ويقظته، وكان لا يقطع أمراً دونهما ولا يصدر إلا عن رأيهما، فغبر كذلك دهراً طويلاً؛ قال: فبينما هو ذات ليلة في شغله ولهوه إذ غلب عليه الشراب فأثر فيه تأثيراً أزال عقله، فدعا بسيفه فانتضاه وشد عليهما فقتلهما، وغلبته عيناه فنام، فلما أصبح سأل عنهما فأخبر بما كان، فأكب على الأرض حزناً لهما وأسفاً عليهما وجزعاً لفراقهما، امتنع من الطعام والشراب، وتسلب عليهما، ثم حلف ألا يشرب شراباً يخرج عقله ما عاش، وواراهما وبنى على قبريهما قبتين، وسن ألا يمر بهما أحد من الملك فمن دونه إلا سجد لهما، وكان إذا سن الملك سنة توارثوها وأحيوا ذكرها وأوصى بها الآباء أعقابهم؛ قال: فغبر الناس بذلك دهراً لا يمر بالقبر أحد صغير ولا كبير إلا سجد لهما، فصار ذلك سنة لازمة، وأثراً كالشريعة والفريضة، وحكم في من أبى أن يسجد لهما بالقتل بعد أن يحكم له في خصلتين يجاب إليهما، كائناً ما كان؛ فمر بهما يوماً قصار ومعه كارة ثيابه، وفيها مدقته، فقال الموكلون بالقبرين للقصار: اسجد، فأبى أن يفعل، فقالوا: إنك مقتول، فأبى، فرفع إلى الملك وأخبر بقصته فقال: ما منعك أن تسجد؟ قال: قد سجدت ولكن كذبوا علي، قال: الباطل قلت، فاحكم في خصلتين فإنك تجاب إليهما وإني قاتلك، قال: ولا بد من قتلي بقول هؤلاء؟ قال: لا بد من ذلك، قال: فإني أحكم أن أضرب رقبة الملك بمدقتي هذه ضربتين، قال له الملك: يا جاهل، لو حكمت علي بما يجدي على من تخلف كان أصلح، قال: ما أحكم إلا بضربة لرقبة الملك، فقال الملك لوزرائه: ما ترون فيما حكم هذا الجاهل؟ قالوا: نرى أن هذه سنة أنت سننتها، وأنت تعلم ما في نقض السنن من العار والبوار وعظيم الإثم، وأيضاً فإنك متى نقضت سنة نقضت أخرى، ثم يكون ذلك لمن بعدك، فتبطل السنن، قال: فاطلبوا إلى القصار أن يحكم بما شاء ويعفيني من هذه فإني أجيبه(6/46)
إلى ذلك ولو بلغ شطر ملكي، فطلبوا إليه فأبى فقال: ما أحكم إلا بضربة في رقبته، فلما رأى الملك ما عزم عليه القصار قعد له مجلساً عاماً، وأحضر القصار فأبدى مدقته فضرب بها عنق الملك ضربة وخر الملك مغشياً عليه، فأقام وقيذاً ستة أشهر، وبلغت به العلة حداً كان يجرع فيها الماء بالقطن؛ فلما أفاق وتكلم وطعم وشرب سأل عن القصار، فقيل له إنه محبوس، فأمر بإحضاره وقال: قد بقيت لك خصلة فاحكم فإني قاتلك لا محالة، فقال القصار: فإذا كان لا بد من قتلي فإني أحكم أن أضرب الجانب الآخر من رقبة الملك ضربة أخرى، فلما سمع بذلك الملك خر على وجهه من الجزع فقال: ذهبت والله إذن نفسي، ثم قال للقصار: ويلك دع عنك ما لا ينفعك فإنه لا ينفعك ما مضى، فاحكم بغيره أنفذه لك كائناً ما كان، قال: ما أحكم إلا في ضربة أخرى، فقال الملك لوزرائه: ما ترون؟ قالوا: هذه السنة، قال: ويلكم، إنه والله إن ضرب الجانب الآخر لم أشرب البارد أبداً، لأني أعلم ما قد مر بي، قالوا: فما عندنا حيلة، فلما رأى ذلك قال القصار: أخبرني، ألم أكن سمعتك تقول يوم جاء بك الشرط إنك سجدت وإنهم كذبوا عليك؟ قال: قد كنت قلت ذلك فلم أصدق، قال: فكنت قد سجدت؟ قال: نعم، فوثب من مجلسه وقبل رأسه وقال: أشهد أنك أصدق من أولئك وأنهم كذبوا عليك، فانصرف راشداً، فحمل كارته ومضى.
فضحك المهدي حتى فحص برجليه وقال: أحسنت والله، ووصله وبره
قال يونس بن عبد الأعلى: قدم على الليث بن سعد منصور بن(6/47)
عمار يسمع الحديث منه، فقال له: إني قد أتيت شيئاً أريد أن أعرضه عليك، فإن كان حسناً أمرتني أن أذيعه، وإن كان مما تكرهه انزجرت، قال: ما هو؟ قال: كلام الفقه ومواعظ القصاص، قال: ليس شيء غير القرآن والسنة، وما خالف ذلك فليس بشيء، قال: فتستمع وتتفضل، وكان عنده جماعة فأشاروا عليه بان يسمع منه، فابتدأ بمجلس القيامة، فلم يزل الليث يبكي ومن معه، وأمره يذيعه ولا يضمره، ولا يأخذ عليه أجراً، ووهب له ألف دينار.
يقال إن منصور بن عمار كان كاتباً لأبي عبيد الله كاتب المهدي.
قال الزبير بن بكار: كانت الخيزران كثيراً ما تكلم موسى في الحوائج، وكان يجيبها إلى كل شيء تسأل عنه، حتى مضى لذلك أربعة أشهر من خلافته فانثال الناس عليها وطمعوا فيها، فكانت المواكب تغدو إلى بابها؛ قال: فكلمته يوماً في أمر لم يجد إلى إجابتها سبيلاً، فاعتل فيه بعلة، فقالت: لا بد من إجابتي، قال: لا أفعل، قالت: فإني تضمنت هذه الحاجة لعبد الله بن مالك، قال: فغضب موسى وقال: ويلي على ابن الزانية، وقد علمت أنه صاحبها، والله لقضيتها لك، قالت: إذن والله لا أسألك حاجة أبداً، قال: إذن والله لا أبالي، وغضب، وقامت مغضبة فقال: مكانك تستوعبي كلامي، والله، وإلا فأنا نفي من قرابتي من رسول الله صلى الله عليه وسلم،(6/48)
لئن بلغني انه وقف أحد من قوادي وخاصتي وخدمي على بابك لأضربن عنقه ولأقبضن ماله، فمن شاء فليرم ذلك من هذه المواكب التي تغدو إلى بابك كل يوم؛ أما لك مغزل فيشغلك، أو مصحف يذكرك، أو بيت يصونك، إياك ثم إياك ما فتحت فاك في حاجة لملي أو ذمي والسلام. قال: فانصرفت وما تعقل ما تطأ، ولم تنطق عنده بحلو ولا مر بعدها.
قال أبو العيناء: كتب زنقاح الهاشمي - وهو محمد بن أحمد بن علي بن المهدي - إلى طبيبه: والك يا يوحنا، وأتم نعمته عليك، قد شربت الدواء خمسين مقعداً، والمغص والتقطع يقتل بطني، والرأس فلا تسل عنه، مصدعاً بعصابة منذ بعد أمس، فلا تؤخر احتباسك عني، فسوف أعلم أني سأموت وتبقى أنت فلا أنا، فعلت موفقاً إن شاء الله.
قال أبو العيناء: وكتب زنقاح إلى صديق له يسأله بخوراً: شممت اليوم منك، وحق الله، أعزك الله، رائحة طيبة، وذلك، وحياتك، باطراح الحشمة، موفقاً إن شاء الله.
قال رجل لأبي العيناء: كان أبوك أكمل منك، قال أبو العيناء: إن أبي كنت به ولم يك بي، وهو أولى بالكمال مني.
قال أبو العيناء: وقف علي أعرابي ما أحسبه بلغ ولا قارب، وخرج لي غلام أسود من الماء وقد اغتسل وهو يرعد، وكان غلاماً خبيثاً، فقلت وأومأت إلى الأسود: الرجز
كأنه ذئب غضى أزل(6/49)
أجزيا يا غلام أهب لك، فقال:
بات الندى يضربه والطل
فعجبت من بديهته ووهبت له دراهم.
قال أبو العيناء: أقبل جحظة ذات يوم يعظ عبادة المخنث، فقال له عبادة: مخنث مسلم مقر، خير من زنديق فاجر مصر.
قال أبو العيناء: قلت لمديني شكا سوء الحال إلي: أبشر فإن الله قد رزقك الإسلام والعافية، قال: أجل، ولكن بينهما جوع يقلقل الكبد.
قال المبرد: كان في أخلاق الحسن بن رجاء شراسة وفي كفه ضيق، فكتبت إليه: الناس أعز الله الأمير رجلان: حر وعبد، فثمن الحر الإكرام، وثمن العبد الإنعام. فأصلحه الله بهذا القول لي ولغيري مدة، ثم رجع إلى طبعه.
قال المبرد: إذا قال الرجل شعراً أو وضع كتاباً استهدف، فإن أحسن استشرف، وإن أساء استقذف.
وذكر أبو العباس يوماً النحو فقال: هو عيار الأشياء، وحلي الألسن، وجلاء الأسماع.(6/50)
وقال المبرد: أحسن المراثي ما خلط مدحاً يتفجع، واشتكاء بفضيلة، لأنه يجمع إلى التشكي الموجع مدحاً، والمدح الباذخ اعتباراً، فإذا وقع نظم ذلك بكلام صحيح ولهجة معربة ونظم غير متفاوت، فهو الغاية من كلام المخلوقين.
قال اللحياني: العرب تقول: فلان نادم سادم، وندمان سدمان، والمرأة ندمى سدمى، وقوم ندامى سدامى، والسادم: المهموم.
وقال بعضهم: الحزين وحيد محيد؛ وسليخ مليخ: الذي لا طعم له وأنشد: المتقارب
سليخ مليخ كلحم الحوار ... فلا أنت حلو ولا أنت مر
وفيه سلاخة وملاخة؛ ويقال مليه سليه.
قال: ويقال: بخ بخ وبه به إذا عظمت إنساناً، وعابس كابس؛ وحكي عن أعرابي: ما تصنع في ما كنك وسواك وغطاك وأرغمك وأدغمك؛ ويقال: رغماً دغماً شنغماً؛ ويقال: فعلت ذلك عن رغمه وشنغمه، ومعناه كله واحد؛ ويقال: إنه لفظ بظ؛ ويقال: له من فرقه أصيص وكصيص، أي انقباض وذعر؛ ويقال: يوم عك أك إذا كان شديد الحر، وليلة عكة أكة، وقد عكت تعك عكة، والعكة شدة الحر مع لثق واحتباس ريح؛ وهو لك أبداً سرمداً؛ وأنه لشكس لكس، أي عسر، ويقال للخب الخبيث: إنه لسملع هملع، وهو من نعت الذئب. هكذا قاله اللحياني.(6/51)
وأنشد في كتاب الشدة: الطويل
ونوم كحسو الطير نازعت صحبتي ... على شعب الأكوار بين الحوارك
وشعث يشجون الفلا في رؤوسه ... إذا حولت أم النجوم الشوابك
إذا رجعوا وهناً كست حيث موتت ... من الجهد أنفاس الرياح الحواشك
طعنت بهم أثباج ليل تخدرت ... به القور يثني زمل القوم حالك
قال إبراهيم الخواص: العارف لا يكدره شيء، ويصفو به كدر كل شيء.
قال أبو حمزة: رأيت أبا جعفر الحداد في البادية، وقد انكسر ساقه وهو يتثنى ويجره فقلت له: جر البلاء جر، فإن البلاء ممدود، فالتفت إلي وقال: إنما تحمل بلاياه مطاياه.
وقال عيسى بن مريم عليه السلام: طوبى لمن ترك شهوة حاضرة ليوم لم يره.(6/52)
هلال بن العلاء: الطويل
تحمل إذا ما الدهر أولاك غلظة ... فإن الغنى في النفس لا في التمول
يزين لئيم القوم كثرة ماله ... وما زين الأخيار مثل التجمل
آخر: الرجز
تطاول الليل على من لم ينم ... واحتمت العين احتمام ذي السقم
لبشار: الرمل
لم يطل ليلي ولكن لم أنم ... ونفى عني الكرى طيف ألم
الجهار: التراب الدقيق، والمسحول أيضاً. والعشار: جمع عشراء، وهي الناقة التي قد مضى لها عشرة أشهر من لقاحها، والعشر: ضرب من الشجر، والعشر: الإبل تبقى تسعة أيام لا تسقى ثم ترد اليوم العاشر.
وأنشد أيضاً فيه: الكامل(6/53)
أجنوب لو أبصرتني وفوارسي ... بالشعب حين تبادر الأشرار
سعة الطريق مخافة أن يهلكوا ... والخيل تتبعهم وهم فرار
حاشا الغلام المازني فإنه ... يوم الكريهة خلفهم كرار
حوس الفؤاد إذا الكماة تقارعوا ... لا طائش رعش ولا خوار
وكذاك كان أبوه في أعصاره ... يحمي إذا ما ضيع الإدبار
ويكر خلف الموجفين إذا دعوا ... كر المنيح أعاده الأيسار
أخاذ ألوية الحفاظ بحقها ... وبه يكون الورد والإصدار
في كل غمرة مأزق يصلى بها ال ... فرسان لا كشف ولا أغمار
يدعون سواراً إذا احمر القنا ... ولكل يوم عظيمة سوار
فيجيب أروع في اللقاء بخيله ... يحمى المضاف وتدرك الأوتار
حامي الحقيقة بالتراث مطلب ... للموت تحت لوائه صبار
إذ لا يزال مقلص عبل الشوى ... بجبينه ولبانه آثار
يدمين من وقع الأسنة والقنا ... وعلى فوارسها الكرام وقار
في فيلق لجب يشب ضرامه ... زرق الأسنة والقنا الخطار
والمعلمون على شوازب ضمر ... قد لاحها التعداء والتكرار
شبه السيوف تسل من أغمادها ... لا يجبنون ولا هم غدار(6/54)
ورثوا المكارم كابراً عن كابر ... وإليهم بالصالحات يشار
قوم بهم منع الإله حماءه ... وبهم على الملك الغشوم يجار
هذه أبيات قرئت على السيرافي وأنا أسمع، من كتاب الشدة، ومد الحمى، وهو عند أصحابنا مقصور، والشعر عربي عليه فجاجة المحرمين وسيما العنجهيين، ولا يطرد على مثله اعتراض، بل الواجب أن يقتدي به ويرجع إليه؛ وفي الأبيات كلمات غريبة تقتضي التفسير، ولكن أكره التثقيل والتطويل، فإن الكتاب قد أسأم القارئ وأمل الناظر وخيب الطالب ومنع جانبه المستنسخ، والرأي فيما هذا حاله التخفيف والاسترسال، والأخذ بما أمكن في الحال، وعلى ذلك قد جرينا، وإليه انتهينا، والله المعين.
قال أبو العيناء في رجلين فسد ما بينهما: تنازعا ثوب العقوق حتى صدعاه صدع الزجاجة ما لها من جابر.
قال: وقيل لأعرابي وهو على ركية ماء ملح: كيف هذا الماء؟ فقال: يخطئ الفؤاد ويصيب الأست.
قيل لأعرابي: ما تقول في الجري؟ قال: تمرة وسنانة غراء الطرف، صفراء السائر، عليها مثلها من الزبد أحب إلي منه، وما أحرمه.
قال أعرابي: بأبي وأمي رسول رب العالمين، ختمت به الدنيا وفتحت الآخرة.
قال يوسف بن أسباط لعلي النسائي: يا أبا الحسن، أتدري لم(6/55)
اتخذ الله إبراهيم خليلاً؟ قال: لا، قال: قال الله تعالى: يا إبراهيم تدري لم اتخذتك خليلاً قال: لا، قال: لأنك تأخذ وتعطي.
قيل لأعرابي: لا أقل من الرجاء، قال: بلى والله، اليأس الصريح.
قال بعض أهل اللغة: المنسر: ما بين الأربعين إلى السبعين، والرعلة: ما بين السبعين إلى المائة، والمقنب: من المائة إلى المائتين، والخميس: الخمسمائة، والفيلق: الألف، والجحفل: أربعة آلاف.
شاعر: الهزج
إذا ما كنت ذا مال ... ولم تبن به مجدا
ولم تحي به ذكراً ... ولم تور به زندا
ولم تحرز به أجراً ... ولم تكسب به حمدا
فإن شئت فكن كلباً ... وإن شئت فكن قردا
وإن شئت فخنزيراً ... ترى أسنانه دردا
وإن شئت فكن هزلاً ... وإن شئت فكن جداً
وإن شئت فكن سلحاً ... إلى مخرأة يهدي
قال ابن عمار: تذاكرنا ضيق المنازل، فقال الجماز: كنا على نبيذ لنا، فكان أحدنا إذا دخل الكنيف وجاءه القدح مد يده إلى الساقي فناوله إياه.(6/56)
قال الفزاري: رأيت مجنوناً يسوي رأس سكران ويقول: توبوا، والله لا أفلحت أبداً.
دخل لص دار قوم فلم يجد فيها شيئاً إلا دواة، فكتب على الحائط: عز علي فقركم وغناي.
لبعض الأشراف يصف كتاباً ورد عليه: الخفيف
صدف شق عن لآل ودر ... أم كتاب قد فض عن نظم شعر
وقواف مقومات لدى الأل ... باب موزونة بقسطاس فكر
أنشد لابن النقاش: الرجز
قلت لها لا تكثري ... خذي فؤادي أو ذري
حبك ما فارقني ... في سفري أو حضري
فليت شعري ما الذي ... عندك لي قالت حري
قلت: فهاتيه إذاً ... قالت: نعم في السحر
فلم أزل في ليلتي ... مغتبطاً بالنظر
حر كبير أملس ... في حسن وجه الخزر
مشاكل منظره ... لما أتى في الخبر
كأنه الأرنب في ... مجثمه للكبر
لم تر عيني مثله ... إلا حر أم البحتري
قال أعرابي لرجل: كن حلو الصبر عند مر النازلة.(6/57)
سمعت أبا حامد يقول: قرأ عبد الله بن أحمد بن حنبل في الصلاة: اقرأ باسم ربك الذي خلق، فقيل له: أنت وأبوك على طرفي نقيض، زعم أبوك أن القرآن ليس بمخلوق، وأنت تزعم أن الرب مخلوق.
وحكى أيضاً أن المحاملي المحدث قرأ: وفاكهة وإباً، فقيل له: الألف مفتوحة، فقال: هو في كتابي مضبوط.
حكي أن ابن أبي حاتم الرازي قرأ: فصيام ثلاثة أيام في الحج وتسعة إذا رجعتم تلك عشرة كاملة، فقيل: ما أقل بصرك بالحساب.
قال أعرابي: اجتناب أفعاله العامة من المروءة التامة.
نظر مزبد إلى امرأته تصعد في درجة، فقال لها: أنت طالق إن صعدت أو وقفت أو نزلت، فرمت بنفسها من حيث بلغت فقال: فداك أبي وأمي، إن مات مالك احتاج إليك أهل المدينة في أحكامهم.
وأنشد في سعد صاحب عبيد الله: الكامل
يا سعد إنك قد خدمت ثلاثة ... كل عليه منك وسم لائح
وبدأت تخدم رابعاً لتبيره ... رفقاً به فالشيخ شيخ صالح(6/58)
يا حاجب الوزراء إنك عندهم ... سعد ولكن أنت سعد الذابح
قال ابن أبي حية: كان عندنا شيخ من الشيعة يتأله، فرأى ابنه يوماً وقد أدخل غلاماً ليعبث به فقال: ما هذا يا فاسق؟ قال: إنه ناصي، قال: فادخل عليه ابن الفاجرة.
دعا محمد المخلوع عبد الله بن أبي عفان ليصطبح فأبطأ عنه، فلما جاء قال: أظنك أكلت؟ قال: لا والله، قال: أتصدق؟ قال: نعم يا أمير المؤمنين، فدعا بحكاك فحك أضراسه السفلى، فلما ذهب ليحك العليا قال: يا أمير المؤمنين دعها لغضبة أخرى.
قال أبو مسعود الكسائي: دخلت طاقات العلز فوطئت في شيء حار، فمسسته فإذا هو لين، فشممته فإذا هو منتن، فذقته فإذا هو مر، فنظرت إليه في السراج فإذا هو أصفر، فأريته أبا الشيص فإذا هو خرا، وأنا لا أعرفه.
قال أهل اللغة: التمتمة: الترديد في التاء، والفأفاة: في الفاء، والعقلة: التواء اللسان عند إرادة الكلام، والحبسة: تعذر الكلام، واللفف: إدخال حرف على حرف، والرتة: كالرتج يمنع منه، واللكنة: اللغة الأعجمية، واللثغة: عدل حرف إلى حرف.
قال أعرابي: العذر الجميل أحسن من المطل الطويل، فإن(6/59)
أردت الإنعام فأنجح، وإن تعذرت الحاجة فأفصح.
لجعيفران الموسوس: المجتث
يا سيدس وأليفي ... ومؤنسي وحليفي
أيست من كل خير ... عند ابن سعد الوصيفي
خرجت لا بطفيف ... ولا بغير طفيف
إلا طعاماً يسيراً ... خلفته في الكنيف
أبو العنبس: الهزج
أنا أفديك من بطن ... وثلثاك حر تحتي
وشفران غليظان ... قويان على النحت
أنا أدفع من فوق ... وهي تدفع من تحت
أعرابي:
جارية إحدى بنات الفرس ... تحمل معشوقاً وطيء الجس
يطلى بمسك أذفر وورس ... أولجت فيه أعجراً كالقلس
يشبه في العين بني عرس
أعرابي: الرجز
جارية من شعب ذي رعين ... قد خرجت من أهلها بعيني(6/60)
يا قوم خلوا بينها وبيني ... أشد ما خلي بين اثنين
آخر: الرجز
جارية من مالك بن مالك ... عزت عن الحسن ولم تشارك
ويحك يا أختي لم بدا لك ... إن تفعلي الخير فقد أنى لك
والله ما أمدح من نوالك ... ولا عطاء من جزيل مالك
بيدك اليمنة ولا شمالك ... إلا امتلاء العين من جمالك
ويلي عليك وعلى أمثالك
أعرابي: الرجز
جارية إحدى بنات الحيره ... ترفل بالعجيزة الكبيره
تأتي الذي تأتيه بالبصيره ... بالركب الوافر ذي الوثيره
تربو لدى النائك كالخميره ... طيبة الخلوة والسريره
تنبأ رجل أيام المأمون فقال: أنا أحمد النبي، فحمل إليه فقال له: أمظلوم أنت فتنصف؟ فقال له: ظلمت في ضيعتي، فتقدم بإنصافه، ثم قال: ما تقول؟ قال: أنا أحمد النبي، فهل تذمه أنت؟ سئل إبراهيم النخعي عن رجل يحيل صاحبه في حقه على رجل آخر، فقال، قال شريح: هو كابن الظئرين يرضع من أيهما شاء.
أتى رجل إلى علي بن أبي طالب رضوان الله عليه فقال: إن هذا زعم أنه احتلم على أمي، قال: أقمه في الشمس واضرب ظله.(6/61)
وسئل الشعبي عن رجل مر بغنم فعقره كلبها فقال: إن كان هو الداخل على الغنم فلا ضمان على صاحب الغنم، وإن لم يكن داخلاً عليها فعقره الكلب فصاحب الكلب ضامن.
أسماء مكة: مكة وبكة والنساسة وأم رحم وأم القرى ومعاد والحاطمة؛ ومن أسماء المدينة: طيبة ويثرب.
قيل: العلم يمنح ممتهن نفسه في طلبه صبابة لا إذالة معها، ويصفيه نعمة لا إحالة لها.
قال اللحياني: ويقال إنه أحمق بلغ ملغ - بالكسر فيهما جميعاً، والملغ النذل؛ وإنه لمعفت ملفت إذا كان يعفت كل شيء ويلفته أي يدقه؛ وإنه لسغل وغل، وساغل واغل بين السغولة والوغولة؛ ويقال: ما عنده تعريج على أصحابه ولا تعريج أي إقامة؛ وإنه حقير نقير، وحقر نقر؛ وإنه لعفريت نفريت، وعفرية نفرية.
ويقال: تركتهم في حيص بيص وكصيصة الظبي، وفي حيص بيص أي تركتهم في ضيق، وحكي: تركتهم في حيص بيص؛ وكصيصة الظبي وكصيصه: موضعه الذي يكون فيه.
قال ملك من ملوك الأعاجم: قد خفت أن يكون المظلوم يحجب عني، فجعل لبعض بيوته باباً إلى الطريق، ثم نادى مناديه: من ظلم فليقف حيال هذا الباب إلى الطريق مرة في كل يوم، فمن رآه واقفاً بحياله دعاه فنظر في أمره؛ وكان ذلك الباب يسمى: درسيو ميدان.(6/62)
قال أنوشروان: قد خفت أن يحجب عني المظلوم، فعلق على أقرب البيوت إلى بيته ستراً، وعلق عليه الأجراس، ونادى مناديه: من ظلم فليحرك هذا الستر حتى أسمع صوت الأجراس فأدعو به.
قال يعقوب: أغرت على العدو إغارة وغارة، ومثلها: أجبته إجابة وجابة، وأجرته أجيره إجاره وجاره، وأعرته عارة وإعارة، وأطفته إطافة وطافة، وأطعته إطاعة وطاعة.
شاعر: الوافر
أحن إليكم إن غبت عنكم ... وما أنا إن دنوت بمستريح
وآتيكم على علم بأني ... أؤوب بحسرة القلب القريح
قال عبد الصمد بن المعذل: هذه القصيدة مما ظلم صاحبها وأخمل ذكره، وصيرها شاذة لا يعرف قائلها، ولولا كراهتي ظلم الأدب لادعيتها، وهي: الكامل
ولقد قضيت من المدامة والصبا ... وطراً ولاعبت الغزال الأكحلا
ومججت في فيه العقار ومجه ... في في ثم غمزته فتدللا
وأتيت أخرى فانثني متمايلاً ... فلثمت خداً وارتشفت مقبلاً
وأباحني من ريقه بلسانه ... عذباً يراح له الفؤاد معسلا
ولويت معصمه فصد بوجهه ... خجلاً ومال وساءني أن يخجلا
كمطوقين تدانيا فتقابلا ... حتى إذا خافا الأنيس تزيلا(6/63)
فعففت عنه وقد قدرت ولم أزل ... آتى الأعف من الأمور الأجملا
ولقد أروح إلى الندامى لاحفاً ... للأرض هداب الإزار مرجلا
ولقد أنازعها على علاتها ... متراخياً سبط البنان مرفلا
مستهلكاً للمال في لذاته ... يمضي للذته ويعصي العذلا
وإذا لحاه العاذلون وأكثروا ... ولى وقال رؤوسكم والجندلا
عاطيته مما تعتق بابل ... صهباء أرخت عظمه والمفصلا
جريالة تحذي اللسان كأنما ... ذرت مرارتها عليها الفلفلا
طبخت بنار الشعريين ومسها ... برد الشمال فباخ منها ما علا
ومضت لها حجج فمدت دونها ... ستراً بنته العنكبوت مهلهلا
حتى إذا فضت تضوع ريحها ... وكأن تفاحاً بها وسفرجلا
وكأن نكهتها إذا هي صفقت ... مسك يخالط عنبراً وقرنفلا
طابت وأدمنها فأرخت طرفه ... فيخال أحول وهو ليس بأحولا
وأقول: ها خذها إليك وعاطني ... فيقول: هات وكان قبل يقول: لا
ما زلت أعدل بالزجاجة ميله ... حتى تقوم ميله فتعدلا
وإذا الزجاجة عقدت من صعبه ... ناولته أخرى بها فتحللا
داويته منها بها فشفيته ... وشحذت منه بالأخير الأولا
وجرت مجاريها الشمول فسهلت ... من طبعه ما خفت أن لا يسهلا
فكأنه والتاج فوق جبينه ... قمر تراءته العيون مكللا(6/64)
ولقد شربت بكاسها وبطاسها ... وعدلت بالقاقوزنين القنقلا
وشفيت منها واشتفيت ولم أدع ... في لذة لي بعدها متعللا
يا صاحبي قفا نحي المنزلا ... وتلبثا لي ساعة لا تعجلا
إني تذكرني المنازل أهلها ... فيشوقني ألا أعوج فأسألا
قال القاسم بن عبد الرحمن: اشترى رجل من رجل شاة فوجدها تأكل الذبان، فخاصمه إلى شريح فقال شريح: لبن طيب وعلف مجان.
وقال الحسن البصري: ما أحرزت أم الولد في حياة سيدها فهو لها.
قال الشعبي: من ربط دابة على طريق من طرق المسلمين فهو ضامن.
قال قتادة في الطبيب إذا بط فقتل: هو ضامن إذا أخذ أجراً.
قال حمزة الزيات عن حمران بن أعين: إن رجلاً من أهل(6/65)
البادية أتى النبي صلى الله عليه وسلم فقال: السلام عليه يا نبيء الله، وهمز، فقال النبي صلى الله عليه وسلم: لست بنبيء الله ولكن نبي الله.
قال بعض العلماء: أفما ترى إلى إنكار رسول الله صلى الله عليه وسلم الهمز، لأنه لم يجعله من أنبأتك بالأمر، ولا يجوز أن يكون ذهب إلى ترك الحجازيين للهمز، لأنه لو ذهب إلى ذلك كان نبي الله إذا أعطى الحرف حقه، ونبييء الله إذا خفف، فكيف يقول: لست بنبيء الله، وقوله الحق.
قال الأصمعي: سمعت مولى لآل عمر بن الخطاب يقول: أخذ عبد الملك رجلاً كان يرى رأي الخوارج فقال: ألست القائل: الطويل
ومنا سويد والبطين وقعنب ... ومنا أمير المؤمنين شبيب
فقال الرجل: إنما قلت: ومنا - أمير المؤمنين - شبيب - بالنصب - أي يا أمير المؤمنين، فخلى سبيله؛ قال ابن قتيبة: أما ترى تيقظه ونقله الكلام بالإعراب عن سبيل هلكته إلى سبيل تجاته؟ وهل يجوز لذي تمييز ولب أن يقول إن هذا لا يعرف المعنى الذي فرق بين الإعرابين؟ وبلغني أن أعرابياً سمع مؤذناً يقول: أشهد أن محمداً رسول الله - بالنصب -، فقال: ويحك! يفعل ماذا؟ لأنه إذا رفع كان خبراً، وإذا نصب كان وصفاً فاحتاج الكلام إلى خبر، قال: ومثل هذا في الكلام الذي يتم وينقص بالإعراب قولك: كان عبد الله أخانا، هذا كلام تام، فإنك رفعت الأخ نقص الكلام فاحتاج إلى الخبر.(6/66)
وأم الحجاج قوماً فقرأ: " والعاديات ضبحاً " العاديات: 1، فقال في آخرها " أنَّ ربَّهم " - بالنصب - ثم تنبه على اللام في لخبير، وأن إن قبلها لا تكون إلا مكسورة فحذف اللام فقال: خبير، فكان نقص الكلام أسهل عليه من اللحن.
قال رجل لأعرابي: كيف أهلك؟ فقال الأعرابي: صلباً، ظن أنه سأل عن هلكته كيف تكون، وإنما سأله عن أهله.
قال: وهذا وأشباهه يدلك على معرفة العرب بالمعاني التي اختلف لها الإعراب، وتلك المعاني هي العلل.
وقالت بنت لأبي الأسود لأبيها: ما أطيب الرطب؟ فقال: جنس كذا، أرادت التعجب وذهب هو إلى الاستفهام.
فأما الرفع والنصب والخفض والهمز والإدغام والإمالة وأشباه ذلك فألقاب وضعها النحويون للمتعلمين من العجم والمنطيقيين ليقربوا بها عليهم البعيد ويجمعوا الشتيت، فإذا قال المعلم للمتعلم: حركة كذا رفع، وكل فاعل رفع، وحركة كذا نصب، وكل مفعول به نصب، وحركة كذا جر، وكل مضاف مجرور، وكذا ظرف، والظرف منصوب، وكذا حال، والحال منصوب، كفاه بهذه الجمل على كثرته واعتبار بعضه ببعض؛ وأما العرب فإنها لا تعرف مواضع هذه الألقاب: قيل لأعرابي: أتهمز إسرائيل؟ قال: إني إذن لرجل سوء.(6/67)
وقيل لآخر: أتجر فلسطين؟ قال: إني إذن لقوي.
وقيل لآخر: أتهمز الفارة؟ قال: الهرة تهمزها.
فكلاهما عرف موضع الهمز، إلا أنه لم يعلم الموضع الذي وضعه النحويون.
ولم يؤت المبطلون للعلل في غلطهم على العرب إلا من جهة الألقاب، لأنهم رأوا التحويين يقولون: رفعت العرب كذا بكذا، ورأوا العرب لا تعرف الرفع ولا النصب ولا الجر، فقضوا عليهم بالكذب وعلى عللهم بالبطلان، ولو أنعموا النظر لميزوا بين المعنيين، ومثل هذا كمن يحيل على العرب بالاستدلال من غير سماع منها لاشتقاق في الجوارح أنها اليدان والرجلان، لأن الاجتراح الاكتساب، وهي الكواسب، وكذلك الجراح في البدن هي الجنايات؛ وتقول في جلده الحد إنه إصابة الجلد بالضرب، لما سمعنا العرب تقول: رأسه وبطنه، قلنا كذا جلده، أي أصاب جلده.
قال بعض السلف: إذا عشت عيش السفهاء ومت موت الجهال، فماذا ينفعني ما جمعت من غرائب العلم؟ مدح أعرابي قوماً فقال: أدبتهم الحكمة، وأحكمتهم التجارب، ولم تغرهم السلامة المنطوية على الهلكة، ورحل عنهم التسويف الذي قطع به الناس مسافة آجالهم، فأحسنوا المقال، وشفعوه بالفعال.(6/68)
دخل أبو حفص الكرماني على المأمون فقال: يا أمير المؤمنين، أتأذن لي في المداعبة؟ فقال: وهل العيش إلا فيها، قال: يا أمير المؤمنين، ظلمتني وظلمت غسان بن عباد، قال: ويلك، وكيف ذلك؟ قال: رفعت غسان فوق قدره، ووضعتني دون قدري، إلا أنك لغسان أشد ظلماً، قال: وكيف؟ قال: لأنك أقمته مقام هزؤ وأقمتني مقام رحمة، فقال المأمون: قاتلك الله ما أهجاك.
قيل لأعرابي: ما وقفك ها هنا؟ قال: وقفت مع أخ لي يقول بلا علم، ويأخذ بلا شكر، ويرد حشمة.
قال الأصمعي: وصف رجل طعاماً علمه، فقال له أعرابي: هل دعوت عليه أحداً من جيرانك؟ قال: لا، قال: فهل أطعمت يتيماً؟ قال: لا، قال: فجعله الله في بطنك حشاً وقذاذاً.
قال عدي بن حاتم لابن أقيصر: كيف ترى فرسي هذا؟ قال: ما أرى به بأساً إلا انه يعثر، قال: وما يدريك؟ قال: شعرته ميتة لم ينضجها الرحم، فكان كما قال.
قال أبو حاتم: قيل لميمون بن مهران: إن رقية امرأة هشام ماتت فأعتقت كل مملوك لها، قال ميمون: يعصون الله مرتين، يتجملون به(6/69)
وهو في أيديهم بغير حق، فإذا صار لغيرهم أسرفوا فيه.
وأنشد: البسيط
عندي لراجي من ثنتين واحدة ... رد جميل وإرفاق بما أجد
معجل ذاك أو هذا فلا تعب ... ولا عناء ولا من ولا نكد
قال العتبي: خطب زياد الناس فقال: الأمور جارية بأقدار الله، والناس متصرفون بمشيئة الله، وهم بين متسخط وراض، وكل يجري إلى اجل وكتاب، ويصير إلى ثواب وعقاب، ألا رب مسرور لا نسره، وخائف من ضرنا لا نضره.
قال الرياشي: مدح أعرابي رجلاً فقال: كان يفتح ببياته مغلق الحجة، ويسد على خصمه سواء المحجة، ويقبل من العار وجوهاً مسودة، ويفتح للبر أبواباً منسدة.
أنشد أبو عمرو بن العلاء لنهار بن توسعة: الطويل
أمية يعطيك اللها ما سألته ... وإن أنت لم تسأل أمية أضعفا
ويعطيك ما أعطاك جذلان ضاحكاً ... إذا عبس الكز اليدين وقفقفا
هنيئاً مريئاً جود كف ابن خالد ... إذا الممسك الرعديد أعطى تكلفا
قيل لعلي بن أبي طالب: ما بين الخلج وبين قريش؟ فقال: ما بين جحفلة الحمار وخرطوم الخنزير.(6/70)
قال أبو عثمان النهدي: كان عمر ميزاناً لا يقول هكذا ولا هكذا.
قال الشعبي: دعا عمر حجاماً ليأخذ من شعره، فتنحنح عمر فضرط الحجام، فأعطاه أربعين درهماً.
قال أبو عمران الجوني: جاء يهودي إلى عمر بالشام فقال: يا أمير المؤمنين، أهذا في العدل؟ أخذتم كسبي وأنا قوي، حتى إذا ما كبرت سني، وضعف ركني، تركتموني أهلك ضيعة؟! فقال عمر: ما أنصفناك، ففرض له فريضة وأمر عامله أن شهراً بشهر.
قال ابن عباس: خطب عمر فقال: إياكم والبطنة فإنها مكسلة عن الصلاة مفسدة للجسم مؤدية إلى السقم، وعليكم بالقصد في قوتكم، فإنه أبعد من السرف وأصح للبدن وأقوى على العبادة، وإن العبد لن يهلك حتى يؤثر شهوته على دينه.
ابن المعتز: الوافر
إذا ما المرء خلف أطيبيه ... وأخلق بعد ملبوس جديد
تعذرت الحياة عليه إلا ... حشاشات تردد في الوريد
ويمشي حين يمشي من قريب ... وينظر حين ينظر من بعيد
قال ابن المعتز: ذكرت العراق لمخنث من أهل حمص فقال:(6/71)
لعن الله العراق، لا يشرب ماؤها أو يصلب، ولا يشرب نبيذها أو يضرب.
وقال الصوفي: هي الشميطاء الخرفة، والعجوز المتدللة، والعمياء المكتحلة، والشلاء المختضبة، هواؤها دخان، ونسيمها ضرام، تنقبض فيها أنفس المستغنين، وتصغر فيها أنفس المفضلين، تجارها أسد مفترسون، وصناعها لصوص مختلسون، وهمجها أعفار متسرعون، وجارها حاسد، وهواؤها فاسد.
وقال الصوفي: في عرق أهل بغداد زيت.
لما بنى محمد بن عمران اليزيدي قصره حيال قصر المأمون قيل له: يا أمير المؤمنين باراك وباهاك، فدعاه وقال له: لم بنبت هذا القصر حذائي؟ قال: يا أمير المؤمنين، أحببت أن ترى أثر نعمتك علي غدوة وعشية فجعلتها نصب عينيك، فاستحسن قوله وأجزل عطيته.
لما بنى الحجاج قصره قال له رستم الدهقان: اكسه وحله، قال: بماذا؟ قال: اكسه بالجص وحله بالنقش، ففعل.
وقال الحجاج لإسماعيل بن الأشعث، وكان يحمق: كيف ترى قصري؟ قال: أرى قصراً أستعظم المؤونة على من أراد هدمه، قال: قبحك الله، ويلك، ما خالف بك إلى ذكر الهدم؟! قال أعرابي: أعطت الدنيا ثم استرجعت، والدنيا لئيمة الاقتضاء.
قال عبد الله ابن المعتز: قال الجاحظ عن بعض أصدقائه،(6/72)
قال: رأيت لبعض الملوك تختين من جلدتي حنش، قال: ورأيت في زمان أبي حباباً يمنعني صباي في ذلك الوقت من أن أحكم لطولها بعشرين ذراعاً، وقد قاربتها في ظني، وكنت أراها في صحن الكامل ملقاة قد أمنوا انسيابها وضياعها من كبرها، ورأيت عناقاً لها شهر ولها ضرع تحتلب، ورأيت شظية من ضرس يكون فيها خمسة أرطال.
قال ابن المعتز: كتب إلي القاسم بن أحمد الكاتب رقعة يسألني فيها أن أبعث له بسنور: تعمد أن تكون من الإناث العفيفات عن الأقذار، مساورة فراخ الأطيار، وكشف القدور، وسوء الآثار فيما يحضر من الطعام، وبلاحظ من الالتقام، بمداومة الصفاء والاضطرام، وحرصاً على الظفر بما يظهر، والاحتواء على ما يدخر.
قال عبد الله بن المعتز: أخبرني بعض الكتاب أن أبا العباس ابن الفرات أعلمه أن قيم الفيلة بسر من رأى أخبره أن الفيل يأكل أربعمائة وخمسين رطلاً ويشرب ألفاً وخمسمائة رطلاً من الماء والنبيذ.
قال، وقال الصوفي: ما في الرؤيا أصح من الجنابة.
قال عبد الله: كتب ابن المهدي لأبي يعقوب الخريمي في الشطرنج: الوافر
وخيل قد رأيت إزاء خيل ... تساقي بينها كأس الذباح
بميمنة وميسرة وقلب ... كتعبئة الكتائب للنطاح
إذا ما قتلوا نشروا وعادوا ... صحاحاً لم يصابوا بالجراح
بغير عداوة كانت قديماً ... ولكن لتلذذ والمزاح(6/73)
وقال عبد الله بخطه، قال رجل لعلي بن أبي طالب عليه السلام: متى أضرب حماري؟ قال: إذا لم يذهب في حاجتك كما ينصرف إلى البيت.
قال بعض ولاة الحجاج: إن رأى الأمير أن يستهديني ما شاء فليفعل، قال أستهديك بغلة على شرطي، قال: وما شرطك؟ قال: بغلة قصير ثفرها، طويل عنانها، همها أمامها، وسوطها لجامها، ما تستبين منها الغفلة، ولا تهز لها الركبة.
العتابي: البسيط
طاف الخيال بنا ليلاً فحيانا ... أهلاً به من ملم زار عجلانا
ما ضر زائرنا المهدي تحيته ... في النوم إذ زارنا لو زار يقظانا
أنى اهتدى وسواد الليل معتكر ... على تباعد مسراه ومسرانا
إن الأماني قد خيلن لي سكناً ... ردت تحيته قلبي كما كانا
حتى إذا هو ولى وانتبهت له ... هاجت زيارته شوقاً وأحزانا
قال رقبة بن مصقلة: ما رأيت مثل هؤلاء الذين يتكئون في المسجد، فإذا حضرت الصلاة قال أحدهم: ما نمت، وقد خري.
قال عبد الله بخطه، قال علي بن محمد بن نصر: الوافر
وكان خيالها يشفي سقاما ... فضنت بالخيال على الخيال(6/74)
وقال التمار: الوافر
قطعت بها تنائف كل سهب ... وقد قبض الكرى مهج النيام
وقال، قال بعض الظرفاء: للنبيذ حدان: حد لا هم فيه، وحد لا عقل معه، فعليك بالأول واتق الثاني.
وقال ابن المعتز، قال الصوفي وفي يده قدح دو شاب: هذا الليل إذا عسعس؛ وأومأ بيده إلى قدح مطبوخ، وقال: وذاك الصبح إذا تنفس.
قال: وسألته عن أبي جهل وأبي لهب أيهما خير؟ فقال: كلاهما يواري سوءة أخيه.
قال حماد، قلت لإبراهيم: رجل شرب عشرة أقداح فلم يسكر، فشرب أحد عشر سكر، ما الذي حرم عليه؟ قال: القدح الذي أسكره.
قال عبد الله، أنشد علوي عمرياً: الكامل المجزوء
وإذا طرقت فما حضر ... وإذا دعوت فلا تذر
قال: وذاك مأخوذ من قول علي بن أبي طالب عليه السلام: إذا طرقك إخوانك فلا تدخر عنهم ما في المنزل، ولا تكلف ما وراء الباب.
قال جحظة: دعاني فلان فقدم إلي قلية من سنجاب وقطائف(6/75)
ممقورة، أي قدمت حتى حمضت.
كان بعضهم ينفخ زبد القدح ويقول: إذا شرب هذا اجتمعت منه ضرطه.
وقال بعضهم: ليكن النقل كافياً وإلا أبغض بعضنا بعضاً.
قال، وقال بعض الظرفاء: لا أحب المتبختر إلى المستراح والداعي بالرطل بعد خروجه مه بقليل، فإن ذلك من فعله يخبر بالراحة مما لقي.
قال، وقال بعضهم: إذا جمشت فلا تنهب مثل المجنون، ولكن لسع وطر.
وقال آخر: أحب المتبختر في السمط.
قال، وقيل لبعضهم: ألا تصلي؟ قال: ألا يكفيني أن أدوس الأرض حتى أنطحها؟! شاعر: الطويل
إذا ما بحثت الناس عن سر أمرهم ... وفتشت عن مكتومهم جاءك الهم
فعاشر على الإجمال كل مصاحب ... بإظهاره خيراً يكون له سلم
ولا تكشفن الدهر عن سر صاحب ... فترجع حرباً أو عدواً له رغم
قال، وكان على فص أبي العتاهية: أبا زند تق، فكان الناس يتأولونه: أنا زنديق؛ واسم أبي العتاهية زند.(6/76)
قال، وقال بعضهم: يجتمع في الفرش الطبري فضيلتان في الصيف: برد جسمه، ومجانسة لونه لون الحبة الخضراء، فالنفس تسكن إليه من جهتين.
قال، وقال الصوفي: في النبيذ الدوشاب في الشمس بستندود.
قال، وقال إسحاق بن إبراهيم الموصلي لسعيد بن وهب: انزل حتى أطعمك طعاماً صرفاً، وأسقيك نبيذاً صرفاً، وأغنيك غناء صرفاً، فأطعمه الكباب، وسقاه نبيذاً صرفاً بغير مزاج، وغناه مرتجلاً.
وقال بعضهم: باب السلامة الاقتصاد.
وقال بعض الموسومين بالبخل: فرحة السكر قلة الاحتشام، وفرحة الخمار قلة الإنفاق.
وقال آخر: من كثرت نفقته كثر ندمه، ومن كثر ندمه قلت دعواته.
قال، وقال الصوفي: من جلس على المائدة فأكثر كلامه غش بطنه.
قال علي بن محمد بن نصر: الخفيف
اطرد الهم بالمدامة واعلم ... أن في الراح راحة للنفوس(6/77)
رب هم أشد من غصص المو ... ت وجدنا دواءه في الكؤوس
وقال أعرابي يحذر قومه وقد صافوا بعض أصحاب السلطان: يا قوم، أحذركم من نشاب معهم في جعاب كأنها نيوب الفيلة، وقسي كأنها العتل، ينزع أحدهم فيها حتى يتفرق شعر إبطه، ثم يرسل نشابة كأنها رشاء متقطع، فما بين أحدكم وبين أن تصدع قلبه منزلة، أو تغلغل في امته حاجز؛ قال: فطاروا والله رعباً قبل اللقاء.
قال العباس بن عبد المطلب يوم حنين: الطويل
وكيف رددت الخيل وهي مغيرة ... بزوراء تعطي في اليدين وتمنع
كأن السهام المرسلات كواكب ... إذا أدبرت عن عجسها وهي تلمع
قال، والعرب تقولك البازي أعجمي، والصقر عربي، والكلاب للصعاليك والفتيان.
قال، وقال أبو حاتم: حدثني فتى من موالي الأنصار قال: بلغني أن عصفوراً كان واقعاً على شجرة، فجاءت حية فصعدت تريده، فلما دنت منه طار وطلب حسكة وجاء بها في منقاره، وأرتقت الحية حتى دنت منه، فلما فتحت فاها ألقى فيها الحسكة، فما زالت تعالجها حتى ماتت.
قال الأصمعي: اتخذ أعرابي كلباً فقيل له: أما علمت أن(6/78)
الملائكة لا تدخل داراً فيها كلب؟ قال: وما أصنع بالملائكة؟ يرون أسراري ويحصون علي.
قال عبد الله، قال بعض الملاح: إن الناس قد مسخوا خنازير، فإذا وجدت كلباً فتمسك به.
وقال: سألت العقيلي كيف تصيدون القطا فقال: ننصب الشباك على الحسي أو الحوض ونطويه ليناً بغير لف حتى يطيع الجاذب، ونجعل تحته عصاً ترفعه، فإذا أخذن الماء جذبنا العصا بحبل في آخرها فوقعت وامتدت أثناء الشباك، فإذا هن يتبحبحن حوله.
قال أبو حاتم: تسمى الرخمة حفصة، وتكنى بأم عجيبة.
قال: وسكن بعض الظرفاء طرفاً من أطراف بلدة كثيرة الخراب، فسمع بعض أهله صوت رخمة، فصاح بها وطردها فقال: لا تنكروا هذا منها، فإنا نحن النازلون عليها، وإنما ينكر صوتها في العمران، فأما الخراب فإن أصواتنا فيه أنكر من صوتها.
قال: وكان بالمدينة رجل من موالي قيس أعرج، وكان مليحاً، فرأى طائراً لبعض موالي هشام بن عروة في القفص فقال: يا أبا المنذر، برئت إلى الله إن كنت رأيت طائراً أملح منه، كأن جناحيه جناحا شاهين، وكأن ذنبه ذنب خطاف، وكأن عينيه عينا غرنوق، وكأن منقاره منقار باز، وإذا هدر(6/79)
تدلى عن حمام، فقال هشام: يسرك أنه لك؟ قال: وددت أنه لي وأن قلفتي مثل المنارة أختن منها كل يوم أنملة.
وصف بعضهم طائراً فقال: كأنما ينظر من جمرتين، ويتنفس من تحت درتين، ترويه الغبة، وتكفيه الحبة، إذا أرسل سموه، وإذا أقبل فدوه.
قال، وحدثني ابن حمدون قال: كنت قدام المتوكل يوماً، فرأى في البستان طواويس قد نشرت، فأراد أن يقول: قد تشوشت هذه الطواويس، فقال: قد تطوست، فقلت أنا: هذه التشاويش، فنظر إلي وسكت، فلما شرب وعمل فيه النبيذ سمعني وأنا أقول سراً وأتبسم: قد تطوست هذه التشاويش فقال: هيه يا ابن حمدون، قد تطوست هذه التشاويش!! ولم يزل يرددها وأكاد أن أموت خوفاً، والفتح يدخل بيني وبينه ويسكنه حتى نسيها وشغل عنها.
انتهى ما حكيناه عن ابن المعتز.
يقال: كان على خاتم أبي نواس: إخوان هذا الزمان دود وورد وزوان.
قال نطاحة: ليس للمضطر اختيار ولا عليه اعتذار.
وقال نطاحة: سلطان العقل على باطن العاقل أشد من سلطان السيف على ظاهر الأحمق.(6/80)
قال أسد بن عمرو: دخل قتادة الكوفة فنزل دار أبي بردة، فخرج عليهم وقال: لا يسألني أحد عن مسألة من الحلال والحرام إلا أجبته، فقام أبو حنيفة فقال: يا أبا الخطاب، ما تقول في رجل غاب عن أهله أعواماً فظنت امرأته أنه قد مات فتزوجت، ثم رجع زوجها الأول وقد ولدت ولداً، فنفاه الأول وادعاه الثاني، فكل واحد منهما قذفها أو قذفها الذي أنكرها، ما جوابها؟ ونظر أبو حنيفة إلى أصحاب قتادة وقال: إن قال فيها برأيه ليخطئن، وإن روى فيها حديثاً ليكذبن، فقال قتادة: ويحك، أوقعت هذه المسألة؟ قال: لا، قال: ولم تسأل عنها؟ قال أبو حنيفة: إنا نستعد للبلاء قبل نزوله، فإذا وقع عرفنا الدخول فيه والخروج منه، فقال قتادة: والله لا حدثتكم بشيء من الحلال والحرام، فسلوني عن التفسير؛ فقام أبو حنيفة فقال: يا أبا الخطاب، ما تقول في قول الله تعالى: " قال الذي عنده علم من الكتاب أنا آتيك به قبل أن يرتد إليك طرفك " النمل: 40 قال: نعم هذا آصف بن برخيا كاتب سليمان، وكان يعلم اسم الله الأعظم، قال: وهل كان يعرف الاسم سليمان؟ قال: لا، قال: أفيجوز أن يكون في زمان نبي من هو أعلم من النبي؟ قال قتادة: والله لا حدثتكم بشيء من التفسير، سلوني عما اختلف فيه العلماء؛ فقام أبو حنيفة فقال: يا أبا الخطاب، أمؤمن أنت؟ قال: أرجو، قال: ولم؟ قال: لقول الله تعالى: " والذي أطمع أن يغفر لي خطيئتي يوم الدين " الشعراء: 82 قال أبو حنيفة: فهلا قلت كما قال إبراهيم حين قال الله تعالى: " أولم تؤمن قال بلى ولكن ليطمئن قلبي "(6/81)
البقرة: 260 فقام قتادة مغضباً، وحلف أن لا يحدثهم بشيء البتة.
وأنشد: الطويل
وبيت خلا من كل خير فناؤه ... فضاق علينا وهو رحب الأماكن
كأنا مع الجدران في جنباته ... دمى في انقطاع الرزق لا في المحاسن
سمعت أبا الجياب يقول: أنا لا اشتهي أنيك غلاماً...... يقول.... نعمة؛ وكان يقول: ما عرفنا الإدخال ببغداد حتى جاءنا الديلم.
قال أبو الغادي: سمعت غلاماً ظريفاً بخراسان يقول: لا تؤاجروا إلا مع الشيخ والغريب: الشيخ يموت، والغريب يغيب.
لمنصور: الطويل
بإصغاء من يهوي إليك بخده ... لتلثمه عند الفراق على رعب
تجاوز لنا عن سالف الذنب منعاً ... وزرنا فقد تبنا من الذنب
وأنشد لأبي علي ابن مقلة: الخفيف
لست ذا ذلة إذا عضني الده ... ر ولا شامخاً إذا واتاني
أنا نار في مرتقى نفس الحا ... سد ماء جار مع الإخوان
وأنشد أبو الفضل ابن العميد: الطويل
فما مغزل ترعى وهاداً خصيبة ... تهامية أجنى بشامها(6/82)
بأحسن لا والركن من أم هاشم ... إذا التثمت أو زل عنها لثامها
لقد خفت نفسي أن تكون شقية ... بحبيك هذا أو يلم حمامها
فيا لك عيناً بالدموع شقية ... ويا لك نفساً مستباناً سقامها
قالت قوادة: عندي والله حر أضيق من قلب البخيل، يعلوه وجه أحسن من العافية، بحلق ابن سريج، وترنم معبد، وتيه ابن عائشة، وتخنيث طويس، أجمع هذا كله في بدن واحد بأصفر سليم، قيل لها: وما أصفر سليم؟ قالت: دينار يومك وليلتك.
قال رجل لجارية: أيري يقرأ على حرك السلام، قالت: حري لا يرد السلام إلا مشافهة.
قال رجل لطبيب: أجد قرقرة وبربرة وجرجرة في بطني، فقال الطبيب: لا بأس عليك، هذا ضراط لم ينضج بعد.
سمعت مخنثاً يشتم آخر ويقول: يا سفل السفل، انظروا يا قوم إلى فمه كأنه فقحة، انظروا إلى عينيه كأنهما خصيتين في است ملاح، يا طاعون يا ملمع، يا أوحش من هول المطلع، يا زحير الحاج، يا خرا الأعلاج، يا مصاص الأوداج، رأين في بطنك ألف خراج.(6/83)
لا تنكر لحناً في خلاله فذاك هو المنقول.
قال عبد الله بن عمرو بن العاصي: من عجائب الدنيا مرآه كانت معلقة بمنارة الإسكندرية، فكان الإنسان يجلس تحتها فيرى من بقسطنطينية وبينهما عرض البحر؛ وفرس من نحاس بأرض الأندلس عليه راكب من نحاس يشير بكفه أن ليس خلفي مسلك، ولم يسلك أحد وراءه إلا هلك؛ ومنارة من نحاس عليها راكب من نحاس بأرض عاد، فإذا كانت الأشهر الحرم هطل منها الماء فيشرب الناس ويسقون نعمهم ويملأون حياضهم، فإذا انقضت الأشهر الحرم انقطع ذلك الماء؛ وشجرة من نحاس عليها سودانية من نحاس بأرض رومية، فإذا كان أوان الزيتون صفر السودانية التي من النحاس فتجيء كل سودانية في اقطار الأرض ومعها ثلاث زيتونات، زيتونة بمنقارها وزيتونتان بين رجليها، وتلقي ذلك على تلك السودانية من النحاس فيأخذه أهل رومية، ويكفيهم سنتهم لأكلهم وسرجهم.
قال المدائني: نزل رجل من الخوارج على أخ له من الخوارج في استتاره من الحجاج، وأراد المنزول عليه شخوصاً إلى بلد لبعض الحاجة فقال لامرأته: يا زرقاء، أوصيك بضيفي هذا خيراً، نفذ لوجهه، فلما عاد بعد شهر قال لها: يا زرقاء كيف رأيت ضيفنا؟ قالت: ما أشغله بالعمى عن كل شيء، وكان الضيف أطبق عينيه فلم ينظر إلى المراة والمنزل إلى أن عاد زوجها.
حلف أبو عباد الكاتب بالطلاق أن يقلع عين كل غلام يحجب(6/84)
من يحبه وقال: حملين على هذه اليمين ما لقيت من شدة حجاب الناس لي بعد موت أبي.
قال بعض السلف: ما لقينا كتيبة فيها علي بن أبي طالب رضي الله عنه إلا أوصى بعضنا إلى بعض.
قال أبو حامد: جلي رجل إلى قوم، فصاح به إنسان من خلفه فقال له: كيف أنت؟ فالتفت فمات، فقيل لابنه: كيف مات أبوك؟ فحكى لهم كيف مات أبوه، فمات هو.
وأنشد: الكامل
حب الأديب على الأديب فريضة ... كمحبة الآباء للولدان
وإذا الأديب مع الأديب تجالساً ... كانا من الآداب في بستان
لا شيء أحسن منهما في مجلس ... يتناثران جواهراً بلسان
لعوف بن محلم في عبد الله بن طاهر، وكان شيخاً كبيراً سلم عليه عبد الله فلم يسمع، فلما أخبر أنشأ يقول: السريع
يا ابن الذي دان له المشرقان ... طراً وقد له المغربان
إن الثمانين وبلغتها ... قد أحوجت سمعي إلى ترجمان
وبدلتني بالشطاط انحنا ... وكنت كالصعدة تحت السنان(6/85)
وقاربت مني خطاً لم تكن ... مقاربات وثنت من عنان
وبدلتني من زماع الفتى ... وهمه هم الجبان الهدان
ولم تدع في لمستمتع ... إلا لساني وبحسبي لسان
أدعو به الله أثني به ... على الأمير المصعبي الهجان
فقرباني بأبي أنتما ... من وطني قبل اصفرار البنان
وقبل منعاي إلى نسوة ... أوطانها حران والرقتان
دخل أبو الهذيل على الواثق، فقال له الواثق: يا أبا الهذيل من الذي يقول: المنسرح
ما مر في صحن قصر أوس ... إلا تسجى له قتيل
فإن يقف فالعيون نصب ... وإن تولى فهن حول
فقال أبو الهذيل: رجل يقال له أبو حيان الدرامي، وهو بصري يقول بإمامة المفضول، وله من كلمة: الطويل
أفضله والله قدمه على ... صحابته بعد النبي المكرم
بلا بغضة والله مني لغيه ... ولكنه أولاهم بالتقدم(6/86)
لأبي الأسد: المنسرح
ليتك أدرتني بواحدة ... تقنعني منك آخر الأبد
تحلف ألا تبرني أبداً ... فإن فيها برداً على كبدي
اشف فؤادي مني فإن به ... علي قرحاً نكأته بيدي
إن كان رزقي إليك فارم به ... في ناظري حية على رصد
قد عشت دهراً وليس يقنعني ... هذا الذي قد كفيت من أحد
وكيف أخطأت لا أصبت ولا ... نهضت من عثرة إلى سدد
لو كنت حراً كما زعمت وقد ... كددتني بالمطال لم أعد
لكنني عدت ثم عدت فإن ... عدت إلى مثل هذه فعد
الآن أيقنت بعد فعلك بي ... أني عبد لأعبد قفد
فصرت من سوء ما رميت به ... أدعي أبا الكلب لا أبا الأسد
آخر: الراجز
يا ناعش الجد إذا الجد عثر ... وجابر العظم إذا العظم انكسر
أنت ربيعي والربيع ينتظر ... وخير أنواء الربيع ما ابتكر(6/87)
قال أبو العيناء، حدثني القحذمي قال، قال خالد بن صفوان: حبس يزيد بن المهلب ابن أخ لي، فصرت إلى بابه أنظم له كلاماً كما تنظم الفتاة عقدها لعيدها، ثم أذن لي، وبين يديه جارية كأنها مهاة وفي يدها مجمرة ذهب، فلما رأيتها سلبت الكلام الذي كنت أعددته، وحضرتني كلمتان فقلت: والله ما رأيت صدأ المغفر ولا عبق العنبر بأحد أليق به منكم، قال: حاجتك؟ قلت: ابن أخي محبوس، قال: يسبقك إلى المنزل، فجئت إلى المنزل وقد سبقني إليه.
قال أبو العيناء، قال محمد بن عباد: دخلت إلى أمير المؤمنين المأمون فجعل يعممني بيده، وجارية على رأسه تبسم، فقال: مم تضحكين؟ فقلت: أنا أخبركم يا أمير المؤمنين، تتعجب من قبحي ومن إكرامك لي، قال: فلا تعجبي، فإن تحت هذه العمة مجداً وكرماً.
قال أبو العيناء، أنشدني السندي: الطويل
وإني لأهوى ثم لا أتبع الهوى ... وأكرم خلاني وفي صدود
وي النفس عن بعض التضرع غلظة ... وفي العين عن بعض البكاء جمود
وأنشد أبو محلم: الرجز(6/88)
قد أغتدي والليل في جريمه
معسكراً في الغر من نجومه
والصبح قد نشم عن أديمه
يدعه بدفتي حيزومه
دع الوصي لحيي يتيمه
فقال: أراد لحيي فحرك، ونشك فلان في الشيء إذا بدأ فيه ولم يتممه، ودفنا الشيء: جانباه، والدعن: الدفع.
سمع أعرابي المغيرة بن شعبة يقولك من زنى تسع زنيات وعمل حسنة واحدة محيت عنه التسع وكتبت له الحسنة، فقال الأعرابي: هلموا إذاً نتجر في الزنا.
قال ابن دريد: يقال: عال الرجل يعيل إذا تبختر في مشيته، قال الشاعر:
عيال بأوصال
وقيل بآصال؛ وعال يعول إذا جار، وأعال يعيل إذا كثر عياله، عال الأمر إذا أثقل، والعالة: شجرة يقطعها الراعي فيطرحها على شجرتين(6/89)
متقاربتين ليكثف ظلها لغنمه، ولفاعل معول، والعويل: تردد البكاء في الجوف، والمعول: الفأس الذي تكسر به الحجارة، وهو مفعل من العول كأنه من الثقل، والمعاول: بطن من العرب ينسب إليهم معول، ومن قال: معولي فقد أخطأ، ويقال: عال يعيل عيلة إذا افتقر.
قال فيلسوف: قل من حاولت استيفاء الحق منه إلا أنكرته، وقل من أنكرته إلا أغضبته، وقل من أغضبته إلا عاداك أو عاديته.
قال الكسائي: أصابت الأعراب مجاعة، فتحولت طائفة منهم من البدو إلى الحضر، فصرت إليهم لأسأل عن أهل بيوتات كنت أعرفهم بالفصاحة، إذ سمعت شيخاً منهم وفي حجره صبي ابن أربع سنين، يزيد أو ينقص، يبكي، فنادى الشيخ: يا كلب، فأجابه صبي خماسي عليه مدرعة شعر قد أخذت من صدره إلى حجزته، وسائر جسده مكشوف، فقال: ها أنا ذا يا أبة، فقال: ما لك أبكيت أخاك؟ فقال: والله ما فعلت، غير أني كنت ماشياً وهو يفوقني إذ بصرت بتميرات مطروحات، فأهويت نحوهن لآهذهن فعازني عليهن فدفعته عنهن، فأقبل إليك باكياً، وقد والله يا أبة أعطيته شطر ما أخذت، ما وترته من ذلك شيئاً، فقال الصبي: كلا والله يا أبة، إنه لباطل ما قال، لكني بصرت بهن قبله، فأهويت لآخذهن، فلطمني لطنة أغطشت منها عيناي حتى، فابتزهن من يدي وحال دون أخذهن، فلطمني لطمة أغطشت منها عيناي حتى اغرورقتا بالدموع، فابتزهن من يدي وحال دون أخذهن، ولا والله يا أبة، وإلا فجعلن لي آخر زاد، إن كنت رزأته أو أرزأني منهن شيئاً؛ فكتبت قول الصبيين وانصرفت.(6/90)
قال يحيى بن زياد: المتقارب
أقول لذي طرب فاتك ... إذا مل ذو النسك من نسكه
دع النسك ويحك لا تبغه ... وعاون أخاك على فتكه
ولا تقع الدهر في صاحب ... وإن أكثروا فيه بل زكه
ولا تبكين على ناسك ... وإن مات ذو طرب فابكه
ونك من وجدت من العالمين ... فإن الندامة في تركه
قال يعقوب: يقال: كلم فلان فلاناً فما أرجعه بشيء: أي سأله فلم يعطه.
فافتخرت جاريتان من العرب بقوسي أبويهما، فقالت الواحدن: قوس أبي طروح مروح تعجل الظبي أن يروح، وقالت الأخرى: قوس أبي كزة لزة تعجل الظبي النقزة؛ هكذا رواه يعقوب وقال: النقزة: القفزة.
كاتب: قل من يضبط في وجهه صفرة الفرق، حمرة الخجل، وإشراق السرور، وكمد الحزن، وسكون البراءة، واضطراب الريبة.
كاتب: قل من أجمع أمراً جليلاً إلا كاد القلق به يبدو في حركاته إلى أن يمضيه؛ فكذلك قلقه في وقت إمضائه كاد يكشف مستوره.
قال يعقوب: خزن لسان الرجل، وخزن الرجل لسانه؛ وقال: العاثي: المفسد، يقال: عاث يعيث، وعثا يعثو، وعثى يعثي.(6/91)
يقال: إن أزدشير ومن تقدمه من ملوك الفرس كانوا لا يثبتون في ديوانهم الطبيب إلا بعد أن يلسعوه أفعى ثم يقال له: إن شفيت نفسك فأنت الطبيب حقاً، وإن مت كانت التجربة عليك لا علينا؛ وكان ملوك الروم إذا اعتل طبيب أسقطوه من يدوانهم وقالوا له: أنت مثلنا؛ فهذا كله من الظلم المبرح والتحكم الفاحش.
وكان بعض ملوك العرب إذا جاءه طبيب قدم إليه مائدة وأمره أ، يركب فيها إذاء لتقويه أبدان المجاهدين، وعلاجاً للمرضى، وتدبيراً للناقهين، وتفكهاً للمترفين، وسبباً ممرضاً وسماً قاتلاً للأعداء، فإذا فعل ذلك كله أثابه وإلا صرفه.
وهذا الملك كان إذا أراد قتل إنسان خبز رغيفاً، فإذا أكله آكل اعتل بعد ثلاثين يوماً، ومات في اليوم العشرين والمائة، سواء، وهذا لا يقدر عليه إلا الماهر بالطب.
حدثني بهذا كله فيروز الطبيب، وكان ظريفاً وكان طويل اللسان كثير الكلام. وسمعت ابن المرزبان الفقيه في علته يقول: ما طالت علي العلة إلا من هذيات فيروز؛ وكان مع ذلك مولعاً بالكيمياء، وزعم انه وقف منه على سر الأسرار، وعلى غنيمة الغنائم، وعلى حقيقة الأمر، وكان يعرف بالتزيد، وقل من طال لسانه وبذؤ لفظه إلا كان مرمياً بالكذب، معروفاً بالخنا، ملوماً على الفحش.(6/92)
وكنت أحب أن أشفي قرمك بالكلام في الكيمياء، وأحكي لك مدار القول على صحته، وغاية ما يمكن في إبطاله أو تحقيقه، ولكن الكتاب قد تهنق في آخره جداً لبقية أنا عاجز عن تتميمها والتلوم عليها، وجمع أطرافها وضم نشرها، وإذا رأيت لذلك وجهاً، ووجدت عليه معونة، وإليه داعياً، فعلت مفيداً ومستفيداً، فحظي فيما أبينه عند الدرس المذاكرة ضعفاً حظ الواقف عليه من المقتدين منه.
نعود الآن إلى حال بالنا في وآية البقية من الكتاب لعل شمله ينتظم، وأمري به يلتئم، فقد غمرني غامره، وأعياني مختلفه، وسد متنفسي شتيته، وعرضني لسهام الطاعنين جملته وتفصيله، والله يأخذ باليد، ويصل كفاية اليوم بالغد، فالرجاء فه قوي، وهو لكل خير أهل، وبكل فضل ملي.
يقال إن بعض الأطباء قال: كان القدح مجهولاً على قديم الدهر إلى أن رأوا كبشاً كان عمي بنزول الماء في عينيه، فقدحته شوكة وهو يرعى فأبصر؛ وكان العلاج بالحقنة مجهولاً إلى أن رأوا طائراً يحقن نفسه بماء البحر فتعلم منه؛ وقال جالينوس: الأفاعي والحيات إذا عشيت أبصارها تطلب أصول الرازيانج وتحك أعينها بها فتبصر؛ ويقال: إن الطبيب الحاذق يشبه الملاح الحاذق في البحر، وحذق الملاح قبل هيجان الريح ما يرى من مخايله، فإن وجد مرسى بادر إليه، وإن منعه عظم اللجة احترز بالرفق.
قال الحسن بن علي قاضي مرو: كان أبو حنيفة من أفطن الناس، وذلك أن رجلاً كان يتجمل بالستر الظاهر والسمت البين، وكان يلبس على ذلك، فقدم رجل فأودعه مالاً خطيراً وخرج حاجاً، فلما قضى نسكه عاد(6/93)
إلى صاحبه وطلب وديعته فجحده، فألح عليه فتمادى، وكاد يهيم الرجل، واستشار ثقة له: كف عنه وصر إلى أبي حنيفة فدواؤك عنده، فانطلق الرجل إليه وخلا به وأعمله شأنه وشرح له قصته، فقال له أبو حنيفة: لا تعلم بها أحداً، وامض راشداً وعد إلي غداً، فلما أمسى أبو حميفة جلس كعادته واختلف الناس إليه، فجعل يتنفس الصعداء كلما سئل عن شيء، فقيل له في ذلك قال: إن هؤلاء - يعني السلطان - قد احتاجوا إلى رجل يعثوبه قاضياً إلى مكان، فقال الناس: اختر من أحببت فما يحضرك إلا نجم، ثم أسبل كمه وخلا بصاحب الوديعة وقال له: أترغب حتى أسميك؟ فذهب يتمنع عليه، فقال له أبو حنيفة: اسكت فإني أبلغ لك ما تريد، فانصرف الرجل مسروراً يظن الظنون بالجاه العريض والحال الحسنة، وصار رب المال إلي أب حنيفة فقال له: امض إلى صاحبك ولا تخبره بما بيننا ولوح بذكري، وكفاك، فمضى صاحب الوديعة إلى الرجل لك وفاه ماله، فصار الرجل إلى أبي حنيفة وأعلمه رجوع المال إليه، فقال: استر عليه، ولما غدا الرجل إلى أبي حنيفة طامعاً في القضاء، نظر إليه أبو حنيفة وقال: إنه قد نظرت في أمرك فرفعت قدرك عن القضاء.
قال بقراط: لا ينبغي أن يقدم أحد بسقي الدواء للتجربة، فإنه ربما ضر قوماً، مثال ذلك ماء الحندقوق فإنه إذا صب على موضع نهش الأفاعي والرتيلا سكن الوجع من ساعته، وإذا صب على موضع لم تنهشه الأفاعي عرض له مثل ما يعرض من نهش الأفاعي، وقد يحتال قوم من الأطباء في سقي ذلك للمفلوج الذي قد يئس من برئه.
وقالوا: الطبيب الحاذق يصير بحذقه السم دواء نافعاً، والجاهل يصير الدواء سماً قاتلاً، مثال ذلك أن الجاهل بالطب إذا أخذ الصندل فسحقه(6/94)
كالكحل ثم طلاه على بدن رجل كثير الحرارة طلياً ثهيناً دخلت تلك الأجزاء الدقيقة في منافس الجسد ومسامه، فتهيج حرارة البدن بما أدخل عليها من برد الصندل. والطبيب الحاذق يأخذ العود الهندي فيسحقه سحقاً جريشاً ثم يطليه على البدن طلياً فيقاً، فيصل افيه من الرطوبة إلى حرارة البدن فيبردها، ويجد الحر سبيلاً إلى الخروج، فتصير حرارة العودة مبردة للبدن بتدبير الطبيب الحاذق؛ قال: ولذلك قيل: لا ينبغي للإنسان أن يسكن بلداً ليس فيه أربعة أشياء: ملك عادل، وماء جار، وطبيب عالم، وواد عظيم.
وقال معبد بن مسلم: الوافر
جزى الله الموالي عن أخيهم ... فكل صحابة لهم جزاء
بما فعلوه إن خيراً فخير ... وإن شراً كما امتثل الحذاء
فما أنصفتم والنصف يرضى ... به الإسلام والرحمن البواء
أردتهم النصيحة من لدني ... فمجوا النصح ثم ثنوا فقاءوا
وقلت فدى لكم عمي وخالي ... فما قبل التودد والإخاء
وةكيف بهم وإن أحسنت قالوا ... اسأت ولو غفرت لهم أساءوا
لجاهلي: الكامل المجزوء
أأمام إن الدهر أه ... لك صرفه إرماً وعادا
وابتز داوداً وأخ ... رج من مساكنه إيادا
وسما فأدرك أسعد ال ... خيرات قد جمع العتادا
البيض والحلق المضا ... عف نسجه وحوى التلادا
وله كتائب يجنبو ... ن الخيل شقرا أو ورادا(6/95)
فسعى لهم والدهر يح ... دث بعد صالحه فسادا
وكأن ذلك لم يكن ... إلا التذكر حين بادا
أبني إن القدر لم ... تفضح أباك ولا الرمادا
أبني كن كأبيك يط ... رق في الملمة أو يغادى
قال أبو الفضل ابن العميد: لكل صباح صبوح، ومع المخض يبدو الزبد، ومن الحبة تنشأ الشجرة؛ ونسبخا إلى العرب.
قال أنس بن مالك، قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: أرأيتم لو كان لأحدكم عسل وله إناءان، أين كان يجعله عسله؟ قالوا: في أنظفهما أو أطهرهما، قال: فكذلك الله تبارك وتعالى، لا يجعل العلم إلا في أنظف القلوب وأحبها إليه.
قال إسماعيل بن أبي أويس: سمعت مالك بن أنس يقول: لم يزل الناس على أن الإيمان قول وعمل حتى نشأ بالعراق مشؤوم يقال له أبو حميفة فابتلي وابتلي الناس به، وأكثر ما ابتلى به أهل خراسان.
قال ابن عمر: إذا جعلت المشرق على يسارك، والمغرب على يمينك، ففيهما بينهما القبلة.(6/96)
قال أبو هريرة: " فإن له معيشة ضنكاً " طه: 124: عذاب القبر.
قال أنس، قال لي النبي صلى الله عليه وسلم: يا بني.
قالت عائشة: كان أحب الشراب إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم الحلو البارد.
قال أنس بن مالك: مر رسول الله صلى الله عليه وسلم بصبيان في المكتب فسلم عليهم.
قال أبو الدرداء، قال النبي عليه السلام: مثل الذي يعتق عند الموت مثل الذي يهدي إذا شبع.
قال أنس، قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: الاقتصاد نصف العيش، وحسن الخلق نصف الدين.
أنشد الآمدي لأعرابي: الرجز
بيضاء في وجنتيها احمرار ... يعيبها جاراتها القصار
هن الليالي وهي النهار(6/97)
قال فيلسوف: محل الملك من رعيته محل الروح من البدن، فالروح تأمل لألم كل عضو من أعضاء البدن، وسائره لا يألم لألم غيره، وفي فساد الروح فساد جميع البدن، وقد يفسد بعض البدن وغيره من سائر البدن ليس بفاسد.
قال فيلسوف: أفضل الناس من كان سخياً شحيحاً، خفيفاً ثقيلاً، جريئاً جباناً، أصم سميعاً، قائلاً عيياً، ضريراً بصيراً؛ يقال: أراد بذلك من كان سخياً بدنياه شحيحاً بدينه، خفيفتً إلى طاعة الله ثقيلاً في معصيته، جريئاً في الحق جباناً عن الباطل، أصم عن الجهل سميعاً للعلم، قائلاً للصواب عيياً بالخطأ، ضريراً في المنكر بصيراً في المعروف.
قال أبو محمد القرشي النحوي، وهو من القدماء، يقال: هي السلاح وهو السلاح، وهي الذراع وهو الذراع، وهي الكراع وهو الكراع، وهي الطباع وهو الطباع، وهي اللسان وهو اللسان، وهي السبيل وهو السبيل، وهو الكلأ وهو الكلأ، وهو السوق وهو السوق، وهو الروح وهو الروح، وهي النخل وهو النخل، وهي النحل، وهو النحل، وهي الأنعام وهو الأنعام، وهي القفا وهو القفا؛ قال الشاعر: الوافر
فما المولى وإن عرضت قفاه ... بأحمل للمحامل من حمار(6/98)
ويقال: هي الشعير وهو الشعير، وهو البر وهو البر، وهي السلم وهوالسلم، وهي الفرس وهو الفرس، وهو الخمر وهو الخمر، ومضى له سن ومضت له سن، وهي الحال وهو الحال، وهي الإزار وهو الإزار، وهو الرداء وهي الرداء، وهو السراويل وهو السروايل، وهو العراق وهي العراق، وهو الشام وهو الشام، وهي العقب وهو العقب، وهو العنق وهي العنق، وهي الدرع وهو الدرع، ودرع المرأة يذكر، وهو السلطان وهي السلطان، وهي السكين وهو السكين، وهي الدلو وهو الدلو، وهي الإبط وهو الإبط، وهي السلم وهو السلم ومعناه الصلح، وهي الوراء وهو الوراء، ويقال فلان وربه فلان، ووريئة تصغير؛ وهي القدام وهو القدام، وهو القمطر وفي القمطر، وهي الطست وهو الطست، وهو الفلك وهل الفلك، وهو الآجر وهي الآجر، وهي البسر وهو البسر، وهو المتن وهي المتن، وفي الصاع والصواع، قال الله تعالى: " قالوا نفقد صواع الملك ولمن جاء به حمل بعير وأنا به زعيم " يوسف: 72، وقال تعالى: " ثم استخرجها من وعاء أخيه " يوسف: 76، وسقط النار يذكر ويؤنث، وهي العنكبوت هو العنكبوت، وهي العاتق وهو العاتق، وهي العجز وهو العجز؛ قال الأصمعي: يقال: عجز المرأة وعجز وعجز وعجز؛ قال: ومثله عضد وعضد وعضد وعضد؛ ويقال هو نمير وهو نمر.
العتبي: الكامل
الصبر بحسن في المواطن كلها ... إلا عليك فإنه مذموم
من كان أغلفه الزمان فقد سطت ... كف علي من الزمان غشوم
حتى بكى لي من رآني رحمة ... إن المصاب بشيبه مرحوم(6/99)
فدع الزمان فليس يعتب عاتباً ... إن الذي لام الزمان ملوم
كان طلحة بن عبد الله بن طاهر ينادم أحمد بن أبي خالد الأحول، فأطال منادمته، وبلغه أن عليه عيلة وديناً فوجه إليه أحمد بن أبي خالد ألف ألف درهم، فحلف الطاهري أن لا يقبلها، فبلغ إبراهيم بن العباس فقال: لله در أحمد متبرعاً، ودر الطاهري متنزهاً.
جرى بين الرشيد وزبيدة حديث نزاهة نفس عمارة بن حمزة فقالت له: ادع به وهب له سبحتي هذه، فإن شراءها خمسون ألف دينار، فإن ردها عرفنا نزاهة نفسه؛ فوجه وراءه فحضر، فحادثه ساعة ورمى بالسبحة إليه فقال: هي ظريفة تصلح لك، فجعلها عمارة بين يديه، فلما قام تركها، فقالت: نسيها، فأتبعوه خادماً بالسبحة فقال للخادم: هي لك، فرجع فقال: وهبها لي عمارة، فما أخذتها من الخادم إلا بألف دينار.
قال جحظة: فقدت مشربة من فضة في دار بعض الرؤساء الجلة، فوجه إلى ابن خامان المنجم فحسب فقال: المشربة سرقت نفسها، فضحك منه فغاظه ذلك فقال: هل في الدار جارية يقال لها فضة؟ فأحضرناها فقال: هذه أخذتها، فسألناها فأقرت، فقال: الفضة أخذت الفضة، وخرج غضبان، فوصل بمال، فحلف بالطلاق أنه لا يقبل شيئاً.
وافتقدت امرأة بعض التجار خاتماً من ياقوت كان يدها، فوجهت إلى أبي معشر، فحسب فقال: الخاتم الله عز وجل أخذه، فتعجب(6/100)
منه، ثم عادت تطلبه فوجدته في أثناء ورق المصحف.
- لهذه - حفظك الله - أخوات قد طال السمر بها، وفي عرض الكتاب ما يستوفي التعجب منك، ويوكل العجب بك، وفيه المختلق وفيه المحقق، وعلم النجوم حق، أعني أن آثار الأسباب العلوية واصلة إلى المواد السفلية لأن بعضها مرتبط ببعض، ولكل واحد منها مفعول فيها، ولكل مؤثر متأثر، والجميع جار على نظامر لا خلل فيه لا دخل عليه، ولكن إدراك خفاياها صعب عسير بل ممتع مستحيل، وذلك أن الأدلة كثية، ويه مع كثرتها مختلفة، ومع اختلافها ملتبسة، مع التباسها خفية، ومع خفائها بعسدة نائية، وطالب حقائقها ذو قوة قصيرة، ينفلت منه في حال تحصيله أضعاف ما يظفر به، فلهذا ما يقل صوابه ويكثر خطاؤه، ولكن الناس لهجون في باب النجوم خاصة برواية ما أصيب فيه وإخفاء ما أخطى به، وبسط العذر فيما عرض له تقصير وإطالة القول فيما صحبه أدنى بيان، لو جمع صواب البارع من أهل الصناعة لما كان إلا مثل صواب الزراق وصاحب الإكران، والمولع بالحدس ومرسل الخاطر نحو الشيء. على أن أصحاب التحصيل منهم يعترفون بأن الغيب لا دليل عليه ولا سبيل بوجه إليه.
وقد كان غلام زحل، وكان شيخ هذا الشأن، وله صواب مدون وخطأ مدفون، وحسن ظاهر، وقبح مستور، وصدق مروي وكذب متأول، قال: إن عضد الدولة سيدخل بخيله ورجله مصر ويطمئن بها مدة ويكون له بها(6/101)
شأن شهير، حدثني بهذا شيخ موثوق به؛ قال، فقلت له: أنا أنا بغير النجوم فأزعم انه لا يكون من هذا قليل ولا كثير. فما مرت الليالي حتى صح حدس هذا الشيخ، وبطل حكم ذلك الشيخ؛ وقد قال أرسطاطا ليس: الناس كلهم يعلمون الغيب، ولكن بعد أن يتم الأمر.
وكان بعض أصحابنا يقول أيضاً في لفظ أحكام النجوم كلاماً طرياً - زعم أنه لو صح علم النجوم وأمكن إدراكه لكان الخلاف في أمر الدين والدنيا يسقط، وذلك أنا مثلاً إذا أردنا أن نعلم أن القرآن مخلوق أو غير مخلوق، أو الباري يرى بالأبصار أو لا يرى، أو الشفاعة حق أو لا، أو عذاب القبر صحيح أم لا، وأبو بكر أفضل أم علي، أو الحجاج يدخل النار أو لا، وهل سفشو مذهب فلان أو لا، يرجع إلى الصناعة، ويستنبط منها الحق من الباطل، واليقين من الشك، وتنفى المكاره بالواجب، ولا يباشر ما يلام فيه ولا يأتي ما يندم عليه، وهكذا إذا أردنا أمر الدنيا في عقد دولة لا تزول، وإقامة دعوة لا تدرس، وبث حال لا تمحى، وتغليب من لنا فيه هوى، وتقديم من له عندنا يد، وتمليك من ننتعش بسلطانه، ونهيش في كنفه، وهذا أمر معجوز عنه، ما يؤمن منه، وقد ضرب دونه الأسداد.
وكان يقول أيضاً: هذا العلم من شرف منصبه، ودقة مذهبه، وبعد مأخذه، عار من الفائدة، خال من العائدة، يبين لك ذلك بمثال أنصبه، ومثل أضربه: اعلم أنك لو قلت لنحوي: ما فائدة علمك بالنحو، وما غاية غرضك فيه؟ لقال: معرفة المعاني، وتجلية ملتبسها، والتوغل في دقائق معاني كلام الله رب العالمين، وكلام المبعوث بالحق إلى الخلق أجميعن، ولولا علمي بالنحو لبطل مراد كثير، وجهل باب كبير، فتقول له: ما أحسن ما توخيت، إنك لسعيد؛ ولو قلت لفقيه: ما منتهى أمرك في الفقه؟ لقال: إن الدين محيط بحلال أو حرام، وواجب ومستحب، وعلة(6/102)
وحكم، وقضاء وفصل، وكل ذلك مقرون بعلم وعمل، ومتى جهلت العلم أفسدت العلم، وعند ذلك ترى اختياره أشد اختيار، ورأيه أثقب رأي؛ وكذلك جواب الطبيب والمهندي، ومن شئت من أصحاب الصنائع المهيأة بالعلم، والعلم الموصول بالعمل؛ وما هكذا المنجم، فإنه إذا وجب عنده باقتران كوكبين، ومناظرة شكلين، واجتماع نحسين أمر، فلا سبيل له إلى اتقائه والهرب منه، إنما عجز عن ذلك لأنه تابع للفلك، وليس الفلك تابعاً له؛ وإذا كان كونه في العالم ضرورياً فصورة كونه تابعة لأصل كونه.
وقد كان بعض المتحذلقين تعسف في هذا المعنى قولاً، وذلك أنه قال: النفس فوق الفلك، وقد أرى الشيء بالحساب على نحو ما، فأعدل عنه بقوة النفس إلى نحو آخر، فأكون منتفعاً بما علمت؛ وهذا كلام لا نور عليه ولا حقيقة له، لأنه إن عدل من جهة إلى جهة فذلك العدول بأثر ظاهر أو علة خافية، وليس له منه أكثر من انقياده من جهة إلى جهة بقائد علوي ظاهر أو خفي، وإن عسر عليه العدول فقد جاء ما أقول من الاضطرار القائم والواجب اللازم.
وكان يقول: الأمور كلها جارية بالقضاء والقدر، فسألته عن معنى القضاء والقدر، فأملى علي ما أنا حاكيه الآن، وإن كنت قد أمللت بما أطلت، وثقلت بما نقلت: زعم أن المرجع من هذين الاسمين في المعنى على التحصيل إنما هو إلى اتساق الأمور واطادها وتتابعها على وجوهها، فإن تعلق بعضها بالاختيار فليس الاختيار أنشاه، ولكن بالاختيار كان منشأه، وقال: ليس العجر أن بالاختيار كان اتساقه، ولكن العجب أنه كان على الاضطرار مساقه.
وقال أيضاً: ومن علم أن العقل قد قسم فاعلاً على الإطلاق، ومنفعلا " ً على الإطلاق، ووسيلة تتشبه بالفاعل فوقه فيفعل، وتتشبه بالمنفعل فينفعل،(6/103)
فكأنها تأخذ من الأول، ويأخذ منها الثاني، وكأنها تقبل من فوقها ويقبل مها ما تحتها، علم أن اطراد هذا الباب لم يدع للاختيار شعبة إلا ما ترك الاضطرار.
وقال أيضاً: ومن الاضطرار أن يكون الامتيار، وليس من الاختيار أن يكون اضطرار، فكأن الاضطرار يوجب الاختيار في كونه اختياراً، وليس الاختيار موجباً للأضرار في كونه اضطرار من سنخ العالم وسوسه، والاختيار من حشو العالم وغروسه.
قال: وإنما أشكل المعنى في هذه الدعوى من وجه طريف، وذلك أنه وضع الواضع أن الأمور ثلاثة: واجب وممتنع - وهما الطرفان - وممكن بينهما، وهذا الموضع صحيح لكنه راجع إلى الضرورة، أعني انه من الضرورة أن يكون الممتنع ممتنعاً والممكن ممكناً والواجب واجباً، وكأن الضرورة قد عمت الثلاثة، وقصرتها على ما انقسمت عليه حتى لا ينقلب الواجب عن حد الوجوب إلى حد الإمكان، ولا الممكن إلى الممتنع؛ قال: والذي يؤنسك بهذه القضية، ويجعلك منها على جلية، أنك متى فرضت الواجب واجباً لم تقسمه إلى واجب دون واجب، وكذلك إذا فرضت الممتنع ممتنعاً لن تقسمه ممتنعاً فوق ممتنع، ولا تجدك تفعل ذلك في الممكن، فإنك تقول: الممكن على ثلاثة أنحاء: ممكن قريب من الواجب، وممكن قريب من اممتنع، وممكن متوسط على حسب القرب والبعد من الطرفين، فقد وضح لك أن الممكن موقوف على توهمك وحرصك، وأنه لم يستقل بنفسه، ولم يتحيز بطبعه، ولم ينفرد بقوامه، ولسنا نريد بالممتنع عيناً شأنها الامتناع، فإنه لو كان كذلك كان لا يبعد أن ينقلب ما من شأنه الامتناع مرة إلى ما شأنه الوجوب.
قال: بل أشير بالممتنع إلى نفي صورة الواجب، وإلى رفع فواته، وإلى خلع ما يميل منه؛ قال: قد حال الواجب في كل شيء عدواً، وهو الاضطرار، حتى كأن الممكن واجب أن يكون ممكناً، والممتنع واجب أن يكون ممتنعاً، والواجب واجب أن يكون واجباً، ومتى كان كل شيء من ذلك واجباً كان العالم(6/104)
كله واجباً أي الاضطرار، ومتى كان كله واجباً فحكم كل جزء يشار إليه حكم كله إذا نص عليه. وقال: ألا ترى أن العالم كله موجود، فحكم كل جزء منه أنه موجود، قال: فقد تناول الرزق والحياة والموت والإصابة والحرمان والسعادة والشقاء والقبول والاطراح، وليس لشيء من جميع ذلك في هذا الحكم اختصاص يخرجه عن نظام العالم وتأسيسه في كونه ووجوبه، وفرض الأرض ووضع الواضع لا يخرج من عوارض العالم، ولكنه لا يدخل في جوهر العالم، وإنما ذلك لعلو أفق العلوية، وقوة سلطان العلم، وبه يرى الشيء متلوناً مختلفاً وهو في حقيقته منتظم مؤتلف.
هذا بعض كلام هذا الرجل، ولو استقصيته لاحتجت إلى استئناف كتاب، واحتجت أنت إلى تفريغ بال، وفيا نقشته لك، ونمقته فيعينك، ما يبعث بصيرتك، ويشحذ خاطرك، ويعرض الحق عليك، ويجمع فنون الدليل إليك، فتناول ما تتناول عن كثب بلا دأب ولا تعب، وتتحكم تحكم الآمر المتمكن، فاذكر عند هذه الأحوال حق من سعى لك، وسهر بسببك، وبحث من أجلك، ثم نظمه بين يديك حتى استشففته متخيراً، وأخذت ما أخذت منه مقتدراً، فوفر عليه قسطه من تعظيمك، ونصيبه من حسن ذكرك وطيب تنائك، ولا تفته صيانة العرض من بعد كما أفته منية النفس من قرب، ولا تقبحه بما استاقه إلا أن تجمله بما هو أحسن منه، والسلام.
تداعى - أديك الله - هذا الحديث واضطراب حتى ليس يبين مكان جنابتي من اعتذاري، ولا استسلامي من انتصاري، وذلك كله لعلل وأسرار لو شرتها أو بحت بها لم ترض لي في النار داراً، ولا الدرك الأسفل قراراً، والحمد لله على كل حال، فرضيها متصل بالأمل، ومسخوطها مقرون بالحسرة، وظاهرها متلقى بالتسليم، وباطنها مردود إلى الحي القيوم، وسهلها متناول بالشكر، وعسيرها محتمل بالصبر، ولذيذها مستزاد بالافتقار، ومريرها متجرع بالاضطرار، وقريبها مأخوذ بالحاجة، وبعيدها متمنى(6/105)
بالاضطرار، فهو أهل الحمد ومستحقه، ونحن عبيده وخلقه، يؤتي الملك من يشار وينزع الملك عمن يشار، ويعز من يشاء ويذل من يشاء، بيده الخير وهو على كل شيء قدير.
قال أحمد بن الطيب المنطقي في مراح الروح: حكي عن بعض الأطباء أنه وصف لإنسان شكا إليه علته فقال: خذ من المقفس المربى قدر روثة، وصب عليها ماء حاراً قدر محجمة، ثم دقه حتى يصير كأنه مخاط ثم اشربه، فقال المريض: أما دون أن أضرب بالسياط فلا أفعل.
قال احمد: وقد أحسن المريض فإن هذا وصف يستعجل مه سقوط القوة، لأن المريض إذا سمع مكروهاً غمه، وإذا غمه غارت غريزته، وإذا غارت غريزته انحلت قوته، وإذا انحلت قوته ركبه المرض بأضعف أسبابه، والطبيب الرفيق الماهر بخدمة المرضى يقول لن يريد أن ينهاه عن أكل اللحم لحدة مرضه، واحتام حرارته: إياك والزهومة، فإذا عزم على إطعامه اللحم عند البرء لرد قوته وحفظ صحته قال له: كل الدسم، والذي نهاه عنه أولاً هو الذي أمره به آخراً، إلا أنه سماه أولاً زهومة لتكريهه عند النفس، وسماه ثانياً دسماً لتقريبه من النفس.
قال أحمد: ومثل هذا من سوء الاختيار في اللفظ ما يحوى عن حمزة بن نصر، مع جلالته عند سلطانه وموضعه من ولايته، أنه دخل على امرأته، وعند ثوب وشي، فقالت له: كيف هذا الثوب؟ قال: بكم اشتريتيه؟ قالت: بألف درهم، قال: قد والله وضعوا في آستك مثل ذا، وأشار بكفه مقبوضة مع ساعده، فقال: لم أدفع الثمن بعد، قال:(6/106)
فخصاهم بعد في يدك، قالت: فأختك قد اشترت شراً منه، قال: إن أختي نضرط من آست واسعة، قالت: ولكن أمك عرض عليها فلم ترده، قال: لأن تلك في آستها شعر، قال أحمد: وهذا كلام الخرس أحسن منه.
وأنشد للمرعق: البسيط
أثني عليك ولي حال تكذبني ... فيما أقول فأستحيي من الناس
قد قلت إن أبا حفص لأكرم من ... يمشي فخاصمني في ذاك إفلاسي
أبو عطاء السندي: الوافر
ثلاث حكتهن لرهط قيس ... ظلمت بها الأخوة والثناء
رجعن على حواجبهن صوف ... وعند الله نحتسب الجزاء
قال أعرابي نظر إلى خط: كواكب الحكم في ظلم المداد.
وقال أديب: خط الأقلام صورة هي في الأبصار سود، وفي البصائر بيض.
قال أعرابي: الخط مركب البيان.(6/107)
قيل لوراق: خطك مغرس الألحاظ ومجتنى الألفاظ.
أنشد أبو قلابة الرقاشي لأبي حيان البصري: الكامل
يا صاحبي دعا الملام وأقصرا ... ترك الهوى يا صاحبي خساره
كم لمت قلبي كي يفيق فقال لي ... لجت يمين ما لها كفاره
ألا أفيق ولا أتر لحظة ... إن أنت لم تعشق فأنت حجاره
الحب أول ما يكون نظرة ... وكذا الحريق بدوه بشراره
يا من أحب ولا أسمي باسمه ... إياك أعني واسمعي يا جاره
لمنصور الفقيه: المحتث
لا يوحشنك مني ... ما كان منك إليا
فأنت مع كل جرم ... أعز خلق عليا
وقال أبو سعيد السيرافي: في السماء المصرفة ما إذا صغر منع الصرف، وفي السماء ما لاينصرف، وإذا صغر صرف، وفيها ما لا ينصرف في مصغر ولا مكبر: فأما ما ينصرف وإذا صغر لم ينصرف فهو الاسم المعرفة الذي في أوائله من زوائد الفعل، وفيه حرف زائد يخرجه عن بناء الفعل، فينصرف لخروجه عن(6/108)
بناء الفعل كرجل سميناه يضارب أو نضارب فهو منصرف، فإذا صغرناه قلنا يضيرب ونضيرب كأنا صغرنا يضرب ونضرب ونضرب، وأما ما لا ينصرف فإذا صغرناه انصرف فنحو عمر وبكر، فإذا صغر تصغير كتصغير عمرو وبكر، فينصرف لزوال الفظ العدل، وكذلك رجل سمي بمساجد فلا ينصرف لأن هذا البناء يمنع من الصرف، فإذا صغرناه أسقطنا الألف فقلنا: مسيجد كتصغير مسجد فينصرف. وأما ما لا سنصرف في مصغر ولا مكبر فما كان في أوله زيادة الفعل نحو رجل اسمه تغلب ويزيد وما اشبه ذلك، تقول: هذا تغيلب، قال الشاعر:
قد عجبت مني ومن تغيلبا
وأما ما ينصرف في المصعر والمكبر كمحو زيد وبكر وما أشبه ذلك تقول: هذا زيدز زييد، ومررت بزييد.
لمنصور الفقيه: الهزج
إذا الفوت تأثى ل ... ك والصحة والأمن
وأصبحت أخا حزن ... فلا فارقك الحزن
قال عبد الرحمن بن كثير: خرج بعض ملوك الأعاجم إلى نزهة فانفرد عن أصحابه وانتهى إلى بستان، فرأى فيه امرأة ذات هيئة فقال لها: أيتها المرأة، إن مثلك لا ينبغي أن يكون في هذا الموضع، فما أخرجك من منزلك؟ قالت: كذلك يكون الناس إذا لم يكن لهم من ينظر في أمورهم، قال: وما ذاك؟ قالت: إن زوجي مات وترك علي عيالاً وترك ضيعة كنا نعيش بها، فعدا علينا وزير الملك فأخذها، فأتيت إلى القاضي أستعديه عليه فلم ينصفني، فأتيت(6/109)
الحاجب ليدخلني على الملك فلم يفعل، ثم أتيت صاحب الشرطة فلم يفعل، فقال لها: خذي هذا الكتاب وامضي به إلى احب الشطرة فأعطيه إياه فإنه سينصفك، قالت: ما أرجو الإنصاف، قال: ليس يضرك هذا الكتاب إن لم ينفعك، وكتب لها كتاباً وأعطاها إياه، فمضت به إلى صاحب الشرطة فناولته الكتبا، فقبله ثم دعا بالجلادين فقال: إن هذا كتاب الملك أمرني أن أقوم لتجلدوني بالسياط حتى يستنقع عقبي في دمي، ثم قام فضربوه حتى استنقع عقباه في الدم، ثم قال: إن الملك أمرني في هذا الكتاب أن أسود وجهي وأركب الجمل وأحول وجهي إلى ذنب الجمل، ويقاد الجمل وأنا عليه حتى أنتهي إلى باب الملك؛ قال: فلما انتهى إلى باب الملك قال له الملك: ما حملك على أن أتتك امرأة متظلمة فلم تنصفها؟ قال: خفت وزيرك، فأمر به فضرب عنقه ثم دعا بحاجبه فقال: إنما اتخذتك حاجباً لتحجب عني المظلوم! ثم أمر به فضرب عنقه، ثم دعا بالوزير فضرب عنقه، ثم رد الضيعة على المرأة وولدها وقال: إن الملك لا يدوم إلا بالعدل، فإذا كان بالظلم فذلك غلة وليس بملك.
قال المأمون: لله نعم لا تحصى في أثناء المكروه: لقد شري بدني مرة زائداً على ما كنت أعهده في كل حول، حتى نبا جنبي عن المهاد، وفقدت معه القرار وتمنيت الموت، فبينا أنا على ذلك ليلة، والحشم نوم والدنيا مقمرة، وأنا ساقط القوة لطول الحمية وخوف الزيادة في العلة، قد تنغصت بالحياة وبرمت بالعيش، حتى ثارت من أسفل قائمة السرير عقرب شائلة الذنب تطير، فقلت في نفسي: إنا لله، هذا الموت، ولم يكن في طوق فأتحرك أو أنادي، فاستسلمت، فما زالت تعدو على سننها حتى بلغت أوائل جسمي، ثم(6/110)
دبت على أطرافي، وبلغت ناحية أضلاعي، ثم ضربتيني بقوتها كلها، وغمست حمتها، فغشي علي من هول المنظر ومن ألم الضرب، واتصلت عشيتي بالنوم، فلم أنتبه إلا مع قرن الشمس، فلما أفقت لم أجد مما أمسيت عليه قليلاً ولا كثيراً، ونهضت من وقتي، واستعديت عادتي وراجعت صحتي وكأني لم أكن صاحب القصة.
منصور المصري: السريع
ما اجتمع المال وحسن الثنا ... مذ كانت الدنيا لإنسان
فأي هذين تخيرته ... ضنا به فاله عن الثاني
وله مصراع: الرجز
علي أن أزوركم ... ولا علي أن أصل
كان الشعبي يضمن الأجير المشترك كالصباع والقصار والخياط سئل إبراهيم النخعي عن حائك مشى بليل بشعلة نار فاحترق الغزل فقال: هو ضامن.
قال الشعبي: كل أجير ضامن إلا أجير يده مع يدك.
قال ابن أبي المر قال أوب الخيثم العطار: استأجرت حمالاً فحمل لي ستوقة فيها دهن، فوقعت منه فانكسرت، فأردته على الصلح فأبى، فاختصمنا إلى شريح فضمنه قيمة الدهن.(6/111)
قال الشعبي في المستعير والمستودع: إذا خالفا ضمنا قال الحكم: شهد رجلان عند شريح على رجل، فشهد أحدهما بالف وخمسمائة دينار وشهد الآخر بألف، فقضى شريح بأقل المالي، فقال الرجل: أتقضي علي وقد اختلفا؟ فقال شريح: إنهما قد اجتمعا على ألف.
وقال مجاهد: اختصم إلى شريح في ولد هرة فقال: ضعوها، فإن هي قرت ودرت فهي له، وإن هي فرت واسبطرت فليست له.
قال ابن سيرين: اشترى رجل بغلة فوجدها حمارة، فخاصم فيها إلى شريح فقال: أدخلوها داراً لها بابان ثم أخرجوا البغال من باب والحمير من باب، فإن اتبعت الحمير فهي حمارة، وإن اتبعت البغال فليست بحمارة.
قال هشام بن محمد: تزوج رجل ابنة عبد خياط، فولدت غلاماً فانتفى منه، فارتفعت إلى شريح فقال لها: اكشفي عن وجه الصبي فكشفت، فقال شريح: لو كنت حالفاً لحلفت أنه ابنك، ولكن الذي حملك على أن تتزوج ابنة عبد خياط، وأنت رجل من العرب في شرف من العطاء هو الذي حملك على أن تنتفي منه؛ اذهبي فداعبيه.
قال عبد الرحمن بن عوف، قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: أنا الشجرة وفاطمة فرعها وعلي أغصانها الحسن والحسين ثمرتها وشيعتنا ورقها.(6/112)
قالت عائشة: كان رسول الله صلى الله عليه وسلم يقبل ثم يخرج إلى الصلاة ولا يتوضأ.
قال ابن عباس: كفن النبي صلى الله عليه وسلم في ثلاثة أثواب في ريطتين بيضاوين سحوليين وفي برد حبرة.
قالت عائشة: قال لي رسول الله صلى الله عليه وسلم: ناوليني الخمرة من المسجد، فقلت: إني حائض، قال: إنها ليست بيدك.
قال سماك: سمعت جابر بن سمرة يقول: كان رسول الله صلى الله عليه وسلم أشكل العينين منهوس العقب.
قال أبو هريرة: نهى رسول الله صلى الله عليه وسلم أن يقطع الخبز بالسكين.
قال أبو هريرة: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: اشكنب درد؟ قم فصل فإن في الصلاة شفاء.(6/113)
حدثنا ابن بشران بأبلة البصرة عن ابن الأنباري عن عبد الله بن خلف عن عبد الله بن بشير الطوسي قال، حدثنا عثمان بن عمر عن أبيه قال، سمعت يزيد بن هارون يقول: كان أبو شيبة القاضي من ألحن الناس، كان يقول: حدثنا أبي إسحاق الأسود عن عبد الله قال، قال رسول الله صلى الله عليه وسلم، فسمعه رقبة بن مصقلة فقال: يا أبا شيبة، لو كان لحنك من الذنوب لكان من الكبائر التي لا يغفرها الله.
وأنا سمعت ابن شاهين المحدث في جامع المنصور يقول في الحديث: نهى النبي صلى الله عليه وسلم عن تشقيق الحطب، فقال قوم من بعض الملاحين كيف نعمل والحاجة ماسة إلى الحطب؟ وقال ابن شاهين مرة أخرى في وجوه قوله تعالى: " وثيابك فطهر " المدثر: 4، قيل: لا تلبسها على عذرة. ولي شهود بهذين الخبرين منهم عبد العزيز بن الخضر الكاتب التستري. وإنما نهى النبي عليه الصلاة والسلام عن تشقيق الخطب كأنه كره للخطيب أن يتكلف، والتكلف مكروه لأنه زائد عما يحتاج إليه، والمنقوص عما يحتاج إليه أخف على النفوس من الزائد، وذلك أن الزيادة على المقدار نقص مكرر، والتقصير عن المقدار نقص غير مكرر.
وأما التصحيف الثاني وإنما هو فثيابك فطر أي لا تلبسها على عذرة،(6/114)
وذلك أن العرب تعد العذرة نجاسة - وتسمي العذار نجساً - ويقال رجل نجس ونجس، فكأنه إذا لوحظ المسمى أنبأ عليه بالكسر، وإذا أريد الصفة أنبأ بالفتح.
قال أبو هريرة: رأيت هنداً بمكة جالسة كأن وجهها فلقة قمر، وخلفها من عجيزتها مثل الرجل الجالس، ومعاوية صبي يلعب، فمر رجل فنظر إليه فقال: إني لأرى غلاماً إن عاش ليسودن قومه، فقالت هند: إن لم يسد إلا قومه فأماته الله.
أنشد في رجل ولي الحكم: الكامل
أبكي وأندب مهجة الإسلام ... إذ صرت تقعد مقعد الحكام
إن الحوادث ما علمت كثيرة ... وأراك بعض حوادث الأيام
وأنشد أيضاً: الطويل
تمنيت من أهوى فلما رأيته ... بهت فلم أعمل لساناً ولا طرفا
وأطرت إجلالاً له ومهابة ... وحاولت أن يخفي الذي بي فلم يخفى
وأنشد لأعرابي: الطويل
وكم قد رأينا من فتى متجمل ... يظل ويمسي ليس يملك درهما
يبيت يراعي النجم من جوع بطنه ... ويصبح يلقي قومه متبسماً(6/115)
وما يسأل الأقوام ما في رحالهم ... ولو مات جوعاً عفة وتكرما
قال حمزة الزيات، قال رجل للحسن البصري: ما تقول في رجل مات وترك أبيه وأخيه، فقال: ترك رجل أباه وأخاه، قال: فما لأباه وأخاه، فقال الحسن: فمما لأبيه وما لأخيه، فقال الرجل: إني أراك كلما طاوعتك تخالفني.
قال أبو حامد: كان المزني إذا فاتته الجماعة صلى خمساً وعشرين صلاة، فقال له محمد بن إسحاق بن خزيمة: أيها الشيخ، لجلوسك مع أصحابك أفضل من صلاتك هذه، يعني التطوع، فقال له المزني: لم؟ فقال: لأن صلاتك هذه لا تعدوك، وتعليمك إياهم يعدوك إليهم، فتعم بركاته وتتم عاقبته، فقال: صدقت، ولكني أجمع بين الأمرين: ألقي عليهم المسألة ويعملون فكرتهم فيها، وآخذ في تطوعي، فإلى أن يفرغوا أفرغ، فقال ابن خزيمة: ها هنا زيادة وهي أنك إذا ألقيت المسألة عليهم ثم أقبلت بوجهك إليهم كنت معيناً لهم على استخراج المسألة، قال: كذلك هو.
قال بعض الفلاسفة: جوامع شرف الإنسان وكماله في أربعة أشياء: في عرق صريح، وعقل صحيح، ولسان فصيح، وأخ نصيح.
قال مزدك: العاقل يلتمس علم ما أصابه بالطيرة والفال، كما يلتمس علم ما مضى بالإشارة والأمثال.(6/116)
قال الشافعي: رأيت علي بن أبي طالب في المنام فقال: ناولني كتبك، فناولته فأخذها فبددها هكذا وهكذا، فأصبحت أخا كآبة، فأتيت الجعد فأخبرته فقال: سيرفع الله شأنك وينشر علمك. حكى لنا هذه الحكاية ابن القطان الفقيه شيخ أصحاب الشافعي.
لمنصور الفقيه: الطويل
إذا نحن زرنا أحمد بن محمد ... وأحمد للأمر المبرح فارج
نطقنا لديه بالذي في صدورنا ... ولم تتكسر في الصدور الحوائج
قال يعقوب: امرأة متعاونة وهي التي لا تستشب من صغر، ولا يرغب عنها من كب، قال: ومعنى تستشب أي تقول هي صغيرة انتظر بها أن تشب.
قال أبو يوسف: بقيت على باب الرشيد حولاً لا أصل إليه حتى حدثت مسألة، وذلك أن بعض أهله كانت له جارية فحلف أن لا يبيعة إياها ولا يهبها له، وأراد الرشيد شراءها فلم يجد أحداً يفتيه، فقلت للفضل: أعلم أمير المؤمنين أن بالباب رجلاً من الفقهاء عنده الشفاء من هذه الحادثة، فدخل فأخبره فأذن لي، فلما وصلت مثلت فقال: ما تقول فيما قال الفضل بن الربيع؟ قلت: يا أمير المؤمنين أأقوله لك وحدك أو بحضرة الفقهاء؟ فقال: بحضرة الفقهاء ليكون الشك أبعد واليقين أقعد؛ فأمر باحضار الفقهاء وأعيد عليهم(6/117)
السؤال فكل قال: لا حيلة عندنا، فأقبل أبو يوسف فقال: المخرج أن يهب لك نصفها ويبيعك نصفها، فإنه لا يقع الحنث، فقال القوم: صدق، فعظم أمري عند الرشيد، وعلم أني أتيت بما عجزوا عنه، فقال: أريد أن أطأها اليوم، قلت: يا أمير المؤمنين أعتقها ثم تزوجها، فسري عنه.
وإنما قال ذلك لأن مذهب أبي يوسف أن العتق إذا طرأ على الأمة سقط عنها الاستبراء.
قال المزني: سئل الشافعي عمن رؤي في الحمام مكشوفاً هل تقبل شهادته؟ قال: لا.
قال الربيع، سمعته يقول: العلم ما استودعته نفسك فحفظته عليك، ثم أردت ذكره في وقته فأدته إليك.
قال جابر بن عبد الله: مر رسول الله صلى الله عليه وسلم برجل في ظل شجرة يرش عليه الماء، فقال صلى الله عليه وسلم: ما بال صاحبكم هذا؟ قالوا: صائم، قال: إنه ليس من البر الصوم في السفر، فعليكم برخصة الله فاقبلوها.
قال يعقوب: المؤثل: المثمر، يقال: تأثل فلان أي نبت له نبت كثير الأثلة، ويقال: تأثل: اكتسى، أثل أهله أي كساهم، بيت أثيل.
أنشد دعبل لحطان بن المعلى أبياتاً وقال: وددت أنها حظي(6/118)
من الشعر وهي: الطويل
يذكرنيك الخير والشر والحجا ... وقيل الخنا والعلم والحلم والجهل
فألقاك عن مذمومها متنزها ... وألقاك في محمودها ولك الفضل
وأحمد من أخلاقك البخل إنه ... بعرضك لا بالمال حاشا لك البخل
كتب عمرو بن مسعدة: وأنا أحب أن يتقرر عندك أن أملي فيك أقعد من أن أختلس الأمور منك اختلاس ن يرى أن في عاجلك عوضاً من آجلك، وفي الذاهب من يومك بدلاً من المأمول في غدك.
كان الرشيد جالساً ذات يوم وعنده سليمان بن أبي جعفر وعيسى بن جعفر وعبد الملك بن صالح، فقال الرشيد لعبد الملك: كيف أرض كذا؟ قال: خضاب حمر، وبراث عبر، قال: فأرض كذا؟ قال: فيافي فاسحة، وجبال متناوحة، قال: فأرض كذا؟ قال: تربة حمراء، وشجرة خضراء وسبيكة صفراء، قال: فأرض كذا؟ قال: مسافي ريح، ومنابت شيح، فقال عيسى لسليمان: ما ينبغي أن نرضى لأنفسنا بالدون من الكلام.
قال سفيان بن عيينة، قال عبد الله بن مسعود لأصحابه: أنتم جلاء قلبي، ثم أقبل سفيان على أصحابه وقال: ولكنكم غطاء قلبي.(6/119)
قال بعض السلف: سالم الزمان بحسن المعاشرة يتأت بك قليلاً، ولا تحمله شططاً فتعصف عليك ريحه، وأخر معاتبتك لا يكاشفك بالمكروه، ووادعه بالرضا عنه تقل همومك، فإنه إن عسفك لم تنتصر منه ولم تدفع ضيمه.
قال يعقوب: الجزارة حق الجازر؛ وحقه الرأس والفراسين بأوظفها والفرع والعجب في برمة من لحمها وشحمها؛ وثنيا الجزور أن بيبع الرجل ناقة من إبله تريد أن تموت ويستثني رأسها وضرعها وذنبها ومعه فقرة العجب، وهي فقرة القحقح، بنظير أن يذهب ضرعها ورأسها.
شاعر يمدح عبد الله بن طاهر: الوافر
أظن الشام يشمت بالعراق ... إذا عزم الأمير على انطلاق
يقول محمد تفديك نفسي ... أما تبقي علي من الفراق
فإن تدع العراق وساكنيها ... فقد تبلي المليحة بالطلاق
قال ابن عباس: تبكي على الرجل البقاع التي كان يصلي فيها، ويصعد عمله منها، فذلك قوله: " فما بكت عليهم السماء والأرض " الدخان: 29.
كان القاضي ابنقريعة في مجلس المهلبي فوردت عليه رقعة(6/120)
فيها: ما يقول القاضي - أعوه الله - في رجل دخل الحمام وجلس في الأبزن لعلة كانت به، فخرجت منه ريح تحول الماء بها زيتاً، فتخاصم الحمامي والضارط فادعى كل واحد منهما أنه يستحق جميع الزيت لحقه فيه؟
فكتب القاضي في الجواب: قرأت هذه الفتيا الطريفة في هذه القصة السخيفة، وأخلق بها أن تكون عبثاً باطلاً، وكذبا ماحلاً، وإن كان ذلك كذلك، فهو من أعاجيب الزمان، وبدائع الحدثان؛ والجواب وبالله التوفيق أن للضارط نصف الزيت بحق وجعئه، وللحمامي نصف الزيت بقسط مائه، وعليهما أن يصدقا المبتاع له عن خبث أصله وقبح فصله، حتى يستعمله في مسرجته، ولايدخله في أغذيته.
كان المهلبي قد تقدم إلى ابن قريعة أن يشرف على البناء في داره، وأن لا يطلق شيء إلا بتوقيعه، فحضر يوماً بعض السوقة فقال: أصلح الله القاضي، إن لي ثمن ثلاثين بيضة استعملها المزوقون في البناء، فقال: بين عافاك الله، قال: قد بينت أيها القاضي، قال: إنما سمعنا بيضاً، وأجناس البيض كثيرة، قال: أيها القاضي أعني بيض الدنيا، قال: فكأنا ادعينا أن في الآخرة بيضاً! ويحك، إن البيض منه الهندي والنبطي والبطي والحمامي والعصافيري والدجاجي، فأي بيض بيضك؟ قال: بيض الدجاج النبطي، قال: فأعد دعواك، قال: لي أعز الله القاضي ثمن ثلاثين بيضة ن بي الدجاج النبطي، فقال لكاتبه: اكتب: ذكر أبو جعفر البياض خبط ونبط أن(6/121)
له ثمن ثلاثين بيضة دجاجياً، لا نبطياً ولا هندياً؛ ارجع - أعزك الله - إلى دفتر حسابك وميزان عملك، فإن وجدته صادقاً فقد وجب له ما يجب للصادقين من البر والإكرام وإعطاء الثمن على الوفاء والتمام، وإن كان كاذباً فعليه ما على الكاذبين من اللعن والرجم، ثم الحرمان والامتهان، وقل له: باعدك الله من حريمه ما اقل وفاءك لشيبك.
سمعت أبا حامد العلوي يقول، قيل على مائدة بخيل: ما أحسن كثرة الأيدي على المائدة، فقال: نعم إذا كانت مقطعة.
وقال بعض الغوغاء في كلامه: فلان يأخذ من الحافي نعله. وسمعت آخر يقول: لعن الله فلاناً يطر والله من العريان كمه.
يقال: إن العرب كانت إذا أرادت أن يعين رجل رجلاً، أي يصيبه بالعين، يجوع ثلاثاً ثم ينصفه فيصرعه.
قال أعرابي: إن أحق من خفف عنه، واكتفي باليسير مه، رئيس مكثور عليه، وسيد منظور إليه.
كان إسماعيل القاضي لا يجلس في العشر، فجاء خصمان إلى رجل كان على بابه يعرف بالرضيع، وضمنا له عشرين درهماً وقالا: علمنا ما(6/122)
نرتفع به إليه وتفصيلي ما شجر بيننا بين يديه، فقال لهما: إذا امتنع من النظر بينكما في هذه الأيام فقولا: أيها القاضي هل تأخذ من السلطان رزق هذه الأيام؟ فتقدما وقالا ذلك، فلما سمع إسماعيل جلس للحكم، فأول من تقدم الرضيع مع الرجلين، فقال القاضي: يا رضيع هذا من فعلاتك؟ قال: نعم أصلح الله القاضي، امتنعت من الحكم فاضطررت إلى القوت، وضمنا لي عشرين درهماً، فقال إسماعيل: يا غلام أخرج إليه عشرين ديناراً.
سمعت أبا حامد يقول: رأيت بعض الصحابة في النوم فقلت له: ما الدلالة على التوحيد؟ فقال: " إن في خلق السماوات والأرض واختلاف الليل والنهار لآيات لأولي الألباب " آل عمران: 190.
قال أبو مسمع البصري: كنا نجالس أبا الهذيل في مجلسه فجاءنا شاب له رواء ومنظر وسمت، فقعد فأجللناه لظاهره، فقال أبو الهذيل: ليس للعجم كتاب أجل من الكتاب المترجم بجاويدان خرد وقد استفصح مؤلفه بثلاث كلمات ليس لهن نظير، منها أنه قال: من أخبرك ا، عاقلاً لم يصبر على مضض المصيبة فلا تصدقه، ومن أخبرك أن عاقلاً أساء إلى من أحسن إليه فلا تصدقه، ومن أخبرك أن حماة أحبت كنة فلا تصدقه؛ فانبرى الغلام وجثا وقال: حدثني أبي عن جدي بثلاث أحسن منهن، فقال أبو الهذيل: من علينا بهن، فقال، قال جدي رحمه الله، من أخبرك أن الجائع كالشبعان فلا تصدقه، ومن أخبرك أن النائم كاليقظان فلا تصدقه، ومن أخبرك أن الراضي كالغضبان فلا تصدقه؛ فقلنا له: أمن العرب أنت أم من العجم؟ قال: من بينهما، قلت: من أي بلد؟ قال: من دوين السماء وفويق الأرض، فقال له الجاحظ: ما أسمك؟ قال: لجام، قلنا: فالكنية؟ قال: أبو السرج، فقال له: فما لك لا(6/123)
تنهق وأنت حمار؟ فقام مغضباً يجر إزاره ويقول: ليس الذنب لكم، الذنب لي كيف جالست أمثالكم وأنتم لا تدرون ما طحاها.
قال ابن أبي بشر: إنما بايع الناس أبا بكر رضي الله عنه لأنهم سمعوا النبي صلى الله عليه وسلم يقول: الحق مع عمر بعدي، فلما رأوا عمر مد يمينه لبيعة أبي بكر رضوا بذلك لما سبق إليهم.
قال أبو الجهم السامي الصوفي: الشرف شرفان: شرف بواسطة وشرف بلا واسطة، وإنما أعز الله تعالى الإسلام بخلافة أبي بكر رضي الله عنه لأنه شابه شرفه شرف النبي عليه السلام في عدم الوسائط، وما هكذا علي، فإن شرفه كان بوسائط كثيرة، فسبق لذلك.
ذكر أعرابي امرأة فقال: رحم الله فلانة إن كانت لقريبة بقولها بعيدة بفعلها، يكفها عن الخنا إسلامها، ويدعونا إلى الهوى كلامها؛ كانت والله تقصر عليها العين، ولا يخاف من أفعالها الشين.
كاتبك أنت - جعلت فداك - فتى العسكر، ومعدن الحرمة، ووطن الأدب، ومن كانت هذه صفاته فالخروج عن مودته خمور فضلاً عن الدخول في عداوته، وأنا وأنت أخوا مودة، ورحم المودة أمس من رحم القرابة، فكيف رميت بسهامك؟ أم كيف امتحنت بعداوتك؟ ولكنه كما قال الشاعر: الطويل(6/124)
بلى قد تهب الريح من غير وجهها ... ويقدح في العود الصحيح القوادح
قال الحراني الصوفي: التقى متعاشقان فقال أحدهما لصاحبه: أين تريد؟ قال: شغلاً، قال الآخر: أو لك شغل غيري؟ اذهب فأنت حري بالهجر.
قال جعفر بن محمد لأبي ولاد الكاهلي: أرأيت عمي زيداً؟ قال: نعم رأيته مصلوباً، ورأيت الناس فيه بين شامت حنق ومحزون ومحترق، فقال جعفر: أما الباكي فمعه في الجنة، وأما الشامت فشريك في دمه.
قال عيسى بن مريم عليه السلام: لا تفرح بكثرة المال، ولا تدع ذكري على كل حال، فإن كثرة المال تنسي الذنوب، وترك ذكري يقسي القلوب.
قال زيد بن علي عليه السلام: لا يسأل العبد عن ثلاث يوم الحساب: عما أنفق في مرضه، وعما أنفق في إفطاره، وعما أنفق في قرى ضيفه.
قال عمر لعثمان رضي الله عنهما: توأدت، يعني تأخرت وشغلت القلوب، هذا حين أبطأ عن صلاة الجمعة.(6/125)
أنشد سعيد بن حميد لخزامى جارية ابن المعتز: الطويل
ذكرتكم ليلاً فنور ذكركم ... دجى الليل حتى انجاب عني دياجره
فوالله ما أري أضوء مسجر ... لذكركم أم يسجر الليل ساجره
وبت أسقى الشوق حتى كأنني ... صريع مدام لم ينهنهه دائره
وظلت أكف الشوق لما ذكرتكم ... تمثل لي منكم خيالاً أسايره
ولو كنتم أقصى البلاد لزرتكم ... إلى حيث يفنى ورده ومصادره
أرى قصراً بالليل حتى كأنما ... أوائله مما تدانى أواخره
سمعت بعض العلماء يقول: الفناء سعة أمام الدار، وقال: أفانين الشباب: أوله.
وسمعت الأنصاري يقول: الأشياء كلها: نام وصامت وناطق، فالناس كالنبات، والصامت كالجبل، والناطق مثل الإنسان، فقيل له: فما تقول في البهائم والطير؟ فسكت انقطاعاً؛ فحكيت لأبي حامد فقال: قصر في القسمة فافتضح بالوصمة، وإنما النامي كالنبات والشجر، والجامد كالجبال والحجر، والصامت كالبهائم والطير، وأما الحكل فلا صوت لها.
سأل أعرابي ابن الزبير فحرمه، فقال الأعرابي: لعن الله ناقة(6/126)
حملتني إليك، فقال عبد الله: إن وراكبها، أي أجل.
وقال بعض العلماء: " إن هذان لساحران " طه: 63 إن بمعنى ما، واللام في موضع إلا، كأنه قال: ما هذان إلا ساحران.
ورجل أننة والجمع أنن، وقولك: أنى بمعنى كيف ومن أي شيء، قال الكميت: المنسرح
أنى ومن أين آبك الطرب ... من حيث لا صبوة ولا ريب
وقوله تعالى " أنى لك هذا " آل عمران: 37 أي من أين لك هذا؛ وقوله تعالى " أنى يكون له الملك علينا " البقرة: 247 أي كيف يكون.
وقال بعض العلماء في قوله تعالى: " نساؤكم حرث لكم فأتوا حرثكم أنى شئتم " البقرة 223 على معنى كيف شئتم في الحال والهيئة، وأنى شئتم، على معنى في أي مكان شئتم في القبل والدبر.
سمعت الأندلسي يقول، سمعت العماني يقول، سمعت الزجاج يقول في قول الشاعر: الكامل
تالله قد سفهت أمية رأيها ... فاستجهلت حلماؤها سفهاؤها
معناه: تالله قد سفهت أمية رأيها سفهاؤها فأبدل سفهاؤها من أمية ثم قال: واستجهلت حلماؤها أي صارت في جملة الجهال.(6/127)
قال: وسئل الزجاج عن قابوس فقال: إذا جعلته أعجمياً لم تصرفه، وإن اشتققته من قولك: فبستك ناراً فهو فاعول صرفته، قيل: فجاموس؟ قال: اصرفه لأنه جنس، قال: ولم صرفته؟ قال: لأن العرب أخرجته من العجمة بالألف واللام فأجري مجرى أجناس العربية.
وقال الزجاج: لا نولك أن تفعل هو في موضع: لا ينبغي لك أن تفعل، تقول بغيت الشيء فانبغي لي، فعلى هذا ينبغي لي أن أفعل، أي يطاوعني هذا الفعل، ولا يحسن قولك: مني، وهو في موضع لا تناول أن تفعل ولا ينال لك أن تفعل، أي لا يصلح الفعل.
قال أبو إسحاق الكلابزي: تخرق كتاب سيبويه في كم المازني نيفاً وعشرين سنة.
قال إسماعيل بن إسحاق القاضي، سمعت نصراً يحكي عن أبيه قال: قال لي سيبويه حين أراد أن يضع كتابه: تعال حتى نتعاون على إحياء علم الخليل، يعني بنصر نصر بن علي الهضمي.
قال بعض الأوائل: إن المسك الخالص كلما سحق ازداد طيباً، والرجيع كلما سيط ازداد نتناً.(6/128)
قال أعرابي لآخر: لا كل لسانك عن البيان، ولا أسكتك الزجر والهوان.
قال كسرى لمريم بنت قيصر حين زفت إليه: أنت من جوارحي قلبي، ومن عمادها روحي، وفي الهوى منتهى منية نفسي.
قال قيصر: مال الحيلة فيما أعيا إلا الكف عنه، ولا الرأي فيما لا ينال إلا اليأس منه.
قال أعرابي: فلان أسود الكبد، أي أحرقت العداوة كبده.
قال بعض النحويين في قوله تعالى: " حسبك الله ومن اتبعك من المؤمنين " الأنفال: 63 إذا توجهت كان الله كافيك ومن اتبعك، فمن منصوب بكافيك، وإذا توهمت أن الله يكفيك ويكفيك من اتبعك فمن مرفوع بالفعل.
قال: حمل بهرام فلما رآه أخوه كرك استقبله في الميمنة، فاضطربا ملياً فلم ير إلا وهما يتمارسان ويتغالان ولا أسدين غضبانين يتنازلان ويتصاولان، ولا فيلين سكرانين يتنايبان ويتراكلان، ولا فحلين حانقين يتكادمان ويتساوران، ولا أسودين بتلازمان ويتناهشان.
قال أبو عثمان: من لم يوثق بعقله ولم ترج فيئته ضاع القول في مكالمته، وضل الرأي في مخاطبته، لأن العاقل لا يبذر في أرض لا تنبت، ولا يغرس شجراً لا يثمر، ولا هو إن لم يثمر ينتفع بعوده وورقه، والحكماء عل محكم أقوالهم أشح منهم على مقدار الاستحقاق.(6/129)
قال إبراهيم بن عبد الصمد: لما عمل كسرى القاطول أضر ذلك بأهل الأسافل وانقطع عنهم الماء حتى افتقرا وذهبت أموالهم، فخرج أهل ذلك البلد إلى كسرى يتظلمون، فوافقوه في مسيره، فعرضوا له وقالوا: أيها الملك، جئناك متظلمين، قال: وممن تتظلمون؟ قالوا: منك، فثنى رجله عن دابته وجلس على الأرض، فأتاه بعض من معه بشيء يقعد عليه فأبى أن يقعد عليه وقال: لا أجلس إلا على الأرض إذ أتاني قوم يتظلمون، ثم قال: ما مظلمتكم؟ قالوا: أحدثت القاطولن قطع عنا شربنا فذهبت رواتبنا، قال: فإني آمر بسده حتى يرجع إليكم الماء وتعود أحوالكم، قالوا: أيها الملك لا نجشمك هذا، ولكن مر من يعمل مجرى الماء من فوق هذا القاطول، فعمل لهم مجرى مائهم من فوق القاطول شبه القروج فجرى فيه الماء فعمرت بلادهم ورجعت أحوالهم، وهو أول ما عرف القورج.
وكانت ملوك الفرس إذا بلغهم أن كلباً مات بقرية لا يعرف لموته سبب، كتب الملك أن خذوا أهل هذه القرية بالبينة أن الكلب مات حتف أنفه ولم يمت جوعاً، وكانوا يأخذون أهل الحروث بحرث نصف أرضهم في العام وتبويرها في القابل، فيحرثون ما بوروه، ويبورون ما حرثوا.
أنشد أحمد بن الطيب لشاعر: البسيط
لا أعشق الأبيض المنفوخ من سمن ... لكنني أعشق السمر المهلازيلا
فقيل لي أنت خوان فقلت لهم ... لا تكثرن علي القال والقيلا
شرطي الشريطي لا أبغي به بدلاً ... تخاله من نحول الجسم مسلولا
إني امرؤ أركب المهر المضمر في ... يوم البراز فدع أن أركب الفيلا(6/130)
قال أحمد بن الطيب: المسيخ من الألوان المغسول من حوادث الأبصار.
لأبي حفص الشطرنجي: السريع
أشبهك المسك وأشبهته ... قائمة في لونه قاعده
لا شك إذ لونكما واحد ... أنكما من طينة واحده
مصراع لمنصور الفقيه: مجزوء الخفيف
ذم من شئت منهم ... فهو للذم موضع
قال المفجع، قال المبرد: كان الأعشى كثير التطواف، فأصبح من ليلة كان يطوفها بأبيات علقمة بن علاثة، فلما نظر قائده إلى قباب الأدم قال: واسوء صباحاه! هذه والله أبيات علقمة، وخرج فتيان الحي فقبضوا على الأعشى فأتوا به علقمة، فلما مثل بين يديه قال علقمة: الحمد لله الذي أظفرني بك بغير عقد ولا ذمة، قال الأعشى: أو تدري لم ذاك جعلت فداك؟(6/131)
قال: لتقواك علي الباطل من غير جرم، قال: لا ولكن ليبلو الله قدر حلمك في، فأطرق علقمة فانبعث الأعشى يقول: المتقارب
أعلقم قد صيرتني الأمور ... إليك وما كان بي منكص
كساكم علاثة أثوابه ... وقلدكم حلمه الأحوص
فهب لي ذنوبي فدتك النفوس ... ولا زلت تنمي ولا تنقص
فقال: قد فعلت، ووالله لو قلت في ما قلت في ما قلت في عامر ابن عمي لأغنيتك حياتك، ولو قلت فيه ما قلته في ما أذاقك برد الحياة.
كتب عدي بن أرطاة إلى عمر بن عبد العزيز: أما بعد، فإن ناساً قبلنا لا يؤدون ما قبلهم من الخراج إلا أن يمسهم شيء من العذاب، فكتب إليه عمر: أما بعد، فالعجب كل العجب من استئذانك إياي في عذاب البشر، كأني جنة لك من عذاب الله، أو كأن رضاي ينجيك من سخط الله، إذا أتاك كتابي هذا فمن أعطاك ما قبله عفواً فاقبله، وإلا فاستحلفه، فوالله لأن يلقوا الله بخيانتهم أحب إلي من أن ألقى الله بعذابهم.
العتابي: الطويل
ألفنا دياراً لم تكن من ديارنا ... ومن يتألف بالكرامة يألف
شاعر: البسيط(6/132)
جاء الشتاء ولم أعدد له فنكاً ... إلا ارتعاداً وتصفيقاً بأسنان
وقد لبست قميصي في أوائله ... منكم على دمن أقوت بقضبان
قال ابن عباس: ثلاثة من عازهم عادت معازته إلى ذل: السلطان والوالد والغريم.
قال فيلسوف: الخوف على ثلاثة أناء: دين يخاف معاداً، وحر يخاف عاراً، وسفلة يخاف ردعاً.
قال فيلسوف: النيران أربع: نار تأكل وتشرب وهي نار المعدة، ونار تأكل ولا تشرب وهي نار الوقود، ونار تشرب ولا تأكل وهي نار الشجر، ونار لا تأكل ولا تشرب وهي نار الحجر.
قال فوثاغورس: الصورة ذكر، والهيولي أنثى، والطبيعة رباط بينهما.
كتب المعتصم لما فتح عمورية إلى المأمون: كتبت في الوقت الذي فتح الله المصر على أعدائه والكفرة به، ودخلت عمورية وقتلت أكثر مقاتليها إلا القل اليسير، وسبيت جميع ذراريها، وجاءني هذا كتاب منه للخبر لا يعتد بالأثر.(6/133)
وكتب ابن الفرات وعلي بن عيسى ومحمد بن داود ومحمد بن عبدون رقعة إلى العباس بن الحسن الوزير يستزيدونه فيها، فوقع بخطه عل ظهرها: ما حالكم حال مستزيد، ولا فوق ما أنا عليه لكم مزيد، فإن تكن الاستزادة من مال فهو موور عليكم، وإن تكن من رأي فالأعمال لكم، ولي اسمها وعلي عبئها وثقل تدبيرها؛ وأقول لعلي بن محمد من بينكم الذي ما يطيق نفسه تذللاً واعتدالاً: أمن بؤس كانت هذه الاستزادة أم من بطر النعمة ودلال الترفه؟ ولي في أمر جماعتكم نظر ينكشف عن قريب، وحسبي وحسبكم الله ونعم الحسيب.
وكتب النعمان بن عبد الله إلى ولي الدولة كتاباً يستزيده فيه في رزقه، فوعق على ظهره: قد أعجبت بنفسك تعرفها، فإن أحببت أن أعرفكها عرفتك.
