باب الحماسة
قال الشيخ أبو علي أحمد بن محمد بن الحسن
المرزوقي الأصفهاني
رحمه الله
الحماسة: الشجاعة، والفعل منه حسن ورجل أحمس. وكانت العرب تسمي قريشاً: حمساً لتشددهم في أحوالهم ديناً ودنيا وتسمى بني عامر: الأحامس، وكأنهم ذهبوا فى واحد حُمس إلى أنه صفة، فجمعوه جمع الصفات، كما يقال أحمر وحمر، وأشقر وشقر، وذهبوا في واحد الأحامس إلى أنه اسم، فجمعوه جمع الأسماء كما يقال أحمد وأحامد، وأجدل وأجادل. وهم يخرجون الأسماء إلى باب الصفات كثيراً فيقولون: بنو فلان الذوائب لا الذنائب، والمراد هم الأعالي لا الأسافل، كما يخرجون الصفات إلى باب الأسماء كثيراً. وعلى هذا الأساود: الحيات، والأداهم، القيود: قال:
أوعدني بالسجن والأداهم
والأباطح: جمع الأبطح. وكل ذلك صفات أخرجت إلى باب الأسماء. وقال الدريدي: حمس الشر: اشتد. والحمس: قريش، وكنانة وحزاعة، تحمسوا في دينهم. وبنو حماس: قبيلة من العرب، وكذلك بنو حميس. وقوله:(1/19)
قال بعض شعراء بلعنبر
المراد بني العنبر، ولهذا وجب ألا يصحب الكسرة التي في الراء التنوين. وإنما حذف النون من بني لاجتماعه مع اللام من العنبر، وتقاربهما في المخرج. وذلك لأنه لما تعذر الإدغام منه جعل الحذف بدلاً من الإدغام. وإنما تعذر الإدغام لأن الأول متحرك والثاني ساكن سكوناً لازماً، فلما كان من شرط المدغم تحريك الثاني إذا أدغم الأول فيه، وكان لام التعريف ساكناً سكوناً لازماً، جعل الحذف لكونه مؤذياً إلى التخفيف المطلوب من الإدغام بدلاً لما تعذر هو. ولا يلزم على هذا أن يحذف النون من بنى النجار لأن اللام قد أدغم فى النون التى بعده، فلا يمكن تقدير إدغام النون التى قبله فيه، حتى إذا تعذر جعل الحذف بدلاً من الإدغام، بدلالة أن ثلاثة أشباه لا يصح إدغام بعضها في بعض، ومما يشبه هذا من اجتماع المتجانسين من كلمتين واستعمال الحذف في أحدهما بدلاً من الإدغام قولهم علماء بنو فلان، والمعنى على الماء. ومما يشبه لكنهما التقيا في كلمة واحدة، قولهم ظللت ومسست يقال منهما ظلت ومست، وإن شئت ظلت ومست. تلقى حركة المحذوف على فاء الفعل. قال الله تعالى: " فظلتم تفكهون ". وإنما تعذر الإدغام ها هنا لأن لام الفعل في مثل هذا المكان إذا اتصل به ضمير الفاعل يسكن البتة، فلما لزمه السكون لم يصح إدغام العين فيه، فلذلك حذف.
والعنبر في اللغة: الترس والطيب. وعنبرة الشتاء: شدته. وعنبرة القوم: خلوص أنسابهم. ويقال: رأيته بهذا البلد عنبرياً. يضرب به مثلاً في الهداية. وبنو العنبر أهدى قوم. ويمكن تقدير النون زائدة فيه، فيكون فنعلاً من عبرت، كأنه بحسن تأتيه للاهتداء يعبر الطرق. ومنه قيل في البعير: " هو " عبر أسفار.
لو كنت من مازن لم تستبح إبلي ... بنو اللقيطة من ذهل بن شيبانا
مازن بن مالك بن عمرو بن تميم، هم بنو أخي العنبر بن عمرو بن تميم، وإذا كان كذلك فمدح هذا الشاعر لهم يجري مجرى الافتخار بهم، وفي بني مازن عصبية(1/20)
شديدة قد عرفوا بها وحمدوا من أجلها، ولذلك قال بعض الشعراء موبخاً لغيرهم:
فهلا سعيتم سعي عصبة مازن ... وهل كفلائي في الوفاء سواء
كأن دنانيراً على قسماتهم ... وإن كان قد شف الوجوه لقاء
وقصد الشاعر في هذه الأبيات عندي إلى بعث قومه على الانتقام له من أعدائه ومهتضميه، وتهييجهم وهزهم، لا ذمهم. وكيف ووبال الذم راجع إليه؟! لكنه في هذا المعنى سالك لطريقة كبشة أخت عمرو بن معد يكرب في قولها:
أرسل عبد الله إذ حان يومه ... إلىقومه لا تعقلوا لهم دمي
ألا ترى أنها قالت في جملة هذه الأبيات:
ودع عنك عمراً إن عمراً مسالم ... وهل بطن عمر غير شبر لمطعم
فلا يجوز أن يتوهم أنها كانت تهجو أخاها عمراً أو تنسبه إلى العجز والتقصير في طلب ثأر أخيه، وعمر هو الذي كان يعد بألف فارس، ولكن مرادها بعثه وتهييجه. وهذا كما يقول العبد لمولاه والغلام لصاحبه وقد لحقتهما هضيمة من أجنبي: لو كنا في خدمة فلان عمك أو أخيك لما جسر هذا أن ينالنا بمكروه! ولا يجوز أن يقال إنهما هجوا سيدهما أو فضلا غيرهما عليهما، ولكن المراد تحريكهما لهما، وإذا كان الأمر على هذا فمن الظاهر بطلان قول من يذهب إلى أن هذا الشاعر هجا قومه ومدح بني مازن يؤكد ما قلته قوله:
يجزون من ظلم أهل الظلم مغفرة ... ومن إساءة أهل السوء إحسانا
لأنه لا يقال لمن يمسك عجزاً عن الانتصار إنه غفر، ولا لمن يقدر على جزاء الإساءة إنه اختار الإحسان. فإن قيل: أليس قد قال:
ليسوا من الشر في شيء وإن هانا.
وقال أيضاً:
فليت لي بهم قوماً إذا ركبوا ... شنوا الإغارة فرساناً وركبانا(1/21)
قلت: ليس يزيد شيء مما قاله على قول كبشة:
ودع عنك عمراً إن عمراً مسالم.
وإذا كانت أبياتها باتفاق من أصحاب المعاني لا تكون هجواً، فكذلك أبيات هذا العنبري. ومما يشهد للطريقة التي سلكناها ويؤيدها، أن في جملة أبياته التي وصف فيها قومه:
لاخبون نيرانهم حتى إذا خمدت ... شبوا لموقد نار الحرب نيرانا
وهذا المعنى هو مثل ما افتخر به غيره في صفات نفسه فقال:
أفر من الشر في رخوة ... فكيف الفرار إذا ما اقترب
بل الذي ذكره العنبري أزيد، لأنه وصفهم بالاحتمال والصبر ما أمكن، فإذا اهتاجوا زادوا على كل هائج. ألا ترى أنه قال:
شبوا لموقد نار الحرب نيرانا
ومعنى البيت لو كنت مازنياً لم تغر بنو اللقيطة على إبلي.
ولقيطة ألحق بها الهاء وإن كان فعيلاً في معنى مفعولة، لأنه أفرد عن الموصوف به وجعل اسماً. وهذا كما يقال النشيطة والذبيحة، والبنية في الكعبة.
فأما الاستباحة، فقد قيل هي في معنى الإباحة، وقد قيل: إن الإباحة هي التخلية بين الشيء وبين طالبه، والاستباحة اتخاذ الشيء مباحاً للنفس. وكأن الأصل في الإباحة إظهار الشىء للمناظر ليتناوله من شاء ومنه باح بسره بوحاً وبؤحاً. والمازن في اللغة: بيض النمل، ويقال: هو يتمزن على أصحابه، كأنه يتفضل عليهم. وذهل من ذهلت عن الشىء.
إذاً لقام بنصرى معشر خشن ... عند الحفيظة إن ذو لوثة لانا
اللام في لقام جواب يمين مضمرة، والتقدير إذاً والله لقام " بنصرى ".
فإن قيل: فأين جواب لو كنت؟ قلت: هو لم تستبح إبلى. وفائدة إذاً هو أن هذا أخرج البيت الثاني مخرج جواب قائل قال له: ولواستباحوا ماذا كان يفعل بنو مازن؟ فقال: إذاً لقام بنصرى معشر خشن. قال سيبويه: إذاً جواب وجزاء، وإذا كان كذلك فهاذا(1/22)
البيت جواب لهذا السائل وجزاء على فعل المستبيح. ويجوز أن يكون أيضاً إذا ًلقام جواب لو، كأنهأجيب بجوابين. وهذا كما تقول: لو كنت حراً لاستقبحت ما يفعله العبيد، إذاًلاستحسنت ما يفعله الأحرار. وقوله إن ذو لوثة يرتفع ذو عند حذاق النحوين بفعل مضمر، الفعل الذي بعده تفسيره، وهو لان. والتقدير إن لان ذو لوثة لانا. وإنما قالوا هذا لأن إن لما كان شرطاً كان بالفعل أولى، وعمله الجزم فيجب أن لايفارق معموله في اللفظ والتقدير. وليس هذا موضع الكلام على من يجعل ذو بعد إن وما أشبهه مبتدأ. ومعنى البيت إذاً والله لقام بنصرى، أي لتكفل به قوم أشداء عند الغضب، إذا الضعيف لان. ويقال: قام بالأمر، أى تكفل به. وهو القائم والقيم. وقام بالقسط والعدل في الرعية، وقام عليه إذا ساسه ووليه، ومنه القيوم والقيام في صفات الله تعالى، وقوله " إلاما دمت عليه قائماً " أي قاهراً. وأقمت الرمح فقام، بمعنى قمّته فتقوم. وقوله إن ذو لوثة تعريض منه بقومه ليغضبوا ويهتاجوا لنصرته. وهو في البعث والتهيج أحسن من التصريح، كما أنه في الذم والهجو كذلك. وهذا بعض الناس رواه إن ذو لوثةٍ وزعم أن ذو لوثةٍ ليس بجيد لأن الضعيف أبداً مهينن، والواجب أن يقول إن القوي لان، واللّوثة هي القوة. والرواية الصحيحة هي ضم اللام من اللوثة. والفائدة ما ذكرت من التعريض بقومه. ولأن يكون طرفا البيت متناولين بمعنيين متقابلين، أحسن من أن يكونا مفيدين لمعنى واحد والمعشر اسم للجماعة لا واحد له من لفظه. وقال الخليل: هو اسم لجماعةٍ أمرهم واحد. ويقال جاءوا معشر معشر، أي عشرةً عشرةً. وخشن: جمع خشن وأخشن. والحفيظة: الخصلة يحفظ لها، أي يغضب. وقيل هي الحمية، وفي المثل: الحفائظ تحلل الأحقاد وقيل أيضاً أهل الحفائظ أهل الحفاظ. وذلك أن ذا الأنف يحترس من العار، فلايزال يتحفظ ويحافظ حتى يسلم منه. وكأن الأصل في الكل الحفظ الذي هو نقيض النسيان. وقد طابق الخشونة باللين فظهرت الصنعة به، وجاد البيت له، كأنه قال معشر خشنون عند الحفيظة إن كان ذوو اللوثة لينين عندها.
قومٌ إذا الشر أبدى ناجذيه لهم ... طاروا إليه زرافاتٍ ووحدانا
أراد أن يصف بني مازن بما يهتاج له قومه فينصرونه، فقال: هم قوم إذا ظهر لهم الشر واشتد سارعوا إليه غير متوقعين لتجمع، ولامعرجين على تأهب، لكنهم(1/23)
يتبادرون أفراداً وثباتٍ، وأشتاتاً وجماعاتٍ. وإبداءٌالناجذ - وهو ضرس الحلم - مثلٌ لاشتداد الشر. ومثله قول الآخر:
فمن يك معزال اليدين، مكانه ... إذا كشرت عن نابها الحرب خامل
فأما قول عنترة:
إذ تقلص الشفتان عن وضح الفم
وقول الأعشى:
سعة الشدق عن الناب كلح
وقول اللآخر:
وقد أسلم الشفتان الفما
فإنما هو صفةٌ للمصطلى بنار الحرب عند اشتداد الأمر عليه. ومثله لبعض البلغاء: صار الأكس كالأروق، والمحتال كالأحمق؟ وذو البصيرة كالأخرق. ويقال: عض على ناجده، إذاصبر على الأمر. ونجدته الأمور: أحكمته. قال الشاعر:
ونجدني مداورة الشؤون.
ويقول الرجل إذا أراد أن يتشدد على صاحبه: لأربنك ناجدي! والمعنى أنه يكشر له ويكلح في وجهه حتى يبدو ناجده. ويقولون: خلته لعبوسه يبتسم، ولإقدامه ينهجم. وقال بعضهم: النواجذ: الضواحك، واحتج بحديث النبي صلى الله عليه وسلم أنه ضحك حتى بدت نواجذه. قال: وأقاصي السنان لايبديها الضحك. والصحيح الأول، فأما الخبر فمحول على المبالغة وإن لم تبدالنواجذ. وجواب إذا طاروا. ووحدانا هو جمع واحد، وواحد صفة، كصاحب وصحبان، وراع ورعيان. ويقال طرت إلى كذا، إذا أسرعت إليه، وطرت بكذا، أى(1/24)
سبقت به. والزرافات: الجماعات، واشتاقه من الزرف، وهو الزيادة على الشيىء. ويقال زرفت القوم قدامى، أى قدمتهم فرقاً. وحكي في الزرافة تشديد الفاء، يقال جاء القوم بزرافتهم، أي بجماعتهم؛ وهو غريب. والمعنى أنهم لحرصهم على القتال وجرأتهم، لاينتظر بعضهم بعضاً، لكن كلاً منهم يعتقد أن الإجابة تعينت عليه إذا تشدد الشر لهم. وفي طريقته قول بعض الشعراء
قومٌ إذا هتف الصريخ رأيتهم ... من بين ملجم مهره أو سافع.
سافع: آخذ بناصية فرسه. ومنه قول الله تعالى: " لنسفعًا بالناصية ".
وقول الآخر:
وكنت إذا جارى دعا لمضوفةٍ ... أشمر حتى ينصف الساق مئزري
لايسألون أخاهم حين يندبهم ... في النائبات على ما قال برهانا
الأصل في الندبة - وإن اشتهرت ببكاء الأموات وقولهم عنده: وافلاناه: - الدعاء، وتسعوا فيه فقالوا: ندب فلان لكذا وكذا، إذا نصب له ورشح للقيام به. ويقولون: تكلم فلان فانتدب له فلان، إذا عارضه. والشاعر يقول: هؤلاء القوم، يعني بني مازن، لحسن محافظتهم وقوة تناهيهم في نصرة المنتسب إليهم والمعلق حبله بحبلهم، لايسألون الواحد منهم إذادعاهم حجة على دعواه، ولايراجعونه في كيفية ماألجأه إليهم، لكنهم يعجلون الإغاثة له. وهذا تعريض منه بما لحقه من قومه أو رآه من عاداتهم عندالاستغاثة بهم. والعرب تقول: يا أخا قريش؛ والمعنى يا واحداًمنهم. ومثله:
إذا استنجدوا لم يسألما من دعاهم ... لأية حرب أم بأي مكان
وقد وصف بني مازن غير واحد من الشعراء بمثل ما وصفهم هذا الشاعر، فمن ذلك قول بعضهم:
نفسي فداء لبني مازن ... من شمس في الحرب أبطال
وقول الآخر:
فهلا سعيتم سعى عصبة مازن ... وهل كفلائي في الوفاء سواء(1/25)
لكن قومي وإن كانوا ذوي عدد ... ليسوا من الشر في شيء وإن هانا
رجع إلى صفة قومه بما يأنفون منه عنده؛ وتدخلهم الحمية لدى الإصغاء إليه، وليس قصده ذمهم فقال: لكن قومي وإن كان فيهم كثرة عدد وعدة ليسوا من دفع الشر وإنكاره، وقصده وإرتكابه في شيء، وإن كان فيه خفة وقلة. وقد قابل الشرط بالشرط في الصدر والعجز، وطابق العدد والكثرة بالهون والخفة في الكلام، ويريد أن يصفهم بأنهم يؤثرون السلامة والعفو عن الجناة ما أمكن، ولو أرادوا الإنتقام لقدروا بعددهم وعدتهم ولكن المراقبة والتقوى تدعوهم إلى إيثار الحسنى.
يجزون من ظلم أهل الظلم مغفرة ... ومن إساءة أهل السوء إحسانا
روى بعضهم من ظلم أهل الظلم والظلم بالفتح المصدر وبالضم الاسم. وهذه الرواية عندي أحسن. وقد بينت ما فى المغفرة والإحسان من الدلالة على أنهم كانوا يقدرون على إيثار ضدهما. والظلم: انتقاص الحظ والنصيب. وقيل هو وضع الشيء في غير موضعه، ونقيضه العدل. وينتصب إحساناً بيجزون مضمراً، كأنه قال: ويجزون من الإساءة إحساناً. وجاز حذفه لأن الفعل قبله يدل عليه.
كأن ربك لم يخلق لخشيته ... سواهم من جميع الناس إنساناً
الخشية والخشى والمخشاة: مصدر خشى. ويقولون: هذا المكان أخشى من ذاك، وهو نادر لأن المكان يخشى فهو مفعول. ورجل خشيان وامرأة خشيانة. وقوله سواهم من جميع الناس هو استثناء مقدم، ولو وقع موقعه لكان الكلام لم يخلق لخشيته إنساناًسواهم فكان يجوز في سواهم البدل والإستثناء والصفة، فلما قدم بطل أن يكون بدلاً وصفةً، لأنهما لا يتقدمان علىالموصوف والمبدل منه، فبقى أن يكون استثناء. وقد نبه بهذا الكلام أن احتما لهم لاحتساب الأجر على زعمهم، وإبقاءهم في الإنتقام لخشية فوات الذخر في دعواهم، فكأن الله لم يخلق لخوفه غيرهم.(1/26)
وقال شهل بن شيبان الزماني: ويلقب بالفند. والفند في اللغة: القطعة العظيمة من الجبل، وجمعه أفناد. قال الدرديري: لقب به لعظم شخصه. قال: وهو أحد الفرسان. وقال غيره: لقب به لأنه قال لأصحابه في يوم حرب: استندوا إلي فإني لكم فند.
صفحنا عن بني ذهل ِ ... وقلنا القوم إخوان
صفحت عنه: عفوت عن جرمه. ويقال أعرضت عن الأمر صفحاً، إذا تركته. وقد يقال: أصفحت عنه، كما يقال أضربت عنه. ويقال: أبدى لي صفحته، إذا مكنك من نفسه. يقول عفونا عن جرم هؤلاء القوم، وراعينا من الأحوال المتواشجة بيننا وبينهم، ما حملنا على الإغضاء على قبيح يتفق منهم، والتجاوز عن هفوة تحصل من جهتهم، وقلنا: إن ما بيننا وبينهم من الاخوة يقتضي الإبقاء على الحال معهم، وانتظاراً لفيئة تكون منهم. وحقيقة صفحنا عن بني ذهل: أعرضنا عنهم: وليناهم صفحة أعناقنا ووجوهنا، وهي جانبها، فلم نؤاخذهم بما كان منهم. وقال في هذا المعنى ضربنا عنهم صفحاً، وفي القرآن: " أفنضرب عنكم الذكر صفحاً ".
عسى الأيام أن يرجع ... ن قوماً كالذي كانوا
إنما نسكر قوما لأن فائدته مثل فائدة المعارف، ألاترى أنه لافصل بين أن تقول عفوت عن زيد فلعل الأيام ترد رجلاً مثل الذي كان، وبين أن تقول فلعل الأيام ترد الرجل مثل الذي كان؛ لأنك تريد في الموضعين به رجلاً أوالرجل. والمعنى فعلنا ذلك بهم رجاء أن تردهم الأيام إلى أحسن ماكانوا عليه من قبل. وعسى من أفعال المقاربة. وأن يرجعن في موضع خبر عسى، ولو قال عسى أن يرجع الأيام قوما لكان أن يرجع في موضع فاعل عسى وكان يكتفي به؛ وذلك لأن عسى لمقاربة الفعل، والفعل لابد له من الفاعل، فإذا تقدم الفعل مع أن وتبعه الفاعل فقد حصل مايطلبه، فإذا وليه الاسم بقي ينتظر الفعل وإن ارتفع ذلك الاسم به، فيجري الفعل مع أن بعده مجرى خبر كان بعد إسم كان. ومعنى يرجعن: يرددن، وهو باب فعل وفعلته. يقال رجع فلان رجوعا ومرجعاً ورجعى ورجعاناً،(1/27)
ورجعته رجعاً. ومعنى يرجعن قوماً يرددن بأمرهم أمر قوم، وبائتلافهم ائتلاف قوم. فحذف المضاف وأقام المضاف إليه مقامه. وخبركان محذوف كأنه قال كالذي كانوه، أي كانوا عليه قبل من الائتلاف والاتفاق. والضمير الذي أظهرناه في كانوه هو الذي تصح الصلة به، لأن الموصول لابد من أن يكون في صلته ضمير يعود إليه إذا كان اسماً، والذي ليس يرجع إليه من كانوا شىء إلاما أبرزناه من الضمير. ومن جوز حذف الجار والمجرور من الصفة في نحوقوله تعالى: " واتقوا يوماً لاتجزى نفس عن نفس شيئا " ويقدر فيه أن الكلام لا تجزي فيه نفس عن نفس شيئا، لا يسوغ له أن يقدر في الصلة أيضا كذلك. وإذا كان الأمر على هذا فلا يجوز أن يكون التقدير يرجعن قوماً كالذي كانوا عليه، لأن مثل عليه لايجوز حذفه من الصلة، لاتقول الذي مررت جالس، وأنت تريد مررت به، والذي دخلت منطلق، وأنت تريد الذي دخلت عليه. وبمثل هذا توصل من زعم في الآية أن التقدير: واتقوا يوماً لاتجزيه نفس عن نفس شيئا، لأنه قال: الصفة كالصلة، فكما لا يجوز حذف فيه وأشباهه من الصلة، كذلك لا يجوز حذفها من الصفة، فاعلمه. ويجوز أن يكون قوله كالذي كانوا، أراد كالذين كانوا، وحذف النون تخفيفا، كما قال:
إن الذي حانت بفلج دماؤهم ... هم القوم كل القوم يا أم خالد
فيكون المعنى يرجعن بهم قوماً كالذين كانوا من قبل. وفي هذا الوجه يجوز أن يجعل الذي للجنس، كما قال الله تعالى: " والذي جاء بالصدق وصدق به " ثم قال " أولئك هم المتقون "، والفصل بين هذا الوجه وبين الوجه الأول أنه أمّل في الوجه الأول أنهم إذا عفوا عنهم أدبتهم الأيام وردت أحوالهم في التواد والتحاب كأحوالهم فيما مضى، وأزالت من فساد ذات البين ما اعترض بسوء عشرتهم. وفي الوجه الثاني أمّل أن ترجع الأيام أنفسهم إذا صفحوا عنهم كما عهدت: سلامة صدور، وكرم اعتقاد وعهود.
فلما صرح الشر ... فأمسى وهو عريان
فائدة أمسى وأصبح وظل وبات في مثل هذا المكان على حد الفائدة في صار لو وقع موقعها، ألا ترى قوله تعالى: " وإذا بشر أحدهم بالأنثى ظل وجهه مسوداً "، والبشارة بالأنثى تقع ليلاًو نهارا. وكذلك تقول: أصبحوا خاسرين وأمسوا نادمين، وإن كانوا في كل أوقاتهم على ذلك. " ولما " علم للظرف،(1/28)
وهو لوقوع الشئ لوقوع غيره، ولهذا لابد له من جواب. ويقال صرح الشيء إذا كشف عنه وأظهره، وصرح هو إذا انكشف. ومثله بين الشئ وبين هو، وفي المثل قد يبين الصبح لذى عينيت. وفعل بمعنى تفعل واسع، يقال وجهه بمعنى توجه، وقدم بمعنىتقدم، ونبه بمعنى تنبه، ونكب بمعنى تنكب. فيقول: لما ظهر الشر كل الظهور وصار بحيث لايستره شئ ولم يبق بيننا وبينهم سوى الصبر على الظلم الصريح. والمعنى أنهم لما تجاوز الأحوال المتشابكة، والأخذ بالإنصاف والمعدلة، إلى استعمال الظلم ورفع الحشمة، حينئذ جازيناهم بمثل ما ابتدءونا. وذكر العريان مثل لظهور الشر. وقد اشتمل هذا الكلام على تفسير البيت الذي يتلوه، وهو قوله:
ولم يبق سوى العدوا ... ن دناهم كما دانوا
العدوان والعداء والعدو: الظلم. وأما قوله دناهم كما دانوا، والأول ليس بجزاء، فهذا لميلهم إلى المطابقة والموافقة، وإخراج اللفظ في معرض صاحبه ليعلم أنه جزاؤه على حده وقدره، أو ابتداؤه. وعلى ذلك قوله تعالى: " يخادعون الله وهو خادعهم " و " الله يستهزئ بهم " وما أشبهه. وجواب لما صرح دناهم. وقوله في البيت التالي هو تفصيل لما أجمله قوله دناهم، لأنه فسر كيف كان ذلك الجزاء. والدين لفظة مشتركة في عدة معان: الجزاء، والعادة، والطاعة، والحساب. وهو ها هنا الجزاء. ويقولون: كما تدين تدان أي كما تصنع يصنع بك.
مشينا مشية الليث ... غدا والليث غضبان
كرر الليث ولم يأت بضميره تفخيماً وتهويلاً، وهم يفعلون ذلك في أسماء الأجناس والأحلام. قال عدي:
لا أرى الموت بسبق الموت شيء ... نغص الموت ذا الغنى والفقيرا
فيقول: سعينا إليهم مشية الأسد ابتكر وهو جائع، وكنى عن الجوع بالغضب لأنه يصحبه. وهذا التشبيه أخرج ما لا قوة له في التصور إلى ما له قوة فيه، ومن روى عدا على أن يكون من العدوان فليست روايته بحسنة، لأن الليث في أكثر أحواله ظالم عاد. والمشية: اسم الحالة التي يكون عليها الماشي في مشيه، والمشية(1/29)
المرة الواحدة، والفعل يتعدى إلى كل واحد منهما. والليث من أسماء الأسد. ويقال: استليث الرجل، إذ اشتد وقوي.
بضرب فيه توهي ... ن وتخضيع وإقران
تعلق الباء منه بمشينا، أي مشينا بضرب في ذلك الضرب تضعيف للمضروب به، وتذليل ولين. ويجوز أن يكون المعنى فيه توهين وصوت في القطع وكسر العظام وإطاقة وقوة. ويكون حينئذ تخضيع من الخضعة والخضيعة وهما اختلاط الصوت في الحرب. ومنه خضيعة بطن الفرس، قال الأصمعي: يقال للسياط خضعة لا أدري أمن الصوت هو أن من القطع. وقد روى بعضهم:
والضاربين الهام تحت الخضيعة
وقال: هي السيوف. وإقران من قولهم: أقرن فلان، أي أطاق. قال الله تعالى: " وما كنا له مقرنين ". وفي الأول إقران من قولهم: أقرن الدمل، إذا نضج ولان. ويقال استقرن الحبن أيضاً. وتخضيع من الخضوع يكون، وهو الذل. ويقال خضع الرجل وأخضع، إذا لين كلامه للنساء. وفي الحديث: نهى أن يخضع الرجل لغير امرأته، أي يلين كلامه.
وطعن كفم الزق ... غذا والزق ملآن
كرر ذكر الزق كما كرر ذكر الليث فيما قبله. وهذا الوصف أبلغ من قول النابغة:
وطعن كإيزاع المخاض الضوارب(1/30)
وهذا التشبيه أبرز ما يقل في الاعتياد في صورة من يكثر فيه: ومثله:
فجبهناهم بضرب كما يخ ... رج من خربة المزاد الماء
أي وبطعن في اتساعه وخروج الدم منه كفم الزق إذا سال بما فيه وهو مملوء. وغذا يغذو غذاوّاً، إذا سال. وغذاه يغذوه غذواً. والاسم الغذاء. فأما قول الهذلي:
فالطعن شغشة والضرب هيقعة
فهو حكاية صوت الوقع، وقوله غذا في موضع النصب على الحال، والأجود أن يجعل قد مضمرة.
وبعض الحلم عند الجه ... ل للذلة إذعان
يعتذر من تركهم التحلم مع الأوداء والأقارب، لما كان مفضياً إلى اكساء ذل، واكتساب خضوع وعار. والتقدير: بعض الحلم إذعان للذلة عند جهل الجاهل. وهذا إذا توهم أن المحتمل إنما فعل ما فعله خوفاً وعجزاً؛ لاميلا منه إلى التجاوز والإغضاء واستبقاء الأخوة والوداد. ويقال: أذعن لكذا: إذا انقادله. ومنه ناقة مذعان. وأذعن بكذا: أقر به.
وفي الشر نجاة حي ... ن لا ينجيك إحسان
قوله في الشر نجاة أراد: وفي دفع الشر، فحذف المضاف وأقام المضاف إليه مقامه. ويجوز أن يريد: وفي عمل الشر نجاة، كأنه يريد وفي الإساءة مخلص إذا لم يخلصك الإحسان. وهذا مثل قولهم: الطعن يظأر أي يعطف، ن وكما قال زهير:
ومن يعص أطراف الزجاج فإنه ... مطيع العوالي ركبت كل لهذم
وهذا الكلام يجري منه مجرى الإعتذار مما أجرى إليه مع القوم، فاعلمه ويقولون أيضاً: من لم تقومه الكرامة قومته الإهانة.(1/31)
وقال أبو الغول الطهوي: الغول مأخوذ من غاله يغوله غولاً، إذا أهلكه. وهم يسمون كل داهية غولاً. وبذلك سموا الشيطان والحية غولاً. والغيلان عندهم سحرة الجن. قال:
كما تلون في أثوابها الغول
فدت نفسي وما ملكت يميني ... فوارس صدقوا فيهم ظنوني
لفظه لفظ الخبر. والمعنى معنى الدعاء. يقول: تفدى نفسي مالي أجمع فوارس يكونون عند الظن بهم في الحرب، وقد روى آخر البيت على وجوه تتقارب معانيها. روى: فوارس صدقت فيهم ظنوني. ويكون ظنوني في موضع رفع بصدقت وبروى: صدقت فيهم ظنوني بفتح الصاد. وتضعيف عين الفعل يدل على التكثير. وظنوني يرتفع بالفعل. وتخصيص اليمين في قوله: وما ملكت يميني لفضلها وقوة التصرف بها. وهم يقيمون البعض مقام الجملة فينسبون إليه الأحداث والأخبار كثيراً، على ذلك قوله تعالى: " فظلت أعناقهم لها خاضعين ". وقولهم: عذت بحقو فلان. وهو عبد المقذ، وحر الوجه، ولئيم القفا وما أاشبهه. وفي القرآن: " أو ما ملكت أيمانكم ". وفوارس شاذ في الجموع عند سيبويه، لأن فواعل إنما تكون جمع فاعلة في صفات ما يعقل دون فاعل، واستدرك علىسيبويه هالك في الهوالك. وبيت الفرزدق:
وإذا الرجال رأوا يزيد رأيتهم ... خضع الرقاب نواكس الأبصار(1/32)
وبيت عتيبة بن الحارث:
ومثلي في غوائبكم قليل
وقال أبو العباس المبرد: هو الأصل في جميعه، ن ويجوز في الشعر.
فوارس لا يملون المنايا ... إذا دارت رحى الحرب الزبون
مللت الشيء أمله ملالاً وملالة ومللاً، إذا سئمته. ويقال: فلان ذو ملة طرف، إذا ضجر بشيء فتطرفه. قال:
إنك والله لذو ملة
ويجوز الرفع في فوارس على أن يكون خبر ابتداء مضمر، كأنه قال: هم فوارس. ويجوز النصب فيه على أن يكون بدلاً من فوارس الأولى، ولا يملون في موضع الصفة للفوارس. والمعنى فدت نفسي فوارس لا يضجرون بمكايدة الحرب ومقاساة الشدائد فيها، ولا يكرهون المقاتلة إذا دارت رحى الحرب بأهلها. والزبون: الدفوع، ومنه الزبانية. وإنما شبه الحرب بالناقة الزبون فوصف بصفتها، وهي التي تزبن حالبها وتدفعه برجلها. قال:
تزبن بالخفاف والمناسم ... عن ذروة تخضب كف الهاشم
ويقولون: ثبت فلان في رحى الحرب، أي حيث دارت رحاها. ومنية ومنايا، كصحيفة وصحائف، والأصل منائي فاستثقلت الضمة في الياء فحذفت ثم فروا من الكسرة وبعدها ياء إلى الفتحة فانقلبت الياء ألفاً فصار مناءا، فأبدلوا من الهمزة لتوسطها ألفين ياء فصار منايا.
ولايجزون من حسن بسيء ... ولايجزون من غلظ بلين
هذا الكلام من صفة الفوارس. يريد أنهم يعرفون مجاري الأمور ومقادير الأحوال فيوازنون الخشن بالخشن واللين باللين، كما قال الآخر:
تجازى الوافي بكيل واف ... ملآن والطفاف بالطفاف(1/33)
وقوله بسيء أراد بسيٍ فخفف، كما قالوا في هين هين وفي لين لين. وروى بعضهم: بسي والمعنى أنهم يزيدون في الحزاء على قدر الابتداء. وليس ذلك بشيء لأن سيء في مقابلة حسن، كما أن اللين في مقابلة الغلظ، وفي العدول عنه إلىسيٍ إخلال بالتقابل، والبيت إنما حسن به.
ولا تبلى بسالتهم وإنهم ... صلوا بالحرب حيناً بعد حين
يقال: بلي الثوب يبلى بلى وبلاء، ويستعار فيقال: لبست فلاناً وبليته، إذا اسيمتعت به وتمليته. وإنما يصفهم بلاستمرار على حالة واحدة في مزاولة الحرب، وأن شجاعتهم لاتنقص ولاتبلى عند امتداد الشر، واتصال البلاء. والبسالة توصف بها الأسد والرجال، يقال أسد باسل وبسول. كما يقال رجل باسل وبسول. قال امرؤ القيس:
ما غركم بالأسد الباسل
وصلوا هو من صليت بكذا أي منيت به، وهو من الفعل فعلوا بكسر العين، ولهذا انضم اللام من صلوا، ولو كان فعلوا بفتح العين لقيل صلوا، كما قيل دعوا ورموا. فإن قيل: فأين جواب الشرط في قوله وإن هم صلوا بالحرب؟ قيل: هو متقدم، والتقدير إن صلوا ومنوا بالحرب لم تخلق شجاعتهم. وفصل بين الفعل وإن ب هم، لأنه ماض لم يظهر فيه أثر إن بالجزم. ولو كان مستقبلاً لظهر الجزم فيه، ولما حسن الفصل بينه وبين إن بالإسم. يقبح أن يقال إن زيد يأتني أكرمه، وتقول إن الله أقدرني على زيد فعلت به كذا. وهذا شيء يجوز في إن دون سائر حروف الجزاء، لأنه الاصل في الجزاء والحرف الذي لايزول عنه. وروى بعضهم: ولا تبلى بسالتهم من بلوته إذا اختبرته، ويكون المعنى لا يمكن اختبار شجاعتهم فيعرف غورها ومنتهاها على مر الأزمان، واختلاف الأحوال.
هم منعوا حمى الوقبى بضرب ... يؤلف بين أشتات المنون(1/34)
قوله بضرب يؤلف وقد وقع المنع والضرب جميعاً حكاية حال، لولا ذلك لقال: بضرب ألف. ومثله في القرآن: " ونقلبهم ذات اليمين وذات الشمال وكلبهم باسط ذراعيه بالوصيد ". يقول: هؤلاء القوم الذين أشرت إليهم بقولي: فوارس صدقوا فيهم ظنوني، هم الذين منعوا حمى هذا المكان بضرب يجمع بين المنايا المتفرقة. وهذا تقييد بعد إطلاق، وتخصيص بعد تعميم: والحمى: موضع الماء والكلأ. ويقال: أحميت المكان، أي جعلته حمى. وحميته: ذببت عنه. وقوله يؤلف من صفة الضرب، ويحتمل وجوهاً: ويجوز أن يكون المعنى إن هؤلاء لو بقوا في أماكنهم ولم يجتمعوا في هذه المعركة لوقعت موتاهم متفرقة في أمكنة متغايرة، وأزمنة متفاوتة، فلما اجتمعوا تحت الضرب الذي وصفه صار الضرب جامعاً لتلك المنايا ووجوهها. وحكي عن أبي سعيد الضرير أن المعنى إذا وقع بهم ألف بين أقدارهم التي قدرت عليهم. ويجوز أن يكون المعنى أن أسباب الموت مختلفة، وكأن هذا الضرب جمع بين الأسباب كلها. ويجوز أن يكون المراد ضرباً لا ينفس المضروب ولا يمهله، لأنه جمع فرق الموت له. وقوله أشتاب المنون واحدها شت. والمنون: الموت، وهو من مننت أي قطعت.
فنكب عنهم درء الأعادي ... وداووا بالجنون من الجنون
نكب قد جاء متعدياً إلى مفعولين، قال أوس:
نكبتها ماءهم لما رأيتهم ... صهب السبال بأيديهم بيازير
والأكثر نكبت عن كذا. يقول: حرف عن هؤلاء القوم هذا الضرب اعوجاج الأعداء وخلافهم، وداووا الشر بالشر. وهذا كما يقال: الحديد بالحديد يفلح. وكما قيل: لايفل الحديد إلا الحديد. وأصل النكب: الميل، ولذلك يقال نكبت الإناء، إذا أملته. ونكب الرجل نكبةً. وعلى هذا النكباء في صفة الريح: والدرء، أصله الدفع، ثم استعمل في الخلاف، لأن المختلفين يتدافعان. ومثله:
وقومت عنه درأه فتنكبا(1/35)
ولا يرعون أكناف الهويني ... إذا حلوا ولا أرض الهدون
يروى: ولا روض الهدون، وهو أفصح. والهدون: الصلح والسكون. وفي الحديث: هدنة على دخن، أي صلح على فساد دخيلة. يصفهم بالميل إلى الشر، والحرص على القتال والقتل، وأنهم يؤثرون جانب الخصومة على الصلح، وناحية الذعر على السكون، فيقول: الخصال السهلة والأمور الهينة، ولا ينزلون منازل الأمن والراحة. والهوينى: تصغير الهونى، و: تأنيث الأهوان. ويجوز أن يكون الهونى فعلى اسماً مبنياً من الهينة، وهي السكون. ولا تجعله تأنيث الأهون.
وقال جعفر بن علبة الحارثي:
ألهفى بقرى سحبل حين أحلبت ... علينا الولايا والعدو المباسل
التلهف يكون على الفائت بعد الإشراف عليه، يقولون: وا لهفاه، ووا لهف أماه. ولهف نفسه وأمه إذا قال ذلك. وفي المثل: إلى أمه يلهف اللهفان. وقوله ألهفى يجوز أن يكون منادى مفردا، ويجوز أن يكون مضافاً. فإذا جعلته مضافاً فإن أصله ألهفى أو ألهف. فإذا كان ألهفى فكأنه فر من الكسرة وبعدها ياء إلى الفتحة فانقلبت ألفا. وعلى ذلك يا غلاما أقبل. وقوله:
وهل جزع أن قلت وا بأباهما
وإنما، المعنى بأبى هما، وعلى ذلك طريقتهم في مدارى ومدارى، وعذارى وعذارى، وصحارى وصحارى، وفى بقى بقى، وفى رضى رضى. وإذا كان ألهف يكون الألف قد زيدت لامتداد الصوت به ليكون أدل على التحسر. وكذا إن جعلته ألهف مفرداً يكون الألف زيدت لذلك. ومعنى " أحلبت ": أعانت. وأصله الإعانة في الحلب خاصة، ثم استمرت في الإعانات كلها. وقد يكون الشيء مختصاً في الأصل ثم يصير بالعرف عاماً، كما قد يكون عاماً في الأصل ثم يصير به مختصاً. وروي: " الولايا " وهي جمع الولية، وهي البرذعة، وهي تكون كنايةً عن النساء إن شئت، وعن الضعفاء الذين لا غناء عندهم إن شئت. ويشبه هذا قول أم تأبط شراً تؤبنه: " وا ابناه ليس بعلفوف، حشي من صوف، تلفه هوف ". وقولهم " هو كالحلس(1/36)
الملقى ". ويروى: " الموالي " ومعنى البيت أنه يتلهف لما نزل بهم في الموضع الذي ذكره حين أعان الأعداء عليهم كون الحرم معهم أو من يجري مجرى الحرم من الضعفاء الذين لا دفاع بهم؛ لما وجب عليهم من الذب عنهم، والاشتغال بالحماية عليهم. ومن روى الموالي - وهم أبناء العم - فإنما خصهم بالذكر لأن الجفاء منهم أشد تأثيراً في النفس. ألا ترى أن من كان بنو عمه عليه فهو كمن قوتل بسلاحه، ألا ترى إلى قول الآخر حيث يقول:
مخافة جورٍ من أميرٍ مسلطٍ ... ورهطي وما عاداك مثل الأقارب
والعدو إشارة إلى الجنس. والمباسل، من البسالة. وأجراه على لفظ العدو لا على معناه. وفي القرآن: " فإنهم عدوٌ لي إلا رب العالمين ".
فقالوا لنا ثنتان لا بد منهما ... صدور رماحٍ أشرعت أو سلاسل
التاء في " ثنتان " كالتاء في بنتان، إلا أنه لم يستعمل واحده كما استعمل بنت. وكذلك التاء في اثنتان كالتاء في ابنتان إلا أنهم لم يقولوا اثنةٌ كما قالوا ابنة. والشاعر حكى كما دار بينهم عند الالتقاء فيقول: أدارنا أعداؤنا على خصلتين حكمواعلينا بهما، وخيرونا فيهما، وهو الاستسلام الذي آخره الأسر، أو القتل الذي أوله الامتناع والدفع. وقوله " ثنتان " أراد خصلتان اثنتان، ثم فسرهما بقثوله " صدور رماح أشرعت " وخص الصدور لأن المقاتلة بها تقع، ويجوز أن يكون ذكر الصدور وإن كان المراد الكل كما قال:
الواطئين على صدور نعالهم
وإن كان الوطء للصدور والأعجاز. وكنى عن الأسر بالسلاسل. وقوله " لا بد منهما " أراد لا بد منهما على طريق التعاقب لا على طريق الجمع بينهما، وإلا سقط التخيير الذي أفاده " أو " من قوله " أو سلاسل ". ألا ترى أنه إذا قال خذ الدينار أو الثوب، وكل السمك أو اشرب اللبن، فليس فيه الجمع بينهما. وإذا كان الأمر على هذا فالمعنى لا بد من إحداهما. و " أشرعت ": هيئت للطعن. وكذلك شرعت. ويستعمل في السيف أيضاً وكان الأصل فيه مشارع المياه. وفي المثل: " أهون الورد التشريع "، أي إيراد الشريعة.(1/37)
فقلنا لهم تلكم إذاً بعد كرةٍ ... تغادر صرعى نوءها متخاذل
يقول: أجبناهم وقلنا تلكم، " أي تلك " التخييرة وذلك التحكم. ولا يجوز أن تكون الإشارة بتلكم إلى واحدة من هاتين الخصلتين اللتين تقدم ذكرهما، لأنه لا اختيار فيهما لمختارٍ حكمه حكم هؤلاء، إلا أن يكون الكلام على طريق التهكم والسخرية. والمعنى إنما يكون ذلك بعد عطفةٍ وجلوٍ تترك بيننا قوماً مصروعين يخذلهم النهوض ولا يطيقون الحراك. وإذاً، هو جوابٌ وجزاءٌ، وهو ملغىً هاهنا. وكم من تلكم للخطاب لا للضمير، فلا موضع له من الإعراب. واختار أن يقول " متخاذل " لأن هذا النباء يختص بما يحدث شيئاً بعد شيء. على ذلك قولهم تداعى البناء كأن أجزاء النمهوض يخذل بعضها بعضاً فلا يكمل، وكأنه أنكر عليهم الاشترط والتحكم والإلجاء منهم إلى ذلك، فقال: يسوغ متا ابتدأتم فيه لكم بعد جولةٍ يتعقبها هذا الأمر. ويجوز أن يكون الحكم والتخيير بقوله " ثنتان لا بد منها " وقع بين الحرب والاستئسار، لا القتل والاستئصال، فاختاروا المحاربة. والإشارة بقوله تلكم حينئذ يجوز أن تكون على ما قدمته، ويجوز أنم تكون إلى ما دل عليه قوله أو سلاسل، من الأسر فكأنه قال: الخصلة الثانية نؤخرها وننظر في الأولى ماذا ينتتج منها. وقوله " تغادرصفةٌ للكرة، وقوله " نوءها " الضمير يعود إلى صرعى، والجمع مآله إلى التأنيث، ولو قال نوءهم لكان أحسن. والنوء: النهوض، وهو أصل المناوأة، وإن اشتهرت في المعاداة. ويكون النوء: السقوط أيضاً. ويشبه هذا قول الآخر:
ينوء بصدره والرمح فيه
ولم ندر إن جضنا من الموت جيضةً ... كم العمر باقٍ والمدى متطاول
جاض عن قرنه وحاص بمعنىً، أي عدل وانحرف. والعمر والعمر لغتان: الحياة والبقاء. ومنه قولهم: لعمر الله، وعمرك الله. إلا أنه في اليمين لا يستعمل إلا بفتح العين. وقوله " كم العمر " في موضع الظرف، والمعنى كم يوماً أو وقتاً العمر باقٍ. وارتفع العمر بالابتداء. والواو في وقته " والمدى متطاول " واو الحال، أي كم العمر باقٍ ومداه متطاول. ولم يأت بالضمير لأن الواو أغنى عنه، والمعنى لم نعلم إن عدلنا عن الحرب عدلةً كم بقي من أعمارنا، وغايات العمر ممتدة مبهمة حتى لا ينتهي أحدٌ منها إلى حد إلا وكما يرجو أن يتصل بعده أيضاً لا يأمن أن ينقطع، فكأنه قال: إذا كان الحال في الأعمار على هذا أبداً فلا معنى للعدول عن الحرب، إذ لا(1/38)
يمتنع من تطاول المدى في رجاء العمر أن يقصر في نفسه وينقطع عن المأمول فيه. ويجوز أن يتعلق الحال الذي دل عليه " والمدى متطاول " بإن جضنا. والتقدير لم ندر إن جضنا مدانا متطاولٌ كم العمر باقٍ أي مدى رجائنا. وهذا حسنٌ عندي. ويجوز أن يكون الواو عاطفةً كأنه قال: لم نعلم كم العمر باقٍ وكم المدى متطاولٌ إن جضنا. وحكي عن بعض المتأخرين أنه فسر العمر على أنه الحين، قال ومنه قوله تعالى: " فقد لبثت فيكم عمراً " وهذا إذا حقق يرجع إلى الأول.
إذا ما ابتدرنا مأزقاً فرجت لنا ... بأيماننا بيضٌ جلتها الصياقل
يقول: إذا ما استبقنا إلى مضيق في الحرب وسعته لنا سيوف مصقولة بأيماننا والفائدة فى قوله " جعلتها الصياقل " اهتماتهم بإصلاح آلات الحرب، لدوام مزاولتهم لها. وجعل الفعل للسيوف على المزاج والسعة.
لهم صدر سيفي يوم بطحاء سحبلٍ ... ولي منه ما ضمت عليه الأنامل
هذا مثل قوله:
منابرهن بطون الأكف ... وأغمادهن رءوس الملوك
وإن كان فى هذا تقسيم خلا منه المشبه. ولك أن تروى " ما ضمت عليه الأنامل " و " ضمت "، فإذا قلت ضمت فالمعنى ضبطت عليه الأنامل.
وإذا قلت فالمعنى قبضته الأنامل. والبطحاء والأبطح: مسيل فيه دقاق الحصى واسع. وهما صفتان أخرجتا إلى باب الأسماء. وبطحاء مكة وأبطحها معروفان، والتأنيث والتذكير فيهما يحملان على البلدة والبقعة، والبلد والمكان، إلا أنه لايقال مكان أبطح ولا بقعة بطحاء. ويقال: تبطح السيل، إذا سال عريضاً. فأما " سحبل " فاسم موضعٍ أضيف البطحاء إليه، كما يقال صحراء سحبل. ويقال ضب سحبل، إذا كان عريض البطن. ولا يمتنع أن يكون المكان سمى به لاتساعه.
وقال أيضاً:
لا يكشف الغماء إلا ابن حرةٍ ... يرى غمرات الموت ثم يزروها
معنى " يرى غمرات الموت " أن يتحققها بالممارسة حتى يصير كأنه أدركها بحاسة العين وشاهدها، فيقول: لا يكشف الخصلة الشديدة إلا رجلٌ كريم يرى قحم(1/39)
الموت ثم يتوسطها ويصبر فيها ولا يعدل عنها. وإنما قال " ابن حرةٍ " لينبه على زوال الهجنة منه، وخلوص مولده مما يشوبه، وليصير كرمه مهيجاً لأنفته، ومصبراً له على كل ما يدفع إليه من الشر إلا أن يزيله. ولأن ما يستنكف منه العرب هو الهجة إذ كان من ليس أبوه من العرب خارجاً من أن يكون عربياً. والغماء والغم والغمة والغمم مرجع جميعها إلى التغطية. فإن قيل: لم عطف الزيارة على رؤية الغمرات بحرف المهلة، وهلا جعلها عقيب الرؤية؟ قلت: إن " ثم " وإن كان في عطفه المفرد على المفرد يدل على التراخي فإنه في عطفه الجملة على الجملة ليس كذاك. ألا ترى قوله عز وجل: " وما أدراك ما العقبة. فك رقبةٍ. أو إطعامٌ في يوم ذي مسغبةٍ. يتيماً ذا مقربةٍ. أو مسكيناً ذا متربةٍ. ثم كان من الذين آمنوا ". ولا يجوز تراخي الإيمان عن شيء مما عدده وذكره.
تقاسمهم أسيافنا شر قسمةٍ ... ففينا غواشيها وفيهم صدورها
وضع " قسمةٍ " موضع مقاسمة، أراد شر مقاسمةٍ. وانتصاب " شر " على المصدر. والغواشي: القوائم، وتكون الأغماد أيضاً. والصدور، أراد بها المضارب، وإنما قال: شر قسمةٍ، لأن من حمل على مثل هذه القسمة فيما يقاسم عليه كان الشر له. وهذا أيضاً مثل قوله:
لهم صدر سيفي يوم بطحاء سحبلٍ
والمعنى قاسمناهم سيوفنا ففينا مقابضها وفيهم مضاربها.
وقال أيضاً:
هواي مع الركب اليمانين مصعدٌ ... جنيبٌ وجثماني بمكة موثق
هذه الأبيات ضمنها هذا الباب اما اشتملت عليه من حسن صبره على البلاء، وقلة ذعره من الموت والفناء، واستهانته بوعيد المنوعد وحذقه برسفان المقيد. و " هواي " ياء الإضافة فتحت منه على الأصل، وذاك أن هذه الياء لما كان ضمير اسمٍ على حرفٍ واحدٍ متطرف كرهوا أن تسكن فتختل فجعلوا من أصله التحريك، فإذا كان(1/40)
ما قبله متحركاً كغلامي وداري: كان لك فيه وجوهٌ: تحريك الياء وهو الأصل، وتسكينه تخفيفا، وحذفه من النداء إذا قلت يا غلام، وإبدال الألف منها مع انفتاح ما قبلها كقولك وابأباهما ويا غلاما أقبل. وإذا سكن ما قبله فمتى كان واواً أو ياءً أدغم فيه ولم يكن بدٌ من تحريكه لئلا يلتقي ساكنان، تقول مسلمي في الجميع ومسلمي في التثنية. وإذا كان ما قبله ألفاً كعصاي وقفاي وهواي، لم يكن بدٌ من الإتيان به على الأصل، وهو تحريكه، لئلا يلتقي ساكنان أيضاً، ولا يجوز الإدغام ها هنا كما جاز مع الواو والياء، لأن الألف لا تدغم في شيء ولا يدغم فيها غيرها، لكنها هوائيةً لا معتمد لها في المخرج، إلا في لغة هذيلٍ، لأنهم يبدلون من الألف الياء ويدغمون. على هذا قوله:
سبقوا هوىً وأعنقوا لهواهم ... فتخرموا ولكل جنبٍ مصرع
واليمانون: جمع يمانٍ، والنسبة إلى يمنٍ يمنىٌ، لكنه حذف إحدى ياءي النسب وأتي بالألف عوضاً منه. ومثله شآمٍ وتهامٍ، ومعنى البيت هواي راحلٌ ومبعدٌ مع ركبان الإبل القاصدين نحو اليمن، منضمٌ إليهم، مقودٌ معهم، وبدني مأسورٌ مقيدٌ بمكة. وراكبٌ وركبٌ مثل تاجرٍ وتجرٍ. وقد قيل في الجثمان إنه الشخص والجسمان الجسم، هكذا قاله الأصمعي. والشخص إنما يستعمل في بدن الإنسان إذا كان قائماً. والخليل ذكر في العين أن الجثمان والجسمان بمعنىً واحدٍ. وأصعد في الأرض: أبعد، وحكي أن صعدة اسمٌ علمٌ للأرض، وأن الصعيد منه. ولهذا قيل لحمر الوحش: بنات صعدة، وأولاد صعدة. وهذا إن ثبت فهو كما يقال بنات البر. وقوله " جنيبٌ " أي مجنوبٌ مستتبعٌ. وذكر أن بعضهم يرويه " حثيثٌ "، والصحيح الأول لفظاً ومعنىً.
عجبت لمسراها وأنى تخلصت ... إلي وباب السجن دوني مغلق
يقول: تعجبت من سير هذه الخيال إلي، ومن حسن توصلها مع هذه الحال، وهو أن باب السجن مرتجٌ دوني. فأما تعجبه من سيرها فعلى غادة العرب والشعراء في وصف الخيال، وذاك أنهم يجرونها مجرى المرأة نفسها، فيستطرفون منها ما(1/41)
يستطرف من تلك لو وقع الفعل منها على الحقيقة مع نعمتها. وهذا كما قال غيره:
طرق الخيال ولا كليلة مدلج ... سدكاً بأرحلنا ولم يتعرج
وكما قال الآخر:
وأنى اهتدت والدو بيني وبينها ... وما خلت ساري الليل بالدو يهتدي
وأما تعجبه من توصلها فهو تعجب من لطفها في ذلك، وحسن تأتيها، مع العوارض والموانع. والمسرى يصلح في اللغة أن يكون مصدراً ومكاناً ووقتاً والبيت لا يمتنع من وجوهه. وأنى معناه كيف، أو من أين، كذا قال سيبويه. وقد تجرد لأن يكون بمعنى كيف في قول الكميت:
أنى ومن أين آبك الطرب
أتتنا فحيت ثم قامت فودعت ... فلما تولت كادت النفس تزهق
التحية: السلام والملك والبقاء. والمحيا: الوجه من الإنسان، لأنه يخص عند التسليم بالذكر فيقال حيا الله وجهك، وإن كانت الجملة متلقاةً به. وقيل التحية مشتقة من الحياة أوالحياء. والمحاياة: تحية القوم بعضهم بعضا. والمحيا من الفرس: حيث انفرق اللحم تحت الناصية. فيقول حاكياً لحال الخيال: جاءتنا فسلمت علينا، ثم لم تلبث إلا قليلاً حتى قامت وأعرضت، فلما تولت كادت النفس تخرج في أثرها. ويروى: " ألمت فحيت ". والإلمام: الزيارة الخفيفة. وقوله " لما تولت " جوابه " كادت النفس " وهو علمٌ للظرف. ومتى كان علماً للظرف لم يكن له بدٌ من جوابٍ، لأنه يكون لوقوع الشيء لوقوع غيره. وتزهق خبر كادت، لأن كاد ككان وأخواته ها هنا إذا وقع بعده الاسم، وهو موضوعٌ لمشارفة الفعل ومشافهته، ولهذا وجب ألا يكون معه " أن ". تقول: كاد يفعل، ولا يجوز أن يفعل إلا في الشعر. ومعنى تزهق: تهلك، ومنه قيل للبئر البعيدة القعر والمتلفة البعيدة: زاهقةٌ وزهوق. وفي القرآن: " فإذا هو زاهقٌ ". ويجوز أن يريد به في البيت(1/42)
تخرج في إثرها سريعةً لما تولت. ومنه زهقت الراحلة: تقدمت. وزهق السهم: أسرع.
فلا تحسبي أني تخشعت بعدكم ... لشيءٍ ولا أني من الموت أفرق
ترك الإخبار عنها وأقبل عليها يخاطبها، جرياً على عادتهم في التنقل والافتنان في التصرف. ومعنى تخشعت: تكلفت الخشوع. والخشوع في البصر كالخضوع في البدن. ويقال: اختشع فلانٌ، إذا طأطأ رأسه رامياً ببصره إلى الأرض وهو خاشع الطرف خاضع العنق. يقول مستهيناً بما اجتمع عليه من الحبس والتقييد، ومتبجحاً عندها بالصبر على الهوى والتهالك فيه - وبهذا دخلت الأبيات في الحماسة - لا تظني أني تكلفت الخشوع بعدكم لشيءٍ عارضٍ، ولا أني أخاف من الموت. والفرق: الخوف، وهو فرقٌ وفروقٌ وفروقة. وقال:
أنوراً سرع ماذا يا فروق
فإن قيل: فأين مفعول تحسبي؟ قلت: قد نابت الجملة، وهو قوله " أني تخشعت بعدكم " عن المفعولين. ألا ترى أن تقديره لا تحسبيني خاشعاً، فكما أن المفعولين يحصلان من دون " أن " كذلك إذا دخل " أن " في الكلام ينوب مع ما بعده عنهما، لأن اللفظ بالمفعولين قد حصل وإن كانا في صلة أن. وأن وما بعده في تقدير اسمٍ، وهذا كما تقول: لو أنك جئتني لأكرمتك، إذ كنت قد لفظت بالفعل في صلة أن، وإن كنت لا تقول لو مجيئك.
ولا أن نفسي يزدهيها وعيدكم ... ولا أنني بالمشي في القيد أخرق
الوعيد والوعد من أصلٍ واحدٍ، وإن كان أحدهما ضماناً في الخير والآخر ضماناً في الشر، لكنه فرق بين المعنيين بتغيير البناءين، كما فعلوا مثل ذلك في العدل والعديل، فجعلوا أحدهما في الأناسي والآخر في غيرهم. يقول: ولا تظني أن نفسي يستخفها تهددكم، ولا أنني ضجرت بالرسفان، وهو المشي في القيد. ويقال زهاه زهواً وازدهاه، إذا استخفه. ويستعمل الزهو في الباطل والتزيد في القول. يقال: قال زهواً، وفي الكبر يقال زهي لا غير، وهو مزهوٌ، والأصل الخفة. والأخرق: القليل(1/43)
الرفق بالشيء. وقال أهل اللغة: الخرق: ضد الرفق. وفلان رقيقٌ وفلان أخرق. وربما قالوا: فلانٌ صنع وفلان أخرق. قال:
وهى صناع الرجل خرفاء اليد
ويروى " أخرق " بضم الراء فيكون فعلاً، و " أخرق " بفتح الراء فيكون صفةً.
ولكن عرتني من هواك صبابةٌ ... كما كنت ألقى منك إذ أنا مطلق
قوله " كما كنت ألقى منك "، الأجود أن يكون " ما " موصوفة غير موصولة، لأنك إذا جعلتها موصوله كانت معرفة وفي تقدير الذي، والقصد إلى تشبيه صبابةٍ مجهولةٍ بمثلها، والتقدير عرت صبابةٌ تشبه صبابةً كنت أكابدها فيك في ذلك الوقت. كأنه شبه حاله فيها بعد ما مني به بحاله من قبل. ومفعول ألقى محذوف تخفيفاً له، أراد كما كنت ألقاه منك. ويقال عراه وأعراه بمعنىً واحد. ومنه عراء الدار وعروتها بفتح العين، أي حيث تعرى منه أي حيث تؤتى. يقول: ولكني تعروني في الهوى رقة شوقٍ وجهد صبابة، كما كنت أقاسيه منك وفيك حين كنت مطلقاً ومخلىً. والفعل من الصبابة صببت بكسر الباء، والصفة صبٌ. وقوله " إذ أنا مطلق " الجملة في موضع جر بالإضافة، وقد شرح بها " إذ " كأنه قال: وقت إطلاقي.
وقال أبو عطاء السندي:
ذكرتك والخطي يخطر بيننا ... وقد نهلت منا المثقفة السمر
يعني بالخطي رمح نفسه، أي يتردد بالطعن. كأنه يصور حاله وما يكابده في مجاهدة أعدائه. والخط: سيف البحرين وعمان وإليه ينسب القنا. وكأن قولهم: الخطيطة، وهي أرض لم تمطر بين أرضين ممطورتين، منه. والخطر أصله التحرك، يقال مر يخطر خطراً، وخطر البعير بذنبه خطراً وخطراناً. فنبه بهذا الكلام على قلة مبالاته بالحرب، وأن نفسه تاقت والرمح يختلف بالطعن بينهم إليها حتى كانت تلك همه وشغله، فقال: ذكرتك بقلبي ورماح الخط تضطرب في الحرب بيننا، وقد رويت منا أي من دمائنا. وروى بعضهم: " وقد نهكت منا المثقفة " من نهك المرض، وليس(1/44)
بشيءٍ: ومصدر ذكرتك ذكر بضم الذال، لأن الذُكر بالقلب والذِكر باللسان. والاسم من نهلت النهل. والمورد: المنهل: وقد عد الناهل في الأضداد، لوقوعه على الريان والعطشان، وكأن حقيقة النهل أول السقي، والاكتفاء به قد يقع وقد لا يقع فلذلك استعمل الناهل في الري والعطش.
فوالله ما أدري وإني لصادقٌ ... أداءٌ عراني من حبابك أم سحر
أقسم بالله على استواء علمه بالحالتين اللتين ذكرهما. ويسمي الألف التي في قوله " أداءٌ عراني " ألف التسوية، لهذا الذي ذكرناه. وكذلك لو قال: ليت شعري أزيدٌ في الدار أم عمروٌ، لكان الألف ألف التسوية أيضاً، لأنه بتمنيه العلم بما ذكره من الأمرين، دل على استواء درايته بهما: " وعراني " معناه أصابني. يقال عراه يعروه، واعتراه يعتريه، وعره يعره بمعنىً واحد.
و" الحباب " بمعنى الحب، كأنه مصدر حببته. وقد يكون مصدر حاببته ويكون من اثنين. ويكون أيضاً جمع الحب، وكأنه جمعه على اختلاف أحواله فيه، كما تجمع الشمس على مواقعها. ويروى " جنابك " والمعنى من ناحيتك. وقوله " إني لصادقٌ " يجوز أن يريد به صدقه في الخبر، ويجوز أن يريد بره في الحلف، ومرجع الوجهين إلى معنىً واحدٍ.
فإن كان سحراً فاعذريني على الهوى ... وإن كان داء غيره فلك العذر
السحر والتمويه يرجعان إلى معنىً واحد، ولذلك قال تعالى: " سحروا أعين الناس "، أي أخرجوه على وجهٍ في ورأى العين وحقيقته على خلافه. والسحارة: لعبة ذلك صفتها. ويقال عنزٌ مسحورةٌ، إذا عظم ضرعها وقل لبنها. وأرض مسحورة، إذا لم تنبت شيئاً: فيقول: إن كان ما بي سحراً فلي عذرٌ في هواك، لأن من يسحر يحبب، وإن كان داءً غير السحر فالعذر لك، لأني وقعت فيه بتعرضي لك، وفكري في محاسنك، والدلالة على أن " فاعذريني " في موضع فلي عذرٌ، ما قابله به من قوله " فلك العذر ". وفي هذا إسقاط سؤال السائل: لم قال اعذريني ولاذنب له وإنما يحتاج إلى بسط العذر من له ذنب أو يتصور بصورته، وانتصاب " داء " على أن يكون خبر كان، كأنه قال: وإن كان مابي داءً. ويجوز أن يكون توهم أن تلك تصورته بصورة المذنب فيما أظهره من عشقه فقال لها: إن أنت فتنتني وأوقعتني في حبالك لما عرضت علي من محاسنك فلي عذرٌ حين افتتنت،(1/45)
لأن مثل محاسنك تزل العفيف، وتنقل عن طبعه الحليم. وإن كنت المتعرض لك والجالب على نفسي ما شقيت به، فالعذر لك.
وقال آخر:
وفارسٍ في غمار الموت منغمسٍ ... إذا تألى على مكروهه صدقا
جعل للموت غماراً على التشبيه بالماء، ثم جعله منغمساً فيها فحسنت الاستعارة جداً: وتألى وائتل وآلى من الألية. ولا حلف ثم، إنما يريد الحتم والإيجاب، فيقول: رب فارسٍ داخلٍ في شدائد الموت إذا حلف على ما يكره منه أو يكون كريهاً في نفسه بر ولم يحنث أنا فعلت به كذا. ويروي " مكروهةٍ " والمعنى خصلة تكره وتشق. فعلى هذا يكون صفةً مفردةً عن الموصوف. ويجوز أن يكون مصدراً كالمصدوقة وما أشبهها من المصادر الجائية على زنة المفعول. وأضاف المكروه إذا رويت " مكروهه " إلى الفارس لوقوعه منه. والمنغمس: الداخل في الشيء، يقال غمسته في الماء وغيره، ورجلٌ مغامسٌ للذي يغشى الحرب ويتردد فيها. والغمار والغمرات جمع غمرةٍ، وهي في الماء والحرب والشر ترجع إلى الستر. ويقال رجل مغامرٌ، إذا ألقى نفسه في الغمرات والمهالك. وروى بعضهم " في غمار الموت " بضم الغين، وكسرها أجود مع ذكر المنغمس.
غشيته وهو في جأواء باسلةٍ ... عضباً أصاب سواء الرأس فانفلقا
العضب: القطع، وتوسعوا فيه فقالوا: عضبه عن حاجته، أي حبسه، وامرأةٌ معضوبةٌ أي معضولة، وسيفٌ عضبٌ أي قاطع، كأنه وصف بالمصدر. والتغشي أصله الإتيان والملابسة، ومنه الغشاوة: الغطاء. وتوسعوا فيه حتى قيل تغشاهم بالعدل أو الجور. وفي القرآن: " إذ يغشيكم النعاس أمنةً منه ". فقوله غشيته، هو كما يقال قنعته، وهو جواب رب فارسٍ هكذا أنا ضربته وهو في جيشٍ تام السلاح كريه اللقاء، بسيف قاطع أصاب وسط رأسه فشقه. والسواء: الوسط ها هنا، وفي التنزيل: " في سواء الجحيم ". ويوضع موضع المصدر ثم يوصف به، وفي التنزيل: " سواء للسائلين ". وأصاب،(1/46)
بمعنى طلب وبمعنى نال، ويقال أصبت الصواب فأخطأته. والجأواء: المخضرة، وهو من الجؤوة، يعني اخضرار السلاح. والبسالة تستعمل في الناس وغيرهم، وهي الشجاعة. ويقال رجلٌ باسل وأسدٌ باسلٌ وبسول. قال:
ما غركم بالأسد الباسل
وهذا يجوز أن يكون من البسل، وهو الحرام، كأنه لنمنعه محرم.
بضربةٍ لم تكن مني مخالسةً ... ولا تعجلتها جبناً ولا فرقا
يقال تعجلت الشيء، أي تكلفته على عجلة. ويقال أيضا أعجلته واستعجلته وتعجلته بمعنىً. والخلس: أخذ الشيء مخاتلةً، وقيل الاختلاس أوحى من الخلس. ويقال هو لك خلسةٌ، كما يقال نهزةٌ وفرصةٌ، يقول: غشيته سيفاً بأن ضربته ضربةً هكذا. فأما قوله لم تكن مني مخالسةً، فهو خلاف قول الآخر:
وقد أختلس الضرب ... ة لا يدمى لها نصلي
وقول الهذلي:
وطعنة خلسٍ قد طعنت مرشةٍ
لأن قصد الشاعر هاهنا إلى أنه تناول من خصمه ما تناول بتثبت وقوة قلب لا كما يفعله الجبان. وثم يذكر تمكنه من خصمه على شدة احترازٍ منه حتى تناول ما تناوله خلساً. وقد وصف الشجاع بالمخالس والخليس، وكذلك المصارع. ومن مدحه خصمه ثم ذكر غلبته له كان أبلغ في الافتخار به، فاعرف فرق ما بين الموضعين. وقوله: " ولا تعجلتها جبناً ولافرقاً " يؤكد ما ذكرناه. وانتصاب " جنباً " على أنه مفعول له، وهو الذي يسمى مصدراً لعلة. والمعنى: ولم أتكلف عجلتها لضعف قلبي ولا لخوفي من صاحبي. وضربة الجبان أعجل وأسرع.(1/47)
وقال ربيعة بن مقرومٍ الضبي
ولقد شهدت الخيل يوم طرادها ... بسلم أوظفة القوائم هيكل
اطراد الماء والسراب والكلام: اتساقها على حد الاستقامة والمراد. ويقال: جدولٌ مطردٌ، وبلدٌ طرادٌ، أي واسعٌ يطرد فيه السراب. وأراد بالخيل الفرسان لا الأفراس، ألا ترى أنه قال " يوم طرادها ". والطراد من الفرسان: حمل بعضهم على بعضٍ. وعلى هذا ما روي عن النبي صلى الله عليه وسلم، وهو " يا خيل الله اركبي ". والمعنى حضرتهم يوم تطاردهم بالرماح وأنا على فرسٍ ضخمٍ سليم الأوظفة من العيوب. ول " شهدت " موضعان: الحضور من قول الله تعالى: " وليشهد عذابهما طائفةٌ من المؤمنين ". وقوله عز وجل: " ما أشهدتم خلق السموات والأرض "، وحينئذ يتعدى إلى مفعول واحدٍ. والعلم والتبيين، على ذلك قول الله تعالى: " شهد الله أنه لا إله إلا هو "، وحينئذ يتعدى إلى مفعولين. وقد يقسم به كما يقسم بالعلم، فيقال يشهد الله كما يقال يعلم الله. فأما شهادة الشاهد فلابد من القول فيها. والهيكل أصله في البناء العظيم، ثم وصف به الفرس.
فدعوا نزل فكنت أول نازلٍ ... وعلام أركبه إذا لم أنزل
قوله " دعوا نزال " أي صاحوا: نزال نزال. ومنه قيل لتطريب النائحة في نياحتها: التدعي. وهذا كما قال الأعشى:
قالوا الطراد فقلناتلك عادتنا
وفي القرآن: " وآخر دعواهم أن الحمد لله رب العالمين ". ويجوز أن يكونوا جعلوا نزال على التوسع هي المدعوة وإن كانت دعي إليها؛ ويشهد لهذا الوجه قولهم:
دعيت نزال ولح في الذعر(1/48)
وفي القرآن: " دعوا هنالك ثبوراً. لا تدعوا اليوم ثبوراً واحداً وادعوا ثبوراً كثيراً ". ونزال: اسم لا نزل، مبني على الكسر، معرفةٌ مؤنث معدول. والدلالة على تأنيثه قول زهير:
دعيت نزال ولج في الذعر
والمعنى تنادوا وقالوا نزال فكنت أول النازلين. ثم قال مظهراً لترك التحمد بذلك، وأنه فيما فعله كمن أدى واجباً عليه: " وعلام أركبه ". المعنى لأي شيء أركب فرسي إذا لم أنزل إذا دعيت إلى النزال. و " ما " من " علام " حذف ألفه لأنه في الاستفهام إذا اتصل بحرف الجر يخفف بالحذف، على ذلك بم ولم وفيم وعم مم، إلا إذا اتصل بذا فيقال بماذا ولماذا، لأنه يصير ماذا كالشيء الواحد فلا يغير " ما "، وقوله " وعلام أركبه إذا لم أنزل " يجري مجرى الالتفات ويقاربه، وفائدته أنه أسقط التحمد بما فعله. به. وفي طريقته من جهة المعنى قول الآخر:
ولايحمد القوم الكرام أخاهم ال ... عتيد السلاح عنهم أن يمارسا
ومثل الأول قوله:
علام تقول الرمح يثقل ساعدي ... إذا أنا لم أطعن إذا الخيل كرت
وألد ذي حنقٍ على كأنما ... تغلى عداوة صدره في مرجل
أخرج التشبيه ما لا يدرك من العداوة بالحس إلى ما يدرك من غليان القدر، حتى تجلى، فصار كالمشاهد. والألد: الشديد الخصومة. كأنه لد بالخصومة، أي أوجر فلد به. ولذلك كان اللدد مصدر ألد. ويقال في معناه ألندد. والحنق: شدة الغيظ، يقال أحنقه فحنق، يقول رب خصم شديد الخصومة ذي غيظٍ وغضبٍ علي تغلي عداوته لي في صدره غليان المرجل بما فيه إذا كان على النار، أنا دفعته عن نفسي. وجواب رب هو صدر البيت الثاني. والحنئى يجوز أن يكون من اللزوق، كأن الحقد لزق بصدره، ومنه يقال أحنقت الدابة، إذا ضمرته.(1/49)
أرجيته عني فأبصر قصده ... وكويته فوق النواظر من عل
ذكر بعض المتأخرين في أرجيته، أن الرواية الصحيحة " أوجيته " وما عداه تصحيف. قال. وهو أفعلته من الوجى، وإنما أوجب ذلك ليكون لفق قوله بزعمه: " وكويته ". والمعنى أذللته ورددته رازحاً كرزوح الفرس الوجى. ثم أنشد قول طرفة مؤنساً به:
وقومٍ تناهوا عن أذاتي بعدما ... أصاب الوجى منهم مشاش السنابك
قال الشيخ: ولقد قضيت العجب من هذا المستدرك، ومن ضلاله عن طريق الرشاد فيما قصده من المعنى، ورواه في الاستشهاد، وذلك أن شعر طرفة إنما هو:
وما زال شربي الراح حتى أشرني ... صديقي وحتى ساءني بعض ذلك
وحتى يقول الأقربون نصاحةً ... دع الغي واصرم حبله من حبالك
وحتى تناهوا عن أذاني بعد ما ... أصاب الوجى منهم مشاش السنابك
فقوله: " حتى تناهوا " ليس مما فسره واستشهد له بسبيل، إنما يريد طرفة أنه أبعد غايته في الخسارة، وتمادى في تعاطي الصبا والجهالة، فلم يصخ لناصحٍ، ولم يرعو لعاذلٍ، حتى نفضوا أيديهم من إنابته، ويئسوا من قبوله وإعتابه، فألقوا حبله على غاربه: وصاروا من بين ناسبٍ له إلى الشر، ومسيءٍ إليه في القول، وقاذفٍ إياه بالغي، فأفضت بهم الحال إلى أن تناهوا بعد أن بلغ منهم العناء كل مبلغ، وأثر فيهم الإعياء والإخفاء أشد تأثير. ألا ترى أنه جعل الوجى في المشاش من السنابك منهم. فهذا ما عليه في الرواية، والذهاب عن طريقة الشاعر. وبعد فإنه لا يقال أوجيت الدابة عني ويراد الإخفاء، ولم يسمع في التذليل ذكر الحفى والوجى مستعاراً كما سمع الكي والوسم فيه. وبعد الغوص لا يدري على ماذا يهجم بصاحبه. والرواية الصحيحة " أرجأته " و " أرجيته " وهما لغتان، والهمز أفصح. قد قرى: " ترجى من تشاء منهن " و " ترجى ". ويروى: " أوحيته "، ويروى: " أزجيته " والمعاني تتقارب في الكل. يقول: رب خصمٍ هكذا أنا وحيته عن نفسي وصرفته، وقد أبصر رشده، وعرف مقدار نفسه، فعاد إليه بعد أن كان يشتط فيما له، ويتغابى عما عليه. والقصد: ما لا سرف فيه، ولذلك قيل اقتصد في كذا. وطريقٌ قاصدٌ إذا كان على حد الاستواء. ومن كلامهم: ضل عن قصد الطريق، كما قيل: ضل عن(1/50)
سواء السبيل. قال الراجز:
إني إذا حار الجبان الهدره ... ركبت من قصد الطريقٍ منجره
وقوله: " وكويته فوق النواظر " يشبهه قول الآخر:
ولو غير أخوالي أرادوا نقيصتي ... جعلت لهم فوق العرانين ميسما
أي كويته من عل فوق ناظره، أي وسمته بسمةٍ من الذل اشتهر بها، ولم يمكنه إخفاؤها. ويقال لمن يتوعد بالإذلال والتشويه: لأسمنك وسماً لا يفارقك. ولذلك قال جرير:
لما وضعت على الفرزدق مبسمي ... وضغا البعيث جدعت أنف الأخطل
وكما يجعلون هذه السمة في الجبين يجعلونها في الأنف، ولذلك قال الأعشى:
أنف من أنت واسم
وفي القرآن: " سنسمه على الخرطوم ". فإن قيل: لم أتى بقوله من عل، وقد قال فوق النواظر ويعلم منه أنه أعلى؟ قيل: إن التقدير كويته من عل فوق النواظر، أي من أعلاه فوق ناظره، وفيه التقديم والتأخير، ولو سكت على من عل لكان يجوظ أن يكون فوق النواظر ودون النواظر، لكنه بين أن قصده إلى الجبين بميسمه. والمعنى شهرته بإذلالي، ووسمته بكي حيث يظهر للناظرين ولا يخفى. وانتصاب " فوق " يجوز أن يكون على التبدل من الضمير في كويته، لأن " فوق " من الظروف المتمكنة. ويجوز أن تجعله ظرفاً تريد كويته في هذا المكان مما علا منه. وإنما لم يبن من عل لأنه جعله نكرة، كما تقول أتيته قبلاً أي أولا، وأنت لا تقصد إلى أنه مضاف إلى معرفةٍ مخصوصةٍ، فاعلمه. ومنه:
كجلمود صخرٍ حطه السيل من عل(1/51)
فالكسرة في الموضعين كسرة إعراب، وإن شئت جعلته معتل الآخر لا منقوصاً كشجٍ وقاضٍ، وجعلته في النية مضافاً، فيكون معرفة وتنوى ضمة البناء في موضع لامه، كما تنويها في الياء من قاضٍ وغازٍ إذا ناديت بهما واحداً بعينه. وفي على لغاتٌ كثيرةٌ، وله نحوٌ في البناء والإعراب ليس لأخواته من الغايات، وليس هذا موضع شرحه.
قال سعد بن ناشب بن مازن بن عمرو بن تميم:
سأغسل عني العار بالسيف جالبا ... علي قضاء الله ما كان جالبا
القضاء، أصله الحتم والإيجاب، ثم يستعمل في إكمال الصنع والفراغ من الشيء. ولهذا قيل قضي قضاؤك، أي فرغ من أمرك. وفي القرآن: " فقضاهن سبع سموات ". ويروى: " قضاء الله " بالرفع والنصب، فإذا رفعته فإنه يكون فاعلا لجالباً علي، وما كان جالباً في موضع مفعوله، ويكون القضاء بمعنى الحكم. والتقدير: سأغسل العار عن نفسي باستعمال السيف في الأعداء، في حال جلب حكم الله على الشيء الذي يجلبه. وإذا نصب القضاء فإنه يكون مفعولاً لجالباً وفاعله ما كان جالباً، ويكون القضاء الموت المحتوم والقدر المقدور، كما يقال للمصيد الصيد، وللمخلوق الخلق. والمعنى جالباً الموت على جالبه. وذكر بعضهم أن " كان " من قوله ما كان جالباً في معنى صار. قال: ومثله:
بتيهاء قفرٍ والمطي كأنه ... قطا الحزن قد كانت فراخاً بيوضها
لأن المعنى قد صارت.
وأذهل عن داري وأجعل هدمها ... لعرضي من باقي المذمة حاجبا
الذهول: ترك الشيء متناسياً له ومتسليا عنه، ومنه اشتقاق ذهلٍ. يقول: إذا ضاق المنزل بي حتى يصير دار الهوان انتقلت عنه، وأجعل خرابه وقاية للنفس من(1/52)
العار الباقي، والذم اللاحق. وهذا قريبٌ من قوله:
وإذا نبابك منزلٌ فتحول
وهو ضد المعنى الذي يقصدونه بالثبات فيه والصبر عليه، من الإقامة في دار الحفاظ والافتخار به، لأن الاتنقال ثم هو الجالب للعار، كما أن الأقامة هنا هو الجالب. فمن ذلك قوله:
وتقيم في دار الحفاظ بيوتنا ... زمناً ويطغن غيرها للأمرع
ومنه قوله:
يقال محبسها أدنى لمرتعها ... وإن تعادى ببكءٍ كل محلوب
وفي ضده قوله:
دار الهوان لمن رآها داره ... أفراحلٌ عنها كمن لم يرحل
وقول الآخر:
ولسنا بمحتلين دار هضيمةٍ ... مخافة موتٍ إن بنا نبت الدار
وانتصب " حاجبا " على أنه مفعول ثانٍ لأجعل، لأنه بمعنى أصير. والتقدير: أجعل هدمها حاجباً لعرضي، ومانعاً من باقي الذم. ول " جعلت " غير مواضع، يكون بمعنى خلقت وأنشأت فيتعدى إلى مفعولٍ واحد، كقول الله تعالى: " وجعل الظلمات والنور "؛ ويكون بمعنى سميت، كقوله تعالى: " وجعلوا الملائكة الذين هم عباد الرحمن إناثاً "؛ ويكون بمعنى ظننت، تقول: جعلته عبداً وشتمته، أي ظننته؛ ويكون بمعنى طفق فلا يتعدى. تقول جعل يكلمه، أي أقبل. وعلى هذا قوله:
جعلت وما بي من جفاءٍ ولاقلى ... أزوركم يوماً وأهجركم شهرا
ويصغر في عيني تلادي إذا انثنت ... يميني بإدراك الذي كنت طالبا(1/53)
أراد بقوله " يصغر " صغر القدر وخفته ونزارته في الهم والفكر. وخص " التلاد " وهو المال القديم، لأن النفس بمثله أضن، وبه أنفس، وله أضبط. نبه بهذا الكلام على أنه يخف عل قلبه ترك الدار والوطن خوفاً من التزام العار، كذلك يقل في عينه إنفاق المال عند انصراف اليد حائرةً للمطلوب، جامعةً له. وجواب " إذا " قدم عليه وهو قوله " يصغر "، فأما قوله " كنت طالباً "، فقد حذف منه الضمير العائد إلى الذي، والتقدير كنت طالبه.
فإن تهدموا بالغدر داري فإنها ... تراث كريمٍ لا يبالي العواقبا
الهدم: القلع والتخريب، ويسمى المهدوم هدماً. قال:
كأنه هدجم في الجفر منقاض
وتوسعوا فيه فقيل للثوب الخلق هدمٌ، وجمعه أهدامٌ. وقيل عجوزٌ متهدمةٌ أي هرمةٌ فانية. وتهدم عليه من الغضب، كما يقال تهجم. والغدر: ترك الوفاء، ومنه غادرته، والغدير. وكأن هذا الرجل كان أخل بداره لنائبةٍ نابته فصار يخاطب أعداءه ويريهم قلة فكره فيما تجري عليه أحواله من جهتهم، وفيما تفضي عواقب أمره إليه معهم، فيقول: إن تخربوا داري غدراً منكم فإنها ميراث رجلٍ هكذا، ويعني به نفسه، وسمي ملكه ميراثاً وهو حيٌ، والمعني أنه سيورث، وهذا تسمية الشيء المتنقل في أيدي ملاكه والمتصرفين فيه على التشبيه: ميراثاً، وإن لم يتنقل بالأسباب والأنساب. على ذلك قول الله عز وجل: " ولله ميراث السموات والأرض "، وقوله: " وأورثكم أرضهم وديارهم وأموالهم ". وتراث، أصله وراثٌ، والتاء فيه كالتاء في تكأةٍ وتخمةٍ. وقوله: " تراث كريمٍ " أراد بالكرم التنزه عن الأقذار، والتباعد من جوالب العار. على ذلك قول الله تعالى: " وإذا مروا باللغو مروا كراماً ". وقوله: " لايبالي العواقبا " يقال: ما باليته بالةً وباليةً ومبالاةً وبلاء، وما باليت به. وكأنه أخذ من البلاء، واستعمل في المفاخرة وتعداد الخصال الحسنة عند المنافرة، ثم كثر استعماله حتى صار يقال في الاستهانة بالشيء. ويشهد لهذا الذي قلناه قول الآخر:
مالي أراك قائماً تبالي ... وأنت قدمت من الهزال(1/54)
أي تفاخر.
أخي عزماتٍ لا يريد على الذي ... يهم به من مقطع الأمر صاحبا
يقال: ما له عزمٌ وماله عزيمةٌ، أي تثبتٌ وصبرٌ فيما يعزم عليه. وحقيقة العزم: توطين النفس وعقد القلب على ما يرى فعله، ولذلك لم يجز على الله عز وجل. والاعتزام: لزوم القصد وترك الانثناء، ولذلم قيل اعتزم الفرس على الجري. يصف نفسه بأنه صاحب هممٍ وأخو عزماتٍ، مستبدٌ برأيه فيها غير متخذٍ رفيقأً، ولا مستنصرٍ أخاً وصديقاً، و " مقطع الأمر " أراد فصله والخروج منه. ويروى: " أخي غمرات " وهي الشدائد. ويروى: " من مفظع الأمر " وهو من مفظع الأمر وأفظع، فظاعةًَ وإفظاعاً، وهو فظيعٌ ومفظعٌ. أو من أفظعني الأمر ففظعت به، أي أعياني فضقت به ذرعا. وقوله: " صاحبا " صغةٌ في الأصل استعملت استعمال الأسماء، فلم يجر مجرى أسماء الفاعلين، ويجري على طريقته قولهم والدٌ.
إذا هم لم تردع عزيمة همه ... ولم يأت ما يأتي من الأمر هائبا
اللهم: ما تحيل لفعله وإيقاعه فكرك. والهمة: اسم الحالة التي تكون عليها في ذلك. ويقال في المثل لمن يعير بطول الأمل: " تهم ويهم بك "، ومنه المهمات، وهذا يخبر عن نفسه بأنه يتبع الرأي الأول. وهذا طريقه الفتاك لأن الرجوع عن الرأي إلى غيره طريقة من يتدبر العواقب فيترك الشيء إلى الشيء لما يرجوه من حسن المآب. فقال: إذا هم هذا الرجل بشيء أنفذ عزيمته ولم يردعها، ولم يفعل ما يفعله خائفاً. ومثله قول الآخر:
جسور لا يروع عند هم ... ولا يثني عزيمته اتقاء
ويقال: ردعته فارتدع، أي كففته ورددته ردعاً. ومنه الرداع في العلة وهو النكس، يقال ردع ردعاً ورداعاً. والهيبة تكون من الذعر ومن الإجلال جميعاً، ويقال للجبان هيوب وهيوبة، والهاء للمبالغة، وللمحتشم مهيب. وفي الحديث: " الإيمان هيوب ". ويقال: تهيبت الشيء وتهيبني بمعنى، لما كان لا يلتبس، ومثله من المقلوب كثير.(1/55)
فيال رزام رشحوا بي مقدماً ... إلى الموت خواضاً إليه الكتائبا
ويروى: " الكرائبا ". الفاء من قوله " فيال رزام " النية بها استئناف ما بعدها وإن نسق بها جملة على جملة. واللام من يال رزام، هو لام الاستغاثة، ورزام ينجر به وهم المدعوون. وأصل حركة لام الإضافة إذا دخل على ظاهر الكسر، ولهذا إذا عطف على الام بلام أخرى كسرت الثانية، تقول: يالزيد لعمرو، ولكن هذه فتحت لكون ما بعدها منادى، ووقوع المنادى على هذا الحد موقع المضمرات، فكما قيل لك وله، قيل يالزيد. وقوله " رشحوا بي مقدما " بكسر الدال بمعنى متقدما، فهذا كما يقال وجه بمعنى توحه، ونبه بمعنى تنبه ونكب بمعنى تنكب. وعلى هذا قولهم مقدمة الجيش، ومن فتح الدال فالمعنى على أنه يقدم ليقيهم بنفسه. " خواضاً إليه الكتائبا "، انتصب الكتائب على أنه مفعول خواص. ويروى " الكرائب " وهي الشدائد جمع كريبة، والأصل في الكرب: الغم الذي يأخذ بالنفس. والترشيح أصله التنبيت والتربية، ومنه قيل رشحت المرأة ولدها إذا درجته في اللبن، ثم قيل رشح فلان لكذا، توسعاً. ومعنى البيت: يا بنى رزام هيئوا بي رجلاً يتقدم إلى الموت ولا يحيد عنه، مقتحما الجيوش والشدائد غير متنكب ولا حائد. ويروى: " رشحوا بي مقدماً "، وتلخيصه: رشحوا بترشيحكم رجلاً هذه صفته، فأقام الصفة مقام الموصوف.
إذا هم ألقى بين عينيه عزمه ... ونكب عن ذكر العواقب جانبا
قوله: " ألقى بين عينيه عزمه "، أى جعله بمرأى منه لا يغفل عنه، وقد طابق في المعنى لما قابل قوله ألقى بين عينيه عزمه، بقوله: نكب عن ذكر العواقب جانبا. ومثله قول الآخر:
ولا ناظر عند الوغى في العواقب
وانتصب " جانبا " على أنه ظرف. ونكب يكون بمعنى تنكب. والمعنى أنه إذا هم بالشيء جعله نصب عينيه إلى أن ينفذ فيه ويخرج منه، ويصير في جانب من الفكر في العواقب. ويجوز أن ينتصب جانبا على المفعول، ويكون نكب بمعنى حرف. والمراد انحرف عن ذكر العواقب وطوى كشحه دونه. وسمي المعزوم عليه عزما على عادة العرب في وصف الفاعل والمفعول بالمصادر.(1/56)
ولم يستشر في أمره غير نفسه ... ولم يرض إلا قائم السيف صاحبا
مثل المصراع الأول قول ابن هرمة:
ولا ينتجي الأدنين فيما يحاول
ويقارب الثاني قول الآخر:
ففي السيف مولى نصره لايحارد
والشاعر يصف استبداده وتفرده عندما يدهمه بما يأتيه فعلاً ورأياً. وإنما نبه على الرأي بقوله: " لم يستشر "، وعلى الفعل بقوله: " ولم يرض إلا قائم السيف صاحبا ". وانتصب قائم على أنه استثناء مقدم. ألا ترى أن الأصل ولم يرض صاحباً إلا قائم السيف. ولو أتى على هذا لكان الوجه أن يكون بدلاً، فقدم المستثنى كما ترى.
وقال تأبط شراً:
إذا المرء لم يحتل وقد جد جده ... أضاع وقاسى أمره وهو مدبر
قوله لم يحتل ذهب بعضهم إلى أن الحيلة مأخوذة من قولهم حال الشيء، أي انقلب عن جهته، كأن صاحبها يريد أن يستنبط ما يحول عند غيره ولذلك قيل: فلان حول قلب. وقوله جد جده أي ازداد جده جداً. ويكون مثل قوله:
حتى استدق نحولها
المعنى ازداد دقيقها دقة، ويجوز أن يكون المعنى صار غير الجد جداً بمآله، وهذا كما يقال ريع روعه، وخرجت خوارجه، وجن جنونه، وقال الهذلي:
يدعون حمساً ولم يرتع لهم فزع
وإنما هو ريع أمنه، وخرجت دواخله، ولم يرتع لهم أمن. فسمى الشيء بما آل إليه. وقوله أضاع يجوز أن يكون معناه وجد أمره ضائعاً، ويجوز أن يكون بمعنى(1/57)
ضيع. ويقال: ضاع الشيء ضيعة وضياعاً، وتركهم بضيعة ومضيعة. وإذا أخذ الرجل فيما لا يعنيه، قيل: فشت عليه الضيعة. ويقاربه قولهم:
اتسع الخرق على الراقع
وقوله: وهو مدبر يجوز أن يكون الضمير للأمر، والمعنى قاسى أمره، أي شقي به وهو مول فائت. ويجوز أن يكون الضمير للمرء، والمعنى عالج أمره وكابده مدبراً فيه غير مقبل ولا منصور، ومعنى البيت إذا الرجل لم يطلب رشده ولم ينفذ الحيلة في إصلاح أمره، في الوقت الذي يجب أن يفعله، وقد صار الأمر جداً لا شبهة فيه، عالجه وهو هكذا، أو عالجه والأمر هكذا. ومثله:
ولكن من لا يلق أمراً ينوبه ... بعدته ينزل به وهو أعزل
ولكن أخو الحزم الذي ليس نازلاً ... به الخطب إلا وهو للقصد مبصر
السائر عنهم في مثل قولهم: روئ تحزم، فإذا روّأت فاعزم، فيقول: صاحب الحزم هو الذي يستعد للأمر قبل نزوله، ويدبره قبل فوته، حتى إذا نزل به يكون عارفاً بالقصة فيه، سالكاً للوجه الذي يفصله منه. وهذا كما قيل في المثل: قبل الرماء تملأ الكنائن. والحزم في اللغة: الشد والضبط، ومنه الحزام، والحزمة، والحيزوم، والمحزم، والخطب: الأمر المطلوب، ويقال خطبت الأمر فأخطب، كما تقول طلبته فأطلب.
فذاك قريع الدهر ما عاش حول ... إذا سد منه منخر جاش منخر
ذاك أشار به إلى أخى الحزم. وقريع الدهر يحتمل وجهين: يجوز أن يكون في معنى مختار الدهر، ويكون من قرعت الشيء أي اخترته وخصصته بقرعتي، ويقال هو قريعهم وقريعتهم وقريعهم بمعنى واحد. ويجوز أن يكون بمعنى من قرعه الدهر بنوائبه حتى جرب وتبصر. ويكون قريع في الوجهين فعيلاً في معنى مفعول. ولا يمتنع أن يكون المراد بقريع الدهر فحل الدهر، ويكون في هذا الوجه قريع في معنى فاعل، لأنه يقرع الناقة أي يضربها. وما تقدم أحسن. وقوله ما عاش في(1/58)
موضع الظرف، والمعنى مدة عيشه. وقوله إذا سد منه منخر مثل للمكروب المضيق عليه، وهذا كما استعمل فيه الخنق والخناق. وأصل المنخر في الأنف من النخير؛ ويسمى النخرة أيضاً. والجميع النخر. والنخير: مد النفس، ومنه نخير الحمار. وقيل نخرتا الأنف: حرفاه. وجاشت القدر: غلت. وجاش البحر: اهتاج، وأصله التحرك في الموضعين والاضطراب؛ ومنه الجيش واحد الجيوش. والمعنى: لافتنانه في الحيل لا يؤخذ عليه طريق إلا نفذ في آخر. والحول: الكثير التحول في الأمور. ويقال هو قلب وحول، وفي معناه رجل حول وحوالي. قال ابن أحمر:
أوينسئن يومي إلى غيره ... أني حوالي وأني حذر
ويقال: هو ذو حول وحويل، وفي المثل: لو كان ذا حيلة تحول. فأما قولهم: هو ذو محلة، فهو في معنى محالة، وليس من بنائه، لأن الميم في محلة أصلية، وفي محالة زائدة.
أقول للحيان وقد صفرت لهم ... وطابي ويومي ضيق الحجر معور
من كلامهم: نعوذ بالله من صفر الإناء، وقرع الفناء. وهذه الاستعارة من شمول القحط وهلاك المال. ولحيان: بطن من هذيل كان تأبط شراً راغمهم ووترهم، فكانوا يطلبون غفلته، حتى اتفق منه الصعود إلى الجبل الذي وصفه ليشتار العسل، ولم يكن له إلا طريق واحد، فجاءوا وأخذوا عليه ذلك الطريق، فقال: أقول لهم، يعني عند مخاطبته إياهم وهو على الجبل. وقوله وقد صفرت لهم وطابي يحتمل وجوهاً: يجوز أن يكون المعنى وقد خلا قلبي من ودهم. وبعضهم يستضعف هذا ويقول: ومتى كان يودهم؟ وهذا اللفظ كيف يفيد هذا المعنى. ويمكن أن يقال في ذلك إنما أراد وطاب ودي. وهذا كما قال تبشر:
وإذ صفرت عياب الود منكم ... ولم يك بيننا فيها ذمام(1/59)
كأنه تبين منهم أنهم لا يبقون عليه، ولا يرعون ذماماً له، فلا رعة ولا رقة لديهم، ولا بقيا ولا محافظة عندهم، فصار اعتقاده فيهم كما بان له اعتقادهم. فيه. فلهذا قال ما قال. ويجوز أن يكون المعنى أشرفت نفسي، بسببهم ولتعرضهم وهمهم بانتهاز الفرصة لما أمكنهم، على الهلاك. ويكون هذا من قوله:
ولو أدركنه صفر الوطاب
وفي طريقته قول الآخر:
هرقن بساحوق جفاناً كثيرة ... وأدين أخرى من حقين وحازر
وقال غيره:
يا جفنة كنضيح الحوض قد كفئت ... بثنى صفين يعلو فوقها القتر
ويجوز أن يكون أشار بالوطاب إلى الجسم، أي كاد تفارقه الروح. وهذا كما يقال: الإنسان: زق منفوخ. ويحوز أن تكون الإشارة إلى ظروف العسل التي اشتارها لأنه لما تيقن قصدهم لقتله وتركهم مسامحته صب العسل. على الجبل من الجانب الآخر وركبه متزلقاً عليه، حتى لحق بالسهل. قوله: ويومي ضيق الحجر معور، أي ضيق الناحية ممكن. ويقال في الحجر الحجرة أيضاً. وفي المثل: يربض حجرة ويرتمي وسطاً. ومعور، من أعور لك الشيء، إذا بدت لك عورته، وهي موضع المخافة. قال الله تعالى في الحكاية عن المنافقين لما قعدوا عن نصرة النبي صلى الله عليه وسلم: " إن بيوتنا عورة " أي واهية يجب سترها وتحصينها بالرجال، وكما قيل يوم معور قيل مكان معور، أي مخوف. ويقال: عور المكان إذا صار كذلك، وقرئ: " إن بيوتنا عورة ". وقال بعضهم: كل ما طلبته فأمكنك فقد أعورك وأعور لك. ومعنى البيت: أقول لهؤلاء القوم والحال هذا، وهو أني قد جعلت لنفسي طريقاً إلى الخلاص منهم أو أني أشرفت على الهلاك واليوم يوم شديد عسير.(1/60)
هما خطتا إما إسار ومنة ... وإما دم والقتل بالحر أجدر
الخطة مأخوذة من الخط، وهي تجري مجرى القصة، وإن كان لها مواضع تنفرد بها، وحذف النون من خطتا إذا رفعت إما إسار استطالة للاسم، كأنه استطال خطتا ببدله وهو قوله إما إسار، كما استطال الشاعر الآخر الموصول " بصلته، والموصوف " بصفته فقال:
أبني كليب إن عمى اللذا ... قتلا الملوك وفككا الأغلالا
فحذف النون من اللذا. ومثله في الحذف قول الآخر:
لها متنتان خظاتا كما ... أكب على ساعديه النمر
فحذف النون من خظاتا. وقول الآخر:
لنا أعنز لبن ثلاث فبعضها ... لأولادها ثنتا وما بيننا عنز
ويجوز أن يكون الحذف على وجه الحكاية، كأنه قال: هما خطتا قولكم إما كذا وإما كذا، فلما نوى ذلك حذف النون للإضافة. وكأنهم كانوا يديرونه على الخصلتين، فأخذ يتهكم عليهم ويحكي مقالتهم، ونحوه قول الخليل في قوله: " ثم لننزعن من كل شيعة أيهم أشد على الرحمن عتيا "، قال معناه لننزعن من المتشايعين الذي يقال لعتوه أيهم أشد؛ فحكى. وقوله:
فأبيت لا حرج ولا محروم
وإذا جررت إما إسار يكون حذف النون لنية الإضافة، والتقدير: هما خطتا إسار ومنة. والمعنى ليس " لي " إلا واحدة من خصلتين اثنتين على زعمكم: إما استئسار والتزام منتكم إن رأيتم العفو، وإما قتل وهو بالحر أجدر من التعرض لما(1/61)
يخزيه ويكسبه الذل. فهاتان الخصلتان هما اللتان أشار إليهما بقوله هما خطتان؛ وقد ثلثهما بخطة أخرى ذكرها فيما بعد. وفي هذا الكلام تهكم وهزء. وقوله: والقتل بالحر أجدر يسمى اعتراضاً لوقوعه بين ما عدده من الخصال.
وأخرى أصادي النفس عنها وإنها ... لمورد حزم إن فعلت ومصدر
المصاداة: إدارة الرأي في تدبير الشيء والإتيان به على أتقنه، ومنه يقال: إنه لصدى مال، إذا كان حسن القيام به. يقول: وها هنا خصلة أخرى أداري نفسي فيها، وأداورها عليها، وإنها للموضع الذي يرده الحزم ويصدر عنه إن فعلت. وهذا إنما قسم الكلام هذه الأقسام لأنه رآهم يبنون أمره عليها، ولأنه نظر إلى جهتي الجبل فعلم أنه إن رضي الطريق التي عليها بنو لحيان لنفسه طريقاً كان فيها إحدى الحالتين: من الأسر أو القتل، على ما كانوا يزعمون ويقولون. وإن احتال للجهة الأخرى والحزم فيها، لأن خلاصه منها، كان أمراً ثالثاً. ثم اقتص ما فعله. وقوله وإنها لمورد حزم اعتراض أيضاً، لوقوعه بين قوله وأخرى أصادى النفس عنها، وبين تبيين كيفية مزاولته لها وشرحها.
فرشت لها صدري فزل عن الصفا ... به جؤجؤ عبل ومتن مخصر
الفرش: البسط، ثم توسعوا فيه فقالوا: فرشته أمري، وافترش لسانه فتكلم كيف شاء. وقوله لها الضمير للخصلة التي عبر عنها بقوله وأخرى. يقول: فرشت من أجل هذه الخطة صدري على الصفا. وهذا حين صب العسل فزلق " به " عن الصفا. أي بصدره صدر ضخم ومتن دقيق، والصدر والمتن صدره ومتنه، ولكن أخرجه مخرج قولهم: لقيت بزيد الأسد، وزيد هو الأسد عندهم. ووضع فرشت موضع ألقيت ووضعت. ويقال: فرشت ساحتي بالآجر، وافترشت الشاة للذبح إذا أضجعتها. وذكر بعضهم أنه يجوز أن يكون الضمير من لها للصفاة، والكلمة مقلوبة، والمعنى فرشتها لصدري. وفي هذا إضمار قبل الذكر والقلب، وإذا كان كذا فالأول هو الوجه.
فخالط سهل الأرض لم يكدح الصفا ... به كدحة والموت خزيان ينظر
الخلط أصله تداخل أجزاء الشيء في الشيء، وقد توسع فيه حتى قيل: رجل خلط، إذا اختلط بالناس كثيراً. وجاء في الحديث: لا خلاط ولا وراط، وفي(1/62)
المثل: ليس أوان يكره الخلاط. يقول: أسهلت ولم يؤثر الصفا في صدري أثراً، لا خدشاً ولا خمشاً، والموت كان طمع في، فلما رآني وقد تخلصت بقي مستحيياً ينظر ويتحير. والواو من قوله والموت واو الحال. وهذا من فصيح الكلام، ومن الاستعارات المليحة. وقد حمل قول الله عز وجل: " وأنتم حينئذ تنظرون " على أن يكون المعنى تتحيرون. وقد سلك أبو تمام مسلك هذه الاستعارة فقال:
إن تنفلت وأنوف الموت راغمة
ويقال إن الموضع الذي يقع عليه كان بينه وبين الطريق الذي عليه بنو لحيان أميال عدة. وقوله ينظر يجوز أن يكون في موضع الحال ويجوز أن يكون خبراً بعد خبر. ويكون معناه فى مقابلتي. ويقال: بيوتهم تتناظر، إذا تقابلت، لأن النظر تقليب العين نحو المرئي وفي مقابلته. لذلك صح أن يقال للأعمى: نظر إلي، ويجوز أن يكون معنى ينظر يعلم حسن حيلتي وغنائي فيما يدهمني. وفسر قوله تعالى: " يساقون إلى الموت وهم ينظرون "، أي يعلمون ذلك ويتيقنون. وقوله لم يكدح الصفا قيل الكدح بالأسنان والحجر دون الكدم، ومنه قيل المكدح المكدم في حمار الوحش، لتعضيض بعضها بعضاً. وقوله خزيان يجوز أن يكون من الخزي: الهوان، ويجوز أن يكون في الخزاية: الاستحياء.
فأبت إلى فهم ولم أك آيباً ... وكم مثلها فارقتها وهي تصفر
يقول: رجعت إلى قبيلتي فهم، وكدت لا أؤوب، لأني شافهت التلف. ويجوز أن يريد: ولم أك آيباً في تقديرهم وظنهم. واختار بعضهم أن يروى: فأبت إلى فهم وما كدت آيباً وقال: كذا وجدته في أصل شعره. قال: ومثله في أنه رد إلى الأصل ووضع اسم الفاعل موضع الفعل قول الآخر:
أكثرت في العذل ملحاً دائماً ... لا تكثرن إني عسيت صائما(1/63)
والمثل السائر: عسى الغوير أبؤسا. ولا أدري لم اختار هذه الرواية؟ ألأن فيها ما هو مرفوضٌ في الاستعمال شاذٌ، أم لأنه غلب في نفسه أن الشاعر كذا قاله في الأصل؟ وكلاهما لا يوجب الاختيار. على أني نظرت فوجدت أبا تمام قد غير كثيراً من ألفاظ البيوت التي اشتمل عليها هذا الكتاب، ولعله لو أنشر الله الشعراء الذين قالوها لتبعوه وسلموا له. ويروى: ولم آل آيباً والمعنى لم أدع جهدي آيباً وفي الإياب. والأول أحسن. وكم مثلها، أي كم مثل هذه الخطة فارقتها بالخروج منها، وهي مغلوبة تضغو وأنا الغالب. وصفير الطائر معروف، ومنه ما في الدار صافر، أي ذو صفير.
وقال أبو كبير الهذلي:
ولقد سريت على الظلام بمغشمٍ ... جلدٍ من الفتيان غير مثقل
يقال سرى يسري سرىً، وأسرى إسراءً بمعنى، وهو سير الليل. وفي القرآن: " سبحان الذي أسرى بعبده ليلا ". وعلى الظلام، أي في الظلام موضعه نصبٌ على الظرف. ويقال فعلته ظلاماً وليلاً في مقابلة فعلته نهاراً. ويقولون: عم ظلاماً وعم صباحاً، وهذا كما جعلوا في مقابلة اليوم الليلة. ويجوز أن يكون على الظلام في موضع الحال، أي وأنا على الظلام، أي راكبٌ له. يقول: ولقد سريت ليلاً برجلٍ غشومٍ قوي من الرجال غير منسوبٍ إلى الثقل والكسل في الأمور. فإن قال قائلٌ: إذا كان السرى لا يكون إلا ليلاً فلم قال على الظلام، ولم جاء في القرآن: " أسرى بعبده ليلاً " و: " فأسر بعبادي ليلاً "؟ قلت: المراد توسط الليل والدخول في معظمه، تقول: جاء فلانٌ البارحة بليلٍ، أي في معظم ظلمته وتمكن ذلك الوقت من ليلته. والجلد: الصلب القوي؛ ومنه الجلد من الأرض. وإنما قال مغشمٍ لأنه جعله كالآلة في الغشم، ومفعل بناء لهذا المعنى، ويريد به تأبط شراً. وكان لأبي كبيرٍ معه قصةٌ معروفة، والأبيات مقصورةٌ عليها، وناطقةٌ بها أو بأكثرها. والغشم والاعتساف يتقاربان. ويقال غشم الوالي(1/64)
رعيته غشماً وفي كلام بعضهم: أسدٌ حطومٌ خيرٌ من سلطان غشومٍ. ويجوز أن يكون معنى غير مثقل أي كان حسن القبول، محبباً إلى القلوب.
ممن حملن به وهن عواقد ... حبك النطاق فشب غير مهبل
قوله: وهن عواقدٌ حبك حكاية الحال وإن كان ذلك فيما مضى. ومثله قوله تعالى: " وكلبهم باسطٌ ذراعيه بالوصيد. ويروى: " مما حملن به " أي هو من الحمل الذي حملن به. والضمير في حملن للنساء ولم يجر لهن ذكرٌ، ولكن لما كان المراد مفهوماً جاز إضمارها. ويروى: ممن حملن به، والمعنى: هذا الفتى من الفتيان الذين حملت أمهاتهم بهم وهن غير مستعدات للفراش ولا واضعات ثياب الحفلة فنشأ محموداً مرضياً، لم يدع عليه بالهبل والثكل. وإنما قيل: ممن حملن به، لأنه رد الضمير على لفظ من، ولو رد على المعنى لقال بهم. وفي القرآن في موضع: " ومنهم من يستمع إليك "، وفي آخر: " ومنهم من يستمعون إليك ". وحكي عن بعضهم: إذا أردت أن تنجب المرأة فأغضبها عند الجماع. وأنشد:
تسنمتها غضبى فجاء مسهداً ... وأنفع أولاد الرجال المسهد
وكذلك يقال في ولد المذعورة: إنه لا يطاق. والحبك: الطرائق. والنطاق: ما تشد المرأة في حقوها. والرواية: حبك الثياب، لأن النطاق قد جاء من بعد في صفة أم المغشم فتكرر، ولأن النطاق لا يكون له حبكٌ وطرائق. وواحد الحبك حبيك، ومنه قوله تعالى: " والسماء ذات الحبك ". وقال الباهلي: الحبكة والحباك: الإزار أيضاً. وقد احتبكت المرأة. وذكر بعضهم أن المهبل: المعتوه الذي لا يتماسك فإن صح ذلك فكأنه من الإسراع، يقال جملٌ هبلٌ.
ومبرأًٍ من كل غبر حيضةٍ ... وفساد مرضعةٍ وداءٍ مع
غبر الحيض وغبره باقيه قبل الطهر. وكذلك غبر اللبن: باقيه في الضرع. وتزوج رجلٌ من العرب بامرأةٍ مسنةٍ فقيل له في ذلك، فقال: لعلي أتغبر منها ولد. والحيضة والحيض واحدٌ. والغبر يكون جمع غابرٍ أيضاً. ولم يرض بلفظ التبرئة حتى(1/65)
أتى بلفظ الكل معه تأكيداً، كأنه نفى قليل ذلك وكثيره. وأضاف الفساد إلى المرضعة لأنه أراد الفساد الذي يكون من قبلها. وهم يضيفون الشيء إلى الشيء لأدنى مناسبةٍ. ويروى مبرأً بالنصب والجر، فإذا نصبته فإنه ينعطف على غير مهبل، كأنه قال: شب في هاتين الحالتين. وإذا جررته ينعطف على قوله جلدٍ من الفتيان كأنه بمغشمٍ جلدٍ ومبرإ. والمعنى أن الأم حملت به وهي طاهرٌ ليس بها بقية حيضٍ، ووضعته ولا داء به استصحبه من بطنها فلا يقبل علاجاً، لأن داء البطن لا يفارق. ولم ترضعه أمه غيلاً، وهي أن تسقيه وهي حبلى بعد ذلك. ويروى عن أم تأبط شراً قالت: ما وضعته يتناً، ولا أرضعته غيلاً، ولا أبته مئقاً، ولا رأيت بنفسي دماً. ولقد حملت به في ليلةٍ مظلمة وتحت رأسي سرجٌ، وعلى أبيه درعٌ. وإنما تريد بهذا الكلام الآخر ما تقول العرب من أن المرأة إذا أكرهت على الوطء، أو وطئت مذعورة، أنجبت وأذكرت. الداء المعضل: الذي لا دواء له كأنه أعضل الأطباء وأعياهم، وأصل العضل المنع، ومنه عضلت المرأة إذا نشب ولدها في بطنها فلم يخرج. وعضلتها: منعتها من التزويج ظلماً.
حملت به في ليلةٍ مزؤودةٍ ... كرهاً وعقد نطاقها لم يحلل
الزأد: الذعر، وقد زئد فهو مزؤود. والمعنى حملت الأم بهذا المغشم. ويروى مزؤودةً بالنصب على الحال للمرأة؛ ويروى مزؤودةٍ بالجر، ويجوز فيه وجهان: أحدهما أن تجعله صفةً لليلةٍ، كأنه لما وقع الزؤود والذعر فيها جعله لها، والأكثر في المجاز والاتساع أن ينسب الفعل إلى الوقت فيؤتى به على أنه فاعل، كما قيل: نهاره صائمٌ، وليله قائمٌ. وحسن هذا لأن الظرف قد يقدر تقدير المفعول الصحيح، بأن ينزع منه معنى في، كما قال الشاعر:
ويوم شهدناه سليماً
فعلى ذلك تقول شهدت الليلة، وزئدت الليلة، وليلةٌ مشهودة ومزؤودة. ويجوز أن يكون انجراره في الجوار، وهو في الحقيقة للمرأة، كما قيل: هذا جحر ضبٍ(1/66)
خربٍ. وهذا لميلهم إلى الحمل على الأقرب، ولأمنهم الالتباس. وانتصاب كرهاً على أنه مصدر في موضع الحال، والتقدير كارهةً. ومعنى البيت بما تقدم ظاهر. وقوله: عقد نطاقها لم يحلل، ابتداء وخبرٌ، والواو للحال. وأظهر التضعيف قي قوله لم يحلل، وهو لغة تميم، ووجه الكلام لم يحل. والنطاق: ما تنتطق به المرأة: تشد به وسطها للعمل. قال الأصمعي: كن في القديم ينتطقن بخيطٍ أو تكةٍ. وذات النطاقين: أسماء بنت أبي بكر رضي الله عنه. والمنطقة أخذت من هذا. والمعنى أكرهت ولم تحل نطاقها. وحكي عنها في وصف ابنها قالت فيه: إنه والله شيطان، ما رأيته قط مستثقلاً ولا ضحكاً ولا هم بشيء منذ كان صبياً إلا فعله، ولقد حملت به في ليلةٍ ظلماء وإن نطاقي لمشدود.
فأتت به حوش الفؤاد مبطناً ... سهداً إذا ما نام ليل الهوجل
حوش الفؤاد وحوشي الفؤاد: وحشيه، لحدته وتوقده. ورجلٌ حوشيٌ: لا يخالط الناس. وليلٌ حوشيٌ: مظلم هائلٌ، وكذلك إبلٌ حوشٌ وحوشيةٌ أي وحشيةٌ. وهذا كما يقال: ليلٌ سخامٌ وسخاميٌ: أسود. وقيل: الحوش: بلاد الجن. مبطناً: خميص البطن. وقوله نام ليل الهوجل، جعل الفعل لليل، لوقوعه فيه. والمعنى نام الهوجل في ليله. والهوجل: الثقيل الكسلان ذو الغفلة. يقول: أتت الأم بهذا الولد متيقظاً حذراً، حديد الفؤاد ذكياً، يسهر إذا نام الثقيل البليد. والسهاد والسهد: السهر. ورجلٌ سهدٌ ومسهدٌ. ويقولون للملدوغ: سهدوه لا يسر فيه السم. وقيل الهوجل: الأحمق لا مسكة به. قالوا: وبه سمي الفلاة لا أعلام بها ولا يهتدى فيها: الهوجل.
وإذا نبذت له الحصاة رأيته ... فزعاً لوقعتها طمور الأخيل
يقال: نبذت الشيء من يدي، إذا طرحته، وتوسعوا فيه فقيل صبيٌ منبوذٌ، ونابذت فلاناً، إذا فارقته عن قلىً. والحصى: صغار الحجارة. والشاعر إنما يحكي ما رآه منه؛ وذلك أن أبا كبيرٍ ذكر أنه كان أراد أن يغتاله، وكان يطلب منه فرصةً ينتهزها(1/67)
في نومه وغفلته مع أنه كان لا يجترئ عليه، فكان يروز أحواله ليتمكن من مراده فيه. والمعنى إذا رميته بحصاة وهو نائمٌ وجدته ينتبه انتباه من سمع بوقعتها هدةً عظيمة، فيطمر طمور الأخيل، وهو الشقراق. وانتصاب طمور بما دل عليه قوله فزعاً لوقعتها، كأنه " رأيته " يطمر طموره؛ لأن الخائف المتيقظ يفعل ذلك. والطمور: الوثب؛ ومنه قيل فرسٌ طمرٌ، أي وثابٌ. وذكر أبو العباس أن الطمر في وصف الفرس هو المشرف، ومنه قيل للموضع العالي: طمار. وفزعاً انتصابه على الحال، وجواب إذا قوله رأيته. وقال بعضهم: الأخيل: الشاهين. ومنه قيل تخيل الرجل، إذا جبن عند القتال فلم يتثبت. والتخيل: المضي والسرعة والتلون.
وإذا يهب من المنام رأيته ... كرتوب كعب الساق ليس بزمل
أصل هب تحرك واضطرب، ثم قيل هب من نومه هباً، وهبت الريح هبوباً، وهبت الناقة في سيرها هباباً، وهب التيس هبيباً. وأهببت السيف: هززته. يقول: إذا استيقظ هذا الرجل من منامه انتصب في مضجعه سريعاً كانتصاب كعب الساق في الساق، وهو ليس بضعيف. وإنمايعني شهامته وتشمره في تلك الحالة. وكعب الساق منتصبٌ أبداً في موضعه، فلذلك شبهه به. والراتب: القائم، ومنه المراتب. وتحقيق الكلام: وإذا يهب رأيت رتوبه كرتوب كعب الساق، لكنه حذف المضاف وأقام المضاف إليه مقامه. وهذا التشبيه يجري مجرى التصوير. والزمل والزمال والزميلة، كله الضعيف، واشتقاقه من التلفف كأنه متساقطٌ لا متشمرٌ متجردٌ.
ما إن يمس الأرض إلا جانبٌ ... منه وحرف الساق طي المحمل
إن، زيد لتوكيد النفي، ويبطل عمل ما بانضمامه إليه في لغة من يعمله. وانتصب طيّ على المصدر مما دل عليه ما قبله، لأنه لما قال، ما يمس الأرض منه إذا نام إلا جانبه وحرف الساق، علم منه أن الرجل مطويٌ غير سمينٍ، وهضيم الكشح غير ثقيل. والمعنى أنه إذا نام لا يتبسط على الأرض ولا يتمكن منها بأعضائه كلها، فعل من يرخيه نومه ويتمكن منه، حتى لا يكاد يتجمع ويتشمر عند الانتباه إلا بعد مزاولةٍ وتهيؤٍ يعمله في كل عضو. وهذا من أبياتٍ كتاب سيبويه. واحتج به بقوله طي المحمل. وأراد بالمحمل حمائل السيف، وهذا كما يقال: هو كالجديل، وكالزمام، والمحمل والحمالة بمعنىً.(1/68)
وإذا رميت به الفجاج رأيته ... يهوى غواربها هوى الأجدل
قال الخليل: الفج: الطريق الواسع من قبل جبلٍ ونحوه، والجميع الفجاج. وغارب كل شيءٍ: أعلاه، ومنه غارب البعير. والشاعر يحكي في هذا أيضاً عنه ما رآه منه عند استصحابه له، فيقول: إذا وجهته في طرق الجبل رأيته يقصد عاليها قصد الصقر. والهوي بضم الهاء، هو القصد إلى أعلى، وبفتح الهاء القصد إلى أسفل. على ذلك قوله:
هوي الدلو أسلمه الرشاء
ولا تختر في رواية البيت على الضم. وأنشد فيه قوله:
كأن هويها خفقان ريحٍ ... خريقٍ بين أعلام طوال
ويروى: مخارمها. والمخارم: جمع المخرم؛ وهو منقطع أنف الجبل. والخرم: أنف الجبل، وجمعه خرومٌ. ومن فصيح كلامهم: هذه يمينٌ طلعت في المخارم، وهي التي تجعل لصاحبها منها مخرجاً. والأجدل، من جدل الخلق.
وإذا نظرت إلى أسرة وجهه ... يرقت كبرق المارض المنهلل
الخطوط التي في الجبهة الأغلب عليها سرارٌ ويجمع على الأسرة، والتي في الكف الأغلب عليها سررٌ وسرٌ وبجمع على الأسرار. قال:
انظر إلى كفٍ وأسرارها ... هل أنت إن أوعدتني ضائري
وقد قيل: الأسرة: الطرائق. يقول: إذا نظرت في وجه هذا الرجل رأيت أسارير وجهه تبرق وتشرق إشراق السحاب المتشقق بالبرق. يصفه بحسن البشر وتطلق الوجه في كل حال. والعارض: ما يعرض في جانبٍ من السماء من السحاب. وعلى ذلك العارض في الأسنان، ولهذا قيل العارضان لما يبدو من جانبيها. ويقال: تهلل الرجل فرحاً، واهتل، إذا افتر عن أسنانه في التبسم.(1/69)
قال آخر، ويقال إنها لتأبط شراً:
إني لمهدٍ من ثنائي فقاصدٌ ... به لابن عم الصدق شمس بن مالك
لا يقال في الهدية إلا أهديت. ويقال في العروس: هديتها وأهديتها جميعاً. والأصل واحد، لأن المعنى على القصد والدلالة، فيقول: إني أمدح ابن عمي الكريم الصادق في الود شمس بن مالك، بما أقصد به راغباً، وأنفذه إليه متحفاً. والمعنى: إني في غيبتي منه وحضوري له، مولعٌ بالثناء عليه، فلا أخليه من المدح في الحالتين جميعاً. واللام في قوله: لابن عم الصدق يجوز أن يتعلق بمهدٍ، يقال: أهديت له كذا، وعلى هذا تكون أعملت الفعل الأول، وما أهداه يكون محذوفاً لعلم السامع بأنه يريد شعره وتقريظه. وكان الأجود أن يقال فقاصدٌ إياه به، ويجوز أن يكون على قول من يزيد من في الواجب أن يكون قوله ثنائي مفعول مهدٍ، فيكون أهداه مذكوراً. ويجوز أن يتعلق اللام بقوله فقاصدٌ، يقال قصدته بكذا وقصدت له به. وعلى هذا تكون قد أعملت الفعل الثاني، وهو المختار إذا جمعت بين فعلين عند أصحابنا البصريين، ويقال هذا ثوب صدقٍ وأخو صدق، وضع الصدق موضع الفضل والصلاح. والتسمية بالشمس كالتسمية بالبدر والهلال. وذكر بعض المتأخرين أنه يروى شمس بن مالك بضم الشين، قال: ويكون هذا في أنه علمٌ لهذا الرجل فقط، كحجرٍ في أنه علم أبي أوسٍ الشاعر، وأبي سلمى في أنه علم أبي زهير الشاعر. والأعلام لا مضايقة فيها.
أهز به في ندوة الحي عطفه ... كما هز عطفي بالهجان الأوارك
عطف كل شيءٍ: جانبه. ويقال ثنى عطفه، إذا أعرض وجفا. وكأن القوس والرداء سميا عطافاً لاشتمالهما عند التوشح بهما على العطف. يقول: أحرك بالثناء جانبه كما حرك جانبي بعطيته، أي أسره بذلك حتى يرتاح ويطرب كما سرني حتى اهتززت. والهجان: الإبل البيض الكرام. والأوارك: التي رعت الأراك، يقال أركت الإبل فهي أركةٌ. وقال ابن السكيت: الأوارك التي ترعى الأرك، وهو نبتٌ. والندوة أصله الجمع، ويقال نداهم النادي، أي جمعهم.(1/70)
وانتدى القوم وتنادوا، إذا تجمعوا. ومنه دار الندوة. والندي: المجلس، والجميع أندية. ويقع لفظ هجانٍ للواحد والجمع، يقال ناقةٌ هجانٌ ونوقٌ هجانٌ، ومثله درعٌ دلاصٌ، ودروعٌ دلاصٌ، وذلك لأن فعالاً وفعيلاً يتشاركان كثيراً، وكما جمع فعيلٌ فعالاً كذلك جمع فعالٌ فعالاً. ألا ترى أن العدد والوزن فيهما واحد وحرف المد من كل واحدٍ بإزاء ما في الآخر؟ فإذا كان كذلك حمل عليه إلا أن فعالاً إذا كان جمعاً ينوى بحركاته وألفه أنها حركات بنائه وهو جمعٌ لا واحد، كأن الكسرة في أوله الكسرة التي في أول ظرافٍ وكرامٍ، لا الكسرة التي في أول حمارٍ وإزارٍ، وكذلك ألفه فاعلمه.
قليل التشكي للمهم يصيبه ... كثير الهوى شتى النوى والمسالك
المهم يجوز أن يكون من الهم الذي هو الحزن، ويجوز أن يكون من الهم الذي هو القصد. يقول: هو صبورٌ على النوائب والعلات، لا يكاد يتألم مما يعروه من المهمات. واستعمل لفظ القليل والقصد إلى نفي الكل، وهذا كما يقال فلانٌ قليل الاكتراث بوعيد فلانٍ، والمعنى لا يكترث. وعلى ذلك قولهم: قل رجلٌ يقول كذا، وأقل رجلٍ يقول كذا. والمعنى معنى النفي، وليس يراد به إثبات قليلٍ من كثير. فإن قيل: من أي ساغ أن يستعمل لفظ القليل وهو للإثبات في النفي؟ قلت: إن القليل من الشيء في الأكثر يكون في حكم ما لا يعتد به ولا يعرج عليه، لدخوله بخفة قدره في ملكة الفناء، والدروس والامحاء، فلما كان كذلك استعمل لفظه في النفي على ما في ظاهره من الإثبات محترزين من الرد، ومجملين في القول، وليكون كالتعريض الذي أثره أبلغ وأنكى من التصريح. وقوله: كثير الهوى طابق القليل بقوله كثيرٌ، من حيث اللفظ لا أنه أثبت بالأول شيئاً نزراً فقابله بكثير. والمعنى أنه كثير الهم مختلف الوجه والطرق، لا يوقف منه على مدى غوره في الأمور، ولا يقف به أمله على فن لا يتجاوزه إلى الفنون. ويريد بالهوى الجنس وكذلك النوى، وهي وجهته التي ينويها. ومثله قول الآخر:
................. باق ... على الحدثان مختلف الشؤون(1/71)
يظل بموماةٍ ويمسي بغيرها ... جحيشاً ويعروري ظهور المهالك
الموماة: المفازة، ووزنه فعللةٌ، وجمعها موام. وإنما قال يمسي بغيرها ولم يقل يبيت، لأن قصده إلى أن يصفه بأنه يقطع في بياض نهاره مفازةً، ولو قال يبيت لم يتبين منه ذلك. فيقول: بقطع المفاوز لاكتساب المكارم، فتراه يكون نهاره بمفازةٍ فإذا أتى عليه المساء تجده في أخرى فريداً وحيداً - ويقال: حل فلانٌ جحيشاً، أي منفرداً - ويركب ظهور المهالك والمعاطب غير مستصحبٍ رفيقاً، ولا مستجمعٍ سلاحاً. وهذا كما يقال: أعروريت الفرس، إذا ركبته عرياً. وكانت طباعهم أن من كد نفسه وابتذلها، وتوحش في المهالك ولزمها، وتعرض للمعاطب ولم يتوقها، كان ذلك أدعى إلى ما ينوه به ويميزه عن رجال جنسه. وانتصب جحيشاً على الحال، وقولها بغيرها لا يجوز أن يكون مستقراً فاعلمه.
ويسبق وفد الريح من حيث ينتحي ... بمنخرقٍ من شدة المتدارك
قوله من حيث ينتحي يجوز أن يكون للممدوح، ويجوز أن يكون لوفد الريح، لأن المراد أنه يسبقه وإن أعطاه مهلةً. ومعنى ينتحي: يقصد. والشاعر إنما يصف خفته وتشمره وجده وتيقظه، فيقول: من حيث اعتمد في السير جاء سابقاً للريح بعدوٍ له واسعٍ من عدوه. المتدارك: المتتابع. وجعل العدو منخرقاً لاتساعه. والمتدارك: المتلاحق. ويقال: أدرك فلانٌ عدةً من أصحابه، أي لحقهم وشاهد أيامهم. وأخذ أبو تمامٍ هذا فزاد عليه وإن كان في لفظة ركاكة، فقال:
فمر ولو يجاري الريح خيلت ... لديه الريح ترسف في القيود
إذا خاط عينيه كرى النوم لم يزل ... له كالئٌ من قلب شيحان فاتك
الكرى: النوم الخفيف، وكأنه مأخوذٌ من كريت، إذا عدوت عدواً شديداً. فقوله: خاط عينيه يريد مر فيه، وليس يريد التمكن منه حتى يجعل أجفانه كالمخيطة. ومنه قوله:
حتى تخيط بالبياض قروني(1/72)
وأضاف الكرى إلى النوم كما يضاف البعض إلى الجنس، كأن النوم لجنس الفعل، والكرى لما كان على جهةٍ مخصوصةٍ. يقول: إذا نام النومة التي أشار إليها لم يزل له رقيبٌ وحافظٌ من قلب رجلٍ جادٍ في الأمور، مفاجئ عريضٍ، وهذا الرجل هو هو. كأنه يريد إذا نام عينه لا ينام قلبه. والشيحان والشائح والشيح: الحذر الحازم. قال الهذلي:
وشايحت قبل اليوم أنك شيح
والفاتك: الذي يفاجئ غيره بمكروهٍ أو قتلٍ. وفي الحديث: الإيمان قيّد الفتك. وقال الدريدي: هو الذي إذا هم بالشيء فعل.
ويجعل عينيه ربيئة قلبه ... إلى سلة من حد أخلق باتك
يروى:
إذا طلعت أولى العدي فنفره ... إلى سلةٍ
وهي أسلم الروايتين. والعدي: الرجالة الذين يعدون قدام الخيل. وهو اسم صيغ للجمع، كالكليب والضئين. وعلى الرواية الأولى يقول: لا يغفل قلبه عن التحفظ، وعينه ديذبانه إلى سل سيفه. فإن قيل: كيف يكون العين ديذبان القلب، وهذا يقول إذا نام بعينه لم ينم بقلبه، أم كيف تصح هذه الرواية وفيها يتكرر معنىً واحدٌ في مصراعى البيتين، وهل الواجب في هذا إلا أن يقال إن القلب هو ديذبان العين، لأن العين نائمةٌ والقلب منتبهٌ؟ قلت: إنه وصف حالتين، بالمتقدم صفة حال النوم، والثاني هو صفة حال اليقظة والمعنى أن العين رقيب القلب، والمنتظر لإظهار ما يكرهه وتغييره، فإذا كره القلب شيئاً كان العين صاحبه الذي يظهره، فهو ربيئته إلى نزع السيف وتجريده، وإنكار ما أنكره وتغييره. والأخلق: الأملس. والبانك: القاطع. وقوله " إلى سلةٍ " يجوز أن يكون إلى بمعنى مع، كما تقول هذا إلى ذاك، أي(1/73)
مع ذاك، ويجوز أن يكون المعنى أنها ربيئته إلى أن يستل سيفه، وبعد ذلك فالعمل للقلب، ويكون إلى الانتهاء. وقوله: من حد أخلق فيه توسع، لأن السيف يستل من الغمد فيصير مسلولاً. ألا ترى قوله:
إذا سل من جفنٍ تأكل أثره ... على مثل مصحاة اللجين تأكلا
وهذا جعل الجفن مسلولاً والسيف مسلولاً منه. ألا ترى قوله: إلى سلةٍ من حد أخلق، فهو في ذلك كقولهم: أدخلت الخف في رجلي، والقلنسوة في رأسي.
إذا هزه في عظم قرنٍ تهللتنواجذ أفواه المنايا الضواحك
مثله قول الآخر:
سقاه الردى سيفٌ إذا سل أومضت ... إليه تنايا الموت من كل مرقب
وإن كان هذا وصف السيف وقوة صاحبه في الضرب. والمعنى أنه متى حركه في الضريبة ضحك الموت علماً بظفره بالمضروب. وذكر التهلل والناجذ مثلٌ وتصويرٌ للمراد. وقوله المنايا الضواحك. أي التي من شأنها أن تضحك عند الظفر بمطلوبها، وإنما قال في عظم قرن إيذاناً بأنه لا يتعرض له إلا من يقارنه بأساً وشدة، وكذلك هو لا يعمل هذا السيف إلا في عظم من يقارنه حزماً ونجدةً، ونسبة التهلل إلى النواجذ مجاز وسعةٌ، وهذا كما يقال سر فلانٌ بكذا حتى صار لكل سنٍ له ضحكٌ. وقد سميت ما يبدو من الأسنان عند الضحك الضواحك.
يرى الوحشة الأنس الأنيس ويهتدي ... بحيث اهتدت أم النجوم الشوابك
قوله: يرى الوحشة الأنس أي ذلك مذهبه. وهذا كما يقال هو يرى رأى أبي حنيفة، أي يذهب مذهبه. فيقول: أنس هذا الرجل التام في التفرد الذي يعده غيره وحشةً. وإتباعه الأنس الأنيس تأكيدٌوإظهارٌ مبالغة. وهذا كما قيل: ظلٌ ظليلٌ، وداهيةٌ دهياء. وهم يبنون من لفظ الشيء ما يتبعونه به طريق التأكيد. وقوله: يهتدي بحيث اهتدت يصف علمه بالطرق واستغناءه عن الدليل. وقد قيل في أم النجوم إنه الشمس، وقيل هو المجرة. والمعنى أنه يهتدي بحيث تهتدي الشمس.(1/74)
ويسمى معظم الشيء أمه. والشمس أعظم الكواكب. ويسمى جامع الأشياء أمها، يعنى أنها تأوي إليه. والشوابك: المشتبكة. وإذا جعلت أم النجوم المجرةفيجوز أن يكون المعنى أن يهتدي بالكواكب التي تجمعها، فجعل الفعل لها لاجتماعها فيها. ويجوز أن يكون المعنى أنه يستغني عن الدليل كما تستغني تلك.
قال بعض بني قيس بن ثعلبة، ويقال إنها لبشامة بن جزءٍ النهشلي:
إنا محيوك يا سلمى فحيينا ... وإن سقيت كرام الناس فاسقينا
يقول: إنا مسلمون عليك أيتها المرأة فقابلينا بمثله، وإن خدمت الكرام وسقيتهم فأجرينا مجراهم فإنا منهم. والأصل في التحية أن يقال حياك الله، ثم استعمل في غيره من الدعاء عند اللقاء. وأما قوله:
ولكل ما نال الفتى ... قد نلته إلا التحية
فالمراد به تحية الملوك خاصة، وهو قولهم: أبيت اللعن! وقيل في سقيت إن معناه: إن دعوت لأماثل الناس بالسقيا فادعي لنا أيضاً. والأشهر في الدعاء أن يقال فيه سقيت فلاناً فيثقل، " والحجة في التخفيف قول أبي ذؤيب:
سقيت به دارها إذ نأت ... وصدقت الخال فيه الأنوحا "
وعلى هذا يكون في الكلام إضمار، كأنه قال: وإن سقيت بظهر الغيب الكرام بالدعاء عند ذكرهم فافعلي بنا مثله، وقولي سقاكم الله. وقد فصل بعضهم بين سقيت وأسقيت بأن قال: أسقيته: جعلت له سقيا يفعل بها ما شاء، وسقيته: أعطيته ماءً لفيه. ومثله كسوته وأكسيته، لأن معنى كسوته ألبسته، وأكسيته جعلت له كسوة، وبعضهم يجعلهما سواءً، ويحتج ببيت لبيد:
سقى قومي بني مجدٍ وأسقى ... نميراً والقبائل من هلال(1/75)
وإذا فصل بينهما في البيت لم يختل به لفظاً ولا معنىً، كما أنه إذا سوي بينهما لم يختل معنىً ولا لفظاً، فكأنه لا حجة فيه لواحدٍ من القولين. والقصد في الدعاء بالسقيا إلى أن يمد الله المدعو له بما يزيد في نمائه ونضارته. ألا ترى الآخر قال لما دعا على ما تسخطه:
إذا سقى الله أرضاً صوب غاديةٍ ... فلا سقاهن إلا النار تضطرم
فذكر ما يحرق ويستأصل.
وإن دعوت إلى جلى ومكرمةٍ ... يوماً سراة كرام الناس فادعينا
جلى فعلى، أجراها مجرى الأسماء ويراد بها جليلةٌ. كما يراد بأفعل فاعلٌ وفعيلٌ، نحو قوله تعالى: " وهو أهون عليه "، أي هين؛ وكما قال:
فتلك سبيلٌ لست فيها بأوحد
أي بواحدٍ؛ وكقولك: الله أكبر، تريد كبير. يقول: إن أشدت بذكر خيار الناس بجليلةٍ نابت، أو مكرمةٍ عرضت وسنحت، فأشيدي بذكرنا أيضاً. وهذا الكلام ظاهره استعطافٌ لها، والقصد به التوصل إلى بيان شرفه واستحقاقه ما يستحقه الأفاضل الأشراف، والأماثل الكرام. ولا سقى ثم ولا تحية ولا دعاء ولا مغاثة. ألا ترى كيف اشتغل بمقصوده من الافتخار فيما يتلو هذا البيت. وهم كما يتخلصون من التشبيبات وغيرها إلى أغراضهم على اختلافها فإنهم قد يتوصلون بمبادئ كلامهم إلى أمثالها، فتقل المؤونة، وتخف الكلفة. ولهذا نظائر وأشباهٌ تجيء فيما بعد. والسراة في الناس، والشراة بالشين معجمةً في المال والخيل. وفي حديث أم زرع: " فنكحت بعده رجلاً سرياً، ركب شرياً، وأخذ خطياً، وأراح على نعماً ثرياً ". والجلى بالألف واللام: تأنيث الأجل، كما يقال الأكبر والكبرى، وكما قيل السبع الطول جمع الطولى. ولا يحذف الألف واللام منه حينئذ، لأن أصله يكون أفعل الذي يتم بمن. ويقال لكل ما علا شيئاً: جلله، ومنه الجلالة.(1/76)
إنا بني نهشلٍ لا ندعي لأبٍ ... عنه ولا هو بالأبناء يشرينا
ندعي: نفتعل من الدعوة. وقوله " عنه " تعلق به. ويقال ادعى فلانٌ في بني هاشمٍ، إذا انتسب إليهم؛ وادعى عنهم، إذا عدل بنسبه عنهم. وهذا كما يقال: رغبت في كذا ورغبت عن كذا. وقوله: " لأبٍ " أي من أجل أبٍ ولمكان أبٍ. وانتصاب " بني " على إضمار فعل، كأنه قال: أذكر بني نهشل. وهذا على الاختصاص والمدح. وخبر إن " لا ندعي ". ولو رفع فقال: بنو نهشلٍ، على أن يكون خبر إن لكان لا ندعي في موضع الحال. والفصل بين أن يكون اختصاصاً وبين أن يكون خبراً صراحاً: هو أنه لو جعله خبراً لكان قصده إلى تعريف نفسه عند المخاطب، وكان لا يخلو فعله لذلك من خمولٍ فيهم، أو جهلٍ من المخاطب بشأنهم. فإذا جعل اختصاصاً فقد أمن هو الأمرين جميعاً. فقال مفتخراً: إنا نذكر من لا يخفى شأنه، لا نفعل كذا وكذا. وإنما قلت خبراً صراحاً، لأن لفظ الخبر قد يستعار لمعنى الاختصاص، لكنه يستدل على المراد منه بقرائنه؛ على هذا قوله:
أنا أبو النجم وشعري شعري
ومعنى البيت: إنا لا نرغب عن أبينا فننتسب إلى غيره، وهو لا يرغب عنا فيتبنى غيرنا ويبيعنا به، لأنه قد رضي كلٌ منا بصاحبه، علماً بأن الاختيار لا يعدوه لو خير فاختار. ويقال: شريت الشيء بمعنى بعته واشتريته جميعاً، ومنه الشروى، وهو المثل.
إن تبتدر غايةٌ يوماً لمكرمةٍ ... تلق السوابق منا والمصلينا
يقال: بادرته مكان كذا وكذا، وإلى مكان كذا. قال:
فبادرها ولجات الخمر
وكذلك يقال: ابتدرنا الغاية وإلى الغاية. وقوله: " لمكرمةٍ " أي لاكتساب مكرمةٍ. ويجوز أن يكون اللام مضيفةً للغاية إلى المكرمة، كأنه يريد تسابقهم إلى(1/77)
أقصاها. يقول: إن تستبق نهاية مجدٍ أو غاية مكرمةٍ تر السابقين منا والتالين أيضاً منا. وإنما قال " المصلين ولم يقل المصليات مع السوابق، لأن قصده إلى الآدميين، وإن كان استعارهما من صفات الخيل. ويجوز أن يكون أخرج السابق لانقطاعه عن الموصوف في أكثر الأحوال، ولنيابته عن المجلي وهو اسم الأول منها إلى باب الأسماء فجمعه على السوابق، كما يقال كاهلٌ وكواهل، وغاربٌ وغوارب. والمصلى هو الذي يتلو السابق فيكون رأسه عند صلاه. والصلوان: العظمان الناتئان من جانبي العجز. وقال الدريدي: هو العظم الذي فيه معرز عجب الذنب. وقال بعض أهل اللغة: هما عرقان في موضع الردف.
ليس يهلك منا سيدٌ أبداً ... إلا افتلينا غلاماً سيداً فينا
نبه بهذا الكلام على أن من يستحق السيادة فيهم يكثر ولا يقل، فمتى درج منهم رئيسٌ ترشح لسد مكانه واحدٌ. وهذا مثل قوله:
وإني من القوم الذين هم هم ... إذا ما ت منهم سيدٌ قام صاحبه
والافتلاء: الافتطام والأخذ عن الأمر، ومنه الفلو. والمعنى هنا الترشيح والتهيئة والصرف عما عليه إلى الرياسة. وأبداً في المستقبل بمنزلة قط في المضي. والقصد أنهم كل وقتٍ على ذلك، فلا يحتاجون إلى الاستعانة بالأجانب دون الأقارب. والأبد: الدهر، وقيل سميت الوحش أوابد لأنها تعمر على الدهر، حتى لا تموت إلا بآفة. وأن يكون من التأبد التوحش أحسن، وإن أمكن رد الكل إلى أصلٍ واحد.
إنا لنرخص يوم الروح أنفسنا ... ولو نسام بها في الأمن أغلينا
أغلينا الألف للإطلاق، والنون ضمير الأنفس، ومعنى أغلين وجدت غاليةً أو جعلت غاليةً. وهو هكذا أجود، وليس يريد أنهم مع الغلاء يمكنون منها، بل المراد قطع المقدرة عنها. ومثل هذا:
نعرض للسيوف بكل ثغرٍ ... خدوداً لا تعرض للسباب(1/78)
فيقول: نبتذل أنفسنا في الحروب ولا نصونها، ولو عرض علينا إذالتها في غيرها لامتنعنا. وهذا لحرصهم على تخليد الذكر الجميل، والأبانة عن محل النفس في الشجاعة. والرخص في السعر: سهولته ولينه، وهو من قولهم فيما أظن امراةٌ رخصةً، إذا كانت ناعمةً. وقوله: ولو نسام بها أي نحمل على أن نسوم بها. ويقال سام بسلعته كذا وكذا، واستام أيضاً، وأغلى السوم والسيمة. وأسمته أنا، أي حملته على أن سام. ولا يمتنع أن يكون قولهم: سمته خسفاً، أصله من ذاك وإن استعمل في المكروه، ومنه قوله تعالى: " يسومونكم سوء العذاب ". وفي البيت طباقٌ بذكر الإرخاص والإغلاء، والروع والأمن، في موضعين، وهو حسنٌ جيد.
بيضٌ مفارقنا تغلي مراجلنا ... نأسو بأموالنا آثار أيدينا
يروى: بيض معارفنا، وهي الوجوه. والمراد بذلك نقاء العرض وانتفاء الذم والعيب. ويقال: امرأةٌ حسنة المعارف، أي الوجه بما يشتمل عليه. وقيل الأنف وما والاه. وقيل: الحسن في الأنف، والملاحة في الأسنان. وواحد المعارف معرفٌ ومعرفٌ، وكأن الوجه سمي بها لأن معرفة الأجسام وتمييزها تقع بها. والأشهر والأحسن بيضٌ مفارقنا. ويجوز أن يكون أراد ابيضت مفارقنا من كثرة ما نقاسي الشدائد. وهذا كما يقال أمرٌ يشيب الذوائب. وفي القرآن: " يوماً يجعل الولدان شيبا ". وتغلي مراجلنا أي حروبنا، كقول الآخر:
تفور علينا قدرهم فنديمها ... ونفثؤها عنا إذا حميها غلا
ويجوز أن يكون المراد: ابيضت مفارقنا لانحسار الشعر عنها، باعتيادنا لبس المغافر والبيض، وإدماننا إياه، ويكون هذا كما قال:
قد حصت البيضة رأسي فما ... أطعم نوماً غير تهجاع(1/79)
وتكون المراجل على هذا كنايةً عن الحروب أيضاً. ويجوز أن يكون المراد: ابيضت مفارقنا من كثرة استعمالنا للطيب، ويكون كقول الآخر:
جلا الأذفر الأحوى من المسك فرقة
ويكون على هذا معنى تغلي مراجلنا أي قدورنا للضيافة، ويجوز أن يريد: مشيبنا مشيب الكرام، لا مشيب اللئام. وأنشد ابن الأعرابي في نوادره:
وشبت مشيب العبد في نقرة القفا ... وشيب كرام الناس فوق المفارق
وعلى هذا يحمل المراجل على أن المراد بها قدور الضيافة. فأما قوله: نأسو بأموالنا آثار أيدينا فإنما يريد ترفعهم عن القود ودفع أطماع الناس عن مقاصتهم، فيداوون جراحاتهم ببذل الأروش والديات. والأسو: مداواة الجرح وإن استعمل في موضع الإصلاح. قال:
والأساة الشفاة للداء ذي الري ... بة والمدركون للأوغام
ويقال للضار النافع: يشج ويأسو. ومنه اشتقاق الإسوة، ويقال الأسوة أيضاً. ويروى أن مصعب بن الزبير لما انهزم الناس عنه يوم مسكن جعل يقاتل ويتمثل:
وإن الأولى بالطف من آل هاشمٍ ... تأسوا فسنوا للكرام التأسيا
وفي البيت مع حسن المعاني التي بينتها توازن في اللفظ مستقيم، وسلامةٌ مما يجلب عليه التهجين.
إني لمن معشرٍ أفنى أوائلهم ... قول الكماة ألا أين المحامونا
يقاربه قول الخنساء:
أقلت مساماة الرجال عديدنا
فيقول مفتخراً إني لمن قومٍ أهلك أسلافهم قول الأبطال لهم ألا أين الذابون والمحامون؟ فكانوا يتقدمون ويفنون. والكماة: جمع الكمي، وهو من قولهم كمى(1/80)
شهادته، إذا كتمها؛ لأن الشجاع يستغني بالفعال، عن الدعوى والمقال، فكأنه يستر أمره وشأنه لوقت الحاجة، ولأنه إذا سكت دل على صفاته بلاؤه.
لو كان في الألف منا واحدٌ فدعوا ... من فارسٌ خالهم إياه يعنونا
يعني بقوله فدعوا أعلنوا الاستغاثة بيال فلانٍ، ومن فتىً، وما أشبهه. ويقال خلته أخاله خيلاً ومخيلةً وخيلاناً. وهذا مثل قول طرفة:
إذا القوم قالوا من فتىً خلت أنني ... عنيت فلم أكسل ولم أتبلد
وقد زاد هذا عليه بقوله لو كان فى الألف مناً واحدٌ ". لأن ذلك قال:
إذا القوم قالوا من فتىً، فنصب نفسه مع قومه؛ وهذا جعله منضماً مع الكثرة إلى الغرباء. وإنما قال: من فارسٌ فنكر، كما قال طرفة: من فتى فنكر. ولم يعرف واحدٌ، منهما، لأن السؤال بالمنكر لشدة إبهامه يكون أشمل لتناوله واحداً واحداً لا سيما وليس القصد في الاستفهام إلى معهودٍ معين، ولا إلى الجنس فيقال: من الفتى، ومن الفارس. وفي هذه الطريقة قول الآخر:
إذا القوم قالوا من فتىً لعظيمةٍ ... فما كلهم يدعى ولكنه الفتى
وبيت بشامة أجود الثلاثة. وقد أحسن الفرزدق كل الإحسان لما أشار إلى هذا المعنى فقال:
إذا ما قيل يا لحماة قومٍ ... فنحن بدعوة الداعي عنينا
إذا الكماة تنحوا أن ينالهم ... حد الظبات وصلناها بأيدينا
إنما قال حد الظبات - وظبة: السيف حده - لأنه أراد المضارب بأسرها. وكما صلح أن يقال أصابته ظبة السيف صلح أن يقال حد الظبة. وقيل الظبة: طرف السيف، والشباة حد طرفه. يقول: إذا الأبطال تباعدوا عن المصادمة والمكافحة، مخافة أن ينالهم حد السيوف مددنا أبواعنا إليهم بها أو وصلناها، وفي هذا المعنى قوله:
إذا قصرت أسيافنا كان وصلها ... خطانا إلى أعدائنا للتضارب(1/81)
وقوله تنحوا أن ينالهم أي تنحوا أن ينالهم، ومخافة أن ينالهم؛ فلما حذف من وصل الفعل فعمل. وعلى هذا قولهم: تحصن فلانٌ أن يطلب، وقول الله تعالى: " يبين الله لكم أن تضلوا ". وقوله: وصلناها بأيدينا أي إذا عجزت جعلنا وصلها أيدينا. وهذه الأبيات إذا تؤملت فكلٌ منها غاية يدعو إلى نفسه لفظاً ومعنىً.
ولا تراهم وإن جلت مصيبتهم ... مع البكاة على من مات يبكونا
يصف تعودهم للثكل، وإلفهم للمصائب والقتل، وأن قلوبهم قد مرتت عليها حتى قست، فلا يبكون مع البكاة على من قتل منهم. ومثله قول عمرو بن كلثوم:
معاذ الإله أن تنوح نساؤنا ... على هالكٍ أو أن نصيح من القتل
ونركب الكره أحياناً فيفرجه ... عنا الحفاظ وأسيافٌ تواتينا
يجوز أن يكون هذا كما قال الآخر:
فحالفنا السيوف على الدهر
ويجوز أن يكون أراد بالسيوف كأنهم السيوف مضاءً ونفاذاً. والأول أولى. وإنما يصف خطارهم بمهجهم، وركوبهم المهالك، ورميهم بأنفسهم المرامي المعطبة. فيقول: إذا فعلنا ذلك في الوقت بعد الوقت، وسعت المضايق عنا محافظتنا على الكرم وصبرنا على الشدائد، واستعمالنا سيوفنا المطاوعة لنا. ومعنى يفرجه: يكشفه ويوسعه. ويقال: فرج الله غمّه وفرجه، بالتخفيف والتشديد. ومنه سمي ما بين القوائم: الفروج. وإطلاق لفظ الفرج على العورة يجري مجرى الكنايات. وعلى هذا قيل: رجلٌ فرجةٌ، إذا كان كشافاً لأسراره.
عبد الملك بن عبد الرحيم الحارثي، ويقال إنه للسموءل ابن عاديا اليهودي:
إذا المرء لم يدنس من اللؤم عرضه ... فكل رداءٍ يرتديه جميل(1/82)
يقال: دنس دنساً، وتدنس تدنساً، إذا تكلفه. فيقول: إذا لم يتدنس الرجل باكتساب اللؤم واعتياده فأي ملبس لبسه بعد ذلك كان حسناً جميلاً. وذكر الرداء ها هنا مستعار، وقد قيل: ردَّاه الله رداء عمله، فجعل كنايةً عن مكافأة العبد بما يعمله، أو تشهيره به، كما جعله هذا الشاعر كنايةً عن الفعل نفسه. وتحقيقه: فأي عملٍ عمله بعد تجنب اللؤم كان حسناً. واللؤم: اسمٌ لخصالٍ تجتمع، وهي البخل واختيار ما تتقيه المروءة، والصبر على الدنية، ودناءة النفس والآباء. وإذا يتضمن معنى الجزاء، والفاء مع ما بعده جوابه. وليس هنا من قول عمرو بن معد يكرب:
ليس الجمال بمئزرٍ ... فاعلم وإن رديت بردا
فيعتقد أنه يريد بالرداء الثياب بسبيلٍ، فاعلمه.
إذا المرء لم يحمل على النفس ضيمها ... فليس إلى حسن الثناء سبيل
يقول: إذا المرء لم يحمل ظلم نفسه عليها، ولم يصبرها على مكارهها، فليس له طريقٌ إلى الثناء الحسن. وهذا يشير إلى كظم الغيظ، واستعمال الحلم، وترك الظلم والبغي مع ذويه، والصبر على المشاق، وإهانة النفس في طلب الحقوق؛ لأن من تعود هذه الأشياء علا ذكره، وحسن ثناؤه. ويقال: ضامه ضيماً، وهو مضيمٌ، إذا عدل به عن طريق النصفة واهتضمه. ومنه قيل: قعد في ضيم الجبل، أي في ناحيةٍ تنعدل إليه. وكما استعمل الضيم من ضام، كذلك استعمل الهضم واحد أهضام الوادي من هضم. ويبعد من طريق المعنى أن يريد بقوله ضيمها ضيم الغير لها فأضاف المصجر إلى المفعول، لأن احتمال ضيم الغير لهم يأنفون منه، ويعدونه تذللاً.
تعيرنا إنا قليل عديدنا ... فقلت لها إن الكرام قليل
يقال عيرته كذا، وهو المختار الحسن، وقد جاء عيرته بكذا. قال عديٌ:
أيها الشامت المعير بالده ... ر أأنت المبرأ الموفور
والمعنى أنكرت منا قلة عددنا فعدته عاراً، فأجبتها وقلت إن الكرام يقلون. والكرم: اسمٌ لخصالٍ تضاد خصال اللؤم، وقد ذكرناها. وهذا الاعتراف الذي حصل(1/83)
منه إنما هو اعترافٌ بقلة العدد لا بقلة القدر والغناء، ألا ترى أنه رجع عليه بالنفي في البيت الثاني فقال:
وما قل من كانت بقاياه مثلنا
على أن قوله إن الكرام قليل يشتمل على معانٍ كثيرة: وهي ولوع الدهر بهم، واعتيام الموت إياهم، وقلة النسل فيهم، واستقتالهم في الدفاع عن أحسابهم، وإهانتهم كرائم نفوسهم مخافة لزوم العار لهم، ومحافظتهم على عمارة ما ابتناه أسلافهم. وكل ذلك يقلل العدد، ويقصر المدد. وقليلٌ وكثيرٌ يوصف بهما الواحد والجمع.
وما قل من كان بقاياه مثلنا ... شبابٌ تسامى للعلا وكهول
الهاء من قوله بقاياه راجعة إلى لفظ من لأن معناه الكثرة. ولو رد عليه لقال بقاياهم. يقول: وما حصلت القلة في القدر والغناء، ولا لحقت الذلة في اللقاء والدفاع لأسلافٍ أخلافهم نحن، شبانٌ وكهولٌ يتسامون في اكتساب المعال، ن ويترقون في درجات الفضل. وشبابٌ مصدرٌ في الأصل ووصف به، ولذلك لا يثنى ولا يجمع. يقال شب الصبي يشب شباباً. وقوله تسامى أراد تتسامى، فحذف إحدى التاءين استثقالاً للجمع بينهما. فإن قلت: هلا أدغمت كما أدغمت في ادراك - والأصل تدارك؟ قلت: ليس هذا موضع إدغام، لأنه فعل مضارع. ألا ترى أنه لو أدغم لاحتيج إلى جلب ألف الوصل لكون أوله، وألف الوصل لا يدخل على الفعل المضارع. والكهل: الذي قد وخطه الشيب، ومنه اكتهل النبت، إذا شمله النور.
وما ضرنا أنا قليلٌ وجارنا ... عزيزٌ وجار الأكثرين ذليل
في هذا الكلام تعريض بعشيرة من جاذبه الكلام. يقول: وما يضرنا قلة عددنا وجارنا في عزٍ، وجار من لهم العدد والكثرة في ذل. وقوله: وما ضرنا يجوز أن يكون ما حرف نفي، والمعنى لم يضرنا؛ ويجوز أن يكون اسماً مستفهماً به على طريق التقرير، والمعنى أي شيء يضرنا. والواو من قوله: وجارنا عزيزٌ واو الحال، أي لا يضرنا ذلك والحال هذا. وكذلك الواو من قوله: وجار الأكثرين ذليل واو الحال. وإنما صلح الجمع بين الحالين لأنهما لذاتين مختلفتين، ولو كانا لذات واحدة لم يصلح. والعز والعزازة استعمل في القدرة والمنع، وفي الصلابة(1/84)
والشدة. ويقال: تعزز اللحم، لأن الكل يرجع إلى أصل واحد. كما ان الذل والذل الذي هو ضده استعمل في الانقياد والسهولة واللين والوطاءة، إذ جميعه يدعو إلى شيءٍ واحد. وفي طريقته:
فجارك عند بيتك لحم ظبيٍ ... وجاري عند بيتي لا يرام
وقول الآخر:
وهم يمنعون جارهم أن يقردا
لنا جبلٌ يحتله من نجيره ... منيعٌ يرد الطرف وهو كليل
ومثله:
لنا هضبةٌ لا يدخل الذل وسطها ... ويأوي إليها المستجير ليعصما
وأراد بذكر الجبل العز والسمو. فيقول: لنا جبل عزٍ يدخله من ندخله في جوارنا، ممتنعٌ على طالبه، يرد لإشرافه وسموقه طرف الناظر إليه وهو حسير. ومنيعٌ: اسم الفاعل من منع مناعةً ومناعاً، ومنه المنعة. ويجوز أن يكون فعيلاً في معنى مفعول، أي ممنوع منه، وكما استعمل المنيع في العز استعمل أيضاً في العفة، فقيل امرأة منيعةٌ وممتنعةٌ أي عفيفةٌ. وحل واحتل بمعنىً. والطرف: النظر والعين جميعاً. وقال الدريدي: طرف العين امتداد لحظها.
رسا أصله تحت الثرى وسما به ... إلى النجم فرعٌ لا ينال طويل
رسا الجبل: ثبت أصله في الأرض. ومنه رست السفن، إذا انتهت إلى قرار البحر. والرسو والرسوخ يتقاربان. والثرى: الندى. وما تحت الأرض ثرىً. ويقال: ثرىً ثريٌ، على المبالغة. يقول: ثبت أصل هذا الجبل - وهو يريد العز على ما بينت - تحت الأرض وارتفع به أعلى طويلٌ لا ينال إلى محل النجم. والمراد: عزنا أصله تحت الأرض السابعة، وفرعه عند النجم. ومعنى لا ينال: لا يوصل إليه ولا يحصل(1/85)
مثله. وكما كان يقال في الرفيع الشأن العالي القدر: هو في النجم وهو في السكاك، وكان قصده في الفرع أنه مديدٌ حتى اتصل بالنجم، زاده صفةً فقال طويل. وقد طابق الرسو بالسمو، كما قابل الأصل بالفرع. ونقله أبو تمامٍ فقال:
لنا نبعةٌ فرعها في السماء ... وفي هامة الحوت أعراقها
وإنا لقومٌ ما نرى القتل سبةً ... إذا ما رأته عامرٌ وسلول
كان وجه الكلام أن يقول: ما يرون القتل سبةً، حتى يرجع الضمير من صفة القوم إليه ولا تعرى منه، لكنه لما علم أن المراد بالقوم هم قال: ما نرى. وقد جاء في الصلة مثل هذا، وهو فيه أفظع، قال:
أنا الذي سمتن أمي حيدره
والوجه سمته حتى لا يعرى الصلة من ضمير الموصول. قال أبو عثمان المازني: لولا صحة مورده وتكرره لرددته. فضل عشيرته في الصبر على الموت، والثبات في الحرب على عامرٍ وسلول، وهما قبيلتان. فيقول: إذا حسب هؤلاء القتل والقتال عاراً ومنقصةً عدهما عشيرتي فخراً ومكرمةً. والسبة: ما يسب به، كما أن الخدعة ما يخدع به. وأصل السب: القطع، ثم استعمل في الشتم. وهذا كما يقال: فلانٌ يقطع أعراض الناس. وقوله: ما نرى أي لا نجعل ذلك مذهباً.
يقرب حب الموت آجالنا لنا ... وتكرهه آجالهم فتطول
قوله: يقرب حب الموت أي حبنا للموت. وجعل في مقابلته: وتكرهه آجالهم لأنه يشتمل على ما يوفيها حقها من اللفظ. وإن كانت من حيث المعنى قد حصلت: ويبعد بغضهم إياه آجالهم. ويكون الشاعر ملماً في المصراع الأول بقول الآخر:
رأيت الكريم الحر ليس له عمر
لأنه يشير إلى أنهم يعتبطون لاقتحامهم المنايا، وحرصهم على ملابسة الحروب، وأن أولئك يعمرون لمجانبتهم الشرور، وزهدهم في مجاذبة العدو. ويجوز(1/86)
أن يكون أضاف الحب من قوله حب الموت إلى الفاعل، فيكون المعنى: يقرب حب الموت لنا آجالنا، ويكون هذا كقول طرفة:
أرى الموت بعتام الكرام ويصطفي ... عقيلة مال الفاحش المتشدد
ويكون على هذا قوله وتكرهه آجالهم محمولاً على أنه إذا كرهت آجالهم الموت فقد كره الموت آجالهم أيضاً. ألا ترى قول دريد:
أبى القتل إلا آل صمة إنهم ... أبوا غيره والقدر يجري إلى القدر
وقول متمم:
أرى الموت طلاعاً على من ترفعا
وإذا كان كذلك فالتقابل في هذا الوجه حاصلٌ أيضاً. وبعضهم روى: يقصر حب الموت واختاره، ليكون القصر بإزاء الطول. وهم لا يراعون مثل هذا إذا تناسبت المعاني وتقابلت، ويكون ذلكمنهم كالمتبرئ من التكلف. ألا ترى أبا ذؤيب الهذلي قال:
وشيك الفصول بعيد القفول ... إلا مشاحاً به أو مشيحا
وقد كان يمكنه أن يقول بطيء القفول فلم يراع ذلك. وقد أحسن عنترة كل الإحسان في سلوك هذه الطريقة، حين قال:
ليس الكريم على القنا بمحرم
وما مات منا سيدٌ حتف أنفه ... ولا طل منا حيث كان قتيل
حتف انتصب على الحال، ولم يستعمل منه حتف ولا هو محتوف. وليس هذا مثل تبسمت وميض البرق، فاعلمه. يقول: لم يمت رئيسٌ منا على فراشه، بل(1/87)
مات ميتةً كريمةً في الحرب تحت ظلال السيوف والرماح، ولا أبطل دم قتيلٍ منا حيث كان، وعلى يد من اتفق. وهذا غاية ما يتحمد به الفتاك وأبناء الحروب، حتى إن بعضهم اعتذر عمن مات على فراشه فقال:
بحمد من سنابك لا بذم ... أبا قران مت على مثال
وفي هذه الطريقة قوله:
كتب القتل والقتال علينا ... وعلى الغانيات جر الذيول
وقوله: مات حتف أنفه يقال إن أول من تكلم به النبي صلى الله عليه وسلم. وتحقيقه: كان حتفه بأنفه، أي بالأنفاس التي خرجت من أنفه عند نزوع الروح، لا دفعةً واحدة. ويقال خص الأنف بذلك لأنه من جهته ينقضي الرمق. ويقال: طل دمه يطل طلاً، إذا أهدر.
تسيل على حد الظبات نفوسنا ... وليست على غير السيوف تسيل
يروى: تسيل على حد السيوف نفوسنا. ولم يقل وليست على غيرها تسيل في الروايتين، لأنهم يكررون أسماء الأجناس والأعلام كثيراً، ولاسيما إذا قصدوا التفخيم بها. كما قال عديٌ:
لا أرى الموت يسبق الموت شيءٌ ... نغص الموت ذا الغنى والفقيرا
وفي الرواية الثانية - وهي المشهورة - أضاف الحد إلى الظبات. وهذا فيه وجهان: أحدهما أن يكون أراد بالظبات السيوف كلها ثم أضاف الحد إليها، والمعنى: تسيل على حد السيوف دماؤنا وليست تسيل على غيرها. وهذا كما يسمى السيف كما هو نصلاً، وكما يسمى السهم نصلاً كما هو. والثاني أن إضافة الحد إلى الظبات كإضافة البعض إلى الكل، ويكون التقدير: تسيل على الحد من الظبات، وتكون الظبات مضارب السيوف. فإن قيل: كيف تبجح بأن تكون دماؤهم تسيل على حد السيوف لا على غيره؟ قلت: إن الدماء قد تسال بالعصي وبغيرها مما لا يكون شرفاً،(1/88)
فعد القتلة التي تكون بالسيف أكرم. ألا ترى أن بني أسدٍ يسمون عبيد العصا لما كان حجرٌ أبو امرئ القيس حين أوقع بهم قتلهم بها، لتكون قتلتهم ذميمة. وقد قتل كثير منهم بالجلاميد والصخور، ولذلك قال بعضهم:
جلاميد أملاء الأكف كأنها ... رؤوس رجالٍ حلقت في المواسم
وقال آخر:
ولا نقاتل بالعص ... ي ولا نرامي بالحجاره
إلا علالة أو بدا ... هة سابحٍ نهد الجزاره
وإذا كان الأمر على هذا فمعنى التبجح أن تكون منيتهم بالسيوف ظاهرة. وأما قوله:
لو بأبانين جاء يخطبها ... رمل ما أنف خاطبٍ بدم
فإن الفحل الهجين إذا تعرض للناقة الكريمة قرع أنفه بالعصا وضرب وجهه بها، فهو من ذاك مأخوذ.
صفونا فلم نكد وأخلص سرنا ... إناثٌ أطابت حملنا وفحول
أشار بهذا الكلام إلى كرم المناصب والمناسب، وطيب المنبت والمغرس. فيقول: صفت أنسابنا فلم يشبها كدورةٌ. وخلص نكاحنا أمهاتٌ طيبت حملنا، وآباءٌ كرمت عروقنا. ويقال: كدر الماء يكدر كدراً وكدوراً وكدورةً، وهو أكدر وكدرٌ. وفي ضده صفا الماء يصفو صفواً؛ والصفاء الاسم. ومن أمثالهم: خذ ما صفا ودع ما كدر. والسر: النكاح. وسر الشيء: خالصه. ويجوز أن يكون قولهم سريةٌ فعلية من هذا.
علونا إلى خير الظهور وحطنا ... لوقتٍ إلى خير البطون نزول
يصف ترددهم في شرف المصعد والمنحدر، وكرم العنصر والمتحول، كما ذكر طهارة المنكح والمولد، وجلالة المعتلى والمستقر، فيقولك علونا في خير الظهور، أي حصلنا في أعلى المراتب من ظهور أكرم الآباء، وحدرنا منها لوقتٍ معلومٍ - يشير(1/89)
إلى وقت الأطهار - نزولٌ إلى خير البطون من أشرف الأمهات. والمعنى أنا كرام الأطراف. وهذه الأبيات إذا تؤملت أدى التأمل منها إلى سلامة اللفظ والمعنى من كل معاب. وحصول الفخامة والجلالة لها في كل جانبٍ وبابٍ.
فنحن كماء المزن ما في نصابنا ... كهامٌ ولا فينا يعد بخيل
ماء المطر أصفى المياه عندهم، فشبه صفاء أنسابهم بصفاء ماء المطر. والمزن: السحاب. وقوله: ما في نصابنا كهامٌ، أي ليس فينا كليل الحد، ولكن كلٌ منا ماضٍ نافذٌ، ولا فينا بخيل فيعد. وهو نفيٌ للبخل رأساً، وليس يريد أن فيهم بخيلاً ومع ذلك لا يعد. ومثله:
ولا ترى الضب بها ينجحر
أي ليس بها ضبٌ رأساً فينجحر، ومثل هذا كثير. ويقال كهم وكهم يكهم ويكهم كهامةً، فهو كهامٌ وكهيمٌ. يقال ذلك للرجل إذا ضعف، وللسيف إذا كل.
ننكر إن شينا على الناس قولهم ... ولا ينكرون القول حين نقول
هذا مثل قول الآخر:
وما يستطيعالاس عقداً نشده ... وننقضه منهم وإن كان مبرما
يصف رياستهم وعلو كلامهم ونفاذ حكمهم، ورجوع الناس في المهمات إلى رأيهم، والاعتماد على تدبيرهم ومشورتهم. فيقول: نغير ما نريد تغييره من قول غيرنا، وأحدٌ لا يجسر على الاعتراض علينا، والإنكار لقولنا، انقياداً لهوانا، واقتداءً بحزمنا. وهذا كما قال الأعشى:
كلٌ سيرضى بأن يلقى له تبعا
إذا سيدٌ منا خلا قام سيدٌ ... قؤولٌ لما قال الكرام فعول(1/90)
يشبهه قول حاتم:
إذا مات منا سيدٌ قام بعده ... نظيرٌ له يغني غناه ويخلف
وقول عروة:
إذا مات منهم سيدٌ قام بعده ... على مجده غمر المروءة سيد
وما أخمدت نارٌ لنا دون طارقٍ ... ولا ذمَّنا في النازلين نزيل
أراد بقوله نارٌ لنا نار الضيافة. يقول: نديم إيقادها فلا تطفا دون طارق ليلٍ. والضيف إذا فارقنا حمدنا ولم يذممنا، لحسن توفرنا عليه، واحتفالنا عند سوق الخير إليه. والنزيل، كالرفيق والجليس والأكيل. والطروق يختص بالليل. وسمي النجم طارقاً لذلك.
وأيامنا مشهورةٌ في عدونا ... لها غررٌ معلومةٌ وحجول
يقول: وقعاتنا مشهورةٌ في أعدائنا معلومةٌ، فهي بين الأيام كالأفراس الغر المحجلة بين الخيل، يعرف بلاؤنا فيها، وحسن آثارنا عند النهوض لها. وهذا كما قال:
ولما يكن يومٌ أغر محجل
والتحجيل: أن يبيض من الأوظفة مواضع الحجل، وهو القيد والخلخال. فإذا ارتفع التحجيل حتى يبلغ الفخذين فما فوق فهو التجويف. قال طفيلٌ:
شميط الذنابي جوفت فهي جونةٌ
وأسيافنا في كل غربٍ ومشرقٍ ... بها من قراع الدار عين فلول
مثله قول النابغة:
ولا عيب فيهم غير أن سيوفهم ... بهن فلولٌ من قراع الكتائب(1/91)
يقول: قد تفللت سيوفنا بما نضارب بها الأعداء، في مشارق الأرض ومغاربها. وقال: من قراع الدارعين، لأن الغرض أن يكون عدوهم على غاية الاحتراز منهم؛ وفي أكمل الاستعداد لهم. وقوله: في كل غربٍ ومشرقٍ ظرف لقراع الدارعين. أي بأسيافنا فلولٌ من القراع في كل غربٍ ومشرق.
معودةً ألا تسل نضالهافتغمد حتى يستباح قبيل
مثله قول الآخر:
بأيدي رجالٍ لم يشيموا سيوفهم ... ولم تكثر القتلى بها حين سلت
وانتصب معودةً على الحال. ويجوز أن ترفع على أن تكون خبر ابتداءٍ مضمر، والعامل فيه إذا كان حالاً ما يدل عليه قوله: بها من قراع الدارعين فلول. فيقول: عودت سيوفنا ألا تجرد من أغمادها فترد فيها إلا بعد أن يستباح بها قبائل. ويقال: عودته كذا فتعوده واعتاده. والعادة من العود وهو الرجوع، ولذلك قالوا للمواظب على الشيء: هو معاودٌ له. وقوله فتغمد، يقال غمدت السيف وأغمدته، وأصله الستر، ومنه تغمده الله برحمته.
سلي إن جهلت الناس عنا وعنكم ... وليس سواءً عالمٌ وجهول
يروى: عنا فتخبري. كأنه استدل على تصحيح ما ادعاها من الخصال التي عددها بشهادة الناس له وتصديقهم مقاله. يقول: سلي الناس عنا إن جهلت ما حكيته من أفعالنا حتى تخبري فتؤمني به وتسكني إليه، فليس العالم بالشيء كالمخمن أو المجوز أو الشاك أو الحادس أو المقدر. والعلم قد يحصل بإخبار المخبرين كما يحصل بالمشاهدة، فلذلك دعاها إلى ما دعا من السؤال والكشف. وقوله: فتخبري ينتصب بأن مضمرة وهو جواب الأمر بالفاء. والسواء يكون مصدراً ووصفاً في معنى مستوٍ. يقال: هذا درهمٌ سواءٌ، أي مستوٍ؛ وهذا درهمٌ واء أي استواءً، كما تقول هذا درهمٌ تماماً، أي تم تماماً. وفي القرآن: " في أربعة أيامٍٍ سواءٍ للسائلين " أي مستويات، وقرى " سواءً " على المصدر كأنه قال: استواءً. حكى أبو الحسن الأخفش: هما سواءٌ وهما سواءان.(1/92)
فإن بني الديان قطبٌ لقومهم ... تدور رحاهم حولهم وتجول
القطب: الحديدة في الطبق الأسفل من الرحى يدور عليها الطبق الأعلى. وسمي قطب السماء لما يدور عليه الفلك. وعلى التشبيه قالو: فلانٌ قطب بني فلانٍ، أي سيدهم الذي يلوذون به، وهو قطب الحرب.
الشميذر الحارثي
قال الدريدي: شميذر: دابةٌ زعموا، ولا أحسبها عربيةً صحيحةً.
قال البرقي: هذا الشعر لسويد بن صميعٍ المرثدي، من بني الحارث، وكان قتل أخوه غيلةً فقتل قاتل أخيه نهاراً في بعض الأسواق من الحضر.
بني عمنا لا تذكروا الشعر بعدما ... دفنتم بصحراء العمير القوافيا
الصحراء: اسم للمكان الواسع، وجمعه صحارٍ وصحرٌ. قال:
أنيٌ مده صحرٌ ولوب
وأصحر القوم: برزوا إليها، ومنه قيل لقيته صحرة بحرة، أي عياناً ومبارزةً. يقول: دعوا التفاخر في الشعر وبالشعر، فإنكم قصرتم بصحراء الغمير ولم تبلوا فيها فتنطلق ألسنتكم لدى المساجلة، وتستجيب قوافي الشعر لكم، إذا أردتم نظمها وإنشادها، عند المنافرة والمحاكمة، لأنكم أمتم قوافي الشعر ودفنتموها. فكما أن الميت لا يجيب إذا دعي، كذلك لا يجيبكم الشعر إذا أردتموه، مع سوء بلائكم، وقبح آثاركم. والقافية: آخر البيت المشتمل على ما بني عليه القصيدة. وقد يسمى البيت كما هو قافيةً. قال:
وقافيةٍ مثل حد السنان ... تبقى ويذهب من قالها
قال الأخفش: وتسمى القصيدة بأسهرها قافيةً. قال:
فمن القوافي بعد كعب يحوكها(1/93)
فلسنا كمن كنتم تصيبن سلةً ... فنقبل ضيماً أو نحكم قاضيا
في هذا الكلام تعريضٌ بقومٍ أشار إليهم بقوله: كمن كنتم، وتصريحٌ للمخاطبين، ومجاهرةٌ بالقول، فهو يرميهم بالضعف وأنهم إذا نالوا من العدو شيئاً نالوه سرقةً. فيقول: لسنا كالذين كنتم تنالوهم سرقةً، فنلتزم لكم الضيم، أو ننصب حاكماً يقضي بيننا وبينكم. وأشار بالضيم إلى التغميض على ما يكون من سرقتهم. وكأن القوم الذين أشار إليهم وانتفى من أن يكون حاله كحالهم، كانوا يقابلون سرقتهم وتجاسرهم عليهم إما بالتغميض، وهو التزام الضيم عنده، وإما بالمرافعة إلى الحاكم ونصب المتوسط، والعجز في حكمه. وانتصاب نقبل على أنه جواب النفي بالفاء. ويقولون: في بني فلانٍ سلةٌ، أي سرقةٌ. وانتصاب سلة على أنه مصدرٌ في موضع الحال، والتقدير: تصيبونهم سالين وساقين.
ولكن حكم السيف فيكم متسلطٌ ... فنرضى إذا ما أصبح السيف راضيا
يقول: متى عدوتم طوركم، أو خرجتم من حدكم، فإنا نسلط السيف عليكم، ولا نرضى إلا بحكمه فيكم. فمتى رضي رضينا، وفي طريقته قوله:
ونشتم بالأفعال لا بالتكلم
وقد ساءني ما جرت الحرب بيننا ... بني عمنا لو كان أمراً مدانيا
دل بقوله: لو كان أمرا مدانيا على أنه لم يسؤه ما جنت الحرب بينهم، لأنه وقع بالاستحقاق. ألا ترى أنه قال ساءني ذلك لو كان الأمر المؤدي إليه أمراً مدانياً، وكنا نعرف للاحتمال فيه موضعاً، وللصبر عليه مجالاً ومذهباً. فأما والشان مستفحلٌ، وتعديكم متفاقمٌ، فإنه لا يسوءني. وقوله: لو كان أمراً مدانيا، أراد لو كان الأمر أمراً أمماً لساءني. وإذا كان كذلك فجواب لو متقدم، وتلخيصه: لو كان ما ترددنا فيه قريباً لساءني ما جنته الحرب بيننا، ولكن الآن لم يسوء. وهذا تعظيم لما كان منهم إليهم، وكالاعتذار عن الأخذ بالفضل عليهم، وترك الصفح عنهم.
فإن قلتم إنا ظلمنا فلم نكن ... ظلمنا ولكنا قد أسأنا التقاضيا(1/94)
رواه بعضهم: فإن تزعموا أنا ظلمنا. والزعم في دفع الدعوى أبلغ، وإنما نبه بهذا الكلام على أنه لا يعد ما عوملوا به ظلماً، مع كون ابتدائه منهم، وإن كان فيه سرفٌ. فيقول: إن ادعيتم علينا أنا ظلمناكم فإنا لم نظلمكم، مع عدوانكم، وسبقكم إلى الشر وتهييجه، ولكنا أسأنا في تقاضيكم الحق، وإيفائكم الجزاء، حين استخرجنا بالعنف والقهر، ومجاوزة الأدنى من الأمرين إلى الأقصى. فكأنه سمى ما عده أولئك ظلماً سوء تقاضٍ. والظلم قيل فيه: إنه وضع الشيء في غير موضعه، ولذلك قيل للأرض الصلبة إذا حفرت: مظلومةٌ، وللسقاء إذا تنوول ما فيه قبل إدراكه: ظليمٌ. وقيل: الظلم: انتقاص الحق. قوله فلم نكن ظلمنا إذا كان من حكم الجواب أن يكون طبقاً للابتداء ومبنياً عليه، فمن الواجب عليه كان أن يقول: فإن قلتم إنا كنا ظلمنا. ألا ترى أنا نقول في قول الله تعالى: " وما كان الله ليعذبهم " إنه كان جواب قائلٍ قال كان الله سيعذبهم. فنفى على حد الابتداء وطريقته، ولكن الشاعر حذف من الابتداء كنا، لأن ما في الجواب يدل عليه.
وداك بن نميل المازني
قال البرقي هو وداك بن سنان ين نميلٍ:
رويد بني شيبان بعض وعيدكم ... تلاقوا عداً خيلي على سفوان
رويداً: تصغير إروادٍ، وهو مصدر أرودت فلاناً، على طريق الترخيم، وانتصابه بفعلٍ مضمرٍ دل عليه لفظه. وأكثر ما يجيء تصغير الترخيم يجيء في الأعلام، وقد يجعل رويداً اسماً لارفق، فيبنى حينئذ كما يبنى أخواته من أسماء الأفعال على ذلك ما جاء في المثل من قولهم: رويد يعلون الجدد. وقد تزاد كاف الخطاب عليه فيقال: رويدك، على ذلك قولهم: رويدك الشعر يغب وقوله: بعض وعيدكم انتصب بفعلٍ مضمرٍ دل عليه رويد، لأن مع استعمال الرفق كفاً عن بعض الوعيد، فكأنه لما قال أرودوا يا بني شيبان قال: كفوا بعض الوعيد. وهذا تهكمٌ وسخريةٌ. وقوله: تلاقوا، الجزم على أنه جوابٌ للأمر الذي دل عليه رويداً. وإنما جعل للأمر الجواب لأنه ضمن معنى الجزاء والشرط. وسفوان: اسم(1/95)
ماءٍ قالوا هو من البصرة على أميالٍ. ومعنى البيت مفهوم. وقوله غداً لم يشر به إلى اليوم الذي يلي يومه، وإنما دل على تقريب الأمر، فكأنه قال: تلاقوا خيلي قريباً على هذا الماء.
تلاقوا جياداً لا تحيد عن الوغى ... إذا ما غدت في المأزق المتداني
الوغى، أصله الجلبة والصوت، وكذلك الوعى بالعين غير معجمة. قال:
كأن وعى الجموش بجانبيها
وجياد ها هنا: جمع جوادٍ، يقال فرسٌ جواد: عتيقٌ، وخيلٌ جيادٌ: عتاقٌ. وفي غير هذا المكان يكون جمع جيد. وتلاقوا بدل من تلاقوا الأول. نبه بهذا على أن المراد بالخيل الفرسان، على عادتهم في قولهم الخيل والرجل. قال الله تعالى: " وأجلب عليهم بخيلك ورجلك "، ولهذا قال فيما بعده: تلاقوهم فتعرفوا كيف صبرهم. ويجوز أن يكون أراد بالخيل الدواب، ووصفها بأنها لا تجبن عن الوغى، لدوام ممارستها له، وتعودها إياه. ثم خبر في قوله: تلاقوهم عن أربابها، فيقول: ارفقوا تلاقوا فرساناً كراماً لا تمل الحروب ولا تعدل عنها إذا ابتكرت في مضيقٍ منها، تتلاحم فيه الفرسان وتتدانى فيه الأبطال والشجعان. وإنما قال ذلك لأنه مع التداني لا يكون إلا التجالد، وعنده تثكل الأمهات. والمأزق: المضيق، وكان أصله من الأزق في الحرب، فهو مفعلٌ منه.
تلاقوهم فتعرفوا كيف صبرهم ... على ما جنت فيهم يد الحدثان
قوله على ما جنت يريد على جنايةٍ. وموضعه نصبٌ على الحال، والعامل فيه عرفوا. أو تلاقوا. يقول: تلاقوا من بلائهم ما يستدل به على حسن صبرهم وثباتهم في جلادهم، هذا مع تحامل الزمان عليهم، وسوء تأثير الدهر فيهم. وأصل الصبر: الحبس، ومنه قتل فلانٌ صبراً. وحدث الدهر وأحداثه وحدثانه وحوادثه: نوازله.(1/96)
مقاديم وصالون في الروع خطوهم ... بكل رقيق الشفرتين يمان
مقاديم: جمع مقدامٍ. ويشبه هذا البيت قوله:
إذا قصرت أسيافنا كان وصلها ... خطانا إلى أعدائنا للتضارب
وقد مر مثله، لكن في هذا قلباً، وذاك أنه قال: وصالون خطوهم بكل رقيق الشفرتين، وكان الواجب أن يقول: كل رقيق الشفرتين يخطوهم. ألا ترى أنه قال: إذا قصرت أسيافنا وصلناها بخطانا؟ وقال الآخر:
نصل السيوف إذا قصرت بخطونا
ومثل هذا البيت في القلب بل في تبيين جواز القلب، وقول حميد بن ثورٍ:
نصل الخطى بالسيف والسيف بالخطى ... إذا ظن أن السيف ذا الأثر قاصر
إذا استنجدوت لم يسألوا من دعاهم ... لأية حربٍ أم بأي مكان
هذا مثل قوله:
لا يسألون أخاهم حين يندبهم ... في النائبات على ما قال برهانا
والمعنى: إنا لا نطلب العلل على المستنجد توصلاً إلى دفعه أو مطله، ولكنا نعجل غوثه على كل حالٍ. والاستنجاد: الاستصراخ. ورجل منحادٌ: معوان، وقد أنجدني، ويقال هو نجدٌ من قومٍ أنجاد. ومثله قول الآخر:
كنا إذا ما أتانا صارخٌ فزعٌ ... كان الصراخ له قرع الظنابيب
سوار بن المضرب السعدي
من سعد بني تميم. وقال البرقي: من سعد بني كلابٍ.
فلو سألت سراة الحي سلمى ... على أن قد تلون بي زماني(1/97)
سراة الناس: خيارهم. وشراة الإبل بالشين معجمةً: كرامها. وقد مر ذكره. وقال الخليل: السرو: سخاءٌ في مروةٍ. وسرا يسرو فهو سريٌ وقومٌ سراةٌ، ولم يجيء على فعلةٍ غيرها. يعني أن فعلة يختص بها الصحيح في الجمع دون المعتل، وذلك كالفجرة والفسقة. وتلون الزمان يشير به إلى تصاريفه بالخير والشر، والنفع والضر. فيقول: لو بحثت هذه المرأة بالسؤال عن أحوالي على تبدل الأبدال، وتغير النفع والضر بي فما مضى، وتنقل الأحداث على مرةً بعد أخرى. وجواب لو يجيء من بعد قوله: أن تلون، وأن إذا وصل بالماضي أفاد حدثاً ماضياً، وإذا وصل بالمستقبل أفاد حدثاً مستقبلاً.
لخبرها ذوو أحساب قومي ... وأعدائي فكل قد بلاني
قوله: لخبرها جواب لو. وأحساب: جمع حسبٍ، وهو ما يحسب ويعد عند التفاخر. لو سألت لأنبأها بخبري أشراف قومي، وأماثل أعدائي، فكلٌ منهم قد خبرني. يشير بهذا الكلام إلى أن زعماء قبيلته وذوي الشرف من رهطه، يعترفون له بالفضل، ويشهدون له بما يكسبه جميل الذكر، وأن أعداءه على ما قاسوه من وقعاته بهم، وكابدوا من بدراته فيهم، لا يجحدون تبريزه، ولا ينكرون تقديمه. ومن اعترف له بالفضل مواليه ومعاديه، وصدقه في دعواه أقاربه وأجانبه، فهو النهاية في الكمال، والغاية عند البحث عن الفعال. وقوله: فكلٌ قد بلاني اعتراضٌ حصل بين خبر ومفعوله، وهو قوله بذبي الذم والفاء دخلت معلقةً لجواب الجملة بها.
بذبي الذم عن حسبي بمالي ... وزبونات أشوس تيحان
الباء من قوله بذبي تتعلق بقوله لخبرها. وكأن الإخبار بحسن دفاعه عن حسبه بماله، وكرم محافظته على شرفه وحاله، من تزكية ذوي الأحساب من عشيرته وثنائهم عليه، والإنباء بدفعه معرة الأشوس التيحان، من إخبار أعدائه وشهادتهم له. فكما أجمل في الأول أجمل في الثاني، ثقة بأن مسامع عند التفصيل يرد كلاً إلى موضعه. وإنما خص ذوي الأحساب من قومه لأن شهادتهم أوجه، والتحاسد لهم أشمل، والقرين بمقارنه أعلم. وقوله: زبونات فعولات من الزبن، وهو الدفع. والتيحان: العريض المقدام، وهو فيعلان بفتح العين، ولا يجوز أن يروى بكسرها، لأن فيعلان لم يحيء في الصحيح فيبنى المعتل عليه قياساً. وفيعلٌ كسيدٍ من الأبنية المختصة(1/98)
بالمعتل. ومثل تيحان هيبانٌ، وهما صفتان حكاهما سيبويه بالفتح، ومثالهما من الصحيح قيقبانٌ وسيسبانٌ. وتيحانٌ، من تاح له يتوح ويتيح لغتان، إذا أشرف وتهيأ. ورجلٌ متيحٌ، ويقال قلبٌ متيحٌ أيضاً. وأتيح له كذا. ومثل الزبون البيوت، وهو السقيط، والهم المبايت لصاحبه. يقال زبنتهم الحرب، وحربٌ زبونٌ وطحونٌ. والزبنية واحد الزباني من هذا. وفعليةٌ من الأبنية التي تلزمها الهاء. والأشوس: الذي يعرف في نظره الغضب والحقد، ثم استعمل في المتكبر والمهيب.
وإني لا أزال أخا حروبٍ ... إذا لم أجن كنت مجن جان
في هذه الطريقة قول الآخر:
ولم يجنها لكن جناها وليه ... فآسى وآداه فكان كمن جنى
ويروى: وأنى لا أزال أخا حروبٍ فيعطف على بذبي الذم، ويكون موضعه جراً، ويكون هذا مما شهد به الأعداء له أيضاً. فإن كسرت إني فهو على الاستئناف والانقطاع عما قبله. والمعنى: إني ألبس الحروب وأمارسها دائماً، فإذا لم يكن لي من أحوالي وزماني ما يبعثني على مجاذبة الأعداء ومدافعتهم، طلبت من قد شقي بمثل ذلك، فدافعت دونه وحاميت عليه، لأني لا أصبر على حال السلامة والسلم. ومثله قول الآخر:
وما إن تراه الدهر إلا مغرراً ... بنفسٍ أبت إلا صعاب المراكب
آخر:
ولقد شهدت الخيل يوم طرادها ... فطعنت تحت كنانة المتمطر
يقال: تمطر الرجل، إذا أسرع. ويقال مطر به، وقطر به، إذا بادر. وأراد بالخيل الفرسان، كأنه يخاطب بهذا الكلام من شهد معه المعركة، فخيره بمعاملته المتمطر الذي عهده، وقوله: تحت كنانة أشار به إلى المقتل. وهذا المتمطر كأنه كان بارزه، أو أراد أن يبادر إلى أمرٍ، فحال بينه وبينه. والكنانة من الكن: الستر، لأنه يصان بها النبل.(1/99)
ولقد رأيت غداة شلن عليكم ... شول المخاض أبت على المتغبر
يروى: ولقد رأيت الخيل شلن عليكم، أي شاثلة. والتقدير: وقد شلن. وأراد بالخيل ها هنا الدواب، وهي تشول بأذنابها إذا اشتد عدوها؛ ويستدل بذلك منها على قوة ظهرها. فيقول: لقد رأيتكم منهزمين والخيل تعدو عليكم رافعة أذنابها، رفع النوق الحوامل لها إذا طلب حلب غبر لبنها. والغبر: البقية تبقى من اللبن في الضرع. ويقال تغبرت الغبر، كما يقال تحلبت المحلوب. والمخاض لا واحد لها من لفظها، وهي اسم مفرد موضوع للنوق الحوامل، والواحد من غير لفظها: خلفة. وقوله: أبت على المتغبر قد معه مضمرة، وهو واقع موقع الحال. أراد: رأيت الخيل شائلة أذنابها عليكم شول المخاض آبية على المتغبر. ومن روى: ولقد رأيت غداة فقد أضمر مفعول رأيت، وهو الخيل. وساغ ذلك، لأن قوله ولقد شهدت الخيل - وإن أريد به الفرسان - يدل عليه.
ونطاعن الأبطال عن أبنائنا ... وعلى بصائرنا وإن لم نبصر
ذكر الأبناء كتابة عن الحرم، كما قال الآخر:
نقاتل الأبطال عن بنينا
والبصائر: جمع بصيرة، وهو ما يستدل به الرجل من رأيه وعقله على ما يغيب منه. وعلى ذا سميت الطريقة من الدم بصيرة، لأنه يستدل بها على الجرح، وفسر قوله:
راحوا بصائرهم على أكتافهم ... وبصيرتي يعدو بها عتد وأي
على الوجهين جميعاً. فإذا جعلتها بصائر الرأى يكون المعنى خلفوا آراءهم وطرحوها، كما يقال تركت الرأى بموضع كذا وكذا، وجلعت غداً مني على ظهر. ومعنى وبصيرتي يعدو بها عتد وأي أن رأيه معه نافذ مستمر، وإذا جعلتها بصائر الدم يكون المعنى أنهم مهزومون مكلومون في ظهورهم وأقفائهم، فدماؤهم على أكتافهم. ومعنى وبصيرتي يعدو بها عتد وأى في هذا الوجه أن دمي سالم في نفسي(1/100)
وفرسي يعدو بي. ومعنى البيت: إنا ندافع عن حرمنا وحريمنا، وعلى ما يعترض في الوقت، نفعل ذلك وإن لم نبصر عاقبة الأمر، ولم نتتبعها بالفكر فيها، وتأمل نتائجها، فنعلم موادها. وهذا شأن الفتاك فيما يمشونه من أحكام الحرب وينفذونه، ويفتلونه من أسباب الجذاب والنزاع ويبرمونه. وقد قيل في هذا البيت إنه كما حكي عن مسيلمة حي قال لبني حنيفة: قاتلوا عن أحسابكم، فأما الدين فلا دين. وكأن المعنى على هذا: وعلى بصائرنا في الحرب عند المحافظة على الشرف وإن لم نبصر أمر الدين. وهذا بعيد متعسف، وإذا تأملته ظهر لك. وفي الطريقة الأولى قول القطامي:
وخير الأمر ما استقبلت منه ... وليس بأن تتبعه إتباعا
وسمعت بعض أصحاب المعاني يقول: المعنى إنا نقاتل الأبطال جرياً على عادة الناس عند نظرهم لدنياهم ودينهم، في الذب عن الحرم والعشيرة والشرف، وعلى الأديان والاعتقادات والبصائر، وإن لم نبصر وجهاً واحداً من هذه الوجوه نقاتل أيضاً، لأن همنا القتل والقتال. قال: فحذف مفعول وإن لم نبصر لأن المراد مفهوم. وكذلك حذف جواب إن، لأن فيما تقدم دليلاً عليه.
القطري بن الفجاءة المازني
لا يركنن أحد إلى الأحجام ... يوم الوغى متخوفاً لحمام
قصده إلى البعث والتحضيض، علىالتغرير بالنفس والتعريض. ألا ترى أنه يحث بهذا الكلام على ترك الفكر في العواقب، ورفض التحرز خوفاً من المعاطب. وينبه على أن الحذر لا ينجي من القدر، وأن الأجل إذا جاء لم تغن معه قوة الأمل، فيقول: لا يميلن أحد إلى هجر الإقدام، والسكون إلى الإحجام في الحرب متخشعاً من الموت. والإحجام: مطاوعة حجمت أي كففت ودفعت. فهو كالإكباب في أنه لمطاوعة كببت. ويقال حجمت البعير، إذا خطمته بما يمنعه من العض، ويسمى ذلك الشيء الحجام.(1/101)
فلقد أراني للرماح دريئة ... من عن يميني مرة وأمامي
الدريئة تهمز ولا تهمز، فتجعل من الدرء وهو الدفع، ومن الدرى وهو الختل، ولهذا سميت الدابة التي يختل بها الصيد ليمكن فيرمى: درية، والحلقة التي يتعلم عليها الطعن دريئة. ويمكن حمل البيت عليهما جميعاً. فإذا جعلت الدريئة الحلقة يقول: لا يفعلن ذلك أحد وليعتبر بحالي، فلقد رأيت نفسي في غير وقت وحال، وكأني للرماح بمنزلة الحلقة التي يتعلم عليها الطعن، فتأتيني الرماح من جوانبي كلها ثم سلمت. وإنما اقتصر على ذكر اليمين والقدام لأنه يعلم أن اليسار في ذلك كاليمين. فأما الظهر فإن الفارس لا يمكن منه أحداً. وإذا جعلت الدرية الدابة الموصوفة يكون المعنى: فلقد أراني وقد اتقي بي فصرت سترة لغيري من الطعن، كما تكون تلك الدابة سترة للصائد والطعن يتناولني. وعلى هذا يكون معنى للرماح من أجل الرماح. والأول أحسن. وقوله: من عن يميني من تعلق بفعل دل عليه قوله أراني دريئة للرماح، وهو تأتيني وما يجري مجراه. وعن من قوله عن يميني اسم ها هنا، وليس بحرف. والمعنى من جانب يميني، ومثله قول الأعشى:
من عن يمين الحبيا نظرة قبل
وقول الآخر:
من عن يمين الدار والحائط
حتى خضبت بما تحدر من دمي ... أكناف سرجي أو عنان لجامي
وقوله أو عنان لجامي، أو ها هنا ليست للشك، وإنما هل التي يراد بها أحد الأمرين على طريق التعاقب، أي إما ذا وإما ذا. ولك أن تريد الجمع، لأن أصل أو الإباحة. وهذا كما يسأل الرجل فيقال له: ما كان طعامك في بلدك؟ فيقول: الحنطة، أو الأرز. والمعنى أحد هذين، على أن يكون كل واحد منهما بدلاً من صاحبه أو الجميع. ومعنى البيت: انتصبت للرماح حتى خضبت بما سال من دمي إما عنان(1/102)
لجامي وإما جوانب سرجي، أي على حسب ما اتفق من الطعن. فالعنان لما سال من أعاليه، وجوانب السرج لما سال من أسافله.
ثم انصرفت وقد أصبت ولم أصب ... جذع البصيرة قارح الإقدام
الجذوعة قبل الإثناء بسنةٍ، والدهر لجدته يسمى جذعاً، وكذلك يقال لمن يرى في أمر على حالةٍ واحدة: هو جذعٌ فيه. وانتصاب جذع البصيرة على أنه حالٌ وهو نكرةٌ. والمعنى ثم انصرفت مع ما وصفت من حالي واتفق مع ضيق المجال علي، وقد نلت ما أردت من الأعداء ولم ينالوا مني ما أرادوا، وأناعلى بصيرتي الأولى لم يبد لي في الاقتحام، ولا غلب في اختياري التطرف والانحراف، بل صار إقدامي في الحرب قارحاً لطول ممارستي، وتكرر مبارزتي، وإن كان بقي رأيي فيه جذعاً. وهذا يريد به ما يترقى فيه الإنسان من التدرب والتمرن عند مزوالة الأعمال، ومن بقاء ولوعه بها، وحرصه عليها على حده في أول الشأن. وكما جعل هذا القروح والجذوعة: البصيرة والإقدام، قال أبو تمام:
كهل الأناة فتى الشذاة
فنقله كما ترى، واقتدى به البحتري فقال:
إقدام غرٍ واعتزام مجرب
وقد أشار الأعشى إلى كل ذلك في قوله:
تمهل في الحرب حتى امتهن
وفي طريقته قول أبي الغول:
ولا تبلى بسالتهم وإن هم ... صلوا للحرب حيناً بعد حين(1/103)
الحريش، ويروى للعباس بن مرداسٍ:
شهدن مع النبي مسوماتٍ ... حنيناً وهي دامية الحوامي
الحوامي من الحماية، وهي المنع. وكما جعلوا للحوافر حوامي سموا ما بطوى به البئر من الحجارة وغيرها ليحمي جوانبها من التشعث والتهدم: حوامي. يصف خيلاً فيقول: حضرت حنيناً مع النبي، صلى الله عليه وسلم وعلى آله، معلماتٍ وقد دميت جوانب حوافرها لكثرة العدو، ولما لحقها من التعب. وكان رسول الله صلى الله عليه وسلم غزا هوازن بوادي حنين، ورئيس هوازن مالك بن عوفٍ النصري، وهو اليوم الذي قتل فيه دريد ابن الصمة الجشمي. وإنما قال مسوماتٍ لأنهم أعلموا أنفسهم بعلاماتٍ ليبين بها فضل كل منهم وبلاؤه. والسيماء: العلامة، وقد فسر قوله تعالى: " والخيل المسومة " على ذلك. وكذلك قوله تعالى في موضع آخر: " سماهم في وجوههم من أثر السجود ".
