن بجمال مطلية بالقطران. والزفت، عهو القار، وقال الدريدي: أصله معرب، وقد تكلمت العرب به كثيراً، وفي الحديث: نهى عن الدباء والمزفت. ويقال: طلاه كذا وبكذا، فهو مطلي.
وقوله بأيديهم مغارف من حديد جعل القدور كالأنهيار او البحور، والمغارف لها كالدوالي المقيرة، لاحتمالها الماء من الأنهار وصبها إلى أعاليها. وجعل المغارف سوداً لما علق بها في الممارسة من سواد القدور والنار، ومن زهومة اللحم والشحم. وقوله أشبهها مقيرة الدوالي، يقال: شبهته كذا وبكذا. وموضع الجملة رفع على الصفة للمغارف.
وقال آخر:
أعاذل بكيني لأضياف ليلة ... نزور القرى أمست بليلاً شمالها
أعامر مهلاً لا تلمني ولا تكن ... خفياً إذا الخيرات عدت رجالها
بكيني، أي أكثري البكاء لي وكرريه، من أجل أضياف ليلة قليلة القرى، لإمساك الناس عن الإنفاق، وإعوازهم الزاد، وقد أمست ريح الشمال فيها ذات بلل وشفان للندى البرد، فإذا ورودوا فقدوا حسن تفقدي لهم، وتوفري عليهم. وقوله أعامر مهلاً جمع على نفسه لائمة ولائماً، فيقول: يا عامر رفقاً في عتبك علي، ولومك إياي، واقتج بي في طلب السمو والاستعلاء على الأفران. فأما انتقاله عن ذكر اللائمة إلى مذكر، فمثله قول تأبط شرا:
يامن لعذالة خذالة أشب ... حرق باللوم جلدي أي تحراق(1/1197)
ثم قال:
عاذلتا إن بعض اللوم معنفة ... وهل متاع وإن أبقيته باق
والمراد بيان تعاون العشيرة في اللوم والإنكار، وتساعد رجالهم ونسائهم على الوعظ والإنذار. وقوله ولا تكن خفياً، يريد اتخذني إسوة واعمل على أن تكون ساكي الذكر، عالي الصيت، حتى لا يخفي إذا عدت رجال الخيرات أمرك، ولا ينمحي إذا بانت الصالحين أثرك. وأشار بالخيرات إلى الخصال الصالحة والخلال الشريفة. وواحدتها خيرة. وليست هذه التي تكون في موضع أفعل من كذا ومعناه، كقولك فلان خير من فلان، بل هي الواردة في قوله عز وجل: " فيهن خيرات حسان ". وفي قول الشاعر:
وأمها خيرة النساء علي ... ما خان منها الدحاق والأنم
أرى أبلي تجزي مجازي هجمة ... كثير وإن كانت قليلاً إفالها
مثا كيل ما تنفك أرحل جمة ... ترد عليهم نوقها وجماله
قوله أرى إبلي تجزي يقول: أجد إبلي تقضي عني وتحصل في النيل منها وتورد الحقوق إياها محاصل هجمة، وهي القطعة من الإبل بين الستين إلى المائة. والجزية من هذا، وهي الخراج الموضوع، لأنها قضاء لما عليه أخذ. وفي القرآن: " واتقوا يوماً لا تجزي نفس عن نفس شيئاً "، أي لا تقضي ولا تغنى. وفي الحديث: " كان رجل يداين الناس، وله كاتب ومتجاز ". وقوله: وإن كانت قليلاً إفالها، يريد وإن كانت ضعيفة النسل، قليلة العدد. والإفال: صغار الإبل واحدها أفيل، وإنما قلت إفالها لذهاب التثمير والزكاء عنها، ولكونها محبسة بالأفنية، مقصورة على الحقوق، مصروفة إلى أرزاق العفاة. يشهد لذلك قوله مثاكيل، وهي جمع مثكال: التي تثكل أولادها كثيراً؛ لأن ربها يفصل دائماً بينها وبين أولادها بالنحر تارة وبالهبة أخرى. وقوله ما تنفك أرحل جمة، أي لا تزال أرحل جماعة منزله. وفي الحديث: " إذا ابتلت النعال فالصلاة في الرحال ". أي لا يزال مأوى جماعة تصرف إليهم إذا وردوا ذكورها وإناثها. أما إناثها فللحلب، وأما ذكورها فللنحر.(1/1198)
وأصل الجمة الجماعة ترد في سؤال تحمل الديات عنهم إذا ثقلت، أو السعي في صلح أو الدم بين عشائر. قال:
وجمة تسألني أعطيت
وجعله اسم الجماعة من الناس وإن وردوا لغير ذلك القصد.
وقال جابر بن حباب
وإن يقتسم مالي بني ونسوتي ... فلن يقسموا خلقي الجميل ولا فعلي
أهين لهم مالي وأعلم أنني ... سأورثه الأحياء، سيرة من قبلي
وما وجد الأضياف فيما ينوبهم ... لهم هند علات الزمان أبا مثلي
يقول: إن اقتسم مالي لأولادي وأزواجي وبناتي، وفازوا بما أخلفه فيهم فلن يقتسموا ما تفردت به من خلق كريم أعده لزواري، وفعال شريف أقيمه لعفاتي، وأديمه لمن يعتلق حبلى، أو يتصل سببه ونسبه بسبب ونسبي. وقوله أهين لهم مالي، يريد أني أبذله وأبتذله، لعلمي بأن ما أبقيه للأحياء سيرة من تقدمني فليس بمال لي، وأن الذي يختص بملكي هو ما أتولى تفريقه وإنفاقه في الوجوه المحمودة عندي. وانتصب سيرة على المصدر مما دل عليه قوله سأورثه الأحياء، كانه قال: أسير فيما أتركه من مالي سيرة أسلافي والناس قبلي. يقال: سار سيرة حسنة؛ يشار بها إلى الحال في السيرة المعتادة. ثم أجرى مجرى الشيم والعادات. وقال القطامي:
وسارت سيرة ترضيك منها ... يكاد وسيجها يشفي الصداعا
وقوله وما وجد الأضياف فيما ينوبهم، يريد بيان مكانه من مآرب أضيافه، وأنهم لا يعتاضون فيما ينوبهم عند الزمان وتغيره وإمكان العلات في البخل وأهله اباً مثله إذا فقدوه. وجعل نفسه أباً على عادتهم في تسمية المضيف أبا المثوى. على(1/1199)
ذلك قال أبو العيال الهذلي:
أبو الأضياف والأيتا ... م ساعة لا يعد أب
ويجوز أن يكون المراد بعلات الزمان تحوله وتبدله.
وقال حاتم
وعاذلة قامت علي تلومني ... كأني إذا أعطيت مالي أضيمها
أعاذل إن الجود ليس بمهلكي ... ولا يخلد النفس الشحيحة لومها
قوله وعاذلة انجر بإضمار رب، وجوابه يجوز أن يكون قامت علي وتلومني في موضع الحال، ويجوز أن يكون الجواب محذوفاً، كأنه قال: قلت لها: أعاذل إن الجود ليس بمهلكي، لأن قامت علي من صفة العاذلة. وقوم كأني إذا أعطيت مالي أضيمها اعتراض وقع بين رب وجوابه. والمجرور برب أكثر ما يجيء موصوفاً. ويجوز أن يكون قوله كأني إذا أعطيت مالي أضيمها الجواب.
ثم أقبل عليها يخاطبها، وهذا تشبيه يجري مجرى تصوير الحال في إخراج الخافي إلى البيان، فيقول: رب لائمة على تعتب وتوبخ، كأني أبخس حظاً لها إذا بذلت مالي، أو أغصبها حقاً من حقوقها، لتناهي ظلامها - قلت لها: إن ما أعتده من البذل والسخاء لا يقرب منيتي عن أمدها، ولوم النفس البخيلة، لا يديم بقاءها في دنياها، فإذا كان الجود يفنى والبخل لا يبقي ولا يقنى وكان في السخاء إقامة المروءة واكتساب الأكرومة، وادخار الشكر واقتناء الأجر، فالعقل يوجب الأخذ به، والحزم يقتضى الزهد في غيره.
وتذكر أخلاق الفتى وعظامه ... مغيبة في اللحد بال رميمها
ومن يبتدع ما ليس من خيم نفسه ... يدعه ويغلبه علىالنفس خيمها
يقول: إن أخلاق الفتى مذكورة بعد موته، ومترددة في المجالس مع اسمه، فإن حسنت عند الفحص حمدت، وإن قبحت في السمع ذمت. هذا وعظامه بالية قد صارت رمة في لحده، ومغيبة عن المشاهدة ضمن قبره. ومن تكلف ما ليس من(1/1200)
خلقه، أو استبدع خيماً ليس من شأنه، فارقه المستحدث، وعاوده المستقدم. ومثله:
ومن يبتدع خلقاً سوى خلق نفسه ... يدعه فترجعه إليه الرواجع
ويقال فلان كريم الخيم، أي الطبيعة. وقال أبو عبيدة: هو فارسية معربة.
وقال آخر:
أكف يدي عن أن ينال التماسها ... أكف صحابي حين حاجتنا معا
أبيت هضيم الكشح مضطمر الحشا ... من الجوع أخشى الذم أن أتضلعا
يقول: إذا اجتمعت مع أصحابي على طعام لم تزاحم كفى أكفهم، بل آثرتهم بما يروق من الزاد فقلبته العين، واصطفاه القصد، وانقبضت ليستأثروا به دوني إذا كانت حاجتنا متوافقة، وأيدي الآكلين متواردة؛ وأبقى ليلتي صغير البطن، ضامر الجنب، والزاد ممكن، والمشتهي مساعد، فلا أتضلع شبعاً خشية من ذم يلحق، أو عار يلزم. وقوله أن أتضلعا، أي مخافة أن أتضلع. ويقولون: هو الحصن أن يرام ويراد: هو الذي يحصن من أن يرام. قال لبيد:
وهم العشيرة أن يبطىء حاسد
أي تعاشروا وتعاونوا مخافة أن يبطئهم حاسد.
وحذف حرف الجر يكثر مع أن.
وقوله حين حاجتنا معاً حاجتنا مبتدأ، ومعاً سد مسد الخبر، وإن كان في موضع الحال، لأن المصادر إذا ابتدىء بها وقعت الأحوال أخباراً لها، كقولك: ضربي زيداً قائماً. وكذلك المضاف إلى المصدر تقول: أكثر ضربي زيداً قائماً. وانتصب حين على الظرف وقد أضيفت إلى الجملة بعده، والعامل فيه أكف يدي.(1/1201)
وإني لأستحي رفيقي أن يرى ... مكان يدي من جانب الزاد أقرعا
وإنك مهما تعط بطنك سؤله ... وفرجك نالا منتهى الذم أجمعا
وصف حسن أدبه في مواكلة رفيقه ولفه، وأنه لا يستأثر بما يعجب من الزاد، ولا تظهر منه نهمة وحرص، بل يستحي من أن برى ما يلي يده من الزاد خالي المكان. وليس لأحد أن يقول إن إنقباضه يؤدي إلى انقباض أكيله، وذلك مذموم، وإنما المحمود أن ينبسط في الأكل ويبسط من أكيله وذلك أنه قد بين الغرض في البيت الذي بعده، لأنه قال:
وإنك مهما تعط بطنك سؤله ... وفرجك نالا منتهى الذم....
فبين أن إبقاءه جانبه من الزاد مشغولاً ليس مع حاجة إليه، ولا عن إمساك يؤدي إلى ما ذكرته، فيصير ذلك سبباً في إنقباض من يواكله، وإنما يريد ما يجري به من عادة الناس من إظهار الشره والذهاب فيه إلى حد السرف، حتى يمد يده إلى ما يلي غيره، ويتخطى أيدي الناس. وهذا ظاهر. وموضع أجمع من الإعراب جر على أن يكون تأكيداً للذم، وهو إلى التأكيد أحوج من قوله منتهى، لأنه متناول للجنس والعموم، وما يفيده في الجنس أولى. وقوله نالا منتهى الذم، كأن الأجود أن يأتي المضارع في جواب الشرط، وقد حصل مضارعاً وظهرت الجزمية فيه، لكنه أتى به ماضياً للضرورة.
وقد ألم بهذه الطريقة المرقش فقال في الغزل:
وإني لأستحي فطيمة جائعاً ... خميصاً وأستحس فطيمة طاعما
وإني لأستحييك والخرق بيننا ... مخافة أن تلقى أخا لي لائماً
ألا ترى أنه أجمل ما فصله هذا الشاعر في قوله: أستحيي طاعماً، وجائعاً. هذا مع البعد بينه وبين صاحبته. ويجوز أن يريد بقوله مكان يدي من جانب الزاد أقرعا، ويجوز أن يريد بقوله مكان يدي من جانب الزاد أقرعا، أنه يكثر الزاد حتى يسعه وجماعتهم ويفضل أيضاً، والأول أحسن. وأصل الفرع ذهاب شعر الرأس من داء. وحكى أنه قل نعامة تسن إلا قرعت؛ لذلك قيل: نعام قرع. والسول يجوز أن يكون من سلت أسأل، لغة هذيل في سأل. ويجوز أن يكون لين همزته وأصله الهمزة. ويجوز أن يكون من سولت له نفسه كذا، إذا زينت له. وسول له الشيطان كذا، إذا أرخى حبله فيه وفي القرآن: " الشيطان سول لهم ".(1/1202)
وقال الهذلي:
سح نجاء الحمل الأسول
فوصف السحاب بالول لتدليه واسترخائه، لكثرة مائه.
وقال آخر:
أما والذي لا يعلم السر غيره ... ويحي العظام البيض وهي رميم
لقد كنت أختار القرى طاوى الحشا ... محافظة من أن يقال لئيم
وإني لأستحيي يميني وبينها ... وبين فمي داجي الظلام بهيم
أقسم بالله تعالى المطلع على الضمائر، العالم بخفيات الأمور، والمحيي للأموات بعد أن رمت عظامها وبليت يوم النشور، بأنه يختار إطعام الضيف وإيثاره بالزاد وهو محتاج إليه قد اضطمر حشاه من الجوع، لئلا ينسب إلى اللؤم، وليحافظ على الشرف القديم. ويروى: لقد كنت أختار الخوى. والخوى: خلاء الجوف من الطعام، وخلاء الدار من السكان. فأما من روى: أختار القرى فمعناه ظاهر، يريد أختار إقامة القرى، فحذف المضاف. وبعضهم رواه: لقد كنت أختار القوى وزعم أنه مقصور من القواء؛ وليس بشيء.
وقوله: وإني لأستحيي يميني وبينها وبين فمي داجي الظلام، فقد زاد فيه على ما تقدم في المقطوعة قبله، لأنه ذكر أنه يستحي من نفسه ويده وهو لا ثاني له، في الليلة الظلماء، وإنما يريد تعوده ما يستحسن في الأكل، ويختار في الإطعام، فإذا تفرد جرى على عادته إذا تجمع. وانتصب محافظة على أنه مفعول له. وطاوى الحشا، انتصب على الحال، ويجوز أن يريد إن لم يرني الضيف فيما آتيه عند الأكل للظلام الشامل، ولم يبن له ما أترك، فإنس أستحي م يدي فلا أحجن ولا أستأثر. والأول أحسن. والبهيم: الظلم، وأصله الذي لاشية فيه ولا وضح، أي لون كان، وأراد به هنا تأكيد السواد، لأن قوله داجي الظلام أفاد الإظلام.(1/1203)
وقال رجل من آل حرب
باتت وتلحاني على خلق ... عودته عادة والجود تعويد
قالت أراك بما أنفقت ذا سرف ... فيما فعلت فهلا فيك تصريد
قلت اتركيني أبع مالي بمكرمة ... يبقى ثنائي بها ما أورق العود
إنا إذا أتيتنا أمر مكرمة ... قالت لنا أنفس حربية عودوا
يقول: بقيت هذه المرأة ليلتها تعتب علي وتذمني في عادة نشأت عليها، وخليقة تخلقت بها، والجود عادة وإلف. وقوله والجود تعويد اعتراض دخل في أثناء الحكاية عنها، فقالت لي: أراك تسرف في الإنفاق، وتجري إلى ما يقوم له مالك في التقدير، ن ولا يفي به وجدك عند التحصيل، فهلا فطمت نفسك عنها، وجريت على سنن يساعدك عليه حالك، ولا تعجز عنه مقدرتك. والأصل في التصريد تقليل الشرب. يقال: سقاه سقية مصردة.
وقوله قلت اتركيني، أي أجبتها بأن خليني وابتياع المكارم بمالي، ليبقى ثناء الناس علي أبداً بها، ومدة إيراق الشجر. فما أورق العود، في موضع الظرف. وقوله ثنائي بها أضاف المصدر إلى المفعول، والمراد ثناء الناس علي. وقال أبع مالي، والمال ثمن المبيعات، لأن المتبايعين كل منهما يبيع ويشتري. وقوله إنا إذا ما أتينا أمر مكرمة، يقول: من شأننا أن لا نرضلى في ابتناء المكارم، وإسداء المعروف والصنائع بالإيحاد فيها، والاكتفاء بالوتر عند فعلها، ولكنا نشفع ونعاود، ونتبع الأكرومة بأختها فنطابق.
وقوله عودته عادة انتصب عادة على المصدر، لأنها وضعت موضع التعويد، كما يوضع الطاعة موضع الإطاعة، يدل على أن ذلك هو المراد قوله والجود تعويد. ويقال: تعودت كذا واعتدته واستعدته وأعدته بمعنى، وفحل معيد ومعاود، أي معتاد للضراب، وإنما قال أنفس حربية تبجحا بأسلافه، وإظهاراً بأن من كان منهم لا يأتي عرقه ونجره إلا الكرم.(1/1204)
وقال أبو كدراء العجلي
ياأم كدراء مهلا لا تلوميني ... إني كريم وإن اللوم يؤذيني
فإن بخلت فإن البخل مشترك ... وإن أجد أعط عفواً غير ممنون
يخاطب امرأته وقد تضجر بملامتهاولذعة إنكارها وعتابها، فيقول: رفقاً فيما تسلكينه، وكفا عما أولعت به، فإني نشأت على الكرم فلومك يؤذيني ولا يغني عنك شيئاً؛ لأني لا أقابله بالقبول، وقد يؤدي الإفراط في القول إلى الزيادة في الولوع، ولأني إن بخلت فالمبخول به مشترك بيني وبين ورثتي، وإن أجد أعط مالي عفواً، أي تسمحنفسي نفسي به فلا أكون مجهوداً، ولا أمتن على من يأخذه، لأني أقضي بالبذل لذة ومأربة، وأمضى هوى لي في مصارف ومنية، مستخلصاً من شركة غيري، ومقتسماً في وجوه إرادتي وبذلي.
وقوله فإن البخل مشترك إن شئت جعلته على حذف المضاف، ويكون المراد: فإن ذا البخل. وإن شئت جعلته المفعول، كما يقال الخلق والمراد المخلوق، ودرهم ضرب والمراد مضروب. والممنون يجوز أن يكون من المن، وهو القطع، أي أديم ذلك إدامة من يتصرف في ملكه لا من يتصرف في مشتركه. ويجوز أن يكون من المن والأذى. وقال بعضهم: أراد بقوله إن البخل مشترك، أن الناس أكثرهم بخال، فيكون لي شركاء. وهذا كلام معتذر من البخل لا كلام ذام له. ومع ذلك فعجز البيت يبتعد عنه ولا يلائمه، وقد أبان عما ذكرته فيما يليه، لأنه قال:
ليست بباكية إبلي إذا فقدت ... صوتي ولا ورائي في الحي يبكيني
بنى البناة لنا مجداً ومكركة ... لا كالبناء من الآجر والطين
يقول: إني لا أبقى على إبلي ولا أبقى منها ما يفضل عن إفضالي، فإذا مت عنها وفقدت صوتي في زجرها والأمر بتفريقها، فإنها لا تبكيني؛ وكذا وارثي لايحصل شيئاً من إرثي فلا تراه يندبني. ثم قال: إن أسلافي بنوا لي مجداً وكرماً، فأحتاج أن أقتدي بهم وأعمر خططهم، وإن لم يكن كالبناء المبني من الطين والآجر، لأن المكارم تسترم فتدعو إلى تفقدها، بخلاف ما تنفقد به المصانع إذا استرمت.(1/1205)
وقال عتبة بن بجير
لحافي لحاف الضيف والبيت بيته ... ولم يلهني عنه غزال مقنع
أحداثه إن الحديث من القرى ... وتعلم نفسي أنه سوف يهجع
يقول: إذا نزل الضيف بي فإني أوثره بأشرف مكان من بيتي، وأعز فراش لي، ولم يشغلني عنه لا الأهل ولا الولد، فأخدمه وأؤنسه، وأبسط منه وأخرفه، وكل ذلك من شرط القرى وإن لم يكن طعاماً؛ ومع ذلك تعلم نفسي وقت هجوعه فلا أمله ولا أتعبه، ولا أشغله عن راحته ولا أضجره. فإن قيل: كيف تحمد بقوله أحدثه إن الحديث من القرى، وقد قال غيره في إنزال الضيف ولم أقعد إليه أسائله؟ قلت: ليس قوله أحدثه مما انتفى منه ذاك في قوله ولم أقعد إليه أسائله؛ لأن ذاك أشار إلى ابتداء النزول، وذلك وقت الاشتغال بالاحتفال له أولى. وهذا يريسد أنه يحدثه بعد الإطعام، كأنه يسامره حتى تطيب نفسه، فإذا رآه يميل إلى النوم يخليه. قال الأصمعي: من سنة العرب أن الغريب منهم إذا نزل فصادف هشاشة وفكاهة أيقن بالتكرم وحسن التفقد، وإن رأى إعراضاً والنواء عرف ابتذالاً وحرماناً. فلذلك قال إن الحديث من القرى.
وقال عمرو بن أحمر الباهلي
ودهم تصاديها الولائد جلة ... إذا جهلت أجوافها لم تحلم
ترى كل هر جاب لجوج لهمة ... زفوف بشلو الناب هوجاء عيلم
أراد بالدهم قدوراً سوداً. ومعنى تصاديها تداريها وتمارسها في الغضب والإنزال وإعداد الآلات لها. والولائد: الجواري. والجلة: الكبار العظام. وقوله إذا جهلت أجوافها، يريد إذا غلت وأرزمت. فعد ذلك جهلاً منها. وقال(1/1206)
أجوافها جمعاً على ما حوله. وقوله لم تحلم أراد لم تسكن بالهويني لعظمها.
وقوله ترى كل هر جاب، فالهر جاب: الضخم الثقيل. واللجوج هي التي إذا استعرت النار تحتها لجت. واللهمة: الكبيرة التي تلتهم الأوصال الموفرة، والأعضاء الموربة. وقوله زفوف بشلو الناب أي لسعتها ترمي جوانبها بأشلاء الناب وتزف بها. والزفيف: ضرب من السير. والهوجاء: التي كأن بها هوجاً وجنوناً. والعيلم: الواسعة الكثيرة الأخذ من المرق، كالعيلم من الآبار.
لعا لغط جنح الظلام كأنها ... عجاريف غيث رائح متهزم
إذا ركدت حول البيوت كأنما ... ترى الآل يجري عن قنابل صيم
اللغط: الصوت، يعني هزتها في الغليان. وانتصب جنح الظلام على الظرف، يريد أنها تغلي إذا جنح الظلام بالعشى، وذاك وقت الضيافة، وكأن لغطه صوت رعد من غيث ذي تعجرف. والعجارف: شدة وقوع المطر وتتابعه، يريد أنه هبت الريح فيه وصار له هزمة أي صوت. شبه صوت القدر في غليانها بصوت الرعد من سحاب هكذا.
وقوله إذا ركدت حول البيوت رجع إلى صفة القدور كلها، فيقول: إذا نصبت فتثبتت على الأثافي حول البيوت وقد أشبعت وحفلت باللحوم والدسوم، تراها تبرق إهالتها، وتتلألأ تلألؤ الآل، وقد جرى على متون خيول واقفة، فساعده بريق السلاح. والقنابل: الجماعات من الخيل، حدها قنبلة. والصيم: جمع صائم، وهو القائم. والصوم قيام بلا عمل. وصام الفرس على المعلف، إذا لم يعتلف.
وقال المرار الفقعسي
آليت لاأخفي إذا الليل جنني ... سنا النار عن سار ولا متنور
فيا موقدجي ناري ارفعاها لعلها ... تضيء لسار آخر الليل مقتر
يقول: أخذت على نفسي مولياً ومقتسماً، أني لا أخفي إذا الليل سترني بظلامه ضوء ناري عن سار يبغي مبيتاً، ولا ناظر إلى نار ليهتدي بها،(1/1207)
ثم ترك الإخبار عن نفسه، وأقبل يخاطب موقدي ناره فقال ارفعاها، أي اجعلاها في يفاع ومكان مشرف، فعسى أن تضيء لسار مرمل فقير في آخر الليل، وقد كابد ما كابد من أوله، فخلص إلينا، واهتدى بنارنا. والمتنور: الناظر إلى النار. وإنما قال فيا موقدي ناري على عادتهم في جعل مزاولي الأمور اثنين اثنين. على ذلك قول الآخر:
ترى جازرية يرعدان
وكما قالوا في الحلب البائن والمستعلي، وفي الاستقاء القابل والمستقي.
ولعل يعد مع أفعال المقاربة وإن كان حرفاً. والمقتر: الفقير. ويقال قتر وأقتربي بمعنى. وقد يجعل المقتر نقيض المكثر.
وماذا علينا أن يواجه نارنا ... كريم المحيا شاحب المتحسر
إذا قال من أنتم ليعرف أهلها ... رفعت له باسمي ولم أتنكر
فبتنا بخير من كرامة ضيفنا ... وبتنا نهدي طعمة غير ميسر
قوله وماذا علينا، أي أي ضرر يلحقنا في أن يتوجه إلى نارنا رجل كريم الوجه، هزيل المعري، قد ظهر أثر الضر على متحسره، أي حيث يتحسر الثوب عنه، كالوجه وسائر مالا يغطيه. وقوله كريم المحيا ضد قولهم: لئيم المقذ، لأن المحيا هو الوجه، فأضيف الكرم إليه. والمقذ: منتهى الشعر من القفا، فأضيف اللؤم إليه، وقد قيل: حر الوجه، وعبد لامقذ، وعبد القفا. وقوله إذا قال من أنتم، يريد أنه يتعرف لينظر هل على النار من يكرم قراه ويطيب النزول عليه. وقوله رفعت له باسمي جواب إذا، أي عرفته اسمى إذا سأل، ولم ألبس نفسي خمولاً، ثقة بأنه يرضاني لنزوله، ولأنهم كانوا ير وزون المستضاف بالكلام، لينظروا ماذا يكون منه من استهلال واهتزاز، أو ازورار وانقباض.(1/1208)
وقوله فبتنا بخير من كرامة ضيفنا، يريد: احتفلنا لضيفنا فشركناه في الخير المعد له، وبقينا ليلتنا نهدي إلى الجيران من فواضل الطعام والزاد عنا وعن ضيفنا، وذلك غير ميسر، أي لم يكن مما ضرب عليه بالقداح وتياسرناه أي اقتسمناه، بل كان مما نجشم للضيف لا يشركنا أحد فيه.
وقال عروة بن الورد
أرى أم حسان الغداة تلومني ... تخوفني الأعداء والنفس أخوف
لعل الذي خوفتنا من أمامنا ... يصادفه في أهله المتخلف
يقول: لما هممت بالسفر وجعلته مني ببال اعترضت هذه المرأة علي وأقبلت تلومني وتحذرني الأعداء في الوجه الذي أردت تيميمه، ونفسي أشد أشد خوفاً لأنها حساسة حذرة، لكني تجلدت لها وأجبتها بأن الذي أنذلاتناه من قدامنا، والسمت الذي هو نيتنا وطيتنا، لعله يلقاه المتخلف عن السعي في طلب الرزق المقيم في أهله راضياً بأدون العيش؛ لأن الحذر لا يغني عن القدر، وقد يؤتى الإنسان من ناحية أمنه، ويصادف فيه ما لا يصادفه الخائف من ناحية خوفه. وقوله خوفتنا حذف الضمير العائد إلى الذي منه، استطالة للاسم بصلته. وقوله من أمامنا، يريد من حيث نأتمه، والوجه الذي نتوجه إليه، وذلك قدامه لا شك. وموضع يصادفه رفع على أن يكون خبر لعل، وفي أهله تعلق الجار منه بفعل مضمر وموضعه نصب على الحال، أي يصادفه المتخلف مقيماً في أهله ومستقراً.
إذا قلت قد جاء الغنى حال دونه ... أبو صبية يشكو المفاقر أعجف
له خلة لا يدخل الحق دونها ... كريم أصابته حوادث تجرف
يقول: إذا اتفق لي في مقصد من مقاصدي ما أقدر فيه حصول الغنى وجواز الاعتماد عليه في مباغي الدنيا، ووعدت نفسي له ومن أجله بالاكتفاء عند الفكر في مؤن العيال، حال بيني وبينه اجتداء صاحب عيلة، ووالد صبية، ظاهر الفقر، سيء الحال، يشكو زمانه وتأثير الضر فيه، وعليه مما يتألم منه شواهد تمنع دخول حق دون خلته، وتأبى أن يقال في شيء من المفاقر هو أولى منه. فكأنه يعني بالحق نسيباً(1/1209)
أو جاراً أو متحرماً بحرمة، لأنه متى قوبل حاله بحال من ذكره لم يوجب تقديمه عليه، ولم يستحق العدول عنه إليه. هذا من طريق الوجوب له، ثم هو في نفسه يرجع إلى كرم ومروءة، ويستظهر بعنوان نعمة وترفة، وقد نابته نوائب تجرف المال، أي تتويه جملة لا تزيله شيئاً بعد شيء، كما يكال الشيء أو يوزن، فعهده به قريب، والتوفر عليه متعين مفروض، فإذا التزمت له واجبه، وآثرته بصرف ما في يدي إليه، عدت محتاجاً كما كنت، وساعياً في الطلب كما ابتدأت. وقوله كريم من صفة أبو صبية، وقد تابع بين صفات من مفرد وجملة.
وقال يزيد بن الطثرية
إذا أرسلوني عند تقدير حاجة ... أمارس فيها كنت عين الممارس
ونفعي نفع الموسرين وإنما ... سوامي سوام المقترين المفالس
يقول: إذا أرسلني عشيرتي في مهم لهم يقدرون ارتفاعه بي وبسعيي، ويؤملون انتفاعهم به عند اجتهادي، فاعتمدوا مزاولتي، ووثقوا بالنجاح لدى ممارستي، كنت فيه حق الممارس، لا أجع فيه ولا أفرط ولا أقصر، بل زدت على ظنهم بي، وتجاوزت الغاية التي يقفون فيها من رجائي، فنفعي نفع المكثرين وإن كان مالي الراعية مال المفلسين المقترين. وقوله المفالس، الإفلاس: لفظة عربية وإن كثر التداول لها في ألسنة العامة. وكان الأصل في أفلس الرجل أن يصير صاحب فلوس بعد أن كان صاحب أموال. وتفليس الحاكم معروف، وهو من هذا، كأنه ينسبه إلى ذلك، فهو كالتعديل والتنسيق. والسوام من قولهم: سامت الماشية تسوم، وهي سائمة. والمراس: مزاولة الشيء، ويقال: مرس الحبل، إذا نشب في البكرة عند الاستقاء. ويقال لمن يرده إلى موضعه أمرس فهو ممرس. على ذلك قوله:
بئس مقام الشيخ أمرس أمرس
ثم يقال في الصبور على طلب الشيء القوى: هو مرس، وشديد الممارسة والمراس. وقوله أمارس فيها في موضع الجر على أن يكون وصفاً لحاجة.(1/1210)
وقال سالم بن قحفان، وقد عاتبته امرأته
لقد بكرت أم وليد تلومني ... ولك أجترم جرماً فقلت لها مهلاً
فلا تحرقيني بالتلامة واجعلي ... لكل بعير جاء طالبه حبلاً
فلم أر مثل الإبل مالاً لمقتن ... ولا مثل أيام العطاء لها سبلاً
يقول: ابتكرت هذه المرأة لائمة لي وعاتبة علي من غير جناية جنيته واكتسبتها، ولا جريمة اجترمتها وقدمتها، فقلت لها: رفقاً في قولك لا خرقا، وصبراً على مضضك واقتصاداً؛ ولا تحرقيني بنار عتبك، وسلطان غيظك، ولكن اتبعي مرادي، واهتدي بهديي، واثقة بأن الصواب في فعلي وقولي، وجوامع الخير مقرونة بعفوي بعفوي وجهدي، واجعلي لكل بعير نصصت عليه لسائل حبلاً، ليقتاده به، مشاركة لي في الكرم وابتغاء الصلاح، وموافقة فيما أوثره من وجوه الاصطناع، لا يظهر منك تكره، ولا اشتطاط وتسخط. واعلمي أني لم أر مالاً مثل الإبل لمن يقتضي خيراً، ويدخر أجراً، ولا مثل أوقات العطاء سبيلاً لها وممراً. ويجوز أن يريد بقوله مالاً لمقتن أي لمن يجمع ما يقتنيه ويجعله الأصل في يساره وغناه. وبعد ذلك فتحويلها إلى العفاة برمتها أعود عليهم وأرد، وأبقى في حالهم وأغنى. والاقتنا: اتخاذ الشيء للنفس لا للبيع. ويقال: هذه إبل قنية، وهذه مال قنيان، لما يتخذ للنسل لا للتجارة. ويقال قنا يقنو، لغتان، ومن الثانية قولهم: أقنى حياءك. ومن الأولى قوله:
كذلك أقنو كل قط مضلل
فرمت إليه امرأته بخمارها وقالت: صيره حبلاًلبعضها وأنشأت تقول:
حلفت يميناً يا ابن قحفان بالذي ... تكفل بالأرزاق في السهل والجبل(1/1211)
تزال حبال مبرمات أعدها ... لها ما مشي يوماً على خفه جمل
فأعط ولا تبخل إذا جاء سائل ... فعندي لها عقل وقد زاحت العلل
يقول: أقسمت يميناً بالله الذي تضمن الأرزاق لمرتزقها، وفطر الخلق الذي اخترعهم في سهل الأرض وحزنها، لا تزال من جهتي حبال مستحصدة معدة لإبلك التي صرفتها في مصارف بذلك مدة الدهر، اقتداء بك، ودخولاً تحت طاعتك. فالمتكفل بالأرزاق هو الله تعالى في أقطار الأرض، وقد وثقنا بتفضله والتعيش من فضله. وقولها تزال حذفت حرف النفي منه لأمنها من الالتباس، وقد مر القول فيه في غير موضع.