فكتب إليه النعمان: كنت كتبت إلى الوزير - أعزه الله - كتاباً أستزيده في رزقي، فوقع على ظهره تويع ضجر، لم يخرج فيه مع ضجره شيء من حياطته ونظره وقال - أيده الله - إنه قد حدث لعبده عجب بنفسه، وقد صدق - صدق الله قوله وأعلى طوله - لقد شرفني الله بخدمته، وأعلى ذكري بجميل ذكره، ونبه على كفايتي باستكفائه، ورفعني وكثرني عند نفسي، فإن أعجبت فبنعمة الله عندي، وجميل تطوله علي، ولا عجب؛ وهل خلا الوزير من قوم يصطفيهم بعد قلة، ويرفعهم بعد خمول، ويحدث لهم همماً رفيعة وأنفساً(6/134)
عليه، وفيهم شاكر وكفور، وأرجو أن أكون أشكرهم للنعمة أقومهم بحقها؛ وقال - أعزه الله - إن عرف نفسه وإلا عرفناه إياها، فما أنكرها، وهي نفس أنشأتها نعمة الوزير - أيده الله - وأحدثت فيها ما لم تزل تحدثه في نظرائها من سائر عبيده وخدمه؛ وأنكر - أيده الله - إخباري عما لم أشاهده، وهو - أيده الله - يعلم أن الخبر المجتمع عليه يقوم مقام العيان فيحققه من لميشاهده ولا ينكر عليه ذلك، وليس في المملكة أحد يذكر ارتفاعاً إلا حائن مغرور يصرعه حينه، واله يعلم ما يأخذ به نفسه من خدمة الوزير عنده، إما عادة ووراثة، وإما تأدباً وهيبة، وإما شكراً واستدامة للنعمة.
قال عبيد الله بن سليمان: كنت أكتب بين يدي أبي سليمان فقال لي يوماً: أصلح قلمك واكتب: أطال الله بقاءك، وأدام عزك وأكرمك، وأتم نعمته عليك، وزاد في إحسانه إليك، كتب الوكيل - أعزك الله - متصلة بشكرك، والضيعة ضيعتك، وكل ما تأيته في أمرها فموقعه يحسن مني، وشكري عليه يتضاعف - وخطاباً في هذا المعنى، وكانت هذه المخاطبة لا يخاطب بها إلا صاحب مصر أو فارس، فقلت: قد ابتاع ضيعة بأحد الموضعين، ثم أصلح الكتاب وقال: عنونه إلى الرخجي، وكان يتقلد النهروان الأوسط.
ثم رمى إلي كتاباً آخر لصاحب بريد فقال: وقع عليه: أنت - أعزك(6/135)
الله - تقف على ما تضمنه هذا الكتاب، ولئن كان ما تضمنه هذا الكتاب حقاً لأفعلن ولأضعن؛ وخطاباً غلظ فيه، ثم أصلح الكتاب وقال: عنونه إلى الرخجي، فعجبت من الكتابين، وكأنه علم ما في نفسي فقال لي: إني أظنك قد أنكرت الخطابين، هذه تناءتين خدمتها، وهذا حق سلطاني استوفيته.
قال ابن أبي الأصبغ: كنت بحضرة عبيد الله بن سليمان وهو يكتب للمعتضد أيام إمارته حين وردت عليه رقعة من أبي الحسين جعفر بن محمد بن ثوابة نسختها: قد فتحت للمظلوم بابك، ورفعت عنه حجابك، فأنا أحاكم الأيام إلى عدلك، وأشكو صروفها إلى فضلك، واستجير من لؤم غلبتها بكرم قدرتك وحسن ملكتك، فإنها تؤخرني إذا قدمت، وتحرمني إذا قسمت، فإن أعطت يسيراً، وإن ارتجعت كثيراً، ولم أشكها إلى أحد قبلك، ولا اعتمدت للانتصاف منها إلا فضلك، ولي مع ذمام المسألة لك، وحق الظلامة إليك، ذمام تأميلك، وقدم صدق في طاعتك، والذي يملأ من النصفة يدي، ويفرغ الحق علي، حتى تكون إلي محسناً، وأكون بك إلى الأيام مقرباً، أن تخلطني بخواص خدمك الذين نقلتهم من حد الفراغ إلى الشغل، ومن الخمول إلى النباهة والذكر، فإن رأيت أن تعديني فقد استعديت إليك، وتنصرني فقد عذت بك، وتوسع لي كنفك فقد أويت إليه، وتسمني بإحسانك فقد عولت عليه، وتستعمل يدي ولساني فيما يصلحان له من خدمتك، فقد درست كتب أشلافك، وهم القدوة في البيان، واستضأت بآرائهم، واقتفرت آثارهم اقتفاراً جعلني بين وحشي الكلام وإنسيه، ووقفني منه على جاة متوسطة يرجع إليها الغالي، ويلحق بها المقصر التالي، فعلت إن شاء الله.(6/136)
قال: فجعل عبيد الله يرددها، ويستحسنها ثم قال: هذا أحق بديوان الرسائل.
قال عمر بن الخطاب رضي الله عنه: هلاك العرب أبناء بنات فارس.
دخل عمرو بن معدي كرب على عمر بن الخطاب وهو يحد الصمصامة، فقال له الأشعث بن قيس: يا عمرو، إلى متى تحد سيفك وقد فشا الإسلام، وأظهر الله الدين؟ قال عمرو: وماذا يريبك منه، فوالله إنه لسيف مازني بامرأة أبيه قط، ولا ارتد عن الإسلام، فقال له رجل زبيدي يا عمرو أللسيد تقول هذا؟ قال: اسكت فوالله ما أنت إلا بمنزلة النعرة التي تقع في أنف الحمار، فقال له الزبيدي: يا عمرو أما عملت أنها ربما أضرطته؟ فخجل عمرو.
المعلهج: الأحمق؛ انكفت: انقبض.
قال نور بن يزيد: كان عمر بن الخطاب يعس بالمدينة في الليل، فارتاب بالحال فتسور، فوجد رجلاً عنده امرأة وعنده خمر، فقال له: يا عدو الله، أكنت ترى أن الله يسرك وأنت على معصيته؟ فقال الرجل: لا تعجل(6/137)
علي يا أمير المؤمنين، إن كنت عصيت اللهفي واحد فقد عصيته أنت في ثلاث: قال الله تعالى: " ولا تجسسوا " الحجرات: 12 وقد تجسست، وقال: " وأتوا البيوت من أبوابها " البقرة: 189 وقد تسورت، وقال: " يا أيها الذين آمنوا لا تدخلوا بيوتا غير بيوتكم حتى تستأنسوا وتسلموا على أهلها " النور: 27 وأنت دخلت بغير سلام؛ فقال له عمر: فهل عندك من خير إن عفوت عنك؟ قال: بلى يا أمير المؤمنين، والله لئن عفوت عني لا أعود لمثلها أبداً، فعفا عنه.
كتب عمر إلى معاوية: الزم الحق ينزلك الحق منازل أهل الحق، يوم لا يقضي إلا بالحق.
قال ابن عباس: لما أسلم عمر رضي الله عنه قال المشركون: انتصف القوم منا.
قال المدائني: نظر عمر إلى أعرابي يصلي صلاة خفيفة، فلما قضاها قال: اللهم زوجني العين، فقال عمر: أسأت النقد وأعظمت الخطبة.
قال أبو زياد الفقيمي: أهدى رجل إلى عمر جزوراً ثم خاصم(6/138)
إليه بعد ذلك في خصومة، فجعل يقول: افصلها يا أمير المؤمنين كفصل رجل الجزور، فاغتاظ عليه عمر فقال: يا معشر المسلمين، إياكم والهدايا، فإن هذا منذ أيام أهدى إلي رجل جزور، فوالله ما زال يرددها حتى خفت أن أحكم بخلاف الحكم.
قال إبراهيم بن ميسرة، قال لي طاووس: لتنكحن أو لأقولن لك ما قال عمر بن الخطاب رضي الله عنه لأبي الزوائد: ما يمنعك من التزويج إلا عجز أو فجور.
جلس رجل إلى عمر رضي الله عنه فأهذ من رأسه شيئاً فسكت عنه، ثم صنع به ذاك يوماً آخر، فأخذ بيده وقال: ما أراك أخذت شيئاً، فإذا هو كذلك، فقال: انظروا إلى هذا، صنع بي مراراً، إذا أخذ أحدكم من رأس أخيه شيئاً فليره، قال الحسن: نهاهم والله أمير المؤمنين عن الملق.
قال الحكم بن عتيبة، قال عمر بن الخطاب رضي الله عنه: القاضي لا يصانع ولا يصارع، ولا يتبع المطامع، يصارع: يميل إلى أحد الخصمين؛ كذا كان التفسير مع الحديث.
قال أبو هريرة: لما استخلف عمر صعد المنبر فحمد الله وأثنى(6/139)
عليه ثم قال: أيها الناس إني نظرت إلى الإيمان فوجدته يقوم على أربع خصال، فقام إليه عمار بن ياسر فقال: ما هن يا أمير المؤمنين؟ قال: تقوى الله في جمع المال من أبواب حله، فإذا جمعته عففت عنه، وإذا عففت عنه وضعته في مواضعه حتى لا يبقى عندي منه دينار ولا درهم ولا عند آل عمر خاصة؛ والثانية: أعرف للمهاجرين حقهم وأقرهم على منازلهم؛ والثالثة: الأنصار الذين آووا ونصروا، أحفظ وصية رسول الله صلى الله عليه وسلم فيهم فأقبل من محسنهم وأتجاوز عم مسيئهم وأكون أنا عيالهم حتى ينصرفوا إلى منازلهم؛ والرابعة: أهل الذمة، أفي لهم بعدهم وأقاتل من ورائهم ولا أكلفهم إلا طاقتهم؛ قال: إذا فعلت ذلك كنت معترفاً عند الله - جل اسمه - بالذنوب.
وقال أيضاً على المنبر: اقرأوا القرآن تعرفوا به، واعلموا به تكونوا من أهله، إنه لن يبلغ من حق ذي حق أن يطاع في معصيتة الله، ألا وإني أنزلت نفسي من مال الله بمنزلة والي ايتيم، إن استغنيت عففت، إن افتقرت أكلت بالمعروف تقرم البهمة الأعرابية: القضم لا الخضم.
مات أبو عبيد سنة تسع ومائتين وله أربع وتسعون سنة، وقيل له في علته: ما بك؟ فقال: هذا النوشجاني دخلت إليه مسلماً فجاء بموز كأنه(6/140)
أيور المساكين، فأكثرت منه فكان سبب علتي.
قال أبو عبيدة: اسم السلام هو السلام، كما تقول: هذا وجه الأمر، وهذا وجه الحق، وثم وجه الله عز وجل، أي الله.
قال محمد بن يزيد الواسطي: كنت في مجلس المبرد فجرى ذكر قول أبي عبيدة في أن الاسم هو المسمى، فقال المبرد: غلط أبو عبيد القاسم وأخطأ أبو عبيد، والذي عندنا أنه أراد بقوله: اسم السلام، اسم الله، والسلام من الأسامي التي تسمى بها الله عز وجل في كتابه، ثم التفت إلي وقال: هذا الذي أختاره ويختاره أصحابنا، فأمسكت ولم ير في وجهي قبولاً؛ فلما رضيته وإن كان قد ذهب إليه أصحابنا، فقال لي: وأي شيء عقدك؟ قلت: أما أبو عبيد فمذهبه في هذا خطأ، وقد غلط على أبي عبيدة لأن الذي قاله أبو عبي فذهبه في هذا خطأ، وذد غلط على أبي عبيدة هو اللفظة الموضوعة علامة لتقضي الأشياء، فتختم بها الرسائل والخطب والكلام الذي يستوفي معناه وليس لها مسمى غيرها وهي مثل حسب وقط والموضوعة كالعلامات لتضي الأشياء، فتختم بها الرسائل والخطب والكلام الذي يستوفي معناه وليس لها مسمى غيرها وهي مثل حسب وقط والموضوعة كالعلامات لتقضي الأشياء وختم الكلام، فهي اسم لا مسمى له غيره، فأعجب أبا العباس ذلك وقال لي: لا عدمتك. ثم رجعت إلى المعنى الأول فقلت: وذاك الأول، وإن كان ذهب إليه بعض أصحابنا، فإنه قول من لا يفهم الشعر ومعاني الشعر، ولبيد أفصح من أن يقول عند توديعه وتناهي(6/141)
مكانه: اسم الله عليك، وإنما يسمى الله تعالى فيما يداوله النمو والبركة والزيادة أو يعوذ لحسنه وجماله، فقال لي: يا أبا عبد الله حسبك، فما سرني بهذه الفائدة حمر النعم.
أنشد الأصمعي لجارية من العرب: الطويل
تحمل عداك الله عني رسالة ... إليه جديداً كل يوم سماعها
وخبر عن الوعساء أن قد توجهت ... إليها مراعيها وطال نزاعها
لقد قطع البين المشت أكفة ... عزيز علينا أن يحم انقطاعها
قال ابن دريد: الفتلاء التي يتجافى كتفاها عن زورها - وهو مدح -؛ والسرح: السهلة؛ واستناع: تمادى واستنعى.
قال الأصمعي: العميان أكثر الناس نكاحاً، والخصيان أصح الناس أبصاراً، لأنهما طرفان: إذا نقص من أحدهما زاد في الآخر.
قال إسحاق الموصلي: قبل الأصمعي يد الرشيد بعقب كلام قرظة به فقال له: والله يا أمير المؤمنين ما شممت طيباً قط أطيب من نسيم يدك، فطيب الله نفسك كما طيبها، وأنعم بالك كما أنعمها، وألان زمانك كما ألانها ضد ما قال الأسدي لابن مطيع العدوي حين جلس ليأخذ البيعة لابن الزبير، قال: وما قال له؟ فأنشد: الطويل
دعا ابن نطيع للبياع فجئته ... إلى بيعة قلبي لها غير آلف(6/142)
فأبرز لي حشناء لما لمستها ... بكفي ليست من أكف الخلائف
قال أبو حاتم: ما رأيت رجلاً قط أحسن ترجمة للكلام من الأصمعي، سألته: لأي شيء قدم جريراً من قدمه؟ قال: كان أغزرهم وأغزلهم، وأقلهم سرقة وألهجهم هجاء؛ أبو حاتم: ألهجهم: أثقبهم، يقال رجل لهجة إذا كان منكراً.
قال الأصمعي، قال لي الرشيد: أنشدني أشعر ما تعرف في المجون، فأنشدته: الوافر
ألم ترني وعمار بن بشر ... نشاوى ما نفيق من الخمور
وكنا نشرب الإسفنط صرفاً ... ونصقى بالصغير وبالكبير
إذا ما قبحة وقعت لنيك ... رفعناها هنالك بالأيور
بكل مدور صلب متين ... شديد الرهز ليس بذي فتور
قال: ثم قلت: قول بكر بن النطاح: السريع
وقحبة أعطيتها خمسة ... فنكتها نيكاً بألفين
تركته يطلع من فرجها ... طلع حمار بين وقريم
قال الأصمعي: قال لي المأمون أيام الرشيد: لمن هذا البيت؟(6/143)
مخلع البسيط
هل كنت إلا كلحم ميت ... دعا إلى أكله اضطرار
قلت: لابن أبي عيينة المهلبي، قال: كلام شريف كأنه قول الشاعر: الطويل
وإن بقوم سودوك لفاقة ... إلى سيد لو يظفرون بسيد
قال الأصمعي، قال أبو فرعون العدوي: الرمل المجزوء
ليتني في بيت ورد ... منقعاً في الآدب سرد
قاعداً أعمل فيه ... سنه ما يحرد كرد
فأجا حرها بأيري ... ولحا مقمور بدرد
قال الأصمعي: مر يتساوك: إذا انثنى؛ وقال: يعوج: يميل، ويعيج: يلتفت. وقال: الحرمة: الغلمة، ومنها يقال: استحرمت المعز.
قال الأصمعي: حدث رجل عند المنصور فأكثر من قوله: قال أبي رحمه الله، فقال له الفضل: كم تترحم على أبيك في مجلس أمير المؤمنين؟ فقال: لو ذقت حلاوة الآباء ما نسيتها.
قال الأصمعي، سمعت أبا فرعون الساسي يقول: الرجز(6/144)
لقد غدوت خلق الثياب ... معلق الزنبيل والجراب
طبا بدق حلق الأبواب ... أسمع ذات الخدر والحجاب
قال، وله: الرجز
رب عجوز خبة زبون ... سريعة الرد على المسكين
تظن أن بوركا يكفيني ... إذا غدوت باسطاً يميني
عدمت كل علجة تؤذيني
البنك: ضرب من طيب، الكفت: القبض؛ جذا يجذو جذواً إذا انتصب.
قال بعض الأدباء: يقال للإنسان ما دام رضيعاً: صبي، فإذا فطم عن اللبن فهو وليد، فإذا راهق فهو غلام، فإذا خرج شعر وجهه فهو شاب، ثم يكون مجتمعاً، ثم يكون كهلاً، ثم شيخاً، فإذا خالطه البياض فهو أشمط، تقول: وخطه الشيب، وإذا كان لون وجهه إلى البياض قيل آدم، فإذا كان إلى السمرة فهو أسمر، وينسب المماليك إلى أجناسهم ثم يخلون، فإذا بدا الشعر على شاربه قيل طر شاربه، فإذا ظهر الشعر على وجهه قيل بقل وجهه، فإذا كان واسع الجبهة قيل رحب الجبهة، فإذا كان فوق جبهته خطوط قيل: بجبهته غضون، فإذا كان بين حاجبيه فرجة قيل: أبلج، فإذا اتصل الشعر بينهما فهو مقرون، فإذا كان على حاجبه شعر كثير فهو أزب، فإذا كان الحاجب سابغاً فهو أزج، فإذا لم يكن على حاجبيه شعر فهو أمرط وأنمص،(6/145)
فإذا كان واسع العينين فهو راعين، فإذا كان أحجر فهو غائر، فإذا خرجت مقلته وظهرت فهو جاحظ، وإذا صغرت عينه وضاقت فهو أحوص، فإذا نظر إلى جانب الأذن فهو أخزر، ويقال: رجل أحول ورجل أخوص ورجل أصم، فإذا كان غير مرتفع الأنف فهو أفطس، وإذا كان قصير الأنف ليس بعريض فهو أذلف، فإذا كان فيها خطط دم فهو أشكل، والأهتم: الذي انقلعت ثناياه، والأثرم: الذي قد انكسرت سنه، فإذا انكسرت سنه عرضاً قيل قد انقصت سنه، فإذا انشقت طولاً قيل: انقاصت؛ فإذا كان غليظ الشفتين فهو أثلم، فإذا اتصلت أسنانه فهو مرصف، وإذا كانت متفرقة فهو أفلج؛ فإذا ذهب الشعر عن مقدم رأسه فهو أجلح، فإذا كان أكثر من ذلك فهو أصلع، فإذا ذهب من قبل الصدغين كان أنزع؛ فإذا لم يبصر بالليل فهو أعشى، وإذا لم يبصر بالنهار فهو أخفش، فإذا فسدت عينه وسال منها الماء فهو أعمش، فإذا كثر سواد العين فهو أكحل، فإذا كثر سوادها وصفاء بياضها فهي حوراء، يقال رجل أحور، وامرأة حوراء؛ فإذا كان في الفم زيادة سن فهو أشغى؛ فإذا كان مسترخي اللثة فهو أهدل؛ فإذا كان صغير الأذن فهو أصمع؛ فإذا كان واسع الفم فهو أجدع، فإذا كان مقطوع طرف الأنف فهو أخرم؛ فإذا كان مقطوع الأذن فهو أصلم؛ فإذا كان واسع الفم رحب الشدقين فهو أشدق؛ فإذا كان مقطوع الشفة السفلى فهو أفلح، فإذا كان مقطوع الشفة العليا فهو أعلم، فإذا اجتمعت شفتاه فهو أفوه؛ فإذا كانت عيناه ممسوحتين فهو مطموس؛ فإذا يبس كفه أو ذراعه فهو أعسم، فإذا فسدت يده واسترخت فهو أشل؛ فإذا كان بوجهه خال أو شامة أو وشم أو أثر كي أو حرق كتب بذلك أو أثر جدري أو ضربة فكذلك؛ وإذا كان قصير العنق فهو أو قص، وإذا كان طويل العنق فهو(6/146)
أجيد، وإذا عمل بيمينه ويساره قيل: أعسر يسر، وإذا عمل بيساره وضعفت يمنيه قيل: أعسر، ورجل أخلف وامرأة خلفاء؛ ويقال لمن قطعت يده: رجل أجذم وأقطع وأكوع وأتك وأصرم؛ ويقال: تعلوه حمرة، تعلوه صفرة؛ ويقال: أبح الصوت وأجش الصوت وأغن وأخن.
هذه ألفاظ مهدت للكاتب إذا تولى العرض أو أعان صاحب العرض، وهي نافعة، ولولا أني توخيت حكاية ما قال الأديب لبسطت فيه، ولكني قد اشمأزيت من كل ما يؤدي إلى تثقيل، وإن جاوز الفائدة وجلب النفع وذخر الفضل.
أنشد الأصمعي لأبي فرعون الساسي: الرجز
يا رب جبس قد علا في شانه ... لا يسقط الخردل من بنانه
ولا يريم الدهر من مكانه ... أشجع من ليث على دكانه
لا يطمع السائل في رغفانه ... لم يعطني الفلس على هوانه
يا رب فالعنه بترجمانه
قال أبو العيناء: ما رأيت مثل الأصمعي قط، أنشد بيتاً من الشعر فاختلس الإعراب؛ وقال: سمعت أبا عمرو بن العلاء يقول: كلام العرب الدرج؛ قال: وحدثني عبد الله بن سوار أن أباه قال: إن العرب تجتاز بالإعراب اجتيازاً؛ قال الأصمعي: وحدثني عيسى بن عمر أن ابن أبي إسحاق قال: العرب ترفرف على الإعراب ولا تتفيهق به؛ قال: وسمعت يونس يقول: العرب تشام الإعراب ولا ت تحققه؛ قال: وسمعت الحسحاس بن حباب(6/147)
يقول: العرب تقع بالإعراب وكأنها لم ترد؛ قال: وسمعت أبا الخطاب يقول: إعراب العرب الخطف والحذف؛ قال: فتعجب الناس منه.
قال الأصمعي: ما أحسن ما قال الأعشى: الطويل
وإني إذا ما قلت قولاً فعلته ... ولست بمخلاف لقولي مبدل
قال الزبير بن بكار: تقدم وكيل مؤنسة إلى شريك بن عبد الله، وكان الوكيل يدل عليه بمكانه من مؤنسة وخدمتها ويسطو على خصمه، فقال له شريكك كف لا أم لك، فقال: توقل لي هذا وأنا وكيل مؤنسة؟ فقال شريك: يا غلام اصفعه، فصفعه عشر صفعات، فانصرف إلى صاحبته فعرفها ما ناله، فكتبت إلى المهدي تشكو شريكاً وتذكر ما صنع بوكيلها، فعزله. وقد كان شريك قبل ذلك دخل على المهدي فأغلظ له، وكان فيما قال له: مثلك يولى أحكام المسلمين؟ قال: ولم يا أمير المؤمنين؟ قال: لخلافك على الجماعة وقولك بالإمامة، قال، فقال شريك: ما أعرف ديناً إلا عن الجماعة فكيف أخالفها وعنها أخذت ديني؟ وأما الإمامة فما أعرف إماماً إلا كتاب الله وسنة نبيه، فهما إمامي وعليهما عقيدتي، وأما ما ذكره أمير المؤمينن أن مثلي لا يتولى أحكام المسلمين فذاك شيء أنتم فعلتموه، فإن كان خطأ لزمكم(6/148)
الاستغفار منه، وإن كان صواباً وجب عليكم الإمساك عنه؛ المهدي: فما تقول في علي بن أبي طالب؟ قال: أقول فيه الذي قال فيه جداك العباس وعبد الله، قال: وما قالا؟ قال: أما العباس فإنه مات وعلي عنده أفضل أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم، وقد شاهد أكثر المهاجرين يحتاجون إليه في الحوادث، ولم يحتج إلى أحد منهم إلى أن خرج من الدنيا. وأما عبد الله فضارب عنه بسيفين وشهد حروبه كلها، وكان فيها رأساً متبعاً وقائداً مطاعاً، فلو كانت إمامته جوراً كان أول ما يقعد عنه أبوك، لعلم أبيك بدين الله وفقهه في أحكام الله؛ فسكت عنه المهدي، وخرج شريك؛ وكان العزل بعد هذا بجمعة.
قرأت هذا الحديث على أبي حامد فقال: ما أعجب الدنيا وأسبابها! وإنما تحرك أبو حامد عند هذا الحديث للقضاء، فإنه أن قيماً بهذه الصول والفروع، ثم قال: يا شريك بن عبد الله، من أين يصح لكأن العباس مات وعلي عنده أفضل أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم، اللهم إلا أن يشير إلى البقية بعد الصدر الأول؛ على ا، عليك فيه كلاماً، وكيف يسلم لك فضل رجل باعتقاد رجل؟ ألا تعلم أن العباس لو لم يفضل علياً لكان علي فاضلاً لأنه غرر به وحسده، ولو كان فهي خير لقعد موضع أبي بكر وموضع علي، ولكن سبق موضع سيادته في الجاهلية سؤدد من سوده الله في الإسلام، ومتى فزع إلى العباس في ترتيب الناس؟ يكفيه أنه لم يدخل في الشورى ولم يشهد بدراً، ولم يبادر الحظ بالاستبصار في الدين ولا بالرأي في الدنيا، وحقه موفور، ومكانه من الشيخوخة والتقدم مشهور، ولكن أين الفقه والورع والاجتهاد والتدبير والسبق؟ ذاك تراث حازه قوم. أما عبد الله فقد ضارب عنه بسيفين، لكنه قعد عنه أحوج ما كان إليه، وانفرد بإمارة البصرة واستأثر بأموالها وأعمالها، فلما استقدمة وطلب منه ما اجتمع من مال الله تعالى ومال المسلمين طوى الأرض إلى مكة وبلغ الطائف، واستكثر من السراري إلى(6/149)
أن عمي، وهذا بعد أن دخل إلى معاوية وسالم وطلب العطاء وقارب وأعطى من نفسه وتغافل؛ أهكذا تكون نصرة الأئمة في مصالح الأمة؟ ما أحوجه إلى العفو والرحمة.
ثم قال - أعني أبا حامد: دعونا نسكت عن مساوئ الناس بمحاسنهم، فلو قد أثرنا الدفائن ونثرنا الكنائن كان للعقل والعين ما يحير أحدهما ويسخن الآخر.
وقال كلاماً آخر لم يلتق طرفاه طولاً، لأنه أخذ في مبادئ الإسلام، فذكر أهل الدين وإخلاص الموقنين وجود المستبصر واستسلام المتوكل وروغان الضعيف وخب المنافق وتربص الحاسد وفرح الشامت، وصرف القول تصريفاً يخلص الزبد المحض من الممذوق، ويميز اليقين من الشك، وكان ذا عارضة عريضة ولسن بين وصدر جموع وقلب ذكي ولهجة بسيطة، مع لكنة خراسان وفجاجة العجم وقلة فصاحتهم، لأنه كان من مرو الروذ ورحل إلى العراق وهو باقل الوجه مجتمع القوة، وكان من العرب من بني عامر واسمه أحمد بن بشر، ومات بالبصرة سنة اثنتين وستين وثلايمائة.
وحكى لنا في هذا اليوم أن صالح بن عبد الجليل، وكان مفوهاً ناسكاً، دخل على المهدي وسأله أن يأذن له في الكلام، فقال: تكلم، فقال: يا أمير المؤمنين، إنه لما سهل علينا ما توعر على غيرنا من الوصول(6/150)
إليك، قمنا مقام المؤدي عنهم وعن رسول الله صلى الله عليه وسلم بإظهار ما في أعناقنا من فريضة الأمر والنهي لانقطاع عذر الكتمان في البينة، لا سيما حين اتسمت بميسم التواضع ووحدت الله، وحملت كتابه إيثاراً للحق على ما سواه، فجمعنا وإياك مشهد من مشاهد التحميص ليتم مؤدينا على موعد الأداء عنهم، وقابلنا من موعود القبول، ما أوردنا تحميص الله إيانا في اختلاف السر والعلانية؛ وقد كان أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم يقولون: من حجب الله عنه العلم عذبه على الجهل، وأشد مه عذاباً من أقبل إليه العلم فأدبر عنه، ومن أهدي إليه علم فلم يعمل به، فقد رغب عن هدية الله وقصر بها، فأقبل على ما أدى الله إليك من ألسنتنا قبول تحقيق وعمل لا قبول رياء وسمعة، فإنه لا يخلفك منا إعلام على ما نجهل أو مواطأة على فضل ما تعلم، فقد وطن الله جل اسمه نبيه عليه الصلاة والسلام على تزولها تعزية عما فات، وتحصيناً من التمادي، ودلالة على المخرج فقال: " وإما ينزغنك من الشيطان نزغ فاستعذ بالله " فصلت: 36 فأطلع على قلبك بما ينور به القلب من إيثار الحق ومباينة الهوى، فإنك إن لم تفعل لم تر لله أثرة على قلبك.(6/151)
فبكى المهدي حتى هم من كان على رأسه بضرب صالح وظنوا أنه يسكت حين ذهب به البكاء فقال: يا صالح، لو وجدت رجالاً يعملون بما آمرهم وبما أنوي في رعيتي لظننت أني ألقى الله عز وجل وأمر أمة محمد صلى الله عليه وسلم أقل ذنوبي وأهون حسابي، ولكن دلني على وجه النجاة، فإن لم أعمل كنت أنا الجاني على طهري والمؤثر هواي على رضا ربي، قال له صالح: أنت يا أمير المؤمنين أعلم مني بمواضع النجاة، قال: لو كنت أعلم بموضع النجاة ما كنت أولى بعظتي، وما هو إلا أن أركب سيرة عمر بن الخطاب، ولا يصلح عليها أحد من أهل هذا العصر، وذاك أن الناس في الزمن الماضي كان يرضي أحدهم الطمر البالي، وتقنعه الكسرة اليابسة والماء القراح، وهم اليوم في مضاعف الخز والوشي، ومائدة أحدهم في اليوم بمثل غنى ذي العيال في زمن عمر؛ أو أسيح في الأرض ذات العرض، فإلى من أكلهم؟ إلى ولد أبي طالب؟ فوالله ما أعلم للمسلمين راحة فيهم ولا فرجاً عندهم. ولو أنني حملت الناس على سيرة العمرين في هذا العصر كنت أول مقتول، وذلك أن الفطام عن هذا الحطام شديد، ولا يصبر عليه إلا المبرز السابق، فأنى ذلك اليوم، يا صالح؟ والله لقد بلغني أن لسعيد بن سلم ألف سراويل، ولحازم ألف جبة، ولعمارة بن حمزة ألف دواج، وهي أقل ملكهم، فما ظنك بي وهم عددي وناسي وسهام كنانتس ومن أشبههم كمعن بن زائدة وعبد الله بن مالك، فلو أني حملتهم على التقشف والنسك وأخذت ما في أيديهم فوضعته حيث راه أنت وأنا، هل كانت نفس أبغض إليهم من نفسي، أو حياة أثقل عليهم من حياتي؟ فأطرق صالح مفكراً ثم رفع رأسه وقال: يا أمير المؤمنين، إنه ليقع في خلدي أنك قبلت قولي قبول تحقيق لا قبول رياء وسمعة، فقال المهدي: شهيدي على ذلك الله، فقام صالح فدنا من المهدي فقيل رأسه وقال: أعانك الله يا أمير المؤمنين على صالح نيتك، وأعطاك أفضل ما تأمله في رعيتك، ووهب لك أعواناً بررة صالحين، يعلمون بما يجب عليهم فيك، ثم خرج. فقال له(6/152)
أصحابه: ما صنعت؟ قال: والله ما ترك شيئاً عليه إلا سبقني إليه، ولا شيئاً له إلا أوضح العذر فيه.
منصور الفقيه: الطويل
سألت رسوم القبر عمن ثوى به ... لأعلم ما لاقى فقالت جوانبه
أتسأل عمن عاش بعد وفاته ... بمعروفه إخوانه وأقاربه
وله: الوافر
منافسة الفتى فيما زول ... على نقصان همته دليل
ومختار القليل أقل منه ... وكل فوائد الدنيا قليل
وله: الطويل
فما هو إلا مثل سيف مفضض ... يروعك باديه ولا خير في النصل
فإن هز لم يهتز أو سل في الوغى ... لدفع ملم فالفضيحة في السل
وله: البسيط
أمر من طعم كل مر ... خضوع حر لغير حر
سأل أبو عمرو بن العلاء رؤبة بن العجاج: ما السانح؟ فقال ما ولاك ميامنة، قال: فما البارح؟ قال: ما ولاك مياسرة، والذي يأتيك من أمامك، النطيح، والذي يأتيك من خلفك: القعيد.(6/153)
قال إبراهيم بن شهاب، قال أبو الحسن البرذعي، حدثني أبو يعقوب الشحام عن أبي الهذيل عن عثمان الطويل قال: جاء عمرو بن عبيد إلى أبي عمرو بن العلاء فقال: هل تعرف في كلام العرب أن أحداً فرط فيما لا يقدر عليه؟ قال: لا، قال: فأخبرني عن قول الله تعالى: " يا حسرتا على ما فرطت في جنب الله " الزمر: 56 أفرط فيما فدر عليه أو فيما لم يقدر عليه؟ فقال أبو عمرو بن العلاء لأصحابه: قد أبان لكم أبو عثمان لقدر بحرفين.
قال الأصمعي: سمعت أبا عمرو بن العلاء يقول: كنت امضي أنا وشعبة إلى أبي نوفل بن أبي عقرب فيسأله شعبة عن الحديث، وأسألهن أنا عن الشعر والغريب، فيقوم شعبة لم يحفظ شيئاً مما سألته عنه أنا، وأقوم أنا ولم أحفظ شيئاً مما سأله عنه شعبة.
رأيت امرأة قدمت زوجها إلى أبي جعفر الأبهري المالكي، وكان على قضاء المحول فقالت: أعز الله القاضي، هذا زوجي ليس يمسكني كما يجب، حسبك أنه ما أطعمني لحماً منذ أنا معه، فقال القاضي: ما تقول؟(6/154)
قال: أعز الله القاضي، البارحة أكلنا مضيرة، قالت المرأة: ويلي، أليس كان طعامنا رائب؟ قال: وتنايكنا ستاً، احسبي أنا أكلنا مضيرة بعصبان.
شاعر: الطويل
سلوت عن اللذات لما تولت ... وأزلمت نفسي تركها فاستمرت
وما النفس إلا حيث يجعلها الفتى ... فإن أطعمت تاقت وإلا تسلت
وأنشد: البسيط
حيتك عنا شمال طاف طائفها ... بجنة فجنت روحاً وريحاناً
هبت سحيراً فهاج الغصن صاحبه ... موسوساً وتناجى الطير إعلانا
كأن طائرها نشوان من طرب ... والغصن من هزه عطفيه نشوانا
قال علي بن عبيدة: الأيام مستدعات الأعمال، ونعم الأرضون لمن بذر فيها الخيرات.
وقال الصولي: قال رجل لمحمد بن أبي أمية الكاتب: أين الشعير الذي وعدتني به، فقال: أين البرذون الذي ضمنت لي؟ أنت والله كما قال ابن هرمة: المتقارب
يحب المديح أبو خالد ... ويفرق من صلة المادح
كبكر تحب لذيذ النكاح ... وتفرق من صولة الناكح(6/155)
قال عبد الله بن إبراهيم الجمحي، قيل لابن هرمة: أتمدح عبد الواحد بن سليمان بما لم يقل مثله في غيره: الوافر
أعبد الواحد الميمون إني ... أغص حذار سخطك بالقراح
فقال: إني أخبركم القصة: أصابني أزمة وقحمة بالمدينة، فاستنهدتني بنت عمي للخروج فقلت لها: ويحك ليس عندي ما يصل جناحي، فقالت لي: أنا أشيع صحابتك بما أمكنني، وكانت عندي ناب لي، فنهضت بها وهيتهجد النوام وتؤذي المساء وليس من منزل أنوله إلا قال الناس: ابن خرمة، حتى وقعت دمشق فأويت إلى مسجد عبد الواحد بن سليمان في جوف الليل، فجلست في المسجد إلى أن نظرت إلى بزوغ الفجر، فإذا الباب ينفلق عن رجل كأنه البدر، فدنا فأذن ثم أهذب ركعتيه فتبينته فإذا هو عبد الواحد، فقمت فدنوت منه وسلمت عليه، فقال: أبا إسحاق؟ قلت: لبيك بأبي وأمي، فقال: آن لك أن تزورنا، طالت الغربة واشتد الشوق فما(6/156)
وراءك؟ قلت: لا تسألني بأبي أنت، فإن الدهر قد أخنى علي فما وجدت مستغاثاً غيرك؛ فوالله إني لأخاطبه إذا بثلاثة فتية قد خرجوا كأنهم الأشجان فسلموا، فاستدنى الأكبر منهم فهمس إليه بشيء دوني، ودون أخويه، فمضى إلى منزله ولم يلبث أن خرج ومعه عبد ضابط يحمل حزمة من ثياب حتى ضرب بها بين يدي، فهمس إليه ثانية فعدا، فإذا به قد رجع ومعه مثل ذلك، فضرب به بين يدي، فقال لي عبد الواحد: ادن يا أبا إسحاق فإني أعلم أنك لم تصر إلينا حتى تفاقهم صدعك، فخذ هذا وارجع إلى عيالك، فوالله ما سللنا لك هذا إلا من أشداق عيالنا، ودفع إلي ألف دينار وقال لي: قم فارحل فأغق من وراءك، فقمت إلى الباب فلما نظرت إلى ناقتي ضقت، فلما نظر إليها قال: ما هذه؟ واسوأتاه، يا غلام قرب إليه جملي فلاناً، فوالله لأنا كنت بالجمل أشد سروراً مني بكل ما نلت، فهل تلومونني أن أغص حذار سخط هذا بالماء القراح؟! والله ما أنشدته ليلتئذ بيتاً واحداً.
أنشد الأصمعي لشاعر: السريع
رب غريب ناصح الجيب ... وابن أب متهم الغيب
ورب عياض له منظر ... مشتمل الثوب على العيب
والناس في الدنيا على نقلة ... على شباب وعلى شيب
أنشد المبرد لبشار: الطويل
خليلي من كعب أعينا أخاكما ... على دهره إن الكريم معين(6/157)
ولا تبخلا بخل ابن قزعة إنه ... مخافة أن يرجى نداه حزين
كأن عبيد الله لم يلق ماجداً ... ولم يدر أن المكرمات تكون
إذا جئته في حاجة سد بابه ... فلم تلقه إلا وأنت كمين
فقل لأبي يحيى متى تدرك العلى ... وفي كل معروف عليك يمين
وقع أبو صالح ابن يزداد في وزارته إلى عامل: ليس عليك بأس ما لم يكن منه يأس.
ووقع أيضاً إلى عامل: قد تحاوزت لك، وإن عدت أعدت إليك ما صرفته عنك.
ووقع أيضاً إلى عامل اعتد بكفاية وزاد: أدللت فأمللت، فاستصغر ما فعلت تبلغ ما أملت.
وأنشد: الرجز
يا عمر بن عمر بن الخطاب ... إن وقوفاً بفناء الأبواب
يدفعني الحاجب بعد البواب ... يعدل عند الحر قلع الأنياب
قال الماهاني: كانت في بعض الديارات راهبة قد انفردت بعبادتها، وكانت تقري الضيف وتجير المنقطع، وكانت النصارى تتمثل بعبادتها وعفافها، فمر بالدير رجل كان من شأنه أن يدخر الوفواكه، فيحمل في الضيف فواكه الشتاء، وفي الشتاء فواكه الصيف إلى الملوك، ومعه غلام له وحمار موقر من كل فاكهة حسنة، فقال للغلام: ويحك، أنا منذ زمان أشتهي(6/158)
هذه الراهبة، فقال العلام: كيف تصل إليها وهي في نهاية العفاف والعبادة؟ فقال: خذ معك من هذه الفاكهة وأنا أسبقك إلى سطح الدير فإذا سمعتني أتحدث معها بشيء فأرسل ما معك من الروزنة؛ فأصعد الغلام سطح الدير، وجاء الرجل فدق الباب فقالت: من هذا؟ قال: ابن سبيل وقد انقطع بي، وهذا الليل قد دهمني، ففتحت ودخل، وصار إلى البيت الذي الغلام على ظهره، وأقبلت هي على صلاتها، وقالت: لعله يحتاج إلى عام، فجاءته به وقالت: كل، فقال: أنا لا آكل، قالت: ولم؟ قال: لأني ملك بعثني الله تعالى إليك لأهب لك ولداً، فارتاعت لذلك وجزعت، وقالت: أليس كان طريقك على الجنة فهلا جئت معك بشيء منها؟ قال: فرفع الرجل رأسه وقال: اللهم بعثني إلى هذه المرأة، وهي بشر، وقد ارتابت فأرها يا رب برهاناً، وأنزل عليها من فاكهة الجنة فتزداد بصيرة ومعرفة، فرمى الغلام برمانة من فوق، وأتبعها بسفرجلة، ثم بكمثراة، ثم بخوخة، فقال: ما بعد هذا ريب فشأنك وما جئت له، فشال برجليها وجعل يدفع فيها وهي تمر يديها على جنبيه كأنها تطلب شيئاً، فقال لها: ما تلتمسين؟ قالت: نجد ف كتابنا أن للملائكة أجنحة وأراك بلا جناح، فقال: صدقت، ولكنا معشر الكروبيين بلا جناح.
لما ولى خالد بن عبد الله القسري بلال بن أبي بردة، وكان حمزة بن بيض صديقاً له صار إليه، وأقام على بابه أياماً لا يؤذن له، فكتب رقعة: البسيط(6/159)
قل للأمير جزاك الله صالحة ... قرم إليه التقى والمجد والدين
فهل ترى حرجاً في شرب صافية ... صهباء ينقب عن خرطومها الطين
وهل ترى حرجاً في نيك أرملة ... مسكينة ناكها قوم مساكين
فلما قرأها بلال قال: ابن بيض والله، أدخلوه، فلما دخل ابن بيض قال: ما كنت والله لأصل إليك يا فاسق إلا بالشر.
كان المغيرة بن شعبة من كبار المدنين للشراب، لم ينهه الإسلام وصحبة الرسول عليه السلام حتى قال لصاحب له يوم خيبر: قدمت إلى الشراب ومعي درهمان زائفان، فأعطني زكرتين، فأعطاه، فصب في إحداهما ماء، وحتى بعض الخمارين فقال: كل بدرهمين، فكال في زكرته، فأعطاه الدرهمين فردهما وقال: هما زئفان، فقال: ارتجع ما أعطيتين فكاله وأخذه، وبقيت في الزكرة بقية فصبها في الفارغة، ثم فعل ذلك بكل خمار بخيبر حتى ملأ زكرته ورجع ومعه درهماه.
وهذا الفعل يجمع نذالة وإثماً وخبثاً وسقوطاً.
محمد بن عبد الله الحمصي: الخفيف المجزوء
عاشر الناس بالجمي ... ل وسدد وقارب
واحترس من أذى الكرا ... م وجد بالمواهب
لا يسود الجميع من ... لم يقم بالنوائب(6/160)
ويحوط الأدنى وير ... عى ذمام الأقارب
فتفهم فإنني ... عالم ذو تجارب
لا تواصل إلا الشري ... ف الكريم الضرائب
من له خير شاهد ... وله خير غائب
واجتنب وصل كل وغد دنيء المكاسب
نيرب لا يزال يو ... قد نار الحباحب
لا تبع عرضك المصو ... ن بعرض المكالب
أنا للشر كاره ... وله غير هائب
سرق رجل من مجلس معاوية كيساً فيه دنانير، ومعاوية يراه، فقال الخازن: يا أمير المؤمنين قد نقص من الماس كيس دنانير، قال: صدقت وأنا صاحبه، وهو محسوب لك.
شاعر: الطويل
وهبت شمالاً ما اهتدى اللص هديها أن ... سلالأ متى تنظر إلى الماء يبرد
تكاد رقاق القمص وهي خفيفة ... على الشرب تندى م نسيم لها ندي
وما أدركت في مرها لم تطر به ... ولو كان من أطراف قطن مزبد
قال أبو ذر: نرعى الخطائط ونرد المطائط، وتأكلون خضماً ونأكل قضماً، والوعد الله، قال يعقوب: الخطيطة: أرض لم يصبها مطر بين أرضين قد مطرت؛ والمطيطة: ما تسأره الإبل في الحياض فيخثر بأنفاسها، والخضم: أكل الشيء الرطب، والقضم: أكل الشيء اليابس.(6/161)
قال يعقوب: هذا معلقم أي فيه مرارة.
روى الرئيس ابن العميد في أمثال العرب إذا حثت على المواساة في الشيء القليل: أطعم أخاك عقنقل الضب.
وقال: ويقال: أطعم أخاك من كلية الأرنب ويقال: لا يقوم بهذا الأمر إلا ابن إحداهما، أي ابن الداهية التي هي إحدى الدواهي.
ويقال لمن يفسد ولا يصلح: يوهي الأديم ولا يرقعه.
ويقال: الصبي أعلم بمصغى خده، أي هو أعلم بمن ينفعه.
ويقال: سطي مجر، ترطب هجر، أيتوسطي المجرة، لأنها إذا توسطت السماء أرطب النخل بهجر.(6/162)
يقال: لا يملك حائن دمه.
ويقال: رب حام لأنفه وهو جادعه.
ويقال: جاء فلان يضحك ظهراً لبطن، أي يلتفت يميناً وشمالاً.
ويقال للشيخ: أدبر غريره، وأقبل هريرة، والغرير: الخلق الحسن.
ويقال: خل بين أهل الخلاعة والمجانة، ويريد أهل الفحش والخنا.
ويقال: لأصحبنه صبوحاً حازراً، إذا توعد، والحازر: لبن قد حمض.
ويقال: ما أسن الرجل إلا تقبل أباه.
ويقال: لم يبق من شيخك إلا حبقه.
ويقال: أرض من العشب بالخوصة.
ويقال: لا تكن كالباحث عن الشفرة.
ويقال: يكسو الناس واسته عارية، يعني المغزل.(6/163)
ويقال: جرى منه كلامي مجرى اللدود، يعني بلغ كل مبلغ، واللدود دواء يصب في إحدى شقي الإنسان.
ويقال: بينهم داء الضرائر.
ويقال: أنت كالخروف، أين مال اتقي الأرض بصوف.
ويقال: ما كانوا عندنا إلا كلفة الثوب.
والغزل والمحاضنة والمراودة والسمودة واحدة.
ويقال: ذهبت دماؤهم درح الرياح، أي طلت.
ويقال: إن في المرقعة لكل كريم مقنعة؛ والمقنعة: الغنى، وهو أيضاً من قنع، والقنع: الغنى.
ويقال في الدعاء السوء: زادك الله رعالة كلما ازددت مثاله؛ والرعالة: الحماقة، يقال: رجل أرعل، وامرأة رعلاء، وقوم رعل.
ويقال: إذا قل الأعوان كل اللسان.
ويقال: للجرادة: بقلة شهر وشوك دهر.
وقالت فارك لأمها بعدما نشزت على زوجها: إنه بارد الكمرة، فقال زوجها لبني عمه: يا بني عم سحنوا الكمر، فذهبت مثلاً.(6/164)
ويقال: فلان بين العصا ولحائها، إذا كان جيد المنزلة ثابت المودة.
ويقال: تركته على مثل مشفر الأسد، في الشدة والخوف.
ويقال: كلمتته فميا وجم لي وجمة ولا أظهر رحمة ولا نأم نأمة ولا وشم لي وشمة ولا هم لي ببنت شفة ولا نغى لي نغية.
ويقال: قد قلينا صفيركم.
ويقال: قوم يمصون الثماد وآخرون حلوقهم في الماء.
ويقال: ليس الرقاد للفتى بمغنم.
ويقال: استر عورة أخيك ما يعلم فيك.
ويقال: رب مخيل مخلف.
ويقال: ربما صدقك المادح.
ويقال: حتى متى نكرع وأنت لا تنقع.
ويقال: يسقيه من كل يد بكاس، والقلب بين طمع ويأس.
مثل يمثلون به: الرجز
مالك لا يقصى ولا يسرح ... واليأس مما لا ينال أروح
هكذا كان فس مسودة ابن العميد يقصى بالصاد ولعله: يقضي ويسرح.
ويقال: اهتك ستور الشك بالسؤال.(6/165)
ويقال: الرجز
النحب يكفيك النطى المحيلا
ويقال: شمر إذا جد بك لسير.
ويقال: كل مبذول مملول.
ويقال: ما هذا البر الطارق؟ ويقال: ما شهم حمار؟ أي ما ذعرك.
ويقال: الليل جنة كل هارب.
ويقال: اللهم قدر الأية، والأية مصدر أوى أي رحم.
ويقال: الصدق في بعض المواطن عجز.
ويقال: الأيام عوج رواجع.
ويقال: لا تنفع حيلة من غيلة.
ويقال: لا تطمع في كل ما تسمع.
ويقال: لا علة، لا علة، هذه أوتاد وأخلة.
ويقال: دع الوعيد يذهب بالبيد.
ويقال: حافظ على الصديق ولو في الحريق.(6/166)
ويقال: هلا على إبل بالدهناء؛ الدهناء تمد وتقصر.
ويقال: أنف في السماء واست في الماء.
ويقال: أنت بين كبدي وخلبي.
إلى ها هنا هو ما نقلته من مسودة ابن العميد، وكان فيها أيضاً أبيات، وهي في تشبيه الذوائب بالكرم والعناقيد.
البسيط
تسبي الحليم ببراق عوارضه ... من الجوازئ بين الحل والحرم
وفاحم كقضيب الكرم عقده ... أيدي المواشط بالحناء والكتم
آخر: الكامل
ويضل مدارها المواشط في ... جعد أغم كأنه كرم
ولشاعر: البسيط
يسبين قلبي بأطراف مخضبة ... وبالعيون وما وارين بالخمر
وارين جعدا رواء في أكمته ... من كرم دومة بين السيح والجدر
ترى نواطيره في كل مرقبة ... يرمون عن وارد الأطراف منهمر
لبعض قريش: الرجز(6/167)
جارية فوعها كروم ... صحيحة كأنها سقيم
كالشمس تنشق لها الغيوم
لابن مطير: الطويل
سبتني بعيني مغزل وبارد ... تعكف تعكيف الكروم ضفائره
كثير: الطويل
وتدرأ بالمدرى أثيثاً نباته ... كجنة غربيب تدلت كرومها
لمعن بن أوس: الطويل
ووحف تنثنى في العقاص كأنه ... عليها إذا دبت غدائره كرم
لابن مقروم: البسيط
قامت تريك غداة البين منسدلاً ... تخاله فوق متنيها العناقيدا
ابن مقبل: الطويل
عشية أبدت جيد أدماء مغزل ... وطرفاً يريك الإثمد الجون أخضرا(6/168)
وأسحم مجاج الدهان كأنه ... عناقيد من كرم دنا فتهصرا
سئل بعض الأعراب عن معنى هذه الآية: " قل هل ننبئكم بالأخسرين أعمالا " الكهف: 103 قال: البخيل الذي يأكل ماله غيره.
كان خالد بن صفوان بن الأهتم من سمار أبي العباس، ففخر ناس من بلحارق بن كعب وأكثروا، فقال أبو العباس: لم لا تتكلم يا خالد؟ قال: أخوال أمير المؤمنين وأهله؛ قال: فأنتم أعمام المؤمنين وعصبته، قال: خالد: ما عسى أن أقول لقوم كانوا بين ناسج برد، وقائد قرد، ودابغ جلد، دل عليهم هدهد، وغرقتهم فأرة، وملكتهم امرأة.
قالت أعرابية: أصبحنا ما يرود لنا فرس، ولا ينام حرس.
اشترى بعض الأمراء أرضاً بالبادية فقال له صاحبها: إن ترسل إليها أيها الأمير فهي أوفر من الرمانة، وإن تدعها فهي أمنع من آست النمر.
قال الحسن: البلاغة ما فهمته العامة ورضيته الخاصة.
قال ابن المقفع: إياك والتتبع لوحشي الكلام طمعاً ف نيل البلاغة، فذلك العي الأكبر.(6/169)
كاتب: تفيأ ظل الخفض والدعة، وتبوأ محل الخصب والسعة، فذا للغرض المقصود بك مخالف، وأنت بما فيه من العضيهة عارف.
السعيد من زادت مجاري القدر في استبصاره، ووقعت حوادث الغير موقعها من اعتباره.
لا عارض جنابك خورن ولا رد باعك قصر.
وانتقض من الأسباب ما هو منتظم، وامتد من الأطماع ما هو من حسم.
وضعت خدي للأيام أستعيد منها عهد الاجتماع، وأستعيذ بها من برح النزاع.
وهب كدر قوله لصفاء عقيدته، ونقصان إصابته لزيادة طاعته، فسفحت العيون دماً، واستبيح من العزاء حمى.
سقطة صريعها لا يستقل، وسليمها لا يبل.
يستولي في النصح على الأمد، ويستمر في الذب على الوعث والجدد.
حمداً يصعد في أطيب الكلم إلى الله، ويرجع بأدوم المزيد من الله.
نسأل الله توفيقك لكل أمر جامع في الحظ منك، بالحظ لك، وقضاء الحق عليك بالحق فيك.
نحن نستعذب مزيد الثناء عليك كما نستحسن جديد البلاء منك، ثم(6/170)
لا ترى كثير يكافئ صدق اجتهادك، كما أنك لا ترى كثير البلاء يبلغ كنه اعتقادك.
نيأل الله أن لا يخلينا من لسان طويل في الثناء عليك، ولا يخليك من باع طويل إلى كفاية اأسندناه إليك، وكلما جربناه أحمدناه، وكلما أمضيناه ارتضيناه.
حتى إذا كان طول الاستعمال يؤثر في حده، لطف الله تعالى برده إلى غمده، فصان حده من أن ينفتل، وحمى متنه من أن يحتمل.
ومن خصائص ما رفع الله تعالى بين الأولياء قدرك أنه جعل الشكر لنا ممن في وزن البر منك، فلا النعماء نقصت، ولا حقوقها بخست، بل كرم منها ورد وصدر، وطاب غرس وثمر، وزكا أول وآخر، وصفا باطن وظاهر؛ تلك منزلتك التي تبوأتها ي الجماعة، وتوطأتها في صدث الطاعة.
أهنأ التهاني موقعاً، وأزكاها موضعاً، تهنئة كان مصدرها عن صدر بالولاء معمور، وعقد بالصفاء مخبور.
سيفك من دمائهم ينطف وأقدامهم من خوفك ترجف، بهم حرس الله أكنافها، وعليهم ادر أخلافها.
به يرجع كوكب الوحشة للأفول، ويزحزح موكب الأنس للقفول.
هذا الكاتب الذي رويت عنه هذه الفصول هو أبو القاسم الإسكافي كاتب خراسان، ولم يوجد في أهل المشرق أكتب منه في زمانه، وهذا مختار مما مر في طريقته، على أنه مردود الفن بالعراق، وذلك لتكلف يسير يعتري كلامه، وتباعد في التأليف عن العادة.(6/171)
سرف رجل درة رائعة لجعفر بن سليمان الهاشمي، وباعها السارق ببغداد بمال جليل، فعرفها أصحاب الجوهر، وكان قد تقدم إليهم في البحث عنها، فحملوا الرجل إلى جعفر، فلا بصر به عرفه فاستحيا منه، فقال للسارق: ألم تك طلبت مني هذه الجوهرة فوهبتها لك؟ قال: بلى أصلح الله الأمير، فقال: لا تتعرضوا له؛ فباعها الرجل بمال عظيم.
كان سليمان بن عبد الملك خرج في أيام أبيه لنزهة، فقعد يتغدى مع جماعة، فلما حان انصرافه شغل حشمه بالترحال، فجاء أعرابي فوجد منهم غفلة، فأخذ دواج سليمان فألقاه على عاتقه، وسليمان ينظر إليه، فصاح به بعض الحشم: ألق ما معك ويلك، قال: لا، ولا كرامة لك، قد خلعه علي الأمير، فضحك سليمان وقال: صدق، أنا كسوته، ومر الأعرابي كالريح.
واستلب رجل رداء طلحة بن عبيد الله، فذهب ابن أخيه يتبعه، فقال له طلحة: دعه، فما فعل هذا إلا من حاجة.
قال عبي بن عبيدة: من أنس بالساعات، أباح نفسه للغوائل.
أخذ رجل مع زنجية قد أعطاها نصف درهم، فلما أتي به إلى الوالي أمر بتجريده وجعل يضربه ويقول: يا عدو اله، أتزني بزنجية؟ فلما أكثر قال: أصلحك الله فبنصف درهم أيش كنت أجد؟ فضحك وخلاه.(6/172)
وجد قوم زنجية مع شيخ في مسجد ليلة الجمعة، وقد نومها على جنازة، فقيل له: قبحك الله من شيخ، فقال: إذا كنت أشتهي وأنا شيخ لا ينفعني شبابكم، قالوا: فزنجية؟ قال: من منكم يزوجني بعربية؟ قالوا: ففي المسجد؟ قال: من منكم يفرغ لي بيته ساعة؟ قالوا: فعلى جنازة؟ قال: من يعطيني سريره؟ قالوا: فليلة جمعة؟ قال: إن شئتم فعلت ليلة السبت، فضحكوا منه وخلوه.
قال يعقوب: يقال: تسدى فلان فلاناً إذا أخذه من فوقه وأنشد لابن مقبل: البسيط
أنى تسديت وهناً ذلك البينا
وتسدى في المشي إذا انبسط قال يعقوب: كلب فغم: مولع بالصيد حريص عليه. ويقول العرب للكلب: ما أشد فغمه؛ ويقال: فغمتني ريح إذا سدت خسا شيمك.
ويقال: لص كذا إلى كذا إذا ضم بعضه إلى بعض؛ وأنشب أظفاره أي أعلقها؛ الهبول: الثكول.
ويقال: رجل أنسى ونس إذا اشتكى نساه؛ كما يقال أرمد ورمد، وأحدب وحدب، وأحمق وحمق، وأخرق وخرق، وشيء أخشن وخسن، وأنكد ونكد، والحجم: المص، وبه سمي الحجام؛ سمعت غيطلة القوم أي أصواتهم، وكل شجر ملتف: غيظل.(6/173)
أيام الصفرية: نحو من عشرين يوماً في آخر القيظ، وقيل البرد، ويقال: سميت الصفرية لأن المال يتصفر فهيا، أي تحسن ألوانه.
ويقال للرجل: قد عجر لقتال القوم إذا أجمع قتالهم، وقد عجر الفرس بذنبه إذا شال به أي رفع.
ويقال: جاء بثريد مصمعة إذا دققها وأحد رأسها، ومنه سميت الصومعة؛ وحرب صمعاء أي شديدة.
الجحاف: مزاحمة السيل، جحفة، يجحفه؛ يقال للرجل إذا كان غليظاً: إنه لذو كدنة، والجحاف: المزاحمة، والموادحة: الكسر، يقال: سيل جحاف وجراف وقعاف. قال الكلابي: فلان يقلف ما مر به: أي يذهب به؛ ويقال: ناس قد أجحف بهم الدهر.
كتب أبو شراعة الشاعر البصري إلى عيسى بن موسى بن موسى ابن صالح بن شيخ بن عميرة السدي: وصل كتابك بسلامة الله لك، وإجرائه إياك على جميل العافية، فسرني وآنسني، ألا وإن عهدك وودك كرها إلي الناس بعدك، فلا أجالس إلا مذموماً، ولا أعاشر إلا ملوما، ولا أبيت بعد فراقك إلا مهموماً.
وكتب أو شراعة إلى سعيد بن موسى بن سعيد بن مسلم بن قتيبة يستهديه نبيذاً: أما بعد، فإن في التمسك بحبلك دليلاً على حظ المائل إليك، وتمييز المختار لك، وإن المخصوص من ذلك بنعمة أجهدت الشكر، وأكلت الوصف، وما خسر قسم الزائر لك، ولا اعتاص المتخلف عنك. وللنبيذ خطلات يغتفرها لهوك، ويجل عنها صحوك، ولو كنت تشرب ما تجنبت قربك، ولا شربت إلا على رؤيتك، فاسقني رياً، فإن الملوك لا يستحيى من مسألتهم، وإن برك ليرفع الخسيسة، ويتمم النقيصة؛ أسترعي الله جنابك،(6/174)
وأستمتعه ميل العافية لك، وفيك أقول: الخفيف
يا سعيد الندى فداك الأخلا ... ء وأسقاك ذو العلى من سمائه
يا فتى ما اختبرته قط إلا ... زادني الخبر رغبة في إخائه
غلب الدين والوفاء عليه ... فهو صب بدينه ووفائه
مستهام بالحمد مصغ إلى المج ... د جواد لذاته في عطائه
فإذا سيل كاد أن يتجلى ... وجهه الحر من بشاشة مائه
تنازع أحمد بن أبي خالد والسندي بن شاهك بين يدي المأمون فقال أحمد: أمير المؤمنين أفضل من آبائه قدراً، وأرفع محلاً، فقال إبراهيم: بل أمير المؤمنين دون آبائه، وفوق غيره، وأرفع أهل دهره، فقال المأمون: يا أحمد، إن إبراهيم يبنين وأنت تهدمني، ويبرم حبل مريرتي وأنت تنقضني.
قال أحمد بن رشيد: أمر لي أحمد بن أبي خالد بمال فامتنعت من قبوله، فقال لي: إني والله أحب الدراهم، ولولا أنك أحب إلي منها ما بذلتها لك.
وقع أحمد بن أبي خالد: غررتنا بالله فحبسناك لله.
لأبي شراعة البصري: الرجز
قالت أبعد ثمد تخله
ومستراد جدب تمله
بان عليك من نعيم دله
حين عداك نهلة وعله
ومن جاور البحر كفاه قله(6/175)
ويحك هذا خير موسى كله
من جبل يؤوي معدا ظله
قد أصبحت سادتها تحله
وكلهم أضحى عليه كله
لا نزر النيل ولا معتله
مستلين العطف يعم غله
أخوك عند النائبات كله
كاتب: أنا للعناية بك معتقد، وفي حاجتك مجتهد، وللجهد فيها مستنفد.
قال أعرابي لرجل: أنت عند الأمل موثل، وعند الأجل معقل.
كاتب: بنا إلى معروفك حاجة، وبك على صلتنا قوة، فانظر في ذلك بما أنت ونحن أهله.
كاتب: كان لي فيك أملان: أحدهما لك، والآخر بك، فأما الأمل لك فقد بلغته، وأما الأمل بك فأرجو أن يحققه الله ويوشكه.
كاتب: أعارني الله حياتك وأعاذني من ارتجاعها، وأمتعني بدوام نعمتك وأجارني من انقطاعها.
كاتب: أطال الله بقاءك لرجاء تصدقه، وأمل تحققه، وعان(6/176)
تعتقه، وأسير تطلقه، ولا أزال عن الدنيا ظلك، ولا أعدم أهلها فضلك.
كاتب: أطال الله بقاء الوزير لظلم يزيله، وعرف ينيله، وحلم يطيله، وعثار يقيله، وضر يحيله، وعدو يديله، وصديق يذيله.
كاتب: وكان موقع وعده المنتظر عائدته، موقع رفده المحتضر فائدته.
كاتب: والله تعالى أوسع منيل، والعقل أهدى دليل، والأدب آنس خليل، والقناعة أوطأ مقيل، والتوكل آمن سبيل، والإخلاص أمضى حويل، والبر أحفظ كفيل.
وكتب بعض العمال إلى المهدي: أما بعد، فإن أمير المؤمنين قد شغلني بولاية الفرات عن الكسب على عيالي، فإن رأى أمير المؤمنين أن يأمر لي بسعة من الرزق يغنيني بها، ولا يضطرني بالفاثة إلى الشيطان ونزغاته، فإن المضطر إلى الميتة يأكل ما يأكل منها حلالاً، وإن المعافى يزداد بالغنى عفافاً، فعل إن شاء الله.
لما قتل عبيد الله بن زياد مسلم بن عقيل بالكوفة قال لكاتبه: اكتب إلى يزيد كتاباً، فكتب وطول، ثم أتى به عبيد الله فعرضه عليه فقال له: طولت، ثم دعا بكاتب فقال: اكتب: لعبد الله يزيد أمير المؤمنين من(6/177)
عبيد الله بن زياد، سلام عليك؛ أما بعد، فإن مسلم بن عقيل قدم الكوفة مشاقا، فآواه أهل الشقاق فبغيته، فلما خشي أن أظفر به خرج في شرذمة قليلة، لا ناصرة ولا منصورة، فهزمه الله فانجحر مجحر اليربوع، فلما نخس في ذنبه أطلع رأسه فجدعه الله وقتله، وقتل هانئاً مع، والخبر مع رسولي فليسأله أمير المؤمنين عما أحب.
فكتب إليه يزيد: من عبد الله يزيد أمير المؤمنين إلى عبيد الله بن زياد، سلام عليك؛ أما بعد، فإنك لم تعد أن تكون كما أحب، فعلت فعل الحازم الناصح، وصلت صولة الشجاع الباسل، فقد أغنيت وكفيت وصدقت ظني بك، والسلام.
قال الحسين بن الصحاك: رأيت إبراهيم بن العباس وهو حدث يخط بين يدي أحمد بن أبي خالد، وهو إذ ذاك وزير، فرمى إليه أحمد بكتاب من قاضي الري إلى المأمون وقال له: ينبغي أن تنشيء الجواب عنه، وتنفذه إلي لأحرره. فأخذ إبراهيم الكتاب فقلبه وكتب على ظهره من غير تفكر: قد قرأ أمير المؤمنين كتابك، وفهم اقتصاصك، وأمر بإجابتك، فليكن عدلك في أقتضيتك، وحسن سيرتك في رعيتك، ما يقربك إلى الله تعالى ويدنيك من أمير المؤمنين وجميل رأيه، فاستشعر في سريرتك طاعة الله ورضاه، وفي علانيتك خشيته وتقواه: " فإن الله مع الذين اتقوا والذين هم محسنون " النحل: 128. قال المبرد، قال الحسين بن الضحاك، قال لي يحيى بن(6/178)
خاقان: يا أبا علي والله لستولين هذا الحديث على ديوان هذا الشاب.
قال المبرد: كان سيبويه كثيراً ما يتمثر بهذا البيت: الطويل
إذا بل من داء به خال أنه ... نجا وبه الداء الذي هو قاتله
مات سيبويه بشيراز وله ثمان وثلاثون سنة.
قال المبرد: كان الأخفش أعلم الناس بالكلام، واحذقهم فيه بالجدل، وكان غلام أبي شمر على مذهبه.
قال المبرد، حدثنا إسماعيل بن إسحاق القاضي، قال أحمد بن المعذل: لما جاءنا الأخفش ليؤدبنا قال: جنبوني ثلاثة أشياء: أن تقولوا بس، وأن تقولوا: هم كذا، وليس لفلان بخت.
قال المازني، حدثني الأخفش قال، قال لي أبو حية النميري:(6/179)
أتدري ما يقول القدريون؟ قلت: ما يقولون؟ قال: يقولون: إن الله يكلف العباد ما لا يطيقون، وصدق والله القدريون، ولكن لا نقول كما يقولون.
قال أبو حاتم: كنت والأخفش عند سعيد بن مسعدة وعنده التوزي، فقال لي: يا أبا حاتم، ما صنعت في كتاب المذكر والمؤنث؟ قلت: قد عملت في ذلك شيئاً، قال: فما تقول في الفردوي؟ قلت: مذكر، قال: فإن الله تعالى يقول في الفردوس: " هم فيها خالدون " المؤمنون: 11 قلت: ذهب إلى الجنة فأنث، قال التوزي: يا غافل، أما تسمع الناس يقولون: الفردوس الأعلى؟ فقلت له: يا نائم، الأعلى ها هنا أفعل وليس بفعلي.
قال المبرد: مات الأخفش بعد الفراء، ومات الفراء سنة سبع ومائتين بعد دخول المأمون العراق، ومات النضر بن شميل سنة أربع ومائتين.
قال الأخفش: " فظلت أعناقهم لها خاضعين " الشعراء: 4 يزعمون أنها على الجماعات نحو: هذا امرؤ لا أحب الشر.
وذكر رجل لرقبة بن مصقلة فقال: كان أحد بنات مساجد(6/180)
الله، كأنه جعله حصاة.
قال النضر بن شميل: استنش ني المأمون فأنشدته: المنسرح
إني امرؤ أزل، وذاك من الل ... هـ، أديب يعلم الأدبا
أقيم بالدار ما اطمأنت بي الدا ... ر وإن كنت نازحاً طربا
والنذل لا يطلب العلاء ولا ... يعطيك شيئاً إلا إذا رهبا
مثل الحمار الموقع السوء لا ... يحسن مشياً إلا إذا ضربا
ولم أجد عروة الخلائق إ ... لا الدين لما اختبرت والحسبا
قد يرزق الخافض المقيم وما ... شد بعنس رحلاً ولا قتبا
ويحرم الرزق ذم المطية والر ... حل ومن لا يزال مغتربا
قال أبو زيد: يقال: أراد فلان ظلامي، أي ظلمي؛ أنشدني بعض بني أسد: الكامل
أكل المغالق صرمتي إذ أمحلوا ... جشعاً ولطوا دونها بظلام(6/181)
قال أبو زيد: سمعت جراهة القوم وجراهيتهم، أي أصواتهم وجلبتهم، وسمعت وجأتهم. مات أبو زيد سنة خمس عشرة ومائتين وله خمس وتسعون سنة.
قال أبو زيد، قال أبو عبيدة، قال لي أبي: يا بني إذا كتبت كتاباً فالحن فيه فإن الصواب حرفة والخطأ أنجح.
أنشدنا السيرافي لخارجي في زيد بن علي بن حسين بن علي ابن أبي طالب عليه السلام لما قتل: الكامل
يابا حسين والحوادث جمة ... أولاد درزة أسلموك وطاروا
يابا حسين لو شراة عصابة ... علقتك كان لوردهم إصدار
إن يقتلوك فإن قتلك لم يكن ... عاراً عليك ورب قتل عار
وقال لنا: أولاد درزة: الخياطون، وإنما يعني أرذال الناس وسفلتهم، وشراة عصابة: مزاح عن حقه، أراد: عصابة شراة، وإنما قالوا: نحن شراة أي نحن شرينا أنفسنا أي بعناها في ذات الله.
وأنشدنا أبو سعيد: الكامل
أولاد درزة أسلموه مبسلاً ... يوم الخميس لغير ورد الصادر(6/182)
تركوا ابن فاطمة الكريم جدوده ... بمكان مسخنة لعين الناظر
وعزاها إلى بعض الخوارج أيضاً.
سمعت بعض العلماء يقول: الضب: الحقد، والضبة كذلك؛ ويروى لعلي بن أبي طالب عليه السلام: البسيط
تلكم قريش تمناني لتقتلني ... فلا وربك ما بروا ولا ظفروا
فإن قتلت فرهن ذمتي لهم ... بذات ودقين لا يعفو لها أثر
زعموا أن ذات ودقين هي الضبة، يقال لها حران، فكأنه كنى عن الحقد بصفة دالة وكناية مستترة.
قال ثعلب: الكلام مبني على الحركة والسكون، فالحركة يبتدأ بها، وبالسكون يوقف، ولو كان متحركاً كله لقلق اللسان وطاش، ولو كان ساكناً ما كان كلاماً، وباجتماع الحركة والسكون يكون كلام.
وأنشد السريع
شيخ لنا يعرف بالخلدي ... يريده في غلظ المردي
أدخلني يوماً إلى داره ... فناكني والأير من عندي
سمعت علي بن عيسى يقول: قسمة التقدير في الممكن على(6/183)
أربعة أوجه؛ فالأول: تقدير ممتنع، مثاله لو كان في هذا المحل حركة وسكون لكان متحركاً ساكناً في حال؛ والثاني: تقدير ممكن، مثاله لو سقط حجر من رأس جبل لوصل إلى الأرض؛ الثالث: تقدير ممكن بممتنع، مثاله لو آمن أبو لهب لم يكن العالم عالماً بأنه لا يؤمن، فهذا تقدير ممكن بممتنع؛ الرابع: تقدير ممتنع بممكن، مثاله لو كان الإنسان قديماً، وكل قديم جسم، لكان الإنسان جسماً، فهذا تقدير ممتنع بممكن.
أصحابنا لا يرون له طبقة في المنطق، وهو يتسع كما ترى.
قال المفجع، حدثنا الكديمي، حدثنا الأصمعي قال: وعظ أعرابي قومه فقال: يا قوم، إن يسار النفس أفضل من يسار المال، فمن لم يرزق غنى فلا يحرمن تقوى الله، فرب شبعان كاس من النعيم كان غرثان عريان من الكرم، وإن المؤمن على خير حين ترحب به الأرض وتستبشر به السماء، وإن يسأ إليه في بطنها فقد أحسن إليه على ظهرها، ومن عرف الدنيا لم يفرح فيها برخاء ولم يجزع فيها عند بلوى.
قال الكسائي: رحت القوم، وأنت تريد: رحت إليهم، مثل قولك: ذهبت الشام؛ وسمعت من يقول: تعرضت معروفهم: أي التمسته.
ويقال: أخرطت خريطة وأشرجتها، بمعنى واحد.
ويقال: أعبدت العبد: أي عبدته، وأنشد: البسيط
حتام يعبدني قومي وقد كثرت ... فيهم أباعر ما شاءوا وعبدان(6/184)
ويقال: ضربته المجبة والجبوب وهي الأرض، تريد: ضربت به الأرض.
قال المفجع، قال أعرابي يهجو أمه: الرجز
شائلة أصداغها لا تختمر ... تعدو على الضيف بعود منكسر
حتى يفر أهلها كل مفر ... لو نحرت في بيتها عشر جزر
لأصبحت من لحمهن تعتذر ... بحلف ثج ودمع منهمر
وقال: يريد بالبيت الأول: قد قام شعرها من الخصومة والغضب، لا تلبس خمارها من مبادرتها إلى الشر. قال: ويريد بالبيت الثاني عصاً قد تكسرت من طول ما تضرب بها. يقال: اعتذر الشيء وتعذر إذا أعجز فلم يقدر عليه، وتتابع الأيمان كالماء الثجاج أنه ما عندها شيء.
قال، وقال العنبري: الرجز
ماذا يريني الليل من أهواله ... أنا ابن عم الليل وابن خاله
إذا دجا دخلت في سرباله ... لست كمن يفرق من خياله
وأنشد أيضاً: الرجز
رب خليل لك بالعراق ... يقرن طيب النفس بالعناق
لو تعلم الليلة ما ألاقي ... وما تلاقي قدمي وساقي
من الحفا وعدم السواق ... لم تطعم النوم من الإشفاق
قال: الكوبة: المزبلة، والكوبة: الطبل، والكوب:(6/185)
الإبريق وهو الذي لا خرطوم له واسع الرأس، وجمعه أكواب.
أريد أن أسوق ها هنا فصلاً في الطب تباعد عن بابه في الجزء التاسع واعترض النسيان دونه وبالله أستعين: قال بعض الأطباء: وأما العمل فينقسم قسمين: أحدهما حفظ الصحة، والآخر: اجتلاب الصحة.
وحفظ الصحة ينقسم إلى ثلاثة أقسام: حفظ الصحة على الأبدان الصحيحة وذلك بتعديل الأسباب العامية المشتركة وهي: الهواء والأكل والشرب والنوم واليقظة والاستفراغ والاحتقان والحركة والسكون والأعراض النفسانية.
والثاني: التقدم بحفظ الأبدان التي تميل عن حال الصحة، ويكون ذلك إما باستفراغ الخلط الغالب على البدن، وإما بإيداع البدن مادة محمودة.
والثالث: تدبير الأبدان الضعيفة كأبدان المشايخ، وأبدان الصبيان، وأبدان الناقهين.
وأما اجتلاب الصحة فبثلاثة أشياء: أحدها التدبير، والآخر الأدوية، والثالث علاج البدن.
فهذه أقسام لجزأي الطب: العلم والعمل.
وأجناس المرض ثلاثة: أحدها تغير المزاج، والثاني تغير الاتصال، والثالث مرض مشترك، وسوء المزاج إما أن يكون حاراً أو بارداً أو رطباً أو يابساً، وهذه مفردات، وإما أن يكون حاراً يابساً، أو حاراً رطباً، أو بارداً رطباً، أو بارداً يابساً، وهذه مركبة.
قال أبو العيناء: قال لي المتوكل: امض إلى موسى بن عبد(6/186)
الملك، واعتذر إليه، ولا تعرفه أني وجهتك، فقلت له: تستكتمني بحضرة ألف؟ قال: إنما عليك أن تنفذ فيما تؤمر به، فقلت: وعلي أن أحترس مما أخاف منه.
قال الكندي: من ذل البذل أنك تقول نعم مطأطئاً رأسك، ومن عز المنع أنك تقول لا رافعاً رأسك.
قال أبو رواحة الباهلي، حدثنا سعيد بن سلم قال: دخلت على الرشيد فجهرني وملأ قلبي، فلما لحن خف علي أمره.
قالت فاطمة بنت علي بن الحسين رضي الله عنهم: ما تحنأت امرأة منا ولا امتشطت ولا اكتحلت بعد قتل الحسين حتى بعث المختار برأس عبيد الله بن زياد.
قال أبو مسهر: كتب الحجاج إلى عبد الملك: أما بعد، أصلح الله أمير المؤمنين، فإن النفاق قد فرخ بيضه في العراق، وشب فيها وأشيب، ووكر فيها وقر، وأوطن عقر دارها، ونفث حمته عل أهلها، فلكل ناعق(6/187)
مجيب، ولكل داع ملب، فإن رأى أمير المؤمنين أن يأذن لي في اجتثاث هذه العروق الناجمة، استئصال هذه المقادح الناشبة فعل، فإن في ذلك صلاح جنده ودهمائه.
فكتب إليه عبد الملك: أما بعد يا حجاج، فمه، فلا أرب لأمير المؤمنين في تسليط عاديتك، وإعمال فورتك، وغرسال حيفك، لا يفعل ذلك أمير المؤمنين ما خمدت نارها، وقل شغب من فيها.
قال العباس بن محمد لمؤدب بنيه: إنك قد كفيت أعراضهم، فاكفني آدابهم، علمهم كتاب الله جل وعز، فإنه عليهم نزل، ومن عندهم فصل، فإنه كفى بالمرء جهلاً أن يجهل فضلاً عند أحد، وفقههم في الحلال والحرام فإنه حابس أن يظلموا، وغذهم بالحكمة فإنها ربيع القلوب، والتمسني عند آثارك فيهم تجدني.
قال الحباب بن الحسحاس عن أبيه، سمعت زياداً الأعجم ينشد: الوافر
ألم تر أنني وترث كوسي ... لأنكع من كلاب بني تميم
قال القحذمي عن بعض أشياخه، قال جرير لزياد الأعجم: يا(6/188)
أبا أمامة، إنه عسى أن تنكع فلا تعجل حتى يتبين لك، فقال زياد: كل ما شئت إذا كنت كلباً.
قال عدي بن الفضل: شهدت عمر بن عبد العزيز يخطب بخناصرة ويقول: أيها الناس، إن يكن لأحدكم رزق في رأس جبل أو حضيض أرض يأته، فأجملوا في الطلب.
وقال الزبيري: ما أحدث الناس مروءة أحب إلي من طلب النحو.
قال أبو الأسود الدؤلي: إني لأجد للنحو سهوكاً كسهك العمر.
قال أبو العيناء: كتب أحمق إلى أبيه من البصرة: كتابي هذا، ولم يحدث علينا بعدك إلا خيراً، والحمد لله، إلا أن حائطنا وقع فقتل أمي وأختي وجاريتنا، ونجوت أنا والسنور والحمار، فعلت إن شاء الله.
قال الصولي، قال أحمد بن محمد بن إسحاق: تذاكرنا فضل المبرد عند المعتضد فقال: ما رأى مثل نفسه، دخل إلى عيسى بن(6/189)
فرخانشاه وقد رضي عنه بعد أن غضب عليه فقال له: أعزك الله، لولا تجرع مرارة الغضب لم نلتذ بحلاوة الرضا، ولا يحسن مديح الصفو إلا عند ذم الكدر، ولقد أحسن البحتري حيث يقول: البسيط
ما كان إلا مكافاة وتكرمة ... هذا الرضا وامتحاناً ذلك الغضب
وربما كان مكروه الأمور إلى ... محبوبها سبباً ما مثله سبب
هذي مخايل برق خلفه مطر ... وذاك وري زناد خلفه لهب
وأزرق الفجر يبدو قبل أبيضه ... وأول الغيث قطر ثم ينسكب
فقال له عيسى: أطال الله بقاءك، وأحسن عنا جزاءك، فأنت كما قال أبو نواس: الرجز
من لا يعد العلم إلا ما عرف
كالبحر ما نشاء منه نغترف
رواية لا تجتنى من الصحف
وأنا أصل البحتري لتمثلك بشعره، ووصله بنحو من صلته.
قال القطربلي في كتابه: كان أبو العباس من العلم وغزارة المعرفة، وكثرة الحفظ وحسن الإشارة، وصحة اللسان وبراعة البيان، مع ركانة المجالسة وكرم العشرة، وبلاغة المكاتبة وحلاوة المخاطبة، وجودة الخط وصحة(6/190)
القريحة، وتقريب الفهام وواضح الشرح، على ما ليس عليه أحد.
قال ابن كيسان، قلت للمبرد: ثعلب أعلم أهل زمانه فقال: السريع
أقسم بالمبتسم العذب ... ومشتكى الصب إلى الصب
لو كتب النحو عن الرب ... ما زاده إلا عمى القلب
فأعدت على ثعلب بعد إلحاح منه فأنشدني: السريع
شاتمني عبد بني مسمع ... فصنت عنه النفس والعرضا
ولم أجبه لاحتقاري له ... من ذا يعض الكلب إن عضا
قال شيخ من النحويين: من تكون زائدة، وتكون تجنيساً، وتكون ابتداء غاية، وتكون تبعيضاً.
فقول الله تعالى " وأنزلنا من السماء ماء " المؤمنون: 18 وقوله تعالى: " وينزل من السماء من جبال فيها من برد " النور: 43 ابتداء غاية من حال تبعيض ومن برد تجنيس.
وقيل في قوله تعالى " قل للمؤمنين يغضوا من أبصارهم " النور: 30 ولم يقل: يغضوا أبصارهم، لأنه لم يحظر عليهم غض الأبصار في ملك اليمين.(6/191)
سألت ابن الخليل عن مثنيات مرت في الجزء التاسع وهي: قلت له: ما الأسودان؟ قال: الفحم والحمم، وهذا خلاف ما قاله الجمهور.
قلت: فما الأبيضان؟ قال: السرور والنعم.
قلت: فما الأسوءان؟ قال: الثكل واليتم.
قلت: فما الأعجمان؟ قال: العي والبكم.
قلت: فما الأفخران؟ قال: العرب والعجم.
قلت: فما الأنقصان؟ قال: الحب والعقم.
قلت: فما الأشهران؟ قال: الطبل والعلم.
قلت: فما الأبخلان؟ قال: الجدب والعدم.
قلت: فما الأكذبان؟ قال: الآل والحلم.
قلت: فما الأصدقان؟ قال: العهد والقسم.
قلت: فما الأوضران؟ قال: اللحم والوضم.
قلت: فما الأرفعان؟ قال: البشر والسلم.
قلت: فما الأوحشان؟ قال: المقت والسأم.
قلت: فما الأوفقان؟ قال: الملك والحشم.
قلت: فما الأعودان؟ قال: البيض والهمم.
قلت: فما الأنكدان؟ قال: اليأس والندم.
قلت: فما الأعدمان؟ قال: السيل والضرم.
قلت: فما الأقطعان؟ قال: السيف والقلم.(6/192)
قلت: فما الأقومان؟ قال: الدين والحسب قلت: فما الأمنعان؟ قال: الحصن والحرم.
قلت: فما الأنفسان؟ قال: المجد والكرم.
قلت: فما الأعليان؟ قال: الهام والقمم.
قلت: فما الأشبهان؟ قال: الراح والنعم.
قلت: فما الأنفسان؟ قال: النفس والندم.
قلت: فما الأغزران؟ قال: البحر والديم.
قلت: فما الأشينان؟ قال: الدع والهتم.
وكان قد ألقى علينا هذه الحروف ثم سألناه عنها فأجاب، ولا أدري أهو أبو عذرتها أم لا، وكان حافظاً غزير الحفظ حديد الخاطر حاضر البديهة، وقد رويت عنه طرائف.
سئل أبو حامد، وأنا أسمع، عن رجل حلف أن لا يدخل هذه الدار، فهدمت ثم بنيت، فقال: قد سقطت اليمين، ومتى دخل لم يحنث، لأن هذه غير تلك؛ ألا ترى أنه لو دخلها مهدومة لم يحنث، وكأنه دخل داراً أخرى. قال: وهكذا إن حلف لا يلبس هذا القميص، ففتق ثم خيط، أو لا يستعمل هذه السكين فنزعت ثم عملت، ولا يلبس هذا الخاتم فكسر ثم صيغ.
فقال له بعض الحاضرين: إن أعيدت الدار على هيئتها الأولى فإن الداخل يحنث لأنها هي، وإن بنيت في الحال الثانية مخالفة لأشكالها المتقدمة لم يحنث؛(6/193)
قال: وإنما لحق الدار ما يحلق الرجل من المرض؛ ألا ترى أن رجلاً لو حلف أن لا يكلم زيداً، ثم مرض زيد ثم برأ، أن الحالف على يمينه لم يحنث ومتى فاتحه الكلام حنث، كذلك الدار، فضحك منه. قيل له: لو ولدت على الحقيقة لقلت: هدم الدار كموت زيد، واستهدامها كمرضه، فقال: لا شك أن زيداً لو مات ثم عاش بقدرة الله أن الحالف على يمينه لا يحنث، ومرضه يقوم مقام موته؛ فقال له أبو حامد: فإن حلف لا يكلم عمراً فمات عمرو فكلمه زيد، هل يحنث؟ قال: لا، فإنه ليس على هيئته حين انعقدت اليمين، فسخف به ولم يكلم.
قال جعفر بن محمد رضي الله عنه: معنى قوله: " لئن شكرتم لأزيدنكم " إبراهيم: 7 لئن شكرتم هدايتي لأزيدنكم ولايتي، ولئن شكرتم ولايتي لأزيدنكم قربي، ولئن شكرتم قربي لأزيدنكم رؤيتي.
قال الجنيد الصوفي في قوله " إن الصلاة تنهى عن الفحشاء والمنكر " العنكبوت: 45: الفحشاء مشاهدة الدنيا بالنزاع إليها، والمنكر مطالعة الآخرة بالاقتصار عليها، والصلاة تنهى عنهما جميعاً، ويشير إلى توحيد الحق بمحو الخلق.
للصوفية إشارات سليمة وألفاظ صحيحة ومرامات بعيدة، وفيها حشو كثير وفوائد جمة، وكان ظبي أني سأتفرغ لإفراد جزء من الكتاب لوساوسهم وملحهم، ونوادرهم وحقائقهم، لكني عجزت عجزاً أوضح عذري، وكشف حجتي، ولو لقط من أثناء الكتاب ما يشاكل عبارتهم ويطابق إشارتهم لكان له موقع وأثر، وإذا أتاح الله لي فرجاً وقيض لي مخرجاً فرعت همتي لنظم جزء من نحو هذا الفن، نعم، وأتكلف أيضاً جزءاً ثانياً في غرائب كلام الفلاسفة، فإن التصوف والفلسفة يتجاوران ويتزاوران، وإن كان قد مر في الكتاب ما يعجز جمعه.(6/194)
قال فيلسوف: كما أن الخنفساء تكره الرائحة الطيبة، كذلك من لا لطافة له يكره الموسيقى.
وقال سقراط: ما جاعت نفسي قط إلا صفا ذهني.
قال بوزون: النفس إذا فارقت الجسد صارت خالصة خالدة، لأنها إذا فارقته لا تألم.
قال أفلاطون: لست صورة ولكني متصور، قال: والدليل عليه أني جزء ولست بكل.
قال ابن دريد، أخبرني أبو حاتم، أنشدني أبو عبيدة لقطري بن الفجاءة: البسيط
يا رب ظل عقاب قد وقيت بها ... مهري من الشمس والأبطال تجتلد
ورب يوم حمى أرعيت عقوته ... خيلي اقتساراً وأطراف القنا قصد
ويوم لهو لأهل الخفص ظل به ... لهوي اصطلاء الوغى وناره تقد
مشهراً موقفي والحرب كاشفة ... عنها القناع وبحر الموت يطرد
ورب هاجرة تغلي مراجلها ... مخرتها بمطابا غارة تخد
تجتاب أودية الأفزاع آمنة ... كأنها أسد تقتادها أسد
فإن أمت حتف أنفي لا أمت كمداً ... على الطعان وقصر العاجز الكمد(6/195)
ولم أقل لم أساق اقتل شاربه ... في كأسه والمنايا شرع ورد
ثم قال لي: هذا هو الشعر، لا ما تعللون به أنفسكم من أشعار المخانيث.
قال يعقوب، قال أبو صاعد: رحبت الأرض إذا اتسع ربيعها واتصل، فتشبع النعم أينما دارت؛ قال: ويقال: أرض ملتفعة إذا كان بقلها بعضه إلى جنوب بعض ملتصقاً؛ قال، وقال أبو القاسم: يقال: أرض ملتفعة خضراء إذا وصفت بالخضرة وأرض مستطيلة بالخضرة؛ قال، وقال أبو حامد: يقال: ائتصر النبت إذا كانت عروقه مؤتصرة أي متقابلة قوية ثخينة، ويقال: أرض مؤتصرة الكلأ؛ أبو عمرو: يقال: ائتصر النبت إذا طال، وهو من الأصير، يقال: هدب أصير إذا كان ثخيناً، وأنشد: الوافر
لكل منامة هدب أصير
قرئ على السيرافي وأنا أسمع، قرأه عبد السلام البصري، أخبركم ابن دريد قال، أنشدني بندار بن إبراهيم الكرخي: الطويل(6/196)
أي طويل مستدير وطوله ... كشبر أو أدنى أو يزيد أقله
وفي رأسه شق وثقب بطوله ... وليس بذي نفع إذا لم تبله
هكذا قال.
وقرئ عليه: سكر مزبد يوماً وجاء إلى امرأته فقالت: أسأل الله أن يبغض إليك النبيذ، فقال: وإليك القبيب.
قال، وقرئ عليه: قيل لمديني: أتحب رمضان؟ قال: ما أتهنأ بشهور سائر السنة من أجله فكيف أحبه؟ ومر ابن أبي علقمة على جماعة من عبد القيس، فضرط بعض فتيانهم فالتفت إليهم فقال: يا عبد القيس كنتم فسائين في الجاهلية فصرتم ضراطين في الإسلام، وإن جاء آخر خريتم.
وقال الرشيد لجمين: لم لا تدخل على محمد بن يحيى؟ قال: أدخل يا أمير المؤمنين وأنا أكسى من الكعبة وأخرج وأنا أعرى من الحجر الأسود.
رأى رجل مزبداً وهو يستنجي ويطيل الغسل لآسته فقال: إلى كم تلبقها؟ قال: حتى تتنظف وأسقيك فيها سويقاً.(6/197)
وسمعت أبا سعيد يقول، قال ابن السراج: دخلنا على ابن الرومي في مرضه الذي توفي فأنشد لنفسه: الكامل المجزوء
ولقد سئمت مآربي ... فكأن أطيبها خبيث
إلا الحديث فإنه ... مثل اسمه أبداً حديث
وقرئ على أبي سعيد: رؤي مزبد مع امرأة، فقيل له: ما تريد منها؟ قال: أناظرها في شيء من النكاح.
وقرئ: وقيل له: ما تقول في القبلة؟ قال: الفطام قبل اللطام.
وسمعت أبا سعيد يقول: ذكروا أنه كان لرجل ولدان فقتل أحدهما أخاه، فعفا الأب عن الابن الثاني ووهب له جرمه، فذكر ذلك للملك فقال: لا يقبل قول الأب وليس إلا أن يقاد بأخيه، فقتل، فزعموا أن أباهما ذهل عقله، وكان يدور في الطرقات ويقول: كان لي ولدان قتل أحداهما أخاه، وقتل الآخر الملك.
وجرت في مجلسه مسألة وهي: هل يصح أن يقال: هذا هذا هذا هذا هذا هذا، فقال: تجعل الأول مبتدأ، والثاني توكيداً، والثالث فعلاً من قولك: هاذي يهاذي من المهاذاة، والرابع توكيداً للفعل، والخامس مفعولاً به، والسادس توكيداً للمفعول به.(6/198)
سمع الجاحظ رجلاً ينشد: الرمل المجزوء
إنما الراح شقيقي ... وحليفي وأليفي
فهو فروي في شتائي ... وهو خيشي في مصيفي
فقال له: لو عرف النبيذ حسن رأيك فيه لحاباك وقت السكر.
كان الحارث بن هشام المخزومي في وقعة البرموك، ويها أصيب، فأثخنته الجراح، فاستسقى ماء فأتي به، فلما تناوله نظر إلى عكرمة بن أبي جهل صريعاً في مثل حاله، فرد الإناء على الساقي وقال: امض به إلى عكرمة ليشرب أولاً فإنه أشرف مني، فمضى به إليه فأبي أن يشرب قبله، فرجع إلى الحارث فوجده ميتاً، فرجع إلى عكرمة فوجده ميتاً.
قال غلام لأبيه: أسمع الأصمعي يردد بيتين لا أرى فيهما ما يرى، قال: وما هما يا بني؟ قال: قوله: الطويل
سقى الله أياماً مضت لسن رجعاً ... إلينا وعصر العامرية من عصر
ليالي أعطيت البطالة مقودي ... تمر الليالي والشهور ولا أدري
فقال: يا بني، لو كنت عاشقاً لرأيت فيهما أضعاف ما يرى.(6/199)
أنشد أبو العيناء قول الشاعر: الطويل
وفي أربع مني حلت منك أربع ... فما أنا أدري أيها هاج لي كربي
أوجهك في عيني أم الريق في فمي ... أم النطق سمعي أم الحب في قلبي
فقال لقد قسمها قسمة حسنة.
دخل ابن أبي علقمة على بلال بن أبي بردة وحمزة بن بيض ينشده: الطويل
ومن لا يرد مدحي فإن مدائحي ... نوافق عند الأكرمين نوامي
نوافق عند المشتري الحمد بالندى ... نفاق بنات الحارث بن هشام
فقال ابن أبي علقمة: يا ابن أخي، وما بلغ من نفاق بنات الحارث قال: كان يزوجهن ويسوقهن ومهورهن إلى بعولتهن، فقال له ابن أبي علقمة: يا ابن أخي، والله لو فعل هذا إبليس ببناته لتنافست فيهن الملائكة المقربون.(6/200)
أنشد ثعلب: الطويل
ولما قضينا من منى كل حاجة ... ومسح بالأركان من هو ماسح
وشدت على حدب المطايا رحالنا ... ولا ينظر الغادي الذي هو رائح
أخذنا بأطراف الأحاديث بيننا ... وسالت بأعناق المطي الأباطح
وأنشد: الكامل
ما عاتب المرء الكريم كنفسه ... والمرء يصلحه الجليس الصالح
وأنشد الطويل
ولأئمة لامتك يا فيض في الندى ... فقلت لها هل يقدح اللوم في البحر
أرادت لتثني الفيض عن عادة الندى ... ومن ذا الذي يثني السحاب عن القطر
مواقع جود الفيض في كل بلدة ... مواقع ماء المزن في البلد القفر
كأن وفود الفيض يم تحملوا ... إلى الفيض لاقوا عنده ليلة القدر
خاصم أحمد بن يوسف رجلاً بين يدي المأمون، فكان قلب(6/201)
المأمون على أحمد، فعرف أحمد ذلك فقال: يا أمير المؤمنين، إنه يستملي من عينيك ما يلقاني به، ويستثير من حركتك ما تجنه له، وبلوغ إرادتك أحب إلي من بلوغ إرادتي، ولذة إجابتك آثر من لذة ظفري، وقد تركت له ما نازعني فيه، وسلمت إليه ما طلبني به؛ فشكر له المأمون ذلك.
قال أحمد بن يوسف: البغضاء تجلب الغموم وتثير الهموم، وتمر العذب وتؤلم القلب، وتقدح في النشاط وتطوي الانبساط.
أنشد لنهار بن توسعة: الكامل
قدمت صدر السيف ثم تبعته ... كالفجر مد عموده المنجابا
في مظلم الأرجاء يؤنسني به ... سيف وقلب لم يكن وجابا
كان أحمد بن يوسف يكتب بين يدي المأمون، فطلب المأمون منه السكين، فدفعها إليه والنصاب في يده، فنظر إليه المأمون نظر منكر فقال: على عند فعلت ذلك ليكون الحد لأمير المؤمنين على أعدائه؛ فعجب المأمون من سرعة جوابه وشدة فطنته.(6/202)
وكتب أحمد بن يوسف إلى إبراهيم بن المهدي: قد أحلك الله من الشرف أعلى ذروته، وبلغك من الفضل أبعد غايته، فالآمال إليك مصروفه، والأعناق نحوك معطوفة، إليك تنتهي الهمم السامية، وعليك تقف الظنون الحسنة، وبك تثنى الخناصر بعد الأكالبر، ونحوك تساق الرغائب وتستفتح أغلاق المطالب، ولا يستبطئ النجح من رجال، ولا تعروه النوائب في ذراك.
قال عبد الله بن طاهر في علته: لم يبق علي من لباس الزمان إلا العلة والخلة، وأشدهما علي أهونهما على الناس، لأن ألم جسمي بالأوجاع أهون علي من ألم قلبي بالحق المضاع.
قال يعقوب: يقال: قد أزبأر شعره.
قال ابن الأعرابي، يقال: أصبحت الأرض غديراً واحداً إذا اعتم نبتها وخضل وندي، والتبس في غضاضة وري؛ ويقال: أرض مأبورة، إذا علاها الماء.
قال يعقوب: أثفت القدر وثفيتها وأثفيتها، ورماه بأثفية: أي بحجر يملأ الكف؛ ورجل مثفى: يموت عنه النساء، وامرأة مثفاة: تموت عنها الأزواج.
قال علي بن عبيدة: عين الدهر تطرف بالمكاره، والخلائق بين أجفانه.(6/203)
قال إبراهيم بن العباس: والله لو وزنت كلمة رسول الله صلى الله عليه وسلم بمحاسن الناس لرجحت، وهي قوله: إنكم لن تسعوا الناس بأموالكم فسعوهم بأخلاقكم؛ هذا أبو عباد كان كريم العهد كثير البذل سريعاً إلى فعل الخير، فطمس ذلك سوء خلقه، فما يرى له حامد.
وقع ابن يزداد في وزارته إلى عامل اعتد بباطل: ما يبين لنا منك حسن أثر، ولا يأتينا عنك سار خبر، وأنت مع ذا تمدح نفسك، وتصف كفايتك، والتصفح لأفعالك يكذبك، والتتبع لآثارك يرد قولك، وهذا الفعل إن اتكلت عليه وأخلدت إليه، أعلقك الذم وألحقك العجز، فليكن رائد قولك مصدقاً لموجود فعلك، إن شاء الله.
شاعر أعرابي: الطويل
لا تعذلن النبع فالنبع إنما ... مكاسرة تبدو غداة التغالب
فليس بغاث الطير مثل صقورها ... وليس الأسود الغلب مثل الثعالب
وليس العصي الصم كالجوف خبرة ... وليس البحور في الندى كالمذانب(6/204)
قال القاسم بن معن: من لم يرو أشعار المحدثني لم يظرف.
قال المبرد: ليس بقدم العهد يفضل القائل، ولا يحدثان عهد يهتضم المصيب، ولكن يعطى كل ما يستحق، ألا ترى كيف يفضل قول عمارة بن عقيل بن بلال بن جرير على قرب عهده: الطويل
تبحثتم سخطي فغير بحثكم ... نخيلة نفس كان نصحاً ضميرها
ولن يلبث التخشين نفساً كريمة ... عريكتها أن يستمر مريرها
وما النفس إلا نطفة بقرارة ... إذا لم تكدر كان صفواً غديرها
وأنشد لبشار: الكامل
والله ما جمر الغضا متوقدا ... بأحر من حرق الهوى المتضرم
والله ما رمت السلو عن الهوى ... إلا وقلبي يستشيط على دمي
والله ما لي عن هواك معرج ... إلا إليه فأخري أو قدمي
يا عبد لو أبصرتني وتقلبي ... ليلي الطويل عجبت أن لم ترحمي(6/205)
أيقنت أني من من هواك مسابق ... أجلي علمت بذاك أو لم تعلمي
أنشدني الأندلسن: الرمل
لي صديق وهو عندي عوز ... من سداد لا سداد من عوز
قال أبو عمرو الشيباني في كتاب العار والساعد؟: وكان يقال للرجل: تذكر شيخاً وتتنحى عنه، أي هو فوق ذلك؛ ويقال: له جمة فينانة، هي جمة كثيرة الذوائب.
قلت للسيرافي: ما يقال للشاطر؟ قال، الملغ، قلت: فما الملط؟ قال: الخبيث.
وقال كعب بن زهير: الطويل
أنا ابن الذي لم يخزني في حياته ... ولم أخزه لما تغيب في الرجم
أقول شبيهات بما قال عالم ... بهن ومن يشبه أباه فما ظلم
وأشبهته من بين من وطئ الحصى ... ولم ينتزعني شبه خال ولا ابن عم
وقال أعرابي: البسيط
أغلظ خزيرك واعلم حين تصنعه ... ما في استراط الرويثيين تفتير
طالت بلاعيمهم للقم وامتقعت ... وفي العلابي وألأوداح توتير
لو توقد النار دون الزاد جامعة ... طاح الرويثي فيه وهو محضير(6/206)
ما بين لقمته الأولى إذا أخذت ... وبين أخرى تليها قيس أظفور
قال النضر بن شميل: كنت أدخل على المأمون في سمره، فدخلت عليه ذات ليلة، وعلي قميص مرقوع فقال: يا نضر، ما هذا التقشف؟ أتدخل على أمير المؤمنين في هذه الخلقان؟ فقلت: يا أمير المؤمنين، أنا شيخ ضعيف وحر مرو شديد فأتبرد بهذه الخلقان، قال: لا، ولكنك قشف. وأجرينا الحديث، فجرى ذكر النساء فقال: حدثنا هشيم عن مجالد عن الشعبي عن ابن عباس قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: إذا تزوج الرجل المرأة لدينها وجمالها كان في ذلك سداد من عوز، قلت: صدق أمير المؤمنين، حدثنا عوف بن أبي جميلة عن الحسن عن علي بن أبي طالب الحديث كان فيها سداد من عوز، وكان متكئاً فاستوى جالساً فقال: يا نضر، كيف قلت؟ قلت: يا أمير المؤمنين، السداد ها هنا لحن، قال: وكيف؟ قلت: إنما لحن هشيم، وكان لحانة، فتبع أمير المؤمنين لفظه، قال: فما الفرق بينهما؟ قلت: السداد: القصد في الدين والسداد: البلغة، وكل ما سددت به شيئاً، قال: أو تعرف العرب(6/207)
ذلك؟ قلت: نعم، هذا العرجي يقول: الوافر
أضاعوني وأي فتى أضاعوا ... ليوم كريهة وسداد ثغر
قال: قبح الله من لا أدب له، ثم وصلني بخمسين ألف درهم.
شاعر: الرمل المجزوء
دمعة كاللؤلؤ الرط ... ب على الخد الأسيل
هطلت في ساعة الب ... ن من الطرف الكحيل
إنما يفتضح العش ... اق في وقت الرحيل
قال أبو مسلم بن أبي معمر، أنشدني أبو الحسين ابن أبي البغل وقد رد عن طريق أصفهان إلى بغداد: الرمل المجزوء
أمل كان مكان الشم ... س في بعد المكان
فدنا حتى إذا صا ... ر بلمس وعيان
استردته يد الده ... ر فعدنا في الأماني
أعرابية: الطويل
من النفر الشوس الذين طعامهم ... سمام وأيديهم ثمال ذوي الفقر(6/208)
مغاوير مناعون للبيض والقنا ... وجوداً على المتناب في العسر واليسر
وإنا لنعلي بالعبيط لضيفنا ... ويرخص فينا في الجفان وفي القدر
وننتاب حتى ما تهر كلابنا ... غريباً وما نعضي عيوناً على قهر
وتطعم حتى يترك الضيف فضلنا ... إذا بل في أطرافنا سبل القطر
يبصبصن لأضياف كلبي تألفا ... وإن رام نبحاً لم يعش في بني نصر
قيل ليحيى بن معين: أكان أبو حنيفة يكذب في الحديث؟ قال: كان أنبل من أن يكذب.
قال ابن راهويه: كان أبو حنيفة يفتي ديانة، وكان الشافعي يفتي تفقها.
قال أحمد بن حرب: أبو حنيفة في العلماء كالخليفة في الأمراء.
وقال أبو عاصم النبيل: كان أبو حنيفة يقال له الوتد لكثرة صلاته.(6/209)
قال ابن عباس: نظر رسول الله صلى الله عليه وسلم إلى الكعبة فقال: مرحباً بك من بيت، ما أعظمك وأعظم حرمتك، والله إن المؤمن أعظم حرمة عند الله منك، لأن الله حرم منك واحدة ومن المؤمن ثلاثة: دمه وماله وأن يظن به ظن السوء.
قال عبد الرحمن بن أحمد: سمعت أبا العيناء يقول: ما قطعني أحد قبل المهتدي، قال لي: بلغني أنك تغتاب الناس، فقلت: يبطل ما قيل علي شغلي بعيني، قال: ذاك والله أشد لتغيظك على أهل العافية.
قال المتوكل لأبي العيناء: أكان أبوك مثلك في البيان؟ قال؟ والله يا أمير المؤمينن لو رأيته لرايت والله عبدا لك لا ترضاني أكون عبداً له.
وقال أبو العيناء: أنا أول من أظهر العقوق بالبصرة، قال لي أبي: يا بني، إن الله قرن طاعته بطاعتي فقال تعالى " أن اشكر لي ولوالديك " لقمان: 14 فقلت: يا أبة إن الله ائتمنني عليك ولم يأتمنك علي فقال " ولا تقتلوا أولادكم خشية إملاق " الإسراء: 31.
قال المتوكل لأبي العيناء: إني لأفرق من لسانك، قال: يا أمير المؤمنين، إن الشريف فروقة ذو إحجام، وإن اللئيم ذو منة وإقدام.(6/210)
ذكر أبو العيناء الصحابة فقال: هم الذين جلوا بكلامهم الأبصار العليلة، وشحذوا بمواعظهم الأذهان الكليلة، ونبهوا القلوب من رقدتها، ونقلوها من سوء عادتها، فشفوا من داء الشقوة، وغباوة الغفلة، وداووا من العي الفاضح، ونهجوا سبل الطريق الواضح، رحمة الله عليهم أجميعن.
قال أبو العيناء، قال أبو زيد البلخي النحوي، قال أبو عمرو بن العلاء: ما رأينا شيئاً يمنع سؤدداً إلا وجدناه في سيد من السادات: أول ذلك الحداثة تمنع السؤدد وقد ساد أبو جهل قريشاً وما طرشاربه، ودخل دار الندوة وما استوت لحيته؛ والبخيل لا يسود وقد ساد أبو سفيان بن حرب؛ والعاهر لا يسود وقد ساد عامر بن الطفيل؛ والظالم لا يسود وقد ساد كليب وائل وحذيفة بن بدر؛ والأحمق لا يسود وقد ساد عيينة بن حصن، وقليل القوم لا يسود وقد ساد شبل بن معبد بلا عشيرة؛ والفقير لا يسود وقد ساد عتبة بن ربيعة.(6/211)
والأخلاق المانعة للسؤدد الكذب والكبر والسخف والتعرض للعيب وفرط العجب؛ وأنشد: الرجز
لا بد للسؤدد من أرماح ... ومن سفيه دائم النباح
ومن عديد يتقى بالراح
قال أبو عمرو بن العلاء: إن أهل الجاهلية لا يسودون إلا من تكاملت فيه ست خصال: السخاء والنجدة والصبر والبيان والحلم وتمامهن الإسلام.
قال الأصمعي: وسئل أبو عمرو بن العلاء عن أكرمك الله فقال: محدثة، فقيل له: ما تقول في الحلف بحق رسول الله؟ فقال: حلفة محدث.
قال عبد الله بن سليمان بن الأشعث السجستاني: ضرب في الله بالسياط عبد الله بن ذكوان أبو الزناد، وربيعة بن أبي عبد الرحمن، ومالك بن أنس، وأبو عمرو بن العلاء، ضربه عبيد الله بن زياد، وسعيد بن المسيب،(6/212)
وعطية العوفي، وثابت البناني، وعبد الله بن عون، ويزيد الضبي، وعبد الرحمن بن أبي ليلى. وحبس الربيع بن أنس ثلاثين سنة حتى مات في الحبس؛ وحبس إبراهيم بن الربيع التيمي في حبس واسط فمات فرمي به في الخندق، ولم يستجرئ أحد أن يدفنه حتى مزقته الكلاب؛ وإبراهيم الصائغ ضرب حتى مات؛ وأحمد بن حنبل ضرب بالسياط.
قال أبو عمرو بن العلاء: إن عتبة بن ربيعة قال لبنته: إنما خطبك إلي رجلان، خطبك السم ناقعاً وخطبك الأسد عادياً، فأيهما أحب إليك أن أزوجك؟ قالت: الذي أكل أحب إلي من الذي يؤكل، فتزوجها أبو سفيان وهو الأسد العادي؛ والسم الناقع هو سهيل بن عمرو.
قال عبد الوارث بن سعيد، قال أبو عمرو بن العلاء: كانت وقعة الحرة بالمدينة وبها ألف عين تنظر، قد رأت رسول الله، قتل أكثرهم،(6/213)
والله لو أنها عين واحدة لوجب أن تصان وتحمى؛ قال عبد الوارث: صدق أبو عمرو، وكان والله ثقة صدوقاً.
أبو عمرو عن رجل قال: الرجز
أفلح من كانت له كرديده ... يأكل منها وهو ثان جيده
الكرديدة: الغدرة من التمر.
قال أبو عمرو بن العلاء: ذاكرني أبو حنيفة بشيء فقلت: هذا بشع، فقال: ما معنى بشع؟ فعجبت من ذلك.
سمع أبو عمرو أبا حنيفة يتكلم في الفقه ويلحن، فاستحسن كلامه واستقبح لحنه، فقال: إنه لخطاب لو ساعده صواب، ثم قال لأبي حنيفة: إنك أحوج إلى إصلاح لسانك من جميع الناس.
قال أبو عمرو بن العلاء للأعمش: ما معنى ننكسه، إنما التنكيس لترديد الفعل إنما هو ننكسه، لأن الله جل اسمه لم يفعل هذا بالمعمر إلا مرة.
قال الفضل بن مروان، قال لي المأمون، كان الرشيد يقول:(6/214)
وددت أن لك بلاغة محمد وأن علي غرم كذا وكذا.
قال الفضل: سمعت محمداً يقول وقد عرض عليه كتاب: كلام بليغ وليست له حلاوة، مثله مثل طعام طيب ليست له لطافة.
وقال عبد الله بن صالح: سمعت محمداً يقول لكاتب بين يديه: دع الإطناب والزم الإيجاز، فإن للإيجاز إفهاماً كما أن مع الإسهاب استبهاماً.
قال أبو سهل الرازي: كنت واقفاً على رأس الأمين فقال لكاتب بين يديه: اكتب: بسم الله الرحمن الرحيم، من عبد الله محمد أمير المؤمنين إلى طاهر بن الحسين؛ أما بعد، فإن الأمر قد خرج بيني وبين أخي إلى هتك الستور، وكشف الحرم، ولست آمن أن يطمع في هذا الأمر السحيق البعيد، لشتات ألفتنا، واختلاف كلمتنا، وقد رضيت أن تكتب لي أماناً فأرج إلى أخي به، فإن تفضل علي بالعفو فأهل ذلك هو، وإن قتلني فمروة كسرت مروة، وصمصامة قطعت صمصامة، وأن يفترسني الأسد أحب إلي من أن تنهشني الكلاب. وأمر بختم الكتاب وأرسله مع ثقة إلى طاهر، فلما قرأه طاهر قال: الآن حين انحرف عنه مراقه وفساقه، وبقي مخذولاً معلولاً، يلوذ بالآمال؟! لا والله، أو يجعل في عنقه ساجوراً ويقول: ها أنا ذا قد نزلت على حكمك، فقلنا له: فما الجواب؟ قال: ما سمعتم، فانصرفنا إلى محمد بالخبر فقال: كذب العبد السوء العاض هن أمه، والله ما أبالي وقعت على الموت أو وقع علي الموت.(6/215)
أبو العتاهية: الوافر المجزوء
هي الأيام والغير ... وأمر الله ينتظر
أتيأس أن ترى فرجاً ... فأين الله والقدر
قال معاوية ليزيد: إذا دليتني في قبري فأدخل عمرو بن العاص القبر ووله أن يسويني في قبري، واخرج أنت عن الحفرة واسلل سيفك وأمر عمراً يبايعك، فإن فعل وإلا دفنته قبلي: ففعل يزيد ما أمره به معاوية فلما نظر عمرو إلى السيف بايعه وقال: يا يزيد، هذا من عمل صاحب الحفرة وما هو من كيسك.
قال معاوية لخالد بن معمر: كيف حبك لعلي؟ قال: أحبه على ثلاث خصال: على حلمه إذا غضب، وصدقه إذا قال، ووفائه إذا ولي.
أنشد أبو حاتم السجستاني لشاعر: البسيط
واعلم بأن الذي ترجو وتأمله ... من البرية مسكين ابن مسكين
ما أقتل الحرص في الدنيا لصاحبه ... وأسمج الكبر في من صيغ من طين
سمعت السيرافي يقول " فانكحوا ما طاب لكم من النساء " النساء: 3 ما ها هنا وقعت على من يعقل، وهن النساء، والأصل أن ما تقع على من لا يعقل ومن على من يعقل، فإن هذا جائز؛ ألا ترى إلى قوله " والسماء وما بناها " الشمس: 5، أي:(6/216)
ومن بناها، وإن كان قد قيل فيه وجه آخر وهو: " والسماء وما بناها " أي وبنائها؛ قال: ويجوز أن تكون ما ها هنا بمنزلة الذي، كأنه قال: الذي طاب لكم من النساء، فإن قيل على هذا الوجه، فكيف تكون بمعنى الذي وهو للمذكر، قيل: هذا يجوز لأنه عبارة عن الجنس، ألا ترى إلى قولك: من في الدار صحيح، مع علمك أن في الدار امرأة أو رجلاً وكما قال تعالى " النار الذي كنتم به تكذبون " الطور: 14، ويكون ها هنا عائداً على نفس اللفظ؛ قال: وهذا وجه صالح.
قال: ويجوز على معنى ثالث وهو أن تكون ما عبارة عن أي وقت وزمان كأنه قال: وانكحوا من النساء ما طاب أي وقت طاب، وقال: إن صح هذا فهو جيد.
سمعت علي بن عيسى يقول: كان عندنا صيدناني يقال له أبو شجاع، وكان يتمثل لدوائه ودواء غيره ويقول: مثال ذلك مثال رجلين على أحدهما جبة خلق وعلى الآخر جبة خز دخلا حماماً، فخرجا وقد سرقت جبتاهما، فهذا يبكي ويقول: واجبتاه، وهذا يبكي ويقول: واجبتاه، يريد أنه يبكي كل واحد منهما على قدر جبته.
وسمعته يقول: في قوله تعالى " ومن دخله كان آمناً " آل عمران: 97 وجهان: أحدهما انه على طريق الأمر والحكم كأنه في التقدير: ومن دخله يأمنونه؛ وحكي عن بعض القرامطة أنه قال لما دخل مكة وقتل الناس بها: ألم يقل الله " ومن دخله كان آمناً "، والله لقد أخفنا السبيل، وأطلنا العويل، فقال له بعض الحاج: يا هذا إنما هو على طريق الأمر: أمنوه، قال: فكأنما ألقمه حجراً.(6/217)
قال: والوجه الثاني أن المعنى على ظاهره، وذلك أن الله تعالى جبل الخلق في أول الفطرة على الطهارة والخير، إلا أنهم ربما أكرهوا أنفسهم على النجاسة والشر، فعلى هذا التأويل: ومن دخل كان آمناً على حسب ما فطر عليه وتقدم إليه؛ ألا ترى أن الشاة والذئب والحمام تأتلف في الحرم.
سمعت السيرافي يقول، سمعت نفطويه يقول: لحن الكبراء النصب والجر، ولحن الأواسط الرفع، ولحن السفلة الكسر.
سمعت ابن مهدي الطبري يقول، مشايخ بغداد يقولون: ما رأينا أفصح من ابن داود مطبوعاً، ولا أفصح من نفطويه متكلفاً.
شاعر: الطويل
لئن كان قومي قلدوني أمورهم ... ولم أكفهم إني إذن للئيم
علام إذن أدعى أميراً وأرتجى ... وتعصب بي الأمر العظيم تميم
فقل لتميم ما حميت ذماركم ... ولا حطت منكم ما يحوط كريم
إذا أنا لم أغضب جذاماً وحميراً ... بخوف له بين الضلوع نئيم
وأقذف عبد القيس بن بحر ذلة ... تظل به بين التراب تعوم
اعتلت امرأة، فقدم إليها فالوذج، فنظرت إليه وقالت: والله إنك لهين المزدرد لين المسترط، وإنك لتعلم أن العودة إلى مثلك لتطول مدتها، فما يمنعني أن أتلقى حرارتك بحلقوم لهجم، وبلعوم سرطم، ثم يقضي الله في قضاءه.(6/218)
قيل لأعرابي: هل استمريت ما أكلت البارحة؟ فقال: لو تغذى أحدنا بالدنيا وما فيها لأحب أن يتعشى بالآخرة.
وقال بعضهم: المائدة بلا بقل كالشيخ بلا عقل.
وكتب عبد الملك إلى الحجاج كتاباً فيه: ولا تولين الأحكام بين الناس جاهلاً بالأحكام، ولا حديداً طائشاً عند الخصام، ولا طعماً هلعاً يقرب أهل الغنى، ويبش بأهل السعة، يكسر بذلك أفئدة ذوي الحاجة، ويقطع ألسنتهم عن الإفلاج بالحجة والإبلاغ في الصفة، واعلم أن الجاهل لا يعلم، والحديد لا يفهم، والطائش القلق لا يعقل، والطمع الشره لا تنفع عنده الحجة ولا تغني فيه البينة، والسلام.
قد وليناك كذا لما بلوناه من جميل أثرك، ورضيناه على الامتحان من مختبرك.
وفصل آخر في حديث القضاء من إنشاء بعض البلغاء: يعتمد على الحق وبيناته، ويتجنب الزيغ وشبهاته، ولا يقطع ضعيفاً عن حجته، ولا يطمع خصماً في منزلته، وينعم النظر في مشكلات الأحكام، آخذاً بالاحتياط، معتقداً للإقسام، مجتهداً في الفصل بين الخصوم، والأخذ من الظالم للمظلوم، ويستبطن أهل الحجى، ويستظهر بذوي النهى.
فصل آخر في هذا المعنى: هذا ما عهد عبد الله الإمام أمير المؤمنين إلى فلان حين رداه رداء الشرف، وبوأه المتبوأ العالي المنيف،(6/219)
واعتمد عليه في القضايا والأحكام، وأطلق له النظر بما أمر الله عز وجل في أموال الوصايا والوقوف والأيتام، لدينه المعرى من الشوائب، وورعه المبرإ من المعائب، وعلمه الذي قد جمع أطرافه، وبذ به أشكاله وأخلافه، واقتصاده الذي هو عنوانه، وعليه يجري أصحابه وأعوانه، وتأنيه في إمضاء الحكومات، ودرئه الحدود بالشبهات، واقتداره على كف أربه، واشتماله على ما يقربه من ربه، وأمير المؤمنين يسأل الله تعالى أن يوفق آراءه ولا يعروها فند، ويصل له وبه صلاحاً يبقى على الأبد، ويعين فلاناً على ما تحمله، فإنه عبء ثقيل، وأمر عظيم جليل.
شاعر من الكتاب: الطويل
أعاتك أدني من أبيك السنورا ... فقد أصبحت نار العشيرة أنورا
وجاش بعبد القيس ما في صدورهم ... علينا من الأخبار حتى تفطرا
وما ضرنا أن القبائل أصبحت ... علينا غضاباً ليس تنكر منكرا
وأنا نعد الناس منبر ملكهم ... إذا اضطرب الخيلان حتى نؤمرا
وأنا إذا ما خيرونا وجدتنا ... وإن كثروا منهم أعز وأكبرا
فهاتي سلاحي أكف قومي أمورهم ... وقد قلدوني الأمر أروع أزهرا
وبئس أخو القوم الكرام وشيخهم ... أبوك غداً إن أقدموا وتأخرا
وإن هو لم يركب قرا الحرب كلما ... تسنم منها قاعداً وتنمرا
وإن يسأم الإقدام في الروع آمناً ... ولو خاض بحر الموت حولاً مكدرا
قال بعض السلف: عليك بالإخوان، ألم تسمع قوله تعالى " فما لنا من شافعين ولا صديق حميم " الشعراء: 100 - 101.(6/220)
قال بعض السلف: إن الله تعالى خلق النساء من عي وعورة، فداووا العي بالسكوت، واستروا العورة بالبيوت.
قال بعض السلف: مكتوب في الصحف الأولى: إذا أغنيت عبدي عن طبيب يستشفيه، وعما في يد أخيه، وعن باب سلطان يستعديه، وعن جار يؤذيه، فقد أسبغت عليه النعم.
رأى أعرابي في دهليز دار ابن زياد صورة أسد وكلب وكبش، فقال: أسد جائح، وكبش ناطح، وكلب نابح، أما إنه لا يتمتع بها أبداً؛ فما لبث عبيد الله إلا أياماً.
سمعت الحراني الصوفي بمكة يقول: قم في مغاني الأسى، على الترب والحصا، وناد فلعل وعسى.
رفع إلى كسرى: خذلتم ثم سميتم فلاناً مخذولاً، فوقع: لأنه تظلم منا إلى الله تعالى قبل أن يتظلم إلينا.
ووقع الفيض في وزارته على ظهر رقعة معتذر: التوبة للمذنب كالدواء للمريض، فإن صحت توبته كمل الله تعالى شفاءه، وإن فسدت نيته أعاد الله تعالى داءه.
قال أبو الدرداء: معاتبة الأخ أخاه خير من فقده، ومن لك(6/221)
بأخيك كله؛ أطع أخاك ولن له، ولا تسمع فيه قول حاسد وكاشح، غداً يأتيك أجله فيكفيك فقده، ويكفيك مضض الحسرة عليه بعد فقده إذا قصرت في حقه حال حياته، فكيف تبكيه بعد الموت وفي الحياة تركت وصله؟ قال عمر بن الخطاب رضي الله عنه: لو كان المراء قوم من قدح لوجد له غامز.
وقف أعرابي على خالد بن سلمة المخزومي فقال له: يا أعرابي ممن أنت؟ قال: من تميم، قال: أنت من دارم الأكرمين؟ قال: لا، قال: فأنت من حنظلة الأشدين؟ قال: لا، قال: فأنت من سعد الأكبرين؟ قال: لا، قال: اذهب لا تبال أن تكون عربياً؛ فتنحى فقال: من هذا الذي على بابه جالس؟ قالوا: خالد بن سلمة المخزومي، فرجع إله فقال: ممن أنت؟ قال: من قريش، قال: من هاشم المرسلين؟ قال: لا، قال: فمن أمية المستخلفين؟ قال: لا، قال: فمن عبد الدار المستحجبين؟ قال: لا، قال: فاذهب ولا تبال أن تكون قرشياً.
قال ابن الأعرابي عن المفضل: جاء رجل إلى مطيع بن إياس فقال: قد جئتك خاطباً، قال: لمن؟ قال: لمودتك، قال: قد أنكحتك إياها، وجعلت الصداق أن لا تقبل في مقالة قائل.(6/222)
قال المفجع: يقال: مرت الطير لها خوات ومرت الطير لها خواته، أي حس وصوت.
وقال: المهود: الطرف الملهي، وتهود القوم في السير إذا ساروا سيراً ضعيفاً، وبينهم هوادة من هذا أي سكون، واليهود منه.
يقال: ما له حيلة ولا حول ولا محالة ولا حويل ولا حيل، إذا كان لا يتجه لأمره؛ وقال: الحيل: القوة، والحيل أيضاً الحجر الناتئ من الجبل، والجميع الحيلة، حكاه أبو العباس عن إسحاق بن إبراهيم الموصلي.
وقال: قارعة الطريق أي محجته.
وقال: تقول العرب: هدهد، وهداهد - بضم الهاء - سواء كل واحد، فإذا جمعوا قالوا: هداهد - بفتح الهاء، وكذلك: عراعر: سيد القوم، فإذا جمعوا قالوا: عراعر، وكذلك: رجل حلاحل للملك الكثير العطاء، والجمع حلاحل، وهذه أحرف يسيرة جاءت ناردة.
وتقول العرب في الذئب: نيه طلسة وغبرة، وغبشة كل ذلك للذي يضرب إلى السواد والحمرة؛ وفي الضبع غبرة وشكلة، وهو لون فيه سواد وصفرة قبيحة.
قال أبو العيناء: سمعت رجلاً يقول لأبي زيد: أتتهمني على دين الله؟ قال: لا ولكني أتهمك عل لغة رسول الله صلى الله عليه وسلم.
قال أبو العيناء، حدثني القحذمي قال: دخل خالد بن صفوان الحمام وفيه رجل مع ابنه، فأراد أن يعرف خالداً ببلاغته فقال لابنه: يا بني،(6/223)
ابدأ بيداك وثن برجلاك، ثم التفت إلى خالد وقال: با ابن صفوان، هذا كلام قد ذهب أهله، فقال خالد: هذا كلام ما خلق الله له أهلاً.
قال أبو العيناء: خطب رجل في حسبه شيء إلى رجل شريف قد مسته حاجة، فأنشأ يقول: البسيط
قل للذين سعوا يبغون رخصتها ... ما أرخص الجوع عندي أم كلثوم
الجوع خير لها من فعل منقصة ... ساقت أباها إليه جلة كوم
قدم محمد بن إسحاق البصرة، فكان فتيانها يضعون له المراثي لبنات عبد المطلب فيصلها هو بالسيرة والغزوات.
قال أبو العيناء، قال الثوري: سألت الأصمعي لم سمي الشجاع بهمة، قال: لأن أمره مستبهم لا يدري من أين يتأتى له.
قال الأصمعي: حمل يزيد بن مرة شيئاً على رأس حمال، فعاسره في الكراء، فقال: إن الذي على رأسك لك.
قال المعتمر بن سليمان: كان على أبي دين، فكان يستغفر، فقلت: لو سألت الله أن يقضي دينك، قال: إذا غفر لي قضى ديني.
قال أبو مرثد: العرب تقول: فلان نظورة قومه، أي المنظور له من بينهم.(6/224)
قال أبو زيد: سمعت رؤبة بن العجاج يقول: ما رأيت أروى لأشعارنا من أبي مسلم، من رجل يرتضخ لكنة، فهو أفصح الناس.
قال يحيى بن خالد: شر الأمور التخليط الذي لا ينقطع.
في أول كتاب إبراهيم الإمام: احذروا العرب فإنها لم تزل تبغينا مذ بعث الله محمداً صلى الله عليه وسلم فينا.
قال جعفر بن محمد: يعرف نفاق الرجل في ولده أن لا يكون باراً بهم رفيقاً عليهم.
قال ابن عباس: إذا أسف الله على خلق من خلقه فلم يعجل لهم النقمة بمثل ما أهلك به الأمم من الريح وغيرها، خلق الله لهم خلقاً من خلقه يعذبهم بهم لا يعرفون الله تعالى.
قال عبد الصمد بن موسى: لما وجد عمر بن فرج كتاباً من أهل الكرخ إلى علي بن محمد بن جعفر عليهم السلام جاء به إلى المأمون، فقال المأمون: محمد أولى من ستر هذا - ولم يشعه، ودعا علي بن محمد فقال: له: قد وقفنا على أمرك، وقد وهبنا ذلك لعلي وفاطمة، فاذهب فتخير ما شئت من الذنوب فإنا نتخير لك مثل ذلك من العفو.(6/225)
قال عبد الصمد بن موسى: كان متطبب محمد بن إبراهيم أبو خالد نصرانياً ثم أسلم، فغلب على يحيى بن خالد ثم على الرشيد، فلما حضرته الوفاة وجه إلى محمد بن إبراهيم: إن لك علي حقاً أرعاه، فوجه إليي من يفهم عني حتى أوصيك بشيء أنصح لك فيه، فحدثني أبي موسى قال: وجهني محمد بن إبراهيم إليه، فأمرت الغلام بدواة وقرطاس فقال: أقرئه السلام، والأمر أيسر من أن نكتبه، قل له: لا تجامع حتى يأتي عليك من الوقت الذي تجامع فيه إلى ذلك الوقت مقدار ثلاثة أيام بلياليها، فإنك إن فعلت لم يضررك، وذلك أن المني إنما يكون من الدم، ولا يصير الدم في أقل من هذه المدة، ومتى فعلت قبل ذلك استكرهته فقلعته قلعاً تؤذيك عاقبته بعد؛ ولا تغلظ على أضراسك لقمة فتلقيها إلى معدتك فتضر بها لأن المعدة أرق منها، وإذا لم تقدر عليها الأضراس فالمعدة أجدر؛ والدم فمتى هاج بك فأخرجه؛ والحمام فتعاهده في كل خمسة أيام، فإن للأبدان خبثاً فانفضه عنك؛ واعلم أنه ليس شيء أنفع في الجوف من الرائحة الطيبة، فلا تبت ليلة حتى تستعمل الطيب وتعرض نفسك على الخلاء.
ضمرة بن رجاء: الطويل
فإن أك بدلت البياض فأنكرت ... معالمه مني العيون اللوامح
فقد يستجد المرء حالاً بحالة ... وقد يستشن الجفن والنصل جارح
وما شان عرضي من فراق علمته ... ولا أثرت في الخطوب الفوادح
شاعر: الطويل(6/226)
وسار تعناه المبيت فلم يدع ... له جانب الظلماء في الليل مذهبا
رأى ضوء نار من بعيد فأمها ... وقد شهبتها العين باللمح كوكبا
فقلت ارفعاها بالصعيد كفى بها ... مناراً لساري ليلة إن تأوبا
رفعت له بالقفر ناراً تشبها ... شآمية علياء أو حرجف صبا
فلما أتانا والسماء تبله ... رجعت له أهلاً وسهلاً ومرحبا
قال محمد بن عبد الملك لأبي العيناء: بلغني أنك مأبون، قال: مكذوب علي وعليك أصلحك الله.
دخل مالك بن هبيرة السكوني على معاوية فأدناه، وكان شيخاً كبيراً، فخدرت رجله فهزها، فقال له معاوية: ليت لنا يا أبا سعيد جارية لها مثل ساقيك، قال: متصلان بمثل عجيزتك، فخجل معاوية وقال: البادئ أظلم.
دب رجل إلى آخر فقال له المدبوب عليه: يا شيخ ما تصنع؟ قال: لا تسأل عما تعلم.
قال إسحاق بن إبراهيم الموصلي: حدثني رجل من أهل الأدب قال: كانت لفتى من قريش وصيفة نظيفة جميلة الوجه حسنة الأدب، وكان(6/227)
الفتى بها معجباً، فأضاق واحتاج إلى ثمنها، فحملها إلى العراق في زمن الحجاج وباعها، فوقعت إلى الحجاج فكانت تلي خدمته، فقدم عليه فتى من ثقيف، أحد بني أبي عقيل، فأنزله قريباً منه وألطفه، فدخل عليه يوماً والوصيفة تغمر رجل الحجاج وكان للفتى جمال وهيئة فجعلت الوصيفة تسارق الثقفي النظر، وفطن الحجاج فقال للفتى: ألك أهل؟ قال: لا، قال: فخذ بيد هذه الوصيفة فاسكن إليها واستأنس بها إلى أن أنظر لك في بنات عمك إن شاء الله، فدعا له وأخذ بيدها مسروراً وانصرف إلى رحله، فباتت معه ليلتها، وهربت مه بغلس، فأصبح لا يدريي أين هي؛ وبلغ الحجاج ذلك فأمر منادياً ينادي: برئت الذمة ممن آوى وصيفة، من صفتها وأمرها كيت وكيت، فلم تلبث أن أتي بها فقال لها: أي عدوة الله، كنت عندي من أحب الناس إلي، واخترت لك ابن عمي شاباً حسن الوجه، ورأيتك تسارقينه النظر، فدفعتك إليه وأوصيته بك، فما لبثت إلا سواد ليلتك حتى هربت، قالت: يا سيدي، اسمع قصتي ثم اصنع ما أحببت، فقال: هات، قالت: كنت لفلان القرشي، وكان بي معجباً فاحتاج إلى ثمني، وحملني إلى الكوفة، فلما صرنا قريباً منها دنا مني فوقع علي، فلم يلبث أن سمع زئير الأسد، فوثب عني إليه واخترط سيفه فحمل عليه وضربه فقتله، ثم أقبل إلي وما برد ما عنده فقضى حاجته، وكان ابن عمك هذا الذي اخترته لي لما أظلم الليل قام إلي، فإنه لعلى بطني إذ وقعت فارة من السقف عليه، فضرط ثم وقع مغشياً عليه، فمكثت ليلاً طويلاً أقلبه وأحركه وأرش على وجهه الماء ولا يفيق، فخفت أن تتهمني به فهربت. فما ملك الحجاج نفسه وقال: ويحك لا تعلمي بهذا أحداً فإنه فضيحة، قالت: يا سيدي على أن لا تردني إليه، قال: لك ذلك.(6/228)
خرج أبو الحارث جمين مع عيسى بن موسى إلى الصيد فخلا به، فانحنى عيسى على قربوس سرجه فافلت منه ضرطة، فالتفت إلى أبي الحارث جمين فقال: إنك ستجعل هذه نادرة تأكل بها، وإني أعطي الله عهداً لئن بلغني أنك حدثت بهذا لأضربن عنقك، فقال جمين: سبحان الله أيها الأمير، وأنا لا أدري بمن أتعبث وحديث من أتحدث؟! فلما انصرفا قام إليهما بعض أهل الدار فقال: كم اصطدتم؟ قال: فبادر أبو الحارث فقال: لا والله ما اصطدنا شيئاً، وما كان معنا انفلت، وأشار إلى نحو بطن عيسى.
ضرط أشعب في صلاته فقيل له: ويحك، أتضرط في صلاتك؟ فقال: وما خير آست لا تضرط من خشية ربها.
وضرط الدلال في سجوده فقال: سبح لك أعلاي وأسفلي، ففتن الناس في صلاتهم.
أبو عداس النميري: الرمل
أيها اللاحي على ما قد مضى ... إن علمت الرشد فاستقبل لغد
إنما يعرف قومي خلتي ... إن هم نادوا وواراني البلد
سأذب الناس عن أعراضهم ... ذبك الناهل عن حوض الثمد
بلسان حسن تشقيقه ... وسنان مثل كلاب معد(6/229)
نفس إن الحزم في عاداته ... ما تعرى من زمان محتصد
فاستبدي مرة واحدة ... إنما العاجز من لا يستبد
قال أبو العيناء، قال ابن ماسويه الطبيب، قال لي أخ لعبيد الله ابن يحيى: أخبرني عن الطبائع الأربع، هي من عقاقير الجبل؟ فضحكت، فقال: لم تضحك؟ قلت: أخو وزير الخليفة لا يعرف الطبائع؟ فقال لي: أنا طبيب؟ قال أبو العيناء: وشكا بعض الكتاب في نكبته، وكان قد زور، فقال: أخذوا مالي وقلعوا أسناني، إلا أن داري لم تبرح مكاني.
قال أبو العيناء: سمعت الحسن بن سهل يقول: كان أنوشروان أربع خواتيم: فخاتم للخراج نقشه: العدل وخاتم للضياع نقشه: العمارة، وخاتم للمعونة نقشه: الأناة، وخاتم للبريد نقشه: الوحى، وما نخن من هذا في شيء.