ووقعة خالدٍ شهدت وحكت ... سنابكها على البلد الحرام
أصل الحك صدم جسمٍ بآخر وترديده عليه ليؤثر فيه. وتوسعوا فيه فقالوا: حك هذا الأمر في صدري، لما يتردد في خاطرك. وهو يتحكك بفلانٍ أي يتعرض له، حتى إنهم يقولون للشيء الخفي: هو حكيك نحيت. ويعني خالد بن الوليد بن المغيرة. وأشار بهذا إلى فتح مكة، وإنما نسبها إلى خالد لأن النبي صلى الله عليه وسلم استعمل خالداً يوم الفتح على الخيل فلقي قريشاً بالخندمة، فقاتلهم وهزمهم. فيقول: وحضرت أيضاً وقعة خالدٍ يوم الفتح، وحكت أطراف حوافرها بأرض الحرم. والمراد بيان طول ممارستها للحروب والوقعات، وترددها في تحمل أعباء الشر والمشقات.
نعرض للسيوف بكل ثغرٍ ... خدوداً ما تعرض للطام(1/104)
مثله:
نهيبن النفوس وهون النفو ... س يوم الكريهة أوقى لها
يقول: نبتذل في الحروب أنفسنا طلباً لصيانتها، ونستقتل فنتعرض ولا نتقبض عنها، بل نبذل لها وجوهنا التي هي حرم النفوس، ولو عرض علينا في السلم والسلامة بذلها للطام، لأنفنا منه وامتنعنا. والمعنى: نتلقى السيوف بخدودنا إذا كسبنا ذكراً، وإن صناها عن الأذى اليسير. وأكشف من هذا وأشرف قول الآخر:
ويبتذل النفس المصونة نفسه ... إذا ما رأى حقاً عليه ابتذالها
ولست بخالعٍ عني ثيابي ... إذا هر الكماة ولا أرامي
الثياب يعني بها السلاح، وهذا كما يسمى بزاً. ألا ترى قول الآخر:
بز أمرئٍ مستسلمٍ حازمٍ
وقول الهذلي:
فوقر بزٌ ما هنالك ضائع
يعني السيف. وهذا يحتمل وجهين: يجوز أن يكون المعنى لا أنزع ثيابي وقت هرير الأبطال تشمراً وتخففاً ثم لا أبلي ولا أجتهد، ولكن إذا وطنت نفسي على الشر تقصيت أبلغ ما يكون منه بأبلغ ما يكون من بلائي. وموضع ولا أرامي نصبٌ على الحال، أي لا أفعل ذلك غير مرامٍ. ويعني بالمراماة مدافعة الخصم ومجاهدته بكل ممكن ومعرض. وليس يريد الرمي بالنبال. وقد توسعوا في الرمي والمراماة حتى استعمل في الافتخار، واستعير لتأثير الدهر والشيب ولنظر المحبوب المفتتن. ويجوز أن يكون نفي الأمرين جميعاً فقال: لا أخلع ثيابي تخفيفاً عن نفسي من التولي(1/105)
والانهزام عند هرير الشجعان، ولا أرامي أيضاً، يعني الرمي بالنبال، ولكن أتلقى الشر وأصدمه بوجهي. ويشهد لهذا أول البيت التالي له، وإنما قال ذلك لأن المرماة تكون من بعيد فتخطئ وتصيب، وعند المكافحة تثكل الأمهات.
ولكني يجول المهر تحتي ... إلى الغارات بالعضب الحسام
العضب: القطع والمنع، ثم قيل سيفٌ عضبٌ، أي قاطعٌ، كما قيل ضيفٌ في الضائف. وقال الخليل: سمي السيف حساماً لأنه يحسم العدو عما يريد من بلوغ عداوته. وقوله: بالعضب، أي ومعي العضب، وهو في موضع الحال. ومعنى البيت ظاهر.
ابن زيابة التيمي
مأخوذٌ من زيب الرجل.
نبيث عمراً غارزاً رأسه ... في سنةٍ يوعد أخواله
جعل غرز الرأس كنايةً عن الجهل والذهاب عما عليه وله من التحفظ. ونبئ وأنبئ مما يتعدى إلى ثلاثة مفاعيل. فعمراً انتصب على أنه مفعول ثانٍ. وغارزاً، انتصب على أنه مفعولٌ ثالث، ورأسه انتصب من غارزاً. وأراد بالسنة: الغفلة، وهي ما يحدث من أوائل النوم في العين ولم يستحكم بعد. وهذا من أحسن التشبيه وأبلغ التعريض. والإيعاد إذا كان على وصف حقيقٌ بالتهجين. يدل على ذلك قوله.
وسنان أقصده النعاس فرنقت ... في عينه سنةٌ وليس بنائم
وقد فصل الله تعالى بينهما بقوله: " لا تأخذه سنةٌ ولا نومٌ ". والفعل وسن يوسن وسناً. وموضع يوعد نصبٌ على الحال. ومعنى غارزاً رأسه: مدخلاً؛ ومنه الغرز بالإبر. ويقال: غرز فلانٌ رجله في الغرز، أي في الركاب. وتوسعوا حتى قالوا: اغترز فلانٌ في ركاب القول.
وتلك منه غير مأمونةٍ ... أن يفعل الشيء إذا قاله(1/106)
هذا الكلام تهكمٌ وسخريةٌ، وفي طريقته قول الآخر:
وأما أخو قرطٍ فلست بساخرٍ ... فقولا ألا يا اسلم بمرة سالما
قال هذا ومرة معرض لكل بلاء. أن يفعل موضعه رفعٌ على البدل من قوله وتلك منه. والمعنى تلك الخصلة لا يؤمن وقوعها من عمروٍ، وهو فعله لما يقوله.
الرمح لا أملأ كفي به ... واللبد لا اتبع تزواله
هذا التمدح منه تعريضٌ بخصمه وإزراءٌ بفروسيته، وإشارةٌ إلى أن أضداد هذه الأوصاف مجتمعة فيه. فيجوز أن يكون المعنى: إني لا أقتصر من تعاطي أنواع السلاح على الرمح فقط، ولكني أجمع في الاستعمال بينها. وهذا كما يقال: ملأ كفه من كذا فليس فيه موضعٌ لغيره. ويجوز أن يكون المعنى: إني أستعمل رمحي بأطراف أصابعي لحذقي واقتداري، ولا آخذه بجميع كفي. وهذا كما يقال: أقبصه ولا أقبضه؛ لأن القبص: الأخذ بأطراف الأصابع، والقبض بالكف كلها. ومثله قول الآخر:
لبيقاً بتصريف القناة بنانيا
وقوله: واللبد لا أتبع تزواله أراد: ألزم ظهر دابتي، وإن مال اللبد لم أمل معه. وهذا كما قال أبو النجم:
أدرك عقلاً والرهان عمله ... ثقفٌ أعاليه وقارٌ أسفله
أي كأنه يلصق الأسفل بظهر الفرس فلا يزول ولا يميل.
والدرع لا أبغي بها ثروةً ... كل امرئٍ مستودعٌ ماله
لولا أن قصده في التمدح إلى التعريض بالمختبر عنه لكان لا معنى لهذا الكلام. ألا ترى أن قوله: والدرع لا أبغي بها ثروة وقد فسر على أنه يجوز أن يكون المراد: لا أقتني الدرع لكي أتجر فيها فأتمول. وترك التجارة في الأسلحة ليس فيه(1/107)
كبير تمدح. ويجوز أن يكون المعنى: لا أعدها سبباً في ارتفاق المغانم فأثرى، ويكون كقول عنترة:
يخبرك من شهد الوقيعة أنني ... أغشى الوغى وأعف عند المغنم
وقوله: كل امرئٍ مستودعٌ ماله، يريد به: المال ودائع عند الناس، ولا بد من ارتجاعها والتقاضي بها وإن أمهلوا مدةً، فلم أتجر في درعي أو لم البسها لتغنم الأنفال بها، والمال هذه حاله عند أربابه. ويكون هذا كما قال الآخر:
وما المال والأهلون إلا ودائعٌ ... ولا بد يوماً أن ترد الودائع
ويجوز أن يكون ما من قوله ماله بمعنى الذي، فيكون المعنى: كل امرئ مرتهنٌ بأجله، وبالذي كتب له، ولا يمتنع أن يكون أشار بما إلى ما يقتنى من أغراض الدنيا. ويروى: كل امرئٍ مستودعٌ ماله بكسر الدال، والمعنى أن ما يجمعه المرء بكسبه إذا جاء محتوم القضاء يتركه لغيره لا محالة، فلم أرغب فيه وفي ادخاره، وأزهد في اكتساب المحامد والمعالي؟ وهذا الكلام نهايةٌ في التنقص ممن عرض به، وغايةٌ في الطعن عليه، والقدح في عادته. ويروى: والدرع لا أبغي بها نثرةً، وهي الواسعة. والمعنى: إني أكتفي من الدرع ببدنةٍ، فلا أطلب ما يفيض فيضاً، ويجب مع هذه الرواية والتفسير أن يكون معنى المصراع الثاني: كل امرئٍ مرتهنٌ بأجله، وممهلٌ ليومه.
آليت لا أدفن قتلاكم ... فدخنوا المرء وسرباله
هذا البيت لم أجده في نسخٍ كثيرة، فيغلب في ظني أنه ليس من الاختيار. وعلى ما به فله قصةٌ مشهورةٌ زعموا. وهي أنه يروى فيه أن واحداً من المخاطبين كان أحدث في حربٍ حضرها خوفاً على نفسه، فعرض الشاعر بهم وذكرهم سوء بلائهم، وضعف ثباتهم. وإنما يريد أنهم إذا صرعوا في المعركة عثر منهم إن لم يطيبوا على مثل ما فعله ذلك الواحد المعرض به، أو استدل بالرائحة عليه فافتضحوا. وهذا تهكمٌ(1/108)
أيضاً وتعييرٌ بالاتفاق السيء. وآليت معناه حلفت ولفظه لفظ الخبر، والمعنى معنى القسم. وربما قالوا: آليت على نفسي.
الحارث بن همام الشيباني
أيا ابن زيابة إن تلقني ... لا تلقني في النعم العازب
النعم يذكر ويؤنث، والتذكير فيه أغلب. وفائدته في الإفراد الإبل في الأكثر، وإذا جمع دلت على الأزواج الثمانية. يعرض بأنه راعٍ فيقول: يا ابن زيابة إنك لا تجدني راعياً يبعد في المرعى بإبله. والمعنى أنت كذلك، ويقال: مالٌ عازبٌ وعزبٌ، إذا بعد عن أهله. وروضٌ عازبٌ: بعيد المطلب.
وتلقني يشتد بي أجردٌ ... مستقدم البركة كالراكب
قوله: وتلقني عطفه على الجواب، لأنه يصلح أن يكون جواباً. ألا ترى أنه لو قال: إن تلقني تلقني كذا، لصلح؟ يقول: تلقاني يعدو بي فرسٌ قصير الشعر، متقدم الصدر، مشرفٌ كالراكب، اي إشرافه إشراف الراكب لا المركوب. ويشتد: يفتعل من الشد، وهو العدو. ويقال: استقدم وتقدم، واستأخر وتأخر، بمعنى. والبركة، كسر باؤها عند اتصال الهاء بها، لولا ذلك لقيل بركٌ بفتح الباء.
فأجابه ابن زيابة
يا لهف زيابة للحارث ال ... صابح فالغانم فالغانم فالآيب
يجوز أن يكون أورد هذا الكلام ساخراً متهانفاً، ومستهزئاً متهكماً، فوصفه بهذه الصفات وكان الأمر بخلافه، ويقرب هذا أن ما قبل هذه المقطوعة في مثل هذه الطريقة. ويجوز أن يكون ذكر ما كان منه على الحقيقة، فهو يتحسر لما رأى من فلاحه في غزاته، وسلامته في مآبه. ويقولك يا حسرة أمي من أجل هذا الرجل فيما ارتفع له من المراد في الغزو، وجمع له من السلامة والوفر. والصابح، يجوز أن(1/109)
يكون في معنى مصبحٍ، كما قال:
حين لاحت للصابح الجوزاء
والغارة وقتها الغداة، فلذلك قال: للحارث المصبح عندنا والغانم منا. والترتيب الذي يفيده الفاء جارٍ على سننه، كأنه أراد للحارث الغازي نحونا والغانم منا - والغنم بعد الغزو - فالآيب إلى قومه - والأوبة بعد الاستغنام. ويجوز أن يكون الصابح من صبحت القوم، إذا أتيتهم صباحاً. وفي المثل السائر صبحناهم فغدوا شأمةً. وهذا الوجه أوجه وأجود. واعلم أن الصفة إذا جاءت للتبيين وإزالة اللبس عن الموصوف، فالوجه أن يعمد إلى أخصها بالموصوف، وأحقها بالبيان والشرح، حتى تغني عن العدول عنها إلى غيرها من الصفات. فإن اتفق بعد ذلك لبسٌ حينئذٍ يزال بما يضم إليه. وإذا جاءت للتعظيم أو التهجين فإنه قد يوالي بين عدةٍ منها بحروف النسق ومن دونها: تقول: جاءني زيدٌ الظريف الكاتب الفاضل العالم: وإن أتيت بالواو العاطفة متخللةً له ساغ، فإن قيل: إذا كانت الصفة هي الموصوف، والشيء لا يعطف على نفسه، فكيف جاز عطف بعض الصفات على بعض؟ قلت: تغاير المعاني الحاصلة بها وقوة اتصال بعضها ببعضٍ في بابي الصلة والصفة، سوغ ذلك في ألفاظها.
والله لاو لاقيته خالياً ... لآب سيفانا مع الغالب
أقسم بالله فيقول: والله لو لقيته منفرداً عن أشياعه لحصل سيفانا للغالب منا. وذكر السيفين والمراد جميع ما معهم من بزهما وسلاحهما، لعلو شأنهما. وجعل الفعل للسيفين على المجاز. والمعنى: لو خلوت به لقتلته أو قتلني.
أنا ابن زيابة إن تدعني ... اتك والظن على الكاذب(1/110)
قوله: والظن على الكاذب يجري مجرى الأمثال، ويكون مبنياً على ما قال لبيد، وهو:
واكذب النفس إذا حدثتها ... إن صدق النفس يزري بالأمل
والمعنى: كلٌ منا يحدث نفسه ويكذبها، ثم الظن على من لا يتحقق أمله. ويجوز أن يريد: أنا المعروف المشهور، إن دعوتني لمبارزتك جئتك، فإن كنت تظن غير هذا فظنك عليك، لأنك تكذب نفسك فيما تتوهمه من قعودي عنك، أو نكولي عن الإقدام عليك. ويجوز أن يكون المعنى: إن تدعني أجبك، فإن ظننت أن تكون الغالب فظنك عليك، لأنك تكذب نفسك.
الأشتر النخعي
بقيت وفري وانحرفت عن العلا ... ولقيت أضيافي بوجه عبوس
الوفر: المال الكثير. والعبوس: الكلوح عن غضبٍ، وتوسعوا فقالوا: يومٌ عبوسٌ، أي شديدٌ. وهو جبسٌ عبسٌ، في اللئيم. وهذا من الأيمان الشريفة، واللفظ لفظ الخبر، وظاهره الدعاء، ومحصوله القسم. فيقول: ادخرت مالي ولم أفرقه فيما يكسب لي حمداً، فعل البخلاء، وزهدت في اكتساب المعالي والمآثر زهد الأدنياء، وتلقيت الأضياف بوجه رجلٍ كالحٍ إن لم أفعل كذا. ومثله في اليمين قول النابغة:
إذاً فلا رفعت سوطي إلي يدي
إن لم أشن على ابن حربٍ غارةً ... لم تخل يوماً من نهاب نفوس
شن الغارة معجمةً، وسنها معجمةٍ: صبها. وأصل جميعها في الماء، ثم حصل التوسع فيها. يقول: تصورت بتلك الصورة التي ذكرتها وأقسمت بها، إن لم أصب(1/111)
على هذا الرجل خيلاً لا تخلو يوماً من اختلاس نفوسٍ، وانتهاب آجال. وسمى الخيل غارةً لما كانت من قبلها تكون. وموضع لم تخل يوماً نصب على الصفة للغارة، أي خيلاً جرت عادتها بذلك. والنهاب يجوز أن يكون مصدر ناهبته ويستعمل في المغاورة والمماراة، ويجوز أن يكون جمع النهب. وجواب إن لم أشن فيما تقدم.
خيلاً كأمثال السعالي شزباً ... تعدو ببيضٍ في الكريهة شوس
الشزب: الضمر. والشوس: جمع أشوس. ويقال شاس يشوس وشوس يشوس، إذا عرف في نظره الغضب أو الكبر. وانتصب خيلاً على أنه بدلٌ من غارةً. وشبه الخيل في ضمرها وسرعة نفاذها بالجن. وانتصب شزباً على أنه صفةٌ للخيل، لأن قوله كأمثال، أيضاً صفة. ويجوز أن يكون حالاً للمضمر في كأمثال السعالي. والمعنى: خيلاً تشابه السعالي في حال شزوبها وضمرها. وقوله: تعدو ببيضٍ أيضاً صفةٌ، إما لقوله شزباً، وإما للأول تعدو برجالٍ كرام، متكبرين في الحرب، ذوي أنفةٍ. وإذا جمع بين مفرداتٍ وجملٍ في الوصف، فالترتيب المختار تقديم المفردات على الجمل، وقد جاء البيت على ذلك، والعرب تجعل البياض كنايةً عن الكرم، كأنها تريد نقاء العرض. على ذلك قوله:
أمك بيضاء من قضاعة ...
وكما فعلوا هذا جعلوا الغر كنايةً عن الكرام، وربما قالوا غرانٌ. أما قولهم: بيض الوجوه فالمراد أنهم لم يفعلوا شيئاً يشينهم فيغير لونهم عند ذكره. وقد قالوا في ضده: أوجههم كالحمم، وسود الوجوه. وأما الشوس فكما وصف به الرجال وصف به الخيل أيضاً، والمراد به عزة النفس. وقوله في الكريهة للحوق الهاء بها ألحق بباب الأسماء، ويستعمل في نوازل الدهر وشدائد الأمر. وهو ظرفٌ إن شئت لما دل عليه قوله بيضٌ من الكرم، وإن شئت لقوله شوسٌ. والكرم في الكرائه: نزاهة النفس عن لوازم العار.
حمى الحديد عليهم فكأنه ... ومضان برقٍ أو شعاع شموس(1/112)
شعاع الشمس: انتشار ضوئها. ويقال: أشعت الشمس: انتشر شعاعها. يقولك حميت الأسلحة يوم الوغى لصبرهم وثباتهم، وطول مقامهم. ثم شبه لمعانها بومضان البرق أو شعاع الشمس، وجمع الشموس لاختلاف مطالعها. والومضان: مصدر ومض، وكذلك الومض والوميض. ويقال في فعله أومض أيضاً.
معدان بن جواسٍ الكندي
ودخل هذان البيتان فيالباب لما اشتملا عليه لفظاً ومعنىً من الفظاظة والقسوة.
إن كان ما بلغت عني فلامني ... صديقي وشلت من يدي الأنامل
قوله صديقي يجب أن يريد به الكثرة لا الواحد. وقال: شلت يده شللاً. وهذا من الجنس الأول في أن لفظه لفظ الخبر، والمعنى معنى الدعاء، والمراد القسم. وقوله فلامني لامني في موضع رفع على أنه خبر ابتداءٍ محذوفٍ، كأنه قال: فأنا لامني. والفاء مع ما بعده جواب إن. والمعنى: إن كان ما أدى إليك عني حقاً ففعلت ما استحققت به لوم الصديق، واسترخت أصابعي. فإن قيل: اليمين والشرط كيف يصح؟؟ قلت: هذا كلام مبطلٌ لما ادعي عليه، نافٍ له، فاليمين تناولت نفي ما أثبت فيه، ودفع ما قرف به. ودل على ذلك فحوى الكلام. ويجوز في كان أن يكون التامة لا الناقصة، فيكتفي بالفاعل ولا يحتاج أن يضمر بعده حقاً. والمعنى إن وقع ما بلغت عني وحدث. وتخصيصه للأنامل لأن أكثر المنافع بها. وجاز إضمار خبر كان إذا جعلتها ناقصةً لأن في الكلام والحال دليلاً عليه، ولأن دخوله على المبتدأ والخبر، فكما يحذف الخبر في ذلك الباب يحذف هنا.
وكفنت وحدي منذراً بردائه ... وصادف حوطاً من أعادي قاتل
وحدي انتصب على المصدر، وهو في موضع التوحد. وفي النحويين من يجعله وإن كان معرفةً في موضع الحال. يقول: وفجعت بمنذرٍ وأحوجت إلى أن أباشر تكفينه وتجهيزه بنفسي - وهذا ما يزيد المصاب كلماً وداءً - وصادف ابني من أعدائي من لا يبقي عليه. وأعادي بناه على الفتح لخفته، ولأنه الأصل في ياء(1/113)
الضمير إذا حرك. وعلى هذا تقول: هؤلاء بني ومعطي، وهذا قاضي. وأعادي يجوز أن يكون أفاعل وأضافه، ويجوز أن يكون أفاعيل كأبابيت وخففه، كما خفف أثافٍ ثم أضافه. ويجوز أن يكون لما رام الإضافة اجتمع ثلاث ياءاتٍ فحذف مدة أفاعيل.
عامر بن الطفيل الكلابي
طلقت إن لم تسألي أي فارسٍ ... حليللك إذ لاقى صداءً وخثعما
جعل الإقسام عليها بما يضيق طريقها في التجوز والإهمال، لما ولاها البحث والسؤال. هذا إذا جعلت الكلام دعاءً. يقول: ينت من زوجك إن لم تفشي بالسؤال عن أحواله حين لاقى هاتين القبيلتين، هل أبلى في ملاقاتهما، وكيف ثبت في وجوههما. ويجوز أن يكون طلقت وعيداً توعدها به إن لم تنته إلى مرسومها. والحليل: الزوج، سمي بذلك لنه يحال صاحبته. وخثعم هو خثعم بن أنمارٍ. والخثعمة: التلطخ بالدم. ويقال: كانوا تحالفوا فغمسوا أيديهم في دم بعيرٍ نحروه واجتمعوا عليه فسموا خثعماً. ومفعول تسألي محذوفٌ، المراد تسألي الناس. وقوله أي فارس هو المسألة، وهو في موضع المفعول أيضاً. وجواب الشرط مقدم، كأنه قال: إن لم تسألي الناس عن هذه المسألة فأنت مطلقةٌ من بعد، أو فجعل الله خاتمة أمرك كذلك.
أكر عليهم دعلجاً ولبانه ... إذا ما اشتكى وقع الرماح تحمحما
أجمل في اقتصاص بلائه، ثقةً بأن بحثها واستقصاءها يأتي على تفاصيله. يقول: أعطف فرسي دعلجاً عليهم، حالاً بعد حالٍ، وكراً بعد فرٍ، وغذا اشتكى من كثرة وقوع الطعن بصدره حمحم. وجعل الفعل للصدر على المجاز والسعة لكونه موقع الطعن. هذا إذا رويت: ولبانه بالرفع، لأن بعض الناس روى ولبانه بالنصب، كأنه فر من أن يكون الاشتكاء والتحمحم للبان على كثرة نسبة الاشتكاء إلى الأعضاء الآلمة. فوقع فيما هو أقبح؛ لأن المراد أكر عليهم فرسي، فلا معنى لعطف اللبان عليه. وسمعت من يجعله من باب تكرير البعض من الكل بالعطف عليه، وإن(1/114)
كان داخلاً فيما دخل فيه على وجه الاختصاص وتفخيم الشأن، كقوله عز وجل: " من كان عدو الله وملائكته ورسله وجبريل وميكال ". قال: ووجه الاختصاص أن الذكر بصدره، كان أن الأنثى بعجزه. والدعلج: المرح في السير والتردد، ويوصف به الفرس والبعير والحمار، وذكر بعضهم أنه يقال في الضب الهائج ايضاً. وقد أحسن عنترة كل الإحسان حين سلك هذا السبيل فقال:
فازور من وقع القنا بلبانه ... وشكا إلي بعبرةٍ وتحمحم
زفر بن الحارث الكلابي
وكنا حسبنا كل بيضاء شحمةً ... ليالي قارعنا جذام وحميرا
حكى الأصمعي في الأمثال: ما كل بيضاء شحمةً، ولا كل سوداء تمرة. والمعنى: ليس كل ما أشبه شيئاً ذلك الشيء. ومعنى البيت: ظننا لما التقينا مع جذام وحمير أن سبيلهم سبيل سائر الناس، وأنا سنقهرهم قهراً قريباً ثم وجدناهم بخلاف ذلك، لكون أصلهم من أصلنا. واجتماعهم فيما تميزنا فيه عن سائر الناس معنا، وجذام أبو هذه القبيلة فسميت به، وأصله الجذم: القطع، وبه سمي الداء المعروف جذاماً، وقيل للمقطوع اليد: أجذم. وحكى بعضهم: ما سمعت له جذمةً ولا زجمةً، أي كلمةً، لتقطع الصوت بها عند النطق. والقرع: ضرب الشيء بغيره، ثم توسعوا فقالوا: قرعت باطله بحقي، وقرع الشارب جبهته بالإناء إذا استوفى ما فيه.
فلما قرعنا النبع بالنبع بعضه ... ببعضٍ أبت عيدانه أن تكسرا
بعضه، انتصب على البدل من النبع. وجواب لما قوله أبت. وتكسر أصله تتكسر. والشاعر اعترف بأن أصل أولئك نبعٌ، كما أن أصلهم نبعٌ، النبع خير الأشجار التي يتخذ منها القسي وأصلبها، كما أن الغرب شرها وأرخاها، فجعلت العرب تضرب المثل بهما في الأصل الكريم واللئيم، حتى إن بعض المحدثين(1/115)
قال:
هيهات أبدى اليقين صفحته ... وبان نبع الفخار من غربه
فيقول: لما قرعنا أصلهم بأصلنا أبت العيدان من التكسر. والمعنى أن كلامنا أبى أن ينهزم عن صاحبه. فالعيدان مثلٌ للرجال، والنبع مثلٌ للأصل.
ولما لقينا عصبةً تغلبيةً ... يقودون جرداً للمنية ضمرا
يقال تغلبيٌ وتغلبيٌ والكسر أكثر، ومن فتح فلتوالي الكسرات والياءين. وهذا كما قالوا: نمريٌ فردوا من فعلٍ إلى فعلٍ. يقول: لما لقينا جماعةً من بني تغلب يقودون للحرب خيلاً ضمراً قصار الشعور. وجواب لما فيما بعد، وهو سقيناهم. وإنما احتاج إلى الجواب متى كان علماً للظرف، لأنه يجيء لوقوع الشيء لوقوع غيره. وجعل الخيل جرداً لأن العراب منها تكون كذلك. واللام من قوله للمنية يجوز أن يتعلق بيقودون، ويجوز أن يتعلق بقوله ضمراً، أي ضمرت لها.
سقيناهم كأساً سقوها بمثلها ... ولكنهم كانوا على الموت أصبرا
يقول: قابلناهم بمثل ما بدءونا به من سقي كأس الموت، لكن القتل كان فيهم أعم، ولهم أشمل. وجعل ذلك فيهم كالصبر منهم عليه. ويقرب أن يكون قول الله تعالى: " فما أصبرهم على النار " على هذا الوجه. كأن النار حقت عليهم ووجبت، بما كان منهم من المعصية، فجعل ذلك فيهم كالصبر منهم عليه، ولذلك قال بعض المفسرين في معناه: ما أعملهم بعمل أهل النار. كأن إصرارهم على ذلك العمل كالصبر منهم على النار. ورد الآية إلى البيت وإجراء القول فيها على هذا الحد غريبٌ حسنٌ. وقوله: أصبر أي أصبر منا، وأفعل الذي يتم بمن يحذف منه من في باب الخبر دون الوصف. وساغ ذلك لأن الخبر كما يجوز حذفه بأسره لقيام الدلالة عليه يجوز حذف بعضه أيضاً له.(1/116)
عمرو بن معد يكرب
حكى ابن أعرابي: قالوا معد يكرب لأنه عدا الفساد. والكرب: الفساد.
ولما رأيت الخيل زوراً كأنها ... جداول زرعٍ خليت فاسبطرت
اسبطرت: امتدت، والسبطر والسبط بمعنى واحد. يقول: لما رأيت الفرسان منحرفين للطعن، وقد خلوا أعنة دوابهم وأرسلوها، وقرطوا آذانها بها، فكأنها أنهار زرعٍ أرسلت مياهها فامتدت بها. والتشبيه وقع على جري الماء في الأنهار لا على الأنهار، كأنه شبه امتداد الخيل في انحرافها عند الطعن بامتداد الماء في الأنهار، وهو يطرد ملتوياً ومضطرباً. وكما وصف الخيل في انحرافها بزورٍ وصفت أيضاً بنكبٍ، فقال بعضهم:
لأعدائنا نكبٌ إذا الطعن أفقرا
فالنكب: جمع أنكب، وهو الذي ينحط أحد منكبيه عن الآخر، كما أن الزور جمع أزور، وهو المعوج الزور. وهذا من التشبيه الحسن الصائب. وقوله: خليت فاسبطرت جعلاً للجداول على المجاز والسعة، لأن المياه هي التي تخلى وتمتد. وهذا كما يقال نهرٌ جارٍ، وإن كان الماء هو الذي يجري.
فجاشت إلى النفس أول مرةٍ ... وردت على مكروهها فاستقرت
فجاشت إلى النفس أول مرة. اعترض بعضهم فقال: لولا أنه جبن لما جاشت إليه النفس. قال: ومثله في الرداءة قول عنترة:
إذ يتقون بي الأسنة لم أخم ... عنها ولكني تضايق مقدمي(1/117)
هلا قال كما قال العباس بن مرداس:
أشد على الكتيبة لا أبالي ... أحتفي كان فيها أم سواها
قال الشيخ: وليس الأمر كما توهم، لأن ما ذكره عمروٌ وعنترة بيان حال النفس، ونفس الجبان والشجاع على طريقةٍ واحدةٍ فيما يدهمها عند الوهلة الأولى، ثم يختلفان: فالجبان يركب نفرته، والشجاع يدفعها فيثبت. فأما قول العباس ابن مرداس فليس مما ذكراها بسبيلٍ، وإنما هو بيان الحالة الثانية وما يعزم عليه بعد الاعتصام والمراجعة والتمسك. فاعلمه الله إن شاء الله. قوله: أول مرةٍ وذات مرةٍ، لا يكونان إلا ظرفين؛ لأن مرةً ليس باسمٍ للزمان لازمٍ، وإنما هو مدخلٌ عليه. فإذا قلت مرةً فإنما حقيقتها فعلةً واحدةً، ويجوز أن يكون وقتاً واحداً. ويجوز أن يكون الفاء في فجاشت زائدةً، في قول الكوفيين وأبي الحسن الأخفش، ويكون جاشت جواباً للما. والمعنى: لما رأيت الخيل هكذا خافت نفسي وثارت. وطريقة جل أصحابنا البصريين في مثله أن يكون الجواب محذوفاً، كأنه قال: لما رأيت الخيل هكذا فجاشت نفسي وردت على ما كرهته فقرت، طعنت أو أبليت. ويدل على ذلك قوله: علام تقول الرمح يثقل ساعدي إذا أنا لم أطعن، فحذف طعنت أو أبليت لأن المراد مفهومٌ. وهذا كما حذفوا جواب لو رأيت زيداً وفي يده السيف! وعلى هذا الكلام على المذهبين في قوله تعالى: " حتى إذا جاءوها وفتحت " أبوابها، وفي قول امرئ القيس:
فلا أجزنا ساحة الحي وانتحى ... بنا بطن خبتٍ ذي قفافٍ عقنقل
وحذف الجواب في مثل هذه المواضع أبلغ وأدل على المراد وأحسن، بدلالة أن المولى إذا قال لعبده: والله لئن قمت إليك وسكت، تزاحمت عليه من الظنون المعترضة للوعيد ما لا يتزاحم لو نص من مؤاخذته على ضربٍ من العذاب. وكذلك إذا قال المتبجح: لو رأيتني شاباً وسكت، جالت الأفكار له بما لم تجل به لو أتى بالجواب.(1/118)
علام تقول الرمح يثقل ساعدي ... إذا أنا لم أطعن إذا الخيل كرت
ما في الاستفهام إذا اتصل بحرف جر يحذف الألف من آخره تخفيفاً، على ذلك فبم وبم ولم، إلا إذا اتصل ما بذا فقلت: بماذا ولماذا، لأنه يترك على تمامه. وقوله: تقول الرمح يروى بفتح الحاء وضمها، فإذا نصبت فلأنك جعلت تقول في معنى تظن. وهم - عند الخطاب والكلام استفهام - يحملون القول على الظن. على ذلك قوله:
فمتى تقول الدار تجمعنا
أي متى تظن ذلك فتقول، فجعل القول يدل على الظن لما كان القول ترجمة عن الظن. والخطاب والاستفهام يحتملان ما لا يحتمل غيرهما. وإذا رفعت الرمح فالقول متروكٌ على بابه، والرمح يرتفع بالابتداء، والكلام حكايةٌ، وما بعد القول إذا كان كلاماً مفيداً يحكى. ومعنى البيت: على أي شيءٍ ولأي وجهٍ تقول: أحمل الرمح فيثقل ساعدي إذا لم أعمله إذا حصل الكر من الخيل بعد الفر، واشتد عليهم الأمر. والمعنى بأي حجةٍ أحمل السلاح إذا لم أبل في الحرب ولم أستعمله في وقته. وهذا الكلام إسقاطٌ للتبجح بالبلاء الذي كان منه أيضاً. وقوله: إذا أنا لم أطعن أي لم يثقل ساعدي الرمح في وقت تركي الطعن زمان كر الخيل، فإذا الأول ظرفٌ لقوله يثقل، وإذا الثاني ظرفٌ لقوله لم أطعن.
لحا الله جرماً كلما ذر شارقٌ ... وجوه كلابٍ هارشت فاز بأرت
ازبأر: انتفش حتى ظهر أصول شعره. قال:
فهو ورد اللون في ازبئراره ... وكميت اللون ما لم يزبئر
كلما انتصب على الظرف، ووجوه انتصب على الشتم والذم، والعامل فيه فعلٌ مضمرٌ وهو أذكر. كأنه شبه وجوههم بوجوه الكلاب في الحالة المذكورة. ويجوز أن يكون انتصابه على البدل من قوله جرماً. ومعنى لحا الله: قشر الله، أي فعل بهم غداة كل يومٍ، أذكر قوماً يشبهون الكلاب إذا واثبت غيرها وساورت،(1/119)
فانتفشت وتجمعت للوثب؛ وتلك الحالة من أحوالها أشنع وأنكر: وهذا تحقيقٌ للشبه، وتصويرٌ لقباحة المنظر. والذرور في الشمس أصله الانتشار والتفريق. قال:
كالشمس لم تعد سوى ذرورها
أي طلوعها وانتشار ضوئها. قال الخليل: المهارشة من الكلاب وغيرها كالمحارشة. ويقال: فلانٌ يهارش بين الكلبين.
فلم تغن جرمٌ نهدها إذ تلاقيا ... ولكن جرماً في اللقاء ابذعرت
جرمٌ ونهدٌ: قبيلتان من قضاعة. ومعنى ايذعرت: تفرقت. وأضاف نهداً إلى ضمير جرمٍ، لاعتماده كان عليها، واعتقاده الاكتفاء بها. والمعنى لم تنصرها فكانت تكتفي بها وتغنى، ولكن جرماً انهزمت، وهامت على وجهها فمضت، واصطلت نهدٌ بنار الحرب، فمست حاجتها إلى من يؤازرها، ويناهض الأعداء معها.
ظللت كأني للرماح دريةٌ ... أقاتل عن أبناء جرمٍ وفرت
يقول: بقيت نهاري منتصباً في وجوه الأعداء، والطعن يأتيني من جوانبي، وكأني للرماح بمنزلة الحلقة التي يتعلم عليها الطعن، أذب عن جرمٍ وقد هربت هي. ويجوز أن يكون: كأني للرماح صيدٌ. فقد حكى أبو زيد أنه يقال للصيد خاصةً دريةٌ، غير مهموزةٍ، ودرايا؛ كأن هذا من دريت أن ختلت. فأما الدابة التي يستر بها من الصيد، فإذا أكثب رمي من خلفها، فذكر أبو زيدٍ أنها تسمى دريئة الصيد، بالهمز. قال: ويقال: درأتها نحو الصيد وإلى الصيد وللصيد، إذا سقتها. وكأن هذا من الدرء، وهو الدفع. وقد تسمى تلك الدابة الذريعة والسيقة والقيدة. وأنشدت عن أبي العباس المبرد، رحمه الله، أنشدنيه حمزة بن الحسن، قال: أنشدنيه علي بن سليمان الأخفش عنه:
إذا نصبنا لقومٍ لا ندب لهم ... كما تدب إلى الوحشية الذرع
الذرع: جمع ذريعة، كصحيفة وصحف. وإن جعلت كأني في موضع الحال فأقاتل في موضع الخير لظللت حينئذ.(1/120)
فلو أن قومي أنطقتني رماحهم ... نطقت ولكن الرماح أجرت
النطق استعمل في الكلام وغيره، ولذلك قيل منطق الطير، ثم توسعوا فقالوا: نطق الكتاب بكذا. يقول: لو أن قومي أبلوا في الحرب واجتهدوا لافتخرت بهم، وذكرت بلاءهم، ولكن رماحهم أجرت لساني، كما يجر لسان الفصيل. وجعل الفعلين للرماح لأن المراد مفهومٌ في أن التقصير كان منهم لا منها. والإجرار: أن يشق لسان الفصيل للرماح فيجعل فيه عويدٌ لئلا يرضع أمه. وقد استعمل الإجرار في الرمح إذا تكسر في المطعون. قال:
أجره الرمح ولا تهاله
وفي طريقه قوله: أنطقتني رماحهم قول الآخر:
أقول وقد شدوا لساني بنسعةٍ ... أمعشر تيمٍ أطلقوا عن لسانيا
لأن المعنى أحسنوا إلي ينطلق لساني بشكركم.
؟ سيار بن قصيرٍ الطائي
لو شهدت أم القديد طعاننا ... بمرعش خيل الأرمني أرنث
جواب لو، أرنت. يقال رن وأرن بمعنىً واحد. ومرعش من ثغور أرمينية. وأم القديد، قيل هي امرأته. والخيل ينتصب من قوله طعاننا. ومعنى البيت: لو حضرت هذه المرأة مطاعنتنا بمرعش خيل هذا الرجل الأرمني لولولت وضجت، إشفاقاً علينا، لكثرتهم وقلتنا. والباء من قوله بمرعش تعلق بطعاننا، وهو ظرف مكان له قد عمل فيه. وإنما قلت هذا لئلا يتوهم أنه تعلق بشهدت، وأنه في موضع الحال للخيل أو للمطاعنين، فيكون قد فصل به بين الصلة والموصول، وهما طعاننا وخيل الأرمني.
عشية أرمي جمعهم بلبانه ... ونفسي وقد وطنتها فاطمأنت(1/121)
لبان الفرس: صدره. ويقال: وطنت نفسي على كذا فتوطنت، أي حملتها عليه فذلت. وانتصب عشية على أنه ظرفٌ لطعاننا. ويجوز أن يكون ظرفاً لشهدت، ولا يجوز أن يكون ظرفاً لأرمي؛ لأن أرمي أضيفت عشية إليه، والمضاف إليه لا يعمل في المضاف. ومعنى البيت: عشية أحمل على القوم ولا أبالي إن كانت علي أو لي، لأني وطنت نفسي على الشر فألفته وسكنت إليه. فمن روى: ونفسي قد وطنتها يكون الواو للحال، ونفسي يرتفع بالابتداء، ووطنتها في موضع الخبر. ومن روى: ونفسي وقد وطنتها فإن نفسي يكون في موضع الجر عطفاً على بلنانه، أي أرمي جيشهم بنفسي وفرسي، ويكون قد وطنتها في موضع الحال. وتحقيق الكلام: وقد وطنتها على الشر فسكنت إليه، ورضيت به. ومثله قول عنترة:
ما زلت أرميهم بقرحة مهري ... ولبان لا وكلٍ ولا هياب
وقول الآخر:
ما زلت أرميهم بثغرة نحره ... وفارسه حتى ثأرت ابن واقد
ولاحقة الآطال أسندت صفها ... إلى صف أخرى من عدىً فاقشعرت
إنما نكر قوله عدىً لينبه به على اختلافهم وكثرتهم، وأن ذلك لتوفر فضائلهم، وتظاهر عزهم ورياستهم، إذ كان الحسد يتبع ذلك، ولأنهم يترون من لا يذل لهم، ولا يهوى هواهم. يقول: ورب خيلٍ قد لحقت بطونها بظهورها، وارتفعت جنوبها إلا متونها، أنا أملت صفها إلى صف خيلٍ مثلها من الأعداء، فخافت لقلتنا وكثرتهم. وأصل الاقشعرار تقبض الجلد وانتصاب الشعر، وقد تكلم الناس في قول امرئ القيس:
والقلب من خشيةٍ مقشعر
فقال بعضهم: الاقشعرار لا يصح في القلب، لأنه يخبر به عما عليه شعرٌ، ولا شعر على القلب. وقال غيره: إنما هو كنايةٌ عن الوجل، ولما كان الاقشعرار يقع عنده كني به عنه. وإذا كان كذلك فكأنه قال: والقلب من خشيةٍ وجل.(1/122)
بعض بني بولان من طيئٍ
بولان فعلان، من قولهم رجلٌ بولةٌ، إذا كان كثير البول. والبوال: داءٌ يصييب الغنم فيبول حتى يموت.
نحن حبسنا بني جديلة في ... نارٍ من الحرب جحمة الضرم
جديلة من الجدل، وهي فيما زعموا أمهم. والجدل: الفتل. قال الدريدي: جديلة من قولهم امرأةٌ مجدولةٌ، إذا كانت قضيفةً. ويقال ضرمت النار، إذا التهبت، تضرم ضرماً. ولهذا ما تلتهب به النار سريعاً من الحطب قيل له الضرام. فيقول: حبسنا هؤلاء القوم على نارٍ من الحرب شديدة الالتهاب. والجحمة: مصدر جحمت النار فهي جاحمةٌ، إذا اضطرمت؛ ومنه الجحيم. قال: وصفت النار بالجحيم لحمرتها، ولذلك سميت عين الأسد جحمةً، لأنها تتراءى بالليل كأنها نار. وقال الدريدي: الجحمة العين، لغةٌ يمانيةٌ. وعين الأسد خاصة في كل اللغات الجحمة.
نستوقد النبل بالحضيض ونص ... طاد نفوساً بنت على الكرم
قوله نستوقد النبل من فصيح الكلام، كأنه جعل خروج النار من الحجر عند صدمة النيل استيقاداً منهم. والوقد، توسعوا فيه حتى قيل قلبٌ وقادٌ. فإن قيل: هلا قال نستقدح النبل، فكان أصح؟ قلت: الذي قاله أفصح؛ وقد قيل زندٌ ميقادٌ، إذا كان سريع الوري. وقال الخليل: كل ما تلألأ فقد وقد، حتى الحافر. يقول: تنفذ سهامنا في الرمية حتى تصل إلى حضيض الجبل فتخرج منه النار لشدة رمينا، وقوة سواعدنا، ونصيد بها نفوساً مبنية على كرمٍ. أي نقتل الرؤساء ومن تكرم نفسه وتعز حياته. وقوله بنت أصله بنيت، فأخرجه على لغة طيئٍ، لأنهم يقولون في بقي بقى، وفي رضي رضى. ولهذا قال بعضهم:
على محمرٍ ثوبتموه وما رضى
وقالوا في بادية: باداة، كأنهم يفرون من الكسرة بعدها ياءٌ إلى الفتحة، فتنقلب الياء ألفاً. والحضيض: قرار الأرض عند سفح جبلٍ. والنبل لا واحد له من لفظه.(1/123)
وقال رويشد بن كثيرٍ الطائي
يأيها الراكب المزجي مطيته ... سائل بني أسدٍ ما هذه الصوت
المطية من المطا، وهو الظهر. ويقال مطاه وامتطاه، إذا ركبه. وللحوق الهاء به صار اسماً، وقد مر مثله. ويروى: بلغ بني أسدٍ. وقوله: ما هذه الصوت الجملة في موضع المفعول، وارتفع الصوت على أنه عطف البيان. يخاطب الراكب السائق لمطيته بإعجالٍ، يسأله أن يبلغ بني أسدٍ عنه عن طريق الفحص والاستعلام: ما هذه الجلبة. وهذا الكلام تهكمٌ وسخرية، لأنه هو الذي أثار عليهم ما اهتاجوا له، وجلب عليهم ما أشكاهم. وإنما قال ما هذه الصوت، والصوت مذكر، لأنه قصد به إلى الصيحة والجلبة. وهذا كما قال حاتمٌ:
أماوي قد طال التجنب والهجر ... وقد عذرتني في طلابكم العذر
يريد المعذرة. وكما قال الآخر:
وكان مجني دون من كنت أتقي ... ثلاث شخوصٍ كاعبان ومعصر
فأنث الشخوص لأنه قصد بها إلى النفوس. وحكي عن أبي عمرو ابن العلاء أنه سمع بعضهم يقول: جاءنه كتابي فاحتقرها. قال أبو عمرو: فقلت: أتقول جاءته كتابي؟ قال: نعم، أليست هي صحيفة؟ وقد قيل: لما كانت الشخوص شخوص النساء أنث العدد. وقوله: الراكب المزجي الراكب يقع على راكب البعير خاصةً؛ لأن راكب الخيل يقال له فارس. والمزجي، يقال زجا الشيء يزجو زجواً وزجاءً، وأزجيته أنا وزجيته، إذا استحثثته. ومنه زجاء الخراج. وفي هذا الكلام دلالةٌ على أنه ليس يقنعه ما أوقعهم فيه. ألا ترى أنه يتوعد بالاستئصال إن لم يصح عذرهم. ويجوز أن يكون المراد بقوله ما هذه الصوت مالذي يتأدى إلي عنكم، ويتحدث به الناس من شانكم وقصتكم. ويقال: ذهب صوت هذا الأمر في الناس للتحدث به، وذهب صيت بني فلانٍ في الناس إذا ذكروا بالخير. فكأنه على هذا يوهمهم أنه لم يصح(1/124)
عنده ما يقال، وأنهم إن لم يقيموا المعذرة والدلالة على براءة الساحة حينئذ عاقبهم. وهذا المعنى في نهاية الحسن.
وقل لهم بادروا بالعذر والتمسوا ... قولاً يبرئكم إني أنا الموت
مفعول بادروا محذوف، كأنه قال: بادروا العقاب بالعذر، أي سابقوه. يقول: قل لهم: سارعوا بالعذر فيما ركبتموه واطلبوا قولاً يبرئ ساحتكم، إني أنا حتفكم إن لم تفعلوا، أي أقرب حينكم، وأسعى في هلاككم إن لم تفعلوا. ويقال: لمس والتمس في معنى طلب. على ذلك قول الله تعالى حاكياً عن مسترقة السمع: " وأنا لمسنا السماء فوجدناها ملئت حرساً شديداً "، أي طلبناها. وقال الشاعر:
ألام على تبكيه ... وألمسه فلا أجده
ويبرئكم في موضع الصفة للقول، أي قولاً مبرئاً لكم من الذنب.
إن تذنبوا ثم يأتيني يقينكم ... فما علي بذنبٍ عندكم فوت
قوله بذنبٍ أي بسبب ذنبٍ، وقد حذف المضاف وأقام المضاف إليه مقامه، كأنه قال بجزاء ذنبٍ، ويقال: لا فوت عليك في كذا، كما يقال لا بأس عليك. والمعنى: لا يفوتك. وفي هذا الكلام إيذانٌ بأنه مستعملٌ الأناة والحلم معهم، ثقةً بأنهم لا يفوتونه. يقول: إن تجرموا ثم يصح عندي تعمدكم في إجرامكم وتيقنكم ما يلحقكم من لائمةٍ وعيبٍ وأنكم أقدمتم مستهينين، وبمن يأخذكم نكيره غير حافلين، فما يفوتني مكافأتكم، ولا يعييني مؤاخذتكم ومحاسبتكم. وروي: ثم يأتيني يقيتكم وفسر على وجهين: أحدهما أن المعنى ثم تأتيني خياركم وأماثلكم، يقيمون معذرة أنفسهم، ويبينون أنهم لم يساعدوكم لا بالراي ولا بالفعل. وهذا كما يقال: فلانٌ من بقية أهله، أي من أفاضلهم. والآخر أن يكون المعنى: ثم تأتيني بقيتكم الذين لم يذنبوا متنصلين بأنهم قد فارقوكم وأسلموكم، لعظيم جنايتكم، وخلعوا ربقة النصرة والمعاونة لكم.(1/125)
أنيف بن حكمٍ النبهاني
جمعنا لهم من حي عوف بن مالكٍ ... كتائب يردي المقرفين نكالها
الكتيبة من الجيش: ما جمع فلم ينتشر. وقوله: يردي مع ما بعده في موضع الصفة للكتائب. يقول: جمعنا لهؤلاء القوم جيوشاً من خلص العرب تهلك عقوبتها الذين في نسبهم هجنةٌ أو إقرافٌ إذا بركوا عليهم. وهذا يجوز أن يكون تعريضاً بمنابذيه ووعيداً لهم. والإقراف يكون من قبل الفحل، والهجنة من قبل الأم. وذكر المقرفين ولم يذكر الهجناء لأنهم وإن كانوا يأخذون مأخذهم في أنه لا يخلص نسبهم، ولا يصفو سببهم، فنافيهم أشد نقداً، ومزيفهم أنكر دفعاً. وكان عنترة العبسي هجيناً فقال:
إن امرؤٌ من خير عبسٍ منصباً ... شطري وأحمي سائري بالمنصل
نافياً للإقراف، فجعل أحد شطريه من خير عبس، وجعل الباقي يحميه من الذم باستعمال السيف يوم الروع، وحسن البلاء في الحرب، حتى يلحقه بالخلص، ولا تقعد به هجنته عن الدخول في زمرة الصرحاء.
لهم عجزٌ بالحزن فالرمل فاللوى ... وقد جاوزت حي جديس رعالها
الرعيل: قطعةٌ من الخيل متقدمةٌ، وتوسعوا فقالوا: أراعيل الرياح. ويقال: استرعل فلانٌ، أي خرج في الرعيل الأول. يقول: سوابق هذه الكتائب وأوائلها قد جاوزت بلاد طسمٍ وجديس، ولواحقها قد شحنت بها هذه المواضع. وبين بلاد حي جديس والبقاع التي ذكرها مسافةٌ بعيدة. واللوى، حيث يرق الرمل فيخرج السائر فيه إلى الحزن. وطسمٌ وجديسٌ: أمةٌ من العرب بادوا وانقرضوا. وقيل أراد بالحيين جدساً وجديساً، وذكرهم والقصد إلى ديارهم وبلادهم، ورتب المواضع الذي عددها بالفاء، وجعل أعجاز الكتائب فيها تكثيراً لها.
وتحت نحور الخيل حرشف رجلةٍ ... تتاح لغرات القلوب نبالها(1/126)
رجلةٌ موضوعةٌ لأدنى العدد، بدلالة أنك تقول: ثلاثة رجلةٍ. ومن عادتهم أن يقدموا الرجالة عند تعبئة الجيش، ليستندوا إلى الفرسان. وقوله: وتحت نحور الخيل حرشف رجلةٍ أراد قطعة من الرجالة. ومعنى تتاح: تقدر وتهيأ. ويقال: تاح له كذا وأتحته أنا؛ رجلٌ متيحٌ. وموضعه جرٌ على الصفة لرجلةٍ. فيقول: تحت صدور الدواب قطعةٌ من الرجالة تقدر نبالها للقلوب الغافلة، أي لا يشعر بهم فإذا نبالهم تعمل هذا العمل. والحرشف، الأصل فيها أن تستعمل في الجراد، ثم استعير للجماعة من الرجالة على التشبيه، وقال امرؤ القيس:
كأنهم حرشفٌ مبثوثٌ ... بالجو إذ تبرق النعال
وغراتٌ: جمع غرة، وهي صفةٌ، يقال رجلٌ غرٌ وغريرٌ، وجاريةٌ غرةٌ وغريرةٌ، ومصدر الغرارة.
أبى لهم أن يعرفوا أنهم ... بنو ناتقٍ كانت كثيراً عيالها
هذا الكلام من صفة الكتائب. وأن يعرفوا في موضع المفعول لأبى، وفاعلة قوله أنهم بنو ناتقٍ. وقوله كانت من صفة الناتق. يقول: منع لهم معرفة الضيم كثرتهم وترادفهم. والناتق: المرأة الكثيرة الأولاد. وجعل العيال كنايةً عن الأولاد، وهو جمع عيل، كجيد وجياد. يقال: عند فلانٍ كذا عيلاً، وهو معيلٌ ومعيلٌ: كثير العيال. والفعل من ناتقٍ نتقت تنتق نتقاً.
فلما أتينا السفح من بطن حائلٍ ... بحيث تلاقى طلحها وسيالها
الباء من قول بحيث تعلق بفعلٍ دل عليه أتينا، كأنه قال: حصلنا بحيث تلاقى طلحها وسيالها. وموضعه من الإعراب نصبٌ على الحال للمضمرين في أتينا. والسفح: أسفل الجبل، ولاشتهاره بما وضع له أغنى عن إضافته إلى الجبل. والطلح والسيال: شجران. فيقول: لما بلغنا أسفل الجبل من بطن هذا الوادي بحيث التقى هذان الجنسان من الشجر. وهذا إشارةٌ منه إلى موضع العراك والقتال. وجواب لما فيما بعده.
دعوا لنزارٍ وانتمينا لطيئٍ ... كأسد الشرى إقدامها ونزالها(1/127)
انتمينا: انتسبنا، أي قالوا يا لنزارٍ، وقلنا نحن: يا لطيئٍ، مشابهين للأسود. وقوله كأسد الشرى حذف المضاف وأقام المضاف إليه مقامه، كأنه قال: وكإقدام أسد الشرى إقدامها ونزالها وجاء الحذف لأنه لا يلتبس وجه التشبيه بغيره. ومعنى دعوا لنزار: انتسبوا إلى نزار. وهذا الاعتزاء الذي أشار إليه قد يفعله الفارس عند الطعن والضرب أيضاً، يقول الواحد منهم: خذها وأنا من بني فلان، وأنا فلان بن فلان.
فلما التقينا بين السيف بيننا ... لسائلةً عنا حفيٍ سؤالها
الإحفاء يكون في السؤال عن الشيء، ويكون في طلب الشيء من الغير، وهو المبالغة فيهما، والذي بينه السيف هو حسن بلاء أحد الفريقين وزيادته فيما يحمد من الصبر والثبات على صاحبه. وقد حذفه من اللفظ لأن المفاعيل تحذف كثيراً إذا دل الدليل عليها. ومعنى قوله: لسائلةٍ عنا حفيٍ سؤالها أن الإحفاء في السؤال والاسقتصاء في البحث، مما يزداد معه بينات الأحوال، وجليات الأمور. وجعل الحفي للسؤال على المجاز والسعة. وفسر قوله تعالى: " يسألونك كأنك حفيٌ عنها ": كان المعنى كأنك عالمٌ بها، لما كان الإحفاء في المسألة حقيقاً بأن يؤدي إلى العلم بالمسئول عنه. والسائلة يجوز أن يريد بها قبيلةً، ويجوز أن يريد بها امرأةً. وجعل قوله السيف كنايةً عن أنواع السلاح، بدلالة أنه أعاد ذكر استعمال السيف فما بعده، لما فصل أحوالهم وفسر مقاماتهم فقال: ولما عصينا بالسيوف.
ولما تدانوا بالرماح تضلعت ... صدور القنا منهم وعلت نهالها
يقول: ولما تقاربنا باستعمال الرماح رويت القنا من دمائهم، وصار الناهل منها عالاً. والنهل: الشرب الأول، والعلل: الشرب الثاني كأنهم عاودوا الطعن وكروا حالاً بعد حال. والتضلع، حقيقته أن يستعمل فيما له ضلعٌ، وعند الارتواء تنتفخ الأضلاع، واستعاره ها هنا. ويقال: تضلع شبعاً، وتحبب رياً. وخص الصدور لأن الصدور لأن الطعن بها. ويقال عل إبله يعل ويعل، فعلت هي. وإن شئت على هذا رويت: وعلت نهالها، وإن شئت رويت: وعلت.
ولما عصينا بالسيوف تقطعت ... وسائل كانت قبل سلماً حبالها(1/128)
وسلت إليه وسيلةً، أي تقربت إليه بقربةٍ. ويقال توسلت أيضاً. وفي القرآن: " وابتغوا إليه الوسيلة ". ويقال: عصيت بالسيف، إذا ضربت به، وعصوت بالعصا. وجعل انبتات الوسائل وانقطاع الأواخي عند استعمال السيوف لأن الأمر يشتد عنده، والقناع يكشف معه. ولهذا لما استوصف عمرو بن معد يكرب أنواع السلاح قال في السيف: عنده تثكل الأمهات. وقوله: كانت قبل سلماً حبالها، يريد به أن حبال تلك الوسائل كانت مفتولةً على الصلح فتقطعت باستعمال السيوف، لأن كلاً منها صار واتراً وموتوراً، فسقط الملامة من بينهم.
فولوا وأطراف الرماح عليهم ... قوادر مربوعاتها وطوالها
قوله: وأطراف الرماح في موضع الحال للمضمرين في ولوا. وذكر الأطراف لأن الطعن بها يقع، وإن كانت الرماح بأسرها مقصودةً. يقول: انهزموا وأسنة الرماح متمكنةٌ منهم، ومقتدرةٌ عليهم طوالها وأوساطها. والمربوع والمرتبع: ما كان بين القصير والطويل، ومنه رجلٌ ربعةٌ. وإنما قال ذلك لأن المنهزمين إذا منحوا أكتافهم لمن يطلب أثرهم ويقصد النكاية فيهم، فتأثير الأسلحة على اختلافها متقارب. وارتفع مربوعاتها على البدل من الأطراف. وهذا يبين أن القصد بها إلى جمعيها، لا إلى بعضها.
قال عمرو بن معد يكرب
ليس الجمال بمئزرٍ ... فاعلم وإن رديت بردا
قوله فاعلم اعتراضٌ تأكد به الكلام، ومثله قوله تعالى: " فلا أقسم بمواقع النجوم. وإنه لقسمٌ لو تعلمون عظيمٌ. إنه لقرآنٌ كريمٌ "؛ لأن قوله وإن رديت متعلق بما قبله تعلقٌ جواب القسم بالقسم. يقول: ليس جمال المرء فيما يلبسه من الثياب وإن استسرى الملابس واختار أرضاها وأكملها. وكانوا يأتزرون ببردٍ ويرتدون بآخر، ويسميان حلةٌ، وباجتماعهما كان يكمل اللبوس، حتى كانت خلعة ملوكهم لا تعدوهما. ولذلك سمي من سمي ذا البردين. قال:
أيا ابنة عبد الله وابنة مالكٍ ... ويا ابنة ذي البردين والفرس والورد(1/129)
وقوله: وإن رديت برداً في موضع الحال، كأنه قال: ليس جمالك بمئزر مردى معه برداً. والحال قد يكون فيه معنى الشرط، كما أن الشرط يكون فيه معنى الحال. فالأول كقولك: لأفعلنه كائناً ما كان، أي إن كان هذا وإن كان هذا. والثاني كبيت الكتاب:
عاود هراة وإن معمورها خربا
لأن الواو منه في موضع الحال، كما هو في بيت عمروٍ، وفيه لفظ الشرط ومعناه، وما قبله نائبٌ عن الجواب. والمعنى: إن خرب معمور هراة فعاودها. وكذلك بيت عمرو، تقديره: إن رديت برداً على مئزرٍ فليس الجمال ذلك.
إن الجمال معادنٌ ... ومناقبٌ أورثن مجدا
أراد أن جمال المرء في أصوله الزكية، وأفعالٍ له كريمةٍ تورث المجد والشرف. والمعدن، هو من عدن بالمكان عدناً وعدوناً، إذا أقام. وكذلك عدنت الإبل في الحمض، وقيل المعدن اشتقاقه من عدنت إذا قلعته. وإذا جمع الرجل بين الشرف الموروث والمستحدث المكسوب فهو النهاية. ومناقب الإنسان: ما عرف فيه من الخصال الجميلة، والطرائق الحميدة، والوحدة منقبةٌ. والنقب كأنه منه. قال الدريدي: يقال نقبٌ بين النقابة بالفتح، مثل كفيلٍ بين الكفالة. فأما التعريف فمصدره العرافة بالكسر: والمجد: الشرف والرفعة، وسميت الأرض المرتفعة مجداً ونجداً به. ويجوز أن يكون أصله الكثرة، يقال أمجدت الدابة علفاً، أي وسعته لها.
أعددت للحدثان سا ... بغةً وعداءً علندى
أعددت واعتدت واحد، والاسم العدة والعتاد. يقول: هيأت لنوائب الدهر، أي لدفعها درعاً واسعةً وفرساً ضخماً جيد العدو كثيره. والعلندى ألفه للإلحاق، كسفرجل. وأصل الكلمة ثلاثيٌ، والنون والألف زائدتان، فهو من العلد. قال الخليل: هو الغليظ الشديد من كل شيء. والدلالة على أن الألف للإلحاق أنك تقول للمؤنث علنداةٌ، وأنك تنون فتقول علندىً. وذكر بعضهم أن العلندى: الضخم من الإبل والخيل جميعاً، وجمعه علاند وإن شئت علادٍ، كما قالوا في حبنطىً حبانط وحباطٍ. وفرسٌ عداءٌ وعدوانٌ، إذا كان كثير العدو.(1/130)
نهداً وذا شطبٍ يق ... د البيض والأبدان قدا
نهداً، أي فرساً غليظاً. والنهود في الثدي: بيان حجمه ونتوه من هذا وسيفاً ذا شطبٍ: ذا طرائق، يقطع البيض والدروع قطعاً. والقد: القطع طولاً، والقط: القطع عرضاً. والبدن من الدرع: قدر ما يستر البدن. ويقال سيفٌ مشطبٌ: فيه شطوبٌ وطرائق.
وعلمت أني يوم ذا ... ك منازلٌ كعباً ونهداً
قوله: يوم ذاك يجوز أن يشار بذلك إلى أمرٍ قد علمه السامعون، وهو الحرب، لأن النزال يكون فيها. ويجوز أن يكون أشار به إلى السلاح الذي زعم أنه أعده. ويوم السلاح: يوم الحرب. ويجوز أن يكون أشار به إلى الحدثان، لأنه قد قال أعددت للحدثان. ومعنى البيت: علمت أن منازلٌ هؤلاء فأعددت لهم هذا السلاح، لعلمي بالحاجة إليه. والحازم يتهيأ للأمر قبل وقوعه، فكأنه قال: فعلت ذلك بحزامتي، وعلمي بموارد الأمور ومصادرها.
قومٌ إذا لبسوا الحدي ... د تنزروا حلقاً وقدا
انتصب حلقاً على أنه بدلٌ من الحديد، ويريد به الدروع التي نسجت حلقتين حلقتين. والقد، أراد به اليلب، وهو شبه درعٍ كان يتخذ من القد. ويروى: خلقاً وقداً ويكون انتصاب خلقاً على التمييز، أي تشبهوا بالنمر في أخلاقهم وخلقهم. ودل على الخلق قوله قداً. ومعنى الرواية الأولى أنهم إذا لبسوا الحديد الدروع واليلب تشبهوا بالنمر في أفعالهم في الحرب. ويجوز أن يريد بتنمروا تلونوا بألوان النمر، لطول ثباتهم وملازمتهم الحديد، وحينئذ يصح أن يكون انتصاب حلقاً على التمييز. والمعنى الأول أجود. فإن قيل: كيف دخل قوله: وقداً بالعطف على حلقاً في أن يكون بدلاً من الحديد وليس منه؟ قيل: لما كان يغني غناء درع الحديد، جاز أن يصحبه في أن يكون بدلاً. وقوله إذا لبسوا الحديد ظرفٌ لتنمروا.
كل امرئ يجري إلى ... يوم الهياج بما استعدا
هذا كما قيل في المثل: قبل الرماء تملأ الكنائن، فيقول: كل رجلٍ يجري إلى يوم الحرب بما أعده واستعده. والضمير من صلة ما محذوفٌ استطالةً للاسم.(1/131)
ويجوز أن يكون استعد فعلاً ليوم الهياج لا لكل امرئ، ويكون معناه بما كلف يوم الهياج أن يعد له. يقال: استعددته كذا، أي سألته أن يعد.
لما رأيت نساءنا ... يفحصن بالمعزاء شدا
الأمعز والمعزاء: الأرض الحزنة ذات الحجارة، والجميع المعز والأماعز والمعزاوات. والأصل في المعز الصلابة. ويقال رجل ماعزٌ ومعزٌ. ويروى: يفحصن، ومعناه يؤثرن لشدة العدو في المعزاء، حتى يصير به لآثارهن كالأفاحيص. ويقال: استضحك فلانٌ حتى فحص برجليه. وقيل على التوسع: فحصت عن الأمر. وينتصب شداً على أن يكون مفعولاً له، كأنه قال: يفحصن بالمعزاء لشدهن ويجوز أن يكون شداً مصدراً في موضع الحال، أي يفعلن ذلك بالمعزاء شاداتٍ. ويروى: يمحصن، والمحص: العدو الشديد، وينتصب شداً على أنه مصدرٌ من غير لفظه، كأنه قال يشددن شداً ويمحصن محصاً. وجواب لما قوله نازلت، وسيجيء من بعده. وإنما عملت النساء ما ذكر إشفاقاً من الغارة والسباء.
وبدت لميس كأنها ... بدر السماء إذا تبدى
قوله: كأنها بدر السماء في موضع الحال للمرأة، أي بدت مشبهةً البدر، وقوله: إذا تبدى ظرفٌ لما دل عليه كأن من معنى الفعل. يقول: وبرزت هذه المرأة كاشفةً عن وجهها سافرةً، كأنها قد أرسلت نقابها. ودل على هذا بقوله: كأنها بدر السماء إذا تبدى. وإنما فعلت كذلك لأحد وجهين: إما للتشبه بالإماء حتى تأمن السباء، أو لما تداخلها من الرعب. وفي طريقته:
ونسوتكم في الروع بادٍ وجوهها ... يخلن إماءً والإماء حرائر
نازلت كبشهم ولم ... أر من نزال الكبش بدا
لا بد يستعمل استعمال لا محالة، وتحقيقه لا محيد ولا معدل. ومنه قولهم: استبد فلانٌ بالأمر، أي انفرد به. والبدد والتبدد: مصدر الأبد. وهذا جواب قوله:(1/132)
لمارأيت نساءنا يفحصن. وكبش الكتيبة: رئيسها. فيقول: لما رأيت الأمر على ما ذكرت أنفت وقصدت رئيس الأعداء وملاقاته ولم أجد من ذلك بداً. وإنما قال: نازلت كبشهم ليرى أنه ممن تدعوه نفسه إلى مجاهدة الرؤساء والتعرض لهم في الحرب، وأنه ممن لا يرضى عن المبارزة بالمنزل الأدنى. والرئيس متى كان واثقاً بنفسه طلب أمثاله، واستعفى من مبارزة من لا يؤبه له، وتفادى منها، إلا عند الضرورة.
هم ينذرون دمي وأن ... ذر إن لقيت بأن أشدا
يقول: هم يقولون لله علينا سفك دم عمروٍ، وأنا أقول لله على أن أحمل عليهم وأبذل نفسي لهم، ثقةً بكفايتي واستهانةً بنذرهم. ويقال في الحملة: شددنا عليهم شدةً صادقةً، وشدة غير كاذبةٍ، إذا أرادوا المبالغة.
كم من أخٍ لي صالحٍ ... بوأته بيدي لحدا
بوأته مبوأ صدقٍ: أنزلته. والمباءة: المنزل. وإنما فرغ من التبجح بالشجاعة ثم ذكر صبره على البلاء، وتوطين نفسه على اللأواء، فيقول: كم من أخ موثوقٍ به فجعت بموته، وأحوجت إلى تولي دفنه، ومباشرة تجهيزه. وهذا إذا ابتلي به المرء كان أعظم لجزعه، وأنكى في قلبه.
ما إن جزعت ولا هلع ... ت ولا يرد بكاي زندا
الهلع: أفحش الجزع، لأنه جزعٌ مع قلة صبر. وقد فسره التنزيل في قوله تعالى: " إن الإنسان خلق هلوعاً. إذا مسه الشر جزوعاً. وإذا مسه الخير منوعا. إلا المصلين ". لأن المعنى أن الإنسان لا يصبر على ضيرٍ، ولا على خيرٍ، فكأنه قال: ما حزنت عليه حزناً هيناً قريباً، ولا فظيعاً شديداً. وهذا نفيٌ للحزن رأسا، فهو كقولك: ما رأيت صغيرهم ولا كبيرهم. وقد أعطى الترتيب حقه لأنه ارتقى فيه من الأدون إلى الأعلى، إذ كان قوله ما إن جزعت وإن كان مستصلحاً لجميع أنواعه مفيداً للأدوان، وقد جاء بعده ولا هلعت، وقوله: ولا يرد بكاي زنداً، وكان بعض الناس يرويه: ولا بكاي زيدا، وزعم أنه أخٌ له. ورأيت من زعم أنه فتش عن نسب عمروٍ فلم يجد له نسيباً ولا شقيقاً يسمى زيدا. على أن قوله كم من أخٍ لي صالحٍ لا يلائمه - فيما يقتضيه سياق اللفظ ونظام المعنى، ومع إفادته الكثرة - أن يقابل بو لا يرد بكاي أخي زيداً مع تخصصه. فأما من(1/133)
روى زنداً فبعض الشيوخ كان يقول: أراد ولا يرد بكاي شررة، فذكر الزند وأراد ما يخرج منه عند القدح. وأحسن من هذا أن يكون ذكر الزند تقليلاً لعائدة الحزن لو تكلفه عندما دهمه من الفجيعة بالأخ المذكور. وهم يستعملون الزند في هذا المعنى، كما يستعملون الفوف والنقير والقطمير والفتيل. وحكى أبو زيدٍ أنهم يقولون إذا قللوا مال الرجل: زندان في مرقعةٍ. وهذا المعنى حسنٌ، والشاهد له قوي. ورأيت في بعض النسخ: ولا يرد بكاي رداً، وهذا حسنٌ أيضاً، ويكون المعنى: ولا يرد بكائي مردوداً. والمعنى: ولا يغني بكائي شيئاً. وفي كلام الناس: هذا الأمر أرد عليك، أي أنفع وأجدى. وإنما عقب نفي الجزع بهذا الكلام تنبيهاً على أن صبره عن تأدبٍ وتبصر ومعرفةٍ بالعواقب، وحسن تأمل.
ألبسته أثوابه ... وخلقت يوم خلقت جلدا
يقول: توليت تكفينه وتجهيزه بنفسي، وخلقت صبوراً حين خلقت. وهذا يريد به أنه جمع إلى الجلادة المكتسبة جلادة الخلقة والطبيعة.
أغنى غناء الذاهبي ... ن عد للأعداء عدا
قول الذاهبين يجوز أن يريد بهم من انقرض من عشيرته وذويه، ويكون المعنى أنه المعتمد عليه بعدهم، ويجوز أن يريد بهم المتغيبين عن المشاهد والمعارك. وقوله أعد للأعداء عدا يجوز أن يكون المعنى: يقال في للأعداء: خذوا فلاناً فإنه يعد بكذا وكذا من الفرسان. ويقال إن عمراً كان يعد بألف فارس. ويجوز أن يكون المعنى أهيأ للأعداء معدوداً، فيكون عداً انتصابه على الحال، وموضوعاً موضع المعدود، وأعد مستقبل أعددت، أي هيئت. وفي الأول يكون مصدراً لأعد. والواحد لا يصح عده ولكن كأنه يقال فيه: إنه يقوم مقام كذا وكذا من العدد. ويروى أعد للأعداء بفتح الهمزة، ويحتمل وجهين من المعنى: أن يقول أعد لهم وقعاتي وأيامي عند المفاخرة والمنافرة عداً؛ وهذا معنى حسنٌ. والآخر أن يكون المعنى: أعد لهم كل ما يحتاج إليه من عددٍ وعدةٍ، وهذا يؤذن بأنه يدبر أمر الحرب؛ ويرجع إليه في أسبابها والجمع لها وهذا يرجع معناه إلى معنى يروى أعد للأعداء بضم(1/134)
الهمزة وكسر العين. وفي هذه الرواية يجوز أن يكون عداً مفعولاً به، والمعنى: أعد لها معدوداتها.
ذهب الذين أحبهم ... وبقيت مثل السيف فردا
يقول: فجعت بأحبائي وبقيت منفرداً بالسيادة، فأنا كالسيف لا يجمع اثنان منه في غمد. ويجوز أن يكون: بقيت لنفاذي في الأمور ومضائي كالسيف. وفرداً ينتصب على الحال، أي منفرداً.
وقال عمرو أيضاً:
ولقد أجمع رجلي بها ... حذر الموت وإني لفرور
هذا كلام من جمع إلى شجاعته وإقدامه حذراً وحزامة، وإلى جرأته وتهوره رفقاً وأصالة، ثم يكون عارفاً بوقت كل منها، وبالحالة الموجبة لاختياره بعضها. وأجمع رجلي، أي أستحث فرسي. وهو من فصيح الكلام، ومن العبارة التي تصور المعنى. ومن لفظه وبابه قولهم: جمعت يدي على كذا، ورفعت يدي عن كذا. وحذر الموت، انتصب على أنه مفعولٌ له، والضمير من قوله: بها للفرس. والمعنى: أركضها وأستدر جريها، ذهاباً في الفرار، واحترازاً من الموت إذا كان الوقت وقته، وإني لكثير الحرب إذا كان الهرب أغنى، وإلى مراغمة العدو أدعى.
ولقد أعطفها كارهةً ... حين للنفس من الموت هرير
يقول: كما أهرب وقت الهرب فإني أعطف وقت العطف؛ لأن الكر والفر من شأني، والإقدام والإحجام عادتي ودأبي. وأشار بقوله: حين للنفس من الموت هرير إلى شدة الأمر وتفاقم الخطب. أي أعطف الفرس وهي كارهةٌ في الوقت الذي تهر النفس وتضج من شدة البلوى. والهريرن قيل هو دون النباح.
كل ما ذلك مني خلقٌ ... وبكلٍ أنا في الروع جدير
ما زائدةٌ. وأشار بقوله: ذلك إلى ما قدمه من الكر والفر. أي كل ما وصفت عادةٌ مني وطبيعةٌ، وبفعل كله أنا خليقٌ في الروع. ويقال: هو جديرٌ بكذا، وجدير لكذا، وجديرٌ أن ينال كذا، ولقد جدر جدارةً، وأجدر به أن يفعله.(1/135)
قال:
جديرون يوماً أن ينالوا ويستعلوا
وابن صبحٍ سادراً يوعدني ... ماله في الناس ما عشت مجير
قال الدريدي: يقال أبى فلانٌ أمره سادراً، إذا جاءه من غير جهته. يقول: وهذا الرجل مع ما ذكرت من قصتي في الحرب يتهددني ساهياً لاهياً، وما له عاصمٌ مني في الناس ما عشت. وموضع ما عشت ظرفٌ، بيانه أن ما مع الفعل في تقدير المصدر، واسم الزمان محذوف معه، كأنه قال: مدة عيشي.
قيس بن الخطيم الأوسي
طعنت ابن عبد القيسٍ طعنة ثائرٍ ... لها نفذٌ لولا الشعاع أضاءها
الشع والشعاع: المتفرق. ومنه شع الغارة، وتطاير القوم شعاعاً. يقول: طعنت هذا الرجل طعنة طالبٍ بالدم فاتكٍ لا بقيا معها، ولا تقصير في المبالغة فيها، لها نفذٌ، أي خرقٌ، لولا انتشار الدم لأضاءها. وأضاءها جواب لولا، والمبتدأ وهو الشعاع خبره محذوف، كأنه قال: لولا الشعاع مانعٌ لأضاءها النفذ. ومن روى الشعاع بضم الشين، فإنه يريد به نور الشمس. والأول أجود وأشهر. ويقال: أشعت الشمس، إذا امتد نورها وانتشر.
ملكت بها كفي فانهرت فتقها ... يرى قائماً من دوها ما وراءها
يروى: يرى قائمٌ من دونها من وراءها وما وراءها، ويروى: يرى قائماً أيضاً. ويقال: ملكت العجين وأملكته، إذا بالغت في عجنه وشددت وكان الأصعي يمتنع من أملكت، فيكون المعنى شددت بهذه الطعنة كفى ووسعت خرقها حتى يرى القائم من دونها الشيء الذي وراءها. وهذا التفسير في ملكت تفسير القدماء. ويجوز أن يكون معنى ملكت بها كفي أي تمكنت من فعلها، فأطقت تصريف كفي في إيقاعها على مرادي. وهذا كما يقول: أنا أملك هذا الأمر، إذا كان قادراً عليه. وكأنه(1/136)
أشار بهذا الكلام إلى أن الطعنة لم تكن على دهشٍ واختلاس، ولكن عن تمكنٍ واقتدار. ويروى: يرى قائماً من دونها من وراءها وما وراءها ومن روىمن وراءها فالمعنى يرى من وراءها إذا كان قائماً من دونها. ووراء ههنا بمعنى خلف. وإن كان يقع على الخلف والقدام جميعاً. ومن دونها، أي من قدامها. وبيت الأعشى على هذا، وهو قوله:
تريك القذى من دونها وهي دونه
أي تريك الخمرة في الزجاجة القذى من قدامها، وهي قدام القذى؛ أي تريك الزجاجة ما خلفها من قدامها لصفاء الخمرة فيها. ومعنى أنهرته: وسعته حتى جعلته كالنهر سعةً. والنهر نفسه سمي بذلك لاتساعه. ومنه المنهرة، وهي فضاءٌ بين بيوت الحي يلقون فيه كناستهم. وفي هذا الوصف سرفٌ مستنكر وخروجٌ عن القصد مستهجن. ويجري مجراه في الغلو قول مهلهل:
فلولا الريح أسمع أهل حجرٍ ... صليل البيض يقرع بالذكور
واستعمل عنترة لفظ الإنهار مع اقتصادٍ فقال:
أنهرت لبته بأحمر قانئٍ ... ورشاش نافذةٍ على الأثواب
يهون علي أن ترد جراحها ... عيون لأواسي إذ حمدت بلاءها
الأواسي: النساء المداويات للجراح، والفعل منه أسوت. ويقال للرجال الآسون والأساة. وإنما ذكر النساء لأنهم يأنفون من الصناعات، ويعلمونها العبيد والإماء وحرائر النساء أحياناً، إذ لم يكن في غايةٍ بعيدةٍ من الشرف. وقوله أن ترد موضعه رفعٌ على أنه فاعل يهون. وإذ حمدت ظرفٌ ليهون وهي حكاية حالٍ ماضية. والمعنى: يخف علي رد جراح هذه الطعنة عيون النساء المداويات لها، إذ حمدت أثري فيها. وبلاءها، يجوز أن يكون المراد بلائي فيها، ويجوز أن يريد ببلائها شدتها فظاعتها. والمصادر تضاف إلى الفاعلين والمفعولين جميعاً.(1/137)
ساعدني فيها عمرو بن عامرٍ ... زهيرٌ فأدى نعمةً وأفاءها
يجوز أن ينتصب نعمةً على الحال ويكون مفعول أدى محذوفاً كأنه قال: فأداها نعمةً ويداً يستحق عليها شكراً، ويجوز أن ينتصب على أنه مفعول أدى، ويكون المعنى: ساعدني في هذه الطعنة زهير بن عمرو، فأدى صنيعة كانت لي عنده بمساعدته، واتخذها مغنماً لنفسه أيضاً. ويجوز أن يكون أفاءها من الفيء: الغنيمة، وهذا قول أبي عبيدة. ويجوز أن يكون أفاءها من الفئ: الرجوع، أي أداها ورجعها إلى مصطنعها، لأن الأيادي قروضٌ في الصالحين.
وكنت امرأً لا أسمع الدهر سبةً ... أسب بها إلا كشفت غطاءها
يروى لا أسمع ولا أسمع. ومن الغطاء قيل غطا الليل، وغطا عليهم الشر وغيره. يقول: كنت رجلاً لا أعير شيئاً طول الدهر إلا بينت للناس براءة ساحتي منه. وحقيقة كشفت غطاءها أي لم أترك السبة ملتبسةً على سامعها، فكان يتردد بين تصديقها وتكذيبها، بل أبنت أمرها وأظهرت وجهها، حتى بان للناس اختلاق الساب بها، وكذابه فيها. والسبة، كالغمة والغصة وما أشبهها. وذهب بعضهم إلى أن المعنى: إذا رميت بعيبٍ كان حقاً علي محوه عن نفسي، بما استأنفه من سعي. والأول أحسن.
متى يأت هذا الموت لا تبق حاجةٌ ... لنفسي إلا قد قضيت قضاءها
يروى لا يلف حاجةً على أن يكون الفعل للموت، ولا تلف حاجة على ما لم يسم فاعله، أي لا توجد. تقول: أجتهد في إدراك الآثار، وطلب الأوتار، قبل دنو الأجل، فمتى جاء الموت لا يجد حاجةً تتعلق نفسي بها قبل إلا وهي مقضيةٌ. ومعنى قضيت قضاءها أي فرغت منها كقضائي لأمثالها. وقوله هذا الموت يجوز أن يكون تصوره حاضراً لمعرفته بإدراكه لا محالة، وأشار إليه. ويجوز أن يكون لدوام استقتاله وتحدثه بمجيئه، وكونه من همه، أشار إليه على جهة التقريب له.(1/138)
إذا ما شربت أربعاً خط مئزري ... وأتبعت دلوي في السماح رشاءها
يقول: إذا شربت أربعة أكؤسٍ جررت مئزري، فأثر في الأرض خيلاء وكبراً، وتممت ما بقي علي من السماح في حال الصحو، كأن معظمه فعله صاحياً، والباقي منه تممه في حال السكر. وهذا الكلام يجري مجرى المثل للمعنى الذي بينت. حكى الأصمعي أنهم يقولون: أتبع الفرس لجامها، وأتبع الدلو رشاءها، أي تمم ما بقي عليك من أمرك. وكأنه يضرب لمن جاد بالكثير وترك القليل الحقير. وهذا أجود من قول عنترة العبسي، وإن كان مفضلاً عند كثير من الناس على قول عمرو بن كلثوم، وقول عنترة:
وإذا انتشيت فإنني مستهلكٌ ... مالي وعرضي وافرٌ لم يكلم
وإذا صحوت فما أقصر عن ندى ... وكما علمت شمائلي وتكرمي
وبيت عمرو:
مشعشعةً كأن الحص فيها ... إذا ما الماء خالطها سخينا
لأن هذا قال: إنا نتسخى إذا شربنا الخمر ممزوجة. وما قاله عنترة في بيتين أشار إليه قيسٌ في مصراع. وكان ابن الأعرابي يذهب في قوله سخينا إلى أنه يقال ماء مسخنٌ وسخينٌ، وإن كان فعيلٌ في معنى مفعل قليلاً. وانتصب عنده على أنه حال للماء. ويكون المراد على طريقته: كأن الحص فيها إذا مزج بماء سخين. وهذا لهربه مما استقبحه الناس. وهو حسنٌ، لكنه يقتضي أن يكون بلادهم صروداً.
الحارث بن هشام المخزومي
وهو أخو أبي جهلٍ لعنه الله. وكان هرب يوم بدرٍ لما أنزل الله تعالى النصر على رسوله عليه السلام.
الله يعلم ما تركت قتالهم ... حتى علوا فرسي بأشقر مزبد(1/139)
أخذ يستشهد بربه، ويتنصل من هربه، بأنه لم يأته إلا بعد غلبة اليأس من نفسه عليه إن ثبت، وإلا بعد أن ضرج بالدم الشامل له ولفرسه. ومثله قول مهلهل:
لم أرم حومة الكتيبة حتى ... حذي الورد من دميٍ نعالا
وهذا قاصرٌ عن درجة ما تقدم، لأنه يعتذر مما آثره من الهرب في وقته، وذاك أورده مورد المتبجح، وأنه خلقه ومذهبه، لعلمه بمصادر الحروب ومواردها. وقوله: الله يعلم لفظه لفظ الخبر، والقصد إلى الحلف؛ لأنه يستشهد بربه فيقول: علم الله ما تركت مقاتلتهم، حتى جرحوني فسال مني على فرسي دمٌ أشقر كثيرٌ، علاه زبد.
وعلمت أني إن أقاتل واحداً ... أقتل ولا يضرر عدوي مشهدي
أراد: وحتى علمت. وإنما أطلق لفظة علمت لارتفاع الشبه عن اعتقاده ذلك. وانتصب واحداً على الحال، والمعنى منفرداً، وواحدٌ ها هنا صفةٌ، والمعنى: وحتى تيقنت أني إن ثبت في وجوههم، وأنتصب منفرداً لمقاتلتهم قتلت، ولا يضر حضوري أعدائي. ونبه بقوله: ولا يضرر عدوي مشهدي أنه لو كان في ثباته ضرر عدوٍ لثبت في وجهه، ولم يبال بقتله. وقوله عدوي يفيد الكثرة وإن كان لفظه موحداً.
فصددت عنهم والأحبة فيهم ... طمعاً لهم بعقاب يوم سرمد
يقال: صد فلان عني، إذا صرف وجهه صدوداً، وصددته أنا عن كذا صداً. وحكي أصددته، وليس بشيء. يقول: أعرضت عنهم ودماؤهم وأسراؤهم فيهم، ولم أنلها ولم أظفر بها. وهذا يدل على أنه كان موتوراً. وإنما حاربهم لطلب دماءٍ كانت له فيهم. وقوله الأحبة على هذا التفسير يجب أن تكون أحبتهم. ويجوز أن يريد بالأحبة أحبة نفسه، ويكون المراد: ودماء أحبتي وأسراي فيهم. وقوله طمعاً انتصب على أنه مفعول له، وهو الذي يسمى مصدراً لعلة. والمعنى: فعلت ذلك لطمعي في(1/140)
أن يعقب الله تعالى لي يوماً يرصد الشر لهم، ويمكنني منهم، فأنتهز الفرصة وأروي الغلة. ويقال: رصدت فلاناً بالمكافأة، ورصدت له أيضاً وأرصدته، وأنا مرصدٌ لفلان بما كان منه حتى أكافئه. ويجوز أن يكون انتصاب طمعاً على أنه مصدر في موضع الحال، والتقدير: صددت عنهم طامعاً. والعقاب يجوز أن يراد به العاقبة، ويجوز أن يراد به العاقبة، ويجوز أن يراد به المكافأة. يقال: أولاه خيراً فعقبه بشرٍ، عقبةً وعقاباً وعقبى. وإذا كان للفرس بعد انقطاع جريه جمامٌ قيل له عقابٌ، وهو من ذاك. ومن روى يومٍ سرمد فالسرمد قال الخليل: هو دوام الزمان واتصاله من ليل أونهار، واستدل بقوله تعالى: قل أرأيتم إن جعل الله عليكم الليل سرمداً إلى يوم القيامة، فيكون المعنى: بعقاب يومٍ طويلٍ يتصل زمانه، ويمتد بلاؤه. وأيام الغم والمحنة توصف بالطول، ولهذا قيل: مضى لفلانٍ يومٌ كأيامٍ، وشهرٌ كدهر.
قال الفرار السلمي
وكتيبةٍ لبستها بكتيبةٍ ... حتى إذا التبست نفضت لها يدي
هذا يتبجح بأنه مهياج شرٍ وأذى، وجماعٌ بين كتائب شتى تتقاتل من دونه، ثم يخرج هو من بينهم غير مبالٍ بما يجرون إليه، ولا مفكرٍ فيما ينتج من الشر فيهم. فيقول: رب كتيبةٍ خلطتها بكتيبةٍ، فلما اختلطت نفضت يدي منهم ولهم، وخليتهم وشأنهم. وكتيبة، ألحق الهاء بها لأنه جعل اسما، وهو من كتبت أي جمعت. وتوسعوا في النفض - وأصله الإلقاء والإماطة - فقيل: نفضت اليد من فلانٍ ولفلانٍ أشد النفض، إذا وكلته إلى نفسه، يائساً من رجعته، وفي ضده يقال: قبضت عليه كفي، وجمعت عليه يدي. وقد قالوا: نفضت الطريق أيضاً، وفرقت النفضة في الطرق. وذكر بعضهم أن قوله: حتى إذا التبست نفضت لها يدي وبها يدي، المراد به قنعت فرسي بسوطي، كأنه لما ضرب فرسه إنما نفض يده. يصف سرعة ضربه بالسوط، وأنه لا كلفة عليه به. قال: وهذه السرعة مستحبةٌ في ضرب السوط، كما يستحب في العمل بالسلاح. ومن روى بها يجوز أن يريد المخصرة. انتهت الحكاية عنه. والتعجب من إدراكه لهذا المعنى يمنع من الكلام عليه. فسبحان من لا يحتاج إلى التفسير.(1/141)
فتركتهم تقص الرماح ظهورهم ... من بين منعفرٍ وآخر مسند
قوله تقص أي تكسر في موضع الحال لهم. وكذلك قوله من بين منعفرٍ وآخر مسند والعامل في الأول تركتهم، وفي الثاني تقص. يقول: فارقتهم والرماح تختلف بالطعن بينهم، وتكسر ظهورهم، فهم من بين مصروع ألقي في العفر، وهو التراب، وآخر مطعونٍ أو مجروحٍ، وقد أسند إلى ما يمسكه وبه رمق.
ما كان ينفعني مقال نسائهم ... قتلت خلف رجالهم لا تبعد
قول ما كان يجوز أن يكون ما استفهاماً وكان تجعله الناقصة، ويجوز أن يكون نفياً وتجعل كان مؤكدةً، ونبه بهذا الكلام على أنه لو ثبت لم ينفعه الثبات. فيقول: أي شيء كان ينفعني قول النوادب لي لا تبعد وقد قتلت. ومعنى لا تبعد: لا تهلك. يقال بعد، إذا هلك، وبعد إذا نأى. وكانوا يدلون بهذه اللفظة عند الندبة بها على مساس الحاجة إلى حياة المندوب، وقلة الاستغناء عنه. وإذا كان كذلك فالوجه أن يندب به من كان محمود الحياة، وعزيز الفقدان. وقوله خلف رجالهم نبه على أنه لو ثبت لكان يدفع وجه الكتيبة، ويصير واقياً لأصحابه، وحائلاً بين الأعداء وبينهم، فلا يمكنهم تجاوزه إلا وقد فرغوا منه. فلهذا قال وقتلت خلف رجالهم. وموضع لا تبعد وهو حكايةٌ، رفعٌ أو نصبٌ على أنه بدلٌ أو مفعولٌ من مقال نسائهم. وقوله وقتلت، في موضع الحال للمضمر في ينفعني، والعامل فيه مقال أيضاً، وخلف رجالهم حالٌ للمضمر في قتلت.
وقال بعض بني أسدٍ
يديت على ابن حسحاس بن وهبٍ ... بأسف ذي الجداة يد الكريم
إنما عدي يديت بعلي، لأنه أجرى مجرى أنعمت. وهم يحملون النظير علىالنظير، كما يحملون النقيض على النقيض. وقال الأخفش: يقال يديت عنده وأيديت جميعاً، إذا اتخذت عنده صنيعةً، وإن كانت أيديت في هذا المعنى أشهر من يديت،(1/142)
لأن يديت اشتهر في أصبت يده، كما تقول: رأسته ووجهته وصدرته، إذا أصبت هذه الأعضاء منه. ومعنى هذا البيت: اتخذت عند هذا الرجل بهذا المكان يداً غراء، وصنيعةً شريفةً، مثلها يفعله الكرام. وقوله: يد الكريم نبه على هذا المعنى الذي ذكرناه، ويجب أن يكون مصدر يديت يدياً، مثل جريت جرياً، لكنه وضع اليد مكانه. فإن قيلك ما تنكر أن يكون اسم الحدث، وقد حذف لامه كما حذف من اسم العين؟ قلت: اسم الحدث لم يكثر كثرة اسم العين، وإذا كان حذف اللام من اسم العين حذف لكثرة الاستعمال، فيجب أن يكون اسم الحدث الذي لم يكثر استعماله لا يجري مجراه. وقوله: ابن حسحاسٍ من الحسحسة، وهو إحراق الجلد بالنار.
قصرت له من الحماء لما ... شهدت وغاب عن دار الحميم
القصر: الحبس والرد، ومنه القصر والقصارى: الغاية. والحماء: تأنيث الأحم، وهو الأسود من كل شيءٍ. والحمم: الفحم. وجارية حممةٌ، أي سوداء. وهذا تفسير النعمة التي اتخذها عنده. فيقول: لما وجدته جريحاً، وفي المعركة طريحاً، قد غاب عنه ذووه والمشفقون عليه، حبست عليه فرسي فأردفته. وجواب لما مقدم، وهو قصرت. كأنه قال: لما رأيته كذا حبست عليه فرسي. وحذف مفعول شهدت لأنه أمن الالتباس. وقوله: وغاب عن دار الحميم كان وجهه أن يقول: لما شهدته وغاب حميمه، لكن المعنى لا يخيل. والحميم: القريب المشفق. والحامة: خاصة الرجل من أهله وولده، ويقال هو الأحم من ذوي قرابته، أي الأخص.
أنبئه بأن الجرح يشوى ... وأنك فوق عجلزةٍ جموم
هذا ما تمم به الصنعة عنده، بعد أن ارتدفه، وذلك أنه سلاه بقوله الجرح يشوى، ومناه بقوله: وأنك فوق عجلزةٍ جموم. ويقال: رماه فأشواه، إذا أصاب غير المقتل. والجموم: الذي لا ينقطع جريه. والعجلزة: الصلبة. وبئرٌ جمومٌ من هذا، لأن ماءها يغور أحياناً ثم يعود ويغزر. والمراد: أن تبليغك المأمن به سهلٌ، وأن ما بك من الجرح هين.
ولو أني أشاء لكنت منه ... مكان الفرقدين من النجوم
يبين بهذا أنه تبرع بما فعل، وأنه لم يلزمه لزوم الواجب الذي لا يسوغ الإخلال به، فيقول: لو شئت لبعدت منه بعد الفرقدين من النجوم السيارة، وهي التي يحل(1/143)
فيها النيران، والفرقدان لا حلول فيه، وهذا يجري مجرى قولهم: هو مني مناط الثريا في أن المراد به التبعيد، ويجوز أن يريد بعدت منه بعد الفرقدين، ثم بين أن الفرقدين من النجوم، فيكون من النجوم تبييناًُ كقوله تعالى " فاجتنبوا الرجس من الأوثان ". ويجوز أن يريد بالنجوم نبات الأرض، لأن كل ما طلع فقد نجم، ويكون المعنى بعد الفرقدين من الأرض ومنابتها، ويكون في هذا المعنى شبه إلغازٍ فيضعف.
ذكرت تعلة الفتيان يوماً ... وإلحاق الملامة بالمليم
بين بهذا الكلام أنه اتقى بما فعل توجه الذم إليه من الناس، فيقول: أخطرت ببالي ما يتعلل به الفتيان في محافلهم ومجالسهم، وتقبيحهم من أخبار الناس ما يستحق بفعله أو بتركه عندهم ذمٌ، فيلحقون به اللوم، ويهجنونه في أحكام الفتوة. ومصدر قوله ذكرت الذكر بضم الذال لأن هذا كان بالقلب، والذكر بكسر الذال باللسان. والمليم: الذي يأتي بما يلام عليه. قوله تعلة مصدر عللته، فهي كالتقدمة والتكرمة. ويجوز أن يكون تسميتهم المعلل، وهو يومٌ من أيام العجوز، من هذا، كأنه يعلل الناس بشيء من تخفيف البرد.
وقال الشداخ بن يعمر الكناني
قاتلي القوم يا خزاع ولا يد ... خلكم من قتالهم فشل
يروى قالتوا وقاتلي على اللفظ مرة وعلى المعنى أخرى، وجعل النهي في اللفظ للفشل، والمراد لا تفشلوا. وهذا بعثٌ وتحضيض، فيقول: حاربي أعداءك يا خزاعة، ولا يتداخلكم الجبن والضعف منهم. وخزاعة، قال الخليل: هو من خزع عن أصحابه إذا تخلف، لأنهم تخلفوا عن قومهم بمكة أيام سيل العرم.
القوم أمثالكم لهم شعرٌ ... في الرأس لا ينشرون إن قتلوا(1/144)
يبين بهذا الكلام أنهم ناسٌ كما أن خزاعة ناسٌ، فيقول: لا تهابوهم فإن خلقتهم كخلقتكم، وإنهم إذا قتلوا لم يحيوا من فورهم، فيرجعوا إلى القتال. هذا مبالغةٌ في الاستحثاث والتجسير. وجعل قوله: له شعر في الرأس بما بعده، تفسيراً لماثلة وتبييناً. وجواب إن قتلوا فيما تقدم عليه.
أكلما حاريت خزاعة تح ... دوني كأني لأمهم جمل
قوله كأني لأمهم في موضع الحال، أي تحدوني مشبهاً جملاً لأمهم. وكلما ظرفٌ لقوله تجدوني. وكأنه قال: تحدوني خزاعة كلما حاربت، أي تسوقني لنصرها والدفاع عنها، كأني ناضحٌ لأمهم يستقى عليه الماء، فيقال له أقبل بالدلو وأدبر. وذكر الأم تغليظاً للقول وتخشيناً. وقوله أكلما، كأنه أقبل على إنسانٍ بعد أن كان بعثهم وجرأهم على قتال أعدائهم، فقال على طريق الإنكار ما قال.
وقال الحصين بن الحمام المري
تأخرت أستبقي الحياة فلم أجد ... لنفسي حياةً مثل أن أتقدما
يجوز أن يكون هذا مثل قولهم: الشجاع موقى. وفي طريقته قول الآخر:
أكان الجبان يرى أنه ... سيقتل قبل انقضاء الأجل
فقد تدرك الحادث الجبان ... ويسلم منها الشجاع البطل
ومثله قول الآخر:
نهين النفوس وهون النفو ... س يوم الكريهة أوقى لها
ويجوز أن يقول: أحجمت مستبقياً لعيشي، فلم أجد لنفسي عيشاً كما يكون في الإقدام، وذاك لأن الأحدوثة الجميلة، والنجح عند الناس في المباغي الحميدة، إنما يكون بالتقدم لا بالتأخر، وبالافتخار لا بالانحراف، ومن ذكر بالجميل وتحدث عنه(1/145)
بالبلاء الحسن حيي ذكره واسمه، وإن ذهب أثره وجسمه. وقوله: حياةً مثل أن أتقدم معناه حياةً تشبه الحياة المكتسبة في التقدم وبالتقدم.
فلسنا على الأعقاب تدمى كلومنا ... ولكن على أقدامنا تقطر الدما
أراد: لسنا نداميه الكلوم على الأعقاب. ولو لم يجعل الإخبار عن أنفسهم لكان الكلام ليست كلومنا بداميةٍ على الأعقاب. فيقول: نتوجه نحو الأعداء في الحرب ولا نعرض عنهم، فإذا جرحنا كانت الجراحات في مقدمنا لا مؤخرنا، وسالت الدماء على أقدامنا لا على أعقابنا. وقوله تقطر الدما إذا رويت بالتاء كان المعنى تقطر الكلوم الدم، فيكون الدما مفعولاً به. ويقال: قطر الدم وقطرته، وهذا وجهٌ حسن، وإن شئت جعلت الدم منصوباً على التمييز، كأنه أراد تقطر دماً، وأدخل الألف واللام ولم يعتد بهما، كقول الآخر:
ولا بفزارة الشعر الرقابا
ويجوز أن يروى يقطر الدما بالياء، ويكون الدما في موضع الرفع على أنه فاعل يقطر، لكنه رده إلى أصله فأتى به مقصوراً وإن كان الاستعمال يحذف لامه. ومثل هذا البيت قول القطامي:
ليست تجرح فراراً ظهورهم ... وفي النحور كلومٌ ذات أبلاد
نفلق هاماً من أناسٍ أعزةٍ ... علينا وهم كانوا أعق وأظلما
يقول: نشقق هاماتٍ من رجال يكرمون علينا لأنهم منا، وهم كانوا أسبق إلى العقوق وأوفر ظلماً، لأنهم بدءونا بالشر، وألجؤونا إلى القتال، ونحن منتقمون ومجازون.
وقال رجل من بني عقيلٍ
وحاربه بنو عمة فقتل منهم:
بكره سراتنا يا آل عمروٍ ... نغاديكم بمرهفةٍ صقال(1/146)
الكره بالضم: المشقة، والكره بالفتح الإكراه. وسراة القوم: خيارهم. فيقول: بمشقة رؤسائنا وكراهتهم نباكركم بسيوفٍ محددة الحد مصقولةٍ، وإنما قال بكرة سراتنا لأن الرؤساء يحبون التألف بين العشيرة وإصلاح ذات البين، وترك التدابر والاختلاف، إذ كان عز الرئيس بأصحابه، وحشمته في نفوس منابذيه بقوة ذويه وأقربائه. ويجوز أن يكون ذكر السراة والمراد الجميع. والمعنى: على كرهٍ منا نقاتلكم ولكنكم ألجأتمونا إليه. وجمع صقيلاً وهو فعيل بمعنى مفعول على صقالٍ وذلك على غير بابه، لأن التكسير على فعالٍ يكون في الأصل فعيلٍ إذا كان بمعنى فاعلٍ، نحو ظريفٍ وظرافٍ وكريمٍ وكرامٍ، ومثله قولهم فصيلٌ وفصالٌ، وساغ ذلك لاتفاقهما في الزنة والوصفية. وروى: بمرهفة الصقال، وتكون إضافة المرهفة إلى الصقال كإضافة البعض إلى الكل، لأن المعنى بالمرهفة الحد من الصقال، أي من السيوف المصقولة.
نعديهن يوم الروع عنكم ... وإن كان مثلمة النصال
قوله نعديهن أي نصرفهن. ويقال: عد الهم عنك، أي اصرفه. والبيت يحتمل وجهين: أحدهما أن يكون المعنى نصرف السيوف عنكم إبقاء عليكم، وكراهيةً لاستئصالكم، وإن كانت نصالها قد تفللت من كثرة ما نقارع بها الأعداء. ويجوز أن يكون المعنى: نصرفهاوإن تثلمت بكم وفيكم، لن القدرة تذهب الحفيظة، ولأن ما يجمعنا يدعو إلى البقيا، والأخذ فيكم بالحسنى.
لها لونٌ من الهامات كابٍ ... وإن كانت تحادث بالصقال
قوله من الهامات أي من دماء الهامات ومن التأثير فيها. يقول: لهذه السيوف لونٌ متغيرٌ قبيحٌ، لكثرة ما يسفك بها الدماء، وإن كانت يجدد صقلها كل يومٍ. والمحادثة: إعادة الماء إلى السيف بالصقل. وقد قال الحسن رحمه الله فيما حكي عنه من مواعظه: حادثوا هذه القلوب فإنها سريعة الدثور، واقدعوا هذه الأنفس فإنها طلعةٌ. وقوله كابٍ من قولهم كبا وجهه، إذا اربد واسود. وكبا نور الصبح والشمس، إذا نقص وأظلم. وجواب إن كانت فيما تقدم عليه، والجملة في موضع الصفة للمرهفة.
ونبكي حين نقتلكم عليكم ... ونقتلكم كأنا لا نبالي(1/147)
وصف حسن صبرهم، على ما يتفق من نائبةٍ، ويتجدد من عارض حادثةٍ، فيقول: نبكي قتلاكم إذا قتلناكم لما يجمعنا وإياكم من الرحم الماسة، والقرابة الدانية، ونقتلكم إذا أحوجتمونا إلى قتلكم، كأنا لا نبالي بما يمنع من ذلك، أو يدعو إلى الجزع له. وقوله نبالي نفاعل من البلاء. فإذا قال لا أباليه كأنه أراد: لا أحتفل به فأعاده بلائي وبلاءة وأفاخره. هذا أصله، وقد مضى. وحكى سيبويه: ما أباليه بالةً، وذكر أن البالة كالحانة، وأنا حذف ياؤه حذف تخفيف لا حذف قياسٍ.
وقال القتال الكلابي
نشدت زياداً والمقامة بيننا ... وذكرته أرحام سعرٍ وهيثم
يقال: نشدتك الله والرحم، وناشدتك الله، أي سألتك بالله وبالرحم. يقول: أقسمت على زيادٍ بالله وأهل المجلس بيننا حاضرون، ولما يأتيه كلٌ منا مشاهدون، وذكرته ما يجمعني وإياه من الرحم من جهة هذين الرجلين، وإنما ذكره بهذا على زعمه طلباً للصلح، أو استظهاراً بإقامة الحجج عليه، وإلقاء مغاليق البغي إليه.
فلما رأيت أنه غير منتهٍ ... أملت له كفى بلدنٍ مقوم
يقول: لما وجدته لا ينتهي بالقول، ولا يرعوي بالزجر، حذرت له كفى برمحٍ لينٍ مثقفٍ فطعنته. وقوله أملت له، أي من أجله كفى بلدنٍ، من فصيح الكلام، وبليغ الكنايات.
ولما رأيت أنني قد قتلته ... ندمت عليه أي ساعة مندم
يقول: لما بان لي إتيان تلك الطعنة عليه ندمت في وقتٍ لم تتفع الندامة فيه، لفوت الأمر في الإبقاء. وهذا في إظهار التحسر به كقول الآخر:
وددت وأين ما مني ودادي
وانتصب أي ساعةٍ على الظرف، لأن أياً لما كان للبعض من الكل جعل حكمه حكم المضاف إليه من جميع الأجناس.(1/148)
قيس بن زهير العبسي
شفيت النفس من حمل بن بدرٍ ... وسيفي من حذيفة قد شفاني
كان حمل بن بدر قتل مالك بن زهير أخا قيس، فظفر به وبأخيه حذيفة فقتلهما. يقول: اشتفيت بقتل حمل بن بدرٍ. ثم قال: وشفاني سيفي أيضاً من أخيه حذيفة، لأنه أتى عليه لما أعملته فيه. وهذا مما جرى بين عبسٍ وفزارة بسبب داحس والغبراء.
فإن أك قد بردت بهم غليلي ... فلم أقطع بهم إلا بناني
يقول: إن سكنت لوعتي بمجازاتهم، وبردت غلتي، فإني لم أقطع بهم إلا أطراف أصابعي. وذلك أن عزي كان بهم، وكانوا كالكف، فلما ماتوا وأعوزني التبجح بمكانهم، والاستعلاء على العدو بهم، صرت كمن قطعت أنامله. ومن الأمثال في هذه الطريقة: بالساعد تبطش الكف.
وقال الحارث بن وعلة الذهلي
الوعلة: الصخرة المشرفة من أعلى الجبل.
قومي هم قتلوا أميم أخيٍ ... فإذا رميت يصيبني سهمي
يقول: قومي، يا أميمة، هم الذين فجعوني بأخي ووتروني فيه، فإذا رمت الانتصار منهم عاد ذلك بالنكاية في نفسي، لأن عز الرجل بعشيرته، وهذا الكلام تحزنٌ وتفجعٌ وليس بإخبار.
فلئن عفوت لأعفون جللاً ... ولتن سطوت لأوهنن عظمي
عفا عن المذنب والذنب عفواً، إذا صفح. وحفذ حرف الجر فوصل لأعفون بنفسه. والكلام تحشرٌ وتوجع. يقول: إن تركت مؤاخذتهم، واطرحت طلب الانتقام منهم، صفحت عن أمرٍ عظيمٍ، وإن سطوت عليهم أضعفت عظمي، وهددت ركني. والجلل يزعم أهل اللغة أنه من الأضداد، يقع على الصغير والكبير، وها هنا يراد به(1/149)
الكبير. وكذلك في قوله:
ومن الأرزاء رزء ذو جلل
والسطو: الأخذ بعنف. وفي كل واحدٍ من المصراعين يمينٌ مضمرةٌ، جوابها في الأول لأعفون، وفي الثاني لأوهنن. واللام من لئن في الموضعين موطئة للقسم.
لا تأمتن قوماً ظلمتهم ... وبدأتهم بالشتم والرغم
حول الكلام عن الإخبار توجعاً على عادتهم إلى الخطاب، متوعداً. يقول: لا تسكن إلى ناحية قوم اهتضمتهم وبدأتهم بسبهم واطراحهم، وإسقاطهم وتذليلهم. وظلمتهم مع ما بعده من صفة القوم. والرغم مصدر رغمت فلاناً إذا قلت له رغماً أو فعلت به ما يرغم به أنفه ويذله. والرغام: التراب، وحكى الخليل: أرغمته: حملته على ما لا يقدر على الامتناع منه.
أن يأبروا نخلاً لغيرهم ... والقول تحقره وقد ينمى
موضع قوله أن يأبروا نصبٌ على البدل من قوماً من البيت الذي قبله، كأنه قال: لا تأمن أبر قومٍ ظلمتهم وأوحشتهم نخلاً لغيرهم. ويقال: أبرت النخل وأبرته، إذا ألقحته. وجعل هذا الكلام وعيداً في مفارقة القوم الذين وصفهم إياهم، وتقويتهم لأعدائهم بعد الانتقال إليهم، وإصلاحهم الفاسد من فخرهم وأمرهم نصرةً لهم، وجعل قوله أن يأبروا كناية عن هذا المعنى، كما قال طرفة:
ولي الأصل الذي في مثله ... يصلح الآبر زرع المؤتبر
وقد قيل: أراد: لا تأمن قوماً أسأت في معاملتهم أن يتركوا أرضهم وديارهم ويلحقوا بالأعداء فيأبروا نخيلهم ويتصرفوا في مهنهم، ليكونوا معهم عليكم. والأول أحسن وأغرب. وقوله والقول تحقره وقد ينمى يجوز أن يكون ضربه مثلاً في التهاون بما لا يجوز التهاون فيه، ويجوز أن يشير بالقول إلى ما يقوله في شعره هذا، ويريد أنه سيزداد بانضمام الفعل إليه.(1/150)
وزعمتم أن لا حلوم لنا ... إن العصا قرعت لذي الحلم
زعم زعماً وزعماً ومزعماً، وأكثر ما يستعمل فيه ما كان باطلاً أو فيه ارتيابٌ. ولذلك يقال: تزعم، أي تكذب؛ وزعم في غير مزعمٍ، أي طمع في مطمعٍ. وأن لا حلوم أن فيه مخففة من الثقيلة. أراد: زعمتم أنه لا حلوم لنا. والهاء ضميرٌ للأمر والحديث، ولا حلوم في موضع الخبر. أراد: وزعمتم أن الأمر والشأن لا عقول لنا، فإن كان الأمر على ما زعمتم فنبهونا أنتم، فإن عامر بن الظرب حكم العرب كان يقرع له العصا فينبه، لما كان يزيغ في الحكم لكبرته وسنه. وهذا الكلام تهكم وسخرية. ومثله قولك لمن أنكر عليك ما لا يشك في صلاحه وصحته: إن كان ذلك فاسداً فصححه أنت. وهذا ظاهرٌ. وذو الحلم الذي قرع له العصا مختلفٌ فيه، فتدعيه اليمن وتقول: هو عمرو بن حممة الدوسي، روى ذلك الشعبي عن ابن عباس رضي الله عنه. وتدعيه مضر، فتقول: هو عامر بن الظرب العدواني، وإياه عنى ذو الإصبع في قوله:
ومنهم حكمٌ يقضي ... ولا ينقض ما يقضي
وتدعيه ربيعة فتقول: هو قيس بن خالد الشيباني، وهو جد بسطام بن قيس بن مسعود بن قيس بن خالد.
ووطئتنا وطئاً على حنقٍ ... وطء المقيد نابت الهرم
يقول: أثرت فينا تأثير الحنق الغضبان، كما يؤثر البعير المقيد إذا وطئ هذه الشجيرة. وخص المقيد لأن وطأته أثقل، كما خص الحنق لأن إبقاءه أقل. والهرم: ضربٌ من الحمض، يقال جملٌ هارمٌ، وإبلٌ هوارم إذا رعت الهرم. وانتصب وطء المقيد على البدل، أي وطئاً يشبه هذا الوطء. ومما حكي عن العرب: أعوذ بالله من طئة الذليل، أي من أن يطأني، لأن وطأته أشد، لسوء ملكته، كما قال الآخر:
ولم يغلبك مثل مغلب
وعلى هذا قيل: ضربته ضربة الجبان، وضبطته ضبطة الأعمى.(1/151)
وتركتنا لحماً على وضم ... لو كنت تستبقي من اللحم
هذا مثلٌ يضرب في الانقياد والذل. ولذلك يقولون: النساء لحمٌ على وضمٍ إلا ما ذب عنه. يقول: تركتنا لا دفاع بنا، كاللحم على خوان الجزار يتناوله من شاء، لو كنت تترك منا بقية، وتطلب علينا بقية. والمعنى أنك تروم استئصالنا، فلست ترضى بالإذلال. وجواب لو فيما تقدم عليه.
وقال أعرابيٌ
قتل أخوه ابناً له فقدم إليه ليقتاد منه، فألقى السيف وهويقول:
أقول للنفس تأساءً وتعزيةً ... أحدى يدي أصابتني ولم ترد
التأساء: تفعال من الإسوة. ويقال إسوةٌ وأسوةٌ، فيضم أوله ويكسر، وانتصابه على أنه مصدرٌ في موضع الحال. أي أقول متأسياً بغيري، ومسلياً لنفسي: جنى علي أخي الذي محله مني محل إحدى يدي، سهواً لا إرادةً لمساءتي وخطأً لا عمداً. وقوله إحدى يدي في موضع المبتدأ وأصابتني خبره، وقوله ولم ترد في موضع الحال، والجملة في موضع النصب على أنه مفعول لقوله أقول.
كلاهما خلفٌ من فقد صاحبه ... هذا أخي حين أدعوه وذا ولدي
يقول: كل واحدٍ من الأخ الواتر والابن المفقود يصلح لأن يرضى به عوضاً من فقدان الآخر، فإن اقتدت من الأخ منتصفاً للابن فقدتهما جميعاً، فاستبقاني أخي هو على كل حالٍ أقرب وأعود.
وقال إياس بن قبيصة الطائي
ما ولدتني حاصنٌ ربعيةٌ ... لئن أنا مالأت الهوى لاتباعها
امرأةٌ حاصنٌ وحصانٌ، أي ممتنعة عن الرفث، عفيفةٌ. ومصدره الحصانة والحصن، وربعيةٌ: منسوبةٌ إلى ربيعة: وهذا الكلام خبر يجري مجرى اليمين، والام من لئن يؤذن بأن الكلام قسمٌ، فيقول: لست ابن امرأةٍ من بني ربيعة كريمةٍ عفيفة إن كنت شايعت الهوى وتابعته في طلب امرأةٍ: والمعنى: لست لرشدةٍ إن فعلت(1/152)
ذلك. ومالأت، مأخوذٌ من قولهم: هو مليءٌ بكذا، وقد ملؤ يملؤ ملاءة. وجواب الشرط فيما تقدم.
ألم تر أن الأرض رحبٌ فسيحةٌ ... فهل تعجزني بقعةٌ من بقاعها
قال الخليل: البقعة: قطعة من الأرض على غير هيئة التي إلى جنبها، واستشهد الشاعر لنفسه في إنكار ما انتفى من فعله بقوله: ألم تر أن الأرض، لأن ألم تر وإن كان لفظه لفظ الاستفهام، كلمةٌ يواقف بها المخاطب في تحقيق الأمور، وتثبيت الخطوب، وربما صحبها معنى التعجب. فيقول: إنك تعلم أن الأرض واسعةٌ عريضةٌ، وأن بقاعها لا تنبو بي، ولو نبت لم تعجزني، فكما أني في هذا بهذه الصفة، فكذلك أنا في الأول. ومذهب هذا الكلام مذهب قول القائل عند تحقيق أمر وتصويره للمخاطب: إن هذا حقٌ كما أني حاضرٌ، وكما أنك تسمع وتجيب.
ومبثوثةٍ بث الدبا مسبطرةٍ ... رددت على بطائها من سراعها
يقول: رب خيلٍ متفرقةٍ ممتدةٍ في وجه الأرض امتداد فراخ الدبا وتفرقها - والمعنى أنهم يموجون في انتشارهم، كما أن الجراد إذا انبثت ماج بعضها في بعض - أنا رددت أولها على آخرها، وحبست متقدماتها على متأخراتها، حتى لحقت الأعجاز بالصدور، واختلطت اللواحق بالسوابق. ويقال: هم يتهافتون تهافت الفراش، ويتماوجون تماوج الجراد.
وأقدمت والخطى يخطر بيننا ... لأعلم من جبانها من شجاعها
قوله والخطى واوه واو الحال. واللام من لأعلم لام العلة. يقول: تركت الإحجام، وآثرت الإقدام، ورماح الخط تختلف بالطعن، وتحكم للشجاعة على الجبن، لأتبين الضعيف من القوي، والمتقدم من المتخلف. والمعنى فعلت ذلك ليبين فضلي على غيري.
وقال رجل من بني تميم
وطلب منه ملك الروم فرساً يقال له سكاب فمنعه إياها:
أبيت اللعن إن سكاب علقٌ ... نفيسٌ لا تعار ولا تباع(1/153)
قوله علقٌ نفيسٌ أي مال يبخل به. وهذا كما يقال: هو علق مضنة. ويقال: عالقته بعلقي وعلقه، إذا خاطرته بكرائم المال. يقول: منعت أن تفعل ما تستحق به اللعن، إن فرسي سكاب متاعٌ نفيسٌ، وعلقٌ كريم، لا يعرض للبيع، ولا يبذل للإعارة. وسكاب إذا أعربته منعته الصرف، لأنه علمٌ، فلحصول التعريف فيه والتأنيث مع كثرة الحروف يمنع الصرف. والشاعر تميميٌ، وهذا لغة قومه. وإذا بنيته على الكسر أجريته مجرى حذام، لأنه مؤنث معدول معرفةٌ، فلمشابهته بهذه الأوصاف دراك ونزال يبنى، وهذه اللغة حجازية. واشتقاق سكاب من سكبت إذا صببت. ويقال في صفة الفرس: هو بحرٌ وسكب. وقوله: أبيت اللعن، تحيةٌ كان يستعطف به الملوك. وأصل اللعن: الطرد. وقول الشاعر:
ولكل ما نال الفتى ... قد نلته إلا التحيه
يعني إلا أن يقال لي: أبيت اللعن، لأنه تحية الملوك. وكأنه قال: نلت كل شيء إلا الملك.
مفداةٌ مكرمةٌ علينا ... يجاع لها العيال ولا تجاع
يقول: لعزتها على أربابها تفدى بالآباء والأمهات، وتؤثر تكريماً لها على العيال عند الإضافة والإفتار، فيجوع العيال ولا تجوع هذه.
سليلة سابقين تناجلاها ... إذا نسبا يضمهما الكراع
يقول: هي ولد فرسين سابقين، إذا نسبا ضم مناسبهما ومناصبهما الكراع، وهو فحلٌ كريم معروف. وسليله ألحق الهاء بها وإن كان فعيلاً في معنى مفعول، لأنه جعل اسمأً، كما تقول هي قتيلة بني فلان. ومعنى سل: نزع. ويقال: نجلا ولدهما وتناجلاه، بمعنى واحد، قال:
إذ نجلاه فنعم ما نجلا
وأصل الكراع في اللغة: أنفٌ يتقدم من الجبل، فسمي هذا الفحل به لعظمه. وأما الكراع الاسم الجامع للخيل، فهو غير ذا.(1/154)
فلا تطمع أبيت اللعن فيها ... ومنعكها بوجهٍ يستطاع
يقول: أرفع طمعك في تحصيل هذه الفرس، أبيت أن تأتي ما تستحق به اللعن، ودفعك عنها يقدر عليه بوجهٍ ما وبحيلة ما. والمعنى: إني لا أسعفك بها استبعتها أو استوهبتها، ما وجدت إلى الرد طريقاً، فلا تطمع فيه ما دامت لي هذه الحالة. وقوله ومنعكها أي منعك عنها. ويقال منعتك كذا، ومنعتك عن كذا، وأما المنعة العز فهو مصدرٌ كالحركة والجلبة من منع مناعةً مناعاً، فهو منيع.
وقالت امرأةٌ من طيئٍ
دعا دعوةً يوم الشرى يا لمالكٍ ... ومن لا يجب عند الحفيظة يكلم
يقول: استغاث هذا الرجل في يوم اجتماعنا بالشرى - وهو مكانٌ معروف اتفقت فيه وقعةٌ فنسب يومها إليه - استغاثةً وقال: يا لمالكٍ؛ ومن لا يجب. إذا استصرخ، ولم يغث إذا استنصر، يهتضم ويجرح. وقوله يا لمالكٍ اللام فيه للإضافة، وإنما فتح لأنه دخل على ما هو واقعٌ موقع المضمر، فكما يفتح لام الإضافة مع المضمر كذلك فتح مع المنادى لوقوعه موقعه. فإن قيل: فما المدعو؟ قلت: مالك، كأنهقال: دعائي لمالكٍ. والحفيظة: الخصلة التي يحفظ الإنسان عندها، أي يغضب. وكذلك الحفظة. قال:
وحفظةٍ أكنها ضميري
وقوله يكلم كناية عن الغلبة أو القتل.
فيا ضيعة الفتيان إذ يعتلونه ... ببطن الشرى مثل الفنيق المسدم
الفنيق: الفحل المفنق لا يركب لكرامته على أهله. والمسدم: الفحل الهائج الممنوع. ويقال: عتله يعتله ويعتله جميعاً، إذا قاده بعنف. ومعنى يا ضيعة الفتيان وإن كان لفظه لفظ النداء، معنى الخبر، كأنه قال: ضاع الفتيان جداً. فيقول على وجه التعجب والاختصاص: ما أضيع الفتيان في ذلك الوقت وفي تلك الحالة. كأنه لما لم ينصر في تلك الحالة ولم يحضره فتىً يعينه كان الفتيان ضائعين، إذ كانوا يعنفون في قودهم إياه، وهو كأنه فحل مشدود الفم خوفاً من صياله، فلا يناكر(1/155)
بنفسه، ولا يدافع أحد دونه. وذكر بعضهم أن هذا المقتول هو بهدل بن قرفة، أحد بني نبهان، وأخذ بسبب دم ابن جعدة المخزومي فقتل بالمدينة صبراً. وما اقتص في الأبيات يدل على خلافه.
أما في بني حصنٍ من ابن كريهةٍ ... من القوم طلاب التراث غشمشم
هذا الكلام بعثٌ وتحضيض لأبناء حصن. والغشمشم: الذي يركب رأسه ولا يهاب الإقدام على شيء. والكلام لفظة استفهامٌ، والمعنى معنى التمني، كأنه يبعث ويحضض من يطلب دمه إذ فات نصرته حياً. فيقول: أما في هذه القبيلة ابن حربٍ متناهٍ في طلب الدم وإدراك الثأر، ظلومٌ غشوم، يركب الكرائه والأمور الصعبة، غير مرعوٍ ولا منقبض.
فيقتل جبراً بامرئ لم يكن له ... بواءً ولكن لا تكايل بالدم
جبرٌ هو القاتل لولي هذه المرأة. ويقال: باء فلانٌ بفلان يبوء بواءً، إذا ارتضى لقتله بدلاً منه. وأبأت فلاناً بفلانٍ، أي قتلته. وانتصب يقتل على أنه جواب التمني بالفاء، والعامل في الفعل أن مضمرة، أي أما فيهم رجلٌ هكذا فيقتل هذا الرجل برجل لم يكن له نظيراً، فيكون في دمه وفاءٌ بدمه، ولكن سقطت المكايلة في الدماء منذ جاء الإسلام، فلا يقتل بدل الواحد إلا واحدٌ، شريفاً كان أو وضيعاً.
وقال بعض بني فقعسٍ
رأيت موالي الأولى يخذلونني ... على حدثان الدهر إذ يتقلب
الموالي ها هنا: أبناء العم. والأولى في معنى الذين، ويخذلونني من صلته. يقول: رأيت أبناء عمي هم الذن يقعدون عن نصرتي على تقلب الزمان، وتصرف الحدثان. وقوله على حدثان الدهر في موضع الحال، أي يخذلونني مقاسياً لما يحدث في الدهر أوان تقلبه وتغيره.
فهلا أعدوني لمثلي تفاقدوا ... إذا الخصم أبزى مائل الرأس أنكب
قوله: تفاقدوا دعاء، وقد اعترض بين أول الكلام وآخره، ولكنه أكد مايقتصه فصلح لذلك. يقول: هلا جعلوني عدة لرجلٍ مثلي، فقد بعضهم بعضاً وقد جاءهم(1/156)
الخصم متأخر العجز مائل الرأس منحرفاً. وهذا تصويرٌ لحال المقاتل إذا انتصب في وجه مقصوده، وهو أبلغ في الوصف من كل تشبيه، ومثله قول الآخر: جاءوا بمذقٍ هل رأيت الذئب قط ألا ترىأنه صور لون المذق لما قال: هل رأيت الذئب قط؟ وقوله: إذا الخصم هو حكاية الحال المتوهمة، وهو الرواية المختارة. وقد روي: إذا الخصم والجملة التي تبين بها إذا هذه يجب أن يكون فيها فعلٌ، وقد عريت منه ها هنا، وأظن أن الأخفش جوز مثله. والمعنى: لم أفاتوني أنفسهم، وهلا ادخروني ليوم الحاجة إذا كان الخصم هكذا. وأراد بالخصم الجنس. وقال الأصمعي: البزي: تأخر العجز. وقال غيره: هو إشراف وسط الظهر على الإست. والبيت يشهد للأصمعي. والنكب: شبه الميل في المشي ومنه الأنكب من الإبل، وهو الذي يمشي في شق.
وهلا أعدوني لمثلي تفاقدوا ... وفي الأرض مبثوثٌ شجاعٌ وعقرب
الكلام في تفاقدوا وأنه دعاءٌ واعتراض، على ما مر. وإنما وكرر ما كرره على وجه التأكيد، وتفظيعاً للأمر. والمعنى: هلا جعلوني عدة لرجلٍ مثلي في البأس، فقد بعضهم بعضاً. وقد انتشر في الأرض أعداءٌ كثيرة، وأنواعٌ من الشر فظيعة. والشجاع: الحية. وكنى بالعقرب وبه عن الأعداء والشر. وارتفاع شجاعٌ، يجوز أن يكون على البدل، ويجوز أن يكون على الابتداء ومبثوثٌ خبرٌ له قدم عليه، ويجوز أن ينصبمبثوث على الحال، ويجعل في الأرض الخبر. ولم يثن مبثوث لأن القصد بالشجاع والعقرب إلى خيل الأعداء والشر، فكأنهما شيءٌ واحد.
فلا تأخذوا عقلاً من القوم إنني ... أرى العار يبقى والمعاقل تذهب
لك أن ترفع المعاقل على الاستئناف، ولك أن تحمله على ما قبله فتطفه على العار. يقول: لا ترغبوا في قبول الدية فإنه عارٌ، والعار يبقى أثره، والأموال تفنى. والمعاقل: جمع المعقلة. والمعقلة والعقل: الدية، وأصله الإبل كانت تعقل بفناء ولي المقتول، وهو مصدرٌ وصف به. وحكى الأصمعي: صار دمه معقلةً على قومه، أي صاروا يدونه.(1/157)
كأنك لم تسبق من الدهر ليلةً ... إذا أنت أدركت الذي كنت تطلب
يقول: من أدرك ما طلبه من الثأر فكأنه لم يصب ولم يوتر. وهذا بعث وتحضيض على طلب الدم والزهد في الدية. وفي طريقته قول الآخر:
كأن الفتى لم يعر يوماً إذا اكتسى ... ولم يك صعلوكاً إذا ما تمولا
لكن هذا بعثٌ على طلب المال.
وقال آخر:
فلو أن حياً يقبل المال فديةً ... لسقنا لكم سيلاً من المال مفعما
انتصب فديةً على الحال من المال، والمراد به الإبل لا غير، ونكر قوله حياً وهو يقصد به قصد حيٍ بعينه، لأن المراد كان مفهوماً عند من عرف القصة، فجعله كالتعريض. وقوله سيلاً مفعما والسيل يفعم به الشيء، يجوز أن يكون من باب همٌ ناصبٌ وما أشبهه، ويكون المعنى سيلاً ذا إفعامٍ، ولكن أكثر ما يجيء معنى النسبة فيما كان للفاعل، كطالقٍ ومرضعٍ. ومثله قولهم نخلةٌ موقرٌ. ويجوز وهو الأجود أن يكون عبر عن الكثرة بقوله مفعم كما عبر في قولهم شعرٌ شاعرٌ وموتٌ مائتٌ عن التناهي بلفظ فاعل، وإن كان الموت لا يموت، والشعر لا يشعر، كما أن السيل لا يفعم. وقد قيل امرأةٌ فعمة المخلخل، أي غليظةٌ كثيرة اللحم عليه. والمعنى: لو كانت معاملتنا مع حيٍ يرى قبول المال فداءً لأرضيناه بالمال الكثير.
ولكن أبى قومٌ أصيب أخوهم ... رضى العار واختاروا على اللبن الدما
يقول: ولكن امتنع قومٌ أصبنا صاحبهم من الرضا بالدنية، وآثروا طلب الدم على قبول الدية. وجعل اللبن كنايةً عن الإبل تؤدي عقلاً، لأنه منها، وكما نكر حياً في البيت الأول نكر أيضاً في الثاني قوله أبى قومٌ، والغرض بهما على حدٍ واحد، ولا يجوز أن يكون يقبل المال فديةٌ صفة لقوله حيا، لأنه يبقى أن بلا خبر. فأما قوله أصيب أخوهم فهو صفةٌ لقوله قومٌ. وقوله رضى العار العار في موضع المفعول، أي أبوا أن يرضوا العار خطةً لأنفسهم.(1/158)
وقالت كبشة أخت عمرو بن معد يكرب
أرسل عبد الله إذ حان يومه ... إلى قومه لا تعقلوا لهم دمي
الشعر لكبشة أخت عبد الله. والكلام بعثٌ وتهييجٌ. وإنما تكلمت به على أنه إخبارٌ عما فعله عبد الله وأقامه من الوصاة عند الوفاة، فتقول: راسل عبد الله بن معد يكرب لما دنا أجله قومه وذويه، بأن لا يعقلوا دمي. وإن كانت آمنةً من ميلهم إلى قبول الدية، فغلظت القول لتهتاج حميتهم. ويقال عقلت فلاناً، إذا أعطيت ديته. وجعل هذا المفعول الدم لأن المراد مفهوم، كأنه قال: لا تأخذوا بدل دمي عقلاً. ويقال عقلت عن فلانٍ، إذا غرمت عنه دية جنايته أو أرشها.
ولا تأخذوا منهم إفالاً وأبكراً ... وأترك في بيتٍ بصعدة مظلم
الإفال: جمعٌ وواحده أفيل، وهي صغار الإبل، والأبكر: جمع البكر، وهو الفتى منها. يقول: لا تأخذوا من قتلتي صغار الإبل وبكارتها، فتتركوني في قبرٍ مظلم بصعدة؛ وهو مكان باليمن. وإنما جعل قبره هكذا، لأنهم كانوا يزعمون أن المقتول إذا ثأروا به أضاء قبره، فإن أهدر دمه أو قبلت ديته بقي قبره مظلماً. فإن قيل: لم ذكر الإفال والأبكر وما يؤدي في الديات لا يكون منهما؟ قلت: أراد تحقير الديات، وهذا كما يقول الرجل إذا أراد تحقير أمر خلعةٍ خاز بها إنسانٌ: إنما أعطي خرفاً وفلوساً! وإن كانت الثياب المعطاة كسوةً فاخرةً، والمال الموفر جائزةً سنيةً. وانتصب وأترك بإضمار أن وهو جواب النهي بالواو.
ودع عنك عمراً إن عمراً مسالمٌ ... وهل بطن عمرٍو وغير شبرٍ لمطعمٍ
عمرو هو أخوها، وكان يعد بألف فارس، ولم يكن ممن يسالم ولا سيما في طلب دم أخيه. وإنما رمته بهذا الكلام لتهيج منه وتبعثه على التعجل في درك الثأر والتسرع في الانتقام. وقوله: " وهل بطن عمرٍو غير شبرٍ لمطعم " تزهيدٌ في الدية، وهذا كما روي في الخبر: " وهل بطن ابن آدم إلا شبرٌ في شيرٍ " لما أريد تزهيده في الدنيا وحطامها. أي ما يصنع بالمال وجوفه يمتلئ باليسير. وعمرٌو لم يكن ممن(1/159)
يميل إلى الدية، كما لم يكن يميل إلى المسالمة، ولكن المراد ما ذكرناه من التحضيض والحث.
فإن أنتم لم تثأروا واتديتم ... فمشوا بآذان النعام المصلم
الصلم: قطع الأذن من أصلها، ومنه الصليم: الداهية المستأصلة. واتديتم، معناه قبلتم الدية. يقال: وديته فاتدى، كما يقال وهبته فاتهب، أي قبل الهبة. وفي الحديث: " هممت ألا أتهب إلا من قرشيٍ أو أنصاري " ومثله قضيته الدين فاقتضاه، أي قبله وتوفره. وقوله: " فمشوا " أي امشوا. وضعف الفعل للتكثير. ومن روى " فمشوا " بضم الميم فمعناه امسحوا؛ ويقال لمنديلٍ الغمر: المشوش. والمعنى: إن لم تقتلوا قاتلي وقلتم ديتي فامشوا أذلاء، بآذانٍ مجدعةٍ كآذان النعام. ووصف النعام بالمصلم تصويراً لها، وإن كانت خلقة جميعها ذلك. ومن أحاديثهم عن البهائم: " ذهبت النعامة تطلب قرنين فجدعت آذانها ". ومن روى " فمشوا " فامعنى امسحوا بآذانكم مجدعةً مثلةً بكم كآذان النعام.
ولا تردوا إلا فضول نسائكم ... إذا ارتملت أعقابهن من الدم
ترمل وارتمل إذا تلطخ بالدم. قال:
إن بني رملوني بالدم
ويجوز أن يكون هذا الكلام دعاء عليهم، أي أحلكم الله محل من ذا صفته. وعلى هذا يكون قوله " فمشوا " من البيت الأول أيضاً. وإن شئت جعلته تهياً، وفمشوا أمراً. والمعنى: إذا فعلتم ذلك فتأخروا في المواطن كلها والمناجع، وتخلفوا عن المشاهد والموارد، والبسوا الذل راضين به، فإن مآل أمركم مع تضييعكم دم صاحبكم إلى مثل ذلك. وكان عادتهم إذا وردوا المياه أن يتقدم الرجال ثم العضاريط والرعاة، ثم النساء، إذا صدرت كل فرقةٍ عنه، فكن يغسلن أنفسهن وثيابهن ويتطهرن آمناتٍ مما يزعجهن غير مستعجلات، فمن تأخر عن الماء حتى تصدر النساء فهو الغاية من(1/160)
الذل. وجعل النساء مرتملات بدم الحيض تفظيعاً للشأن، وتدنيساً للماء. والأعقاب واحدها عقبٌ، وهو موخر الرجل. يقال: ولى على عقبيه، إذا انصرف راجعاً عن مطلوبه.
وقال عنترة بن الأخرس المعنى من طيئ
أطل حمل الشناءة لي وبغضي ... وعش ما شيت فانظر من تضير
يقال: شنئته شناءة وشنئاً وشناناً ومشنأةً، إذا كان بغضاً مختلطاً بعداوةٍ وسوء خلقٍ، كما أن الشنف اسمٌ لشدة العداوة. يقول: أدم احتمال الضغائن والبغض لي، وعش مدة مشيئتك فتأمل من يضره ذلك. ويقال ضاره يضيره، وضره يضره بمعنىً واحد. وانتصب موضع ماشيت على أنه ظرفٌ. و " من " مفعول تضير، لأنه استفهام فلا يعمل فيه ما قبله. أي انظر تضير من.
فما بيديك خيرٌ أرتجيه ... وغير سدودك الخطب الكبير
بين وجه استهانته به، وقلة مبالاته ببغضائه وعداوته. فيقول: لا نفع عندك أعلق رجائي به، وغير إعراضك هو الخطب الكبير، فأما إعراضك فأهون به وأحقر بكونه. وأرتجيه، في موضع الصفة للنفع، أي نفعٌ مرتجىً.
ألم تر أن شعرك سار عني ... وشعري حول بيتك ما يسير
هذا تقريرٌ له في بيان فضله عليه، وسلامة عرضه من قرفه إياه. يقول: ألم تعلم أن شعرك الذي قلته في لم يعلق بي ذمه، لأنه كان كذباً وزوراً، وشعري الذي قلته فيك يطوف حول دارك وبيتك ولا يفارقك، لأنه كان صدقاً. ويجوز أن يكون المعنى: ألم تر أن شعري الذي قلته فيك سار عني، لأن الرواة احتملوه استجادةً له واستلذاذاً، وشعرك الذي قلته في ملازمٌ لك لزهد الناس فيه لما كان سفسافاً. وساغ الوجهان جميعاً لأن المصدر يضاف إلى المفعول كما يضاف إلى الفاعل، فعلى ذلك(1/161)
جاز أن يقول شعرك ويريد شعري المقول فيك. وروى بعضهم:
ألم تر أن شعري سار عني ... وشعرك حول بيتك ما يسير
وهذا الراوي صرح بالتفسير الثاني.
إذا أبصرتني أعرضت عني ... كأن الشمس من قبلي تدور
في طريقته قول أوس:
إذ يشزرن إلي الطرف عن عرضٍ ... كأن أعينهم من بغضتي عور
يقول: إذا رميتني ببصرك لم يمكنك ملؤه مني بغضاً وعداوة، حتى تعرض عني فعل الناظر إلى الشمس، فكأن الشمس تدور من جهتي. فأما قول الآخر:
نظرٌ يزل مواطئ الأقدام
فهو صفة نظر المهيب المعظم. وفي نظر الناظرين على اختلافهم ما يستدل به على أحوالهم، وسنذكر ما يجيء عنه مبيناً من بعد.
وقال الأحوص بن محمد
إني على ما قد علمت محسدٌ ... أنمي على البغضاء والشنآن
علمت بمعنى عرفت، ولهذا اكتفى بمفعولٍ واحدٍ. ومعنى البيت. إني مرموقٌ محسودٌ على ما قد عرفته من أحوالي، زائدٌ كل يومٍ على بغضاء الناس وشنآنهم لي، ويكون قوله " على ما قد علمت "، وقوله " على البغضاء " جميعاً في موضع الحال. والعامل في الأول قوله محسدٌ، وفي الثاني أنمي. ويجوز أن يكون على ما قد علمت من صلة محسدٍ، كما تقول حسدته على كذا. وقال بعض الناس: الشنآن: بغضٌ يختلط به عداوة وسوء خلق، فلهذا جاز الجمع بينه وبين البغضاء. وقال غيره: بل هما بمعنى واحد، واللفظان إذا اختلفا على اتفاق معناهما جاز الجمع بينهما تأكيداً.(1/162)
واحتج بقوله:
وهندٌ أتى من دونها النأي والبعد
قال: ولا خلاف بين أهل اللغة أنه لا فصل بينهما.
ما تعتريني من خطوب ملمةٍ ... إلا تشرفني وتعظم شاني
أضاف الخطوب إلى ملمةٍ لأنه أراد بها أوائل أمر عظيم، وجوانب شرٍ فظيع. وأصل الخطب الطلب، يقال خطبت كذا فأخطبني، كما تقول طلبته فأطلبني، فكأنه أراد أوائل ملمةٍ وأسباباً لها تطلبه. ويقال: هذا خطب أمرٍ عظيم، وهذا خطب أمرٍ يسير. فيقول: ما يطرق ساحتي أسباب نازلةٍ شديدةٍ إلا عظمت شأني، ورفعت قدري، لأنه يعرف بلائي فيها، وحسن مخلصي منها، فازددت في عيون الناس وقلوبهم.
فإذا تزول تزول عن متخمطٍ ... تخشى بوادره لدى الأقران
المتخمط: المتغضب له سورةٌ والتهابٌ، واستعير في آذي البحر وأمواجه إذا التجت. قال:
خمط التيار يرمي بالقلع.
يقول: إذا انكشفت تلك الخطوب والملمات انكشفت عن رجلٍ متكبرٍ يخاف فلتاته وبدراته عند نظرائه في البأس والشدة. والمعنى: إن الدواهي إذا نزلت بساحتي لا تلين لها عريكتي، ولا تحصل علي تذللاً لم يكن من قبل لي. وقوله: " تخشى بوادره " في موضع الصفة للمتخمط. ولم يرض حتى يجعل البوادر مخشيةً عند أشباهه، فكملت الصفة، وتمكنت القافية.
إني إذا خفي الرجال وجدتني ... كالشمس لا تخفى بكل مكان(1/163)
إني إذا خفي مواقعهم من قلوب الرؤساء، ومواضعهم من صدور المجالس فأنا بخلافهم. يصف اشتهاره في الأماكن وجلالته في النفوس، فيقول: إذا غشي الرجال خمولٌ ألفيتني في شهرتي ونباهتي كالشمس التي يتصل شعاعها بكل مكان، ويعرف شأنها في كل نفسٍ وكل زمانٍ.
قال الفضل بن العباس بن عتبة بن أبي لهبٍ
مهلاً بني عمنا مهلاً موالينا ... لا تنبشوا بيننا ما كان مدفونا
المهل والمهل والمهلة تتقارب في أداء معنى الرفق والسكون. ويقال: لا مهل لك، ومالك من مهلٍ. قال:
يقولون مهلاً يا جميل وإنني ... لأقسم ما بي عن بقينة من مهل
يقول: رفقاً يا بني عمنا، رفقاً موالينا. وهذا التكرار يريد به التأكيد. ويجوز أن يكون هذا الكلام تهكماً، ويجوز أن يكون رآهم ابتدءوا في أمر لم يأمن معه من تفاقم الشأن، واستفحال الخطب، ما لا يقدر على تلافيه، فاسترفقهم لذلك. وقوله: " لا تنبشوا بيننا " أي لا تثيروا ما كان مستوراً من الشر. وذكر الدفن والنبش استعارةٌ في الإظهار والكتمان.
لا تطمعوا أن تهينونا ونكرمكم ... وأن نكف الأذى عنكم وتؤذونا
يقال: طمع فلانٌ في كذا طمعاً وطماعيةً ومطمعاً. وأوصل الفعل بنفسه من دون في، لأن أن الخفيفة والشديدة إذا اتصل بها حروف الجر حسن حذفها لطول الكلام بها. تقول: أنا راغبٌ في أن ألقاك، وطامعٌ في أن يحسن زيدٌ إليك، وحريصٌ على أن أصلك. ولو قلت: أنا راغب أن ألقاك، وطامع في أن يحسن زيد إليك، وحريص على أن أصلك لجاز. ولو جعلت مكان أن المصدر فقلت: أنا راغبٌ في لقائك،(1/164)
وطامعٌ في إحسان زيدٍ إليك، وحريصٌ على صلتك، لم يجز حذف حرف الجر. لا تقول: أنا راغب لقاءك، وطامع إحسانه إليك، وحريصٌ صلتك؛ لأن ما كان يطول الكلام به لم يحصل. يقول: لا تقدروا أنكم إذا أهنتمونا قابلناكم، بالإكرام، وأنكم إذا آذيتمونا كففنا عن أذاكم، لأن عزتنا تمنع من ذلك.
مهلاً بني عمنا عن نحت أثلتنا ... سيروا رويداً كما كنتم تسيرونا
هذا الكلام فيه تهكم فيقول رفقاً يا بني عمنا عن ثلبنا، والوقوع فينا، وسيروا على هينةٍ ووقارٍ، وسكينةٍ وانخفاض، على عادتكم المتقدمة، وسنتكم المعهودة، ودعوا ما استأنفتموه من الأخلاق المنكرة، والسير الذميمة. والأثلة: شجرةٌ تجعل مثلاً للعرض، فيقال: فلانٌ ينحت أثلة فلانٍ، إذا ذمه وتنقصه. وقوله " سيروا رويداً " أراد سير واسيراً ترودون فيه، أي ترفقون فيه وتسكنون. " كما كنتم تسيرونا " أي ارجعوا إلى مثل سيرتكم الأولى، وإلى طريقتكم المثلى، واتركوا ما ابتدعتموه، فإنا لا نحتمله ولا نصابركم عليه. وروى بعضهم بدلاً من المصراع الثاني:
مهلاً بني عمنا مهلاً موالينا
ويحمل التكرار فيه على أنه توعد وتأكيد.
الله يعلم أنا لا نحبكم ... ولا نلومكم ألا تحبونا
استشهد بربه في انتفاء الحب عن قلوبهم، وذكر أنهم لا يلومونهم إذا لم يحبوهم. كأن المعنى أن القلوب مجبولةٌ على حب المحسن وبغض المسيء، فإذا ارتفع التعامل بالإحسان مما بينهم، وحدث التجاذب بالإساءة فيهم، فالتحاب لا محالة ساقطٌ، والتباغض حاصل.
كلٌ له نيةٌ في بغض صاحبه ... بنعمة الله نقليكم وتقلونا
يقول: كل واحدٍ منا ومنكم من قبل وإلى الآن له نيةٌ صادقة لصاحبه في العداورة والبغضاء، وعقيدةٌ خالصة في القطيعة والجفاء، فبحمد الله ومنه وجزيل منحه قد استمر أمرنا على أنا نبغضكم وتبغضوننا. وقوله " بنعمة الله " هو كما جاء في القرآن: " ما أنت بنعمة ربك بمجنونٍ ". وقوله " نقليكم وتقلونا " إشارةٌ إلى الحال. وحذف المفعول من الثاني لأن في الكلام ما يدل عليه. ويجوز أن يكون أراد(1/165)
وتقلوننا فحذف الثانية عن الإعراب، وهي لغة حجازية. ومثله:
قد رفع الفخ فماذا تحذري
يريد تحذرين، وعلى هذا قول الآخر:
إلى من بالحنين تشوقيني
وهذا يؤيد مذهب سيبويه في تجويزه للشاعر حذف حركة الإعراب عند الضرورة.
وقال الطرماح بن حكيم الطائي
لقد زادني حباً لنفسي أنني ... بغيضٌ إلى كل امرئٍ غير طائل
قوله " أنني بغيض " في موضع الفاعل، والمعنى: زادني بغاضتي إلى كل رجلٍ لا فضل فيه ولا خير عنده، حباً لنفسي، لأن التمايز بيني وبينه والتباين، هو الذي أداه إلى بغضي، ولو كان بيننا تشاكلٌ وتقارب لما نبا عني ولا أبغضني. وهذا الكلام تعريضٌ بمنابذٍ له. وقوله " غير طائل " هو من طال عليهم يطول طولاً. والطول: الفضل. وقال الخليل: يقال للشيء الدون الخسيس: هذا غير طائل، والمذكر والمؤنث فيه سواء. ويقال: زدت فضلاً كما يقال ازددت فضلاً وزادنيه كذا.
وأني شقيٌ باللئام ولا ترى ... شقياً بهم إلا كريم الشمائل
قوله " وإني شقيٌ " أصله أنني، لكنه حذف النون الأولى من أن تخفيفاً لأنه اجتمع ثلاث نونات. وهو محمول في الإعراب على أنني في البيت الأول ومعطوف عليه، فيقول: وزادني حباً لنفسي أيضاً شقوتي باللئام حتى تنقصوني واغتابوني، ثم قطع الإخبار وكأنه أقبل على مخاطبٍ ملتفتاً إليه فقال: ولا ترى أحداً يشقى بهم إلا وهو كريم الطبائع، مجانب لهم بعرضه وأصله، وخلقه وفعله. ويقال شقيت شقوةً(1/166)
وشقاوة وشقاءً. والشمائل: الطبائع، واحدها شمالٌ. قال:
ألوم وما لومي أخي من شماليا
ثم يقال: هو حسن الشمائل، والمراد به الهيئة والشكل.
إذا ما رآني قطع الطرف بينه ... وبيني فعل العارف المتجاهل
رجع إلى اقتصاص الحال بينه بين من عرض به فيقول: إذا أبصرني المباغض لي ارتد طرفه عني، وقطع نظره إلي، فعل من يعرف الشيء ويتكلف جهله. وقوله " قطع الطرف بينه "، الطرف: مصدر طرفته، إذا أبصرته. وعلى هذا قوله:
تحسب الطرف عليها نجدةً
وقد يراد بالطرف العين أيضاً فيكون اسماً للجارحة والحدث جميعاً. وانتصب " فعل العارف " على المصدر مما دل عليه قطع الطرف بينه وبيني. والمتجاهل: متكلف الجهل. وعلى هذا: تعامى، وتعارج، وتخازر. وفي طريقته لفظاً ومعنىً قول الآخر:
تشاوس يزيد إنني من تأمل
ملأت عليه الأرض حتى كأنها ... من الضيق في عينيه كفه حابل(1/167)
يقال: ملأت عليه الأرض، إذا ضيقتها عليه. وملأت منه الأرض، إذا قمت وقعدت بذكره. والحابل: ناصب الحبالة. ويقال حبلت الصيد واحتبلته، إذا أخذته؛ وتوسعوا فيه فقالوا: احتبله الموت بحبائله. والكفة، يجوز أن يريد به الحفيرة التي ينصب الحابل فيها الحبالة. ويجوز أن يريد بها قترته، ويجوز أن يريد بها عين الحبالة، لأنها تجعل كالطوق. وهذا أقرب لأن الخليل فسر الكفة على ذلك. وجاء إضافتها إلى الحابل كما يجوز إضافة نفس الحبالة إليه، والمعنى: ضيقت عليه الأرض على اتساعها، لشدة بغضه لي، أي حتى كأنها برحبها في عينيه كفة حابل إذا اجتمع فيها معي. وهذا يشير إلى تضاد الطبعين، وتباين الخلقين، وأنه لو أمكنه لانتفى وجوده في الأرض انتفاء الضد للضد، قلة موافقةٍ وكثرة مخالفة.
وقال بعض بني فقعسٍ
وذوي ضبابٍ مظهرين عداوةً ... قرحي القلوب معاودي الإفناد
يقول: رب قومٍ ذوي أحقادٍ وضغائن، مجاهرين بعداوتي، مراجعين حالاً بعد حالٍ قول الفحش في، متقرحي الأفئدة لشدة الحسد والبغض لي، فعلت بهم كذا. وجواب رب فيما بعد. وذكر قرح القلب مثلاً في العداوة، كما يذكر مرضه مثلاً في النفاق. على ذلك قول الله تعالى: " في قلوبهم مرضٌ فزادهم الله مرضاً ". فأما ذكر الصعر والشوس فهو من هذا الباب، لكنه تصوير حال المباغض أو المتكبر في نظره، أو إقباله أو التفاته، وكذلك ما يشبهه. وقوله " معاودي الإفناد " الإفناد بكسر الهمزة: مصدر أفند الرجل، إذا أتى بالفند. وإذا روي " الأفناد " بفتح الهمزة فهو جمع الفند، وهو الفحش والخطأ في الرأي. ويقال في اللوم: فندته، لأنه يجمع تخطئة الرأي وذكر القبيح. والضباب: جمع الضب، وهو الحقد. قال:
يا رب ذي ضغنٍ وضبٍ فارض
ويقال: فلان خبٌ ضبٌ، إذا كان منكراً في المعاداة.(1/168)
ناسيتهم بغضاءهم وتركتهم ... وهم إذا ذكر الصديق أعاد
يقول: رب قومٍ هكذا أنا نسيت بغضهم لي حتى نسوا أيضاً - لأن المناساة تكون من اثنين فصاعداً - وتركتهم وهم من جملة الأعداء، إذا ميزت بالذكر الأصدقاء. وقوله " الصديق " أراد به الجنس.
كيما أعدهم لأبعد منهم ... ولقد يجاء إلى ذوي الأحقاد
يقول: لم أكاشفهم، ولا أظهرت لهم علمي بعداوتهم، بل استمررت في مداجاتهم ومساترتهم، وعركت بجنبي ما بدر من هفواتهم، طلباً لأن أعدهم لمن هو أبعد شأواً في العداوة، أو أشد تأخراً في الالتحام والقرابة. ثم قال: ولقد يضطر الإنسان إلى نصرة بني الأعمام وإن كانوا منطوين على ضغائن، فإذا قاتل ببعضهم بعضاً لاءمه ذلك ووافقه، وحصلت الدبرة على من حصل، إذ كان فيه تفانيهم، واشتفاء الصدور منهم. وهذا كما قيل لبعض حكماء العرب ما تقول في ابن العم؟ قال: عدوك وعدو عدوك.
وقال يزيد بن الحكم
دفعناكم بالقول حتى بطرتم ... وبالراح حتى كان دفع الأصابع
يقول: درجناكم في استبقائكم ورتبنا القول والفعل في استفاءتكم وإصلاحكم، فوعظناكم أولاً باللسان وضرب الأمثال في الجدال، حتى أبطركم ذلك وزادكم إغراءً، فارتقينا من القول إلى الدفع بالراح، وتقبيح ما تأتونه بأحسن المس، فلما لم يغن شيءٌ من ذلك عدلنا منه إلى الدفع بالأصابع، وما بين هذه المنازل من التفاوت في الخشونة والليان معلومٌ عند ذوي الألباب. ومر بي فيما قرأته من مجاوبات قريش، أن بعضهم قال لآخر منهم مستضعفاً لما أورده عليه: هذا دفع بالراح! فقال مجيباً: كلا إن معها الأصابع! وقوله " حتى كان دفع الأصابع " انتصب دفع على أنه خبر كان، واسمه مضمر كأنه قال: حتى كان الدفع دفع الأصابع. ولك أن ترفعه على أن يكون اسمه، وتضمر الخبر، كأنه قال: حتى كان دفع الأصابع دفعنا، أو على أن يكون كان بمعنى حدث، فتكتفي بالفاعل، وهي التي تسمى كان التامة.(1/169)
فلما رأينا جهلكم غير منتهٍ ... وما غاب من أحلامكم غير راجع
يقول: ولما وجدناكم لا ترعوون لمواعظكم ونذركم، ولا يعاودكم ما عزب من بصائركم وعقولكم، ولا يقف الجهل بكم على غايةٍ لا متجاوز وراءها، ولا يغني ما استفرغنا فيه الوسع من ردكم وزجركم، راجعنا أنفسنا منكرين ومتعجبين، وأقبلنا نباحث عن أصولنا وفروعنا معتزين، لنقف على ما وطأ لكم مراكب العقوق، وحسن في آرائكم تخطي موانع الحقوق، إلى نكث قوى العهود.
مسسنا من الآباء شيئاً وكلنا ... إلى حسبٍ في قومه غير واضع
قوله " مسسنا " يجوز أن يكون بمعنى أصبنا واختبرنا، لأن المس باليد قد يقصد به الاختبار، ويجوز أن يكون بمعنى طلبنا. وقد قال بعض الناس في قول الله تعالى: " لا يمسه إلا المطهرون ": إن المعنى لا يطلبه. قال: واللمس كالمس في أنه يوضع في معنى الطلب. قال: وعلى هذا يحمل قول الله جل ثناؤه: " وإنا لمسنا السماء فوجدناها ملئت حرساً ". فمن الأول قولهم: مسه الكبر، وأفضى الرجل إلى امرأته إفضاء مسيسٍ. ومن الثاني مساس الحاجة. فأما قولهم: به مسٌ من جنون، فيصح أن يكون من الأول ومن الثاني جميعاً. وهذا كما يقال: به لممٌ من جنونٍ، وأصله من اللم وهو الجمع أو الإلمام. وقوله " وكلنا إلى حسبٍ " أي ينتمي وننتمي. ف " إلى " تعلق بهذا وما أشبهه من المضمرات. وهذا كما يقال: أنا منك وإليك. وقوله " كلنا " أي كل واحدٍ منا، يعني أهل بيتهم. ألا ترى أنه قال " إلى حسبٍ في قومه ". ومعنى البيت: لما اشتد لجاجهم وطال تماديهم، وصاروا لا ينزلون عن مراكب البغي، ولا يرجعون عن الذهاب في طرق الفساد، نظرنا: أي عرقٍ يقتضي منكر الخلاف معنا، وما الذي يوجب التدابر من الأنساب والأسباب بيننا، فلمسنا أطراف أبوتنا، واستشففنا جوانبها، ووجدنا كلامنا ينتمي إلى حسبٍ يرفعه ولا يضعه. ويقال: وضعته، إذا حططت منه. ووضع الرجل، وهو وضيعٌ بين الضعة والضعة. والتوضيع: التأنث والانكسار من هذا. ويقال: دابةٌ حسنة الموضوع، وضده المرفوع. وبعيرٌ عارف الموضع، أي ذلولٌ عند الركوب.
فلما بلغنا الأمهات وجدتم ... بني عمكم كانوا كرام المضاجع(1/170)
جعل المضاجع كنايةً عن الأزواج. وهذا كما يكنى عنهن بالمفارش. قال:
سجراء نفسي غير جمع أشابةٍ ... حشدٍ ولا هلك المفارش عذل
يعني أن أمهاتهم عفائف. فيقول: لما تقصينا بالبحث والكشف أنساب آبائنا، وعلائق وصلها فلم نجد فيها مغمزاً، ولا إلى ما ذممنا من أخلاقكم منها داعياً، عدلنا إلى النظر في أنساب أمهاتنا، والتوصل إلى مكنون وشائجها، ومجهول مواصلها، فألفيتم أبناء عمكم كانوا كرام الفرش. وهذا من أحسن المعاريض، لأن المراد: كانت أمهاتنا أشرف من أمهاتكم، فعلمنا أن ما خالفتمونا فيه، وصرتم على حرف مباينةٍ لنا من أجله، شيءٌ يرجع إليهن. وإنما قال " وجدتم " ليكون كالتقرير لهم، ويصير ما ادعي من الفضل عليهم باتفاقٍ منهم. وذكر بعضهم أنه كان يجب أن يقول: وجدتمونا، فوضع بني عمكم مكان " نا "، وهو أخص من بني عمكم، بدلالة أن ما يكون للنفس أخص مما يكون للغائب، وإذا كان كذلك فقد وضع الأدون موضع الأخص. وليس الأمر على ما قال، لأن الرجل إنما يريد ببني عمكم الآباء، وقد قدم ذكرهم في قوله " مسسنا من الآباء ". ألا ترى أنه قال: كانوا كرام المضاجع. وإذا كان الأمر على هذا، كان الواجب عليه أن يقول: وجدتم آباءنا كانوا، لا وجدتمونا.
وقال جابر بن رالان
لعمرك ما أخزى إذا ما نسبتني ... إذا لم تقل بطلاً علي ومينا
لعمرك مبتدأ، وخبره محذوف، فكأنه قال لعمرك ما أقسم به، ولا يستعمل في اليمين إلا بفتح العين، وإن كان ضمها لغةً فيه. و " أخزى " يجوز أن يكون من الخزي: الهوان، ويجوز أن يكون من الخزاية: الاستحياء. والبطل يراد به الباطل. والمين: الكذب، وقد مان، وهو مائنٌ وميونٌ. والمعنى: وبقائك ما أستحي أو ما أهون ولا أذل متى ما ذكرت أسلافي وآبائي ولم تقل باطلاً، ولم تدع علي زوراً. وقوله " إذا ما نسبتني " ظرفٌ لقوله ما أخزى. و " إذا لم تقل " يجوز أن يكون بدلاً منه. ولولا أنه كرر " إذا " لكان الكلام ما أخزى إذا ما نسبتني ولم تقل بطلاً وميناً. ولا(1/171)
يجوز أن يكون العامل في إذا " ما نسبتني " لأن ذا قد أضيف إليه وبين به، والمضاف إليه لا يعمل في المضاف. ويجوز أن يكون إذا الأولى بما اتصل به وما عمل فيه الجملة في جواب إذا الثانية، كأنه قال: إذا لم تقل بطلاً فلعمرك ما أخزى إذا ما نسبتني. وانتصب " بطلاً " على أنه مفعول لم تقل، لأن القول يحكى بعده الجمل فيعمل في مواضعها لا في لفظها، ويقع المفرد بعده - إذا كان معنى الجملة - منصوباً به.
ولكنما يخزي امرؤٌ يكلم استه ... قنا قومه إذا الرماح هوينا
هذا تعريض بالمخاطب، يقول: أنا لا أخزي إذا ذكر مسعاة آبائي على حدها وحقها، إنما يخزي لذلك رجلٌ هذا صفته ونعته، وهو أنه يجرح استه، لكونه مولياً ومنهزماً، رماح قومه إذا شرعت للطعن. وإنما قال " قنا قومه " لأنه أشار في تعريضه إلى حالةٍ اتفقت للمخاطب مع أبناء عمه. وكل جرحٍ صغر أو كبر فهو كلم.
فإن تبغضونا بغضةً في صدوركم ... فإنا جدعنا منكم وشرينا
قوله " في صدروكم " بما تعلق به في موضع الصفة للبغضة. والمعنى: إن انطوت صدروكم لنا على بغضةٍ راسخةٍ فيها، متمكنةٍ منها فغير مستنكرٍ عندنا ولا مستطرفٍ من أحوالنا، لأن ما ارتكبناه فيكم من جدع الأنوف وبيع النفوس بإذلالنا إياكم، وبما أخذناه في فدائكم، يوجب البغضاء، ويقتضي الشنآن.
ونحن غلبنا بالجبال وعزها ... ونحن ورثنا غيثاً وبدينا
يعني بالجبال أجأ وسلمى وهضابهما، ولذلك جمع. وقوله " وعزها " أراد وعز أربابها وسكانها. ويجوز أن يريد العز الذي يحصل لهم عند التحصن بها. وطيئٌ أبداً تفتخر بذلك، لأنهم إذا اعتصموا بها لم تتوصل الأعداء إليهم فيها. وغيثٌ وبدينٌ: قبيلتان. يريد: ورثنا أحسابهم ومفاخرهم. وغيث: فيعلٌ من الغوث، وفي بطون طيئٍ بطنٌ يقال لهم الغوث، ومنهم أبو زبيدٍ الطائي.
وأي ثنايا المجد لم نطلع لها ... وأنتم غضاب تحرقون علينا(1/172)
الاستفهام هنا يجري مجرى النفي، كأنه قال: ما ثنيةٌ من ثنايا المجد إلا طلعنا لها. والثنية: فعيلة من ثنيت، أي عطفت وصرفت، وكما استعملت في الجبال استعملت في الأمور والخطات. قال:
وثنيةٍ من أمر قومٍ وعرةٍ ... فرجت يداي فكان فيها المطلع
فلذلك ذكرها هنا مثلاً، والمعنى: إن مطالع الشرف على توعرها أو تسهلها ارتقينا إليها، وأنتم تتهددوننا في غضبكم، والحرق: حرق أحد النابين بالآخر. وقد حرق نابه يحرق ويحرق، حرقاً وحروقاً، من الغيظ. وذكر الخليل: حريق الناب كصريف الناب. و " فلان يحرق على الأرم " ويروى " الأزم ". والأرم: الأكل، والأزم: العض، وهما جميعاً بالأسنان، والمعنى يحرق على أسنانه. والمتوعد يفعل ذلك يظهر به شدة الغيظ. واكتفى بقوله " يحرقون " عن ذكر المفعول، لأن المراد مفهوم. ويقال: اطلع عليه وله، إذا أشرف. والمعنى إنا رددنا على حسدكم لنا، وتغيظكم فينا، قوة وشرفاً، وعزةً وكرماً، حتى لم تبق غايةً من المجد إلا ارتقينا إليها وعلوناها.
وقال سبرة بن عمروٍ الفقعسي
وعيره ضمرة بن ضمرة النهشلي كثرة إبله.
أتنسى دفاعي عنك إذ أنت مسلمٌ ... وقد سال من ذلٍ عليك قراقر
لفظه لفظ الاستفهام، والمعنى معنى الإنكار. أي لم تنسى مدافعتي عنك حين كنت مخذولاً لا ناصر معك، وقد امتد سيل الذل نحوك فسأل عليك. فإذ ظرفٌ لدفاعي. وقراقر: اسم وادٍ، ويكون ذكره مثلاً. ومن كلامهم: " سال عليه الذل، كما يسيل السيل ". ولا يمتنع أن يكون لحقه ما لحقه من الذل من ناحية قراقر، فلذلك خصه. وقوله " إذ أنت مسلمٌ " يقال أسلمته وسلمته، إذا خليت بينه وبين من يريد النكاية فيه. وأسلمت الصبي في حرفةٍ، إذا أرسلته فيها. وقوله " وقد سال " في موضع الحال، أي أسلمت وحال ذلك.
ونسوتكم في الروع بادٍ وجوهها ... يخلن إماءً والإماء حرائر
قوله " ونسوتكم " مع خبره جملةٌ انعطفت على قوله " وقد سال من ذلٍ " وهذا وصف الحال التي مني بها حين نصره مخاطبه. والمراد: ونساؤكم تشبهن بالإماء،(1/173)
مخافة السباء، حتى تبرجن وبرزن مكشوفاتٍ ناسياتٍ للحياء وإن كن حرائر. وإنما قال هذا لأنهم كانوا يقصدون بسبي من يسبون من النساء إلحاق العار، لا اغتنام الفداء والمال، ولما كان الأمر على هذا فالحرة كانت في مثل ذلك الوقت تتشبه بالأمة، لكي يزهد في سبيها. ومعنى و " الإماء حرائر ": واللائي يحسبن إماءً حرائر. ولو قال يخلن إماءً وهن حرائر لكان مأخذ الكلام أقرب، لكنه عدل إلى " والإماء حرائر "، ليكون الذكر به أفخم، والاقتصاص أشنع وأعظم. وقال " باد وجوهها " لتقدم الفعل، وأن تأنيث الوجوه غير حقيقي، ولو قال باديةٌ وجوهها لجاز. وفي هذه الطريقة قول الآخر:
وخمار غانيةٍ عقدت برأسها ... أصلاً وكان منشراً بشمالها
أعيرتنا ألبانها ولحومها ... وذلك عارٌ يا بن ريطة ظاهر
يريد على وجه الإنكار والتقريع: لم عيرتنا ألبان الإبل ولحومها واقتناء الإبل مباحٌ لا محظورٌ في القديم والحديث، والانتفاع بلحمانها وألبانها مسوغٌ غير مردودٍ في الدين والعقل، وتفريقها في المحتاجين إليها إحسانٌ ومعروف يجلبان الحمد والشكر. وذلك عار ظاهرٌ، أي زائلٌ. قال أبو ذؤيب:
وعيرها الواشون أني أحبها ... وتلك شكاةٌ ظاهرٌ عنك عارها
ومن هذا قولك: ظهر فوق السطح، وقولك: جعلته مني بظهرٍ، وقوله تعالى: " اتخذتموه وراءكم ظهرياً ". ويجوز أن يريد بالظاهر أن الحال في أن ذلك ليس بعارٍ ظاهرة غير ملبسةٍ ولا خافيةٍ. ويقال عيرته كذا وهو الأفصح، وعيرته بكذا. قال عديٌ:
أيها الشامت المعير بالده ... ر.............
والواو من قوله " وذلك عارٌ " واو الحال، أي أتعيرنا والحال ذلك.
نحابي بها أكفاءنا ونهينها ... ونشرب في أثمانها ونقامر
بين وجوه تصرفهم فيما عيرهم به، فقال: نجعلها حباءً لنظرائنا فنتهادى بها، ونسهل تمكن العفاة والزوار منها، بابتذالها وإهانتها - وحذف ذكر من أهينت له لأن(1/174)
المراد مفهوم - ونبيعها فنصرف أثمانها إلى الخمر والإنفاق، ونضرب بالقداح عليها في الميسر عند اشتداد الزمان، فنفرقها في الضعفاء والمحتاجين إليها. وفي تعداد هذه الوجوه إبطالٌ لكل ما أوهم أو ادعى يلحق من العار في اقتنائها وادخارها. وروى بعضهم: " نحايي بها أكفاءنا " على أن يكون نفاعل من الحياة، أي نعايشهم بها ونجامل، وليس بشيءٍ، فلا تعرج عليه.
وقال آخر من بني فقعسٍ
أيبغي آل شدادٍ علينا ... وما يرغي لشدادٍ فصيل
مخرج هذا الكلام مخرج الكلام المتقدم، في أنه إنكار وتقريعٌ، وفيه إشارة إلى ما يتضمنه قول الآخر من التبخيل، وهو:
فلا والله ما لبني بربٍ ... ولا بحمي علي ولا سلائي
أي ما لهم يبغون علينا وحالهم في أنفسهم ما هو نهاية البخل والشوم، والدقة واللوم، حتى لا يحمل فصلٌ لهم على إرغاءٍ بأن يفصل بينه وبين أمه بنحرٍ أو هبةٍ، ضنا به، وإشفاقاً عليه. أي إنهم لا يسوغ لهم البغي مع هذه الحال. ويجوز أن يكون قوله " وما يرغي لشداد فصلٌ " يراد به ما لهم فصيلٌ فيرغى، كما قال الآخر:
ولا ترى الضب بها ينجحر
والمعنى: لا ضب بها فينجحر. يرميهم بالفقر والفاقة، وضعف المنة، وقصور الاستطاعة. ويقال: أرغى فلانٌ فصيله، وإذا حمله على الرغاء، وأرغى فلانٌ فلاناً وأثغى، إذا أعطاه إبلاً وغنماً. وروى بعضهم: " وما يرغي " بكسر الغين، أي لا يعمل بالفصيل ما يحمل أمه على الرغاء له. وليس بشيء.
فإن تغمز مفاصلنا تجدنا ... غلاظاً في أنامل من يصول
هذا تعريضٌ وإيعادٌ، فيقول: إن رزتمونا وجدتمونا غلاظاً على من يصول علينا،(1/175)
جفاةً عند من يسومنا مكروهاً. والمعنى: لا نستلان عند الامتحان. وجعل الغمز غمز المفاصل كنايةً عن الاختبار. وحكي عن بعضهم: " لا أغمز كتغماز التين "، ولذلك صلح أن يقول استغلظتنا في أناملهم. وخص الأنامل لأن الانفتال عن الشيء والإقبال عليه بسلامتها من الآفات يقوى.
وقال جزء من بن كليبٍ الفقعسي
تبغي ابن كوزٍ والسفاهة كاسمها ... ليستاد منا أن شتونا لياليا
قوله " والسفاهة كاسمها " اعتراض دخل بين تبغي ومفعوله. والأصل في السفه: الخفة. ويقال: زمام سفيه، لاضطرابه، كما يقال زمام عيار. فيقول: تطلب هذا الرجل ما تطلبه سفهاً، وفعل السفاهة قبيح كما أن اسمها قبيح. وإنما قال هذا لأن السفه كما تنكر العقول والقلوب ذاته وفعله، كذلك تمج الآذان والصدور اسمه. فإن قيل ما اسم السفاهة حتى قال: والسفاهة كاسمها؟ قلت: قوله والسفاهة، أراد ما يسمى سفاهة، أي المسمى بهذا الاسم، كما أن الاسم الذي هو السفه قبيح. إلا أنه لما لم يجد إلى العبارة عن الذات طريقاً إلا باسمه قال: والسفاهة. ويجوز أن يكون أراد بتبغي: أدخل نفسه في البغي، حين عدا طوره، وسامنا مواصلته، كما يقال تشجع وتمرأ. وقوله " ليستاد منا أن شتونا لياليا " أتى بالفعل واللام، لأن تبغي مثل أراد. فكما قال الله عز وجل: " يريدون ليطفئوا نور الله بأفواههم "، وقال الشاعر:
أرادت لتنتاش الرواق فلم تقم
والمعنى يريدون إطفاء نور الله، وأرادت انتياش الرواق - كذلك قال هذا: تبغي ليستاد، والمعنى تبغي الاستياد منا ومراد الشاعر تطلب النكاح في سادتنا من أجل أنا دخلنا في الشتاء. والمعنى من أجل أنا افتقرنا واشتد الزمان علينا فأثر فينا. قوله " أن شتونا " موضعه نصب، أصله لأن شتونا، فلما حذف الحرف الجار وصل الفعل فعمل. ومعنى شتونا: قحطنا وأقمنا في القحط، كما تقول شتونا بمكان كذا. ويقال: اشتينا، إذا أريد دخلنا في الشتاء.(1/176)
فما أكبر الأشياء عندي حزازة ... بأن أبت مزرياً عليك وزاريا
انتصب " حزازة " على التمييز، فيقول: ليس انصرافك عنا عائباً علينا حين لم نسعفك بمرادك، ولم نجبك لما خطبت من خطبت إلى ملتمسك، ومعيباً عندنا حين عدوت طورك فتجاوزت مستحقك وقدرك، بشيء يكبر عندي تقطيعه في الصدر، وتأثيره في النفس. أي إرغامك وإسخاطك يهون علينا. والباء الذي في قوله " بأن أبت " هو الباء الذي في قولك ما زيد بمنطلق. ويقال: زريت عليه فعله، إذا عبت عليه فعله؛ وأزريت به، إذا وضعت منه وقصرت به. وقوله " وزاريا " أي وزاريا علينا، فحذف لأن المراد مفهوم.
وإنا على عض الزمان الذي ترى ... نعالج من كره المخازي الدواهيا
يقول: إنا نقاسي هرباً من المكروه الشدائد، ونصبر تفادياً منها على العظاتم. هذا - ما ترى من نكاية الحدثان، وسوء تأثير الزمان، وقصده إيانا بالمكاره والبلاء، والمفاقر والضراء. وهذا تنبيه على أن محافظتهم على الشرف يمنعهم من مناكحة من ليس بكفء لهم، وأن مساعفتهم إياه بما طلبه مخزية عندهم. وقوله " على عض الزمان " موضعه موضع الحال. والمعنى: إنا منكوبين وفقراء نفعل ذلك حذراً من العار.
فلا تطلبنها يا بن كوز فإنه ... غذا الناس مذ قام النبي الجواريا
يقول: لا تطلب التزوج بالمرأة التي خطبتها يا بن كوز، فلك في سائر النساء مندوحة، سيما ومنذ بعث الله عز وجل النبي عليه السلام، وقام بأداء الرسالة عنه، ربي الناس البنات وتركوا وأدهن فكثرن. ويقالك غذاه يغذوه غذواً، وتغذى بكذا. والغذاء: الطعام والشراب.
وإن التي حدثتها في أنوفنا ... وأعناقنا من الإباء كما هيا
يقول: وإن النخوة التي أبلغتها، والحمية التي حدثتها، باقية في أنوفنا حتى لا نشم بها مرغمة، وفي أعناقنا ورءوسنا حتى لا نلويها إلى مخزية ومنقصة هي حاصلة فيها كما أبلغت؛ فالامتناع من مثل ما سمت معروف منا، ومأخوذ به في عاداتنا، فلا نستطرقه. وقوله " في أنوفنا " في موضع المفعول الثالث لحدثتها. وقوله " كما هيا " في موضع خبر إن، وما زائدة. أراد كهي، أي هي باقية بحالها، مستمرة على طريقها. ويجوز أن يكون هي مبتدأ، وكما في موضع الخبر. ويقولون: كما أنا كما أنت، أي(1/177)
تشابهنا، ويكون ما نكرة غير موصوفة. ويجوز أن يكون حذف صفته كأنه قال: كما حدثته أي كشيء حدثته. وإنما خص " في أنوفنا وأعناقنا " بالذكر لأنه يقال في الكبر والصعوبة: في أنف فلان خنزوانة، وزم فلان بأنفه، وأنفه أنف الليث، وهو أحمى أنفاً من أن يقبل كذا. ويقولون: في خده صعر، وفي عنقه صور وصيد، وفي ناظره شوس وصاد. قال يصف سيوفاً:
يداوي بها الصاد الذي في النواظر
وقال زيادة الحارثي
لم أر قوماً مثلنا خير قومهم ... أقل به منا على قومنا فخرا
ينتصب قوله " خير قومهم " على أنه بدل من قوله " قوماً ". ويجوز أن يكون صفة. و " أقل " ينتصب على أنه مفعول ثان، و " فخراً " ينتصب على التمييز. وقوله " به " الضمير منه يرجع إلى ما ذكره ودل عليه من قوله " خير قومهم " يريد أقل بكونهم خيرين. ومثله قول القائل:
إذا زجر السفيه جرى إليه
أي إلى السفه. وتقدير البيت: لم أر خير قوم مثلنا أقل بذاك فخراً مناعلى قومنا. والمعنى إنا لا نبغي على قومنا، ولا نتكبر عليهم، بل نعدهم أمثالنا ونظراءنا فنباسطهم ونوازنهم قولاً بقول، وفعلاً بفعل.
وما تزدهينا الكبرياء عليهم ... إذا كلمونا أن نكلمهم نزرا(1/178)
ينتصب قوله " نزارا " على أنه صفة لمصدر محذوف، كأنه قال: نكلمهم كلاماً نزراً. والمعنى لا يستخفنا التكبر إلى أن نتعلى عليهم، ونقلل الكلام معهم ترفعاً عن مساواتهم، بل نباسطهم ونكاثرهم في القول والسؤال، إيناساً لهم وتسكيناً منهم. ويقال: زهاه وازدهاه بمعنى. والأصل في ازدهى: ازتهى، لأنه افتعل من الزهو، لكنه أبدل من التاء دالاً تقريباً للحرف من الزاي. وقوله " أن نكلمهم " أراد لأن نكلمهم، فحذف حرف الجر. و " أن " يفعل به ذلك كثيراً.
وقال ابنه مسور
حين عرض عليه سعيد بن العاص سبع ديات بأبيه فأبى. ويقال: هي لعمه:
أبعد الذي بالنعف نعف كويكب ... رهينة رمس ذي تراب وجندل
ألف الاستفهمام دخل ها هنا على معنى الإنكار، وتناول الفعل الذي في صدر البيت الثاني، لأن ألف الاستفهمام يطلب الأفعال. والمعنى: أذكر بالإبقاء بعد المدفون بنعف هذا الجبل - وهو ما استقبلك منه - المرهون في قبر ذي تراب وحجارة. والنعف، اشتق منه انتعف له، أي تعرض. والمناعفة: المعارضة من رجلين في طريقين يريد كل واحد سبق الآخر. وقيل النعف: المكان المرتفع في اعتراض. وقوله " رهينة " جعله اسماً فلهذا ألحق الهاء بها. والرمس: القبر. ويقال رهنته رهناً بمعنى رهنت عنده، وأصله من اللزوم والدوام ويقال هذا لك راهن. والأصل في الرمس: التغطية، يقال رمسته بالتراب؛ ومنه الرياح الروامس.
أذكر بالبقيا على من أصابني ... وبقياي أني جاهد غير مؤتل
يقول: أأسأم الإبقاء على من وترني؟ إبقائي عليه أني أجتهد في قتله، ولا أقصر. والإبقاء لا يكون الجهد، ولكن المعنى: يكون هذا مني عوضاً من ذاك. ومثله قول الآخر:
تحية بينهم ضرب وجيع(1/179)
والبقيا: اسمٌ على فعلى، مبني من الإبقاء وفي معناه، والواو منه واو الحال، ولو لم يأت به لكان الكلام على الاستئناف والإنقطاع مما قبله. ويقال: لا آلو في كذا ولا آتلي، أي لا أقصر، ولا آلو كذا، أي لا أستطيعه.
فإلا أنل ثأري من اليوم أو غدٍ ... بني عمنا فالدهر ذو متطول
يقول مخبراً عن صبره وحسن رفقه في طلب الأمور، وأنه لا يتسلط عليه الملال وإن تراخى المطلوب، وتدافع الوقت في الحصول، فيقول: إن لم أدرك ثأري قريباً يا بني عمنا ففي الدهر تطاول، والزمان بتبديل الأبدال وتحويل الأحوال كافلٌ، وله ضامنٌ، وما يتعسر في وقتٍ يتيسر في آخر. وذكر اليوم والغد إشارةٌ إلى تقريب الوقت في المستقبل، كما يقال في الماضي: كان بالأمس يفعل كذا. ومتطول: مصدر مثل تطولٍ.
فلا يدعني قومي ليوم كريهةٍ ... لئن لم أعجل ضربةً أو أعجل
جزم " يدعني " بلا على أنه دعاءٌ، والمعنى: لا دعيت لكشف مكروه، ولا للدفع عن مظلومٍ، إن لم أعجل ضربة لمن وترني، أو يعجلها لي. والمعنى: إن لم أقتله أو يقتلني. وهذا الكلام وإن كان لفظه لفظ الدعاء فالمعنى معنى القسم. وقوله: " أو أعجل " أراد: أو لم أعجل لمثلها، فحذف. وفي هذا بيانٌ للتوعد بالإقدام، والتسرع إلى القتل أو الاستقتال بعد الإمكان.
أنختم علينا كلكل الحرب مرةً ... فنحن منيخوها عليكم بكلكل
هذا الكلام تهددٌ، وضمانٌ في أنه سيكافئهم على ما بدأوا. والمعنى: سنؤثر فيكم كما أثرتم فينا، وننزل الحرب بكم كما أنزلتموها بنا. ويقال: أنخت البعير فاستناخ وبرك. ولا يقال فناخ. وتقول في شدة التأثير: برك عليهم الدهر بكلكه، ووطئهم بمناسمه، وأنخى عليهم بجرانه. وهذا جعل الكلكل هو المناخ في صدر(1/180)
البيت، وفي العجز جعل الحرب مناخةً بكلكلها. وكل ذلك أمثال، والمعنى من جميعها ظاهر.
وقال بعض بني جرمٍ من طيئ
إخالك موعدي ببني جفيفٍ ... وهالة، إنني أنهاك هالا
في قوله " إخال " ضرب من الاستهانة، يقول: أحسبك تهددني ببني جفيفٍ وبهالة. ثم أقبل على هالة فقال: إني أزجرك عن التحكك بنا، ونصرة من ينابذنا. ومثل هذا الكلام يسمى التفاتاً. والعرب قد تجمع في الخطاب أو الإخبار بين عدة، ثم تقبل أو تلتفت من بينهم إلى واحد لكونه أكبرهم، أو أحسنهم سماعاً لما يلقى إليه، أو أخصهم بالحال التي تنطق بالشكوى بينهم، فتفرده بكلام. على هذا بيت الهذلي:
أحيا أبا كن يا ليلى الأماديح
فقال أبا كن، ثم قال يا ليلى. ويقال: خلت أخال، وإخال طائيةٌ، فكثر استعمالها في ألسنة غيرها، حتى صار أخال كالمرفوض. والهالة: الدارة حول القمر، في اللغة، وإذا أنث خطابها فإنه جعلها قبيلةً، وإذا ذكرها فعلى إرادة رجلٍ هو أبو القبيلة، وإذا جمع فعلى المعنى. وفي جميع ذلك قد صرف كلامه.
فإلا تنتهي يا هال عني ... أدعك لمن يعاديني نكالا
يقول: إن لم تنزجري عني ولم ترتدعي بكلامي، أجعلك لأعدائي عبرةً رادعة، وعقوبةً زاجرة. والنكال: اسم لما يجعل عبرة للغير، ويقال نكل ينكل، ونكل ينكل لغتان، الأولى تميمية والأخرى حجازية.
إذا أخصبتم كنتم عدواً ... وإن أجدبتم كنتم عيالا
يصفهم بالأشر والبطر وسوء الحفاظ، والتعجل إلى الشر، فيقول: إذا نلتم الخير وطاوعكم الوجد خرجتم لنا أعداء، ثم إن أثر فيكم الدهر، أو ضغطكم البؤس والضر، أويتم إلينا، ولحقتم بجملتنا، فاحتجنا إلى أن نمونكم.(1/181)
وقال آخر:
اللؤم أكبر من وبرٍ ووالده ... واللؤم أكرم من وبرٍ وما ولدا
فضل اللؤم في اللفظ عليهم وعلى أسلافهم، والقصد به إلى تفضيله على أخلاقهم وأفعالهم وطباعهم، لأن الشرط تشبيه الأحداث بالأحداث، والذوات بالذوات. وإذا كان كذلك فقد حذف المضاف وأقيم المضاف إليه مقامه، كأنه قال: اللؤم أكرم من أخلاق وبرٍ وأخلاق والده، وقوله " ووالده " دخل فيه كل أبٍ لهم، كما دخل في قوله " وما ولدا " كل ولد لهم. واللؤم: خصالٌ منكرة، إذا اجتمعت سميت لؤماً، كدناءة النفس والآباء والبخل مردداً فيهم، والنظر في الأمور التافهة المخزية. ووبر في اللغة: دويبةٌ أصغر من السنور طحلاء اللون ترجن في البيوت، وجمعه وبارٌ. ويسمى بهان ثم جعلت للقبيلة. فإن قيل: لم لم يقلك ومن ولدا؟ قلت: أشار إلى الجنس وما يقع للأجناس.
قومٌ إذا ما جنى جانبهم أمنوا ... من لؤم أحسابهم أن يقتلوا قودا
يقول: هم قومٌ إذا جر واحدٌ منهم جريرةً أمن جميعهم، لدقة أصولهم، ولؤم أحسابهم، أن يؤاخذوا كلهم بها، فكيف الواحد منهم. كأن القبيلة بأسرها لا يعدون بواءً لقتيلٍ فيقتلوا به، فالأمن الذي شملهم عند اتفاق الجنايات منهم لهذا. والقود: أن يقتل القاتل بالقتيل، فيقال: أقدته به. وإذا أتى الرجل صاحبه بمكروهةٍ فانتقم منه بمثلها، قيل: استقادها منه، وهذا كما قال الآخر:
من ذا يعض الكلب إن عضا
ونقله أبو تمام فقال:
أما الهجاء فدق عرضك دونه ... والمدح عنك كما علمت جليل
فاذهب فأنت طليق عرضك إنه ... عرضٌ عززت به وأنت ذليل
اللؤم داءٌ لوبرٍ يقتلون به ... لا يقتلون بداءٍ غيره أبدا(1/182)
أشار بهذا إلى أن مطامعهم الخسيسة ترديهم، وإسفافهم لها يعرضهم للقتل ويهلكهم، فقال: هذا داؤهم لا يقتلون إلا به، ولأن حين كان حائنٍ فيما يغلب به وعليه. ويجوز أن يريد أنه لما ترفع القصاص عنهم عند وقوع الجرائر منهم، كانت القتلة الكريمة فيهم أزهد، وعنهم أبعد، ولا يموتون إلا بدائهم الذي هو اللؤم. والموت قد يسمى قتلاً. وإنما أدخل هذه الأبيات في الباب لقوله " قومٌ إذا ما جنى جانيهم أمنوا " فلما ذكر من يجتهد في إدراك الثأر من جهته تيسر أو تعسر، ذكر أيضاً ما يضاده ممن يرغب عنه ويزهد في النيل منه، ترفعاً عن مكافأته. وهذا عادته في إتباع الشيء بضده، فأعلمه.
وقال آخر:
ألا أبلغا خلتي راشداً ... وصنوى قديماً إذا ما اتصل
قديماً، انتصب على الظرف لقوله خلتي. والمراد: أبلغا خليلي قديماً راشداً، وصنوى إذا ما انتسب. والصنوان: الفرعان يخرجان من أصلٍ واحدٍ. ويقال للأخوين هما صنوان، تشبيهاً بذلك، ولعم الرجل صنو أبيه. ويقال صنوٌ، وصنوانٌ في التثنية، وصنوانٌ في الجميع، ولا يعرف له نظير إلا قنوٌ. فيقول: راشدٌ خليلي القديم، ونسيبي القريب، فأبلغاه عني رسالةً. وفي جمعه بين خلتي وصنوي، وتأخيره قديماً إذا ما اتصل، ما ذكره أبو العباس المبرد رحمه الله، من أن العرب تلف الخبرين لفاً، ثم ترمى بتفسيرهما جملة، ثقة بأن السامع يرد إلى كل ما له.
بأن الدقيق يهيج الجليل ... وأن العزيز إذا شاء ذل
الباء دخل للتأكيد، وموضع أن مفعول ثانٍ من أبلغا. فيقول: أبلغاه أن صغير الأمور يجني الكبير، وأن العزيز من الرجال متى أراد عاد ذليلاً، بأن يعدو طوره، ويشتغل بما لا يهمه. ومثل هذا قولهم: " الشر يبدؤه صغاره "، وقول شاعرهم:
الحرب أول ما تكون فتيةٌ(1/183)
وقول الآخر:
كم مطر بدؤه مطير
وأن الحزامة أن تصرفوا ... لحيٍ سوانا صدور الأسل
هذا الكلام تحذيرٌ وإنذار. يقول: وأبلغاه أن الحزم في صرف أعنة خيلكم إلى غيرنا، فإنكم لا تقومون لنا إذا هيجتمونا؛ والرأي في أن تعدلوا بصدور رماحكم إلى طعن من سوانا، فإنكم لا تكملون لدفاعنا، ولأن الكرة لا يخرج منا إلا إباءً وامتناعاً.
فإن كنت سيدنا سدتنا ... وإن كنت للخال فاذهب فخل
العرب تقول: " سيد القوم أشقاهم ". ولذلك قال شاعرهم:
وإن سيادة الأقوام فاعلم ... لها صعداء مطلعها طويل
فيقول: إن رمت سيادتنا من وجهها، وبالآلات التي يحتاج إليها في تحصيلها، تم لك ذلك؛ وإن كنت للكبر فاذهب فاحسب أنك سيدٌ، فإنك لا تكون. هذا إذا رويت " فخل " بفتح الخاء. وإن رويت " خل " بضمها فالمعنى: اذهب وتكبر، فإنا لن ننقاد لك، واستعمال البغي والصلف والكره لا يزيدنا إلا إباءً عليك، وتمادياً في اللجاج معك. والخال: الكبر. واختال الرجل فهو مختالٌ وخالٌ أيضاً. قال الشاعر:
إذا تجرد لا خالٌ ولا بخل
ويقال خال يخول ويخال خولاً وخالاً، وفي الظن يقال خال يخال لا غير. وقوله " فاذهب " أمرٌ من قولك ذهب يقول كذا. وعلى هذا قول الشاعر:
فاذهب فما بك والأيام من عجبٍ(1/184)
وكذلك قولك للغريم: قم فأعطني حقي. فالأمر في الحقيقة بالعطية لا بما سواه. وأجري مجراه قولهم: أخذ يتمسك بكذا، وطفق يتحدث بكذا، وجعل يشتمني. وخرجوا في التوسع إلى أن قالوا: قام يهزأ بي، وقعد يظن أنه أمير. وليس القصد إلى فعله القيام والقعود، ولكن زيادةً كالتصوير للحال والتأكيد للقصة.
وقال بعض بني أسد
كلا أخوينا إن يرع يدع قومه ... ذوي جاملٍ دثرٍ وجمعٍ عرمرم
يقوله رجلٌ اقتتل فريقان من قومه على بئرٍ، فيقول: كلا صاحبينا إن يفزع يستغث بقومٍ ذوي عددٍ وعدةٍ. والجامل: الإبل، وهو اسم صيغ للجمع. والدثر: الكثير. والعرمرم: الجيش العظيم. وعرام الجيش: حدهم وكثرتهم. وانتصب " ذوي " على الحال. والجزاء مع جوابه خبر المبتدأ، وهو كلا.
كلا أخوينا ذو رجالٍ كأنهم ... أسود الشرى من كل أغلب ضيغمٍ
يقول: كل واحدٍ من صاحبينا مؤيدٌ برجالٍ كأنهم أسود هذه المأسدة، من كل ليثٍ غليظ العنق، شديد. وضيغمٌ: فيعلٌ من الضغم، وهو العض. وكلا موحد اللفظ، موضوع للمثنى؛ لكن المراد به هنا كل واحدٍ.
فما الرشد في أن تشتروا بنعيمكم ... بئيساً ولا أن تشربوا الماء بالدم
يدعوهم إلى المصالحة، ويعرفهم أنه لا خير في ماءٍ، يصلون إليه بإراقة دماءٍ؛ ويزهدهم في خصبٍ ونعيمٍ، يحصل عن عيشٍ بئيسٍ، فيقول: ليس الصلاح والنجاح في أن تستبدلوا بنعيمكم بؤساً، وبسلامتكم هلاكاً، ولا أن تشربوا الماء بسفك الدماء. والبئيس، يكون مصدراً كالبؤس، ويوضع في مقابلة النعيم كما فعله هذا، ويكون صفةً، على هذا قول الهذلي:
ومعي لبوسٌ للبئيس كأنه ... روقٌ بجبهة نعاجٍ مجفل
وهو الرجل الشجاع ذو البأس.(1/185)
وقال حريث بن عنابٍ
تعالوا أفاخركم: أأعيا وفقعس ... إلى المجد أدنى أم عشيرة حاتم
يقول: هلموا أنافركم: أهؤلاء البطون أقرب إلى المجد أم رهط حاتم؟ وبنو أعيا: من بني سعد بن قيس، وبنو فقعس: حيٌ من بني أسد. وروى بعضهم: " أأعيار فقعسٍ "، يريد رؤساء فقعسٍ. ورغم أن أعيا لا يعرفه اسم قبيلةٍ، وأن هذا تصحيف استدركه. فأما إنكاره لأعيا قبيلةً فلا وجه له لأن بني أعيا من قبائل سعد بن قيس، وهو مشهورٌ ذكره النسابون وغيرهم، ووهب بن أعيا بن طريفٍ الأسدي، معروفٌ معدود في الأعلام. وأما من طريق النظم فلأن تكون القبيلة مقابلةً بمثلها، ومذكورةً في المنافرة معها - أحسن من أن يقابل الأفراد بالقبيلة. و " أعيار " إشارةٌ إلى الأفراد، لأنه يراد بها الرؤساء. يقال: هو عير قومه، أي سيدهم. هذا وقد رجعنا إلى نسخٍ مختلفات المصادر، فوجدناها متوافقةً في تحملها " أعيا وفقعس ". وإذا كان كذلك لا يجوز العدول عما قاله الشاعر إلى ما لم يقله. وقوله " أأعيا وفقعسٌ " استفهام في الأصل نقل عن بابه، والمعنى: أنافركم بالقضية التي تكون نتيجة هذا الاستفهام، وقوله " أدنى إلى المجد " لم يثنه وإن كان خبراً عن اثنين، لأنه افعل الذي يتم بمن، وقد دخل عليه الاستفهام، فيجب أن يستوي فيه الواحد والاثنان، والمذكر والمؤنث. وهذا الكلام لو أتى به على وجهه لكان: أم عشيرة حاتم أدنى إلى المجد منهم، لكنه حذف إذ كان المراد مفهوماً. وإنما جاء على حرف الاستفهام ليبصروا ضلالتهم. وفي طريقته بيت جرير:
هلموا نحاكمكم ففي الحكم مقنعٌ ... إلى الغر من آل البطاح الأكارم
والتقدير: أنافركم أيهم أمجد وأعرف. وحاتمٌ المذكور هو حاتم بن عبد الله الطائي. و " تعال " كان يقوله من هو في رابيةٍ للمتسفل، لأنه تفاعل من العلو، فكثر استعماله حتى جرى مجرى هلم، فصار المتسفل يقوله عند الدعاء المستعلي.
إلى حكمٍ من قيس عيلان فيصلٍ ... ومن آخر حيي ربيعة عالم(1/186)
قيل: أراد بأحد الحكمين عامر بن الظرب وبالآخر دغفلاً النسابة. والفيصل: الذي يفصل الأمور، والياء دخلته لتلحقه ببناء جعفر، كما أن الضيغم فيعلٌ من الضغم، والبناءان بحصول الياء فيهما صارا صفتين بعد أن كانا مصدرين، لأن فصلاً من دون الياء مصدر فصل، كما أن ضغماً من دون الياء مصدر ضغم، فلما حصل الياء فيهما وصف بهما وأفادا مبالغةً في المعنى. ألا ترى أن فيصلاً يفيد ما لا يفيده فاصلٌ، وكذلك ضيغمٌ يفيد ما لا يفيد ضاغم، فاعلمه.
ضربنا حتى إذا قام ميلكم ... ضربنا العدى عنكم ببيضٍ صوارم
قام له بمعنى تقوم وترك الخلاف، وقام عليه بمعنى داوم ولازم. والقرآن: " إلا ما دمت عليه قائماً ". يقول: قد عنا كم بالمكروه، حتى إذا بان لنا فيئتكم واستقامتكم، حينئذٍ ذببنا الأعداء عنكم بسيوفٍ قواطع. والمعنى: نعاملكم بمعاملة الأعداء، فإذا استقمتم لنا وذهب الخلاف عنكم، ضممناكم إلى أنفسنا، وحمينا عليكم مع الأولياء.
فحلوا بأكنافي وأكناف معشري ... أكن حرزكم في المأقط المتلاحم
في جمعه للأكناف ظهور تجبرٍ فيهم، وأخذ بالتعلي عليهم. يقول: انزلوا بجنابي وجناب عشيرتي، وتحصنوا بفنائي وفناء قومي أكن كهفكم في المضيق من الحرب المتلاصق. والمتلاحم، يجوز أن يكون من اللحام، لأن كل شيء كان متبايناً ثم تلازم يقال فيه: التحم وتلاحم، ويجوز أن يكون من الملحمة، لأن أهلها يتلاحمون فيها. يقال: لحمته فهو لحيمٌ، أي قتلته. قال الهذلي:
فلا ريب أن قد كان ثم لحيم(1/187)
فقد كان أوصاني أبي أن أضيفكم ... إلي وأنهى عنكم كل ظالم
نبه بهذا الكلام على استعلائه عليهم قديماً وحديثاً، وأنهم كانوا لهم كالخول والتبعٍ، وأن الأسلاف كانت توصي الأخلاف بهم لتطاول أيامهم في جنبتهم، واكتناف العناية بهم من ماضيهم وغابرهم.
وقال إبراهيم بن كنيفٍ النبهاني
تعز فإن الصبر بالحر أجمل ... وليس على ريب الزمان معول
الخطاب بهذا الكلام للنفس على طريق التسلية، فيقول: تصبر فإن الصبر بالرجل الكريم أحسن من التخشع فيما لا يحسن الخضوع فيه وله. والأصل في الصبر الحبس، ومنه قولهم: قتل فلانٌ صبراً. وقوله " وليس على ريب الزمان معول "، يريد به أن الأحداث لا تقف على شيء بحكم واحد، ولكنها تتنقل وتتبدل، فلا متكل عليها، ولا معتمد على عهدها، فهي كما تحسن تسيء، وكما تدوي تداوى، وكما تجمع تفرق. وقوله " تعز " هو من عزا الرجل وعزي الرجل، إذا صبر عزاءً، ورجل عزيٌ أي صبورٌ. وفي بناء تفعل زيادة تكلف، ودلالة على فرط تعمل. والمعول: المحمل والمتكل. والحر أصله الأعتق من كل شيء والأكرم، ولذلك قيل لما بدا من الوجه في اللقاء: حر الوجه. قال الشاعر:
لقد شان حر الوجه طعنة مسهر
فإن تكن الأيام فينا تبدلت ... ببوسى ونعمى والحوادث تفعل
قوله " والحوادث تفعل " يسمى اعتراضا، ومثل هذا من الاعتراض يزيد القصة تأكيداً، وهو ها هنا حائلٌ بين الجزاء وجوابه، لأن جواب إن تكن قوله " فما لينت منا قناةً صليبة " وحسن الكلام به جداً إذا كان تأكيداً لما يقتصه من تحول الأحوال،(1/188)
وتحقيقاً لما شكاه من ريب الزمان، وبعثاً على التسلي، وأخذ النفس بالتأسي. فيقول: إن كانت الأيام دارت فينا بالنعماء مرةً وبالبأساء أخرى - وهذا عادة الدهر وحوادثه - فما غيرت منا شيئاً.
فما لينت منا قناةً صليبةً ... ولا ذللتنا لذي ليس يجمل
ذكر القناة مثلٌ، وقد مضى الكلام في مثله. وأبين ما يستشهد به في اسعارتها للإباء والتشدد قوله:
كانت قناتي لا تلين لغامزٍ ... فألانها الإصباح والإمساء
وهذا البيت بيانٌ لفائدة الصبر الذي دعاه إليه، وبعث نفسه عليه، لأن الصابر على الشدائد حقيق بألا يتذلل لما لا يحسن به، ولا تجمل الأحدوثة فيه عنه، وألا يتلين لما كان يتصلب له من قبل. فإن قال قائلٌ: فإذا كان غاية الصبر ومعناه هذا، فإلى أي شيء دعا نفسه بقوله: تعز فإن الصبر بالحر أجمل؟ وقد خبر عن نفسه بأنه آخذ بما هو حقيقته؟ قلت: يجوز أن يكون معنى " تعز " دم على التعزي، ويكون بناء الأمر لما هو الحال، ولا يريد استئنافه، كما أن قول الله عز وجل: " يا أيها الذين آمنوا آمنوا بالله ورسوله " معناه دوموا على الإيمان. ويجوز أن يكون أمر نفسه في المستقبل بما كان عادتهم في المستقدم.