وقولها فأعط ترغيب منها وتحضيض، أي توسع في البذل منها، ودع البخل بها، فلا اعتراض عليك، ولا مرادة معك، والعقل من جهتي معدة، والعلل معي مرتفعة. ويقال: أزحت العلة في كذا فزاحت، أي أزلتها فزالت. وحكى الدريدي: زاح الشيء يزيح ويزوح زيحاً وزيحاناً، أي تحريك عن مكانه. وزحته فانزاح، وأزحته فزاح، وهو مزوح ومزاح. وقولها ما مشى يوماً في موضع الظرف، والعامل فيه لا تزال حبال.
وقال الأقرع بن معاذ
إن لنا صرمة تلفى محبسة ... فيها معاد وفي أربابها كرم
نسلف الجار شرباً وهي حائمة ... ولا تبيت على أعناقها قسم
ولا تسفه عند الحوض عطشتها ... أحلامنا وشريب السوء يحتدم
الصرمة: القليل من المال، ويريد بالمحبسة أنها مناخة بالفناء لا تسام في المراعي. وقوله فيها معاد أي أنها تحتمل ما تحمل من مؤن العفاة عوداً على بدء. وقوله في أربابها كرم أي في ملاكها صدر وحسن صبر على ما يتعريهم من حقوق السؤال والمجتدين.(1/1212)
وقوله نسلف الجار شرباً وهي حائمة الحائمة: العطاش؛ يقال: هو يحوم حول الماء. إذا دار حوله. وهو حائم لائب، إذا اشتد عطشه وحام حول الماء. فيقول: نقدم الجار على انفسنا عند سقي الإبل وإن كانت إبلنا عطاشاً، كأنا نجعل الزيادة على نصيبه كالسلف عنده. ويقال: أسلفت كذا وسلفت جميعاً. وقوله ولا تبيت على أعناقها قسم يعني الأيملن التي يؤك بها المعاذير والعلل عند المنع والبخل. فيقول: لا تبيت صرمتنا وقد لزمها كفارة يمين احتجزت بها عن البذل. ولك أن ترى: تسلف الجار بالتاء، حتى يكون الإخبار في العجز والصدر عن الإبل، والحال لا تلتبس في أن ذلك كله لأربابها.
وقوله ولا تسفه عند الحوض عطشتها، أي لا تستخف حاجتها إلى الماء أحلامنا فنبطش بشركائنا في الورد، ونفعل ما يفعله المتعزز والمقتدر من الهضيمة في الشرب، لأن شريب السوء هو الذي يتحفظ ويغضب فيحتدم. والاحتدام: شدة الإحماء. قال الأعشى:
وهاجرة حرها محتدم
وقال يزيد بن الجهم الهلالي
لقد أمرت بالبخل أم محمد ... فقلت لها حتى على البخل أحمدا
فإني أمرؤ عودت نفسي عادة ... وكل امرىء جار على ما تعودا
يقول: أمرتني هذه المرأة بالإمساك عند البذل: والإبقاء على المال، فقلت لها حتى على البخل وابعثي عليه إنساناً أحمد لك وأرضي بوعظك مني، فيكون أحمد مفعولاً، وقد نابت الصفة عن الموصوف. ويروى: حثى على الجود أحمدا ويكون قوله أحمد منتصباً بإضمار فعل، كأنه لما قال حثى على الجود نوى ائتى ما هو أحمد لك. وهذا كما يقال: وراءك أوسع لك، واتق الله أعود لك. وفي القرآن: " انتهوا خيراً لكم ". ومن روى حثى على البخل، يجوز أن يكون أحمد اسماً علماً لولد لها أو قريب منها، فقال: أبعثي ذلك على البخل من(1/1213)
دوني، لأني لا أصغي إليك ولا أئتمر لك، فقد تعودت منذ كنت عادة فطمي عنها ومنعي منها يتعذر ويبعد، وكل رجل سيجري على عادته، وما هو من هجيراه وسمته.
أحين بدا فر الرأس شيباً وأقبلت ... إلى بنو غيلان مثنى وموحداً
رجوت سقاطي واعتلالي ونبوتي ... وراءك عني طالقاً وارحلي غدا
ألفت الاستفهام وإن كان المراد بها التوبيخ والتقريع، يطلب الفعل وهو رجوت. فيقول: أرجوت مني بعد اشتعال الشيب في رأسي اتباعي لك، وقبولي منك، وبعد أن ألف الناس مني طريقة أجرى عليها وقد أقبلت بنو غيلان شرعاً نحوي اثنين اثنين، وواحداً واحداً، من طرق مختلفة، ووجوه مفترقة، وقد علقوا آمالهم بي، يكون مني نبؤ عنهم، واعتلال عليهم، وزوال عن السنة المعروفة فيهم ومعهم، إلى غيرها. وقوله سقاطي، يقال لمن لم يأت مأتى الكرام: هو يساقط. قال الشاعر:
كيف يرجون سقاطي بعد ما ... جلل الرأس مشيب وصلع
والمعنى: كيف أملت مساقطتي عند هذا الدأب مع اجتماع هذه الأحوال، ومع تجربتي وكمالي، اذهبي عني بائنة مني وارحلي غداً. وقوله وراءك ظرف في الأصل، وقد جعله اسماً للفعل. والمراد: ابعدي عني. وعطف عليه وارحلي وهو فعل، وهذا يبين قوة الظروف إذا جعلت أسماء للأفعال، لأنه لولا ثباتها في النيابة عن الأفعال والاستغناء بها عنها، لما جاز عطف الفعل عليها؛ وذلك أن المعطوف والمعطوف عليه في حكم المثنى، والتثنية لا تحسن إلا بين متوافقين، فكذلك العطف. ومثنى وموحد مما عدل في النكرة، فلا ينصرف في المعرفة والنكرة جميعاً، لكونه معدولاً عن أسماء الأعداد وعن الإفراد إلى التكرير. وطالقاً انتصب على الحال من قوله وراءك عني، ولم يقل طائقة لأنه أخرجه مخرج النسب.
وقال آخر:
إني وإن لم ينل مالي مدى خلقي ... فياض ما ملكت كفاي من مال(1/1214)
لا أحبس المال إلا ريث أتلفه ... ولا تغيرني حال إلى حال
يقول: أنا وإن كان مالي لا يقوم بمؤني، وكان عاجزاً عن غاية خلقي، وقاصراً دون مدى بذلي وإفضالي، فإني أصب ما تملكه يداي فييض فيضاً لا أمنعه طالباً له كيف يتوسل، وبماذا يتوصل، إذ كنت لا أحبس المال ولا أخزنه إبطاءه إلا قدر الوقت في إتلافه وتفرقته، ولا تنقلنيحالة تعرض عن حالي الأولى فيما أعتاده وآلفه. يريد أنه مستمر فيما يجري عليه كيف واتاه الزمان، وأداره الأحوال. وقوله إلا ريث في موضع الظرف من لا أحبس.
وقال سوادة اليربوعي
لقد بكرت مي على تلومني ... تقول ألا أهلكت من أنت عائلة
ذريني فإن البخل لا يخلد الفتى ... ولا يهلك المعروف من هو فاعله
يقول: اغتدت هذه المرأة إلى لائمة وقائلة: لقد أهلكت من تكفله وتمونه، إذا كنت بعرض الفقر، لتضييعك ما تملكه، وسرفك فيما تبذله. فأجبتها وقلت: ارتكيني على عادتي، فإن البخل بالمال لا يبقى صاحبه، والبذل لا يميت معتاده. وقد مضى مثل هذا.
وقال حطائط بن يعفر أخو الأسود
تقول ابنة العتاب رهم حربتنا ... حطائط لم تترك لنفسك مقعداً
إذا ما أفدنا صرمة بعد هجمة ... تكون عليها كابن أمك أسودا
رهم ارتفع على البدل من ابنة العتاب، وحطائط منادى مفرد. ويقولون: ما ترك فلان لك مقاماً ولا مقعداً، أي لم يبق لك ما يمكنك الإقامة والقعود له به. والصرمة: الفليل من الإبل. والهجمة أكثر منها، لأنها تقع على الثلاثين أو الأربعين. فيقول: عاتبتني هذه المرأة في إنفاقي وإفضالي، وقالت: أفقرتنا يا حطائط، وأزلت تجملنا، وجنيت على نفسك أيضاً، إذ لم تترك من المال ما تكتفي به، وتستغني عن(1/1215)
السعي والتجول معه، فتريح نفسك من الحل والترحال في طلبه، وتقعد عن التصرف وتحمل المشاق في حوزه واحتجانه، لأنا متى استفدنا قليلاً من الإبل بعدما تفيتنا الكثير منها تعود عليها سالكاً طريق أخيك الأسود بن يعفر، فتفنيه وتخلينا منه. وإنما قال تكون عليها لأنه لما لم يسع في تثميرها كان عليها لا لها. وقد جمع الشاعر بين سيرين في خرزة في قوله تكون عليها كابن أمك.
فقلت ولم أعى الجواب تبيني ... أكان الهزال حتف زيد وأربدا
أريني جواداً مات هزلاً لعلني ... أرى ما ترين أو بخيلاً مخلدا
قوله ولم أعي الجواب، يقال: عييت الأمر وعييت به عياً، ورجل عيي وعي، وعيي عن حجته عيا. يريد: أجبتها ولم أعجز عن محاجتها: تأملي وانظري، هل كان الفقر والهزال سبب موت من مات من عشيرتنا، وأريني سخياً أماه الضر، منا أو من غيرنا، لعلني أهتدي بهديك وأعتقد مذهبك، وأئتمر لك فيما ترينه رشاداً، أو بخيلاً بقي في الدنيا وعاش ما أراد ليطلب بموافقته ما حصل له من الدوام، وانصرف عنه من الشقاء والفناء.
وقوله أريني جواداً أي دليني عليه وعرفيني مكانه. وقال أبو عبيدة في قوله: " أرنا مناسكنا " المراد علمنا، ويروى: لأنني أرى ما ترين، وهو بمعنى لعلني. يقال: ائت السوق لأنك تشتري لنا شيئاً، أي لعلك. ويقال أيضاً: أنك تشتري، وهذا كما تقول: علك ولعلك. ويقال في هذا المعنى: لعنك. وينشد بيت أبي النجم:
واغد لعنا في الرهان نرسله
وبعضهم ينشده: لأنا أي لعلنا. وإبدال الهمزة من العين والعين من الهمزة كثير لا ينكر.
وقال المقنع الكندي
نزل المشيب فأين تذهب بعده ... وقد ارعويت وحان منك رحيل(1/1216)
كان الشباب خفيفة أيامه ... والشيب محمله عليك ثقيل
ليس العطاء من الفضول سماحة ... حتى تجود وما لديك قليل
يعظ نفسه ويذكره ما انتهى إليه حاله في عيشه وتصرفه، فيقول: قد مسك الكبر، فأي طريق تسلك، وأي مذهب تذهب، وقد رجعت عن جهالتك، وارتدعت عن كثير مما كنت تلابسه بغباوتك، وقرب منك التحول من دار الفناء إلى دار البقاء، وقد كان أيام الشباب طيبة الممر، خفيفة المستقر، وأيام الشيب البادي كريهة الظهور، ثقيلة الأعباء والحمول؛ فعليك بما يجمع لك إلى الحمد ذخراً، وإلى ثناء الناس وشكرهم أجراً. واعلم أن البذل مما يفضل عنك ليس بسماحة، إنما الجود أن تعطى من قليلك، وتنفق من كفايتك. وقوله وما لديك قليل، يجوز أن يريد والذي لديك، ويكون ما مبتدأ ولديك صلته وقيليل خبره؛ ويجوز أن يكون ما نافية وقليل اسمه، ولدييك خبره. والمعنى حتى تجود بكل شيء لك فلا يبقى قليله أيضاً.
وقال جوية بن النصر
قالت طريفة ما تبقى دراهمنا ... وما بنا سرف فيها ولا خرق
إنا إذا اجتمعت يوماً دراهمنا ... ظلت إلى طرق المعروف تستبق
يقول: اشتكت هذه المرأة الحال في سرعة نفاذ ما يحصل عندهم من الورق والمال، وهم لا يسرفون في الإنفاق، ولا يخرقون في الإتلاف، فقالت: لا بركة مع سوء التدبير، ولزوم التضييع والتفريق. وتنسب قلة تلومه وخفة بقائه إلى ضعف النظر وعجز التدبير، وإرهاق التعجل ونقص التقصير. فقلت لها: إن دراهمنا إذا اجتمعت تسابقت إلى منافذ المعروف، وتلاحقت في مصارف الإجسان المألوف، فذلك سبب سرعة فنائها، وعجلة ذهابها لا غير. فقوله إذا اجتمعت ظرف لقوله ظلت إلى طرق المعروف تستبق. ويوماً ظرف لاجتمعت.
وقال زرعة بن عمرو
وأرملة تنوء على يديها ... من الضراء أو قصص الهزال(1/1217)
خلطت بغثها سمنى فأضحت ... شريكة من يعد من العيال
يقول: رب امرأة منقطع بها سيئة الحال ضعيفة الحراك، إذا أرادت النهوض تعتمد على يديها، لتأثير الضر فيها، أو لإقصاص الهزال إياها، وهو دنو الموت منها - ويقال: أقصة كذا من الموت، أي أدناه - أنا خلطت بفقرها غناي، وبما رق من حالها كثافة حالي، فصارت تعد في جملة العيال، ومشاركة فيما أقتنيه من المال، لا تمايز يظهر لها، ولا تباين يوجب انقباضها. وقوله تنوء على يديها، أي تنهض، وهو في موضع الصفة لأرملة. وجواب رب خلطت بغثها سمنى. ويقال لحم غث بين الغثانة والغثونة، إذا كان مهزولاً. وقيل: كلام غث، على التشبيه، أي لا طلاوة عليه.
وأفنتني الليالي، أم عمرو ... وحلى في التنائف وارتحالي
وتربيتي الصغير إلى مداه ... وتأميلي هلالاً عن هلال
يقول: أفنى قواى نوائب الزمان، وتصاريف الليالي والأيام، وتنزلي في المفاوز والقفار، وتنقلي في مختلفات الأسفار، وتربيتي الطفل الرضيع إلى أن يبلغ ويجتمع، واليافع الكبير إلى أن يعلو ويستكمل، وتعليقي الأمل بشهر مستهل بعد شهر، وحول مؤتنف بعد حول. وإنما يصف ما عاناه، وامتحن به حالاً بعد حال، وتردد فيه فقاساه وقتاً بعد وقت، إلى أن تقضي عمره، ونفدت قوته.
ويشبه هذه الأبيات قول الأخر:
لقد طوفت في الآفاق حتى ... بليت وقد أنى لي لو أبيد
وأفناني ولا يفنى نهار ... وليل كلما يمض يعود
وشهر مستهل بعد شهر ... وحول بعده حول جديد
ومفقود عزيز الفقد تاتي ... منيته ومأمول وليد
وإن كان هذا أحسن استيفاء.(1/1218)
وقوله وتاميلي هلالاً عن هلال، أي بعد هلال. ومما جاء فيه عن بمعنى بعد قولهم: سادوك كابراً عن كابر، لأن معناه كبيراً بعد كبير. والمراد: شغله أمله بما يتاح له في مؤتنف الأيام من الخير، والتمكن من المراد.
وقال عبد الله بن الحشرج
ألا كتبت تلومك أم سلم ... وغير اللوم أدنى للسداد
وما بذلي تلادي دون عرضي ... بإسراف، أميم، ولا فساد
يقول: خاطبتني هذه المرأة تعتب علي، واستعمال غير اللوم أقرب في تسديدي وإرشادي، إذ كان اللوم ربما يعود إغراءه، ولا سيما إذا تكلف فيما لا يستحق فيه، فما إعطائي مالي القديم في وقاية نفسي بإسراف فينكر، ولا بإفساد فأعتب. وقوله تلومك في موضع الحال، أي لائمة لك. وخاطب نفسه في البيت الأول، ثم نقل الاخطاب إلى الأخبار، على عادتهم في كلامهم.
فلا وأبيك لا أعطى صديقي ... مكاشرتي وأمنعه تلادي
ولكني أمرؤ عودت نفسي ... على علاتها جرى الجياد
محافظة على حسبي وأرعى ... مساعي آل ورد والرفاد
أخذ يخاطبها مجيباً عن كتابها، ومخبراً عن طرائقه وأخلاقه، فيقول: أنا وحق أبيك لا أرضى صديقي بأن أكشر في وجهه إذا لقيته - والكشر: إبداء الأسنان بالضحك - ثم أمنعه مالي وأحرمه خيري. وقوله وأمنعه عطف على أعطى، فرفعه. والمعنى: لا أكشر للصديق ولا أمنعه تلادي، يريد لا أضاحكه باسطاً من أمله، وقابضاً يدي عن بذله. زمثله في القرآن: " ولا يؤذن لهم فيعتذرون "، لأن المعنى لا يؤذن لهم ولا يعتذرون. ولو رويت وأمنعه بالنصب كان جائزاً، ويكون انتصابه بأن مضمرة، ويكون كقولهم: لا يسعني شيء ويعجز عنك. والمعنى: لا يسعني شيء عاجزاً عنك، فكذلك هذا وتقديره: ما(1/1219)
أعطى صديقي مكاشرتي مانعاً له تلادي، أي لا يجتمع هذان في شيء: العجز لك والسعة لي، فكذلك لا يجتمع على صديقي مني الكشر والمنع. ويجوز في رفع أمنعه وجه آخر، وهو أن يكون على الإستئناف والانقطاع مما قبله، ويكون المعنى لا أعطي صديقي مكاشرتي وأنا أمنعه تلادي ومثله قول القائل: ما تأتيني وتحدثني، والمراد: ما تأتيني وأنت الآن تحدثني. والرفع أجود، ألا ترى أن القائل إذا قال: ما جاءني زيد وعمرو، كان دون قوله ما جاءني زيد ولا عمرو؛ لأن الأول يجوز أن يريد أنهما لم يجتمعا في المجيء، ولكن تفرد كل منهما عن صاحبه فيه، وفي الثاني إذا قال ولا جمعهما النفي، فلا يجيء على حال من الأحوال. وكذلك البيت، لو كان فيه حرف النفي لكان يمتنع حصول الكشر والمنع جميعاً على كل وجه، ووجه الرفع عليه يدور.
وقوله ولكني امرؤ عدوت نفسي، يريد أني جعلت من عادتها على ما يعرض لها من حوادث الدهر أن تجري في مكرماتها، أي في اكتساب مكرماتها، جرى الجياد السبق، لا الكودان البطاء. وقوله محافظة انتصب على انه مفعول له. فيقول: أفعل ذلك لأحفظ شرفي، وأرعى مكارم آبائي وأسلافي. وقوله أرعى حمله على المعنى فعطف على ما قبله وإن اختلفا، أي أفعل ذلك لأحافظ أرعى، محافظة على الشرف ورعياً لمساعي آل ورد. والمساعي واحدتها مسعاة، وهي السعي في تحصيل الكرم والجود. ويقال: هو يسعى لعياله، أي يكسب لهم. وقيل: السعي العمل في الكسب.
وقال رجل من بني سعد
ألا يكرب أم الكلاب تلومني ... تقول ألا قد أبكأ الدر حالبه
تقول: ألا أهلكت ما لك ضلة ... وهل ضلة أن ينفق المال كاسبه
يقول: لا متني هذه المرأة وقالت: قد قلل اللبن من يحلب الإبل - ومعنى أبكأ الدر: أتى به بكئاً. ويجوز أن يريد صادفه بكئاً، كما يقال: أحمدت فلاناً. والبك: قلة للبن. يقال: نافة بكئة، وهي ضد الغزيرة - فأنت في ضلال مادام تضييع المال منك ببال. فأجبتها وقلت منكراً عليها، وراداً لكلامها: وهل يسمى جامع المال إذا فرقه ضالاً، وكاسبه إذا أنفقه فيما يريده ويهواه مضيعاً. وانتصب ضلة على المصدر، وهو في موضع الحال، ويجوز أن يكون مصدراً لعلة، فيكون مفعولاً له.(1/1220)
وإنما أعاد قوله تقول إيذاناً بتفننها في الملام، وتوسع مجالها في الكلام. وقوله هلى ضلة خبر مقدم، وأن ينفق المال في موضع المبتدأ. والتقدير: وهل إنفاق كاسب المال له ضلال.
وقال مزعفر
وإني لأسدي نعمتي ثم أبتغي ... لها أختها حتى أعل فأشفعا
وأجعل نعمي ما فعلت ذمامة ... علي وآتى صاحبي حيث ودعا
قوله وإني لأسدي نعمتي، يقول: إذا اصطنعت عند إنسان صنيعه، وأوليته لاتصال رجائه بي عارفة، لم أرض بإفرادها، لكني أطلب لها توابع ولواحق، حتى تصير النعمة عنده شفعاً لا وتراً، والإحسان إليه مكرراً لابدعاً، كل ذلك تلذذاً بالإفضال، وشهوة في إسداء العرف والإجمال. ويقال: شاة شافع، إذا كان معها ولدها. والعلل: الشرب الثاني. والنهل: الشرب الأول، فاستعاره لإتباع الصنيعة بمثلها.
واجعل نعمي ما فعلت ذمامة، أجعل: أسمي، من قول الله عز وجل: " وجعلوا الملائكة الذين هم عباد الرحمن إنائاً ". ويجوز أن يكون بمعنى أصير. كأنه يعتقد في الإحسان أنه إساءة. والذمامة: الذم. والذمام، بكسر الذال: الحرمة. والمعنى: أتذمم من نعماي عند غيري، لأن بالغاً ما بلغت أكون لنفسي مستقصراً، ولفعلي مستزيداً، فلا أعتد بما أسديه، ولا أتجمد بالإنعام فيه، ولكنه أعده كالوصمة التي يتذمم منها.
وقوله وآتى صاحبي حيث ودعا، يريد أن من يستغيث بي أجيبه وأغيثه أشد ما كان حاجة إلى حين ودع أهله وعشيرته، ليأسه من الدنيا وتوطينه النفس على الهلك والردى، فآتيه مستنقذاً ومحامياً، ومنتعشاً ومرامياً. وقوله حيث ودعا، يجوز أن يكون للزمان والمكان جميعاً. وقد تقدم القول فيه. وقد جعل ودع بمعنى مات، وبيت متمم يشهد له، وهو:
فقد بان محموداً أخي حين ودعا(1/1221)
وإني بما يكفي من الزاد أهله ... أقابل بذل المال حلساء أجمعا
يقول: إن أقابل بما يكون فيه كفاية الأهل من الواد بذل حلسي المال كله. فقوله حلساه في موضع الجر على أن يكون بدلاً من المال، ويكون على لغة من يجعل المثنى بالألف في موضع النصب والجر. وأجمعا في موضع الجر، ويكون تأكيداً للمضمر المتصل بحلساه. ولك أن تجعله تأكيداً للمال. وأجود من هذا أن يجعل حلساه مرتفعاً بقوله بذل، فيكون فاعلاً. وقد أضاف المصدر إلى المفعول، كقولك: أعجبني ضرب زيد عمرو. وجعل الحلس باذلاً وإن كان الفعل لصاحبه، على السعة، ويكون التقدير: أني أقابل بما يكتفي به من الزاد أن يبذل حلسا المال جميع ما يحويانه، ويكون على هذا أجمع تأكيداً للمضمر المتصل بحلساه لا غير. والمعنى: إذا حصلت الكفاية لأهل الزاد فإني أنفض الوعاء الجامع للمال، وأفرق كل ما فيه، أي أقتصر على الكفاية، وما تعداه أعده فضلاً. والحلس: الواحد من أحلاس البيت. قال الخليل: وهو ما يبسط تحت حر المناع من مسح وجوالق ونحوهما.
وقال عارق الطائي
ألا حي قبل البين من أنت عاشقة ... ومن أنت مشتاق إليه وشائقه
ومن لا تواتي داره غير فينة ... ومن أنت تبكي كل يوم تفارقه
افتتح كلامه بألا، ثم قال: جدد عهدك بصاحبك وسلم عليه، قبل أن تحول النوى بينكما فيهيج شوقك تعشقك له، وبعد الدار منه، وتهييج شوقه لمثل ذلك، لأن جميع ما أقوله من مقتضيات صفاء المقة، واستحكام المحبة. وقوله ومن لا تواتي داره فينة الأحسن أن تفع الدار بتواتي، يريد من لا تقاربك داره إلا ساعة لا تطوعك الزيارة إلا فيها. والفينة: الوقت، ويكون معرفة ونكرة، وقد مر القول فيه، وأنه يجري مجرى الصفات في ذلك إذا جعلت أعلاماً كالحارث والعباس. ولك أن تنصب داره. والمعنى تبكيه أو تبكي عليه، وكذلك قوله تفارقه أريد تفارق فيه فحذف مفعول الفعلين، ولا يمتنع أن يجعل كل يوم مفعول تبكي. والمعنى تتأسف على كلي يوم تفارقه فيه، فتبكيه شوقاً إليه، إذ كان(1/1222)
التوديع جمعك وإياه فيه. ويكتفي في هذا الوجه بالضمير العائد من تفارقه، فأما إضمار فيه في تفارقه فلا بد منه. وقوله من وقد كرره في البيتين جميعاً مراراً، يجوز أن يكون بمعنى الذي، والجمل بعده في صلته، كأنه قال: حي الذي أنت عاشقه والذي أنت مشتاق إليه وشائقه والذي أنت كذا. ويجوز أن يكون نكرة في معنى إنسان، ويكون الجمل بعده صفات له. يريد: حي إنساناً هذه صفاته. فأما تكريره له فهو على طريق التعظيم والتفخيم. وهكذا العادة فيما يهول أمره من مرجو أو مخوف.
نخب بصحراء النوية ناقتي ... كعدو رباع قد أمخت نواهقه
إلى المنذر الخير بن هند نزوره ... وليس من الفوت الذي هو سابقه
يقول: تسير ناقتي الخبب - وهو ضرب من العدو - في هذه الصحراء تحتي، عدو فرس، أو عير قد أربع. والإرباع بينه وبين القروح سنة، فكأنه أراد استحكام شبابه وقوته، إذ ليس بينه وبين النهاية وهي القروح إلا سنة. ومعنى أمخت نواهقه أي قد أطاعه العلف أو المرتع فصار لعظامه مخ، والنواهق: عظمان في الساق، وفي غير هذا المكان مايكتنف الخاشم من الدابة، والواحدة ناهقة.
وقوله إلى المنذر تعلق بتخب والخير من صفته، وهو الذي تأنيثه خيره. ولا يمتنع أن يكون مخففاً من الخير، كما يقال لين ولين، وهين وهين. ونزور في موضع الحال، ويريد المنذر بن ماء السماء. وقوله وليس من الفوت الذي هو سابقه أراد سابق به، وفي الكلام وعيد.
ولهذا الشعر قصته، وهو أن الملك كان غزا أرضاً فأخفق، وفي منصرفه عثر بطائفة من طيىء كانوا في ذمته وعهده، فأراد تجاوزهم فقال بعض ندمائه له: استغنمهم وأوقع بهم. فقال: إنهم في ذمتي! فلم يزل يقرب الأمر فيه معه حتى استباحهم. لذلك توعد فقال: ما سبق به لا يفوت تداركه.
فإن نساء غير ما قال قائل ... غنيمة سوء وسطهن مهارقه
ولو نيل في عهد لنا لحم أرنب ... وفينا وهذا العهد أنت مغالقه(1/1223)
أكل خميس اخطأ الغنم مرة ... وصادف حياً دائناً هو سائقه
قوله غير ما قال قائل، يجوز أن يكون صفة لنساء. وقوله غنيمة سوء يرتفع على أن يكون خبر مبتدأ، كأنه قال: هن غنيمة سوء، حكاية لكلام القائل الذي ذكره. وإضافة الغنيمة إلى السوء يكون على طريق الإزراء والاستحقار. وقوله وسطهن مهارقه، الجملة في موضع خبر إن، فيكون المعنى إن نساء مخالفة صفتها لما قاله قائل، يعني من حسن في عين الملك الإيقاع بهن هن غنيمة سوء معهن كتب العهد والذمة اللذين يخرجن بهما عن كونهن غنيمة. فهذا وجه، ويجوز أن يكون غنيمة سوء خبر إن، ووسطهن مهارقه من صفة النساء، وقد فصل بين الصفة والموصوف بخبر إن، وغير ما قال قائل ينتصب على المصدر، فيكون مؤكداً للقصة، والتقدير: إن نساء وسطهن مهارقه غنيمة سوء، غير قول القائل المحسن الإيقاع بهن. ويجري هذا مجرى قولهم: هذا ولا زعماتك. أي هذا هو الحق لا ما تزعمه. ويكون المعنى: إن نساء معهن عهدك، ولا أقول ما قاله قائل حسن الإيقاع بهن، غنيمة سوء لا غنيمة صدق. والمهارق: جمع المهرق، وهو فارسية معربة. وكانت العرب تصقل الثياب البيض وتكتب فيها كتب العهود وما أرادوا إبقاءه على الدهر، وقوله ولو نيل في عهد لنا لحم أرنب وفينا يقبح عنده ما ارتكبه منهن. فيقول: ولو أصيب لحم أرنب فيما تشعله أذمتنا لوفينا به. ثم أنت أيها الملك تغالق هذا العهد، وتستجيز تخطيه، وتستحسن نقضه وترك الوفاء به. وقوله لحم أرنب ذكره تحقيراً وأنه صيد مستباح.
وقوله أنت مغالقة لك أن تروى معالقة بالعين. والمعنى: وهذا العهد الذي معهن متعلق بذمتك وفي رقبتك حتى تخرج منه. ومن روى مغالقه بالغين معجمة، يكون من غلق الرهن، أي أنت مفسده ومحتسبه تاركاً للوفاء به. وقوله أكل خميس لفظه استفهام ومعناه تقريع. فيقول: أكل جيش أخفق في وجه قدر الغنم فيه، وصادف في منصرفه حياً في طاعته يسوقه ويوقع به. أي إن ذلك غير مستجاز في السياسة والديانة، ولا مستحسن في المروءة؛ والغدر مغبته ذميمة، وعاقبته قبيحة دميمة.(1/1224)
وكنا أناساً دائنين بغبطة ... يسيل بنا تلع الملا وأبارقه
فأقسمت لا أحتل إلا بصهوة ... حرام عليك رمله وشقائقه
قوله دائنين، أي آخذين بالطاعة، مغتبطين بما لنا من الذمة. ويكون بغطبة في موضع الحال. وروى: دائبين، وهو أقرب، ويكون من الدؤوب. والمعنى إنا كنا نسير مغتبطين آمنين فرحين حيث شئنا. ويدل على هذا قوله يسيل بنا تلع الملا وأبارقه. وإنما يقتص حالهم قبل معاهدته لهم، ومعاقدته الذمة بينه وبينهم. والملا: الصحراء. والتلعة: مسيل ماء، وجمعها تلع، كجوزة وجوز. والأبارق: جمع الأبرق، وهي المواضع التي قد ألبست حجارة سوداً. ومنه حبل أبرق، إذا كان ذا لونين سوداً وبياض. وقوله لا أحتل إلا بصهوة، يقول: حلفت لا انزل إلا بعيداً من أرضك، وخارجاً من ملكتك، في صهوة أو في مكان عال تحرم عليك جوانبه وآفاقه. والشقائق: جمع شقيقة، وهي رملة بين أرضين. ورمله ترتفع بحرام، أي يحرم عليك. ولك أن تروى حرام عليك رمله فيكون خبراً مقدماً، ورمله مبتدأ، والجملة في موضع الصفة للصهوة.