قال أبو دلف: دخلت يوماً على الرشيد وهو في طارمة وعلى بابها شيخ جليل قد ألقيت له طنفسة خارج الطارمة، فلما سلمت قال الرشيد: كيف أرضك؟ قلت: خراب يباب، أخربها الأعراب والأكراد، فقال قائل: هذه آفة الجبل، فقلت: يا أمير المؤمنين، إن صدقك فأنا سبب(6/230)
إصلاحه، قال: وكيف؟ قلت: أأكون سبباً لإفساده وأنت علي، ولا أكون سبب إصلاحه وأنت معي؟! قال الطالقاني كنا عند ابن منارة الكاتب وعنده ابن المرزبان، فدخل أبو العيناء فقال ابن المرزبان: أريد أن أعبث به، فنهاه ابن منارة فلم يقبل، فلما جلس قال له: يا أبا عبد الله، لم لبست جباعة؟ قال: وما الجباعة؟ قال: التي ليست بجبة ولا دراعة، فقال أبو العيناء: ولم أنت صفديم؟ قال: وما الصفديم؟ قال: الذي بين الصفعان والنديم، فوجم لذلك وضحك أهل المجلس.
بعث سهل بن هارون إلى الحسن بن سهل كتاباً عمله في مدح البخل، واستماحه فيه، فوقع الحسن: قد مدحت ما ذم الله، وحسنت ما قبح الله، وما يقوم بفساد معناك صلاح لفظك، وقد جعلنا ثوابك قبول قولك، فما نعطيك شيئاً.
اعتل بعض إخوان الحسن بن سهل، فكتب إليه الحسن: اجدني وإياك كالجسم الواحد، إذا خص عضواً منه ألم عم سائره، فعافاني الله بعافيتك، وأدام لي الإمتاع بك.
قال سعيد بن حميد: أمر يحيى كاتبين له أن يكتبا في معنى واحد، فأطال أحدهما واختصر الآخر، فقال للمختصر: ما أجد موضع(6/231)
زيادة، وقال للمطيل: ما أجد موضع نقصان.
قال بعضهم: عداوة يحيى خير لعدوه من صداقة غيره لصديقه.
دخل الأحنف بن قيس إلى معاوية بعدما تم له الأمر فقال له: أنت الخاذل لأمير المؤمنين ومقاتلنا بصفين؟ فقال: يا أمير المؤمنين، إن القلوب التي أبغضناك بها لبين جوانحنا، والسيوف التي قاتلناك بها لعلى عواتقنا، ولئن مددت شبراً من غدر، لنمدن باعاً من ختر، وإنك لجدير أن تستصفي قلوبنا وكدرها بفضل حلمك، قال: أفعل.
سأل عمر بن الخطاب عمرو بن معد يكرب عن الحرب فقال: مرة المذاق، إذا شمرت عن ساق، من صبر فيها عرف، ومن ضعف عنها تلف.
كلم الفضل المأمون في وعد رجل تأخر: يا أمير المؤمنين، إن رأيت أن تهب لوعدك تذكراً من نفسك، وتذيق سائليك حلاوة تعجيلك، وتجعل فعلك حاثاً لقولك، فافعل.
وقع الفضل إلى مستميح: كن بالباب يأتك الجواب.
وقف أحمد بن أبي خالد بين يدي المأمون، وخرج يحيى بن أكثم من بعض المستراحات وقعد، فقال له المأمون: اصعد إلى السرير، فصعد وجلس على طرفه، فقال أحمد: يا أمير أمير المؤمنين، إن يحيى صديقي(6/232)
وأخي، ومن أثق به في أمري كله ويثق بي، وقد تغير عما أعهده عليه، فإن رأيت أن تأمره بالعود إلى ما كان عليه فإني له على مثله، فقال المأمون: يا يحيى، إن فساد أمر الملوك بفساد الحال بين خاصتهم، وما يعدلكما عندي أحد، فما هذا النزاع بينكما؟ فقال يحيى: والله يا أمير المؤمنين إنه ليعلم أني له على أكثر مما وصف وأني أثق بمثل ذلك منه، ولكنه رأى منزلتي منك هذه المنزلة فخاف أن أتغير له يوماً فأقدح فيه عندك فتقبل مني فيه، فأحب أن يقول هذا ليأمن مني، وإنه لو بلغ نهاية مساءتي ما قدرت أن أذكره عندك بسوء، فقال المأمون: أكذلك يا أحمد؟ قال: نعم، فقال: أستعين الله عليكما، ما رأيت أتم دهاء ولا أبلغ فطنة منكما.
كان أبو فرعون الأعرابي يرقص ابنته ويقول: الرجز
بنيتي ريحانتي أشمها ... فديت بنتي وعدمت أمها
قال علي بن عبيدة: إن أخذت عفو القلوب زكا ريعك، وإن استقصيت أكديت.
لما مات الإسكندر قالت أمه: واعجبا ممن بلغت السماء حكمته، وأقطار الأرض مملكته، وذانت له الملوك عنوة، أصبح نائماً لا يستيقظ، وصامتاً لا يتلكم، ومحمولاً على يدي من كان لا يناله نصره؛ ألا من(6/233)
مبلغ عني الإسكندر بأن قد وعظتني فاتعظت، وعزيتني فصبرت، ولولا أني لاحقة بك ما فعلت ما فعلت، والسلام عليك حياً وميتاً، فنعم الحي كنت، ونعم الميت أنت.
قيل لأم هارون الرشيد: أتحبين الموت؟ فقالت: لا، قيل: ولم؟ قالت: لو عصيت مخلوقاً ما أحببت لقاءه فكيف وقد عصيت الله؟! قال المفجع: اتهم الرجل فهو متهم، من التهمة، وأتهم: أتى تهامة.
وقال أمعن في الأرض: أسرع، وأمعن بحقي: أتى به متبرعاً، وأذعن به: أقر به، واخترف الرجل فهو مخترف إذا اخترف من الكسب.
ويقال: ما أطيب أريجته وأرجه، والأرج: الرائحة الطيبة.
ويقال: وزعت بينهما وورعت أي حجزت.
وأنشد: الرجز
يا ليت شعري والمنى لا تنفع ... هل أغدون يوماً وأمري مجمع
قال: مجمع، ولم يقل مجموع، كأنه أرد مجمع عليه؛ يقولون: أجمعت على الأمر، وأزمعت عليه.
غلط المفجع في هذا، يقال: أجمعت الأمر، وهو الفصيح، قال الله تعالى: " فأجمعوا أمركم " يونس: 71، وأزمعه مسموع أيضاً.(6/234)
قال المفجع: لم أره منذ زمنة يا هذا، يريد منذ زمان.
وقال: هذا مطيبة لنفسي ومخبثة لجسمي.
ويقال: تأنقت هذا المكان أي أحببته واخترته؛ قال: وسمعت أبا موسى يقول: أظن معنى قولهم تأنقت في الشيء مأخوذ من النيق، وهو أعلى الجبل، كأنه بالغ في الشيء.
قال: وسمعته يقول: الحق مطيتك مخففة، وقد تثقل.
وقال: وقعوا في مرطلة، يعني طيناً ووحلاً، وقد مرطلت الأرض عليهم.
وقال: ما قارنتهم بلادنا أي ما وافقتهم، وهذا أمر لا يقاييني ولا ينايينني، أي لا يصلح لي ولا يلائمني.
وقال: أخذه إباء شديد، معناه: كلما قيل له شيء يأباه.
وسمعت من يقول: وجرت الدواء إذا شربته.
قال: وسمعت: أخلف الله عليك وخلف أيضاً.(6/235)
روى أبو عبيدة العسكري في تاريخه عن أبي وائل عن حذيفة قال: بعث رسول الله صلى الله عليه وسلم إلى عثمان يستعينه في غزاة، فبعث إليه عثمان رضي الله عنه عشرة آلاف دينار، فصبت بين يدي رسول الله صلى الله عليه وسلم، فجعل يقلبها ويقول: غفر الله لك يا عثمان ما أسررت وما أعلنت، وما أخفيت وما أبديت، وما قدمت وما أخرت، ما يبالي عثمان ما عمل بعد هذا.
قال، وقال سعيد بن المسيب: بلغ عثمان أن قوماً على فاحشة، فأتاهم وقد تفرقوا، فحمد الله وأعتق رقبة.
أهدى الموبذ إلى المتوكل قارورة دهن وكتب: إذا كانت الهدية من الصغير إلى الكبير، فكلما لطفت ودقت كانت أبهى وأحسن، ومن الكبير إلى الصغير فكلما عظمت وجلت كانت أنفع وأوقع، وأرجو ألا أكون قصرت بي همة صيرتني إليك، ولا أخرني زمان دلني عليك، ولا قعد بي رجاء حداني على بابك، وحسب معتمدك ظفراً بفائدة وغنيمة، ولجأ إلى موئل وسند.
قيل لمغنية: صوم يوم عرفة كفارة سنة، فصامت إلى الظهر ثم أفطرت، فقيل لها: لم فعلت؟ قالت: يكفيني كفارة ستة أشهر.
قال أبو العيناء: كان يالري مجوسي موسر فأسلم، وحضر شهر(6/236)
رمضان فلم يطق الصوم، فنزل إلى سرداب له وقعد يأكل، فسمع ابنه حساً من السرداب، فاطلع فيه وقال: من هذا؟ فقال الشيخ: أبوك الشقي يأكل خبز نفسه ويفزع من الناس.
قال الزبير: حدثني عمي مصعب، حدثني موسى بن صالح قال: كان عيسى بن دأب كثير الأدب عذب الألفاظ، وكان قد حظي عند الهادي حظوة لم تكن لأحد، وكان يدعو له بمتكأ، ولم يكن يطمع في هذا أحد من خلق الله في مجلسه، وكان يقول له: ما استطلت بك يوماً ولا ليلة، ولا غبت عني إلا تمنيت ألا أرى غيرك، وكان لذيذ المفاكهة طيب المسامرة كثير النادرة جيد الشعر حسن الانتزاع له.
قال علي بن عبيدة: ثقف نفسك بالآداب قبل صحبة الملوك، ولا تنظر إلى من نال الحظ بالسخف، فإن كل أحد يوزن بقدره إذا خرج مما كان فيه.
وقال البكائي عن أبيه، وكان أدرك الجاهلية: كان الربيع بن زياد العبسي نديماً للنعمان بن المنذر، وكان يسمى من شطاطه وبياضه وجماله(6/237)
الكامل؛ فقدم وفد من بني عامر - ثلاثون رجلاً - عليهم أبو براء عامر ابن مالك بن جعفر بن كلاب - وهو ملاعب الأسنة، خمسة منهم من بني الحريش، وثلاثة من بني عقيل من بني خفاجة، وخندف بن عون بن شداد بن المحلق ومالك بن ربيعة وهو فارس مدرك، وقتادة بن عوف، ولبيد بن ربيعة بن مالك، وهو يومئذ غلام، وأم لبيد نفيرة بنت حذيم. وكان الربيع من أكرم الناس على النعمان، فضرب النعمان قبة على أبي براء وأجرى عليه وعلى من معه، فلم يزل الربيع يتنقصه عنده حتى نزع القبة عن أبي براء وقطع النزل، وهموا بالأنصراف، فقال لهم لبيد: ما لكم تتناجون؟ قالوا: إليك عنا! قال: أخبروني لعل لكم عندي فرجاً، فأخبروه، فقال: عندي، أرجز به غداً حين يقعد الملك، فقالوا: وهل عندك ذاك؟ قال: نعم، قالوا: فقل في هذه البقلة نبلوك بها، أي نجربك، فقال: هذه البقلة الرذلة لا تستر جاراً، ولا تؤهل داراً، ولا تذكي ناراً، المقيم عليها قانع، والمغتر بها جائع، أقبح البقول مرعى، أقصرها فرعا؛ القوا بي أخا بني عبس، أرجعه عنكم بتعس ونكس، وأتركه غداً من أمره في لبس. فغدوا وقد جلس النعمان وإلى جانبه الربيع، وأقبل لبيد وقد دهن أحد شقي رأسه وأرخى إزاره وانتعل نعلاً واحدة، وكذلك كانت تفعل الشعراء في الجاهلية إذا أرادت الهجاء، فمثل بين يديه ثم أنشأ يقول: الرجز
أنا لبيد ثم هذا منزعه ... يا رب هيجا هي خير من دعه
في كل يوم هامتي مقزعه ... نحن بني أم البنين الأربعه
المطعمون الجفنة المدعدعه ... والضاروبن الهام تحت الخيضعه(6/238)
نحن خيار عامر بن صعصعه ... مهلاً أبيت اللعن لا تأكل معه
إن آسته من برص ملمعه ... وإنه يدخل فيها إصبعه
يدخلها حتى يواري أشجعه ... كأنما يطلب شيئاً ضيعه
أف لهذا طامع ما أطعمه فأقامه النعمان وقال: إنك لهكذا؟ فقالك كذب أيها الملك، فطرده وقرب وفد بني عامر وأعاد على أبي براء القبة، فذلك قول لبيد: الرمل
ومعي حامية من جعفر ... حين يدعون ورهط ابن شكل
وقبيل من عقيل صادق ... وليوث بين غاب وعصل
فقال النعمان للربيع: البسيط
شرد برحلك عني حيث شئت ولا ... تكثر علي ودع عنك الأباطيلا
فقد رميت بشيء لست ناسيه ... ما جاوز النيل يوماً أهل إمليلا
قد قيل ذلك إن حق وإن كذب ... فما اعتذارك من شيء إذا قيلا
كتب ابن مكرم إلى نصارني أسلم: الحمد لله الذي وفقك لعبادته، وأكرمك بهدايته، وطهر من الارتياب قلبك، ومن الافتراء عليه لبك.
ضرط كاتب عمر بن عبد العزيز بين يديه، فرمى بقلمه وقام خجلاً، فقال له عمر: لا عليك، خذ قلمك واضمم إليك جناحك، وأفرخ(6/239)
روعك، فما سمعتها من أحد أكثر مما سمعتها من نفسي.
يقال سليمان بن ربيعة لعمرو بن معدي كرب: فرسك هذا مقرف، فقال: المقرف يعرف المقرف.
كان أبو جلدة اليشكري بخراسان مع شرب في بيت، فخرج ليبول فضرط، فضحكوا منه، فأخذ السيف وقام على الباب، وحلف ليضربن من لم يضرط، فضرط سائرهم إلا رجل من عبد القيس فإنه قال: يا أبا جلدة، إن عبد القيس ليسوا بأصحاب ضراط، فهل لك أن تقبل عشر فسوات بضرطة؟ فأعرض عنه أبو جلدة وقال: ألم يكن لؤماً بكم أن تضحكوا مما تفعلون.
رفع الواقدي إلى المأمون رقعة يذكر فيها ما عليه من الدين وقلة الصبر، فوقع المأمون في ظهر رقعته: أنت رجل فيك خلتان: السخاء والحياء؛ فأما السخاء فهو الذي أطلق ما في يدك، وأما الحياء فبلغ بك ما أنت عليه، وقد أمرنا لك بمائة ألف درهم، فإن كنا أصبنا إرادتك فازدد في بسط يدك، وإن كنا لم نصب إرادتك فتماسك على نفسك، وأنت كنت حدثتني وأنت على قضاء الرشيد عن محمد بن إسحاق عن الزهري عن أنس بن مالك أن رسول(6/240)
الله صلى الله عليه وسلم قال للزبير: يا زبير، إن مفاتيح الرزق بإزاء العرش، ينزل الله تعالى للعباد أرزاقهم على قدر نفقاتهم، فمن كثر كثر له، ومن قلل قلل له، قال الواقدي: وكنت أنسيت هذا الحديث، فكانت مذاكرته إياي أعجب إلي من صلته.
قال أسامة يوم الفتح: يا رسول الله، أين ننزل غداً إن شاء الله؟ قال: وهل ترك لنا عقيل من منزل؟ ثم قال: لا يرث الكافر المؤمن ولا المؤمن الكفار؛ قيل للزبير: فمن ورث أبا طالب؟ قال: ورثه عقيل وطالب.
قال الثوري: وسمعت أبا عبيدة يقول: من شغل نفسه بغير المهم أضر بالمهم.
قال أبو حاتم: سمعت أبا عبيدة يقول: إذا كان الملك محصناً لسره، بعيداً من أن يعرف ما في نفسه، متخيراً للوزراء، مهيباً في أنفس العامة، مكافئاً بحسن البلاء، لا يخافه البريء ولا يأمنه المذنب، كان خليقاً ببقاء ملكه.
شاعر: الطويل
وقد أشمت الأعداء طراً بنفسه ... وقد وجدت فيه مقالاً عواذله
ولم يزع النفس اللجوج عن الهوى ... من الناس إلا واحد العقل كامله(6/241)
قال الهدادي: لم يقل هشام شعراً إلا بيتاً، وهو: الطويل
إذا أنت لم تعص الهوى قادك الهوى ... إلى بعض ما فيه عليك مقال
قال ابن المعتز: وكل مكروه ختم بمحبوب وانتهى إلى السلامة فالهم عنه زائل، والأجر عليه حاصل.
شاعر: السريع
أفرد من أهوى لأن الهوى ... توحيده أفضل من شركه
ولو أراد الله ستر الهوى ... ما سلط الدمع على هتكه
كتب رجل إلى أخ له يعذله على غلبة الهوى عليه فقال: من لم يكن في طبعه الاقتدار على نفسه بحسن سياستها، والانتصاف من هواها، منعه الحزم قيادة، وجاذبه الفهم خطامه، وحرمه الدهر حسن الذكر.
فأجابه المعذول: ليس كل من شاء انتصف من هواه، وقهر غضبه رضاه.
للهيثم بن خالد: المنسرح
ولي صديق ما مسني عدم ... مذ وقعت عينه على عدمي
بشرني بالغنى تهلله ... وقبل هذا تهلل الخدم
ومحنة الزائرين بينة ... تعرف قبل اللقاء في الحشم(6/242)
وجد على ظهر كتاب من كتب ذي الرياستين بخطه: نسخته في الشهر الذي حين ننتقل إليه تكون النكبة التي نسأل الله دفعها، ولا حول ولا قوة إلا بالله العلي العظيم، وأتوكل على الله، والأغلب علي إن صح من حساب الفلك شيء أن الأمر واقع، فنسأل الله أن يثبت قوانا حتى ننتقل إلى داره التي وعدها الله أولياءه على خير سبيل.
لأبي البيداء الرياحي: الطويل
إذا ما أبو البيداء رمت عظامه ... وسرك أن يحيا فهات نبيذا
نبيذ إذا مر الذباب بدنه ... تقطر أو خر الذباب وقيذا
قال الأصمعي: مررت بكناس في بعض الطريق وهو ينشد الطويل
وأكرم نفسي إنني إن أهنتها ... وحقك لم تكرم على أحد بعدي
فقلت: عن أي شيء أكرمتها وهذه الجرة على رقبتك؟ فقال: عن الوقوف على باب مثلك.
قال جعفر بن محمد: غسل علي بن أبي طالب النبي صلى الله عليه وسلم، فكان إذا اجتمع الماء في جفون عينيه حساه علي.
قال علي عليه السلام: والذي فلق الحبة وبرأ النسمة، لإزالة الجبال أيسر من ملك مؤجل.(6/243)
قال عبد الملك بن الحر: لما أدخل سعيد بن جبير على الحجاج قال: أنت الشقي بن كسير؟ قال: لا ولكني سعيد بن جبير، فقال الحجاج: اختر أي قتلة فإني قاتلك، فقال له: بل اختر أنت فهو قصاص.
قال جعفر بن بكر بن صاعد: سمعت شريكاً يقول رأيت أبا حنيفة يطوف على الحلق كأن لحيته لحية تيس.
قال عبد الملك بن عمير، قال قبيصة بن جابر: ما رأيت أحداً أرأف برعيته ولا خيراً من أبي بكر الصديق رضي الله عنه؛ ولا رأيت أحداً أقرأ لكتاب الله ولا أفقه في دين الله ولا أقوم بحدود الله ولا أهيب في صدور الرجال من عمر بن الخطاب؛ ولا رأيت أحداً أشد استحياء من عثمان بن عفان؛ ولا رأيت أحداً أشجع قلباً ولا أوسع علماً من علي بن أبي طالب؛ ولا رأيت أحداً أعطى للمال عن ظهر يد من غير سلطان أصابه من طلحة بن عبيد الله؛ ولا رأيت أحداً أحلم من معاوية؛ ولا رأيت أنصع ظرفاً ولا أسرع جواباً من عمرو بن العاص؛ ولا رأيت أحداً المعرفة عنده أنفع إلا المغيرة بن شعبة؛ ولا رأيت أحداً أحلم طبعاً ولا أخصب رفيقاً ولا أشبه سرا بعلانية من زياد بن أبيه.
قال حفص بن عتاب: سمعت الأعمش يقول قد رددتموها علي حتى صارت في فمي أمر من العلقم، ما أطفتم بأحد إلا حملتموه على الكذب.(6/244)
كان ابن سيرين يحدث بالحديث فيقال: من حدثك؟ قال: قوم استكتموني أسماءهم ما داموا أحياء، فإذا ماتوا فأنا أرى أن أكتم أسماءهم.
قال ابن شبرمة: كان طلحة يشبه بعضه بعضاً.
قال الشعبي: لو أصبت تسعاً وتسعين وأخطأت واحدة حملوا الواحدة.
قال وكيع: جئنا مرة إلى الأعمش، فحين سمع حساً قام ودخل، فلم يلبث أن خرج فقال: رأيتكم فأبغضتكم فدخلت إلى من هي أبغض منكم فخرجت إليكم.
قالت عائشة: كان رسول الله صلى الله عليه وسلم يجمع بين البطيخ والرطب.
يقال: يطبخ - بكسر الباء - وطبيخ؛ هكذا قال يعقوب.
قال مسعر: من أبغضني، فجعله الله محدثاً.
قال نافع: كان ابن عمر تأتيه الجوائز في كل عام من معاوية وابن عامر وأرزاق ما بين سبعة وسبعين ألفاً وثلاثة وثمانين ألفاً، ما يحول عليه الحول وعنده منها درهم.
وقع رجل في رجل في مجلس عطاء، فجاء ذلك الرجل إلى عطاء فقال: اشهد لي بما سمعت، فقال عطاء: ليس لك عندي شهادة، وإنما كانت أمانة.(6/245)
قال الشعبي، قال عدي بن حاتم: لو قتل عثمان ما حبقت فيه عناق، فلما كان يوم الجمل فقئت عين عدي، وقتل ابنه طريف يوم الزبير، وهرب ابن له إلى معاوية، فقيل له: يا أبا طريف، هل حبقت في عثمان عناق؟ قال: أي والذي في السماء بيته، والتيس الأكبر.
قال الشعبي: كنية الدجال أبو يوسف؛ ولا أدري من أين له هذا.
قيل للمغيرة: إن آذنك يحابي، فقال: المعرفة تنفع عند الكلب العقور، والجمل الصؤول، فكيف بالرجل المسلم.
قال أبو السائب الهمذاني: سمعت أبا نعيم يقدم إدريس الخزاز إلى شريك عنده بشهادة فقال: أنت الذي تزعم أن الصلاة ليست من الإيمان؟ سمعت أبا حنيفة المتكلم يقول في مجلس: المرجئ إنما أخذ من الرجاء. ومر على الخطأ، وليس كما وهم، أي ذهب وهمه إليه، المرجئ مهموز، وتليين الهمزة جائز، وحذفها لغة، وقد قرئ " أرجه وأخاه " الأعراف: 111، ومعنى الكلمة التأخير. إن المرجئ مؤخر الكلام في عفو الله عن صاحب الكبيرة، والمعتزلي يقطع بتخليده في النار، وليس دخول الرجاء في المعنى على الاتساع بما نشتق الكلام منه في الإرجاء؛ الراجي غير المرجئ، والله تعالى يقول: " وآخرون مرجون لأمر الله " التوبة: 106(6/246)
ومرجوون أيضاً، لا اختلاف في المعنى بين اللفظتين. المتكلم محتاج إلى معرفة الأسماء والصفات، ليكون كلامه عل أصل ممهود، وأساس موتود.
وقال ثعلب: تقول العرب في أيمانها: لا وقائت نفسي القصير، لا ومعيشتي يريد؛ والقائت من قولك: قات يقوت قوتاً، والقوت: ما يقتات به، والمقيت كالحافظ، هكذا قيل في قوله: " وان الله عل كل شيء مقيتاً " النساء: 85.
وقال ثعلب: تقول العرب: لا والذي خلق الرجال للخيل، وشق الجبال للسيل؛ لا والذي شقهن خمساً من واحدة، زعم أنه يراد بهذه اليمين أن الكف شقت منها الأصابع.
قال: وقال أيضاً: لا والذي وجهي أمم بيته، أي مقابل بيته، قال: ويقال: مرتهن على أمم من طريقتك.
قال ثعلب: وتدعو العرب على الإنسان فيقال: ماله آم وعام، وقد تفسير هذا، وأعيده أيضاً، أما آم: صار أيماً، والأيمة صفة تعتور الذكر والأنثى، وأما عام فمعناه صار مشتهياً للبن، كأنه دعا عليه أن يفتقر ولا يكون له لبن.
ويقال: ما له حرب وحرب، وجرب وذرب، وما له شل عشره، يراد الأصابع، وما له يدي من يده، وأبرد الله محه أي هزله، وأبرد الله غبوقه، أي لا كان له لبن حتى يشرب الماء.
قال ثعلب: ويقولون: قل خيسه، أي خيره، بالخاء منقوطة من فوق.(6/247)
قالت الفلاسفة: فضائل النفس أربع وفضائل الجسد أربع: للنفس الحكمة، وللجسد بإزائها التمام والكمال؛ وللنفس العدل، وللجسد الحسن والجمال؛ وللنفس الشجاعة، وللجسد القوة؛ وللنفس العفة، وللجسد الصحة.
هذا كلام شريف واعتبار صادق، فكن جامعاً بين فضائل نفسك ومحاسن جسدك بالرغبة التامة في العلم، والنية الصادقة في العمل، والفكر الصحيح في الاستنباط، والعهد المحفوظ في العشرة، والخير المعمول في الخلوة، ولا تمكن الهوى من نفسك، واتهم كل من حسنه عندك فقربه إلى قلبك، وأروح روحك من حبس جسدك بكد جسدك.
قال أفلاطون: إذا أكثرتم جمع النساء في منازلكم انقسمت عقولكم، وإذا انقسمت عقولكم لم تقدروا أن تكونوا حكماء.
وكان أفلاطون إذا أراد تعليم تلامذته يمشي معهم إكباراً للحكمة.
يقال: ما الفقر، والأفر، والوفر، والزفر، والسفر، والضفر، والشفر، والعفر، والغفر، والكفر، والنقر، والذفر.
فأما القفر: فالمكان الخالي الذي لا نبات فيه، ومنه يقال: أكل خبزة قفاراً، إذا أكله بحتاً لا أدم معه. والأدم جمع، والإدام واحد، كقولك: كتاب وكتب. هكذا سمعت ممن يوثق به.
وأما الأفر فالعدو، يقال: أفر يأفر.
وأما الوفر فالمال، يقال: فلان ذو وفر أي ذو مال، ويقال: فر عرض فلان أي لا تدنسه، ووفرت عرضه - بخفة الفاء؛ وأما وفرت - بتشديد الفاء - ففي غير العرض، ومنه التوفير والاستيفار من الوفارة والوفور.(6/248)
والوفرة: شعر كالجمة.
وأما الزفر والزفير والزفر أيضاً: شد الشيء على إحكام.
وأما السفر فالمسافرون.
وأما الضفر فالفتل، يقال: ضفرت المرأة شعرها ولها ضفيرتان، والظاء فيه خطأ، والكتاب يقولون: نحن نتضافر على هذا الأمر، وهو صحيح، لأن المراد نتقابل أي نتفادى ونتعاضد. فأما الظاء فإن المعنى يستحيل لأنه يصير من الظفر، فكأنه يكون: هذا ظافر بهذا، وهذا ظافر بهذا، وليس الغرض ذلك.
وأما الشفر فإنه يقال: ما بالدار شفر أي أحد.
وأما العفر فالتراب، والعفر: البعد، يقال: لقيته على عفر أي على بعد.
وأما الغفر: فمصدر قولك: غفر الله لك غفراً، والغفر: زئير الخز - بكسر الزاي - وهو الصحيح، والغفر أيضاً هو الغطاء، والأصل التغطية، فإذا قلت: غفر الله لك، فكأنك قلت: ستر الله عليك ذنوبك، وكذلك الزئير، يقال: اصبغ الثوب فإنه أغفر للوسخ؛ كذا قال يعقوب.
وأما الكفر فالقرية، ومنه الخبر: يخرجكم الروم منها كفراً كفراً.
وأما النفر فمصدر نفر الناس إلى مكة في المنسك.
وأما الذفر فالنتن، ومنه: يا ذفار للأمة، مبنية، وهي خفيفة، يراد بها المنتنة.
قال بعض مشايخ البصرة: أتيت أبا عبد الله بن عرفة أيام حداثني وغرارتي لأثمر نفسي من فضله، وأحلي جوهري بأدبه، فلحظني متوهماً للنجابة، حاكماً علي بحسن الاستجابة، وقال لي: يا بني هل لك(6/249)
حاد مستحث على طلب العلم؟ فقلت: نعم، فقال: قل نعم، فإن النعم الإبل والبقر، وأراد نشري وبسطي بهذا الرد، قال: أي أقوى في نفسك أن تعلم الحلال والحرام، أو أن تتعمق في الكلام، أو أن تواصل هذا الأدب والبيان؟ فقلت: بل مواصلة الأدب، فقال: ما اختال سحابك ولا خلب برقك، فقال: أما إنك إذ أبيت إلا ذلك لما تجد في طباعك من النزاع إليه، والاشتمال عليه، فخذ من الشعر القديم أفصحه، ومن الخبر المأثور أملحه، واستغن بجليل النحو عن دقيقه، وليكن علمك اللغة، واحرص أن تعلم، ولا تحرص أن ترسم، واكتف بأدنى علمك، ولا تترأس على من دونك، بل إن كان معه شيء فأره أنك دونه حتى تأخذه منه، فإن من استعجل الرياسة قبل حينها ذل.
قال أبو حاتم، قال أبو عبيدة: لا تردن على أحد خطأ في حفل فإنه يستفيد منك ويتخذك عدواً.
هذا آخر الجزء السادس وهو مقطع الكتاب، وقد غرست فيه وصايا شريفة، وحكماً عزيزة، وآداباً غريبة، وأصولاً قوية، وفروعاً بديعة، متى ذللت بروايتها لسانك، وشحذت بحفظها طباعك، وراسلت بمحاسنها سجراءك، وثقفت بأحسنها نفسك، وحبرت بعيونها آدابك، كنت مخصوصاً بالسعادة، معاناً بالتوفيق، متفقاً عليه في الفضل، مشاراً إليه بالنبل، مدركاً نهاية الأصل، مجتنياً ثمرة العمر، رفيعاً عند السلطان، بهياً بين الإخوان، مخيباً عند الخصوم. والذي لا أمل تكراره عليك وإعادته عليك: الزهد في هذه الدار المؤوفة، والحذر من العاقبة المخوفة، والبدار إلى ما أراح الروح من كد(6/250)
الجسم، وأودع النفس روح الخلد، فنيل كل شيء عداه جلل، وطلب كل ما سواه خلل. قرن الله تعالى الهداة بنا وبك، وأفرغ التوفيق علينا وعليك، ورضي عنا وعنك، وجملنا وإياك بالتقوى، وختم لنا ولك بأحمد العقبى.
والحمد لله الذي بنعمته تتم الصالحات، وصواته على خير خلقه محمد النبي وآله وصحبه وأزواجه وسلامه.(6/251)
//بسم الله الرحمن الرحيم
ربّ أعن
الجزء السابع
هذا أبقاك الله هو الجزء السابع من بصائر الحكماء وذخائر الأدباء، وهو يطلع عليك بوجهٍ مشوف، وطراز مكشوف، ينفح من أردانه الطّيب، وينطق عن نفسه بألفاظٍ كأنها حواشي برد، أو مقاطف ورد، فقد اختصر فقراً بديعةً، ولمعاً ثاقبةً، وآداباً جمّةً، وحكماً نافعة، لم أقنع لك بتدوينها دون تبيينها، ولا بطرحها دون شرحها، ولا بتزويرها دون تقريرها، ولا بتنميقها دون تحقيقها، تلقّفتها من لسان الدهر، والتقطتها من اختلاف الليل والنهار، وأخذتها من الصّغار والكبار، ومن يهب الله له عيناً وموقاً، وقلباً علوقاً، ولساناً نطوقاً، سمع ووعى، وقال ورعى، نسأل الله من فضله، إنه ذو الفضل والمجد.
وكان بعض أهل الشّرف والأدب نظر فيما ارتفع من هذا الكتاب فقال لي: لقد شقيت في جمعه، قلت: لو قلت: لقد سعدت في جمعه لكان أحلى في عيني، وألوط بقلبي، وأولج في منافس روحي. قال: إنك جمعت(7/5)
بين الفضل والهزل، وبين العلم والجهل، ومن شمّر في كتاب تشميرك. وكدّ فيه كدّك، نفى المنفيّ واختار المختار، فالعطن يضيق عن تمام العزم في مطالعة الكلمة السخيفة واللفظة الشريفة، ومن مزج هذه بهذه كمن مزج الشراب الصافي بالكدر، وبما يكدّره ويعنّي شاربه ويمنع من تورّده والارتواء به. فقلت له معتذراً بلسانٍ ذي كلول، وحدٍّ ذي فلول: أيها السيد الجحجاح والفاضل المنّاح، لو تمكنت من هذا الرأي لما صددت عنه ولا آثرت عليه؛ لكنّي لمّا اقتبست ذلك من تصفّح العالم واستريته من مسألة العالم. أخذته على ما عنّ وجرى. وهذا أيّدك الله كلام رجلٍ لم يذق حلاوة البيان، ولا ظفر بعزّ الحجة، ولا فرّق بين ما يعانيه من جهة الهزل، وبين ما يكلّفه من جهة الجدّ، وال علم أن هذا الظّرف لذلك المتاع، وهذا التبسّم لذلك الوجوم، وهذا النّطف لتلك الدماثة، وهذه الهيبة لذلك الانبساط، وهذه الرياضة لتلك العافية، ومن كان معجوناً من أخلاط، ومركّباً على اختلاف، وأسيراً للعوارض، فلا بدّ في كلّ حركةٍ وسكون، وقولٍ وعمل، ونقص وكمال، وفضيلةٍ ورذيلة، من محبوبٍ يناله، ومكروهٍ ينال منه.
نرجع إلى سمرنا فقد تباعدنا منه: اعلم أني قد ختمت هذا الجزء بجملةٍ من كلام رسول الله صلى الله عليه وعلى آله، سوى ما سار في جريدة الكتاب، إذا بلغت إليها، وأشرفت عليها، علمت أنّي منحوس الحظّ من زماني، محسودٌ بين أصفيائي وإخواني،(7/6)
لأني لا ألقى آخذاً بفضلي، ساتراً لنقصي، ومتى بتّ القضاء على العالم بادعاء ما لا يحسنه، وجزم عليه الحكم بالعجز عما لا يقوم به، فقد سقطت بيّنته فيما يحسن، وبارت بضاعته فيما يتصرّف، وإنما الإنصاف إذا فقد الإسعاف، وأن يكون الثناء على قدر البلاء، والتقريع على قدر التضجيع. لا تكذب، فما السعيد إلا من نظر الله تعالى إليه، ونقله سعيداً إلى ما لديه.
اللهمّ لا تحرمنا السلامة إن منعتنا الغنيمة، ولا تحوجنا إلى منازلة خلقك في إبطال باطلٍ وتحقيق حقّ، وتولّنا بالكفاية، واحرسنا بالعصمة، واغمرنا بالرحمة. اللهمّ أنت مناط الهمّة، ومنتهى البال، وصفاء النفس، وخلصان الرّوع، ووليّ النعمة في الأولى والآخرة. نعوذ بك من أملٍ نزداد به إثماً، ومن استدراجٍ نكتسب به ظلماً، ومن طاعةٍ يشوبها رياء، ونعوذ بك من كل ما أبعد عنك، وأيأس منك.
تأهّب أيها الرجل لأمرين جسيمين، لا أمان لك إلا بهما، ولا نجاة لك إلا معهما: لعلمٍ يهديك إلى الله، وعملٍ ينجيك من الله، فبالعلم تقصد وبالأعمال تصل، وبالعلم تعرف وبالعمل تجزى، ولا تستغن بقول من قال: عليك بجمع المال فما المرء إلا بدرهمه، فالمال عرض والعلم جوهر، والجوهر ما قام بنفسه والعرض ما ثبت بغيره، والعلم من قبيل العقل والمال من قبيل الجسم، والجسم فانٍ وتابعه معدوم، والعقل باقٍ وصاحبه موجود، وشهادة المال زورٌ وشهادة العلم حقيقة، وبيّنة كاذبة المال وبيّنة العلم صادقة؛ والعلم يحتاج إلى المال ولكن للزينة، والمال يحتاج إلى العلم ولكن للتمام، فكم(7/7)
حاجتك إلى ما يزينك بعد كمالك؟ اعلم أن الأقطع يحتاج إلى كمٍّ لقميصه لا ليتمّ ولكن للزينة. ولا تطلب العلم إلا بعد أن تعشق الحقّ عشقاً، وتموت على الحجّة موتاً، وتنفر من الباطل نفوراً، وتمقت الشّبهة مقتاً، فعند ذلك ترى منالك منه، وراحتك به أتمّ من تعبك عليه؛ وحينئذٍ ترى العمل زاداً، والإخلاص عتاداً. وأسّ هذه الفضائل وقاعدة هذه المحاسن الزّراية على نفسك، والتودّد إلى بني جنسك، والإقبال على يومك دون الأسف على أمسك، وقطع حبائل الدنيا عن قلبك، والتوجّه في السرّ والجهر إلى ربّك، وبعض هذا كافٍ لمن سبقت له من الله الحسنى، وأمّل حسن العقبى. ففرّوا إلى الله تعالى جميعاً ودعوا مزابل الدنيا لكلابها المتناهسة، فإنّ الدنيا تنكل طالبها، وتغصّ شاربها، وتذبح عاشقها والغالي في حبّها.
أنا سمعت بدوياً من ناحية فيدٍ حين قتل الوزير ابن برمويه يقول لصاحبٍ له: أعندك الخبر؟ قال: لا والله؛ قال: إنّ هذا الوزير الشّرير قد ذبح، قال: ما تقول؟ قال: هو ما أقول لك، ثم أطرق هنيهةً وقال: والله ما علا حتى ساخ، ولا غلا حتى باخ؛ نعوذ بالله من سوء العاقبة وشماتة ابن(7/8)
العم، وعثار الإنسان لليدين والفم؛ والله من قتل قتل، ومن أكل أكل.
أرى أن أجعل فاتحة هذا الجزء فقراً من كلام رسول الله صلّى الله عليه وأله وصحبه وسلّم، وهو الكلام الذي يتلو كتاب الله بهاءً وحسناً، ومنفعةً وخيراً، وحكمةً وبلاغةً، وهو الكلام الذي إن فاته من القرآن عينه فلم يفته أثره، وإن بعد عنه في آيته لم يبعد في دلالته، وهو الكلام الذي فيه: نور الحقّ يلوح عليه، وسناء الهدى يقتبس منه.(7/9)
قال صلّى الله عليه وآله: " أشرف الحديث كتاب الله؛ وأوثق العرى تقوى الله؛ وخير الملل ملّة إبراهيم عليه السلام؛ وأحسن السّنن سنّة محمّدٍ صلّى الله عليه وآله وسلّم؛ وأشرف الحديث ذكر الله تعالى؛ وأحسن القصص هذا الكتاب؛ وخير الأمور عواقبها؛ وشرّ الأمور محدثاتها؛ وأحسن الهدي هدي الأنبياء؛ وأشرف القتل قتل الشهداء؛ وأعظم الضّلالة ضلالةٌ بغير هدّى؛ وخير الهدى ما اتّبع؛ وشرّ العمى عمى القلب؛ واليد العليا خيرٌ من اليد السّفلى؛ وما قلّ وكفى خيرٌ مما كثر وألهى؛ ونفسٌ تحييها خيرٌ من إمارةٍ لا(7/10)
تحصيها؛ وشرّ الندامة ندامة يوم القيامة؛ وشرّ الناس من لا يأتي الجمعة إلا دبراً، ولا يذكر الله إلا سحراً؛ وخير الغنى غنى النفس؛ ورأس الحكمة مخافة الله؛ والنّوح من عمل الجاهلية؛ والغلول من حرّ جهنم، والشعر مزامير إبليس؛ والخمر جوامع الإثم؛ والنساء حبائل الشيطان؛ والشباب شعبةٌ من الجنون؛ وشر المكاسب الرّبا؛ وشر المآكل أكل مال اليتيم؛ والسّعيد من وعظ بغيره؛ والشقيّ من شقي في بطن أمّه؛ وشرّ الرّوايا روايا الكذب؛(7/11)
وكلّ ما هو آتٍ قريب؛ وسباب المؤمن فسوقٌ وقتاله كفر، وحرمة ماله كحرمة دمه "؛ هكذا وجدت هذا الحديث نفعنا الله وإياك به.
قال عليّ بن أبي طالب عليه السّلام: الدنيا وإن طالت قصيرة، والماضي للمقيم عبرة، والميت للحيّ عظة، وليس لأمسٍ مضى عودة، ولا المرء من غده على ثقة، وكلٌّ بكلًّ لاحق، واليوم الهائل لكلٍّ آزف، وهو اليوم الذي لا ينفع فيه مالٌ ولا بنون " إلا من أتى الله بقلبٍ سليمٍ ". اصبروا على عملٍ لا غنى بكم عن ثوابه، وارجعوا عن عملٍ لا صبر لكم على عقابه؛ إن الصبر على طاعة الله تعالى أهون من الصبر على عذابه. اعلموا أنكم في نفسٍ معدود، وأملٍ ممدود، وأجلٍ محدود، ولا بدّ للأجل من أن يتناهى، وللنّفس أن يحصى، وللسّبب أن يطوى " وإنّ عليكم لحافظين كراماً كاتبين ".(7/12)
انظر إلى انتثار اللؤلؤ في هذا الفصل، فإنك ترى ما يعجب: صدقاً في المعنى وترتيباً في اللفظ، وكلّ كلامه حلوٌ بليغٌ جزل شريف، يأخذ من البراعة أبهى شعارها، ويرتقي إلى أشرف درجاتها، إلا ما يلفّقه المبطلون فتنسبه إليه، فإنك تجد في ذلك أثر التكلّف، ولو حفظ عليه ما له من المحاسن لاستغني عن افتعال الباطل ودعوى الزّور.
وسمعت أبا العباس القنّاد الصّوفي يقول: سمعت بدوياً ورد من المنتهب يقول لابنه: يا بني كن سبعاً خالساً أو ذئباً خانساً أو كلباً حارساً وإياك أن تكون إنساناً ناقصاً.
قال بعض السّلف: يسخّي بنفس العاقل عن الحظوة في البلاغة ما يخاف عيب المنطق، فإذا اضطرّه الأمر إلى ما لم يجد معه بدّاً من المنطق، اقتصر على الجملة دون التفسير.
قال فيلسوف: من مدحك بما ليس فيك فلا تأمن بهته لك، ومن(7/13)
أظهر شكر ما لم تأت إليه فاحذر من أن يكفر نعمتك.
ارتع في رياض هذه الآداب والحكم؛ وإذا فقدت العقول قوتها من الحكمة ماتت موت الأجساد عند فقد الطّعام.
قال الفيلسوف: ارتفاع موضع العقل على سائر الحسّيّات التي هو المدبّر لها كارتفاع العينين على سائر الأعضاء.
قال فيلسوف: ليس متعمّد الذّنب كالمخطئ، ولا المكره عليه كالطائع، ولا المحتاج إليه كالغنيّ، ولا المعطي من قلّةٍ كالمعطي من سعة، ولا الجائر محكّماً كالجائر غير محكّم، ولا الخائن مؤتمناً كالمقتطع من غير أمانة، ولا الحالف على الكذب مصبوراً أو الشاهد بالباطل منصوصاً كمن لا ينص الشهادة ولا يصبر اليمين.
كان عليّ بن أبي طالب عليه السلام إذا نطر الهلال قال: اللهمّ اجعلنا أهدى من نظر إليه وأذكر من طلع عليه.
قال فيلسوف: ليس ينبغي أن يمنع من معاشقة النّفس النّفس ولكن من معاشقة البدن البدن.(7/14)
وقال الحسن: " ولا تجهر بصلاتك ولا تخافت بها " قال: لا تصلّها رياءً ولا تدعها حياءً.
هذه إشارةٌ مليحة، لكن الشائع من تأويله غيره.
قال عبد الحميد الكاتب: تعلّمت البلاغة من مروان بن محمد: أمرني أن أكتب في حاجةٍ إلى أخٍ له فكتبت على قدر الوسع، فقال لي: اكتب ما أقول لك: بسم الله الرحمن الرحيم، أما آن للحرمة أن ترعى، وللدّين أن يقضى، وللموافقة أن تتوخّى؟.
قال بقراط: الجسد كلّه يعالج على خمسة أضرب: ما في الرأس بالغرغرة، وما في المعدة بالقيء، وما في أسفل المعدة بالإسهال، وما بين الجلدين بالعرق، وما في العمق وداخل العروق بإرسال الدم.
قال رجلٌ من آل زياد لعارمٍ البصري: يا ابن الزانية! قال: تعيّرني ما ساد به أبوك؟ قال الزّيادي: يا غلام، خذ برجله، فقال: أي غلمانك؟ الذي يخلفك في أهلك، أم الذي يأتيك من خلفك؟! سمعت من يقول في قوله تعالى " وإن منكم إلا واردها "(7/15)
هو مثل قوله " حتّى إذا كنتم في الفلك وجرين بهم بريحٍ طيّبةٍ ".
أخذ عمر بن الخطّاب في التوجّه إلى الشّام، فقال له رجلٌ: أتدع مسجد رسول الله صلّى الله عليه وآله وصحبه وسلّم؟ فقال: أدع مسجد رسول الله لصلاح أمّة رسول الله، ولقد هممت أن أضرب رأسك بالدّرّة حتّى لا تجعل الرّدّ على الأئمّة عادةً فيتّخذها الأخلاف سنّة.
وقال ابن الأشتر العلويّ الكوفي: سمعت الكندي يقول المسترسل موقّى، والمحترس ملقّى.
قال سعيد بن العاص: لا تكلّف راجيك خدمة المطالبة.
قال أعرابيّ: إنّ الله تعالى يمتحن بالمنّة عليك المنّة منك.
كتب رجل إلى آخر: أما بعد، فإن استطعت أن لا تكون لغير الله عبداً، وأنت لا تجد من العبودية بدّاً، فافعل.(7/16)
دعا أعرابيٌّ فقال: اللهمّ إنّي أعوذ بك من نزول الشرّ وسوء الفهم.
قال ابن أبي حفصة الشاعر للحسن بن شهريار: بلغني أنّك يا أبا علي تنيك غلامك هذا الليل؛ فقال الحسن: وأنا بلغني أنه ينيكك بالنّهار. إنما حمد الصّمت عند هذه المواضع، والجواب منصور.
قيل للرّضا عليه السلام: إن إبراهيم يحلف أنّ أباه موسى حيٌّ؛ قال: أيموت رسول الله صلّى الله عليه وعلى آله وصحبه وسلّم ولا يموت موسى؟ ثم قال: العجب أن الله يكرم بهذا الدّين العجم أولاد الدّهاقين ويصرفه عن قرابة رسول الله صلّى الله عليه وآله وسلّم.
عزّي السائب بن الأقرع عن ابنٍ له فقال: هكذا الدنيا: تصبح(7/17)
لك مسرّةً وتمسي مساءة.
قال صالح المرّي: أتيت أبا عمران الحربي، فقرّب إليّ الفالوذج، فقلت: يا أبا عمران، أما تخشى أن يكون هذا من الطّيّبات؟ فقال: يا صالح، الماء البارد أطيب منه.
قال الرّضا عليه السّلام لغلامه: اشتر لنا من اللحم المقاديم ولا تشتر من المآخير، فإن المقاديم أقرب من المرعى وأبعد من الأذى.
قال معاوية: من ولّيناه شيئاً من أمورنا فليجعل الرفق بين الأمانة والعدل.
لسع زنبورٌ عروساً في ليلة زفافها في فرجها، فقالت الماشطة: من، ولمن، وفي أيّ مكان، وأيّ ليلة! قال الجمّاز: قلت لرجلٍ رمد العين: بأيّ شيءٍ تداوي عينك؟(7/18)
قال: بالقرآن ودعاء الوالدة؛ قلت: اجعل معهما شيئاً يقال له العنزروت! قال فيلسوف: ليس في الناس أحدٌ إلا وفيه شبهٌ من شجرةٍ أو دابةٍ، فمنهم الغشوم كالأسد، والخاطف كالذّئب، والخبّ كالثعلب، ومنهم حسن المنظر غير محمود المخبر كشجرة الدّفلى، ومنهم المحمود الظاهر الرّديء الباطن كالثّمرة المرّة؛ ومنهم الرديء الظاهر المحمود الباطن كالجوزة، ومنهم المحبّب إلى كلّ أحدٍ كالأترجّة الجامعة مع الحسن طيب الطّعم والرّيح واللّون.
قال بعض السّلف: الحزن مدهشةٌ للعقل مقطعةٌ للحيلة؛ إذا ورد على العاقل من المكاره ما يحتاج معه إلى الحيلة، قمع الحزن بالحزم.
قال فيلسوف: لا يعدّ الملك الكذوب ملكاً، والناسك الخادع مليكاً، والأخ الخاذل أخاً، ومصطنع الكفور منعماً.
قال فيلسوف: بعد الجاهل من أن يلتحم به الأدب كبعد النار من أن تشتعل في الماء.
قال فيلسوف: إذا كان العالم غير معلّمٍ قلّ غناء فعله وعلمه،(7/19)
كما يقل غناء المكثر البخيل.
قيل لأعرابي: مذ هنت دقّت محاسنك؛ قال: أي والله، ومساوئي.
قال فيلسوف: العقل صنفان: أحدهما مطبوعٌ والآخر مسموع؛ فالمطبوع منهما كالأرض، والمسموع كالبذر والماء، فلا يخلص للعقل المطبوع عملٌ ولا يكون له غناءٌ دون أن يرد عليه العقل المسموع فينّبهه من نومه، ويطلقه من عقاله، ويستخرجه من مكامنه، كما يستخرج البذر والماء ما في قعر الأرض.
قال أعرابيّ: يكتفي اللّبيب بوحي الحديث، وينبو البيان عن قلب الجاهل؛ إذا دخلت الموعظة أذن الجاهل مرقت من الأخرى.
قال أعرابيّ: سيرة الصالح زينةٌ لعقبه، وحياة الفاجر فضيحة الدهر.
قال بعض الفرس: كما أن من السّحاب ما ينقشع عن غير مطر، فكذلك وعد الكذوب من غير وفاء؛ وكما أنّ الإكثار نم الأكل غير رفقٍ من(7/20)
الآكل، فكذلك الإكثار من النطق غير رفقٍ من المتكلّم، وكما أن الحمار البليد لا يخفّ راكبه إلا بالعصا، فكذلك الجاهل لا يقبل الأدب إلا من حذر الضّرب.
قال فيلسوف: يمنع الجاهل أن يجد ألم الحمق المستقّر في قلبه ما يمنع السّكران من ألم الشّوكة تدخل في يده.
قال ابن المبارك: عند تصحيح الضّمائر يغفر الله الكبائر.
أراد الرّشيد الخروج إلى القاطول، فقال يحيى بن خالد لرجاء بن عبد العزيز وكان على نفقاته: ما عند وكلائنا من المال؟ فقال: سبعمائة ألف درهم؛ قال: فتسلّمتها يا رجاء. فلما كان من الغد، غدا إليه رجاءٌ فقبّل يده، وعنده منصور بن زياد، فلما خرج قال يحيى بن خالد لمنصور: قد توهّم الرجل أنّا قد وهبنا له المال، وإنّما أمرناه بتحصيله عنده لحاجتنا إليه، فقال منصور: أنا أعلمه ذلك؛ قال: إذاً يقول لك: قل له يقبّل يدي كما قبّلت يده فلا تقل له شيئاً، وقد تركت المال له.(7/21)
لعبد الله بن الحسن: الطويل
تخوّفني بالقتل يوماً وإنّني ... أموت إذا جاء الكتاب المنزّل
إذا كنت ذا سيفٍ ورمحٍ مصمّمٍ ... على سابحٍ أدناك ممّا تؤمّل
فإنّك إن لم تركب الهول لم تنل ... من المال ما يكفي الصّديق ويفضل
قيل لابن الجهم بعدما أخذ جميع ماله: أما تفكّر في زوال نعمتك؟ لا بدّ من الزّوال، فزوال نعمتي وأبقى خيرٌ من زوالي وتبقى.
مرّ بعض الأنبياء عليهم السّلام برجلٍ قد نبذه أهله من شدّة البلاء، فقال: يا ربّ، لو عافيت عبدك! فأوحى الله عزّ وجلّ إلى ذلك النبي: أتحبّ أن أنقله إلى غير حاله؟ فأتاه فسأله فقال: أتحبّ أن ينقلك الله عمّا بك من البلاء؟ فقال: من تمنّى على الله عزّ وجلّ أبى ذلك منه.
شاعر: مجزوء الرمل
سامح الدّهر إذا ع ... زّ وخذ عفو الزّمان(7/22)
ربّما أعدم ذو الحر ... ص وأثرى ذو التواني
فصل لي: وأنا أعوذ بالله من انتحال الشّره مع إضمار الحرص، وإظهار مقت المنافقين مع استشعار الغشّ، والانتساب إلى الكرم والجرية مع الأفعال الدنيّة والأخلاق الرديّة؛ وأعوذ بالله من انتحال المحاسبة مع إهمال النّفس، وادّعاء التحصيل مع إطلاق اللّسان، وشدة الرهف مع كلال الحسّ، والتشبّث بسلامة الصدر مع لؤم الطّبع.
يقال: ظهر فلان بحاجتي، أي نسيها، وأظهرنا بكذا، أي انتهينا إليه في الظّهيرة؛ وإبل فلانٍ ترد ظاهرةً إذا وردت كلّ يومٍ نصف النهار، واسم هذا الظمء: الظاهرة؛ وظاهر فلانٌ فلاناً إذا مالأه وصار معه.
أتي معن بن زائدة بثلاثمائة أسيرٍ من حضرموت، فأمر بضرب أعناقهم، فقام منهم غلامٌ حين سال عذاره فقال: أنشدك الله تقتلنا ونحن عطاشٌ، فقال اسقوهم؛ فلما سقوا قال: اضربوا أعناقهم، فقال الغلام: أنشدك الله أن تقتل ضيفانك، قال: أحسنت، وأمر بإطلاقهم.(7/23)
قال أعرابي في وصف رجل: أنت والله ممن إذا سأل ألحف، وإذا شئل سوّف، وإذا حدّث حلف، وإذا حلف أخلف، وإذا صلّى اعترض، وإذا ركع ربض، تنظر نظر الحقود، وتعترض اعتراض الحسود.
نظر رجل لحياني إلى صبيٍّ ومعه سكّين فقال: أفزعه وآخذ السكّين، ففزّعه بلحيته، فقال الصبي: لا بأس عليك، ليس أذبحك! أصيب رجلٌ في سجن الحجّاج قد حبس عشرين سنةً، فنظر في قصّته، فإذا هو قد بال في رحبة واسط، فقال المنتوف: والله لو أحدث في الكعبة ما استحقّ أكثر من هذا! ضرط رجلٌ بحضرة امرأته فقالت: أما تستحي؟ فقال: إنما أردت أونسك.
في أمثال العرب: قيل لجملٍ: أيما أحبّ إليك: تصعد أو تنزل؟ فقال: ذهب الاستواء من الأرض؟! قال الأحنف: ربّ بعيدٍ لا يفقد خيره، وقريبٍ لا يؤمن شرّه.
يقال: شرّ مالك ما لزمك إثم مكسبه، وحرمت لذة إنفاقه.(7/24)
يقال: يجد البليغ من ألم السّكوت ما يجد العييّ من ألم الكلام.
قال عبد الله بن ثعلبة: أمسك مذمومٌ فيك، ويومك غير محمودٍ لك، وغدك غير مأمونٍ عليك.
قال ابن المبارك: أدركت أهل العلم وفاتني أهل الأدب.
قال الحسن: إنّ الله تعالى يعطي العبد مكراً به، ويمنعه نظراً له.
رأيت ابن خفيف الصّوفي وقد سئل عن دعاء الإنسان " اللهمّ لا تؤمّنّا مكرك ". قال: الواجب " اللهم أمّنّا مكرك " فإن الله تعالى يقول " فلا يأمن مكر الله إلا القوم الخاسرون ".
هذا فصلٌ لطيف ولعلّي أعيده إن شاء الله.
قال الحسن: من لم يمت فجأةً مرض فجأةً.
قال المتوكّل لأبي العيناء: إلى متى تمدح الناس وتذمّهم؟ فقال: ما أحسنوا وأساؤوا.(7/25)
وقال الحسن بن سهل: من جهل حرمة إنصافك لم يرع حقّ إفضالك.
قال الخليل: رغبتك في الزّاهد فيك ذلّ نفس، وزهدك في الراغب فيك قصر همّة.
قال عمر بن عبد العزيز: لولا أنّ ذكر الله تعالى عليّ فرضٌ ما تفوهت به تعظيماً له.
قد رأيت من ترك العبادة البتّة وقال شبيهاً بهذا المعنى: زعم أنّ الله تعالى أجلّ من أن يتوسّل إليه بشيء.
ولهذا القائل شركاء في أصناف الناس، لكنّه كان على حلية الصوفيّة، ولولا أنّ هذا الكتاب تذكرةٌ لجميع ما حوته الأذن وحفظه القلب وثبت في الكتب على طول العمر ما جاز إفشاء هذه الأسرار على رؤوس الأشهاد، ولكن الغرض سليم من الآفة، والله وليّ الرحمة والرأفة.
قال العتّابي: لمّا رأيت الأمور العالية مشوبةً بالمتالف، اخترت الخمول ضنّاً مني بالعافية.(7/26)
قال ابن لبابة: من طلب عزّاً بباطل أورثه الله تعالى ذلاًّ بحقّ. هذا من حرّ الكلام.
وقال فيلسوف: العدوّ الضعيف المحترس أحرى بالسلامة من القويّ المغترّ.
قال فيلسوف: المحدّث خادمٌ والمحدّث مخدوم.
قال ابن المبارك: طلبت العلم للدنيا فدلّني العلم على ترك الدنيا.
قال فيلسوف: إذا وقع شيءٌ لعلّةٍ زال بزوالها، وإذا وقع لغير علّةٍ فهو الذي يبقى.
قال عبد الملك: لا تلحفوا إذا سألتم، ولا تبخلوا إذا سئلتم.
قال حاتم الطائيّ لغلامه: قدّم إلينا مائدة تباعد ما بين أنفاسنا.(7/27)
أراد رجلٌ أن يقبل يد هشام فقال: مهلاً، ما فعله من العرب إلا طمع، ومن العجم إلا طبع.
قال رجل للمنصور: أعطني يدك أقبّلها، قال: إنّا نصونك عنها ونصونها عن غيرك.
قال الكميت لذي الرّمّة: كيف ترى تشبيهي؟ قال: إذا شبّهت قاربت، وإذا شبّهت طبّقت؛ قال: لأنك شبّهت ما رأيت وأنا شبّهت ما سمعت، فإذا قاربت فقد بالغت؛ فقال ذو الرّمة: هذا هو الحقّ.
قال ابن طباطبا العلوي في كتاب عيار الشعر: التشبيهات على ضروبٍ مختلفة، فمنها تشبيه الشيء بالشيء صورةً وهيئةً، ومنها تشبيهه به معنىً، ومنها تشبيهه به لوناً، ومنها تشبيهه به صوتاً، ومنها تشبيهه به حركةً وإبطاءً وسرعةً. وربما امتزجت هذه المعاني بعضها ببعضٍ، فإذا اتفق في الشيء المشّبه بالشيء معنيان أو ثلاثة معانٍ من هذه الأصناف قوي التشبيه، وتأكد الصّدق، وحسن الشعر، للشّواهد الكثيرة المؤيّدة له.(7/28)
وقال أيضاً: أما تشبيهه الشيء بالشيء معنىً لا صورةً فتشبيه الجواد الكثير العطاء بالبحر والحيا، وتشبيهه الشجاع بالأسد، وتشبيه الجميل الرواء الباهر بالشمس والقمر، وتشبيه المهيب الماضي في الأمور بالسّيف، وتشبيه العالي الهمّة بالنّجم، وتشبيه الحكيم بالجبل، وتشبيه الحييّ بالبكر، وتشبيه العزيز الصّعب المرام بالمتوقّل في الجبال، وتشبيه أضداد هذه المعاني بأشكالها على هذا القياس، كاللئيم بالكلب، والجبان بالصّفرد، والطائش بالفراش، والذّليل بالنّقد والوتد، والقاسي بالحديد والصّخر. وقد فاز قومٌ بخلالٍ شهروا بها في الخير والشرّ، وصاروا أعلاماً فيها، فربما شبّه بهم فيكونون في المعاني التي احتووا عليها وذكروا بشهرتها نجوماً يقتدى بهم، فأصبحوا أعلاماً يشار إليهم، كالسّموأل في الوفاء، وحاتمٍ في السماحة، وقسٍّ في(7/29)
الفصاحة، ولقمان في الحكمة، فهم في التشبيه يجرون مجرى ما قدّمت ذكره من البحر والجبل والشمس والقمر والسيف، ويكون التشبيه بهم مدحاً كالتشبيه بها، وكذلك أضداد هؤلاء القوم المذمومين فيما شهروا به في حال الذمّ - كما شبّه بهؤلاء في حال المدح - كباقلٍ في العيّ وهبنّقة القيسيّ في الحمق والكسعيّ في الندامة والمنزوف في الجبن ضرطاً.
قال بعض الأدباء لمغنّية: أنت أحسن من جنى الورد ومن نجاز الوعد.
قرأ الكنديّ كتاباً من صنعة ابن الجهم فقال: هتك ستر العافية عن عقله.
قال الواثق لابن أبي داود: كان عندي الساعة ابن الزّيات(7/30)
فذكرك بقبحٍ، فقال: الحمد لله الذي أحوجه إلى الكذب عليّ ونزّهني عن قول الحقّ فيه.
قال الجاحظ: دخلت على عليّ بن عبيدة الرّيحاني عائداً فقلت له: يا أبا الحسن ما تشتهي؟ فقال: أعين الرقباء وأكباد الحسّاد وألسن الوشاة.
لعليّ بن عبيدة هذا كتاب يسمّونه المصون يحوي آداباً حسنة وألفاظاً حلوة. وكان بخراسان مع المأمون، وشغف أهل خراسان بكلامه. وكان من الظرفاء، وتنسّك آخر عمره.
قال الشافعي: اغتنموا الفرص فإنها خلسٌ أو غصص؛ معناه: خلسٌ عند الدّرك وغصصٌ عند الفوت.
انظر إلى هذا الإيجاز والإبلاغ.
قال النظام: الذهب لئيمٌ، يدلّك عليه مصيره إلى اللئام، والشيء يقع إلى شكله وينزع إلى جنسه.(7/31)
قال عمر بن الخطّاب: يحتاج الوالي إلى أن يستعمل مع رعيّته في عدله عليها الإحسان إليها، فلو علم الله تعالى أنّ العدل يسع الناس لما قرن الإحسان به فقال " إنّ الله يأمر بالعدل والإحسان ".
قيل لأعرابيّ: أتحسن أن تدعو ربّك؟ قال: نعم، قيل: فادع، فقال: اللهمّ إنك أعطيتنا الإسلام من غير أن نسألك، فلا تحرمنا الجنّة ونحن نسألك.
كتب عليّ بن عبيدة إلى صديق له: كان خوفي من أن لا ألقاك متمكّناً، ورجائي خاطراً، فإذا تمكّن الخوف ظننت، وإذا خطر الرجاء خفت.
قال الجاحظ: رأيت أربعة أشياء عجيبة: رأيت رجلاً يسأل الناس ويستقري بيوت الحمّام بيتاً بيتاً، يأخذ مواعيدهم إلى أن يخرجوا؛ ورأيت معلّماً يعلّم الصّبيان القرآن والصّبايا الغناء؛ ورأيت حجّاماً رافضياً يحجم إلى الرجعة نسيئةً من فرط إيمانه؛ ورأيت أربعة حمّالين يحملون جنازةً كلما أعيوا وضعوها عن رؤوسهم وجلسوا يتحدّثون حتى بلغوا شفير القبر.
قيل لأبي سعيد وهو مهموم: ما هذا الذي أثّر فيك؟ قال: دنيا لا تؤاتي، وآخرةٌ لا يعمل لها، وأجلٌ ينقضي، وذنوبٌ لا تحصى.(7/32)
قال فيلسوف: الدنيا تطلب لثلاثة أشياء: للغنى والعزّ والراحة، فمن زهد فيها استغنى، ومن قنع عزّ، ومن قلّ سعيه استراح.
قال أحمد بن إسماعيل الكاتب: حركات الإنسان ملحوظة، وأعماله محفوظة، وتصرّفه بين وليّ مشفقٍ وعدوٍّ مطرق، وللسانه فلتات، ولقلبه هفوات، ومن الهمّة ما يسمو به ويرفعه، ومنها ما يعرّه ويضعه، وإن لم يحذر زواجره أوبقت دينه وأنغلت أديمه.
قال ابن المقفّع: تعلّموا العلم، فإن كنتم ملوكاً فقتم، وإن كنتم وسطاً سدتم، وإن كنتم سوقةً عشتم.
قال الفضل الرّقاشي: علامة السّكران أن تعزب عنه الهموم، ويظهر سرّه المكتوم.
سمعت بعض أصحاب أبي حنيفة - وكان خراسانياً - يقول وقد جرت مسألة السّكر وحدّه: حدّ السكران أن لا تعرف الأرض من السّماء، ولا الفرو من القباء، ولا الطاعة من الإباء.(7/33)
قال العتبي: لا سبيل إلى العقل المستفاد إّلا بصحبة العقل المركّب.
قال الفضل بن سهل: الرأي يسدّ ثلم السيف، والسيف لا يسد ثلم الرأي.
قال ابن المقفّع: من أدخل نفسه فيما لا يعنيه أبتلي فيه بما يعييه.
قال الإسكندر: دفع الشرّ مجازاة، ودفع الشرّ بالخير مكرمة.
قال الحسن: رحم الله عبداً كسب طيّباً، وأنفق قصداً، وقدّم خيراً.
قال العباس لابنه: أنت أعلم مني وأنا أفقه منك.
قال المأمون: من أعمال البرّ التي لا ترتفع إلى الله تعالى شعر طاهرٍ في الزّهد.(7/34)
قيل للشاعر المعروف بالجمل: لم لم تمدح سليمان بن وهب وهو والٍ ومدحته وهو معزول؟ فقال عزله أكرم من ولاية غيره، وإنما أمدح كرمه لا عمله، وكرمه معه وليّ أم عزل.
قال رجل لعائشة: متى أكون محسناً؟ قالت: إذا علمت أنك مسيء، وتكون مسيئاً إذا ظننت أنك محسن.
قال أبو الدرداء: العالم والمتعلّم شريكان في الأجر، والقارئ والمستمع شريكان، والدالّ على الخير وفاعله شريكان.
قال أبو حنيفة صاحب النّبات: النّسب أصل الرجل، والحسب فعله.
أبو حنيفة هذا من كبار الناس وعلمائهم، وكان ثقةً مأموناً زاهداً حكيماً، وكان بدويّ الكلام، رفيع الطبقة؛ ولد بالدّينور ومات بها.
قال الجاحظ: ما رأينا ملاّحاً متغيّر النكهة لإدمان أكل الصّحناء.(7/35)
وقف غيلان على ربيعة فقال: أنت الذي تزعم أنّ الله يحب أن يعصى؟ قال: فأنت الذي تزعم أنّ الله تعالى يحبّ أن يعصى قسراً؟! انظر إلى المعنى كيف يتردد في هذا الكتاب عن السّلف بألفاظ مختلفة، والحقّ في ذلك قائم، وهو سرٌّ من أسرار الله والخلق، لا ينكشف إّلا لمن كان صافي القلب من الهوى، قابلاً لما دعا إلى الهدى.
اعلم أنّ الحقّ قد تولاّك بإرادتين: إرادةٌ منك وإرادةٌ بك، فأما إرادته منك فإنّه أبانها لك بلسان التكليف والتّوقيف، وأما إرادته بك فإنه لواها عن كلّ تعريف وتكييف، ثم أقامك بينهما على حدٍّ أزاح فيه عللك، وأوضح إليه سبلك، ثم ساق حقوقك إليك، ثم أثبت حجّته عليك، فلم تبق بقيةٌ تقتضيها آلاء الإلهية بلسان الحكمة وتستوجبها العبودية في حال الحاجة إّلا أدناك إليها، وأناف بك عليها، فإن قابلت الأمر بالائتمار، والنهي بالانتهاء، والدعاء بالإجابة، والهداية بالاهتداء، فقد صادفت إرادته منك وإرادته بك، واستحققت بمصادفتك إرادته منك بالأمر والنّهي ما وعدك، وإن أعرضت عن الأمر عاصياً، وركبت النهي مجترئاً، واستخففت بحقّه متمّرداً، فقد نفذت إرادته بك، وتمّ علمه فيك، ولكن ثبتت حجّته عليك لما أسلفك من التّمكين وأعارك من الطّاقة، وليس لك أن تحتجّ في المقام الثاني بعلمه فيك وإرادته بك، لأن هذا بابٌ كان خافياً عنك مطوياً، ولم تكن محتاجاً إليه، ولا متعلّقاً به، ولا مستحقاً له، فقد بان لك أنك لم تدخل بعلمه فيما نهاك عنه، ولا كانت إرادته بك علّةً لك في معصيتك، لأنّ هذه الإرادة من هذا العالم تكشف لك بعد(7/36)
موافقتك النهي ومجانبتك الأمر، وقبيحٌ بك أن تركب ما تركب جاهلاً بالحجّة، حتى إذا تمّ ركوبك، وتقضّى عليه زمانك، وعلاك النّدم، ولزمك التعقّب، أحلت أمرك على علمه فيك وإرادته بك، هلاّ وقفت عن قبول أمره وسماع نهيه حين أمر، ونهى وزجر، ودعا وبيّن، وهلاّ قلت: إلهي، لم تزح علتي بما أعرتني من القوة، وخلقت فيّ من الطاقة، وأسلفتني من التّمكين، وعرّفتني من الأخبار، فأنا صائرٌ مع هذا كلّه إلى ما أنت عالمٌ به؛ ومتى فعلت هذا وقلته، علم العقلاء أنّك متجنٍّ، لا تحبّ صلاحاً، ولا تتقي فلاحاً، وأنك مقترحٌ اقتراحاً، إن صحّ لك سقط عنك لسان الأمر والنّهي، وزال باب المدح والذم، واستغني عن الثواب والعقاب، وكنت جماداً لا تخاطب ولا تعاتب، وعريت من جلباب معرفة الله عزّ وجلّ، وجهلت نعم الله عندك، وعميت عن حكم الله تعالى فيك، ومن بلغ هذا المكان أسقط عن مكلّمه مؤونة البيان، وعن نفسه كلفة التبيين، وكان في عداد الجاهلين بالله، السّاخطين لنعم الله، المتعّرضين لعقاب الله تعالى. فافتح - حفظك الله - بصرك، وانتصف من هواك، وفارق إلفك، وتنزّه عن تقليدك، وحص عن المعرفة، لائذاً بالله تعالى، مستعيناً به، فهو وليّ خلقه، ناصر اللاجئين إليه.
واعلم أن الله خلقك، ورزقك وكمّلك، وميّزك وفضّلك، وأضاء قلبك بالمعرفة، وفجّر فيك ينبوع العقل، ونفى عنك العجز، وعرض عليك العزّ، وبيّن لك الفوز، بعد أن وعدك وأوعدك، وبعد أن وعظك وأيقظك، وبعدما حطّ عنك ما أعجزك عنه، وأمرك بدون ما أقدرك عليه؛ وإنما حاشك بهذا كلّه إلى حظك ونجاتك، وعرّضك به لسعادتك وخلاصك. أفتجسر من بعد هذه النعمة المتوالية، وهذه الآلاء المتتالية، أن تتوهّم أنه اقتطعك عن مصلحتك أو بخل عليك برأفتك؟ إنّ هذا لا يظنّ بوالدك الذي نسبته إليك عارية، وإضافتك(7/37)
إليه مجاز، فكيف تظنّ بإلهٍ أنعمه تسابق أنفاسك، وأياديه تفضل عن حاجتك، وعفوه يمحو إساءتك، وإقالته ترفع عثرتك، وإزاحته تتقدم علّتك، وصنعه يزيد علثاً قداحك، وعطاؤه يفوت امتياحك، إن أطعته فحظّك تحرز، وإن عصيته فإلى نفسك تسيء، جعلنا الله وإياك من العارفين بحقّه، الطالبين لمرضاته.
قال الرّياشي: قال أبو عبيدة: اجتمع أربع نفر: شرويٌّ وشاميٌّ وحجازيٌّ ونجديٌّ فقالوا: تعالوا ننعت الطعام إيّه أطيب. فقال الشاميّ: أطيب الطعام مويدة موسعةٌ زيتاً، آخذ أدناها فيضرط أقصاها، تسمع لها وجباً في الحنجرة كتقحّم بنات المخاض في الجرف، قال(7/38)
الشرويّ: أطيبالطعام خزيرٌ في يوم قرّ، على جمّة عرّ، موسعٌ سمناً وعسلاً. قال الحجازيّ: أطيب الطعام حيس طيس بإرساله خمس، يغيب فيه الضّرس. قال النجديّ: أطيب الطعام بكرةٌ سنمة، معتبطةٌ نفسها غير ضمنة، في غداةٍ شبمة، بشفارٍ خذمة، في قدورٍ حطمة، قال النجديّ: دعوني أنعت لكم الأكل، قالوا: قل؛ قال: إذا أكلت فابرك على ركبتيك، وافتح فاك، واجحظ عينيك، وأخرج أصابعك، وأعظم لقمتك، واحتسب نفسك.
كان ابن عمر إذا سمع هذا يضحك.(7/39)
وأنشد: الوافر
وأعلنت الفواحش في البوادي ... وصار الناس أعوان المريب
إذا ما عبتهم عابوا مقالي ... لما في القوم من تلك العيوب
وودّوا لو كفرنا لاستوينا ... وصار الناس كالشيء المشوب
وكنّا نستطبّ إذا مرضنا ... فصار سقامنا بيد الطّبيب
فكيف نجيز غصّتنا بشيءٍ ... ونحن نغصّ بالماء الشّروب
قال عليّ بن عيسى: لا يجوز أن يكون التّمكين من القبح قبيحاً، ولو وجب ذلك لكان التّمكين من الحسن حسناً، فيكون حسناً قبيحاً، وهذا متناقض.
قال أبو العيناء: ما أخجلني قطّ إّلا رجلٌ دخل إليّ وقد ولد لي مولودٌ وعندي منجّم يعمل مولده، فقال: أيّ شيءٍ يعمل هذا المنجّم؟ فقلت: يعمل مولداً لابني هذا، فقال: سله قبل هل هو منك؟ يقال: ما خلق الله تعالى شيئاً أطيب من الرّوح، ألا ترى أنها(7/40)
إذا كانت في الجسم كان طيّباً، وإذا خرجت منه صار ميتاً؟ قال الجمّاز: رأيت بالكوفة رجلاً وقف على بقّال، فأخرج إليه رغيفاً صحيحاً فقال: أعطني به كسباً وبصرفه جزراً.
وقف رجل على القنّاد الصوفي وسأله عن المحبّة فقال القنّاد: قد جاءني برأسٍ كأنها دبّة، ولحيةٍ كأنها مذبّة، وقلبٍ عليه مكبّة، يسألني المحبّة، وقيمته حبّة.
قال عبد الحميد الكاتب: لا تركب الحمار فإنّه إن كان فارهاً أتعب يدك، وإن كان بليداً أتعب رجلك.
يقال: إذا كتبت فقمّش، وإذا حدّثت ففتّش.
شاعر: الوافر
أتيأس أن يقارنك النجاح ... فأين الله والقدر المتاح
قيل لرجل: من يحضر مائدة فلان؟ قال: الملائكة، قال: لم(7/41)
أرد ذاك؛ من يواكله؟ قال: الذّباب.
كتب بعض السّلف: أما بعد، فإنّ الجواد مودود، والفاضل محمود، والحاسد مكدود، والحريص مجهود، والكريم مقصود.
مدح أعرابيٌ رجلاً فقال: كان والله إذا أضاع الأمور مضيعها وأزورّ عن الحسناء ضجيعها، يهين نفساً كريمةً على قومها، غير مبقيةٍ لغدٍ ما في يومها؛ وكان أموراً بالخير نهوّاً عن الشرّ.
قال الأصمعي: النّهيك الشجاع، وهي النّهاكة؛ ونهك فلانٌ في بني فلان إذا وقع فيهم وبلغ منهم؛ ونهكه المرض، واستبانت عليه نهكة المرض؛ ونهك هذا الطعام أي بالغ في أكله.
ويقال: تركت فلاناً مبلوغاً مشتركاً أي مهموماً؛ والكلأ في بني فلانٍ شركٌ أي طرائق مستطيلة؛ واحدها شراكٌ؛ وبيني وبين فلان شركةٌ وشركٌ سواء؛ وأشرك فلانٌ نعله وشرّكها؛ وأشرك فلانٌ فلاناً في البيع؛ ومالٌ فيه أشراكٌ، واحدها شرك، بمنزلة أعدال وعدل، وشركه في الأمر: دخل فيه معه.
ويقال: مررات بحّرةٍ فيها فلوقٌ، أي شقوقٌ وصدوعٌ، وهي أرضٌ فيها حجارة سود؛ وحرّة مضرّسة إذا كانت فيها أحجار ناتئةٌ،(7/42)
كالأضراس؛ وفلان ضرسٌ شرسٌ أي صعب الخلق. هذا كله عن الأصمعي. وإنما أمرّ باللغة على قدر ما يصادف منه سماعي ومحفوظي، فلا يضيقنّ صدرك، فكلّ هذا فائدةٌ وأدب وبراعة وحكمة.
لما قتل كسرى بزرجمهر أراد أن يتزوج ابنته، فقالت للثّقات: لو كان ملككم حازماً ما أدخل بين شعاره ودثاره موتورةً.
قال فيلسوف: لا تفرطوا في طلب الحوائج فإنّ العجل إذا ألحّ على أمّه بمصّ الثّدي رفسته.
كاتب: كم بقاء حالٍ تذوب ولا تثوب، وتتلف ولا تخلف.
شاعر: الطويل
ولا بدّ من شكوى إذا لم يكن صبر
يقال: إن الله عزّ وجلّ إذا استرذل عبداً زهّده في العلم.
قال فيلسوف: إني لأتعجب جداً من أمرين، أحدهما أمر(7/43)
الطبيعة، مع شرفها في نفسها، وترتيبها لمرادها، واستمرارها على عادتها في نظم ما تنظمه، وإصلاح ما تصلحه - كيف أبت طاعة النّفس وعصت أمرها - مع تلطّف النفس في دعائها وحسن فطنة الطبيعة في اهتدائها، والآخر أمر النفس: لقد شغفت بالطبيعة حتى انقادت لها في بعض المواضع فهلكت بانقيادها إليها ومظاهرتها، حتى آلت إلى عالمٍ مظلم دنسٍ. فقد عرضت التعجّب: تارةً من النفس كيف لا تستغني عن الطبيعة وتارة من الطبيعة وكيف لا تقتدي بالنفس، وما هذه الحال التي أورثت النفس الهلاك والطبيعة البوار؟ قيل لطبيب: ما يذهب بشهوة الطّين؟ قال: زاجرٌ من عقل.
قيل لراهب: ما أصبرك على الوحدة؟ قال: أنا جليس ربيّ، إذا شئت أن يناجيني قرأت كتبه، وإذا شئت أن أناجيه صلّيت.
دخلت عزة على أم البنين فقال: اصدقيني عن قول كثيّرٍ فيك: الطويل
قضى كلّ ذي دينّ فوفّى غريمه ... وعزّة ممطولٌ معنًّى غريمها(7/44)
ما هذا الدّين؟ قالت: وعدته قبلةً فحرجت منها، قالت: أنجزيها وعليّ إثمها.
يقال: أحسن كلمةٍ للعرب: فقد الأحبة غربة.
136ب - قال المنصور للقّواد: صدق القائل: " جوّع كلبك يتبعك "، فقال له حميد الطّوسي: لكن إن لوّح له برغيفٍ يتركك.
قال الحسن لأبيه عليهما السلام: أما ترى حبّ الناس للدنيا؟ قال عليه السلام: هم أولادها أفيلام المرء على حبّ والدته؟ قال عيسى بن منصور: دعاني المعتصم فقال: أنت القائل(7/45)
ولي مصر مثل ابن طاهر من نظراء طاهر قلت: نعم، فاستحسنه وولاّني مصر.
وصف رجل صنعاء فقال: بلغ من طيب ترابها أنّ الرجل يسجد فلا يشتهي أن يرفع رأسه.
قال بعض الحكماء: الشّيب علّةٌ لا يعاد منها وهي غليظة، ومصيبة لا يعزّى عنها وهي جليلة.
قدم رجلٌ من اليمامة فقيل له: ما أحسن ما رأيت بها؟ قال: خروجي منها.
مدح رجل البخل فقال: كفاك من كرم الملائكة أنه لم يبلهم بالنّفقة وقول العيال: هات! هات! قال الفضل بن سهل: القرآن لا يبلغه عقلٌ ولا يقصّر عنه فهم.
قال عليّ بن أبي طالب عليه السلام: القرآن فيه خبر من(7/46)
قبلكم، ونبأ من بعدكم، وحكم ما بينكم.
وسئل عن اللسان فقال: معيارٌ أطاشه الجهل، وأرجحه العقل.
قال عمر بن عبد العزيز: لو كنت في قتلة الحسين وأمرت بدخول الجنّة لما فعلت، حياءً من أن تقع عيني على عين محمدٍ صلّى الله عليه وسلّم.
قال بعض الرافضية: سمّيت فاطمة فاطمة عليها السّلام لأنّ الله تعالى فطم بحبّها من النار.
قال جعفر بن محمد عليه السلام: صحبة عشرين يوماً قرابةٌ.
قيل لابن عباس: أيجوز أن يحلّى المصحف بالذّهب؟ فقال: حليته في جوفه يعني القرآن.
قال ابن مكّرم لأبي العيناء: بلغني أنّك مأبونٌ، فقال: مكذوبٌ عليّ وعليك.
اجتمع الجاحظ والجمّاز بالبصرة فقال الجمّاز للجاحظ: كم ناراً(7/47)
في اللغة؟ قال الجاحظ: نار الحرب، ونار الشرّ، ونار الحباحب، ونار المعدة، والنار المعروفة. قال: تركت أبلغ النيران وأوسعها، قال: وما ذاك؟ قال: نار حر أمّك التي إذا ألقي فيها فوجٌ سألهم خزنتها: ألم يأتكم نذير؟ قال الجاحظ: أمّا نار أمّي فقد قضيت أنّ لها خزّاناً؛ الشأن في نار حر أمّك التي يقال لها: هل امتلأت؟ فتقول: هل من مزيد؟ قال عليّ بن أي طالب عليه السّلام: الدّنيا والآخرة كالمشرق والمغرب، إذا قربت من أحدهما بعدت من الآخر.
قال رجلٌ لضيغم العابد: أشتهي أن أشتري داراً في جوارك حتى ألقاك كلّ وقت؛ قال: المودّة التي يفسدها تراخي اللقاء مدخولةٌ.
كتب رجلٌ إلى صديق له: مثلي هفا ومثلك عفا.
قال رجلٌ للنبيّ صلّى الله عليه وآله وصحبه وسلّم: إني أحبّ من القرآن " قل هو الله أحد " قال: " بها تدخل الجنّة ".(7/48)
قال جعفر بن محمد عليهما السلام: حسن الجوار عمارة الدّيار.
قال رجلٌ للحسن البصريّ: هل للقاتل توبةٌ؟ قال: نعم؛ ثم جاءه آخر فقال: هل للقاتل توبةٌ؟ قال: لا؛ فقيل له في ذلك فقال: توسّمت في الأول أنه قد قتل فقلت نعم، وتوسّمت في الثاني أنه يريد أن يفعل فقلت لا.
قال إسحاق: قلت للرّشيد: الحمد لله عليك، قال: ما معنى هذا الكلام؟ قلت: نعمة حمدت الله تعالى عليها.
مرّ ابن عمر براعٍ فقال له - وكان الراعي مملوكاً -: أتبيعني شاةً؟ قال: ليست لي، قال: فأين العلل؟ قال: فأين الله؟ فاشتراه وأعتقه، فقال العبد: اللهمّ قد رزقتني العتق الأصغر فارزقني العتق الأكبر.
قال أبو الهذيل للحسن بن سهل: من ذا الذي قد رفعت منزلته؟ قال: منجّمٌ، فأخذ تفاحةً من المجلس فقال للمنجّم: انظر إليها آكلها أم لا؟ فقال: تأكلها، فرمى بها، فقال المنجّم: خذها من الرأس، فأخذ غيرها، فقال: لم لم تأخذها؟ فقال: أخاف أن تنظر فتقول: لا آكلها، فإن رميت بها أصبت، وإن أكلتها كانت التي قلت، فتصيب.(7/49)
قال العطوي: قلت لجاريةٍ: أشتهي أن أقتلك، قالت: لم؟ قلت: لأنك زانية. قالت: يجب قتل كلّ زانية؟ قلت: نعم، قالت: فعليك بمن تعول.
وقدّم إلى عبادة رغيفٌ يابسٌ فقال: هذا نسج في أيام بني أميّة وقد آمتحى طرازه.
قيل لعبّادة: ابن أبي العلاء المغّني عندنا عليل اليد، بم يضرب عليه؟ قال: ضرسه.
قال أحمد بن الطّيب: كان الكنديّ يستحلي جارية، فقال لها يوماً: إن الأفلاك العلوية تأبى بك إّلا سموّا في الهيولية. وكان كبير اللحية، فقالت: إن العثانين المسترخيات، على صدور أهل الرّكاكات، بالحلق مؤذنات.(7/50)
قال عليّ بن يحيى المنجّم: كان للمتوكّل بيت مالٍ يسمّيه بيت الشمال، كلّما هبّت تصدق بألف درهم.
وقال الكنديّ لرجل: أنت والله ثقيل الظّلّ، مظلم الهواء جامد النّسيم.
قال أنس بن مالك: قلت لشخصٍ رأيته في النوم: من أنت؟ قال: ملكٌ من ملائكة الله، قلت: فما اسم الله الأكبر؟ قال: الله، ثم تلا " يا موسى إنّي أنا الله ".
جزعت عائشة عند الموت، فقيل لها في ذلك، فقالت: اعترض يوم الجمل في حلقي.
سئل أبو جعفر الشاشي وأنا حاضر: من الغريب؟ فقال: الذي يطلبه رضوان في الجنّة فلا يجده، ويطلبه مالكٌ في النار فلا يجده، ويطلبه جبريل في السموات ولا يجده، ويطلبه إبليس في الأرض ولا يجده، فقال أهل المجلس وقد تفطّرت قلوبهم: يا أبا جعفر، فأين يكون هذا الغريب؟ قال: " في مقعد صدقٍ عند مليكٍ مقتدرٍ "، فضجّ الناس بالبكاء. فكان يتصرف ويتكلم بالرقائق ويحوش القلوب إلى باب الخير وكان مع(7/51)
هذا يتجاهل ويقول ما لا محصول معه ولا فائدة فيه، وكان يقبل على ذلك ويفدّى.
قال أبو العباس البخاري - ورأيته ببخارى في آخر أيّام نوح وأول أيّام عبد الملك، وأنا إذ ذاك صغير، لكنّي حفظت ما قال، وورد الرّيّ في سنة سبعٍ وخمسين وثلاثمائة وكان يقول: أحفظ ستّين ألف حكايةٍ للزّهّاد والنّساك -: قال مالك بن دينار: لو كنت شاعراً لرثيت المروءة.
قال بعض المغفّلين وقد جرى ذكر الصّحابة: أنا لا أعرف إّلا الشّيخين: الله والنبيّ.
قال جعفر بن محمد عليهما السلام: كفّارة عمل السّلطان الإحسان إلى الإخوان.
كان سعيد بن وهب من الظّرفاء، وكان خليط أبي العباس(7/52)
الفضل بن يحيى والفضل بن الربيع، قال الفضل بن الربيع: صحبني سعيدٌ على البطالة فأودعته مالاً عند النكبة ظننته أنه لا يرجع إليّ أبداً، ثم طلبته منه، فأتى به والله بخواتيمه، وخاننا من كان عندنا أوثق منه. ثم دخل قلبه فحجّ ماشياً وقال: الرمل
قدميّ اعتورا رمل الكثيب ... واطرقا الآجن من ماء القليب
ربّ يومٍ رحتما فيه على ... نضرة الدنيا وفي وادٍ خصيب
وسماعٍ حسن من محسنٍ ... صخب المربع كالظّبي الرّبيب
فاحسبا ذاك بهذا واصبرا ... وخذا من كلّ فنٍّ بنصيب
إنّما أمشي لأنّي مذنبٌ ... ولعلّ الله يعفو عن ذنوبي
سئل عمر بن عليّ عن الوصية فقال: إن هذا شيءٌ ما سمعناه حتى دخلنا العراق.
قال المنصور لابن عيّاش المنتوف: لو تركت لحيتك طالت، أما(7/53)
ترى عبد الله بن الربيع ما أحسنه؟ قال: أنا أحسن منه، قال عبد الله: أما ترى هذا الشيخ يا أمير المؤمنين ما أكذبه؟ فقال ابن عياش: يا أمير المؤمنين، احلق لحيته وأقمه إلى جانبي ثم انظر أيّنا أحسن، فضحك المنصور حتى استلقى.
قال رجل لأبي حازم: إنّ الشيطان قد أولع بي يوسوس لي أنّي قد طلّقت امرأتي؛ فقال له: أنا أحدّثك أنّك قد طلقتها؛ قال: سبحان الله يا أبا حازم، قال: فتكذّيني وتصدّق الشيطان؟! قال: فانتبه الرجل وذهبت وسوسته.
قيل لأعرابيّ: من أجدر الناس بالصّنيعة؟ قال: من إذا أعطي شكر، وإذا حرم صبر، وإذا قدم العهد ذكر.
قيل لأعرابيّ: من أكرم الناس غرّةً؟ قال: من إذا قرب منح، وإذا بعد مدح، وإذا ظلم صفح، وإذا ضويق سمح.
قيل لأعرابيّ: من ألأم الناس؟ قال: من إذا سأل خضع، وإذا سئل منع، وإذا ملك خنع، ظاهره جشع وباطنه طبع.(7/54)
دخل أعرابيّ مليحٌ على يزيد بن المهلّب، فقال له وهو على فراشه والناس سماطان: كيف أصبحت أيها الأمير؟ فقال يزيد: كما تحبّ، فقال: لو كنت كما أحبّ كنت أنت مكاني وأنا مكانك، فضحك منه يزيد ووصله.
- كان هشام لا يقول برؤية الحركة، فلما ذهب بصره قال: الحركة ترى.
حاجّ معلّم آخر فقال: أين في القرآن " حمل " تعني، فقال الآخر: ألا " من حمل ظلماً " وقال له: أينّ في القرآن " حسن " بمعنى فقال: " فتقبّلها ربّها بقبولٍ حسنٍ ".
وأخطأ رجلٌ عند رقبة بن مصقلة فقال: تياسرت عن الصواب، فضحك، فقال له رقبة: لقد عجبت من ضحكك من غير عجبْ، وصمتك من غير تفكّرٍ؛ أما الله ما وجهك بالوجه المستصبح، ولا(7/55)
حديثك بالحديث المستملح، ولا أنت بذي السّخاء المستمنح، فقال الرجل: فعلى مثلي إذن يسلح! فأضحك من حضر.
قال الأعمش لإبراهيم النّخعيّ: ما أعلم عندك شيئاً إّلا وقد أخذته؛ قال: فما تقول في امرأةٍ ورثت مالاً من زوجها كلّه؟ قال: لا ادري؛ قال: هذه امرأةٌ أعتقت عبداً ثم تزوجته ثم مات، فورثت الرّبع بالتزويج والباقي بالولاء.
قال غلام ثمامة له: قم صلّ واسترح! قال: أنا مستريحٌ إنّ تركتني.
قال رجل لثمامة: يجوز أن تؤخّر ما قدّم الله تعالى وتقدّم ما أخر الله عزّ وجلّ؟ قال: هذا على ضربين: إن أردت أن أصيّر رأس الحمار ذنبه فلا، وإن أردت أن أقدّم معاوية على علىً عليه السلام فنعم.
وقال له رجلٌ: يا ثمامة، ما تقول في رجلٍ لطم عين رجلٍ فقلعها، أظلمه؟ قال: نعم؛ قال: فما بال الله يذهب بعينه ولا يظلمه؟ قال: لأنّ الله تعالى أعطاه عينين فأخذ واحدةً، وأنت فلم تعطه شيئاً، وإنّ الله تعالى يعوّضه؛ قال: فأنا أعوّضه خمسة آلاف درهم، قال: الفرق أنّ الذي عوّضه الله تعالى لا يمكن أحداً أن يأخذه، وما عوّضته تقدر على أخذه.
187ب - العلّة في هذه المسألة - فيما سمعت عن العلماء - غير ما ذكر ثمامة، وذلك أنّ ثمامة قال: لأنّ الله تعالى أعطاه عينين وأخذ واحدةٍ إنه لا يقول(7/56)
قد يعمى من عينيه دفعةً واحدة؛ وقال أيضاً: فإن الله تعالى يعوّضه، قال: فأنا أعوّضه؛ قال: الفرق كذا وكذا، والفرق لا يغني عنه شيئاً، لأن التعويض قد حصل! وأصحاب التناسخ إذا سمعوا العوض طاروا عجباً.
187ج - وسمعت بعضهم يقول: ولم وجب أن يفعل ما هو شنيعٌ في النّظر وقبيحٌ في العقل من أجل التعويض؟ ومن طالبه بالعوض؟ ومن رضي أن يهان ويؤذى ويفقر ويسلب النعمة وتتوالى عليه المحن على أن يعوّض في الآخرة؟ قال: وهل هذا إلا كمن يصفع آخر، فإذا غضب المصفوع وأنف واستشفع الناظرون إليه قال الصافع: فإنّي أعوّضه وأكرمه وأخلع عليه وأهب إليه. فقيل لهذا الرجل: فهو استصلاح لزيدٍ - أعني ما نزل بعمرٍ ومن البلوى والمحنة وشتات الأهل وشماتة العدى؛ قال: وهذا أيضاً لم وجب؟ هل هو إلا كقّراد يضرب الكلب ليرقص القرد، فإذا رقص وبلغ منه مراده طرح للكلب كسرةٍ وأحسن إليه مستأنفاً؟ وكان يقول: فأين النّظر الذي يقتضيه الكرم؟ أين الواجب الذي يقتضيه العدل؟ وكان يومي بهذا إلى أن كلّ(7/57)
هذا جزاءٌ وقصاص، لأن خالق هذا الخلق غنيٌّ عن آلامهم وفجائعهم، وإنما اكتسبوا على الأيام ما جوزوا به فكوفئوا عليه.
187د - والجواب عن الذي مرّ به ثمامة أنّ فاقئ عين زيدٍ وآخذ مال عمروٍ متعدٍّ حدود الله الذي خلقه ورزقه، وأمره ونهاه، وبالتعدّي استحقّ اسم الظّلم واستوجب العقاب. ألا ترى أنه لما أطلق له ذبح الحيوان كان غير ظالمٍ لأنّه راعى الأمر ووقف مع الإباحة وأتى المأذون فيه، فلما تجاوز الرسم وتعدّى المحدود سمّي بالعاجل ظالماً، واقتصّ منه في الآجل عدلاً؛ وليس كذلك إلهنا عزّ وجلّ، لأنّه خلق زيداً وكان له أن لا يخلقه، ثم وهب له ما رأى متفضّلاً، ثم عرّضه للنعيم الدائم كرماً، ثم ابتلاه اختياراً، ثم قبضه إليه نظراً، ولم يتعدّ في ذلك أمر آمر ولا زجر زاجر، بل تصرّف في ملكه بعلمه وقدرته، غير مسؤولٍ عمّا فعل، ولا معترضٍ عليه فيما أتى، ولو كانت أفعاله موقوفةً على تجويز عقلك وإباحته، وإطلاقه وإجازته، لكان ناقص الإلاهية، لأنّه كان لا يفعل إّلا ما أذن فيه العقل.
واعلم أنّ العقل، وإن كان شريفاً، فإنه خلق الله، حكمه منوط بخالقه، وحاجته إلى الخالق كحاجة الناقص للعاقل، والنّقص لا حقٌ به وجائزٌ عليه، وإنما هو ضياءٌ بيننا وبين الخالق، به نتعاطى ونتواطى، ونتعامل(7/58)
ونتقابل، وعلى مقداره نفصل ونعدل، وبهدايته نرشد ونكمل، فأما أن يكون العقل حكماً بيننا وبين الله تعالى: ما أجازه الله حسن فعله وما أباه قبح فعله، فهذا ما لا يكون. كيف يكون هذا وهو إلهٌ من قبل العقل والعاقل والمعقول، وإنما أبدع هذه كلّها داعيةً إليه لا معترضةً عليه، وواصلةً به لا قاطعةً عنه، ودالةً على قدرته لا مضلّةً عن حكمته، ومتيقّنةً لما بان لا شاكّةً فيما أشكل. وما أحسن ما قاله أبو زيد البلخي، قال: العقل آلةٌ أعطيناها لإقامة العبودية لا لإدراك الرّبوبية، فمن طلب بآلة العبودية حقيقة الرّبوبية فاتته العبودية ولم يحظ بالرّبوبية.
أين يذهب بهؤلاء القوم؟ أما يعلمون أنه كما يرد على العين ما يغشى بصرها من نور الشمس، كذلك يرد على العقل ما يغشى بصيرته من نور القدس؟ ما أحوج هؤلاء المدلّين بعقولهم، الرّاضين عن أنفسهم، العاشقين لآرائهم، أن ينعموا النّظر، ويطيلوا الفكر، ولا يسترسلوا مع السانح الأوّل، ولا يسكنوا إلى اللفظ المتأوّل، ولا يعوّلوا على غير معوّل.
وأنت - حفظك الله - لو أردت أن تقف على أسرار ملك زمانك، وعلى(7/59)
خفايا أمر سلطانك، وعلى حقائق أحوال إخوانك، لم تستطع ذلك ولم تقدر عليه، على أنهم أشكالك وبنو جنسك، أو ليس قد علمت أن الملك لو وقف حارس داره على ما يقف عليه وزير مملكته، واطلّع من دون بابه على ما يطلّع عليه من دون شعاره، لكان ناقصاً مرذولاً، ولم يكن فاضلاً ولا مفضولاً، وأنّ الحال التي قد لبسها، والأمر الذي قد اعتنقه يقضي كتمان أشياء عن جميع الأولياء، وإفشاء أشياء إلى جميع الرعايا، وطيّ أشياء عن بعض الخواصّ، ونشر أشياء على بعض العوام، ولو تساوت رتب جميع الناس معه شركوه في الملك، وكان ذلك داعية الهلك، وأن لو بسط الجميع إلى معرفة ما غيّب ساووه في الإلاهية، وهذا محال، ولو حسم الأطماع عن معرفة ما يمكن لكان غير داعٍ إلى نفسه، ولا حائش إلى أنسه، ولا باعثٍ على الإقرار بالإهيته، والإعتراف بربوبيّته، فأودع العقول ما تمّت به العبودية، ودفع عنها ما تعلّق بالإلاهية، ثم أمدّها بالإحسان والتفضّل على دائم الزمان. فمن ظنّ أنه قد جهله من جميع الوجوه أبطل، لأن آثاره ناطقةٌ بالحقّ، وشواهده قائمةٌ بالصّدق، تقود العقول إلى الإقرار بالاضطرار والاختيار؛ ومن ظنّ أنه قد عرفه من جميع الوجوه أبطل، لأنّ الله تعالى لا يستوفى بمعرفة عارفٍ كما لا ينفى بحيرة واقف: إن جحدته فأنت مكابر، وإن ادّعيت الإحاطة به فأنت كافر ولكن بين ذلك قواماً، فإنه أهدى لقلبك، وأربط لجأشك، وأطرد(7/60)
لشكّك، وأنفى لوحشتك، وأبعد لنفورك، وأجلب لطمأنينتك، وأقرب إلى ما تضمّن الأمر، ووقف عنده النهي.
واعلم أنه لو كشف الغطاء عنك أعظمت الله - جلّت عظمته - عن سير عقلك فيه، وتسليط وهمك عليه، وظنّك أن لو فعل كذا لكان أجمل، ولو لم يفعل كذا لكان أفضل؛ إنك في واد، تحلم في رقاد، وتقدح بغير زناد.
هيهات لا رادّ لقضائه، ولا معقّب لحكمه، ولا سائل عن فعله، ولا باحث عن سرّه، ولا معارض لأمره، جلّ عما يجوز على خلقه، مما هو أولى بحقيقته؛ له الخلق والأمر، " ذلكم الله ربّكم فاعبدوه " " مخلصين له الدّين "، فاعرفوه بعلم اليقين، وكونوا من وعده على نظر، ومن وعيده على خطر، والسّلام.
سأل رجلٌ من أصحاب أبي حنيفة الشافعيّ عن مسألةٍ، فقال له: أخطأت، فقال الشافعيّ: لو كنت في موضعك ثم كلّمتك مثلما كلمتني لاحتجب إلى أدبٍ، فاستحسن الناس كلام الشافعي.
وكان الشافعي بحراً ثجاجاً وسراجاً وهّاجاً، وكان من سراة الناس مع الشرف والسّخاء والبيان والعفّة والفقه العجيب ونصرة الحديث، مع الورع والدّيانة والسّتر، والأمانة والعفّة والنزاهة وظلف النفس والنزاهة، حتى إنه ما رؤي ممن تعاطى الفقه وبنى عليه مثله بياناً وعلماً وفهماً، وسمّي ببغداد ناصر الحديث لحسن مخارج تأويلاته.(7/61)
وكان أبو حامد يقول: لو ذهب الناس كلّهم مذهب أبي حنيفة لم يكن للشريعة نورٌ ولا للسّنة ظهور؛ قال: وذلك أنّ الحديث في مذهبه قليل، كما أنّ القياس والرأي والاستحسان كثير، والفقه قاعدته معرفة سنن رسول الله صلّى الله عليه وسلّم، واستنباط الأحكام من قوله وفعله في جميع أوقاته.
وكان أبو حامد يقول: لولا محمد بن الحسن وأبو يوسف(7/62)
وجانباهما من السلطان، لذهب هذا المذهب وبطل، وكان يقول: لولا أنّ الشافعيّ أتى بالواضحة والجليّة وبما ليس عليه غبار، كيف كان يشيع ويقبل وينصر - وقد استقّر الفقه بمالكٍ وأبي حنيفة وأصحابهما - على قصر عمره وبعده من السلطان وزهده في الدنيا؛ ذلك فضل الله يؤتيه من يشاء.
وكان أبو حامد قليل الطّعن على أئمة الشريعة - أعني أعلام الدّين وأرباب الفقه، وكان على ذلك كثير الطّعن على المتكلّمين، يقول: لعبوا بدين الله عزّ وجلّ، وهتكوا حجابه، وكشفوا غطاءه، وأراقوا ماءه، وجلحوا الوجوه، وجرّوا القلوب، وبثوا الشكوك، وكثّروا المسائل، وأطالوا الألفاظ، ولبّسوا على الناس.
سئل عمرو بن عبيد عن كنائس اليهود وبيع النّصارى في دار الإسلام فقال: لست أمسك عن هدمها حتى أوتى بالحجّة، ولكن أهدمها حتى أوتى بالحجّة، لأنّ كونها منكرٌ حتى أعلم أنه معروفٌ وليس بمعروفٍ حتى أعلم أنه منكر.
وكان عمرو بن عيد يقول: كن مع السائل فإنه المستخرج، والمسألة علّة الجواب، وليس الجواب علّةٌ للمسألة. وكان واصل يقول: كن مع المجيب.(7/63)
تقدم اثنان إلى عيسى بن حمزة، فاستطال أحدهما فقال: إياك وقبائح القول، فقال: إنه ألطّ بحقٍّ نطقت به أدلّته، فقال عيسى: فلا تلطّ أنت بسفهٍ تلزمك عقوبته.
قال رجل: ما رأيت أعدل من يحيى بن أكثم القاضي في ظلمه، وكيف؟ قال: سوّى بين الناس كلّهم في الظّلم.
تقدّمت امرأةٌ إلى قاضٍ فقال لها: جا معك شهودك كلّهم؟ فسكتت؛ فقال كاتبه: إن القاضي يقول: هل جاء شهودك معك؟ قالت نعم؛ ثم قالت: ألا قلت كما قال كاتبك؟ كبر سنّك، وذهب عقلك، وعظمت لحيتك، فغطّت على عقلك؛ ما رأيت ميتاً يقضي بين الأحياء غيرك.
وصف رجلٌ النجّار المتكلّم فقال: إن قوي عليك كابرك، وإن أعجزته ماكرك.
وقال رجل: نقيع الزّبيب عندي مثل الخمر، وقال الآخر: ليسا بسواء لأنّ ماء الخمر منه، وماء الزّبيب داخلٌ عليه.(7/64)
قال المعتصم لابن أبي داود: إني أسألك عمّا أعرف، لأسمع حسن ما تصف.
كتب رجلٌ من البصرة: كتبت إليك وقد مضت دولة الكلام: غرق أبو الهذيل ومات النّظّام.
كتب ملك الروم إلى ملك فارس: كلّ شيءٍ تقوله كذب، فكتب إليه: صدقت؛ أي إنّي في تصديقك كاذب.
بلغ عمر اعتراض عمرو على سعد، فكتب إليه: والله لئن لم تستقم لأميرك لأوجّهنّ إليك رجلاً يضع سيفه في رأسك فيخرجه من بين أرجلك؛ فقال عمرو: هدّدني بعليٍّ والله.
قال عمر لأهل الشّورى: لا تختلفوا فإنّ معاوية وعمراً بالشام.(7/65)
كان هارون حلف أن يقتل كلّ من شكا عليّ بن عيسى، فشكاه رجلٌ، فقال له: قد سمعت يميني، فأيما أحبّ إليك، أقتلك أو أبعث بك إليه؟ قال: ابعث بي إليه، قال: لم؟ أهو أرأف بك مني؟ قال: لا، ولكن يكون خصمي رجلٌ من العامّة أحبّ إليّ من أن يكون خصمي يوم القيامة ابن عمّ رسول الله صلّى الله عليه وعلى آله وسلّم؛ فعفا عنه قال أعرابيّ: قبيح الصورة عاقلٌ خيرٌ من حسن الصورة أحمق.
قال فيلسوف: الشجاعة والصّرامة والنّجدة من أخلاق الملوك والجود والحكمة والسمو من أخلاق الوزراء.
قال أعرابيّ لرجل: ساقتنا إليك حاجة، وليس بنا عنك غنى، فإن رضيت....
سمعت بشر بن الحسين قاضي القضاة يقول - وما رأيت رجلاً(7/66)
أقوى منه في الجدال ولا أخبث مأخذاً للخصم، وله مع أبي عبد الله الطبري حديثٌ في مناظرةٍ جرت بينهما، وقد جرى حديث جعفر بن أبي طالب وحديث إسلامه، وهل يقع التفاضل بينه وبين عليّ عليهما السلام، فقال القاضي أبو سعد: إذا أنعم النّظر علم أنّ إسلام جعفر كان بعد بلوغٍ، وإسلام البالغ لا يكون إلا بعد استبصار وتبيّن ومعرفةٍ بقبح ما يخرج منه وحسن ما يدخل فيه، وإنّ إسلام عليٍّ مختلفٌ في حاله، وذلك أنه قد ظنّ أنه كان عن تلقين لا عن تبيين إلى حين بلوغه وأوان تعقّبه ونظره؛ وقد علم أنهما قد قتلا، وأنّ قتل جعفر شهادةٌ بالإجماع، وقتلة عليّ فيها أشدّ الاختلاف. ثم خصّ الله جعفراً بأن قبضه إلى الجنّة قبل ظهور التباين واضطراب الحبل وكثرة الهرج. وعلى أنّه لو انعقد الإجماع وتظاهر جميع النّاس على أنّ القتلتين شهادةٌ، لكانت الحال التي دفع إليها جعفرٌ أغلظ وأعظم، وذلك أنّه قتل مقبلاً غير مدبرٍ، وأمّا عليٌّ فإنه اغتيل اغتيالاً وقصد من حيث لا يعلم، وشتّان بين من فوجئ بالموت وبين من عاين مخايل الموت وتلقّاه بالصّدر والنّحر وعجل إلى الله عزّ وجلّ بالإيمان فضمّ اللواء إلى حشاه؟ ثم قاتله ظاهر الشّرك بالله، وضارب عليٍّ ممّن صلّى إلى القبلة وشهد الشّهادة وأقدم عليه بتأويل، وقاتل جعفر كافرٌ بالنّصّ الذي لا يحيل. أما تعلم أن جعفراً ذو الجناحين وذو الهجرتين إلى الحبشة وإلى المدينة؟ وهذا كله وأضعافه كان يسرده سرداً؛ وكان بيّن اللفظ كثير الإنصاف.(7/67)
إن كان ما نسبه إليه بشر بن الحسين في معنى أمير المؤمنين عليّ بن أبي طالب عليه السّلام من حقيقةٍ فهو كلام خرف زائل العقل قد ردّ " إلى أرذل العمر لكي لا يعلم بعد علمٍ شيئاً "؛ وإن كان ما نسبه إليه تزيّداً منه فهو جاهلٌ معيوبٌ عند القياس، وهو أنشأ مذهب داود إنشاءً، وعادى عليه، ووالى فيه، وبذل عليه، فكثر ارتباكه وخمدت آثاره.
أما يعلم أبو عبد الله أنّ إسلام عليٍّ كان - على ما روي - وهو ابن إحدى عشرة سنة، وقيل عشر سنين، وأنّ النبيّ صلّى الله عليه وسلّم لا يدعو إلى الإسلام ولا يخاطب به إلا مكلّفاً، لا سيّما في أوّل دعوته وأوان مبعثه؟ وتخصيص النبيّ صلّى الله عليه وآله إيّاه بدعوته دون غيره ممّن هو في سنّه يدلّ على أنّه كان كامل العقل عارفاً بما يحسن ويقبح في أمر الدّين، وقد يكون ذلك عن وحيٍ من الله عزّ وجلّ في أمره. ثمّ ما روي عن النبيّ صلّى الله عليه وآله وسلّم فيه يدلّ على أنه أفضل من أخيه، وهو قوله عليه وآله السلام: " يا علي أنت منّي بمنزلة هارون من موسى إلا أنه لا نبيّ بعدي "، فقد أثبت له جميع منازل هارون من موسى إلى النبوّة، وليس بعد موسى أفضل من هارون.(7/68)
قال عبد الله بن الأهتم: إني لا أعجب من رجلٍ تكلّم بين قومٍ فأخطأ في كلامه، أو قصّر في حجّة، لأنّ ذا الحجّة قد تناله الخجلة، ويدركه الحصر، ويعزب عنه بابٌ من أبواب الكلام، أو تذهب الكلمة؛ ولكن العجب ممن أخذ دواةً وقرطاساً وخلا بعقله، كيف يعزب عنه بابٌ من أبواب الكلام أو يذهب عنه وجهٌ من وجوهه.
شاعر: السريع
جاريةٌ أعجبها حسنها ... ومثلها في الناس لم يخلق
خبرّتها أنّي محبٌّ لها ... فأقبلت تضحك من منطقي
والتفتت نحو فتاةٍ لها ... كالرشإ الوسنان في قرطق
قالت لها قولي لهذا الفتى ... انظر إلى وجهك ثم اعشق
دخل أحمد بن يوسف على المأمون وعريب تغمز رجله،(7/69)
فخالسها النّظر وأومى إليها بقبلةٍ، فقالت: حاشية البرد، فلم يدر ما قالت، فلما خرج لقي محمد بن يسير، فحدّثه الحديث، فقال له: أنت تزعم أنك فطنٌ، يذهب عليك مثل هذا؟ أرادت قول الشاعر: الطويل
رمى ضرع نابٍ فاستمّر بطعنةٍ ... كحاشية البرد اليماني المسهّم
كان عمر بن الخطاب يقسم على كلّ رأس نصف دينار، فأتاه أعرابيٌ فقال: يا أمير المؤمنين، أعطني لنفسي ولأخ لي حبشيّ، فقال له عمر: أخوك الحبشيّ زقٌّ متعمّمٌ في البيت، قال: اللهم نعم، قال: يا غلام أعطه ديناراً: نصفه قسمه، ونصفه لصدقه.
تغدى سليمان عند يزيد بن المهلّب، فقيل له: صف لنا أحسن ما كان في منزله، فقال: رأيت غلمانه يخدمون بالإشارة دون القول.
قال أبو هفّان لرجلٍ: لو شئت أن أخلق مثلك من خرائي وأنفخ فيه من فسائي لفعلت.(7/70)
نظر رئيسٌ إلى أبي هفّان وهو يسارّ آخر فقال: فيم تكذبان؟ قال: في مدحك.
نظر أعرابيّ إلى أبي هفّان يتكلّم، فقال لمحرز الكاتب: من هذا؟ قال: شيخٌ لنا مصاب، قال أبو هفّان: نعم يا أعرابيّ، بابن أخي هذا؛ فانقلبت النادرة على محرز.
قال أبو هفّان لمغنّية: يا فساية! قالت: ويلي، عبديّةٌ أنا؟! فكاد يموت من حرارة النادرة وتغلغها إلى صميم فؤاده.
سمعت أبا عبد الله الطّبري يقول: التقى في بعض بلاد الهند رجلان، فقال أحدهما للآخر - وكان غريباً -: ما أقدمك بلادنا؟ قال: جئت أطلب علم الوهم، قال له السائل - وكان أحكم -: فتوهّم أنك قد أصبته وانصرف، فأفحم.(7/71)
كان أبو عبد الله هذا كثير النّوادر، فصيح اللسان، وكان رئيساً في الباطنية، وكان جريء المقدم، متّقى اللسان، وكان ابن العميد يحبّه ويقدّمه، وله إليه رسالةٌ مشهورةٌ تتضمّن عتباً ممضّاً، وأجابه أبو عبد الله عنها فما عجز عن موازنته. على أنّ الكتابة لم تكن ديدنه، ولكنّه كان عجيب الكلام في كلّ فنّ، وكان معتمده على الإبهام دون الإفهام، وسأحكي عنه ألفاظاً علقتها منه في إشارات الصوفية إن شاء الله. وسمعته يقول: لو استقبلت من أمري ما استدبرت في دعوى حالٍ، وتمهيد أمرٍ، واصطلاح طريقة، لما تجاوزت ادّعاء النبّوة، ولكنّي مزّقت ثوب الشّباب، وودّعت راحلة الأمل؛ قيل له: فأنت مع نظرك في الحكمة، واقتباسك من الفلسفة، وتميزك إلى الخاصة، تتمنى حالاً صاحبها عند نفسه كاذبٌ وعند بني جنسه مكذوب، مع علمك أنّ دين الإسلام لا يتداعى بنيانه، ولا تتزعزع أركانه، وأنه مبني على أساسٍ قويّ، وأصلٍ سويّ، فقال: هذا كلام من لم يعرف النبوّة ما هي والنبيّ من هو، وما السبب في ظهور الأديان والنحل، وإفشاء المقالات(7/72)
والملل، وما موجبات هذه الأمور، وما خواصّ هذه العلل، وما دواعي جميع ما في العالم، وكيفية نظم ما فيه واطّراده، وكيف استواؤه واستمراره، وما الغاية المنتهى إليها، والغرض المقصود نحوه، وما محصول الإنسان من الحياة، وما فائدته في كونه، وما الأمر الذي إليه توجهه وهو لا يدري، وبه تعلّله وهو لا يشعر، وما ثمرة الجاهل، وأين العالم منه في الآجل، وهل ما شاع بالخبر مقبولٌ كلّه، أو مردودٌ كلّه، أو مقبولٌ بعضه ومردودٌ بعضه. وإن بطل القسمان الأوّلان هل يصحّ القسم الثالث، وإن صحّ فبماذا يبين المقبول منه مما يردّ منه: أبالعقل، أم بالظنّ، أم بسكون النفس عند إخبار المخبر، وقلق النفس عند رواية الراوي؟ فأتى من هذا النّمط بما حيّر الحاضرين وأملّ المستمعين، ولم يحصّل من جميع ما هوّل به شيءٌ.
وكان إذا ركب هذا المركب سبق في عنقٍ لا يباريه جواد، ولا تسري وراءه ريح. ولقد قاوم بالرّيّ أبا يعقوب الجبّائي شيخ القوم، بل أوفى(7/73)
عليه، فكشف عنه، ودلّ على خافي أمره، ومستكنّ شأنه، ومات سنة تسعٍ وخمسين وثلاثمائة. وكان قد أخذ الحديث عن أبي خازم وتفقّه للشافعي، وناظر في الأصول، إّلا أنه باين الجميع بهذه الغرائب التي لم يحل منها في الدنيا بطائل، ولم يتزود بها للآجل، وعاش عاشقاً لفضله، محجوباً عن الله عزّ وجلّ بنعمته، جاهلاً بالشكر الموجب مزيده، وصار إلى الله عزّ وجلّ، وهو أولى به، وهو أحكم الحاكمين.
دخل أبو يونس على المأمون - وكان فقيه مصر - فقال له: ما تقول في رجلٍ اشترى شاةً فضرطت فخرجت من استها بعرةٌ ففقأت عين رجلٍ: على من الدّية؟ قال: على البائع؛ قال: ولم؟ قال: لأنه باع شاةً في استها منجنيق ولم يبرأ من العهدة.
قالت عائشة: لقد مات رسول الله صلّى الله عليه وآله وسلّم بين(7/74)
سحري ونحري، فمتى أوصى إليه؟ كأنها تعني علياً عليه السلام بهذا الكلام.
قال النبيّ صلّى الله عليه وآله: " استفرهوا ضحاياكم فإنها مطاياكم على الصّراط ".
قال هشام بن عمّار: خير الأسود كليته.
قال هشام المتكلّم: أوّل شغب الرجل تعلّقه بالألفاظ.
قال رجلٌ لابن أبي داود: متى كان الله عزّ وجلّ؟ قال: ومتى لم يكن؟! قال رجل لهشام بن الحكم: أنت أعلم الناس بالكلام، قال له: كيف ولم تكلّمني؟ قال: رأيت كلّ حاذقٍ يزعم أنه ناظرك وتغلّب عليك، فلولا أنّك الغاية عندهم ما فخروا بذلك أبداً.
سأل غلامٌ أمرد النّظّام عن مسألة فقطعه، فقال له إبراهيم(7/75)
النّظّام: أما إنك تقطعني بحجّةٍ وجبت لك، ولكن قطعتني بالحيرة فيك.
يقال: الطّير الذي خلقه عيسى عليه السّلام في قوله تعالى " وإذ تخلق من الطّين كهيئة الطّير "، هو الخطّاف؛ أما ترى فيه ضعف الآدميين؟ وذاك أنه أضعف من كلّ طائرٍ في مقداره.
قال المسيح عليه السلام: كلّ قتيلٍ يقتصّ له يوم القيامة إلا قتيل الدنيا، فإنه يقتصّ منه. هذا والله كلام عجيب.
نظر ابن أبي عتيق إلى بستانٍ صغير فقال: هذا تسمّده فسوة.
شاعر: المديد
ما لمن تمّت محاسنه ... أن يغادي طرف من رمقا
لك أن تبدي لنا حسناً ... ولنا أن نعمل الحدقا
قال رجلٌ لأبي الهذيل: ما الفرق بين الإنسان والحمار؟ قال: هذه مسألةٌ جوابها فيها؛ لمّا قلت أنت ما الفرق بينهما كنت قد فرقت.
قال بعض المتكلّمين: الدليل على الحدوث أنّ الواهم يتوهّم(7/76)
فيحدث إنسانٌ وشجرة، فقضى ذلك على جميع ما ترى أنه محدث، لأنه أحدثه توهّماً، وكلّ متماثلين يلتقيان في حكمٍ واحد.
قال بعض المتكلّمين: الدليل على أنّ صانعي ليس مثلي أنّي عاجزٌ عن أن أفعل مثلي، فمحالٌ أن يكون فاعلي مثلي.
اعتلّ أبو جعفر الأحول في قول القاضي والله والله ثلاثاً قال: لما قال موسى للخضر عليهما السلام " قد بلغت من لدنّي عذراً " كان هذا في ثلاث قد قطع عذراً.
قيل لمرجفٍ: أحدث شيءٌ؟ قال: نعم، قيل: ما هو؟ قال: لم يبلغنا بعد.
قيل لأبي جعفر: لم حكمت للاستثناء إذا قال له: عليّ عشرة دراهم إّلا خمسة إّلا درهماً فتكون له أربعة؟ فقال: من كتاب الله تعالى " إلا آل لوط نجيناهم بسحر إلا أمرأته "؛ فاستثنى من المستثنى، ولا يستثنى الكثير من القليل وإنما يستثنى القليل من الكثير، فقال المأمون: أحسنت.(7/77)
قال هارون لحمويه: صف لي فارس، قال: فيها من كلّ بلدٍ بلدٌ.
لما قتل عبيد الله بن زياد - لعنه الله - الحسين بن علي عليه السلام قال أعرابي: انظروا إلى ابن دعيّها كيف قتل ابن نبيّها.
قيل لبعض الحكماء الزّهاد: يقال جمع فلانٌ مالاً، قال: أفجمع أيّاماً؟ قال أبو الهذيل: ذنب الصامت جرحٌ سريع الاندمال، وذنب الناطق جرحٌ رحيب المجال.
كتب العتّابي إلى المأمون: إن للعرب البديهة، وللعجم الرّويّة، فخذ من العرب آدابها ومباني كلامها، وخذ من العجم مكايدها ونتائج فكرها، تجتمع لك فصاحة العرب ورجاحة العجم.
يقال: من صبّ عليه ماءً بارداً ثم تمسّح وتنّور لم تحرقه النّورة، ومن تنّور وهو عرقٌ أحرقته النّورة لأجل تفتح مسامّ البدن.(7/78)
اجتمع الجاثليق والموبذ عند المأمون فقال الجاثليق: إنّ هذا يزعم أنّ الجنّة متصلةٌ بحر أمّه، فقال الموبذ: والله لقد أفحشت عليّ، ولقد كنّا نظنّ أنّ الأمر كما وصف حتى رأينا إلهك خرج من ذلك الموضع فزال عنّا الشّك.
قال خالد بن الوليد: إن أبا بكرٍ ولدنا فرقّ علينا رقّة الوالد، وإن عمر ولدناه فعقّنا عقوق الولد.
قيل لصوفيّ: لم لم تعملوا بأبدانكم؟ قال: لأنّ الأبدان تعمل بالقلوب، فلما عملت القلوب سكنت الأبدان.
قال راوية الفرزدق للفرزدق: والله ما تنهاني عن شيءٍ إلا ركبته، قال: فإني أنهاك عن نيك أمّك.
خاصمت امرأةٌ مدنيّةٌ زوجها - وكان في خلقٍ لا يواريه - فقالت له: غيّر الله ما بك من نعمةٍ، قال: استجاب الله دعاءك، لعلّي أصبح في ثوبين جديدين.
قال بعض أهل اللغة: الاستذراء من البرد، والاستظلال من الحرّ، والاستكنان من المطر.
مرّت امرأةٌ جميلة باليعقوبي فقالت له: يا شيخ، أين درب(7/79)
الحلاوة؟ قال: تحت مئزرك يا ستّي.
قال رجل لرقبة بن مصقلة: ما أكثرك في كلّ طريق، فقال له رقبة: إنك مستكثرٌ مني ما تستقلّ من نفسك، هل رأيتني في طريق إلا وأنت فيه؟ قال النبيّ صلّى الله عليه وعلى آله عن الله عزّ وجلّ: " إنّي تفضّلت على عبادي بأربعة أشياء: سلّطت الدابة على الحبّ، ولولا ذلك لكنزه الملوك كما كنزوا الذهب والفضّة؛ وأنتنت الجسد، ولولا ذلك لنا دفن حميمٌ حميمه؛ وأسليت المصاب عن المصيبة، ولولا ذلك لانقطع النّسل؛ وأقصيت الأجل وبسطت الأمل، ولولا ذلك لخربت الدنيا وما طاب عيشٌ ".
قال جعفر بن محمد عليهما السلام: يهلك الله عزّ وجلّ ستاً بستً: الأمراء بالجور، والعرب بالعصبية، والدهاقين بالكبر، والتجّار بالخيانة، وأهل الرّستاق بالجهل، والفقهاء بالحسد.
ذكر عبد الملك بن مروان الاشدق بعد أن قتله فقال: كان والله ذا طيٍّ لسرّه، نموماً بإعطاء ماله، فارغ القلب بفهم من حدّثه، مشغول القلب بمعرفة ما أشكل عليه.(7/80)
قال الحجاّج لرجلٍ من ولد ابن مسعود: لم قرأ أبوك تسعٌ وتسعون نعجةً أنثى؟ أترى لا يعلم الناس أن النعجة أنثى؟ فقال: قد قرئ قبله " ثلاثة أيّامٍ في الحجّ وسبعةٍ إذا رجعتم تلك عشرةٌ كاملةٌ " ألا يعلم أن سبعةً وثلاثةً عشرةٌ؟ فما أحار الحجّاج جواباً.
أراد رجلٌ بيع جاريةٍ فبكت فسألها، فقالت: لو ملكت منك ما ملكت مني ما أخرجتك من يدي، فأعتقها.
قالت المضرّية: اللسان العربي لإسماعيل، وقالت القحطانية: أوّل من تكلم بالعربية يعرب بن قحطان، فاحتجت المضريّة فقالت: لو كان هذا هكذا لقالوا: يعربي، ولم يقولوا: عربي.
قال هارون بن مسلم: ما بقي أحدٌ يأنف أو يؤنف منه.
قال ابن عباس في رجلٍ حلف أن لا يكلّم فلاناً حتى حين فقال: الحين في اليوم والليلة وهو قوله تعالى " حين تمسون وحين تصبحون " والحين في ثلاثٍ، وهو قوله تعالى في قوم هود " تمتّعوا حتّى حينٍ " والحين في كل سنةٍ وهو قوله تعالى " تؤتي(7/81)
أكلها كلّ حينٍ ".
قال الجمّاز لعلي الرازي، وأراد شراء جارية حبشية: متاعها الدّهر مزبد، وإبطاها منتنان، وجسدها لا يقبل الطّيب، وإذا شربت احمرت عيناها واخضرّت وجنتاها، وإذا تجرّدت فكأنها نخاعةٌ على يد أسود.
تزوّج مدنيٌّ سوداء فعوتب فقال: عتق ما يملك إن لم تكن ضرطتها في الليلة الشاتية في البيت أنفع من عدل فحم.
وساوم مدينيّ دجاجةٍ بعشرة دراهم فقال: والله لو كانت في الحسن كيوسف، وفي العظم ككبش إبراهيم، وكانت كلّ يومٍ تبيض وليّ عهدٍ للمسلمين، ما ساوت أكثر من درهمين.
قال يحيى بن خالد: الغضب والحزن من جوهرٍ واحد، فإذا(7/82)
كان ممّن فوقك كان حزناً، وإذا كان ممّن هو دونك كان غضباً، فترك الصبر على الغضب سوء قدرة، وترك الصبر على الحزن سوء استكانة.
حمل رزام بن حبيب إلى طحّان طعاماً فقال له: اطحنه؛ قال: أنا مشغولٌ عنك، قال: إن طحنته وإّلا دعوت الله عزّ وجلّ على حمارك ورحاك، قال: أومستجاب الدعوة أنت؟ قال: نعم، قال: فادع الله أن يصيّر حنطتك دقيقاً فهو أروح لك.
قال الأصمعي: كان بالبصرة فتىً يغشاه الفتيان في كوخٍ له من قصب، وكانوا إذا شربوا قال بعضهم لبعضٍ: غداً عليّ ألف آجرّةٍ، ويقول آخر: عليّ الجصّ، ويقول آخر: عليّ أجرة البنّاء. فيصير كوخه قصراً من ساعته، ثم يصبح فلا يرى شيئاً من ذلك، فقال في ذلك:
لنا كوخٌ يهدّم كلّ يومٍ ... ويبنى ثم يصبح جذم خصّ
إذا ما دارت الأقداح قالوا ... غداً نبني بآجرٍّ وجصّ
وكيف يشيّد البنيان قومٌ ... يزجّون الشتاء بغير قمص
قال الأصمعي: فحدّثت الرشيد، فاستضحك وقال: أبا سعيدٍ، لكنّا نبني(7/83)
لك قصراً لا تخاف فيه ما خاف الفتى، ثمّ أمر له بألفي دينار.
قال الجمّاز: اشتريت جاريةً سنديّة، فأردت أن أطأها، وكان شعر حرها كثيراً فلم يدخل أيري، فقالت: يا مولاي، زبّك عمياء.
قيل لسلمان بن ربيعة الباهلي: بم تعرف الهجن من العتاق؟ قال: بنظري إلى الأعناق، قيل: فبيّن لنا ذلك، قال: فدعا بطستٍ من ماءٍ فوضعت على الأرض، ثم قدّمت الخيل إليها واحداً واحداً، فما ثنى سنبكه ثم شرب هجّنه، وما شرب ولم يثن سنبكه جعله عتيقاً، وذلك لأنّ في أعناق الهجن قصراً فهي لا تنال الماء إّلا على تلك الحال حتى تثني سنابكها، وأعناق العتاق طوالٌ فهي تشرب ولا تثني سنابكها.(7/84)
قال أهل اللغة: الغيلم ذكر السّلاحف، والأنثى سلحفاة ويقال: سلحفية؛ والعلجوم ذكر الضفادع؛ والشّيهم ذكر القنافذ؛ والخزر ذكر الأرانب، وجمعه خزّان؛ والظّليم ذكر النّعام؛ والقطّ والضّيون ذكر السّنانير؛ والحيقطان ذكر الدرّاج؛ والعضرفوط ذكر العظاءة؛ والحرباء ذكر أمّ حبين؛ والحنظب ذكر الخنافس، وهو أيضاً الخنفس؛ واليعاقيب ذكور الحجل، واحدها يعقوب، والسّلك الذكر من فراخها، والأنثى سلكة؛ والخرب ذكر الحبارى؛
والفيّاد ذكر البوم، ويقال هو الصّدى؛ وساق حرّ ذكر القماريّ؛ واليعسوب ذكر النّحل؛ هذه كلّها ينبغي أن تكون في صميم صدرك، قد غلب عليها الحفظ،(7/85)
واهتدى إليها الظنّ، فم القبيح بالإنسان أن لا يعرف ما قرب من الحيوان.
واحفظ أيضاً إناث أشياء من هذا الضرب؛ اعلم أنّ: الأنثى من الذّئاب سلقةٌ وذيبة؛ والأنثى من الثعالب ثرملة وثعلبة، والذكر ثعلبان؛ والأنثى من الوعول أرويّة، وثلاث أراويّ إلى العشرة، فإذا جاوزت فهي الأروى؛ والأنثى من القرود قشبة وقردة؛ والأنثى من الأرانب عكرشة؛ والأنثى من العقبان عقبة؛ والأنثى من الأسود لبؤة؛ بضّم الباء والهمزة؛ والأنثى من العصافير عصفورة؛ ومن النّمور نمرة؛ ومن الضّفادع ضفدعة؛ ومن البرذون برذونة؛ وواحد الذّراريح والذّرّاح ذرحرح وذّروح.(7/86)
واحفظ ما هو من أسماء الناس من ذلك: يقال إن الهوزة قي القطاة؛ والقطاميّ الصّقر - بضمّ القاف وفتحها -؛ وعكرمة هي الحمامة؛ والهيثم فرخ العقاب؛ وسعدانة هي الحمامة؛ والحيدرة الأسد؛ وكذلك الهيصم وأسامة والدّلهمس وهرثمة والضّيغم؛ وأما نهشل فالذئب؛ وكلثوم الفيل؛ وشبث: دابة تكون في الرّمل، وجمعها شبثان، كأنها سمّيت بذلك لتشبّثها بما دبّت عليه؛ وأما سيابة فواحدة السّياب - خفيفةً - وهو البلح.
وأما حمزة فبقلة.
شاعر: الوافر(7/87)
دعوتك للنّدى ففررت منه ... كأنّي قد دعوتك للبراز
ولمّا أن كسوتك ثوب مدحٍ ... رأيتك قد خريت على الطّراز
قال ابن طباطبا في عيار الشعر: وينبغي للشاعر أن يتأمّل تأليف شعره وتنسيق أبياته، ويقف على حسن تجاورها أو قبحه، فيلائم بينها لتنتظم له معانيها، ويتّصل كلامه فيها، ولا يجعل بين ما قد ابتدأ وصفه وبين تمامها فصلاً من حشو ليس من جنس ما هو فيه فينسي السامع المعنى الذي يسوق القول إليه، كما أنه يحترز من ذلك في كلّ بيت، فلا يباعد كلمةً عن أختها ولا يحجز بينها وبين تمامها بحشوٍ يشينهها، ويتفقّد كلّ مصراعٍ: هل يشاكل ما قبله، فربما اتفق للشاعر بيتان يضع مصراع كل واحد منهما في موضع الآخر، فلا يتنبه على ذلك إّلا من دقّ نظره ولطف فهمه. وربما وقع الخلل في الشّعر من جهة الرّواة والناقلين له: الشّعر على جهةٍ ويؤدوّنه(7/88)
على غيرها سهواً فلا يذكرون حقيقة ما سمعوه منه. كقول امرئ القيس: الطويل
كأنّي لم أركب جواداً للذةٍ ... ولم أتبطّن كاعباً ذات خلخال
ولم أسبإ الزّقّ الرّويّ ولم أقل ... لخيلي كرّي كرّةً بعد إجفال
هكذا الرّواية، وهما بيتان حسنان، ولو وضع مصراع كلّ واحدٍ منهما في موضع الآخر كان أشكل وأدخل في استواء النّسج، وكان يروى:
كأنّي لم أركب جواداً ولم أقل ... لخيلي كرّي كرّةً بعد إجفال
ولم أسبأ الزقّ الرويّ للذةٍ ... ولم أتبطن كاعباً ذات خلخال
وكقول ابن هرمة: المتقارب
وإنّي وتركي ندى الأكرمين ... وقدحي بكفّي زنداً شحاحا
كتاركةٍ بيضها بالعراء ... وملبسةٍ بيض أخرى جناحا
وكقول الفرزدق: الطويل(7/89)
وإنك إذ تهجو تميماً وترتشي ... سرابيل قيسٍ أوسحوق العمائم
كمهريق ماءٍ بالفلاة وغرّه ... سرابّ أذاعته رياح السّمائم
كان يجب أن يكون بيت ابن هرمة مع بيت الفرزدق، وبيت الفرزدق مع بيت ابن هرمة فيقال:
وإنّي وتركي ندى الأكرمين ... وقدحي بكفّي زنداً شحاحا
كمهريق ماءٍ بالفلاة وغرّه ... سراب أذاعته رياح السمائم
وإنّك إذ تهجو تميماً.............. الخ
كتاركةٍ بيضها بالعراء ... وملبسةٍ بيض أخرى جناحا
حتى يصح التشبيه للشاعرين، وإّلا كان تشبيهاً بعيداً غير واقع موقعه الذي أريد له.