ولكن رحلناها نفوساً كريمةً ... تحمل ما لا يستطاع فتحمل
يجوز أن يكون معنى رحلناها رحلنا لها نفوساً، والضمير للحوادث، ويكون هذا كقولهم كلتك وكلت لك، ووزنتك ووزنت لك، ويكون نفوساً مفعولاً لرحلنا. ويجوز أن يكون الضمير أعنى ضمير المنصوب في " رحلناها " للنفوس، على أن يكون مفعولاً. وأتى بالضمير قبل الذكر، ثم جعل قوله نفوساً بدلاً منها، على طريق التبيين. وقوله " ولكن " حرفٌ يستدرك بها بعد النفي، فيكون المعنى ما تذللنا للنوائب(1/189)
ولكن هيأنا لها نفوساً تأنف من الرضا بالدنية، فلا تنسى كرمها، وتكلف أمور لا تنهض بها فتتكلفها. وفي وصف النفوس بالكرم إشارةٌ إلى الظلف والعفة، والتأبي من المخزية، ومجانبة الريبة، والنفور من كل قبيحة. ولذلك قال الله عز وجل في صفة المختارين من عباده المزكين: " والذين لا يشهدون الزور وإذا مروا باللغو مروا كراماً ". فأما قوله: " رحلناها " في الاستعارة، فكما يقال استحملت فلاناً نفسي، وركبتني ظلاماتٌ وما أشبهها. وحكى: هو يرحله بما يكرهه، أي يركبه؛ ولا رحلتك بالسيف، أي لا علوتك.
وقال آخر:
وكم دهمتني من خطوبٍ ملمةٍ ... صبرت عليها ثم لم أتخشع
يقول: مراراً كثيرة فاجأتني خطوبٌ شديدةٌ، ونزلت بي، فحبست نفسي عليها، وتجلدت لها، فلم يظهر في مناظري خشوعٌ، ولا بدا من جوارحي خضوع. وموضع كم على هذا التأويل ظرفٌ. " ومن " على طريقة الأخفش تكون زائدة، لأنه يجوز زيادة " من " في الواجب، ويستدل من المسموع بقول بعضهم: " قد كان من مطرٍ فخل عني " وبغيره. فكأنه قال: كم مرةً دهمتني خطوبٌ كثيرة. ويكون قوله صبرت عليها صفةً للخطوب. ويجوز أن يكون كم في موضع الابتداء، ومن خطوب هو بيانٌ له، وقد فصل بينهما بخبره، وهو دهمتني، وتقديره كم من خطوبٍ دهمتني، أي كثيرٌ من الخطوب. فأما فائدة العطف بثم من قوله " ثم لم أتخشع " فهو إبانة الاستمرار في الصبر، وإن طالت المهلة إلى أن انكشفت تلك الملمات العارضة وانفرجت. ومعنى دهمتني: فاجأتني، ومنه الدهم ودهماء الناس.
فأدركت ثأري والذي قد فعلتم ... قلائد في أعناقكم لم تقطع
يقول: أصبت ما طلبته، وتقاضيت به ممن كان لي عنده ثأر أو وترٌ، فاستنزلته عنه، وما فعلتم من القعود عن نصرتي، وخذلاني فيما نابني لزمكم، فكأنها قلائد وأطواقٌ لا تنحل عنكم ولا تنقطع. وهذا تحقيقٌ للزوم العار لهم فيما أتوا. ومثله قول بشر:
وقلدها طوق الحمامة جعفر(1/190)
يصف غدرةً ارتكبوها. ومثله القرآن: " سيطوقون ما بخلوا به يوم القيامة "
وقال عويف القوافي
ذهب الرقاد فما يحس رقاد ... مما شجاك ونامت العواد
يقول: طار النوم فلا يعرف له أثرٌ، مما دهاك وحزبك، ونام الذين كانوا يعودونك ولم يسهروا لك. والمعنى: إني اختصصت فيك بما عرى منه عوادك، وتحملت من الجزع ما سقط عنهم وخف عليهم. والرقاد والرقود: النوم بالليل، وعرف الأول تعريف الجنس، ونكر الثاني لأنه أراد نوعاً من الجنس، كأن المراد: ذهب النوم على اختلافه حتى ما يرى لنوعٍ منه مختصٍ أثرٌ.
لما أتاني عن عيينة أنه ... أمست عليه تظاهر الأقياد
قوله " لما أتاني " ظرف لقوله " نخلت له نفسي " لن لما إذا وليه الفعل الماضي، كان علماً للظرف، وفسر بحين. والمعنى: حين تساقط إلى عن هذا الرجل وتأدى أنه أسر وقيد بقيدٍ بعد قيد، فارقني ما كنت أخامره وأنطوي عليه من التنكر له، وأزلت عن نفسي ما استجفيته فيه، لأن الكريم يرق لمثله من الكرام عند النوازل. ومعنى التظاهر: أن يصير الشيء فوق الشيء فيقوى. ويقال: ظاهر بين ثوبين، إذ لبس أحدهما فوق الآخر. وقوله تعالى: " وإن تظاهرا عليه " معناه تعاونا، ومنه قولهم: هو ظهرٌ ظهيرٌ، أي قويٌ في الاستغاثة.
نخلت له نفسي النصيحة إنه ... عند الشدائد تذهب الأحقاد
يقول: أصفت عند ذلك نفسي له النصح، لأن الضغائن تفارق عند الشدائد. وهذا الكلام هو بيان علة مفارقة ضغنه ورجوعه إلى سلامة الصدر له. وقد ذكر فيما(1/191)
بعده ما يدل على حسن الإنصاف من النفس، والاعتراف بالفضل للغير. ويجوز أن يروى " أنه " بفتح الهمزة، والمعنى لأنه عند الشدائد. وإذا روي بالكسر يكون على الاستئناف.
وذكرت أي فتى يسد مكانه ... بالرفد حين تقاصر الأرفاد
مصدر ذكرت في هذا الذكر بضم الذال، لأنه بالقلب. وقوله " بالرفد "، يريد ببذل الرفد، فحذف المضاف. يقول: أجلت في فكري، وقلت في حديث نفسي: لو خلى مكانه من كان يسد مسده، ومن يعطي عطاءه عند تقاصر العطايا وتراجع المعونات. وهذا إشارةٌ إلى زمان الجدب والقحط وقت تنافس الناس في المتملكات، والدفع عنها بإعداد العلات. والمعنى: إن مثله لا يوجد ولا يظفر به في مثل ذلك الوقت، فإذا كان كذلك فكيف يسمح المنصف به لدهره، أو كيف ينطوي الصدر على السلو عنه والخلو منه، مع شدة الحاجة إليه. ويقال: رفدت الرجل رفداً إذا أعطيته، ثم سمي العطية رفداً بكسر الراء، وجمعه الأرفاد. وأرفدته محكيٌ لكنه ليس بالمتخير. وتقاصر، أصله تتقاصر فحذف إحدى التاءين تخفيفاً، وهو في موضع الجر بإضافة حين إليه.
أم من يهين لنا كرائم ماله ... ولنا إذا عدنا إليه معاد
أم هذه هي المنقطعة، والاستفهام دخل في الكلام على طريق التوجع والتلهف لما جرى على عيينه المذكور. والمعنى: لو فقدناه من كان يبذل لنا عقائل أمواله، ومتى شئنا وجدنا عنده معاداً فلا يمل السؤال، ولا يغب النوال؛ وهذا الكلام تنبيهٌ على أنه كان يديم الإحسان، ولا يحول عطاء يومه دون عطاء غده. وقوله " كرائم ماله "، جمع كريمةٍ، وقد أجري مجرى الأسماء حتى جاء في الحديث: " إذا جاءكم كريمة قومٍ فأكرموه ".
وقال بشر بن المغيرة
جفاني الأمير والمغيرة قد جفا ... وأمسى يزيد لي قد ازور جانبه(1/192)
أراد بالأمير المهلب بن أبي صفرة. والمغيرة أخوه، ويزيد ابنه. وقائل هذا الشعر بشر بن المغيرة، وهو أحد الفرسان المشتهرين، فيقول: جفاني عمي المهلب، وأبي المغيرة، وصار يزيد ابن عمي لاقتدائه بهم منحرفاً عني، غير مائلٍ إلي. والازورار: الانحراف، وهو من الزور: تنو أحد شقي الصدر واطمئنان الآخر: ويقال رجل أزور، وامرأةٌ زوراء.
وكلهم قد نال شبعاً لبطنه ... وشبع الفتى لؤمٌ إذا جاع صاحبه
أراد بالكل الاتحاد لا الجميع. يقول: كل واحد منهم قد نال من الدنيا وأعراضها قدر ما يشبعه ويمكنه الاكتفاء به، ثم قال: وشبع الإنسان لؤمٌ إذا لم يشرك صاحبه فيه فبقي جائعاً. أي هو كذلك في ذلك الوقت، وعلى تلك الحالة. والشبع لا يكون لؤماً، لكن التفرد به من دون ذويه على حاجةٍ منهم إليه بكونه، فرمى بالكلام على ما ترى لأن المراد منه مفهوم. والفرق بين الشبع والشبع، أن الشبع بسكون الباء: القدر الذي يشبع، والشبع بفتح الباء: الامتلاء من الطعام، وقد استعمل الشبع في غير الطعام فيقال: أشبعت الثوب صبغاً، وكذلك في كل ما وفرته من القول وغيره، حتى قيل تشبع الرجل، إذا تكثر.
فيا عم مهلاً واتخذني لنوبةٍ ... تلم فإن الدهر جمٌ نوائبه
قوله " مهلاً " معناه رفقاً ودع العجلة. ويحرك الهاء منه فيقال ائت كذا على مهلٍ ومهلٍ جميعاً. ويقال: ما بي عن كذا مهلٌ، أي إني فيه مستعجل. وفي هذا بعض التوعد والتطنز وإن كان ظاهره أنه يستعطف المهلب ويعرفه أن الدهر ذو غيرٍ وذو ألوان فلا يؤمن بوائقه؛ وأنه قد يحتاج إلى المستغنى عنه لحادثةٍ تحدث. فيقول: ادخرني لنوبةٍ تنزل، وهي المصيبة أو النكبة، ولا تطرحني اغتراراً بالأمن، فإن الدهر كثير النوائب، وشيك التحول. وقوله " يا عم " حذف الياء منه لوقوعه موقع ما يحذف في هذا الباب، وهو التنوين، ولأن باب النداء باب إيجاز، ولأن الكسرة تدل عليه.
أنا السيف إلا أن للسيف نبوةً ... ومثلي لا تنبو عليك مضاربه
يفضل نفسه في نفاذه في الأمور ومضائه، على السيف؛ فقال أولاً: أنا السيف، أي أشبهه، ثم تلافى فقال: إلا أن السيف ربما نبا عن الضريبة وكبا، ومثلي لا تكل(1/193)
ولا تنبو حدوده عن شيء تلاقيه. وفي هذه الطريقة قول جرير:
وليس لسيفي في العظام بقيةٌ ... وللسيف أشوى وقعةً من لسانيا
والمضارب: جمع مضربٍ، وهو الموضع الذي يضرب به من السيف.
وقال بعض بني فقعس
يا أيها الراكبان السائران معاً ... قولا لسنبس فلتقطف قوافيها
الراكب: اسمٌ لمن ركب حيواناً إلا الفرس، فإنه يقال لراكبه فارسٌ متى أطلق. ومعاً، انتصب على الحال، ومعناه مصطحبين ومجتمعين. فيقول: يا أيها السائران المصطحبان، قولا لهذه القبيلة لتترك قول الشعر، أو تتوقف قليلاً حتى تتباطأ قوافيها عني. وفي هذا الكلام ضربٌ من الاستهزاء بهم، وإشارةٌ إلى التجبر والتعلي عليهم. والقطوف من الدواب: الذي في خطوه بطء مع تقارب. وجعل فعل الأمر للقوافي على السعة والمجاز. وسنبس هم المأمورون. وهذا كما يقال في النهي: لا أربنك ها هنا، والمخاطب هو المنهي، لأن المعنى: لا تكن ها هنا فأراك. ثم بين الشاعر الوجه الذي أوجب منه اطراح الافتخار ورفض الهجاء له، فقال:
إني امرؤٌ مكرمٌ نفسي ومتئدٌ ... من أن أقاذعها حتى أجازيها
يقول: إني رجلٌ أربأ بقدري عن مكايلتهم، وأترفع عن موازنتهم، وأتوقف عن ملاحاتهم، طلباً لمجازاتهم. والتقدير: لا أقاذعها لكي أجازيها، لأن حتى الداخلة على الفعل مرةً يكون بمعنى كي، ومرة يكون بمعنى إلى أن. ويجوز أن يكون المعنى: لا أقاذعها إلى أن أجازيها، أي أولاً أجازيها فعلاً لأرى القدرة عليها، ثم حينئذ أجازيها بالكلام. والأول أحسن. ثم أخذ يقتص ما كان منهم لما طلب مكافأتهم بالفعل. والمقاذعة: المفاحشة. ويقال قذعته، إذا رميته بالفحش. ومتئدٌ: مفتعلٌ من التؤدة، وهي الرفق.
لما رأوها من الأجزاع طالعةً ... شعثاً فوارسها شعثاً نواصيها
يقول لما رأوا الخيل بارزةً لهم ومفاجئةً إياهم من أجزاع الوادي - وهي جوانبها - مغبرة النواصي مغبرة الفرسان. وجواب لما فيما بعده. ويقال شعث شعثاً وشعوثةً، وهو أشعث وشعثٌ. وأضمر الخيل في قوله " لما رأوها " وإن لم يجر لها ذكرٌ، لأن الحالة الحاضرة تدل عليه. ويجوز أن يكون تقدم ذكرها فيما ترك من أبياته.(1/194)
لاذت هنالك بالأشعاف عالمةً ... أن قد أطاعت بليلٍ أمر غاويها
يقول: التجأت في ذلك الوقت إلى قلل الجبال وأعالي الهضاب، عارفة سوء اختيارها في تحككها بي، وتعرضها بالشعر لي، وأنها قد ائتمرت لغواتها بليلٍ. وذكر الليل ها هنا إشارةٌ إلى حيرتها فيما أتته من تركها الرشاد، وقبولها مشورة الغواة. والأشعاف: جمع الشعفة، وهي أعلى الجبل، وأعلى كل شيء، ولذلك قيل شعفة القلب لرأسه عند معلق النياط. وهنالك ظرف، ويكون للزمان والمكان جميعاً، وزيادة اللام تكون للتأكيد فيه، كأن البعد فيما يشار إليه بهنالك أبلغ مما يكون فيما يشار إليه بهناك. وهذا على طريقة ما تقوله في ذلك وذاك. وقوله " أن قد أطاعت " أن فيه مخففة من الثقيلة، أي عالمة أنها قد أطاعت. ويقولون لما لا يعمل بتثبيتٍ وحسن تدبر: " هذا أمرٌ قد قدر بليل ". وعلى هذا قوله تعالى: " بيت طائفةٌ منهم غير لذي تقول ".
وقال آخر في ابنٍ له
لا تعذلي في حندجٍ إن حندجاً ... وليث عفرينٍ لدي سواء
يخاطب لائمة عذلته في التوفر على ابنه حندجٍ واختصاصه إياه واستخلاصه، وذكر الخليل أن حندجاً في اللغة: رملةٌ طيبة تنبت ألواناً من النبات. فيقول: لا تلوميني في أمر حندجٍ، إن حندجاً وليث هذه المأسدة متساويان عندي. وقد قيل في ليث عفرين: إنها هي التي تصيد الذباب وثباً، فشبهه في كيده ومكره به، وقد وصف الخبيث المنكر بالعفر والعفرية وعفرني، ويقال أيضاً للأسد عفر وعفرني. وقيل هو أشد عفارة، واستعفر فلانٌ. وحكى الأصمعي أن ليث عفرين دابة كالحرباء يتحدى الراكب ويضرب بذنبه. وقيل عفرين: موضع نسب إليه، وقيل عفرين: فعلين من العفر، وهو التراب، لأن عادة الأسد أن لا يصيب من فريسته حتى يعفره، يشهد لذلك قول الآخر في صفته:
ولا نال قط الصيد حتى تعفرا(1/195)
وذكر بعضهم أن ليث عفرين كقولهم: ليث ليوثٍ، لأنه يقال للمنكر الداهية عفرٌ، ويوصف به الأسود والرجال. ويكون على هذا عفرين جمع جمع السلامة كالأقورين، ومر بي أن قولهم ليث عفرين يستعمل في المدح والذم وسواء: مصدرٌ في الأصل وصف به.
حميت على العهار أطهار أمه ... وبعض الرجال المدعين جفاء
يبين في هذا الكلام انتفاء الريب عن مشابهته له. وتقيله إياه، وأنه لا يشك في كونه من صلبه، فيقول: حفظت أطهار أمه عن الزناة، لأني اخترتها من بيت العفة، وأرومة الكرم، ومغرس النجابة، والعتق والشهامة ودعواي حقٌ، وبعض دعاوى المدعين كالذي يعلو السيل ويحتمله من سقط الأرض. والمراد بقوله: وبعض دعاوى الرجال، فحذف المضاف وأقام المضاف إليه مقامه. والعهر والعهور: الفجور. ويجوز أن يريد بقوله " حميت على العهار " ما أراد امرؤ القيس بقوله:
وأمنع عرسي أن يزن بها الخالي
أي بفرط غيرتي وكمال رجوليتي وتمام محاسني. وإنما خص الأطهار لما في المحيض من الاعتزال، وكما قال الآخر:
دون النساء ولو باتت بأطهار
وذكر بعضهم أن المراد بقوله جفاءٌ: وبعض الرجال محمولٌ دعيٌ، فهو كالجفاء لا يعند به. والصحيح الأول.
فجاءت به سبط العظام كأنما ... عمامته بين الرجال لواء
يقول: جاءت الأم بهذا الولد وهو تام العظام مديد القامة، فكأن قامته رمح، وكأن عمامته إذا توسط الرجال لواء محمول عليه. وأحسن صنعةً منه قول مسلمٍ، وإن(1/196)
كان هذا سليماً من العيب.
يقوم مع الرمح الرديني قامةً ... ويقصر عنه طول كل نجاد
وفي طريقته قول الآخر:
يكاد يساوي غارب الفحل غاربه
وقال آخر
إذا كان أولاد الرجال حزازةً ... فأنت الحلال الحلو والبارد العذب
إذا يتضمن معنى الجزاء، ولهذا احتاج إلى الجواب فجعل بالفاء. فيقول: إذا كان الأولاد تقطيعاً في الصدور وتحزيزاً في القلوب، لعقوقهم واستعمالهم الجفاء في موضع البر مع آبائهم، فأنت العسل مشوباً بالماء العذب. وقد وصف بعضهم كلاماً فقال: " هو السحر الحلال، والعذب الزلال ". ويشير الشاعر إلى سهولة جانبه، وحسن طاعته، ودماثة خلقه. وقال الخليل: الحزازة: وجعٌ في القلب من غيظٍ أو أذًى. والحزاز أيضاً كذلك، وأنشد بيت الشماخ:
وفي الصدر حزازٌ من اللوم حامز
لنا جانبٌ منه دميثٌ وجانبٌ ... إذا رامه الأعدء ممتنع صعب
خاطب في الأول ثم عدل في الثاني إلى الإخبار، وهذا عادتهم إذا افتنوا في كلامهم، نظموا أو نثروا، لما في التحول من سهولة تجاوب الألفاظ، وتلاؤم طرائق النظام. فيقول: لنا من هذا الولد خلق سجيح، ومذهبٌ في البر فسيح، فهو هينٌ لينٌ(1/197)
معنا، وللأعداء منه إذا طلبوه أو جربوه جانبٌ خشنٌ مدفعٌ، وطريق صعب متلفٌ، وخلقٌ وعرٌ شرسٌ. ولم يقل وللأعداء جانب ولكن عطف الثاني على الأول، بمعنى أن أحدهما لاجتذاب الخير، والآخر لدفاع الشر. فكأن التقدير: ولنا منه جانب معدٌ للأعداء ذلك صفته، فصار الجانبان لهم في اللفظ، والقسمة ثابتة في المعنى. والدماثة: سهولة الخلق ولين الجانب. ويروى " ممتنعٌ صعب "، و " متلفةٌ صعب "، والمعنى ظاهر.
وتأخذه عند المكارم هزةٌ ... كما اهنز تحت البارح الغصن الرطب
البارح: ريحٌ حارةٌ تجيء من قبل اليمن. فيقول: تملكه عند اكتساب المكارم أريحية يهتز عندها اهتزاز الغصن الرطب، الذي جرى الماء فيه، إذا هبت عليه البارح. و " كما اهتز " أراد كاهتزاز. وقوله " تحت البارح " حسنٌ جداً، لأن الريح تعلو الغصون في مرورها. وقد نسبوا البارح إلى النجوم إذا ذكروا الأنواء. قال:
أيا بارح الجوزاء ما لك لا ترى ... عيالك قد أمسوا مراميل جوعا
هذا يقوله بعض المتلصصة. وعيالها: السراق، وذلك أن البارح تحمل الغبار وتدرس الآثار، فتجسر المتلصصة على السعي، وتمكنهم السرقة.
وقال آخر:
وفارقت حتى ما أبالي من النوى ... وإن بان جيرانٌ علي كرام
يروى: " من انتوى " وهو افتعل من النوى، وهي الوجهة المنوية للقوم، أو البعد. يقول: ألفت مفارقة الوطن والإخوان شيئاً بعد شيء، واعتدت التباعد عنهم يوماً بعد يوم، حتى لا أبالي من انتوى منهم أو نأى، وإن كرموا علي عند المجاورة. ومن روى: " لا أبالي من النوى " فمعناه لا أحتفل به، والأول أحسن. فإن قيل: كيف تعلق " حتى " بفارقت؟ وما معناه؟ قلت: أراد تكررت المفارقة علي وقتاً بعد وقتٍ، وحالاً بعد حالٍ، إلى أن صرت لا أبالي بالفراق. فمعنى حتى: إلى أن. وقوله " فارقت " مستصلحٌ للقليل والكثير فانصرف إلى الكثير، بدلالة أن المتمرن بالبلاء قديماً، والمتحكك به كثيراً، هو الذي يستهين به كثيراً، دون من مارسه يسيرا، وعالجه حديثاً.(1/198)
فقد جعلت نفسي هي النأى تنطوي ... وعيني على فقد الصديق تنام
جعلت نفسي، بمعنى طفقت وأقبلت، ولذلك لا يتعدى. فيقول: أخذت نفسي تصبر على النأي، وتنطوي على الفراق، فلا يظهر منها جزعٌ، ولا تبوح بشكوٍ، وعيني تنام على فقد الصديق منهم فلا تسهر، ولا تبكي فتذرف وهكذا النفس إذا وطنت على الشدائد، وتمرنت بالمصائب. وقوله: " تنطوي " أصل الطي الثني والقبض، ومنه الطاوي والطيان.
وقال آخر:
روعت بالبين حتى ما أراعٍ له ... وبالمصائب في أهلي وجيراني
يقول: فزعت بالفراق مرةً بعد أخرى، وثانيةً بعد أولى، حتى صرت لا أرتاع له، وواظبت المصائب علي واتصلت في الأهل تارةً، والإخوان أخرى، حتى صارت الرزايا بالإلف كأنها مرازي وعطايا. والكلام في حتى واتصاله ومعناه على ما تقدم.
لم يترك الدهر لي علقاً أضن به ... إلا اصطفاه بنأيٍ أو بهجران
يقول: لم أدخر لنفسي علقاً نافست فيه إلا زاحمني الدهر عليه فاستأثر بهن إما بإيقاع بعدٍ بيننا، أو إحداث هجرانٍ توسطنا. وأصل العلق: المال الكريم، وجمعه أعلاقٌ وعلوقٌ. واستعاره ها هنا.
وقال طفيل الغنوي
وما أنا بالمستنكر البين إنني ... بذي لطف الجيران قدماً مفجع
يقال: نكر وأنكر واستنكر بمعنىً واحدٍ. فيقول: أنست بفراق الأحبة بعد نفرتي، وببعد ذوي اللطف عقب قلقي، وذلك لأني فجعت بالخلطاء والجيران قديماً، حتى صار كالعادة المألوفة. وقوله " بذي لطف الجيران " أراد بلطيف الجيران، أي باللطيف منهم. وقدماً ظرف للمفجع.(1/199)
جديرٌ بهم من كل حيٍ صحبتهم ... إذا أنسٌ عزوا علي تصدعوا
يقول: أنا خليقٌ بالبين من كل حيٍ أجاورهم إذا استوقفت قربهم، واستحليت الكون معهم، حتى لا يعز علي أناسٌ إلا تفرقوا عن كثبٍ. والأنس: الطائفة من الناس. يقال: رأيت معه أنساً كثيراً، أي ناساً. تصدعوا: تفرقوا. ومنه يقال تصدعت الأرض بفلانٍ، إذا تغيب هارباً.
وقال الراعي
وقد قادني الجيران حيناً وقدتهم ... وفارقت حتى ما تحن جماليا
يقول: جذبني الخلطاء زماناً وجذبتهم، حتى كنت في حكم من لا يصبر عنهم، ولا ينفك منهم، كالقائد للشيء وهو مقودٌ له، لن من كان هذه صفته مع شيءٍ فهو يلزمه ولا يفارقه. والآن فارقتهم فلا أحن إليهم، ولا أنزع نحوهم. ونسب الحنين إلى جماله وإن كان المراد النفس، لأنها في الحنين أقل صبراً حتى ربما تهيم على وجوهها، وتند عن صواحبها، طلباً للإلف، وجرياً مع الهوى. وعلى هذا قال من قال في مخاطبة راحلته وقد رآها:
فإني مثل ما تجدين وجدي ... ولكن أصحبت عنهم قروني
رجاؤك أنساني تذكر إخوتي ... ومالك أنساني بوهبين ماليا
يقول: أملي فيك أنساني الفكر في إخوتي وأهل بيتي، وطمعي في مالك أنساني مالي بوهبين. وهذا قاله لأنه يرى أن رجاءه فيه لتحققه صار مؤثراً على ذكر وطنه وعشيرته، وأن ما طمع فيه من ماله لما كان أكثر مما ملكه بوهبين صار منسياً له.
وهذه القطوعات بما اشتملت عليه من الفظاظة والقسوة، وذكر قلة الفكر في الأوطان والأحبة، وتناسي العهود والأذمة، ومفارقة الأماكن المألوفة. والحلل المورودة، وشكوى النفس إلى التنائي والغربة، دخلت في باب الحماسة. وبمثل هذه المناسبة دخل فيه كثير من نظائرها. وستدل عليها إذا انتهينا إليها.(1/200)
وقال آخر:
وإنا لتصبح أسيافنا ... إذا ما اصطحبن بيومٍ سفوك
يروى " تصبح " بفتح الباء على ما لم يسم فاعله، فيكون المعنى: إنا لتسقى أسيافنا الصبوح بيومٍ سفوكٍ إذا ما اصطحبن. ومن روى " لتصبح " بكسر الباء فخبر تصبح في الثاني، وهو " منابرهن بطون الأكف ". والمعنى: إنا لتصير أسيافنا إذا شربت الصبوح في يوم سفوكٍ للدماء بهذه الحالة. ونسبة السفك إلى اليوم مجازٌ لما كان يقع فيه، فهو كقولهم: نهاره صائمٌ.
منابرهن بطون الأكف ... وأغمادهن رءوس الملوك
أراد أنها تنتضى فتخطب واعظةً للأعدء زاجرةً، ومنذرةً للكماة محذرةً، لكن منابرهن أكف الضاربين، وأغمادها إذا أغمدت رءوس الملوك المعظمين. وهم يتبجحون بقتل الملوك وقتالها. ويقرب من هذا قوله:
يكون جفيرها البطل النجيد
وقوله:
من عهد عادٍ كان معروفاً لنا ... أسر الملوك وقتلها وقتالها
والمنابر: مواضع النبر، وهو الصوت، لأنها نصبت للخطب والمواعظ والتحميدات.
لا يمنعنك خفض العيش في دعةٍ ... نزاع نفسٍ إلى أهلٍ وأوطان
يقول: لا يزهدنك اشتياقك إلى السكن، وحنينك إلى الوطن، في إيثار سعة العيش ورغده مع الراحة والسكون. ويروى: " نزوع النفس " والنزوع اشتهاره في الكف عن الشيء، والنزاع في الشوق، وإن كان جائزاً وقوع أحدهما موقع الآخر في التشوق. ويقال ناقةٌ منازع ونزوعٌ. وقد أنزعوا، أذا حنت إبلهم. والنزع: الجذب، ويقال: خرج نازع يدٍ، إذا خرج عن الطاعة.(1/201)
تلقى بكل بلادٍ إن حللت بها ... أهلاً بأهلٍ وجيراناً بجيران
هذا تسليةٌ للنفس عن الأهل. يقول: تجد بكل بلد تنزل به أهلاً بدلاً من أهلك، وجيراناً بدلاً من جيرانك. والعرب تقول: هذا بذاك، أي هو عوضٌ منه. وإنما ضمن أبو تمام هذه الأبيات باب الحماسة، لما قدمته من أنها صادرةٌ عن قسوةٍ شديدةٍ، وقلة فكرٍ في التحول عن الإلف والعادة، ولأن ترك الوطن والإحلال بالعشيرة يضم إلى القتل وتلف النفس، فالصبر عليه كالصبر على القتل. ألا ترى قوله تعالى: " ولو أنا كتبنا عليهم أن اقتلوا أنفسكم أو اخرجوا من دياركم ما فعلوه إلا قليلٌ منهم ".
وقال بعض بني أسدٍ
إلا أكن ممن علمت فإنني ... إلى نسبٍ ممن جهلت كريم
يقول: إن لم أكن ممن عرفتهم بالشرف، فإني أنتمي إلى شرفٍ كريم ممن جهلتهم. كأنه يريد: ليس الاعتبار بما تعدينه شرفاً أو تعرفينه نسباً، لكن الاعتبار بحصول الكرم على أي وجهٍ حصل، وحوز المجد وإن جهله من جهل. وقوله " إلى نسبٍ " يتعلق بفعل مضمرٍ، كأنه قال: فإنني أنتمي إلى نسبٍ.
وإلا أكن كل الجواد فإنني ... على الزاد في الظلماء غير شتيم
يقول: إن لم أكن النهاية في الجود فإني لا أشتم بسبب الزاد في الليلة المظلمة، فلا أذم لصرفي الصيف عن نفسي بالعلل الكاذبة في الشتوة القحطة. وقد اشتمل قوله " على الزاد في الظلماء " على ما بينا وأكثر منه. وهذا الذي خبر به عن نفسه هو الجود، لكنه أراد أن يرى من نفسه ترك ادعاء النهايات، والأخذ بالاقتصاد في الحالات، وإن كان تناهى من حيث اقتصد. ويقال زيدٌ الشجاع كل الشجاع، والمعنى أنه الكامل في معناه. ومن هذا الباب قوله عز وجل: " وإنا أو وإياكم لعلى هدى أو في ضلالٍ ". وهذا كلام من نظر لنفسه وغيره، وتبين ما عليه وله، فأثبت ما أثبت في أحسن معرضٍ، ودفع ما دفع بألطف تعريضٍ. وتعلق على من قوله: " على الزاد " بشتيم وإن كان مضافاً إليه، لأنه أجري غير مجرى لا،(1/202)
لأنهما للنفي، فحمل الكلام على المعنى فكأنه قال: إنني على الزاد لا أشتم. ونزيد هذا شرحاً فيما بعده.
وإلا أكن كل الشجاع فإنني ... بضرب الطلى والهام حق عليم
هذا كالبيت الذي قبله. يقول: إن لم أكن النهاية في الشجاعة، والمعنى إن لم يكن فعلي النهاية فيما يفعله الشجاع، فإنني عالمٌ حقاً بضرب الرءوس والطلى. والمتناهي في الشجاعة لا يتعدى فعله هذا، لكنه سلك طريقته فيما قبله. الطلى: الأعناق وأعراضها، والواحدة طليةٌ. والباء من قوله " بضرب الطلى " تعلق بقوله عليم.
فإن قيل: كيف ساغ ذلك والمضاف إليه لا يعمل فيما قبل المضاف؟ قلتك لما كان قوله " حق عليم " لا زيادة فيه إلا التوكيد لم يعتد بالمضاف، فحمل الكلام على المعنى لا على اللفظ، فكأنه قال: إنني بضرب الطلى عليمٌ جداً. ويجري هذا المجرى إجازتهم لقول القائل أنت زيداً غير ضاربٍ، مع امتناعهم من إجازة أنت زيداً مثل ضاربٍ، لما كانت معنى غيرٍ معنى لا، فحمل الكلام على المعنى لا على اللفظ، حتى كأنه قيل: أنت زيداً لا ضاربٌ. فاعلمه، وبالله التوفيق.
وقال عمرو بن شأس
أرادت عراراً بالهوان ومن يرد ... عراراً لعمري بالهوان فقد ظلم
المضمرة في أرادت رابة عرارٍ، فقال والده عمروٌ: أرادت امرأتي إهانة عرارٍ والاستخفاف به، ومن يطلب ذلك في مثله فقد وضع الشيء في غير موضعه. فإن قيل: هل تفصل بين قوله أرادت عراراً بالهوان وبين قوله لو قال أهانت عراراً؟ قلت: بلى، لأن معنى أرادته بالهوان أرادت كونه لها وصحبته إياها باستعمال الهوان معه، فيجوز أن يكون الهوان واقعاً، ويجوز أن يكون غير واقعٍ. ومعنى إهانته: ابتذلته وأذلته. فهو إخبارٌ لوقوع الفعل به فيما مضى. ويجوز أن يكون معنى ظلم: تحيف حقه وبخسه.(1/203)
فإن كنت مني أو تريدين صحبتي ... فكوني له كالسمن ربت له الأدم
نقل الكلام عن الإخبار إلى الخطاب، على عادة تفننهم. يقول: إن كنت تهوين هواي، أو تريدين الكون معي ومصاحبتي، وإن انطويت في حبه مخالفتي، فكوني له في تصنعك كأنك موافقة الظاهر للباطن، جاريةٌ معه على الحد من حسن العشرة، وإظهار الميل والمودة. والسمن إذا رب نحيه لم يتغير. يريد فلا تتعيري أنت أيضاً. ومعنى ريت له أي من أجله، والأدم: جمعٌ، يقال أديمٌ وأدمٌ. وله نظائر قليلة: إهابٌ وأهبٌ، وأفيقٌ وأفقٌ، وعمودٌ وعمدٌ.
وإن كنت تهوين الفراق ظعينتي ... فكوني له كالذئب ضاعت له الغنم
يقول: وإن كنت تؤثرين مفارقتي وتميلين إلى التباين عني فأسيئي عشرته وكوني له كالذئب ضاعت الغنم من أجل وقوعه فيها. والمعنى عاشريه عشرته لها. ويجوز أن يريد بقوله " ضاعت له الغنم " فاتته الغنم بعد أن أمكنته. والسبع إذا شارف فريسته ثم فاته كان ذلك مهيجاَ له، وداعياً إلى الفساد فيما يمكنه.
وإلا فسيري مثل ما سار راكبٌ ... تجشم خمساً ليس في سيره أمم
هذا كما يقال عن طريق الوعيد إو إظهار الزهد لمن يؤمر شيئاً: اعمل كذا وكذا وإلا فدعهما ولا تعمل أحدهما فلا حاجة لنا فيه. يقول: وإلا فلا تحسني إلي وفارقيني من وقتك. وهذا إظهارٌ لزهده فيها، واطراح تكلف الاشتراطات معها. ثم قال: ليكن سيرك سير الراكب تكلف ورود الماء لخمسٍ، وليس في سيره قصدٌ ولا قربٌ. وقوله " مثل ما سار راكبٌ " أي سيراً يشابه سيره. وقوله " تجشم " من صفة راكب. والأمم: القرب، ويقال أمري من أمركم أممٌ. ويروى: " ليس في سيره يتم " أي إبطاء.
فإن عراراً إن يكن ذا شكيمةٍ ... تلاقينها منه فما أملك الشيم
يقول: إن عراراً إن يكن ذا سوء خلقٍ تمنين به وتشقين بمقاساته، فإني لا أملك تغيير الطبائع والخلائق. وكأنه جوابٌ لاعتذارها من قلة الملاءمة بينهما. والشكيمة: الحد والشدة. ويقال: إنه لشديد الشكيمة، أي شديد العارضة. ويجوز أن يكون(1/204)
شكيمة اللجام - وهي الحديدة المعترضة منه في الفم - مأخوذاً منه والجميع الشكائم.
وإن عراراً إن يكن غير واضحٍ ... فإني أحب الجون ذا المنكب العمم
يقول: وإن ولدي عراراً إن لم يكن وضيء الوجه ممسوحاً بالجمال، فإني أحبه على سواده وتمام خلقه. وهذا كأنه إسقاطٌ لقول من يزيف ابنه ويعيره القبح والدمامة. وكان عرارٌ هذا أحد الفضلاء، وتوجه عن المهلب بن أبي صفرة إلى الحجاج رسولاً في بعض فتوحه، فلما مثل بين يدي الحجاج لم يعرفه، وازدراه، فلما استنطقه أبان وأعرب ما شاء، وبلغ الغاية والمراد في كل ما سأل، فأنشد الحجاج: " أرادت عراراً بالهوان ... " الأبيات متمثلاً، فقال عرارٌ: أنا أيد الله الأمير عرارٌ! فأعجب به وبذلك الاتفاق. وفي هذه الطريقة قول المأمون لإبراهيم بن المهدي:
إن يكن للسواد فيك نصيبٌ ... فبياض الأخلاق منك نصيبي
والعميم والعمم: الطويل التام من كل شيء. والجون الأسود ها هنا، ويجعل من الأضداد.
وقال آخر
لولا أميمة لم أجزع من العدم ... ولم أقاس الدجى في حندس الظلم
يروى: " ولم أجب في الليالي جندس الظلم ". والمبتدأ بعد لولا يحذف خيره أبداً، ويستغنى بجواب لولا عنه. والتقدير: لولا أميمة مانعةٌ لم أجزع. فيقول: لولا ابنتي أميمة لم أخف الفقر ولم أرحل في طلب المال، ولم أركب الليل، فكنت أجوب ظلماءه، وأكابد أهواله. والحندس: شدة الظلمة، وقد اشتق منه الفعل، فقيل: حندس الليل فهو محندسٌ. ومعنى لم أجب: لم أقطع. وقاطع المواضع المظلمة كأنه قاطعٌ للظلمة. ومن روى " ولم أقاس الدجى " يريد أهوالها. وإضافة الحندس إلى الظلم كإضافة البعض إلى الكل، أي في الشديد من الظلم. ويقال تحندس الرجل، إذا ضعف وسقط.(1/205)
وزادني رغبة في العيش معرفتي ... ذل اليتيمة يجفوها ذوو الرحم
يقول: زادني حرصاً على الدنيا ورغبة في العيش فيها، علمي بذل اليتيمة وقد جفاها أقاربها، واطرحها أهلوها. وموضع " يجفوها " من الإعراب نصبٌ على الحال لليتيمة، والعامل فيه ذل اليتيمة. والتقدير: زادني معرفتي بذل اليتيمة إذا جفاها ذووها رغبةً في العيش ومهلة العمر.
أحاذر الفقر يوماً إن يلم بها ... فيهتك الستر عن لحمٍ على وضم
قوله " أن يلم بها " موضعه نصبٌ على البدل من الفقر. والمعنى: أحاذر إلمام الفقر بها فيكشف الستر عمن لا دفاع به، فتناوله من شاء بما شاء. والعرب تقول: " النساء لحمٌ على وضمٍ إلا ما ذب عنه ". والوضم: خوان الجزار والخباز، وموضعه ميضمةٌ، والجميع مواضم.
تهوى حياتي وأهوى موتها شفقاً ... والموت أكرم نزال على الحرم
يقول: تحب ابنتي بقائي لها، وأنا أود موتها إشفاقاً عليها، وخوفاً من ابتذالٍ يلحقها، وابتلاءٍ بمن لا يعرف لها ما يعرف لمثلها، ثم قال: والموت أكرم نزالٍ على الحرم، كما قيل: نعم الختن القبر ودفن البنات من المكرمات. وانتصف شفقاً على أنه مفعول له.
أخشى فظاظة عمٍ أو جفاء أخٍ ... وكنت أبقى عليها من أذى الكلم
هذا تفسير قوله أهوى موتها شفقاً يريد: أشفق من مغالظة عمٍ لها، أو جفوة أخٍ تلحقها، وأنا كنت أبقي عليها من إيذائها بالكلم فضلاً عن غيرها من الأفعال. يقال: رجلٌ فظٌ، إذا كان قاسي القلب غليظ القول. والكلم: جمع كلمةٍ. ومعنى: أذى الكلم الأذى الذي يلحق من الكلم.
وهذه الأبيات مع ما يشبهها لما ضادت ما قبلها في تضمنها رقة القلب، والتعطف على الولد والأهل، أتبعها بها. وكل ذلك كالعارض ثم يعود إلى ما بني عليه الباب. وهذا عادة أبي تمام في أبواب هذا الاختيار. ويشبهها قول الآخر:
لقد زاد الحياة إلي حباً ... بناتي إنهن من الضعاف(1/206)
أحاذر أن يرين البؤس بعدي ... وأن يشربن رنقاً بعد صاف
وأن يعرين إن كسي الجواري ... فتنبو العين عن كرمٍ عجاف
وقال خطاب بن المعلى
أنزلني الدهر على حكمه ... من شامخٍ عالٍ إلى خفض
يقول للدهر حكمٌ معروفٌ، وطريقٌ مألوفٌ، في رفع الوضيع، وحط الرفيع، فأجرى حكمه على، وأنزلني عن رتبةٍ عاليةٍ إلى منزلةٍ منخفضةٍ، والخفض: ضد الرفع، وهو مصدرٌ وضع موضع المفعول. يريد إلى مكان منخفض.
وغالني الدهر بوفر الغنى ... فليس لي مالٌ سوى عرضي
يروى: عالني ومعناه غلبني، ويروى: غالني ومعناه أهلكني بارتجاع عواريه من المال، واستلاب ما كنت وفرت به من العتاد، فمالي مالٌ سوى نفسي، وليس النفس من المال في شيءٍ. وموضع سوى نصبٌ على أنه استثناءٌ خارجٌ، وهذا الاستثناء يتأكد به انتفاء الغنى. ومثله قوله:
ولا عيب فيهم غير أن سيوفهم ... بهن فلولٌ من قراع الكتائب
ويجوز أن يكون المعنى: ليس لي غنىً سوى غنى نفسي، فحذف المضاف، والمعنى: إن نفسي غنيةٌ فلا تطمع في المكاسب الوضيعة، ولا تتدنس بالمآكل الخبيثة. وقوله بوفر الغنى أي بسلب وفر الغنى، فحذف المضاف. ويتعلق الباء منه بقوله غالني. والوفر: كثرة المال، وأضافه إلى الغنى، لأن المراد المال الذي يحصل به الغنى. وهم يضيفون الشيء إلى الشيء لأدنى مناسبة بينهما، سواءٌ كان له أو عليه، أو معه أو فيه، أو من أجله، أو مما يليه. ويجوز أن يكون موضع بوفر الغنى نصباً على الحال للدهر، كما تقول: فاتني فلانٌ بكذا، والمعنى فاتني مستصحباً له. ومثله: جاء في أطمارٍ، أي لابساً لها. ويجوز أن يكون حمل الكلام على المعنى، فعدى غالني تعدية فجعني، لأنه في معناه فكأنه قال: فجعني بوفر الغنى وأصابني.(1/207)
أبكاني الدهر ويا ربما ... أضحكني الدهر بما يرضي
قوله بما يرضي يدل على أنه أضمر مع قوله أبكاني الدهر شيئاً يكون في مقابلته، وحذف لأن المراد مفهومٌ. والمعنى أبكاني الدهر بما يسخط. وقوله يا ربما المنادى فيه محذوف، كأنه قال: يا قوم ربما. وهذا النداء على وجه التحسر والتوجع من معاملة الدهر وسوء تنقله. وقوله ربما ما هذه دخلت كافة لرب العمل، ومخرجه لها إلى أن تصير مشتركة حتى جاز وقوع أضحكني بعده. ومثله قوله تعالى: " ربما يود الذين كفروا ". ومعنى البيت: أبكاني الدهر بما أسخطني، ويا قوم ربما أضحكني الدهر فيما مضى بما أرضاني. وفي طريقته قول الآخر:
فإن تسكن الأيام أحسن مرةً ... إلى فقد عادت لهن ذنوب
لولا بنياتٌ كزغب القطا ... رددن من بعضٍ إلى بعض
بنياتٌ في موضع المبتدأ، وجاز الابتداء به لكونه محدوداً بما اتصل به من الصفات. وجواب لولا لكان لي مضطربٌ واسعٌ وهو أول البيت الذي يليه، واستغنى به عن خير المبتدأ، والتقدير: لولا بنياتٌ صفاتهن هذه مانعةٌ لي لفعلت. ومعنى البيت: لولا بنياتٌ لي صغيراتٌ كفراخ القطا التي عليها الزغب - وهو الشعر اللين لصغرهن - اجتمعن لي في مدةٍ يسيرةٍ، فمن ثانيةٍ بعد أولى، وواحدةٍ إلى جنب أخرى فكثرن - لكان كذا. ومثله:
تجمعن من شتى ثلاثاً وأربعاً ... وواحدة حتى اجتمعن ثمانيا
أى جئن متوالياب. ويروى: " رددن من بعضي إلى بعضي "، بفتح الراء من رددن وإضافة البعض، والمعنى: قوسنني وحنين ظهري. ويجوز في الرواية الأولى أن يكون المعنى أن هذه البنات زوجن فرددن مع بناتٍ لهن صغار. ويقال: ابنتك مردودة، أي مطلقةٌ. وإلي في موضع مع، يقال هذا إلى ذلك أي معه. ويكون " من بعضٍ إلى بعض " في موضع الحال، أي رددن مع غيرهن. وقد شبه لحطيئة وغيره(1/208)
الأولاد بزغب القطا، فقال:
ماذا تقول لأفراخٍ بذي مرخٍ ... زعب الحواصل لا ماءٌ ولا شجر
يجوز أن يروى رددن على ما لم يسم فاعله. ومن بعضي إلى بعضي مضافين. والمعنى: كن في صلبي، فلما ولدتهن صرن في كبدي فهي تحترق عليهن لفرط شفقتي.
لكان لي مضطربٌ واسعٌ ... في الأرض ذات الطول والعرض
المضطرب يكون الاضطراب، ويكون موضع الاضطراب. يقول: لولا خوفي من ضياعهن وإبقائي عليهن، لكان لي مجالٌ واسعٌ، ومذهبٌ فسيحٌ في الأرض الطويلة العريضة. وإنما تلومت ولزمت مكاني هذا لهن وبسببهن.
وإنما أولادنا بيننا ... أكبادنا تمشي على الأرض
يقول: محل أولادنا من أنفسنا فيما بيننا وإن كانت ماشية على الأرض محل الأكباد من الأجواف. " الولد فلذةٌ من الكبدي "، أي قطعةٌ. وقوله " تمشي على الأرض " في موضع الحال للأولاد، وبيننا ظرفٌ لتمشي. والتقدير: أولادنا وهي ماشيةٌ على الأرض بيننا أكبادنا. وقوله " إنما " يدخل لتحقيق الشيء على وجه مع نفي غيره عنه.
؟؟؟؟؟
وقال حيان بن ربيعة
لقد علم القبائل أن قومي ... ذوو جدٍ إذا لبس الحديد
يقول: شهدت القبائل أن قومي يجدون في الحرب إذا تدجج أهلها في الأسلحة، ويبلون فيها ولا يقصرون. و " إذا لبس الحديد " ظرفٌ لقوله ذوو جدٍ كأنه قال: إنهم يجتهدون في ذلك الوقت. وأن قومي مع ما بعده سد مسد مفعولى علم.(1/209)
وأنا نعم أحلاس القوافي ... إذا استعر التنافر والنشيد
يقول: ويشهدون أيضاً أنه نعم أصحاب القوافي وأربابها نحن، إذا التهبت نار التفاخر والتناشد والتحاكم. والحلس، أصله البرذعة وما يلي الظهر تحت الرحل، ثم يستعمل على طريق التشبيه على وجهين: يقال في الذم: فلانٌ كالحلس الملقى، فيمن لا غناء عنده ولا كفاية إذا حزبه أمرٌ. ويقال فيمن لزم ظهور الخيل: هم أحلاسها؛ وهذا إذا مدحوا بالفروسية. ثم قالوا: ما هذا من أحلاس فلانٍ، أي ليس من آلاته. وقد مر بي أيضاً أنه يقال للكفل الذي ليس بفارسٍ: هو كالحلس. وأحلاس البيت: ما يلقى تحت حر متاعه:
وأنا نضرب الملحاء حتى ... تولى والسيوف لنا شهود
يقول: وشهدوا أيضاً أنا نضارب الكتيبة البيضاء لكثرة سلاحها فنغلبهم حتى تولى منهزمةً، وسيوفنا لها حاضرةٌ نكتسحهم بها في الهرب أيضاً، والملحاء من الملح، وهو البياض. يقال: كبش أملح. ويروي " نضرب الملحاء " بضم الراء. ويقال: ضاربته فضربته أضربه، أي غلبته في الضراب.
؟
وقال الأعرج المعنى
؟ أنا أبو برزة إذ جد الوهل
خلقت غير زملٍ ولا وكل
يريد أنا الذي لشهرته تغنى كنيته عن صفاته وذكر أحواله، وقت اشتداد الخوف. فإن قيل: ما العامل في قوله " إذ وجد "؟ قلت: ما دل عليه قوله أنا أبو برزة من المعنى الذي بينته هو العامل - ومثله:
أنا أبو النجم وشعري شعري(1/210)
وقوله خلقت غير زملٍ، أي غير ضعيف ولا جبان يتكل على غيره فيما ينوبه. والزمل والزمال والزميلة: الضعيف. والوكل: الذي يتكل على غيره.
ذا قوةٍ وذا شبابٍ مقتبل
لا جزع اليوم على قرب الأجل
الموت أحلى عندنا من العسل
يقول: خلقت قوياً مقتبل الشباب، لم تبلني السنون، ولم يضعفني ما مسني من النوائب والهموم. فإن قيل: ما الزيادة في قوله ذا قوةٍ على قوله غير زمل؟ قلت: يجوز أن يكون ذا قوة مصروفاً أي الرأي، وغير زمل مصروفاً إلى البنية. ويجوز أن يكون المراد بذا قوةٍ الجلادة، لأن ليس من كان غير ضعيف كان جلداً. واقتبال الشباب: ألا يرى أثر من الكبر معه.
وقوله لا جزع اليوم يقول: استقلتنا يومنا، فلا نجزع على دنو الأجل فيه إن دنا، لأن الموت إذا غشينا فيما نطلبه، أحلى طعماً عندنا من طعم العسل، وقوله " اليوم " ظرف لقرب الأجل، وعلى قرب الأجل، خبرٌ للا. ويجوز أن تجعل اليوم خبراً على قرب الأجل تبييناً له أو حالاً. وإن جعلته خبراً بعد خبرٍ، كما نقول: هذا حلوٌ حامضٌ، جاز أيضاً. وذكر بعض المتأخرين أنه لا يجوز أن يكون معنى على هنا معناها في قولك جزعت على كذا، أي أشفقت عليه، لأنه غير الغرض المقصود. ألا ترى أن معناها لا جزع اليوم من الموت على أن الأجل قريبٌ منا، فإذا قرب منا فلم نجزع منه فما ظنك بنا إذا بعد عنا. وأنا أقول: وإن من البيان لسحراً، وإن من الغوص على المعاني لمثله دراً.
ردوا علينا شيخنا ثم بجل
نحن بني ضبة أصحاب الجمل
ننعي ابن عفان بأطراف الأسل(1/211)
يعني بالشيخ عثمان بن عفان رضي الله عنه. المعنى: إنا طالبون بدمه، فإذا أدركنا ثأره فحسبنا ذاك. وهذا معنى قوله ثم بجل. وموضع بجل رفعٌ على الابتداء وخبره مضمر، كأنه قال: ثم بجلنا ذلك، أي حسبنا ذلك. وثم عاطفةٌ لجملةٍ على جملةٍ. وقال لبيدٌ:
بجلي الآن من العيش بجل
وحكى الأخفش أن بجل ساكنةٌ أبداً. يقولون بجلك، كما يقولون قطك وقدك، إلا أنهم يقولن بجلى ولا يقولون بجلني كما يقولون قطني وقدني، وهو القياس مع مجيئه على السكون. وانتصاب بني ضبة بفعل مضمر، والقصد فيه المدح والاختصاص. وخبر المبتدأ الذي هو نحن أصحاب، والتقدير: نحن - أذكر بني ضبة - أصحاب الجمل. وهذا الكلام ينبه به على أنهم مجدون في طلب دم عثمان رضي الله عنه، لأن الذين خرجوا مع عائشة رضي الله عنها وقاتلوا يوم الجمل كان دعواهم طلب الثأر. ولو قال نحن بنو ضبة لكان يسقط فخامة المدح وتعظيمه، وكان يصير أصحاب صفةً وبنو خبراً، وكان يجوز أن يكونا جميعاً خبرين، ويجوز أن يكون أصحاب بدلاً من بنو. وقوله ننعي ابن عفان كان عادتهم إذا مات رئيسٌ فيهم عظيم الشأن والمحل أن يطوف واحد منهم على القبائل، ويصعد الروابي المطلة عليهم، والآكام المرتفعة بمحالهم ويقول: نعاء فلاناً؟! يريدون تشهير أمره، وتعظيم الفجع به، وربما أرخوا بموته. فيقول: نحن نجعلا بدل هذا الفعل أن نطلب دمه بأطراف الرماح. وهذا معنىً حسن.
؟ وقال آخر:
داو ابن عم السوء بالنأي والغنى ... كفى بالغنى والنأي عنه مداويا
يقول: عالج ما بينك وبين ابن عم السوء من التضاغن والتباين، والتغابط والتحاسد، بالبعد منه، والاستغناء عنه. ثم قال: وكفى بهما من مداوٍ معه. وهذا يجري مجرى الالتفات، وهو تنبيهٌ على أنهما الغاية فيم يحسم به شره، ويدفع به(1/212)
ضيره. وموضع بالغنى رفعٌ بكفي. ومداوياً يجوز أن يكون حالاً ويجوز أن يكون تمييزاً، وهو أحسن، ومثله: " كفي بالله شهيداً ". والكلام يجري أيضاً مجرى التأكيد فيما دعا إليه، والتحقيق لغناء ما أشار به.
جزى الله عنا محصناً ببلائه ... وإن كان مولاي القريب وخاليا
محصنٌ المذكور، هو ابن عمه الذي تأذى به فدعا عليه. يقول: جزاه الله بفعله فينا، إن خيراً فخيراً وإن شراً فشراً، وإن كان متصل النسب بطرفي أبي وأمي.
يسل الغنى والنأي أدواء صدره ... ويبدي التداني غلظة وتقاليا
السل: النزع. والأدواء: جمع الداء. وهذا مثل ما روى: " أن مر ذوي القربات أن يتزاوروا ولا يتجاوروا "، وزاد عليه أيضاً بما شفع النأي به من ذكر الغنى. ونبه أيضاً على أن في التداني تحاسداً يبدو معه القلى والقسوة لأن الكلام كالتعليل للأمرين اللذين رغب في أحدهما وزهد في الآخر، وهما التداني والتنائي. والمثل السائر: " فرق بين معدٍ تحاب " مثل البيت.
أعان على الدهر إذ حك بركه ... كفى الدهر لو وكلته بي كافياً
هذا الكلام شكايةٌ مما عامله به محصنٌ، وتصريح بأذاه، فيقول: لم يرض بالقعود عني وإسلامي للدهر حتى صار عوناً له علي، لما أخذ يؤثر تأثيره، ويلقي كلكله وجرانه. ثم قال منتقلاً عن الأخبار عنه إلي مخاطبته، وإظهاراً للجزع من فعله. لو اتخذت الدهر وكيلاً واعتمدت عليه، دون أن تباشر مساءتي بفعلك لكفاك. ومثل هذا القول، أعني كفى الدهر، يسمى التفاتاً. وقوله كافياً يجوز أن يكون تمييزاً، ويجوز أن يكون في موضع المصدر، أراد: كفى الدهر لو وكلته بي كفايةً. واسم الفاعل يقع موقع موقع المصدر كثيراً كما يقع المصدر موقع اسم الفاعل. ومثله قول(1/213)
بشر:
كفى بالنأي من أسماء كاف
فقوله كافٍ في أحد الوجوه مصدرٌ لكنه لم ينصبه، وجعله كقول الآخر:
كأن أيديهن بالقاع القرق
في ترك إعراب المعتل في موضع النصب أيضاً، إذ كان من العرب من يستثقل الفتحة في الياء، والتقدير: كفى النأي من أسماء كافيا، أي كفايةً. وقد جاء في المثل: " أعط القوس باريها "، بسكون الياء في باريها، ولم يرو أحدٌ باريها بالفتح، فليس يجوز إلا مات حكى، لأن الأمثال لا تغير.
؟ وقال رجلٌ من بني كليبٍ
وحنت ناقتي طرباً وشوقاً ... إلى من بالحنين تشوقيني
انتصب طرباً على أنه مصدرٌ في موضع الحال، أو على أنه مفعولٌ له. وأول البيت خبرٌ عن راحلته، وآخره خطابٌ لها. وقوله تشوقيني حذف نونه استثقالاً لاجتماع نونين، والأصل تشوقينني. ومثله في الحذف قول الآخر:
يسوء الفاليات إذا فليني
يريد فلينني. والمعنى: اشتكت ناقتي حانةً لطربها وشوقها. ثم أخذ يخاطبها منكراً عليها ما ظهر منها فقال: تشوقينني بحنينك إلى من؟ أراد أنه مع حصول اليأس يجب ألا تحن ولا تشوق. ويجوز أن يكون المعنى تعظيم المشتاق إليه، فكأنه قال: تشوقينني إلى من بحنينك؟ أي إلى إنسانٍ وأي إنسان؟ ومن من قوله إلى من في هذا الوجه يكون نكرةً غير موصوفةٍ وإن كان الكلام خبراً، وفي المعنى الأول يكون من(1/214)
استفهاماً. وتقول: مررت بما صالحٍ، ومررت بمن كريمٍ. تريد بإنسانٍ كريمٍ. وقد حمل قوله عز وجل: " مثلاً ما بعوضة "، على أن معناه مثلاً شيئاً بعوضة. والطرب: خفةٌ تعتري لعارض سرورٍ أو همٍ:
فإني مثل ما تجدين وجدي ... ولكن أصحبت عنهم قروني
هذا الكلام اعترافٌ بالحب، وتسويغٌ لحنين الناقة وإن كره التذكير الحاصل منه. والشجو المنتج عنه. وقوله مثل ما تجدين يجوز أن يكون خبراً مقدماً والمبتدأ وجدي، فيكون التقدير: إنى وجدي مثل ما تجدين، والجملة خبر إن. ويجوز أن يكون مثل خبر إن، ووجدي بدلٌ من ياء الضمير المتصل بإنى، كأنه قال: إن وجدي مثل ما تجدين. وما بمعنى الذي، وتجدين من صلته، والضمير العائد إليه محذوف، كأنه قال: مثل ما تجدينه، أي مثل الوجد الذي تجدينه. ويجوز أن يكون ما مع الفعل في تقدير مصدرٍ، كأنه قال: إنى وجدي مثل وجدك. والأصل في إنى إنني، لكنه حذف نونه لاجتماع ثلاث نونات، ويجوز أن يكون لم تأت بنون العماد كما لم يؤت به في لعلي وليتي، والمعنى إن وجدي مثل وجدك، ولكن تابعتني نفسي باليأس منهم، وأنت لا تعرفين اليأس. والإصحاب: الانقياد. والقرون والقرونة: النفس. ويقولون: أخذت قروني من هذا الأمر، أي رفضته واطرحته.
رأوا عرشي تثلم جانباه ... فلما أن تثلم أفردوني
يقول: رأوا عزي قد تهدم جانباه، وانهد ركاناه، فلما صار أمري كذلك تركوني وحيداً، وقعدوا عن مشايعتي ومتابعتي، فدعتني الحال إلى مفارقتهم، والتحول عنهم. والعرش: سرير الملك، وقوام أمر الرجل وعزه، فإذا زال قيل: ثل عرشه وتثلم. وقد ألم في هذا بقول أوسٍ:
وهم لمقل المال أولاد علةٍ
وبقوله:
بنو أم ذي المال الكثير(1/215)
هنيئاً لابن عم السوء أني ... مجاورةٌ بني ثعل لبونى
أني في موضع الفاعل لهنيئاً، ومجاورةٌ ارتفع على أن يكون خبر أن، ولبوني في موضع الرفع على أنها فاعلةٌ لمجاورة، وبني ثعلٍ مفعولٌ به. والمعنى: ليهنئ ابن العم السوء بعدي عنهم، ومجاورة لبوني لغيرهم. واللبو ن: الناقة التي بها لبنٌ. ويجوز أن يرتفع مجاورةٌ على أنه خبرٌ مقدمٌ، والمبتدأ لبوني والجملة كما هي تكون خبر أن. ويجوز أن يكون لبوني بدلاً من الضمير المتصل بأني، والخبر مجاورةٌ. والمعنى والتقدير أن لبوني مجاورةٌ بني ثعلٍ. وهذا الكلام إنباء أن ما حصل من بعده عن العشيرة كانوا يتمنونه، فقال هنأ الله أبناء عمي ما أرادوه وفازوا به. ويجوز أن يكون وعيداً وتهكماً.
وقال رجل من بني أسد
وما أنا بالنكس الدني ولا الذي ... إذا صدعني ذو المودة أحرب
النكس أصله في السهام، ونقل إلى الضعيف من الرجال. يقال نكسته نكساَ ثم يسمى المنكوس نكساً، كما يقال نقضته نقضاً ثم يسمى المنقوض نقضاً بكسر النون. كأن السهم انكسر فوقه فنكس فسمي نكساً. فيقول: ما أنا بالمستضعف اللئيم، ولا الذي إذا انحرف عنه من يواده دعا بالويل والحرب فقال: واحرباه. وفي طريقته.
ولا أقول إذا ما خلةٌ صرمت ... يا ويح نفسي من شوقٍ وإشفاق
ويجوز أن يكون معنى أحرب: أغتاظ. ومنه قوله:
إني إذا الشاعر المغرور حر بني
وهذا أسلك في طريقة العربية؛ وكان يجب أن يقول: ولا الذي إذا صد عنه ذو المودة يحرب، حتى يكون في الصلة ما يعود إلى الموصول، لكنه لما كان القصد في الإخبار إلى نفسه وكان الآخر هو الأول، لم يبال برد الضمير على الأول وحمل الكلام على المعنى، لأمنه من الإلتباس. وهو مع ذلك قبيحٌ عند النحويين، حتى إن أبا(1/216)
عثمان المازني قال: لولا اشتهار موده وكثرته لرددته. ومثله:
أنا الذي سمتن أمي حيدره
ولكنني إن دام دمت وإن يكن ... له مذهبٌ عني فلى عنه مذهب
يقول: أملك نفسي وودي في مصادقة الأخلاء، فإن داموا لي على العهد دمت لهم، ولزمت الوفاء معهم، وإن رأوا ذهاباً عني وميلاً إلى غيري ذهبت عنهم، وملت إلى غيرهم. ويروى: ولكنني ما دام دمت ويكون موضع ما دام ظرفاً، وخبر لكن دمت. وفي الأولى يكون الجزاء وجوابه خبراً. وفي طريقته قول لبيد:
فاقطع لبانة من تعرض وصله ... ولخير واصل خلةٍ صرامها
ألا إن خير الود ودٌ تطوعت ... به النفس لا ودٌ أتى وهو متعب
يقول: خير الود ما جاء عفواً من غير جهدٍ، ولا إكراه نفس وطبع، بل يبعثه الميل، ويحكمه الخلوص؛ فأما المتعب من المودات، والمشوب بالتعمل والتكلف، فلا طائل فيه. ومثله قول بعضهم:
ولا خير في ود امرىءٍ متكارهٍ ... عليك ولا في صاحبٍ لا توافقه
وقول الآخر:
إذا أنت لا يثنيك إلا شفاعةٌ ... فلا خير في ودٍ يكون بشافع
وقال أبو حنبلٍ الطائي
لقد بلاني على ما كان من حدثٍ ... عند اختلاف زجاج القوم سيار(1/217)
ارتفع سيارٌ بقوله بلاني. واللام في لقد تؤذن بيمينٍ. يقول: لقد خبرني هذا الرجل على ما اتفق من حدثٍ، واعترض من شرٍ، فعرف حسن بلائي عند اختلاف القنا بالطعن. وذكر الزجاج، والمراد الرماح بكمالها، ومثله قول الآخر:
الواطئين على صدور نعالهم
وإنما يوطأ النعل كلها. ويقال: زججته بالرمح، إذا زرقته.
حتى وفيت بها دهماً معقلةً ... كالقار أردفه من خلفه قار
يقول: صبرت لماعز من أمرٍ، وتعسر من وفاءٍ وأداءٍ، لأخرج مما به تكفلت، من العهدة التي فيها دخلت. وقد كان أبو حنبل تضمن لسيار إبلاً له بأعيانها أو شرواها، أي مثلها، فيقول: أخذ سيارٌ ينتظر مذا يكون مني فيما تضمنت حتى وفيت بإبله سوداً مشدودة بعقلها، كأنها في سوادها قارٌ عولي بقارٍ. وهذا يراد به تأكيد السواد. ويقال ردفته وأردفته، إذا جئت بعده. وردفكم وردف لكم، أي تبعكم وجاء بعدكم. وانتصب دهماً على أنه حالٌ للإبل. وفائدة قوله كالقار تصويرٌ للإبل بألوانها. ومعنى لقد بلاني حتى وفيت، أي انتظر ما يكون من البلاء في وفائي عندما ضمنت، وصار يحربني إلى أن وفيت. وفائدة قوله معقلةً، أنه سلمها في مباركها آمنةً. ويجوز أن يكون أراد إبلاً متقدماتها ومتأخراتها سودٌ، فلذلك قال كالقار أردف بقارٍ، ويجوز أن يكون أراد بالقار جمع قارةٍ، وهي الجبال، فشبهها بها في عظمها.
قد كان سيرٌ فحلوا ع حمولتكم ... إني لكل امرئ من جاره جار
يقول: وجب السير للخوف والحذر قبل هذا الوقت، وأما الساعة وقد بلغتم المأمن في جواري فحلوا عن أجمالكم، إني لكل رجل منكم جار بدلاً من جاره الأول. والعرب تقول: هذا من ذاك، وهذا بذاك أي عوضٌ. وفسر قول الشاعر:
ليت لنا من ماء زمزم شربةً ... مبردةً باتت على الطهيان(1/218)
على أن المعنى ليت لنا بدلاً من ماء زمزم شربةً. ويقولون: فلانٌ لك من الجار جارٌ، ومن النديم، ومن الأكيل أكيلٌ. ويحتمل أن يكون معناه: أني لكل رجلٍ مجيرٌ ممن يجاوره، أي ممن يدانيه بسوءٍ، والأول أجود وأصوب. والحمولة: جمع حملٍ، ودخلت الهاء فيه توكيداً لتأنيث الجمع. والحمولة: الأبل التي يحمل عليها، وهي فعولةٌ كالقتوبة، والركوبة، ولا يجري على الموصوف، لا يقال دابةٌ حمولة.
وقال يزيد بن حمان السكوني
إني حمدت بني شيبان إذ خمدت ... نيران قرمي وفيهم شبت النار
الحمد: الثناء على الرجل بما فيه من الخصال المرتضاة. وبهذا المعنى فارق الشكر، لأن الشكر لا يكون إلا على صنيعة. فيقول: لما رأيت بني شيبان عند إمحال الأرض وإجدابها، وإقتار الناس وإضاقتهم، ويوقدون نار ضيافتهم ويقيمونها، وإن كانت نيران غيرهم خامدة متروكاً إشعالها، أثنيت عليهم، ونشرت فضيلتهم. وقال نيران قومي وإن أراد غيرهم معهم، تفضيلاً لهم على قومه، وإيذاناً بالصدق في مخبره، فبدأ بذكر قومه وذويه. ويروي: نيران قوم، والأول أجود.
ومن تكرمهم في المحل أنهم ... لا يعلم الجار فيهم أنه الجار
حتى يكون عزيزاً من نفوسهم ... أو أن يبين جميعاً وهو مختار
يقول: من تكلفهم الكرم كأنهم لا يرضون في مثل ذلك الوقت بما طبعوا عليه وجبلوا، حتى تكلفوا أكثر منه، أنهم يحلون جارهم من العناية به والاتحاف والإحسان إليه والاصطناع، محلاً يتشكك من بعد في نفسه: هل هو جارهم أم من صميمهم. وعلى هذا يتعلق حتى من قوله حتى يكون عزيزاً بالمعنى الذي دل عليه قوله لا يعلم الجار فيهم أنه الجار، أي يعاملونه بهذه المعاملة إلى أن يكون عزيزاً فيما بين ظهرانيهم، أو يختار مفارقتهم. والمعنى: ذلك له فيهم، ما اعتز بجوارهم، أو مال إلى فراقهم. ويجوز أن يكون قوله من نفوسهم في موضع الحال، وعزيزاً خبر(1/219)
كان. وإن جعلت عزيزاً في موضع الحال ومن نفوسهم خبراً جاز. والمعنى: حتى يكون كأنه من أصلهم، كما قال الله عز وجل: " لقد جاءكم رسول من أنفسكم "، والمعنى من جنسكم ومن بطانتكم. ويجوز أن يكون البيت مضمناً، ويكون معنى لا يعلم الجار فيهم أنه جار، أن الجار لا يكون قد أحس بمجاورته لهم حتى يتفقدوه هذا التفقد، ويحلوه هذا المحل. وقوله أو أن يبين جميعاً انتصب جميعاً على الحال، والمعنى أو أن يفارق وهو مجتمع الحال غير منتشرها، ومختار لذلك غير مضطر إليه. ومثل هذا بيت زهير:
ضمنا ما له وغدا جمعا ... علينا نقصه وله النماء
وقبل بيت زهير هذا قوله:
وجار سار معتمداً إلينا ... أجاءته المخافة والرجاء
فجاور مكرماً حتى إذا ما ... دعاه الضيف وانقطع الشتاء
ضمنا ما له وغدا جميعاً................................
فقد علمت اشتمالها على ما ذكره هذا الشاعر وتفردها بما زاد عليه من المعنى. ويجوز أن يكون حتى بمعنى كي، فيكون المراد لا يعلم الجار لحسن توفرهم عليه، وتوحدهم إياه باتخاذ الصنائع لديه أنه جار، لكي يكون عزيزاً مدة مقامه، أو يفارقهم مختاراً، موفور المال، مصون الحال.
كأنه صدع في رأس شاهقة ... من دونه لعتاق الطير أوكار
يقول: كأن الجار لتمنعه بهم، وتعززه حين استظهر على الزمان بمكانه فيهم، وعل احترز عن طلابه في رأس قلة شامخة أوكار عتاق الطير دونه، وهو أرفع منها وأحصن. فالتشبيه تناول ما ذكرت من التمنع والتحصن. ويعني بعتاق الطير: العقبان وما أشبهها من أحرار الطير، وما يتخذ الوكور في الجبال. وإلى هذا أشار الهذلي في قوله:
حتى انتهيت إلى فراش عزيزة ... سوداء روثة أنفها كالمخصف(1/220)
يعني وكر عقاب. والصدع والصديع: الفتي من الأوعال، وقيل هو للربوع وقد استعمل في الربعة من الرجال.
وقال آخر:
نزلت على آل المهلب شاتياً ... غريباً عن الأوطان في زمن محل
يقول: أويت لما تغربت عن أوطاني داخلاً في الشتاء، ممتحناً بالجدب والقحط، ملجأً إلى الاستعانة على الزمان بغيري، إلى آل المهلب بن أبي صفرة ونزلت فيهم. ثم أخذ يقتص ما رأى فيهم. ويقال زمن محل، وصف بالمصدر، وزمن ما حل وزمن ممحل. والأصل في المحل: انقطاع المطر ويبس الكلا. ويقال أرض محل وأرض محول، وصف بالجمع، كأنه أجرى على أقطاع الأرض، كما يقال: ثوب مزق.
فما زال بي إكرامهم واقتفاؤهم ... وإلطافهم حتى حسبتهم أهلي
يقول: لم يزالوا يؤثرونني بالإحسان والحسنى، ويختصونني بإسداء الجميل والنعمى، ويلتزمون لي من الإكرام والتقريب، والإدناء والترحيب، حتى ظننتهم عشيرتي، وتشككت في اغترابي منهم، وبعد نسبي عنهم. ومن الإقتفاء القفي، وهو المكرم من الضيوف والسكن، والقفاوة. قال:
يعطي دواء قفي السكن مربوب
وقال جابر بن ثعلب الطائي
وقام إلى العاذلات يلمنني ... يقلن ألا تنفك ترحل مرحلاً
يقول: انتصب اللواءم عاتبات علي، سائقات العنف إلي قائلات: ألا تزال ترحل ارتحالاً فلا تستقر بك دار، ولا يقرب لك مزار، ولا يحط عن راحلة رحل.(1/221)
ومرحلاً انتصب على المصدر، كما تقول: أما تنفك تخرج مخرجاً وتبعد مبعداً. ومعنى ترحل تشد الرحل. وموضع يلمنني موضع الحال، ويقلن في موضع البدل من يلمنني.
فإن الفتى ذا الحزم رام بنفسه ... جواشن هذا الليل كي يتمولا
في الكلام اختصار، كأنه قال: فأجبتهن فقلت: إن الفتى الحازم يحمل نفسه المشقات، ويرمي بنفسه المتالف الصعبات، ويمتطي الأهوال، كي ينال الأموال، غير مفكر في ظلمة ليل، ولا مستصعب لركوب خطب. وقوله: جواشن هذا الليل يعني صدورها وأوائلها. والليل بإزاء النهار في الاستعمال، والليلة بإزاء اليوم. والإشارة بهذا على طريق التقريب. وهم يستعيرون الجواشن والهوادي والصدور والنحور والأعناق والرؤوس لأوائل الأمور، كما يستعيرون الأعجاز والأدبار والأعقاب والأذناب لآواخرها.
ومن يفتقر في قومه بحمد الغنى ... وإن كان فيهم واسط العم مخولاً
افتقر فعل مفتقر وفقير جميعاً، استغنى به عن فقر. يقول: من ناله الفقر بين عشيرته وأهليه حمد الغنى، وصار عنده المطلوب والمتمنى، وإن كان معطوفاً عليه مكرماً، ومع ما فيهم مخولاً. وقوله: واسط العم سطة الحسب: كرمه، والفعل منه وسط. قال:
وقد وسطت مالكاً وحنظلاً
ويقال: فلانٌ وسيطٌ في قومه: جليلٌ، وفلان واسط القوم، وهو أوسطهم أي أشرفهم.
كأن الفتى لم يعر يوماً إذا اكتسى ... ولم يك صعلوكاً إذا ما تمولا
هذا الكلام بعث على التجوال، وتحضيضٌ في اكتساب المال، فيقول: إذا اقتنيت بعد فقرك، واكتسيت عن عريك، فكأنك ما كنت قط فقيراً ولا عرياناً.(1/222)
والمعنى: إن من استبدل بعسره يسراً، ونال عقب ضيقه رخاء، فكأنه ما سبق إليهما، ولا زوحم فيهما. وفي طريقته ما بعده، وهو: ولم يك في بوسٍ. والصعلوك: الفقير.
ولم يك في بوس إذا بات ليلةً ... يناغي غزالاً ساجي الطرف أكحلا
يقول: وإذا استمتع ليلةً بمناجاة إنسانٍ كأنه غزالٌ في طرفه فترٌ، وفي عينه كحلٌ، فكأنه ما كان ذا بوسٍ قط. أي تعفى النعمة على آثار الضر، وتمحوها حتى تنسى. وقوله ولم يك في بوس قد مر الكلام في حذف النون منها تخفيفاً. والمناغاة: المغازلة، وأصله من النغية، وهي الصوت اللطيف، والنغمة الحسنة الخفية، ولذلك يفسر المناغاة على المسارة. والساجي: الساكن، يقال ليلٌ ساجٍ. قال:
يا حبذا القمراء والليل الساج
وقال بعض بني طيئ
إن أدع الشعر فلم أكده ... إذ أزم الحق على الباطل
قوله إذ أزم ظرفٌ لقوله أدع. وتقدير الكلام: إن أدع الشعر إذ أزم الحق على الباطل فلم أكده. ويريد بالحق كبرته وشيخوخته، وما أخذ به النفس عنده من مراعاة الحق، والرجوع عن الهزل إلى الجد. وأراد بالباطل الصبا واللهو وما يتبعهما مما يعد سفها وقوله فلم أكده أصله من حفر فأكدى، إذا بلغ الكدية، فتعذر عليه الحفر وإنباط الماء. والكدية: مكانٌ صلبٌ يعني الحافر. ويقال أيضاً: حفر فأجبل، إذا بلغ جبلاً. وتوسعوا فيه فقالوا: أكدى في الشعر والعطاء. وفي القرآن: " وأعطى قليلاً وأكدى ". وقالوا أيضاَ: فلانٌ بلغ الناس كديته، أي كان يعطي ثم أمسك. ومعنى البيت: إن تركت الشعر حين تحملت وارعويت، وصار الحق عاضاً على باطلتي، والحلم مانعاً من جهالتي، فلم أتركه عن عجزٍ لاحقٍ، وإفحامٍ حاصلٍ. والازم: العض، وتوسع فيه، فقيل: نعم الدواء الأزم، يريدون الحمية.(1/223)
قد كنت أجريه على وجهه ... وأكثر الصد عن الجاهل
يقول: كنت أجري الشعر على حقه وكنهه، وأقرضه مستمراً فيه على حده أيام شبابي، وقبل ارتداعي، ومع ذلك كنت أكثر الإعراض عن الجهال، وأتصون عن مكايلتهم وموازنتهم. وهذا يجري مجرى قول الآخر:
إني امرؤٌ مكرمٌ نفسي ومتئدٌ ... من أن أقاذعها حتى أجازيها
والمعنى أربأ بقدري عن مقارضة الشعر، ومجاذبة السفهاء، ولكن إن دعت الحال معهم، والضجر بهم، إلى المجازاة مع مراجعة الحلم، فبالفعل لا بالقول، وعلى هذا كنت قبل هذا الأوان مع الجهال.
وقال آخر:
زعم العواذل أن ناقة جندبٍ ... بجنوبٍ خبتٍ عريت وأجمت
يقول: قال اللوائم عاتبةً على جندبٍ، ومنكرةً لتودعه وميله إلى الراحة والخفض وترك السفر: إن ناقته حط عنها رحلها، وأزيل كلالها، فهي جامةٌ بجنوب خبتٍ: والخبت، أصله ما اطمأن من الأرض. ويقال أخبت الرجل، إذا صار في الخبت؛ وتوسع فيه فقيل للمتأله الخاشع: هو مخبتٌ.
كذب العواذل لو رأين مناخنا ... بالقادسية قلن لج وذلت
أبطل قولهن فذكر أنهن لو رأين منزلنا ومبركنا بهذا البلد، لقلن لج جندبٌ في السير وذلت الناقة. ويجوز أن يكون قوله مناخنا لم يشر به إلى إناخةٍ وإلى موضعٍ لها، وإنما يكون كقوله:
فإن المندى رحلة وركوب
فيكون المعنى: لو رأين ما جعل بدلاً لناقتنا في موضع الإناخة لقلن ذلك. ومثله:
تعليقها الإسراج والإلجام(1/224)
أي جعل الإسراج بدلاً مما كان يعلق عليه. ويقرب منه قوله:
لما تذكرت بالديرين أرقني ... صوت الدجاج وقرعٌ بالنواقيس
وإنما شاهد وقتهما فذكرهما به، ولم يكن ثم دجاجٌ ولا نواقيس.
وقال الراعي
كفاني عرفان الكرى وكفيته ... كلوء النجوم والنعاس معانقه
عرفان: اسم صاحبه. فيقول: نام هذا الرجل وكفاني الاشتغال بالنوم، وكلأت النجوم وارتقبتها، وكفيته السهر، وقد لازم النعاس وعانقه. فإن قيل: كيف كفاه الكرى؟ قلت: هذا على مطابقة الكلام، فلما قال كفيتة مراعاة النجوم ونبت عنه فيها، قال: كفاني الكرى، وإن كانت نيابة ذلك عنه في الكرى لا يصح. ويروى: " كفاني عرفان الكرى وكفيته "، أي معرفة الكرى وليس بمرتضى.
فبات يريه عرسه وبناته ... وبت أريه النجم أين مخافقه
هذا تطنزٌ من القول، لأن الساهر لا يعلم من حال النائم أنه يحلم أو لا يحلم. وإنما نبه بهذا الكلام على استحكام نومه وتلذذه به، إذ كانت الأحلام لا تحصل للنائم إلا عند ذلك. ولما قال بات يريه النوم امرأته وأولاده، قال في مقابلته على الطريقة التي في البيت الأول: وبت أريه النجم. وهذا الجنس يكثر في كلام البلغاء، ومثله قول الله عز وجل: " فمن اعتدى عليكم فاعتدوا عليه ". و " إنما نحن مستهزئون. الله يستهزئ بهم ".
وقول الشاعر:
دناهم كما دانوا
وقد مر جميعه مستقصى.(1/225)
وقال آخر:
فلست بنازلٍ إلا ألمت ... برحلي أو خيالتها الكذوب
حذف مفعول نازلٍ لأن المراد مفهومٌ، كأنه قال: لا أنزل منزلاً. ومثله قول الله عز وجل: " فذوقوا بما نسيتم لقاء يومكم هذا "، أي العذاب. والإلمام: زيارةٌ لا لبث معها. يقول: لا أنزل محلاً إلا رأيت هذه المرأة ملمةً برحلي، أي متصورةً لي بهذه الصورة، تشوقاً مني وتحفياً. هذا في حال اليقظة وعند فراغ البال والاشتغال بحال النفس. أو رأيت خيالتها الكذوب القليلة الوفاء إذا نمت. ويقال خيالٌ وخيالةٌ، كما يقال مكانٌ ومكانةٌ. وجعلها كذوباً لما لم يتحقق فعلها وقولها. والمعنى: إني لا يخليني منها لا النوم ولا اليقظة، ولا يلفتني عنها لا الرخاء ولا الشدة، وفي هذه الطريقة قول امرئ القيس:
تنورتها من أذرعاتٍ وأهلها ... بيثرب أدنى دارها نظرٌ عالٍ
وقال الأصمعي في قول الآخر:
ألبس بصيراً من رأى وهو قاعدٌ ... بمكة أهل الشام يختبزونا
هو على التشوف والتحفي.
فقد جعلت قولص ابني سهيلٍ ... من الأكوار مرتعها قريب
جعلت ها هنا بمعنى طفقت وأقبلت، ولذلك لا يتعدى. والقلوص: الفتية من الإبل، ومرتعها قريب في موضع الحال. يقول: أقبلت قلوص هذين الرجلين قريبة المرتع من رحالهم، قصيرة المسرح في رواحهم، لأنه لما لحقها من الكلال والإعياء، لم تقدر على التباعد في المرعى والارتياد.
كأن لها برحل القوم بواً ... وما إن طبها إلا اللغوب
يقول: كأن لهذه الناقة ولدا برحل القوم، تتعطف عليه، ولا تتباعد عنه، وما داؤها إلا الإعياء. ومثل هذا قول الآخر:
من الكلال لا يذقن عودا ... لا عقلاً تبغي ولا قيوداً(1/226)
والطب أصله العلم، والمراد به ها هنا الداء الذي يعلم ويعرف. والبو، أصله: جلد فصيلٍ يحشى تبناً لتدر الأم عليه.
وقال آخر:
إن كنت لا أرمي وترمي كنانتي ... تصب جانحات النبل كشحي ومنكبي
هذا مثلٌ. والمعنى: إذا لم أقصد في خاص أمري، ثم قصدت فيمن يشمله عنايتي، عاد ذلك القصد بالشر والمساءة علي، وصرت كأني أنا المقصود. والجائحات: المائلات، وروى بعضهم جائحات النبل وهي المستأصلات المهلكات. ويقال جاحه واجتاحه بمعنى. وليست هذه الرواية بجيدة، لأن الغرض ما ذكرته من أن من يمسه أمره إذا قصد كان كنفسه. فإن قيل: فلم خص الجانحات؟ قلت: المراد فيما ضرب المثل له: إني رميت إذا رميت الجعبة المعلقة علي، لأن بعض السهام يصيبه وبعضها يصيبني. وإذا كان كذلك فلا بد من ذكر الجانحات. والنبل: اسم صيغ للجمع. والكنانة: ما يغطي به الشيء في الأصل، واختص بها الجعبة وهو من الكن، كالستارة من الستر. وفي القرآن: " وقالوا قولبنا في أكنة ". وقد فصل بين كننت واكتننت، فجعل اكتننت لما يضمر في القلب من الحديث والسر، وكننت لما يستر بشيء. وذكر الدريدي أن الكنانة لا يكون إلا للنبل، ويكون من أدمٍ، فإذا كانت من خشبٍ فهو جفيرٌ، وإن كانت من قطعتين مقرونتين فهي قرنٌ، والجعبة تكون للنبل والنشاب جميعاً.
أفيقوا بني حزنٍ وأهواؤنا معاً ... وأرحامنا موصولةٌ لم تقضب
يقول: اصحوا بني حزنٍ من سكرة جهلكم، وانتبهوا من رقدة غفلتكم، الأهواء بعد متفقةٌ، وأسباب الرحم موصولةٌ، لم يتسلط عليها العقوق، ولم يقطعها الجفاء والنبو. والمعنى: كفوا عما أنتم عليه من سيئات التقاطع والتدابر، قبل تفاقم الخطب، واستفحال الشأن. والقضب: القطع، ومنه قيل للسيف المقضب والقضيب. وقوله معاً في موضع الخبر، أي مجتمعةٌ.(1/227)
فإن تبعثوها تبعثوها ذميمة ... قبيحة ذكر الغب للمتغبب
يقول: إن هيجتم الحرب هيجتموها مذمومةً قبيحة ذكر العاقبة لمن يتتبع العواقب فيتدبرها، ويتعهد المصاير فيتأملها. ويقال تغببت الأمر كما يقال تعقبته، أي تفقدت عاقبته وغبه. والغب أصله في ورود الماء والزيارة، وهو ينوب في أسماء الأظماء وغيرها عن الثلث. فأما قولهم: زر غباً تزدد حباً فالمهلة فيه أوسع.
سآخذ منكم آل حزنٍ لحوشبٍ ... وإن كان مولىً لي وكنتم بني أبي
إنما قال هذا لأن بني عمه ضربوا مولىً له، فيقول: سأنتقم منكم يا آل خزنٍ وإن كنتم بني أعمامٍ، وكان حوشبٌ مولى محالفةٍ وجوارٍ. وفي طريقته قول الآخر:
فإن غضبت فيها حبيب بن حبتر ... فخذ خطة ترضاك فيها الأباعد
وروى بعضهم: وإن كان مولائي وكنتم، والبصريون لا يجوزون مد المقصور، لأنه إدخال زيادةٍ على كلامهم، ويجوزون قصر الممدود، لأنه حذفٌ للتخفيف، وردٌ إلى الأصل. وحوشبٌ عند النحويين أنه مما لم يجيء إلا بزيادة الواو، وأنه مثل كوكب. وحكى الخارزنجي أن حشباً اسم رجلٍ، وأنه يقال أحشبني كذا، أي أحشمني.
وقال جميلٌ
أبوك أبوك أريد غير شكً ... أحلك في المخازي حيث حلا
ارتفع أبوك بالابتداء، وكرره تأكيداً، وأربد بدلٌ منه، وخبر المبتدأ أحلك. وانتصب غير على المصدر، وهو مما يؤكد به ما قبله. ومثله حقاً وما أشبهه. والمعنى أن لؤم أبيه موروث، وأنه اقتداءً بسلفه قد أنزل ابنه منزله في المخازي والقبائح، حقاً لا مرية فيه.(1/228)
فما أنفيك كي تزداد لؤماً ... لألأم من أبيك ولا أذلا
يقول: لا أبرئك من أبيك طلباً لأن أنسبك إلى من هو ألأم منه وأذل لتزداد ذلاً ولؤماً؟ لأن أباك النهاية في هذين. وانتصب لؤماً على التمييز، واللام من لألأم تعلقة بفعل مضمرٍ، كأنه قال: ما أنفيك من أبيك وأدعوك لألأم منه، لأنه إذا نفاه من أبيه فقد جعله لغيره. ويجوز أن يحمل الكلام فيه على المعنى، فيتصور أنفيك بأدعوك، وبعدى تعديته. ومثله قول الله عز وجل: " هل لك إلى أن تزكى ". وعلى هذا يحمل قول الفرزدق:
قد قتل الله زياداً عني
لما كان معناه صرفه الله عني. ومن أبيات الكتاب:
إذا تغنى الحمام الورق هيجني ... ولو تعزيت عنها أم عمار
لأنه تصور هيجني أنه ذكرني، فعدى تعديته.
وقال آخر:
أبوك حبابٌ سارق الضيف برده ... وجدي ياحجاج فارس شمرا
يقول: أبوك الذي سرق برد ضيفه وغدر به وخانه، وجدي فارس هذا الفرس المعروف. وسارق الضيف برده، أصله سارق برد الضيف، لكنه أضافه إلى الضيف بناء على قولهم سرقت الضيف برده، والمراد سرقت من الضيف، لكنه لما حذف الجار تخفيفاً وصل الفعل فعمل فيه، ثم أضاف اسم الفاعل إليه. وعلى هذا يقال اخترت الرجال زيداً: وشمر فعلٌ في الأصل سمي به الفرس، لأنه ليس في الأسماء شيءٌ على فعلٍ. ومثله خضم، وهو لقبٌ للعنبر بن مازن. وحبابٌ يجوز أن يكون بدلاً وسارق الضيف خبراً، ويجوز أن يكون حبابٌ خبراً وسارق الضيف صفةً، وهذا أجود حتى يكون في مقابلة فارس شمر. كأن المراد: أبوك المعروف بذا الاسم،(1/229)
وجدي المعروف بذا. ورواه بعضهم فارس شمر بكسر الشين، وقال: هو علمٌ مؤنث مثل امرأة تسميها قنب ودنب.
بنو الصالحين الصالحون ومن يكن ... لآباء صدقٍ يلقهم حيث سيرا
كما فضل جده على أبيه في البيت الأول فضل نفسه عليه في البيت الثاني. والمعنى أن المرء يتقيل أباه، فإذا كان جدي صالحاً فأنا صالح، وإذا كان أبوك صالحاً فأنت صالحٌ. وقوله ومن يكن لآباء صدقٍ يريد من كان ولد آباء كرامٍ عرف بهم حيث ذهب، والقيهم أني سار وظعن. واللام دخل في قوله لآباء صدقٍ لهذا المعنى. ومثاله:
لئن كان للقبرين قبرٍ بجلقٍ ... وقبرٍ بصيداء التي عند حارب
أي إن كان ولدهما. وصدقٍ يضاف إليه الواحد والجمع، والمؤنث والمذكر، ويراد به المدح. فإذا قلت ثوب صدقٍ ورجال صدقٍ، فالمعنى نعم الشيء ذاك، أي هو صادقٌ فيما يحمد فيه لا كاذبٌ. وإذا أردت أن تجعله نعتاً فتحت الصاد منه فقلت: هو الرجل الصدق، ويثني ويجمع ويؤنث. قال:
مقذوذة الآذان صدقات الحدق
فإن تغضبو من قسمة الله حظكم ... فلله إذ لم يرضكم كان أبصرا
يقول: إن تسخطتم ما قسمه الله، تعالى جده، لكم، وجعله نصيبكم، فلله كان أعلم بكم وبقدر استحقاقكم، لما فلم يركم أهلاً لأكثر منه. والمعنى: إن ما حصلتم عليه من البخس في القسمة، والنقص من المقدرة. والتأخر في المنزلة، حكمةٌ من الله عز وجل ونصفةٌ، ولو زاد مستحقكم عليه لأعطاكم، فإنه العالم الحكيم في أفعاله وأقضيته. والبصير في صفة الله، تحقيقه العالم.
وقال أبو النشناش
إذا المرء لم يسرح سواماً ولم يرح ... سواماً ولم تعطف عليه أقاربه(1/230)
يقال سرحت الماشية، إذا أخرجتها بالغداة إلى المرعى؛ وأرحتها، إذا رددتها بالعشي. فإن قال قائل: لم قال: ولم يرح سواماً والنكرة إذا أعيد ذكرها يجب تعريفها، بدلالة أنك تقول رأيت رجلاً بمكان كذا، فقال لي الرجل كذا؟ قلت: يجوز أن يكون نكرهما لأنه تصور المراح بما دخله من التناقص والتزايد، بالأخذ منه والرد إليه غير المسروح، وإذا كان كذلك فالثاني غير الأول. ويجوز أن يكون السوام الثاني غير الأول، وذاك أن المكثرين منهم كانوا يأمروان رعاءهم بأن يقتضبوا قطعةً من المال كيف اتفقت، ليحبسوها على الحقوق العارضة، سوى المؤن اللازمة، فكانت الغادية لما يقيمونها من النوب في ذلك غير الرائحة، والرائحة غير الغادية. وإذا كان كذلك فالسؤال ساقط. والمعنى: إذا الرجل لم يكن ذا مالٍ يسرح بعضه ويراح عليه بعضه، على حسب ما يتفق، ولم يكن له أقارب يتعطفون عليه ويرون من الفروض الواجبة الإحسان إليه، فالموت خيرٌ له. وجواب إذا في البيت الثاني. ويجوز أن يكون المراد بقوله ولم تعطف عليه أقاربه تعطف النصرة والإعزاز، فيكون المعنى إذا لم يكن غنياً ولم يكن مؤيداً بذويه فيعتز بهم، فالموت أصلح له من الحياة. وهذا المعنى أحسن.
فللموت خيرٌ للفتى من قعوده ... عديماً ومن مولىً تدب عقاربه
فللموت جواب إذا، لتضمنه معنى الجزاء. يقول: إذا الرجل لم يكن على ما وصفت فورود الموت عليه خير له من قعوده راضياً بفقره، وبإفضال مولى يؤذيه بالمن، ولا يخلص النعمة عنده من الشوائب. ودبيب العقارب كنايةٌ عن فعل الأذى والتحمد بالكلمات المكدرة. وانتصب عديماً على الحال. ويجوز أن يكون المعنى في قوله ومن مولىً تدب عقاربه أن يحصل الفساد بين العشيرة، والتدابر والاختلاف، فكلٌ يقصد صاحبه بالمساءة، ويبغي له الغوائل. وهذا المعنى يتلفق مع المعنى الثاني في البيت الذي قبله.
ونائية الأرجاء طامسة الصوى ... خدت بأبي النشناش فيها ركائبه(1/231)
انجرت نائية بإضمار رب، والواو داخلةٌ للعطف، ولم يصر بدلاً من رب بدلالة وقوع الفاء العاطفة موقعه وبل في نحو:
فمثلك حبلى قد طرقت
وبل بلدٍ ذي عقدٍ وإحباب
يقول: ورب مفازةٍ بعيدة الأطراف، دارسة الأعلام، سارت بأبي النشناش فيها رواحله يطلب المال، ويكتسب المجد. وهذا الكلام تبجحٌ منه بأنه لم يتخذ الفقر ضجيعا، ولا الدعة حليفاً، بل رمى بنفسه نحو المرامي المتلفة، وطوحها في الموامي المعطبة. والأرجاء واحدها رجاً. والطامس: الدارس. ويقال طمس وطسم. والصوى: الأعلام، والواحدة صوةٌ، ومثله قوةٌ وقوى. ومعنى خذت: أسرعت، ومصدره الخديان. والركائب: جمع الركوبة، وهي المركوبة، ولا يتبع المثوف، بل يستعمل على انفرادها، ومثلها الحلوبة.
وسائلةٍ بالغيب عني وسائلٍ ... ومن يسأل الصعلوك أين مذاهبه
يقول: رب رجلٍ وامرأة سألا عني بظهر الغيب، لما تداخل القلوب من هيبتي، والإشفاق من وقعتي. ثم قال مستفهماً على طريق الإنكار: ومن يسأل الصعلوك، أي يجب ألا يسأل الصعاليك عن مذاهبهم وطرقهم، لأنها لا تعلم، إذ لم يكن يستقر بهم موضعٌ، ولم يكن يحوبهم بلدٌ ومذهبٌ يلزمونه أو يختصون به. وكان وجه الكلام أن يقول: ومن يسأل عن الصعلوك ليكون وفق قوله وسائلةٍ بالغيب عني، لكنه عدل عنه إلى ما قاله تأكيداً للمراد، وذلك أنه إذا كان سؤال نفسه عن مذهبه منكراً لاستبهامه عليه، فسؤال غيره عنه أبعد من الصواب.
فلم أر مثل الفقر ضاجعه الفتى ... ولا كسواد الليل أخفق طالبه(1/232)
يروى مثل الهم، هو مصدر هممت بالشيء، أي إذا هم يجب عليه أن ينفذه ولا يؤخره. ويقول: لم أر كالفقر يتخذه الفتى ضجيعا، أي يرضى به وبلزومه له ولم أر كسواد الليل أكدى راكبه والطالب فيه. والمعنى: يجب ألا يحصل واحدٌ منهما، لا الرضا بالفقر، ولا الإخفاق مع ركوب الليل. ويقال ضجع ضجعاً وضجوعاً واضطجع بمعنىً واحد، ومنه قيل للعاجز الضجعي والضجعة. وتسمى الكواكب التي لا تسير: الضواجع. والإخفاق: أن يغزو فلا يغنم، أو يرجو فيخيب. قال عنترة:
فيخفق مرةً ويصيب أخرى ... ويفجع ذا الضغائن بالأريب
وقوله أخفق طالبه، أي الطالب فيه. وهذا من إضافة الشيء إلى الشيء لكونه فيه.
وقال آخر:
ألا قالت الخنساء يوم سويقةٍ ... عهدتك دهراً طاوي الكشح أهضما
يقول: قالت هذه المرأة يوم اجتماعنا في سويقةٍ: عهدتك زماناً ممتداً صغير البطن، مطوي الكشح والجنب. وإنما أنكرت سمنه وكثرة لحمه، فأجابها بالبيت الثاني. والهضم: انضمام الضلوع، وتقارب الجنبين.
فإما تريني اليوم أصبحت بادناً ... لديك فقد ألفى على البزل مرجما
يقول: إن كنت ترينني اليوم - وهو إشارةٌ إلى يومه وما يقربه منه - أصبحت مثقل النفس، مبدن الخلق لديك، أي في منظرك ومعتقدك، فإني إذا ركبت البزل وجدت عليها مرجما. والمرجم: الذي كأنه آلةٌ في رجم الأرض بأخفاف الإبل ووطء الأقدام. وينتصب مرجما على الحال. وقيل المرجم في السفر: البعيد في الغاية. وكما قيل رجلٌ مرجمٌ، قيل يدٌ مرجمٌ، ورجلٌ مرجمٌ، ولسانٌ مرجمٌ، قال الشاعر:
شديد الرجام باللسان وباليد
وإما، في أكثر الأحوال يلزم الفعل الواقع بعده إحد النونين الثقيلة والخفيفة، لأنه كما أكد حرف الشرط ب ما أكد الفعل المشترط به بالنون أيضاً. وها هنا جاء خالياً من النون.(1/233)
وقال آخر:
ألا قالت العصماء يوم لقيتها ... أراك حديثاً ناعم البال أفرعا
هذا في طريقة ما قبله. فيقول: قالت هذه المرأة لما التقيت معها: أعلمك عن قريبٍ ناعم الحال، تام شعر الرأس، لم يتسلط عليك صلعٌ، ولا حدث انحسار شعر، ولا شحوب لون، فكيف تغيرت مع قرب الأمد. وانتصب حديثاً على الظرف. وناعم البال، مفعولٌ ثانٍ من أراك. والأفرع: التام شعر الرأس، وجمعه فرعانٌ. والأصلع خلافه.
فقلت لها لا تنكريني فقل ما ... يسود الفتى حتى يشيب ويصلعا
يقول: أجبتها وقلت: لا تستنكري ما رأيت من شحوب لوني، وانحسار الشعر عن رأسي، فما ينال الفتى السيادة حتى يستبدل بشبيبته شيباً، ووفور شعره صلعاً، وإلا بعد استحكام الرأي، واستنفاد العمر في اكتساب المجد. وقوله قل ما يفيد النفي هنا، وما تكون كافة لقل عن طلب الفاعل، وناقلةً له عن الاسم إلى الفعل، فإذا قلت: قل ما يقوم زيدٌ فكأنك قلت ما يقوم زيدٌ. يدل على ذلك أنهم قالوا: قل رجلٌ يقول ذاك إلا زيدٌ، وأجري مجرى ما يقول ذاك إلا زيد، وقالوا أيضاً: أقل رجلٍ يقول ذاك إلا زيد. وأنهم أجروا خلافه مجراه، فيقول: كثر ما يقول زيد. وعلى ذلك بيت الكتاب:
.............. وقل ما ... وصالٌ على طول الصدود يدوم
ويجوز أن يكون ما من قل ما يسود الفتى، مع الفعل في تقدير المصدر، كأنه قال: قل سيادة الفتى، أي ينزر استكمالها إلا مع هذه الحالة. ومثله قول لبيدٍ:
قل ما عرس حتى هجته ... بالتباشير من الصبح الأول(1/234)
لأنه ليس يريد نفي التعريس رأساً؛ إذا كان يعتاده قطاع الفلاة، وركاب الظلام، بل يريد عرس تعريساً قليلاً فهجته. ويقال: صلع صلعاً وصلعةً، وهو أصلع وصليعٌ.
وللقارح اليعبوب خير علالةً ... من الجذع المرخى وأبعد منزعا
هذا مثلٌ ضربه في تفضيل نفسه على شيخوخته وقد أدبه الكبر، ونازع الدهر وأبناءه أطراف الخطوب، ومرائر السيادة والعلو على الأحداث الذين لم يجربوا الأمور، والأغمار الذين لم يجاذبوا الشدائد، فيقول: للفرس المتناهي في القوة والسن، الذي يجري جريه الماء سهولة ونفاذاً، خيرٌ إبقاءً وأبعده غاية من ابن سنتين وهو مهمل لم يستغن به في ركوبٍ ونزول، ولم يرض بإسراجٍ وإلجام. واليعبوب: الفرس الكثير الجري، والجدول الكثير الماء. والعلالة: البقية من الجري وغيره، وها هنا يريد الجري. قال الشاعر:
إلا علالة أو بدا ... هة سابحٍ نهد الجزاره
فالبداهة: أول الجري، والعلالة: آخره. وقوله من الجذع المرخى يروي المرخى بكسر الخاء، والإرخاء: لين في العدو. قال:
وإرخاء سرحانٍ وتقريب تتفل
وإذا روى بفتح الخاء فهو المرسل المهمل النزوع إلى الغاية. وانتصاب علالة ومنزعا على التمييز.
وقال شبيب بن عوانة
قضى بيننا مروان أمس قضيةً ... فما زادانا مروان إلا تنائيا
يقول: قضى بيننا هذا الرجل بحكومة تسخطناها، ولم نرض بها، إذ لم يقصد بها صلاح ذات البين، ولا تلافي جمع الشمل، فازددنا بها تبايناً عن الاصلاح(1/235)
والمراجعة واختلافاً وتنائياً عن الالتئام والموافقة وتباعداً. وقوله أمس تقريبٌ لزمان فعله، ولم يرد اليوم الذي ولى يومه. وهذا كما تقول: فلانٌ بالأمس يفعل كذا وأمس معرفةٌ، وإنما بنى لتضمنه معنى الألف واللام.
فلو كنت في الأرض الفضاء لعفتها ... ولكن أتت أبوابه من ورائيا
يقول: لو كنت بالبدو لرددت حكومته وأبديت كراهتي لها، ولكني كنت أسيراً إذ كنت في الحضر حاصلاً في داره، وداخلاً تحت ملكته. ومعنى أتت أبوابه من ورائيا أي حالت مسالحه ومراصده بيني وبين مرداي. ووراء بمعنى قدام هنا، ومثله في القرآن: " وكان وراءهم ملكٌ ".
وقال جميل
فليت رجالاً فيك قد نذروا دمي ... وهموا بقتلي يا بثين لقوني
فيك أي في معناك وبسببك. وقوله قد نذروا من صفة رجالاً، ولقوني خبر ليت. والمعنى تمنيت أن رجالاً فعلوا في معناك ما فعلوا من الهم بقتلي، وعقد النذر في سفك دمي، التقوا معي، ماذا كانوا يفعلون. وفي هذا الكلام إبهامٌ أنهم لا يجسرون على التعرض له، وفيه استهانةٌ بأقوالهم ومكايدهم، وإن كانوا قد بذلوا من القول ما بذلوا، وأضمروا فيه ما أضمروا. وقد فسر تهيبهم له، ونكوصهم عن الإقدام عليه في البيت الثاني.
إذا ما رأوني طالعاً من ثنيةٍ ... يقولون من هذا وقد عرفوني
يقول: إذا ما أبصروني مقبلاً عن عقبةٍ، طالعاً عليهم من طريقٍ إليهم مفضيةٍ، يتساءلون فيما بينهم بقولهم: من هذا، وإن كانوا عارفين بي. أي يتجاهلونني جبناً وإحجاماً.
يقولون لي أهلاً وسهلاً ومرحباً ... ولو ظفروا بي ساعةً قتلوني
نبه بهذا الكلام على تملقهم وإظهارهم بالنفاق ما لا يوافق باطنهم، عجزاً وضعف كيدٍ. والمعنى يستقبلونني بالتأهيل ويتلقونني بالترحيب عند الالتقاء، ولو أعطوا الظفر لأتوا علي وما أبقوا.(1/236)
فكيف ولا توفى دماؤهم دمي ... ولا مالهم ذو كثرةٍ فيدوني
يقال: أوفيته ووفيت له بكذا وأوفيت، وفي هذا بيان عذرهم في ترك الوفاء بالنذر، وتعجبٌ من أفعالهم عند اختلاف أحوالهم. فيقول: كيف يقدمون علي وليس في دمائهم كلهم وفاءٌ بدمي، ولا في مالهم اتساع، فإذا عجزت دماؤهم عن دمي فكيف يعطون ديتي.
ويقال وديته أديه ديةً ووديا.
وقال يحيى بن منصور
وجدنا أبانا كان حي ببلدةٍ ... سوى ببن قيسٍ قيس عليلان والفزر
سوى في موضع جرٍ على أنه صفةٌ لبلدةٍ. والمعنى وجدنا أبانا حل ببلدةٍ متوسطة لديار قيس بن عيلان وسعد بن زيد مناة. والمعنى حل بين مضر ونأى عن ربيعة، لأن قيساً والفزر من مضر. والفزر: لقبٌ لسعد بن زيد مناة. وقال الأخفش: سوى وسواءٌ في معنى العدل. وفي القرآن: " إلى كلمةٍ سواء بيننا وبينكم ". وفي موضع آخر: " اجعل بيننا وبينك موعداً لا نخلفه نحن ولا أنت مكاناً سوى "، أي مكاناً عدلاً.
فلما نأت عنا العشيرة كلها ... أنخنا فحالفنا السيوف على الدهر
فلما أسلمتنا عندً يوم كريهةٍ ... ولا نحن أغضينا الجفون على وتر
يقول: لما خذلتنا عشيرتنا - وهم ربيعة - فيما نابتتا، وتباعدت بنصرتها ومعونتها عنا، وترخصت في القعود عن مساعدتنا، اكتفينا بأنفسنا فأقمنا بدار الحفاظ والصبر، واتخذنا سيوفنا حلفاء على الدهر، فما خذلتنا في يوم حربٍ وعند مدافعةٍ وجهدٍ، ولا نحن غمضنا جفوننا على وترٍ وحقدٍ. والمعنى: إنا وسيوفنا توافينا فيما عليه تعاقدنا، وتوازرنا فيما له تحالفنا، فبلغنا نحن أقصى المبالغ في طلب الأوتار، وانتهت هي إلى(1/237)
أبعد النهايات في المعاونة والإحلاب. وهذا مثلٌ ضربه لا ستقلالهم فيما نهضوا فيه بعددهم وعدتهم، وبلائهم وصبرهم واستفنائهم عن القاعدين عن التحمل معهم والذب عنهم من عشيرتهم. وقوله: أنخنا كنايةٌ عن الإقامة والثبات في وجوه الأعداء، إلى أن وصلوا إلى المراد.
؟ وقال أبو صخرٍ الهذلي:
رأيت فضيلة القرشي لما ... رأيت الخيل تشجر بالرماح
جعل القرشي جنساً لا عيناً. والمعنى: رأيت فضيلة القرشيين حين قستهم إلى غيرهم عند اشتجار الخيل بالرماح، وانتظامها بها للطعن المختلف بينهم، المتردد فيهم. وجواب لما مقدمٌ، وهو رأيت في صدر البيت. يريد: عند هذا الأمر بأن فضلهم على الناس، وقوله تشجر كل شيءٍ دخل بعضه في بعض فقد تشاجر، ومنه سمي المشجب مشجراً، وتشاجر القوم بالرماح: تطاعنوا.
ورنقت المنية فهي ظلٌ ... على الأبطال دانية الجناح
انعطف رنقت على الفعل الذي تناوله لما. فيقول: ولما استدارت المنية وحلقت على رءوس الأبطال، فهي ظلٌ دانية الجناح من قمم رءوسهم. وهذا مثلٌ. والمعنى: لما أشرفت المنية عليهم إشراف الطائر على ما يريد إنكداره عليه، بانت فضيلتهم. ويقال: رنق الطائر في الهواء، إذا حلق واستدار، وجعل للمنية ظلاً تحقيقاً للاستعارة من الطائر، لأنه يوقع ظله في تلك الحالة. وجعل الجناح دانياً تأكيداً لطمع الموات في الفوز بالأرواح الاختلاس. وكذا الطائر في التحليق عند الانقضاض. وارتفع دانية الجناح وظلٌ جميعاً على أن يكونان خبرين لقوله هي، كما تقول: هذا حلوٌ حامضٌ، ويجوز أن يكون دانيةً صفة للظل، وأنثها على المعنى. ويجوز أن يروى دانية بالنصب على أن يكون حالاً.(1/238)
؟ وقال بعض بني عبسٍ:
أرق لأرحامٍ أراها قريبةً ... لحار بن كعبٍ لا لجرمٍ وراسب
يقول: يرق قلبي بما تملكه من الرحمة، فانعطف من أجل أواصر أراها قريبةً مشتبكةً بيننا، من جهة الحارث بن كعبٍ، لا من جهة جرمٍ وراسبٍ. والحارث بن كعبٍ في نزارٍ، وجرمٌ وراسبٌ من قضاعة، وهم من اليمن، وكان الحارث بن كعب انتقلت إلى اليمن، ولم تكن منهم، فلهذا قال ما قال. وقيل: عيسٌ وضبة والحارث بن كعبٍ إخوةٌ لأم " ورخم الحارث في غير النداء وذاك في الشعر جائز ".
وأنا نرى أقدامنا في نعالهم ... وآنفنا بين اللحى والحواجب
ذكر المشابه الحاصلة بينهم تأكيداً للقربى والقرابة، الموجبة لما ذكر من الرقة والشفقة، على ما حدث فيهم من وقوع الفرقة، وسقوط التجاور والخلطة. فيقول: أرق للرحم القريبة، ولأنا نرى أقدامهم في النعال كأقدامنا، وآنفهم بين لحاهم وحواجبهم كآنفنا. وقال يبين اللحى ولم يقل لحاهم، لأنه بإضافة الأقدام والنعال اكتفى. وذكر الأطراف لأنها تظهر للعيون، والمشابه تعلق بها أكثر.
وأخلاقنا إطاءها وإباءنا ... إذا ما أبينا لا ندر لعاصب
جعل الشبه في البيت الأول في الخلق وها هنا في الخلق، تأكيداً للأمر. وكان يجب أن يقول وأخلاقنا أخلاقهم، فاعتمد على أن العطف على قوله أقدامنا يدل ويغني - لما يفيده من الاشتراك - ما يغنى في قولهم قام زيدٌ وعمروٌ، وإن زيداً منطلقٌ وعمروٌ. فكأنه قال: وأنا نرى أخلاقنا كأخلاقهم، إذا أعطينا أو أبينا. ثم ذكر ما دل على تشددهم بعد الامتناع فقال: وإذا أبينا لا نتسهل لمن يريد قهرنا. وأصل العصب الشد، ومنه العصابة. وضرع الحلوبة إذا اشتد الزمان بها، وساء خلقها فرفعت اللبن، يشد ويحتلب وإن ضجرت، لمساس الحاجة، واستيلاء الفاقة. وهذا الكلام مثلٌ ها هنا. ومثل البيت قول الآخر:
لا يخرج الكره مني غير مأبيةٍ ... ولا ألين لمن لا يبتغي ليني(1/239)
يريد: إن الإكراه لا يزيدنا إلا امتناعاً، والاقتسار لا يحصل منا إلا إباءً. ويشبه من حيث النظم قوله: إذا ما أبينا لا ندر لعاصب الالتفات. ألا ترى أنه ترك ما كان يطرده من القول وصار كأنه التفت فقال ذلك.
؟ وقال بعض شعراء حمير:
من رأى يومنا ويوم بني التيم إذا التف صيقه بدمه
ذكر أنها قيلت في وقعةٍ كانت بين حمير وعبد مناة وكلبٍ، وكانت على حمير، وقتل فيها علقمة بن ذي يزن. وقوله من رأى لفظه استفهامٌ، ومعناه التفظيع والتعظيم. وأراد باليوم الوقعة، لولا ذلك لما صلح أن يكون إذا ظرفاً له. ومثله قوله تعالى: " إذا نقر في الناقور. فذلك يومئذٍ يومٌ عسيرٌ " ألا ترى أن في قوله " يوم عسيرٌ " معنى فعلٍ، فصار يومئذ ظرفاً له، كأنه قال: فذلك النقر يومئذ نقر يومٍ عسير. فيقول: من شاهد يومنا مع بني التيم حين التف غبار الجو بالدم، وتندى به وابتل، حتى قل. والصيق: الغبار الجائل في الجو. وأضافه إلى اليوم لكونه فيه، والتفافه كان برشاش الدم القاطر من الجراح. ويقال صيقهٌ أيضاً: قال رؤية:
يتركن ترب الأرض مجنون الصيق
وصيقٌ: جمع صيقةٍ.
لما رأوا أن يومهم أشبٌ ... شدوا حيازيمهم على ألمه
قوله أشبٌ أي كثير الجلبة، ضيق الاختلاط، والمكان الأشب فيه شجرٌ ملتفٌ. وجواب لما شدوا. يقول: لما أحس بنو التيم بفظاعة الأمر واختلاط الشأن، وتضايق المجال والمكر، وطنوا أنفسهم على الألم، وشدوا حيزومهم للجهد. وتهيئوا للصبر على ما ابتلوا به وشقوا له. والحيزوم: الصدر، لأنه موضع الحزم والعزم، لاشتماله على القلب الذي هو موضعهما. ويسمى حزيماً أيضاً، كأنه الموضع الذي يشد بالحزام. والحزام من الحزم أيضاً. وشد الحيازيم مثل للصبر على ما(1/240)
لحقهم. ويروى عن أمير المؤمنين عليه السلام:
حيازيمك للموت ... فإن الموت لاقيك
يريد أشدد حيازيمك.
كأنما الأسد في عرينهم ... ونحن كالليل جاش في قتمه
يقول: إن هؤلاء القوم يتمنعون على الأعداء، ويبطشون بهم، تمنع الأسد في أجمتها وبطشها منها، ونحن كالليل، يريد نحن في كثرتنا وهولنا وإحاطتنا بهم، وإدراكنا إياهم كالليل إذا جاش ظلمته، وتراكم سواده. والقتام والقتم والقتمة، يجيء في الظلمة والغبار والريح، وجاء الفعل منه فقيل قتم يقتم قتماً وقتاماً. وذكر بعضهم أنه أراد بالقتم القتام فحذف الألف، كما قال غيره ورواه قطربٌ:
ألا لا بارك الله في سهيلٍ ... إذا ما الله بارك في الرجال
ومصدر ما كان على فعل الفعل في الأكثر، فلا أدري لم أنكره حتى اعتذر بما ذكره. والعرين: الأجمة، أجمة الأسد، ثم يسمى مقتتل القوم عريناً. ويقال للرجل: هو عرنةٌ لا يطاق، إذا كان خبيثاً وقوله عرينهم موضعه موضع الحال، والأسد خبر مبتدإ محذوفٍ، كأنه قال كأنما هم الأسد في مقتتلهم، ونحن كالليل في هولنا وإدراكنا، ويكون قوله جاش في قتمه، في موضع الحال أيضاً، والأجود أن يكون قد معه مضمرةً، أي كالليل وقد جاش.
لا يسلمون الغداة جارهم ... حتى يزل الشراك عن قدمه
مدحهم بحسن المحاماة على الجار. وترك الإسلام له مدة بقائه فيهم. وقوله الغداة أشار بها إلى غداة اللقاء، أو صباح الغوار. وقوله حتى يزل الشرك عن قدمه فيه قلبٌ، والأصل زلت القدم عن الشراك. وهذا مثلٌ لموته، لأنه لا يلبسها بعده. واحتمل الكلام القلب لأن المعنى لا يخيل كما لا يخيل في قولهم: أدخلت الخف في رجلي، والقلنسوة في رأسي. وهذا كما يقال هريق جفانه، وصفر وطابه، وطوى حصيره، وخلى مكانه. والمعنى لا يسلمون الجار إلى أن يموت فيهم. ويجوز أن يكون الهاء من قدمه راجعاً إلى الشراك ويكون الكلام مثلاً لتفظيع الأمر،(1/241)
وهذا كما يقال: زال السرج عن المعد وبلغ الحزام الطبيين وما أشبههما. والمعنى إلى أن يزلق الرجل عن مقره فلا يثبت في النعل، والمعنى إلى أن يبلغ الأمر كل مبلغٍ فظيع.
ولا يخيم اللقاء فارسهم ... حتى يشق الصفوف من كرمه
يقول: ولا يجبن عن اللقاء فارسهم فيحجم، ولا يضعف دونه فيحار، بل يقدم إقداماً تخرق الصفوف به عزة نفسٍ، وكرم عرقٍ. واللقاء ينتصب على المفعول، الأصل عن اللقاء، فلما حذف حرف الجر تخفيفاً وصل الفعل فعمل. ويجوز أن يكون ظرفاً كمطلع الشمس، أراد وقت اللقاء: وقوله " حتى شق الصفوف " يريد إلى أن يشقها كرماً منه، كأنه لا يرضى بأدون المنزلتين في اللقاء لنفسه، بل يأبى إلا النهاية والغلو. ويقال خام الرجل يخيم، إذا كاد كيداً فلم يفلح فيه، أو تقدم في الحرب فنكص ولم يظفر. قال الشاعر، وأنشده الخيل:
رموني عن قسى الزور حتى ... أخامهم الإله بها فخاموا
ويجوز أن يكون قولهم خيم بالمكان، إذا أقام، والخيمة واحدة الخيام، منه أخذا.
وما برح التيم يعتزون وزر ... ق الخط تشفي السقيم من سقمه
ما برح وما زال بمعنىً، وليس هذا من البراح من المكان. ألا ترى أن الله قال: " لا أبرح حتى أبلغ مجمع البحرين ". ومحالٌ أن يبلغ هذا الموضع، وهو لم يبرح من مكانه. وكأن الكلمة في اللغة تدل على معنى المجاوزة، ولذلك قيل:
أبرحت رباً وأبرحت جاراً(1/242)
أي جاوزت ما يكون عليه أمثالك من الخلال المرضية. والمعنى: ما زال بنو التيم ينتسبون ويدعون بيا لفلانٍ معتزين، أو بخذ الطعنة وأنا فلانٌ مدعين، والرماح المحمولة من الخط الزرق في ألوانها تشفي المتكبر من كبره، والعدو المخاتل من دائه. وقوله " السقيم " يجوز أن يكون كنايةً عن المنافق المداجي، كما قال الله تعالى لما وصفهم: " في قلوبهم مرضٌ ". ويجوز أن يكون يراد به الصلف التياه، كما يقال عند صفته: في طرفه شوس، وكما جاء في صفة السيوف:
يداوى بها الصاد الذي في النواظر
ويجوز أن يكون المعنى: والرماح في اختلافها تشفي الموتورين من أوتارهم وذحولهم. وجعل الفعل للرماح على المجاز والسعة. وقوله " وزرق الخط " الواو واو الحال. ويعتزون خبر ما برح.
حتى تولت جموع حمير فالفل سريعٌ يهوي إلى أممه
يريد: ما زالوا بهذه الحالة إلى أن انهزمت جيوش حمير، فصار المفول المنهزم مبادراً في السرعة إلى مقصده. وقوله الفل مصدرٌ في الأصل وصف في وهو موضوعٌ موضع المفعول، ولذلك جاز أن تقول رجلٌ فلٌ وقومٌ فلٌ ونسوةٌ فلٌ. ومثله رجل فرٌ، إلا أنه موضع موضع فارٍ، ويقع للواحد والجميع.
وكم تركنا هناك من بطلٍ ... تسفى عليه الرياح في لممه
موضع كم نصبٌ على المفعول من تركنا. يقول: وكثيراً تركنا في تلك المعركة من الأبطال وهم مصرعون معفرون في تلك المعركة، بادون للضياء والظلمة، تأتي الرياح بسفاها وتجعله في لممهم ولحاهم. وأشار بقوله هناك إلى معتزك القوم ومزدحم الطعن والضرب.(1/243)
؟ وقال حسان بن نشبة:
ونحن أجرنا الحي كلباً وقد أتت ... لها حميرٌ تزجي الوشيج المقوما
يقول: أدخلنا في جوارنا هذه القبيلة، وضمنا لها الذب عنها وسلامتها على ما يعرض لها، وقد قصدت لها حمير بعددها وعدتها، تسوق نحوها الخيل المطهمة، والرماح المنقفة. والوشيج أصله عروقٌ، ثم جعل للرماح أنفسها. وجعلها مثقفةٍ، ليرى عنايتهم بإعداد الآلة لزمان المقاتلة.
تركنا لهم شق الشمال فأصبحوا ... جميعاً يزجون المطي المخزما
لهم يعني لحمير. والعرب تجعل الشمال كنايةً عن الشؤم. فمن أمثالهم:
صبحناهم فغدوا شأمةً
ويقولون: خليناهم والجانب الأشأم، وخليناهم والناحية الشؤمي. فكأنهم يقولون ذلك للمنهزم وإن كان مأخذه في الشق الأيمن، لأن الشؤم معه والإدبار، أي طريق أخذ، ومسلكٍ توجه. وهذا كما يقال: فلانٌ مني باليمين، وفلانٌ بالشمال، وفلانٌ بعلياء عندي، وفلانٌ في المهابط؛ إذا جعلت منزلته عليةً أو متسفلةً. ومعنى البيت: خلينا لهم في الانهزام شق الشؤم وجانبه، فأصبحوا يزجون مطاياهم مخزمةً حسرى كالةً لا يبقى على وجاها، ولا يتقي حفاها والخزم: الشد والقطع. ويقال شراك مخزوم، أي مقطوعٌ.
فلما دنوا صلنا ففرق جمعهم ... سحابتنا تندى أسرتهم دما
يقول، لما قربوا في الالتقاء، صلنا عليهم وبطشنا بهم، فبدد شملهم جيشنا الذي كأنه سحابةٌ تندى طرائقها دماً. جعل السحابة ترشح بالدم لما كثر سفكهم له. وتندى في موضع الحال. وانتصب دماً على التمييز. ويقال: ندى يندى ندىً. والأسرة: الأوساط والطرائق، واحدها سررٌ، ويستعمل في بطون الأودية أيضاً.
فغادرن قليلاً من مقاول حميرٍ ... كأن يخديه من الدم عندما(1/244)
يقول: تركت الخيل في تجوالها منهم رئيساً مصروعاً، قد سال الدم على خذيه فكأنهما خضبا بالعندم، وهو دم الأخوين. والمقول بلغة أهل اليمن: القيل، والمقاول والمقاولة جمعه، وهم الأقوال والإقبال. وقيلٌ مخففٌ من قيلٍ، فهو من الواو أيضاً، ومعناه هو الذي ينفذ قوله، ويعتمد أمره ونهيه. ووصف به الملك كما وصف بالهمام، لما كان إذا هم بالشيء فعل، لا يرد ولا يدفع. وقيل للسلان مقولٌ لما كان آلةً في القول.
أمر على أفواه من ذاق طعمها ... مطاعمنا يمججن صاباً وعلقما
يقول: صارت مطاعمنا مرة على أفواه من ذاقها، حتى إنها تمج بعد ذواقها صاباً وعلقماً، والصاب: شجرةٌ لها لبنٌ إذا أصاب العين حلبها. والعلقم: شجرٌ مرٌ، وقيل هو الحنظل. حكى أن العلقمة المرارة. ويقال علقم الحنظل. إذا أدرك مرارته. وقوله: " يمججن " حالٌ للأفواه، والتقدير أمر مطاعمنا على أفواه الذائقين طعمها، ماجةً صاباً وعلقماً، أي إذا ذاقت رمت بما هو كهذين. والمعنى: إذا خبرنا حصل منا على ما هو كذلك. وجاز في طعمها الإضمار قبل الذكر؛ لأن الكلام يحتمل نية التقديم والتأخير، لما كان رتبة الفاعل وهو مطاعمنا التقديم، ورتبة المفعول وما يجري مدراه التأخير، وهو على أفواه من ذاق طعمها. وفي طريقة هذا البيت قول الآخر:
فإن نغمز مفاصلنا تجدنا ... غلاظاً في أنامل من يصول
والطعم: الذوق، والمطاعم: جمع المطعم. ويقال هو حسن المطعم، أي طيب الطعام.
؟ وقال في ذلك أيضاً:
وإني وإن لم أفد حياً سواهم ... فداءٌ لتيمٍ يوم كلبٍ وحميرا
يقول: أنا وإن كنت أربأ بقدري، وأرفع نفسي أن أجعلها فداءً الغيري، أفدي تيماً بها؛ لما كان منهم من حسن البلاء يوم اجتماع كلبٍ وحمير للقتال. وجواب الشرط، وهو قوله " إن لم أفد " قد اشتمل عليه الكلام، لأن المعنى: إن لم أفد غيرهم ترفعاً، فإني أفديهم تشكراً.(1/245)
أبوا أن يبيحوا جارهم لعدوهم ... وقد ثار نقع الموت حتى تكوثرا
أبا، الفعل لبني التيم. يقول: امتنعوا من أن يخلوا بين جيرانهم قبيلة كلبٍ وبين أعدائهم حمير، وقد ارتفع غبار الموت حتى التف في الجو. وأراد بالجار والعدو الكثرة، إذ كان المراد بهما القبيلتين، وإنما أضاف النقع إلى الموت تهويلاً، ويجوز أن يريد بالموت الحرب. وتكوثر: تفوعل من الكثرة، يريد تراكم الغبار والتفافه. وهذا الذي أشار إليه بقوله تكوثر من التراكم، جعله بعضهم كالسحاب، وجعله بعضهم يسد عين الشمس حتى ظهرت له الكواكب، وحتى صار النهار بسببه كالليل. وتجاوز المتنبي جميع ذلك، حتى بلغ حداً من الإفراط مسنشنعاً فقال:
عقدت سنابكها عليها عثيراً ... لو تبتغي عنقاً عليه أمكنا
وإذا أردت بالموت المنية يكون المراد: كأن الموت أثار الرهج في سلب النفوس حتى كثف في الهواء. وهذا مثلٌ.
سموا نحو قيل القوم يبتدرونه ... بأسيافهم حتى هوى فتقطرا
يعني بني تيمٍ. يقول: ارتفعوا نحو رئيس القوم مستبقين إليه بأسيافهم فتناولوه حتى سقط. ومعنى تقطر: وقع على أحد قطريه. والقطران: الجانبان. وفي الكلام اختصارٌ، كأنه قال: ابتدروه بالأسياف وضربوه حتى سقط، فحذف ضربوه. وموضع يبتدرونه نصبٌ على الحال، وتعلق حتى بالمحذوف الذي بينته.
وكانوا كأنف الليث لا شم مرغماً ... ولا نال قط الصيد حتى تعفرا
الأسد أحمى الحيوان أنفاً، ويبلغ من عجبه بنفسه أنه لا يتواضع لأكل صيد غيره. ونسب الأنفة إلى الأنف كما ينسب الحمية إليه. يقال: هو أحمى أنفاً من فلان، وآنف أنفاً منه، وحمى فلانٌ أنفه من كذا، أي أنف منه ولم يرض به. وحسن في الكناية عن الإباء والتصون عن الدناءة والمذلة قوله: " لا شم مرغماً " بعد ذكر الأنف. فيقول: وكان بنو التيم في التمنع كالليث الذي لا يغمض على قذى، ولا يشم مرغماً ومذلاً، ولا يصبر لشيءٍ على هوان، ولا يعطف على مكرهٍ وصغارٍ، ولا ينال الصيد قط حتى يكون هو المعفر. والعفر: التراب. هذا إذا رويت " قط الصيد(1/246)
حتى تعفرا " وقال ذلك لأنه فيما يتصيده لا يرضى بالاختلاس، ولا يعتمد على صيد غيره والإصابة منه. ويروى: ولا نال فظ الصيد حتى تعفرا. والفظ: ماء الكرش. ويقال افتظظت الكرش، إذا استخرجت ذلك الماء منه. والمعنى: ولا نال الفظ من بطن الصيد حتى يتعفر أي يسقط في العفر ويتمكن منه. والأسد يبدأ من الصيد بحشو بطنه، فلذلك خص الفظ. والثميلة خلاف الفظ، لأنه اسمٌ لما يبقى في البطن من العلف والرطبٍ. وقط في الماضي كأبداً في المستقبل، وهو معرفةٌ مبنيٌ كأمس، وأبداً نكرةٌ كغداً. ولا نال ولا شم في معنى لم يشم ولم ينل. ومثله قوله تعالى: " فلا صدق ولا صلى ".
؟
وقال هلال بن رزينٍ
وبالبيداء لما أن تلاقت ... بها كلبٌ وحل بها النذور
يقول: لما تلاقت كلبٌ وحمير بالبيداء وأدركوا الأوتار، فحل بها النذور وسقطت الأقسام عن الحالفين بها لإدراكهم الآثار. وجواب لما يجوز أن يكون ما دل عليه قوله " فحانت حمير " أو قوله " وحل بها النذور ". ويجوز أن يكون قوله " أجادت وبل مدجنةٍ "، وهو أول البيت الرابع، وعند من يجوز زيادة الحروف في مثل هذا المكان يكون " حل بها النذور " أو فحانت " الجواب، فيكون الفاء والواو مقحمةً، وهكذا يقولون في قول الله تعالى: " حتى إذا جاءوها وفتحت أبوبها " عندهم الواو زائدة، والمراد فتحت، وقول امرئ القيس:
فلما أجزنا ساحة الحي وانتحى
يقولون: المراد انتحى، والواو زائدة.
فحانت حميرٌ لما التقينا ... وكان لهم بها يومٌ عسير(1/247)
يقول: هلكت حمير عند الالتقاء، لأن الدبرة كانت عليهم لا لهم، وكان لهم بالبيداء يومٌ صعبٌ. ويقال: يومٌ وأمرٌ عسرٌ وعسيرٌ، والفعل منه عسر بالضم وعسر بالكسر، ويقال هو العسر واليسر، والعسري واليسري.
وأيقنت القبائل من جنابٍ ... وعامر أن سيمنعها نصير
يقول: وتيقنت جابٌ وعامرٌ بطون بني كلبٍ أنه سيذب عنها نصيرٌ ظهيرٌ، ومعينٌ قويٌ. ويعني بالنصير بني التيم. وجعل اللفظ نكرةً ليكون أبلغ في تعظيم النصرة، لأنه أراد نصيرٌ من النصار، أي كاملٌ في معناه. وجعلهم كلهم نصيراً لا نصاراً. لاتفاق كلمتهم وأهوائهم. وقوله " أن سيمنعها " أن مخففةٌ من الثقيلة، واسمه محذوف، يريد: أنه سيمنعها والسين في الفعل لئلا تلتبس المخففة بالناصبة للفعل. والهاء الذي أظهرته ضمير الأمر والشأن.
أجادت وبل مدجنةٍ فدرت ... عليهم صوب ساريةٍ درور
يقال: هذا يوم دجنٍ، أي يوم إلباس غيمٍ. والدجنة: الظلمة، وليلةٌ مدجانٌ. فيقول: أتت سحابة الجيش بمطرٍ جود، فوبلت وبل مدجنةٍ - أي سحابةٍ لها ظلامٌ، لكثافتها وقربها من الأرض - فصبت عليهم المنايا در ساريةٍ، أي سحابةٍ تسري ليلاً. والدرور، هي الكثيرة الدر. ويرتفع على أنه فاعل درت. وصوب مصدرٌ من غير لفظه، كأنه قال صابت درورٌ صوب ساريةٍ. وجعل ما في العجز من هذا في مقابلة ما في الصدر، من قوله " أجادت وبل مدجنةٍ " كأنه قال: أجادت الخيل وبل مدجنةٍ فدرت درور الموت در سارية، فالسارية بإزاء المدجنة لا غير. وكل ذلك مثلٌ لتكثير الشر، وتفظيع البلاء والقتل. وفي هذه الطريقة قول النابغة:
ومعلقين على الجياد حليها ... حتى تصوب سماؤهم بقطار
وذكر بعضهم أن أجادت ودرت فعلان جمعا للدرور، فهو كما يقال قام وقعد زيدٌ. قال: والدرور: حربٌ تدر بالدماء. ويقال: جادت وأجادت بمعنىً واحدٍ؛ والمراد جادت درورٌ فدرت عليهم كوبل مدجنةٍ، وكصوب ساريةٍ. والأول أقرب وأكشف وأصح.(1/248)
فولوا تحت قطقطها سراعاً ... تكبهم المهندة الذكور
يقول: انهزمت حمير مسرعين تحت صغار البرد، ولم يصبروا إلى كباره، والسيوف الهندية تسقطهم لوجوههم. ويقال هندت السيف، إذا نسبته إلى الهند. وقال أبو عمرو: وهندت السيف، إذا أحددته. وذكر الدريدي في القطقط أنه ضربٌ من المطر، ولم يحده. وموضع تكب نصبٌ على الحال، وما قدمناه في القطقط قول الخيل.
؟
وقال جزء بن ضرارٍ
أتاني فلم أسرر به حين جاءني ... حديث بأعلى القنتين عجيب
تقديره: أناني حديثٌ عجيب بأعلى القنتين، فلم أسرر به حين جاءني. وإنما استعجب من الحديث لتضمنه ما كرهه، فكان يرده بما يقوى في أمله من ضده. وقد اجتمع فعلان أتاني وجاءني، فأعمل الأول. ومثله قول الآخر:
ولم أمدح لأرضيه بشعري ... لئيماً.....................
تصاممته حتى أتاني يقينه ... وأفزع منه مخطئٌ ومصبب
تصاممته، أراد تصاممت عنه، حتى أتاني يقينه، أي الجلي الواضح منه. وأفزع يجوز أن يكون معناه صادف الفزع فلا يقتضي مفعولاً، ويجوز أن يكون أفزع الغير فيكون مفعوله محذوفاً. ومعنى البيت: تكلفت الصمم عن ذلك الخبر حتى جاء ما لم يمكن رده، لكون الشبه منتفيةً عنه، واتفق المخطئ والمصيب على تصحيحه، وصادفا الفزع فيه، أو أفزعا الغير منه. ومثل قوله " تصاممته " في انحذاف حرف الجر منه قول الآخر:
وأخفى الذي لولا الأسى لقضاني(1/249)
يريد: لقضى علي. وفي القرآن: " وإذا كالوهم أو وزنوهم "، يريد كالوا عليهم أو وزنوا عليهم. وأضاف اليقين إلى ضمير الخبر لأنه يريد المتيقن منه.
وحدثت قومي أحدت الدهر فيهم ... وعهدهم بالحادثات قريب
فإن يك حقاً ما أتاني فإنهم ... كرامٌ إذا ما النائبات تنوب
قوله " حدثت " يتعدى إلى ثلاثة مفاعيل، فالأول قام مقام الفاعل وضميره التاء، والثاني قومي، والثالث أحدث الدهر فيهم أحداثاً. وكما قال الآخر:
وإن تكلمك تبلت
يريد تبلت كلامها. ويجوز أن يكون أجرى قوله " أحدث الدهر فيهم " مجرى نكى الدهر فيهم، فاستغنى عن المفعول. وقوله: " وعهدهم بالحادثات قريب " يجوز أن يكون من جملة ما بلغ وأنبئ به، ويجوز أن يكون الواو للحال، كأنه نكى الدهر فيهم وحالهم قرب العهد بحوادثه، ويجوز أن يكون جارياً مجرى الاعتراض بين ما قبله وما بعده، وحقيقة معناه تصديقه لما خبر به، وأن قومه من الكرام الذين لا يسلمون على الدهر، بل يولع بالتأثير فيهم كما قال:؟ أرى الدهر يعتام الكرام ويصطفي عقيلة مال الفاحش المتشدد وإذا عزل هذا الاعتراض يكون الكلام: وحدثت قومي أحدث الدهر فيهم، فإن يك حقاً ما أتاني. ومعنى البيتين: أنبئت أن قومي نكى الدهر فيهم، وحمل أثقاله عليهم، فإن كان ما بلغت حقاً من إخناء الدهر عليهم، وسوء تأثيره فيهم، فإن أخبارهم كريمة في النوائب إذا نابتهم، ونفوسهم عزيزة تأبى الانقياد لما لا يحسن، والمطاوعة فيما يشين ولا يزن. وجواب فإن يك حقاً ما دل عليه قوله فإنهم كرامٌ،(1/250)
لأن معناه فإنهم يصبرون صبر الكرام. ومثله قوله تعالى: " إن تعذبهم فإنهم عبادك "؛ لأن المعنى: فإنك تملكهم وتقدر عليهم.
فقيرهم مبدي الغنى وغنيهم ... له ورق للسائلين رطيب
يقول: محتاجهم متجملٌ، وبما لا تناله مقدرته ولا ينهض وسعة متكثرٌ، وظاهره الغنى اكتفاءً بما يملكه، وتصنعاً لم ن يرمقه؛ وغنيهم له إفضال على العفاة، ومعروفٌ عند السؤال، يحيون في جنابه، ويعيشون في كنفه وظلاله. وقوله " له ورقٌ " مثلٌ ضربه للندى، وأصله ها هنا ورق الشجر، وبه عيش المال: الإبل والغنم. وإذا لم يمنعوا من الورق عاش الناس في فنائهم. هذا الأصل، ثم يتمثل به بعد لغيره من ضروب المنافع، ووجوه المرازئ. وسلك في هذه الاستعارة والتمثيل مسلك زهير حيث يقول:
وليس مانع ذي قربى ولا رحمٍ ... يوماً ولا معدماً من خايطٍ ورقا
ويقال: ورقت الشجرة وأورقت، وشجرة وريقةٌ، إذا كثر ورقها والوراق: زمن خروج الورق، كالصرام والجداد.
ذلو لهم صعب القياد وصعبهم ... ذلولٌ بحق الراغبين ركوب
يقول: من كان سهل الجانب منهم تراه متعسراً إذا سيم الضيم، متصعباً في التزام الظلم والجور؛ والأبي الخشن الخلق منهم معترفٌ بحق الراغبين، يركب به ولا يمنع، ويقاد له ولا يأبى. وقوله ركوبٌ، هو في معنى مفعول ها هنا. والذلول: الوطئ الظهر، والذُّل والذل يرجعان إلى السهولة والوطاءة، وإن كان كلٌ تفرد بمعنىً يتميز عن صاحبه بمايضاده. ألا ترى أن ضد الذل باضم العز، وضد الذل بالكسر الصعوبة.
إذا رنقت أخلاق قومٍ مصببةٌ ... تصفى بها أخلاقهم وتطيب
يقول: إذا كدرت المصائب أخلاق الناس فتغيرت، حتى لا يصير عليها محمل، ولا إليها من النوائب ملجأٌ، فإن أخلاق هؤلاء تصفى بها ولها وتطيب عند تحاملها؛ كأنهم كلما ازدادوا امتحاناً بالدهر ازدادوا طلاقةً وهشاشةً، ولين معطفٍ ولدونةً،(1/251)
ونهوضاً بالأعباء، وصبراً لدى الأواء. ويقال ماءٌ رنقٌ ورنقٌ، وما في عيشه رنقٌ أي كدر.
ومن يغمروا منهم بفضلٍ فإنه ... إذا ما انتمى في آخرين نجيب
أصل الغمر التغطية، ومنه قولهم: دخل في غمار الناس. والنجيب: الكريم من الناس والخيل والإبل، ولذلك قيل للمختار من كل شيء المنتجب، وقد نجب الرجل نجابةً، وأنجب: أتى بأولادٍ نجباء. يقول: والمغمور الخامل منهم، لظهور الفضل عليه، إذا انتسب في قومٍ آخرين عد نحيباً. ومثله قول الآخر:
يسود ثنانا من سوانا وبدؤنا ... يسود معداً كلها ما تدافعه
وإن كان هذا زائداً على ذلك. وحذف مفعول " يغمروا " لأنه لا يلتبس. أراد ومن يغمروه، أي المفضول فيهم إذا انتمى في غيرهم كان فاضلاً.
وقال القاطمي
من يكن الحضارة أعجبته ... فأي أناسٍ باديةٍ ترانا
الحضارة تكسر منه الحاء وتفتح، وكذلك البداوة تكسر منه الباء وتفتح. والمراد بالحضارة أهل الحضارة، فحذف المضاف، يدل على ذلك قوله " فأي أناس باديةٍ "، لأن التفضيل إنما يصح بين الحضريين والبدويين. وأي هذه تضاف إلى النكرة، ولا تضاف إلى أكثر من الذي جعلته خبراً، لأنك تريد صفته. ألا ترى أنك تقول مررت برجلٍ أي رجل، وأي رجلٍ أخوك إذا جعلته خبراً يكون مخرج الكلام المدح والتعجب، كأنك قلت: نهايةٌ في الرجولية أخوك. فعلى هذا قوله فأي رجالٍ باديةٍ. فيقول: من أعجبه رجال الحضر؛ فأي رجال بدوٍ نحن، إذا حصلت الرجال. والمعنى: أي أناسٍ نحن وإن كنا من أهل البدو. والمراد التمدح والتعجب.
ومن ربط الجحاش فإن فينا ... قناً سلباً وأفراساً حسانا(1/252)
يقول: ومن ارتبط الحمر واقتناها، وكان عيشه منها، فإنا أرباب الغزو، وآلاتنا رماحٌ طوالٌ، وخيلٌ رائقة عناقٌ. والجحش من أولاد الحمر كالمهر في الخيل، والجمع الجحاش والجحشة. والسلب: الطوال، والواحد سلوبٌ.
وكن إذا أغرن على جنابٍ ... وأعوزهن نهبٌ حيث كانا
يقال: عوز الرجل كذا عوزاً، مثل عدم، وأعوزه الدهر؛ أفقره. وأعوز الرجل: ساءت حاله، وهذا لا يتعدى. يقول: كانت هذه الخيل إذا أغارت على ما حولها من القبائل فبددت شملها، وخوفت آمنها، وصارت تأخذ حذرها، وتتقيها بالبعد عنها؛ حتى أعوزها النهب حيث كان النهب، لمعاودتهم الغارة وقتاً وبعد وقتٍ، وإدامتهم إياها، وإلحاحهم بها. وقوله " إذا أغرن " ظرفٌ لقوله أغرن من البيت الذي يليه، وهو جوابٌ له، والجملة خبر كن.
أغرن من الضباب على حلولٍ ... وضبة إنه من حان حانا
وأحياناً على بكرٍ أخينا ... إذا ما لم نجد إلا أخانا
الضباب يشتمل على ضبة وضبيبٍ، وحسلٍ وحسيل، فلذلك سموا الضباب. يقول: أغارت على أقاربهم وعلى الحلات النازلة حولهم وفيهم، لأن من قدر له الحين فقد أدركه. والمعنى: إنهم لا عتيادهم الغارة لا يصبرون عنها، حتى إذا أعوزهم الأباعد عطفوا على الأقارب. ألا ترى أنه تمم ذلك بقوله:
وأحياناً على بكرٍ أخينا ... إذا ما لم نجد إلا أخانا
وقوله: " إنه من حان حانا " يسمى الالتفات، كأنه التفت إلى إنسانٍ فقال: إنه من هلك بغزونا فقد هلك. وقوله " على بكرٍ " تعلق بفعلٍ مضمرٍ دل عليه ما تقدم فيما قبله، كأنه قال: وأحياناً أغرن على بكر.
وقال الأعرج المعني
أرى أم سهلٍ ما تزال تفجع ... تلوم وما أدري علام توجع
يقول: أرى هذه المرأة تتفجع تارةً وتتوجع أخرى، تعتب على وتلوم، وما أدري من أي شيءٍ شكواها، وفي أمرٍ توجه على عتبها، لأني لا أتعاطى منكراً فاستحق به ذلك: وقد مر الكلام في علام وأشباهه. وقوله: " ما زال " يريد به اتصال تلك الحالة منها، لأن ما زال الدوام الماضي، وما يزال هو مستقبل ما زال، فيصير(1/253)
لا متداد الحال. فإن قيل: أليس زال ضد دام فكيف يفيد وهو للنفي معنى الدوام؟ قلت لما دخل ما النافية عليه تغير معناه إلى الإيجاب، لأن نفي النفي إيجاب، فعاد إلى معنى الدوام. وقوله: " تلوم " في موضع الحال، أي تفجع لائمةً، وقوله: " ما أدري علام "، يريد وما أدري ما يقتضي هذا السؤال.
تلوم على أن أعطي الورد لقحةً ... وما تستوي والورد ساعة تفزع
يقول: تعيب علي في إيثاري فرسي الورد بلبن لقحتي - وهي الناقة التي بها لبنٌ - وما تستوي هي مع الورد ساعة الفزع ووقت الغارة. وقوله " الورد " منصوب على أنه مفعولٌ معه. يريد: لا تستوي هي مع الورد. ولو أراد ما تستوي هي وما يستوي الورد لم يكن يجوز إلا الرفع، والعامل في هذا المعمول لا يعمل بتوسط الواو بينهما. وإذا أردت تجريد الفعل على ما يدل عليه قوله تستوي، يكون تقديره إذا أظهرته عاملاً فيه: وما تساوى الورد. وعلى هذا قولهم: استوى الماء والخشبة لأن المعنى ساوى الماء الخشبة. فإن قيل: كيف قال ولا أدري علام نوجع، ثم أتبعه بقوله تلوم على أن أعطي الورد لقحةً، وهل كذب نفسه؟ فالجواب أن قوله ما أدري إنكارٌ وتفظيعٌ للشأن، والمتضجر بالشيء يقول ذلك وإن كان عالماً. وروى بعضهم " والورد " بالرفع وكان الأجود أن يقول: وما تستوي هي والورد، لأن عطف الظاهر على المضمر المرفوع ضعيفٌ حتى يؤكد. ويكون المعنى: وما تستوي أم سهلٍ وفرسي في ذلك الوقت، لاختلاف غنائهما، ولأن قصارى تلك الهرب والدهش، وغناء فرسي كونه عدةً للدفاع والذب. والأول أجود وأفصح وأسلم.
إذا هي قامت حاسراً مشمعلةً ... نخيب الفؤاد رأسها ما تقنع
هذا بيان الحال ساعة الفزع، وموضع إذا نصبٌ على أنه بدلٌ من ساعة تفزع، ويكون على ذلك قوله " هنالك يجزيني الذي كنت أصنع " من البيت الذي يليه منقطعاً، وإن كان بيان علة إيثاره باللبن وانتفاء المساواة بينه وبن المرأة. والمعنى: وما تساوي هذه المرأة الفرس إذا هي قامت بلا قناعٍ، جادةً في العدو، منخوبة القلب، طائرة اللب، لا خمار عليها ولا قناع، لدهشها في احتمارها، وذهابها عن عادتها وإلفها. وقوله " مشمعلةً " أي جادةً في العدو. وانتصب " رأسها " لأنه مفعولٌ مقدمٌ. ويجوز أن(1/254)
يكون " إذا هي قامت " استئناف كلامٍ، وحينئذٍ يكون جواب إذا قوله هنالك يجزيني الذي كنت أصنع.
وقمت إليه باللجام ميسراً ... هنالك يجزيني الذي كنت أصنع
يقول: وقمت إلى فرس في تلك الحال، مهيئاً له باللجام، للدفاع والقتال. ثم قال: في ذلك الوقت يجزيني ما أعامله به الساعة من إيثارٍ بلبنٍ، وتضميرٍ وصنعة. وقوله " ميسراً " أي مهيئاً. وفي القرآن: " فسنيسره للعسرى ". هنالك إشارةٌ إلى الوقت، ويستعمل في المكان. ويقال هناك أيضاً فيهما. والعامل فيه ها هنا يجزيني.
وقال حجر بن خالدٍ
كلبيةٌ علق الفؤاد بذكرها ... ما إن تزال ترى لها أهوالاً
يقول: علق الفؤاد بذكر امرأةٍ كلبيةٍ، لا تزال تقاسي من أجلها أهوالاً، وتتحمل مشقاتٍ. قوله " علق الفؤاد بذكرها " يجوز أن يكون أراد علق ذكرها بالفؤاد فقلب، لأن المراد مفهومٌ، ويكون كقول الآخر:
علق الأحشاء من هندٍ علق
وكما يقال علق بقلبه علاقته. ويجوز أن يكون جعله الفؤاد تابعاً للذكر فكأنه تعلق به. وكل شيءٍ وقع موقعه قبل علق معالقه. وجعل صدر البيت على الإخبار عنها، ثم نقل الكلام إلى مخاطبة نفسه. ويجوز أن يكون استمر في الإخبار عنها ويكون المعنى: علقها الفؤاد فلا تزال هي تقاسي أنت بسببها أهوالاً. و " إن " من قوله " ما إن " زيدت لتأكيد النفي.
فاقني حياءك لا أبا لك إنني ... في أرض فارس موثقٌ أحوالا
أقبل يخاطب المرأة فقال: الزمي حياءك، أي لا تفعلي ما يقال نسي الحياء معه واطرح، إنني محبوسٌ في أرض فارس سنين لا أبا لك. وقوله " لا أبا لك " بعثٌ وتحضيض، وليس بنفيٍ للأبوة، وخبر لا محذوف، لأن المعنى لا أباك، ودخلت(1/255)
اللام مؤكدةً للإضافة، لأن هذه إضافةٌ لا تخصص، فساغ تأكيدها باللام، ولو كانت الإضافة مخصصةً لكان لا يعمل في أبا لك. وتقدير الخبر: لا أبا لك موجود. ويقال: قنى يقنى، وأقنى: أمرٌ منه. وقنا يقنو. قال المتلمس:
كذلك أقنو كل قطٍ مضلل
وإنما قال إنني موثقٌ ولم يكن قد أسر وأوثق، لعلمه بما يؤول إليه في مقصده أمره، كأنه لما وطن نفسه على ترك التحامي والاتقاء علم أن أحسن العاقبتين فيه الأسر، فذكره. ويكون هذا كقول الآخر:
قد يتمت بنتي وآمت كنتي
فهذا وجهٌ، ويجوز أن يكون قال هذه الأبيات بعد الأسر.
وإذا هلكت فلا تريدي عاجزاً ... غساً ولا برماً ولا معزالا
ليس قصده في هذه الوصاة إلى أن يبعثها على تخير الرجال، أو يرشدها لوجوه الانتخاب، وإنما المراد: اطلبي مثلي. وهو يعلم أنها لا تظفر بمن يماثله أو يقاربه. والغسُّ: الضعيف. قال:
فطعنة لا غسٍ ولا بمغمر
والبرم: الذي لا يدخل مع القوم في الميسر، لضيق صدره وتبرمه بما يلتزم في مثله. والمعزال: الذي لا يحمل السلاح، ويتناهى اعتزاله ورفضه إياه. والأعزل مثله. ومثل هذا قول ابن أحمر:
فإما زال سرجٌ من معدٍ ... وأجدر بالحوادث أن تكونا
فلا تصلي بمطروقٍ إذا ما ... سرى في القوم أصبح مستكينا
إذا شرب المرضة قال أوكى ... على ما في سقائسك قد روينا
واستبدلي ختناً لأهلك مثله ... يعطي الجزيل ويقتل الأبطالا(1/256)
يقال: اعتاصى مني لأهلك ختناً مثل ذلك الختن، يعطي عطاءً جزلاً، ويقتل الأبطال بطلاً فبطلا. ومثله يرتفع بالابتداء، وما بعده في موضع الخبر له، والجملة في موضع الصفة للختن، ولا يجوز نصب " مثله ".
غير الجدير بأن تكون لقوحه ... رباً عليه ولا الفصيل عيالا
هذا أيضاً من صفة الختن. يقول: لا يكون خليقاً بأن يكون مملوكاً لماله لا مالكاً، ويحل الفصيل منه محل العيال لا محل المال. وهذا كما قال الآخر:
فلا والله ما لبني بربٍ ... ولا لحمى علي ولا سلائي
واللقوح صفةٌ، يقال ناقةٌ لقوحٌ إذا كان بها لبنٌ، وجمعه لقحٌ قال الخليل: فإذا أرادوا استعمالها على حد الأسماء قالوا لقحةً، يقال: هذه لقحة فلان، للناقة الحلوب - ولا يقال ناقةٌ لقحةٌ - والجميع لقاحٌ.
وقال ابن رميضٍ العنبري
باتوا نياماً وابن هند لم ينم
باتٍ يقاسيها غلامٌ كالزلم
يقول: مكث الناس نائمين في ليلهم، وهذا الرجل لم ينم، لأنه كان بيت للغارة، ثم قال " بات يقاسيها "، أي يعاني الغارة كيف يوقعها ويدبرها متى يأخذ فيها، غلامٌ مدمج الخلق خفيفٌ ثقفٌ مشمرٌ، كأنه قدحٌ. يعني ابن هندٍ. والزلم بفتح الزاء وضمها: القدح كان يستقسم به. قال الله تعالى: " وأن تستقسموا بالأزلام ذلكم فسقٌ ". ويجوز أن يكون المضمرين في باتوا المغار عليهم.
خدلج الساقين خفاق القدم
قد لفها الليل بسواقٍ حطم
بصفة بأنه غليظ الساقين، ولوطئه الأرض صوتٌ، ولقدمه خفقٌ، وهو سرعة الخطو مع ضرب الأرض بها، كأنه يشير بهذا إلى ثباته وقوته في العمل والسير،(1/257)
وشدة بلائه وصبره على الكد. وقوله " قد لفها " يريد الإبل. وجعل الفعل لليل على المجاز. والمعنى: جمعها برجل متناهى القوة، عنيف السوق، يكسر الطرائد بعضاً على بعض، لقلة رفقه وكثرة عسفه، ولأنه قليل الفكر فيها إذ كانت حصلت بالغارة، فإن سلمت فهي غنمٌ، وإن تلفت فليست بغرمٍ، فالعوض منها بالقرب. وقوله " حطم " بناءٌ للمبالغة، وهو من الحطم الكسر.
ليس براعي إبلٍ ولا غنم
ولا بجزارٍ على ظهر الوضم
يقول: لا يرفق هذا الرجل بوسائقه رفق الرعاة، ولا رفق الجزار، وذلك أن الراعي مكتري لاستصلاح مرعيه، وحفظ ما ضم إليه بجهده، والجزار لا يستهلك ماله ولا يعنف عنف من لا يبالي به. وهذا صفة المغوار القليل الفكر في فساد ما يحويه منها، الذاهب عن استبقائها، لا يبالي كيف استوسقت، وعلى أي حالةٍ تحصلت.
وقال جعفر بن علبة الحارثي
ألا لا أبالي بعد يومي بسحبلٍ ... إذا لم أعذب أن يجيء حماميا
يقول: اشتقيت من أعدائي يوم سحبلٍ - وهو اسم وادٍ - وأدركت آثاري عندهم فلا أبالي بدنو موتى بعده إذا لم يعذبني الله تعالى تبارك اسمه، إذ كنت نبت أمنيتي، وقضيت مأربتي. والذي تناوله قوله " لا أبالي " هو أن يجيء حماميا. ويقال لا أبالي كذا ولا أبالي بكذا. وإذا لم أعذب ظرفٌ للا أبالي، أي لا أبالي بالموت إذا سلمت من عذاب الله عز وجل. وإنما أتى بإذا رجاء أن يكون الأمر كذلك. وقد مضى القول في أبالي وأصله وما استقر عليه في الاستعمال، وأن قولهم لا أباليه بالةً أصله عند سيبويهً بالية فخفف. وقد ذهب غيره إلى أنها مقلوبة، ويقول في بالةٍ إنها فعلةٌ، وإن ألفها منقلبة عن واو، وأن أبالي كان أباول أي لا أكاثر، ثم وضع موضع لا أحفل ولا أكثرت. وللترجيح والنظر في المسألة موضعٌ غير هذا.(1/258)
تركت بجنبي سحبلٍ وتلاعه ... مراق دمٍ لا يبرح الدهر ثاويا
أخذ يقتص ما هون عليه الموت من فعله، فيقول: تركت بجانبي هذا الوادي ومسايل مياهه مصبوب دمٍ، يلزم ذلك المكان على مرور الأيام فلا يبرح. وقوله " ثاويا " من ثوى بالمكان، إذا أقام. يقال ثوى وأثوى جميعا. وقوله " مراق دمٍ " يجوز أن يريد موضعا أريق به دمٌ، كما يجوز أن يريد به دماً مراقاً، ولكنه إذا أريد به الموضع يكون لا يبرح من صفة الجم، ويجوز أن يريد به رجلاً أريق دمه ويحكون كقولك هو حسن وجهٍ. وذكر بعضهم أن المراد مراق دمٍ لا يزال ذكره باقيا على الدهر فحذف المضاف. والتلاع: جمع تلعةٍ، وهي أرضٌ مرتفعة يتردد فيها السيل إلى بطن الوادي. ومن الاستعارة الحسنة: فلانٌ لا يوثق بسيل تلعته، إذا كان غير صدوقٍ في أخباره.
إذا ما أتيت الحارثيات فانعني ... لهن وخبرهن أن لا تلاقيا
هذا كلام رجل يوئس أحبته من نفسه لاستقتاله، أو لأنه مني بما لم يرج الخلاص منه. فقال: إذا زرت نساء بني حارثة فاذكر موتى لهن، وأعلمهن أنه لا التقاء بيني وبينهن. فقوله " أن لا تلاقيا " أن مخففةٌ من أن الثقيلة، واسمه مضمرٌ، وتلاقيا نصبٌ بلا وخبره محذوف، والمراد لا تلاقي لنا، والهاء في أنه ضمير الشأن والأمر، والجملة خبر أن. وهذا البيت مع ما بعده لمالك بن الريب فيما أظن، وانضما إلى أبيات جعفر بن علبة على سبيل الغلط.
وقود قلوصي في الركاب فإنها ... ستضحك مسروراً وتبكي بواكيا
يقول: وأكثر قود ناقتي حالاً بعد حالٍ، فإن الأعداء يشمتون إذا استدلوا بها ويضحكون سروراً، والأصدقاء ذوات الشفقة يغتمون فيبكون توجعاً. وهذا الكلام تحزنٌ وتحسرٌ. وقوله " ستضحك مسروراً وتبكي بواكيا " من باب وصف الشيء بما يؤول إليه، ومثله قولهم: خرجت جوارجه. وقول الفرزدق:
قتلت قتيلاً لم ير الناس مثله
والقلوص، قال الخليل: هي الناقة الباقية على السير، لا تزال قلوصاً حتى تبزل. وإنما سميت قلوصاً لطول قوائمها ولم تجسم بعد.(1/259)
وقال آخر:
لعمري لرهط المرء خيرٌ بقيةً ... عليه وإن عالوا به كل مركب
خبر " لعمري " مضمرٌ ولا يجوز إظهاره، وهو قسمٌ، ولا يجوز أيضاً فيه إلا فتح العين، ولرهط جوابه. والرهط يقع على ما دون العشرة، ولهذا دخل عليه من الأسماء أسماء الآحاد فقيل ثلاثة رهطٍ. ومثله نفرٌ، ولو كان يقع على الكثير لما جاز لك فيه ألا ترى أنك لا تقول ثلاث إبلٍ. وانتصاب " بقيةً " على التمييز، وموضع " وإن عالوا به " نصبٌ على الحال للرهط، وجواب الشرط فيما دل عليه قوله " خيرٌ بقيةٍ ". وقوله " كل مركب " يريد به كل مركبٍ مذمومٍ. وعاليت بفلانٍ بمعنى أعليته. ومعنى البيت: وبقائي، لعترة الرجل أحسن إبقاء عليه، وأكثر حشمةً له، وإن أركبوه مراكب صعبةً مكروهة، وأنزلوه منازل حزنةً مذمومةً.
من الجانب الأقصى وإن كان ذاغنيً ... جزيلٍ ولم يخبرك مثل مجرب
تعلق " من " بقوله خيرٌ بقيةٍ، لأن معناه أفعل الذي يتم بمن. يقول: هم أحسن إبقاءً عليه من الغريب الأبعد، وإن كان الرجل محتشما في نفسه غنياً، ومعظماً مهيباً. وقوله " وإن كان ذا غنًى " في موضع الحال أيضاً. والجانب يراد به الجنس لا واحدٌ بعينه. وقوله " ولم يخبرك مثل مجربٍ " يجري مجرى الالتفات، وهو توكيد للخبر الذي أورده، وتحقيقٌ لما أنبأ به وشرحه، وأن ما قاله قاله عن تجربةٍ وخبرةٍ، لا عن سماعٍ وخبر.
إذا كنت في قومٍ ولم تك منهم ... فكل ما علفت من خبيثٍ وطيب
هذا الكلام تحذير من الاغترار بالأجانب، والاستنامة إلى ناحيتهم، وبعثٌ على طلب موافقتهم وترك الخلاف عليهم، بعد الحصول فيهم، وأن استعمال الإدلال معهم، والأخذ بالمضايقة في إيفائهم والاستيفاء منهم غير واجبٍ. ويروى: " في قومٍ عدًى لست منهم " ويكون معنى لست منهم: وأنت لا تهوى هواهم. والعدى يقع على الواحد والجميع، يقال رجلٌ عدًي، وقومٌ عدًى، أي بعدٌ غرباء. وقوله " كل ما علفت " مثلٌ. ومثله:
ولا تطعمن ما يعلفونك(1/260)
وكأن العلف مختصٌ بهذا المعنى؛ فإني لم أجده في غيره.
وقال البرج بن مسهرٍ
فنعم الحي كلبٌ غير أنا ... رأينا في جوارهم هنات
هذا الكلام تهكمٌ وسخريةٌ. وجاز أن يأتي به بلفظ المدح لأنه بما بعده تبين الغرض؛ فيكون أبلغ في الهزء. والهنات: الأمور المنكرة، ولا تستعمل إلا في الشر، وهي جمع هنةٍ، وإنما يكنى بها عن المحقرات، كأنه يرى الإبقاء والمجاملة، ويجري الأمر على المداجاة وترك المجاهرة. وقد يجمع هنةٌ على هنواتٍ، فمن رد اللام في الجمع رده في النسبة أيضاً، ومن لم يرده فهو في النسبة بالخيار، إن شاء قال هنيٌ وإن شاء قال هنويٌ. فيقول: قبيلة كلبٍ محمودةٌ في الأحياء، غير أنا منينا في جوارهم بدواهٍ وبلينا بمنكراتٍ. والاستثناء في هذا المكان يكون منقطعا. وكان فارق قومه طيئاً مراغماً وجاور كلباً فلم يحمد جوارهم ففارقهم ذاماً لهم.
ونعم الحي كلبٌ غير أنا ... رزينا من بنين ومن بنات
يريد مثل ما أراد في البيت الأول من السخرية. ومعنى رزينا: أصبنا ببنين وبناتٍ. ويقال فلانٌ مرزأٌ في ماله فيكون مدحاً، وفلانٌ مرزأٌ في أهله فيكون ترحماً وتوجعاً. ومثل هذا التهكم قول الآخر:
فدًى لسلمى ثوباى إذ دنس ال ... قوم وإذ يدسمون ما دسموا
فالتفدية ها هنا كالمدح بنعم ثم. وقوله " من بنين " من دخل للتفضيل، كأنه قال: رزينا أناساً من بنين وبناتٍ، ومفعول رزينا محذوف، ويجوز أن يكون ذاد من في الواجب على ما أجازه الأخفش وحكاه عنهم من قولهم: " قد كان من مطرٍ فخل عني "، فيكون المراد رزينا ببنين وبناتٍ.
فإن الغدر قد أمسى وأضحى ... مقيماً بين خبت إلى المسات(1/261)
يقول زارياً عليهم ومبيناً: إنه نالهم ما نالهم لأن الغدر مقيمٌ فيما بين ديارهم، ومما انطوى عليه أحشاؤهم: وفائدة قوله أمسى وأضحى بيان اتصال الوقت. وقوله " فإن الغدر " الفاء ربط الجملة التي بعدها بما تقدم ورتبها عليه، كأنه قال: قاسوا ما قاسوه في جوارهم فإنهم غادرون. وخبتٌ والمسات: ماءان لكلبٍ. يقول: الغدر مقيمٌ في كلبٍ بين هذين، أي في أول ديارهم وآخرها.
تركنا قومنا من حرب عامٍ ... ألا يا قوم للأمر الشتات
هذا الكلام اقتصاصٌ لحاله، وإظهارٌ للتأسف على مجاورة كلبٍ، والتندم على ما اتفق من مفارقة العشيرة: وقوله " يا قوم للأمر الشتات " تعجبٌ. والشتات: مصدرٌ وصف به. واللام في الأمر لام الإضافة، لكن فائدته ما ذكرناه من التعجب، وأتى به مع المدعو. وقد يقال يا لزيدٍ فيكون المنادى محذوفاَ. وهذه اللام تدخل مفتوحةً في المنادى ويراد به الاعتزاء، كقولك يا لبكرٍ ويا لتميمٍ. فيقول: انتقلنا عن قومنا وفارقناهم منذ زمن الحرب التي اتفقت بيننا عاماً أول. ثم أخذ يستعطفهم، ويتذمم من مراغمتهم، ويظهر الحاجة إليهم فقال: يا قوم أقبلوا لما تشتت من أمرنا، واختل من حالنا. وقوله " من حرب عامٍ " جعل من بدل من، لأنه في المكان مثله في الزمان، كما قال زهيرٌ:
أقوين من حججٍ ومن دهر
وأخرجنا الأيامى من حصونٍ ... بها دار الإقامة والثبات
يقول: أخرجنا النساء اللاتي صرن أيامي من مقر عزهن، ودار أمنهن، إلى جوار كلب، حتى اتفق عليهن من الأعداء ما اتفق، ومن حلول الرزايا ومقاساة الهنات بهن ما أقلق. ووصف النساء بما آل إليه أمرهن من الإيمة، وإن كن وقت الإخراج ذوات بعولٍ. ومثله قول الآخر:
ستضحك مسروراً وتبكي بواكيا(1/262)
وفي القرآن: " إني أراني أعصر خمراً ". وأيامى: جمع أيمٍ، ويقع على الرجل والمرأة. والفعل منه آم، أي بقي بلا زوجٍ. وهو من الفعل فيعلٌ، وجمعه أيايم على فياعل. وأيامى مقلوبٌ كأنه قدم اللام على العين فصار أيامى على فيالع، ثم فروا من الكسرة وبعدها ياء إلى الفتحة، فانقلبت ألفاً.
فإن نرجع إلى الجبلين يوماً ... نصالح قومنا حتى الممات
هذا إظهار رغبةٍ في الرجوع إلى العشيرة، ومعاودة الوطن والمحلة. يقول: إن اتفق لنا عودةٌ إلى بلادنا تركنا الخلاف على ذوينا، وأقمنا بها إلى انقضاء الأجل، واستنفاد المهل. ويعني بالجبلين أجأ وسلمى: جبلي طيئ. وقوله " حتى الممات " أراد به إلى حين الممات، فحذف المضاف. والممات يكون مصدراً، وإن جعلته اسماً للحين فلا حذف.
وقال موسى بن جابرٍ
لا أشتهي يا قوم إلا كارهاً ... باب الأمير ولا دفاع الحاجب
يصف بهذا الكلام ميله إلى البدو، وتفضيله رجاله على رجال الحضر، فيقول: لا أتمنى ورود باب الأمراء، ومدافعة الحجاب، ولا أعلق شهوتي بهما إلا على كرهٍ وعن داعيةٍ عارضةٍ؛ إذ كنت ألفت الصحاري والبراري، وصاحبت بها من لا تملكني معه حشمةٌ، ولا يصدني دونه عزة. وانتصب " كارهاً " على الحال.
ومن الرجال أسنةٌ مذروبةٌ ... ومزندون شهودهم كالغائب
يقول: من الرجال رجالٌ كالأسنة المطرورة، أي يمضون في الأمور ويفصلونها نفاذ الأسنة؛ ومنهم مزندون. والمزند: المبخل المقلل. ووقيل الزند ضرب به المثل في القلة. يقال: " زندان في مرقعةٍ "، ثم قيل هو مزندٌ مشتقاً منه. وقوله " شهودهم كالغائب " أي لا غناء عندهم، ولا دفاع بهم، فحضورهم كغيبتهم. وأراد بالغائب الكثرة لا التوحيد. وكان من حق التقسيم أن يقول: ومنهم مزندون، لكنه اكتفى بمن الأول. ومثله قول الله تعالى: " منها قائمٌ وحصيدٌ ". وسمعت أبا عليٍ الفارسي رححمه الله يقول: كل صفتين تتنافيان وتتدافعان فلا يصح اجتماعهما لموصوفٍ لا بد لإضمار من معهما إذا فصل جملةٌ بهما، متى لم يجيء ظاهرا، ثم(1/263)
أنشد:
وما زودوني غير سحق عباءةٍ ... وخمس ميءٍ منها قسيٌ وزائف
وقال: يريد ومنها زائف. وهذا كما تقول زيدٌ منطلقٌ وعمرٌو، والمعنى وعمرو منطلق، فحذف اكتفاءً بالخبر عن الأول، وعلماً بأن المنعطف ذلك حاله. قال: فإن أمكن اجتماع الصفتين لموصوفٍ واحد استغني عن إضمار من، ذلك كقولك صاحباك منهما ظريفٌ وكريمٌ.
منهم ليوثٌ لا ترام وبعضهم ... مما قمشت وضم حبل الحاطب
يقول: من الرجال رجالٌ كالأسود عزة وأنفةً، لا يطلب اقتسارهم واهتضامهم، ومنهم متقاربون كالقماش واللفائف، جمعوا على ما اتفق من شيءٍ إلى شيء. كأنه لم يقنعه ذلك التشبيه وتلك القسمة، فاستأنفهما على وجهٍ آخر. وقوله " وبعضهم مما قمشت " ينوب فيه ذكر بالبعض عن قوله " ومنهم "، لأن من للتبعيض فاستغنى به. وقوله " وضم حبل الحاطب " كقول الآخر:
وكلهم يجمعهم بيت الأدم
قال الأصمعي: لأن بيت الأدم يجمع الجيد والرديء، على تقارب بينهما، ففيه من كل جلدٍ رقعةٌ. وكذلك الحاطب يجمع في حبله الجيد والرديء، والرطب واليابس، على تدانٍ بينهما. فإن قيل: وما الفائدة في إعادة التقسيم والتشبيه؟ فالجواب أن يقال: كأنه صنفهم في الأولى من حيث اختلفوا عنده في الأعمال والأخلاق، وعلى توهم تباعدٍ بينهم، بدلالة قوله من الرجال أسنةٌ ومنهم مزندون لا يعتد بحضورهم. وبين الصفتين تفاوتٌ عظيم، وتباين شديدٌ. وصنفهم في الأخرى من حيث اختلفوا فيها على توهم تقاربٍ بينهم؛ لأن فيمن يقمش من لا يباين المباينة الفاحشة، ولا يخالف المخالفة المنكرة.
وقال آخر:
أقول لنفسي حين خود رألها ... مكانك لما تشفقي حين مشفق(1/264)
يقال: خود رأله، للمذعور المرتاع: والرأل. فرخ النعام. وهذا مثلٌ. والتخويد: ضربٌ من السير سريع. والتخويد والوخد والخدي متقاربة المعنى، في أنها تفيد ضروباً من المشي، ويوصف بجميعها النعام. ويقال في هذا المعنى " زف رأله "، لأن الزفيف ضربٌ من العدو سريعٌ أيضاً. وفي هذه الطريقة قولهم " طار طائره ". ويقولون: " هو أنفر من نعامٍ "، و " أشرد من ظليم ". ومعنى البيت: إني أثبت نفسي عند ما يبده من ذعر الحرب، ويفجأ من روعة القتال، فأخاطب نفسي إذا همت بالإحجام، أو وسوس إليها وجوب الانهزام: الزمي مكانك لم تذعري وقت ذعرٍ. وقوله " مكانك " أمرٌ، وهو موضوعٌ موضع الفعل الذي عمل فيه، ومكتفىً به عنه، فهذا إيجابٌ. وقوله " لما تشفقي حين مشفق " تأنيسٌ، أي لم تخافي وقت مخافةٍ. فهما كلامان. والإشفاق: الذعر، وقد يختلط بالنصح ويتجرد عنه. قال الله تعالى: " إنا كنا قبل في أهلنا مشفقين ".
مكانك حتى تنظي عم تنجلي ... عماية هذا العارض المتألق
يقول: أستأني وأترفق، وأقول في تلك الحالة، تماسكي يا نفس واحفظي مكانك إلى أن يتبين لك عن أي شيءٍ تنكشف لك ظلمة هذا العارض المتشقق بالبرق. والعارض، أصله في السحاب، وها هنا أراد به الجيش. وجعل التألق مثلاً للمعان الأسلحة. ويقال ائتلق البرق أي تلألأ، وتألق. والعماية: الظلمة والهبوة. ويروى: " غياية هذا العارض " وهي في طريق العماية لأنهما من الغي والعمى، وقد توسع فيهما. وإنما طلب من النفس الصبرإلى ذلك الوقت، لأن من ثبت في الحرب إلى انكشاف الحال فيه فقد أعطاها حقها.
وقال موسى بن جابرٍ
وقلت لزيدٍ لا تترتر فإنهم ... يرون المنايا دون قتلك أو قتلي
الترترة: العجلة. وحكى الدريدي أنها كثرة الحركة، فهي كالتلتلة. وروى الحديث: " تلتلوه ومزمزوه " بالراء واللام جميعاً. ويروى " لا تبربر "، والبربرة؛ كثرة(1/265)
الكلام، وكذلك الثرثرة بالثاء، ورجلٌ ثرثارٌ. ويقال: ما أكثر بربرتهم، إذا ماجوا في الكلام. ومنه سمي البربر: جنس من المغاربة، وكذلك البزبزة بالزاي: كثرة الحركة. وقد روى: " لا تبزبز ". ويقال ما أكثر بزبزتهم، ورجل بزبازٌ وبزابزٌ، إذا كان يكثر حركاته ويخف فيقول: لا تعجل يا زيد، أو لا تكثر كلامك ولا تضطرب، فإن القوم يرون الصبر على المنايا ويخف عليهم ويقل عندهم إذا ثبت فيه قتلك أو قتلي لهم. وانتهزوا في تحصيل أحدهما فرصهم. ويكون " يرون " في هذا الوجه من الرأي، كما يقال فلانٌ يرى في دينه أو في مروته كذا، أي يتخذه مذهباً ويدوم عليه. ويجوز أن يريد بيرون المنايا: يقاسون الشدائد، ويذوقون المنايا، ولم يصلوا بعد إلى قتلي أو قتلك. ويكون معنى " دون قتلك " كما يقال " دون هذا الأمر خرط القتاد "، وكما قال بشرٌ:
ومن دون ليلى ذو بحار ومنور
ومعنى يرى كما يقال لو علمت ماذا رأيت من فلانٍ، يراد أي شيءٍ مارست وكايدت. والكلام في المعنى الأول تصويرٌ لحال القوم في عداوتهم، ونهىٌ عن المعاجلة معهم، وبعثٌ على مصابرتهم ومحاذرتهم. وعلى المعنى الثاني يكون تثبيتاً لصاحبه وتشجيعاً، وتسكيناً منه وتصبيراً، فيكون مثل قوله:
أقول لنفسي حين خود رألها
وأن أبا تمامٍ تصور هذا المعنى، فلذلك ألحق الأبيات بما يليها.
فإن وضعوا حرباً فضعها وإن أبوا ... فعرضة عض الحرب مثلك أو مثلي
يقول: إن حطوا الحرب أو اطرحوها، وراموا المسالمة والمتاركة فيها، فاتبعهم في ذلك واقتد بهم، وإن أبوا إلا الشر فالقوي على عضاض الحرب والصبور على(1/266)
لزامها مثلك أو مثلي، والمعنى: أنا وأنت. وهذا كما يقال: مثله لا يعتاض منه، والمعنى هو لا يعتاض منه. ويقول: فلانٌ عرضة الشر، إذا كان قوياً عليه.
وإن رفعوا الحرب العوان التي ترى ... فشب وقود الحرب بالحطب الجزل
جعل الرفع في مقابلة الوضع من البيت الأول، والمعنى: إن هيجوها. والعوان: التي قوتل غيها مرة بعد أخرى، فتقادم وتطاول لبثها، واتصل هيجانها، واتسع نفيانها. وهذا على التشبيه بالعوان من النساء. فهو كما وضعها غيره لما أراد ابتداءها وجدتها أنها فتاةٌ وبكرٌ، فقال:
الحرب أول ما تكون فتيةٌ ... تسعى بنزتها لكل جهول
وقد استعملوا البكر والعوان في الحاجات أيضاً، فقال: هي بكر حاجاتي، وحاجتي بكرٌ، وحاجتك عوانٌ. يقول: وإن أججوا نار الحرب العوان التي تشاهد واستجاشوا لها، وأثاروا كوامنها، فاستجش أنت أيضاً وأوقد نارها بالحطب الغليظ الجزل.
وقال أيضاً:
إذا ذكر ابنا العنبرية لم تضق ... ذراعي وألقى باسته من أفاخر
قوله: " لم تضق ذراعي " مثل، ويقال ذرعي. قال الخليل: الذراع اسمٌ جامعٌ لكل ما يسمى يداً من الروحانيين. يقول: إذا ذكر هذان الرجلان من آبائي اتسع نطاق افتخاري، ورحب مجالي وباعي، ولم تعيني غلبة من أساجله، ولم يقعد بي ذكرهما عن الارتقاء في الفخر إلى ما لا يطلع له من أوازنه وأكايله، حتى ألقاه باسته دون وجهه لتوليه وإعراضه. وذكر الاست تقبيحٌ لفعله عند النكوص والانهزام، وتشنيعٌ عليه في التولي والإدبار.
هلالان حمالان في كل شتوةٍ ... من الثقل ما لا تستطيع الأباعر
يقول: هما في الاشتهار واعتلاء الشأن، واستضاءة الناس بنورهما، والانتفاع بمكانهما، بمنزلة هلالين؛ ويتكلفان عند كل جذبٍ ومحلٍ، من الأثقال والأعباء، ما(1/267)
لو صارت أجراماً لعجز عن النهوض بها وتحملها البعران. فإن قيل: إذا كان قصده في تحمل الأثقال إلى قرى الضيف، ونحر الجزور وقسمتها في المسير، والصبر على المؤن، والنهوض بالكلف، فكيف قال حمالان من الثقل ما لا يستطيع الأباعر؟ وكيف مثل ما يثقل على القلوب من الغرامات والحقوق، بالأوفار التي تثقل على الظهور؟ قلت: إنما يريد أن تلك المؤن والتكاليف التي يلتزمها، ويسعى بها وفيها، لو جسمت ثم حملت، لكانت الجمال لا تستقل بها، ولا تقوى عليها، فهذا وجهٌ. ويجوز أن يكون لما قال حمالان في كل شتوةٍ من الثقل، جعل لفقه ما لا تستطيع الأباعر، إذ كانت الجمال وأشباهها هي التي لحمل الأثقال خلقت، وبها اشتهرت، وليكون في اللفظ توافقٌ، مع الأمن من عارض الالتباس. ويكون هذا كما قال غيره:
ألا هلك امرؤٌ ظلت عليه ... بجنب عنيزةٍ بقرٌ هجود
سمعن بموته فظللن نوحاً ... قياماً ما يحل لهن عود
ألا ترى أنه لما كان قد كنى عن النساء بقوله " بقرٌ هجود " عبر عن إمساكهن عن الطعام تحزناً بقوله " ما يحل لهن عود " إذ كانت البقر وما يجانسها من البهائم تعتلف العود وما يكون كالعود. وليس ذلك إلا لطلب الموافقة في اللفظ، مع الأمن من اللبس. فأما قول لبيدٍ:
فإذا جوزيت قرضاً فاجزه ... إنما يجزى الفتى ليس الجمل
فمعناه إنما يعرف النعم وما يجب لها من شكر المنعم أرباب العقول وذوو التمييز، لا البهائم. فمتى أزلت إليك نعمةٌ فكن من المجازاة عليها بمرصدٍ، فإن معرفة ذلك والأخذ به من تمام العقل، ويوحبه المميزون وأولو الحجى، لا غيرهم مما لا تمييز له، ولا معرفة بذلك عنده. وذكر الجمل مكتفياً وإن كان القصد جنسه أو أجناس مثله. وفي طريقة ما نحن فيه قول أبي تمام إلا أنه فصل بين المنزلتين،(1/268)
وهو:
والصبر بالأرواح يعرف فضله ... صبر الملوك وليس بالأجسام
وقال:
ألم تريا أني حميت حقيقتي ... وباشرت حد الموت والموت دونها
الحقيقة: الخصلة التي يحق على الإنسان حمايتها. وقال الخليل: الحقيقة: ما يصير إليه حق الأمر ووجوبه. وقوله " ألم تريا " تقريرٌ للغير على ما كان من بلائه. يقول: ألم تعلما أني ذببت عما يجب على الذَّبُّ عنه، وباشرت الموت بنفسي، والموت دون حماية الحقيقة. يريد أن المحافظة على الشرف أشق من اقتحام الموت والاستقتال، لأنه يحتاج أن يصبر فيه من المكاره على ما لا يحد ولا يحصر، ويتكلف له من المشاق ما لا يعد ولا يضبط. فهذا وجه. والضمير من قوله " دونها " يرجع إلى ما دل عليه حميت من الحماية والحفظ. ويجوز أن يكون قوله " والموت دونها " أي قريبٌ من الحقيقة التي دفعت عنها أو من الحماية التي التزومتها، وحائلٌ بيني وبينها، ويكون هذا بياناً لكيفية مباشرته لحد الموت ومشافهته إياه على سمت القرب، والواو من قوله " والموت " واو الحال. وإذا جعلت المعنى الأول فيكون الكلام بياناً لتفضيل حماية الحقائق على مباشرة المنايا.
وجدت بنفسٍ لا يجاد بمثلها ... وقلت اطمئني حين ساءت ظنونها
يصف ابتذاله نفسه فيما تعناه على حاجةٍ من العشيرة إلى بقائها، وحلولها من القلوب محل ما يضن بها، فيوجب صيانتها. يقول: تسخيت بنفس لا يتسخى بمثلها كرماً وعزةً، وشرفاً وأبهةً، وقلت تثبيتاً لها: اسكني واصبري عند استيلاء الرعب عليها، واختلاف الظنون بها. وهذه إشارةٌ إلى ما يلحق النفس في الأول من الالتقاء، للوهلة العارضة، والفجعة المروعة. ومثله:
أقول لنفسي حين خود رألها ... مكانك لما تفقي حين مشفق
وما خير مالٍ لا يقي الذم ربه ... ونفس امرئٍ في حقها لا يهينها(1/269)
لفظه لفظ الاستفهام، والمعنى معنى الإنكار الذي يجري مجرى النفي، يقول: أي خيرٍ في مالٍ لا يصون صاحبه من ذمٍ وعارٍ، ولا يحميه من لحقوق تهجننٍ وشنارٍ؟ وأي شيء غناء نفس لا يبتذلها صاحبها في استيفاء حقوقها، ولا يتعبها في الدفاع دون حقائقها؟ وهذا الكلام تبرؤٌ من التحمد بما كان منه من إنفاق المال، وابتذال النفس. ومثله قول الآخر:
ويبتذل النفس المصونة طائعاً ... إذا ما رأى حقاً عليه ابتذالها
وقال:
ذهبتم فلذتم بالأمير وقلتم ... تركنا أحاديثاً ولحماً موضعا
يخاطب قومه ويلومهم على ما كان منهم من القعود عن نصرته، والنكوص عن مشايعته، واعتلالهم عند اعتذارهم من ذلك بالمعاذير المشوبة بالكذب، التجأتم إلى الأمير وقلتم تركنا قومنا يقولون ولا يفعلون، وعند تسلط الأعداء عليهم لا يمتنعون منهم ولا يدافعون، فهم كاللحم المبضع على خوان الجزارن تمتد الأيدي على توضعه إليه، وتتعلق الأطماع بتناوله وأخذه. ويكون هذا كقول الآخر:
رضوا بصفات ما عدموه جهلاً ... وحسن القول من حسن الفعال
هذا إذا رويت " تركنا " بفتح التاء، وإن رويت بضم التاء كان المعنى: ادعيتم علينا فيما نابنا، وعندما هممتم به من مفارقتنا وخذلاننا، أنا تركنا أحدوثةً للناس قبيحةً، يقومون ويقعدون بذكرنا، وأذلاء مهتضمين لا دفاع بنا، ولا امتناع من مذمةٍ في طباعنا. والموضع: المقطع المفرق في مواضع.
فما زادني إلا سناءً ورفعة ... وما زادكم في الناس إلا تخضعا
يقول: لم يزدني فعلكم وقولكم عند اعتلالكم في مفارقتكم إلا ارتفاع محلٍ، وسمو حالٍ، وجلالة قدرٍ، ولم يزدكم في الناس إلا تراجعاً وتذللاً، وتصوراً بالقبيح وتسقطاً، لأن من لا يصلح لعشيرته وأقربيه، وفصيلته وذويه، لم يسكن إليه البعيد الذي يؤويه، والمستعان به لما يرتجيه.
فما نفرت جنى والفل مبردي ... ولا أصبحت طيري من الخوف وقعاً(1/270)
وهذا يحتمل وجوها: يجوز أن يريد لم ينخزل لما أتيتم وأخبرتم أصحابي الذين هم كالجن، ولا فل لساني الذي هو كالمبرد، ولا ذعر جأشي فصار طيرى واقعةً. ويكون الأول كقول الآخر:
عليهن فتيانٌ كجنة عبقر
وتشبيه اللسان بالمبرد وحد السيف أكثر من أن يحتاج له إلى شاهد. وقد قيل في " نفرت جني " إنه مثل لفلتاته وبدراته، ويكون هذا كما وصف امرؤ القيس فرسه بالمرح وحدة القلب فقال:
به طائفٌ من جنةٍ غيرٍ معقب
وإن ذكره المبرد مثلٌ لصلاحه، وإن ذكره الطير مثلٌ لصيته وذكره الذاهب في الناس. ويجوز في هذا الوجه أن يريد به ذكاءه ونشاطه وشهامته، فقد قيل في ضده: هو ساكن الطائر، وكأن على رءوسهم الطير. ويجوز أن يشير بالجن إلى ما يدعيه الشعراء من أن لكل واحدٍ منهم تابعاً من الجن يستعين به فيما يجز به، ويجعل المراد بالمبرد في هذا الوجه اللسان لا غير. ويجوز أن يريد بالطير سراياه وطوائف خيله التي يطيرها للغارات والارتباء، وتجسس الأخبار وغيرها.
وقال حريث بن جابرٍ
لعمرك ما أنصفتني حين سمتني ... هو الشمع المولي وأن لا هوى ليا
العمر والعمر لغتان، ولا يستعمل في القسم إلا بفتحي العين. وأنصفتني: أعطينني النصفة والنصف. ويقال انتصفت من فلانٍ، أي استوفيت حقي منه كاملاً حتى صرت أنا وهو على النصف سواءً. ومعنى سمتني: جشمتني خطةً من الشر. ويقال أيضاً: سام فلانٌ فلاناً، إذا داوم علي وألح في شيءٍ. يقول: وبقائك ما أعطيتني النصفة حين عرضت على الرضا بأن يكون لك هوىً مع مولاك، حتى تنتقم له وتذب دونه، وألا يكون لي هوىً مع مولاي وأخلى بينه وبين أعدائه. قوله " وأن لا هوى ليا " أراد: وأنه لا هوى ليا.(1/271)
إذا ظلم المولى فزعت لظلمه ... فحرك أحشائي وهرت كلابيا
يبين كيف يتعصب لمواليه، وكيف يأنف من اهتضام يلحقهم، يقول: إذا اهتضم حليفٌ لي أو ابن عمٍ، ذعرت لامتهانه واهتضامه، فاضطرب أحشائي ونبحت كلابي. والمعنى: لم أعتد الهضيمة فيمن يتصل بي، ويتسبب إلي، فإذا اتفق وقوعها صارت كلابي تنبح، وأخذت نفسي تقلق. فيجوز أن يكون تحركت أحشاؤه لو جيب قلبه وخفقانه، ونبحت كلابه لتهيئه للانتقام، وتدججه في السلاح له، وتجمع أصحابه وإعدادهم الخيل والرجل لإغاثته. والكلب ينكر أصحابه إذا رآهم بهذه الأحوال فينبح. أنشد الأصمعي في مثله:
أناسٌ إذا ما أنكر الكلب أهله ... حموا جارهم من كل شنعاء مظلم
ووجهٌ آخر، وهو أن يكون تحركت أحشاؤه لاضطرابه في جمع من يجمع، وإعداد ما يعد، والمتسرع في الشيء يلحقه ذلك، ومثله.
أشارت له الحرب العوان فجاءها ... يقعقع بالأقراب أول من أتى
فقعقعة الأقراب كتحرك الأحشاء وأكثر. ويكون معنى فزعت أغثت على هذا. ومثله قوله:
حللنا الكثيب من زرود لنفزعا
أي لتغيث. ويجوز أن يكون أراد بالكلام الأصحاب، ويكون مثل قول الهذلي:
ولا هرها كلبي ليبعد نفرها ... ولو نبحتني بالشكاة كلابها
فقد فسر في بعض الوجوه على هذا. وكذلك قول تأبط شراً:
ليلة صاحوا وأغروا بي كلابهم(1/272)
فسر على ذلك أيضاً.
وقال البعيث بن حريثٍ
خيالٌ لأم السلسبيل ودونها ... مسيرة شهرٍ للبريد المذبذب
خير الابتداء محذوف، كأنه قال: خيالٌ لهذه المرأة أتاني أو زارني، وبيني وبينها مسيرة شهرٍ للبريد المسرع المتعجل. كأنه استطرف من الخيال ما كان يستطرقه من المرأة لو زارت. وقوله " البريد المذبذب " كما يقال للسائق الحاث طاردٌ. ألا ترى قوله يصف فرساً:
ويسبق مطروداً ويلحق طارداً
لأن المذبذب والمذبب الأصل فيهما واحدٌ، يرجع إلى الطرد والاستعجال. والمسرع المستعجل يتذبذب، أي يضطرب. فأما قوله تعالى: " مذبذبين بين ذلك " فهو من صفة المنافقين، ومعناه مطرودين بين المؤمنين والكافرين، فليسوا بمقبولين عند واحدة من الفرقتين. ومثل ذب وذبذب، كب وكبكب. فإن قيل: لم نكر فقال خيالٌ لأم السلسبيل؟ قلت: يجوز أ، يكون كان يرى خيالها على هيئاتٍِ مختلفة، فاعتقد لاختلاف هيئته أنه عدة خيال، فلذلك نكره، كأنه قصد إلى واحدٍ منها، ومثله:
خيالٌ لزينب قد هاج لي ... نكاساً من الحب بعد اندمال
فقلت لها أهلاً وسهلاً ومرحباً ... فردت بتأهيلٍ وسهلٍ ومرحب
حكى ما دار بينه وبين الخيال. والخيال يذكر ويؤنث. ونبه بكلامه على أنه أظهر لها قبولاً حسناً، وبشراً وطلاقةً، فعل المتشوف لها، المتشوق إلى لقائها، وأنه تلقاها بالترحيب والتأهيل ساعة طلوعها، فأجابته بمثل ذلك. وانتصب أهلاً بفعلٍ مضمرٍ كأنه قال أتيت أهلاً لا غرباء، وسهلاً من المنازل لا حزناً، ورحباً من الأماكن لا ضيقاً: والتأهيل: مصدر أهلته أي قلت له أهلاً. وكان يجب أن يقول فردت بتأهيل وتسهيل وترحيبٍ، لو أتى بالكلام على حدٍ واحدٍ، لكنه أتى في بعضه بحكاية اللفظ،(1/273)
وفي بعضه ببناء الأخبار. وقال سيبويه: إذا قال الراد وبك أهلا، فإنما يقول: أنت عندي بمنزلة من يقال له هذا لو جئتني. وإنما قال هذا لأن الحال لا تقتضي من الزائر أن يصادف المزور عنده ذلك، فحمل الكلام - وقد اعتيد فيه ما ذكره - على أنه يراد لو جئتني لكنت بهذا المنزلة.
معاذا الإله أن تكون كظبية ... ولا دمية ولا عقيلة ربرب
معاذ انتصب على المصدر. والمعنى أستعيذ بالله أو أعوذ به معاذاً. كأنه أنف وصار يربأ بصديقته أن تكون في الحسن بحيث تشبه بالظبي أو الظبية أو بالصورة المنقوشة، أو بكريمةٍ من بقر الوحش، إذ كانت هذه الأشياء عنده دونها، وقاصرةً عن رتبتها. وقد سلك من المتقدمين امرؤ القيس هذه الطريقة فقال:
كان دمي سقفٍ على ظهر مرمرٍ ... كسا مزبد الساجوم وشياً مصوراً
غرائر في كنٍ وصونٍ ونعمةٍ ... يحلين ياقوتاً ودراً مفقرا
فشبه الدمى بالنساء لا النساء الدمى. ومما يستحسن من هذه الطريقة قول أبي تمام:
كأنما جاد مغناه فغيره ... دموعنا يوم بانوا وهي تنهمل
لأنه شبه الأمطار المغيرة لرسوم الديار بدموع العشاق. في إثر الأحباب يوم الفراق. والعقلية: الكريمة من النساء والدر وكل شيء. والربرب: القطيع من البقر.
ولكنها زادت على الحسن كله ... كمالا ومن طيبٍ على كل طيب
يقال: زدته فزاد وازداد جميعاً. وكمالاً ينتصب على التمييز، والمعنى أنها يزيد حسنها على كل حسنٍ كمالاً، لأنه لا حسن إلا وتدخله نقيصةٌ، سوى حسنها. وكذلك كل الطيب يتخلله حطيطة إلا طيبها. و " من طيبٍ " أي وزادت من طيبها على كل طيبٍ طيباً. والغرض أن يبين لم أنكر لها تشبيهها بغيرها، فقال: هي تترفع عن ذلك: إذ كانت جامعةً للمحاسن، مستحقة للوصف بالكمال، وإذ كان كل واحدٍ من تلك الأشياء استبد بصفةٍ دون صفةٍ، ويتفرد بنوعٍ دون نوع.
وإن مسيري في البلاد ومنزلي ... لبالمنزل الأقصى إذا لم أقرب(1/274)
يقول: مكاني الذي أسير فيه من البلاد، وموضعي الذي أنزل فيه، لا بعد المنازل، وأوضع المساير، إذا لم يلحقني فيها تقريبٌ وتعظيم. وقوله " أقرب " بمعنى أكرم وأدنى، على طريق الإعظام. وليس يريد تقريب المسافة به. ويجوز أن يكون المعنى إذا لم أقرب كنت بمنزلة المطرود المنفي، وإن كنت مقيما دانياً. وكان الواجب أن يقول لبالمنزل والمسير؛ فاكتفي بأحدهما. وآثر المنزل بالذكر لأن النزول لا يكون إلا بعد السير. ودل بهذا الكلام على أنه لا يرضى في متصرفاته إلا بما يقضي بتبجيله، ويفضى إلى اصطفائه والرفع منه؛ وأنه لا يصبر على الهوان والجفاء حيث سار ونزل، بل يطلب إكرامه وإلا انتقل وتحول.
ولست وإن قربت يوماً ببائع ... خلاقي ولا قومي ابتغاء التحبب
يقول: لست وإن أدنيت وبجلت ببائع نصيبي من شرفي، وموضعي من عشيرتي، طلباً للتحبب على من أجاوره وأعاشره، أو تهالكا في تعليق الطمع بمن أرجوه وآمله. والخلاق: الحظ والنصيب من الصلاح. ويقال: ما لفلانٍ خلاقٌ، إذا لم يكن له رغبةٌ في الاستصلاح واكتساب الخير. وانتصب " ابتغاء التحبب " على أنه مفعولٌ له.
ويعتده قومٌ كثير تجارةً ... ويمنعني من ذاك ديني ومنصبي
يقول: ويعد ما تبرأت منه وأنفت من فعله كثيرٌ من الناس تجارةً رابحة، وصفقةً مفيدة نافعةً، وأنا يدفعني عنه ويزهدني فيه شرفي وديانتي. وهذا القول يجوز أن يكون تنزيها لنفسه، وتزكية لفعاله وخلقه فقط، وأن يكون القصد منه التعريض بغيره. وهذه الأبيات وإن كان في جملتها ما ليس من الباب فإنه كره تبديدها لسلامتها من العاب، ووفور حظها من الانتخاب.
دعاني يزيدٌ بعد ما ساء ظنه ... وعبسٌ وقد كانا على حد منكب
ما قدمه توصلٌ إلى بيان مراعاته أمر العشيرة، والتعطف على القريب وقت الحاجة، والتمسك بما يوجبه الكرم والحرية. يقول: دعاني هذا الرجل وصاحبه مستغيثين، بعد سوء ظنه بعشيرته وبي لما أسلف من الشر، وقدم من العقوق والإيذاء، وقد كانا أشرفا على حد الهلاك. هذا إذا رويت بفتح الكاف منكب، والمعنى: شافها حد الشر وحرفه، ولا يأمنان اقتحامه وتوسطه. ويقال صابه نكبٌ من الدهر ومنكبٌ ونكبةٌ ونكوبٌ كثيرةٌ، ومنه قيل حافرٌ نكيبٌ ومنكوبٌ، إذا أثر فيه(1/275)
حجرٌ أو غيره. ويروى " على حد منكب " بكسر الكاف، والمعنى: كانا مهاجرين لي. يقال: فلانٌ معي على حد منكبٍ، أي كلما رآني التوى ولم يتلقني بوجهه، وتنكب عني؛ أي اجتنبني. والمنكب من كل شيء: جانبه وناحيته. ومثله قولهم: فلانٌ يلقاني على حرفٍ؛ وهو منحرفٌ عني ومتحرفٌ. ويجوز أن يريد بقوله " بعد ما ساء ظنه " بعد تسلط اليأس والقنوط من الحياة عليه.