حلفت بهدي مشعر بكراته ... تخب بصحراء الغبيط درادقه
لئن لم تغير بعض ما قد صنعتم ... لأنتحين للعظم ذو أنا عارقه
يقول: أقسمت بقرابين الحرم وقد اعلمت لكراته بعلامات الإهداء. والإشعار، هو أن يطعن في أسنتها فيسيل الدم الدم عليها، فيستدل بذلك على كونه هدياً. وجعل الهدى دالاً على الجنس وما بعده صفته. وقوله تخب بصحراء الغبيط درداقه، يريد سوقها نحو البيت. والدرداق: صغار الإبل. والخبب: ضرب من السير. وجواب القسم لأنتحين للعظم، والئن فيها بين القسم والمقسم له موطئة للقسم. فيقول: آليت إن لم تغير أيها الملك بعض صنيعك، ولم تتدارك ما فاتنا من عدلك ووفائك، لأقصدن في مقاتلتك كسر العظم الذي صرت أعرفه فينتزع العظم منه. جعل تقبيحه لما أتاه وشكواه كالعرق، وهو انتزاع اللحم وما بعده، إن لم يغير معاملته، تأثيراً في العظم نفسه. وقد أحسن في التوعد، وفي الكناية عن فعله وعما يهم به بعده. وقوله(1/1225)
ذو أما لغتهم وهو في معنى الذي، وأنا عارقة من صلته، وقد مضى الكلام في مثله.
وقال برج بن مسهر
مرت من لوى المروت حتى تجاوزت ... إلي ودوني من قناة شجونها
إلى رجل يزجى المطي على الوجى ... دقاقاً ويشقي بالسنام سمينها
فللقوم منها بالمراجل طبخة ... وللطير منها فرشها وجنينها
اللوى: مسترق الرمل. والمروت: فعول من المرت، وهو الأرض التي لا تنبت شيئاً. وقال الدريدي: هو المكان القفر. وقناة: موضع. وشجونها: جوانبها المتقاربة ونواحيها. والشجون أيضاً: الأشجار الملتفة المتداخلة. والشواجن، واحدتها شاجنة، وهي المواضع التي فيها الشجون. ومن التداخل والالتفاف قولهم: الحديث ذو شجون. وإنما يخبر عن خيال زاره.
وقوله إلى رجل، تعلق إلي بسرت. ويعني بالرجل نفسه، ويزجى المطي، أي يسوقها. والوجى: الحفا؛ أي لا يبقى عليها ولا يرفق بها، لكنه يديم السير عليها ولا يقبها مع الحفا ولا يبقى عليها مما يهلكها. ودقاقاً انتصب على الحال، أي ضوامر مهازيل. ويشقى بالسنان سمينها، أي بالسنان له، فحذف الضمير لأنه لا يخيل. والمعنى أنه لا ينحر سمان الإبل للعفاة والضيوف. وقوله فللقوم منها بالمراجل طبخة منها رجع الضمير إلى قوله سمينها، لأنه أراد بها الجنس، وهذا إخبار عن حالتها وقد جزرت. فيقول: للوارد منها طبخة في المراجل، وللطير فرثها والولد الذي في بطنها.
وقال ملحة الجرمى
فتى عزلت عنه الفواحش كلها ... فلم تختلط منه بلحم ولا دم
كأن زرزور القبطرية علقت ... علائقها منه بجذع مقوم(1/1226)
يمدحه بالرزانة والعقل، ونقاء الجسم من العيب، وصفاء السبب والنسب من الفحش ومعنى عزلت نحيت منه في جانب. ويقال: هو بمعزل عن هذا الأمر والأصحاب، فيقول: بعدت عنه الفواحش كلها وصرفت، وجعل بينه وبينها حاجز حتى لا تمازج ولا تخالط، ولا تداني ولا تشابك. والقبطرية: جنس من الثياب رفيع. ومعنى البيت أنه طويل القامة مديد الجسم، فكأن زرور القميص من هذا الجنس من الثياب علقت منه على جذع مقوم. أراد أن طول جذع هكذا. وهم يتمدحون بامتداد القوام، والبسطة في الأجسام.
عملس أسفار إذا استقبلت له ... سموم كحر النار لم يتلثم
إذا ما رمى أصحابه بجبينه ... سرى ليلة الظلماء لم يتهكم
كأن قرادي زوره طبعتهما ... بطين من الجولان كتاب أعجم
العملس: الجريء المقدام، ويوصف به الذئاب، وكذلك السلمع ويوصف به الخبيث من الذئاب والكلاب. ويقال: هو عملس دلجات، أي قوي على السير. وزاد اللام في قوله إذا استقبلت له تأكيداً، والأصل استقبلته. وجواب إذا لم يتلثم وهو العامل فيه. فيقول: هو في السفر بهذه الصفة مبتذلاً نفسه لا يتوقى من السمائم، ولا يتخشى منأنواع المهالك، فإذا قابلته السموم المحرقة إحراق النار لم يصن وجهه منها، ولا جعل على محياه لثاماً. واللثام: رد المرأة قناعها على انفها، وقد تلثمت، وتلثم الرجل بعمامته. والملثم ما حول الفم، وقيل الأنف وما حوله، والفام: رد القناع على الفم، وقيل أيضاً: هو مثل اللثام لا فرق بينهما.
وقوله إذا ما رمى أصحابه بجبينه أراد أنهم إذا قدموه ليهتدوا به وهم يسرون في ليلة شديدة الظلام هائلة لم يجبن ولم يتكذب، ولكن تقدمهم وقادهم على عادته.
وقوله كأن قرادي زوره طبعتهما وصفهما بالصغر، ثم شبههما بطابعين من طين الجولان، ويقال إنه أسود، تولي طبعهما كاتب من كتاب العجم. وخصهم لأنهم حينئذ كانوا أحذق بالكتابة وأسبابها. وهم يتمدحون بالهزال وقلة اللحم. والطبع: الختم. والطابع: الخاتم. وحكى: هذا طبعان الأمير، أي طينه الذي يختم به(1/1227)
وقال بعضهم:
إنك يا ابن جعفر نعم الفتى
ونعم مأوى طارق إذا أتى
ورب ضيف طرق الحي سرى
صادف زاداً وحديثاً ما اشتهى
إن الحديث جانب من القرى
ثم اللحاف بعد ذاك في الذرى
يخاطب بهذا الكلام عبد الله بم جعفر بن محمد الصادق رضي الله عنهم، فيقول: نعم الفتى أنت، أي محمود في الفتيان أنت ومحمود دارك وفناؤك، مأوى الطراق إذا وردوا. وقوله مأوى طارق أضافه إلى النكرة لأن القصد بطارق إلى الجنس، واسم الجنس في مثل هذا المكان وأن تنكر فائدته فائدة المعارف، وإذا كان كذلك كان قولك مأوى طارق بمنزلة مأوى الطراق. والمحمود هو المخاطب. ويجب أن يكون في نعم ضمير يعود إلى المخاطب، وقد اشمل عليه قوله نعم الفتى ونعم مأوى طارق، لأن فائدة نعم الرجل، محمود في الرجال. فكأنه قال: إنك محمود في الفتيان يا ابن جعفر. وقد قيل في قول القائل: زيد نعم الرجل: إنه لما كان القصد بالرجل إلى الجنس، وكان زيد منهم، اكتفى بكونه منهم من ضمير يعود إليه.
وقوله ورب ضيف طرق الحي سرى، يريد ليلاً؛ لأن السرى لا يكون إلا بالليل فالسري في موضع ظرف، واسم الزمان محذوف معه، وهو كقولك: جئتك مقدم الحاج وما أشبهه. فيقول: رب ضيف أتى الحي راجياً وجود القرى عنده، أنزلته فصادف في فنائك زاداً عتيداً، وحديثاً مؤنساً، وإكراماً مبراً. وقوله ما اشتهى في موضع الظرف، فهو كقوله:
أحدثه إن الحديث من القرى ... وتعلم نفسي أنه سوف يهجع(1/1228)
لأن في قوله ما اشتهى المعنى الذي عليه قوله تعلم نفسي أنه سوف يهجع. وقوله إن الحديث جانب من القرى، يقول: تأنيس الضيف بملح من الحديث من أسباب القرى وشرائطه، وخصاله التي تكمله وتفضله. وقوله ثم اللحاف بعد ذاك في الذرى، إشارة إلى إكرامه بما يفترش له ويمهد به موضعه. والذرى: الكنف.
وقال الشماخ
وأشعث قد قد السفار قميصه ... وجر شواء بالعصا غير منضج
دعوت إلى ما نابني فأجابني ... كريم من الفتيان غير مزلج
يصف مضيفاً. والأشعث: الذي يبتذل نفسه ولا يصونها عن التعمل، فيصير مقطوع القميص في السفر، لتحمله عن أصحابه أثقال المهن، حتى يتشعث طواهره، ويغبر شعره، وترث ثيابه، ويختل أمره. وقوله: وجر شواء إشارة إلى توليه من خدمة الرفقاء والأصحاب مالا يكون من عمله. وجعل الشواء غير مدرك لتعجله وحرصه على تقديم أمرهم والتسرع في إطعامهم. ويجوز أن ينتصب غير على أن يكون حالاً للنكرة - وهو أجود الروايتين - حتى لا يكون قد فصل بين الصفة والموصوف بالأجنبي منهما، وهو قوله بالعصا، لأن التعلق بينهما يقارب التعلق بين الصلة والموصول.
وقوله: دعوت إلى ما نابني، أي استغثت به وطلبت منه الإغاثة على ما نابني من حدثان الدهر فأجابني منه كريم من الفتيان غير ضعيف الممة، ولا مؤخر عن الغاية البعيدة. وأصل التزليج من قولهم قدح زلوج، أي سريع في الإجابة. أي إذا وقف على حد مكرمة وأشرف على الفوز بمنقبة لم يزلج عنه ولم يدفع منه، لأن الزلج السرعة في المشي وغيره. وكل زالج سريع، ومنه مزلاج الباب للخشبة التي يغلق بها.
فتى يملأ الشيزى ويروى سنانه ... ويضرب في رأس الكمي المدجج
فتى ليس بالراضي بأدنى معيشة ... ولا في بيوت الحي بالمتولج(1/1229)
يقول: هذا المدعو المستغاث به فتى يملأ الجفان المتخذة من الشيزى للضيوف والرفقاء، ويروى سنان رمحه من دماء الأعداء، وإذا بارزه في الحرب القرن التام السلاح، الكمي بين الصحاب، غلبه وركبه، وأتى عليه فأسقطه، وهو فتى لا يرضي لنفسه في دنياه بأقرب الهمتين، وأدون المعيشتين، ولكن يطلب غايات الكرم ونهايات الفضل، ولا يداخل بيوت الحي والمجاورة، ولا يخالط النساء للريبة والمعازلة. يصفه بالعفة والجد، وصيانة النفس، وارتفاع الهمة والهم عما يزيل الحشمة، ويدنس المروءة.
وقوله ولا في بيوت الحي، جعل في بيوت تبييناً، وقد حصل الاكتفاء بقوله المتولج، فيكون موقعه منه كموقع بك بعد مرحباً، لئلا يحصل تقديم الصلة على الموصول، وإن شئت جعلت الألف واللام في قوله المتولج للتعريف، لا بمعنى الذي، فلا يحتاج إلى تقدير الصلة في الكلام. وقد مر نظائره.(1/1230)
باب المدح
وقال يزيد الحارثي
وإذا الفتى لاقى الحمام رأيته ... لولا الثناء كأنه لم يولد
وأتيت أبيض سابغاً سرباله ... يكفي المشاهد غيب من لم يشهد
يقول: إذا أخلى الفتى مكانه من الدنيا وانقضى عمره، فانتقل من الأولى إلى الأخرى، فلولا ثناء الناس عليه، وذكره بالجميل الذي يقدمه ويسديه، لنسي وقته وأمده، وصار حكمه من لم يولد فيعرف يومه وغده، لكن باقي الذكر ونامي العهد والرسم، بما ينشر من حديث حسن وقصة، ويحمد من عادة وسنة، هو الذي يصير به في حكم الحي الذي لم يمت، والمشهود الذي لم يفت. وقد توصل بهذا الكلام إلى إطرائه من يتشكره والثناء عليه، وهو قوله وأتيت أبيض سابغاً سرباله، يريد: وزرت رجلاً كريماً حراً، نقى الحسب من العيوب، واسع العطاف والقميص، لباسه لباس الرؤساء والسادة. وقوله يكفي المشاهد يريد أنه ينوب في مجالس الكبار عمن لا يحضرها، فيحسن المحضر، ويقصر لسان المغتاب. ومثله قول الآخر:
إنا لنذكر والرماح تنوشنا ... تحت العجاجة ما يقال ضحى الغد(1/1231)
وقال دريد بن الصمة
تراه خميص البطن والزاد حاضر ... عتيد ويغدو في القميص المقدد
وقد مرت هذه الأبيات مشروحة.
وقال آخر:
كريم رأى الإفتار عاراً فلم يزل ... أخا طلب للمال حتى تمولا
فلما أفاد المال عاد بفضله ... على كل من يرجو جداه مؤملا
الإفتار: نقيض الإكثار. يقال فلان مكثر، وفلان مقتر. وكذلك التقتير عقيب التكثير. ويقال: قتر على أهله وأقتر، إذا ضيق عليهم في الإنفاق، وفي القرآن: " والذين إذا أنفقوا لم يسرفوا ولم يقتروا "، قرى بضم الياء وفتحها على اللغتين. يقول: لما رأى في ماله القصور والعجز عن مدى همه، رأى ذلك عاراً ومنقصة، فلم يزل يمتطي المراكب الشاقة طالباً للمال، ويدبم الحل والترحال في كسبه وجمعه، حتى إذا استغنى ونال مناه، لم ينفرد به دون مؤمليه، ولك يجعله مقصوراً على لذاته ومباغيه، ولكن عاد يفضل عليهم، وأقبل يشركهم فيه ويعطيهم. ويقال أفاد بمعنى استفاد. والجدا والجدوى: العطية.
لما أتى يزيد بن عبد الملك بآل الملهب قام " كثير " بيد يديه فقال:
حليم إذا ما نال عاقب مجملاً ... أشد العقاب أو غفا لم يثرب
فعفوا أمير المؤمنين وحسبة ... فما تحتسب من صالح لك يكتب
أسلموا فإن تغفر فإنك أهله ... وأفضل حلم حسبة حلم مغضب(1/1232)
يصفه بكرم النفس وكظم الغيظ، واستعمال الحلم في وقته، والانتقام من الأعداء بأشده في إبانه وحينه. فيقول: إذا نال الجاني عليه، أو العدو المكاشح له، عاقبه وهو مجمل، أي لا يشتط ولا يسرف، ولكن ينتهج طرق العدل في الانتقام، ويقصد الحق في إقامة الحد عند التمكن واللزام، وذلك أشد ما يعاقب به مثله، أو عفا عنه غير موبخ على ذنبه، ولا مكدر نعمته في عفوه. وقال أبو عبيدة في قوله تعالى: " لا تثريب عليكم ": لا تخليط ولا إفساد. وقال غيره: لا تعيير ولا توبيخ.
وقوله فعفواً أمير المؤمنين طلب وسؤال، عفواً على المصدر. فيقول: اعف وقد قدرت، واحتسب عند الله بما تأتيه، فهو مكتوب لك إلى يوم فاقتك، ومدخر إلى مجازاتك، فكما تعفو يعفى عنك. وقوله أساءوا فإن تغفر، اعتراف بالذنب، واستعطاف بالغفر. فيقول: إن تجافيت عن إساءتهم واستعملت ما أنت أهله من العفو عنهم، فإن ذاك هو المرجو منك، والمعتاد من نظرك، وأفضل الحلم احتساباً وأجراً حلم المغيظ، والمضجر الممتلك.
فروى أن يزيد لما قرع سمعه هذه الأبيات قال: لولا أنهم قدحوا في الملك لعفوت عنهم.
وقال يزيد بن الجهم
تسائلني هوازن أين مالي ... وهل لي غير ما أنفقت مال
فقلت لها هوازن إن مالي ... أضر به الملمات الثقال
أضر به نعم ونعم قديماً ... على ما كان من مال وبال
يقول: تباحثني هذه القبيلة عن حالي، وتسائلني عن وجوه غناي، ومصارف مالي. وهذا إخبار عنهم وعن مباحثتهم واستكشافهم في إنكارهم. وقوله وهل لي استفهام على طريق النفي، كأنه قال: ومالي مال إلا ما أتلفته ووضعته حيث اخترته. وهذا اعتراض بين الابتداء من هوازن في السؤال وبين ما أتى به في الجواب، وهو(1/1233)
قوله فقلت لها هوازن. وانتصب غير على أنه استثناء مقدم، كلأنه لم يعتد بما فضل له عن مآربه، وبقي عنده في جواب مطالبه. والمعنى أنه لا مال له إلا ما انفقه وقدمه لا ما يسأل عنه.
وقوله فقلت لها هوزان، يريد أجبتهم وقلت: مالي أفناه ما نزل بي من الملمات الفادحة، والنوائب المجحفة، وأضر به قولي في جواب السؤال والوارد: نعم، إيجاباً لهم، وإسعافاً بمقترحاتهم. وهذه اللفظة وبال على الأموال معروف فيما تقادم من الأزمان. وانتصب قديماً على الظرف، والعامل فيه ما اشتمل عليه قوله على ما كان من مال وبال.
ونعم: حرف وضع للإيجاب، ونقيضه لا. وقد جعله الشاعر على هيئته منقولاً إلى باب الأسماء، فهو فاعل لأضر، ومبتدأ في قوله ونعم قديماً والخبر وبال.
فأما قول أبي تمام:
تقول إن قلتم لالا مسلمة ... لأمركم ونعم إن قلتم نعما
فقد عيب عليه نعما، وليس كما ظن، لأنه لما نقلها وجعلها اسماً نصبها بقلتم، على حد قولك: قلت خيراً وقلت شراً. ويجوز أن يكون قديماً انتصب على الصفة المتقدمة، أي نعم وبال قديم على الأموال، فلما قدمه نصبه. ومثله:
لمية موحشاً طلل
وقال أعرابي
ألا فتى نال العلا بهمه
ليس أبوه بابن عم أمه
ترى الرجال تهتدي بأمه(1/1234)
قوله ألا فتى تمن، وألف الاستفهام دخل على لا النافية لهذا المعنى، ولذلك حذف التنوين من فتى. ومعنى نال العلا بهمه أي صرف همه، وشغل نفسه بما ابتنى به العلا، وعمر به مكارم قومه وذويه. وقوله ليس أبوه بابن عم أمه، هو المعنى الذي ورد به الخبر: اغتربوا لا تضووا، لأنهم كانوا يعتقدون أن الولد إذا حصل بين متشاركين في النسب متقاربين، جاء ضاوياً. وقوله ترى الرجال تهتدي بأمه، أي تراهم يطؤون عقبه ويقدمونه فيهتدونن بقصده، ويقتدون برسمه، لرياسته وفضله.
وقال ابن المولى، ليزيد بن حاتم
وإذا تباع كريمة أو تشتري ... فسواك بائعها وأنت المشتري
وإذا توعرت المسالك لم يكن ... منها السبيل إلى نداك بأوعر
يقول: إذا قامت سوق المكارم، وثار رهج المغانم بين طلاب المعالي وتجار المحامد، فغيرك من حاضريها يزهد في حوز المكرمات، ويرفع يده عنها، فكأنه يبيعها؛ وأنت تحصلها وتجمع يدك عليها، وتفوز بابتياعها وإن كان بأغلى الأثمان، وأثقل السيم، فلا رغبة إذا نظرنا في مجامع المجد، واعتبرنا فيها دواعي طلاب الثناء والحمد، كرغبتك. وقوله: تباع أو تشتري، أو بمعنى الواو، فهو كما يكتب في العقود: وكل حق له داخل أو خارج.
وقوله وإذا توعرت المسالك، يريد وإذا اشتد الزمان وانسدت الطرق إلى من يتندى ويشتهر بفعل المعروف، لشمول القحط وإمحال الناس، فعادت مسالك الجود وعرة لا يمكن قطعها، ولا الوصول إلى أسباب الخير منها، كنت قريب المأخذ، سهل الفناء، حسن الإقبال على مجتديك، جميل الاشتمال على قصادك وزائريك، فلا تستحزن أرضك، ولا يستوعر جنابك. وتوعرت، من قولهم: طريق وعر، أي غليظ. وقد وعر يوعر. وطريق أوعر، من هذه اللغة.(1/1235)
وإذا صنعت صنيعة أتمتها ... بيدين ليس نداهما بمكدر
وإذا هممت لمعتفيك بنائل ... قال الندى فأطعته لك أكثر
يا واحد العرب الذي ما إن لهم ... من مذهب عنه ولا من مقصر
قوله وإذا صنعت صنيعة، يقول: وإذا اتخذت عند إنسان يداً وأزللت إليه نعمة، فإنك لا تخدجها ولا تترك ترتيبها، لكنك تكملها وتقوم بعنراتها، مصونة منالمن والتكدير، صافية من الشوائب والتعذير؛ ومتى نويت لمجتديك الإفضال عليه اقتضاك كرمك والندى الذي هو همك وسدمك، وقالا وأنت تطيعمها وتوجب مرسومهما: أكثر له ليستغني عن غيرك، ويخلص المن لك. وقوله يا واحد العرب، يجوز أن يتصل بقول الندى ويكون الشاعر حاكياً، ويجوز أن يتصل بمخاطبة الشاعر، والقصد في الدعاء التخصيص والإطراء. والمعنى أنه واحد العرب لا نظير له فيهم، فهو المنظور إليه من بينهم، فلا معدل عنه في المهمات، ولا مقصر دونه في الملمات. والمقصر: الكف والإمساك.
وقال المعذل
جزى الله فتيان العتيك وإن نأت ... بي الدار عنهم خير ما كان جازياً
هم خلطوني بالنفوس وأكرموا ال ... صحابة لما حم ما كنت لاقياً
كان المعذل أخذ بجرم، فكفل عليه النهس بن ربيعة العتكي، وكان حيث كفل عليه: دفع إليه فحمله على فرس وبغل، وأمره أن ينجو بدمه، وأسلم نفسه مكانه، فقال المعذل: اختر أن أمتدحك أو أمتدح قومك. فاختار امتداح قومه، فقال: تولى الله عني جزاء فتيان التعيك، فقابلهم بخير ما يجازي به مستحقاً لجزاء، وإن بعدت عنهم، وتناءت داري عن دارهم.
ثم أخذ يقتص ما عومل به فذكرهم وقال: هم الذين خلطوني بأنفسهم، وأسقطوا الحشمة بيني وبينهم، فجعلوني أشاركهم في خيرهم، ولا أتفرد بالضير فيهم؛ ثم إنهم صاحبوني مصاحبة كريمة لما قدر لي ما كنت أكابده، فضموني إلى أنفسهم متكفيلن بي، وصابرين على المكروه دوني، ثم فكوا أسري وأبلغوني مأمني.(1/1236)
فإن قيل: ما فائدة قوله وإن نأت بي الدار عنهم؟ قلت: أراد أنه لا يشكرهم مقارضاً ولا طامعاص فيؤثر فيما هو الغرض فيه فرب الدار وبعدها، بل يؤدي حق نعمة، ويقضي لازم فريضة وقوله لما حم يجوز أن يكون ظرفاً لأكرموا. ومعنى حم فدر.
هم يفرشون اللبد كل طمرة ... وأجرد سباح يبذ المغاليا
طعامهم فوضى فضاً في رحالهم ... ولا يحسنون السر إلا تناديا
كأن دنانيراً على قسماتهم ... إذا الموت للأبطال كان تحاسيا
ذكر ما شاهدهم عليه في مجاورتهم، ويجرون عليه في عاداتهم ومصارفهم، وينتقلون فيه أوقات حفلهم، وعند خلوتهم، وقيما ينوبهم من نائبة تخصهم أو تهمهم. فقوله يفرشون اللبد بضم الياء، أي يجعلون اللبد فراشاً لظهر كل رمكة وثابة، وكل فحل كريم سباح في عدوه، غلاب لمباريه في الغلو، سباق في الرهان يحوز قصب التقدم والعلو.
ويقال: ى فرشت الفراش وأفرشنيه فلان، وافترشت الأرض والمرأة. وروى بعضهم: هم يفرشون بفتح الياء، وقال: أراد يفرش للبد على كل طمرة، فحذف الجار. قال: ويقال فرشت ساحتي الآجر وبالآجر.
وقوله يبذ المغاليا إن ضممت الميم جاز أن يراد به السهم نفسه أو فرس يغاليه. وجاز أن يراد به الرافع يده بالسهم يريد به أقصى الغاية. ويقال: بيني وبينه غلوة سهم، كما يقال قيد رمح وقاب قوس. وإن فتحت الميم يكون جمعاً للمغلاة، وهي السهم يتخذ للمغالاة. والمعنى يسبق في غلوته. ومراد الشاعر أن سعيهم مقصور على تفقد الخيل وخدمتها، والتفرس على ظهورها. وقوله طعامهم فوضى فضاً فوضى من فوضت الأمر إليك. والفضا من فضت الأرض، إذا اتسعت؛ ومنه الفضاء، وأفضيت إليه بكذا. والمعنى أن الطعام عندهم وفيهم لا يكال ولا يوزن، ولا يقتسم ولا يفرز، بل يأكله في رحالهم كل من احتاج إليه، غير ممنوع عنه. وقوله ولا يحسنون السر إلا تنادياً، أي لا ريبة في أقوالهم وأفعالهم فيخفضوا الصوت بما يتخاطبون به، فعلى هذا يكون تنادياً مستثنى، ويكون التقدير: لا يحسنون السر لكنهم يتنادون. ويجوز أن يكون تنادياً في موضع(1/1237)
الحال، ويكون من باب:
تحية بينهم ضرب وجيع
وأعتبوا بالصيلم، وما أشبههما.
وقوله كأن دنانيراً على قسماتهم فالقسمة: الوجه. ويقال: وجه مقسم، إذا وفى كل جزء منه حظه من الحسن يريد أن الشدائد لا تكسر شوكتهم ولا تغض أبصارهم ولا تغيض مياه وجوههم، بل يزدادون على طول المراس والجذاب حسناً ونشاطاً. فكأن سحناتهم غشيت بالدنانير إشراقاً ونوراً، في وقت تتحامى الأبطال فيه الموت. وهذا مثل للشدة وقد وطنت النفوس عليها، وذللت لها. أي تشرب الشجعان كؤوس الموات حسوات.
وقال بعضهم:
وزاد وضعت الكف فيه تأنساً ... وما بي لولا أنسة الضيف من أكل
وزاد رفعت الكف عنه تكرماً ... إذا ابتدر القوم القليل من الثفل
وزاد أكلناه ولم ننتظر به ... غداً إن بخل المرء من أسوأ الفعل
يصف وفور عقله وحسن تأتيه في تقلب الأحوال به، وذهابه مع الكرم أني اعتمد، ومع من تصرف. فيقول: رب زاد وضعت كفي فيه إيناساً للمجتمعين عليه، وتأنساً بمؤاكلتهم، ولكي ينشطوا بكوني معهم، ويطرحوا الحشمة لانضمامي إليهم، لولا ذلك لكنت غير محتاج إليه، ولزهدت في التناول منه. وقوله أنسة الضيف، يقال انس وأنسة كما يقال: بعد وبعدة، وشقاء وشقاوة، ومنزل ومنزلة، ودار ودارة.
ورب زاد أمسكت عن أكله، وانقبضت عن الاجتماع مع آكليه مؤثراً لغيري به، وتوسيعاً على متناوليه، في وقت من الزمان يرى القوم يتبقون إلى القليل من سقط(1/1238)
الزاد، لعزته وشدة حاجتهم إليه، وبعد عهدهم بأطايبه، ورب زاد أفنيناه وتوسعنا فيه، غير مفكر في مستأنف الزمان، ولا خائف من عواصف الحدثان، ولو بقيناه لعد ذلك من فعلنا بخلابه، والبخل من أسوأ أفعال المرء وأقبحها. وانتصب تأنساً على أنه مصدر في موضع الحال. وقوله مناكل في موضع الرفع لأنه اسم ما، والنفي بما تناوله من حديث لولا. وكذلك قوله تكرماً في موضع الحال، وإذا ابتدر ظرف لرفعت، وهو جوابه. وقوله لم ننتظر به غداً أي لم ننتظر باستيفائه غداً، أي مجيء الوقت الذي نسميه غداً.
وقال بعضهم:
لقل عاراً إذا ضيف تضيفني ... كا كان عندي إذا أعطيت مجهودي
جهد المقل إذا أعطاك نائله ... ومكثر في الغنى سيان في الجود
اللام من لقل جواب يمين مضمرة، وفاعل قل ما كان عندي. وعاراً انتصب على التمييز، وهو مما نقل الفعل عنه، كأنه كان لقل كا كان عندي، فنقل قل وجعله لقوله ما كان، واشبه عاراً المفعول فنصبه. وقوله إذا أعطيت ظرف لقوله: قل ما كان عندي. وإذا ضيف تضيفني، ظرف لقوله: إذا اعطيت مجهودي. وتلخيص الكلام: لقد قل عار ما كان عندي إذا أعطيت منه مجهودي إذا ضيف تضيفني. والمعنى: لا عار في القليل الذي عندي إذا اعطيت مجهودي في الوقت الذي يتضيفني الضيف. ومثل هذا البيت فيما اجتمع فيه من الظرفين قول الآخر:
علام تقول الرمح يثقل ساعدي ... إذا أنا لم أطعن إذا الخيل كرت
وقوله جهد المقل مبتدأ، وعطف مكثر على المقل، وقد حذف المضاف منه، والمراد وجهد مكثر في الغنى، فاكتفى بالأول عن الثاني، وسيان خبر المبتدأ، كأنه قال: جهد المقل إذا أعطاك ما عنده وجهد مكثر في الغنى مثلان في أحكام الجود وشرائطه، لأن كلاً منها قتل مجهوده. وإنما قلنا هذا لأنكإن لم تضمر في قوله ومكثر المضاف تكون قد جمعت بين الحدث وهو جهد المقل، وبين الذات وهو مكثر فجعلتهما سبين. والشرط أن يضم الحدث إلى الحدث، والذات إلى الذات. وقوله في الغنى في موضع الصفة لكثر، كأنه قال ومكثر غنى.(1/1239)
وهذا كما تقول: جاءني رجل في جبة، تريد وعليه جبة، ةتحقيقه: جاءني رجل لابس جبة.
وقد تبين من البيت الثاني معنى البيت الأول، واعتذاره من القليل الذي يعطيه إذا ضاف ضيف.
وقال خلف بن خليفة
عدلت إلى فخر العشيرة والهوى ... إليهم وفي تعداد مجدهم شغل
إلى هضبة من آل شيبان أشرفت ... لها الذروة العلياء والكاهل العبل
إلى النفر البيض الأولاء كأنهم ... صفائح يوم الروع أخلصها الصقل
إلى معدن العز المؤيد والندى ... هناك هناك الفضل والخلق الجزل
قوله والهوى إليهم مبتدأ وخره قد اعترض بين صدر البيت وعجزه، والواو واو الحال. والمعنى: وهواي معهم؛ لأن إلى بمعنى مع، كما يقال هذا إلى ذاك. ويجوز أن يعطف والهوى على فخر العشيرة، فيكون المراد عدلت إلى الافتخار بهم، وإلى الهوى معهم. فيقول: صرفت همي إلى ذكر مفاخر العشيرة، وهواي معهم، وتركت غيره لأن في عج مجدهم وإحصائه ما يشغلني عن غيره. ثم كرر إلي مفخماً ومعظماً، فقال: إلى هضبة من شأنها كذا، وإلى النفر الذين من شأنهم كذا، وإلى معدن العز الذي من أمره كذا. والمراد بجميع ما ذكر العشيرة وإن اختلفت العبارات عنها. وقوله أشرفت لها الذروة العلياء، يعني هضبة العز. فيقول: علت لهذه الهضبة ذروة شامخة وكاهل ضخم، يريد عظم الهضبة وسموقها واتساع جوانبها.