وإذا تأملت أشعار الشعراء لم تعدم فيها أبياتاً مختلفة المصاريع، كقول طرفة: الطويل
ولست بحلاّلٍ التّلاع مخافةً ... ولكن متى يسترفد القوم أرفد
والمصراع الثاني غير مشاكلٍ للأوّل؛ وكقول الشاعر: الطويل(7/90)
وإن امرءاً أهواه بيني وبينه ... فياف تنوفاتٌ ويهماء خيفق
لمحقوقةٌ أن تستجيبي لصوته ... وأن تعلمي أنّ المعان موفّق
فقوله: وأن تعلمي أن المعان موفّق غير مشاكل لما قبله؛ وكقوله: البسيط
أغّر أبلج يستسقى الغمام به ... لو قارع الناس عن أحسابهم قرعا
فالمصراع الثاني غير مشاكل للأول، وإن كان كلّ واحدٍ منهما قائماً بنفسه.
وأحسن الشّعر ما ينتظم القول فيه انتظاماً يتّسق به أوّله مع آخره على ما ينسقه قائله، فإن قدّم بيتٌ على بيتٍ دخله الخلل، كما يدخل الرسائل والخطب إذا نقص تأليفها فإن الشعر إذا أسس فصول الرسائل القائمة بأنفسها، وكلمات الحكمة المستقلّة بذاتها، والأمثال السائرة الموسومة باختصارها، لم يحسن نظمه، بل يجب أن تكون القصيدة كلّها ككلمة واحدةٍ في اشتباه أوّلها وآخرها نسجاً وحسناً وفصاحةً وجزالة ألفاظٍ ودقّة معانٍ وصواب تأليف، ويكون خروج الشاعر من كل معنىً يصفه إلى غيره من المعاني خروجاً لطيفاً على ما شرطنا؛ هذا كله كلام صاحب كتاب العيار.(7/91)
خرج الأعمش يوماً إلى أصحابه وهو يضحك فقالوا له: ما ذاك يا أبا محمد؟ قال: قالت بنيّتي لأمّها: يا امّه، لم تجدي أحداً تزوّجينه إلا هذا الأعمش؟! قال داود بن الزّبرقان: سفه علينا الأعمش يوماً فكلّمتنا امرأةٌ من وراء الباب وقالت: احتملوه، فوالله ما يمنعه من الحجّ مذ ثلاثون سنة إّلا مخافة أن يلاطم زميله أو يشاتم رفيقه.
قال سعيد بن المسيّب: أعوذ بالله من الزّنا، فقالت امرأة إلى جانبه: هذا شيءٌ قد كفيته لسماحة وجهك، قال: أمّا ما دام إبليس حياً فلا أصدّقك.
قال أعرابيّ بعدما خرف: إن في الأير يا قوم عجباً فاحذروه؛ قالوا له: وما هو؟ يأنس إلى من لا يعرف ويستوحش ممن يعرف.
مرّ سائلٌ بمخنّثٍ فأدخله وسقاه وحمله على نفسه فقال: والله ما(7/92)
أدري بم أكافئك، إّلا أنني وددت أنّ لي أيراً مثل منارة المسيّب، قال المخنّث: إذن كنت أمكّنك من استٍ مثل باب خراسان.
قال محمد بن إسحاق بن عطية: دخلت على إسماعيل بن صبيح وهو مريض فقلت: كيف أصبحت؟ فقال: أصبحت تجرّب عليّ الأطباء.
رفع مخنّث إلى السّندي بن شاهك ومعه غلام، فتبعته امرأةٌ فقالت: أما تستحيي من مشيتك ترفع مع مثل هذا؟ فقال: أما والله لو استقبلك بمثل ما استدبرني به ماباليت أن ترفعي إلى ملك الروم.
شاعر: مجزوء الرجز
الصبر مفتاح الظّفر ... والأمر يجري بالقدر
ما كان من خيرٍ وش ... رٍّ ليس يغني من حذر
يقال: لا تقطع القريب وإن أساء، فإنّ المرء لا يأكل لحمه وإن جاع، ولا يقطع يده وإن ضربت عليه.
قال بعض العرب: الق عدوّك بحسن البشر، وأخف عنه ضمير(7/93)
الصّدر، وتربّص به دوائر الدّهر، وال تظهر له سرّك فيكيدك، ولا تمكنّه من قيادك فيرديك، وكثير النّصح يدعوك إلى كثير التّهمة.
قيل لعائشة: إن قوماً يشتمون أصحاب رسول الله صلّى الله عليه وآله. فقالت: دعوهم، أبعدهم الله، فإنّ الله لما قطع عنهم العمل أحبّ أن لا يقطع عنهم الأجر.
قال المتوكّل لعبّادة: أهب لك هذا الخصيّ؟ قال: يا أمير المؤمنين، أنا لا أركب زورقاً بلا دقل.
قال عبد الملك بن مروان لابن زبّان القيني: ما لك مغتماً؟ قال: نسأل أمير المؤمنين ما لا نقدر عليه، ويعتذر فيما قد لا يعذر، فقال: ما أحسن ما سألت؛ ووصله.
كاتب: أستجير بك في ما قاسيت من مقارعة الدّهور، وأستعين بك على ما عانيت من ملمّات الأمور.
قال أعرابيٌّ لآخر: من استجار بك من الزّمان، فقد أخذ لنفسه بأوثق الأمان.
كاتب: الشكوى إليك عند النائبة على قدر الشكر لك عند(7/94)
النّعمة، لأنّك في الحالين معاً الرجاء والعدّة، والموئل والعمدة، وكلّ حقٍّ قضيته لأوليائك في عارفة تصطنعها، ونكبة تدفعها، فهو دون قدرتك، وفوق شكرهم.
آخر: محاسن غيرك مساوٍ عند محاسنك، لأنّ إحسانك إجمالٌ وإحسانهم تجمّلٌ.
أعرابيّ: لا على رجائي أخاف التخييب، ولا على أملي أخشى التكذيب.
كاتب: إذا طلبت عند غيرك ما لم أنله، نلت منك ما لم أطلبه، وإذا وجدت عندك ما لم أرجه، عدمت من سواك ما رجوته، فاليأس من خيرك أجدى من الطّمع في فضل غيرك، لأنّك تقول وتفعل، وسواك يقول ولا يفعل، ولأنّك تعتذر من الجزيل إذا تطاول سواك بالقليل، لأنّ الذي أدركته منك من غير تأميلٍ له، عوضٌ مغنٍ مما خانني من الرّجاء في سواك.
كاتب: صافحتني الأيّام بكفّ الغنى إذا قبلتني، ووقفت بي عند أملي إذ حسن رأيك فيّ، وصالحتني بما استصلحت من أمري.
أعرابي: يأسي من عطائك أرجى من رجائي لعطاء غيرك، لان أملي فيك قنيةٌ، ورجائي لك ذخرٌ، لأني أعدّ وعدك غنىً ومطلك إنجازاً.(7/95)
قال ابن طباطبا في عيار الشعر: ينبغي للشاعر في عصرنا أن لا يظهر شعره إّلا بعد ثقته بجودته وحسنه وسلامته من العيوب التي قد نبّه عليها. وأمر بالتحرّز منها، ونهي عن استعمال نظائرها. لا يضع في نفسه أنّ الشعر موضع اضطرار، وأنّه يسلك سبيل من كان قبله، ويحتج بالأبيات التي قد عيبت على قائليها، فليس يقتدى بالمسيء، وإنما الاقتداء بالمحسن، وكلّ واثق فيه خجلٌ إلا القليل، ولا يغير على معاني الشعراء فيودعها شعره، ويخرجها في أوزان مخالفةٍ لأوزان الأشعار التي يتناول منها ما يتناول، ويتوهّم أنّ تغييره الألفاظ والأوزان مما يستر عليه سرقته، أو يوجب له فضيلته، بل يديم النظر في الأشعار التي قد اخترناها لتلصق معانيها بفهمه، وترسخ أصولها في قلبه، وتصير مواد لطبعه، ويذرب لسانه بألفاظها، فإذا جاش فكره بالشّعر، أدّى إليه نتائج ما استفاده مما نظر من تلك الأشعار، وكانت تلك(7/96)
النتيجة كالسّبيكة المفزغة من جميع الأصناف التي تخرجها المعادن، وكما اغترف من وادٍ قد مدّته سيولٌ جارية كثيرة من شعاب مختلفة، وكطبيب يركب على أخلاط من الطّيب كثير، فيستغرب عيانه، ويغمض مستنبطه؛ ويذهب في ذلك إلى ما يحكى عن خالد بن عبد الله القسري فإنّه قال: قد حفّطني أبي ألف خطبةٍ ثم قال لي: تناسها، فتناسيتها، فلم أرد بعد ذلك شيئاً من الكلام إّلا سهل عليّ؛ فكان حفظه لتلك الخطب رياضةً لفهمه، وتهذيباً لطبعه، وتلقيحاً لذهنه، ومادة لفصاحته، وسبباً لبلاغته ولسنه ولخطابته.
واعلم أنّ شعراء العرب أودعت أشعارها من الأصناف والتشبيهات والحكم ما أحاطت به معرفتها، وأدركه عيانها، ومرّت به تجاربها، وهم أهل وبر، صحونهم البوادي، وسقوفهم السماء، فليس تعدو أوصافهم ما رأوه فيهما وفي كل واحدة منهما، في فصول الأزمان على اختلافها: من شتاءٍ(7/97)
وربيع، وصيفٍ وخريف، من ماءٍ وهواء، ونار وجبل، ونباتٍ وحيوانٍ وجماد، وناطقٍ وصامت، ومتحرّك وساكن، وكلّ متولد، من وقت نشوته وفي حال نموّه إلى حال انتهائه، فضمّنت أشعارها من التشبيهات إلى ما أدركه من ذلك عيانها وحسّها، إلى ما في أنفسها وطبعها من محمود الأخلاق ومذمومها، في رخائها وشدّتها، ورضاها وغضبها، وفرحها وغمها، وأمنها وخوفها، وصحّتها وسقمها، والحالات المتصرّفة بها في خلقها وخلقها، من حال الطفولة إلى حال الهرم، وفي حال الحياة إلى حال الموت، فشبهت الشيء بمثله تشبيهاً صادقاً، ذهبت إليه من معانيها التي أرادتها، فإذا تأملت أشعارها وفتشت جميع تشبيهاتها وجدتها على ضروبٍ مختلفةٍ سنشرح أنواعها، فبعضها أحسن من بعض، وبعضها ألطف من بعض، فأشبه التشبيهات ما إذا عكس لن ينتقض بل يكون كلّ شبه بصاحبه مثل صاحبه، ويكون صاحبه مثله مشبهاً به صورةً ومعنى، فربّما أشبه الشيء الشيء صورةً وخالفه معنىً، وربما(7/98)
أشبهه معنىً وخالفه صورةً وربّما قاربه وداناه أو سامته وأشبهه مجازاً لا حقيقةً، فإذا اتفق لك في أشعار العرب التي يحتجّ بها تشبيهٌ لا تتلقّاه بالقبول، أو حكايةٌ تستغربها، فابحث عنه ونقّر عن معناه، فإنك لا تعدم أن تجد تحته خبيئة، إذا أثرتها عرفت فضل القوم بها، وعلمت أنهم أرقّ طبعاً من أن يلفظوا بكلامٍ لا معنى تحته. وربّما خفي عليك مذهبهم في سنن يستعملونها بينهم، وحالات يصفونها في أشعارهم ولا يمكنك استنباط ما تحت حكاياتهم، ولا يفهم مثلها إّلا سماعاً، فإذا وقفت على ما أرادوه، لطف موقع ما تسمعه من ذلك عند فهمك.
والكلام الذي لا معنى له كالجسد الذي لا روح فيه؛ كما قال بعض الحكماء: للكلام جسدٌ وروحٌ، فجسده النّطق وروحه معناه، فأما ما وصفته العرب وشبّهت بعضه ببعض مما أدركه عيانها فكثيرٌ لا يحصى عدده، وأنواعه كثيرةٌ، وسنذكر بعض ذلك ونبيّن حالاته وطبقاته إن شاء الله.
وأما ما وجدته في أخلاقها، وتمدّحت به، ومدحت به من سواها وذمّت من كان على ضدً حالها فيه، فخلالٌ مشهورةٌ، منها في الخلق: الجمال(7/99)
والبسطة؛ ومنها في الخلق: الشجاعة والسخاء والحلم والعلم والحزم والعزم والوفاء والعفاف والأمانة والقناعة والغيرة والصّدق والصبر والورع والشكر والمداراة والعفو والعدل والإحسان وصلة الرّحم وكتم السر والمؤاتاة وأصالة الرأي والأنفة والدعاء وعلوّ الهمّة والتواضع والبيان والبشر والجلد والتجارب والنقض والإبرام. وممّا يتفرّع من هذه الخلال التي ذكرناها من الأصناف: قرى الأضياف وإعطاء العفاة وحمل المغارم وكظم الغيظ وقمع الأعداء وفهم الأمور ورعاية العهد والفكر في العواقب والجد والتشمير وقمع الشّهوات والإيثار على النفس وحفظ الودائع والمجازاة ووضع الأشياء مواضعها والذّب عن الحريم واجتلاب المحبة والتنزّه عن الكذب واطّراح الحرص وادّخار المحامد والاحتراز من العدوّ وسيادة العشيرة واجتناب الحسد والنكاية في الأعداء وبلوغ الغايات والاستكثار من الصديق والقيام بالحجّة وكبت الحسّاد والإسراف في الخير واستدامة النعمة وإصلاح كل فاسد واعتقاد المنن واستعباد الأحرار بها(7/100)
وإيناس النافر وحفظ الجار والإقدام على بصيرة. وأضداد هذه الخلال البخل والجبن والطّيش والجهل والغدر والاغترار والفشل والفجور والعقوق والخيانة والحرص والمهانة والكذب وفيالة الرأي والهلع وسوء الخلق ولؤم الظفر والجور والإساءة وقطيعة الرّحم والنّميمة والخلاف والطّبيعة والدّناءة والغفلة والحسد والبغي والكبر والعبوس والإضاعة والقبح والدّمامة والقماءة والخور والعجز والعيّ والاستحلال. ولتلك الخلال المحمودة حالاتٌ تؤكدها وتضاعف حسنها وتزيد في جلالة المتمسّك بها والمفتخر بالاحتواء عليها، كما أنّ لأضدادها أيضاً حالات تزيد في الحطّ ممن وسم بشيءٍ منها ونسب إلى استشعار مذمومها والتّمسك بفاضحها: فالجود في حال العسر موقعه فوق موقعه في حال الجدة وفي حال الصحو أحسن منه في حال السّكر، كما أن البخل من الواجد القادر أشنع منه من المضطّر العاجز، والعفو في حال القدرة أجلّ موضعاً منه في حال العجز، والشجاعة في حال مبارزة الأقران أحدّ منها في حال الإحواج ووقوع الضّرورة، والعفّة في حال اعتراض الشّهوات والتّمكن منها أفضل منها في حال فقدان اللذات واليأس من نيلها، والقناعة في حال تبرّج الدنيا ومطامعها أحسن(7/101)
منها في حال اليأس وانقطاع الرجاء منا؛ على هذا التّمثيل جميع الخصال التي ذكرناها.
وقال أيضاً: وعيار الشّعر أن يورد على الفهم الثاقب: فما قبله واصطفاه فهو وافٍ، وما مجّه ونفاه فهو ناقص. والعّلة في قبول الفهم الثاقب للشّعر الحسن الذي يرد عليه ونفيه للقبيح منه، واهتزازه لما يقبله وتكرهه لما ينفيه أنّ كلّ حاسّة من حواسّ البدن إنما تقبل ما يختصّ بها ويتصل بها ممّا طبعت له إذا كان وروده عليها وروداً لطيفاً باعتدال لا جور فيه وموافقةٍ لا مضادة معها. فالعين تألف المرأى الحسن الأنيق، وتقذى بالمرأى القبيح الكريه؛ والأنف يقبل المشمّ الطّيب ويتأذى بالمنتن الخبيث؛ والفم يتلذّذ بالمذاق الحلو ويمجّ البشع المّر؛ والأذن تتشوّف للصّوت الخفيض السّاكن وتتأذى بالجهير الهائل؛ واليد تنعم باللّمس اللّين وتتأذى بالخشن المؤذي؛(7/102)
والفهم يأنس من الكلام العدل الصواب الحق الجائز المعروف ويتشوّف إليه ويتجلّى له ويستوحش من الكلام الجائر الخطأ الباطل والمحال المجهول المنكر وينفر منه ويصدأ له. فإذا كان الكلام الوارد على الفهم منظوماً مصفّىً من كدر العيّ، مقوّماً من أود الخطأ واللّحن، سالماً من جور التأليف، موزوناً بميزان الصّواب لفظاً ومعنىً وتركيباً، اتسعت طرقه ولطفت موالجه، فقبله الفهم وارتاح له وأنس به، وإذا ورد عليه ضدّ هذه الصّفة وكان باطلاً محالاً مجهولاً، انسدّت طرقه، ونفاه الفهم، واستوحش عند حسّه، وصدئ له، وتأذّى به كتأذّي سائر الحواسّ بما يخالفها على ما شرحناه. وعلّة كلّ حسن مقبولٍ الاعتدال، كما أنّ علّة كلّ قبيح منفيّ الاضطراب، والنفس تسكن إلى كلّ ما وافق هواها، وتقلق ممّا خالفه، ولها أحوالٌ تتصرّف بها، فإذا ورد عليها في حالةٍ من حالاتها ما يوافقها اهتزّت له وحدثت لها أريحية وطرب وإذا ورد عليها ما يخالفها قلقت واستوحشت.
وقال أيضاً: وللأشعار الحسنة على اختلافها مواقع لطيفةٌ عند(7/103)
الفهم لا تحدّ كيفيتها، كمواقع الطّعوم الطيّبة المركّبة الخفيّة التركيب اللذيذة المذاق، وكالأراييح الفائحة المختلفة الطّيب والنسيم، وكالنقوش الملونة التّقاسيم والأصباغ، وكالإيقاع المطرب المختلف التأليف، وكالملامس اللذيذة الشهية الحسن، فهي تلائمه إذا وردت عليه - أعني الأشعار الحسنة على الفهم - فيلذّها ويقبلها ويرشفها كارتشاف الصّديان للبارد الزّلال، لأنّ الحكمة غذاء الرّوح، فأنجع الأغذية ألطفها.
وقال: قال بعض الفلاسفة: إنّ للنفس كلمات روحانية من جنسّ ذاتها، وجعل ذلك برهاناً على نفع الرّقى ونجوعها فيما تستعمل له، فإذا ورد عليك الشعر اللطيف المعنى، الحلو اللّفظ، التامّ البيان، المعتدل الوزن، مازج الروح ولاءم الفهم وكان أنفذ من نفث السحر وأخفى دبيباً من الرقى وأشد إطراباً من الغناء، فسلّ السخائم، وحلّل العقد، وسخّى الشحيح، وشجّع الجبان. وكان كالخمر في لطف دبيبه وإلهائه، وهزّه ولذاذته. وقد قال النبيّ صلّى الله عليه وآله: " إنّ من البيان لسحراً ".(7/104)
ولحسن الشعر وقبول الفهم إيّاه علةٌ أخرى وهي موافقته للحال التي يعدّ معناه لها، كالمدح في حال المفاخرة، وحضور من يكبت بإنشاده من الأعداء ويسر به من الأولياء، وكالهجاء في حال مباراة المهاجي والحطّ منه، حيث ينكي فيه استماعه له، وكالمراثي في حال جزع المصاب به، وكذكر مناقب المفقود عند تأبينه والتعزية عنه، وكالاعتذار والتنصّل من الذّنب عند سلّ سخيمة المجنيّ عليه المعتذر إليه، وكالتحريض على القتال عنه التقاء الأقران وطلب المغالبة، وكالغزل والنسيب عند شكوى العاشق واهتياج شوقه وخضوعه وحنينه إلى من يهواه. وإذا وافقت هذه المعاني هذا الخلال تضاعف حسن موقعها عند مستمعها لا سيما إذا أيّدت بما يجلب إلى القلوب من الصّدق عن ذات النفس، بكشف المعاني المختلجة فيها، والتصريح بما كان يكتم منها والاعتراف بالحق في جميعها.
والشعر هو ما إن عري من معنىً بديع لم يعر من حسن الديباجة، وما(7/105)
خالف هذا فليس بشعر. ومن أحسن المعاني والحكايات في الشعر وأشدّها استفزازاً لمن يسمعها الابتداء بذكر ما يعلم السامع له إلى أي معنى يساق القول فيه قبل استتمامه، وقبل توسّط العبارة عنه والتعريض الخفيّ الذي يكون بخفائه أبلغ في معناه من التصريح الظاهر الذي لا ستر دونه. فموقع هذين عند الفهم كموقع البشرى عند صاحبها لثقة الفهم بحلاوة ما يرد عليها من معناهما انقضى كلامه.
قد دلّ هذا الرجل على مواضع لطيفة واستحقّ المديح بحسب الإصابة.
سأل أبو فرعون رجلاً فمنعه وألح عليه فأعطاه فقال: اللهم اخزنا وإياهم، نسألهم إلحافاً ويعطوننا كرهاً، فلا يبارك الله لنا ولا يأجرهم عليه.(7/106)
كان عبد الله بن الزبير إذا صعد المنبر حمد الله وأثنى عليه وخطب الناس وأخذ في سورة الأنعام وقال: إنما يكفيني من الدنيا اليسير، إنما بطني شبر؛ فلما مات أصابوا في خزانته خمسة آلاف طليسان، فقال فيه الشاعر: البسيط
لو كان بطنك شبراً قد شبعت وقد ... أفضلت فضلاً كثيراً للمساكين
لكنّ بطنك باعٌ ليس يشبعه ... خرج العراق ولا مال الدّهاقين
ما زال في سورة الأنعام يدرسها ... حتى فؤادي مثل الخزّ في اللّين
إمّا تصبك من الأيام جائحةٌ ... لم نبك منك على دنيا ولا دين
هذا من غرائب ما يروى، وهو كالسرّ من أسرار هذا الخلق، ولئن كان حقاً فما ينقضي العجب من قومٍ هذا حديثهم وذاك كلامهم.
دعا أعرابيٌّ فقال: ثبّت الله ودّكم، وأغزر رفدكم، وأمّن وفدكم، وأعلى جدّكم، وجمّل أمركم.
قيل لابن جريج: كم صيفكم بمكّة؟ قال: ثلاثة عشر شهراً.(7/107)
سأل رجل الشعبيّ عن أكل الذباب فقال: إن اشتهيت فكله.
وسأل آخر الشعبي عن أكل لحم الشيطان فقال: ويحك ويدعك الشيطان تأكل لحمه؟ ارض منه بالكفاف! قال أعرابي: من ولد في الفقر أبطره الغنى، ومن ولد في الغنى لم تزده النعمة إلا تواضعاً.
كان أحمد بن يوسف وناس يختلفون إلى باب المأمون، فقال البّواب يوماً: يا هؤلاء، كم تقفون ها هنا؟ اختاروا واحدةٌ من ثلاث: إما أن ميزتم لوقوفكم ناحيةً من الباب، وإما نزلتم فجلستم في المسجد حتى يدعى بكم، قالوا: والخصلة الثالثة؟ فما تهيأ له، فقال: جئتمونا بكلام الزنادقة؟! فدخل أحمد فحدث المأمون فضحك وأمر للبواب بألف درهم وقال: لولا أنها نادرة جهلٍ لاستحقّ بها أكثر من ذلك.
قال القاسم بن محمد: كانوا يستحبّون استقبال المصائب(7/108)
بالتجمّل، ومواجهة النّعم بالتذلّل.
سمع ابن خلف الهمذاني قوماً يذكرون الموت فقال: لو لم يكن في الموت إّلا أنك لا تقدر أن تنفّس لكفى. هكذا حدثنا أبو نصر الأنماطي الهمذاني.
وعد يحيى بن خالد رجلاً مراراً ولم يف، فرفع إليه رقعة فيها: البسيط
البرمكّيون لا يوفون ما وعدوا ... والبرمكيّات لا يخلفن ميعاداً
فلما قرأها اغتمّ وقال: وددت أني افتديت هذا البيت ما أملك؛ وهرب الرجل.
كان لشيرين مولى بكرم عليها، فسألها مسألة الملك ترفيهه أياماً، فقالت له في أمره فقال: ما كنت لأنقض عهدي مع فلان، قالت: فأنا أسأله ذلك، قال: أنت وذاك، ولا أرى لك، فإنه سفيهٌ ولا آمنه،(7/109)
فأبت، فأذن لها، فكتبت إلى الرجل تسأله ترفيهه، فكتب إليها: إني وإياك تولّينا للملك عملين يجب علينا تنظيفهما، فمتى وقع فيهما شفاعةٌ وقع التقصير، وقد وليت أمر الخراج واستنظافه، ووليت أمر حرك وتنظيفه؛ فإن كنت مشفّعةً في التقصير في عملك أحداً أعلمتني لأشفّعك فيما سألت، وأنا متوقّع ما يرد به كتابك فأعمل بحسبه؛ فكتمت الكتاب، وسأل أنوشروان فأنكرت الكتاب والجواب.
قال أبو الأسود رحمه الله: العمامة خير ملبوس: جنّةٌ في الحرب، ووقايةٌ من الأحداث، ومكنّة من الحرّ، ومدفأة في البرد، ووقارٌ في النّديّ، وزيادة في القامة، وهي تعدّ من تيجان العرب.
شاعر: الوافر
إذا لبسوا عمائمهم ثنوها ... على كرمٍ وإن سفروا أناروا(7/110)
يبيع ويشتري لهم سواهم ... ولكن بالطّعان هم تجار
إذا ما كنت جار بني خريم ... فأنت لأكرم الثّقلين جار
قال فيلسوف: ليس سرور النفس بالمال، ولكن بالآمال.
ويقال: نقل المسرور عن سروره أسهل من نقل المهموم من همومه.
اختلف أصحاب السّهمي أيما أبرّ: الوالد أم الولد إذا اجتمعا في البرّ وتساويا فيه فقالوا: إن الوالد أبرّ، لأنّ برّ الوالد طبيعةٌ، وبرّ الولد فرضٌ، والفرض ثقيل.
لما مرض حميد الطّوسي مرضه الذي مات فيه، ذهب ليقبض إحدى رجليه فلم يقدر فقال: خرينا والله.
ختن صبيّ من آل جميل، وحضر محمد بن جميل فقال للحجّام: ارفق بالصبيّ فإنه أول مرة ختنّاه، فضحك منه.
شاعر: الطويل
فإن تكن الأيام قيدن مطلقاً ... وأطلقن من عقد الحبال أخا أسر(7/111)
فما زالت الأيام تستدرج الفتى ... وتختله من حيث يدري والا يدري
شاعر: المنسرح
أحسن من منزلْ بذي قار ... منزل خمّارةٍ وخمّار
وشرب كرخيّةٍ معتّقةٍ ... أحسن من أينقٍ وأكوار
وشمّ تفاحةٍ ونرجسةٍ ... أحسن من دمنةٍ وآثار
وقبلةٌ لا تزال تخلسها ... من رشإ عاقد لزنار
أحسن من مهمهٍ أضلّ به ... ومن سرابٍ هناك غرّار
وضرب عودٍ إذا ترجّعه ... بنان رود الشّباب معطار
أحسن عندي من أمّ ناجيةٍ ... وأمّ هندٍ وأمّ عمّار
دخل ابن خلف الهمذاني إلى رجل يعزّيه فقال: عظّم الله مصيبتك وأعان أخاك على ما يرد عليه من يأجوج ومأجوج؛ فضحك من حضر فقال: لم تضحكون؟ إنما أردت هاروت وماروت!(7/112)
نقلت من خطّ أبي سعيد السيّرافي - وكان شيخ زمانه ثقةً ومعرفةً وديناً وفضلاً، ومات في رجب سنة ثمان وستين وثلاثمائة -: دخل عبد الرحمن بن أمّ الحكم على معاوية فقال: بلغني أنّك قد لهجت بقول الشعر، قال: هو ذاك، قال: فإياك والمدح فإنه طعمة الوقاح من الرجال، وإياك والهجاء فإنك تحنق به كريماً، وتستثير به لئيماً، وإياك والتشبيب بالنساء فإنّك تفضح الشريفة، وتعرّ العفيفة، وتقّر على نفسك بالفضيحة؛ ولكن افخر بمفاخر قومك، وقل من الأشعار ما تزيّن به نفسك، وتؤدّب به غيرك.
دخل محمد بن الحنفيّة رضوان الله عليه على عبد الملك بن مروان، فلما أراد أن يقوم وضع يده على فخذه فقال: ما هذا؟ فقال: أردت أن أمسّك لتمسّني منك رحمٌ؛ فأمر له بعشرة آلاف دينار.(7/113)
دخل أيّوب بن جعفر بن سليمان على المأمون، فقال له في بعض خطابه: أنا والله يا أمير المؤمنين أودّك مودةً حرّة، وأبغض أعداك بغضةً مرّة، وأشكرك شكر من لم يعرف الإنعام بعد خالقه إّلا منك، ولا التفضّل من سواك؛ فقال المأمون: إنّك لتقول فتحسن، وتغيب فتؤتمن، وتحضر فتزيّن.
قال بزرجمهر: العاقل لا يجزع من جفاء الولاة وتقدمة الجاهل عليه، لأنّ الأقسام لم توضع على قدر الأحلام.
وشتم رجلٌ عمر بن عبد العزيز فقال: لولا يوم القيامة لأجبتك. فقال الحكماء: المسيء ميت وإن كان في منازل الأحياء والمحسن حي وإن كان في منازل الأموات قال الفضل بن يحيى: الصبر على أخٍ تعتب عليه خيرٌ من صديقٍ تستأنف مودته.
كان أبو سفيان إذا نزل به مستجيرٌ قال: يا هذا، إنك اخترتني(7/114)
جاراً واخترت داري داراً، فجناية يدك عليّ دونك، وإن جنت عليك يدٌ فاحتكم حكم الصبيّ على أهله.
كان على عهد كسرى رجلٌ يقول: من يشتري ثلاث كلماتٍ بألف دينار؟ فتطّير منه، إلى أن اتّصل قوله بكسرى، فأحضره وسأله عنها فقال: حتى يحضر المال، فأحضر، وقال له: قل، فقال: الواحدة: ليس في الناس كلّهم خيرٌ، فقال كسرى: هذا صحيح، ثم ماذا؟ قال: ولا بدّ منهم، فقال: صدقت، ثم ماذا؟ قال: فألبسهم على قدر ذلك، فقال كسرى: قد استوجبت المال فخذه؛ قال: لا حاجة لي فيه، قال: فلم طلبته؟ قال: أردت أن أرى من يشتري الحكمة بالمال؛ فاجتهد به كسرى في قبض المال، فأبى.
قال: كان يونس يقول: لا يحتمل الفقر إّلا بإيمانٍ صلب.
لما افتتحت بلخ في زمن عمر، وجد على بابها صخرةٌ مكتوبٌ(7/115)
عليها: إنما يبين الفقير من الغنيّ عند الانصراف من بين يدي الله عزّ وجلّ بعد العرض.
دخل عطيّة بن عبد الرحمن الثّعلبي على مروان بن محمد، فلما صار على طرف البساط تكلّم، فملأه سروراً، ثم قال: ايذن لي يا أمير المؤمنين أقبّل يدك، فقال له مروان: قد عرف أمير المؤمنين مكانك في قومك وفضلك في نفسك، والقبلة من المسلم ذلّة، ومن الكافر خدعة، ولا حاجة بك إلى أن تذلّ أو تخدع، وأنت الأثير عندنا على كلً حالٍ الخاء من خدعة كانت مضمونة من شكل بخط السيراني وفتحها لغة رسول الله صلى الله عليه وسلم وضمها جائز.
جاءت امرأةٌ من عبس إلى أمير المؤمنين فقالت وهو على المنبر: يا أمير المؤمنين، ثلاثٌ بلبلن القلوب، قال: وما مات هي؟ قالت: رضاك بالقضيّة، وأخذك بالدنيّة، وجزعك عند البليّة، فقال لها: ويحك، إنما أنت امرأةٌ، فامضي واجلسي على ذيلك ودعي ما لست منه ولا هو منك! فقالت: لا والله، ما من جلوسٍ إّلا في ظلال السّيوف!(7/116)
كتب رجلٌ إلى صديق له: أما بعد، فإن كان إخوان الثّقة كثيراً فأنت أوّلهم، وإن كانوا قليلاً فأنت أوثقهم، وإن كانوا واحداُ فأنت هو.
قال عثمان لعامر بن عبد قيس العنبري - وكان ظاهر الأعرابية -: يا عامر، أين ربّك؟ قال: بالمرصاد؛ وقال: ما الخير؟ قال خير " كتب ربّكم على نفسه الرّحمة ".
قال عمرو بن العاص لما قتل عمّار بن ياسر رحمه الله: إنما قتله من ألقاه على ظباة سيوفنا وأسنّة رماحنا. فبلغ ذلك علياً عليه السلام فقال: ورسول الله صلّى الله عليه وآله وصحبه وسلّم إذن قاتل عمّه حمزة إذ أتى به إليكم يوم أحد فقتلتموه، وكذلك كلّ من استشهد معه صلّى الله عليه وعلى آله وسلّم.
قال عمر بن عبد العزيز: ما شيءٌ كنت أحبّ علمه إّلا علمته، إّلا أشياء كنت أستصغرها فلا أسأل عنها، فبقي جهلها.(7/117)
كان يحيى بن خالد يجري على سفيان الثوري كلّ شهرٍ ألف درهم، فسمع يحيى سفيان يقول في سجوده: اللهم، إنّ يحيى كفاني أمر دنياي فاكفه أمر آخرته، فلما مات يحيى رآه بعض إخوانه في منامه فقال له: ما صنع الله بك؟ فقال: غفر لي بدعوة سفيان.
دخل يوسف بن يعقوب على الرّشيد فقال: ممّن أنت؟ فقال: خراساني الآباء، بغدادي المنشأ، هاشميّ الولاء.
كان ابن داود يقول: لله درّ البرامكة، عرفوا تقلّب الزمان فبادروا بالفعل الجميل قبل العوائق.
وقف رجلٌ على قبر بعض الجبابرة فقال: أيها الجبّار، كم نفسٍ قتلتها طالباً للراحة منها أصبحت اليوم وهي أكثر شغلك.(7/118)
أنشد: الطويل
إذا فاخرتنا من معدٍّ قبيلةٌ ... فخرنا عليهم بالأغرّ ابن حاتم
يجرّ رياط الحمد في دار قومه ... ويختال في عرض من الذمّ سالم
لما عقد معاوية لعمروٍ على مصر، جعل وردان مولاه يضع عقبه على عقب عمروٍ ولا يعلم ما أراد بذلك؛ فلما خرج سأله فقال: أردت أن تستدعي منه ما يبقى لعقبك من بعدك.
الصبر صبران: صبر فريضةٍ وصبر نافلةٍ؛ فالفريضة تركك الحرام لخشية الله، والنافلة تركك الحلال للرغبة فيما عند الله.
قيل لابن عيينة: من أفقر الناس؟ قال: ليس أحدٌ دون أحد؛ قال الله عزّ وجلّ " يا أيّها النّاس أنتم الفقراء إلى الله ".
أم الحباب بنت غالب الكلابية: الطويل(7/119)
تذكّرتك إذ جيٌّ بحرّ بلادها ... وإذ أهل جيٍّ بالسّيال كثير
إذا فزعوا طاروا إلى كل شطبة ... تكاد إذا صلّ اللّجام تطير
وزغفٍ مثنّاة دلاصٍ كأنّها ... إذا أشرجت فوق الكميّ غدير
سمع رجلٌ موسى بن جعفر عليهما السلام يقول في سجوده آخر الليل: أي رب، عظم الذّنب من عبدك، فليحسن العفو من عندك.
وأنشدت: الهزج
أنا ابن الليل والخيل ... فنزّالٌ ورحّال
وللأموال بذّال ... وللأقران قتّال
نماني السيف والرمح ... فنعم العم والخال
فما تخفضني حالٌ ... ولا ترفعني حال
قيل لبعض الحكماء: لم صار الجواب منصوراً؟ قال: لأنّ الابتداء بغيٌ.
كتب المأمون إلى عبد الله بن موسى بن عبد الله بن الحسن(7/120)
ابن الحسن بن عليّ بن أبي طالب عليهم السلام يسأله عن القرآن وما يقول فيه، فكتب إليه عبد الله: عافانا الله وإياك من كلّ فتنة، فإن يفعل فأعظم بها منّة، وإن لم يفعل فهي كالهلكة. نحن نرى الكلام في القرآن بدعةً اشترك فيها السائل والمجيب، فتعاطى السائل ما ليس له، وتكلّف المجيب ما ليس عليه، ولا خالق إّلا الله عزّ وجلّ، وما دون الله تعالى فهو مخلوق، والقرآن كلام الله تعالى، فانته بنفسك والمخالفين إلى أسمائه التي سمّاه الله عزّ وجلّ بها تكن من المهتدين، ولا تسمّ القرآن باسمٍ من عندك فتكون من الضالّين، " وذروا الذين يلحدون في أسمائه سيجزون ما كانوا يعملون "، جعلنا الله وإياك من " الذين يخشون ربّهم بالغيب وهم من السّاعة مشفقون ".
قال أبو العباس: لمّا علم الله تعالى أنّ أعمال العباد لا تفي بذنوبهم، خلق العلل والأمراض ليكفّر عنهم بها السيّئات.
قال الموبذ بحضرة المأمون: ما أحسنت إلى أحدٍ ولا أسأت، فقال المأمون: وكيف ذلك؟ قال: لأني إن أحسنت فإلى نفسي، وإن أسأت(7/121)
فإليها؛ فلما نهض قال المأمون: أيلومني الناس على حبّ من هذا عقله؟ سخط الرشيد على حميد الطّوسي، فدعا له بالسيف والنّطع، فلما رآه بكى، قفال له: ما يبكيك؟ قال: والله يا أمير المؤمنين ما أفزع من الموت لأنّه لا بدّ لي منه، وإنما بكيت أسفاً على خروجي من الدنيا وأنت ساخطٌ عليّ، فضحك وقال: البسيط
إنّ الكريم إذا خادعته انخدعا
قيل الرجل: لم تركت السلطان أحوج ما كنت إليهم محتاجاً فال يغنيني عنهم الذي تركتهم له أنشد: البسيط
نبّهت زيداً فلم أفزع إلى وكلٍ ... رثّ السلاح ولا في الحيّ مغمور(7/122)
سالت عليه شعاب الحيّ حين دعا ... أنصاره بوجوهٍ كالدنانير
وقّع المنصور: قد أمنّت كلّ مذنب، وشكرت كل بريّ، وجبرت كلّ وليّ.
أنشدت: الطويل
يدي جرحتني أخطأت أم تعمّدت ... فهل لي عن صبرٍ على ذاك من بدّ
ولو غير جلدي رابني لحزرته ... وكنت به طبًّا ولكنّه جلدي
قال أبو يعقوب الأزدي لبعض الولاة: إنّ الناس يتوسّلون إليك بغيرك فينالون معروفك، وإني أتوسّل إليك بك ليكون شكري لك لا لغيرك.
قال عبد الله بن العباس لأمير المؤمنين عليه السلام: اجعلني مع عمرو بن العاص، فلعمري لأعقدنّ له حبلاً لا ينقطع وسطه، ولا ينتهي طرفه، فقال له عليّ عليه السلام: لست من مكره ومن مكر معاوية في شيء، فقال: والله لا تزال حتى يغلب حقّك بالباطل.
لما دخل حذيفة المدائن خطب فحمد الله عزّ وجلّ وأثنى عليه وصلّى على النبيّ صلّى الله عليه وآله وصحبه وسلّم ثم قال: " إن الدنيا دار هدنة(7/123)
ومنزل قلعة، والسّير بكم إلى دار المقامة، فأعدّوا الجهاد لبعد المفازة ".
كان رجلٌ من أهل اليمامة يهوى ابنة عمٍّ له، فبلغه أنها استبدلت بدلاً فقال: الطويل
وقال أناسٌ إنّ ليلى تبدّلت ... فقلت: فإني ناظرٌ من قرينها
فإن يك ذا فضلٍ عليّ عذرتها ... وكانت للبلى بيعةٌ لا تشينها
وإن كان من أوباش من تجمع القرى ... أقل: تعست ليلى فشلّت يمينها
كتب معاوية إلى مروان: ابعث إليّ بالمنبر واقلعه؛ فأصاب الناس ريحٌ مظلمةٌ حتى ظهرت الكواكب نهاراً ثم انجلت، فقال مروان: إنكم تزعمون إنّ أمير المؤمنين أمرني بقلع منبر رسول الله صلّى الله عليه وآله وحمله إليه؟! أمير المؤمنين أعلم بالله عزّ وجلّ، إنما برفعه عن الأرض، ثم عمل عليه ستّ درجات، فما زاد أحدٌ بعده.
ومن كلام الخلفاء: اللسان خادم الفؤاد.
ومن جيّد صفات السيوف: الكامل(7/124)
إنّي لبست لحربكم فضفاضةً ... كالنهي رقرقه هبوب شمال
ومهنّداً كالبرق ليس لحدّه ... عهدٌ بتمويهٍ ولا بصقال
ترضيك هزّته إذا ما شمته ... وتقول حين تراه: لمعة آل
مكتوب في الإنجيل: الحجر الواحد المغصوب في الحائط عربون الخراب.
عيسى بن عقبة: الوافر
بكينا يوم فرقة آل حزوى ... فلاقت مثل فرقتنا الرّكاب
إذا خطراتها خطرت علينا ... ظللنا لا يسوغ لنا شراب
قال ابن الزيّات الوزير: لا يتصوّر لك التّواني بصورة التوكّل فتخلد إليه وتضيع الحزم، فإنّ الله عزّ وجلّ ورسوله صلّى الله عليه وآله أمر بذلك؛ قال الله عز وجلّ " وشاورهم في الأمر فإذا عزمت فتوكّل على الله "، فجعل التوكّل بعد العزم، والمشورة قبله، وقال النبيّ(7/125)
صلّى الله عليه وآله وصحبه وسلّم لصاحب الناقة: " اعقلها وتوكّل ".
الآمال مصائد الآجال، تطول ولا تتطاول.
توقّي الصّرعة أسهل من طلب الرّجعة.
أيدي العقول تمسك أعنّة الأنفس.
الجاهل صغيرٌ وإن كان كبيراً.
الكبر ذلٌ لمن تعزّز به.
وأنشد: الطويل
وكم باب رزقٍ قد فتحت بصارمٍ ... حسامٍ ولم يغلق عن الضّيف بالعذر
وما أخذت كفّي بقائم نصله ... فحدّثت نفسي بانهزامٍ ولا فقر
وأنشد: الطويل
سقى ورعى الله الأوانس كالدّمى ... إذا قمن جنح الليل منبهرات
إذا مسن قدّام البيوت عشيّةً ... قطاف الخطا يرفلن في الحبرات(7/126)
ذهبن بحبّات القلوب فأقبلت ... إليهنّ بالأهواء مبتدرات
لقي يحيى عيسى صلّى الله عليهما فتبسّم يحيى، فقال له عيسى: إنك لتبتسم ابتسام آمنٍ، فقال له يحيى: إنك لتعبس عبوس قانطٍ، فأوحى الله عزّ وجلّ إلى عيسى: الذي يصنع يحيى أحبّ إليّ.
خطب عبد الملك بن مروان، فلما انتهى إلى موضع العظة من خطبته قام إليه رجل من آل صوحان فقال: مهلاً مهلاً، إنكم تأمرون ولا تأتمرون، وتنهون ولا تنتهون، وتعظون ولا تتّعظون، أفنقتدي بسيركم في أنفسكم، أم نطيع أمركم بألسنتكم؟ فإن قلتم: اقتدوا بسيرتنا فأنّى وكيف، وما الحجّة، وأين النصر من الله عزّ وجلّ في الاقتداء بسيرة الظّلمة الخونة الذين اتخذوا مال الله دولاً، وعباده خولاً؟ وإن قلتم: أطيعوا أمرنا، واقبلوا نصيحتنا، فكيف ينصح غيره من يغشّ نفسه؟ وكيف تجب الطاعة لمن لم تثبت عدالته؟ وإن قلتم: خذوا الحكمة حيث وجدتموها، واقبلوا العظة ممن(7/127)
سمعتموها، فعلام قلّدناكم أزمّة أمورنا، وحكّمناكم في دمائنا وأموالنا وأدياننا؟ وما تعلمون أنّ فينا من هو أفصح بصنوف اللغات، وأعرف بوجوه الكلام منكم، فتحلحلوا لهم عنها، وإّلا فأطلقوا عقالها، وخلّوا سبيلها، يبتدر إليها من شردتموهم في البلاد، وقتلتموهم في كلّ واد؛ وأما لئن ثبتت في أيديكم لاستيفاء المدة، وبلوغ الغاية، وعظم المحنة، إنّ لكلّ قائمٍ يوماً لا يعدوه، وكتاباً يتلوه " لا يغادر صغيرةً ولا كبيرةً إّلا أحصاها " " وسيعلم الذين ظلموا أيّ منقلبٍ ينقلبون ". هكذا وجدت بخطّ السيرافي، وما رأيت له إسناداً.
ولقد ملكني العجب بهذا الكلام، فإني ما سمعت أحسن موقعاً منه. والذي يزيد في التعجب قيام هذا الرجل إلى ذلك العفريت بهذا الكلام الذي ينفذ منفذ السهم ويعمل عمل السمّ، سبحان الله ما كان أبلّ ريقه، وأجلح وجهه، وأقوى منته، وأصدق نيّته، وأقتل مرّته؛ وما تكاد ترى مثل هذا في زمانك، أي والله ولا من دونه ولا من يحكي هذا القول بعينه. لقد خسّ حظّ الأديب، وخوى نجم الأدب، وانثلم ركن الدين، وخاس عهد(7/128)
المسلمين، وأصبح أهل زمانك أتباع مرغوب إليه ومرهوب منه.
ومن إنشادات إسحاق بن إبراهيم: الكامل
إنّا إليك مع الذّميل رمت بنا ... قلصٌ لها تحت الرّكاب عرام
يحملننا ومدائحاً من لؤلؤٍ ... لو كان من درٍّ يكون كلام
الصّمة القشيري: الطويل
ولمّا رأينا سبخة الرمل أعرضت ... ولاحت لنا حزوى وأعلامها الغبر
شربنا سجال الشوق حتى كأنما ... جرت فاستقرت في مفاصلنا الخمر
يظلّ لعينيك اللجوجين واكفٌ ... من الدّمع أّلا ينطق الطّلل القفر
علام تقول الهجر يشفي من الجوى ... ألا لا ولكن أوّل الكمد الهجر
أنشد: الطويل
ولمّا رأت هند أنابيب رأسه ... كأنّ بجبينها هشيم حماط
بكت عين هندٍ عن بياضٍ وتحته ... رياطٌ من الأحساب أيّ رياط(7/129)
شاعر: البسيط
ما كان في الأرض إّلا اثنان قد علما ... معنٌ وذو هيدب دانٍ له درر
يحيي البهائم هذا وهي راتعةٌ ... وكان معنٌ حياً للجود ينتظر
فأضحت الأرض قد ولّت غضارتها ... فليس جودٌ ولا معنٌ ولا مطر
انشد: الطويل
وقد كنت أرجو منكم خير ناصرٍ ... على حين خذلان اليمين شمالها
فإن انتم لم تحفظوا لمودّتي ... ذماماً فكونوا لا عليها ولا لها
عشق مدنيٌّ امرأةً، وكان سميناً، فقالت له: تزعم انك تهواني وقد ذهبت طولاً وعرضاً، فقال: إنما سمنت من فرط الحبّ، لأني آكل ولا أشعر، وأشبع ولا أعلم.
يقال: كلّ شيءٍ إذا كثر رخص إّلا العقل، فإنه إذا كثر غلا(7/130)
هذا من جيد الكلام؛ هكذا كان بخط أبي سعيد فنقلته على هيئته.
أنشد: الكامل
ناهضت بالحسن عمران الندى ... فتنبّهت لرجائه آمالي
سكناته عدةٌ وفي نطقاته ... تفريق جمع خزائن الأموال
وإذا استجرت أجار عدمك ماله ... من صولة الحدثان والإقلال
وجه الواثق رجلاً إلى رجلٍ يعرف مقدار عقله، فمضى وعاد، فسأله عنه فقال: يا أمير المؤمنين، دخلت على رجلٍ في حصنٍ من عقله.
قال موبذ: مات بعض الأكاسرة، فوجدوا له سفطاً، ففتح فإذا فيه حبّة رمّانٍ كأكبر ما يكون من النّوى، ومعها رقعةٌ فيها مكتوب: هذا حبّ زمّنٍ عمل في خراجه بالعدل.
تعزّ عن الشيء إذا منعته لقلّة ما يصحبك إذا أعطيته، وما خفّف الحساب وقلله خيرٌ مما كثّره وثقّله.
قال زياد لابنه: عليك بالحجاب، فإنّما تجرّأت الرّعاة على السّباع بكثرة نظرها إليها؛ وهذا يخالف ما روي عن سعيد بن المسيّب أنه قال: نعم الرجل عمر بن عبد العزيز لولا حجابه، إن داود ابتلي بالخطإ لحجابه.(7/131)
في قوله: " فاصفح الصّفح الجميل "، قال: الرّضا بلا عتاب، وفي قوله: " فاصبر صبراً جميلاً "، وقال: صبراً لا شكوى معه.
حجّ أبو دلف القاسم بن عيسى، فامتدحه شاعر فقال: أحسنت، فقال الرجل: إن القاضي إذا أسجل عجّل، فقال أبو دلف: إيت الكرج فقال: أخاف العرج؛ فأمر له بخمسين ألف درهم.
" لينذر من كان حياً " قال: من كان عاقلاً.
بعضهم: الدنيا تضرّ بمقدار ما نفعت، وتفجع بمقدار ما متّعت، وتغصّ بمقدار ما أساغت، وتسيء بمقدار ما أحسنت.
قال جعفر بن محمد الصادق عليهما السّلام: المستدين تاجر الله في أرضه.
خالد الكاتب: المتقارب
مثالٌ من المسك والعنبر ... سباني بطرفٍ له أحور(7/132)
وكم ذقت من ريقه خمرةً ... جرت بين سمطين من جوهر
سمع يحيى بن معاذ الرازي يقول: لولا ثلاث تثقل المؤمن لهام سروراً؛ قيل له: وما هي؟ قال: ألم المصائب، وتذكّره الذنوب، وشغله بطلب المعاش.
ومن كلامه: الحكمة عروس العلم.
يحيى بن معاذ: عامل الله بالإخلاص، والناس بالمداراة، والنفس بالزّراية عليها.
قال عمر بن الخطاب: إذا رأيناكم كان أحسنكم جهرةً أقربكم من قلوبنا، فإذا كلّمناكم كان أحسنكم بياناً أزلفكم عندنا، وإذا خبرناكم كانت الخبرة من وراء ذلك.
قال عبد الملك بن عمير - وأومأ بيده إلى قصر الإمارة بالكوفة -: دخلت هذا القصر فرأيت عجباً؛ رأيت عبيد الله بن زياد جالساً على سريره وبين يديه ترسٌ فيه رأس الحسين بن علي عليهما السلام ولعن قاتلهما،(7/133)
ثم دخلت هذا القصر فرأيت المختار جالساً على السّرير وبين يديه ترسٌ فيه رأس عبيد الله بن زياد، ثم دخلت هذا القصر فرأيت مصعب بن الزبير بن العوّام وهو جالسّ على السّرير وبي يديه ترسّ فيه رأس المختار، ثم دخلت القصر فرأيت عبد الملك بن مروان جالساً على السرير وبين يديه ترسٌ فيه رأس مصعب.
هكذا وجدت بخطّ السيّرافي، والخبر مشهور، إلا أنني أنست بخطّه.
قال جعفر بن محمد عليهما السّلام: كان أبي لا يتّخذ السّلاح في بيته ويقول: قال رسول الله صلّى الله عليه وآله وسلّم: " من اتخذ شيئاً احتاج إليه، وأنا لا أحبّ أن أحتاج إلى السّلاح ".
حثّ رجلٌ رجلاً على الأكل من الطعّام فقال: عليك تقريب الطعام، وعلينا تأديب الأجسام.
لمّا أتي الحجّاج بكميل بن زيادٍ وابن ضابئ قال لبعض الحرس: اضرب عنقه، فقال الحرسي: ولي أجره؟ فغضب الحجّاج وقال:(7/134)
إذا قلنا إن الله تعالى ساق إلينا أجراً نتفرّد به سألنا أحدهم أن يشركنا فيه؛ اضرب عنقه، ولك ثلث أجره ولي ثلثاه.
قيل لابن الدكين: ما الدليل على أنّ المشتري سعدٌ؟ قال: حسنه.
مات الهادي وولي الرشيد وولد المأمون في ليلةٍ واحدة.
كان مسلم اليتيم جميلاً فقيل له: ما منعك من مراسلة النساء الحسان مع جمالك ورغبتهنّ في أمثالك، فقال: عفةٌ طباعية، وغيرةٌ إسلامية، وكرمٌ موروث، ومعرفةٌ بقبح العار.
وجّه أبو مسلم قحطبة بن شبيب الطائي يحارب يزيد بن عمر ابن هبيرة - وكان عامل مروان على العراقين - فغرق قحطبة وانهزم يزيد بن عمر، فكتب إلى مروان بالخبر، فقال مروان: هذا والله الإدبار، وإلا فهل(7/135)
سمعتم بميتٍ هزم حياً؟! كانت حربهما فيما أظنّ بالفلج، كذا كان بخطّ السّيرافي.
قام رجلٌ لبعض الولاة فقال له: لم قمت؟ قال: لأجلس فوّلاه.
شاعر: المتقارب
هم القوم إن نابهم حادثٌ ... من الدّهر في شدّةٍ يصبروا
وإن نعمةٌ مسّهم بردها ... مشوا قاصدين ولم يبطروا
خضارمةٌ عسرهم كالغنى ... وهم كالرّبيع إذا أيسروا
سعى للمكارم آباؤهم ... وكانوا بينهم فما قصّروا
آخر: الطويل
تودّعني والدّمع يجري كأنّه ... لآل وهت من سلكها تتحدّر
وتسألني هل أنت بي متبدّلٌ ... فقلت: نعم سقماً إلى يوم أحشر
فقالت: تصبّر لا تمت بي صبابةً ... فقلت لها: هيهات مات التصبّر(7/136)
قيل لعبد الملك بن مروان: متى ولدت؟ قال عند معترك المنايا، يريد: أيام الشّورى.
قال أنس بن مالك: كنت عند الحسين عليه السلام، فدخلت عليه جاريةٌ بيدها ريحانٌ فحيّته بها فقال بها: أنت حرّةٌ لوجه الله فقلت له: تحييك جارية بطاقة ريحان لا خطر لها فتعتقها؟ فقال: كذا أدّبنا الله تعالى قال الله عزّ وجلّ " وإذا حييتم بتحيةٍ فحيّوا بأحسن منها أو ردّوها " وكان أحسن منها عتقها.
وقّع هارون إلى عامله بالكوفة: حاب علية الناس في كلامهم، وسوّ بينهم وبين السّفلة في أحكامك.
قدم بريدٌ من الشام على عمر بن عبد العزيز فقال له عمر: كيف تركت الشام؟ فقال: تركت ظالمهم مقهوراً، ومظلومهم منصوراً، وغنيّهم موفوراً، وفقيرهم محبورا؛ فقال عم: الله أكبر، والله لو كانت لا تتمّ خصلةٌ من هذه إّلا بفقد عضوٍ من أعضائي لكان ذلك عليّ يسيراً.
شاعر: البسيط(7/137)
لا تعرف الناس أعلاهم وأسفلهم ... وإن ظننت بهم خيراً وإن ظرفوا
حتّى تكلّفهم عند امتحانهم ... في الجاه والمال حاجات فينكشفوا
قيل لعمارة بن عقيل: ما أجود الشعر؟ قال: ما كان كثير العيون، أملس المتون، لا يمجّه السّمع، ولا يستأذن على القلب.
في قول الله تعالى " إن قارون كان من قوم موسى فبغى عليهم " قال: زاد في طول الثياب شبراً.
قال بعض الحكماء: يحسن الامتنان إذا وقع الكفران، ولولا أنّ بني إسرائيل كفروا النّعمة ما قال الله تعالى " اذكروا نعمتي التي أنعمت عليكم ".
قال الحجّاج على المنبر: يقول سليمان " ربّ اغفر لي وهب لي ملكاً لا ينبغي لأحدٍ من بعدي " إن كان لحسوداً.
دخل على المهديّ وفدٌ من خراسان، فقام إليه رجلٌ من أهل سمرقند فقال: أطال الله بقاء الأمير أمير المؤمنين، إنّا قومٌ نأينا عن العرب، وشغلتنا الحروب عن الخطب، وأمير المؤمنين يعرف طاعتنا، وما فيه(7/138)
مصلحتنا، فيكتفي منا باليسير من الكثير، ويقتصر على ما في الضّمير دون التفسير، فقال له المهدي: أنت أخطب من سمعت.
يقال: من كانت فيه لله حاجةٌ لم تزل له إلى الله حاجة - هكذا كانت هذه اللفظة بخطّ السّيرافي ونقلتها كما وجدتها، وأنا أستجفي ما دونها، والمغزى فيها صحيح، وإن كانت العبارة نابيةً، ولولا أنّي وجدتها بخطّ هذا الرجل ما تجوّزت روايتها. على أنّ الله تعالى يتعالى عن جميع ما حوته الضّمائر، وصاغته الأوهام، وعنته الألسن، ونحته الإشارات، فليس يلحقه نقص الناقصين، ولا يكمل بكمال الكاملين.
قال عبد الملك بن مروان لزفر بن الحارث: ما ظنّك بي؟ قال: أنّك تقتلني، فقال: قد أكذب الله ظنّك، وقد عفوت عنك.
قال الحسن: من كانت الدنيا عنده وديعةً أدّاها إلى من ائتمنه عليها ثم راح إلى ربه مخفًّا؛ ما لي أراكم أخصب شيءٍ ألسنة وأجدبه قلوباً؟ قال عمر بن الخطاب: ليت شعري متى أشفي غيظي؛ أحين أقدر فيقال هلاّ غفرت، أم حين أعجز فيقال هلا صبرت!!(7/139)
قال عبيد الله بن يحيى لأبي العيناء: كيف الحال؟ قال: أنت الحال، فانظر كيف أنت لي؛ فأحسن صلته.
وأنشد: المنسرح
يا بدر ليلٍ توسّط الفلكا ... ذكرك في القلب حيثما سلكا
إن تك عن ناظري نأيت فقد ... تركت عقلي عليك مشتركا
أسلمت عيّني للسّهاد كما ... أسلم جفني عليك ما ملكا
ما كنت أرجو السّلوّ من سنن ال ... دّمعة إلا لشانئ فبكى
ولا بدا لي شيءٌ سررت به ... بعدك إلا نظرت لي ولكا
الخليل: الطويل
ألا أيها المهديّ غير مدافعٍ ... رجاؤك خيرٌ من عطاء سواكا
ففعلك موصولٌ بقولك كلّه ... وأطيب ما سمع العباد ثناكا
العرب تقول: الغنى طويل الذيل ميّاس.
ذكر عند سلام بن أبي مطيع الرجل تصيبه البلوى فتبطئ عنه الإجابة فقال: بلغني أن الله عزّ وجلّ يقول: كيف أرحمه من شيء به أرحمه؟(7/140)
شاعر: الكامل
إنّي لأدّرع الفلاة وما أرى ... شبحاً فيسنح ذكرها بحيالها
فأنص راحلتي بها وأهزها ... بعد اتصال كلالها بكلالها
وكأنّني والعيس تدّرع الفلا ... مصغٍ بأذنٍ لاستماع مقالها
فكأنّ طرفي حيث كنت وإن نأت ... دارٍ بها متعلّقٌ بمثالها
قال أمير المؤمنين عليّ عليه السلام: قيمة كلّ امرئٍ ما يحسنه.
كتب الحجّاج إلى عبد الملك كتاباً يقول فيه: كنت أقرأ في المصحف فانتهيت إلى قوله تعالى " فأولئك مع الذين أنعم الله عليهم من النّبيّين والصّدّقين والشّهداء " فأردت ألحق به: والخلفاء قال: فجعل عبد الملك يقول: يا للحجاج ما أكفره وأجسره قاتله الله! قال إياس: كان لي أخٌ صغيرٌ فقال لي: من أي ّ شيء خلقنا؟(7/141)
قلت: من طين، فتناول مدرةً فقال: من هذا؟ قلت: نعم منها خلق الله تعالى آدم، قال: أفيعيدنا الذي خلقنا كما كنّا؟ قلت: نعم، قال: لم؟ قلت: ليجزي الذين أساءوا بما عملوا ويجزي الذين أحسنوا بالحسنى، قال: فينبغي أن نخافه إذن؟ قلت، أجل، فمات وهو صغير.
شاعر: الطويل
أناقش من ناجاك مقدار لحظةٍ ... ويعتاد نفسي إن نأيت حنينها
وإنّ وجوهاً يصطبحن بنظرةٍ ... إليك لمحسودٌ عليك عيونها
قال عليّ بن أبي طالب عليه السلام: أتفترّ عن واضحة، وقد كسبت الذنوب الفاضحة؟ شاعر: البسيط
موفقٌ لسبيل الرّشد متّبعٌ ... يزينه كلّ ما يأتي ويجتنب
له خلائقٌ بيضٌ لا يغيّرها ... صرف الزمان كما لا يصدأ الذّهب
قال أمير المؤمنين عليه السلام: توقّ من إذا حدّثك كذبك،(7/142)
وإذا حدّثته كذّبك، وإذا ائتمنته خانك، وإذا ائتمنك اتهمك.
قطع على قومٍ بالبادية فكتب الحجاج إلى بني عمرو بن حنظلة: من الحجّاج بن يوسف إلى من بلغه كتابه: أمّا بعد، فإنكم أقوامٌ قد استحكمتم على هذه الفتنة، فلا على حقٍّ تقيمون، ولا على باطلٍ تمسكون، وإني أقسم بالله تعالى لتأتينّكم مني خيلٌ تدع أبناءكم يتامى ونساءكم أيامى، ألا وأيّما رفقةٍ مرّت بأهل ماءٍ فأهله ضامنون لها حتى تأتي الماء الآخر والسلام. فكانت الرفقة إذا وردت أهل الماء أخذوها حتى يؤدّوها إلى الماء الآخر.
نازع عبد الملك بن مروان عبد الرحمن بن خالد بن الوليد فأربى عليه فقيل له: اشكه إلى عمّك معاوية لينتقم لك منه، فقال: مثلي لا يشكو، ولا يعدّ انتقام غيري لي انتقاماً. فلما استخلف قيل له في ذلك فقال: حقد السلطان عجزٌ.
قال بعضهم: من طالت لحيته تكوسج عقله.(7/143)
قال أبو الدرداء: بئس المعين على الدّين، قلبٌ نخيب وبطن رغيب.
مما يستدلّ به على شرف الرجل أّلا يزال يحنّ إلى أوطانه، ويصبو إلى إخوانه، ويبكي على ما مضى من زمانه.
كتب رجلٌ إلى أخيه: أنا وإن كنت مستبطئاً لنفسي في مكاتبتك ومواصلتك فإنّي غير مستبطئ لها في العلم بفضلك والتوفّر على إخائك.
قال الأحنف: إنّ الرجل يعذر أّلا يصيب الحقّ، ولا يعذر إذا سمع الصواب أن لا يعرفه.
قال بعض الزّهّاد: أعداء الإنسان ثلاثة: نفسه في دينه، ودنياه، وشيطانه؛ فالاحتراس من النفس بقطع الشّهوة، ومن الشيطان بتعمّد المخالفة، ومن الدّنيا بالزّهد فيها.
شاعر: الكامل
يعطي على الغضب المشدّد والرّضى ... وعلى التّهلّل والعبوس الأربد
كالغيث يسقي العالمين بأبيضٍ ... من غيمه وبأحمرٍ وبأسود
آخر: مجزوء الوافر
له خلقان لم يدعا ... له مالاً ولا نشبا(7/144)
سخاءٌ ليس يملكه ... وحلمٌ يملك الغضبا
وحلمٌ لم يكن ذلاًّ ... وجودٌ لم يكن لعبا
قيل لصوفيّ: ما علامة حقيقة التعبّد؟ قال: أن يقبل إذا أعطي ويرضى إذا منع.
ومن كلام يحيى بن معاذ: الاقتصاد في العيش ضيعةٌ لم تتكلّف منها؛ تمتّع القلوب في الدنيا غفلتها عن الآخرة؛ الزهد حلوٌ مرّ، أما حلاوته فاسمه والمذاكرة به، وأما مرارته فمعالجته.
كان بالبصرة أهل بيت يلقّبون الناس على الوجه، فخطب إليهم رجلٌ وقال: أتزوج إليكم على شريطة، فقالوا: وما هي؟ قال: على أن لا تلقّبوني وتدعوني رأساً برأس، قالوا: فتلقبّك رأساً برأس، فعرف بذلك اللقب.
قوله تعالى " فإذا جاءت الطّامّة الكبرى " أي إذا دفع إلى مالك؛ وقوله تعالى " فبصرك اليوم حديدٌ " قال إلى عين الميزان.
يقال: من أصبح لا يحتاج إلى حضور باب سلطانٍ لحاجة، أو(7/145)
طبيب لضّر، أو صديقٍ لمسألة، فقد عظمت عنده النّعمة.
قيل لبعض أهل البيت صلوات الله عليهم: أيّما خيرٌ للإنسان: الموت أو الحياة؟ قال: الموت، قيل: وكيف ذاك؟ قال: لأنّ الله عزّ وجلّ قال " وما عند الله خيرٌ للأبرار " فإن كان برّاً فالموت خير له، وقال في الفجار " ليزدادوا إثماً " فلان لا يزداد إثماً خيرٌ له.
يقال: الحاجات تطلب بالرّجاء وتدرك بالقضاء.
من كلامهم: كلّ مكسوب مسلوب.
دخل حاتم الأصمّ على عاصم بن يوسف فقال: يا حاتم، أتحسن أن تصلي؟ قال: نعم، قال: وممن تعلّمت الصّلاة؟ قال: من شقيق، قال: فكيف تعمل؟ قال: إذا حان وقت الصلاة أتوضأ وأدخل المسجد وأقوم فأرى الخالق عزّ وجلّ فوقي، والصّراط تحت قدمي، والجنة عن يميني، والنار عن يساري، وملك الموت وراء ظهري، والكعبة قبلتي، ومقام إبراهيم في قلبي، ثم أكبّر تكبيراً بالخوف، وأقرأ قراءةً بالترتيل، وأركع ركوعاً بالتّمام،(7/146)
وأسجد سجوداً بالتّواضع، وأتشهّد تشهّداً بالرّجاء، وأسلّم بالرحمة؛ فبكى عاصم وقال: يا حاتم، لم أصلّ هذه الصلاة منذ ثلاثين سنةً على هذه الطريقة.
قال رجل لإبراهيم بن أدهم: عظني، قال: يكفيك من التوسّل إليه صدق التوكّل عليه.
قال المدائني: أوّل من قطع ألسن الناس عن الخطبة عبد الملك: خطب الناس فقام إليه رجل فقال عبد الملك: والله ما أنا بالخليفة المستضعف ولا الإمام المصانع، وإنكم تأمرونا بأشياء تنسونها من أنفسكم؛ والله لا يأمرني أحد بعد مقامي هذا بتقوى الله إّلا أوردته تلفه.
لما تولّع زياد بشيعة أمير المؤمنين عليه السلام، قال الحسن: اللهم تفرّد بموته فإن القتل كفّأرة.(7/147)
وقال يحيى بن أبي كثير في قول الله عزّ وجلّ " في روضةٍ يحبرون " قال: السمّاع.
قال ابن السمّاك: وجدت الدنيا كحلم نائم، وبرقٍ لامع، وفيءٍ زائل.
ثعلب: الكامل
غيثان مكروهان: غيثٌ سحابةٍ ... يمحو الرّسوم من الحبيب الظاعن
أو غيث عينٍ أسبلت عبراتها ... تبدي مصوناً من سرير صائن
هذا خرابٌ للدّيار وهذه ... فيها خراب محاجرٍ ومحاسن
لما استخلف المهدي أخرج من في السجون من أصحاب الجرائم فقيل له: إنما تزري على أبيك، فقال: أنا لا أزري علىأبي، وإنما أبي حبس بالذّنب وأنا أعفو عنه.
ولي رجلٌ أصبهان، فدخل عليه الناس يثنون ويقرّظون، فدخل في أخريات الناس رجلٌ فقال: قدمت خير مقدم، إن تحسن تجد عندنا(7/148)
شكراً، أو تسئ تجد عندنا غفراً، والثناء من بعد البلاء، والتزكية بعد الاختبار، والشهادة بالإحسان تقع بعد الامتحان؛ فقال الوالي: ما هذا رجل؛ هذا بلد! شاعر: الطويل
وعاذوا عياذاً بالفرار وقبلها ... أضاعوا بدار السّلم حرزاً ومعقلا
بني عمّنا أيقظتم الشرّ بيننا ... وكانت إليكم عدوة الشرّ أعجلا
ولما أشبّوا الحقد تحت صدورهم ... حسمناه عنّا قبل أن يتكهّلا
قدم قومٌ من بني أميّة على عبد الملك بن مروان فقالوا: يا أمير المؤمنين، نحن من تعرف، وحقّنا لا ينكر، جئناك من بعد نمتّ بقرابةٍ، فمهما تعطنا من خير فنحن أهله منك، كما أنّك أهل الشكر منّا. قال: فتطاول عبد الملك وقال: يا أهل الشام، هؤلاء قومي وهذا كلامهم.
أوّل كلام الحسن البصري أنه صلّى بأصحابه يوماً ثم انفتل إليهم وأقبل عليهم وقال: " أيّها الناس، إني أعظكم وأنا كثير الإسراف على نفسي، غير مصلحٍ لها، ولا حامل لها على المكروه من طاعة ربّها، قد بلوت نفسي في(7/149)
السّرّاء، فلم أجد لها تكبير شكرٍ عند الرّخاء، ولا كبير صبر عند البلاء، ولو أنّ الرجل لم يعظ أخاه حتى يحكم أمر نفسه، ويكمل في الذي خلق له من طاعة ربّه، لقلّ الواعظون السامعون الدّاعون إلى الله بالحثّ على طاعته؛ ولكن في اجتماع الإخوان واستماع الحديث بعضهم من بعض حياةٌ للقلوب، وتذكيرٌ من النسيان. أيها الناس، إنما الدنيا دار من لا دار له، وبها يفرح من لا عقل له، فأنزلوها منزلتها "؛ ثم أمسك.
كان من دعاء أمير المؤمنين عليه السّلام: اللهمّ لا تجعل الدنيا لي سجناً، ولا فراقها عليّ حزناً، أعوذ بك من دنيا تحرمني خير الآخرة، ومن أملٍ يحرمني خير العمل، ومن حياةٍ تحرمني خير الممات.
قال الحسن في قوله تعالى " وما نرسل بالآيات إّلا تخويفاً " قال: الموت الذّريع.
وقال رجلٌ لسليمان الشاذكوني: أرانيك الله يا أبا أيوب على قضاء أصبهان، فقال له سليمان: إن كان ولا بدّ فعلى خراجها، فإنّ أخذ أموال(7/150)
الأغنياء أسهل من أكل أموال الأيتام.
سمع أبو سليمان الداراني يقول: إلهي وسيدي، إن طالبتني بشرّي طالبتك بتوحيدي، وإن طالبتني بذنوبي طالبتك بكرمك، وإن حبستني في النار أخبرت أهلها بمحبتي لك.
استأذن عبد الله بن عمر على الحجّاج ليلاً، فقال الحجّاج: إحدى حمقات أبي عبد الرحمن، فدخل، فلما وصل إليه قال له الحجّاج: ما جاء بك؟ قال: ذكرت قول رسول الله صلّى الله عليه وآله وسلّم: " من مات ولم يبايع إمام عصره وزمانه مات ميتةً جاهليةً "، فقال له: أتتخلّف عن بيعة عليّ بن أبي طالب وتبايع عبد الملك؟ بايع رجلي فإنّ يدي عنك مشغولة، ومدٌ إليه رجله.
أتي المنصور برأس بشير الرحال، وكان خرج مع محمد بن(7/151)
عبد الله، فقال له: رحمك الله، لقد كنت أسمع لصدرك همهمةً لا يسكنها إلا برد عدلٍ، أو حرّ سنان.
أوصى أبو بكر خالد بن الوليد لما وجّهه إلى بعض غزواته فقال له: استكثر من الزاد، واستظهر بالأدلاّء، وإذا جاءتك رسل أعداءك فامنع الناس من محادثتهم حتى يخرجوا جاهلين، وأقلل الكلام، فإنما لك ما وعي عنك، وكن بعيداً من الحملة، فإنني لا آمن عليك من الجولة، ولا تقاتلنّ على جزعٍ فإنّه فاتٌّ بعضدك.
قال رجلٌ لخالد بن صفوان: علّمني كيف أسلّم على الإخوان، قال: لا تبلغ بهم النّفاق، ولا تقصّر بهم عن الاستحقاق.
دخل صبيٌّ مع أبيه الحمّام فعاد إلى أمه فقال: يا أمّي، ما(7/152)
رأيت أصغر زبّاً من أبي، فقالت: في أيّ شيءٍ كان لأمك بختٌ حتى يكون لها في هذا؟ قال عبد الحميد: إن الله عزّ وجلّ يعطي الكثير من الخير باليسير من العمل، ويعفو عن العظيم من الذّنب بالصغير من الطّلب، ويجزي الذين أحسنوا بالحسنى.
من دعاء العرب: فتّه الله فتاً، وحتّه حتّا، وجعل أمره شتّى ووصف مدينيّ لرجلٍ مغنيةً بحسن المسموع فقال: والله لو سمعتها ما أدركت ذكاتك.
قيل لأبي الأسود عند الموت: أبشر بالمغفرة، قال: وأين الحياء مما كانت له المغفرة؟ أبو الشيّص: البسيط
يا من تمنّى على الدّنيا منىً شططا ... هلاّ سألت أبا بشرٍ فتعطاها(7/153)
إذا أخذت بحبلٍ من حبائله ... دانت لك الأرض أدناها وأقصاها
ما هبّت الريح إّلا هبّ نائله ... ولا ارتقى غايةً إّلا تخطّاها
قيل لزياد النّميري: ما منتهى الخوف؟ قال: إجلال الله تعالى عن مقام السؤال؛ قيل: فما منتهى الرجاء؟ قال: تأميل الله تعالى على كل حال.
وصف أعرابي قوماً فقال: يقتحمون الحرب حتى كأنّما يلقونها بأنفس أعدائهم.
دخل الأوزاعي على المهدي فوعظه وذكّره، فقال له: يا أمير المؤمنين، إن الله تعالى أعطاك فضل الدنيا وكفاك طلبها، فاطلب فضيلة الآخرة فقد فرّغك لها؛ فاستحسن قوله.
قال يزيد بن المهلّب: دخلت الحمّام مع سليمان بن عبد الملك ومعنا عمر بن عبد العزيز، فقال لي عمر: إني محدّثك حديثين: أحدهما سرّ والآخر علانية؛ أما العلانية فإن هذا سيولّيك العراق، فاتق الله، وأما السرّ فإني كنت فيمن دلّى الوليد بن عبد الملك في حفرته، فلما صار في أيدينا اضطراب في أكفانه فقال ابنه: عاش أبي وربّ الكعبة، فقلت: كلاّ، ولكن عوجل أبوك وربّ الكعبة.(7/154)
كان جوثة الضمري صديقاً لعبد الملك بن مروان وخرج مع ابن الزبير، فلما قتل ابن الزبير استأمن الناس وأحضر جوثة، فقال له عبد الملك: كنت مني بحيث علمت فأعنت ابن الزبير، فقال: لا تعجلنّ حتى تسمع عذري، قال: هاته، قال: هل رأيتني في حربٍ أو سباقٍ أو نضالٍ إّلا والفئة التي أنا معها مهزومةٌ بحرفي؟ وإنما خرجت مع ابن الزبير لتقتله على رسمي فضحك عبد الملك وقال: والله كذبت، ولكن عفوت عنك.
احتاجت امراةٌ العزيز إلى يوسف تسأله، فلما رأته عليه السلام عرفته فقالت: الحمد لله الذي جعل العبيد بطاعتهم ملوكاً، والملوك بمعصيتهم عبيداً.
قال كسرى لشيرين: ما أحسن هذا الملك لو دام لنا، فقالت له: لو دام ما انتقل إلينا.(7/155)
قيل لفيلسوف: ما بال الحسود أشدّ الناس غمّاً؟ قال: لأنّه أخذ بنصيبه من غموم الدنيا ويضاف إلى ذلك غمّه لسرور الناس.
من دعاء يحيى بن معاذ: اللهم إن كان ذنبي أخافني فإنّ حسن ظنّي بك قد أجارني؛ اللهم إنّي قد جعلت الاعتراف بالذّنب وسيلةً لي إليك، واستظللت بتوكّلي عليك، فإن غفرت فمن أولى بذلك منك، وإن عاقبت فمن أعدل في الحكم منك؟ اللهم إني لا أيأس من نظرك ورحمتك بعد مماتي، ولم تولني غير الجميل في حياتي، تتابع إحسانك إليّ يدلّني على تفضلك عليّ، فكيف يشقى من أسلفته جميل النظر؟ اللهم إن نظرت إليّ بالهلكة عيون سخطك فلم تغفل عن استنقاذي منها عيون كرمك؛ اللهمّ إن كنت غير مستأهلٍ لكرمك ومعروفك فكن أهلاً للتطّول، فإنّ الكريم ليس يضيع جميع مستحقيه إلهي سترت علي في الدنيا ذنوباً أنا إلى سترها يوم القيامة أحوج، وقد أحسنت بي إذ لم تظهرها لعصابةٍ من المسلمين، فلا تفضحني في ذلك اليوم على رؤوس العالمين، يا أرحم الراحمين؛ إلهي إن كان ذنبي عرّضني لعقابك، فقد رجوت الدنوّ برجائي من ثوابك، لولا ما اقترفته من الذنوب ما خفت من العقاب، ولولا ما عرفت من الكرم ما رجوت الثّواب؛ إلهي لو عرفت اعتذاراً من الذنب أبلغ من التنصّل والاعتراف به لأتيته، ولو عرفت(7/156)
شفيعاً لحاجتي ألطف من الاستخذاء لك عملته، فهب لي ذنبي بالاعتراف ولا تسوّد وجهي عند الانصراف؛ إلهي إن كنت لا ترحم إّلا أهل طاعتك فإلى من يفزع المذنبون، وإن كنت لا تكرّم إّلا أهل خدمتك فبمن يستغيث المسيئون؟ اجعلني عبداً: إمّا طائعاً فأكرمت، وإما عاصياً فرحمت.
هذا آخر ما نقلته من خطّ السّيرافي، ولم أضف إليه شيئاً من مواضع أخر، وحكيت خطّه وشكله، وأعود الآن إلى الطريقة الأولى في اعتراض ما يجري حسب ما ينتظم المعنى فيه. على أني شديد المراعاة لقلبك في جميع ما جمعته وقلته، أنفاً واستحياءً وإعظاماً وإكراماً.
قيل لبقراط: صف لنا الدنيا، فقال: أوّلها فوت، وآخرها موت.
قال بزرجمهر: كن شديداً بعد رفقٍ لا رفيقاً بعد شدةّ، لأنّ الشدّة بعد الرفق عزٌ، والرفق بعد الشدّة ذلٌّ.
كتب عمر بن الخطاب إلى معاوية: أما بعد، فإنّي كتبت إليك كتاباً في القضاء لمآلك ونفسي فيه خيراً؛ الزم خمس خصالٍ يسلم لك دينك وتأخذ فيها بأقصى حظّك: إذا تقدّم إليك خصمان فعليك بالبيّنة العادلة أو اليمين القاطعة، وأدن الضعيف حتى يشتدّ قلبه وينبسط لسانه، وتعهّد الغريب فإنك(7/157)
إن لم تتعهده ترك حقّه ورجع إلى أهله، وإنما ضيّع حقّه من لم يرفق به، وآس بينهم في لفظك وطرفك، وعليك بالصّلح ما لم يستبن لك فصل القضاء وإياك والقضاء بين اثنين وأنت غضبان.
خطب بلال بن أبي بردة فعرف أنّ الناس قد استحسنوا كلامه فقال: لا يمنعكم ما تعلمون فينا أن تقبلوا أحسن ما تسمعون منّا.
وعظ عيسى عليه السلام بني إسرائيل فبكوا وأقبلوا يمزّقون الثياب، فقال: ما ذنب الثياب؟ أقبلوا على القلوب فعاتبوها.
كان رجلٌ من أهل حمص شديد الخلاف جدّاً فقيل له يوماً اجلس فقال: لا أجلس، فقيل له: قم، فقال: لا أقوم، قيل: فما تصنع؟ قال: وما لا أصنع؟! قال رجل لمزبّد: أماتك الله! قال: آمين، بعدك بألف سنة! قال أبان عن أنس، قال رسول الله صلّى الله عليه وآله وسلّم: "(7/158)
الشّؤم في أربع: في الدار والدابّة والسيف والمرأة؛ قالوا: يا رسول الله، وما شؤم المرأة؟ قال: تكون غالية المهر سيّئة الخلق لا تلد؛ قالوا: فما شؤم الدار؟ قال: تكون ضيّقةً على أهلها لها جيران سوء؛ قيل: فما شؤم الدابة؟ قال: تكون حروناً عند القتال في سبيل الله عزّ وجلّ؛ قالوا: فما شؤم السيف؟ قال: كل سيف مطبوع يسلّه صاحبه في غير سبيل الله عزّ وجلّ فهو شؤم عليه ".
قال أبو العيناء: قلت لرقيعً كان في جواري وهو يأكل قشور الموز: ويحك أيش هذا؟ هذا مما يؤكل؟ فقال: هو على كل حال أطيب من الهندبا.
بعثت الزرجونة مع غندر غلامها بقارورة فيها ماؤها إلى الطبيب، فقال الطبيب لغندر: أيّ شيء طبعها؟ قال: قحبة، قال: ويحك عن طبيعتها سألت، قال: خرا يا بغيض، قال: رقيق غليظ أي شيء هو؟ قال: خرا البنت يعرف لا ينكر.
جاء مزبّد إلى بئرٍ ليستقي منها فوجد الحبل كثير العقد فقال: ليس(7/159)
هذا حبل، هذا سبحة العجوز؛ هكذا قال، ومتى أعربت برد اللفظ وخالف المحكيّ، والغرض غير ما قيل على ما قيل، ومتى حرّف زال عن الاستطراف، إلا أن يكون البيان عن عربيٍّ فصيح اللهجة أو أعرابي بيّن اللسان، فإن ذاك متى تحّرف أيضاً فسد.
حدثني بعض أصحابنا قال: رأيت جاريةً سوداء في درب الزعفراني - وكانت جسيمةً ضخمة - فقلت لصاحب لي: ما في الدنيا أضرط من سوداء، فقالت: من جانبٍ في لحيتك.
قال أبو العيناء: سمعت جاراً لي أحمق وهو يقول لجار له: والله لهممت أن أوكّل بك من يصفع رقبتك ويخرج هذا الجنون من أقصى حجر بخراسان.
قيل لبعض ولد أبي لهب: العن معاوية، قال: ما أشغلني ب تبّت.
أمر المتوكّل ببدرةٍ فوضعت في أقصى الدار، ودعا بعّبادة(7/160)
وبالزرجونة فقال لهما: من عدا إلى تلك البدرة وسبق وأخذها فهي له، فتعاديا جميعاً فسبقته الزرجونة فأخذت البدرة، فقال المتوكل: ويلك تسبقك امرأة؟ فقال: يا سيّدي هذه تعدو ببدادين وأنا أعدو بخرجين، وبيننا كثير.
قال أبو العيناء: بينا أنا في طريق مكّة في يومٍ حارٍّ إذا شيخٌ قد لجأ إلى ميلٍ وعليه شملةٌ خلقة، فقلت له: ممّن الرجل؟ فقال: من هذه القفرة، فقلت: فمن أين معاشكم؟ قال: منكم معاشر الحجّاج، قلت: نحن نأتيكم في السنة ثلاثة أسهر فالباقي من أين؟ فقال: إنّ الله عزّ وجلّ رزقنا من حيث لا ندري أكثر مما رزقنا من حيث ندري؛ قلت: هل لك في أرض الرّيف والخصب، أرض العراق أو الشام؟ قال: لولا أن الله تعالى أرضى بعض العباد بشرّ البلاد، ما وسع خير البلاد جميع العباد.
قال أبو العيناء في كلامٍ له: كان أبي يحبّني، فقال ابن مكرّم: كان أبوك يحب الخرا قال: فلو رآك إذاً للطعك.(7/161)
قال رجلٌ لآخر في الحمّام: أيش تعمل ها هنا؟ قال: أسوّي لأمّك مهزّة.
لما مات عروة بن الورد قالت سلمى: يا عروة ما كان أكلك باجتحاف، ولا شربك باشتفاف، ولا لبستك بالتفاف، ولا نومك بالتحاف، وال كنت تشبع ليلة الأضياف، ولا تنام ليلةً تخاف.
فصلٌ لكاتب: وصل إليّ كتابك لا عدمتك إّلا برؤيته.
قال أعرابيٌّ لآخر في كلامٍ له: أتجلب التّمر إلى هجر؟ قال: نعم إذا أجدبت أرضها وجف نخلها.
شاعر: الطويل
تركت لك القصوى لتدرك فضلها ... وقلت لهم بيني وبين أخي فرق(7/162)
ولم يك بي عنها نكولٌ وإنّما ... تغاضيت عن حقّي فتمّ لك الحقّ
ولا بدّ لي من أن أكون مصلّياً ... إذا كنت أرضى أن يكون لك السّبق
قال أبو العيناء، قال الأصمعي: قلت لأعرابي: أين منزلك؟ قال: من وراء اليمن بطالعين، يريد بشهرين.
غزا قاصٌّ فقيل له: أتحبّ الشهادة؟ فقال: أي والذي أسأله أن يردّني إليكم.
عرضت على مديني جاريةٌ فقال: ما أدقّ رأسها! فقالت: تريد أن تبني على رأسي غرفة.
دخل أبو العيناء على ابن مكرّم فقال له: كيف أنت؟ فقال له أبو العيناء: كما تحبّ، فقال: فلم أنت منطلق كالحزنبل؟ شاعر: الطويل
ألا ربّ همٍّ يمنع النوم برحه ... أقام كقبض الراحتين على الجمر
بسطت له وجهي لأكبت حاسداً ... وأبديت عن نابٍ ضحوكٍ وعن ثغر(7/163)
وشوقٍ كأطراف الأسنّة في الحشا ... ملكت عليه طاعة الدمع أن يجري
دعا أعرابيٌّ فقال: اللهمّ ارزقني نفساً طيبة مطمئنة قانعةً بعطائك، راضيةً بقضائك، موقنةً بلقائك.
قال مساور بن هند لرجل: أتعرفني؟ قال: لا، قال: أنا المساور بن هند، قال: ما أعرفك، قال: فتعساً ونكساً لمن لا يعرف القمر.
قيل لصوفيّ: ما نصيبك من الحقّ؟ قال: نصيبي منه أنّي نصيبه وكفاني.
أبو العتاهية: المديد
اقطع الدنيا بما انقطعت ... وادفع الدنيا بما اندفعت
واقبل الدنيا إذا سلست ... واترك الدنيا إذا امتنعت
تطلب النفس الغنى أبداّ ... والغنى في النفس لو قنعت
كتب عليّ بن أبي طالب عليه السلام إلى سلمان الفارسي رضي(7/164)
الله عنه وهو بالمدائن: أما بعد، فإنّ مثل الدنيا مثل الحيّة ليّنٌ مسّها، قاتلٌ سمّها، فأعرض عما يعجبك منها، لقلّة ما يصحبك عند مفارقتها، وضع عنك همومها لما تؤمن به من سرعة فراقها، ولتكن أسرّ ما تكون بها أحذر ما تكون لها، فإنّ كلّ من اطمأنّ إليها وإلى سرورها أشخصته إلى مكروهها.
قيل لصوفّي: ما الفرق بينك وبينك؟ قال: الحقّ.
قال الجمّاز لقينةٍ: البسيط
ماذا تقولين فيمن شفّه حزنٌ ... من شدّة الحبّ حتى صار حرّانا
فقالت:
إذا رأينا محبًّا قد أضرّ به ... جهد الصّبابة أوليناه إحسانا
قال جعفر بن محمد عليهما السلام: ما افتقرت كفٌّ تختّمت بفيروزج، وتفسيره ظفر؛ هكذا قال أبو جعفر ابن بابويه، وما لحقت شيخاً(7/165)
أكبر منه ولا أطول باعاً في العلم، وما أدري كيف حقيقة هذا، وللرافضة أخبار كثيرة يروونها عن جعفر بن محمد عليه السلام لم يقلها قط، ولا محصول لها، ولا فائدة معها، ولا حقيقة لشيءٍ منها، وتى رددتها عليهم غضبوا وشنعوا وقالوا: أنت رديْ الدين ولهذا تردّ على الصادقين.
خرج المأمون يوماً إلى ندمائه ومعه رقعةٌ مكتوب فيها: يا موسى، فقال: هل تعرفون لها معنى. فقالوا: لا، فقال إسحاق بن إبراهيم الطاهري: يا أمير المؤمنين، هذا إنسان يحذّر إنساناً، أما سمعت الله تعالى يقول " يا موسى إنّ الملأ يأتمرون بك ليقتلوك فاخرج إنّي لك من النّاصحين " فقال المأمون: صدقت، هذه صرف جاريتي، كتبت إلى أختها متيّم جارية عليّ بن هشام أننا على قتله فحذرته؛ فما ردعه ذاك عن قتله.
روي أن جاراً كان يتراءى لعائشة، فأمرت بقتله، فرأت في المنام قائلاً يقول لها: قتلت رجلاً من مسلمي الجنّ، قالت: لو كان مسلماً اطّلع على نساء رسول الله صلّى الله عليه وسلّم، فقيل: إنما كان
يجيء(7/166)
فيستمع القرآن؛ فتصدقت باثني عشر ألف درهم.
قيل لداود بن رشيد: لم كره الناس أن يدخلوا بنسائهم في شوّال؟ قال: مات فيه بالطاعون الجارف تسع عشرة ألف عروس.
وصف أعرابيٌّ مطراً فقال: السماء واكفةٌ والأرض راشفةٌ.
لما عزم نوبخت على الإسلام كتب رقعتين، إحداهما " الدين والإسلام ومحمد وآله " وكتب في أخرى " المجوسية ومحبة الشمس " ودعا برجل من المسلمين فقال: ادفنهما حيث شئت، فدفنهما وخرج، ودخل نوبخت فأخذ الارتفاع، فوجد السعود كلها في ناحية المشرق فقال: الحق في المشرق، وأخرج الرقعة فإذا رقعة " الإسلام ومحمد وآله " وكان ذلك سبب تشيّعه.
قال ابن جدار المصري: قال لي أبو العمثيل شاعر بني طاهر النعمان اسمٌ من أسماء الدم، ولم يعن شقائق النعمان بن المنذر؛ قال أبو(7/167)
العمثيل: حدثت به الأصمعيّ وكتبه.
هذا غريب جداً، وليته وصله بشاهدٍ أو حديثٍ أو مثالٍ أو كتاب، فليس كلّ مرسلٍ مقبولاً ولا كلّ عارضٍ ثابتاً، ولولا الشاهد والمثل وقفت الرّواية وانتهى العلم وسقط التفاضل.
قال أعرابي: خير أموال الناس أشبههم بالناس، يعني النخل.
قال ثعلب: قول الناس " ماخور " لتردد الناس فيه، ومنه قول الله عزّ وجلّ " وترى الفلك مواخر فيه " قال اليزيدي: مخرت السفينة إذا شقّت الماء بجؤجؤها، والمواخر هي الشواقّ.
قال بعض العلماء: ما جيل من الأجيال ولا أمة من الأمم إّلا ولهم أمور قد اصطلحوا عليها وسنن قد ألفوها، يحمدون في بعضها ويذمّون، ولم يحو جيلٌ منها جميع المحمود، ولا احتازت أمةٌ منها جميع المذموم، ولكن تقاسموا المحامد والمذامّ تقاسماً بالجواهر والطبائع، وبالإكراه والاختيار، وبالدّواعي الظاهرة والأسباب الخافية. على ذلك تجد الهند والروم والفرس(7/168)
والعرب، وهؤلاء هم أرباب جميع الفضائل، والناس عليهم عيالٌ من بعد لأنهم الأركان والعمد والجراثيم والأصول، ومن عداهم تابعٌ لهم وآخذٌ منهم وسالكٌ سبيلاً من سبلهم. انظر إلى العرب مع فضلها وذكائها، ولسانها وبيانها، وسيفها وسنانها، وصبرها وعزائها، وسخائها وشجاعتها، ورأيها وبديهتها، وفكرها وغوصها، ومعرفتها التي هي خالص الجوهر وزبدة الطبيعة، لأنّ أمرهم في القديم جرى على هذه وبهذه الأسباب عرف، وذلك أنّ فساد الحاضرة ونفج المترفين ومحبّ الراحة ورعونة أصحاب النعم كانت بعيدةً عنهم، وكانوا في جميع متصرّفهم واختلاف أحوالهم لا يعرفون إّلا التساجل بالبيان والعقل، والتباهي بالصّواب والأدب، وكانوا في كلّ فصلٍ على أقصى حدوده وأعلى قلله، وعلى هذه الحال، فإذا فصلت أحوالهم وميّزت أمورهم أصبت أشياء هي في جانبٍ من العقل وعلى بعدٍ من الحقّ، مثل كيّهم السّليم من الإبل إذا أصابها العرّ ليذهب العرّ عن السّقيم؛ هذا زعمهم وعلمهم وعليه بصيرتهم وعملهم؛ وكشقّ الرجل برقع حبيبته وشقّ الحبيبة رداء حبيبها، وقولهم إنها متى لم تفعل هذا وهو متى لم يفعل ذاك عرض السيف بينهما(7/169)
واستحالت المحبة بغضاً، والاستحلاء مقتاً، والقبول رداً، وفيه قال عبد بني الحسحاس: الطويل
وكم قد شققنا من رداءٍ محبّرٍ ... ومن برقعٍ عن طفلةٍ غير عانس
إذا شقّ برد شقّ بالبرد برقع ... دواليك حتى كلّنا غير لابس
وكما علّقوا الحليّ على السليم رجاء إفاقته؛ قال النابغة: الطويل
يسهّد من بيت العشاء سليمها ... لحلي النساء في يديه قعاقع
وكما فقأوا عين الفحل إذا بلغت إبل أحدهم ألفاً، فإن زادت على الألف فقأوا العين الأخرى: يزعمون أن ذلك يدفع عنها العارة والعين.
وكما سقوا العاشق ماء السلوان؛ قال الأصمعي: هي خرزةٌ تحلّ بماءٍ ثم تسقى أصحاب الهوى؛ فزعموا أنه يسلو صاحب العشق بذلك. قال: ويقال سلا يسلو سلوًّا إذا ذهلت نفسه عنه؛ قال: ويقال: سلي يسلى سلوًّا، ويقال أيضاً: سلى يسلى سلياً، قال رؤبة: الرجز(7/170)
لو أشرب السلوان ما سليت ... ما بي غنىً عنك ولو غنيت
وكما أوقدوا خلف المسافر ناراً إذا كرهوا إيابه.
وكما ضرب الثور إذا امتنعت البقر من الماء.
وكما زعموا أنّ المقلات إذا وطئت رجلاً شريفاً مقتولاً عاش ولدها، والمقلات: التي لا يعيش لها ولد.
وكما زعموا أنّ الرجل إذا خدرت رجله فذكر أحبّ الناس إليه ذهب عنه الخدر.
وكما يحذف الصبيّ سنّه إذا سقطت في عين الشمس ويقول: أبدليني بها أحسن منها؛ ويزعمون أن الصبيّ متى لم يفعل هذا لم تنبت أسنانه إّلا عوجاً ولا تعلق.
وكما قالوا إن الفرس المهقوع - والهقعة دائرة تكون بالفرس - إذا ركبه رجلٌ فعرق الفرس اغتلمت امرأته وطمحت عينها إلى غير أبي مثواها، وقد قال رجلٌ من العرب: الطويل
إذا عرق المهقوع بالمرء أنعظت ... حليلته وازداد حرًّا عجانها
فأجابه آخر: الطويل
وقد يركب المهقوع من لست مثلةً ... وقد يركب المهقوع زوج حصان
وكما عقدوا السّلع والعشر في أذناب الثيران وأضرموا النار فيها وأصعدوها(7/171)
جبلاً وعراً يستسقون بذلك، ويدعون الله عزّ وجلّ، هذا إذا أمحل البلد وعزّ القطر.
وكما أن من ولد في القمر رجعت قلفته وكان كالمختون.
وكما عقدوا الرّتيمة بغصن الشجرة عند السّفر وتفقّدوها عند الإياب، فإذا وجدوها على حالها قضوا بأنّ الحليلة لم تخن، وإن وجدوها منحلّةً حكموا بفجورها.
وكما زعموا أن الداخل إلى بلد مخوف الوباء يجب أن يقف على أوائل البلد فينهق كما ينهق الحمار، ومتى فعل ذلك أمن وباءها.
وكما زعموا أن من علّق على نفسه كعب أرنبٍ لم تقربه الجنّ.
فأمّا ما كان مثل إمساكهم عن بكاء القتيل إلى أن يؤخذ بثأره، فالغرض فيه ظاهر، والعادة فيه مقبولة، وهذا الضّرب معروف السبب، صحيح العلّة، وليس من الأوّل في شيءٍ، لأنّ تلك دلّت على سفه(7/172)
الأحلام وعلى جهل الطباع وعلى فساد المعرفة.
وهكذا الفرس في كثيرٍ من أمورها وعاداتها وأخبارها ورواياتها.
ومتى حسنت غايتك بتصفّح أسرار العالم وأخلاق الأمم رأيت العجائب وعرفت الغرائب.
وللهند ما يربي على جميع الناس؛ وأقلّهم تخليطاً الروم، وذلك أيضاً لأسبابٍ؛ على أنهم ما خلوا ولا عروا.
شاعر: الكامل
يا من يؤمّل أن تكون خصاله ... كخصال عبد الله أنصت واسمع
فلأنصحنّك في المشورة والذي ... حجّ الحجيج إليه فاقبل أو دع
اصدق وعفّ وبرّ واصبر واحتمل ... واحلم ودار وكفّ واسمح واشجع
للخنساء ويقال لأبي المثلّم الهذلي: البسيط
لو أن للدهر مالاً كان متلده ... لكان للدهر صخرٌ مال قنيان(7/173)
آبي الهضيمة حمّال العظيمة مت ... لاف الكريمة لا سقطٌ ولا وان
حامي الحقيقة نسّال الوديقة مع ... تاق الوسيقة جلدٌ غير ثنيان
ربّاء مرقبةٍ منّاع مغلبة ... ورّاد مشربةٍ قطّاع أقران
شهّاد أنديةٍ حمّال ألويةٍ ... هبّاط أوديةٍ سرحان فتيان
التارك القرن مصفرّاً أنامله ... كأنّ في ريطتيه نضح أرقان
يعطيك ما لا تكاد النفس تبلغه ... من التّلاد وهوبٌ غير منّان
قيل لعاصم بن عيسى: بم سدت قومك؟ قال: ببذل النّدى، وكفّ الأذى، ونصرة المولى.
من كلام الأوّلين على وجه الدهر: إذا زللت فارجع، وإذا ندمت فأقلع، وإذا أسأت فاندم، وإذا منيت فاكتم، وإذا قريت فأفضل، وإذا منعت فأجمل.(7/174)
قيل لأبي هاشم الصوفي وقد جاء من ناحية النهر: في أيّ شيءٍ كنت اليوم؟ قال: في تعليم ما لا ينسى وليس لشيءٍ من الحيوان عنه غنى، قيل: وما هو؟ قال: السّباحة.
قال بعض الملوك لوزرائه: أيّ الرّجال خيرٌ؟ قال بعضهم: الشّجاع، قال: الشجاع يموت فيذهب ذكره؛ قال آخر: السّخيّ، قال: السخي ينفذ ما عنده؛ قال آخي: التّقيّ، قال: التقيّ تقواه لنفسه، قالوا: فمن؟ قال: الذي يموت ويبقى تدبيره.
شاعر: الكامل
ما زالت الدنيا تقلّب بالفتى ... طوراً تجود له وطوراً تسلبه
من لم يزل متعجّباً من حادثً ... تأتي به الأيام طال تعجّبه
قال الثوريّ لشريك بن عبد الله: لم ترض أن وليت القضاء لمنصور حتى وليت للمهدي؟ فقال: إني شيخٌ كبير وعليّ دينٌ ولي عيال، فقال سفيان: والله لأن تلقى الله ومعك دينك وعليك دينك أفضل من أن تلقاه وأنت عاملٌ لهم.
تزوج رجلٌ صغير الأير امرأةً، فلما دخل بها اعتذر إليها فقال: هو وإن كان صغيراً فهو ذكيّ، قالت: ليته كان كبيراً وهو أبله، أيش عليّ من بلهه؟!(7/175)
قال الكندي: من أراد الإلقاح فليقطر على الحشفة زئبقاً خالصاً ويذرّ عليها شيئاً من المسك ليطرد برد الفرج ريحه فإنه يلقح.
قال كسرى لبعض عمّاله: كيف نومك بالليل؟ قال: أنامه كلّه، قال: أحسنت، لو سرقت ما نمت هذا النوم كلّه.
ذكر المغيرة عمر فقال: كان به عقلٌ يمنعه من أن يخدع، ودينٌ يمنعه من أن يخدع.
قيل ليزيد بن المهلّب: بم نلت هذا الأمر؟ قال: بالعلم؛ قالوا: فقد رأينا من هو أعلم منك لم ينل ما نلت؛ قال: ذلك علمٌ أخطئ به مواضعه، وهذا علمٌ أصيب به فرصته.
قيل لفيلسوفٍ: فلانٌ يحسن القول فيك، قال: سأكافيه، قيل: بماذا؟ قال: بأن أحقّق قوله.
أغلظ سفيهٌ فقيل له: لم لم تغضب؟ فقال: إن كان(7/176)
صادقاً فليس ينبغي أن أغضب، وإن كان كاذباً فبالحري أن لا أغضب.
تقدّم إلى الشعبيّ رجلان فقال أحدهما: إني اشتريت من هذا غلاماً صبيحاً فصيحاً صحيحاً، فقال: هذه صفة محمد بن عمير سيّد بني تميم.
كان على سيف بعض الشّراة مكتوباً: ثأر الله من الظالمين.
شاعر: الطويل
حسامٌ غداة الرّوع ماضٍ كأنّه ... من الله في قبض النفوس رسول
قال رجل لآخر: أتدري لم غلا السّعر ببغداد؟ قال: لا، قال: لأنّ كلّ بلدٍ خبزه أكثر من أهله وبغداد أهله أكثرن خبزه.
قيل لأعرابي: أتحنّ إلى الحاضرة؟ فقال: البادية أفسح، والجسم فيها أصحّ.
كاتب: لي حرمةٌ سالفةٌ، وفيك أملٌ قديمٌ، وهما يقتضيانك حقاً لا تدفعه، ويطالبانك بذمامٍ لا تنكره.(7/177)
قال واصل بن عطاء: لأن يقول الله عزّ وجلّ لي يوم القيامة: " هلاّ قلت " أحبّ إلي من أن يقول: " لم قلت " لأنه إذا قال: لم قلت؟ طالبني بالبرهان، وإذا قال: هلاّ قلت، فليس غير ذلك يزيد.
استدلّ هشام بن الحكم على أنّ الباري جلّ جلاله جسمٌ بقوله " لا تأخذه سنةٌ ولا نومٌ "؛ قال: لو كان غير جسمٍ لم يكن هذا مدحاً.
وقال أبو حامد المروزوذي: ألا تعلم أنه لو كان جسماً لم كان هذا منفياً؟ وكان يقول: لا أدري ما فائدة هشام في اعتقاده أنه جسمٌ وهو يعلم اضطراراً أن نفي هذا الاسم على الحدّ المقتضى أدخل في التوحيد.
قال سهل الأحول - وكان يكتب لإبراهيم بن المهدي -: ما أحسن حسن الظنّ إّلا منه العجز، وما أقبح سوء الظنّ إّلا أن فيه الحزم.(7/178)
قال بعض الناظرين في معاني القرآن: " وما قتلوه وما صلبوه " هذه الهاء للظن " إنّ الذين اختلفوا فيه لفي شك ٍمنه ما لهم من علمٍ إّلا اتّباع الظّنّ وما قتلوه يقيناً " ذلك الظنّ.
مات أخٌ لجحا فقالت له أمه: اذهب فاشتر الكفن والحنوط، قال: لا أذهب، ابعثوا غيري، قالوا: لم؟ قال: أخاف أن تفوتني الجنازة.
قال أبو العيناء: أكلت مع بعض أمراء البصرة فقدّم إلينا جديٌ سمينٌ، فضرب القوم بأيديهم إليه فقال: ارفقوا به فإنه بهيمة.
قال ابن مسعودٍ رحمه الله: ما الدّخان على النّار بأدلّ من الصّاحب على الصّاحب.
قال بعض المفسّرين: قوله تعالى " تفقّد صواع الملك " الصواع: الطرجهارة.
سئل أعرابيٌ عن راعٍ فقال: هو الرائح الباكر، الحالب العاصر، والحاذف الكاسر.(7/179)
قال صالح بن سليمان: لا تستصغروا أحداً فإنّ العزيز ربما شرق بالذباب.
قيل لمزبّد: لم لا تكون كفلان؟ - يعني رجلاً موسراً - فقال: بأبي أنتم، كيف أشبه بمي يضرط فيشمّت، وأعطس فألطم؟ العرب تقول في أمثالها: ليس ابن أمّك كابن علّة.
قال بعض البلغاء لرجلٍ يصفه: لو أراد الخير أن يتلبّس لبوساً حسناً ما تلبّس إّلا بك.
شاعر: مجزوء الكامل
لم يبق من طلب الغنى ... إّلا التعرّض للحتوف
فلأفعلن وإن رأي ... ت الموت يلمع في السيوف
إني امرؤٌ لم أوت من ... طلبٍ ولا همٍّ شريف
لكنّه قدرٌ يزو ... ل عن القويّ إلى الضّعيف(7/180)
كتب كسرى إلى هرمزد: استقلل كثير ما تعطي واستكثر قليل ما تأخذ، فإنّ قرّة عين الكريم فيما يعطي، وسرور اللئيم فيما يأخذ؛ ولا تجعل الشحيح أميناً، ولا الكذاب صفيّاً، فإنّه لا عفّة مع شحٍّ، ولا أمانة مع كذبٍ.
قال شاعر في وصف سيف: الكامل
إني لبست لحربكم فضفاضةً ... كالنّهي رقرقه رياح شمال
ومهنّداً كالملح ليس لحدّه ... عهدٌ بتمويهٍ ولا بصقال
ترضيك هزّته إذا ما شمته ... وتقول حين تراه: لمعة آل
شاعر يصف بعيراً: الرجز
كأنّما الزّمام والتصدير ... يمدّه حين يقال سيروا
عمود ساجٍ جوفه منجور ... عام به في لجةٍ قرقور
في ذي صراريّ له صرير
دخل سعيد بن عتبان الجعفري على هشام بن عبد الملك فقال: يا أمير المؤمنين، إني أريد أن أصفك بصفتك، فإن ينحرف كلام فلهيبة الإمام(7/181)
وتصرّف الأعوام، فربّ جواد عثر في استنانه، وكبا في ميدانه، فرحم الله عبداً أقصر عن لفظه، وألصق الأرض بلحظه؛ فخاف هشامٌ أن يتكلّم بكلامٍ يقصّر به عن جائزته، فعزم عليه فسكت.
قيل لأشعب: ما بلغ من طمعك؟ قال: أرى دخان جاري فأثرد.
قام رجلٌ إلى عمر بن عبد العزيز فقال: يا أمير المؤمنين، اذكر بمقامي هذا مقاماً لا يشغل الله عنك فيه كثرة من يختصم إليه حين تلقاه بلا ثقةٍ من عمل، ولا براءةٍ من ذنب؛ فبكى حتى غشي عليه، ثم قضى حاجته.
لما انصرف أبو مسلمٍ من حرب عبد الله بن علي رأى كأنّه على فيلٍ والشمس والقمر في حجره، فأرسل إلى عابرٍ يألفه ويسكن إليه فقصّ عليه فقال: الرسم، فقبض عشرة آلاف درهم، فقال: قل، فقال: اعهد عهدك فإنك هالكٌ، قال الله تعالى " ألم تر كيف فعل ربّك بأصحاب الفيل ألم يجعل كيدهم في تضليل " وقال: " وجمع الشّمس والقمر يقول الإنسان يومئذٍ أين المفرّ ".(7/182)
قال مالك بن طوق للعتّابي: إني رأيتك سألت فلاناً حاجةً فرأيتك قليلاً، قال: وكيف لا أكون قليلاً ومعي حيرة الحاجة، وذلّ المسألة، وخوف الرّدّ؟ قال ابن السّمّاك: اللهمّ إني آمر بطاعتك وربّما قصّرت، وأنهى عن معصيتك وربّما اقترفت، وقد تعلم إنّي إنما أدور على أن أعظّمك في صدور خلقك، فارحمني بذلك يا أرحم الراحمين.
تقدّم إلى سوّار بن عبد الله ثلاثة إخوة في قسمة ميراثٍ فقال: اجعلوا لأكبركم خير المواضع، فال أحدهم: لا أفعل حتى تقرع بيننا، قال: ويحك لم؟ قال: لأنّي بحظّي أوثق مني بعقلي، فأقرع فخرج خيرها له.
قال بهرام جور: إذا تقدّم في الأعمال قبل وقتها انتفع بها في وقتها، وإذا عملت في وقتها انتفع بها بعد وقتها، وإذا عملت بعد وقتها لم ينتفع بها.
شاعر في المأمون: الخفيف(7/183)
خلّفوه بعرصتي طرسوس ... مثلما خلّفوا أباه بطوس
شاعر يهجو قوماً: البسيط
بيض المطابخ لا تشكو ولائدهم ... غسل القدور ولا غسل المناديل
قال ابن عبّاس رحمه الله: الحوت الذي كان مع موسى عليه السلام كان مشقوق البطن مملوحاً.
كان محمد بن أبي خالد من أحسن الناس وجهاً؛ قال: كنت أصلّي في يوم عيد خلف المأمون وإلى جانبي يحيى بن أكثم ومن الجانب الآخر عمرو بن مسعدة، فلما سجد قال لي يحيى في سجوده سرّاً: أنا والله ميتٌ من حبك يا حبيبي.
أظنّ يحيى بن أكثم لم يعبأ بصلاة العيد لأنها سنّة، ولعلّه لو كان في فريضةٍ لما عمل هذا، إن صحّت الحكاية.
لعمرو بن دعبل في محمد بن عبد الله بن بشر: الوافر
رغيف محمدٍ ضخمٌ ولكن ... مصافحة الكواكب دون لمسه
يبيت رغيفه معه ضجيعاً ... مخافة آكلٍ من دون عرسه(7/184)
يصون رغيفه بخلاً عليه ... ويبذل عرضه من دون فلسه
ووجه محمد حسنٌ طريرٌ ... ولكن شانه بدناة نفسه
ولو غمس ابن بشرٍ في بحارٍ ... لجفّفها ويبّسها بيبسه
قال أعرابي: إنّ الباقي وإن كان عزيزاً لأهل أن يطلب، وإن الفاني وإن كان موجوداً لأهل أن يرفض.
قال أبو عبيدة: قلت لابن فضالة: أيما أفضل عندك اليمن أم العراق أم الشام؟ فقال: سبحان الله، ما يبغي لأحدٍ أن يسأل عن هذا وقد بينّه الله تعالى في كتابه فقال: " ادخلوا الأرض المقدّسة التي كتب الله لكم " يعني الشام، وقال في اليمن " بلدةٌ طيّبةٌ وربٌّ غفورٌ " وقال " يعلّمون النّاس السّحر وما أنزل على الملكين ببابل هاروت وماروت " يعني العراق.
قال العتبي لأحمد بن أبي خالد الأحول: هل أنكرت عليّ يوم دخولي إلى المأمون شيئاً؟ قال: نعم، قال: وما هو؟ قال: ضحك من شيءٍ فكان ضحكك أكثر من ضحكه.(7/185)
وهب رجلٌ لقاصٍّ خاتماً بلا فصٍّ فقال: وهب الله لك في الجنّة غرفةّ بلا سقف.
قال جحظة: قال لي ثعلب: المرأة الصالحة كالغراب الأعصم وهو الأبيض الرّجلين؛ قال: ولا يكاد يوجد.
وأنا أقول والرجل الصالح في هذا المكان كالكبريت الأحمر قال ميمون بن هارون: ثلاث غلاّتٍ في ثلاثة بلدانٍ متساويات: الزيتون بفلسطين، والتّمر بالبصرة، والأرز بالأهواز.
قال رجلٌ ليوسف عليه السلام: كيف صنع بك إخوتك حيث طرحوك في الجبّ؟ فقال: لا تسألني عن صنيع إخوتي ولكن سلني عن صنيع ربّي.
قال المتوكّل للفتح بن خاقان وقد خرج عليهم وصيفٌ الخادم(7/186)
المعروف بالصغير في أحسن زيّ: يا فتح أتحبّه؟ قال: أنا لا أحبّ من تحبّ، ولكني أحبّ من يحبّك لا سيّما مثل هذا.
هذا جواب عقلٍ شريف الجوهر على المحلّ.
حضر رجلٌ جنازةً فنظر إلى لحد الميت، فلما دلّي في الحفرة قال لأبي الهذيل: يا أبا الهذيل، الإيمان برجوع هذا صعب، فقال أبو الهذيل: الذي أنشأه يعيده.
هذا جوابٌ مستوفىً لانّ النشأة الثانية مقيسةٌ على النشأة الأولى، ولكنّ الجواب الذي يجري ف يمناقضة الرجل غير هذا، يقال للرجل: إن كان الإيمان برجوع هذا صعباً فإهماله على ما كان له وعليه أصعب، لأنّ هذا المتعجّب لا بدّ له من إثبات إحسانٍ وإساءةٍ وجورٍ وعدلٍ وخيرٍ وشرٍّ وحقٍّ وباطل، وكلّ هذا قد تصرّف فيه هذا الملحد، فليس رجوعه ليجزى بما صنع إّلا دون إبطاله جملةً، لأنّ الفاعل قد فعله في الأول وصرفه في الوسط، وأضاف إليه أشياء ووقف عليه أشياء، وتمام الحكمة فيما ابتدأ به مرتبطٌ بإعادته ومجازاته، وإّلا فقد خلت الحال الأولى من غرض الحكماء، وعادت العاقبة إلى لعب السفهاء، والخالق البارئ المصوّر جلّ فعله عما يشينه ويشكّك في حكمته ويذهل العقل عن(7/187)
معرفته، وإنما ذهلت العقول وكلّت المعارف عما تفرّد به في ذاته، فأمّا ما وصله بالخلق فقد أثار دفائنه وفتح خزائنه وقاد العقول إلى تحصيله، وصرف اللسان على إيضاحه، وبعث الخواطر في انتزاعه، وقرن التكليف في ذلك بتأييدٍ ولطفٍ وكفايةٍ وصنع. وإنما فتن هؤلاء القوم في هذه الأمور لتسرّعهم بالحكم قبل عرفان العلة وقضائهم بالأمر قبل استقرار الأصل واستراحتهم إلى السابق من غير اتهامٍ له، وهذا بلاءٌ قد عمّ وداءٌ قد دبّ؛ نعم وهل يصار إلى الوجدان إّلا بعد أن يبتلى بكرب الطلب، وهل يطمأنّ إلى ما نشأ من الأصل إّلا بعد التعب مع تأسيس الأصل، وهل يتنعّم بالمحبوب إّلا بعد عائقٍ شوّق إليه وتخوّف من الانقطاع عنه؟ هكذا الترتيب في الشاهد وبه يذلً كلّ جاحد. جعلنا الله ممن إذا قصد الحقّ أصاب، وإذا دعي إلى الخير أجاب، وإذا ألمّ بالشّبهة أقلع وأناب، وكفانا مؤونة الهوى، فإنّه أسحر من الشيطان الرجيم.(7/188)
أتى عمرو بن معدي كرب مجاشع بن مسعودٍ بالبصرة فقال له: اذكر حاجتك، فقال: حاجتي صلة مثلي، فأعطاه عشرة آلاف درهم وفرساً من بنات الغبراء وسيفاً قاطعاً ودرعاً حصينة وغلاماً خياراً؛ فلما خرج من عنده قال له الناس: كيف وجدت صاحبك؟ قال: لله بنو سليمٍ ما أشدّ في الهيجاء لقاءها، وأكرم في اللّزبات عطاءها، وأثبت في المكرمات بناءها، لقد قاتلتها فما أجبنتها، وسألتها فما أبخلتها، وهاجيتها فما أفحمتها، وأنشد: الطويل
ولله مسؤولاً نوالاً ونائلاً ... وصاحب هيجا يوم هيجا مجاشع
نقلت هذا من خطّ ابن السّراج النّحوي؛ ومعنى قوله أجبنتها: أي ما وجدتهم جبناء ولا بخلاء ولا مفحمين، ومتى شدّدت الحرف فقلت: بخّلته انقلب المعنى إلى أنك تنسبه إلى البخل وبطل معنى وجدته، وهكذا نظائر هذا الحرف.
قال المدائني: قدم عبد الرحمن بن سليم الكلبي على المهلّب بن(7/189)
أبي صفرة فرأى بنيه قد ركبوا عن آخرهم فقال: أنّس الله بتلاحقهم الإسلام، فوالله لئن لم يكونوا أسباط نبوّةٍ إنهم لأسباط ملحمةٍ.
قال قبيصة بن مسعود الشيباني يوم ذي قار يحرّض قومه: الحذر لا يغني من القدر، والدّنيّة أغلظ من المنيّة، واستقبال الموت خيرٌ من استدباره، والطعن في الثّغر خيرٌ منه وأكرم من الدّبر، يا بني بكر حاموا فما من المنايا بدّ؛ هالكٌ معذورٌ خيرٌ من ناجٍ فرور.
كان الحجاج يستثقل زياد بن عمرو العتكي، فلما أتى الوفد الذين قدموا على عبد الملك بن مروان من عند الحجاج وزياد حاضر قال زياد: يا أمير المؤمنين إنّ الحجّاج سيفك الذي لا ينبو، وسهمك الذي لا يطيش، وخادمك الذي لا تأخذه فيك لومة لائم؛ فلم يكن بعد ذلك أحد أخفّ على قلبه منه.(7/190)
دخل جرير بن عبد الله على المنصور - وكان واجداً عليه - فقال له: تكلم بحجّتك، فقال: لو كان لي ذنبٌ تكلّمت بعذري، ولكنّ عفو أمير المؤمنين أحبّ إليّ من براءتي.
قال رجلّ لمالك بن طوق حين عزل عن عمله: أصبحت والله فاضحاً متعباً، أما متعباً فلكلّ والٍ بعدك أن يلحقك، وأما فاضحاً فلكلّ والٍ قبلك لحسن سيرتك.
قال العتبي: وقع ميراث بين ناسٍ من آل أبي سفيان وبني أمية فتشاحّوا وتضايقوا، فارتفعوا إلى عمرو بن عتبة فقال: إن لقريش لدرجاً تزلق عنها أقدام الرجال، وأفعالاً تخضع لها رقاب الأموال، وألسنا تكلّ عنها الشّفار المشحوذة، وغاياتٍ تقصّر عنها الجياد المنسوبة، فلو كانت الدنيا لهم ضاقت عن سعة أحلامهم، ولو احتفلت الدنيا ما تزيّنت إّلا بهم، ثم إنّ ناساً منهم تخلّقوا بأخلاق العوام وكان لهم رفقٌ في اللؤم، وخرقٌ في(7/191)
الحرص، لو أمكنهم لقاسموا الطّير أرزاقها، إن خافوا مكروهاً تعجّلوا له الفقر، وإن عجّلت لهم نعمةٌ أخّروا عنها الشكر.
كاتب: أعطاك الله حتى ترضى، وزادك بعد الرّضى وتوخّى لك من فضله وسعته ما لا تهتدي إليه مسألتك، ولا يحيط قلبك لمعرفته، وأضعف لك أضعافاً تجوز منى المتمنّين واستزادة المستزيدين، وجعل ذلك موصولاً بالنعمة والثواب الذي ذكره وذخره للمحسنين.
وقف أهل المدينة وأهل مكة بباب أبي جعفر، فأذن الربيع لأهل مكة قبل أن يأذن لأهل المدينة، فقال جعفر بن محمد عليهما السلام: أتأذن لأهل مكة قبل أهل المدينة؟ قال الربيع: إنّ مكّة العشّ، فقال جعفر عليه السلام: عشٌّ والله طار خيره وبقي شرّه.
قال الحسن: إن الدين فوق القصير ودون الغلوّ.
قال ابن عائشة لرجلٍ معه صبي: من هذا؟ قال: يتيمٌ لنا،(7/192)
قال: ابن من؟ قال: ابن ابني، قيل به: أيكون من أنت أبوه يتيماً؟ فقال: قد سمّى الله عزّ وجلّ نبيّه يتيماً وعبد المطلب حيّ، فمن أعلى من عبد المطلب؟! وقف أعرابيٌّ على المدائني وكان همًّا والمدائني يأكل تمراً، فقال: شيخٌ همّ، غابر ماضين، ووافد محتاجين، أكلني الفقر، وأذلّني الدّهر، فأعن ضعيفاً؛ فأعطاه.
قال سهل بن هارون: أدخل على الفضل بن سهل ملك التبت وهو أسير فقال: أماترى الله عزّ زجلّ قد أمكن منك بغير عهدٍ ولا عقد، فما شكرك إن صفحت عنك ووهبت لك نفسك؟ قال: أجعل النفس التي وهبتها بذلةً لك متى أردتها؛ فقال الفضل: شكراً لله عزّ وجلّ؛ فكلّم المأمون فصفح عنه.
قال العتبي: ذم أعرابيٌّ رجلاً قال: تهون عليه عظام(7/193)
الذنوب، وتحسن لديه قباح العيوب، ولئن كان في الأرض سباخٌ إنه لمن سباخ بني آدم.
سئل يزيد بن هارون عن أكل الطّين فقال: حرام، فقال الرجل: أحرام؟ قال: نعم، من القرآن، قال الله عزّ وجلّ " يا أيّها النّاس كلوا ممّا في الأرض حلالاً طيّباً " ولم يقل كلوا الأرض.
دعا أعرابيٌّ لرجلٍ فقال: اللهمّ كما كتبت لن عنده رزقاً فاكتب له عندك أجراً.
قال سهل بن صخر لابنه: يا بنيّ إذا ملكت ثمن غلامٍ فاشتر به غلاماً فإنّ الجدود في نواصي الرجال.
ذكر الشراب عند محمد بن واسع فقال: لولا أنهم يتكاتمون عيوبه لما شربوه.
قال كسرى لأصحابه: أيّ شيءٍ أضرّ على الإنسان؟ قالوا:(7/194)
الفقر، قال كسرى: الشحّ أضرّ منه، لأن الفقير إذا وجد اتّسع والشحيح لا يتسع وإن وجد.
قيل لجعفر بن محمد عليهما السلام: لم حرّم الله الرّبا؟ فقال: لئلا يتمانع الناس المعروف.
تعرّض أعرابي لمعاوية في طريقٍ وسأله، فمنعه، فتركه ساعة ثم عاوده في مكانٍ آخر، فقال له: ألم تسألني آنفاً؟ قال: بلى، ولكن بعض البقاع أيمن من بعضٍ؛ فوصله.
وصف العباس بن الحسن العلويّ جليساً فقال: جليسه لطيب عشرته أطرب من الإبل على الحداء ومن الثّمل على الغناء. وذم رجلاً فقال: ما الحمام على الإصرار، والدّين على الإقتار، وشدّة السّقم في الإسفار، إلا أخفّ من لقاء فلان.
قال الحجاج بن خيثمة لابنه: والله ما تشبهين، فقال: والله لأنا أشبه بك منك بأبيك، ولأنت كنت أشدّ تحصيناً لأمّي من أبيك وأمك.(7/195)
ذكر الإماء عند بعض الخلفاء فقال: الإماء ألذّ مجامعة وأغلب شهوةً وأحسن في التبذل وآنق في التدلل؛ فقال بعض الحاضرين: تردّد ماء الحياء في وجه الحّرة أحسن من تبذّل الأمة.
قيل لجعفر بن محمد عليهما السلام: إن أبا جعفر المنصور لا يلبس مذ صارت إليه الخلافة إّلا الخشن، ولا يأكل إّلا الجشب، فقال: لم يا ويحه، مع ما مكّن الله له من السلطان وجبي إليه من الأموال؟ فقيل: إنما يفعل ذلك بخلاً وجمعاً للمال؛ فقال جعفر: الحمد لله الذي حرمه من دنياه ما له ترك دينه.
كاتب: أما بعد فحقّ لمن أزهر بقولٍ أن يثمر بفعلٍ.
لما مرض معاوية دخل إليه عمرو بن العاص فقال معاوية: أعائداً جئت أم شامتاً؟ فقال عمرو: ولم تقول هذا؟ فوالله ما كلفتني رهقاً، ولا أصعدتني زلقاً، ولا جرعتني علقماً، فلم أستثقل حياتك وأستبطئ وفاتك؟ فقال معاوية: الوافر(7/196)
فهل من خالدٍ إمّا هلكنا ... وهل بالموت يا للنّاس عار
قال سلم بن قتيبة: لا تمازحوا فيستخفّ بكم الناس، ولا تدخلوا الأسواق فترقّ أخلاقكم، ولا ترجّلوا فتزدريكم أكفاؤكم.
قال عامر بن الطفيل لثابت بن قيس: والله لئن تعرضت لعنّي وفنّي وذكاء سنّي لتولينّ عني، فقال له ثابت: أما والله لئن ترضت لشبابي وشبا أنيابي وسرعة جوابي لتكرهنّ جنابي.
ورد العطويّ على والي الأهواز بكتابٍ مزوّرٍ فقال له: أقم، فلمّا كان اليوم الثاني خاصم الحاجب، فقال له: أتخاصم الحاجب؟! قال: فأردت مني أن يكون كتابي مزوّراً، وكلامي ضعيفاً؟! فاستطرفه ووصله.
سأل داود بن فلان جعفر بن حرب: ما المحال؟ فقال: ما لا يتصّور في الوهم مثل قائم قاعد، قال: وكلّ ما لا يتصور في الوهم محال؟ قال: نعم، قال: فإن الله عزّ وجلّ على زعمك محالٌ، فإنه لا يتصور في الوهم؛ فما أحار جواباً؛ معناه: ما ردّ جواباً. يقال: حار يحور أي رجع(7/197)
يرجع، وقال الله عزّ وجلّ " إنّه ظنّ أن لن يحور " أي ظنّ أنه لا يرجع. والحائر كأنه المتراجع المتدافع المتتابع، وكذلك الماء، وقد مرّ فيما سلف من هذا الفصل أشفّ من هذا.
625 - وأما المسألة والجواب ففيهما شيءٌ ما استوفيّ: اعلم أنّ الله تعالى عليٌّ بذاته وصفاته وحقيقته ومعناه من كل ما نحاه الفهم، وحصّله التّمييز، ودلّ عليه الوهم، ولحظه العقل، وساق إليه التعارف، وقربه القول، وتمثّله القلب، وتحدث به النفس. فزعم السائل أنه متى لم تقم في النفس صورته فهو محال جدلٌ، والجدل محطوطٌ عن الإنسان في معرفة صانعه وإثبات منشئه، وليس الله - على ما أخبرنا عنه - لعلّةٍ صريحةٍ وسببٍ قائمٍ ولحالٍ معروفةٍ، فإنه لو كان على ما هو عليه كشيءٍ من هذه الأشياء لكان منقوصاً من ذلك الوجه، بل النقص والكمال فعلان له، يوسف بهما من وهبهما له وساقهما إليه، وعلى ما يمكن أن يقال نقول في ذلك بما يغنيك عن الشكّ فيه وإن بعدت عن الطمأنينة إليه: أما تعلم أنه لو قام في النفس، أو التبس في العقل، أو تمثّل في القلب، أو برز بالتحصيل، أو أشير إليه في جهةٍ أو نفي من ناحية، أو أثبت في حال، كان تصرّف هذا كله علّةً ونقصاً، وأنه متى فرض كذلك فقد جهل من حيث قصد العلم به؛ وإنما انتهى العالمين به إلى أنه لا(7/198)
علم لهم به، فكان عجزهم عن لحوقهم لحوقاً، وجهلهم ما يستحيل تصويره علماً، ووقوفهم عند نهاياتهم تعبّداً، وبحثهم عما وراء ذلك اجتراءاً، وسؤالهم عما طوي عنهم فضولاً، وتشكّكهم بعد البرهان خذلاناً، وسكونهم إلى الظنّ خسراناً، وتصريفهم القول فيه بهتاناً. أتراك لا تعرف حقيقته ولا تعقل صفته إّلا بعد أن تكون موسوماً بسماتك ومردوداً إلى أحكامك؟ هيهات، إنه لو قبل نعتاً من نعوتك لكان خلقاً مثلك ولم يكن خالقاً لك، وإنما وجب أن يترقّى عنك وعن صفاتك لأنه فاعلك وفاعلها، فكيف يستعير وصفك وهو غنيٌّ عنك؟ أم كيف يشبهك وهو بعيدٌ منك؟ أم كيف يهتدي عقلك إليه وعقلك خلقٌ مثلك، وهو مبتلىً بمثل عجزك ومرميٌّ بقصور غايتك؟ وهل استفدت عقلك المضيء إّلا منه؟ وهل وجدت لسانك المبين إّلا عنده؟ وهل لجأت في النوائب إّلا إليه؟ أغرّك منه إحسانه إليك، وإنعامه عليك، ورفقه بك، ودعاؤه لك، ومناجاته إياك؟ الزم حدّك، وارجع إلى صفتك، واقض حقّ عبوديتك، واطلب المزيد بامتثال الأمر، وتسكين النفس، ورعاية ما هو متصلٌ منه بك، وثابتٌ له عندك، فلو قد سألك عنك - على قربك منك - لظهرت فضيحتك لشائع جهلك؛ ولو طالبتك بما له عليك لقيّدك العيّ عن(7/199)
الاحتجاج لنفسك؛ بل لو حاسبك على ما تجتنيه لنفسك، وتختاره لجمالك وتراه ذخراً لحياتك لبان خلل عقلك، وتلجلج فصيح لسانك، وحار ثاقب نظرك، ودحضت ثوابت حجّتك، ولكنت أوّل من يلوذ به، دامع العين، دامي الفؤاد، سليب العدة، ملطوم الخدّ، نادم القلب. هناك تعلم أنّ الملوك لا ينازعون ولا يتبدّلون، ولا يجادلون ولا يمتهنون. فحسبك منه أنه لاطف سرّك، وفتح ناظر قلبك، وعرض أصناف نعمه عليك، لتكون لنفسك خيراً مما أنت عليه، وتفارق ما أنت فيه لما أنت أحوج إليه.
قال رجل: قلب الله الدنيا، فقال المأمون: اذن تستوي! قال أبو خازم: الذي يلقى من لا يتقي الله من تقيّة الناس أشدّ مما يلقى من يتقي الله من تقيّة الله.
كان لخزيمة بن خازم كاتبٌ ظريف أديب، وكان يتنادر على خزيمة كثيراً، فقام يوماً بين يديه فقال: إلى أين تقوم يا هامان؟ فقال الكاتب: أبني لك صرحاً.(7/200)
قال أعرابيٌّ يصف مطراً: احرنجأ من السحاب متكفّت الأعالي لاحق التّوالي، فهو غادٍ عليك أو سارٍ، سير السبلان وليّ الغدران.
قال جعفر بن محمد عليهما السلام: العقول خزائن الحكمة.
قال جعفر بن قدامة: سمعت أعجمياً يقول وهو يجمّش جاريةً لعائشة بنت المعتصم: يا ابن الزانية، أيّ شيء ينفعك إذا أذبحتني.
كتب ابن المعتزّ إلى رجلٍ يذمّه: ذكرت حاجة أبي فلان المكني ليعرق لا ليكرم، فلا وصلها الله بالنجاح، ولا يسّر بابها للانفتاح؛ وذكرت عذراً يفصح به عن نفسه، فوالله ما يفصح عنها لكنه يصحّ عليها؛ وأنا والله أصونك عنه، وأنصح لك فيه، فإنّه خبيث النيّة، متلقّف للمعايب،(7/201)
مقلّبٌ للسانه بالملق، يتأبّس بالتخلق وجه الخلق، موجودٌ عند النعمة، مفقودٌ عند الشّدّة، قد أنس بالمسألة، وضري بالردّ، فلا تعقّ عقلك باختياره، ولاتوحش النعمة بإذلالها به، والسلام.
قيل لمجنونٍ كان بالبصرة: عدّ لنا مجانين البصرة، قال: كلفتموني شططاً، أنا على عدّ عقلائهم أقدر.
قيل لأعرابي: لم يقال أباعك الله في الأعراب؟ قال: لأنّا نجيع كبده، ونعرّي جلده، ونطيل كدّه.
وصف أعرابيٌّ رجلاً فقال: كان إذا تكلّم أفاد، وإذا سئل جاد، وإذا ابتدأ أعاد.
شاعر: الرجز
يا إبلي روحي إلى الأضياف ... إن لم يكن فيك صبوحٌ كاف
فأبشري بالقدر والأثافي ... وغارفٍ ومغرفٍ غرّاف(7/202)
قيل لفيلسوف: ما الحسن؟ قال: حسن الإنسان أن يكون ذا اعتدالٍ في الصورة، وقبولٍ في الرواء، ومنظر مليح الشمائل.
قال عمر بن ذرّ: اللهمّ إن كنا عصيناك فقد تركنا من معاصيك أبغضها إليك، وهو الإشراك بك، وإن كنّا قصّرنا عن بعض طاعتك فقد تمسكنا بأحبّها إليها، وهو شهادة أن لا إله إّلا الله وأن رسلك جاءت بالحقّ من عندك.
قال أبو العيناء: قفلت لمخنّث: كيف جوفك؟ قال: أدخل لسانك وذقه.
طلب اليونانيون ملكاً للملك بعد أن مات ملكهم، فقال بعض الحاضرين: فلان الفيلسوف: لا يصلح للملك، قيل: ولم؟ قال: لأنه كثير الخصومة، وليس يخلو في خصومته من أن يكون ظالماً، والظالم لا يصحّ للملك لظلمه، أو يكون مظلوماً، فأحرى أن لا يصلح لضعفه، فقيل له: أنت أحقّ بالملك ممّن ذكرنا.(7/203)
قال أبو العيناء: قطعني ثلاثة؛ قلت مرةً لصوفي: ما هذه الصّفرة في وجهك؟ قال: لأكلك شهواتي؛ وقلت لعبّادة وقد تأوّه مرةً من شيء: من تحتي، فقال: ومعي ثلاثة؛ وقلت لمغنية غنت: أين الصّيحة؟ فقالت: خبّأتها لثالثك.
وقع في بعض العساكر بالليل هيج، فوثب خراسانيٌّ إلى دابّته ليلجمها فصيّر اللجام في الذنب من الدهش فقال: هب جبهتك عرضت ناصيتك كيف طالت؟ ها أنا عارضٌ عليك من كلام رسول الله صلّى الله عليه وآله وسلّم جملةً شريفةً تكون لك مادّةً في الباطن، وجمالاً في الظاهر، وعمدةً عند الشّبهات، وحجّةً يزم المنازعات، وهو الكلام الذي قد بان عليه النور، وأيّد بالبرهان، واستخلص من حق التقوى، يجمع لك الأدب والتأديب، ويدلّك(7/204)
على الصّلاح والتسديد، وقد سبق أبو عثمان إلى جمعه في " البيان والتبيّن " وليس على ما يأتي به عثمان مزيد، فإنه الشيخ المقدّم والبليغ المعظّم؛ لكنّي أرى أن لا أخلي هذا الكتاب من شعبةٍ كبيرة من ذلك، وأمرّ أيضاً بأطرافه مفسّراً وشارحاً ومنتصراً وناصحاً، فقد نسب إليه عليه وآله السلام ما يكثر قدره ولا يلصق البتة به.