وقد علما أن العشيرة كلها ... سوى محضري من خاذلين وغيب
دل بهذا الكلام على الضرورة الداعية إلى الاستعانة به، والاستظهار بدعوته وإجابته. يقول: استغاثا بي متيقنين أن كل عشيرتهما إذا لم أحضر من بين شاهدٍ لا ينصر، وغائبٍ لا يحضر وأن الكفاية لا توجد إلا عندي، والنصرة لها لا تحصل إلا بسعيي. وقوله " من خاذلين وغيب " أراد ومن بين غيب، فاكتفى بمن الأول عن الثاني، وقد مر القول في مثله مشروحاً. ومعنى سوى ها هنا معنى بدلٍ ومكانٍ. وذكر المحضر والمراد النفس؛ كأنه قال: وقد علما أن العشيرة كلها بدلاً مني ومكاني، من خاذلٍ وغائبٍ.
فكنت أنا الحامي حقيقة وائلٍ ... كما كان يحمي عن حقائقها أبي
يقول: أعنتهما على ضعف رجائهما، وتسلط الظنون السيئة عليهما، جارياً على الغاية الموروثة عن أسلافي، ومقتدياً في الذب عن العشيرة، والمواظبة على حماية الحقية، بآبائي. ويقال: حميت الحقيقة وحميت عن الحقيقة، وهو يحمي عليه ويحامي عليه.
وقال المثلم بن رياح
من مبلغٌ عني سناناً رسالةً ... وشجنة أن قوما خذا الحق أودعا
يقول: من يؤدي عني رسالةً إلى هذين الرجلين، بأن ارضيا الحق وقوما واستوفياه، أو اتركاه فما لكما غيره وإن تسخطتماه. وهذا توعدٌ واستهانةٌ. وقوله " أن قوما " أن مخففة من أن الثقيلة والمراد: أنه قوما. ومثله قولهم في: أما إن جزاك الله خيراً، ويجوز أن يكون أن المفسرة، كأنه فسر الرسالة بقوما خذا الحق. ومثله قولهم: أتفخر على أن أصحابك اكثر من أصحابي. وأن هذه تجري مجرى أي في أنه(1/276)
يفسر به. ولو قال قوما وخذا الحق، فأتى بحرف العطف كما قال الله تعالى: " قم فأنذر. وربك فكبر " كان أفصح. وقد جاء مثله بغير العاطف كثيراً. وقوله " قوما " ليس المراد به فعل القيام، لكنه وصلةٌ في الكلام، وقد بين فيما مضى أمثاله. ويجوز أن يكون قوله خذا الحق على طريق التهكم والسخرية. أي إن قدرتما على أخذ الحق المدعى فخذا. ويجوز أن يكون المعنى: ترككما ما سميتماه حقاً، وطلبكما له عندي سواء على الحقيقة.
سأكفيك جنبي وضعه ووساده ... وأغضب إن لم تعط بالحق أشجعا
يقول: أكفيك ما يمسني ويخصني، ولا أضايقك فيما يرجع نفعه وضره إلي. وذكر وضع الجنب والوساد مأخوذٌ من المثل السائر في المعتني بالشيء المتعهد له، وهو قولهم: " أمٌ فرشت فأنامت ": والمعنى: لا أكلفك عنايةً بأمري، ولا أؤاخذك بمصالح أسبابي: ومتى لم تناول مولاي أشجع الحق، ولم تعامله فيما بينكما بالحق والعدل، غضبت له وانتقمت؛ لأن في تضييع حق المولى والأخذ بالتغميض فيه لازم العار، وفي استعمال التغابي فيما يتعلق بي واطراحي المناقشة والمشاحة فيه باقي الصيت والجمال. قوله " إن لم تعط بالحق " قيل فيه مفعول تعط الثاني محذوفٌ، ومعنى بالحق: بالعدل والإنصاف. كأنه قال: تعط أشجع ما يجب له بالحق. وقيل أراد بتعط تعامل فعداه تعديته. وقيل بالحق هو المفعول الثاني، لكنه زاد الباء فيه تأكيداً، كما قال الآخر:
سود المحاجر لا يقرأن بالسور
ويغلب في نفسي أن الشاعر قال وأغضب إن لم تعطيا الحق أشجعا، لأنه بني الرسالة على أن تكون متوجهةً نحو اثنين: سنانٍ وشجنة. ومخاطبته من بعد أحدهما في قوله سأكفيك، على عادتهم في الافتنان والتصرف، لا يمنع من الرجوع إلى ما بني كلامه عليه من ذكر الاثنين. وهذا ظاهرٌ لمن تأمله.(1/277)
تصحيح الردينيات فينا وفيهم ... صياح بنات الماء أصبحن جوعا
يريد: تختلف الرماح المنسوبة إلى هذه المرأة بيننا وبينهم بالطعن، فصياحها كصياح بنات الماء إذا جاعت. وهذا كما حكى الآخر وقع القنا والسيف عند الطعن والضرب، فقال:
والطعن شغشغةٌ والضرب هيقعةٌ
ويعني ببنات الماء طيور الماء. وهذا كما يقال في الوحش: بنات الفلا، وللنوائب: بنات الدهر.
لففنا البيوت بالبيوت فأصبحوا ... بني عمنا من يرمنا يرمنا معا
يقول: استأنفنا حالةً جامعةً لنا ولعشيرتنا، فاستبدلنا بالتباين اجتماعاً، وبالتزايل اختلاطاً، وبالتنافر تأنساً، وبالتشارد تألفا، حتى صرنا يداً واحدةً على المنابذين، ولسانا واحداً على المخالفين، فمن رمى واحداً على المخالفين، فمن رمى واحداً منا فقد رمى جميعنا. هذا إذا رويت: " من يرمنا يرمنا معا ". ومن روى: " من يرمهم يرمنا معا " يكون المعنى في اجتماع الكلمة أبين. وفي هذه الطريقة قول الآخر:
فأمسي كعبها كعباً وكانت ... من الشنآن قد دعيت لعابا
وقال آخر:
يا زمل إني إن تكن لي حادياً ... أعكر عليك وإن ترغ لا تسبق
يقول: إن تخلفت عني حتى يكون مكانك مكان الحادي من البعير أعطف عليك. وإن تقدمتني هارباً حتى تصير كالهادي لي مستعملاً الخداع والرواغ معي لم تفتني. والمعنى: إني أدركك على كل حالٍ. وقد أحسن النابغة في(1/278)
قوله:
فإنك كالليل الذي هو مدركي ... وإن خلت أن المنتأى عنك واسع
ويقال عكر واعتكر بمعنى عطف، وإنه لعكارٌ في الفتن، إذا كان ثابت القدم.
إني امرؤٌ تجد الرجال عداوتي ... وجد الركاب من الذباب الأزرقٍ
يقول: إني رجلٌ ينال أعدائي من عداوتهم لي ما ينال الإبل من الذباب الأزرق، وهذا الجنس من الذباب يتأذى به الإبل تأذي الحمر بالنعر أو أشد. وعداوتي ينتصب على المفعول. كأنه قال: يجد الرجال من عداوتي، فحذف حرف الجر ووصل الفعل فعمل. يدل على ذلك قوله. " وجد الركاب من الذباب ". ومثله:
أستغفر الله ذنباً لست محصيه
وقوله " عداوتي " يجوز أن يكون مضافاً إلى الفاعل، أي عداوتي لهم، ويجوز أن يكون مضافاً إلى المفعول، أي عداوتهم لي ومعنى تجد تحزن، ولذلك كان الوجد مصدره. ويجوز أن يكون تجد بمعنى تعلم، ويكون عداوتي المفعول الأول ووجد الركاب المفعول الثاني. والمعنى: إن عداوتهم لي تقلقهم وتنزيهم، فيعلمها الرجال مثل وجد الركاب من هذا الجنس من الذباب؛ أي ينالون منها ما ينال تلك منهم. ويحصل في البيت تجنيسٌ حينئذ.
وقال الحصين بن الحمام
فقلت لهم يا آل ذبيان مالكم ... تفاقدتم لا تقدمون مقدما
يقول: قلت لهؤلاء القوم: ما لكم تحجمون ولا تقدمون، فقد بعضكم بعضاً ولا اهتدى أحدكم إلى الآخر. وهذا الكلام تضجرٌ منه بهم لما تخاذلوا ولم يكونوا عند الظن فيهم. ووضع مقدماً موضع الإقدام، وساغ ذلك لأن مصادر الكلمات(1/279)
الصادرة عن أصلٍ واحدٍ يوضع بعضها موضع البعض لداعٍ يدعو إذا لم يكن ثم مانعٌ. وإنما قلت هذا لأن قدم يكون مرةً متعدياً، ومرة يكون بمعنى تقدم ولا يتعدى، ومقدماً ها هنا مصدر ما لا يتعدى، فهو مثل تقدم لو قاله، ومنه مقدمة الجيش، يراد متقدمته. وقوله " تفاقدتم " اعتراضٌ بين ما لكم وبين لا تقدمون، وهو دعاءٌ عليهم. ومثله في الأمرين جميعاً قول الآخر:
إن الثمانين وبلغتها ... قد أحوجت سمعي إلى ترجمان
وإن كان هذا دعاء خيرٍ.
مواليكم مولى الولادة منهم ... ومولى اليمين حابساً متقسماً
إنما قسم المولى هذه القسمة لأن المولى له مواضع في استعمالهم، منها المولى في الدين: وهو الولي. على ذلك قول الله تعالى: " ذلك بأن الله مولى الذين آمنوا وأن الكافرين لا مولى لهم "، وقول النبي عليه السلام: " من كنت مولاه فعليٌ مولاه "، وقوله عليه السلام: " مزينة وأسلم وغفارٌ موالي الله ورسوله ". ومنها العصبة وبنو العم، وهو الذي سماه الشاعر مولى الوالدة. ومنها الحليف، وهو من انضم إليك واعتز بعزك وامتنع بمنعك، وهو سماه مولى اليمين؛ لأنه يقسم له عند الانضمام بذلك، وهو المعتق لك ينتسب بنسبك، وأنت مولاه وذاك مولاك. وهم يقولون: إن المولى لا يكاد يفضل الصميم، قال:
وليس أبير كم كأبير سوءٍ ... وما جعل الموالي كالصميم
يقول تداركوا الذين ينتسبون بالولاء، ولاء النسب، وولاء الحلف والنصرة، فكلٌ منهم ذو حبسٍ على الشر متقسم الحال، متوزع المال مغارٌ عليه، فما لكم لا تمتعضون ولا تنكرون.
وقوله: " حابساً " في معنى محبوسٍ؛ لكنه أخرجه مخرج النسب؛ أي ذو حبسٍ، وانتصابه على الحال. وقوله " مواليكم " على هذا انتصب بفعل مضمرٍ، كأنه قال: أغيثوا مواليكم وتداركوا. ويروى " حابسٌ قد تقسما ". وقيل هو اسمٌ علم، وارتفاعه(1/280)
على أنه بدلٌ من مولى اليمين، وقد تقسما في موضع الخبر. واكتفى بالإخبار عن الموليين لأن الموالي انقسموا إليهما.
وقلت تبين هل ترى بين واسطٍ ... ونهى أكفٍ صارخاً غير أعجما
يروى " فارساً غير أخرما "، كأنه أقبل على واحد منهم فقال: تأمل هل ترى بين هذين الموضعين فارساً غير منقطع. المعنى: أنهم يتواترون أرسالاً في الصراخ غير متجمعين له، بل يتبع بعضهم بعضاً في أرضكم ودياركم يستنصرون فلا ينصرون، فما لكم لا تأنفون. ومن روى: " صارخاً غير أعجما " فمعناه مستغيثاً لا يجاب، فكأنه أعجم لا يفهم قوله. يريد: تبين فإنك لا ترى إلا فارساً أخرم، أو صارخاً أعجم. والأعجم: الذي لا يفصح. والصارخ والصريخ واحد، ويقال صرخ فأصرخته، أي استغث فأغثته. وفي القرآن: " ما أنا بمصرخكم " والصرخة تستعمل في الفزع والمصيبة. وفي المثل " له صرخة الحبلى ". والخرم: القطع، ومنه أخرم الكتف، وهو محزٌ في طرف عيرها.
من الصبح حتى تغرب الشمس لا ترى ... من الخيل إلا خارجياً مسوما
أي ابتدأ الأعداء بغيرون وينهبون، وهؤلاء يصرخون ويستغيثون، من وقت الغداة إلى أن غابت الشمس، فلا ترى من الخيل إلا ما خرج بنفسه لا أولية له كمثله، وقد أعلم بعلامة ليعرف بلاء صاحبه. وقوله: " من الصبح "، وضع من فيه موضع منذ، لأن منذ في الأزمنة بمنزلة من في الأمكنة. ومثله قول زهير:
أقوين من حججٍ ومن دهر
وقال الأصمعي: الخارجي: كل متناه في جنسه، فائق نظراءه في معناه. والمسوم من السيما، وهي العلامة، وفي القرآن: " سيماهم في وجوههم ".
عليهن فتيانٌ كساهم محرقٌ ... وكان إذا يكسو أجاد وأكرما(1/281)
يقول: على هذه الخيل رجال كساهم محرقٌ، أي دروعهم وسائر أسلحتهم مما كان يكسوهم، ويجعله خلعة: وكان محرقٌ إذا كسا الأسلحة أتى بها جيدةً كريمة. ومحرقٌ: لقبٌ لعمر وبن هندٍ، وكان أحرق قوماً من تميم حين أجج النار بأوارة، فلقب به، وقال بعضهم: لقب بذلك لأنه كان إذا عاقب عاقب بالنار. وقوله " إذا يكسو " اعتراضٌ بين الفعل وهو يكسو وبين المفعول به وهو " صفائح بصرى " من البيت الثاني. ويقال أجاد الشيء بمعنى جاء به جيداً، وبمعنى جوده. وكذلك أكرمه يكون بمعنى أتى به كريما، وبمعنى أتى به كريما، وبمعنى كرمه. وقد توسعوا في كسا وإن كان أصل الكسوة اللباس، فقيل: اكتسى الأرض بالنبات، على التشبيه، فقال رؤبة يصف الثور والكلاب:
وقد كسا فيهن صبغاً برزغا
أي كسا الكلاب دماً طرياً. وقال بعضهم في وصف نبالٍ:
وزرقٍ كستها ريشها مضرحيةٌ
أي قذذها من ريش مضرحيٍ. فعلى هذا قوله " كساهم محرق ".
صفائح بصرى أخلصتها قيونها ... ومطرداً من نسج داود مبهما
صفائح انتصب على أنه مفعولٌ ثان من كساهم محرقٌ. وبصرى: قريةٌ بالشام تطبع بها السيوف. فيقول: كساهم محرقٌ سيوفاً بصريةٌ، اتخذها طباعوها من خالص الحديد، ودروعاً لينةً سهلة سلسةً، متتابعة السرد، تطرد ولا تختلف، داودية. والصفائح: جمع صفيحة، وهي كل سيفٍ عريضٍ أو خشبةٍ عريضة. ويقال سيف مصفحٌ أيضاً، أي عريض، كأنه زيد في صفحتيه، أي جانبيه. ويقال أصفح بسيفه، أي ضرب بصفحه. ومعنى أخلصتها: أتت بها خالصة الحديد. واستعمل الكسوة في السيف كما يستعمل فيه البز. قال:
فوفر بزٌ ما هنالك ضائع(1/282)
يريد السيف. ووصف الدرع بالاطراد لتتابع سردها على حدٍ واحد، لا اختلاف في حلقها، ولا تفاوت في نظمها. وجعلها مبهماً لإحكامها.
فلما رأيت الصبر قد حيل دونه ... وإن كان يوماً ذا كواكب مظلماً
يقول: لما رأيت الأمر مستفحلاً، والخطب عظيما مستفظعاً، والصبر عاماً لنا كلنا، مغلوباً عليه ممنوعاً، صبرنا نحن من بين أصحابنا على عادتنا المعهودة منا، ووطنا أنفسنا على الشر. ويجوز أن يريد بقوله " لما رأيت الصبر قد حيل دونه " لما رأيت الوقت وقتاً يعال فيه الصبر، ويجال بين طالبيه وبينه. وقوله " وإن كان يوماً ذا كواكب مظلماً " اعتراضٌ بين لما وجوابه، وهو شرطٌ في وقوع الصبر منهم يترجم عن الحال. أي صبرنا وإن كان اليوم يوماً مظلماً ترى فيه الكواكب ظهراً، لانسداد عين الشمس بغبار الموت. وجواب الجزاء استغنى عنه بجواب لما. وروى بعضهم: " وأن كان يوماً " بفتح الهمزة على أن يكون أن مخففة من الثقيلة، والمراد وأنه كان اليوم يوماً ذا كواكب. وهذا الراوي لعله لم يعرف الاعتراضات والفصاحة فيها، والتبس المعنى عليه أيضاً.
صبرنا وكان الصبر منا سجيةً ... بأسيافنا يقطعن كفاً ومعصما
يقول: حملنا أنفسنا على المكروه، وحبسناها في مجال الموت والشر، وكان ذلك منا عادةً وطبيعةً. وقوله " أسيافنا " يجوز أن يتعلق الباء منه بصبرنا، واعترض بينهما قوله " وكان الصبر منا سجيةً "، إذ كان أراد أن يبين أن ذلك الفعل ليس بمستبدعٍ ولا مستنكرٍ من أخلاقهم. ويجوز أن يتعلق بما دل عليه " وكان الصبر منا سجيةً ". ويقطهن في موضع الحال للأسياف على الوجهين جميعاً. وفي طريقته قول نهشل بن حريٍ:
ويوم كأن المصطلين بحره ... وإن لم يكن نارٌ قعودٌ على جمر
صبرنا له حتى يبوخ وإنما ... تفرج أيام الكريهة بالصبر
نفلق هاماً من أناسٍ أعزةٍ ... علينا وهم كانوا أعق وأظلما
يقول: نشقق هاماتٍ من رجالٍ يكرمون علينا ويعزون، لما يجمعنا وإياهم من الأحوال الوكيدة، والحرم القوية بالأنساب والأسباب، وهم كانوا أشد عقوقاً وأتم(1/283)
ظلماً، بما اطرحوه من مراعاة الحقوق، وبدءوا به من تناسي العهود، واستعجلوه من البغي، وسلكوه من سنن الغي. ويروى أن يزيد ابن معاوية لا رحمه الله تمثل بهذا البيت لما وضع بين يديه رأس الحسين ابن علي رضي الله عنهما.
ولما رأيت الود ليس بنافعي ... عمدت إلى الأمر الذي كان أحزما
فلست بمبتاع الحياة بذلةٍ ... ولا مرتق من خشية الموت سلما
قوله " إلى الأمر الذي كان أحزما " جعل الحزم للأمر كما جعل له العزم في قوله تعالى: " فإذا عزم الأمر "، فكل ذلك مجازٌ واتساعٌ. وصلح أن يريد بقوله أحزم، أحزم من غيره، لوقوعه خبراً، لأنه كما يجوز حذف الخبر بأسره إذا دل دليلٌ عليه، كذلك يجوز حذف ما يتم به منه إذا لم يلتبس بغيره، ولم يختل الكلام بسببه. وقوله " لما رأيت الود " حذف المضاف فيه وأقام المضاف إليه مقامه، كأنه قال: لما رأيت مراعاة الود ومحافظته، أو إظهار الود وإبقاءه. ومعنى البيت: لما رأيتهم لا يرتدعون عن ركوب الرأس، والمجاذبة إلى أقصى ما في الطوق من اللجاج والشر، قصدت إلى ما كان أجمع للحزم معهم من مكاشفتهم، وترك الإبقاء عليهم؛ لأن ظهور التعادي والتكاشف خيرٌ من ركوب الغرور مع التشابك. ويلاحظ هذا البيت قول الآخر:
إذا حاجةٌ عزتك لا تستطيعها ... فدعها لأخرى لينٍ لك بابها
وقوله " فلست بمبتاع الحياة بسبةٍ "، يقال ابتاع الشيء بمعنى اشترى، وإن كان بعته بمعنى اشتريته وبعته جميعاً. والسبة: الخصلة التي يسب بها، فهي كالهجنة والعرة. يقول: فعلت ذلك، فإنني لست ممن يطلب العيش مع الذل، ولا ممن يرتقي في الأسباب خوفاً من الموت، بل الميتة الحسنة على ما يتعقبها من الأحدوثة الجميلة آثر عندنا، وأوقع من هوانا، من العيشة الذميمة على ما يخالطها من الرضا بالدنية.
وقال بشامة بن الغدير
ولقد غضبت لخندفٍ ولقيسها ... لما ونى عن نصرها خذالها(1/284)
خندفٌ. لقبٌ لليلى امرأة الياس بن مضر، لقولها لزوجها يوماً: ما زلت أخندف في أثركم - والخندفة: مشية كالهرولة - فقال لها: وأنت خندفٌ. فلزمها، فصارت مضر نسلين: أحدهما ولد قيس بن عيلان، والآخر خندفٌ. ويروى أن رجلا على عهد الزبير بن العوام ظلم. فنادى: يالخندف. فخرج الزبير وبيده السيف، وهو يقول: خندف أيها المخندف، والله لئن كنت مظلوما لأنصرنك. يقول: عضبت لنسلي مضر خندفٍ وقيسٍ، لما ونى عن معاونتها والنهوض لها نصارها. ويقال ونى يني ونياً، وهو وانٍ. وإنما قال: خذالها ولم يقل نصارها، لأنه وصفهم بما آل إليه أمرهم. وهذا كما يقال قتلت فتيل بني فلان؛ وقد مضى له أشباهٌ وأمثال. فكأن الشاعر تبرع بما كان منه من المدافعة دونهم والمقاتلة عنهم، فلذلك تحمد به. وقال غضبت لهم لما رأيت من وجب نصرتهم عليه خذلهم. وجواب لما ونى، ما هو صدر البيت.
دافعت عن أعراضها فمنعتها ... ولدي في أمثالها أمثالها
هذا تفسير للغضب الذي ذكره وبيان نتيجته. والعرض: النفس، ويستعمل في الحسب. يقول: ذببت عنها ومنعت الأعداء منها، ولدي في أمثالها من القبائل أمثال هذه النصرة. هذا وجه، ويجوز أن يريد ولدي في أمثال هذه النصرة أمثال هذه القصيدة. والقرائن التي تسوغ رد الضميرين إلى جميع ما ذكرناه حاضرةٌ في الكلام قوية.
إني امرؤٌ أسم القصائد للعدى ... إن القصائد شرها أغفالها
هذا يمكن الاستدلال به على صحة المعنى الثاني، ومعنى " أسم القصائد ": أعلمها بما يصير كالسمة عليها، حتى لا تنسب إلى غيري، وحتى يعرف منها السبب الذي خرجت عليه، فمن سمعها عرف قصتها؛ ولهذا قال إن القصائد شرها أغفالها، أي شر الشعر ما لا ميسم لقائله والمقول فيه عليه. ويقال دبةٌ غفلٌ، إذا عرى من الأعلام. وسمعت من يقول في البيت إنه مقلوبٌ، والمراد أسم العدي بقصائدي، كما قال الآخر:
جعلت له فوق العرانين ميسماً(1/285)
والأول أكشف وأصح، بدلالة أن الغفل جعله من القصائد، فكذلك الموسوم يجب أن يكون منها.
قومي بنو الحرب العوان بجمعهم ... والمشرفية والقنا إشعالها
يروى " والمشرفية بالجر " ويكون معنى البيت قومي إخوان الشر الفظيع، وأبناء الحرب التي قوتل فيها مرةً بعد أخرى، فصارت عواناً بعد أن كانت بكراً، أي رفعت من حالٍ إلى حالٍ أشد منها، ويكون هذا مثل قول الآخر:
فلسنا من بني جداء بكرٍ ... ولكنا بنو جد النقال
وعلى ما ذكرنا يتم الكلام بقوله العوان؛ ثم قال " بجمعهم " أي باجتماع قومي واجتماع آلات الحرب اشتعلت نارها. والباء من بجمعهم يتعلق بقوله إشعالها. ويروى " والمشرفية " بالرفع، ويكون على هذه الرواية تمام الكلام عند قوله بجمعهم؛ لأن الباء منه حينئذٍ يتعلق بقوله العوان. والمعنى: قومي بنو الحرب التي عونت، أي صارت عواناً بهم، وباجتماع جيشهم؛ ثم استأنف الكلام؛ فقال: " والمشرفية والقنا "، والمراد واشتعال نارها بالرماح والسيوف المشرفية. وهذا الكلام - أعني والمشرفية - وإن استؤنف به فمن صفة الحرب. وقيل في المشرفية إنها نسبت إلى المشارف، وهي قوىً معروفة تجلب منها وتطبع بها. ويقال: أشعلت النار في الحطب، وأشعلت الخيل في الغارة، وأشعلته غضباً.
ما زال معروفاً لمرة في الوغى ... عل القنا وعليهم إنها لها
ما زال لدوام الماضي، وارتفع عل القنا على أنه اسمه، وخبره معروفاً. والمعنى: سقى الرماح عللاً بعد نهلٍ عادةٌ معروفةٌ لهم، فيما تقادم من الأيام إلى الآن إذا حضروا الحرب. والعل والعلل: الشربة الثانية، ويقال: عل إبله يعلها فعلت هي. وأنهلت الإبل، إذا سقيتها أولاً، فنهلت، إذا شربت في أول الورود حتى رويت. ومثل هذا البيت قول الآخر:
نهلنا من دماء بني لؤيٍ ... وأنهلنا القنا حتى روينا(1/286)
وتوسعوا في الاستعمال حتى سموا منازل السفر على المياه مناهل. وإنما قال: " وعليهم إنهالها " لأنه كأنه جعل ذلك واجباً عليهم.
من عهد عادٍ كان معروفاً لنا ... أسر الملوك وقتلها وقتالها
وضع من قي قوله " من عهد عادٍ " موضع منذ لقوتها وكثرة تصرفها وتمكنها في باب الجر، وأداء معنى الابتداء، ومثله قول الله تعالى: " لمسجدٌ أسس على التقوى من أول يومٍ أحق "، وقول الراجز:
من غدوةٍ حتى كأن الشمسا ... بالأفق الغربي تطلي ورسا
ومعنى البيت أنه نبه على مجاذبتهم للملوك والعلية، لا للأذناب والسفلة. والقتال في ترتيب الفعل مسابق للأسر والقتل، لكنه لم يبال بتأخيره في ترتيب اللفظ، لأن الواو لا يوجب في العطف ترتيباً، إنما هو موضوعةٌ للجمع فقط، وتبجح أيضاً بأن ذلك قديمٌ فيهم منذ زمن عادٍ لا حديثٌ.
وقال أرطاة بن سهية
ونحن بنو عمٍ على ذاك بيننا ... زرابي فيها بغضةٌ وتنافس
يقول: نحن أبناء عمٍ، وعلى ما بيننا من القربى والقرابة فرشت بيننا بسط شرٍ تشتمل على تباغضٍ وتحاسدٍ. وذكر الزرابي مثلٌ ها هنا، وهي البسط، واحدها زربيةٌ وزربىٌ، وقال أبو عبيدة: وهي في لغةٍ أخرى الشواذكين: وأنشد لذي الرمة:
ترديت من أفواف نورٍ كأنها ... زرابي وارتجت عليك الرواعد
وفي القرآن: " ونمارق مصفوفةٌ. وزرابي مبثوثةٌ "؛ أي مفرقة في المجالس. ويقال: اطو بساط الشر بيني وبينك. ويقولون أيضاً: أعطاني فلانٌ في بساط كلامه كذا، أي فيما بسط منه. وقال الخليل في الزرابي: إنها القطوع الحيرية الرقيقة. وفي كلام بعض الفصحاء: " فرشت بيننا قطوع التمائم ". فعلى هذا استعمل هذا الشاعر الزرابي. فأما قوله " على ذاك بيننا "، فإنما أشار بذلك إلى ما(1/287)
جمعهم من سبب العمومة ونسبها. ويروى: " على ذات بيننا، زرابي " كأنه أراد بذات بينهم خالصة النسب والقرابة، ثم جعل فوقها ما قد غمرها وسترها من زراني الفساد. ويروى:
.............. على ذاك بيننا ... تناء وفينا بغضةٌ وتنافس
والمعنى: وعلى ما يجمعنا من الرحم ينأى بعضنا عن البعض، ومع ذلك بيننا تدابرٌ وتباغضٌ، وتهاجر وتقاطع. كأنهم جعلوا التنائي مداواةً في إزالة ما بينهم فلم ينفع.
ونحن كصدع العس إن يعط شاعباً ... يدعه وفيه عيبه متشاخس
العس: القدح الضخم. والشعب، يستعمل في الجمع والتفريق. ويقال أيضاً: تفرق شعبهم. والشاعب ها هنا: مصلح القداح. يقول: استحكم الفساد بيننا حتى لا يقبل صلحاً ولا صلاحا، وتفاقم الانصداع حتى لا يلتحم تبايناً وتدافعاً، فلن تعود الحال إلى ما كانت وإن أمسكنا عن إثارة الشر والزيادة فيه زماناً، وتصنعنا في الاحتمال والمقاربة إبقاء على الحظ من المراجعة وإدناءً، بل يكون ما بيننا كالشق في القدح، إن أعطى شاعباً تركه والعيب ظاهر فيه، غير منكتم ولا خافٍ. والمتشاخس: المتفاوت المتباين. ومنه قولهم: تشاخست أسنانه من الكبر، إذا احتلفت. قال الخليل: هو أن يسقط بعضها ويميل بعضها. وقيل الشخس في الأصل فتح الفم للتثاؤب. ويجوز أن يريد بقوله " وفيه عيبه ": ومعيبه هكذا. وفي طريقته قول الآخر:
ومن الموالي ضب جندلةٍ ... نخر المودة ظاهر الغمر
وقد أحسن أبانٌ اللاحقي في مزدوجته حين قال:
وإنما مودة الأشرار ... في وهيها كمثل الفخار
يصيبه أدنى يد فينكسر ... وليس يرحى شعبه إذا جبر
كفى بيننا ألا ترد تحيةٌ ... على جانبٍ ولا يشمت عاطس
يروى " يشمت " بالشين والسين، وهما بمعنى واحد، وسمعت أبا عليٍ الفارسي يقول في اشتقاق التسميت بالسين غير معجمة - وهو قولك للعاطس: يرحمك الله - فقال: كأنه إذا عطس لحقته نفضةٌ في جسمه، فإذا دعا الداعي له فكأنه رده إلى سمته(1/288)
وهديه. وقال في التشميت بالشين معجمة: كأنه التثبيت من الشوامت وهي القوائم. يقول: يكفيك من الشر الراتب بيننا أنه لا ترد تحية الواحد منا - يريد جواب تسليمه - وإن كان الالتقاء معه عن عفر كالالتقاء مع الأجانب والغرباء، وأنه إذا عطس واحدٌ لا يتلقى بالدعاء له على ما استمر وعرف من عادة الناس في تناديهم وتجاورهم. وقوله " كفى بيننا " هو بين الذي كان ظرفاً، فنقله إلى باب الأسماء. ومثله قول الله عز وجل: " لقد تقطع بينكم " وقال الشاعر:
كأن رماحهم أشطان بئرٍ ... بعيد بين جاليها جرور
ويجوز أن يروى " أن لا ترد " بالرفع، وكذلك " ولا يشمت " على أن تجعل أن مخففةً من الثقيلة. ويكون المراد أنه لا ترد تحيةٌ. ومثله قوله تعالى: " أفلا يرون أن لا يرجع "، بالنصب والرفع.
وقال عقيل بن علفة
نتاهوا واسألوا ابن أبي لبيدٍ ... أأعتبه الضبارمة النجيد
يقول: كفوا عما أنتم عليه من تهييج الشر، وأمسكوا عن الشر في تأريث نار الحرب، واسألوا هذا الرجل: هل أرضاه الأسدى القوي الغليظ الشديد لما تحكك به، وهل وفاه ما استحقه عليه. كأنه جعل إنزاله السوء به والزيادة عند تكرهه له إعتاباً، على التهكم والسخرية. ومثله في ذلك قول بشرٍ:
غضبت تميمٌ أن تقتل عامرٌ ... يوم النسار فأعتبوا بالصيلم
والضبارمة، قال الخليل: هو الجرئ على الأعداء. وسمي الأسد ضبارماً. قال: ويقال هو الأسد الوثيق الخلق، المكتنز اللحم. ويجوز عندي أن يكون من معنى المضبر لا من لفظه، فيكون من باب دمثٍ ودمثرٍ، ودلامصٍ ودلاصٍ وسبطٍ وسبطرٍ. والنجيد: ذو النجدة، وهي البأس والشدة.
ولستم فاعلين إخال حتى ... ينال أقاصى الحطب الوقود(1/289)
حذف مفعول قوله فاعلين، وهو ما دل عليه قوله في البيت قبله " تناهوا " كأنه قال: ولستم فاعلين التناهي. يقول: ما أرى أنكم تنتهون إلى ما رسمت، أو تقبلون كلامي الذي إليه أشرت، حتى يعظم الخطب، ويبلغ البلاء أقصى مبالغ الجهد، فيتعدى الأقارب إلى الأباعد، ويتأدى من السقيم إلى البرئ. وذكر الحطب والوقود ها هنا مثلٌ لتفاقم الشأن واستفحاله، واتساع المكروه واشتماله. وقد مضى القول في " إخال " وكسر الهمزة منه.
وأبغض من وضعت إلى فيه ... لساني معشرٌ عنهم أذود
يقول: إني متعطفٌ على عشيرتي وإن كانوا مسيئين إلي، متكرمٌ معهم وإن كانوا متحاملين علي، فأبغض إنسانٍ أذكره وأتناوله بلساني متنقصاً له، قومٌ أدفع عنهم في وقتي، وأحامي عليهم في ظاهري أمري. وفي البيت تقديمٌ وتأخيرٌ، وأصل ترتيبه: أبغض من وضعت لساني فيه إلى قومٌ هكذا شأني معهم. وهذا تنبيهٌ على أن الرشاد في المحافظة على حرم ذوي الرحم وإن كانوا منابذين. فمن من قوله " أبغض من " نكرةٌ موصوفةٌ، وصفته وضعت لساني فيه الجملة. وقد فصل بين بعضها والبعض الآخر بقوله " إلي " وهو أجنبي منها. وهذا في الصفة أقرب منه في الصلة، فاحتماله فيه أقرب. ومثل هذا قول جرير:
فلو شاء قومي كان حلمي فيهم ... وكان على جهال أعدائهم جهلي
ومعنى أذود: أدفع، ومنه سمي اللسان المذود، وهذا كما سمي المفصل.
ولست بسائلٍ جارات بيتي ... أغيابٌ رجالك أم شهود
يحتمل وجهين: أحدهما أن يتبجح بتعففه في جاراته، وأنه لا يتطلب مفارقة القيمين بهن، بمرصداً للتمكن منهن، فيكون ذلك باعثاً للسؤال عن رجالهن، ليغتنم الخلوة بهن. والثاني أن يريد رفع الطمع عن جيرته، وقلة الفكر في تتبع أحوالهم، عند حضورهم وغيبتهم، إذ لم يكن همه في النيل منهم، ومشاركتهم فيما يتجدد لهم من خير، فعل المسف للمطامع الدنية. ويكون هذا كما قال الآخر:
وإذا أتى من وجهه بطريقه ... لم أطلع مما وراء خبائه
وهذا أوجه، لأن ذكر العفة قد جاء من بعد.
ولست بصادرٍِ عن بيت جاري ... صدور العير غمره الورود(1/290)
هذا يشهد لما اخترناه في تفسير ما قبله، فيقول: وإذا دعاني الجار إلى بيته يكرمني ببره، ويشركني في خيره، لا أنصرف عنه والطمع فيه بحاله، والاستغنام للحقير من ماله وطعامه على حده، انصراف العير عن الماء وقد غمره الورود. والتغمير كالتصريد، وهو شربٌ دون الري ومنه الغمر: القدح الصغير، وقال الخليل: يتكايل به الماء في المهامه. وأنشد:
تكفيه حزه فلذٍ إن ألم بها ... من الشواء ويروى شربه الغمر
وقيل في غمره معناه أرواه من الغمر: الماء الكثير، فيكون المعنى: إني لا أتهالك على طامه فعل المنهوم الخسيس الهمة فاتضلع، لكني آكل أكلاً كريماً. وهذا المعنى أقرب عندي.
ولا ملقٍ لذي الودعات سوطى ... ألاعبه وريبته أريد
هذا مثل قول الآخر:
لا آخذ الصبيان ألثمهم ... والأمر قد يغري به الأمر
وفي طريقته أيضاً قول الآخر:
أحب صبي السوء من أجل أمه ... وأبغضه من بغضها، وهو حادر
أي حسن الخلق: يصف عفته فيقول: لا ألقي سوطي بين يدي الصبي الذي في عنقه عوذٌ وتمائم لصغره، ألاعبه في الظاهر، وأضمر التودد إلى أمه وأطلب الخلوة بها لاشتغاله. وهذا إذا رويت: " وربته أريد "، وقوله ألاعبه في موضع الحال. ويروى: " وريبته " وهو أكشف. ورأيت من يقصر الأبيات الثلاثة على صفة العفة عن الجارات، وأن يكون كل بيتٍ منها لمعنىً أحسن وأولى.
وقال محمد بن عبد الله الأزدي
لا أدفع ابن العم يمشي على شفاً ... وإن بلغتني من أذاه الجنادع(1/291)
الشفا: حرف الشيء. ويمشي في موضع الحال. والبيت يحتمل وجهين: أحدهما أن يكون المعنى إذا أشفى ابن عمي على بلاءٍ وشرٍ يخاف عليه منه، ويخشى عطبه فيه، فإني لا أدفع في صدره تحاملاً عليه ليقتحمه، ولا أزج به فيه لأغرقه. ويجوز أن يريد: إذا انحرف عني مهاجراً لي ومشى على جانبٍ من المؤانسة معي لا أنفره، ولا أتمم استيحاشه بما أثير من كوامن غيظه، وإن بلغني الدواهي عنه، وقاسيت الشدائد من التأذي به. أي لا أنتهز الفرصة في مكاشفته وإن اتصل بالسوء تعرضه، ودام فيما يعن اعتراضه. والجنادع في الأصل تستعمل في هوام الأرض، تستعمل كنايةً عن ضروب المكاره وأنواع الأذى. ومن قولهم: " بدت جنادعه والله جادعه ". وهذا كما استعاروا العقارب فقالوا: دبت عقاربه. وقال الخليل: الجنادع: جنادب في حجرة الحشرات يخرجن إذا كان الحافر يبلغ أقصاها. ومنه قيل في المثل: " جاءت جنادع الشر "، أي أوائله. واستعمل في الكلام أيضاً فقيل جنادع القول لما يسوء منه. ويجوز في قوله " يمشي على شفاً " وجهٌ آخر حسنٌ، وهو أن يكون يمشي في معنى ينم ويحطب. وفي المثل: " هو أضرب من مشي بشفةٍ ". وكأنه مأخوذٌ من قوله تعالى " مشاءٍ بنميمٍ "، ويكون على هذا قوله " على شفاً " متعلقاً بمضمر، كأنه قال: يفعل ذلك كأئناً على شفاً أو حاصلا؛ والمعنى منحرفاً: أي لا أدفعه عن التحريش والنميمة قهراً وعنفاً، ولكن أعطفه بالحسنى.
ولكن أواسيه وأنسى ذنوبه ... لترجعه يوماً إلي الرواجع
قوله " أواسيه " أي أجعله إسوة نفسي، فأقاسمه مالي وملكي: يقول: لكني أتناسى ذنوبه وهفواته، وأتغابى جرائمه وزلاته، وأحسن التأتي في أثناء ذلك لمواساته، عند ما أنتظر من فيئته وعطفته، حتى يرده إلى ما كان عليه من قبل دواعي الأحوال، وتشابك الأرحام، ورواجع العقب، ولواحق السبب. وهذا الذي وصفه هو الغاية في الإبقاء والاستبقاء.
وحسبك من ذلٍ وسوء صنيعةٍ ... مناواة ذي القربى وإن قيل قاطع
يقول: كافيك من سوء الفعل واكتساء الذل، أن تناوئ أقاربك وإن كانوا قاطعين عاقين، مهاجرين مصارمين. وإنما قال " من ذلٍ " لأن عز الرجل بعشيرته، ومن(1/292)
أمات نفسه الحظ منهم فقد ذل. والمناواة أصلها الهمز، واشتقاقها من النوء: النهوض. كأن المتعاد بين يناهض كلٌ صاحبه إما بنفسه، وإما بعقيدته ونيته. وقوله " سوء صنيعةٍ " جعل الصنيعة اسما فهي كالكريهة. وقوله " وإن قيل قاطع " ارتفع قاطع على أنه خبر ابتداءٍ مضمر، كأنه أراد وإن قيل هو قاطع. وفي طريقته قول الحطيئة:
فأبقوا لا أبا لكم علهيم ... فإن ملامة المولى شقاء
وروى بعضهم: " وأن قيل " بفتح الهمزة، كأنه يعطفه على قوله مناواة، والمعنى حسبك من الأمرين المذكورين مناواة الأقارب، وقول الناس هو قاطعٌ عاقٌ. والأول أجود وأشبه بما اقتصه وتصرف فيه.
وقال آخر:
إن يحسدوني فإني غير لائمهم ... قبلي من الناس أهل الفضل قد حسدوا
الضمير في " يحسدوني " لطائفةٍ من الناس خصهم بالإخبار عنهم، وقصدهم بالكلام. فيقول: إن نافسوني وحسدوني، ورمقوا النعمة علي بعين التسخط. فإني لا أولمهم ولا أعتب عليهم، إذ كان التنافس والحسد يتبعان الفضل، وإذ كان من قبلنا اعتاد بعضهم من بعضٍ مثل ما نراه بسبب الفضل. وقد أحسن كل الإحسان من قال:
وإذا سرحت الطرف حول قبابه ... لم تلق إلانعمةً وحسودا
فأما قوله " قبلي من الناس أهل الفضل قد حسدوا ". فمثله قول عمر بن أبي ربيعة:
وقديماً كان في الناس الحسد
وقبلي جعله لغواً، ومن الناس تبيينٌ، وقد حسدوا خبر المبتدأ.
فدام لي ولهم ما بي وما بهم ... ومات أكثرنا غيظاً بما يجد(1/293)
هذا الكلام دعاءٌ لنفسه وعلهيم، على طريق التسلي وقلة الاحتفال، ولأن الحاسد يرفع الخامل من الفضل وينود به. فيقول: أدام الله لي ما أنا عليه من الفضل، ولهم ما هم عليه من الحسد، ومات أكثرنا لغيظه بما يجد. وقوله " ومات أكثرنا " الأكثر هم الحسدة، لأنه - وإن أدخل نفسه فيمن أضاف الأكثر إليه - واحدٌ. وقوله " بما يجد " حذف المفعول، والمعنى بما يجده في نفسه من الحسد، أو بما يجده من النعمة والفضل عند المحسود. وحدثني أبو عبد الله حمزة بن الحسن قال: سمعت أبا الحسن علي بن مهدي الكسروي يقول: أنا قد تتبعت من دواوين الشعراء قديمهم ومحدثهم فوجدت أبا تمامٍ الطائي متفرداً بمعنى قوله:
وإذا أراد الله نشر فضيلةٍ ... طويت أتاح لها لسان حسود
لولا التخوف للعواقب لم يزل ... للحاسد النعمى على المحسود
غير مسبوقٍ إليه. وعندي أنه أخذه من فحوى لهذين البيتين وإن كان زاد عليه.
أنا الذي يجدوني في صدورهم ... لا أرتقي صدراً منها ولا أرد
قوله " يجدوني " كان يجب أن يقول يجدونني؛ لأن الفعل في موضع رفعٍ، لكنه حذف النون تخفيفاً. وكان يجب أن يقول لو جرى على حكم الصلة: يجدونه، حتى يكون في الصلة ضمير يعود إلى الذي. وإنما جاز أن يجيء وليس فيه ما يعود إلى الذي وإن كان صلةً له، لأن الذي خبر أنا، وهو المبتدأ شيءٌ واحدٌ، فلما كان الأول والثاني شيئاً واحداً لم يبال أن يرد الضمير الذي يجب رجوعه إلى الثاني إلى الأول. ومثل هذا ما نسب إلى أمير المؤمنين عليه السلام:
أنا الذي سمتن أمي حيدره
فقال سمتن ولم يقل سمته. وقد مضى القول في مثله فيما تقدم مستقصىً، ومعنى البيت: أنا الذي صرت غصة في صدورهم قد نشبت فلا تصدر ولا ترد، أي صارت لازمةً لا تسوغ ولا تؤوب. وقوله " صدراً " مصدرٌ في موضع الحال. و " لا أرتقي " إن جعلت في صدورهم لغواً يكون في موضع المفعول الثاني، وإن جعلت في صدوهم مفعولاً ثانياً كان لا أرتقي حالا.(1/294)
وقال آخر:
الشيء يبدؤه في الأصل أصغره ... وليس يصلى بكل الحرب جانيها
يبدؤه أي يبدأ منه، فحذف حرف الجر ووصل الفعل فنصب. يقول: أوائل الأمور ضعيفةٌ، ومبادئها صغيرةٌ حقيرة، ثم تستحكم على مر الأيام وتصرف الأحوال فتعظم. وهذا كما قال الأخر:
الحرب أول ما تكون فتيةٌ ... تسعى بنزتها لكل جهول
وفي طريقته قول الآخر:
كم مطرٍ بدؤه مطير
وقوله " وليس يصلى بنار الحرب جانيها " يروى: " بجل الحرب " والمعنى: لا يصطلي بنار الحرب ومعظمها من يكتسبها ويوقدها فقط، بل يحصل بالمشاركة فيها ويمنى ببلواها، من لم ينقل خطوته في بعثها، ولم يسع في تهييجها.
والحرب يلحق فيها الكارهون كما ... تدنو الصحاح إلى الجربى فتعديها
يقول: شر الحرب يعدي إعداء الجرب، فترى الكاره لها يلتحق بها وإن كان غير حازمٍ لها، وتلقى البعيد منها يصطلي بحرها وإن لم يذكها ولم يشيع موقدها. وفي هذا التشبيه خروج المشبه من الكمون إلى الظهور، ومن الخفاء إلى البروز، حتى يتجلى لمتأمله والمفكر فيه على بعده في التصور تجلي القريب في العرف والاعتياد. وهذا هو غاية المراد من التشبيهات.
إني رأيتك تقضي الدين طالبه ... وقطرة الدم مكروهٌ تقاضيها
هذا البيت يصلح أن يكون مدحاً، فيكون المعنى: إني رأيتك تخرج إلى المدينين سريعاً من دينهم عليك، غير مدافعٍ بما في ذمتك لهم ولا مماطلٍ، فإذا(1/295)
طولبت بدمٍ أو نوزعت في ذحل، شق تقاضيك به وتعذر، وتصعب نيله من جهتك وتعسر. فعلى هذا قوله " مكروهٌ تقاضيها "، معناه مروهٌ تقاضيك بها. ويصلح أن يكون ذماً، فيكون المعنى: إني رأيتك بأهون سعيٍ وأقرب طلبٍ تخرج من الأوتار والدماء إلى طلابها، فلا كلفة في نيلها وإدراكها من جهتك، والتقاضي بالدم عسرٌ صعبٌ إلا إذا كان عندك وقبلك، فما ذلك إلا لضعف كيدك ومهانة نفسك، وقصور آبائك. والدين في هذا الوجه يراد به الوتر والدم. وقوله " مكروهٌ تقاضيها " يعني تقاضي غيرك بها. ومثل قوله مكروهٌ تقاضيها فيما أضيف إليه قول لبيدٍ:
باكرت حاجتها الدجاج بسحرةٍ
لأن المعنى باكرت حاجتي إليها.
وقال شريح بن قرواشٍ
لما رأيت النفس جاشت عكرتها ... على مسحل وأي ساعة معكر
يقول: لما تحركت حميتي وغلب نفسي، حتى كادت تثور من مقرها فتجري أنفةً وامتعاضاً، عطفتها على صاحبي مسحلٍ وفي أي وقتٍ معطفٍ فعلت ذلك. وهذا تفظيعٌ للشأن، وتفخيمٌ للأمر. فإذا رويت " وأي ساعة معكرٍ " بالرفع يكون مبتدأ وخبره محذوف، كأنه قال: وأي ساعة معكر ومكر تلك الساعة. وإذا رويته بالنصب يكون ظرفاً، ويكون العامل فيه مضمراً، كأنه قال: وعكرت أي وقت معكر. ومعنى عكر: عطف. ويقال: هو عكارٌ في الفتن. وجواب لما " عكرتها ".
عشية نازلت الفوارس عنده ... وزل سناني عن شريح بن مسهر
عشية انتصب على أن يكون بدلاً من قوله وأي ساعة معكر إذا نصبت أيا، وإن رفعته فانتصاب عشية على أن يكون ظرفاً والعامل فيه فعلٌ مضمرٌ دل عليه ما قبله، كأنه قال عكرت عشية. ولا يكون العامل نازلت، لأنه مضافٌ إليه وبيانٌ للوقت، والمضاف إليه لا يعمل في المضاف. فيقول: عطفت عليه ذاباً عنه ومدافعاً دونه، عشية منازلتي الفرسان بحضرته، وحين زل سنان رمحي عن ابن مسهرٍ، وإنما زل(1/296)
السنان عنه وسلم من طعنته لأنه كان لبس درعاً تحت ثيابه وهو لا يشعر، فكأنه يعتذر ويتلهف.
وأقسم لولا درعه لتركته ... عليه عوافٍ من ضباعٍ وأنسر
قوله أقسم يمينٌ، والمحلوف به محذوف، وهو لفظة الله. ولكثرة مجيئها مع أقسم صار وهو محذوف كالمنطوق به، وجواب القسم استغني عنه بحديث لولا، لأنه فيه. والمعنى أنه بين العذر فيما اتفق عليه، فقال لولا درعه التي استظهر بها، وظاهر بثوبه فوقها، لتركته بطعنتي مقتولاً، وعوافي السباع والطير تأتيه وتنال منه. ويقال عفاه واعتفاه بمعنىً واحد.
وهل غمرات الموت إلا نزالك ال ... كمي على لحم الكمى المقطر
هذا الكلام بيان ما تكلفه عند التعطف على مسحلٍ، وتصويرٌ لهول ما ركبه وعاناه من عظيم البلاء في نصرته. ولهذا جعل النفي بلفظ الاستفهام، فقال: وما شدائد الموت إلا منازلتك الكمي فوق لحم الكمي، أي فوق جيف القتلى. ولولا أن هل في طريق النفي ها هنا لما جاء بعده إلا. والمقطر: الملقى على أحد قطريه، وهما الجانبان. ولقطر اختصاصٌ بالعبارة عن الإسقاط والصرع. على ذلك قول عمرو بن معد يكرب:
ما قطر الفارس إلا أبا
ومن المحكي عنهم في المعنى الذي قصده هذا الشاعر، أنه سئل بعضهم: ما أشد ما رأيته فيما زاولته من الحروب؟ فقال: " الزلق على العلق ". وفي طريقته قول الآخر:
يطأن من القتلى ومن قصد القنا ... شربجاً فما يجرين إلا توهما
وقال طرفة الجذيمي
يا راكباً إما عرضت فبلغن ... بني فقعسٍ قول امرئٍ ناخل الصدر(1/297)
يخاطب واحداً من الركبان غير معينٍ، ويكلفه إن عرض لبني فقعسٍ أن يبلغهم عنه قول رجلٍ ناخل الصدر ناصح الجيب، صادق الود. وإنما نكر المدعو لأمرين: أحدهما شدة اهتمامه بالرسالة وتحميلها رسولاً كائناً من كان. والثاني أنه أراد أن يضع رسالةً ظاهرها أنها أودعت متحملاً، علماً بأن الرسالة بنفسها إذا ضمنت الشعر وعقدت به ستبلغ على أفواه الرواة. وقوله " ناخل الصدر " يريد مصفى ما في الصدر، فحذف المضاف. أو يريد ناخل الصدر لما يعيه فجعل الفعل للصدر توسعاً، والمعنى أنه موافق الظاهر للباطن. ويقال: نخلت الود والنصح لفلانٍ، إذا أخلصتهما.
فو الله ما فارقتكم عن كشاحةٍ ... ولا طيب نفسٍ عنكم آخر الدهر
يقول: أحلف أني لم أوثر فراقكم لعداوةٍ لازمةٍ لكشحي، وبغضاء متمكنةٍ من طويتي، ولا لسلو نفسٍ عنكم وسخاء قلب بكم آخر الدهر. وهذا الكلام إظهار ميلٍ إلى إصلاح ذات البين لو تساعدت الأحوال، ومعذرةٌ أقامها فيما قصده من مراغمتهم، وآثره في مهاجرتهم ومفارقتهم، وإبانةٌ عن الأمر في أن الباعث على ما اتفق لم يكن من سوء خلةٍ، وانطواء على حسدٍ وقطيعةٍ. وإنما قرن السلو بقوله آخر الدهر ليري أن ذلك التقدير ليس بحاصلٍ ولا واقعٍ أبداً، وهذا كما يقال لا أفعل كذا ما دامت السموات والأرض.
ولكنني كنت امرأً من قبيلةٍ ... بغت وأتتني بالمظالم والفخر
هذا كشف العذرة وذكر السبب الموجب للمجانبة والفرقة، فيقول: ولكنني كنت رجلاً من قبيلةٍ خرجت عن طريق التواصل إلى طريق التقاطع بما استعملته من البغي والشقاق، وتعاطته معي من الظلم والعناد، حتى تداعت مباني التواشج والتحاب، وانفصمت عرى العلائق بيننا والتواد، وعيل الصبر، بما لحق من الهضم، وحرج الصدر، لما تلاحق حالاً بعد حالٍ من الاستخفاف والذل.
فإني لشر الناس إن لم أبتهم ... على حالةٍ حدباء نابية الظهر
انتقل عن الخطاب إلى الإخبار حين توعدهم، وإن كان الكل من جملة الرسالة. ويروى: " لشر الناس " بكسر اللام، والمعنى أنا ابن شر الناس، كما(1/298)
قال النابغة:
لئن كان للقبرين قبرٍ بجلقٍ
والكلام لفظه لفظ الخبر والمعنى معنى القسم. وهذا من الأيمان الشريفة. ويروى: " لشر الناس ". والمعنى: أنا شر الناس إن أحمل هؤلاء القوم بياتاً على حالةٍ منكرةٍ، وخطةٍ صعبة، لا يستقر عليها، ولا يثبت على ظهرها.
وفي هذه الطريقة قول الآخر:
لقد حملت قيس بن عيلان حربنا ... على يابس السيساء محدودب الظهر
فقوله نابية الظهر مثل قول هذا محدودب الظهر، أي ظهرها يجفو لنتوه ونبوه فيقلق راكبها ولا يقر، وجواب الجزاء الفاء في قوله وإني لشر الناس.
وحتى يفر الناس من شر بيننا ... ونقعد لا ندري أننزع أم نجري
تعلق حتى بفعلٍ مضمرٍ، كأنه قال: وأديم ذلك لهم حتى يفر الناس، أي إلى أن يفر الناس. والمعنى: إني لا أزال أتمادى في اللجاج والشر، وأترقى في درجات النزاع والحرب، حتى يسقيل الناس من مشاركتنا وملابستنا فيما نزاوله، ويستعفوا من التوسط بيننا وردنا عما نقتحمه، وينفضوا أيديهم من استطلاحنا ونتحير نحن أيضاً ونرتبك إذا توسطنا أمورنا فلا ندري أنقصر ونكف، أم نجري فننفذ. وهذا إلمامٌ بما سار به المثل في قصة السالئة للسمن، وبقول الشاعر:
وكنت كذات القدر لم تدر إذ غلت ... أتنزلها مذمومةً أم تذيبها
وفي المثل السائر: " اختلط الخائر بالزباد ". وقوله " لاندري " في موضع الحال.(1/299)
وقال أبي بن حمام المري
تمنى لي الموت المعجل خالدٌ ... ولا خير فيمن ليس يعرف حاسده
فخل مكاناً لم تكن لتسده ... عزيزاً على عبسٍ وذبيان ذائده
يقول: ود لي الموت الوحي السريع الإتيان خالدٌ، حسداً منه وبغضاً، ومنافسة في الرياسة وحقداً. ثم قال متسلياً: ولا خير فيمن لا حاسد له، لأن الحسد من توابع الفضل ومسبباته. ومثل هذا قول الآخر:
إن يحسدوني فإني غير لأئمهم ... قبلي من الناس أهل الفضل قد حسدوا
وقد شرح القول فيه. وقوله " فخل مقاماً " أقبل على خالدٍ مبكتاً له ومقصراً به، يعرفه أنه يحسده فيما لا يصلح له ولا يستكفي مثله فيه، فقال: اترك مقاماً تزل قدمك عنه، وتسقط رتبتك دونه، وانس مكاناً لا تسده بكفايتك، ولا تقوم فيه بغنائك، وبعز المدافع دونه على طوائف عبس وذبيان - وإنما يريد رياسة العشيرة - وخل القيام بأمر عبسٍ وذبيان إذ لست من رجال ذلك. وقوله " لتسده " اللام فيه لام الجحود، وهي لام الإضافة، والفعل بعده ينتصب بأن مضمرةً ولا يظهر البتة.
وقال أيضاً:
لست بمولى سوءةٍ أدعى لها ... فإن لسوءات الأمور مواليا
مولى سوءةٍ: متوليها وصاحبها. ويجوز أن يكون من الولي: القرب أي لا أقاربها ولا أدانيها: وقوله " أدعى " من الدعاوة والدعوة، وهي النسبة. يقول: لا أتعاطى قبيحاً، ولا أتولى مخزيةً فأنسب إليها، وأعرف بها، فإن لمقابح الأمور أرباباً غيري. وهذا انتفاءٌ من الأدناس، وتبرؤٌ من المقابح، وتعريضٌ بأن ما يتنزه عنه حاصلٌ في مجاذبه وملازمٌ له.
ولن يجد الناس الصديق ولا العدى ... أديمي إذا عدوا أديمي واهيا
يقول: إني صحيح الأصل، تقي العرض، فلو تعاون في الكشف عما أدعيه والبحث دونه أصدقائي وأعدائي، ومن يرى التغميض على ما ينكره، أو التشهير(1/300)
والتنديد بما يثيره، لما وجدوا غميزةً، ولا ظفروا بنقيصة. وذكر الأديم مثلٌ للعرض والأصل. والعد والإحصاء كنايةٌ عن الفحص والتنقير.
وإن نجاري يابن غنمٍ مخالفٌ ... نجار اللئام فابغنى من ورائيا
النجار: الأصل. وهذا تعريضٌ بالمخاطب، يقول: أصلي مخالفٌ لأصول الأدنياء، فاطلبني للمفاخرة إذا غبت عنك أو فتك. فأما إذا حضرت فإنك لا تقاومني ولا يستقيم لك مساجلتي. هذا إذا جعلت وراء بمعنى خلف، فإن جعلته بمعنى قدام يكون بمعنى ابغنى إذا تقدمتني. ومن طلب من تخلف عنه من قدامٍ لا يدركه. والكلام على هذا يكون تهكماً وسخريةً. فالمعنى في الأول والثاني: إنك لا تلحق شأوى فاطلبني طلب المعذر واليائس.
ويجوز أن يكون يريد: إني كريم الأصل، رفيع المحل، على الرتبة، ومن كان كذلك لا يظفر به، ولا يصطاد مثله إلا بالخضوع له والانقياد بالتذلل بين يديه، فا بغنى وأنت تابعٌ لي، وواطئٌ عقبي، حتى تنالني، وإلا لم تبلغ مرادك مني. ويقال: فلانٌ من وراء فلانٍ، إذا كان ناصراً له، وتابعاً. وأنشد ابن السكيت:
لعمرك ما كان القرنبى ورهطه ... بعمي ولا خالي ولا من ورائيا
وقال: المعنى ولا ناصرى. فأما قولهم الله من ورائك، فالمعنى طالبك ومترصدٌ لمكافأتك. فعلى القول الأخير يكون من ورائي في موضع الحال لضمير الفاعل في ابغ.
وسيان عندي أن أموت وأن أرى ... كبعض رجالٍ يوطنون المخازيا
ارتفع سيان على أنه خبر مقدم لقوله " أن أموت وأن أرى "، والمعنى: مثلان عندي موتي وأن أرى كمن يألف المخازي ويرضاها وطناً ومأوىً، ولا يأنس إلا بها، ولا يرجع إلا إليها. وهذا تعريضٌ بالمخاطب أيضاً. والسي: المثل. قال:
فإيا كم وحية بطن وادٍ ... هموز الناب ليس لكم بسي
ولست بهيابٍ لمن لا يهابني ... ولست أرى للمرء ما لا يرى ليا(1/301)
يقول: لا أحتشم من لا يحتشمني، ولا أتهيبه إذا لم يتهيبني، ولا أرى من إعظام المرء وإجلاله ما لا يراه لي، لكني أوازن الناس في أفعالهم، وأجازيهم على قدر استحقاقهم. وقوله " ما لا يرى ليا " حذف مفعول يرى تخفيفاً، وهذا الحذف سائغٌ إن جعلت ما معرفةً فكان ما بعده صلةً، أو جعلته نكرة فكان صفة.
إذا المرء لم يحببك إلا تكرهاً ... عراض العلوق لم يكن ذاك باقيا
انتصب قول " تكرها " على أنه مصدرٌ في موضع الحال، والتقدير إلا متكرهاً. وانتصب " عراض العلوق " على أنه مصدرٌ مما دل عليه قوله " لم يحببك إلا تكرهاً "، لأن المعنى إذا الرجل عارضك في الحب عراض العلوق لم يكن ذلك الحب باقياً ولا ثابتاً. والعلوق، هي المرأة التي ترأم ولدها وتلسنه حتى يأنس بها، فإذا أراد ارتضاع اللبن منها ضربته وطردته. قال:
وما نحني كمناح العلو ... ق ماتر من غرةٍ تضرب
ويشبه البيت الذي نحن في تفسيره قول الأخر:
أم كيف ينفع ما تعطي العلوق به ... رئمان أنفٍ إذا ما ضن باللبن
؟؟
وقال لعنترة بن شدادٍ
يذبب وردٌ على إثره ... وأمكنه وقع مردىً خشب
هذا ورد بن حابسٍ طلب نضلة الأسدي بوترٍ كان له عنده. فيقول: تسرع هذا الرجل في إثر الهارب منه، واستحث فرسه في لحاقه، فمكنه منه عدو فرسٍ صلبٍ كأنه مرداةٌ. والمردى: صخرة يكسر بها النوى وغيره. ومعنى خشبٍ خشنٌ. ويقال خشبت الشيء خشباً فخشب. والخشب من السيف: الذي بدئ طبعه فلم يلن بعد. وقوله " وقع مردىً " هو من وقعت الحديدة، إذا ضربتها بالميقعة، كأن الفرس كان يضرب الأرض بحوافره ضرب الحديد بالميقعة. ومن(1/302)
هذا قول الهذلي ساعدة:
وحوافرٌ تقع البراح كأنما ... ألف الزماع بها سلامٌ صلب
فمعنى تقع البراح، أي تقرعه. وروى الجمحي هذا البيت:
................. كأنما ... ألف الزماع ردى سلام صلب
وقال: ردى صخرةٍ، شبه الأنف بها، فعلى هذه الرواية يحصل التوافق بين بيتي عنترة وساعدة الهذلي في اللفظ أيضاً.
يتابع لا يبتغي غيره ... بأبيض كالقبس الملتهب
التتابع والمتابعة يستعملان في اطراد الشيء واستمراره على حدٍ واحدٍ. على هذا قوله:
وعراضة السيتين توبع بريها
ومفعول يتابع محذوفٌ، ويجوز أن يكون الفعل للرجل ويجوز أن يكون للفرس. كأن المراد: يتابع الركض أو العدو. وموضع لا يبتغي نصبٌ على الحال. والباء من قوله " بأبيض " يجوز أن يريد به سيفاً. والقبس: النار. شبهه بها في بريقها ولمعانها ويجوز أن يريد به رجلاً كريما، ويكون على هذا " يتابع " للفرس. وشبهه بالنار لذكائه ونفاذه. واستعمال البياض في الكرم ونقاء العرض كثيرٌ معروف، على ذلك قول الآخر:
أمك بيضاء من قضاعة.......
فأما معنى قوله " يبتغي غيره " فيجوز أن يكون أن همته كانت موكولةً به لا بشيءٍ من الغنائم والأموال. وكأنه ألم بقوله:
أغشى الوغى وأعف عند المغنم
ويجوز أن يريد أن قصده في الطلب كان إليه لا إلى غيره من الناس.(1/303)
فمن يك في قتله يمتري ... فإن أبا نوفلٍ قد شجب
أضاف المصدر في قتله إلى المفعول. يقول: من شك في قتل وردٍ لنضلة فليزل الشك عن نفسه، وليدع الارتياب إلى غيره فإنه هلك لا محالة. وأبو نوفلٍ: كنية نضلة. وفي الكلام تهكمٌ وإظهار شماتة. ويقال شجب بفتح الجيم، إذا هلك، فهو شاجبٌ، وشجب بكسر الجيم فهو شجبٌ، لغتان.
وغادرن نضلة في معركٍ ... بحر الأسنة كالمحتطب
النون ضمير الخيل. يقول: تركت الخيل هذا الرجل لما انكشفت عنه وهو في مزدحم الحرب جاراً للأسنة المكسورة فيه عند الطعن، كأنه جامع حطبٍ. ويقال أحررت فلاناً الرمح فجره، أي كسرته فيه لما طعنته فصار يجره. وأنشد أبو زيدٍ:
أجره الرمح ولا تهاله
وحكى بعضهم أن المحتطب: دويبةٌ تمر على الأرض فيعلق بها العيدان. ويكون المعنى يجر الأسنة كما تجر هذه الدويبة العيدان. وهذا تصويرٌ للخفى بالجلي.
؟؟؟؟؟؟؟؟؟؟
وقال عروة بن الورد
لحى الله صعلوكاً إذا جن ليله ... مصافي المشاش آلفاً كل مجزر
لحى الله: كلمةٌ تستعمل في السب، وأصله اللوم والقشر أيضاً. والصعلوك: الفقير. يقول: زاد الله كل فقيرٍ يرضى من عيشه بأن يطوف في المجازر إذا أظلم عليه الليل، ويلتقط المشاش منها كأنه يصافيها ويلازمها حباً لها - فقراً. وإنما قال هذا على وجه الإنكار. أي لم يقنع بذلك، وما له يسف لمثل هذا المطمع الخسيس ولا يطلب معالي الأمور. والمشاش: كل عظمٍ هشٍ دسم، والواحد مشاشةٌ. وقوله " مصافي المشاش " نكرةٌ، وانتصب على أنه صفةٌ لقوله صعلوكاً. وإضافته ضعيفةٌ، لأن المشاش أشير به إلى الجنس، ولا يحصل التخصيص بالإضافة إليه. وعلى هذا قولهم: قيد(1/304)
الأوابد. ودرك الطريدة وما أشبهه. وكان يجب أن يحرك الياء من مصافي بالفتح، فسكنه لأن منهم من يجري الفتحة في مثله من المعتل مجرى سائر الحركات فلا يثبتها.
بعد الغنى من نفسه كل ليلةٍ ... أصاب قراها من صديقٍ ميسر
يقول: لفرحه بما يناله من كسبه الدني، ورضاه عن أيام بعيشه اللئيم يعد - إذا أصاب القرى لدى صديقٍ ولدت له شياهٌ فاتسع اللبن عنده وفي رحله - الغنى محوزاً له، ومحصلاً عنده، فلا غضاضة تلحقه، ولا أنفة تقبضه. والميسر ضد المجنب، يقال يسر الرجل ويسرت غنمه. وجنب الرجل، إذا قلت الحلوبة في إبله وغنمه. قال:
وكل عامٍ عليها عام تجنيب
وقوله " أصاب قراها " أضاف القرى إلى الليلة على المجاز، والمراد قراه فيها.
ينام عشاءً ثم يصبح ناعساً ... يحت الحصى عن جنبه المتعفر
يقول: ينام هذا الصعلوك لدناءة همته، وقماءة معيشته، واستيلاء الكسل على نفسه ومكسبه قبل الليل، لأن همته في راحته ونومه، وحرصه على ما يسد جوعته به. ثم يأتي الصباح عليه وهو ناعسٌ بعد، غير قاضٍ حاجته من الرفاد، ولا ضجرٍ في مضجعه بالتساقط والانجدال، ينفي عن جنبه ما لصق به من الحصى والتراب، ونشب فيه من دقاق الحصى. وذلك لأنه نام بلا وطاءٍ. وقوله " يحت الحصى " أي يسقطه، فهو قريب من يحط. والعفر: التراب. ويقال عقرته فتعفر.
ولكن صعلوكاً صفيحة وجهه ... كضوء شهاب القابس المتنور
صفحة الرجل وصفيحته: عرض وجهه. يقول: ولكن فقيراً مشرق الوجه صافي اللون، لا يتخشع لفقره، ولا يتذلل إذا أثر الدهر فيه، فكأن ضوء وجهه ضوء نار القابس المتنور. والقابس ها هنا ذو القبس معناه. والقبس: النار، ويكون القابس(1/305)
الطالب. ويقال: أقبسني نارك. والمتنور: المتفعل من النار. ويقال تنورت النار، أي نظرت إليها واستضأت بنورها. ومنه قول امرئ القيس:
تنورتها من أذرعاتٍ وأهلها ... بيثرب أدنى دارها نظرٌ عل
وموضع " صفيحة وجهه " مع خبره نصب على أن يكون صفةً لصعلوكاً وخبر لكن يجيء فيما يجيء من بعد. وقوله " صفيحة وجهه " حذف المضاف منه لأن المراد ضوء صفيحه وجهه كضوء شهابٍ، فأقام المضاف إليه مقامه.
مطلاً على أعدائه يزجرونه ... بساحتهم زجر المنيح المشهر
يقال: أطل على كذا، إذا أوفى عليه. والمنيح، قال الخليل: هو الثامن من القداح. وقال أبو عمرو: المنيح والسفيح والوغد قداحٌ لا انصباء لها، وإنما يكثر بها القداح فهي تجال أبداً، وقال الأصمعي: المنيج الذي لا يعتد به. فيقول: ولكن الفقير الوضئ الوجه، الذي يبذل جهده ويبتذل نفسه في طلب غناه، ويقصر سعيه على ما يبلغ به عذره فيشرف على أعدائه غازياً ومغيراً، وهم يزجرونه حالاً بعد حالٍ، ويكرهو عليهم وقتاً بعد وقتٍ يزجر هذا القدح في خروجه ومع ذلك يرد. وخبر لكن بعد لم يجيء.
إذا بعدوا لا يأمنون اقترابه ... تشوف أهل الغائب المنتطر
يقول: هذا الفقير لا يقعد به عن طلب الأعداء والإغارة عليهم والنيل منهم بعد الغزاة وتنائي الدار، فهم لا يأمنونه وإن شحطوا، بل يتشوفونه تشوف الغائب المتنظر، أي كما يتشوف غائبٌ دنا قفوله وينتظر. وانتصب " تشوف " على المصدر فيما دل عليه لا يأمنون اقترابه، ومفعول تشوفٌ محذوفٌ، كأنه قال تشوف أهل الغائب رجوعه.
فذلك إن يلق المنية يلقها ... حميداً وإن يستغن يوماً فأجدر
يقول: ذلك الصعلوك إن أدركه الأجل، قبل نيل الأمل، لقيه محموداً، إذ كان قد فعل ما وجب عليه، وأقام عذره في مطلوبه باستفراغ الوسع في السعي له، وإذ كان التبعة فيما فات على من يملك العواقب دونه. وإن نال الغني يوماً فما أخلقه بذلك. وقوله " إن يلق المنية " خبر قوله ولكن صعلوكاً لو انفرد عن قوله فذلك، لكنه لما تراخى الخبر عن المخبر عنه وتباعد المقتضي عن المقتضى له أتى بقوله فذلك،(1/306)
مشيراً به إلى الصعلوك. فصار إن يلق خبراً عنه. وساغ ذلك لأن المراد بالأول والثاني شيءٌ واحد، ومما أجرى هذا المجرى لحصول مثل هذا التراخي فيه قول الله عز وجل: " ألم تعلموا أنه من يحادد الله ورسوله فإن له نار جهنم "، فأعاد أن في قوله " فأن " كما ترى.
؟ وقال عنترة بن شدادٍ العبسي
تركت بني الهجيم لهم دوارٌ ... إذا تمضى جماعتهم تعود
البيت يروى على وجهين: أحدهما:
تركت بني الهجيم له دواراً ... إذا يمضي جماعتهم يعود
ويكون الضمير في قوله له للفرس، ويمضي فعلٌ له، وجماعتهم ينتصب على المفعول، لأن يمضي هذا يتعدى، ومعناه يجاوزهم. ويكون المعنى: تركت هؤلاء القوم لفرس مطافاً بمنزلة الدوار وهم ضمٌ كانوا يحجونه يطوف حول ذلك الضم، إذا نفذهم وخرق صفوفهم ودار عليهم عاد إلى مثل فعله الأول، وإلى مكانه الأول. ويشبه هذا البيت بيت الأعشى في المعنى واللفظ، وهو:
تطوف عليهم وتمضيهم ... كما طاف بالرجمة المرتجم
وجاء في الحديث حجةً لتعدي يمضي، في صفة المحشر: " يمضيهم الداعي وينفذهم البصر ".
والثاني أن يروى:
تركت بني الهجيم لهم دوارٌ ... إذا تمضي جماعتهم تعود
والمعنى: تركتهم يطوفون حول قتلاهم كما يطاف على ذلك الصنم، أو ذلك النسك، فإذا انقضت جماعةٌ منهم عادت الأخرى للنظارة. وقوله " جماعتهم " يريد جماعةٌ منهم، فأضاف البعض إلى الكل، وليس يريد جملتهم، فهو في حكم النكرات. وموضع " لهم دوارٌ " نصبٌ على الحال، وقوله " تعود " فاعله مضمر، وهو جماعةٌ أخرى، فاكتفى بذكر الأولى عنها.(1/307)
تركت جرية العمري فيه ... شديد العير معتدلٌ سديد
يفتخر بأنه أصاب المذكور، لما رماه بسهمٍ محكم النصل، مقوم القدح، صلب العير، سديد الوقع. وموضع قوله " فيه شديد العير " نصب على الحال. والعير: الناتئ من وسد النصل. وقد أقيم الصفة مقام الموصوف، لأن المراد به سهمٌ شديد العير. ولولا ما حصل من الاختصاص بإضافة الشديد إلى العير لما جاز ذلك فيه، لأن الصفة لا يقوم مقام الموصوف حتى يدل عليه دلالةً قويةً. فأما إذا كانت عامةً في أجناس، فلا يجوز ذلك فيه. لو قلت مررت بطويلٍ، وأنت تريد رجلاً، لم يحسن، لأن الطويل يكون في غير الرجال كما يكون في الرجال. ولو قلت مررت بكاتبٍ، يحسن إذ كانت الكتابة مختصة.
فإن يبرأ فلم أنفث عليه ... وإن يفقد فحق له الفقود
كان من رموزهم أن الواحد إذا رمى بسهمٍ وأراد سلامة الرمية منه رقى سهمه بعودة ونفث فيه، ثم رمى به، وإذا أراد هلاكه لم يفعل ذلك. ومثل هذا قول الآخر:
فلم أرقه إن ينتج منها وإن يمت ... فرمية لا غسٍ ولا بمغمر
وقوله " فحق له الفقود " المبتدأ محذوف، كأنه قال فهو حقٌ له الفقود، لأن الفاء يجلب في الجزاء إذا كان الجواب بالابتداء والخبر، ولو قصد إلى أن يكون الفعل جواباً لا يستغنى عن الفاء. وبعض من يدفع هذه الطريقة يقول لا رقية ولانفث، إنما كنوا عن الإبقاء بمثل هذا الكلام. وقوله: " وإن يفقد " فهو مثل قوله " فطعنة لا غسٍ ". والمعنى: إن يبرأ فليس ذلك من بقياى، وإن يهلك فواجبٌ لأن المصاب بمثله يهلك لا محالة.
وما يدري جرية أن نبلي ... يكون جفيرها البطل النجيد
يروى: " وهل يدري جرية ". والمعنى لا يعلم أنه كما أتى أصبته فدأبي وعادتي أن تكون الأبطال النجداء لنبلي بمنزلة الجعبة، أصيبهم أبداً بها. وفي ذكره البطل(1/308)
النجيد إلمامٌ بقول الآخر:
.............. ونص ... طاد نفوساً بنت على كرم
ويقول الآخر:
من عهدٍ عاد كان معروفاً لنا ... أسر الملوك وقتلها وقتالها
وأخذ أبو تمام هذا المعنى فقال:
فلا تطلبوا أسيافهم في جفونها ... فقد أسكنت بين الطلى والجماجم
ويجوز أن يريد بالبطل النجيد جرية بعينه، ثم يجوز أن يكون متهكماً فيما وصفه به، ويجوز أن يكون مادحاً له، لأن مدح خصمه وفت غلبه راجعٌ إليه.
وقال قيس بن زهيرٍ العبسي سيد بني عبس
تعلم أن خير الناس حياً ... على جفر الهباءة لا يريم
يروى " أن خير الناس حياً "، والمعنى هو حيٌ، وقوله " على جفر الهباءة " خبر أن. ويروى: " ميتاً " وإعرابه على ما ذكرناه في حياً. ويروى: " ميتٌ " وارتفاعه على أنه خبر أن، و " على جفر الهباءة " في موضع الصفة له. ومعنى تعلم: اعلم. ولا يقال في جوابه تعلمت، استغنى عنه بعلمت. ويعني بخير الناس حمل بن بدرٍ. وجفر الهباءة: بئرٌ قريبة القعر، وماؤها كثيرٌ معينٌ. وكان حملٌ انهزم في وقعة بين عبسٍ وذبيان فلما انتهى إلى الهباءة أمن لبعدها عن الطلب، فرمى بنفسه إلى الماء ليبترد، فاتفق لحاق قيس به مع عدةٍ من ذويه، فقتلوا عن آخرهم.
ولولا ظلمه ما زلت أبكي ... عليه الدهر ما طلع النجوم(1/309)
أشار بالظلم إلى ما جرى بينهم في أمر داحسٍ والغبراء، وإنكاره السبق، وركوبه البغي. وقوله " ما طلع النجوم " ينتصب على أنه بدلٌ من الدهر. والمعنى: لولا ما أسلفه من الظلم لاقتضى ما يجمعنى وإياه من الأحوال والذمم، والتشاجر والرحم البكاء عليه مدة الدهر. وقوله " ما طلع " بمنزلة المصدر، وقد حذف اسم الزمان معه. والمارد بذكر الدهر الكثير والمبالغة والتأييد. وقد بينه بقوله " ما طلع النجوم "، لأنه على ذلك يصح أن يكون بدلاً منه. فمعنى " عليه الدهر " عليه طوال الدهر، وامتداد الدهر.
ولكن الفتى حمل بن بدرٍ ... بغي والبغي مرتعه وخيم
يقول: استعمل البغي واستوبل العافية، واستذم المرتع، ومن بغي عليه فإنه ينصر. ويقال: بغى الرجل على فلانٍ، أي جار. وبغى الفرس في عدوه، وهو فرسٌ باغٍ، وذلك إذا اختال ومرح. وإذا استعمل في الفخار والاستطالة فهو من هذا. والوخامة: الثقل يعرض من الطعام. يقال وخم وخامةً فهو وخيمٌ ووخمٌ، أي لا يستمرأ.
أظن الحلم دل على قومي ... وقد يستجهل الرجل الحلين
يقول: احتمالي من عشيرتي، واستعمال الحلم معهم، هو الذي جسرهم علي فيما أظن، ودلهم على قصدي واهتضامي على ما يتبين. ثم قال " وقد يستجهل الرجل الحليم " أي إذا أحوج الحليم وأحرج فقد يتكلف ما لا يكون معهوداً في طبعه، ولا موجوداً من خلقه. وإنما نبه بهذا الكلام على أنه يتحلم عن الأدبين، ويصبر على أذاهم، وأنه لما عيل صبره وحمل فوق ما في وسعه، خرج عن المعتاد منه إلى غيره.
وقال مساور بن هندٍ
سائل تميماً هل وقيت فإنني ... أعددت مكرمتي ليوم سباب(1/310)
يقولك سائل تميما هل كان مني وفاءٌ بما تضمنته لجاري، فإني رجلٌ نظارٌ في أعقاب الأحاديث، مهتمٌ بإعداد المكارم ليوم النفار، شديد النزاع في مجالس الفخار. كأنه يقرر خصماءه على ما كان من وفائه، ليسقط التبعة عنه فيه، وينبه على أنه يراعي أفعاله فيخلصها مما يعد سيئةً وسبةً ووصمةً في حسبه.
وأخذت جار بني سلامة عنوةً ... فدفعت ربقته إلى عتاب
عتاب هذا كان معتصماً بحبله، ومستظهراً بذمته، فلحقه من بني سلامة اهتضامٌ في أمرٍ، فجاء مساورٌ ومكنه من جارهم، وأعطاه ربقته ليتحكم فيه، ويشتفي لما لحقه منهم. وهذا الكلام بيانٌ لكيفية وفائه والخروج إلى جاره مما كان تضمن له. وقوله " عنوةً " أي قهراً، وهو مصدرٌ في موضع الحال. ويقال: أخذ بلد كذا عنوةً، أي قهراً بالسيف. والربقة: الحبل يشد في عنق البهم، وقد توسعوا فيه فقالوا: خلع فلانٌ ربقة الإسلام. وقوله فدفعت ربقته "، هو كما يقال دفعت مقادته.
وجلبته من أهل أبضة طائعاً ... حتى تحكم فيه أهل إراب
الهاء من " جليته " ترجع إلى دار بني سلامة. وأبضة: اسم ماء. وقوله " جلبته طائعاً " تنبيهٌ على أنه وإن لزمه لجاره الانتقام له من خصمه ومهتضميه فقد تبرع له بما لم يكن عليه، وتكلف فيه ما لم يلزمه. وإراب: موضع، وقيل إراب: ماءٌ لبنى العنبر. وأبضة: ماءٌ لطيئ. والأبض كالعقل، ومنه المأبض في الرجل. وقيل للغراب مؤتبض النسا، لأنه يحجل فكأنه مأبوض.
قتلوا ابن أختهم وجار بيوتهم ... من حينهم وسفاهة الألباب
يشهر بفعلتهم الذميم ويندد، فيقول: قطعوا الرحم ونقضوا العهد، وارتكبوا ما كان محظوراً في الدين والمروة، والعهد والذمة، فقتلوا جارهم وابن أخيهم، بخفة عقولهم، واقتراب هلاكهم. والسفه: الخفة في الأصل، ومنه قيل زمامٌ سفيهٌ، إذا كان كثير الاضطراب، ومنه قيل: تسفهت الريح الغصن، وتسفهته عن ما له. واللب: العقل، والفعل منه لب يلب. وقالت صفية بنت عبد المطلب: أضربه لكي يلب، ويقود الجيش ذا الجلب.
غدرت جذيمة غير أني لم أكن ... أبدً لأولف غدرة أثوابي
غيرهم باستعمال الغدر وترك الوفاء للجار، ثم برأ ساحته من تعاطي مثل فعلهم، ونزه نفسه عن ارتكاب نظير ما ارتكبوه. فأما قوله " لم أكن لأولف " فاللام فيه(1/311)
لام الجحود، وانتصاب الفعل بأن مضمرة بينه وبين اللام. وموضع " لا ولف " نصب على أنه خبر كان، وانتصاب غير على أنه استثناءٌ منقطعٌ. وذكر الثوب على عادتهم في الكناية عن النفس. وعلى هذا قوله:
نبيت أن دماً حراماً نلته ... فهريق في ثوبٍ عليك محبر
وقد قيل معنى قوله تعالى: " وثيابك فطهر "، أي نفسك. ويقولون على هذه الطريقة: فلانٌ غمر الرداء، وعفيف الحجزة، والمراد النفس. وعلى هذا قول النابغة:
رقاق النعال طيبٌ حجزاتهم
وقول الهذلي:
تبرأ من دم القتيل وبزه ... وقد علقت دم القتيل إزارها
وإذا فعلتم ذلكم لم تتركوا ... أحداً يذب لكم عن الاحساب
الخطاب يوجه إلى جذيمة وهو منهم، ولذلك جعل لهم أحساباً يحتاج إلى الذب عنها، وينصح لهم بالإبقاء عليها، وترك الأفعال التي تدعو إلى البراءة منهم ومنها، لكنه أخرج نفسه مما عصب من الذم بهم، وألزمهم من ذميم القول في شيمهم وطرقهم، فقال: إذا ركبتم من شنيع الغدر مثل ما أنكرته اشتهر أمركم، وانتفى النسيب والغريب من ملا بستكم، وخلي بين القادح في أحسابكم وأعراضكم وبينكم، فلا يذب عنكم ذابٌ، ولا يدافع دونكم مدافع، وتفردتم بالعار اللاحق، والتهجين العائد.
وقال العباس بن مرداسٍ
أبلغ أبا سلمى رسولاً يروعه ... ولو حل ذا سدرٍ وأهلي بعسجل(1/312)
رسول امرئٍ يهدي إليك نصيحةً ... فإن معشرٌ جادوا بعرضك فابخل
يخاطب بقوله " أبلغ " صاحباً له، يقول أد إلى أبي سلمى رسالةً تفزعه على ما بيننا من البعد، وعلى استيطانه ذا سدرٍ ونزول أهلي بعسجلٍ. وذو سدرٍ: موضع فيه السدر، وهو شجر النبق. وعسجلٌ: موضعٌ من حرة بني سليم، وبينهما مسافةٌ بعيدةٌ. والرسول يقع على المراسل والرسالة جميعاً، ويجري مجرى المصادر، فيقع على الواحد فما فوقه، ومجاز " لوحل " مجاز الشرط، فهو يفيد معنى إن، كأنه قال: أبلغه ذلك فإني لا أذخره نصحي، وإن بعد عني وعن عشيرتي. وانتصب " رسول " من البيت الثاني على أنه بدل من رسولاً يرعه. ونقل الكلام في البيت الثاني عن الإخبار إلى الخطاب، لتكون الوصاة أنجع، والرسالة أبلغ. وإنما قال " رسولاً يرعه " لما فيه من التحذير. فيقول: أد إليه رسالة رجلٍ منتصحٍ متقربٍ، وعلى ما يكون فيه صلاحه وخلاصه منبهٍ. وقوله " فإن معشرٌ جادوا بعرضك " تعريضٌ بمن كان يغشه ويخونه، ويداجيه فيما استشاره فيه فلا يصدقه. وارتفع " معشرٌ " بفعلٍ مضمرٍ " جادوا " تفسيره؛ لأن إن بالفعل أولى، والمعنى: إن عرضك من لا يهمه سلامة عرضك لما فيه ذهاب النفس وتلف المهجة، وتسخى بك وبما يجمعك وإياه من أسباب المودة واللحمة، فابخل أنت به وتماسك، قبيل فوت الوقت، وانظر ليومك وغدك قدام تولي الأمر.
وإن بوءوك مبركاً غير طائلٍ ... غليظاً فلا تنزل به وتحول
يقال: بوأته مبوأ صدقٍ، أي أحللته. والمباءة: المنزل. يقول: وإن حملوك على مركبٍ غير وطئٍ يسومونك فيه خسفا، وأنزلوك منزلاً خشناً حزناً يؤثر في ثفنات الإبل فيدميها، ويستوعره الركب فلا يرونه منزلاً لها، فلا ترض به، وانتقل عنه. وهذا مثلٌ لما عرضوه له، ويبعثه بضربه إياه على محاذرته، وتصور الأمر معهم بصورته. وقوله " غير طائل " يجب أن يكون من الطول: الفضل؛ يقال: طال عليهم طولاً فهو طائلٌ. والمعنى: لا خير فيه فيطول على غيره. ومثل هذا البيت قول امرئ القيس:
هو المنزل الآلاف من جو ناعطٍ ... بني أسدٍ حزناً من الأرض أوعرا
وقوله " فلا تنزل به " الفاء مع ما بعده جواب الشرط في قوله وإن بوءوك. وموضع فلا تنزل رفعٌ على أنه خبر مبتدأ محذوف، كأنه قال: فأنت لا تنزل به.(1/313)
ولا تطعمن ما يعلفونك إنهم ... أتوك على قرباهم بالمثمل
أخرج ما قدمه من التمثيل لكيدهم وسوء دخلتهم، وما يجب عليه من الأخذ بالتحرز معهم، وترك الاستناخة في المبرك الذي اختاروه، والمبوأ الذي أعدوه، في معرضٍ آخرٍ. والمعنى: وما يعد قرىً لك فتجنبه ولا تتناوله، فإنهم هيئوا لك به سماً قاتلاً فلا تطعمه والمثمل، هو السم الذي قد خلط به ما يقويه ويهيجه، ليكون أنفذ. ويقال للصوفة التي توضع في الهناء عند طلي البعير به. الثملة، وهو مما ذكرت. قال الزاجز:
كما يلاث في الهناء الثملة
وقوله " أتوك على قرباهم " يجوز أن يريد به على تقربهم وتنصحهم، ويجوز أن يريد به على قرابتهم وتشابك الأحوال بينك وبينهم. وإنما تنقل في المثل بعد المثل تأكيداً للقول عليه في محاذرتهم، وإنذاراً في الركون إليهم، والاستنامة إلى ناحيتهم.
أبعد الإزار مجسداً لك شاهداً ... أتيت به في الدار لم يتزيل
هذا الكلام وإن كان لفظه لفظ الاستفهام فهو تقريعٌ وإنكارٌ، وتنبيهٌ وإنذارٌ، فيما يضرب المخاطب عنه، ويغفل دونه، مع كونه أعدل شاهدٍ على سوء نيتهم، وخبث طويتهم، ومع خروجه عن حيز الاستدلال عليه إلى المشاهدة، ومن خلل الخفاء والتشكك إلى ظاهر الضرورة. فيقول: أتغتر بهم، أو تستريب بما أحذرك منهم، بعد ظهور أمرهم وانكشاف قصدهم، وبعدما أتيت به في الدار من الإزار المتلطخ بدم ابن عمك، وقد يبس عليه ولم يتزيل عنه. فقوله " بعد الإزار " يتعلق بفعلٍ مضمرٍ قد دل عليه خبيئات القصة المحكية. والمجسد: الثوب المشبع صبغاً. والجساد: الزعفران. ومعنى لم يتزيل: لم ينفك مما خالطه منه.
أراك إذاً قد صرت للقوم ناضحاً ... يقال له بالغرب أدبر وأقبل
الناضح: البعير الذي يستقى عليه الماء. والنضح من الحياض: ما قرب من البئر فيفرغ الماء من الدلو فيه، وهذا الكلام صدر عمن نصح جهده وبين لموعظه(1/314)
رشده، فلما لم يتلق بالقبول قوله جعله قضيةً منه على المخاطب، بسوء الاختيار، وركوب الاغترار، وأظهر أنه قد صار من التضجر به ورفع الطمع عنه وعن صلاحه، في حكم اليائس من فلاحه، والممسك عن وعظه وإبلاغه، لكونه في حكم المسخر لهم حتى لا رأى له ولا اعتبار، ولا تدبر ولا اختيار. فقال: أراط قد صرت معهم بمنزلة البعير الذي يستقى عليه، طاعة وانقياداً، فيقال له أدبر وأقبل بالغرب. والمعنى تسام ما تسام فتلتزمه وتنقاد، فعل ذلك البعير. ومعنى " يقال له " أي يحمل على ذلك. والتصرف في القول على وجوهٍ كثيرة من المجاز.
فخذها فليست للعزيز بخطةٍ ... وفيها مقالٌ لامرئٍ متذلل
هذا الكلام خروجٌ عن عهدة ما يفعله المخاطب، وبراءةٌ إليه مع الإنكار عليه والتنبيه على موضع الخطأ فيه، فيقول: وكلتك إلى نفسك، ونفضت يدي من مراجعتك، فأرض بما عليه تدار، وابذل ما تراود عنه وتسام، عالما أن مثله لا يرضى به عزيزٌ، ولا يلتزمه آنفٌ؛ وفيه مع ذلك نظرٌ وجدالٌ لمن يتذلل: هل هو خطته أيضاً. والمعنى: إنك تركب ظهراً لا يقتعده المتكلف للذل فكيف العزيز. ويجوز أن يكون المعنى: فيها للناس، إذا تذاكروا الأحوال والخطط، نظرٌ وكلامٌ مبسوطٌ: هل يرضى بمثله المتذلل أو لا. ويجوز أن يريد: إن الذليل يتكلم فيمن يرضاها خطةً ويعيره إياها، فكيف يكون خطة للعزيز. وهذا الوجه أبلغ الوجوه الثلاثة وأدقها.
وقال العباس بن مرداس
أتشحذ أرماحاً بأيدي عدونا ... وتترك أرماحاً بهن نكايد
هذا مثل. والمعنى: أتعين أعداءنا علينا، لأن من أحد سلاح العدو الذي يقاتل به، وترك سلاح صاحبه الذي يكايده فقد أعانه عليه. وإنما خص من بين العدد الرماح لأنها كأنها أخص بهم. وقوله " وتترك أرماحاً " أراد وتترك شحذ أرماحٍ، فحذف المضاف. ويجوز أن يكون في كنى بالأرماح عن الرجال. والمعنى: أتهيج أصحاب عدوي علي، وتسددهم نحوي، وتترك أصحابي الذين بهم أكابد، فلا تقوى في القتال والصبر رأيهم ولا تمر في الثبات عزائمهم، ومن المعروف قولهم: فلانٌ سيفي(1/315)
ورمحي، في الذي يستظهر به عند ملاقاة الأعداء وفلانٌ ترسي وجنتي، فيمن يتقى به من الأسواء. وإنما قال في هذا الوجه أرماحاً بأيدي عدونا لأنه إذا كنى عنهم بما يكون آلة جعلها باليد. ويقال شحذت السكين، إذا أحددته. والباء من قوله " بأيدي " يتعلق بمضمر، كأنه قال أرماحاً مستقرة وحاصلةً بالأيدي. والعدو يقع على الواحد وعلى الجمع. وفي القرآن " فإنهم عدوٌ لي ".
عليك بجار القوم عبد بن حبترٍ ... فلا ترشدن إلا وجارك راشد
هذا الكلام بعثٌ وتحضيضٌ على مراعاة العهود والذمم، وصيانة الجار من الاهتضام، وإن لام فيها اللوائم. فيقول: انتصف لجارك وانتقم له بأن تؤثر في جار القوم، فإنك لا تكون راشداً إلا وقد رشد جارك معك. ويقال رشد يرشد، ورشد يرشد، لغتان. والباء من قوله: " بجار " يتعلق بعليك، لأن معنى عليك خذ. ويقال خذ كذا وخذ بكذا. يقال أيضاً عليك كذا وبكذا. ودخول النون الخفيفة في قوله " ترشدن " لأنه ليس بواجبٍ فهو يجري مجرى الأمر والنهي والاستفهام.
فإن غضبت فيها حبيب بن حبترٍ ... فخذ خطةً يرضاك فيها الأباعد
الضمير في " فيها " للفعلة والخطة. ألا ترى قوله " فخذ خطةً يرضاك فيها الأباعد ". والمعنى: إن تسخط ما تتكلفه لجارك من الذب عنه والانتقام له هؤلاء القوم فلا تبال بهم، وخذ في أمره ما يحمدك الأباعد دون الأقارب، فإن الأخبار إذا انتشرت عنك بالوفاء استرجحك الأجانب. وخذل الجار وتسليمه إيثاراً لهوى الأقارب، ومجانبةً لكراهتهم، يجلب الذم ويلحق العار.
إذا طالت النجوى بغير أولي القوى ... أضاعت وأصغت خد من هو فارد
هذا بيان الرأي في قبول ما أشار به، وترك التعريج على غيره. والعامل في " إذا طالت " أضاعت، وهو جوابه أيضاً. فيقول: إذا طالت المناجاة وامتدت الاستشارة مع غير أرباب الآراء القوية ضيعت المستشير وأمالت خده، وصار في الانفراد بما يعانيه بمنزلة من لا ناصر له ولا مشير، لوقوع التشاور على غير حده، وتقصير المشير في القيام بواجبه، وقد جمع بين فعلين في قوله " أضاعت " و " أصغت " فأعمل الثاني، وهو المختار عند أصحابنا البصريين. ويجوز أن يكون مفعول أضاعت غير " خد من " فحذفه، كأنه قال أضاعت ربها. وكان الحكم في هذا الوجه أن يقول لو أظهر المفعول: وأصغت خده لكونه فارداً وحيداً، لكنه لما كان الآخر هو الأول وقد(1/316)
حذفه، لم يبال بإظهاره، لأن الذي هو فاردٌ رب النجوى لا غير. ومعنى إصغاء الخد الإذلال والانحراف للفتور والخجل. والقوى: جمع قوة، وأصلها طاقات الحبل، ثم استعملت في الآراء والعزائم. وأصل النجوى المسارة، فاستعيرت للمشورة لأنها في أكثر المواضع تقع بها. ويقال: فلانٌ نجي فلانٍ، وتناجوا فيما بينهم وانتجوا، وهم نجوى، وصفٌ بالمصدر. وفي هذه الطريقة قول الآخر:
ومن لا يكن ذا ناصرٍ يوم حقه ... يغلب عليه ذو النصير ويضهد
فحارب فإن مولاك حارد نصره ... ففي السيف مولىً نصره لا يحارد
يقول: حارب من قصد جارك وأعان عليه، ولا تقعد عن نصرته والانتصار له، فإن لم يعاونك فيما ترومه مواليك، وتأخروا عن النهوض معك، فاستعن بالسيف، فإن فيه مولىً لك لا يخذلك، ولا يتباطأ عنك. وهذا كما قال غيره:
أنخنا فحالفنا السيوف على الدهر
والمحاردة أصلها في قلة اللبن، واستعير في قلة الموازرة والمظاهرة. وقوله " فإن مولاك " ارتفع مولاك يفعل مضمر ما بعده. تفسيره، لأن إن بالفعل أولى.
وقال أيضاً: وهذه الأبيات تعد من المنصفات:
فلم أر مثل الحي حياً مصبحاً ... ولا مثلنا يوم التقينا فوارسا
أشار بالحي إلى قومٍ معهودين. يقول: لم أر مغاراً عليه كالذين صبحناهم، ولا مغيراً مثلنا يوم لقيناهم. فقسم الشهادة قسم السواء بين أصحابه وأصحابهم، وتناول بالمدح كل فرقةٍ منهم. وانتصب قوله " حياً مصبحاً " على التمييز، وفيه دلالةٌ على جواز قول القائل: عندي عشرون درهما وضحاً. وكذلك قوله فوارساً تمييز وتبيين.(1/317)
ويجوز أن يكون الأول والثاني في موضع الحال، والمصبح الذي يؤتى صبحاً للغارة، ويستعمل في الخير أيضاً، يقال: صبحك الله بخيرٍ. فإن قيل. لم قال فوارس والتمييز يؤتى به موحد اللفظ. قلت: إذا لم يتبين كثرة العدد واختلاف الجنس من المميز يؤتى بالتمييز مجوع اللفظ متى أريد التنبيه على ذلك. وعلى هذا قول الله تعالى: " قل هل ننبئكم بالأخسرين أعمالاً "، كأنه لما كانت أعمالهم مختلفةً كثيرةً، نبه على ذلك بقوله: أعمالاً ولو قال عملاً كان السامع لا يبعد في وهمه أن خسرهم كان لجنسٍ واحد من أجناس المعصية، أو لعملٍ واحدٍ من الأعمال الذميمة. فكذلك قوله " فوارس " جمعه حتى يكون فيه إيذانٌ بالكثير.
أكر وأحمى للحقيقة منهم ... وأضرب منا بالسيوف القوانسا
المصراع الأول ينصرف إلى أعدائه وهم بنو أسد، والمصراع الثاني إلى عترته وأصحابه. والمراد: لم أر أحسن كراً، وأبلغ حمايةً للحقائق منهم، ولا أضرب للقوانس بالسيوف منا: وانتصب القوانس من فعل دل عليه قوله " وأضرب منا ". ولا يجوز أن يكون انصابه عن أضرب لأن أفعل الذي يتم بمن لا يعمل إلا في النكرات، كقولك: هو أحسن منك وجهاً. وأفعل هذا يجري مجرى فعل التعجب، ولذلك تعدى إلى المفعول الثاني باللام، فقلت ما أضرب زيداً لعمرو. وقول الله تعالى: " الله أعلم حيث يجعل رسالاته "، موضع حيث نصبٌ مما دل عليه أعلم. والقونس، قال الدريدي: هو أعلى البيضة وقال غيره: قونس الفرس: ما بين أذنيه إلى الرأس. ومثله قونس البيضة من السلاح.
إذا ما حملنا حملةً نصبوا لنا ... صدور المذاكي والرماح الدواعسا
يروى: " إذا ما شددنا شدةً ". يقول: إذا حملنا عليهم ثبتوا في وجوهنا، ونصبوا صدور الخيل القرح، والرماح المعدة لذلك. ولدعس: الدفع في الأصل، ثم يستعمل في الطعن وشدة الوطء والجماع. والذكاء: ضد الفتاء. ويقال فرسٌ مذكٍ، إذا تم سنه وكمل قوته. وفي المثل: " جرى المذكيات غلابٌ ". ويقال " غلاءٌ ". ويقال: فتاء فلان كذكاء فلان وكتذكية فلان، أي حزامته على نقصان سنه كحزامة ذاك مع استكماله لسنه. وقال زهير بن(1/318)
أبي سلمى:
يفضله إذا اجتهدا عليه ... تمام السن منه والذكاء
إذا الخيل جالت عن صريعٍ نكرها ... عليهم فما يرجعن إلا عوابساً
يقول: إذا الخيل دارات عن مصروعٍ منا كررنا عليهم لنصرع منهم مثل ما صرعوا منا. ويجوز أن يريد: إذا جالت الخيل عن صريعٍ منهم لا يقنعنا ذلك فيهم، بل نكرها عليهم لمثله، وإن كرهت الكر لشدة البأس فلم ترجع إلا كوالح. والعامل في قوله " إذا الخيل " نكرها، وهو جوابه أيضاً. وإلا عوابساً في موضع الحال، وقوله " الخيل " ارتفع بفعل مضمر ما بعده تفسيره.
وقال عبد الشارق بن عبد العزى الجهني
ألا حييت عنا يا ردينا ... نحييها وإن كرمت علينا
هذا على كلامين. و " ألا " افتتاحٌ. والتحية، قال بعضهم: هي الوداع ها هنا، يقول: ألا أبلغت وداعنا يا ردينة. ثم قال: نحييها، أي نودعها وإن عزت علينا مفارقتها. ويجوز أن يكون دعا لردينة مبتدئاً فقال: جزاك الله عنا، أي تولى الله ذلك من دوننا، ثم راجع نفسه فقال: نفعل ذلك على فخامة موقعها منا، وجلالة محلها من قلوبنا، إذا كنا لا نقدر لها على غير ذلك. وقوله " نحييها وإن كرمت " يسمى التفاتاً، كأنه التفت إلى من معه فقال ذلك.
ردينة لو رأيت غداة جئنا ... على أضماتنا وقد احتوينا
توصل بمخاطبتها إلى اقتصاص الحال التي يريد شرحها، فأخذ يباثها فيقول: لو رأيتنا غداة جئنا على حزازاتٍ في النفس، واحتراقاتٍ في الجوف والصدر، من الغيظ والحقد، وقد حوينا أموال إعدائنا، واستبحنا حريمهم، وملأنا أيدينا من غنائمهم. هذا إذا رويته بالحاء غير معجمةٍ. وروى بعضهم: " اختوينا " بالخاء المعجمة، ويكون افتعل من الخوى والمعنى: خوت أفئتدتنا من الود، كقول الآخر:
وإذ صفرت عياب الود منكم ... ولم يك بيننا فيها ذمام(1/319)
وأجود منها " وقد اجتوينا " بالجيم، وهو افتعل من الجوى، كأنه يريد ما اشتمل الجوانح عليه من العداوة حتى صار جوىً. والأضم: الغضب. ومع ذكر الأضم اجتوى بالجيم أشبه، وهو أقرب. وجواب لو محذوفٌ، لأن الأفعال التابعة لهذا البيت جميعها مقصورٌ على بيان القصة، وشرح أحوال الوقعة. وقد بينت فيما تقدم أن حذف الجواب من مثل قول القائل: لو رأيت زيداً وفي يده السيف، أدل على التهويل والتفخيم من إثباته.
فأرسلنا أبا عمرٍو رببئاً ... فقال ألا انعموا بالقوم علينا
يقول: توجهنا نحوهم وأنقذنا من قبلنا من ارتبأ لنا، فعاد مبشراً وقال: قروا عيناً واستبشروا، فقد أقبلوا. وهذا مما يترجم عن محبتهم لملاقة الأعداء، وحرصهم على القتال، وتشوفهم للمجاذبة والنزاع، حتى عدوا قربهم بشارةً، والالتقاء معهم غنيمة. وهذا عندي أبلغ من قول الآخر:
يستعذبون مناياهم كأنهم ... لا ييأسون من الدنيا إذا قتلوا
ومن قوله:
لقاء أعادٍ أم لقاء حبائب
وقوله " عيناً " انتصب على التمييز، وهو من باب ما نقل الفعل عنه ووضع النكرة فيه موضع المعرفة، لأن الأصل في قررت به عيناً: قرت عيني. ومثله قولهم: يتصبب عرقاً، ويتفقأ شحماً. وفي القرآن: " واشتعل الرأس شيباً ".
ودسوا فارساً منهم عشاءً ... فلم نغدر بفارسهم لدبنا
يقول: وجهوا فارساً ليندس في أثناء خيلنا، ويعرف سرنا وعلننا، ويقف على عددنا وعدتنا، فيرجع إليهم بواضح الأحوال والأخبار، فخليناه والانصراف إليهم، ولم نستعمل غدراً في احتباسه عندنا، وطي أخبارنا عنهم. وأصل الدس: إخفاء الشيء تحت غيره. وفي القرآن: " أم يدسه في التراب " ويقال: اندس إلى فلانٍ، أي أتاه بالنمائم. فإن قيل: ما فائدة ذكر الغدر ها هنا والفارس الذي أنفذوه جاسوساً لم يكن اتخذ منهم أماناً، ولا اشترط عليهم شرطاً يوجب سلامته به مع مخالطته لهم. قلت: كأن المراد لم نستعمل مكراُ باحتباس الرسول، إذ كان في منعه من الانصراف إليهم انطواء أخبارنا عنهم، فيكون كالغدر بهم وبه. ويجوز أن(1/320)
يكون ذلك الفارس الذي ظهر لهم ثقةً بالمعرفة بينه وبينهم، فعد ظهوره أخذاً للأمان عليهم. ويجوز أن يكون سمى ترك أقرب الأمرين إلى الكرم والوفاء معه غدراً، ثم برأ ساحته منه.
فجاءوا عارضاً برداً وجئنا ... كمثل السيف نركب وازعينا
يقول: تسارعوا مقلبين نحونا، وكأنهم في كثرتهم وتعجلهم قطعة من السحاب فيها بردٌ - ووجه التشبيه أن لهم حفيفاً ووقعاً شديداً متهافتاً، كما يكون لذلك السحاب - ونحن لكثرتنا وإتياننا على ما يعترض في طريقنا كالسيل الذي لا يبقي ولا يذر. ومعنى " نركب وازعينا " أي لا ننقاد لمن يريد ضبطنا، ولا نطاوع من يطلب كفنا من الجيشين جميعاً. ولم يثن " وأزعينا " لأنه يشير إلى رجلين، لكنه أراد الكثرة والجنس بالوزاع، ثم ثنى مبيناً اختلاف الطائفتين من الخيلين. ولا يجوز أن يروى " وزعينا " بكسر العين لما يحصل من العيب بالسناد مع ارتفاع الضرورة.
فنادوا يا لبهثة إذ رأونا ... فقلنا أحسنى ضربا جهينا
يقول: لما شارفناهم استغاثوا ببني بهثة معتزين إليهم، ومستمدين منهم، فاستثرنا نحن أيضاً في مقابلة ما فعلوا بنى جهينة، وهززناهم للضرب فيهم، والإيقاع بهم. وإنما يستعملون الاعتزاز في مثل هذه الحالة تهويلاً للأمر، وتكثيراً للعشيرة، ليستشعر كلٌ من الفريقين الرعب من صاحبه، والتهيب له. واللام من " يا لبهثة " لام الجر، وتعلقت بيا: حرف النداء. ولا يجوز أن يقال تعلقت بالفعل الذي دل عليه يا، لأن ذلك الفعل لما لم يخرج إلى الوجود سقط حكمه. وفتحت لوقوع المنادى موقع المضمر. وبهثة مدعوةٌ، والجار مع المجرور في موضع نصب لأنه منادىً. وقوله أحسني ضرباً " يجوز أن يكون ضرباً مفعولاً به من أحسني، ويجوز أن يكون في موضع الحال أي ضاربةً. ويروى: " أحسني ملأً "، ومعناه خلقاً. والمراد مخالقة أهل الحرب والمستنصرين؛ وهذه رواية أبي زيد. وقال ابن السكيت: معناه أحسني تمالؤاً أي تعاوناً. ويقال مالأت على فلان، وكأنه من قولهم رجلٌ مليءٌ، وقد ملؤ بملؤ ملاءةً وملاءً.
سمعنا دعوة عن ظهر غيبٍ ... فجلنا جولةً ثم ارعوينا
يقول: قرع أسماعنا في أثناء التهيؤ والتطالع دعوةٌ تأدت من مكانٍ غائبٍ عن عيوننا، فدرنا دورةً ثم رجعنا إلى أماكننا. وهذا يجوز أن يكونوا خافوا الكمين(1/321)
فجاءوا ليتأملوا، فلما أمنوا رجعوا. ويقال: ارعوى عن الجهل ارعواءً ورعوى حسنة ورعوى، أي رجع. ويقال: فعل فلانٌ كذا بظهر الغيب، وأتاني خبرٌ عن ظهر الغيب.
فلما أن تواقفنا قليلاً ... أنخنا للكلاكل فارتمينا
هذه المواقفة التي أشار إليها، يجوز أن تكون للتعبية والتهيئة، ويجوز أن تكون لتداعي الأبطال والمبارزة، واعتراضهم بين الصفين للمطاعنة. وقوله " قليلاً " يجوز أن يريد به زماناً قليلاً، فيكون ظرفاً، ويجوز أن يريد به: تواقفاً قليلاً، فيكون صفةً لمصدرٍ محذوف. والصفات تنوب عن المصادر والظروف كثيراً. وجواب لما " أنخنا "، ومفعوله محذوف. والمعنى: إنا بعد المطاردة نزلنا، وأنخنا للصدور فتناضلنا.
فلما لم ندع قوساً وسهماً ... مشينا نحوهم ومشوا إلينا
تلألؤ مزنةٍ برقت لأخرى ... إذا حجلوا بأسيافٍ ردينا
يقول: لما مللنا الطراد والرماء، بإفناء النبال وتعطيل القسى لانقطاع الأوتار، مشى بعضنا إلى بعضٍ للكفاح والجلاد، طلباً للاشتفاء، كأنهم تنقلوا في درج القتال ومراتبه، حتى بلغوا أعلاها وأصعبها، وأولاها بدرك الثأر وأحقها. ولهذا لما سأل عمر بن الخطاب رضي الله عنه عمرو بن معد يكرب عن أنواع السلاح، وانتهى إلى ذكر السيف، قال " عنده تثكل الأمهات ". وانتصب " تلألوء مزنةٍ " على أنه مصدرٌ مما دل عليه " مشينا نحوهم ومشوا إلينا "، لأن في ذلك تلألوء السلاح من الجانبين جميعاً، ووميض كل واحدةٍ من الطائفتين جميعاً للأخرى. وقوله " إذا حجلو بأسيافٍ ردينا "، أي إذا كان مشيهم إلينا حجلاً كان مشينا إليهم ردياناً. والرديان فوق الحجلان، لأنه مشي الحمار بين آريه ومتمعكه، فهو أسرع من الحجلان، إذ كان في الحجلان تقارب الخطو كمشي المقيد ووثبته. فيقول: تلألأنا لوفور أسلحتنا، وبريق دروعنا وبيضنا، وإيماض أعيننا، تلألؤ سحابة برقت لسحابةٍ أخرى قابلتها. وقال أبو زيد: هذا من رديان الجواري إذا لعبن ترفع إحداهن رجلاً وتخطو بأخرى خطوتين، ثم تضعها وترفع الأخرى، تفعل ذلك مراراً. قال: والغراب يردي ويحجل.
شددنا شدةً فقتلت منهم ... ثلاثة فتيةٍ وقتلت قينا
وشدوا شدةً أخرى فجروا ... بأرجل مثلهم ورموا جوينا(1/322)
يقول: حملنا عليهم حملةً منكرة، فأصبنا منهم ثلاثةً من الفتيان، وقتلت قيناً. وقين: اسم رجلٍ كان مشهوراً فيهم بالبأس والنجدة، فلذلك عين عليه. وقوله " ثلاثة فتيةٍ " فتيةٌ من أبنية القليل، كغلمةٍ وصبيةٍ، ولذلك أضاف الثلاثة إليها. وبناء الكثير الفتيان. و " شدوا شدةً أخرى "، يقول: وحملوا حملةً فأصابوا منا مثل ما أصبنا منهم، وارتث من قتلانا مثل ما ارتث من قتلاهم، ورموا جويناً أخى. قوله " بأرجل مثلهم " لو قال أمثالهم لجاز، وفي القرآن: " ثم لا يكونوا أمثالكم "، وفي موضع آخر: " يرونهم مثليهم رأي العين "، وفي موضع آخر: " إنكم إذاً مثلهم ". وهذه الأبيات تسمى المنصفة، لما تقابل فيها من صفات الجيشين على وجه التعادل، وسنن التصادق. إن قيل ما فائدة قوله " شدةً أخرى "، ولم يكن قد تقدم لهم أولى؟ قلت: يجوز أن يكون أراد توالي بيننا حملتان: الأولى منا، والأخرى منهم، لأن قصده اقتصاص الحال الدائرة بينهم. ويجوز أن يكون أراد أن يبين أنهم كانوا السابقين والمبتدئين، فوصف شدتهم بالأخرى ليعلم أن المتقدم في الذكر كانت الأولى.
وكان أخي جوينٌ ذا حفاظٍ ... وكان القتل للفتيان زينا
فآبوا بالرماح مكسراتٍ ... وأبنا بالسيوف قد انحنينا
نبه على أنه بحسن محافظته على الشرف، وجميل مدافعته دون العشيرة ثبت حتى قتل، وأن قتله كانت قتلةً محمودةً تزين ولا تشين. وقوله: فآبوا بالرماح مكسراتٍ، وأبنا بالسيوف منحنياتٍ، جعل فيه أعلى الصفتين لنفسه وذويه، وإن كان الظاهر من قصده في الوصف الجري على سنن النصف، يشهد لذلك ما رتبه زهيرٌ في قوله:
بطعنهم ما ارتموا حتى إذا اطعنوا ... ضارب حتى إذا ما ضاربوا اعتنقا
ألا ترى أنه جعل الطعن فوق النضل، والضرب فوق الطعان، والعناق فوق الكفاح. وكذلك فعل في الرديان والحجلان، وفي وصف أخيه بحسن الحفاظ عند قوله " ورموا جوينا " في مقابلة " وقتلت قينا ". وأما قول الآخر.
نطاردهم نستنقذ الجرد كا لقنا ... ويستنقذون السمهري المقوما(1/323)
فليس من التناصف في شيءٍ؛ إذ كان المعنى: إنا عند الطعان نذويهم عن ظهور الدواب، فنغنم دوابهم ونفوز بها، وهم يستنقذون رماحنا لأننا نكسرها فيهم إذا طعناهم، ونجرها إياهم فيفوزون بها. فيقول: انصرفوا وقد تكسرت رماحهم بالإجرار، ورجعنا وقد تثنت سيوفنا بإعمالنا إياها في البيض والدروع وقت الجلاد.
فباتوا بالصعيد لهم أحاحٌ ... ولو خفت لنا الكلمى سرينا
يقول: بقوا ليلهم يثنون على الصعيد، وهو وجه الأرض، ولو ساعدتنا الطائفة المجروحة منا، وقدرت على السري لسرينا، لكن كلاً منا اضطر إلى الإقامة والتلوم ريثما يثوب إليه القوى بعد لحوق الجهد، ومشارفة الردى. وقد قيل إن الأحاح العطش، والمشرف من الجراح على الهلاك يعطش. وقد قيل إن الأحاح شدة الوجد من الغيظ حتى يسمع له من الصدر صوتٌ، وهو على مثال الأدواء والأصوات جميعاً؛ لأن فعالا يكثر فيهما. والكلمى: جمع كليمٍ، وفعلى يكون جمعاً لما كان من الزمانة والضرر وأنواع البلايا. وأبنية واحده تختلف.
وقال بشر بن أبي
إن الرباط النكد من آل داحسٍ ... كبون فما يفلحن يوم رهان
يروى " أبين فلا يفلحن "، ويروى " كبون " أي سقطن لوجوهها. قال:
فكبا كما يكبو فنقٌ تارزٌ
وهذا الكلام تضجرٌ بما انتتج بين ابنى بغيضٍ عبسٍ وذبيان من الشر، في الرهان على داحسٍ والغبراء، ودعاءٌ على داحسٍ ونسله بألا تفلح في خطارٍ، وأن تأبى النجاح في سباقٍ، فقال: إن الخيل المربوطة المشائيم من آل داحسٍ وداحساً، أبت السبق في حبلةٍ وميدانٍ، والفلاح يوم خطارٍ ورهان. والمعنى: لا جعل الله لها ذلك، فقد ترددنا(1/324)
من البلاء في عماياتٍ لا انكشاف لها. وخبر إن " جلبن بإذن الله " وقوله " كبون فما يفلحن " أو " أبين فلا يفلحن " اعتراضٌ بين إن وخبره. والمعنى معنى الدعاء، فهو كما يقال إن زيداً خذله الله فعل كذا. ومثله في الاعتراض بالدعاء قول الآخر:
................ ما لكم ... تفاقدتم لا تقدمون مقدما
ويجوز أن يكون الكلام كله إخباراً متجرداً عن الدعاء، فيكون معنى كبون وأبين، أنه حصل لهن ذلك. والنكد: جمع أنكد. والرباط: مصدر رابطت، ولذلك وقع على الواحد والجمع. والآل، ذكر البصريون أنه في معنى الأهل، لا فرق بينهما، وأن تصغيره أهيلٌ، وهذا يؤذن بأن أصل ألفه هاءٌ. وحكى ثعلبٌ عن شيوخه أن الأهل، القرابة، متبعاً كان أو غير متبع، وأن الآل المتبع وإن لم يكن ذا قرابةٍ، فهما لمعنيين. قال: وحكى الكسائي في تصغير الآل أويلٌ، وفي تصغير الأهل أهيل.
جلبن بإذن الله مقتل مالكٍ ... وطرحن قيساً من وراء عمان
أخذ يعتد الخصال المكروهة الحاصلة بها، فيقول: جلب سبق داحسٍ بعلم الله تعالى قتل مالك بن زهيرٍ، وتطريح قيس بن زهيرٍ من أرض العرب إلى عمان. وكان قيسٌ نذر ألا ينظر في وجه غظفانيٍ أبداً، فدعاه ذلك إلى مراغمة العشيرة، والتباعد في الغربة. وقوله " بإذن الله " من قولك أذنت بالقوم. وفي الحديث: " ما أذن الله لشيءٍ ". وقصد الشاعر أن يذكر ما أعقب سبق داحسٍ من الشر، وألحق من الشؤم. وقوله " جلبن " جعل اللفظ للآل، والمراد داحسٌ، لكنه لما جعل الدعاء لآله استمر في الإخبار على حاله ولم يغير. ويشبهه قول الآخر:
إن ابن ضرارٍ حين أندبه ... زيداً سعى لي سعياً غير مكفور
أراد: إن ابن ضرارٍ زيداً، فذكر الآل والمراد غيره. وهم في كثير من المواضع أقاموا الوالد مقام الولد والولد مقام الوالد، والعشيرة مقام الواحد منها، والواحد مقام(1/325)
العشيرة، لأغراض مختلفة، حين أمنوا الالتباس. ومما يجانس هذا زيادتهم " ذو " و " حيٍ ". أنشد أبو زيد:
يا قر إن أباك حي خويلدٍ ... قد كنت خائفه على الإحماق
وقال الشماخ:
فأدمج دمج ذي شطنٍ بديع
والقصد إلى خويلد وإلى شطنٍ.
لطمن على ذات الإصاد وجمعكم ... يرون الأذى من ذلةٍ وهوان
الملطوم داحسٌ، فجرى على ما بنى عليه الكلام من الإخبار عن نسله وآله. وكان حذيفة بن بدرٍ أرصد فتيناً له من بني فزارة لما تغالق هو وقيسٌ على الفرسين في موضعٍ من ذات الإصاد لقب بشعب الحيس لحيسٍ أكلوه فيه وقال لهم: إن جاء داحسٌ متقدماً سابقاً فالطموه ونهنهوه عن الغاية حتى تتقدمه الغبراء، فمر بهم داحسٌ مبرزاً وفعلوا به ما رسم لهم حتى تخلف عن الغبراء، فاجتهد داحس وتكلف من العدو ما لحق بها، وتقدم عليها ثانياً فجاء سابقاً. وقوله " وجمعكم يرون الأذى "، يخاطب به بني عبسٍ، وإنما يصف ما نيل منهم وركبهم من الهضيمة في فرسهم لما لطم، وفي أنفسهم حين منعوا ما استحق له. واللطم: الضرب في الخد، ثم قيل فرسٌ لطيم تشبيهاً بذلك. وهذا كما يقال هو ممسوحٌ بالجمال مسحاً. وذات الإصاد يريد البقعة التي فيها الإصاد، ويقال هي ردهةٌ بين أجبلٍ. والردهة كالحفيرة يجتمع فيها الماء، والجميع الرداه.
سيمنع منك السبق إن كنت سابقاً ... وتقتل إن زلت بك القدمان
هذا يحتمل وجهين: أحدهما أنه جعل الخطاب لصاحب الفرس على المجاز والسعة، والمقصود الفرس، فيقول: تمنع من السبق إن سبقت - وهذا إشارة إلى ما كان منهم من لطم داحسٍ. وقد قدم ذكره - فإن خفت قدماك بك وبرزت ثانياً أتي(1/326)
عليك. ويكون قوله " زلت بك القدمان " على ما فسرناه من قولهم قدحٌ زلول، إذا كان خفيفاً. فهذا وجهٌ. والثاني أن يترك الخطاب على ظاهره وحده، فيكون المعنى: سيمنع منك المتفق عليه من الخطر بسبق فرسك، فإن لم يثبت قدماك عند التقاضي به، وفي الدفاع عن نفسك فيما يراد من ظلمك ويرام من هضمك قتلت أيضاً. وهذا أقرب وأشبه بالقصة.
وقال غلاق بن مروان
هم قطعوا الأرحام بيني وبينهم ... وأجروا إليها واستحلوا المحارما
قطعوا بالتخفيف يصلح لقيل الفعل وكثيره، فإذا ثقلت لم يكن إلا للتكثير أو التكرير. والشاعر يصف ما أجرى إليه القوم في سبقٍ داحسٍ من قطيعة الرحم، وانتهاك المحرم، واستحلال المحظور المحرم؛ ويقتص ما تنقلوا فيه وتدرجوا إليه حالاً بعد حالٍ، وشيئاً بعد شيءٍ. وقوله " أجروا إليها " الإجراء يستعمل في المنكر المذموم، ومفعوله محذوف، كأنه أجروا فعلهم إليها، والضمير في " إليها " للقطيعة، لأن الفعل يدل على مصدره. وهذا كما يقال: من كذب كان شراً له، أي كان الكذب شراً له.
فيا ليتهم كانوا لأخرى مكانها ... ولم تلدي شيئاً من القوم فاطما
البيت على كلامين: صدره إخبارٌ، وعجزه خطابٌ لفاطمة، وهي أختٌ لهم. ومثله في أنه كلامين قوله تعالى: " يوسف أعرض عن هذا واستغفري لذنبك ". والشاعر قصده إلى إظهار التوجع من الحال، فيقول متمنياً: بودي إن يكونوا لو صلةٍ وقرابةٍ غير وصلتهم وقرابتهم، حتى لا يبلغ الجفاء من جهتهم مبالغة في نفوسنا، لأن ظلم ذوي القربى أشد تأثيراً. والشر إذا ورد على الإنسان من مظنة الخير كان أنفذ تحزيزاً. فقوله " كانوا لأخرى مكانها " أي لقرابةٍ أخرى مكان هذه القرابة؛ أو لأرحامٍ أخرى مكان هذه الأرحام. وقوله " لم تلدي شيئاً " تمنى ارتفاع الوصلة كما تمنى في الأول انقطاع القرابة؛ كأنه ود بعد استبدالهم بالتناصر تدابراً، وبالتواصل تقاطعاً، أنهم كانوا منهم غرباء. وقوله " فيا ليتهم " المنادى محذوف، أراد يا قوم ليتهم.(1/327)
فما تدعي من خير عدوة داحسٍ ... فلم تنج منها يا ابن وبرة سالما
يذم ما أحمدوه من سبق داحسٍ وتبريزه، ويسوئ رأيهم في تبجحهم، ويعرفهم قبح عاقبة ما اختاروه، وسوء مغبة ما شرعوا فيه. وإنما قال " ما تدعي " لأن أصحاب الغبراء كانوا يعللون سبق داحس وينكرونه، فلهذا علق ما حكاه عنه بالدعوى. وقوله " من خير عدوة " أي من نفعه وسناء ذكره. وقوله " فلم تنج منها " رد الضمير على المضاف إليه وهو العدوة. يريد: لم يرجع إليك منها جدوى، ولا ارتفع الأمر فيه كفاً. ولما فاتت الغنيمة فيه لم تحصل لك السلامة أيضاً.
شأمتم بها حيي بغيضٍ وغربت ... أباك فأودى حيث والى الأعاجما
قال أبو زيد: يقال شأم فلانٌ أصحابه، إذا أصابهم الشؤم من قبله. و " بها " يريد بالعدوة، وهذا تفسير قوله: فلم تنج منها يا ابن وبرة سالماً. يقول: أوقعتم بعدوتها والخطار عليها الشؤم في حيي بغيضٍ: عبسٍ وذبيان، وأحوج أبوك - يعني قيس بن زهيرٍ - إلى ترك أرض العرب ومهاجرتها. يعني حين أحرج وأزعج إلى بلاد العجم، حتى صار يواليهم بها، إلى أن مات غريباً بين ظهرانيهم. وأشار بقوله " حيث " إلى عمان وما وراءه.
وكانت بنو ذبيان عزاً وإخوةً ... فطرتم وطاروا يضربون الجماجما
يقول: كان بنو ذبيان لكم يا بني عبسٍ ملاذاً وعزاً، وعتاداً وظهراً، لما يجمعكم وإياهم من الأخوة، فاطرحتم موات التمازج والتشابك، وتجاوزتموها إلى التجاذب والتقاتل. وهذا تحسيرٌ للمخاطب فيما انتقل عنه من موالاة العشيرة، والإبقاء على الأحوال الجامعة، وتلهيفٌ فيما انتقلوا إليه من تهييج الحرب، وبسط الأذى والشر، وتنبيهٌ على ما يتعقب أحوالهم إن استمروا عليها من التفاني والتهالك. وكان الواجب أن يقول: فطرتم تضربون وطاروا يضربون، فاكتفى بالإخبار عن إحدى الفلاقتين؛ إذ قد علم أن حال الأخرى كحالها. ومعنى طرتم: تسرعتم، كما قال:
طاروا إليه زرافاتٍ ووحدانا(1/328)
فأضحت زهيرٌ في السنين التي مضت ... وما بعد لا يدعون إلا الأشائما
أنث الفعل لأن المراد بذكر زهير القبيلة بأسرها، ومعنى يدعون يسمون، كما قال ابن أحمر:
وكنت أدعوت قذاها الإثمد القردا
يريد أسمي، ولذلك تعدى إلى مفعولين، فيقول: صار أسلاف بني زهير ابن حذيفة وأخلافهم لا يسمون قديماً ولا حديثاً إلا المشائم. والأشائم: جمع أشأم. ويقال: جرت لهم طيرٌ أشائم، أي جرت لهم بالشؤم. وقال زهير:
فتنتج لكم غلمان أشأم
أي غلمان أمرٍ أشأم. وقوله " في السنين " يجوز أن يكون ظرفاً لأضحت، ويجوز أن يكون ظرفاً لقوله " لا يدعون ". وقوله " وما بعد " يراد به وفيما بعد فيكون ما معطوفاً على السنين. ويجوز أن يكون موضع " ما " نصباً على أن يكون معطوفاً على موضع في السنين لا على لفظه، لأن موضعه نصبٌ لكونه ظرفاً. ويجوز أن يجعل ما صلةً، كأنه في السنين الماضية وبعدها. ويجوز أن يروى: " ومن بعد لا يدعون "، وهو حسنٌ. وذكر بعضهم أن ما من قوله " وما بعد " لا يجوز أن يكون إلا صلةً وزائدةً لأن بعد لما جعل غايةً ودخله النقصان بحذف ما كان مضافاً إليه امتنع من أن يكون مبيناً على شيءٍ وخبراً عنه، وإذا امتنع من ذلك امتنع أن يكون صلةً لموصول، لأن الذي يكون صلةً من الظروف والجمل هو ما جاز أن يكون خبر المبتدأ. وليس الأمر على ما قاله، ألا ترى أن قوله عز وجل: " قال كبيرهم ألم تعلموا أن أباكم قد أخذ عليكم موثقاً من الله ومن قبل ما فرطتم في يوسف ". معناه: ومن قبل الذي فرطتم في يوسف، أي قدمتم. ويجوز أن يراد: ومن قبل تفريطكم، فيكون ما مع الفعل في تقدير مصدرٍ. وعلى الوجهين جميعاً ما في موضع رفع ومن قبل خبره. وذكر أبو إسحاق الزجاج في ما من الآية ثلاثة أوجهٍ، ما ذكرنا أحدها. وإذا(1/329)
كان الأمر على هذا فما ذكره هذا القائل غير صحيح، لأني قد أريتكه بعد وهو غايةٌ خبراً، وكونه صلةً تابعٌ لكونه خبراً، فاعلمه.
وقال المساور بن هندٍ
أودى الشباب فماله متقفر ... وفقدت أترابي فأين المغبر
يقول: أدبر الشباب وولى، فهو فائتٌ لا يتتبع، ومطلوبٌ لا يلحق، وعدمت نظرائي وأقراني، فأين بقائي بعدهم، وكيف خلاصي مما اخترمهم وأفناهم. وهذا الكلام توجعٌ وتحسرٌ لما تقضى من شبابه، وعنفوان عمره وتقدم من أقرانه ولداته. أي إذا خلوت منهم، وصرت عائشاً في غيرهم فكم عسى أن أبقى بعدهم. ويقال غير إذا مضى، وغير إذا بقي. ويريد بالمغبر هنا البقاء، ويقال: اقتفرت الشيء وتقفرته، إذا تتبعته.
وأرى الغواني بعدما أوجهني ... أعررضن ثمت قلن شيخٌ أعور
الغواني: جمع غانيةٍ، وهي التي تستغني بزوجها عن الرجال، وقيل هي التي تستغني بمحاسنها عن التزين بالحلى. وقال أبو عبيدة: هي المتزوجة، وأنشد لجميل بن معمرٍ:
حبت الأيامى إذ بثينة أيمٌ ... فلما تغنت أعلقتني الغوانيا
وأنشد ابن الأعرابي:
أزمان ليلى كعابٌ غير غانيةٍ
والشاعر يقول متشكياً من الشيب المعتاض من الشباب، ومن الضعف التابع لصحة الجسم، ومن السقوط والانحطاط بعد الجاه عند الغانيات: أرى النساء بعدما كن يجعلن لي عندهن جاهاً أعرضن عني واطرحنني، وأبدلنني بالحمد ذماً، وبالتسمية تلقيباً ونبزاً، فمتى ذكرت عندهن قلن هو شيخٌ أعور. وقوله " أوجهنني " من الوجاهة: المنزلة. يقال وجه وجاهةً، ووجهني السلطان وأوجهني: جعل لي جاهاً ومنزلة.(1/330)
ورجلٌ موجهٌ ووجيهٌ. وقوله " شيخٌ " ارتفع على أنه خبر مبتدأ محذوف، وقد مضى القول في التاء من ثمت وربت، وأنه علامة التأنيث للقصة. وجعلت تاءً مفتوحة فرقاً بينها وبين التي تلحق الفعل والاسم.
ورأين رأسي صار وجهاً كله ... إلا قفاي ولحيةٌ ما تضفر
يقول مستمراً في تكلف الجزع إتر ما تولى من الشباب، وباسطاً معذرة النساء فيما استحدثن له: رأينني قد صلعت وانحسر الشعر عن رأسي حتى صار كله كوجهي، وإلا قفاي فإن به نبذاً من الشعر، وإلا لحية لا تقام مقام الذؤابة في الضفر والتجمل. فقوله " لحيةٌ ما تضفر " تحسرٌ على ما عدم في رأسه من الضفائر وإن كانت اللحية لم يعتد ضفرها. وقوله " كله " ارتفع على أنه توكيدٌ المضمر في صار، أو على أنه اسم صار، أو على أنه يرتفع بفعله وفعله ما دل عليه قوله " وجهاً " كأن المراد توجه كله، ويكون كقولك رأيت زيداً قيسياً أبوه، أي تقيس أبوه، ومررت بسرجٍ خز صفته.
ورأين شيخاً قد تحنى صلبه ... يمشي فيقعس أو يكب فيعثر
يقول: ورأين شيخاً منحني الصلب، محدودب الظهر، يمشي مشية القعسان إذا استمر في المشي، أو يتعثر فيسقط لوجهه. وكان الواجب أن يقول: أو يعثر فيكب، لأن العثار قبل السقوط للوجه، لكنه لم يبال بتغيير الترتيب، لأمنه من الالتباس، وهذا دون ما يجيء في كلامهم من القلب، مثل قوله:
كما أسلمت وحشيةٌ وهقا
وكقول امرئ القيس:
كما زلت الصفواء بالمتنزل
ويقال: قعس يقعس، إذا صار أقعس خلقةً فيه، وقعس يقعس قعساناً إذا مشى مشية الأقعس تكلفاً، ومثله عرج يعرج وعرج. ويقال: أكب زيدٌ فلا يتعدى؛ وكبة الله لوجهه، وهذا على العكس مما عليه أكثر الأفعال. ومثله أقلع الغيم وقلعه الله.(1/331)
لما رأيت الناس هروا فتنةً ... عمياء توقد نارها وتسعر
إنما قدم ما اقتصه من ضعفه وكبرته، ليري العذر فيما يعجز عنه من النهوض في الفتنة التي ذكرها، فيقول: لما وجدت الناس قد كرهوا ما ترددوا فيه من فتنةٍ لا يهتدي لوجهها، ولا يقتدر على كشفها، تستعر نارها وتتلهب، ويبتعث شرها فشتمل. ويعني بهذا فتنة ابن الزبير وعبد الملك. وجواب لما منتظرٌ، وهو هنا محذوف يدل عليه الكلام، كأنه قال: انقبضنا عن النهوض فيها والحراك، لننظر ماذا تكون. والفتنة العمياء: التي لا يهتدي فيها لوجه أمرٍ، وفصلٍ شأن. والتعمية: التلبيس. ويقال: هو في عميانه، أي عماه، مصدرٌ كالطغيان.
وتشعبوا شعباً فكل جزيرةٍ ... فيها أمير المؤمنين ومنبر
شعبت يكون بمعنى جمعت وبمعنى فرقت. ويقال التأم شعبهم، إذا اجتمعوا بعد تفرقٍ؛ وتفرق شعبهم، إذا تبددوا بعد تجمع. والشعبة: الطائفة، وجمعها شعبٌ. يقول تفرق الناس فرقاً، فصار الاختلاف لازماً لأهوائهم، والتباين مقترناً بآرائهم، في كل جزيرة أمير المؤمنين ومنبرٌ، يدعو إلى نفسه ويخطب على منبره لجذب الأمر إليه. وقوله " أمير المؤمنين " لفظه معرفةٌ للإضافة المعتادة في هذه اللفظة المألوفة على الحد الذي ترى، لكن التنوين منويٌ، وإذا كان كذلك كان في حكم النكرات. وإنما ساغ ذلك لأن قوله " أمير المؤمنين " يشار به إلى الحال، أي فيها أمير على المؤمنين، واسم الفاعل إذا أريد به الحال أو الاستقبال كانت إضافته على وجه التخفيف لا على وجه التعريف، ويصير التنوين الذي هو الأصل منوياً فيه، وعلى هذا قوله: " عارضٌ ممطرنا " لأن التقدير ممطرٌ لنا. وكذلك قوله عز وجل: " هدياً بالغ الكعبة ". وعنى بذلك ابن الزبير ونظراءه ممن كان يطلب الخلافة في أيام عبد الملك بن مروان. وهذا البيت منعطفٌ بما فيه على قوله " هروا فتنةً ".
ولتعلمن ذبيان إن هي أعرضت ... أنا لنا الشيخ الأغر الأكبر
يقول على وجه التوعد: لتعلمن هذه القبيلة إن توجهت نحونا أنا لنا هذا الرئيس المشهور الشأن، العظيم الأمر. ويقال: عنى به زهير بن جذيمة العبسي. وقيل هو قيس بن زهير. ويروى " إن هي أدبرت ". والمعنى: إن ولت وأعرضت، فإنها ستعلم أنا نكتفي من دونهم. ويجوز أن يكون المراد بأدبرت: تركت الحق. وجواب إن في قوله: " لتعلمن ذبيان "، وقد مضى مثله.(1/332)
ولنا قناةٌ من ردينة صدقةٌ ... زوراء حاملها كذلك أزور
قوله: " من ردينة " أي من رماح ردينة، وهي امرأةٌ كانت تبيع الرماح؛ فحذف المضاف. والصدقة: الصلبة، والعرب تذكر القناة وصلابتها واعوجاجها، وأنها لا تلين ولا تقبل التقويم والتثقيف، ضاربةً بها المثل في الخلاف والإباء، والامتناع والتعسر على من يريد إكراههم، والتصعب على من يريد تليينهم أو الغض منهم. والمعنى: قناتنا لا تستقيم لمقومٍ، وحاملها لا ينقاد لمجتذبٍ. وعلى هذا قول عمرو بن كلثوم:
عشوزنةٌ إذا عمزت أرنت ... تشج قفا المقوم والجبينا
وقول الآخر:
كانت قناتي لا تيلين لغامزٍ ... فألانها الإصباح والإمساء
وهذا الشاعر لم يرض بذكر القناة وما جرت به العادة من وصف اعوجاجها، حتى عقبه بقوله " حاملها كذلك أزور "، فزاد على من تقدم كما ترى، وإنما أراد التأكيد والمبالغة وتبيين قوة الامتناع على من يطلب اقتسارهم. وهذا كما يصفون المتكبر بالشوس والصعر والصيد. وقوله: " حاملها كذلك " من صفة القناة، وارتفع حاملها بالابتداء، وقد أخبر عنه بخبرين: كذلك، وأزور. وقوله " كذلك " إذا وقع هذا الموقع لا يغير، بل يكون للمذكر والمؤنث على حال واحدة. وأنشد أبو زيد:
أما أقاتل عن ديني على فرسٍ ... ولا كذا رجلاً إلا بأصحابي
والمعنى ولا كما أنا الساعة راجلاً.
وقال عروة بن الورد
قلت لقومٍ في الكنيف تروحوا ... عشية بتنا عند ماوان رزح
تقدير البيت: قلت لقوم رزحٍ عشية بتنا عند ماوان في الكنيف: تروحوا. والمعنى بعثتهم على السير في الرواح، وإن كانوا متساقطي القوى كالين، لا حرك(1/333)
بهم، ولا نهوض يقيمهم، هزلى لتأثير السفر فيهم، وظهور أثر الشقة عليهم. وواحد الرزح رازح، ويقال رزح البعير رزوحاً، إذا أعيا، وإبلٌ رزحى، وقومٌ رزاحٌ أي مهازيل ساقطون. والكنيف: الحظيرة من الشجر.
تنالوا الغنى أو تبلغوا بنفوسكم ... إلى مستراحٍ من حمامٍ مبرح
قوله " تنالوا " جواب الأمر من البيت الأول، وهو تروحوا. والمعنى: سيروا واجتهدوا تنالو الغنى، وتبلغوا حداً من الطلب يفضي بكم إلى الموت المريح الباسط لعذركم. والمبرح: الملح الشديد، ومن هذا وصف الريح بالبارح. ويقال: برح بي الحب، أي اشتد؛ وبرح بي فلان، إذا آذى؛ وأبرح الرجل، إذا أتى بالبرح، والبرح يكون الشدة ويكون العجب، ومنه قول الأعشى:
أبرحت رباً وأبرحت جارا
ليبلغ عذراً أو يصيب رغيبةً ... ومبلغ نفسٍ عذرها مثل منجح
قوله " ليبلغ " تفسير ما قدمه. ويشير بقوله " عذراً " إلى قاطع الموت لأن المجتهد في طلب الشيء إذا حال أجله دون أمله فقد أعذر، إذ كان قد فعل ما عليه. وقوله " أو يصيب رغيبةً " إشارةٌ إلى نيل الغنى. والرغب: اتساع الشيء، ومنه بطنٌ رغيبٌ. وقوله " ومبلغ نفسٍ عذرها مثل منجح " أي من أعذر فيما يطلبه، أصابه أو فاته، فقد أنجح. وهذا الكلام وإن كان ظاهره وظاهر صدر البيت الأول أنه يتكرر به المعنى الذي قدمه فيه، فليس الأمر كذلك، لأنه ذكر في الأول إبلاغ النفس من الموت حداً يريحه، ولم يبين من فعل ذلك: هل أنجح أو لا. وفي الثاني بين أن المعذر في طلب الشيء كالمنجح، وأنه إذا استغرق وسعه في طلب ما يهم به ثم حال دونه حائلٌ فقد أعذر. وفي طريقته قول أبي تمام:
لأمرٍ عليهم أن تتم صدوره ... وليس عليهم أن تتم عواقبه(1/334)
وقال أبو الأبيض العبسي
ألا ليت شعري هل يقولن فوارسٌ ... وقد حان منهم يوم ذاك قفول
قوله " شعري " اسم ليت، وخبره مضمرٌ استغني عنه بمفعول شعري. وليت شعري لا يجيء إلا هكذا، كما أن لولا يجيء أبداً محذوف خبر المبتدأ الذي بعده، وقد استغني عنه بجوابه، وذلك كقولك لولا عبد الله لفعلت. وقوله " هل يقولن فوارسٌ " سد مسد مفعول ليت شعري. ومعنى الكلام ليت علمي واقعٌ: هل يقع هذا القول من الفرسان في تلك الحال؟ ومفعول " يقولن " أول البيت الثاني، وهو قوله " تركنا "، واعترض بينهما قوله " وقد حان منهم يوم ذاك فقول "، وموضعه نصبٌ على الحال، والذي تمنى علمه أنه هل يقتل، فإذا انصرف الأبطال عنه قالوا هذا القول أولاً. وتحقيق الكلام: ليتني علمت ما يقتضي هذا السؤال من الجواب، لأن ذاك يهمه لا نفس السؤال. وقوله: وقد حان منهم قفولٌ، أي رجوعٌ عن المعركة إلى ديارهم وحيهم، كأنه كان هم بالاستقبال، ووطن نفسه من مصادمة العدو، ومصادمة القتال على ما غلب اليأس من الانصراف عنهم، لتعرضه لما لا يسلم معه من يلابسه، فتكلم بذلك. وقوله " يوم ذاك " إشارةٌ إلى يوم ملاقاة الأعداء. فإن قيل: هل تقدر في الكلام بعد الاستفهام شيئاً لأنك إذا استفهمت عن شيءٍ كان ما تستفهم عنه وخلافه سواء عندك، وإلا الم تكن مستفهماً؟ قلت: معنى الاستفهام هل يقولن فوارسٌ كذا، وهل زيدٌ عندك، على " أو " أو " أم " ولولا ذلك لامتنع الاستفهام. وسنشرح الكلام فيما يقتضيه هذا الموضع في البيت الذي بعده.
تركنا ولم يجنن من الطير لحمه ... أبا الأبيض العبسي وهو قتيل
يقول: ليتني علمت هل يقولون في منصرفهم تركنا أبا الأبيض مصروعاً متروكاً بالعراء، تعفوه سباع الطير وتأكل من لحمه، غير مستورٍ عنها ولا ممنوعٍ منها. وقد اعترض بين تركنا ومفعوله وهو أبو الأبيض بقوله " ولم يجنن من الطير لحمه "، وموضعه نصبٌ على الحال. فإن قيل: فما المقدر بعد الاستفهام هنا من(1/335)
حرفي العطف: أم، وأو، وكيف يكون معنى الكلام مع ذلك المقدر؟ قلت: المعنى على أو، بدلالة أنه يجاب مثل هذا الكلام بنعم أو لا، إذ كان المبني على ليتني علمت هل يقع ذلك منهم. فأما تقدير أم وهي عاطفةٌ فلا يصح في مثل هذا الموضع، كما لا يجوز اللفظ بها على جهة المعادلة. وقد قال أبو العباس: لا يكون أم بعد شيءٍ من حروف الاستفهام سوى الألف إلا على كلامين. وأما تقدير أم المنقطعة فبعيدٌ، لأنه لو قصد لم يكن بدٌ من ذكره وذكر المستفهم به عنه بعده. فاعلمه.
وذي أملٍ يرجو تراثي وإن ما ... يصير له مني غداً لقليل
يقول: رب إنسانٍ يعلق طمعه بميراثي، ويرجو تحصيله بعدي، والذي يناله منه غداً - يشير إلى يوم موته - قليلٌ غير كثير. والمعنى: إني لا أذخر مالي بل أتلفه في اكتساب المحامد، فلا يكون لي تراثٌ إلا سلاحي وما لا بد للفارس منه.
وما لي مالٌ غير درعٍ حصينةٍ ... وأبيض من ماء الحديد صقيل
وأسمر خطي القناة مثقفٌ ... وأجرد عريان السراة طويل
نفي أن يكون له مالٌ يدخره طول حياته، ويرثه الوارث بعد مماته إلا درعه وبيضته، وسيفاً مصقولاً طبع من خالص الحديد، ورمحاً حملت قناته من الخط - وهو جزيرةٌ بالبحرين - وفرساً قصير الشعر منجرد الظهر من اللحم، مشرف الهامة، طويل القامة. المغفر: حلقٌ يتقنع بها المتسلح، وكذلك الغفارة. وقال الخليل: المغفر: رفرف البيضة. وأصل الغفر التغطية والستر. وقوله " غير درعٍ " يجوز رفعه، وهو الوجه، على أن يكون بدلاً، ويجوز النصب على الاستثناء.
أقيه بنفسي في الحروب وأتقي ... بهاديه إني للخليل وصول
هذا معنىً شريفٌ حسن. يقول: أحفظ مقاتل فرسي بفخذي ورجلي، وأتقي فيما يأتيني بعنقه. والمعنى: من أراد أن يصيب مقتلي جعلت بيني وبينه عنق دابتي، كما أن من أراد مقتل فرسي أجعل بينه وبينه فخذي ورجلي. ثم قال: " إني للخليل وصول " أي لا أخذله في الشدائد ولا أنتفع به إلا وأنفعه. وهذا مثلٌ. والعربي يسمى(1/336)
سلاحه ومركوبه خليلاً، على ذلك ما أنشده الأصمعي، وهو:
وإني كما قالت نوار إن اجتلت ... على رجلٍ ما شد كفي خليلها
وقال قيس بن زهير العبسي
لعمرك ما أضاع بنو زيادٍ ... ذمار أبيهم فيمن يضيع
اللام من " لعمرك " لام الابتداء، وخبر المبتدأ محذوفٌ، كأنه قال: لعمرك قسمي. يقول: وبقائك ما ضيع لهؤلاء العصابة من حق أبيهم وشرف أسلافهم، ما يوجب التذمر عند المحافظة عليه في جملة من يضيع حقوق آبائهم، وما أثلوه من مفاخرهم ومحاسنهم؛ بل حافظوا عليه بما ضموا مما استحدثوه واطرفوه إليه. وحذف مفعول يضيع كأنه قال فيمن يضيع الذمار. ويقال: فلانٌ حامي الذمار، أي إذا ذمر وغضب حمي. وهذا كما يقال، هو ثبت الخبار، أي إذا حصل في الخبار ثبت. وقوله " ما أضاع " تهكمٌ أو تعريضٌ؛ لأن الذين أخبر عنهم أشهر أمراً وأعظم شأناً من أن يقال فيهم ذلك.
بنو جنيةٍ ولدت سيوفاً ... صوارم كلها ذكرٌ صنيعٌ
يعني ولد زياد بن عبد الله بن ناشبٍ العبسي، يقول: هم بنو امرأة كأنها في فضلها ودهائها من الجن. وهذه المرأة هي فاطمة بنت الخرشب الأنمارية، وهي إحدى المنجبات من العرب، وكانت قد رأت في منامها كأن قائلاً قال لها: " أعشرةٌ هدرةٌ، أحب إليك أم ثلاثة كعشرةٍ " فلما انتبهت اقتصت رؤياها على زوجها فقال لها: إن عاودك فقولي: بل ثلاثةٌ كعشرةٍ. فرجعت إلى المنام ورأت مثل ما رأت من قبل، فجعلت تقول في الجواب: بل ثلاثة كعشرة. فولدت بنين ثلاثة صار كلٌ منهم أباً لقبيلة، ومعظماً في قومه وعشيرته، وهم ربيع الحفاظ، وعمارة الوهاب، وأنس الفوارس. وكما جعل الأم جنية لخروجها فيما أتت به عن المعتاد من الإنس جعل الأولاد سيوفاً. ومعنى البيت: هم أولاد امرأة ولدت رجالاً كأنهم في النفاذ سيوفٌ قواطع، كل واحدٍ منها ذكر الحد، مصنوع صقيلٌ. و " صنيعٌ " كما استعمل في السيف استعمل في الخيل. يقال صنعت الفرس، إذا ضمرته.(1/337)
شرى ودي وشكري من بعيدٍ ... لآخر غالبٍ أبداً ربيع
يقال: شربت الشيء بمعنى اشتريت وبعت جميعاً، وكذلك بعت يصلح للأمرين، ومن شريت الضروري، وهو المثل، لكن لامه وهو ياءٌ قلبت واواً، لأن فعلى إذا كان اسماً ولامه ياءٌ يفعل به ذلك، فرقاً بين الاسم والصفة. وعلى هذا قولهم الفتوى. فيقول: اشترى ربيع الحفاظ على بعده مني، ودي له، وثنائي عليه وعلى آخر رجلٍ يبقى من بني غالب أبداً. وقوله " من بعيدٍ " في موضع الحال. وإنما قال هذا لأنه ناله إحسانه ووجب عليه شكره وبينهما مسافةٌ وبعدٌ.
؟؟؟
وقال هدبة
إني من قضاعة من يكدها ... أكده وهي مني في أمان
ليس يريد بهذا الكلام نسبة نفسه إلى قضاعة فقط، بل يريد اختصاصه بهم، وتعصبه لهم. وهذا كما يقال: أبا من فلانٍ وإلى فلانٍ، أي ابتدائي منه وانتهائي إليه، فيقول: إني منتمٍ إلى قضاعة أهوى هواها، وضلعي معها، فمن عاداها أوة نابذها عاديته ونابذته، وهي آمنةٌ من مكروهي وأذاي، إذ كنت أنعطف عليها فيما ينوبها، وأغتفر زلاتها فيما يتفق منها. وهذا الكلام في التنبيه في الاختصاص، والإبانة عن الطاعة والإخلاص، من أبلغ كلام وأكرم إيناس. ألا ترى أنه فصل ما أجمل، وفسر ما أبهم بقوله " من يكدها أكده وهي مني في أمان "؟ وهذا صفة جوارح الإنسان مع جملته وأبعاضه مع كله، بدلالة أنه يدافع من يريد إصابة أحدها، ثم هي آمنةٌ من جنايته عليها، أو على شيءٍ منها.
ولست بشاعر السفساف فيهم ... ولكن مدره الحرب العوان
يقول: ليس محلي منهم وفيهم محل شاعرٍ يسفسف القريض، ثم يقف دون غايته باليد واللسان. والسفساف: ما لا خير فيه من الأفعال والأقوال: وفي الحديث: " إن الله تعالى يحب معالي الأمور ويبغض سفسافها ". والعوان من الحرب: التي قوتل فيها مرةً بعد أخرى. فإن قيل: أين عجز البيت من صدره في النظام، وهلا قال بعد ما نفى عن نفسه من الشعر الركيك: ولكني شاعر المتخير الرصين؟ قلت: إنما(1/338)
المراد التنبيه على فضله فيهم وطوله، وعلى كفاية بيانه، وعلى غناء سنانه. والحرب كما تقع بالضراب والطعان تقع بمجاذبة الحجاج عند النفار والفخار. وآثر أن يقول: " ولكن مدره الحرب " ليدخل تحته الأمران جميعاً. وقيل: المدره هو السيد الذي يدفع به الشر فينتظم به أمور الحرب، ويقوم بأسباب الصحاب. وذكر بعضهم أنه من دره علينا، أي طلع. وقيل إنه من درأ أي دفع، وأن الهاء فيه بدلٌ من الهمزة. ويجوز أن يكون الكلام تعريضاً بإنسان نفى عن نفسه حاله وأنبأ أن الأمر بخلافه.
سأهجو من هجاهم من سواهم ... وأعرض منهم عمن هجاني
قوله " من سواهم " يتعلق من يهجاهم، وموضعه نصبٌ على الحال. ويحتمل معاني: يجوز أن يريد به مخالطاً لغيرهم؛ لأن من هذه تكون للملابسة؛ على ذلك قولهم: أنت مني فرسخين، أي أنت مخالطي. يقوله الدليل والخفير. ويكون للولاء والنصرة، على ذلك قول النابغة:
إذا حاولت في أسدٍ فجوراً ... فإني لست منك ولست مني
فيكون معنى " من سواهم " ناصراً لغيرهم. وتكون للنسل والولادة. يقول هم من أبٍ واحدٍ وبعضهم من بعض، فيكون المعنى منتسباً إلى غير أصلهم. وعلى هذا قوله " وأعرض منهم " يتعلق من يهجاني، ويكون الكلام في موضعه ومعناه على الحد الذي بيناه. من تعرض لهم بمكروهٍ أو ذكرهم بسوءٍ فإني أدافعه عنهم، وأعارضه دونهم، وأقاتله عن تناوله منهم، ومن تعرض لي منهم فإني أعرض عنه، وأصفح عن غيه فلا أؤاخذه به، صيانةً لهم، ومحافظة على ما يجمعني وإياهم.
؟
وقال عمرو بن كلثوم
معاذ الإله أن تنوح نساؤنا ... على هالكٍ أو أن نضج من القتل
معاذ الله، من المصادر التي لا تكون إلا منصوبةً، وضعت موضعاً واحداً من الإضافة على ما ترى، ولا يتصرف. والعياذ في معناه ومن أصله، وهو يتصرف مرفوعاً ومنصوباً ومجروراً، وبالألف واللام. وانتصب معاذ الإله على إضمار فعلٍ(1/339)
ترك إظهاره. ويقولون: عائذاً بالله من شرها، فيجري مجرى عياذاً بالله، كأنه قال: أعوذ بالله عائذاًوعياذاً. ومن أبيات الكتاب:
ألحق عذابك بالقوم الذين طغوا ... وعائذاً بك أن يعلو فيطغونى
ويقال: عذت بالله عوذاً ومعاذاَ وعياذاً. ويقال: أفلت منه عوذاً بفتحتين، أي عائذاً، وأتيته عوذاً. وهذا الكلام تبرؤٌ من إظهار الجزع على قتلاهم، واستعمال البكاء والضجاج في بلواهم، وتصبرٌ على نوائب الدهر، وانتفاءٌ من تكره القتل. يقول: نعوذ بالله من نوح نسائنا على متوفى منا مفقودٍ، ومن ضجيجنا من القتل والقتال، وكيف يكون أحد هذين منا وقد تعودت نساؤنا الثكل، ونشأنا في ممارسة الحرب ومزاولتها. وفي طريقته قول الآخر:
إذا ما أتتني ميتتي لم أبالها ... ولم تذر خالاتي الدموع وعمتي
قراع السيوف بالسيوف أحلنا ... بأرضٍ براحٍ ذي أراكٍ وذي أثل
الأصل في البراح الأرض التي لا بناء فيها ولا عمران. والمقارعة: مضاربة القوم في الحرب. وكل شيءٍ ضربته بشيءٍ فقد قرعته. وهذا على حذف المضاف، كأنه قال قراع أصحاب السيوف بالسيوف. أخبر عن نفسه وذويه بأن صبرهم في دار الحفاظ هو الذي أنزلهم بأرضٍ واسعةٍ ذات أثلٍ وأراكٍ، وصرفهم عن الانتجاع وتطلب الخصب في المظان. وهذا صريحٌ ما قاله غيره، وهو:
أنخنا فحالفنا السيوف على الدهر
والأراك: شجرٌ تتخذ منه المساويك. ويقال: إيلٌ أوارك، إذا اعتادت أكلها. والأثل أيضاً: شجرٌ. وهذا كما قال الآخر:
وتحل في دار الحفاظ بيوتنا ... زمناً ويظعن غيرنا بالأمرع(1/340)
ونبه بذكر الأرض البراح على أنهم غير محتجزين بحصونٍ ولا قلاعٍ، ولا ممتنعين بهضابٍ ولا حبالٍ. والأثل والأراك ينبتان في السهل أكثر، فوكد بذكرهما المراد، وجعل البراح بدلاً من قوله " بأرضٍ " ولذلك قال " ذي أراكٍ " ولم يقل ذات.
فما أبقت الأيام ملمال عندنا ... سوى جذم أذوادٍ محذفة النسل
أراد بالأيام الوقعات. وقوله " ملمال " أراد من المال، فجعل الحذف بدلاً من الإدغام لما التقى بالنون واللام حرفان متقابلان، الأول متحركٌ والثاني ساكنٌ سكوناً لازماً. والمعنى: ما بقي تأثير الحوادث ونكبات الأيام عندنا من أصول المال ومقتنياتها، إلا بقايا أذوادٍ قطع الضر نسلها، وتمكن الهزال وسوء الحال منها، فهي على شرف فناءٍ وذهابٍ. والجذم: الأصل. والأذواد: جمع الذود، والذود يقع على ما دون العشرة. وقال أكثر أهل اللغة: إنها تقع على الإناث دون الذكور. وبعضهم يجوز وقوعها على الذكور أيضاً. وما في البيت يشهد للأول.
ثلاثة أثلاثٍ فأثمان خيلنا ... وأقواتنا وما نسوق إلى العقل
أراد: أموالنا ثلاثة أثلاث، فيرتفع الثلاثة على أنه خبر مبتدأ محذوف، وما بعدها تفسيرٌ لها وتفصيل. ونبه بما أورد وقسم على الوجوه التي انصرفت إليها أموالهم فأفنتها، والطرق التي توزعتها فقللتها، فقال: افترقت أموالنا فرقاً ثلاثاً ففرقةٌ منها صرفناها إلى أثمان خيلنا لأنا غزاؤون، ومعالجو حروبٍ، فلا نستغني عنها؛ إذ كان جدنا وهزلنا منها وبها. وفرقةٌ منها حبسناها على أقواتنا ومعايشنا؛ لأن العفاة والزوار كانت تنتابنا وتتناوب عليها حتى تستغرقها، لأن إقامتنا بدار الحفاظ شغلتنا عن الغزو واجتذاب الزيادة إليها. وفرقةٌ منها وجهناها إلى الديات، وأروش الجنايات التي كسبتها أيدينا، واجترحتها رماحنا، إذ كنا لعزنا ومنعتنا لا يطمع في الاقتصاص منا. ومثل هذا قول الآخر:
نأسو بأموالنا آثار أيدينا(1/341)
؟
وقال المثلم بن عمروٍ
إنى أبى الله أن أموت وفي ... صدري همٌ كأنه جبل
يقول: يأبى الله عز وجل لي الاخترام وفي نفسي همٌ عظيمٌ لا أسعى في إمضائه وتنفيذه. ويعني بذلك دماً يطلبه، أو حقداً ينقضه، أو منىً من عدوه يدركه. وهذا الكلام وعيدٌ وإيذانٌ بأنه مجتهدٌ في الطلب، وراجٍ ألا يحول الأجل بينه وبين الأمل، بما عوده الله من الصنع والظفر بالمطلوب. والواو من قوله " وفي صدري " واو الحال. وموضع " كأنه جبل " صفةٌ للهم. والهم يجوز أن يكون مصدر هممت بالشيء، ويجوز أن يكون واحد الهموم.
يمنعني لذة الشراب وإن ... كان قطابا كأنه العسل
هذا من صفة الهم. يقول: يصدني ذلك الهم عن التلذذ بالشراب، وإن طاب وصار مزاجاً كالعسل يستحلى ولا يتكره. ومثله لأبي ذؤببٍ:
فجاء بمزجٍ لم ير الناس مثله
جعل ما يمزج به مزجاً. ورواية الأصمعي " مزجاً " بكسر الميم. فالمزج كالمزاج والقطاب، سماه بما يستصلح له من ذلك أو يفعل به من بعد. وإنما قال هذا لأن الواحد منهم إذا أصيب بمن يمسه أو وتر فيمن يقرب منه ويختصه، كان يعقد على نفسه نذراً في مجانبة بعض اللذات أو أكثرها، من معاقرة الشراب أو مجامعة النساء أو ما يجري مجراهما، إلى أن ينال المراد، ويحصل المرتاد. ويقال قطبت الشراب، أي مزجته. ويروى: " وإن كان رضاباً ". ويجوز أن يريد به ماء فم محبوب. ويجوز أن يريد ماءً محله في جنسه ذلك المحل من الشراب.
حتى أرى فارس الصموت على ... أكساء خيلٍ كأنها الإبل
حتى تعلق إن شئت بقوله أبى الله، وإن شئت تعلق بيمنعني، والتقدير في الوجهين: يأبى الله موتي حتى أرى هذا الأمر، أو يمنعني الهم الالتذاذ بالشراب حتى(1/342)
أراه وأشاهده. والصموت: اسم فرسه. ويعني بفارسه نفسه. وأكساء الخيل: أدبارها. ويقال هو يكسؤه ويدبره ويذنبه، أي يكون في أثره. وحكى الخيل أكسأته الخيل. والمعنى: لا يكون ذلك حتى أرى نفسي تركض في أدبار خيلٍ منهزمةٍ وتسوقها، كما تساق الإبل. وقيل شبهها بالإبل في عظم خلقها وإشرافها. والكلام على هذا يراد به خيل مخصوصةٌ بتوعدها ويعين عليها.
؟ لا تحسبني محجلاً سبط ال - ساقين أبكي أن يظلع الجمل هذا توعدٌ وتعريض بالمخاطب. المحجل، يجوز أن يكون مأخوذاً من الحجل الذي هو القيد، ومن الحجل الذي هو الخلخال، ويجوز أن يكون من الحجلة. والمعنى: لا تظنني إنساناً مترفاً منعماً لا غناء عنده، ولا كفاية لديه، ولا رأي يستند إليه، ويعول في المهمات عليه، فهو في العجز كالممنوع المقيد، وكالمرأة المخلخلة، وكالمخدر الملازم للحجال والفرش يجزع - لضعف نهوضه، وسقوط قواه، وسوء بصيرته - من ظلع جمله فضلاً من غيره. وقوله " أبكي أن يظلع الجمل " صرف الكلام إلى الإخبار عن نفسه، ولو قال " يبكي أن يظلع " لترك الاستمرار في صفة المحجل جارياً على حده، غير متحول عنه، وكان الكلام أحسن في قران النظم.
إني امرؤٌ من تنوخ ناصره ... محتملٌ في الحروب ما احتملوا
قوله " من تنوخ " أي أنتسب إليها، وأهوى هواها. و " ناصره " نكرة لأن إضافته إضافة تخفيف لا إضافة تعريف، والتنوين منويٌ فيه، أراد: ناصرٌ له. وقوله: " ما احتملوا " أراد: ما احتملوه، فحذف المفعول لطول الصلة. والمعنى: إني مخالطهم وناصرٌ لهم، وصابرٌ على ما يصبرون عليه، وناهضٌ تحت العبء الذي ينهضون فيه.
وقال عبد الله بن سبرة
إذا شالت الجوزاء والنجم طالعٌ ... فكل مخاضات الفرات معابر(1/343)
وإني إذا ضن الأمير بإذنه ... على الإذن من نفسي إذا شيت قادر
أراد بالنجم الثريا، وأكثر ما يعترض هذه اللفظة في استعمالهم معرفاً يراد به الثريا لا غير، ألا ترى قول الهذلي:
فوردن والعيوق مقعد رابئ ال ... ضرباء حلف النجم لا يتتلع
والجوزاء سميت بذلك لأن وسطها أبيض. وحوز كل شيءٍ: وسطه. والوقت الذي يشير إليه يشتد فيه الحر. لذلك قال ساجعهم: " إذا طلع النجم، فالصيف في حدم، والعشب في حطم ". فكأن قائل هذا الشعر استأذن صاحبه في الانتقال إلى البدو فلم يأذن له، فأخذ يتشكى عن مراده بهذا الكلام ويتوجد. ويقول: إذا تناهى الحر وارتفعت الجوزاء في أول الليل إلى كبد السماء، وطلع الثريا عند السحر، فكل مخاضةٍ من جوانب الفرات معبرٌ لي أهرب فيه؛ لأن نضوب الماء ونقصانه يكون في ذلك الوقت. وقوله " والنجم طالعٌ " لو وليه " إذا " فقيل إذا النجم طالعٌ، لم يصلح؛ لأن الجملة التي يبين بها إذا لا بد فيها من فعلٍ، لما يتضمن من معنى الشرط والجزاء. تقول آتيك إذا زيدٌ يأمر. ولو قلت آتيك إذا زيدٌ أميرٌ لم يصلح؛ لكنه لما انعطف على قوله " شالت الجوزاء " حسن حملاً على المعنى، كأنه قيل: وطلع النجم. وهذا إذا كان الواو فيه للعطف، ويجوز أن يجعل الواو واو الحال، يريد إذا شالت الجوزاء في حال طلوع النجم. والعامل في " إذا " ما دل عليه قوله: " فكل مخضات الفرات معابر ". وقوله: " وإني إذا ضن الأمير "، يقول: إذا تمنع الأمير من الإذن لي، وصدني الوقت عن مرادي، وأقدر على جواز المسالح والمراصد، لكونها مشحونةً بالمرتبين فيها، انتظرت غيض الماء وجزره في الفرات، وإمكان الخاضات من العبور والذهاب، فحينئذ آذن لنفسي وأهرب. وإنما قال ذلك لأن المشارع لا تضبط كما تضبط الجسور ومضايق الطرق.
؟ وقال الربيع بن زيادٍ العبسي
حرق قيسٌ على البلا - د حتى إذا اضطرمت أجذما(1/344)
يقول: ألهب قيس بن زهير البلاد على ناراً تتوهج، فلما استعرت وتأججت هرب وتركني اصطلي بها وإنما قال هذا لأن قيساً ترك أرض العرب وانتقل إلى عمان بعد إثارة الفتن واهتياج الشر، في سبق داحس. والإجذام: الإسراع في السير، وجعله مثلاً لانزوائه ونفضه اليد مما كان لابسه وتولاه من إيقاد نار الحرب بين الفريقين.
جنية حربٍ جمتخت فما ... تفرج عنه وما أسلما
جنيٌ: فعيلٌ في معنى مفعول، لكنه ألحق الهاء به لأنه جعله اسماً، كما ألحق بالبنية وهي الكعبة، وبالذبيحة والنطيحة. وهذا اعتدادٌ على قيسٍ بما جناه، وتحمدٌ بما أتاه، وامتنانٌ بأنه لم يقعد عن نصرته، ولم يخذله وقت حاجته، ولم يخله للأعداء وقت إقامته، ولا ترك النيابة عنه واعتناق الأمر بعد غيبته، بل نهض في الشر والقتال ما اتصل نهوضه، وتفرد بالدفاع عنه عند فتوره ونفوره. وقوله " فما تفرج عنه "، أي ما تفرق عنه ولا تكشف.
غداة مررت بآل الربا ... ب تعجل بالركض أن تلجما
أقبل يخاطب بعد ما كان يخبر، على عادتهم في تصاريف كلامهم، وقوله " غداة مررت " ظرفٌ لما دل عليه أجذما. أي هربت في ذلك الوقت والأوان. و " تعجل " في موضع الحال. والمعنى: اجتزت بآل هذه المرأة مستعجلاً بركض الأعداء في أثرك، حتى لم تتسع لإلجام دابتك، ولم تأمن ريث إصلاح أمرك، والتهيؤ لنجاتك. وقوله " أن تلجم " في موضع النصب من تعجل، وكان الواجب أن يقول تعجل بالركض عن أن تلجم، فحذف الجار ووصل الفعل فعمل. وفي القرآن: " وما أعجلك عن قومك يا موسى ".
؟ وكنا فوارس يوم الهري - ر إذ ما سرجك فاستقدما يوم الهرير معروف. وإنما قال كنا فرسان هذا اليوم، لما كان عرف من جميل بلائهم، وحسن ثباتهم فيه ووقائهم، وليذكر بتبريزهم حين نكصوا على أعقابهم، وقصروا عن شأوهم. وذكر ميل السرج مثلٌ، وقول جرير يشهد لذلك(1/345)
ويكشفه، حين قال:
قل للجبان إذا تأخر سرجه ... هل أنت من شرك المنية ناج
والمراد اضطراب الأمر وفشل الرأي وتمكن الخوف والدهش من المنهزم، ونزوله عما يهم بركوبه. وفي طريقته قول الآخر:
لا تجعلونا إلى مولى يحل بنا ... قد الجزام إذا ما لبده مالا
وكما جعل الحزام مثلاً لتدارك الأمر وتلافي فاسده على الوجه الذي تراه، جعل ترك شد الحزام عند ما يطرق أو ينوب مثلاً للتحزم والتجمع قبل نزول الخطب، حتى إذا بدت أعناقه لا يحتاج إلى استئناف شيءٍ لتمام أهبته. وعلى ذلك قول امرئ القيس:
أقصر إليك من الوعيد فإنني ... مما ألاقي لا أشد حزامي
فتأمل ما فتحنا مبهمة تنل كل فائدةٍ، وتظفر بكل غنيمة. ويقال: استقدم بمعنى قدم، وفي ضده استأخر بمعنى تأخر. والمعنى: كنا فرسان هذه الوقعة في هذا اليوم المشهور، حين كنت للشر معوراً، وعلى شفا البلاء موفياً.
عطفنا وراءك أفراسنا ... وقد أسلم الشفتان الفما
يقول: تعطفنا عليك في ذلك الوقت، ودافعنا دونك، وقد كشرت الأسنان وأسلمتها الشفاه، تقلصاً عنها ويبوسةً حادثةً فيها. وذكر الفم كنايةٌ عن الأسنان؛ كما يقال فض الله فاه. ويقال في هذا المعنى ذبت الشفاه. ومثله قول عنترة:
إذ تقلص الشفتان عن وضح الفم
والواو من قوله قد أسلم الشفتان واو الحال. والاستعارة بإسلام الشفتين في نهاية الحسن.(1/346)
إذا نفرت من بياض السيو ... ف قلنا لها أقدمي مقدما
يقول: إذا جبنت خيلنا وحادت عن تلألؤ السيوف وبريق الشمس وشعاها في السلاح، وهرير الأبطال وتداعيها، أكرهناها على الإقدام. وذكر النول ها هنا كنايةٌ عن الفعل، وهذا كما يقال قال برأسه كذا، إذا حركه، وقال بسوطه، إذا أشار به. والمقدم والإقدام بمعنىً. وحقيقة الكلام إذا نفرت قدمناها تقديما.
وقال الشنفري
لا تقبروني إن قبري محرمٌ ... عليكم ولكن أبشي أم عامر
يقال: قبرت الإنسان، إذا دفنته؛ وأقبرته إذا جعلت له موضع قبرٍ، وفي القرآن: " ثم أماته فأقبره ". والشاعر كأنه نبه بهذا الكلام على أنه ممن يقتل ويترك بالعراء لا يرثي له شقيق، ولا يرثه نسيبٌ ولا رفيقٌ، فيأتيه عوافي السباع والطير. فخاطب أصحابه وقال: لا تدفنوني إن دفني محرمٌ عليكم، يريهم استغناءه عنهم حياً وميتاً، ورفعة نفسه عن الاستنامة إليهم والاعتماد عليهم، وذهابه عنهم فعل المجانب لهم، البعيد منهم. ثم قال " ولكن أبشري أم عامر "، أي ولكن الضبع تأكل لحمي فأبشري أم عامر، جعله كما هو لقب الضبع. وموضعه من الإعراب مبتدأ والخبر محذوفٌ، وهو يأكلني وتتولى أمري ونحوه. وهذا في أنه جملةٌ جعلت لقباً وفي أن شرطها أن تحكى، كتأبط شراً وما أشبهه. وإنما جعلت لقباً لها لأن العادة في اصطياد الضبع أن يقصد وجارها ويحفر وهي تتأخر شيئاً شيئاً. والصائد يقول: أم عمرٍ ليست ها هنا؟ أبشري أم عامرٍ بشاءٍ هزلى، وجرادٍ عظلى؛ خامري أم عامر ليست ها هنا؟ فلا يزال يحفر الوجار، ويكرر هذا الكلام؛ والضبع تتأخر حتى تبلغ أقصى وجارها فتخرج حينئذٍ بأغلظ عنفٍ. ولما كان الأمر على هذا في اصطيادها لقبها ببعض ما تخاطب به في تلك الحال، فكأنه قال: لا تقربوني إذا مت فقد حرمت دفني عليكم، ولكن الذي يقال له أبشري أم عامرٍ ولي أمري دونكم. فهذا وجهٌ حسنٌ إليه يذهب الحذاق من أصحاب المعاني. وحكى سيبويه عن الخليل في(1/347)
قول الأخطل:
ولقد أبيت من الفتاة بمعزلٍ ... فأبيت لا حرجٌ ولا محروم
أنه قال أبيت الذي يقال له لا حرجٌ، فحكى. ثم قال: يقويه في ذلك قول الأخطل:
على حين أن كانت عقيلٌ وشائظاً ... وكانت كلابٌ خامري أم عامر
لأنه أراد كانت كلابٌ التي يقال لها خامري أم عامر، فحكى ذلك الكلام وكنى به عن الضبع. ويحتمل أن يكون البيت على كلامين، كأنه قال: لا تدفنوني، مخاطباً أصحابه ورفقاءه، وليس يريد نهيهم عن ذلك؛ ولكن يريد كشف حاله لهم، وبيان عاقبة أمره فيهم. ثم أقبل على الضبع فقال: أبشري يا أم عامرٍ، فإنك تأكلين مني. ويكون هذا في تحويل الكلام عن شيءٍ إلى آخر، كقول الله عز وجل: " يوسف أعرض عن هذا واستغفري لذنبك إنك كنت من الخاطئين "، فاعلم ذلك تنتفع به إن شاء الله. ويقال بشرته فأبشر، كما يقال فطرته فأفطر. ويقال بشرته بالتخفيف بمعنى بشرته، فاستبشر. وحكى أبشرته أيضاً.
إذا احتملوا رأسي وفي الرأس أكثري ... وغودر عند الملتقى ثم سائري
إذا ظرفٌ لقوله تقبروني، أو لما دل عليه اللفظ والحال، وقد جعل خبراً للمبتدأ الذي بعد لكن، وهو قوله أبشري أم عامر من يأكلني أو يتولى أمري. ويجوز أن يكون ظرفاً لقوله أبشري في القول الثاني. وإنما قال " وفي الرأس أكثري " لأن الحواس خمسٌ، وأربعٌ منها في الرأس: البصر للمرئيات، والأذن للمسموعات، والأنف للمشمومات، والفم للمذوقات. وقد اعترض به بين المعطوف والمعطوف عليه، وساغ ذلك لأنه يسدد المعنى المطلوب ويؤكده. وقوله " وغودر عند الملتقى ثم سائري "، يروى بفتح الثاء ويكون ظرفاً وإشارة إلى المعركة ومزدحم الناس. والتقدير وغودر ثم سائري حيث التقى القوم بعد أن حمل رأسه لشهرته، أو ليعلم به إيتان القتل عليه. ويروى " ثم " بضم الثاء ويكون حرف العطف عطف به سائري على المضمر في غودر، والمعنى غودر رأسه ثم سائره حيث التقى القوم للنظارة.(1/348)
والأولى أجود. وإنما ضعفت هذه لأن عطف الظاهر على المضمر المرفوع ضعيفٌ حتى يؤكد. وتأكيده: وغودر هو عند الملتقى ثم سائره. ويجوز أن يكون سائري في موضع النصب معطوفاً على رأسي، كأنه احتملوا رأسه ثم سائره، فيكون أقرب. وكان الشنفري أحد الخلعاء الذين تبرأ عشائرهم منهم وأسلموا بجرائرهم، ولهذا قال في نفسه:
طريد جناياتٍ تياسرن لحمه ... عقيرته لأياً يما حن أول
ومن أجل ذلك كشف القناع مع قومه، وأخذ يتفادى منهم ويقول: لا تقبروني إن قبري محرمٌ عليكم. فإن قيل: أين جواب إذا؟ قلت: إن جعلته ظرفاً لقوله لا تقبروني فذاك جوابه، وكذلك إن جعلته ظرفاً للخبر المقدر. والسائر: الباقي من الشيء، وهو من السؤر، وأسأرت في الإناء.
هنالك لا أرجو حياةً تسرني ... سجيس الليالي مبسلاً بالجرائر
أشار بقوله " هنالك " إلى الوقت الذي يتناهى فيه الأمد، ويدنو فيه الأجل، لا إلى الوقت الآني بعد القتل، وهو ظرفٌ للا أرجو. والمعنى: في ذلك الوقت لا أطمع في حياةٍ سارةٍ لي، وأنا مخذولٌ مسلمٌ بجرائري في القبائل، لا يرى إلا شامتٌ بي، أو طالبٌ للانتقام مني. وقوله " سجيس الليالي " يراد به امتداده وسلاسته في الاتصال وهو اسم الفاعل من سجس. وقد أحكمنا القول فيه في كتابنا الأزمنة. وهو ظرفٌ لقوله مبسلاً بالجرائر. وانتصب مبسلاً على الحال. والجرائر: جمع الجريرة. وأبسلوا: أسلموا. وفي القرآن " ألئك الذين أبسلوا كسبوا ".
وقال تأبط شراً
وقالوا لها لا تنكحيه فإنه ... لأول نصلٍ أن يلاقي مجمعا
كان تأبط شراً خطب امرأة عبسية، فأرادت إجابته ووعدت مناكحته، فلما جاءها أظهرت الزهد، وأخلفت الوعد، واعتلت بأن الرغبة في شرفه وفضله كما كانت لكنه قيل لها ما تصنعين برجلٍ يقتل عنك قريباً، لأن له في كل حيٍ جنايةً، وعنده لكل إنسانٍ طائلة، فتبقين أيماً! فانصرف تأبط شراً وقال هذه الأبيات.(1/349)
وقوله " أن تلاقى " يجوز أن يكون موضعه رفعاً بالابتداء، وخبره لأول نصلٍ، والجملة في موضع خبر إن. والتقدير: إن تأبط شراً ملاقاته مجمعاً لأول نصلٍ يجرد. ويجوز أن يكون " يلاقي " في موضع النصب على أن يكون بدلاً من الهاء في " إنه "، كأنه قال إن ملاقاته مجمعاً لأول نصل. والهاء في فإنه يجوز أن يكون لتأبط شراً، وهو الأجود في الوجهين. ويجوز أن يكون للأمر والشأن في الوجه الأول، ويكون تفسيره الجملة. ويجوز أن يكون في موضع الظرف، أي زمن أن يلاقي مجمعاً. والمعنى هو لأول نصلٍ إذا لاقى مجمعاً، أي يقتل بأول نصلٍ يعمل في ذلك الوقت. ويروى " أن يلاقي مصرعا "، والمصرع يجوز أن يكون مصدراً، ومكاناً، وزماناً. وانتصابه يجوز أن يكون على أنه مفعول يلاقي ويجوز أن يكون مفعول يلاقي محذوفاً ويكون مصرعاً في موضع الحال؛ كأنه قال أن تلاقيه ذا مصرعٍ، أي مصروعاً، فحذف المضاف.
فلم تر من رأيٍ فتيلاً وحاذرت ... تأيمها من لابس الليل أروعا
يقول: لم تر هذه المرأة من الرأي لما قبلت مشورة الناس وتمنعت من مناكحتي ما يوازي فتيلاً، أي ما يغنى غناء فتيل. وقد حذرت بقاءها أيماً من رجلٍ ركاب الليل لا يفارقه فيما يهمه، فكأنه لبأسه ذكي القلب شهمٌ. والقتيل والنقير والقطمير يضرب المثل بها في حقارة الشيء. والأروع يكون الحديد القلب المروع الفؤاد، ويكون الجميل. وقوله " وحاذرت " في موضع الحال والأجود أن يضمر معها " قد " أي لم تر فتيلاً من الرأي محاذرة.
قليل غرار النوم أكبر همه ... دم الثأر أو يلقى كمياً مسفعاً
هذا من صفة لابس الليل. فإن قيل: ما معنى قليل غرار النوم؟ وإذا كان الغرار القليل من النوم، بدلالة قولهم ما نومه إلا غراراً، فكيف جاز أن تقول قليل غرار النوم، وأنت لا تقول هو قليل قليل النوم؟ قلت: يجوز أن يراد بالقليل النفي لا إثبات شيءٍ منه، والمعنى: لا ينام الغرار فكيف ما فوقه؟ ويجوز أن يكون المعنى نومه قليل ما يقل من النوم، أي نومه قليل القليل، يريد به أنه مسهدٌ، وأن أكابر ما يهتم له طلب دم الثأر، أو ملاقاة كميٍ مسفع الوجه، لدوام تبذله للسمائم، وتسياره في الهواجر. والكمي: الذي يكمي شجاعته لوقت الحاجة إليه، وقيل هو الذي يتكمى في سلاحه، وقوله " أو يلقى " أن مضمرةٌ بين أو والفعل، ولولا ذلك لم يجز عطف الفعل(1/350)
على الاسم، لاختلافهما. وإذا أضمر " أن " يصير حرف العطف ناسقاً اسماً على اسم، والتقدير: أكبر همه دم الثأر أو لقاء كميٍ. ومثل هذا قوله تعالى: " ما كان لبشرٍ أن يكلمه الله إلا وحياً أو من وراء حجابٍ أو يرسل رسولاً "، والتقدير: أو أن يرسل رسولاً، حتى يكون أن مع الفعل في تقدير مصدر منسوق على قوله وحياً، إذ قد امتنع أن يحمل على أن يكلم.
يماصعه كلٌ يشجع قومه ... وما ضربه هام العدى ليشجعا
يجوز أن يكون قوله " يماصعه " صفة لكمياً مسفعاً؛ لأن مثله من الأفعال يكون صفةً للنكرة وحالاً للمعرفة، ويكون الثناء على خصمه الذي همه ملاقاته، كالثناء عليه. ويجوز أن يكون راجعاً إلى الأول، وداخلاً في صفاته فيتبع قوله قليل غرار النوم. ومعنى يماصعه: يقاتله. وأصله الضرب بالسيف والرمي. ويقال مصع بذنبه، إذا حركه. ومصع الطائر بذرقه، إذا رمى به. وقوله " كلٌ " أي كل واحدٍ من الناس، فأفرد وهو في النية مضافٌ. ومعنى البيت: إن كل من قاتل هذا الرجل قاتله طمعاً في أن ينسبه قومه إلى الشجاعة، وليتبجح به عند أقرانه، ويذهب به صيته في الناس. وليس قتله للشجعان وضربه هام الأعداء لمثل ذلك، لكنه طبعٌ منه، وجريٌ على عادته. وقوله " يشجع قومه " أي لأن يشجعه قومه، والمفعول محذوف بدلالة قوله:
ألا أيهذا الزاجري أحضر الوغى
يريد أن أحضر، يدل على هذا ما بعده، وهو:
وأن أشهد اللذات هل أنت مخلدي
قليل ادخار الزاد إلا تعلةً ... فقد نشز الشرسوف التصق المعا
قوله " إلا تعلةً " من عللته بكذا، فهو كالتقدمة من قدمت. والشراسيف: مقاط الأضلاع، ولا ينشز إلا للهزال. وذكر القلة ها هنا مقصودٌ به إلى النفي لا غير، بدلالة مجيء الاستثناء بعده، وإذا كان كذلك لم يثبت القليل به. والمعنى: ما يذخر من الزاد إلا قدراً يتعلل به، فقد أثر الطوى فيه حتى هزل، فترى رءوس أضلاعه شاخصةً، وأمعاءه بجنبه ملتصقة، لقة طعمه، واتصال ممارسته للشدائد. وعلى هذا(1/351)
قول الله عز وجل: " قليلاً ما تؤمنون " و " قليلاً ما تذكرون ".
يبيت بمغنى الوحش حتى ألفنه ... ويصبح لا يحمى لها الدهر مرتعا
قوله " يبيت بمغنى الوحش "، أي استمرت هذه الحالة به، واتصلت منه ودامت، لأن الأماكن سواه ضاقت عنه، ومجامع الإنس تكرهته فلفظته، فألف القفار ولزم مرابع الوحش ومساكنها، حتى أنست به وسكنت إليه، وعدته واحداً منها، وصار هو أيضاً على تعاقب الزمان وتصرف الأحوال لا يحمي من أجلها مرعى، ولا يراعي من مرادها مأوىً، لأن همته مصروفةٌ إلى غيرها، ونفسه مشغولةٌ بسواها، فلا نفرتها منه تقبضها عنه، ولا صيده لها يجعلها من همه. ومثل هذا قول الآخر:
علام ترى ليلى تعذب بالمنى ... أخا قفرةٍ قد كان بالغول يأنس
وأضحى صديق الذئب بعد عداوةٍ ... وبغضٍ وربته القفار الأمالس
على غرةٍ أو جهرةٍ من مكانسٍ ... أطال نزال القوم حتى تسعسعا
تعلق قوله " على " بقوله " لا يحمى ". والمعنى: لا يحافظ لها ولا يترقبها، لا على غفلةٍ منها واغترارٍ منه إياها، ولا بمجاهرةٍ لها ولا مكاشفة دونها، بل أطال مزاولة الغارات ومنازلة الكماة منذ ترعرع، إلى أن ولى شبابه وتسعسع. وهذه إشارةٌ إلى ما تنقل فيه على تغير الأحوال ومضي الأوقات، من اكتساب العداوات وإيقاع الوقعات، وتهييج الغارات. وقوله " تسعسع " من قولك تسعسع الليل أو النهار، إذا أدبر. وفي الحديث: " تسعسع الشهر ". والمكانس: الملازم للكناس. ويقال كنسى الظبي فهو كانسٌ، إذا أوى إلى كناسه. قال لبيد:
تسلب الكانس لم يؤر بها ... شعبة الساق إذا الظل عقل(1/352)
ويقال للكناس المكنس. تقال: ظبيٌ كنسٌ، إذا لزم كناسه.
ومن يغر بالأعداء لا بد أنه ... سيلقى بهم من مصرع الموت مصرعاً
قوله " لا بد " يجري مجرى لا محالة، وهو من البدد مصدر للأبد، وهو سعة ما بين اليد والجنب، كأن المراد لا سعة في ذلك ولا تجوز. وكان الواجب أن يقول: لا بد من أنه سيلقى، فحذف من. فإذا قلت: لا بد من كذا، فانتصاب بد بلا، وخبره من كذا. ولم يتعلق من ببد كما تعلق بخير من قولك لا خير منه لك، لأنه لو كان كذلك لنون بدٌ ولم يجز غيره: يقول: من أولع بمنابذة الأعداء، وغري بمضارتهم لا بد أن يلقى بهم يوماً من الأيام مصرعاً من مصارع الموت، لأنه كما يرى فيهم يرى بهم. ويقال: غري بكذا وأغري به، وقد روى " يغر " بفتح الياء، و " يغر " بضمها. والمصرع ها هنا مصدرٌ، وقد يكون في غير هذا اسماً للمكان والزمان وعلى طريقة هذا البيت المثل السائر: " من ير يوماً ير به ". وجواب الجزاء في ضمن قوله لا بد أنه سيلقى، والتقدير من يغر بالأعداء فهو سيلقى بهم مصرع الموت، لا بد من ذلك.
رأين فتىً لا صيد وحشٍ يهمه ... فلو صافحت إنساً لصافحنه معاً
رجع إلى ذكر الوحش بعد أن اعترض بين الكلام فيها بقوله: " أطال نزال القوم "، وبقوله " ومن يغر بالأعداء ". وهو يريد أن يبين سبب أنسها به، وزوال نفارها منه بأشفى مما قدمه. فيقول: رأت الوحش به فتىً صيد الوحش مما ليس يخطر ببال، ولا يعده من جملة الأشغال. فلو مكنت من نفسها إنساً لمكنت هذا. فقوله " لا صيد وحشٍ يهمه " من صفة الفتى، ونفى بقوله لا الغفل، فلذلك لم يكرر لا مرتين كما تقول لا عبدٌ لك ولا جارية. وإذا كان كذلك فقد أضمر بعد لا فعلاً، وجعل الصيد يرتفع به، ويكون الفعل الظاهر بعده تفسيراً، كأنه قال لا يهمه صيد وحشٍ يهمه. والمصافحة أصلها في مماسة صفحة إحدى اليدين للأخرى عند السلام، فاستعارها للتمكين والاستسلام. وقوله " معاً " في موضع الحال، أي مجتمعةً ومصطحبةً. والفائدة في ذكر الإتيان بلفظةٍ تفيد العموم، فكأن المراد الوحش على اختلاف أجناسها.
ولكن أرباب المخاض يشفهم ... إذا اقتفروه واحداً أو مشيعا
وإني وإن عمرت أعلم أنني ... سألقى سنان الموت يبرق أصلعا(1/353)
قوله " المخاض " هي النوق الجوامل، وهو اسمٌ صيغ للجماعة منها، ولا واحد لها من لفظها، وإنما خصها لأن التنافس فيها أكثر، وأربابها بها أشح. والشاعر ترك قصةً إلى قصةٍ، فكأنه قال: لا يهمه طلب الوحش، ولكن يهمه قصد أرباب الإبل في أموالهم، فهو يؤذيهم ويفزعهم، ويضنيهم إذا تتبعوا أثره. وقد أغار عليهم واستاق إبلهم منفرداً عن أصحابه، أو محتفلاً بهم معاناً بتشييعهم. وهذا بيان ما قدمه في قوله " أطال نزال القوم حتى تسعسعا ". وانتصب واحداً على الحال، والعامل فيه اقتفروه، أي منفرداً. ويقال اقتفرت للوحش إذا تتبعت أثره. ومعنى يشفهم، يهزلهم ويكد عيشهم. ومشيعاً: معه شيعةٌ. يريد أنه لا يبالي كيف سقط عليهم وأنه يشفهم على كل حالٍ. وقوله " وإني وإن عمرت " بيان قوله " ومن يغر بالأعداء "، لأنه فسر كل بيت من الأبيات الثلاثة ببيتٍ. فيقول: أنا وإن أطبل عمري، ومد من نفسي بما يلحقني من واقية الله تعالى على ما أجترحه وأختاضه، أتيقن أني سألقى أجلي، وأوافي مصرعي إذا دنا الحين المعلوم، بالحين المحتوم، وتراءى سنان الموت لي بارزاً بارقاً، أي السنان الذي يكون به الموت، فلا أختار النفس إلا ما لا يكسبني عاراً. وفي الكلام مع هذا الذي ذكرناه التسلي التام، والرضا بالمقدور. وجواب الشرط في قوله أعلم أنني، وهو على إرادة الفاء، ويجوز على نية التقديم والتأخير.
وقال بعض بني فقعسٍ
دعوت بني قيسٍ إلي فشمرت ... خناذيذ من سعدٍ طوال السواعد
يقول: استغثت بهؤلاء القوم وندبتهم إلى نصرتي والدفاع دوني، فخفت لي رجالٌ كأنهم فحولٌ ممتدة القامات، مبسوطة الأيدي بالضرب والطعن. ويجوز أن يريد بالطول الاقتدار والغلبة، كما يقال في السلاطة: هو طويل اللسان والخناذيذ: الكرام من الخيل، فاستعارها للكرام من الرجال كما يستعار القروم المصاعب لهم. ومن زعم أن الخناذيذ: الخصيان أو الفحولة، فقوله بعيدٌ عن الصواب؛ يشهد لما ذكرناه من أنه الكرام قول الشاعر:
وخناذيذ خصيةً وفحولا(1/354)
والطوال، يكون جمع طويل وطوالٍ جميعا. ومفعول شمرت محذوف، والمراد، رفعت ذيولها، وتهيأت مجتمعة ومتخففة للقتال. وكما قيل هم طوال الأيدي والسواعد في الجرئ المقدم، المستعلي المقتدر، قيل في السخاء: هم بسط الأيدي والأكف، وقيل هو شديد الساعد للقوى الجلد.
إذا ما قلوب القوم طارت مخافةً ... من الموت أرسوا بالنفوس المواجد
انتصب مخافةً على أنه مفعولٌ له. وجواب إذا " أرسوا ". والمعنى: إذا تمكن الرعب من القلوب والصدور حتى طاشت له الألباب، وطارت له الأفئدة، ثبت هؤلاء القوم في مواقف التدافع والتحارب بنفوس كريمةٍ لا تغضي على قذى، ولا تصبر على أذى، فهي آبيةٌ للدنيات، صابرةٌ عند النائبات. وقوله " أرسوا " مفعوله محذوف، كأنه قال أرسوا قلوبهم بالنفوس الكريمة. ويجوز أن يكون الباء من بالنفوس زائدةً للتأكيد، كما قال:
سود المحاجر لا يقرأن بالسور
والمعنى أرسوا النفوس، أي أثبتوها إثباتاً لا تحلحل معه ولا تموج. على هذا قولهم: الجبال الراسيات، وهو راسي الدعائم. والمواجد: جمع ماجدةٍ، وأصله الكثرة، يقال أمجدت الدابة العلف، إذ أكثرته لها.
وقال سعد بن مالكٍ
يا بوس للحرب التي ... وضعت أراهط فاستراحوا
اللام من قوله " يا بوس للحرب " دخلت لتأكيد الإضافة في هذا الموضع، وهي إضافةٌ لا تخصص ولا تعرف. وهذه اللام لا تجيء على هذا الحد إلا في بابين: أحدهما باب النفي بلا، وذلك منه في قولك لا غلامى لك ولا أباً لك وما أشبههما، والثاني باب النداء في قولك يا بوس للحرب، وإنما المعنى يا بوس الحرب. ألا ترى(1/355)
أنه لو لم يرد الإضافة لنون يابوس في النصب، لكونه نكرةً، أو كان يجعله معرفةً مبينةً على الضم. وقد أتى الشاعر في باب النفي على أصله في الإضافة فقال:
أبالموت الذي لا بد أني ... ملاقٍ لا أباك تخوفيني
والذي يدل على أن هذه الإضافة لا تخصص أن لا قد عمل معها، وهو لا يعمل إلا في النكرات. ومعنى البيت أنه على وجه التعجب دعا بوس الحرب التي حطت أراهط وأذلتهم حتى استسلموا للأعداء، وألفوا وضع الحرب، وحالفوا الراحة، وآثروا السلامة. وهذا الكلام فيه مع القصد إلى التعجب تهكمٌ وتعبيرٌ؛ كأنه أراد: ما أبأس الحرب التي فعلت ذلك. وقوله " فاستراحوا " فيه تهكمٌ وبيانٌ لاستغنامهم ذلك، وميلهم إليه؛ كأنهم عدوا نفض اليد من مجاذبة الأعداء ومراقبتهم والاحتراز من مكايدهم، لظهور عجزهم، وتصورهم بصورة من لا يحتفل له، ولا يستظهر عليه، ولا يتقى منه - سلامةً وراحةً، وإن كان سقوطاً ومهانةً. وكل ذلك لخروجهم عن ملكة العزة، واطراحهم قناع الحمية. وأراهط جمعٌ، يقال رهطٌ وأرهطٌ وأراهطٌ. والرهط يقع على ما دون العشرة - ولذلك جاز أن يضاف ما دون العشرة من أسماء الآحاد إليه - وفارق الخيل والغنم والإبل.
والحرب لا يبقى لجا ... محها التخيل والمراح
يقال: جحمت النار فهي جاحمةٌ، إذا اضطرمت؛ ومنه الجحيم. وهذا الكام جارٍ مجرى ما قبله، وفيه إزراءٌ بالذين ذكرهم، وإيهامٌ بأنهم كانوا أصحاب خيلاء وبطرٍ، ومراحٍ ونزقٍ، فلم تثبت أقدامهم عند اللقاء، ولا صبرت أنفسهم أوان الكفاح، فقال معرضاً: لا يبقى لنار الحرب كبرياء المتكبرين، ولا نشاط المرحين، بل يستبدلون بهما اللين والكسل، والانخزال والفشل، والصبر على الامتهان، والاستسلام عند الامتحان. وقوله " لا يبقى لجاحمها التخيل " يجوز أن يريد به صاحب التخيل، فحذف المضاف وأقام المضاف إليه مقامه، وحينئذٍ يكون البدل في إلا الفتى - وهو أول البيت الذي يليه منه، وجه الكلام ومختاره؛ لأن الثاني يكون(1/356)
من الجنس الأول، وفي الوجه الأول لا يكون من جنسه، والاختيار في المستثنى بعده النصب.
إلا الفتى الصبار في ال ... نجدات والفرس الوقاح
قوله " إلا الفتى " ارتفع على أنه بدلٌ من التخيل، وهذا لغة تميم، ولغة سائر العرب النصب فيما كان استثناءً خارجاً وإن كان جائياً بعد النفي، لأن كونه ليس من الأول يبعد البدل فيه. والنصب كان جائزاً على كل وجهٍ. والنجدات: الشدائد. والصبر أصله الحبس، وفعالٌ بناء المبالغة، ولا يجوز أن يكون اسم الفاعل من صبر، لأن اسم الفاعل من صبر مصبرٌ. يقول: لكن لا يبقى لملابسة الحرب والصبر على شدائدها إلا الفتى الحسن الثبات في الكرائه، والفرس الصلبة على الجراء. ويقال فرسٌ وقاحٌ، وحافرٌ وقاحٌ، وهو وقح الوجه؛ ومصدره القحة.
والنثرة الحصداء وال ... بيض المكلل والرماح
عدد الآلات التي يحتاج إليها الفتى الصبار في النجدات عند مراس الحرب، ودفاع الشر. فالنثرة: الدرع الواسعة المحكمة السرد، ويقال فيها النثلة باللام أيضاً. والحصداء: الجدلاء، ومصدره الحصد. يقال حصد يحصد حصداً، وأحصدته وهو محصدٌ. يقال ذلك في الأوتاد والحبال والدروع إذا أحكمت وفتلت. ويقال هو حصيدٌ ومستحصدٌ أيضاً. وقوله " البيض المكلل " يعني بالمسامير، كأنها غشيت وسمرت. والمعنى إنما يبقى على صلاء الحرب ومزاولتها من كان في نفسه يرجع إلى قوةٍ وجلدٍ، ومن صبره يعتمد على أبلغ أمدٍ، ومن سلاحه يثق بأتم عددٍ. ولم يصف الرماح، ويعني أقومها لا محالة.