وقوله إلى النفر البيض يعني آل شيبان. ذكر عزهم وكنى عنه بالهضبة، والقصد إلى أنهم الملجأ والمعقل. والأولاء في معنى الذين، وما بعده من صلته، ويمد ويقصر، فيقال الأولاء والأولى. وأراد بالبيض الكرام المنقي الأحساب. وقوله كأنهم صفائح يوم الروع، يجوز أن يضيف صفائح إلى يوم الروع، ويريد تشبيههم في نفاذهم وقدودهم بالسيوف المعدة ليوم الروع، لا المعاضد وما يبتذل في العوارض سوى الحرب. ولك أن تنصب يوم على الظرف. يريد صفائح مصقولة(1/1240)
جردت يوم الروع، وأعملت وأنفذت. وعلى الوجهين جميعاً يكون أخلصها الصقل من صفة الصفائح.
وقوله إلى معدن العز المؤيد معنى المؤيد المقوي بمواده التي تصرف إليه، لحسن مراعاتهم ومحافظتهم على المجد. ولك أن تروى المؤبد بالباء، ويكون المعنى العز الدائم الثابت على مر الأيام. وقوله والندى لك أن تجره معطوفاً على العز وتصير هناك مكرراً، والفضل مبتدأ وهناك خبره، وقد كرر الخبر تفخيماً وتعظيماً. وكما يكرر الخبر يكرر المبتدأ، تقول: زيد زيد عاقل، وزيد عاقل عاقل. ولك أن تجعل والندى مبتدأ ويكون هناك الأول خبره، والواو واو الحال، ويكون هناك الفضل مستأنفاً.
وقوله الخلق الجزل الجزالة مستعملة في الرأي والخلق، وفي القرآن: " وإنك لعلى خلقٍ عظيم "، فاستعمل العظم أيضاً.
أحب بقاء القوم بالمصر إنهم ... متى يظعنوا عن مصرهم ساعةً يخلو
عذابٌ على الأفواه ما لم يذقهم ... عدوٌ وبالأفواه أسماؤهم تحلو
عليهم وقار الحلم حتى كأنما ... وليدهم من تاجل هيبته كهل
إذا استجهلوا لم يعزب الحلم عنهم ... وإن آثروا أن يجهلوا عظم الجهل
قوله " أحب بقاء القوم بالمصر " يصف به كثرة خيرهم وعموم النفع بمكانهم في مقامهم، وسكون الناس إليهم، وقيام مرواتهم وسياساتهم في أوطانهم ومظانهم، فيقول: أحب لبثم في دورهم ومواضعهم، فإنهم متى ارتحلوا عن مصرهم ساعةً خلا وصار في حكم ما لم يختط من البلاد ولم يؤهل بالقطان والسكان، لأن عمارته كانت بهم، ودخل في عداد الأمصار بسكناهم. وانجزم " يخلو " لأنه جواب الشرط، وهو متى يظعنوا، لكنه أطلق فزاد ما يلحق للإطلاق في قوله تخلو. قالوا: وهاهنا ليست التي كانت لام الفعل، وإنما هي كالواو التي في قولك:
أيتها الخيامو(1/1241)
وبمثل هذا القول في لم نرمي، ولم يخشى، إذا وقعت في القافية، فيصير الألف كألف " الجرعا "، والياء كياء " الأيامي ". وعلى هذا القول في:
ألا أيها الليل الطويل ألا انجلي
الياء فيه للاطلاق، فأما من قال:
ألم يأتيك والأنباء تنمي
وولا ترضاها ولا تملق
ومن هجو زبان لم يهجو ولم يدع
فالياء والواو والألف لاماتٌ بقيت في موضع الجزم، لأن المحذوف للجزم عنده من هذه الأفعال وأشباهها حركاتٌ كانت في النية اتثقل اللفظ بها في موضع الرفع مع حروف المد، ثم حذفت حروف المد ليكون الفعل مجزوماً أنقص لفظاً منه وهو غير مجزوم، فعند الضرورة أثبتها ولم يكن مخطئاً، إذ لم يكن سقوطها إعراباً، ويكون الياء على هذا القول في قوله " ألا انجلي " لام الفعل أيضاً.
وقوله " عذابٌ على الأفواه ما لم يذقهم " ما في موضع الظرف. أراد أن طعمهم حلوٌ إلا على أفواه العداة، لأن أخلاقهم تشمس عند الأعداء فيخشن جانبهم لهم، ويمر مذاقهم على أفواههم إذا ذاقوهم. وقد جمع بين الطعم والذكر، لذلك اعاد ذكر الأفواه فقال: وبالأفواه، كانه قصد في الأول الإنباء عن كرم طبعهم ولين أخلاقهم عند التجربة، وفي الثاني أنه يستحلى ذكرهم فيطيب في المسمعة، لشمول إحسانهم، وكثرة محاسنهم، فتقوم الشهادات بفضلهم في الحالتين.(1/1242)
وقوله " عليهم وقتر الحلم "، أراد أنهم يحلمون في المعاملة، ويتوقرون مع من يجر الجرائر عليهم، فصغارهم لهيبتهم في النفوس كالكهول من غيرهم؛ وإن حملوا على جهلٍ في وقتٍ، بأن يصير مجاذبهم عادياً طوره، لم يفارقهم الحلم أيضاً، بل يكافئون المسيء على قدر إساءته. ثم إن آثروا استعمال الجهل لأمرٍ يوجب ذلك فاستمروا فيه واشتطوا عظم البلاء بهم فلم يطاقوا.
ويقال أثرت الشيء وآثرت بمعنى.
هم الجبل الأعلى إذا ماتناكرت ... ملوك الرجال أو تخاطرت البزل
ألم تر أن القتل غالٍ إذا رضوا ... وإن غضبوا في موطنٍ رخص القتل
لنا فيهم حصنٌ حصينٌ ومعقلٌ ... إذا حرك الناس المخاوف والأزل
لعمري لنعم الحي يدعو صريخهم ... إذا الجار والمأكول أرهقه الأكل
وصفهم بعلو الشان وارتفاع االمكان، فقال: هم الركن الأرفع، والطود الأمنع، وقت مداهاة الرجال بعضهم بعضاً، ومناكدة الأملاك حالاً فحالاً، فلا يغالب رأيهم، ولا يحللعقدهم، ولا يبلغ غورهم، ولا يستقصر مكرهم. فقوله " تناكرت " تفاعل من النكر الداهية؛ وهو حسن. ويجوز أن يكون تفاعل من الإنكار، فيكون تناكرت ضد تعارفت، أي ينكر بعضهم بعضاً، لما ينطوي عليه كلٌ لصاحبه من سوء الرأي وإضمار الشر.
وقوله " أو تخاطرت البزل " هو تفاعل من الخطران، وهو إشالة الأذناب وإدارتها عند الهياج، وهذا إشارةٌ إلى المتحاربين المتجاذبين إذا تدافعوا بأركانهم، كما أن قوله " تناكرت ملوك الرجال " يريد إذا تداهوبمكايدهم. فيريد أنهم يعلون رؤساء الناس قولاً وفعلاً، ومطراً ودهياً.
وقوله " ألم تر أن القتل غالٍ إذا رضوا "، يريد أن من أوى إليهم واستنام إلى جانبهم، فاستعطف هواهم وحصل رضاهم، أمنن وأعز فلا يلحقه قصدٌ، وسلم على الدهر فلا يجري عليه جور؛ ومن عدل عنهم واستن في سنن غضبهم، عرض بنفسه وتعجل الطمع من كل أحدٍ فيه، فقتله يسهل ويرخص إذا قتل المتعزز بهم يصعب أو يغلو ثم قال: " لنا فيهم حصنٌ حصين "، يصف ما عمهم من الأنمنة فيهم وبمكانهم. فيقول: هم لنا معقلٌ حريز وحصن حصين، في وقتٍ يقلق الناس فيه، لاستيلاء الخوف عليهم، واستعلاء القحط والبالاء فيهم. والأزل: الضيق.(1/1243)
وقوله " لعمري لنعم الحي "، المحمود بنعم محذوف، كأنه قال: إذا استغاث بهم الصريخ وهو المستغيث فاستصرخهم أجابوه ونصره، فنعم الحي وقد دعوا، إذا الجار مأكولٌ ومطموع فيه، وإذا اشتد الزمان ففني الزاد وعز الطعام. وقوله " الجار " مبتدأ وأرهقه الأكل في موضع الخبر. واكتفى بالإخبار عنه وإن كان عطف المأكول عليه، كأنه قال: إذا الجار أرهقه الأكل والمأكول كذلك.
ويشبهه قول الآخر في الإخبار عن المعطوف عليه دون المعطوف:
فإني وقياراً بها لغريب
وقد مر مثله.
ومعنى أرهقه الأكل ضيق عليه وغشيه. وقد قيل: أكلت فلاناً، إذا غلبته وقهرته. وكني عن المستضعف باللحم والشحم فقيل: ترك فلانٌ لحماً على وضمٍ، وفلان شحمةٌ للمتبلغ. قال الشاعر:
فلا تحسبني يا ابن أزنم شحمةً ... تزردها طاهي شواء ملهوج
سعاةٌ على أفناء بكر بن وائلٍ ... وتبل أقاصي قومهم لهم تبل
إذا طلبوا ذحلاً فلا الذحل فائتٌ ... وإن ظلموا أكفاءهم بطل الذحل
مواعيدهم فعلٌ إذا ما تكلموا ... بتلك التي إن سميت وجب الفعل
بحورٌ تلاقيها بحورٌ غزيرةٌ ... إذا زخرت قيسٌ وإخوتها ذهل
قوله: سعاة على أفناء كر " السعي يستعمل على وجوه، وكذلك السعاية. ويقال للمصدق الساعي، والمصدر السعاية. وهو يسعى على قومه، إذا قام بأمورهم. والمسعاة في الكرم والجود. والشاعر يرد أنهم يذبون عنها ويسعون في مصالحهم وحفظ ذممهم. وقوله " وتبل أقاصي قومهم " تبل يؤكد مات قبله. والمعنى ذحل الأباعد من قومهم كذحل المختص بهم، لأنهم يتشمرون في الانتقام والانتصار فيهما على حدٍ واحد.(1/1244)
وقوله " إذا طلبوا ذحلاً فليس بفائت "، يقال: طلبت عند فلانٍ ذحلاً، إذا رمت مكافأته على عداوةٍ منه أو جناية. وأراد أنهم إن وتروا لا يفوتهم إدراك الوتر، وإن وتروا غيرهم من أكفائهم وظلموهم لم ينتصف منهم، ولم يدرك الثأر من جهتهم.
وقوله " مواعيدهم فعل "، أراد أنهم ينجزون الوعد ويصدقون الأقوال بالفعل، وأن هذا دأبهم في الخصال التي إذا سميت موعوداً بها وذكرت، قال الناس يجب مع القول فعلها، استبعاداً للوفاء.
وقوله " بحور تلاقيها بحور غزيرة "، يريد أنهم في أنفسهم كالبحور كثرة وسماحاً، واتساعاً وعزة، فإذا لاقتها بحور قيسٍ وذهلٍ زاخرةً فقد كمل الأمر وتناهى العز، واطرد الماء، وطما التيار حتى لا يطاق.
وقال آخر:
عادوا مروءتنا وضلل سعيهم ... ولكل بيت مروءةٍ أعداء
لسنا إذا ذكر الفعال كمعشرٍ ... أزرى بفعل أبيهم الأبناء
يشبهه قول الآخر:
لا يملكون عداوةً من حاسدٍ ... وحذاء كل مروءةٍ حسادها
وقول الآخر:
إن العرانين تلقاها محسدةً ... ولا ترى للئام الناس حسادا
وقوله " وضلل سعيهم " أي نسب إلى الضلال لما لم يلحقوا شأوهم.
وقوله " لسنا إذا ذكر الفعال كمعشرٍ " يريد: لا نعتمد على مناسبنا، وعلى ما قدمه أسلافنا من المفاخر والمساعي، لكنا نعمر ما شيدوه، ونستحدث بأفعالنا ما يقويه ويكثره، ولا يصير مزرياً به.(1/1245)
وقال أعشى ربيعة
يمدح عبد الملك بن مروان: ويقال إنه دخل عليه فقال: يا أبا المغيرة، ما بقي من شعرك؟ فقال: لقد بقي منه وذهب. على أني أنا الذي أقول. ثم أنشد هذه الأبيات:
وما أنا في حقي ولا في خصومتي ... بمهتضمٍ حقي ولا قارعٍ قرني
ولا مسلمٌٍ مولاي عند جنايةٍ ... ولا خائفٌٍ مولاي من شرِّ ما أجني
قوله " في حقي " أي فيما استحقه من الناس كافةً، من الصيانة والتمييز، لما توحدت به من فضلٍ ومزية. وقوله " بمهتضم حقي " يريد به حقوقه عند الناس. فيقول: إني فيما أجاذب فيه الغير وأنازعه، وفي طلب حقوقي إذا حلت لي عندهم، وفيما يجب لي عند المزاولات والمحاكمات من التبجيل عليهم، لا أبخس ولا أظلم، ولا أدفع ولا أهان. وقوله. " ولا قارعٍ قرني "، ويريد أنه لا يأمنني فيشتغل عني بأسبابه ومصارفه، ولكن يكون أبداً خائفاً مني، ومشغولاً بي وحذراً من الإيقاع به.
وقوله " ولا مسلمٍ مولاي عند جناية " يريد بقوله مولاي أجناس ما يسمى مولىً من حليفٍ ونسيب، ومنتمٍ بولاءٍ بعيدٍ أو قريب. فيقول: إني لا أخذل أحداً منهم عند جنايةٍ يجتنيها، أو جريمةٍ يجترمها، بل أنصره وأستنقذه كيف ما أمكن، سهل أو تعذر، ثم إني لا أجر الجرائر عليهم فيؤاخذوا بي وبما تكتسبه يدي، لأن ما يرجع إلي من النوائب أقوم في وجهه، وأحتال في نقضهودفعه، سواءٌ على حق ذلك في مالي أو في نفسي.
وإن فؤاداً بين جنبي عالمٌ ... بما أبصرت عيني وما سمعت أذني
وفضلني في الشعر واللب أنني ... أقول على علمٍ وأعرف من أعني
وأصبحت إذ فضلت مروان وابنه ... على الناس قد فضلت خير أبٍ وابن
يقول: إني اكتسبت من مشاهداتي والأخبار الواقعة إلي، الصادقة في مواردها، المتواترة على ألسن حملتها ما صار قلبي به عالما ومتميزاً، فلا يلتبس على وجوه(1/1246)
الحق وحدوده، ولا صنوف الصدق وفنونه، فإذا قلت الشعر قلته على علمٍ بمرافقه وأساليبه، ومعرفة المقول فيه ومستحقه، فلا أكذب في الأخبار ولا أتزيد في الأوصاف، ولكن أعطي كل منعوتٍ حقه من القول والوصف، وأقسم لكل منوهٍ به قسطه من التقريظ والمدح، فمن أجل ذلك أصبحت إذ فضلت مروان وابنه عبد الملك على الناس قد فضلت خير والدٍ وولد، فلا يقال كذب أو أخطأ، أو اشتبه عليه أو شبه له، فلم يأت بالحق، ولم يقتصر على الصدق.
وقوله " وإن فؤاداً " جعله نكرةً لأنه باتصال قوله " بين جنبي " به اختص، حتى علم أنه قلبه من بين القلوب.
وقال في سليمان بن عبد الملك
أتينا سليمان الأمير نزوره ... وكان امرأً يحبي ويكرم زائره
إذا كنت في النجوى به متفرداً ... فلا الجود ولا البخل حاضره
كلا شافعي سؤاله من ضميره ... عن الجهل ناهيه وبالحلم آمره
يقول: قصدت هذا الرجل، وكان لحسن تعطفه وكرم تألفه، وكمال احتفافه بزائريه، وجمال إقباله على عفاته ومجتديه، ينيل الحباء مؤمليه على أبلغ ما تعلق الرجاء به وفيه.
وقوله " إذا كنت في النجوى به متفردا " فالنجوى: المسارة. فيقول: إذا وقعت في خاطره، وتفردت بمناجاته، فالجود نصب عينيه، والبخل غائبٌ عن همته، لا يحتاج إلى باعث ولا شافع، ولا مذكر ولا عاطفٍ.
وقوله " كلا شافعي سؤاله من ضميره " جعل السؤال من سانح فكرهوجائل صدره شافعين، وزعم أن كلاً منهما ينهاه عن البخل، ويأمره بالإفضال والبذل. وهذا على طريقتهم في أن الإنسان له نفسان عندما يحضره من الفعال والمقال، فأحدهما يأمره بالفعل، والآخر ينهاه ويبعثه على الترك، فقال هذا الشاعر: إن نفسي هذا الممدوح هما يشفعان لوراد حضرته، ورواد سيله ومطره، فكلٌ يدعو إلى الإسداء(1/1247)
إليه، ويبعث على الإفضال عليه. ومثله:
إذا ائتمرت نفساه في السر خاليا
والنجوى مصدر، ويستعمل وصفاً فيقع على الواحد والجمع، وقد مضى القول فيه.
وقال المتوكل الليثي
مدحت سعيداً واصطفيت ابن خالدٍ ... وللخير أشبابٌ بها يتوسم
فكنت كمجتسٍ بمحفاره الثرى ... فصادف عين الماء إذ يترسم
يقول: اخترت من بين الناس ابن خالد وقرظت في شعري سعيداً، وللخير حدودٌ ووجوهٌ بها يتبين رسمه وعلامته، فكنت في اصطفائي إياهما، وصرفي ثنائي إليهما، كرجلٍ يتطلب الماء بمحفاره من ثرى الأرض، فصادف عينه ومنبعه، إذ تتبع أثره ورسمه. والمعنى: أصبت في القصد والاختيار، ووضعت الثناء موضعه من الإيثار، فسيق الخير إلي من مطلبي، وحصل التوفر علي من مقصدي. فأما من روى " محتسٍ " فهو مفتعل من الحس. والمحفار: اسم الآلة التي يحفر بها، كالمعول وما أشبهه. وهذا مثل واستعارة. ومن روى " كمجتسٍ " بالجيم، فهو مفتعلٌ من الجس. والتحسس والتجسس يتقاربان. ومعنى يترسم: يتتبع رسومه.
فإن يسأل الله الشهور شهادةً ... تنبئ جمادى عنكم والمحرم
بأنكما خير الحجاز وأهله ... إذا جعل المعطي يمل ويسأم
يصف دوام بذلهم في فصول السنة، واتصال جدواهم في شهور الضيق والسعة، وفي الجدب والخصب، وعند شمول الحر والبرد. وجمادى من أزمان القحط والضر، والمحرم من الأشهر الحرم، فيقول: إن استشهد الله تعالى أوقات السنة وأهلة الشهور شهدت لكم، وأخبرت عنكم بأنكما خير أهل الحجاز بذلاً وإفضالاً، وحسن تفقد وإحساناً، في الوقت الذي ترى المعطي يمل الإعطاء، ويتبرم بالسؤال، فيصير ذلك داعيةً له إلى الإمساك والكف.(1/1248)
وقوله " إذا جعل المعطي " إذا ظرفٌ لما دل عليه قوله " خير الحجاز ". وجعل بمعنى طفق وأقبل، فلا يتعدى. والسآمة فوق الملال.
وقال نصيب في عمر بن عبيد الله بن معمرٍ
والله ما يدري امرؤٌ ذو جنابةٍ ... ولا جار بيتٍ أي يوميك أجود
أيومٌ إذا ألفيته ذا يسارةٍ ... فأعطيت عفواً منك أم يوم تجهد
أقسم بالله عز وجل أنه لا الغريب المجانب ولا القريب المجاور يعلم أي يومي هذا المسموح أكثر سخاء وأتم إفضلاً. وجعل الجود لليوم على طريقة قوله تعالى " بل مكر الليل والنهار " لما كان فيهما. وعلى حد قول الناس: نهاره صائٌم، وليله قائم.
وقوله: " أيوم إذا ألفيته " تفضيل لما أجمله. ومعنى ألفيته ألفيت فيه، فحذف الجار وجعل اليوم مفعولاً على السعة.
وقوله: " ذا يسارة "، يقال يسار ويسارة، كما يقال ذكر وذكرى، ومكان ومكانةٌ.
وقوله: " أم يوم تجهد "، يريد أم يوم تجهد فيه، فأضاف اليوم إلى الفعل وأوصل الفعل بنفسه. والمعنى: لا يعلم الغريب المنتائى عنك، ولا القريب المتدانى منك، أي وقتيك أكثر سخاء وخيراً، أيوم تلفى في موسراً فتعطى ما تعطيه عفواً، أم يوم توجد فيه معسراً فتعطى ما تعطيه مجهوداً متعباً. يريد: أنه لا يبين أحد وقتيه من الآخر، كما لا يبين إحدى حالتيه من الأخرى. ويروى " أيوماً إذا ألفيته ذا يسارة ... أم يوم تجهد " ويكون هذا مردوداً على المعنى، لأنه لما أراد بقوله أي يوميك أجود " أي جوديك أفضل، قال: " أيوماً " أي أجودك في يومٍ إذا ألفيت فيه موسراً أم جودك في يوم تكون فيه مجهوداً معسراً.
وإن خليليك السماحة والندى ... مقيمان بالمعروف ما دمت توجد
مقيمان ليسا تاركيك لخلةٍ ... من الدهر حتى يفقدا حين تفقد(1/1249)
جمع بين السماحة والندى، لأن السماحة هو سهولة الجانب في الإعطاء، وطيب النفس به.
وقوله " مقيمان " أي ثابتان، من قوله تعالى " إلا مادمت عليه قائماً ".
ومنه أقام بالمكان، أي جعل لنفسه ثباتاً. ومنه قوام الأمر، أي دوامه. وما دمت ظرفٌ. فيقول: السماحة والندى يقيمان بسبب معروفك وله، ويدومان ما دمت ثابتاً وقائماً. وإنما قال بالمعروف كما يقال: فلان مقيمٌ بمكان كذا، أي يجعل قيامه به وثباته. فكذلك جعل قيامه بالمعروف على هذا الوجه.
وقوله " مقيمان ليسا تاركيك لخلةٍ "، يريد: هما مقيمان بسبب معروفك، وثابتان لك ولمكانك، لا يفارقك لخلةٍ من خلات الدهر تعرض، ولا لفقر يحصل، إلى أن يفقدا وقت فقدك.
وقال أميمة بن أبى الصلت
أأذكر حاجتي أم قد كفاني ... حياؤك إن شيمتك الحياء
وعلمك بالحقوق وأنت فرعٌ ... لك الحسب المهذب والسناء
خليلٌ لا يغيره صباحٌ ... عن الخلق اللجميل ولا مساء
قوله " أأذكر حاجتي أم قد كفاني ". يقول: أي الأمرين أعتمد منك؟ لأن أم هذه هي المعادلة لألف الاستفهام والمفسرة بأي. فيقول: ألقى حاجتي قبلك إليك، وأنهى قصتي المرفوعة إليك، ام أعتمد اكتفائي بكرم فطنتك، وذكاء معرفتك، وحسن التفاتك إلى المعلقتين بحبلك، والراجين لخيرك وفضلك، لأن ملاك خلقك الحياء، فإذا توصل تابعلكبعرض وجهه عليك، صار ذلك مهيجاً لحيائك، وداعياً إلى الفكر فيما أحوجه إليك، وسائقاً إلى قضاء مأربته لديك؛ ولأن محافظتك على أولى المواتوالحرم، تبعثك على صيانتهم، وتحميهم من ابتذالٍ يلحقهم، إذ كنت الفرع لأصلٍ يجمع إلى الحسب المنقى، والمجد المزكى، علو همة وارتفاع منزلة.
وقوله " خليل " ارتفع بأنه خبر مبتدأ مضمر، كأنه " قال ": أنت خليلٌ لا تغيره الأوقات عما ألف من بره، وعهد من كرمه. وأشار في قوله: الصباح والمساء، وهما(1/1250)
طرفا النهار ووقتا " الغارة " والضيافة، إلى أنه لا يتغير على علات الزمان ولما تغير له الإنسان من عارض ملال حادث، أو تضجر بمصارف أمر سانح.
وأرضك كل مكرمة بنتها ... بنو تيمٍ وأنت لها سماء
إذا أثنى عليك المرء يوماً ... كفاه من تعرضه الثناء
قوله " وأرضك "، يريد ما توطد له من مباني المجد والشرف بقومه وفصيلته، فجعله كالأرض له، وجعل مراعاته له من بعد وتوفره على ما يشيده بنفسه كالسماء له، وقد علم أن حياة الأرض وإضاءتها بما يأتى عليها من حيا السماء بنورها. فيريد أن عمارة مكارم آبائه كانت برمه لها، وبالمواد الذي يمدها بها، فلذلك زكت وربت، وثبتت على مر الأيام وعلت.
وقوله " إذا أثنى عليك المرء يوماً "، إن المثنى عليك لا يحتاج إلى قصدك به، لأنه متى تأدى إليك ثناؤه أنلته إحسانك، وأغنيته عن التعرض والقصد، وقطع المسافة دونك وحملالمشاق والجهد.
تبارى الريح مكرمةً ومجداً ... إذا ما الكلب أجحره الشتاء
يقول: يدوم عطاوك ويتصل، فكأنك تبارى الريح في هبوبهاأوان الجدب والقحط، وحين يقل صبر الكلب على الاعتساس والطوف، حتى يصير رابضاً في البيوت، ومستدفئاً بجوانب الأخبية والكسور. وقوله " إذا ما الكلب " ظرف لتبارى أي تفعل ذلك في مثل هذا الوقت. " مكرمة "، انتصب على أنه مفعول له، ويجوز أن يكون في موضع الحال.
وقال ابن عبدلٍ الأسدي
بينا هم بالظهر قد جلسوا ... يوماً بحيث ينزع الذبح
فإذا ابن بشر في مواكبه ... تهوى به خطارة سرح
فكأنما نظروا إلى قمر ... إو حيث علق قوسه قزح
بينا يستعمل في المفاجأة، وكذلك بينما. وكان شيخنا أبو علي - رحمه الله - يقول: هو ظرف زمان، كأن الأصل كان: بين أوقات، فحذف المضاف إليه.(1/1251)
والظهر: موضع. ويوماً انتصب على البدل من بيناهم، ويريد به المتصل من الأوقات، كما يقال فلانٌ يفعل كذا وكذا، وكان بالأمس يفعل كذا. والذبح: نبتٌ له اصل يفتش عنه ويخرج كالجزر، ويقشر عنه جلد أسود، وهو حلو يؤكل. وهذا أعني قوله " بحيث ينزع الذبح "، بيان للميقات المشار إليه.
وقوله " فإذا ابن بشر في مواكبه "، الفاء زائدة، لأن بينا وبينما يجيئان ولا فاء فيما يقع فيهما. على ذلك قوله:
فبينا يمشيان جرت عقابٌ ... من العقبان خائنةٌ طلوب
فأما " إذا " فقد ذكر سيبويه خاصة أن إذ تقع بعدهما ولم يذكر إذا. تقول: بينما نحن نسير إذ أقبل زيد. وكثير من النحويين والأصمعي ينكرون هذا ويقولون: لا حاجة إلى إذ وإذا، ويستشهدون بقول أبي ذؤيب:
بينا تعنقه الكماة وروغه ... يوماً أتيح له جريٌّ سلفع
وإذا رجعنا إلى الموجود فيما يختارونه هو الأكثر. واستشهد سيبويه بقوله:
بينما نحن بالكثيب ضحى ... إذ أتى راكبٌ على جمله
والبيت الذي نحن فيه جاء بإذا، فهو أغرب.
ومعنى تهوى به: تسرع. والخطارة: الناقة تخطر بذنبها نشاطا فعل الفحولة، أو تخطر في مشيها. والسرح: السهلة اليدين. فيقول: بين أوقات الناس جالسون بهذا المكان، حيث يقتلع هذا النبت، إذا ابن بشر وخلفه مواكبه، تسرع به نجيبة هكذا، فكأنما نظروا إلى قمر، أي لما اجتاز بهم شبهوه في إشراقه ونوره، وبهاء موكبه، بالقمر، أو نظروا إلى حيث يتراءى للناظرين قوس قزح. فقوله " أو حيث " يجوز أن يكون معطوفاً على قمر، فيكون المعنى: نظروا إلى قمر إلى مكان قوس قزح. ونكر قمراً لأن فائدة المعرفة والنكرة إذا وقع في مثل هذا المكان لا تتغير. ويجوز أن(1/1252)
يكون " حيث " في موضع الظرف، كأنه قال: نظروا إلى القمر، أو نظروا حيث علق قوس قزح. وجعل قزح فاعلاً على اعتقاد من يعتقد أن قزح اسم شيطان، لهذا أخبر عن المضاف إليه من قولهم قوس قزح. وقد ورد في الخبر النهي عن هذا، وهو مشهور، وقال الخليل حكاية عن أبي الدقيش: تقزيحه: طرائقه، واحده قزحة، والجمع قزح. وذكر في الخبر أن فيه أماناً من الغرق. ويروى: " على قوسه قزح " من العلو. وعند النحويين أن قولهم قوس قزح كحمار قبان وماأشبهه. وإذا كان كذلك لم يصلح الإخبار عن المضاف إليه. وذكر بعضهم أنه يقال لقوس قزح: قوس قزيع، " وهو من " تقزع الفرس، إذا تشمر للعدو وخف.
وقال حاتم طيئ
متى ما يجىء يوماً إلى المال وارثي ... يجد جمع كفٍ غير ملأى ولا صفر
يجد فرساً مثل العنان وصارماً ... حساماً إذا ما هز لم يرض بالهبر
وأسمر خطيا كأن كعوبه ... نوى القسب قد أربى ذراعاً عالى العشر
قوله " جمع كف " هو القدر الذى يجمع عليه الكف من المال وغيره.
ويقال للمرأة الحامل: هي بجمعٍ، وكذلك للبكر منهن. والصفر: الخالى من الشيء. فيقول: متى جاء وأرثى بعد موتى يجد قدراً من المال لا يوصف بالكثرة ولا بالقلة، يجد فرساً ضامراً كالعنان فى إدماجه وضمره، وسيفاً قاطعاً إذا حرك في الضريبة لم يرض بالقطع، ولكن يتجاوزه ويخرج إلى ما وراءه، ورمحاً أسمر فى لونه وذاك أصلب، محولاً من الخط، وهو اسم جزيرةٍ يجلب منها الرماح. والكعوب: العقد. شبهها فى صلابتها بنوى القسب. والقسب: ضرب من التمر رديء غليظ النوى صلبها. وقوله " قد أربىذراعاً على العشر "، وصفه بأنه لم يكن طويلاً ولا قصيرا حتى لا يكن مضطرباً ولا قاصراً. بل يجرى مع الاعتدال. وقال الدريدي القسب البسر اليابس. ونوى القسب يشبه به أيضاً ما في جوف الحافر من النسور. قال:
له بين حواميه ... نسورٌ كنوى القسبِ(1/1253)
وقصد الشاعر إلى أن ما يحصل له يجود به، فإذا مات لم يبق له إلا ما ذكره من آلات الحرب والغزو.
وقال آخر:
آل المهلب قومٌ خولوا شرفاً ... ما ناله عربيٌ لا ولا كادا
لو قيل للمجد حد عنهم وخالهم ... بما احتكمت من الدنيا لما حادا
إن المكارم أرواح يكون لها ... آل المهلب دون الناس أجسادا
وصفهم بأنهم أعطوا مجداً لم ينله قبلهم عربيٌ، ولا قرب من أن يناله، فهم متفردون به، لا ينبغي لغيرهم. ثم قال: لو قيل للمجد حد عنهم. يريد أنهم للمجد موضعٌ ومقرٌ لو كان يعقل ثم سيم تركه إياهم، وإخلاله بهم بما يحتكم من الدنيا، ويقترحه من أعراضها، لما تجنبهم، ولا عدل عنهم، وذاك لأن المجد رضيهم محلاَ، ورضوا هم بسكناه أهلاً. والقدر يجرى إلى القدر. وقد ألم بهذا المعنى البحتري في قوله:
أو ما رأيت المجد ألقى رحله ... في آل طلحة ثم لم يتحول
ويقال: خالي فلان قبيلته، إذا تركهم وتحول عنهم. قال النابغة:
قالت بنو عامرٍ خالوا بني أسدٍ ... يابوس للجهل ضراراً لأقوام
معناه تاركوهم وفارقوهم.