قال صلّى الله عليه وآله، ورزقنا النظر إليه والوقوف يوم القيامة بين يديه: المؤمن مألفةٌ ولا خير فيمن لا يألف ولا يؤلف؛ دخلت الهاء للمبالغة كما دخلت في راوية وعلاّمة ونسّابة، تقول: ألفته آلفه إلفاً وإلافاً، وألفته أولفه إيلافاً، وألّفته وتألّفته: استعلمته واستعطفته، وكأنه أراد بهذا أن المؤمن يفزع إليه ويقتبس منه. وهذا الخبر يمنع من الاعتزال والتفرّد وإن كانت السّلامة في الغالب فيهما، لأنّه لا يألف حتى يخالط، وكل هذا منافٍ للتعزّب والانقطاع عن الناس، والحكمة أيضاً في نظام العالم تقتضي معونة كلّ من لبس قميص الحياة خاصةً إذا كان شريكك في الصورة، أعني إذا كان قريباً منك: إمّا بالنّسب وإما بالأدب وإما بالبلد وإما بالصّناعة وإما بالتّخطيط وإما بالمشابهة،(7/205)
ولهذا السرّ يتعصّب هذا لأهل بلده وأرباب صناعته وبني جنسه، ويستدعي أيضاً عونهم لنفسه.
وقد يقال هنا أيضاً: لم عرضت المنافسة واشتدّ الحسد وكثر التتبّع حتى أفضى ذلك في بعض المواضع إلى البوار والقتل والجلاء والهلاك. وأفضل ما يتولّد منه الهجر الطويل والمنازعة الشديدة؟ والجواب عن هذا سيمر مع اخواتة في الموضع الذي نفددة لجميع مسائل هذا الكتاب مما سمعنا ووعيناه وغير ذلك مما أثرناه واستنبطناه. فالتمس هناك ذاك، فهذا موضعٌ قد جردناه لكلام رسول الله صلّى الله عليه وآله.
وقال عليه السلام: المرء مع من أحبّ، وهذا يتضمّن زجراً وبشرى، فأما الزجر فلمن قارن قرناء السّوء، وأما البشرى فلمن اقتدى بأهل التقوى.(7/206)
وقال عليه السلام: حبّك الشيء يعمي ويصمّ؛ دلّ على أن محبّتك يمتزج بها الهوى، وتجاذبها الشهوة، وتذل معها النفس، ويكلّ عندها العقل، فذاك هو الإعماء والإصماء، وإنما أراد التّمثيل باللفظ والزّجر بالمعنى، وهذه المحبة بهذه الصفة مقصورة على ما اتصل بالدنيا وأسبابها، فأما أمور الآخرة وطرائق الدّين فإنّ حبّك لها لا يعمي ولا يصمّ، بل يزيدك في سمعك وضياء بصرك ونور قلبك وطهارة خاطرك.
وقال عليه السلام: الناس كإبلٍ مائة، لا تكاد تجد فيها راحلةً؛ دلّ بذلك على عزّ الموافق لك وقلة المتحمّل عنك. وليس هذا القول منافياً لقوله: الناس كأسنان المشط، لأن قوله الثاني مقصورٌ على ما لهم وعليهم من الأحكام التي قيدهم الله فيها بالتكليف، وقرن أمورهم فيها بالوعد والوعيد، وإّلا فالاختلاف بينهم قائم، وقد تفاضلوا بالعافية، وتباينوا بمراتب التّقوى.(7/207)
وقال عليه السلام: المؤمن مرآة المؤمن؛ دلّ بهذا على أن المؤمن ينظر إلى أخيه فيقوّم نفسه به، وكذاك ذاك مع أخيه، وكأنهما يتواعظان ويتواصيان، وهذا كلامٌ جامعٌ لخير الدنيا والآخرة. وقد دلّ على الألفة، لأن الفارد لا مرآة له، والمرآة من الرؤية مفعال، كالآلة في مفعل كالمقطع، وجمعها مراءٍ على وزن مراعٍ. وربما سمعت من هؤلاء " مرايا "، وذلك خطأ، ذكره أبو حاتم وأبو زيد. وأما المرايا فجمع مريّ، والمريّ الناقة التي تحلب كأنها تمري، يقال: مريتها وامتريتها - لا همزة في هذه الحروف، إن شئت ذكّرت وإن شئت أنّثت؛ وبالاستعارة يقال في الفرس إذا كان جواداً: مريته واستمريته، كأنك تستدعي الجري من الجواد كما تستدعي الدّرّ من الناقة، وكان القياس في المرايا أن يقال في واحدتها مريّة - بالهاء - لكنها شذّت عن بابها: ألا ترى أن العرايا واحدتها عريّ، والسّرايا واحدتها سريّة، والشّرايا واحدتها شريّة - وهي الجارية المشتراة - فكأنها شذّت لأنه لا مذكّر لها، فقام التذكير فيها مقام التأنيث، ولو زاحمها المذكّر بهذه الصفة لأخذت(7/208)
علامتها بحقّ واجب، وكأنها قامت مقام قولك: حائض، لما أمن من اللّبس، لأن الرجل لا يشاركها. هذا مذهبٌ في الملاحن يقال: رأيته، أي أصبت رئته، وهو مرئيٌّ مثل مرعيّ، وكذلك من الرؤية. فأما رويت - بالتخفيف - فمعناه حدّثت وأسندت وأنشدت، والرّواء: الحبل، فكأن معنى " رويت الحديث ": شددته بإسناده وأحكمته. وأمّا الرّواء - بفتح الراء - فالماء الذي يروي، وأما الرّواء - بضم الراء وهمزة - فالمنظر، وكأنه من الرؤية. وكذلك الرّيّ - مثل الرّعي - ومنه قوله " أثاثاً وريّاً " وقد يثقّل فيقال " ورئياً " على مذهب من قال رأيته؛ فقد اجتمع في " رأيت " ثلاثة معان: معنىً أخذ من الرؤية بالبصر، ومعنى أخذ من الرأي وهو مايرى القلب، ومعنى أخذ من الريّة؛ والعرب تقول: من أين ريّتكم، أي من أين ترتوون، أي من أين مستقاكم. وأمّا الريّة - بالتخفيف - فما يروى به النار؛ هكذا عند الأصمعي، وقال أبو حنيفة صاحب " النبات ": هي بالتشديد كالنّيّة من نويت.
وقد مضى هذا كالمستقصى بعد أن عرض على القوّام بهذا الشأن وبعد أن تتبّع به صحيح الكتب، فاجتهد في معرفتها وحفظ نظائرها، فإن الأدب أنسٌ إن شئت أنساً، وكنزٌ إن طلبت كنزاً، وجمالٌ إن أحببت جمالاً، ومثوبةٌ إن(7/209)
قصدت ثواباً؛ حفظك الله معيناً، وأعانك ناصراً.
وقال عليه السلام: " المؤمن من أمنه الناس "؛ هذا وسفه لمن كان الإيمان لبوسه، والتوحيد عقيدته، والزهد في الدنيا قاعدته، وكأنّما أخذ هذه الصفة من اللفظ، لأنّ من أمن الناس أمنوه، أي إذا لم يخفهم لم يخافوه، وعلى هذا يؤخذ من الأمن، وكأنّ الأمن من الإيمان، والباب فيهما واحد. وكان بعض السّلف يقول: السلام المؤمن، أي يؤمّن الخائفين إذا وصلوا خوفهم بالطاعة، وكأنّ هذا يوجد في صفات ويصير بها مؤمناً للمؤمنين فيكون لفظ فعلة من الأمن ولفظ فعلهم فعله من الإيمان؛ وكذلك وصف الله تعالى الآخرة بدار السلام وبدار القرار وبدار الخلد، لأن هذه ممزوجة من الخوف. وقرأ ابن القعقاع " ولا تقولوا لمن ألقى إليكم السّلام لست مؤمناً " بفتح الميم - وهذا يؤخذ من الأمن كما قلت لك.(7/210)
وقال صلّى الله عليه وآله: " حسن العهد من الإيمان "؛ قال هذا في امرأةٍ كانت تغشاه في منزل عائشة، فكأنها وجدت في نفسها من ذلك. فقال عليه السلام: " إن هذه كانت تأتينا أيام خديجة، وإنّ حسن العهد من الإيمان ": دلّ بهذا القول على حفظ الحالة السالفة ومراعاة من شوهد، وحثّ أيضاً على جميع ما كان موصولاً به قريباً منه، لأن اللفظ مطلقٌ إطلاقاً، وفي ضمنه إيضاحٌ عن حسن الخلق، وقد قال عليه السلام: " إنّ أحدكم ليبلغ بحسن خلقه درجة الصائم القائم ". وكيف لا يقول هذا وقد قاله الله عزّ وجلّ " وإنّك لعلى خلقٍ عظيمٍ ".
651ب - سمعت القاضي أبا حامد يقول: لما نهض رسول الله صلّى الله عليه وآله وسلّم بعبء الرسالة، وأدّى ما فيها من حقّ الأمانة، وبلغ الحدّ فيما رسمه التكليف وورد به الأمر، أمره الله عزّ وجلّ بأشياء تكميلاً لشأنه ودلالةً على فخامة أمره فقال " خذ العفو " وقال " فإذا الذي(7/211)
بينك وبينه عداوةٌ "، فلم يقنع للعدوّ إّلا بمنزلة الوليّ حتى يكون حميماً - أي قريباً؛ فلما قضى ما عليه في جميع ذلك أثنى عليه وعجّب منه واستثبته فيه بقوله عزّ وجلّ " وإنّك لعلى خلقٍ عظيمٍ " وناهيك بعظيمٍ الله معظّمه، وناهيك بمحسنٍ الله تعالى مثن عليه.
651ج - وقال بعض مشايخنا: لولا أنّ الدّين مقدّم الشأن لقدّمت الخلق عليه لأنّي أجد الخلق إذا اعتدل وحسن وظهر، جامعاً لقرّة العين، وسرور البال، وطيب الحياة، وإحراز الخير، والسلامة من القيل والقال.
وكان بعض الأوائل يقول: إنما صار مرتبة الخلق هذه المرتبة لأن الخلق تابع للخلق، فكما لا يتمّ المشار إليه بحسن الخلق إّلا بأن يكون سويّ الخلق، كذلك لا يكمل سويّ الخلق إلا بأن يكون حسن الخلق.
وقال بعض الصّوفية: بالخلق يستفاد الكون، وبالخلق يستفاد الخلد؛ وكأنّ معنى هذا الرمز أنّا بالخلق نكون في هذه الدار، وبالخلق ننتقل إلى أخرى الآثار، هذه بائدةٌ وتلك باقية؛ والكالم في الأخلاق واسع، وفيما أشرنا إليه مقنعٌ.(7/212)
وقال صلّى الله عليه وآله: " دع ما يريبك لما لا يريبك، فمن رعى حول الحمى يوشك أن يقع فيه؛ هذا دليلٌ على أمرٍ جامعٍ لخير الآجل والعاجل إذا وقعت العناية من الناظر فيه، لأنّه ما من شيءٍ من أمر الدنيا والدّين إّلا وفيه ما يريب؛ تقول: رابني يريبني، وأراب هو إذا أتى بريبةٍ أو دخل في ريبة؛ والرّيب: الشك. ومن تمسك بمعنى هذا الخبر في مقاصده كلها كان السلم والسلامة والأمن والأمانة صواحبه، وذلك أن فيما ينظر فيه مما يعلم أو يعمل ما يريب كما أن فيه ما يبين، فالأولى عند كل معتقدٍ أن يتوقّف عنه إذا راب، كما أنّ الواجب أن يمضي عليه إذا وضح. وما أحوج المتكلّمين إلى المصير إلى هذا، فإنّهم يمرّون على غلوائهم كأنّهم لا يريبهم رائب.
وقال صلّى الله عليه: " لا يلدغ المؤمن من جحرٍ مرّتين "؛ هذا قاله لأبي عزّة الشاعر، وذلك أن النبيّ صلّى الله عليه وآله أسره يوم بدر، فسأله أن(7/213)
يمنّ عليه على أن لا يحضّض ولا يحرّض ولا يهجو رسول الله صلّى الله عليه وآله؛ فلما خلص إلى مكة خدعه المشركون وأرغبوه، وكان ذا عيالٍ كثير وكرشٍ كبير، فعاد إلى الحال الأولى، وأخفر الذّمّة - هكذا يقال بالألف - ونبذ العهد، وكفر اليد، وجحد المنّة، واستحقّ اللعنة. فلما أسر من بعد أتي به إلى النبيّ صلّى الله عليه وآله، فطلب العفو، فقال عليه السلام: " والله لا رجعت إلى مكة، ولا قعدت بفناء الكعبة تمسح عارضيك وتقول: سخرت من محمد مرّتين، ثم أمر فضرب عنقه ". يقال سخرت منه وبه، والأوّل أفصح؛ فكأنّ المعنى في الخبر أن المؤمن حازم، وأنه إذا أتي من شيء مرةً حذره وأعدّ له، وكان منه على يقظةٍ واحتراس، وما هكذا الفاجر، فإنه يجهل حظّه، وينسى نصيبه، ويذهب في هواه طلق الجموح، غير راعٍ ما عليه، ولا مرعٍ على ما هو إليه. ولفظ الخبر على مذهب الخبر، ولكنه قد اشتمل على النّهي وصورة النهي، كأنه قال: لا يؤتينّ أحدكم من سوء نظره وقلّة احتراسه.
وقال عليه السلام: " لا تنزع الرّحمة إلا من شقيّ؛ ثم قال:(7/214)
من لا يرحم لا يرحم "؛ المعنى في قوله: من لا يرحم لا يرحم أبين منه في قوله: لا تنزع الرحمة إلا من شقي، وذلك أن الرحمة إذا نزعها الله عزّ وجلّ منه فإنه يشقى بضدّ الرحمة وهي القسوة. والمعتزليّ يقول لك: كيف لا يكون قاسياً من نزعت الرحمة منه، وكيف لا يكون ضريراً من سلب بصره؟ فإذا قيل له: فما تقول؟ قال: ليس الخبر حقًّا، فإن قيل على التهمة الواقعة لك: ما وجه القول؟ فليس يضيق مثل هذا الإطلاق عند جميع الأمّة عن تأويل يطّرد فيه المعنى ويتمّ عليه المغزى، فيقول على التكليف: كأنّ المراد أن الفاسق القاسي يعاقبه الله عزّ وجلّ على ذنوبه بنزع الرحمة من قلبه، وهذا بعد استحقاق العبد ذلك بما اجترم واجترح.
وسألتبعض الحكماء والعلماء عن هذا فتعسّف، وقال: كأنّ من شقي بسعيه وقدم القيامة صفراً من الخير كمن نزعت الرحمة من قلبه، أي لم يعامل بما يستحقه السعيد؛ فعلى هذا الرحمة من الله تعالى جزاءٌ إلا أنها منزوعةٌ عن هذا؛ وكلّ هذا واهٍ ضعيف، والكلام على جملته مفيد المعنى مقبول المراد غير مأبيٍّ ولا مردود.
ولست أحبّ من هؤلاء العلماء هذا التّنقير فيما هذا سبيله، فإنه أخذٌ(7/215)
بالكظم وحنقٌ على الجرّة وصدٌّ عن سبيل العلم والعمل، وشغلٌ بما لا يجدي ولعله يضّر، وبئس الشيء التكلّف؛ وإن هذا الباب سيجرّ الإنسان إلى تفتيش كلام الله عزّ وجلّ، وتكشيف كلام رسول الله صلّ ى الله عليه وآله، ومن ها هنا اجترأ هذا فقال: ليس هذا كلام الله، وليس هذا قول رسوله صلّى الله عليه وآله وسلّم، وأنّ التالي قد حرّف، وأنّ الراوي قد خرّف.
أنا سمعت رجلاً بالمدينة - وكان من بلد المنصور - يقرأ: هذا صراط عليٍّ مستقيم، يضيف الصّراط إلى عليّ؛ فقلت: من تريد بعليّ؟ فقال: ابن أبي طالب عليه السلام، قلت: فأعرب آخر الكلام، فقال: مستقيم - بالكسر - فقلت: إن القراءة قد استمرّت على نحوين، إما " هذا صراطٌ عليٌّ مستقيمٌ " فتكون " عليّ " نعتاً للصراط وإما " صراطٌ عليّ مستقيمٌ "؛ وما عرض لكسر مستقيم. فقال لي: أراك لا تفهم، أما تعلم أن الاستقامة بعليٍّ أليق منها بالصّراط؟ على أن الصّراط هو عليٌّ والمستقيم هو عليٌّ.
وقد غرّ بجهلهم واجترائهم وسوء تأويلهم وارتكابهم دين الله تعالى القويم والفتنة فيه إلى زيادة، وإلى الله المشتكى وعليه التوكّل في حفظ ما أمرنا(7/216)
بحفظه، وترك ما أمرنابتركه، فما نقدر على خير إّلا بإذنه، ولا ننصرف عن شيءٍ إّلا بصنعه، وهو وليّنا ومولانا.
قال صلّى الله عليه وآله وسلّم: " التّؤدة من الله عزّ وجلّ والعجلة من الشيطان "؛ وليس هذا على أن الله يتئد والشيطان يعجل، ولكنّه على وجه العقل قريبٌ من الحق صحيحٌ في العقل، وذلك أن التؤدة كلها من الله تعالى أي بإذنه ودلالته وإرشاده، وكأن العجلة من الشيطان أي بتسويله وتزيينه ومراده، لأنّ الشيطان يتوقّع زلّتك، ويتمنّى غرّتك، لكنه لا يجد ذلك في تؤدتك وتثبّتك وأناتك، فهو يتمنّى ذلك في عجلتك؛ فحثّ عليه السلام على التؤدة لأن التّوقّي معها، والسلامة مع التوقّي، ونهى عن العجلة لأن الزّلّة مع العجلة والهلاك مع العثرة، يقال: اتّأد يتّئد اتّئاداً وتأيّد يتأيّد تأيّداً، وتأنّى يتأنّى تأنّياً، وهو مأخوذ من الونا - يقصر ويمدّ - وقد مرّ من قبل أشبع من هذا؛ ويقال منه أيضاً: استأنى يستأني استيناءً والأمر منه: استأن، ويقال إين في(7/217)
أمرك، أي ارفق، فأما إن فبمعنى حن إذا أمرت، لأنك تقول: حان يحين، كما تقول آن يئين، فأما يؤون فيترفّق.
وقال صلّى الله عليه وآله: الدنيا سجن المؤمن. سئل ابن الخلفاني عن هذا الحديث سنة إحدى وخمسين وثلاثمائة، وأنا أسمع، فقال: حديثٌ حسن الإسناد، الناس قد تقبّلوه ورووه، وليس فيه ما يوهي أصلاً ويردّ نصاً ويفحش تأويلاً، وتأويله ظاهر وذلك أنّ المؤمن فيها غريبٌ لأنّه فيها مستوحشٌ، وعنها متجافٍ، وبها متبرّم، يرى الرّوح في جوار الله الكريم، ونعيمه المقيم، حيث لا لغو فيها ولا تأثيم، وهو كالحبيس عن مقرّه وموطنه، وقد وصل بالحديث: والدنيا جنّة الكافر لأنه لا يلحظ معاداً، ولا يشتاق ثواباً، ولا يخاف حساباً، يحبّ العاجلة وتذره الآخرة، يرى السعادة فيما تعجّل وصفا، وطاب وكفى. وكأنّ هذا الخبر غير منافٍ لقوله: الدنيا خير مطيّة المؤمن، هذا إذا كان قاله، فإني لا أثق بجميع ما روي، ولا أجيز كلّ ما(7/218)
أخبر، وإنما ألوذ بالقول مفيداً أو مستفيداً، وأرجو أن تسلم العاقبة مع سلامة النيّة وحسن القصد في القول والعمل، وإنما لم يناف الأول الثاني لأنّ المعنى في الثاني مستقلٌّ بنفسه، وذلك أنّ المؤمن ها هنا يحرث للآخرة، ومنها يتزوّد للآجلة، وبرغبته عنها يستحقّ الدرجة العالية.
وقال صلّى الله عليه وآله: " الدّالّ على الخير كفاعله "؛ هذا حثٌّ على الخير وتشبيهٌ لمن وطّأ الطريق إليه ودلّ الطالب عليه بمن تفرّد بفعله، واشتراك بين من دلّ وبين من قبل ليقع التعاطف، ويعمّ التلاطف، وليكونوا كنفس واحدة. ألا تراه كيف نهى عن التّباين في قوله: لا تقاطعوا ولا تدابروا وكونوا عباد الله إخواناً؟ وإنما صحّ التشبيه لأنّ الدلالة من الدالّ على الخير خيرٌ، وقبول الدلالة من القابل خير، فكأنّ هذا بمّا دلّ وهذا بما قبل فاعلان خيراً.(7/219)
وقال صلّى الله عليه وآله: " المؤمن ينظر بنور الله تعالى "؛ قد أطال الناس القول في هذا وما تباعدوا عن ذلك، وفي الخبر زيادةٌ وهي: اتقوا فراسة المؤمن فإنه ينظر بنور الله.
658ب - سمعت بصراء العلماء يقولون: نور الله جلّ جلاله هو المعنى الذي خلص من الهوى ودواعيه، وتنزّه عن الرّياء وطرقه، فإنه كالضياء في أفق القلب، به يستدرك المؤمن غائب الأمر، ويتحقّق باطن الحال، ويطّلع على مكنون النفس. وسمعت البقّال يقول: ولعله أشار بالمؤمن إلى بعض من حضره، فخصّه بالوصف وأبانه بالتشريف، وهذا فيه بعدٌ فإن اللفظ مرسل. وقلا بعض الفلاسفة: هذا هو إشارةٌ إلى اقتباس النفس من العقل وإلقائها إلى(7/220)
الإنسان ومن ذلك الرؤيا؛ قال: ولذلك قال عليه السلام: الرؤيا الصادقة جزء من أجزاء النبوة. وللعابر أيضاً تصيّدٌ للدّليل واستشرافٌ للتمثيل، وقد مرّ من ذلك في هذا الكتاب ما هو كالبيان عن هذه الأصول، وفي مثله: سأل رجلٌ أبا عبد الله الزبيري الضرير عن رؤيا رآها، فقال الزبيري: سلني عنها بين يدي القاضي. وكان المستعير معدّلاً؛ فغدا إلى مجلس القاضي ووافى المعدّل، فابتدر فسأل وقال: إني رأيت كأنّي قاعدٌ عند الله عزّ وجلّ، والله تعالى يخلق السموات والأرضين، فأعظمت ذلك، فما تأويله؟ قال الزبيري: أيها القاضي أسقط عدالة هذا الرجل فإنّ الله تعالى يقول " ما أشهدتهم خلق السّموات والأرض " ورؤياه تدلّ على أنه شاهد زورٍ؛ ففحص القاضي عنه فوجد ذلك كذلك. وكلّ من كان أخلى بالاً مع الله عزّ وجلّ، وأشدّ التفاتاً إلى الآخرة، وأقلّ التباساّ بالدنيا، فإنّ كلامه أصوب، وحاسته أحدّ، وخاطره أثقب، وحكمه أنفذ، وظنّه أصدق، وحدسه(7/221)
أفتق، وقد شهدت التجربة بذلك على جري الدهر؛ يقال: كان ذلك على وجه الدهر وأشب الدهر وجري الدهر وسالف الدهر. والفراسة: الإصابة، ومنه افتراس الأسد فريسته؛ هكذا حفظته عن الثقة العالم، وإذا انضمت الثقة إلى العدل والعلم، سعد الرجل، وذلك أنك لا تشاء أن تجد عالماً لا ثقة له، أو ثقةً لا علم له إّلا وجدت، فأما العزيز فالعالم الثقة، وأعزّ منه الثقة الورع الدّين الزاهد، فقد يستعمل الثقة العالم الدين ولا ديانة له، ولا ورع معه، مدًّا لجاهه وبسطاً لأمره وتألفاً لطالبيه واختداعاً للراغبين فيه، وآفات العلماء لا يحصيها إّلا ربّ السماء، وما أحبّ بسط اللسان فيهم، رعايةً لذمام العلم وأخذاً بأدب النفس، ومصيراً إلى أحسن الهدي؛ ستر الله عليهم فضائحهم، ونقلهم إلى ما يرضى عنهم، إنه مالكهم، والقائم عليهم وجعلنا ممّن تغمّده بعفوه، وقرّبه من نجاته، وآواه إلى جنّته.
قال صلّى الله عليه وآله: " إنك لا تجد فقد شيءٍ تركته لله عزّ وجلّ ".
وقال عليه السلام: " المنتعل راكب ".(7/222)
وقال: المرء كثيرٌ بأخيه يكسوه برفده. يقال رفدته، والرّفد: العطاء، والإرفاد: الإعطاء؛ وأبو تمام يقول: الطويل
أسائل نصرٍ لا تسله فإنّه ... أحنّ إلى الإرفاد منك إلى الرّفد
وقال صلّى الله عليه وسلّم: " لا خير لك في صحبة من لا يرى لك مثل ما ترى له ".
قال أنس: قال رجل: يا رسول الله، أعقلها وأتوكل أو أطلقها وأتوكل؟ قال: اعقلها وتوكّل؛ قال البقال: معنى هذا القول أن التوكّل مجانبٌ للإهمال والكسل؛ بل هو بعد إعمال الحزم وبذل الكيس ونفي اللّوم ورفع أسباب النّدم.
ولقد سمعت ابن الخليل يقول: فما وجه التوكّل بعد العقل؟ قيل: لأنه يعقلها ولم يستغن عن حفظها، فقد يحلّ العقال من أراد وينجو؛ وإنما أراد عليه السلام أن لا تبقى على صاحبها بقيةٌ من أسباب النّدم ولا حال تبعث اللائمة(7/223)
عليه، ولكن يبلي العذر، وينتظر القدر، ويتبع الأثر والخبر.
وسمعت بعض الصوفية يقول: التوكّل حالٌ تتوسّط الاسترسال والاعتمال، لئلاّ يكون المتوكّل باعتماله ساكناً إليه، ولا بتوكّله مهملاً له، ولكن يقبل أدب الله عزّ وجلّ في حفظ ما استحفظ، ثم يلوذ به فيما لا يستطيع حفظه إّلا بمعونته.
وكان أبو حامد يقول: قال النبيّ صلّى الله عليه وآله: إن الله لا يقبل دعاء ثلاثة أو لا يجيب ثلاثة؛ رجلٍ يقول: اللهم خلّصني من هذه المرأة، فإنّ الله تعالى يقول: إنما جعلت طلاقها في يدك وأبحت ذلك، لئلا تظنّ أني قد ابتليتك فتطلب الفرج ممن قد سبق له الفرج ولا يجيب دعاء من يقول اللهم خلصني من هذه الأمة، فإنه يقول: قد جعلت لك أن تبيعها أو تعتقها؛ ولا يجيب دعاءً من يقول: اللهم اردد عليّ مالي - قال: يعني التاجر الذي اشترى ولم يشهد - فإنه يقول: قد ندبتك إلى الشّهادة حفظاً لمالك واحتياطاً في أمرك، فتركت الأمر وخالفت إلى النّهي، ثم عطفت تتمنّى الأماني، ليس لك عندي إّلا ما عرفت؛ وهذا كله حقّ، والاستعانة بالله عزّ وجلّ أحقّ وأحقّ.(7/224)
وقال صلّى الله عليه وآله: لا حكيم إّلا ذو عثرة؛ وقال في مكان آخر: لا حكيم إّلا ذو أناة، ولا حكيم إّلا ذو تجربة؛ وفي اللفظ الأول معنى لطيف وهو أن الحكيم قد يعثر فلا يخرج بذلك من الحكمة والصّفة المستحقة، فكأنّ العبد إن تعلّت رتبته في الفضائل، وطالت يده في التجارب، فإنه يبين بعجزه عن حال من لا يزلّ ولا يهفو، وهذا أيضاً دليلٌ على انتفاء العصمة من صفات الإنسان، أعني أنه لا يحوي معنىً يصير به ممّن لا يجوز عليه الخطأ ولا يقع معه نسيانٌ على ما زعمت الرافضة في إمامها، فإنّ هذا نعت إله الخلق، وهم لفرط غلّوهم في أئمتهم يلحقونهم بصفات ربّهم ولا يبالون، كل ّذلك تجليحاً وجرأةً، ولهذا نشأت فيهم الغالية. ولقد قلت لسيخٍ منهم وكأني أتغابى عليه: لم قال هؤلاء إنّ علياً عليه السلام إله؟ قال: لأن جعفر بن محمد الصادق عليه السلام قال لهم: عليٌّ إله؛ قلت: ولم إذا قال جعفر ذلك كان كذلك؟ ومن أين لك أن الإمام قال ذلك. قال: هذا كله من كلام الناصبة.(7/225)
وكان الخليل بن أحمد السجستاني يقول: لا يجوز أن يتعبّد الله أحد من الخلق بمحبة أحدٍ من الخلق، لأن ذلك خارجٌ من الحكمة، وذلك أنّ الإنسان - بزعمه - لا يفعل المحبة ولا البغضة، وإنما المحبة والبغضة والشهوة والكراهية عوارض للإنسان من قبل الله عزّ وجلّ؛ فقيل له: فإنّا نحبّ الرسول وقد أمرنا بذلك، قال: تلك المحبة كنايةٌ عن الطاعة؛ ألا ترى أن الله عزّ وجلّ يحبّ على هذا المعنى، وقد قرن المحبة بالاتّباع، والاتّباع هو الطاعة في قوله تعالى " قل إن كنتم تحبّون الله فاتبعون " فرسول الله محبوبٌ على ذلك؛ قيل له: فكيف تكون محبتنا لله كنايةً عن طاعتنا له؟ فقال: كما كان حبّ الله لنا كناية عن ثوابه لنا في قوله " يحببكم الله ".
قال ابن عباس، قال رسول الله صلّى الله عليه وآله: " ليس الخبر كالمعاينة؛ إنّ الله عزّ وجلّ قال لموسى عليه السلام: إنّ قومك فعلوا كذا وفعلوا كذا فلم يبال، فلما عاد وعاين ألقى الألواح وأخذ برأس أخيه ".
وقد سمعت بعض الحكماء يقول: إنما صار العيان يورث الاضطرار لأنه يشارط الحواسّ، والحواسّ سريعة التقلّب والتبدّل، والخبر(7/226)
يصحب العقل، والعقل كهف الدّعة، وجوهر القرار، ومعدن السّكون، ولهذا ترى هدي العاقل أهدى من ظاهر الأحمق، لأنّ الأحمق لا صمت له، ولا سمت معه، والحواسّ طلائع العقل وروّاده، وأقربها إلى العقل ما سلك إليه طريق السّمع. ألا ترى أنّ من سمع ففهم أشرف ممّن أبصر فعلم؟ والإنسان قد يفقد البصر ويجوز الفضل بكمال العقل، وقلّ ما يوجد من عدم السّمع ففاز بشرف العقل. قال: ويوضح هذا أن البصر يلقط من المشاهدات ما قابله، والسمع يحيط بكل ما يرعاه ويهديه إلى العقل، فكأنّ السمع أخدم للعقل، وعلى قدر خدمته له قربه منه، وعلى حسب قربه منه عنايته به.
وسمعت غير هذا الفاضل يقول: البصر في الجسم بمنزلة العقل في النفس، كأن العقل عين النفس، والبصر عين الجسم، ولهذا ما يستدلّ بسكون الطّرف وحسن تدوير الحماليق على زيادة الإنسان ونقصه.
قال عبد الله بن عمر: ما زلت أسمع " زر غبًّا تزدد حبًّا " حتى(7/227)
سمعت رسول الله صلّى الله عليه وآله بدور الظلام ونجوم الإسلام قال ذلك؛ يقال: زار يزور زيارةً، ورجل زورٌ وهم زور، وجمعٌ آخر، يقال: زوّار، والصحيح زائر وزائرون؛ والزّوار والمزاورة مثل الحوار والمحاورة والخصام والمخاصمة. يقال: فلانٌ زير نساءٍ: أخذ من هذا إذا كنّ يزرنه ويزورهنّ؛ فأما الغبّ والإغباب فهو أن تزور مرةً وتترك أياماً، ومنه لحمٌ غابٌّ أي بائت. والمعنى في " تزدد حباً " كنايةٌ عن الطّراوة والخفّة على قلب المزور ممن يزوره، والمزير: الفاضل؛ والمزر نوعٌ من النبيذ. فأما قول العامة: ما أمزره - في الشتم - فليس بعربية -، وكذلك قولهم: مزّار؛ هكذا قال السيرافي.
وقال صلّى الله عليه وآله: " الخير عادةٌ والشرّ لجاجة "؛ كأن الخير بالاعتياد ليس أن الخير عادة، وليس هذا حدّ الخبر ولا حقيقته، ولكن الخير بالعادة، ولوضوح المعنى أيضاً ما جاز أن يرسل اللفظ هكذا. والشرّ أيضاً إنما هو باللّجاجة، وما أكثر من يهمّ بشيءٍ من الشر طلباً للتّشفّي حتى إذا قرع بابه وفّر أنيابه تتابع ولجّ واستشرى، وأمعن واستقصى وبالغ، ولم يكن بلوغ تلك الغاية(7/228)
من أربه، ولا إليه ساق عقدة عزمه، ولكن تجاوز الحدّ باللجاجة. يقال: ألجّ ولجّ والتجّ والجّج، واللجوج ذميمٌ عند كل راءٍ وسامع، وبئس الخلق هو، وحسبك أنه مركبٌ إلى النار، ومجلبة للعار، ومذهبةٌ للأقدار والأخطار؛ واللجاجة كأنها ضيق النفس عن احتمال الحق.
وقال صلّى الله عليه وآله: " الخير كثيرٌ ومن بعمل به قليل ".
قال الحسن البصري: المعتبر كثير والمعتبر قليل؛ وقلت لأبي النّفيس: من المعتبر؟ فقال الفقيه عن الله عزّ وجلّ.
وقال صلّى الله عليه: " المستشار مؤتمن "؛ كأنه أرشد من استشير إلى الأمانة بما وصفه به لأنّ المستشير لم يلق إليه ذات صدره حتى جعله أميناً في نفسه. والمشورة - بضم الشين - مثل المعونة وقد جيز بسكون الشين أيضاً،(7/229)
وأصل اشتقاق الكلمة من شرت الدابة إذا حركته لشور ما عنده؛ ومنه شرت العسل، أي أخذته ورقيت إليه، والسّين لطلب الفعل في قولك استشرته، ويقال: استشار الرجل إذا حسنت شارته، يقال: هو صيّرٌ شيّر إذا كان حسن الصورة والشارة.
وقال عليه السلام: " كلّ معروفٍ تصنعه إلى غنيٍّ أو فقير فهو صدقة "؛ قال ابن قتيبة: المعروف كل ما عرفته النفس واطمأن إليه القلب، والله معروفٌ بسكون البال وفزع الإنسان إليه، والمؤمن عارفٌ بذلك.
وقال صلّى الله عليه: " من حسن إسلام المرء تركه ما لا يعنيه "؛ تقول: عناني هذا الأمر كأنه أشار إليك بطلوعه عليك أو باحتياجك إليه يعنيك؛ ويقال: عنيت بحاجتك، هكذا قال ثعلب في " الفصيح " بضم العين، وقال لغيره: يجوز عنيت - بفتح العين -.(7/230)
سمعت بعض أصحاب الورع يقول: ترك ما لا يعني صعبٌ، وكان بعض المشايخ ممن يتحلى بالحكمة ويتظاهر بالفضيلة دخل حمّاماً فوجده حاراً، فقال لمن بجنبه: ما أحرّ هذا الحمام؟ قال هذا: ذاك كأني لا أعلم أنك تجد من حرارة هذا البيت ما أجد، حتى تتجرّد لهذا القول وتشغل نفسي بهذا الخبر، وتقيّد لسانك بهذا اللفظ، فما الذي أفاد هذا أحدنا؟ ولقد أخذ هذا الشيخ مأخذاً صعباً؛ وقيل: من التّوقّي ترك التّجنّي، وترك الإفراط في التوقي؛ وكأنّ هذا الرجل قريبٌ من صاحب الزّبيبة، فإن رجلاً رؤي بمنىً وعرفات وبيده زبيبة وهو ينادي: ألا من ضاعت له زبيبة؟ فقيل له: أمسك، فإنّ هذا من الورع الذي يمقته الله عزّ وجلّ، ولنفس حصةٌ ولها استراحة وعليها منها كدب ومع التزمت ومع التقبض هشاشة ومع التعمّل دماثة، وللإنسان من كلّ شيءٍ حظّ، ولكل شيءٍ منه نصيب، ولو كان الإنسان مصبوباً في قالب واحد، ومصوغاً على خطٍّ واحد، ولو كان الإنسان واحداً، ومسلولاً عن طبيعة واحدة، لكان هذا يستمرّ بعض(7/231)
الاستمرار، ويتجوّز فيه بعض التجوز؛ فأما وهو مؤلّفٌ من أخلاط، ومركّبٌ على طبائع، ومجموعٌ متضادات، فالا بدّ أن يميل إلى شيء، ويميل به شيء، ويرى مرة طافياً ومرة راسباً، ومرة راضياً ومرة غاضباً، ومرة هادئاً ومرة صاخباً، ومرة قانعاً ومرة ساخطاً، ومرة لاحقاً ومرة غالطاً، وأنه ما دام بين أشياء متعادية وأحوالٍ مترامية، فلا بدّ أن يترجح بالزّيادة والنقص، والربح والوكس، إلى أن يأخذ الله جلّت عظمته بيده، ويجذب بضبعه، ويؤويه إلى رضوانه. على أنّ هذا الشيخ قد استفاد بما كان منه لوماً لنفسه، وتنبيهاً لها من رقدته، ووصيّةً لغيره، وذكراً مأثوراً من بعده.
وقال صلّى الله عليه وآله: " إنما التجبّر في القلوب ".
وقال عليه السلام: " سوداء ولودٌ خيرٌ من حسناء لا تلد ".
وقال صلّى الله عليه وآله: " المتشبّع بما لم يعط كلابس ثوبي زورٍ ".(7/232)
وقال عليه وآله السلام: " أعظم النّساء بركةً أقلّهن مؤونةً ".
وقال صلّى الله عليه وآله: " اطلبوا الخير عند حسان الوجوه "؛ قال لنا أبو الشيّخ الأصبهاني - وعليه قرأنا جميع ما اتصل في هذا الجزء من أمثال رسول الله صلّى الله عليه وآله: سمعت عليّ بن حزم يقول: تفسير هذا الحديث في قول عمر بن الخطاب، فإنه قال: إن للناس وجوهاً، فأكرموا وجوه الناس؛ فقال: فمن كان له في الناس وجهٌ قيل فلان حسن الوجه.
هذا الذي قاله الشيخ عن هذا الشيخ حسنٌ مرضيّ، كأنه ذهب إلى من كان له جاهٌ وكان وجهاً ووجيهاً، فمسألته تعطفه صيانةً لجاهه وطلباً لمنزلة الخير عند الله تعالى بذمائم عند الناس، فإن عباد الله في أرض الله شهود الله على خلق الله تعالى.
وسمعت بعض الحكماء يقول: السابق إلى النفس من هذا الخبر هو الحسن المتعارف؛ وإنما اختصّ رسول الله صلّى الله عليه وآله ذوي الوجوه الحسنة لأنّ حسن الظاهر دليلٌ على صحّة الباطن، أي لأنّ حسن المرأى شاهدٌ على اعتدال(7/233)
العقل، والعقل يأمر بالمواساة ويبعث على الخير. وقال أيضاً: إن الحسن موصولٌ بالحياء؛ لهذا قلّما ترى التجليح في ذي الوجه الصبيح، ومتى تمّ حياء الوجه ورقّ عليه اللسان عن الردّ وحرج الصدر بالحقّ، صار ذلك سبباً للرحمة وداعية إلى النجاح.
وهذا جوابٌ قريبٌ مقبول، ليس للقلب عنه نبّو، ولا للعقل عليه مستكرةٌ. والكلام في هذا الفنّ طويل الطّرفين، جمّ الفوائد، ولكنّي قد مللت بما أمللت، فلهذا أروي بعض ما أطوي ولا أفسّر خيفة الإطالة الجالبة للملالة، وبئس الشيء الملل في العلم واقتباسه، والكسل في العمل وإخلاصه، لكني من البشر، ممزوجٌ بالخير والشرّ.
وقال صلّى الله عليه وآله: " القناعة مالٌ لا ينفد ".
وقال عليه السلام: " ما عال من اقتصد ".(7/234)
وقال عليه السلام: " أيّ داءٍ أدوى من البخل ".
وقال عليه السلام: " لا يجنى من الشّوك العنب ".
وقال صلّى الله عليه وآله: " رأس العقل بعد الإيمان بالله عزّ وجلّ التودّد إلى الناس ".
وقال عليه السلام: " إذا أتاكم كريم قومٍ فأكرموه ".
وقال صلّى الله عليه وآله: " اليسر يمنٌ والعسر شؤم ".
وقال عليه السلام: " الناس معادن ".
وقال صلّى الله عليه وآله: " ما قلّ وكفى خيرٌ ممّا كثر وألهى ".
وقال عليه السلام: " من صمت نجا ".(7/235)
وقال صلّى الله عليه وآله: " العائد في هبته كالكلب يقيء ثمّ يعود فيه ".
وقال صلّى الله عليه وآله: " البس جديداً وعش حميداً، قال صلّى الله عليه وآله لعمر ".
وقال عليه السلام: " المؤمن كالجمل الأنف حيثما قيد انقاد وإذا أنيخ استناخ "؛ أراد بهذه الدلالة على وطاءة جانبه وسماحة أخلاقه وسهولة أمره، وأنك لا تهزّه إلى خيرٍ لك أو له إّلا اهتزّ، ولا تدعوه إلى رشدٍ إّلا أسرع إليه، وأنه كثير الاسترسال، ظاهر التوكّل، قد ألقى مقاليده إلى الله عزّ وجلّ، وإلى أوليائه؛ وما تجد هكذا الفاجر المنافق، فإن الشراسة فيه غالبة، والاحتياط والحزم والتحرّز منه بنجوة، يتوهّم أنه إنما يعيش بتأتّيه وقدرته واستطاعته، وهذا ظنّ لا حقيقة له، ورأيٌ لا محصول معه. إنّ الله عزّ وجلّ مالك النواصي، ومصرّ ف الجوارح، ومقلّب القلوب، وباعث الخواطر.(7/236)
والأنف - بقصر الحرف - هو الذي يشتكي أنفه، هكذا هو من البعير والإنسان وكلّ ذي أنفٍ؛ والأنف كالظّهر وهو الذي يشتكي ظهره، وإياك أن تقول: يشكو بطنه ويشتكي من بطنه، هذا كله لكنةٌ والعربية ما سلف. وقولهم أنف فلان من القبيح كأنه لوى أنفه عنه، وليّ الأنف في هذه الحال كنايةٌ عن زيّ الوجه، وزيّ الوجه كنايةٌ عن الإعراض، والإعراض كناية عن الانصراف وترك القبيح، وإذا قيل لك: أما تأنف من كذا وكذا؟ فهذا يراد بك، والأنف موضع الخنزوانة، والخنزوانة الكبر، يقال: فلان أنفٌ إذا كان يعاف القاذورة، وفلان نطفٌ إذا كان يأتي القاذورة، كأنه يسرع فيها ويسيل كالناطف - وهو السائل -؛ وتقول: أنفت الرّجل إذا ضربت أنفه - والهمزة مفتوحة، والضمة لكنةٌ في ألسنة العامّة، وهو نظير قولك: جبهته وبطنته وصدرته، إذا ضربت جبهته وبطنه وصدره. وتقول: كان فلان في أنف شبابه يفعل كذا وكذا، أي في عنفوانه أو أوّله؛ وأما قولك فعلت كذا وكذا آنفاً، أي منذ الآن، واستأنفت الأمر أي أعدته، كأنك طلبت أنفه أي أوله؛ وقد أناف فلان على مائة سنة، أي(7/237)
أشرف عليها، كأنّ المعنى من شرف الأنف وإشرافه على الوجه، وفيه لغة، يقال: ناف أيضاً، ومنه عبد مناف كأنه مصدر ناف؛ وكلأٌ أنفٌ أي لم يرع بعد، وفلان قد أوفى على نيّفٍ وستّين سنة - تشدد الياء؛ هكذا قال أبو حاتم. فتأمّل هذا الأدب واحفظ هذا العلم، فقد سيق إليك وأنت مستريح.
وأما قوله: إذا أنيخ استناخ، هكذا يقال ولا يقال: أنيخ فناخ، إنما يقال: برك واستناخ، وقد شذّ عن وجه القياس إّلا أنه محفوظ.
وقال صلّى الله عليه وآله: " المؤمن القويّ أحبّ إلى الله من المؤمن الضعيف ".
وقال عليه السلام: " فضل العلم خيرٌ من فضل العمل ".
وقال صلّى الله عليه وآله: " ربّ مبلّغ أوعى من سامع ".
وقال عليه السلام: " لا ينبغي للمؤمن أن يذلّ نفسه "؛ قيل: يا رسول الله، وكيف يذلّ نفسه؟ قال: " يتعرض من البلاء لما لا يطيق ".
قال ابن عمر: سمعت من الحجّاج كلاماً أنكرته، فأردت أن أغيّر عليه، فذكرت قول النبيّ صلّى الله عليه وآله: " لا ينبغي للمؤمن أن يذلّ نفسه "، الخبر، فأمسكت؛ فرحم الله ابن عمر، وهل يجوز ترك الأمر(7/238)
بالمعروف بهذا التأويل؟ أما إنه متى شاع هذا بين الناس وجنحوا إليه، وعملوا عليه، ظهر الفساد في البرّ والبحر، وتعجّل كلّ واحدٍ في راحته وعزّه، وقبض يده ولسانه عمّا فرض الله عزّ وجلّ عليه من إقامة المعروف وإماتة المنكر؛ أما إنه موقوف على التأويل فإنك لا تجد قائلاً قولاً ولا فاعلاً فعلاً إّلا وهو في حاله تلك يبسط عذراً، ويدّعي سرّّا ويتعسف تأويلاً. ولعلّ هذا الحديث واهي الإسناد، فاسد المخرج، أو قد صحبه في الحال ما سقط منه عند الرواية، وما أظنّ أكثر من هذا؛ على أن حسن الظنّ أحسن.
قال صلّى الله عليه وآله: " من رزق من شيء فليلزمه؛ حثّ بهذا على استجلاب الرزق ".
وقال عليه السلام: " الشاهد يرى ما لا يرى الغائب ".
وقال صلّى الله عليه وآله: " المؤمن غرٌّ كريم والفاجر خبّ لئيم "؛ أشار عليه السلام بهذا النّعت إلى سلامة صدر المؤمن لأنّ إيمانه يبعثه على حسن(7/239)
الظنّ والاسترسال، فيكون بعض ذلك غرارة، إّلا أن غرارة بإيمانٍ أنفع في الدين والدنيا من حذاقةٍ بفجور؛ الحزم كلّه حرس حريم الدّين وإن أباح سرّ الدنيا، والإضاعة كلّ الإضاعة فيما خلب وأهمل الدّين، وكلّ هذا يراه الإنسان - مع إيمانه القويّ، وسرّه المرضي - من حبّ العاجلة، ولعمري فطام النفس عنها شديد، ولكنّ الثّواب على قدر المشقّة والجزاء على قدر العمل.
والغرّ في اللغة هو الغرير وهو المغترّ، والغرارة - بفتح الغين - كالمصدر هو حالها؛ فأما الغرّ - بفتح الغين - فالحدّ، وهو ثني الثوب، العرب تقول: طويت فلاناً على غرّه، أي لبسته على دخل، والغرور - أيضاً بضم الغين - مصدر عر يغرّ غروراً، والغرور - بفتح الغين - يقال هو الشيطان، ويقال: هو الدنيا، وأما الغرارة - بكسر الغين - فالظّرف يحمل فيه التّبن وما أشبهه.
وكان أصحاب رسول الله صلّى الله عليه وآله إذا تلاقوا تواصوا، وكان فيما يقولون: كونوا بلهاّ كالحمام، كان المعنى: فوّضوا أموركم إلى الله(7/240)
عزّ وجلّ ولا تتجاوزوا في الاحتياط والحزم والترقيح في المعيشة ما يليق بإيمانكم ويحفظ مروءاتكم. وقد قال السلف: تعايش الناس ملء مكيال، ثلثاه فطنةٌ وثلثه تغافل. والعرب تعتد في أمثالها قولها: الاستقصاء فرقة؛ وقال جعفر ابن محمد الصادق عليهما السلام: عظّموا أقداركم بالتغافل، فقد قال الله عزّ وجلّ " عرّف بعضه وأعرض عن بعضٍ ". وقال المبّرد: قال الله تعالى " ولستم بآخذيه إّلا أن تغمضوا فيه ".
واعلم أنّ هذا التأديب يجمع خير الدّين وروح الدنيا، ولهذا نوى أن المتكلمين في الدّين والمتجادلين بين المسلمين يأخذون أنفسهم وقرناءهم في بابٍ من الاستقصاء ضيّق، لا يدخله المتطامن فضلاً عن المنتصب. ولهذا قلّ التألّه فيهم، ورحلت هيبة الله عن قلوبهم، وكثر التأويل في كلّ أمورهم عليهم، وطمع فيهم الشيطان في جميع أحوالهم. والله لقد تصفّحت خلقاً لا أحصي عددهم ببغداد منذ سنة خمسين إلى يومنا هذا، فما رأيت منهم من ترجى له السّلامة إّلا رجاءً قليلاً، منهم أبو القاسم الواسطي، بل هو أشفّهم فيما تجلّى للعين وطهر للحسّ، على أنه يرمى بالنّفاق، ويقرف بالقبيح، ولا سليم على(7/241)
الناس، ولا معصوم من الخلق. فأما جعل فمن دونه، فنسأل الله عزّ وجلّ أن لا يهتك أستارنا كما هتك أستارهم، ولا يقبّح أخبارنا كما قبّح أخبارهم.
حدّثني القاضي الموفّق المراغي قال: كان سبب نكبة أبي عمرو الأصبهاني، وزير عليّ بن ركن الدولة شؤم النّصيبيّ أبي إسحاق، غلام جعل، وذلك أنه فتح عليه باب الخنا، وسوّغ له التهالك في المجون، وهوّن عليه أمر الدّين، ومنعه من أسباب البّر والصدقة والتعبّد، فقسا قلب ذلك الرجل، وجمدت كفّه، وجعد بنانه، وطال هذيانه، وعظم طغيانه، فأخذه الله تعالى أخذةً، جعلها نقمةً له وموعظةً للناظر إليه.
وكان القاضي هذا يقول: سمعت النّصيبيّ يقول وقد انتشى من الصّرف من(7/242)
الخمر: لو صحّ أمر الدّين في نفسي لما وجدتني عاكفاً على هذا، لكنّي ما أجد صحةّ ولا أعرف حقيقةً، وأما الكلام الذي نديره بيننا وبين الخصوم مثاله مثال قول القائل: أين الباب المجصّص؟ فيقول له المجيب: عند الدّرب المرصّص، فيقول السائل: فأين الدرب المرصّص؟ فيقال: عند الباب المجصّص.
هذا قليلٌ من كثير ما ينطوي عليه هذا وأشباهه من الناس، والطريف أنّ القوم يقطعون بالوعيد، ويحكمون بالتخليد، ويأخذون بأشدّ التشديد، ثم يركبون من الدنيا سنامها ويقتحمون من النار جاحمها؛ على هذا تجد القاضي الأسداباذي قاضي الرّي وابن عبّاد ومن لفّ لفّهما، وما أدري ما أقول في هذه الطائفة الداعية إلى الحقّ بزعمها، العاكفة على الفسوق والكفر باختيارها. ما هذا إّلا العناد ومجاهرة ربّ العالمين بالإلحاد. ولولا أنّي أجد لهيباً في نفسي من هذه الأمور المتناقضة، لما شغلت خاطري بهم ولا أعملت لساني فيهم، فلهم ربّ يجزيهم جزاءهم ويحاسبهم حسابهم، ولكنّي يدركني أسفٌ على دين الله عزّ وجلّ كيف يتلعّب به قومٌ لا خلاق لهم، ولا من عقيدة معهم، وإنما أتوا من الفضل الذي تقدّم هذا الكلام، وهو أنهم رضوا من أنفسهم في الدين بالكلام(7/243)
فيه، والتشكيك عليه، وإنشاء مسائل لا يسأل عنها أحد، ولا يدلّ عليها وسواس، وادّعوا أن الإقبال على هذا النوع تصحيحٌ للتوحيد، ومعرفةٌ بالأصول، وإثباتٌ للحقّ، ثم فارقوا العمل وإخلاصه، وأعرضوا عن الآخرة وطلبها بالتهجّد والصّوم وطول الصّمت وبذل النفس. ومتى واقفتهم شاغبوك وصاخبوك ورموك بدائهم، وازدحموا عليك بكيدهم.
فجانب - أيدك الله - هذه الخصلة القادحة في عقد الدّين، الفاضحة لأصول الأخلاق - أعني الجدل والنّقار والاستقصاء - واعلم أنّ الله عزّ وجلّ ورسوله صلّى الله عليه وآله قد أوضحا لك منهج السلامة، وسلكا بك طريق الرّشد، فما لاح لك من ذلك فقل به واعمل عليه، وما أشكل فقف عنه ولذ بالله فيه، واتّق الله عزّ وجلّ، فإنّ له مقاحم هي مهالك؛ وإياك والتهاون بما ألقيت إليك، فإنّي لم أجد فساد الدّين والدنيا إّلا من هذه الخصلة النكدة.
وقال صلّى الله عليه وآله لرجلٍ من جهينة: " ما لك من مالك إّلا ما أكلت فأفنيت، أو لبست فأبليت، أو أعطيت فأمضيت ".
وقال عليه السلام لرجلٍ قال له: " أوصني، فقال: عليك باليأس مما في أيدي الناس، وإياك والطمع فإنّه فقرٌ حاضر ".(7/244)
وقال صلّى الله عليه وآله: " أنزلوا الناس منازلهم "؛ سألت القاضي أبا حامدٍ عن هذا فقال: ليس يعني في منازلهم عند الله، فإنّ تلك مطويّةٌ عن معارف الخلق، وإنما ذلك على ما ظهر من حليهم، ونطق به شاهدهم، ودلّ عليه ما تعاطوا بينهم. وكان أبو السائب القاضي ببغداد يشنأ رجلاً، فدخل إليه المشنوء يوماً فلم يحفل به أبو السائب ولم يرفع إليه طرفه، فوجد الرجل من ذلك، فجرّ الحديث إلى أن قال لأبي السائب: أيّها القاضي، أنزل الناس منازلهم، فقد وصّى رسول الله صلّى الله عليه وآله بذلك، فقال أبو السائب: يا غلام، خذ بيد الشيخ إلى الكنيف فما أعرف له منزلاً غيره، وقد أمسكت عن إقامة السّنّة فيه فأبى، فأخذ الشيخ إلى الكنيف وبقي يومه حتى كلّم أبو السائب فيه فأطلقه. وكان أبو السائب داهية الأرض، وكان قد ربع الآفاق وتصوّف، وعرف الأمور وقلب الدهور.
وقال صلّى الله عليه وآله لرجلٍ: " أولم ولو بشاةٍ "؛ هذا قاله لرجلٍ خطب كريمة قومٍ، فأحبّ عليه السلام بذلك التئام الشّمل وإشادة الأمور وتمام الألفة واجتلاب المحمدة واستدعاء البركة؛ يقال: أولم يولم إيلاماً مثل آلم يؤلم إيلاماً، ولكنّ الأشهر في أولم الوليمة، والإيلام على بابه في(7/245)
قياسه. فأما ألم يألم ألماً فالمؤلم؛ وقيل في الأليم إنه المؤلم، كذا فسّر أرباب الكلام في القرآن.
وكان سلام والد أبي عبيدٍ مملوكاً، وكان لا يفصح، فأسلم قاسماً في المكتب، وكان يضربه ويطالبه بما يتعلم؛ وكان يقول: إنما أدربك حتى تألم أي أضربك حتى تعلم، فجعل الضاد دالاً والعين ألفاً. ثم إن الله تعالى أنبت أبا عبيدٍ نباتاً حسناً، وكفله وتولاّه، وفتح عليه باباً في تفسير غريب حديث رسول الله صلّى الله عليه وآله لم يسبقه إليه أحدٌ، والناس من بعده سلكوا طريقه، وكان ثقةً عالماً ورعاً، وكتبه كلها جليلة القدر خطيرة، لا يقوم بها إّلا عالم.
وقال صلّى الله عليه وآله: " الصبر عند الصّدمة الأولى ".
وقال عليه السلام: " أفضل العمل أدومه وإن قلّ ".
وقال صلّى الله عليه وآله: " مداراة الناس صدقة ".(7/246)
وقال صلّى الله عليه وآله بدور الظلام ونجوم الإسلام: " ما تقص مالٌ من صدقة ".
سمعت بعض الناس يقول: هذا المحال بعينه وكذبٌ من الرّواية؛ كيف يضاف إلى رسول الله صلّى الله عليه وآله الذي هو الحقّ من الله، الباطل؟ كيف لا ينقص مالٌ من صدقة؟ إذا أخذت من درهم دانقاً فما ينقص منه دانق؟ وإذا أخذت من عشرةٍ درهماً فما يصير تسعة؟ وهذا إنما قاله عن عطن ضيّقٍ وجهلٍ متراكم، والعجب أنه من الشعراء ويترفّض ويدّعي تحقّقاً بمذاهب الإمامية، ولكن هذا من ثمرة عقلٍ سخيف، وكذلك تجد أكثرهم؛ وإنما المعنى على الاختصار إنما هو على أن الناقص عند المصّدق مرعيٌّ عند الله عزّ وجلّ بالخلف عليه والبركة فيه، وهذا الباطن فيه يوفي في وضوحه على الظاهر اللفظ، لأن التناقض منفيٌّ عن كلام كثيرٍ من السّفهاء فضلاً عن كلام الحكماء والأنبياء عليهم(7/247)
السلام، فضلاً عن كلام سيّد الأنبياء عليه السلام، وأمثال هؤلاء الذين بهرجوا الحكم، وشدّوا باب التأويل، ومنعوا من موارد العلم، وصدّوا عن سواء السبيل، أعانوا إخوانهم من الشياطين في الضّلال والتضليل.
وقال صلّى الله عليه وآله: " من صدق الله نجا ".
وقال عليه السلام: " سكّان الكفور كسكّان القبور "؛ وقال أهل العلم باللغة: الكفور جمع كفر، والكفر: القرية؛ ورووا أيضاً: تخرجكم الرّوم منها كفراً كفراً، أي قريةً قريةً، وكأنه دلّ عليه السلام على أنّ سكّان الأطراف والقرى يبغي لهم أن يخالطوا الحاضر للتعلم والتفقه والتأدب والتنبه، فبالاجتماع والتلاقي يقع التفاصح عن المعاني، والتعاون على البر. والكفر: التغطية، ومنه كفر فلانٌ كأنه ستر نعمة الله عليه بالجحود والعنود، ومنه الكافر في السلاح أي الداخل فيه، ويقال: تكفّر في درعه، والكافر: الزارع،(7/248)
هكذا قاله الناس، وزعموا أنه من هذا المعنى.
ورأيت كثيراً من المتكلمين يسرعون إلى تكفير قومٍ من أله القبلة لخلاف عارضٍ في بعض فروع الشريعة، وهذا الإقدام عندي مخوف العاقبة مذموم البديّ، وكيف يخرج الإنسان من دين يجمع أحكاماً كثيرة، وقد تحلّى منه بأشياء كثيرة ليست خطأ منه، وليس المعارض له بالتكفير بأسعد منه في نقل الاسم إليه؛ كذلك أبو هاشم يكفر أباه أبا علي الجبّائي وأبو علي يكفّر ابنه، وحدّثني أبو حامد المروروذي أن أختاً لأبي هاشم تكفّر أباها وأخاها؛ وأما أصحاب أبي بكر ابن الإخشيذ كالأنصاري وابن كعب وابن الرّمّاني وغيرهم، فكلّهم يكفّرون أبا هاشم وأصحابه وجعلاً وتلامذته، وخذ على هذا غيرهم، وما أدري ما هذه المحنة الراكدة بينهم، والفتنة الدائرة معهم! أين التقوى والورع والعمل الصالح ولزوم الأولى والأحوط؟ إلى متى تذال الأعراض وقد حماها الدّين، إلى متى تهتك الأستار وقد أسبلها الله عزّ وجلّ؟ إلى متى يستباح الحريم وقد حظره الله إلي متى تسفك الدماء وقد حرمها الله ما أعجب هذا الأمر! كانّ الله تعالى لم يأمرهم بالألفة والمعاونة، ولم يحثّهم على المرحمة والتعاطف، وكأنّ رسول الله صلّى الله عليه وآله لم يحذّرهم التفرّق في الدين والطعن على سلف المسلين.(7/249)
وقال عليه السلام: " الشديد من غلب هواه ".
وقال عليه السلام: " المستشير مغاث ".
وقال: " الولد ريحان من الجنة ".
وقال: " خيركم خيركم لأهله ".
وقال: " السّفر قطعةٌ من العذاب ".
وقال عليه السلام: " خيركم من طال عمره وحسن عمله ".
وقال: " حسن الجوار عمارةٌ للديار ".
وقال: " الأنصار شعارٌ والناس دثار ".
وقال: " لا سهل إّلا ما جعلت سهلاً ".
وقال: " خير النّساء الولود الودود ".
قولا: " الإبل عزٌّ والغنم بركة ".(7/250)
وقال: " ما نحل والدٌ ولده أفضل من أدبٍ حسن "، يقال: المعنى ما وهب له، والنحلة: نحلة المرأة، وكأنّ النّحلة التي هي العقيدة وجمعها النّحل إنما هي كالهبة من الله عزّ وجلّ، انتحل فلانٌ كذا أي ذهب إليه واشتمل عليه، وتنحّل إذا تكذب في الدعوى، يقال ما انتحل ولكن تنحّل إذا أظهر غير ما أضمر. فأما نحل الإنسان - في الّلازم - فمعناه هزل - بضم الهاء، ولا يقال هزل بفتح الهاء - وهزله الله يدلك عليه، وهو مهزول اللحم، واللحم الهزيل كأنه الغثّ الذي لا شحم له أو ليس بغريض. والغريض: الطّريّ؛ والطريّ بتشديد الياء - يدلك عليه قوله تعالى " لتأكلوا منه لحماً طريّاً وتستخرجوا ". فأما الطارئ - بالهمزة - فالذي يطرأ بلداً أي يرد ويقدم؛ والغريض الإغريض: الجمّار، والغريض: الغضّ، والهمزة زيدت في الإغريض لفرق، وإّلا فالغريض الأصل الذي هو الطّراوة، والطّراوة الجدّة - والجدة بتشديد الدال - فإما الجدة - بتخفيف الدال - فالغنى والإصابة؛ تقول: وجد يجد جدةً، كما(7/251)
تقول: وعد يعد عدةً، ووصف يصف صفةً، ووزن يرن زنةً، وومق يمق مقةً، ووثق يثق ثقةً، ووقر يقر قرةً، والقرة: الثقل في الأذن وغيرها، وفي المثل: نعوذ بالله من طئة الذّليل أي أخذته شديدة ومسّه خشنٌ كالجبان الظافر، فإنّه يجهز ولا يقال يجيز، إنما الإجازة في الحديث أو في الطريق فأما الإجهاز ففي الجريح إذا لم يترك على جراحته، ولكن أتي عليه، ولا يكون الإجهاز إلا بعد أن يثخن ويؤتى عليه. والطّراوة غير الطّلاوة، يقال طلاوة وطلاوة، فأما حلاوة فبفتح الحاء، وإن رفعت الحاء تحوّل المعنى إلى حلاوة القفا، تقول: طرحته على حلاوة القفا. الطّراوة: الغضوضة؛ هكذا قال أبو حنيفة، وأبى أن يقال: الغضاضة؛ وقال: إنما الغضاضة هي فيما يغصّ من الإنسان أي يوكس حقّه ويستهان بقدره. وقد يكون الشيء طريًّا لا طلاوة له، والطّلاوة: الماء والترقرق، وفي الإنسان: الدّماثة والقبول؛ والدّماثة: السهولة، يقال: أرضٌ دمثةٌ إذا كانت سهلة المحافر والمواطئ وكانت كريمة النّبات؛ هكذا يقول أبو حنيفة أعني الدّينوري أحمد بن داود صاحب كتاب النّبات والأنواء، وكان ثقةً صدوقاً عالماً شديد التحقّق بالحكمة، وله لهجةٌ بدويّةٌ وبيانٌ شافٍ ووصفٌ مستقصىً، يزيد بهذه الخاصة على علماء كانوا قبله، فإنّك لن تجد لواحدٍ منهم غزارته واسحنفاره - الاسحنفار: المضيّ في الكلام؛ ويقال: له مضاء وغناء، وكأنّ المضاء كالنّفاذ، والمضيّ كالنّفوذ، وليس بينهما(7/252)
فضلٌ مشعورٌ به ولكنّ للنفس عندهما وقفةً وتحيراً.
وقال عليه وآله السلام: الطاعم الشاكر بمنزلة الصائم الصابر.
وقال: حسن الملكة نماء؛ النّماء ممدود، وهو الاسم، ويقال نمى ينمي نمياً، وهو المختار، ولغة أخرى: نما ينمو نموّاً ونماءً؛ والنّماء: الزيادة؛ ويقال نمى إليّ حديث كذا، فكأنه زاد فشوّه حتى بلغه؛ ويقال: لا تقطعوا نامية الله عزّ وجلّ، زعم الرّواة أنه عنى به النهي عن الخصاء؛ وفي الدّعاء يقال: نماه الله، وقد قيل: أنماه الله، وهو أقيس وهو أقلّ.
وقال عليه السلام: من بدا جفا؛ زعم العلماء أن معناه: من سكن البادية غلظ، كأنه إنما تستفاد الرّقّة بالحاضرة لأنهم أهل المحاضرة؛ والمحاضرة فيها تفهيم واستفهام، والرقّة تابعةٌ لهذه الحال، ومعنى بدا: ظهر، كأنه من خرج إلى ظاهر المدن، لأنّ من سكن هناك فهو ظاهرٌ لا يستره الجدار ولا(7/253)
يكنّه البنيان. وتقول منه: بدا يبدو فهو بادْ والمصدر البدوّ، فأما البدء فالابتداء؛ وقلا سيبويه: يقال: بدا لي كذا يبدو بداً وبداءً، والقصر عند غيره مرذول.
والناس يقولون إنّ طائفة من الشيعة تقول بالبداء، وزعموا أنّ أصل هذا القول نشأ عن المختار، فإنّه كان يعد أصحابه عن الله عزّ وجلّ الظّفر، فإذا حال معنى الوعد قال: بدا لله، خيفة أن يقال: أخلف الله.
وقال عليه وآله السلام: لو كان لابن آدم واديان من ذهبٍ لابتغى إليهما ثالثاً، ولا يملأ جوف ابن آدم إّلا التّراب ويتوب الله على من تاب؛ يقال: كان هذا في القرآن، وعلى ظاهره مسحة تلك الطريقة، والله أعلم بحقيقة الحال فيه، وإنما تقول ما قالوا ونسكت عن ما سكتوا، ولسنا أعلم ممّن سلف، بل الأقدمون هم المقدّمون والأوّلون هم الأولون، وإنما نحن لهم تبع، والجميع في الحق شرع. ومعنى شرع: سواء، والشريعة: الموردة لاستواء الشاربة في الارتواء.(7/254)
وقال عليه وآله السلام: تدمع العين ويحزن القلب ولا نقول ما يسخط الرّب؛ يعني أن البشرية تعجز عن تحمّل الحكم، والعقل يحجزه عن تكرّه القضاء، فيبدي من الحزن ما تقتضيه الرحمة، ويضمر من التسليم ما يوجبه حال العصمة.
وقال صلّى الله عليه وآله لرجلٍ: " أخذنا فألك من فيك "، الفأل هاهنا مهموز، فأما الرجل الفال إذا كان فائل الرأي فلا همزة فيه، وقد مرّ الكلام في هذه الكلمة آخذاً بنصيبه من الإيضاح والشرح.
وقال: " من عمل عملاً ردّاه الله عمله "، أي ألبسه ذلك، أي جزاه جزاءه، وكأنه بيان قوله جلّت عظمته " فمن يعمل مثقال ذرةٍ خيراً يره ومن يعمل مثقال ذرةٍ شرًّا يره " يقال في اللغة: حسن الرّدية كما يقال: حسن المشية وحسن النّيمة - من النوم - وحسن الفضلة، والتفضل هو التبذل بالثوب الواحد، كأنّه خلاف الحفلة، لأنّ الحفلة للمباهاة، والفضلة للمباسطة؛ وأما الرّدى فالهلاك، يقال: أرداه الله أي أهلكه، وتردّى هو أيضاً معناه هلك، ومنه قوله تعالى " والمتردّية " والتردي كأنه من علٍ يكون. فأما قول العامة: ترادى فلان فإني سألت عنه السيرافي -(7/255)
وكان إمام عصره حفظاً وضبطاً وعرافةً وثقةً - فقال: كلام مهزولٌ لا مجال له في شريف كلام العرب.
وقال عليه وآله السلام: غبار الجهاد ذريرة الجنّة؛ حدثنا بهذا الحديث ميسرة بن علي إمام جامع قزوين في سنة خمسين وثلاثمائة عن محمد بن أيوب الرازي، وسألت عنه ابن الجعابي فزوى وجهه كأنه لم يره صحيحاً.
وعلى ذكر ابن الجعابي، فإني سألته عن قوله عليه السلام لعمار: يا عمّار تقتلك الفئة الفئة الباغية، قال: لا أصل له ولا فضل، وإنما ولّده مولد. كذا قاله، وأما غيره فإنّه قال: هو من المعجزات لأنه إخبارٌ بالغيب، وقد قال عمرو بن العاص لما قيل لمعاوية إنّ ابنه يذكر سماعه من رسول الله صلّى الله عليه وآله يقول: " يا عمّار تقتلك الباغية "، فأجابه بأن قاتله(7/256)
من جاء به إلى القتال؛ فإن كان الأمر على ما قاله فالشّهداء الذي قتلوا في غزواتهم مع النبيّ صلّى الله عليه وآله كلهم هو قتلهم، والله المستعان.
وقال عليه السلام للأنصار يصفهم مادحاً ومبيناً لما رأى منهم: " إنكم لتكثرون عند الفزع وتقلّون عند الطمع "؛ قد فسر المبرّد هذا في أول كتابه الكامل وأوضح المعنى فيه، وعلى التقريب نقول: الفزع ينقسم مرةً إلى الرّوع الذي يبقى فيه الإنسان حتى تعتريه الحيرة ويخامره الرّعب، فكأنّه فاتحة المكروه، وينقسم مرةً إلى أنه إغاثةٌ وإصراخٌ ومعونة وإنجاد. وهذا المعنى من رسول الله صلّى الله عليه وآله في تقريظ الأنصار: أي أنتم عند المعونة والنصرة تكثرون لشرفكم وشجاعتكم، فأما عند الفيء والقسمة وما عرض من أكثر الناس. وهذا من روائع الكلام الذي هو بنفسه يدلّ على علوّ قائله وشرف الناطق به.(7/257)
وقال عليه السلام: " إنّ الله عزّ وجلّ يحبّ معالي الأخلاق ويكره سفسافها "؛ السفساف: الخسيس، وسفسف فلانٌ في كذا إذا أدقّ نظره وتتبّع حواشيه خيفة أن يفوته منه شيءٌ.
وقال عليه السلام: " أمّتي كالمطر لا يدرى آخره خيرٌ أن أوّله "؛ ليس هذا منافياّ لقوله: " خير القرون القرن الذي بعثت فيهم ثم الذين يلونهم على ذلك "، وليس هذا أيضاً منافياً لقوله في وصف الزمان: " لا يزداد الزمان إّلا صعوبةً، ولا الناس إّلا شحاً، ولا تقوم الساعة إّلا على شرار الناس ". وإذا عبرت بجواب ما تقدّم من المسائل رأيت الكلام في هذا واقعاً موقعه ومستمراً مريره.
وقال عليه السلام: " لا عيش إّلا عيش الآخرة ".(7/258)
وقال: " خزائن الخير والشرّ مفاتيحها الرّجال ".
وقال: " أعظم النكاح بركةً أيسره مؤونةً ".
وقال: " قيّدوا العلم بالكتاب ".
وقال: " كاد الفقر أن يكون كفراً ".
وقال: " همّة العلماء الرعاية وهمّة السّفهاء الرّواية ".
وقال: " التمسوا الرزّق في خبايا الأرض ".
وقال: " ذو الوجهين لا يكون عند الله وجيهاً ".(7/259)
وقال عليه وآله السلام: " في كل كبدٍ حرّى أجرٌ "؛ والحرّى العطشى، والمعروف الحّران في المذكّر، وحرّان لا ينصرف، ومعنى قوله لا ينصرف: لا ينّون آخر الكلمة، ولعلك إن لم تأخذه من حرّ - إذا عطش - يحرّ حرّة انصرف، لأنك تجعله إذ ذاك من حرن فهو حرّان مكان حرون؛ ألا ترى أنك إذا صرفت حسّان وتيّان وحيّان وزمّان عن باب فعلان إلى باب فعّال صرفت، فإنك إذ أخذت حسّان من حسن يحسن حسناً فهو حسّان كان فعّالاً وصرفت، وإذا أخذته من حسّ كان فعلان ولم يصرف؛ وإذا أخذت حيّان من حان فهو حيان كان فعّالاً وصرفت، وإذا أخذته من الحياة أو الحيا كان فعلان ولم يصرف، وكذلك إذا أخذت تيان من التّين - وهو بائعه وجامعه - كان فعالاً وصرفت، وإذا أخذته من تيّ كان فعلان ولم يصرف، وكذلك زمّان إن أخذته من زمن بالمكان إذا أقام كان فعالاً وصرفت، وإن أخذته من زمّ يزمّ كان فعلان ولم يصرف، والكلام في زمان سيمرّ أشبع. ومن هذا الحرّ، يقال: حرّ يومنا إذا وهجت شمسه، وحرّ المملوك بحرّ وحرّ اليوم يحرّ، وما هاهنا فاصلٌ طبيعيٌّ ولا شاهدٌ عقليٌّ، والسّماع في مثله عزيز. وهذا غاية ما أقدر عليه، وأجد سبيلاً إليه، وإنما أتكلف ما يستطاع.(7/260)
فخذ من كلّ ما يقرع سمعك ويروق فهمك صافيه، ودع عليّ كدره واغفر لي خطئي في هذا الكتاب لصوابه، ولا تنكر حسني فيه لقبيحي منه، واعلم أن من طلب عيباً وجده.
وقال عليه السلام: " أفضل الصّداقة على ذي رحمٍ كاشحٍ "؛ الكاشح: العدوّ؛ كأنه من كشح عني إذا أعرض أي طوى كشحه. وسمعت من يقول: لأنه أضمر العداوة في كشحه. وكشحته إذا ضربت كشحه، كما تقول بطنته ورأسته وفأدته وكبدته إذا ضربت هذه المواضع منه، أعني البطن والرأس والفؤاد والكبد، وكذلك طحلته، من الطّحال، وكأن بابه متلئبٌ أي مطّرد ومتتابع؛ هكذا حفظت. وناقة مكشوحةٌ إذا كويت في كشحها، وجمع الكشح كشوح، وقد سمعت أكشاحاً، والعرب تقول: أصبح فلانٌ وصاحبه يتكاشحان ولا يتناصحان، ويتكاشران ولا يتعاشران.
وقال عليه السلام: " أصحابي كالنّجوم بأيّهم اقتديتم فقد(7/261)
اهتديتم "، وكان أبو حامد يقول: جمع النبيّ صلّى الله عليه وآله وأصحابه بهذه الكلمة تحت الشّرف والعمل والعلم، وهذا هو التزكية، وناهيك بمن رسول الله صلّى الله عليه وآله مزكّيه والدّاعي إليه، وإن كان التفاضل قائماً بينهم، وهكذا يوجب حكم المثل من قوله أيضاً، لأن النجوم تجتمع في الإزهار والإضاءة ثم إنها تتفاضل في ذلك، وليس فيها ما لا يهتدي به، ولا يبصر بضيائه، ولا يقتبس من نوره؛ هكذا أصحاب رسول الله صلّى الله عليه وآله. ومن كان منهم أقدمهم مولداً، وأكبرهم سنًّا، وأسبقهم هجرةً، وأكثرهم تجربةً، وأشدّهم ملابسةً، كأبي بكر الصديق، كان أولى بالاقتداء به والمصير إلى قوله وفعله وهديه.
وكان يقول: كيف يطلق عليه السلام هذا القول وهو قد عرف - بزعم الرافضة - أنه سيكفر فيرتد ويضلّ ويحمل أمةً قد تعب(7/262)
محمد صلّى الله عليه وآله وسلّم في إرشادها وهدايتها إلى الله عزّ وجلّ وإنقاذها من النار، على الضلالة والردة والكفر والفسوق؟ هذا لا يسع توهّمه فكيف اعتقاده والإيمان به؟ فقيل لأبي حامد وأنا أسمع: هذا الخبر لا يقتضي هذا الكلام كله وهذا التهجين للقوم جملة، لأنه من الآحاد، والمذهب في الخبر الواحد معروف، لأنه لا يجب به علم، وإن كان يصار به إلى عمل لانقطع بصحة موقعه من الله عزّ وجلّ ورسوله صلّى الله عليه وآله، فقال أبو حامد: إن الخبر لما أسند إلى ما عرف من حال الصحابة في هجرتها ونصرتها وسابقتها وعلمها وعملها وغنائها وجميل بلائها وغير ذلك من أفعال وأخلاق وعقود، وما أثنى الله عزّ وجلّ عليهم بها، وتمّت كلمة الله تعالى معها، وطارت الشريعة في آفاقها، وثبتت على عهدها وميثاقها، وساحت على فسيطها، وظهرت على الأديان كلّها، وجب أن يكون صحيحاً أو في حكم الصحيح - أعني في حكم ما لو قاله لم يردده أصل، ولم ينثلم به ركن، ولم يحله عقل، ولم يأبه فهم.
753 - وقال: وعلى أنّا لو نفينا هذا الخبر، وبهرجنا هذا المعنى، وعدلنا أيضاً عن السيرة المحكيّة، والقصة المرويّة، لكان فيما يوجبه حال نبيٍّ أتى من الله تعالى بالحقّ المبين، والمصلحة الشاملة، والمنفعة الكاملة، والخير(7/263)
الفائض، ودعا باللطف، وصدع بالأمر، وكان الله تعالى متولّي حراسته، وعاصم نفسه، وناشر رايته، ما يقتضي هذا المعنى في الخبر وإحقاقه.
753ج - قال: وإنما الطعن على السّلف من عادة قومٍ لا خلاق لهم، ولا علم عندهم، ولم يطّلعوا على خفيّات الأمور، وعلى أسرار الدّهور، ولم يميّزوا الحال بين نبيٍّ جاء من عند الله تعالى هادياً للخلق، وسائقاً إلى الجنّة، وبين متنبئ مخرق بالحيلة، ولبّس بالمداهنة، ودلّى بالغرور، وزخرف بالباطل. والطاعن على السّلف قد أشار إلى هذا المعنى وإن لم يفصح به، وألمّ بهذا البلاء وإن لم يتربّع فيه - حرس الله علينا دينه بسلامة القلب على من نصر رسوله عليه السلام، وسلك سبيله، واتبّع دليله، وقبل منه دقيقه وجليله، ولا جعل في قلوبنا غلاًّ للذين آمنوا، إنه بنا رؤوف رحيم.
وقال صلّى الله عليه وسلّم: " إنّكم لن تسعوا الناس بأموالكم ولكن سعوهم بأخلاقكم ".(7/264)
وقال عليه السلام: " استعينوا على حوائجكم بالكتمان، فإنّ كلّ ذي نعمةٍ محسودٍ ".
وقال عليه السلام: " العبادة في الهرج كالهجرة إليّ. والهرج بغي الفساد ".
وقال عليه السلام: " من أحبّ أخاه فليعلمه؛ حثّ بهذا على المواصلة ".
وقال عليه السلام: " من رزق من شيءٍ فليلزمه، حثّ بهذا على استمداد الرزق ".(7/265)
وقال صلّى الله عليه وآله: " الإيمان قيّد الفتك؛ هذا لئلا يقدم المغيظ بالهوى على المحظور ".
وقال عليه السلام: " حلق الذّكر رياض الجنّة، والذاكر في الغافلين كالمحارب في المنهزمين ".
وقال صلّى الله عليه وآله: " إنّ الله جلّت عظمته قسم بينكم أخلاقكم كما قسم بينكم أرزاقكم ".
وقال صلّى الله عليه وآله: " صنائع المعروف تقي مصارع السّوء ".
وقال: " التائب من الذّنب كمن لا ذنب له ".
وقال عليه السلام: " أبغض الرّجال إلى الله عزّ وجلّ الألدّ الخصم ".(7/266)
وقال صلّى الله عليه وآله: " أخوف ما أخاف على أمّتي منافقٌ عليم اللسان ".
وقال عليه السلام: " رحم الله عبداً قال خيراً فغنم أو سكت فسلم ".
وقال: " صلة الرّحم مثراةٌ في المال منسأةٌ في الأجل "؛ الحرف مهموز في الأصل وتليينه جائز، ولكن لا تعتقدن عند التليين أنّ الحرف من النّسيان، ولا تقولنّ في النّسيان النّسيان فإن قولك النّسيان تثنية للنّسا، والنّسا هو عرقّ مقصور يستنبطه الفخذ - ويقال الفخذ أيضاً، والفخذ يذكّر على مذهب الفرّاء لخلوّ اللفظ من علامة التأنيث، ويؤنث عند غيره لإضمار التأنيث، وكأن العرب فيها على مذهبين، وللفخذ نظائر. ومن النّسيان تقول: رجل نسٍ(7/267)
ورجلان نسيان؛ فأما قوله: منسأة في الأجل، فمن نسأ الله في أجله أي أخرّه، ويقال أيضاً: أنسأ الله أجله، المعنى في اللفظين واحد، وقوله تعالى " إنّما النّسيء زيادةٌ في الكفر " مهموز، وما أعرف قارئاً ذهب إلى ترك الهمزة، فأما: " نسوا الله فنسيهم " فلا همز، وفسّر: تركوا الله فتركهم، وإنما الفرق عرضي تابعٌ للمعنى، وهكذا تجد هذا الجنس كالحصان - بكسر الحاء - وهو الفرس، والحصان - بفتح الحاء - هي المرأة العفيفة والحصن والمحصنة، والفتح يدل على أنها استعفّت. ومن هذا الضرب الحيّة والحيّ والحيا والحياء وحيّان وحيوة وحيوان والحيّ الذي هو القبيلة، وذلك أن معنى الحيا شائع في أثناء هذه الأسماء، كأنهم رأوا الغيم يحيا له البشر والنّعم، فأفردوا له اسماً من الحياة، ثم وجدوا الحياء في الوجه لا يكون إّلا من شرف النفس ونقاء الجوهر، فدلّهم ذلك على أنّ صاحب هذا النعت أحيى ممن لا حياء له، لأن خالع الحياء في قلة رقبته وتهوّره يشبّه بالميت، وكأنّهم وجدوا جماعة ناسٍ من بطنٍ واحدٍ إذا انتسبوا إلى أبٍ أو اجتمعوا أو(7/268)
اجتوروا - أي تجاوروا - فتمّ بينهم التعايش والحياة، وكأنّهم رأوا الحيّة طويلة العمر كثيرة الحركة، فأفرغوا عليه سمةً تدلّ على خصوصيتها. وأما حيوة في الأسماء فكأنها حياة سكّنت ياؤها واجتلبت لها الواو والبناء على حاله. وهذا شكلٌ من الكلام لولا أنّي قد سمعته ووعيته واستخرجته وتدبّرته وعرضته على العلماء ويسّرته لكان الإقلال منه أسلم. لكنّ هذا الكتاب قد جعلته خزانة لنفسي، ومرجعاً لدرسي، ففي نظرائي وأشكالي من فهمه أثبت من فهمي، وذهنه أنفذ من ذهني، وحفظه أغزر من حفظي، وقلبه أذكى من قلبي، لكني آثرت أن يكون لي فيمن دوني أثر، كما كان لمن فوقي عندي أثر، وإذا تيقظت قليلاً رأيت أهل الفضل كنفس واحدة تستنسخ الفضائل على الزمان في ذوي الأرواح الطاهرة والجواهر النيرة والطبائع المشحوذة والعقول السليمة. فأقلل من الطعن إن ظفرت بما يحسن في عقلك طعناً، وخاصم نفسك عني فإنّه أشبه بكرمك، وأبعد للإدالة منك، ومن عاب عيب، ومن هاب هيب، ومن صان صين، ومن أعان أعين، والحرّ أوقف بالطبيعة، والقصاص فأتمّ في الشريعة، وقد قيل: كما تدين تدان، وكما تزرع تحصد.
وقال عليه السلام: " حفّت الجنة بالمكاره وحفّت النار بالشهوات "؛ ولوال أن التكليف والمدح والذمّ والكرامة والإهانة لا تتم أحكامها(7/269)
ولا يثبت نظامها إّلا بأن تكون الجنة المرغوب فيها والنار المرهوب منها، على ما وصف عليه السلام لما كانت، فإنّ ربّ الخلق أعلم بالخلق، وباني الدار أعلم بالدار، وربّ المنزل أعرف بالمسكن، وليس السلامة إلا في التسليم.
وقال عليه السلام: " الرزق يطلب العبد كما يطله أجله "؛ هذا الكلام كمايةٌ عن مصير الرّزق إلى العبد كملاً كمصيره إليه، إما بالاكتساب والاحتساب، وإما بغير اكتساب ولا احتساب، فكأنه دلّ على أنه لا بدّ للعبد البرّ والفاجر من استيفاء أكله إلى آخر أجله، وكان بعض الصوفية يقول: إما أن ترزق وإما أن تصبر وإما أن تقبض.
والكلام في الزّرق خفيٌّ، والبحث عنه شاقٌّ، والمدخل فيه غامض، والناس على طبقاتهم يموجون فيه بالصّحيح والسّقيم، والفاسد والسليم. والحقّ الذي لا يطور به الباطل، والحجة التي لا تتخّونها شبهة، أنّ الإنسان منذ يسقط من بطن أمه إلى أن يلحد في ضريحه مكفولٌ به، مصنوعٌ له، وأنّ كافله وصانعه يدبّره بمشيئته وإرادته على ما سبق من علمه وحكمته، فالعبد(7/270)
مرةً محرومٌ ليبتلى صبره، ومرةً واجدٌ ليعرف شكره، ولن يصفو من الدّنس وال يعرى من لباس الهوى ولا يصلح لسكنى الجنة إّلا بهذا النوع من التقليب، وهذا الشكل من الترتيب: بين حالٍ يكون فيها مرتهناً بشكرٍ يمتري له المزيد، وبين أخرى يكون ممتحناً فيها بصبرٍ يوجب له المزيد، فليس ينفكّ من النعمة، إّلا أنه في الغنى أبطر وفي الفقر أضجر، وحكم الله ينفذ فيه على كرهٍ منه. فما أحسن بمن أوسع الله عليه في ذات يده أن يكون مراعياً لحقّ الله عليه، وما أولى بمن ضيّق عليه أن يكون واثقاً من الله بما لديه، فلعلّ الصّنع له فيما زوي عنه وحجب وهو لا يدري، ولعلّ النظر له فيما حرم وهو لا يشعر.
وأنا أستحسن قول رجلٍ قال لعبيد الله بن سليمان: لو كان للوزير بي عناية ما كان عني نابي الطّرف، ولا كنت من دركي منه على حرف؛ فقال عبيد اله: أيها الرجل، على رسلك، فعسى نظري لك في الإعراض عنك، ولعل استصلاحي إياك بالانقباض منك، ثق باهتمامي بك إلى أوان إسعافك، فإنّ تقرّبك إليّ بتفويضك أجلب للنيل إليك من تباعدك عني باقتضائك، واعلم أني وزير.(7/271)
هذا - أيدك الله - فصلٌ عجيب سقته إليك لتعلم أنّ الإشارة في هذا المعنى إذا نقلتها إلى ما بينك وبي الله عزّ وجلّ علمت أنه أحقّ بتفويضك وسكونك وتسليمك، وأنه أقدر على صرف المكروه واجتلاب المحبوب من عبيد الله بن سليمان، واستلطف في قوله واعلم بأني وزير فإنه ينّبهك على أمر خطير.
وسمعت بعض مشايخنا يقول: كيف لا أثق بالله جلّ جلاله وأعتمد عليه، ولقد رأيته يؤتيني ما أحب فيما أكره أكثر مما أصيب أنا ما أحب فيما أحب.
وقال عليه السلام: " الزّكاة قنطرة الإسلام ".
وقال: " من ألقى جلباب الحياء فلا غيبة له ".
وقال عليه وآله السلام: " المؤمنون هينون لينون "؛ هيّن ليّن هين لين على وجه واحد، وكذلك ميّت وميت؛ وكان البديهي الشاعر العروضي يقول: التشديد يدلّ على أن الموت قد حلّ به وفارق الحياة، والتخفيف على أنه(7/272)
مقتبلٌ كائنٌ مع حياته وحركته؛ قال: والهين بالتخفيف يدلّ على أن ذلك منه سجية، والتشديد يدل على أنه متكلف. وهذا نوع من التعسّف لا يصحبه دليل، ولا يشهد له تأويل، إنما كان يهذي بمثل هذا ويكثر منه، وأقبح بالتكلّف، خاصةً بذي اللّسن العالم.
وقال صلّى الله عليه وآله: " لا تطرحوا الدّرّ في أفواه الكلاب "؛ هذا رواه لنا ابن مخلد بفارس، ومرّ بي بعينه في كلامٍ لعيسى بن مريم عليه السلام طويل.
وقال: " بعثت بالحنيفيّة السّمحة ".
وقال: " اللهمّ غبطاً لا هبطاً "؛ نصبه على المصدر كأنه: أسألك غبطاً أي أن أغبط غبطاً لا أن أهبط هبطاً، ومصدرٌ آخر وهو(7/273)
الهبوط - بضم الهاء -؛ والهبوط - بالفتح - هو المكان الذي يهبط منه، وهبط أي نزل، ومنه مهبط جبريل عليه السلام؛ ويقال: هبطه أيضاً، وقد سمعت يتهبّط، فأما أهبطه فهبط فبابه مجرى بيّن، والهبوط خلاف الصّعود، كما أن الهبوط خلاف الصّعود.
وقال عليه السلام: " أصحابي كالملح في الطّعام ".
وقال عليه السلام: " مروا بالخير وإن لم تفعلوه ".
وقال عليه السلام: أهل القرآن أهل الله ".
وقال عليه السلام: " الصّدق والبرّ في الجنة ".
وقال عليه السلام: " علّق سوطك حيث يراه أهلك ".(7/274)
وقال عليه السلام: " التّواضع شرف المؤمن ".
وقال صلّى الله عليه وآله: " لا خير في العيش إّلا لسميعٍ واعٍ ".
وقال عليه السلام: " استنزلوا الرّزق بالصّدقة ".
وقال عليه السلام: " لكلّ شيءٍ عمادٌ وعماد الدّين الفقه ".
وقال عليه السلام: " لا خير في المراء وإن كان في حقٍّ ".
وقال عليه السلام: " انظر إلى من تحتك ولا تنظر إلى من فوقك ".
وقال عليه السلام: " المعروف بابٌ من أبواب الجنّة ".
وقال عليه السلام: " خيانة الرجل في علمه أشدّ من خيانته في ماله ".(7/275)
وقال عليه السلام: " السؤال نصف العلم ".
وقال عليه السلام: " الدعاء سلاح المؤمن ".
وقال عليه السلام: " المجالس أمانة ".
وقال عيه السلام: " الظّلم ظلماتٌ يوم القيامة ".
وقال عليه السلام: " الدّين الحبّ والبغض في الله ".
وقال عليه السلام: " الحكمة ضالّة المؤمن ".
وقال عليه السلام: " أحبب للناس ما تحبّ لنفسك ".(7/276)
وقال عليه السلام: " النصر مع الصّبر والفرج مع الكرب ".
وقال: " الدعاء مخّ العبادة "؛ رأيت بعض المتكلّمين يقول: إنما هو محّ العبادة - بالحاء غير معجمة، وسألت العلماء عنه فكرهوا قول هذا الرجل وقالوا: المحّ صفرة البيض. فأما محّ الثوب قد درس، ويقال أمحّ. فأما المخّ - بالخاء معجمةً - فهو ما تجده في العظم. فكأنه عليه السلام دلّ بهذا القول على أن الدعاء خالصة العبادة ولبّها. لأنّ العبادة وإن طالت متى خلت من الدعاء لم يكن لها دعامةٌ تثبت عليها، ولا عمادةٌ ترجع إليها، وذاك أن الدّعاء يستخلص القلب ويبعث على المذلّة، ويستخرج سرّ النفس، ويبيّن ذلّ العبد إذا سأل من عزّ الرب إذا سئل. وقد ندب الله عزّ وجلّ إلى الدعاء بقوله " ادعوني أستجب لكم ".
وسمعت ابن البقال الشاعر - وكان على مذهب ابن الراوندي - يقول: ادعوني أستجب لكم فندعوه فلا يستجيب لنا، وإن تكلّمنا سخّفنا؛ فقال له بعض أصحابنا: إنّ هذا الوعد من الله عزّ وجلّ في الاستجابة مشروطٌ بالمشيئة،(7/277)
يصحّ ذلك إذا قرأت قوله " فيكشف ما تدعون إليه إن شاء " وهذا كما قال: " وانكحوا الأيامى منكم والصّالحين من عبادكم وإمائكم إن يكونوا فقراء يغنيهم الله من فضله والله واسعٌ عليمٌ "، فقد يقال: قد نرى من ينكح ويتزوج ثم لا يغنيهم الله؛ وهذا الاعتراض يبطل أيضاً لأنّ الإغناء لا يتعلّق بالعرض والأثاث والخرثيّ والنّعم والخيل؛ قد يحوي هذا كلّه من يحكم عليه بالفقر - أعني فقر النفس - وقد يعرى من هذا كلّه من تجده طيّب النّفس ريّح القلب واثقاً بالله عزّ وجلّ، ولهذا قال صلّى الله عليه وآله: ليس الغنى من كثرة العرض، إنما الغنى غنى النفس. نعم، على أنّ الإغناء قد يقع من الله عزّ وجلّ، ولكنّ العبد لا يستغني به، فإذا اعتبرت الإنسان بعد الإغناء، وضممت كلاًّ إلى نظيره على ما يوجبه النظر الصحيح، علمت أنّ الذي قاله الله حقّ، وأن الذي هذى به الطاعن باطل؛ قال الشاعر: وغنى النفس ما ينبغي لك أن تحفظه في هذا الموضع: السريع
قالت أما ترحل تبغي الغنى ... قلت فمن للطارق المعتم
قالت فهل عندك شيءٌ له ... قلت نعم جهد الفتى المعدم
فكم وحقّ الله من ليلةٍ ... قد طعم الضّيف ولم أطعم(7/278)
إنّ الغنى للنفس يا هذه ... ليس الغنى في الثوب والدّرهم
وقال آخر في نظيره: السريع
لا تكثري لومي على أنّني ... صاحب إملاقٍ وإقلال
في قوت يومي سعةٌ للذي ... يأكله الضّيف على حال
ما ضرّ ضيفي أنّني معدمٌ ... وأنه في أنعم البال
إن الغنى في النفس يا هذه ... ليس الغنى في كثرة المال
والصوفية تزعم أن الفقر في الجملة أفضل من الغنى في الجملة؛ والكلام فيه سيمرّ في عرض ما نفرده لهم، ونرويه عنهم، ونقوله مضافاً إلى ما يطرّد على طرائقهم من هذا الكتاب، إن شاء الله تعالى.
وقال عليه السلام: " خير الهدي هدي محمد، وشرّ الأمور محدثاتها ".
وقال عليه السلام: " داووا مرضاكم بالصّدقة، وردّوا نائبة البلاء بالدعاء ".(7/279)
وقال عليه السلام: " أشراف أمّتي حملة القرآن وأصحاب الليل ".
وقال عليه السلام: " الشتاء ربيع المؤمن، يقصر نهاره فيصوم ويطول ليله فيقوم ".
وقال عليه السلام عن الله عزّ وجلّ: " أنا عند حسن ظنّ عبدي بي فليظنّ بي ما شاء؛ حسن الظّنّ من العبادة ".
وقال عليه السلام: " صل من قطعك، وأعط من حرمك، واعف عمّن ظلمك ".
وقال صلّى الله عليه وآله: رحم الله امرءاً أصلح من لسانه ".
وقال عليه السلام: " التوبة من الذّنب أّلا تعود فيه ".
وقال عليه السلام: " كفى بالمرء فتنةً ان يشار إليه بالأصابع ".(7/280)
وقال: " حبّبوا الله إلى الناس يحببكم ".
وقال: " الأنبياء قادة والفقهاء سادة ".
وقال عليه السلام: " عش ما شئت فإنّك ميت، واجمع ما شئت فإنك تارك، ودع ما شئت فإنك مستريح، وقدّم ما شئت فإنك واجد ".
وقال عليه السلام: " لله ما أعطى وما أخذ ".
وقال عليه السلام: " من يزرع سيّئاً يحصد ندامة ".
وقال عليه السلام: " الخلق الحسن يذهب الخطايا ".
وقال عليه السلام: " البلاء موكّل بالمنطق ".
وقال عليه السلام: " نعم صومعة الرجل بيته ".(7/281)
وقال عليه السلام: " ما استودع الله عبداً عقلاً إّلا استنقذه به يوماً ما ".
وقال عليه السلام: " إياك والمدح فإنّه الذّبح ".
وقال عليه السلام: " الأنساب علمٌ لا نيفع وجهلٌ لا يضرّ ".
وقال عليه السلام: " عملٌ قليلٌ مع علمٍ خيرٌ من كثيرٍ مع جهل ".
وقال عليه السلام: " من سعادة ابن آدم رضاه بما قسم الله عزّ وجلّ له ".
وقال صلّى الله عليه وآله: " أمرنا أن نكلّم الناس على قدر عقولهم ".
وقال: " اللهمّ أعط كلّ منفقٍ خلفاً؛ اللهم أعط كلّ ممسكٍ تلفاً ".
وقال عليه السلام: " أكثروا ذكر هادم اللذّات ".(7/282)
وقال عليه السلام: " صوموا تصحّوا وسافروا تغنموا "؛ سمعت بعض الصوفيّة المشهورين يقول: باطن هذا الكلام: أي صوموا عن الفحشاء تصحّوا بالطاعة، وسافروا إلى الله تعالى بالهمم الجامعة تغنموا رضاه عنكم ونظره إليكم، فإنّ ذلك أعلى من الجنة وأشرف من الخلد، بل كلّ ذلك تابعٌ لرضاه عنك ونظره إليك وقبوله إياك. وهذا الباطن لا يدفع ذلك الظاهر، وما دام القوم على هذا المنهج فهم أسعد قوم، وهم أسعد من قومٍ ادّعوا الباطن فنحلوا الباطل، وهم طائفةٌ من الشّيعة لهم دعوى لا برهان معها، وتمثيلاتٌ لا منفعة فيها، وقد مقتهم أصناف الناس لقبح ما أتوا به من الإلباس.
وقال عليه السلام: " من خزن لسانه رفع الله تعالى قدره وشأنه ".
وقال صلّى الله عليه وآله: " الجماعة رحمةٌ والفرقة عذاب ".(7/283)
وقال عليه السلام: " مقصّرٌ سخيٌّ أحبّ إلى الله عزّ وجلّ من مجتهدٍ بخيل ".
وقال عليه السلام: " أشقى الأشقياء من اجتمع عليه فقر الدنيا وعذاب الآخرة ".
وقال عليه السلام: " من لم يشكر القليل لم يشكر الكثير ".
وقال عليه السلام: اعبد الله كأنك تراه فإن لم تكن تراه فإنه يداك واعد في الموتى وقال عليه السلام: " الفتنة إذا أقبلت شبهت، وإذا أدبرت أسفرت ".
وقال عليه السلام: " السلطان ظلّ الله في أرضه ".(7/284)
وقال عليه السلام: " كتب الله المصيبة والأجل، وقسم المعيشة والعمل ".
وقال عليه السلام: " أحسنوا جوار نعم الله عزّ وجلّ ".
وقال: " أصفر البيوت جوفٌ صفرٌ من كتاب الله تعالى "؛ الصّفر - بكسر الصاد - الخالي، والصّفر - بالضم - معروف، والعامة تلحن، هكذا قاله أبو حاتم، وكان عالماً متقناً. والصفير من الفم والصفّار: الذي يصفر؛ ويقال لبائع الصّفر أيضاً صفّار، ويقال أيضاً في المثل: صفر وطبه كأنه كناية عن قولهم: ما بقي عنده شيء. وفي المثل أيضاً: والله ما كفأت له إناءً ولا أصفرت له فناء. فأما صفّرته كما تقول حمّرته فكلامٌ شائع؛ ويقال في المثل: هذا لا يلتاط بصفري، كأنه عبارة عن قولهم: هذا لا تهواه نفسي ولا يلصق بفؤادي، والمصفور: المستسقي، والمصفور: من جوفه غليظٌ.(7/285)
وقال عليه السلام: " لا تحقرنّ من المعروف شيئاً ".
وقال عليه السلام: " أفلح من رزق لبّاً ".
وقال: " لو دخل العسر جحراً لدخل اليسر وراءه حتى يخرجه ".
وقال: " هدّية الأحياء إلى الأموات الاستغفار لهم ".
وقال عليه السلام: الموت تحفة المؤمن ".
وقال: " في المعاريض مندوحةٌ عن الكذب " وقال: " طلب العلم فريضة على كلّ مسلمٍ ".
وقال عليه السلام: " البرّ ما اطمأنّ له القلب والإثم ما حكّ في(7/286)
النفس "؛ وقد يسمع من أصحاب الحديث من يقول ما حاك - بالألف -؛ قال أبو حاتم: وذلك باطل؛ إنما يقع حاك في مشيته إذا تقلّع وحرّك كتفيه، فأما هذا فهو حكّ كأنه ضدّ الطمأنينة، أي الإثم ما صحبه قلقٌ واضطراب.
وقال: " تجافوا لذوي الهيئات عن زلاّتهم "، ويروى أيضاً: لذوي الهبات؛ فكأنه جاز هذا فيهم لأنّ ذوي الهبة هم أصحاب الزي والمروءة، وزلاّتهم لا تكون ديدناً لهم، إنما يعتريهم الذّنب الفينة بعد الفينة، أي زماناً بعد زمان، ليس المنكر من شأنهم ولا القبيح من أخلاقهم، وإنما يلحقهم ما يلحقهم للبشرية، ولهم أحسن رجعةٍ وأفضل إقلاع وأجمل إنابة؛ فأمر صلّى الله عليه أن يتجافى لهم عن زلاّتهم لحالهم النائبة عن حال غيرهم.
وقال عليه السلام: " مطل الغنيّ ظلم "، ويروى أيضاً هذا المعنى بلفظ آخر، يقال: قال عليه السلام: ليّ الواجد ظلم؛ واللّيّ: المطل لأنه(7/287)
مصدر لوى يلوي ليّاً ولياناً؛ والواجد: الغني، وهو الذي له وجدٌ أي غنىّ أي ما يجده، وله جدةٌ أيضاً، وهو ذاك بعينه، فأمّا الوجدان فمقصورٌ على وجد يجد وجداناً، وهو نقيض العدم؛ والوجود من ألفاظ المتكلّمين شنيعٌ قد أباه العلماء.
وقال عليه السلام: " المؤمنون عند شروطهم. هذا خبرٌ يتضمن حثًّا على الثّبات على الشرط والوفاء بالعهد ".
وقال عليه السلام: " إنّ الله عزّ وجلّ يحبّ إغاثة اللهفان ".
وقال عليه السلام: " الولد لفراش وللعاهر الحجر "؛ قال القاضي أبو حامد: أراد صلّى الله عليه وآله لحوق الولد بظاهر الفراش، وإن جاز أن لا يكون مخلقاً من مائه، وجعل الخيبة للعاهر وهو الزاني. وتقول: عهر بها يعهر عهارة وعهورة، فأما المساعاة فهي أيضاً كنايةٌ عن الزّنا ولكنها مقصورةٌ على الإماء. ومن مدّ الزّناء عنى به الفعال الذي يتمّ بفاعلين كالخصام والطّعان، ومن قصر أراد الاسم؛ وقد قيل مثل هذا في الرّضا، والقصر الوجه؛ فأما السّرى فقد استوى فيه الوجهان وهما المدّ والقصر. وكان بعض العلماء يقول:(7/288)
وللعاهر الحجر إشارةٌ إلى الرّجم، وخولف في ذلك.
وقال عليه السلام: " والولاء لمن أعتق "؛ الواو مفتوحة فإذا كسرت انقلب المعنى. وذلك أن الولاء إنما هو ترتيب الشيء على خطٍّ واحد؛ تقول: واليت بين كذا وكذا موالاةً وولاءً، وفلانٌ يقرأ على الولاء؛ والولاء أيضاً الموالاة والنصرة والمودّة، ومنه في دعاء الوتر: إنه لا يذلّ من واليت ولا يعزّ من عاديت، والأصل من ولي الشيء يلي كأنه لصق به وقرب منه. والولاية - بفتح الواو - يقال: هي النّصرة، والولاية - بكسر الواو - يقال: هي المودّة، والنصرة والمودة يتقاربان لأنّ إحداهما شريكة الأخرى وقسمتها ودالّةٌ عليها ومشيرةٌ إليها، لا تتم إّلا بها، إّلا أنّي حكيت ما وعيت.
وقال عليه السلام: " من ذبّ عن عرض أخيه كان ذلك له حجاباً من النار "؛ أي من ردّ غيبة أخيه، والغيبة حالٌ تعرض للغائب على قبحٍ، والغيبة مصدر غاب يغيب غياباً وغيوباً وغيبةً ومغيباً وغيباً، والغيابة ما يغاب فيه، وفي التنزيل: " غيابة الجب "، والجب قليت كالبئر. فأما ذب يذبّ ذبًّا، وفلان حسن الذّبّ عن حرمه، فإنّ(7/289)
أصله من الذّباب، وذلك إنّه طنّ على سمعك أو لهج بطيرانه في وجهك طردته بيدك، ونفضت عليه طرف كمّك، فسمّي هذا الفعل ذبًّا، ثم أسبغ المعنى فيما وسعه للطافة اللفظ ووضوح الغرض.
وهذا النظر أصلٌ كبير من أصول الكلام، لأنك إذا جددت في الفحص عن دفائن هذا الباب انثال عليك من الشاهد والمثل والدّليل والعلل ما يقوّي في نفسك حكم الاشتقاق وتتبّع المعاني. ألا ترى أنك إذا استوضحت جليّة المعاني في قولهم: يغير والغَيرة والغِيرة والغارة وغار الماء وأغار الجبل والغوار والمغاورة، وغار وأنجد، وتغايرت الضّرائر، وغيّره طول العهد - وجدتها مشتقّةً من قولك: هذا غير هذا؟! فتأمّل ذلك ببصيرتك فقد فتحت لك بابها، ورفعت سجفها، وذلّلت الطريق إليها، وإنّ الاشتقاق مضطرٌّ إلى المصير إليه والعمل عليه ولو كره ذلك.
850ب - وكان نفطويه ممن يأبى الاشتقاق، ويزعم أن الأسماء كانت توافت متشابهةً في الصّورة والصّيغة وإّلا فلا اشتقاق، لأنك متى أسّست الاشتقاق في أسماء أساساً لم تنته منه إلى حدّ، وذلك أنك تدّعي أن هذا الاسم شقّ من هذا الاسم، وهذا اللفظ أطلق لهذا المعنى، فيلزمك أن تمرّ أبداً على(7/290)
ذلك، لأنّ الثاني ليس بأولى بأن يكون مأخوذاً من الثالث من الأول من الثاني، ولا الثالث أولى بأن يكون مأخوذاً من الرابع من الثاني من الثالث؛ هكذا حكاه لنا أبو القاسم التّميمي اللغوي، وكان قدم بغداد مع عضد الدّولة سنة أربعٍ وستين وثلاثمائة، وشاهدته، وكان جيّد الكلام فسيح العارضة، وكان يقرف بالكذب مع هذا كلّه، والكذب شينٌ، وحسبك خساسةً بخلةٍ ماحقةٍ لكلّ خلّةٍ حسنة، أعاذنا الله تعالى منه ولا اضطرنا إليه.
850 - وكان ركن الدّولة يقول: منافع الكذب في وزن منافع الصّدق، ولو ارتفع جملةً لبطل الانتفاع كله بالدّين والدنيا؛ هذا قاله بالفارسية، ولكن حكاه لي ابن مكرّم الكاتب، وكان خصّيصاً به أثيراً عنده. فأما أبو عبد الله المحتسب بفارس، وكان يعرف بجراب الكذب، فإني سمعته يقول: إن منعت من الكذب انشقّت مرارتي، وإني لأجد به مع ما يلحقني من عاره ما لا أجد من الصّدق مع ما ينالني من نفعه؛ وهذا غاية الشّقاء ونهاية الخذلان، ولا حول ولا قوة إّلا بالله العليّ العظيم.
نعم: فأما صاحب المنطق فإنه جعل الاشتقاق فنًّا من الفنون في الكلام، وقد بيّنه في كتابه في المقولات.(7/291)
هذا - أيدك الله - آخر الجزء السابع، وقد اشتمل على ما يخطب لي ودّك الشارد، ويعيد إليّ قلبك النافر، ويبلّغني منك في نفسك ما أتمنى لها من خيرٍ تكون أنجحنا به، وفضلٍ تصير أوحدنا فيه. فتصفّح الآن أوراقه، وامتط النشاط، فتجد نمطاً نمطاً وفناً فناً، يأسرك ويحيّرك كله، وانتظر الثامن، فقد ارتفع جلّه. واعلم واحدة ثم اصنع ما شئت: لن تنتفع بالعلم ما طلبته بشمخ أنف، وصعر خدٍّ، وعزّة نفس، لا والله حتى تضع في التماسه رداء الكبر عن عاتقك، وتستنفد فيه غاية جهدك، فلعلّ الله يزكّيك ويشرّفك في الدّين والدنيا، إنه على كلّ شيءٍ قدير، وبكل شيءٍ بصير. وصلّى الله على نبيّه محمد وآله أجمعين، وحسبنا الله ونعم الوكيل.(7/292)
بسم الله الرحمن الرحيم
ربّ أعن برحمتك
الجزء الثامن
اللهمّ لك أذلّ، وبك أعز، وإليك أشتاق، ومنك أفرق، وتوحيدك أعتقد، وعليك أعتمد، ورضاك أبتغي، وسخطك أخاف، ونقمتك أستشعر، ومزيدك أمتري، وعفوك أرجو، وفيك أتحيّر ومعك أطمئنّ، وإياك أعبد، إيّاك أستعين، لا رغبة إّلا ما نيط بك، ولا عمل إّلا ما زكّي لوجهك، ولا طاعة إّلا ما قابله ثوابك، ولا سالم إّلا ما أحاط به لطفك، ولا هالك إّلا من قعد عنه توفيقك، ولا مغبوط إّلا من سبقت له الحسنى منك.
إلهي، من عرفك قاربك، ومن نكرك حرم نصيبه منك، ومن أثبتك سكن معك، ومن نفاك قلق إليك، ومن عبدك أخلص لك، ومن أحبّك غار عليك، ومن عظّمك ذهل فؤاده عند جلالك، ومن وثق بك ألقى مقاليده إليك.
إلهي، ظهرت بالقدرة فوجب الاعتراف بك، وبطنت بالحكمة فوجب التّسليم لك، وبدأت بالإحسان فسارت الآمال إليك، وكنت أهلاً للتّمام فوقفت الأطماع عليك، وبحثت العقول عنك فنكصت على أعقابها بالحيرة فيك، وذلك أنّ سرّكلا يرام حوزه، وشأنك لا يحول كنهه، وفعلك لا يجحد تأثيره؛ لك الأمارة والعلامة، وبك السّلامة والاستقامة، وإليك(8/5)
الشوق والحنين، وفيك الشّكّ واليقين.
هذا الجزء - أبقاك الله - هو الجزء الثامن من كتاب البصائر، بصائر أهل العلم والأدب، والحكمة والتجربة، نسأل الله تعالى تمام الكتاب، فإنّه قد حوى معاني سابقةً إلى النفوس بالقبول، وأغراضاً جاريةً مع الفهم، وأسراراً خفيّةً في العلم، فارغب فيه رغبة عاشق، ولا تسل عنه سلوة قالٍ، ولا يزهدّنّك فيه مللٌ عارض، وسخفٌ متوسط، فإنّ العاقبة فيهما غير ما لاح لك منهما، واعلم أنّك مداوىً بهما وبغيرهما، واختلاطك ينتفع بكل ما تسمع وتعي، ومزاجك يعتدل بكلّ ما ترى وتروي، ولو كنت صرفاً لعشت بالصّرف، ولو كنت صفواً لكمل أمرك بالصّفاء، ولكنّك مؤلفٌ من نقص وكمال، ومقرونٌ بعجزٍ وقوة، ومقلّبٌ بين العطب والسّلامة، ومحمولٌ على النّزاع والسآمة، ولكلٍّ منك نصيب، ولك في كلّ منه حظّ، وأنت في هذه النقيبة مرشّحٌ لطهارةٍ لا نجاسة معها، ومسوقٌ إلى غايةٍ لا آفة فيها، فانتبه للخافية التي فيك، والحظ المعنى الذي يوفيك تارةً ثم يستوفيك، واعجب من فناءٍ يثمر البقاء، ومن كدرٍ يورث الصّفاء، ومن كدٍّ ينقطع إلى راحة؛ وتعبٍ ينتهي إلى استراحة، ومن إبهامٍ يؤدّي إلى إيضاح، ومن ضرورةٍ تتعلّق باختيار، ومن حاجةٍ تتصل بغنىً، ومن رقٍّ يشرف على حرّية، ومن سخطٍ يرقيك إلى رضىً، فليس للتعجّب موقعٌ أحسن من هذا الاعتبار. وعذ بالله تعالى عند خوفك، وثق به عند أمنك، وانتسب إليه انتساب من كان به، وبقي بإبقائه، ووجد بإنشائه، وعرف بتعريفه، ووقف بتوقيفه، ولزم حدود أمره، وانتهى إلى معالمه، وراقبه في سرّه وجهره. واعلم أنّك منقولٌ عن قليل إلى حالٍ لا تشهد فيها إّلا ما قدّمت من إحسانك وإساءتك.
أما ترى - أيّدك الله - كيف أتخلّص من حديثٍ إلى حديث، وأركّب معنىً على معنىً، عجزاً عن إتمام ما أبدأ به، وقلقاً إلى ما لا أصل إليه؛ وليتني لم أناد بنقصي في هذا الكتاب بين النّاس، فقد والله تمرّست بأمرٍ(8/6)
قصاراي فيه أن أجبه بالتّعنيف، وأواجه باللائمة، وإن جلفت بالقذع وذكرت بالشّنآن، ومن لي بحاكمٍ منصف، وصديقٍ ملطف، وعدوًّ مبقٍ، وصاحبٍ مشفق، بل من لي بمداهنٍ لا يكاشفني، ومنافقٍ لا يوافقني، وجارٍ لا يرتصد عثرتي، ورفيقٍ لا يجهل عليّ، بل من لي بشامتٍ يرحم، وظالمٍ يتندّم، وهل مكلّمك وسامعك إّلا من إن بعد رجم، وإن دنا نحض، وإن تمكّن استأصل، وإن عاقب أسرف، وإن ملك أباد، وإن قدر انتقم، وإن انتقم أتى على الدّقّ والجلّ، وذهب بالحرث والنسل، ولكن أضرّ بي ما أرى من فساد الزمان، واضطراب الوقت، وانتكاث مرائر الدّين، وتصوّح رياض الدّنيا، ودروس أعلام التوحيد، وانقراض أهل العلم، وتحاسد أبناء الفضل، وتنابذ ذوي الآداب، وتداعي رباع الجميل، وتأوّد أغصان الخير، وتهادر شقائق الشّيطان، وتخاذل أهل التحّرج.
فوالله ما شين وجه التّقى، ولا استحال بال المؤمن، ولا أخرس لسان الورع، ولا قصر زند المجاهد، ولا قسا قلب الراحم، ولا جفّت أقلام كفّ الباذل، ولا عرق جبين السائل، ولا خابت حقيقة المستبصر حتى خلت عراص الشريعة من قوّامها، وآذنت الدّنيا أهلها بالسّيف، وخاض أهل العلم في الباطل، واستعين في الحكمة بالسّفه، وتوصّل بالطاعة إلى المعصية، وسلك بالأمانة طريق الخيانة، واغتّر بالدّنيا المشبّهة بالماء الملح، والبرق الّلامع، والسّحاب الخائل، والظل الزّائل، وأحلام النائم، والعسل المدوف بالسّم.(8/7)
واعلم أن الله تعالى جعل للمؤمن نورين: أحدهما ظاهر، والآخر باطن، فظاهره آلةٌ لباطنه، وباطنه عدّةٌ لآخرته ومعاده. فمن أفاعيل الظاهر طلب معاشه، واستصلاح أموره، ودفع المضارّ عن بدنه، والتحفّظ من الموارد المخوفة في عاجلته؛ ومن أفاعيل الباطن طهارة قلبه، وإخلاص نيّته لربّه، وتوهّم ما وعده على طاعته من ثوابه، واختيار العفو في الانتقام، والأناة على الإقدام، ونفي الأحقاد، وإطفاء نار الجسد، وإيثار الصّدق وإن ظنّه لا ينجيه من عدوّه، والوفاء لمن وثق به، والحياء من كشف أحدٍ عن ذنبه، وخلع طاعة الشّهوات، وقمع حومة الشّهوة، واستشعار القناعة، ورفض معاشرة الحرص، وإجلال العلماء، وتفضيل العلم، وأخذ النّفس بوظائف الكرم وفرائض الذّمام؛ وهذا النّور الرّوحانيّ على حسب ما يعطي الإنسان منه يكون مرغبه في العمل الصالح، وحبّه للسلامة من الأدناس، وتمسّكه بمحاسن الخصال.
وإذا استحكم علم الإنسان، ودقّت رويّته، كان جلّ سعيه فيما يحرز به نصيبه من الكدّ الذي لا نهاية له، ويبلغ ما يقيم بدنه وإن قلّ قدره، لعلمه بزوال اللذّات، وتصرّم الشهوات، وأنّه وإن رخص في المواتاة لم تكن لذلك نهاية، لا يملّ ما يطرف به، ويستطرف ما في يد غيره، وهذا ينفد الأوقات، ويستغرق الأعمار، ولذلك وجب على ذي اللّبّ والمعرفة رفض الدّنيا، والأخذ منها بالبلغة، والانشغال بجميعه في إحراز حظّه الذي يستريح بالوصول إليه من الألم، ووجب عليه الصبر على مكابدة النّوائب النازلة، والفجائع الواردة، إذ علم أنّ لها انقطاعاً لا محالة، وأنّ الدولة تسلبها، والأيام تزيلها وتغيّبها، فإذا صحّح هذا عنده اليقين استخفّ المكاره، واستحقر بعزائه المصائب، ولم يعرّج من الدنيا إّلا على بلغة، ثم يكون كالغريب المحتبس عن أهله ووطنه، الأسير في يدّ عدوّه، لا يتهنّأ بشيء من عيشه، ولا يستريح إّلا إلى الحيل في التخلّص ممّا حلّ به من الذّل والأسر.(8/8)
ليس هذا الفصل من كلامي، ومن لي بهذه الديباجة الخسروانيّة، وبهذه الحكمة الرّوحانية! قدري مخفضّ عن هذا وما ضارعه، لكنّي وجدته منسوباً إلى الحسن بن سهل، ولعله أخو ذي الرياستين، فرسمته في هذا الكتاب حتى كأنّي ناهبت ونافست، وادّعيت الكمال وأشرت إلى العصمة.
وأرجو أن يكون اختلاف كلامهم في معاتبتي صادراً عن صدورٍ نقيّة، فقد والله أتعبوني، وأكلوني وشربوني، فمن قائلٍ: ما أحسن هذا الكتاب لولا ما حواه من السّخف والقاذورة، وذكر الهنات وألفاظ السّفلة؛ وقال آخر: كلّ ما فيه حسنٌ لو خلا من اللغة والنحو، فليس هذا الموضع الجدّ لا يمتزج بالهزل، والعلم لا يختلط بالجهل، والحكمة لا تنزل في جوار السّفه، والرّشد لا يتّصل بالغيّ؛ ومن قائلٍ: جميع ما فيه أحسن من كلامك؛ ومن قائلٍ: ما مزيّة هذا الكتاب على جميع ما تقدّم من الكتب، وهل فيه فنٌّ إّلا وهو متقضىً في معدنه، مأخوذٌ من أهله على أحسنه، وهل ينتدب إنسانٌ لجمع كلامٍ وتأليف كتابٍ - مع هذا الاحتفال - إّلا وهو يحبّ الزّيادة على النّقص، ويودّ رفع جهلٍ قد ثبت، ويقصد رقع واهيةٍ قد تركت - وكلامٌ كثير قد أهملت روايته على وجهه، وبرمت باعتقاده فضلاً عن إثباته، وجميع ما قيل موهوبٌ لهم رعايةً لآدابهم، ومحافظةً على ذمام الحكمة بيني وبينهم، ومسائلتهم قبول الاعتذار إليهم. ولما احتجت إلى هذا السّلم - علماً بأن حجّتي داحضةٌ، وبرهاني مدخولٌ، وبياني قصيرٌ - ثقةً بأنّ الزمان يديل، والفلك دوّار، وأنّ اللائمة ستشمت، والاستقصاء سيفرّق، والظلم سيصرع، والإساءة ستندّم.
أنشدني بندار بن غانم الحلواني الكاتب لنفسه في حالٍ التاثت بينه وبين منافسٍ له في الرّتبة، حاسدٍ له على النعمة يقال له عمرو: المنسرح
يختار عمروٌ عداوتي سفهاً ... وأبتغي سلمه ويمتنع(8/9)
كله إلى بغيه سيصرعه ... فالدهر بيني وبينه جذع
على أنّي ما أخليت هذا الكتاب - مع التقصير - من حجّةٍ إن سمعت أشرق وجهي، وأضاء بصري، وتقوّم منآدي، ونمى قدري، ومن عذر إن تفضّل بقبوله حسنت حالي، واطمأنّ بالي، وسقط ما علّي، وثبت ما لي، ولكنّ الإنصاف معدومٌ في الوهم والحلم، فكيف يلتمس في التحقيق واليقظة؟ وإذا علم الله صلاح النيّة وشرف العزيمة فكلّ ما عداه جلل.
قال أحمد بن الطّيّب، في كتاب وضعه، قولاً متى سقته هاهنا كان لي عذراً عن الخصم إن آثر البقيا، ولم ينتهز الفرصة في العداوة، وأحبّ لي السّلامة بعد العثرة، كما تمنّى لنفسه الاستمرار بعد التوفيق؛ قال: واعلم أنّ قوماً سيقولون: من واضع هذا الكتاب؟ فإن قيل: أحمد بن الطّيّب قالوا: ومن أحمد بن الطّيّب؟ فإن قيل لهم: السّرخسيّ مولى أمير المؤمنين، قالوا: ومن السّرخسيّ مولى أمير المؤمنين؟ فتكون مسألة السائل كأنّها بحالها، وقد استفرغ المجيب جهده. وأحمد بن الطّيّب لا يحبّ أن يخطّي به أحدٌ اسمه واسم أبيه وولاءه والبلد الذي فيه مولده ومولد أبيه، ثم بعد ذلك قيمته ومقداره من العلم، بعد أن يكون المقوّم منصفاً غير جائر، وسليم الطبع غير حسود، فإنّ عليًّا رضي الله عنه يقول: قيمة كلّ امرئٍ ما يحسن؛ وقال: قال أصحابنا: لم نر كلمةً أحصّ على طلب العلم من هذه(8/10)
الكلمة، فمن نظر في كتابنا هذا نظراً ظاهراً أمتعه ولذّه وألهاه وسرّه، وصار له جليساً فصيحاً، ومحدّثاً بيّناً، وأنيساً مخلصاً، يحفظ سرّه، ويأمن غيبه، ويسقط باب التحفّظ عنه.
قيل لعمر بن عبد العزيز: ما بقي من لذّتك؟ قال: محادثة جليس.
وقال عليّ رضي الله عنه: شرّ الإخوان من تكلّف له.
شاعر: المجتث
لو قيل لي خذ أماناً ... من أعظم الحدثان
لما أخذت أماناً ... إّلا من الإخوان
قال سهل بن هارون: ما زلت أدخل فيما يرغب بي عنه حتى استغنيت عمّا يرغب لي فيه.
قال الأحنف بن قيس: الحديث شجون، والشّجون: الرّواضع التي تأخذ من معظم النهر، فشبّه تلك الرّواضع من نهر ماءٍ بعوارض الحديث إذا افتن.
قال: إذا طال القول حتى يبعد أوّله من آخره، فقد وجد السامع عذراً في التّقصير عن فهمه، وإذا كان العتب بين السامع والقائل، وصحّ العذر للسامع في عدم العذر والفهم رجع العتب إلى القائل.
قال: وقيل لبعض اليونانيين - هكذا رأيت بخطّ ابن السيرافي بفتح الياء -: لم تسمع أكثر مما تتكلّم؟ فقال: إنّما خلق الله تعالى لي لساناً واحداً وأذنين ليكون كلامي أقلّ من استماعي.(8/11)
ويقال: الأحمق إذا حدّث ذهل، وإذا تكلّم عجل، وإذا حمل على القبيح فعل.
قال: وقال عمرو بن هشام: تحدّثنا عند الأوزاعي ومعنا أعرابيٌّ من بني عليم لا يتكلّم فقلنا: بحقّ ما سمّيتم خرس العرب ألا تتحدث مع القوم؟ فقال: إنّ الحظّ للمرء في إذنه، وإنّ الحظّ في لسانه لغير، وقد ذكرنا ذلك للأوزاعي فقال: وأبيه لقد حدّثكم فأحسن.
وقيل للفرزدق: ما صيّرك إلى القصار بعد الطّوال؟ قال: لأنّي رأيتها في الصّدور أولج، وفي المجافل أبلج.
وقالت مليكة بنت الحطيئة بأبيها: ما بال قصارك أكثر من طوالك؟ قال: لأنّها في الآذان أمضى، وبأفواه الرّواة أعلق.
قيل لسراقة البارقي: لم تترك الإطالة في محافل الخطابة؟ فقال: إذا أحطت معناك، وأصبت مغزاك، كان الفضل تكلّفاً.
وقال أبو سفيان بن حرب لعبد الله بن الزّبعرى: لو أسهبت! قال:(8/12)
حسبك من الشرّ غرّةٌ لائحة، أو سمةٌ فاضحة.
وذكر خالد بن صفوان رجلاً فقال: قاتله الله، أما والله إنّ قوافيه لقلائد، وإنّ ألفاظه لعلائق.
قال أحمد بن الطّيّب: ونحن نعلم أنّ الشعراء يقولون دائماً، والخطباء يخطبون أبداً، والناس يتمثّلون كثيراً، والقول كثير، وفي كلّ وقتٍ خبرٌ طائر، وسنّةٌ محدثة، وسياسةٌ جديدة، وآراء مختلفة، وأهواء مبتدعة، ومحنٌ من الله كما يريد، لا يمنع منها، ولا يسأل عنها، فليس لمذهبنا هذا في كتابنا رباطٌ يربط به، ولا نهاية يوقف عندها.
هذا آخر كلام أحمد، ولنا به أسوة، ومن جملة ما قاله عذر.
وتعود إلى العادة في نشر البصائر غير مكترثين لما يقال، ولا عابثين بما يتكلّف، فإنّ من أعار الناس أذنه حشوها شرًّا، وأوسعوه غيظاً، ولم يصغوا له إّلا بعار الأبد، وخسران الدّهر، وفوت الدّنيا، وذهاب الدّين. نسأل الله ربّ السّماء والأرض، وخالق الماء والهواء، أن يكلف ويوكل بك عيناً حانية، ويداً ناصرة، إنه وليّ الإجابة.(8/13)
1 - قال قيس بن عاصم: وفدت إلى رسول الله صلّى الله عليه وعلى آله، فقلت: عظنا يا رسول الله عظةٍ ننتفع بها، فإنّا قومٌ نعيش في البادية، فقال رسول الله صلّى الله عليه وآله وسلّم: " يا قيس، إنّ مع العزّ ذلاًّ، وإنّ مع الحياة موتاً، وإنّ مع الدنيا آخرة، وإنّ لكلّ شيءٍ حساباً، وإنّ على كلّ شيءٍ رقيباً، وإنّ لكلّ حسنةٍ ثواباً، وإنّ لكلّ سيّئةٍ عقاباً، وإنّ لكلّ أجلٍ كتاباً، وإنّه لا بدّ لك يا قيس من قرينٍ يدفن معك، هو حيٌّ وأنت ميّت، فإن كان كريماً أكرمك، وإن كان لئيماً أسلمك، ثم لا يحشر إّلا معك، ولا تبعث إّلا معه، ولا تسأل إّلا عنه، فلا تجعله إّلا صالحاً، فإنّه إن صلح أنست به، وإن فسد لم تستوحش إّلا منه، هو عملك ".
2 - قال أعرابيّ: زكاة اللسان تعليم البيان.
3 - قال لي بعض الفقهاء: ما أشبّه الدّنيا وخداعها إّلا بقحبةٍ حسناء تغازلك وتشير إليك وترغب فيك، حتى إذا أجبتها ودنوت منها صاحت بالوالي، وصرخت بالناس، وأسلمتك إلى الفضية، وزوّدتك الندم وعضّ الأنامل من الغيظ.
4 - كاتب: فلا زلت مشمولاً بالنّعم، مغموراً بالكرم، حتى يكون كلّ يومٍ من أيامك موفياً في الفضل على أمسه، مقصّراً عن فضيلة غده، ووصل الله تعالى لك إلهام الصبر على ما زرئته، بإيزاع الشكر على ما منحته، لينجز لك بالأوّل موعوده، ويوجب لك بالثاني مزيده.
5 - قال أعرابيّ: روّحوا الأذهان كما تروّحوا الأبدان.(8/14)
6 - قيل لعقيل بن علّفة: لم تهجو قومك؟ قال: إن الغنم إذا لم يصفّر بها لم تشرب.
7 - لمّا أخذ عبد الحميد بن ربعي وأتي به المنصور ومثل بين يديه قال: لا عذر لي فأعتذر، وقد أحاط بي الذّنب، وأنت أولى بما ترى، قال المنصور: إنّي لست أقتل أحداً من آل قحطبة، أهب مسيئهم لمحسنهم، قال: إن لم يكن فيّ مصطنعٌ فلا حاجة بي إلى الحياة، ولست أرضى أن أكون طليق شفيعٍ وعتيق ابن عمّ، قال: اخرج فإنّك جاهل، أنت عتيقهم ما حييت.
8 - عدا كلبٌ خلف غزالٍ فقال له الغزال: إنك لا تلحقني، قال: لم؟ قال: لأني أعدو لنفسي، وأنت تعدو لصاحبك.
9 - قال فيلسوف: أحيوا قلوب إخوانكم ببصائر نيّاتكم كما تحيون موات البلد بنوامي البذر، فإنّ نفساً تنقذ من الشّبهات أفضل من أرضٍ تصلح للنّبات.
قال بعض البلغاء: فضل العلم المسموع على المال المجموع(8/15)
كفضل النّصل الصنع على الغمد الوضيع.
قال أعرابيّ: من كان مولى نعمتك فكن عبد شكره.
قال الحكيم بن عيّاش الكلبي: الطويل
صلبنا لكم زيداّ على جذع نخلةٍ ... ولم أر مهديًّا على الجذع يصلب
وقستم بعثمانٍ عليًّا سفاهةً ... وعثمان خيرٌ من عليٍّ وأطيب
بلغ قوله جعفراً الصادق، رضي الله عنه، فرفع يديه إلى السماء وهما ترعشان فقال: اللهمّ إن كان عبدك كاذباً فسلّط عليه كلبك. فبعثه بنو أميّة إلى الكوفة، فبينما هو يدور في سككها إذ افترسه الأسد، واتصل خبره بجعفرٍ فخرّ لله ساجداً وقال: الحمد لله الذي أنجزنا ما وعدنا.
قال أعرابيّ: جليس الملوك ينبغي أن يكون حافظاً للسّمر، صابراً على السّهر.
قلت لأبي النّفيس الرّياضي: كيف رأيت الدهر؟ قال: وهوباً لما سلب، سلوباً لما وهب، كالصبيّ إذا لعب.(8/16)
رأى فيلسوفاً إنساناً سميناً فقال له: يا هذا، ما أكثر عنايتك برفع سور جسمك.
وقيل لفيلسوف: إنّ فلاناً يحكي عنك كلّ سوءٍ، فقال: لأنه لا ينتهي إلى الخير فيحكي.
قال أعرابيّ: نفسك راحلتك، إن رفّهتها اضطلعت، وإن نفّهتها انقطعت.
كاتب: اتصل بي خبر الفترة في إلمامها وانحسارها، ونبأ الشّكاة في حلولها وارتحالها، فكاد يشغل القلق بأوّله عن السّكون لآخره، وتذهل عادية الحيرة في ابتدائه عن عائدة المسرّة في انتهائه، وكان التصرّف في كلتا الحالتين بحسب قدرهما: ارتياعاً للأولى، وارتياحاً للأخرى.
قال بعض السّلف: الأحمق إن تكلّم فضحه حمقه، وإن سكت فضحه عيّه، وإن عمل أفسد، وإن ترك ضيّع، لا يغنيه علمه، ولا ينتفع بعلم غيره، ولا يستريح زاجره، تودّ أمّه أنّها ثكلته، وتتمنى امرأته أنّها فقدته، يأخذ جليسه منه الوحشة، ويتمنّى جاره منه الوحدة، إن كان أصغر أهل بيته عنّى من فوقه، وإن كان أكبرهم أفسد من دونه.(8/17)
كان جرير بن إسماعيل جواداً بماله معطاءً، فلامه روح بن حاتم المهلّبي على ذلك وقال له: إّني أخاف عليك الفقر وتعس الدّهر، فقال جرير: إّني أكره أن أترك حقاً قد وقع، خوفاً لأمر لعله لا يقع.
دخل أبو حنيفة على الأعمش وهو عليلٌ فجلس وأطال، ثم قال: لعلّي قد أثقلت عليك، فقال الأعمش: والله إنّي لأستثقلك وأنت في منزلك فكيف وأنت في منزلي؟! قال عبد الرحمن بن أبي ليلى الأنصاري: لا أماري صديقي، إمّا أن أكذبه وإمّا أن أغضبه.
قال أعرابيّ لسيّد قومه: أنت للأحرار غياثٌ ومفزع، ولأهل النّعم محلٌّ وموضع، ولذوي الحاجات موادٌ ومنتجع.
قال فيلسوف: كما أنّ البدن الخالي من النفس تفوح منه رائحة النّتن، كذلك النفس العديمة للأدب يظهر منها دليل النّقص.
وقال فيلسوف: ليس المؤمن من ينقص على النفقة ماله.(8/18)
قال فيلسوف: لتكن عنايتك بحسن استماع ما تفهمه في وزن عنايتك بحسن استعمال ما تكسبه.
قال الواقدي: أبو حنيفة النعمان بن ثابت مولى تيم الله بن ثعلبة بن بكر بن وائل؛ قال له رجلٌ من خيار بني تيم الله: ألست مولاي؟ قال أبو حنيفة: أنا والله لك أشرف منك لي.