والكر بعد الفر إذ ... كره التقدم والنطاح
بين ما يحتاج إليه الصبار من الأفعال في الحرب، كما بين الآلات التي من شرطه استصحابها فكأنه قال: ويبقى لجاحمها الكر بعد الفر في وقتٍ يكره فيه الإقدام والتقدم، والنطاح والتجرد. ويعضهم يروي هذا البيت في غير هذا الموضع، والصواب هذا الترتيب. وجعل النطاح بين الكباش مثلاً للمبالطة بين الفرسان.
وتساقط التنواط وال ... ذنبات إذ جهد الفضاح(1/357)
هذا ينعطف على قوله وضعت أراهط فاستراحوا. يقول: وتساقط الدخلاء والهجناء الذين نيطوا بصميم العرب فلم يكونوا منهم. والتنواط مصدرٌ في الأصل، كالترداد والتكرار؛ وكأن المراد ذوو التنواط؛ فحذف المضاف وأقيم الضاف إليه مقامه. ويجوز أن يكون وصف به كما يوصف بالمصادر. وذكر بعضهم أن التنواط ما يعلق على الفرس من إداوةٍ وغيرها؛ لأن كل ذلك قد نيط به، ثم أطلق تشبيهاً على الدخلاء. وقد استعمل هذه اللفظة في الدعي، فقيل: هو منوطٌ. وقال الشاعر:
وأنت دعيٌ نيط في آل هاشمٍ ... كما نيط خلف الراكب القدح الفرد
فعلى هذا يجوز أن يريد بذوي التنواط الأدعياء. وقوله الذنبات، يريد التباع والعسفاء. ويقال الذنائب والأذناب أيضاً. وكما قيل هذا تشبيهاً بذنابة الوادي، قيل في الرؤساء الذوائب، لأنهم الأعلون. وذكر بعضهم أن الذنبات لا يقال في الناس، وإنما يقال لهم أذناب، ثم أنشد:
قومٌ هم الأنف والأذناب غيرهم ... ومن يسوي بأنف الناقة الذنبا
ومن حيث جاز الأذناب واستعارتها جاز استعارة الذنبة والذنابة والذنائب والذنبات، ولا فصل. وقوله " إذ جهد الفضاح " معناه بلغ بالفضيحة جهدها ولم يرض بالعفو منها. وفي الوقت الذي أشار إليه، لا يثبت إلا من يرجع إلى كرمٍ متناهٍ، وحرصٍ على المحافظة على الشرف بالغٍ.
كشفت لهم عن ساقها ... وبدا من الشر الصراح
أخذ يقتص ما جرى عليهم. وقوله " كشفت لهم عن ساقها " مثلٌ يضرب لشدة الحرب، وإنما أهلها في ذلك الوقت يكشفون عن الساق، فجعل الفعل لها، والمراد انكشفت الحرب لهم عن تشمر أهلها واشتدادها. وقد قيل: الساق اسمٌ للشدة، وفسر عليه قوله تعالى: " يوم يكشف عن ساقٍ " فقيل: المعنى يوم يكشف عن شدة. وكذلك كشفت الحرب عن ساقها، معناه أبرزت عن شدتها. وقوله " وبدا من الشر الصراح " أي الخالص الذي لا يمتزج به خيرٌ ولا يرجى بعده صلاحٌ.(1/358)
ويقال: صريحٌ وصراحٌ، كما يقال طويلٌ وطوالٌ، وعريضٌ وعراضٌ. ويقال: صرحت الخمرة، إذا انكشفت عنها زبدتها.
فالهم بيضات الخدو ... ر هناك لا النعم المراح
أقبل يصف ما امتحنوا به في الحرم إذا ترك حديث المال والبلاء في النفوس. وقوله " فالهم بيضات الخدور " يجوز أن يراد به ما يهتم له في ذلك الوقت: الحرم والنساء المخدرات اللاتي كأنهن بيضٌ مكنونٌ صيانةً وجمالاً، لا الإبل المراحة من مراعيها. كأنه سمى ما يهتم له هماً. ويجوز أن يكون المعنى ما يهم به: النساء لا الإبل. والمراد أنهم كانوا يغتنمون سباء النساء وإلحاق العار بسببهن، لا اغتنام الأموال. وتشبه المرأة بالبيض لتلملمها وزوال الحجوم عنها. وقال الخليل: بيضة الخدر هي المجارية المخدرة الجميلة. وإنما قال المراح لأن النعم مذكرٌ. ويقال سرحت الماشية بالغداة، وأرحتها بالعشية.
بئس الخلائف بعدنا ... أولاد يشكر واللقاح
أولاد يشكر، هم من جملة من وضعته الحرب. فيقول: إذا خلفنا من لا دفاع به من الرجال والأموال، فبئس الخلائف بعدنا. جعل أولاد يشكر كاللقاح وهي الإبل بها لبنٌ في حاجتها إلى من يذب عنها، ويحامي عليها. ورواه بعضهم: " واللقاح " بفتح اللام، وهم بنو حنيفة، وكانوا لا يدينون للمولك. ويكون الكلام على هذا تهكماً.
من صد عن نيرانها ... فأنا ابن قيسٍ لا براح
يقول: من أحجم عن الحرب وكره الاصطلاء بنارها والصبر على بلواها، وعجز عن الثبات في وجوه أبنائها، فأنا ابن قيسٍ لا براح لي فيها ولا انحراف. ومعنى " فأنا ابن قيسٍ " فأنا المشهور بأبيه، المستغني عن تطويل نسبه. فقوله لا براح، الوجه فيه(1/359)
النصب، ولكن الضرورة دعته إلى رفعها. وقال سيبويه: جعل لا كليس ها هنا فرفع به النكرة، وجعل الخبر مضمراً. ومثله:
بي الجحيم حين لا مستصرخ
كأنهما قالا: حين ليس عندي مستصرخٌ ولا براحٌ عندي في الحرب. وهذا يقل في الشعر ولا يكثر. وجعل غيره براحٌ مبتدأ والخبر مضمراً؛ وإنما يحسن ذلك إذا تكرر، كقول القائل: لا درهمٌ لي ولا دينارٌ، ولا عبدٌ لي ولا أمةٌ. إلا أنه جوز للشاعر الرفع في النكرة بعد لا وإن لم يكرر، لأن أصل ما ينفى بلا الرفع، فكأنه من باب رد الشيء إلى أصله. ويقال ما برحت من مكان كذا، أي ما زلت براحاً وبروحاً. وما برحت أفعل كذا براحاً، أي أقمت على فعله، مثل ما زلت أفعله. والبراح الأول في المكان، والبراح الثاني في الزمان، ولا بد له من خبر.
قال جحدرٌ، وهو ربيعة بن ضبيعة
قد يتمت بنتي وآمت كنتي
وشعثت بعد ادهانٍ جمتي
ردوا علي الخيل إن ألمت
إن لم أناجزها فجزوا لمتي
قد علمت والدةٌ ما ضمت
ما لففت في خرقٍ وشمت
إذا الكماة بالكماة التفت
هذا توجعٌ وتحشرٌ. والمراد إني قد استقتلت، وكانت هذه الأمور من اليتم والأيمة والتشعث قد اتفقت ووقعت. وإنما قال هذا لأنه كان قد سم في يوم تحلاق(1/360)
اللمم أن يحلق الشعر، إذ كانوا جعلوا ذلك شعاراً لهم، وهذا اليوم من أيام بكرٍ وتغلب. وكان جحدرٌ هذا حسن اللمة غزلاً، متبجحاً بجماله ووفرته عند النساء، فسأل - لكراهته ما ساموه - الإعفاء منه، منتظرين ما يكون من بلائه، وتشهير نفسه بين الصفين بعلامةٍ تميزه وآثار تشرفه، وحملاتٍ على الأعداء تدل على غنائه، ومقاماتٍ تشهد بوفائه؛ فإن لم يف بذلك حينئذٍ تجز لمته عقوبةً وتنكيلاً، ففي جز اللمة إذلالٌ؛ ولذلك كان يفعل بالأسير عند المن عليه. ثم ذكر ما نشأ عليه وتفرس فيه من وقت الولادة إلى الإيفاع، من الغناء والكفاية، والذكاء والشهامة، فقال: قد علمت والدتي أي ولدٍ تضمه إلى نفسها بي، وأي إنسانٍ تلفف في القمط حين لفتني، وأي فارسٍ تشمه بشمي، إذا تراكمت الأهوال، وتداعت الأبطال، وضاق المكر والمجال، وتلاحقت الرجال بالرجال، فهذا سبب توطينه النفس على القتل، ووجه الشرط في مناجزة الخيل. وقوله " يتمت " مصدره اليتم. قال الدريدي: اليتيم الفرد، لذلك سمي الذي يموت أحد والديه يتيماً، كأنه أفرد، وقيل اليتيم في الناس من الأب والأم، ومن البهائم من الأم. وقوله " آمت " مصدره الأيمة والأيوم. والأيم: التي لا زوج لها. والكنة، قال الخليل: هي امرأة الأخ أو الابن. ويشهد لما قاله قول الشاعر:
هي ما كنتي وتز ... عم أني لها حمو
ويعني جحدرٌ بالكنة امرأة نفسه، كأنه من حيث كانت كنة قومه أضافها إلى نفسه.
والشعث والشعوثة: اغبرار الشعر وتلبده.
وقوله " ردوا علي الخيل " يريد اصرفوا وجوها إلي.
والمناجزة: المعالجة بالقتال، ومنه إنجاز الوعد، ونجز الشيء.
وقوله " ما لففت في خرقٍ " بدلٌ من قوله ما ضمت، والتكرار على هذا الوجه تفخيمٌ للقصة.(1/361)
وقال شماس بن أسود
أغرك يوماً أن يقال ابن دارمٍ ... وتقصى كما يقصى من البرك أجرب
لفظه لفظ الاستفهام، والمعنى معنى التوبيخ والتقريع. ويقال غره، إذا غشه وختره بما يجب السكون إليه والإيمان به. ويقال: ما غرك مني، أي لم وثقت بي؟ وما غرك بي، أي لم اجترأت علي؟ وما غرك عني، أي لم غفلت عني؟ فيقول: اغتررت بقول الناس فيك هو ابن دارمٍ وإن أخر منزلتك، وأقصيت في نفسك كما يقصى البعير الجرب من البرك مخافة الإعداء، وكان حكم مثلك ألا يقنعه فخامة الذكر مع سقوط القدر، ولا يسكن من الناس إلى تسميتهم إياه بأحب أسمائه إليه وهذا فعلهم به. قوله " ابن دارمٍ " يجوز أن يكون مبتدأ وخبره محذوفٌ، وأن يكون خبراً والمبتدأ محذوف، والمضمر في الوجهين أنت أو هو. ويقال بعيرٌ جربٌ وأجرب، والبرك: جمع باركٍ، كتاجرٍ وتجرٍ.
قضى فيكم نوسٌ بما الحق غيره ... كذلك يخزوك العزيز المدرب
نوس هذا المذكور كان له جارٌ، واهتضمه ابن دارمٍ واستاق ماله، فلما جاء الصريخ نوساً ذهب في أثر ابن دارمٍ وارتجع مال جاره منه، وسلبه ما صحبه من مال نفسه، وأبان يده منه بضربةٍ تناوله بها، فلهذا قال: حكم فيكم نوسٌ عند الانتقام لجاره منكم بحكومةٍ جائرة خارجةٍ عن الاقتصاد إلى الاشتطاط. ثم قال " كذلك يخزوك " أي يسوسك الرجل الجلد العزيز المجرب. وهذا الكلام، أعني كذلك يخزوك، يجري مجرى الالتفات، كأنه التفت إلى غيرهم فخاطبهم مبكتاً لهم ومقرعاُ بذلك. ولا يمتنع أن يكون صرف الكلام عن خطاب الجماعة وأقبل يخاطب الواحد. ويقال خزاه يخزوه، إذا كفه عن المكروه وحبسه على مر المراد. قال لبيد:
واخزها بالبر لله الأجل(1/362)
فأد إلى قيس بن حسان ذوده ... وما نيل منك التمر أو هو أطيب
يخاطب ابن دارمٍ متوعداً ومعيراً، ويقول: اخرج مما في ذمتك من ذود قيس بن حسان إليه، وحالك إذا رمت ظلم غيرك أن ما ينال منك كالتمر في الحلاوة أو أطيب. والمعنى: إن تعرضك لأخذ مال قريبٍ منك أو بعيدٍ عنك، مع ضعف المنة في سقوط العزة، ولا يجدي عليك نفعاً، ولا يسوق إليك غنماً، فازهد فيما عندك له، ورده قبل أن تستوبل عاقبته، وتستوخم مغبته. والواو من قوله " وما نيل "، واو الحال، كأنه قال أده وأنت إذا أكلت مستطابٌ. وقوله " أو هو أطيب " أي أطيب من التمر. والحذف من الخبر جائزٌ، وقد مضى مثله. وأو هي أو الإباحة، وقد نقل إلى الخبر.
فإلا تصل رحم ابن عمرو بن مرثدٍ ... يعلمك وصل الرحم عضبٌ مجرب
يقول: إن لم تصل رحمك مختاراً له، ومعفياً أثر العقوق به، ومزيلاً عن نفسك سمة الجاهل الذي يدخل فيما لا يمكنه الخروج منه، والآكل ما لا يقدر على استمرائه، علمك صلة الرحم والخروج من الحقوق، سيفٌ قاطعٌ لا يبقي عليك ولا يالو تأديبك. وفي طريقته السائرة قولهم: " الطعن يظأر "، ومن الشعر قول زهيرٍ:
ومن يعص أطراف الرماح فإنه ... مطيع العوالي ركبت كل لهذم
وقال حجر بن خالد
وجدنا أبانا حل في المجد بيته ... وأعيا رجالاً آخرين مطالعه
قوله " حل في المجد بيته " في موضع المفعول الثاني لوجد، لأنه بمعنى علم. والبيت لا يحل ولكن يحل فيه، لكنه رمى بالكلام على السعة والمجاز، لأن المعنى لا يختل. ويقولون: فلانٌ عالي المكان، لأنه إذا علا مكانه فقد علا هو. وقال الآخر:
وحلت بيوتي في يفاعٍ ممنع(1/363)
فيقول: علمنا بالاختبار في طلاب العلو، والاجتهاد في منال أقصى السمو، تمكن بيت أبينا من ذروة المجد والشرف، فمحله فائتٌ لا يلحق، ومطلعه معجزٌ لا يمكن، إذ كان مداه الغاية التي ليس وراءها مستشرفٌ لناظرٍ، ولا منالٌ للاحق.
فمن يسع منا لا ينل مثل سعيه ... ولكن متى ما يرتحل فهو تابعه
يقول: من طلب نيل مكانه، أو الارتقاء إلى درجته، بسعيٍ يتكلفه ويجهد فيه نفسه، وقف دونه وقعد به طوقه، وكان أقصى غايته بعد استفراغ مجهوده، أن يكون تابعاً له، وواطناً عقبه؛ فأما مساماته في مدارجه، أو مسامتته في مطالعه، فلا سبيل إليه، ولا مطمع فيه.
وقد سلك الأعشى هذا المسلك فقال:
كلٌ سيرضى بأن يلقى له تبعا
وذكر الارتحال حسنٌ في الاستعلاء مع ذكر السعي. وقد قيل: " لولا السعي لم تكن المساعي ".
يسود ثنانا من سوانا وبدؤنا ... يسود معداً كلها ما تدافعه
الثني: من دون الرئيس، لكنه يليه في الرتبة. والبدء: السيد غير مدافعٍ عن أولية سيادته، فكأن المراد بهما الأول في الرياسة والثاني. وأصله من ثنيت الشيء. وفي حديث النبي صلى الله عليه وسلم: " لا ثنى في الصدقة ". والمعنى أنها لا تؤخذ في السنة مرتين. ويقال ثنيت الشيء ثنياً، ثم يسعى المثنى ثنياً وما ثني به هو أيضاً ثنياً. وعلى هذا الضعف، يقال ضعفت الشيء مخففاً في معنى ضاعفت ضعفاً، ثم يسمى المضعوف ضعفاً بالكسر، والمضعوف به ضعفاً أيضاً. قال لبيد:
وعالين مضعوفاً وفرداً سموطه(1/364)
والبدء: العظم المنفصل مما عليه من اللحم، كأنه من هذا. قال:
أغلت الشتوة أبداء الجزر
ومعنى البيت: المغمور فينا إذا حصل في غيرنا سادهم وعلاهم، والرئيس منا تسلم له الرياسة على قبائل معدٍ كلها، غير معارضٍ فيها، ولا مدافعٍ عنها.
ونحن الذين لا يروع جارنا ... وبعضهم للغدر صقم مسامعه
يصف عزهم ومنعتهم، وعهدهم ووفاءهم، وأن المجاور لهم، والمعتصم بحبلهم، يبقى آمناً معهم غير مذعورٍ، وموفوراً غير مسلوبٍ. ثم قال معرضاً بغيره: وبعض الناس لما يستعمله من الغدر، ويشتهر به من تضييع الذمار، ولكونه منطوياً فيما يأتيه على الإصرار، يصم مسامعه عن ذكر العار، فلا يبالي بذم الناس له، ولا يأنف من تهجينهم أفعاله. وفي طريقته قول الآخر:
إن يجبنوا أو يغدروا ... أو يبخلوا لا يحفلوا
يغدوا عليك مرجلي ... ن كأنهم لم يفعلوا
وكان وجه الكلام أن يقول لا يروع جارهم حتى يرجع من الصلة إلى الموصول الذكر؛ لكنه لما كان المقصود بقوله نحن والذين شيئاً واحداً لم يبال برجوع الضمير إلى كل واحدٍ منهما. وقد مضى مثله.
ندهدق بضع اللحم للباع والندى ... وبعضهم تغلي بذمٍ مناقعه
الدهدقة: الصوت. والبضع: القطع. أي نتولى ذلك كرماً منا على اعتسافٍ وسوء تأتٍ: ويجوز أن يكون البضع جمع بضعةٍ فيكون المعنى: إنا نقلبها في القدور، فلعظمها يسمع لها في التقلب صوتٌ. والمناقع: جمع المنقع والمنقعة، وهي القدور الصغار، وقيل هي الأتوار الصغيرة. وقيل المناقع واحدها، وأصله ما ينقع فيه(1/365)
الشيء، فاستعاره للقدور. فأما قوله منقع البرم فقد قيل فيه ما ذكرنا وغيره. وقد روي منقع البرم، بكسر الميم، وفسر على وعاء القدر وذكر الباع مثلٌ، والمراد الكرم. فعلى الطريقة الأولى يكون معنى البيت: يسمع لقطع اللحام بأيدينا دهدقةٌ، لقلة رفقنا فيه وسوء حذقنا به، كما قال الآخر:
جفاة المحز لا يصيبون مفصلاً ... ولا يأكلون اللحم إلا تخذما
على الطريقة الثانية يكون المعنى: تغلي قدورنا بفدر اللحم، فإذا قلبناها فيها إقامةً لخدمة الضيف، واكتساباً للحمد، ورغبةً في ابتناء المجد، تقلبت ولها صوتٌ، لعظمها واتساع قدورها. وبعض الناس - وهذا تعريضٌ بالغير - تغلي قدوره التي كأنها مناقع في الصغر بذم الناس له. فقوله " بذمٍ " في موضع الحال، تقديره: تغلي مذمومةً.
ويحلب ضرس الضيف فينا إذا شتا ... سديف السنام تستريه أصابعه
يروى " ضرس الضيف " بالرقع على أن يكون فاعلاً، وسديف بالنصب على أن يكون مفعولاً، وهو الجيد. ويعضهم ينصب الضرس ويرفع سديف السنام، والمعنى لا يلتبس في الوجهين. يقول: وإذا اشتد الزمان، وأسنت الناس، فإن الضيف فينا يأكل سديف السنام، من الإبل السمان، على ما تختاره أصابعه في الجفان. والسديف: قطع السنام. وقيل هو شحم السنام. ومعنى إذا شتا، إذا أمحل. وذكر الحلب كنايةٌ عن الأكل. والمعنى: إنا لا نرضى بنحر الكسيرات المهزولات، بل نعتبط خيار الإبل وكرائمها عند حلول الضيفان. وتستريه: تختاره، يقال استسريت الشيء أيضاً. والسري: الخيار من كل شيء. وموضع تستريه نصبٌ على الحال للسديف، والعامل فيه يحلب، كأنه قال تحلبه الضرس مختاراً بالأصابع.
منعنا حمانا واستباحت رماحنا ... حمى كل قومٍ مستجيرٍ مراتعه
يقول: إذا أحمينا مكاناً ذببنا أعداءنا عنه، ولا يجسر أحدٌ منهم على دخوله، ومتى شئنا استبحنا أحمية الناس لعزنا وفضل قوتنا، ولاستسلام القبائل لنا، وإن كانت الأحمية مستجيرة المراتع. وقوله " مستجيرٍ مراتعه " الهاء يرجع إلى حمى كل قومٍ،(1/366)
والمعنى الحمى الذي قد استجار مراتعه بالممتنع القوي، وتعزز بالظهر الظهير. وهذا إشارةٌ إلى إيلاف الجوار، كأنها تجمع بين جوارين في حيها وحي غيرها، تستظهر بأحدهما على الآخر. وجعل الفعل للمراتع مجازاً، أي تستبيح الحمى الذي هذا صفته. ويجوز أن يكون أراد الحمى الذي قد أدخل على قومه الضعفاء من الأجانب في الجوار. ويقال: استجار، إذا تضمن الإجارة وطلب من غيره المجاورة، واستجار أيضاً إذا طلب أن يدخل في الجوار ويحامى عليه. ويقال استجرت فلاناً وبفلانٍ، والمفعول محذوف.
وقال أيضاً:
لعمرك ما ألياء بن عمرو ... بذي لونين مختلف الفعال
وصفه بأنه ثابت القدم بحسن الوفاء، محافظٌ على الذمار، باقٍ على طريقةٍ واحدةٍ في الشدة والليان. فيقول: وبقائك ما هو بذي لونين يخالف باطنه ظاهره، ولا يوافق مقاله فعاله، يتنقل في الأهواء، ويتلون تلون الأوفاقات، فهو على أن يجيب كل ناعقٍ، ويتبع كل قائدٍ وسائقٍ، إن ضمن لم يف، وإن وعد لم ينجز.
غداة أتاه جبارٌ بإدٍ ... معضلةٍ وحاد عن القتال
جبارٌ: رجل. والإد: المنكر من الأمر الشديد. وفي القرآن: " لقد جئتم شيئاً إداً ". وقد أفرد ها هنا عن موصوفه فأجري مجرى أسماء الدواهي. والمعضلة: الداهية العسرة الضيقة. ومنه قولهم: هو عضلةٌ من العضل، وداءٌ عضالٌ: الذي غلب وأعيا. وقوله " غداة أتاه " ظرف للفعل الذي دل عليه قوله " بذي لونين مختلف الفعال "، كأنه جلب عليه هذا الرجل أمراً منكراً، ضيقاً عسراً، ثم خلاه يصلى بناره ويقاسي مكروهه، ويماصع خصماءه فيه ويجاذبهم، وهرب هو.
ففض مجامع الكتفين منه ... بأبيض ما يغب عن الصقال
الفض: الكسر والتفريق، ويقال انفض القوم، إذا تفرقوا. يقول: فصل مجمع كتفيه بضربةٍ من سيفٍ بحادث بالصقل، ولا يتغافل عنه. والإغباب: أن ترد الإبل(1/367)
الماء غباً. ويقال أغب القوم، إذا صارت إبلهم كذلك. وليس يريد بنفي الإغباب أن يدل على صقل السيف كل يوم؛ ولكن المراد أنه لا يهمل صقله زماناً ممتداً؛ إذ كان صاحبه يستعمله كل يوم. وعلى هذا ذكر الغب في المثل السائر: " زر غباً تزدد حباً ".
فلو أنا شهدناكم نصرنا ... بذي لجبٍ أزب من العوالي
يقول: لو حضرناكم لنصرناكم وجاهدنا معكم بجيشٍ له جلبةٌ وصوتٌ، أزب لكثرة الرماح فيه. أي تشبه كثرة الرماح فيه والتفافها كثرة شعر الأزب. وهذا على طريق الاستعارة، لأن أصل الزبب في الشعر. وفي المثل: " كل أزب نفورٌ "، يعني البعير الكثير الشعر على الوجه والعثنون، لأن ما حوالي عينيه من الشعر يخيل إليه المناظر على خلاف ما تكون عليه فينفر. والعوالي: جمع عالية، ويراد بها جنسٌ من الرماح.
ولكنا نأينا واكتفيتم ... ولا ينأى الحفي عن السؤال
يروى " واكتفينا ". يقول: بعدنا عنكم فاستقللتم بأنفسكم واستغنيتم عمن يعاضدكم في كل ما يدهمكم، فلم تدعكم حاجة إلى مجاورتنا، ولا ألجأتكم الضرورة إلى التكثر بنا. والرجل اللطيف البار بصاحبه لا يبعد عن تنسم الأخبار واستنشائها لمن يهمه أمره، وإن بعد بنفسه ومكانه. ومن روى " واكتفينا " كان المعنى اكتفينا في البعد عنكم فلم تحتج إليكم. والقصد في الروايتين أنه لم يكن بإحدى الجنبتين افتقارٌ إلى الأخرى، فصار ذلك سبباً في التنائي، وعذراً بيناً في التأخر عن المعاونة والمكانفة. ودل بقوله: " ولا ينأى الحفي " على أن القلوب في التعطف والخلوص، على ما يوجبه الوداد ولم يغيرها البعاد. ويقال فلانٌ حفيٌ بفلان ظاهر الحفوة، أي البر.
وقال حسان بن علبة
إذا كنت من سعدٍ وأمك منهم ... غريباً فلا يغررك خالك من سعد(1/368)
يقول: إذا كنت بعيداً عن وطنك وذويك من قبل أبيك، وحاصلاً في بني خالك، ضارباً فيهم بسهم الخؤولة، لكون أمك منهم، فلا تغتر بهم، ولا تعتمد على قرابتك فيهم، فإن التشابك الموثوق به المستصلح لإعداده، إذا كان الالتحام بالأبوة لا بالأمومة. فأما الخؤولة فمشابهةٌ للغربة، بعيدةٌ من القربى والقربة، والمكانفة والنصرة. وهذا المعنى قد كشفه غيره فقال:
بنونا بنو أبنائنا وبناتنا ... بنوهن أبناء الرجال الأباعد
قوله " في سعدٍ " يجوز أن يكون خبراً، ويجعل غريبا منتصباً على الحال، ويكون العامل فيه كنت، أو العامل في الظرف. ويجوز أن يجعل في سعدٍ لغواً، ويجعل غريباً خبر كان. وقوله " فلا يغررك " جعل النهي في اللفظ للخال، والمعنى لا تغتر بخالك من سعد، لأن المنهي هو المخاطب. ومثل هذا قولهم: لا أرينك ها هنا. وقول الآخر:
إن الرياضة لا تنصبك للشيب
فإن ابن أخت القوم مصغىً إناؤه ... إذا لم يزاحم خاله بأبٍ جلد
يقول: ابن أخت القوم منحوس الحظ، منقوص الشرب، ممال الإناء والحوض متى لم تنجده أبوةٌ يشتد بها أمومته، وعمومةٌ يتأيد بها خؤولته. وهذه الأمثال مضروبةٌ للهضيمة تلحق فلا يتحرك لدفعها الأخوال وإن كان بين ظهرانيهم، ولأن الحمية إنما يبعثها تراقد بني الأعمام، أو المنتسبين إلى الآباء، وجواب إذا لم يزاحم مقدمٌ، وهو ظرفٌ لإصغاء الإناء. واستعارة الإناء ها هنا كما قال زهير:
ومن لا يذد عن حوضه بسلاحه ... يهدم ومن لا يظلم الناس يظلم
ومن هذه الطريقة قوله:
يا جفنةً كنضيح الحوض قد كفئت ... بئني صفين يعلو فوقها القتر(1/369)
وإن كان في الكفء ما ليس في الإصغاء، فاعلمه.
وقال بعض بني جهينة
ألا هل أتى الأنصار أن ابن بحدلٍ ... حميداً شفى كلباً فقرت عيونها
هذا الاستفهام طريقه طريق التمني وإظهار الميل إلى أن يكون الأنصار شركوه في العلم بالحالة التي يقتصها. ويجوز أن يكون أخرج الكلام على هذا ليبلغوا. فيقول: هل تأدى خبر حميد بن بحدلٍ فيما كان من نصره كلباً على قيسٍ، وإقراره عيونهم منهم، وشفائه قلوبهم مما كان تداخلها من عداوتهم، واهتاج فيها من نار حقودهم.
وأنزل قيساً بالهوان ولم تكن ... لتقلع إلا عند أمرٍ يهينها
يقول: وأحل حميدٌ قبيلة قيسٍ بمحل الذل والامتهان، والهضم والهوان، حتى كفوا عن مجاذبة كلبٍ والتعرض لهم بالسوء. ثم قال: ولم تكن قيسٌ تنزجر وترتدع إلا عندما يسقطها، وينزلها بدار الرغم ويسخطها، لفرط لجاجها، وتأبيها وجماحها. واللام من " لتقلع " لام الجحود.
فقد تركت قتلى حميد بن بحدلٍ ... كثيراً ضواحيها قليلاً دفينها
هذا بيانٌ لما حل بقيسٍ. يقول: تركت القتلى الذين أبادهم حميد ابن بحدل بالعراء، فقد كثر بوارزهم للشمس، وقل دفائنهم في الأرض. وإنما يفظع بما يصف ما دفع إليه قيسٌ وابتلي به. والضواحي: جمع ضاحيةٍ، وهي الظواهر، والفعل منه ضحي يضحى عند الكوفيين، ولغةٌ أخرى ضحى يضحى، وهذا أفصح. وفي القرآن: " وأنك لا تظمأ فيها ولا تضحى ". وأضاف قتلى إلى حميد لأنه الموقع بهم، القاتل لهم.
فإنا وكلباً كاليدين متى تقع ... شمالك في الهيجا تعنك يمينها
هذا الكلام تحمد وتنبيه على أن ما يجمعهم وكلباً في نهاية القوة والاستحكام، فلا يعرض فيه فتورٌ، ولا يتسلط عليه كلةٌ ولا قصورٌ، فهم كاليدين إذا دفعت إحداهما إلى شدة أعانتها الأخرى. وجعل الفضلى من اليدين - وهي اليمين - مثلاً لأنفسهم.(1/370)
وقال المنخل اليشكري
إن كنت عاذلتي فسيرى ... نحو العراق ولا تحوري
يستعفي من لومها وتقريعها في تبذير المال وإتلافه، وترك الادخار منه ليومه وغده؛ فيقول: إن كان دأبك إدمان عذلي، والاستمرار في توبيخي، ففارقيني وخذي طريق العراق لا ردك الله. قوله " لا تحوري " دعاء عليها، من قولك حار أي رجع. ومنه قول الناس: " نعوذ بالله من الحور بعد الكور "، لأن النقصان تراجع. ويجوز أن يكون " سيري " دعاء أيضاً، كأنه قال فسيرك الله ولا ردك!
لا تسألي عن جل ما ... لي وانظري كرمي وخيري
قال الخليل: الخير: الهيئة. يقول: اتركي البحث والفحص عن ذخائري ومعاظم مالي، ولكن اعلمي شرفي وكرمي وحسن هيئتي وخلقي. وقوله " وانظري " معناه واعلمي. وعلى هذا قوله تعالى: " يساقون إلى الموت وهم ينظرون "، أي يعلمون ذلك ويتيقنونه. والعرب تضع عبارات طرق العلم في موضع العلم. يقولون: سمعت كذا، بمعنى علمته. وعلى هذا قولنا: سمع الله لمن حمده. ويقولون: ذقت الشيء بمعنى علمته وخبرته. ويقال: شممت رائحة الفضل من فلانٍ، أي علمته.
وفوارسٍ كأوار ح ... ر النار أحلاس الذكور
يقول: ورب فرسانٍ يشتعلون ليلاً ونهاراً، ذكاءً وحميةً، وبأساً ونجدةً، اشتعال النار، ويلزمون ظهور الذكور من الدواب اللزوم الشديد، إذ كان ذلك شأنهم ودأبهم. وجواب رب منتظر. وقوله " كأوار حر النار "، الأوار: التوهج والالتهاب، ولهذا أضافه إلى الحر. ويقال وأرت النار، إذا توهجت، ومنه الإرة. وإذا كان كذلك فالأصل في أوارٍ وؤارٌ، فإما أن يكون قد قلب، فقدم الهمزة، وإما أن يكون لين الهمزة ثم أبدل من الواو المضومة التي هي فاء الفعل همزةً، كما فعل في وقت إذا قيل أفت، فصار أواراً. وقوله " أحلاس الذكور "،(1/371)
الحلس: كل شيءٍ ولي الظهر تحت الرحل. وحكى ثعلب عن ابن الأعرابي أن الأحلاس البسط، واحدها حلسٌ، قال: ومنه الخبر: " إذا ظهرت الفتن فكن حلس بيتك ". وأنشد:
نومت عنهن غلاماً جبسا ... وقد تغطى فروةً وحلسا
معنى اللزوم صح الوصف به. وعلى هذا أسماء الأجناس إذا ضمنت معاني الأفعال.
شدوا دوابر بيضهم ... في كل محكمة القتير
واستلأموا وتلببوا ... إن التلبب للمغير
قوله " شدوا دوابر "، هو جواب رب. والمعنى: رب فرسانٍ هذا صفتهم استعدوا. والمعنى استعدوا معي أولي مغيرين أو مدافعين، بأن شدوا مآخير المغافر في جيوب دروعٍ محكمة رءوس المسامير، ضيقة السرد. والدوابر، واحدتها دابرةٌ وهي المآخير، وتستعمل أيضاً في الحوافر والمخالب. ومنه قطع الله دابرتهم، لأن سباع الطيور إذا قطعت دوابرها تعطلت عن الكسب. و " استلأموا "، أي لبسوا اللؤم، وهي جمع لأمةٍ. وفعلةٌ وفعلٌ قليل، ومثله نوبةٌ ونوب. وهي من الملاءمة المطلوبة في نظم الحلق وسردها. ولما كان الواو العاطفة لا توجب شيئاً من الترتيب لم يبال بتأخير واستلأموا، وإن كان لبس الدروع مقدماً على لبس البيض، وشدوا دوابرها فيها. وقوله " إن التلبب للمغير " يجري مجرق الالتفات. والتلبب: التحزم، وقيل هو الانتطاق والتجرد. ويمكن الاستشهاد بهذا على أن الفوارس الموصوفين كانوا مغيرين.
وعلى الجياد المضمرا ... ت فوارسٌ مثل الصقور
الواو من قوله " وعلى الجياد المضمرات فوارسٌ " واو الحال، كأنه قال شدوا دوابر بيضهم والحال ذا. يريد: رب فرسانٍ تشمروا واستعدوا معي للغارة أو الدفاع للمغيرين، وبإزائنا خيلٌ هكذا. يقول: وعلى الجياد العتاق المسومة المصنوعة، فرسانٌ(1/372)
كأنهم في حدة نظرهم وارتفاع ناظرهم وطموحهم، صقورٌ في حال ما تخلى للصيد. وسمعت من يقول. إن جواب رب لم يجيء بعد، وإنما أعاد ذكر الجياد لتباعد رب عنه بما حال بينها، وجوابه أقررت عيني من أولئك. وهذا البيت لم يدخل في الاختيار، أعني أقررت عيني.
وإذا الرياح تناوحت ... بجوانب البيت الكسير
ألفيتني هش اليدي ... ن بمري قدحي أو شجيري
أخذ يتبجح بالسخاء والتكرم، كما يتبجح بالثبات والتشجع. وهذه الفصول تفسير قوله " وانظري كرمي وخيري ". فيقول. وإذا تقابلت الرياح أوان الشتاء، ووقت الجدب والإمحال، حتى زعزعت جوانب البيت العظيم الكسور والأركان، ألفيتني هكذا. ويقال بيتٌ كسيرٌ إذا كان عظيم الكسر، كما يقال رجلٌ جسيمٌ بدينٌ، إذا كان عظيم الجسم والبدن. وكسر البيت وكسره بالفتح والكسر: جانبه. وتفسير الكسر على هذا أبلغ وأحسن من أن يجعل في معنى المهدم والمكسور. وعلى ما به فقد يفسر عليه. وقوله " ألفيتني " جواب إذا. يقول: تجدني في ذلك الوقت خفيف اليد بمسح القداح، وعند حضور الأيسار، نشيطاً في إجالتها، حريصاً على فوزها وتحمل الكلف في إدارتها. وقوله " أو شجيري " الشجير: الغريب. ويقال: نزل بينهم شجيراً، أي غريباً. وإنما قدحاً يتبرك به، فيستعار من الغير، فإذا أجاله الياسر مع قداحه كان كالشجير فيما بينها والدخيل. والهش الخفيف. ويقال استهشني الشيء، أي استخفني. ومنه هو يهش إلى إخوانه.
ولقد دخلت على الفتا ... ة الخدر في اليوم المطير
الكاعب الحسناء تر ... فل في الدمقس وفي الحرير
ذكر أن أوقاته منقسمةٌ بين الجد والهزل، وأمواله متوزعةٌ بين لوازم الحقوق، ولواحق الفضول، فيقول: ولقد أعطيت الصبي حقه، وأقمت للهوى رسمه، وسعيت في البطالة أوقاتها وأعطيت الخسارة مقاودها، فدخلت على الفتاة المخدرة في أطيب أوقات اللذة، وهو ما أشار إليه بقوله " في اليوم المطير ". ثم وصف الفتاة فقال: كانت ناهدة الثديين، حسنة الخلقة، موفرة الحظ من النعمة والنعمة، فهي تتبخر في ملابس الحرير المتلونة على أجناسها المختلفة، والدمقس: الحرير الأبيض، ولهذا(1/373)
قال امرؤ القيس:
وشحمٍ كهداب الدمقس المفتل
وإذا كان كذلك فقوله " وفي الحرير " ينصرف إلى سائر الألوان، ويشتمل على جميع الأجناس، فكأنه قال: ترفل في أجناس الحرير، الأبيض منها وغير الأبيض يريد أن معارضها من تلك الأجناس.
فدفعتها فتدفعت ... مشي القطاة إلى الغدير
ولثمتها فتنفست ... كتنفس الظبي العقير
قوله " فتدافعت " هو مطاوعة دافعت، ومطاوعة دفعت اندفعت، إلا أنه يوضع كلٌ موضع صاحبه. فيقول: هززتها لمساعدني، وبعثتها لتسعى معي فانبعثت واسمحت وهي تمشي مشي القطاة إذا وقعت على الغدير، ومشت نحو الماء. وهذه المشية فيما يقال أحسن المشي، لأمنها وسرورها بالورود، وعجبها بالخلاء، وانتصب " مشي " على أنه مصدرٌ من غير لفظه لأن معنى تدافعت مشت، والقصد إلى التشبيه لأن المعنى مشت مشيةً تشبه تلك المشية. وسيبويه يضمر في مثل هذا الموضع فعلاً من لفظ المصدر إن وجده، وإلا قدره، ويجعل الظاهر دليلاً عليه. وقوله " ولثمتها " يريد. وقبلتها فتنفست. ومنه اللثام، لأنه في الفم كاللثام في الأنف. والمعنى أني لثمتها فلحقها من ذلك تعب، فتنفست له تنفساً كتنفس الظبي إذا عقر. ويقال إنه في تلك الحالة يتنفس تنفساً ممتداً طويلا؛ فشبه تنهدها به. ويروى. " كتنفس الظبي البهير "، والمعنى قريبٌ، لأن البهر: النفس العالي. وفي طريقة قوله " ولثمتها فتنفست " قول طرفة العبدي.
تحسب الطرف عليها نجدةً ... يا لقوز للشباب المسبكر(1/374)
لأن المعنى في الموضعين التنبيه على تناهي الموصوف في النعمة والرقة.
فدنت وقالت يا من ... خل ما بجسمك من حرور
ما شف جسمي غير ح ... بك فاهدئي عني وسيري
وأحبها وتحبني ... ويحب ناقتها بعيري
قوله " فدنت " أراد به دنو الشفقة، والتقرب بحسن العطفة، لا قرب المسافة. والمعنى: تأملت تغير لوني ونحولي، فاعتقدت أنه من ملازمة تبذل، ومقاساة تعمل، فأعارتني شفقتها وقالت: ما الذي بجسمك من حرورٍ، أي من أثر الحرور. وقد اختلف في السموم والحرور، فمنهم من جعل السموم بالنهار والحرور بالليل، ومنهم من يقول على العكس مما ذكرت. وقال الخليل: السموم الريح الحارة، ليلاً هبت أو نهاراً. والحرور: حر الشمس. وقوله " ما شف جسمي " يقول: أجبتها مبطلاً اعتقادها، ومكذباً ظنها، وراجعاً بالعتب عليها، وقلت: ما أنحل جسمي ولا أثر في لوني إلا حبك، فاسكني عني وسيري. ومعنى سيري هوني عليك الأمر. وعلى نحوٍ من هذا يحمل قول الله تعالى: " وانطلق الملأ منهم أن امشوا واصبروا على آلهتكم " إذ لم يكن ثم مشىٌ ولا انطلاقٌ. ويجوز أن يكون سيري أمراً بالسير، فقد قال فيما تقدم:
فدفعتها فتدافعت ... مشي القطاة إلى الغدير
وقوله: وأحبها وتحبني، هو بيان تطاول الألفة بينهما، وتواصل الصحبة في أيامهما، حتى صارت لامتداد الملازمة كما حصل التحاب بينهما حصل التألف بين بعيريهما، فإذا اتفق التباعد والافتراق، وتسلط على كل واحدٍ منهما الاشتياق، أقبل البعيران يتحابان، ويتجاذبان الوجد والنزاع كما يفعل المتحابان.
وقال باعث بن صريمٍ
سائل أسيد هل ثأرت بوائلٍ ... أم هل شفيت النفس من بلبالها
إذ أرسلوني مائحاً بدلائهم ... فملأتها علقاً إلى إسبالها(1/375)
أسيد أراد به قبيلةً، ولما منعه الصرف. وهذا الاستشهاد هو تصويرٌ للحال وتطرقٌ إلى الإخبار. وإنما يفتخر بأنه قتل قاتل وائل، وأدرك ثأره، لما اعتمد في طلب دمه، واعتقد أن إدراك شفاء النفوس من جهته وبه. والبلبال: الحزن. وقوله " أم هل " الاستفهام بأم دون هل، لأن أم هذه هي المنقطعة، ولا يجوز أن يكون العاطفة. لأن تلك تجيء عديلة الألف. وقوله " شفيت النفس " يجوز أن يريد به نفسه، ويجوز أن يريد به الكثرة والجنس، كأنه يريد أنه شفى الموتورين فيه، وأزال ما خامرهم من لذع المصيبة، وألم الفجيعة. وقوله " إذ أرسلوني " إذ ظرفٌ لقوله ثأرت، أو لقوله شفيت. والمائح: الذي يدخل البئر فيملأ الدلو عند قلة الماء فيها، والحاجة إلى الغرف من قعرها. وإنما جعل نفسه مائحاً لينبه على أن طلب دم الواترين كان متعسراً متعذراً، كما أن الاستقاء على الوجه الذي ذكره يكون شاقاً متعبا. فهذا وجه عدوله عن المتح إلى الميح. وقوله " فملأتها علقاً إلى أشبالها "، انتصب علقاً على التمييز. وأسبالها: أعاليها، ومثله الأصبار، وسبلة الرجل منه. واختار بعضهم أن يرويه " إلى إسبالها " بكسر الهمزة، مصدر أسبل، وليس بشيء. والمعنى: ملأت دلاءهم من دمك واتريهم. وجعل لهم دلاءً لاشتراكهم في الدم وطلبه، ولنيابته عن كل أوليائه. ولما استعار الدلاء والميح لما ذكرته كنى عن فعله وتصرفه بالملء.
وذكر بعضهم أن وائلاً المفتول هو وائل بن صريم الغبري أخو باعثٍ الشاعر، وله قصةٌ. وهي أن عمرو بن هندٍ بعثه ساعياً على بني تميم، فكان جالساً على شفير بئرٍ يجمع الصدقات، فدفعوا في صدره وأسقطوه في البئر، ثم رجموه بالحجارة حتى قتلوه، وأخذوا يرتجون على طريق التهكم والاستهزاء:
يأيها المائح دلوى دونكا
فاتصل خبره بأخيه باعثٍ، فسار في بني غبر وآلى أنه لا يمسك عن مقاتلتهم حتى يملأ دلواً من دماء بني تميم! ففعل، حتى كانت المرأة تقول: " تعست غبر، ولا سقيت المطر، ولا لقيت الظفر ". قال: فهذا معنى " إذ أرسلوني مائحاً بدلائهم "، وهذا حسنٌ، والأول محمولٌ على طرقهم وعاداتهم. ومثله قول الآخر:
مخضت بدلوه حتى تحسى ... ذنوب الشر ملأى أو قرابا(1/376)
إني ومن سمك السماء مكانها ... والبدر ليلة نصفها وهلالها
آليت أثقف منهم ذا لحيةٍ ... أبداً فتنظر عينه في مالها
أقسم بمن سمك السماء، وهو الله عز وجل. ومعنى سمك رفع، ومنه سمي عمود البيت المسماك. وجواب القسم في آليت أثقف، وهو خبر إن أيضاً. وقوله " ليلة نصفها " أضاف النصف إلى السماء لما كان استكمال البدر عند انتصاف الشهر في السماء، فلاجتماعهما في ظهور البدر كاملاً في السماء ساغت الإضافة بينهما، على عادتهم في إضافة الشيء إلى الشيء لأدنى مناسبةٍ تحصل بينهما. وعلى هذا قول الآخر:
ضوء برق ووابله
إذ كان أضاف الوابل إلى البرق لاصطحابهما. وأبعد منه قول الآخر:
نحن صبحنا عامراً في دارها ... عشية الهلال أو سرارها
وأضاف السرار إلى العشية لاعتقاده أن استسرار القمر في العشيات، كما أن طلوعه فيها. وعلى هذا الكلام في إضافة قوله " وهلالها " وإن كان إضافة الهلال إلى السماء أبين أمراً، وأقرب متصوراً. فالتقدير ليلة كماله في نصف الشهر، وليله إهلاله. و " مكانها " انتصبت على الظرف، والمعنى حلفت بالله الذي رفع السماء في مكانها بلا عمدٍ - وجعل البدر فيها كاملاً عند انتصاف الشهر، وهلالاً عند أوله في ليلتيهما - إني لا أثقف من هؤلاء القوم ملتحياً أبداً ناظراً عينه في ماله، وراجعاً من مقصده إلى أهله وداره. أي إذا ثقفته قتلته حتى لم تنظر عينه في ماله، ولم يستقر بعده في داره وقراره. وقوله " أثقف " هو الجواب، وحذف معه لا لأنه أمن التباسه بالواجب، إذ لو أراد الواجب لقال لأثقفن، فلما كانت صيغة الواجب بما يلزمها من اللام وإحدى النونين الثقيلة أو الخفيفة لم يبال بحذف حرف النفي. ومثله قول الآخر:
فقلت يمين الله أبرح قاعداً ... وإن ضربوا..............(1/377)
لأن المراد لا أبرح. فإن قيل: إذا كان القسم يتناول ما ذكرت من قوله لا أثقف فما معنى قوله آليت؟ وهل يصح أن يقال إني حلفت والله لا أفعل كذا؟ قلت إن قوله آليت دخل مؤكداً للقسم على أحد وجهين: " أحدهما " أنه لما تطول الكلام باليمين وبعد ما بين إن وخبره ذكر آليت، ثم أتى بما هو الجواب، ليكون كالمعيد لليمين، والمجدد لما خاف من دروس رسمها. و " الثاني " أنه لما كان آليت لو اكتفى به مغنياً عن ذكر المقسم به صار كتكرار اليمين، فجرى مجرى قوله لو قال والله والله، وما أشبهه. فأما قوله " فتنظر عينه في مالها " فلفظه لفظ الجواب، والمعنى معنى الحال، والصفة للنكرة التي قبله، كأنه قال: لا أظفر أبداً بذي لحيةٍ إلا لم ننظر عينه في ماله. ومثله من أبيات الكتاب قول الفرزدق:
وما قام منا قائمٌ في ندينا ... فينطبق إلا بالذي هو أعرف
لأن المعنى ناطقاً. فإن قيل: هل يجوز أن يكون جواباً؟ قلت لا، وذاك أن المعنى يفسد وينعكس، لأن التقدير حينئذٍ يكون لا أثقفه، فكيف ينظر؟ أي لو ثقفته لنظر، لأن في وجه الجواب يتعلق وقوع الثاني بوقوع الأول، ويمتنع بامتناعه، وفي هذا خروجٌ عما يقصده المتكلم. ومثله في باب الواو:
لا تنه عن خلقٍ وتأتي مثله ... عارٌ عليك إذا فعلت عظيم
لأن المعنى آتياً مثله.
وخمار غانيةٍ عقدت برأسها ... أصلاً وكان منشراً بشمالها
تبجح في هذا البيت بأنه يغيث المذعورين فيؤمنهم. والغانية: التي تستغني بجمالها عن الحلي، وقد مضى القول مستقصىً فيه. ومعنى البيت: رب امرأةٍ تبرجت متبرزةً من خدرها حاسرة الرأس، مطارة القناع، منشورة الخمار، لما استولى عليها من الخوف، وامتلكها من الروع والغارة الطالعة، والخيل العادية، حتى كأن خمارها طول نهارها منشورٌ على شمالها، وهي لا تشعر أني أنا آمنتها وحفظت عليها صيانة نفسها، رددت إليها عازب عقلها حتى اختمرت وأمنت ما(1/378)
كانت تقلق لها، وسترت وجهها. وإنما قال أصلاً، لأن الغارة كأنها وقعت أول النهار، ولحوقه للإغاثة والتدارك بعقبها، فحصل الأمن عشيةً. وفي طريقته لعنترة:
ومرقصةٍ دفعت الخيل عنها ... وقد همت بإلقاء الزمام
وعقيلةٍ يسعى عليها قيمٌ ... متغطرسٌ أبديت عن خلخالها
لما قدم في البيت الأول قدم أتى في الثاني بما يضاده، ليرى أنه كما يدفع الشر والبلاء يوقعه أيضاً، حتى يكون جامعاً للضر والنفع، كافياً في الدفاع والوقاع، فيقول: ورب كريمة حيٍ، بعلها أو ذو محرمها القائم بأمرها متكبرٌ أنفٌ، يرى صيانتها عن التكشف ديناً، وحفظها عن التبذل كرماً، أنا أخرجتها من خدرها، وأحوجتها إلى العدو وطلب التملس مشمرةً عن ساقها، مبديةً خلخالها، مذيلةً مصونها. أي كما آمنت خوفت، وكما سكنت أقلقت.
وكتيبةٍ سفع الوجوه بواسلٍ ... كالأسد حين تذب عن أشبالها
قد قدت أول عنفوان رعيلها ... فلففتها بكتيبةٍ أمثالها
يذكر أنه يجمع بين الجيشين العظيمين مدبراً لهما، ومرسلاً أحدهما على الآخر، وأنه على ذاك يكون المتقدم والمشاهد، والمرتب والصادم. فيقول: رب كتيبةٍ قد تعودت الغارات والصبر على الإبعاد فيها، فاسودت ألوانها بما تقاسيه من التعب، وتديم لبسه من الأسلحة، وكأنها في بأسها ونجدتها، وما تأوي إليه من قوتها وشدتها، الأسد إذا ذبت عن جرائها، ودفعت عن خيسها، أنا قدت أوائلها فخلطتها بأمثالها، وقابلتها بنظائرها من أولى العدد والعدة، والجلد والشدة. فإن قيل: لم قال " أول عنفوان رعيلها " والعنفوان هو الأول، على ذلك قولهم فعلت كذا في عنفوان الشباب؟ قلت: كأنه أراد قدت سوابق أوائلها؛ فأضاف الأول إلى العنفوان لذلك. وكما قاد الأوائل والسوابق فقد قاد الأواخر واللواحق، ولكن جعل القود لمن وليه، وجعل ما بعدهم كالتابع. يريد أنه تقدم ووطئ عقبه الأعيان والأفراد، ثم احتف بهم غيرهم. وحقيقة العنفوان اعتنفت الشيء، أي استأنفته. والرعيل من الخيل والرماح:(1/379)
أوائلها. وقوله " بكتيبةٍ أمثالها "، لو قال مثلها لجاز، ولكنه جمع على معنى طوائف الكتيبة، لاختلافها.
وقال الفند الزماني
يا طعنة ما شيخٍ ... كبيرٍ يفنٍ بال
تقيم المأتم الأعلى ... على جهدٍ وإعوال
ما من قوله " ما شيخٍ " زائدةٌ، أراد طعنة شيخٍ، وهذا اللفظ لفظ النداء، والمعنى معنى التعجب والتفخيم، كأنه أراد: ما أهولها من طعنةٍ، ويا لها من طعنة بدرت من شيخ كبير السن، فاني القوى، بالي الجسم. واليفن: الشيخ الهرم. قال الأعشى:
وما إن أرى الموت فيما خلا ... يغادر من شارخٍ أو يفن
ويجوز في قوله يا طعنة ما شيخٍ، أن يكون المنادى محذوفاً، فيكون التنبيه ب " يا " متناولاً غير الطعنة، وينتصب على هذا طعنة بفعلٍ مضمرٍ، كأنه أراد: يا قوم أذكر طعنة شيخٍ. كما قال:
فيا شاعراً لا شاعر اليوم مثله ... جريرٌ ولكن في كليبٍ تواضع
وقوله " تقيم المأتم الأعلى " من وصف الطعنة، فكأنه كان تناول بها رئيساً، فلذلك وصف المأتم بالأعلى. والمأتم أصله أن يقع على النساء يجتمعن في الخير والشر، واشتقاقه من الأتم، وهو الضم والجمع، ومنه الأتوم وهي المرأة التي صار مسلكاها مسلكاً واحداً، وأراد بالمأتم هنا الاجتماع للرزيئة، وهو ببنيته مصدرٌ وصف به. ويجوز أن يراد به أهل المأتم، فحذف المضاف كما يقال جاء المجلس، والمراد أهل المجلس. وقوله " الأعلى " يراد به الأفظع شاناً. ووصف الطعنة بأنها تقيم الجمع على مجاهدةٍ وبلاءٍ، وإسرافٍ في الصياح والعواء، أي تديم ذلك له. والعويل والعولة: صوت الصدر.(1/380)
ولولا نبل عوضٍ في ... خضماتي وأوصالي
لطاعنت صدور الخي ... ل طعناً ليس بالآلي
يعتذر من رضا نفسه بتلك الطعنة الواحدة. وعوض اسمٌ للدهر معرفةٌ مبنيٌ، وكما يبنى على الفتح فقد يبنى على الضم، والضم فيه حكاه الكوفيون. ويقال لا أفعله عوض العائضين. وإنما بني لتضمنه معنى الألف واللام والخضمة: ما غلظ من الساعد والذراع، ويبدل من ميمه الباء، فيقال خضبةٌ. وقد روي هذا البيت، وهو:
يذري بأرعاشٍ يمين المؤتلي ... خضمة الذراع هذا المختلي
بالميم من " خضمة " والباء جميعاً. ويعني بنبل الدهر تأثيره في مفاصل الشيوخ. وعلى هذا قول الآخر:
رمتني بنات الدهر من حيث لا أرى ... فكيف يمن يرمى وليس برام
ومعنى البيت الأول: لولا رميات الدهر في مفاصلي ومجامع أعضائي، ومستغلظ عضدي وذراعي، لكان تأثيري وبلائي في الحرب أكثر مما كان، ولشفعت تلك الطعنة ولم أتركها وتراً. وقوله " لطاعنت صدور الخيل " أراد بالخيل الفرسان أي لولا ما قدمت من العذر لدافعت بالطعن أوائل الخيل، طعناً لا تقصير فيه ولا قصور. وخص الأوائل منهم لتقدمه. ويجوز أن يريد بالصدور الرؤساء والأكابر. وهم يتبجحون بمجاذبة العلية. ألا ترى قول الآخر:
من عهد عادٍ كان معروفاً لنا ... أسر الملوك وقتلها وقتالها
وكما استعملوا الصدور في الأماثل والجلة استعملوا في الأرذال والسفلة الأعجاز. وهذا كما قالوا: الرءوس والأذناب، وكما قال:
ومن يسوي بأنف الناقة الذنبا(1/381)
يقال: ألوت في الأمر آلو، أي قصرت. وجعل التقصير للطعن على المجاز.
ترى الخيل على آثا ... ر مهري في السنا العالي
ولا تبقى صروف الده ... ر إنساناً على حال
قوله " على آثار مهري " موضعه نصبٌ على الحال، والمعنى تابعين لي. و " في السنا " في موضع المفعول الثاني لترى، ومعنى في السنا قال بعضهم: النور العالي: يريد به بريق السلاح، كأنهم يقدمونه ويتقون به. وهذا معنىً. وأجود منه وأعلى أن يكون المعنى: ترى الفرسان إذا تبعت أثري ووطئت عقبي، في مجدٍ عالٍ قاهرٍ، له نورٌ يستضاء به. ويكون هذا في طريقة بيت الأعشى:
كلٌ سيرضى بأن يلقى له تبعا
وشرحه بأنهم يرضون برياستي عليهم، ويعدون اتباعهم لمراسمي، واحتذاءهم لآثاري مما يعلو به سناهم، ويسمو به علاهم. وقوله " ولا تبقي صروف الدهر " تسليةٌ لنفسه فيما صار إليه من ضعفٍ بعد قوةٍ، وهرمٍ بعد شبيبةٍ، حتى رضي بأدنى المنزلتين في ممارسة الحرب، ووقف عند أقصر السعيين في ملابسة الضرب والطعن. وقوله " على حال " في موضع الصفة لإنساناً، وتعلق على بمضمر، كأنه قال: لا تبقى حوادث الدهر إنساناً قائماً، أو ثابتاً على حالٍ، بل تبدل وتحول، وكما تعطي ترتجع.
تفتيت بها إذ ك ... ره الشكة أمثالي
كجيب الدفنس الورها ... ء ريعت بعد إجفال
الشكة: ما يلبس من السلاح، وقد شك الرجل في السلاح، إذا لبسه يشك شكاً، وهو شاكٌ. يقول: تكلفت بهذه الطعنة وإحداثها فعل الفتيان وأبليت بها بلاء الشبان، في وقتٍ يكره فيه حمل السلاح أمثالي من الرجال الشيوخ، فكيف(1/382)
استعمالها. ومثل تفتيت: تشجعت وتكيست. وقوله " كجيب الدفنس " شبه اتساع الطعنة وسرعة خروج الدم منها باتساع جيب المرأة الحمقاء، ونزوها في روعها، واضطرابها في متخرق قميصها. والدفنس: الحمقاء. والورهاء: المتساقطة العقل، الضعيفة التماسك، ومعنى ريعت أفزعت بعد استعجالٍ في العدو، وإسراعٍ في السعي. وخص جيب الورهاء لأن عادة مثلها أن تخرج اليد منه، فيتسع خرقه وجعلها مروعةً لتندفع في الإجفال وتنزو. والإجفال والجفل واحدٌ، وكل هاربٍ من شيءٍ مسرعٍ مجفلٌ وجافلٌ. ومنه جاء جفالةٌ من الناس، أي جماعةٌ كثيرةٌ مسرعةٌ. ويشبه هذا قول الآخر:
مستنةٍ سنن الفلو مرشةٍ ... تنفي التراب بقاحزٍ معرورف
لأن نزو الدم من الطعنة شبهه هذا بنزو المهر واستنانه، كما شبهه ذلك بعدو المجنونة عن ذعرٍ. وقد سلك آخر هذا المسلك فقال في معنى هذا ولفظه:
كجيب الدفنس الورها ... ء ريعت وهي تستفلي
ومعنى تستفلي تطلب فلي شعرها، وقد أخرجت يدها من جيبها فذعرت في تلك الحالة، فلم تصبر لترد اليد إلى جوفها، ولم ترفق بجيبها فمزقته ووسعته. وهذا كأنه لما قصد بيان سعة الطعنة جعل التشبيه بالجيب في حالة إخراج الحمقاء يدها منه مستفليةً، فزاد على الأول هذه الزيادة الغامضة المأخذ اللطيفة الموقع، وإن كان قوله " بعد إجفال " قد اختص بما اختص. ويشبه هذا في الزيادة على المعنى وقد استقر قول امرئ القيس:
أن تيس أظبٍ ببطن وادٍ ... يعدو وقد أفرد الغزال
لأنه زاد فيه إفراد الغزال، فدل على شدة الخوف وخفة العدو. فأما قول أوسٍ: وفي صدره مثل جيب الفتا - ة تفهق جيناً وحيناً تهر(1/383)
فهو وإن زاد التقسيم قاصرٌ عنهما.
وقال ربيعة بن مقرومٍ
أخوك أخوك من يدنو وترجو ... مودته وإن دعي استجابا
قوله أخوك مبتدأٌ، وكرره على وجه التأكيد، ومن يدنو في موضع الخبر. ومعنى البيت: مخالصك في الأخوة والود من يقرب مكانه منك، ويحسن شفقته عليك، وتطمع في إثمار وده لك، وإن استغثت به لملمةٍ تنزلن أو نائبةٍ تطرق، أغاثك باذلاً مقدوره في نصرته لك. ويجوز أن يكون قوله، " من يدنو " أراد به قرب النصح والشفقة، لا تقارب الدار والمسافة، كما يقال فلانٌ أدنى إليك من فلانٍ.
إذا حاربت حارب من تعادي ... وزاد سلاحه منك اقترابا
يجوز أن يكون هذا الكلام متصلاً بما قبله، والضمير في حارب لأخوك ومن تعادي في موضع المفعول من حاربت، ويكون المعنى: إذا حاربت من تعادي حارب هذا المواخي لك معك، وزاد نصرته وعدته منك قرباً ما دمت محارباً. ويجوز أن يكون منقطعاً مما قبله، ويكون مثلاً مضروباً، فيقول: إذا كاشفت عدوك وأبديت صفحة ما تضمره من السوء له بعثه ذلك على مكاشفتك، وازداد عدته من الكيد وغيره منك دنواً. وإذا جاملته وداجيته بقي على ما ينطوي عليه مساتراً لا مجاهراً.
وكنت إذا قريني جاذبته ... حبالي مات أو تبع الجذابا
هذا مثل قول عمرو بن كلثوم:
متى نقصد قرينتنا بحبلٍ ... نجذ الحبل أو نقص القرينا
وجعل الجذاب للحبال على المجاز. وقوله أو تبع الجذاب يريد أوانجذب وترك الطماح والإباء. ومعنى البيت: إذا جاذبني قرينٌ لي حبلاً بيني وبينه، فإما أن ينقطع دون شأوي في الجذاب فيهلك، وإما أن يتبع صاغراً فينقاد. وخبر كان في إذا أو جوابه.(1/384)
فإن أهلك فذي حنقٍ لظاه ... علي يكاد يلتهب التهاباً
هذا الكلام تسلٍ عن العيش بعد قضاء حاجته، وإدراك ثأره، وإرغام عدوه، ولولا ما تيسر له من ذلك وتسهل لكان لا يسهل عليه انقطاع العمر، ولو مات مات بغصةٍ. فيقول: إن أمت فرب رجلٍ ذي غيظٍ وغضبٍ تكاد نار عداوته تتوقد توقداً، أنا فعلت به كذا. وقوله " لظاه " في موضع المبتدأ، و " يكاد يلتهب " في موضع الخبر، والجملة في موضع الصفة لذي حنقٍ، وانجر ذي حنقٍ بإضمار رب، والمجرور برب يقع موصوفاً في الأكثر وجواب رب فيما بعده، والفاء من وقوله " فذي حنقٍ " مع ما بعده جواب الجزاء. فإن قيل: إن الفاء في جواب الجزاء إنما يجيء إذا خالف الجملة التي تكون جزاء الجملة التي تكون شرطاً بأن تكون مبتدأ وخبراً، فكيف يكون تقديرهما بعد الفاء ها هنا؟ قلت: يكون التقدير: إن أهلك فالأمر والشان رب ذي حنق بهذه الصفة فعلت به كذا. فقوله طرب ذي حنق " خبرٌ للمبتدأ الذي أظهرناه.
مخضت بدلوه حتى تحسى ... ذنوب الشر ملأى أو قرابا
هذا جواب رب. فيقول: رب إنسانٍ هكذا، أنا حركت بدلوه التي أدلاها في الأمر الذي خضنا فيه، حتى ملأتها. وجعل الدلو كنايةً عن السبب الذي جاذبه فيه، والطمع الذي جرأه عليه، قال: فتحسى دلو الشر مملوءةً أو قريبةً من الامتلاء. وقراب الملء: أن يقارب الامتلاء، ويقال قرابٌ بكسر القاف وقرابٌ بضمها. والمعنى: جعلت شربه من الشر شرباً مرويا.
وقد استعمل أبو تمام الدلو على الطريقة التي استعملها ربيعة فقال:
ألقوا دلاءً في بحورك أسلمت ... ترعاتها الأكراب والأوذام
واستعمل غيره دلوت في معنى الاستخراج فقال:
قد جعلت إذا ما حاجتي نزلت ... بباب دارك أدلوها بأقوام(1/385)
فكأن المراد أن هذا المعادى الممتلئ غيظاً لما ألقى دلوه يستقي بها الماء من بئر ملأتها شراً وجعلته سقياه.
وقال سلمى بن ربيعة
حلت تماضر غربةً فاحتلت ... فلجاً وأهلك باللوى فالحلت
تماضر: امرأته وكانت قد فارقته عاتبةً عليه في استهلاكه المال، وتعريضه النفس للمعاطب فلحقت بقومها، وأخذ هو يتلهف عليها ويتحسر في أثرها وأثر أولاده منها، فيقول: نزلت هذه المرأة بعيدةً منك، فاحتلت فلجاً وأهلك نازلون بين هذين الموضعين. وهذا الكلام توجعٌ. وفلجٌ على طريق البصرة، والحلة: موضعٌ من الحزن ببلاد ضبة، واللوى: رملٌ متصلٌ به رقيقٌ. وبين المواضع الذي ذكرها تباعدٌ. إن قيل لم قال حلت، ثم قال احتلت، وهلا اكتفى بأحدهما؟ قلت: نبه بالأول أنها اختارت البعد منه والتغرب عنه، وبالثاني الاستقرار، فكأنه قال: نزلت في هذه الغربة فاستوطنت فلجاً. وفلجٌ بفتح اللام: موضعٌ. وفلج بسكون اللام: ماءٌ.
وكأن في العينين حب قرنفلٍ ... أو سنبلاً كحلت به فانهلت
يقول: ألفت البكاء لتباعدها، فساعدت العينان وجادتا بإسالة دمعهما غزيراً متحلبا، واكفاً منهملاً، فكأن في عيني أحد هذين المهيجين الحاليين للعيون. وقوله " كحلت " إخبارٌ عن إحدى العينين، وساغ ذلك لما في العلم من أن حالتيهما لا تفترقان. وعلى العكس من هذا قول امرئ القيس:
وعينٌ لها حدرةٌ بدرةٌ ... شقة مآقيهما من أخر
لأن امرأ القيس وحد في الابتداء ثم ثنى عند رد الضمير، على أنه متى اجتمع شيئان في أمرٍ لا يفترقان فيه اجتزى بذكر أحدهما عن الآخر. وفي طريقة هذا البيت قول ابن هرمة:
وكأنما اشتملت مواقي عينه ... يوم الفراق على يبيس الخمخم(1/386)
زعمت تماضر أنني إما أمت ... يسدد أبينوها الأصاغر خلتي
زعم يتردد بين الشك واليقين، وها هنا يريد به الظن. وأنني مع الجزاء والجواب نائبٌ عن مفعوليه. يقول: ظنت هذه المرأة أنه إن نزل بي حادث قضاء الله عز وجل، سد مكاني ورم ما يتشعث من حالها بزوالي أبناؤها الأصاغر. ويريد بهذا الكلام التوصل إلى الإبانة عن محله، وأنه لا يغنى غناءه من الناس إلا القيل. وقوله " أبينوها " تصغير أبناء مقصوراً عند أصحابنا البصريين، وهو اسمٌ صيغ للجمع كأروى، وأثأبٍ، وأضحىً فهو على أفعل بفتح العين. وعند الكوفيين هو تصغير أبنٍ، مثل أدل على أفعلٍ بضم العين. ويقال: سد فلانٌ مسد فلانٍ، وسد خلته، وناب منابه، وشغل مكانه بمعنىً. فإن قيل: كيف ساغ أن يقول يسدد خلتي، وإذا مات لم تكن له خلةٌ. قلت أضافها إلى نفسه لما كان يسدها أيام حياته، فكأنه قال: الخلة التي كنت أسدها. وهذا من إضافة الشيء إلى الشيء على المعتاد فيهما. ومثله قولهم: شهاب القذف، فأضيف الشهاب إلى القذف لما كان من رمى الرامي. ووجوه الإضافات واسعةٌ كثيرة، وكذلك متعلقاتها.
تربت يداك وهل رأيت لقومه ... مثلي على يسرى وحين تعلتى
أقبل عليها يوبخها ويخطئ رأيها، ويكذب ظنها، ويقبح اختيارها، في إفاتة نفسها الحظ منه، ويدعو عليها بالفقر والبأساء، والخيبة في الرجاء، فيقول: صار في يدك التراب، وهل رأيت لقومه من يماثلني في حالتي السراء والضراء واليسر والعسر، والغنى والفقر، حتى تعلقى منك رجاءك في بغيري إذا أخليت مكاني. وترب يستعمل في الفقر والخيبة لا غير، وأترب يستعمل في الغنى والفقر جميعاً، فإذا أريد به الغنى فالمعنى صار له من المال بعدد التراب، وإذا أريد به الفقر فالمعنى صار في التراب، كما يقال أسهل إذا صار في السهل. وقد يجوز أن يكون مثل أقل، والمعنى: صار مالك قليلاً من المال. وأضاق: صار في حال ضيقٍ. وقوله " حين تعلتى " المعنى وحين اعتمدت على إقامة العلة بحصول الفقر. وعلى هذا قوله:
قليل ادخار المال إلا تعلةً
أي قدر ما يقام به العلة. وقوله " لقومه " أضمر قبل الذكر، لأن الكلام يحتمل نية التقديم ونية التأخير.(1/387)
رجلاً إذا ما النائبات غشينه ... أكفى لمعضلةٍ وإن هي جلت
انتصب " رجلاً " على أنه بدلٌ من مثلى، كأنه قال: هل رأيت لقومه رجلاً أكفى للشدائد وإن عظمت عند طروق النوائب وغشيان الحوادث مني. فحذف مني لأن المراد مفهومٌ. ويروى " أكفى لمعضلةٍ " وهي الداهية الشديدة، يقال أعضل الأمر إذا اشتد. يروى " لمضلعةٍ " وهي التي تضم الأضلاع بالزفرات وتنفس الصعداء حتى تكاد تحطمها.
ومناخ نازلةٍ كفيت وفارسٍ ... نهلت قناتي من مطاه وعلت
أخذ يعدد ما كانت كفايته مقسومةً فيه، ومصروفةً إليه. وقوله " ومناخ " مصدر أنخت. وكفيت يتعدى إلى مفعولين وقد حذفهما، كأنه قال: كفيته العشيرة. يقول: ورب نازلةٍ أناخت، أنا دفعت الشر فيها، وكفيت قومى الاهتمام بها؛ ورب فارسٍ سقيت رمحي من دم ظهره العلل بعد النهل. وخص الظهر ليعلم أنه قد ولى وأدبر.
وإذا العذارى بالدخان تقنعت ... واستعجلت نصب القور فملت
أقبل يعد خصال الخير المجموعة فيه، بعد أن نبه على أنه لا يقوم مقامه أحدٌ، فكيف من طمع في نيابته عنه بعده. والعذارى: جمع عذاراء، وأصله العذاري بتشديد الياء، فالياء الأولى مبدلةٌ من المدة قبل الهمزة، كما تبدل في سربالٍ إذا قلت سرابيلٍ، فلما انقلبت المدة ياء لانكسار ما قبلها وكان الأصل في همزة التأنيث ألفا عاد إلى أصلها لزوال الألف قبلها، فأبدل منه ياءٌ ثم أدغم الأولى في الثانية فقيل عذاري، وكذلك في صحراء صحاري، ثم حذفت إحدى الياءين تخفيفاً فقيل عذارى وصحارى، ثم فروا من الكسرة وبعدها ياءٌ إلى الفتحة فانقلبت ألفاً فقيل عذارى وصحارى. ويقال: عذر المرأة وأعذرها، إذا ذهب بعذرتها، وهو أبو عذرها وأبو عذرتها. فيقول الشاعر: وإذا أبكار النساء صبرت على دخان النار حتى صار كالقناع لوجهها، لتأثير البرد فيها، ولم تصبر على إدراك القدور بعد تهيئتها ونصبها، فشوت في الملة قدر ما تعلل به نفسها من اللحم، لتمكن الحاجة والضر منها، ولإجداب الزمان واشتداد السنة على أهلها أحسنت. وجواب إذا في البيت بعده. وخص العذارى بالذكر لفرط حيائهن وشدة انقباضهن، ولتصونهن عن كثيرٍ مما يتبذل فيه غيرهن. وجعل نصب القدور مفعول استعجلت على المجاز والسعة. ويجوز أن يكون المراد استعجلت غيرها بنصب القدور وفي نصبها، فحذف.(1/388)
دارت بأرزاق العفاة مغالقٌ ... بيدي من قمع العشار الجلة
قوله " أرزاق العفاة " كلامٌ شريفٌ، وتقدير البيت: دارت بيدي مغالق بأرزاق العفاة من قمع العشار الجلة، ففصل بالفاعل بين الأرزاق وبين من قمع العشار. والعفاة: جمع العافي، والجمع على فعلةٍ يختص بالمعتل دون الصحيح. يقول: وإذا صار الزمان كذا دارت القداح في الميسر بيدي لإقامة أرزاق الطلاب من أسنمة النوق المسان الكبار الحوامل، التي قرب عهدها بوضع الحمل، وكل ذلك يضن بها، ويتنافس فيها، وإنما سميت القداح مغالق لأن الجزر تغلق عندها وتهلك بها. والقمع: قطع السنام، الواحدة قمعةٌ: والقميع: ما فوق السناسن من السنام. وبعيرٌ قمعٌ: عظيم القمع. ويقال سنامٌ قمعٌ، أي عظيمٌ قد تمكن فيه الشحم. والعشار: جمع عشراء، وهي التي قد أتى عليها من حملها عشرة أشهرٍ، وتستصحب هذا الاسم فتسمى به بعد وضعها الحمل بأشهرٍ. كأنه نبه على أنه يعتبط صحاح الإبل وخيارها، لا كسيرها وهزلاها.
ولقد رأيت ثأى العشيرة بينها ... وكفيت جانيها اللتيا والتي
الثأى: الفساد. يقال ثأى الجرح يثأى ثأى. والرأب: العشب والإصلاح. يقول: وكما ظهر غنائي في تلك الأبواب فلقد سعيت في إصلاح ذات البين من العشيرة، ورد التعطف الذاهب عنها إليها، ولم شعثها، وضم نشرها، وكفيت من جني منها الجناية الصغيرة والكبيرة، بالمال والنفس، والجاه والعز. وقوله " جانيها " إن فتحت الياء كان واحداً وإن أدى معنى الجمع، وإن سكنت الياء جاز أن يكون جمعاً سالماً وأن يكون واحداً قد حذف فتحتها. وقوله " اللتيا " تصغير التي، فجعلهما اسمين للكبيرة من الدواهي والصغيرة، ولهذا استغنيا عن الصلة وانتقلا عن كونهما وصلتين. ويذهب بعضهم إلى أن صلتيهما محذوفتان لدلالة الحال عليهما.
وصفحت عن ذي جهلها ورفدتها ... نصحي ولم تصب العشيرة زلتى
وكفيت مولاي الأحم جريرتي ... وحبست سائمتي على ذي الخلة
قوله " وصفحت عن ذي جهلها " يصف نفسه بالحلم معهم، وكظم الغيظ فيهم، ومنع سفهائهم. يقول: وعفوت عن جاهلها فلم أؤاخذه بما بدر منه من هفوةٍ أو زلةٍ، ثم بذلت نصحي لعشيرتي، وحسنت لهم عشرتي مقدار جهدي، ولم أجر(1/389)
عليهم جريرتي، ولم أوسعهم زلاتي. وقد ألم في هذا بقول الآخر:
إذا المرء لم يحمل على النفس ضيمها
وفي طريقته قول الآخر:
ولو شاء قومي كان حلمي فيهم ... وكان على جهال أعدائهم جهلي
وقوله وكفيت مولاي الأحم جريرتي "، أي لم يؤاخذوا بجرائري، بل كنت المداوي لها والخارج منها. ويروى: " الأحم إضاقتي " فيكون مثل قول الآخر:
أبو مالكٍ قاصرٌ فقره ... على نفسه ومشيعٌ غناه
والشاعر يقول: وكما لم يشمل أباعد ذوي رهطى زلاتي، كذلك لم ينل الأداني جناياتي؛ ثم إذا نلت خيراً أشركت ذوي الحاجة منهم فيه وحبست مالي الراعية عليهم، حتى لا يتميزوا عني في التصرف والتناول. وقوله " الأحم "، يريد الأخص والأمس، وهو أفعل من الحميم، ولهذا قال الشاعر وإن كان في ضد هذا المعنى:
ومولاك الأحم له سعار
أي لهب الجوع، ومنه قولهم: كيف السامة والحامة.
وقال أبي بن ربيعة
وخيلٍ تلافيت ربعانها ... بعجلزةٍ جمزى المدخر
ريعان كل شيءٍ: أوله، أكثر ما يستعمل في الشباب والخيل. والريع فضل كل شيءٍ، ومنه ريع الحنطة إذا زكت، وريع الدروع: فضول أكمامها على الأنامل. والعجلزة: الفرس الشديدة الخلق، وربما وصفت به الناقة. وبعضهم يحكي فيها:(1/390)
عجلزةٌ، بفتح العين واللام. يقول: رب خيلٍ مغيرةٍ تداركت أوائلها طارداً للوسائق، وأنا على فرسٍ صلبةٍ تجمز فيما تذخر من جريها. وعادة عتاق الخيل أن تبقى من عدوها بقيةً لوقت الحاجة إليها، فمتى استحثت بعد الكد والعمل أعطتها. ولذلك قال كلحبة العريني:
فأدرك إبقاء العرادة ظلعها ... وقد جعلتني من حزيمة إصبعا
فقوله إبقاء العرادة كقوله ها هنا " المدخر ". وجمزى مثله وكرى وهو صفةٌ. وجعل الجمز لمذخور الجري على المجاز، لأن الجمز ومذخور الجرى جميعا للفرس. والحقيقة أنها تجمز في مدخر الجرى. وليس هذا كقولهم هو حسن الوجه، وكريم الأب، إذا كان الحسن والكرم في الحقيقة للأب والوجه، ولكن هو كما يقال فلانٌ ثبت الغدر، نزق المجال، قموص الخبار، وما أشبهه.
جموم الجراء إذا عوقبت ... وإن نوزقت برزت بالحضر
يقال بئرٌ جمومٌ، إذا كان ماؤها ينقطع ويعود سريعاً. ومعنى قوله " جموم الجراء إذا عوقبت " أي جريه يمتد ولا ينقطع إن طلب عقبها لمسابقتها فيه، فكأنه لا آخر لجريها، كالبئر الجموم. و " إن نوزقت " أي إن غولبت فيما يستنزق من سيرها سبقت بعدوها. وكما سمى آخر الجرى العقب سمى آخر الشهر به، فقيل جئت في عقب الشهر، إذا جئت بعد ما مضى، وجئت في عقبه وعقبه، إذا جئت وقد بقيت منه بقيةٌ. ويقال: عاقبت الفرس ونازقته، كما يقال طاولت زيداً وفاضلته، وذلك إذا غالبته في الطول والفضل. ومعنى برزت: تقدمت. والحضر: العدو. ويروى " عوفيت " أي إن طلب عفوها، وليس بجيد. ألا ترى أنه قيل: " أول الجرى نزقةٌ، وآخره عقبةٌ ".
سبوح إذا اعتزمت في العنان ... مروٍح ململمةٍ كالحجر
أراد بها أنها تسبح في جريها إذا اعتزمت في العنان، أي انتحت في العدو وهي ملجمةٌ كثيرة النشاط، مجتمعة الخلق صلبةٌ كأنها حجرٌ. والاعتزام: لزوم القصد في الحضر وغيره وترك الانثناء. وقد اعتزمت الطريق. ويقال اعتزم الفرس على الجري(1/391)
إذا مر جامحاً. وقوله " في العنان " في موضع الحال، كما يقال: جاء فلانٌ في جبةٍ، أي وعليه جبةٌ. واللملمة: جمعك الشيء، وهو مثل اللم في المعنى وإن لم يكن من لفظه عندنا. ورواه بعضهم " إذا اعترمت " بالراء غير معجمةٍ، وجعله من العرام؛ وليس بشيءٍ.
دفعن على نعمٍ بالبرا ... ق من حيث أفضى به ذو شمر
هذا جواب رب إذا جعلت قوله " تلافيت ريعانها " من صفة " وخيلٍ " حملاً على ما يجيء عليه المجرور برب في الأكثر، من لزوم الوصف له؛ وقد جاء غير موصوفٍ وإن قل. وعلى هذا يكون تلافيت الجواب ودفعن من صفة الخيل. والمعنى دفعت هذه الخيل وأرسلت على إبلٍ واقفة بالبراق من حيث أداه إلى الفضاء ذو شمر، وهو مكانٌ. قوله " أفضى به " الضمير للنعم، وهو يذكر، يقال هذا نعمٌ واردٌ. والبراق: جمع برقة، وهو موضع فيه حجارةٌ بيضٌ وسودٌ؛ ومثله جبلٌ أبرق. أي لما حصل بالفضاء تلقيت بالخيل وشنت الغارة عليه.
فلو طار ذو حافرٍ قبلها ... لطارت ولكنه لم يطر
رجع إلى صفة الفرس لما ركضها في إثر الخيل المغيرة على النعم الذي وصفه، يقول: لو أن ذوات الحوافر جعل في قدرتها الطيران بآلةٍ تخصبها لطارت هذه الفرس، وكانت الأولى بذلك، لما فيها من النجابة والعتق، ولكن الطيران خص به ذو الجناح.
فما سوذنيقٌ على مربإٍ ... خفيف الفؤاد حديد النظر
رأى أرنباً سنحت بالفضاء ... فبادرها ولجات الخمر
يقول: ما شاهينٌ واقعٌ على محرسةٍ ذكىٌ شهم النفس، بعيد النظر حديد العين، سريع الإدراك، رأى أرنباً سنحت. ومعنى سنحت عرضت، يقال منه سنحت الحاجة. والأرنب: الأنثى من الأرانب. والذكر خززٌ. والكلام بعد مشغولٌ بصفة السوذنيق. أي رأى أرنباً اتفقت بالعراء واعترضت فسابقها إلى مداخل الخمر، ثم رجع عليها في طريقها لئلا تفوته بأسرع من فرس. والولجات: جمع ولجةٍ، وهي موضع الولوج، وموضع ولجات نصبٌ على أن يكون مفعول بادرها. والخمر: ما واراك من الشجر. ويقال: بادرت مكان كذا، وإلى مكان كذا.(1/392)
بأسرع منها ولا منزعٌ ... يقمصه ركضه بالوتر
قوله " بأسرع " خبر " ما ". يقول: ما سوذنيقٌ هذا وصفه بأسرع من فرس، ولا سهمٌ بنزيه ركض الوتر به. والمنزع: السهم. ويقال: نزعت في القوس نزعاً، وانتزعت له بمنزعٍ، ونزعت، أي بسهمٍ. وفي المثل: " عاد السهم إلى النزعة " في معنى رجع الحق إلى أهله. ويقمص، أي يحرك. ويقال قمص البحر بالسفينة، إذا حركها بالموج، حتى كأنها بعيرٌ يقمص. قال:
يقمص بالبوصي معرورفٌ ورد
وإنما جعل الركض للوتر لأنه هو الذي يزج بالسهم ويدفعه فكأنه يركضه، وهذا يشبه القلب لأن الركض للوتر وقد جعله للسهم، فهو كقول الآخر:
ما أمسك الحبل حافره
وما أشبهه. ويمكن أن يترك على ظاهره، فيجعل السهم راكضاً من حيث كان راكباً للوتر. والركض: تحريك الفارس رجليه على الفرس عند الاستحثاث، وإذا كان كذلك فكأن السهم هو الذي يركض الوتر وإن كان الحفز للوتر.(1/393)
وقال زيد الفوارس
نألى ابن أوسٍ حلفةً ليردني ... على نسوةٍ كأنهن مفائد
آلى الرجل وائتلى وتألى بمعنًى واحد. وهذه الأبنية من الألية، وهي اليمين. و " حلفةً " انتصب على أنه مصدرٌ من غير لفظه. وقوله " ليردني " يروى بفتح اللام وضم الدال، على أن يكون اللام لام اليمين. وذكر سيبويه أن لام القسم يلزمها إحدى النونين الثقيلة أو الخفيفة، وقال أيضاً وقد يحذف النون في الشعر. وهذا الموضع بالرواية الثانية جاء على ما سوغه. وقد جاء أعجب من هذا وأبعد في الاستعمال، وهي حذف اللام وإثبات النون. قال:
وقتيل مرة أثأرن فإنه ... فرغٌ وإن أخاهم لم يقصد
والمفائد: جمع المفأد، وهي المساعير والسفافيد. والفأد في اللغة: التحريك، وقيل إن الفؤاد منه اشتق، لأنه ينبض. ومعنى البيت: حلف الرجل حلفةً ليأسرنني ثم يمن علي فيردني على نسوةٍ كأنهن مساعير، لاحتراقهن وجداً بي وغماً علي، ففعلت أنا به مثل ما هم به في. وقد قيل: إن ابن أوسٍ كان مأسوراً فحلف أنه ينجيه زيد الفوارس ويفك أسره، ويرده على نساءهن من الوجد به بهذا المحل، فاقتص ابن أوس قصته فيما كان يرجوه من جهته. ثم ذكر أنه كان عند الظن به، وأنه حقق أمله. ويمكن الاستشهاد للخبرين والمعنيين على اختلافهما مما يشتمل(1/397)
عليه الأبيات التي بعده. وقد قيل في الوجه الأول أنه أراد بالنسوة حرم ابن أوسٍ، وأنه شبههن بالسفافيد لسوء أحوالهن، وتأثير الضر والجهد فيهن، وعلى هذا يكون هجواً وتعبيراً لابن أوسٍ، وأن أهله وأولاده من الفقر بهذا المحل. فأما من روى " ليردني " فالمعنى حلف لهذا الأمر، وجواب القسم يكون محذوفاً مقدراً، ويستدل عليه بما ذكره. وقال بعض المتقدمين: تقول حلف ليفعلن، فإذا حذفت النون كسرت اللام وأعملتها إعمال لام كي، والموضع موضع القسم والمعنى معناه. وأنشد:
إذا قلت قدني قال بالله حلفةً ... لتغنى عني ذا إنائك أجمعا
وقيل مثل تألى ليردني: أراد ليفعل كذا. وفي القرآن: " يريدون ليطفئوا نور الله بأفواههم "، كأن الفعل دل على المصدر، واللام مع الاسم المجرور به في موضع الخبر لذلك المصدر المبتدأ، كأنه إرادتي كذا.
قصرت له من صدر شولة إنما ... ينجى من الموت الكريم المناجد
أخذ يذكر أنه كذب نفسه فيما حدثها به، وأنه استعمل البغي فنصر عليه، فقال: قصرت عليه فرسي شولة وأسرته، لأن الكريم ينجي نفسه، وينهض حيلته إذا جد جده وكاد عدوه يغلبه وتعلو عليه يده. هذا إذا جعلت ابن أوسٍ هو الذي حدث نفسه وأكد طمعه ويمينه بأنه سيأسر الشاعر. فأما إذا جعلت ابن أوسٍ أسيراً وراجياً أنه سيفك زيد الفوارس إساره، ويحل عقاله، فالمعنى في " قصرت له من صدر شولة " أنه بين كيف حقق رجاءه، ومن أين يوصل إلى تخليصه. وفي قوله " إنما ينجى من الموت الكريم " أنه خلص نفسه لما علق الرجاء به، وجعل يحلف أن خلاصه بسعيه وتعطفه، لأنه بعثه ذلك على أن يكون عند ظنه به.
دعاني ابن مرهوبٍ على شنء بيننا ... فقلت له إن الرماح مصايد
حول كلامه إلى قصةٍ أخرى فقال: استغاث بي هذا الرجل على ما بيننا من عداوةٍ وبغضاء، فأجبته بعد أن هونت عليه ما خافه أولاً، وصغرت في هاجسه ما أكبره ثانياً، وبينت أن الرماح حبائل الرجال الكرام في الحرب ومصايدهم، فلا تبال(1/398)
بالموت إذا كان على وجهه لا يتعقبه عارٌ، ولا يصحبه هوان. وكما جعل هذا الشاعر الرمح آلةً في صيد الأبطال، جعل غيره الصيد له لا به، فقال:
وإني لمن قومٍ تصيد رماحهم ... غداة الصباح ذا الحدورة والحرد
وقوله على شنء بيننا " في موضع الحال، يقال شنئته أشنؤه شنئاً ومشنأة وشنآنا.
وقلت له كن شمالي فإنني ... سأكفيك إن ذاد المنية ذائد
يقول: تعطفت عليه وأخذت بالفضل معه بعد استنصاره، وإظهار حاجته وإذعانه، ورسمت له الكون في الجانب الأيسر مني، واثقاً بحسن محافظتي، وجميل مدافعتي، ومعتمداً من جهتي على أني سأكفيه المحذور إن دفع الموت دافعٌ. والمراد: إن فعل أحدٌ من الناس ما لا يطاق من دفع المحتوم فعلته أنا معك، اعتناءً بأمرك، وإيثاراً لصيانتك، وتحرياً للمحاماة عليك. وإنما قال " كن عن شمالي " لأنه موضع المعان المنصور، واليمين موضع الناصر. يقال: أنا على يمينك وعن يمينك، أي ناصرك.
وقال الوقاد بن المنذر
لقد علمت عوذٌ وبهثة أنني ... بوادي حمامٍ لا أحاول مغنما
بهثة من سليمٍ، بطنٌ منهم، والبهثة في اللغة: ولد البغي. والبهث البشر وحسن اللقاء. والحمام، بضم الحاء: حمى الإبل والدواب. وفي طريقة هذا البيت قول عنترة:
يخبرك من شهد الوقيعة أنني ... أغشى الوغى وأعف عند المغنم
المعنى: والله قد علم هاتان القبيلتان أني في هذه الوقعة الواقعة بهذا الوادي لم أشتغل باجترار المنافع، واحتواء المغانم، وإنما قصرت سعي على طلب الثار، وإدراك الأوتار.(1/399)
ولكن أصحابي الذين لقيتهم ... تعادوا سراعاً واتقوا بابن أزنما
أراد بالأصحاب من لاقاه من الأعداء. ومعنى تعادوا سراعاً: تبادروا مسرعين وتسابقوا، وهذا من العدو. ويجوز أن يكون من عادى بينهما، أي والى، فيكون المعنى توالوا. ومن هذا قولهم: تعادى القوم، أي مات بعضهم في إثر البعض. وقوله " واتقوا بابن أزنما "، يريد جعلوه بيني وبهم، وهذا الرجل الذي استجنوا به كأنه كان مدره الكتيبة. وإنما ثبت في وجه القوم يشغلهم ليسلم أصحابه، ويأخذوا المهلة في الفرار. وفي الحديث: " كنا إذا احمر البأس اتقينا برسول الله صلى الله عليه وسلم ".
فركبت فيه إذ عرفت مكانه ... بمنقطع الطرفاء لدنا مقوما
يقول: طعنته لما عرفت محله من أصحابه، وموضعه من البلاء والمحاماة فيهم، برمحٍ لينٍ مثقفٍ، عند منقطع الطرفاء. والطرفاء: شجرٌ. ومنقطعه: المكان الذي يخلو منه على اتصاله بمنابته. وقال الأصمعي: واحد الطرفاء طرفةٌ كقصبةٍ وقصباء. والباء من قوله " بمنقطع " يتعلق بقوله " ركبت " على ما فسرناه. وكان لا يمتنع أن يكون معنى قوله عرفت مكانه، عرفت موضعه ومقامه، لأن الرئيس يخفي مكانه ويخمل نفسه كثيرا، وحينئذٍ يتعلق الباء من قوله بمنقطع الطرفاء بقوله مكانه، ولكن قوله " واتقوا بابن أزنما " يأبى إلا القول الأول.
ولو أن رمحي لم يخني انكساره ... جعلت له صالحي القوم توءما
نسبة الخيانة إلى الرمح لما انكسر كنسبة العجز إلى الحبل إذا لم يصل، من قولهم حبلٌ عاجزٌ. والتوءم، زنته فوعلٌ، واشتقاقه من الوأم، والتاء فيه مبدلةٌ من الواو، وكأن الولد واءم في الإتيان غيره، أي وافق. وكما توسعوا فيه ها هنا فأخرج إلى باب غير باب الولد والولادة، توسع فيه في قوله:
قالت لنا ودمعا تؤام ... كالدر إذ أسلمه النظام(1/400)
وقد أحكمت القول فيه وفي تصريفه وجمعه في شرح كتاب الفصيح فيقول: لولا أن رمحي خانني حين أعملته في هذا الرجل فانكسر، لجعلت له نظيراً من أشراف القوم وزعمائهم حتى يصير معه كتوءمين. وخص الصالحين منهم لأنهم يتبجحون بقتل الملوك والرؤساء. فإن قيل: لم ذم الإجرار في الطعن وهم يحمدونه حتى عد انكسار الرمح خيانةً منه؟ قلت: الإجرار فعل الطاعن، وهو محمودٌ، وإنما ذم من الرمح ضعفه وقلة ثباته في العمل؛ وليس ذلك من الإجرار في شيء.
ولو أن في يمنى الكتيبة شدتي ... إذاً قامت العوجاء تبعث مأتما
كأنه خفى عليه مكان واتره فلم يعلم أهو في الميمنة أم في الميسرة، فأخذ يتلهف على ما فاته منه. والشدة: الحملة، فيقول: لو اتفقت حملتي في يمناها بدلاً من يسراها، لقامت أمه وقد ثكلته تهيج المأتم، وتبعث على النوح عليه النوائح، ولكن ذهاب مقامه عن علمي هو الذي نجاه مني. وجعلها عوجاء إما على طريق السب، كما قال:
كم عمةٌ لك يا جرير وخالةٌ ... فدعاء قد حلبت على عشاري
فيكون العوج في تلك لتفاوت خلقتها، وزوالها عن سنن الاستقامة، كالفدع في هذه. وإما أن يكون أراد أنها مضرورةٌ مجهودةٌ معوجة الوجه، مهزولةٌ. وإما أن يكون العوجاء لقباً لها، والمأتم؛ أصله في الضم والجمع.
وقال أيضاً:
إذا المهرة الشقراء أركب ظهرها ... فشب الإله الحرب بين القبائل
روى أركب ظهرها ". ويقال أركب المهر، إذا حان أن يركب واستصلح للإسراج والإلجام. وجعل الفعل للظهر على التوسع إذ كان موضع الركوب، ويكون أركب كما يقال أجز الخضر، وأحصد الزرع. ويروى: " أدرك ظهرها " المعنى بلغ حد الركوب والانتفاع به، وهذا كما يقال أدرك الثمر، إذا أمكن الانتفاع به. فيقول: إذا بلغ فرسي هذا الحد فهيج الله نار الحرب، وأقام سوق التغاور بين القبائل، حتى أتوصل بها إلى ما كنت أريده وأنتظره. وارتفاع المهرة بفعلٍ مضمرٍ بعد إذا، يكون الظاهر تفسيره.(1/401)
وأوقد ناراً بينهم بضرامها ... لها وهجٌ للمصطلى غير طائلٍ
هذا من جملة الدعاء. والكلام يدل على استعجاله بحصول الحالة لتمناة فيقول: وأجج بينهم نار الشر بما يلهبها حتى يصير لها وهجٌ لا خير فيه لمن يدنو منه ويصطلى به. وخص الضرام لأنه يسرع ذهاب النار فيه فيعلو لهبها. إن قيل: لم كرر طلب اتقاد النار في البيت الأول والثاني؟ قلت: الأول أراد به نار الحرب، والثاني أرد به نار الخلاف والشر المنتتج عن النمائم والوشايات، حتى أن من دخل فيهم طالباً لإيقاع صلحٍ وصلاحٍ بينهم لم يقدر على إزالته، وكان خليقاً بأن يشقى شقاوتهم، ويدخل مداخلهم. وقد مر القول في طائلٍ، وأنه من الطول. ويقال: ما حليت من هذا الأمر بطائلٍ.
إذا حملتني والسلاح مشيحةٌ ... إلى الروع لم أصبح على سلم وائل
المشيح والشائح والشيح واحدٌ. قال:
مشيحٌ فوق شيحانٍ
يعني رجلاً على فرسٍ. وقال:
وشايحت قبل القوم إنك شيح
فيقول: إذا جال تحتي وعلى سلاحي قاصداً إلى الحرب فرسٌ جادةٌ، لم أصالح وائلاً، ولم أرض منها إلا بالشفاء والاشتفاء. والمشايحة: المحاذرة. والمشيح: الحازم.
فدًى لفتًى ألقى إلي برأسها ... تلادى وأهلي من صديقٍ وجامل
قوله " ألقى إلي برأسها " أي وهبها لي ومكنني من قيادها بنفسي. وذكر الرأس كما يقال: هو يرتبط كذا رأساً وكذا ظهراً. وذكر الإلقاء كما يقال: ألقى إليه مقاليد الأمور. والمعنى: أفدى بمالي القديم وأهلي المصادقين فتًى مكنني من هذه المهرة(1/402)
وملكنيها. وقوله " من صديقٍ وجامل " دخل من على طريق التببين، قال صديق تفسير الأهل، والجامل تفسير التلاد. وكأن هذا الرجل ينتظر إمكان الفرصة من أعدائه لينتهزها في وقته، ويتمنى اهتياج الشر في الناس وتداعي القبائل بالأوتار، وتناهضهم للقتال عند تكامل عدته ليجد طريقاً إلى مكاشفة من يريد مكاشفته، وتسبباً إلى إدراك ما يريد إدراكه، فلهذا علق الدعاء بإركاب المهر، وأجل الزمان في ابتغاء المطلوب. وخص الصديق من أقاربه وذويه لأن النفس أضن بهم، كما خص الجامل وهو ذكور الإبل وإناثها لأنها هي المال المختار من الأزواج الثمانية. ويروى: " من صديق وحامل " بالحاء، فيكون من تفسير الأهل خاصةً، كأنه يريد وأهلي من مصادقٍ لي وبارٍ بي. ويقال: حمله على كذا مركباً، إذا أعطاه. كأنه قال: كل من حملني على فرسٍ من أهلي فهو فداءٌ لمن حملني على هذا المهر؛ لأنه يقع دونه في القدر والمكانة.
وقال شمعلة بن الأخضر
ويوم شقيقة الحسنين لاقت ... بنو شيبان آجالاً قصارا
الشقيقة: رملةٌ تشق من معاظم الرمل، وهي في الأصل صفةٌ فجعلت اسماً وألحق به الهاء. وقد قيل فيها إنها رملةٌ بين رملتين، والحسنان قيل هما رملتان ببلاد بني تميمٍ، وقيل حسنٌ كثيبٌ ضم إليه قطعة أرضٍ تقرب منه فقيل حسنان، كقولهم الكوفتان والحيرتان. وهذه الأبيات في مقتل بسطام ابن قيسٍ، قيلت على طريق التشفي وإظهار الشماتة. يريد: لاقى بنو شيبان يوم اجتماعنا بهذا المكان آجالاً غير ممتدةٍ، متقاصرةً عن الغابة التي كانت آمالهم تنزع إليها، ويعدهم اغترارهم بها.
شككنا بالرماح وهن زورٌ ... صماخي كبشهم حتى استدارا
الشك: النظم. يقول: انتظمنا بالرماح والخيل منحرفةٌ للطعن صماخى رئيسهم - يعنى بسطاماً - حتى دير به فسقط. وكان بسطامٌ أغار في بني شيبان على بني ضبة، واستاق إبلها، وكان رجال الحي غائبين، فلما أحسوا بذلك ركبوا إثره، فلما لحقوه أخذ بسطامٌ يعرقب الإبل، فقالوا: يا بسطام ما هذا السفه، إما أن تكون لنا أو لك! ثم أصيب صماخه - والصماخ هو الخرق الباطن الذي يفضى إلى الرأس - وقاتل(1/403)
بسطامٍ هو عاصم ابن خليفة الضبي، ويقال إنه كان مضعوفاً، وفي ذلك اليوم رأته أمه يسن سنان رمحه فقالت: ما تريد بهذا؟ قال: أريد أن أقتل به بسطاما! فقالت الأم متعجبةً ومستنكرةً: لست أمك أضيق من ذاك!. وحكى أنه أدرك الإسلام وأسلم، فكان إذا ورد باب عمر رضي الله عنه يقول: عاصم بن خليفة، قاتل بسطام بن قيس بالباب! مفتخراً. ومعنى " استدار "، أخذه دوار الموت. وقوله " شككنا بالرماح " والشك كان من واحدٍ منهم وبرمحٍ، على عادتهم في نسبة الفعل إلى القبيل وإن كان من أحدهم، لاشتراكهم في الرضا به، وتجمعهم لإيقاعه. على ذلك قول الله تعالى: " فعقروا الناقة " وما أشبهه.
فخر على الألاءة لم يوسد ... وقد كان الدماء له خمارا
الألاءة: شجرةٌ حسنة المرأى، قبيحة المختبر، ولهذا شبه به كل من قصر مخبره عن منظره. قال:
فإنكم ومدحكم بجيراً ... أبا لجإٍ كما امتدح الألاء
يرأه الناس أخضر من بعيدٍ ... وتمنعه المرارة والإباء
ومعنى خر على الألاءة، أي مال عليها لما أصيب. والمراد بالبيت: سقط بسطامٌ لما طعن على الألاءة وهو غير موسدٍ، قد غشى رأسه ووجهه بالدم. قوله " لم يوسد " في موضع الحال، وهو بيانٌ لكونه مقتولاً، وأن خروره كان لذلك. وعلى هذا قوله تعالى: " خروا له سجداً " وما أشبهه. والخمر والخمار: كل ما غطاك.
وقال حسيل بن سجيح
لقد علم الحي المصبح أنني ... غداة لقينا بالشريف الأحامسا
يقول: صبحته مشدداً ومخففاً، إذا قصدته للغارة صباحاً. وفي المثل:
صبحناهم فغدوا شأمةً
والأحامس لقبٌ لبني عامر، وجمع جمع الأسماء وإن كان صفةً في الأصل فهو كالأبطح والأجدل وأشباههما؛ وقد تقدم القول فيه. والشاعر يقول: تيقن الحي المغار عليهم صباحاً أنني غداة لقينا بني عامرٍ بالشريف - وهو موضعٌ بنجدٍ، وكذلك الشرف -(1/404)
أيليت. وهذا الكلام منه استشهادٌ بمن دافع عنهم. وخبر أن فيما بعده، وهو قوله " جعلت لبان الجون ". وغداة لقينا ظرفٌ له. فإن قيل: هلا جعلته ظرفاً لعلم أو للقينا؛ قلت: لا يجوز أن يكون ظرفاً لعلم، لأنه إذا جعل كذلك صار أجنبياً مما دخل في صلة أن، وحائلاً بينه وبين خبره، والفصل بين الموصول وما في صلته بالأجنبي منه غير جائزٍ. ولا يجوز أن يكون ظرفاً للقينا، لأنه مضافٌ إليه، والمضاف لا يجوز أن يكون عاملاً في المضاف.
جعلت لبان الجون للقوم غايةً ... من الطعن حتى آض أحمر وارسا
جعلت ها هنا عدى إلى مفعولين لأنه بمعنى صيرت. واللبان: الصدر من الفرس. والورس: صبغٌ أحمر معروف. وثوبٌ ورسٌ ووارسٌ. وأورس الرمث، إذا اصفر ثمره، فهو وارسٌ، وهو أحد الحروف التي جاءت على أفعل فهو فاعلٌ؛ ولا يقال مورسٌ. وربما فسر الورس على الزعفران. يقول: ثبت في وجوه القوم فصيرت صدر فرسي للطعن وموقعاً، حتى صار لسيلان الدم عليه أحمر كالورس.
وأرهبت أولى القوم حتى تنهنهوا ... كما ذدت يوم الورد هيماً خوامسا
يقول: خوفت أوائلهم حتى كفوا وتنكسوا، كما تكلف إبلا عطاشاً وردت لخمسٍ، فازدحمت على الماء يوم الورود. والهيم: التي بها الهيام، وهو داءٌ يصحبه العطش الشديد. جعل أوائلهم تتبادر وتزدحم حرصاً على القتال، مبادرة الهيم وازدحامها على الماء وردت لخمسٍ. وهذا التشبيه من باب التصوير، وقد تقدم القول في شرحه. وقوله: " تنهنهوا كما ذدت " يجوز أن يكون أراد حتى ذدتهم كما ذدت، فوضع تنهنهوا بدله ودالاً عليه. ويجوز أن يكون أراد: كما نهنهت يوم الورد إذا ذدت هيما، فوضع ذدت موضعه. ويجوز أن يكون المراد: أرهبتهم كما أرهبت، فوضع ذدت موضع أرهبت، وهذا أقرب.
بمطردٍ لدنٍ صحاحٍ كعوبه ... وذي رونقٍ عضبٍ يقد القوانسا
وبيضاء من نسج ابن داود نثرةٍ ... تخيرتها يوم اللقاء الملابسا
الباء من قوله " بمطردٍ " تعلق بقوله أرهبت. فيقول: خوفتهم بالبروز لهم، ومعالنة ذوي الحشمة بالتنكر معهم، والشد عليهم برمح مسوى لينٍ صحيح الكعوب والأناييب، وسيفٍ ذي ماءٍ، قاطعٍ نافذٍ في القوانس، لا ينبو ولا يرتدع. ومعنى الاطراد في الرمح تقومه وتوافق أنابيبه عند الهز. والقوانس: أعلى البيض؛ وقونس(1/405)
الفرس منه، وهو العظم الذي تحته العصفوران. هكذا قال أبو عبيدة. وقال الأصمعي: هو والعصفوران سواء، والقد: القطع طولاً، فإن كان عرضاً فهو القط. وقوله " وبيضاء من نسج ابن داود " فإنه عنى به درعاً، والمراد تعداد عدته واحداً واحداً. أي أرهبتهم بدرع نقية اللون من الصدا داودية واسعةٍ، اخترتها من الملابس يوم اللقاء. وإنما قال " من نسج ابن داود " كما قال الآخر:
ونسج سليمٍ كل قضاء ذائل
وللعرب عادةٌ معوفةٌ في إقامة الأب مقام الابن، والابن مقام الأب، وتسمية الشيء باسم غيره إذا كان من سببه. والأعلام لا يدخلها المجاز، ولكن تستعار إذا حصل بها القصد وأمن معها اللبس عند الذكر. وانتصب الملابس على المفعول، لأن الفعل بعد انحذاف حرف الجر منه وصل إليه فنصبه. وأصلها تخيرتها يوم اللقاء من الملابس. ومثله قوله تعالى: " واختار موسى قومه سبعين رجلاً لميقاتنا ". والمراد: اختار موسى من قومه، ومثل هذا من الحذف لا ينقاس.
وحرميةٍ منسوبةٍ وسلاجمٍ ... خفافٍ ترى عن حدها السم قالسا
يريد: وبقوسٍ متخذة من شجر الحرم، لها نسبٌ لجودتها وعتق نجارها، حتى يقال فيها: ملكها فلانٌ، وورثها فلانٌ، واتخذها فلان، وهي القوس التي من شأنها كيت وكيت، وبنصالٍ طوالٍ خفافٍ تقلس حدودها السم وترشحه، لأنها أمهيت به وشربته. والقلس: القيء، يقال قلس قلسا، ثم يقال للدسعة تخرج إلى الفم القلس، بتحريك اللام. والسلاجم: الطوال، وأراد بها النبل كما هي، ويقال حرمٌ وحرمٌ. وانتصب قالسا على الحال للسم، كأنه قال: ترى السم ذا قلسٍ، أي ممجوجاً به ملقى من جوانب حدودها.
فما زلت حتى جنني الليل عنهم ... أطرف عني فارساً ثم فارسا
يروى " أطرف فرساناً وألحق فارسا ". يقول: لم أزل بياض ذلك اليوم أدفع في جوانب مجالي وأطراف أرضي، الفارس بعد الفارس، إلى أن تغشاني الظلام فحال بيني وبينهم، وستر كلاً منا عن صاحبه. ومعنى أطرف أجعله مني في طرف، وموضعه من الإعراب نصبٌ على أن يكون خبر ما زال. وأراد بقوله " فارساً ثم فارساً "(1/406)
المداومة والاتصال. أي لم أفتر عن دفاعهم وقتاً واحداً بعد واحدٍ. وهذا كما يقال: جاءني بنو تميم واحداً فواحداً، أي توالوا أفراداً. ومن روى " أطرف فرساناً وألحق فارساً " فالمعنى أسوق فرساناً وأذودهم عني، وقد ألحق في الطرد الواحد بعد الواحد فأصيبه.
ولا يحمد القوم الكرام أخاهم العتيد السلاح عنهم أن يمارسا
هذا الكلام تبرؤٌ من التحمد بما فعل إلى الناس، وترك للتبجح بالدفاع حين دافع، وإظهارٌ لأن مذهب الكرام ذلك وأن الواجب في اعتقادهم ألا يحمد الواحد منهم إذا قاتل دونهم، أو مارس الشدة فيهم ولهم، متى كان تام السلاح، مزاح العلل، إذ كان ذلك دأبهم ودينهم، وإذ كان سبيله فيما يأتيه كمن يؤدي الفرض الذي لا يحتمل التضجيع، والحتم الذي لا يسوغ التجوز فيه والتأويل. وقوله " عنهم " يتعلق بالعتيد السلاح، ولا يجوز أن يتعلق بيمارس، لأنه لو كان كذلك لكان في صلة أن، فلم يجز تقدمه عليه. ويكون المعنى: أخاهم المعد السلاح عنهم، النائب منابهم. ومعنى أخاهم الواحد منهم، كما يقال: يا أخا بكرٍ أو تميمٍ.
وقال محرز بن المكعبر
نجى ابن نعمان عوفاً من أسنتنا ... إيغاله الركض لما شالت الجذم
قال الخليل: الإيغال: الإمعان في السير مع دخولٍ فيما بين جبالٍ أو في أرض العدو. وقال غيره: هو الإسراع في إبعادٍ. يقول: أنقذ هذا الرجل من رماحنا استعجاله فرسه، واستحثاله بالركص إياه، لما رفعت بقايا السوط تخوف بها الخيل، ويستدر منها العدو. وهذه إشارةٌ إلى وقت الانهزام وجد الطالبين في اللحاق. والركض ينتصب على أنه مفعولٌ من الإيغال، كما يقال أبعد السير، وأسرع السير. ويجوز أن يكون مصدراً موضع الحال، كأنه قال إيغاله راكضاً. وأدخل الألف واللام على حد دخولهما في قوله:
فأرسلها العراك(1/407)
أوردها التقريب والشد منهلا
وما أشبهه. وجذم كل شيءٍ: أصله؛ يقال جذمت الشيء، إذا قطعته. والجذمة: القطعة من الحبل وغيره.
حتى أتى علم الدهنا يواعسه ... والله يعلم بالصمان ما جشموا
الدهنا ببلاد تميمٍ. وقال الخليل: الدهنا موضعٌ رملٌ كله، والنسب إليه دهناويٌ. ومعنى يواعسه يسير في وعسائه، وهي الرملة اللينة، والسير فيها يصعب. ويقال: وعست المكان وعساً، إذا وطئته وطأ شديداً، ويسمى الأتر الوعس. وسمى ضربٌ من سير الإبل المواعسة من هذا. وحقيقة قوله " يواعسه " يواعس إليه أو فيه، أي يمد سيره إليه وفيه. والصمان: الأرض الصلبة، واحدته صمانةٌ، وموضع ما من قوله ما جشموا نصبٌ على المفعول من جشموا، فيقول: أوغل الركض حتى بلغ جبال الدهنا، مواعساً في رمله، والله يعلم أي شيءٍ تكلفه هو وأصحابه من السير في الصمان. وموضع يواعسه نصبٌ على الحال، ويجوز أن يكون موضع ما من قوله ما جشموا نصباً على المفعول من فعل دل عليه، والله أعلم. ومثله في القرآن: " الله أعلم حيث يجعل رسالاته ". وقد تقدم القول فيه.
حتى انتهوا لمياه الجوف ظاهرةً ... ما لم تسر قبلهم عادٌ ولا إرم
الجوف وادٍ. وظاهرةً انتصب على أنه ظرفٌ، ويقال: ورد الماء ظاهرة، إذ ورد نصف النهار؛ واشتقاقه من الظهيرة. وأظهرنا: صرنا في الظهيرة: وقد جعل اسماً لهذا الظمء. وقوله " ما لم يسر " أراد سيراً لم يسره قبلهم أحدٌ، أو انتهاءً لم يقدر عليه إنسانٌ. وعلى هذا يكون ما في موضع النصب على أنه مصدرٌ مما دل عليه حتى انتهوا، وتلخيص الكلام: حتى ساروا إلى مياه هذا الوادي نصف النهار سيراً لم يسر مثله واحدةٌ من هاتين الأمتين، والمعنى أنهم حملهم الرعب الذي تداخلهم، والاجتهاد في الخلاص من الهزيمة المستولية عليهم، على أن يقطعوا ما بين المكانين المذكورين في يومٍ وليلةٍ، لأنهم كانوا في اليوم الأول بالصمان، وفي اليوم الثاني بالدهنا، وذلك شاقٌ مستبعدٌ وقوعه.(1/408)
وقال عامر بن شقيقٍ
فإنك لو رأيت ولن تريه ... أكف القوم تخرق بالقنينا
يخاطب امرأةً مفظعاً للشأن الذي منوا به، ومهولاً للأمر الذي دفعوا إليه، فيقول: لو رأيت ولا أراك الله مثله مشهد القوم وأكفهم تخرق بالرماح لرأيت أمراً هائلاً. وجواب لو محذوفٌ، كما يقال: لو رأيت زيداً وفي يده السيف. وقد مر القول في أن تبقيه الإبهام في مثل هذا المكان بترك الجواب أبلغ في الإفهام. وقوله " ولن تريه " دعاءٌ، وأكثر ما يقع الدعاء يقع بلاء، وبلن يجيء قليلاً، تقول: لن يبارك الله في كذا وتريد الدعاء، كما تقول لا بارك الله. وفسر قطربٌ قول الله تعالى: " رب بما أنعمت علي فلن أكون ظهيراً للمجرمين " على أنه دعاءٌ. ويجوز أن يكون قوله " ولن تريه " إخباراً بأنها وقد فاتها رؤية ذلك فيما مضى لا ترى مثله في المستأنف فظاعةً وشناعةً، وأن الخطب بلغ حداً خرج به عن المعتاد المستجاز. وقوله " تخرق بالقنينا " أي تثقب، ومنه خرقت الأرض واخترقتها، وريحٌ خريقٌ. ويروى: " تخرق " بفتح التاء وضم الراء، وله وجهان: أحدهما أن يكون من الخرق: ضد الرفق، كأن الأكف كانت تخرق في الطعن ولا ترفق، لشدة الأمر؛ وهذا حسنٌ. والثاني: أن يكون من الخرق، كأنها تشقق بالطعن ملتئم الأحوال ومتواصلها وتمزقها، كما قال: " ومزقناهم كل ممزق ". وهذا الوجه أغرب ويكون المفعول محذوفاً، لأن الكلام يدل عليه. ومن روى " تخرق " فالمعنى تنظم. وإن جعلت الفعل للفاعل فرويت " تخرق " جاز أيضاً على أن يكون المفعول محذوفاً، والمراد كأنها تنظم مطعونين في شدةٍ وحملةٍ. والقنين: جمعٌ سالمٌ، وهو نادرٌ، وأكثر ما يجيء مثله في المنقوص كظبةٍ وظبين، وثبةٍ وثبين، كأنه يجعل هذا البناء في جمعه جبراً له مما نقص منه. ويجيء أيضاً كثيراً في أسماء الدواهي، كالذربين، والأقورين، والفتكرين؛ كأنه بلغ بها رتبة الناطقين تهويلاً. وقد حكى كسر القاف من القنين وحينئذ يكون كعصاً وعصىٍ، ويكون وزنه فعولاً والنون بدلق من لام الفعل. ويحمل على هذا الوجه سنين في جمع سنةٍ.(1/409)
بذي فرقين يوم بنو حبيب ... نيوبهم علينا يحرقونا
قوله " بذي فرقين " يجوز أن يتعلق بقوله لو رأيت، ويجوز أن يتعلق بقوله تخرق بالقنين، كذلك قوله " يوم بنو حبيبٍ " يجوز أن يكون ظرفاً لكل واحدٍ من الفعلين لأنهما ظرفان: أحدهما للمكان والآخر للزمان. وأضاف اليوم إلى الكلمة التي بعده لأن الأزمنة تضاف إلى الجمل من الابتداء والخبر، والفعل والفاعل، تبييناً لها. ويقال: هو يحرق أنيابه، إذا حك بعضها ببعض تهديداً. ويقال أيضاً: هو يحرق عليه الأرم، ويعلك على الأرم، أي يصرف بأنيابه تغيظاً. وحكى فيه الأزم بالزاء أيضاً. والأزم: العض. ويقال حرقه بالمبرد، إذا برده. وحكى أبو حاتم: فلان يحرق نابه علي، يرفع الناب. قال: لأنه هو الذي يحرق. وبيت زهير يشهد لذلك. وأنشد:
أبي الضيم والنعمان يحرق نابه ... عليه فأفضى والسيوف معاقله
كفاك النأي ممن لم تريه ... ورجيت العواقب للبنينا
كأنه وكلها إلى الاعتبار بعد ما فاتها من مشاهدة الحال، ودعاها إلى الاستدلال، والاكتفاء فيه بما آل إليه أمرها في أعزته مع غيبتهم عنها. فيقول: أغناك بعدك إذا نظرت واعتبرت عن الاستكشاف والسؤال، وإن تلهفت لما تدركيه من مساقطهم، ولم تشار فيه من مصارعهم، وحالك أنك علقت رجاءك بالأولاد، وبأن يحسن الله العقبى لهم إذا بلغوا طلب الأوتار، ورأوا السعي في درك الثار، وقطعت طمعك في الآباء وملكك اليأس منهم. وقوله " ورجيت " قد معه مضمرةٌ، لأن الماضي بتقدير قد معه يقع موقع الحال. وضعف عينه للتكثير، كأنها كانت تكرر الرجاء وتجدده مع كل حادثةٍ، وعند كل مهمة.
وقال أبو ثمامة بن عارمٍ
رددت لضبة أمواهها ... وكادت بلادهم تستلب
يقول: اعتنيت بضبة، فأعنتها على مجاذبها ومنازعها، وحفظت لها وعليها مياهها وبلادها، ومراعيها ومرادها، بعد أن شارفوا التسليم والاستسلام، والملاينة(1/410)
والانقياد، حتى كادوا يغلبون عليها، ويمنعون من حقوقهم فيها، لما يظهر على صفحات أحوالهم من التخاذل، ويبنون أمورهم عليه في التهاون والتواكل.
بكر المطي وإنعابه ... وبالكور أركبه والقتب
الباء من قوله " بكر " تعلق برددت. ويروى: " بكرى المطي "؛ وساغ الوجهان لأن المصدر يضاف إلى المفعول كما يضاف إلى الفاعل. ومراده أن يبين كيف كانت نيابته عنهم، ومدافعته دونهم، وكيف جاذب أعداءهم وجادل عنهم، حتى توصل إلى قمعهم، ونزع أيديهم عما أنشبوها فيه من أملاكهم، وردهم دون ما سوغوه من اهتضامهم. والقتب أخف من الكور. وإنما ذكر هذه المراكب ليبين تطاول الأمد بينه وبنيهم، وتحمل أنواع المشاق اللاحقة في نزاعهم، وليدل على كثرة مناقلاتهم، واختلاف التردد في مجالسهم وأماكنهم.
أخاصمهم مرةً قائماً ... وأجثو إذا ما جثوا للركب
انتصب قائماً على الحال؛ ونبه بما أورده على امتداد المجازبة، وتكرر المحاجة، وعلى اختلاف الهيئات وتغير الأوقات، وكل ذلك بحسب اشتداد سورة الخصام ولينها؛ وأنه تكفل بالأمر معهم تكفل من تعين عليه الفرض في مرادتهم، فابتدل نفسه معهم، ووطنها على مصابرتهم، فإن قاموا قام معهم، وإن بركوا باراهم في بروكهم، لئلا يكون مخلاً بمعرضٍ يخرجون فيه، أو تاركاً لشيءٍ من نصبهم. ويقال: جثا لركبته، إذا سقط.
وإن منطقٌ زل عن صاحبي ... تعقبت آخر ذا معتقب
فصل بين إن والفعل بقوله " منطقٌ "، ولو ظهر تأثيره بالجزم لم يجز فيه. وارتفع بفعلٍ هذا الظاهر تفسيره. فإن قيل: فإن في أي الفعلين عمل؟ وهل تقول إنه عمل فيهما جميعاً؟ قلت: أما عمله فيهما فغير سائغ، لأن أداةً واحدةً لا تجزم شرطين في حالةٍ واحدةٍ، لكن الفعل المضمر لما لم يظهر صار في حكم ما لم يعتد به، وإن كان الاسم يرتفع به، حتى صار التقدير: وإن زل منطقٌ زل عن صاحبي. وقد روى " تعقبت " و " تعرقبت "، ومعنى تعقبت تتبعت وطلبت عقبه؛ ومثله اعتقبت. وقيل المعتقب أخد عقبه الشيء، وهي آخره. ومعنى تعرقبت: عدلت عنه وأخذت في(1/411)
غيره. ويقال تعرقبت الفرس، إذا ركبتها من خلفها. وعراقيب الأمور: التباساتها وطلب الحيل والحجج فيها، وأنشدت:
فلا يعدمك عرقوبٌ للأيٍ ... إذا لم يعطك النصف الخصيم
والمعنى: لا يعدمك حيلةٌ لالتواء خصمٍ عليك.
وقال آخر:
إذا حبا قفٌ له تعرقبا
أي عدل عنه فالتوى. ومثل تعقبت في إفادته طلبت عقبه وعقباه: تفقدت الشيء وتعهدته؛ لأن المعنى طلبت فقده وعهده، أي نظرت هل فقدته وهل بقى على عهده. ومعنى البيت: إن بدرت من واحدٍ منهم كلمةٌ لم يوفق فيها للصواب، أو خفت عودها بغير صلاحٍ عدلت عنها وطلبت مكانها أخرى ذات متتبعٍ فأعقبتها بها.
أفر من الشر في رخوةٍ ... فكيف الفرار إذا ما اقترب
قوله في " رخوةٍ " أي تراخيه. وهو رخوٌ، أي مسترخٍ. كأنه أراد: أهرب منه مالم يتشدد. ونبه بهذا الكلام على أنه يتفادى من الشر ما أمكن، وأنه لا يستعمل البغي ولا يبتدئ الخصم، فإن جاء منه مالا معدل عن اقتحامه وركوب البلوى فيه، ولا معول إلا على الصبر على شدائده وتوسط الأذى العارض له خاضه متلقياً لمكارهه بعدته، مجاذباً للمنازعين بأقصى ما في طوقه وقوته، إلى أن يتحصل له الفلج والظفر، أو يتحصن عن لوم اللائمين بما يقيمه من العذر في المجاهدة والتثبت. ومثله قول هدبة ابن خشرم:
ولا أتمنى الشر والشر تاركي ... ولكن متى أحمل على الشر أركب
وقال أبو ثمامة أيضاً:
قلت لمحرزٍ لما التقينا ... تنكب لا يقطرك الزحام
تكب وتنكب بمعنًى واحدٍ. ويقول هو أنكب عن الحق، ومنه الريح النكباء، لعدولها عن مهاب الرياح الأربع. وهذا الكلام تهكمٌ واستهزاء، كأنه يرميه بأنه لم(1/412)
يباشر الشدائد، ولم يدفع إلى مضايق المجامع. فيقول: انحرف متماسكاً لا يسقطك تزاحم الناس. والتقطير: الإلقاء على أحد القطرين، وهما الجانبان، وكأنه يخاف عليه أن يداس بالقوائم، كما يخاف على الصبيان والنساء، لقلة غنائه، وضعف ثباته. وهذا في بابه أبلغ ما مر بي. وفي طريقته قو حجل بن نضلة:
جاء شقيقٌ عارضاً رمحه ... إن بني عمك فيهم رماح
وقول سبرة بن عمرٍو الفقعسي:
لا شيء يعدلها ولكن دونها ... خرط القتاد تهاب شوكتها اليد
وفي هذا تعريضٌ أيضاً. ومن التعريض ما أنشدته عن اليزيدي قال: أنشدني الأصمعي:
فدع شوك السيال فلا تطأه ... وخض إن خضت ماءً غير غمر
وقول الآخر:
فأرضك أرضك إن تأتنا ... تنم نومةً ليس فيها حلم
أتسأل السوية وسط زيدٍ ... ألا إن السوية أن تضاموا
يخاطبه مقرراً ومتوعداً. والتقرير بألف الاستفهام ولا حرف نفيٍ معه يكون فيما لا يثبت ولا يستجاز كونه. والسوية: الإنصاف؛ وهي من الاستواء كالجريمة والدنية والخطيئة. وزيدٌ: قبيلة المخاطب. فيقول على وجه الإنكار والهزء: أتسأل إنصافك وأنت وسط رهطك وفيما بين عشيرتك ومحل عزك. ثم قال: إن من السوية اهتضامكم وضيمكم، وهذا من باب إبدال الشيء من الشيء. كقول الآخر:
تحية بينهم ضربٌ وجيع
والضرب لا يكون تحيةً. والمعنى: أنهم يعطون بدل الإنصاف الظلم، لأنهم لا يستحقون غيره، ولأن النصفة لا تصلحهم ولا توافقهم.(1/413)
فجارك عند بيتك لحم ظبيٍ ... وجاري عند بيتي لا يرام
يصفهم بسوء الوفاء، وقلة المحافظة على عقد الجوار، فيقول: جارك كالصيد لمن يطلبه، وبعرض الأكل والاستباحة لمن يريده، وهذا وهو في فنائك، وغير مفارقٍ لدارك، لضعف حشمتك وسقوط همتك، واستسخاف الناس لدرك وزنك؛ وجاري لا يطلب ولا يطمع فيه لتحصن مكانه في فنائي، وتعززه بي، ما دام متمسكاً بحبلي، أو معتصماً بحلفي. وإنما قال ذلك لأن النزاع بينهما كان بسبب جارٍ. وإضافة اللحم إلى الظبي في نهاية الموافقة للمعنى الذي يقصده، والغرض الذي كان يرميه. وقد جاء اللحم غير مضافٍ إلى اسم الصيد في الكناية عن الذل والاهتضام. على هذا قولهم: هو لحمٌ موضعٌ، وهو لحمٌ على وضمٍ. وقد استعمل الشحم في مثل ذلك، على هذا قوله:
لمن كنت فيه شحمه وأطايبه
وقول الآخر:
فلا تحسبنني يا ابن أزنم شحمةً ... تزردها طاهي شواءٍ ملهوج
وقد قال آخر سالكاً هذه الطريقة في الكناية:
ولست خلاةً لمن أوعدن
وقالوا في الذليل: هو قنعٌ، وهو فقعٌ بقرقرٍ، وهو بيضة البلد.
وقال عبد الله بن عنمة
أبلغ بني الحارث المرجو نصرهم ... والدهر يحدث بعد المرة الحالا
قوله " والدهر يحدث " اعتراضٌ حصل بين أبلغ بني الحرث وبين مفعوله الثاني: وهو قوله، " إنا تركنا فلم نأخذ به بدلاً ".(1/414)
ومثله مما قد دخل الاعتراض بينه وبين المفعول قول أبي النجم:
وبدلت والدهر ذو تبدل ... هيفاً دبوراً بالصبا والشمأل
وفي القرآن قوله عز وجل: " ليقولن كأن لم يكن بينكم وبينه مودةٌ يا ليتني كنت معهم فأفوز فوزاً عظيماً ". لأن قوله يا ليتني مفعول ليقولن، وكأن لم يكن اعتراضٌ. وكذلك الدهر ذو تبدل اعتراضٌ. وقوله " المرجو نصرهم " فيه تعييرٌ وتقريعٌ كما أنه في قوله والدهر يحدث بعد المرة الحالا " هزؤٌ وسخرىٌ. وهؤلاء القوم كانوا تركوا عشيرتهم وانتقلوا عنهم للوثةٍ حصلت بينهم إلى بني الحارث طمعاً في نيل ما يفوتهم منهم من جهتهم، فلما لم يجدوهم عند الظن بهم تندموا، فأخذ هذا الشاعر منهم يرمى بهذا الكلام معيراً ومتلهفاًن فيقول: أبلغ هؤلاء القوم الذين رجى معونتهم وطمع في نصرتهم وذبهم - والدهر ذو غيرٍ وتلونٍ، فيتعقب فيه الشدة لينٌ، والقوة ضعفٌ، والعزة ذلٌ - رسالتي إليهم. وإنما تبين من قوله الحال، وإن كان واحد الأحوال، الضعف، والمعنى الذي ذكرته لقوله يحدث بعد المرة. وحكى بعضهم أن هذا كما يقال تركته بحالٍ، للمشرف على الشر أو الهلاك، والمراد بحال سوء، فكذلك هنا يريد والدهر يحدث الحالة المنكرة بعد المرة. وقيل أيضاً الحال: التراب اللين والحمأة، فاستعاره للضعف واللين.
إنا تركنا فلم نأخذ به بدلاً ... عزاً عزيزاً وأعماماً وأخوالاً
يقول: أد إليهم أنا بمفارقة قومنا تركنا أقارب من جهة الآباء والأمهات، متناصرةً على دفاع حوادث الدهر متعاونةً، وظهراً ظهيراً، وعزاً متناهياً قوياً، ولم نتعض منهم ما فيه طائلٌ. قوله " وأعماماً وأخوالا " أي تركناهم وهم من البر والشفقة على ما يكون عليه الأعمام والأخوال، وفيما يرجى من الوفور بهم والتأيد بمكانهم. وقوله " عزاً عزيزاً "، من شأنهم أن يشتقوا من لفظ الشيء الذي يريدون المبالغة في وصفه بناءً يتبعونه به تأكيداً وتنبيهاً على تناهيه في معناه. على ذلك قولهم: ظلٌ ظليلٌ، وداهيةٌ دهياء، وشعرٌ شاعرٌ.(1/415)
قد كنت آخذ حقي غير مهتضمٍ ... وسط الرباب إذا الوادي بهم سالا
هذا الكلام توجعٌ وتلهفٌ في إثر ما فاته من قومه، بما حصل من فساد ذات بينهم، حتى صاروا إلى التباين، والتمايز بالأبدان والتهاجر. فيقول: كنت أتقاضى بحقوقي بين ظهرانيهم فأقتضيها وأستوفيها غير مهضومٍ ولا مهينٍ إذا جاءوا محتفلين تمتلئ منهم الطرق والفجاج، وتسيل بهم المذانب والتلاع. ومثل قوله " إذا الوادي بهم سالا " قول الآخر:
وسالت بأعناق المطي الأباطح
لا تجعلونا إلى مولىً يحل بنا ... عقد الحزام إذا ما لبده مالا
المولى في البيت: الناصر أو الولي لا غير. وكأنه أقبل على قومه يستعطفهم، ويشكو إليهم ما لاقوه من غيرهم. فيقول: تلافوا أمرنا ولا تكلوه إلى ناصرٍ يؤثر صلاح حاله وإن فسد حالنا، ويروم انتعاشه وإن سقطنا، ويسوى لبده إذا اعوج وزال عن مقره بنا. وهذا تعريضٌ لمن كانوا انتقلوا إليهم. كأنهم كانوا يهمهم ما يختص بأنفسهم، ثم لا يحلفون بما يختل من شأن هؤلاء أو ينحل من عقدهم.
وفي هذه الطريقة قول الآخر:
وكنا فوارس يوم الهرير ... إذا مال سرجك فاستقدما
وأفصح من هذا قول ابن أحمر:
فإما زال سرجٌ عن معدٍ ... وأجدر بالحوادث أن تكونا
وقال ابن عنمة أيضاً:
ما إن ترى السيد زيداً في نفوسهم ... كما يراه بنو كوزٍ ومرهوب
السيد: قبيلة، وكذلك كوزٌ ومرهوبٌ. وقوله " ما إن " إن زيدت لتأكيد النفي. وذكر سيبويه أن ما الحجازية إذا قرن بإن هذه يبطل عمله، يقول: بنو السيد لا(1/416)
يقسمون لزيدٍ من التعظيم، ولا يوجبون له في نفوسهم من الحرمة والتبجيل، ما يوجبه ويقسمه بنو كوز ومرهوبٌ. والضمير على هذا من قوله " في نفوسهم " يكون للسيد. ولا يمتنع أن يكون الضمير لزيدٍ لأنه قبيلةٌ أيضاً. وهذا كما يقال: لك في نفسك حقٌ ومنزلةٌ. كأن زبداً كان له إذا راجع نفسه من التوجيه والإدلال، والتخصص والاعتزاز في بني كوزٍ ومرهوبٍ، ما لا يكاد يجده في بني السيد.
إن تسألوا الحق نعط الحق سائله ... والدرع محقبةٌ والسيف مقروب
يقول: إن وقفتم عندما يثبت من حقكم، ورضيتم بما لا نجحده من واجبكم، ولم يخيل إليكم أن طلب ما فوقه أعود عليكم، خرجنا منه إليكم من غير إباءٍ ولا امتناعٍ، ولا اهتياج حربٍ أو إعمال سلاحٍ. وقوله " والدرع محقبةٌ " أي مشدودةٌ في الحقائب، لأنه أراد بالدرع الجنس. والاحتقاب والاستحقاب: شد الحقيبة من خلفٍ. وكذلك قوله " والسيف مقروب " أي متروكةٌ في قربها؛ لأنه أراد السيوف. ويقال: قربت السيف وأقربته، وغمدته وأغمدته. وقال أبو زيدٍ: القراب: غشاءٌ يكون السيف مغمداً فيه. واحتج بقوله:
يا ربة البيت قومي غير صاغرةٍ ... ضمي إليك رحال القوم والقربا
وإن أبيتم فإنا معمرٌ أنفٌ ... لا نطعم الخسف إن السم مشروب
يقول: إن عدوتم طوركم، وتجاوزتم في الطلب حقكم إلى ما ليس لكم، فإن أنفتنا تمنع من احتمالكم، والتزام شهوتكم، وحميتنا تأبى الرضا بالتحمم، والصبر على الاقتسار والتهضم، فلا نطعم الخسف وإن شربنا السم. والخسف: أن يحملك إنسانٌ ما تكرهه. ومن الصنعة الحسنة مقابلته الطعم بالشرب، واستعارته إياهما في تجرع الغصة، وتوطين النفس على المشقة، عند إزالة المذلة، ورد الكريهة. وأنف: جمع أنوف. والمعشر: الجماعة أمرهم واحدٌ، ويقال: جاء القوم معشر معشر، أي عشرةً عشرةً.
فازجر حمارك لا يرتع بروضتنا ... إذاً يرد وقيد العير مكروب(1/417)
هذا مثلٌ. والمعنى: انقبض عن التعرض لنا، والدخول في حرمتنا، ورعى سوامك روضتنا؛ فإنك إن لم تفعل ذلك ذممت عاقبة أمرك، وعدت خاسر الصفقة وخيم الرتعة. جعل إرسال الحمار في حماهم كنايةً عن التحكك بهم، والتعرض لمساءتهم. ولا حمار ثم ولا روض. وقال ابن الأعرابي: أرادا كفف لسانك. قوله " إذا " قال سيبويه: هو جوابٌ وجزاءٌ، فالابتداء الذي هو جزاؤه محذوفٌ مستدلٌ عليه مما في كلامه، كأنه قال فإنه إن رتع رجع إليك وقد ضيق قيده، أي ملئ قيده فتلاً حتى لا يمشي إلا بتعبٍ، كأنه يضرب أو يستعمل حتى يرم جسمه ويؤدي الوجع منه إلى موضع حافره فيضيق عليه القيد.
إن تدع زيدٌ بني ذهلٍ لمغضبةٍ ... نغضب لزرعة إن الفضل محسوب
يقول: إن غضب بنو ذهلٍ لزيدٍ وامتعضوا من ضيمٍ يركبها، وأغاثوها إذا استجارت بهم، غضبنا لزرعة، وانتقمنا له ممن يهتضمه، إن الفضل معدود. فالمعنى: إنه لا فضل لكم علينا فقد عددنا ما لكم، فلم نجد زيادةً لكم، ولا استظهاراً يوجب لكم التعلي والتغلب. وإذا كان الأمر بيننا على التساوي فلا استبداد ولا احتكام. ويروى: إن القبص محسوب، وهو العدد الكثير، ويكون الكلام مثلاً. ويقال إنهم لفي قبص العدد وفي قبص الحصى، أي في أكثر ما يستطاع عدده من كثرته، والمراد: إن الأعداد الكثيرة تضبط وتحصر، فكيف ما بيننا من تفاوتٍ وتفاضلٍ، أو تساوٍ وتعادلٍ.
ولا يكونن كمجرى داحسٍ لكم ... في غطفان غداة الشعب عرقوب
كان التنازع بينهم في رهانٍ وقع على عرقوبٍ، وهو فرسٌ لهم. فيقول: لا يكونن جرى عرقوب عليكم في الشؤم كجري داحسٍ في غطفان غداة شعب الحيس. فقوله " عرقوب " ارتفع على أنه اسمٌ لا يكونن، وقد حذف المضاف وأقام المضاف إليه مقامه، لأن المراد: ولا يكونن مجرى عرقوبٍ كمجرى داحسٍ. وقوله " غدة الشعب " ظرفٌ لقوله كمجرى. وجعل النهي في اللفظ لعرقوبٍ وهو في المعنى لهم. حذرهم استعمال اللجاج لئلا يتأدى الأمر إلى مثل ما تأدى في رخان داحسٍ والغبراء. ومثل هذا من النهي قولهم: لا أرينك ها هنا.(1/418)
وقال الأخضر بن هبيرة
ألا أيهذا النابح السيد إنني ... على نأيها مستبسلٌ من ورائها
وصف أي بذا غير جارٍ على سنن ما يجلب له الصفات، لأن الصفة شرح الكلام وتبيينه، ومزيل اللبس عنه، وإذا كان أي وذا مبهمين فالانشراح غير حاصلٍ بهما، لكنه لما كان المعول على ما يتبعه من المعرف بالألف واللام صار ذا كأنه لا اعتداد به في الشرح. فيقول: أيها المتعرض لبني السيد والمتنقص لهم، والناحت أثلتهم، إنني على بعدها مني مدافعٌ عنها وذابٌ، مع تغيبهم دونها، قضاء لحق الشرف، وذهاباً مع النصفة. ويقال بسل واستبسل وتبسل بمعنىً. وقال الخليل: استبسل الرجل، إذا وطن نفسه على الموت واستيقن به. وقد استعار أبو ذؤيبٍ النباح للتعرض والإيذاء، كما فعل هذا، فقال:
ولا هرها كلبي ليبعد نفرها ... ولو نبحتني بالشكاة كلابها
وقوله " على نأيها " موضعه نصبٌ على الحال، لأن المعنى أستبسل من ورائها بعيدةً.
دع السيد إن السيد كانت قبيلةً ... تقاتل يوم الروع دون نسائها
يقول: اترك ذكر هؤلاء القوم ولا تطلب عيبهم، فإنها قبيلةٌ ذات أنفٍ وإباءٍ، فما لحقهم منذ كانوا عارٌ في حرمةٍ، ولا أصابهم سباءٌ عند غارة، بل كانت تحفظ على علاتها نساءها، وتبتذل عند الفزع مصونات نفوسها، وهذا تعريضٌ بالمخاطبين وأنهم بخلاف ذلك.
على ذاك ودوا أنني في ركيةٍ ... تجذ قوى أسبابها دون مائها
ذاك من مثل هذا الموضع لا يثنى ولا يجمع ولا يؤنث، ويشار به إلى المقتص من الحال. يقول: وعلى ما ذكرته فيهم، ومع محافظتي على ما يجب علي لهم، ليسوا إلى بأوداء، بل يتمنون أني في بئرٍ تقطع طاقات حبالها دون الوصول إلى مائها لبعد قعرها. وهذا الكلام إعلامٌ بأن تعصبه لهم، ليس عن مصادقةٍ بينهم توجب إعارة الشهادة فيهم، أو مواخاةً تؤلفهم وتعطف أواصرهم عليهم، لكنه رأى حقاً فقاله،(1/419)
وتحمل صدقاً فأداه. وقوله " دون مائها في موضع الحال لأن دون للقاصر عن الشيء. والتقدير: تجذ القوى قاصرةً عن الماء.
وقال سنانٌ بن الفحل
وقالوا قد جننت فقلت كلا ... وربي ما جننت ولا انتشيت
كان الواجب أن يقول قالوا جننت أو سكرت، فاكتفى بذكر أحدهما لأن النفي الذي يتعقب في الجواب ينظمهما. ومثل هذا قول الآخر:
فما أدري إذ يممت وجهاً ... أريد الخير أيهما يلبني
لأن المراد أريد الخير وأتجنب الشر أيهما يليني، فاكتفى بذكر أحدهما لأن ما بعده يبينهما: ولكلا موضعان: أحدهما أن يكون للردع والزجر، وحينئذ يصح الاكتفاء به والوقف عليه. والثاني أن يكون للتنبيه كألا، وحينئذ يحتاج ما بعده إلى ما يتم به. وسيبويه قصر تفسيره على أنه للردع والزجر. والشاعر أراد قال الناس في لما أظهرت إنكاري، وتشددت في إبائي، وتحفظت عندما عرض وجشم، واستنكفت مما سيم وكنف: إنه قد جن أو سكر. فزحرتهم وردعتهم، وحفت بالله نافياً لما نسبت إليه ووسمت به من الجنون والسكر جميعاً. ثم أخذ يبين كيف استنكر ما دفع إليه، واشمأز مما عرض عليه حتى قيل فيه ما قيل. والانتشاء والنشوة: السكر.
ولكني ظلمت فكدت أبكي ... من الظلم المبين أو بكيت
لكن استدراكٌ بعد نفيٍ. وهذا الكلام بيان ما أنكر منه حتى قيل إنه جن. وذكر البكاء ليرى أنفته وامتعاضه، وإنكاره لما أريد ظلمه فيه واغتياظه. فأما العرب فإنها تنسب أنفسها إلى القساوة، وتعير من يبكي لذلك. قال مهلهل:
يبكي علينا ولا نبكي على أحدٍ ... لنحن أغلظ أكباداً من الإبل(1/420)
يقول: لكن عرض علي ضيمٌ لم آلفه، واستنزلت عن حقٍ لي طال ملازمتي له، فشارفت البكاء أو بكيت. كل ذلك لاستنكافي مما ندبوني إليه وتعجبي مما راودوني عليه.
فإن الماء ماء أبي وجدي ... وبئري ذو حفرت وذو طويت
صرح بما أريد غصبه عليه فقال: هو ماءٌ موروثٌ عن الرسلاف وحمًى معروفٌ بي وبهم، سلمة الناس لنا على مر الأيام، وبئرٌ توليت استحداثها وحفرها وطيها. وقوله " ذو حفرت " ذو لغةٌ طائيةٌ في معنى الذي. يقولون: هذا ذو قال ذلك، ورأيت ذو قال ذلك، ومررت بذو قال ذلك، فيحتاج من الصلة إلى مثل ما يحتاج إليه الذي، لكنها تقع في لغتهم للمذكر والمؤنث ولهذا صلح أن يقول " وبئري ذو حفرت "، والبئر مؤنثةٌ.
وقبلك رب خصمٍ قد تمالوا ... علي فما هلعت ولا دعوت
نبه على حسن ثباته في وجه الخصوم، وتمرنه بمجاذبتهم قديماً وحديثاً، وتحككه بهم على احتفالٍ منهم في مناوأته سالفاً وآنفاً، فيقول: وقد بليت قبلك بقوم لدٍ تألبوا علي وتعاونوا، فلم أجزع لما منيت بهم جزعاً فاحشاً، ولا استنصرت عليهم غيري عند دفاعهم استنصاراً مكروهاً. والهلع: أفحش الجزع. وتمالوا، هو تفاعلوا من قولهم هو مليءٌ بكذا. فإن قيل: كيف قال هلعت، وقد قال فيما قبله: فكدت أبكي من الظلم المبين أو بكيت وهل الهلع إلا البكاء والجزع؟ قلت: إن الهلع هو الجزع الفاحش الذي يظهر فيه الخضوع والانقياد، فهذا هو الذي انتضح منه، وزعم أنه لا يظهر عليه. والبكاء الذي ذكر أنه شارفه أو كاد يشارفه قد بينا أنه كان منه على طريق الاستنكاف والامتعاض؛ فإذا كان كذلك فإنه لم يكن عن تخشعٍ وتذللٍ، ولا انقيادٍ واستسلامٍ، وسلم الكلام من التناقض والفساد.
ولكني نصبت لهم جبيني ... وألة فارسٍ حتى قريت
يقول: ولكني صبرت لهم، وانتصبت في وجوههم، وهيأت عدتي وسلاحي لدفعهم، دارئاً في نحورهم، محلئاً لهم عن ورودهم، فعل الفارس الذاب المانع يوم الحفاظ، حتى خلصت من غصبهم حقي، وقريت الماء من دونهم في حوضي. والآلة: الحربة، وجمعها إلالٌ، وأصله البريق واللمعان. والقرى: الجمع.(1/421)
وقال جابر بن حريشٍ
ولقد أرانا يا سمى بحائلٍ ... نرعى القرى فكامساً فالأصفرا
فالجزع بين ضباعةٍ فرصافةٍ ... فعوارضٍ جو البسابس مقفرا
لا أرض أكثر منك بيض نعامةٍ ... ومذانباً تندى وروضاً أخضرا
ومعيناً يحمى الصورا كأنه ... متخمطٌ قطمٌ إذا ما بربرا
إذ لا يخاف حدوجنا قذف النوى ... قبل الفساد إقامةً وتديرا
قوله " أرانا " حكاية الحال، وما يستمر ويتصل من الأفعال إذا أريد فيه الإخبار عن الماضي قد يؤتى بلفظ المستقبل فيوضع موضع بناء الماضي. على ذلك قوله:
ولقد أمر على اللئم يسبني ... فمضيت ثمت قلت لا يعنيني
ألا ترى أنه قال أمر، ثم قال فمضيت ثمت قلت. كذلك هذا قال ولقد أرانا، ثم جاء في آخر الأبيات فقال: إذ لا يخاف حدوجنا قذف النوى. فإن قيل: كيف جاز أن يقول أراني وأرانا، وأنت لا تقول أضربنا ولا أضربني؟ قلت: أفعال الشك واليقين يجوز ذلك فيها وإن امتنع في غيرها، لأن تأثيراتها في المفعول الثاني من المفعولين، إذ كان الشك واليقين يتعلقان به لا بالأول، فصار لذلك المفعول الأول كأنه غير الثاني، وكاللغو الذي لا تأثير له في حصول الفائدة، فجرى الثاني من الأول لذلك مجرى الأجنبي. وإذا قلت أضربني أو أضربنا لم يصر أحد الضميرين كالأجنبي من الأول لا لفظاً ولا معنى، والمعتاد في الفاعل والمفعول مغايرة الثاني للأول، فلما كان الأمر على ذلك لم يجز فيه ما جاز في الأول. يبين هذا أنك لو قلت ضربت نفسي أو أضرب نفسي لصلح، للتغاير الحاصل في اللفظ، فاعلمه.
وقوله حائل: اسم وادٍ. والقري: مجرى الماء إلى الروضة، وكامسٌ والأصفر: مكانان. وضباعة ورصافة: جبلان، وكذلك عوارض. وجو البسابس أي داخل البسابس، وهي المفاوز الواسعة الخالية. والجو: الهواء بين السماء والأرض أيضاً.(1/422)
والمقفر: الصائر في القفر، وهو المكان الخالي. وانتصب جو على الظرف، ومقفراً على الحال.
ومعنى الأبيات: كما نرى أنفسنا ياسمية بهذا الوادي، ونحن ننتقل في هذه المراتع التي ذكرتها، ونتحول بين هذه المناجع التي عددتها الحاصلة في جو الأرضين المستوية، وفي أثناء الأرضين المقفرة، ولا أرض أكثر خصباً من أرضك وخيراً، وأندى مذانب وتلاعاً، وأحوى لبيض النعام، وأجمع لخضر الرياض التي يستوطنها الوحوش من البقر وغيرها؛ وثورها يحفظ قطيعه وكأنه لنشاطه إذا جأر فحلٌ متغضبٌ أيام أمنا عادية النوى. وبائقة الدهر والأذى، ولم تخف نساؤنا من ترامي الغربة، وتقاذف الشقة، ولم يقع بين العشائر حرب الفساد، وضرر التهاجر والبعاد، ونحن متديرون ومقيمون، وفي أنواع النغمة والنعمة مترددون، ولدار السلامة والخفض مستوطنون.
وهذا الكلام تحسرٌ في إثر أيام السلامة، وتشكٍ من أيام الفتنة.
وقوله إذ الخاف ظرفٌ لقوله ولقد أرانا. وقوله قبل الفساد بدلٌ منه، والمذانب: مسايل المياه. ومعنى أكثر منك بيض نعامةٍ أكثر من أرضك، فحذف المضاف، وانتصب بيض على التمييز. وقوله ومذانباً انتصب على أنه معطوفٌ على بيض نعامةٍ، وتندى في موضع الصفة للمذانب، أي ندية، وكذلك " وروضاً " و " معيناً ". المعين: الثور الكبير العين، والصوار: القطيع، واشتقاقه من صرته أي قطعته. والحدوج: المراكب، ونسب الخوف إليها مجازاً، لأن المراد بها النساء، وقوله متخمط شبه الثور بفحلٍ له سورةٌ وجبلةٌ، لاهتياجه وغضبه، ومنه قيل للبحر إذا التطمت أمواجه: هو خمط التيار. والقطم: الهائج. وبربر: صوت. وقذف النوى: رميه. وقوله قبل الفساد يريد قبل حرب الفساد، وإنما سميت بهذا الاسم لأن بعضهم كان يشرب في قحف رأس صاحبه إذا قتله، وبخصف نعله بأذنه، إظهاراً للتشفي. وانتصب إقامةً على أنه مصدر لعلةٍ، ويجوز أن يكون في موضع الحال، فتقدير الأول: لا تخاف قذف النوى لإقامتنا وتديرنا، وتقدير الثاني: لا تخافه مقيمين ومتديرين. ويقال ما بالدار ديارٌ، وداريٌ، ومنه قوله:
لبث قليلاً يلحق الداريون(1/423)
والأصل في تدير الواو ولكنه بنوه على ديارٍ، لإلفهم له بكثرة تردده في كلامهم.
وقال إياس بن مالكٍ
سمونا إلى جيش الحرورى بعدما ... تناذره أعرابهم والمهاجر
يقول: سمت أبصارنا ونفوسنا، وارتفعت هماتنا إلى محاربة الحرورية - وهم فرقةٌ من الخوارج - بعد اشتداد شوكتهم وتكاثف عدتهم، وحين تحامى جيشهم بادى الناس وحاضرهم، حذر ناحيتهم وقصدهم عربيهم ومهاجرهم. وأراد بالمهاجر من ترك البدو وانتقل إلى الأمصار.
بجمعٍ تظل الأكم ساجدةً لهم ... وأعلام سلمى والهضاب النوادر
الباء من قوله بجمعٍ تعلق بسمونا، يريد قصدناهم بجيش كثيفٍ يلحق الحزن بالسهل، ويسوى الهضاب بالأرض إذا سار عليها لكثرته. وهذا كما قال الآخر:
ترى الأكم منه سجداً للحوافر
وأصل السجود الخضوع، كأنها تصير لها تراباً. والأكم: جمعٌ، يقال أكمةٌ وأكمٌ، وإكامٌ وأكمٌ. وسلمى: أحد جبلي طيئٍ. والهضاب: جمع هضبةٍ، وهي ما انبسط على الأرض من الجبال. والنوادر: المرتفعة، وكل شيءٍ زال عن مكانه فقد ندر؛ ومه نوادر الكلام. وجعل لسلمى أعلاماً لامتداده واتصال جبالٍ به.
فلما ادر كناهم وقد قلصت بهم ... إلى الحي خوصٌ كالحني ضوامر
أدرك: افتعل من الإدراك، وهو في معنى أدرك. وقلصت: ارتفعت. وقد كنى عن طول القوائم بالتقليص فقيل في وصف الفرس مقلصٌ، والمراد ذلك. يقال للمشمر: هو مقلص أسفل السربال، كما قيل هو مشقوق ذيل القميص. والحني: القسي، سميت بذلك لانحنائها؛ فهو فعيلٌ بمعنى مفعول، فيقول: حين لحقناهم كانت خفت بهم وشمرت إلى الحي خيل غائرة العيون، لاحقة البطون، كأنها في(1/424)
ارتفاع جنوبها قسيٌ مأطورةٌ. ولما يقتضي جواباً، وهو فيما يجيء من بعد. والواو من قوله وقد قلصت بهم واو الحال.
أنخنا إليهم مثلهن وزادنا ... جياد السيوف والرماح الخواطر
يجوز أن يكون معنى إليهم عندهم، فقد حكى: لا تذكر فلاناً إلى بسوءٍ، أي عندي. ويجوز أن يكون معناه الانتهاء، ويكون المراد: أنخنا إلى فنائهم وبإزائهم. وأنخنا هو جواب لما. يقول: لما أدركناهم ثم سامينا جيشهم بمثله عدداً وعدةً، وجازيناهم بأشباههم فرسانا ورجالةً، وزادنا سيوفٌ منتخلة ورماحٌ لدنةٌ مثقفةٌ. وإنما قال أنخنا لما استمرت به عادتهم من ركوب الإبل وقود الخيل إلى المغار، إبقاءً عليها، وإعداداً لوقت الحاجة إليها. والخواطر من الخطر، وأصله التحرك.
كلا ثقلينا طامعٌ بغنيمة ... وقد قدر الرحمن ما هو قادر
كلا ثقلينا أي كل واحدٍ من جماعتينا. والثقل: الجماعة. والثقلان: الجن والإنس. وقال الخليل: ثقل الرجل: حشمه ومتاعه. وقوله بغنيمةٍ، أي بسبب غنيمةٍ. والمعنى: كل واحدٍ من الغارين طمع في اغتنام صاحبه، أي يعده غنيمةً، لثقته ببأسه ونجدته. والله عز وجل قد قدر من الإظفار وإعطاء الفلج والغلبة ما قدره، لا راد لحكمه، ولا معقب لأمره. ويقال قدرت من التقدير، قدراً وقدراً. و " هو قادر " إن شئت جعلت ما موصولاً بمعنى الذي، وإن شئت جعلته موصوفاً بمعنى شيئاً. وعلى الوجهين وجب أن يقول ما هو قادره، فحذف الضمير تخفيفاً.
فلم أر يوماً كان أكثر سالباً ... ومستلباً سرباله لا يناكر
قوله كان أكثر سالباً من صفة اليوم، والمفضل محذوف الذكر، كأنه قال من ذلك اليوم. وانتصب سرباله على أنه مفعول ثانٍ من مستلباً. و " لا يناكر " في موضع الصفة له، كأنه قال وأكثر مستلباً ذا صفته. ومعنى لا يناكر: لا يقدر على الامتناع. يقال ناكرني، أي دافعني ومانعني. يقول: ما رأيت يوماً حصل فيه من السالبين والمسلوبين مثل ما اجتمع في ذلك اليوم ولا وقعةً أظهر حالاً وأكشف أمراً في قوة غالبها وضعف مغلوبها، واستسلام المقهور المسلوب واستعلاء القاهر السالب، من تلك الوقعة.(1/425)
وأكثر منا يافعاً يبتغي العلى ... يضارب قرناً دارعاً وهو حاسر
في هذا أيضاً حذفٌ وإيجازٌ كما كان في البيت الأول، كأنه قال: ولم أر قوماً كان أكثر شاباً يطلب الصيت والذكر، ويعف عن الغنيمة في الروع، فيضارب نظيراً له في البأس مستلئماً، وهو ينازله حاسراً متجرداً - من قومنا. وقوله وهو حاسر حالٌ للمضمر في يضارب، ويضارب ويبتغى جميعاً صفتان لقوله يافعاً، وعلى هذا قد حذف حرف العطف من قوله يضارب، لأن الجمل حقها إذا وصف بها النكرات أن ينسق بعضها على بعض بحرف العطف. ويجوز أن يكون يضارب في موضع الحال مما في يبتغي. واليافع: الشاب المتناهي الشباب، والفعل منه أيفع الغلام وتيفع. وباب يفع مقصورٌ على الارتفاع والإشراف في الجبل والأرض وغيرهما. ويقال غلامٌ يفاعٌ ويفعهٌ ويافعٌ، ولا يقال موفعٌ. وجعل القرن دارعاً وصاحبه حاسراً، تفضيلاً له عليه. وقد يوصف الممدوح بلبس الدرع ويراد به حزامته وتحرزه، كما يوصف بضده ويراد وجرأته.
فما كلت الأيدي ولا انأطر لقنا ... ولا عثرت منا الجدود العواثر
نبه بهذا الكلام على تساعد أحوالهم فيما ترددوا فيه، وتناصر أسبابهم عندما لابسوه ونهضوا له. وإمكان الفرص فيما يقرب التمكن من العدو، وارتفاع العلل من موجبات القهر والعلو. فيقول: قويت أيدي المقاتلين منا فلم يمسها لغوبٌ، ووفت الأسلحة بمواعيدها من البقاء فلم يخن رمحٌ منها بانكسارٍ وفتورٍ، ولا سيفٌ بنبوٍ وكلول، ولا خذلتنا جدودنا فمالت إلى تعثرٍ أو سقوطٍ. وإذا توازرت هذه الأسباب وتعاونت، فحصل الجد والجد، وانزاحت العلل في الدواعي والآلات، كان الكمال في نيل المراد. وقوله انأطر في معنى انعطف وتثنى. يقال أطرته فانأطر، ومنه إطار الباب والمنخل. وقوله ولا عثرت منا الجدود العواثر، مثل قول الآخر:
ولا ترى الضب بها ينجحر
لأنه لم يثبت لأنفسهم جدوداً من شأنها أن تزل وتعثر ثم نفى ذلك عنها في ذلك اليوم، بل أراد أنهم لا جدود لهم بهذه الصفة، كما أن الشاعر الآخر أراد لا ضب فينجحر. ومعنى الكلام: كان الغلب لنا وتعثرت جدود غيرنا.(1/426)
وقال الأخرم السنبسي
ألا إن قرطاً على آلةٍ ... ألا إنني كيده ما أكيد
يقال: فلانٌ لي على حالةٍ وعلى آلةٍ، إذا تنكر وتغير عما كان يعهد عليه من قبل. وهذا يجري مجرى الكنايات. ويقال أيضاً: حصل فلانٌ لنا على لونٍ، يراد على لونٍ مذمومٍ. فيقول: إن هذا الرجل تحول عما كان يجري عليه معي، إلى أمرٍ أنكره ولا أعرفه، ألا إنني أكيد كيده، أي أقابل كيده لي بكيدٍ مثله. وما زائدةٌ، وتلخيصه: أكيده كيداً يماثل كيده لي. وهذا كما يقال ضربه ضرب غريبة الإبل. والمعنى: أقتدي به فيما تنطوي لي عليه ويعاملني به، لا أبتدئه بمساءةٍ، ولا أعاجله بمكرٍ وخيانةٍ، بل أقلده البغي، وأنتظر من جهته الحؤول والنكث، ثم أجازيه كيل الصاع بالصاع.
بعيد الولاء بعيد المحل من ينأ عنك فذاك السعيد
يذم قرطاً فيقول: هو بعيد النصرة والموالاة، أي بطيئها، بعيد الدار والمسكن؛ يعني تنائيها. ثم قال: من بعد عنك فقد سعد جده. نقل الكلام عن الإخبار إلى الخطاب على عادتهم في افتنانهم، وكأنه التفت إليه يريه الزهادة في مجاورته، والاستغناء عن معونته، واكتفاءهم بأنفسهم دونه، فقال ذلك بعد ما أخذ في وصفه.
وعز المحل لنا بائنٌ ... بناه الإله ومجدٌ تليد
الهاء من قوله بناه الإله يجوز أن يكون للعز، ويجوز أن يكون للمحل. فإذا جعلته للعز فالأجود أن ينعطف مجدٌ على الإله، كأن العز حصل للمحل بالله تعالى وبمجد الآباء. وإذا جعلته للمحل يجوز أن يرتفع ومجدٌ بالابتداء، ويكون الكلام منعطفاً والخبر محذوفاً، كأنه قال: ولنا مجدٌ تليدٌ. وبناه الإله في موضع الحال للمحل، والأجود أن يضمر معه قد. وإنما يفتخر بأن بلادهم حصينةٌ، وديارهم عزيزةٌ. وذلك أن بلاد طيئ يكتنفها جبلاهم أجأ وسلمى، فلا تستطرفهم الغارات، ولا تهجم عليهم سوابق الفلتات والنزوات. فيقول: عزنا في دارنا ظاهرٌ للناس غير خافٍ، آثرنا الله تعالى به، ولنا مجدٌ متوارثٌ. وأصل المجد الكثرة. والتالد والتليد: القديم.(1/427)
ومأثرة المجد كانت لنا ... وأورثناها أبونا لبيد
مأثرةٌ: مفعلةٌ من أثرت الحديث، إذا رفعته ونسبته. يريد: أن بالعز اجتمع لهم مكتسباً وموروثاً، وتالداً وطريفاً، ومخولاً من عند الله تعالى تخويلاً، فلهم بذلك صيتٌ في الناس يؤثر، وذكرٌ على مر الأيام يخلد، وثناءٌ يتصل ولا ينقطع، وسناءٌ يستمر ولا يقف، كما كان لأبيهم لبيد.
لنا باحةٌ ضبسٌ نابها ... يهون على حامييها الوعيد
الباحة: الساحة. والضبس: الشديد. ويقال هو ضبسٌ شرسٌ، في الحريص الشديد. والناب: سيد القوم. وأراد بالحاميين جبلي طيئٍ، والضمير منها يعود إلى الساحة. ويجوز أن يريد بالناب واحد الأنياب، وجعله مثلاً للشدة. وذكر الباحة والمراد أهلها، كما قال الآخر:
وإن مقرمٌ منا ذرا حد نابه ... تخمط فينا ناب آخر مقرم
يقول: لنا ساحة دارٍ رئيسها والمدافع عنها شكس الخلق، شديد الإباء على الأعداء، يهون وعيد المتوعدين على النازلين في جوانب جبليها، المانعين منها. وقوله على حامييها حذف المضاف وأقام المضاف إليه مقامه.
بها قضبٌ هندوانيةٌ ... وعيصٌ تزاءر فيه الأسود
ثمانون ألفاً ولم أحصهم ... وقد بلغت رجمها أو تزيد
نبه بهذا الكلام على أن ديارهم تحوى العدد والعدة، فرجالهم أسودٌ في مأسدتها تزئر فيها، وسلاحهم الهندوانية يستعملونها. والعيص: الأصل الكريم، ومنابت كرائم الأشجار الملتفة، ومنه قولهم أعياص قريشٍ لكرامهم وقوله ثمانون ألفاً هو تبيين كمية ما أشار إليه، وتفصيل ثروتهم بعد الإجمال، فقال: هو ثمانون ألفاً، ولست أقول هذا عن إحصاءٍ وعدٍ، أو ضبطٍ بعد حصرٍ، لكنه رجمٌ مني وحدسٌ، فهم يبلغونه أو يزيدون عليه. وتحقيق قوله لم أحصها، لم أضبط كثرتها. والحصاة(1/428)
تستعمل في الكثرة والعقل. وقوله وقد بلغت رجمها، أي رجمي لها، أضيف المصدر إلى المفعول.
وقال عبد الرحمن المعني
قد قارعت معنٌ قراعاً صلبا
قراع قومٍ يحسنون الضربا
ترى مع الروع الغلام الشطبا
إذا أحس وجعاً أو كربا
دنا فما يزداد إلا قربا
تمرس الجرباء لاقت جربا
أصل القرع الضرب على الشيء الصلب. ومعنٌ: قبيلة. يريد أنها ضاربت أعداءها ضرباً شديداً، ودافعتهم دفاعاً مرضياً، ضراب قومٍ لهم نيقةٌ حسنةٌ في القتال، وأخذةٌ عجيبةٌ في اللقاء، يهتدون للغلاب والاعتلاء أحسن اهتداء، ويتأتون للقراع من أقرب غايةٍ وإلى أبعد انتهاء؛ ترى عند اهتياج الفزع الغلام التام القامة منهم، القليل اللحم، المطاول عند مبارزة الخصم متى أدرك وجعاً، أو أحس شدةً وضيقاً، يقدم ولا يحجم، بل يزداد على حد الجذاب مصادمة، وعلى طول المراس مكافحةً ومكافةً، فيحتك بالأبطال في المواقف احتكاك الإبل الجربى في المعاطن.
قوله ترى مع الورع أي عند حصول الروع لا يتأخر عنه، فهو معه يقوم بقيامه، ويهتاج باهتياجه.
وقوله إذا أحس ظرفٌ لقوله دنا. وانتصب تحكك على أنه مصدرٌ من فعلٍ دل عليه قوله فما يزداد إلا قربا.
وقوله لاقت جربى يجوز أن يكون جمع أجرب وجربٍ كأحمق وحمقٍ وحمقى. ويجوز أن يكون مقصوراً من جرباء، والشاعر أن يقصر الممدود. أي تحكك الجرباء لاقت جرباء مثلها. ويجوز أن يروى جربا بضم الجيم، فيكون كأسود وسودٍ، وأقلف وقلف.(1/429)
وقال عبيد بن ماوية
ألا حي ليلى وأطلالها ... ورملة ريا وأجبالها
يخاطب نفسه مظهراً للتجلد، ومتبجحاً بأن الشدائد لا تنسيه الأحبة ولا تعتاقه عن التسليم عليها، والوقوف على منازلها ومساءلتها، وأنه متى مني بها أهمه أمرها أشد مما كان قبل، ولم يله عنها؛ فيقول: سلم على هذه المرأة وعلى ديارها، وعلى رمال ريا والجبال المحيطة بها، وإن طرفك من الحوادث ما يشغل عن مثله.
وأنعم بما أرسلت بالها ... ونال التحية من نالها
قوله بما أرسلت أي بدلاً مما أرسلت. وما مع الفعل من تقدير مصدر، يعني بإرسالها. وتقول العرب: هذا بذاك، أي عوضٌ منه، وهذا لك من ذاك في معناه. وعلى هذا قول الشاعر.
ليت لنا من ماء زمزم شربةً ... مبردةً باتت على الطهيان
أي عوضاً من ماء زمزم. والبال والخلد يستعملان على طريقة واحدة، يقولون: وقع في خلدي كذا، وسقط على بالي وخطر ببالي. والمعنى: قل أنعم الله بالها، جواباً لتحيتها، وجزاءً على مراسلتها. وقوله ونال التحية من نالها يحتمل وجهين. يجوز أن يكون المعنى: وأصاب الملك من أصاب هذه المرأة. وهذا الكلام تفخيمٌ لشأن المرأة وتعظيم لخطبها. ويقال نلت كذا أنال نيلاً. والتحية: الملك، ومنه التحيات لله. وقيل في قول الشاعر:
ولكل ما نال الفتى ... قد نلته إلا التحية
إنه أراد به تحية الملك، وهو قولهم في مخاطبته: أبيت اللعن، والمعنى معنًى واحدٌ. ويجوز أن يكون نال بمعنى أنال. قال أبو زيد: يقال نلته أنوله نولاً ونوالاً، أي أعطيته. وعلى هذا يكون الكلام دعاءً. والمعنى: أنال الله التحية من أنال هذه(1/430)
المرأة تحيتي. كأنه يدعو نفسها إلى إهداء التحية إليها على بعدها. وفي الوجه الأول يجوز أن تكون المرأة قريبةً.
فإني لذو مرةٍ مرةٍ ... إذا ركبت حالةٌ حالها
المرة: القوة والقتل، ومنه قولهم: استمرت مريرته، واستمر عذاره، في الإباء والتمنع. ولم يرض بأن جعل لنفسه مرةً حتى وصفها بأنها مرةٌ، يعني في فيم ذائقها، وعند تجربة مزاولها. وهذا التجنيس حسن المورد. والضمير من قوله حالها يعود إلى الحالة، كأنه أضافه إليها لما كانت تليها، وجعلها مركوبها. فيقول: افعل ذلك واصرف همك إليها، وإلى الدعاء لها، وطلب السقيا لديارها، ولا تبال بما يعن ويعرض من مزاحمة عدوٍ، أو مراغمة حسودٍ، فإني لذو قوة لا تستحليها الفرق المنابذة، إذا تراكمت الأمور، وتراكبت الأحوال والوجوه، فخفيت مواردها ومصدرها، والتبست فصولها ووصولها.
أقدم بالزجر قبل الوعيد ... لتنهى القبائل جهالها
يجوز أن يكون أقدم بمعنى أتقدم، ويكون الباء من بالزجر في موضعه. ومثله نبه بمعنى تنبه، ووجه بمعنى توجه، ونكب بمعنى تنكب. ويجوز أن يكون قدم ضد أخر، ووجب أن يقول: أقدم للزجر، فجعل الباء زائدةً للتأكيد، كما جاء في قوله: " تنبت بالدهن وصبغٍ للآكلين " لذلك. ومثله قول الشاعر:
سود المحاجر لا يقرأن بالسور
ومعنى البيت: أزجر المتعرض لي قبل أن أتوعده، وأعظه بالنهي والتحذير قبل تخشين الجانب له، لكي ينهى حكماء القبائل سفهاءها، وليكون مني تدرج في مؤاخذتهم؛ فابتدئ بالزجر، ثم أرتقي إلى الوعيد، ثم إلى الإيقاع.
وقافيةٍ مثل حد السنان ... تبقى ويذهب من قالها
تجودت في مجلسٍ واحدٍ ... قراها وتسعين أمثالها(1/431)
القافية: آخر البيت المشتمل على ما يجب على الشاعر مراعاته وإعادته في كل بيتٍ، سمى بذلك لأنه يقفو ما قبله. وهم يسمون البيت بأسره قافية، لاشتماله على القافية، والقصيدة بأبياتها قافية، لاشتمالها على الأبيات المقفاة. وهذا توسعٌ منهم، كما يسمون القصيدة كلمةً؛ والحقيقة ما قدمته. والأولى بهذا الشاعر عندي أن يريد بالقافية البيت، لأن نظم تسعين بيتاُ غير مستنكر في العرف والعادة من المقتدرين، المجيدين المفلقين، ذوي البدائة العجيبة، والخواطر السريعة، ولو أراد القصيدة لبعد عن المعتاد. فيقول: رب قافيةٍ تنفذ نفاذ السنان، وترويه لجودتها الواة فلا تخلق على مر الأيام، ولا تبليه السنون والأعوام، بل تبقى مع الليل والنهار بقاء الظلم والأنوار، وإن درج قارضها، ومضى منشئها، أنا تجودتها في مجلسٍ واحدٍ مع تسعين من نظائرها. يريد أنه لسان قومه، ومدره عشيرته. ومعنى تجودت: اخترت عند الجمع جيدها. وهذا كما يقال: تنقيت الشيء وتخيرته. وقوله وتسعين أراد مع تسعين، فيكون انتصابه على أنه مفعول معه كقوله تعالى: " فأجمعوا أمركم وشركاءكم "، لأن المراد مع شركائكم. ويجوز أن تكون الواو عاطفةً منه، كأنه قال: قراها وقرى تسعين تماثلها. وقرى يجوز أو يكون من قريت الماء في الحوض، ويجوز أن يكون من قروت الأرض إذا تتبعته. ويجوز أن يكون القرى ما يطعم الضيف، فاستعاره كما قال: قرى الهم إذا ضاف الزماع كأن القوافي لما تواردت أحسن القيام بها، وجود القرى لها.
وقال ابن رالان السنبسي
لما رأت معشراً قلت حمولتهم ... قالت سعاد أهذا مالكم بجلا
الحمولة: الإبل التي يحمل عليها. والحمولة بالضم: الأحمال، يقول: حين رأت هذه المرأة فقرنا وقلة إبلنا قالت منكرةً ومتعجبةً: أهذا مالكم فحسب. و " بجلا " في موضع الحال، والمعنى أهذا مالكم مكتفًى به. والأصل في بجل البناء على السكون، ودعت الضرورة إلى تحريكه فحركه بالفتح، وكان الواجب إذا حرك الكسر(1/432)
فيه. ومثله قول الآخر:
ونعم إن قلتم نعما
لأن نعم أيضاً مبنيٌ على السكون فحرك آخره للضرورة بالفتح كما ترى. وقد يضاف بجل لكونه اسماً كما يضاف قد إذا كان بمعنى حسب. قال:
بجلى الآن من العش بجل
وفي قد جاء:
قدني من نصر الخبيبين قدى
والمال عندهم الإبل، ولهذا يطلقون فيقولون: المال في الرعي، لاشتهار لفظة المال عندهم بها.
إما ترى مالنا أضحى به خللٌ ... فقد يكون قديماً يرتق الخللا
الخلل الأول النقص، والخلل الثاني الفرجة بين الشيئين حتى يصح الرتق معه. وفي الكلام اختصارٌ، لأن المعنى أجبناها بأن قلنا: إن كنت ترين اختلال حالنا وانتقاص مالنا، وظهور الفاقة والفقر على صفحات ظواهرنا، فقديماً كان يسد الخل بمالنا، وترتق الفتوق بها، وترد عادية الشر بتفريقها. وقوله فقد يكون جعل اللفظ مستقبلاً وإن أراد المضي، لاستمرار الحال على طريقةٍ واحدة؛ وقد مضى مثله. ويجوز أن يكون حكى الحال، كقوله تعالى: " وكلبهم باسطٌ ذراعيه بالوصيد ".
قد يعلم القوم أنا يوم نجدتهم ... لا نتقي بالكمى الحارد الأسلا
قوله قد يعلم القوم الكلام في استعمال لفظ المستقبل هو على ما قدمناه في قوله فقد يكون قديما من البيت الذي قبله. فيقول: قد اشتهر من شأننا يوم البأس والشدة، ووقت احتماء الوطيس والتهاب النائرة، أنا لا نحجم فنتقي رماح الأعداء(1/433)
بالشجعان، ولكن غيرنا يتقي بنا فنتقدم إذا تأخر، ونستبسل إذا تحرز. والحارد: المجتمع الخلق الشديد المهيب، الذي يحسب من عزه غضبان.
ولكن ترى رجلاً في إثره رجلٌ ... قد غادرا رجلاً بالقاع منجدلاً
هذا تصويرٌ لما أثبت من أفعالهم في الإقدام، لما نفي عن أنفسهم الإحجام، فيقول مخاطباً واحداً من الناس: لكنا نتهافت ونتتابع حرصاً على القتال، حتى ترانا من بين طاردٍ وقاتل، وكارٍ وفارٍ، وطالبٍ ومطلوبٍ، وقد تركا صريعاً ساقطاً على الأرض، كأن أحجهما صرع قتيلاً والآخر يتبعه لينال منه. ويجوز أن يكون معنى قد غادرا قد غادر كل واحد منهم رجلاً مصروعاً، كما يقال: كسانا الأمير حلةً، والمعنى كسا كل واحدٍ منا. وكقول الله تعالى: " فاجلدوهم ثمانين جلدةً ". وفي هذه الطريقة قول الآخر:
وهل غمرات الموت إلا نزالك الكمى ... على لحم الكمى المقطر
والقاع: المستوى من الأرض. والمنجدل: المصروع. والجدالة: الأرض، كأن معنى جدلته: أصبت الجدالة به.
وقال قبيصة بن النصراني الجرمي
لم أر خيلاً مثلها يوم أدركت ... بني شمجى خلف اللهيم على ظهر
أراد بالخيل الفرسان لا الأفراس، كما روى: " يا خيل الله اركبي ". وقوله على ظهر في موضع الصفة لقوله خيلاً، كأنه قال لم أر فرساناً تماثلها على ظهرٍ يوم أدركت هذه القبيلة خلف هذا الجبل. وقوله على ظهر يحتمل وجهين: أحدهما أن يكون المعنى لم أر خيلاً على ظهر الأرض، كما جاء في التنزيل: " ما ترك على ظهرها من دابةٍ ". والثاني أن يكون المعنى: لم أر خيلاً على ظهور الدواب، لكنه قصد الجنس فوحد كما يقال هو يرتبط كذا رأساً من الدواب، وكذا ظهراً منها. وذكر بعضهم أن ظهراً اسم ماءٍ، كأنه قال خلف هذا الجبل على هذا الماء. وهذا إذا ثبت سيلم للسماع. وذكر بعض أصحاب المعاني أن قوله على ظهر يجوز أن يكون في موضع الحال للمضمر في أدركت، أي يوم أدركتهم قاهرةً لهم،(1/434)
وعلى قهرٍ وغلبةٍ فيهم؛ من قولك ظهرت على فلانٍ ظهوراً وظهراً. وفي القرآن: " ليظهره على الدين كله ".
أبر بأيمانٍ وأجرأ مقدماً ... وأنقض منا للذي كان من وتر
ولما أراد بالخيل أصحابه وفرسان جيشه ساغ أن يقول وأنقض منا. ويشبه هذا ما يحي. من صلة الذي في مثل قوله:
أنا الذي سمتن أمي حيدرة
فقال سمتن والوجه سمته. وباب الصلات والصفات تتداخل وتتشابه. فيقول: لم أر أوفى بالنذور والأقسام إذا عقدناها والتزمناها، وأجرأ إقداماً وثباتاً في وجوه الأعداء إذا ناصبناها وكاشفناها، وأسعى في نقض الأوتار وإدراك الذحول بعد إبرامها وتعقدها منا. ونقض الوتر هو حل عقده باشتفاء النفس من الواتر الذي يبرمه. وكان الشريف الأنف منهم إذا أصيب ووتر ينذر أنه لا يشرب خمراً ولا يقرب امرأةً، ولا يغسل رأساً، وما يجري هذا المجرى مما يكرث النفس إذا أخلت به، حتى ينال الوتر. لهذا قال امرؤ القيس بعد تأثيره في بني أسدٍ ونيله منى النفس فيهم:
حلت لي الخمر وكنت امرأً ... عن شربها في شغلٍ شاغل
فاليوم أسقى غير مستحقبٍ ... إثماً من الله ولا واغل
فأما قول الأعشى:
فأظعنت وترك في دارهم ... ووترك من قبلهم لم يقم
فهو في طريقة قوله نقضت الوتر منه.
عشية قطعنا قرائن بيننا ... بأسيافنا والشاهدون بنو بدر
أضاف القرائن إلى بيننا لأنه جعله اسماً ونقله من باب الظروف. وعلى هذا قراءة من قرأ: " لقد تقطع بينكم " بالرفع، والمعنى وصلكم. ولك أن تروى قرائن بيننا فلا تضيف وتترك بيننا في بابه ظرفاً، كما قد قرئ: " لقد تقطع بينكم " بالنصب. ويعني بالقرائن الأرحام والأواصر.(1/435)
وانتصب عشية على أنه بدلٌ من قوله يوم أدركت بني شمجى فيقول: لم أر خيلاً تماثلها عشية أرسلنا دوابنا على أعدائنا، وأوقعنا أنفسنا عليهم، فقطعنا باستعمال السيوف الوصل الجامعة لنا، والأسباب الناظمة لشتاتنا، وبنو بدر حاضرون لنا، ومتوسطون لما نثيره بيننا، والمشاهدون لبلائنا، والمصدقون لما ندعيه من فعلنا.
فأصبحت قد حلت يميني وأدركت ... بنو ثعلٍ تبلى وراجعني شعري
يقول: أتى على الصباح ثاني ذلك اليوم، وقد حل نذري، وأدرك قومي ذحلي، وانطلق بالفخر لساني، فصرت خفيف الظهر بعد أن كنت مثقلاً بعبء الوتر، وكان الشعر هاجرني وفارقني مدة السعي في نيل المطلوب من إمكان فرصةٍ أنتهرها، ثم راجعني. وهذا ضد قول الآخر:
فلو أن قومي أنطقتني رماحهم ... نطقت ولكن الرماح أجرت
وقال أدهم بن أبي الزعراء
قد صبح معنٌ بجمعٍ ذي لجب
قيساً وعبدانهم بالمنتهب
وأسداً بغارةٍ ذات حدب
رجراجةٍ لم تك مما يؤتشب
إلا صميماً عرباً إلى عرب
تبكي عواليهم إذا لم تختضب
من ثغر اللبات يوماً والحجب
يروى: الألباب.
قوله قد صبحت معنٌ بجمعٍ، الجمع: المجتمعون: والجماع: المتفرقون. ومعنى صبحت، أي أتت قيساً صباحاً بكتيبةٍ لها جلبةٌ وصوتٌ، لكثرتها. والعبدان بكسر أوله ويضم، وهو جمع عبدٍ، يقال عبدٌ وأعبدٌ وعبيدٌ وعبادٌ وعبدي ومعبوداء،(1/436)
وعبدٌ، فعبدانٌ جمع عبيدٍ. والمنتهب، قيل هو اسم مكانٍ، ويجوز أن يكون المراد به الإنتهاب أو موضع الإنتهاب. ومعنى البيت أغارت هذه القبيلة وقصدت بجيش عظيمٍ، بني قيسٍ وعبيدهم بهذا الموضع. ويعنى بالعبيد الرعاة والعسفاء الذين يكونون مع الإبل. كأنهم في أحويتهم، وفي موضعٍ كانت أموالهم حاضرةً، غير عازبة ولا غائبةٍ.
وقوله وأسداً بغارة، يقول: وصبحت أسداً بخيلٍ ذات اعتلاء وموجان، تتدافع في سيرها ولا تستقيم، لكثرتها، ولم يكونوا أشاباتٍ وفرقاً جمعت من شيء إلى شيء. وقوله ذات حدب يجوز أن يكون مصدر الأحدب، ويكون وصف الغارة بالحدب كما قيل آلةٌ حدباء، وعزةٌ قعساء، كأنه ينبو ظهرها عمن يريد ركوبها واقتسارها. ويجوز أن يراد به الارتفاع والكثرة. وقال الخليل: الحدب حدورٌ في صببٍ، يعني العقبة. قال: ومعه حدب الريح وحدب الرمل. وفي القرآن: " وهم من كل حدبٍ ينسلون ". فأما قوله بغارةٍ فالعرب تسمى الخيل غارةً لأنها من قبلها تكون، وهذا من باب تسمية الشيء بما يكون من سببه. والغار بلا هاء يستعمل في الجمع الكثير، وفي الحديث: " ما ظنك برجلٍ جمع بين هذين الغارين ".
وقوله: رجراجةٍ يقال كتببةٌ رجراجةٌ، أي تضطرب وتموج من كثرتها. وامرأةٌ رجراجةٌ، أي تترجرج من بدنها ونعمتها. وقوله مما يؤتشب يقال أشبته وائتشبته، أي جمعته من وجوهٍ مختلفة لا خير فيها. وأصل الأشب الالتفاف. ويقال غيضةٌ أشبةٌ. وتوسعوا فيه فقالوا: عند فلانٍ أشابةٌ من المال، أي مما كسبه من الحرام وما لا خير فيه.
وقوله إلا صميماً، يقال هو من صميم قومه، إذا كان من خالصتهم ومحض أصلهم؛ ومنه قولهم: صميم الأس والساق، للعظم الذي به قوام العضو، وتوسعوا فقالوا: جاء في صميم الصيف أو الشتاء. وانتصب صميماً على أنه استثناءٌ خارجٌ. وجعل قوله عرباً إلى عرب بدلاً منه. ومعنى إلى عرب: مع عرب، كما يقولون: هذا إلى ذاك.(1/437)
وقوله تبكي عواليهم إذا لم تختضب فعالية الرمح وغيره أعلاه، وقيل العالية القناة المستقيمة. وقوله إذا لم تختضب يقال خضب الرجل شعره، واختضب. ولا يذكر الشعر معه، وقد يكون اختضب في مطاوعة خضب. ومعنى البيت: لكنهم كانوا خلصاً عرباً مع عربٍ، عودوا رماحهم أن تسقى دماء الصدور والقلوب، فإذا انقطع شربها عنها تبكي تحسراً عليه، ووجداً به. وهذا مثل.
ويعنى بثغر اللبات: هزمات التراقي وحجب الأفئدة. ويقال لببٌ ولبةٌ، ولذلك روى: من ثغرٍ الألباب واللبات. والمعنى أنهم بصراء بالطعن فلا يصيبون إلا المقتل.
وقال برج بن مسهرٍ الطائي
إلى الله أشكو من خليلٍ أوده ... ثلاث خلالٍ كلها لي غائض
جعل شكواه إلى الله عز وجل، ليأسه من معونة المخلوقين فيما يتألم منه ويتضجر به. يقول: أشكو ثلاث خلالٍ من صديقٍ لي أميل إليه، وأخلص الواد له، وكل واحدة من تلك الخلال يهزلني وينقص من لحمي، ويكسر من نشاطي. ويقال غاض الماء وغضته أنا، وفي القرآن: " وغيض الماء " فهي من باب فعلت الشيء ففعل. قال الشاعر:
فلا راكدٌ يجري ولا هو غائض
فمنهن ألا تجمع الدهر تلعةٌ ... بيوتاً لنا يا تلع سيلك غامض
يجوز أن يروى تجمع بالنصب والرفع، فإذا نصبت فلأن أن قبله هي الناصية للفعل، وإذا رفع فأن تكون مخففةً من الثقيلة، أراد أنه لا تجمع، والهاء ضمير الأمر والشأن. ومثله في القرآن: " أفلا يرون ألا يرجع إليهم قولاً "، قرئ يرجع بالرفع والنصب، حملاً على الوجهين المذكورين. والتلعة: أرضٌ مرتفعةٌ يتردد فيها السيل إلى بطن الوادي. ويقال: فلانٌ لا يوثق بسيل تلعته، إذا كان غير صدوقٍ في أخباره. وباب التعل كله يدور على الإشراف والارتفاع. وقوله " يا تلع سيلك غامض " يسمى نقاد الكلام مثله التفاتاً، فهو مثل قول جرير فيما حكى عن الأصمعي:
متى كان الخيام بذي طلوحٍ ... سقيت الغيث أيتها الخيام(1/438)
وصلح ترخيم تلعةٍ وإن كان نكرة، لأنه قصد بها في النداء إلى واحدة بعينها. ومعنى البيت: من تلك الخلال التي أتألم منها أني وإياه لا نجمع طول الدهر في مكانٍ، ولا يحوى بيوتنا تلعةٌ من التلاع. ثم التفت مظهراً التضجر، ومبدياً، التوجع إلى التلعة. ثم التفت مظهراً التضجر، ومبدياً، التوجع إلى التلعة، فقال: لا جرى فيك سيلٌ، ولا ظهر بك خصبٌ، ولا سقي لك عهدٌ. وهذا كأنه للموضع الذي لا يتفق له مع صديقه المذكور فيه التقاءٌ على قربه وجواز كون ذلك فيه ذنباً، فأقبل يدعو عليه تضخراً به. ومن عادة الناس النظر في الديار وما يسنح فيها من اجتماع الأحبة أو افتراقهم، وانتظام شملهم فيها أو انبتاته. وقد ورد الخبر بمثل ذلك أيضاً.
ومنهن ألا أستطيع كلامه ... ولا وده حتى يزول عوارض
يجوز أن يروى أستطيع بالرفع والنصب على ما تقدم في البيت قبله. وقوله " ولا وده " إن قيل كيف قال لا أستطيع وده، وقد قال في البيت الأول من خليلٍ أوده، فأثبت الود؟ قلت: إنما يعني لا أستطيع مقتضى وده وموجبه، فحذف المضاف. وقوله حتى يزول عوارض، معناه حتى كان ما لا يكون. والمراد بالبيت: ومن تلك الخلال ما عرض بيني وبينه من إعراضٍ متصل وهجرٍ دائم، فلا أقدر على مفاوضته فيما يعن من خيرٍ وشر، ولا أطيق مباثته ما ينتقل فيه من محبوبٍ أو مكروهٍ، ولا أستطيع موادته ومخالصته بحسب الأحوال المتشابكة بيننا، ما ثبت عوارضٌ وهو جبلٌ ودام للدهر متصلٌ.
ومنهن ألا يجمع الغزو بيننا ... وفي الغزو ما يلقى العدو المباغض
وجه جواز الرفع في يجمع والنصب على ما تقدم. وقد رتب الشاعر في هذه الأبيات مسببات المودة ونتائجها، وما يوجبه غراس المقة وآثارها، أحسن ترتيب، فابتدأ عند ذكر انتفائها وامتناعها بتعذر الاجتماع بالأبدان في المجالس والمحال، لأنه الأول والأصل في انعقاد الوداد، ثم أتبعه بما يصحب الاجتماع للتألف، حتى لا ينفك منه من التوانس والتساؤل، والمخالقة والإلطاف، لأنه تلو الأول وثانيه. ثم أردف المقدمتين بنتيجتهما من التعاون والتساعد، والاهتمام والشفقة عند ما يحدث ويتجدد من صغيرٍ وكبيرٍ، ومردودٍ ومقبولٍ، فيقول: ومن تلك الأحوال أن التشارك في جوالب الدهر بيننا رفض، والتألب على الأعداء من مقاصدنا سقط، فلا يؤلف بيننا مراعاة عزٍ، ولا عمارة ودٍ، ولا ينظم نوانا اجتذاب محمدةٍ، ولا دفاع مظلمةٍ. ثم(1/439)
قال: وفي الغزو ما يلقى العدو ما صلةٌ، والمعنى: وفي العز يحتاج إلى الصديق المخالص، إذ كان إنما يلقى فيه العدو المباغض. فهذا وجهٌ. ويجوز أن يكون المعنى: وفي الغزو قد يلقى العدو المباغض فكيف الصديق المواد. والأول أشبه وأجود.
ويترك ذا البأو الشديد كأنه ... من الذل والبغضاء شهباء ماخض
أخذ يبين مساس الحاجة في الغزو إلى ائتلاف الأوداء، وتعاون الأشداء، فيقول: وإذ كان الغزو يترك المتكبر الذاهب بنفسه مذاهب ذوي الجبرية والعز، وكأنه مما لزمه من الذل والبغض للخلاف والحرب، وتناسى الاعتلاء والقهر، ناقةٌ شهباء أثر وجع الولادة فيها فضعفت وسقطت. وإنما خص الشهباء بالذكر لأنها أنعم الإبل وأرقها، وأقلها صبراً وأضعفها.
والمخاض: وجع الولادة، ويستعمل في أنواع الحيوان. والطلق لا يكون إلا في النساء.
فسائل هداك الله أي بني أبٍ ... من الناس يسعى سعيناً ويقارض
أخذ يستعطف الصديق الذي شكاه، ويستميل بقلبه، فقال: سل أرشدك الله للخير وصلة الرحم، وعدل بك عن سبل الضلال والقطيعة: أي قومٍ من الناس يسعى في منع قوى التشابك من الانبتات، وصون عرى التواصل عن الانفصام، سعينا؛ أو يقارض ذوي القربات، وإخوان الوداد والمصافاة، في حالتي السراء والضراء، مقارضدنا؛ ثم توفر علينا بمثل ما يقتضيه الخبرة والمعرفة، وعلى ما يبعث عليه البحث والمساءلة.
نقارضك الأموال والود بيننا ... كأن القلوب راضها لك رائض
في الكلام إلمامٌ بالعتب، وإظهارٌ للاستجفاء؛ لأنه أخذ يبين تمام ميلهم إله، وحسن احتمالهم منه، وأنهم على جفائه لا يمنعونه مالاً، ولا يمذقون له وداً، وكأن قلوبهم جبلت على حبه، وأشربت مودته، فمتى رامت سلوةً أو نبواً أديرت إلى عادته الأولى، وعطفت على محبته القدمى.
كفى بالقبور صارماً لو رعيته ... ولكن ما أعلنت بادٍ وخافض
قوله بالقبور في موضع الرفع على أن يكون فاعل كفى، وانتصب صارماً على الحال أو التمييز. ولما كان القصد بذكر القبور إلى ما يؤدي إليها، وهو الأجل(1/440)
المضروب، صلح أن يقول صارماً لو رعيته. ويقال رعيت النجوم وراعيتها، إذا راقبتها. وقوله وخافض أراد به منخفضٌ لكنه أخرجه مخرج النسبة كأنه قال وذو خفضٍ. يقول: لو انتظرت الموت، وصبرت على المجاملة مدة العيش، لكان يكفيك عند حصوله ما تعجلته من الصرم، ولكن ما أظهرته من البغض تمكن من نفسك وقلبك، واستولى على فعلك وقولك فلم تملك معه صبراً، ولم تطق بما يجمعنا رفقاً، فهو باطنٌ ظاهرٌ، مسرٌ معلنٌ. وإنما قال هذا لأن الإنسان قد يظهر خلاف ما ينطوي عليه أو دونه، ما دام يملك زمام تجمله وتستره، وصار الغلبة لعقله وإرادته. فإذا كان ما ينبع منه عن معينٍ في القلب كنينٍ، وعريقٍ مكين، قد امتلك النفس وغلب المسكة والصبر، فذلك النهاية لا يقدر على ستره، ولا يهتدي إلى دفعه. وفي القرآن ما فيه هذا المعنى قوله تعالى: " قد بدت البغضاء من أفواههم وما تخفي صدورهم أكبر ".
وقال قبيصة بن النصراني
ألم تر أن الورد عرد صدره ... وحاد عن الدعوى وضوء البوارق
التعريد: ترك القصد وسرعة الانهزام. والمراد بالدعوى قول الكماة من يبارز! وخذها وأنا فلانٌ! وأنا الذي من شأنه كذا! وأشباهه. والبوارق، جمع بارقةٍ: السيوف وسائر الأسلحة.
وقائل هذه الأبيات يعتذر من إحجامٍ اتفق، وتأخرٍ عن الزحف ظهر للناس من فعله، فأخذ يورك بالذنب على فرسه، وإن نفرته كانت السبب في نكوصه، فقال على طريق التلهف والتوجع: أما تعلم أن فرسي الورد انحرف عن القصد صدره، وتولى إلى غير الوجهة التي أريدها وجهه، لنفوره عن تداعي الأبطال، ونكوله عن لمعان السيوف والرماح.
وأخرجني من فتيةٍ لم أرد لهم ... فراقاً وهم في مأزقٍ متضايق
قوله وأخرجني معطوفٌ على ما اعتل به من نفور الفرس، ومعدودٌ فيما أمله من جنايته عليه. والواو من قوله وهم في مأزق واو الحال، والأزق: الضيق في(1/441)
الحرب، ومأزقٌ مفعلٌ منه. وقال متضايق لأن ضيق المكر في المعارك يحصل شيئاً بعد شيءٍ. فيقول: فرق بيني وبين فتيان أحببت الكون معهم، وأوجبت على نفسي ممالأتهم ومساعدتهم، في وقتٍ كنت خليقاً بالثبات معهم، وإظهار البلاء في نصرتهم، وكانوا مدفوعين منه إلى ضنك مجالٍ مثلي يستدعى له، ويستنهض للإعانة فيه.
وعض على فأس اللجام وعزني ... على أمره إذ رد أهل الحقائق
هذا بيان جماح فرسه وتأبيه عليه، فيقول: ركب رأسه وغلبني على أمره، فلما كر أهل الحقائق لم أقدر على الكر معهم، ولا ملكت رد فرسي مع ردهم. وأهل الحقائق هم الذين يبلغون فيما يلونه ما يحق ويجب. ويقال حققت العقدة، إذا شددتها.
فقلت له لما بلوت بلاءه ... وأبى بمتعٍ من خليلٍ مفارق
يروى: وأبنا تمتع. وله، الضمير للفرس. كأنه كان يخاطبه متحسراً ويباثه متلهفاً، ويقول بعد أن مني منه بما مني، وابتلى من نفرته وركوب رأسه بما ابتلي: من أين لي الاستمتاع من خليل فارقته، وكيف أساعده وأتحمل عنه ثقلاً وقد باعدت بيني وبينه. فقوله وأني بمتعٍ في موضع المفعول لقلت. ويقال متع بكذا واستمتع، ومتعه الله به وأمتعه. ومن روى: وأبنا تمتع يدخل وأبنا في جملة ما اتصل بلما، ويكون المعنى: ولما بلوت بلاءه وأكرهني على مراده، فانصرفنا من مقصدنا، قلت له مقرعاً ومتوجعاً: الآن تمتع من أجلٍ خليل بعدت بيني وبينه. كأن تفجعه امتد أولاً وآخراً، وقبل الأوبة وبعدها وجواب لما في الوجهين قوله فقلت بما اتصل به.
أحدث من لاقيت يوماً بلاءه ... وهم يحسبون أنني غير صادق
يقال حدثته كذا وبكذا، فيحمل على خبرته كذا وبكذا، ونبأته كذا وبكذا. قال الهذلي:
ولكن خبروا قومي بلائي
وقال الآخر:
وأنبأته أن الفرار خزايةٌ(1/442)
يقول: أبث في الناس قصتي وقصة فرسي، وأخبر كل من لاقيته بجنايته علي وبلائه معي، وهم بحسدهم وسوء رأيهم يوجهون الظنة إلي، ويسلطون التهمة علي، فأنا بين تكذيبٍ وتعييرٍ معهم وفيهم.
وقال أيضاً:
هاجرتي يا ابنة آل سعد
أأن حلبت لقحةً للورد
يروى هاجرتني على الخطاب، والكلام به ظاهر الاستقامة، ويروى هاجرتي، والمعنى أنت هاجرتي. وقال يا ابنة آل سعد يجوز أن يريد يا ابنة سعد فزاد الآل كما يزاد لفظه حي وذو. ومثله قول الآخر، أنشده ابن الأعرابي:
إن ابن آل ضرار حين أندبه ... زيداً سعى لي سعياً غير مكفور
أراد إن ابن ضرار. وهذا بابٌ واسعٌ مختلفٌ. ويجوز أن يكون جعلها ابنة الآل إعظاماً لها، كما يقال يا ابنة القوم، وقد تقدم القول في الآل وحقيقته. واللقحة: الناقة الحلوب؛ ويوصف به، لا يقال ناقةٌ لقحةٌ، بل يجرى مجرى الأسماء. يقول: صارمتني أيتها المرأة حين آثرت فرسي الورد بلبن لقوحى، فأخرج قوله أأن حلبت مخرج التقريع والتوبيخ، وإن كان لفظه لفظ الاستفهام، لأن المراد به: ألأن حلبت، أي ألهذا الشأن كان منك الهجران لي.