وقوله " إن المكارم أرواح " جعل آل المهلب كالأجساد، والمكارم لها كالأرواح، كما جعلهم في الأول داراً، والمجد سكاناً، والروح لا يثبت إلا في جسمٍ على صفةٍ، كما أن الجسم لا يتصرف إلا بالروح الحاصل فيه مع القدرة فيريد أنهم مقار للمكارم، مصرفون في اكتساب المعالي، فالمكارم بهم تثبت وتبقى، كما أن تصرفهم واقتدراهم من بين الأجساد بها ولها.(1/1254)
وقالت أخت النضر بن الحارث
الواهب الألف لا ينبغي به بدلاً ... إلا الإله ومعروفاً بما اصطنعا
تقول: إنه يفرق ما يفرق من ماله لا لطلب عوضٍ، ولا اجتذاب نفعٍ واجتلاب محمدة، ولكن يريد به التقرب إلى الله تعالى، وأن يفعل المعروف بما يصنعه، فهو يتلذذ بفعل المعروف، وباحتساب الأجر عند الله.
؟
وقالت صفية بنت عبد المطلب
ألا من مبلغٌ عني قريشاً ... ففيم الأمر فينا والإمار
لنا السلف المقدم قد علمتم ... ولم توقد لنا بالغدر نار
وكل مناقب الخيرات فينا ... وبعض الأمر منقصة وعار
الرسالة التي تطلب إبلاغها، وترتاد من تضعها على لسانه فيحتملها، قولها " ففيم الأمر فينا "، وما في الاستفهام إذا اتصل بحرف الجر يحذف الألف ٌ من آخره، تقول: فيم وبم. وقد تقصى القول فيه من قبل. كأن هذه المرأة تستبطء قبيلتها قريشاً. فتقول: من يبلغهم عني لماذا كان الأمر فيهم والتشاور، والاقتداء والترافع، حتى صار الناس تبعاً، ومالكم تنقبضون فيما يجب عليكم السعي فيه، ولنا الشرف الرفيع والسلف القديم، وقد علمتموه علماً خالياً من الشك، بريئاً من الشبهة، ولم يعرف غدر لنا بجارٍأو ذي محرم، وقدت من أجله لنا نار. وكانت العرب إذا أرادت تشهير غدر غادر حتى يتجنبه الناس أوقدت ناراً في يفاع هضبةٍ، ونصبت لواء عند مجمع لهم أو سوقٍ عظيمة، وينادون: هذه نار فلان الغادر ولواؤه!! يشهرون أمره ويقبحون صورته على هذا يحمل قول زهير:
وتوقد ناركم شزراً ويرفع ... لكم في كل مجمعةٍ لواء
ولا يمتنع أن يراد بإيقاد النار قيام الناس وقعودهم، وتفاوضهم للغدرة إذا ظهرت من الغادر، وما يثور من الفضيحة والذكر القبيح، فيكون هذا مثل قول أبي(1/1255)
ذؤيب:
تحرق ناري بالشكاة ونارها
والأول أشهر.
وقوله " وكل مناقب الخيرات فينا "، تريد أن معالم الخير ومواسم الفضل فيهم، لا يدفعها دافع، ولا يختلط بها تنقص من عائب. ومنقبة: مفعلة من النقابة وهي المعرفة. فتقول: فينا أنواع الخير والشر، معلومة للناس، وبعض ما يذكر من الأمور عار على صاحبه ونقص في شأنه، إذ كان لا يسلم على المجاذبين.
وقال المتوكل الليثي
لسنا وإن أحسابنا كرمت ... ممن على الأحساب يتكل
نبني كما كانت أوائلنا ... تبني ونفعل مثل ما فعلوا
يقاربه قول الآخر:
لسنا إذا ذكر الفعال كمعشرٍ ... أزرى بفعل أبيهم الأبناء
وقد مضى القول فيه مشروحاً.
وقال طريح بن إسماعيل
طلبت ابتغاء الشكر فيما فعلت بي ... فقصرت مغلوباً وإني لشاكر
وقد كنت تعطيني الجزيل بديهةً ... وأنت لما استكثرت من ذاك حاقر
فأرجع مغبوطاً وترجع بالتي ... لها أول في المكرمات وآخر(1/1256)
يقول: غمرني إحسانك، وغلبني برك واعتناؤك، لا جرم أني لما طلبت مقابلتك بالشكر على صنيعك بي، صرت كالمفرط مغلوباً وأنا مجتهد في الشكر، بالغ إلى أقصى الغايات في النشر، لكن إحسانك كثرني وخلفني بالبعد من غايته، لأنك كنت تعطيني الكثير من المال مبتدئاً لا عن سؤالٍ تقدم، ولا عن ذكرٍفي نفسك تردد، ومع ذلك كنت تستحقر عطاياك وتذدريها، وأنا أستكثرها وأعجز نفسي عن ضبطها وإحصائها، وأبلغ بها مبالغ المكثرين المتكلفين، ثم أرجع مغبوطاً عنك مرموقا، ومحسدا في الناس مذكورا، وترجع بخصلالكرم والسبق إلى الغاية المطلوبة، التي لها عند طلاب المكارم أول ييتدأ به، وآخر ينتهى إليه.
وقال حبيب بن عوف
فتى زاده السلطان في الحمدر غبة ... إذا غير السلطان كل خليل
يقول: لم يبطرك الغنى ولا أطغتك السلطنةونيل أسباب العلى في الدنيا، لكنها زادتك رغبة في الخير واكتساب الحمد بين الناسإذا غير مساعدة القدر، ومطاوعة الجد والجدة كل خليل لصاحبه.
والسلطان في غير هذه: الحجة، وقيل اشتقاقه من السليط: الزيت.
وقال ابن الزبير، يمدح محمد بن مروان
لا تجعلن مبدناً ذا سرةٍ ... ضخماً سرادقة وطئ المركب
كأغر يتخذ السيوف سرداقاً ... يمشي برايته كمشي الأنكب
قوله " مبدناً "، أي سمينا عظيم البدن، ويروى " مثدناً "، وهو العظيم الثندوة وعلى ما يقتضيه بناء الفعل يكون ثندوة مقلوبة والأصل ثدوةٌ، فعلوة، فأما ثندوةٌ بضم الأول والهمز فهو بناءٌ آخر. فكأنه يخاطب إنساناً فقال: لا تجعلن صاحباً لك همته في الأكل وتسمين البدن، وتحسين الهيئة والسحنة، فترى مركبه وطيئاً، وسرادقة(1/1257)
ضخما، وجماله باهراً ومنظره رائعا، كرجلٍ كريم سرادقة ظلال السيوف، وقد غشيت بما تفيء عليه، ثم يمشي قدام أتباعه وأصحابه برايته مشي الأنكب. والأنكب: الذي أحد منكبيه أشرف من الآخر. وهذا تصويرٌ في التشبيه. وإنما يتحمل الراية بنفسه إذا لم يأمن عثرة حامله وإسقاطه إياها عند ما يغشاه من الذعر، فهو يمشي بها لينظر أصحابه إليها فيثبتون معه، ويحاربون على مراده وهواه.
فتح الإله بشدةٍ قد شدها ... ما بين مشرق أهلها والمغرب
جمع ابن مروان الأغر محمدٌ ... بين ابن الأشتر وبين المصعب
يقول: فتح الله تعالى على يده بما توحده به من فضله، وسعيه وجده، ما بين أقاصي الشرق والغرب، بحملةٍ حملها في جوانبها، ثم جمع بين قتل الأشتر ومصعب بن الزبير، فأراح العباد والبلاد منهما، وأزاح عن الإسلام والمسلمين شرهما وفتنتهما. وإنما قال " بشدة " لما تعجل وترادف من الأمور في نهضاته، وتسرع وترافد من كسر الجمهور عندما تكلف من مداراتهوقوله " أشترهم " أضافه إلى من كان يدين له، ويدخل تحت طاعته وهواه.
وقال الكميت في مسلمة بن عبد الملك
فما غاب عن حلمٍ ولا شهد الخنا ... ولا استعذب العوراء يوماً فقالها
يدوم على خير الخلال ويتقي ... تصرفها من شيمةٍ وانفتالها
وتفضل أيمان الرجال شماله ... كما فضلت يمنى يديه شمالها
يقول: ما أخل هذا الممدوح بالأخذ بالحلم، وترك السفه والجهل في مشهدٍ من المشاهد، وعند حضور أمر من الأمور، ولا استحسن الفاحشة فرضى بها أو تولاها، ولا استطاب اللفظ بالكلمة القبيحة فتفوه بها يوماً أو توخاها، لكنه يدوم على(1/1258)
الخصال المحمودة، والأخلاق الشريفة، ويتقي انصرافه عن شيمةٍ زكيةٍ عرف بها، وذهابه عن طبيعةٍ رضية فيقال تسخطها أو رفضها، فهو في درجات المجد يسمو ويصعد، وعلى مطالع الشرف يعلو ويغلب.
والانفتال: مطاوعة فتلته فتلا، وهو الانصراف والالتواء. والعوراء: الكلمة القبيحة. والعورة: السوءة وكل ما يستحيا منه.
وقوله: " وتفضل أيمان الرجال شماله "، يقول: تزيد في الفضل والإفضال شمال هذا الرجل على أيمان الرجال كلهم وتعلو عليها، كما غلبت اليمنى من يديه الشمال. والضمير من " شمالها " يرجع إلى اليمنى، أى كما غلبت يمينه شماله غلبت شماله أيمان الرجال كلهم. ويكون هذا كقول الآخر:
وما فضل الجواد على أخيه ... إذا اجتهدا وكل غير آل
فبرز سابقا إلا كفضل ال ... يمين من اليدين على الشمال
فهذا وجه، والأجود أن يجعل الضمير من الشمال عائدا إلى الرجال، فيكون المعنى: كما فضلت يمناه شمال الرجال كلهم. يريد أن زيادة شماله على أيمانهم في الظهور مثل زيادة يمينه على شمائلهم في الظهور.
وما أجم المعروف من طول كره ... وأمرا بأفعال الندى وافتعالها
وتبتذل النفس المصونة نفسه ... إذا ما رأى حقا عليه ابتذالها
قوله " ما أجم "، أى ما كره فعل المعروف حتى كان ينصرف عنه وإن طال تكرره على يده، ودام اكتسابه له، بل يزداد على مر الأيام رغبة فيه، وولوعا به. ويقال: فلان أجم من الطعام، إذا عافه وانصرفت نفسه عنه.
وقوله: " وأمرا بأفعال الندى " عطفه على المعروف، ويريد: ولم يأجم الأمر بفعل الندى واكتسابه له، كأنه كان يبعث الغير عليه، ويتولى فعله بنفسه.
وقوله " ويبتذل النفس المصونة نفسه ". نصب " نفسه " على البدل من النفس. ويكون المعنى أنه إذا رأى ابتذال نفسه المصونة واجبا عليه، وحقا ملازما له، يبتذلها ولا يصونها. وإنما يريد أنه يفعل ذلك في الشدائد وعند احتماء البأس. وهذا كما روي في الخبر: " كنا إذا اشتد البأس اتقينا برسول الله صلى الله عليه وسلم ". ويروى " نفسه " بالرفع، ويكون فاعل تبتذل. ويريد بالنفس المصونة كرائم أصحابه وأمواله، فالمعنى أنه لا(1/1259)
يبقى ذخيرة من ذخائره إذا وجب إنفاقها، ولا يصون نفسا عزيزة عليه من كرائمه إذا وجب ابتذالها.
بلوناك في أهل الندى ففضلتهم ... وباعك في الأبواع قدما فطالها
فأنت الندى فيما ينوبك والسدى ... إذا الخود عدت عقبة القدر مالها
يقول: خبرناك في جملة من يدعي الندى وزمرتهم، فغلبتهم وسبقتهم، كما بلونا بسط يدك، واتساع باعك عند البذل في الأبواع كلها قديما، فغلبها في الطول. وقوله " فضلتهم "، هو للمبالغة؛ يقال: فاضلته ففضلته أفضله.
ولذلك تعدى وإن كان فضل الشىء إذا زاد لا يتعدى. ومن شرط فعل في المبالغة أن يجعل مستقبله على يفعل إذا كان صحيحا، وإن كان في الأصل يجىء مفتوح العين أو مضمومه أو مكسوره. وكذلك قوله " فطالها " إنما تعدى وطال الذي هو ضد قصر (لا يتعدى) لأنه من طاولته فطلته أطوله. والمعتل في هذا المعنى يجرى على أصله، يقال: باكيته فبكيته، إذا غلبته في البكاء، وطاولته فطلته، إذا غلبته في الطول. وإنما لم يغيروا المعتل لئلا يلتبس بنات الواو ببنات الياء. ولا يجيء هذا في كل فعل.
وقوله " فأنت الندى فيما ينوبك والسدى "، يريد ترطبه للمعروف وتندى كفه في العطاء عند يبوس المحل، واشتداد الجدب. والندى والسدى هما بمعنى واحد. وقد قيل الندى بالنهار والسدى بالليل.
وقوله " إذا الخود عدت "، يريد أنه يفعل ذلك في الوقت الذي تعد عقيلة الحي وكريمة القوم مالها الذي تعيش منه وتعتمده، ما يرد عليها من المرق في القدر إذا استعيرت. وهذا كانوا يفعلونه في تناهى القحط، وفي شدة الزمان، وعند إسنات الناس. وكما يسمى المردود في القدر عقبة سمى عافيا قال الكميت:
وجالت الريح من تلقاء مغربها ... وضن من قدره ذو القدر بالعقب
وقال آخر:
فلا تسأليني واسألي ما خليقتي ... إذا رد عافى القدر من يستعيرها(1/1260)
وخص الخود لكرمهاا ونعمتها وكرامتها في ذويها وقال الخليل: الخود: المرأة الشابة ما لم تصر نصعا. وقال الدريدي: الخود: الفتاة الناعمة؛ لم نبن منه فعل.
وقال الأعجم يمدح عمر بن عبيد الله
أخ لك ليس خلنه بمذق ... إذا ما عاد فقر أخيه عادا
أخ لك لا تراه الدهر إلا ... على العلات بساما جوادا
المذق: اللبن وقد خلط به الماء، فاستعاره للمودة. ويقل: فلان يمذق الود، وهو يماذقنى. فيقول: صداقة هذا الأخ صافية من الشوائب، لأنه لا ينطوي لك على غل ولا حقد، ولا سوء دخلة، ولا فساد طوية، وإذا أعطى راجية أغناه، فإن راجعه الفقر لكثرة مؤنه، وتزايد غاشيته، أو لتحامل نوائب الزمان عليه، وجد على خلقهوماله محملا، فعاد بالإحسان إليه. ثم لا تراه على تغير الزمان، واختلاف الأحوال، إلا ضحوكا طلق الوجه، جوادا طيب النفس. وبسام: بناء المبالغة، ولم يبن على بسم، لأن البناء على بسم باسم. ويقال: بسم، وابتسم، وتبسم.
وقالت امرأة من بنى مخزوم
إن تسألى فالمجد غير البديع ... قد حل في تيم ومخزوم
قوم إذا صوت يوم النزال ... قاموا إلى الجرد اللهاميم
من كل محبوك طوال القرى ... مثل سنان الرمح مشهوم
قولها " غير البديع " انتصب على الحال، وإنما تخاطب امرأة. فتقول: إن سألت الناس عن مقر المجد ومسكنه، فقد حل غير مستبدعولا مستنكر، في بني تيم ومخزوم، وهم قوم إذا تداعى الأبطال يوم النزال، وصاح المستغيث بناصره عند(1/1261)
القراع، قاموا إلى خيل قصار الشعور عراب، كرام سراع. ولهاميم الإبل: غزارها. ولهاميم الناس: أسخياؤهم.
وقولها " من كل محبوك طوال القرى "، تريد: من كل فرسٍ محكم الخلق، مشرفٍ طويل الظهر، خفيف نافذٍ فى العدو، كأنه سنان رمحٍ. والمسهوم: الذي قد أثر الغزو فيه ولوحه سموم الحرب والحر. هذا إذا رويته " مسهوم " بالسين غير معجمة، ومن رواه " مشهوم " بالشين معجمةً فمعناه حديد القلب؛ ومنه الشيهم: اسم القنفذ، للشوك الذي في ظهره وقالت أخرى:
ألا إن عبد الواحد الرجل الذى ... ينيلك ما طالبت والوجه وافر
تقول: يعطي قبل أن يسأل ويبزل الوجه له. ويشبهه قول الآخر:
أهنأ المعروف ما لم ... يبتذل فيه الوجوه
ويقال: نلت الشيء أناله نيلاً، وأنالنيه فلان. والنيل والنول يتقاربان فى المعنى وإن كان بناءاهما مختلفين، يقال: نلته أنوله نولاً، فهذا من النوال، ونولته وتناول الشيء، وما كان نولك أن تفعل كذا، أي ما كان ينبغى لك
وقالت الخنساء
دل على معروفه وجهه ... بورك هذا هادياً من دليل
تحسبه غضبان من عزه ... ذلك منه خلق لا يحول
ويل أمه مسعر حربٍ إذا ... ألقى فيها وعليه الشليل
قولها " دل على معروفه وجهه "، تريد طلاقة وجهه وتهلله عند تعرض السائل له، وفرحه وبشاشته به إذا حصل عنده، ثم قال: بارك الله في هذا الدليل من بين(1/1262)
الأدلاء، يعني وجهه. وأصل البركة النماء والزيادة، وقيل هو من اللزوم والثبات، ومنه برك البعير. وانتصب " هادياً " على الحال.
وقولها " تحسبه غضبان من عزه "، هم - أعثى العرب - يشبهون الحيي الكريم بالمشتكي من علة، والعزيز المنيع بالمتغضب من عزةِ. ولا غضب في هذا كما أنه لا علة ثم، وإنما يراد في العزيز إباء النفس وأبهة النبل، كما أنه يراد في الحيي لين الجانب، والانخزال من الكرم. وقولها " ذلك منه خلقٌ لا يحول "، يريد أنه طبع على ذلك، فلا يزول عنه ولا يتحول منه.
وقولها " ويل أمه مسعر حربٍ " انتصب مسعر على التمييز، وقد مر القول في ويل أمه. والكلام تعجب وتعظيم. والمسعر من أبنية الآلات، يراد أنه كالآلة في إيقاد نار الحرب إذا ألقي فيها وقد تدجج في السلاح. والشليل: الدرع.
وقالت امرأةٌ من إياد
الخيل تعلم يوم الروع إذا هزمت ... أن ابن عمرٍو لدى الهيجاء يحميها
لم يبد فحشاً ولم يهدد لمعظمةٍ ... وكل مكرمةٍ يلفى يساميها
تعني بالخيل الفرسان. تريد: قد تيقنوا أنه إذا اتفق عليهم كسرٌ، وأثر فيهم ردع في يوم حرب، لا يدفع عنهم ولا يذب دونهم إلا ابن عمرٍو، فهم ساكنون إليه، ومعتمدون عليه عند استعارنار الروع والاصطلاء بحرها، لأنه جابرٌ كسرهم، ومخمدٌ جمرهم.
وقولها " لم يبد فحشاً " تريد أنه لا يعرف القبيح، فلا يظهر في أفعاله وأقواله كما يستهجن أو يستفحش، ثم إذا مني بخصلةٍ فظيعة لا يهد لها، ولا يحار فيها، بل يصبر ويثبت، ويحسن حديثه في أفواه الناس لخروجه منها ويعذب؛ وكل مكرمةٍ تسنح، ومأثرةٍ على القرب والبعد تتفق وتعرض، تراه تطمح عينه إليها، وتحرص نفسه على جمع يده عليها، لعلو همته، وكمال خصاله. وقولها " يساميها " في موضع الحال أي مسامياً لها، ولك أن تروي " يلقى " بالقاف، و " يلفى " بالفاء، ومعناهما قريب.(1/1263)
المستشار لأمر القوم يحزبهم ... إذا الهنات أهم القوم ما فيها
لا يرهب الجار منه غدرةً أبداً ... وإن ألمت أمورٌ فهو كافيها
وصفته بجزالة الرأي، وبراعة النفس والعقل، وأن المرجع فيما يدهم القوم إليه، والمعتمد عندما يهجم فيهمهم عليه، فهم يستضيئون بتدبيره في ظلم الخطوب ويستكشفونه ما يتغشاهم من دواهي الأمور. والهنات: جمع هنةٍ، وهي كالكناية عن المنكرات، ولا تستعمل في الخير البتة. وقولها " أهم القوم " أي جعل من همهم. وموضع يحزبهم نصبٌ على الحال.
وقولها " لا يرهب الجار منه غدرةً " تصغه بحسن الوفاء فيما يعقد للجار من ذمةٍ، ويعطيه من عهد وموثقةٍ. فيقول: جاره آمنٌ لا يخاف ختلاً ولا مكراً وإن نزلت به أمور خارجة من الجوار فهو يقوم بها ويتكفل بالكفاية فيها. وانتصب " أبداً " على الظرف، وهو في المستقبل بمنزلة قط في الماضي.(1/1264)
باب الصفات
قال بعضهم:
وهاجرةٍ تشوي مهاها سمومها ... طبخت بها عيرانةً واشتويتها
مفرجةً منفوجةً حضرميةً ... مساندةً سر المهارى انتقيتها
أراد بالهاجرة الوقت الذي يهجر السير له إذا قام قائم الظهيرة وغلب الحر فيه. وهي فاعلة بمعنى مفعولة. والمها: بقر الوحش. فيريد أن حرها يشوي الوحش ويطبخها. وقوله " طبخت بها عيرانة " يعني بتلك الهاجرة. والعيرانة: الناقة تشبه العير. و " شويتها " أي سرت عليها حتى أنضاها الهواجر وحسرها وأذهب لحمها، فصارت كالمحترقة. والمفرجة: هي التي بعدت مرافقها عن زورها واتسعت آباطها وفرجت ما بين قوائمها، فهي فتلاء المرفق لا يصير حازاً ولا ناكتاً ولا ضاغطاً. والمنفوجة: الواسعة الجنبين. والحضرمية هي التي حصلت من نسل إبل حضرموت، وهي قرية بالشأم. والمساندة: القوية الظهر وسر المهارى، أي خيارها. والمهارى: جمع مهرية وهي المنسوبةإلى مهرة بن حيدان، أي من نتاجه. وانتقيتها، أي اخترتها. والمراد أنه قاعٌ للمفاوز في الهواجر، مبتذلٌ لنفسه وراحلته لا يبقي عليهما في حرٍ، ولا يقيهما من سمومٍ وتعب. وقوله " تشوي مهاها سمومها " في موضع الصفة للهاجرة. وقوله " طبخت " جواب رب.
فطرت بها شجعاء قرواء جرشعاً ... إذا عد مجد العيس قدم بيتها
وجدت أباها رائضيها وأمها ... فأعطيت فيها الحكم حتى حويتها(1/1265)
قوله " فطرت بها " قيل أراد به حثثتها واستعجلتها في السير، فيكون طرت بها بمعنى أطرتها على هذا، كما يقال ذهبت بزيد وأذهبته بمعنى، ويجوز أن يكون المراد أني انتزعتها من عيون الباعة والمشترين، واختلستها وفزت بها، بدلالة أنه قال " وأعطيت فيها الحكم حتى حويتها ". والشجعاء: الجريئة القلب، وانتصب على الحال. والقرواء: الطويلة الظهر. والجرشع: المنتفخة الجنبين.
قوله " إذا عد مجد العيس " يريد إذا ذكرت مفاخر العيس ومناسبها قدم نسلها وقبيلها الذي يؤويها.
وقوله " وجدت أباها رائضيها وأمها " فصل بين المعطوف والمعطوف عليه بمفعول وجدت الثاني، والمعنى: وجدت أباها وأمها رائضين لها، كأنها نتجت مروضةً مؤدبةً، فما حمد منها حصل لها وراثةً لا تعلما.
وقوله " أعطيت فيها " أي بذلت في تملكها ما احتكم بائعها واقترحه واستام بها، حتى حصلتها.
وقال عنترة بن الأخرس
لعلك تمنى من أراقم أرضنا ... بأرقم يسقي السم من كل منطف
تراه بأجواز الهشيم كأنما ... على متنه أخلاق بردٍ مفوف
الأراقم: الحيات. والكلام دعاءٌ على المخاطب وإن كان لفظه ترجياً وتأميلاً. ومعنى تمنى تمتحن. يقال: مني بكذا، أي بلي به وقاسى شره. ومعنى " يسقي السم من كل منطف " يريد من كل مقطر، لأن نطف الماء معناه قطر. وسمي الماء نطفةً لذلك. يريد أنه يرشح بالسم، فسموم جلده تقطر به. ولعل: طمعٌ وإشفاق. كذا قال سيبويه. ويستعمل بأن وبغير أن. يقال: لعلك أن تفعل كذا، كما تقول لعلك تفعل كذا.
وقوله " تراه بأجواز الهشيم " فالهشيم: اليابس من الأشجار والنبات، والقصد إلى النبات هنا. يقول: تراه يتخلل الهشيم ويتوسط أثناءه، فكأن على متنه بجلده الذي سلخه قطع بردٍ وشيه كالفوف، وهو البياض الذي يظهر في أظافير الأحداث. وجعله سالخاً ليكون أخبث.(1/1266)
كأن بضاحي جلده وسراته ... ومجمع ليتيه تهاويل زخرف
أراد أنه ملون الجلد. والضاحي: البارز للشمس في الأصل، والمراد به هنا ظاهر الجلد. والتهاويل: ما يعلق من العهون على الإبل، ولا واحد له من لفظه، والقياس تهوالٌ، كما يقال تجفاف وتجافيف. والزخرف: كل ما حسن به شيء، وأصله الذهب. فشبه بارز جلد الحية وظهره ومجمع صفحتي عنقه لاختلاف ألوانها بالتهاويل التي تزخرف بها الإبل.
كأن مثنى نسعةٍ تحت حلقه ... بما قد طوى من جلده المتغضف
إذا نسل الحيات بالصيف لم يزل ... يشاعر باقي جلبةٍ لم تقرف
شبه غضون حلقه لما انطوى من جلده المتكسر لكونه فاضلاً عن لحمه، وذلك لكثرة سمه بنسعةٍ مثنية جعلت تحت حلقه، ويقال: إن الحيات إذا اجتمعت سمومها وكثرت دقت وهزلت، لأن سمها ينقص لحمها، فلذلك يفضل جلدها عن حجمها فيتغضف، أي يثنى، والغضف: انكسارٌ في الأذن.
وقوله " إذا نسل الحيات " يريد أنه بخبثه يقاتل سائر الحيات، سوء خلقٍ منه وعرامةً، فإذا انتشرت الحيات في الصيف لا يزال يمارس ويطاول بواقي جلب منه لم تقشر عنه، لأنه في مقاتلة الحيات يحصل على جروح طول الصيف وتيبس عليه جلبها. وقوله " يشاعر باقي جلبةٍ "، ويروى " يساعر " بالسين، من قولهم كلب سعرٌ، أي كلبٌ. وفي القرآن قوله تعالى: " في ضلال وسعر "، أي جنون. ومنه ناقةٌ مسعورة: لا تستقر قلقاً، ومن قولهم: عنقٌ مسعرٌ أي طويل. وأن تروى " يشاعر " بالشين المعجمة أحسن، تجعله من الشعار الذي هو خلاف الدثار. ويقال: جلب الجرح وأجلب، إذا يبس الدم عليه.
وقال ملحة الجرمي
أرقت وطال الليل للبارق الومض ... حبياً سرى مجتاب أرض إلى أرض
نشاوى من الإدلاج كدري مزنه ... يقضي بجدب الأرض ما لم يكد يقضي
تحن بأجواز الفلا قطراته ... كما حن نيبٌ بعضهن إلى بعض(1/1267)
قوله " أرقت "، يريد سهرت، ولا يكون الأرق إلا بالليل. فيقول: فارقني النوم وطال ليلي من أجل سحابٍ فيه برقٌ يومض، أسرى ليلاً وقد قطع أرضاً إلى أرض. والومض: مصدرٌ كالوميض، وهو لمعان البرق. وقد وصف به. ويقال: ومض وأومض. وانتصب " حبياً " على الحال، وهو المشرف. والعامل فيه إن شئت البارق، وإن شئت الومض. و " مجتاب أرضٍ "، أي قاطعها، وانتصابه على الحال، والعامل سرى.
وقوله " نشاوى من الإدلاج " رده على قطع السحاب. ألا ترى أنه قال في البيت الأول " للبارق الومض "، ثم قال " نشاوى من الإدلاج ". وهو جمع نشوان. يريد أن أقطاعه لسراه صارت كالسكارى تميل من جانبٍ إلى جانب، وتنعطف من أرضٍ إلى أرض. كأنه جعل حال الساري من السحاب كحال الساري من الإنسان. وقوله " كدري مزنه " مبتدأ، و " يقضي بجدب الأرض " في موضع الخبر، و " ما لم يكد " مفعول يقضي. وجعل في لونه كدرةً لكثرة مائه وارتوائه. والمعنى أن الكدري منه يحكم للمجدب من الأرض، ويقسم من المطر له ما لم يكد يقضي به لنفسه، ولم يقرب من قسمه له كأنه يصب لجدب الأرضأكثر مما يتحكم به لو حكم، ويختاره لو خير. ولك أن تروى " ما لم تكد تقضى " بالتاء؛ ترده على الأرض. وقال بعضهم: هذا كما يقال: أعطاني الأمير ما لم يكد يعطيه لأحد، وسمح لى بما لم يكد يسمح به لأحد. والأول أحسن وأغرب. وقال بعضهم: أخبر أن هذا السحاب إذا أتى على أرض مجدبة لم يفارقها مطرها حتى يهريقبها من الماء ما يكون فيه عهد ووليفي دفعة واحدة، وفراغه من هذا لا يكون سريعا هينا. كأن حاجة السحاب في الأرض المجدبة إحياؤها وإخصابها من مطرة واحدة، فلما فعل قضى وطره، ولم يكد يقضيه إلا بعد بطء.
وقوله " تحن بأجواز الفلا قطراته " أى نواحيه. والقطر: الجنب. ويقال: قطره، إذا ألقاه على قطره. ويقال في معناه قترا أيضا بالتاء. يريد أن جوانبه تتجاوب بالرعد، فكأنها تحن إلى مواضع لها قد ألفتها، فهى تشتاقها وتتشوف. ثم شبه حنينها بحنين الإبل وقد فرقت بعد اجتماع، فتحانت وتهادرت.
ويقرب من هذا قول الهذلى:
يجش رعدا كهدر الفحل يتبعه ... أدم تعطف حول الفحل ضحضاح(1/1268)
كأن الشماريخ الأولى من صبيره ... شماريخ من لبنان بالطول والعرض
تبارى الرياح الحضرميات مزنه ... بمنهمر الأوراق ذى قزع رفض
أعالى السحاب بأعالى هذا الجبل وأنوفه التى تتقدم منه، وقال " الأولى " تخصيصا لما كان من صبيره خاصة، وقال " بالطول والعرض " ليبين وجه التشبيه.
وقوله " تبارى " أى تحاكى وتسامى الرياح الشامية سحبه بمطر سامى الأعالى. ويقال للسحابة إذا ألحت بالمطر فى موضع: ألقت عليه أرواقها.
ويقال للرجل إذا ألقى همه على الشئ ونفسه: ألقى عليه أرواقه. لذلك قال تأبط شرا:
ألقيت ليلة خبت الرهط أرواقى
والقزع: قطع من السحاب متفرقه، والواحدة قزعة. وقال الخليل: القزع قطع من السحاب رقيقة كالظل. وعلى ما قاله يكون الإشارة من الشاعر إلى السحاب إلى وصفه وقد هراق ماءه فرق. قال الخليل: ولذلك قيل: شعر مقزع، أى خفيف. والرفض: المرفض المتفرق، وكأن الأصل فيه الرفض، محرك الفاء، والجميع الأرفاض، فسكن. ويجوز أن يكون وصف بالمصدر، لأنه يقال رفضت الشىء رفضا، والمرفوض رفض. والمعنى أن مزنه وهو السحاب، تحاكى الرياح الهابة من ناحية الشأم - يشير إلى الشمال - بمطر ذا صفته من سحاب كذلك.
يغادر محض الماء ذو هو محضه ... على إثره إن كان للماء من محض
يروى العروق الهامدات من البلى ... من العرفج النجدى ذوباد والحمض
أصل المحض اللبن الحامض بلا رغوة، ثم استعمل في الحسب وغيره، يقول: يترك خالص الماء الذى هو خالصة السحاب وصافيته، ويخلفه في مسايل الأودية على إثره. وإنما يشير إلى ما تقطع ورق من ماء المطر بنضد الأحجار، وأصول الأشجار، حتى صفا من شوائب الكدورة، وقر في المناقع وقرارات الأودية.(1/1269)
وقوله " إن كان للماء من محض "، لأن ماء المطر جنس واحد إذا لم يختلط به غيره لا يختلف. وقد مر القول فى ذو وأنه بمعنى الذى فى لغة طيئ، فقوله: " ذو باد "، أى الذى باد، وهو فى موضع الجر، لكنه لا يغير عن بنيته.