ولد أبو حنيفة سنة ثمانين، ومات سنة خمسين ومائة، وعاش أبو حنيفة سبعين سنة، ومات ببغداد، وصلّى عليه الحسن بن عمارة.
قال أحمد بن الطيّب، قال بعض أصحابنا: بتّ ليلة بالبصرة مع جماعةٍ من المسجديين، فلما حان وقت السّحر حرّكهم واحدٌ فقال: كم هذا النوم عن أعراض الناس؟ قيل لعبيد ابن أبي محجن: أليس أبوك الذي يقول: الطويل(8/19)
إذا مت فادفني إلى جنب كرمةٍ ... تروي عظامي بعد موتي عروقها
ولا تدفني بالفلاة فإنني ... أخاف إذا متّ أن لا أذوقها
فقال: بل قوله أجمل من هذا حين يقول: البسيط
لا تسألي القوم عن مالي وكثرته ... وسائلي القوم ما ديني وما خلقي
هل يعلم القوم أنّي من سراتهم ... إذا تطيش يد الرعديدة الفرق
أعطي السّنان غداة الرّوع حصّته ... وعامل الرّمح أرويه من العلق
عفّ الإياسة عمّا لست نائله ... وإن ظلمت شديد الظّلم والحنق
وأكشف الماقط المكروه غمّته ... وأكتم السرّ فيه ضربة العنق
قيل لعبّاد بن الحصين، وكان أشدّ أهل البصرة: في أي عددٍ تحبّ أن تلقى عدوّك؟ قال: في أجلٍ مستأخر.
قصد قومٌ من الطّفيليين وليمةً فقال رئيسهم: اللهمّ لا تجعل البوّاب لكّازاً في الصّدور، دفّاعاً في الظّهور، طرّاحاً للقلانس، هب لنا رأفته ورحمته ويسره، وسهّل علينا إذنه؛ فلمّا دخلوا تلقّاهم فقال متكلّمهم: غرّةٌ مباركة، موصولٌ بها الخصب، معدومٌ معها الجدب؛ فلمّا جلسوا(8/20)
الخوان قال: جعلك الله كعصا موسى، وخوان إبراهيم، ومائدة عيسى في البركة؛ ثم قال لأصحابه: افتحوا أفواهكم، وأقيموا أعناقكم، وأجيدوا اللّف، وأترعوا الأكفّ، ولا تمضغوا مضغ المتعلّلين الشّباع المتخمين، واذكروا سوء المنقلب، وخيبة المضطرب، كلوا على اسم الله تعالى.
قال عبد الله بن المبارك: كتبت عن أفقه الناس أبي حنيفة، وأعبد النّاس الحسن بن صالح، وأزهد النّاس الثّوري، وأورع الناس عبد العزيز بن أبي رواد.
قال ابن المبارك: كان أبو حنيفة آيةً، قيل: في ماذا؟ قال: اذكروا فيه من الخير ما شئتم؛ قال بعض أهل العصبيّة: إنّما أراد الشرّ، قيل له: فقال الله تعالى: " وجعلنا ابن مريم وأمّه آيةً " وما أراد الله الشر، فقبله.
قال عمر بن سليمان العطّار: كنت بالكوفة أجالس أبا حنيفة، فتزوج زفر فحضر أبو حنيفة فقال له: تكلّم، فقال في خطبته: هذا زفر بن الهذيل، وهو إمامٌ من أئمة المسلمين، وعلمٌ من أعلامهم في حسبه وشرفه(8/21)
وعلمه، فقال بعض قومه: ما يسوءنا أن غير أبي حنيفة يخطب حين ذكر خصاله ومدحه، وكره ذلك بعض قومه وقال: حضر قومك وأشراف بني عمك، مثل أبي حنيفة يخطب؟! فقال: لو حضرني أبي لقدّمت أبا حنيفة.
اشترى محمود الورّاق جاريةً، وكانت بطنها واسعةً، فلما ركب صاح: الغريق! فقالت له أخرى: أخرج المرديّ وأنت على الشطّ! تباعد ما بين يحيى بن خالد وعليّ بن عيسى بن ماهان، فوجّه عليّ أبا نوحٍ ليعرف ما في نفس يحيى، فكتب يحيى على يد أبي نوح: عافانا الله وإياك، كن على يقينٍ أنّي بك ضنين، وعلى التمسّك بما بيني وبينك حريص، أريدك ما أردتني أريدك ما نبوت عنّي، ما كان ذلك بك جميلاً، فإن جاءت المقادير بخلاف ما أحبّ نم ذلك لم أعد ما تحمد، ولم أتجاوز إلى شيءٍ مما تكره، هاجتني على الكتابة إليك مسألة أبي نوحٍ إياي إعلامك رأيي وهواي، فما تبدّلت ولا حلت، فجمعنا الله وإياك على طاعته.
ولد أبو بكر الأنباري سنة سبعين ومائتين، ومات سنة ثمانٍ وعشرين وثلاثمائة.(8/22)
قال وهب: صفة المؤمن إيمانٌ في تقىً، وحزمٌ في يقين، وقصدٌ في لين، وقورٌ في الرّخاء، شكورٌ في البلاء صبور، إن أنعم عليه شكر، وإن ابتلي صبر، لا يحقر من دونه، ولا يزري على من فوقه.
قال وهب: المؤمن من يخالط ليعلم، ويسكت ليسلم، ويتكلم ليفهم، ويخلو لينعم.
قال وهب: كانت مريم عند زكريا، فلمّا نبا بطنها وحملت قال لها زكريا: هل يكون الشّجر من غير مطر؟ وهل يكون الزرع من غير بذر؟ وهل يكون الولد من غير ذكر؟ قالت: نعم، الله خلق الجنّة بغير مطر، وخلق البذر قبل أن يخلق الزّرع، وخلق آدم من غير ذكر.
قال الشّعبي: الجاهل حصر، والحكيم حاكم، ولم يعرف قدر الجاهل من لم يجرّعه الحلم غصص الغيظ.
قال أبو يوسف القاضي صاحب أبي حنيفة: إثبات الحجّة على الجاهل سهل، ولكن إقراره بها صعب.
قيل لفيلسوف: ما الكلفة؟ قال: طلبك ما لا يواتيك، ونظرك فيما لا يعينك.(8/23)
وقال عيسى بن مريم: الأمور ثلاثة: أمرٌ يتبيّن فيه رشده فاتّبعوه، وأمر تلبّس فيه غيّه فاجتنبوه، وأمرٌ اختلف فيه فردّوه إلى الله تعالى.
قال المعتمر بن سليمان: قال لي إيّاك أن تقتدي بزلاّت أصحاب رسول الله فتقول: فلانٌ لبس المعصفر، وفلانٌ كانت له جمّة، وفلانٌ شرب النبيذ، وفلانٌ لعب الشطرنج، وفلانٌ امتخط في الكتاب، وفلانٌ انتعل السّبت.
وصف رجلّ رجلاً فقال: كان والله سمحاً مرّاً سهلاً، بينه وبين القلب نسب، وبين الحياة سبب، إنّما هو عيادة مريض، وتحفة قادم، وواسطة قلادة.
وقال حمّاد الراوية: شاهدنا في هذا المسجد قوماً كانوا إذا خلعوا الحذاء، وعقدوا الحبا، وقاسوا أطراف الحديث، حيّروا السامع، وأخرسوا النّاطق - يعني مسجد الكوفة.
قال رجلٌ لبعض العلويّة: أنت بستان الدّنيا، فقال العلويّ وأنت النّهر الذي يشرب منه ذلك البستان.
قال رجلٌ لأبي عمر الزّاهد صاحب كتاب الياقوت في اللغة: أنت والله عين الدّنيا، فقال: وأنت بؤبؤ تلك العين.(8/24)
سألت أبا سعيد السّيرافي عن أبي عمر فقال: لم يكن زاهداً إّلا في الدّارين، قلت: أكان يتّهم في اللغة؟ قال: كيف لا يتّهم من يكذب؟! وسمعت غير أبي سعيد يقول ما هو قريبٌ من هذا، وطائفةٌ من الناس تأبى هذا فيه، وتزعم أنّه كان ثقةً مأموناً.
أخذ عبّاسيّ طالبيّاً في العسس، فأراد أن يعاقبه فقال الطّالبيّ: والله لولا أن أفسد ديني بفساد دنياك لملكت من لساني أكثر ما ملكت من سوطك؛ والله إن كلامي لفوق الشّعر، ودون السّحر، وإنّ أيسره ليثقب الخردل، ويحطٌ الجندل، فاستحيى منه وخلّى عنه.
قال سوّار بن أبي شراعة، أنشدنا الرّياشي لعمرو بن حلّزة أخي الحارث بن حلّزة، قيل: وهي مصنوعة: الرمل
لم يكن إّلا الذي كان يكون ... وخطوب الدّهر بالنّاس فنون
ربّما قرّت عيونٌ بشجىً ... مرمضٍ قد سخنت منه عيون
يلعب الناس على أقدارهم ... ورحى الأيّام للنّاس طحون
يأمن الأيام مغترٌ بها ... ما رأينا قطّ دهراً لا يخون
والملمّات فما أعجبها ... للملمّات ظهورٌ وبطون
إنّما الإنسان صفوٌ وقذىً ... وتواري نفسه بيضٌ وجون
لا تكن محتقراً شأن امرئٍ ... ربّما كانت من الشان شؤون(8/25)
قال فيلسوف: كما أنّ أواني الفخّار تمتحن بأصواتها فيعرف الصحيح منها من المنكسر، كذلك يمتحن الإنسان بمنطقه فتعرف حاله وطريقته.
قال فيلسوف: احتمال الفقر أحسن من احتمال الذلّ، على أن الرضا بالفقر قناعة، والرّضا بالذلّ ضراعة.
شاعر: الرجز
سحابةٌ صادقة الأنواء ... تجرّ حضنيها على البطحاء
بدت بنارٍ وثنت بماءٍ ... تثني بها الأرض على السّماء
تجمع بين الضّحك والبكاء
للمأمون: البسيط
وصاحبٍ ونديمٍ ذي محافظةٍ ... سبط اليدين بشرب الراح مفتون
نادمته ورواق الليل منخرقٌ ... تحت الصباح دفيناً في الرّياحين
فقلت خذ قال كفّي لا تطاوعني ... فقلت قم قال رجلي لا تواتيني
إنّي غفلت عن السّاقي فصيّرني ... كما تراني سليب العقل والدّين
قال أعرابيٌّ في خطبته: الحذر الحذر، فوالله لقد ستر حتى كأنّه غفر.
وقّع ابن الزيّات إلى عاملٍ له: توهمتك شهماً كافياً، فوجدتك(8/26)
رسماً عافياً، لا محامياً ولا وافياً.
قال بعض السّلف: أفضل ما أعطيه الإنسان اللسان، وفي ترك المراء راحةٌ للبدن.
قال المبرّد، قال بعض السّلف: ضوالّ الكلام أحبّ إليّ من ضوال الإبل، قيل به: نحو ماذا؟ قال: كقول الشاعر: الطويل
وإنّي لأرجو الله حتى كأنّما ... أرى بجميل الظنّ ما الله صانع
أنشد ثعلب لعليّ بن مالك العقيلي: الطويل
أتيت مع الحدّاث ليلى فلم أبن ... فأخليت فاستعجمت عند خلائي
فقمت فلم أصبر فعدت ولم أحر ... جواباً كلا اليومين يوم عياء
فيا عجباً ما أشبه اليأس بالغنى ... وإن لم يكونا عندنا بسواء(8/27)
قال بشّار: لقد عشت في زمانٍ وأدركت أقواماً لو احتفلت الدّنيا ما تجمّلت إّلا بهم، وإنّي لفي زمانٍ ما أرى عاقلاً حصيفاً، ولا فاتكاً ظريفاً، ولا ناسكاً عفيفاً، ولا جواداً شريفاً، ولا خادماً نظيفاً، ولا جليساً طريفاً، ولا من يساوي على الخبرة رغيفاً.
سأل رجلٌ أبا الهذيل فقال له: أفعال العباد مخلوقة؟ قال: لا، قال: فمن خلقها؟ قال أبو الهذيل: أنت مشجوج؟ قال: لا، قال: فمن شجّك؟ قال رجلٌ لابن سيّار: أتعجب من رجلٍ يتهيّبك مع قبح صورتك؟ قال: ليس من حسنه يهاب الأسد.
قيل لصوفيّ: أين الحقّ؟ قال: لو كان له أينٌ لم تثبت له عين.
قال رجلٌ لأبي الهذيل: ما الدليل على حدث العالم؟ قال: الحركة والسكون، فقال السائل: الحركة والسكون من العالم، فكأنك قلت الدليل على حدث العالم العالم دل على حدث العالم بغير العالم فقال أبو الهذيل: جئتني بسؤالٍ من غير العالم جئتك بجوابٍ من غير العالم.
عثر رجلٌ على امرأته وهي على فاحشةٍ فطلّقها، فاجتمع أهلها إليه وقالوا: عرّفنا ما رأيت من زوجتك، فما رأيت فيها؟ قال: سبحان الله، امرأةٌ كان زمامها بيدي وكنت بعلاً لها لم أبح بما كان منها، فلمّا بانت منّي، وصارت غريبةً أفضحها؟! لا يكون ذلك أبداً.(8/28)
جاء رجلّ إلى النبي صلّى الله عليه وسلّم فقال له: صف لي الجنّة؟ فقال: " فيها فاكهةٌ ونخلٌ ورمّانٌ "؛ وجاء آخر فقال بمثل قوله، فقال: " سدرٌ مخضود، وطلحٌ منضود، وفرشٌ مرفوعة، ونمارق مصفوفة "؛ وجاء آخر فسأله عن ذلك فقال: " فيها ما تشتهي الأنفس وتلذّ الأعين "؛ وجاء آخر فسأله فقال: " فيها ما لا عين رأت، ولا أذن سمعت، ولا خطر على قلب بشر ". فقالت عائشة: ما هذا يا رسول الله؟ قال: " إنّي أمرت أن أكلم الناس على قدر عقولهم ".
حضّ منصور بن عمّار الناس على الغزو في فناء دار الرشيد بالرّقة، وطرحت امرأةٌ من حاشيته صرّةً تصحبها رقعةٌ قرئ فيها: رأيتك يا ابن عمّار تحضّ على الجهاد، وقد ألقيت إليك ذؤابتي فلست أملك والله غيرها، فبالله إّلا جعلتها قيد فارس غازٍ في سبيل الله تعالى، فعسى الله جلّ جلاله يرحمني بذلك، فارتجّ المجلس بالبكاء، وضجّ بالنّحيب، وتعجّب الناس من ذلك.
قال النبيّ صلّى الله عليه وسلّم: " ما تعدّون الرّقوب فيكم؟ قالوا: التي لا يبقى لها ولد، قال عليه السلام: " بل الرّقوب الذي لم يقدّم من ولده شيئاً ".
ذبحت عائشة شاةً فتصدّقت بها، وتركت كتفاً منها، فقال النبيّ صلّى الله عليه: " ما عندك منها "؟ قالت: ما بقي إّلا كتفٌ، قال: " كلّها بقي إّلا كتف ".(8/29)
شاعر: الخفيف
لا أعدّ الإقتار عدماً ولكن ... فقد من قد رزئته الإعدام
كان الفضيل يعظ ابنه كثيراً على الزّهد ويقول: يا بنيّ، ارفق بنفسك؛ وكان يوماً خلف الإمام يصلّي فسمع سورة الرحمن، فظلّ يتلوّى وأبوه ينادي: أما سمعت قوله: " حورٌ مقصوراتٌ في الخيام: فقال: يا أبت، لكني سمعت قوله: " يعرف المجرمون بسيماهم ".
قال ابن سيرين: سمع من النبيّ صلّى الله عليه وعلى آله في تلبيته يقول: " لبّيك حقاّ حقاّ تعبداً ورقّاً ".
رأى ابن عبّاس عروة بن الزّبير يوماً متنكراً فقال له: ما شأنك؟ فقال: سلقني ابن عمّ لي بلسانه، فقال: خفّض عليك، فما من قومٍ فيهم غرّةٌ إّلا وإلى جانبه عرّة، وما ذئبٌ أغبس جائع بألحّ على فريسته ولا أنهك لها من ابن عمّ دنيٍّ على ابن عمّ سريّ.
سئل عبد الله بن المبارك عن معاوية وقيل به: ما تقول فيه؟ قال: ما أقول في رجلٍ قال رسول الله صلّى الله عليه وآله في صلاته: " سمع الله(8/30)
لمن حمده "، فقال من ورائه: ربّنا لك الحمد؟ سئل بعض العلماء عن الآيات التّسع التي كانت لموسى: ما هنّ؟ قال: العصا، واليد، والجراد، والقمل، والضفادع، والدّم، والبحر، ورفع الطور، وانفجار الحجر، وقيل بدل البحر الجبل والبحر: الطوفان والطمس.
سمعت الشيخ الإسماعيلي ينشد: الطويل
ألا قاتل الله الهوى ما أشدّه ... وأصرعه للمرء وهو جليد
دعاني إلى ما يبتغي فأجبته ... فأصبح بي يذهب حيث يريد
نظر رجلٌ من المجّان إلى رجلٍ كثير شعر الوجه فقال: يا هذا خندق على وجهك لا يتحول رأساً.
قيل لفيلسوف، وكان محبوساً: أّلا تكلّم الملك في إطلاقك؟ قال: لا، قيل: ولم؟ قال: لأن الفلك أحدّ أّلا يبقي على حدّ.
وقال عليّ بن أبي طالب رضي الله عنه في دعائه: اللهمّ لا تحوجني إلى أحدٍ من خلقك، فقال رسول الله صلّى الله عليه وآله وسلّم: " مهلاً يا عليّ، إنّ الله جلّ ثناؤه خلق الخلق ولم يغن بعضهم عن بعض ".(8/31)
قال ابن سلاّم، قال أبو حنيفة: رأيت في النوم كأنّي أنبش عظام النبيّ صلّى الله عليه وعلى آله، فسألت فقيل: هذا رجلٌ يحيي سنّته.
يقال في الأمثال: من يزرع خيراً يحصد غبطةً، ومن يزرع شرّاً يحصد ندامةً.
شاعر: الطويل
إذا أنت لم تزرع وأبصرت حاصداً ... ندمت على التقصير في زمن البذر
سئل أحمد بن حنبل عن قول الناس: عليٌّ قاسم الجنّة والنار، قال: هذا صحيح، لأنّ النبيّ صلّى الله عليه وعلى آله قال لعليّ بن أبي طالب: " لا يحبّك إّلا مؤمنٌ ولا يبغضك إّلا منافقٌ، فالمؤمن في الجنّة والمنافق في النار ".
قال رجلٌ لبعض الزهّاد: كم آكل؟ قال: فوق الجوع ودون الشّبع، قال: فكم أضحك؟ قال: حتى يسفر وجهك ولا يسمع صوتك، قال: فكم أبكي؟ قال: لا تملّ البكاء من خشية الله، قال: فكم أخفي عملي؟ قال: حتى لا يرى الناس أنّك تعمل حسنةً، قال: فكم أظهر من عملي؟ قال: حتى يأتمّ بك الحريص، وينقضي عنك قول الناس.
قال بعض النّسّاك: إنّ الشيطان يلعب بالقرّاء كما يلعب الصبيان بالكرة.(8/32)
قال بلال بن سعد: من سبقك بالودّ فقد استرقّك بالشّكر.
قال النبيّ صلّى الله عليه: " الرغبة في الدنيا تطيل الهمّ والحزن، والزّهد فيها راحة القلب والبدن ".
قال بعض الصالحين: لو رأيت يسير ما بقي من أجلك، لزهدت في طول ما ترجو من أملك، ولملت إلى الزيادة في عملك، ولقصّرت من حرصك وحيلك، فإنّما تلقى غداً ندمك، وقد زلّت قدمك، وأسلمك أهلك وحشمك، وتبرّأ منك القريب، وانصرف عنك الحبيب، فلا أنت إلى الدّنيا عائد، ولا في عملك زائد، فاعمل يا مغرور ليوم القيامة، قبل حلول الحسرة والنّدامة.
وقال بعض السّلف: من هوان الدّنيا على الله جلّ جلاله أن لا يعصى إّلا فيها، ولا ينال ما عنده إلا بتركها.
وقال فيلسوف: إذا أدركت الدنيا الهارب منها جرحته، وإذا أدركها الطالب لها قتلته.
سئل الزّهري عن الزّهد فقال: والله ما هو من خشونة المطعم(8/33)
ولا من خشونة الملبس، ولا قشف الشّعر، ولا قحل الجلد، ولكنه ظلف النفس عن محبوب الشّهوة.
دعا أعرابيٌّ في الكعبة فقال: اللهمّ إني أسألك الخوف منك حين يأمنك من لا يعرفك، وأسألك الأمن منك حين يخافك من يغترّ بك.
نظر رجلٌ إلى فيلسوف فقال له: ما أشدّ فقرك، فقال له: لو علمت ما الفقر لشغلك الهمّ لنفسك عن الغمّ لي.
سمع أبو الدّرداء وهو يقول لبعيرٍ له: ألم أعلفك وأسقك وأحسن إليك.
قيل لشعبة: ما تقول في يونس عن الحسن؟ قال: سمن وعسل، قيل: فعوف عن الحسن؟ قال: خلّ وبقل، قيل: فأبان عن الحسن: قال: دعني لا أتقيأ.
قيل للحسن: إنّ ابن سيرين ما احتلم قطّ، قال: لأنّ الاحتلام عرس النّسّاك إذا علم الله تعالى منهم العفاف.(8/34)
قال أبو ذرٍّ لغلامه: لم أرسلت الشّاة على العلف؟ قال: أردت أن أغيظك، قال: لأجمعنّ مع الغيظ أجراً، أنت حرٌّ لوجه الله تعالى.
قال قتادة في قوله عزّ وجلّ: " إنّه عملٌ غير صالحٍ ": أي سؤالك إيّاي ما ليس لك به علمٌ.
قال محمد بن شهاب الزّهري: كنت عند عبد الملك بن مروان فدخل عليه رجلٌ حسن الفصاحة، فقال له عبد الملك: كم عطاؤك؟ قال: مائتا دينار، قال: في كم ديونك؟ قال: في مائتي دينار، قال: أما علمت أنّي أمرت أن لا يتكلّم أحدٌ بإعراب؟ قال: ما علمت ذلك، قال: أمن العرب أنت أم من الموالي؟ قال: يا أمير المؤمنين، إن تكن العربية أباً فلست منها، وإن تكن لساناً فإنّي منها، قال: صدقت، قال الله تعالى: " بيلسان عربيٍّ ميبنٍ ".
قال ابن عيينة: إذا كانت حياتي حياة سفيهٍ، وموتي موت جاهل، فما يغني عنّي ما جمعت من طرائف الحكماء؟ قال عبد الله ابن إدريس: قال الله تعالى في أبي بكر الصّدّيق رضي الله عنه: ثاني اثنين إذ هما في الغار، وثاني اثنين في المشورة يوم بدر، وثاني اثنين في القبر، وثاني اثنين في الخلافة، وثاني اثنين في الجنّة.
قال الحسن البصري: إنّ في أحكام الدّنيا وما أنزل الله تعالى ما(8/35)
يستدلّ به على غيب ما لا يرى من يقين الآخرة وعدل أحكامها، فما كان أشبه من أقرّ بالنّشأة الأولى أن يستدلّ بذلك على النشأة الأخرى، وما أشبه من عرف النّشور من النوم أن يستدلّ بذلك على النّشور من الموت، وما أشبه من عرف خلق أوّله أن يستدلّ بذلك على خلق آخره، وما كان أشبه من عرف ربّه أن يعترف بما وعده من خيرٍ أو شر، وما كان أشبه من عرف رضاه أن لا يخلّ بعملٍ يعمله، وما كان أشبه من توكّل له برزقه أّلا يتهمّ برزقه، وما كان أشبه من عرف ما يضرّه أن لا يؤثره على ما ينفعه، وكان أشبه من عرف ما ينفعه إّلا يدع ما ينفعه.
سأل رجلٌ ربيعة بن أبي عبد الرحمن عن الاستواء فقال: ويلك مجهول، والاستواء غير معقول، والإيمان به واجب.
وقال النزّال بن سبرة: سمعنا حذيفة يحلف لعثمان على أشياء ما قالها، وقد سمعناه قالها، فقيل له في ذلك فقال: أشتري ديني بعضه ببعضٍ مخافة أن يذهب كلّه.
قال شبيل بن عوف: من سمع بفاحشةٍ فأفشاها فهو كالذي أنشأها.
قال النّباجيّ: سمعت هاتفاً يقول: عجباً لمن وجد عند المولى(8/36)
كلّ ما يريد كيف ينزل حاجته بالعبيد.
قال أبو سليمان الدّاريّ: من طلب الدّنيا على المحبّة لها لم يعط منها شيئاً إّلا أكثر منه، ليس لهذه غاية، ولا لهذه نهاية.
دعا رجلٌ فيلسوفاً فأجابه، ثم دعاه مرةً أخرى فأبى عليه، فقيل له: ما هذا؟ فقال: إنّه لم يشكرني على المرة الأولى.
قال أحمد بن أبي الحواري: قلت لأبي سليمان: إني لا أريد من الدنيا أكثر ممّا أعطى، فقال لي: لكني أعطى منها أكثر مما أريد.
قال أبو سليمان: الزّهّاد في الدّنيا على طبقتين: منهم من يزهد في الدّنيا ولا تفتح له روح الآخرة فهو يغتمّ في دنياه لأنّ نفسه قد يئست من شهواتها، وليس شيءٌ أحبّ إليه من الموت لما يرجو من نعيم الآخرة، ومنهم من يزهد وتفتح له روح الآخرة فليس شيءٌ أحبّ إليه من البقاء ليطيع.
قال أحمد بن أبي الحواريّ: سمعت أبا سليمان الدّاريّ يقول في رجلين تعبّدا وهما يشتهيان شهوةً وكلاهما لها تاركٌ، فخرجت من قلب أحدهما ولم تخرج من قلب الآخر، قال: الذي خرجت من قلبه أفضل، لأنه لم يخرجها فّلا شيءٌ من الآخرة، قال أحمد: فاختلفنا في المسألة بعباّدان وخرجنا إلى البصرة ولقينا رباحاً القيسيّ فوافقني عليها.(8/37)
كان أبو سليمان يقول: إنّ الله تعالى أكرم من أن يعذّب قلباً بشهوةٍ تركت من أجله، وذلك أنه قال: " من صدق في ترك شهوةٍ كفي مؤونتها ".
وقال أبو سليمان: أرجو أن أكون قد بلغت من الرّضا طرفاً ولو أدخلني النار لكنت بذلك راضياً.
قال السّريّ السّقطيّ: إذا رأيت الله تعالى يوحشك من الخلق، فاعلم أنّه يريد أن يؤنسك بنفسه.
قال إسماعيل بن زياد أبو يعقوب: قدم علينا ها هنا بعبّادان راهبٌ من الشام ونزل دير أبي كبشة، فذكروا حكمة كلامه، فحملني ذلك على لقائه، فأتيته وهو يقول: إنّ لله عباداً سمت بهم هممهم نحو عظيم الذّخائر، قالتمسوا من فضل سيّدهم توفيقاً يبلغهم سموّ الهمم، فإن استطعتم أيّها المرتحلون عن قريبٍ أن تأخذوا ببعض أمرهم فإنّهم قومٌ قد ملكت الآخرة قلوبهم فلم تجد الدّنيا فيها ملبثاً، فالحزن بثّهم، والدّمع راحتهم، والدؤوب وسيلتهم، وحسن الظنّ قربانهم، يحزنون بطول المكث في الدّنيا إذا فرح أهلها، فهم فيها مسجونون، وإلى الآخرة منطلقون. فما سمعت موعظةً أنفع لي منها.
قال معاوية بن قرّة: كنّا لا نحمد ذا فضلٍ عند فضله، فصرنا(8/38)
اليوم نحمد ذا شرٍّ لا يفضل عنه شرٌّ.
يقال إنّ يوسف عليه السلام كتب على باب السجن: هذه منازل البلوى، وقبو الأحياء، وتجربة الأصدقاء، وشماتة الأعداء.
قال بعض السّلف: معادن البهاء لا يقطع بين متّصلها تفاوت الأعمار، ولا يعفّي آثارها بلى الأبدان، وليس كلّ من يحكي الحكمة كان من أهلها، أولئك أبناء الدّنيا وخول الجهل، المحجوجون باستعارة اسمها، المسلوبون منفعة عواقبها، ولكنّ أبناء الحكمة الذين حبوا بموت الدّنيا في عقولهم، ونعموا بتخليتها من قلوبهم، الذين أخلق عندهم جديد العبر، وغيّبها عنهم مشاهدتهم غيب المعاد، وانتقالهم إلى دار اليقين.
غضب الإسكندر على شاعرٍ فأقصاه وفرّق ماله في الشعراء، فقيل له: أيّها الملك بالغت في عقوبته، قال: نعم، أمّا إقصائي إياه فلجرمه، وأمّا تفريقي ماله في أصحابه فلئلاّ يشفعوا فيه.
وقيل للإسكندر: إنّ فلاناً يجود في السّكر بما يسحّ به في الصّحو، قال: لا يحمد، لأنّ الصّحو عقلٌ والسّكر مباينٌ للعقل.
بلغ الإسكندر موت صديقٍ له فقال: ما يحزنني موته كما يحزنني أنني لم أبلغ من برّه ما كان أهله مني، فقال له فيلسوف: ما أشبه هذا القول بقول ابني وهو يجود بنفسه: ما يحزنني موتي كما يحزنني ما فات من إظهار بأسي وبلائي في العدوّ.(8/39)
قال أحمد بن أبي الحواريّ، سمعت أبا سليمان يقول: أهل قيام الليل على ثلاث طبقات: فمنهم من إذا قرأ بكى، ومنهم من إذا قرأ صاح، ومنهم من إذا قرأ تفكّر ولم يبك، فبهتّ، فقلت له: ما تفسيره؟ فقال: ما أقوى على تفسيره؛ قال أحمد: كان والله عارفاً له لكنّه كان لا يطيق أن يتكلم به.
كتب أبو الدرداء إلى سلمان الفارسي يدعوه إلى الأرض المقدّسة، فكتب إليه سلمان: إن بعدت الدار من الدار فإنّ الرّوح من الرّوح قريب، وطائر السماء على إلفه من الأرض يقع.
كان آخر من مات من أصحاب النبيّ صلّى الله عليه وآله: بالمدينة جابر بن عبد الله، وعبد الله بن عمر بمكّة، وأنس بن مالك بالبصرة، وعبد الله ابن أبي أوفى بالكوفة، وأبو أمامة الباهليّ بالشام.
قال بعض السّلف: يقال: صفوة الله تعالى من خلقه أهل التوحيد، وصفوته من أهل التوحيد أهل السّنّة، وصفوته من أهل السّنّة أهل الورع عن محارم الله تعالى، وصفوته من أهل الورع أهل الزّهد، وصفوته من أهل الزّهد أهل البصيرة، وصفوته من أهل البصيرة أهل الخضوع والتواضع.(8/40)
قال محمد بن حبيب، حدّثني أبي قال: دعانا محمد بن العبّاس العتبيّ، وكان من الصالحين، وعنده جماعةٌ، وكان فيهم أحمد بن عبد الرزّاق، فقدّم إلينا خبيصٌ فأخذ أحمد لقمةً من القصعة فناولني إياها وقال: اجعلها أنت بيدك في فمي. ففعلت، قال لي: أتدري بم فعلت هذا؟ إنّه يروى: من لقّم أخاه لقمةً حلوةً وقاه الله تعالى مرارة يوم القيامة، فأحببت أن تلقمنيها حتى يوقيك الله تعالى مرارة يوم القيامة.
لسعية بن غريض اليهوديّ: السريع
هاجك بالروض وقريانها ... دارٌ تعفّت بعد إخوانها
تسري عليها كلّ حنّانةٍ ... مولعةٍ منها بجولانها
مفصّوة الأجزاع مجهولةٍ ... كأنّما أعين خزّانها
جزع كعابٍ خانه سلكه ... بين تراقيها وأردانها
يهدي لها الأرواح من ريحها ... نفح خزاماها وحوذانها
وله أيضاً في رواية ابن حبيب: المتقارب
لقد هاج نفسك أشجانها ... وعاودك اليوم أديانها
بذكرّ ليلى وما ذكرها ... وقد قطعت منك أقرانها(8/41)
ودويّةٍ سبسبٍ مرعشٍ ... من البيد تعزف جنّانها
وعيرانةٍ كأتان الثّمي ... يل تمرح في الآل أشطانها
وقفت عليها فساءلتها ... وقد ذهب الحيّ ما شانها
قال الصّولي: كنّا عند المبرّد يوماً فاجتاز به رجلٌ فقال له أبو العبّاس: قد كلّمتك في فلان، فقال الرجل: قد سمعت وأطعت، وشغلت بضاعته، فما كان من نقصٍ فعليّ، وما كان من زيادةٍ فله، فقال المبرّد: لله درّك، أنت كما قال زهير بن أبي سلمى: الوافر
وسارٍ سار معتمداً إلينا ... أجاءته المخافة والرّجاء
ضمنّا ماله فغدا سليماً ... علينا نقصه وله النّماء
قال المبرّد، قال رجلٌ من الرّافضة: كان جرير والفرزذق يقولان: الحمد لله الذي شغل السيّد الحميريّ عنّا بمذهبٍ وإّلا لم نكن معه في شيء، قلت له: إنّهما لم يرياه، قال: فسمعا به، قلت: ولم يسمعا به، كان بعدهما، قال: فقدّما قولاً فيه، قلت: ما كان الوحي ينزل عليها، قال: فرأياه في النّوم فقالا هذا، فقلت: " أضغاث أحلامٍ وما نحن بتأويل(8/42)
الأحلام بعالمين " فقال: والله لقد تلي هذا فيه، قلت: يمينٌ فاجرةٌ، قال: أنت والله تنصب منذ اليوم.
وقف أحمد بن الطّيّب السّرخسي على المبرّد يوماً مسلماً، فقال المبرّد: أنت والله كما فقال البحتري: الوافر
خصال النّبل في أهل المعالي ... مفرقةٌ وأنت لها جماع
قال المبرّد: قصدني رجلٌ فاستشفع بي في حاجةٍ وأنشدني لنفسه: البسيط
إنّي قصدتك لا أدلي بمعرفةٍ ... ولا بقربى ولكن قد فشت نعمك
فبتّ حيران مكروباً يؤرقني ... ذلّ الغريب ويغشيني الكرى كرمك
ما زلت أنكب حتى زلزلت قدمي ... فاحتل لتثبتها لا زلزلت قدمك
فلو هممت بغير العرف ما علقت ... به يداك ولا انقادت له شيمك
قال المبرّد: فبلّغته جميع ما قدرت عليه.
قال الإسكندر لمّا قتل دارا: إنّ قاتل دارا لا يعيش.
قيل لديوجانس: لم تأكل في السّوق؟ قال: لأنّي جعت في السّوق.(8/43)
ورأى رجلاً قد خصب شيبه فقال: يا هذا أخفيت شيبك فهل تقدر أن تخفي هرمك؟ ورأى ديوجانس رجلاً يدعو ربّه أو يرزقه الحكمة فقال: لو قبلت الأدب رزقتها.
ورأى غلاماً أسود يرمي بالحجارة فقال: لا ترم لعلّك تصيب أباك ولا تعلم.
ورأى صبيّاً يشبه أباه فقال: نعم الشاهد أنت لأمّك.
قال الرّياشي: حدّثنا أبو حفص الغفاريّ عن رجلٍ من الأنصار قال، أخبرني من سمع الأحوص بن مالك رافعاً عقيرته يقول: الطويل
لعمرك ما جاورت غمدان طائعاً ... وقصر شعوبٍ أن أكون بها صبّا
ولكنّ حمّى أضرعتني ثلاثةً ... فجاوزتها ثمّ استمرّت بنا غبّا
ومصرع إخوانٍ كأنّ أنينهم ... أنين المكاكي أنقرت بلداً خصباً
قال المفجّع: المكاكيّ جمع مكّاءٍ، وأنقرت: أقامت، والمنقر: المنزل، ومنه سمّي الرجل، ومنه قول الآخر:(8/44)
ونقّري ما شئت أن تنقّري
قال: ومنه قول عمر بن أبي ربيعة: الخفيف
قلت لا بدّ أن أنقّر عنك ... نّ فحاجرنني بعبد مناف
أي لا بدّ أن أعرف منزلكنّ.
قال: فيروى في شعر الأحوص: وقصر شعوب بالرفع، ويقال: شعوب: المنيّة، قال المنانيّ: الكامل
ذهبت شعوب بماله وبأهله ... إنّ المنايا للرجال شعوب
والمرء من ريب النون كأنّه ... عودٌ تعاوره الرّعاء ركوب
نصباً لكلّ مصيبةٍ يرمى بها ... حتى يصاب سواده المنصوب
قال: ومن روى وقصر بالنصب قال: هو موضعٌ؛ قال ويروى:
ولكنّ حمّى أضرعتني ثلاثةً ... مجرمةً ثم استمرّت بنا غبّا
يعني ثالثة أشهر تامّة.
قال المفجّع: حدّثنا أبو يعقوب النّحوي قال، حدّثنا الرّياشي قال، سمعت القحذميّ يحدّث عن ابن دأبٍ قال: فقدت امرأةٌ من بجيلة أخاً لها، فجعلت تنشده في قبائل العرب حتى انتهت إلى حيًّ من الأحياء فقالوا: قد وجدته ولم تجديه، وجاءوا بها إلى قبرٍ مكتوبٍ عليه: الطويل
أليحا لليلى قبر من لو رأيته ... يجود وتأبى نفسه وهو ضائع
سقيطٌ كجثمان الخلى لم يلطف به ... حميمٌ ولم تذرف عليه المدامع
إذاً لرأيت الذّلّ والضّيم قد بدا ... لليلى ولم يدفع لك الضّيم دافع(8/45)
قال المفجّع: الخلى ها هنا هو العود المقطوع من النّبات؛ قال: وسمعت المبرّد يقول: الجثمان: الشخص، والجسمان - بالسين -: الجسم: والشّجى ها هنا: الغصص، وأصله عويدٌ يعترض في الحلق.
وأنشد لابن دريد: الكامل
نهنه بوادر دمعك المهراق ... أيّ ائتلاف لم يرع بفراق
لا تغلبنك على العزاء خواطرٌ ... للشّوق هنّ رواشف الآماق
كم ذا تحنّ إلى العراق وأهله ... كم تامت الدّنيا بغير عراق
لقي رجلٌ داود الطّائي فقال: من أين يا داود وإلى أين؟ قال داود: استوحشت من الناس وأنست بالله تعالى، فقال: يا داود، هذا إن قبلك، فصاح صيحةً وخرّ مغشياً عليه ثم أفاق فقال: نبّهك الله إذ نبّهتني.
قيل لرابعة: أيّ عملك أرجى إليك عندك؟ قالت: أرجى عملي عندي خوفي أن لا يقبل.
وقال النبيّ صلّى الله عليه في دعائه: " اللهمّ ارزقني حبّك وحبّ ما ينفعني حبّه عندك؛ اللهمّ ما رزقتني ممّا أحبّ فاجعله قوةً لي فيما تحبّ، وما زويت عنّي ممّا أحبّ فاجعله فراغاً لما تحبّ ".
نظر بعض العارفين إلى آخر في محفلٍ يدعو إلى الله فقال له:(8/46)
إنّي خفت عليك العجب من كثرة الناس، فقال: إنّما يعجب المؤمن أمرٌ هو منه، فأمّا من أمره من غيره ففيم العجب؟ وأنشد: الطويل
وصفت التّقى حتى كأنّك ذو تقىً ... وريح الخطايا من ثيابك يسطع
ولم تعن بالأمر الذي هو واجبٌ ... وكلّ امرئٍ يعنى بما يتوقّع
قال ثعلب: الأجهر: الذي لا يبصر بالنهار، والأعشى: الذي لا يبصر بالليل، يقال: عشا يعشو إذا أصابه شيءٌ فضعف بصره، وعشي يعشى إذا كان الضعف في البصر خلقةً؛ وقال الأصمعيّ: لا يعشى إّلا من بعد ما يعشو، أي لا يعمى إّلا من بعد ما يضعف بصره.
تقدّم الأشعث بن قيس إلى شريحٍ قاضي الكوفة فقال: يا أبا أميّة، لعهدي بك وإنّ شانك لشوين، فقال شريح: يا أبا محمد، أنت تعرف نعمة الله تعالى على غيرك، وتجهلها من نفسك.
قيل لابن عيينة: إنّ فلاناً ينتقضك، فقال: نطيع الله فيه مقدار ما عصى الله فينا.
وكان من سؤدد العبّاس في الجاهلية أن جفنته كانت تروح على فقراء عبد مناف، ودرّته على سفهائهم.
قال ابن السّمّاك: ما المشتار الجنيّ، مع الرّازقيّ الشهيّ، بأحبّ إلى الفاجر الشقيّ، من أن يغتاب المؤمن التقيّ.(8/47)
هكذا قال: المشتار، وقد جاء في شعر عديّ بن زيد، والمشهور: شرت العسل فهو مشور.
أهدي إلى عمر بن عبد العزيز تفاحٌ لبنانيّ، وكان قد اشتهاه، فردّه، فقيل له: قد بلغك أنّ النبيّ صلّى الله عليه وآله وسلّم كان يأكل الهديّة، فقال عمر: إنّ الهدية كانت لرسول الله صلّى الله عليه وآله وسلّم هديّة، ولنا رشوة.
قال المبرّد: مات ابن عمٍّ لأبي محلّم السّعدي يقال له الخليل بن أوس من أهل عسكر مكرم وخلّف عشرين ألف دينار فأوصى بها لأبي محلّم، وقال: من يرثني غيره؟ فدفعوا المال إليه فأبى أن يأخذه وقال: من هذا العلج حتى أرثه؟ والله ما وشجت بنا رحمٌ، فقال أبو هفّان: يا رقيع، خذ المال وارجع قرشيّاً إن شئت أو تميمياً، فكلٌ أحدٍ يقبلك ويحلف عنك، فأبى، فقال أبو العيناء: رغبت يا أبا محلّم في الدعوة حين زهد الناس فيها، وزهدت في المال حين رغب فيه الناس، قال المبرّد: وعنّفته في ترك المال فما قبل فغاطني فقلت: الوافر المجزوء
يقول دعيّ سعدٍ حي ... ن لم يرني وقد أمنا
أنا السّعديّ إن سكتوا ... فقلت له وأين أنا
ذكر المعتضد بين يدي المبرّد فقال: هو كما قال الأخطل: الكامل(8/48)
تسمو العيون إلى إمام عادلٍ ... معطى المهابة نافعٍ ضرّار
وترى عليه إذا العيون رمقنه ... سمة الحليم وهيبة الجبّار
قال المبرّد: قال لي عمارة بن عقيل وكانت في يدي كأسٌ مائلةٌ: إنّ كأسك لعلى عدواء.
قال: قال ابن الأنباري، قال المبرّد: حذفوا الهاء من طالق لأنّه بمعنى شخص طالق، وكذلك رجلٌ ضحكة، وأبطل أصحاب الفرّاء هذا وقالوا: يلزمه أن يقول: زيدٌ قائمةٌ على معنى: نسمة قائمة، وهذا محال.
قال عبد الصّمد بن المعذّل: الرجز
يا ربّ إن كنت ترى المبرّدا ... إن قاس في النّحو قياساً أفسدا
ويكسر الشّعر إذا ما أنشدا ... وإن تحسّى الكأس يوماً عربدا
فاقدر له حيّة قفٍّ أسودا ... أنيابه عوجٌ كأمثال المدى
لو نكز الفيل العظيم الأربدا ... بنابه جرّعه كأس الرّدى
رأى فيلسوف معلّماً يعلّم جاريةً ويعلّمها الخطّ فقال: لا تزد الشرّ شرّاً.(8/49)
ورأى جاريةً تحمل ناراً فقال: نارٌ على نار، والحاملة شرٌّ من المحمولة.
ورأى مرةً امرأةً قد حملها السّيل فقال: زادت على كدرٍ كدراً، والشرّ بالشرّ يهلك.
ورأى امرأةً في ملعبٍ فقال: ما خرجت لترى ولكن لترى.
وسمع رحلاً يذكره بسوءٍ فقال: ما علم الله منّا أكثر ممّا تقول.
ورأى امرأةً تبكي على ميتٍ فقال لها: إن كان من رأيك معاودة الأكل والشّرب فلا تبكي، وإن كان رأيك الصبر عنهما فعليك بالبكاء.
ورأى امرأةً عوراء تصنع نفسها فقال: نصف الشرّ شرّ.
قال الزّبير بن بكّار: اسم كلّ طعام يدعى عليه الجماعة: العرس، والإعذار، والخرس، والوكيرة، والنقيعة، والعقيقة، والمأدبة؛(8/50)
فالعرس: طعام الوليمة، يقال: أولم على أهله؛ والإعذار: طعامٌ يتخذه الرجل لإعذار الصبيّ وهو ختانه؛ والوكيرة: طعام يتّخذه إذا بنى داراً؛ والنّقيعة: ما يتّخذ من جنب عرض المغنم قبل أن يقسم؛ والعقيقة: طعامٌ يتّخذ إذا عقّ عن الصبي أي حلقت عقيقته، والعقيقة: شعر رأس الصبيّ إذا ولد.
للزّبير بن بكّار: الرجز
إن مطايا الحين أشباهٌ ذلل ... وطال ما قد غرّ بالسّهو الأمل
وإنّ حزب الله إخوانٌ وصل ... على الثأى لا خانةٌ ولا خذل.
لأحمد بن المعذّل: الرجز
أيّتها النفس اسمعي لقيلي ... أنت من الحياة في أصيل
وأنت صبّ الأمل الطويل ... فلا يغرّنك مدى التأميل
وقد دنت شمسك من أفول
سألت السّيرافي عن الزّنباع ما هو، قال: السّيّء الخلق والنون زائدةٌ.
لأبي الوليد الحارثي، وهو عبد الملك بن عبد الرحيم: الطويل
لعمري لقد بلّغت قومي أناتهم ... وأمهلتهم لو يرعوون لممهل(8/51)
وأسمعتهم رفع النداء فأعرضوا ... بأسماعهم عن قول عانٍ مكبّل
وما بهم أن لست من سرواتهم ... ولكنّ من يعثر به الدهر يخذل
أساءوا فإن أشك الإساءة منهم ... أعبهم وإّلا أشكهم أتململ
فما أنصفتني في الحكومة أسرتي ... ولا عدلوا عنّي هواهم بمعدل
لقوا وجه إجمالي بوجه إساءتي ... وما اعتدلت حالاً مسيءٍ ومجمل
قال عبد الكريم بن أبي العوجاء في وصف قوم: واله للحكمة أزلّ عن قلوبهم من المداد عن الأديم الدّهين.
قال يحيى بن خالد: رأيت شرّيب خمرٍ نزع، ولصّاً أقلع، وصاحب فواحش راجع، ولم أر كاذباً رجع.
وقال يحيى بن خالد: ما سقط غبار موكبي على لحية أحدٍ إّلا أوجبت حقّه.
ليحيى بن خالد: الكامل
اللّيل شيّب والنهار كلاهما ... رأسي بكثرة ما تدور رحاهما
يتناهبان نفوسنا ودماءنا ... ولحومنا جهراً ونحن نراهما
والشّيب إحدى الميتتين تقدّمت ... أولاهما وتأخّرت أخراهما
وقّع يحيى بن خالد في رقعة رجلٍ مليح الخطّ، رديء الكلام:(8/52)
الخطّ جسمٌ روحه الكلام، ولا ينتفع بجسمٍ لا روح فيه.
قيل لابن سيّابة: ما نظنّك تعرف الله، قال: وكيف لا أعرف من أجاعني وأعراني وأدخلني في حر أمّي.
قال عتبة الأعور في سيّابة والد إبراهيم، وكان حجّاماً: المنسرح
أبوك أوهى النّجاد عاتقه ... كم من كميٍّ أدمى ومن بطل
يأخذ من ماله ومن دمه ... لم يمس من ثائرٍ على وجل
قال أبو حاتم، قال الأصمعي: أخذ يحيى بن خالدٍ بيدي فأقدمني على قبرٍ بالحيرة فإذا عليه مكتوبٌ: السريع
إنّ بني المنذر عام ابتنوا ... بحيث شاد البيعة الراهب
تنفح بالكافور أردانهم ... وعنبرٍ يقطبه القاطب
والخبز واللحم لهم راهنٌ ... وقهوةٌ راووقها ساكب
والقطن والكتّان أثوابهم ... لم يجب الصّوف لهم جائب
فأصبحوا أكلاّ لدود الثّرى ... والدّهر لا يبقى له صاحب
كتب رجلٌ إلى يحيى بن خالد رقعةً فيها: الطويل
شفيعي إليك الله لا شيء غيره ... وليس إلى ردّ الشّفيع سبيل
فأمره بلزوم الدّهليز، فكان يعطيه في كلّ صباحٍ ألف درهم، فلمّا استوفى(8/53)
ثلاثين ألفاً مضى، فقال يحيى: والله لو أقام إلى آخر العمر ما قطعتها عنه.
أنشد ثعلب: المتقارب
فلمّا بصرنا به طالعاً ... حللنا الحبى وابتدرنا القياما
فلا تنكرنّ قيامي له ... فإنّ الكريم يجلّ الكراما
قال الصّولي: كمّأ عند ثعلب فغضب على المدائني النّحوي ثم سكن بعد إفراطٍ فقال: عوتب العتّابيّ في مخاصمة رجلٍ وقد زاد في القول فقال: إذا تشاجرت الخصوم، طاشت الحلوم، ونسيت العلوم.
قال العنزي: أنشدني شيخٌ من أسارى بني نمير أيام الواثق وهو مشورٌ على بعير مع جماعةٍ: الوافر
للبسي برنسي ونقاء عرضي ... أحبّ إليّ من جدد الثّياب
يروح المرء مختالاً بطيناً ... نقيّ الثّوب مطبوع الإهاب
فقلت له: ما مطبوع الإهاب؟ فقال: منطوٍ على بخور.
قال أبو العيناء: كلام ابن المقفّع صريح، ولسانه فصيح، وطبعه صحيح، كأنّ كلامه لؤلؤٌ منثور، أو وشيٌ منشور، أو روضٌ ممطور.
وقال أيضاً: حدّثني رجلٌ من قريش قال: لقيت النسّابة البكريّ بمنىً فقلت: أيّ الشعراء أغزل؟ فقال: أصدقهم وجداً الذي إن(8/54)
سمعت شعره أويت لقائله، أما نفث في سمعك قول حجازيّكم عبد الله جدعان النهدي، واستخفّه مرةً الوجد فقال وكان فارّاً في بلاد فزارة: الوافر
بكى وأقرّه الشمل الشّتيت ... وأسعدت الجبال به المروت
حجازيّ الهوى علقٌ بنجدٍ ... جويٌّ ما يعيش ولا يموت
تغاديه الهموم لها أجيجٌ ... ويسلمه إلى الوجد المبيت
كأن فؤاده كف غريق ... يمدها بشط البحر حوتُ
لهندٍ منك عينٌ ذات سجلٍ ... وقلبٌ سوف يألم أو يفوت
إذا اكتنفا بضرهما سقيماً ... فليس على شفائهما مقيت
دعا عيسى بن علي ابن المقفّع إلى الغداء فقال: أعزّ الله الأمير لست يومي أكيلاً للكرام، قال: ولم؟ قال: لأنّي مزكومٌ، والزّكمة قبيحة الجوار، مانعةٌ من معاشرة الأحرار.
وكان ابن المقفّع يقول: إذا نزل بك مكروهٌ فانظر، فإن كان له(8/55)
حيلة فال تعجز، وإن كان مما لا حيلة له فلا تجزع.
قال الأصمعي: قال ابن المقفّع لبعض الكتّاب: إيّاك والتّتبّع لوحشيّ الكلام طمعاً في نيل البلاغة، فإنّ ذلك العيّ الأكبر.
قال العتبيّ: قال ابن المقفّع: إنّ مما يسخّي بنفس العاقل عن الدنيا علمه بأنّ الأرزاق لم تقسم فيها على قدر الأخطار.
قال أبو سنان الغسّاني: كنت جالساً مع وهب بن منبّه إذ جاء عطاءٌ الخراساني فجلس معنا، فقال له وهب: ويحك يا عطاء، تأتي من يغلق عليك بابه، ويظهر لك فقره، ويواري عنك غناه، وتدع من يفتح لك بابه، ويظهر لك غناه ويقول: ادعوني استجب لكم؟! ويحك يا عطاء، إن كان يغنيك ما يكفيك فإنّ أدنى ما فيها يغنيك ما يكفيك فإنّ أدنى ما فيها يغنيك، وإن كان لا يغنيك ما يكفيك فليس فيها شيءٌ يغنيك. ويحك يا عطاء، إنّما بطنك بحرٌ من البحور، ووادٍ من الأودية لا يملأه إّلا التراب.
قال وهب: وجدت في بعض الكتب: من استغنى بأموال الفقراء افتقر بها، وكلّ بيتٍ بني بقوت الضعفاء جعل آخره خراباً.
قال وهب: بينما ركبٌ يسيرون إذ هتف بهم هاتف: الطويل(8/56)
ألا إنّما الدّنيا مقيلٌ لرائحٍ ... قضى وطراً من حاجةٍ ثم هجّرا
ألا لا ولا يدري على ما قدومه ... ألا كلّ ما قدّمت تلقى موفّرا
قال وهب: وجدت في بعض الكتب: الدّنيا غنيمة الأكياس، وعطيّة الجهّال.
قال وهب: قرأت في بعض الكتب: كلّ حيٍّ ميتٌ، وكلّ جديدٍ بالٍ.
قال عروة بن رويم اللخمي: إنّ يهوديّاً يقال به حنين نخس بامرأةٍ مسلمةٍ حماراً فقمص فصرعها فوقعت فانكشفت، فكتب إلى عمر فكتب: ليس على هذا صالحناهم، قد خلع ربقة الذّمة من رقبته فاصلبوه حياً. فلمّا نصب على خشبةٍ أتته امرأته وعليه خفّان جديدان فقالت: الآن تموت فما تصنع بالخفّين؟ فاجترّتهما عنه فجعل الناس يقولون: انقلبت بخفّي حنين.
ويعقوب بن السّكّيت قد قال غير هذا، ولكن قرأت هذا في أخبار المفجّع.
وقال ثعلب: من قرأ " جمع مالاً " بالتخفيف جمعه مرةً واحدةً، ومن قرأ: " جمّع مالاً " جمعه مرةً بعد مرةً، ومن قرأ: " وعدّده " جعله عدّةً، ومن قرأ: " وعدده " أراد أهله وناصريه.(8/57)
قيل لصوفيّ: ما مثال الدنيا؟ قال: هي أقلّ من أن يكون لها مثل.
يقال: حفشت الأدوية إذا سالت كلّها، وحفشت المرأة على زوجها إذا أقامت عليه ولزمته، والحفش أيضاً: البيت القريب السّمك من الأرض.
وقال: الأسلوب: السّطر من الشّجر. هذا كلّه قاله المفجّع.
وأنشد: الوافر
أتته وهي جانحةٌ يداها ... جنوح الهبرقيّ على الفعال
والفعال بكسر الفاء: نصاب الفأس، وأما الفعال بالفتح فالكرم، هكذا قال الناس.
قيل لناسكٍ: ما الحيلة؟ ترك الحيلة.
وصف أعرابيٌّ قوماً فقال: كأنّ خدودهم ورق المصاحف، وكأنّ أعناقهم أباريق الفضّة، وكأنّ حواجبهم الأهلّة.
قال أبو حازم الأعرج: الدّنيا غرّت أقواماً فعملوا فيها بغير(8/58)
الحقّ، ففاجأهم الموت فخلّفوا مالهم لمن لا يحمدهم، صاروا إلى من لا يعذرهم، وقد خلفنا بعدهم، فينبغي أن ننظر إلى الذي كرهناه فنجتنبه، والذي غبطناهم به فنستعمله.
كتب الجاحظ في الملح: المزح متفاوت الأشكال في السّخف، كما أنّ الجدّ متفاوت الأقدار في الوزن، فلم نقصد إلى الباطل، ولا إلى ما لا يردّ نفعاً في عاجل، ولا مرجوع له في آجل، بل إنّما أردنا أن يكون ذلك الضحك إجماماً للقوّة، وتنشيطاً على العمل، وقد حكى الله تعالى عن اليهود قولهم " يد الله مغلولةٌ " وإنّ الله فقيرٌ وهم أغنياء، فكانت الحكاية كفراً مسخوطاً، وكذباً مرفوضاً، ولست تعرف فضل النعمة عليك في حسن البيان حتى تعرف شدّة البليّة في قبح العيّ، ومتى سمعت التهكّم في القول، عرفت فضل النّعمة في الاقتصاد، ومن لم يعرف السّوء لم يجتنبه، ومن لم يعرف الإضاعة لم يعرف الحزم. وقيل لعمر: فلانٌ لا يعرف الشرّ قال: ذاك أجدر أن يقع فيه؛ قال النابغة: الطويل
ولا يحسبون الشرّ لا شرّ بعده ... ولا يحسبون الشرّ ضربة لازب
ولآخر: الطويل
ولا يحسبون الشرّ حتى يصيبهم ... ولا يعرفون الخير إّلا تدبّرا
وكانت العرب تقول: نعوذ بالله من الرأي الدّبريّ؛ وقال جثّامة بن(8/59)
قيس: البسيط
وقلّما يفجأ المكروه صاحبه ... حتى يرى لوجوه الشّرّ أسبابا
كاتب: فكيف لي في دهرٍ قد درست فيه أعلام الكرم، وعفت معالم الخير، وانقطعت موادّ النّبل، وصار الشّرّ وسيلةً، والدناءة ذريعةً، واللؤم حزماً، والجود ضعفاً.
قال أعرابيّ لصاحبٍ له: لست أقتضي الوفاء بكثرة الإلحاح فأثقل عليك، ولا أقابل الجفاء بترك العتاب فأغتنم القطيعة منك.
قال أعرابيٌّ ليحيى بن خالد: لولا أنّك أمسكت من رمق المكارم لقامت عليها المآتم.
قال أعرابي: من كان لأهله كهفاً انسدّ، وجبلاً انهدّ، ونجماً انقضّ، وعزاً تقوّض.
كاتب: الحمد لله الذي أعقب العبرة بالحبرة، وأبدل التّرحة بالفرحة، ووصل المصيبة بالموهبة، وجبر الرزيّة بالعطيّة، وفي كتاب الله سلوةٌ من فقدان كلّ حبيب وإن لم تطب النفس به، وأنسٌ من كلّ فقيدٍ وإن عظمت اللّوعة به.
كاتب: كتابي عن قلبٍ باخع، وطرفٍ دامع، وفؤادٍ لائع.(8/60)
قيل: لم صار الأحدب أخبث الناس؟ قال: لأنه قرب فؤاده من دماغه، وقربت كبده من دماغه، فلمّا تقارب الأعضاء كان أخبث الناس.
قال بعض الصّالحين: كنّا نستعين على حفظ العلم بحسن العمل.
قال بعض الأطبّاء: اعلم أنك تأكل ما تستمري، وما لا تستمريه فهو يأكلك.
نظر أعرابيٌّ إلى رجلاً يغسل يده فقال: أنقها فإنّها ريحانة وجهك.
وقيل: أقلل طعامك، تحمد منامك.
وقال أعرابيّ: ممّا يزيد في طيب الطعام مؤاكلة الكريم الودود.
وأنشد لإسماعيل بن صالح بن علي الهاشمي: السريع
يا من رماني الدّهر من فقده ... بفرقةٍ قد شتّتت شملي
ذكرت أيام اجتماع الهوى ... وقرّةً للعين بالوصل
ونحن في غرّة دهرٍ لنا ... نطالب الأيام بالذّجل
فكدت أقضي من قضاء الهوى ... عليّ بعد العزّ بالذّلّ(8/61)
وليس ذكري لك عن خاطر ... بل هو موصولٌ بلا فصل
هذا البيت المعنى، وله كتبنا ما تقدّمه، فلا تضجرنّ من الشّعر، فلم نحبّ أن ينوب عنه النّثر، وإن راع ظاهره وحسن.
سمع أعرابيٌّ في الطّواف يقول: يا أنيس المفردين، حططت رحلي بفنائك، وأنفذت زادي في لقائك، واستسلمت لقضائك، فما الذي يكون من جزائك؟ اجعل حظّي من وفادتي عتق رقبتي من النّار.
قال الأوزاعي: دع لأهل البصرة خصلتين وهما: القول بالقدر، والرّخصة بالخضخضة، واللتان لأهل الكوفة: تأخير السّحور، وشرب النبيذ، ولأهل مكة خصلتين وهما: الظّرف والمتعة، لأهل المدينة: السماع وإتيان النساء في أدبارهن، واللتان لأهل الشام: إيثار السلطان وبغض بني هاشم.
يقال: من أخذ باختلاف الفقهاء في الأحكام فسق، ومن أخذ بغرائب المحدّثين كذّب، ومن أخذ بدقائق المتكلمين كفر.
قال الحسن البصري: أربعٌ قواصم للظهر: إمامٌ تطيعه ويضلّك، وزوجةٌ تأمنها وتخونك، وجارٌ إن علم خيراً ستره أو شرّاً نشره، وفقرٌ حاضرٌ لا يجد صاحبه عنه متلدّداً.(8/62)
سأل أعرابيٌّ الحكم بن عبد المطّلب فأوسعه خيراً، فبكى الأعرابي فقال: ما يبكيك؟ قال: إنّي والله أنفس بك على الأرض أن تأكلك.
قال أبو بكر الصدّيق: أشقى الناس في الدنيا الملوك، فتغامز القوم فقال: أما علمتم أنّ الملك إذا ملك قصر أجله، ووكّلت به الروعة والحزن، وكثر في عينه قليل ما في يد غيره، وقلّ في نفسه كثير ما عنده.
قال إسحاق: وصف أعرابيٌّ رجلاً فقال: كان والله مطلول المحادثة، ينبذ الكلام إليك على أدراجه كأنّ في كلّ ركنٍ من أركانه قلباً.
مطلول: من الطّلّ.
قال الفرّاء في النّوادر: أنشدني أبو صدقة الزّهري لفلان: الكامل
إنّي عجبت لكاعبٍ مردونةٍ ... أطرافها بالحلي والحنّاء
بيضاء تصطاد القلوب وتستبي ... بالحسن قلب المسلم القرّاء
قالت أزيدٌ أنت ما لك هكذا ... كالعبد مطليّاً بأيّ طلاء
كالقار لونك أو طليت برامكٍ ... أو مسّ جلدك هانئٌ بهناء
لا تعجبي منّي فدىً لك واسمعي ... أخبرك ما ينأى من الأنباء
أخبرك أنّ وضاءتي في ميعتي ... وغرارتي في عدّةٍ ونماء(8/63)
إنّ الجميل يكون وهو مقصّرٌ ... والقوم فيما تمّ غير سواء
والمرء يلحقه بفتيان النّدى ... خلق الكريم وليس بالوضّاء
الوضّاء والحسّان والكرّام والكبّار، من الوضيء والحسن والكريم والكبير.
قال ثعلب: اشتكى الوليد عبد الملك وبلغه قوارص وتعريضٌ من سليمان بن عبد الملك وتمنّ لموته لما له من لعهد بعده، فكتب إليه يعتب عليه وفي آخر كتابه: الطويل
تمنّى رجالٌ أن أموت وإن أمت ... فتلك طريقٌ لست فيها بأوحد
وقد علموا لو ينفع العلم عندهم ... لئن متّ الدّاعي عليّ بمخلد
منيّته تجري لوقتٍ وحتفه ... سيلحقه يوماً على غير موعد
فقل للذي يبقى خلاف الذي مضى ... تهيّأ لأخرى مثلها فكأن قد
فكتب إليه سليمان: قد فهمت ما كتب به أمير المؤمنين، فوالله لئن تمنّيت ذلك، تأميلاً لما يخطر في النفس، إنّي لأوّل لاحقٍ به، وأول منعيّ إلى أهله، فعلام أتمنّى ما لا يلبث من تمنّاه إّلا ريثما يحلّ السّفر بمنزلٍ ثمّ يظعنون عنه؟ وقد بلغ أمير المؤمنين ما لم يظهر على لساني، ولم ير في وجهي، ومتى سمع من أهل النّميمة، ومن لا رويّة له، أسرع ذاك في فساد النيّات، والقطع بين ذوي الأرحام، وكتب في آخر كتابه: الطويل(8/64)
ومن يتتبّع جاهداً كلّ عثرةٍ ... يصبها ولا يسلم له الدهر صاحب
فكتب إليه الوليد: قد فهم أمير المؤمنين كتابك فما أحسن ما اعتذرت به، وحذوت عليه، وأنت الصّادق في المقال، الكامل في الفعال، وما شيءٌ أشبه بك من اعتذارك، وما شيءٌ أبعد منك من الشيء الذي قيل فيك، والسلام.
227ب - روى هذا ثعلب في المجالسات، وكان أبو بكر ابن مقسم يرويها، وسمعتها وهي تقرأ عليه اثنتين وخمسين، وعاش بعدها وكان شيخاً مكفوفاً حين لحقته، ولم أر شيخاً أوطأ منه ولا أهدأ، وله قراءاتٌ اختارها وأنكر الناس عليه ذلك، وله ملحمةٌ، وأكثر الناس يقولون: ظلم في هذه القصّة كما ظلم ابن شنبوذ حين آذاه ابن مجاهد، وذلك أن ابن شنبوذ وابن مقسم لم يقرأا ما قرأا بالأثر والحجّة والرّواية، ولم يخترعا ولم يختلقا، ولم ينزل الله تعالى اختيار ابن مجاهد من السماء، وإنّما اجتهد كما اجتهد من تقدّم، فليت شعري ما الذي هاجه على محاربة ابن شنبوذ حين قرأ " إن تعذّبهم فإنّهم عبادك وإن تغفر لهم فإنّك أنت الغفور الرحيم " مكان: العزيز(8/65)
الحكيم، وحين قرأ ابن مقسم في وصف فرعون " إنّه كان من الغالين " بالغين معجمةً وقال: لا أصفه بالعلّو بل الغلّو، لأنّ الله تعالى قد نهى عن الغلّو في قوله " لا تغلوا في دينكم "، وهذا النّهي وإن توجّه إلى أهل الكتاب فإنّ المعنى فيه يعمّ الخلق، لأنّ العلّة قائمةٌ والحجّ بينة. ولابن مقسم في القرآن كتاب يسميه الأنوار يقدّم على كتب كثيرة.
227ج - أما أنا فلم أر في القرآن كتاباً أبعد مرمىً، ولا أشرف معاني من كتابٍ لأبي زيد البلخي، وكان فاضلاً يذهب في رأي الفلاسفة، ولكنّه تكلّم في القرآن بكلامٍ دقيق لطيف، وأخرج سرائر ودقائق وسمّاه نظم القرآن، ولم يأت على جميع المعاني المطلوبة منه. وللكعبيّ أبي القاسم كتابٌ في التفسير يزيد حجمه على كتاب أبي زيد، ومات أبو زيد في سنّي نيّف وثلاثين وثلاثمائة، ويقال له جاحظ خراسان. لمّا ظهر أحمد بن سهلٍ أراده على الوزارة فأبى، فوزّر أبو القاسم، وكتب أبو زيد، وهلك أحمد عن عمرٍ قصير.
قال عليّ بن أبي طالب رضي الله عنه: إذا كانت في رجلٍ خلةٌ من خلال الخير غفر له ما سواها لها، ولا أعطي فقد دينٍ ولا عقل، لأنّ فقد(8/66)
الدين خوفٌ، ولا عيش لخائفٍ، وفقد العقل موتٌ، ولا يعايش ميت.
هذا رواه لي بعض المجوس لبزرجمهر، ورواه لي بعض العلويّة لجدّه، ورواه لي آخر مرسلاً، والله أعلم وأحكم بالصواب، فالحكمة نسبتها فيها، وأبوها نفسها، وحجّتها معها، وإسنادها متنها، لا تفتقر إلى غيرها ويفتقر إليها، ولا تستعين بشيءٍ ويستعان بها؛ نسأل الله البرّ الكريم الرؤوف بالعباد أن لا يجعل حظّنا منها القول دون الفعل، والهداية دون الاهتداء.
سئل عليّ بن الحسين رضي الله عنهما: لم أوتم النبيّ صلّى الله عليه وآله وسلّم من أبويه؟ قال: لئلاّ يوجب عليه حقٌّ لمخلوق. هذا معنىً لطيف، وأظنّ أنّه يحتاج إلى تفسير.
وقال موسى بن جعفر رضوان الله عليهما: ظنّي بالله حسن، وبالنبيّ المؤتمن، وبالوصيّ ذي المنن، وبالحسين والحسن.
وقال عليّ بن أبي طالب رضي الله عنه في قوله::أكّالون للسّحت ": هو الرجل يقضي لأخيه الحاجة ثم يقبل هديّته.
وقيل عن عليٍّ رضي الله عنه في قوله جلّ ثناؤه: " وفار التّنّور "، هو: أسفر الصبح. وهذا غريبٌ جداً وما أحبّ أن أثق بكلّ غريبٍ، لأنّ القصّة في التنّور أظهر من أن يحمل اللفظ على المجاز بغير حجةّ، ويعدل عن المعنى الظاهر بغير بيان، ولو جاز لشنع القول وشاع الظنّ.
يقال: ما العثم، والعتم، والعجم، والعذم، والكظم، والعلم، والكتم، والعظم، والقصم، والرّقم، والوقم، والوسم، والوشم، والهتم، والطّعم، والرّشم، والغشم.(8/67)
ويقال: ما الحقّ، والزّقّ، والدقّ، والرّقّ، والشّقّ، والعقّ، والنّقّ.
ويقال: ما الشّطّ، والبطّ، والخطّ، والحطّ، والغطّ، والقطّ، والعطّ، والمطّ، والأطّ.
نصل هذه الأحرف بالجواب قبل أن نتعرض فيها إلى ما يشغل عنها، ويبعد منها: أما العثم ففساد الجرح؛ وأما العتم - بالتاء - فهو البطء، ويقال: جاءنا عاتماً، ومنه اشتقّت العتمة؛ وأما العجم فهو العضّ - بسكون الجيم - وأما العجم فالنّوى، والعجم: ضدّ العرب، وأعجمت الكتاب - بالألف - وعجمت الكتااب إذا رزته، والعجمة: سوء الفهم؛ العذم: التّوسّع في الأكل؛ وأما الكظم فحبس النّفس عند الغيظ؛ وأمّا العلم فمصدر علمت الشيء بالعلامة وعلمت، وأمّا المعلم - بكسر اللام - فالفرس ذو العلامة، وأمّا العلم فهو سمة الشيء وعلامته، ولا يكون علماً إّلا بالإضافة إلى النّفس العالمة، والعالم هو الذي قد علم أي صار ذا علامةٍ بالحقّ، وأعلمت فلاناً خبراً كأنّك وسمته بالعلامة؛ والكلام في هذا النّمط يطول، وعن غرض الكتاب يخرج؛ وأما الكتم فمصدر كتمه، والكتمان الاسم، والكتم - بحركة التاء - ما يخصب به الشّعر، وذلك لأنّه يكتم البياض؛ وأما العظم فمعروف، وسمعت من يقول: إنّ العظم في الشيء العظيم يشار به إلى هذا، والكالم بعضه دائرٌ إلى بعض؛ وأمّا الرقم فالعلامة، والرّقيم: المرقوم، والرّقوم جمع رقيم، وهي العلامات على الثّياب وغيرها، وفي الأمثال: فلانٌ يرقم على الماء، يشار به إلى(8/68)
حذقه وتلطّفه وسحره واحتياله؛ وأما الوقم فمصدر وقمت عدوّك إذا ذلّلته، والأمر منه: قم يا هذا، كقولك في وجم إذا طرقته كآبةٌ: جم يا هذا، وبابه باب وعد يعد، ووصف يصف، لأنّ الواو فاتحة هذه الألفاظ فهي تزول في الأمر لضعفها، والعدوّ موقومٌ كما ترى، وأنت الواقم؛ وأمّا الوسم فالعلامة، تقول: سم يا هذا ناقتك، والسّمة: الاسم، والسّمة والسّم أيضاً - بالتخفيف - علامة، لأنّ عين الشيء توجد عاريةً من الدائر عليه المشار إليه؛ وأمّا الوشم فالغرز في الكف، وفي الخبر: لعن الله الواشمة والمستوشمة؛ وأما الهتم فمصدر هتمت فاه أي كسرته، والأهتم: الرجل، والفاعل هتمٌ، والمفعول مهتومٌ؛ وأمّا الطّعم فما يوجد في اللهوات من المآكل، وبضم الطاء هو المطعوم، وتقول: فلانٌ طيّب الطّعمة، وفلانٌ خبيث الطّعمة تريد الحلال والحرام، وإن أردت غير ذلك جاز مجازاً؛ وأمّأ الرّشم فإنّك تقول: رشمت كذا وكذا إذا جعلت عليه علامةً، وسمعت بدوياً يقول لآخر: والله لأرشمنّك بأنيابٍ، أي لأهجونّك، هكذا دلّ كلامه لأن صاحبه طالبنا بخفارةٍ فنهاه هذا القائل فلم ينته فتوعّدنا؛ وأمّا الغشم فالظّلم، والغاشم الفاعل.
ونقول في بابٍ آخر على اختصار، فإنّ الكلام مترادّ، والملل معترضٌ، والشهوة في طلب العلم فريضةٌ، والعائق قائمٌ.
يقال: ما الحقّ: هذا الاسم شهرته يغني عن الإفصاح، وسيمرّ في نظائره أوضح ممّا يمرّ ها هنا إن شاء الله؛ وأما الزّقّ فمصدر زقّه يزقّه زقّاً، والزّق لأنّه كان مزقوماً، وكذلك الزّقاق، وأما الزّقاق فجمعٌ؛ وأما الدّقّ فمشهورٌ؛ وأما الرّقّ فما يكتب فيه، والرّقّ أيضاً: ذكر السلاحف، والرّقّ - بالكسر -: خلاف العتق؛ والشّقّ: مصدر شققت(8/69)
الثوب والطريق والعود، وأشققت أيضاً، وأما الشّقّ: فنصب النّفس والبدن، ومنه قوله تعالى: " لم يكونوا بالغيه إّلا بشقّ الأنفس " ويقال: المال بيني وبينك شقّ الأبلمة " ومن يشاقق الله " من هذا، ويقال: في رجله شقوقٌ، ولا يقال: شقاق، والشّقائق والشّقاق معروفان، والشّقّة الطريق الذي يشقّ على سالكه لبعده؛ وأمّا العقّ: فالشّقّ أيضاً وهو كا لقطع ولهذا يقال عق فلان أمة أي شق رحمها.
والعقيقة: شعرات رأس الوليد؛ وأمّا النّقّ فمصدر نقّ الضفدع إذا صاح، وفي الخبر: إن نقيقهنّ تسبيحٌ.
ونصل الكلام بما تلاه من هذه الحروف ثمّ نخرج إلأى ما جرى الرّسم به من النّثر والنّظم، فيوشك أن يكون هذا التطويل جالياّ لضيق الصّدر ومانعاً لاستعمال العلم: وأمّا الشّطّ فحرف الوادي، وهو أيضاً شقّ السّنام، ولكلّ سنامٍ شطّان كأنهما ناحيتان، وكذلك حرف الوادي. وأمّا البطّ فالوزّ، وهو أيضاً شقّ القرحة، والقرحة مبطوطةٌ؛ وإمّا الخطّ فما يخطّ الكاتب، والفرق بين الكتابة والخطّ أنّ الخطّ قد يكون كتابةٍ، والكتابة لا تكون خطّاً. وأمّا الحطّ: فمصدر حطّ السّعر وانحطّ: إذا نزل، خلاف قولك: غلا، والسّعر سمّي سعراً للحرارة، ألا ترى أن السّعر - بفتح السين - مصدر سعرت النار إذا أضرمتها، قال الله تعالى: " وإذا الجحيم سعّرت " وفلانٌ مسعر حربٍ أي تهيج به الحرب، والمستعار: ما تحرّك به النار، كالمحراث؛ وأمّا الغطّ فمصدر غططته في الماء، وغتتّه أيضاً - بالطاء والتاء - وأنت غاطّ وغات، وهو مغتوتٌ ومغطوطٌ؛ وأمّا القطّ فالضرب، ومنه قول ابن عائشة: كانت ضربات عليٍّ أبكاراً، كان إذا اعتلى قدّ، وإذا اعترض قطّ، والقطّ - بالكسر - الكتاب، هكذا قيل في قول الله تعالى: " عجّل لنا قطّنا "؛ وأمّا العطّ فالشّقّ، يقال: أديم معطوط، ورداءٌ معطوط، وأمّا(8/70)
المطّ فالمدّ؛ وأما الأطّ فمصدر أطّ يئطّ: إذا تحرّك أو صاح، ومنه: أطّت بك الرّحم.
نظر رجلٌ دميمٌ في المرآة فولّى وجهه وقال: الحمد لله الذي لا يحمد على المكروه غيره.
توفي ابنٌ لأعرابيّ فعزّاه بعض إخوانه فقال: لا يتهم الله في قضائه، فقال: والله ما يتّهم غيره، ولا ذهب بابني سواه.
عري أعرابيٌّ فطلب خلقاناً فحرم، فتماوت، فجمعوا له ما اشتروا به كفناً، ووضعوه عند رأسه، وذهبوا ليسخّنوا الماء، فوثب الأعرابيّ وأخذ الثّياب ولم يلحق.
شكا مزبّدٌ ضيق حاله يوماً فقال له صاحبه: أحمد الله الذي رفع السماء بالا عمد، فقال: ليته أصلح حالي وجعل على كلّ ذراعٍ عدّة أعمدة.
قال بعض الصّوفيّة: إذا كنت تحبّ الله وهو يبتليك فاعلم أنّه سيعافيك.
يعرض من هذا المعنى عجبٌ عاجب، فلولا أنّ الله تعالى يفعل ما يفعل من وراء عقل العاقل، وفوق معرفة العارف، لكان البال يتقسّم من هذا وشبهه، ولكان من أنعم النظر علم أنّ الله تعالى أوضح ما أوضح تسويغاً إلى الاعتراف به، وستر ما ستر استئثاراً بحقائقه، فالعقول بآثاره مشوقة، وعن حقائق(8/71)
الغايات معوقة، فمن أهمل ما ظهر فقد جهل الممكن، ومن بحث عمّا بطن فقد حاول الممتنع، أخبرك مكنون غيبه فيك، وخبرك في ظاهر إعلامه لك، فكان الإخبار لمكان الإلهيّة، وكان الإعلام لمكان العبوديّة، فلا تدع عبوديّةً هي قائمةٌ بك ومنطويةٌ فيك، لإلاهيةٍ غائبةٍ عنك عاليةٍ عليك، فاستقين أنّك مطلق الظاهر، مأسور الباطن، مخيّر العلانية، مملوك السّرّ، ولو تمكّنت كلّ التّمكّن كنت غنيّاً بنفسك، مستقلاًّ بشأنك، ولو حصرت كلّ الحصر كنت غير مخاطب ولا مطالب، وإن أفنيت حالك بين اختيارٍ ظهر لك، واضطرارٍ بطن فيك. ثمّ قوّم اختيارك بالاحتجاج عليك، ورفع اضطرارك بالجهل عنك، وصرت ترى إساءتك فتندم، وتشهد حسنتك فتفرح، ولو جبرنا بالجبر ما وجدت ندامةٍ ولا فرحاً، ولو تمنّينا بالاختيار ما سألت التوفيق، فهو أمرٌ مسندٌ إلى الله تعالى لعلمه الغائب عنك. وقوّم - أيّدك الله - توحيدك، وصحّح عقيدتك، وصفّ فؤادك، وزكّ عملك، واثبت لربّك على قدم الصّدق، واستقص حسابك على نفسك، فإنّ من تعرضه عليه لصيرٌ بك، ومتى رأى استقصاءك أغضى، ومتى رأى إغفالك ناقش.
لأشجع: الطويل
فإن تك قد صدّت فخيرٌ من النّوى ... على كلّ حالٍ هجرها وصدودها
فكن حيث كانت من بلادٍ فإنّه ... عسى بعد يأسٍ أن ينالك جودها
تقرّب ما تهوى بحسن عداتها ... ويأبى علينا ليّها وجحودها
وأطيب ريقٍ ريقها بعد هجعةٍ ... وأحسن شيءٍ مقلتاها وجيدها
قال ثعلب: العرب تقول: رأيت حدائق وجناناً كأنّها حدائق(8/72)
نخل، ورأيت جمعاً كأنّه سدّ ليل، ورأيت بارق سيوفٍ في أيدي قومٍ كأنّه بارق غيم، ورأيت بكرةً كأنّها فتاة، ورأيت فتاةً كأنّها جمّارة، ورأيت رجلاً تحته بكرٌ لا قحٌ كالعقرب، ورأيت جراداً كأنّه أعصاب العجاج، ولفيفاً من الناس مثل السّيل والليل، ومررنا على إبل فلانٍ وكأنّ أسنمتها الصّوامع والهوادج، ورأيت رجلاً كأنّه رمحٌ ردينيٌّ، وكأنّه الشّطن تاماً طويلاً، ورأيت سيفاً كأنّه شهاب، وكأنّه مقباس؛ ويقال: سيفٌ كأنّه العقيقة أي البرق - وكلّ منشقٍّ منعقٌّ - ورأيت درعاً كالنّهي، وكحباب الماء؛ هذا كلّه قاله ثعلب في المجالسات.
أنشد الزّبير: البسيط
اصبر فكلّ فتىً لا بدّ مخترم ... والموت أيسر ممّا أمّلت جشم
والموت أيسر من إعطاء منقصةٍ ... من لم يمت عبطةً فالغاية الهرم
أنشد ثعلب: الرمل
بينما النّاس على عليائها ... إذ هووا في هوّةٍ منها فغاروا
إنّما نعمة قومٍ متعةٌ ... وحياة المرء ثوبٌ مستعار
وقال في قوله تعالى: " ولا تقولوا لما تصف ألسنتكم الكذب هذا حلالٌ وهذا حرامٌ "، قال: إذا قال الكذب ردّه على الألسنة، والكذب مفعول به، قال: وقرئ الكذب ردّه على ما قال.(8/73)
قال ابن الأعرابيّ: لمّا وجه يزيد بن معاوية مسلم بن عقبة المرّيّ لاستباحة أهل المدينة ضمّ عليّ بن الحسن رضوان الله عليهما إلى نفسه أربعمائة امرأة يعولهنّ إلى أن انقرض جيش مسلم بن عقبة، فقالت امرأةٌ من قريش: ما عشت واله بين أبويّ بمثل ذلك التتريف.
قال: ويقال: شعرٌ حجنٌ، معقّفٌ بعضه على بعض.
قال ثعلب، قال عمرو بن عبيد عن الحسن أنه قال: أخرجوا نهدكم فإنّه أعظم للبركة، وأحسن لأخلاقكم. وقال: العرب تقول: هات نهدك بكسر النون.
وقال " طرائق قدداً "، الطرائق: السادة، والقدد: المتفرّقون.
وقال: العبدة: الجلد، يقال: ثوبٌ ذو عبدةٍ إذا كان قوياً جلداً.(8/74)
قال: ويقال: عنّي عن الأمر إذا منع منه.
قال: وقال الزّبير: أنشدني سليمان بن داود المجمعي لعمر بن مدبر العجلاني يرثي عبد العزيز بن مروان وأبا زبّان الأصبغ بن عبد العزيز بن مروان: الطويل
أبعدك يا عبد العزيز بحاجةٍ ... وبعد أبي زبّان يستعتب الدّهر
فلا صلحت مصرٌ لخلقٍ سواكما ... ولا سقيت بالنّيل بعدكما مصر
وأصبح مجراه من الأرض يابساً ... يموت به العصفور وانجدب القطر
فمن ذا الذي يبني المكارم والعلى ... ومن ذا الذي يهدى له بعدك الشّعر
وبعدك لا يرجى وليدٌ لنفعه ... وبعدك لا ترجى عوانٌ ولا بكر
وأصبحت الزوّار بعدك أمحلوا ... وأكدى بغاة الخير وانقطع السّفر
وكنت حليف العرف والمجد والنّدى ... فمتن جميعاً حين غيّبك القبر
قال ثعلب: أنشدني عبد الله بن شبيب قال، أنشدني محمد بن الحسن العقيليّ: البسيط
ما استضحك الحسن إّلا من نواحيك ... ولا اغتدى الطّيب إلا من تراقيك(8/75)
عن مقلتيك رأينا الحسن مبتسماً ... دهراً كما ابتسم المرجان من فيك
يا بهجة الشّمس ردّي غير صاغرةٍ ... عليّ قلباً ثوى رهناً بحبيّك
ما استحسنت مقلتي شيئاً فأعجبها ... إّلا رأيت الذي استحسنته فيك
إذ منك يبتسم الإقبال عن غصنٍ ... لدنٍ ويضحك عن دعصٍ تولّيك
وقال: بيوت العرب ستةٌ: قبّةٌ من أدم، ومظلّةٌ من شعر، وخباءٌ من صوف، وبجادٌ من وبر، وخيمةٌ من شجر، وأقنةٌ من حجر.
قيل لأعرابيّ: أيّ شيءٍ ألذّ في العين؟ قال: نظرةٌ على خطرة، قيل: فأيّ شيء أحلى في القلب؟ قال: كسر الجفون، ومراسلة العيون.
قال سفيان بن عيينة: أكبر الكبائر الشّرك بالله تعالى، والقنوط من رحمة الله عزّ وجلّ، واليأس ن روح الله عزّ ذكره، والأمان من مكر الله جلّ ثناؤه، ثم قرأ: " فلا يأمن مكر الله إّلا القوم الخاسرون " " ومن يشرك بالله فقد حرّم الله عليه الجنّة " " ولا ييأس من روح الله إّلا القوم الكافرون " " ومن يقنط من رحمة ربّه إّلا الضّالّون ".
وقال: ثنتان منجيتان، وثنتان مهلكتان؛ فالمنجيتان النّهي والنّيّة، قال: والنّيّة أن تنوي أن تطيع الله فيما تستقبل، والنّهي أن تنهى نفسك عمّا حرّم الله عليك؛ والمهلكتان: العجب والقنوط.(8/76)
سئل سفيان بن عيينة: هل حرّمت الصّدقة على أحدٍ من الأنبياء قبل محمد صلّى الله عليه وآله وسلّم وقبل عترته الطّاهرة؟ قال: ألم تسمع قول إخوة يوسف: " وتصدق علينا إنّ الله يجزي المتصدّقين " وهم لا يعرفون يوسف، يريدون أن يتصدّق عليهم وعلى يعقوب.
سئل سفيان بن عيينة عن الكراهية لرفع الصوت وكثرة الكلام عند الميت وفي الجنازة قال: لأنه الحشر إلى الآخرة، ألم تسمع قوله: " يومئذ يتّبعون الدّاعي لا عوج له وخشعت الأصوات للرحمن فلا تسمع إّلا همساً " فلتعظيم الموت استحبّ قلّة الكلام.
وسئل عن قوله صلّى الله عليه: " لا يضرّ المدح من عرف نفسه "، قال: ألم تسمع قوله " اجعلني على خزائن الأرض إنّي حفيظٌ عليمٌ "، وقول العبد الصالح: " إنّي لكم رسولٌ أمينٌ "، أي لكم ناصحٌ أمين، فمن عرف أنّ ما به من نعمةٍ فمن الله تعالى فال بأس " وأمّا بنعمة ربّك فحدّث "، وإن أثنى عليه غيره عرفت أنّ ذلك ستر الله تعالى ونعمته، ألم تسمع قول الله تعالى: " وجعلنا لهم لسان صدقٍ عليّاً "، وكان محمدٌ صلّى الله عليه لسانه الذي أنطقه الله تعالى عنه، فأكذب من قال فيه غير الحقّ: " إنّ إبراهيم كان أمّةً قانتاً لله حنيفاً ولم يك من المشركين "، وقال: " ما كان إبراهيم يهوديّاً ولا نصرانياً "، فهذا اللسان الصّدوق. وقال ابن مسعود: إنّي لأعلمكم بكتاب الله تعالى وما أنا بخيركم؛ وقال عليّ بن أبي طالب رضي الله عنه: إنّ بين جنبيّ علماً جماً فسلوني قبل أن تفقدوني. فمن عرف أنّ الأمر من الله تعالى لم يضّره المدح، لأنّه قد عرف نفسه، ولا يضرّ ثناءٌ من أثنى عليه كقول عمر: اغفر لي ما لا يعلمون، ولا تؤاخذني بما يقولون، واجعلني خيراً ممّا يظنّون.(8/77)
هذا الكلام لأبي بكرٍ وقد رواه لعمر، والله أعلم بحقيقة الخبر.
سئل سفيان بن عيينة عن قول مطّرفٍ: فإذا بدء الأمر من الله، وتمامه بالله، وملاكه الدعاء، قال: ألم تسمع قوله تعالى: " ألا له الخلق والأمر تبارك الله ربّ العالمين، ادعوا ربّكم تضّرعاً وخفيةً ".
يقال: ما الكبر، والجبر، والنّبر، والدّبر، والسّبر، والشّبر، والغبر، والعبر، والسّدر، والهتر، والغمر، والزّبر.
قال عبد الله بن جعفر: عيسى بن دأبٍ يكنى أبا الوليد، وكان من رواة الأخبار والأشعار، وكان معلّماً، وكان من علماء الحجاز.
قال أبو عبيدة: أنشد ابن دأب: الهزج
وهم من ولدوا أشبوا ... بسرّ الحسب المحض
فبلغ أبا عمر بن العلاء فقال: أخطأت استه الحفرة، إنما هو أشبوا أي كفوا، أما سمع قول الشاعر: الهزج
وذو الرّمحين أشباك ... من القوّة والحزم
لأبي غانم: الطويل(8/78)
أبا غانمٍ أمّا ذراك فواسعٌ ... وقبرك معمور الجوانب محكم
وهل ينفع المقبور عمران قبره ... إذا كان فيه جسمه يتهدم
للعتبي: البسيط
أين الشباب الذي كنّا تلذّ به ... هيهات مات ومات الغصن والورق
وله: الخفيف
أنا في عصبةٍ بهائم نوكى ... ما تساوي عقولهم شسع نعلي
وله: البسيط
وصاحب لي أبنيه ويهدمني ... لا يستوي هادمٌ يوماً وبنّاء
إذا رآني فعبدٌ خاف معتبةً ... وإن نأيت فثمّ الغمر والدّاء
لا يقطع العين منه عن ملاحظةٍ ... كأنّها لاستراق الطّرف حولاء
قال يعقوب: يقال: كيف سيماؤهم - محرّك ومخفّف - أي كيف هيئتهم.
ويقال: ريح الغصن يراح فهو مروحٌ إذا صفقته الريح.
لمّا اضطرّ كسرى أبرويز إلى الهرب من بين يدي بهرام شوبين اتبعه بالخيل، فجعل يقول بأعلى صوته: يا عجباً للدّهر الفاسد المنكر كيف تشتمل فضائحه حتى يصير العاقل جاهلاً، والبصير أعمى، والمحسن مسيئاً، والسّليم سقيماً، والبرّ فاجراً، والوفيّ غادراً، والشّكور كفوراً، والقاصد حائراً، والمنصور مخذولاً، والمهتدي ضالاً، والمتماسك مهتوكاً.(8/79)
269 - قد تعجّب كسرى من متعجّب منه، فإنّه لو اندفع الخطباء البرعة، وأصحاب اللّسن دهرهم الأطول في القول والتّعجّب ما بلغوا شطر ما عليه حال الدّهر، وإنّي لشريك كلّ متعجّبٍ منه. وأزيد شيئاً: وذلك أنّ تعجّبي من الراكن إلى الدّنيا، والحالم بها، والنائم تحت أفيائها، والمنغمس في بحرها، والطّالب لما منع منها أشدّ جداً، وما أخلق العاقل المتصفّح أن يهجر اللؤم واللّئيم والدّنيا اللئيمة، فطلبها لؤمٌ، ولم يطلبها إّلا من هو ألأم منها، وإّلا فحدّثني لمن وفت، ولمن صفت، وعلى من بقّت، وإلى من أحسنت؟ هيهات، من ذا الذي لبس وشيها فلم يبطر، ومن ذا الذي ثمل من خمرها فلم يسكر، ومن ذا الذي حمي عنها فلم يضجر، ومن ذا الذي نظر إلى زخرفها فلم يغترّ، ومن ذا الذي سمع غناءها ولم يرقص، ومن ذا الذي تمّ عليها وبها فلم ينقص، ومن ذا الذي ربح فيها فلم يخسر؟ قال يعقوب: قد ريّث فلانٌ نظره يريّثه ترييثاً؛ نظر العتّابيّ إلى رجلٍ من أصحاب الكسائي فقال: إنّه ليريّث النّظر. وقد رنّق النّظر، وأصله من ترنيق الطّير إذا جعلت ترفرف ولا تسقط.
قال يعقوب: انتضى سيفه، وانتضله، وامتشقه، وامتشله، واخترطه، وامتلخه، وقربت السّيف: جعلته في القراب، وهو الجربّان، وتخفّف: الجربان. ولأقيمن أودك ودرأك وجنفك. وفلانٌ يتبرّض ما عند فلانٍ أي يأخذ من القليل بعد القليل، ويقال: برضت له أبرض برضاً، ونضضت له أنضَّ، أصله من البئر النّضوض والبروض، وهي التي يأتي ماؤها قليلاً قليلاً. ويقال: ذلاذل الثّوب: أطرافه. ويقال: عجمته العواجم. ويقال: رجلٌ منجّدٌ - بالذال منقوطةً - ومجرّسٌ، ومقلّسٌ، ومنقّحٌ؛ هكذا قال. وفهمت ذلك في عروض كلامه، وفي فحوى كلامه - بالمدّ والضمّ.(8/80)
ويقال: إنّ عليّ منه أوقاً أي ثقلاً، وقد آقني يؤوقني، قال الراجز: الرجز
إليك حتى قلّدوك طوقها ... وحمّلوك عبئها وأوقها
وقال بعض الأعراب لآخر: أنت ناخٍ وأنا راخٍ فهل من تواخٍ؟ نهى رسول الله صلّى الله عليه ان يصلّي وهو زناءٌ - مفتوح الزاي ممدود مخفّف - أي وهو حاقن.
قرع رجلٌ باب أحد الأولين فقال لجاريته: أبصري من القارع، فأتت الباب فقالت: من ذا؟ قال: أنا صديقٌ لمولاك، قال الرجل: قولي له والله إنّك لصديق، فنهض الرجل وبيده سيفٌ وكيسٌ، يسوق جاريته، وفتح الباب فقال: ما شأنك؟ قال: راعني أمر، قال: لا يك ما ساءك، فإنّي قد قسمت أمرك بين نائبةْ فهذا المال، أو عدوٍّ فهذا السيف، أو أيّمٍ فهذه الجارية.
قال فيلسوف: إنّ الشراب على طبائع الإنسان، وذلك أنّ(8/81)
الطّافي كالزّبد هو الصّفراء، والرّاسب كالثّفل هو السّوداء، والقوام الدم، وما رطب فهو الرّطوبة.
قال أعرابيٌّ لصاحبٍ له: أنت شرسٌ وأنا مرس، فكيف نلتبس؟ كان أفلاطون يعذل على تقديم أرسطاطاليس أيام اختلافه إليه واقتباسه منه مع تلامذته، فقال يوماً: إنّي لست أقدّمه ولكن نفسه قدّمته، وإن أردتم تصديق ذلك سألتكم الساعة عن مسألةٍ لتذاكروا فيها، فقالوا: سل، فقال: ما أعجب الأشياء؟ فقال بعضهم: السماء والكواكب، وقال: بعضهم: الأرزاق، وقال بعضهم: الإنسان، وحضر أرسطاطاليس فسأله فقال: أعجب الأشياء ما لم يعرف سببه.
اشترى عليّ بن الجعد جاريةً بثلاثمائة دينار، فقال له ابن قادم النّحويّ: أيّ شيءٍ تصنع بهذه الجارية؟ فقال: لو كان هذا ممّا يجرّب على الإخوان لجرّبناه عليك.
قال ثعلب، قال رجلٌ لابن قادم: أها هنا فرقٌ بين قام زيدٌ وعمروٌ جميعاً، وقام زيدٌ وعمروٌ معاً، فضجّ، فقلت: لم تضجّ، معاً يقع(8/82)
القيام في حالةٍ، وجميعاً يكون معاً في وقتين.
قدم محمد بن حسّان الضّبي على أبي المغيث الرّافقي فمدحه فوعده بثواب، فتأخّر عنه فكتب إليه ابن حسّان: البسيط
عدّيت بالمطل وعداً راق مورقه ... حتّى لقد جفّ منه الماء والعود
سقياً للفظك ما أحلى مخارجه ... لولا عقارب في أثنائه سود
للعبّاس بن الأحنف: السريع
أسأت إذ أحسنت ظنّي بكم ... والحزم سوء الظنّ بالناس
يقلقني شوقي فآتيكم ... والقلب مملوءٌ من الياس
قال الصّولي: كان عمران المؤدّب يجالس أبا سمير الكاتب مع ندمائه، فسقاهم يوماً نبيذاً جيّداً، فجعل أبو سمير يصف نبيذه ذلك، فقال له عمران: قد سقيتنا ألف زقٍّ خلاًّ ما نطقت بحرفٍ حتى كأنّك باقلٌ عيّاً، فلمّا غلطت يوماً بنبيذٍ جيّدٍ صرت ذا الرّمة مشبّباً بميّ، وجميلاً واصفاً بثنية، وكثيّراً مخبراً عن عزّة.
لإسحاق: الطويل(8/83)
سلامٌ على من ملّنا وتجافانا ... وأبدلنا بالودّ صرماً وهجرانا
أليس مسيئاً من نسرّ بقربه ... ونذكره في كلّ حالٍ وينسانا
فما حلّ في قلبي محلاًّ حللته ... سواك ولا أحببت حبّك إنسانا
قال الزّبير بن بكّار: سعى إسحاق بن إبراهيم التّميميّ مع بعض الرؤساء مشيّعاً فقال: المتقارب
فراقك مثل فراق الحياة ... وفقدك مثل افتقاد الدّيم
عليك السلام فكم من وفاءٍ ... أفارق منك وكم من كرم
للزّبير بن بكّار في قثم بن جعفر: الكامل
لما رأيت أميرانا متجهّماً ... ودّعت عرصة داره بسلام
ورفضت صفحته التي لم أرضها ... وأزلت عن رتب الدّناة مقامي
ووجدت آبائي الذين تقدّموا ... سنّوا الإباء على الملوك أمامي
قال عليّ بن ميثم: غضب يحيى بن خالد على بعض كتّابه، فكتب إليه الكاتب: إنّ لله تعالى قبلك تبعات، ولك قبله حاجات، فأسألك بالذي يهب لك التّبعات، ويقضي لك الحاجات، إّلا وهبت تبعتك قبلي؛ فرضي عنه.
وقال يحيى بن خالد: ما رأينا العقل قطّ إّلا خادماً للجهل.(8/84)
ليته فسّر وذكر الوجه والعلّة، وما أكثر ما يرسلون الكلام إرسال الآمن من التتبّع.
قال ابن شهاب الزّهري: قدمت على عبد الملك بن مروان فقال لي: من أين قدمت يا زهريّ؟ قلت: من مكة، قال: فمن خلّفت يسودها؟ قلت عطاء بن أبي رباح، قال: أفمن العرب هو أم من الموالي؟ قلت: من الموالي، قال: فبم سادهم؟ قلت: بالديّانة، قال: إنّ أهل الديّانة والرّواية لينبغي أن يسودوا. قال: فمن يسود أهل اليمن؟ قلت: طاووس بن كيسان، قال: أفمن العرب هو أم من الموالي؟ قلت: من الموالي، قال: فبم سادهم؟ قلت: بما سادهم به عطاء، قال: فمن يسود أهل مصر؟ قلت: يزيد بن أبي حبيب، قال: أفمن العرب هو أم من الموالي؟ قلت: من الموالي، قال: فمن يسود أهل الشام؟ قلت: مكحول، قال: أمن العرب هو أم من الموالي؟ قلت: من الموالي، عبدٌ نوبيٌّ أعتقته امرأةٌ من هذيل، قال: فمن يسود أهل الجزيرة؟ قلت: ميمون بن مهران، قال: أمن العرب هو؟ قلت: بل من الموالي، قال: فمن يسود أهل خراسان؟ قلت: الضّحّاك بن مزاحم، قال: أفمن العرب هو؟ قلت: بل من الموالي، قال: فمن يسود أهل البصرة؟ قلت: الحسن البصري، قال: أفمن العرب هو؟ قلت: بل من الموالي، قال: ويلك فمن يسود أهل الكوفة؟ قلت: إبراهيم النّخعيّ، قال: أفمن العرب؟ قلت: من العرب، قال: ويلك فرّجت عنّي، والله ليسودنّ الموالي العرب حتى يخطب لها على المنابر والعرب تحتها، قال، قلت: يا أمير المؤمنين، إنّما هو دينٌ، من حفظه ساد، ومن ضيّعه سقط.
لابن غريضٍ اليهودي: الكامل(8/85)
إبلٌ تبوأ في مبارك ذلّةٍ ... إذ لا ذليل أذل من وادي القرى
أحياؤهم عارٌ على موتاهم ... والميّتون شرار من تحت الثّرى
وإذا تصاحبهم تصاحب خانةً ... ومتى تفارقهم تفارق عن قلى
لا يفزعون إلى مخافة جارهم ... وإذا عوى ذئبٌ لصاحبه عوى
إخوان صدقٍ ما رأوك بغبطةٍ ... فإذا افتقرت فقد هوى بك ما هوى
هل في السّماء لصاعدٍ من مرتقىً ... أم هل لحتفٍ راصدٍ من متّقى
وإذا رأيت معمّراً فلتعلمن ... أن سوف تعركه الخطوب فيبتلى
لله درّك من سبيلٍ واضحٍ ... سيّان فيه من تصعلك واقتنى
من يغلبوا يهلك ومن لا يغلبوا ... يلحق بأرض ثمود حتى لا يرى
الفقر يزري بالفتى عن قومه ... والعين يغضبها الكريم على القذى
والمال يبسط للّئيم لسانه ... حتّى يكون كأنّه شيءٌ يرى
فارفع ضعفيك لا تصغّر ضعفه ... يوماً فتدركه العواقب قد نمى
والمال جد بفضوله فلتعلمن ... أنّ الغنيّ يصير يوماً للثّرى
وابسط يديك لسائليك ولا تكن ... كزّ الأنامل يقفعلّ عن النّدى
إنّ الكريم إذا أردت وصاله ... لم تلف حبل إخائه رثّ القوى
أرعى أمانته وأحفظ عهده ... جهدي فيأتي بعد ذلك ما أتى
يجزيك أو يثني عليك وإنّ من ... أثنى عليك بما فعلت فقد جزى(8/86)
قال أبو العيناء: سبّ إبراهيم بن رستم يوماً معاوية، فقال له رجل: لم لا تقول هذا بالكرخ؟ قال: ولم لا تصلّي أنت على محمد صلّى الله عليه وعلى آله بالقسطنطينية؟ أنشد أبو العالية لامرأةٍ من الخوارج: البسيط
نجلتهم كسيوف الهيد أربعةً ... بيضاً مصاليت في الهيجاء كالأسد
حتى إذا كملوا في السّنّ واتّسقوا ... أخنى على القوم ما أخنى على لبد
لهفي عليهم فإنّي من تذكّرهم ... طويلة الحزن والإعوال والكمد
لا أفتأ الدّهر أبكيهم بأربعةٍ ... ما اجترّت النّيب أو حنّت إلى ولد
قال أبو العيناء، سمعت الأصمعي يقول: قال أبو العبّاس بن محمد: كنت بفلسطين فبنيت ظلّةً من قصبٍ فأورق، فأنشدني: الطويل
ألم تعلما أنّ المصلّى مكانه ... وأنّ العقيق ذا الظّلال وذا البرد
وأنّ به لو تعلمان أصائلاً ... وليلاً رقيقاً مثل حاشية البرد
قال أبو العيناء: حدّثني دعبل قال: لقيت عمرو بن سعيد وأنا أريد الحجّ فقلت: هل من حاجةٍ؟ قال: نعم، لا تدع لي فإنّ دعاءك إغراء.
للأعشى: البسيط
وفتيةٍ كسيوف الهند قد علموا ... أن هالك كلّ من يحفى وينتعل
رفع هالكٌ حين خفّف النون، وكذلك: لكن الله، ولكن(8/87)
الشياطين. وإن الخفيفة تكون في معنى ما قال الله تعالى: " إن الكافرون إّلا في غرورٍ " أي الكافرون، وإنّ وهي مكسورةٌ لا تكون إّلا وفي خبرها اللام، يقولون: إن زيد لمنطلقٌ، ولا يقولونه بغير لامٍ مخافة أن تلتبس بالتي معناها ما، وقد زعموا أنّ بعضهم يقول: إن زيداً لمنطلقٌ يعملها على المعنى، وهي مثل قوله: " إن كلّ نفسٍ لمّا عليها حافظٌ " وما زائدةٌ بالتوكيد، واللام زائدةٌ بالتوكيد.
قال الشّعبيّ: تعايش الناس زماناً بالدّين حتى ذهب الدّين، وتعايشوا بالمروءة حتى ذهبت المروءة، ثمّ تعايشوا بالحياء حتى ذهب الحياء، ثمّ تعايشوا بالرّغبة والرهبة، وسيتعايشون بالجهالة زماناً طويلاً.
قيل لحكيم: صف لنا الدّنيا وأوجز، فقال: ضحكة مستعبر.
قال عيسى بن مريم عليه السّلام: لو لم يعذّب الله تعالى على معصيته لكان ينبغي أن لا يعصى شكراً على نعمته.
قال أحمد بن أبي الحواريّ: بلغني عن رباح القيسي أنّه كان له غلامٌ أسود لا ينام الليل، فقال له: لم لا تنام يا غلام؟ قال: إنّي إذا ذكرت الجنّة اشتدّ شوقي، وإذا ذكرت النار اشتدّ خوفي، وإذا ذكرت الموت طار النعاس عنّي يا مولاي، فمن كانت هذه حالته كيف يهنيه العيش في الدّنيا؟ فبكى رباح وقال: يا غلام، حقيقٌ على من كانت له هذه المعرفة أن لا يستعبد، اذهب فأنت حرٌّ، فبكى الغلام فقال: ما يبكيك؟ قال: يا مولاي، هذا العتق الأصغر فمن لي بالعتق الأكبر؟!(8/88)
دعا أعرابيٌّ فقال: اللهمّ إنّي أرى من فضلك ما لم أسألك، فعلمت أنّ لديك من النّعم ما لا أعلمه، فصغرت قيمة مطلبي فيما عاينته، وقصّرت غاية أملي عمّا شاهدته.
ودعا آخر فقال: اللهمّ ما أعرف معتمداً من الزيادة فأطلب، ولا أجد غنىً فأترك، فإن ألححت في سؤالك فلفاقتي إلى ما عندك، وإن قصّرت في دعائك فلما تعودت من إسدائك.
دعا آخر فقال: اللهمّ حطني بأمانك، وأرخ عليّ سترك، ولا تصرف عنّي وجهك، ولا تسلّط عليّ من لا يخافك، ولا تولّني غيرك يا من يتولّى الصالحين.
دعا آخر: سبحان من علا فقهر، وقدر فغفر، وسبحان من يحيي الموتى ويميت الأحياء، وهو على كلّ شيءٍ قدير.
قال الأصمعي: سمعت أعرابياً يدعو ويقول: اللهمّ إنّ ذنوبي تخّوفني منك، وجودك يبشرني عنك، فأخرجني بالخوف من الخطايا، وأوصلني بجودك إلى العطايا، حتى أكون غداّ في القيامة عتيق كرمك، كما أنا في الدّنيا ربيب نعمك.
كتب زاهدٌ إلى آخر: أمّا بعد فإنّك في دار تمهيد، وأمامك منزلان لا بدّ لك من سكنى أحدهما، ولم يأتك أمانٌ فتطمئنّ إليه، ولا براءةٌ فتقصّر، والسلام.
كان بمدينة السّلام رجلٌ ذو يسار، فبينما هو في منزله وقد جلس(8/89)
يأكل مع امرأته وبين يديه سكباجة وقد فاحت رائحتها، إذ دنا سائلٌ من الباب، وعساه كان ممّن امتحن بنكبةٍ بعد نعمةٍ فقال: أطعموني من فضل ما رزقكم الله تعالى، فقامت المرأة وغرفت من القدر، وأخذت رغيفين لتناوله، فلمّا رأى الزّوج ذلك حلف عليها أن لا تدفع له شيئاً، فمضى السائل خائباً حزيناً، واستوفى الرجل طعامه، وصعد السطح لبعض حوائجه فعثر بشيءٍ فسقط إلى الأرض فوقص ومات، وحازت المرأة ميراثه، وتصرّفت فيه، وضرب الدهر ضربانه. ثمّ إنّ السائل لما لقي من قبح الردّ وشدّة الشّهوة إلى ذلك الطّعام الذي شمّ رائحته عاد إلى منزله وأخذ مضرّبةً كان قد اشتراها، فأراد أن يفتقها ويغسلها ويبيعها فوجد فيها ألف دينار، فأخذها وغيّر حاله بها، ثمّ طلب امرأةُ يتزوج بها، فقالت له بعض الدّلاّلات: ها هنا امرأةٌ صالحةٌ وقد ورثت، فما تقول في مواصلتها؟ فأنعم، فسعت الدلاّلة بينهما حتى اتّفقا واجتمعا، فلما دخل بها تحدّثا يوماً، فقالت المرأة: ما أشدّ ما مضى على رأسك؟ فحدّثها بوقوفه على باب دار وامرأةٌ تأكل مع زوجها، فقالت المرأة: فاعلم أنّ هذه الدار هي تلك، وأنا المرأة، وأنّ زوجي صعد في ذلك اليوم السطح فسقط ومات، وقد أورثك الله تعالى داره وماله وزوجته، فسجد الرجل لله جلّ جلاله شكراً، وحدّث إخوانه فتعجّبوا.
قاتل الأحنف مرّةً واشتدّ فقيل له: أين الحلم يا أبا بحر؟ فقال: ذاك عند عقد الحبى.
ومرّ عمر على رماة غرضٍ، فسمع أحدهم يقول لصاحبه: أخطيت وأسئيت، فقال عمر: مه! فسوء اللحن أشدّ من سوء الرّماية.(8/90)
وتضجّر عمر بن عبد العزيز من كلام رجلٍ حضره، فقال شرطيٌّ على رأسه للرجل: قم فقد أضجرت أمير المؤمنين، فقال عمر: أنت والله بتكذيبك أشدّ أذىً منه.
وصف ابن سيّابة رجلاً فقال: فيه كياد مخنّث، وحسد نائحة، وشره قوّادة، ودلّ قابلة، وملق داية، وبخل كلب، وحرص نبّاش.
قال خالد بن صفوان: من لم بين له سبب دائه، كثرت ألوان دوائه.
سمعت أبا النّفيس الرياضي يقول: من كانت همّته أكله، كانت قيمته خراه.
قال رجل من ولد عيسى بن موسى لشريك بن عبد الله حين عزل عن القضاء: يا أبا عبد الله، هل رأيت قاضياً عزل؟ قال: نعم، ووليّ عهدٍ خلع.
قال جالينوس: ما دخل الزّمّان جوفاّ فاسداً إلا أصلحه، ولا دخل التّمر جوفاً صالحاً إلا أفسده.
قال الحسن بن سهل: كان جالينوس ألثغ وكان مولعاً بالعنب، وكان بقراط أحدب وكان مولعاً بالتّين، وكان أفلاطون فقيراً وكان مولعاً باللّواط.(8/91)
قيل لابن ماسويه: ما شرّ الطّعام؟ قال: طعامٌ بين شرايين، وشرّ الشراب شرابٌ بين طعامين.
قدم أعرابيٌّ على ابنة عمّه يخطبها فتمنّعت عليه، فقال لها: عندي سرٌّ أفأقوله؟ قالت: قل، قال لها: هل لك في ابن عمٍّ كاسٍ من الحسب، عارٍ من النّشب، يتصلصل معك في إزارك، ويدخل الحمّام طرفي نهارك، يواصل بين ثلاثٍ في واحدٍ، فمتى عجز فأمرك بيدك، قالت: يا ابن عمّي، لا يسمعنّ هذا أحدٌ، وأنا أمتك.
أراد ملكٌ سفراً فقال: لا يصحبني ضخمٌ جبان، ولا حسن الوجه لئيم، ولا صغير رغيب.
رأى رجل الهلال فاستحسنه، فقال له رجل: وما يستحسن منه؟ فوالله إنّ فيه لخصالاً لو كانت إحداهنّ في الحمار لردّ بها، قال: وما هنّ؟ قال: يدخل الرّوازن، ويمنع من الدّبيب، ويدلّ على اللصوص، ويسخّن الماء، ويحرق الكتّان، ويورث الزّكام، ويحلّ الدّين، ويزهم اللحم.
قال معاوية: إنّ عليّاً طلب الدّنيا بالدّين فجمعت عليه، وإنّي طلبت الدّنيا بالدنيا فنلتها.
قال ابن عبّاس: هل لك في المناظرة فيما زعمت أنّك خصمت صاحبي فيه؟ قال: وما تصنع بمناظرتي؟ أشغب بك وتشغب بي، فيبقى في(8/92)
قلبك ما لا ينفعك، وفي قلبي ما يضرّك؛ فسكت ابن عبّاس.
سأل العتبيّ أعرابيّاً: ما بال العرب سمّت أولادها أسداً ونمراً وكلباً، وسمّت عبيدها مباركاً وسالماً؟ قال: لأنّها سمّت أولادها لأعدائها، وسمّت عبيدها لأنفسها.
كاتب: بعثت بابني إليك مؤثراً لك به، فإنّي وإن كنت ولدته فنعمتك ربّته، وحياطتك كنفته، وسواءٌ عند الأحرار ربيب النّعم، وسليل الولادة.
قال فيلسوف: المتأنّي في علاج الدّاء بعد ما عرف وجه علاجه كالمتأنّي في إطفاء النار وقد أخذت بحواشي ثيابه.
قال أعرابي: لا يقوم عزّ الغضب بذلّ الاعتذار.
لابن أبي الحقيق اليهودي: السريع
لباب يا أخت بني مالكٍ ... لا تشتري العاجل بالآجل
لباب هل لي عندكم نائلٌ ... وما يجدّ الوصل للواصل(8/93)
لباب داويه ولا تقتلي ... قد فضّل الشّافي على القاتل
إن تسألي خابر أكفائنا ... والعلم قد يلفى لدى السّائل
ينبئك من كان بنا عالماً ... عنّا وما العالم كالجاهل
أنّا إذا جارت دواعي الهوى ... واستمع المنصت للقائل
واصطرع القوم بألبابهم ... بمنزل القاصد والمائل
لا نجعل الباطل حقّاً ولا ... نلطّ دون الحقّ بالباطل
نخاف أن تسفه أحلامنا ... فنحمل الذّم مع الحامل
إنّا إذا نحكم في ديننا ... نرضى بحكم العادل الفاضل
تعذلك النفس على ما مضى ... وما تسلّي لومة العاذل
إنّ طلاب المرء ما قد مضى ... داءٌ كمثل السّقم الدّاخل
وإنّ لوّا ليس شيئاً سوى...........................
علّلتني منك بما لم أنل ... يا ربّما علّلت بالباطل
أناجز في العام موعودكم ... أم هو منظورٌ إلى قابل
قال الفضيل بن عياض لأصحابه: إذا قيل لأحدكم: أتخاف الله؟ فليسكت، فإنّه إذا قال: لا، جاء بأمرٍ عظيم، وإن قال نعم، فالخائف على خلاف ما هو عليه.
قال بعض الزهّاد: من اكتسب فوق قوته فهو خازنٌ لغيره.
يقال: من كانت له غلّةٌ يستغلها فإنّما يستغلّ عمره.
قال الرشيد لابن السّمّاك: عظني، قال: احذر يا أمير المؤمنين أن تصير إلى جنّةٍ عرضها السّماوات والأرض، ولا يكون لك موضع قدم.(8/94)
لما احتضر المنصور قال: يا ربيع بعنا الآخرة بنومة.
واحتضر الرشيد فقال: واحيائي من رسول الله صلّى الله عليه وعلى آله.
واحتضر المأمون فقال: يا من لا يزول ملكه ارحم من قد زال ملكه.
قيل لزاهدٍ وقد احتضر: أوص بشيءٍ، قال: بما أوصي؟ ما لي شيء، ولا لأحدٍ عندي شيء، ولا لنا عند أحدٍ شيء.
قيل لزاهد: كيف ترى الدهر؟ قال: يخلق الأبدان، ويحدث الأحزان، ويباعد الأمنية، ويقرّب المنيّة.
قال الفضيل بن عياض: يا ربّ إنّي لأستحيي أن أقول: توكّلت عليك، لو توكّلت عليك لما خفت ولا رجوت غيرك.
استوفد عبد الملك بن مروان عاملاً بلغه أنّه قبل هديّةً فقال له:(8/95)
أقبلت هديّةً؟ قال: يا أمير المؤمنين، بلادك عامرة، ورعيّتك راضية، فقال: أجب عمّا تسأل عنه، قال: نعم، فقال عبد الملك: أما والله لئن كنت قبلت هديةً كافأت صاحبها بأن ولّيته من عملنا ما لم تكن لتولّيه لولا هديّته إنك للئيم، وإن كنت قبلتها ولم تعوّضه منها إنّك لخائنٌ حسود، وإن كنت أعطيته مثل ما أخذت وأطعمت في نفسك رعيّتك وعرّضتها لخليفتك إنّك لأحمق، ومن أتى شيئاً لا يخلو فيه من حمقٍ أو لؤمٍ أو خيانةٍ حقيقٌ بأن لا يقرّ على عمل.
سئل جعفر بن محمد رضي الله عنهما عن النّحل، أمن الطّير هو أم من الهوامّ، قال: بل من الطّير، لولا ذلك لم يفهم.
قال عنبسة القطّان: شهدت الحسن يوماً وقد قال له رجل: بلغنا أنّك تقول: لو كان عليٌّ بالمدينة يأكل حشفها كان خيراً له ممّا صنع، فقال الحسن: يا لكع، والله لقد فقدتموه سهماً من مرامي الله تعالى غير سؤومٍ عن أمر الله، ولا سروقةٍ لمال الله تعالى، أعطى القرآن عزائمه فيما عليه وله، فأحلّ حلاله وحرّم حرامه، حتى أورده ذلك رياضاً مونقةً وحدائق مغدقةً، ذاك ابن أبي طالب؛ روى هذا ثعلب في المجالسات.
قيل لبعض التّابعين: كيف أصبحت؟ قال: في أجلٍ منقوص، وعملٍ محفوظ، والموت في رقابنا، والنار من ورائنا، ولا ندري ما يفعل الله بنا.(8/96)
وصف أعرابيٌّ رجلاً فقال: كان مفزعاً للأمّة، رفيع الجمّة.
لمّا هلك الحسن بن عليّ دفنه الحسين بن عليّ ومحمد بن الحنفيّة رضي الله عنهم، فلمّا حصل في حفرته دمعت عينا محمدٍ واستعبر ثم قال: رحمك الله يا أبا محمد، فلقد عزّت حياتك وهدّت وفاتك، ولنعم الرّوح روحٌ تضمّنه بدنك، ولنعم البدن بدنٌ تضمّنه كفنك، وكيف لا يكون كذلك وأنت سليل الهدى، وحليف التّقوى، خامس أصحاب الكساء، غذتك أكفّ الحقّ، وربّيت في حجر الإسلام، ورضعت ثدي الإيمان، طبت حيّاً وطبت ميتاً، وإن كانت أنفسنا غير طيّبةٍ بفراقك، ولا شاكةٍ في الخيار لك.
قال يحيى بن زيد رضي الله عنهما: نحن من أمّتنا بين أربعة أصناف: ظالمٌ لنا حقّنا، وبالغٌ بنا فوق قدرنا، ومعطٍ ما يجب لنا، وحاملٌ علينا ذنب غيرنا.
وصف أعرابيٌّ رجلاً فقال: ذاك والله ممّن ينفع سلمه، ويتواصف حلمه، ولا يستمرأ ظلمه.
قالت أعرابيّةٌ لزوجها ورأته مهموماً: إن كان همّك للدّنيا فقد فرغ الله منها، وإن كان همّك للآخرة فزادك الله تعالى همّاً بها.
يقال: الدّنيا حمقاء لا تميل إّلا إلى أشباهها.(8/97)
مسلم بن الوليد: الطويل
أرادت رجوع القلب بعد انصرافه ... وما علمت ما أحدثته المقادر
يغرّ الفتى مرّ اللّيالي سليمةً ... وهنّ به عمّا قليلٍ عواثر
قال الحسن بن آدم: صاحب الدّنيا ببدنك وفارقها بقلبك، فخذ ممّا في يديك لما بين يديك، فعند الموت يأتيك الخبر.
شاعر: الطويل
وأرعن ملموم الكتائب خيله ... مضرّجةٌ أعرافها ونحورها
عليها مذالات العيون كأنّها ... عيون الأفاعي سردها وقتيرها
إذا استجرست أصواته أذني سامعٍ ... رماها بأجراس اللّيوث زئيرها
قال أبو بكر بن عيّاش: رأيت على الأعمش فروةً مقلوبةً، صوفها خارج، فأصابنا مطرٌ، فمررنا بكلبٍ فتنحّى الأعمش وقال: لا يحسبنا شاءً.
وقال: كان ببغداد مجنونٌ يلبس فروةً مقلوبةً، فإذا قيل له في ذلك قال: لو علم الله تعالى أنّ الصّوف إلى داخل أجود عمله إلى داخل.
شاعر: الطويل
ويومٍ عبوريٍّ توقّد نجمه ... وعزّت به ماء الوجوه الهواجر
بعثت به ليلاً من الشّمس داجياُ ... وقد ملكت قبض النّفوس الخناجر
فنازعن فيه للسّوابغ حجّةً ... وسقف غبارٍ أنشأته الحوافر(8/98)
له فلكٌ حول الأسنّة دائرٌ ... ونقع المنايا مسبطرٌّ وثائر
كأنّ نجوم الليل فوق رماحه ... طوالع ترعاها اللّيوث الخوادر
أجزن قضايا الموت في مهج العدى ... به فاستباحتها المنايا الغوادر
قال الحسن بن رجاء في خطّ كاتبٍ: متنزّه الألحاظ، ومجتنى الألفاظ.
قال بشر بن المعتمر: القلب معدن، والعقل جوهر، واللسان مستنبط، والقلم صانع، والخطّ صنعة.
وصف أحمد بن إسماعيل خطّاً فقال: لو كان نباتاً لكان زهراً، ولو كان معدناً لكان تبراً، ولو كان شراباً لكان صفواً.
قال أبو العيناء: الخطوط رياض العلوم.
وقال جعفر بن يحيى: الخطّ سمط الحكمة، به تفصّل شذورها، وينتظم منثورها.
تخابر غلامان في خطّيهما إلى سهل بن هارون فقال: هذا وشي محبوك، وهذا ذهب مسبوك، تسابقتما إلى غاية، فوافيتما في نهاية.(8/99)
قيل لرجلٍ على باب رئيس: كيف وجدت فلاناً؟ قال: أمّا من الكرم في عراء، وأمّا من اللؤم في خراء.
شاعر: الكامل
وكنٌ تطالعها الكواكب والقنا ... أبراجها هاج الحمام طرادها
جاءوا بتيهاء المنون طليعةً ... سلبت سيوف حماتها أغمادها
ورثت كتائبها الجبال وسربلت ... حلق الحديد فأظهرته عتادها
فتحال موج البحر يقفو بعضه ... بعضاً وميض قتيرها وسرادها
قدحت عليها الشمس وقت طلوعها ... زنداً فأثقب قدحها إيقادها
حتى أطار على الدّروع شرارها ... زيماً كما زفت الجنوب جرادها
قال الأعمش لشريك بن عبد الله النّخعيّ المحدّث القاضي: يا شريك، لقد أدركت رجالاً عجنوا في الدّين عجناً، لو سألت رجلاً واحداً منهم عن مسألةٍ أو فريضةٍ ما أحسنها، وما من مكرمةٍ إّلا وهي معقودة بمفارق رؤوسهم، ما يسرني برجلٍ مهم عشرة مثلك، بل مائة ألف.
أنشد سعيد بن المسيّب بين القبر والمنبر: الوافر
ويذهب نخوة المختال عنّي ... رقيق الحدّ ضربته صموت
بكفّي ماجدٍ لا عيب فيه ... إذا لاقى الكريهة يستميت(8/100)
ثم قال: ما شاء الله كان.
وأنشد أيضاً: الوافر
وصرف لو تبين لهم كلاماً ... لقالت إنّما لكم مبيت
تريك قذى بها إن كان فيها ... بعيد النّوم، نشوتها هبيت
بذلت بشربها نفسي ومالي ... وأبت بما هويت وما رزيت
كان أبو هشام الرّفاعي يقول: سمعت عمّي يقول: اجتمع القرّاء في منزل إسحاق بن الحسين ليضعوا كتاباً في السنّة، فقال الأعمش: رحم الله امرءاً كفّ يده، وأمسك لسانه، وعالج ما في قلبه.
قال الأعمش: إذا رأيتم الشّيخ لا يحسن شيئاً فاصفعوه.
وكان الأعمش يلبس قميصاً مقلوباً قد جعل دروزه خارجةً، ويقول: الناس مجانين، يجعلون الخشن إلى ما داخل ممّا يلي جلودهم.
قال أحمد بن الطّيب: كان الكندي يقول لي كثيراً: انسخ كلّ ما تجده مكتوباً إذا اتّسعت لك الجدة، وامتدّ بك الزمان، فإنّ مكان ما تكتبه أسود من دفترٍ، خيرٌ منه أبيض.(8/101)
وصف الحسن الأسواق فقال: موائد الله، فمن أتاها أصاب منها.
كان أيّوب السّختيانيّ من الزّهّاد والعقلاء، وهو الذي قال: من أحبّ أبا بكرٍ فقد أقام الدّين، ومن أحبّ عمر فقد أوضح السّبيل، ومن أحبّ عثمان فقد استنار بنور الله، ومن أحبّ عليّاً فقد استمسك بالعروة الوثقى.
قال مالك بن أنس: من أبغض أصحاب رسول الله صلّى الله عليه فليس له في فيء المسلمين حقٌّ، لأنّ القرآن نطق بذلك، قال الله عزّ وجلّ: " ما أفاء الله على رسوله "، وذكر المهاجرين فقال: " والذّين تبوءوا الدّار والإيمان "، ثم قال: " والذّين جاءوا من بعدهم يقولون ربّنا اغفر لنا ولإخواننا " فمن كان في قلبه عليهم وعلى أحدٍ منهم شيءٌ فلا حقّ له في الفيء.
سمع خالد بن صفوان رجلاً يتكلّم فيكثر فقال: يا هذا ليست البلاغة بخفّة اللّسان، وال بكثرة الهذيان، ولكنّها إصابة المعنى، والقصد إلى الحجّة.
وذكر خالد بن صفوان رجلاً فقال: كان والله منهرت الشّدق بعذوبة المنطق، ذلق الحدّة، جزل الألفاظ، عربيّ اللسان، رقيق الحواشي، خفيف الشّفتين، بليل الرّيق، دائم النّظر، قليل الحركات، حسن الإشارات، حلو الشّمائل، حسن الطّلاوة، كثير الرّقّة، ذرب اللسان، حييّاً صموتاً قؤولاً، يهنأ الجرب، ويداوي الدّبر، ويصيب المفاصل، لم يكن(8/102)
بالهذر في منطقه، ولا بالزّمر في مروءته، ولا بالشّكس في خليقته، متبوعاً غير تابع، كأنه علمٌ في رأسه نار.
وذكر خالد آخر فقال: كان والله قرّاءً غير نزّال، معطاءً غير سوّال، قوّالاً عند ذوي الأفهام، جلداً ألدّ الخصام.
شاعر: المتقارب
دعاني هواك فلبّيته ... ولم يدر أنّي له أعشق
فقمت وللشوق في مفرقي ... إلى قدمي ألسن تنطق
شاعر: الطويل
وأشرب قلبي حبّها ومشى به ... تمشّي حميّا الكأس في جسم شارب
يدبّ هواها في عظامي ولحمها ... كما دبّ في الملسوع سمّ العقارب
شاعر: السريع
نازعني من طرفه الوحيا ... وهمّ أن ينطق فاستحيا
جرّد لي سيفين من هجره ... أموت من ذا وبذا أحيا
شاعر: البسيط
أستودع الله من قلبي لفرقته ... كأنّه طائرٌ قد بات في شبك
ومن كأنّ فؤادي من تذكّره ... معلّقٌ بين قرن الشّمس والفلك
قال أعرابيّ: شحذت سيفي، وذلّقت لساني، وها أنا في طلبك.
وقال آخر: فلانٌ قليل الرّجوع، بطيء النّزوع.
قال أعرابيٌّ في وصف آخر: فلانٌ البحر الطّامي يوم الوغى(8/103)
والغيث الهامي ليل القرى.
قال أعرابيّ: نم ذا الذي صفا فلم يكن فيه عيب، وخلص فلم يكن فيه شوب.
وقال آخر: فلانٌ حتف الأقران غداة النّزال، وربيع الضّيفان عشيّة النّزول.
وقال أعرابيّ: لكلّ كاسٍ حاسٍ، ولكلّ عارٍ كاسٍ.
قال أعرابيّ في آخر: لسانه حديد، وجوابه عتيد.
وقال أعرابيّ: فلانٌ أجور من الأسد الضّاري، وأقتل من السّم السّاري.
قال أعرابيّ: لا أمس ليومه، ولا قديم لقومه.
قال أعرابيٌّ في وصف غوانٍ: حواجب مزجّجة، وثغورٌ مفلّجة، وخدودٌ مضرّجة.
قال أعرابيّ: ما أفسح صدره، وأرحب بشره، وأبعد ذكره، وأعظم قدره، وأعلى شرفه، وأكثر ضففه ممّن عرفه ولم يعرفه، مع حسن الاستيفاء، وسعة الفناء، وعظم الإناء.
شاعر: الطويل(8/104)
أيا منزلاً بالدّير أصبح خالياً ... تلاعب فيه شمألٌ ودبور
كأنّك لم تقطنك بيضٌ نواهدٌ ... ولم تتبختر في فنائك حور
وأبناء أملاكٍ عباشم سادةٌ ... صغيرهم عند الأنام كبير
إذا لبسوا أدراعهم فضراغمٌ ... وإن لبسوا تيجانهم فبدور
على أنّهم يوم اللّقاء قساورٌ ... ولكنّهم يوم النّوال بحور
إذ الملك غضٌّ والخلافة لدنةٌ ... وأنت خصيبٌ والزّمان طرير
وروضك مرتاضٌ ونبتك يافعٌ ... وعيش بني مروان فيك قصير
رويدك إنّ اليوم يعقبه غدٌ ... وإنّ صروف النائبات تدور
قال أعرابيّ: نحنّ إلى المكارم كما تحنّ الإبل إلى الحدا، والروض إلى النّدى.
آخر: كان والله مريع الجناب، درور السّحاب.
قال أعرابيّ: فلانٌ أفصح خلق الله تعالى إذا حدّث، وأحسنهم استماعاً إذا حدّث، وأمسكهم عن الملاحاة إذا خولف، يعطي صديقه النّافلة، ولا يسأله الفريضة، له نفسٌ عن العوراء محصورة، وعلى المعالي مقصورة، كالذّهب الإبريز الذي يعزّ كلّ أوان، والشمس المنيرة التي لا تخفى بكلّ مكان، هو النّجم المضيء للحيران، والبارد العذب للعطشان.
قال أعرابيٌّ في وصف آخر: ليثٌ إذا عدا، وغيثٌ إذا غدا،(8/105)
وبدرٌ إذا بدا، ونجمٌ إذا هدى، وسمٌّ إذا أردى.
قال أفلاطون: من القبيح أن نكسح من كرومنا فصل الورق والقضبان ولا نكسح من أنفسنا الشّهوات، ومن القبيح أن نمتنع من الطّعام اللذيذ لتصحّ أبداننا ولا نمتنع من القبائح لتصفو أنفسنا.
قال فيلسوف: إني لأعجب من النّاس وقد مكّنهم الله تعالى من الاقتداء به ويقبلون إلى الاهتداء بالبهائم.
قال فيلسوف: لا ينبغي لأحدٍ أن يطلب شيئاً من الحكمة والفضائل قبل أن ينفي عن نفسه العيوب والرذائل.
قال أفلاطون: ينبغي لنا أن نفرّ من الأشياء الرّديئة، والأشياء الرّديئة العالم، فينبغي أن نفرّ من العالم، والفرار من العالم هو الاقتداء بالله تعالى.
قال أعرابيّ: إن الدهر حوّلٌ ذو انقلاب، ولا بدّ للسّرّاء من الضّرّاء، والدهر يخلط صالحاً بفساد، وهو طعمان: معسول وممرور.
كاتب: يا مولاي تعبّداً، وأخي تودّداً.
قال أعرابيّ: أنت قرّة عيني ونورها، وأنس نفسي وسرورها.
كاتب: أنت من أفتخر بأنوائه، وأهتدي بضيائه، وأتزيّن بإخائه، وأستظهر على الزمان بولائه.
كاتب: أنت بهجة الدّنيا وزهرتها، وروضة نفسي ومنيتها(8/106)
وبستانها، وروح حياتي وريحانها.
قال أعرابيٌّ لآخر: أنت سمعي وبصري، وشمسي وقمري.
قال فيلسوف: كما أنه ليس بين الطّوف واللصّ صداقة، فكذلك ليس بين الحكمة والجهل صداقة.
قيل لفيلسوف: بماذا تشبّه الحكماء؟ قال: إذا قيسوا إلى الناس فهم كالآلهة، وإذا قيسوا إلى الآلهة فهم كالملائكة.
قيل لفيلسوف: ما الفضل بينك وبين الملك؟ قال: هو عبد الشّهوات وأنا مولاها.
قيل لفيلسوف: إنّ الملك لا يحبّك، قال: الملك لا يحبّ من هو أكبر منه.
قيل لفيلسوف: من الجواد؟ قال: من جاد بماله، وصان نفسه من مال غيره.
وقيل لسقراط: لم تذكر في شرائعك عقوبة من قتل أباه،(8/107)
قال: لم أعلم أن هذا يكون.
قال ثعلب في المجالسات: جاء رجلٌ من آل حكيم بن حزام إلى أبي أويس فقال: إنّي رأيت كأنّي أنظر في لوحٍ من ذهب، فقال: إنّ العبارة حكمٌ، وأكره أن أفسّره لك، قال: لا بدّ منه، قال: يذهب بصرك، قال: سبحان الله، قال: ما هو إّلا ما أقول لك، فعمي بعد قليل.
جاء رجلٌ إلى سعيد بن المسيّب من قبل عبد الملك بن مروان فقال: رأيت كأنّي بلت خلف المقام أربع مرّات، قال له: كذبت لست صاحبها، قال: فإنّه عبد الملك، قال: يلي أربعةٌ من صلبه الخلافة.
رئي عليّ بن الحسين مكتوباً على صدره: " قل هو الله " فاستعبر سعيد بن المسيّب فقال: بضعةٌ من رسول الله صلّى الله عليه وعلى آله، نعى إليه نفسه.
لمروان بن أبي حفصة: الرجز
إن تحبسوني فالكريم يحبس ... إنّي لسامي النّاظرين أشوس
مصابرٌ حتى تجيش الأنفس ... لا ساقطٌ علجٌ وال مدنّس
عرضي نقيٌّ وأديمي أملس
قال الفضل بن عيسى الرّقاشي: إنّا والله ما نعلّمكم ما(8/108)
تجهلون، ولكنّا نذكّركم ما تعلمون.