جهلت من عنانه الممتد
ونظرى في عطفه الألد
إذا جياد الخيل جاءت تردى
مملوءةً من غضبٍ وحرد
قوله جهلت من عنانه يجوز على مذهب أبي الحسن الأخفش أن يكون زاد " من " في الواجب، أراد جهلت عنانه، ويكون قوله، ونظرى في موضع النصب عطفاً عليه إن شئت. ومما حكاه من الحجة له القول بعضهم: قد كان من مطرٍ، قد كان من شيء فخل عني. وعلى مذهب سيبويه يكون فيه وجهان: أحدهما أن يكون الكلام محمولاً على المعنى، لأن الجهل نفي العلم، كأنه قال بدل جهلت: ما(1/443)
علمت وما عرفت. والثاني أن يكون حذف مفعول جهلت كأنه قال جهلت من عنانه الطويل مذلوله من العتق والنجابة، لأن الذي جهلته ذلك، إذ كان امتداد عنقه يدرك مشاهدة. والشاعر أبل يبين عذرها فيما أنكرته وعذر نفسه تفقده فرسه فقال: جهلت ما أعرفه من كرمه ونجابته، وما أتبينه وأستدل عليه من امتداد عنقه ولجاج جانبه، واعتراضه في مشيه، فلذلك استعظمت إيثاري إياه. وذكر العنان والقصد العنق لأن طوله بطولها، واللدد أصله في الخصومة، يقال خصمٌ ألد. وقوله إذا جياد الخيل إذا ظرفٌ لما دل عليه قوله في عطفه الألد. وقوله تردي في موضع الحال، والعامل فيه جاءت. والرديان: ضربٌ من المشي. قوله مملوءةٌ في موضع الحال، والعامل فيه تردى. والحرد: القصد، وفي القرآن: " على حردٍ قادرين "، أي على جدٍ من أمرهم، والمعنى: إذا جاءت الخيل العتاق قد حميت ونشطت فامتلأت غضباً، وصار مشيها ردياناً، كان في عطف هذا لددٌ واعتراضٌ، وفي مشيه اقتسار والتواءٌ. والعطف من كل شيء: جانبه من لدن رأسه إلى وركه. ويقال: ثنى عطفه، إذا أعرض وجفا.
وقال آخر:
لعمر أخيك لا ينفك منا ... أخو ثقةٍ يعاش به متين
قوله لعمر أخيك يجوز أن يريد بأخيك نفسه، كأنه قال لعمري. وجعل نفسه أخاه على طريق الاستعطاف وتلطيف الحال. ويجوز أن يكون المخاطب كان له أخٌ يعز عليه ويقسم بحياته، فاقتدى به في ذلك إعظاماً له وللمقسم به. ولعمر مبتدأٌ وخبره محذوفٌ، كأنه قال لعمر أخيك قسمي أو ما أقسم به. ومعنى لا ينفك: لا يزال. والمتين: كل صلب شديدٍ، والمصدر المتانة، وماتنةً، إذا حاكيته ففعلت مثل ما يفعله من الشدة. يقول: وبقاء أخيك لا يزال منا أخٌ يوثق بوده، ويحسن الظن بنيابته، ويعاش به وفي ظله، جلدٌ قويٌ عزيز.
مفيدٌ مهلكٌ ولزاز خصمٍ ... على الميزان ذو زنةٍ رزين(1/444)
قوله مفيدٌ مهلكٌ مثل قول الآخر:
مفيدٌ مفيت
ويكون أفاد متعدياً إلى مفعولين، وقد حذفهما، وكذلك مفيتٌ. ويجوز أن يكون أفاد بمعنى استفاد، فيكون معنى مفيدٌ مهلكٌ: كسوب بالغزو منفاقٌ. والأول أصلح في هذا. وقوله لزاز خصمٍ لزازٌ كالسناد والعماد وما أشبههما. واللز أصله اللزوم الثبات. على ذلك قولهم لزاز الباب. ثم توسعوا فقيل هو ملزٌ في الخصومة ولزازٌ؛ وهو ملزز الخلق، أي مجتمعه. يقول: يفيد أولياءه الخير والغنم ويهلك أعداءه، ثم يلز خصمه فلا يفارقه أو يغلبه. وإذا وزن بغيره رجح عله في السبر والاختبار، فإذا استخف ذلك كان هو وقوراً رزيناً. ويقال رزينٌ بين الرزانة، وامرأة رزانٌ.
يزيد نبالةً عن كل شيءٍ ... ونافلةً وبعض القوم دون
نبالةً مصدر نبل. والنافلة: الفضل. ودون، حقيقته القاصر عن الشيء. ويقال هو دونك في الحسب على التوسع، هذا إذا كان زرفاً. ويقال هو دونٌ في الرجال، وما هو بدونٍ، فيجعل اسماًهن والذي في البيت هو على هذا. يقول: ومع اجتماع هذه الخصال فيه سروٌ ونبلٌ، وحميةٌ وعزٌ، فيفضل على كل نبيلٍ، ويعلو على كل ذي شأنٍ نبيهٍ، وبعض القوم ساقطٌ قاصرٌ، متأخرٌ ناقصٌ.
وقال خفاف بن ندبة
أعباس إن الذي بيننا ... أبى أن يجاوزه أربع
المخاطب عباس بن مرداس، ومراد الشعر أن يقول: يا عباس، إن الحرمات الأربع التي تجمعنى وإياك، مننعت أن يتخطاها ما بيننا من الشر، فهو يقف دونها، ويقصر عن تجاوزها. وظاهر الكلام فيه قلبٌ، لأنه جعل الفعل الذي هو المجاوزة للأربع، والأربع هي الآبية من أن يجاوزها ما حدث بينهما. وصلح ذلك لأن المراد(1/445)
لا يلتبس من الكلام. وعلى هذا قول الآخر:
كما اسلمت وحشيةٌ وهقا
لأن الوهق يسلم الوحشية. ويمكن أن يقال: إذا تعدى أحد الشيئين صاحبه فقد صار الآخر كأنه تعداه، وإذا كان كذلك ساغ لأن يجعل لكل واحد منهما المجاوزة.
علائق من حسبٍ داخلٍ ... مع الإل والنسب الأرفع
وأن ثنية رأس الهجا ... ء بين وبينك لا تطلع
هذا تفسير الخصال الأربع التي أجملها. والعلائق، جمع علاقة، وهو ما يتعلق به من الشيء أو يعلق به الشيء. وقوله من حسبٍ داخل مع الإل، فالحسب: الشرف. والإل: العهد. ومعنى داخلٍ معه، أي مختلطٌ به. والنسب الأرفع يجوز أن يكون يعني به النسب من قبل الأب، لأنه أرفع النسبين، ويجوز أن يعنى النسب الرفع العلي. وقد حصل إلى هذه الغاية من العلائق الثلاثٌ: حسبٌ، ونسبٌ، وعهدٌ بينهما، والعلاقة الباقية هي مذكورةٌ في البيت الذي يليه، وهو قوله:
وأن ثنية رأس الهجا ... ء بيني وبينك لا تطلع
كأنهما كانا تعاقدا أن لا يهجو أحدهما صاحبه، لا يذكره في الشعر ناحتاً أثلته. وجعل لرأس الهجاء عقبةً تثنى بشقتها من يريد قطعها. ويقال طلع الثنية واطلعها، إذا أشرف عليها. فإن قيل: وما الفصل بين الحسب؟ قلت: إن الحسب ما يعد من الخصال الكريمة، وترى الحسيب يوجب للحسيب ويعرف له بحسبه محلاً وقدراً، وإن لم يكن بينهما قربى ولا قرابةٌ. والنسب يريد به الرحم والقرابة. فإن قيل: فما معنى الإل، وما الفرق بينه وبين الخصلة الرابعة، وهي التعاقد على ترحك الهجاء واطراحه؟ قلت: الإل: العهد، بذلك فسره أبو عبيدة في قوله تعالى: " لا يرقبون في مؤمنٍ إلا ولا ذمةً ". كأنهما كانا تواثقا على أن لا يدبر كل واحدٍ منهما على صاحبه، ولا يسعى في نصب المكايد له فهذا ميثاقٌ بينهما ثم اتفقا أيضاً على أن لا يتهاجيا. وإذا كان كذلك فالفصل بين الأمرين ظاهر، كما ظهر بين الحسب والنسب.(1/446)
وأبغض إلى بإتيانها ... إذا أنا لم أنسها أدفع
قوله وأبغض إلى بإتيانها استعير فيه بناء الأمر للخبر، لأن معناه التعجب والتعجب خبرٌ، وهم يستعيرون المباني للمعاني، كما يستعيرون الجمل والمفردات. وهذا كما يستعار بناء الخبر للأمر كقوله: والمطلقات يتربصن ". وموضع بإتيانها رفعٌ على أنه فاعلٌ، كأنه قال بغض إتيانها إلي جداً. يقول: ما أبغض إتيان عقبة الهجاء واطلاعها إلي، لأني أربأ بنفسي عنه وقدري، وأصون منه ديني وعرضي، وأتناسى فعل ذلك فلا يكون من همي. ولو لم أتركها تأثماً وتكرماً ثم أراد مناقضتك ومقاذعتك، لكان ما تعاقدنا عله من تركه يدفعني عنه، ويمنعني منه. فإذا ظرفٌ لقوله أدفع.
وقال بعض اللصوص من طيئٍ
ولما أن رأيت ابني شميطٍ ... بسكة طيئٍ والباب دوني
تجللت العصا وعلمت أني ... رهين مخيسٍ إن أدركوني
الشعر لبعض المتلصصة، وكان أنهى حاله إلى أمير المؤمنين على عليه السلام وهو بالكوفة، فوجه في طلبه ابنى شميط، فأحس بذلك وركب فرسه العصا فنجابه، وذكر قصته في هذه الأبيات. وقوله والباب دوني يعني باب البلد والمسالح. وقوله تجللت العصا جواب لما، أي ركبته على جله ومل أتلوم لإسراجه، خوفاً على نفسي، وعلماً أني إن توقفت أو دعي السجن مرتهناً بما كسبت يدي. ومخيسٌ: اسم سجنٍ بناه أمير المؤمنين عليه السلام. والتخييس: التذليل، أصله في الكد.(1/447)
على هذا قال النابغة:
وخيس الجن إني قد أذنت لهم ... يبنون تدمر بالصفا والعمد
ويقال في الشتم: خيس أنفه فيما يكره، كما يقال أرغم أنفه.
ولو أني لبثت لهم قليلاً ... لجروني إلى شيخٍ بطين
شديد مجامع الكتفين باقٍ ... على الحدثان مختلف الشئون
قوله قليلاً يجوز أن يكون ظرفاً، يريد زماناً قليلاً، ويجوز أن يكون صفة لمصدرٍ محذوفٍ، يريد لبثاً قليلاً. فيقول: لم أتمكث للطالبين لما عرفت الحال، ولم أتمكث للطالبن لما عرفت الحال، ولم أتباطأ معرجاً على إعداد شيء، ولو ظفروا بي لجروني إلى حضرة رجلٍ عظيم البطن شيخٍ، وذلك صفة أمير المؤمنين عليه السلام. ولقد روى عن النبي صلوات الله عليه في عظم بطنه أنه قال: " هو لكثرة علمه ". وقوله " شديد مجامع الكتفين " من صفته إلى آخر البيت. يريد أنه شديد الزهر، قوي المتن، مجتمع الخلق، وذلك خلقة الأسد. وقوله باقٍ على الحدثان يعني صبره في حوادث الدهر، وانتصابه في وجوه بغاة الجور، لا يأخذه في طلب الحق وإمضائه لومة لائم، واعتراض ممانعٍ، ولا يلفته عن هديه وسننه كراهة كارهٍ، وقعدة خاذلٍ. وقوله مختلف الشئون يعني طرائقه في زهده وعلمه وورعه، وبأسه وإقدامه في ذات الله، وجبنه عن محارم الله، وتعففه عن احتجاز المطامع، وابتناء المصانع، مع قلة الاحتفال باكتساب رضا خلقه، إذا أداه إلى سخط ربه، إلى ما لا يكاد يجتمع إلا في مثله، ويطول الكلام بعده وضبطه. وفي هذه الطريقة وإن اختلف الوصفان والموصوفان قول الآخر:
قليل التشكي للمهم يصيبه ... كثير الهوى شتى النوى والمسالك
وقال حريث بن عنابٍ
لما رأيت العبد نبهان تاركي ... بلماعةٍ فيها الحوادث تخطر
نصرت بمنصورٍ وبابنى معرضٍ ... وسعدٍ وجبارٍ بل الله ينصر(1/448)
ولله أعطاني المودة منهم ... وثبت ساقي بعد ما كدت أعثر
لما علمٌ للظرف، وهو لوقوع الشيء لوقوع غيره، وجوابه نصرت. وأراد بني نبهان فذكر الجد والمراد القوم، وسمى نبهان العبد تهجيناً له، ورمياً إياه باللؤم. واللماعة: المفازة يلمع فيها السراب. وجعلها مخوفةً لا تؤمن فيها نوائب الدهر، وحوادث الموت. ومعنى تخطر تحدث وتعترض. ويقال رمحٌ خطارٌ، أي شديد الاهتزاز، ومنه خطران الفحل بذنبه عند الصيال. فيقول: لما وجدتهم متخلفين عني وتاركين لي بمفازةٍ هذه صفتها، استنصرت غيرهم فنصرني الله بالأقوام الذين ذكرتهم. ولا يمتنع أن يكون اللماعة كنايةً عن الأمر الشديد والداهية المنكرة. ويكون قوله تاركي بلماعةٍ كما يقال تركته بحالة سوءٍ، وبآخر رمقٍ، وما يجري مجراه. وقوله فيها الحوادث تخطر جعله مثلاً لما لم يكن يأمنه من فنون الحوادث، وصروف المتالف. ثم أخذ يشكر الله على ما عطف عليه من ميل الأقوام الذين أغاثوه، وثنى إليه من نصرهم، وعلى تثبيت قدمه بعد ما كادت تزل به، وتلافيه بحسن الاستمساك، عند ما ظن من إشراف الهلاك.
إذا ركب الناس الطريق رأيتهم ... لهم قائدٌ أعمى آخر مبصر
الضمير من قوله لهم قائد يجوز أن يكون لناصريه، وهم الذين سماهم، ويكون الكلام مدحاً وما بعد هذا البيت يتلوه في ذلك ويتبع. ويجوز أن يكون لخاذليه بني نبهان، ويكون الكلام ذماً، وما بعده يطرد معه ويذهب. ووجه المدح أن يكون المراد بقوله إذا ركب الناس الطريق إذا انتوى الناس نياتهم، فسلكوا في مناجعهم ومزالفهم، ومتصرفاتهم ومناقلهم، وطرائقهم الآمنة، رأيت هؤلاء القوم لعزهم ومنيعتهم يسيرهم الليل والنهار، ويقودهم الظلم والأنوار، لا يحذرون منيعاً، ولا يخافون مغيراً، ولا ينأى عنهم استباحة حمىً، ولا يعرض لهم حيثما توجهوا أذىً. فالقائد الأعمى هو الليل، والآخر المبصر هو النهار. ووجه الذم أنهم لجهلهم وسوء تأتيهم، إذا أبصر الناس مراشدهم واستبصروا فيما يقدمون عليه أو يحجمون عنه وحدت هؤلاء القوم يستضيئون برأي كل أحدٍ، ويستشيرون كل ذي نحلةٍ ومذهب، فيرشدهم جماعة ويغويهم آخرون، على حسب اختلاف الآراء والمقاصد، لا بصيرة تمسكهم، ولاعزيمة تغلبهم وتجذبهم، فهم تبعٌ لكل ناعقٍ، وجوابٌ لكل نادبٍ.(1/449)
لهم منطقان يفرق الناس منهما ... ولحنان معروفٌ وآخر منكر
إذا جعل الكلام مدحاً على ما قدمته ورتبته يكون معنى لهم منطقان أنهم خطباء شعراء، فالناس يرهبون نظمهم ونثرهم، ويهابون ألسنتهم وأقوالهم في مجالس الملوك، وأندية الاحتفال. ومعنى ولحنان معروفٌ وآخر منكر أن لهم اصطناعاً لمواليهم فلحنهم فيه لحن معروفٌ حسنٌ مرجوٌ، واستئصالاً لمعاديهم فلحنهم فيه لحن منكرٌ مخوفٌ. وفي طريقة هذا الوجه قول نصيب:
يحيون بسامين طوراً وتارةً ... يحيون عباسين شوس الحواجب
واللحن: المعاريض، وفي القرآن: " ولتعرفنهم في لحن القول ". وأصله العدول والميل عن الظاهر. وإذا جعل ذماً لأولئك القوم يكون المعنى أنهم ذوو وجوهٍ في لقاء الناس مختلفةٍ، وأقوالٍ غير صادقةٍ، فكل منهم منطقان: أحدهما في التقول والتنفق، والآخر في البهت والتخرص، عرفهما الناس فهم يفرقون منهما. ولهم تعريضان بعدهما: أحدهما يعتادونه عند نكث العهود ونقض العقود، وقد عرفه الناس فهو مشهور من أفعالهم؛ والآخر يتعاطونه عند إعمال حيلةٍ، وإمضاء غيلةٍ، فهو خافٍ بعد منكور.
لكل بني عمرو بن عوفٍ رباعةٌ ... وخيرهم في الخير والشر بحتر
قوله لكل بني عمرو بن عوف رباعةٌ، أي لكل واحد منهم أمرٌ مستقيمٌ، وتدبيرٌ مرضي، وأفضلهم في السراء والضراء بحتر بن عتود. ويقال: ما في بني فلان أحدٌ يضبط رباعتهم غير فلانٍ، أي أمرهم وشأنهم. الناس على ربعاتهم ورباعتهم، أي على استقامتهم. وحكي: تركناهم على سكناتهم وربعاتهم، أي على حالتهم الحسنة. ولا يقال ذلك في غير الحسن. وحكي أيضاً: هو على رباعة قومه، وهو ذو رباعة قومه، أي سيدهم ومدبرهم. فعلى هذا يجوز أن يكون المعنى لكلهم ذو رباعةٍ، فحذف المضاف. ويؤيد هذا قوله وخيرهم في الخير والشر بحتر ". وقد حكى في هذه الأبيات معان غريبةٌ فتفهمها.
وقال أبان بن عبدة بن العيار
إذا الدين أودى بالفساد فقل له ... يدعنا ورأساً من معدٍ نصادمه
الدين يجوز أن يراد به الطاعة والائتلاف ها هنا. ومعنى أودى بالفساد: هلك بفساد ذات البين. ويجوز أن يراد به دين الإسلام، ومعنى أودى بالفساد أوقع بما ظهر(1/450)
من ولاة الأمر، جعلوا الخلافة ملكاً، وفيء المسلمين ملكاً. وقيل أراد بالفساد الحرب المعروفة بحرب الفساد، وسميت بذلك لتناهي الشر والحقد بين أهلها، ويقال إن الواحد منهم كان يخصف نعله بأذن مقتوله ويشرب الماء في قحف رأسه. ويكون المراد بالدين في هذا الوجه ائتلاف العشيرة، لأن هذه الحرب كانت في أحياء طييءٍ. والرأس: الجماعة الكثيرة. قال:
ورأس أعداءٍ شديدٍ أضمه ... سرنا إليه إذا غزانا أعظمه
وقوله نصادمه أي ندافعه ونصاكه. فيقول: إذا ارتفعت دعوة الاتفاق والائتلاف من بين العشائر، وبطلت طاعة بعضهم للبعض، وسقط التعاون والتجمع منهم بما يعمهم من المباينة، ويظهر فيهم من أثر العقوق والمشاقة، فقل له ليتركنا وجيشاً عظيماً من قبائل معدٍ ندافعه ونحاربه. وإذا كان بيننا التوازر والتألف لم نبال بقبائل معدٍ كلها. قوله " نصادمه " في موضع الحال، أي مصادمين له. وقوله " يدعنا " إن شئت قلت انجزم بلام الأمر وقد حذف، كأنه قال: قل له ليدعنا. وإن شئت قلت انجزم على أن يكون جواب أمرٍ محذوفٍ، كأنه قال: قل له دعهم يدعنا. وعلى هذا قوله عز وجل: " قل لعبادي الذين آمنوا يقيموا الصلاة "، كأنه قال قل له لهم افعلوا يفعلوا.
ببيضٍ خفافٍ مرهفاتٍ قواطعٍ ... لداود فيها أثره وخواتمه
الباء من قوله " ببيضٍ " تعلق بنصادمه من البيت الأول. ويعني بها السيوف. وجعلها خفافاً لسرعة الضاربين بها في إعمالها. والمرهفات: المرققات الحد، المواضي في الضرائب. وقال: لداود فيها خواتم، يريد عتقها. وداود عليه السلام إنما سرد الدروع لما لين الله الحديد له معجزةً لا السيوف، لكن القصد إلى العتق والقدم، لا إلى الطبع والعمل. وقيل فيه إنه قدر أن الأمر في نسبة السيوف والدروع إلى داود على سواءٍ، لجهله. والأثر: فرند السيف. وذكر الخواتم مثلٌ، أي هي مما اتخذ في أيامه، واستعمل تحت خواتمه.
وزرقٍ كستهار يشها مضرحيةٌ ... أثيثٌ خوافي ريشها وقوادمه
بجيشٍ تضل البلق في حجراته ... بيثرب أخراه وبالشأم قادمه(1/451)
يعني بالزرق نصالاً مجلوةً قذذت بريش صقرٍ. والمضرحي: الكريم من الصقور، وقيل هو ما طال جناحاه منها؛ وتوسع فيه فقيل للسيد السري هو مضرحيٌ. وقال " كستها ريشها مضرحيةٌ " على المجاز، لما كان القذذ من جناحها. وجعل في القوادم - وهي كبار الريش - وفي الخوافي - وهي صغاره - أثاثةً وجثولةً، نفياً للحرق والفساد عنها. وذكر أثيثاً لأنه أجري مجرى الفعل، وتأنيث الخوافي ليس بحقيقي. وقوله " بجيشٍ تضل البلق في حجراته " يصفة بالكثرة - ألا ترى أنه جعل له حجراتٍ، وهي النواحي، واحدتها حجرةٌ. وفي المثل " يربض حجرةً ويرتعي وسطاً " - وأن البلق من الخيل على شهرتها إذا ضلت عن أربابها فذهبت في جوانبه لم يهتد إليها. وقوله " بيثرب أخراه " يعني مدينة الرسول عليه السلام. يريد أن جيشه يأخذ من الأرض، لكثرته، ما بين المدينة إلى الشأم.
إذا نحن سرنا بين شرقٍ ومغربٍ ... تحرك يقظان التراب ونائمه
لم يرض بما انتهى إليه من الوصف في كثرته، فزاد وقال: إذا سرنا بين مشارق الأرض ومغاربها طبقنا الأرض بكثرتنا، فتزلزل لنا الطريق المسلوكة وغير المسلوكة. واليقظان: ما وطئ بالأرجل وسلك، فكأن ترابه منتبهٌ. والنائم: الذي لم يوطأ ولم يسلك، فكأن ترابه نائمٌ. وقد أحسن ما شاء في الاستعارة، والطباق بالنوم واليقظة. فأما قول زهير:
يهد له ما دون رملة عالجٍ ... ومن أهله بالغور زالت زلازله
فقد حسنه التقسيم وإن كان شأوه مقصوراً عن شأو هذا.
وقال أنيف بن حكيمٍ النبهاني
جمعنا لهم من حي عوفٍ ومالكٍ ... كتائب يردي المقرفين نكالها
لهم عجزٌ بالحزن فالرمل فاللوى ... وقد جاوزت حيي جديسٍ رعالها
قوله " من حي عوفٍ ومالكٍ " أراد من حي عوفٍ ومالكٍ فاكتفى بالتوحيد عن التثنية. ومثل هذا الاكتفاء قوله في البيت الثاني " وقد جاوزت حيي جديسٍ رعالها " لأن(1/452)
المراد حيي طسمٍ وجديسٍ فاكتفى بذكر أحدهما عن الآخر، لتجاورهما في الذكر، واشتهارهما في العرف. وقوله " يردي المقرفين نكالها " فالإفراف: هجنةٌ تلحق من قبل الفحل. وخصهم بالذكر لأنهم عنده لا يأنفون من التقصير في الحرب والنكول، ولا يمتعضون من الانهزام والنكوص، فالبلاء إليهم أسبق، والنكال فيهم أبسط. وقوله " لهم عجزٌ بالحزن فالرمل فاللوى " رتب النسق بالفاء لما يفيده من التعقيب بلا مهلةٍ. وفي الأمر العام يقطع الحزن - وهو ما غلظ من الأرض - إلى ما سهل من الرمل، ويقطع الرمل إلى اللوى، وهو مسترقه. وقوله " وقد جاوزت حيي جديس " فإنه يعني بلاد حيي طسمٍ وجديس، فحذف المضاف. والرعال: جمع الرعلة والرعيل، وهما الجماعة المتقدمة من الجيش. والمراد أنهم لكثرتهم شغلوا ما بين هذه المواضع. ومثله ما تقدم من قوله:
بيثرب أخراه وبالشأم قادمه
وتحت نحور الخيل حرشف رجلةٍ ... تتاح لغرات القولب نبالها
الحرشف: الجماعة من الرجالة. ويقال راجلٌ ورجلٌ ورجلةٌ ورجالةٌ للمشاة على أرجلهم. وصفهم بأن فيهم رماةً وأنهم عند التعبية تتقدم الرجالة الرماة، وخلفهم الفرسان كالسثد لهم والإياد، يمنعونهم مما يشردهم أو يغير نظمهم؛ ثم وصفهم بأن نبالهم تقدر للقلوب الغارة، لأنهم حذاقٌ يصيبون المقاتل. ومعنى " تتاح " تهيأ. ويقال تاح يتوح ويتيح، لغتان. وأتاح الله له كذا. والغرات: جمع غرة، يقال جاريةٌ غرةٌ: غريرةٌ. ويروى " لحبات القلوب "، والمعنى ظاهر.
أبى لهم أن يعرفوا الضيم أنهم ... بنو ناتقٍ كانت كثيراً عيالها
يقول: منع لهم التزام الضيم والرضا بالدنية وفور عددهم، وذلك أن العزة في الكثرة. ويقال نتقت المرأة والناقة فهي تنتق نتوقاً، وهي كثرة الولد سرعة الحمل. وذكر العيال استعارةً في الأولاد، واحدها عيلٌ، يقال عنده كذا عيلاً. ويقال عيلٌ وعيايل، وهو معيلٌ معَّيلٌ، أي كثير العيال. وفاعيل أبى قوله " أنهم بنو ناتقٍ "، وأن يعرفوا في موضع وباقي الأبيات قد تقدم بتفسيره.(1/453)
وقال الكروس بن زيدٍ
رأتين ومن لبسي المشيب فأملت ... غنائي فكوني آملاً خير آمل
يقول: رأتني هذه القبيلة، وقد قنعني المشيب بخماره، ونجذني الدهر بأحداثه ومصائبه، فعلقت رجاءها بغنائي وكفايتي، وشددت أزرها لما تفرست في نظري وشهامتي، فقويت أملها، وأكدت طمعها، وقلت: كوني آملاً خير آمل. وهذا الكلام يجوز أن يكون معناه دومي على أملك وكوني خير آملٍ، فأصدق ظنك وأحقق طمعك. ويجوز أن يكون دعاءً لها، كأنه قال: جعلك الله خير آملٍ. وخير الآملين من يبلغه الله ما موله، وينيله طلبته وسوله. وإنما قال " كوني آملاً " ولم يقل آملةً، لأن المراد كوني حياً آملاً، فلم يقصد قصدها.
لئن فرحت بي معقلٌ عند شيبتي ... لقد فرحت بي بين أيدي القوابل
أهل به لما استهل بصوته ... حسان الوجوه لينات الأنامل
يقول: إن كانت هذه القبيلة سرت بي عند كبرتي، واستكمال رأيي وتجربتي، فحق لها ذلك، فقد استبشرت بي عند ولادتي، وحين هنئت بقدمتي. والقوابل: جمع القابلة، وهي التي تقبل الولد عند الولادة. واللام من قوله لئن دخلت موطئةً للقسم، وجواب القسم المنوي لقد فرحت. وهذا خلاف قول الآخر:
وهنيء بي قومي وما إن هنأتهم ... وأصبحت في قومي وليسوا بمنبتي
وقوله أهل به لما استهل بصوته نقل اللفظ إلى الغيبة بعد أن كان في حديث نفسه، على عادتهم في تصاريفهم. يقول: تباشرت نساء الحي عند ميلادي، فرفعن أصواتهن بالشكر لله والثناء عليه، كما يهل الملبي في الحج، والناظر إلى الهلال، حين وقعت عن أمي، واستهللت ببكائي. وإنما وصف النساء بحسن الوجوه ولين الأبدان، ليدل على أنهن ربائب نعمةٍ وذوات نعمةٍ، لم يقاسين شقاء عيشٍ، ولم يكتسين جلابيب فقر.(1/454)
وقال قوالٌ:
قولا لهذا المرء ذو جاء ساعياً ... هلم فإن المشرفي الفرائض
قوله ذو جاء ساعياً ذو بمعنى الذي، وهي لفظةٌ طائيةٌ تجيء بهذه الصورة في كل حالٍ ولا تغير. وقوله هلم لهم فيه طريقان: منهم من يجعله اسماً للفعل فلا يغيره عن حاله في المؤنث والتثنية والجمع، وهم أهل الحجاز. وفي القرآن: " والقائلين لإخوانهم هلم إلينا ". ومنهم من يجعله هاء التنبيه وقد ركب مع لم وهو فعلٌ، فيثنيه ويجمعه ويؤنثه. وعلى الطريقتين جميعاً يكون ميمه مفتوحة ولا يجريه مجرى رد وزر، فيكسر آخره ويضم وإن كان فعلاً، وذلك لأن التركيب قد غيره فسلب بعض أحكامه. ومعنى البيت: أبلغا المرء الذي جاء والياً للصدقات ومستوفياً لها: أقبل وتعال، فإن الذي تعطى بدلاً من الفرائض السيف. وهذا في جعله المشرفي هو الفرائض مجازاً، كما قال الآخر:
تحية بينهم ضربٌ وجيع
والفرائض: الأسنان التي تصلح لأن تؤخذ في الصدقات. والمشرفي: السيف نسب إلى المشارف: قرىً لهم كانت تطبع السيوف فيها. وقد حكي في المرء الامرؤ وقد بقى ألف الوصل مع دخول الألف واللام، إلا أنه قيل.
وإن لنا حمضاً من الموت منقعاً ... وإنك مختلٌ فهل أنت حامض
العرب تقول: " الخلة خبز الإبل والحمض فاكهتها ". ومعنى منقعاً ثابتاً، يقال " أنقع له الشر حتى يسأم " أي أدمه. والمختل: راعي الخلة، وكانت الإبل إذا بشمت الخلة وسئمته حتى اتخمت منه، نقلوها إلى الحمض لتشتهي الخلة ثانياً. وهذا مثلٌ ضربه لهذا الساعي. يقول: إنك مللت العافية والسلامة، فهلم إلى البلاء والشر من الولاية.
أظنك دون المال ذو جئت تبتغي ... ستلقاك بيضٌ للنفوس قوابض(1/455)
قوله دون المال تعلق بأظنك، ولا يجوز أن يتعلق بقوله جئت، ولا تبتغي، لأن ذو يطلب من الصلة ما يطلبه الذي وإذا كان كذلك فما في صلته لا يعمل فيما قبله. وقال ذو جئت وكان الأجود أن يقول: ذو جاء يبتغي، لأنه أجري مجرى الذي، فكما جوز أن يقال أنت الذي فعلت كذا، و:
أنا الذي سمتن أمي حيدره
جوز في ذو أيضاً، لأن المراد به المخاطب. والمال في الأكثر يطلقونه على الإبل، على هذا قولهم: المال في الرعي. والشاعر قصده في الكلام إلى التهكم والسخرية، وقد خلط به التوعد والاستهانة، لذلك قال أظنك. وقوله ذو جئت في موضع المفعول الثاني وتبتغي في موضع الحال، ومفعوله حذف. والمعنى أحسبك الذي جاء دون المال تبتغي صدقاته، سترى ما أعد لك من سيوفٍ تنتزع الأرواح والمهج. فإن قيل: كيف استجاز تكرير معنىً واحدٍ في بيتين على تقارب بينهما، وهلا اكتفى بقوله " هلم فإن المشرفي الفرائض "؟ قلت: إن قوله أظنك دون المال ذو جئت تبتغي، بما دخله من التهكم والوعيد، وتكشف فيه من الغرض المقصود، صار كأنه أدى غير ما أداه قوله هلم فإن المشرفي الفرائض. ومثله قول عيقمة بن عبدة:
فإن تسألوني بالنساء فإنني ... بصيرٌ بأدواء النساء طبيب
إذا شاب رأس المرء أو قل ماله ... فليس له في ودهن نصيب
يردن ثراء المال حيث علمنه ... وشرخ الشباب عندهن عجيب
ألا ترى أنه لم ير المعنى متكرراً في البيتين، لما كان أحدهما يشتمل من الاستيفاء والبيان على ما لم يشتمل عليه الآخر.
وقال وضاح بن إسماعيل
صبا قلبي ومال إليك ميلاً ... وأرقني خيالك يا أثيلا
يمانيةٌ تلم بنا فتبدي ... دقيق محاسنٍ وتكن غيلا(1/456)
يقال صبا قلبي يصبو صبواً وصبواً. والصبوة: جهل الفتوة. يقول: أسهرني خيالك، وانعدل قلبي عن وجهه وطيته، ذهاباً فيك، وميلاً إليك. ثم أخذ يصف الخيال فقال: هي تأتيني من ناحية اليمن، فتزور زيارةً خفيفةً لا لبث معها ولا تمكث فأتمتع بها، وتبدي لي في إلمامها ما دق من محاسنها كالعين والأنف والأسنان والفم، وتستر ما جل منها كالمعصم والساعد والساق والفخذ، فاسهر. كأنه رآها في المنام على ما كان يراها في اليقظة خرادةً وحياءً. ويقال معصمٌ غيلٌ، وساعدٌ غيلٌ، أي ممتلئٌ من اللحم غليظ. والمحاسن قيل لا واحد لها، ومثله في ذلك المساوي والمذاكير. وقال الخليل: واحدها محسنٌ، وهي المواضع الحسنة. يقال: امرأةٌ كثيرة المحاسن.
ذريني ما أممن بنات نعشٍ ... من الطيف الذي ينتاب ليلا
يستعفي من خيالها لاشتغال قلبه بالغزو. والاستعفاء في الحقيقة من الحب الذي يصورها في فكره حتى يحلم بها. وقوله ما أممن الضمير للخيل ولم يجر لها ذكر، ولكن المراد مفهومٌ. وموضع ما أممن نصبٌ على الظرف، أي مدة أمها، لأن ما مع الفعل في تقدير مصدرٍ حذف اسم الزمان معه. وبنات نعشٍ من الكواكب الشامية، وكان غزوه نحو الروم. والمعنى: أعفيني من الصبا واللهو، وشغل القلب بالحب والعشق، ما دمت في هذا الوجه، وقاصداً نحو الغزو. وليلاً، انتصب على الظرف، كأنه كان يسير النهار، فإذا نزل ليلاً ونام أرقه الخيال. وروى بعضهم: " يأناب ليلاً " وهو يفتعل من الأوب؛ وينتاب أوجه في النقد وأحسن.
ولكن إن أردت فهيجينا ... إذا رمقت بأعينها سهيلا
يقول: إن أردت تشويقنا إليك، وتذكيرنا بك، فليكن عند منصرفنا من الغزو، وقفولنا من هذا الصقع، وحين تنظر خيلنا إلى سهيل. وإنما قال ذلك لأن سهيلاً من الكواكب اليمانية. لذلك قال عمر بن أبي ربيعة:
أيا المنكح الثريا سهيلاً ... عمرك الله كيف يلتقيان
هي شاميةٌ إذا ما استقلت ... وسهيلٌ إذا استقل يمان(1/457)
ومثل قول وضاحٍ ما قاله المتلمس، وهو:
فلتتركنهم بليلٍ ناقتي ... تدع السماك وتقتدي بالفرقد
والسماك من قبل المشرق، والفرقد من قبل الشام.
فإنك لو رأيت الخيل تعدو ... عوابس يتخذن النقع ذيلا
رأيت على متون الخيل جناً ... تفيد مغانما وتفيت نيلا
يصف الغزو وملاقاة العدو، وأنه لا يحتمل التصابي والتبطل، ولا يصلح للمشتغل به التشوق والتغزل، فيقول: لو رأيت الدواب عاديةً بفرسانها وقد تكلحت لاشتداد الحال عليها، وسحبت ذيلاً من الغبار لتناهي شدها، لرأيتها كأن علها جناً لا رجالاً، تستفيد المغانم من أعدائها. وتفيتهم نيل شيءٍ منها. وهذا كما قيل " يسبق إن طلب، ويلحق إن طلب "، ويشهد لأفاد وأنه يكون بمعنى استفاد قول الآخر:
فلا أنا منه ما أفاد ذوو الغنى ... أفدت وأعداني فأتلفت ما عندي
وقال آخر:
لا قوتي قوة الراعي قلائصه ... يأوي فيأوي الكلب والربع
ولا العسيف الذي يشتد عقبته ... حتى يبيت وباقي نعله قطع
أخذ أبو تمام هذا المأخذ في قوله:
والصبر بالأرواح يعرف فضله ... صبر الملوك وليس بالأجساد
يقول: ليس غنائي في الأمور وكفايتي غناء الرعاة الذين سعيهم وكدهم مقصوران على ضم القلاص وحفظها في مراعيها عند سرحها وإراحتها، فإذا أوى إلى موضعٍ أوى إليه كلبه الذي يحرس به وربعه. والربع: ما نتج في الربيع. وقوله ولا العسيف انعطف على الراعي. يريد: ولا قوتي قوة العسيف. فالعسيف: الأجير(1/458)
والعبد المستهان به، الممتهن في العمل. يقال: كم أعسف عليك، أي كم أعمل لك. وقوله يشتد عقبته انتصب عقبته على الظرف، أي وقت عقبته، كأنه يعاقب الركوب غيره. يقال هما يتعاقبان للركوب بينهما، أو الأمر يركب هذا عقبة وهذا عقبةً. والعقبة قيل فرسخان. ويشتد: يفتعل من الشد: العدو. وبعضهم يرويه " تشتد عقبته " بالرفع، ويجعل تشتد من الشدة، أي تشتد عقبته عليه، والصواب ما قدمته. والمعنى: ولا غنائي أيضاً غناء الأجير الذي يعدو عقبته ووقت عقبته، وليس يريد أن له عقبةً فيتركها ويعدو، لكن المعنى إذا كان لغيره نوبةٌ في الركوب لمعاقبته صاحبه، فنوبته الشد والخدمة حتى يأتي عليه المساء وقد تقطع ما بقي عليه من حذائه. وقوله " وباقي نعله قطع " في موضع خبر يبيت، تقديره: حتى يبيت منقطع باقي النعل.
لا يحمل العبد فينا فوق طاقته ... ونحن نحمل ما لا تحمل القلع
يقول: العبد المستخدم فينا لا نكلفه إلا دون ما يطيقه، إبقاءً عليه، وتركاً لاستنفاد وسعه، ونحن نحتمل من مشاق الأمور، ومثقلات الأعباء ما لا تطيقه الجبال. والقلع: جمع قلعةٍ، وهي الهضاب العظام، وبها سمي الحصن المبني على الجبل قلعةٌ. ويقال أقلع فلانٌ قلاعاً، إذا يناها؛ وبها سميت السحاب العظام قلعاً أيضاً.
منا الأناة وبعض القوم يحسبنا ... أنا بطاءٌ، وفي إبطائنا سرع
الأناة: الرفق. يقول: نستأني في الأمور فعل الحازم ذي الرأي السديد، والتأمل اللطيف، الذي ينظر فيما له وعليه، فيدري كيف يورد ويصدر، ويبرم وينقض، ولا نتهجم فيما نزاوله فعل العجول الأخرق الذي لا يتتبع العواقب، ولا يتجنب المقابح، فلا يبالي أياً سأخذ ويدع. وكثيرٌ من الناس يظن بنا تباطؤاً في المهمات وتثاقلاً، والذي يعدونه بطئاً فهو سرعةٌ، لأنا نترك كل ما تتولاه مفروغاً منه محكماً، لا تفاوت فيه فيحتاج إلى استئناف تدبر، واستحداث نظر وتتبع.
؟؟
وقال عمرو بن مخلاة الكلبي
ويومٍ ترى الرايات فيه كأنها ... حوائم طيرٍ مستديرٌ وواقع(1/459)
أصابت رماح القوم بشراً وثابتاً ... وحزناً وكلٌ للعشيرة فاجع
طعنا زياداً في استه وهو مدبرٌ ... وثورٌ أصابته السيوف القواطع
وأدرك هماماً بأبيض صارمٍ ... فتىً من بني عمروٍ طوالٌ مشايع
وقد شهد الصفين عمرو بن محرزٍ ... فضاق عليه المرج والمرج واسع
الرايات: الأعلام. والحوائم: جمع حائمةٍ، وهي العطاش من الطيور تحوم حول الماء. وحوماتها: دورانها؛ فكثر استعماله حتى صار كل عطشان حائما. ويروى: " عواطف طيرٍ ". وقوله " مستديرٌ وواقعٌ " بدلٌ من حوائم، وجعل الرايات بعضها جائلٌ في الجو دائرٌ، وبعضها ساقطٌ، لأن المنهزمين تسقط أعلامهم فتنخفض، والظافرين تثبت أعلامهم فتخفق. وقوله وكلٌ للعشيرة فاجع، أي كل واحدٍ من المذكورين رئيس عشيرةٍ قد فجعوا به. والشاعر يذكر وقعة المرج مرج راهطٍ - وراهطٌ رجلٌ من قضاعة في الجاهلية الأولى - واجتمع به المروانية، وهم الذين دعوا إلى مروان بن الحكم، وهم كلبٌ وعبسٌ وغيرهم من قبائل اليمن. والزبيرية، وهم الذين دعوا إلى ابن الزبير، وهم قيسٌ ومن تبعهم، فاقتتلوا قتالاً شديداً، فكانت الدبرة على القيسية ورئيسهم زفر بن الحارث، ومعهم الضحاك بن قيسٍ. ولهذا قال الشاعر:
فمن يك قد لاقى من المرج غبطةً ... فكان لقيس فيه خاصٍ وجادع
وقوله " طعنا زياداً في استه "، فهو زياد بن عمرو العقيلي. وقوله وهو مدبر أي مولٍ منهزمٌ. ويجوز أن يكون من الإدبار، لتركه الرأي حتى بلي بما بلي. وعمرو بن محرزٍ من أشجع. وقال: ضاق عليه المرج على سعته، لأنه كان مغلوباً مطلوباً. ويقال ضاق بفلانٍ الفضاء. والمشايع: المقوي لأصحابه المتابع لهم. وجعله طوالاً لأنهم يستحبون تمام الخلق، وامتداد القامة. وقوله وثورٌ أصابته السيوف القواطع، رفع ثوراً لأن الفعل بعده شغل عنه، وإن نصبه طلباً للمطابقة إذ كان في الجملة التي قبله منصوبٌ كان أحسن.(1/460)
وقال زفر بن الحارث
أفي الله أما بحدلٌ وابن بحدلٍ ... فيحيا وأما ابن الزبير فيقتل
كان معاوية بن أبي سفيان لما جعل ابنه يزيد ولي عهده بايعه الناس إلا الحي من قيسٍ، فإنهم قالوا: والله، ما نبايع ابن الكلبية - وذاك أن أم يزيد ميسون بنت مالك بن بحدلٍ الكلبي - فصار في نفس يزيد لقيسٍ ذلك ضغناً وحقداً، وابتدأ الشر بينهم وبين بني أمية، فلما هلك يزيد استخلف ابنه معاوية بن يزيد، وأمه كلبيةٌ أيضاً، وصار حسان بن مالك بن بحدلٍ أخو ميسون وخال يزيد بن معاوية كالمالك للأمر، فكانت خلافته أياماً قليلةً، وتحركت فتنة ابن الزبير، فاضطرب حسان بن مالكٍ في الأمر اضطراباً شديداً، وصار يدعو الناس إلى نفسه تارةً وإلى من يختارونه من بني أمية أخرى، حتى قال الشاعر:
وما الناس إلا بحدليٌ على الهوى ... وإلا زبيريٌ عصى فتزبرا
إلى أن وقع الاختيار على مروان بن الحكم، فلما قام بالدعوة صارت البحدلية معه، فسموا مروانية، وصار السبب في حرب قيسٍ وتغلب أن صارت قيسٌ زبيرية وتغلب مروانية، فيقول زفر بن الحارث وهو رئيس قيس أفي الله يريد: أفي ذات الله ومرضي حكمه أن يطلب حياة ابن بحدل والمتعصبة لبني أمية ومروان وعبد الملك ابنه، ويطلب قتل عبد الله بن الزبير مع فضله وشرفه وسابقته. وهذا الكلام تقريعٌ للناس وإكبارٌ للأمر. وقوله أما بحدلٌ حكم أما أن ينقطع عما قبله، ولهذا عد من حروف الابتداء، ولأنه يتضمن معنى الجزاء والجزاء له صدر الكلام، إذا كان كذلك فكأنه قال: أفي الله هذه القصة وهذا الأمر والشأن. وقوله فيحيا فأخبر عن أحد الاسمين لما علم أن صاحبه في مثل حاله. وفي القرآن: " والله ورسوله أحق أن يرضوه ".
كذبتم وبيت الله لا تقتلونه ... ولما يكن يومٌ إغر محجل
إنما قال كذبتم لأن الذي أنكره منهم وقرعهم عليه كان خبراً. ويجوز أن يكون المعنى: كذبتم أنفسكم حين حدثتموها بما لا يتم لكم. وقوله لا تقتلونه ولما يكن يومٌ، يقول: لا تقدرون قبل أن يكون لنا عليكم يومٌ مشهورٌ على قتله، وإذا عجزتم قبله ففي مستقبل الزمان بعده أنتم أعجز، وعن أمنيتكم وترجيم ظنكم أبعد.(1/461)
ولما يكن للمشرفية فوقكم ... شعاعٌ كقرن الشمس حين ترجل
قرن الشمس: أول ما ظهر منها. والترجل، قالوا: إذا ارتفعت الضحى وانبسطت الشمس ولم يشتد حرها فذاك الترجل. وقال ابن الأعرابي: الترجل قبل المتوع، والمتوع قبل انتصاف النهار، وأنشد لمزردٍ:
فأصبح كالدهقان لما بدا له ... من الشمس إشراقٌ ولما ترجل
بين بالشرط الثاني غرضه في تعجيزهم، وأن الذي يريدونه من قتله لا يتم أبداً لهم، ولا يدخل تحت مقدورهم.
وقال حسان بن الجعد
أبلغ بني حازمٍ أني مفارقهم ... وقائلٌ لجمالي غدوةً بيني
إني امرؤٌ غرضٌ من كل منزلة ... لا شدتي تبتغي فيها ولا ليني
هذا الشاعر خرج إلى عبد الله بن خازم راغبا في جواره والكون في جملته فلم يحمده وانصرف عنه، وقال: ليبلغ هذا الرجل وذووه أني مرتحلٌ ونافضٌ يدي منه، وحامل إبلي على مفارقة أرضه، ومظهرٌ الزهد في صحبته، لأني أجتوي كل منزلةٍ لا تمس حاجتها إلى كوني بها، وأنتوي البعد عن كل جنبةٍ لا تشتد رغبتها في إقامتي فيها، كما أني أضجر بجوار كل من اعتقد الغنى عن رأيي وغنائي، وخشونتي وليني. ويقال: غرضت من كذا، إذا مللته؛ وغرضت إلى كذا، إذا اشتقته. فهو كما يقال رغبت فيه ورغبت عنه.
وقال القتال الكلابي
إذا هم هماً لم ير الليل غمةً ... عليه ولم تصعب عليه المراكب
يصفه بالإقدام والتشمير، وحسن النفاذ في الأمور، وأنه متى ما وقع في نفسه أمرٌ فهم به اقتعد الليل ولم يعده حائلاً دون مراده ولا مانعاً عن قصده ومراده، حتى يصير ركوبه غمةً، وما يتصور من هوله شدةً تدفع في الصدر، وتحلئ عن الورد، ولم يشق عليه المراكب، ولا يستكره فيه المصاعب. ويقال: هو في غمةٍ من أمره، أي حيرةٍ وظلمةٍ. وأصل الغم التغطية.(1/462)
قرى الهم إذ ضاف الزماع فأصبحت ... منازله تعتس فيها الثعالب
يقول: يجعل قرى همه إذا اعتراه، النفاذ والعزيمة، والإجماع فيه والصريمة، فترى منازله تستبدل بسكانها وحشاً تعتس فيها، ويعتاض هو من الدعة والخفض تعباً يمتطيه، ودءوباً يستمر فيه. والاعتساس: الاختلاف بالليل. ويقال: عس واعتس، ومنه أخذ العسس. وفي المثل الجاري " كلبٌ عس خيرٌ من أسدٍ ربض ".
جليدٌ كريمٌ خيمه وطباعه ... على خير ما تبنى عليه الضرائب
يقال هو جلدٌ وجليدٌ بمعنىً. والخيم: الطبيعة؛ وقال أبو عبيدة: أصله فارسيٌ معرب. والطباع: ما طبع عليه الإنسان في مأكله ومشربه وسائر أحواله. والضرائب: جمع الضريبة، وهي الخليقة. ويقال: ليس لفلانٍ ضريبٌ، أي شبيه، وهو كريم الضريبة. فيقول: قوي الجأش، مرضي الطبيعة، وقد جبل في كل ما يستشف من أموره على أحسن ما تجبل عليه النفوس والأخلاق.
إذا جاع لم يفرح بأكلة ساعةٍ ... ولم يبتئس من فقدها وهو ساغب
أحسن حاتم طيئٍ في هذه الطريقة حين قال:
غنينا زماناً بالتصعلك والغنى ... فكلتاهما يسقي بكأسيهما الدهر
فما زادنا بغياً على ذي قرابةٍ ... غنانا ولا أزرى بأحسابنا الفقر
والشاعر يصف كرم نفسه وحسن صبره على تقلب الأحوال، فالشبعة لا تطغيه، والجوعة لا تؤيسه فترديه. والسغب: الجوع. وأضاف الأكلة إلى ساعةٍ تقصيراً بها وإزراءً، وإن كان ذلك وقتاً لها. وقوله من فقدها يريد من فقدٍ لها، والمصدر يضاف إلى الفاعل والمفعول جميعاً، على هذا قوله تعالى: " من دعاء الخير ".
يرى أن بعد العسر يسراً ولا يرى ... إذا كان يسرٌ أنه الدهر لازب(1/463)
يستحسن لبشار في هذه الطريقة قوله، بل قد صار مثلاً:
خليلي إن العسر سوف يفيق ... وإن يساراً في غدٍ لحقيق
وما أنا إلا كالزمان، إذا صحا ... صحوت، وإن ماق الزمان أموق
يقول: يعلم أن أسباب الدنيا وتصاريفها مبنيةٌ على التغير والتبدل، فالعسر واليسر يتعاقبان ولا يلزمان، فمتى استغنى كرم ولم يبطر، علماً بأنه يفنى فلا يبقى، وإذا افتقر عف ولم ييأس، ثقةً بأنه يزول ولا يدوم. وقوله " يرى " من البيت يجري مجراه من قوله تعالى: " إنهم يرونه بعيداً "، لأنه بمعنى يظنونه، وليس كذلك في قوله " ونراه قريباً " لأنه بمعنى نعلمه. وقد يستعمل العلم في موضع الظن أيضاً، لذلك قال:
وأعلم علماً ليس بالظن أنه ... إذا ذل مولى المرء فهو ذليل
وقال أوس بن حبناء
إذا المرء أولاك الهوان فأوله ... هواناً وإن كانت قريباً أواصره
حقيقة أولاك كذا: جعله مما يليك، لكنه اشتهر في الإحسان، وقد يستعمل في الإساءة، كما فعله هذا الشاهر. ومثله بشرته في معنى تناوله الشر، وإن كان اشتهاره في الخير. ألا ترى قوله تعالى: " فبشرهم بعذابٍ أليمٍ ". يقول: قابل معاملك بمثل ما يرصده لك، فإن الأفعال بين الناس قروضٌ، وشرط القروض الوفاء بها، والحروج من ذممها، فمن أهانك فأهنه وإن قربت عواطف أرحامه، وشوابك أسبابه، ولا توجب له إلا مثل ما يوجبه لك. ويقال: بيني وبينه أصرةٌ، أي عاطفةٌ، والأصر: العطف. وقوله قريباً خبر كان، وقدمه على اسمه ولم يؤنثه لأنه أراد النسبة فلم يبنه على الفعل. ومثله قوله تعالى: " إن رحمة الله قريبٌ من المحسنين ".
فإن أنت لم تقدر على أن تهينه ... فذره إلى اليوم الذي أنت قادره
يقول: إن أعجزك مكافأته على إساءته إليك، وأعوزك إنالته مثل ما ينيلك في الحال، فأنظره إلى الوقت المساعد لك من مستقبل أيامك، وانتظر نوبتك من الدهر،(1/464)
فإذا أمكنتك الفرصة فانتهزها. وقوله إلى اليوم الذي أنت قادره أراد أنت قادرٌ فيه، فقدر الظرف تقدير المفعول الصحيح لأن الظرف إذا أضيف إليه يخرج من أن يكون ظرفاً كما يخرج منه إذا دخل عليه حرف الجر. على هذا قولهم:
يا سارق الليلة أهل الدار
وقوله: طباخ ساعات الكرى زاد الكسل
وقارب إذا ما لم تكن لك حيلةٌ ... وصمم إذا أيقنت أنك عاقره
يقول: اجر مع الدهر في تصرفه وتلونه، ودار عدوك وجامله إن أعياك مكايلته ومحاسبته، فإذا انقضت أيامه وتيسر لك بعد مداجاتك له عقره وإهلاكه فاثبت في الأزم عليه، والانتقام منه، ثبات السيف القاطع في ضريبته، وإياك والغفلة عند بعد إيقاظك إياه، واللين معه وقد خشنته.
وقال آخر:
إني إذا ما القوم كانوا أنجيه
واضطرب القوم اضطراب الأرشيه
وشد فوق بعضهم بالأرويه
هناك أوصيني ولا توصي بيه
قوله إني إذا ما القوم خبر إن في قوله أوصيني ولا توصي بيه. والمعنى: إني أهلٌ لأن يوصي إلي حينئذ في غيري، ولا يوصى غيري بي. فتبين هذا من الكلام وإن كان على لفظ الأمر والنهي. وعلى هذا قول القائل زيدٌ قم إليه، أي هو أهلٌ لأن تقوم إليه. فبهذا التقدير وأمثاله جاز أن يقع الأمر موضع الخبر. وأنشد أبو زيدٍ:
وكوني بالمكارم ذكريني ... ودلي دل ماجدةٍ صناع(1/465)
وقال: أراد كوني تذكرينني، فوضع ذكريني موضع تذكرينني. ومرجع هذا الذي قاله إلى مثل ما بيناه. وكما أن خبر إن فيما بيناه فكذلك جواب إذا، فافهمه. وما من قوله ما القوم زائدةٌ. وأنجيةٌ: جمع نجيٍ، والنجي يقع للواحد والجمع. وفي القرآن: " خلصوا نجياً ". ومعنى كانوا أنجيه، أي صاروا فرقاً لما حزبهم من الشر، ودهمهم من الخوف، يتناجون ويتشاورون.
وقوله واضطرب القوم أي أخذهم القيام والقعود، وفارقهم القرار والهدو، فأقبل بعضهم يمشي إلى بعضٍ، متعاونين في التهيؤ والارتحال، ومتساعدين على التيسر للانتقال. فشبه ميلانهم وترجحهم في اختلافهم، بترجح الأرشية عند الاستقتاء عليها من الآبار البعيدة القعر، وميلانها.
وقوله وشد فوق بعضهم بالأرويه، يعني أنهم ركبوا الليل وداوموا السير، فغلب النعاس على طائفةٍ منهم حتى خيف عليهم السقوط، لضعف استمساكهم، فشدت الحبال فوقهم. والأروية: جمع الرواء وهو الحبل الذي يروى به، أي يستقى. ومنه قيل الراوية، ويجوز أن يكون الاضطراب الذي ذكره لاتصال التسيار وغلبة النوم، للإخلال بالنزول والقرار أيضاً. وصرفه إلى الأول أحسن.
وقوله هناك أوصيني، هناك يشار به إلى الزمان والمكان معاً، وموضعه نصبٌ على الظرف، والكاف منه كاف الخطاب، والعامل فيه أوصيني. والمعنى: في ذلك الوقت يوجد الغناء والكفاية عندي، ويحصل الصبر والمداومة مني، فاجعلي وصاتك إلي لا بي، واعتمدي علي لا على غيري. وقال بعض القدماء: معنى كانوا أنجيه، يريد قوماً ناموا على رواحلهم فرأوا في منامهم كأنهم يتناجون. والصواب عندي ما قدمته.
وقال المتلمس
ألم تر أن المرء رهن منيةٍ ... صريعٌ لعافي الطير أو سوف يرمس
فلا تقبلن ضيماً مخافة ميتةٍ ... وموتن بها حراً وجلدك أملس(1/466)
قال هذا فيما كان بين ضبيعة وبكر بن وائل، ومعنى ألم تر اعلم. يقول: الإنسان مرتهنٌ بأجله، فإما أن يموت حتف أنفه فيدفن، وإما أن يقتل في معركةٍ فيترك لعوافي السباع والطير. وجعل رهن منيةٍ وصريعٌ لعافي الطير جميعا خبرين لأن، ثم أتي بأو الإباحة. ويجوز أن ينتصب صريعٌ على الحال، وفي رفعه وجهٌ آخر، وهو أن يكون خبر مبتدأ محذوف، كأنه هو صريعٌ. وإن جعلت أو التي تكون للشك يكون الكلام مبنياً على اليقين ثم يعترض فيه الشك. والأصلح في مثل هذا أن يجعل بإما، ليكون بنية الكلام على الشك، إذ كان واحدٌ من الأمرين لا يتيقن.
وقوله فلا تقبلن ضيماً يقول: أدفع عن نفسك خطة الضيم والهضيمة، ولا تلتزم العار والدنية، إشفاقاً من المنية. وانتصب مخافة على أنه مفعولٌ له. وقوله وموتن بها، الضمير من بها يرجع إلى المخافة، أي مت بتلك المخافة حراً لم يستعبدك الخصم، ولم يستوطئك الظلم، وجلدك نقيٌ من العيب، سليمٌ من العار والشين. ويروى " واحين بها حراً وجلدك أملس " والرواية الأولى أحسن، ويكون واحين أمراً بالحياة وقد أدخل عليه النون الخفيفة. ومعنى يرمس: يدفن. والرمس: الدفن. والرياح الروامس منه، وتوسعوا في الدفن فقيل ارمس هذا الحديث، كما يقال ادفن. وعافي الطير: ما يعتري منه. ويقال فلانٌ كثير العافية والعفاة، ويراد الزوار والمجتدون.
فمن طلب الأوتار ما حز أنفه ... قصيرٌ وخاض الموت بالسيف بيهس
نعامة لما صرع القوم رهطه ... تبين في أثوابه كيف يلبس
قصيرٌ: صاحب جذيمة الأبرش. وقصة جذيمة وزباء الرومية مشهورة. وإن قصيراً توصل بأن جدع أنف نفسه، إلى أن استخدمته زباء ثم استخلصته حتى تمكن فأدرك ثأره منها. وبيهسٌ هو الذي يلقب نعامة، وهو رجلٌ من بني غراب بن فزارة، وكان يحمق، فقتل له سبعة إخوة فجعل يلبس القميص مكان السراويل، والسراويل مكان القميص، فإذا سئل عن ذلك قال:
البس لكل عيشةٍ لبوسها ... إما نعيمها وإما بوسها(1/467)
فتوصل بما صوره من حاله عند الناس إلى أن طلب بدماء إخوته. وحديثه مشهور أيضاً. وكلام المتلمس بعثٌ وتحضيضٌ على دفع الضيم، وركوب الإباء من التزام العار، فلذلك أخذ يذكر بحال من استضعف. فلم يزل يحتال حتى أدرك مباغيه من أعدائه.
وقوله: ما حز أنفه ما زائدة. وارتفع نعامة على أنه بدلٌ من قوله بيهس. وموضع كيف نصبٌ على أنه مفعول تبين، والعامل في كيف يلبس تبين. كأنه قال: تبين في أثوابه يلبس أي لبسةٍ.
وما الناس إلا ما رأوا وتحدثوا ... وما العجز إلا أن يضاموا فيجلسوا
قوله ما رأوا ما مع الفعل في تقدير مصدرٍ، كأنه قال: وما الناس إلا رؤيةٌ وتحدث، أي اعتبار بالمشاهدة أو بما يروى من أخبار الأمم البائدة؛ فهو كقولك: ما زيدٌ إلا ذو أكلٌ وشرب، فيكون إما على حذف المضاف، كأنه قال: ما زيدٌ إلا ذو أكلٍ وشربٍ؛ وإما أن يكون لكثرتهما منه، وولوعه بهما، كأنه نفس الأكل والشرب. فيقول: ما الناس إلا ذوو الاعتبار بما يشاهدونه أو يسمعونه من أخبار أسلافهم، فيتيقنون بأنه لا بد من الفناء، فلا ينبغي لأحد أن يحتمل ضيماً أو يصبر على مكروه، وما العجز إلا أن يظلموا ويساموا الخسف فيرضوا به، وينطووا عليه كاظمين وساكنين. ويجوز أن يريد بقوله وما الناس: وما حزم الناس، فحذف المضاف، ويكون حينئذ ما رأوا في موضع الظرف، كأنه أراد: ما حزمهم إلا مدة رؤيتهم وتحدثهم، أي إذا اعتبروا بالأمرين، ويكون هذا في باب الإخبار كقولهم: الهلال الليلة، على تقدير حدوث الهلال أو طلوعه الليلة. ويكون الدلالة على هذا الوجه أنه طابقه بقوله وما العجز.
ألم تر أن الجون أصبح راسياً ... تطيف به الأيام ما يتأيس
الجون: حصن اليمامة، ويقال إنه من مصانع طسمٍ وجديس. فيقول: لا توعدونا فإن حصننا حصينٌ لا يوصل إليه، ولا يستباح حماه. ومعنى تطيف به الأيام تلم به الأحداث وتنوبه النوائب فلا يطيع. وقوله لا يتأيس أي لا يلين. وأنشد الأصمعي:
إن تك جلمود صخرٍ لا أؤيسه ... أوقد عليه فأحميه فينصدع(1/468)
وموضع تطيف به الأيام نصبٌ إن شئت على الصفة، وإن شئت على أنه خبرٌ بعد خبرٍ. وموضع ما يتأيس نصبٌ على الحال، والعامل فيه تطيف.
عصى تبعاً أزمان أهلكت القرى ... يطان عليه بالصفيح ويكلس
يروى:
... أيام أهلكت القرى ... يطان على صم الصفيح ويكلس
يقول: إن تبعاً لما غزا القرى والمدن لم يصل اليمامة للحصن. وذكره العصيان كما قال غيره. تمرد مارد وعز الأبلق. وقوله يطان عليه بالصفيح أي يجعل بدل طينه في الإصلاح والعمارة الكلس بالحجارة. ويجوز أن يكون بالصفيح في موضع الحال، أي يطان ويكلس بصفائحه، أي وهو مبنيٌ الحجارة.
هلم إليها قد أثيرت زروعها ... وعادت عليها المنجنون تكدس
يخاطب النعمان. وإليها أي إلى اليمامة. وهذا الكلام تهكمٌ وسخرية. يقول: إن قدرت عليها فاقصدها فإنها أخصب ما يكون، مزدرعها مثارٌ وداليتها تدور. ومعنى تكدس يركب بعضها بعضاً في الدوران. ويستعمل في سير الدواب وغيرها. وقال ابن الأعرابي: التكدس أن يحرك منكبيه إذا مشى. وقال الأصمعي. هي من مشى القصار الغلاظ. ويقال كدس به الأرض إذا ضربها به. وأنشدت:
وخيلٍ تكدس بالدارعي ... ن نازلت بالسيف أبطالها
وروى بعضهم: " قد أبيثت زروعها ". والإباثة: الإثارة. وقوله هلم إليها كما يقال أقبل إليها. وقد مضى القول في هلم.
وذاك أوان العرض حي ذبابه ... زنابيره والأزرق المتلمس
ويروى جن ذبابه أي كثر ونشط. والعرض: وادٍ من أودية اليمامة، فلك أن تجره بإضافة الأوان إليه وهو مرفوعٌ، ولك أن تنصب الأوان فترفع العرض بالابتداء،(1/469)
واسم الزمان يضاف إلى الجمل من الابتداء والخبر، والفعل والفاعل، وكأنه قال: وهذا الذي ذكرت هو في هذا الأوان. وقوله حي ذبابه أي عاش بالخصب فيه. وزنابيره يرتفع على أنه بدلٌ من الذباب. وذباب الروض قد تسمى الزنابير. وقوله والأزرق المتلمس إشارة إلى جنسٍ آخر غير الأول، وهو ما كان أخضر ضخماً. والمتلمس: الطالب، ويقال إنه سمي المتلمس بهذا البيت، واسمه جرير بن عبد العزى.
يكون نذيرٌ من ورائي جنةً ... وينصرني منهم جليٌ وأحمس
وجمع بني قران فاعرض عليهم ... فإن يقبلوا هاتا التي نحن نوبس
قوله " يكون نذيرٌ " قيل فيه هو نذير بن بهثة بن وهب بن حرب. وقيل أراد بالنذير المنذر. والمعنى: إني أرصد لهم من ينذرني بهم فيخبرني بمجيهئهم إذا هموا به، فأتقي وأستجن وأتحرز. وجليٌ وأحمس من ضبيعة بن ربيعة بن نزار يقول: وإذا جاء وقت التجاذب والتدافع قام بنصري هذان البطنان. وقوله وجمع بني قران النصب فيه على إضمار فعل، كأنه قال: سم جمع بني قران، ويكون الفعل الظاهر تفسير المضمر؛ والرفع على الابتداء. ومعنى البيت: أجرونا مجرى نظرائنا فإنا نرضى بهم قدوةً، واعرضوا ما تسوموننا على بني قران، فإن وجدتموهم يتلقونه بالقبول، ويوطنون أنفسهم عليه، فلنا بهم أسوةً، وإلا فالامتناع منه واجبٌ. وقوله هاتا التي نحن نوبس أي هذه الخطة التي نكره عليها. والأبس: القهر. وقال ابن الأعرابي: أبست الرجل، إذ لقيته بما يكره؛ وأبست منه، إذا وضعت منه باستخفافٍ به وإهانةٍ له. وجواب الجزاء لم يجيء بعد.
فإن يقبلوا بالود نقبل بمثله ... وإلا فإنا نحن آبى وأشمس
وإن يك عنا في حبيبٍ تثاقلٌ ... فقد كان منا مقنبٌ ما يعرس
قوله فإن يقبلوا بالود أعاد به الشرط، وذاك أنه قال في البيت الذي قبله فإن يقبلوا هاتا التي نجن نوبس، ولم يأت للشرط بجوابٍ، ثم قال فإن يقبلوا بالود نقبل بمثله، فاكتفى بجوابٍ واحد لاشتماله على ما يكون جواباً لهما، فكأنه قال: إن قبلوا ما نوبس نقبل مثله، وإن أقبلوا بعد ذلك وادين ووامقين أقبلنا بمثله، وإلا فنحن أشد(1/470)
إباءً، وأبلغ شماساً، وأحمى أنفا وأعز جانباً، والشماس: الامتناع، ومنه شماس الدابة، وهو أن لا يمكن من الإسراج والإلجام. وكانت بنو ضبيعة حلفاء لبني ذهل بن ثعلبة بن عكابة، فوقع بينهم نزاعٌ، فعاتبهم المتلمس. وقوله وإن يك منا في حبيبٍ تثاقلٌ فإنه أراد حبيبٍ فخفف، وهو حبيب بن كعب بن يشكر بن بكر بن وائل. يقول: إن تكاسل بنو حبيب عن طلب دمائنا، وتثاقلوا عن إدراك ثأرنا، فقد كان منا من يدأب ويسهرن فلا يرى تعريساً وتلوماً وتعريجاً في ذلك. والمقنب: زهاء ثلاثمائةٍ من الخيل. والتعريس: نزولٌ في آخر الليل.
وقال سعد بن ناشبٍ
تفندني فيما ترى من شراستي ... وشدة نفسي أم سعدٍ وما تدري
فقلت لها إن الحليم وإن حلا ... ليلفي على حال أمرٍ من الصبر
تفندني أي تجهلني. والفند: إنكار العقل من هرمٍ. يقال شيخٌ مفندٌ. وفي القرآن: " لولا أن تفندون "، أي تجهلوني، وفسر على تكذبوني أيضاً. والشراسة: صعوبة الخلق وخشونة الجانب. فيقول: تعيبني هذه المرأة على ما ترى من عسر الخلق وإباء النفس وفظاظة القلب، جاهلةً بأحوال الرجال، والفصل بين أوقات الجد والهزل، والشدة والليان، فأجبتها وقلت: إن الرجل الحليم وإن لان عطفه وسهل خلقه فقد يوجد في وقت الغلظة وعند حالة القسوة أمر مرارةً من الصبر، وأشد صلابةً من الحجر. وقوله وما تدري في موضع الحال. وفي هذه الطريقة قول الآخر:
وإني لحلوٌ إن أريدت حلاوتي ... ومرٌ إذا نفس العزوف اقشعرت
وفي اللين ضعفٌ والشراسة هيبةٌ ... ومن لا يهب يحمل على مركبٍ وعر
الواو من قوله والشراسة عاطفةٌ لجملةٍ على جملةٍ، ولا يجوز أن يجر الشراسة على أن يكون معطوفاً على في اللين، لما فيه من العطف على عاملين بحرفٍ واحدٍ. ومعنى البيت أن من استلين جانبه في كل حالٍ استضعف واهتضم، ومن استخشن خلقه هيب وتحومي.(1/471)
وما بي على من لان من فظاظةٍ ... ولكنني فظٌ أبيٌ على القسر
في هذه الطريقة قول الآخر:
أبيٌ لما آلى سريعٌ مباءتي ... إلى كل نفسٍ تنتحي في مسرتي
يقول: أضع كل واحدٍ من الفظاظة والسهولة، والشراسة والسلاسة، في موضعه، وأستعمله مع من يستحقه، فمن جرى معي وانقاد لي لنت له، وقابلته بمثل فعله، ومن تأبى علي وطلب مني متابعته والجري مع هواه أبيت عليه، وخالفته فيما يبتغيه. والقسر: القهر على الكره، ويقال قسرته واقتسرته، ومنه قيل للأسد قسورةٌ.
أقيم صغا ذي الميل حتى أرده ... وأخطمه حتى يعود إلى القدر
فإن تعذليني تعذلي بي مرزأً ... كريم نثا الإعسار مشترك اليسر
قوله أقيم صغا ذي الميل، تبجج فيه بأنه عارفٌ بأسرار الرجال، لطيف التوصل إلى إنزالهم منازلهم، بصيرٌ بمداواة أدوائهم، لا يتركهم سدىً، ولا يخليهم إهمالاً. والصغا: الميل والاعوجاج، يقال صغا فؤاده يصغى ويصغو، أي مال. وصغوك مع فلانٍ، أي ميلك. يقول: من مال عنا فإني أقوم اعوجاجه بما يحوج إليه من قولٍ وفعلٍ، حتى أرده إلى ما أريده، فإن تبينت فيه تعدياً لطوره، وذهاباً عن حقه وحده، زممته بزمام مثله حتى يرجع إلى مرتبته وقدره. وقوله فإن تعذليني يصف نفسه بأنه سمحٌ معطاءٌ، لا يكف عن البذل، ولا يرد عن الإعطاء والجود، على تلون الزمان به، وتغير الأحوال عليه. والمرزأ: المصاب في ماله كثيراً. وقوله تعذلي بي مرزأً، أي رجلاً مرزأً، وذلك الرجل هو هو كما يقال: لقيت بزيدٍ الأسد. والنثا: الخبر، ويستعمل في الخير والشر، والثناء لا يستعمل إلا في الخير، يقول: إن لمتني على ما هو دأبي من الإفضال، لمت بي رجلاً لا يفكر في عقب الدهر، وكروره بالغنى والفقر، فإن نابه العسر حسن بلاؤه وكرمت أخباره فيه، وإن ناله اليسر أشرك الأقارب والأجانب في نفعه، فعمت فواضله لديهم.
وقد أكثر الشعراء في هذا المعنى. فمن ذلك قول الشمردل:
وصولٌ إذا استغنى وإن كان مقتراً ... من المال لم تحف الصديق مسائله(1/472)
وقول المرار:
إذا افتقر المرار لم ير فقره ... وإن أيسر المرار أيسر صاحبه
وأحسن من الجميع قول الآخر:
إذا افتفروا عضوا على الفقر حسبةً ... وإن أيسروا عادوا سراعاً إلى الفقر
إذ هم ألقى بين عينيه عزمه ... وصمم تصميم السريجي ذي الأثر
يذكر من نفسه الصرامة والنفاذ، وفصل الأمور، والصبر على ممارسة الخطوب. يقول: إذا عزم على الأمر كان جميع الرأي، يجعل المهموم به نصب عينيه، حتى يخرج منه، ونفذ نفاذ السيف الخذم لا يتوقف في الضريبة، ولا يكهم. والسريجي: منسوبٌ، ويجوز أن يكون وصف بذلك لكثرة ماله ورونقه، حتى كأن فيه سراجاً؛ ومنه قيل: سرج الله أمرك، أي حسنه ونوره. والتصميم: المضي في الأمر، ويقال صمم في عضته، إذا نيب. قال:
فأطرق إطراق الشجاع ولو يرى ... مساغاً لنابيه الشجاع لصمما
والأثر: الفرند والماء، ويقال أثرٌ بالضم.
وقال أيضاً:
لا توعدنا يا بلال فإننا ... وإن نحن لم نشقق عصا الدين أحرار
يخاطب بهذا الكلام بلالاً الخارجي، ويعيره خروجه من طاعة السلطان وشقه عصا الإسلام، فيقول: اترك توعدنا فإنا وإن لم نفرق الجماعة تفريقك، ولم نخالف المسلمين مخالفتك فإن فينا كرماً وإباءً يحمينا من الانهضام، ويحرم علينا الصبر على المذلة والعار، فلا طريق لك إلى تملكنا والتحكم فينا. وقال الخليل قولهم شق عصا المسلمين، العصا: الاجتماع والائتلاف. والأجود عندي أن يكون مثلاً كما يقال للرفيق الحسن السياسة: هو لين العصا، وفي ضده: هو صلب العصا، وكقولهم: قشرت له العصا، إذا أبنت له ما في نفسك، وكما قيل: " عصا الجبان أطول ". وقال بعضهم يصف الخوارج:
رجوا بالشقاق الأكل خضماً فقد رضوا ... أخيراً من أكل الخضم أن يأكلوا قضما(1/473)
فأتى بالشقاق وأصله من شق العصا.
وإن لنا إما خشيناك مذهباً ... إلى حيث لا نخشاك والدهر أطوار
يتوعده بأنه إن أعياه مقارته ولم يف بمدافعته، فارق أرضه وتربص به ما لا يؤمن من تغير الزمان، وتحول الأحوال، لأن في سعة الأرض مذهباً له، وفي التباعد عنه راحةً تؤمنه. وقد أومأ بقوله والدهر أطوار إلى تصاريف الزمان، وتلونه بالخير تارةً وبالشر أخرى. ويقال الناس أطوارٌ، أي أخيافٌ على حالاتٍ شتى. وفي القرآن: " وقد خلقكم أطواراً ". وقوله إلى حيث لا نخشاك أجرى حيث مجرى الأسماء، وجعل لا نخشاك من تمامه، وحذف الضمير منه تخفيفاً، كأنه قال إلى حيث لا نخشاك فيه، أي إلى مكان الأمن منك. ويروى " فإن لنا عنكم مزاحاً ومذهباً ". والمزاح: المبعد، يقال: زاح عني.
فلا تحملنا بعد سمعٍ وطاعةٍ ... على غايةٍ فيها الشقاق أو العار
يقول: لا تلجئنا بعد انقيادنا لك في كثير من الأمور، ودخولنا تحت هواك، وتلقينا بالسمع والطاعة أمرك، إلى غايةٍ تضيق نطاق صبرنا، وتعجز طاقتنا وجهدنا، فتفضى بنا الحال إلى أحد شيئين، إما مشاقتك ومجاهدتك، وركوب كل صعبٍ وذلولٍ في الخروج عنك وعليك، وإما الرضا بالدنية والدخول تحت العار والهضيمة، فلا حظ لنا ولك في واحدةٍ منهما. وقد مضى القول في الشقاق وأصله. يقال هو يشاقهم خلافاً وعناداً.
فإنا إذا ما الحرب ألقت قناعها ... بها حين يدفوها بنوها لأبرار
قوله إذا ظرفٌ لخبر إن، وهو أبرار. وكذلك قوله حين يجفوها، والتقدير: إنا لأبرار بالحرب إذا ألقت قناعها وجفاها أبناؤها. وقوله ألقت قناعها مثلٌ. يريد: إذا اشتدت فتكشفت، وزالت المساترة بين أولادها فتبرجت، في أقبح زيها وأفظع صورتها. وتشبيه الحرب في ابتدائها بالفتية المخدرة وتسترها، وعند تفاقمها بالعجوز واطراحها لقناعها، مشهور في عاداتهم وطرائقهم. وبر أبنائها بها: صبرهم على حرها، وتهييجهم لنارها. وجفاؤهم بها أن يكونوا على الضد من ذلك.(1/474)
ولسنا بمحتلين دار هضيمةٍ ... مخافة موتٍ إن بنا نبت الدار
هذا خلاف قول الآخر:
إذا ارتحلوا عن دار ضيم تعاذلوا ... عليها وردوا وقدهم يستقيلها
وانتصب مخافة على أنه مفعولٌ له، الهضيمة والمضيمة واحد.
وقال قراد بن عبادٍ
إذا المرء لم يغضب له حين يغضب ... فوارس إن قيل اركبوا الموت يركبوا
ولم يحبه بالنصر قومٌ أعزةٌ ... مقاحيم في الأمر الذي يتهيب
تهضمه أدنى العدو ولم يزل ... وإن كان عضاً بالظلامة يضرب
يخبر بأن عز الرجل بعشيرته، واعتلاءه بذويه وأقاربه، فإذا لم يتغضب له فرسانٌ يسخطون لسخطه ويمتعضون من دخول الضيم عليه، فيركبون حد الموت في هواه، ويقتحمون الشدائد في نصرته، تجاسر عليه أضعف أعدائه، وأدنى مخالفيه، وإن كان في نفسه منكراً داهيةً لا يطاق، ولم يزل مضروباً بالظلم والهضيمة، مقهوراً بالإزراء والمضيمة، وإن كان لا يؤتى من حدٍ ومضاء. والعض: السيئ الخلق، والمنكر الشديد اللسان. ويقال هو عض مالٍ وعض سفرٍ وقتال، إذا كان حسن الغناء في جميعها. وجواب إذا المرء قوله تهضمه، وهو العامل فيه والمقاحيم: جمع المقحام، وهو الذي يخوض قحمة الشيء، أي معظمه. ومعنى تهضمه كسره وأذله. والحباء: عطاءٌ بلا منٍ ولا جزاءٍ. ويقال: حباه الله بكذا، وحباه كذا أيضاً. وخبر لم يزل " يضرب "، وفي الجملة جواب " وإن كان عضاً ".
فآخ لحال السلم من شئت واعلمن ... بأن سوى مولاك في الحرب أجنب
ومولاك مولاك الذي إن دعوته ... أجابك طوعاً والدماء تصيب(1/475)
فلا تخذل المولى وإن كان ظالماً ... فإن به تثأى الأمور وترأب
يحثه على استصلاح بني الأعمام، وينبه على أنهم المعتمدون في الشدائد، فيقول: وال لأيام السلامة وأحوال الموادعة والمسالمة من شئت، وإن لم يجمعك وإياه نسبٌ ولا سببٌ، عالماُ بأنه لا يصلح للحرب ومجاذبة الأعداء إلا قريبٌ، وأن من سواه فيها غريب. وقوله ومولاك مولاك تلافى به تحقيق ما قدمه، وتأكيد ما أطلقه، ونفى عنه تسلط المجاز والاتساع. فيقول: مولاك في الحقيقة هو ابن عمك الذي إن استغثت به أبعد ما كان منك أغاثك عن حنوٍ وشفقة، وإن دعوته والكلم يقطر وحبل الألفة ينقطع، أجابك لا بتصنعٍ وتعملٍ، فأما من ولاؤه بالاسم دون المعنى، أو يكون مداجياً لك يجاملك بالغش وينطوي لك على الضغن، يخذلك أحوج ما كنت إليه، ويبعد عنك أقرب ما كنت فيه، فلا معتمد عليه، ولا استنامة إليه. وانتصب طوعاً لأنه مصدرٌ في موضع الحال. ومثل هذا قول الآخر:
أخوك الذي إن تدعه لملمةٍ ... يجبك وإن تغضب إلى السيف يغضب
وقوله ولا تخذل المولى وإن كان ظالماً يجوز أن يكون المعنى: لا تخذله وإن كان ظالماً لك، ويجوز أن يكون على منهاج ما جاء في الخير: " انصر أخاك ظالماً أو مظلوماً ". يقول: طالب نفسك لمولاك بمثل ما تطالب به مولاك لنفسك، وانصره على كل حال.
وفي مثل طريقة البيتين الأولين من هذه المقطوعة قول الآخر:
ومن لا يكن ذا ناصرٍ يوم حقه ... يغلب عليه ذو النصير ويضهد
وفي كثرة الأيدي لذي الظلم زاجرٌ ... إذا خطرت أيدي الرجال بمشهد
ومعنى به تثأى الأمور وترأب يريد بالمولى تصلح الأمور وتفسد. ويقال: رأيت الثأي، كما يقال رفعت الخرق.
وقال زاهر أبو كرامٍ التيمي
لله تيمٌ أي رمح طراد ... لاقى الحمام به وتصل جلاد(1/476)
قوله لله تيمٌ، تيمٌ: رجلٌ من بني يشكر، بارز أبا كرامٍ فقتله، وكان أحد الفرسان، فأخذ أبو كرامٍ يقيم أمره ويعظم شأنه، لأن ثناءه عليه وإكباره لمكانه راجعٌ إليه، إذ صار قتيله. واللام من لله تيمٌ دخلت للتخصيص، والعجب دخل في الكلام أيضاً بقوله أي رمح طراد. وعلى هذا قولهم: لله دره. وهذا التخصيص باللام يجري مجرى الإضافة في قولهم: بيت الله، وكعبة الله، وإن كانت الأشياء كلها لله. وقوله أي رم طراد لاقى الحمام به الضمير في به لتيمٍ، والمعنى: لاقى الموت بتيمٍ أي رمح مطاردةٍ، وأي نصل مجالدةٍ، كأنه كان رمحاً ونصلاً، ومحش حربٍ. ويجوز أن يكون المراد: لاقى الموت به أي سلاحٍ وعدة، وأي مقاتلٍ وبطل. ولك أن ترفع الحمام، والمعنى: لاقى الموت بتيم أي رمح وأي رامح، وأي سيفٍ وأي سائف. ودل على صاحب السيف والرمح قوله " ومحش حرب " في البيت الثاني.
ومحش حربٍ مقدمٍ متعرضٍ ... للموت غير معردٍ حياد
يقال: حششت النار، إذا جمعت الحطب إليها وهيجتها. كأنه جعله آلةً في حش نار الحرب، لأن المفعل والمفعال للآلات. والتعريد: ترك القصد وسرعة الانهزام. والحياد: الذي يحيد عن موضع القتال كثيراً. يريد أنه يقدم ولا يحجم. وانعطف ومحش حربٍ على ونصل جلاد.
كالليث لا يثنيه عن إقدامه ... خوف الردى وقعاقع الإيعاد
مذلٌ بمهجته إذا ما كذبت ... خوف المنية نجدة الأنجاد
يقول: هو في بأسه وإقدامه، مثل الليث لا يصرفه عن الوجه الذي يؤمه، والأمر الذي يهمه، ما يستشعره الجبان من خوف الموت، وقعقعة الوعيد. والقعقعة: صوت الجلد اليابس والبكرة؛ وتوسعوا فيه فقالوا: هال فلاناً قعقعة الوعيد. وقالوا: تقعقعت مفاصله أيضاً.
وقوله: مذلٌ بمهجته كأنه يطول تعرضه للشدائد، ويدوم ابتذاله لما يجب صونه من كرائم النفس، فعل من ضجر بمهجته فاستقتل، واستطاب الموت فتعجل. ويقال: مذل بسره، إذا باح به. والمهجة: خالصة النفس، ومنه الأمهجان في اللبن.(1/477)
وانتصب خوف المنية على أنه مفعول له، وإذا ما كذبت نجدة الأنجاد، ظرفٌ لقوله مذل، والمعنى: إذا خانت شدة الأشداء، ولم تف بما تعد شجاعة الشجعان، لاستفحال الشأن، فإن هذا الرجل كان ينذل بمهجته، فكأنه يميل إلى انقطاع العمر. والأنجاد: جمع النجد. والنجدة: البأس. ويقال: هو صادق البأس، كما قيل كاذب البأس.
ساقيته كأس الردى بأسنةٍ ... ذلقٍ مؤللة الشفار حداد
فطعنته والخيل في رهج الوغى ... نجلائ تنضح مثل لون الجادى
أخذ يقتص كيف قتل تيماً. والمساقاة تكون من اثنين، ولذلك قال: " بأسنة ذلقٍ " فجمع، وإنما كان سنانان من رمحين. ويجوز أن يكون جمع لأنه أراد الزج والسنان من كل واحدٍ منهما. والذلق: المحددة. وذلق كل شيء: حده، ومنه قيل ذليق اللسان. والمؤللة أيضاً: المحددة. والشفار، أصله أن يستعمل في السكين العريض. وكما جعل هذا الشفرة للرمح جعله غيره للسيف فقال:
ويركب حد السيف من أن تضيمه ... إذا لم يكن عن شفرة السيف مز حل
وقوله فطعنته والخيل الوالو والو الحال، والرهج: الغبار. وقوله: نجلاء أراد طعنته طعنةً نجلاء أي واسعة، تنضح أي ترش. والنضح بالحاء غير معجم يستعمل فيما رق، وبالخاء معجمةً فيما غلظ. وقوله مثل لون الجادى يعني به دماً، أي لونه مثل لون الزعفران.
فكأنما كانت يدي من حتفه ... لما انثنيت له على ميعاد
فهوى وجائشها يفور بمزبدٍ ... من جوفه متدارك الإزباد
قوله فكأنما كانت يدي من حتفه يريد أنه سقط لأول طعمة، فكانت نفسه فيها، لأنها كانت جائفةً نافذةً إلى المقتل، فكأن بين حينه وبين يدي لما أملتها للطعن موعدةً أنجزت، وخطفةً اختطفت. وقوله فهوى وجائشها يفور يريد: سقط وما يجيش من نجيعه يسيل وقد علاه الزبد لكثرته وقوته، فهو يمور ولا يرقأ ولا يهدأ. ومعنى متدارك الإزباد أي متتابعه، أي إزباده لا ينقطع.(1/478)
وقال عمرو القنا
القائلين إذا هم بالقنا خرجوا ... من غمرة الموتت في حوماتها عودوا
الحومات: جمع حومةٍ، وهي في الأصل أكثر موضعٍ في البحر ماءً، وكذلك في الحوض، فاستعارها لشدة الحرب. وإنما يصف حرصهم على القتال، وأنه لا يلحقهم السآمة فيه والملال، فمتى خرجوا من غمرة منيةٍ، وحومة كريهة، مطاردين الأعداء، دعتهم أنفسهم إلى أن يتنادوا: عودوا، فلا شفاء نلنا، ولا بواء من الأعداء أصبنا. وقوله بالقنا خرجوا أي خرجوا ومعهم القنا. وعودوا في موضع المفعول من القائلين، وهو حكاية ماقالوا.
عادوا فعادوا كراماً لا تنابلةٌ ... عند اللقاء ولا رعشٌ رعاديد
قوله لا تنابلةٌ عند اللقاء مثله قول الهذلي:
قد ظلت فيها معي شعثٌ كأنهم ... إذا يشب سعير الحرب أرماح
يقول: عادوا لاتفاق آرائهم واجتماع كلماتهم، وهم كرام الموافقة، شداد المناصبة، لا يتضاءلون عند اللقاء، ولا يتقاصرون في جهد البلاء، ولا يرتعشون في الدفاع، ولا يتخاضعون أوان الامتناع. والتنابلة: جمع التنبال، وهو القصير. والرعاديد: جمع رعديدٍ، وهو الذي لا يتماسك جبناً وضعف قلب.
لا قوم أكرم منهم يوم قال لهم ... محرض الموت عن أحسابكم ذودوا
دخل تحت قوله أكرم منهم كل خصلةٍ محمودةٍ، لأنه إذا تناهى كرمهم إذا دعا الداعي وقت التحريض: أن ادفعوا عن أحسابكم، فقد حصلوا كل منقبةٍ شريفة، وطلعوا على كل ثنيةٍ من ثنايا المجد منيفة، واكتسبوا من الأحدوثة الجميلة بما يظهر من بلائهم ما يقصر عنه كل أكرومةٍ نبيهةٍ.(1/479)
وقال الفرزدق
إن تنصفونا يا آل مروان نقترب ... إلتكم وإلا فأذنوا ببعاد
يقول: إن حملتمونا في مجاوتنا لكم على السواء، وتركتم البغي علينا والعلاء، اختلطنا بكم، وطلبنا موافقتكم، وإلا فاعلموا أن البعاد منكم همنا وهمتنا؛ لأنه إذا لم يكن لنا صبرٌ على الاهتضام، ولا طريقٌ إلى الانتقام، فلا ثالث لهما إلا الانتقال. ويقال أذنت بكذا، إذا علمت به فاستعددت له؛ وآذنني فلانٌ؛ ومنه الأذان بالصلاة، والفعل منه أذن.
فإن لنا عنكم مزاحاً مذهباً ... بعيسٍ إلى ريح الفلاة صواد
قوله مزاحاً هو من زاح يزيح، إذا ذهب؛ ومنه أزحت العلة، والكلام خارجٌ على أنه تفسير البعاد الذي ذكره وبيانه. يقول: إن سمتمونا خسفاً، وأذقتم ممونا في ولايتكم عسفاً، فإن لنا عنكم في الأرض مبعداً ومنتاى، بإبلٍ بيضٍ كرامٍ، ألفت المفاوز، فهي للتلكؤ عنها نوازع دونها، عواطش إلى ريحها. والصوادي: جمع صاديةٍ؛ والصدى: العطش.
مخيسةٍ بزلٍ تخايل في البرى ... سوار على طول الفلاة غواد
التخييس: حبس الإبل على الكد والعمل؛ ومه قول النابغة:
وخيس الجن إني قد أذنت لهم
أي احبسهم واستعملهم، وإنما وصف العيس ليى أنه متمكنٌ من مراده في التباعد، ومستظهرٌ في العدة للسفر إن اضطر إليه. وجعلها بزلاً لتكون متناهيةً في القوة. وقوله تخايل في البرى أي تحتال في سيرها وهي مبراةٌ تطيق وصل السير بالسرى، على امتداد الشقة وطول الوجهة. وقوله في البرى في موضع النصب على الحال.(1/480)
وفي الأرض عن ذي الجور منأىً ومذهبٌ ... وكل بلادٍ أوطنت كبلادي
أظهر في الكلام طيب نفسه على السفر، وسلوه عن بلده وموطنه، فقال: في الأرض الواسعة منتزحٌ ومتوجه عن الجائرين، وكل مكانٍ اتخذته وكناً كان كمسقط رأسي، ومقر نشئي، إذ لا قرابة بين الديار وسكانها ولا مشاكلة، وإنما يختار منها ما كان إلى السلامة أقرب، وللعز أجلب، ومن المهانة والذل أبعد.
وماذا عسى الحجاج يبلغ جهده ... إذا نحن خلفنا خفير زياد
كان شكوه من الحجاج بن يوسف، وتأذيه بسوء معاملته، فأخذ يستهين به. يقول: إذا خرجت من ملكته، وفارقت أرضى مملكته، تباعدت عن حومة سلطانه، ودار أمره ونهيه، وخلفت ورائي حفير زياد بن أبيه، الذي هو حد عمله، فماذا تراه يقدر عليه مني، أو يستطيع اختياره من إذائي وقصدي. وعسى من أفعال المقاربة، والفعل بعده يصحبه أن في الكلام. وفي القرآن: " وعسى أن تكرهوا شيئاً وهو خيرٌ لكم وعسى أن تحبوا شيئاً وهو شرٌ لكم ". إلا أنه في الشعر قد يشبه تكاد، وهو نظيره في أنه من أفعال المقاربة، فينزع منه أن، لأن الفعل بعد كاد يكون بغير أن. ومثله في ذلك قول الآخر:
عسى الله يغني عن تلاد ابن قادر
ويعني بحفير زيادٍ نهراً كان احتفره زياد.
فباست أبي الحجاج واست عجوزه ... عتيد بهمٍ ترتعي بوهاد
قوله باست أبي الحجاج قال أبو زيد: القصد بمثل هذا القول أن يبين أنه يتجاسر على ذكر السوءة منه. والباء من قوله باست متعلقةٌ بمضمرٍ، كأنه لحق باست والديه كل خزيةٍ وعارٍ، ومنقصةٍ وشنار. وقوله عتيد بهمٍ انتصب على الشتم والاختصاص، والعامل فيه فعل مضمرٌ، كأنه قال: أعني وأذكر. وجعله بهذا الاسم أشهر وأعرف منه بالعلم له، والاسم الذي سمى به. وهذا هو الغرض في كل ما ينصب على المدح أو الذم، ولذلك كان أبلغ من الصفات التابعة لموصوفها في المعنى، إذ كانت الصفة تجيء لشرح الاسم وإزالة اللبس عنه، وباب المدح والذم(1/481)
يجيء للتنويه والرفع أو التهجين والحط. والعتيد: تصغير عتود، وهو ما رعى وقوى من أولاد الغنم. والبهم: صغار أولاد الغنم. وقوله ترتعي موضعه جرٌ على أنه صفةٌ لقوله بهم. والوهاد: ضد النجاد. والمعنى: أنه في القلة والخسة رئيس أشباهٍ له هذا صفتهم فيما ينالونه من دنياهم، فهو فيهم كعتودٍ من بهمٍ ذلك صفتها.
فلولا بنو مروان كان ابن يوسفٍ ... كما كان عبداً من عبيد إياد
يقول: لولا تقدم الحجاج ببني مروان، واستعمالهم إياه، وجذبهم بضبعه ورفعهم خسيسته، وإيطاؤهم الناس عقبه لكان حديثاً كما كان قديماً ذليلاً مهيناً حقيراً قمياً بين أمثالٍ له من إيادٍ.
وقال آخر:
قد علم المستأخرون في الوهل
إذا السيوف عريت من الخلل
أن الفرار لا يزيد في الأجل
يقال استأخر بمعنى تأخر، كما يقال استقدم بمعنى تقدم. والوهل: الفزع. والخلل: بطائن جفون السيف، والواحدة خلةٌ، والمراد بها ها هنا الجفون. وقوله أن الفرار سد مسد مفعولي علم. يقول: بان وظهر للذين يتأخرون عن الدفاع، ويتحامون المصاع، مستشعرين أن الإحجام يقبهم ويبقيهم، وظانين أن الفرار من الزحوف إذا انتضيت السيوف يزيد في أعمارهم - أم الحذر لا يغني من القدر، وأن الهرب لا يزيد في الأجل. وهذا كلام من ابتذل نفسه فسلم وصار يعير من كان بخلافه.
وقال شبل الفزاري
وحاربه بنو أخيه فقتلهم
أيا لهفى على من كنت أدعو ... فيكفيني وساعده الشديد
يتندم على ما أجرى إليه وجره القدر فيهم وفيه، ويتذمم من نكايته في ذويه ويتحزن على ما فاته من تلافيه، ويتلهف من فقدانه إياهم على فاقته إليهم، فقال: يا(1/482)
حسرتاه على من كان مفزعي في النوائب، ومعتمدي في الشدائد، أستنصرهم فينصونني، وأتكفيهم فتحصل منهم كفايتي، والقوة لهم وبهم، والنصرة مجتلبةٌ من جهتهم. وقوله وساعده الواو واو الحال، أي يكفيني بقوةٍ وشدة بأس.
وما من ذلةٍ فلبوا، ولكن ... كذاك الأسد تفرسها الأسود
بين أنهم لم يؤتوا من ضعفٍ، ولم ينكبوا عن وهن، ولكن الأشداء إذا تلاقوا متدافعين ومتجاذبين، فلا بد من حصول الغلب في أحد جانبيهم، واحتجان القهر لأقرب طائفتيهم. على ذلك الأسود تكسرها الأسود. وقوله: كذاك الأسد الأسد مرتفع بالابتداء، وتفرسها الأسود في موضع الخبر، وكذاك في موضع الحال، والتقدير: ولكن الأسد تفرسها الأسد كذلك، أي أمثالاً لمن قتلت، ويجوز أن يكون أشار بذلك إلى الغلب، لأن غلبوا يدل عليه، ويجوز أن يكون ذلك خبراً مقدماً للأسد، وتفرسها في موضع الحال والتقدير: ولكن كأمثالهم الأسد إذا فرستها الأسد، ومثل هذا قول الآخر:
قومنا بعضهم يقتل بعضاً ... لا يفل الحديد إلا الحديد
ومن الأمثال: " النبع يقرع بعضه بعضاً ".
فلولا أنهم سبقت إليهم ... سوابق نبلنا وهم بعيد
لحاسونا حياض الموت حتى ... تطاير من جوانبنا شريد
هذا الكلام اعترافٌ منه بقوتهم وغنائهم في الحرب واستقلالهم، فيقول: لولا أنا رشقناهم بالنبل على بعدهم عنا، وقبل تمكنهم منا، لكان الإتيان عليهم متعذاراً، والفراغ من مناوشتهم متصعباً، لما فيهم من الثبات في الدفاع والصبر على الوقاع، ولأنهم كانوا يساقوننا الموت من حياضه إلى أن يتفرق عنا، ويذهب من جوانبنا كل مختلطٍ بنا، يأساً منا، ونفوراً من حالنا، لما يستشنعه من جهد بلائنا، ويبشمه من عسر لزامنا، لكنهم شغلوا بما دهمهم من ذلك. وقوله وهم بعيد: بعيدٌ مثل الصديق والرسول، في أنه يقع للواحد والجمع. وقوله شريد يراد به الكثرة، وإن كان لفظه واحداً. وقوله: لحاسونا حياض الموت فيه توسعٌ، لأن المعنى ما في الحياض.(1/483)
وقال قطري بن الفجاءة
ألا أيها الباغي البراز تقربن ... أساقك بالموت الذعاف المقشبا
يخاطب من طلب مبارزته. ومعنى تقربن أقبل وهلم. وقوله أساقك بالموت الذعاف يجوز أن يكون معناه أساقك بسبب الموت، ويجوز أن يكون على القلب أراد أساقك الموت بالذعاف، والمعنى بأن أفعل بك ما يقوم مقام سقي الذعاف. ويدل على هذا الوجه قوله فيما بعد: فما في تساقي الموت في الحرب سبةٌ. والذعاف: سم ساعةٍ، ويقال طعامٌ مذعوفٌ. وموتٌ ذعافٌ أي وحيٌ. والمقشب: الذي قد خلط به أدويةٌ تقويه وتهيجه. وأصل القشب: الخلط، حتى قيل رجلٌ مقشبٌ، أي مخلوط الحسب باللؤم.
فما في تساقي الموت في الحرب سبةٌ ... على شاربيه فاسقني منه واشربا
التساقي: أن يسقى بعضهم بعضاً، ولا يصح الأمر منه لواحدٍ، ولا يعتدي إليه. ومن هذا الوجه خالف تفاعل، وإن لم يكن فعلهما إلا من اثنين فصاعداً. ألا ترى أنك تقول يا زيد ضارب عمراً، ولا تقول تضاربه. والمراد بالكلام إظهار طيب النفس بالموت، والتسلي عن الحياة، وأنه لا يدخل العار على من شرب كأس الردى، ولا منقصة على متنازعيها، فهاتها وخذها.
وقال دراجٌ حين طعن
شدي على العصب أم كهمس
ولا تهلك أذرعٌ وأرؤس
مقطعاتٌ ورقابٌ خنس
فإنما نحن غداة الأنحس
هيمٌ بهيمٍ طليت تمرس
يقوى قلبها على أسو جراحه، وإحكام شد عصائبه، ويقول: لا يهولنك ما ترين من أذرعٍ مفصلةٍ، وأرؤسٍ مقطعةٍ، ورقابٍ مقصرةٍ، فإن الموت يأتي لحينه وأوانه، وقدره وميقاته، ولا يقربه شدة الجلاد، ولا فظاعة الجراح، واعلمي أن الذي أدانا إلى ما تشاهدينه تناهى العداوات والضغائن، وانطواء الصدور على الحزازات والسخائم، وأن كلامنا كان يكظم غيظه، ويكتم حقده، انتظاراً لعقب الأيام، وفرص الإمهال،(1/484)
فلما جمعنا القدر لغداةٍ الأنحس، كنا كإبلٍ جربى طليث بالهناء لاقت مثلها فتحاكت متلذذةً، وتدافعت متشفية. الهيم: الإبل العطاش، وإذا كانت جربى قد عطشت وطليت كان حماها أزيد، وكربها افظع، وتحككها أشد. والخنس: جمع خانس، كشاهدٍ وشهدٍ. والخنوس: الانقباض والانخفاض. والباء من قوله بهيم يتعلق بتمرس، وتمرس صفة الهيم الأول، وطليت صفٌة للثاني.
وقال الأرقط بن دعبل بن كلبٍ العنبري
إني ونجماً يوم أبرق مازن ... على كثرة الأيدي لمؤتسيان
لقى هذا الرجل وابنه قوماً لصوصاً فقاتلاهم وظفرا بهم، فأخذ يقتص الحال. ونجمٌ: اسم ابنه. يقول: إني وابني نجماً في يوم الالتقاء مع المتلصصة بأبرق مازن والأبرق مكانٌ فيه حجارةٌ سودٌ وبيض، ومنه جبلٌ أبرق، إذا كان طاقاته ذات لونين سوادٍ وبياض على كثرتهم وقلتنا، لمؤتسيان، أي يواسي كلٌ منا صاحبه على أمره، ويساعده على مراسه. وقوله على كثرة الأيدي في موضع الحال.
يلوذ أمامي لوذةً بلبانه ... وترهب عنا نبعةٌ ويمان
الضمير في قوله يلوذ لنجمٍ ابنه، والباء في بلبانه يتعلق بيلوذ، ولا يجوز أن يتعلق بقوله لوذةً، لأن الفعل والمصدر إذا اجتمعا فالفعل بالعمل أولى. والهاء ضمير الفرس، ولم يجر ذكره، ولكن المراد مفهومٌ، وكان الأرقط فارساً على ما يدل الكلام عليه، والابن راجلاً. وكان لياذه من حر الوقاع في الوقت بعد الوقت بأبيه، على عادة مزاولي الحروب في تساند الرجالة إلى الفرسان، ثم قال " وترهب عنا نبعةٌ ويمان تنبيها على عدتهما واستظهارهما بسلاحهما. ويعني بالنبعة قوسا.
ونغشى فنغشى ثم نرمى فنرتمي ... ونضرب ضرباً ليس فيه توان
يقول: نحمل عليهم فيحملون علينا، ثم يرموننا من بعد فنرميهم. كأنهم طاردوا أولاً ثم ناضالوا وأخروا الجلاد. فقال: ونضرب ضرباً لا فتور فيه ولا تقصير، وهذا(1/485)
كما قال الآخر:
عنا طعانٌ وضربٌ غير تذبيب
فالتذبيب المنفى كالتوانى.
وقال وداك بن نميلٍ المازني
نفسي فداءٌ لبني مازنٍ ... من شمسٍ في الحرب أبطال
يقول: أفدي من كل سوءٍ بنفسي بني مازنٍ، من فرسانٍ ينفرون من الضيم، ويشمسون إذا التقوا مع الأعداء في الحرب، شماساً لا يحصهم على طمعٍ متيح، ولا يؤديهم إلى يأسٍ مريح، بل يترددون في الجذاب، فلا يزالون معهم على مراس إتعابٍ لا ينقطع، ولزام شرٍ لا يقلع، وهكذا يكون شموس الخيل في الإباء والانقياد. وقال لقيطٌ فبين المعنى وأوضحه:
جرت لما بيننا حبل الشموس فلا ... يأساً مبيناً نرى منها ولا طمعا
وفي طريقة بيت وداك قول عبد الرحمن بن حسان:
وإني من قومٍ كرامٍ يزيدهم ... شماساً وصبراً شدة الحدثان
هيمٌ إلى الموت إذا خيروا ... بين تباعاتٍ وتقيال
الهيم: العطاش، والتباعة والتبعة بمعنىً. يقول: إذا خير بنو مازنٍ فيما يزاولونه بين الصبر على القتال وبين الرضا فيما يلحقهم معه تبعات العار، وجدوا يؤثرون فوت الروح على التزام الهضم، إيثار العطشان للماء.
حموا حماهم وسما بيتهم ... في باذخات الشرف العالي
يقول: منعوا حماهم ممن يريد دخوله، ويروم إباحته، فسلم على مر الأيام، وصار بينهم من يفاع الشرف العالي في أعلى منزلةٍ، فلا يرتقي إليه همة حاسد، ولا يناله أمنية منازعٍ. والباذخ: الجبل الطويل؛ ومه البذخ الكبر.(1/486)
وقال سوارٌ
أجنوب إنك لو رأيت فوارسي ... بالسيف حين تبادر الأشرار
سعة الطريق مخافة أن يؤسروا ... والخيل يتبعهم وهم فرار
هذا الكلام تلهف وتحسر، وإخبار بحسن بلائه وبلاء فرسانه فيما منوا به وتحمدٌ. فيقول: لو شاهدت فرساني يا جنوب بالسيف وهو شاطئ البحر حين تسابق شرار الرجال وجبناؤهم إلى متسع الطريق، خارجين من منافذ المضيق، خوفاً من الإسار، هائمين على وجوههم، والخيل في طلبهم وهم يستغيثون بي عند احمرار الباس، واشتداد المراس، على عادتهم معي في الكرائه، لرأيت أمراً منكراً. حذف جواب الأمر، وإبهام الحال في مثل هذا الكلام أبلغ من بيانها، وقد مضى القول في مثله، فيما تقدم. وسعة الطريق: مفعول تبادر، ومخافة انتصب على أنه مفعولٌ له، وأن يؤسروا مفعولٌ من المخافة.
يدعون سواراً إذا احمر القنا ... ولكل يوم كريهةٍ سوار
احمرار القنا إنما يكون من الدم السائل عليه، لكثرة الطعن. وقد قيل: موتٌ أحمر، ومنيةٌ حمراء، يراد الشدة، حتى قيل سنةٌ حمراء، وقالوا: " الحسن أحمر " أي يتجشم في طلب الجمال الشدائد. وقوله ولكل يوم كريهةٍ سوار أراد أن يبين أن ذلك دأبهم عند الكريهة في دعائي ودأبي في الإجابة، وأنه لم يكن بدعاً منهم ومني ولا نكرا.
وقال أبو حزابة التميمي
من كان أحجم أو خامت حقيقته ... عند الحفاظ فلم يقدم على القحم
فعقبة بن زهيرٍ يوم نازله ... جمع من الترك لم يحيم ولم يخم(1/487)
هذا الكلام يجري مجرى التعريض لما يشتمل عليه من التعيير. وقوله فعقبة مبتدأ وخبره لم يحجم. فيقول: من كان كف في اللقاء عن الإقدام وقت الحاجة، وأعفى نفسه من الاقتحام أوان المحافظة، راضياً بالقصور والتقصير، والانخزال والفتور، أو سقطت همته، وتخترت حقيقته، فلم تبعثه أنفةٌ، ولم يهيجه امتعاضٌ وأبيةٌ، فعقبة بن زهيرٍ يوم منازلته للأتراك لم يتوقف في المدافعة، ولم يتلبث فيها دون أبعد الغاية. والإحجام: ضد الإقدام. وقد مضى القول في موضوعه. وحقيقة الرجل: ما يحق عليه الدفع عنه من ذويه وحسبه، كما أن حقيقة الأمر ما يتيقن من وجوبه. واستعارة النوم فيها حسنٌ، فهو كما يقال نام الثوب إذا أخلق. وقحم الأمور والطرق: ما صعب منها. وقوله لم يخم يقال خام عن قرنه، إذا نكل ونكص على عقبه. ويقال أيضاً: خام في مكيدته يخيم، إذا لم يظفر فيها بخيرٍ. وقوله فعقبة جواب من كان أحجم.
مشمرٌ للمنايا عن شواه إذا ... ما الوغد أسبل ثوبيه على القدم
يقول: كشف في المجاهدة عن ساقه، وتشمر للبلاء عند سياقه، إذا الدني من الرجال أرخى ذيله، فلا يتشمر لتلقي المهمة، وتغشى غطاء عجزه، فلا ينبعث لدفع الملمة، ولا يتحرك لمنع المظلمة. والشوى: الأطراف. والوغد من قولك: وغدت القوم، إذا خدمتهم. وقوله إذا ما الوغد ما زائدة، وإذا ظرفٌ لما دل عليه قوله مشمرٌ وهو جوابه. وفي خلاف قوله قول الآخر:
وكنت إذا جارى دعا لمضوفةٍ ... أشمر حتى ينصف الساق مئزري
خاض الردى في العدي قدماً بمنصه ... والخيل تعلك ثني الموت باللجم
يقول: دخل قديماً في مكاشفة أعدائه الهلاك بسيفه، لا ينقبض ولا يحجم، والخيل عواض على لجمها، تعلكها في أثناء الموت. والعلك: المضغ، ويقال: في لسانه عولكٌ، أي يمضغه. فعلى هذا يكون ثني الموت ظرفا، كما يقال جعلته ثني كذا. ويجوز أن يكون مفعولاً من تعلك. ويقال: ثنيت الشيء ثنيا، ثم يسمى المثني ثنيا. ويكون باللجم في موضع الحال، كأنه قال: والخيل تمضغ مثنى الموت، أي(1/488)
مضاعفه، ملجمة. وهذا حسنٌ. وبعضهم روى والخيل تعلك ثن الموت، والثن: حطام اليبس، والمختار ما قدمته. وفي هذه الطريقة قول الآخر:
خضنا إليه الموت في أيماننا ... حمر الشفار جفونهن الأرؤس
وهم مئون ألوفاً وهو في نفرٍ ... شم العرانين ضرابين للبهم
يقول: واقع الأعداء وناجزهم، على كثرة عددهم، وهو في رجالٍ كرام يستنكفون من تقبل العار، فتالين لبهم الرجال. وقوله مئون جمع مائة وهي من الأسماء المنقوصة إذ كانت لامها محذوفةً، بدلالة قولهم: أمأيت، ولذلك جمع على السلامة. وإنما أشار إلى جنس الترك كله فعدهم أعداءه، لا أنه حارب مئين ألوفاً منهم. والبهم: جمع بهمةٍ، وهم الشجعان الذين لا يدرى كيف يؤتون، لاستبهام أحوالهم.
وقال أوس بن ثعلبة
جذام حبل الهوى ماضٍ إذا جعلت ... هواجس الهم بعد النوم تعتكر
بصفة بالنفاذ في الأمور، واجتماع الرأي في الخطوب، والمضي فيما يعرض، وترك التباطؤ عما يعن ويحدث، وأنه لا يمنعه من ركوب الأسفار وتجشم المشاق ما يدفع في صدر العزم، ويثنى من حد القصد، بل يقطع علائق الهوى، ويبعد عن نفسه عوائق المنى، فيمضي قدماً إذا أقبلت عوارض الهموم بالليل، تتردد بين القلب والخاطر، وتجول بين الفعل والفاعل. والجذم: القطع. وحبل الهوى: الوصلة التي بينه وبين النفس. وعكر واعتكر: وعطف. والهاجس: ما وقع في خلدك. وأنشد:
فطأطأت النعامة من قريبٍ ... وقد قرت هاجسها بهجسي
النعامة: اسم فرسه.
وما تجهمني ليلٌ ولا بلدٌ ... ولا تكاءدني عن حاجتي سفر(1/489)
قوله وما تهجمني ليلٌ فيه قلبٌ؛ لأن المعنى: ما تجهمت ليلاً ولا بلداً. ويقال تجهمت فلاناً ولفلانٍ، إذا استقبلته بوجهٍ كريهٍ. وأسدٌ جهم الوجه. فيقول: لا أنكره زمناً، ولا أستصعب مركباً، ولا أستبعد بلداً إذا سنح أمرٌ أوجب نهوضاً، أو سفرٌ اقتضى لبعده صبراً جميلاً. ويقال تكاءدني كذا، تصعدني كذا، إذا شق عليك.
وقال آخر:
أقول وسيفي في مفارق أغلب ... وقد خر كالجذع السحوق المشذب
مفعول أقول أول البيت الذي بعده، وهو قوله بك الوسبة. وقال في مفارق لأنه جمعه على ما حوله، كما يقال بعير ضخم العثانين، كأنه جعل كل قطعةٍ مما يلي المفرق مفرقاً فجمعه. ومعنى خر سقط، ومصدره الخرور. والسحوق من النخل والحمر: الطويل. يقال: أتانٌ سحوقٌ، نخلةٌ سحوق. يقول: لما تمكنت من أغلب قنعته بسيفي فسقط، فقلت متشفياً ومستهيناً: أناخت الوجبة بك لا بمن كنت تطلبه لها، وهذا كما يقال: لليدين وللفم. وقوله كالجذع في موضع الحال، والعامل فيه خر، وتشبيهه إياه بالجذع من قديم التشبيه، وفي القرآن: " كأنهم أعجاز نخلٍ خاوية ". زدهلخ كشذباً ليكون طوله أظهر.
بك الوجبة العظمى أناخت ولم تنخ ... بشعبة فابعد من صريعٍ ملحب
أراد بالوجبة العظمى المنية. وفي القرآن: " فإذا جبت جنوبها ". أي مزل بك المكروه الأعظم، والبلاء الأفظع، لا بشعبة. كأن هذا المصروع كان يتوعد شعبة بالقتل، أو يريده له ويتمناه، فما ائتمره به أصابه وحق عليه. وقوله فابعد دعاءٌ عليه على طريق الاستهانة بما حل به. والملحب: المذلل، ومنه طريقٌ لاحبٌ أي واضحٌ. ويجوز أن يكون معنى ملحبٌ مجروحٌ مقطع يقال لحبت اللحم إذا قطعته طولا.
سقاه الردي سيفٌ إذا سل أو مضت ... إليه ثنايا الموت من كل مرقب(1/490)
هذا مثل قول تأبط شراً.
إذا هزه في عظم قرنٍ تهللت ... نواجذ أفواه المنايا الضواحك
وإن كان هذا أبلغ؛ جعل ضحك الموت تألق السيف إذا جرد من الغمد سروراً به، وذلك جعله إلى المضروب به ثقةً بكونه له. ويقال أومض وومض، إذا لمع. ورواه بعضهم: " أومضت إليه منايا الموت "، وهو تصحيف.
ويا عجل عجل القاتلين بذحلهم ... غريباً لدينا من قبائل يحصب
جنيتم وجرتم إذا أخذتم بحقكم ... زعمتم غريباً مرملاً غير مذنب
قوله عجل القاتلين وإضافة البعض إلى الكل، وكرره توكيداً. ولك أن تضم عجل الأول وتنصب الثاني على البدل، أو على عطف البيان. وبنو عجلٍ كانوا موتورين بما ارتكب منهم قبيلة الشاعر، وهم بنو مازنٍ، فلم يطلبوا ذخلهم من وجهه، ولا أدركوا الثأر من كاسبه، لكنهم أخذوا غريباً كان جاور بني مازن فقتلوه، فقال هذا الشاعر في مخاطبتهم معيراً، وهازئاً متهكماً: يا عجل القاتلين بوترهم غريباً كان عندنا من بني يحصب، لم يسع في اكتساب الثأر الذي تدعونه، ولا أعمل فيه يداه وسنانه حتى جنيتم وعدلتم عن طريق الرشاد، إذ أخذتم بحقكم على زعمكم غير واتركم. فقوله: إذ أخذتم بحقكم زعمتم يجوز أن يضعف بالزعم دعواهم الحق المشار إليه، ويجوز أن يضعف ما توهموه من درك الثأر بما فعلوه. ويجوز أن يضعف الأمرين جميعاً، وهو الأشبه. فإن قيل: أين مفعولا زعمتم، وكيف ساغ حذفهما؟ قلت: الحذف هنا كالحذف في قوله تعالى: " أين شركائي الذين كنتم تزعمون ". وكالحذف في قول الكميت:
بأي كتابٍ أم بأية سنةٍ ... ترى حبهم عاراً عليك وتحسب
فكما حذف مفعولا تحسب في بيبت الكميت، ومفعولا تزعموت في الآية، كذلك حذف مفعولا زعمتم من هذا البيت، ويكون التقدير: إذ أخذتم بحقكم زعمتموه مأخوذاً رجلاً هذا صفته، وبحقكم زعمتموه ثاناي، فحذف ذكر الحق لما(1/491)
تقدم من ذكره، ولما حذف المفعول الأول جاز حذف الثاني، وهذا كما يحذف المبتدأ والخبر من مسألة الكتاب، وهي متى ظننت أو قلت زيداً منطلقاً. إذا أعملت الفعل الأول ساغ ذلك، لأن الفعل الثاني نقيضهما، وقد حصل في الكلام ذكرهما. فاعلمه. والمرمل: الفقير.
وما قتل جارٍ غائبٍ عن نصيره ... لطالب أوتارٍ بمسلك مطلب
فلم تدركوا ذحلا ولم تذهبوا بما ... فعلتم بني عجلٍ إلى وجه مذهب
يقول: الوتر مقيمٌ في موضعه ثابتٌ على حاله، لم تزيلوه ولم تظعنوه عن محله، لأن قتل جارٍ للواتر غائبٍ عن نصاره، بعيدٍ عن أرضه ودياره، لطالب الثأر ليس بطريقٍ يؤديه إلى نيل مرادٍ، ولا بسببٍ يوصله إلى اشتفاءٍ من داءٍ، فأنتم لم تصيبوا نجحاً في فعلكم، ولا سلمتم فيما أتيتم من عار يلحقكم.
ولكنكم خفتم أسنة مازنٍ ... فنكبتم عنها إلى غير منكب
وقد ذقتمونا مرةً بعد مرةٍ ... وعلم بيان المرء عند المجرب
يقال نكب بمعنى تنكب، ومثله قدم بمعنى تقدم؛ ومعناه انحرف. ويقال هو أنكب عن الحق ومنكابٌ عنه، إذا جانبه فيصير منه في شق. يقول: هبتم أعداءكم عندما هممتم به من طلب وتركم، واستشعرتم منهم جبناً، فحذرتموهم، ثم عدلتم عنهم إلى غير معدل فقبحت صورتكم، واخترتم ذلك لأنكم خبرتمونا حالةً بعد أخرى، والمرء يتبين الشيء، ويعرف الخصم عند تجربته.
وقال بغثر بن لقيطٍ الأسدي
أما حكيمٌ فالتمست دماغه ... ومقيل هامته بحد المنصل
وإذا حملت على الكريهة لم أقل ... بعد العزيمة ليتني لم أفعل
قوله أما يتضمن معنى الجزاء، وأكثر ما يجيء مكرراً، وقد جاء هنا غير مكرر. فيقول: هما كان من شيءٍ فقد طلبت دماغ هذا الرجل بسيفي، فأصبته غير متندمٍ على ما فعلت، ولا متذممٍ منه، لأني إذا حملت على خطةٍ صعبةٍ فوطنت نفسي عليها، وقررت عزمي في تجشمها لم أقل بعد الدخول فيها والخروج منها بودي ألا(1/492)
أكون لابستها. وأراد بالمقيل المقر. والهامة: رأس كل حيوان، والجميع الهام. والمنصل، من أسماء السيف. ويقال: ماله عزيمةٌ أي لا يثبت على ما يعزم عليه. ورأيه ذو عزيم. والعزم: توطين النفس على المراد.
وقال رجلٌ من بني نمير
أنا ابن الرابعين من آل عمرٍو ... وفرسان المنابر من جناب
نعرض للسيوف إذا التقينا ... وجوهاً لا تعرض للسباب
فآبائي سراة بني نميرٍ ... وأخوالي سراة بني كلاب
يفتخر بأن آباءه رؤساء خطباء. والرابع: الرئيس الذي كان يأخذ ربع الغنيمة في الغزو. ويقال ربع فلانٌ في الجاهلية وخمس في الإسلام. وذكر عمراً وجناباً ليرى أنه كريم الطرفين، يدل على هذا قوله فيما بعده:
فآبائي سراة بني نميرٍ ... وأخوالي سراة بني كلاب
وقوله نعرض للطعان إذا التقينا يصف تكرمهم وتصونهم في السلم، وتبذلهم في الحرب. ويشبه هذا قول الراعي:
ويبتذل النفس المصونة نفسه ... إذا ما رأى حقاً عليه ابتذالها
وقول الآخر:
نعرض للسيوف إذا التقينا ... وجوهاً لا تعرض للطام
وسراة القوم: خيارهم. وقال الخيل: السرو: سخاءٌ في مروةٍ. وفعلةٌ في جمع المعتل نادرٌ، لأنه يختص بالصحيح، نحو الفجرة والكفرة، وبإزائه من المعتل فعلةٌ نحو قضاةٍ وغزاة.
وقال الهذلول بن كعبٍ العنبري
حين رأته امرأته يطحن للأضياف، فقالت: أهذا بعلي؟!(1/493)
تقول ودقت صدرها بيمينها ... أبعلي هذا بالرحا المتقاعس
حكى ما قالته امرأته وهي تدق صدرها بيمينها، مستنكرةً لما رأته من طحنه لضيفه، ومستفظعة لما شاهدت من تخففه وتبذله، وهو قوله: أبعلي هذا المتقاعس بالرحا. فإنها استشنعت هيئته وامتهانه نفسه فيما يمتهن فيه الخدم، وبأنف من توليه ذوو الرزانة والعزة. وإنما ابتدأ كلامه بتقول لأن القول يحكى به ما كان كلاماً، ويعمل فيما كان قولاً. والمتقاعس: بناءٌ لما يفعل تكلفاً. على هذا قولهم تخازر وتعامى. والقمس: دخول الظهر وخروج الصدر. وقوله أبعلي موضعه رفعٌ بالابتداء، والألف لفظه لفظ الاستفهام، ومعناه الإنكار والتقريع. وقوله هذا يكون في موضع الخبر، والمتقاعس يتبعه على أنه عطف البيان له. وإن شئت جعلت هذا صفةً لبعلي والمتقاعس خبراً. وقوله بالرحا لا يجوز أن يتعلق بالمتقاعس، لأنه في تعلقه به يصير من صلة الألف واللام، وما في الصلة لا يتقدم على الموصول، ولكن تجعله تبييناً وتتصور المتقاعس اسماً تاماً، ويصير موقع بالرحا بعده موقع بك بعد مرحباً، ولك بعد سقياً وحمداً. وإذا كان كذلك جاز تقديمه عليه، كما جاز أن تقولك بك مرحباً، ولك سقياً. وللمازني في مثل هذا طريقةٌ أخرى: وهو أن يجعل الألف واللام من المتقاعس للتعريف فقط، ولا يؤدى معنى الذي، كما تقول نعم القائم زيدٌ، وبئس الرجل عمرو، وإذا كان كذلك لم يحتج إلى الصلة، فجاز وقوع بالرحا مقدماً عليه ومؤخراً بعده. وموقع الجملة التي حكاها من كلام المرأة نصبٌ على أنه مفعول لتقول. فأما ما يعمل في لفظه " قال " ومتصرفاته فهو ما يكون قولاً ووصفاً للجمل، كقولك قلت حقاً أو باطلاً، أو قلت صدقاً أو كذباً وما أشبهه. والبعل يقال للرجل ولامرأة، وقيل بعلةٌ أيضاً، والفعل منه بعل بعالةً وبعولةً. والبعال: ملاعبة الرجل أهله. ويقال بنو فلانٍ لا يباعلون، أي لا يتزوج إليهم ولا يزوجون.
فقلت لها لا تعجلي وتبيني ... بلائي إذا التفت على الفوارس
حكى ما جعله جواباً للمرأة: كما حكى كلامها، وهو قوله لا تعجلي مع ما يتبعه. ومعنى البيت: لا تسرعي إنكارك، بل تثبتي في حكمك، وتبيني براعتي في(1/494)
فعالي، وغنائي عند الشدائد وبلائي، إذا اجتمع علي في حومة الحرب الفرسان، وأحاط في مضايقها بى الأفران، فإن نجدة الأبطال تظهر في مثل تلك الحال. واعلمي أن ما يستنكف منه هو التخلف عن الكفاح، والرضا عن النفس بما لا يجعله الكريم منه ببالٍ، فأما خدمة الضيف وامتهان النفس في الاحتفال له، فمقبولٌ من أخلاق الكرام، محمودٌ عند تجارب الرجال.
وقدم القول في شذوذ فوارس وحكمه.
ألست أرد القرن يركب ردعه ... وفيه سنانٌ ذو غرارين يابس
أقبل يقرر المرأة على زكي أفعاله، ورضى أخلاقه. وألف الاستفهام إذا اتصل بحرف النفي تقرر به فيما كان واجباً واقعاً، وإذا انفرد عن حرف النفي تقرر به فيما كان منفياً مدفوعاً. يقول القائل مقرراً: أفعلت هذا؟ إذا لم يكن فعله فأنكره. وألم أفعل كذا؟ إذا كان قد أتاه واكتسبه. والقرن: النظير في البأس. وموضع يركب ردعه نصب على الحال، أي راكباً ردعه. والردع: الدفع والكف. وتحقيق الكلام: أدفع القرن وقد ركب ردعي إياه فسقط. وقال الخليل: ركب ردعه ورديعه، أي خر صريعاً لوجهه. وذكر الركوب مثلٌ. ويجوز أن يكون المراد بالردع ما تلطخ به من الدم؛ ويقال ثوبٌ مردوع، إذا كان قد لطخ بالزعفران أو غيره. وذكر بعض أصحاب المعاني أن معنى ركب ردعه أي إذا كف لم يرتدع ومضى لوجهه، كأنه يتلقى الرجع بالركوب. وقال أبو العباس المبرد: هو من ارتدع السهم، إذا رجع النصل في سنخه متجاوزاً. قال: ويقال ركب البعير ردعه، إذا سقط فدخل عنقه في جوفه. ومنه ارتدع فلانٌ عن دينه. والذي قاله تحصيله ما أوردته وكشفته. وقوله وفيه سنانٌ يريد أنه مطعونٌ بسنانٍ ذي حدين صلبٍ. وموضع وفيه موضع الحال، والعامل فيه يركب، كما أن يركب في موضع الحال والعامل فيه أرد.
وأحتمل الأوف الثقيل وأمترى ... خلوف المنايا حين فر المغامس
قوله وأحتمل ينعطف على خبر ليس، وهو أرد، ويكون من جملة ما قررها به. والأوق: الثقل. ومعنى أمتري أي أمسح. والخلوف: جمع الخلف، وهو ما يقبض عليه الحالب. وقوله حين فر المعامس يروى المغامي بالغين معجمةً.(1/495)
فمعنى المعامس بالعين الذي يدخل في الشدائد ويدخل غيره فيها. ويقال: يومٌ عماسٌ، أي شديد. ويكون المعامس كقولهم المغامر، وهو الذي يدخل في الغمرات ويدخل في الشدائد ويدخل غيره فيها. وقال بعضهم: العماس: الحرب الشديدة وكل ما لا يقام له. ويجوز أن يكون المعامس من قولهم عمست الأمر، أي أخفيته. ورجل عموسٌ: يتعسف الأشياء بجهله. فيكون المعنى: الذي يركب رأسه ولا يبالي أصيب أو أصاب. ومعنى المغامس بالغين معجمةً: الذي ينغمس في الشر والبلاء، ويغمس غيره فيهما. ومعنى البيت: ألست المتحمل للأعباء الثقيلة، والمستخرج من ضروع المنايا وأخلافها الشر، في الوقت الذي يزل فيه المعامس أو المغامس، فلا يثبت. وجعل مرى الخوف مثلاً لتهييج الشر، واستدرار الموت، كأنه يستزيد من البلاء ولا يمله، إذا لم يثبت له من ذلك صفته.
وأقري الهموم الطارقات حزامةً ... إذا كثرت للطارقات الوساوس
يقال: قريت الضيف، إذا أحسنت إليه وأعددت له قراه. ويقال: ألست أقرى طوارق الهم، وعوائق البث، حزماً ورأياً، وجلداً ونفاذاً، إذا ازدحمت الوساوس على القلوب، واعتلجت بنات الصدور، فارتبكت الآراء، وذهب من الرجال الغناء.
إذا خام أقوامٌ تقحمت غمرةً ... يهاب حمياها الألد المداعس
خام عن قرنه يخم: هاب الإقدام عليه. ويقال خام الرجل، إذا رجع عليه كيده، فضره؛ فيجري مجرى خاب وإن كان يختص بالكيد. فيقول: إذا ضعف الأقوام عن التدبير، وعيوا بالأمور فلم يعرفوا مصادرها ومواردها، توسطت قحمة كل شرٍ يهاب سورتها الرجل الخصيم الجوج، المدافع للأقران. قوله جمياها مصغر لا مكبر له. والدعس: الطعن والدفع وشدة الوطء. ويقال: طريقٌ مدعاس، أي مذلل.
لعمر أبيك الخير إني لخادمٌ ... لضيفي وإني إن ركبت لفارس
قوله لعمر أبيك استعطافٌ لها، إذ أقسم بحياة أبيها لما جرى في العادة من إعظام المقسم به؛ وإكبار موقعه. والعَمر والعُمر لغتان، ولا يستعمل في القسم إلا بفتح العين. وإضافة الأب إلى الخير، كما يقال هو فتى صدقٍ، وهو رجل كرمٍ. وقوله إني لخادمٌ لضيفي اعترافٌ بما عدته ذنباًن وبيان أن التبجح فيما أنكرته، وأن التوفر على الضيف وإكرامه في قران الفروسية، ومن الخصال المحمودة.(1/496)
وإني لأشري الحمد أبغي رباحه ... وأترك قرني وهو خزيان ناعس
هذا من جملة ما أقسم عليه، فيقول: إني لأشتري الحمد طالباً ربحه، ومجتنياً ثمره. وثمرة الإحسان الشكر، ويجلب الشكر الثناء الجميل والأحدوثة الحسنة من كل من يسمع بالصنيع. ولما استعمل الشرى في اكتساب الحمد مجلياً للمعنى، استعمل الربح فيما يتسبب منه وينتتج. على ما يتعود في المتاجر، ويتطلب من البياعات. وقوله وأترك قرني وهو خزيان أي أهينه وأكسره، حتى يبقى مطرقاً خجلا مغضوض الطرف متندماً، كمن غلبه النعاس. وقيل ناعس المراد به أنه مشرفٌ على الموت. قال: ويقال طعنت صاحبي فأنمته، أي قتلته. وطعنت صاحبي فأنعسته، أي رنحته. والرباح: مصدرٌ كالربح. ويقال للفائز بالخير: هو رابح الصفقة.
وقالت كنزة أم شملة بن بردٍ المنقرى
إن يك ظني صادقاً وهو صادقي ... بشملة يحبسهم بها محبساً أزلا
قد مضى الكلام في حذف النون من يك في غير موضع. ومراد كنزة من الكلام أن تجعل التقصي في مجاهدة القوم، وبلوغ أبعد الغايات في طلب الثأر من ابنها ببالٍ، فأقبلت تقول: ظني بابني كيت وكيت، مذكرة وموصيةً. والذي زعمت أنه في ظنها، ومن أحاديث نفسها، هو ما تقترحه على ابنها، وتتمنى أن يحتفظ به من وصاتها. وقولها " وهو " يجوز أن يكون للظن، والمعنى: إن كنت ألمعياً، فظني بشملة يصدقني لا محلة، فإنه يفعل كذا. والباء من قولها بشملة يجوز أن يكون متعلقاً بصادقي، أي وهو يصدقني بسبب شملة، وإن شئت يتعلق بظني. ويجوز أن يكون " هو " ضمير ابنه شملة والمعنى: وهو فيما أتفرس فيه وأعتقده من غنائه، يصدقني ويكون بشملة تبييناً لا صلة، كما يكون بك بعد مرحباً تبييناً بحبس القوم بتلك المعركة محبساً ضيقاً. ويقال أزلوا ما لهم يأزلونها أزلاً، إذا حبسوها في المرعى، مخافة الأعداء عليها. فالأزل مصدرٌ وصف به.
فيا شمل شمر واطلب القوم بالذي ... أصبت ولا تقبل قصاصاً ولا عقلاً(1/497)
هذا يدل على ما قدمناه في البيت قبله، فإنها رجعت إلى مخاطبة ابنها بعد ما ذكرت هواجس ظنونها، وجردت القول له بمرادها منه، وأمرته بالتشمير في طلب القوم كلهم بمن أصيب به، واطراح التقصير فيما جعل له من سلطانه في حقه، وبأن لا يقبل الدية وإن غالوا بها، ولا يرضى بالقصاص منهم وإن مكنوا من الجاني عليه أيضاً، بل يعم القوم كلهم بالقتل، فإنه حينئذ يكون مدركاً تبله، وناقضاً وتره، وقاضياً حق صاحبه. والقصاص: أخذ الشيء بالشيء، وأصله من القص: القطع.
وقالت أيضاً:
لهفي على القوم الذين تجمعوا ... بذي اليد لم يلقوا علياً ولا عمرا
فإن يك ظني صادقاً وهو صادقي ... بشملة يحبسهم بها محبساً وعرا
قد تقدم القول في لهفي، وكما يجوز فيه من نية الإفراد والإضافة.. وإنما تحسرت الشاعرة على ما فات علياً وعمراً من ملاقاة القوم المجتمعين بذي السيد المتخلفين للقتال. وإنما تلهفت لما كانت تؤمل من تأثيرهما فيهم. وموضع لم يلقوا نصبٌ على الحال، والعامل فيه تجمعوا. ثم قالت كالمستدرك برجائه. إن كنت صادقة الظن بابني شملة وهو يصدقني لا محالة فإنه يحبس القوم بتلك المعركة محبساً صعباً. تريد أن ما فات المذكورين سيتلافاه، فيما يعدها به ظنها وأملها فيه. والقول في إن يك ظني صادقاً على ما تقدم. والصدق والكذب أصلهما في الكلام، وتوسع فيهما فقيل بردٌ صادقٌ، والفجر الصادق والكاذب، وهو فتى صدق، وصدقوهم القتال. ويقال: طريقٌ وعرٌ: بين الوعورة والوعارة، أي غليظٌ. وقد توعر ووعر.
وقال شبرمة بن الطفيل
لعمري لريمٌ عند باب ابن محرز ... أغن عليه اليارقان مشوف
أحب إلينا من بيوتٍ عمادها ... سيوفٌ وأرماحٌ لهن خفيف
الأصل في الرئم: الظبي الخالص البياض. وهذا الكلام يخص به الشاعر واحداً معيناً كان يقصر في طلب الوتر، ويشتغل عنه بالصبا واللهو، ويؤثر المقام بأطيب(1/498)
المنزلين من البدو والحضر، لا يهمه إلا الرقاعة والخلاعة، وخاليتين من التعب والنصب، فأخذ يعرض به ويقول على وجه التهكم والسخرية منه: وبقائي، للقاء امرأةٍ كأنها ظبيةٌ مسكنها في جوار هذا الرجل في صوتها غنةٌ، محلاةٍ بيارقين، مجلوة الوجه، أحب إلينا من الأوى إلى بيوتٍ مستحدثةٍ بنيت على عمدٍ متخذةٍ من رماحٍ وسيوفٍ. وهذه البيوت للغزاة والمتصيدة أكثر ما تكون. ألا ترى قول امرئ القيس بعد فراغه من الصيد:
ورحنا إلى بيتٍ بعلياء عردحٍ ... سماوته من أتحميٍ مشرعب
وأوتاده ماذيةٌ وعماده ... ردينيةٌ فيها أسنة قعضب
وفي هذه الطريقة قول الآخر:
والله للنوم على الديباج ... على الحشايا وسرير العاج
مع الفتاة الطفلة المغناج ... أهون يا عمرو من الإدلاج
وزفرات البازل العجعاج
وقوله مشوف من الشوف، وهو التجلية، يقال تشوفت المرأة، إذا تزينت وطرت، وشفتها وهي مشوفةٌ. وقوله لهن حفيف، فالحفيف: صوت طيران الطائر وصوت الرمية.
أقول لفتيانٍ ضرارٌ أبوهم ... ونحن بصحراء الطعان وقوف
أقيموا صدور الخيل إن نفوسكم ... لميقات يومٍ ما لهن خلوف
قوله أقيموا صدور الخيل في موضع المفعول لأقول، والواو من قوله ونحن بصحراء الطعان واو الحال. ويقال أقمته فقام بمعنى قومته فتقوم، فيتعدى. وأقمت بالمكان إذا ثبت فيه إقامةً، وأقمت من المكان إذا ارتحلت عنه. قال امرؤ القيس:
وفيمن أقام من الحي هرٌ(1/499)
فأما قول الشاعر:
أقول لأم زنباعٍ أقيمي ... صدور الخيل شطر بني تميم
فمعناه إقصدي وتوجهي بعيسك نحوهم. والشاعر أخذ يبين ما يأخذ به نفسه من حث القوم على القتال، وتشجيعهم على اقتحام الأهوال، ويرى أنه مع تقصير من قدم التعريض به، وعلق التقريع بإهماله وتعذيره، وعيره اشتغاله بما لا يشتغل الموتور به، لا يدع أن يقول محضضاً لهؤلائ الفتيان وقد وقعوا في ميدان الطعان وعرصة الطراد: اثبتوا في وجوه أعدائكم، وانتصبوا صدور خيلكم لهم، واستبدلوا بالانحراف تقحماً، وبالازورار تهجماً، ودعوا الذهاب إلى ما يأمركم به الفشل، ويدعوكم إليه التهاون والكسل، مستشعرين الخوف من الموت، فإن لكل نفسٍ أجلا لا يؤهره الإحجام والنكوص، ولا يقدمه الإقدام والنهوض. وقوله ما لهن خلوف، أي ليس للنفوس تخلف عن الأمد المسمى، ولا تراجعٌ عن الحين الموحى. والميقات يستعمل في الزمان والمكان، لأن الوقت الحد. ألا ترى أنهم يقولون ميقات أهل المشرق، يريدون الموضع الذي يقبل له الحج إذا ابتدئ بالمسير إليه منه.
وقال قبيصة بن جابرٍ
بثنيى هضيم جدٌ نماني ... بطياً بالمحاولة احتيالي
رواه بعضهم بنيى هضيم هو جد تماني وأوجد تماني، وليس بشيءٍ، لأنه يصير المعنى: يا بنيى هيصمٍ أوجدتماني بطيء الحيلة بالمحلولة؟ يريد: إني سريع الحيلة. وهذا كلامٌ مثبجٌ مختلٌ. وعلى روايتنا يقول: سما بي جدٌ عالٍ بثنيى هذا المكان. والثني: ما انثنى من الوادي، أي انعطف. ويقال: ثنيته ثنياً، ثم يسمى(1/500)
المثنى ثنياً، وما ثنى به أيضاً ثنياً. على هذا قول طرفة:
لكالطول المرخى وثنياه باليد
وقوله بطياً بالمحاولة احتيالي انتصب بطياً على الحال، فالعامل فيه نماني. واحتيالي في موضع الرفع على أنه فاعل بطيءٍ، وقد أضاف المصدر إلى المفعل، لأن المعنى: يبطؤ احتيال الناس علي إذا حاولوه والمعنى يتعذر وقوع ذلك منهم، لفرط حزامتي، واستحكام تجربتي. ومثل هذه الإضافة قوله تعالى: " ولمن انتصر بعد ظلمه "، لأن المعنى بعد ظلم الظالم له. هضيمٌ: فعيلٌ من الهضم، مثل حذيمٍ، وهو اسمٌ لمكانٍ ضيقٍ. وقيل فرسٌ أهضم، إذا كان ضيق الجوف.
وعاجمت الأمور وعاجمتني ... كأني كنت في الأمم الخوالي
العجم: العض في الأصل، ويستعمل في الامتحان، لأن الناظر في الشيء هل هو صلبٌ أو لا يعجمه ويعض عليه. ويقال عجمتني الخطوب، أي ابتليت بها. وفيما حكى عن الحجاج: " إن أمير المؤمنين نثر كنانته فعجم عيدانها عوداً عوداً ". وإنما استعمل في معاناة الشدائد ومزاولتها كما استعمل المحاكة والاحتكاك فيها. فيقول: إني مجربٌ مدربٌ، زاولت النوائب، وعاركت الأهوال والعجائب، فلزمتها ولزمتني، وأزمت بها وأزمت بي، وصرت لطول تجاربي وامتداد أيام محاكتي نقاباً محدثاً، أبلغ بظني ما يبلغ غيري بمشاهدته. هذا على قرب ميلادي، وحداثة سني، حتى كأني كنت في الأمم الماضين، وأحد الرجال المعمرين، فأدرك الشيء قبل حصله، وأتصوره ولم يجيء بصورة ما فرغ منه وقضى، فزني عيانٌ، ويومي دهرٌ.
فلسنا من بني جداء بكرٍ ... ولكنا بنو جد النقال
الجداء: المقطوعة الثدي. والبكر: الباقية على حالتها الأولى. ويقال رحمٌ جداء، إذا كانت غير موصولة. والشاعر جعل الجداء البكر كنايةً عن الضعيفة الشر، القليلة الأهل، على عادتهم في جعل النتاج لها، والولاد والرضاع والفطام إذا فظعوا حالها. فيقول: لسنا أبناء الحرب القليلة الدر، اليسيرة الأذى والشر، التي لم يتكثر(1/501)
موقدوها، ولم يتشمر لها خطابها ومولدوها ولكنا بنو المناقلات الشديدة الهياج، والوقعات الصعبة المراس، التي كثر ذرؤها، وتركر القتال حالاً بعد حالٍ من أهليها. وقوله بنو جد النقال يريد: بنو النقال البليغ المتناهى، الذي لا مساهلة فيه ولا مياسرة. ويجوز أن يكون المعنى: لسنا أصحاب حربٍ بكرٍ، ولكنا بنو حربٍ عوانٍ. كأنه جعل النقال في الولاد.
وقد اضطرب بعض المفسرين في هذا البيت، فأني بما يحجبه السمع، ولا يعيه القلب، فقال: المعنى لسنا بعقمٍ لم يكثر أولادنا، بل فينا الكثرة والعز. وقوله بنو جد النقال يعني به المناقلة في الكلام، يريد أنهم خطباء. قال: فالمصراع الثاني ليس من الأول في شيءٍ، وإذا كان كذلك فكأن أبا تمامٍ ذكر البيت على رداءته ليتجنب قول مثله، ولينبه على المترذل منه، كما نبه على المختار المستحسن بغيره.
وهذا القائل لم يرض بذهابه عن الصواب، حتى ظن بأبي تمامٍ ما لم يخطر له ببالٍ.
تفرى بيضها عنا فكنا ... بني الأجلاد منها والرمال
تبجح فيما مضى بما أعطاه الله من الظفر بالأعداء، وتوحده به من الفطنة والذكاء، والنكارة والدهاء، وبحسن الصبر على مدارسة العوصاء، ومداوسة الغماء، وبمجانبة الهين من الحروب، واقتحام أصعب الخطوب. وأقبل الآن يفتخر بالكثرة، إذ كان العز فيها، فقال: تغرى بيضها عنا. والضمير في بيضها للأرض، كما يقال: من الأرض خلقنا وإليها عودنا. وفي القرآن: " ألم نجعل الأرض كفاتاً. أحياء وأمواتاً ". وساغ ذلك وإن لم يجر لها ذكرٌ لما لم يلتبس، لدلالة الكلام عليه. والمعنى: تشقق بيض الأرض عنا، فنحن بنو حزونها وسهولها. وإنما يعني كثرتهم واتساع ديارهم، إذ كان الأرض لا تنقصم إلا إليها. والأجلاد: جمع الجلد، وهو الصلب من الأرض، وذكر البيض مثلٌ، وقد تقدم القول في بيضة البلد.
لنا الحصنان من أجإٍ وسلمى ... وشرقياهما غير انتحال
وتيماء التي من عهد عادٍ ... جميناها بأطراف العوالي
هذا كالبيان لما تقدم، والكشف عما أجمل، لأنه أتبع ما وصف من أخلاقهم وعزهم، بتحصن بلادهم وتمنع جبالهم، فقال: لنا جبلا طيئٍ أجأٌ وسلمى، ونواحى(1/502)
الشرق منهما، دعوى صحيحةً لا يضعفها انتحالٌ، ولا يوهنها كذابٌ. ويقال انتحلت الشيء، إذا ادعيته ولم يكن من شانك. على هذا قال الأعشى:
فكيف أنا وانتحالي القوا ... ف بعد المشيب كفى ذاك عارا
ونحل الشاعر قصيدة، إذا رويت عنه ولم تكن من قبله. وانتصب غير على أنه مصدر أكد به ما قبله، وعلى قولهم: هذا زيد حقاً، وغير شكٍ. وقوله وتيماء أراد ولنا تيماء التي هذا صفتها وحظها من عنايتنا بها. وهي بلدةٌ بناحية يثرب. وقوله من عهد عادٍ جعل من بدل منذ، لأن منذ في الأزمنة بمنزلة من في الأمكنة، فهو في موضع الظرف، والعامل فيه حميناها. وقد ذكر امرؤ القيس تيماء فقال:
وتيماء لم يترك بها جذع نخلةٍ ... ولا أجماً إلى مشيداً بجندل
وقال سالم بن وابصة
عليك بالقصد فيما أنت فاعله ... إن التخلق يأنى دونه الخلق
قوله عليك مما أغرى به وحضض، وصار بذلك من أسماء الأفعال. ويقال عليك كذا وعليك بكذا. والمعنى الزمه وخذ نفسك به. والقصد: واسطة الأمور، فما تعداه سرفٌ وما انحط عنه قصورٌ. ولذلك قيل لمن ليس بجسيمٍ ولا ضئيلٍ، وليس بقصيرٍ ولا طويلٍ: هو قصدٌ ومقتصدٌ. ومعنى البيت: عليك باستقامة الطريقة وملازمة الأعدل في القضية مما تلابسه وتفعله، واترك تكلف ما ليس من شيمتك وسجيتك، فإنك إن تجشمته صابراً على البلوى فيه نزعت نفسك قريباً عنه، وعدت إلى مذهبك الأول فلحقك الذم له.
وموقف مثل حد السيف قمت به ... أحمى الذمار وترمينى به الحدق
يقال للمكان النابي بصاحبه ولا يمكنه الاستقرار به تشبيهاً: هو مثل حد السيف، وكقرن الأعفر، وحد السنان. وذمار الرجل: ما يجب عليه حفظه. ورجلٌ(1/503)
ذمرٌ وذميرٌ، إذا كان منكراً داهيةً. ويقال ذمرت الرجل إذا حضضته، وتذامر القوم في كذا إذا تحاضوا. والمعنى: رب مكانٍ ضيقٍ دقيق، لا تثبت عليه الأقدام، أنا قمت به حامياً لما يحق على حمايته، والعيون ترمقني والنفوس تتطلع إلى ما يكون مني، وتتنسم أخباري فيه وبلائي. وقوله وترميني به الحدق جعل الفعل على التوسع للحدق، وإنما هو للناظرين بها. ألا ترى أنه يقال رماني القوم بأبصارهم. وموضع أحمى الذمار موضع الحال.
فما زلقت ولا أبليت فاحشةً ... إذا الرجال على أمثالها زلقوا
يقول: استقمت في فعلي، وتثبت في موقفي، ولم أتعثر فيما صرفت القول فيه، ولم أتزلق عندما حاضرت به ودافعت عنه، ولم أقدم على ما يعد سقطةً مني أو يشينني، إذا تحدث به عني في وقتٍ تكثر زلات الرجال في مطالعة أمثاله من المواقف، وتبطل دعاويهم المتقدمة لما يظهر من عجزهم، وسوء استمساكهم. وجواب إذا فيما تقدم. والمعنى: إذا زلق الرجال في أمثاله من المقامات ثبت أنا.
وقال آخر:
إن أك قصداً في الرجال فإنني ... إذا حل أمرٌ ساحتي لجسيم
قد تقدم القول في حذف النون من أك. ومعنى البيت إن كان في خلقتي اقتصادٌ فلم أبلغ غايات الجسام، فإن غنائي في النوائب إذا نابت، واهتدائي لوجوه الخروج منها إذا حزبت، يحكمان لي بجزالة الرأي وجسامة النفس؛ لأن الرجل بقلبه ولسانه، لا بجسمه وجثمانه. وفي هذه الطريقة قوله:
إذا كنت في القوم الطوال أصبتهم ... بعارفةٍ حتى يقال طويل
والساحة: فضاءٌ بين دور الحي، وكما قيل على التوسع نزل بساحته أمرٌ، قيل أيضاً نزلت بعقوته خطوبٌ.
وقال عامر بن الطفيل
قضى الله في بعض المكاره للفتى ... برشدٍ وفي بعض الهوى ما يحاذر(1/504)
ألم تعلمى أني إذا الإلف قادني ... إلى الجور لا أنقاد والإلف جائر
معنى هذا يماثل قول الله تعالى: " عسى أن تكرهوا شيئاً وهو خيرٌ لكم وعسى أن تحبوا شيئاً وهو شرٌ لكم ". وفي مثله قال غيره:
كم فرحةٍ مطويةٍ ... لك تحت أثناء النوائب
ومساءةٍ قد أقبلت ... من حيث تنتظر المواهب
ويقال قضاه وقضى به. وقوله وفي بعض الهوى أراد به: وقضى له في بعض المحاب ما يحاذر؛ فوضع الهوى موضع المحاب لأن كل محبوبٍ يصحبه الهوى، كما أن قوله ما يحاذر موضوعٌ موضع الغواية لكونه في مقابلة الرد، إذ كان الغي من حقه أن يحاذر. وقوله ألم تعلمى تنبيهٌ على مكانة من الرأي، وأن ظنه يقوم مقام عيان غيره. وألف الاستفهام إذا اقترن بحرف النفي يقرر به فيما يجب ويحق، فيقول: أما عرفت من دأبي وطبيعتي، أني لا أتبع الغير، ولا أنقاد لما يجانب العدل، فمتى سامني أليفي مطاوعته فيما لا أستوفقه أبيت عليه، وتركته وما يختار من الاعتساف وركوب الجور والضلال. وكان يجب أن يقول: لا أنقاد وهو جائرٌ، فوضع الظاهر موضع المضمر.
غزا مجمع بن هلالٍ ابن خالد بن مالك بن هلال بن الحارث بن تيم الله، يريد بني سعد بن زيد مناة، فلم يغنم ورجع من عزاته تلك، فمر بماءٍ لبني تميمٍ عليه ناسٌ من مجاشعٍ، فقتل فيهم وأسر، فقال في ذلك:
إن أمس ما شيخاً كبيراً فطال ما ... عمرت ولكن لا أرى العمر ينفع
قوله ما شيخاً، ما زائدة للتأكيد. يقول: إن صرت شيخاً طاعناً في السن، وضارعاً لنائبة الدهر، مهدفاً لسهامه، مقرعاً بلياليه وأيامه، فحق ذلك واجبٌ، لأن من يعش يكبر ومن يكبر يهرم، وطول العمر لا يجدي إذا كان مؤداه إلى الضعف، وقصاراه الموت. وقوله طال ما عمرت يجوز أن يكون ما مع الفعل في تقدير المصدر، ويكون حينئذ حرفاً عند سيبويه، والتقدير: فقد طال عمري. وعلى هذا(1/505)
يكتب طال منفصلاً من ما. ويجوز أن يكون ما كافةً للفعل عن العمل، ومخرجاً له من بابه، ولذلك جاز وقوع الفعل بعده، وإن كان الفعل لا يدخل على الفعل، وعلى ذلك يكتب طال متصلاً بما لأنه منه ومن تمامه. ومعنى عمرت: بقيت وحييت. والعمر، قال الخليل: هو الحياة والبقاء، ومه لعمر الله. وقول الشاعر:
وعمرت حرساً قبل مجرى داحسٍ ... لو كان للنفس اللجوج خلود
يشهد لذلك. وقوله لا أرى العمر أراد اتصال العمر وطوله، فحذف المضاف وأقام المضاف إليه مقامه. وذكر بعضهم أن أبا تمام أخطأ في قوله:
ما لأمرئٍ خاض في بحر الهوى عمرٌ ... إلا وللبين منه السهل والجبل
لأن العمر اسم مدة الحياة بأسرها لا يتبعض، فكما لا يقال ما لزيدٍ رأسٌ إلا وفيه شجةٌ، كذلك لا يقال ما له عمرٌ إلا وهو قصير. قال: وليس قولهم: ما له عيشٌ إلا منغصٌ، والحياة إلا مكدرةٌ، مثل قولك ما له عمرٌ إلا قصير. لو قلته، لأن عيش الإنسان ليس هو مدة حياته بأسرها. ألا ترى أنك تقول: كان عيشي بالعراق طيباً، وكانت حياتي بمصر لذيذةً، ولا تقول كان عمري. والذي قاله هذا المعترض على أبي تمام يبطله ما حكيته عن الخليل في تفسير العمر، والبيت الذي أنشدته. ألا ترى أن قوله عمرت حرساً قبل مجرى داحسٍ يقتضي تبعيض عمره، إذ كان ما بعده من عمره قد أفرده عما قبله، وإذا كان الأمر على هذا جاز أن يقال: كان عمري قبل مجرى داحسٍ أطيب من عمري بعده. وفي القرآن: " فقد لبثت فيكم عمراً " أي بعض عمري، فحذف المضاف.
مضت مائةٌ من مولدي فنضوتها ... وخمسٌ تباعٌ بعد ذاك وأربع
هذا تفصيل ما ألجمه من كبرته. يقول: أتت علي مائة سنةٍ من ميلادي فألغيتها ورائي، كأني لبستها ثم خلعتها واستتبعت بعدها تسعاً توالت، فلي عذر في ضعفٍ يظهر، أو كسلٍ يلحق، إذ كنت غابر لداتٍ فنوا، ومتعرق أعوامٍ باد أهلها فنسوا. قوله فنضيتها يروى فنضوتها. ويقال نضا ثوبه ينضو وينضي إذا نزعه، لغتان. على(1/506)
هذا قول امرئ القيس:
فجئت وقد نضت لنومٍ ثيابها
ويقال نضى سيفه وانتضى بمعنىً. وقوله " بعد ذاك " إن قيل لم لم يقل بعد تلك، والإشارة إلى قوله مائةٌ؟ قلت: لم يراع تأنيث المذكور وتذكيره، بل أراد ما ذكرت. على ذلك قول ذي الرمة:
ومية أحسن الثقلين خذاً ... وسالفةً وأحسنه قذالا
ألا ترى أنه لم يقل وأحسنهما. وقوله وخمسٌ تباعٌ يقال تبع تباعاً، فهو مصدرٌ وصف به. ويقال أيضاً رميته بسهمين تباعاً، أي زلاءً، وتابع بينهما فلانٌ تباعاً.
وخيلٍ كأسراب القطا قد وزعتها ... لها سبلٌ فيه المنية تلمع
تذكر بما كان منه عند تعالي سنه وتناهي عمره، ما كان منه في ريعان شبابه، وعند استكمال قوته وترامي الأحداث به، فيقول: رب خيلٍ تمتد وتتوالى مبادرةً إلى الملتقى، وتسترسل استرسال فرق القطا عند اندفاعها للورد، أنا بعثتها وهيجتها، ولها عارض يمطر بالموت ويلمع. والسبل: المطر. ورواه بعضهم: " لها أسلٌ " وهي الرماح. وقوله قد وزعتها يجوز أن يكون معناه كففتها عن التعجل، ويجوز أن يكون قسمتها للتعبئة أو الغارة، لأنه يقال وزعت الشيء ووزعته جميعاً؛ وعنده أوزاعٌ من الناس، أي فرقٌ، وعلى الوجهين فتدبيرها كان إليه. وقوله قد وزعتها من صفة الخيل، لأن جواب رب فيما بعده، ولها سبلٌ في موضع الحال. وقوله فيه المنية من صفة السبل، ويلمع في موضع الحال للمنية، والعامل ما يدل عليه الظرف.
شهدت وغنمٍ قد حويت ولذةٍ ... أتيت وماذا العيش إلا التمتع
قوله شهدت جواب رب، فيقول: رب خيلٍ على هذه الصفة حضرتها مدبراً لها، ورب غنيمةٍ تغنمتها وتوليت قسمتها، ورب لذةٍ أتيتها ونلت منالي منها. ثم أقبل كالمتلفت إلى غيره، فقال: وما العيش إلا التمتع بهذه الأشياء. ارتفع " العيش " على(1/507)
أنه عطف البيان لذا، لأنه جعل العيش كالحاضر، فأشار به إليه وإن كان القصد إلى الجنس. والتمتع: الانتفاع بالشيء زماناً طويلاً. ومنه متع النهار: ارتفع، واستمتعت وامتتعت وتمتعت بمعنىً.
وعاثرةٍ يوم الهييما رأيتها ... وقد ضمها من داخل الخلب مجزع
يقول: ورب امرأةٍ في هذا اليوم لتمكن الخوف منها، وتملك الجزع قلبها، رأيتها تعثر لوجهها ولا تستقيم في مشيها، مخافة السباء لها، وقد ضمها مجزعٌ، أي استولى عليها الحزن والقلق، حتى صار يضمها إليه ولا يدعها لغيره.
وقوله من داخل الخلب بين به منشأ الجزع ومقره، والخلب: حجاب القلب، ومنه قوله: خلبت المرأة فلاناً، أي أصابت خلبه بلطفها وخدعته، خلباً. ثم يقال: هو خلب نساءٍ، كما يقال هو زير نساء. وهذا على طريقتهم في النقض والنقض وما أشبهه.
لها غللٌ في الصدر ليس ببارحٍ ... شجىً نشبٌ والعين بالماء تدمع
يجوز أن يكون قوله لها غللٌ في موضع الجر على أن يكون صفةً لعاثرةٍ، ويجوز أن يكون في موضع المفعول الثاني لقوله رأيتها: وأصل الغلل هو الماء يجري بين الشجر، فاستعاره لما تداخلها من الشجى. وقال الخليل: الغلل: تغلغل الماء بين الشجر. والغلغلة: سرعة السير؛ ومنه رسالةٌ مغلغلةٌ أي محمولة من بلد إلى بلدٍ. ورواه بعضهم لها غللٌ بضم الغين، جمع غلةٍ. ولو كان كذا لقال ليست ببارحةٍ. ومعنى ليس ببارحٍ أي ليس بزائلٍ، وموضع قوله شجىً نشبٌ رفعٌ على البدل من غلل. ويريد فلانٌ أنه علق به كما ينشب الصيد في الحبالة. وفي الكلام المروى: نشب فلانٌ منشب سوءٍ، أي وقع فيما لا يتخلص منه. وقوله والعين بالماء تدمع في موضع الحال، ولا بد من الواو فيه ليتعلق بذي الحال. والعامل فيه قوله شجىً نشب. ولو كان في الجملة ضمير لكنت في دخول الواو وسقوطه بالخيار، إذ كان الضمير يعلق من الحال ما يعلقه الواو.
تقول وقد أفردتها من حليلها ... تعست كما أتعسني يا مجمع
قوله تقول جواب رب. والمراد: رب عاثرة هذه صفتها في يوم الهييما قالت لي بعد أن سبيتها وفرقت بينها وبين زوجها بالقتل سقطت لوجهك، ولا انتعشت من(1/508)
عثرتك يا مجمع، ولحقك الانكسار والنكس كما ألحقتهما بي. وسمي الزوج حليلاً والمرأة حليلةً لأن كل واحدٍ منهما يحل مع صاحبه.
فقلت لها بل تعس أخت مجاشع ... وقومك حتى خدك اليوم أضرع
يقول: أجبتها بأن قلت بل التعس لك ولقومك حين ضيعوك، وفعلوا ما أدى وباله إلى أن صار خدك اليوم ضارعاً، وجدك سافلاً. وقوله بل تعس أخت مجاشعٍ تدارك ببل دعاءها عليه فنقله إليها، لأن بل للإضراب عن الأول والإثبات للثاني. وأجرى تعساً في الإضافة مجرى ويك، وذاك أن المصادر التي قد اشتق الأفعال منها إذا دعي بها تستعمل باللام لا غير، تقول: تبٌ لزيدٍ وخسرٌ لعمرٍو. وما لم يشتق الفعل منه وهو ويلٌ وويحٌ وويسٌ إذا كان معها اللام رفعت وصارت باللام جملاً، وإذا أفردت عن اللام أضيفت ونصبت. تقول ويلٌ لزيدٍ وويحٌ لعمرٍو فترفع، وويل زيدٍ وويح عمرٍو فتنصب. وهذا الشاعر قال: بل تعس أخت مجاشع فأجراه مجرى ويل الفعل يشتق منه. ومجاشع: قبيلة. فقال أختت مجاشع كما يقال يا أخا بكرٍ ويا أخا تميمٍ، وأضرع بمعنى ضارعٍ. ويقال خده ضارعٌ، وجنبه ضارعٌ. والضراعة: الاستفال في خضوعٍ. قال الهذلي:
لشانئك الضراعة والكلول
عبأت له رمحاً طويلاً وألةً ... كأن قبسٌٍ يعلى بها حين تشرع
أخذ يبين كيف تمكن من قتل زوجها، وماذا أعد من السلاح له. ويقال: عبأت الخيل وعبأتها، إذا هيأتها للحرب، وعبيتها أيضاً. وعبأت الطيب والمتاع لا غير. المراد: هيأت له رمحاً طويلا، وسناناً لماعاً براقاً، كأنما يعلى به نار إذا أشرع للطعن. والألة: تستعمل في الحرية وتشتهر بها. وأصل الأليل البريق. المراد بها ها هنا السنان كما ذكرت. وقوله كأن قبس يجوز فيه الرفع والنصب والجر، فإذا رفعت فعلى الضمير، يريد كأنها قبس يعلى بها حين أشرعت. والقبس: النار. ومن نصب فلأنه أعمل كأن مخففةً عملها مثقلة. يريد: كأن قبساً يعلى بها، ويكون الخبر يعلى بها. ومن(1/509)
جر فقال كأن قبسٍ، جعل أن زائدة وأعمل الكاف كما زيد في قوله: لما أن جاء زيدٌ أعطيته، وفي قوله: والله أن لو جئتني لأكرمتك، يريد والله لو جئتني.
وكائن تركت من كيمة معشرٍ ... عليها الخموش ذات حزنٍ تفجع
نبه بهذا الكلام على أن ما حكاه من حديث العاثرة يوم الهييما، واقتصه من شأن بعلها، لم يكن بدعاً منه ولا عجباً، بل ذلك دأبه مع أمثالها قبلها وبعدها. وقوله وكائن لغةٌ في كأين، وهما جميعاً بمعنى كم، وهو للتكثير. فيقول: وكم امرأةٍ كانت كريمة عشيرتها تركتها وهي تخمش وجهها، وتتفجع جزعاً على قيمها من بعلٍ أو أخٍ أو ابن. والمعنى: كان ذلك مني كثيراً. وقوله عليها الخموش الخمش في الوجه وفي سائر البدن مثل الخدش. ومعنى عليها ركبها وعلاها كما يقال على فلانٍ دينٌ أي ركبه وعلاء.
وقال الأخنس بن شهاب
فمن يك أمسى في بلادٍ مقامه ... يسائل أطلالاً لها لا تجاوب
يروى في بلادٍ مقامه والمراد: من أمسى مقامه في بلادٍ مسائلاً أطلالاً لتلك البلاد. فمقامه اسم أمسى، وخبره في بلادٍ. ويروى بلادٍ مقامةٍ على الإضافة، ويكون اسم أمسى ضمير " من " المستكن فيه. والمقامة: الإقامة، والمراد: من أمسى في بلاد إقامةٍ، أي بلاد مستصلحةٍ للإقامة مستوطنةٍ. ويسائل على الروايتين في موضع الحال. وكما يقال هو بلد مقامةٍ، يقال في ضده هو بلد قلعةٍ. والبلاد: جمع بلدٍ، وهو القطعة من الأرض اختط فيها أو لم يختط. يشهد لهذا قول الراجز:
قد ترك البرني فاه بلدا
أي لا أسنان فيه. وقول الآخر:
عرف الديار توهماً فاعتادها ... من بعد ما شمل البلى أبلادها(1/510)
ومعنى البيت: من كان الوقوف على ديار الأحبة من همه، فأمسى مقامه في بلاد مسائلاً أطلالاً فيها لا تجاوبه، فأميى كيت وكيت. وجواب الجزاء فيما بعده. وقد مر القول في حذف النون من يك.
فلابنة حطان بن قيسٍ منازلٌ ... كمانمق العنوان في الرق كاتب
الفاء مع ما بعده إلى صدر البيت الذي يليه جواب الجزاء، كأنه قال: فلهذه المرأة منازل أنا وفقت بها، وقضيت حق الهوى فيها. والمعنى: من كان الوقوف على الديار من دينه في الهوى ومذهبه، حتى صار يسائل مالا يجيب، فلى في الوقوف على ديار ابنة حطان ما يزيد على كل مذهبٍ، ويعفى على كل عادةٍ. وقوله كما نمق العنوان من صفة المنازل، ويروى العنيان والعلوان. فأما العلوان فهو فعوال من علن الأمر، أي ظهر. وأما عنوانٌ فهو فعوالٌ أيضاً من عن له كذا، أي عرض. وأما عنيان فهو فعلانٌ من عناه كذا يعنيه. وفي هذا القدر من الكلام في هذا الموضع كفايةٌ إذ كنا قد بسطنا القول في شرح كتاب الفصيح. وكان الواجب أن يقول كعنوانٍ نمقه كاتبٌ، وتشبيه آثار الديار بالكتابة مألوفٌ في طرائقهم، لكنه طول الكلام تحقيقاً للتشبيه، فصار ظاهره كأنه شبه الآثار بتنميق الكاتب خطه إذا عنون كتاباً. ومثله قول الهذلي:
هبطن بطن رهاطٍ واعتصبن كما ... يسقى الجذوع خلال الدور نضاح
ألا ترى أن المراد تشبيه الإبل وقد دخلت في السراب بجذوع نخلٍ مسقيةٍ في أصولها الماء، فجاء ظاهره كأنه شبه الإبل بسقى النضاح للجذوع؛ لأن معنى كما يسقي كسقى، كما أن معنى كما نمق كتنميق.
وقفت بها أبكي وأشعر سخنةً ... كما اعتاد محموماً بخيبر صالب
يقول: وقفت بهذه الأطلال مقيما بها رسم من ثبت عهده في الهوى، ولم يغيره تقاذف الأحبة والنوى، ومظهراً التلهف والتحسر في إثر ما تقادم من أيام الوصال بالبكا، وقد أبطنت جوىً اعتادني منه حمى سخنت منها بشرتي، وحمت لها روحي(1/511)
ومهجتي، كما يعتاد الصالب وهي الحمى التي معها صداع محموماً بخيبر. وإنما قال ذلك لأن خيبر محمة، وحماها موصوفة بالشدة. ويقال في المثل: " صالبي أشد من نافضك ". وحكى الأصمعي أن أعرابياً ثقلت عليه مؤن عياله لكثرتهم، فحدثته نفسه بأنه لو نقلهم إلى خيبر لنقصهم وباؤه، وأثر فيهم بالتقليل صالبه، وأوردهم خيبر، وأنشأ يقول:
ويحك حمى خيبر استعدي ... هاك عيالي فاذهبي وجدي
وباكري بصالبٍ وورد ... أعانك الله على ذا الجند
فحموا بأجمعهم وسلموا، ثم تلف هو من بينهم.
وقوله وأشعر سخنةً يروى بضم السين وكسرها. فالسخنة كالحمرة، والسخنة كالجلسة. ومعنى أشعر جعل شعاري. والشعار: ما يلي الجسد من الثياب، وتوسع فيه فقيل أشعر قلبي هماً. ويقال شعرت المرأة، أي نمت معها في شعارها.
خليلاي هو جاء النجاء سملةٌ ... وذو شطبٍ لا يجتويه المصاحب
موضع قوله خليلاي مع خبره نصبٌ على الحال من قوله وقفت بها، واستغنى بالضمير فيه عن إدخال الواو العاطفة لأنه يعلق من الحال بالأول ما يعلقه الواو. ومعنى قوله هوجاء النجاء ناقةٌ في نجائها وسرعة مرها هوجٌ واضطراب. ويقال نجاءٌ أهوج، كما يقال عدوٌ والهٌ. وقد تجاوزوا هذا الحد حتى قالوا غبارٌ مجنونٌ، وزمامٌ سفيه. والشملة: الخفيفة. وقوله وذو شطبٍ أراد به سيفاً ذا طرائق. لا يجتويه أي لا يكرهه متحمله لجودته. وهذا الكلام إشارةٌ إلى أن أصحابه خذلوه ولم يروا مساعدته في الوقوف على الدار.
وقد عشت دهراً والغواة صحابتي ... ألئك خلصاني الذين أصاحب
قرينة من أسفى وقلد حبله ... وحاذر حراه الصديق الأقارب
يذكر ما تعاطاه من البطالة أيام صباه، فيقول: بقيت زماناً فيما مضى من عمري طويلاً متباعد الأطراف، والذين أصاحبهم وأوثر معاشرتهم أهل الغواية، وأرباب(1/512)
البطالة والخسارة، لا أواخي غيرهم، ولا أصالح سواهم. والصحابة مصدرٌ في الأصل، وصف به الخلصان أيضاً مصدرٌ كالكفران والشكران في الأصل، ولذلك صلح أن يقع للواحد والجميع. يقال فلانٌ خالصتي وخلصاني، إذا خلصت مودته. قال:
وعاش صافيةً لله وخلصانا
ويقال: هؤلاء خلصاني، أي أخلائي. وقوله الذين أصاحب أراد أصاحبهم، وحذف الضمير استصالةً للاسم بصلته. وقوله قرينة من أسفى فالقرينة ألحقت الهاء به لأنه جعل اسماً، فهو كالبنية والذبيحة. ومعنى أسفى: دخل في السفاء. والسفاء ممدود: السفه، والرجل سفيٌ. ومعنى قلد حبله خلى واختياره، وأصله في البعير إذا أرسل في المرعى وجعل زمامه على عنقه لتتصرف كما يشاء، ثم نقل إلى من وعظ كثيراً حتى أهمل أمره تبرماً به. ويقال أيضاً: ألقى حبله على غاربه، في هذا المعنى. ومعنى وحاذر جراه الصديق الأقارب، أي تبرءوا منه خوفاً من جرائره التي يجنيها عليهم. وكانوا يسمون مثله الخليع. وعلى هذا قول الشنفري في صفة نفسه:
طريد جناياتٍ تياسرن لحمه ... عقيرته لاياً بما حن أول
ومعنى تياسرن لحمه اقتسمن لحمه من الميسر. وهذا من فصيح الكلام. والصديق يوصف به الواحد والجمع. والبيت الثاني شرحٌ لقوله والغواة صحابتي، ويفيد من نهايات الغي ما لا يستفاد من ظاهره ومطلقه.
فأديت عني ما استعرت من الصبا ... فالمال عندي اليوم راعٍ وكاسب
ترى رائدات الخيل حول بيوتنا ... كمعز الحجاز أعوزته االزرائب
يقول: رفضت الآن ما كنت أقصر وقتي عليه، وأصرف همي إليه، من سلوك طرائق الجهل، والجري في ميادين اللهو، واستبصرت حتى عرفت من الرشاد ما حملني على رد مستعار الغي، واطراح مستعاد البطل، فصرت أحفظ من المال ما كنت أضيعه، وأصحب من الحزم ما صرت أخلفه، وأجمع من العدة للحوادث ما(1/513)
بقيت أهمله وأفرقه. وقوله أديت عني حقق بدخول عن أن المؤدى وجب عليه. ألا ترى أنه لو قالا أديت كذا من دون عن لجاز أن يكون لنفسه أدى ما أدى، ولجاز أن يكون لغيره. ولأن معنى أديت عني نحيت عن نفسي. وقوله فللمال عندي اليوم راعٍ وكاسب نبه به على أنه جامعٌ له وحافظٌ. ولم يشر بقوله اليوم إلى وقتٍ معينٍ، لأنه أراد حاضر الأزمان ومؤتنفها. فأما قوله ترى رائدات الخيل فالرائدات المختلفات، ومنه المثل: " الرائد لا يكذب أهله ". والمراد أن الذي يرتبطونه من المال ويقتنونه الخيل، لا الإبل والغنم، وأنها تختلف فيما بين بيوتهم لكثرتها، لأنهم غزاءون وأرباب غاراتٍ، فخيولهم مربوطةٌ بالأفنية لئلا تبعد عنهم أوان الحاجة لقصدٍ أو متعٍ؛ وهي في اختلافها وكثرتها وترددها بين البيوت كمعزى الحجاز وقد ضاق عنها محابسها ومرابضها. وقوله كمعزى الحجاز في موضع الحال من ترى، وأعوزتها في موضع الحال مما دل عليه الكاف من قوله كمعزى. والأجود أن يضمر معها قد ليقرب بناء الماضي من الحال. والتقدير تراها مشابهةً لمعزة الحجاز وقد عدمت محابسها، فهي ترود. وفي هذه الطريقة قول سلمة بن الخرشب:
يسدون أبواب القباب بضمرٍ ... إلى عننٍ مستوثقات الأواصر
والزرب والزريبة واحد، ويقال أعوزه الدهر: أفقره. وأعوز الرجل: ساءت حاله.
فيغبقن أحلاباً ويصبحن مثلها ... فهن من التعداء قبٌ شوازب
يقال غبقته إذا سقيته غبوقاً، وصبحته إذا سقيته صبوحاً. والصبوح والغبوق: يشرب بالغداة والعشي، لأنهما كالفطور والذرور والسحور. فيجوز أن يريد أنها تعدى في القرتين، ويكون أحلاباً بمعنى أشواطٍ وأطلاقٍ. يقال احلب فرسك قرناً أو قرنين، واحلبها أحلاباً وحلباتٍ. ويشهد لهذا قوله فهن من التعداء قبٌ شوازب. وتحقيق الكلام أنه جعل صبوحهن وغبوقهن أن أعديت في أول النهار وآخره لتضمر،(1/514)
كما قال أبو تمام:
تعليقها الإسراج والإلجام
وكما قال غيره:
فإن المندي رحلةٌ فركوب
والتندية: أن ترعى في الورد بعد السقي شيئاً ليعرض عليها الماء ثانيةً. ويجوز أن يريد أنها تسقى اللبن غدواً وعشياً، كما قال:
نطعمها اللحم إذا عز الشجر
يريد باللحم اللبن، وكما قال الآخر
يعطى دواء قفي السكن مربوب
ويكون الأحلاب جمع حلب، مصدر حلبت، والمراد به المحلوب فجمعه لاختلافها. ويكون قوله فهن من التعداء كلاماً مستأنفاً، والمعنى أنها تصنع وتضمر، فتتفد بكل ما يصلحها ويقويها ويعودها الجراء. والقب: جمع أقب وقباء. والشوازب: الضوامر.
فوارسها من تغلب ابنة وائلٍ ... حماةٌ كماةٌ ليس فيهم أشائب
قوله من تغلب ابنة وائلٍ أخبر به أنهم لم يتكثروا بغيرهم، فليس فيهم خلطاء من سواهم ولا غرباء، وإنما هم من أصلٍ واحد. وهذا كما قال سلمة ابن الخرشب.
وأمسوا حلالاً ما يفرق بينهم ... على كل ماءٍ بين فيد وساجر(1/515)
وهو خلاف قول الآخر وهو يهجو:
ولما أن رأيت بني جوينٍ ... جلوساً ليس بينهم جليس
إذا ما قلت أيهم لأيٍ ... تشابهت المناكب والرءوس
لأن هذا يصف أهل بيتٍ بأنهم لا يرى فيهم نديم ولا معاشرٌ، ولا يغشى فناءهم جليسٌ ولا مخالطٌ، ولا يقصدهم عافٍ ولا مجتدٍ، ولا يؤمهم راحٍ ولا معتفٍ، إنما اكتفى كلٌ منهم بصاحبه، وانفرد كل ذي بيتٍ بنسيبه. وعلى هذا الذي فسرنا يكون من تغلب ابنة وائلٍ خبراً، وحماةٌ خبراً ثانيا. والتقدير: فوارسها تغلبيون حماةٌ. ويجوز أن يكون من تغلب ابنة وائلٍ في موضع الحال، وحماةٌ الخبر، والتقدير: فوارسها وهم من بني تغلب حماة. وحماةٌ: جمع حامٍ. وكماةٌ: جمع كمىٍ. وهذا البناء من الجوع لا يكون إلا في المعتل. والاشائب: جمع أشابةٍ، وهم الذين جمعوا من شيءٍ إلى شيءٍ، على رداءةٍ فيهم وهجنةٍ تشوبهم.
فهم يضربون الكبش يبرق بيضه ... على وجهه من الدماء سبائب
وإن قصرت أسيافنا كان وصلها ... خطانا إلى أعدائنا فنضارب
وصفهم بأنهم يطلبون الرؤساء في الحرب بالقتل والنكاية، دون الأوساط والعجزة والسقاط، فهو كقول الآخر:
من عهد عادٍ كان معروفاً لنا ... أسر الملوك وقتلها وقتالها
وقوله يبرق بيضه في موضع الحال من يضربون، وعلى وجهه من الدماء سبائب في موضع الحال أيضاً من قوله يبرق بيضه. والسبائب: الطرق، الواحدة سبيبةٌ، وقوله وإن قصرت أسيافنا مثل قول الآخر:
تصل السيوف إذا قصرن بخطونا
وفي طريقته قول الآخر:
إذا الكماة تنحوا أن ينالهم ... حد الظبات وصلناها بأيدينا(1/516)
فلله قومٌ مثل قومي عصابةً ... إذا حفلت عند الملوك العصائب
قوله فلله قومٌ تعجبٌ وتحضيضٌ. والكلام في مثله قد تقدم مشروحاً. وانتصب عصابةً على أنه تمييز. ويجوز أن يكون حالاً أيضاً. وقوله إذا حفلت أي اجتمعت. وإذا ظرف لما دل عليه قوله لله قومٌ مثل قومي، أي ناهيك بهم من قومٍ في ذلك الوقت. والمعنى أنه يظهر من عزهم وفخرهم في مجالس الملوك ما يستحق به التعجب منهم.
أرى كل قومٍ قاربوا قيد فحلهم ... ونحن خلعنا قيده فهو سارب
يصف عزهم وكرمهم وعظم حشمتهم في قلوب من سواهم، وأن أحداً لا يتجاسر على التعرض لأسبابهم، والتبسط في أحميتهم، فما لهم وإن عزبت في مراعيها محميةٌ، وسروبهم آمنةٌ، وإذا كانت الأقوام غيرهم يقيد فحولها تقييداً مقارباً، وتحفظ مراعيها حفظاً ملاحظاً، مخافة أن تسرب في المرتع، وتبعد عن المجمع، وتتبعها الإناث فتقرب من المغير عليها، وتمكن الطامع فيها، رأيتنا لا نبالي بشيءٍ من ذلك، فنخليها وذهابها حيث شاءت، وأني اختلفت وتصرفت، لأمننا عليها، وعلمنا بأن عزنا يحميها ويذب عنها، ويقصر الأيدي دونها. والسارب: الذاهب في الأرض، حتى قيل سرب الماء وانسرب، ومنه اشتقاق السراب.
وقال العديل بن الفرخ العجلي
ألا يا اسلمى ذات الدماليج والعقد ... وذات الثنايا الغر والفاحم الجعد
قوله يا اسلمى يراد به يا هذه اسلمى، فحذف المنادى. ومعنى اسلمى: دومي سالمةً. وانتصب ذات الدماليج على أنه نداءٌ ثان، ويجوز أن يكون انتصابه على إضمار فعل، كأنه قال: أذكر ذات الدماليج. وهذا يجري مجرى الكناية لما كره التنبيه(1/517)
على اسمها. والدماليج: جمع الدملوج، وهي المعضد. وقال الخليل: يقال دملجت الشيء، إذا سويت صيغته، كما يصاغ الدملج. وثوله وذاب الثنايا كان وجه الكلام أن يقول: والثنايا الغر، لكنه أعاد لفظ ذات ليكون الخطاب به أفخم وأجل قدراً، ولشدة اتصال المضاف بالمضاف إليه، كأنه عدهما اسماً واحداً لا محمل بالحذف عليه. ويجري هذا المجرى قوله تعالى: " قد أفلح المؤمنون. الذين هم في صلاتهم خاشعون. والذين هم "، " والذين هم ". وقول الشاعر:
أما والذي أبكى وأضحك والذي ... أمات وأحيا والذي أمره الأمر
والعقد: القلادة: يقال عقدت عقداً، ثم يسمى المعقود عقداً، فهما كالنقض والنقض. والفاحم: الشعر الأسود الحسن وقد فحم فحوماً.
وذات اللثات الحم والعارض الذي ... به أبرقت عمداً بأبيض كالشهد
اللثات: مغارز الأسنان. والحم: جمع أحم وحماء، وهو الأسود من كل شيء. ويروى الحو وهو جمع أحوى وحواء. والحوة: حمرةٌ تضرب إلى سواد. والعارض: ما يظهر من الثغر عند النطق من الجانبين. ومعنى أبرقت به: أطلعت البرق. والبرق: وميض السحاب أصله. ويقال: برق السحاب برقاً وبريقاً، وأبرق لغةٌ فيه، كذلك قال الخيل. وقوله عمداً مصدرٌ في موضع الحال، أي أبرقت عامدةً. ويريد بالأبيض رضاب الفم. والتشبيه بالشهد قصد به إلى العذوبة.
كأن ثناياها اغتبقن مدامةً ... ثوت حججاً في رأس ذي قنةٍ فرد
الاغتباق: شرب العشي، وخصه بالذكر لأن القصد إلى أنها عند السحر يطيب نكهتها، فإذا تغيرت الأفواه وخلفت كانت هذه كأنها مغتبقة خمراً بقيت سنين في رأس جبل انفرد عن الجبال ورءوسها، بحصانته وتمنعه. وهذا منه إشارةٌ إلى قلعةٍ في قلة جبل شاهق، أو قصر أو حصن شبهه بحبل هذه صفته.
لعمري لقد مرت لي الطجير آنفاً ... بما لم يكن إذ مرت الطير من بد(1/518)
كان زجاراً فلذلك قال ما قال. وخبر لعمري محذوفٌ، كأنه قال لعمري قسمي. ولقد جواب القسم مع ما بعده. والقسم كما يقع بالمفرد يقع بالجملة. وأنث الطير لأنه أراد الجماعة، فلذالك قال مرت. وآنفاً انتصب على الظرف، والمعنى فيما ائتنف من الوقت، وإنما عاف هذه العيافة التي أشار إليها فيما دار بين قومه من الشر، وكأنه آمن بما أوجبه مرور الطير في حلمه، فلذلك قال بما لم يكن من بدٍ. ومن بدٍ موضعه اسم لم يكن، وخبره محذوف، لأن التقدير بما لم يكن بدٌ من وقوعه إذ مرت الطير. وهذا كما يقال ما جاءني من رجل في اللفظ، وإن كان التقديران مختلفين. ومعنى قول القائل لا بد من كذا: لا اتساع في الاستغناء عنه. ويقال رجلٌ أبد وأمرأةٌ بداء، إذا تباعد إحدى فخذيه عن الأخرى، وبددت الشيء أبده، إذا جزأنه أجزاءً في القسم. ويقال هات بدتي، أي نصيبي، ومنه يقال استبد فلان بكذا إذا اختص.
ظلت أساقي الهم إخوتي الأولى ... أبوهم أبي عند المزاح وفي الجد
يقال: ظل يفعل كذا، إذا فعله نهاراً، ثم يتوسعون فيه، ويجري مجرى صار يفعل كذا يدل على ذلك قوله تعالى: " وإذا بشر أحدهم بالأنثى ظل وجهه مسوداً " ألا ترى أن البشارة بالأنثى تتفق كل وقتٍ من ليلٍ ونهارٍ. وقوله أساقي الهم يجوز أن يريد به الغم، كأنه كان يباث إخوانه وأصفياءه لما كان يدور عليه أمر عشيرته من الخلاف المؤدي إلى التقالى والتحزب، وما كان يخافه من التفاني عليهم عند التجارب. والأولى في معنى الذين، والجملة التي بعده من صلته. وقوله أبوهم أبي عند المزاح وفي الجد يجري مجرى التأكيد للأخوة، والتحقيق للتشابك، والممازجة بالنسبة، والمعنى: على كل حالٍ إذ لا ثالث لهما. ووضع المزاح موضع الهزل. ومثل هذا في معنى التأكيد، وإن كان لفظة لفظ البدل قولهم: جاءني بنو تميمٍ صغيرهم وكبيرهم، صريحهم وهجينهم، وما أشبهه. ويجوز أن يريد بالهم مصدر هممت بالشيء، كأنه اجتمع مع إخوته ليوافقهم على رأي يبنون أمرهم عليه مع الفساد الظاهر له بين ذويه وفصيلته. ويروى المزاح بضم الميم فيكون اسماً، والمزاج بكسر الميم فيكون مصدر مازحت.
كلانا ينادي يا نزار وبيننا ... قناً من قنا الخطى أو من قنا الهند
كلا اسم مفردٌ يؤكد به المثنى، كما أن كلاً اسم مفردٌ يؤكد به المجموع. والمراد به هنا كل واحدٍ منا، لذلك قال ينادي. والمعنى إن اعتزاء كل واحد من(1/519)
طائفتينا إلى أبٍ واحد، والشر إذا وقع بين الأقارب كان في عقول ساداتهم أشد تأثيراً، وأبلغ عند الاستعمال به تحذيراً، إذ كان مفاسدة النسيب لنسيبه أفظع، وكان التقاطع حيث يجب التواصل أشنع، لأن عز السيد بتابعيه، وليس الأقارب منهم كالأجانب. وقوله وبيننا قناً من قنا الخطى الواو واو الحال، وقد حذف المضاف وأقام المضاف إليه مقامه. والمراد: وبيننا اختلاف قناً خطيةٍ بالطعن، أي بلغ جهد البلاء بينهم هذا المبلغ وانتهى إلى هذه الحالة. وقال من قنا الخطى والمراد من قنا الموضع الخطى أو المكان، فأقام الصفة مقام الموصوف. يدل على هذا أنه قال بعده أو من قنا الهند. ويجب أن يكون القنا الأول وإن كان جمع قناةٍ متناولاً لما هو أقلٌ مما يتناوله القنا الثاني حتى يحصل معنى التبعيض بمن. والخط: جزيرة عمان. ويقال في الرماح هي الخطية، كأنه اسمٌ لها.
قرومٌ تسامى من نزارٍ عليهم ... مضاعفةٌ من نسج داود والسغد
القروم في الأصل: الفحول المصاعب التي أعفيت من الحمل عليها وتركت للفحلة. ويقال أقرمت البعير فاستقرم. وعنى بها ها هنا الأبطال الكرام. وتسامى، أي تتعالى في التباري والتماري. والأصل في تسامي تتسامى فحذف إحدى التاءين استثقالاً لاجتماعهما. وقوله من نزارٍ في موضع الصفة لقروم، والتقدير قرومٌ نزاريةٌ تتسامى، وقوله عليهم مضاعفةٌ في موضع الحال والعامل فيه تسامى. ومعنى المضاعفة: التي نسجت حلقتين حلقتين. ومن نسج داود في موضع الصفة للمضاعفة، وأراد مضاعفةً داوديةً وسغديةً. وارتفع مضاعفةٌ بالظرف في المذهبين جميعاً لوقوع الظرف في موضع الصفة. ومثله من مسائل الكتاب: مررت برجلٍ معه صقرٌ صائداً به غداً.
إذا ما حملنا حملةً ثبتوا لنا ... بمرهفةٍ تذرى السواعد من صعد
وإن نحن نازلناهم بصوارمٍ ... ردوا في سرابيل الحديد كما نردى
أما البيت الأول فقد ألم فيه بمعنى قول الآخر:
فلما قرعنا النبع بالنبع بعضه ... ببعضٍ أبت عيدانه أن تكسرا(1/520)
والمرهفة: السيوف المرققة الحد، وسيفٌ رهيفٌ، وقد رهف رهافةً. ومعنى تذرى تسقط، وهو في موضع الصفة لمرهفةٍ. ومعنى من صعد من أعلى. وهذا كما قال غيره:
يذري بإرعاشٍ يمين المؤتلى ... خضمة الذراع هذا المختلى
وقوله وإن نحن نازلناهم فالنزال يأتون به ويركبونه في المضايق حيث لا يتسع المجال للخيل، وإذا كان كذلك فالبيت الأول من صفة الفرسان، والثاني من نعت الرجالة. وقوله ردوا في سرابيل الحديد كما نردى، الرديان في الأصل عدو الحمار بين آريه ومتمعكه، ولم يقصد تفضيلاً لأحد الفريقين على الآخر إما لقصده إلى الإنصاف في اقتصاص ما يجري من الأحوال، وإما لأن الفرقتين كانتا من أصلٍ واحدٍ جعلهما على سواءٍ من البلاء.
كفى حزناً ألا أزال أرى القنا ... يمج نجيعاً من ذراعي ومن عضدي
لك أن ترفع أزال على أن يكون أن مخففةً من الثقيلة، والمراد أني لا أزال. ولك أن تنصبه على أن يكون أن هي الناصبة للفعل. وموضع أن لا أزال على الوجهين جميعاً رفعٌ بكفى. وحزناً انتصب على التمييز. والمعنى: كفى من حزنٍ أنى لا أزال أرى الرماح تصب دماً من ذراعي ومن عضدي، أي من قومٍ بهم أبطش وأعتز، فهم مني بمنزلة الذراع والعضد. وهذا في الاستعارة لمن يقوى به الرجل ويعتضد أبلغ وأشبغ وإن تشاوت الطريقتان - من قول الآخر:
فإن أك قد بردت بهم غليلي ... فلم أقطع بهم إلا بناني
وقد قيل " أخ الرجل عضده ". والمج: إخراج الماء من الفم، وتوسعوا فقالوا للمطر: هو مجاج السحاب. والنجيع: دم الجوف. ويقال تنجع الرجل، إذا تلطخ به.
لعمري لئن رمت الخروج عليهم ... بقيسٍ على قيسٍ وعوف على سعدٍ
وضيعت عمراً والرباب ودارماً ... وعدوان ودٍ كيف أصبر عن ود(1/521)
لكنت كمهر بق الذي في سقائه ... لرقراق آلٍ فوق رابيةٍ صلد
نبه بهذا الكلام على قرب القرابة بينهم، وتأكد الالتحام فيهم، وأن تمازج الأنساب، وتواشج الأسباب، يوجبان أن طوائف هؤلاء الجموع كطوائف تلك، فإن أخذ يطلب الخروج عليهم، والنكاية فيهم، احتاج أن يخرج بقيسٍ على قيس، وبسعدٍ على سعد، لأن عوفاً هو ابن سعد. واحتاج أن يراغم عمراً والرباب ودارماً ووداً، وأن يضيع حظوظهم وحقوقهم، وبفيت نفسه وذويه مأمول الخير من جهتهم، والتكثر والتعزز بمكانهم، وذلك أيسر نتائج التقاطع والتدابر، والتنازع والتنابذ، والتجاذب والتحارب؛ هذا إلى ما فيه من مجانبة الرشاد، والتباعد في طرق الضلال والفساد. وقوله كيف أصبر عن ود هو الذي يسميه النقاد والبصراء بصنة الشعر وتمييز البديع فيه الالتفات. كأنه لما ذكر وداص والخلاف عليه، ونفض اليد مما يجمعه وإياه، وكشف الرأس بالمعاداة معه، رق للرحم قلبه، وضاق بالحال المتصورة صدره، والتفت إلى من بحضرته فقال: كيف يكون صبري عن مثله. ثم أخذ يمثل نفسه فيما يأتيه، ويصور نفسه إن أخذ فيه، فقال: لعمري إن صورتي إذا ركبت هذه الخطة معهم، ومثلي فيما أختاره من مفاسدة الأقارب مع هذا التحقق والتداني، والاستنامة إلى آمالٍ متخليةٍ في الأجانب، مثل رجل قد أعد ماء فمه لوقت حاجته، وهو في مفازةٍ متنائية الأرجاء، فترقرق له السراب من مكان يتوصل إليه بمشقةٍ تتكلف، وزيادة تعبٍ تتجشم، فصب ما قد استصحبه من الماء، وتيقن النجاة به، اغتراراً بما تراءى له وتظناه، وهو لا يدري هل يقدر على الوصول إليه، وإذا جاءه هل يجد له حقيقة أو لا. وقد ضرب الله المثل بالسراب لأعمال الكفار واغترارهم بها فقال: " كسرابٍ بقيعةٍ يحسبه الظمآن ماءً حتى إذا جاءه لم يجده شيئاً ". والرابية: المكان المرتفع. والصلد: الصلب الذي لا ينبت شيئاً. والرقراق: ما ترقرق فيما يتخيل للعين ولمع، ويوصف به الدمع والماء والجارية الرائقة. يدل على ذلك قوله:
رقاق لا زرق العيون ولا رمدا
ولامرئ القيس يصف الدمع:
أو الدر رقراقه المنحدر(1/522)
وقوله لكنت كمهريق الذي جواب القسم، وبعضهم رواه: فكنت كمهريق وعلى هذا يكون الجواب محذوفاً. وقد حمل الكلام على المعنى لظهور المراد منه دون اللفظ، والأول أكشف.
كمرضعةٍ أولاد أخرى وضيعت ... بني بطنها هذا الضلال عن القصد
يجوز أن يكون المرضعة امرأةً فعلت ذلك فضرب المثل بهذا، ويشهد لذلك قول الآخر:
كمرضعةٍ أولاد أخرى وضيعت ... بنيها فلم ترقع بذلك مرقعا
ويقال: النعام تفعل ذلك لسوء هدايتها، فتترك الواحدة منها بيض نفسها وتسوم في المرعى، فإذا أرادت العود إليها لم تهتد، فتجثم على بيض غيرها. ويشهد لهذا الوجه قول الآخر:
فإني وتركي ندى الأكرمين ... وقدحي بكفي زنداً شحاحاً
كتاركةٍ بيضها بالقراء ... وملبسةٍ بيض أخرى جناحا
وقوله هذا الضلال عن القصد يجري مجرى قوله كيف أصبر عن ود، في أنه من باب الالتفات. ومثلهما قول جرير:
متى كان الخيام بذي طلوحٍ ... سقيت الغيث أيتها الخيام
والشاعر لم يقنعه التشبيه الأول ولم يكتف به، لأن الثاني أدل على الحال فيما يروم تصويره، وأشبه بقصته إذا فعل فعلته. والقصد: الطريق المستقيم، وهو المقصود.
فأوصيكما يا ابنى نزار فتابعا ... وصية مفضى النصح والصدق والود
فلا تعلمن الحرب في الهام هامتي ... ولا ترامياً بالنبل ويحكما بعدي(1/523)
جعل وصاتة شاملةً لقبائل ربيعة ومضر، وهما ابنا نزار بن معدٍ، فيقول: أبذل نصحي لكم، وأبسط وصيتي إياكم فيكم، فتابعوها واعملوا بحسبها، فإنها ممحوضةٌ لكم عن قلب رجلٍ سليم الغيب، نقي الجيب، صائب الرأي، صادق الود. وقوله مفضى النصح أي واصل نصحه إليكم، وصائر في فضاءٍ وسعةٍ. والمعنى انكشافه وخلوصه. وفي القرآن: وقد أفضى بعضكم إلى بعضٍ. وقوله فلا تعلمن الحرب في الهام هامتي هذا صريح الوصية التي دعا إليها، وسامهم ارتسامها وحفظها. وجعل النهي لهامته، والمخاطبون هم المنهيون، فهو كقولك: لا أرينك ها هنا، والمراد: لا تكن ها هنا فأراك. وتحقيق قوله فلا تعلمن الحرب في الهام هامتي: لا تتحاربوا بعدي فتعلم هامتي بين الهام الحرب بينكم، أي عليكم بالتواصل والتعاضد، وإياكم والتقاطع والتدابر، فإن ذلك يؤدي ضعفكم، واجتراء الخصم عليكم، إن لم يؤد إلى التفاني والتهالك. وكانت العرب تقول: إن عظام الموتى تصير هاماً فتطير وتتنسم أخبار الأحياء. وقوله ولا تراميا بالنبل ويحكما بعدي، يقول: دعوا التفاخر والتنافر، والتجاذب والتحارب، فإن ذلك من آكد أسباب التلاقي والتهاجر. وهم يجعلون المناضلة مثلاً للمفاخرة، على هذا قول لبيد:
فانتضلنا وابن سلمى قاعدٌ ... كعتيق الطير يغضى ويجل
ثم قال:
فرميت القوم رشقاً صائباً ... ليس بالعصل ولا بالمفتعل
أما ترهبان النار في ابنى أبيكما ... ولا ترجوان الله في جنة الخلد
فما ترب أثري لو جمعت ترابها ... بأكثر من ابنى نزارٍ على العد
هما كنفا الأرض اللذالو تزعزعا ... تزعزع ما بين الجنوب إلى السد
ذكرهم بما في صلة الرحم من الأجر، وبما في قطيعته من الإثم، فأخذ يرغبهم ويحذرهم، فيقول: أما تخافون أن يحق عليكم العذاب إذا استهنتم بالوعيد الوارد في القطيعة واستعمال البغي، وتعرضتم لسخط الله عز وجل في تجاوز مأموره، وأما ترجون أن يحل الثواب الكريم في الصلة واستعطاف أولى المحارم والقربة، إذا رعيتم(1/524)
أمره، والتزمتم حتمه، واستنجزتم موعده. وإنما أخرج الخطاب بلفظ التثنية، وإن كان الوعظ متوجهاً إلى جميعهم، لأنه قال فأوصيكما يا ابنى نزارٍ.
وقوله فما ترب أثري أثري والثرى يجعلان اسمين للأرض، إلا أن أثري جعل كالعلم لها، ولذلك لم يصرف. والثرى: النتدى. وفي المثل التقى الثريان. وفسر قوله وما تحت الثرى على ما تحت الأرض. ويقال: ثرى ثريٌ، فيراد به التراب الندي. وفي الاستكثار قيل: هم أكثر من الثرى. والشاعر وصف ابنى نزارٍ بالكثرة، لأن فيها العز والغلبة، ثم لم يرض بذلك حتى قال هما كنفا الأرض. ومعنى لو جمعت ترابها لو أحطت علماً به وضبطته. ومعنى بأكثر من ابنى نزارٍ على العد بأكثر منهما معدودين؛ فموضع على العد موضع الحال. وقطع همزة ابنى نزارٍ ضرورةً، كما قال الآخر:
إذا جلوز الاثنين سرً فإنه ... بنث وإكثار الوشاة قمين
ويركبون هذه الضرورة في الأكثر الأعم إذا كانت الألف في اسمٍ، وذلك أن ألفات الوصل بابها الأفعال دون الأسماء حتى يمكن حصرها إذا لم تكن في مصدرٍ، فإذا كان كذلك فالمعتاد في ألفات الأسماء القطع، فعلى ذلك يستحسن قطعها فيها، وإن كانت في الوصل للضرورة.