وقوله " يروى العروق الهامدات من البلى "، يريد أنه أحيا ما أشرف على اليبس من عروق الشجر البالية خلتها وحمضها، وأعادها غضة مرتوية. والهمود أبلغ من الخمود.
وبات الحبى الجون ينهض مقدما ... كنهض المدانى قيده الموعث النقض
الحبى من السحاب: المشرف المتراكم. والجون؛ الأسود هنا، وجعله كذلك لا رتوائه وكثرة مائه. وقوله " ينهض مقدماً " انتصب مقدماً على الحال، يريد أن سير السحاب لثقله وحركاته مثل سير هذا البعير وحركته؛ ثم وصفه. والمدانى قيده: الذي قصر عقاله وضيق عليه قيده. ولم يرض بذلك حتى جعله سائراً في الوعث، وهي الأرض اللينة الكثيرة التراب والرمل؛ والسير فيها يصعب. ويقال في الدعاء: " اللهم إني أعوذ بك من وعثاء السفر "، يراد شدته وصعوبته. ويقال: أوعث، إذا صار في الوعثاء، كما يقال أسهل إذا صار في السهل. ثم لم يرض بعد ذلك أيضاً حتى جعله نقضاً، وهو المهزول الضعيف. ويقال نقضت البعير نقضاً، والمنقوض نقضٌ.
وقد زاد في هذا الوصف على الأعشى لما قال - وإن كان الأعشى يصف امرأة بالنعمة والترفة، وهذا يصف سحابة ثقيلة -:
تمشي الهوينى كما يمشي الوجى الوجل
لأن هذا جعل البعير مداني القيد أيضاً.(1/1270)
باب السير والنعاس
وقال حطيم
وقال وقد مالت به نشوة الكرى ... نعاساً ومن يعلق سرى الليل يكسل
أنخ نعط أنضاء النعاس دواءها ... قليلاً ورفه عن قلائص ذبل
فقلت له كيف الإناحة بعدما ... حدا الليل عريان الطريقة منجلى
مفعول قال أول البيت الثاني، وهو: أنخ نعط ". وقوله: " وقد مالت به نشوة الكرى "، والواو واو الحال. والنشوة: السكر. والكرى: النوم. وانتصب " نعاساً " على أنه مصدر في موضع الحال.
وقوله " ومن يعلق سرى الليل يكسل " اعتراض بين الفعل ومفعوله. ويعلق في معنى يتعلق. والسرى: سير الليل خاصة، وأضافه إلى الليل فقال سرى الليل، تأكيداً. ومعنى البيت: وقال رفيقي وقد انتشى من الكرى وصار يتميل ولا يستقيم وهو ناعس، ومن يمارس السير ويهاجر النوم يتسلط عليه الكسل: أنخ راحلتك نداو المطايا التي أنضاها النعاس وهزلها الجهد، دواءها من الراحة والنوم، وسكن من قلائص مهازيل، ووسع ما ضيقت عليها من أوقاتها. والقلوص في الإبل بمنزلة الجارية في الناس. والذبل: جمع ذابل. والترفيه: التوسيع والتنفيس. ويقال: رفهت البعير، إذا تركت الحمل عليه، وعيشٌ رافهٌ ورفيهٌ: فيه رفاهةٌ وخصبٌ. وانتصب قليلاً على الظرف، ويجوز أن يكون صفة لمصدر محذوف، كأنه قال نعطها دواءها إعطاء قليلاً، أو وقتاً قليلاً. والأنضاء: جمع النضو، وهو المهزول.(1/1271)
وقوله " فقلت له كيف الإناحة "، يريد كيف الوصول إلى النزول وقد أصبحنا وساق الليل صبح واضح الطريقة، متكشف الشريعة، يجلى الظلام فيه ويفرق. يريد أن الرأي وقد انصرم الليل أن نتبلغ إلى الماء الذي نقصده ثم ننزل. آخر:
وفتيان بنيت لهم ردائي ... على أسيافنا وعلى القسي
فظلوا لائذين به وظلت ... مطاياهم ضوارب باللحي
فلما صار نصف الظل هناوهنا نصفه قصم السوي يقول: رب فتيان أثر فيهم الحر، ومالوا إلى النزول، فبنيت لهم ما أظلهم على الأسياف والقسي، وقد غشيت بردائي فظللوا من نهارهم ملجئين إليه ولائذيم من الحر به، وبقيت مطاياهم لتأثير أواره فيها، وإحراقها بتوقد الهاجرة عليها، تضرب بلحيها على الأرض، فلما زال قائم الظهيرة وصار الظل نصفين لا شطط في انقسامه ولا اعوجاج في سويه. وجواب لما منتظر. وقوله " هنا " انتصب على الظرف، وقد وقع موقع خبر صار.
وسمعت شيخنا أبا علي الفارسي رحمه الله يقول: ليس هنا من لفظ هنا في شيء، ووزنه فعلل مثل جعفر، فهو رباعي، وهنا ثلاثي. كأن أصله هنن، فأبدلوا من إحدى نوناته الألف هرباً من التضعيف.
وقوله " قسم السوي " انتصب على المصدر، والمراد وقد قسم قسم الإنصاف. ودل على الفعل قوله " نصف الظل هنا ".
والسوي أكثر ما يجيء في آخره هاء التأنيث: السوية، قال الشاعر:
ألا إن السوية أن تضاموا
ويجوز أن يريد بالسوي المسوي، كما جاء في الخبر: " لا تحل الصدقة لغنىٍ، ولا لذي مرة سوي ".
دعوت فتى أجاب فتى دعاه ... بلبيه أشم شمردلي(1/1272)
فقام يصارع البردين لدناً ... يقوت العين من نومٍ شهي
فقاموا يرحلون منفهاتٍ ... كأن عيونها نزح الركي
قوله " دعوت " جواب لما من قوله " فلما صار نصف الظل "، وهو العامل فيه، لكونه علماً للظرف. وقوله " أجاب فتى دعاه " يريد أجابني، لأنه هو الداعي له. وقوله " بلبيه " أراد أجاب بالتلبية، أضاف لبي إلى ضمير المجيب، وحكى ما لفظ به. ولبيك، من قولهم: ألب بالمكان، إذا أقام به، وهذه اللفظة مثنى، والتثنية فيها إيذانٌ بأن المراد إلبابٌ بعد إلباب، لأن قد تفيد التكثير، فكأن المراد: دوامٌ على طاعتك، وإقامة عليها مرة بعد آخرى. قال سيبويه: انتصابه على المصدر كانتصاب سبحان الله، ولا ينصرف كما لا ينصرف سبحان. وقال يونس: إنه واحدٌ غير مثنى، والياء فيه كالياء في عليك ولديك، وأنشد الخليل وسيبويه عن العرب، قول القائل:
فلبي فلبي يدي مسور
وموضع الحجة أنه لو كان كلدي وعلي لكان يجيء بالألف إذا أضيف إلى الظاهر، كما تقول لدى زيدٍ وعلى عمرو، والشاعر قال: لبي يدي.
وقوله " أشم " في موضع الجر على أن يكون بدلاً من الضمير المتصل بلبيه.
وأصل الشمم الطول في الأنف، لكنه جعل لفظة أشم كناية عن الكريم. والشمردل: الطويل. وزاد ياء النسبة في آخره توكيداً للوصفية، فهو كقول رؤبة:
أطرباً وأنت قنسري ... والدهر بالإنسان دواري
يريد قنسراً ودواراً، فزاد الياء لمثل ذلك.
ومراد الشاعر: لما انقسم الظل هذا الانقسام، وخف احتدام الوقت واشتد أمر الحر على مواصل السير والسري، دعوت فتىً أجابني بلبيك، كريمٍ مديد القامة، تام(1/1273)
الخلقة، فقام ولما لحقه من التعب والكلال وترك النوم يتمايل، فكأنه يصارع برديه. وهو لين الأعطاف، يهتز اهتزاز الرمح اللدن، وهو ينفي عن عينه نوماً لذيذاً تمكن " منها "، فهو لها قوت وقوام " وينفضها منه شيئاً بعد شيء. وإنما قال ذلك لأنه لم يكن استوفى من الراحة والنوم ما يكتفي ويتماسك له " إذ كان هيجه وبعثه للارتحال قبل ذلك. وقوله " وقاموايرحلون " يريد: قام هو وأصحابه يرحلون رواحل لهم قد اسقطها واستنفد قواها السير المتصل الحثيث، فهي غائرة العيون، ساقطة القوى، قد دخلت مقلها في أقفائها، فكأن عيونها آبارٌ نزحت مياهها. ويقال: نفهت نفسه ونفهتها أنا. والنزح: جمع نزيح.
آخر:
ولقد هديت الركب في ديمومةٍ ... فيها الدليل يعض بالخمس
مستعجلين إلى ركي آجنٍ ... هيهات عهد الماء بالإنس
يريد أنه يتعسف البلاد، ويركبها بأصحابه، وهو هاديهم، وأنه ورادٌ للمياه التي انقطع الناس عنها فلا يردها إلا السباع والطير. ولا خلاف بينهم أن القطا أهدى الطير، وأن الذئب أهدى السباع، وهما السابقان إلى المياه، لذلك وصفهما الشعراء وضربوا الأمثال بهما. والركب: ركبان الإبل. والديمومة: المفازة، واشتقاقه من دمه، أي أهلكه، وهو يجري مجرى مهلكة ومفازةٍ، والياء فيه زائدة. وقوله " يعض بالخمس "، يقال عض كذا، وعض على كذا، وعض بكذا، قال:
فعض بإبهام اليمين ندامةً
وقال غيره:
عض على شبدعه الأريب
في القرآن: " عضوا عليكم الأنامل من الغيظ ".وإنما جعل الدليل يفعل ذلك لخوفه الهلاك والضلال على نفسه ومن معه. ويريد بالخمس، الأصابع، وهي مؤنثة، لذلك قيل: السبابة، والدعاءة، والوسطى.(1/1274)
وقوله " مستعجلين إلى ركيٍ آجنٍ "، أراد: مبادرين إلى بئرٍ متغيرة الماء، فلما وردوها بعيدة العهد بالإنس، لأن المفازة التي يقصدها بالوصف كانت غير مسلوكةٍ لهم إلا في النادر، وإنما يرد الماء بها الطير والوحش. وارتفع " عهد الماء " بقوله هيهات، وهو اسم لبعد. والمراد ركيٌ متغير بعد عهد مائه بالإنس. وقد روى عهد الماء بالأمس " ويكون على هذا عهد الماء مرتفعاً بالابتداء، وبالأمس خبره. وأتى بلفظة " هيهات " على طريق الاستبعاد، كأنه قال: إلى ركيٍ آجنٍ بعد المطلوب والمبتغى. ثم قال " عهد الماء بالأمس "، أي كان الماء في وقتٍ متقادمٍ. والرواية الأولى أصح وأجود وأحسن. وفي طريقته قول الشماخ:
وماء قد وردت لوصل أروى ... عليه الطير كالورق اللجين
ذعرت به القطا ونفيت عنه ... مقام الذئب كالرجل اللعين
وقال ذو الرمة:
وماء بعيد العهد بالناس آجنٍ ... كأن الدبا ماء الغضا فيه يبصق
وردت اعتسافاً والثريا كأنها ... على قمة الرأس ابن ماءٍ محلق
مستعجلين فمشتوٍ ومعالجٌ ... نقباً بخف جلالةٍ عنس
ومهومٍ ركب الشمال كأنما ... بفؤاده عرضٌ من المس
أعاد لفظ " مستعجلين " تأكيداً، والأول منهما حال للركب. وقوله " فمشتوٍ " مبتدأ وخبره مضمر. كأنه قال على الاستئناف: فمنهم مشتوٍ ومنهم معالجٌ نقباً، ومنهم مهومٌ. وذكره للمشتوي وغيره ليري ضيق الوقت، وأن آرابهم لم تقض فيه عند نزولهم: من الأكل وإصلاح عواض السفر، إلى سائر ما أحاط التعداد به ودل عليه، فإنه أزعجهم وهيجهم للارتحال. والنقب: الحفى. والجلالة: الناقة العظيمة الجسم. والعنس: الصلبة.
وقوله " ومهوم " أراد: ورب رجلٍ نائمٍ لما نبهه ركب شماله لغلبة النوم عليه، وكأنما بقلبه عرضٌ من الجنون. والمراد بقوله " ركب الشمال " أنه أخطأ في القصد. ومن قولهم ركب شؤمهوركب الشق الأشأم، للعادل عن سواء السبيل، وللمنهزم والمخطئ. ويجوز أن يريد بقوله: " ركب الشمال " شمال نفسه، والراكب إذا لم يزغ من شرطه أن يركب من يمين نفسه وشمال مركبه، ومتى ركب من شمال نفسه(1/1275)
ويمين مركوبه كان معكوس الركوب. ويجوز أن يريد: ركب الشمال مرة واليمين أخرى، فاكتفى بذكر أحدهما. والمعنى: لا يبالي على أي جنبيه سقط، لغلبة النعاس عليه.
وفي هذه الطريقة قول لبيد:
قلما عرس حتى هجته ... بالتباشير من الصبح الأول
يلمس الأحلاس في منزله ... بيديه كاليهودي المصل
يتمارى في الذي قلت له ... ولقد يسمع قولي حي هل
آخر:
وهن مناخات يحاذرن قولةً ... من القوم أن شدوا قتود الركائب
تكاد إذا قمنا يطير قلوبها ... تسربلنا ولوثنا بالعصائب
قوله " هن مناخات "، يريد الأبل. و " يحاذرن " في موضع الصفة أي خائفة محاذرة. وقوله " من القوم " اتصل بقولةً. و " أن شدوا " في موضع المفعول لقولة. وأن مخففةٌ من الثقيلة واسمه مضمر. والمراد أن الأمر والشأن شدوا قتود ركائبكم. " وشدوا " بما بعده في موضع الخبر. ويريد أن مطاياهم وهي مناخةٌ في ركائبها خائفات قول منادى القوم تهيئوا للانفصال وشدوا على رواحلكم الرحال.
ثم قال " تكاد إذا قمنا يطير قلوبها " أي قلوب الإبل، أي أنها لما استشعرت من هو السير ولما تخونها وأثر في قواها من الكلال والتعب، إذا رأتنا نتسربل ونلف عمائمنا على رءوسنا، تكاد تطير قلوبها انزعاجاً وخوفا، لعلمها بما تكابده وتعانيه.
آخر:
حبسن في قرح وفي داراتها
سبع ليالٍ غير معلوفاتها
حتى إذا قضيت من بتاتها
وما تقضي النفس من حاجاتها
حملت أثقالي مصمماتها
غلب الذفارى وعفرنياتها(1/1276)
قرح: موضع. ويريد بالدارات دارات الرمل. ودرارات العرب نيف وعشرون، قد ذكرناها في موضع آخر. وانتصب " سبع ليال " على الظرف. و " غير معلوفاتها " في موضع الحال، والمراد: غير معلوفاتٍ فيها، لكنه قدر الظرف تقدير المفعول الصحيح، وحذف في. والبتات: المتاع. والمصممات هي التي لا ترغو. والغلب: الغلاظ الأعناق. والذفارى: جمع الذفرى، وهي الحيد النائي عن يمين النقرة وشمالها. والعفرنيات: الصلبة السريعة، والواحدة عفرناتٌ. فيقول: حبست هذه الإبل في هذا الموضع، وفي دارات رمالها ليالي سبعاً غير مستوفيةٍ من علفها حظوظها وكفايتها، حتى إذا أصلحت أحوالها، وفرغت من قضاء حاجات نفسي فيها وفي غيرها، ومن رفيقٍ وصاحب، حملت أثقالي صابراتها في السير، وهي التي لا ترغو ولا تشكو، وقد غلظت أعناقها، وعادتها أن تخف في السير وتسرع.
والبتات: المتاع. والبتات، بكسر الباء: جمع البت، وهو الكساء. وانعطف " وما تقضي النفس " على بتات، يريد: وما تقضيه النفس من مهماتها.
وقوله " حملت أثقالي " جواب إذا، والمصممات: الصابرات على السير الماضيات، وهي لا ترغو.
وغلب الذفارى، انتصب على البذل من مصمماتها.
فانصلتت تعجب لانصلاتها
كأنما أعناق سامياتها
بين قروري ومرورياتها
قسي نبعٍ رد من سياتها
كيف ترى مر طلاحياتها
والحمضيات على علاتها
يبتن ينقلن بأجهزاتها
والحادي اللاغب من حداتها
قوله " فانصلتت " أي مضت جادة حتى تعجب لمضيها، وكأن أعناق اللاتي تسمو بأعينها، وترفع رءوسها، وتمد في المسير أضباعها، بين هذه المواضع قروري(1/1277)
وما حولها، من الأرضين التي لا نبات فيها، في طولها وتجردها - قسيٌ نبعيةٌ رد ما عطف من أطرافها.
ثم قال: " كيف ترى مر طلاحياتها " على طريق التعجب منها، والإعجاب بها. وطلاحٌ بكسر الحاء: جمع طلحة، ويقال إبل طلاحيةٌ، إذا ألفت الطلح وأكلته، وقياسه إذا كسرت الطاء طليحة، لأن الجمع يرد إلى واحده، وهو صفة في النسب. قال الفراء في طلاحي إذا نسب إلى الطلح: هو بمنزلة أذانيٍ ورؤاسي، وأنافي، وإنما هذه النسبة تكون للأعضاء، فشبه طلاحيٌ به إذ كان ملازماً له، فصار كأنه منه. وقال غيره: قيل طلاحيٌ كما قيل نباطيٌ، وهو منسوب إلى النبط، وكيفما كان فإنه لم يجيئ على القياس الأكثر، وما هو الأصل. وقال الكسائي: إذا اشتكت الإبل بطونها عن أكل الأراك قيل: إبلٌ أراكي، وإن كان من الطلح قيل طلاحي بفتح الحاء مقصوراً.
وقوله " والحمضيات "، أراد ومر الحمضيات على علاتها، أي على ما يعترض لها من الأسباب الباعثة والمانعة، والأحوال المهيجة والمبطئة. وحرك الميم من الحمضيات لأن هذا مما غير في النسب. وقال أبو العباس المبرد: يقال حمضٌ وحمض، وإذا صح هذا فقد جاء على وجهه.
وقوله " يبتن ينقلن بأجهزاتها " أي ينقلن أجهزاتها، فزاد الباء تأكيداً وهو جمع الجمع، يقال جهازٌ وأجهزة وأجهزات، وهي الأمتعة.
وقوله " والحادي اللاغب " عطف الحادي على موضع " بأجهزاتها "، أي وينقلن الحادي والمعي لدوام حدائها. ويروى " بالغضويات "، وهي التي ترعى الغضا. قال:
فما وجد ملياع الهوى غضويةٍ ... بلوذ الشرى في غلةٍ وهيام
وقال حكيم بن قبيصة
لعمر أبي بشرٍ لقد خانه بشر ... على ساعةٍ فيها إلى صاحبٍ فقر
فمنا جنة الفردوس هاجرت تبتغي ... ولكن دعاك الخبز أحسب والتمر(1/1278)
ذكر المدائني " في كتاب العققة "، أن هذا الشعر لحكيم بن ضرار الضبي، قاله لابنه وكان غزا وترك أباه. وذكر غيره أنه حكيم بن قبيصة، وأن ابنه كان فارقه مهاجراً البدو إلى الأمصار. يقول: وبقاء أبي بشرٍ - يعني نفسه - لقد خانه بشر، يعني ابنه، في وقتٍ كان يشتد فقره إليه. يشير إلى أوان كبرتهٍ وضعفه، وتعليقه الرجاء بالانتفاع به وتحمله أعباء المؤن عنه في ظعنه وإقامته. فقوله " على ساعة " في موضع الحال، وتعلق على بفعل مضمر، كأنه قال: مشرفاً على وقت هكذا. وقوله " إلى صاحب " في موضع النصب على الصفة المتقدمة، لأن المراد: فيها فقر إلى صاحبٍ، وصفة النكرة إذا قدمت عليه صارت حالا. على هذا قوله:
لمية موحشاً طلل
وقوله " فما جنة الفردوس " جنة انتصب على أنه مفعول تبتغي، وتبتغي في موضع الحال، والتقدير: ما هاجرت مبتغياً جنة الفردوس. ووجه هذا الكلام نحو الابن معيراً. يريد أن الذي دعاك إلى الهجرةنهمة بطنك، ورغبتك في أطعمة الحضر، لا الدين وطلب الآخرة، إذ كان ذلك يفرض عليك طاعة أبويك، وطلب رضاهما. وقوله " أحسب " قد حذف فيه مفعولاه، فهو كقول الآخر:
ترى حبهم عاراً علي وتحسب
وفي الكلام مع التعيير تقريع وتهكم وسخريٌ.
أقرصٌ تصلى ظهره نبطيةٌ ... بتنورها حتى يطير له قشر
أحب إليك أم لقاحٌ كثيرةٌ ... معطفةٌ فيها الجليلة والبكر
هذا الاستفهام أتى به على طريق التبكيت، وليريه الخطأ فيما اختاره من الحضر إلى البدو، ومن ترك والده والعصيان له أشد ما كان حاجةً إليه. فقال: أقرصٌ تنضجه في التنور امرأةٌ خبازة نبطية حتى يصير له قرافة تتقشر عنه، أحب إليك أم نوق حوامل كثيرة قد عطفت على أولادها، وفيها الجلالة الكبيرة والأفتاء القوية. يريد أن فعله فعل من لا يفرق بين هاتين الخصلتين، ولا يميز الرجحان في أي جانبيهما يكون(1/1279)
فيختاره. ويقال: صليت الشواء، إذا شويته. وأصليته وصليته، إذا ألقيته في النار. ويقال أيضاً صلى عصاه، إذا أرادها على النار، فهو مثل أكرمته وكرمته وأفرحته وفرحته. وفي القرآن: " إلا من هو صال الجحيم ". ويقال: تصليت حر النار واصطليته.
كأن أدواي بالمدينة علقت ... ملاءً بأحقيها إذا طلع الفجر
كأن قرى نملٍ على سرواتها ... يلبدها في ليل سارية فطر
استمر في وصف اللقاح، لأن تفخيم أمرها يزيد في بيان الخطإ فيما اختاره. وشبه ضروعها بمزادٍ مملوء. والأحقي: جمع حقوٍ، وهو من الإنسان معقد الإزرار من كل ناحية، ومن غيره مما يحلب مواضع الضروع. والمعنى أنها بالغدوات وقد حلفت من الليل، كأنما علقت بمواضع ضروعها أدواي مملوءة ماءً. وانتصب " ملاء " على الحال.
وقوله " كأن قرى نملٍ على سرواتها " يشبه قول الآخر:
إلى سراةٍ مثل بيت النمل ... غنيةٍ من وبرٍ وخمل
والسروات: الأعالي. وقرية النمل ربما ترى كأعظم جثوةٍ، ولذلك شبه ارتفاع أسنمتها وكثرة اللحم والشحم عليها بها. ومعنى يلبدها يصلبها والسارية: السحابة تسرى ليلاً.
وقال واقد بن الغطريف
وكان مريضاً فحمي الماء واللبن:
يقولون لا تشرب نسيئاً فإنه ... وإن كنت حراناً عليك وخيمٌ
لئن لبن المعزى بماء مويسلٍ ... بغاني داءً إنني لسقيم
النسئ: الرثيئة. والحران: الشديد العطش. وعليك من صفة وخيم، وقد قدمه فانتصب على الحال. ومويسل: تصغير مأسلٍ الذي ذكره امرؤ القيس في قوله:
وجاراتها أم الرباب بمأسل(1/1280)
فيما أظن يريد: قال الناس وهم يحمونني الماء واللبن: لا تشربهما وإن اشتد حمى كبدك، وغليل جوفك، فإنه يثقل عليك، ويزيد في ألمكمن العارض لك. فقلت مجيباً لهم: إن كان اللبن ممزوجاً بماء هذه العين يورثني خبالاً، ويسكبني إتخاماً، وهو غذائي ومساك قوتي منذ كنت، إنني لمتناهي السقم والله. فأطلق لفظة سقيم، والمراد المبالغة، وفعيل من أبنيتها.
ومثل هذا مما رمى به هذا المرمى قول الآخر، وقد مر في باب النسيب:
لئن كان يهدي برد أنيابها العلى ... لأفقر مني إنني لفقير
فهذا بإزاء ذاك، وهو على منهاجه. ومعنى " بلغى داءً " كسبني وأنزل بي. وقوله " بماء مويسلٍ "، الباء أفاد الجمع والاختلاط. ويقولون: خذ كذا بكذا، والمعنى مجموعاً إليه ومخلوطاً به.
؟ وقال حندج بن حندج:
في ليل صول تناهى العرض والطول ... كأنما ليله بالليل موصول
لا فارق الصبح كفي إن طفرت به ... وإن بدت غرةٌ منه وتحجيل
لساهر طال في صولٍ تململه ... كأنه حيةٌ بالسوط مقتولٌ
جعل الليل كالمجسمات حتى صار ذا طول وعرض عنده. وقال: " تناهى العرض والطول " لأنه قد علم أنهما لليل، كما أنك تقول: زيد حسن الوجه، لأنه علم أنه لم يرد إلا وجهه. والمعنى أن في ليل هذا المكان بلغ الطول والعرض نهايتهما وغايتهما، حتى وقفا لا مستزاد فيهما، فكأنماليل صولٍموصولٌ بجنسه كله، فليس ينقطع ولا ينكشف.
وقد قال أبو تمام الطائي مستطيلاً ليوم:
بيوم كطول الدهر في عرض مثله(1/1281)
ومن كلام الناس: عشنا زمناً طويلاً عريضاً، والدهر الطويل العريض. وكل ذلك تشبيه بالأجسام. وعلى ما فسرناه يتعلق الجار من قوله: في ليل صولٍ بتناهي. وقد استعمل العرض منفرداً عن الطول والمراد به السعة؛ على ذلك قوله تعالى: " فذو دعاء عريض "، وقوله عز وجل: " وجنةٍ عرضها السموات والأرض ".
وقوله: " لا فارق الصبح كفي "، يجوز أن يكون دعاء، يريد: إن ظفرت بالصبح فلا فرق الله بيني وبينه، كما يقال: لا بارك الله في الكفار، ويجوز أن يكون إخباراً. والمعنى أنه يتشبث به فلا يخليه للزوال. وهذا على التشوق له والتبرم بليله. والليل في الاستعمال بإزاء النهار على الإطلاق، والليلة بإزاء اليوم. وهذا يدل على أنه لم يقصد إلى ليلة واحدة، وإنما أراد: الليل في صول هكذا علي.
وقوله " إن بدت غرةٌ منه وتحجيل "، يريد تباشيره ممتزجةً بالظلام، كأنه جرى على عادة الناس في قولهم للمتشوف المتوقع: إن ظفرت بزيد أو رأيت وجهه فعلت كذا، والمراد إظهار الفاقة إليه وشدة التشوف له، وطول الملازمة له إذا ظفرت به. والغرة والتحجيل معروفان. وقد قيل: صبح أقرح، مأخوذ من القرحة، لأنه بياض في سواد. وقوله " لساهر "، واللام تعلق بقوله " وإن بدت ". ويعنى بالساهر نفسه، كما أراد بذكر الغرة والتحجيل نفس الصبح. والتململ: القلق والانزعاج. وإنما تقلقل على فراشه لأرقه واستطالته لليل، ثم شبه نفسه في التوائه واضطرابه بحيةٍ قتل بالسوط فطال اضطرابه لطول ذمائه.
متى أرى الصبح قد لاحت مخايله ... والليل قد مزقت عنه السرابيل
ليل تحير ما ينحط في جهة ... كأنه فوق متن الأرض مشكول
نجومه ركد ليست بزائلة ... كأنما هن في الجو القناديل
قوله " متى أرى الصبح " لفظه استفهام ومعناه التمني والتطلع، واستبعاد المنتظر المترقب. ومخايله: ما يتبين به دنوه. كأنهأظهر ما عليه النفس من ضجره بالليل واسراحته للصبح. ولك أن تروي " والليل " بالنصب، ويكون مردوداً على الصبح وداخلاً تحت متى أرى. ولك أن تروي " والليل " بالرفع ويكون الواو للحال، ويرتفع الليل بالابتداء. و " قد مزقت " في موضع الخبر، ويعني بالسرابيل الظلام.(1/1282)
ثم جعل الليل لامتداده واتصال دوامه كالمتحير كواكبه عن المسير. القائم على حدٍ لا يزول عنه " ولا يحول "، ولا يجنح ولا يميل.
والمشكول: المقيد. وهذا المعنى هو الذي يؤمه امرؤ القيس في قوله:
كأن الثريا علقت في مصاصها ... بأمراس كتانٍ إلى صم جندلٍ
وشبه النجوم في إضاءتها بالقناديل، وإنما يعلو ضوء الكواكب ويزهر عند تراكم الظلام واستحكامه. والركد: جمع الراكد. وجعل الكواكب في الجو لأنه توهمها كالقناديل المعلقة.
ما أقدر الله أن يدني على شحطٍ ... من داره الحزن ممن داره صول
الله يطوي بساط الأرض بينهما ... حتى يرى الربع منه وهو مأهول
قوله " ما أقدر الله " لفظه تعجبٌ ومعناه الطلب والتمني. وكان الواجب أن يقول: ما أقدر الله على أن يدني، فحذف الجار، ومثل هذا الحذف يكثر مع أن لطوله بصلته. والشحط: البعد، شحط شحطاً وشحوطاً. قال:
والشحط قطاعٌ رجاء من رجا
لكنه حرك الحاء. ويقال: منزلً شاحط وشحيط. وموضع " على شحطٍ " نصب على الحال.
وقوله " الله يطوي بساط الأرض بينهما " البساط: الأرض الواسعة. وجعل الكلام لما يتمناه، ويطلب قربه ويتشهاه، على أنه إخبارٌ عن الشيء وقد وقع. وكل ذلك تحقيقٌ لما يؤمله ويسأله. وهذا كما يجعل الدعاء على لفظ الخبر، كأنه لقوة الأمل يجعل المطلوب في حكم ما قد حصل. وقوله " حتى يرى الربع منه "، يعني الربع بالحزن ممن هو مقيمٌ بصولٍ.(1/1283)
؟؟؟ وقال حميدٌ الأرقط
قد أغتدى والصبح محمرٌ الطرر
والليل يحدوه تباشير السحر
وفي تواليه نجومٌ كالشرر
بسحق الميعة ميال العذر
الطرر: جمع الطرة، وهي الناحية والحرف، ومنه أطرار الوادي. وفي المثل: " أطري فإنك ناعلة "، أي أركبي أطرار الطريق. والبغداديون يروونه: " أظري " بالظاء معجمةً، والمعنى أركبي الظرر، وهي حجارةٌ محددة يصعب المشي عليها. فيقول: أبتكر - والصبح محمرٌ الأرجاء والنواحي، والليل قد تجلى بما يطرده مقدمات السحر وعلاماته، وفي مآخيره ومدارس آثاره من الظلام نجومٌ تتوقد كأنها شرر النار - بفرسٍبعيد غور النشاط، يضطرب عذره على خديه وجبهته. والميعة: النشاط. وجعله سحقاً لاتصاله ودوامه. والسحق: البعد. ونخلةٌ سحوقٌ، منه، أي طويلةٌ. والعذر: الخصل من الشعر. والعذر أيضاً: علامةٌ تعقد في ناصية الفرس السابق من العهن، والواحدة عذرةٌ. وقال الخليل: الميعة: ميعة الشباب والحضرأولهما. وروى السكري: " بمشعل الميعة " وهو من إشعال النار والقصب.
كأنه يوم الرهان المحتضر
وقد بدا أول شخصٍ ينتظر
دون أثابي من الخيل زمر
ضارٍ غدا ينفض صئبان المطر
قوله " كأنه يوم الرهان "، يريد: كأن هذا الفرس يوم السباق وقد حضره الناس فصار يوماً مشهوداً. والمحتضر: الذي يحضره الناس. ويروي " يوم الرهان المبتدر ".(1/1284)
والأنابي: الجماعات، وليس لها واحد، وقيل واحدها أثبية، أفعولة من الثبة، وهي الجماعة الكثيرة؛ ومنه تثبيت الثناء، إذا أكثرته. والمعنى: كأنه وقد جاء في هذا اليوم سابقاً وأول طالعٍ ينتظر دون جماعات من الخيل " جاءت " زمرةً بعد زمرة، صقر قد ضرى بالصيد، ابتكر وقد مطر الليل، فهو ينفض صغار القطر وكباره عن ريشه، وهو شديد الإلحاح في طلب الصيد بعدالانقضاض عليه.