قال ابن عجلان: شكا رجلٌ إلى الحسن الفاقة فقال: لقد أعطاك الله ديناً لو لم تشبع معه من خبز الشّعير كان قد أحسن إليك.
قال عمير بن الحباب: البسيط
أبلغ أميّة أنّ الأرض واسعةٌ ... وفي السيوف إذا ما جرتم عبر
حتّى متى وعلام اليوم ناركم ... ما إن يزال لها في دورنا شرر
إنّي أخاف عليكم أن تنوبكم ... منّا بوائق لا تبقي ولا تذر
وإن تروا عارضاً منا يقودهم ... قرمٌ أغرّ أمام الحيّ يقتفر
لا ينثني الدهر عن أمرٍ يهمّ به ... حتى يموت وفيه الرّمح منكسر
يخاطب بهذه الأبيات عبد الملك بن مروان.
قال أعرابي: الكريم يرعى حقّ اللفظة وحرمة اللّحظة.
قال ابن عيينة: كانت لنا هرّةٌ ليس لها جراءٌ، فكانت لا تكشف القدور ولا تعيث في الدّور، فصار لها جراءٌ فكشفت القدور وأفسدت الدّور.
لما قبض ابن عيينة صلة الخليفة قال أصحاب الحديث: قد وجدتم مقالاً فقولوا، متى رأيتم أبا عيالٍ أفلح؟(8/109)
قال هشام لخالد بن صفوان: أكنت تعرف الحسن؟ قال: كان فيما بلغني في داره صغيراً، ومجلسه في حلقته كبيراً، قال: فكيف كان؟ قال، كان أعمل الناس بما أمر به، وأترك النّاس لما نهي عنه، وكان إذا قعد على أمرٍ قام به، وإذا قام على أمرٍ قعد به، وكان معلّماً بالنّهار وراهباً بالليل.
قال سلمة بن سعيد: أتي عمر بن الخطاب بمالٍ، فقام إليه عبد الرحمن بن عوف فقال: يا أمير المؤمنين، لو حبست من هذا المال في بيت المال لنائبةٍ تكون أو أمر يحدث فقال: كلمة ما عرضها ولقنها إلا شيطان لقاني الله حجّتها، ووقاني فتنتها، أعصي الله تعالى العام لخوف القابل؟ أعدّ لهم تقوى الله، قال الله تعالى: " ومن يتق الله يجعل له مخرجاً ويرزقه من حيث لا يحتسب " وليكوننّ المال فتنةً على من يكون بعدي.
جاء رجلٌ إلى سعيد بن المسيّب فقال: رأيت حديّاً جاءت حتى وقعت على شرف المسجد، فقال: إن صدقت رؤياك تزوّج الحجّاج في أهل هذا البيت، فتزوّج الحجّاج أمّ كلثوم ابنة عبد الله بن جعفر بن أبي طالب فأولدها بنتاً.
جاء رجلٌ إلى سعيد بن المسيّب فقال: رأيت رسول الله صلّى الله عليه وسلّم في المنام، فقال: يا هذا، بعثه الله بشيراً ونذيراً، فإن كنت على خيرٍ فازدد، وإن كنت على شرٍّ فتب.
قال النحويّ: اعلم أن أسير بمعنى سرت إذا أردت بأسير معنى سرت؛ قال أبو سعيد السّيرافيّ: إنّما يستعمل ذلك إذا كان الفاعل قد عرف منه(8/110)
ذلك الفعل خلقاً وطبعاً، ولا ينتظر منه في المضيّ والاستقبال، ولا يكون لفعل فعله مرةً من الدهر، من ذلك قول بعض بني سلول: الكامل
ولقد أمرّ على اللئيم يسبّني ... فمضيت ثمّت قلت لا يعنيني
يريد: ولقد مررت، ولم يرد أنّ ذلك كان منه مرّةً، ولا أنه لا يعود إليه، وإنّما أراد أنّ ذلك سجيّته أبداّ؛ قال جرير: الكامل
قالت جعادة ما لجسمك شاحباً ... ولقد يكون على الشّباب نضيرا
قال خالد بن كلثوم الرّاوية: كان حنين صاحب خفيّ حنين من أهل اليمامة، وكان يحمل العطر فيطوف به في بلاد العرب، فطبن له بعض الخرّاز، فألقى في طريقه حين بدا من أهله فرد خفّ جديد، وألقى الفرد الآخر على قدر ميل، فأقبل حنين فلمّا رأى الفرد الآخر قال: الآن ننتفع بذلك الفرد، ونزل فعقل ناقته شفقةً عليها، ومضى فأخذ الفرد الآخر، وصاحب الخفّين قد كمن له، فلمّا تولّى حنين ركب البعير فذهب بما عليه وبه، فرجع حنين إلى أهله بالخفّين من جميع ما حمل، فصار خفّاه مثلاً.
قال المدائني: كان في الزمان الأوّل ملكٌ نهى النّاس أن ينتشروا بالنّهار في حوائجهم، ونادى بالتصرّف في الليل والنّوم بالنّهار، وأقام الحرسيّ يدور بالنّهار، فأخذ الحرسيّ رجلاً على حمار فأتى به الملك، فأمر بعقوبته، فقال(8/111)
له، أصلحك الله، هل نهيت عن الدّلجة؟ قال: لا، قال: فأنا رجلٌ مسافرٌ أدلجت هذا الوقت كما كنّا نبكّر في نصف الليل، قال: صدق، خلّوا سبيله.
سأل رجلٌ أبا عمرو بن العلاء عن الخيل لم سميت خيلاً فعيّ بذلك عمرو، وكان عنده أعرابيٌّ فقال: إنّما سميت خيلاً لاختيالها واختيال راكبها.
وقال عمر بن عبد العزيز لجاريةٍ في صبائه - هكذا قال العلماء بالفتح والمدّ إذا أردت أيام صغر سنّه، وقالوا: الصّبا في هذا المعنى خطأ، إنّما الصّبا اللهو والدّد والغزل - بحضرة مؤدبّه: أعضّك الله تعالى بكذا، فقال له المؤدّب: قال: أعضّك عبد العزيز، فقال: إنّ الأمير أجلّ من ذاك، قال: فليكن الله تعالى أجلّ في صدرك، فما عاود كلمة خنا، الخنا مقصورٌ، يقال: أخنى الرجل في منطقه.
يقال: شعّ دمه يشعّ أي تفرّق.
ويقال: طويت فلاناً على بللته أي بنيته على بقيّة ودّه؛ وأنشد: الكامل(8/112)
ولقد طويتكم على بللاتكم ... وعرفت ما فيكم من الأدغال
والعرب تزعم أنّ اللبن يطوي البطن، وأنّ نبات الأرض ينفخه.
الدّحل: سربٌ في اعوجاجٍ من داخل الأرض؛ اندحل الطائر في وكره، واندحل السّبع في وجاره.
يقال: خذه على هديتك وفديتك.
مرّ أعرابيٌّ في أطمار رثّةٍ برجلٍ فقال له الرجل: والله ما يسرّني أن كنت ضيفك ليلتي هذه، فقال له الأعرابي: أما والله لو كنت ضيفي لغدوت من عندي أبطن من أمّك قبل أن تضعك بساعة، إنا والله - إذا وجدنا - آكلكم للمأدوم، وأطعمكم للمحروم، هكذا قال، وإن كان من الإطعام، وقد سمع من غير واحدٍ.
وفي الخبر: إذا أراد الرجل أن يتزوج امرأةً فلينظر إليها فإنه أجدر أن يؤدم بينهما؛ أدم الرجل المرأة إذا خالطها أي إذا نكحها.
قال خالد بن صفوان: أنا لا أصادق إّلا من يغفر زللي، يسدّ خللي، ويقبل عللي.(8/113)
وقيل ليزيد بن معاوية: ما حقّ الجود؟ قال: أن تعطي لمن لا تعرف، وإنّك لا تبلغه حتى تتخطّى به من لا تعرف.
وقال النبيّ صلّى الله عليه وآله يوم حنين للعبّاس: " اصرخ بالناس "، ثم قال: " خلّل بالخزرج "، أي خصّهم.
يقال للجاهل الكثير التّرداد: سوّاط.
يقال: ملست الغلام: أي خصيته - اللاّم مخفّفة.
قال الأصمعي: برح الخفاء يعني صار الأمر في براحٍ، أي ظهر لشدّته ونكرائه، وقيل: معناه من التبريح أي اشتدّ. وقال يعقوب: برح الخفاء أي استبان المكتوم.
قبع الرجل إذا تحيّر.
وقال عبد الملك بن مروان لأبي الحارث: بلغني أنكم من كندة؟ قال: يا أمير المؤمنين، أيّ خيرٍ فيمن لا يدّعي رغبةً، أو ينفي حسداً.
طمر الرجل إذا انتفخ، وفرسٌ طمرٌّ، والمكان العالي: طمار،(8/114)
معرفةٌ مبنيّة على الكسر كقولك: حذام وقطام.
شاعر: الطويل
فإن كنت لا تدرين ما الموت فانظري ... إلى هانئٍ في السّوق وابن عقيل
تري جسداً قد خدّد السيف لحمه ... وآخر يهوي من طمار قتيل
قال المبرّد: وتميم تقول: من طمار، منزلة ما لا ينصرف.
قال المبرّد في قوله تعالى: " يسألونك كأنّك حفيٌّ عنها " أي عن المسألة؛ وفي الخبر: أحفوا الشّوارب واعفوا اللّحى.
ما ملئت دارٌ حبرةً، إّلا وستمتلئ عبرةً.
" وأسرّوا النّدامة " أي أظهروا، من الأضداد، أي بدا ذلك في أسرّتهم.
الضّيزن: الوزير، والوزير مأخوذٌ من الوزر.(8/115)
رأى عمر بن الخطّاب رجلاً في الطّواف يقول: اللهمّ اغفر لامّ أوفى، فقال له: من أمّ أوفى؟ فقال: امرأتي، والله على ذاك إنّها لورهاء مرغامة، أكولٌ قمّامة، لا تترك لها حامّة، ولكنّها حسناء فلا تفرك، وأمّ بنين فلا تترك.
قال التّوّزي: سألنا أبو عبيدة عن مسألةٍ ثم قال: لا يستخرجها من الرّجال إّلا أسود الحيف، يريد من حنّكته السّنّ حتى اسودّت نواحي أنثييه.
قال مصعب بن الزّبير لسكينة بنت الحسين رضي الله عنهما: أنت مثل البغلة لا تلدين، قالت له: لا والله ولكن أبى كرمي أن يقبل لؤمك.
نظر الجمّاز إلى سوداء عليها معصفرات فقال: كأنّها بعرةٌ عليها رعاف.
قالت الخنفساء لأمّها: ما أمرّ بأحدٍ إّلا بزق عليّ، قالت: من حسنك تعوّذين.(8/116)
شاعر: الكامل المجزوء
لما رأيت الدّهر يفني النّ ... اس من جيلٍ فجيل
وعلمت أنّي هالكٌ ... وسبيل من ولّى سبيلي
أوطأت نفسي عشوةً ... وعزفت عن قالٍ وقيل
وشربتها مشمولةً ... نشأت على الدّهر الطويل
رقّت فليس تحسّ كال ... شيء الخفيّ المستحيل
من كفّ ظبيٍ فاتر ال ... ألحاظ كالرشأ الكحيل
قال أعرابيّ: الفقير من الأهل مصروم، والغنيّ في الغربة موصول.
قال أعرابيّ: أوحش قومك ما كان في إيحاشهم أنسك، واهجر أوطانك ما نبت عنها نفسك.
قيل لأعرابيّ: أتشتاق إلى وطنك؟ قال: كيف لا أشتاق إلى رملةٍ كنت جنين ركامها، ورضيع غمامها.
قال أعرابيّ: الاغتراب يردّ الجدّة، ويكسب الجدة.
شاعر: الرمل المجزوء
إن يكن مات صغيراً ... فالأسى غير صغير
كان ريحاني فصار ال ... يوم ريحان القبور(8/117)
قال العتبيّ، سمعت أبي يقول: سابّ كميت بن معروف الأسديّ أمةً لقومٍ فقالت: الطويل
لعمري لقد راش ابن سعدة ريشه ... بريش الذّنابى لا بريش القوادم
بنى لك معروفٌ بناءً هدمته ... وللشّرف العاديّ بانٍ وهادم
قال أبو موسى الحامض: قرئ على ثعلب من كتاب بخطّ ابن الأعرابي خطأٌ فردّه، فقيل له: إنّه بخطّه، قال: هو خطأ، قيل: أفنغيّره؟ قال: دعوه ليكون عذراً لمن أخطأ.
لما سقطت ثنيّة معاوية أسف عليها لما فاته من البيان، فتمثّل: الرجز
إنّ الليالي أسرعت في نقضي ... أخذن بعضي وتركن بعضي
تركن رنقي وشربن محضي
شاعر: الطويل(8/118)
يقرّ بعيني أن من مكانه ... ذرى هضبات الأجرع المتقاود
وأن أرد الماء الذي وردت به ... سليمى وقد ملّ الكرى كلّ واحد
وألصق أحشائي ببرد ترابه ... وإن كان مخلوطاً بسمّ الأساود
أنشد الرّياشيّ لنهار بن توسعة: البسيط
أضحى العراق سليباً لا ضياء له ... إّلا المهلّب بعد الله والمطر
هذا يجود ويحمي عن ذماركم ... وذا يعيش به الأنعام والشّجر
وأنشد أيضاً: الرجز
الناس إخوانٌ وشتّى في الشّيم
ويروى النّاس أسواءٌ، كذا أنشد البغداديون؛ قال الرّياشي: سألت عنه أعرابيّاً فصيحاً فقال: معناه أنّهم من أديمٍ واحد، أي من تراب يجمعهم كلّهم آدم، وإن اختلفت شيمهم، وفسّر البغداديون على خلاف هذا، قالوا: يجمعه بيت الأدم، لأنّ بيت الأدم فيه كلّ ضربٍ من رقاع الأدم.
قال أبو حاتم، حدّثنا الأصمعي قال: كنت عند الرشيد في شهر(8/119)
رمضان، فأتي بسكران فهمّ به ثم سأل عنه فقلت: كفاك عليّ بن أبي طالب ذلك بالنّجاشي. قد شرب الخمر في رمضان فضربه ثمانين للسّكر، ومائةً لحرمة شهر رمضان، وحمله على حملٍ وطاف به في الكوفة، فجعل الصبيان يصيحون به: سلح سلح، فيقول: كلاّ إنّها يمانيةٌ، ووكاؤها شعرٌ؛ وهجا أهل الكوفة فقال: البسيط
إذا سقى الله قوماً صوب غاديةٍ ... فلا سقى الله أهل الكوفة المطرا
وأرسل الريح تسفي في عيونهم ... حتى إذا لا ترى ماءً ولا شجرا
ألقى العداوة والبغضاء بينهم ... حتى يكونوا لمن عاداهم جزرا
السّارقين إذا ما جنّ ليلهم ... والدّارسين إذا ما أصبحوا السّورا
والتّاركين على طهرٍ نساءهم ... والنّاكحين بشطّي دجلة البقرا
ثم ذهب إلى معاوية وقال في عليّ، وكان قد قال معاوية: البسيط
يا أيّها الملك المهدي عداوته ... انظر لنفسك أيّ الأمر تأتمر
واعلم يقيناً بأنّ المجد في نفرٍ ... هم العرانين ما ساواهم بشر
فإن نفست على الأقوام مجدهم ... فابسط يديك فإنّ الخير مبتدر
نعم الفتى أنت إّلا أنّ بينكما ... كما تفاضل ضوء الشّمس والقمر
إنّي امرؤٌ قلّ ما أثني على أحدٍ ... حتى أبيّن ما آتي وما أذر(8/120)
لا تحمدون امرءاً حتى تجرّبه ... ولا تذمّنّ حتى تبله الخبر
قال أبو عليّ ابن مقلة، قال لي الهداوي، أنشدنا الرّياشي: الكامل المجزوء
يا عين بكّي للولي ... د بن الوليد بن المغيره
إنّ الوليد بن الولي ... د أبا الوليد هو العشيره
من كان غيثاً في السّني ... ن وجعفراً غدقاً وميره
قال أعرابيّ: خلق القريب خيرٌ من جديد الغريب.
قال العتبي، قال أبو دواد: الكامل المجزوء
سقّى الرّباب مجلجل أل ... أكناف رعّادٌ بروقه
جونٌ تكفكفه الصّبا ... وهناً ويمريه خريقه
مري العسيف عشاره ... حتى إذا درّت عروقه
حتى إذا ما جلده ... بالماء ضاق فما يطيقه
هبّت له من خلفه ... ريحٌ يماينةٌ تسوقه
حلّت عزاليه السّما ... ء فسحّ واهيةً خروقه
قال أعرابيّ: العجز مقرونٌ به الشقاء، والحزم موكّلٌ به(8/121)
النّجاء؛ ثمرة الحزم السلامة، وثمرة العجز الندامة.
قال أعرابيّ: آفة الحزم ترك الاستعداد، وآفة الرأي سوء الاستبداد.
قال أعرابيّ: الحازم لا تدهش له عزيمة، ولا تكهم له صريمة.
قال بعض تجّار البحر: حملنا مرةً متاعاً إلى الصّين من الأبلّة، وكان قد اجتمع ركبٌ فيه عشر سفنٍ، قال: ومن رسمنا إذا تزجّهنا في مثل هذا الوجه أن نأخذ قوماً ضعفاء، ونأخذ بضائع قوم، فبينا أنا قد أصلحت ما أريد إذ وقف عليّ شيخٌ فسلّم فرددت فقال: لي حاجةٌ قد سألتها غيرك من التّجار فلم يقضها، قلت: فما هي؟ قال: اضمن لي قضاءها حتى أذكرها، فضمنت، فأحضر لي رصاصةً من مائة منا، وقال لي: تأمر بحمل هذه الرصاصة معك، فإذا صرتم في لجّة كذا فاطرحها في البحر. فقلت: يا هذا، ليس هذا ممّا أفعله، قال: قد ضمنت لي، وما زال بي حتى قبلت وكتبت في روزنامجي؛ فلمّا صرنا في ذلك المكان عصفت الريح وهاج البحر، فاشتغلنا بأنفسنا ونسيت الرصاصة، ثم خرجنا من اللّجة وسرنا حتى بلغنا موضعاً، فبعت ما صحبني، وحضرني رجلٌ فقال لي: يا هذا، أمعك رصاصٌ؟ قلت: لا، فقال غلامي: معنا رصاصٌ، فقلت: لم أحمل رصاصاً قال بلى الشيخ فذكرت فقلت خالفناه؛ بلغنا إلى ها هنا وما يلحقني أن أبيعه ففيه ما ينفعه، فقلت للغلام: أحضرها، وساومني الرجل بها فبعتها بمائةٍ وثلاثين ديناراً وابتعت بها للشيخ طرائف الصّين، وخرجنا فوافينا المدينة، فبعت تلك الطرائف فبلغت سبعمائة دينار، وصرت إلى البصرة إلى الموضع الذي وصفه الشيخ، ووقفت بباب دار، وسألت عنه فقيل لي: قد توفي، قلت: فهل خلّف أحداً يرثه؟ قالوا: لا نعلم إّلا ابن أخٍ له في بعض نواحي البحر؛ قال: فتخبّرت(8/122)
فقيل: إنّ داره موقوفةٌ في يد أمين القاضي، فرجعت إلى الأبلّة والمال معي، فبينا أنا ذات يوم جالسٌ إذ وقف على رأسي رجلٌ فقال: أنت فلان؟ قلت: نعم، قال: وخرجت إلى الصين؟ قلت: نعم، قال: وبعت رجلاً هناك رصاصاً؟ قلت: نعم، قال: أتعرف الرجل؟ فتأملته، فقلت: أنت هو، قال: أعلمك أنّي قطعت تلك الرصاصة لأستعمل شيئاً منها فوجدتها مجوّفة، ووجدت فيها اثني عشر ألف دينار، وقد جئت بالمال فخذ مالك عافاك الله، فقلت له: ويحك، ليس المال لي، ولكنّه كان من خبره كذا وكذا، وحدّثته، قال: فتبسم الرجل ثم قال: أتعرف الشيخ؟ قلت: لا، قال: هو عمّي وأنا ابن أخيه، وليس له وارثٌ غيري، وأراد أن يزوي هذا المال عنّي، وهو هرّبني من البصرة سبع عشرة سنةً، فأبى الله تعالى إّلا ما ترى على رغمه؛ قال: فأعطيته الدنانير كلّها ومضى إلى البصرة فأقام بها.
حدّثنا القاضي أبو حامد قال: كان لي عمٌّ بمرورّوذ، وكان وجيهاً في البلد، وكان شديد المقت لي فاحش الإعراض عنّي؛ واتفق أنّي حضرت بعض العشيّات مجلس رئيس البلد، ودخل عمّي بعدي وكنت في كلامٍ، فسمع بقيّة ما كنت فيه، فقال للرئيس: من هذا الفتى الكامل الفاضل؟ فوالله ما رأيت أحداً في سنّه أكثر عقلاً، ولا أحسن كلاماً منه، وإنّما أنكرني الاختلاط ظلام الليل، فقال الرئيس: إنّه أبو حامد، قال: ومن أبو حامد؟ قال: ابن أخيك، قال: لعنه الله وقبّحه، فما أعرف نسمةً أبغض منه إليّ، وإنك لو عرفت باطنة لما استحسنت ظاهرة ونهض متلوياً من حسد نار به ومناقضةٍ أتى بها، وحالٍ فجأته، وكامن ظهر عليه. وكان القاضي أبو حامد يحدّثني بهذا العمّ، وكان شديد العداوة، قاطع الرّحم، قبيح الجفاء، وكان يقول: والله لا ورثتني، ولأهبن مالي لبختيار - وكان أمير بغداد - ولساسته، ولا أتركه لك، ثمّ أبى الله ذلك.(8/123)
قال: وحدّثني أبو حامدٍ بحديثه مع عمّه حين حدّثته أنّ عمّي كان قاعداً في بعض العشيّات في قطيعة الرّبيع، فاجتزت به متوجّهاً إلى مجلس أبي الحسن ابن القطّان الفقيه الشافعيّ، فقال له جلساؤه: إنّ ابن أخيك با أبا العبّأس مجتهدٌ في طلب العلم، يغدو ويروح، ولقد سمعنا تلاوته للقرآن فاستجدناها، ولقد سمعنا منطقه فاستأنسنا به، وقد كتب الحديث الكثير، وسافر وتصّوف، فقال للجماعة: هذا كلّه كما تقولون، ولكن له عيبٌ واحد، قالوا: وما هو؟ قال: يأكل في كلّ يوم أربعة أرغفةٍ، فورد على الجماعة ما حيّرها وأضحكها. وقد رأينا أعماماً قطعوا أرحاماً، فقطع الله أعمارهم، وأقفر ديارهم، وأورثهم خسارهم. وإنّما سقت هذا ناهياً عن قطيعة الرّحم، وحاثّاً على حفظ القرابة، مذكّراً عواقب القطيعة، ومحذّراً من قبيح القالة، وإلى الله تعالى نفزع في كلّ ما دقّ وجلّ، فهو المنتهى وإليه الرجعى.
احتضر ابن أخٍ لأبي الأسود الدؤلي - هكذا الفصيح يفتح الهمزة - فقال: يا عمّ، أموت والناس يحيون؟ قال: كما حييت والناس يموتون.
قال ابن السّمّاك: أهل القبور على الاختبار، وأهل الدّور على الاضطرار والانتظار، فأمّا أهل القبور فندموا على ما قدّموا، وأمّا أهل الدّور فيقتتلون على ما عليه أهل القبور ندموا، فلا هؤلاء إلى هؤلاء يوجعون، ولا هؤلاء بهؤلاء يعتبرون.
شاعر: الوافر
أنا ابن محفّضٍ والسّكب خالي ... إذا أنا من بني رجل الحمار
أسود إلى العلى بأبٍ وجدٍّ ... إذا عظمت مراهنة الخطار
شيوخاً طال ما سادوا وقادوا ... تميماً في الملمّات الكبار
فلا تمدد يديك بلا قديمٍ ... إلى أهل القديم ولا نجار(8/124)
فلا يستطيع إلهاب المذكّي ... لدى الغايات أفلاء المهار
يسطيع إسطاعاً لغة، فلا تنكر الضّمّ في الياء، فإنّه يقال: أسطاع يسطيع إسطاعاً، واسطاع يسطيع اسطياعاً، واستطاع يستطيع استطاعةً، والاستطاعة: طلب الطّاعة.
478 - والاستطاعة عند المعتزلة قبل الفعل، زعموا، كما أن العين قبل الإدراك، واليد قبل الضّرب. وقال خصومهم: الاستطاعة مع الفعل، وبعض مجّان المتكلّمين يقول: بعد الفعل، والحقّ من ذلك أنّ الاستعداد والتهيّؤ قائمان بالإنسان التامّ المزاج العلة، فإذا أنشأ الفعل تقدّمته همّةٌ، وبعثته إرادةٌ، وساعدته قوةٌ، وتمّمته استطاعةٌ، فبانتظام هذه القوى فيه، وانبعاثها منه، والتصاقها به، سمّي قادراً، ومرّةً مستطيعاً، ومرّةً قوياً، والصّفات تعتوره من بعد على قدر درجاته في هذه الأحوال، وهذه القوّة والاستطاعة هو عواريّ عند الإنسان، تزداد مرةً بامتداد المعير، وتنقص على ذلك التّقدير، ولهذا لم يكن الإنسان قادراً على الإطلاق، ولا عاجزاً على الإطلاق، بل كان وعاءً لهما، محمولاً عليهما، ولو عري من القدرة رأساً لما كلّف، ولو ملك الاستطاعة رأساً لما لجأ إلى الله ولا تضرّع، فهو بين قدرة من أجلها أمر، وبين عجزٍ من أجله اضطرّ وعذر، ولو كان مستطيعاً على الحقيقة لبطر وأشر، ولو كان عاجزاً على الحقيقة لما كلّف ولا أمر، فسبحان من خلق هذا الخلق، وصرّفهم على الكمال والنّقص، وضربهم بالسعادة والنّحس، وألجاهم إلى النّفس والحدس، ليعرفوا بكمالهم كمال مكمّلهم، ويعرفوا بنقصهم استئثار مدبّرهم، فيعتمدوا عليه، ولولا هذا التدبير المنطوي على الحكمة، الجاري على نظام العقول السّليمة، لكانت قدرتهم تنسيهم عجزهم، وإذا نسوا مواضع العجز فتنوا بمواضع القدرة، ألا ترى أنّ الخلق مع تعاور الآفات عليه، وتسارع النّكبات إليه، وتحكّم البلاء فيه، وتفسّخ عزائمه وتداعي أواخيه،(8/125)
كيف يثبون ويأشرون، ويبطشون وينتقمون، ويتظالمون، حتى كأنّهم لم يشهدوا من دهرهم فقد حميم، ولا اختطاف عزيز، ولا ابتذال ذخر، ولا ارتجاع موهبة، ولا هدم بنيّة، ولا قطع أمنيّة، ولا حلول قارعة، ولا زوال ملك، ولا عثار مستمرّ، ولا انتكاس متطاول، ولا خرس منطق. خالق الخلق أعلم بما أودع طينتهم، ومزج به أرومتهم، وقصر عليه طباعهم، وبعث إليه أبصارهم، وكتب عنده آثارهم، وأحصى عددهم، وتابع مددهم، ورتّب كلاً مرتبةً إن تجاوزها هلك، وإن قصّر ليم، وإن ثبت عندها نجا؛ له الملك والعظمة، والقدرة والسطوة، والحكمة واللّطف والنّعمة، والعفو والرحمة، فإيّاه نسأل خير ما عنده، وإليه نفزع من شرّ ما عندنا، إنّه صارف الشرّ عنّا، وموصل الخير من لدنه إلينا، وهو على ما يشاء قدير، وبجميع عباده خبيرٌ بصير، يجمع بين المحروم والمرزوق في شرك الاختبار، ويؤلّفهم في نظام الأمر والنّهي، ويطالبهم بالصبر والشكر، ويمدّهم باللّطف والرّفق، ويضمن لهم الربح والنجح، ويدّخر لهم الخلاص والثّواب.
فاعتبر أيّها السامع أفاعيله، وتصفّح حقائقه، واستجل أسراره، واستنّ حكمه، وتزود الشّكر على أوائل إحسانه إليك، وفواتح إنعامه عليك، واجعل المتجلّي منها مثالاً لما خفي، والخافي مسلّماً بما وضح، فإنّ هذا الاعتبار يثمر لك عاقبة الحمد، وينزلك دار الصدق، وينقلك إلى عالم الحقّ، ولا يغرنّك ما أنت به باقٍ ها هنا، فإنّ البقاء ها هنا فناء، إّلا أنّ فناءك هنا بقاءٌ هناك، ومتى لاح لك الرّمز والحقّ الذي يتضمنه، صرفت سعيك وجدّك وتشميرك واستعدادك، وزادك إلى حظٍّ أنت به باقٍ وثابتٌ معه، ولست تفهم هذه المعاني، ولا تطّلع على هذه المعالي ما دمت أسير ما تراه عينك، وتلمسه يدك، وتتمنّاه شهوتك، لا والله حتى تتخلّى منك، أعني من جلبابك وقشرك وغشائك، نعم وحتى تتعرّى من جسدك، أعني من جوانحه وزينته وكرامته، وتأخذ ممّا لا بدّ لك منه، مكرّماً بذلك ذاتك، ومهيناً لما دنّسك وأهلكك.(8/126)
واعلم أن بقاءك بصفاتك، وصفاءك بتفاني هذه الأشياء عنك، واعلم أنّ فناءك بكدرك، وكدرك بتعاور هذه الأشياء عليك، فانج ما كنت على جوادك، فيوشك أن يعثر بك فيلقيك في هوةٍ لا تنتعش منها أبداً، فإن باشرت الشكوك بقلبك، وطرحت المواعظ عن سمعك، وثقلت النّائح على عقلك، فاعلم أنّك ميت وإن كنت في مسك حيّ، وعليلٌ وإنّ كنت في ثياب صحيح، ومخذولٌ وإن تتابع لك النّصر، ومحرومٌ وإن اتسّع عليك الرّزق، ومحبوسٌ وإن كنت في صورة مسيّب، ومرحومٌ وإن كنت في ظاهر مرضيٍّ عنه، ومعذبٌ وإن طال بك الاستمتاع، فعليك السلام، فقد وقع اليأس منك، وانقطع الرجاء عليك، وما أحوجك عند هذه العاقبة إلى نائحةٍ تبكي عليك، وتندب شبابك، وتعدّد محاسنك، وما أخوفني أنّك إلى الشماتة بك أقرب، وبالانتقام بك أحقّ، لأنّ من عشي عن الذّكر، وألف إهمال الفكر، وأغفل حقّ النّعمة بالشّكر، وسكن مساكن الظالمين، ووقف مواقف العائدين، وتجاهل وهو يعلم، وتعامى وهو يبصر، وتغافل وهو يدري، وتشكّك وهو يتيقنّ، وتمارض وهو صحيح، وتناكر وهو عارف، حقيقٌ بأن يشمت به العارف بحاله، المطلع على أمره.
اللهمّ لا ترسلنا من يدك، ولا تلنا بكيدك، وكن بنا أرأف منّا، إنّك أهل ذلك، واللاّطف به.
478ج - افترّ هذا الحديث الطويل عن تفسيره قوله: يسطيع، ولو نهلت على حسب إرادتي لأفردت هذا الكلام عن المكان وتثبّتّ فيه، ولما قنعت له بخاطرٍ عابر، وهاجسٍ سانح، ولفظٍ لم يخدمه التّنقيح، ولم يشقّق عليه الرأي، ولم يستعن عليه بالسّهر، ولم يجتلب إليه المعنى المبيّت المخمّر، وعلى هذا جرى الكتاب من أوّله، والله تعالى أسأل بلوغ آخره، مشفّعاً بالقول والعمل، غير مغترٍّ بامتداد أجل، واختيال أمل.(8/127)
478د - لا تسرع إلى ذمّي حتى تقف على عذري، وتعرف حقيقة أمري، فوالله لقد أصبحت وما لي صديقٌ أتنفّس معه، ولا عدوٌّ أنافسه، ولا غنىً أستمتع به، ولا حالٌ أغبط بها، ولا مرتبةٌ أحسد عليها، ولمّا أفضى بي الزمان إلى هذه الخلّة المشكوّة، وأفضيت بنفسي ما حوى هذا الكتاب معللاً نفساً قد باءت بسخظٍ من الله إن لم تكن شاكرةً لله تعالى، مسلّمةً لأقدار الله عزّ ذكره، راضيةً بقضاء الله، عارفةً باختيار الله جلّ اسمه، فلا تزدني بلومك حرقةً، وبمنازعتك أسفاً، وبلجاجك ضجراً؛ واعلم أني بشريٌّ أزلّ إن قلت، وأضل إذا ارتأيت، وأخطئ إذا توخّيت، وأصيب إذا وفّقت، وأحقّق إذا ألهمت، وأنال إذا قرّبت، وأسعد إذا لوطفت، وأتخلّص إذا رحمت، فإذا لمت فليكن لوماً هوناً، فإنّك لو نصبت نفسك في موضعي لم تخل من لسانٍ هو أعضب من لسانك، ومديةٍ هي أحزّ من مديتك.
478هـ - وقوله: إلهاب المذكّي، هو العدو، يقال: ألهب يلهب، أي أحمى العادي نفسه فهو بمنزلة نارٍ تلهّب، ويقال: أهذب أيضاً في هذا المعنى، والمذكّي: المسنّ، فيقال: ذكّى الرجل وغيره إذا أسنّ؛ والأفلاء: جمع فلوٌّ، ولا تقل: فلواً، ويقال إنه قبل له فلوٌّ لأنّه افتلي عن أمّه أي أخذ وقطع، ومنه يقال: فليت رأسه بالسيف، والفوالي: نساءٌ يفلين ثيابهن ويطلبن ثيابهنّ ويطلبن هوامّ أبدانهن، يقال: تفلّى فلانٌ وتفلّت المرأة، وفلت الأمّ رأسها، وفلّت رأسها، والفلّ: القوم المنهزمون، والفلول: آثارٌ في السّيوف من طول الضّراب، وإيّاه عنى الشاعر: الطويل(8/128)
ولا عيب فيهم غير أنّ سيوفهم ... بهنّ فلولٌ من قراع الكتائب
أي لا عيب فيهم، لأنّ من هذا عيبهم فلا عيب فيهم. كما تقول: لا عيب له إّلا في كماله. وأما الفلّ - بكسر الفاء - فأرض لا تمطر وجعه أفلال، والفلال: المفالّة أي المقاطعة، واستفلّ فلانٌ فلاناً مجازه: أخذ منه حديثاً، وفلان لا يستفلّ صبر صدره، ولا يستغلّ عزم صدره، والفليلة: قطعةٌ من الشّعر جمعها فلائل، وفلّ فلانٌ غرب فلانٍ أي قطع حدّه، فأمّا فال يفيل في الرأي إذا زلّ، وفلانٌ فيّل الرأي وفائل الرأي، وفلانٌ يستفيل رأي فلانٍ، قال الشاعر في فال يفيل: الطويل
وسمّيته يحيى ليحيا فلم يكن ... إلى ردٌ أمر الله فيه سبيل
تيمّمت فيه الفأل حتى رزقته ... ولم أدر أنّ الفال فيه يفيل
والفائلان: عوقان مستنبطان الفخذين؛ وأمّا المهار فجمع مهرٍ وهو الذي لم يرض بعد ولم يركب، ويقال أيضاً: أمهار، وفي الحماسة: الكامل
يقذفن بالمهرات والأمهار
ويقال في الجمع فعالٌ كثيرٌ، ومنه رماحٌ وأرماح، وشرارٌ وأشرارٌ، وخيارٌ وأخيارٌ، وليس لباب الجمع قياس.
نظر رجلٌ زاهدٌ إلى آخر مغتمّاً بالرّزق فقال: أتوقن أنّك تعيش إلى غدٍ؟ قال: لا، قال: أفتخاف أن تعيش وليس لك رزق؟ قال: لا، قال: فأيّ شيءٍ تخاف؟ قال: أخاف أن يكون قليلاً، قال: أفخوفك هذا(8/129)
يذهب بقلّته ويأتيك بكثرته؟ قال: لا، قال: فأراك قد اتخذت الحزن ضجيعاً، والتحفت عليه بلا منفعة.
قال فيلسوف: أصاب الدّنيا من حذرها، وأصابت الدّنيا من أمنها.
قيل لزاهد: ما بال الشيخ أحرث على الدّنيا من الشّاب؟ قال: لأنه ذاق من طعم الدّنيا ما لم يذقه الشّاب.
عوتب سهيل بن عليّ في كثرة الصّدقة فقال: لو أراد رجلٌ أن ينتقل من دارٍ إلى دار، أكان يترك في الأولى شيئاً؟ لا والله.
دخل لصٌّ على بعض الزّهّاد فلم ير في داره شيئاً فقال: يا هذا أين متاعك؟ قال: حوّلته إلى الدار الآخرة.
ذكرت الدّنيا عند الحسن فقال: هو المحبوبة التي لا تحبّ أبداً، المزومة التي لا تلزم أحداً، يوفى لها فتغدر، ويصدّق لها فتكذب.
قال فيلسوف: لا تلبسوا اللّئام ملابس الحكم، فإنّ أجسادهم أخشن من أن تتزيّن ببرودها، ورقابهم أنذل من أن تتحلّى بعقودها.
للمأمون: السريع
أما ترى ذا الفلك السّائرا ... أبيت من همٍّ به ساهرا
مفكّراً فيه وفي أمره ... فما أرى خلقاً به خابرا(8/130)
يخبر عن لطف تدابيره ... وكيف أضحى للورى حاضرا
يا ليت شعري هل أرى مرّةً ... أكون في أبراجه سائرا
أكون مع طالعه طالعاً ... طوراً ومع غائره غائرا
حتى أرى جملة تدبيره ... وأعرف المستور والظّاهرا
قال أعرابيّ: ما كلّ رقبةٍ تحسن فيها القلائد، ولا كلّ نفسٍ تحتمل عليها الفوائد.
قال فيلسوف: لا تشمّ الأخشم ريحاناً، ولا تنل السّفية برهاناً.
قال أبو عبد الله بن حرون: دعا الرشيد بعبد الملك بن صالح وعنده ولاة أمره وقوّاد جنده، فجيء به يرسف في قيده، فلما مثل بين يدي الرشيد أنشد الرشيد: الوافر
أريد حياته ويريد قتلي ... عذيرك من خليلك من مراد
والله لكأني أنظر إلى شؤبوبها وقد همع، وإلى عارضها قد لمع، وإلى الوعيد(8/131)
قد أروى ناراً، فأقلع عن رؤوسٍ بلا غلاصم، ومعاصم بلا راجم؛ مهلاً مهلاً بني هاشم فبي سهل لكم الوعر، وصفا لكم الكدر، ونذار نذار من حلول داهيةٍ إدٍّ، خيوطٍ باليد، لبوطٍ بالرّجل.
فقال عبد الملك: يا أمير المؤمنين، أتكلّم فذّاً أم تؤاماً؟ فقال: بل فذّاً، فقال: اتّق الله يا أمير المؤمنين فيما استرعاك، ولا تجعل الشّكر بموضع الكفر لقول قائلٍ ينهس اللّحم، ويلغ الدّم، فوالله لقد حدوت القلوب على طاعتك، وذلّلت الرجال بمحبّتك، وكنت في ذلك كما قال أخو بني كلاب: الرمل
ومقامٍ سيّءٍ فرّجته ... بلساني ومقامي وجدل
لو يقوم الفيل أو فيّاله ... زلّ عن مثل مقامي وزحل
فأمر به فردّ إلى محبسه ثم قال: لقد دعوت به وأنا أرى مكان السيف من صليف رقبته ثمّ ها أنا قد رثيت له، وليس من الاحتياط أن يترك.
489ب - تفسير حروفٍ في هذا الكلام للرشيد قد اشتمل على عربيّةٍ علويّةٍ، وقد روي أوّل الكلام لعبد الحميد، والنسب إليه أكثر، وهو به أليق، وماأضع بهذا من الرشيد، ولكن للصناعة موضعٌ لا تأتي عليه الخلافة: أما قوله يرسف فمعناه: يمشي مشي المقيّد، وصورته شائعة لأنّ المقيّد يقصر خطوته، يقال منه: رسف - بالسّين غير معجمة -؛ والماشي كذلك راسفٌ.(8/132)
وأما قوله مثل بين يديه فمعناه وقف وقام، وكأنّه صار مثالاً، لأنّ المثال يقابل المماثل، وقيل في قوله: " مثلهم في التّوراة ومثلهم في الإنجيل " أي صفتهم، وجمع المثال مثل؛ وفيما ترجم من كلام أفلاطون أنّ الأشياء قبل الوجود كانت مثلاً في نفس الباري، فعلى ذلك اخترعها، وهذا رأيٌ فاسدٌ خيالٌ مضمحلّ لأنّ قوله: الأشياء قبل الوجود باطلٌ عنده، لأنّ القبل من الأشياء، ويستحيل أن تكون الأشياء تسبق شيئاً من جملة الأشياء، وهذا لا قوام له من العقل، وقوله: قبل الوجود مغالطةٌ لأنّ الوجود أيضاً مغمورٌ بالاسم العامّ للأشياء، وأما قوله: مثلاً في نفس الباري، فما أبعد هذا من الحقّ، هل كانت المثل - إن كانت أيضاً - إلاّ أشياء، وكأنّه قال: الأشياء كانت أشياء في نفس الباري، ومتى جاز مع هذا أن تكون نفس الباري ظرفاً للمثل، لأن قوله: في نفس الباري، وامئٌ بهذا، ومشيرٌ إلى هذا، وعاطفٌ على هذا، فإن كان ضيق العبارة أفضى به إلى هذا، فليأت ببيان أتمّ من هذا، وباعتذارٍ يقرّب هذا، وليس الفنّ غرضي هاهنا، ولكن عنّ هذا على عادة ما تضمّن هذا الكتاب، فتكلمت حسب الطاقة، نافياً عن الله المستحيل، وناصراً للتوحيد.
وجمع المثال: أمثال، وجمع الأمثال: أمثلة " وضرب الله مثلاً " أي بيّن الله أمراً في معرضٍ ليس عندكم، وعلى هذا تقول لصاحبك: إنّما مثلك مثل رجلٍ قال كذا وفعل كذا، ويقول كذا ويفعل كذا، فيعرض شأنك عليه في صورةٍ يسرع إليها وهمه، ويقرب منها فهمه، فتسقط المنازعة ويتسهّل المراد.
فأما البيت فقديم، أعني الذي أنشد الرشيد، وسمعت بعض الشّيعة يقول: البيت لعليّ بن أبي طالب رضي الله عنه قاله لعبد الرحمن بن ملجم لعنه(8/133)
الله، حين علم أنّه ضاربه على هامته، وسائلٌ دمه على شيبته، قال: والدليل على ذلك قوله من مراد، وعبد الرحمن مراديّ، وأصحابنا يأبون هذا الكلام، ويقولون: البيت لعمرو بن معدي كرب، وقد جاء في ديوانه، ولكنّ الشيعة إذا سمعوا هذا الكلام رموا قائله ببغض عليٍّ، وقذفوه بكلّ قبيح، والفتنة منهم شديدة، والبلاء عظيم، ولو لم يكن من عجائبهم إلاّ تشريف عليّ، ونشر فضائله، والاقتداء بأفعاله، لكان ذلك حقّاً وصدقاً وطاعةً، ولكن يتّصل بهذا ما يهدم هذا، ونعوذ بالله من الحور بعد الكور.
وأمّا نصبه عذيرك فإجماعٌ من النّحويين، قالوا: معناه من يعذرك، وإنّ الفعل أوجب النّصب لأنّك لو خفضت بغير خافضٍ ولو رفعت استحال خبراً، وليس الغرض المرميّ ولا المراد المغزوّ أن يكون عذيرك من خليلك من مراد، فلما بطل الوجهان صحّ الثالث أعني النّصب، كأنّه أريد به خيراً ويريد بي شرّاً، أي هات الآن من يعذرك ومن عاذرك، وكأنّ العذير هاهنا فعيل بمعنى فاعل، ولهذا نظائر.
وأما قوله شؤبوبها فجمعه شآبيب وهي الدّفع، ويسمع أيضاً في وصف الناس، يقال: خرجت في شؤبوبٍ من الناس أي دفعة، في قطعةٍ، في فوجٍ.
وأمّا قوله قد همع فمعناه سال، وأمّا العارض فهو الذي يستطير من البرق كأنّه يعرض أو يطول لأنه يكون ذا طولٍ مرّةً وذا عرضٍ مرّةً. لمع معناه لاح وأخذ العين، ويقال: التمع فلانٌ إذا أبصر شيئاً يحسر عينه، ومعناه يكلّ أي يأخذ حدّتها ويذهب بضيائها ويفرق شعاعها، والشّعاع إذا تفرّق من منبثّ البصر كلّ الناظر، وصار المغرب من الناس - أعني من اشقرّت أهداب(8/134)
عينه، وإن قيل: أشفار على الجوار جاز - لا يجود إبصاره، لأنّ شفر عينه يفرّق الشّعاع المنبثّ المضاء، فأمّا السّواد فجامعٌ لأقطار الضوء وناظمٌ ما تفرّق من النّور، ومسدّدٌ بالنظر نحو المقابل، وهذا أيضاً تطويلٌ لا يدخل فيما نحن منه بسبيل، فما أصنع وحلاوة الحديث قد أخذت بسمعي وبصري، وعرّضتني للائمة من يعزّ عليّ؟ وأمّا قوله أورى ناراً فمعناه استخرج، يقال: ورت النار ووريت، يقال في كلام العرب: وريت بك زنادي، وزهرت بك ناري، فأمّا وراني ورياً، ينصبون على مذهب الدّعاء، أي ألزمك الله تعالى هذا، وفي خلافه يقولون: عمراً وشباباً.
فأما الغلاصم فجمع غلصمة، وهي العجر التي على ملتقى اللهاة والمريء، إذا ازداد الآكل اللقمة فزلّت عن الحلق ودخلت في الغلصمة، والحنجرة رأس الغلصمة؛ هذا لفظ الأصمعي.
وأما المعاصم فجمع معصمٍ وهو موضع السّوارين وأسف ذلك قليلاً.
وأما البراجم واحدتها برجمةٌ، وهي ملتقى رؤوس السّلاميات من ظهر الكفّ، إذا قبض الإنسان كفّه نشزت وارتفعت، وبها سمّيت البراجم من بني تميم؛ هذا أيضاً لفظ الأصمعي.
وأما قوله الوعر فالخشن، ولا يقال إلاّ في الطريق، ولا يقال في الثوب الخشن وعرٌ لا مجازاً ولا تحقيقاً، يقال: طريقٌ وعرٌ. وقد سمع وعرٌ - بحركة العين -، وطرقٌ أوعارٌ، ورأيت شاعراً قال: طرقٌ وعرٌ، فعيب عليه وقيل له: أنت لا تقول: قومٌ قائمٌ، لا تصف الواحد بصفة الجماعة، ولا تصف الجماعة بصفة الواحد، فقال: أنتم لا تقولون قومّ نائمٌ وقد قال الله تعالى: " فوجٌ مقتحمٌ "، ودار الكلام وانتهى.
وأما قوله نذار فمعناه النّذير والإنذار، وكأنّ الإنذار إعلامٌ إلا أنه مع(8/135)
تحذير، وليس كذلك التّبشير، فإنه مقصورٌ على إعلام الخبر، وسمعت من يقول: فلم قال الله تعالى: " فبشّرهم بعذاب أليم " وهذا محذورٌ، فقلت: أرجو أن أحكيهما لك وأعرضهما على عقلك، ليكونا عندك: إنّما قال الله لهم ذلك على وجه التّهزّؤ بهم، ألا ترى أنه قال تعالى: " ذق إنك أنت العزيز الكريم " وهو الذّليل اللئيم، كما تقول للرجل: يا عاقل، كانياً عن حمقه، لأنّك تكره اللفظ لبشاعته، وتضمر المعنى للحاجة إليه، ولو أفصحت باللفظ الأخصّ عن المعنى الأخصّ عاد سفهاً وصار خصومةً. والجواب الآخر أنه قال: إنّ هذا الإعلام قد تعلّق بخبرٍ لأنّه قد حاشهم إلى الجنّة بهذا التحذير، ويقال: معنى بشّرته أي أظهرت على بشرته ذلك.
وأما كسر نذار فبناءٌ، نظيره: حذار ونزال وتراك، وقطام وحذام وقيل: إنهم أشارو بهذا البناء إلى تكرير الفعل كأنّهم قنعوا به عن قولهم: احذر، واترك، والله أعلم.
وأمّا قوله داهيةٍ إدّ فهي الشّديدة، من قولهم: آدني الأمر أي أثقلني، يؤودني، وقد ردّ هذا جماعةٌ من العلماء وقالوا: لا يكون منه إدّ إنما يكون آيدٌ، مثل قال يقول فهو قائلٌ، وأدري يأدو إذا قتل الصيد فهو آدٌّ، يا هذا، وقد يلتبس الأمر على من لم يكن ذا مهارةٍ في هذه المواضع الخفيّة؛ وكان القاضي أبو حامد يقول: من كان نصف طبيبٍ فإنّه يقتل العليل، ومن كان نصف فقيهٍ فإنّه يحلّل المحرّم، ومن كان نصف نحويٍّ فإنّه يلحن أبداً، ومن كان نصف لغويٍّ فإنه يصحّف أبداً؛ هذا قوله وليس الكمال مأمولاً للخلق، لكنّ الحكم للغالب الأكثر، والشائع الأفشى.
وأما قوله خبوطٍ باليد فهو ضروبٌ باليد على جهلٍ بمواضع الضّرب، وكذلك اللّبوط بالرّجل.
وأمّا قوله أتكلّم فذّاً فالفذّ الواحد، ولا يطلق في ذات الله تعالى الواحد(8/136)
الفرد، ولا ندري لم ذاك، ويطلق الوتر وإن لم يكن واحداً بالإطلاق، بل يكون واحداً وثلاثةً وخمسةً وسبعةً، وعلى هذا جرّاً؛ وأما الفرد في أسماء الله تعالى فسائغٌ شائع. قال أبو حامد: ولا يقال في الله تعالى هو فريدٌ وحيدٌ، وإن قيل فردٌ واحدٌ، ولم يوضح وجه المنع من ذلك، والنّفس تشهد بصحّة ما قال، ولكنّ البرهان مفقود، وشهادة النّفس مع فقد الدليل كصدودها بعد ظهور الدّليل.
وأمّا قوله تؤاماً فإنّ أصحابنا يقولون هذا خطأ، لأنّ الواحد لا يكون تؤاماً، إنّما يكون الاثنان توأمين، هكذا قال يعقوب: هذا توأم هذا، أي هذا ولد مع هذا، واعتذر لعبد الملك بعض أصحابنا فقال: لعله أراد تؤاماً على الجمع كما قال الشاعر: الرجز
قالت لنا ودمعها تؤامُ ... كالدّرّ إذ أسلمه النّظام
على الذين ارتحلوا السّلام
قال: كأنه أراد بالتّؤام التّوائم، والتّؤام في شعر المرقّش الأصغر: ودرّاً توائماً، كأنّه جمع تائمةٍ وإن لم يسمع.
وأما قوله نهس اللحم فمعناه يأخذه بأسنانه ومقاديم فمه، ومنه: تناهست الكلاب الجيفة، وجمعها جيفٌ.
وأمّا قوله يلغ الدم فهو من نعت الكلب إذا احتسى الدم وجرع فيه، والميلغة: ما يلغ فيه الكلب، اللام مفتوحة، والمولغ: صاحب الكلب، والوالغ والمولغ: الكلب، وفي الناس استعارةً إذا كثر سفكهم للدماء. والشافعي يروي خبراً في نجاسة الكلب، ويوجب غسل الآنية من ولوغه سبع مرّات، أولاهنّ أو أخراهنّ بالتراب، وأبو حنيفة يواطئه على النّجاسة ولا(8/137)
يغسل هكذا، ويرى له ثمناً، والشافعي يرى له قيمةً لنجاسة عينه، ومالكٌ يرى أنّ الكلب طاهرٌ ولحمه مأكولٌ، ووجوه اختلاف الفقهاء متقاربةٌ، وأدرّتهم مستوسقة، وإنّما البلاء كلّه من أصحاب الكلام الذي يظنّون أنّ التوحيد لا يصحّ إلا بنظرهم، والدّين لا يثبت إلاّ بنصرتهم، والحقّ لا يعرف إلاّ بمقاييسهم، وهم عن أسرار التوحيد في أبعد مطرحٍ وأنأى منزح، والله تعالى أجلّ من أن يصحّح توحيده عقول خلقه، ومقاييس عباده، وظنون العاجزين عن الحقائق، وآراء المضروبين بالنّقص.
وأنشد لأبي علي البصير: الهزج
أتينا بعدكم مكّ ... ة حجّاجاً وزوّارا
وحرّمنا لربّ النّا ... س أشعاراً وأبشارا
ولبّيناه لا نسأ ... م إقبالاً وإدبارا
لكي يغفر إنّ الل ... هـ قدماً كان غفّارا
وقلّدنا وسقنا البد ... ن قد أشعرن إشعارا
ومن جمعٍ تزوّدنا ... إلى الجمرة أحجارا
ومسّحنا من الكعب ... ة أركاناً وأستاراً
وجئنا القبر قبر المص ... طفى أحمد زوّارا
وقال الناس هل أحد ... ث هذا لك إقصارا
وهل أحسنت للتّوب ... ة من قلبك إضمارا
فلمّا شارف الحير ... ة حادي إبلي حارا
وقد كاد يغور النّج ... م للإصباح أو غارا
فقلت أحطط به رحلي ... ولا تحفل بمن سارا
فجدّدنا عهوداً س ... لفت منّا وآثارا
وقضّينا لباناتٍ ... لنا كانت وأوطارا(8/138)
وما ذقنا بها لهواً ... وبستاناً وخمّارا
إذا حكّمته جار ... وإن حاربته جارا
فما ظنّك بالحلفا ... ء أدنيت لها النّارا
كشفنا لك أخباراً ... ودامجناك أخبارا
قال أبو عمر الجرمي: الحلفاء: نبتٌ؛ والقبعثري: الجمل الشّديد، والأنثى: قبعثراة؛ واليعملة من النّوق: السّريعة؛ واليرمع: الحجر وغيره، وهو الحجر الليّن؛ والحديبة: الأرض الغليظة؛ والقرنوة: نبات، والعضرفوط: ذكر العظاء؛ والأفكل: الرّعدة، وزيادة الهمزة والميم غير أول من الشّاذ القليل نحو: شمأل يريدون الشمال، وزرقم: يريدون الأزرق؛ والعنسل: النّاقة السّريعة، وكذلك العسول؛ والجحنفل: الجبل العظيم، مأخوذٌ من الجحفل، وهي الكتيبة؛ والرّعشن: مأخوذ من الارتعاش؛ والعرضنة: مشيةٌ فيها اعتراضٌ من المرح؛ والعقربان: دخّال الأذن، وقيل: ذكر العقارب؛ والشّطب: شجر؛ قال والمرمريس من المراسة، يقال: داهيةٌ مرمريس إذا كانت شديدة، زيدت في موضع الفاء فموضعها فعفعيل.(8/139)
قيل لأبي حاتم: من أشعر الناس؟ قال: الذي يقول: الخفيف
ولها مبسمٌ كغرّ الأقاحي ... وحديثٌ كالوشي وشي البرود
نزلت في السّواد من حبّة القل ... ب ونالت زيادة المستزيد
عندها الصّبر عن لقائي وعندي ... زفراتٌ يأكلن صبر الجليد
قال أعرابيّ: خرجت في ليلةٍ حندسٍ قد ألقت أكارعها على الأرض فمحت صور الأبدان، فما كنّا نتعارف إلاّ بالآذان، فسرنا حتى أخذ الليل صبغه.
لأعرابيّ كان يتعشّق امرأةً: المتقارب
وأحلى من الشّهد موعودها ... وأكذب من بارقٍ خلّب
وأدنى إلى المرء من نفسه ... وأبعد وصلاً من الكوكب
قال ثعلب: النّدمان واحدٌ وجمعٌ: من نادمك؛ قال ابن درستويه: لا يجوز جمع ندمان على ندمان، وإنما ندمان واحد، وجمع نديم: ندمان بكسر النون، فأمّا ندمان فلا يكون جمعاً، وجمع النّدمان ندامى، ويقال: فلانٌ حسن الندامة والرّدافة.
العرّ: الجرب، والعرّ: تسلّخ جلد البعير، وإنّما يكوى من العرّ، ولا يكوى من العرّ؛ الثّماليل: العطبة التي تأخذ فيها النار.(8/140)
لابن شماس السّعدي: الرجز
قد أغتدي والليل في جريمه ... معسكراً نشّم في أديمه
يدعّه بضفّتي حيزومه ... دعّ الصّبيّ لحيتي يتيمه
شاعر: الرجز
ألمّ بزينب بالرّكب لمم ... قد برحاها بالفؤاد وحلم
ولم يكن خيالها إذا ألم ... يلمّ إلاّ بعفافٍ وكرم
قال فيلسوف: قس شبرك بفترك، لعلّك تصيب مكان رشدك.
قرئ من قبر يعقوب بن اللّيث الصفّار: الطويل
سلامٌ على الدّنيا وطيب نعيمها ... كأن لم يكن يعقوب فيها مملّكا
كأن لم يقد جيشاً من الدّهر ساعةً ... ولا رام ما رام الرجال مصعلكا
وقرئ على قبر البصري العلويّ صاحب الزّنج: الطويل
عليك سلام الله يا خير منزلٍ ... رحلنا وخلّفناك غير ذميم
فإن تكن الأيام أحدثن فرقةً ... فمن ذا الذي من رميها بسليم
وأمر أبو العتاهية أن يكتب على قبره: الخفيف المجزوء(8/141)
أذن حيٍّ تسمّعي ... ثم عي بعده وعي
أنا رهنٌ بمضجعي ... فاحذري مثل مصرعي
ليس زادٌ سوى التّقى ... فخذي منه أو دعي
ليس ميتٌ براجعٍ ... كيف ما شئت فاصنعي
شاعر: الكامل المجزوء
كنت السّواد لمقلتي ... فبكى عليك الناظر
ما شاء بعدك فليمت ... فعليك كنت أحاذر
آخر: البسيط
تطاول الليل لا تسري كواكبه ... أم حار حتى حسبت النّجم حيرانا
فأجابه آخر: البسيط
ما طال ليلي ولا حارت كواكبه ... ليل المحبّ طويلٌ حيث ما كانا
قال أبو سعيد الخرّاز، قال أبو عبد الله ابن الجرّاح: قصدني(8/142)
أحمد بن حنبل فسألني أن أخرج إليه شيئاً من العلم، فأخرجت إليه كتاب العقل لداود بن المحبّر، فانتخب منه أحاديث وردّ الكتاب، فسألته عن ذلك فقال: لم أر فيه أحاديث صحاحاً، قال ابن الجرّاح: كلّه صحيح، قال أحمد: ومن أين عرفت؟ قال لأني استعملته فوجدته كلّه صحيحاً، فقال ردّ الكتاب إليّ حتى أنتفع به كما انتفعت.
قال أنس: خطبنا رسول الله صلّى الله عليه وسلّم على ناقته الجدعاء وليست بالعضباء فقال: " أيّها النّاس كأنّ الموت فيها على غيرنا كتب، وكأنّ الحقّ فيها على غيرنا وجب، وكأنّ الذي يشيّع من الأموات سفرٌ عمّا قليل إلينا راجعون، نبّوئهم أجداثهم ونأكل تراثهم كأنّا مخلّدون بعدهم، قد نسينا كلّ واعظة، وأمنّا كلّ جائحة، طوبى لمن شغله عيبه عن عيوب الناس، وأنفق من مالٍ كسبه من غير معصية، ورحم أهل الذّلّ والمسكنة، وخالط أهل الفقه والحكمة، طوبى لمن أذلّ نفسه، وحسّن خليقته، وأصلح سريرته، وعزل عن الناس شرّه، طوبى لمن عمل بعلمه، وأنفق الفضل من ماله، وأمسك الفضل من قوله، ووسعته السّنّة، ولم يتعدّها إلى البدعة ".
قال هبيرة بن خزيمة: أتيت الربيع بن خثيم بني الحسين بن علي رضوان الله عليهما، وقلنا: اليوم يتكلّم، فقال: أقتلوه؟! - ومدّ بها وصوته - اللهمّ فاطر السماوات والأرض، عالم الغيب والشّهادة، أنت تحكم(8/143)
بين عبادك فيما كانوا فيه يختلفون.
قال شعيب بن حرب: إن كنت تريد أن تكون عالماً فسلّس للعمل قيادك، وسلّ عن الجهل فؤادك، واجعل هواك تبعاً للعلم.
قال يوسف بن أسباط: كأنّ القوم ألهموا العلم وأبكموا الكلام، ونحن ألهمنا القول وأبكمنا العمل.
قال ابن أبي نجيح: لقي أبي طاووس فقال له أبي: إن لقمان قال: إنّ الصّمت حكمٌ وقليلٌ فاعله، فقال طاووس: يا أبا نجيح، إنّ من تكلّم واتّقى الله خيرٌ ممن صمت واتّقى الله.
قال الأحنف: الصّمت لا يعدو فضله صاحبه، والكلام ينتفع به من يسمعه، ويرجع إليه فضله.
قال ابن الكوّاء للرّبيع بن خثيم: ما نراك تذمّ أحداً، قال: ويلك يا ابن الكوّاء ما أنا عن نفسي براضٍ فأتحوّل عن ذمّي إلى ذمّ الناس؟! إنّ الناس خافوا الله تعالى على ذنوب العباد وأمنوه على ذنوبهم.
وقال الرّبيع: ذروا ما قد علمتم وكلوا ما قد جهلتم إلى عالم(8/144)
الخير، فما كلّ الذي نزل على محمد صلّى الله عليه وسلّم علمناه، ولا بالذي علمنا عملنا، وما نتّبع الخير حقّ اتّباعه، وما نتّقي الشّر حقّ تقاته، وما خيارنا اليوم بخيار، ولكنّهم خيرٌ ممّن هو شرٌّ منهم.
قال بشّار: من جيّد قولي: الرمل
أنفس الشّوق ولا ينفسني ... وإذا قارعني الهمّ رجع
أصرع القرن إذا نازلته ... وإذا صارعني الخبّ صرع
عمرك الله أما تعرفني ... أنا حرّاث المنايا في الفزع
أنا كالسيف إذا وادعته ... لم يروّعك وإن هزّ قطع
قال أبو عمرو بن العلاء، قال محمد بن عبد العزيز: تعلّموا العلم فإنّه زينٌ للغنيّ، وعونٌ للفقير، إني لا أقول يطلب به ولكن يدعوه إلى القناعة.
قالت عائشة: سألت رسول الله صلّى الله عليه وسلّم عن يوم تبدّل الأرض غير الأرض والسماوات، أين يكون الناس؟ فقال: " على الصّراط ".
قال أعرابيّ: أبناء دينك آنس بك من أبناء نسبك.
أصاب وجه سعيد بن جبير شيءٌ من سواد القدر، فقالت له ابنته: ما هذا السّواد الذي أراه بوجهك؟ فصاح وسقط مغشيّاً عليه، فلمّا أفاق سئل عن ذلك فقال: خفت الله أن يكون قد سوّد وجهي في الدّنيا قبل الوصول إلى الآخرة.
قال أحمد بن أبي الحواري: سألت أبا سليمان الدّاري عن قوله: إذا استكملت المعرفة في القلب سلب العارف العمل.(8/145)
ما كان أحوج أبا سليمان أن يوضح علّة هذا فإنّه شنيع، وقد رأيت من أبناء التصوّف من هجر العبادة بمثل هذا القول، وإذا أفردنا الكلام في فنونهم أتينا على شبههم بظنونهم إن شاء الله.
قال فيلسوف: اعتقد لولدك كتب آدابٍ تنعم أرواحهم، لا عقد مالٍ تنعم أشياحهم.
قيل لأعرابيّ: هل تحدّث نفسك بدخول الجنّة؟ قال: والله ما شككت قطّ أنّي سوف أخطو في رياضها، وأشرب من حياضها، وأستظلّ بأشجارها، وآكل من ثمارها، وأتفيّأ بظلالها، وأترشّف من قلالها، وأستمتع بحورها في غرفها وقصورها، قيل له: أفبحسنةٍ قدّمتها أم بصالحةٍ أسلفتها؟ قال: وأيّ حسنةٍ أعلى شرفاً، وأعظم خطراً من إيماني بالله تعالى، وجحودي لكلّ معبودٍ سوى الله تبارك وتعالى، قيل له: أفلا تخشى الذّنوب؟ قال: خلق الله المغفرة للذنوب، والرحمة للخطأ، والعفو للجرم، وهو أكرم من أن يعذّب محبّيه في نار جهنّم، فكان الناس في مسجد البصرة يقولون: لقد حسن ظنّ الأعرابيّ بربّه، وكانوا لا يذكرون حديثه إلا ّانجلت غمامة اليأس عنهم، وغلب سلطان الرّجاء عليهم.
يقال: ما المعذول، وما المعدول، والمعلول، والمعبول، والمعتول، والمعزول، والمفضول، والمقلول، والمسلول، والمشلول، والمطلول، والمهبول، والمهطول، والمعقول، والمألول، والمقذول، والمفلول، والمغلول، والمكبول، والمضلول، والمغمول، والمعسول، والمغسول، والمفسول، والمقصول، والمسمول، والمنصول، والمغزول، والمتلول، والمبلول، والمثلول، والمجلول، والمحلول، والمخلول، والمدلول،(8/146)
والمرمول، والمزمول، والمشمول، والملمول، والمملول، والموبول، والمهزول، والمأبول، والمرطول، والمتبول، والمنسول، والمنحول، والمبتول، والمنبول، والمنجول، والممطول، والمقبول، والمنضول، والمكفول، والمنزول، والمأمول، والمأزول، والمشكول، وسيمرّ لك شرح هذه الكلمات على إيجازٍ، فإنّ الأطناب فيه يثقل عليك، ويوكل الضجر بك، وأكثره عتيدٌ عندك: أمّا المعذول فالملوم، يقال: عذلته أعذله - الذّال مضمومة - عذلاً، والعواذل جمع عاذلة، وأبو العواذل من أدباء الجبل، واعتذل فلانٌ إذا قبل العذل وأصغى إليه.
وأمّا المعدول - من العدل - فهو للمال، يقال: عدلته فاعتدل وانعدل، ويقال: فلانٌ يعدل عندي ابني، أي يكون عدل ابني، أي مثل ابني، والأعدال جمع عدلٍ، لأنّ الحمل عدلان، وكلّ واحدٍ من العدلين مثل صاحبه.
وأمّا المعلول فما عللته من الشّراب، وهو سقيك الماء مرّةً بعد أخرى، وشربه ثانيةً بعد أولى، وقول المتكلّمين خطأ من العلّة.
وأمّا المعبول فهو من عبلك الشجرة، وهو هزّ ك أغصانها وخبطك ورقها.
وأمّا المعتول فالمدفوع، من قوله: " فاعتلوه إلى سواء الجحيم "، والتاء تضمّ وتكسر، والعتلّ: الضخم، كأنّه الجافي الشديد، والعتلة: فأسٌ عظيمة.
وأمّا المعزول فمعروف، يقال: عزل الوالي أي صرف عن عمله، وانعزل فلانٌ خطأ، وكان السّيرافي يأباه ونظائر له، كقول العامة ينذبح وينقتل وينحفظ وينضبط وينصرع، وقال غيره: جائزٌ مقبول.
وأمّا المفضول فمن قولك: فاضلته ففضلته، فأنا فاضلٌ وهو مفضول، وقولهم: فلانٌ يقول بإمامة المفضول، هذا يراد به كأنّ أبا بكرٍ قد فضله عليٌّ فهو مفضولٌ، لكنّه إمام، ولولا التباعد من حومة ما نحن عليه لسقنا الكلام في(8/147)
الفضل ما هو، والفاضل من هو، والمفضول كيف هو، وإن أمكن ذلك أتينا به متوخّين فائدتك إن شاء الله.
وأما المقول فالذي تضرب قلّته، لا أعرف غيرذلك، وسألت السّيرافي فقال: قول العامة هذا على المقلول خطأٌ لا وجه له في العربية البتّة.
وأمّا المسلول فالمستخرج بالجذب، يقال: غلامٌ مسلول، وسلّت بيضتاه، ويقال: رجلٌ مسلولٌ إذا ناله السّلّ، وهو داءٌ يدقّ به الجسم ويذوب معه البدن.
وأمّا المشلول فمن قولك: شلّ العير أتنه إذا طردها وكسعها وكذلك الشّجاع إذا هزم منازله، ويقال: شللت الثوب إذا لقطت بإبرتك غرزها دفعةً واحدة ولم تفرد.
وأمّا المطلول فهو الذي أصابه طلٌّ، يقال: دمٌ مطلولٌ أي باطلٌ لا طالب له.
وأمّا المهبول فالمفقود بالموت، يقال هبلته أمّه إذا ثكلته، والولد مهبول.
وأمّا المهطول فهو مكانٌ أتى عليه مطرٌ هاطل.
وأمّا المعقول فالمشدود بالعقال، والمعقول: هو العقل أيضاً، وقيل: سمّي العقل عقلاً لأنّه يحبس صاحبه عن التقحّم.
وأمّا المألول فهو من تضربه بالألّة وهي الحربة، فأنت آلٌّ.
وأمّا المقذول فمن تضرب قذاله، وهو ما اكتنف قفاه.
وأمّا المفلول فهو المكسور.
وأمّا المغلول - بالغين - فمن علّق على عنقه الغلّ، أو غلّت يده، قالت اليهود: " يد الله مغلولةٌ " كأنّها كفّت عن ضيق الرّزق.
وأمّا المكبول فالمقيّد، والكبل: القيد.
وأمّا المضلول فمن قولك: ضاللته فضللته أي كنت أضلّ منه.(8/148)
وأمّا المغمول فالمغطّى المستتر.
وأمّا المعسول فما خلط به العسل.
وأمّا المغسول - بالغين - فمعروف.
وأمّا المفسول - بالفاء - فهو الرّذل الفسل، وهو الرّكيك الرأي الذي لا خير عنده ولا غناء البتّة، وقولك: البتّة بالفتح، والتعريف لا وجه له غير ذلك، هكذا قال الخليل.
وأمّا المقصول فالمقطوع، والقصيل هو الحشيش لأنّه مقطوع.
وأمّا المسمول فإنّه يقال: سمل السلطان عين فلانٍ إذا أعماه، ولا يقال ذلك حتى يدخل ميلٌ قد أحمي في عينيه.
وأمّا المنصول فما أصلحت عليه نصلك، وهو في السّهم أشيع.
وأمّا المغزول فهو من غزلت المرأة قطنها، وكأنّ قولهم: غازلت المرأة أي مايلتها في الغزل أي قاربتها في فعلها حتى ختلتها وخلبتها من هذا، ومعنى خلبتها أصبت خلبها، والخلب: غشاء القلب.
وأمّا المتلول فمن قوله تعالى: " وتلّه للجبين " أي صرعه، وأنت التّالّ يا هذا وهو متلول.
وأمّا المبلول فمن بللت الشيء بلاًّ، والبلّة حالةٌ، والبلال منه.
وأمّا المثلول فمن قولك: ثلّ الله عرشهم إذا حطّه وهدمه.
وأمّا المجلول فمن قولك جلت الشاة طعمها: إذا أخذته وأكلته.
وأمّا المحلول فمن حللت أحلّ إذا فتحت أو أنزلت أيضاً، والحلال منه لأنه مفتوح مأخوذ، والحلال - بكسر الحاء - النازلون.
وأمّا المخلول فما شددته بالخلال.
وأمّ المدلول فمن دللته على شيءٍ فهو مدلولٌ وأنت دالٌّ.
وأمّا المرمول فما أصلحت من الخوص.
وأمّا المزمول فما زملته أي حملته، وكذلك ازدملته.(8/149)
وأمّا المشمول فما أصابه الشمأل، وهو أيضاً من شمله الشيء - بكسر الميم - وهو أفصح، وقد أجاز الفتح يعقوب.
وأمّا الملمول فمن قولك: ململته أي أقلقته.
وأمّا المملول فمن الملل، معروفٌ.
وأمّا الموبول: فمن الوبل، يقال: وبلت هذه الأرض إذا مطرت وبلاً، وقولهم: استوبلت هذه الأرض: استكثرت وبلها فكرهتها، وطبرستان كذلك، واجتويتها إذا كرهتها مع مدافعتها.
وأمّا المهزول فمن قلّ لحمه وذهب سمنه، وسمعت بدوياً يقول: هذا كلامٌ مهزولٌ، وهو استعارة.
وأمّا المأبول فمن أبل يأبل، إذا قام بالإبل وأحسن رعيها، يقال: فلانٌ من آبل الناس.
وأمّا المرطول فمن قولك: رطلته، أي أخذته بيدك وقدّرت وزنه.
وأمّا المبتول فالمقطوع.
وأمّا المنسول فما نسلته الناقة وغيرها.
وأمّا المنحول فمن قولك: نحلت فلاناً كذا وكذا، إذا وهبته له أو نسبت إليه كلاماً.
وأمّا المتبول فمن التّبل وهو الحقد.
وأمّا المنبول فالذي يرمى بالنبل، وأنت النّابل والنّبّال.
وأمّا المنجول فمن قولك: نجله بالرّمح أي طعنه، ونجّله.
وأمّا الممطول فمن تدافعه بماله عليك، وتطيل زمان تردّده إليك.
وأمّا المقبول فمن قولك قبلته قبولاً.
وأمّا المنضول فمن قولك: ناضله فنضله، والنّضال: الرّمي، قال الشاعر: الطويل(8/150)
ولكنّ عهدي بالنضال قديم
وأمّا المكفول فمن كفلته، قال الله تعالى: " وكفّلها زكريّا " وكفلت به إذا صرت كفيلاً، والله تبارك وتعالى كفيلٌ أي كافل، فهو فعيل بمعنى فاعل.
وأمّا المنزول فالمكان تنزله.
وأمّا المأمول فالمرجوّ.
وأمّا المأزول فالمحبوس، يقال: أزلوا مالهم أي حبسوه عن المرعى.
وأمّا المشكول فما شددّته بشكالٍ كالدّابة، وكذلك شكلت الكتاب وأعجمته.
وقد أتينا على هذه الحروف حسب الطاقة، فخذ ما حلا بعينك، وراق قلبك، وقوّم أوداً إن مرّ بك، واجبر نقصاً يظهر لك، وكن للخير أهلاً، وبالجميل خليقاً.
وقف رجلٌ على عبد الله بن عمر بن الخطّاب فقال: يا أبا عبد الرحمن، هل كان عثمان ممّن شهد بدراً؟ فقال: لا، فرفع الرجل صوته وقال: الله أكبر، قال: هل كان عثمان ممّن تولّى يوم التقى الجمعان؟ فقال عبد الله: اللهمّ نعم، فقال الرجل: الله أكبر، ثم قال: هل كان عثمان ممّن شهد بيعة الرضوان؟ قال عبد الله: اللهمّ لا، فرفع الرجل صوته وقال: الله أكبر، ثم ولّى الرجل فقال عبد الله: ردّوه عليّ، فلمّا وقف قال له عبد الله:(8/151)
وأمّا قولك هل كان عثمان ممّن شهد بدراً فإنّه لمّا أذن رسول الله صلّى الله عليه وسلّم في الخروج إلى بدر، استأذنه عثمان في المقام على بنت رسول الله صلّى الله عليه وسلّم في المرض الذي ماتت فيه، فأذن له، فلما فتح الله تعالى عليه ضرب لعثمان بسهمٍ، ثم قال له عثمان: وأجري يا رسول الله، قال " وأجرك "، وكان ممن شهد بدراً.
وأمّا قولك: هل كان عثمان ممّن تولّى يوم التقى الجمعان فإنّ الله تعالى يقول في كتابه: " إنّ الذين تولّوا منكم يوم التقى الجمعان إنّما استنزلهم الشّيطان ببعض ما كسبوا ولقد عفا الله عنهم ".
وكان عثمان ممّن شهد بيعة الرّضوان فإنّ رسول الله صلّى الله عليه وسلّم لمّا خرج معتمراً إلى مكّة ومنعته قريشٌ أن يدخل إلى مكّة قال لأبي بكر: " اذهب إلى قريشٍ فقل لهم: دعونا حتى ندخل فنطوف سبعاً وننحر هدينا ونخرج عنهم "، فقال له أبو بكرٍ: إنه ليس لي بها عشيرة، فلو أرسلت عمر بن الخطّاب، فقال لعمر: فقال عمر: إنّي أخافهم على نفسي، فلو أرسلت عثمان فإنّ له بها عشيرة، فقال لعثمان، فذهب عثمان إلى قريشٍ وواعده العصر، فلمّا صلّى النبيّ صلّى الله عليه وسلّم وعلى آله خشي أن يكون عثمان قد احتبس، فدعا رسول الله صلّى الله عليه وسلّم أصحابه للبيعة فبايعوا، فقال رسول الله صلّى الله عليه وسلّم: " هذه يدي عن عثمان "، فكانت يد رسول الله صلّى الله عليه وآله وسلّم خيراً من يد عثمان.
ثم قال عبد الله: أخبرني هل أنت من المهاجرين؟ قال: اللهمّ لا، فرفع صوته وقال: الله أكبر، ثم قال: أفمن الأنصار الذين تبوّءوا الدّار وآووا ونصروا؟ قال: اللهمّ لا، فرفع عبد الله صوته وقال: الله أكبر، قال أفمن الذين تبوّءوا الدّار والإيمان من قبلهم؟ قال الرجل: اللهمّ لا، فرفع صوته وقال: الله أكبر، فقال: ولا من الذين جاءوا من بعدهم يقولون: "(8/152)
ربّنا اغفر لنا ولإخواننا الذين سبقونا بالإيمان "؟ اخرج لا أمّ لك.
قال ابن كناسة: لما صلب زيد بن عليٍّ رضي الله عنهما ما أمسى حتى نسج العنكبوت على عورته.
وقال يوسف بن عمر: إنّ عاملي كتب إليّ يذكر أنّه زرع كلّ خقٍّ ولقٍّ، فقال: إنّه عنى الأرض المطمئنّة والنّاشزة.
وأنشد: البسيط
شطّ المزار بخذوا وانتهى الأمل ... فلا مزارٌ ولا رسمٌ ولا طلل
إلاّ رجاء فما ندري أندركه ... أم نستمرّ فيأتي دونه الأجل
قلت لبعض الأدباء: كيف وجدت فلاناً، أعني رئيساً، فقال: وجدته قليل الكرم، حادّ اللّؤم، دنس الجيب، مولعاً بالعيب، كأنّه خلق عبثاً، سفهه ينفي حكمة خالقه، وغناه يدعو إلى الكفر برازقه.
قال المنتصر: لذّة العفو أطيب من لذّة التّشفّي وذلك لأن لذة العفو يلحقها حمد العاقبة، ولذة التشفي يلحقها ذمّ النّدم.(8/153)
للحكم بن قنبر المازني: البسيط
ويلي على من أطار النوم فامتنعا ... وزاد قلبي إلى أوجاعه وجعا
كأنّما الشمس في أعطافه لمعت ... حسناً أو البدر من أزراره طلعا
مستقبلٌ بالذي يهوى وإن كثرت ... منه الذّنوب ومعذورٌ بما صنعا
في وجهه شافعٌ يمحو إساءته ... من القلوب وجيهٌ حيث ما شفعا
قال محمد بن عبيد الله بن يحيى بن خاقان: بعثني أبي إلى المعتمد في شيءٍ فقال: اجلس، فاستعظمت ذلك، فأعاد فاعتذرت بأنّ ذلك لا يجوز، فقال: يا محمد إنّ أدبك في القبول مني خيرٌ لك من أدبك في خلافي.
كتب القاضي الزّنجاني: وأنا في رياض نعم الله راتع، وفي سوابغ مواهبه رابع، تتداولني أيدي أقداره بالتذليل، وتتناولني عيون عنايته بالتأميل، فأنا في طريق الاستسلام لأقضيته كالرّضيع موقناً بأن لا كائن إلاّ ما يقضيه، ولا حادث إلاّ ما يمضيه، ولله حقيقة الأمر المطلق، والشكر المحقّق.(8/154)
شاعر: الكامل المجزوء
إنّ الغريب بحيث ما ... حطّت ركائبه ذليل
ويد الغريب قصيرةٌ ... ولسانه أبداً كليل
وتراه حيث رأيته ... أبداً وليس له خليل
والنّاس ينصر بعضهم ... بعضاً وناصره قليل
قال عبد الملك لرجلٍ حدّثني، قال: يا أمير المؤمنين افتح، فإنّ الحديث يفتح بعضه بعضاً.
تكلّم رجلٌ عند النّبي صلّى الله عليه وآله وسلّم فقال النبيّ عليه السلام: " كم دون لسانك من حجاب "؟ قال: شفتاي وأسناني، فقال: " إنّ الله يكره الانبعاق في الكلام ".
قال رجلّ لآخر: إن قتل كلمةً سمعت عشراً، فقال: لو قلت عشراً ما سمعت مني واحدةً.
قال أبو مسهر: مال الرجل نفسه، فمن جاد بماله فقد جاد بنفسه.(8/155)
يقال: اضطرّ النّاس في قديم الدهر إلى ملكٍ فجاءوا بوغدٍ ووضعوا التّاج على رأسه فقال: هذا ضيّق، فتطيّروا من ذلك، وجاءوا بتاجٍ وطمعوا أن يقول: هذا واسع، فيكون ضدّ قوله الأول، فقال: أريد أضيق من هذا، فنفوه وقالوا: أنت والله وغدٌ، وقد خفنا شؤمك.
قال ابن الأعرابيّ: قال الخسّ لابنته: إنّي أريد أن أشتري فحلاً فصفيه لي، فقالت: اشتره أسجح الخدّين، غائر العينين، مؤلّل الأذنين، أعكى أكوم أرقب أحزم، إن عصي غشم، وإن أطيع تجرثم.
قال ابن الأعرابي، قال لها: أمخضت ناقتك؟ قالت: لا، قال: فصفيها، قالت: صلاها نفّاج، وعينها وهّاج، ومشيها تفاجّ، قال: قد مخضت فاعقليها، قالت: قد عقلتها، قال: وكيف عقلتها؟ قالت عقلتها عقلاً استرخت له أزري، واضطربت له عذري.
شاعر: الرجز
تأكل بقل الرّيف حتى تحبطا ... فبطنها كالوطب حين اثرنمطا
أو جائش المرجل حين عطعطا
فقيل له: ما الحبط؟ قال: أن تأكل حتى تدغص، قيل: وكيف تدغص؟ قال: لا تجد أمتاً، قيل: وما الأمت؟ قال: البقية تبقى في الجراب حين تملؤه، قيل: فما الأثرنماط؟ قال: اطمحرار السّقاء، قيل: وما اطمحرار السّقاء؟ قال: شدّة انتفاخه إذا راب ورغا وكرثأ، قيل: وكيف يكرثئ؟(8/156)
قال: يصير بمنزلة اللّبن الخثر، قيل: وما الخثر؟ قال: الذي مصل ماؤه، قيل: وكيف مصل ماؤه؟ قال: يسيل.
قال أبو عبيدة: شرب حتى اطمخرّ، ونقع ونصع حتى كأنّه ظرف.
قال فيلسوف: ما ورّثت الأسلاف الأخلاف كنزاً أفضل من الكتب، ولا حلّت الآباء الأبناء حلياً أزين من الأدب.
قال عمرو بن معد يكرب لعمر بن الخطّاب: يا أمير المؤمنين، أأبرّ بنو المغيرة أم بنو مخزوم؟ قال وكيف ذاك؟ قال: تضيّفت خالد بن الوليد فأتاني بقوسٍ وكعبٍ وثور، قال: إنّ في ذلك لشبعاً، قال: لي أو لك؟ قال: لي ولك، قال: حلاًّ يا أمير المؤمنين، إني لآكل الجذعة من الإبل أنتقيها عظماً عظماً، وأشرب السّحيل من اللّبن رثيئةً أو صريفاً. والسّحيل: سقاء عظيم، والكعب: القطعة من السمن، والقوس: أسفل الجلّة من التّمر.
قال جعفر بن محمد رضي الله عنهما: ريح الملائكة ريح الورد، وريح الأنبياء ريح السّفرجل، وريح الحور ريح الآس.
امتحن يحيى بن أكثم رجلاً أراده للقضاء فقال: ما تقول في رجلين زوّج كلّ واحدٍ منهما الآخر أمّه فولد لكلّ واحدٍ ولدٌ من امرأته، ما قرابة ما بين الولدين؟ فقال: كلّ واحدٍ منهما عمّ الآخر.
قال طفيليّ: ليس شيءٌ أضرّ على الضّيف من أن يكون ربّ البيت شبعان.(8/157)
قال جعفر بن محمد رضي الله عنهما: تسريح اللّحية يذهب الغمّ، والخلال يجلب الرّزق.
كانت تحيّة العرب: صبحتك الأنعمة، وطيّبتك الأطعمة، وتقول: صبحتك الأفالح، وكلّ طيرٍ صالح.
قال بعض العلماء في قوله جلّ وعلا: " وقالوا قلوبنا غلفٌ " أي أغطيةٌ، جمع غلاف، فإن سكّنت اللام فهو جمع أغلف، أي مغطاة.
وقيل في قوله: " ويبقى وجه ربّك ذو الجلال والإكرام " أي يبقى ربّك، ويدلّك على أن الوجه هو نفسه رفع ذو لأنّه نعت الوجه. وقال في السّورة: " تبارك اسم ربّك " لأن الاسم غيره.
وقال الفرّاء في قوله: " الرّحمن على العرش استوى له ما في السّماوات " على القطع والابتداء، واستواؤه إقبالٌ.
وقال بعض العلماء: الدلالة على أن علم الآخرة يقينٌ وعلم الدّنيا مدخولٌ قوله تعالى: " لقد كنت في غفلةٍ من هذا فكشفنا عنك غطاءك فبصرك اليوم حديدٌ "، وكذلك قوله تعالى: " يخافون يوماً تتقلّب فيه القلوب والأبصار " تنقلب عن الحال التي كانت عليها من الارتياب والشّكوك إلى الحق واليقين لما يظهر من آيات الله.
قال أبو طاهر ابن حمزة العلويّ: حدّثني ثقةٌ أنه رأى رجلاً من أصحاب الإماميّة يضع على حكم بزرجمهر أسانيد أهل البيت رضوان الله(8/158)
عليهم، فقيل له: ما هذا؟ فقال: ألحق الحكمة بأهلها.
وقال ابن حمزة: قلت لبعض الإماميّة: أين صاحبكم؟ قال: قد رفع عن إقليم آدم، قلت: فأين هو؟ قال: إنّ الله جلّت عظمته خلق سبعين إقليماً، في كلّ إقليمٍ من النّاس أكثر ممّا في إقليم آدم، ولم يعلموا أنّ الله خلق آدم وولده حجّةً عليهم لله تعالى غير هؤلاء.
وقال المرّيسي: لو أنّ رجلاً حلف فقال: لا والرحمن لا فعلت كذا، ثم فعل، إن كان أراد سورة الرحمن فلا كفّارة عليه، لأنّه حلف بغير الله، وإن كان أراد الرحمن فعليه كفّارة.
قال بعض العلماء: إن قيل: خالق كلّ شيء، يدلّ اشتماله وعمومه على أنّه خالقٌ لنفسه، قيل له: هذا باطلٌ لأنه بمنزلة قولك: خالفت النّاس كلّهم، وأنت لا تريد أنّك خالفت نفسك.
قال أبو بكر محمد بن أحمد بن شيبة: وجدت في كتاب جدّي، سمعت أحمد بن المعذّل يقول: دفع إلينا سليمان بن داود صحيفةً فيما كان صار إلى أيّوب من كتب أبي قلابة، قال لنا سليمان: كان حمّاد بن زيد ربّما حدّثنا ببعض ما فيها، وكتابٌ من عمر، وكتابٌ من عثمان إلى أهل البصرة في شأن المصاحف، وما جمع منها، وكتبٌ كثيرة من عمر إلى عمّاله.
وكان كتاب عثمان: بسم الله الرحمن الرحيم، من عثمان أمير المؤمنين إلى من(8/159)
بالبصرة من المؤمنين والمسلمين، سلامٌ عليكم؛ أمّا بعد، فإنّ هذا الأمر محفوظ، من يرد فيه الإصلاح يهده الله ويصلحه، ومن يسئ فإنّ سوءه على نفسه، فاتقوا الله تعالى فإنّ الله " قد أخذ ميثاقكم إن كنتم مؤمنين " وأطيعوا فمن أطاع فليس عليه سبيلٌ " فمن نكث فإنّما ينكث على نفسه ومن أوفى بما عاهد عليه الله فسيؤتيه أجراً عظيماً " وإنّ الله قد أفضل عليكم أن هداكم من الضّلالة، وبصّركم من العمى، وأوسع عليكم من الرّزق، واستخلفكم في الأرض، فانظروا كيف تعملون، وإنّ الله قد أحضركم القتال في سبيله، فاشكروا لله نعمته فإنّه زائدكم ما شكرتم، إنّ الله غفورٌ شكور.
أمّا بعد ذلك فأعينوا أميركم على أمر الله تعالى، وآزروه مؤازرةً حسنةً جميلة، ومن رأيتم ينتهك حدود الله فانهكوه ولا تهاونوا، فإنّه من يقم على أمر الله جلّ اسمه فإنّ الله تعالى ناصره، وليست منزلة المسيء كمنزلة المصلح، وعد الله المصلح الجنّة ووعد المسيء النار، قال الله وقوله الحقّ: " أم نجعل الذّين آمنوا وعملوا الصّالحات كالمفسدين في الأرض أم نجعل المتّقين كالفجّار ".
أمّا بعد ذلكم فإني كتبت إليكم في شأن المصاحف، ولم أفعل فيها الذي فعلت حتى اختلف فيها كثيرٌ من النّاس فظلموا أنفسهم فيها، وحتى إن الرجل ليحلف بالله ما يسرني أنّي كتبت من مصحف فلانٍ فإنّ لي مالاً عظيماً - يرضى ما عنده، ويزكي نفسه، ويسخط ما عند صاحبه. وإنّ كتاب هذا المصحف من فضل الله جلّ اسمه على عباده، وتمام نعمته عليهم يكون أمرهم جميعاً ولا يختلفون فيه كما اختلف أهل الكتاب قبلهم، وإنّا قد حرصنا أن نستثبث فيه وإن عمر أمير المؤمنين كان من آنسنا بالقرآن، وأحرصنا على تعليمه، وقد كان كتب عامّته من فم رسول الله صلّى الله عليه وعلى آله، فجمع به رهطاً من المسلمين ممّن نفع بقراءته، وظنّوا أنّ عنده علماً بالكتاب منهم، فقام هو وهم(8/160)
فكتبوا جميعاً، وحرصوا أن يستثبتوا بقرب العهد. وإنّا حرصنا على أن تكتب هذا المصحف من نسخة ذلك الكتاب الذي أكتبه منه عمر أمير المؤمنين من فم رسول الله صلّى الله عليه وعلى آله، وحرصنا على حفظه، وألحقنا فيه قرآناً أنزل بعد ما كتبت المصاحف بإقامة البيّنة، وإني والله ما ألوتكم ونفسي من خير، وما هدانا لهذا إلاّ الله تعالى بعد ما أشفقت من اختلاف الناس في القرآن، وإنّ الله عزّ وجلّ أنزل الكتاب على عبده بالحقّ فيما ليس فيه اختلاف، وإنّ لكم في القيام عليه حياةً وخيراً كثيراً، فليقم على ذلك سراركم، ويلن قلوبكم، ويزكّ عملكم.
وأمّا بعد ذلك، فإنّي أحسب عامّة أمركم خيراً، وإنّ عامّةً منكم يحرصون على السّمع والطّاعة ويجاهدون في سبيل الله، وينشطون للخير إذا دعوا إليه ويحرصون على أن يكون أمر النّاس صالحاً، وإنّ خلال ذلك من الناس قوماً ظلمةً لأنفسهم يتعمّقون ويتبعون السّمعة ليتبعهم جهلة الناس، ويحسبون أنّ عندهم شيئاً، وإنّما يجني الظالم على نفسه " وسيعلم الّذين ظلموا أيّ منقلبٍ ينقلبون ". وقد بلغني أنّ أقواماً منكم يتكلّفون ويقولون ما ليس لهم به علمٌ، وإنّي لم أكن سابقاً إليهم ببعض العقوبة حتى أعذر إلى الله تعلى ثم إليكم في شأنكم، أو ينتهوا عن ظلمهم، فإني لا أحبّ أن يلجّوا في الشّرك.
وأما بعد ذلكم فقوموا على ما أمرتكم به في شأن المصحف، ومن كان منكم سامعاً مطيعاً عنده مصحفٌ فليكتبه عليه في أقرب ذلك، وأمرت من حولي فكتبوا على ذلك والسلام؛ وكتب أنس بن أبي فاطمة في شهر ربيع الأول سنة ثلاثين.
قال الشعبيّ في الشّيعة: أخذوا بصدورٍ لا أعجاز لها، وأعجازٍ(8/161)
لا صدور لها، لو كانوا من الطّير لكانوا رخماً، ولو كانوا من البهائم لكانوا حمراً.
قال سليمان بن جرير: إنّ الرافضة احتالت لأنفسها بحيلتين لا يطاقون معهما، إحداهما: القول بالبداء، والأخرى إذا وقع اختلافٌ قالوا بالتقيّة، فهاتان خصلتان.
سمعت بعض الشّيعة يحكي قال، قال أبو حنيفة يوماً لجعفر بن محمد رضي الله عنهما: بما فضلتم النّاس؟ قال: فضلناهم بأنّ الأمّة كلّها تمنّت أنّها منّا، ولم نتمنّ أنّا منها.
وقال جعفر رضي الله عنه: يا أبا حنيفة، ما الأمر بالمعروف؟ قال: أن تعظ بالجميل، وتأمر بالخير، وتنهى عن المنكر، قال: ليس كذا، إن المعروف أمير المؤمنين، والمنكر الذي ظلمه وجحده ميراثه وحمل النّاس على بغضه.
يا أبا حنيفة، ما النّعيم الذي يسأل الناس عنه في قوله تعالى: " لتسألنّ يومئذٍ عن النّعيم "؟ قال: صحّة البدن والقوت من الطعام والشّراب، قال: لا، ولكنّ النّعيم أهل البيت رضي الله عنهم.
يا أبا حنيفة، أخبرني عن سليمان بن داود كيف تفقّد الهدهد من بين الطير كلّها؟ قال: لا أدري، قال: لأنّ الهدهد يرى الماء في الأرض كما يرى الدهن في القارورة، فضحك أبو حنيفة قال: فلم لا يرى الفخّ حين يأخذ بعنقه؟(8/162)
قال: إذا نزل القدر عمي البصر.
يا أبا حنيفة، ما الملوحة في عينك، والمرارة في أذنيك، والعذوبة في ريقك، والماء والحرارة في الخياشيم؟ قال: لا أدري، قال: فبم ألقى الله الحيض والدّم على المرأة، ولم حبس عن الحبلى؟ وأين مكان الكاتبين من ابن آدم؟ وأخبرني عن سورةٍ أولها تحميدٌ وأوسطها إخلاصٌ وآخرها دعاءٌ، وعن حرفْ أوّله كفرٌ وآخره إيمان، وعن وضع الرجل يده على مقدّم رأسه عند الحزن، والمرأة على خدّها؟ قال: لا أأدري.
قال جعفر رضي الله عنه: أمّا الملوحة في العينين فلأنّهما شحمتان، ولولا ذاك لذابات في حرّ الشمس؛ وأمّا المرارة في الأذنين فحجابٌ للدّماغ، ولولا ذلك لسارعت الهوامّ إلى الأذن؛ وأمّا العذوبة في الرّيق فلمعرفة الطّعوم؛ وأمّا الماء والحرارة في الخياشيم فراحةٌ للدّماغ، ولولا ذلك لأنتن الدّماغ؛ وأمّا ما ألقى الله تعالى على المرأة من الحيض فمن أجل حوّاء حين عقرتالشّجرة؛ وأمّا الدّم الذي حبسه الله تعالى عن الحبلى فرزقٌ للمولود؛ وأمّا وضع الرجل يده على رأسه والمرأة على خدّها فمن أجل آدم وحوّاء عند ركوبهما المعصية؛ وأمّا موصع الكاتبين فعلى النّاجذين؛ وأمّا السّورة التي أولها تحميدٌ وأوسطها إخلاصٌ وآخرها دعاءٌ ففاتحة الكتاب؛ وأمّا الحرف الذي أوّله كفرٌ وآخره إيمانٌ فكلمة الإخلاص.
يا أبا حنيفة، القتل عندك أشدّ أم الزّنا؟ قال: بل القتل، قال: فكيف أمر الله تعالى في القتل بشاهدين، وفي الزّنا بأربعة؟ يا أبا حنيفة، النساء أضعف عن المكاسب أم الرجال؟ قال: بل النّساء، قال: فكيف جعل الله للمرأة سهماً واحداً وللرجل سهمين؟ يا أبا حنيفة، الغائط أقذر أم المنيّ؟ قال: بل الغائط، قال: فلم يغتسل من المنيّ ولا يغتسل من الغائط؟ قال: ولم صارت الحمامة تفتدى بشاةٍ وليست الشّاة مثلاً للحمامة؟(8/163)
قال فيلسوف: العلم يلقى طالبه على ثلاثة أوجهٍ: على نحو القوت، أو على نحو الكفاية، أو على نحو الغنى ليصحّ الترتيب.
وقال فيلسوف: الإنسان إمّا أن يكون ملك النّفس والحال، أو يكون ملك النفس غير ملك الحال، أو يكون ملك الحال غير ملك النّفس.
خرج شبيب بن شيبة من دار المهدي فقيل له: كيف تركت الناس؟ قال: تركت الداخل راجياً، والخارج راضياً.
خرج المسيبي من دار ابن عبّاد فقلت له: كيف رأيت الناس؟ قال: رأيت الداخل ساقطاً، والخارج شاخصاً.
قال ابن وهب: طرف الصّداقة أملح من طرف العلاقة، والنّفس بالصديق آنس منها بالعشيق.
وقرئ بخطّه: إذا أقبلت الدول كثرت العدد وقلّ العدد، وإذا أدبرت كثر العدد وقلّت العدد.
قال المدائني: ينبغي للملك أن يتفقّد أمر خاصّته في كلّ يوم، وأمر عامّته في كلّ شهر، وأمر سلطانه في كلّ ساعة.
لقي رجلٌ بعض الأمراء في أطمارٍ رثّةٍ وقال: لا تنظر - أصلحك(8/164)
الله - إلى هيئتي ولكن انظر إلى همّتي، وإن رأيت أن تسمني بعرفك، وتترع قلبي من شكرك، وتجعله علماً يدلّ على مجدك، فإني كما قال الأوّل: الطويل
فإن أك قصداً في الرجال فإنّني ... إذا حلّ أمرٌ ساحتي لجسيم
شاعر: الكامل المجزوء
المرء يهوى أن يعي ... ش وطول عمرٍ قد يضرّه
تبلى بشاشته ويأ ... تي بعد حلو العيش مرّه
وتسوءه الأيّام حتّ ... ى ما يرى شيئاً يسرّه
كم شامتٍ بي إن هلك ... ت وقائلٍ لله درّه
قال أبو عبيدة: خرج النّابغة الجعدي على النّاس وقد فني وذهب به السّنّ، عاصباً رأسه بعصابةٍ، فأنشدهم:
المرء يهوى أن يعيش ...
قال ابن مكرم: من زعم أنّ أبا العيناء دون عبد الحميد في الكتابة إذا أحسّ بكرمٍ فقد كذب، وذلك أنه كتب إلى عبيد الله بن سليمان وقد نكبه وأباه المعتمد وهما يطالبان بمالٍ يبيعان له ما يملكان من عقارٍ وأثاثٍ وعبدٍ(8/165)
وأمةٍ، وكان لهما خادمٌ أسود عرضاه للبيع فطلب بخمسين ديناراً، فكتب إليه أبو العيناء: وقد علمت - أطال الله بقاءك - أنّ الكريم المنكوب أجدى على الأحرار من اللئيم الموفور، لأنّ اللئيم يزيد مع النّعمة لؤماً، ولا تزيد المحنة الكريم إلاّ كرماً، هذا متّكلٌ على رازقه، وهذا يسيء الظّنّ بخالقه، وعبدك إلى ملك كافور الخادم فقير، وثمنه على ما اتّصل به يسير، فإن سمحت به فتلك منك عادتي، وإن أمرت بأخذ ثمنه فماله منك مادتي، أدام الله لنا دولتك، واستقبل بالنّعمة نكبتك، وأدام عزّك وكرامتك. فوجّه إليه بالخادم.
قال عمر بن الخطّاب: إنّما الدّنيا أملٌ مخترم، وأجلٌ منتقص، وبلاغٌ إلى دارٍ غيرها، وسيرٌ إلى الموت ليس فيه تعريج، فرحم الله امرءاً فكّر في أمره، ونصح لنفسه، وراقب ربّه، واستقال ذنبه.
كان ابن عبّاس إذا ذكر عليٌّ عليه السلام يقول: كان والله الكنز الكبير، والبحر الغزير، والغيث المطير، والشّجاع الخطير، الذي لم يكن له في الورى نظير، مؤدّب الأدباء، وسيّد الخطباء، وقائد النّجباء، ومن إذا عرضت مشكلةٌ أجاب عنها والناس سكوت.
شاعر: الوافر
تبحبح في الكتابة كلّ وغدٍ ... فقبحاً للكتابة والعماله
ترى الآباء نسبتهم جميعاً ... إلى الأبناء من فرط النّذاله
لأبي الشّيص: المتقارب
مزجت المدام بريق الغمام ... وقد زرّ جيب قميص الظّلام(8/166)
فشابت نواصي الدّجى وانفرى ... عن الصّبح سربال ليل التّمام
حبوتهما صحن قارورةٍ ... وأضحكتها عن لسان الضّرام
يطوف علينا بها أحورٌ ... فعولٌ بعينيه فعل المدام
غزالٌ نسجنا له حلّتين ... من الورد والآس في يوم رام
قال الحكيم: إذا أنا فعلت ما أمرت به وكان خطأً لم أذمم عليه، وإذا فعلت ما لم أؤمر به وكان صواباً لم أحمد عليه، أي لا أتعدّى.
شاعر: الطويل
وليلٍ رقيق الطّرّتين كأنّما ... ترود به النفاس مسكاً تضوّعا
ترى فيه آفاق السماء كأنّما ... كساها ظلام الليل برداً موسّعا
كأنّ الثّريّا فيه درٌّ تقاربت ... مساقطه عن سلكه فتجمّعا
أخذت بقطريه وأحببت طوله ... أغازل مثل الرّيم ريع فأتلعا
أقول له والصّبح يطرف ناظري ... فدىً لك نفسي ظاعناً ومودّعا
نظر إبراهيم بن سيّار النّظّام إلى وجهٍ صبيحٍ وألحّ، فقيل له في ذلك فقال: ولم لا أتأمل ما أستحسنه ممّا أحلّ الله، وفيه دليلٌ على صنعة الله تعالى، وفيه اشتياقٌ إلى ما وعد الله تعالى؟ لأبي الحسن البصري: الطويل
أيا ضرّة الشمس المضرّة بالشّمس ... ويا سؤل نفسي ما جنيت على نفسي
غرست الهوى حتى إذا تمّ واستوى ... قطعت مجاري الماء عن ذلك الغرس
قال الجاحظ: لا زلت في عداد من يسأل ويبحث، ولا زلنا في محلّ من يشرح ويوضح.(8/167)
وقال: ليس مع العيان وحشة، ولا مع الضرورة وجمة، ولا دون اليقين وقفة.
وقال أيضاً: النّاس بين معاندٍ يحتاج إلى التّقريع، ومحاجٍّ يحتاج إلى الإرشاد، ووليٍّ يحتاج إلى المادّة.
وقلت لبعض الأدباء: كيف رأيت فلاناً؟ قال: طويل العنان في اللّؤم، قصير الباع في الكرم، وثّاباً على الشّرّ، زمناً على الخير، كافراً بالنّعم، متحكّكاً بالنّقم.
وقال عليّ بن عبيدة: كان عندي ثلاثة تلامذة فجرى كلامٌ فقال أحدهم: هذا كلامٌ يجب أن يكتب بالغوالي في خدود الغواني، وقال الثاني: هذا كلامٌ يجب أن يكتب بأنامل الحور في ورق النّور، وقال الثالث: هذا كلامٌ يجب أن يكتب بأقلام النّعم على ورق الكرم.
وقال الجاحظ في فصلٍ من كتاب: وقد أسقط عنه مؤونة الرّويّة، وأورثه إلف السّكون، وكفاه خلاج الشكّ، واضطراب النّفس، وجولان القلب.
سمع بعض الأدباء كلاماً فقال: هذا كلامٌ يجب أن يكتب بدموع الهجران على خدود القيان.
شاعر: السريع
جاريةٌ أقلقني هجرها ... لمّا جفاني بالهوى أسرها
قد قال لي العاذل في حبّها ... ما أمرك اليوم وما أمرها(8/168)
أقدّها أضناك أم دلّها ... أم وجهها المشرق أم نحرها
أم طرفها الفاتر أم ظرفها ... أم ريقها البارد أم ثغرها
أم حسن تفّاحٍ بدا مونقاً ... مدوّراً أنبته صدرها
قلت له أعشق ذا كلّه ... ونصف حرّان وثلثي رها
مرّ شبيب بن يزيد الخارجيّ على غلام قد استنقع في الفرات فقال: يا غلام، اخرج أسائلك، فقال: إنّي أخاف، قال: ومن أيّ شيءٍ تخاف؟ قال فأنا في أمنٍ حتى أخرج؟ قال: نعم، قال: فوالله لا أخرج اليوم، فقال شبيبٌ: أوّه، خدعني الغلام، وأمر رجلاً يحفظه لئلا يصيبه أحدٌ بمكروهٍ، ومضى وخرج الغلام.
مرّ سليمان بن عبد الملك بميلٍ في بعض أسفاره فقال: من هاهنا يخبرنا على كم هذا الميل من البريد؟ فلم يجد أحداً، فقال أعرابيٌّ يعدو بين يديه: أنا أخبرك، قال: وكيف وأنت لا تقرأ، فعدا ثم عاد فقال: ما رأيت؟ قال: رأيت محجناً، وحلقةً وثلاثةً كأطباء الكلبة ومثل رأس القطاة بمنقارها، فقال: قد أخبرت وأبلغت، هو خمسةٌ من البريد.
قيل لأعرابيّ: أيّ الزّاد أحبّ إليك؟ قال: الغريض النّضيج.
قيل لأعرابيّ: ما بال مراثيكم أجود، قال: لأنّا نقولها وأكبادنا تحترق.
شاعر: مخلع البسيط(8/169)
واحسرتا من فراق قومٍ ... كانوا هم الكهف والحصون
والموت والأسد والرّواسي ... والأمن والخفض والسّكون
لم تتنكّر لنا الليالي ... حتى توفّتهم المنون
وكلّ نارٍ لنا قلوبٌ ... وكلّ ماءٍ لنا عيون
قال أعرابيٌّ لآخر: فيك ملق الإماء، ودخن الأعداء.
ذكر أعرابيٌّ قوماً فقال: أقبلوا كالفحول، يمشون مشي الوعول، فلمّا تصافحوا بالسّيوف، فغرت المنايا أفواهها.
أنشدني شيخ من غنيّ لنافع بن خليفة الغنوي: الطويل
بني عمّنا لا تظلمونا فإنّنا ... نرى الظّلم أحياناً يشلّ ويعرج
ويترك أعراض الرّجال كأنّها ... فريسة لحمٍ ليس عنها مهجهج
وكربة جوعٍ لا يكاد فقيرها ... من الجهد يستحيي ولا يتحرّج
تجلّت ولم يعلق بثوبي عارها ... إذا عدّ فيها الطّعم والمتولّج
قال بعض السّلف: جعل الله البهاء والهوج في الطويل الكبير، والدّمامة في القصير، وجمع الخير فيما بين ذلك وهو الرّبع.
قيل لجعفر بن محمد الصّادق رضي الله عنهما: كيف صار مولى القوم منهم؟ قال: خلق الله تعالى المعتق من طينة المعتق، ثم أجراهم في أصلاب الرّجال وأرحام النساء، فأخرجهم الله تعالى بالولاء، فلذلك صار مولى القوم منهم.
قال أعرابيّ: اتّقوا الدّنيا فإنها اسحر من هاروت وماروت.
قال بعض السّلف: كان يقال: استطرد لعدوّك واتّقه بإظهار(8/170)
الرّضا عنه والمداراة، حتى تصيب الفرصة فتأخذه على غرّة.
قال أعرابيّ: أعظم بخطرك أن لا يرى عدوّك أنّه عدوّك.
قال أعرابيّ: الصّورة الظّاهرة ترجمان الصّورة الباطنة.
قال أعرابيّ: يحسب من منعه عدم المال من الجزاء أن يبسط جدة الشكر بالثّناء.
قال أعرابيّ: من ظفر بالغنى أتبعه، ومن فاته أنصبه.
وقال أبو مرحوم الصّوفي: لولا أن الخلاف موكّلٌ بكلّ شيءٍ لكانت منفعة الإهليلج في اللّوزينج.
قال أبو حازم الأعرج: إن عوفينا من شرّ ما أعطينا، لم يضرّنا فقد ما زوي عنّا.
أضلّ أعرابيٌّ غلاماً له فنشده فقيل له: صفه، قال: في رجله جنف، وفي أيره قلف، وفي أنفه ذلف، وفي مشيه دلف.
وقالت أعرابيةٌ لخصيّ: اسكت فما لك حزم الرجال ولا رقّة النّساء.
باع أعرابيٌّ غلاماً له فجعل سقّاءً، فلقيه الأعرابيّ فقال له: كيف حالك؟ قال: أنا في سفرٍ لا ينقضي، وغديرٍ لا ينزح، وقومٍ لا يروون.(8/171)
ونظرت امرأةٌ إلى زوجها يخضخض، فلما حضر العشاء اعتزلت، فقال: ما لك لا تتعشّين؟ قالت: أكره أن أزاحم ضرّتي على المائدة.
وقال المدائني لجعفر بن سليمان: لو قسم البلاء بين الناس بالحصص لم يصبنا أكثر ممّا أصابنا، بعثنا بشاتنا إلى التيّاس مع الجارية، فعادت الشاة حائلاً والجارية حاملاً.
كتب رجلٌ إلى هشام الواسطيّ أن اكتب إليّ بما أنت عليه، فإنّا نلقى من القدريّة والرّافضة شدّةً، فكتب إليه: إن كنت تحبّ أن تكون على ما كان عليه السّلف من أصحاب محمدٍ صلّى الله عليه وسلّم فلا تكفّرنّ أحداً من هذه الأمّة بذنبٍ يكون منه، ومن زعم أنّه يكون في قدرة المخلوق ما لا يريد الخالق فقد عجّز الخالق، ومن تبرأ من أبي بكرٍ وعمر وعثمان فقد تبرّأ من عليٍّ، ومن تبرّأ من عليٍّ فقد تبرّأ من هؤلاء كلّهم، والبراء بدعةٌ، والولاية بدعةٌ، وذلك أن يقول الرجل: إنّي أتبرّأ من فلانٍ وأتولّى فلاناً، فإن حاجّك محاجٌّ ممّن حسن مذهبه وذهب عقله، فاتل عليه: " لقد رضي الله عن المؤمنين إذ يبايعونك تحت الشّجرة " هذا موضع الرّضا عنهم فأين موضع السّخط؟ فإن كفر بهذا فقد كفر بالقرآن. وأخبرك بثلاثٍ لا يضرّهنّ عدل عادلٍ، ولا جور جائرٍ: الصّلاة خلف كلّ برٍّ وفاجر، والحجّ مع كلّ برٍّ وفاجر، والجهاد مع كلّ برٍّ وفاجر.
لو لم يؤخذ بهذا الحديث لعطّلت الأحكام.(8/172)
لعمارة بن عقيل: الوافر
وما ينفكّ من سعدٍ إلينا ... قطوع الرحم فارية الأديم
ونغفرها كأن لم يفعلوها ... وبعض العفو أذرب للظّلوم
ورميك من رماك أخفّ ثقلاً ... عليك غداً وأمنع للحريم
قيل لأعرابيّ: كيف ابنك؟ قال: عذابٌ رعف به الدهر، فليتني قد أودعته القبر، فإنه بقاءٌ لا يقاومه الصبر، وفائدةٌ لا يجب فيها الشّكر.
رقّص أعرابيٌّ ابنه فقال: الرجز
أحبّه حبّ الشّحيح ماله ... قد ذاق طعم الفقر ثم ناله
إذا أراد بذله بدا له
آخر: البسيط
إذا رأيت ازوراراً من أخي ثقةٍ ... ضاقت عليّ برحب الأرض أوطاني
فإن صددت بوجهي كي أكافئه ... فالعين غضبى وقلبي غير غضبان
يقال: سلقى بناءه يسلقيه أي جعله مستلقياً ولم يجعله شكّاً، والشكّ: المستقيم.(8/173)
جرى بين أي الصّقر بن بلبل وبين ابن ثوابة كلامٌ أربى فيه ابن ثوابة عليه، وكان أبو العيناء منقطعاً إلى أبي الصّقر، فقال لابن ثوابة منتصراً له: ما منع أبا الصّقر من كلامك إلاّ أنّه سهل عليه دمك أن يسفكه، وعاف لحمك أن يأكله، ولم يجد لك شرفاً فيهدمه، ولا فضلاً فيثلمه، فقال له ابن ثوابة: ما أنت والدخول بيني وبين هؤلاء يا مكدّي؟ فقال أبو العيناء: يحقّ لمن ذهب بصره، وضعفت قوّته، وجفاه سلطانه، ونقصت عمالته، أن يعود على إخوانه فيأخذ من أموالهم فيستعين بها على دهره، ولكن أسوأ حالاً منّي من يستنزل الماء من أصلاب الرّجال في بطنه فيعظّم إجرامهم، ويقطع أنسابهم، فقال ابن ثوابة: ما استبّ اثنان إلاّ غلب ألأمهما، فقال أبو العيناء: فبذلك غلبت أبا الصّقر.
شاعر: المتقارب
ترحّل ما ليس بالقافل ... وأعقب ما ليس بالآفل
فلهفي على السّلف الراحل ... ولهفي من الخلف النازل
أبكي على ذا وأبكي لذا ... بكاء المولّهة الثّاكل
تبكّي من ابنٍ لها قاطعٍ ... وتبكي على ابنٍ لها واصل
قال صالح بن عبد القدّوس: ليس شيءٌ إلاّ وفيه منفعة، فقال(8/174)
له رجل: وأيّ منفعةٍ في أن يعلّق رجلٌ من إحدى يديه، فقال: سبحان الله، لا يعرق إبطه.
كان أبو خزيمة المديني يقول: اللهمّ ارزقني، فإن كنت لا ترزقني لكرامتي عليك فقد رزقت من هو خيرٌ مني سليمان بن داود، وإن كنت لا ترزقني لهواني عليك فقد رزقت من هو شرٌّ منّي وهو فرعون ذو الأوتاد.
وشكا أبو خزيمة يوماً نكبات الدهر فقال له رجل: هوّن فإنّ الله يدّخر لك ثوابها، فقال له أبو خزيمة: الآخرة خيرٌ أم الدّنيا؟ قال: بل الآخرة، قال: فإنّه ليس يعطيني من أبغضهما إليه، يعطيني من أكرمهما عليه؟! يقال في قوله تعالى: " مسوّمين " معلمين، من سيماء وسيمياء، ومن قال مسوّمين أراد مرسلين، مأخوذٌ من الإبل السّائمة المرسلة في مراعيها، فأمّا الحجارة فمسوّمةٌ لا غير أي معلّمةٌ.
دعا أعرابيٌّ على رجلٍ فقال: اللهمّ أبح ذماره، وعجّل بواره، وباعد داره.
وصف أعرابيٌّ رجلاً فقال: قد تقمّص الشّحناء، وادّرع البغضاء، وتسربل العوراء.
وصف أعرابيٌّ آخر فقال: هو أفعوان البلاد، وعقربان الصّلاد.
وصف أعرابيٌّ جيشاً فقال: تكتّب فرسانه، وتحرّب أقرانه، واستعدّ شبّانه.(8/175)
وصف أعرابيٌّ رجلاً فقال: هو كالمخدر الأكّال، والذئب العسّال.
قال أعرابيّ: بالله تعالى واثق، وبنفسي سابق، وإلى المبادهة تائق.
قال بعض السّلف: العلم لا ينفد ولا يبيد، ولا يندم حامله، ولا يعطب من تمسّك به، ولا يفتضح من استند إليه، ولا تسقط منفعته، ولا يخسر جامعه.
تقول العرب في صفة الأعداء: زرق العيون، سود الأكباد، صهب السّبال.
قيل لأبي المدوّر السّعدي: لم لا تجتمع مع النّاس؟ قال: إنّه لا يزال منكم عبدٌ أحمق، محجوم القفا، معلم الكمّ، يكنى أبا إسماعيل وأبا إبراهيم وأبا إسحاق، يدلظني بمنكبه، أي يدفعني.
يقال: عنا يعنو إذا صار أسيراً، وأعنيته: استأسرته.
يقال: هلممت القوم أي دعوتهم.
قال بعض اللغويين: الوفرة ما لم يجز الأذن، والجمّة: ما جاوزت الأذن، واللّمّة: ما ألمّت بالمنكب، والذّوائب والغدائر: ما لحق الكتفين.
وقال العلماء: أيام الشهر ثلاثةٌ غرر، وثلاثةٌ نفل، وثلاثةٌ(8/176)
تسع، وثلاثةٌ عشر، وثلاثةٌ بيضٌ، وثلاثةٌ دآدي، وثلاثةٌ حنادس، وثلاثةٌ سرار، وثلاثةٌ محاق؛ وأيّام الشّهر كنايةٌ عن الليالي، وإذا قلت الليالي قلت: ثلاثٌ غرر، وثلاث نفل، وقد يقال لها أيّام، ألا ترى أنّك تقول: صمت البيض، والصّوم لا يكون ليلاً.
بثّ رجلٌ في وجه أبي عبيدة مكروهاً فأنشأ يقول: الطويل
لو أنّ لحمي إذ وهى لعبت به ... سباع حرامٍ أو ضباغٌ وأذؤب
لهوّن وجدي أو لسلّى مصيبتي ... ولكنّما أودى بلحمي أكلب
قيل لبعض العلماء: كيف كانت بلاغة الأمين؟ قال: والله لقد أتته الخلافة في يوم جمعة، فما كان إلاّ ساعة حتى نودي الصلاة قائمة، فخرج ورقى المنبر، فحمد الله تعالى وأثنى عليه ثم قال: أيّها النّاس، وخصوصاً يا بني العبّاس، إنّ المنون مراصد ذوي الأنفاس، حتمٌ من الله لا يدفع حلوله، ولا ينكر نزوله، فارتجعوا قلوبكم الحزن على الماضي إلى السّرور بالباقي، تجزون ثواب الصّابرين، وأجور الشّاكرين. فتعجّب النّاس من جرأته، وبلّة ريقه، وجودة عارضته.
يقال: من علامة الرّشد أن تكون النّفس إلى بلدها توّاقة، وإلى مسقط رأسها مشتاقة.(8/177)
وقال آخر: احفظ بلداً رشّحك غذاؤه، وأكنّك فناؤه.
وقال أعرابيّ: يحنّ الكريم إلى جنابه، كما يحنّ الأسد إلى غابه.
خطب الناس هاشم بن عبد مناف فقال: أيّها النّاس، الحلم شرف، والصبر خلف، والجود سؤدد، والمعروف كنز، والجهل سفه، والعجز ذلّة، والحرب خدعة، والظفر دول، والأيّام عبر، والمرء منسوبٌ إلى فعله، ومأخوذٌ بعمله، فاصطنعوا المعروف تكسبوا الحمد، واستشعروا الحمد تفوزوا به، ودعوا الفضول تجانبكم السّفهاء، وأكرموا الجليس يعمر ناديكم، وحاموا عن الخليط يرغب في جواركم، وأنصفوا من أنفسكم يرفق بكم، وعليكم بمكارم الأخلاق فإنّها رفعة، وإيّاكم والأخلاق الدنيّة فإنها تضع الشّرف وتهدم المحلّ.
شاعر: الكامل
عجباً لحفظي سرّها في غيبها ... ولمثل ذاك تعجّب المتعجّب
بكرت مشرّقةً ورحت مغرّباً ... شتّان بين مشرّقٍ ومغرّب
إنّي لآمل من حبيبي نظرةً ... والقلب بين مصدّقٍ ومكذّب
آخر: الخفيف
خلق المال واليسار لقومٍ ... وأراني خلقت للإملاق
أنا فيما أرى بقيّة قومٍ ... خلقوا بعد قسمة الأرزاق
قال الرّقاشيّ في قصصه: يا أهل الدّيار الموحشة التي نطق(8/178)
بالخراب فناؤها، وشيّد في التراب بناؤها، فمحلّها مقترب، وساكنها مغترب، أهل محلّةٍ لا يتواصلون تواصل الإخوان، ولا يتزاورون تزاور الجيران، قد طحنهم الدّهر بكلكله، وأكلهم الثّرى بجندله، فعليهم منّا التّرحّم والسلام، ومن ربّهم العفو والإكرام.
قال فيلسوف: انتقم من حرصك باليأس، كما تنتقم من عدوّك بالقصاص.
وقال أعرابيّ: الجمال في الأنف، والملاحة في العينين، والظرف في الفم.
شاعر: المتقارب
أتتني تؤنّبني بالبكاء ... فأهلاً بها وبتأنيبها
تقول وفي قولها حشمةٌ ... أتبكي بعينٍ تراني بها
فقلت متى استحسنت غيركم ... أمرت الدموع بتأديبها
جاء مجنون إلى باب رئيس فقال: البسيط
عليك إذنٌ فإنّا قد تغدّينا ... لسنا نعوذ لأنّا قد تعدّينا
يا أكلةً سلفت أبقت حرارتها ... داءً بصدرك ما صمنا وصلّينا
قال الماهاني: دخلت مارستان بلدٍ فرأيت مجنوناً ظريفاً نظيفاً، فسألته أن ينشدني، فأنشدني في وردٍ يقطّع جسده: المنسرح(8/179)
أما ترى الورد في أكفّهم ... يجتثّ للناظرين من ورقه
كالقلب نار الهوى تلذّعه ... والقلب يهوى الهوى على حرقه
قال بعض السّلف: لا ترض قول أحدٍ حتى ترضى فعله، ولا ترض فعل أحدٍ حتّى ترضى قوله وعقله، ولا ترض عقل أحدٍ حتى ترضى حياءه.
قال: ابن آدم مطبوع على كرم ولؤم فإذا قوي الحياء قوي الكرم وإذا ضغف الحياء قوي اللؤم شاعر: الوافر
له قلبٌ تقلّبه الليالي ... على فرشٍ من السّفر البعيد
ونفسٌ ما تقرّ على دنيٍّ ... من العيش المصرّد والزّهيد
وهمٌّ لا يطيف به التّمنّي ... وعزمٌ نيط بالبأس الشديد
فتى الدّنيا إذا ما سيل عنه ... ليوم كريهةٍ أو يوم جود
وكفٌّ ما تملّ من العطايا ... وقلبٌ ما يخاف من الوعيد
قال موسى بن عيسى أمير الكوفة لأبي شيبة قاضي الرّيّ: لم لا تغشانا فيمن يغشانا؟ فقال: لأني إن جئتك فقرّبتني فتنتني، وإن أقصيتني(8/180)
حزنتني، وليس عندي ما أخافك عليه، ولا عندك ما أرجوك له، فلأيّ شيء أغشاك؟ فسكت موسى.
شاعر: الوافر
إذا لم تخش عاقبة الليالي ... ولم تستحي فافعل ما تشاء
فلا والله ما في العيش خيرٌ ... ولا الدّنيا إذا ذهب الحياء
يعيش المرء ما استحيا كريماً ... ويبقى العود ما بقي اللّحاء
عزّى صالح المرّي رجلاً عن ابنه فقال: يا هذا إن كان مصيبتك بابنك لم تحدث لك موعظةً في نفسك، فمصيبتك جللٌ عند مصيبتك بنفسك، فإيّاها فابك.
قال فيلسوف: حدّ الفضيلة اعتياد فعلٍ ممدوحٍ يقتفى به أثر سلفٍ مرضيّ، وهي واسطة بين رذيلتين؛ قال: وإنّما قلت اعتياد فعلٍ لأنّه يمكن فعلها وفعل ضدّها، قال: فقلت: عدلٌ لأنه واسطة بين رذيلتين لفساد كلتا حاشيتيهما، أعني السّرف والتقصير.
وقال فيلسوف: كونوا من المسرّ المدغل أخوف منكم من المكاشف المعلن، فإنّ مداواة العلل الظّاهرة أهون من مداواة ما خفي وبطن.
وقال أرسطاطاليس: أعجب العجب ترك العجب من العجب.(8/181)
قال أعرابيّ: عليك بالأدب، فلأن يذمّ بيانك خيرٌ من أن يعاب عيّك.
قال الباقر رضي الله عنه في قوله تعالى: " ومن يطع الله ورسوله ويخش الله ويتّقه " قال: يطع الله: فيوحّده، ورسوله: فيصدّقه، ويخشى الله: على ما سلف من ذنوبه، ويتّقه: فيما بقي من عمره، فأولئك هم الفائزون غداً بالجنّة.
قال سفيان بن عيينة: صحبت النّاس خمسين سنةً ما ستر أحدٌ لي عورةً، ولا ردّ عني غيبةً، ولا عفا لي عن مظلمةٍ، ولا قطعته فوصلني، وأخصّ إخواني لو خالفته في رمّانةٍ فقلت: حامضة، وقال: حلوة، لسعى فيّ حتى يشيط دمي.
أصابت إسماعيل بن يسار خصاصةٌ فطيّن على نفسه حتى مات هزلاً، ولم يسأل الناس.
قال أعرابيّ: إن أطعت الغضب أضعت الأدب.
قال بعض الحكماء: أوّل صناعة الكاتب كتمان السّرّ.
قال بعض المغفّلين في الطّواف: ربّ ارحم ترحم، واغفر ما تعلم وما لا تعلم.
قال عمر بن الخطّاب: بئس الجار الغنيّ، يأخذك ما لا يعطيك من نفسه، فإن أبيت لم يعذرك.(8/182)
قال أمير المؤمنين عليٌّ رضي الله عنه: بئس الجار الغنيّ يبعث عليك ما لا يعينك عليه.
قال ابن مكرم لأبي العيناء: ألست عفيفاً؟ قال: أنت عفيف النّفس زاني الحرم، قال: إنّما صار هذا مذ تزوّجت أمّك.
قال بعض السّلف: من أطلق من عمله بصّر في عمله، ومن مدّ عينه إلى النّاس كثر غمّه وقلّ شكره، ومن أمن البلاء كان جزوعاً إذا نزل به، ومن عوّد نفسه أكل الشهوات مات قلبه، ومن لم يعزم على الصّبر لم يظفر بما يحبّ.
قال أرسطاطاليس: إنّا جدراء أن نتّخذ مرآةً من الحكمة مجلوّةً فنبدأ بالنّظر إلى الأمور فيها قبل اعتقاد شيءٍ منها واعتماله في همومنا، وذلك أنّا قد رأينا ناساً يفرّون من العيوب والجهالة، وقد يحتويهم الخسران، وقد يتعجّب، الحكماء من أمور هذا العالم ولا يدرون كيف يتأوّلون له، لأنّ أحاديثه ملتبسة، والبغية فيه مكتومة.
قال فيلسوف: العلماء يشهدون حيث يقال: مات فلانٌ وإنّ حكمته لم تمت.
قال أعرابيّ: من استضعف عدوّاً فقد اغترّ، ومن اغترّ فقد أمكن من نفسه.
قال بعض السلف: أمورٌ أبداً تبعٌ لأمور، فالمروءة تبعٌ للعقل، والعقل تبعٌ للمودّة، والعمل تبعٌ للعلم، والجدّ تبعٌ للتوفيق.(8/183)
نظر أعرابيٌّ إلى خالد بن صفوان وهو يتكلّم فقال: كيف لم يسد هذا مع بيانه، فقال خالد: منعتهم مالي، وكرهت السّيف.
لابن دريد: الطويل
وقالوا تيمّم أرض حجرٍ تسد بها ... وما أرض حجرٍ من سمائي ولا أرضي
ولكنّما أرض العراق التي بها ... تملّيت عيشي الغضّ في الزّمن الغضّ
وأول أرضٍ مسّ جلدي ترابها ... ورنّق في عيني بها طارف الغمض
شاعر: المتقارب
لك الحمد إمّا على نعمةٍ ... وإمّا على نقمةٍ تصرف
تطاع لأنّك لا تستطاع ... وتعرف من حيث لا توصف
قال النّضر بن شميل في كتابٍ يسميه المنطق: تمضّ في كتابك: أي امض فيه، واستجدّ الناس السلطان أكالاً: أي يأكل أموالهم. وقالوا: جاءوا بأطعماتهم فتطاعموا، وبأعشياتهم فتعشّوا، وبأغدياتهم فتغدّوا، وقال: فلان طاعمٌ من طعامكم، وقال: رجلٌ شبعان، وامرأةٌ شبعى للأمة، والحرّة لا يقال لها ذاك؛ وقال النّضر: ما لك بهذا الأمر يدٌ: أي ما لك به ضباطةٌ ولا قوّةٌ؛ ويقال: رجلٌ ملوعٌ: أي أصابه غيظٌ كأنّه من اللّوعة؛ وقال: الهائع: الجائع.
وقال أبو عبيدة: ما يمكن أن يكون في الدّنيا مثل النّظّام، سألته وهو صبيٌّ عن عيب الزجاج، فقال: سريع الكسر، بطيء الجبر؛ ومدحوا(8/184)
النّخلة عنده فقال: صعبة المرتقى، وبعيدة المهوى، خشنة المسّ، قليلة الظّلّ. وذكر الخليل عنده فقال: توحّد به العجب فأهلكه، وصوّر له الاستبداد صواب رأيه فتعاطى ما لا يحسنه ورام ما لا يناله، وفتنته دوائره التي لا يحتاج إليها غيره.
وقال المريسيّ لأبي الهذيل بحضرة المأمون بعد كلام جرى: كيف ترى هذه السّهام؟ فقال: ليّنة كالزّبد، حلوة كالشّهد، فكيف ترى سهامنا؟ قال: ما أحسست بها، قال: لأنّها صادفت جماداً.
شاعر: المنسرح
أيا أخاً كان لي وكنت له ... أشفق من والدٍ على ولد
حتّى إذا قارب الحوادث من ... خطوي وشدّ الزمان من عقدي
أحولّ عنّي وكان ينظر من ... عيني ويرمي بساعدي ويدي
قال رجل لمزبّد: من شجّك هاهنا - يعني استه -؟ قال: الذي شجّ أمّك في موضعين.
قالت امرأة الغاضري، وقد قطع لها قميصاً: ما أخشن هذا القميص!! قال لها: أهذا أخشن أم الطّلاق؟ قالت: بل الطلاق.
قال رجلٌ لعمر: أيضحّى بالضّبي، فقال له عمر: قل: الظّبي - بالظاء، قال: إنّها لغةٌ، قال: انقطع العتاب بيني وبينك.(8/185)
قال رجلٌ للحسن البصري: يا أبا سعيد أنا أفسو في ثوبي وأصلّي، يجوز؟ قال: نعم لا كثّر الله في المسلمين مثلك.
أبو العتاهية: الكامل المجزوء
الشّمس تنعى ساكن الدّ ... نيا ويسعدها القمر
أين الذين عليهم ... ركم الجنادل والمدر
أفناهم غلس العش ... يّ يهزّ أجنحة السّحر
ما للقلوب رقيقةً ... وكأنّ قلبك من حجر
ولقلّ ما تبقى وعو ... دك كلّ يومٍ يعتصر
قال ابن الزّبير في جوابٍ لمعاوية: ربّ آكل عبيطٍ سيقدّ عليه، وشارب صفوٍ سيغصّ به. والقداد: داءٌ.
قال رجل لناجية المدائني لمّا مات أبوه: أجرك الله تعالى، فقال: رزقنا الله مكافأتك.
شاعر: الوافر
وربّ مدامةٍ كفتيت مسكٍ ... تضوّع دنّها وسط الدّنان
كلون الجلّنار إذا أديرت ... وإن مزجت كلون الأرجوان
كخدّ حبيبةٍ همّت بأمرٍ ... ففاجأها الرّقيب على مكان(8/186)
وبين الرّقّتين لنا ليالٍ ... سرقناهنّ من ريب الزّمان
جعلناهنّ تاريخ الليالي ... وعنوان التذكّر والأماني
لابن غريض اليهوديّ: الكامل
يا ليت شعري حين أندب هالكاً ... ماذا تؤبّنني به أنواحي
ولقد كففت عن العشيرة ريبتي ... ولقد أخذت الحقّ غير ملاح
قد كنت شهماً في الحروب ومدرهاً ... وأكفّ من ذي الغرب بعد طماح
ولليلةٍ قد بتّ فيها ناعماً ... يغدى عليّ بقينةٍ وبراح
في فتيةٍ بيض الوجوه مساعرْ ... ما بين نشوانٍ وآخر صاح
إنّ امرءاً خاف الحوادث جاهلاً ... ورجا الخلود كضاربٍ بقداح
خرج رجلٌ مرةً إلى الصحراء فرأى في زرعه فساداً من بردٍ فقال: يا ربّ أنت تنهى عن الفساد، فهذا حسن؟! قال بعض الأطباء: شرب النبيذ الحديث الصافي أوفق للكبد، والعتيق أوفق للمعدة، ومن شرب العتيق فليقطع فيه التّفاح والسفرجل.
يقال: في الخصيّ ثمان خصال: تلين بشرته، ويخشن قلبه، وتتّسع مقعدته، وتسترخي معدته، وتطول ساقاه، ويقصر أعلاه، ويسوء خلقه، وتذهب رحمته، وذلك أنه لم يدرك أباه فيعرف رحمة الآباء للأبناء، ولم يولد له فيعرف رقّة الآباء على الأبناء، وينتقل في عمره إلى ثلاث خصالٍ مذمومةٍ: في أوله ينكح، وفي أوسطه يزني، وفي آخره يقود.(8/187)
قال أبو عبيدة كان أبو هريرة يقول: اللهمّ ارزقني ضرساً طحوناً، ومعدةً هضوماً، ودبراً نثوراً.
قيل لأبي مرّة: أيّ الطعام أحبّ إليك؟ قال: ثريدةٌ دكناء من الفلفل، رقطاء من الحمّص، ذات حفافين من اللحم، لها جناحان من العراق؛ قيل: وكيف أكلك لها؟ قال: أصدع بهاتين - يعني السّبّابة والوسطى، وأشدّ بهذه - يعني الإبهام، وأجمع ما شذّ منها بهذه - يعني الخنصر، وأضرب فيها ضرب والي السّوء في مال اليتيم.
أخذ ملكٌ من العجم رجلاً وجد عليه فأمر بقتله، فقال الرجل: أيّها الملك إن قتلتني وأنا صادقٌ كثر عتبك، وإن تركتني وأنا كاذب قلّ وزرك، وأنت من وراء ما تريده، والعجلة يوكّل بها الزّلل، فعفا عنه.
أتي مصعب بن الزّبير برجلٍ من أصحاب المختار فأمر بضرب عنقه فقال: أيّها الأمير، ما أقبح بك أن أقوم يوم القيامة إلى صورتك هذه الحسنة، ووجهك هذا الذي يستضاء به، فأتعلق بأطرافك وأقول: أي رّ سل مصعباً لماذا قتلني، فقال: أطلقوه، فقال: أيّها الأمير، اجعل ما وهبت لي من حياتي في خفض عيشٍ، فقال: أعطوه مائة ألف درهم، قال: أشهد الله تعالى أنّي جعلت لابن قيس الرّقيّات منها خمسين ألف درهم، قال: ولم؟ قال: لقوله: الخفيف
إنّما مصعبٌ شهابٌ من الل ... هـ تجلّت عن وجهه الظّلماء(8/188)
فضحك مصعبٌ وقال: فيك موضعٌ للصّنيعة، وأمره بملازمته ومؤانسته.