وقوله هما كنفا الأرض فالكنف: الجانب والناحية. ومنه تكنفه بنو فلانٍ. والمعنى أنهم محدقون بالأرض. وقوله اللذا لو تزعزعا حذف النون استطالةً للاسم بصلته. وعلى هذا قوله:
أبنى كليبٍ إن عمي اللذا ... قتلا الملوك وفككا الأغلالا
والزعزعة: التحريك، ومنها ريحٌ زعزاعٌ. وقوله ما بين الجنوب إلى السد يريد ما بين مهب الجنوب إلى سد يأجوج. ويقال سدٌ وسدٌ لغتان، وقيل السد ما يفعله الآداميون، والسد بالضم ما لا صنع للآدمي فيه. ومراد الشاعر أن مساك الأرض وجوانبها بابنى نزارٍ، فإن تزعزعا تزلزلت الأرض. وهذا الكلام نهاية في بابه.(1/525)
وإني وإن عاديتهم وجفوتهم ... لتألم مما عض أكبادهم كبدي
لأن أبي عند الحفاظ أبوهم ... وخالهم خالي وجدهم جدي
يقول: أنا وإن كنت متنكراً لهم مستجفياً، وجافياً معهم معادياً، ومتحاملاً عليهم مناصباً، فللعلائق الجامعة بيني وبينهم، والأواصر العاطفة ضميري عليهم، ولأني أرى أطرافي من السبب والنسب تظأرنى وتأبى إلا التحنن لهم، وتضمني فتمنع من الانحراف عنهم - يسوؤني ما يسوؤهم، وأشتكي لشكواهم، وأتألم مما ينالهم، وبحسب ذلك أختار لهم ما أختاره لنفسي، وأريد بهم ما أريد بمن لا يتميز عني، فذلك هو الذي يدعوني إلى استصلاحهم، والوصاة بما يؤدى إلى مصالحتهم، فعل الأمس سهمةً، والأخص نسبةً. وكيف لا أكون كذلك، وإذا حفظنا الحقوق، وراعينا الوسائل والحظوظ تناسقت الأبوة بيننا والأمومة، وتلاحظت البنوة والأخوة.
وقالت عاتكة بنت عبد المطلب
سائل بنا في قومنا ... وليكف من شرٍ سماعه
قيساً وما جمعوا لنا ... في مجمعٍ باقٍ شناعه
هذه الأبيات تناسب ما قبلها وتؤدي إلى مثل مؤداها، لذلك قالت سائل بنا في قومنا لأن ما تألمت منه كان في عشيرتها وذويها، وكأن الخطب كان عظيماً، والشر كان مستفحلاً شديداً، فأخذت تبعث على التسآل عنهم في قومهم، إذ كان البلاء لم يعدهم. ويجوز أن يريد: سائل بنا وعن حالنا فيما بين قومنا، كأنه يدعى أن لهم شأناً في قومهم ليس لغيرهم. وقولها وليكف من شر سماعه توجعٌ مما نالهم، واستفظاعٌ لما أجروا إليه فيما أداروا أنفسهم عليه. وظاهر لفظ الأمر للسماع، وهو في الحقيقة للمخاطب، لأن المراد: واكتف إذا سألت من الشر بالسماع دون العيان، فهو في باب الأمر - أعني ليكف - كقولهم في باب النهي: لا أرينك ها هنا، إذ كان المراد: لا تكن ها هنا فأراك. فإن قيل: لم نكر قوله من شرٍ، والذي يومي إليه يجب أن يكون معروفاً مشهوراً؟ قلت: إن فائدة المنكر مثل فائدة المعرف في مثل هذا المكان، ألا(1/526)
ترى أنك تقول: فلانٌ يلبس خزاً وقزاً، والخز والقز، فلا يختلف المفهوم منهما؟ وقوله قيساً وما جمعوا لنا انتصب قيساً على إضمار فعلٍ، كأنه قال: سائل قيساً والجيش الذي جمعوه لنا في محفل أخباره تتحمل وتنشر على مر الأحقاب والأيام، وشناعته تستفظع وتذكر في المشاهد والأقوام. والشنع والشناعة والشناع والشنوع: قبح الشيء الذي يطير خبره ويعلو. ومنه شنع النجم، إذا ارتفع في السماء والشناع: الناقة الخفيفة. وتشنعت: تشمرت في السير وجدت. وإنما قالت وما جمعوا لنا لأنها أشارت بما إلى الجنس. ويجوز أن تريد: والذي جمعوا من أنواع الملامات والجرائم. وإذا فسدت ذات البين من قومٍ أخذوا يتجرمون ويعددون ما لا يكون جنايةً جناية.
فيه السنور والقنا ... والكبش ملتمعاً قناعه
أشار بقوله فيه السنور إلى ما اشتمل عليه ذلك المشهد من العدد والعدة. وموضع فيه السنور من الإعراب جرٌ على أنه صفةٌ لمجمع. والمراد بالسنور والقنا والكبش أجناسها. والسنور: الدرع، وقيل هو جماعة الأسلحة والكبش: الرئيس. ومعنى ملتمعاً قناعه بارقاً، أي عليهم البيض. وانتصب ملتمعاً على الحال. ويجوز أن ينوى الاستئناف بقوله والكبش، وحينئذ يروى ملتمعٌ بالرفع، فيكون خبراً عنه، وموضع الجملة يكون نصباً على الحال، وقد سميت البيضة يلمعاً لبريقه، كما سمى السراب يلمعاً. وفي المثل السائر أكذب من يلمع.
بعكاظ يعشى الناظرين إذا هم لمحوا شعاعه
فيه قتلنا مالكاً ... قسراً وأسلمه رعاعه
ومجدلاً غادرنه ... بالقاع تنهسه ضباعه
قوله بعكاظ الباء منه تعلق بقوله في مجمعٍ، ويجوز أن يتعلق بملتمعاً. وشعاعه يرتفع بيعشى، والضمير منه يجوز أن يعود إلى عكاظ لكون الشعاع به، ويجوز أن يعود إلى القناع لأن اللمعان له. ويقال أشعت الشمس، أي انتشر شعاعها. ويقال لمحه ببصره ولمح البصر، ولمح البرق، وبرقٌ لماحٌ. وقولها فيه قتلنا مالكاً الضمير يعود إلى المجمع، ويجوز أن يعود إلى عكاظ. ومعنى قتلناه(1/527)
قسراً، أي قصداً، لا اتفقاً. والقسر: القهر على كرهٍ. ويقال قسرته واقتسرته. وقولها وأسلمه رعاعه، إشارةٌ إلى لفائف انضموا إليه فخذلوه ولم يفوا له. والرعاع: سفلة الناس وسقاطهم. وقال الخليل: الرعاعة: الرجل الذي لا فؤاد له، ومنه رعاع الناس. ومجدلاً انتصب بفعلٍ ما بعده تفسيره، كأنه قال: وغادرن مجدلاً غادرنه. والضمير في الفعل للخيل. والمجدل: المصروع على الجدالة، وهي الأرض. والقاع: المستوى من الأرض. وموضع تنهسه نصب على الحال، والعامل فيه غادرن. والنهس: أخذ الشيء بمقدم فيك. ويروى: تنهشه بالشين معجمةً. وكان الأصمعي يقول: النهس والنهش سواءٌ، وهو أخذ اللحم بالفم. وخالفه أبو زيدٍ فقال: النهس بالسين أخذك الشيء بمقدم فمك. والضمير في قوله ضباعه يعود إلى القاع.
وقال عبد القيس بن خفاف
أحد بني حنظلة بن مالك، البرجمي:
صحوت وزايلني باطلي ... لعمر أبيك زيالاً طويلاً
يقول: وبقاء أبيك لقد أفقت من سكر البطالة، وفارقني ما كنت أتعاطاه من الصبا والجهالة، فراقاً ممتداً لا ينقطع بمعاودةٍ تعرض دونه، أو بمواصلةٍ تبطله وتزيله. فإن قيل: كيف وصف الزيال بالطول؟ قلت: الطول في الحقيقة لوقت الزيال لا له، لكنه وصفه بع على طريق التوسع. وهم يستعملون الطول والعرض على ضربين: أحدهما في المجسمات، وذلك وصفٌ لذهابها في الجهتين. والثاني أن يراد بهما الاتساع للشيء، أو امتداد الوقت به. وهذا الوجه قد يستعمل في المجسم وغير المجسم. وأكثر ما يستعمل منه العرض من دون الطول. على هذا قولهم: نعمةٌ عريضةٌ وجاهٌ عريض. وقال الله تعالى: " وجنةٍ عرضها السموات والأرض " وقال: " فذو دعاءٍ عريضٍ ". وريما جمعوا بينهما فقد قالوا: عشنا زمناً طويلاً عريضاً. والدهر العريض الطويل، يراد به الكمال(1/528)
والاتساع، وقد قال كثير:
بطاحي له نسبٌ مصفىً ... وأخلاقٌ لها عرضٌ وطول
فهذا على التشبيه بالمجسمات، والقصد إلى السعة، لأن الأخلاق توصف بالسعة والضيق. وقد عيب على أبي تمامٍ قوله:
بيومٍ كطول الدهر في عرض مثله
وقيل جعل للزمان عرضاً مع أنه لا حاجة به إليه، إذ كان بذكر الطول قد استوفى المعنى المقصود. وهذا من قائله ظلمٌ صريحٌ لأنه سلك مثل طريقة كثيرٍ من التشبيه بالمجسم، فكما قال في الأخلاق لها عرضٌ وطولٌ، كذلك قال في الزمان له طول كذا فيعرض مثله، ولا فصل. وقوله وزايلني باطلي قال سيبويه: يقال زايلت بمعنى بارحت، ومنه قولهم ما زال يفعل كذا، لأن معناه ما برح، ويقال زال الشيء من الشيء بزيله زيلاً، إذا مازه منه، وزال الشيء يزول زوالاً، إذا فارق. وجواب القسم مقدمٌ عليه.
وأصبحت لا نزقاً للحاء ... ولا للحوم صديقي أكولا
ولا سابقي كاشحٌ نازحٌ ... بذحلٍ إذا ما طلبت الذحولا
أجرى أصبحت مجرى صرت. والبزق: الطياش الخفيف العقل. ويقال نزق ينزق نزقاً، ومنه نزقت الفرس، إذا ضربته حتى ينزق واللحاء: المشاتمة. يقول: استبدلت من الخفة وقاراً؛ ومن العجلة أناة وسكوناً، فلا يستخفني النزق لملاحاة الرجال، وثلب أعراض الأصدقاء بالاغتياب. ويقال للمغتاب: هو أكولٌ للحوم الناس، كالسبع الضاري. وللنمام: هو أضرب من مشي بشفةٍ، من قوله عز وجل: " مشاء بنميمٍ ". وفي القرآن: " أيحب أحدكم أن يأكل لحم أخيه ميتاً ". وقوله صديقي أراد به الكثرة لا الواحد.
وقوله ولا سابقى كاشحٌ نازحٌ فالكاشح: العدو الباطن العداوة. والنازح: البعيد الدار أو النسب. وفي البيت يحتمل الوجهين. يقول: إذا سعيت في طلب(1/529)
إصابة الأوتار، لم يفتني العدو البعيد الدار، لأن المسافات لا تمنعني عن الطلب وإن شقت وثقلت.
وأصبحت أعددت للنائبات ... عرضاً برئياً وعضباً صقيلا
ووقع لسانٍ كحد السنان ... ورمحاً طويل القناة عسولا
يقولك وصرت كما استنكفت من مساوي الأخلق، وأخذت أنعطف على مكارمها، أعددت أيضاً لحوادث الدهر نفساً نقيةً من الدنيات، رافضة للمنكرات، وسيفاً قاطعاً مصقولاً. كأنه في وقت مساعدة الأحوال له وإقبال الزمان عليه، يعلم أن المقدور كما يعطى يرتجع، فيسعى فيما تسلم معه النفس وبطيب به النشر. وإنما قرن بذكر العرض المعد أسلحته ليرى اكتفاءه بها إذا نابت النائبات، كما قال غيره:
فلما نأت عنا العشيرة كلها ... أنخنا فحالفنا السيوف على الدهر
فما أسلمتنا عند يوم كريهةٍ ... ولا نحن أغضينا الجفون على وتر
وقوله ووقع لسانٍ يجوز أن يكون من وقعت الحديدة بالمطرقة، إذا ضربتها؛ ومنه حافرٌ وقيعٌ، إذا أثرت فيه الحجارة. ويجوز أن يكون من وقعت بهم وأوقعت؛ ومنه وقعات الدهر ووقائعه. يقول: وأعددت لها لساناً مؤثراً تأثيراً شديداً، إذا اغترز في ركاب القول نافذاً حديداً، نفاذ السنان. وهذا كما قال:
ولساناً صيرفياً صارماً ... كحسام السيف ما مس قطع
وقد قيل: " المرء بأصغريه قلبه ولسانه ". وإذا تنقت الأعراض طالت الألسنة. وكانت الشعراء والخطباء عدةً للقبائل كالرجال والأموال، بل كان الانتفاع بمكانهم، والدفاع بألسنتهم أتم وأكمل. وقوله ورمحاً أي وأعددت رمحاً، وجعله طويل الخشبة لأن مستعمله طويلاً أفرس. والعسول: الشديد الاهتزاز؛ ومنه عسلان الذئب، وقولهم: عسل الدليل في الطريق.(1/530)
وسابغةً من جياد الدروع ... تسمع للسيف فيها صليلا
كمتن الغدير زهته الدبور ... يجر المدجج منها فضولا
يقول: وأعددت لها أيضاً درعاً واسعةً من خير أجناسها، ينبو عنها السيف فلا يعمل فيها، لاستحكامها وجودة سردها، إلا ما تسمع من صليلها عند إصابتها به، صافيةً كأنها صفحة الماء من غديرٍ هبت عليه ريح الدبور، فحركته واستخفته، فصار على ظواهره حبابٌ يتدافع. وإذا لبسها المتدجج في السلاح، المستعد للكفاح، فضل عنه منها فواضل يجررها. وهذا كما قال الآخر:
تغشي بنان المرء والكف والقدم
والقصد في هذا إلى صفة الدرع وجودتها. ولو قصد مدح لابسها لكان يجعلها صداراً أو بدنة. على أن كثيراً لما أنشد عبد الملك قوله فيه:
على ابن أبي العاصي دلاصٌ حصينةٌ ... أجاد المسدي سردها وأذالها
قال له: قول الأعشى لقيس بن معد يكرب أحسن من قولك:
وإذا تجيء كتيبةٌ ملمومةٌ ... خرساء يخشى الذائدون نهالها
كنت المقدم غير لابس جنةٍ ... بالسيف تضرب معلماً أبطالها
فقال كثير: يا أمير المؤمنين وصفتك بالحزم، ووصف الأعشى صاحبه بالخرق.
ولقائلٍ أن يقول: إن المبالغة في الشعر أحسن من الاقتصاد، والأعشى أعطى المبالغة حقها، فهو أعذر، وطريقته أسلم.
؟ وقالت امرأةٌ من بني عامرٍ:
وحربٍ يضج القوم من نفيانها ... ضجيج الجمال الجلة الدبرات
انعطف قوله وحربٍ على مجرورٍ تقدمه، وليس على إضمار رب، بدلالة قولها سيتركها قومٌ. كأنه غلب على ظنها لما رأت من أمارات الشر بين قومها(1/531)
باستعمالهم البغي، واستيطائهم الظلم، واستبدالهم بالتحاب تباغضاً وبالتعاطف تدابراً، وبالتناصر تخاذلا، وهم من جرثومةٍ واحدةٍ، أنه سيحدث في مؤتنف الأحوال منهم أحداثٌ، وتظهر على مرور الأيام لدواعي الهلك آياتٌ من كذا وكذا، وحربٍ يتشاكون من اشتمالها لهم، وتناولها بالمشاركة من عداهم معهم، وتجاوز القرباء بعد ذلك إلى البعداء فيهم. وهذا المعنى اقتضاه قوله من نفيانها لأن أصله أن يستعمل فيما يتطاير من القطر عند سيلان الماء من أعلى إلى أسفل في جوانب المصب، فشبه ما يتدافع وينتشر من أذى الحرب في جوانب القوم به. والجلة: المسان من الإبل. وتعني التي مع السن أضربها الكد، وجهدها الاستعمال، وأزمنها الدبر، فقالت: تضج العشيرة لما يقاسونه من هذا الحرب ضجيج تلك الإبل عند ما تقاسي من العمل. وهذا التشبيه الصائب المتناهى في الدلالة على حالة المشبه. وقد قال الراجز في هذه الطريقة يصف حرباً:
وأغشت الناس الضجاج الأضججا ... وصاح خاشي شرها وهجهجا
سيتركها قومٌ ويصلى بحرها ... بنو نسوةٍ للثكل مصطبرات
نبهت بهذا إلى استفحال الحرب التي توعدت بها وتفاقم الخطب، فقالت: تضجر بها فرقةٌ منهم فينفضون الأيدي منها تفادياً من ملابستها، ويعتزلون عنها طلباً للسلامة من عقباها، وحذراً من امتدادها إلى غاية لا تملك فيها الاستقالة منها؛ ويصبر فيها أخرى، وهم المنهمكون في إيقاد نارها، والاصطلاء بحرها، للعنون في إثارة كامنها، وإذاعة واقفها، الذين لا يبالون بما يفعلونه أو يفعل بهم، وقد تعود الثكل أمهاتهم فلا يجز عن لقتلهم، وألف الأيمة نساؤهم فلا يحزن لموتهم. ومعنى للثكل أي من أجله، وهذه اللام في هذا الموضع قد تؤدي معنى على، فاعلمه.
فإن يك ظني صادقاً وهو صادقي ... بكم وبأحلامٍ لكم صفرات
تعد فيكم جزر الجزور رماحنا ... ويمسكن بالأكباد منكسرات
قولها فإن يك ظني صادقاً يجري منها مجرى التحذير والوعيد، وفيه بعض الاستفاءة، لأنها إذا رهبت من القطيعة وآفاتها، فقد رغبت في الصلة وآياتها. وقد(1/532)
تقدم القول في صادقاً وصادقي، وفي حذف النون من يك في الجزم مشروحا. وقولها وبأحلام لكم صفرات، أي لا خير فيها، وقد زالت المسكة عنها. ويقال صفر الإناء وغيره صفوراً، وإناءٌ صِفرٌ وصَفرٌ. وقال الخليل: هو صفرٌ صحرٌ على الإتباع، أي خالٍ. وقولها تعد فيكم جزر الجزور جواب الجزاء من قولها، فإن يك ظني صادقاً، كأنها ذكرتهم حالة منكرة تقدمت لهم، فلذلك قالت: تعد فيكم. والجزر: القطع. وقيل الجزور لأنها تقطع وتقسم. والجزرة: الشاة تذبح. ويقال. ترك بنو فلانٍ جزر الرماح، أي قتلوا واجتزرتهم السباع. وجعل الإعادة للرماح على الاتساع. وقوله ويمسكن بالأكباد يروى بفتح السين، أي يضبطن؛ ويروى بكسر السين: وهو ظاهر المعنى. وانتصب منكسرات على الحال والمراد أنهم يجرون الرمح عند الطعن ويصيبون المقاتل.
؟
وقال معبد بن علقمة
غيبت عن قتل الحتات وليتني ... شهدت حتاتاً يوم ضرج بالدم
وفي الكف مني صارمٌ ذو حقيقةٍ ... متى ما يقدم في الضريبة يقدم
فيعلم حيا مالكٍ ولفيفها ... بأن لست عن قتل الحتات بمحرم
إنما قال هذا لأنه كان يستبعد وقوع قتله من جهته، إذ كان منه ذا رحمٍ محرم. فجمع في كلامه هذا بين تلهفٍ على فائتةٍ، وتمن على شرط عقده به له، فيقول: أخرت عن قتل هذا الرجل يوم أصيب ولطخ بالدم، فذهبت نفسه فيه وتغيبت، وكنت أود وأتمنى أن أكون حاضره، ومشاهداً وقته وحينه، ومعي سيفٌ قاطع ينفذ في الضريبة إذا أعمل بحقه من المضاء وحقيقته، ويأتي على المضروب بحده وصرامته، فيتيقن الجيشان ومن لف لفهم وانضاف إليهم من أوباشٍ تجمعوا لهم، وقماش تكثروا بهم، بأني لست عن قتل هذا الرجل بذاهب ولا ممتنع حتى كأني في حرمٍ. وقوله يوم ضرج فهو من الضرج، وهو الحمرة. والإضريج: ضربٌ من الخز أحمر. ويقال: ضرجت الثوب، إذا صبغته بالحمرة خاصةً، وتضرج الخد عند الخجل. وقوله(1/533)
ذو حقيقةٍ فالحقيقة ما يصير إليه حق الأمر ووجوبه، وتوسعوا فقيل: حاققت الرجل، إذا جاذبته حقاً بينكما. ويقال هو نزق الحقاق، إذا جاذب في صغار الأمور. وقوله بمحرم يقال: أحرم الرجل، إذا دخل في الحرم، أو في الشهر الحرام. وفسر قول الراعي:
قتلوا ابن عفان الخليفة محرماً
على أنه كان له حرمة الإمامة والبلد والشهر، لأنه قتل رضي الله عنه في ذي الحجة. وانتصب فيعلم على أنه جواب التمني.
فقل لزهيرٍ إن شتمت سراتنا ... فلسنا بشتامين للمتشتم
ولكننا نأبى الظلام ونعتصي ... بكل رقيق الشفرتين مصمم
يقول: أبلغ هذا الرجل أنك إن اعتمدت على ركوب السفه معنا، وتعمدت في مجاذبتنا سب خيارنا، وثلب أعراضنا، فإنا نربأ بأنفسنا عن مجاراتك في هذا الميدان، ومكايلتك بمكيال السباب. والمتشتم: المتحكك بالشتم والمتعرض له. ويصلح أن يكون للجنس فيدخل فيه زهيرٌ وغيره، ويصلح أن يراد به زهيرٌ خاصةً. وقوله ولكننا نأبى الظلام يريد: لا نرضى بالدنيات، ونمتنع من التزام الظلامات، وندافع عن أحسابنا بكل سيفٍ رقيق الحدين، نافذٍ في الضريبة. والظلام والظلامة والمظلمة واحد، وهو ما تظلم الناس بسببها بينهم. ويروى: الظلام بكسر الظاء، مصدر ظالمته مظالمةً وظلاماً. وقوله ونعتصي يقال عصيت بالسيف، واعتصيت وعصوت بالعصا. ومر يعتصي على العصا، أي يتوكأ عليها. والتصميم: المضي في الأمر. ويقال صمم في عضته، إذا نيب.
وتجهل أيدينا ويحلم رأبنا ... ونشتم بالأفعال لا بالتكلم
؟ وإن التمادي في الذي كان بيننا بكفيك فاستأخر له أو تقدم أفعال جملة الإنسان تنسب إلى جوارحهم على المجاز والسعة، فلذلك نسب الجهل إلى الأيدي. والمعنى أن ما يذم من أفعال القلوب لا نكتسبه بوجهٍ، بل فينا الرأي الثاقب، والوقار الغالب، والأناة والحلم، والسكينة والعلم؛ فأما اليد فإذا بطشنا(1/534)
بها بطشنا جبارين. أي نحلم بجهدنا ومقدار طاقتنا فإذا أحرجنا فخرجنا عن العادة كانت أفعال أيدينا أفعال الجهال الذين لا رعة تردعهم، ولا رقة تضبطهم. وقوله ونشتم بالأفعال، يقول: نجعل جزاء الشتم والمنقصة والثلب الفعل لا القول، إذ كان القول يذهب أدراج الرياح، والفعل يبقى أثره على مر الأيام. وقوله إن التمادي في الذي كان بيننا بكفيك توعدٌ. يقول: أمر اللجاج والاستمرار فيما يزيد ما بيننا فساداً أنت قادرٌ عليه، ومتمكنٌ من اختياره، فإن شئت فتقدم فيه، وإن شئت فتأخر عنه. ويقال استأخر واستقدم وتأخر، بمعنىً واحدٍ.
؟؟
وقال أمية بن أبي الصلت
غذوتك مولوداً وعلتك يافعاً ... تعل بما أدني إليك وتنهل
إذ اليلةٌ نابتك بالشكو لم أبت ... لشكوك إلا ساهراً أتململ
كأني أنا المطروق دونك بالذي ... طرقت به دوني وعيني تهمل
اعتد عليه بما تجشمه فيه بعد أن كان السبب في إبدائه وإنشائه، وبما أعد له وتكفل به، من ابتداء الطفولة إلى انتهاء الشباب واستكمال القوة، إذ كان جارحه ومربيه، والقائم بمؤنه على اختلاف سنيه. ويقال غذوتك غذواً. والغذاء: الطعام والشراب. ويقال غلامٌ يافعٌ ويفاعٌ ويفعٌ، وقد أيفع وأصله الارتفاع، ومنه اليفاع من الأرض والجبل. وقوله علتك أي أنفت عليك. يقول: ربيتك لما ولدت، ومنتك حين أيفعت، وفي تلك المدة تسقى العلل والنهل، وتطعم الحار والبارد، وتكسى اللين والخشن، كل ذلك مما أجمعه لك، وأدنيه منك، وبعد أن أقيك من المحاذر، وأحفظك دون المتالف، شفقةً عليك، واهتماما بشأنك، فإن طرقتك ليلةٌ بشكاةٍ تؤذيك، أو عارضٍ يضنيك، سهرت طول تلك الليلة لا أهدأ قلقا، ولا أستنهض لدفع ما أجده سكناً، ولا أستلين مهاداً، ولا أثني لمقر رأسي وساداً، بل أتلوى وأضطرب، وأتململ على فراشي وأتقلب، حتى كأني المختص بما أشكاك، والمدهي بما دهاك، لا يحف مدمعي، ولا يوطؤ مضجعي. وقوله تعل بما أدني يجوز أن(1/535)
يكون موضع تعل صفةً لقوله يافعاً، أي معلولاً؛ ويجوز أن يكون خبر مبتدأ محذوف كأنه قال: وأنت تعل وتهل بما أدنيه. وقوله لم أبت لشكوك فالشكو والشكوى والشكاة واحدٌ. والتململ: القلق وترك الهدو. ويروى تعل بما أجني عليك والمعنى أجني لك. وهذا كما يقال: سعى فلانٌ على ذويه، إذا سعى لهم في مصالحهم: ويقال جنى الثمر يجني جنياً وجنايةً. قال الأخطل:
داني الجناية مونع الأثمار
فلما بلغت السن والغاية التي ... إليها مدى ما كنت فيك أومل
جعلت جزائي منك جبهاً وغلظةً ... كأنك أنت المنعم المتفضل
يقول: فلما تكامل منك الشباب، وتعلقت بك الآمال، وبلغت المدى المنتظر للانتفاع بك، والاستظهار بمكانك، والاضطلاع بكفايتك، وصلحت لأن تكون عدةً وعدداً، وبأساً مخوفاً، وطمعاً مرجواً، أقبلت تجازبني بإحساني إساءةً، ومما استلنت من جانبي غلظةً، ومما ترفرف عليك من رحمتي ورقتي نبواً وقسوةً، حتى كأن ما سال عليك من نعمتي كان لك، وما أسبل عليك من فضلي وإفضالي كان منك؛ لا مراجعة في الأول تردك، ولا ملاحظة لعقباك تفيء بك.
والجبه: مقابلة الإنسان بما يكرهه.
فليتك إذ لم ترع حق أبوتي ... فعلت كما الجار المجاور يفعل
تراه معداً للخلاف كأنها ... بردٍ على أهل الصوب موكل
يقول: وددت أنك إذ لم تنلني إكبار الآباء، ولم ترع مني حقوق الولاد والإنشاء سرت معي بسيرة المجاور لجاره، والمرافق لرفيقه؛ فإن ذلك إذا عد درجات المبار، ومدت علائق التحاب، وتؤمل ذمم القرابة، وحرم الصداقة، أضعف الأواخي، وأدون المراقي. ثم أخذ ينبه على سوء اختياره، وتمادي لجاجه، وتناهي جهله والتوائه، فقال: تراه معداً للخلاف أي جعل الخلاف على ذوي الرأي وأرباب العقل، وأولي(1/536)
الحزامة والحلم، عدةً فكأنه وكل برد صوابهم. واستقباح المحسن عندهم. فإن قيل: بماذا دخل هذه الأبيات وما يتلوها - وهو في معناه - في باب الحماسة؟ قلت: دخلت فيه بالمشاكلة التي بينها وبين ما تقدمها من الأبيات، المنبئة عن المفاسدة بين العشائر، وما يتولد فيها من الإحن والضغائن، المنسية للتواشج والتناسب، المنشئة لهتك المحارم، المبيحة لسفك الدماء وقطع العصم؛ إذ كان عقوق البنين للآباء، وتناسي الحرم، فيه مثل ذلك. وهو ظاهرٌ بينٌ.
وقالت امرأةٌ من بني هزان
يقال لها أم ثواب في ابنٍ لها عقها:
ربيته وهو مثل الفرخ أعظمه ... أم الطعام ترى في جلده زغبا
حتى إذا آض كالفحال شذبه ... أباره ونفى عن متنه الكربا
أنشا يمزق أثوابي يؤدبني ... أبعد شيبي عندي تبتغي الأدبا
يقال رببته وربيته بمعنىً. ومعنى البيت: كان ابني حين ولده في ضعفه وصغره، وتساقط قوته، وتخلخل بنيته، ورخاوة مفاصله، كفرخ القطاة ولم يستبدل بعد بزغبه شكيراً، ولا بانحلال عقده تماسكاً، فأقبلت أربيه وأعظم شيءٍ فيه بطنه، وأرقيه في مدارج النشء والترشيح وهو لا يميز ما ينفعه مما يضره، متردداً في الأحوال التي تجري إليه، وتتغير عليه، بين صيانةٍ كاملةٍ، وشفقةٍ بارعةٍ، وحفظٍ متصلٍ، وإشفاقٍ مطردٍ. وتسميته البطن بأم الطعام، كما قيل للجلدة الرقيقة الملبسة الدماغ أم الدماغ، وكما سمي المجرة أم النجوم، وكل ذلك لما في المضاف والمضاف إليه من الانضمام والاحتواء. وقد سمى الشنفري تأبط شراً بأم عيالٍ، فقال:
وأم عيالٍ قد شهدت تقوتهم ... إذا أطعمتهم أوتحت وأقلت
لما كان يجمع من أمر أصحابه ويتكفل به لهم ويدبره. وقولها حتى إذا آض كالفحال حتى وضع للغاية، وأضيف إلى إذا وما بعده من الجملة التي انشرح إذا(1/537)
بها. والمعنى إلى هذا الوقت. وموضع كالفحال نصبٌ على الحال. يقول: لم أزل أجري معه في تربيته وتفقده، إلى أن استكمل شبابه، وبرع نباته، وامتد قوامه، فصار كفحل النخل وقد قطع متعهده منه شذبه، وألقى عن ظهره كربه، ليكمل طوله، ويتم غراسه. والكرب: أصول الأعذاق تترك كالأوتاد ليرتقى بها في النخل. والفحال: فحل النخل خاصةً، ولا يقال لغير فحلها فحال. والابار والمؤبر: الملقح للنخل. والفحال لا يؤبر، ولكن لما كان يؤبر به النخل أضاف الأبار إلى ضميره، على عادتهم في إضافة الشيء إلى غيره لأدنى تفلق بينهما. ألا ترى إلى قوله تعالى: " فإذا جاء أجلهم " وفي موضعٍ آخر: " فإن أجل الله ". ومعنى آض، قال الخليل: الأيض صيرورة الشيء شيئاً غيره وتحوله عن حاله. وقوله أنشا يمزق أثوابي هو جواب قوله حتى إذا آض كالفحال، وهو العامل في إذا، أعني أنشأ. ويقال أنشأ الله الخلق، ونشأ فلانٌ حديثاً، ثم يقال: أنشأ يفعل كذا ويقول كذا. يقول: لما بلغ هذا المبلغ ابتدأ يضربني ويخرق ثيابي، مرشداً ومؤدباً ثم قالت وكأنها أقبلت على إنسانٍ غيره بحضرتها تخاطبه منكرةً ومتعجبةً: أبعد المشيب يطلب تأديبي. وهذا الكلام منها كالإشارة إلى المثل المضروب السائر في الأمم: " من العناء رياضة الهرم "، وهو مع ذلك يجري مجرى الالتفات.
إني لأبصر في ترجيل لمته ... وخط لحيته في خده عجبا
قالت له عرسه يوماً لتسمعني ... مهلاً فإن لنا في أمنا أربا
ولو رأتني في نارٍ مسعرةٍ ... ثم استطاعت لزادت فوقها حطبا
قولها إني لأبصر، يقال أبصرت الشيء وبصرت به. والبصر: العين ونفاذ القلب. وحكي أن معاوية قال لابن عباسٍ وقد كف بصره: ما لكم يا بني هاشمٍ تصابون بأبصاركم إذا أسننتم؟ فقال: كما تصابون ببصائركم عنده!! والترجيل: غسل(1/538)
الشعر ومشطه. وعجبا مفعول أبصر. ويقال أمرٌ عجبٌ وعجيبٌ وعجابٌ، إذا تجاوز حد العجب. والاستعجاب: شدة التعجب. تقول: أرى بعد ما شاهدته من طفولته وضعف حراكه وتنقل الأحوال به وقتاً بعد وقت، ونشئاً بعد نشءٍ، عجباً في لمته ولحيته المختطة. أي أتعجب كيف تحول عن تلك الحالة إلى ما أجده عليه الساعة. ثم قالت حاكيةً عن زوجته ما كانت تتفوه به سمعةً ورياءً، وتقيم به سوقها حيلة ونفاقاً، إظهاراً لخلاف ما ينطوي عليه قلبها، ويشتمل عليه ضميرها: كف عن أيذاء أمنا فإنا لا نستغني عنها، ولا تتمشى أمورنا إلا بها وبحياتها. ومعنى مهلاً رفقاً لا تعجل. وأصل المَهْل والمَهَل السكينة والوقار، ومنه الإمهال في الدين. والأرب: الحاجة. ثم صرحت بما عرفته من سوء نيتها فيها، وحرصها على الزيادة في مساءتها، فقالت: تكلفت ذلك المقال منها ملقاً منها ومجاملة، ولو وجدتني في نارٍ محرقةٍ ثم قدرت لزادت في وقودها وإضرامها. ويقال. سعرت النار والشر وأسعرتهما، وإنه لمسعر حرب.
وقال ابن السلماني
لعمرك إني يوم سلعٍ للائمٌ ... لنفسي ولكن ما يرد التلوم
سلعٌ: موضعٌ أضاف اليوم إليه تعريفاً. وحكي السلع: شقٌ في الجبل، ومنه قيل: تسلعت رجله، إذا تشققت. وكأن قولهم: هادٍ مسلعٌ من هذا، أي يشق أجواز الفلاة شقاً. واللام من لعمرك لام الابتداء، وخبر المبتدأ محذوفٌ. ولا يجيء عمرو في القسم إلا مفتوح العين، وإن كان الضم لغةً فيه، ومعناه البقاء. والتلوم: تكلف اللوم، فهو كالتذمم. يقول: وبقائك إني في هذا اليوم لعاتبٌ على نفسي ومقرع لها، ولكن ماذا يغني التعتب والأمر فائتٌ. وقوله ما يرد يجوز أن يراد(1/539)
به ما يرجع، ويجوز أن يكون بمعنى ما ينفع. ويقال: هذا أرد عليك، أي أنفع. وموضع " ما " يجوز أن يكون مفعولاً، ويجوز أن يكون مبتدأً.
أأمكنت من نفسي عدوي ضلةً ... ألهفى على ما فات لو كنت أعلم
قوله أأمكنت لفظه الاستفهام، ومعناه التقريع والتوبيخ. وهذا الكلام هو صريح لومه لنفسه، فيجوز أن يكون حذف قبله لفظة قائلٍ، كأنه قال: إني لائمٌ لنفسي وقائلٌ أأمكنت. ويجوز أن يكون استأنف عذل نفسه من بعد أيضاً. وقوله ضلةً مصدر في موضع الحال، ويجوز أن يكون مفعولاً له، أي فعلت ذلك ضالاً أو لإضلالي. وأصل الضلال الذهاب عن القصد. ويقال ضللت مكاني، بكسر اللام وفتحها، إذا لم تهتد إليه وأضللت بعيرى، إذا شرد فذهب عنك. وقوله ألهفى على ما فات تحسرٌ وتأسفٌ، وهو كلامٌ مستقل بنفسه. وقوله لو كنت أعلم تندمٌ على ما قصر فيه من النظر والفحص، والكشف عن عقبي الأمر. وأعلم مفعوله محذوف، وهو بمعنى أعرف، فيكتفي بمفعول واحد، كأنه أراد: لو كنت أعلم مغيبه. وجواب لو محذوفٌ، أي لو علمت ما نتدمت ولا شقيت، وهذه اللفظة هجيري كل متوانٍ في الشيء حتى يفوته أو يكابد المكروه فيه. والبيت على ثلاثة فصولٍ، كل فصلٍ منها ينفرد بمبناه ولا يفتقر إلى سواه. فالأول قوله أأمكنت من نفسي عدوي ضلةً كأنه يستنكر ما أتفق منه ضلالاً، فأخذ يستفهم تقريعاً وعتاباً. والثاني ألهفى على ما فات، وقد تقدم القول في إعراب ألهفى. والثالث قوله لو كنت أعلم أي لو علمت لتحزمت.
لو أن صدور الأمر يبدون للفتى ... كأعقابه لم تلفه يتندم
هذا معذرةٌ فيما سها عنه ومسلاةٌ عما بلي به فتحزن له. وقوله لو أن صدور الأمر، هو حذف المضاف، والمراد: لو أن مؤديات صدور الأمر ومسبباته تظهر للفتى كما تظهر له عند أعجازه، لم تره نادماً على فائتٍ، ولا جازعاً إثر هالك. وفي طريقته قول ابن الرقيات:
في مقبل الأمر تشبيهٌ ومدبره ... كأنما فيه بالليل المصابيح
لعمري لقد كانت فجاجٌ عريضةٌ ... وليلٌ سخامي الجناحين أدهم
إذ الأرض لم تجهل علي فروجها ... وإذ لي عن دار الهوان مراغم(1/540)
هذا تذكرٌ لموارد مخلصه من الأمر الذي لز به، والبلاء الذي استأسر له، وتحسرٌ في عدوله عن مدارج الحزم فيه، وانتهاز الفرصة في الممكن منه، اغتراراً بما لم يجز السكون إليه، وانتظاراً لما لم يصلح الاعتماد عليه، حتى يتمكن طالبه من مراده فيه، وانسدت الطرقات بينه وبين ما يرومه من بعدٍ عنه، واحترازٍ منه؛ فقال متهافتاً: لعمري لقد كانت لي سبلٌ واسعةٌ يمكنني سلوكها، لا مدافع دونها ولا ممانع، وليلٌ أسود الطرفين مظلم، يسترني إذا ركبته، ويساعدني على مجانبة ما أحذره، لا مجاذب عنه ولا منازع. وكان من قوله لقد كانت فجاجٌ هو كان التامة المستغنية عن الخبر. وقوله وليلٌ سخاميٌ فالسخام: الأسود، كأنه يريد سرار الشهر؛ ومنه سخم الله وجهه، أي سوده. والسخامي المنسوب، في معناه، ومثله الدواري والدوار من قوله:
والدهر بالإنسان دواري
ويجوز أن يريد بالسخامي الجناحين، اللين وقلة الآفات في جوانبه؛ فإن السخام الريش اللين تحت الجناح، لأن قوله أدهم قد دل على الظلمة.
وقوله إذ الأرض إذ لما مضى، وقد شرح بالجملة التي أضيف إليها ومعنى لم تجهل على فروجها، أي ثغورها ومواضع المخالفة منها كانت على معالم لا مجاهل، فأدري كيف آتيها، وأنفذ في قطعها والخروج منها، لا أتهيب ولا أتحير. ويقال جهل فلانٌ على، إذا شق عليك، قال الشاعر:
جهلاً علي وجبناً عن عدوهم ... لبئست الخلتان الجهل والجبن
وقوله وإذ لي عن دار الهوان مراغم الأصل في المراغمة الهجران، يقال فلانٌ يراغم أهله أياماً ثم يرجع. وفي القرآن: " يجد في الأرض مراغماً كثيراً "، أي متسعاً لهجرته.
فلوشيت إذ بالأمر يسرٌ لقلصت ... برحلي فتلاء الذراعين عيهم
عليها دليلٌ بالبلاد نهاره ... وبالليل لا يخطي لها القصد منسم(1/541)
يخبر عن نفسه بأنه إنما أتي من تقصيره وتهاونه فيما وجب من جده وتشميره، فيقول: لو أردت حين كان الخطب أيسر، وأسباب المنع أقصر، لخفت بي وشمرت في الانتقال عن دار المذلة والهوان، ناقةٌ في ذراعيها فتلٌ. والفتل هو تباعد المرفقين عن لزور، لئلا يصر حازاً ولا ناكتاً ولا ضاغطاً. والعيهم والعيهمة: الناقة الماضية، وكذلك العيهامة؛ وقيل هي الطويلة العنق، الضخمة الرأس، وذلك محمودٌ في صفاتها. وقوله عليها دليلٌ بالبلاد فإنه يعني به نفسه. وبالبلاد أراد به في البلاد، كما يقال فلانٌ بالبصرة وفي البصرة. ويجوز أن يكون أجرى قوله " دليلٌ " مجرى عارفٍ وعالم، فلذلك أتى بالباء. وقوله وبالليل لا يخطي لها القصد منسم، أي لبصره لا يخطئ منسم بعيره فيزيغ عن القصد. وهذا وإن جعله من صفة البعير فالمراد به أنه هادٍ خريتٌ. والدليل أصله فاعل الدلالة، فهو كالدل، وقد توسع فيه. والبلد: الأرض وإن لم تختط.
وقال آخر:
أعددت بيضاء للحروب ومصقول الغرارين يفصم الحلقا
وفارجاً نبعةً وملء جفيرٍ من نصالٍ تخالها ورقا
أريحياً عضباً وذا خصلٍ ... مخلولق المتن سابحاً تئقا
يملأ عينيك بالفناء وير ... ضيك عقاباً إن شئت أو نزقا
تبجح في هذه الأبيات بهمته في جمع آلته ليوم حاجته، فأخذ يذكر الشيء بعد الشيء من عدته وعتاده، على مايسره له مر الأيام في جده وجهاده، فقال: هيأت لملاقاة الأبطال ومناوشة الرجال درعاً لم يشنها صدأ، ولم يعبها في السرد خللٌ وسيفاً مسنون الحدين، مصقول الصفحتين، يقطع البيض ويفصل الحلق. والفصم: الكسر بلا بينونة، والقصم: الكسر مع بينونة.
وقوله وفارجاً أي وأعددت فارجاً، وهو القوس المتباعدة الوتر عن الكبد، وكذلك الفرج. وقوله نبعةً أي هي قضيبٌ وليست بشقةٍ. والنبع أجود شجرٍ يتخذ(1/542)
منه القسي العربية، وجعله صفةً لأنه ضمنه معنى الصفات. وعلى هذا أسماء الأجناس، كقولك هذا خاتمٌ حديدٌ، متى وصفت بها تضمن معنى فعل. وقوله وملء جفيرٍ الملء: القدر الذي يملأ به الظرف، والملء بالفتح المصدر. والجفير: كنانة النبل إذا كانت واسعة من خشبٍ، والجفر في البئر منه. وقوله من نصالٍ أراد بها نبالاً ركبت فيها نصالٌ بيض تتلألأ فتحسب فضة.
وقوله وأريحاً عضباً يعني رجلاً يرتاح للنفاذ في الأمور الصعاب والمضاء ويهتز، والمراد به نفسه. والعضب: القاطع. وقد مر القول في تصرفه. وقوله وذا خصل يعني به فرساً له خصلٌ من الشعر مخلولق المتن، أي مصنوعاً أملس المتن شديد الملاسة، لأن مفعوعلاً من أبنية المبالغة. على هذا قولهم اعشوشبت الأرض فهي معشوشبة. والتئق: الممتلئ نشاطا. وقوله يملأ عينيك بالفناء، في طريقته قول الآخر:
يزين البيت مربوطاً ... ويشفي قرم الركب
والعقاب: جمع العقب، وهو الجري بعد الجري. وقال الخليل: إذا كان للقرس جمامٌ بعد انقطاع الجري قيل: عقابٌ. والنزق: الخفة والعجلة ويقال نزفت الفرس، إذا ضربته حتى ينزق. ومعنى يملأ عينيك، أي يشغلهما محاسنها حتى لا تتسع لغيرها.
؟
وقال قتادة بن مسلمة الحنفي
بكرت علي من السفاه تلومني ... سفهاً تعجز بعلها وتلوم
البيت على كلامين، وذلك أن المصراع الأول إخبارٌ عن زوجته بسوء عشرتها، وتوجيهها العتب عليه في غير كنهه؛ والمصراع الثاني رجوعٌ منه عليها فيما أنكرت، وردٌ للعتب إليها لما تجرمت. وقال تلومني في الصدر وفي العجز تعجز بعلها(1/543)
وهما واحدٌ، على عادتهم في تصريفهم الكلام عند الأمن من الالتباس، فيقول: ابتكرت علي تلومني وتنسبني إلى العجز، من السفاه، أي مما تصورته سفاهاً من أحوالي. ثم أخذ يجبهها ويسفه قولها وفعلها فقال: سفهاً تعجز بعلها، أي تعجيزها لي وتقريعها إياي لسفهها، وجهلها بموارد الأمور ومصادرها. والسفه والسفاه والسفاهة: الخفة والاضطراب. ويقال: تسفهت الريح الغصون، إذا حركتها. والبكور، أصلها الابتداء، ولذلك قيل لأول النهار بكرة. وتلومني في موضع الحال، والعامل فيه بكرت. وانتصب سفهاً على أنه مفعولٌ له وقد قدم. والبعل، أصله النكاح، ولذلك قيل للمرأة بعلةٌ أيضاً، وقد ابتعلت وتبعلت، أي أطاعت زوجها.
لما رأتني قد رزيت فوارسي ... وبدت بجسمي نهكةٌ وكلوم
جواب لما تقدم، وهو بكرت علي. كأن هذا الشاعر لاقى هو أعداءه ومنابذيه، بأصحابه ومعاونيه، فكانت الدبرة عليه وعليهم، فجرح هو وقتل أولئك، فعدت امرأته تلك الفعلة منه وما اتفق عليه سفهاً وذنباً يستحق لهما اللوم، فطفقت باكرةً عليه تعجزه وتؤنبه. والنهكة: التأثير، يقال بانت عليه نهكة العلة والمصيبة. ومعنى رزيت: أصبت بهم. وتقدم القول في مجيء الفوارس جمعاً لصفات المذكر يغنى عن إعادته.
ما كنت أول من أصاب بنكبةٍ ... دهرٌ وحيٌ باسلون صميم
قوله من أصاب نكرةٌ تفيد الكثرة، والمراد أول إنسانٍ أصابه بنكبةٍ دهرٌ. وهذا على عادتهم في نسبة الحوادث إلى الدهر، كما قال بعضهم:
يا دهر قد أكثرت فجعتنا ... بسراتنا ووقرت في العظم
فأما تنكيره للدهر فقد حكي عن أبي زيدٍ وأبي عبيدة ويونس أن الدهر والزمان والزمن والحين، يقع على محدودٍوغير محدود، وعلى عمر الدنيا من أوله إلى آخره. وقال الخليل: الأبد الدهر الممدود، ويجعل اسماً للنازلة. ويقال: دهرٌ من الدهر، لبعضه، كما يقال حينٌ من الدهر. وقد اشتق منه فقيل: إنها لداهرة الطول، أي طويلةٌ جداً. والشاعر أراد بما قاله التجلد للشامت والتسلي من المصاب، وأن يظهر لمن(1/544)
ألقى السمع جهل امرأته وعدولها عن الصواب. وقوله وحيٌ باسلون صميم. فالبسول: عبوسة الشجاعة والغضب. ويقال بسل واستبسل. والصميم: خالصة الشيء وما به قوامه؛ ومنه قيل صميم الصيف والشتاء. ويقال للرجل: هو من صميم قومه، أي من محض أصلهم. ويوصف بالصميم الواحد والجميع.
قاتلتهم حتى تكافأ جمعهم ... والخيل في سبل الدماء تعوم
معنى تكافأ جمعهم: انكفؤوا فهزموا. وهذا من الكفء: قبلك الشيء لوجهه. ومنه كفأت الإناء، إذا قلبته. ويجوز أن يكون من الكفء: النظير والمثل، ويكون المعنى تكافؤوا في مدافعتي ومقاومتي، أي تساووا حتى لم يفضل أحدٌ منهم على الآخر في ذلك. وعلى هذا ما روي في الخبر: " المسلمون تتكافأ دماؤهم ". والسبل: ما سال من المطر والدم، ومنه أسبل الستر والإزار، إذا أرخاهما. ومعنى تعوم: تسبح؛ ويسمى الفرس عواماً، لسبحها في الجري. وعلى التشبيه قالوا: النجوم تعوم في الفلك. ومراد الشاعر اقتصاص الحال، وأنه قد أدى ما كان إليه من المجاهدة، فلا تبعة عليه.
إذ تتقي بسراة آل مقاعسٍ ... حذر الأسنة والسيوف تميم
قوله إذ تتقي ظرفٌ لقوله تعوم. والاتقاء: أن تجعل بينك وبين محذورك شيئاً يقيك. والسراة: جمع سري، والفعل منه سرا يسرو، ولم يجئ في المعتل فعلةٌ في الجمع إلا هذا؛ لأن هذا البناء يختص بالصحيح، نحو فسقةٍ وكتبة، فهو بإزاء فعلةٍ من المعتل نحو قضاةٍ ورماةٍ. وانتصب حذر الأسنة على أنه مفعولٌ له، وتميمٌ يرتفع بفعلهم، وهو تتقي، والتقدير: إذ تتقي وحين تتقي بسراة هؤلاء القوم تميمٌ حذاراً من الأسنة والسيوف.
لم ألق قبلهم فوارس مثلهم ... أحمى وهن هوازمٌ وهزيم
يجوز أن يكون عنى بالفوارس أصحابه الذين فجع بهم، فبين أنهم لم يؤتو فيما منوا به من ضغفٍ وفشلٍ، ولا من تقصير وكسل، بل حاموا عن أحسابهم جهدهم، ودافعوا عن أعراضهم طاقتهم، حتى لم يبقوا غايةً يتعلق بها حسن المحافظة إلا أشرفوا عليها، وراموا بجهد الممارسة تجاوزها. ويكون في وصف أصحابه بهذه(1/545)
الصفة على الحد الذي عليه في وصف نفسه بقوله قاتلتهم حتى تكافأ جمعهم وبقوله يممت كبشهم بطعنة فيصلٍ. وإنما تكلف كل ذلك ليقم عذر نفسه وعذرهم فيما اتفق عليهم، وليرى أن ما لزمه وإياهم قد أدي بتمامه، وإن حال محتوم القدر بينهم وبين النجاج. ويجوز أن يكون المراد بهم فرسان الأعداء، ويكون ثناؤه عليهم على عادتهم في الرفع من الخصم عند اقتصاص الأحوال، ونسبته فيما تجاذبوه إلى الغناء والاستقلال، وكمال الشدة والاضطلاع، ليكون صورته غالباً ومغلوباً أحسن، والاعتداد بمجاراته ومجاذبته أوفر وأبلغ فأما قوله أحمى فالمراد به أحمى منهم، فحذف. وهذا الحذف من أفعل الذي يتم بمن يجوز إذا وقع خبراً لا صفةً، وقد تقدم القول فيه. أي لم ألق فرساً مثلهم قبلهم هم أحمى منهم هازمين ومهزومين. وقوله وهن هوازمٌ الواو واو الحال، والضمير منه لفرق الخيل وطوائفها، ولهذا قال هوازمٌ، لما كان فواعل يختص بجمع المؤنث إلا في الأحرف المعدودة عند الكلام في فوارس. ومثل هوازم قولهم الخوارج - لأن المراد به الفرق - وما أنشدناه أبو عليٍ النحوي الفارسي رحمه الله، للقطامي:
فوارس بالرماح كأن فيها ... شواطن ينتزعن بها انتزاعا
قال: وجاء في شعره أيضاً:
ما ينام سوافره
ثم قال: لا يمتنع أن يكون سوافر جمع سافرٍ الذي هو المصدر، كما قال الآخر:
فقد رأى الراءون غير البطل
فجمع باطلا على البطل، والباطل مصدرٌ، تقول قد قلت باطلاً كما تقول قد قلت حقاً. فأما قوله وهو هزيمٌ فهو فعيل بمعنى مفعول، والمراد به الكثرة لا الواحد، كأنه قال وهن من بين هازمةٍ ومهزومةٍ.(1/546)
لما التقى الصفان واختلف القنا ... والخيل في رهج الغبار أزوم
في النقع ساهمة الوجوه عوابسٌ ... وبهن من دعس الرماح كلوم
يممت كبشهم بطعنة فيصلٍ ... فهوى لحر الوجه وهو ذميم
لما هذه علمٌ للظرف، وهو لوقوع الشيء لوقوع غيره، وجوابه يجيء من بعد، وهو قوله يممت كبشهم. فيقول: لما تواقف الفئتان في مصافهم، واشتجرت الرماح بالطعن بينهم، والدواب غواض على لجمها في القتام الساطع، متغيرة الألوان لاشتداد الشر اللازم، كوالح الوجوه لما يقع بها من الطعن الدراك، والدفع بالرماح، قصدت رئيسهم بطعنة رجلٍ يقضي الأمر، ويفصل العمر، فسقط لوجهه وهو مذمومٌ لعتوه وبغيه. وقوله أزوم جمع آزمٍ، والأزم: الإمساك والعض، وكني به عن الحمية فقيل: " نعم الدواء الأزم ".
وقوله في النقع الأجود أن يكون مصدر نقع الشر والصوت والموت، إذا كثر وارتفع، وأن يعدل به عن الغبار، لأنه قال: في رهج الغبار. ومعنى رهج الغبار: ما أثير من الغبار. وقوله ساهمة الوجه السهوم: تغير اللون مع هزلٍ ويبوسٍ. والدعس: الطعن وشدة الوطء. ويقال طريقٌ مدعاسٌ، أي مذللٌ؛ ورجلٌ مدعسٌ شديد الطعن.
وقوله فهوى لحر الوجه فالحر من كل شيء أعتقه، وقال الخليل: حر الوجه: ما بدا من الوجنة. حرة الذفرى: موضع مجال القرط.
ومعي أسودٌ من حنيفة في الوغى ... للبيض فوق رءوسهم تسويم
قومٌ إذا لبسوا الحديد كأنهم ... في البيض والحلق الدلاص نجوم
فلئن بقيت لأرحلن بغزوةٍ ... نحو الغنائم أو يموت كريم
قوله من حنيفة في موضع الصلة لأسودٍ، وفي الوغى ظرفٌ لما دل عليه قوله أسودٌ، وتقديره معي رجالٌ يشابهون الأسود شجاعةً وإقداماً في الحرب حنفيون. والوغى أصله الجلبة والصوت، ثم صار كالاسم للحرب. وقوله: للبيض فوق(1/547)
رءوسهم تسويم، فالتسويم: العلامة والتأثير، ومنه قولهم: الخيل المسومة؛ وكل ذلك من السيما: العلامة، ويقال السيميا. ومعناه أنهم لطول لبسهم للبيض، ودوام ممارستهم للحرب، قد انحسر الشعر عن جوانب رءوسهم. ويشبه هذا المصراع قول الآخر:
قد حصت البيضة رأسي فما ... أطعم نوماً غير تهجاع
وقول أبي تمام الطائي:
عبوسٌ كسا أبطاله كل قونسٍ ... يرى المرء منه وهو أفرع أنزع
وقوله قومٌ إذا لبسوا الحديد ارتفع قومٌ على أنه بدلٌ من قوله أسودٌ. ويجوز أن يكون خبر مبتدأ محذوف كأنه قال: هم قومٌ. وإنما يصفهم بأنهم مشاهير بحسن البلاء، متميزون عن الفرسان إذا حضروا الوقعات، بعلاماتهم ومعارضهم التي عرفوا بها وفيها، فلا يخفى آياتهم إذا تدججوا، ولا يلتبس أحوالهم متى تطلعوا، بل كأنهم النجوم في المناظر والقلوب. وجعل الحديد كناية عن أنواع الأسلحة. والدلاص: اللينة الملساء، يقال درعٌ دلاصٌ ودليصٌ، ودروعٌ دلصٌ. وقال الخليل: ربما جاء دلاصٌ في صفة الجمع.
وقوله فلئن بقيت لأرحلن بغزوةٍ اللام من لئن موطئةٌ للقسم، ولأرحلن جوابه. وقوله نحو الغنائم ظرفٌ لأرحلن. ورواه بعضهم: تحوي الغنائم، ويكون صفةً لغزوةٍ، أي حاويةٍ للغنائم. وقوله أو يموت كريم، أو بدلٌ من إلا، ويموت ينتصب بأن مضمرةً، كأنه قال إلا أن يموت كريم. ويعني بالكريم نفسه. وفي طريقته قول لبيد:
أو يرتبط بعض النفوس حمامها(1/548)
وقال رجلٌ من بني يشكر
ألا أبلغ بني ذهلٍ رسولاً ... وخص إلى سراة بني النطاح
بأنا قد قتلنا بالمثنى ... عبيدة منكم وأبا الجلاح
فإن ترضوا فإنا قد رضينا ... وإن تأبوا فأطراف الرماح
مقومةٌ وبيضٌ مرهفاتٌ ... تتر جماحماً وبنان راح
قوله رسولاً أراد رسالةً. وقوله وخص إلى سراة بني النطاح أي توصل إلى أن تخصهم بأدائها. والسراة تقدم القول فيه.
وقوله بأنا قد قتلنا الباء زائدةٌ للتأكيد، وموضع بأنا نصبٌ على أنه بدلٌ من رسولاً. ومثله أعلم بكذا، يريد أبلغ خيار هؤلاء القوم وأماثلهم أنا قتلنا بدل الواحد الذي قتلتموه منا اثنين منكم، فإن رضيتم فرضانا مع رضاكم، وإن أبيتم وتسختطم حاكمناكم إلى ظبى السيوف وقد أرهفت، وإلى أسنة الرماح وقد قومت. وهذا الكلام اعتلاءٌ واقتدار، وتوعدٌ واستكبار. والفاء من قوله فأطراف بما بعدها جواب الجزاء، وارتفع أطراف بالابتداء، وخبره محذوف، كأنه قال: فأطراف الرماح وبيض السيوف بيننا. وتتر في موضع الصفة للبيض، ومعناه تسقط. والمرهفات: المرققات الحد. والراح: جمع راحة.
وقال جريبة بن الأشيم الفقعسي
فدىً لفوارسي المعلمي ... ن تحت العجاجة خالي وعم(1/549)
هم كشفوا عيبة العائبين ... من العار أو جههم كالحمم
حمدهم لما ظهر من وفائهم وبلائهم، ففداهم وأثنى عليهم. والمعلم: الذي شهر نفسه في الحرب بعلامةٍ لكي إذا أبلى عرف بها. والعجاج: الغبار، وكذلك العجاجة. ويقال لف عجاجته على بني فلانٍ، إذا أغار عليهم. وقوله خالي في موضع الرفع، لأنه خبر المبتدأ. وقوله هم كشفوا عيبة العائبين: العيبة: شبه الخريطة من الأدم. وهذا مثل، أي أظهروا من عيب من كان يطلب عيبهم ما كان خافياً، وكذبوهم فيما كانوا يختلقونه ويتنفقونه به، فكأنهم كشفوا عيابهم المنطوية على عيوبهم، فاسودت وجوههم بما غشيها من العار حتى صارت كالحمم. ويقال: " فلانٌ عيبة عيوبٍ، ومذنب ذنوب ". ويقال: عاب المتاع وغيره، إذا صار ذا عيبٍ؛ وعبته أنا، أي جعلت فيه عيباً. وعلى هذا قول الله تعالى: فأردت أن أعيبها. والحمم: الفحم. ويقال جاريةٌ حممةٌ، أي سوداء.
إذا الخيل صاحت صياح النسور ... حززنا شراسيفها بالجذم
يقول: إذا ضجت الخيل من الطعن الواقع على نحورها، وهمت بالازورار أكرهناها على الصبر والتقدم. ومثله قول خذاش بن زهير:
يصيحون مثل صياح النسو ... ر من أسلٍ واردٍ صادر
ومعنى حززنا قطعنا. والشراسيف: مقاط الأضلاع: والجذم: السياط. وقوله صاحت صياح النسور، يريد صياحاً يشبه صياح النسور. وإذا ظرفٌ لقوه حززنا.
إذا الدهر عضتك أنيابه ... لدى الشر فأزم به ما أزم
هذا مثلٌ، والذي أشار إليه بالأنياب نوب الدهر وحوادثه. وقوله فأزم به أي اعضض به، والمعنى صابره. والتوسع في الأزم والعض على طريقةٍ، يقال: هذا عضيضي وأنا عضيضه، أي نتشاكس في الأمر. وإني لعضاض عيشٍ، أي صبورٌ على شدته. و " ما أزم " ما مع الفعل في تقدير المصدر، واسم الزمان محذوفٌ معه، فهو(1/550)
في موضع الظرف. والمعنى: اعضض به مدة عضه بك. ورواه بعضهم: " فا رزم له ما رزم "، والمعنى: اثبت له ما ثبت لك. وإنما قال فأزم به طلباً للمطابقة والموافقة. على هذا قوله تعالى: " فمن اعتدى عليكم فاعتدوا عليه "، والثاني ليس باعتداء، بل هو جزاؤه. وجواب إذ قوله فأزم به وهو العامل فيه.
ولا تلف في شره هائباً ... كأنك فيه مسر السقم
في شره، أي في سر الدهر. يقول: لا توجدن فيما تدفع إليه وتمتحن به من نوائب الدهر خائفاً متهيباً مستشعراً لليأس من النجاح، وانقلاب الأمر إلى الخير والصلاح، فتكون بمنزلة من به داءٌ عضالٌ لزمه، فأعياه مداواته حتى يئس من إقلاعه وذهابه، فجعل يكتمه ويخفي أثره، وهو خائفٌ مما يتعقبه. ورواه بعضهم: مشر السقم. أي مظهره. وهذا كما روى بيت امرئ القيس:
لو يشرون مقتلي
وأنشد فيه:
وحتى أشرت بالأكف المصاحف
ومعناه تغتم لما تقاسيه، وتخاف نزول أمثاله، فتنخزل وتنقطع، فعل الوصب المريض إذا اشتكى مما به.
عرضنا نزال فلم ينزلوا ... وكانت نزال عليهم أطم
يقول: عرضنا عليهم المنازلة فقلنا نزال، لما ضاق مجال الخيل عن الطراد، فتكرهوه ولم ينشطوا له. وكانت هذا العرضة بهذه اللفظة أشد عليهم وأغلب لهم من كل ما تقدم من ألفاظ التداعي والتجاذب. وقد تقدم في لفظة نزال وبنائه وتأنيثه وحقيقته ما فيه كفايةٌ. ومعنى أطم يقال طم البحر، إذا غلب سائر البحور. والطامة: الخصلة التي تطم على ما سواها. وفي القرآن: " فإذا جاءت الطامة الكبرى "، يراد به القيامة.(1/551)
وقد شبهوا العير أفراسنا ... فقد وجدوا ميرها ذا بشم
العير: الإبل عليها الميرة وغيرها. وقال بعضهم: هو من قولهم: عار الشيء: ذهب، يعير، وهي جماعات السفر، ووزنه فعل، جمع عائرٍ، كعائذٍ وعوذٍ، إلا أن العين كسرت لتدل على الياء. والمير: مصدر مارهم يميرهم، إذا نقل إليهم الميرة. والمعنى: لجهلهم بخصمهم، وثقتهم بأنفسهم وتمكن البغي من اختيارهم ونظرهم، عدونا غنيمةً تغتنم، وإبلاً بأجمالها تساق وتقتسم، فقد استوبلوا عاقبة غنيمتهم وذاقوا وخامة ميرتهم. والبشم: الثقل، يقال بشمت من الطعام، وبغرت من الماء.
وقال آخر:
أتاني عن أبي أنسٍ وعيدٌ ... فسل لغيظة الضحاك جسمي
ولم أعص الأمير ولم أربه ... ولم أسبق أبا أنسٍ بوغم
هذه الأبيات إنما ختم بها الباب وإن لم تكن منه على عادته، في إتباع المعنى بضده كثيراً. والأغلب في الظن بقائها أن يكون قصد بها الهزء والتملح. وفي طريقتها قول الآخر:
إني أعوذ بروحٍ أن يقربني ... إلى القتال فيخزى بي بنو أسد
إن المهلب حب الموت أورثكم ... ولم أرث نجدةً في الحرب عن أحد
إن الدنو من الأعداء تعلمه ... مما يفرق بين الروح والجسد
ولبعضهم:
باتت تسخفني هندٌ وقد علمت ... أن الشجاعة مقرونٌ بها العطب(1/552)
يا هند لا والذي حج الحجيج له ... ما يشتهي الموت عندي من له أدب
للحرب قومٌ أضل الله سعيهم ... إذا دعتهم إلى أهوالها وثبوا
ولست منهم ولا أرضى فعالهم ... ما القتل يعجبني منهم ولا السلب
وأبلغ منه قول الآخر:
اثنان منا يغلبان واحدا ... إذا تعاونا وكان رقدا
فأما قوله فسل لغيظة الضحاك فالضحاك اسم أبي أنسٍ. ومعنى سل: ذاب، كجسم من به السلال، وهو داء معروف. وقال غيظة لأنه أراد المرة الواحدة، وهذه الهاء تدخل في المصادر على اختلافها لهذا المعنى كالضربة والخرجة والإلمامة والاستخراجة. وقوله ولم أربه يروى بفتح الهمزة وضمها؛ والفرق بينهما أنه يقال رابه الدهر إذا قصده بريبه وحوادثه؛ وأرابه: أتاه بريبة. والوغم: الترة والذحل.
ولكن البعوث جرت علينا ... فصرنا بين تطويحٍ وغرم
وخافت من جبال السغد نفسي ... وخافت من جبال خوارزم
قوله ولكن البعوث جرت علينا يقال ضرب البعث على الجند، وأجري البعث عليهم، أي بعثوا إلى العدو. وجمعه فقال البعوث، لاختلافه وتكرره. وهذا كما يجمع الضرب على الضروب والفن على الفنون. والتطويح: والتبعيد في الأرض، والحمل على ركوب المهالك. ويقال طوحوا وطيحوا جميعاً.
وقارعت البعوث وقارعوني ... ففاز بضجعةٍ في الحي سهمي
فأعطيت الجعالة مستميتاً ... خفيف الحاذ من فتيان جرم
قوله قارعت البعوث يريد به ساهمتهم، والقرعة الاسم. ويقال: هو قريعي أي مقارعي، كما يقال هو خصيمي. وقوله البعوث أراد أصحاب البعوث، فحذف المضاف. ويجوز أن يكون سمى المبعوث بعثاً ثم جمعه، وهذا على عادتهم في الوصف باسم الحدث. وقوله فاز بضجعةٍ في الحي سهمي أي خرج(1/553)
قدحي باضطجاعي وراحتي. ويقال رجلٌ ضجعيٌ بضم الضاد وكسرها، وضجعةٌ، للعاجز اللازم منزله، ومنه قيل للنجوم الثوابت الضواجع. وقوله أعطيت الجعالة، يريد أعطيت الرشوة لنائبٍ عني من بني جزمٍ، خفيف الحال فقير، رضي بالموت وعرض بنفسه له، لا سعد بالراحة والسلامة، ويشقى هو بالتعب والهلكة. ويقال: فلانٌ خفيفٌ الحاذ، أي الحال والمؤنة؛ وهما بحاذٍ واحد، أي بحالٍ واحد.
تم باب الحماسة، بحمد الله الذي هو ولي الحمد(1/554)
باب المراثي
قال أبو خراشٍ الهذلي
حمدت إلهي بعد عروة إذ نجا ... خراشٌ وبعض الشر أهون من بعض
خراشٌ: مصدر خارشته، أو جمع خرشٍ، وهو الأثر كالخدش؛ ومنه تخارش الكلاب: مزق بعضها بعضاً. والخراش: سمةٌ مستطيلةٌ كاللذعة الخفية، ويقال بعيرٌ مخروشٌ. والمخرش: اسمٌ لما يؤثر به، خشبةً كان أو غيرها. فأما أبو خراشة من بيت الكتاب:
أبا خراشة أما أنت ذا نفرٍ ... فإن قومي لم تأكلهم الضبع
فقد روي بضم الخاء وكسرها، فخراشةٌ يجوز أن يكون من خرش لعياله، أي كسب، ويكون من باب عمالةٍ وعجالةٍ وصبابةٍ وما أشبهها. وخراشةٌ منه من باب ولايةٍ ونكابةٍ وما أشبههما.
وأبو خراشٍ هذا كان خراشٌ ابنه وعروة أخوه، اصطحبا في متصرفٍ لهما فأسرهما بطنان من ثمالة: بنو رزامٍ وبنو بلالٍ، وكانوا موتورين، فاختلفوا في الإبقاء عليهما وقتلهما، فمال بنو بلالٍ إلى قتلهما، وتفاقم الأمر بينهما في ذلك إلى أن صار(1/555)
يؤدى إلى المقاتلة، فتفرد أولئك بعروة فقتلوه، وتفرد هؤلاء بخراشٍ فخلا به واحدٌ منهم منتهزاٌ للفرصة في الإسداء إليه، فقال له: كيف دليلاك؟ قال: قطاة! فألقى عليه رداءه وقال: أنجه. فمر لطيته، فلما انحرفوا للنظر في أمره قال لهم ممسكه: إنه أفلت! فطردوه فأعياهم، فلما رجع خراشٌ إلى أبيه وخبره بما جرى على عروة، وبما اتفق من صاحبه في باببه، اقتص قصته في هذه الأبيات.
وقد حكي فيما روي عن الأصمعي وأبي عبيدة أنهما قالا: لا نعرف من مدح من لا يعرفه غير أبي خراشٍ. وقد سلك من شعراء الإسلام مسلكه أبو نواسٍ في أبيات أولها:
ودار ندامى عطلوها وأدلجوا ... بها أثرٌ منهم جديدٌ ودارس
مساحب من جر الزقاق على الثرى ... وأضغاث ريحانٍ جنيٌ ويابس
ولم أدر من هم غير ما شهدت لهم ... بشرقي ساباط الديار البسابس
ومر بي أبياتٌ لبعض الأغفال فيها:
سقياً لهم فتيةً تدمى سيوفهم ... لا علم لي غير أن القوم أحرار
فهذا ما رواه الناس وقد حكى أبو العباس في الكامل: أن خراشاً كان في القد مأسوراً، وأن آسره نزل به ضيفٌ فقام يحتشد له، فنظر ذلك الضيف إلى خراشٍ وكان ملقىً وراء البيت، فسأله عن حاله ونسبه فشرح له قصته وانتسب، فقطع إساره وخلاه، فلما رجع رب البيت قال: أسيري أسيري!! وأراد السعي في أثره، فوتر قوسه وحلف أنه إن تبعه رماه.
وقد ذكر أن ملقي الرداء كان مجتازاً بعروة، فرآه بادي العورة مصروعاً، ففعل ذلك به. فهذا قصته على الاختلاف فيه.
وقوله حمدت إلهي روي: حمدت الإله، وقل ما يقع في الاستعمال الإله معرفاً باللام، وقد أتى به على أصله، إذ كانت العادة جرت باستعمال لفظة الله بدله، حق جرى مجرى الألقاب في أن يكون مقدماً وسائر الصفات تتبعه. ومعنى اللفظة:(1/556)
الذي تحق له العبادة. والحمد يجري مجرى الشكر، إلا أنه يستعمل في مسدي الإحسان، وفي من رضيت أفعاله وإن لم يكن منه إحسان، فيقال: حمدت فلاناً على اصطناعه لي، وحمدته على براعته وفضله؛ والشكر لا يستعمل إلا فيمن يكون منه إسداء معروفٍ وأخذٌ بإحسان. والمعنى أشكر الله بعد ما اتفق من قتل عروة، على تخلص خراش، وبعض الشر أخف من الآخر. كأنه تصور قتلهما جميعاً لو اتفق، فرأى قتل أحدهما أهون. وهذا الكلام، أعني وبعض الشر أهون من بعض رمى به مرمى الأمثال. فإن قال قائلٌ: ليس في الشر هين، وأفعل هذا يستعمل في مشتركين في صفةٍ زاد أحدهما على الآخر؛ لا تقول: زيدٌ أفضل من عمرٍو، إلا وقد اشتركا في الفضل، فكيف جاز أن يقول: وبعض الشر أهون من بعض، ولا هين في الشر؟ قلت: إن للشر مراتب ودرجاتٍ، فإذا جئت إلى آحادها، وقد تصورت جملها، ورتب الآحاد فيها، وجدت كل نوع منها بمضامته للغير له حالٌ في الخفة أو الثقل، وإذا كان كذلك فلا يمتنع أن يوصف شيءٌ منه بأنه أهون من غيره. ولا يشبه هذا قوله عز وجل: " أصحاب الجنة يومئذٍ خيرٌ مستقراً وأحسن مقيلاً "؛ لأنك إذا تصورت حال أهل الجنة مع أهل النار لم تجد ثم مراتب متقاربةً يترقى الواصف في درجها، ويتصور اشتراكهم فيها، إذ لم يكن ثم مشاركةٌ البتة بوجهٍ من الوجوه. فالجامع بين الآية وبين هذا وأشباهه خارجٌ عن الطريقة. والصواب أن يقال في الآية: إن المعنى: أصحاب الجنة يومئذٍ أحسن حالاً وأعظم شاناً، وأعلى درجةً ومكاناً، وخيرٌ مستقر وأفضل مقيلا، من أن يشبه بشيءٍ، أو يحد بوصفٍ، فحذف منه ما حذف. وعلى هذا يحمل قول المسلمين: الله أكبر، وما روي عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه لما سمع الكفار يقولون: اعل هبل! قال: " الله أعلى وأجل! ".
فوالله ما أنسى قتيلا رزيته ... بجانب قوسي ما مشيت على الأرض
تعلق الباء من قوله بجانب بقتيلا، كأنه قال: ما أنسى قتيلاً بجانب قوسي رزيته. وموضع رزيته وبجانب قوسي جميعاً صفة للقتيل؛ وقد دخله بعض الاختصاص بذكرهما. وقوله ما مشيت ما مع الفعل في تقدير مصدر حذف اسم الزمان معه، كأنه قال: مدة مشيي على الأرض. وفي الكلام نية الشرط والجزاء، كأنه قال: لا أنسى قتيلاً رزيته إن مشيت على الأرض، ومعناه إن بقيت حياً، فلذلك وقع الماضي فيه في موضع المستقبل، لأن ما مشيت على الأرض في(1/557)
موضع ما أمشي على الأرض، وإن أمش على الأرض. فأما تذكره له أبداً فالوجه أن يكون عاماً فيما يتعلق بالمتوفى وبمن يرثيه، كأنه لا ينسى أخلاقه وطيب العيش معه، ولا الامتناع بمكانه وشدة الفاقة إلى حياته، فلا ينسى ما يلزمه في قضاء ذمامه وطلب دمه، ومكافأة أعدائه وقاتليه، إلى غير ذلك. يشهد لهذا الذي قلناه ما يجيء كثيراً في هذا الباب من قولهم " هون وجدي أنني لم أفعل كذا " و " يذكرني من فلانٍ كذا "، وما يجري هذا المجرى، ويجوز أن يكون قال: لا أنساه، تعظيماً للمصيبة به، وتفظيعاً للحال المعترضة فيه، وعلى عادة قول الناس عند النازلة الهائلة، والنائبة الكاربة: لا ينسيني هذا شيءٌ، وهو نصب عيني إلى أن أموت، والمعنى: لا يرى أعظم منه.
على أنها تعفو الكلوم وإنما ... نوكل بالأدنى وإن جل ما يمضي
مثله قول الأحوص:
إن القديم وإن جلت رزيئته ... ينضو فينسى ويبقى الحادث الأنف
وقوله على أنها تعفو الكلوم يجري مجرى الاعتذار منه والاستدراك على نفسه فيما أطلقه من قوله: لا أنسى قتيلا رزئته مدة حياتي. يكشف هذا أن موضع على أنها تعفو الكلوم من الإعراب نصبٌ على الحال، والعامل فيه ما أنسى قتيلاً. وهذا كما تقول: ما أترك حق فلانٍ على ظلعٍ بي، كأن التقدير أؤديه ظالعاً، فعلى المثال الذي ذكرنا يجيء ما أنسى قتيلاً رزئته على عفاء الكلوم، أي أذكره عافياً كلمى كسائر الكلوم. ويعنى بالكلم: الحزة عند ابتداء الفجعة. وإنما قال هذا لأن الإنسان بكونه مهدفاً للأحداث، غرضاً للمصائب والأرزاء، موزع الحال بين ما يتجد له أو يبلى، مقسم الصبر في أثناء ذلك على ما يحدث أو يتولى، فلذلك قال نوكل بالأدنى وإن جل ما يمضي فهذا بيان كون الكلام اعتذاراً. وقوله على أنها الضمير للقصة، وخبر أن الجملة بعدها، ولو قال: على أنه لجاز وكان الضمير للشأن والأمر. والمراد: على أن القصة إذا اقتصت، والصورة إذا تحققت، أن الجروح تعفو، وإنما الجزع للأقرب منها فالأقرب يتسلط فيعلو. وهذا كما سئل بعضهم: ما أشد الأدواء؟ فقال: ما يحضرك، وإن برح بك ما غاب! ويقال عفا الشيء، إذا درس عفاءً وعفواً، وتعفى أيضاً، وعفته الريح، وعفا الشيء: كثر عفواً وعفوته. قال أبو زيد: يقال عفوت صوف الشاة، إذا أخذته، وعفوته إذا وفرته، فهو من الأضداد. وأبلغ مما(1/558)
قاله قول الآخر:
فلم تنسني أوفى المصيبات بعده ... ولكن نكء القرح بالقرح أوجع
ولم أدر من ألقى عليه رداءه ... ولكنه قد سل عن ماجدٍ محض
ويجوز أن يكون من بمعنى الذي فيكون في موضع المفعول، وألقى عليه رداءه صلته، ويجوز أن يكون من استفهاماً مبتدأً وألقى عليه رداءه في موضع الخبر، ويكون الجملة في موضع المفعول ل " لم أدر ". وتحقيق الكلام: لم أدر ما يقتضى هذا السؤال، لأن الذي خفي عليه ذات الملقى واسمه لا فعله. وموضع على أنه نصبٌ في موضع الحال، كأنه قال: أدريه مسلولاً من ماجدٍ محضٍ. ويروى: سوى أنه قد سل ويكون موضع سوى من الإعراب نصباً على أنه استثناء خارجٌ، ألا ترى أنه يتأتى أن يجعل مكانه لكن، والتقدير: لا أعرف اسمه ونسبه، إلا أنه ولد كريمٍ بما ظهر من فعله. والمستثنى قد انقطع عن الأول، ألا ترى أنه قد عرفه بدلالته وإن لم يعرف نفسه وذاته. ومعنى البيت: ولا أعلم الذي اهتدى لهذه المكرمة في باب ابني خراش، ولكنه كريم الأصل شريف الفرع، مؤثرٌ لفعل الصنيعة كيف اتفقت، لا يراعي وجوبها ولا زكاءها. وأصل المجد الكثرة، يقال أمجدت الدابة العلف، إذا أكثرت له. وأراد بالمحض صفاء النسب.
ولم يك مثلوج الفؤاد مهبجاً ... أضاع الشباب في الربيلة والخفض
قوله ولم يك حذف النون من يكن لكثرة الاستعمال لهذه اللفظة، ومضارعة النون لحروف المد واللين، وقد مضى مثله. وقوله مثلوج الفؤاد أي بارد الفؤاد غير ذكيٍ ولا حديدٍ. والمهبج: المتورم، يقال هبجه بالعصا فهبج وتهبج، إذا ضربه بها فانتفخ وتورم. والربيلة، أصلها الرطوبة والسمن. يقال: رجلٌ ربلٌ، وبئرٌ ذات ربالةٍ، إذا كانت ناجعة الماء في الماشية تسمن عليه. والربل: ما تفطر من الورق في آخر الصيف ببرد الليل. يقال: هم يتربلون. والريبال من أسماء الأسد إذا لم يهمز، يجوز أن يكون فيعالاً من هذا، لتربله وعظمه. والخفض: الدعة وترك السفر. ومعنى البيت: أنه رجع إلى صفة عروة فقال: كان ذكي الفؤاد شهماً، نافذاً في الأمور حي(1/559)
القلب، لا آفة به فيتورم جلده أو يتغير لونه، ولم يكن ممن ضيع شبابه في التودع وصلاح البدن، حتى كان يترك السفر واكتساب الأحدوثة بما يمتهن فيه النفس، ويتعرض من أجله للتلف.
ولكنه قد نازعته مجاوعٌ ... على أنه ذو مرةٍ صادق النهض
لكن المخففة استدراك بعد نفي، والمشددة وإن كان للتحقيق فيه معناه. فلما نفى عنه ما قدمه في البيت الذي قبله، استدرك على نفسه إثبات ما يتضمن هذا البيت له. ويروى ولكنه قد لوحته مخامصٌ، ومعنى لوحته غيرته، والمخامص: جمع مخمصةٍ، وهي خلاء البطن من الطعام جوعاً، وفي الحديث: تغد الطير خماصاً وتروح بطاناً. والمجاوع مثل المخامص. والخصال التي تحمل النفوس على الصبر على الجوع والخماصة مخامص ومجاوع. فيقول: كما انتفى عنه تلك الأوصاف الذميمة جاذبته في مساعيه ومتصرفاته لمباغيه الشريفة ومطالبه مجاوع أو مخامص، يريد خصالاً تجوع فيها النفس وتفطم فيها عن لذيذ الطعم؛ وهو ذو قوةٍ، إذا نهض في الأمور صدق فيها، ولم يكذب فعل من يأتي الشيء تعذيراً أو رياءً. وقوله صادق النهض جعل الصدق للنهض وإن كان الفعلان له ولذلك كان نكرةً تقديره: ذو مرة صادقٌ نهضته، وأصل النهوض البراح من الأرض، ومنه الناهض: الفرخ الذي وفر جناحاه فنهض للطيران.
وقال عبدة بن الطبيب
عليك سلام الله قيس بن عاصمٍ ... ورحمته ما شاء أن يترحما
حياه بقوله: عليك سلام الله ورحمته وهكذا تحية الموتى، بتقديم عليك، والمعنى: عليك من الله السلامة! وسلامته وقد مات، في توفر الرحمة عليه لذلك قال ما شاء أن يترحما، فاستدام له التحية بقوله: ما شاء أن يترحم؛ لأن الترحم من الله دائمٌ، لاتصال رحمته في خلقه، فكأنه قال: توفرت عليك الرحمة ما شاء(1/560)
أن يترحم. وقوله ما شاء ما مع الفعل في تقدير مصدر، وهو في موضع الظرف، والمصادر يحذف معها أسماء الزمان كثيراً، فالتقدير: مدة مشيئته للرحمة. والسلام من أسماء الله تعالى، مصدرٌ في الأصل، والمراد به ذو السلامة. وليس في أسمائه تعالى ما هو مصدرٌ إلا هذا، وقولهم إله، والباقي كله صفاتٌ. وقوله قيس ابن عاصمٍ هو على لغة من لا ينون في غير النداء، ومن ينون يقول قيس فيبنيه على الضم.
تحية من غادرته غرض الردى ... إذا زار عن شحطٍ بلادك سلما
انتصب تحية على المصدر مما دل عليه قوله عليك سلام الله، كأنه قال: أحييك تحية من غادرته. و " من غادرته " يجوز أن يكون من معرفةً في موضع الذي وغادرته من صلته، ويجوز أن يكون نكرةً في موضع إنسان كأنه قال: تحية إنسان هكذا، فيكون غادرته صفة له. وانتصب غرض الردى على الحال، وهو في موضع النكرة وإن كان مضافاً إلى ما فيه الألف واللام، لأن غرض يتضمن معنى الصفة، كأنه قال غادرته منصوباً للردى وهدفاً له. وقوله إذا زار عن شحطٍ بلادك سلما يجوز أن يكون في موضع الصفة لغرض الردى أو حالاً له، ويجوز أن يكون في موضع الحال إذا جعلت من معرفةً، ويجوز أن يكون في موضع البدل من غادرته إذا جعلته صلةً. وقوله عن شحطٍ أراد بعدٍ شحط أي بعد. يقال: شحط يشحط شحطاً وشحوطاً. وكأنه أشار به إلى بعد المزار والعهد جميعاً. وقوله سلما جواب إذا. ومعنى البيت: أحييك تحية الرجل الذي غادرته غرض الردى، أو تحية إنسانٍ هكذا، على التقديرين. أي تركته مهدفا للمهالك والمعاطب، وبمدرجة الآفات والنوائب، أشد ما كان حاجة إليك، لا ناصر له ولا ملتجأ، ولا مستغاث ولا معتمد، وإذا أراد قضاء حقك، أو زيارتك للتسلي بك، فقطع المسافة بينه وبينك لم يرزأك شيئاً إلا تسليماً عليك. وهذا الكلام تصريح باليأس منه، وإظهارٌ للحاجة إليه.
فما كان قيسٌ هلكه هلك واحدٍ ... ولكنه بنيان قومٍ تهدما
يجوز أن يروى هلك بالنصب والرفع، فإذا نصبت كان هلكه في موضع البدل من قيسٍ وهلك ينتصب على أنه خبر كان كأنه قال: فما كان هلك قيس هلك واحد من الناس، بل مات بموته خلقٌ كثير، وتقوض ببنيته وعزه بنيانٌ رفيع. وإذا رفعته كان هلكه في موضع المبتدأ، وهلك واحدٍ في موضع الخبر، والجملة في موضع النصب(1/561)
على أنه خبر كان. ويشبه هذا البيت قول امرئ القيس:
فلو أنها نفسٌ تموت سويةً ... ولكنها نفسٌ تساقط أنفسا
إذا رويت تساقط بضم التاء. ومثلهما وإن أغمض قول الهذلي:
مطأطأة لم ينبطوها وإنها ... ليرضى بها فراطها أم واحد
لأن المعنى أن الفراط لما حفروا القبر رضوا بأن يضعوا فيه واحداً، فإذا هم يدفنون بدفنه خلقاً كثيراً.
وصلح قوله ولكنه بنيان قوم تهدما في مقابلة فما كان قيس هلكه لمعناه الموافق له، وذلك أن البنيان وتهدمه لم يكن إلا لموت أربابه.
وقال هشامٌ أخو ذي الرمة
تعزيت عن أوفى بغيلان بعده ... عزاءً وجفن العين ملآن مترع
هشامٌ هذا فجع بأخيه أوفى، وأني عليه زمانٌ مقاسياً لآلام الفجيعة به، ثم أصيب بعده بغيلان - وهو ذو الرمة - فيقول: تسليت عن الرزيئة بأوفى أخي، بعد أن أصبت بغيلان عقيبه، وجفن عيني مملوء دمعاً، عزاءً. وانتصب عزاءً على المصدر، وهو موضوعٌ موضع التعزي، والفعل من العزاء عزى وعزي جميعاً، أي صبر. ويقال: هو حسن العزوة، أي العزاء، وبناء تعزى بناء تكلفٍ. والواو من قوله وجفن العين واو الحال، والعامل في موضع الجملة تعزيت. وفائدة اقتران هذه الحال بما قبله هو أن يتبين به ضعف العزاء المشار إليه؛ لأن العزاء المتكلف إذا صحبه البكاء لم يكن عزاءً في الحقيقة، ولا يمتنع أن يكون الجملة التي هي وجفن العين ملآن في موضع الصفة لعزاءً، لأنك إذا قلت رأيت رجلاً ومعه غلامه، معناه رجلاً بهذه الصفة، فكذلك يكون المراد عزاءً بهذه الصفة وهي أن يصحبه البكاء. ولا يجوز أن يكون العامل في موضع قوله وجفن العين عزاءً إذا جعلته حالاً؛ لأن(1/562)
الاعتماد على الفعل، وعزاءً معموله، والمصدر وقد تبع الفعل معمولاً له يؤكده لا يعمل في غيره عمله، ولا فعل معه. وقوله مترع أراد الامتلاء وزيادةً، وهو الانصباب. يقال أترعت الإناء، إذا ملأته ملأً يضيق عما يحويه حتى ينصب منه. ويقال ترع الإناء وأترع بما فيه. والمتترع: المتسرع إلى الشر المقتحم فيه، منه. وجعل الامتلاء للجفن لأنه ممسك الدمع، وأصل الجفن الحبس، لذلك قيل لقراب السيف: جفن.
نعى الركب أوفى حين آبت ركابهم ... لعمري لقد جاءوا بشرٍ فأوجعوا
نعوا باسق الأفعال لا يخلفونه ... تكاد الجبال الصم منه تصدع
أتبع ما تقدم باقتصاص نعي الركبان لأوفى، كأنه أراد أن يذكر ابتداء المصاب به ليتبين كيف توفر الجزع عليه، وكيف انصرف ما انصرف منه إلى ما تعقبه من المصاب الثاني، فيقول: ذكر الركبان موت أوفى عند إيابهم، ولعمري لقد ذكروا شراً عظيما، وأوجعوا قلباً سليماً. وقوله نعوا باسق الأفعال أعاد ذكر النعي تفظيعاً للشأن. ويقال نعى نعياً ونعياً ونعياناً، أي خبر بالموت. وقولهم: نعاء فلاناً، لفظةٌ يشهرون بها موت الرئيس. ومعنى باسق الأفعال لا يخلفونهأنهم ذكروا موت رجلٍ على الشأن، شريف الأفعال، رفيع الحكمة، هم بأجمعهم لا يقومون مقامه فيما كان يتولاه في الحي من الإحسان إليهم، والتحمل عنهم، وبسط الخير فيهم، والبسوق في الأفعال، وهو في الأصل الطول والاستكمال، ويجوز أن يكون إشارةً إلى أنه لا يدرك غايتها، فكل فعلٍ يقع من غيره إذا قيس إلى ما يأتيه يتضع دونه، وينحط عن رتبته، فلا يعلو علوه، ولا يكمل كماله. وعلى هذا قولهم: فلانٌ رفيع الفعال علي المقال. ويجوز أن يريد بالبسوق امتداد الصيت بها، وصعودها في درج تقبل الله تعالى إياها إلى السماء. وهذا كما يقال: قولك هذا يرتقي إلى الملاء الأعلى. وهذا الشعر إسلاميٌ، فلا يمتنع أن يشير فيه إلى قوله عز وجل: " إليه يصعد الكلم الطيب والعمل الصالح يرفعه ". وقوله " تكاد الجبال الصم منه تصدع " منقطعٌ مما قبله ويجري مجرى الالتفات، لأنه لما قال نعوا باسق الأفعال لا يخلفونه كأنه أقبل على من حوله فقال: تكاد الجبال الصم منه تصدع، ويكون الضمير من قوله منه يرجع إلى النعي، ودل عليه قوله نعوا. وهذا كما يقال: من حمد الله تعالى كان خيراً له، أي كان الحمد خيراً له. والمراد بالصم الصلاب كأنه لا خروق في أثنائها ولا تخلخل.(1/563)
خوى المسجد المعمور بعد ابن دلهمٍ ... وأمسى بأوفى قومه قد تضعضعوا
ابن دلهمٍ كان السبب في عمارة المسجد الذي أشار إليه، فلما مضى لسبيله صار المسجد خالياً إذ كان هو المراعي والمتفقد لصلاح أمره. وأوفى - يعني الذي يرثيه - كان قوام أمر عشيرته به، وانتظام شئونهم بمكانه، فلما ثل عرشه وأصيبوا به اضطربت أحوالهم، واتضعت رتباتهم، فصاروا بعده كالمسجد المعمور بعد ابن دلهمٍ. أراد أن يشبه تضعضع القوم بموت أوفى، بخراب المسجد بموت ابن دلهم فلم يأت بلفظ التشبيه إذ كان معناه من الكلام مفهوماً. والضعضعة: الخضوع والتذلل.
فلم تنسني أوفى المصيبات بعده ... ولكن نكء القرح بالقرح أوجع
القرح والقرح لغتان في عض السلاح وما يجرح في الجسد. ويقال إنه لقرحٌ قريحٌ، وقرح قلبه من الحزن. ونبه بهذا الكلام على أن الجزع بأوفى لم يزله ما تعقبه من المصائب، ولكنه زاده اشتداداً، ثم شبهه بالقرح وهو الجرح، وقد جلب ويبس، إذا نكئ وقرح ثانياً، أي أدمي وقشرت جلبته كما أن القرح إذا فعل به ذلك كان إيجاعه أشد وأبلغ، فالهلع بموت أوفى وقد أمد بمصابٍ آخر يكون أتم وأكمل. وقوله أوجع موضوعٌ موضع أشد إيجاعاً.
فإن قيل: كيف صلح ذلك، وأفعل الذي للمبالغة والتفضيل يتبع ما أفعله وكذلك أفعل به، وفعل التعجب يجب أن يكون من الثلاثي لا غير: فَعَل وفَعُل وفَعِلَ، وأوجعني ليس منها؟ قلت: ذلك سائغٌ على مذهب سيبويه، إذ كان عنده أن فعل التعجب يكون من الثلاثي ومما كان على أفعل خاصة، على ذلك حكي قولهم: ما أعطاه للمال، وما آتاه للخير، وإنما هما من الإيتاء والإعطاء، لا من الأتي والعطاء، وكذلك قولهم: ما أسداه للمعروف، وذلك لكثرة وجوه الشبه بين فعل وأفعل، ألا ترى أنهما يتفقان في معنىً، وأه يقال في مفعولهما مفعولٌ، وفي فاعلهما فاعل، وأن كل واحدٍ منهما يقع في مطاوعة الآخر، إلى غير هذا من الشبه. وكان أبو العباس المبرد يقول: ذلك جائزٌ على حذف الزوائد، يعني بناء التعجب من أفعل ويشبهه بقول الشاعر:
يكشف عن جمامه دلو الدال(1/564)
وقوله:
ومهمه هالك من تعرجا
ويقول الله تعالى: " وأرسلنا الرياح لواقح ". ويجوز مثل هذا في كل ما كان أصله ثلاثياً على أي بناءٍ حصل. وكان يتبع مذهب الأخفش في ذلك، فاعلمه.
؟ وقال متعم بن نويرة يرثي مالكاً أخاه
لقد لامني عند القبور على البكا ... رقيقي لتذراف الدموع السوافك
فقال أتبكي كل قبرٍ رأيته ... لقبرٍ ثوى بين اللوى فالدوانك
فقلت له إن الشجا يبعث الشجا ... فدعني فهذا كله قبر مالك
يقول: استسرف رفيقي بكائي عند القبور، واستفظع سيلان الدموع من عيني فقال موبخاً: أمن أجل قبرٍ لك بين اللوى فالدوانك تبكي عند كل قبرٍ تراه؟ فأجبته بأن الحزن يهيج الحزن فاتركني، فكل قبرٍ أنتهي إليه يذكرني قبر مالكٍ، إذ ليس لي في قبر مالكٍ إلا مثل مالي في القبور كلها. يريد أن أسباب الحزن ومهيجاته تتشابه، فكلٌ منها يقوم مقام الآخر ولا سيما وقد توافقت في الجنسية. وقوله لتذراف الدموع السوافك أي من أجله، بعد قوله على البكا، فيه من الفائدة المتجددة التبيه، على إجابة الدموع له، وانصبابها بحسب مراده، حتى لا جمود من الحجاج في شيءٍ من الأوقات، ولا توقف من السيلان في حالٍ من الحالات، وليس كل باكٍ بهذه الصفة. فكأنه لامه على البكاء من أجل ما استنكره من إجابة الدموع السائلة له، إذ كان ذلك بالضرر عليه أعود، وإلى بطلان العين بمكانه أدعى. وقال السوافك والسفك صب الدم والدمع، فوصف الدموع بها لأنها جمع سافكةٍ، والمراد ذوات السفك. والسفك أيضا: نثر الكلام. ويقال: رجل سفاكٌ للدماء، وسفاكٌ بالكلام، أي يثير الكلام ويصب الدماء.(1/565)
وقوله بين اللوى فالدوانك اكتفى بين باللوى، وهو مسترقٌ الرمل لوقوعه على أماكن مختلفة، ولما اكتفى به جاز أن يترتب عليه فالدوانك. ولو روي والدوانك كان جائزاً، إلا أن اللوى حينئذ لا يتصور شموله لبقاع كما يتصور في أسماء الجموع شمولها للكثير، نحو القوم والرهط والعشيرة.
والشجا: الحزن. يقال شجاه يشجوه شجواً، فشجي يشجي شجاً. ومعنى يبعث يهيج ويثير. وعلى هذا قولك بعثته من منامه، والبعث في الجند. وقوله فهذا كله قبر مالك أشار بهذا إلى الجنس كما هو، كأنه أراد جنس القبور؛ يدل عليه إتباعه إياه بما يفيد العموم، وهو وقوله كله. ويقال ذرفت عينه ذرفاً وذرفاناً وذريفاً. فأما قوله تذارف فهو من باب ما تكثر فيه المصدر من فعلت وتلحقه الزوائد وتبنيه بناءً آخر على غير ما يجب للفعل، قصداً إلى المبالغة والتكثير. وقوله الدوانك علمٌ لموضعٍ. ودونك فيما أظنه مهملٌ.
ومالك بن نويرة قتل في الردة أيام أبي بكرٍ رضي الله عنه.
؟ وقال أبو عطاءٍ السندي
ألا إن عيناً لم تجد يوم واسطٍ ... عليك بجاري دمعها لجمود
عشية قام النائحات وشققت ... جيوبٌ بأيدي مأتمٍ وخدود
افتتح كلامه بألا، ثم أخذ يعظم أمر الفجيعة، ويبين موقعها من النفوس، وشدة تأثيرها في القولب، واشتراك الناس كافةً في الجزع لها، والهلع عليها، فقال: إن عيناً لم تتسخ بدمعها الجاري على هذا المرثي يوم واسطٍ لجمود الحجاج على المصائب، شديدة البخل بما في شئونها من الذخائر. والجمود: ضد الذوب، واستعماله في الدمع مجاز.
وقوله عشية قام النائحات بدلٌ من قوله يوم واسطٍ، وأسماء الزمان تضاف إلى الأفعال، وهو توقيتٌ وتحديدٌ، إلا أن فيه بياناً لتفظيع الشان. وعلى هذا ضبطهم لمدى الأوقات في ترتيب النوائب، والتنبيه على ما يتقدم من الأحداث أو يتأخر. ومعنى قيام النائحات، تهيؤها للنوح. وعلى هذا قولهم: قامت السيوف، وقوله تعالى: " إذا قمتم إلى الصلاة. وأصل التناوح: التقابل، يقال(1/566)
في الجبلين المتقابلين: هما يتناوحان. وقوله شققت جيوبٌ بأيدي مأتمٍ وخدود فالمأتم: النساء يجتمعن في الخير والشر، وأصله من الأتم، وهو التقاء المسلكين، ومنه أيضاً الأتوم في صفة النساء. وهذا الكلام وإن كان اقتصاص حالٍ ففيه دلالةٌ على تمكن الجزع بالمصاب من كافة الناس، وتناهيهم فيما يستدل به على شدة تأثيره فيهم.
فإن تمس مهجور الفناء فربما ... أقام به بعد الوفود وفود
فإنك لم تبعد على متعهدٍ ... بلى كل من تحت التراب بعيد
الرواية المختارة: " وربما أقام به بعد الوفود وفود "، بالواو، وذلك أن الشرط في قوله فإن تمس مهجور الفناء جوابه فإنك لم تبعد، ويصير: وربما أقام بيان الحال فيما تقدم من رياسته وقت توفر الناس على قصده وزيارته. والمعنى: إن مت وصرت مهجور الساحة مرفوض الخدمة - وربما كانت الوفود فيما مضى من حياتك تزدحم على بابك، وتتلاقى في فنائك - فإنك الساعة لم تبعد على من يتعهدك، ويرى قضاء حقك، وإقامة الرسم في واجبك، ثم قال مستدركاً على نفسه: بلى كل من تحت التراب فقد بعد عن ذلك كله. ويعني بالوفود طلاب الحاجات والمؤدين لواجبات الشكر، إذ كان في حياته المقصود والمشار إليه، والمصطنع لطوائف الناس بما يتفرق من إحسانه فيهم.
وقوله على متعهدٍ يريد متتبع العهود بالحفظ لها، ومنعها من الضياع والدروس. وكما يقال: تعهدت الشيء إذا تأملته هل بقي على ما عهدته، يقال: تفقدت الشيء إذا تأملته هل لحقه فقودٌ أم لا. وإذا روبت فربما أقام به بعد الوفود وفود، وجعلته جزاءً للشرط، يصير فإنك لم تبعد استئناف كلامٍ، ويكون الفاء رابطةً لجملةٍ على جملةٍ، والمعنى: إن هجر فناؤك الساعة لموتك فربما كان مألفاً للوفود أيام حياتك. وفي طريقته قول الآخر:
فقد كان يخشاك الكمي ويتقي ... أذاك ويرجو نفعك المتضعضع
فإن قيل: الشرط والجزاء لا يصحان إلا فيما كان مستقبلا؛ ألا ترى أنه لا يجوز أن يقول القائل: إن خرجت أمس أعطيتك فيه درهماً؛ لأن الوقت وقد انقضى(1/567)
لا يصح تعليق الشرط والجزاء به، وإنما يعلقان أبداً بما يستأنف من الزمان، حتى يصح من الفاعل إيقاع فعله به واستحقاقه الجزاء عليه. قلت: إن الأمر في الشرط على ما ذكرت إلا في لفظ كان، لأنهم جوزوا أن يقول القائل: إن كنت خرجت أمس إلى موضع كذا أعطيتك اليوم كذا، والمعنى إن ثبت في علمي وقوع الخروج منك أمس. وجوزوا هذا في لفظة كان لقوته في العبارة عن الأحداث، فأما الجزاء فلا يجوز فيه مثل هذا لا بلفظة كان ولا بغيره. ويمتنع أن يقال: إن تجئني اليوم أعطيتك أمس، على أن تكون العطية سلفاً في جزئه على فعله. فإن قيل: كيف جاز أن تقول على هذا " فربما أقام " وأقام بناء ماضٍ؟ قلت: إن الجواب في قوله فربما ليس بالفعل، وإنما هو بجملةٍ من مبتدإٍ وخبرٍ، كأنه قال: ففناؤك ربما أقام به بعد الوفود وفودٌ فيما مضى. والفاء في جواب الجزاء إنما تجلب إذا كان الجزاء غير موافقٍ للشرط، وهو أن يكون مبتدأً وخبراً، لا فعلاً وفاعلاً، وإذا كان كذلك فقد سلم اللفظ وصار المعنى: إن أمسى فناؤك مهجوراً الساعة فربما كان مألوفاً من قبل. والعرب تقول: هذا بذاك. أي عوضٌ من ذاك. فأما وقوع الماضي بعد إن فلأن إن ينقله بكونه شرطاً إلى المستقبل، وهذا كما ينقل لم بناءً المستقبل إلى الماضي. وهذا ظاهرٌ.
؟؟
وقال آخر:
لو كان حوض حمارٍ ما شربت به ... إلا بإذن حمارٍ آخر الأبد
حمارٌ اسم أخيه، وكان في حياته يتعزز به فلا يعترض عليه أحدٌ فيما يفعله، ولا يطمع إنسانٌ في اهتضام جانبه وقصده فيما يختصه، فلما أصيب به استلين جانبه، واستبيح حريمه، حتى إنه جبى ماءً في حوضٍ ليسقي إبله منه، فجاء من زاحمه فيه واستبد به دونه، فقال متلهفاً: لو كان هذا الحوض حوض حمارٍ أخي ما جسرت على شرب مائه، ولا على امتهانه فيه، بل كنت تستأذنه ثم تقدم عليه. وقوله آخر الأبد يتعلق بقوله ما شربت به. فأما تكريره لفظة حمارٍ فهم يفعلون ذلك في الأعلام وما يجري مجراها، وفي أسماء الأجناس، ويكون القصد إلى التعظيم في التكرير.(1/568)
على ذلك قوله تعالى: " رسل الله الله أعلم حيث يجعل رسالاته " وقول الشاعر:
لا أرى الموت يسبق الموت شيءٌ ... نغص الموت ذا الغنى الفقيرا
وقد قيل إن حماراً المذكور اسم رجلٍ كان يضرب به المثل في الذل، فلذلك ذكره. ولا يجوز أن يراد به واحدٌ من الحمر، لأنه لو كان كذلك لوجب أن يقول في الثاني إلا بإذن الحمار؛ لأن النكرة إذا أعيد ذكرها يجب تعريفه بالألف واللام إشارةً إليه. على هذا كتب في أواخر الكتب وقد قدم في أوائلها: سلامٌ عليك: والسلام عليك.
لكنه حوض من أودى بإخوته ... ريب الزمان فأمسى بيضة البلد
هذا الكلام فيه تنبيهٌ إلى شدة فاقته إلى من يذب عنه، وتأكد جزعه لما فاته من الصيانة بإخوته، فيقول: لكنه حوض رجلٍ فرق الدهر بينه وبين من كان يعتز به، ويدفع الظلم والهضيمة عن نفسه بمكانه، فأمسى لا ناصر له، ولا دافع دونه، كبيضة البلد. وقد قيل في بيضة البلد: إنه أراد بيض النعام، لأنها سيئة الهداية، فتضع بيضها في موضع، ثم تتركه ضلالاً عنه فتضيع، وربما تذهب وتحضن بيض غيرها تظن أنها بيضها. وقد ضرب المثل بها فقيل:
كتاركةٍ بيضها بالعراء ... وملبسةٍ بيض أخرى جناحا
وقد قيل: إن بيضة البلد هي الكمأة البيضاء تنشق عنها الأرض - وهي الفقع - فتطؤه الماشية، وتنقره العافية، ولذلك قيل: أذل من فقعٍ بقاعٍ. وكما ضرب المثل ببيضة البلد في الذل ضرب المثل بها في العز أيضاً. وقد مضى ذكرها. وأنشدني بعضهم لأخت عمرو بن عبد ودٍ ترثي أخاها، وكان أمير المؤمنين عليه السلام قاتله:
لو كان قاتل عمروٍ غير قاتله ... بكيته ما أقام الروح في جسدي(1/569)
لكن قاتله من لا يعاب به ... وكان يدعى قديماً بيضة البلد
والمراد إذا مدح أنه لا نظير لها، ولا أخت معها، فالنعامة تطيف بها إشفاقاً عليها. ومما يحتج به في الذم قول الآخر:
إن أبا نضلة ليس من أحد ... ضل أباه فهو بيضة البلد
وبيضة الإسلام: جماعتهم. ويقال تفرى بيضة الأرض عن بني فلانٍ، إذا تناسلوا وكثروا. وبيضة الخدر قد تقدم القول فيه.
لو كان يشكي إلى الأموات ما لقي الأحياء بعدهم من شدة الكمد
ثم اشتكيت لأشكاني وساكنه ... قبرٌ بسنجار أو قبرٌ على قهد
قصده إلى بيان بر أخيه به أيام حياته، فقال: لو جرت العادة بتكلف الأحياء الشكوى إلى الأموات، وإنهاء ما يقاسونه من الجزع فيهم، ومن النوائب بفقدهم وبعدهم، ثم كان ينفع ذلك أو يثمر إصغاءً وإجابةً، وجريت أنا على عادتهم في مباثة أخي، والإفاضة في الشكو إليه، لأرضاني وأزال شكواي.
وقوله أشكاني يقال شكوته فأشكاني، كما يقال طلبت منه كذا فأطلبني، وعتبت عليه فأعتبني. وقوله وساكنه قبرٌ بسنجار أو قبرٌ على قهد، قدم المعطوف وهو ساكنه على المعطوف عليه، وهو قبرٌ بسنجار. ومثله قوله:
عليك ورحمة الله السلام
وإنما يحسن هذا إذا كان العامل مقدماً، وهو في الفعل والفاعل أكثر منه في المفعول، فأما المجرور فلا يجوز ذلك فيه، لا يجوز أن تقول مررت وعمروٍ بزيدٍ إذ كان فيه تقدم المعطوف على المعطوف عليه وعلى العامل فيه. والكمد: حزنٌ وهمٌ لا يستطاع إمضؤه، وقال الدريدي: هو مرض القلب من الحزن. يقال كمد يكمد كمداً، ورأيته كامد الوجه وكمد الوجه، إذا بان به أثر الكمد؛ وأكمده الحزن إكماداً.(1/570)
وقال رجلٌ من خثعم
نهل الزمان وعل غير مصرد ... من آل عتابٍ وآل الأسود
من كل فياض اليدين إذا غدت ... نكباء تلوي بالكنيف الموصد
النهل: الشرب الأول. والعلل: الشرب الثاني. والتصريد: تقليل الشرب؛ يقال إناءٌ مصردٌ، إذا كان ما يحويه دون الري، ويقال صرد عطاءه إذا نزره. وقصد الشاعر إلى بيان تأثير الزمان في الذين ذكرهم حالاً بعد حالٍ، ووقتاً بعد وقتٍ، وأنه استوفى منهم ما أراد دفعةً بعد أخرى، وثانيةً بعد أولى، غير مقللٍ ولا مطفف.
وقوله من كل فياض اليدين بدلٌ من قوله من آل عتابٍ، وقد أعاد العامل فيه، وهذا يكثر في المجرور. على هذا قول الله تعالى: " قال الملأ الذين استكبروا للذين استضعفوا لمن آمن منهم " ألا ترى أنه أعاد اللام كما أعاد هذا الشاعر من. وهذا التكرير تأكيدٌ للإبدال، وتنبيهٌ على أن الثاني من الأول. والفياض: الكثير السيلان، وهو بناء المبالغة. والنكباء: ريحٌ تنكبت عن مهاب الرياح الأربع. وإذا كثرت النكباوات واشتد هبوبها شمل القحط: ويقال: إنه لمنكابٌ عن الحق، أي كثير العدول عنه، والأنكب البعير كأنه يمشي في شق، ومعنى تلوي: تذهب به. والكنيف: الحظيرة من الشجر؛ والموصد: الذي جعل له إصادٌ إحكاماً له، والإصاد: عتبة الباب، والجميع الأصد. وفسر قوله عز وجل: " إنها عليهم مؤصدةٌ " أي مطبقةٌ. ويهمز ولا يهمز. وقيل: الوصيد الفناء. والمعنى أن الزمان ألح عليهم، وتناول منهم الأفضل فالأفضل تناولاً لا تقليل فيه ولا تعذير، فذهب منهم بكل رجلٍ سخيٍ واسع المعروف إذا اشتد الزمان وأسنت الناس. وقول الجعدي:
سألتني عن أناسٍ هلكوا ... شرب الدهر عليهم وأكل
ليس مما قاله في شيء، وإنما يريد مر عليهم دهرٌ مديد وزمانٌ طويل، فشرب الناس بعدهم وأكلوا ونسوا أولئك. وهذا مثل.
فاليوم أضحوا للمنون وسيقةً ... من رائحٍ عجلٍ وآخر مغتد(1/571)
خلت الديار فسدت غير مدافعٍ ... ومن الشقاء تفردي بالسودد
قوله فاليوم أشار به إلى الزمان الحاضر المتصل بما بعده، غير محصورٍ بنهاية، ولا مضبوطٍ بذكر غاية، وهذا كما يقال: فلانٌ بالأمس كان يفعل كذا وهو اليوم رئيس بلدٍ. فذكر الأمس واليوم لاتصال الوقتين، وتقريب المدى بين الماضي منهما والحاضر. والوسيقة: الطريدة. ونبه بهذا الكلام على أن الدهر بعد جارٍ على عادته المستأنفة معهم في الأخذ منهم، والذهاب بهم. وقوله من رائحٍ عجلٍ وآخر مغتد بيان لذهاب الواحد منهم في إثر الآخر. والعجل: المستعجل. ويقال عجلٌ بكسر الجيم وعجلٌ، ومثله العجلان.
وقوله خلت الديار فسدت غير مدافعٍ يروى غير مسودٍ.
ومعنى خلت الديار مات الرؤساء الذين لكل واحد منهم بيتٌ ودارٌ ينسب إليه، ويتبجح به. وإذا رويت غير مدافعٍ يكون حالاً، كأنه سادهم ولا منازع له ولا متأبي عليه. وإذا رويت غير مسودٍ جاز أن يكون غير مفعولاً من سدت، فيكون مثل قول الآخر:
وضع الدهر عليهم بركه ... فأراه لم يغادر غير فل
فيكون المعنى: سدت من لا يصلح أن ينسب إلى السيادة في حال؛ لأن من استصلح لها، أو ذكر في عداد الرؤساء إذا عدوا، ماتوا وبادوا. وجاز أن يكون حالاً، ويكون المعنى سدت قبل أوان سيادتي، أي سدت ولم أسود بعد. وقوله ومن الشقاء تفردي بالسودد، يؤكد المعنى الذي ذكرناه أولاً في غير مسود، وإنما شقي بزعمه لأنه فجع بؤساء عشيرته، وفي ذاك ضعفه وتراجع رياسته.
وقال محمد بن بشيرٍ الخارجي
نعم الفتى فجعت به إخوانه ... يوم البقيع حوادث الأيام(1/572)
سهل الفناء إذا حللت ببابه ... طلق اليدين مؤدي الخدام
وإذا رأيت شقيقه وصديقه ... لم تدر أيهما ذوو الأرحام
المحمود: الذي يطلبه نعم بالاختصاص من بين جنسه محذوفٌ، كأنه قال نعم الفتى فتىً فجعت به إخوانه. والضمير من قوله به عائدٌ إلى المحذوف، والجملة من الفعل والفاعل قد خصصته حتى صار كالمعرفة. ومثله قوله تعالى: " نعم العبد إنه أواب " كأنه قال: نعم العبد أيوب. والحذف في مثل هذا المكان يصلح إذا كان المحمود مشهور الشان، معلوماً أمره من القرائن في الكلام. وارتفع حوادث بفِعلها وفِعلُها فجعت، وذكر الإخوان تنبيهٌ على من آخاه من الأجانب والقرائب جميعاً.
وقوله سهل الفناء ارتفع على أنه خبر مبتدأ مضمر، وجعل فناءه للزوار والمجندين والعفاة سهلا، وذلك مثلٌ لكثرة إحسانه إليهم، وحسن توفره عليهم. ومعنى مؤدب الخدام تنبيهٌ على اقتدائهم بمولاهم في تفقد الوراد وإكرامهم، والمبالغة في التخفف لهم والسعي في مصالحهم.
وقوله وإذا رأيت شقيقه وصديقه فالشقيق إشارة إلى إخوان الولاد ومن جرى مجراهم، ممن شاركه في نسبه حتى كأنه شق منه. والصديق إشارةٌ إلى إخوان المودة ومن صرب بسهمٍ في الانصباب إليه، والاعتزاء إلى جنبته والاعتماد عليه. ثم قال لم تدر أيهما ذوو الأرحام تنبيهاً على تساويهما في المحل عنده، وشمول حسن التفقد لهم، حتى ترى كلاً منهم يدل بمثل إدلال صاحبه، لا تمايز ولا تباين. وفي طريقته قوله:
فما زال بي إكرامهم واقتفاؤهم ... وإلطافهم حتى حسبتهم أهلي
وأشار بقوله: شقيقه وصديقه إلى الجنسين، وفائدتهما الكثرة لا الوحدة. ألا ترى أنه قال: لم تدر أيهما ذوو الأرحام، أي أي الجنسين.
وقال أيضاً:
طلبت فلم أدرك بوجهي وليتني ... قعدت فلم أبغ الندى بعد سائب(1/573)
قوله بوجهي تعلق الباء منه بطلبت، والمعنى ببذل وجهي، كأنه تولى الطلب بنفسه، وابتذل وجهه وجاهه فيه، فلم يدرك المطلوب. ومفعول طلبت محذوف دل عليه قوله فلم أبغ الندى والتقدير: طلبت بعد سائبٍ الندى ببذل وجهي فلم أنله، وليتني قعدت فلم أبغه، ولا يمتنع أن يتعلق الباء من قوله بوجهي بأدرك، وهو المختار عند أصحابنا البصريين، ويكون التقدير: طلبت الندى فلم أدركه ببذل وجهي. وقوله بعد سائب يجوز أن يكون العامل فيه طلبت وكل واحدٍ من الأفعال المجتمعة، وهي: طلبت وأدرك وقعدت ولم أبغ. والمعنى: بعد موت سائب.
ولو لجأ العافي إلى رحل سائبٍ ... ثوى غير قالٍ أو غدا غير خائب
ألم في هذا البيت بقول الآخر:
حتى يكون عزيزاً من نفوسهم ... أو أن يبين جميعاً وهو مختار
لأن معنى من نفوسهم مقيما فيهم، وكالواحد منهم. يقول: ولو التجأ العفاة هاربين من الزمان، ونكد الحدثان، إلى فناء هذا المرثي، أقاموا مكرمين معظمين، لا يجتوونه ولا يبغضونه ما داموا مقيمين، وإذا أرادوا الانصراف عنه اغتدوا غير محرومين ولا يائسين. وانتصب غير على الحال وأشار بالعافي إلى الجنس؛ ويقال عفاه واعتفاه، إذا طلب معروفه، فأعفاه أي أعطاه. ومنه عافية السباع والطير.
أقول وما يدري أناسٌ غدوا به ... إلى اللحد ماذا أدرجوا في السبائب
موضع ماذا أدرجوا نصبٌ على أنه مفعولٌ لأقول، ويجوز أن يكون ما مع ذا بمنزلة اسمٍ واحدٍ وأدرجوا في موضع الخبر، ويجوز أن يكون ما وحده اسماً وذا خبره بمنزلة الذي وأدرجوا من تمامه. والمعنى: أقول متلهفاً فعل من أعياه الأمر فالتحف باليأس، وتعلل بكلمة الحسرة بعد الفوات: أي رجلٍ أدرج في الكفن والغادون به إلى اللحد لا يعلمون. وهذا تفظيعٌ للشأن، وتعظيم لحادث الرزء، وقوله أناسٌ أشار به إلى الجماعة والطائفة، والألف فيه زائدة بدلالة قولهم أنسٌ وأناسيٌ وإنسٌ. وإذا كان كذلك فقوله ناسٌ منه أيضاً، والألف زائدة، وفاء الفعل محذوفة. ومن ذهب إلى أن لفظة الناس ليست من أناسٍ في شيءٍ، وأن الألف فيه منقلبةٌ عن حرفٍ أصليٍ فقد أخطأ. والسبائب: جمع سبيبةٍ، وهي الثوب الأبيض، العمائم(1/574)
وغيرها. وكذلك السب. قال الشاعر:
يحجون سب الزبرقان المزعفرا
وكل امرئٍ يوماً سيركب كارهاً ... على النعش أعناق العدى والأقارب
العدى: الغرباء، وانتصب كارهاً على الحال من سيركب، وموضع على النعش منصوبٌ على الحال مما في قوله كارهاً، ويجوز أن يكون صفة لكارهٍ، كأنه قال: يركب كارهاً حاصلاً على النعش أعناق العدى يوماً ما. وقال الخليل: قومٌ عدىً: بعد عنك وغرباء ويقال قومٌ أعداءٌ أيضاً بهذا المعنى. والعدى: البعد نفسه.
وقال دريد بن الصمة
نصحت لعارضٍ وأصحاب عارضٍ ... ورهط بني السوداء والقوم شهدي
فقلت لهم ظنوا بألفي مدججٍ ... سراتهم في الفارسي المسرد
يقال نصحته ونصحت له، نصحاً ونصيحةً ونصاحةً ونصاحيةً، وهو ناصح الجيب، أي ناصح الصدر. وقوله والقوم شهدي فائدته أنهم كانوا له حاضرين ومضطرين من كلامه وإشارته وبذله النصح لهم، إلى ما كان أدى إليه مراسلتهم في ذلك وهو غائبون، إذ كان يبين لهم منه ما كان يبين وقت الحضور.
وقوله ظنوا بألفي مدججٍ يجوز أن يكون معناه: ظنوا كل ظنٍ قبيحٍ بهم إذا غزوكم في أرضكم وعقر دياركم. ويجوز أن يكون معنى ظنوا أيقنوا، لأن الظن يستعمل في معنى اليقين. على ذلك قول الله تعالى: " الذين يظنون أنهم ملاقوا ربهم ".
وقوله سراتهم، يعني به رؤساءهم وخيارهم، وقد مضى القول في بنائه. والفارسي المسرد، يعني به الدروع. والسرد: تتابع الشيء، كأنه أراد في الدروع(1/575)
تتابع الحلق في النسج. لذلك قيل في الأشهر الحرم: ثلاثةٌ سردٌ، وواحدٌ فردٌ. وقال الخليل: السرد: اسمٌ جامعٌ للدروع وما أشبهها من عمل الحلق، لأنه يسرد فيثقب طرفاً كل حلقةٍ بالمسمار، وفي القرآن: " وقدر في السرد "، أي اجعل المسامير على قدر خروق الحلق، لا يغلظ المسمار فيتخرق، أو يدق فيقلق. ومعنى البيتين: بذلت نصحي لهؤلاء القوم بلساني وقولي فيما صلح فيه التخاطب، وبإشارتي وتعريضي، وهم لي حاضرون يسمعون ويعون، وقلت لهم: إن الأعداء لكم مترصدون، وإليكم قاصدون، وعددهم وعددهم تامة، فوسعوا مجال الظن السيء بهم إذا تمكنوا منكم، أو أيقنوا بقصدهم، على الطريقتين اللتين بينا.
فلما عصوني كنت منهم وقد أرى ... غوايتهم وأنني غير مهتد
لما علمٌ للظرف، وهو لوقوع الشيء لوقوع غيره، فيقول: لم أصروا على ما كانوا عليه، واطرحوا نصحي ومشورتي عليهم، تبعث رأيهم ولم أتفرد عنهم وأنا أرى جهلهم، وأتصور عاقبة لجاجهم، وأني ضالٌ عن الطريق عادلٌ عن الصواب في اتباعي لهم، لكني لم أستصلح لنفسي الخروج منهم، والتباعد عنهم. وقوله كنت منهم من هذه تفيد تبيين الوفاق وترك الخلاف، وأن الشأنين واحدٌ لا تمايز بينهم ولا تباين. وهم يقولون في النفي أيضاً. لست منك، أي انقطع ما بيننا، فلا خلاط ولا اشتراك. على هذا قول الشاعر:
فإني لست منك ولست مني
فأما قولهم: أنت مني فرسخان، قال شيخنا أبو علي الفارسي رحمه الله هذا كلام الذليل مع المستذل، والمعنى: أنت في هدايتي مدى الفرسخين. وإلى غايتهما، وقد خالف هذه الطريقة حصين بن المنذر فقال:
أمرتك أمراً حازماً فعصيتني ... فأصبحت مسلوب الإمارة نادما
فما أنا بالباكي عليك صبابةً ... وما أنا بالداعي لترجع سالما(1/576)
أمرتهم أمري بمنعرج اللوى ... فلم يستبينوا الرشد إلا ضحى الغد
قوله أمري يجوز أن يريد المأمور به، ويكون الأصل: أمرتهم بأمري، فحذف الجار ووصل الفعل بنفسه. ويجوز أن يكون مصدر أمرت، وجاء به لتأكيد الفعل. وقوله بمنعرج اللوى تحديدٌ وتوقيتٌ، وبيان أن ذلك كان من همه حتى اختار له الموضع الذي كان أوفق عنده، والوقت الذي كان أعود عليهم فيما أمرهم به. واللوى: مسترق الرمل. ومنعرج: منعطف. وقوله فلم يستبينوا الرشد أي لم يتبينوه في الحال حتى جاء الوقت المقدر له. وذكر الغد يكثر فيما يتراخى من عواقب الأمور إذا أحيل عليه البيان والظهور فيه. والمعنى: في المستأنف من الوقت. وهذا زاد عليه ضحى لأنه من النهار أضوأ، فكأن المعنى: لم يبن لهم ما دعوتهم إليه إلا في الوقت الذي لا لبس فيه ولا اعتراض شك. ومثله قول المتلمس:
عصاني فلم يلق الرشاد وإنما ... يبين عن أمر الغوي عواقبه
وهل أنا إلا من غزية إن غوت ... غويت وإن ترشد غزية أرشد
يقال رشد يرشد رشداً ورشاداً، ورشد يرشد؛ فلك أن تضم الشين من ترشد وأن تفتحها. وقوله هل أنا هو في مذهب النفي وإن كان استفهاماً ولذلك تبعه إلا، كأنه قال: ما أنا إلا من غزية في حالتي الغي والرشاد، فإن عدلوا عن الصواب عدلت معهم، وإن اقتحموه اقتحمت بهم. وغزية هو رهطه. فإن قيل: إنه كرر معنىً واحداً في هذه الأبيات مرتين، لأن قوله إن غوت غويت قد اشتمل عليه كنت منهم وقد أرى غوايتهم وأنني غير مهتد. قلت: في الأول اقتص الحال التي دار عليها معهم، وفي الأمر بقيةٌ، وللنصح توجهٌ، وأنه اجتهد في ردهم إلى ما هو أرد عليهم وأنفع لهم، فلما عصوه في ذلك أمسك عنهم جارياً في الطريق الذي يسلكونه وإن علم الخطأ فيه. وقوله وهل أنا إلا من غزية بيانٌ لما دفعوا إليه بعد تبين الرشاد لهم، وابتلوا به من مقاساة سوء العاقبة لسوء اختيارهم، فقال: وما أنا إلا شريكٌ لهم فيما أثمر لهم جهلهم وغوايتهم كما كنت شريكاً لهم لو رشدوا فيما كان يثمر لهم رشادهم. فهو في الأول ذكر اتباعه لهم بعد النصح ناظراً من وراء رأيه ما يدفعون إليه ويمتحنون به، وفي الثاني ذكر انغماسهم معهم فيما أعقب لهم اختيارهم، وأنه شقي بمثل ما شقوا به في عقبى جهلهم أو بأشد منه، وإذا كان كذلك اختلف الحالتان(1/577)
والاتباعان. ثم أخذ يبين محنته، فقال:
تنادوا فقالوا أرادت الخيل فارساً ... فقلت أعبد الله ذلكم الردي
فجئت إليه والرماح تنوشه ... كوقع الصياصي في النسيج الممدد
يعني بالخيل الفرسان. يقول: نادى بعضهم بعضاً: أسقطت الخيل فارساً! فقلت: أعبد الله ذلكم الساقط الهالك، وإنما دعاه إلى هذا القول أمران: أحدهما سوء ظن الشقيق؛ والثاني أنه علم إقدامه في الحرب، وابتذاله النفس وتعرضه للحتف، فدعاه الشفقة والإشفاق إلى قصده لوقايته بنفسه، فلحقه والرماح تتناوله وتقع فيه وقع الصياصي، وهي خشبة الحائك في نسجه الممدود إذا أراد تمييز طاقات السدى بعضها من بعض، وكأنه سميت بذلك تشبيهاً بصيصية الديك وهما مخلبان في ساقه، وبصيصيه الثور، وهو قرنه. وقوله أعبد الله، وقد سماه معبداً أيضاً، وهم يفعلون كثيراً في الأعلام مثل ذلك. ألا ترى حالهم في سليمان، وأنهم يسمونه مرة سليماً ومرة سلاماً وقول الآخر:
صبوت أبا ذيبٍ وأنت كبير
يعني أبا ذؤيب. وقوله: تنوشه من النوش. والظبية تنوش الأراك وتنتاشه، أي تتناوله، وفي القرآن: " وأني لهم التناوش من مكان بعيدٍ ".
وكنت كذات البو ريعت فأقبلت ... إلى جلدٍ من مسك سقبٍ مقدد
بين ماذا أدرك من أخيه لما أراد وقايته والذب عنه فقال: كنت كناقةٍ لها ولدٌ فأفزعت فيه لما تباعدت عنه في مرعاها، فأقبلت نحوه، فإذا هو بجلدٍ مقطعٍ، وشلوٍ مبدد. كأنه انتهى إلى أخيه، وقد فرغ من قتله ومزق كل ممزق. والبو، أصله جلد فصيلٍ يحشى تبناً لتدر عليه، فاستعاره للولد. وكذلك الجلد هو ما جلد من المسلوخ وألبس غيره لتشمه أم المسلوخ فتدر عليه. والمسك: الجلد، لأنه يمسك ما وراءه من اللحم والعظم. والسقب: الذكر من أولاد الإبل؛ وناقةٌ مسقابٌ، إذا ولدت الذكران كثيرا.(1/578)
فطاعنت عنه الخيل حتى تبددت ... وحتى علاني حالك اللون أسود
قتال امرئٍ آسى أخاه بنفسه ... ويعلم أن المرء غير مخلد
يقول: دافعت الخيل - يعني الفرسان - عنه حتى انكشفوا، وإلى أن جرحت فسال الدم علي، وكان ذلك مني دفاع رجلٍ جعل نفسه إسوة أخيه، واختار لها مثل ما سيق إليه، عالماً بأن المرء لا يبقى، بل مآله إلى الفناء، وأن استقتاله ليلحق بأخيه خيرٌ له من أن يبقى بعده فيشقى بالجزع له وفيه. ويقال: هو يأتسي بفلانٍ، أي رضي لنفسه ما رضي ذاك لنفسه. والمواساة والتأسي والائتساء واحد. وقوله: حتى علاني حالك اللون أسود، فيه إقواءٌ، وكثيرٌ من العلماء يهونون الأمر في الإقواء ولا يعدونه عيباً قبيحا. وحكي عن الأخفش أنه قال: ما أنشدتني العرب قصيدةً سلمت من الإقواء طالت أو قصرت. ويروى: " وحتى علاني حالكٌ لون أسود "، والضعف فيه ظاهر. ألا ترى أنه قال حالكٌ وهو الشديد السواد، ثم قال لون أسود. وفي إضافة لون إلى أسود ما لا يرتضى. وأجود من هذا أن يروى: حالك اللون أسودي وهو يريد أسوديٌ، كما قيل في الأحمر الأحمري، وفي الدوار دواريٌ، ثم خففت ياء النسبة بحذف أحدهما، وهو الأول، وجعل الثاني صلة.
فإن يك عبد الله خلى مكانه ... فما كان وقافاً ولا طائش اليد
قوله خلى مكانه أي مضى لسبيله. والوقاف: الجبان المتوقف فيما يعن له عجزاً وضعف قلب. ويقال: وقافةٌ أيضاً، والهاء للمبالغة، والطائش: الخفيف، ومنه الطياش. ويقال: هو طائش اليد، إذا عدل سهمه عن الهدف ولم يقصد قصده؛ ثم يقال: هو طائش اليد، إذا كان فيما يتولاه من الأعمال كذلك. يقول: إن كان عبد الله توفي وخلى ما كان يسده بنفسه وغنائه من أمر العشيرة وسياستهم، فلقد كان مقداماً صائب الرأي، حليماً فيما يأتيه، لا يطيش زهواً، ولا يؤثر على الصواب شيئاً.
كميش الإزار خارجٌ نصف ساقه ... بعيدٌ من الآفات طلاع أنجد
الكمش والكميش: الخفيف السريع الحركة. يقال: انكمش في حاجتك، أي تخفف وأسرع. وأضاف الكميش إلى الإزار على المجاز كما يقال: عفيف الحجزة،(1/579)
ونقي الجيب. وقوله خارجٌ نصف ساقه يصفه بالتشمر. وقد قيل: هو عاري الظنوب، في هذا المعنى. قال:
عاري الظنابيب ممتد نواشره
وقد يراد بهذا قلة اللحم والهزال. وقوله بعيدٌ من الآفات يريد أنه لا داء به ولا غائلة، فهو سليم الأعضاء متين القوى. ومعنى طلاع أنجد أنه يتصعد في درج السمو. ويقال طلاع أنجدةٍ أيضاً، قال:
طلاع أنجدةٍ في كشحه هضم
فأنجدةٌ جمع نجادٍ، ونجادٌ جمع نجدٍ. فأما أنجدٌ، فالأصل أن يكون لأدنى العدد وقد استعير للكثير، لأنه كفلسٍ وأفلس. وهم كما يضعون بناء القليل للكثير والكثير للقليل في أصل الوضع، يستعيرون بناء القليل للكثير وإن كان بناء الكثير قد استعمل أيضاً. يكشف هذا أيضاً أنهم يقولون: رسنٌ وأرسانٌ، فوضعوه للكثير وإن كان في الأصل للقليل؛ وقالوا درهمٌ ودراهم فوضعوه للقليل. وقال الله تعالى: " وهم في الغرفات آمنون " يريد أهل الجنة. فوضع الغرفات موضع الغرف على الاستعارة.
قليل التشكي للمصيبات حافظٌ ... من اليوم أعقاب الأحاديث في غد
يريد بقوله قليل نفى أنواع التشكي كلها عنه. على هذا قوله تعالى: " فقليلاً ما يؤمنون "، وقولهم: قل رجلٌ يقول ذاك، وأقل رجلٍ يقول ذاك. والمعنى: أنه لا يتألم للنوائب تنزل بساحته، والمصائب تتجدد عليه في ذويه وعشيرته، وأنه يحفظ من يومه ما يتعقب أفعاله من أحاديث الناس في غده، فهو نقي الأفعال من العيوب، طيب الأخبار في أفواه الناس، صبورٌ على العزاء.
تراه خميص البطن والزاد حاضرٌ ... عتيدٌ ويغدو في القميص المقدد(1/580)
مثل المصراع الأول قول الآخر:
يابس الجنبين من غير بوسٍ
يصفه بقلة الطعم مع اتساع الحال، وطاعة الزاد، فيقول: ترى بطنه منطوياً والزاد معدٌ، لأنه يؤثر به غيره على نفسه، ولأنه لا نهمة ثم ولا حرص على عمارة البدن، ولا على استسراء الثياب، فهو يغدو في القميص الممزق، إذ كان يبتذل بنفسه فيما كان يكسبه فخراً وعلواً. ويقال: عتد فهو عتيدٌ عتاداً، وأعتدته أنا. ومنه سمي العتيدة التي يكون فيها الطيب، والعتد بفتح التاء وكسرها: الفرس المعد للمهمات من الطلب والهرب وغيرهما، الذكر والأنثى فيه سواء.
وإن مسه لإقواء والجهد زاده ... سماحاً وإتلافاً لما كان في اليد
يقول: وإن انفق عليه إعسار ٌونفاد زاد، وجهدٌ من نكد الزمان وإعوازٌٍ زاده سخاءً وإتلافاً للمال، جرياً على عاداته التي ألفها، لا يهضمه ضرٌ، ولا يلفته فقر. ويقال: أقوى الرجل، إذا نفد زاده. ويقال: زاد الشيء ضد نقص، وزدته أنا فازداد. وفي طريقته قول الآخر:
قد جعل الله فيك قلباً ... يأبى على الشغل أن يضيقا
صبا ما صبا حتى علا الشيب رأسه ... فلما علاه قال للباطل ابعد
يجوز أن يكون صبا الأول من الصبا واللهو، وصبا الثاني من الصباء بمعنى الفتاء، فيكون المعنى: تعاطى اللهو والصبا ما دام صبياً، فلما اكتهل وظهر في رأسه الشيب فاشتعل نحى الباطل عن نفسه زهداً فيه، ورجوعاً إلى الحق، ورغبةً فيما يكسبه الأحدوثة الجميلة من أبواب الصلاح والجد. ويجوز أن يكون المعنى: تعاطى الصبا ما تعاطاه إلى أن علاه المشيب، فيسقط التجنيس من البيت، وهو يحسن به. وما صبا في موضع الظرف على الوجهين جميعاً، أي مدة الأمرين. وحتى للغاية. وقوله ابعد من بعد يبعد، إذا هلك. ولو أراد البعد لقال ابعد، بضم العين. وجرى أبو نواسٍ في هذه الطريقة لما قال:
قد عذب الحب هذا القلب ما صلحا ... فلا تعدن ذنباً أن يقال صحا(1/581)
وطيب نفسي أنني لم أقل له ... كذبت ولم أبخل بما ملكت يدي
أنني في موضع الفاعل لطيب، وليس القصد إلى أنه لم يقل له كذبت قط، وإنما المراد أني لم أجفه بأدون ألفاظ الجفاء. على ذلك قول الله تعالى في الوصاة بالوالدين وتنزيههما عن قبائح القول والفعل: " ولا تقل لهما أفٍ ولا تنهرهما " فأف الأصل في صيانتهما عن الخنا وفحش القول، والنهر الأصل في ترك إيذائهما بالفعل والزحر. فيقول: سلاني طاعتي له واحتشامي منه مدة حياته، وإعظامي إياه في القول عند مخاطبته، والفعل وقت مجالسته ولدى معاملته. وأشار إلى القول بقوله لم أقل له كذبت وإلى الفعل بقوله ولم أبخل بما ملكت يدي. والمعنى لم أبخل بملك يدي عليه، فحذف عليه كما يحذف المفعول إذا دل عليه الكلام.
وقال أيضاً:
تقول ألا تبكي أخاك رقد أرى ... مكان البكا لكن بنيت على الصبر
فقلت أعبد الله أبكي أم الذي ... له الجدث الأعلى قتيل أبي بكر
يقول: اجتمعت علي المصائب والرزايا فاقتسمتني، فإذا دعيت إلى البكاء على أخي، أرى البكاء يحق له لفاقتي إلى حياته، وتكامل فضله في نفسه، لكني وجدت صبوراً إذ كانت عليه بنيتي، وإذ صار ديدني ودأبي وقوله مكان البكا بيان استحقاق أخيه البكاء عليه. وقد قصر البكاء، وللشاعر أن يقصر الممدود باتفاقٍ من المذهبين. وفي طريقته قول الآخر:
ولو شيت أن أبكي بكاً لبكيته ... عليك ولكن ساحة الصبر أوسع
وقوله فقلت أعبد الله أبكي، كشف به عن توالي الرزايا، وأن جلده متوزعٌ فيها، فكأنه قال: إلى من أصرف البكا، ومن أخص به أعبد الله أم المدفون في القبر الأعلى قتيل أبي بكر بن كلابٍ. وقوله الأعلى يريد الأشرف، ويجوز أن يريد الأعلى في مكانه وموضعه. والجدث: القبر، وكذلك الجدف، وجمعه الأجداث.(1/582)
وفي القرآن: " فإذا هم من الأجداث إلى ربهم ينسلون ". وانتصب عبد الله بأبكي، وقتيل على البدل من الذي.
وعبد يغوث تحجل الطير حوله ... وعز المصاب جثو قبرٍ على قبر
نبه بقوله تحجل الطير حوله على أنه ترك بالعراء، وعوافي الطير بأكله، فلم يدفن، وإنما قال تحجل إشارةً إلى امتلاء حواصلها وثقلها، فهي تحجل حوله ولا تطير. والحجل: مشي المقيد، وتوثب الإنسان على إحدى رجليه وقد رفع الأخرى. ونزوان الغراب حجله. وهذا الكلام تلهفٌ وتحزن. وقوله وعبد يغوث وإن استأنف الكلام به فهو في المعنى معطوف على ما قبله، كأنه قال: أيهم أبكي وقد كثروا. وقوله وعز المصاب يروى المصاب بالرفع ويراد بالمصاب المصيبة، ويرتفع جنو على أنه بدلٌ منه، ويكون مفعول عز محذوفاً، كأنه قال: وعز الشاعر المصيبة جثو قبرٍ على قبر. وإذا رويت وعز المصاب بالنصب، يكون المصاب الشاعر، وجثو قبرٍ هو الفاعل، والمعنى غلبه تولي المصائب عليه. وقوله جثو قبر على قبر أي حصول الواحد في إثر الواحد. ويقال: جثا لركبته، وفي القرآن: " حول جهنم جثياً "، أي لازمين لركبهم لا يستطيعون القيام. واستعمال الجثو مجاز هنا؛ لأن القبر لا يجثو. والجثوة من التراب وغيره: ما جمع، وبه سمي القبر جثوة. وروى بعضهم: حثو قبرٍ على قبر فجعل الحثو للقبر، وإنما يحئى عليه، كما قال:
وما من قلىً يحئى عليه من الترب
وروى بعضهم وعزي والمعنى سلى المصاب، أي نفسه، من البكاء والتحزن، توالي الأرزاء عليه؛ فإنه تمرن بها، فصار يصبر عليها. ويكون في هذا ملماً بمعنى قول الآخر:
فقد جعلت نفسي على النأي تنطوي ... وعيني على فقد الصديق تنام
أبى القتل إلا آل صمة إنهم ... أبوا غيره والقدر يجري إلى القدر(1/583)
يقول: لم يرض القتل إلا آل صمة لأنهم الكرام، والدهر يأبى في الاختيار أن يكون حظه من غيرهم، كما أن آل صمة لم يرضوا من أحداث الزمان فيهم إلا بالقتل، إذ كان ذلك عندهم أحسن الميتات وأكرمها وقوله أبى القتل إلا آل صمة يشبهه قول الآخر:
أرى الموت يعتام الكرام ويصطفي ... عقيلة مال الفاحش المتسدد
وقوله إنهم أبوا غيره يشبهه قول الآخر:
وما مات منا ميتٌ حتف أنفه
وقوله والقدر يجري إلى القدر يريد كما قدروا للقتل قدر القتل لهم، لأنهم بما اجتمع فيهم من الخصال الشريفة التي يختارها الدهر لنوائبه، كأنهم خلقوا للدهر ولتأثيره الذي هو القتل، لأن القتل لما كان أشرف أسباب الحتف عندهم فأحبوه ومالوا إليه، صاروا لذلك كأن القتل خلق لهم.
فإما ترينا لا تزال دماؤنا ... لدى واترٍ يسعى بها آخر الدهر
فإنا للحم السيف غير نكيرةٍ ... ونلحمه حيناً وليس بذي نكر
جواب إما أول البيت الذي يليه، وهو فإنا. والفاء من فإنا رابطةٌ ما بعدها بما قبلها، ولا تزال دماؤنا إلى آخر البيت في موضع المفعول لترينا، ولدى واترٍ لفظه واحدٌ والمراد به الكثرة. وآخر الدهر: ظرفٌ، والعامل فيه لا تزال دماؤنا لأن المعنى إما ترينا لا تزال دماؤنا أبد الدهر لدى واترين يسعون بها. ولا يجوز أن يكون العامل فيه يسعى بها، لأن فيه إيهاماً أنهم لا ينالون الوتر من الواترين سريعاً، ولكنهم يسعون بدمائهم أبد الدهر. وهذا الكلام كالاعتذار من كثرة القتل فيهم، فيقول: إن اتصل القتل فينا حتى نرى دماءنا أبد الدهر لدى واترين، فإنا لحبنا للقتل طعم السيوف حقاً غير ذي إنكارٍ ولا امتراءٍ، وكما تتطعم منا فإنا نطعمها أيضاً من غيرنا، فنجعل أعداءنا لحمةً لها غير ذي شكٍ ولا مريةٍ. وقوله غير نكيرةٍ انتصب على المصدر(1/584)
وأكثر ما يستعمل نكيرٌ بغير الهاء فالنكر والنكير، كالعذر والعذير والعذرى. ومثل هذا المصدر يؤكد به الكلام الذي قبله، ويجري مجرى حقاً وما أشبهه. ويجوز أن يكون الهاء من النكيرة للمبالغة. وقوله ونلحمه حيناً فالحين اسمٌ للزمان المتصل، فكأنه قال: ونلحمه فيما يتصل من الأوقات. وليس يريد حيناً من الأحيان. وإن روي غير نكيره على أن يكون الضمير منه يعود إلى السيف كأنه قال: غير منكورٍ له، فيجعله حالاً للحم، فليس بجيد؛ لأن القصد إلى تأكيد الكلام بهذا المصدر؛ فكما أن في آخر البيت قوله وليس بذي نكر تأكيدٌ لما قبله، كذلك يجب أن يكون غير نكيرةٍ هكذا، ليتقابل الصدر والعجز على حدٍ واحدٍ من التأكيد وحصول هاء التأنيث في نكيرةٍ لا يجب أن ينكر، كما لا ينكر في قولهم نكرةٌ ومعرفةٌ، وكما لا ينكر الألف في آخر ذكرى وعذرى.
يغار علينا واترين فيشتفى ... بنا إن أصبنا أو نغير على وتر
نبه بقوله فيشتفى بنا أنهم الثأر المنيم، فإذا أصيبت دماؤهم كان فيها للأعداء الشفاء. وانتصب على الحال من الضمير في علينا. وقوله أو نغير على وتر، يريد على وترٍ لنا عندهم، فكأنه قال: أو نغير على واترين لنا. وقد سلك الأعشى هذه الطريقة، فلم يوف القسمة حقها كما فعل هذا؛ لأنه قال:
فأظعنت وترك من دارهم ... ووترك من قبلهم لم يقم
والمعنى أزعجت الوتر الذي كان لك عندهم من دارهم، على عادتك مع سائر الناس من قبل في إدراك الثأر سريعاً؛ لأن قوله ووترك من قبلهم لم يقم إشارةٌ إلى أنه لا يمهل ولا يهمل فوتره لا يتلوم عند الأعداء.
قسمنا بذاك الدهر شطرين بيننا ... فما ينقضي إلا ونحن على شطر
أشار بقوله ذاك إلى ما تقدم ذكره من تردده في مجاذبة الأعداء طالبين مرةً، ومطلوبين أخرى. وانتصب شطرين على المصدر، كأنه قال: قسمنا الدهر قسمين. ويجوز أن يكون حالاً على معنى قسمناه مختلفاً؛ فوقع الاسم موقع الصفة لما تضمن معناه، كما تقول: طرحت متاعي بعضه فوق بعضٍ، كأنك قلت متفرقاً. والمراد: جعلنا أوقات الدهر بيننا وبين أعدائنا مقسومةً قسمين، فتراها لا ينقضي شيءٌ منها إلا ونحن فيه على أحد الحدين. إما أن تكون لنا الكرة عليهم فننال منهم. وإما أن تكون لهم الجولة علينا فينال منا.(1/585)
وقال تأبط شراً
وذكر أنه لخلفٍ الأحمر، وهو الصحيح.
إن بالشعب الذي دون سلعٍ ... لقتيلاً دمه ما يطل
يجوز أن يكون ذكر الشعب الموصوف لأن قبر ذلك القتيل كان فيه، ويجوز أن يكون ذكره لأنه قتل عنده، وهو في اللغة ما انفرج بين جبلين ونحوهما. والسلع بفتح السين وكسرها: شقٌ في الجبل، ومنه سلعت رأسه، أي شققته. وقولهم هادٍ مسلعٌ، أي يشق أجواز الفاة. وقوله دمه ما يطل من صفة القتيل، والمعنى أني في طلب ثأره، فدمه لا يذهب هدراً. والطل: مطل الدم والدية وإبطالهما. وقال:
أزهير ليس أبوك بالمطلول
خلف العبء علي وولى ... أنا بالعبء له مستقل
أراد بالعبء طلب دمه والنيل من عدوه. وقوله أنا بالعبء له مستقل تحقيقٌ للوعد بإدراك الثأر، وإظهار اقتدارٍ على النكاية في الأعداء. وقوله له أي من أجل المرثي، وإنما سمي الثقل عبئاً لأنه من عبأت المتاع أعبؤه عبئاً، ثم يسمى المتاع عبئاً، فهو كالنقض والنقض. وكثر استعماله حتى تسمحوا به فيما يدخل من الثقل على القلب ولا يحمل على الظهر.
ووراء الثأر مني ابن أختٍ ... مصعٌ عقدته ما تحل
أعطى فيما اجتمع من الوصف الترتيب حقه، وذلك لأنه اجتمع مفردٌ وجملةٌ في صفة ابن أختٍ فقدم المفرد على الجملة، وهذا وجه الكلام وحقه؛ لأن الجملة إنما(1/586)
وصف بها لوقوعها موقع المفرد، فإذا صاحبها مفرد كان الأولى تقديمه، وإذا كان كذلك فعقدته ارتفع بالابتداء، وما تحل خبره. والمصع: الشديد المقاتلة الثابت فيها. ويعني بوراء ها هنا الخلف، وإن كان يصلح للقدام. وفي هذا الكلام ضربٌ من الوعيد، كأنه يجري مجرى قول القائل: الله من ورائك. ويريد: وفي طلب الثأر من جهتي ابن أختٍ هذه صفته، ويعني به نفسه. ويجري هذا المجرى قول الشنفري:
هممت وهمت وابتدرنا وأسدلت ... وشمر مني فارطٌ متمهل
والفارط المتمهل هو الشنفري. وقوله عقدته ما تحل يجوز أن يريد ما يعقده برأيه أو يحكمه لا ينقض. ويجوز أن يريد به قوته وجلادته، وتكون العقدة راجعةً إلى استحكام خلقه وصبره في الشدائد.
مطرقٌ يرشح موتاًكما أط ... رق أفعى ينفث السم صل
شبه نفسه في إطراقه وسكونه، منتظراً لفرصةٍ ينتهزها في إدراك ثأره بالحية، وأنه في إمساكه يرشح بالموت لعدوه كما أن الحية إذا أطرق نفث بالسم. والرشح كالعرق، والنفث، كالقذف. والصل من صفة الأفعى، ويوصف به الداهية وكل خبيث، يقال: هو صل إصلالٍ، كما يقال داهية دواهٍ. وأسماء الحيات وصفاتها تستعار في الدواهي كثيرا. والأفعى مؤنثة، وذكرها الأفعوان. وقال الخليل: الأفعى حيةٌ قصيرةٌ عريضة الرأس. وبنون فيقال أفعىً، وبعض طيئٍ يقلب ألفه واواً فيقول أفعو، وبعض قيسٍ يقلبها ياء فيقول أفعى. ومنه تفعى فلانٌ، إذا ساء خلقه. وقال سيبويه: صرفه أكثر وأجود. ويصلح للذكر والأنثى. والأفعوان الذكر لا غير.
خبرٌ ما نابنا مصمئل ... جل حتى دق فيه الأجل
بزني الدهر وكان غشوماً ... بأبي جاره ما يذل
يعني بالخبر نعي المتوفي؛ وقد استعظمه وجعله داهيةً منكرةً حتى علا شأنه وجل عن أن يضبط بوصفٍ، أو يحد بنعت، فلذلك قال جل حتى دق فيه الأجل. ويقال داهيةٌ مصمئلةٌ، إذا اشتدت. والأجل تأنيثه الجلى، والألف واللام فيه بدلٌ من(1/587)
الإضافة النائبة عن من في قولهم: هو أجل من كذا، ومعناه الجليل. وقوله بزني الدهر أي غلبني واستلبني. وقوله بأبي الباء دخلت للتأكيد زائدةً، كأنه قال: بزني الدهر أبياً. ومثله قول الآخر:
سود المحاجر لا يقرأن بالسور
ويجوز أن يكون عدى بزني بالباء لما كان معناه فجعني، ويكون من باب ما عدي بالمعنى دون اللفظ، كقوله:
إذا تغنى الحمام الوزق هيجني ... ولو تعزيت عنها أم عمار
وقوله جاره ما يذل من صفة الأبي. والأبي المتصعب المتمنع. والغشم: الظلم والقهر. وقوله وكان غشوماً يعني به الدهر، وهو اعتراضٌ بين الفاعل والمفعول، ومثله يتأكد به الكلام. وقوله يذل يروى بفتح الياء، ويذل على ما لم يسم فاعله، والمعنى ظاهر، وصفه بأنه كان عزيز الجار محمي الفناء، وأنه كان له عدةً على الدهر، وسلاحاً معه فاستلبه منه.
شامسٌ في القر حتى إذا ما ... ذكت الشعرى فبردٌ وظل
يابس الجنبين من غير بوسٍ ... وندي الكفين شهمٌ مدل
وصفه بأنه كان ينتفع به في كل حالٍ وزمان، وأنه كان غياثاً للناس في حالتي السراء والضراء، فكان الشمس عند البرد، والظل عند الحر. يقال: ذكت النار تذكو، وأذكيتها، وكذلك أذكيت الحرب. ونوء الشعرى بشدة الحر يجيء. ويقال للشمس ذكاء من ذلك. وقد جاء مثل هذا في النسيب، يقول ابن الرقيات:
سخنةٌ في الشتاء باردة الصيف هلالٌ في الليلة الظلماء
والمعنى أنها للضجيع في الصيف هكذا، وفي الشتاء هكذا. وقد أتى الأعشى بهذين المعنيين في بيتين، وابن الرقيات أتى بهما مع ثالثٍ لهما في بيت واحد. وبيت(1/588)
الأعشى:
وتبرد برد رداء العرو ... س بالصيف رقرقت فيه العبيرا
وتسخن ليلة لا يستطي ... ع أن ينبح الكلب إلا هريرا
وأما قوله يابس الجنبين من غير بوسٍ يريد أنه يؤثر بالزاد غيره على نفسه. وعادتهم التمدح بالهزال، فهو كقول الآخر:
تراه خميص البطن والزاد حاضرٌ ... عتيدٌ ويغدو في القميص المقدد
وقوله ندي الكفين، أراد أنه سخيٌ. ويقال: هو يتندى على أصحابه، أي يتسخى. والشهم: الذكي الحديد، ومنه قيل للقنفذ الشيهم. والمدل هو الواثق بنفسه وبآلاته وعدته.
ظاعنٌ بالحزم حتى إذا ما ... حل حل الحزم حيث يحل
غيث مزنٍ غامرٌ حين يجدي ... وإذا يسطو فليثٌ أبل
وصفه بأنه مستعملٌ للحزم وآخذٌ به، ظاعناً كان أو مقيما. وأشاد بقوله ظاعنٌ إلى غزواته، وأسفاره وغارته؛ وبقوله حل الحزم حيث يحل إلى شدة حذره في إقامته، ودوام اتقائه من الأعداء حتى لا ينساهم ولا يغفل عنهم. وقوله غيث مزنٍ غامرٌ حين يجدي وصفه بأن منافعه عامةٌ للخلق. والمزنة: السحابة البيضاء. والغامر: الشامل جدواه وعطيته. وقوله وإذا يسطو فليثٌ أبل، الأبل: الفاجر المصمم الماضي على وجهه، لا يبالي ما لقي. والمراد أنه في الإحسان بالغٌ أقصى الغايات، وعند السطوة على الأعداء كالليث الكثير الإفساد، الشديد النكاية. والسطو: البسط على الإنسان تقهره من فوق. ويقال: سطا عليه وسطا به. وقال الخليل: سمي الفرس ساطياً لأنه يسطوا على سائر الخيل، فيقوم على رجليه ويرفع يديه.
مسبلٌ في الحي أحوى رفلٌ ... وإذا يغزو فسمعٌ أزل
وله طعمان: أريٌ وشريٌ ... وكلا الطعمين قد ذاق كل(1/589)
مفعول مسبلٌ محذوفٌ. وصفه بأنه في الحي - والحال سلامةٌ - يسبل إزاره خيلاء وكبراً، ويتبختر ذاهباً في الترفة إلى أرفع الدرجة، وأنه ذا غزا فهو كالسمع، وهو الولد بين الذئب الضبع، وهو أخبث السباع وأعداها. والزلل: خفة العجز، وذلك خلقته.
وقوله وله طعمان أريٌ وشريٌ يريد به أنه للموالين كالأري - ويراد به العسل وإن كان في الأصل عمل النحل - وللمعادين كالشري، وهو الحنظل. ثم قال: وكلا الطعمين قد ذاق كل، أي كل واحدٍ من الطعمين قد ذاقه كل واحدٍ من قبيلي الأعداء والأولياء. ومفعول ذاق محذوفٌ إذا جعلت كلا مبتدأ، كأنه قال: قد ذاقه كلٌ. والأجود أن تجعل كلا مفعول ذاق ولا تجعله مبتدأ. ومثله: زيداً ضربت ألا ترى أنه يختار على: زيدٌ ضربت. وكلاً اسمٌ موحدٌ يؤكد به المثنى، كما أن كلاً اسمٌ موحدٌ يؤكد به الجمع. وهو مقصورٌ كمعىً، وألفه منقلبةٌ عن واو، وهذا مذهب أصحابنا البصريين، والكوفيين عندهم أنه اسمٌ مثنى.
يركب الهول وحيداً ولا يص ... حبه إلا اليماني الأفل
هذا كقول الآخر:
يظل بموماةٍ ويمسي بغيرها ... جحيشاً ويعروري ظهور المهالك
والمعنى: أنه لا يتكثر بالأصحاب إذا هم باقتحام أمرٍ عظيم، وهولٍ شديدٍ، بل يتفرد فيه مستصحباً سيفه الافل، وهو الذي قد كثر فلوله بكثرة الاستعمال. وانتصب وحيداً على الحال. وقوله ولا يصحبه انعطف عليه، وهو صفةٌ للوحيد وتأكيدٌ للوحدة.
وفتوٍ هجروا ثم أسروا ... ليلهم حتى إذا انجاب حلوا
كل ماضٍ قد تردى بماضٍ ... كسنا البرق إذا ما يسل
فتوٌ: جمع فتىً، ولام فتىً ياء بدلالة قولهم فتيانٌ، لكنه بناه على مصدره وهو الفتوة، وهذا المصدر إنما جاء على هذا عوضاً من حمل بنات الواو على الياء كثير،(1/590)
فكأنهم أرادوا أن يحملوا ما هو من الياء على الواو أيضاً، وهو شاذ. ومعنى هجروا: ساروا في الهاجرة. ويقال: جبت الظلام واجتبته فانجاب. وجبت المفازة: قطعتها. يريد أنهم وصلوا السير بالسرى، تلما انكشف الظلام نزلوا. وقد اشتمل هذا الكلام على جواب رب؛ لأن قوله حلوا - وهو جواب إذا إنجاب - صار جواباً لرب أيضاً. ويقال: سرى وأسرى بمعنىً واحد. وقوله كل ماضٍ قد تردى بماضٍ يريد أن كل واحدٍ من هؤلاء الفتيان نافذٌ في الأعمال والغزوات، وقد تقلد سيفاً نافذاً في الضريبات، وإذا انتزع من غمده لمع التماع البرق. ويقال: ارتدى بسيفه وتردى واعتطف به، ويسمى السيف الرداء والعطاف.
فاحتسوا أنفاس نومٍ فلما ... ثملوا رعتهم فاشمعلوا
قوله رعتهم جواب لما، ومعنى اشمعلوا جدوا في المضي. ويقال رجلٌ مشمعلٌ، أي جادٌ خفيف. والمعنى أنهم ساروا يومهم وليلتهم، وكلٌ يرجع من نفسه وسلاحه إلى ما يرتضى ويعتد به، ثم نزلوا وهوموا، وناموا نومةً خفيفةً مثل حسو الطير ماء الثمد، تمشت في يقظتهم بقدر بيبها في عروقهم، ومزاولتها لخفوتهم وسكونهم، فلما صاروا منها كالسكارى أنبهتهم وبعثتهم للارتحال، فخفوا وأطاعوا. ودل بهذا الكلام على أن المرثي كان رئيسهم ومدبرهم، على زيادة غنائه وذكائه، وشهامته ومضائه، وأنه لما بعثهم جدوا وخفوا غير متوقفين في أمره، ولا معتلين على رأيه.
فلئن فلت هذيلٌ شباه ... لبما كان هذيلاً يفل
وبما أبركهم في مناخٍ ... جعجعٍ ينقب فيه الأظل
يقول: إن كان هذيلٌ قد تمكنت منه فكسرت حده وأتعست جده، فهو بما كان يؤثر من قبل في هذيل فيطأ حريمها، ويكثر قتيلها. والعرب تقول: هذا بذاك، أي هو عوضٌ منه. واللام من قوله لئن موطئة لقسمٍ مضمرٍ، والتي في قوله لبما جواب ذلك القسم. والشباة حد الشيء. ويقال: أشبي الرجل، إذا أتى بأولادٍ نجباء يصير له بهم حدٌ حديدٌ كشبا الأسنة. ويقال أيضاً: أشبيت الرجل، أي(1/591)
وجدت له شباة. حكاه أبو عمرو. ويجوز أن يكون شبوة وهو اسم العقرب، من الشبا، لإبرتها.
وقوله وبما أبركهم معطوفٌ على لبما كان. والجعجع: مناخ سوءٍ، وهو الأرض الغليظة. والأظل: باطن خف البعير. ومعنى ينقب أي يحفى. والمراد: وبما كان ينال منهم ويحملهم فيه على المراكب الصعبة، وينزلهم له بالمنازل الحزنة، التي تؤثر في أنفسهم وأموالهم. وهم يجعلون مثل هذا الكلام كنايةً عن التأثير القبيح. ويشبهه قول الآخر:
من يذق الحرب يجد طعمها ... مراً وتبركه بجعجاع
وقول الآخر:
لقد حملت قيس بن عيلان حربنا ... على يابس السيساء محدودب الظهر
وقول الآخر:
وحملناهم على حزن ثهلا ... ن شلالاً ودمي الأنساء
صليت مني هذيلٌ بخرقٍ ... لا يمل الشر حتى يملوا
ينهل الصعدة حتى إذا ما ... نهلت كان لها منه عل
يقول: ابتليت هذيلٌ من جهتي برجلٍ كريمٍ يتخرق في العرف مع الأولياء، وبالنكر مع الأعداء، لا يفتر عن النكاية فيهم، وعن الإغارة عليهم ما دام لهم ثباتٌ وكان للجزاء عليهم محملٌ. وقوله حتى يملوا يريد حتى يملوه، وليس المراد قعودهم عن مكافأته، ومتاركتهم لهيجه، وإنما يريد أنه لا يكف عن الإيقاع بهم، ولا يمسك عن التأثير فيهم، حتى يبشموا الشر وحتى لا تبقى فيهم قوة ولا نهوضٌ فيراصدوا أو يناكدوا.
وقوله ينهل الصعدة يريد الإبانة عن الحال التي أشار إليها من دوام الحرب، وبسط القتل، فيقول: يروي الرمح من دمائهم بالسقية الأولى، فإذا ما رويت لم يرضه(1/592)
ذلك حتى يعقبه بمثله من السقية الثانية. والمعنى اتصال الوقعات، وامتداد البلاء منه في صب الغارات. والصعدة: القناة تنبت مستويةً، وجمعها صعداتٌ بفتح العين، لأنه اسم. ثم قيل في المرأة المستوية القامة، والأتان الطويلة: صعدةٌ، وهي وصفٌ لهما، ويجمع حينئذٍ على صعداتٍ بسكون العين، لكونها صفةً.
وقوله صليت مني هذيلٌ بخرق، مثل قوله من قبل: ووراء الثأر مني ابن أختٍ في أن الخرق هو هو لا غيره. ويقال صليت بكذا أي ابتليت به ومنيت، وأصله من صلاء النار، يقال صليت أصلى صلاءً، واصلطليت أصطلي اصطلاء.
تضحك الضبع لقتلي هذيلٍ ... وترى الذئب لها يستهل
وعتاق الطير تهفو بطاناً ... تتخطاهم فما تستقل
استعار الضحك للضبع، والاستهلال للذئب. وأصل التهلل والاستهلال في الفرح والصياح، والمراد رغد العيش لهما، واتصال طعمهما باتصال قتله في هذيل. وليس قول من قال معنى تضحك: تحيض، بشيء. وقوله وعتاق الطير تهفو بطاناً مثل قول الآخر فيما تقدم:
وعبد يغوث تحجل الطير حوله
ويعنى بالعتاق آكلة اللحمان وعافية الجيف منها. وقوله تهفو بطاناً أي إنها قد زورت، وامتلأت حواصلها فثقلت، فإذا طارت تخطنهم في الطيران فلا ترتفع في الجو، بل تسف لثقلها. وبطانٌ: جمع بطينٍ. وتهفو: تطير؛ يقال: هفت الصوفة في الهواء، أي ارتفعت. قال الخليل: ويقال لرفارف الفسطاط إذا تحركت: تهفو بها الريح. ثم توسع فيه، فيقال: هفا الظليم، وهفا قلب فلانٍ في إثر كذا.
حلت الخمر وكانت حراماً ... وبلأيٍ ما ألمت تحل
فاسقنيها يا سواد بن عمروٍ ... إن جسمي بعد خالي لخل(1/593)
هذا على عادتهم في تحريم الخمر وما يجري مجراها في ولوع النفس به والميل إليه إذا قتل لهم قتيلٌ، حتى يدركوا ثأره، أو حزبهم أمرٌ عظيم يحتاجون فيه إلى مناهضةٍ ومزاولة. وربما كانوا يحرمون على أنفسهم تنظيف البدن والأخذ من الشعر وما شاكله، وذلك على حسب ميل الطباع وإيثار فطم النفس عن الشيء الذي لا مترك له عندها. والقصد في جميعه حبس النفس عن المطلوب وتذكيرها بالمفقود، لئلا تتناساه أو تتشاغل عنه. فيقول: أدركت الثأر فحلت الخمر بعد أن كانت محرمةً بالنذر علي، وبجهدٍ ألمت حلالاً، إشارةٌ منه إلى ما قاساه في طلب دمه. ومعنى بلأيٍ: بعد جهد وبجهد. على ذلك قوله:
فلأياً بلأيٍ ما حملنا غلامنا
وفي هذه الطريقة لامرئ القيس:
حلت لي الخمر وكنت امرأً ... عن شربها في شغلٍ شاغل
وقول الآخر:
فيا ليل إن الغسل ما دمت أيماً ... علي حرامٌ لا يمسني الغسل
وقوله ما ألمت يجوز أن يكون ما صلةً، ويجوز أن مع الفعل بعده في تقدير المصدر. يريد: وبلأيٍ ألمت حلالاً. والإلمام أصله في الزيارة الخفيفة، وتوسع فيه فأجرى مجرى حصلت عندي. وقوله:
فاسقنيها يا سواد بن عمروٍ ... إن جسمي بعد خالي لخل
أظهر التشفي بما ناله من الأعداء حتى دعا من خاطبه إلى ما كان يتشوفه من سقيه له، كما أظهر التوجع لفقده من أصيب به بقوله إن جسمي بعد خالي لخل. والخل: المهزول. وقوله يا سواد بن عمروٍ جعل سواد - وقد رخمه عن سوادة - بمنزلة ما جاء تاماً ولم يحذف منه شيء فجعل سواد وابن بمنزلة شيءٍ واحد، وبناه على الفتح. فالفتحة في ابن للإعراب، والفتحة في سواد للبناء. ولك أن ترويه: يا(1/594)
سواد بن عمروٍ والضمة فيه ضمة المنادي المفرد، فيكون كقولك: يا زيد بن عمرو ويا زيد بن عمروٍ، فاعلمه.
وقال سويد المراثد الحارثي
لعمري لقد نادى بأرفع صوته ... نعي سويدٍ أن فارسكم هوى
أجل صادقاً والقائل الفاعل الذي ... إذا قال قولاً أنبط الماء في الثرى
يروى: أن صاحبكم هوى، ومعنى صاحبكم رئيسكم، كما أن معنى فارسكم أفرسكم، ولهذا أقسم وعظم الحال في نعي الناعي حتى جعله ينادي بأرفع صوته فعل النادب المتحسر، ثم صدقه في ثنائه وخبره فقال: أجل صادقاً أي قلت صادقاً. وأجل هو لتحقيق الإخبار، كأنه لما قال: إن صاحبكم أو فارسكم سوى، قال: أجل أنت مصدقٌ، ثم زاده ثناءً فقال: وإن القائل الفاعل الذي إذا قال قولاً أنبط الماء في الثرى. وقوله " أن " صاحبكم، أراد بأن صاحبكم، فحذف الباء ووصل الفعل. وانتصب صادقاً على الحال، والعامل فيه ما دل عليه الكلام من معنى قلت. والقائل الفاعل عطفه على صاحبكم، ويجوز أن ترفعه، كأنه قال: وهو القائل الفاعل؛ والنصب أحسن وأجود، ومعنى أنبط الماء في الثرى: وصل القول بالفعل الجالب للخير، وقرب الغناء من العناء االلاحق في الأمر، وهو بعد ذلك مثلٌ لتحقيق قوله، وصلة النجاز بوعده. ومعنى أنبط الماء: أخرجه. ويقال نبط أيضاً، فإن قيل: هل يجوز أن يكون التصديق منه للناعي في قوله هوى لا غير لأنه هو الخبر، ويكون هذا كما قال دريد: أعبد الله ذلكم الردى جواباً لقوله أردت الخيل فارساً؟ قلت لا يجوز ذلك، بدلالة قوله والقائل الفاعل الذي، لأن هذا العطف لا يكون إلا على صاحبكم. فكأنه صدقه في الأمرين جميعا، وزاده من بعد ما زاده. وكذلك قول دريد، لا يمتنع أن يثبت الفروسية له مع الإرداء أيضاً في استثباته إياهم لما قالوا: أردت الخيل فارساً.(1/595)
فتى قبلٌ لم تعبس السن وجهه ... سوى خلسةٍ في الرأس كالبرق في الدجى
وصفه بأنه مقتبل الشباب لم يمسه أوائل الكبر، وأن السن لم تنقص رونق شبابه، ولم ترنق ماء بشرته، فهو طلق الوجه غير عابس. والعبوس: ظهور الغضب في الوجه. ويقال منه: يومٌ عبوسٌ، أي شديد. وقوله سوى خلسةٍ في الرأس استثناء منقطعٌ، ويعني أنه ظهر من الشيب في رأسه شعلةٌ، فهو كالبرق يلمع في سواد الليل. والخلسة: بياضٌ في سوادٍ، وقد أخلس رأسه، وشعرٌ خليس، ومنه قيل للمولود بين الأسود والبيضاء، والأبيض والسوداء: خلاسيٌ.
أشارت له الحرب العوان فجاءها ... يقعقع بالأقراب أول من أتى
ولم يجنها لكن جناها وليه ... فآسى وآداه فكان كمن جنى
قوله أشارت له الحرب العوان كأنه لم يصبر إلى أن دعي، ولكن حين اهتاجت الحرب جاءها، فكأن الحرب أشارت إليه. والعوان: الحرب التي قوتل فيها مرةً بعد أخرى، تشبيهاً بالعوان من النساء، وهي النصف. والفعل منه عونت وعانت. وقوله يقعقع بالأقراب يجوز أن يكون المعنى جاءها ولخواصره قعقعةٌ، أي صوتٌ، لشدة عدوه وحرصه. وقد يسمع من جوف العادي العجل وصدره النهيم والصوت الشديد، إذا استعجل في الإدراك ويجوز أن يكون القعقعة التي ذكرها من السلاح الذي كان عليه. وقوله أول من أتى يجوز أن يكون من نكرةً، كأنه قال: أول فارسٍ طلع، فيكون أتى صفةً له؛ ويجوز أن يكون معرفةً وأتى صلةً له، كأنه قال: أول الآتين، ويكون من موحد اللفظ مجموع المعنى. وانتصب أول على الحال في الوجهين جميعاً، والعامل فيه جاءها أو يقعقع. وقوله ولم يجنها لكن جناها وليه يحقق ما قلناه من أنه لم ينتظر الاستغاثة، ولكن لما طلعت له أمارات امتحان وليه آساه بنفسه، وأعداه على محنته، فكان كالجاني وإن لم يكن منه جنايةٌ، بذل اجتهاد وسرعة إنجاد. فالبيت الأول كما قال الآخر:
قومٌ إذا الشر أبدى ناجذبه لهم ... طاروا إليه زرافاتٍ ووحدانا(1/596)
والبيت الثاني كقول الآخر:
وإني لا أزال أخا حروبٍ ... إذا لم أجن كنت مجن جان
وقوله آداه أثله أعداه، والألف الثانية همزة أبدلت من العين في الأصل، والمعنى أعانه. ويجوز أن يكون من الأداة، أي جعل له أداة الحرب وعدتها. وأنشد الأصمعي قول الأسود بن يعفر:
ما بعد زيدٍ في فتاةٍ فرقوا ... قتلاً وسبياً بعد حسن تآد
وقال: معناه بعد أخذ الدهر أداته.
وقال رجل من بني نصر بن قعينٍ
أبلغ قبائل جعفرٍ إن جئتها ... ما إن أحاول جعفر بن كلاب
أن الهوادة والمودة بيننا ... خلقٌ كسحق اليمنة المنجاب
قوله ما إن أحاول جعفر بن كلابٍ يجري مجرى الصفة في شرح الاسم الذي أراده وإزالة اللبس عنه. والهوادة: الحرمة والذمام والصلح. والمهاودة: الموادعة. وتهودت إلى فلانٍ تهوداً، أي توسلت إليه بوسيلة؛ من قولهم: بيننا هوادةً؛ ومنه هود الرجل إذا مشى مشياً ساكنا. فيقول: أبلغ هؤلاء القوم إن زرتهم أن أسباب الصلح والمودة، والذمام والحرمة، قد خلقت بيني وبينهم، وتغيرت عما عهدت، فهي تزداد على مر الأيام دروساً وهموداً كخلق البرود المنشق، تزيده الأيام بلىً وانسحاقاً، فلا تماسك فيها، ولا رجاء لصلاحها وعودها إلى ما كانت. والثوب السحق وصف(1/597)
بالمصدر، كأن البلى سحقه. واليمنة: ضربٌ من برود اليمن. والمنجاب: المنشق. وهذا الكلام وعيدٌ، ويشتمل على أن الطمع من رجوع الأمر إلى ما كان زائلٌ، وأن الفساد في ذات بينهم متظاهر، لا يقبل إصلاحاً، ولا يلقى مزاولوه فلاحا. وقوله أن الهوادة في موضع نصبٍ على أنه مفعول ثانٍ لأبلغ.
أذؤاب إني لم أهبك ولم أقم ... للبيع عند تحضر الأجلاب
يروى لم أهبك من الهبة، أي لم أسمح بدمك كما يتواهب الناس الشيء بينهم، وحكى ابن الأعرابي: وهبني الله فداءك. ومنه قولهم: هبه كذا، أي احسبه. ويروى: لم أهنك، أي لم أتغافل عن طلب دمك استهانةً بك. وقوله ولم أقم للبيع عند تحضر الأجلاب، يريد: إني لم أجد الدية، فكنت بائعاً لدمك كما يباع الجلب من الأموال، إذا سيقت إلى الحضر. ولم يرد بقوله لم أقم القيام الذي هو ضد الجلوس، إنما المراد لم أترشح ولم أتهيأ. على ذلك قوله عز وجل: " إذا قمتم إلى الصلاة ".
إن يقتلوك فقد ثللت عروشهم ... بعتيبة بن الحارث بن شهاب
بأشدهم كلباً على أعدائهم ... وأعزهم فقداً على الأصحاب
الثل: الهدم؛ ويقال ثل عرش فلانٍ، إذا تضعضعت حاله واتضع عزه قال الأصمعي: وربما قيل ثل عرشه، وإذا أريد به القتل فليس إلا بضم العين. قال ذو الرمة:
وقد ثل عرشيه الحسام المذكر
والعرشان: لحمتان مستطيلتان من جانبي العنق، وفيهما الأخدعان. وقوله إن يقتلوك وقد كانوا قتلوه يريد إن تبجحوا بقتلك وصاروا يفرحون به، فقد أثرت في عزهم، وهدمت أساس مجدهم بما نلت من رئيسهم عتيبة ابن الحارث. وقوله بأشدهم كلباً جعله بدلاً من قوله بعتيبة، وقد أعاد حرف الجر فيه، وقد مضى مثله، وذكرنا الشاهد فيه من قوله تعالى: " وقال، الذين استكبروا من قومه للذين(1/598)
استضعفوا لمن آمن منهم " ومعنى أشدهم كلباً أشدهم تأثيراً ونكايةً في الأعداء. ومن كلام الحسن: " إن الدنيا لما فتحت على أهلها كلبوا عليها أشد الكلب "، أي حرصوا أشد الحرص. ويقال: دهرٌ كلبٌ، أي ملحٌ على أهله بما يسوؤهم. وقولهم كلبٌ كلبٌ يأكل لحوم الناس فيأخذه منه شبه جنون. وقوله وأعزهم فقداً على الأصحاب يريد وأشدهم، ومنه استعز اللحم، إذا صلب؛ ويعز علي أن أرى كذا، أي حق واشتد. ويقولون: أتحبني؟ فيقال: لعز ما، أي لحق ما.
وقال الحريث بن زيد الخيل
ألا بكر الناعي بأوس بن خالدٍ ... أخي الشتوة الغبراء والزمن المحل
فإن تقتلوا بالغدر أوساً فإنني ... تركت أبا سفيان ملتزم الرجل
أبو سفيان مصدقٌ ورد حيهم لاستيفاء الصدقة عليهم، فاتهم أوس بن خالد بأنه ستر بعض ماله طمعاً فيما يلزمه من الصدقة فيه، واقتطاعاً من الواجب عليه، فأخذه أبو سفيان يضربه، وارتقى ما بينهما إلى أن أدى إلى قتله، فصاحت أم أوسٍ فأغاثها قائل هذه الأبيات، ورمى أبا سفيانٍ بسهم نفذ فيه فقتله.
وقوله بكر الناعي، يجوز أن يكون معناه ابتدأ ينعاه لأن البكور أصله ذلك، ولذلك قيل في أول النهار: بكرةٌ. ويجوز أن يكون بمعنى جاء بكرةً. فيقول: ابتكر المخبر بقتل أوس بن خالد ملجأ الضعفاء، وثمال الأيتام، في الشتوة الغبراء، القليلة الأمطار، الشديدة الإمحال. والمحل: يبس الأرض. ويقال زمنٌ ماحلٌ ومحلٌ، وقد(1/599)
أمحل الناس إذا أسنتوا. وقوله فإن يقتلوا بالغدر أوساً يريد أن أبا سفيان هذا كان انطوى على غلٍ لأوسٍ، وعداوةٍ كامنةٍ له، فتوصل بما ادعى من خيانته في مال الصدقة إلى ضربه وقتله، لذلك قال: إن تقتلوا بالغدر. وقوله فإنني تركت أبا سفيان ملتزم الرحل، يريد: إني اتأرت من أبي سفيان وجعلته ملتزماً لرحله لا حراك به، أي قتلته بدلاً من صاحبه.
فلا تجزعي يا أم أوسٍ فإنه ... تصيب المنايا كل حافٍ وذي نعل
أخذ بعد اقتصاص الحال يسلي أم أوسٍ عن ابنها، وبطيب قلبها، ويعرفها أن الموت طريقٌ يسلكه الناس على اختلاف طبقاتهم، وأنه لا محيد عنه ولا معدل. وحسن ذلك منه لأنه كان قد أدرك الثأر لها، وشفى نفسها من داء مصيبتها، فأقبل يبرد غليلها بوعظه، زيادةً في الاهتمام لها والتوفر عليها.
وكان يجب أن يقول: كل ذي حفىً وذي نعلٍ، أو كل حافٍ وناعلٍ، لكنه لما وجد اسم الفاعل ينوب مناب ذي كذا، لم يبال أن يكون أحدهما بذي. وهذا يبين ما يسلكه أصحابنا البصريون في مثل قولهم: طالقٌ وحائضٌ، أنه على طريق النسبة وفي معنى ذات طلاقٍ وذات حيض، ويؤكد صحته.
قتلنا بقتلانا من القوم عصبةً ... كراماً ولم نأكل بهم حشف النخل
ولولا الأسى ما عشت في الناس بعده ... ولكن إذا ما شئت جاوبني مثلي
في هذا الكلام دلالةٌ على استفحال الشر بينهم حتى قتل من الجانبين عدة، لذلك قال: قتلنا بدل قتلانا من القوم عصبة يرجعون إلى كرمٍ. والعصبة: العشرة من الرجال، وقيل ما بين العشرة إلى الأربعين، وكذلك العصابة من الناس والطير والخيل. وهذا تنبيهٌ على أن الثأر الذي أدركه منهم كان منيماً، والاشتفاء من دائه به كان مجيباً. وقوله ولم نأكل بهم حشف النخل يريد: لم نشتغل عن طلب دمهم بالأكل. وذكر الحشف إزراءٌ بذلك الطعام لو صرفت النفوس إليه مع تضايق الوقت في طلب الدم. ويجوز أن يريد: لم نأخذ ديتهم. وجعل التمر حشفاً كما قال غيره.
ولا تأخذوا منهم إفالاً وأبكراً ... وأترك في بيتٍ بصعدة مظلم(1/600)
والإفال والأبكر لا تؤخذان في الدية، ولكن حقر أمرها. وقوله: ولولا الأسى ما عشت في الناس بعده يريد لولا التصبر والتأسي والاقتداء بهم في المصائب، لقتلت نفسي ولم أعش بعده - يعني بعد أوسٍ - في الناس، ولكن متى شئت وجدت لنفسي نظائر ممن فقدوا أعزتهم. ويشبه هذا قول الخنساء:
ولولا كثرة الباكين حولي ... على إخوانهم لقتلت نفسي
وقوله ما عشت في الناس بعده جواب لولا، ونابت عن خبر المبتدأ وهو الأسى، كأنه قال: لولا الأسى مانعٌ لي ما عشت في الناس بعده. وقد تقدم القول في لولا، وفيما يقع فيه.
وقال البراء بن ربعيٍ الفقعسي
أبعد بني أمي الذين تتابعوا ... أرجي الحياة أم من الموت أجزع
قوله أبعد لفظه لفظ الاستفهام، والمعنى معنى التوجع. والاستفهام يطلب الفعل. فيقول: أرجي الحياة أم أجزع من الموت بعد إخواني الذين انقرضوا وذهب والواحد في إثر الواحد فدرجوا. والمعنى: ماذا يجوز أن يكون مني: أيحسن الطمع في الحياة بعدهم، أم الجزع من الموت عقب الفجع بهم. وأم هذه يجوز أن يكون أو بدلها، لأنها المنقطعة. ألا ترى أن التي تكون عديلة الألف في العطف من شرطها أن يكون أحد الأمرين اللذين يسأل عنهما المستفهم قد وقع عنده إلا أنه لا يدري أيهما هو. يقول القائل: أرأيت زيداً أم عمراً، وهو لا يشك أن أحدهما رآه، إلا أنه لا يدري أيهما هو. والذي في البيت ليس كذلك فتأمله.
ثمانيةٌ كانوا ذؤابة قومهم ... بهم كنت أعطي ما أشاء وأمنع
أولئك إهوان الصفاء رزيتهم ... وما الكف إلا إصبعٌ ثم إصبع
ذكر أن إخوانه كانوا ثمانيةً، وأنهم كانوا رؤساء قومهم، وأنه بعزهم ومكانهم من قبيلتهم كان يدفع عن نفسه ما يشاء، ويقبل لها ما يشاء. وفي قوله كنت أعطي ما أشاء حذفٌ، ولو أتي على حده لكان: كنت أعطي ما أشاء إعطاءه وأمنع ما أشاء(1/601)
منعه. والمفاعيل تحذف كثيراً لأن القرائن تدل عليها. وإنما قال ذؤابة قومهم ولم يقل ذوائب قومهم، لأنه عدهم شيئاً واحداً، لتناصرهم واتفاق أهوائهم. والذوابة: اسمٌ في الأصل، وقد وصف به، وكما قيل هو ذؤابة قومه، وهم ذوائب قومه، قالوا في الضد منه: هو ذنابة قومه، وهم ذنائب قومه. وقوله أولئك إخوان الصفاء نبه به على زوال الخلاف وسقوط المراء من بينهم، وعلى خلوص نية كل واحدٍ منهم مع صاحبه، حتى كان ما يجمعهم تصافياً لا كدرٍ، وتوافقاً بلا حسدٍ، وأنهم كانوا في التعاون والتظاهر كالكف الواحدة، فكل واحدٍ منهم كالإصبع من تلك الكف، فلما تخرموا ومات الواحد بعد الواحد، صارت الكف تتراجع بنقصان أصابعها حتى صارت لا تغني في البطش بها، ولا تعمل عند القبض والبسط عملها.
لعمرك إني بالخليل الذي له ... علي دلالٌ واجبٌ لمفجع
وإني بالمولى الذي ليس نافعي ... ولا ضائري فقدانه لممتع
أقسم بأنه مفجعٌ بمن تعز حياته ويكرم مقامه، حتى يرى لنفسه تدللاً واجباً عليه، وتمكنا مكيناً منه؛ وممتعٌ بمن لا رغبة له في العيش معه، فليس في بقائه نفعٌ له ولا في ذهابه ضررٌ عليه، وكان الواجب أن يقول: ليس نافعي حياته أو وجدانه، حتى يكون في مقابلة قوله ولا ضائري فقدانه إلا أنه لما ضاق نطاق البيت عنه لم يبال بالاقتصار على نافعي، إذ كان المراد بها مفهوماً، وإذ كان ضميره في ليس يقوم مقام حياته لو أتي به. وسمى من اشتدت فاقته إلى حياته خليلاً لاختصاص مكانه من قلبه، وعلى عادتهم في تسمية المعتمد عليه خليلاً، حتى سموا الفرس والسيف خليلاً. قال يعني الفرس:
................... وأتقي ... بهاديه إني للخيل وصول
وقال الآخر في السيف:
ما سد كفي خليلها(1/602)
وسمى القبيل الثاني مولى إشارةً إلى أبناء عمه الذين لا غناء عندهم، ولا انتفاع له بمكانهم.
وقال مطيع بن إياسٍ، في يحيى بن زياد
يا أهل بكوا لقلبي القرح ... وللدموع السواكب السفح
راحوا بيحيى ولو تطاوعني ال ... أقدار لم تبتكر ولم ترح
لم يرض بتجرده لتلقي الأمر الذي دهمه، وبتفرده في الجزع للخطب الملم به حتى طلب من ذويه وعشيرته إسعاده في البكاء لما نابه فأقرح قلبه، وأسال دمعه. وإنما فعل ذلك لأنه يعد التعاون فيه والتشارك، أدل على تجليل الفجيعة له؛ والائتساء والتساوي، أجلب للتخفيف مما يه. ألا ترى أن الله تعالى يقول في أصحاب النار: " ولن ينفعكم اليوم إذ ظلمتم أنكم في العذاب مشتركون "، فأيأسهم من أن يكون اشتراكهم في العذاب يسليهم أو يرجع بضربٍ من النفع عليهم، على العادة في دار الدنيا. وقوله قلبي القرح يقال: أقرحه الهم فقرح وهو قرحٌ قريحٌ. وقيل في القرح هو البثر إذا ترامى إلى فساد. وقوله السواكب جمع ساكبة، ووصف الدموع به على معنى ذات سكوبٍ، كما قيل عيشٌ ناصبٌ، أي ذو نصبٍ على النسبة. والسفح: جمع سفوح، والسكب والسفح يراد بهما الصب إلا أن السفح أبلغ من السكب، لذلك ارتقى من السواكب إليه. وحكى الخليل أن أهل المدينة يقولون: اسكب على يدي. ويقال رجل سفاحٌ للدماء، ولم يقل سكبٌ، لأن السكب لا يبلغ حد السفح.
وقوله راحوا بيحيى ولو تطاوعني الأقدار، يقول منبهاً على مساس الفاقة إلى بقائه، وغلبة اليأس من الاعتياض منه: راحوا ولو أطاعني القدر ما فجعنا بفراقه، فكان لا يبتكر لا غادياً ولا رائحاً. ومن روى بالتاء لم تبتكر جعل الفعل منسوباً إلى الأقدار يريد: لم تبتكر الأقدار ولم ترح به وأنا راض. وإنما قال بكوا لأن فعل يفيد التكثير من الفاعلين. وتكرير الفعل من واحدٍ حالاً بعد حال.(1/603)
يا خير من يحسن البكاء له ال ... يوم ومن كان أمس للمدح
قد ظفر الحزن بالسرور وقد ... أديل مكروهنا من الفرح
إنما ناداه لقوله قد ظفر الحزن بالسرور، كأنه يريد إعلامه تأثير المصاب فيهم، وأنهم قد استبدلوا بعده بالسرور حزناً دائماً، وبالفرح مكروهاً راتباً. ومن نكرة. وقوله يحسن البكاء له اليوم صفة له، فيقول: يا خير إنسان كان المدح فيما مضى من الزمان أولى به، والبكاء عليه في الحال والاستقبال أحق له، قد تأدى حالنا بعدك إلى أن أبدلنا القدر بالفرح ترحاً متصلاً، وبالمحبوب مكروهاً لازما.
ومعنى ظفر الحزن بالسرور وأديل مكروهنا، أن الغلب لهما حتى لا ثبات للسرور والفرح معهما، ولا انتياش منهما. يبين ذلك أنه قال وقد أديل مكروهنا أي جعل له على الفرح دولةٌ. وقوله من الفرح يريد من المفروح به، وهو المحبوب؛ لأنه كما طابق الحزن بالسرور في الصدر، طابق المكروه بالمحبوب في العجز. وهذا كما يقال: لا يسرني بهذا الأمر فرحٌ ومفروحٌ به ومفرحٌ. والوصف بالمصدر ووضعه موضع الفاعل والمفعول مشهورٌ. وقد خرج في هذا الكلام جواب سائلٍ يقول: ما الفرق بين السرور والفرح؟ وكيف أتي بهما وهما بمعنىً واحد؟ وقال مطيعٌ أيضاً:
قلت لحنانةٍ دلوح ... تسح من وابلٍ سحوح
أمي الضريح الذي أسمي ... ثم استهلي على الضريح
ليس من العدل أن تشحي ... على فتىً ليس بالشحيح
أراد أن يدعو للقبر بالسقيا فجعل بدل الدعاء سؤالاً وتمنياً، لأن طريقة الجميع واحدةٌ فقال: قلت لسابةٍ فيها رعدٌ، فكأنها كانت تحن برعدها إلى شيءٍ كحنين الناقة إلى وطنها أو ولدها. دلوح، أي ثقيلة. يقال: مر البعير يدلح بحمله، أي(1/604)
يمشي متثاقلاً. والسحابة تدلح من كثرة مائها. تسح أي تصب. وابلٌ: مطرٌ ضخم القطر. سحوح: كثير الانصباب شديده: إن قيل: كيف جعل السح مرة للحنانة ومرة للوابل، والوابل يكون مصبوباً لا صاباً، وما فائدة من في قوله من وابلٍ سحوح فإن المراد به الكثرة، وهم يجعلون، إذا قصدوا إلى المبالغة، الفعل الواقع بالشيء له. ألا ترى أنهم يقولون: موتٌ مائتٌ، وشعرٌ شاعر. وهذا كما قالوا: سيلٌ مفعمٌ، والسيل لا يملأ إنما يملأ به الشيء. وإذا كان كذلك فالسح من الحنانة حقيقةٌ، والسح من الوابل مجاز، والمراد به ما ذكرنا. على أنه لا يمتنع أن يكون سح من باب فعلته ففعل؛ فقد حكى الخليل: سح المطر والدمع، وقال: هو شدة انصبابهما. ويقال من السح: فرسٌ مسحٌ، أي يصب العدو. وأرضٌ سحاحٌ، أي تسيل من مطرٍ يسير.
وقوله أمي الضريح الذي أسمي يريد الذي أنص عليها وأبينه بذكر اسم صاحبه، إذ لم يكن للضريح اسمٌ يتميز به عن القبور، فكأن بيان الكلام: أسمي صاحبه، فحذف المضاف وهو صاحبٌ، ثم أقام المضاف إليه مقامه، فجاء أسميه، ثم حذف المفعول من الصلة لطولها فبقى أسمىي ومعنى استهلي: صبي. ويقال هل السحاب بالمطر واستهل وانهل المطر انهلالاً. والأهاليل: الأمطار الشديدة الانصباب. ويجوز أن يكون لما وصف السحابة بالحنانة لرعدها كنى عن المطر بالاستهلال، لأنه كالحنين، وهو رفع الصوت بالتلبية وغيرها، فيكون الحنين والاستهلال للرعد والمطر كالسؤال والجواب. فأما قوله على الضريح فتكراره تنبيهٌ على عظم شأنه وفظاعة الفجع به. والتفخم بالتكرير يحصل كثيراً. والضريح: القبر بلا لحد، وهو فعيل بمعنى مفعول، لأنه يقال ضرحوا له ضريحاً. وقال الدريدي: سمي ضريحاً لأنه انضرح عن جالي القبر، أي اندفع فصار في وسطه. وقوله:
ليس من العدل أن تشحي ... على فتىً ليس بالشحيح
يريد: ليس من الإنصاف البخل بمائك وصوبك على فتىً كان لا يبخل بماله، وما يجتدى منه في جاهه وحاله. وهذا ظاهر. وفي طريقته قول أبي تمام:
وكيف احتمالي للغيوث صنيعةً ... بإسقائها قبراً وفي لحده البحر(1/605)
وقال الأشجع السلمي
مضى ابن سعيدٍ حين لم يبق مشرقٌ ... ولا مغربٌ إلا له فيه مادح
يقول: فجع الناس بابن سعيدٍ حين كمل وبرع وشمل نفعه فعم حتى لم يبق بقعةٌ من جوانب الشرق والغرب إلا وترى فيها شاكراً لنعمه، حامداً لفعاله، مادحاً لفرط إحسانه. وإنما يعظم الرزء باستكمال فضائل المرثي، وشمول فواضله.
وما كنت أدري ما فواضل كفه ... على الناس حتى غيبته الصفائح
قوله ما فواضل كفه استفهامٌ، وموضع الجملة من الإعراب أنه مفعول أدري وقد علق عنه، والمعنى: ما أدري ما يقتضى هذا السؤال. والفواضل: جمع فاضلة، وهو اسمٌ لما يفضل من ندى كفه فيتجاوزها إلى الناس. ويجوز أن يكون فاضلةٌ مصدراً بمعنى فضلٍ أو إفضالٍ، فيكون كالعافية والقائم من قولهم قم قائماً، والبالية من قولهم ما أباليه باليةً، ثم لاختلافه جمعه. والمصادر تجمع إذا اختلفت؛ على ذلك قولهم العلوم والعقول وما أشبههما. وإذا جعل كذلك يكون قد عدى فواضل وهو جمعٌ مكسرٌ إلى قوله على الناس. وحصل من هذا الكلام أن قوله على الناس يتعلق بفواضل على وجهين: أحدهما أن يكون فواضل جمع فاضلة، وهو اسم للفاعل، والثاني أن يكون فواضل جمع فاضلة، وهو مصدرٌ، وتعدى مثله ليس بكثير.
وقوله حتى غيبته الصفائح معناه إلى أن غيبته الصفائح. والصفائح: أحجار عراضٌ سقف بها قبره. يقول: لم أتبين مقادير إحسانه عند الناس، ومبالغ أياديه لديهم، وفنون بره بهم، وانصباب مننه إليهم، لاختلاف مواقعها، ولخفاء كثيرٍ منها على حسب قصوده في الإفضال، ولتباين مواضع الصنيعة في التفصيل والإجمال، إلى أن خلى مكانه فظهرت الفاقة على متحملي نعمه، وتظاهر الحمد والثناء من الكافة على اختلاف منازلهم وتباعد مظانهم، فحينئذ بان لي كثرتها وتوفرها.
فأصبح في لحدٍ من الأرض ميتاً ... وكانت به حياً تضيق الصحاصح(1/606)
قوله في لحدٍ موضعه نصبٌ على أن يكون خبر أصبح، وانتصب ميتاً على الحال، وكذلك قوله حياً انتصب على الحال. ولا يجوز أن يكون لحدٍ في موضع الحال وميتاً خبر أصبح، لأن ميتاً من الصدر في مقابلة حياً من العجز، ولا يكون ذلك إلا حالاً، فكذلك يجب أن يكون ميتاً، وإلا اختلفا وفسد المعنى. يقول: أصبح وهو ميتٌ يتسع له لحدٌ من الأرض، وكانت الصحاصح تضيق عنه وهو حيٌ. فيجوز أن تكون تضيق عن جيوشه وأصحابه الذين كانوا يحيون بحياته، ويسطون على الدهر بعزته، ويجوز أن يريد بالضيق ما كان يبث من إحسانه، وينتشر من جدواه في أهل الأرض ويشملهم من المنافع بمكانه وجاهه، فيكون التقدير أنها لو جسمت لكانت الصحاصح تضيق عنه. والصحصح والصحصحان: الأرضون المستوية الواسعة. وفي طريقته للبحتري:
كانوا ثلاثة أبحرٍ أفضى بها ... ولع المنون إلى ثلاثة أقبر
سأبكيك ما فاضت دموعي فإن تغض ... فحسبك مني ما تجن الجوانح
ضمن له دوام البكاء ما دامت الدموع تجيبه وتساعده، فإن عجزت ونقصت عن المراد، وانقطعت أوان الحاجة، فكافيه منه ما تشتمل عليه جوانحه، ويتضمنه صدره وفؤاده. وقوله ما فاضت في موضع الظرف، أي مدة فيضها. وقوله حسبك مبتدأ وخبره ما تجن. وقد يتم حسبك بنفسه فلا يحتاج إلى خبرٍ، فيقتل حسبك، وحينئذٍ يتضمن معنى الأمر، كأنه يراد به اكتف، ولذلك يستقل الكلام به. ويقال: غاض الماء وغضته. والجوانح: الضلوع، سميت بذلك لانحنائها. والجنوح: الميل.
وما أنا من رزءٍ وإن جل جازعٌ ... ولا بسرورٍ بعد موتك فارح
قوله ما أنا من رزءٍ تبرؤٌ من الجزع على الرزء، أي ليت له بصاحبٍ وإن جل الفادح، كما أتى لست بسرورٍ به وإن عظم بفارحٍ. والمعنى: أن المنايا والعطايا تساوت أقدارهما عندي بعدك، لأنك كنت المرجو عندي. والمخوف عليه لدي، فلما فاتني القدر بك أمنت من الجزع لحادث شرٍ، ويئست من الفرح لنائب خيرٍ. ولو قال بذل جازعٍ وفارحٍ: جزعٍ وفرحٍ، كان أفصح وأكثر، لأن فعل إذا كان غير متعدٍ فالأجود والأقيس في مصدره فعلٌ، وفي اسم الفاعل فعلٌ، وإذا كان متعدياً فبابه(1/607)
فاعلٌ. وقد قيل في المريض مارضٌ، وفي السليم سالمٌ، لأن البابين يتداخلان. وقوله ولا بسرورٍ أي ولا بذي سرور فحذف المضاف وأقام المضاف إليه مقامه.
كأن لم يمت حيٌ سواك ولم تقم ... على أحدٍ إلا عليك النوائح
لئن حسنت فيك المرائي وذكرها ... لقد حسنت من قبل فيك المدائح
قوله كأن مخفف كأن، واسمه مضمرٌ، أراد كأن الأمر أو الشأن لم يمت حيٌ سواك. والخطب إذا وقع مستغرباً كان تأثيره أشد، ونكؤه أوجع منه، إذا ألف وقوعه، وتمرن بتكرره. فيقول: إن المصيبة عظم تأثيرهافي النفوس، فكأن موتك بدع فعلات الدهر، وكأن النياحة لم تقم على من سواك، إذ كانت طوائف الناس على تباينهم وتباعد أقطارهم، واختلاف هممهم وأوطارهم، تشاركوا في الجزع لك، وتشابهوا في استعظام الأمر والخطب بك، فكأنهم لم يروا مفقوداً، ولا قامت النوائح فيهم عند بكائهم هالكاً. وقوله لئن حسنت فيك المراثي وذكرها مثله قول الآخر:
يا خير من يحسن البكاء له ال ... يوم ومن كان أمس للمدح
وقد تقدم القول في لام لئن واليمين المضمرة في الكلام. والجواب لقد حسنت، وقوله حسنت في موضع تحسن، لأن حرف الشرط نقل المضي إلى الاستقبال، وجواب الشرط بالفاء ها هنا وقد حذف كأنه قال: إن يحسن الرثاء لك وفيك، الآن وفي مستقبل الزمان، فللمدائح فيما مضى كانت حسنةً فيك.
وقال يحيى بن زيادٍ
نعى ناعياً عمروٍ بليل فأسمعا ... فراعا فؤاداً لا يزال مروعا
يقول: خبر الناعيان بموت عمروٍ ليلاً، فأبلغا الخبر وهو فظيع منكر، وفزعاً قلباً لا يزال مفزعاً. وإنما قال بليلٍ لأنهما لم يصبرا إلى مجيء النهار استعظاماً للخطب؛ لأن اليل لما كان أخفى للويل صار سعي الناعيين فيه أدل على استفحال(1/608)
الرزء. وقوله أسمعا حذف مفعوليه لأن المراد أسمعا الناس نعيه، وهو بتجرد من المفعول يستعمل في المكروه كثيراً، ولأنه إذا أطلق مبهماً فالإطلاق في مثل هذا المكان أبلغ، وإنما قال مروعاً إيذاناً بأن ذلك الروع ثبت في القلب حتى لا إفاقة منه. ويجوز أن يريد أنه مرزأ في الكرام، فهو الدهر قلقٌ لا يسكن، وحذرٌ لا يأمن.