عن زف ملحاحً بعيد المنكدر
أقنى يظل طيره على حذر
يلذن منه تحت أفنان الشجر
من صادق الوقع طروحٍ بالبصر
بعيد توهيم الوقاع والنظر
كأنما عيناه في حرفي حجر
بين مآقٍ لم تخرق بالإبر
قال الدريدي: الزف صغار الريش كالزغب. وقال قومٌ: لا يكون الزف إلا للنعام إلا على وجه التشبيه. والملحاح: بناء المبالغة من ألح. أي يلح في الصيد على نفسه. ويجوز أن يكون من لحت عينه ولححت؛ إذا التصقت أجفانها بالرمص، كأنه يلتصق بالصيد التصاقاً شديداً من هذا قولهم: هو ابن عمي لحاً، أي لاصق النسب. وقوله " بعيد المنكدر " يقال: انكدر، وانصلت، وخات، وانقض بمعنى. وهذا كما قال الآخر:
ضارٍ يضري بطري اللحم ... أكدر كالجلمود يوم الرجم
إذا تقضى من أعالي النجم ... ضم جناحيه انخراط السهم
وقوله " أقتى " القنا يستحب في الصقورة والشواهين، وكذلك طول المنسر، وقصر الذنب، وغوؤر العينين، وبعد ما بين المنكبين. وقال " تظل طيره على حذر "، أراد ما عرفه من الطير أو رآه، فلذلك أضاف إليه. والمعنى يخافه فيحذره، ويلوذ منه بغصون الأشجار فيستخفي فيه، وهو صادق الوقع، أي لا يكذب فيه، بعيد المطلب(1/1285)
والنظر، شديد المواقعة والبغت. ويقال طرفٌ مطرحٌ، أي بعيد النظر، ورمحٌ مطرحٌ، أي طويل، وفحلٌ مطرحٌ: بعيد موقع الماء في الرحم.
ومثل قوله " يلذن منه تحت أفنان الشجر " قول الآخر:
رأى أرنباً سنحت بالفضاء ... فبادرها ولجات الخمر
وقوله " كأنما عيناه في حرفي حجر "، أي في جانبي حجرٍ، يعني رأسه، ونفسه بين مأقٍ لم تخط، أي لم يصطد فكان في العليم تخاط عيناه. والمآقي جمع مؤقٍ مثل معقٍ، وبعد القاف ياء زائدة، فهو من الفعل فعلوٌ، نقلت إلى فعل. وفي هذه اللفظة لغاتٌ كثيرة، وقد علمتها مسألةً وشرحتها.(1/1286)
باب الملح
قال بعضهم:
يقول لي الأمير بغير نصحٍ ... تقدم حين جد بنا المراس
وما لي إن أطعنتك من حياةٍ ... وما لي بعد هذا الراس راس
ذكر أبو العباس المبردأن المهلب بن أبي صفرة قال يوماً وقد حميت نائرة الحرب بينه وبين الخوارج، لأبي علقمة اليحمدي: أمددنا بخيل اليحمد وقل لهم: أعيرنا جماجمكم ساعةً. فقال: أيها الأمير، إن جماجمهم ليست بفخار فتعار، وأعناقهم ليست بكراثٍ فتنبت. وقال لحبيبكر على القوم!! فقال: " يقول لي الأمير بغير نصحٍ ".
وقوله " جد بنا المراس " أي اشتد. والمراس: المجاذبة والمدافعة.
وقالت امرأة
فقدت الشيوخ وأشياعهم ... وذلك من بعض أقواليه
ترى زوجة الشيخ مغمومةً ... وتمسي لصحبته قاليه(1/1287)
فلا بارك الله في عرده ... ولا في غضون استه البالية
وإن دمشق وفتيانها ... أحب إلينا من الجاليه
نكحت المديني إذ جاءني ... فيالك من نكحةٍ غاليه
له ذفرٌ كصنان التيوس ... أعيا على المسك والغاليه
الكلام دعاءٌ على الشيوخ وإظهار القلى لصحبتهم والكون معهم.
وأرادت بالأشياع من يرضى مناكحتهم، أو يتعصب لهم، أو يهوى هواهم. وقولها " وذلك من بعض أقواليه " إيذانٌ منها بأن لها في الشيوخ وذمهم طرائق من القول، وألواناً من الوصف. وما أظهرته جزءٌ من تلك الجملة. والعرد: الفرج. وقال الخليل: هو الشديد المنتصب من كل شيء، ومنه ترٌ رعدٌ.
وقولها " ترى زوجة الشيخ مغمومةً " بيانٌ للعلة في الدعاء والذم. والغصون: جمع غصنٍ، وهو تكسر الجلد وتثني فضوله على الشيخ لبلاده.
وقولها " وإن دمشق "، كان هواها ثم. وكان يجب أن تقول: أحب إلينا من الجالية وفتيانها، فاكتفت بما ذكرت، إذ كان مرادها مفهوماً.
وقولها " يا لك من نكحةٍ غالية " لفظها لفظ النداء، والمعنى التعجب. وإنما قالت من نكحة غالية، لتبين أنها مكروهة كما يكره ما يشترى بغلاء. والذفر: شدة النتن هنا، ويكون الطيب أيضاً. والدفر، بالدال غير معجمة، لا يكون إلا للنتن. والصنان: ريح الإبط، ومنه الصن: بول الوبر. قال جرير:
بصن الوبر تحسبه الملابا
وقولها: " أعيا على المسك " موضعه من الإعراب نصبٌ على الحال للمضمر في أعيا. ومفعول أعيا محذوفٌ، أي أعجز ذلك االذفر ما يستعمل من الطيب.
وقال آخر:
من أينا تضحك ذات الحجلين(1/1288)
أبدلها الله بلونٍ لونين
سواد وجهٍ وبياض عينين
الحجل: الخلخال. وفي الكلام هزؤٌ وإزراء، ثم دعا عليها بأن يغير الله لونها ويبدلها منه لونين. وقال بعضهم " بلونٍ لونين " هو كقولك بدلك بالشباب هرماً وضعفاَ، وبالعز حخضوعاً وقلة ناصر. وشرح هذا أنه جعل اللون منتظماً للألوان، ثم أبدل منها السواد والبياض. ويجوز أن يريد بقوله " بلون " لونها المعروف، أي أبلها مما خلقت عليه من لونٍ لونين آخرين، ثم فسرهما.
آخر:
أعوذ بالله من ليلٍ يقربني ... إلى مضاجعةٍ كالدلك بالمسد
لقد لمست معراها فما وقعت ... مما لمست يدي إلا على وتد
في كل عضوٍ لها قرنٌ تصك به ... جنب الضجيع فيضحي واهي الجسد
الدلك: الغمز والفرك. بقال دلكت السنبل فانفرك قشره عن حبه. والمسد: الحبل، وأصله من الفتل. ويقال: مسدت الحبل مسداً، والحبل ممسود ومسدٌ، كما يقال نفضت الشيء نفضاً، والشيئ منفوضٌ ونفض. قال:
ومسدٍ أمر من أيانق
أي حبل فتل من جلود النوق. فأما قوله تعالى: " في جيدها حبلٌ من مسد ". فقيل: المسد ليف المقل. ولا يمتنع أن يكون الليف مسداً بما يؤول إليه من الفتل عند اتخاذ الحبل، ثم استمر الاستعمال به فقيل له المسد وإن لم يمسد.
وقوله " لقد لمست معراها " يريد مسحت ظاهر بدنها فما وقعت يدي مما مسحته عنها إلا على الأوتاد. ييصفها بالهزال وتعري العظام من اللحم، حتى صار لها حجومٌ فأشبهت الأوتاد. وقوله " في كل عضو لها قرنٌ " العِضو والعُضو لغتان،(1/1289)
والمراد بالقرن نتو عظامها. والصك: الدفع. يقال: صكه، إذا ضربه بحجرٍ أو غيره. وصك البازي صيده، إذا ضربه بكفه يحطه، قال:
إذا اجتمعوا علي فخل عني ... وعن بازٍ يصك حباريات
آخر:
وإذا مررت به مررت بقانصٍ ... متشمسٍ في شرقةٍ مقرور
للقمل حول أبي العلاء مصارعٌ ... من بين مقتولٍ وبين عقير
وكأنهن لدى دروز قميصه ... فذٌ وتوءم سمسمٍ مقشور
ضرج الأنامل من دماء قتيلها ... حنقٍ على أخرى العدو مغير
تشمس: جلس في الشمس. ويقال شمس يومنا وأشمس، إذا اشتدت شمسه. والشرقة والمشرقة بمعنىً، وهما المكان الذي يتشرق فيه. والفذ الفرد. والتوءم: اثنان. وقد بسطنا القول فيه في شرح الفصيح.
ويقال ضرجت الثوب، إذا صبغته بالحمرة خاصة، فضرج وانضرج. ومنه قيل تضرج الخد عند الخجل، إذا احمر. والحنق: المغتاظ الشديد الغيظ.
آخر:
خبروها بأنني قد تزوج ... ت فظلت تكاتم الغيظ سرا
ثم قالت لأختها ولأخرى ... جزعاً ليته تزوج عشرا
وأشارت إلى نساءٍ لديها ... ما ترى دونهن للسر سترا
ما لقلبي كأنه ليس مني ... وعظامي أخال فيهن فترا
يقال: خبرته كذا وبكذا. والكتم: نقيض الإعلان. ويقال: كاتمت، إذا كان الكتمان من اثنين. وقد حذف المفعول الأول من تكاتم. ويجوز أن تكون تكاتم(1/1290)
بمعنى تكتم، فلا يكون من اثنين، ولكن كما يقال: قاتله الله. والكتوم في الناقة: التي لا ترغو، وفي القوس التي لا شق في نبعها. و " سراً " يجوز أن يكون مصدراً من غير لفظه، لأن تكاتم بمعنى تستر، ويكون كقوله:
ورضت فذلت صعبةً أي إذلال
ويجوز أن يكون مصدراً في موضع الحال. وجزعا انتصب على أنه مفعول له. وموضع قوله " ليته تزوج عشرا " نصبٌ على أنه مفعول ثالث، وقوله " للسر سترا "، يجوز أن يروى " ستراً " بفتح السين، فيكون مصدر سترت، ويجوز أن يروى " ستراً " بكسر السين فيكون واحد الستور، والمعنى في الوجهين ظاهر. وقوله " فيهن فتراً " يقال: فتر الإنسان، إذا لانت مفاصله وضعفت فتراً وفتوراً، وإدخال كسر الهمز منه لغة هذيل، ثم فشت في غيرها.
آخر:
جزى الله عناذات بعلٍ تصدفت ... على عزبٍ حتى يكون له أهل
فإنا سنجزيها بما فعلت بنا ... إذا ما تزوجنا وليس لها بعل
أفيضوا على عزابكم بنسائكم ... فما في كتاب الله أن يحرم الفضل
روى محمد بن حبيب أن هذا الشاعر صعد إلى مئذنةٍ وسط الحي وأنشد هذه الأبيات، فاجتمع عليه غيارى الحي وفتاكه فقتلوه.
وقوله " عزابكم " هو جمع العازب، وقصده إلى جمع العزب، وهو الأعزاب، لكنه تصور بعدهما عن الأهل وتساويهما فيه، فجعل العزب والعازب بمعنىً واحدٍ، ثم استعار بناء جمع العازب للعزب. وهذا كما قيل نَمرٌ ونُمرٌ، لأنه لما تصور أنه أنمر في لونه جمعوه جمع أنمر، فأجروه مجرى أحمر وحمرٍ.
وقوله " أفيضوا على عزابكم بنسائكم " توهم في أفيضوا معنى تصدقوا، فعداه تعديته، فلذلك زاد الباء في " بنسائكم ". ويجوز أن يكون من قولهم أفاض الإناء بمائه علينا، ويكون التقدير: أفيضوا العطاء بنسائكم. وقوله " فما في كتاب الله " يجوز أن يريد بالكتاب المصدر، والمعنى فيما كتبه وفرضه. ويجوز أن يريد به القرآن.(1/1291)
آخر:
أنشد بالله وبالدلو الخلق
يا رب من أحسها ممن صدق
فهب له بيضاء بلهاء الخلق
ومن نوى كتمان دلوى فاحترق
فابعث عليه علقاً من العلق
أنشد بالله، أي مستعيناً بالله أو مذكراً بالله. وقوله: " وبالدلو الخلق "، يريد وبسبب الدلو نشداني وطلبي. ففصل بين دخول الباءين.
وقوله " من أحسها " أي من رآها وأدركها بعلمه، ثم صدقني عند السؤال عنها. فقوله " ممن صدق " يجوز أن يكون " من " نكرةً، والمراد من إنسان يصدق أو عادته الصدق. ويجوز أن يكون " من " معرفة، والمراد من الذين يصدقون في المقال.
وقوله " فهب له بيضاء بلهاء " دعاءٌ له بأن يملكه الله تعالى امرأةً كريمةً مستقيمة الطريقة، سليمة الصدر، لا غائل لها ولا غلول لديها.
ومثل هذا قول الآخر:
بلهاء لم تحفظ ولم تضيع
وقوله " ومن نوى كتمان دلوى فاحترق " يريد فأحرقه الله ولا تهنأ بعيش. والعلق: دويبة حمراء تكون في الماء وتأخذ بالحلق. ويجوز أن يكون العلق مصدر علقت به العلوق الداهية. وسمي الأذى نفسه العلق، واسم الحدث قد يجعل صفةً للفاعل، ويكون على هذا علقاً يتناول واحداً من الجنس. والعلق يتناول الجنس كله.
إن لم يصبحه بما ساء طرق
وبات في جهد بلاءٍ وأرق
وهب له ذات صدارٍ منخرق
مشئومةً تخلط شؤماً بخرق(1/1292)
فاعل يصبحه العلق المذكور. والطروق يكون بالليل. وقوله " في جهد بلاء "، أي فيما يجهده ويشق عليه من مقاساة البلاء. والأرق: السهر بالليل. والصدار: الثوب الذي يبلغ الصدر. وجعله منخرقاً لجنون صاحبته، لأنه دعا على من يكتم دلوه بأن يهب له امرأة مجنونة تخرج يدها من جيب صدارها فتمزق على نفسها.
وفي هذه الطريقة قول الآخر:
كجيب الدفنس الورها ... ء ريعت بعد إجفال
وإنما وصف طعنةً. فشبه سعتها بسعة جيب الورهاء. ويقال: رجلٌ مشئوم، وقد شئم، وشأم فلانٌ أصحابه إذا أصابهم شؤمٌ من قبله. وتقول: هذا طائرٌ أشأم، وطيرٌ أشائم، أي جاريةٌ بالشؤم. والخرق: ضد الرفق.
وقال أعرابيٌ
كأن خصييه من التدلدل
سحقٌ جرابٍ فيه ثنتا حنظل
التدلدل: الاضطراب. ويقال: ثوبٌ سحقٌ وجردٌ، وقد انسحق وانجرد. وإنما قال " ثنتا حنظلٍ " لأن مراده ثنتان من الحنظل. ولو أراد تثنية حنظلة لم يجز إلا حنظلتان. وقد أحكم القول فيه وفي أمثاله في غير هذا الموضع.
آخر:
كأن خصييه إذا تدلدلا
أثفيتان تحملان المرجلا
قوله " أثفية " يجوز أن يكون أفعولةً بدلالة قولهم: أثفيت القدر وثفيتها: ويجوز أن يكون فعليةً، بدلالة قولهم أثفت القدر. ألا ترى النابغة يقول:
وإن تأثفك الأعداء بالرفد(1/1293)
فتأثف تفعل، والهمزة أصلية. وإنما يتفق مثل هذين التقديرين في الكلمة الواحدة من لغتين. ويقتضي كيفية وقوع الاختلاف في مثلها كلاماً ليس هذا موضعه، فاعلمه إن شاء الله.
آخر
كأن خصييه اذا ما جبى
دجاجتان تلقطان حبا
جبى: قام منحنياً للاحتراش، وهو إثارة الضب. ويقال: جبى تجبيةً، إذا سقط لركبتيه وطمأن بدنه ويديه.
وقال آخر:
وفيشةٍ زينٍ وليست فاضحه
نابلةٍ طوراً وطوراً رامحه
على العدو والصديق جامحه
من لقيت فهي له مصافحة
تسد فرج القحبة المسافحه
مفسدةٍ لابن العجوز الصالحه
كأنها سفجة ألفٍ راجحه
الفيشة: رأس القضيب، والفيشلة في معناه، وليس من بنائه، لكنه من باب سبطٍ وسبطرٍ وما أشبهه. والرامح: صاحب الرمح. والنابل: صاحب النبل. ورمحت الدابة رمحاً: ضربت برجلها. ويقولون: برئت إليك من الجماح والرماح؛ لأن الجموح صلابة الرأس وأن يمضي الشيء لوجهه فلا يضبط. وفرسٌ جموحٌ وجامحٌ. والمصافحة أصله في الالتقاء والتسليم ووضع اليد في اليد. ويقال: لقيته صفاحاً، أي مفاجأةً. والقحبة: الفاجرة. وأهل اللغة يقولون: هو من القحاب: السعال، لأن مراودها إذا مشى في إثرها تقحب لتلتفت إليه، فيشير إليها بما يريد. والمسافحة:(1/1294)
الزانية، أصله من سفح الماء عند الجماع. وهذا كما يقال من المذى: ماذيته. واشتهر السفاح بمضادة النكاح.
آخر:
وفيشةٍ ليست كهذي الفيش
قد ملئت من خرقٍ وطيش
إذا بدت قلت أمير الجيش
من ذاقها يعرف طعم العيش
آخر:
لا أكتم الأسرار لكن أنمها ... ولا أترك الأسرار تغلي على قلبي
وإن قليل العقل من بات ليلةً ... تقلبه الأسرار جنباً إلى جنب
أنمها: أفشيها وأظهرها. وقوله " جنباً إلى جنب " في موضع الحال. والمعنى: يقلق في مضجعه محافظةً على السر، ولا يعركها بجنبه. ويجوز أن يكون بدلاً من الهاء في تقلبه.
آخر:
فجاءوا بشيخٍ كدح الشر وجهه ... جهولٍ متى ما ينفد السب يلطم
الكدح والخدش والخمش، تتقارب في المعنى. ويقال: نفد الشيء إذا فني، وأنفدته أنا.
وقالت قابلةٌ لامرأةٍ أخذها الطلق
واسمها سحابة
أيا سحاب طرقي بخير
وطرقي بخصيةٍ وأير
ولا تريني ظرف البظير(1/1295)
التطريق: أن يظهر عند الولادة طرقة الولد، وهي أطرافه: رأسه ويداه. ولك أن تروى " يا سحاب " بفتح الباء على أصل الترخيم، ولك أن تضمها نويت تمام الاسم بعد ذهاب الهاء ثم بنيت على الضم للنداء.
آخر:
فإنك إن ترى عرصات جملٍ ... بعاقبةٍ فأنت إذاً سعيد
لها عينان من أقطٍ وتمرٍ ... وسائر خلقها بعد الثريد
قوله " إن ترى " أتى بترى تاما وإن كان فى موضع الجزم. فهو كقول الآخر:
ولا ترضاها ولاتملق
وكقول الآخر:
ألم يأتيك والأنباء تنمى ... بما لاقت لبون بنى زياد
وجمل: اسم امرأة. وعرصة الدار وحرصتها بمعنى. ويكون الذى حذفه للجزم فى ترى حركة كانت فى النية فى موضع الرفع. وحروف المد تحذف من الأواخر، ليكون بين الأفعال وهى فى موضع الرفع وبينها وهى فى موضع الجزم فصل، فلذلك جاز أن تأتى بها تامة، ولولا ذلك لكان لحنا. وقوله " فأنت إذا سعيد " جمع بين الفاء وبين إذا فى جواب الشرط تأكيدا للجزاء، ولو قال فأنت سعيد، لكفى وأغنى، ويكون إذا للحال، كأنه يحكى الكائن من الأمر فى ذلك الوقت، وكذلك لو قال فأنت إذ سعيد، لجاز كما قال الهذلى:
بعاقبة وأنت إذ صحيح
وقوله " سعيد " يجوز أن يكون اسم الفاعل من سعد، ويجوز أن يكون فعيلا بمعنى مفعول، ويقال سعده الله بمعنى أسعده الله. وقوله " بعاقبة " أى بعقب ما(1/1296)
عرفتها ودفعت إليها. ومن روى " فأنت إذ " يريد فأنت إذ الأمر ذلك وفى ذلك الوقت. ونون إذ ليكون التنوين فيه عوضا مما كان يضاف إليه من الجمل. وعلى هذا حينئذ، ويومئذ.
آخر:
أنخ فاصطنع قرصا إذا اعتادك الهوى ... بزيت كما يكفيك فقد الحبائب
إذا اجتمع الجوع المبرح والهوى ... نسيت وصال الآنسات الكواعب
رواه بعضهم: " فاصطنع " كأنه يجعله من الصنع، كما قال الآخر:
إذا ما صنعت الزاد فالتمسي له ... أكيلا فإني لست آكله وحدى
وليس هذا بشئ، وإنما الرواية " فاصطبغ " من الصباغ وهو الأدم، يدل على صحة هذه الرواية قوله " بزيت ". ومثل هذا قول الآخر:
كل إذا كنت عاشقا ... ما تهيا من الدسم
وادفع الشوق والصدو ... د عن القلب بالتخم
وصاحب الأكل فى الهوى ... ليس يخشى من السقم
وقوله " كما يكفيك " رواه الكوفيون، ويقولون كما فى معنى كيما. ورووا أيضا حجة فيه قول الآخر:
إذا جئت فامنح طرف عينك غيرنا ... كما يحسبوا أن الهوى حيث تنظر
وأصحابنا البصريون يروونه " لكى يحسبوا ". وكذلك رووا البيت الأول " لكى يكفيك "، ولا يعرفون ما ذكروه. والآنسات: ذوات الأنس. والكواعب: اللاتى نهدت ثديها.
وقال آخر:
كأن ثناياها وما ذقت طعمها ... لبا نعجة سوطته بدقيق(1/1297)
يقال: سطت الشئ، إذا جمعته مع غيره فى الإناء وضربتهما حتى يختلطا. قال الدريدى: وبه سمى السوط الذى يضرب به لأنه يسوط اللحم بالدم.
آخر:
رمتنى بسهم الحب أما قذاذه ... فتمر وأما ريشه فسويق
يريد أنها كانت تطعمه التمر والسويق، فلذلك أحبها. والقذاذ: جمع القذة، وهى الريش، ويقال: قذذت السهم، إذا جعلت له قذاذا. وكان أبو زيد يجيز: أقذذت أيضا، وأباه الأصمعى. وكل شئ سويته وأصلحته فقد قذذته. والسهم الأقذ، الذى لا ريش له. ومن أمثالهم ما أصبت منه أقذ ولا مريشا.
آخر:
ألا رب خود عينها من خزيرة ... وأنيابها الغر الحسان سويق
الخود: المرأة الناعمة الجسم. والخزيرة: دقيق يلبك بشحم. وكانت العرب تعير بأكله. وقيل: إن المقصود بذلك بنو مجاشع وقريش، وهى السخينة.
آخر:
وما العيش إلا نومة وتشرق ... وتمر كأكباد الجراد وماء
آخر:
قامت تمطى والقميص منخرق
فصادف الخرق مكانا قد حلق
كأنه قعب نضار منفلق
تمطى، أراد تتمطى، أى تتمدد، فحذف إحدى التاءين. والنضار: شجر يتخذ من خشبه القصاع. ومثل هذا قول الآخر:
إذا قعدت مقعدا نبا بيه ... كالقدح المكبوب فوق الرابيه(1/1298)
آخر:
إذا اجتمع الجوع المبرح والهوى ... على الرجل المسكين كاد يموت
آخر:
يا رب إن قتلتها فعد لها
فلن تموت أو تشد قتلها
أراد إلا أن تشد قتلها وتبالغ فيه.
آخر:
وأبغض الضيف ما بى جل مأكله ... إلا تنفجه حولى إذا قعدا
ما زال ينفج جنبيه وحبوته ... حتى أقول لعل الضيف قد ولدا
قوله " إلا تنفجه " استثناء خارج. والتنفج قيل هو التجشؤ. ويقال: تنفج فلان، أى توسع فى جلوسه. ومنه: هو منتفج الجنبين. وهذا غرض الشاعر، بدلالة قوله: ما زال ينفج جنبيه وحبوته. والنفج: الكبر؛ وفى التنفج زيادة تكلف.
آخر:
وإنا لنجفو الضيف من غير عسرة ... مخافة أن يضرى بنا فيعود
قوله " فيعود " لم يعطفه على أن يضرى بنا، لكنه قصد به إلى الاستئناف، والمراد فهو يعود، ويقال: إن بعض المتحذلقين فى زمن الأصمعى خالفه فى هذا وزعم أن الشاعر تمدح بهذا ولم يتملح، وزعم أن المراد إنا لا نتكلف للضيف ولا نحتشد له، بل نقدم إليه ما يحضرنا لئلا ينفر من احتشامنا له، فينقبض عنا، ولا يعود إلينا. قال: ومعنى " مخافة أن يضرى " أن لا يضرى بنا، ولا مضمرة، كما قال الله عز وجل: " يبين الله لكم أن تضلوا ". وهذا كما تكلف(1/1299)
بعضهم القول فى قوله:
قوم إذا استنبح الأضياف كلبهم ... قالوا لأمهم بولى على النار
وزعم أنه مدح مع اتفاق الناس على أنه أهجى بيت.
آخر ونظر إلى جارية سوداء تخضب كفها فقال:
تخضب كفا بتكت من زندها
فتخضب الحناء من مسودها
كأنها والكحل فى مرودها
تكحل عينيها ببعض جلدها
وقوله " بتكت من زندها " منقطع مما قبله، كأنه خبر عنها، ثم دعا على كفها. ولا يجوز أن يتصل بما قبله، لأنه حينئذ يكون واقعا موقع الصفة للكف، والأمر والنهى والدعاء لا تكون صفات ولا صلات ولا أخبارا إلا بتأويل.
وقوله " فتخضب الحناء من مسودها "، يريد أن سواد لونها يغير من الحناء فيخضبه. والحناء وزنه فعال، والهمزة منه أصلية، بدلالة قولهم: حنأته بالحناء.
وقوله " فى مرودها " استقبح الزحاف فشدد الدال، ومثله:
تعرض المهرة فى الطول
آخر:
لعمرى لقد حذرت قرطا وجاره ... ولا ينفع التحذير من ليس يحذر
نهيتهما عن نورة أحرقتهما ... وحمام سوء ماؤه يتسعر
فما منهم إلا أتانى موقعا ... به أثر من مسها يتقشر(1/1300)
أجد كما لم تعلمنا أن جارنا ... أبا الحسل بالصحراء لا يتنور
ولم تعلما حمامنا ببلادنا ... إذا جعل الحرباء بالجذل يخطر
قوله " أتانى موقعا "، انتصب على الحال. ويقال: بعير موقع الظهر، إذا كان به آثىر الجرب. ورجل موقع، إذا كان به آثار الجراح. قال:
مثل الحمار الموقع السوء لا ... يحسن مشيا إلا إذا ضربا
وقوله " لا يتنور " الأجود في هذا أن يقال: لا يتنأر، وقد قيل تنور أيضا.
وقوله " أجد كما " انتصب على المصدر من فعل مضمر، كأنه قال: أتجدان جد كما.
وذكره سيبويه فى باب ما ينتصب من المصادر توكيداً لما قبله، كقولك هذا زيدٌ حقاً لا باطلاً، وهذا القول لا قولك، وهذا زيدٌ غير ما تقول، والتقدير: هذا القول لا أقول قولك. قال سيبويه: ومثله في الاستفهام أجدك لا تفعل كذا، ولا يستعمل إلا مضافاً، والتقدير أجداً لك. وجرى هذا مجرى ما لزمته الإضافة نحو لبيك وما أشبهه، ومعاذ الله. والمعنى أعلى جدٍ لم تعلما ما ذكرت. والحرباء أعظم من العظاءة، وهو أغبر ما دام صغيراً، ثم يصفر إذا كبر، فإذا حميت الشمس عليه أخذ جلده يخضر. ولذلك قال ذو الرمة لما وصفه:
ويخضر من لفح الهجير غباغبه
وقال الطرماح:
وانتمى ابن الفلاة في طرف الجذ ... ل وأعيا عليه ملتحده
وابن الفلاة: الحرباء. والجذل: العود وأصل الشجرة. وقال آخر:
أنى أتيح له حرباء تنضبةٍ ... لا يرسل الساق إلا ممسكاً ساقا(1/1301)
تنضبةٌ: شجرة. والحرباء يستقبل الشمس فيدور معها في سوق الأشجار.
وقوله " جعل الحرباء " بمعنى طفق.
وقوله " لا يرسل الساق " مثلٌ للملحف الذي لا يقضي حاجةً إلا سأل أخرى.
آخر:
ألا فتىً عنده خفان يحملني ... عليهما إنني شيخٌ على سفر
أشكو إلى الله أحوالاً أمارسها ... من الجبال وأني سيئ النظر
إذا سرى القوم لم أبصر طريقهم ... إن لم يكن لهم ضوءٌ من القمر
يروى " إنني شيخٌ على سفر " بكسر الهمزة على الاستئناف، ويروى " أنني " بفتح الهمزة، والمعنى لأنني شيخ.
وقوله " لم أبصر طريقهم "، يريد أنه لا جادة في بلادهم. وهذا خلاف قول الآخر:
.......ترى ... للسائلين إلى أبوابه طرقا
كأنه عيرهم متملحاً.
؟
وقالت جارية في جارية تسبها
سبي أبي سبك لن يضيره
إن معي قوافياً كثيره
ينفح منها المسك والذريرة
يروى " سبك لي بصيره ". وإذا رويت " سبك لي بصيرة " يرتفع سبك بالابتداء. وتنصب سبك على المصدر، أي كما تسبينني، فسبي أبي أيضاً، و " بصيرة " على النداء.(1/1302)
وقالت أخرى:
إن أباك زهزقٌ دقيق
لا حسن الوجه ولا عتيق
تضحك من طرطبه العنوق
الزهزق: اللئيم الدقيق الحسب. والعتيق: الكريم الرائع من كل شيء. والفعل منه عتق عتقاً. والطرطب: صوت الراعي إذا سكن معزاه. والعنوق: إناث أولاد العزى، أي كأنها تسر لفعلته تلك. ويروى: " تضحك من طرطبه العبوق "، وذكر أن المخاطب كان لثديه حلمة طويلة - والضرع الطويل يقال له الطرطب - وأن العبوق امرأةٌ. يريد أنها تسخر منه وتعجبها خلقته.
وقالت أخرى:
يا رب من عادى أبي فعاده
وارم بسهمين على فؤاده
واجعل حمام نفسه في زاده
وقالت أم النحيف
لعمري لقد أخلفت ظني وسؤتني ... حزت بعصياني الندامة فاصبر
ولا تك مطلاقاً ملوماً وسامح ال ... قرينة وافعل فعل حرٍ مشهر
فقد حزت بالورهاء أخبث خبثةٍ ... فدع عنك ما قد قلت يا سعد واحذر
تربص بها الأيام عل صروفها ... سترمي بها في حاجمٍ متسعر
فكم من كريمٍ قد مناه إلهه ... بمذمومة الأخلاق واسعة الحر
فطاولها حتى أتتها منيةٌ ... فصارت سفاةً جثوةً بين أقبر
فاعقب لما كان بالصبر معصماً ... فتاةً تمشى بين إنبٍ ومئزر
مهفهفة الكشحين محطوطة الحشا ... كهم الفتى في كل مبدىً ومحضر(1/1303)
لها كفلٌ كالدعص لبده الثرى ... وثغرٌ نقيٌ كالأقاحي المنور
كأن المخاطب كتان تزوج بامرأةٍ لم ترضها له، فلم تحمد العاقبة، فأخذت توبخه في الخلاف عليها، والعصيان لها، وتشير عليه بمصابرتها وإن لم يستوقفها منتظراً ريب الزمان وأحداثه فيها. فقالت: عاملها معاملة الأحرارالكرام، فلا تطلقها وإن تك وإن تك قد حزت بها ورهاء، وهي الحمقاء. وأصل الوره الخرق في كل عمل. ويقال: توره الرجل في عمله. وقولها " أخبث خبثةٍ " فالخبيث نعت كل فاسد، وكذلك الخابث. وقد استعمل الخبثة في العجوز أيضاً. والأخبثان: البهر والسهر، وقيل الرجيع والبول.
وقولها " دع عنك ما قد قلت "، كأنه كان هم بمباينتها فأنكرت ذلك وقالت تربص بخها. والجاحم: النار الشديدة التأجج. ومنه جاحم الحرب، وجحمت النار والحرب جحمةً: اشتدت. والسفاة: التراب. والجثوة: الكبة منه. والإنب: الدرع. وأعصم من الشر واعتصم: التجأ وامتنع. محطوطة الحشا، أي كأنها قد صقلت بالمحط، وهو ما يحط به السيف والجلد. والمهفهفة: الخميصة البطن الدقيقة الخصر.