وما دنس الثوب الذي زودوكه ... وإن خانه ريب البلى فتقطعا
الدنس: لطخ الوسخ ونحوه حتى في الأخلاق. يقال: هو دنس المروءة، وقد دنس عرضه. ونبه بهذا الكلام على أن زاد المتوفى من الدنيا كفنه، وأن ما كفن فيه المتوفى بقي طاهراً لطهارة نفسه وعنصره، وأنه كان يجب بقاؤه جديداُ لا يؤثر فيه البلى، ولا تسبق إليه الخلوقة، وأن تأثير ريب الدهر فيه بالتقطيع خيانةٌ منه. وكل هذا تعظيمٌ للمرثي، وأن حاله بخلاف أحوال غيره حياً وميتاً. ومعنى خانه ريب البلى أي نزول البلى، قال أبو عبيدة: يقال راب عليه الدهر، أي نزل.
دفعنا بك الأيام حتى إذا أتت ... تريدك لم نسطع لها عنك مدفعا
يجوز أن يريد بالأيام نوائب الأيام وأحداثها فحذف المضاف وأقام المضاف إليه مقامه، ويجوز أن يريد الأيام أنفس الأحداث، فسماها أياماُ كما تسمى الوقعات بها، وكما قال الله عز وجل: " وتلك الأيام نداولها بين الناس ". ومعنى حتى إذا أتت تريدك موضع تريدك نصبٌ على الحال، أي مريدةً لك. وفائدة حتى الغاية: كأنه قال: دافعنا الأيام بك وبمكانك إلى وقت مجيئها مريدةً لك، فحينئذٍ لم تقدر على دفاعها. وقوله لم نسطع أراد نستطع فحذف منه تخفيفاً لكثرته في الكلام. يقال اسطاع يسطيع، بمعنى استطاع يستطيع؛ وقد حكى أسطاع بفتح الهمزة يسطيع بضم الياء، وليس هذا من الأول لأن هذا في معنى أطاع.
مضى فمضت عني به كل لذةٍ ... تقر بها عيناي فانقطعا معا
يقول: مضى عمروٌ لسبيله فانقطعت عني لذات الدنيا، وفارقتني بفراقه، فانقطعا مجتمعين ومصطحبين. وموضع تقر بها عيناي جرٌ على أن يكون صفةً للذةٍ، أي كل لذةٍ تبرد لها عيناي لها وتسر نفسي بحصولها. وقوله " معا " في موضع الحال. وقوله تقر بها عيناي، قيل هو من القرار، وقيل هو من القر: البرد. وهذا أقرب لأنه يقال في ضده: سخنت عينه، وهو سخنة العين.(1/609)
مضى صاحبي واستقبل الدهر صرعتي ... ولا بد أن ألقى حمامي فأصرعا
هذا في طريقة قوله:
فغبرت بعدهم بعيشٍ ناصبٍ ... وإخال أني لاحقٌ مستتبع
ومعنى استقبل الدهر صرعتي توطينٌ للنفس على أنها على أنها بمدرجة الدهر، فهو ينتظر إيقاعه بها وكأن قد. ومعنى استقبل الدهر صرعتي، أي إماتتي، كما يقال لكل جنبٍ مصرعٌ. ومعنى لا بد: لا محالة، وهو من البدد: الاتساع والتفريج. كأنه تضايق الأمر فيه فلا اتساع معه، ويقال: لا بد من أن يكون كذا، ولا بد أن يكون كذا، وأن يحذف حرف الجر معه كثيرا.
وقال ابن المقفع يرثي يحيى بن زيادٍ
رزئنا أبا عمروٍ ولا حي مثله ... فلله ريب الحادثات بمن وقع
يقول: أصبنا بأبي عمرو، وهو مفقود النظير، معدوم الشبيه. فموضع ولا حي مثله نصبٌ على الحال، والعامل فيه رزينا. ثم قال على وجه التعجب: لله ريب الدهر بأي رجل وقع. فقوله بمن وقع منقطع مما قبله وإن كان فاعل وقع الضمير العائد إلى الريب المستكن، لأن قوله لله ريب الحادثات كلام مستقلٌ بنفسه فيما يفيد من إكبار الشان وتفظيع الحال. وإضافة الشيء إلى الله عز وجل تفخيمٌ وتعظيم، على ذلك قولهم: بيت الله - وإن كان الساجد لله - ولله دره. وقوله بمن وقع مستقلٌ بنفسه أيضاً وفيه استعجاب من أن يكون الدهر يعرض لمثله أو يهم به مع فخامة أمره، وجلالة نفسه. ولو قال: وبمن وقع، فزاد واواً، لكان أكشف في المعنى المراد به. ولا يمتنع أن يكون بمن وقع في موضع الحال، كأنه قال: لله ريب الحادثات واقعاً(1/610)
بمن وقع، ومؤثراً موجعا، ويكون حالاً للريب، والعامل فيه ما دل عليه لله ريب الحادثات.
فإن تك قد فارقتنا وتركتنا ... ذوي خلةٍ ما في انسدادٍ لها طمع
فقد جر نفعاً فقدنا لك إننا ... أمنا على كل الرزايا من الجزع
حذف النون من تك قد تقدم القول فيه. والمعنى إن فارقتنا والوهى بك لا يرقع، والخلة بك لا تسد، وحديث النفس بالطمع فيك لا يخطر بالقلب ولا يجول في الفكر، فقد جلب إلينا فقدك نفعاً، وهو أمننا من تسلط الجزع علينا لرزيئةٍ مستأنفةٍ، أو نكبةٍ معترضة، إذ كان خوفنا عليك، وحذرنا فيك. وقوله ما في انسدادٍ لها طمع في موضع الجر، لأنه صفةٌ لخلةٍ. يريد ما لنا طمعٌ في انسدادٍ من أجلها وبعدها يحصل. وجواب إن تك، الفاء مع ما بعدها من قوله فقد جر نفعاً، وإنما جلب الفاء لمخالفة الجزاء للشرط بكونه مبتدأ وخبرا، والمبتدأ محذوف كأنه قال: والأمر والشان قد جر فقدنا لك نفعاً. وقوله إننا أمنا إذا كسرت الهمزة من إن يكون على الاستئناف، ويكون جملة الكلام تفسيراً للنفع المستجد له، وإذا رويت أننا بفتح الهمزة يكون بمعنى لأننا أمنا، فيكون الكلام بياناً لعلة حصول النفع. ويجوز أن، يكون موضع أننا نصباً على البدل من نفعاً.
وقوله على كل الرزايا، على تعلق بقوله أمناً، يقال هو آمنٌ على كذا، وقد أمنت على مالي عند فلانٌ من امتداد الأيدي إليه، أي لا تمتد، كذلك أمنا على كل الرزايا من الجزع، أي لا نجزع. وأتى بلفظة العموم فيه، وهو كلٌ، إبذاناً بتساوي الخطوب عنده، وانحطاطها عن درجة المصاب به وفيه، حتى لا جزع يتجدد بعده لحادثٍ يحدث ولا يجوز أن يتعلق قوله على كل الرزايا بقوله: من الجزع، لأنه لو كان كذلك لكان في صلته، والصلة لا تتقدم على الموصول.
وقال بعض بني أسدٍ
بكى على قتلي العدان فإنهم ... طالت إقامتهم ببطن برام
كانوا على الأعداء نار محرقٍ ... ولقومهم حرماً من الأحرام(1/611)
يخاطب امرأةً والنساء كلهن عنده تلك المرأة، فيقول: أكثري البكاء على المقتولين بهذا المكان - وقيل العدان ساحل من سواحل البحر - والمدفونين ببطن برامٍ، فقد طالت إقامتهم. والمراد أن اليأس منهم قد حصل وقوي، وأن غيبتهم اتصلت فرفعت الأطماع من عودهم والاجتماع معهم. ثم أخذ بصفهم فقال: كانوا على المنابذين والمخالفين كنار هذا الملك، لا تبقى ولا تذر - ومحرق هو عمرو بن هند، وكان نذر أن يحرق مائة نفس، ففعل، فضرب المثل بناره - وكانوا لقومهم حرماً من الأحرام، لا مخافة فيهم ولا هضيمة. يريد أن قومهم يأمنون نزول النوائب بهم في فنائهم، فكانوا كمن حصل في الحرم، وأن أعداءهم كانوا يحترقون بنكايتهم فيهم، فكانوا عليهم كنار هذا الملك.
وقوله محرق وإن كان صفةٌ في الأصل، فصار بالاشتهار في رجل واحدٍ كالعلم له. وعلى هذا جاء في قوله:
عليهن فتيانٌ كساهم محرقٌ
وقوله:
إليك ابن ماء المزن وابن محرقٍ
وقوله حرماً من الأحرام نكره لاختلاف الأحرام. وهي حرم الله تعالى بمكة والشام، وحرم الرسول عليه السلام بالمدينة.
لا تهلكمي جزعاً فإني واثقٌ ... برماحنا وعواقب الأيام
هذا الكلام تسليةٌ لها وإن كان أمرها بالبكاء، وإيذانٌ أنه سيدرك الثأر، فهو ينتظر عقب الأيام وانتهاز الفرص. ونبه بقوله واثقٌ برماحنا على الغناء عندهم، وأن العناية متوفرةٌ من جهتهم. وانتصب جزعاً على أنه مصدرٌ لعلةٍ، ولا يمتنع أن يكون في موضع الحال يريد جازعةً، وهذا الجزع الذي نهاها عنه ليس يريد به الحزن لفقده، وإنما يريد الحزن لسلامة الواتر على مر الأيام لا غير. ألا ترى أنه قال: فإني واثقٌ برماحنا. وقوله عواقب الأيام يشير فيه إلى تغير الزمان واختلاف الحدثان، وأن(1/612)
الدهر كما يعطى يرتجع. وكما يولى ينتزع، فغيره لا تؤمن، وأحداثه على حالة واحدة لا تقف.
وقال آخر:
نعى لي أبا المقدام فاسود منظري ... من الأرض واستكت على المسامع
وأقبل ماء العين من كل زفرةٍ ... إذا وردت لم تسطعها الأضالع
يقول: خبر الناعي بموت أبي المقدام فدير بي، وأصبحت الدنيا مظلمةً في عيني، وأورث خبره صمماً في أذني، فلا الأذن تأذن للكلام على ما كانت تعمل، ولا العين تدرك المرئيات إدراكها من قبل، كل ذلك لتأثير نعيه في الحواس التي هي طرق العلوم وتبين المشاهدات. وبعد ذلك أقبل الدمع يسيل في إثر زفراتٍ اتصلت وتعاقبت، وكل واحدةٍ منها لامتلاء الصدر بها كادت الضلوع تستقيم لورودها. والزفرة: أن يتردد النفس في الصدر ثم يمتلىء منه ويزفر به، أي يرمى. وقد أومأ أبو تمام إلى هذا المعنى وإن يصرح تصريحه في قوله:
وما للدار إلا كل سمحٍ ... بأدمعه وأضلعه سخى
فأما أبو عبادة ففي قوله:
ووراءهم صعداء أنفاسٍ إذا ... ذكر الفراق أقمن عوج الأضلع
قد بالغ في الإبانة كل المبالغة. وقوله استكت على المسامع فالمسامع: جمع المسمع بكسر الميم، وهو الأذن. والمسمع، بفتح الميم: موضع السماع وقوله استكت من قولهم بئر سكوكٌ، إذا كانت ضيقة الخرق. فإذا أريد الصمم وقيل استكت أذنه فحيقتة ضاق صماخا، وهو الخرق الباطن المفضى إلى الرأس.
وقال آخر:
قد كان قبلك أقوامٌ فجعت بهم ... خلى لنا هلكهم سمعاً وأبصارا
أنت الذي لم يدع سمعاً ولا بصرا ... إلا شفاً فأمر العيش إمرارا(1/613)
قوله فجعت بهم الجملة في موضع الصفة لقوله أقوامٌ. وخلى لنا هلكهم، في موضع خبر كان. والمعنى: قد فجعت فيما مضى من الزمان بأقوامٍ جزعت لهم بل هلعت، وأقمت الرسم في البكاء عليهم بل أسرفت، فبقى الفجع بهلاكهم لي ولمن تبعني واقتدى بي، السمع والبصر بعدهم، فزجينا الوقت مستمتعين بما سلم من حواسنا، وعائشين مع الناس في باقي عمرنا؛ فلما أصبنا بك لستنفدت قوانا، واستنزلتنا عن ذخائر صبرنا، فبطلت طرائق العلوم منا، وتناهت في العجز عنا حواملنا إلا شفاً، فطالت شقوتنا، وأمر عيشنا. والشفا: الباقي من الشيء القليل. ويقال: ما بقى من النهار إلا شفاً، أي مقدار ما بين الليل والنهار حين غربت الشمس.
وقوله لم يدع بالياء، هو أقيس الروايتين؛ لأن الصلة جاءت على حدها مع الموصول. وإذا رويته بالتاء فعلى الخطاب، وساغ لأن المخاطب والذي مرجعهما إلى شيءٍ واحد، وقد مضى مثله، فاعلمه. وقال المازني: لولا كثرة مجيئه لرددته. ومثله:
أنا الذي سمتن أمي حيدرة
وقال سمعاً وأبصاراً لأن السمع اسم الجنس، فهو كالجمع.
وقال نهشل بن حريٍ
بنفسي خليلاي اللذان تبرضا ... دموعي حتى أسرع الحزن في عقلي
تعلق الباء من بنفسي بفعلٍ مضمر دل عليه جلية الحال، وقرينة الكلام، كأنه قال: أفدى بنفسي من أخاله. ومعنى تبرضا أفنيا دموعي شيئاً فشيئاً، وقليلاً قليلاً؛ لأن التبرض التبلغ والتطلب من ها هنا وها هنا. وماء برضٌ، أي قليل. وبرض لي من ماله برضاً، إذا أعطاك القليل. قال:
لعمرك إنني وطلاب سلمى ... لكالمتبرض الثمد الظنونا(1/614)
والمعنى فديت بنفسي صديقي اللذين نضب في البكاء لهما دموعي، وتأدى إلي الحزن إلى أن عمل في عقلي فأزاله، فدمعي وصبري مستنفدان لتأثير الفجيعة بهما. وجعل الفعل في تبرضا للخليلين، وحق الكلام تبرض الحزن لهما والبكاء عليهما دموعي، إلى أن أسرعا في عقلي فصار والهاً.
ولولا الأسى ما عشت في الناس بعده ... ولكن إذا ما شئت أسعدني مثلي
قوله ما عشت في الناس أي مع الناس ومختلطاً بهم، فموضع في الناس نصبٌ على الحال، والكلام جواب لولا، وخير المبتدأ الذي هو الأسى محذوفٌ استغنى عنه بجواب لولا، والمعنى لولا أن لي بالناس إسوةً في مصائبهم، فأورثني ذاك تماسكاً وصبراً، لقتلت نفسي فلم أعش ساعةً من عمري، ولكن متى شئت وجدت لنفسي أقراناً إن دعوتهم أجابوني، وإن استسعدتهم أسعدوني. والإسعاد، قال الخليل: يستعمل في المساعدة على البكاء خاصةً، ومثله:
ولولا كثرةً الباكين حولي ... على إخوانهم لقتلت نفسي
وقال أيضاً:
أغر كمصباح الدجنة يتقى ... قذى الزاد حتى يستفاد أطايبه
الدجنة: الظلمة؛ وليلةٌ مدجانٌ. والدجن: إلباس الغيم؛ ويقال: هو يوم دجنٍ. وأراد بقوله أغر إنه كريمٌ نقي العرض أبيض الطلعة، فكأنه في تلألؤه ونور وجهه وتهلله مصباح الظلام. ومعنى " يتقي الزاد " أنه يزهد في خبائث الزاد وما يشين أخذه وتطعمه، إلى أن يستفيد الطيبات منه. ويشير بقذى الزاد إلى ما يفيء عليه غدرٌ أو غلول، أو مخانةٌ أو ابتذالٌ. ويشير بالطيب إلى ما كان من حله ووجهه، لا عار في اكتسابه، ولا بذلة في احتجانه. وبعض الناس روى: قدى الزاد، والقدى:(1/615)
الرائحة الطيبة، يقال قدرٌ قديةٌ، إذا كانت طيبة الرائحة. كأن المراد عنده: لا يتشمم الزاد ورائحته حتى يتيقنه طيباً. والأول الأصح والأجود، وذلك أنه أراد بالقذى الخبيث، وقد طابق الطيب به، كما قال الآخر:
وما كان زادي بالخبيث كما زعم
وذكر القدى مستبعدٌ ها هنا، ولا فائدة في إبقائه له، ويغلب في ظني أنه تصحيف.
وهون وجدي عن خليلي أنني ... إذا لاقيت امرأً مات صاحبه
أخٌ ماجدٌ لم يخزني يوم مشهدٍ ... كما سيف عمروٍ لم تخنه مضاربه
يقول: خفف وجدي بخليلي لما أصبت له أئتسائي بغيري من الناس، لأني متى شئت لاقيت من امتحن بمثل محنتي. ثم قال أخٌ ماجدٌ أي خليلي وصاحبي أخٌ ماجد، لم يهني يوم حفلٍ ولم يخذلني عند احتشادٍ وجمعٍ، ولا جلب علي في مشهدٍ من المشاهد ما أستحيى منه أو أخزى له، بل كان لي عند ما أدعوه له مجيباً، وفي الشدائد عواناً وظهيراً، لا يتغيب عني ولا يفتر معي، كصمصامة عمرو، له نفاذٌ حيث أعمله، ومضاءٌ عند ما يهزه، لا يخون ولا يرتد، فكذلك كان صاحبي. وارتفع قوله أخٌ ماجدٌ على أنه خبر مبتدأ مضمرٍ. وقوله كما سيف عمرو لو رويت كما سيف عمرو لجاز، تجعل ما صلةً وينجر السيف بالكاف. ومثله قوله:
كما العظم الكسبر يهاض حتى ... يبت وإنما بدأ انصداعا
تجر العظم بالكاف، وإن رفعته كان مبتدأً، وكذلك إذا رفعت سيف، ويكون ما من قوله ما الكافة، ويكون مثل ما من قوله ما الكافة، ويكون مثل ما من قوله عز وجل: " ربما يود الذين كفروا لو كانوا مسلمين ". والضمير من قوله لم يخنة يرجع إلى عمرو، ويجوز أن يرجع إلى السيف أيضاُ.(1/616)
وقال أسود بن زمعة
أتبكي أن يضل لها بعيرٌ ... ويمنعها من النوم السهود
فلا تبكي على بكرٍ ولكن ... على بدرٍ تقاصرت الجدود
ألا قد ساد بعدهم رجالٌ ... ولولا يوم بدرٍ لم يسودوا
كان السبب في قول الأسود هذا الشعر أن قريشاً كانت حرمت البكاء على أنفسهم لقتلى بدر، لئلا يشمت النبي صلى الله عليه وسلم وأصحابه بهم، وكان الأسود قد فجع بابنه زمعة، إذ كان من قتلى ذلك اليوم، فافتدى بالناس في ترك البكاء عليه، فاتفق أن كانت له مشربةٌ فتنزه ومضى إليها فسمع بكاء امرأةٍ فقال لأصحابه: انظروا فإن كان البكاء قد حلل، حتى نبكي نحن أيضاً زمعة، فرجع إليه وقيل: إنه بكاء امرأةٍ ضل لها بعيرٌ. فقال هذا الشعر منكراً لبكائها ومستعظماً.
وقوله أتبكي أن يضل لفظه لفظ الاستفهام، والمعنى معنى الإنكار. وقوله أن يضل: أراد من أن يضل، وهم يحذفون حرف الجر من أن كثيراً. والسهود: امتناع النوم؛ ورجلٌ مسهدٌ، إذا كان قليل النوم. ولم يرض بأن أنكر البكاء عليها، وترك النوم لفقدان بعيرها، حتى نهاها فقال:
فلا تبكي على بكرٍ ولكن ... على بدرٍ تقاصرت الجدود
يريد أن الذي يجب البكاء له ما جرى على رؤساء قريشٍ وأرباب الجدود فيهم ببدرٍ، وأن الحيف العظيم والخسران المبين والغبن الشديد في ذاك، لا في ضلال بكرٍ. وبدرٌ: اسم بئرٍ اتفقت الوقعة عندها. وقوله تقاصرت الجدود من فصيح الكلام، وهو تفاعلٌ من القصور والعجز، لا القصر الذي هو ضد الطول، كأنه تبارت في القصور، يدل على ذلك أنه يقال قصرت كذا على كذا، إذا حبسته عليه ومنعته من الذهاب عنه حتى صار كالعاجز عن غيره. ويقال أيضاً قصرته على كذا، إذا رددته دون ما أراد. ومنه القصر في الصلاة. ويقال تقاصرت إلى فلانٍ نفسه ذلا. وقصر السهم عن الهدف فهو قاصر. ولا يمتنع - وإن كان الأول هو الوجه - أن يجعل من(1/617)
القصر، ويكون ضد تطاولت، ويكون على موضوعاً موضوع الباء، كما يقال: هم على ماء كذا وهم بماء كذا.
وقوله ألا قد ساد بعدهم رجالٌ يريد أن أهل السيادة انقرضوا وبادوا في ذلك اليوم، فعادت إلى من لا يستحقها ولم يكن لها بأهلٍ. ومثل هذا وإن كان أغمض منه قول الآخر:
وألحقنا الموالي بالصميم
وقال الأسدي
وخبره في منادمته معروف:
خليلي هبا طال ما قد رقدتما ... أجدكما لا تقضيان كراكما
قوله طال ما يجوز أن يكون ما الكافة وقد ركب مع طال تركيباً واحداً حتى صارا معاً كالشيء الواحد. ويجوز أن يكون ما منفصلاً من طال، ويكون مع الفعل الذي بعده في تقدير المصدر، كأنه قال: طال رقودكما. فإذا كتب المركب مع ما يجب أن يوصل أحدهما بالآخر، وإذا كتب الثاني يفصل بين طال وبين ما. وأجدكما انتصب على المصدر، ذكره سيبويه في باب ما ينتصب من المصادر توكيداً لما قبله. قال: ومثله في الاستفهام: أجدك لا تفعل كذا، كأنه قال أجداً. غير أنه لا يستعمل إلا مضافاً، فهو يجري في التأكيد مجرى حقاً. وفي الإضافة: جهدك، ومعاذ الله، والمعنى: أتجعلان فعلكما جداً. وقوله لا تقضيان كراكما كأنه لما اتصل رقادهما ودل على حاليهما في امتداده قوله هبا، وقوله طالما قد رقدتما، جعل النفي بلا، ليدل على اتصاله في الاستقبال، وأن سؤاله عما يجيء لا عما هو فيه. ولو جعل بدل " لا " ما، كان للحال. ومعنى البيت: يا خليلي انتبها فقد امتد رقادكما.(1/618)
وأتجدان جدكما في أن كراكما بعد لا منتهى له ولا انقضاء، بل يتصل ويدوم. وقوله طالما قد رقدتما يكتفى به إذا كان المتقدم من الكلام يشتمل على ما قد استطيل. وعلى ذلك عزما، وشدما.
ألم تعلما مالي براوند كلها ... ولا بخزاقٍ من صديق سواكما
قوله ألم هو لم أدخل عليه ألف الاستفهام، والاستفهام كالنفي في أنه غير موجب، ونفي النفي إيجاب، لذلك قرر بألم فيما كان واجباً واقعاً، لأنه يتضمن من التحقيق والتثبيت في التقرير، وتأكيد المقرر على المخاطب، مثل ما يتضمنه القسم لو أتى به بدله؛ لذلك عقبه بما يعقب به القسم، وهو ما النافية. وقد تقدم القول في قول القائل: الله يعلم ويعلم الله، والله يشهد؛ أن جميع ذلك يستعمل استعمال الأيمان. وكذلك قول القائل:
ولقد علمت لتأتين منيةٌ ... ما بعدها خوفٌ علي ولا عدم
فقوله ولقد علمت جارٍ مجرى اليمين فيما ذكرت من التأكيد، لولا ذلك لما عقب بما يكون جواب اليمين. وقوله ألم تعلما أصله تعلمان، ودخلت ألم للتقرير. وقوله مالي براوند في موضع المفعول لتعلمان، لأن تعلم ها هنا في موضع تعرف، كقوله تعالى: " ولقد علمتم الذين اعتدوا منكم في السبت "، وكذلك: لقد علمت لتأتين، أصله لتأتين ودخلت علمت ليؤكد بها، لأنك أخرجت الكلام بها من أن يكون على سبيل التظني أو من خبر مخبرٍ فيكون إحالةً عليه. واللام من لتأتين له الصدر، فيمنع علمت من العمل، وإذا كان كذلك كان موضع لتأتين له الصدر، فيمنع علمت من العمل، وإذا كان كذلك كان موضع لتأنين نصباً على أنه مفعول علمت، وعلمت بمعنى عرفت. وقوله من صديق في موضع الرفع على أن يكون اسم ما. وفائدة من الاستغراق، وسواكما في موضع غير، وهو صفةٌ لصديق. والكلام هو استبطاءٌ في استمرار رقادهما عنه، وغفلتهما مما هو بسبيله، وباطنه تلهف وتوجعٌ.
أقيم على قبريكما لست بارحاً ... طوال الليالي أو يجيب صداكما
أصب على قبريكما من مدامةٍ ... فإن لم تذوقاها أبل ثراكما(1/619)
يقول: أصل مقامي على قبريكما باتصال الليالي ودوامها، ولا أبرح إلا أن يجيبني صداكما. وقوله لست بارحاً في موضع الحال، كأنه أراد: أقيم ملازماً أبداً. وطوال انتصب على الظرف، والعامل فيه يجوز أن يكون بارحاً، ويجوز أن يكون أقيم. فأما قوله أو يجيب فأو بدلٌ من إلى، والفعل بعده انتصب بأن مضمرة. والعرب تقول: عظام الموتى تصير أصداءً وهاما، لذلك قال: أو يجيب صداكما.
وقوله أصب على قبريكما من مدامة من أفاد التبعيض، وموضع من مدامةٍ نصبٌ على أنه مفعول أصب، والمعنى أجريكما في المنادمة والشرب مجراكما وأنتما حيان، فإذا عادت النوبة إليكما أصب ما نابكما من المدامة على قبريكما، لأنه إن لم يبل ريقكما رطب قبريكما. وقوله أبل يجوز أن تبنيه على الفتح والضم والكسر، لأنك تدغم وإن كان معرباً، فيلتقى بنقل الحركة عن العين إلى الفاء ساكنان، ثم يبنى على الكسر لأنه أصلٌ في التقاء الساكنين، أو على الفتح لخفته، أو على الضم للإتباع. ولا خلاف في إدغام المعرب من كل العرب، فأما المبني فبعضٌ يظهر التضعيف فيه فيقول: أردد، وبعضٌ يقول رد فيدغم وإن كان مبنياً، إلا أن الأصل في الإدغام للمعرب، ثم حمل المبني عليه فاعلمه.
وأبكيكما حتى الممات وما الذي ... يرد على ذي عولةٍ أن بكاكما
قوله وما الذي يرد على ذي عولةٍ يجري مجرى الالتفات. وقوله إن بكاكما إذا فتحت الهمزة يكون موضعه من الإعراب الرفع على أن يكون فاعل يرد، لأن أن مع الفعل في تقدير المصدر، وإن رويت إن بكسر الهمزة كان شرطاً وجوابه يدل عليه ما تقدمه، وفاعل يرد ما يدل عليه أبكيكما من مصدره، كأنه قال: وما الذي يرد البكاء على ذي عولةٍ إن بكاكما. على ذلك قولهم: من كذب كان شراً له، ومن صدق كان خيراً له يريدون كان الكذب شراً له والصدق خيراً له. والمعنى: أبكيكما ما اتصل عمري. ثم قال كالملتفت إليهما على طريق اليأس: وما يغني البكاء عن المعول إن بكاكما. فقوله " ما " استفهام ومعناه للإنكار. والعويل: صوت الصدر، ومنه العولة، وقد أعولت المرأة.(1/620)
وقال عبد الملك بن عبد الرحيم الحارثي
إبى لأرباب القبور لغابطٌ ... لسكني سعيدٍ بين أهل المقابر
وإني لمفجوعٌ به إذ تكاثرت ... عداتي ولم أهتف سواه بناصر
قوله سكني أن تسكن إنساناً منزلاً بلا كراء، والمنزل سكنٌ ومسكن؛ وهو مصدر كعذرى وبشرى. ومعنى البيت: إني أغبط الموتى لحصول سعيدٍ فيما بينهم، فإن الجمال الذي كان للأحياء بمقامه فيهم كأنه انتقل إلى الأموات عنهم؛ وإنى لمتبينٌ تأثير الفجع به، وشدة فاقتي إليه، إذا تزاحم الأعداءٌ وتبالغوا في قصدي، ولا يكون لي من أستنصره عليهم غيره. وقوله سواه في موضع النصب على أنه استثناء مقدمٌ. ويقال هتف هتفاُ وهتافاً. والهتف: الصوت الشديد، وقوسٌ هتفي، والحمام تهتف. وهتف به وصاح به، إذا دعاه.
فكنت كمغلوبٍ على نصل سيفه ... وقد حز فيه نصل حران ثائر
النصل: اسم حديدة السيف، لذلك صلح إضافته إلى سيفه وإن كان قد يستعمل استعمال السيف. ألا ترى أنه قال: وقد حز فيه نصل حران. يقول: كان عدنى على الدهر وسلاحي على أعدائي، فلما فقدته والأعداء بالمرصاد لي، صرت كان غلب على سيفه وسيف عدوه قد خرج عليه كطالب ثأرٍ وكبده حرى، لشدة عداوته واستحكام غيظه يعمل فيه، وينفذ في الضريبة منه، والمراد: كنت كمن غلب على عدته أشد ما كان حاجةً إليها، وحين تمكن العدو وهو تام الآلة، مكين القوى في المنازلة.
أتيناه زواراً فأمجدنا قرى ... من البث والداء الدخيل المخامر
وأبنا بزرعٍ قد نما في صدورنا ... من الوجد يسقى بالدموع البوادر
يقول: جئناه زائرين فوسع قراناً من الحزن والداء المتمكن من القلب، المخامر له. والمخامر مأخوذ من الخمر، وهو ما واراك من الشجر وغيره. وإذا كان كذلك فهو أبلغ من قوله الدخيل، لأنه يفيد في الموصوف فائدةً أكثر من الدخول، إذ كان(1/621)
المراد به دبيبه في أثناء القلب وأطباقه، وذهابه في أجزائه وأضعافه، وليس في الدخيل هذا المعنى. ويقال أمجدت الدابة العلف، إذا أكثرت له.
وقوله وأبنا بزرعٍ قد نما في صدورنا نبه بهذا الكلام على أن حزنه يزيد على مر الأيام، فهو كالزرع النامي، وأن سقياه الدموع. ومعنى البوادر المستبقة لكثرتها وغلبتها. وأصل الزرع الإنبات. والزرعة: البذر. لذلك قال الله عز وجل: " أأنتم تزرعونه أم نحن الزارعون ". وازدرع، إذا زرع أو أمر به لنفسه خاصةً. ويقال: زرع لفلانٍ بعد شقاءٍ، إذا أصاب مالاً بعد الحاجة. فإن قيل: كيف قال أمجدنا قرى والميت لا يعمل شيئاً؟ قلت: لما جعله مزوراً أقام له قرى لزائره على عادته وهو حيٌ. وهذا المعنى من كلامه أبين وأظهر من كلام عبدة بن الطبيب لما قال:
إذا زار عن شحطٍ بلادك سلما
ولما حضرنا لاقتسام تراثه ... أصبنا عظيمات اللهى والمآثر
وأسمعنا بالصمت رجع جوابه ... فأبلغ به من ناطقٍ لم يحاور
اللهى: أفضل العطايا وأجزلها، والواحدة لهيةٌ ولهوةٌ؛ ومه اللهوة التي تلقى في الرحى. يقول: لما اجتمعنا لنقتسم تركته فيما بيننا لم نجد له إلا ما كسبه عطاياه من المآثر الكريمة. فأضاف عظيمات إلى اللهى والمآثر جميعاً، وهي جمع مأثرةٍ، وهي ما يؤثر من المحامد والمعالي ويذكر. ويجوز أن يريد بالعظيمات المفاخر التي ادخرها له اللهى، ويكون اللهى حينئذ الأموال الكثيرة. ويجوز أن يكون المراد بالمآثر الأعلاق الثمينة، والنفائس الكريمة، التي فرقها في حياته، وآثر غيره بها. وقوله وأسمعنا بالصمت رجع جوابه أي مرجوع جوابه، كما قال غيره: " اسأل الأرض، أين من شق أنهارك، وغرس أشجارك، وجنى ثمارك؛ فإن لم تجبك حواراً أجابتك اعتباراً "؛ وكما قال الآخر:
وعظتك أجداثٌ صمت(1/622)
ومثله:
وكانت في حياتك لي عظاتٌ ... فأنت اليوم أوعظ منك حياً
وقالت امرأةٌ من بين شيبان
وقالوا ماجداً منكم قتلنا ... كذاك الرمح يكلف بالكريم
بعين أباغ قاسمنا المنايا ... فكان قسيمها خير القسيم
انتصب ماجداً على معنى أنه مفعول مقدم، ومنكم في موضع الصفة له. وموضع ماجداً منكم قتلنا الجملة موضع المفعول لقوله قالوا. وقوله كذاك الرمح جوابٌ لهذا الابتداء، كأنه قال: فأجيبوا: الرمح يكلف بالكريم كذلك، فأشير بذاك إلى الخبر الذي اقتصوه. والكاف من كذاك كاف الخطاب لا موضع له من الإعراب. وتلخيص الكلام: الرمح يكلف بالكرام كلفاً مثل ذلك الكلف. والعامل في كذاك يكلف. والمعنى: تنادوا: قتلنا ماجداً منكم؛ فأجيبوا: الرمح يعشق الكرام ويولع بهم مثل ذلك. وأكثر ما يجيء الجواب في إثر السؤال من واحدٍ في القرآن، كقوله تعالى: " لمن الملك اليوم لله الواحد القهار ". وقد ألم في هذا البيت بقوله طرفة:
أرى الموت يعتام الكرام ويصطفى ... عقيلة مال الفاحش المتشدد
وقوله بعين أباغ قاسمنا المنايا مثله قول الآخر:
وقاسمني دهري بني بشطره
كأنه كان للمنايا نصيبٌ فيهم فقاسمتهم على نصيبها فوقع إليها خير النصيبين. والمعنى: اختارت منهم الأمثل فالأمثل، وغادرت الفل منهم والمسترذل. وقوله قسيمٌ(1/623)
يكون في معنى مقسوم، وقد يكون القسيم المقاسم، وليس هذا موضعه. ولك أن تروى قاسمنا المنايا بسكون الميم، ويكون المنايا في موضع المفعول، ولك أن تفتح الميم وتجعل المنايا فاعلةً؛ والمعنى فيهما متقاربٌ. وكانت الوقعة بعين أباغ، فلذلك خصه بالذكر، وقاسم يقتضي مفعولاً آخر، كأنه قال: قاسمنا المنايا الناس أو الأصحاب. وقوله قسيمها، كقولك نصيبها. وخير القسيم كقولك خير الأنصباء. وأنشد ابن الأعرابي في هذه الطريقة:
إذا ما المنايا قاسمت بابن مسحلٍ ... أخا واحدٍ لم يرض نصفاً قسيمها
فآب بلا قسم وآبت بقسمها ... إلى قسمه لاقت قسيما يضيمها
كأنه كان للمنايا نصيبٌ في أخيه، فقاسمته وأخذت نصيبه إلى نصيبها، وآب هو بلا نصيب. ثم دعا على المنية فقال: قيض الله لها قسيماً يظلمها كما ظلمتني.
وقال عتي بن مالكٍ
أعداء من لليعملات على الوجى ... وأضياف ليلٍ بيتوا لنزول
أعداء ما للعيش بعدك لذةٌ ... ولا لخيلٍ بهجةٌ بخليل
أعداء ما وجدى عليك بهينٍ ... ولا الصبر إن أعطيته بجميل
ناداه مسائلاً له على طريق التوجع: من خلفت بعدك للوراد، وعلى من اعتمدت في تفقد الأضياف. واليعملات: النوق السراع. والوجى هو الحفى. وقال الخليل: اليعملة لا يوصف بها إلا النوق. وقال أبو سعيدٍ: يقال للجمل يعملٌ، اسمٌ له من العمل، كما يقال يعملةٌ، وأنشد:
إذ لا أزال على أقتاد ناجيةٍ ... صهباء يعملهٍ أو يعملٍ جمل
أراد أو جملٍ يعمل. وموضع على الوحى نصبٌ على الحال، كأن فناءه وداره كان مألفاً للعفاة ومجمعاً للأضياف، فإذا أرادوا من يؤويهم لم يؤثروا تطلباً على قصده، ولم يجدوا تطلقاً وتوفراً إلا من عنده، فقال على طريق التحسر: من يؤوي الأضياف وقد بهرهم السعي وأتعبهم الطلب غيرك، ومن ينزل السفر وقد أكلهم التعب(1/624)
وأملهم الدأب حتى حفيت رواحهم، وحتى بيتوا لنزولٍ، ميلاً إلى نيل راحتهم. ويقال بيت الأمر، إذا دبره بالليل. وكل رأيٍ أجلته بليلٍ فهو مبيتٍ. وماءٌ بيوتٌ، إذا بات ليلةً في الإناء. وبيت القوم، إذا أوقعت بهم ليلاً. ويقال للهم: هو بيوتٌ، وللصقيع بيوت.
وقوله أعداء ما للعيش بعدك لذةٌ يصفه فيه بأنه كان ببليغ لطفه وجميل خلقه، وسهولة جانبه ورحابة جنابه، يطيب العيش معه على ما يعترض فيه من مساءةٍ أو مسرةٍ، إذ كان يتحمل الأعباء عمن يجاوره، ويخفف ظهر من ينصب إليه، أو يتسبب بقرابةٍ لديه، أو يتوكل لمخلةٍ عليه، فكان لذيذ الحياة يوجد عنده، وصفى البقاء يحصل معه. وقوله ولا لخليل بهجةٌ بخليل يعني أن الناس وقد رأوا مآل أمرك إلى الفناء، وانقطاع السرور عنهم بعد النماء، صار لا يبتهج بعضهم ببعضٍ، فلا يسكن الصديق إلى صديقه، ولا القريب مع قريبه، لغلبة اليأس من الخير، وارتفاع الطمع من الفرج.
وقوله أعداء ما وجدى عليك بهينٍ كرر مناداته دلالةً منه على لزوم التوجع، وتنبيهاً على حصول العناء والاشتكاء بعد التودع. ثم قال: ليس جزعي عليك بخفيف، ولا وجدي عليك بطفيف، ولا صبري لو حصل بجميل، لأن الصبر على فقدك منكر، وهون الوجد وخفته مستفظع، فليس لنا إلا الاستمرار فيما نحن بسبيله من اللهف والحسرة والاستسلام للشقاء والهلكة.
وقال أيضاً:
كأني والعداء لم نسر ليلةً ... ولم نزج أنضاءً لهن ذميل
ولم نلق رحلينا ببيداء بلقعٍ ... ولم نرم جوز الليل حيث يميل
أدخل الألف واللام ي هذه المقطوعة على العداء لأنه صفةٌ في الأصل، فهو كالحسن والعباس وما أشبههما، فإذا أتيت به ولا ألف ولام فيه فلأنك جعلته علماً، فصار معرفةً بالعلمية، وإذا أدخلت الألف واللام عليه فإنك راعيت حاله وهو صفةٌ ثم جعلتها نفس المسمى وأدخلت الألف واللام عليه. فعلى الأول لا يفيد الاسم في المسمى شيئاً أكثر من تمييزه عن غيره، وعلى الثاني أفاد معنى الوصيفة فيه مع التمييز، فصار كالصفات الغالبة الجارية مجرى الألقاب في الخصيص.(1/625)
وقوله كأني والعداء لم نسر ليلةً يريد أن الشيء إذا انقطع فكأنه لم يكن. والمعنى أنى وقد فقدته فكأني وإياه لم نصطحب في قطع مسافة، ولم نشترك في سوق أنضاءٍ من الإبل لتحمل كلفةٍ، أو صبرٍ على مشقةٍ. ونبه بهذا الكلام على تبذله - كان - فيما يكسبه الأحدوثة الجميلة، وإن تكلف فيه الأثقال العظيمة. والذميل: إسراع السير. والأنضاء: جمع النضو. وقال الدريدي: يقال: ذملت الناقة ذميلاً وذملاناً، وهو ضربٌ من السير أعلى من العنق، وناقةٌ ذمولٌ. والإزجاء: السوق.
وقوله ولم نلق رحلينا لو قال رحالنا لكونهما اثنين من اثنين، فجرى مثل قوله تعالى: " فقد صغت قلوبكما " كان أدخل في الاستعمال، لكنه أتى به على الأصل. والبيداء: المفازة. والبلقع: القفر الخالي. والمعنى على ما تقدم في البيت الذي قبله، من الصبر على الشدائد.
وقوله ولم نرم جوز الليل حيث يميل أراد حيث يميل الليل. وحيث هذا ظرف زمانٍ. يريد فكأنا لم نرم بأنفسنا جوز الليل وقت ميله. يشير إلى جنوحه وإشرافه على تهوره، لأن ميله على ذلك يكون. ومما جاء فيه وهو للزمان دون المكان عند أبي الحسن الأخفش قوله:
للفتى عقلٌ يعيش به ... حيث تهدى ساقه قدمه
لأن المعنى: للفتى عقلٌ يعيش به مدة سعيه وحياته؛ ونهوضه بساقه في أمره. ويجوز أن يكون حيث ظرفاً لمكانٍ، ويكون المعنى: إنا نعتسف الطريق فحيث مال الليل ملنا معه. ويجوز أن يكون فاعل يميل ما دل عليه " ولم نرم " من المصدر، ويكون المعنى حيث يميل الرمي ويذهب فيه.
وقال أبو الحجناء
أضحت جياد ابن قعقاعٍ مقسمةً ... في الأقربين بلا منٍ ولا ثمن
ورثتهم فتسلوا عنك إذ ورثوا ... وما ورثتك غير الهم والحزن(1/626)
القعقاع والقعقعاني: الذي إذا مشى سمع لمفاصله تقعقع. وأراد بالأقربين وراثه، وبالجياد خيله. فيقول: أضحت خيله مفرقةً في وراثه، وهم لا يعتدون له بها ولا يبتاعونها، فتكون له المنة أو الثمن. ثم قال: ورثتهم فنسوك اشتغالاً بالإرث، وتسلياً عنك بالمال، وأنا باقٍ على ما كنت عليه من التحزن والاهتمام لا إرث لي غيرهما. وهذا كلام متأسفٍ ومستنكرٍ من أقاربه ما يراهم عليه من نسيانه والسرور بما فازوا به من ماله. والسلو: طيب النفس عن الشيء. وفي تسلى من التكلف ما ليس في سلاه.
وقال آخر:
لنعم الفتى أضحى بأكناف حائلٍ ... غداة الوغى أكل الردينية السمر
لعمري لقد أرديت غير مزلجٍ ... ولا مغلق باب السماحة بالعذر
سأبكيك لا مستبقياً فيض عبرةٍ ... ولا طالباً بالصبر عاقبة الصبر
المحمود محذوفٌ، كأنه قال: نعم الفتى فتى أضحى. وانتصب أكل على أنه خبر أضحى، وبأكناف حائلٍ ظرف مكانٍ. وغداة الوغى ظرف زمانٍ، وتعلقا جميعاً بأضحى. ويجوز أن يجعل بأكناف حائلٍ الخبر، وينتصب أكل على الحال. ولا يمتنع أن ينصب غداة بما دل عليه بأكناف حائلٍ من الفعل المضمر. ويجوز أن يكون العامل فيه أكل، لأنه ليس بمصدر فلا يعمل الفعل المضمر. ويجوز أن يكون العامل فيه أكل، لأنه ليس بمصدر فلا يعمل ما في صلته فيما قبله. والأكل: الطعم، وإضافته إلى الردينية لم تفد فيه اختصاصاً. ألا ترى أن فائدته وهو مضافٌ مثل فائدته لو نون فقيل أكلاً للردينية. ومثله قيد الأوابد وما أشبهه. ومعنى البيت: محمودٌ في الفتيان فتى حصل بجانب هذا الوادي غداة الحرب طعماً للردينية السمر. وأصل الوغى الجلبة والصوت. واللام من لنعم جواب قسمٍ مضمر.
وقوله لعمري لقد أرديت غير مزلجٍ أقبل عليه يخاطبه بعد أن كان يخبر عنه، على عادتهم في افتنانهم في الكلام، وكأن الخطاب أدل على التحسر والتوجع من الإخبار، ولذلك عدل إليه. واللام في لعمري لام الابتداء. وخبر المبتدأ محذوف، كأنه قال: لعمري قسمي. واللام من لقد جواب اليمين، والمعنى: وبقائي لقد أهلكت غير ضعيفٍ ولا جبانٍ وقت المدافعة والممانعة فتضيع محفوظاً، ولا متشدداً على تزاحم المحتدين والسؤال، بإقامة المعاذير والعلات، فتغلق للسماحة باباً مفتوحا.(1/627)
وقوله سأبكيك لا مسبقياً فيض عبرةٍ يريد أن بكاءه يتصل إلى أن يستنفد مواد دمعه، وأنه لا يطلب بتكلف الصبر ما يتعقبه من التسلي. فقوله بالصبر أراد بتكلف الصبر، فحذف المضاف وأقام المضاف إليه مقامه، وذاك أن الإنسان إذا تصبر فيما يدهمه مدةً، وتماسك به برهةً، أداه مرور الأوقات إلى أن يتسلى؛ فعاقبة الصبر هو التسلي، فإذا تسلى عاد طمعه فيما يرجى، وحذره مما يخشى، إلى ما كان أو أشد، وذلك حال من لا هم له.
وقال خلف بن خليفة
أعاتب نفسي إن تبسمت خالياً ... وقد يضحك الموتور وهو حزين
انتصب خالياً على الحال من أعاتب. وأن تبسمت بفتح الهمزة معناه لأن تبسمت، ومن أجل تبسمى. ولك أن تكسر الهمزة من إن فيكون شرطاً ويكون جوابه ما دل عليه أعاتب نفسي. والمعنى: إذا خلوت بنفسي أبسط العتب عليها لما يتفق منها في الملأ من متابعة الناس على تصرفهم في المؤانسة والمضاحكة، وطلب موافقتهم عند المفاكهة والمحادثة. هذا وليس ذاك لداعية سرور، ولا لباعثة ابتهاجٍ وحبورٍ. ثم قال وقد يضحك الموتور وهو حزين يريد أن الموتور وإن تناهى حزنه، واشتد قلقه وبثه، فقد يضحك قطعاً لشماتة شامتٍ، وتجلداً مع عدوٍ مكافح، أو جرياً على عادةٍ، أو استمراراً عفي إقامة موافقةٍ، ولا يعد ذلك منه إخلالاً بواجب الهلع، ولا إغفالاُ للوازم الجزع، والضحك أبلغ من التبسم، فكذلك أنا وإن تبسمت لضربٍ من تلك الضروب، فطلب الوتر والقيام بسنة الحزن نصب عيني، وأهم الأمور إلي.
وبالدير أشجاني وكم من شجٍ له ... دوين المصلى بالبقيع شجون
ربيً حولها أمثالها إن أتيتها ... قرينك أشجاناً وهن سكون
كذا الهجر أنا لم يضح لك أمرنا ... ولم يأتنا عما لديك يقين
الأشجان: جمع الشجن، وهو الحزن، وفي أدنى العدد، والشجون جمعه الكثير. وقوله ربي حولها أمثالها موضعه رفع على أنه بدل من قوله شجون. ويعنى بها القبور المسنمة. وحولها أمثالها صفة للربى. وما أشار إليه من المماثلة يعني في(1/628)
الصورة والغناء جميعاً. وقد ألم في هذا بقول الآخر:
فقلت له إن الشجا يبعث الشجا ... فدعني فهذا كله قبر مالك
وإنما يريد أن قبور أحبته بالدير وقبور أحبة من يأتسي بهم من المفجوعين ببقيع الغرقد، لأن أولئك ماتوا حتف أنفهم وفي أماكنهم، فدفنوا في مقابرهم، وأصحاب الشاعر قتلوا وتغربوا فدفنوا ثم. والكلام توجعٌ وتلهف. وقوله دوين المصلى تحديدٌ للمقبرة، وتقريبٌ لها من المصلى، لذلك قال دوين فصغر دون. وعلى ذلك تصغيرهم لقبيلٍ وبعيدٍ وفويق. وقوله إن أتيتها قرينك أشجانا مثل قول الآخر:
أتيناه زواراً فأمجدنا قرى ... من البث والداء الدخيل المخامر
وأضاف إليه معنى البيت الآخر بقوله " هن سكون " وهو " وأسمعنا بالصمت رجع جوابه ". وقوله كذا الهجر يجوز أن يشير بذا إلى ما قدمه، ويجوز أن يكون وضع حرف الإشارة والمشار إليه يجيء من بعد على طريق التفسير له، والترجمة منه. والمراد ما بيننا من استعجام الأخبار، وذهاب لالتقاء والاجتماع، على انصال التزاور إذا فعل، أشبه شيءٍ بالهجران؛ وذلك ما لم يدخل بيننا في شيءٍ من الأوقات والأحوال. وهذا تحسرٌ آخر جديد، وتلهف شديد.
وقال عبد الله بن ثعلبة الحنفي
لكل أناسٍ مقبرٌ بفنائهم ... فهم ينقصون والقبور تزيد
وما إن يزال رسم دار قد اخلقت ... وبيتٌ لميت بالفناء جديد
هم جيرة الأحياء أما جوارهم ... فدانٍ وأما الملتقى فبعيد
يقول على وجه التحزن والتفجع والتوجع: تساوت أحوال الناس في مقاساة البلاء، ومعاناة الشقاء، لا تفاضل فيما بينهم ولا تمايز، يرون مصارعهم بأفنيتهم،(1/629)
وجنود الموت والفناء متسلطة على طوائفهم، تخترم الواحد بعد الواحد منهم بلا حياءٍ ولا رقبةٍ، ولا استبقاء ولا رعة، وقد رضوا بحكمه وأخذه، واختياره وقسمه، فعسفه عندهم رفق، وبطشه رحمةٌ وعدل، يرون فرق أحيائهم على مرور الأيام إلى تراجعٍ وتناقص، ومصير مصانعهم ومساكنهم قريباً إلى البلى والتعطل، ويجدون عدد الأموات إلى تزايدٍ وتكاثر، ومقابرهم إلى عمارةٍ وتوافر. هذا وقد التزموا ما يجري عليهم التزاماً، لا سخط فيهم ولا إنكار، ولا كراهة ولا ملال؛ فلا المجاورة بين الفريقين تنقطع، ولا المهاجرة ترتفع، ولا الأحوال تتبدل، ولا العادة في جميعها تتغير؛ ففي كل قبيلةٍ حدوث مصيبةٍ، ونزول بليل؛ وفي كل مجمعةٍ تأثير فجيعةٍ، ونكاية منية. فبماذا نستمسك ونعتصم من الفناء، وعلى ماذا نعول ونعتمد في الرخاء، وكيف رضينا بتدانٍ يبطله فناء، وتجاورٍ بني على تدابر، وأتى يستقيم البناء والتشييد، لمن ملكه النفاد والتشتيت، ومتى يحصل السلو لمن هو مرتهنٌ بتجديد الفقود.
وقال آخر:
لا يبعد الله إخواناً لنا ذهبوا ... أفناهم حدثان الدهر والأبد
نمدهم كل يومٍ من بقيتنا ... ولا يؤوب إلينا منهم أحد
معنى لا يبعد الله لا يهلك الله. يقال بعد الرجل إذا هلك. فإن قيل: كيف قال لا يبعد اله وقد عقبه بقوله أفناهم حدثان الدهر والأبد، وهل الهلاك إلا الفناء؟ قلت: هذه اللفظة جرت العادة في استعمالها عند المصائب، وليس فيه طلبٌ ولا سؤال، وإنما هو تنبيهٌ على شدة الحاجة إلى المفقود، وتناهي الجزع في الفجع به. ألا ترى أن الآخر قال:
يقولون لا تبعد وهم يدفنونني ... وأين مكان البعد إلا مكانيا
وأشار بقوله حدثان الدهر إلى النوائب والنكبات، وبقوله الأبد إلى نفس الدهر؛ لأن من سلم من الآفات أداه مرور الأيام والليالي إلى الفناء والهرم. أما سمعت قول القائل:
ودعوت ربي بالسلامة جاهداً ... ليصحني فإذا السلامة داء(1/630)
والأموات على اختلافهم لا يخرجون من هذين الحكمين. وقوله نمدهم كل يومٍ من بقيننا مثل قوله:
فهم ينقصون والقبور تزيد
إلا أنه زاد على ما قاله، حين قال: ولا يؤوب إلينا منهم أحد. ويجوز أن يريد بقوله من بقيتنا من خيارنا. يقال: فلانٌ من بقية قومه، أي من خيارهم. ويكون مثل قوله:
أرى الدهر يعتام الكرام ويصطفى
وقال الغطمش الضبي
إلى الله أشكو لا إلى الناس أنني ... أرى الأرض تبقى والأخلاء تذهب
أخلاء لو غير الحمام أصابكم ... عتبت ولكن ما على الموت معتب
صرف شكواه عن الناس إلى الله عز وجل، يأساً من معونتهم، وإشكاءٍ يحصل من جهتهم، ولأن الله تعالى هو الذي أجرى المقادير بما يتألم منه، من بقاء الأرض وفناء الأصدقاء. ثم قال أخلاء لو غير الحمام أصابكم، كأنه أقبل على الذاهبين معتذراً إليهم من استسلامه للحكم الجاري عليهم، ومن عجز قواه عن نصرتهم فيما أصابهم فقال: لو كان القاصد لكم غير الموت لتسخطت الحال ولم يكن مني بها رضاً، ولكن ما على الموت طريقٌ للعتب، ولا فيه لي رجاءٌ لإعتابٍ، ورجوعٌ باعتذار. وقوله أخلاء يروى أخلاى على قصر الممدود. والأجود أن يترك مدته على حالها، وتحذف الياء من آخره في النداء، لأن الكسرة تدل عليه. وقد ألم بقوله:
أمن المنون وريبها تتوجع ... والدهر ليس بمعتب من يجزع(1/631)
وقال أرطاة بن سهية
هل أنت أبن ليلى إن نظرتك رائح ... مع الركب أو غادٍ غداة غدٍ معي
وقفت على قبر ابن ليلى فلم يكن ... وقوفي عليه غير مبكى ومجزع
عن الدهر فاصفح إنه غير معتبٍ ... وفي غير من قد وارت الأرض فاطمع
خاطب المرثى متلهفاً على مفارقته، ومتحسراً في إثر الفائت منه، فقال: هل تروح مع ركبان الإبل إن انتظرناك، وهل تغدو غداة غدٍ معي إن أقمت لك. وهذا تحزنٌ وإظهار يأسٍ، وبيان انقطاع ما بينهم من التألف والاجتماع، والتعاون والاصطحاب. ومن روى غداتئذٍ فالمراد غداة إذ الأمر كذا، فحذف الجملة التي أضيف إذ إليها لينشرح بها، لكون المراد مفهوماً، ثم أتى بالتنوين عوضاً من الجملة المحذوفة ليستقل إذ به.
وقوله:
وفقت على قبل ابن ليلى فلم يكن ... وقوفي عليه غير مبكى ومجزع
مثل ما تقدم من قول الآخر:
ربي حولها أمثالها إن أتيتها ... قرينك أشجاناً............
وقول الآخر:
أتيناه زواراً فأمجدنا قرى ... من البث والداء الدخيل المخامر
وقوله عن الجهر فاصفح رجع إلى نفسه وأقبل يشير علها بالرضا بالمقدور، وترك التكلف للعتب على الدهر في ارتجاع الموهوب، إذ كان ذاك لا يؤدى إلى زجرٍ وارعواءٍ، ولا إلى تلافٍ من جهته أو إعتابٍ. وقوله وفي غير من قد ورات الأرض فاطمع تصويرٌ لليأس من المدفون، وأنه لا طمع في إيابه إذ لم يكن حاله كغيبة الغائبين.
وكل ما فيه من غريب وتصريف قد مر القول فيه.(1/632)
وقال آخر في أخ له مات بعد أخٍ:
كأني وصيفياً خليلي لم نقل ... لموقد نارٍ آخر الليل أوقد
فلو أنها إحدى يدي رزيتها ... ولكن يدي بانت على إثرها يدي
فأقسمت لا آسى على إثر هالكٍ ... قدى الآن من وجدٍ على هالكٍ قدي
يقول: لما انقطع ما بيني وبين أخي صيفيٍ بالموت صرت كأن لم يجمعني وإياه أخوةٌ ووصال، ولا ولادة ولبان، فلم نترافد على ابتناء مكرمةٍ، وإيقاد نارٍ لطارق ليلٍ، وطالب قرى وضيافة، ولم نتعاون على إقامة مروءةٍ وإسداء عارفة. ثم قال فلو أنها إحدى يدي رزيتها. وموضع إحدى مبتدأ ورزيتها في موضع الخبر. والشاعر إنما يريد بيان توالي المصائب عنده وعليه، وتفاقم الخطب لديه فقال: لو أصبت بإحدى يدي لكان في الباقية بعض الاجتزاء والاستغناء، ولكن تبعت الأولى الثانية، فأدى فقدهما إلى انقطاع الحياة، وافتقاد العدة في الآلات. وحذف جواب لو لأن المراد مفهوم، فهو كما تقول: لو رأيتني وأنت شابٌ، ولو رأيت زيداً وفي يده السيف؛ لأن المعنى لرأيت الأمر بخلافه. والضمير في قوله فلو أنها يجوز أن يكون للقصة، ويجوز أن يكون للمصيبة، كأنه قال: فلو أن القصة والشان إحدى يدي رزيتها.
وقوله فأقسمت لا آسى على إثر هالك معناه حلفت لا أتحزن لغمةٍ في هالك بعد هذا تتجدد، لأن حذري كان عليهما، وخوفي كان من فقدهما، كما كان رجائي فيهما، وطمعي معلقاً بحياتهما.
وقوله قدى الآن معناه حسبي. وقد تزاد النون عليه ليسلم السكون في داله، إذ كان مبنياً عليه، فيقال قدني، وإن جعلت قد غير مضاف في الموضعين جاز. ويجوز تحريك الدال في الأول لالتقاء الساكنين، وفي الثاني لأن كل ساكنٍ وقع روياً يجوز إطلاقه بالكسر. قال حجة في زيادة النون وحذفه:
قدني من نصر الحبيين قدى
فأتى بالوجهين جميعاً. وقوله الآن موضعه نصب على الظرف، ولا يجيء إلا بالألف واللام ومبنياً معه. ومن وجدٍ موضعه رفع على أنه خبر المبتدأ الذي هو(1/633)
قدى. وكرر قدى على طريق التأكد، والثاني مبتدأ مثل الأول وخبره مضمر وهو مثل ما ظهر وصار خبر الأول. ومعنى الآن أنه اسمٌ للزمان الحاضر: وقال بعضهم: هو الزمان الذي هو آخر ما مضى وأول ما يأتي من الأزمنة، وإنما بني لأنها وقعت في أول أحوالها بالألف واللام. وحكم الأسماء أن تكون شائعةً منكورةً في الجنس ثم يدخل عليها ما يعرفها من إضافةٍ وألفٍ ولامٍ، فخالف الآن سائر أخواتها بوقوعه معرفةً في أول الأحوال، ثم لزم مع ذلك موضعاً واحداً، لأن لزومها في هذه الحالة لموضعه قد ألحقه بشبه الحروف، إذ كان حكم الحروف لزومها لمواضعها في أوليتها لا يزول عنها، فبني لذلك، واختبرت الفتحة لخفتها.
وقال آخر:
هوى ابني من على شرفٍ ... يهول عقابه صعده
هوى من رأس مرقبةٍ ... فزلت رجله ويده
يقول: سقط ابني من أعلى جبلٍ يهول الارتقاء إليه والصعود فيه عقبانه، لسموقه وارتفاعه. أي إذا همت العقاب بالطيران إلى قلته تداخلها منه هولٌ وهيبةٌ. وهذا تهويل وتفظيع للشأن. وأعاد قوله هوى تحسراً وتوجعاً. والمرقبة هو المحرسة. والعلى هو الأعلى. ويقال صعد يصعد صعوداً وصَعَداً وصُعُداً.
وهوى مصدره الهوى والهوى بالفتح والضم، وقد تقدم القول فيه. والأهوية: البئر، وما بين أعلى الجبل إلى مستقر بطن الوادي. وقيل الهاوية: كل مهواةٍ لا يدؤك قعرها. وقوله يهول عقابه صعده في موضع الصفة. للشرف. ومعنى زلت رجله، أي انخلعت وبانت منه.
فلا أمٌ فتبكيه ... ولا أختٌ فتفتقده
لم يجعل فتبكيه ولا فتفتقده جواباً للنفي، لأن الجواب يكون منصوباً، لكنه عطف على ما قبله، وهو عطف جملةٍ على جملة. ومثله في القرآن: " ولا يؤذن له م فيعتذرون "، لأن المعنى لا يؤذن لهم ولا يعتذرون. وكذلك هذا، معناه لا أم له فلا تبكيه، إلا أن الجملة المعطوفة مما في القرآن موافقةٌ للجملة المعطوف عليها؛ لأن كل واحدةٍ منهما متركبةٌ من فعل وفاعل، والتي عطف(1/634)
عليها هي من ابتداءٍ وخبر. والجمل الخبرية إذا اختلفت مثل هذا الاختلاف يسوغ عطف بعضها على بعضٍ، ألا ترى أن الله تعالى يقول: " سواءٌ عليكم أدعوتموهم أم أنتم صامتون "، فعطف أنتم صامتون وهو ابتداءٌ وخبرٌ، على ما قبله وهو فعل وفاعل، لأن المعنى لا يختلف، بل يصير كأنه قال: أدعوتموهم أم صمتم. وقد جاء على العكس من هذا، لأن الشاعر يقول:
أموفٍ بأدراع ابن طيبة أم تذم
فعطف تذم، وهو من فعل وفاعل بأم على موف وهو ابتداءٌ وخبر، لأن المعنى أأنت موف محمودٌ أم غادرٌ مذموم. والكلام في لا أختٌ فتفتقده على ذلك، كأنه قال لا أختٌ له فلا تفتقده. وقال الخليل: تفقدت أمر كذا: تعهدته، وافتقدته: لم أره هلاكاً وغيبةً.
هوى عن صخرةٍ صلدٍ ... ففتت تحتها كبده
ألام على تبكيه ... وألمسه فلا أجده
وكيف يلام محزونٌ ... كبيرٌ فاته ولده
أعاد قوله هوى استفظاعاً وتحسراً. وعدى هوى ها هنا بعن لأنه أجراه مجرى زل وما أشبهه. والصلد: ما لا ينبت شيئاً من الحجارة. ومن الأرضين. ومنه أصلد الزند، إذا لم يخرج منه النار ولم يكن ورياً. ومعنى قوله فتت تحتها كبده تقطعت كبده لما حصل على الأرض. ويشير بالصخرة إلى المرقبة.
وقوله:
ألام على تبكيه ... وألمسه فلا أجده
معناه أن الناس يستسرفون اتصال بكائي عليه، ودوام التحسر في إثره، والحاجة إليه تدعوني إلى طلبه فلا أظفر به، فعند كل طلبٍ يحصل يأسٌ، ويتعقب ذلك اليأس مني بكاءٌ وتحزن. وقوله ألمسه بمعنى ألتمسه. واللمس والمس يتقاربان في معنى الطلب والالتماس. ألا ترى قوله تعالى: " وأنا لمسنا السماء فوجدناها ملئت حرساً شديداً(1/635)
وشهباً "، وأن مسترقة السمع لم يلمسوا السماء ولا طلبوا ذلك منها، وإنما تراقوا للسمع ليسترقوا السمع لا غير. وإذا كان كذلك فمعنى لمس التمس وطلب. وكذلك قول الشاعر:
مسسنا من الآباء شيئاً وكلنا ... إلى حسبٍ في قومه غير واضع
معنى مسسنا منه طلبنا وفتشنا ونظرنا، وليس هو من المس باليد في شيء. ويدل على أن معنى قوله ألمسه أطلبه أنه عقبه بقوله فلا أجده؛ وهذا ظاهر.
وقوله:
وكيف يلام محزون ... كبيرٌ فاته ولده.
يريد: كيف يلام على البكاء والتوجع محزونٌ قد مسه الكبر، ومن كان أعده لحياته ومماته، واعتده للنيابة عنه في عياله ومعاشه، قد فاته حتى لا طمع في إيابٍ له، ولا في مغوثةٍ من جهته وإن استغاث به.
وقال آخر:
إذا ما دعوت الصبر بعدك والبكا ... أجاب البكا طوعاً ولم يجب الصبر
فإن ينقطع منك الرجاء فإنه ... سيبقى عليك الحزن ما بقى الدهر
يقول: إذا ميلت الرأي بين حمل النفس على الاستمرار في الجزع، والذهاب في الهلع، وبين ضبطه وإمساكه والأخذ بالصبر فيه، ثم استدعيت الصبر من جانب والبكاء من جانب، وجدت البكاء يستجيب سريعاً من غير تباطؤٍ واستكراه، ووجدت الصبر يخذل ويتأخر، فلا يكون منه دنوٌ ولا مساعدة. وهذا الكلام تلهفٌ وتوجع. ثم أقبل على المرثي فقال: إن كان الأمل فيك منقطعاً، والرجاء من إيابك متأخراً مستبعداً، فإن الحزن يبقى عليك ويتصل باتصال الأبد، لا يفتر ولا يتغير. وقوله طوعاً مصدرٌ في موضع الحال، أراد: أدجاب طائعاً غير مجبر.
وقال النابغة يرثي أخاً له من أمه
لا يهنئ الناس ما يرعون من كلإٍ ... وما يسوقون من أهلٍ ومن مال(1/636)
بعد ابن عاتكة الثاوي على أبوي ... أمس ببلدة لا عمٍ ولا خال
دعاه الضدر بموت من أصيب به إلى أن دعا على الناس كافةً بأن لا يهنئهم الله ما يرعونه من حمىً، وما يحوزونه من مالٍ ولهى، ويسوقون من أهلٍ وولدٍ، ويجمعونه من عتادٍ وذخيرة. وهذا يدل على شماتةٍ من قومٍ حصلت عليه حين فجع بأخيه، فيجوز أن يكون الناس وإن كان لفظه عاماً يختص بمن منى بعداوته، وابتلى بشماتته. فقد قيل في قوله تعالى: " الذين قال لهم الناس إن الناس قد جمعوا لكم " إنه كان رجلاً واحداً. ولا يمتنع أن يكون اعتقد في الناس كافةً أنهم نظروا بعين الحاسدين إليه أيام حياته، لحسن توفره، وكمال براعته. وهذا شأن من أعجب بشيء أوتيه، فلما فقده ظنهم شمتوا به، وأدركوا مراداً لهم في فقده، لا اختصاص فيه ولا تباين، فعمهم بالدعاء عليهم.
وقوله بعد ابن عاتكة نسبه إلى أمه تنبيهاً على أن الجامع بينهما كانت الأمومة. وقوله الثاوي على أبوي يدل على أن قبره كان به. وقوله ببلدة لا عمٍ ولا خال نبه به على تباينه عن بلاده وأقاربه، وأنه مات في غربة.
سهل الخليقة مشاءٌ بأقدحه ... إلى ذوات الذرى حمال أثقال
حسب الخليلين نأى الأرض بينهما ... هذا عليها وهذا تحتها بال
وصفة بأنه كان سهل الجانب حسن الخلق، جميل التعطف أوان القحط والجدب على الفقراء والمساكين، ضروباً بقداحه على الإبل السمان ذوات الأسنمة الكبيرة، إذا حضر الأيسار، لشدة الزمان؛ وأنه كان يدخل تحت الأعباء الثقيلة فيحملها على جاهه وماله لذويه، والعفاة الراجين له.
وقوله حسب الخليلين نأى الأرض بينهما، يعني بالخليلين نفسه والمفقود، فيقول: حسبنا من البعد وإن كان التداني بالجوار حاصلا أن صاحبي تحت التراب يبلى، وأنى على ظهرها أمشي وأحيا. وقوله هذا عليها وهذا تحتها أشار إلى كل واحدٍ منهما بما يشار به إلى الحاضر، تنبيهاً على التجاور والتداني في الديار، وأن البعد إنما كان في تعذر الوصال، وسقوط التزاور والالتقاء.(1/637)
وقال مويلكٌ المزمومٌ يرثي امرأته
امرر على الجدث الذي حلت به ... أم العلاء فحيها لو تسمع
أنى حللت وكنت جد فروقةٍ ... بلداً يمر به الشجاع فيفزع
صلى عليك الله من مفقودةٍ ... إذ لا يلائمك المكان البلقع
يخاطب نفيسه ويبعثها على زيارة المفقودة والتسليم عليها، قضاءً لحقها، وتجديداً للعهد بها، فقال: أمرر على القبر الذي دفنت فيه، وسلم عليها إن كانت تسمع. وهذا توجع وتلهف. ويروى فحيها هل تسمع، والفرق بين لو هنا وبين هل، أن " لو " فائدته الشرط ها هنا، والكلام به كلام من غلب القنوط عليه من إدراكها تحية من زارها؛ و " هل " من حيث كان للاستفهام يصير الكلام به كأنه كلام راجٍ أو طامعٍ في سماعها. ويكون المعنى: حيها وانظر هل تسمع.
وقوله أنى حللت معنى أنى كيف ومن أين. وفروقٌ بناء المبالغة، وازداد تناهياً بدخول هاء المبالغة عليه. فيقول مخاطباً لها: كيف تأتى منك الاستيطان والنزول في قفرٍ إذا مر به الرجل القوي القلب تداخله رعبٌ، واستولى عليه قلقٌ وذعر، وعهدي بك وكنت أضعف الناس قلباً وأشدهم من ذكر المحاذر استيحاشاً. وقوله كنت جد فروقةٍ، كقولك كنت فروقةً جداً لا هزلاًً، وحقاً لا باطلاً. والبلد: القطعة من الأرض اختط أو لم يختط.
وقوله صلى عليك الله فالصلاة من الله تعالى الرحمة، كأنه يئس منها فأقبل يترحم عليها، فيقول: إنك في شبابك وقرب ميلادك، وكمالك في خصال أمثالك، لم يلق بك فقدان، ولا كان لوقت مجيء الموت بطلبك مني انتظار، ثم كنت من الترفة والنعمة، ومساعدة القدر لك، بحيث لا يوافقك الانتقال إلى القفر، والتوحش عن الأهل.
وهذه الأبيات غايةٌ فيما يحدث به المفجوع نفسه.
فلقد تركت صغيرة مرحومةً ... لم تدر ما جزعٌ عليك فتجزع
فقدت شمائل من لزامك حلوةً ... فتبيت تسهر أهلها وتفجع(1/638)
فإذا سمعت أنينها في ليلها ... طفقت عليك شؤون عيني تدمع
قوله لم تدر ما جزعٌ عليك فتجزع لم يجعل فتجزع جواباً ولا عطفاً على ما قبله، وليس اللفظ على واحدٍ منهما ولا المعنى، وإنما قوله فتجزع منويٌ به الاستئناف، كأنه أراد أنها من صغرها لا تعرف المصيبة ولا الجزع لها، وهي على حالها لا تجزع، لأن ما تأتيه من الضجر والبكاء، وتتركه من النوم والقرار، فعل الجازعين، وغاية الفاقدين. وفي كتاب الله عز وجل قوله: " إن تبدوا ما في أنفسكم أو تخفوه يحاسبكم به الله فيغفر لمن يشاء "، لك أن ترفع فيغفر على نية الابتداء، كأنه قال: فهو يغفر لمن يشأ. ومثل هذا كثيرٌ في القرآن والشعر. على ذلك قوله:
فما هو إلا أن أراها فجاةً ... فأبهت حتى ما أكاد أجيب
يرفع أبهت على الابتداء والاستئناف.
وقوله فقدت سمائل، يريد الأخلاق والشكل وجميل المخالطة. وقال الخليل: الشمال: خليقة الرجل وطبيعته، وجمعه شمائل. وأنشد:
هم قومي وقد أنكرت منهم ... شمائل بدلوها من شمالي
فيقول: كانت اعتادت منك توفراً ومداراةً وحسن خلق، ولين عطفٍ وكرم مخالطة، وإيناساً في مجاملة، فلما انقطع عنها جميع ذلك بالفراق باتت لا تنام ولا تنيم، بل تفجع وتوجع، ومهما أدركت شكواها وبكاءها أقبلت مفاصل رأسي تسمح بالدمع فأبكي عليك ولهاً. ومعنى طفقت عليك شؤون عيني كقولك: أقبلت تفعل كذا، وجعلت تقول كذا.
وقال حفص بن الأحنف الكناني
لا يبعدن ربيعة بن مكدمٍ ... وسقى الغوادي قرره بذنوب(1/639)
نفرت قلوصي من حجارة حرةٍ ... بنيت على طلق اليدين وهوب
قوله لا يبعدن لفظه لفظ الدعاء، والكلام فيه على ما تقدم. وكما قيل: بعداً له وسحقاً لم يقل من بعد بعداً إذا هلك بعداً له، وكان استعمال هذا في الدعاء أقرب فلم يجيء. ومعنى وسقى الغوادي قبره بذنوب أنه دعا له بالسقيا. والغوادي هي السحابات التي تنشأ غدوةً. والذنوب: الدلو بما فيه من الماء، قال:
له ذنوبٌ ولنا ذنوب
وربما جعل الذنوب الحظ النصيب، كما قال:
وحق لشأسٍ من نداك ذنوب
وفي القرآن: " فإن للذين ظلموا ذنوباً مثل ذنوب أصحابهم ". وفي البيت الذي نحن فيه يحتمل الوجهين.
وقوله نفرت قلوصي من حجارة حرةٍ فإنه كان اجتاز بقبر ربيعة وقد نضد عليه حجارةٌ سود، فنفرت قلوصه، فأخذ يقتص ما كان اتفق وينكره. وقوله بنيت على طلق اليدين من صفة الحجارة. ومعنى طلق اليدين أنه سخيٌ بذالٌ يطلق يديه بالمعروف. والوهوب: الكثير الهبات.
لا تنفري يا ناق منه فإنه ... شراب خمرٍ مسعرٌ لحروب
لولا السفار وبعد خرقٍ مهمهٍ ... لتركتها تحبو على العرقوب
جعل نفار ناقته كأنه كان من المدفون، فنهاها عن ذلك، ثم أخذ يصفه بالكرم والشجاعة، والتقدم والشرب والبطالة. والمسعر: الذي كأنه آلةٌ في إيقاد نار الحرب.
وقوله لولا السفار، كانت العادة في العرب أن الواحد منهم إذا اجتاز بقبر كريمٍ كان مأوى للأضياف، ومقيماً لقراهم، ينحر راحلته ويطعمها الناس إذا أعوز الزاد ولم يتسع، يفعل ذلك نيابةً عنه، إلا أن يمنع مانعٌ من بعد السفر وتناهي المشقة وما يجري مجراه، فقال هذا الشاعر معتذاراً من إبقائه على راحلته، لما خف الزاد الذي(1/640)
كان معه، وعجز عن الصحب على بعد المسافة وطول المشقة ومساس الحاجة. ومعنى لتركتها تحبو على العرقوب أي لعرقبتها. والحبو: ما يفعله الصبي من الزحف قبل القيام، ويفعله البعير وهو يريد المشي. ومنه الحابي من السهام، وهو الذي يسقط ثم يزحف إلى الهدف. ويقال: حبا للخمسين، أي لم يبلغها وقد دنا منها؛ وهو من فصيح الكلام. والخرق: المكان الواسع تتخرق فيه الريح. والمهمه: الأملس الواسع.
وقال آخر:
أجاري ما أزداد إلا صبابةً ... عليك ولا تزداد إلا تنائياً
أجاري لو نفسٌ فدت نفس ميت ... فديتك مسروراً بنفسي وماليا
الصبابة: الوجد والمحبة، والفعل منه صببت بكسر الباء أصب. ورجلٌ صبٌ، وامرأةٌ صبة. وقوله أجاري، ليس بندبةٍ، لأن المندوب لا يكون إلا بيا ووا، لكنه على العادة والرسم ناداه ورخمه. يقول: لا أزداد على مرور الأيام وتصرف الأوقات إلا شوقاً إليك، وولوعاً بك، وقوة أسفٍ عليك، إذ لم يكن حالي حال المتحسر في إثر فائتٍ، والرافع طمعه من لقاء مائت، فيعقبه الفوات يأساً، ويورثه ما يشاهده من حال الفناء تناسياً أو تسلياً؛ وأنت لا تزداد إلا تناهياً في الانقطاع، وتنائياً في الهجرة والإعراض. فقوله تنائياً لم يرد تباعد الأجرام وتراخي المزار؛ لأن تجاور الديار وتصاقبها كان باقياً على ما كان في الأصل.
وقوله أجاري لو نفس فدت ميت، يريد: لو كان السبيل إلى التفادي بين الأحياء والأموات مسلوكاً، وقبول الأبدال عند الاستعراض والدعاء مجاباً إليه مألوفا، لكنت السابق إليه، والجاعل في فدائك النفس والمال، وأنا مغتبطٌ بذلك ومغتنمٌ له، لكن لا مانع لما طلب، ولا معدل عما حتم.
وقد كنت أرجو أن أملاك حقبةً ... فحال قضاء الله دون رجائيا
ألا ليمت من شاء بعدك إنما ... عليك من الأقدار كان حذاريا
قوله أن أملاك يقال مليت فلاناً فتمليته، أي جعل لي أن أعيش معه ملاوةً فيبقى لي ممتعاً به. والملوان: الليل والنهار، من هذا. يقول: كنت أرجوا أن أمتع(1/641)
بحياتك حقبةً - وقال الخليل: الحقبة زمانٌ من الدهر لا وقت له، والجميع الأحقاب والحِقبُ والحقبُ مثله - فحجز بيني وبين مرادي القدر الذي لا يملك معه إلا الاستسلام له.
وقوله: ألا ليمت من شاء بعدك مثل قول الآخر:
فآليت لا آسى على إثر هالكٍ
وقول الآخر:
أمنا على كل الرزايا من الجزع
وقالت فاطمة بنت الأحجم الخزاعية
يا عين بكى عند كل صباح ... جودى بأربعةٍ على الجراح
قوله بكى يجوز أن يريد به أكثري البكاء، ويجوز أن يريد كرري البكاء، لأن تضعيف العين إذا لم يكن للتعدية مثل كرم - لأنه كأكرم لا فرق بينهما، يكون للتكثير أو التكرير، وذلك كقولك ضرب وقتل. وإنما قال عند كل صباح لأنه يريد اجعلي مبدأ نهارك لذلك، أو لأنه يريد كان وقت نكايته في الأعداء، وشن الغارات على المنابذين، فاجعلي بإزاء فعله حينئذٍ البكاء عليه الساعة. وقوله جودى بأربعة أراد بالأربعة قبائل الرأس. والدمع يخرج من الشؤون. فأراد: جودي بدمعك كله. ولا تدخري منه شيئاً. وقوله يا عين حذف الياء لوقوعها موقع ما يحذف في النداء وهو التنوين، ولأن الكسرة تدل عليه. وباب النداء باب حذف ٍوإيجاز.
قد كنت لي جبلاً ألوذ بظله ... فتركتني أضحى بأجرد ضاح
أقبل يخاطب المرثي على عادتهم في الانتقال عن الإخبار إلى الخطاب، وعن الخطاب إلى الإخبار، تفنناً واقتداراً. فيقول: كنت لي جبل عزٍ، آوى إليك في(1/642)
الشدائد، وأعول على حسن دفاعك في النوائب، وأستكن بظلك، وأتحصن بتمنعك، فغادرتني بارزاً للآفات، ومعرضاً للحوادث والنكايات. لا معقل لي مما يدهم، ولا ملاذ عند ما يهجم. والضاحي: البارز للشمس، والفعل منه ضحى يضحى؛ وقد أتى بهما في البيت. والأجرد: الأملس. يضرب ذلك مثلاً لكونه معوراً لا واقي له ولا ساتر، ولا محامي ولا مدافع.
قد كنت ذات حميةً ما عشت لي ... أمشي البراز وكنت أنت جناحي
فاليوم أخضع للذليل وأتقى ... منه وأدفع ظالمي بالراح
قوله قد كنت ذات حميةٍ يقال حميت من الشيء أحمي حميةً، أي أنفت وغضبت. ورجل حمى الأنف: لا يحتمل الضيم، وحمى أنفه من كذا. والمعنى: كنت في حياتك آنف مما أسام من الضيم فأتسخطه، وتتسع المقدرة لدفعه والإباء منه، والآن صار بدل ذلك السخط الرضا، وبإزاء ذلك الانتقام الاستسلام. وما عشت في موضع الظرف، أراد مدة عيشك لي. وقوله أمشي البراز البراز: المكان الفضاء من الأرض. وإذا خرج إنسانٌ إلى ذلك الموضع قيل برز. ومن هذا قولهم: برز على أقرانه، أي صار في البراز ظهوراً عليهم واقتداراً. وكما تصرفوا في هذا على ما ترى تصرفوا في الظاهرة، وهي الضاحية العالية، فقيل: ظهر فلانٌ على فلانٍ، أي علاه، وأظهره الله عليه، وفي القرآن: " ليظهره على الدين كله ". وأصله أمشى في البراز، فحذف الجار ووصل الفعل فعمل. والمعنى: كنت لا أستتر ولا أكتتم تهيباً وتخوفاً من شيء. وقوله وكنت أنت جناحي فالجناح من الطائر والإنسان: يداه. والمعنى: كنت أطير بقوتك، وأنهض في الأمور بصولتك، وأبطش بالأعداء بيدك وأيدك.
وقوله فاليوم أخضع للذليل أراد باليوم متصل وقته من الحال والاستقبال، والمعنى: صرت من طلب السلامة على الدهر وأهله بحيث يطمع في الذليل، ويستلين جانبي المهين، فأتقي ذا الشوكة ومن لا شوكة له، وأحذر من يخشى كيده ومن لا كيد له. وقوله وأدفع ظالمي بالراح يريد أدفعه بألين ما أجد السبيل إليه، لا خشونة لي في قولي ولا مزاحمة في ركني، ولا اعتراض شديداً مني في اهتضامه لي، ولا محاجة قويةً على جداله إياي، فعل من لا حد له ولا حديدة، ولا عدد ولا عتيدة، ولا حمى ولا حمية.(1/643)
وإذا دعت قمريةٌ شجناً لها ... يوماً على فننٍ دعوت صباحي
وأغض من بصري وأعلم أنه ... قد بان حد فوارسي ورماحي
قوله وإذا دعت قمرية شجناً كلامٌ أخرج على ما في اعتقادهم من بكاء الحمام، فيقول: إذا ناحت حمامةٌ على غصنٍ وهي تدعو حزنها ليهتاج بكاؤها ويمتد صوتها، فإني أشجي لصوتها وأجاوبها داعياً صباحي، أي قائلاً: وا صباحاه! وقوله وأغض من بصري غض الطرف من فعل الذليل المخزل، كما أن طموحه فعل العزيز الناظر من فوق. فيقول: إني عارفٌ بمقداري بعدك، ومتيقن نكوصي وسقوط حشمتي بذهابك، وكلة حدي وحد أصحابي لفقدانك، فأغمض عيني في كثيرٍ مما يجري علي وألابسه، مخافة أن أرى ما هو أكبر منه. وقوله وأعلم أنه الضمير ضمير الأمر والشأن. يريد: وأعلم أن الأمر انفلال فرساني، وتفلل أسنة رماحي. وهذا مثلٌ لسقوط القوى واستعلاء العدي، وذهاب العدة وتراجع العدة. ولا يمتنع أن يريد بحد فوارسي نفس المفقود، جعله لفرسانه حداً إذا كان مقدامهم ومدرههم، ولرماحه سناناً إذ كانت تعمل بقوته، وتنفذ بصرامته.
وقال آخر:
إخوتي لا تبعدوا أبداً ... وبلى والله قد بعدوا
ولو تملتهم عشيرتهم ... لاقتناء العز أو ولد
هان من بعض الرزيئة أو ... هان من بعض الذي أجد
كل ما حيٍ وإن أمروا ... واردو الحوض الذي وردوا
لك أن تروي إخوتي وأخوتاً. فمن روى إخوتي فإنه يسكن الياء وأصله الحركة، لكونه علامة الضمير متطرفاً على حرفٍ واحدٍ فوجب تقويته بالتحريك كما كان سبيل أختيه الكاف والهاء لو وقعا موقعه، لكنهم آثروا الفتحة لخفتها، ويدل على أن الأصل الفتحة أنه لو كان ما قبله ساكناً كان لا يجيء إلا مفتوحاً. وذلك قولك رحاي وعصاي، إلا أنه لما كان باب النداء باب حذفٍ وإيجاز، لكثرة استعمالهم له،(1/644)
سكنوا الياء. ومن قال إخوتاً فر من الكسرة وبعدها ياءٌ إلى الفتحة، فانقلبت الياء ألفاً. على ذلك قولهم باديةٌ وباداةٌ، وناصيةٌ وناصاةٌ، وقولك يأباهما وأنت تريد بأبي هما. وقوله لا تبعدوا قد تقدم القول فيه. فأما استدراكه لقوله وبلى والله قد بعدوا فإنه تنبيهٌ منه على أن لا تبعدوا وإن كان لفظه لفظ الدعاء فهو جارٍ على غير أصله، وأنه إنما هو تحسرٌ وتوجع.
وقوله لو تملتهم عشيرتهم، يريد: لو بقوا معهم ملاوةً من الدهر ممتعين بهم، ومقتنين العز بمكانهم أو أولادهم بقوا معهم فتربوا في جحورهم، وتأدبوا بسياستهم، واحتبوا بأردية السيادة في أقنيتهم ومحافلهم - لهان بعض الرزيئة. ولك أن تروى أو ولدوا على أن يكون فعلاً وواو الضمير بعد حرف الروي تجعل وصلاً، ويكون المعنى: لو أعقبوا وخلفوا أولاداً يرثون مجدهم ويحيون أسماءهم، ويعمرون معالي آبائهم بعدهم. وجواب لو أول البيت الذي يليه، وهو هان من بعض الرزيئة ومعناه: لو قضى الأمر على ذلك لخف بعض ما على الناس لهم ومن أجلهم، أو خف بعض الذي أجده أنا من الاكتئاب والاهتمام مفوتهم. وقوله من بعض الرزيئة الأخفش يجيز زيادة " من " في الواجب، فعلى طريقته يكون المعنى هان بعض الرزيئة. وسيبويه يمتنع من زيادة من إلا فيما ليس بواجبٍ، كالاستفهام والنفي. فعلى طريقته يكون المعنى: كان ابتداء المهون بعض الرزيئة أو من بعض الرزيئة. وقوله كل ما حيٍ ما زائدة، ويجوز أن يريد بالحي القبيلة. ومعنى أمروا كثروا. يقال أمر الشيء وآمره الله له. ويجوز أن يريد بالحي ضد الميت ويكون الضمير من أمروا عائداً إلى لفظ كل. فيقول: كل قبلة وإن تناسلوا وتكاثروا فمآل أمرهم إلى مثل ما آل أمر إخوتي، وموردهم من الذهاب والفناء مثل موردهم، إذ كان الموت لا معدل عنه، ولا منجي لأحدٍ منه. وجواب الشرط في قوله وإن أمروا دل عليه قوله واردو الحوض الذي وردوا، والضمير العائد من الصلة إلى الموصول محذوف، كأنه قال: الذي وردوه، لأنهم استطالوا الاسم بصلته.
وقالت امرأةٌ أخرى
طاف يبغي نجوةً ... من هلاكٍ فهلك(1/645)
ليت شعري ضلةً ... أي شيءٍ قتلك
النجاة والنجوة: ما ارتفع من الأرض حتى لا يصل إليه السيل ولا يبلغه. قال:
فمن بنجوته كمن بعقوته ... والمستكن من يمشي بقرواح
فجعله ها هنا مثلاً لما كان يطلبه من وجه الخلاص من الآفات. وكأن هذا المرثي كان استشعر خوفاً من الموت فأخذ يتنقل في البلاد والبقاع ويتطلب موضعاً يبعده من الآفات، فبقى يتردد في ذلك ويتحير، فإذا الهلاك قد فاجأه من حيث لا يحتسب ولا يرتقب. وإنما نكر من هلاكٍ لأنه جعل كل نوعٍ منه هلاكاً، ولم يدر ماذا يصيبه.
وقوله ليت شعري موضع شعري نصبٌ في معنى علمى. ويقال شعرت شعرةً كما يقال فطنت فطنة، إلا أنه لا يستعمل مع ليت إلا وقد حذف الهاء منه. وقوله أي شيء قتلك الجملة كما هي في موضع نصب، لأنه نابت عن مفعوليه. وخبر ليت مضمر لا نجده إلا كذلك، فهو يشبه خبر المبتدأ بعد لولا إذا قلت لولا زيد لخرجت، لأن لخرجت جواب لولا. وخبر المبتدأ محذوف لا يجيء إلا على ذلك. واستغناء ليت بمعولي شعري عن خبره، كاستغناء المبتدأ بعد لولا بجوابه عن خبره. وضلةً، انتصب على المصدر، والعامل فيه فعل مضمر. وهذا الضلال يجوز أن يكون لنفسه فيما استبهم علها من حال المتوفي، كأنه ضل عن العلم ضلة، ويجوز أن يكون للمتوفي نفسه، كأنه عد غيبته وخفاء أمره ضلالا له، والمعنى: تمنيت أني أعلم أي شيء أهلكك، وهذا لضلالي عن معرفة حالك، وذهابي عن العلم به. وهذا على الأول، وعلى الثاني يكون المعنى: ما الذي قتلك حتى ضللت هذا الضلال.
فإن قيل: خبر ليت كيف يجيء في التقدير وإن لم يظهر في الاستعمال. قلت: تقديره ليت شعري واقعٌ أي شيء قتلك، أي ليتني علمت أو وقع علمي بما يقتضي هذا السؤال، لأن الذي تمناه هو ما كان جوابه لا نفس السؤال.(1/646)
أمريضٌ لم تعد ... أم عدوٌ ختلك
كل شيءٍ قاتلٌ ... حين تلقى أجلك
والمنايا رصدٌ ... للفتى حيث سلك
أي شيءٍ حسنٍ ... لفتىً لم يك لك
قوله أمريض لم تعد هو إعلام منها بأنه تغيب فخفي أمره فيما أصابه حتى لم يبن له أثر، ولا لمرضه نبأ. وهو يجري مجرى البيان لقولها أي شيء قتلك فتقول: أمريضٌ كنت في غربةٍ ووطن وحشةٍ، فمت حتف أنفك فلا يعودك مشفق، ولا يتفقدك ممرض، أو اغتالك عدو فتوصل إلى الغيلة في بابك بإعمال الختل والحيلة. ويروى: أو رصيدٌ ختلك، والمعنى: أو خدعك عن حياتك من كان بالمرصاد لك من أعدائك. وقال الخليل: الختل: تخادعٌ عن غفلة.
وقوله:
كل شيءٍ قاتلٌ ... حين تلقى أجلك
تريد الإخبار عن استواء أسباب الموت في الأخذ والظفر، إذا دنا الأجل. وأن كل سببٍ ينوب مناب الآخر إذا انتهت المدة.
وقوله:
والمنايا رصدٌ ... للفتى حيث سلك
تريد به أن البقاع والتحول فيها لا يغني؛ لأن حكم الله تعالى يبحث وينقب عن المطلوب حيث كان، فالموت رصدٌ للفتى حيث استطرق وأبى توجه.
وبعضهم يرويه: والمنايا رصد كأنه جمع الراصد لكون المنايا جمعاً. والأول أفصح وأجود.
وقوله:
أي شيءٍ حسنٍ ... لفتى لم يك لك(1/647)
يصفه ببراعته وتكامل محاسنه، واستتمام آلات الرياسة فيه، فكأنه لا يستحسن من الفتيان شيءٌ خَلقا ولا خُلقُا إلا وقد كان حصل له، واجتمع فيه. وقد تقدم القول في حذف النون من لم يك.
سأعزي النفس إذ ... لم تجب من سألك
إن أمراً فادحاً ... عن جوابي شغلك
طالما قد نلت في ... غير كدٍ أمك
قوله سأعزي النفس أي سأصبرها، إذ كنت مع السائلين - وإن اختلفوا - على حدٍ واحدٍ في ترك مجاوبتهم، فعممت ولم تخص. وهذا التعزي الذي أشار إليه ليس لتسلٍ عن المفقود، ولا لتناسٍ منه، ولكنه طيب النفس بتشارك الناس في إمساكه عن إجابتهم.
وقوله: إن أمراً فادحاً اكتسب أمرٌ وهو نكرةٌ من النعت الذي تبعه بعض الاختصاص، فلذلك صلح الابتداء به حتى دخل إن عليه. ألا ترى أن فائدته مع إبهامه كاملةٌ في المراد، والمعنى: إن عظيماً من الأمور صرفك عن رسمك ودأبك في مباسطتي ومباثتي. ولأن الكلام قد يحمل على المعنى فيما يستفاد منه، فكأنه قال: ما صرفك وشغلك عن جوابي إلا أمرٌ عظيم فادح؛ إذ كانت العادة قدمت منك في حسن التوفر علي والإقبال، لتوجه خطابي نحوك.
وقوله:
طالما قد نلت في ... غير كدٍ أملك
إيذانٌ بأنه نال من الدنيا كثيراً من إرادته وأمانيه، حين هبت أرواحه، وساعدته أيامه وحالاته، وأنه طالما كان يتحصل له المباغي بلا كدٍ لإقبال الدنيا عليه، ويتسهل له المطالب لاقتران المناجح بما لديه أو إليه، وفي ذلك بعض التسلي للجازعين له، والمتوجعين لفنائه.(1/648)
وقد تقدم القول في لفظه طالما وبينت معناه وهجاءه في الكتاب:
وقال العجير السلولي
تركنا أبا الأضياف في ليلة الصبا ... بمر ومردى كل خصمٍ يجادله
يروى تركنا أبا الحجناء وهو فيما أظنه كنية المرثي. وجعله أبا الأضياف لتوفره عليهم، ولأن داره كانت مثواهم. وهم يقولون: فلانٌ أبو مثواى، وفي المرأة: أم مثواى، لمن قراهم. وأشار بليلة الصبا إلى ليلةٍ بعينها اتفق فيها على هذا الرجل بمر، وهو موضعٌ، اجتماع الخصوم حوله. والمردى: صخرةٌ يكسر بها النوى؛ هذا أصله، ثم يقال فلانٌ مردى الخصوم، أي يرمون به فيكسرهم. وقوله كل خصم أراد بالخصم الكثرة، كأنه حضره من كل قبيلٍ من مخالفيه مردى لهم يجادله عنهم ويجاذبه. وقوله بمر منعه من الصرف لأنه جعله مؤنثاً معرفة، ولو ذكره لصرفه. والواو من قوله ومردى كل خصم واو الحال. والصبا: ريحٌ تستقبل القبلة؛ والفعل منه صبا يصبو. وأضاف الليلة إلى الصبا تعريفاً وتخصيصاً، كأنه كان للصبا شأنٌ في تلك الليلة.
تركنا فتى قد أيقن الجوع أنه ... إذا ما ثوى في أرحل القوم قاتله
يقول: تركنا في ذلك المكان فتىً كان ربيعاً للفقراء، ومألفاً للأضياف. وإذا اشتد الزمان وأسنت الناس تيقن الجدب والقحط أنه لا يقاره، بل يقتله بما يفيضه على الناس من إحسانه، ويشملهم من تفقده وبره. وقوله قد أيقن الجوع إلى آخر البيت، من صفة الفتى، وفي طريقته قول الآخر:
يقاتل جوعهم بمكللاتٍ ... من الفرني يرعبها الجميل
وقوله إذا ما ثوى ظرفٌ لقاتله.(1/649)
فتى قد قد السيف لا متضائلٌ ... ولا رهلٌ لباته وأباجله
معنى قد قد السيف أنه في مضائه ونفاذه كالسيف. والقد: القطع طولاً. ويقال: هو حسن القد، أي التقطيع؛ وهو على قده، أي على قدره. وهو يقتد الأمور بالسيف، إذا دبرها بالسيف. ومعنى لا متضائل: لا متخاشع. والضؤولة: الدقة، يقال: هو ضئيل الجسم. والرهل: المسترخي اللحم من السمن. يقال: فرسٌ رهل الصدر. واللبات: جمع اللبة، وهو الصدر؛ وجمعه على ما حوله، أو جعل كل قطعةٍ لبة. والأباجل: جمع أبجل، وهو عرقٌ في الساق، والمعنى أنه ليس بكثير اللحم على الصدر غليظ الساق. وهم يتمدحون بالهزال ويذمون السمن. ويروى وبآدله، وهو ما بين العنق والترقوة. ومعنى البيت: أنه في قد السيف ومضائه، لا يشينه تخاضعٌ، ولا هو سمينٌ مسترخي اللحم على الصدر ولا على ما حوله. ولا متضائل، ارتفع متضائل على أنه خبر مبتدأ محذوف، كأنه قال: لا هو متضائل. ولباته ارتفع بفعله، وفعله رهلٌ.
إذا جد عند الجد أرضاك جده ... وذو باطلٍ إن شئت ألهاك باطله
يسرك مظلوماً ويرضيك ظالماً ... وكل الذي حملته فهو حامله
يصفه بأنه كان مستصلحاً للهزل والجد، فإن جد حسن جده وتناهى الرضا به والاستحسان له، وإن هزل ألهى هزله على اقتصادٍ فيه واستطابة له، لأنه أخذ من مكارم الأخلاق بأوفر النصيب، فهو ينخرط في كل سلك، ويدخل في كل شأنٍ وأمر.
وقله يسرك مظلوماً انتصب مظلوماً على الحال. يقول: إن اهتضمت انتقم لك من ظلمك، وإن اهتضمت أنت غيرك لم يبعد عن نصرتك. وهذا على طريقتهم في قولهم: " انصر أخاك ظالماً أو مظلوماً ". وقوله وكل الذي حملته فهو حامله يصفو برحابة الصدر والأخذ في كل ما يدعى إليه بالصبر، وأنه يتحمل الأعباء الثقيلة(1/650)
عن ذويه والمنتسبين إليه، لا يضجر بما يحل بفنائه، ولا يتسخط أمراً يقترح عليه، أو يستنهض إليه.
وقال أبو الحجناء
أعاذل من برزأ كحجناء لا يزل ... كثيباً ويزهد بعده في العواقب
يقول: يا عاذلة، من يصب بمثل من أصبت به يتصل اكتئابه، ويدم زهده في عواقب أطهار النساء ومباشرتهن علماً بأن مثل ذلك الولد لا يعتاض منه. وحجناء: ابنه. كأن عاذلة آذته بتكرير الوصاة عليه وإدامة الوعظ له، وأن ما يأتيه من التفجع مستسرفٌ ومستقبحٌ، لخروجه عن العادات، فأقبل يجيبها ويذكر عذره لها. وقد صرح غيره بهذا المعنى فقال:
أفبعد مقتل مالك بن زهيرٍ ... ترجو النساء عواقب الأطهار
حبيباً إلى الفتيان صحبة مثله ... إذا شان أصحاب الرحال الحقائب
انتصب حبيباً على الحال للضمير في قوله بعده. وصحبة ارتفع على أنه قام مقام فاعل حبيباً. ويروى حبيبٌ إلى الفتيان فيكون خبراً مقدماً، والمبتدأ صحبة مثله. وجواب إذا ما يدل عليه صدر البيت، كأنه قال: إذا بخل أصحاب الرحال بالزاد فشأنهم امتلاء حقائبهم وقلة إنفاقهم منها، ففي ذلك الوقت يستحب الفتيان صحبة مثل ابنى حجناء، لحسن توفره، ورحابة صدره، وكرم صحابته، وجميل تفقده لأصحابه. وإنما قال صحبة مثله ولم يقل صحبته، إجلالاً له، وصيانة لاسمه، لا إثباتاً لنظيرٍ له. وعلى هذا قولهم: مثل فلانٍ لا يوازي، ومثلك لا يفعل كذا. وفي القرآن: " ليس كمثله شيءٌ ".
نظام أناسٍ كان يجمع شملهم ... ويصدع عنهم عاديات النوائب(1/651)
يريد أن داره كان مجمعاً لأناسٍ هو ينظم شملهم، ويؤلف جمعهم، فإن حزبهم من النوائب عادياتها فرقما عنهم، وإن حل بفنائهم من أثقال الزمان ما يبهظمم آساهم وتحمل عنهم. وقوله عاديات يجوز أن يكون من العداء الظلم؛ يقال عدا يعدو عدواً وعداءً وعدواناً. ويجوز أن يكون من العدو، يريد مسرعات النوائب وصادماتها. ومعنى يصدع يفرق، ومنه تصدعت الأرض بفلانٍ، إذا تغيب فاراً.
وجربت ما جربت منه فسرني ... ولا يكشف الفتيان غير التجارب
يريد أن ينبه على أن ما وصفه به لا عن تقليدٍ أو شكٍ والتباس، ولا عن تخمينٍ أو حدسٍ وقياس، بل عن تجريب واستكشاف على مر الأيام. فيقول: لم أرض منه بعفو أفعاله وما يختاره في مقاصده، بل أخذت أستدرجه وأتعرف غور مقاله وفعاله بالسبر والنظر، فلم أر إلا ما سر وآنس، وزاد في العلم به فأبهج. وقوله ولا يكشف الفتيان غير التجارب، يشبه الالتفات، كأنه أقبل بعد ما خبر، على إنسانٍ فقال: إن الفتيان تتشابه ظواهر أمورهم، ولم يخبرك عنهم مثل مجرب. ولهذا قيل في المثل السائر:
ترى الفتيان كالنخل ... وما يدريك ما النخل
بعيد الرضا لا يبتغي ود مدبرٍ ... ولا يتصدى للضغين المفاضب
قوله بعيد الرضا يريد أنه ليس بسريع الفيئة إذا سخط، لكنه يعرك أذى مجاذبه ومجاوره بجنبه، ويصبر ما أمكن، فإذا أظهر النكير، وتلقى ما يزاوله بالضجر الشديد، لم يرضه أدنى المعاذير فعل من لا حمية له ولا عزيمة. وقوله لا يبتغي ود مدبرٍ وصفه بأنه آخذٌ بالصرم إذا أحوج إليه، غير راغبٍ في الزاهد فيه. وهذا كما يقال: فلانٌ وصالٌ صروم.
وقله ولا يتصدى للضغين المغاضب معنى يتصدى أن ينظر إليه نظر غير محتفلٍ به، وكالمعرض عنه، حتى يخرجه ذلك إلى ما يطلبه. يريد أنه لا يتعرض لعدوه والمضطغن عليه، بل يتركه ينطوي على ما في صدره من غلٍ وعداوة، ولا يخرجه إلى مبادرةٍ ومكاشفة، بل يجري على المداجاة معه، منتظراً ما يكون منه،(1/652)
ومحاذراً ما يتقي من جهته. وهذا كما قال الآخر:
أفر من الشر في رخوه
وقد ألم بقول الآخر:
إذا حاربت حارب من تعادي ... وزاد سلاحه منك اقترابا
وكنت إذا ما خفت أمراً جنيته ... يخفض جأشي ضبثك المتراعب
يصفه بحسن المدافعة عن متسببٍ إليه، ومبالغة النصرة لمن أوى إلى جنبته، فيقول: إذا خفت جريرةً ارتكبتها ثم لذت بفنائك، واعتمدت تعصبك، سكن من جأشي وأزال قلقي قبضك الواسع، ودفعك المحامي، وذبك المبالغٍ. وقوله المتراغب يروى بالغين معجمة وبالعين، فإذا روى بالغين معجمةً فهو من الرغابة. ويقال: وادٍ رغيبٌ، وحوض رغيب، أي واسع؛ ورجلٌ رغيب البطن، أي أكول. ومن روى بالعين غير معجمة فهو من قولهم سيل راعبٌ: يملأ الوادي. ومنه حسيٌ متراعب. أي واسعٌ لا يملؤه شيء. ومعنى يخفض جأشي يسكن نفسي. ويقال: هو رابط الجأش، أي قوي النفس؛ وخافض الجأش، أي ساكنه. والخفض: ضد الرفع. والتخفيض: مدك رأس البعير إلى الأرض. والضبث: القبض الشديد، ومنه يقال: ناقةٌ ضبوثٌ، أي سمينة لا يشك في سمنها، كأنه فعول في معنى مفعولة، أي حيث ضبث منها باليد ملأت الكف لحماً.
وقال آخر:
إذا ما أمرؤٌ أثنى بآلاء ميتٍ ... فلا يبعد الله الوليد بن أدهما
فما كان مفراحاً إذا الخير مسه ... ولا كان مناناً إذا هو أنعما
لعمرك ما وارى التراب فعاله ... ولكنما وارى ثياباً وأعظما(1/653)
الآلاء: النعم، واحدها إلى. ويعنى بها صنائعه ومننه عند الناس. فيقول: إذا ذكر منعمٌ عليه إحسان المنعم عليه، وأياديه لديه، فشكر ثم تجاوز الشكر إلى الثناء فأفرط، فلا أبعد الله هذا الرجل. وهذا الكلام وإن كان دعاءً في موضعه الذي استعمل فيه أبلغ من كل ثناء، وأزيد من كل تقريظ وإطراء. ولذلك اقتصر عليه ولم يخلط به غيره.
وقوله فما كان مفراحاً إذا الخير مسه يصفه بأنه لا يطغيه الغنى فيكسبه كبراً وبأواً، بل يزداد تواضعاً فيما يناله، وتودداً إلى الناس على اتساع حاله، حتى يشركهم في خيره. وقوله ولا كان مناناً إذا هو أنعما يصفه بأنه لا يكدر نعمه عند غيره بالمن والأذى، بل يتناساها حتى يكون في صورة من لم يسد ولم يصطنع.
وقوله لعمرك ما وارى التراب فعاله يريد أن مكارمه لم تمت بموته، ولم تدفن في قبره، بل هي منشورةٌ في الناس لا تنسى، ومأثورةٌ لا تلغى، فهي على مر الأيام تزداد جدةً، وعند الناس طراءةً، لأنها تذكر وتتلى، ولأن ما سير فيه من الشعر والمدائح تقرأ وتروى. وقوله ولكنما وارى ثياباً وأعظما الفعل للتراب، وهذه إشارةٌ إلى الكفن ونفسه المتوفى، وفيه من إظهار التوجع ما كفى وأغنى.
وقال أبو الشغب العبسي
في خالد بن عبد الله، وهو أسيرٌ في يدي يوسف ين عمرك:
ألا إن خير الناس حياً وهالكاً ... أسير ثقيفٍ عندهم في السلاسل
قوله حياً وهالكا يجوز أن ينتصب على الحال والعامل فيه ما دل عليه خير الناس، ويكون الكلام ثناءً على المخبر عنه بخير الناس، ويجوز أن ينتصب على التمييز، وحينئذٍ يكون تفصيلاً للناس، كأنه قال: إن خير الناس من الأحياء والأموات أسير ثقيف. وقوله عندهم يجوز أن يكون في موضع الحال، ومعناه حاضراً لهم وقريباً منهم، ويكون العامل فيه ما دل عليه أسير ثقيف، ويكون فائدة الكلام أنه كان(1/654)
يجوز أن يكون أسيراً لهم ولم يكن عندهم، فأفاد أنه أسيرهم وحاصلٌ بحضرتهم. وكذلك قوله في السلاسل يجوز أن يكون في موضع الحال ويكون العامل فيه ما عمل في الظرف، فيكون تقديره بحضرتهم مقيداً، ويجوز أن يكون العامل في عندهم ما دل عليه قوله في السلاسل من الفعل.
لعمري لقد عمرتم السجن خالداً ... وأوطأتموه وطأة المتثاقل
هذا الكلام تفظيعٌ للأمر الذي ركبوه، وإعلامٌ منه بأنهم أتوا قبيحاً من الأمر منكراً، عم وباله الناس وظهر تأثيره فيهم. فهذا فائدة اليمين وجوابها. وقوله عمرتم أي أدمتم سجنه وأطلتم حبسه، كأنهم جعلوا خالداً للسجن عمره. والعمر: السنون ولاحين، ومنه قوله تعالى: " لقد لبثت فيكم عمراً ". وقوله وأوطأتموه وطأة المتناقل يجوز أن يكون وطأة مصدرا من أوطأتموه وإن لم يكن من لفظه، وهذا كما يجعل العطاء موضع الإعطاء، والجابة موضع الإجابة. والمفعول الثاني محذوف، كأنه قال: أوطأتموه السجن أو الأرض إبطاء المتثاقل، أي أثقلتموه. ويجوز أن يريد: أوطأتموه فوطئ وطأة المتثاقل أي يفعل فعل المتثاقل وإن لم يكن معه تثاقل، هو يطأ عقبه.
وقال مهلهلٌ
نبيت أن النار بعدك أوقدت ... واستب بعدك يا كليب المجلس
وتكلموا في أمر كل عظيمةٍ ... لو كنت شاهدهم بها لم ينبسوا
كان كليب وائلٍ لا توقد مع ناره للضيفان نارٌ في أحمائه، وفيما يقرب من منازله وأوطانه، بل يتفرد بذلك لا مباري له ولا مشارك؛ وكان إذا حضر مجلسه الناس لا يجسر أحدٌ أن يجاذب غيره أو يفاخره أو يسابه، إعظاماً لقدره وإجلالاً لشأنه وأمره، فيقول على وجه التحسر: خبرت أن نيران الضيافة بعدك أوقدت لسقوط(1/655)
احتشامك، وأن أهل المجلس تنازعوا الكلام بعدك وتجاذبوه، حتى صار بعضهم يسب البعض ويصك في وجهه الكلام القبيح، لا رقبة تردعهم، ولا حشمة تدفعهم.
وقوله وتكلموا في أمر كل عظيمةٍ، يريد أن الكلام منهم فيما يدهمهم من النؤب نهبى، لأنهم صاروا سدى لا يبين التابع من المتبوع فيها، ولا الرئيس من المرءوس، حتى صار تدبير العظيمة بينهم فوضى فضاً، يتناهبون إدارة الكلام في دفعها، ويتجاذبون إجالة الرأي في رفعها، ولو كنت حاضرهم ما جسروا أن يتقدموا بين يديك بارتجال خطاب، أو رجع جواب. ويقال: كلمته فما نبس، أي لم يتكلم بحرف، وما سمعت للقول نبسةً ولا زجمة. وقوله استب يقتضي اثنين فصاعداً، وإنما نم بالمجلس، لأن المراد به أهل المجلس، فحذف المضاف وأقيم المضاف إليه مقامه، كقوله تعالى: " وسل القرية "، وقول العرب: بنو فلان يطؤهم الطريق.
وقال آخر:
قد مات بالبيضاء من جانب الحمى ... فتى كان زيناً للمواكب وانشرب
تظل بنات العم والخال حوله ... صوادي لا يروين بالبارد العدب
يهلن عليه بالأكف من الثرى ... وما من قلى يحثى عليه من الترب
الحمى: اسمٌ للموضع الذي فيه الماء والكلأ وقد دفع عنه الناس. ويقال: أحميت المكان، إذا جعلته حمىً. وقوله بالبيضاء من جانب الحمى توقيتٌ للمكان الذي وقع فيه الحادثة، وذلك إعظامٌ لخطبها، وتفظيعٌ لشأنها. وقوله كان زيناً للمواكب والشرب يصفه بالرياسة، وأنه كان يزين المواكب خلفه من حيث يستحق التعظيم والتقديم والإتباع؛ لم يرث ذلك فيهم عن كلالةٍ، فهو كما قال الأعشى:
كلٌ سيرضى بأن يلقى له تبعاً
وقوله والشرب يريد أن من نادمه واختلط بأهل مجلسه زانه ذلك ولم يشنه، لما سلم له من الاعتلاء والفضل، والسابقة في الرياسة والطول.(1/656)
وقوله تظل بنات العم والخال حوله صوادي أراد أن غليلهن وحمى أكبادهن لا يزول بالبارد العذب من الماء، إذ لم يكن ذلك عن عطشٍ، ولكن كان لما اهتاج في صدورهن من بوارح التوجع، ولواذع الغموم والتفجع، حتى كوبت أكبادهن بمواسمها، واحترقت أحشاؤهن من لفح نوائرها.
وقوله يهلن عليه بالأكف من الثرى يريد أن النوائح لما هان التراب عليه لم يفعلن ذلك عن بغض وإهانة، ولكن إظهاراً لما أفضى إليه أحوالهن من السقوط في التراب والالتزاق به، ولما شملهن من الصغار والابتذال بموته. ويقال: هلت التراب وغيره أهليه هيلاً. وفي الحديث: أتكيلون أم تهيلون؟ قالوا: نهيل. قال: فكيلوا ولا تهيلوا وحثوته أحثوه حثواً. والصوادي: العطاش، والفعل منه صدى يصدى صدى.
وقالت جارية ماتت أمها فأضرت بها رابتها
ولو يأتي رسولى أم سعدٍ ... أتى أمي ومن يعنيه حاجي
ولكن قد أتى من بين ودي ... وبين فؤاده غلق الرتاج
ومن لم يؤذه ألمٌ برأسي ... وما الرئمان إلا بالنتاج
كأنها لما ناكدتها رائبتها، ولجت في إهانتها والإضرار بها، راسلت أباها تطلعه على ما تقاسي منها، وتستمد التعصب لها رجاء أن يزجرها، فلم تر من عطفه عليها ما يرضيها، ولا من إنكاره فيها ما يردعها، فلما استمرت الحال بها على طريقةٍ واحدة اقتصتها شاكية فقالت: لو وردت رسالتي على والدتي ومن يهمه أمري لاقتضتها الشفقة الاعتناء بشأني، وعطفتها الأمومة على ما أقترحه من حاجى، ولكن قد وردت علي من صرف وده عني، وحيل بينه وبين الحنو علي، فانسدت طرق الأمل فيه، وأغلقت أبواب الخير من جهته، فلا اهتزاز لماربة، ولا انبعاث لدفع مضرة، ولا توجع لشكوى تظهر، ولا ترحم لبلوى تذكر. وما ذلك إلا لأن علائق الوداد تستحكم(1/657)
بالنتاج، ومعاقد الإشفاق تتوثق بالولاد، فبهذا انفصلت الأبوة عن الأمومة، وضعفت الأسباب إلا عن الرضاع والحضانة.
وقوله وما الرئمان إلا بالنتاج فيه بعض ما في المثل السائر، وهو ابنك من دمي عقبيك. يريد من قمت عنه وقد ولدته. وفي المثل الآخر: ابنك ابن بوحك أي الناشئ في باحة دارك. والباحة: عرصة الدار، وجمعها بوح. والرئمان: العطف، يقال رئمته أرأمه رأماً ورئماناً، ثم يسمى الولد رأماً، وهو المرءوم. قال أبو ذؤيب:
كعوذ المعطف أحزي لها ... بمصدرة الماء رأمٌ رذي
وقالت أم الصريح الكندية
هوت أمهم ماذا بهم يوم صرعوا ... بجيشان من أسباب مجدٍ تصرما
أبوا أن يفروا والقنا في نحورهم ... ولم يرتقوا من خشية الموت سلما
ولو أنهم فروا لكانوا أعزةً ... ولكن رأون اصبراً على الموت أكرما
قوله هوت أمهم أي هلكت. والمهواة والهوة والهاوية والأهوية والهواءة على فعالةٍ بمعنىً، وهو ما بين أعلى الجبل أو البئر إلى المستقر. وفي القرآن: " فأمه هاويةٌ "، قيل هي اسمٌ لجهنم، أي هي مأواهم كما تؤوى الأم الولد، وقيل هي من هوت أمهم، وهذه اللفظة تستعمل عند الداهية يشرف عليها الإنسان أو يقع فيها، وفيها معنى للتعجب والاستفهام. على ذلك قوله:
هوت أمه ما يبعث الصبح غاديا ... وماذا يؤدي الليل حين يؤوب(1/658)
وعلى الأول قول الآخر:
كنت كمن تهوي به الهاوية
وقيل: هوت أمهم، معناه أم رءوسهم هاوية في الهوة أو في النار. وتلخيص البيت هوت أمهم أي شيءٍ تصرم بهم من أسباب المجد يوم صرعوا بجيشان، وهو علم البقعة اتفقت الوقعة بهم فيها. وماذا إن شئت جعلت ما اسماً مبتدأ وذا خبره، وإن شئت جعلت ما مع ذا اسماً واحداً ويكون مبتدأً وتصرم في موضع خبره. وهذا الكلام مخرجه على الاستفظاع والتعجب.
وقوله أبوا أن يفروا يصف ثباتهم في وجه البلاء، وصبرهم على الطعان والوقاع. والواو من قوله والقنا في نحورهم واو الحال؛ أي امتنعوا من الإحجام والنكوص فلم يطلبوا وجه المهرب، ولا سلكوا طرق المخلص، مع الإمكان والتمكن، وتمهد المعذرة عند الناس فيما يأتونه والتنصل، ومع العلم باستظهار الأعداء عليهم، وقعود العجز عن الوفاء بهم.
ثم قال ولو أنهم فروا لكانوا أعزة أي لو تأخروا وكفوا لما لحقهم ذلٌ فيه ولا غضاضة؛ ولا تسلط على عزهم نقيصةٌ وحقارة، ولكن وجدوا الصبر على الموت، والاستقتال بعد اللفاء أكرم في الأحدوثة، وأنفى للعار والمذمة.
وقال الحسين بن مطيرٍ.
ألما على معنٍ وقولا لقبره ... سقتك الغوادي مربعاً ثم مربعا
فيا قبر معنٍ أنت أول حفرةٍ ... من الأرض خطت للسماحة مضجعا
يخاطب صاحبين له، يسألهما زيارة قبر معن وإبلاغه عنه أنه مقيمٌ على ما هو دأبه ووكده من طلب السقيا له، فواصل الله ذلك لك من السحب التي تنشأ غدوة، ربيعاً بعد ربيع. والمعنى: دامت النضارة والطراوة. وإنما خص الغوادي لأن المراد(1/659)
حصوله له غداة كل يوم. وقوله مربعاً يجوز أن يكون ظرفاً، ويكون أن يكون مفعولا، ويكون المربع والربيع المطر نفسه. قال الخليل: وقد يسمى الوسمى ربيعاً. ويكون المعنى: سقتك مطراً الغوادي بعد مطر. ويجوز أن يكون مصدراً من قولهم ربعت الأرض، إذا أصابها الربيع، فكأنه قال: ربعتك الغوادي مربعاً بعد مربعٍ، أي سقتك الغوادي سقياً بعد سقى.
وقوله:
فيا قبر معنٍ أنت أول حفرة
يحتمل وجهين: أحدهما أن يكون مثل قول الآخر:
كأن لم يمت حيٌ سواك ولم تقم ... على أحدٍ إلا عليك النوائح
ويكون الكلام تفظيعاً للحال، وتنبيهاً على أن ما وقع لم تجر العادة بمثله، فهو مستبدعٌ لعظم موقعه في النفوس، حتى كأنه لم ير قبرٌ قبله دفن فيه كريم. والآخر أن يكون المعنى: أنت أول حفيرة استحدثت لتواري فيها السماحة والسخاء والمروءة، فتصير مضجعاً لها، ويكون المعنى أن السماحة ماتت بموت معنٍ ودفنت بدفنه، وأنت أول خطةٍ اختطت للسماحة نفسها. وقوله مضجعاً انتصب على الحال.
ويا قبر معنٍ كيف واريت جوده ... وقد كان منه البر والبحر مترعا
بلى قد وسعت الجود والجود ميتٌ ... ولو كان حياً ضقت حتى تصدعا
كرر مناداة القبر توجعاً وتحسراً، ثم أخذ يتعدب ويقول منكراَ: كيف سترت جوده، وقد كان ملئاً للبر والبحر معاً. وفي طريقته قول الآخر:
عجباً لأربع أذرعٍ في خمسةٍ ... في جوفها جبلٌ أشم كبير
فإن قيل: لم قال مترعاً فوحد والإخبار عن البر والبحر جميعاً؟ قلت: يجوز أن يكون إنما وحد لأنه نوى التقديم والتأخير، كأنه قال: وقد كان منه البر مترعاً والبحر، أي والبحر أيضاً مترع، فيرتفع البحر بالابتداء، واكتفى بالإخبار عن الأول إذ(1/660)
كان المعطوف كالمعطوف عليه. ومثله:
فإني وقياراً لغريب
يريد: إني لغريبٌ بها وقيار أيضاً غريب، وهو اسم فرسه. ويجوز أن يكون لما علم أن المعطوف حكمه حكم المعطوف عليه اكتفى بالإخبار عن أحدهما، ثقةً بأن الثاني علم أنه في حكمه. ومثله:
رماني بأمرٍ كنت منه ووالدي ... بريئاً ومن أجل الطوى رماني
بلى قد وسعت الجود والجود ميت
بلى جواب استفهام مقرونٍ بنفي نحو قولك ألم، أليس، وما أشبههما. وهذا الشاعر لما قال متعجباً من مخاطبة القبر ومنكراً: كيف واريت جوده على كثرته ووفوره، وشموله لأقطار البر البحر، صار بما اعتبر وشاهد من الحال كأن القبر قال له: ألم أسعه، ألم أواره، ألم أتضمنه على ما به؟ فقال مصدقاً له، ومتلهفاً: بلى قد وسعته واشتملت عليه وهو ميت، ولو كان حياً لضقت عنه حتى تنقطع وتنشق، والصدع: الشق في الشيء الصلب. وصدعت الفلاة والنهر قطعتهما.
فتىً عيش في معروفه بعد موته ... كما كان بعد السيل مجراه مرتعا
ولما مضى معنٌ مضى الجود فانقضى ... وأصبح عرنين المكارم أجدعا
قوله فتىً عيش في معروفه موضعه نصبٌ على المدح والاختصاص، والعامل فيه فعلٌ مضمر، كأنه قال: أذكر فتىً هذا صفته. ويجوز أن يكون موضعه رفعاً على الاستئناف أو من أؤبنه فتىً، وقوله " عيش في معروفه بعد موته " يجوز أن يكون أراد من استغنى به وبمعروفه من المتصلين به، والمنقطعين إليه، والراجين له. ويجوز أن يكون أراد من عاش من وقوفه وحبائسه بعده، ويجوز أن يريد أنه علم الناس الجود والكرم، فمن مقتدس به آخذ أخذه، ومستنٍ بسنته سلك مسلكه، فما يفعله هؤلائ صار كأنه هو الفاعل له. ثم شبهه(1/661)
بالفيث يصوب فيحيى العباد ثم يعيش الناس في آثاره بعد انقطاعه ومضيه. وقوله كما كان بعد السيل مجراه ارتفع مجراه بكان، وكان الحكم أن يليه فلم يسغ لأن الضمير فيه يرجع إلى السيل وقد تقدم عليه، والإضمار قبل الذكر أو ما يجري مجراه لا يجوز، فامتنع رده إلى رتبته من ولي العامل له، لشيء يرجع إلى الضمير المتصل به لا لشيءٍ يرجع إليه. وتلخيص الكلام: كما كان مجرى السيل مرتعاً بعده.
وقوله ولما مضى معنٌ لما يجئ لوقوع الشيء لوقوع غيره، وهو علمٌ للظرف. فيقول: حين مضى معنٌ لسبيله وانقطعت حياته، فقد الجود وانمحت آثاره، فأصبحت المكارم ذليلةً إذ مات من يربها ويعمرها، كمن جدع أنفه مثلةً وعقوبة، وإرغاماً وإهانة. ويقال في المثل: " منى أنفي وإن كان أجدع ". والعرنين: ما ارتفع من الأنف والأرض، وأوائل الشيء، وأشراف القوم وسادتهم، وكما ضرب المثل بجدع الأنف في الإذلال، ضرب بصلم الأذن فيه لذلك. قال:
فمشوا بآذان النعام المصلم
وقال آخر:
ماذا أجال وتيرة بن سماك ... من دمع باكيةٍ عليه وباك
ذهب الذي كانت معلقةً به ... حدق العناة وأنفس الهلاك
يقول على وجه التعدب وإكبار الأمر: أي دمع أراقه وتيرة بن سماك من عينٍ باكية عليه وباكٍ. يريد أن المصيبة به أثرت في جماهير الناس وطوائف الخلق، وأنهم لم يملكوا فيما دهمهم إلا البكاء إطفاءً لنار الوجد، وإراحةً من تعب القلب، وماذا يغني العويل، وهو الراحة المطلوبة من البكاء إذا حقت الحقيقة، إلا زيادةٌ في اللوعة وإنجادٌ للمصيبة. وقد تقدم القول في ماذا، وشرحنا أمره.
وقوله: ذهب الذي كانت معلقة به يريد أنه كان يفك الأسراء، وينعش الفقراء، حتى أن من ابتلي بأسرٍ، أو رمي بفقر، فإنه لم يعد لفكه ولم يرج لجبره(1/662)
غيره، فأعينهم كانت ممتدةً إليه، وآمالهم كانت معلقةً به، وإذ قد مضى لسبيله، وانتقل إلى جوار من هو أحق به، فقد استبدلوا بالطمع خيبةً، ومن التعزز ذلة، وبقوا في ملكة محنهم لا انفكاك لهم منها، ولا ارتياش من سقطاتها.
وقال أشجع بن عمرٍو السلمي
أنعى فتى الجود إلى الجود ... ما مثل من أنعى بموجود
أنعى فتىً مص الثرى بعده ... بقية الماء من العود
قوله أنعى فتى الجود إنما أضافه إلى الجود أيذاناً بأن الجود كان يمتلكه فهو فتاه. أو يريد أن الجود كان يتبجح بكون هذا الرجل من أسرته وأصحابه، لأنه كان يتفتى في الجود؛ وهذا كما يقال: فلانٌ فتى الحرب، وكما قيل: لا فتىً إلى عليٌ في الوغى. فيقول: إنه الآن وقد مضى لسبيله فإني أنعاه إليه، لنتشارك في فقده والجزع عليه. ثم قال: ما مثل من أنعى بموجود، وهذا يشبه الالتفات، كأنه أقبل على إنسانٍ فقال: أذكر موت من كان معدوم النظير، قيل الشبيه، فلا الجود يجد من يخلفه ويعلى ذكره، ويقوم بأوده فيقيمه فيقال هو فتى الجود، ولا نحن نعتاض منه من يجمع شملنا، ويجبر كسرنا، ويسد مفاقرنا إذا أضر الزمان بنا.
وقوله أنعى فتىً مص الثرى بعده، يريد: تغيرت الأرض عما كانت عليه، فيبست أشجارها واغبرت ساحاتها بموت هذا المرثي، فالدنيا مدبرة، والأقطار مقشعرة، والبؤس للبئيس معانق، والخير بتوابعه من الندى والتطول والخصب والترطب مفارقة.
وقال عبد الله بن الزبير الأسدي
رماى الحدثان نسوة آل حربٍ ... بمقدارٍ سمدن له سمودا(1/663)
فرد شعورهن السود بيضاً ... ورد وجههن البيض سودا
السمود: الغفلة عن الشيء وذهاب القلب عنه. ويقال للمأخوذ عن الشيء: اترك سمودك. وفي القرآن: " وأنتم سامدون "، أي ساهون لاهون. وقوله رمى الحدثان نسوة آل حرب بمقدارٍ فيه ما يجري مجرى القلب، لأنه لو قال رمى المقدار نسوة آل حربٍ بحدثان، لكان أقرب في المعتا، وأجرى على طريق الدين. فيقول: جر المقادير على نسوة آل حربٍ نوبةً من نوائب الدهر أثرت في عقولهن، حتى غفلن عن أسباب الدين والدنيا كلها، وحتى شيبتهن ولفحت وجوههن، فردت السود من شعورهن بيضا، والبيض من وجوههن سودا.
وهذا كما حكى عن العريان بن الهيثم، لما سأله عبد الملك عن حاله، فقال: ابيض مني ما كنت أحب أن يسود، وأسود مني ما كنت أحب أن يبيض في كلامٍ طويل. ثم قال:
وكنت شبابي أبيض للون زاهراً ... فصرت بعيد الشيب أسود حالكا
وقال مسلم بن الوليد وماتت امرأته
حنينٌ ويأسٌ كيف يجتمعان ... مقيلاهما في القلب مختلفان
غدت والثرى أولى بها من وليها ... إلى منزلٍ ناءٍ لعينك دان
فلا وجد حتى تنزف العين ماءها ... وتعترف الأحشاء للخفقان
هذا الكلام شكوٌ من حاله فيمن أصيب به، فيقول: اليأس حاصلٌ منها إذ كان غائب الموت لا إياب له، والشوق إليها غالبٌ حتى كأني ما فقدتها؛ فيا عجباً كيف اجتمع مع اليأس رجاءٌ مع اختلاف مقرهما في القلب، ومع تنافيهما عند(1/664)
التحصيل والكشف، وهل يكون الإنسان فيما اعتيد وعرف من أحوال الأزمان مبتلىً بأسباب الخيبة من الشيء، ومتردداً معها بين علائق الطمع فيه. والمقيل الموضع من قلت. وفي القرآن: " أصحاب الجنة يومئذ خيرٌ مستقراً وأحسن مقيلاً ".
وقوله غدت والثرى أولى بها من وليها تحسر، فيقول: ابتكرت وهي في ملكة التراب دون ملكة وليها، فالثرى صار أولى بها. والانتقال من بين الأحياء إلى الأموات أحق وأوجب في أمرها. وقوله إلى منزل ناءٍ لعينك دان مثل قول الآخر:
..... أما جوارهم ... فدانٍ وأما الملتقى فبعيد
وقد ألم قوله غدت والثرى أولى بها بقول الآخر:
صلى الإله عليك من مفقودةٍ ... إذ لا يلائمك المكان البلقع
وقوله فلا وجد حتى تنزف العين ماءها يريد به: لا وجد يعتد به إذا ذكر الهلع على مثله حتى تستنفد العين دمعها، لاتصال البكاء بها، وحتى تستمر الأحشاء في خفقان القلب فتذل له وتصبر عليه، حتى يصير عادةً وسجيةً ويقال: عرف فلانٌ لكذا واعترف له، إذا صبر فيه واعتاده. على ذلك قوله:
على عارفاتٍ للقاء عوابسٍ
ويقال نزفت البئر وأنزفتها جميعاً، قال العجاج:
وأنزف العبرة من لاقى العبر
وفي المثل أجبن " من المنزوف قرطاً ".(1/665)
وقوله لا وجد خبره محذوف، كأنه قال: لا وجد حاصلٌ أو موجود. والخفقان في القلب والجناح: الاضطراب، ومنه خفق البنود والأعلام، حتى سمى الأعلام خوافق. قال:
لقد تركت عفراء قلبي كأنه ... جناح عقابٍ دائم الخفقان
وقال مسلمٌ أيضاً:
قبرٌ بحلوان استسر ضريحه ... خطراً تقاصر دونه الأخطار
نفضت بك الأحلاس نفض إقامةٍ ... واسترجعت نزاعها الأمصار
قوله استسر بمعنى أسر، ومثله استعجب بمعنى عجب. وأكثر ما ترى استسر يكون في معنى استخفى وتوارى. على ذلك قولهم في آخر الشهر استسر القمر ليلةً أو ليلتين، فهو من السرار، وهو آخر يومٍ في الشهر، والخطر: ارتفاع المكانة والحال في الشرف، ثم يقال في الشريف: هو عظيم الخطر. والضريح، أصله القبر يشق وسطه ولا يلحد. وارتفع قبر بالابتداء لأنه بصفته وهو بحلوان قرب من المعارف؛ واستسر في موضع الخبر. والمعنى: قبر بهذا المكان اشتمل جوفه على عظيمٍ من العظماء، رفيع المكانة جليل الخطر، يتقاصر عنه كل عظيمٍ جليل. وقوله خطراً أراد ذا خطر، فحذف المضاف، وكذلك الأخطار، أراد ذوو الأخطار. وقوله تقاصر يجوز أن يكون من القصور: العجز، أي تعجز أن تبلغ محله الأخطار. ويجوز أن يكون ضد تطاول فيكون من القصر.
وقله نفضت بك الأحلاس نفض إقامةٍ يريد أن العفاة قعدوا عن الاجتداء بعد موتك يأساً ممن يطمع فيه، أو يرجى خيره، فنفضوا أحلاس رواحلهم نفض من يقيم في بلاده ويطرح الترحال. وقوله استرجعت نزاعها ممن يتعطف عليهم، أو يصطنعهم وينظر لهم، فكأنهم كانوا ودائع الأمصار عنده مدة مقامهم ببابه فارتجعتهم. والنزاع: جمع نازع، وهو البعيد والغريب جميعاً، وكذلك النزيع والجميع النزائع. ويجوز أن يكون(1/666)
من نزعت إليه نزاعاً، أي حننت. فيقول: المقيم في موضعه رفض الترحال، والمسافر عاد إلى مقره يأساً من كسب المال.
فاذهب كما ذهبت غوادي مزنةٍ ... أثنى عليها السهل والأوعار
سلكت بك العرب السبيل إلى العلى ... حتى إذا سبق الردى بك حاروا
يقول: اذهب لوجهك وآلاؤك منشورةٌ، وصنائعك محمودةٌ مشكورة، وآثارك كآثار السحب وقد أغاثت الناس بأمطارها، فإذا أقلعت ترى أهل السهل والوعر يثنون عليها. والغوادي: السحابات التي تنشأ غدوةً، وكأنه أراد أقطاعاً منها، وأضافها إلى المزنة لأنه منها تجمعتن فكملت مزنةً. ويجوز أن يكون المراد بالغوادي أمطاراً تصوب غدوةً، وأضافها إلى المزنة.
وقوله سلكت بك العرب السبيل إلى العلى يريد أنك هادي العرب ودليلهم في اكتساب المعالي وابتناء المكارم، فأنت قائدهم وهم يطؤون عقبك، ويقتدرون بك، حتى إذا فقدوا إرشادك تحيروا فلم يهتدوا، وضلوا فلم يرشدوا. ومعنى سبق الردى بك كأنهم كانوا يتشبثون به ويلزمونه حافظين بقاءه فجاء الردى بطلبه ويختاره، فانتهز الفلاصة في السبق به واجتذابه من أيديهم، والفوز به من دونهم. ومفعول سبق محذوف، كأنه قال سبقهم الردى بك.
وقال حنشٌ في يعقوب بن داود
يعقوب لا تبعد وجنبت الردى ... فلنبكين زمانك الرطب الثري
ولئن تعهدك البلاء بنفسه ... فلقيته إن الكريم لبتلي
لم يرضى بالجري على عادة الناس في قولهم عند المصاب: لا تبعد، حتى زاد عليه وجنبت الردى ليكون الكلام أدل على التوجع، وأوفى بالتنبيه على حاجة الناس إلى بقاء المتوفي. وقوله فلنبكين زمانك الرطب الثري يشير فيه إلى إحسانه الضافي، ومعروفه الواسع الوافي، وأنه كان للناس كالحيا يحيى الأرض وسكانها، فكان ثرى(1/667)
الأرض به رطباً، وزمانه خصباً. وفيه إلمام بقوله:
اذهب كما ذهبت غوادي مزنةٍ
وقوله ولئن تعهدك البلاء بنفسه أفاد قوله بنفسه إكبار الأمر وتفظيع الشأن في موته وفقدانه، كأن البلاء لم يرض في الذهاب به بان يعتمد على نائبيه ورسله، بل جاءه بنفسه. وقوله إن الكريم ليبتلى تسلية. ومعنى تعهدك أي نظر هل أنت على ما عهدك ليرى فيك رأيه. وفي الكلام إلمامٌ بقول الآخر:
أرى الموت يعتام الكرام ويصطفى ... عقيلة مال الفاحش المتشدد
ويعني بالبلاء الموت، وقد يكون في غير هذا الموضع النعمة والاختبار. ومنه قوله تعالى: " ليبتلي الله "، أي يمتحن. وقوله لئن اللام موطئة للقسم، وهو مضمر وجوابه إن الكريم ليبتلى.
وأرى رجالاً ينهسونك بعدما ... أغنيتهم من فاقةٍ كل الغنى
لو أن خيرك كان شراً كله ... عند الذين عدوا عليك لما عدا
معنى ينهسونك يغتابونك، وأصل النهس في العظم إذا عرق ما عليه من اللحم. وانتصب كل الغنى على المصدر، ووضع الغنى موضع الإغناء على عادتهم في وضع الاسم موضع المصدر. والمعنى: أرى من أحسنت إليه وأنعشته وبعد الفاقة أغنيته، يتنقصك ويغتابك، سوء محافظةٍ منهم، ولدناءة أصلهم ولؤم عرقهم.
ثم قال: لو أن خيرك عندهم كان كله شراً لما جاوز فعلهم بك، ومكافأتهم لك، ما نراه. ومعنى عدوا عليك ظلموك. ومعنى لما عدا لما جاوز ويقال عدا عليه عدوا وعدواً وعداءً وعدواناً. وارتفع كله على التوكيد للمضمر في كان، ويجوز أن يكون اسم كان. وفي قوله لما عدا ضمير للشر، ومفعوله محذوف، كأنه قال: لما جاوز الشر، أي جزاء الشر، ما يأتونه في نقيصتك والوضع منك. والكلام تحسرٌ وتشكٍ من متحملي صنائع المفقد. وذمٌ للدهر وأهله.(1/668)
وقالت صفية الباهلية
كنا كغصنين في جرثومةٍ سمقا ... حيناً بأحسن ما تسمو له الشجر
حتى إذا قيل قد طالت فروعهما ... فطاب فيئاهما واستنظر الثمر
قوله سمقا أي طالا في كمال. والجرثومة: الأصل فيقول: كنا كفننين خرجا من أصلٍ واحد فنميا وطالا، واستكملا زماناً، وبقيا يزدادان على أحسن ما تزداد له الأشجار، حتى إذا فرعا، وآتت أغصانهما وبرعا، وكثر ورقهما، واستطيب ظلهما، وصارا ينتظر ثمرهما، وقف الأمر بهما دون الغاية المرجوة فيهما، ودعى أحدهما مقدما على الآخر للمحتوم لهما. والفرع من كل شيءٍ: ما تفرع منه في أعلاه. الفيء من الظل: ما فاء من جانبٍ إلى جانب. ومعنى استنظر انتظر. ورواه بعضهم: واستنضر الثمر، أي وجد ناضراً غضاً. والأول أحسن.
أخنى على واحدٍ ريب الزمان وما ... يبقي الزمان على شيءٍ وما يذر
كنا كأنجم ليلٍ بينها قمرٌ ... يجلو الدجى فهوى من بينها القمر
قوله أخنى جواب إذا من قوله حتى إذا قيل قد طالت فروعهما، وقوله وما يبقى الزمان اعتراض حصل بين ما قبله وما بعده من القصة، مؤكدٌ له. فيقول: لما بلغ الأمر بنا ذلك المبلغ أناخ حدثان الدهر على أحدهما فأتلفه وأفسده، والزمان هذا دأبه، لا يسلم عليه شيءٌ، بل يرتجع كما يعطى، ويسلب كما يهب.
ثم قال: كنا كأنجم ليلٍ بينها قمرٌ، وهذا تشبيه ثانٍ، كأنها في الأول وهو كنا كغصنين شبهت نفسها وصاحبها بغصنين، وفي الثني شبهت العشيرة كلها والمتوفي فيها، بنحوم ليلٍ أحدقت بقمرٍ استضاء ظلامه الليل بنوره فسقط ذلك القمر من وسطها فعاد الليل كما كان.
وهذا الكلام فيه تفضيلٌ للمتوفي على ذويه كلهم، فإنهم كانوا يستكشفون ظلمة حوادث الدهر من جهته ومكانه، فلما فارقهم عاد الشر جذعاً، والضياء حندسا.(1/669)
وقال التيمي في منصور بن زياد
لهفي عليك للهفةٍ من خائفٍ ... يبغي جوارك حين ليس مجير
لهفي مبتدأ، وهو لهفٌ مضاف إلى ضمير النفس، ففر من الكسرة وبعدها ياء إلى الفتحة فانقلبت ألفا. ولو روي لهفي عليك، لجاز، ويكون جارياً على أصله. وعليك في موضع الخبر. واللام من للهفةٍ متعلقٌ بما دل عليه لهفي. فيقول: لي عليك حسرةٌ شديدةٌ من أجل حسرة رجلٍ نابه من حوادث الدهر ما اختشي له فطلب جوارك، والاستعاذة بفنائك، وقت لا مجير له ثم لا يجدك. وقوله حين ليس مجير ظرفٌ ليبغي، ويبغي في موضع الصفة لخائف. وخبر ليس محذوف، كأنه قال: حين ليس مجيرٌ في الدنيا، أو ينعشه، أو ما أشبه ذلك. وأضاف حين إلى ليس فبناه لأن المضاف إليه غير متمكن، فاكتسب البناء من جهته، فالفتحة في حين إلى ليس فبناه لأن المضاف إليه غير متمكن، فكتسب البناء من جهته، فالفتحة في حين فتحة بناءٍ. ولا يمتنع أن يكون فتحة إعراب، كأنه أجرى حين على سلامته ولم يعتد بالإضافة فيه.
أما القبور فإنهن أوانسٌ ... بجوار قبرك والديار قبور
عمت فواضله فعم هلاكه ... فالناس فيه كلهم مأجور
يقول: فارقت الأحياء وفي كل فرقةٍ من فرقهم غمٌ شامل، وزفرةٌ متصلة، فاختلطت بالأموات، فالأنس الذي كان في الأحياء انتقل بانتقالك إلى الأموات، فديار الأحياء ذات وحشةٍ ونفور، فهي كالقبور لما حصل فيها من الفجع بك، وفارقها من نسيم الروح والراحة بفراقك. وقبور الأموات ذوات أنس وقرارٍ بمجاورتها لقبرك، ولما يغدو ويروح إليها من زوارك.
وقوله عمت فواضله فعم هلاكه يريد أن إحسانه عم الخلق، وصنائعه شملتهم، فبحسب ذلك عمتهم الفجيعة به، فالناس كلهم مصابون مأجورون، قد استوت أقدامهم وتناسبت أحوالهم فيما نالهم من الحسرة فيك، وأضر بهم من الخلل الواقع في عيشهم بك.(1/670)
يثنى عليك لسان من لم توله ... خيراً لأنك بالثناء جدير
ردت صنائعه إليه حياته ... فكأنه من نشرها منشور
يقول: عرف الناس على اختلافهم وتباين أوطانهم، فضلك وفواضلك، فاتفقت ألسنتهم في الثناء عليك والحمد لك، فمن لم تسد إليه خيراً منك، ولم تشركه في النعمة عندك، صار مقتدياً بغيره في إطائك ومدحك، وتقريظك وتزكيتك، لأنك عندهم كلهم جديرٌ بذلك، لا لمكافأةٍ على إحسانك، ولا لشكرٍ وجب عليهم في تحمل أفضالك.
وقوله ردت صنائعه إليه حياته، يقول: تذاكر الناس بعوارفك لديهم، ونشروا محامدك فيهم، فكأنك حيٌ لم يوارك قبر، ولم يفز بك موت. ويقال أنشر الله الموتى ونشرهم جميعاً. وأنشر أفصح. وقوله من نشرها أي من نشر الناس لها، فأضيف المصدر إلى المفعول.
فالناس مأتمهم عليه واحدٌ ... في كل دارٍ رنةٌ وزفير
عجباً لأربع أذرعٍ في خمسةٍ ... في جوفها جبل أشم كبير
أصله المأتم النساء يجتمعن في الخير والشر، وجعله ها هنا المصيبة نفسها. والرنين: الصوت. والرنة الفعلة منه. وانتصب عجباً على المصدر، والعامل فيه فعلٌ مضمر، كأنه قال: عجبت عجباً. وإنما قال أربع أذرع، لأن الذراع مؤنثة، وفي خمسة لأنه أراد الأشبار. والشبر مذكر. ويشبه هذا قوله:
بلى قد وسعت الجود والجود ميتٌ ... ولو كان حياً ضقت حتى تصدعا
والجبل الأشم: الطويل الرأس. ويقال عزٌ أشم، يراد به الارتفاع.
وقال نهار بن توسعة يرثي أخاه
عتبان قد كنت امرأً لي جانب ... حتى رزيتك والجدود تضعضع
قد كنت اشوس في المقامة سادراً ... فنظرت قصدي واستقام الأخدع(1/671)
يقول: يا عتبان، كنت رجلاً كان لي ملاذٌ ألوذ به، وجانبٌ أستنيم إليه، وأتعزز بعزه، إلى أن فقدتك، والجدود تنحط بعد الارتفاع، وتعوج عقيب الاستواء. فقوله والجدود تضعضع اعتراضٌ، لأن قوله كنت أشوس متصل بما قبله. والشوس هو النظر في اعتراضٍ كنظر الغضبان والكاره للشيء المعرض عنه والمقامة: المجلس. والسادر: الذاهب عن الشيء ترفعاً عنه. ويقال أتى فلانٌ أمره سادراً، إذا جاءه من غير جهته. والسدر: ظلمة تغشى العين، وكأن السادر منه. وقوله فنظرت قصدي أراد نظرت حين أقصد، ومكان قصدي. وإعرابه يجوز أن يكون نصباً على الظرف، وقد حذف اسم المكان معه، ويحوز أن يكون مصدراً، كأنه قال: فنظرت أقصد قصدي، أي قاصداً قصدى فدل المصدر على اللفظ بالفعل، والواقع موقع الحال هو الفعل. ومعنى البيت: قد كنت بما في نفسي من الكبر والتعلي على الناس أنظر إلى أهل المجلس نظر المعترض عليهم، المعرض عنهم المستهين بهم، المأخوذ عن قصدي فيهم عجباً واستغناء، فلما فقدتك زالت تلك الخنزوانة عني، واستقام عنقي من الصور العارض له، كما اعتدل نظري فزال عنه الشوس الذي كان فيه.
ويستحسن لأوس بن حجر قوله:
تشاوس يزيد إنني من تأمل
وفقدت إخواني الذين بعيشهم ... قد كنت أعطي ما أشاء وأمنع
خاطب عتبان فيما تقدم، وشكا بثه إليه، على عادة الناس في إظهار التلهف عند مخاطبة المفقود، والجري في مباثته علي عادتهم معه في حياته. وفي الثاني أخبر عن نفسه بأنه مرزأٌ في إخوانه. كأن المصائب كانت متوافيةً إليه، ملحة في تكرير الفجائع عليه، فإخوانه تفانوا واحداُ بعد واحد، وتدانوا في التتابع سنداً بعد سند، فقال: ورزئت إخواني الذين كنت أعطي ما أشاء إعطاءه، وأمنع ما أشاء منعه، مدة عيشهم، وزمن بقائهم. ويقال: عشت عيشاً ومعاشاً. والمعيش والمعيشة والمعاش. اسم ما يعاش به. ويقال هو عائشٌ أي حاله حسنة.(1/672)
فلمن أقول إذا تلم ملمةٌ ... أرني برأيك أم إلى من أفزع
فليأتين عليك يومٌ مرةً ... يبكي عليك مقنعاً لا تسمع
قوله فلمن أقول إذا تلم ملمة كلام من سلبه القدر إخوانه، وقص جناحه فأعياه طيرانه، فمتى طرقه حادثٌ أو ألم بساحته من الدهر نائبٌ لم يكن له من يرجع إليه مستشيراً، أو يقتبس من نور رأيه مستضيئاً، ولا وجد من يستدفع به البلاء أو يستعديه على مهتضمه، فيصرف بقوته عن نفسه العداء فيبقى أسير الغبر، وقيذ الفكر. ومعنى أرني برأيك أرشدني برأيك، واهدني بنظرك. وقد حذف المفعول الثاني لقوله أرني، والمراد أرني الصواب أو وجه الأمر برأيك. ويقال: رأيت الشيء بعيني رؤيةً ورأيا، ورأيته بقلبي رأيا لا غير. فأما قول زهير:
فقال أميرى ما ترىرأى ما ترى ... أنختله عن نفسه أم نصاوله
فالمراد به ما ترى رأى أي الأمرين ترى. فما ترى سؤالٌ عن جملة الرأي ورأى ما ترى سؤالٌ على طريق التفصيل، وقد بينه بقوله أنختله أم نصاوله. وقوله إلى من أفزع يقال فزعت إلى فلان أفزع، إذا التجأت إليه؛ وهو لنا مفزع، أي نفزع إليه. وفي ضده يقال: هو لنا مفزعةٌ، أي نفزع منه. ويستوي فيه الواحد والتثنية والجمع، والمذكر والمؤنث.
وقوله فليأتين عليك يومٌ مرةً خطابٌ لنفسه. وقد ألم بقول الآخر:
وإخال أني لاحقٌ مستتبع
يريد أن أجله قد قرب ولا بقاء للروح على ما يمارسه ويزاوله. وأشاد بقوله يومٌ إلى وقت النازلة. ويقال فعل كذا مراً ومرين كما تقول مرة ومرتين، ومقنعاً انتصب على الحال من قوله يبكي عليك ومعناه مسجى مستور الوجه. ولا تسمع في موضع الصفة لقوله مقنعاً، أي مقنعا غير سامع عولة الباكي. وليأتين جواب يمينٍ مضمرة، ويبكي عليك في موضع الصفة ليومٌ، أي يومٌ يبكي عليك فيه، أو يبكاه(1/673)
عليك إن قدرته تقدير المفعول به. ومثله: " واتقوا يوماً لا تجزى نفس عن نفس شيئاً "، وقد مر القول فيه.
وقال يزيد بن عمرو الطائي
أصاب الغليل عبرتي فأسالها ... وعاد احتمام ليلتي فأطالها
ألا من رأى قومي كأن رجالهم ... نخيل أتاها عاضدٌ فأمالها
الغليل: حرارة الجوف، يقال به غلة. والاحتمام: القلق والانزعاج، يقال أحمنى الأمر إحماماً. والعاضد: قاطع النخل، والذي يقطع به يقال له المعضد. فيقول: تناهى حمى جوفي وغلة كبدي، فأسلت دمعي إطفاءً لنائرتها، وعاد قلق ليلتي، وطار النوم عني فطال له ليلتي. وقوله احتمام ليلتي أضاف الاحتمام إلى ليلته لكونه فيها، ولاجتماع الوساوس عليه، لتفرده عما يشتغل به. ويروى: احتمامى ليلتي، ويكون ليلتي في موضع الظرف، يريد احتمامى في ليلتي. وإنما قال احتمام ليلتي لما كان تقدم من مصائبه في عشيرته.
وقوله ألا من رأى قومي لفظه استفهام، والمعنى معنى التوجع. وقد يأتون به على الخطاب هل رأيت قومي؟ كأن هذه الرؤية مستنكرة فهو يستثبت. وقوله كأن رجالهم نخيلٌ شبههم وقد صرعوا بنخيلٍ معضودة. وهذا التشبيه ورد مثله في القرآن، في قوله تعالى: " كأنهم أعجاز نخلٍ خاويةٍ ". وجملة المعنى كأنه ينكر أن يكون قومه بهذه الصفة، فقال مستثبتاً على طريق التحسر: من رأى قومي مقتلين مصرعين كأن فرسانهم نخيلٌ قصدها عاضدٌ فأمالها. وفائدة أمالها، على فصاحته في هذا الموضع، تصوير حالة الرجال حين تركوا بالعراء كيف تركوا.
أدفن قتلاها وآسو جراحها ... وأعلم أن لا زيغ عما مني لها
وقائلةٍ من أمها طال ليله ... يزيد بن عمروٍ أمها واهتدى لها
وصف حالته وما مني به في ذويه وعشيرته، وكيف تولى من المقتولين دفنهم، ومن المجروحين أسوهم، لأنه إذا احتاج إلى تولي ذلك منهم كان أشقى له وأعود(1/674)
بالكمد عليه. وقوله وأعلم أن لا زيغ عما منى لها رضاً منه بمحتوم القضاء، وإظهارٌ للتصبر في البلاء، وتحسر على ما فاته من القوم في حالتي الشدة والرخاء. ومنى لها، يعني قدر لها، وأصله مني، فأخرجه على لغته، لأنهم يفرون من الكسرة وبعدها ياء إلى الفتحة، فتنقلب الياء ألفاً. والزيغ: الميل والانحراف. وقوله أن لا زيغ أن فيه مخففة من الثقيلة، أراد أنه لا زيغ. والضمير في أنه للأمر والشأن، ولا زيغ في موضع خبر أن.
وقوله وقائلةٍ من أمها من في موضع المبتدأ، وطال ليله في موضع الخبر، كأنه قال: الذي أمها طال ليله. ويزيد بن عمرو مبتدأ آخر وأمها في موضع الخبر، وهو استئناف كلامٍ منقطع عما قبله. ويعنى بيزيد بن عمروٍ نفسه.
وروى الأثرم هذه الأبيات عن أبي عبيدة للنابغة الذبياني، وأثبتها في ديوانه وقد غير أبياته ترتيباً ولفظاً، وقال: إنما هو زياد بن عمرو؛ لأن اسم النابغة زياد، وزعم أنه قالها في وقعة طيئ يوم شراف، غزاهم حصن بن حذيفة ومعه النابغة، فالتفوا بشراف. والناسبون كالكلبي والشيباني واليربوعي والأصمعي، ذكروا أن النابغة هو زياد بن معاوية بن جابر بن ضباب بن يربوع ابن غيظ بن مرة. وأبو تمامٍ نسبها إلى يزيد بن عمرو الطائي. وفي ألفاظ هذه الأبيات على ما رواه أبو تمامٍ شاهد صدقٍ على أنه ليزيد لا للنابغة. والله أعلم.
ومعنى البيت: رب امرأةٍ قالت متوجعةً متحسرة: من قصد هؤلاء المقتولين، ووفق في الاهتداء فقد أطيل ليله، لأنه يرد منهم على ما يجرح القلب ويطيل السهر. ثم قال يزيد بن عمرو: أنا الشقي الذي أمها واهتدى لها، مجيباً للقائلة. وفائدة اهتدى أن الموضع الذي قتلوا فيه كان كالملتبس عليهم، فصار هو الطالب له، والمهتدي إليه، والمنبه عليه. وانجر وقائلةٍ بإضمار رب، وجوابه من أمها، والجملة في موضع المفعول لقائلة. وقد تعرى قائلة من صفةٍ لها، وأكثر ما يجيء المجرور برب يجيء موصوفاً.
وقال قسام بن رواحة السنبسي
لبئس نصيب القوم من أخويهم ... طراد الحواشي واستراق النواضح(1/675)
وما زال من قتلى رزاحٍ بعالجٍ ... دمٌ ناقعٌ أو جاسدٌ غير ما صح
أخويهم يريد صاحبيهم. والعرب تقول: يأخا بكرٍ، يريد واحداً من بني بكر. والحواشي: صغار الإبل ورذالها. والنواضح: التي يستقى عليها الماء، واحدتها ناضحة. وسميت بذلك لأنه جعل الفعل لها كأنها هي التي تنضح الزراعات والنخيل. وهم يسمون الأكار النضاح. على ذلك قول الهذلي:
هبطن بطن رهاطٍ واعتصبن كما ... يسقى الجذوع خلال الدور نضاح
فيقول: مذمومٌ في أنصباء القوم من صاحبين لهم يقتلان طرد الإبل وسوقها، وسرقة البعران التي يستقى عليها. وإنما جعل الطرائد حواشي الإبل ونواضحها إزراءً بها، كما قالت كبشة أخت عمرو بن معد يكرب:
ولا تأخذوا منهم إفالاً وأبكرا
يعني في الدية. وهذا تعريضٌ بمن وجب عليه أن يهمه طلب دم صاحبهم فاقتصر من الأعداء على الغارة عليهم، وسرقة الإبل منهم. وفيه هزؤٌ أيضاً، وبعثٌ على طلب الدم.
وقوله وما زال من قتلى رزاح بعالجٍ دمٌ ناقع فالناقع: الثابت، مصدره النقوع. والماصح، قال الخليل: هو الراسخ في الثرى، وهو ها هنا الذليل، والدارس. يقال مصحت الدار إذا درست، ومصح الظل، إذا قصر.
قال الأعشى:
إذا الآل مصح
وهذا الكلام تذكير بدماء قتلاهم. ورمل عالج: موضع معروف. ورزاح: قبيلة. فيقول: ولا يزال من مقتولي هذه القبيلة بهذا المكان دم ثابت، أو يابس غير زائل. والمعنى أن دماءهم بحالها ما لم يثأروا بهم؛ لأن غسل تلك الدماء إنما يكون بما يصب من دماء أعدائهم.(1/676)
دعا الطير حتى أقبلت من ضرية ... دواعي دم مهراقه غير بارح
لم يرض بما ذكره في البيت المتقدم من التذكير بدماء المقتولين حتى بسط القول فيه وجنحه بأن قال: دعا دواعي دمائهم طيور الأماكن النائية والجبال المطلة، حتى أقبلت من ضرية وهو اسم بلاد تشتمل على جبال عوافي سباعها وطيورها تستدل بها، فوقعت عليها تأكل من جيفها. ويجوز أن يريد بالدواعي الرياح الذاهبة في الأقطار. وقوله مهراقه غير بارح أي هو مصبوب موضعه لم يحل ولم يزل.
أعاد المعنى تفظيعاً، ويجوز أن يريد بقوله مهراقه الموضع المصبوب فيه الدم، كأنه يستشهد به فقال: هو غير بارح. وقال مهراقه والأصل مهراق فيه. وإنما قلنا هذا ليكون بين هذا وبين قوله دم ناقع أو جاسد غير ما صح فصل. والكلام يشتمل على ما يطرى المصيبة ويهيج الفجيعة، ويصور مصرع القوم بما يأتيه من عوافي الطير. وفيه بعث شديد وحض بليغ على طلب الدم.
عسى طيئ من طيئ بعد هذه ... ستطفى غلات الكلى والجوانح
عسى لفظه ضعت للترجي والتأميل، إلا أنها تؤذن بأن الفعل مستقبل مطموع فيه، فيجب أن يستأنى له، وإن كانت من أفعال المقاربة. وبهذا يبين عن لفظة كاد لأن كاد لمشارفة الفعل فهو يلي الفعل بنفسه تقول كاد زيد يفعل كذا، وعسى يحول بينه وبين الفعل أن، يدلك على هذا أنه كاد زيد يفعل كذا، وعسى يحول بينه وبين الفعل أن، يدلك على هذا أنه قال ستطفئ غلات الكلى والجوانح. لما كان من شرط عسى أن يجيء بعده أن إيذاناً بالاستقبال جعل هذا بدل أن السين، لأنه أشهر في الدلالة على الاستقبال، وإنما قال عسى طيئ من طيئ لأن الجذاب الذي أشار إليه والقتال، كان بين بطنين منهما. وقوله بعد هذه أشار إلى الحالة الحاضرة، الجامعة لكل ما ذكره. والجوانح: جمع جانحة، وهي الضلوع القصار. والمعنى: المطموع فيه من أولياء الدم أن يطلبوا الثأر في المستقبل، وإن كانوا أخروه إلى هذه الغاية، فتسكن نفوس وتبرد قلوب. وقد آلم بهذا الكلام كل الإيلام، لما ختم به كلامه المتقدم.
وأبلغ من هذا قول الآخر، وهو في طريقته:
وإني لراجيكم على بطء سعيكم ... كما في بطون الحاملات رجاء(1/677)
وقال سليمان بن قتة العدوي
مررت على أبيات آل محمد ... فلم أرها أمثالها يوم حلت
فلا يبعد الله الديار وأهلها ... وإن أصبحت منهم برغمي تخلت
الآل عند أصحابنا البصريين والأهل واحد، ويدل على ذلك أن تصغير الآل أهيل، كما أن تصغير الأهل أهيل. وأخبرنا الفراء عن الكسائي أنه قال: سمعت أعرابياً فصيحاً يقول: أهل وأهيل، وآل وأويل، قال أبو العباس ثعلب: فقد صار أصلين لمعنيين، لا كما قال أهل البصرة؛ وحكى أبو عمر الزاهد عن ثعلب أن الأهل القرابة، كان لها تابع أو لم يكن، والآل: القرابة بتابعها. قال: ولهذا أجود الصلوات على النبي صلى الله عليه وسلم وأفضلها: اللهم صل على محمد وعلى آل محمد: وقد ورد فيه التوقيف. روي أن أمير المؤمنين عليه السلام سأل النبي صلوات الله عليه: كيف الصلاة عليك؟ قال: " قولوا اللهم صل على محمد وعلى آل محمد ".
وقوله فلم أرها أمثالها يوم حلت، يريد أنها قد ظهر عليها من آثار الفجع والمصيبة ما صارت له وحشاً، فحالها في ظهور الجزع عليها ليست كحالها في السرور أيام حلوها. فهو مثل قول الآخر:
بكت دارهم من فقدهم فتهللت ... دموعي فأي الجازعين ألوم
أمستعير يبكي من الهون والبلى ... أم آخر يبكي شجوه ويهيم
وقد سلك محمد بن وهيب مثل هذا في مديحة في المأمون أولها:
طللان طال عليهما الأمد ... درسا فلا علم ولا نضد
لبسا البلى فكأنما وجدا ... بعد الأحبة مثل ما أجد
وسلك أبو تمام هذا المسلك فزاد عليهم كلهم، لأنه قال:
قد أقسم الربع أن البين فاضحه ... أن لم تحل به عفراء عن عفر(1/678)
وقوله فلا يبعد الله الديار وأهلها فيه دلالة على أنه جعل الدار وحالها كالمفقودين وأحوالهم، إذ كانت لفظة لا نبعد ولا يبعد الله يستعمل في الفائت. وقوله وإن أصبحت منهم برغمي تخلت تحسر على أهل الدار والدار جميعاً.
ألا إن قتلى الطف من آل هاشم ... أذلت رقاب المسلمين فذلت
وكانوا غياثاً ثم أضحوا رزية ... ألا عظمت تلك الرزايا وجلت
قتلى الطف: الحسين ومن معه من ذويه عليه السلام. وقوله أذلت رقاب المسلمين فذلت كأنها لما أذلت، بأن بغى لعترة رسول الله صلى الله عليه وسلم وولده عليه السلام الغوائل، واستحل منهم المحارم، ونيل منهم ما كان محظوراً من غيرهم من المسلمين، فكيف منهم، وقهروا على حقوقهم واستبيحت دماؤهم وحرمهم التزمت رقابهم ذلك الذل فأقرت به وخضعت، ولبسته لبسة من كان ذلك نصيبه من مواليه، فصاروا كالراضين به وإن لم يكن ذلك رضاً. وقوله وكانوا غياثاً يريد أنهم كانوا للمسلمين غوثاً عندما ينزل بهم فلا يرجون لملمهم ديناً ودنيا غيرهم، فلما نيل منهم ما نيل صاروا رزيئة لهم كلهم، لأنه بحسب رجائهم كان فيهم، وعلى مقدار مكانتهم من قلوبهم صار نوازل الغم تنكى فيهم، وفواقر الرزء تكسر ظهورهم.
وقوله ألا عظمت تلك الرزايا وجلت التفات، كأنه أقبل مكبراً ومستفظعاً على من حوله فقال: ما أعظم هذه الرزايا وما أجلها، لقد بلغت مبلغاً شنيعاً، وافترت عن البلايا افتراراً قبيحاً، فيا لها ما أنكاها وأقرحها.
وقالت قتيلة بنت النضر بن الحارث
وكان رسول الله صلى الله عليه وسلم قتل أباها صبراً:
يا راكباً إن الأثيل مظنة ... من صبح خامسة وأنت موفق
الأثيل: موضع كان فيه قبر النضر، وكان النبي صلى الله عليه وسلم تأذى به فقتله صبراً، وكان من جملة أذاه أنه كان يقرأ الكتب في أخبار العجم على العرب، ويقول: محمد(1/679)
يأتيكم بأخبار عاد وثمود، وأنا منبئكم بأخبار الأكاسرة والقياصرة. يريد بذلك القدح في نبوته، وأنه إن جاز يكون ذلك نبياً لإتيانه بقصص الأمم السالفة فإني وقد أتيت بمثلها رسول أيضاً. وذكر ابن عباس في قوله تعالى: " ومن الناس من يشتري لهو الحديث "، أنها نزلت في النضر بن الحارث الداري، وكان يشتري كتب الأعاجم فارس والروم، وكتب أهل الحيرة، فيحدث بها أهل مكة، وإذا سمع القرآن أعرض واستهزأ به. وقتيلة ابنته لما جاءت إلى حضرة النبي صلى الله عليه وسلم وأنشدته هذه الأبيات رق لها النبي صلى الله عليه وسلم وبكى. وقال: " لو جئتني من قبل لعفوت عنه "، ثم قال: " لا يقتل قرشي بعد هذا صبراً ". فأما قولها يا راكباً فإنها دعت واحداً من الركبان غير معين، فكل من كان يجيبها منهم كان هو المدعو. والمظنة: المنزل المعلم. وقولها من صبح خامسة تيريد من صبح ليلة خامسة لليلة التي تبتدئ في السير منها إلى الأثيل وأنت على الطريق غير عادل منها. وإنما تريد أن تقول: إذا كان ابتداء السير من موضعها يكون انتهاؤه في أثيل من سير يحصل في صباح ليلة خامسة لليلتها. ومن قولهم: إذا خرجت عن مكان كذا فموضع كذا منزل قمن منك ضحوة غد، وموضع كذا مظنة من عشية يوم كذا. وعلى هذا الوجه قول الآخر:
يسط البيوت لكي يكون مظنة ... من حيث توضع جفنة المسترفد
وإن كان الأول في الزمان وهذا في المكان.
بلغ به ميتاً فإن تحية ... ما إن تزال بها الركائب تخفق
منى إليه وعبرة مسفوحة ... جادت لمائحها وأخرى تخنق
هذا هو الرسالة التي تريد أن تحملها الراكب، تريد: يا راكباً بلغ بهذا المكان، إذا أتيته، مقبوراً فيه تحيتي، فإن التحيات أبداً تخفق بها الركائب وتبلغ أربابها. والخفق. الاضطراب. ومفعول بلغ الثاني محذوف، لأن قولها فإن تحية يدل عليه.
وقولها منى إليه يتعلق بفعل مضمر قد دل عليه بلغ، كأنه قال: أوصل إليه مني تحية، وأد مني تحية، لأن جميع ذلك معناه بلغه عني. وقولها وعبرة مسفوحة(1/680)
معطوف على المفعول المضمر الذي أظهرته. والمسفوحة: المصبوبة. وقولها: جادت لمائحها أي أجابت داعيها وساعدت مستقيها. وقولها وأخرى تخنق معطوف على عبرة، كأنها قالت: وأد إليه أيضاً عبرة قد خنقتني وهي في الطريق لم توجد. وهذا الكلام يشتمل على اقتصاص حالها، وعلى ما في نفسها من الحسرات والآلام الفجيعة. والركائب: جمع ركوبة، وهي مفردة عن الموصوف، لا يقال ناقة ركوبة، وكذلك حلوبة وقتوبة. وقولها جادت لمائحها في موضع الصفة لعبرة، كما أن تخنق في موضع الصفة الأخرى. والمعنى: بلغه عني تحية وأعلمه من حالي بكاء يتصل ولا ينقطع، ودمعاً يساعد ولا يخذل، فمن سائل مسفوح، ومن خانق مدفوع. وجادت من الجود. ولك أن تروى لماتحها ولمَائحها. والمائح أبلغ، لأن المتح الاستقاء، والميح أن تدخل البئر ليملأ الدلو إذا قل الماء. والذي يدل على قلة الدمع والجهد في إسالته يكون أجود في الرواية.
فليسمعن النضر إن ناديته ... إن كان يسمع ميت أو ينطق
قولها إن ناديته شرط وجوابه ما دل عليه ليسمعن، وكذلك قولها إن كان يسمع ميت شرط ثان وجوابه يدل عليه ليسمعن. وترتيب الكلام إذا جاء على وجهه. إن ناديت النضر وقد أتيته عني فليسمعن نداءك وليجيبنك إن كان الميت يسمع أو ينطق. وقولها ليسمعن جواب يمين مضمرة ودل على ليجيبنك أيضاً، لأن من صح فيه السمع إذا دعى صح منه الجواب. وقد يقول الإنسان وقد سئل شيئاً: السمع والطاعة، والمفهوم فيه: إني أجيبك إلى ملتمسك. ويريد به الفعل لا سماع سؤاله من دون الفعل.
ظلت سيوف بين أبيه تنوشه ... لله أرحام هناك تشقق
أمحمد ولأنت نجل نجيبة ... من قومها والفحل فحل معرق
ما كان ضرك لو مننت وربما ... من الفتى وهو المغيظ المحنق
والنضر أقرب من أصبت وسيلة ... وأحقهم إن كان عتق يعتق
قولها ظلت سيوف بني أبيه تنوشه تحسر منها لما جرى على أبيها، تريد: صارت سيوف إخوانه تتناوله بعد أن كانت تذب عنه، وتضع منه بعد أن كانت ترفعه،(1/681)
وتبتذل حرماته بعد أن كانت تصونها. ثم قالت كالمستعطفة والمتعدبة. لله أرحام وقرابات في ذلك المكان قطعت أسبابها، وهتكت أستارها.
وقولها هناك ظرف، والكاف كاف الخطاب، ويشار به إلى مكان متراخ. وإذا قيل هنالك فزيد فيه اللام كان آكد، والمشار إليه أبعد. والعامل في هناك تشقق، وهو في موضع الصفة للأرحام. واللام من قوله لله لام التعجب. وهم إذا عظموا شيئاً نسبوه إليه تفخيماً لأمره جل شأنه.
وقولها أمحمدٌ نونت المنادى المفرد المعرفة ضرورة، ولو رد إلى أصله فقيل أمحمدُ لجاز. وسيبويه يختار تركه على البناء في هذا المكان وإن نونه للضرورة، لمشابهة البناء في هذا المكان الإعراب. ولذلك جاز حمل الصفة عليه. ومثل هذا قول الآخر:
لا نسب اليوم ولا خلة ... اتسع الخرق على الراقع
فنون خلة، والفتح فيه للبناء، لأنه مبني كمنصوب. وبعضهم روى: أمحمد ها أنت نجل نجيبة، فأدخل ها التنبيه على الجملة وقد تعرت من حرف الإشارة. وقد جاء مثله. قال النابغة:
ها إنها عذرة إلا تكن نفعت ... فإن صاحبها قد تاه في البلد
والواو من ولأنت عاطفة للجملة ومفيدة معنى الحال، وكذلك الواو من قوله والفحل فحل معرق. والمعنى: أنت كريم الطرفين معم مخول. واستعطفته مقرظة ومثنية والمدعو له قولها: ما ضرك لو مننت. وهذا الكلام فيه اعتراف بالذنب، والتزام للنعمة والمنة في العفو لو حصل. فتقول: أي شيء كان يصرك لو عفوت والفتى وإن كان مغضباً مضجراً، منطوياً على حنق وعداوة، قد يمن ويعفو. هذا إذا جعلت ما استفهاما. ويجوز أن تجعل ما نافية والاستفهام في مثل هذا الكلام يفيد معنى النفي.(1/682)
وإنما قالت ربما لأن الحالة التي أشارت إليها بقولها المغيظ المحنق يقل فيها المن، ورب للقليل. وقولها والنضر أقرب من أصبت وسيلة تذكير منها بما يجمع النبي صلى الله عليه وعلى آله وإياه من القربى والقرابة. وإنما يدل بذلك على وجه الاستحقاق للصفح عن الخيانة، لما يدل به من الأسباب المتواشجة، والأرحام المتشابكة. وقولها وأحقهم إن كان عتق يعتق أرادت: وأحقهم بأن يعتق إن كان عتق، أي إن وقع عتق، فحذف الباء، وحروف الجر مع أن تلغى كثيراً، ثم حذف أن ورفع الفعل، فهو كقوله:
ألا أيهذا الزاجرى أحضر الوغى ... وأن أشهد اللذات هل أنت مخلدي
يدل على أن من أحضر محذوف أنه عطف عليه بأن فقال: وأن أشهد اللذات. وجواب الشرط، وهو إن كان عتق، ما يدل عليه وأحقهم وأقرب من أصبت. وكان هذه كان التامة فلهذا استغنت عن الخبر. والمعنى: والنضر أقرب الأسراء الذين أسرتهم إليك، وأحقهم بالعتق إن وقع فكاك وعتق.
وقال النابغة الجعدي
فتى كان يدنيه الغنى من صديقه ... إذا ما هو استغنى ويبعده الفقر
هذا مثل قول الهذلي:
أبو مالك قاصر فقره ... على نفسه ومشيع غناء
وأحسن منهما قول الآخر:
إذا افتقروا عضوا على الفقر حسبة ... وإن أيسروا عادوا سراعاً إلى الفقر(1/683)
وقال أيضاً:
فتى كان فيه ما يسر صديقه ... على أن فيه ما يسوء الأعاديا
فتى كملت خيراته غير أنه ... جواد فلا يبقى من المال باقيا
لما قال: كان فيه ما يسر صديقه وعلم أن في الناس من يجمع الخير خالصاً من دون الشر خشي أنه إن سكت على هذه الجملة ظن به القصور عن التمام، والوقوف دون الكمال، فلا يكون فيه النكاية في الأعداء والإساءة إليهم، وإذلالهم وإرغامهم. ثم وصفه بأن قال على أن فيه ما يسوء الأعاديا وهذا هو النهاية في الكمال؛ لأنه إذا عرف لأوليائه ما يوجب عليه التوفر عليهم، وجميل التفقد لهم، وعرف لأعدائه ما يوجب التنقص منهم وإذلالهم، كان في ذلك أكمل الكمال.
وقوله فتى كملت خيراته غير أنه جواد هذا استثناء في نهاية الحسن، فهو كالتأكيد لأول الكلام؛ لأن كونه جواداً لا يكون عيباً فيخرجه من قوله كملت خيراته، لكنه إذا كان عيبه المستثنى من الخيرات الجود الذي هو مؤثر عند الله تعالى وعند الناس، فخصاله المحمودة الباقية ماذا ترى تكون. فهو استثناء منقطع من الأول، كأنه قال: كملت خيراته لكنه جواد. وإذا تأملت وجدت البيت الثاني مثل البيت الأول، في أنه أتبع ثناء بثناء، وأردف مديحاً بمديح، فعجز كل واحد منهما يؤكد صدره، ويزيده مبالغة معنى وتظاهر مبدأ ومنتهى. ومثلهما بيت النابغة:
ولا عيب فيهم غير أن يسوفهم ... بهن فلول من قراع الكتائب
وموضع قوله فتى في البيتين جميعا نصب على الاختصاص، كأنه قال أذكر فتى هذه صفته. ولا يمتنع أن يكون موضعه رفعاً على أن يكون خبر مبتدأ محذوف. فإن قيل: ما موضع على أن فيه ما يسوء الأعاديا من الإعراب؟ قلت: هو يجري وإن كان جمعاً بين صفتين متضادتين على أن الثانية كالحال للأولى، كأنه قال: فيه ما يسر صديقه مركبا على ما يسوء الأعاديا. وقوله فما يبقى من المال باقيا تأكيد للجود. وانتصاب باقيا يجوز أن يكون على المفعول، ويجوز أن يكون على(1/684)
المصدر، وقد وضعه موضع الإبقاء. ومثله:
كفى بالنأي من أسماء كاف
وضع كاف موضع كفاية، وهو مصدر منصوب، لكنه حذف فتحة الإعراب من آخره وإن كانت الفتحة مستخفة، على طريقة من قال:
أن أيديهن بالقاع القرق
وقال:
وأي فتى ودعت يوم طويلع ... عشية سلمنا عليه وسلما
رمى بصور العيس منخرق الصبا ... فلم يدر خلق بعدها أين يمما
فيا جازي الفتيان بالنعم اجزه ... بنعماه نعمى واعف إن كان أظلما
انتصب " أي " بودعت، والكلام فيه تعجب على طريق التفخيم للشأن، والتعظيم للأمر. وانتصب عشية على البدل من يوم، والمعنى: ما أجل شأن فتى ودعناه عشية شيعناه من يوم طويلع، وقضينا فيما بيننا وبينه بعد حق التوديع، بأن سلمنا عليه وسلم هو علينا، أي قلنا: أصحبك الله السلامة، وحفظك حيث كنت! وقال لنا مثل ذلك. وهذا كأنه كان تثنية للوداع حينئذ، وتذكرة من بعد من الشاعر. وإرسال القول فيه تحسر وتوجع. وقوله وسلما يريد وسلم علينا، فحذف علينا ويجوز أن يكون أراد بودعت الوداع الذي لا تلاقي بعده. ألا ترى أنه يقال للمفارق: غير مودع! أي جعل الله بعده التقاء. وقد كشف عن هذا المعنى طرفة حيث يقول:
قفي ودعينا اليوم يا ابنة مالك ... وعوجي علينا من صدور جمالك
قفي لا يكن هذا تعلة ساعة ... لبين ولا ذا حظنا من نوالك
فإذا جعلت ودعت على هذا، انفصل معناه عن معنى سلمنا عليه وسلما. وهذا ظاهر.(1/685)
وقوله رمى بصدور العيس مخرق الصبا يريد أنه توجه في المفازة حيث تنخرق الريح، ورمى بصدور رواحله نحوها، فلم يعرف له بعد ذلك خبر ولا أثر. وقوله أين يمما موضع الجملة من الإعراب نصب على أنه مفعول لم يدر، كأنه قال: لم يدر خلق ما يقتضي هذا السؤال. وهذا الكلام نهاية فيما يثيره الجزع من المشفق القلق، ويدور في شكوى المتوله الحدب، لأنه إذا لم يمكنه الرجوع إلى شيء بعد جولة الوداع والافتراق، إلا إلى صدمة اليأس والاكتئاب، فذاك أجلب للوادع الرزيئة، وأجمع لبوارح الشكية.
وقوله فيا جازي الفتيان بالنعم اجزه دعاء له، والمعنى أحسن إليه بدل إحسانه إلى خلقك، وجزاء على إنعامه في عبادك، وتجاوز عن سيئاته فيما كان فيه ظالماً، وعن الحق والنصف عادلاً. وقوله كان أظلما أي كان ظالما. وأفعل بمعنى فاعل جاء كثيراً. ومثله:
فتلك سبيل لست فيها بأوحد
وجعل في الثاني شرطاً لأنه قال واعف إن كان وفي الأول لم يأت بمثله ليدل على سلامة طريقته من الجور والاهتضام، وبراءة ساحته في غالب ظنه مما يستحق به العقاب والانتقام. الكلام وإن كان فيه دعاء فهو تحسر وتوجع. وإنما قلت هذا لأن استعمال الدعاء بعقب ما ذكر طريق في إظهار الخيبة لا يكاد يعفيها تعاور الأحوال بالسلوة، ولا يحول عن سلوكها تعاقب الأرمان بالمساءة والمسرة.
وقال شبيب بن عوانة
لتبك النساء المعولات بعولة ... أبا حجر قامت عليه النوائح
عقيلة دلاه للحد ضريحه ... وأثوابه يبرقن والخمس مائح
خدب يضيق السرج عنه كأنما ... يمد ركابيه من الطول ماتح
لتبك النساء أمر من فعل يدل على الحال. ألا ترى أنه وصف النساء المأمورات بأنهن معولات. والأمر وإن كان في الأكثر يبنى على المستقبل يصح أن يبنى على ما(1/686)
للحال، ويراد به الاستدامة والاستمرار في الفعل. على ذلك قول الله تعالى: " يأيها الذين آمنوا آمنوا بالله ورسوله ". وقوله بعولة تعلق الباء منه بلبتك، والمراد أن يكون بكاء المعولات أبا حجر بزيادة عولة. المعولات: الصائحات، والاسم العويل. وقامت عليه النوائح في موضع الحال وقد مضمرة، كأنه قال: لتبكه النساء فقد مات والنوائح ينحن عليه. وهذا كله تفظيع للرزيئة، وتنبيه على وجوب البكاء له، وأن الزيادة في العولات عليه مسوغة، لأن فقد اسمه غير مشاهد من قبل ولا معتاد.
وقوله عقيلة دلاه اقتصاص حال التجهيز والدفن، وأنها وقعت بمرأى منه ومسمع، فشقي بمزاولتها، وكمد لشاهدتها. وأراد بالأثواب أكفانه، فجعلها تبرق لبياضها. والمائح أصله الذي يدخل البئر فيغرف الماء في الدلاء إذا قل الماء. وها هنا أراد الذي يدخل القبر فينظفه ويصلح ما يجب إصلاحه منه. ودلى، أصله الإرسال، وتوسعوا فيه فقيل: دلاه بغرور، إذا خدعه. وتدلى على كذا بالحيل. فيقول: عقيلة هو الذي أرسله للحد القبر، وأكفانه لبياضها ونظافتها تلمع، والخمس هو الذي تولى من القبر ما تولى. وسوق كل هذا تفجع وتألم، وتذكر لما سخنت له العين، وأحرقت له الكبد.
وقوله خدب هو الكامل الخلق التام الأعضاء، القوي السوي. لذلك قال يضيق السرج عنه وقوله كأنما يمد ركابيه وصفه بامتداد القامة وطول البادين. ويحمد من الفارس ذلك. وقوله كان ماتحاً أي مستقياً، يمد ركابيه من بئر لطولهما. والخدب: الطويل. يقال: إن في ذلك لخدباً أي طولاً. وبعير خدب: ضخم شديد.
وقال:
أبا خالد ما كان أدهى مصيبة ... أصابت معداً يوم أصبحت ثاويا
لعمري لئن سر الأعادي وأظهروا ... شماتاً لقد مروا بربعك خاليا
فإن تك أفنته الليالي فأوشكت ... فإن له ذكراً سيفنى اللياليا(1/687)
خاطب المرثي فقال متلهفاً: ما أعظم مصيبة أصيبت بها قبائل معد يوم فجعت بك فأصبحت مقيماً في مكان لا تبرح منه. يشير إلى القبر. ويقال: ثوى بالمكان وأثوى جميعاً. وقوله أدهى يقال دهاه كذا يدهاه دهياً ودهواً، إذا أثر فيه تأثيراً شديداً وداهية دهياء ودهواء. والداهية: المنكر من الأمر. فيقول: إن المصيبة بك ما أعظمها وأنكرها، فيا لمعد فقد بليت بها.
وقوله لعمري مبتدأ وخبره محذوف، ولئن سر شرط، واللام موطئة للقسم، وجواب لعمري لقد مروا، وجواب الشرط ما دل عليه هذا الجواب. والمعنى: وبقائي لئن كان الأعادي مسرورين بموتك، شامتين بذويك وعشيرتك لفقدهم لك، فقد وقعت الشماتة في وقتها وحينها، ووافاهم السرور لحادث أمر عظم موقعه، لأنهم مروا بربعك خاليا. والمعنى: أن ما كان ممدودا على ذويك وأوليائك من نطاق الاعتزاز بمكانك، والاعتلاء بجدك وجدوه قاصراً زائلا منقطعا. وانتصب خاليا على الحال. وقوله فإن يك أفنته الليالي فأوشكت معنى أوشكت. أسرعت. كأنه استقصر مدة بقائه. ويجوز أن يكون استقصر مدة علته. والكلام في حذف النون من إن تك فقد تقدم في مواضع. وقوله فإن له ذكراً سيفنى الليالي يريد: إن كان عمره قد انقطع فإن ذكره متصل بالأبد، لا تفنيه الأيام ولا تقطعه الآماد، بل هو يفنى الأيام والآماد. ووشك البين: سرعة القطيعة. وتقول: لو شكان ذا، كما تقول: لعجلان ما كان كذا. ومثله قوله:
فإن تسجنوا القسرى لا تسجنوا اسمه ... ولا تسجنوا معروفه في القبائل
وقالت امرأة من كندة
لا تخبروا الناس إلا أن سيدكم ... أسلمتموه ولو قاتلتم امتنعا
أنعى فتى لم تذر الشمس طالعة ... يوماً من الدهر إلا ضر أو نفعا
قوله لا تخبروا الناس إلا تهكم وسخرية، يشوبه تعيير شديد. أي قد ارتكبتم أمراً عظيماً بتسليمكم سيدكم، فاستروا أمركم ولا تنبئوا الناس به. وهذا مخاطبة لقوم خذلوا رئيسهم ولم يثبتوا معه، حتى قتل. فيقول: لو ثبتوا وتابعوا الدافع عن نفسه(1/688)
وعنهم. وقوله إلا أن سيدكم إلا بمعنى غير، فهو منقطع مما قبله. وهذا الاستثناء من المعنى، كأنه قال: سلمتم إلا أن سيدكمم أسلمتم.
وقولها أنعى فتى لم تذر الشمس طالعة انتصب طالعة على الحال المؤكد لما قبله. والكوفيون يقولون في مثله: انتصب على القطع. وكما أن الحال يجيء مؤكداً لما قبله تجيء الصفة أيضاً مؤكدة لما قبلها. ومثال الحال: رأيته في الحمام عرياناً، فعريان حال مؤكدة. ومثال الصفة أن تقول: فعلت كذا أمس الدابر. وذرور الشمس: انتشارها في الجو. والمعنى: أذكر موت فتى لم تطلع الشمس يوماً من أيام الدهر عليه إلا وهو ضار لأعدائه ناك فيهم، أو نافع لأوليائه مسد إليهم. وفي هذا ذهب إلى مثل ما قاله عدي:
إذا أنت لم تنفع بودك أهله ... ولم تنك بالبوس عدوك فابعد
وقالت امرأة من بني أسد
خليلي عوجاً إنها حاجة لنا ... على قبر أهبان سقته الرواعد
تخاطب صاحبين لها تسألهما التعرج على قبر أهبان زائرين له، ومجدين العهد به. وقوله سقته الرواعد دعاء للقبر بالسقيا. والرواعد: السحاب التي فيها الرعد. وقولها إنا حاجة لنا حشو واعتراض، وقد وقع موقعاً حسناً، وفيه استعطاف للمخاطبين واستلطاف فيما تكلفهما. ويقال: ما عند فلان تعويج عليهم، أي تعريج. وعجنا بالمكان أشد العياج والعوج، أي عطفنا.
فثم الفتى كل الفتى كان بينه ... وبين المزجى نفنف متباعد
قولها كل الفتى مفيد للتأكيد، وجامع أسباب الفتوة كلها للموصوف، فكأنها قالت: ثم الفتى التام الفتوة حتى لم يغادر شيئاً من علائقها وأسبابها. وقولها كان بينه وبين المزجى، والمزجى: الضعيف، كأنه يزجى الوقت في الاعتداد به بين الفتيان. ويجوز أن يكون سمى الضعيف مزجى لتأخره وحاجتهم إلى تزجيته واستحثاثه فيما يعن. وهذا كما قيل المركب في الضعيف الفروسية. والنفنف: المهواة بين الجبلين، والأرض بين الأرضين. وهذا كما يقال: بين هذا وبين كذا بون بعيد.(1/689)
فتقول: بين هذا الفتى وبين من يزجى في الفتيان مهواة بعيدة، حتى لا التقاء ولا تداني.
إذا انتضل القوم الأحاديث لم يكن ... عيياً ولا عبئاً على من يقاعد
أصل الانتضال والنضال في الرماء، ثم يستعمل توسعا في المفاخرة وقت المنافرة، ومجاثة الخصوم لدى المناقرة. ألا ترى لبيداً يقول:
فانتضلنا وابن سلمى قاعد ... كعتيق الطير يغضى ويجل
ثم قال:
فرميت القوم رشقاً صائباً ... ليس بالعصل ولا بالمفتعل
فيقول: إذا تجاذب القوم أطراف السمر والأخبار، وتنازعوا قصص الفرسان والأيام، ودسوا في أثناء المسارة روائع التبجح والمكاثرة، لم يكن حاجزاً فيما بينهم فدماً، ولا ضعيف التصرف بكياً، ولا كان ثقيلاً على جلسائه، سيئ العشرة لخلطائه، بل كان حسن المجلس معهم، مستحلى المنادمة بينهم، خفيف الوطأة عليهم.
ومن روى: ولا رباً على من يقاعد فإنه يريد: لا متكبراً على جليسه فعل ذي الملكة والسلطان؛ والآخذ على مصطنعه بالاعتلاء والامتناع.
وقال كعب بن زهير
لقد ولى أليته جوى ... معاشر غير مطلول أخوها
كان جوى على ما دل عليه الكلام حلف في وجوه ناكبيه والعازمين على قتله، أنهم لا يستمرئون فعلهم ذلك، وأن عشيرته وأصحابه سيطلبون دمه ويدركون ثأره، فكانوا عند ظنه بهم من غير إهمال ولا تضجيع. فيقول: جعل جوى ولاية يمينه التي أقسم بها إلى معاشر لا يبطل دم صاحبهم ولا يهدر، بل لا ينامون ولا ينيمون حتى(1/690)
ينالوا الوتر. وقوله غير مطلول أخوها أي دم أخيها، فحذف المضاف وأقام المضاف إليه مقامه. قال:
دماؤهم ليس لها طالب ... مطلولة مثل دم العذره
وقال:
تلكم هريرة لا تجف دموعها ... أهرير ليس أبوك بالمطلول
أي لا ينسى دمه ولا يبطل ديته. والألية: اليمين، وجمعها ألايا. والفعل منه آليت أولى إيلاء، وائتلى. وفي بعض اللغات يقال الألوة.
فإن تهلك جوى فإن حرباً ... كظنك كان بعدك موقدوها
خاطب بعد أن أخبر على طريق التسلية، فيقول: إن ذهبت لما دعيت له فإن الذين شبوا نار الحرب بعدك في التقاضي بك كانوا كما ظننتهم، وعند أملك فيهم. فقوله " موقدوها " ارتفع بكان، وكظنك في موضع خبر كان وقد تقدم، والجملة أعني كان موقدوها بعدك كظنك خبر إن، واسم إن وهو حرباً نكرة غير موصوفة أيضاً، وساغ ذلك لما كان المراد بها مفهوماً معلوماً. ويجوز أن يجعل قوله " كظنك كان بعدك موقدوها " من صفة حرباً، ويجعل خبر إن محذوفاً، كأنه قال: إن حرباً هذه صفتها وقعت. وبيت الأعشى حجة في الوجهين جميعاً. وهو:
إن محلا وإن مرتحلا ... وإن في السفر إذ مضى مهلا
ألا ترى أن معناه إن لنا محلاً إن لنا مرتحلاً، فحذف الخبر، ومحل ومرتحل نكرتان.
وما ساءت ظنونك يوم تولى ... بأرماح وفى لك مشرعوها
ولو بلغ القتيل فعال قوم ... لسرك من سيوفك منضوها(1/691)
كأنك كنت تعلم يوم بزت ... ثيابك ما سيلقى سالبوها
قوله وما شاءت ظنونك تشكر للعشيرة وإن كان لفظه إعلام جوى ما كان منهم وثناء عليهم، فيقول: لقد حسن ظنك بأرماح وفى لك مهيئوها ومعلموها يوم حلفك، فلا جرم أنهم صدقوا ظنك بهم، وحققوا اعتقادك فيهم، وجدوا في طلب الأمر وانكمشوا، حتى برت يمينك، وطابت نفوس أودائك والمفجوعين بك. وجعل الباء من قوله بأرماح متعلقا بقوله ظنونك، وإنما الظن كان بأربابها، مجازاً واتساعا.
وقوله ولو بلغ القتيل فعال قوم يريد لو أمكن إبلاغ المقتولين ما يفعله الأحياء بعدهم لقمت في ذلك وقعدت، علماً بأن ما أتاه قومك إذا تأدى إليك سرك وقوعه وحمدتهم له. ويقال: نضا سيفه وانتضاه، إذا جرده من غمده. وقال من سيوفك وأضافها إليه لما كان أربابها من أسبابه، وما للسبب مثل ما للمسبب.
وقوله كأنك كنت تعلم يوم بزت ثيابك أراد بالثياب السلاح، وهذا كما يقال له البز. قال الهذلي:
فوقر بز ما هنالك ضائع.
يعني به السيف، ومعنى وقر وقع وقرات وهزمات فيه. ويقال بزه كذا وابتزه. وفي المثل: " من عز بز "، أي من غلب سلب. وقال الدريدي: البز السلاح، يدخل فيه الدرع والمغفر والسيف. وجعل تعلم بمعنى تعرف، لذلك اكتفى بمفعول واحد، كقول الله تعالى: " لا تعلمونهم الله يعلمهم ". وما سيلقى ما بمعنى الذي، وما بعده من صلته، وحذف المفعول من سيلقى استطالة للاسم بصلته، أراد ما سيلقاه، ويعني بذلك ما يصيبهم في مكافأة فعلهم، وعند الانتقام منهم.(1/692)
وقال آخر:
نعى الناعي الزبير فقلت تنعى ... فتى أهل احجاز أهل نجد
خفيف الحاذ نسال الفيافي ... وعبداً للصحابة غير عبد
يقول: خير الناعي بموت الزبير، فقلت معظماً لشأنه، ومفخماً للتأثير بمكانه: إنك تذكر موت قريع أهل الحجاز وأهل نحد ومختارهم، ومن لا تحق الفتوة بالاتفاق إلا له. وقوله خفيف الحاذ وصفه بخفة العجز وقلة اللحم على الفخذ، وذلك مستحب من الفرسان. قال الخليل: الحاذان: أدبار الفخذين، والآحاذ الجميع. وقيل هو الظهر. والحاذ في غير هذا المكان: الحال والمؤونة. وقوله نسال الفيافي أراد نسال في القيافي، فأجراه مجرى قطاع الفيافي. والنسان: مشية الذئب إذا أعنق وأسرع. ويقال: نسل الماشي، إذا أسرع. وفي القرآن: " فإذا هم من الأجداث إلى ربهم ينسلون " أي يسرعون.
وقوله عبداً للصحابة غير عبد يصفه بكرم الصحاب، وحسن التوفر على الرفاق. والصحابة مصدر في الأصل، يقال أحسن الله صحابتك، ثم استعمل صفة، وقوى في الوصفية حتى جرى مجرى الأسماء، وتفرد عن الموصوف به. وكذلك قولهم صاحب اسم الفاعل من صحب، تفرده بنفسه، قوى حتى كأنه ليس بمشتق من صحب، لا يكاد يقال هو صاحب زيداً كما يقال هو ضارب زيداً. ومعنى غير عبد نفي لذل العبودية، لأن قوله عبداً للصحابة أراد كرم الخلق وسهولة الجانب، وتحمل الأعباء عن رفقائه. وقد ألم في هذا بقول الآخر:
طباخ ساعات الكرى زاد الكسل
وقال رقيبة الجرمي، من طيئ
أقول وفي الأكفان أبيض ماجد ... كغصن الأراك وجهه حين وسما
أحقاً عباد الله أن لست رائياً ... رفاعة طول الدهر إلا توهما(1/693)
مفعول أقول هي جملة البيت الذي يليه، والواو من قوله: وفي الأكفان أبيض ماجد واو الحال، وكغصن الأراك في موضع الصفة لأبيض. شبه امتداد قامته به. و " وجهه " على هذا يكون مبتدأ وخبره حين وسما، والجملة في موضع الصفة لما قبله. وظروف الأزمنة لا تتضمن الأشخاص والجثث، لا تقول زيد اليوم، ولكن هذا مثل قولهم: الهلال اللليلة، فكما جاز هذا لأن المراد طلوع الهلال الليلة، كذلك قوله وجهه حين وسما لأن المعنى: بقول وجهه حين وسم. ومعنى وسم: خرج قليلاً، وحقيقته أنه بمعنى توسم، كما أن وجه بمعنى توجه، ونبه بمعنى تنبه، وقدم بمعنى تقدم. ويقال لون الغلام، وطر، ووسم، وبقل بالتخفيف، في معنى واحد. وأجاز أبو حاتم بقل بالتشديد ورواه الأصمعي ولم يجزه غيره. والمعنى: أقول متلهفاً وقد كفن بمرأى مني ثم شاب مجتمع كريم شريف حسن الطأة، كأنه غصن من الأراك ووجهه قد وسم حديثاً. والمعنى: اعتبط ولم يمتع بشباه، ولا أمهل لاستكماله واكتتهاله. فأقول: حقاً عباد الله ما أرى.
وقد ألم في هذا المعنى بقول النابغة:
يقولون حصن ثم تأبى نفوسهم
كأنه يكذب المشاهدة كما كذب النابغة الإخبار. وكل ذلك لاستفظاع الحال، واستعظام الأمر والخطب. فأما قوله أحقاً انتصب عند سيبويه على الظرف، كأنه أفي الحق ذلك. فإن قيل: كيف جاز أن يكون ظرفاً؟ قلت لما رآهم يقولون: أفي حق كذا، أو أفي الحق كذا، جعله إذا نصبوه على تلك الطريقة، قال:
أفي حق مواساتي أخاكم ... بمالي ثم يظلمني السريس
وقال:
أفي الحق أني مغرم بك هائم ... وأنك لا خل هواك ولا خمر(1/694)
وقوله أن لست رائيا أن مخففة من الثقيلة. والمعنى أفي الحق لست رائياً هذا الفتى إلا متوهماً أبد الدهر. وقوله توهما مصدر في موضع الحال.
وفائدة قوله عباد الله أنه رجع فيما كان لا يؤمن به ولا يسكن إليه شناعة وقباحة، إلى الناس كافة يستثبتهم ويستفتيهم.
فأقسم ما جشمته من مهمة ... تؤود كرام القوم إلا تجشما
ولا قلت مهلاً وهو غضبان قد غلا ... من الغيظ وسط القوم إلا تبسما
يصف رضاه وحسن طاعته له، وقوة نهضته بكل ما يحمله من الأثقال المتعبة، والآراب المثقلة، ودوام صبره على جميع ما يكلفه من المهمات الشاقة على كرام الناس الباهظة، إلى ما كان يوجب له ويعظم قدر كلامه، فقال: ولم أقل له رفقاً إذا احتمى غيظاً إلا سكن وحسنت فيئته، وكرمت عطفته، حتى بدا لي مضحكه، وتهللت في لقياي غرته. هذا ومجلسه مشهود، والأقوام حوله قعود، فلا يتداخله نخوة، ولا تأخذه بالإباء والتشدد عزة. وهذا كله تنبيه على تعالى لوعته، وتغالي حرقته وفجعته.
وقال آخر:
ألا لا فتى بعد ابن ناشرة الفتى ... ولا عرف إلا قد تولى فأدبرا
فتى حنظلي ما تزال ركابه ... تجود بمعروف وتنكر منكرا
لحى الله قوماً أسلموك وجردوا ... عناجيج أعطتها يمينك ضمرا
حذف الخبر من قوله لا فتى ولا عرف جميعا، كأنه قال: لا فتى في الدنيا بعد ذهابه، ولا عرف موجود بعد تولي عرفه. وفي وصفه المرثي بالفتى كأنه جمع له الفضائل كلها، كما أن نفيه العرف كأنه نفى به المحامد كلها؛ لأن مهن شرط الفتوة أن يدخل تحتها خصال الخير، كما أن العرف والمعروف يدخل تحته كل ما عرف في الإحسان والصلاح. ولك أن تنون لا فتى وإن كان الأول أشرف في المعنى وأبلغ، فيكون في موضع الرفع بالابتداء، وكذلك لا عرف ترفعه وتنونه، لأنك تلقى حركة الهمزة من إلا وهي كسرة على التنوين. والفصل بين الرفع والنصب أن النصب يفيد الاستغراق، كأنه نفي قليل الجنس وكثيره، إذا كان جواب هل من فتى، ومن عرف؟(1/695)