وقولها " كهم الفتى " أي كما يهواه ويهم به حيثما تصرف. والدعص: المجتمع من الرمل. ولبده: صلبه. يعني أن لحمها في تراكمه واكتنازه كذلك.
وقال أبو الطمحان الأسدي
وبالحيرة البيضاء شيخٌ مسلطٌ ... إذا حلف الأيمان بالله ربت
لقد حلقوا منها غدافاً كأنه ... عناقيد كرمٍ أينعت فاسبكرت
فظل العذارى يوم تحلق لمتي ... على عجلٍ يلقطنها حيث خرت(1/1304)
برت اليمين براً، وهي بارة وبرةٌ، وأبررتها أنا. قال:
إني حلفت على يمينٍ برةٍ
ويقال: ينعت الثمرة، إذا نضجت، وأينعت أيضاً. واسبكرت: استرخت ولانت. وخرت: سقطت خروراً. وخر الاماء خريراً. شبه الشعر في طوله ولينه ولونهبعناقيد من الكرم استرسلت.
وقوله " لقد حلقوا منها "، أي من الهامة. والغداف: الأسود، ووصفه به الغراب لذلك. وظل العذارى، بمعنى صار. وإنما التقطن لمتها لحسنها وولوعهن بها من قبل.(1/1305)
باب مذمة النساء
قال بعضهم:
دمشق خذيها واعلمي أن ليلة ً ... تمر بعودى نعشها ليلة القدر
أكلت دماً إن لم أرعك بضرةٍ ... بعيدة مهوى القرط طيبة النشر
أظهر التضجر بها وبالكون معها، وطلب الخلاص منها، وبعث البلدة على أخذها وقبضها إلى نفسها. وقوله " تمر بعودى نعشها " إن جعلت الفعل لدمشق اقتضى أن يكون في قوله تمر بعودى نعشها ضميرٌ يرجع إلى ليلةٍ، والمراد تمر بعودى نعشها فيها ليلة القدر. فإن جعلت الفعل لليلة يكون المعنى أن الليلة التي تموت فيها أوتميتها تحل منها في عظم موقعها محل ليلة القدر التي هي خيرٌ من ألف شهر ليس فيها ليلة القدر. وجاء في الخبر أنه إنما عظم موقعها لأن الله تعالى أنزل فيها جملة القرآن إلى سماء الدنيا، ثم أنزل منها نجوماً الشيء بعد الشيء على ما عرف من المصلحة فيه.
وقوله " أكلت دماً " يجري مجرى اليمين، وإن كان لفظه لفظ الدعاء. وأكل الدم يسوغ عند الإشفاء على الهلكة وجهد البلاء في الإعواز. والمعنى: إن لم أفزعك(1/1306)
بأن أتزوج بامرأةٍ حسنة السالفة، طيبة الرائحة، فابتلاني الله تعالى بما يحل معه أكل الدم.
آخر:
سقى الله داراً فرق الدهر بيننا ... وبينك فيها وابلاً سائل القطر
ولا ذكر الرحمن يوماً وليلةً ... ملكناك فيها لم تكن ليلة البدر
دعا للدار بينهما بالسقيا الغزيرة وعلى ما جمع بينهما من أيام الدهر ولياليها بمنعها الخير، وحرمانها الحيا والقطر، ثم قال " فيها " فرد الضمير على أحدهما واختار الأقرب، إذ علم أن المعطوف والمعطوف عليه يستويان في الإخبار. ومثله قوله تعالى " والذين يكنزون الذهب والفضة ولا ينفقونها في سبيل الله ". وقوله " لم تكن ليلة البدر " من صفة الليل، أي كانت تلك الليلة مظلمةً لا نور فيها ولا سعود. ومعنى " ولا ذكر الرحمن "، أي لا تعطف عليها، ولا قسم لها خيرا.
وقال آخر في امرأتين تزوج بهما
رحلت أنيسة بالطلاق ... وعتقت من رق الوثاق
بانت فلم يألم لها ... قلبي ولم تبك المآقي
ودواء ما لا تشتهيه ال ... نفس تعجيل الفراق
لو لم أرح بفراقها ... لأرحت نفسي بالإباق
وخصيت نفسي لا أري ... د حليلةً حتى التلاقي
يريد: طلقتها فبانت مني وفارقتني، فصرت حراً عتيقاً. ومعنى " رق الوثاق "، يريد أني كنت كالموثق الأسير ففككت وثاقي، وجعل البكاء للمآقي مجازاً، وهو جمع المؤقي على وزن المعقي، وهو طرف العين الذي يلي الأنف، وهو مخرج الدمع، فلذلك جعل الفعل لها. وفي هذه اللفظة عدة لغات: مأقٌ على وزن المعق وجمعه آماقٌ، وماقٍ على زنة قاضٍ والجميع مواقٍ. وحكى أبو زيد ماقئٌ والجمع(1/1307)
مواقئ. وقال امرؤ القيس في المآقي:
شقت مآقيهما من أخر
وحكى يعقوب " في المنطق " عن الفراء، أنه ليس في كلام العرب مفعلٌ بكسر العين إلا حرفان: مأقي العين، ومأوي الإبل، وهذه اللفظة على اختلاف اللغات قد عملتها مسألةً، وتكلمت في وجوهها، وبينت خطأ من وزن مأقي العين بمفعلٍ بكسر العين. وقوله " تعجيل الفراق "، يريد تعجيل فراقه، فجعل اللفظ عاماً، والمراد الخاص، وعلى هذا قوله " من رق الوثاق "، يريد وثاقها. والإباق: الهرب. والراحة: وجدانك الروح بعد مشقةٍ. وما لك رواح، أي راحة. والتراويح في رمضان منه، وكذلك قولهم: تراوحته الأمطار، وأفعل ذلك في سراحٍ ورواحٍ. والحليلة: الزوجة، سميت بذلك لأنها تحال بعلها، أي تنازله وينازلها، وقوله " حتى التلاقي "، أي إلى وقت تلاقي الخلق في يوم القيامة.
وانعطف " وخصيت " على قوله " لأرحت نفسي ". وموضع لا أريد نصبٌ على الحال، والعامل فيه خصيت.
وقال آخر:
ألمم بجوهر بالقضبان والمدر ... وبالعصي التي في روسها عجر
ألمم بها لا لتسليم ولا مقةٍ ... إلا ليكسر منها أنفها الحجر
ألمم بوطباء في أشداقها سعةٌ ... في صورة الكلب إلا أنها بشر
حدباء وقصاء صيغت صيغةً عجباً ... وفي ترائبها عن صدرها زور
الإلمام: الزيارة الخفيفة، والباء من قوله " بجوهر " تعلق به. وقوله " بالقضبان " أي والقضبان معك، وهذا كما يقال: خرج بسلاحه، أي والسلاح عليه. والعجر: جمع عجرة، وهي العقدة، وخيطٌ عجرٌ وعصاً عجراء: فيهما عقد. وقالوا في روس جمع رأس. لأنه جمع فعلاً على فعل، كقولهم سقفٌ وسقف، ورهنٌ ورهن.(1/1308)
وقد أقوى في بيتٍ واحد، فهو أقبح.
وقال " في أشداقها " جمعاً على ما حواليه، كما يقال هو ضخم العثانين. والوطباء: العظيمة الثديين، وهي فعلاء ولا أفعل لها. ومثله ديمةٌ هطلاء، والحلواء. وقد مر نظيره. وقوله " إلا أنها بشر "، البشر يقع على الواحد والجمع، ويتناول الإنس دون سائره. والوقصاء: القصيرة العنق. والترائب: جمع التريبة، وهي موضع القلادة. وإنما يصف اعوجاجها في خلقتها وهزالها.
آخر:
تمت عبيدة إلا في محاسنها ... والملح منها مكان الشمس والقمر
قل للذي عابها من عائبٍ حنقٍ ... أقصر فرأس الذي قد عيب والحجر
قوله " تمت عبيدة إلا في محاسنها "، أطلق القول بتمامها، ثم استثنى المحاسن من خصالها، فخلص التمام في المقابح لا غير. وقوله " والملح منها مكان الشمس "، لك أن تنصب مكان على الظرف، يريد أن الملح بعيد، فهو في السماء، ولك أن ترفعه كما تقول: هو مني فرسخان، فتجعل الملح منها نفس السماء، كما تجعل المخبر عنه في قولك: هو مني نفس الفرسخين، وعلى هذا ينعطف قوله " والقمر "، فإما أن تجري على موضع مكان وقد نصب لأنه وهو ظرفٌ في موضع الرفع، وإما أن تجري على لفظ مكان وقد رفع لأنه يصح أن يقال الملح منها القمر كما يصح أن يقال الملح منها مكان القمر. وإذا جررت " والقمر " كان معطوفاً على الشمس، ويكون الشاعر مقوياً في البيت الذي بعده.
وقوله: " فرأس الذي قد عيب "، أي رأس الإنسان الذي قد عيب، لذلك لم يقل فرأس التي. وعطف الحجر على الرأس على أحد وجهين: إما أن يريد رأسه والحجر مقرونان على طريق الدعاء لا على طريق الإخبار، فحذف الخبر لأن المراد مفهوم. وهذا كما يقال: كل امرىءٍ وشأنه. وإما أن يريد بالواو معنى مع، كأنه قال رأسه مع الحجر وحينئذ يكون الخبر في الواو، وهذا يكون كقولهم: الرجال وأعضادها، والنساء وأعجازها، لأن المراد الرجال بأعضادها والنساء بأعجازها. وإنما(1/1309)
قال: " قل للذي عابها من عائبٍ حنق " تخفيفاً لقبحها وتسليماًلاتنهاء عيبها. والحنق: أشد الغيظ.
وقال آخر:
لا تنكحهن الدهر ما عشت أيما ... مجربةً قد مل منها وملت
تحك قفاها من وراء خمارها ... إذا فقدت شيئاً من البيت جنت
تجود برجليها وتمنع ردها ... وإن طلبت منها المودة هرت
قوله " لا تنكحن " أراد بالنكاح العقد لا الجماع. والأيم: التي قد مات عنها زوجها. وقد آمت تئيم أيمةً.
وقوله " قد مل منها وملت " يريد أنها طعنت في السن، فقضت مآرب الشهوات وقضيت منها.
وقوله " تحك قفاها من وراء خمارها " أي تركت التنظف والتنطس، ونسيت الحياء والأنفة، فرأسها تحكها دائباً، ومحبتها للحقير تجننها، حتى إذا فقدت ما لا خطر له، كان عندها كالكبير الذي لاعوض منه.
وقوله " تجود برجليها وتمنع درها "، ويجوز أن يكون مثلاً لقلة خيرها، فشبهها بالشاة التي تفاج رجليها، فإذا أريد حلبها منعت. ويجوز أن يكون المراد أنها قعدت عن الولاد فهي تساعد في الجماع ولا تحمل ولا تلد.
وقوله " وإن طلبت منها المودة هرت " يريد أنها لا يبتغى عندها من نتائج الود وأسباب الشفقة والحب شيء إلا نبحت نبيح الكلاب. ويجوز أن يريد بهرت كرهت وتقبضت.
آخر:
لأسماء وجهٌ بدعةٌ من سماجةٍ ... يرغبني في نيك كل أتان
بدا فبدت لي شقةٌ من جهنمٍ ... فقمت ومالي بالجحيم يدان
وغادرت أصحابي الذين تخلفوا ... بما شيت من خزيٍ وطول هوان
وما كنت أدري قبلها أن في النسا ... جحيماً أراها جهرةً وتراني(1/1310)
قوله " بدا " الفعل للوجه، وشقه، أي قطعة. ولك أن ترويه بكسر الشين، فيكون كصرمة وكسرة وجذوةٍ وقطعةٍ وفدرةٍ، ولك أن تضم الشين فيكون كالشعبة والعجرة والعقدة؛ فاروه كيف شئت. وقوله " فقمت ومالي بالجحيم يدان " أي تهيأت للهرب منها، إذ لم يكن لي طاقةٌ بالصبر عليها، ولا قوة في ملاقاتها.
وقوله " وغادرت أصحابي " كأنه شايعه في النهضة قومٌ وتخلف عنه قوم، فقال: من تخلف عني كانت حاله على ذلك.
آخر:
لا تنكحن عجوزاً إن أتيت بها ... واخلع ثيابك منها ممعناً هربا
فإن أتوك وقالوا إنها نصفٌ ... فإن أمثل نصفيها الذي ذهبا
المراد بالنكاح العقد ههنا، وفي القرآن: " فانكحوا ما طاب لكم من النساء مثنى وثلاث ورباع ". وقوله " واخلع ثيابك " يجوز أن يكون مثل قول امرئ القيس:
فسلى ثيابي من ثيابك تنسل
وكما يقال ضم إليك من كذا جناحك. ويجوز أن يريد به تشمر وتخفف واخرج من مسكك. ومعنى " منها " أي من أجلها. ونصب " ممعناً " على الحال. ويقال: أمعن في السير، إذا أبعد. و " هرباً " يريد هاربا. وإنما سامه ما سامه ليكون أخف سيراً وأسرع حراكا.
وقوله " فإن أمثل نصفيها " أي أصلحهما، ويقال: فلانٌ أمثل من فلان، أي هو أدنى منه إلى الخير. وأماثل القوم: خيارهم.
آخر:
رقطاء حدباء يبدي الكبد مضحكها ... قنواء بالعرض والعينان بالطول(1/1311)
لها فمٌ ملتقى شدقيه نقرتها ... كأن مشفرها قد طر من فيل
أسنانها أضعفت في خلقها عدداً ... مظهراتٍ جميعاً بالرواويل
الرقطاء: المنقشةبالبرش. والقنا: طول الأنف، وإذا كان بالعرض كان كأنف الخنزير.
وقوله " ملتقى شدقيه نقرتها "، أراد أنها لسعة فمها يلتقيان عند نقرة القفا. ومعنى طر قطع. وقوله " مظهرات " أي جعل لها ظهارةٌ كما يجعل للفرش ظهارة، وكما قيل من الظهارة ظهر قيل من البطانة بطن، ويجوز أن يكون من قولك هو ظهيرك أي معينك. ويقال: بعير مظهرٌ، أي شديد الظهر قويٌ. والظهر: ما غلظ من الأرض وارتفع، والظاهرة مثله، وهما مما تقدم. والرواويل: زوائد على عدد الأسنان، والواحد راوول.
آخر:
اصرميني يا خلقة المجدار ... وصليني بطول بعد المزار
فلقد سمتني بوجهك والوص ... ل قروحاً أعيت على المسبار
ذقنٌ ناقصٌ وأنفٌ غليظٌ ... وجبينٌ كساجة القسطار
طال ليلي بها فبت أنادي ... يالثارات مستضاء النهار
قامة القصعل الضعيف وكفٌ ... خنصراها كذينقا القصار
قوله " يا خلقة المجدار " يريد أنت غليظةٌ ثقيلة، فكأنك في غلظ الجدار وثقله، وكما قيل من الجدار مجدارٌ قيل في الغليظ الثقيل من الجبل مجبال. وقال امرؤ القيس:
إذا ما الضجيع ابتزها من ثيابها ... تميل عليه هونةً غير مجبال
ومفعال من أبنية الآلات، فهو كالمفتاح والمقياس والمدراك، وكان الأصل في الجدر الارتفاع والنتو. ويقال: جدرت الجدار. وقال بعضهم: الجدري منه اشتق.
والقروح: الجراح. والمسبار: الملمول الذي يقدر به الجرح وغوره، وهو من سبرت، وتوسع في استعماله حتى وضع موضع جربت. والقسطار: الصيرفي، وساجته: لوحه الذي يقوم عليه كفتا الشاهين إذا وزن به.(1/1312)
وقوله " يالثارات " يا حرف النداء، واللا لام الاستغاثة. وإنما يستغيث بمن يرد عليه النهار.
والقصعل: القصير، والخليل أهمله وكذلك الخارزنجي والدريدي. والضئيل: الدقيق. ورواء بعضهم: " قامة الفصعل "، بالفاء، وهو العقرب الصغير، والرجل اللئيم. والمراد أن في أعضائها تفاوتاً فلا يتلاءم خلقها.
آخر:
ألام على بغضي لما بين حيةٍ ... وضبعٍ وتمساحٍ تغشاك من بحر
تحاكي نعيماً زال في قبح وجهها ... وصفحتها لما بدت سطوة الدهر
هي الضربان في المفاصل خالياً ... وشعبة برسامٍ ضممت إلى النحر
إذا سفرت كانت بعينك سخنةً ... وإن برقعت فالفقر في غاية الفقر
وإن حدثت كانت جميع مصائبٍ ... موفرةً تأتي بقاصمة الظهر
حديثٌ كقلع الضرس أو نتف شاربٍ ... وغنجٌ كحطم الأنف عيل به صبري
وتفتر عن قلحٍ عدمت حديثها ... وعن جبلي طيٍ وعن هرمي مصر
جمع بين الحية والضبع والتمساح، لأنه ليس يقصد التشبيه من وجهٍ واحد، وإنما يريد التشبيه من وجوهٍ كثيرة من الخلق والخُلُق. والتمساح: الدابة المعروفة، والرجل الكذاب. وجاء على هذا البناء شيءٌ من الأسماء قليل لأن المصادر كلها على تفعال بفتح التاء، إلا حرفين وهما تبيان وتلقاء، وقد حصرتها في كتابي المسمى ب " عنوان الأديب ".
وقوله " تحاكي نعيماً زال "، يريد به المثل السائر: " أقبح من روال النعمة ". يريد: تحاكي في قبح وجهها قبح زوال النعمة، فجعل اللفظ توسعاً على ما ترى، ثم جعل جانبها وما تصافح به ملاقيها كسطوة الدهر. والسطوة: البسط على الإنسان تقهره من فوق، وتقول: سطوت به، وفي القرآن: " يكادون يسطون بالذين يتلون ". قال الخليل: سمي الفرس ساطياً لأنه يسطو على غيره فيقوم على رجليه ويسطو على يديه. وقوله " هي الضربان في المفاصل خالياً "، أي(1/1313)
إذا خلوت بها كانت خلوتها كموجان العروق بالألم في مفاصل المنقرس، وإن جذبتها إلى نفسك مرتدياً بها قاسيت منها ما يقاسي المبرسم من عارضه، وإن ألقت قناعها سخنت العين بالنظر إليها. كأنها إذا تبرقعت تناهى افتقارك من كل منظرٍ يروق، ومطلع يعجب ويروع، في رد الطرف إليها. وقوله " فالفقر في غاية الفقر "، أي إذا تناهى الفقر، حتى لا يكون وراءه شيءٌ منه.
والمصائب: جمع مصيبة، وهي مفعلةٌ، وشبه مدتها بمدة فعيلة، وجمعت جمعها، والقياس مصاوب وقد جاء ولكنه في الاستعمال دون مصائب. وهذا مما شذ في القياس، أعني مصائب. ومصاوب شاذٌ في الاستعمال مطرد في القياس. وموفرة، أي مكملة. وقاصمة: كاسرة، أي رزية هكذا وداعية هكذا.
وقوله " كحطم الأنف "، الكسر للشيء اليابس. والحطام، ما تحطم، من ذلك. ورجل حطمٌ. وعيل به صبري، أي غلب. وفي المثل: " عيل ما هو عائله ".
وقوله " عدمت حديثها " دعاءٌ لنفسه وعليها، وهو من الحشو الحسن. ومثله في الدعاء وحسن الموقع قول الآخر:
إن الثمانين وبلغتها ... قد أحوجت سمعي إلى ترجمان
وتفتر، أي تضحك، ومنه فررت الدابة. وقوله " جبلي طيٍ " يعني أجأ وسلمى، وإنما يعني اختلاف أسنانها وعظمها.
آخر:
لو تسمعت صوته قلت هذا ... صوت فرخٍ في عشه مزقوق
أو تأملت رأسه قلت هذا ... حجرٌ من حجارة المنجنيق
معملٌ قرض لحيةٍ لو تراها ... قلت عثنون هربذٍ محلوق
لم أعبه ألا يكون تقياً ... مؤمناً مبغضاً لأهل الفسوق
غير أني أردت أن ينظر النا ... س إلى خلق ربنا المخلوق(1/1314)
مزقوق أي يزقه أبواه زقاً. قال:
نتساقى الريق فيما بيننا ... زق أمات القطا زغب القطا
وقوله " قلت هذا حجر "، يريد شبهته فقلت من كبره: هو حجر المنجنيق.
والمنجنيق معربة، وقد اختلف في الفعل منه، فقال بعضهم: الميم زائدة، واحتج بما حكاه النوزي عن أبي عبيدة، قال: سألت أعرابياً عن حروبٍ كانت بينهم، فقال: " كانت بيننا حروبٌ عونٌ، تفقأ فيها العيون، مرة نجنق، ومرة نرشق ". قال: فقوله نجنق دالٌ على أن الميم زائدة، ولو كانت أصليةً لقال نمنجق. وإلى هذا ذهب الدريدي.
وكان أبو عثمان المازني يقول: الميم من نفس الكلمة، والنون زائدة، لقولهم مجانيق، فسقوط النون في الجمع كسقوط الياء في جمع عيضموز إذا قلت عضاميز. وحكى الفراء: جنقوكم بالمجانيق أيضاً. فهذا على الوجه الأول.
وقوله " معملٌ قرض لحيةٍ " أي قطع لحية. و " لو تراها " حمل اللفظ على اللحية والمراد منبتها. والعثنون: أصل اللحي، وأوائل الريح والسحاب.
وقوله " خلق ربنا المخلوق "، وصف الخلق بالمخلوق تأكيداً، ويجوز أن يكون المراد خلق ربنا المقدر، لأن الأصل في الخلق التقدير. ألا ترى قوله:
ولأنت تفري ما خلقت وبع ... ض القوم يخلق ثم لا يفري
آخر:
وأقسم لو خرت من استك بيضةٌ ... لما انكسرت لقرب بعضك من بعض
الخرور: السقوط للوجه. وخر الماء المكان: جعل فيه أخاديد.
والخرخار: الماء الكثير الجاري.(1/1315)
آخر:
أظن خليلي من تقارب شخصه ... يعض القراد باسته وهو قائم
آخر:
ولقد غدوت بمشرفٍ يافوخه ... عسر المكرة ماؤه يتدفق
أرنٍ يسيل من النشاط لعابه ... ويكاد جلد إهابه يتمزق
كأنه ألغز في هذا، وأراد بمشرف اليافوخ ذلك العضو.
وروي أن أعرابياً حضر مجلس أبي عبيدة، فألقى البيتين عليه، فذهب أبو عبيدة إلى أن الشاعر يصف به فرساً، وأخذ يفسره، فقال الأعرابي: حملك الله يا شيخ على مثله! ففطن أبو عبيدة وخجل. ومعنى يتدفق يتصبب شيئاً فشيئاً. والأرن النشيط، ويقال للمستن من النشاط: أرن يأرن أرناً. وقيل إن الأرن نشاط الخيل، كما أن الهبص نشاط الظباء. والسنن: نشاط الإبل، ومنه جاء في المثل: " استنت الفصال حتى القرعى ". والأشر: نشاط الإنسان. والإهاب: الجلد الذي هو أهبة ما وراءه من اللحم. كما أنه سميما يمسكه المسك. ولذلك قال " جلد إهابه " فأضاف الجلد إليه.
آخر:
لو تأتى لك التحول حتى ... تجعلي خلفك اللطيف أماما
ويكون الأمام ذو الخلقة الجب ... لة خلفاً مركناً مستكاما
لإذا كنت يا عبيدة خير ال ... ناس خلفاً وخيرهم قداما
يصفها بأنها قليلة اللحم على العجيزة، عظيمة البطن. فيقول: لو قدم مؤخرك وأخر مقدمك لارتضي خلفك وقدامك، لالتئام أعضائك، واعتدال مقاسمك. واستعمل الخلف والأمام استعمال المقدم والمؤخر فجعلا اسمين. والمركن: الذي له أركان. والجبلة: الغليظة. والمستكام، من الكوم، وهو الجماع. وانتصب خلفاً وقداماً على التمييز.(1/1316)
وأنشد لأبي الغطمش أبو عبيدة
منيت بزنمردةٍ كالعصا ... ألص وأخبث من كندش
تحب النساء وتأبى الرجال ... وتمشي مع الأخبث الأطيش
لها شعر قردٍ إذا ازينت ... ووجهٌ كبيض القطا الأبرش
وثديٌ يجول على نحرها ... كقربة ذي الثلة المعطش
يروى " زنمردةٍ " بفتح الزاي وكسر الميم، ويكون مما عرب ولا نظير له في أبنية العرب. ويروى بفتح الزاي وفتح الميم ويكون على مثال قهقرٍ، وهو حجرٌ يملأ الكف. ويروى " زنمردةٍ " بكسر الزاي وفتح الميم فيكون على وزن فعلةٍ من الرباعي نحو علكدٍ، وهو الغليظ الشديد، أو يكون فعللٌّ من الخماسي نحو خنزقرٍ، وهو القصير، وقرطعبٌ دابة. والمراد بها المرأة التي خلقها وخُلُقها كما يكون للرجال. وشبهها بالعصا لقلة لحمها وهزالها، واستواء صدرها وظهرها. وكندشٌ: لقب لصٍ كان معروفاً عندهم. وقوله " إذا ازينت " أراد تزينت، فأراد الإدغام فيها وأبدل من التاء زاءً فسكن أولها، فجلب ألف الوصل ليتوصل إلى النطق بساكن، فصار كما ترى. والثلة: الفرقة والطائفة من الضأن. والمعطش: الراعي الذي قد عطشت رعيته.
لها ركبٌ مثل ظلف الغزال ... أشد اصفراراً من المشمش
وأبرد من ثلج ساتيدما ... وأكثر ماءً من العكرش
وفخدان بينهما نفنفٌ ... تجيز المحامل لا تخدش
وساقٌ مخلخلها حمشةٌ ... كساق الجرادة أو أحمش
كأن الثآليل في وجهها ... إذا سفرت بدد القشمش
لها جمةٌ فرعها جثلةٌ ... كمثل الخوافي من المرعش(1/1317)
الركب: أصل الفخذ الذي عليه لحم الفرج من المرأة ومعلق الذكر من الرجل. والنفنف: المهواة ببين الجبلين. والخدش والخمش والكدح نظائر. والحمشة: الدقيقة. وإنما أنث والمخلخل مذكر لأن المخلخل من الساق، والساق مؤنثة، وبعض الشيء إذا أطلق عليه اسم الكل أجري في الأحوال مجراه إلا أن يمنع مانع. وهذا كما قال الآخر:
كما شرقت صدر القناة من الدم
لأن صدر القناة قناة، كما أن المخلخل يقال له الساق. فالبدد: جمع بدةٍ، وهي القطعة المتفرقة. وتباد القوم: تباعدوا. والجمة من الشعر: دون اللمة في الطول. والجثلة: الكثيرة الأصول. والمرعش: الحمام الأبيض. والخوافي: ما دون الريشات العشر.
وقال آخر:
ماذا يؤرقني قدماً ويسهرني ... من صوت ذي رعثاتٍ ساكن الدار
كأن حماضةٌ في رأسه نبتت ... في أول الصيف قد همت بإثمار
قوله " ماذا يؤرقني " لفظه استفهامٌ ومعناه تعجب. وقد مر القول في لفظه ماذا. وقوله " من صوت ذي رعثاتٍ " أي من انتظار صوته، فحذف المضاف. ورعثات: جمع رعثةٍ وهي من الديك عثنونه. ورعثة الشاة: زنمتها. والرعاث: كل معلاقٍ من قرطٍ أو قلادة أو غيرهما، وربما علق من الرحل والهودج رعثٌ من الصوف. والحماض، من ذكور البقل، له زهرةٌ حمراء كأنها الدم. والإثمار: إخراج الثمر. وشبه عرف الديك به.
وقال آخر:
صوت النواقيس بالأسحار هيجني ... بل الديوك التي قد هجن تشويقي(1/1318)
كأن أعرافها من فوقها شرفٌ ... حمرٌ بنين على بعض الجواسيق
على نعانع سالت في بلاعمها ... كثيرة الوشي في لينٍ وترقيق
كأنما لبست أو ألبست فنكاً ... فقلصت من حواشيه عن السوق
قوله " صوت النواقيس " أي انتظار صوت النواقيس هيجني، فحذف المضاف. وهذا كما قال الآخر:
لما تذكرت بالديرين هيجني ... صوت الدجاج وقرعٌ بالنواقيس
وقال غيرهما:
وصوت نواقيس لم تضرب
فنبه بقوله " لم تضرب " على أنه كان منتظراً لا واقعاً. والجواسيق: جمع الجوسق، وهي قريبة من القصور. وأشبع الكسرة في السين فتولد منها ياء. ومثله:
نفي الدراهيم تنقاد الصياريف
والنعانع: أعراف الديكة. وأصل التنعنع الاضطراب. لذلك قيل للطويل المضطرب النعنع. ونعانع المنطقة: ذنابها. والبلعوم والبلعم: مجرى الطعام، وباطن العنق.
وهذه المقطوعة وما قبلها، باب الصفات أولى بهما، فاتفق وقوعهما هنا.
وهذا آخر الاختيار. والحمد لله رب العالمين، ووصلواته على النبي محمدٍ وآله أجمعين.
قد سهل الله وله الحمد، تعالى جده، بلوغ المنتظر من تتميم شرح هذا الاختيار، والله بمنه وطوله ينفعك وإيانا به، ويعينك على تفهمه.
وهذا الكتاب وإن عظم حجمه، وكثر ورقه، فإنه لا يملك تصفحه وقراءته، إذا كان كل بابٍ من أبوابه ذا فنونٍ من آثار العقول الصحيحة، والقرائح السليمة، فكل(1/1319)
نوعٍ من أنواعه جمامٌ لما يليه، وجلاءٌ لما يعيه، ولأن غوامض المقاصد إذا تبرجت لك في روائع المعارض، وأقبل فهمك رائداً لقلبك، يتشمم نوادر الزهر في مغارس الفطن، ويخير فرائد الدرر من قلائد الحكم، فكلما ازداد التقاطاً زادك نشاطاً، كما أن من عرف الفرق بين الإطناب والإيجاز، وبين التطويل والتقصير، وعلم أن الإطناب تفخيمٌ وتكميل، كما أن الإيجاز تخليص وتهذيب، وأن التطويل زيادةٌ على الكفاية، وذهابٌ عن غاية الحاجة، كما أن التقصي قصورٌ عن الحد المرتاد، ووقوفٌ دون مدى المراد، حمد الإطناب والإيجاز لما نالهما من سهام البلاغة، وذم التطويل والتقصير بما فاتهما من أقسام الفصاحة.
واعلم صحبك التوفيق في مباغيك، أن ما جمعت منتشره، وأثرت مكتمنه، وحللت معقوده، وأعدت محذوفه، ونشرت مطويه، ومددت مقصوره من بيوت هذا الاختيار وفصوله، فإني لم أدركه إلا في مدةٍ طويلةٍ لا أذكر طرفيها، وبمجاهداتٍ لشيوخ الصناعة عحجيبة لا أنسى مجاذباتي فيها، حين كان في القول إمكانٌ، وللتحصيل إرصاد، ولسهم النضال تسديد، وفي قوس الرماء منزعٌ وتوتير، وكان الرأي ولوداً، والخاطر عمولاً، والحد حديداً، والحرص عتيداً، مع تمام البراعة، واجتماع المادة والآلة.
فلتا تظنن فيخه ما يظنه الوادع في جهد المكدود، فإن أهون السقي التشريع، ولن تناله إلا بتعبٍ شديد. وتيقن أني أمليت هذا الشرح مستعملاً أرفق الآلات في اختراعه، وأوفق الألفاظ في تصويره وبيانه، ومستحضراً من الشواهد والمثل ما لم يكمل إلا بتعاونه وحضوره، ولو عدلت عن نهج التقريب مشتغلاً بأبواب الإعراب والغريب إلا غيرهما مما يعد في الفضول، لتضاعفت المؤن، وضاعت في غمارها النكت. على أني أرجو أن يكون ضننا في تحصيله وحصره، وسماحتنا بعده بتصنيفه وبذله، يكسبنا من القلوب استحلاءً، ومن النفوس ميلاً واستحباباً، وأنه لا تزال تلك المحبة زائدةً ناميةً، ما دامت فوائده قائمةً باقيةً. وعلى اللع تعالى جده معولنا في أن يوفقنا لمرضاته، وأن يجعل سعينا له وفيه، وحسبنا هو ونعم الوكيل. والحمد لله الواحد القهار، وصلواته على نبينا محمدٍ وآله الطيبين الطاهرين الأخيار.(1/1320)