شاعر: الطويل
ومولىً لو أنّ السّمّ كان بكفّه ... سقاني من ذيفانه فقضاني
معنّىً ببغضي والأواصر بيننا ... جزى الله عنه نفعه وجزاني
أليس يرى أنّا إلى وقت غايةٍ ... وأنّ يدي من دونه ولساني
وأنّي وإن أمسيت رمساً بقفرةٍ ... وأقبرت لم يسلم من الحدثان
قال القطامي من قصيدة: الوافر
لقد علمت كهولهم القدامى ... إذا قعدوا كأنّهم النّسار
وشقّ البحر عن أصحاب موسى ... وغرّقت الفراعنة الكفار
وقول المرء ينفذ بعد حينٍ ... أماكن لا تجاوزها الإبار
تسمّع من نوازله صريفاً ... كما صاحت على الحدب الصّقار
قال: النّسار جمع نسر، والكفار جمع كافر، والإبار جمع إبرة، والصّقار: جمع صقر، ولهذا رويناه.
شاعر: الطويل
سأشرب كاسيك اللّتي أنت شاربٌ ... وإن كانتا والله صاباً وعلقما
وأدخل كفّي إثر كفّك في الذي ... عناك ولو أدخلتها جحر أرقما(8/189)
قال أعرابيٌّ لصاحبٍ له: أنت والله كالقمر الزّاهر عند الشّرب، والسّحاب الماطر لدى اللّزب، والأسد الخادر عند الحرب.
قيل لأبي عمرة: كيف امرأتك؟ قال: مسقاط اللّيل، معثار الذّيل.
يقال: الرّاحة للرجال غفلة وللنّساء غلمة.
ويقال: الشّيب خطام المنيّة، ووافد الحمام، وتاريخ الكتاب في عنوان العمر، وبريد الفناء، ورائد الموت، وتمهيد الهلاك، وأول مراحل الآخرة.
لهلال بن العلاء الرقّي: البسيط
لمّا عفوت ولم أحقد على أحدٍ ... أرحت نفسي من غمّ العداوات
إنّي أحيّي عدوّي عند رؤيته ... لأدفع الشرّ عنّي بالتّحيّات
وأظهر البشر للإنسان أبغضه ... كأنّه قد ملا قلبي محبّات
والنّاس داءٌ وداء النّاس قربهم ... وفي الجفاء لهم قطع الأخوّات
فلست أسلم ممن لست أعرفه ... فكيف أسلم من أهل المودّات
لبعض المتكلّمين: الطويل
إذا أمر الله الورى ونهاهم ... بما لم يركّب فيهم علم ذلك
فلا بدّ عندي من دليلٍ يدلّهم ... وإلاّ فلا عتبٌ على كلّ هالك(8/190)
قيل للإسكندر: إنّ فلاناً يثلبك فلو عاقتبه، قال: هو عند العقاب أعذر.
لما فتح قتيبة سمرقند أفضى إلى أثاثٍ لم ير مثله وإلى آلاتٍ لم يسمع بمثلها، فأحبّ أن يرى الناس ذلك، فأمر بالفرش ففرش، وأحضر قدوراً يرتقى إليها بسلالم، ودخل عليه الحضين بن المنذر بن الحارث بن وعلة الرّقاشيّ، فلمّا رآه عبد الله بن مسلم سأل قتيبة أن يأذن له في كلامه فقال: لا ترده فإنّه خبيث، فأبى عليه فأذن له، وكان عبد الله يضعّف، وكان قد تسوّر حائطاً إلى امرأةٍ قبل ذلك، فقال للحضين: أمن الباب دخلت يا أبا ساسان؟ قال: أجل، أسنّ عمّك عن تسوّر الحيطان، قال: أرأيت هذه القدور؟ قال: هي أعظم من أن لا ترى، قال: ما أحسب بكر بن وائلٍ رأى مثلها، قال: لا ولا عيلان، ولو كان رآها سمّي شبعان ولم يسمّ عيلان، قال عبد الله: أتعرف الذي يقول: الطويل
عزلنا وولّينا وبكر بن وائلٍ ... تجرّ خصاها تبتغي من تحالف
قال: أعرفه وأعرف الذي يقول: الوافر
وخيبة من يخيب على غنيٍّ ... وباهلة بن يعصر والرّكاب
قال له: أتعرف الذي يقول: الطويل
كأنّ فقاح الأزد حول ابن مسمعٍ ... وقد عرقت أفواه بكر بن وائل(8/191)
قال: أعرفه وأعرف الذي يقول: الكامل
قومٌ قتيبة أمّهم وأبوهم ... لولا قتيبة أصبحوا في مجهل
وحجز قتيبة بينهما.
قال قتادة بن مغرّب اليشكريّ: الرجز
رأيت عبد القيس لاقت ذلاّ ... إذا تعشّوا بصلاً وخلاًّ
وجوفياً ومالحاً قد صلاّ ... باتوا يسلّون الفساء سلاّ
سلّ النّبيط القصب المبتلاّ
قال النبيّ صلّى الله عليه وآله وسلّم: " الخيل بطونها كنز، وظهورها عزٌّ ".
وقال عليه السلام في النّخل: " الراسخات في الوحل، المطعمات في المحل ".
وقال عليه السلام: " يغرس في أرضٍ خوّارة، ويشرب من عينٍ خرّارة ".
وقال عليه السلام: " إيّاكم والمشارّة فإنّها تيمت الغرّة، وتحيي العرّة.(8/192)
اختصم بلال بن جرير وبكر بن الأحنف الحمّاني في ماء، فخشي بلالٌ أن يذكر أمّه وهي أمّ حكيم، وكانت أمةً للحجّاج فوهبها لجرير فولدت بلالاً ونوحاً، فقال بلال: إني لأعلم والله أنّك ستذكر أمّ حكيم، إنها لسبيئة زمام، وعطيّة ملك، وبنت دهقان، وزوج كريم، ليست كأمّك تغدو على أثر ضأنها بالمروت، والله أعلم بما وجد عليها فحلف ليهبنّها لألأم العرب، فلم جد ألأم من أبيك فوهبها له.
وجد في صندوقٍ لعبد الله بن الزّبير صحيفةٌ فيها مكتوب: إذا كان الحديث جلفاً، والميعاد خلفاً والمقيت إلفاً، والولد غيظاً، وغاص الكرام غيضاً، وفاض اللئام فيضاً، فأعنزٌ جفر، في بلدٍ قفر، خيرٌ من ملك بني النّضر.
قال العبّاس حين استسقى به عمر: اللهمّ إنّه لا ينزل بلاءٌ إلاّ بذنب، ولا يكشف إلاّ بتوبة، وقد توجّه بي القوم إليك لمكاني من نبيّك، وهذه أبداننا بالذّنوب، ونواصينا بالتّوبة، فاسقنا الغيث.
قال بعض قدماء العرب: أفضل النّساء أطولهنّ إذا قامت، وأعظمهنّ إذا نامت، وأصدقهنّ إذا قالت، التي إذا غضبت حلمت، وإذا ضحكت ابتسمت، وإذا صنعت جوّدت، التي تلزم بيتها، ولا تعصي بعلها(8/193)
العزيزة في قومها، الذّليلة في نفسها.
قال بعض السّلف: لعليٍّ أربع خصالٍ ضوارس قواطع: سطةٌ في العشيرة، وصهرٌ بالرسول، وعلمٌ بالتأويل، وصبرٌ إذا دعيت نزال؛ سطةٌ من وسطة، كعدةٍ من وعدة، وصفةٍ من وصفة، وزنةٍ من وزنة.
شقيق بن السّليك الغاضري: المتقارب
إذا ما نكحت فلا بالرّفاء ... وإمّا ابتنيت فلا بالبنينا
تزوّجت أصلع في غربةٍ ... تجنّ الحليلة منه جنونا
إذا ما نقلت إلى بيته ... أعدّ لجنبيك سوطاً أمينا
يشمّك أخبث أضراسه ... إذا ما دنوت لتستنشقينا
كأنّ المساويك في شدقه ... إذا هنّ أكرهن حمّلن طينا
كأنّ توالي أضراسه ... وبين ثناياه غسلاً لجينا
قال بعض السّلف: ما استنبط الصّواب بمثل المشورة، ولا حصّنت النّعم بمثل المواساة، ولا اكتسبت البغضة بمثل الكبر.
أتي الهادي برجلٍ مذنبٍ فجعل يقرّعه فقال الرجل: يا أمير(8/194)
المؤمنين، اعتذاري ممّا تقرّعني به ردٌّ عليك، وإقراري بما تعتدّ به عليّ يلزمني ذنباً، ولكني أقول: الطويل
فإن كنت ترجو في العقوبة راحةً ... فلا تزهدن عن المعافاة بالأجر
قدم عبد الصمد بن المفضّل الرّقاشي الرّيّ وخالد بن ديسم العربي على الديوان، فكتب إليه: الطويل
أخالد إنّ الرّيّ قد أجحفت بنا ... وضاق علينا كسبها ومعاشها
وقد أطمعتنا منك يوماً سحابةٌ ... أضاءت لنا برقاً وكفّ رشاشها
فلا غيمها يضحي فييأس طامعٌ ... ولا عيشها يأتي فتروي عطاشها
وقد طال إتعابي إليك مطيّتي ... فلم يبق إلاّ عظمها ومشاشها
ولو طاوعتني النّفس في بدو أمرها ... لألفيتها قد حدّ عنك انكماشها
فأقلل بها غنماً ونفعاً ونائلاً ... مواعيد لا يبدو عليّ رياشها
أيدفعني بالباب وهبٌ وعامرٌ ... وقد ولدتني ذهلها ورقاشها
سأل أعرابيٌّ فقال: لقد جعت حتى أكلت النّوى المحرق، ومشيت حتى انتعلت الدّم، وحتّى سقط من رجلي نحض لحم، وتمنّيت أنّ وجهي حذاءٌ لقدمي، فهل من أخٍ يرحم؟ لمّا استخلف عمر بن عبد العزيز بعث أهل بيت الحجّاج إلى الحارث بن عمرو الطائي، وكان على البلقاء، وكتب إليه: أما بعد، فإنّي قد(8/195)
بعثت إليك بآل أبي عقيل، وبئس والله أهل البيت في دين الله تعالى وهلاك المسلمين، فأنزلهم بقدر هوانهم على الله تعالى وعلى أمير المؤمنين.
قدم معاوية المدينة فدخل دار عثمان فقالت ابنته عائشة: واأبتاه! فقال لها معاوية: يا بنت أخي، إنّ النّاس أعطونا طاعةً وأعطيناهم أماناً، وأظهرنا لهم حلماً تحته غضب، وأظهروا لنا طاعةً تحتها حقد، فإن نكثنا بهم نكثوا بنا، فلا يدري أعلينا يكون أم لنا، فلأن تكوني بنت عمّ أمير المؤمنين خيرٌ من أن تكوني امرأةً من المسلمين.
لما صافّ قتيبة بن مسلم التّرك وهاله أمرهم، سأل عن محمد بن واسع فقيل: هو في أقصى الميمنة جانحاً على سية قوسه، ينضنض بإصبعه نحو السماء، فقال قتيبة: لتلك الإصبع الفاردة خيرٌ من ألف سيفٍ شهيرٍ، وسهمٍ طرير.
قال بعض القدماء: إن كنت حافظاً للسّلطان في ولايتك، حذراً منه عند تقريبه، أميناً له إذا ائتمنك، تشكر له ولا تكلّفه الشكر لك، تعلّمه وكأنّك تتعلم منه، وتؤدّبه وكأنّه يؤدّبك، بصيراً بهواه، مؤثراً لمنفعته، ذليلاً إن ضامك، قانعاً إن حرمك، وإلاّ فابعد منه كلّ البعد.
اجتاز أبو الأسود الدّؤليّ بقومٍ فقال بعضهم: كأنّ غضون قفاه(8/196)
فقاحٌ، فقال: هل تعرف فقحة أمّك يا فتى؟ فأخجله.
سأل كيسان خلفاً وكان به صمم فقال له: يا أبا محرز، علقمة بن عبدة جاهليٌّ أو من ضبّة؟ فقال له خلف: يا مجنون صحّح المسألة حتى يصحّ الجواب.
قال أعرابيّ: أصابنا مطرٌ دغر الأرض.
وقال أعرابيّ: النساء فرشٌ، وخيرهنّ أوثرهنّ.
كان أعشى همدان منقطعاً إلى عتّاب بن ورقاء التّميميّ، وكان ينادمه، فقال: يا أبا المصبّح، لئن أصبت إمرةً إنها لك خاصة، خاتمي في يدك تقضي في أمور النّاس؛ فاستعمل على أصفهان، فجاءه الأعشى فجفاه فقال: الوافر
تمنّيني إمارتها تميمٌ ... وما أمّي بأمّ بني تميم
وكان أبو سليمانٍ خليلي ... ولكنّ الشّراك من الأديم
أتينا أصبهان فأهزلتنا ... وكنّا قبل ذلك في نعيم
أتذكر يا خويلد إذ غزونا ... وأنت على بغيلك ذي الوشوم
ويركب رأسه في كلّ وعثٍ ... ويعثر في الطريق المستقيم(8/197)
وليس عليك إلا طيلسانٌ ... نصيبيٌّ وإلاّ سحق نيم
لما مات النبيّ صلّى الله عليه وعلى آله وسمع بذلك نساءٌ من كندة وحضرموت، خضبن أيديهنّ وضربن بالدّفوف، فقال رجلٌ منهم: الكامل
أبلغ أبا بكرٍ إذا ما جئته ... أنّ البغايا رمن كلّ مرام
أظهرن من موت النبيّ شماتةً ... وخضبن أيديهنّ بالعلاّم
فاقطع هديت أكفّهنّ بصارمٍ ... كالبرق أومض في جفون غمام
شاعر: البسيط
ما من صديقٍ وإن تمّت صداقته ... يوماً بأنجح في الحاجات من طبق
إذا تلثّم بالمنديل منطلقاً ... لم يخش نبوة بوّابٍ ولا غلق
لا تكذبنّ فإنّ النّاس مذ خلقوا ... لرغبةٍ يكرمون النّاس أو فرق
مرّ خالد بن صفوان على أبي الجهم وتحته حمار فقال: ما هذا يا ابن صفوان؟ فقال: عيرٌ من بنات الكداد، أصحر السّربال، محملج القوائم، يحمل الرّجلة، ويبلّغ المنزل، ويمنعني من أن أكون جباراً عنيداً.(8/198)
بعث النعمان إلى الحارث بن أبي شمر جيشاً وقال: من يعرف عدوّنا الذي أنفذنا إليه جيشنا؟ فقال بعض بني عجل: أنا، فقال النّعمان: صفه، فقال: قطفٌ نطف، صلفٌ قصف، فقام الرّديم وهو عمرو بن ضرار فقال: أبيت اللّعن، أوطأك العشوة: هو والله حليم النّشوة، شديد السّطوة، قال: صدقت، كذا ينبغي أن يكون عدوّنا.
لورد بن عاصم المبرسم في الحسن بن زيد العلوي: الوافر
له حقٌّ وليس عليه حقٌّ ... ومهما قال فالحسن الجميل
وقد كان الرسول يرى حقوقاً ... عليه لأهلها وهو الرّسول
فطلبه فهرب منه، ثم لم يشعر يوماً إلاّ وهو بين يديه يقول: الوافر
ستأتي عذرتي الحسن بن زيدٍ ... وتشهد لي بصفّين القبور
قبورٌ لو بأحمد أو عليٍّ ... يكون مجيرها حفظ المجير
هما أبواك من وضعا فضعه ... وأنت برفع من رفعا جدير
فاستخفّ الحسن كرمه، فقام فبسط رداءه وأجلسه عليه وأمّنه.
قال بعض أهل اللغة: لببت الشيء ألبّه لبّاً إذا شددته بحبلٍ أو خيط؛ ونادى أعرابيٌّ غلامه فقال: لبّيك، فقال: لبّ الحبل جنبيك؛(8/199)
هكذا قال أبو محمد الأندلسيّ، وكان كبيراً في اللغة، ورد بغداد وهو نحويٌّ، ولزم أبا سعيد السّيرافي، وأنشد لبعض أهل المغرب: البسيط
الجود والغول والعنقاء ثالثةٌ ... أسماء أشياء لم تخلق ولم تكن
وأنشد لآخر منهم: الخفيف
لو قضى الله للمنون بحتفٍ ... صيّر البين للمنون منونا
وكان أشحّ النّاس، وهذه شيمة أهل المغرب، وكان ربّما قرض البيت، إلا أنّه كان ركيك الشّعر رديء النّثر سيّء العبارة، كثير الحفظ جيّد الإتقان، ومات ببغداد سنة خمسٍ وسبعين وثلاثمائة.
للوليد بن عقبة: الطويل
وكنّا إذا ما حيّةٌ أعيت الرّقى ... وكان زعافاً يقطر السّمّ نابها
دسسنا لها تحت الظلام ابن ملجمٍ ... جريّاً إذا ما جاء نفساً حسابها
أبا حسنٍ ذقها على الرأس ضربةً ... بكفّ كريمٍ بعد وقتٍ ثوابها
أمات ابن عفّانٍ فلم تبق دمنةٌ ... ونحن موالي غمرةٍ لا نهابها
فألقى على المصريّ ثوب ظلامةٍ ... كما سلخت شاةٌ فطار انكعابها
قال أعرابيّ: لا يكشف منسدل الهمّ إلاّ مشمّر الصّبر.(8/200)
739ب - قد سألت السّيرافيّ عن الانسدال والانشمار فقال: مسموعان.
قال بعض الفرس: الصّبر ربيع القلب.
وقال آخر: الصّبر يقلّم أظفار الخطوب.
كان أبو طالب نديماً لمسافر بن أبي عمرو، وهلك مسافرٌ فرثاه أبو طالب فقال: الخفيف
ليت شعري مسافر بن أبي عم ... روٍ وليتٌ يقولها المحزون
رجع الرّكب سالمين جميعاً ... وخليلي في مرمسٍ مدفون
قال بعض أهل اللغة: في الفم اثنتان وثلاثون سنّاً، ثنيّتان من فوق وثنيّتان من تحت، ورباعيّتان من فوق ورباعيّتان من تحت، ونابان من فوق ونابان من تحت، وضاحكتان من فوق وضاحكتان من تحت، وثلاث أرحاءٍ من فوق وثلاث أرحاءٍ من تحت، وثلاث أرحاءٍ من فوق وثلاث أرحاءٍ من تحت، وناجذان من فوق وناجذان من تحت.
وقّع أبو صالح محمد بن يزداد إلى عاملٍ أخّر أمراً: جعلنا إهمالنا لك وتعطّفنا ورفقنا بك مطيّةً لمطلك، وسبباً لدفعك ما لزمك ووجب عليك، فامح ببدارك إساءتك، وبتعجيلك مدافعتك، وأحضر حسابك مفصّلاً في باقي أسبوعك، ولا تحوج إلى عنفٍ بك، واستقصاءٍ عليك، إن شاء الله.(8/201)
وكتب إلى جعفر بن محمود: ما زلت - أيّدك الله - أذمّ الدهر بذمّه إياك، وأنتظر لنفسي لك عقباه، وأتمنّى زوال حال من لا ذنب له إلى رجاء عاقبةٍ محمودةٍ تكون لك بزوال حاله، وتركت الإعذار في الطّلب على اختلالٍ شديدٍ إليه، ضنّاً بالمعروف عندي إلاّ عن أهله، وحبساً لشكري إلاّ عن مستحقه.
فوقّع جعفر: لم أؤخّر ذكرك تناسياً لحقّك، ولا إغفالاً لواجبك، ولا إرجاءً لمهمّ أمرك، ولكني رجوت اتساع الحال بانفساح الأعمال، لأخصّك بأسناها خطراً، وأجلّها قدراً وأعودها بنفعٍ عليك، وأوفرها رزقاً لك، وأقربها مسافةً منك، وإذا كنت ممّن يحفزه الإعجال، ولا يتّسع له الإهمال، فسأختار لك خير ما يشير إليه، وأقدّم النظر فيه، وأجعله أول ما أمضيه، إنّ شاء الله.
خطب يزيد بدمشق فقال: أيّهاالناس، سافروا بأبصاركم في كرّ الجديدين، ثمّ ارجعوها كليلةً عن بلوغ الأمل، وإنّ الماضي عظةٌ للباقي، ولا تجعلوا الغرور سبيل العجز عن الجدّ فتنقطع حجتكم في موقفٍ الله تعالى سائلكم فيه ومحاسبكم على ما أسلفتم. أيّها النّاس، أمس شاهدٌ فاحذروه، واليوم مؤدّبٌ فاعرفوه، وغدٌ رسولٌ فأكرموه، وكونوا على حذرٍ من هجوم القدر، فإن أعمالكم مطيّات أبدانكم، والصّراط ميدان يكثر فيه العثار، والسالم ناجٍ والعاثر في النّار.(8/202)
قال محمد بن العلاء السّجزي: لما ولي عبيد الله بن سليمان الوزارة، أوصلت إليه كتاباً من عبيد الله بن عبد الله بن طاهر، وفيه يقول: الطويل
أبى دهرنا إسعافنا في أمورنا ... وأسعفنا فيمن نحبّ ونكرم
فقلت له نعماك فيهم أتمّها ... ودع أمرنا إنّ المهمّ المقدّم
ذكر أعرابيٌّ امرأةً فقال: إن دعت القلوب لم تبطء عنها، وإن قتلت لم يعد عليها.
قال الهيثم بن عديّ: قال جعفر بن معاوية لخالد بن صفوان: ما منعك أن يكون عندك امرأةٌ شريفةٌ من أشراف أهل البصرة؟ قال: فابغني امرأةً، قال: فأيّ النساء تريد؟ قال: ابغني امرأة بكراً كثيّبٍ وثيّباً كبكر، لا ضرعاً صغيرةً ولا عجوزاً كبيرة، عاشت في نعمةٍ وأدركتها حاجة، فخلق النّعمة معها وذلّ الحاجة فيها، وحسبي من حسبها أن تكون واسطةٌ في قومها، وحسبي من جمالها أن تكون فخمةً من بعيد، مليحةً من قريب، ترضى منّي بالسّنّة، وترفع عنّي المنّة، إن عشت أكرمتها، وإن متّ ورّثتها، لا ترفع رأسها إلى السماء رفعاً، ولا تضعه في الأرض وضعاً، أديبةً عاقلةً فصيحة. فقال جعفر: يا أبا صفوان، الناس في طلب هذه منذ زمانٍ حتى يبايعوها على الخلافة فلا يقدرون عليها، فاسل فإنّك حالم.
لمّا سيّر عليّ بن الجهم إلى خراسان كتب إلى بعض إخوانه على لسان غلامٍ له: أمّا بعد، فإنّ الله إذا أراد أمراً جعل له من قضائه سبباً يجري(8/203)
بعلمه، وينتهي إلى قدره، ولا إله إلاّه، أحصى كلّ شيءٍ عدداً، وأحاط بكلّ شيءٍ علماً، وجعل لكلّ قدراً، ومن أسباب قدره أن سهّل لي بعدك من الشّعر ما أخاطب به الشاهد وأكاتب الغائب، وأجتدي به وأستزيد، وأبلغ ما أريد، وهو يؤنسني إذا أوحشت، ويطيعني إذا عصيت، ويصدع عنّي إذا شيت، بليغ الخطبة، جميل العشرة، كريم الصّحبة، يرد الأندية، ويلج الأخبية، سائراً في البلاد، مسافراً من غير زاد، راضياً إن رضيت، مؤذياً إن أوذيت، جازياً بما أوليت، باقياً إذا أفنيت، معترضاً في الأسمار، عالماً بالأخبار، ومعزّياً عن الأوتار، يحضر إن غبت، ويجسر إن هبت، ولا يحظر بالحظر، ولا يوزع بالزّجر، إذا قيّد رتك، وإذا أغمد بتك، وإذا جرّد فتك، يلقح به الغزل ويعلل به الشمل ويأنس به الوجل وقد أتحفتك منه ببعض ما يجدّد عندك ذكرنا، وتعرف به خبرنا، وهو شعرٌ قلته في مقامٍ واحدٍ لم أزل أعجب منه، وسأصف لك المقام لتحمد الله تعالى عليه: لمّا كان اليوم الذي وردنا نيسابور، وقصدنا باب الأمير، وقد احتشد لنا الناس وكان من قدّر ذلك يتوهّم مع الخبر الشائع الذي حملنا له أنّ الداعي علينا سيكثر، وأنّ الشّامت بنا سيظهر، إذ كنّا في حالٍ لم يحمل على مثلها بابك ولا المازيار، وما منهما إلاّ قد رأينا؛ فبينا الناس كذلك إذ اقبل به في محملٍ قليل الوطاء، مسلوب الغطاء، فلمّا توسطنا الجماعة، ونظروا إليه، فلم يكن في ظاهره ما يسمج، ولا في قديمه ما ينكر، ولا في مساعيه ما ينقم، ولا في قدر الذّنب الذي ذكر أنه فعله ما يبلغ به ذلك عند الناس، وجد الوليّ إلى الدّعاء له بالخير سبيلاً، وساعده من حضر، وارتجّ الجميع بالدعاء له، فصار ما نعي عليه(8/204)
معونةً له، وأبى الله تعالى، المحسن إلينا، أن يسلبه السّتر الجميل، إذ سلبه الآدميّون الغطاء، وألاّ يزيل نعمه إذ زال كلّ ما كان فيه، وألا يجعل لأعدائه إلى الشّماتة به سبيلاً، والسلام.
قال عمر بن الخطّاب: ما رأيت صغير الهمّة إلاّ رأيته مذموم الأحدوثة.
جلد صهيبٌ المدينيّ في الشّراب، وكان جسيماً، وكان الجلاّد قصيراً قميئاً فقال له: تقاصر لينالك السّوط، فقال: ويلك، إلى أكل الفالوذج تدعوني؟! والله لوددت أنّي أطول من عوج، وأنت أقصر من يأجوج.
ضرب طويسٌ في الشّراب فقيل له: كيف كان جلدك على وقع السّياط؟ قال: بلغني أنّي كنت صبوراً.
شاعر: المتقارب
لكلّ أديبٍ ترى همّةً ... وهدياً يدلّ على همّته
ولم ار مثل فتىً ماجدٍ ... يداري الأمور على فطنته
يجازي الصّديق بإحسانه ... ويرجي العدوّ إلى غفلته
ويلبس الدهر تبّانه ويخضع للقرد في دولته.
بلوت الرجال وجرّبتهم ... فكلٌّ يدور على لذّته
قال تميم بن نصر بن سيّار لأعرابيّ: هل أصابتك تخمةٌ قطّ؟(8/205)
قال: أمّا من طعامك وطعام أبيك فلا.
شاعر: الكامل المجزوء
ودّعته فتناولت ... عيناه من عيني دموعا
أسف الزمان عليّ أن نبقى كما كنا جميعا
وأحلّني في غربةٍ ... وأحلّه البلد الشّسيعا
وما كنت أحسب أن يكو ... ن كذا تفرّقنا سريعا
قال أعرابيّ: قبحاً لدهرٍ لا تصفوا أيامه، ولا تنصف أحكامه، وأنشد: الطويل
فإن تك أحزانٌ وفائض عبرةٍ ... أثرن دماً من داخل الجوف منقعا
تجرّعتها من عاصمٍ واحتسيتها ... وأعظم منها ما احتسى من تجرّعا
فليت المنايا خلّفت لي عاصماً ... فعشنا جميعاً أو ذهبن بنا معا
قال أعرابيٌّ لرجل: إنّ فلاناً وإن ضحك إليك، فإنّ قلبه يضحك منك، ولئن أظهر شفقته عليك فإن عقاربه تسري إليك، فإن لم تتخذه عدوّا في علانيتك فلا تجعله صديقاً في سريرتك.
شاعر: الكامل المجزوء
وكلت قلبي بالولو ... ع وجفن عيني بالدّموع
إذ لا سبيل إلى الوصا ... ل ولا طريق إلى الرّجوع
أما ولوعات الفرا ... ق يشبّها بين الضّلوع
لا مال قلبي ما حيي ... ت من النّزاع إلى النّزوع(8/206)
كلاّ ولا ذاقت جفو ... ني بعده طيب الهجوع
قال أحمد بن الطّيب: نظر بعض الأفاضل إلى رجلين أحدهما قد حمل ديكاً ليقاتل به والآخر قد حمل محبرةً وورقاً ليستفيد أدباً فقال: إنّ سعيكما لشتّى.
لسلمان الفارسيّ: الوافر
أبي الإسلام لا أب لي سواه ... إذا افتخروا ببكرٍ أو تميم
بدعوى الجاهلية لم أجبهم ... ولا يدعوا بها غير الأثيم
دعي القوم ينصر مدّعيه ... ليلحقه بذي الحسب الصميم
قال سليمان التّميمي: دخلت على الأعمش وعنده نبيذٌ في إناء فقلت: ألا تغطّيه لئلا يقع فيه الذّباب؟ فقال: هذا أكرم من أين يقع الذّباب.
قال أبو هاشم: سمعت عمّي يقول: كان بين الأعمش وبين رقبة ابن مصقلة معارضةٌ، كتب إليه الأعمش كتاباً يتوعّده، فأجابه رقبة، أمّا بعد، يريبني منك أباً محمدٍ أنّك تضرع في وعيدك، وتستعين بأمثال غيرك، لو شئت لأضربنّ قذالك بتصريف المقال، ثم لأتبعنّها بنوافذ الأمثال؛ فوضع الأعمش يده على رأسه وقال: ما لنا ولخطباء عبد القيس.(8/207)
قال عيسى بن موسى وهو يلي الكوفة لابن أبي ليلى: اجمع الفقهاء وأحضروني، فجاء الأعمش في جبّة فروٍ وقد ربط وسطه بشريط، فأبطأوا، فقام الأعمش وقال: إن أردتم أن تعطونا شيئاً وإلا فخلّوا سبيلنا، فقال عيسى: أبا ليلى، قلت لك تأتيني بالفقهاء فجئتني بهذا؟ فقال: هذا سيّدنا، هذا الأعمش.
قال أبو معاوية الضّرير: كتب هشام بن عبد الملك إلى الأعمش أن اكتب إليّ بمناقب عثمان ومساوئ عليّ، فأخذ القرطاس فأدخله في فم الشّاة فأكلته وقال: قل له: هذا جوابه، فرجع الرسول وعاد فأتى الأعمش فقال الرسول: إنه بدا لي أن يقتلني، وتحمّل عليه بإخوانه، فقالوا: يا أبا محمد أنقذه من القتل، فلمّا ألحّوا قال له: اكتب:
بسم الله الرحمن الرحيم، أمّا بعد، فلو كانت لعثمان مناقب أهل الأرض ما نفعتك، ولو كان لعليٍّ مساوئ أهل الأرض ما ضرّتك، فعليك بخويّصة نفسك والسلام.
قال أعرابيّ: سمعت خبراً استكّت منه مسامعي، واستهلّت له مدامعي.
قال أبو عبد الرحمن المقرئ: كنّا عند المقام وفينا مالك بن أنس، فطلع علينا أبو حنيفة فقال مالك: لقد جاءكم رجلٌ لو ناظر الشيطان قطعه.(8/208)
قال عبد العزيز الدراورديّ: كان مالك ينظر في كتب أبي حنيفة ليتفقّه بها.
قال الشافعيّ: قلت لمالك: أرأيت أبا حنيفة؟ قال: نعم رأيت رجلاً لو قال إنّ هذه السّاريةمن ذهبٍ لاحتجّ له.
قال مالك، إن أبا حنيفة قال في الإسلام ستّون مسألةً.
قال الأوزاعي: لا أنقم على أبي حنيفة أنه رأى كما أرى.
قال يحيى بن الزّبير بن عبادةبن حمزة بن عبد الله بن الزّبير، وكان من العبّاد: شكوت إلى هشام بن عروة ما ألقى من بعض أهلي فقال: يا ابن أخي اصبر عليهم فهكذا كنت مع إخوتي، ثم إني أصبحت لأبنائهم أباً، ولمنازلهم ربّاً.
قال هارون بن صالح: كنّا نعطي الغسّال الدراهم الكثيرة حتى يغسل ثيابنا في أثر ثياب عمر بن عبد العزيز من كثرة الطّيب فيها.
دخل رسول الله صلّى الله عليه وسلّم على عائشة وهي تبكي فقال: " ما يبكيك "؟ فقالت: لفلانة مسكتان من ذهبٍ ولي مسكتان من ورقٍ، قال: " خلّقيهما بزعفران يأتيان كأنّهما ذهب ".(8/209)
قال مالك بن أنس: كانت جلسة رسول الله صلّى الله عليه وسلّم أن يحتبي بيديه وينصب ركبتيه.
دخل المسور على معاوية فقال له: كيف تركت قريشاً؟ قال: أنت سيّدها يا أمير المؤمنين، أعلاها كعباً، وأسودها أباً، وأرفعها ذكراً، وأجلّها قدراً.(8/210)
/الجزء التاسع
بسم الله الرحمن الرحيم
رب أعن
اللهم أسألك خفايا لُطفك وفواتح توفيقك، ومألوف برك، وعوائد إحسانك، وجاه المقدمين من ملائكتك، ومنزلة المصطفين من رُسلك، ومكانة الأولياء من خلقك، وعاقبة المتقين من عبادن؛ أسألك القناعة برزقك، والرضا بحكمك، والنزاهة عن محظورك، والورع في شبهاتك، والقيام بحججك، والاعتبار بما أبديت، والتسليم لما أخفيت، والإقبال على ما أمرت، والوقوف عما زجرت، حتى أتخذ الحق جنة عند ما خف وثقل، والصدق سنة فيما عسر وسهل، وحتى أرى أن شعار الزاهد أعز شعار، ومنظر الباطل أشره منظر، فأتبختر في ملكوتك بالدعاء إليك، وأبلغ الغاية القصوى بين خلقك بالثناء عليك، متيقناً أن الاقتصاد أوطأ سبيلاً وأعز حريماً.(9/5)
هذا الجزء التاسع من البصائر، وكان عذري فيه - أعني الكتاب - أنه يتم بما يسر الناظر، وأرى العجز قد قهر، والاستعفاء قد حسن، والعذر قد وجب، لأن البقية من مذاكرة الأدب إذا اختصها هذا الجزء بقيت بقية في الصوفية، وقد كان الوعد سلف إفرادها عن سائر الفنون، وبقيت بقية أخرى من فلسفة الفلاسفة. وقال لي بعض إخواني: قدم من هذين الفنين ما إذا تخلص من الجملة كان لأثره وقع، فاقتصرت على ذلك، ولعمري إن الوصف على ما يأتي عليه، ولكن ليس الرأي على ما أرشد إليه، لأني فقير إلى ما يستغني هو ونظراؤه عنه، وضماني لا يزول برأي غيري، وحاجَتي لا تسقط بكفاية من سواي، وأنا جار على المصلحة المنوية في هذا الكتاب لنفسي ولمن يجري مجراي، ويعتذر إلى من خالفني في هذا الرأي. ولم يختر هذا التطويل، لأن الرغبة الصادقة في العلم تخفف علي كل (ثقيل) ، وتذلل كل صعب، وتزيل كل زهد، وترسل على الجساء ناعماً، و (تجعل) منظر الشوهاء رائعاً، وبعيد المطلوب دانياً، ووعر المحتاج إليه سهلاً، وأبي المتمني سمحاً، وعصي المراء طيعاً. واعلم أن المحظوظ من أنعم بالعلم عليه، ووفق للإخلاص فيه، وحشي سره طمأنينة، وبوشر قلبه بالسكون، ورفع همه عن الإشناق إلى ما لا يليق به واستشراف ما لا يصل إليه، ولن يحسن هذا المحظوظ عشرة هذه النعمة، ولا يستمتع بنضرتها، ولا يحمد غبها، دون أن يكون رائضاً للسانه على الشكر، وعامراً لصدره بالإخلاص، وهاجراً للهوينا في ما اجتلب الزيادة، مجانباً للتفريط في ما وكل به المقت والتصق به العار أو وصمته القالة؛ ولن ينتفع بهذه المقدمات كلها دون أن يعلم أن الدنيا دار عمل، والآخرة دار جزاء، وأن من فاتته في العاجل صنع له، وأن ما نال منها وبال، وأن القرار في دار الآخرة التي من سلك سبيلها نجا، ومن راغ عن(9/6)
سنتها ضل وغوى.
فاعرف - حفظك الله - هذه الوصايا، وأدب سرك بهذه المواعظ، واستيقن أن زائدها وإن اتصل ناقص، وظلها وإن امتد قالص، ومقيمها وإن تلوم شاخص، وكن مقبوض الكف، مغضوض الطرف، إلا عما أباح الله ورخص فيه وأذن لك أن تتناوله؛ واحذر الانهماك فإنه شوط عسير، وغاية ذات ندامة، وضرب (ليس) من حزب الفضلاء، واعمر عمرك بالصالح من العمل، والصادق من القول، والصحيح من الاعتقاد، ولا تبحث عما زوى الله سره عنك، ونزه حكمته عن تحصيلك، واستأثر بغيبه عن احتجاجك بقلبك، ولا تعترض على خالقك لالتباس يرد عليك، أو لشبهة تغالب فطنتك، فإن النظام جار على التمام، والخير واصل إلى الخاص والعام، فاحمد الله الذي أفردك بالصلاح في دهر الفساد، وزينك بالكرم في زمان اللؤم، وحبب إليك الإحسان بين أهل الإساءة.
وسل الله مزيداً لك، ورفقاً بك، وأخذاً بيدك، وعافية في جسمك، وحراسة للنعمة عندك، وصرفاً للصروف عن ساحتك، فإنه جواد واجد، ملك ماجد.
اللهم إني أشكو إليك سوانح نفسي، وفلتات ضجري، وقوارص لساني، وسيئات عملي، وخوادع أملي، فكن لي نصيراً وبي رحيماً، فلا قوة لي إلا بك، ولا توفيق إلا منك، ولا منال إلا على يدك، قلبني بين ما تحب وترضى، وقربني من حياضك الممدودة، ورياضك الممطورة، واسقني بكاس الرضا سلوة عن الدنيا، وامح أثرها من صدري، واجعل نازل قضاياك قريناً لصبري، وأحيني في طاعتك ناضر الوجه، صريح اللب، مرجواً مأمون الغوائل، ثم اقبضني إلى مقام الصادقين، واحشرني في(9/7)
حزبك، ألا إن حزب الله هم الغالبون؛ وصل على أمين خلقك، وحامل وحيك، الواسطة بينك وبين عبادك، ما لمع بارق، وذر شارق، إنك على ذلك أقدر القادرين وأجود الجائدين.(9/8)
قال النبي صلى الله عليه وسلم: خمس من أتى الله بهن أو بواحدة منهن أو جب له الجنة: من سقى هامة صاديةً، أو أطعم كبد هافية، أو كسا جلدة عارية، أو حمل قدماً حافية، أو أعتق رقبة عانية.
قوله سقى وأسقى، وقد فصل قوم بينهما، فقال: سقى أي جعل له ما يسقي به نفسه، وأسقى أي حصل له ماء سقيا، والسقي - بكسر السين - فنصيبه الباقي من المسقي، فأما السقي فمصدر على بابه المعتاد. والهامة الصادية: الإنسان العطشان، وفي سقي الماء آثار مأثورة: والصدى مقصور، يقال: صدي يصدى صدىً وهو صادٍ. والكتاب يقولون: أن صاد إلى لقاؤك، على الاستعارة، فهو كلام العرب، وأما الصدى فهو الذي يجيبك إذا ناديت بين جبلين، وذلك تراجع الصوت على الحقيقة ليس إن حيواناً يرد عليك وتقول في الأول أن صادٍ وصديان وهي صادية وصديا، ويقال: فلان صدى مالٍ إذا كان سائساً له لا هم له سواه. وقوله: " كبداً هافية " من الجوع فإن الكبد تهفو أي تخف، يقال: فلان قلبه هافٍ وأمره غافٍ وسره وافٍ، هكذا سمعت الحراني بمكة، وكان فصيحاً. وأما الرقبة العانية فهي المماليك، لأنهم أسرة قبضة. وإنما قلت هذا لأن بعض ما يضيق عطنه عن الاتساع في الاستعارة قال: فإن أعتق عانياً لا يجوز، وهذا يعوزه تمييز تصحيح الكلام من سقيمه.(9/9)
خرج عمر بن الخطاب رضي الله عنه ذات يوم وعليه حلة، فنظر الناس إليه مستريبين، فلما رآهم كذلك أنشد:
لا شيء فيما ترى إلا بشاشته ... يبقى الإله ويفنى المال والولد
والله ما الدنيا في الآخرة إلا كنفجة أرنب. هكذا سمعت ابن الجعابي يروي، قال: وقال بعض جفاة النساك: ما لبس عمر حلة قط. وهذا أيضاً جهل آخر، قد لبس رسول الله صلى الله عليه وسلم الحلة، وركب الجواد، وشرب الحلو والبارد، وباشر النساء، ولم يله عن الله عز وجل في خلال ذلك، لقوة عزيمته في الإيمان، ولشدة منته في التقوى، وكذلك الصالحون من هذه الأمة على درجاتهم، لا يصغر شيء من هذا، ومتى كان التناول لله والترك لله لم يكن للباطل بين ما الله وما بالله موقع، ولا للحق فيه منزع.
قيل لحاتم الأصم: لو قرأت لنا شيئاً من القرآن فقال: نعم، فاندفع يقرأ: آلم. ذلك الكتاب لا ريب فيه هدىً للشقيين الذين لا يؤمنون بالغيب ولا يقيمون الصلاة ومما رزقناهم يكنزون. قالوا: ليس هكذا قال: صدقتم. ولكن كذا أنتم قال يحيى بن وثاب في بغداد مدينة السلام وقبة الإسلام معدن الخلاف ومعقل الأناقة جعلها الله لخليفته مثوى ولشيعته مهوى.
قال ثعلب: يقال فلان كالبدر ليلة تمامه وكدرة شق عنها(9/10)
الصدف، وفلان أمضى من السيف، وأدفأ من النار، ولسان فلان كالمبرد ووجه فلان كالمسن، وجبينه كاللجين قال الناشئ الكبير
العيش فانٍ فمن عد الغنى كدراً ... فعف ثم اكتفى بالعفو منه صفا
أشدد يديك بمن تهوى فما أحد ... يمضي فيدرك حقاً بعده خلفا
واستعتب الحر إن أنكرت شيمته ... والحر يستأنف العتبى إذا أنفا
ولم تجد من له في قصده سبق ... إلا وجدت له عن حظه جنفا
من ذا الذي نال حظاً دون صاحبه ... يوماً وأنصفه في الود أو نصفا
لا خير في رجل يعطيك مهجته ... حتى إذا أعجبته حاله انحرفا
وله:
فإن تكن الأيام خانت فربما ... أرتنا زمام الحر في قبضة العبد
وله:
ملكنا وكل المماليك ميسما ... ودنا وكنا للديانة موسما
قال جحا لأمه: اخبزي، قالت: ليس لنا دقيق، قال: فاخبزي فطير(9/11)
لليثي في قتل محمد بن زيد وآله:
آل زيد رماكم الده ... ر واجتث أصلكم
بدد القتل بالصوا ... رم والسمر شملكم
لا أرى الذنب للذي ... أحدث الآن قتلكم
بل أراه لمعشر ... أسسوا ذاك قبلكم
لما صار امرؤ القيس بمدينة تدعى أنقرة مرض وأحس بالموت فقال:
رب خطبة مسحنفره ... وطعنة مثعنجره
وجفنة مدعثرة ... متروكة بأنقره
ورأى قبراً لمرأة من بعض بنات ملوك الروم فقال:
أجارتنا إلى الخطوب تنوب ... وأني مقيم ما أقام عسيب
أجارتنا إنا غريبان هاهنا ... وكل غريب للغريب نسيب
وكان وسيماً جسيماً وكان مع ذلك مفركاً، قال لامرأة: ما تكره(9/12)
النساء مني؟ قالت له: لأن ريحك إذا عرقت ريح كلب، قال: صدقت
قال ثعلب: الشبادع العقارب، وقال: الأزيب: الدعي، وهو في بيت الأعشى: الذكي، والأزيب من الرياح.
قال شبيب بن شيبة: اشتريت جارية فأصبت منها ما يصيب الشيخ من الشابة، ثم خرجت لحاجتي ورجعت وقد عصبت رأسها، فقلت: ما لك؟ قالت: لا جزاك الله خيراً، ما زدت على أن هيجته وتركته يتقطع في أوصالي قال الأصمعي، قال أبو عبيدة: رأيت بطريقي مكة أعرابية تبيع الخوص لم أر أجمل منها قط، فوقفت أنظر إليها متعجباً من جمالها، إذا أقبل شيخ فقير فأخذ بأذنها فسار بها، فقلت من هذا؟ قالت: زوجي، قلت: كيف يرضى مثلك بمثله؟ قالت: إن له قصة، ثم أنشدت:
أيا عجباً للخود يجري وشاحها ... تزف إلى شيخ من القوم تنبال
دعاني إليه أنه ذو قرابة ... فويل الغواني من بني العم والخال(9/13)
قرأت في مجموع لابن المعتز من أخبار شارية المغنية:
جعلت طريقي على بابكم ... وما كان بابكم لي طريقا
صرمت الأقارب من أجلكم ... وصافيت من لم يكن لي صديقا
سمع عمر بن الخطاب راكباً بفلاة يتغنى فقال: إن الغناء زاد الراكب.
قال أبو العيناء لرجل: والله ما فيك من العقل شيء إلا بمقدار ما تجب به الحجة عليك، والنار لك.
كاتب: إن الشكر من الله بأحسن المواضع، فازدد منه تزدد به، وحافظ عليه تحفظ به.
قال الناشئ الكبير، قال الحكماء: متى كانت الهمة فوق النعمة كان الفقر أحسن من السؤال.
شاعر:
العبد عبدك فاحكم فيه واحتكم ... وأعدل وجر غير مأخوذ بلا ولم
لا رد عندي لما تأتي به أبداً ... ولو حكمت لأعدائي بسفك دمي
اصدد إذا شئت أن يعتادني سقم ... وصل إذا شئت أن أبرا من السقم
ونور وجهك لولا ما أؤمله ... من نور طيفك لي في النوم لم أنم(9/14)
قال أحمد بن أبي طاهر، حدثني حبيب - يعني أبا تمام - قال، حدثني كرامة قال: قدم علينا رجل من ولد معدان بن عبيد المغني بغداد، وكان شاعراً قد ناله من البرامكة مال كثير، فقلت له: كيف تركت آل برمك؟ قال: تركتهم وقد أنست بهم النعمة حتى كأنها منهم أو بعضهم. قال كرامة: فحدثت بهذا الحديث ثعلبة بن الضحاك العامري فقال: قد سمعت من بعض أعرابكم نحواً من هذا، قلت: وما هو؟ قال: قدم علينا فلان في عنفوان خلافة هشام، فرأى آل خالد بن عبد الله القسري فقال: إني أرى النعمة قد لصقت بهؤلاء القوم حتى كأنها منهم، قلت: فإن صاحب هذا الكلام ابن عم صاحب ذلك الحديث في ما أرى.
قال أحمد، حدثني حبيب قال، حدثني أبو محسن الأزدي، قال، حدثني عمرو بن سراقة قال: قدم علينا شيخ من أزد البصرة وكان حدثاً قال: سأل رجل عبيد الله بن أبي بكرة فأغناه، فجاء الرجل بعشيرته شاكرين له، فالتفت عبيد الله إلى بعض ولده فقال: ما أخوفني أن يكون الحمد في(9/15)
الرياء!! فقال له: قد أمنك الله من هذا أيها الشيخ، قال: صدقت ويلك، أما ترى قليل ما أعطيناه وكثير ما أخذناه؟ قال أذاراي: الدهر زمان ساكن، والزمان دهر يفسد ما يحركه.
قال أفلاطون: من زعم أن الحركة يلزمها الخفة والثقل من جهة الإبطاء والسرعة وهي متناهية ذات أشكال كثيرة، وليس متناه ذو أشكال كثيرة إلا وأشكاله منفصلة، لم تنفصل إلا عن شيء لزم بعضها دون بعض.
قال أفلاطون: الإيضاح على نحوين: أحدهما من تلقائنا والآخر من تلقاء الطبيعة، فالذي من تلقاء الطبيعة كلي، والذي من تلقائنا جزئي.
وقال: لولا أن العقل شكله شكل فلكي لكان منقطعاً، وهو مع أنه يوصف بالحركة على نحو ما ساكن.
قال علي بن أبي طالب كرم الله وجهه: إلى كم أغضي الجفون على القذى، وأسحب ذيلي على الأذى، وأقول لعل وعسى.
سمعت بدوياً ببطن نخل يقول في كلام له: رب مطرق على شجىً، ومعنق على وجىً.(9/16)
قال أعرابي في وصف سيده: هو نبعة أرومته، وأبلق كتيبته، ومدره عشيرته، ونابهم الذي عنه يفترون، وبابهم الذي إليه يضطرون.
قال أعرابي في وصف رجل: إذا ناضل كشف القناع، وإذا فاضل ترك الخداع، وإذا حارب حسر اللثام، وإذا سالم أصلح النظام.
سمعت بدوياً بفيدٍ يقول في وصف آخر: إن مد باعه إلى الكرم قصر، وإن أطلق لسانه في الجدل حصر.
وقال دريد بن الصمة لهوازن يوم حنين: أين أنتم؟ قالوا: بأوطاس، قال: لا حزم ضرس، ولا سهل دهس.
قال أعرابي: لا يشق غباره، ولا ينال طواره ولا يرتق فتقه، ولا يبلغ عمقه.
قال بعض النساك: أمارة الاغترار بالله، الإصرار على سخط الله.
قال أعرابي: سخيف لا يرعى، حقه لا يرعى.
سمعت أبا فرعون التميمي يقول: ما أسهل السرب على الماتح، وأهون المصيبة على النائح.(9/17)
أفلاطون: المتعلم يحتاج إلى لم، كما أن الفيلسوف يحتاج إلى ما.
وقال أيضاً: تبيان المسالة حسن الوضع.
وقال صاحب المنطق: الإيضاح لا يكون من الممكنات ولكن من المضطرات.
قال أرسطاطاليس في كتابه الذي بعد الطبيعة: فوق جوهر السماء جوهر لا عظم له ولا قدر من الأقدار، يستحيل بنوع من الاستحالات، لا نهاية لقوته، ومن أجل ذلك يفعل فعله بلا زمان، وهو فعال بذاته، فلذلك هو دائم الفعل، وليس فعله بحركة، ولا فيه شيء بالقوة، لكن الأشياء فيه بالفعل، وقوته منبعة في العالم دائماً.
كتب بعض الأدباء إلى ابن سعدان في وزارته رقعة دل بها على أنه كان. على الخير لا الشر، لكني وجدتها مليحة التلطف: عبد مولانا - أطال الله(9/18)
بقاءه - وإن كان منبوذاً بالعراء، مقصوداً بالجبه، لا يلحظ بعناية. ولا يضاف إلى كفاية، فإنه لنصح جيبه، ونقاء ضميره، وتعصبه لهذه الدولة الميمونة، وعشقه لهذه الأيام المأمونة، يستقري الجلي متعرفاً ويستنبط الخفي مستشفاً، ثم ينهيهما على رسم الخدمة، ليكونا مادة لرفع ولي وتقديمه، وقمع عدو وتقويمه، وكان كذا وكذا، وأنهيت ذلك على مذهب الخدم ليكون رأيه من ورائه، فإن رأى - لازالت كف السعادة له مصافحة، ولسان الدولة ناصحة، ما تعاقب الجديدان وتصافح اللديدان - أن يعرف انتصابي للخدمة، ونفيي والقذى عن المملكة، فعل إن شاء الله.
فلما قرأ أبو عبد الله قال: ما أحسن ما احتال في شكوى حاله بين أضعاف مدحه، جئني برقاعه وحاجته، فقضى كل حاجة كانت له.
قال كاتب: القلم الدوائ كالولد العاق وقالوا القلم أحد اللسانين، والعم أحد الأبوين، والتثبت أحد العفوين، والمطل أحد المنعين، وقلة العيال أحد اليسارين، والقناعة أحد الرزقين، والوعد أحد الصرفين، والإصلاح أحد الكسبين، والراوية أحد(9/19)
الهاجيين، والهجر أحد الفراقين، واليأس أحد النجحين، والمزاح أحد السبابين.
سألت السيرافي عن قول من قال: المزاح سمي مزاحاً لأنه أزيح عن الحق، فقال: هذا محكي عن ابن دريد، وهو باطل، الميم من سنخ الكلمة في (مزحت أمزح) ومن (أزيح) تكون زائدة.
وقال أبو سعيد: كان أبو بكر ضعيفاً في التصريف والنحو خاصة، وفي كتاب (الجمهرة) خلل كثير، قلنا له: فلو فصلت بالبيان عن هذا الخلل وفتحت لنا باباً من العلم فقال: نحن إلى ستر زلات العلماء أحوج منا إلى كشفها، وانتهى الكلام، فلما نهضنا من مجلسه قال بعض أصحابنا: قد كان ينبغي لنا أن نقول له: حراسة العلم أولى من حراسة العالم، وفي السكوت عن أبي بكر إجلال ولكن خيانة للعلم.
فاخر صاحب سيف صاحب قلم، فقال صاحب السيف: القلم خادم السيف إن بلغ مراده، وإلا فإلى السيف معاده.
شاعر:(9/20)
تعس الزمان لقد أتى بعجاب ... ومحا سطور الفضل والآداب
واتى بكتاب لو انطلقت يدي ... فيهم رددتهم إلى الكتاب
نعم من الأنعام إلا أنهم ... من بينهم خلقوا بلا أذناب
قال النبي صلى الله عليه وسلم: " أعظم النساء بركة أحسنهن وجهاً وأرخصهن مهراً ".
وقال عليه السلام: " أفضل ما أفاد المسلم بعد الإسلام امرأة مؤمنة، إذا رآها سرته، وإذا أقسم عليها برته ".
يقال: التزويل هو أن يمتد الأير ولا يشتد، والإكسال أن يجامع الرجل ولا ينزل.
قال الكسائي: أفدت المال أعطيته غيري، وأفدته استفدته، قال الناس: يقال: فاد المال نفسه لفلان يفيد إذا ثبت له مال، والاسم الفائدة، وفاد الرجل إذا مات.
وقال النبي صلى الله عليه وسلم: " إنما النساء لعب، فليستحسن الرجل لعبته ".
وقال عليه السلام: خير نساء ركبن الإبل هن صوالح قريش،(9/21)
أحناهن على والد، وأرعاهن على زوج في ذات يدٍ.
مات أعرابي عن أعرابية يقال لها طيبة، وخلف عليها بنياً، وتزوجت المرأة سراً والغلام لا يعلم، وكانت تختضب وتكتحل ويرى الغلام ما لا يعجبه، وكان الرجل يأتيها ليلاً وينصرف مع الصبح، فقال الغلام:
ياطيب ما هذا بفعل حانيه
أكل يوم حلة مدانية
وكحل عينين وكف قانيه
إما على بعل وإما زانيه
والله ما أرضى بهذا ثانيه
الحانية: المتعطفة، والمصدر الحنو، فأما قولهم: حنت النعجة فيريدون اشتهت الذكر.
قال أعرابي: في وصف الجارية يقال: ناصعة اللون، جيدة الشطب، نقية الثغر، حسنة العين والأنف، ظريفة اللسان، واردة الشعر، يقال في اللغة: التليعة: الطويلة العنق، ويقال: فيها تلع.
قيل لأعرابي: أتحسن وصف النساء؟ فقال: إذا عذب طرفاها، وسهل خداها، ونهد ثدياها، ولطف كفاها، وبض ساعداها، وعرض وراكها، والتف فخذاها، واخدلج ساقاها، فهي هم النفس ومناها.(9/22)
قال علي بن أبي طالب رضي الله عنه: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: للمسلم على أخيه حقوق لا براء منها إلا بأداء أو عفو، ومنها: يغفر زلته ويرجم عبرته، ويقدم نصيحته، ويديم صلته، ويعود مرضته ويجيب دعوته ويقبل هديته ويكافئ صلته ويشكر نعمته، ويحسن نصرته، ويحفظ حليلته، ويقضي حاجته، ويشفع مسألته، ويشمت عطسته، وينشد ضالته، ويرد سلامه، ويطيب كلامه، ويبر إنعامه، ويصدق أقسامه، ويواليه ولا يعاديه. وينصره ظالماً ومظلوماً، وأما نصرته له ظالماً فيرده عن ظلمه، وأما نصرته مظلوماً فمفهوم، ولا يخذله، ويحب له من الخير ما يحب لنفسه، ويكره له من الشر ما يكره لنفسه.
ثم قال: سمعت رسول الله صلى الله عليه وعلى آله يقول: " إن أحدكم ليدع من حقوق أخيه شيئاً فيطالب به يوم القيامة فيقضى له عليه ".
وقال أيضاً: " إن أحدكم ليدع تشميت أخيه إن عطس فيطالب به يوم القيامة " قال الحكم الأعرابي. قال روح بن حاتم: بينا أنا واقف على بعض ولاة البصرة إذ أقبل خالد بن صفوان، فنظر إلي وقال: يا ابن أخي، والله ما بكرت ولا هجرت إلى باب أحد من الولاة إلا رأيتك واقفاً عليه، أكل هذا حب منك للدنيا وحرص عليها؟ قال: فأجللته عن الجواب وقلت إنما هو عم، ولعله أراد أن ينفرني ليعلم ما عندي في جوابه، فقلت: والله ياعم، حسبك برؤيتك إياي عليها طلباً منك للدنيا، فضحك وقال: يا ابن أخي، إن قلت ذاك لقد ذهب ماء الوجه وسناء البصر، واقترب العهد العلل، والله ما أتت(9/23)
علينا ساعة من أعمارنا إلا ونحن نؤثر الدنيا على ما سواها، ثم ما نزداد لها إلا تحلياً، ولا تزداد عنا إلا تولياً.
قيل لأعرابي: ما خلفت لأهلك؟ قال: الحافظين، قيل: وما هما؟ قال: أعريهن فلا يبرحن، وأجيعهن فلا يمرحن.
وقال كعب بن جعيل:
مدحت قريشاً واصطفيت ابن خالدٍ ... وللخير آيات بها يتوسم
وكنت كمرتاد بمنقاره الثرى ... وصادف عين الماء إذا يترسم
غياث الجياع والمراضيع إ ن ... بمكة يوم ذو أهابي أيتم
فإن يسأل الله الشهور شهادةً ... ينبأ جمادى عنكم والمحرم
بأنكم من خير من وطئ بالحصى ... إذا طفق المعطي يضن ويسأم
قال ابن أبي بردة: غزا قوم الديلم فأسروا، وأسر الديلم شديد، قال: فاشتكى ابن ملك الديلم فقالت أمه: اذهبوا به إلى العرب لعل عندهم دواء، فجاءت به امرأة فقال لها رجل: هاتيه، فقال له رفيقه: أنشدك الله لا تعرضنا للهلكة، قال: هاتيه، فجعل يعوذه ويقول:(9/24)
أيا أم ذا المولود لا شب قرنه ... ولا زال فيه سقمه يتردد
ويا أم ذا المولود جودي بكسرة ... لشيخين من همدان قيس ومرثد
قال: فما أتت له ثالثة حتى برأ، فخلي عنهم كلهم.
قال الناشئ في كتاب (نقد الشعر) : ومخاطبات النساء تحلو في الشعر وتعذب في القريض، لا سيما لغانية قد أطر الفتاء شاربها، وزوى الإباء حاجبها، وأشط الجمال قوامها، وأفرد الحسن تمامها، وأنجل الهوى عينيها، وأمرض الزهو جفنيها، وأرابت الصبابة ألفاظها، وفتر الرنو ألحاظها، وأرهف الظرف أعطافها، وألانت النعمة أطرافها، ولذ للراشف مبسمها، وأطرد ماء النعيم بين رياضها وجناتها، وترقرق جريال الشباب على سحناتها، وجدل للضم قدها، ومالت للجاذب جمائرها، ودالت للقاضب غدائرها، وشخصت للوفور مآكمها، وظمأت للذيول فضولها، وسهلت للعيون حجولها، وطابت للمتنسم ملاغمها، وأرجت للمتنعم فواغمها، فكيف إذا هي برزت من حجابها وسفرت عن نقابها، وتهادت بين أترابها، وقد هز الريح أردانها، استعز المراح أكنانها. بل كيف إذا هي أملها سائلها، وأكلها مقاولها، وأعرضت عنه صدوغاً، وتأوهت منه عزوفاً، وقد قطب التيه جبينها، واستغض الأنف عرنينها، واستخفها الطرب، واستهواها العجب، فافترت مبتسمة عن شتيت أنيابها، ومعسول رضابها، وكيف تقر نفس عاشقها إذا هي لسنته بعتابها، ولحنته بسبابها، وقد لاثت ذوابل أثوابها، وحسرت فواضل أسلابها، وطفقت تعد ذنوبه بحناجرها، وتأبى معاذره بمكاسرها، وهل تطوع لها أمنية إذ أعتبته من صدها، وبذلت له مصون ودها، ثم أسعفته بزورة وسنت لها عين راقبها، وغيلت بها نفس عاقبها، قد التفعت إليه ملاء ليل، أو وطئت إليه أعقاب قيل، قد خزل الأين أياطلها، وبل البهر غلائلها، وقصرت له أعاليها وأسافلها، وأوجل الوجل فرائصها، وأوجى العجل(9/25)
أخامصها، ثم طفقت تستعتب نفسها وتستكفها، حتى إذا أسمحت بها قرونتها، وأسجحت له سجيتها، وسكن إلى الإيناس قلقها، وأسرع إلى الإبساس علقها، ناسمته من حديثها بما هو أقر لعينه، وأشهى إلى نفسه من طول بقائها، ودوام نعمائها. ولنا في هذا الباب ما لم يخرج عن مذهب القوم، منه:
فديتك لو أنهم يعقلون ... لردوا النواظر عن ناظريك
ألم يقرءوا ويحهم ما يرون ... من وحي قلبك في مقلتيك
وقد جعلوك رقيباً علينا ... فمن ذا يكون رقيباً عليك
سأل سعيد بن فلان عبيد الله بن زياد أن يتغدى عنده، فأجابه وأمر بحمل البسط والفرش، ووجه إليه الخبازين والطباخين، فلما دخل عبيد الله قال: هات ما عملت، وبعث إلى منزله فحمل وأكل، فلما فرغ قال له سعيد: أصلح الله الأمير، لا يخرج من منزلي شيء، قال: دعنا نخرج.
قال المدائني: قال سلم بن زياد لرجل يقال له طلحة الخزاعي: إني أريد أن أصل رجلاً له حق وصحبة بألف ألف، فما ترى؟ قال: أرى أن تجعل هذه لعشرة. قال: فخمس مائة ألف، قال: كثير قال: رجل بمائة(9/26)
ألف؟ قال: نعم، قال: وبها يقضى ذمام رجل له صحبة؟ قال: نعم. قال: هي لك فما أردت غيرك، قال: أقلني، قال: لا فعلت أبداً.
قال الأصمعي: دهاة العرب أربعة كلهم ولدوا بالطائف: معاوية، وعمرو بن العاص، والمغيرة بن شعبة، والسائب بن الأقرع.
قال: لما أتي سليمان بن عبد الملك برأس قتيبة كتب لوكيع بن أبي سود عهده على خراسان، فقال يزيد بن المهلب لابراهيم بن الأهتم: إن رددت أمير المؤمنين عن رأيه في وكيع فلك مائة ألف، فقام ابن الأهتم فتكلم بكلام تفرق الناس عن استحسانه فقال: يا أمير المؤمنين، إن وكيعاً أدرك في الثأر، وبالغ في الطاعة، فجزاه الله خيراً، غير أني لو خفت من إحدى يدي خلافاً على أمير المؤمنين لأحببت انبتاتها من صاحبتها، وإن وكيعاً لم يملك مائتي عناق قط فحدث نفسه بالطاعة، فلا تأخذنا بحديث إن كان منه، فقال سليمان: ويلك فمن لخرسان؟ قال: العبد في الطاعة، والأخ في النصيحة، يزيد، فولاه.
قال بعض جلساء الأمراء: والله لقولة (يا غلام، هات الطعام) أحب إلي من صوت ابن سريج.
قال: كان الحجاز يوضع له في كل يوم ألف خوان لأهل(9/27)
الشام، على كل خوان قفيز من دقيق وسبعة أرطال قديد وجنب شواء وسمكة وجرة لبن وجرة ماء وعسل، فشكوا يوماً قلة المرق، فدعا صاحب الطعام وضربه مائتي صوت وقال: يشكون قلة المرق وأنت على دجلة؟ قال الأصمعي: قلت لأعرابي: هل لك في ثريدة؟ قال:
ثريدة محمومه ... في صحفة مكمومه
قد ألحفت رقاقا ... وجللت عراقا
أتى أبو دلامة ابا جعفر المنصور وهو سكران، فأمر بحبسه في السجن، فلما أصبح وصح كتب إليه:
أمير المؤمنين فدتك نفسي ... علام حبستني وخرقت ساجي
أمن صهباء صافية المزاج ... كأن شعاعها لهب السراج
تسر به القلوب وتشتهيها ... إذا برزت تقرقر في الزجاج
وقد طبخت بنار الله حتى ... لقد صارت على النطف النضاج
أقاد إلى السجون بغير جرم ... كأني بعض عمال الخراج
ولو معهم حبست لطاب عيشي ... ولكني حبست مع الدجاج
وقد كانت تخبرني ذنوبي ... بأني من عذابك غير ناج(9/28)
على أني وإن لاقيت شراً ... لخيرك بعد ذاك الشر راج
قال ابن المعتز: قلت لبعض أصحابنا: كم تكون تاركاً للتوبة مماطلاً به؟! فقال: قد قال الله تعالى: " خلطوا عملاً صالحاً وآخر سيئا " ً عسى الله أن يتوب عليهم " التوبة:102، وعسى إطماع، والكريم إذا أطمع فعل، قلت: فأين قول الله تعالى: " ومن يعمل مثقال ذرة شراً يره " الزلزلة:8، فقال: يراه فيغفر له.
قال ابن المعتز: قال بعض أصحابنا: لا تنزل الهم إلى قلبك إلا على أشخاص، فإن الهم يتعلق بعضه ببعض.
قال الصوفي: لا تباغض نفسك فلا بد من أن تغتر قليلاً وإلا فسدت دنياك وأسأت معاشرة نفسك.
قال ابن المعتز: لما جاء جعفر بن يحيى من الرقة شيعه عبد الملك بن صالح، فلما أراد الانصراف قال: حاجة، قال: وما هي؟ قال: أن تكون كما قال الشاعر:
وكوني على الواشين لداء شغبة ... كما أنا للواشي ألد شغوب
فقال جعفر: بل نكون كما قال الشاعر:
وإذا الواشي أتى يسعى بها ... نفع الواشي بما جاء يضر(9/29)
قال ابن المعتز: وإنما أراد أن يؤنب جعفراً فأنبه جعفر.
لأبي نواس:
مقرطقة لم يشقها سحب ذيلها ... ولا نازعتها الريح فضل البنائق
كأن مخط الصدغ في صحن وجهها ... بقية أنقاس بإصبع لائق
وقال ابن المعتز: قرأت بخط أبي المعسكر المسمعي، حدثني أبو عبيد قال، حدثنا أبو سعيد البصري قال، حدثنا الحسن بن عرفة قال، حدثني عيسى بن يونس عن الأوازي قال: وثب خالد بن عبد الله القسري على امرأة فقبلها، فشكته إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم، فأرسل إليه فاعترف وقال: إن شاءت فلتقتص مني، فتبسم رسول الله صلى الله عليه وسلم وقال: أو لا تعود، قال: لا أعود يا رسول الله.
ولا أدري من هذا القسري وكيف هذه الرواية.
بشر بن يزيد الكاتب:
أيا دمن الدار لولا الخدود ... ولولا الجفون ولولا المقل
ولولا الأقاحي ولولا النحور ... ولولا السوالف من ذات دل(9/30)
ولولا القدود ولولا الخصور ... ولولا ضفائر وحف رجل
ولولا التعانق عند اللقاء ... بعد الفراق ولولا القبل
لهانت على العاشقين الديار ... ورسم الربوع ومحو الطلل
آخر:
يا رب كأس قد سبقت بها ... عذل العذول وغرة الشمس
وكأنما اليوم الطويل بها ... قصراً وطيباً قبلة الخلس
آخر:
صبحتهم والصبح ينفض رأسه ... قد هم بالإسفار أو لم يسفر
والليل منهزم الظلام يشله ... صبح كناصية الحصان الأشقر
لعمارة بن طارق:
فصبحت قبل الصباح الفائق ... وقبل عصفور الأذان الناطق
والصبح كالسربال ذي البنائق ... والنجم كالزند أمام السائق
وقيل لجمعة الإيادية: أي الغيث أحب إليك؟ قالت: ذو الهيدب المنبعق، الأضخم المؤتلق، والصخب المنبثق.
شاعر:(9/31)
جادك يا بغداد من بلاد ... صيب كل رائح وغاد
يا ليت شعري والحنين زادي ... هل لي إلى ظلك من معاد
لله ما هجت على البعاد ... لقلب حران إليك صاد
بدل من ربعك بالبوادي ... وقفرة موحشة الأطواد
مجهولة مجدبة حماد ... ورملة متعبة الإصعاد
تخال في كثبانها الجعاد ... خطوط أقلام بلا مداد
قال أرسطاطاليس في كتاب (الحيوان) : إذا جاع الثعلب ولم يقدر على صيد يأكله استلقى على ظهره ونفخ في بطنه، فتحسبته الطير قد مات فيقعن عليه، فيثب ويأخذ بعضها.
وقال في الضبع أيضاً: تصير مرةً أنثى وتصير مرة ذكراً، وتبدل في كل سنة، تلقح أحياناً كالذكر، وتقبل اللقاح كالأنثى، لاختلاط جوهرها وتلونه، وزعم أنها إذا رأت الكلب في ليلة مقمرة يمشي على الإجار وطئت ظله فوقع، وأن من كان معه لسان ضبعة فمر بين الكلاب لم تكلب عليه، وأن من مر في مكان كثير الضباع وأخذ بيده أصلاً من أصول الحنظل هربت من بين يديه.
قال، وقال في الذئب: إن يرى إنساناً قد خافه اجترأ عليه،(9/32)
وإن حمل عليه تأخر عنه، وذكر أنه خفي عليه مكان الغنم عوى حتى تسمع الكلاب صوته وتنبح فيقصدها للغنم التي معها فإذا اقرب من الغنم عوى فتقصد الكلاب صوته وتجتمع إلى ناحيته، ثم يخالفها فيقصد ناحية خالية منها فيختطف من الغنم، وزعم أن الذئب إن وطئ على العنصل مات من ساعته، والثعلب يأتي بهذه البقلة فيضعها في جحره لئلا يأتيه الذئب فيأكل جراءه.
وقال في الجراد: أنه إن ظعن ظعن كله مثل العسكر العظيم، وإن حل حل جميعه، وإن وقع في المزارع لا يتحرك ساعة وقوعه حتى يأتيه وحي من السماء، وليس من طبيعته، وقال لابن المعتز: فهذا يكذب بالوحي إلى الآدميين، ويصدق به إلى الجراد.
وأنشد للراعي:
فبت وبات الحاطبان وراءها ... بجرداء محل يألسان الأفاعي
فما برحا حتى أجنا فروخها ... وضما من العيدان رطباً وذاويا
إذا حمشاها بالوقود تغيظت ... على اللحم حتى تترك العظم باديا
وله:(9/33)
من الأثل أما ظلها فهو بارز ... أثيث وأما نبتها فأنيق
لها هدبات فوق ميثاء سهلة ... نواعم ما في ظلهن فتوق
جمع هدبة، وهي أغصان الأثل والأرض.
شاعر:
لعمرك إنني لأحب نجداً ... ولست أرى إلى نجد سبيلا
خليلي اقعدا لي عللاني ... وضما من وسادي أن تميلا
ألم تريا جنوحي واعتمادي ... على الأحشاء والصبر الجميلا
خرج المهدي يتصيد، فعاربه فرسه حتى دفع إلى خباء أعرابي، فقال: يا أعرابي، هل من قرىً؟ قال: نعم، فأخرج له فضلة من ملة فأكلها، وفضلة من كرش فيه لبن فسقاه، ثم أتاه بنبيذ في زكرة فسقاه قعباً، فلما شرب المهدي قال: يا أعرابي، أتدري من أنا؟ قال: لا، قال: أنا من خدم الخاصة، فقال: بارك الله لك في موضعك، ثم سقاه آخر فلما شربه قال: يا أعرابي، أتدري من أنا؟ قال: نعم، زعمت أنك من خدم الخاصة: قال: لا بل أنا من قواد أمير المؤمنين، فقال: رحبت دارك، وطاب مزارك، ثم سقاه قدحاً ثالثاً، فلما فرغ منه قال: يا أعرابي، أتدري من أنا؟ قال: زعمت أنك من القواد، قال: لا ولكني أمير المؤمنين، فاخذ الأعرابي الزكرة فأوكاها وقال: والله لئن شربت الرابع لتقولن إنك رسول الله، فضحك المهدي، وأحاطت به الخيل وأبناء الملوك والأشراف، فطار لب(9/34)
الأعرابي، فقال له المهدي: لا بأس عليك، وأمر له بصلة.
لعوف بن محلم:
أفي كل عام غربة ونزوح ... أما للنوى من ونية فتريح
لقد طلح البين المشت ركائبي ... فهل أرين البين وهو طليح
وأرقني بالري نوح حمامة ... فنحت وذو الشجو الحزين ينوح
على أنها ناحت ولم تذر عبرة ... ونحت وأسراب الدموع سفوح
وناحت وفراخاها بحيث تراهما ... ومن دون أفراخي مهامه فيح
عسى جود عبد الله أن يعكس النوى ... فتلقى عصا التطواف وهي طريح
فإن الغنى يدني الفتى من صديقه ... وعدم الفتى للمقترين طروح
قال أنس بن مالك لمصعب بن الزبير في رجل من الأنصار: احفظ فينا وصية النبي صلى الله عليه وسلم، قال: فنزل مصعب عن سريره وتمرغ في التراب ووضع خده على الأرض وقضى حاجته.
مرداس السلمي:
وغيث خصيب ماؤه تحت بقله ... يروعني منه غراب وناهق(9/35)
تبطنته والطير في وكناتها ... يدافع ركني سائم الطرف ناتق
قويرح أعوام كأن سراته ... سراة طراف مددته الجوالق
قال محمد بن يزيد الأموي البشري - من ولد بشر بن مروان يصف حماراً اصطاده:
يظل مفارقاً للعين يكبو ... ومن دفع الدماء له إزار
كأن النقع ممتداً عليه ... رواق في حواشيه احمرار
قال الحجاج: أيها الناس، اتقوا الغبار فإنه سريع الدخول بطيء الخروج.
شاعر:
لا أستلذ حديث غانية ... وأرى حديثك كله حسناً
ووعدتني وعداً فخست به ... ومطلتني فكفى بذا حزنا
آخر:
بكيت الجياد وفرسانها ... فلم أبك كالفرس الأبلق
رمته المنايا فماذا رمت ... من الجري والحسب المعرق
طويل الذراع قصير الكراع ... إذا شاهد الجري لم يسبق
كميت تجول على متنه ... أساريع من لونه المشرق(9/36)
وكانت به الريح مغلولة ... متى ما تخص بحره تغرق
وأدنى الشآبيب من جريه ... إذا انهل كالعارض المطلق
قال ابن المعتز: أخبرني اسماعيل بن يحيى قال، حدثنا مؤرج قال: كان زكريا بن حسان من بني ربيعة بن مالك غرس فسائل له حتى إذا حسنت رمى عنهن يعني سافر عنهن - فمكث زماناً طويلاً فظن أنهن قد هلكن، فأتاهن فرآهن يتسامين فقال:
كأنها وهي تناهى بالعبل ... غيد العذارى برزت من الحجل
يرسلن للورد إذا الساقي غفل ... أرشية لم يثنها متن الحيل
تنفي حصى البيداء عن نجل غلل ... معتلج لا ثمد ولا وشل
فهي ترامى ثقلاً بعد ثقل ... فمرتقيها خائف على وجل
من يهو منها يهومن مهوى زلل ... ناء من الأرض بعيد المنتقل
قال ابن المعتز: من فضائل الليل التهجد الذي مدح الله أنبيائه به فقال: " كانوا قليلاً من الليل ما يهجعون " الذاريات:17، وفي الليل تنقطع الأشغال، وتجم الأذهان، وتدر الخواطر، ويتسع مجال القلب، والليل أضوأ في مذاهب الفكر، وأخفى لعمل البر، وأعون على السر، وأصح لتلاوة(9/37)
الذكر، قال الله تعالى: " إن ناشئة الليل هي أشد وطأ وأقوم قيلاً " المزمل:6، وقال الشاعر:
ولم أر مثل الليل جنة فاتك ... إذا هم أمضى، أو غنيمة ناسك
وفيه ينجو الهارب، ويدرك الطالب، ويفرق بين الشجاع والجبان.
قال أبو دلف:
أنا ابن الليل والخيل ... فنزال ورحال
وللأبطال قتال ... وللأثقال حمال
بشار:
قد نام واش وغاب ذو حسد ... فاشرب هنيئاً خلا لك العطن
آخر:
ومنادم نبهته ... والليل ملتف الستور
فكأنه متعلق ... طرباً بأجنحة النسور
قال أبو هفان: رأى أبو نواس في سوق الكرخ غلماناً فقال: أما ننظر إلى الظباء، طوبى لمن كان جليس هؤلاء، واحسرتي عليهم إذ لا سبيل إليهم.(9/38)
قيل لعبد العزيز بن عمر: إن بنيك يشربون، فقال: صفوهم، فقالوا: أما فلان فإن يتقيأ في ثيابه فقال وهذا يدعو النبيذ قالوا وأما فلان فإذا شرب خرق ثيابه وثياب من معه وعربد، قال: هذا النبيذ، قالوا: وأما فلان فأسكن ما يكون وأحلمه، ولا ينال أحداً بسوء، قال: هذا لا يدع النبيذ.
سلم رجل على إبراهيم القارئ فقال: كم تسلم علي؟! سلفني سلام شهر وأرحني.
قال رجل للشعبي: ما زلت أطلبك، فقال: وما زلت فأراً منك.
قال آخر: الإخوان بمنزلة النار، قليلها متاع، وكثيرها صداع.
قال الأحنف: كانت المودة قبل اليوم محضاً، فليتها اليوم كانت مذقاً.
لابن همام السلولي:(9/39)
حصر إن يسيل خيراً لم يجد ... وإذا ما سال الناس ألح
كحمار السوء إن أشبعته ... عض من نال وإن جاع رمح
أقرب الأشياء من أخلاقه ... كل لون لونت قوس قزح
وقال آخر: ما احتنك قط رجل إلا أحب الخلوة.
قال ابن المعتز: سمع الصوفي قول إبراهيم بن العباس الصولي:
أبا جعفر خف نبوة بعد دولة ... وخفض قليلا من مدى غلوائكا
فإن يك هذا اليوم يوماً حويته ... فإن رجائي في غد كرجائكا
فقال: هذا رجل موسر من الفطنة.
وسألت الصوفي عن ابن منارة فقال: ذاك في عقله خمسون كلباً سوى السنانير، كذا قال ابن المعتز.
وقالوا: لا تجالس عدوك فإنه يحفظ عيوبك، ويماريك في صوابك.
وقالوا: من استضاف بخيلاً استغنى عن الكنيف.(9/40)
وقال آخر: البغيض إذا بغض نفسه فإن أعوانه على ذلك كثير.
قال عبد الله بن أحمد بن يوسف: دخلت على ابن منارة وبين يديه كتاب فقلت: ما هذا؟ فقال: هذا كتاب عملته مدخلاً إلى التوراة، فناظرته فيه وقلت: الناس ينكرون هذا، فقال: الناس كلهم جهال، قلت: فأنت إذن ضدهم؟ قال: نعم، قلت: فينبغي أن يكون ضدهم جاهلاً عندهم؟ قال: صدقت، قلت: قد ثبت أنك جاهل بإجماع الناس والناس جهال بقولك.
عثر بعض أصحابنا في مجلس ثم عثر بعده آخر، فقال الصوفي: أرانا نعاشر قوماً تطرح قوائم.
منصور بن باذان:
وليس يخفى عليكم ... من المنازل طينه
ولو رأيتم دخاناً ... في البحر صرتم سفينه
قال الأصمعي: عوتب أعرابي على التطفيل فقال: إنما بنيت(9/41)
المنازل لتدخل، ووضعت الموائد لتؤكل، وما لي لا أدخل وأقعد مستأنساً، وأبسط وجهي إذا كان رب البيت عابساً.
تطفل قوم على مزبد وهو يطبخ قدراً له، فنشل أحدهم قطعة لحم فأكلها وقال: تحتاج إلى خل، ونشل الآخر أخرى فأكلها وقال: تحتاج إلى أبزار، وفعل آخر مثل ذلك وقال: تحتاج إلى ملح، فأخذ مزبد قطعة فأكلها وقال: تحتاج إلى لحم، فضحكوا وقاموا عنه.
رأى رجل مزبداً بالرها وعليه جبة خز، وكان قد خرج إلى الرها فحسنت حاله فقال له: يا مزبد تهب لي هذه الجبة؟ فقال: ما أملك غيرها، قال الرجل: إن الله تعالى يقول: " ويؤثرون على أنفسهم ولو كان بهم خصاصة " الحشر:9 فقال مزبد: إن الله تعالى أرحم بعباده من أن ينزل هذا بالرها في كانون وكانون، وإنما نزلت بالحجاز في حزيران وتموز.
قال المدائني: مات رجل بالحيرة في بيت خمار، فأخذه أهله وقالوا: أنت قتلته، فقال الخمار: والله ما قتلته إلا كلمة كان يرددها، قالوا: وما هي؟ قال:(9/42)
وأخرى تداويت منها بها قيل لبعض أصحاب النبيذ: أي صلاة تصلي؟ قال: الغداة والظهر والعصر، قالوا: فالمغرب؟ قالوا فالمغرب؟ قال: تعرف وتنكر، فالعتمة؟ قال: ما كانت لنا في حساب قط.
وقيل: لم يداو السكر بشيء أفضل من نومة يطفأ بها ما التهب من شر طبيعته.
قال ابن المعتز: حدثني بعض أصحابنا قال قلت لطباخ مرة: ما أطيب طبيخك لولا أنك تصغر البرمة، فقال: إنما يكمل طيب البرمة بأن يأكل منها القوم لقمة لقمة فيستطيبونها، وهؤلاء إذا طلبوا أخرى لم يجدوها.
قدم إلى بعضهم لوزينج غليظ القشور فقال: ما عمل هذا إلا من عقب. العقب: العصب.
قال ابن أبي برذعة:
إذا عد عيش ناعم وتذوكرت ... غرائب أيام السرور الطرائف(9/43)
فمن خير أيام الحياة التي خلت ... وأطيبها يوم من العيش سالف
أصبنا به من غرة الدهر خلسة ... كما نال ورد الماء هيمان خائف
خرجنا وستر الله يجمع شملنا ... وكل لكل مسعد ومساعف
وقد اخذت زهر الرياض حليها ... وألبست الأرض الفضاء الزخارف
لجين وعقيان ودر وجوهر ... تؤلفه أيدي الربيع اللطائف
وأهدت إلينا الأرض عذراء لم يطف ... بها من سوانا قبل ذلك طائف
يباكرها وجه من الشمس طالع ... ويعقبها دمع من المزن واكف
فتمت جمالاً واعتدالاً ونضرة ... وداف لنا الكافور والمسك دائف
ومالت بنا منها غصون نواعم ... كما هز قضبان المتون الروادف
يدير علينا الكأس رطب بنانه ... وصيف جفت في الشكل عنه الوصائف
تسير إلينا من يديه وطرفه ... كؤوس لأسرار القلوب كواشف
فرحنا وما فعل الزمان مذمم ... لدينا ولا وجه من العيش كاسف
ومالت غصون البان بين رحالنا ... وجرت على وشي الرياض المطارف
ولا مثل ذاك اليوم لولا انقضاؤه ... ولا مثلنا لو أخطأتنا المتالف
وقال: سمعت مدينية تقول: ما في بيتي طحين ولا خبيز.
شاعر:
إلى الروض الذي قد أضحكته ... شآبيب السحائب بالبكاء
قال ابن الأعرابي عن المفضل: تقول العرب: يدك من اللحم(9/44)
غمرة، ومن الشحم زهمة، ومن الزيت قنمة، ومن الدهن نمسة، ومن الخلوق ردعة، ومن الحناء عصمة، ومن اللبن ضرة، ومن السمك صمرة، ومن الحديد سهكة.
أنشد التوزي:
يا إبلي روحي إلى الأضياف ... إن لم يكن فيك صبوح كاف
فأبشري بالقدر والأثافي ... وقادح ومغرف غراف
قال أرسطاطاليس في كتاب الحيوان: ليس للسمك نوم ولا صوت، ومنه ما يعظم حتى يصير كالجزائر والجبال. وذكر أن من أجناس السمك وما لا قشور له ولا أجنحة، لا زمة قعر الماء الدهر كله.
وزعم أن دابة بحرية تزمر أصواتاً طيبة تكاد بحلاوتها ولذتها تسلب أفهام السامعين، من سرتها إلى فوق تشبه الإنسان، ومن السرة إلى أسفل تشبه الفرس.
وزعم أن السرطان يلتذ أكل لحم الصدف الذي فيه اللؤلؤ، وأنه لا يقدر عليه حتى يفتح صدفته، فإذا فعل جعل بينهما حجراً، وزعم أن السرطان يسلخ جلده في السنة سبع مرات، ومن قبل ذلك يعمل لحجره بابين:(9/45)
أحدهما شارع إلى الماء، والآخر إلى الشمس، فإذا سلخ جلده سد الشارع الذي إلى الماء لئلا يدخل السمك إليه فيأكله.
قال ابن المعتز: سألت الصوفي عن بلدان طوف فيها فقلت: كم رأيت من البلاد؟ لا تسأل فإني شيطاني كان من الفيوج.
وقال مرة عندي ونحن بسر من رأى: هذا النسيم يجندر الروح.
قال التمار يصف نصيبين في قصيدة:
أرض كأن رياضها ... أبداً بماء المسك تسقى
وكأن تربة أرضها اج ... تذبت من الكافور عرقا
يعقوب بن الربيع:
لما وردت الثعلب ... ية عند مجتمع الرفاق
وشممت من أرض الحجا ... ز نسيم أرواح العراق
أيقنت لي ولمن أح ... ب بجمع شمل واتفاق
وضحكت من فرح اللقا ... ء كما بكيت من الفراق(9/46)
قال: وقال الجاحظ في بعض كتبه وذكر العراق فقال: هي موضع التميمة، وواسطة القلادة، بها تلاحقت الطبائع، وصرحت عن اللب الأصيل والخلق الجميل.
وصف أعرابي بلداً فقال: ارتحلت عنه ربات الخدور، وأقامت به رواحل القدور.
قال الحجاج: الكوفة امرأة حسناء عاطل، والبصرة عجوز قد أوتيت من كل شيء.
قال عبد الملك للحارث بن خالد بن العاص: أي البلاد أحب إليك؟ قال: ما حسنت فيه حالي، وعرض فيه جاهي.
قال بعض الظرفاء: الكمأة بيض الأرض.
وصف أعرابي غيثاً فقال: بكرنا وسمي خلفه ولي، فالأرض بساط أحكم نسجه وأبدع وشيه.
قال بعض من تعصب للنرجس على الورد: النرجس أشبه بالعيون من الورد، فقال المتعصب عليه: يشبه عيون المرضى وأصحاب اليرقان ومن قد غلبت عليه المرة.(9/47)
وكان المأمون يشبه الأترج بالمقفع الزمن.
قال بعضهم: لعن الله المرزنجوش والزادرخت، كأن هذا آذان الفار، وكأن هذا كف بق.
وكان بعضهم يبغض السرو ويقول: كأنه نساء عليهن حداد. ومرة كان يقول: السرو ذنب ابن عرس.
وقال: قلت للصوفي يوماً: لم تؤثر النرجس على غيره ولا تنتفع به في حال سوى شمه طرياً؟ فقال: النرجس روح كله، فإذا مات لم يخلف عندنا جسماً.
قال أبو الحارث جمين، ورأى سرواً: كأنه دخان يخرج من كوة.
وصف أعرابي الماء فقال: إن قلت هو متصل فبذاك يشهد انتظامه، وإن قلت متبايناً فعلى ذاك يدل انقسامه، أوائله جاذبة لأواخره، وأعجازه طوع صدره، هو طبيب الأرض من سقامها، تقذف بما تضمنت بطونها على ظهورها.
وصف بعض الظرفاء الماء فقال: ما ظنكم بشيء إذا أجن وصار ملحاً أخرج العنبر وأثمر الجوهر.(9/48)
قال ابن الأعرابي في نوادره عن أعرابي: فأرسل الله سبحانه سبحاناً مستكفاً نشره، ضخاماً قطره، جواداً صوبه.
شاعر:
جاءت تهادى في محل نائي ... يضحك فيها البرق بالضياء
وتارة تلمح باستحياء ... كلمحة من ذي هوىً مرائي
تلوح منها الأرض في قباء ... وأصبحت في حلة خضراء
يا حبرة في الصيف والشتاء العتابي:
قلت للفرقدين والليل ملق ... سود أكنافه على الآفاق
أبقيا ما استطعتما فسيرمى ... بين شخصيكما بسهم الفراق
غر من ظن أن يفوت المنايا ... وعراها قلائد الأعناق
قال: وقلت لبعض أصحابنا، وقد خرج القمر من الكسوف: شبهه لي، فقال: درهم ندر عن سكة.
العرب تقول: قد هراق الليل أوله، إذا مضت منه ساعة.
قال ابن المعتز: أخبرني الأسدي عن الرياشي عن محمد بن سلام(9/49)
عن يونس بن حبيب عن أبي عمرو بن العلاء قال: دفعت إلى ناحية فيها نفر من الأعراب، فرأيتها مجدبة فقلت لبعضهم: ليس لكم زرع ولا ضرع فكيف تعيشون؟ فقال: نحرش الضباب ونصيد الدواب فنأكلها، قلت: فكيف صبركم عليه؟ فقال: يا هناه! نسأل الله خالق الأرض هل سويت، فيقول: بل رضيت، هكذا بخط ابن المعتز.
وقال بلال ابن أبي بردة لابن السماك: أي الطعام أحب إليك؟ فقال: إذا اشتد ضرس الجوع فليس شيء بأجود من ثريدة قد أكثر بلها وسطع ريحها، ثم أطرق قليلاً وقال: فإن جاءت صغار القصاع بعد الكبرى زاد ذلك فيما نهوى. قال: فما تقول في لوزينجة لان قشرها، وغرقت في سكرها ووهن لوزها فقلت ما أشد الوصف إذا عدم الموصوف إلى ها هنا من كتاب ابن المعتز.
وهذه نتف ألفتها ها هنا، فبعضها مسموع من العامة، وبعضها مروي عن الخاصة التي تروي عن العامة، وهي تجري مجرى الأمثال المبتذلة، فيها طيب ومع الطيب عبرة، ومع العبرة فائدة، وقد خلت من الأصول الدالة على الفروع، ومن العلل المقتضية للأحكام، وقد عرضتها على علية الناس أسأل عن أسرارها ومدارها، وكيف كان قديمها وفاتحتها، وكيف(9/50)
انتشرت الآن بين العامة، وكيف أشكل على الجميع معانيها، فلم ألحق الناس إلا رجلاً واحداً في الجهل بها وبأسبابها، وقد سردتها لتشركنا في التعجب والطيب إن شاء الله: 1 - يقولون: إذا دخل الذباب في ثياب أحدهم مرض.
2 - وإذا حكته يده قال: آخذ دراهم.
3 - وإذا حكته رجله قال: أمشي إلى مكان بعيد.
4 - وإن حكه أنفه قال: آكل لحم، هكذا يقولون، فلا تؤاخذ العامة باللحن، فإن الصواب في المعنى والإعراب في اللفظ عريان من قضاتك وعدولك وشيوخك.
5 - وإن حكه وسطه قال: آكل السمك.
6 - وإن اختلجت عينه من فوق قال: أرى إنساناً لم أره منذ حين، وإذا اختلجت من أسفل قال: سوف أبكي، أسأل الله السلامة.
7 - وإذا وجد ثقلاً في المنام من المرة السوداء قال: وقع على بختي، وعض ابهام نفسه وقال: دلني على كنز.
8 - ولا يقول بالليل: حية ويقولون: طويلة وإذا غلط أحدهم فقال: حية. قالها ثلاث مرات.
9 - وإذا أشار إلى صاحبه بالسكين غرزها في الأرض وقال: الشيطان يعمل عمله.(9/51)
10 - وإذا كسف القمر ضربوا بالطست وقالوا: يا رب خلصه.
11 - وإذا طنت أذن أحدهم قال: ترى من ذكرني؟ 12 - وإذا أراد أحدهم أن يبول بالليل بصق أولاً ثم بال.
13 - وإذا صاح الغراب قالوا: خير خير، وأنت شر طير.
14 - وإذا أراد أحدهم أن يشد زره إذا انقطع أخذ في فيه تبنة وقال: حتى لا يكذب علي أحد.
15 - ولا يقولون: عقرب، ويزعمون أنها تعرف اسمها فتهرب، ويقولون: تمرة.
16 - وإذا ذكروا الجن بالليل أخذوا بأطراف آذانهم.
17 - ويكرهون البول في الميزاب ويقولون: هي منازل القمر.
18 - ويقولون: دية نملة تمرة.
19 - ويقولون: في كل رمانة حبتين من الجنة.
20 - وإذا مسح أحدهم يده بثوب صاحبه بصق وقال: حتى لا أبغضه.
21 - وإذا رش أحدهم على وجه إنسان ماءً قبّل يده وقال: حتى لا يصير نمش.
22 - وإذا صاحت البومة قالوا: منا السكين ومنك اللحم.(9/52)
23 - وإذا رأوا الخنفساء في ليالي الشتاء قالوا: مباركة ميمونة وإذا رأوها في ليالي الصيف قالوا: رسول العقرب.
24 - وإذا طار الخفاش بالليل فسمعوا صوته قالوا: هذه الساحرة تطير، لا إله إلا الله، كأنما طيرانها ثوب يشق، ويكبون الطست ويقولون: باطل " وبطل ما كانوا يعملون " الأعراف:117.
25 - وإذا غاب لأحدهم غائب صوتوا في البئر ونخلوا الرماد بالليل، وزعموا أن الجن يثبتون حاله في الرماد.
26 - وإذا صدع أحدهم قالوا: انشرخ رأسه، وربطوه بتكة.
27 - ويطرحون في حب الدقيق جوزة لها ثلاثة خطوط يزعمون فيها بركة.
28 - وإذا رأوا الشمس حارة قالوا: يجيء غداً مطر.
29 - وإذا طارت من السراج شرارة إلى فوق قالوا: ينقص من أهل البيت واحد، وإذا وقعت إلى أسفل قالوا: يجيء غداً زائر.
30 - وإذا غسلت السنورة وجهها قالوا: هدية.
31 - ويزعمون أن عوج بن عنق كان يصيد السمك م قرار البحر بيده ويشويه في عين الشمس.
32 - ويزعمون أنه لا يرتفع إلى السماء من الدخان إلا قتار الكندر.
33 - ويقولون: إن للزنادقة كبش تنتثر الدراهم من صوفه، فإذا اشتروا بها تحولت عند البائع ورق آس.(9/53)
34 - وإن الشيطان يحسد على الزكام والدمل.
35 - وإن الأسد محموم بالنهار فإذا كان الليل أفاق.
36 - وإن الحمار لا يدفأ إلا يوماً من أيام تموز، وهو في سائر أيام السنة مقرور.
37 - وإذا نكس أحدهم في مرضه أخذوا له دهناً من سبع دور ودهنوا به رأسه.
38 - وإذا خرج بأحدهم دمل شد على تكته عفصة غير مثقوبة.
39 - وإذا بكى الصبي لطخوا أسفل رجليه بنيلج.
40 - وإذا أصابته العين أخذوا له من بول سبعة أنفس أحدهم حبشي ماء وصبوه عليه.
41 - وإذا حم أحدهم الربع بخروه بقرن كبش، وإذا أخذه الفواق عقد بيديه أربعاً وثلاثين وزعم أنه يسكن.
42 - وإذا خرج به قوباء خط حولها خاتم سليمان ومسحه بالتراب وقال بالغداة: كيف أمسيت لا أصبحت، وبالعشي: كيف أصبحت لا أمسيت؟ 43 - وإذا لسعته عقرب غسلوا الحصى وسقوه ماءه.
44 - وإذا خرج على لسانه بثرة قال: خبأ لي إنسان شيئاً طيباً وأكله.
45 - وإذا اشتكى فم معدته ذهبوا به إلى اللواية.(9/54)
46 - وإذا رأوا في الدار حية بخروها بقرن أيل وقشور البيض.
47 - وزعموا أن من أكل لحم سنور أسود لم يعمل فيه السحر.
48 - وإذا رأوا في الأفق حمرة قالوا: في السماء نار وصاحوا: الصلاة الصلاة.
49 - ويضربون بالشعير وينظرون في البخت، وأنت ترى أحدهم إذا عثر بصاحبه أخذ يده وصافحه، وربما قالوا: لئلا نتخاصم.
50 - وزعموا أن عبد الله بن هلال صديق إبليس كان يغوص بالكوفة في الطست ويخرج من ساعته بتاهرت.
وهذه أبواب خفية ليس يثبت معها روية، ولا يصح لمن اعتقدها عزم، وربما غلط فيها من هو فوق الناقص الغبي، ودون النحرير الذكي فيحسبها حقاً.
ومن أمثال العامة: 1. لا تري الصبي بياض أسنانك فيريك سواد آسته.
2. - ليس من قال: النار، احترق فمه.
3. - الخنفساء في عين أمها مليحة.
4. - من يشتهي الداح لا يقول أواح.
5. - تمره وزنبوره كلما يكبر يدبر.
6. - أنا أجرّه إلى المحراب وهو يخرا في الجراب.
7. - نفس العجز في القبة.(9/55)
8. - من يأكل ولا يحسب، يخرب بيته ولا يعلم.
9. - إن كان معلم وإلا فدحرج.
10. - من صير نفسه نخالة بحثتها الدجاج.
11. - أنذل من فار الحبس.
12. - أعتق من الحنطة.
13. - أحمق من الجمل.
14. - يضربون أسته ويصيح راسه.
15. - من لم ير اللحم أعجبته الرية.
16. - من يقفز على وتدين يدخل في أسته واحد.
17. - من يأكل بيدين يختنق.
18. - ما أطيب العرس لولا النفقة.
19. - من كان له دهن كثير يطلي أسته.
20. - من كان دليله البوم كان مأواه الخراب.
21. - كل التمر على أنه كان مرة رطب.
22. - إيش الذبابة وإيش مرقها.
23. - ليت كل أرملة مثل بنت الملك.
24. - إذا كان بولك صافي فاضرب به وجه الطبيب.(9/56)
25. - البحر ملان ماء والكلب يلحس بلسانه.
26. - من شاء سلح على أصحابه وقال في بطنه وجع.
27. - خبز لم تخبزه أمك كله بأضراسك كلها.
28. - لو كان في البومة خير ما تركها الصايد.
29. - إن كان ذا وجه فليس في الدنيا است.
30. - أهلك الله بدنك، ولا يسر كفنك، ولا آجر من دفنك.
31. - كف إنما وجهك خف.
32. - راسك في است القس كلما عرق اندس.
33. - ليت اليسار استقبلني من باب الدار.
34. - سد البالوعة واسقني بالبير.
51 - وإذا كانت يد أحدهم غمرة قال: من يغسل يده من الخير.
52 - وإن عطس قالوا: تعست، وإن تجشأ قالوا: خرا، وإن سعل قالوا: شوك، وإن ضحك قالوا: ضحك الأفعى في جراب النورة، وإن قرقر البطن قالوا: إن صدق الوعد مطرنا خرا.
كان لرجل جاريتان فأرادت إحداهما أن تكيد الأخرى، وكان قد واقعها مولاها، فصاحت: يا مولاي ليس لنا دقيق وقد فني الخبز، فنام أيره ونهض عن الجارية.(9/57)
قد ضربت من أمثال العامة أشياء تتصل بأغراض صحيحة على سوء التأليف، وخبث اللفظ، وفيها فوائد عجيبة، فاعرف الخبيث والطيب، واختر أنفعهما لك في موضعه وأجدهما عليك عند استعماله، فلم ينبث هذا كله هذا في العالم إلا ليعرف ويميز، وليكون بعضه باعثاً على بعض وناهياً عن بعض، وباختلاف الأشياء تختلف الظنون وتنقسم الآفكار في طلب الحق وترخي الصواب وليس الحق شخصاً في محل يطوي إليه. فلا تصرف وجهك عن اللفظة السخيفة والكلمة الضعيفة، فإن المعنى الذي فيهما فوق كراهتك، وليس العالم تابعاً رايك ومحمولاً على استحسانك واستقباحك، بل يجل عن مقاحم فكرك، ويعلو على غايات فهمك، فإنك ترى لنفسك محلاً ليست به فتقول هذا حسن وهذا قبيح، دون أن تقف على حقائق ذلك الحسن والقبح بعقل ما شانه الهوى، ولا تحيفه الإلف ولا ضيعته العادة، ولا أفسده أقران السوء، ولا مني بالتخليط الرديء والمرة المسرفة، ومن لك بالكمال؟ بل من لك ببعض هذه الأحوال؟ هيهات! وأنت متردد بين غالب عليك، وقادح فيك، وآخذ منك، وهابط بك، إلا أن يأخذ الله بيدك، ويصرف كيد السوء عنك، ويحبس فعال الشيطان دونك، ويكون لك قائماً بالصنع، هادياً إلى النجاة.(9/58)
لأبي النجم الفضل بن قدامة في باز:
أزرق يغذى بطري اللحم ... قد جاء منقضاً كمثل النجم
بأحجن الكلوب أقنى الخطم ... به تضاح من دم المستدمي
ينتزع الأرواح قبل النظم وله في المنجنيق:
كأنها حين ثناها الناس ... جنية في رأسها أمراس
بها سكون وبها شماس ... يخرج منها الحجر الكباس
تمر لا يحبسها الحباس ... لا واضع الترس ولا تراس
ضخم الجبين مهزم مرداس ... يأخذ من وقعتها الوسواس
قال بعض العلماء: الإتاوة للملك، والخراج للسلطان، والفيء للمسلمين، والجزية من أهل الذمة، والصدقة للنعم، والزكاة للمال، والفطرة للصوم، والكفارة للإيمان، وجزاء الصيد للمحرم، والبر لبني القربى، والرزق لمن تمون، والفقة لمن يعنيك، والصداق والصدقة للنساء، والمتاع والتحميم للمطلقة، والعدة نفقة الإعتداد، والربح للتاجر، والمرباع للسيد وهو ربع الغنيمة.
قال أعرابي: قد كشرت الفتنة أضراسها، وحسرت راسها، وشمرت أردانها، وهيجت فتيانها، وذمرت فرسانها، ونازلت أقرانها.(9/59)
يقال: ما الجرب، والجراب، والجريب، والحرب، والخرب، والذرب، والسرب، والشرب، والصرب، والطرب، والضرب، والعرب، والعرب أيضاً، والغرب، والقرب، والهرب، والكرب، والكرب أيضاً، والأرب، والدرب.
وسيأتي جواب كل حرف على حدة، وإن أملك بعض الإملال أفادك كل الإفادة، ولا تبد هذا العجز الذي يدل على خور طباعك وسوء سليقتك، وانتهز فرصة العلم فربما تحمد عاقبة العمل به.
قال بعض السلف: أنت في طلب الدنيا مع الحاجة معذور، وأنت في طلبها مع الإستغناء عنها مغرور.
قال الحسن: أحسن الدنيا أقبحها عن مبصرها، وذلك أنها تشغل عما هو أحسن منها.
سمع أعرابي رجلاً يقرأ: " فإن زللتم من بعدما جاءتكم البينات فاعلموا أن الله غفور رحيم " البقرة: 209، فقال: لا يكون هكذا، هكذا يهدد، فقيل: إنما هو " عزيز حكيم " قال: هذا نعم، هذا يكون مع التهدد.
أما الجرب فالداء المعروف، يقال: رجل جرب وامرأة جربة وجربى، وأجرب الرجل: إذا جربت أبله، والجراب: المزود - بكسر الجيم، وأبو حاتم يقول: الفتح من لحن العامة، وجمعه جرب، والجريب: قطعة من الأرض وجمعه جربان. وقلت لبعض العلماء: هل يقول فيمن يتحذ الجرب (جراب) ؟ قال: ما سمع.(9/60)
وأما الخرب فمن قولك: حرب فلان ماله فهو حريب ومحروب، والفاعل حارب، وقال بعض النساك: سمي المحراب محراباً لان الشيطان يحارب فيه بالطاعة لله تعالى، ويقال أن هذا التأويل مهزول، وإنما المحراب أشرف مكان في البيت، ومحاريب اليمن هي أمكنة شريفة في القصور، وكأن المحراب في المسجد من ذلك لموقف الإمام. وقال أبو حامد: المحراب عند بعض الفقهاء ليس من المسجد، ولهذا قيل: من بات في المسجد وحفزته بطنه ولم يمكنه الخروج فأولى به أن تقع ذات بطنه في المحراب. قال أبو حامد: ولم يقل ذلك لهذه العلة، إنما قيل ذلك لأنه مكان الإمام وحده، فإذا أصابه ذلك أصاب واحداً وهو ينتبه عليه، ويستدرك الحال هكذا، ولو وضع في ناحية أخرى فإنه يصير سبيلاً إلى نجاسة أكثر من واحد من حاضري الصلاة.
وأما الحرب فذكر الحبارى، وقد سمعت جمعه على خربان، والخراب ضد العامر، والخرابات كلام مهزول، كذا قال الثقة. وقال بعض الجوالين: الخرابات ببخارى كالمواخير بالعراق. والخارب: اللص وجمعه خراب، وكأنه استحق ذلك الفساد حاله. يقال: فلان ما عرفت له خربة - بالباء -، وخرمة منكر، هكذا قيل في هذا المعنى، وإنما الخرمة من خرم إذا ثقب، والمخارم في الطرق، وهي المهاوي والمقاطع، والأخرم: الذي إن خرم أنفه، والمسور بن مخرمة، وكأن هذين الاسمين أخذا من سار يسور إذا علا، ومن خرم إذا أثر، والكتاب يقولون: فلان من خراب البلاد، وشذاذ المدن، وأخابث الناس.(9/61)
وأما الذرب ففساد في المدة، وقيل: وهو حدور الماء، ولذلك يقال: لسانه ذرب إذا كان حديداً، والسنان المذرب: أي المحدد، والأسنة المذربة.
وأما السرب فالنفق، وهو كالسرداب - بكسر السين - هكذا يختار العلماء وكذلك السرقين والدهليز، وكل ذلك خارج عن العربية في الأصل ومجرى فيها بالاستعمال. والسرب: الماء المنصب، وكأن النفق لما كان شقاً أسرب في الأرض كالماء، والسارب: الجاري، كذا قيل في قوله تعالى: " ومن هو مستخف بالليل وسارب بالنهار " الرعد:10، كأنه لابس الخفاء، هو الكساء، وجمعه أخفية، وقيل له خفاء لما يخفى فيه، وسارب بالنهار: أي ظاهر وقال بعض القرامطة حين دخلوا الكوفة سنة خمس وتسعين ومائتين: نحن جباة المال، وحماة السروب، واحدها سرب، والسرب: القطيع من الغنم والظباء وغير ذلك.
أما الشرب فجمع شربة، والشرب: جرعك الماء، وأنت شارب والماء مشروب، والمشرب: ما يشرب به، والماء الشريب والمشروب: ما أمكن شربه على كراهية، والشرب: الندماء كالصحب. وقد تعجب بعض العلماء من قول الناس ببغداد للذي يريد أن يسقي الناس ويحمل الماء: شارب، وقالوا: هو ساقٍ، فلما قيل: شارب؟ ولم يظهر خفي هذا إلى الساعة، ورجل شريب إذا كان كثير الشرب كسكير وخمير وفسيق، وباب هذا موقوف على السماع ولا يقال بالقياس كقولك: هو إكيل من الأكل، ولا عليم من العلم، فاحفظ(9/62)
السماع وافرد القياس، ولا تحمل أحدهما على الآخر.
واعلم أن القياس في اللغة من نحوين: نحو أيده السماع ودل عليه الطباع، فالقول حسن والمصير إليه جائز. سمعت هذا من أبي سعيد السيرافي. وكان أبو حامد المروروذي يقول: القياس باطل في اللغة، لأن اللغة في الأصل اصطلاح، وفي الفرع اتباع، والقياس استحسان وانتزاع، ولو وضعت اللغة بالقياس لصرفت بالقياس، فلما وضعت بالاصطلاح أخذت بالسماح، والكلام في اللغة طويل، لأن العلم بأحوالها واعتياد أهلها وأخذ بعضها عن بعضها في أصل الخلق وأول النطق وحين فتح الفاتح فاه، وعزا بعقله معنى وتوخاه، ثم صاغ له لفظاً وسماه، وأفرده بنفسه عما عداه، وقطع الصوت وأفرده من غيره بالإشارة إليه، وكيف فهم عنه السامع وكيف قرع أذنه، وكيف وصل إلى صميم عقله، وكيف عرف به مراد قلبه، وكيف وقع التمازج به والاتفاق عليه؟ علم إلهي، وسر خفي، وأمر غيبي، لا يقف عليه ولا يحيط بكنهه إلا خالق الخلق، ومبدئ العالم، ومنشئ الكون، ومالك الجملة.
وأما الصرب فالصمغ.
وأما الطرب فالخفة في الفرح، قال معاوية: الكريم طروب، أي الماجد مرتاح إلى الخير هشاش، والأطراب جمع طرب، وتطرب الرجل إذا تكلف ذلك(9/63)
وأما الضرب فالعسل، ويقال: هو الأبيض المحبب الذي كأن فيه حبوباً، ولا أحفظ فيه أكثر من هذا.
وأما العرب فهذا الجيل في هذه الجزيرة، وهي ألف فرسخ، والعرب أيضاً جمع عربة، وهي ناعورة، وسميت بذلك لأنها تنعر أي تصوت، ويقال: نعر فلان، وفلان تعار في الفتن، ونعر العرق: إذا فار الدم منه.
والعرب أيضاً، يقال: هي النفس، واحدتها عربة، والخيل العراب معروف. وفلان أعرابي إذا كان بدوياً، وهو عربي أيضاً. والنقطة: الإفصاح، وهذا لم يفصح الكلام، ثم بحركاته وسكناته يقع البيان، ويقال: أعرب الفرس إذا صهل فعرف بصهيله أنه من الخيل العراب. والعرب جمع عروب، وهي المحبة لبعلها، هكذا فسر في التنزيل والحكمة والبيان القويم.
وأما الغرب فشجر معروف.
وأما القرب فليلة ورود الماء من صبيحتها.
وأما الهرب فمعروف.
وأما الكرب فأصول السعف، والكرب أيضاً: حبل يشد بحبل الدلو.
وأما الأرب فالحاجة.
وأما الدرب فالمهارة، يقال: درب يدرب درباً.
كتبت من حظ ابن المعتز: قال علي بن أبي طالب رضي الله عنه لعاصم بن زياد الحارثي، وكان عاصم قد لبس الخشن وترك الملاء: يا عاصم. أترى أن الله تعالى أحل لك الطيبات وهو يكره أخذك منها؟ أنت والله أهون(9/64)
عليه، قال: يا أمير المؤمنين، فأنت آثرت لبس الخشن، قال: ويحك يا عاصم، إن الله فرض على أئمة العدل أن يقدروا أنفسهم بالعوام لئلا يتبيغ بالفقير فقره، قال: فألقى عاصم العباء ولبس الملاء.
وقالوا: العفو زكاة العقل. ولو قيل: زكاة القدرة كان أنبل، هذا عندي، ولا أثق بجل ما عندي وقال علي رضي الله عنه: الجزع والشره والبخل والحسد فروع أصلها كلها واحد قيل لابن صوحان، وذكر يوماً من أيام علي: أين كنت؟ قال: كنت مع الخواص أضرب خيشوم الباطل.
قال عبد الله بن الزبير بن العوام لعمرو بن العاص: إنك لكالعشواء تخبط في جلبوب ليل خداري، هكذا كان بخطه، ولعله جلباب.
قال عثمان بن عفان رضي الله عنه: لكل نعمة عاهة، وعاهة هذه النعمة عيابون طعانون، طغام مثل النعام، أتباع كل ناعق، يعني بالنعمة الخلافة فيما أظن.(9/65)
قال أبو حمزة الشاري، وذكر بني أمية: ذبان طمع وفراش نار.
للناشئ الكبير:
لم تبن في الدنيا سماء مكارم ... إلا ونحن بدورها ونجومها.
وإذا سمت يوماً للمس أديمها ... يوماً أبالسها فنحن رجومها
وإذا سمعت بنعمة محروسة ... من كل حادثة فنحن حريمها
وإذا أليحت للأنام بوارق ... تندى فمنا تستهل غيومها
قال ابن المعتز: فيما تزندق فيه أبو العتاهية قوله:
إذا ما استجزت الشك في بعض ما ترى ... فما لا تراه العين أمضى وأجوز
قال ابن المعتز: لما قال:(9/66)
فاضرب بطرفك حيث شئ ... ت فلن ترى إلا بخيلا
قيل له: بخلت الناس، قال: فاكذبوني بواحد.
قال ابن المعتز: وحدثني أبو سعيد عن الأثرم قال: كانت أم جعد، وهي امرأة من غدانة بن يربوع واقعت أوس بن حجر في الجاهلية فقالت:
أنعت عيراً هو أير كله ... حافره ورأسه وظله
كأن حمى خيبر تمله ... أنعظ حتى طار عنه جله
يدخل في فقحة أوس كله.
فهرب أوس منها فاتبعته وهي تقول:
أطلب أوساً لا أريد غيره ... نايكته فشق بظري أيره
شاعر:
مررت بأير بغل مسبطر ... فويق الأرض كالعنق المطوق
فما إن زلت أمرسه بكفي ... إلى أن صار كالسهم المفوق(9/67)
فلما أن ربا ومذى وأمذى ... ضربت به حر أم أبي الشمقمق
قال ابن أذينة لعبد العزيز بن مروان في كلام جرى: لا، ولكنك ملول، قال: لو كنت ملولاً ما صبرت على مواكلتك سنة وأنت أبرص.
لعبادة بن البر الجعدي:
ألا ليت شعري هل أبيتن ليلة ... جميع الهوى قد راجع النفس طيبها
قال بعض النحويين: بين قولك: ما زيد كعمرو ولا شبيهاً به، وبين قولك: ما زيد كعمرو ولا شبيه به فرق، أن القول الأول في النصب نفي لزيد عن مشابهته، وفي الجر نفي عن كونه شبيهاً به. وهذا فيه تحكم، وكثير من أصحابنا لا يطمئنون إلى هذا الفرق.
قال بعض النحويين: معنى قولك: أنت لولا أن أباك أبوك هو: أنت الكامل لولا أبوك، كأنه إشارة إلى فضله التام إلا من جهة الوضع من أبيه.
شاعر:(9/68)
ما ذاق طعم النوم أو ما غمضا ... إذا الكرى في عينه تمضمضا
لأبي نخيلة:
ها أنا سيف من سيوف الهند ... ما شمت إلا نظرة في غمد
فإن تقلدني فعد لي حدي ... وكل ما سرك عندي عندي
دخل عبد الرحمن بن قديد العذري على معاوية يستعدي على هدبة بن الخشرم فقال: يا أمير المؤمنين، هؤلاء وطئوا حريمي، وروعوا حرمي، وقتلوا أخي.
ذم أعرابي قوماً فقال: ما زلت فيهم خميرة سوء يبقيها الماضي للباقي حتى أورثوها فلاناً فعجنها بيده وأكلها بفيه.
انظر إلى استعارة العرب وإلى اقتدارها في الكلام وركوبها كل متن ووجيفها في كل واد.
قال الحسن: اللهم اجعل أهل العراق صخرة تجري عليها دماؤنا، فما ينال بهم حق، ولا يرتق بهم فتق، وذلك لما تفرق عنه أصحابه.(9/69)
وقف أعرابي بباب بعض الملوك فقال: أعينوا الجائع الضعيف، فقال البواب، وكان سميناً: لعنكم الله فما اكثر جائعكم، فقال: والله لو فرق قوت جسمك في أبدان عشرة منا لكفانا شهراً، وإنك لعظيم السرطة، جسيم الضرطة، ولو ذري بجيفتك بيدر لكفته.
وروي عن عمر أنه قال: إذا تناجى القوم في دينهم دون العامة فهم على تأسيس ضلالة.
طلق أعرابي امرأته فقالت: ولم تطلقني؟ قال: لقبح منظرك، وسوء مخبرك، والله إنك ما علمت لدائمة الذرب، كثيرة الصخب، مبغضة في الأهل، مشنوءة عند البعل، قصيرة الأنامل، متقاربة القصب، جبهتك نابية، وعورتك بادية، أكرم الناس عليك من أهانك، وأهون الناس عليك من أكرمك، قالت: وأنت والله إن نطق القوم أفحمت، وإن ذكر الجود انقمعت، ضيفك جائع، وجارك ضائع، القليل منك إلى غيرك كثير، والكثير من غيرك إليك قليل.
قال أنس: قيل: يا رسول الله متى يترك الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر؟ قال: إذا ظهر فيكم ما ظهر في بني اسرائيل، قالوا: وما ذاك يا رسول الله؟ قال: إذا ظهر الإدهان في خياركم، والفاحشة في شراركم، وتحول الملك إلى صغاركم، والفقه في رذالكم.(9/70)
قال الحسن البصري: لا يرد جوائز الأمراء إلا مراء أو أحمق.
قال الأصمعي: لما قتل المختار أخذ رأسه وحمل بدنه على بغل، فكان كلما مال مسك بأيره، فكان أيره سكانه. هذا لفظ الأصمعي.
لأبي الخطاب النحوي:
أما والله لولا خوف هجر ... يكون من التنازع والعتاب
وأمر لست أدري كيف آتي ... إذا فكرت فيه بالجواب
لقلت مقالة فيها شفاء ... لنفسي من هموم واكتئاب
ولكن سوف أصبر فاصطباري ... على المكروه أولى بالصواب
قال ابن السماك: عجباً للفتى المترف الذي تعود النعيم في الدنيا، والطعام الطيب، والمركب الوطيء، والمنزل الواسع، كيف لا يعمل ها هنا مخافة أن يفوته ذاك في الآخرة، وعجباً للفقير المجهود الذي لا يقدر من الدنيا على حاجته كيف لا يعمل رجاء أن يذهب إلى نعيم وروح ويستريح مما هو فيه.
قال عبيد الله بن زياد: إياكم والطمع فإنه دناءة، والله لقد(9/71)
رأيتني على باب الحجاج، وخرج الحجاج فأردت أن أعلوه بالسيف فقال: يا ابن ظبيان، هل لقيت يزيد بن أبي مسلم؟ قلت: لا، قال: فألقه فإنا قد أمرناه أن يعطيك عهدك على الري، قال فطمعت فكففت، وإنه عاد إلى يزيد بن أبي مسلم فلم يكن معه عهد ولا شيء، وإنما قال الحجاج ما قال حذراً منه.
شعر:
ما يألف الدرهم المنقوش خرقتنا ... إلا لماماً قليلاً ثم ينطلق
إنا إذا كثرت يوماً دراهمنا ... ظلت إلى سبل الخيرات تستبق
وجد عمرو بن العاص في الوهط - ضيعته - رجلاً يقطف عنباً فقال: ويلك ما علمت ما أنزل الله على موسى؟ قال: ما هو؟ قال: من تسور وهطين وأخذ قطفين فإنه يدخل نارين فقال لا والله على عيسى قال من سرق مصرين، وأنفق وهطين، فإنه يدخل نارين، فقال عمرو: والله أنزل الله تعالى هذا ولا ذاك.
لما ولي سوار القضاء كتب إلى أخ له يسكن الثغور: إنه إنما حملني على الدخول في القضاء مخافة أن أدخل فيما هو أعظم منه - وذكر كثرة(9/72)
العيال، وشدة الزمان، وجفوة السلطان، وقلة المواساة، فرق له وكتب إليه: فإني أوصيك بتقوى الله تعالى يا سوار، الذي جعل التقوى عوضاً من كل فائدة من الدنيا، ولم يجعل شيئاً من الدنيا عوضاً من التقوى، فإن الدنيا عقدة كل عاقل، بها يستنير وإليها يستروح، ولم يظفر أحد في عاجل الدنيا وآجل الآخرة بمثل ما ظفر به أولياء الله الذين شربوا بكأس حبه، وكانت قرة أعينهم في ذلك، لأنهم أعملوا أنفسهم في حريم الأدب، وراضوها رياضة الأصحاء الصادقين، وظلفوها عن الشهوات، وألزموها القوت المعلق، وجعلوا الجوع والعطش شعاراً لها، حتى انقادت وأذعنت لهم عن فضول الشهوات، فلما ظعن حب فضول الدنيا عن قلوبهم، وزايلته أهواؤهم، وكانت الآخرة نصب أعينهم، ومنتهى أملهم، ورث الله تعالى قلوبهم الحكمة، وقلدت قلائد العصمة، وجعلت نوراً للعالم الذي يلمون منه الشعث ويشبعون الصدع، فما لبثوا إلا يسيراً حتى جاءهم من الله موعود صادق اختص العالمين به والعاملين له، فإذا سرك أن تسمع صفة الأبرار الأتقياء فصفة هؤلاء فاستمع، وشمائلهم فاتبع، وإياك يا سوار وبنيات الطريق.
قال الأصمعي: لزياد الأعجم في قتيبة بن مسلم:(9/73)
فما سبقت يمينك من يمين ... ولا سبقت شمالك من شمال
قال عبد الملك بن عمير: المرأة السوداء بنت السيد أحب إلي من المرأة الحسناء بنت الرجل الدنيء.
قال عبد الملك بن صالح: قال رجل لابن السماك: أما بلغك أن القصص بدعة، وكان عريفاً، قال: فبلغك أن العرافة سنة؟!.
كان لقيط راوية أهل الكوفة، قال: تقدم رجل من التجار إلى العريان بن الهيثم، كان التاجر فصيحاً صاحب غريب، ومعه خصم، فقال التاجر: أصلحك الله، إني ابتعت من هذا عنجداً واستنسأته شهراً أؤديه مياومة، ولم ينقض الأجل، ولقد أديت بعض حقه فليس يلقاني في لقم إلا فثأني عن وجهي، وأنا مهيء ماله إلى انقضاء الأجل، فقال له العريان: من أنت؟ قال: رجل من التجار، قال: أي عاض بظر أمه، تتكلم بهذا الكلام؟ ضعوا ثيابه، فأهوت الشرط إلى ثيابه فقال: أصلحك الله إن إزاري(9/74)
مرعبل، فضحك العريان وقال: لو ترك الغريب في موضع لتركه ها هنا، خلوا عنه.
أصابت أبا علقمة الحمى فأرسل إلى الطبيب فقال: أنظر إلي، فأخذ بيده وحبس عروقه فقال: أصلحك الله، أي شيء يوجد لك؟ فقال: أجد رسيساً في أسناخي، وأزاً فيما بين الوابلة إلى الأطرة من دأيات العنق قال: أصلحك الله هذا وجع القريس، قال: أبو علقمة: وأين سعد من قريش؟! والناس بنو آدم، قال: إن شئت ولد آدم وإن شئت ولد عيسى، ليس عندنا لهذا الكلام دواء.
دعا أبو علقمة حجاماً فقال له: أخرج منك دماً قليلاً أو دماً كثيراً؟ فقال: اشدد قصب الملازم، وأرهف ظبى المبازع، وخفف الوقع،(9/75)
وعجل القطع، ولا تستكرهن أبياً، ولا تدون ايتا واسفف ولا تسفف، فقام الحجام وقال: جعلني الله فداك، ليس لي علم بالحرب. يقال: أسفف أي قارب بين الشرط، ولا تسفف، يقول: لا تفرق بين الشرط.
قال الزبير بن بكار: لأمية أبيات نهى رسول الله صلى الله عليه وسلم عن إنشادها وهي:
ماذا ببدر فالعقن ... قل من مرازبة جحاجح
شيب وشبان بها ... ليل مخاريق دحادح
فمدافع البرقين فال ... حنان من طرف الأواشح
هلا بكيت على الكرا ... م بني الكرام أولي المنادح
كبكا الحمام على فرو ... ع الأيك في الطير الجوانح(9/76)
يبكين حرى مستكي ... نات يرحن مع الروائح
من يبكهم يعول على ... حذر ويصرف كل مادح
أو لا يرون كما ارى ... ولقد يبين لكل لائح
أن قد تغير بطن مك ... كة فهي موحشة الأباطح
من كل بطريق لبط ... ريق نقي اللون واضح
القائلين الفاعلي ... ن الآمرين بكل صالح
المطعمين الشحم فو ... ق اللحم شحماً كالأنافح
خف الخميس إلى الخمي ... س إلى جفان كالمناضح
ليست بأصدار لمن ... يعفو ولا رح رحارح
قال أحمد بن أبي طاهر: حدثني حبيب قال، حدثني بعض المشايخ قال: سمعت رجلاً يقول: لو صور الصدق لكان أسداً، ولو صور الكذب لكان ثعلباً، وما صاحبهما منهما ببعيد.
قال أحمد: وحدثني حبيب قال، حدثني رجل من الحي قال: كان فينا شيخ شريف، فأتلف ماله في الجود، فصار يعد ولا يفي، فقيل له:(9/77)
أصرت كذاباً؟ قال: نصرة الحق أفضت بي إلى الكذب.
قال: وعد رجل رجلاً فلم يقدر على إنجاز ما وعد، فقال: كذبتني، فقال: لا ولكن مالي كذبك.
قال أكثم بن صيفي: دعامة العقل الحلم، والمسألة مفتاح التوثق، وفي المشورة مادة الرأي.
كتب معاوية إلى زياد: اعزل حريث بن جابر، فإني ما أذكر فتنة صفين إلا كانت حزازة في قلبي، فكتب إليه زياد: خفض عليك يا أمير المؤمنين، فقد بسق حريث بسوقاً لا يرفعه عمل، ولا يضعه عزل.
وذكر أعرابي قوماً فقال: كلام الناس أشجار وكلامهم ثمار.
وقيل لصعصعة بن صوحان: كيف كان طلحة - وسئل عن جماعة من الصحابة - فقال: كان حلو الصداقة، مر المذاقة، ذا أبهة شاحطة.
قال عمرو بن عتبة: تألفوا النعمة بحسن مجاورتها، والتمسوا(9/78)
المزيد فيها بالشكر عليها، واحملوا أنفسكم على مطية لا تبطئ إذا ركبت، ولا تسبق وإن تقدمت، قالوا: ما هذه المطية؟ قال: التوبة.
قال الأحنف في صفين: أما إذا حكمتم أبا موسى فأدفئوا ظهره بالرجال.
يقال: المواعيد رؤوس الحوائج والإنجاز أبدانها.
سمع أعرابي شعراً جيداً فقال: هذا رخيص المسمع، غالي المطلب.
قال أبو العيناء: غنانا علويه في منزل إسحاق، وكان اليزيدي معنا، فقال له اليزيدي، وكان علويه يضرب باليسار: أسأل الله الذي جعل سرورنا بيسارك أن يعطيك كتابك بيمينك.
قيل لرجل: لم فضلت الغلام على الجارية؟ فقال: لأنه الطريق صاحب، وع الإخوان نديم، وفي الخلوة أهل.
قال عبد الملك بن مروان لعمر بن عبد العزيز وهو صبي: كيف نفقتك علة عيالك؟ فقال: حسنة بين سيئتين، فقال لمن حوله: أخذه من قول الله تعالى " والذين إذا أنفقوا لم يسرفوا ولم يقتروا وكان بين ذلك قواماً " الفرقان: 67.(9/79)
قال أبو الدرداء: التمسوا الخير دهركم، وتوسموا له ما استطعتم، وتعرضوا لنفحات رحمة الله، فإن الله تعالى نفحات يصيب بها من يشاء من عباده، وأسأل الله تعالى أن يستر العورة، ويؤمن الروعة.
قيل لفيلسوف: ما أعم الأشياء نفعاً؟ فقد الأشرار.
قدم بعضهم عجوزاً دلالة إلى قاض فقال: أصلح الله القاضي، زوجتني هذه امرأة عرجاء، فقالت: أعزك الله، زوجته امرأة يجامعها لم أزوجه حمارة يحج عليها.
يقال: إذا كان لك فكرة، ففي كل شيء لك عبرة.
شاعر:
بان الأحبة والأرواح تتبعهم ... فالدمع ما بين موقوف ومسفوح
قالوا نخاف عليك السقم قلت لهم ... ما يصنع السقم في جسم بلا روح
قال العباس بن الحسن في كاتب: ما رأيت أوقر من علمه، ولا أطيش من قلمه.(9/80)
قال فيلسوف: الإنسان مستور ما أتبع قبيحه حسناً.
قال أعرابي: رب جواد عثر في استنانه، وكبا في عنانه، وقصر في ميدانه.
قال رجل لأبي سعيد الحداد: أخطأت، قال: أخطأت أنت حين تظن أني لا أخطئ.
قال رجل لرجل: غلامك ساحر، قال: قل له يسحر لنفسه قباءً وسراويل.
قال رجل: أريد أن أعتقد لولدي ما يعيشون به بعدي، فقال له زاهد: أنت ممن لا يعبد الله إلا بكفيل.
كان عامر بن عبد الله يقول: أربع آيات في كتاب الله إذا قرأتهن ما أبالي على ما أصبح وأمسي: قوله: " ما يفتح الله للناس من رحمة فلا ممسك لها وما يمسك فلا مرسل له من بعده " فاطر:2، وقوله عز وجل: " وإن يمسسك الله بضر فلا كاشف له إلا هو " يونس:107، وقوله: " سيجعل الله بعد عسر يسراً " الطلاق:7، وقوله: " وما من دابة في الأرض إلا على الله رزقها " هود:6.(9/81)
كتب بعض الكتاب إلى صديق له وقد تأخر عنه كتابه: إن كنت لا تحسن أن تكتب فهذه زمانة، وإن كنت تكتب ولا تكاتب إخوانك فهذا كسل، وإن كان ليس لك قرطاس ودواة فهذا سوء تدبير، وإن اعتذرت بعد ما كتبت إليك فهذه وقاحة.
شاعر:
وإذا تبسم سيفه ... بكت النساء من القبائل
وإذا تخضب بالدما ... ء نهضن في سود الغلائل
لا شيء أحسن عنده ... من نائل في كف سائل
نظر ابن سيابة إلى مبارك التركي وتحته دابة، فرفع رأسه إلى السماء وقال: يا رب، هذا حمار وله دابة، وأنا إنسان وليس لي حمار!!.
تاب مخنث فلقيه مخنث آخر فقال: يا فلان أيش حالك؟ قال: قد تبت، قال: فمن أين معاشك؟ قال: بقيت له فضلة من الكسب القديم، قال: إذا كانت نفقتك من ذلك الكسب فلحم الخنزير طري خير منه قديد.
قال ابن أبي فنن: دخلت يوماً إلى الفتح بن خاقان أسأله إيصالي إلى المتوكل لأنشد شعراً، وأنشدته:(9/82)
إذا كنت أرجو نوال الإمام ... وفتح بن خاقان لي شافع
فقل للغريم أتاك الغياث ... وللضيف منزلنا واسع
قال: وكان الفتح يشرب، فأمرني بالجلوس وقدم إلي النبيذ وأمرني بالشرب، فقلت: ما أكلت شيئاً أيها الأمير، فجاءني بعض الخدم فأخذ بيدي إلى خزانة وقدم لي طعاماً، فأكلت وعدت إلى مكاني فجلست، فقال لي الفتح: خذ ما تحت مصلاك، فنظرت فإذا بصرتين، فقال: أما إحداهما ففيها مائة دينار وهي لجائزتك، وأما الأخرى ففيها مائة دينار لحسن أدبك وقولك: إني ما أكلت شيئاً.
جحظة:
غنت فهاجت حربي ... وضاع فيها طربي
فشعرها من فضة ... وثغرها من ذهب
قيل لمزيد وقد اشترى حماراً: ما في حمارك عيب إلا أنه ناقص الجسم يحتاج إلى عصا، قال: إنما كنت أغتم لو كان يحتاج إلى بزماورد، فأما العصا فأمرها هين.
خطب معاوية الناس فقال: إن الله تعالى يقول في كتابه: " وإن من شيء إلا عندنا خزائنه وما تنزله إلا بقدر معلوم " الحجر:21، فعلام(9/83)
تلومونني إذا قصرت في اعتياتكم؟ فقام إليه الأحنف فقال: إنا والله ما نلومك يا معاوية على ما في خزائن الله ولكن على مانزله ألينا من خزائنه فجعلته في خزائنك وحلت بيننا وبينه، قال: فكأنما ألقمه حجراً.
قال بزر جمهر: من عيب الدنيا أنها لا تعطي أحداً استحقاقه، إما أن تزيده وإما أن تنقصه.
قال النبي صلى الله عليه وسلم: جعل عزي في ظل سيفي وفي رأس رمحي.
قال مسلمة لنصيب: أمدحت فلاناً؟ قال: نعم، قال: فما فعل معك؟ قال: حرمني، قال: فهلا هجوته؟ قال: لا أفعل، قال: ولم؟ قال: لأني أحق بالهجو منه إذ رأيته أهلاً لمدحي، فأعجب به وقال له: سلني، قال: كفك بالعطية أبسط من لساني بالمسألة، فأمر له بألف دينار.
صاح رجل براهب في صومعته فقال له: ما الذي علقك في هذه الصومعة؟ قال: من مشى على الأرض عثر.(9/84)
قيل لرجل: مات عدوك، قال: وددت لو أنكم قلتم: تزوج.
قال الحجاج يوماً لرجل: أنا أطول أم أنت؟ قال: الأمير أطول عقلاً وأنا أبسط قامة.
وصف النظام الكواكب وحسنها، وكان الخاركي حاضراً، وكان يتهم بالزندقة، فقال: وأي شيء حسنها؟ ما أشبهها إلا بجوز كان في كم صبي فتناثر فوقع متفرقاً: ها هنا ثلاثة، وها هنا أربعة، وها هنا اثنتان.
أنا والله أرحم هذا القائل، وهو بالغيظ عليه أولى، بل تنفيذ حكم الله فيه أحق، فقد الحد في الدين وأرصد للمؤمنين، وشبه على الضعفاء المبتدئين، أما يعلم أن هذا الظاهر المنتشر موشح بالباطن المنتظم، وأن هذا البادي المتباين مربوط بذلك الخافي المتصل، وأنه لو جرى الأمر على وصف هذا المقترح، وترصيع هذا المعترض، لكان النقص يعتوره، والخلل يدخله، وحق لعقل قصير، واعتبار ممزوج، وفكر مضطرب، أن يؤدي صاحبه إلى هذا الاختلاط.
هيهات جل خلقه عن إدراك خلقه، وعلا عن إحاطة شيء بكنهه، فليس لعقل مجال في سره، ولا لوهم منال من غيبه، ولا لمعترض ثبات عند اختلاف(9/85)
أفانين قدرته، وإنما عليك أن تعرف نقصك في كمالك، وعجزك في قدرتك، وسفهك في حكمتك، ونسيانك في حفظك، وخبطك في توفيقك، وجهلك في علمك، ونيلك عند بأسك، وتهتكك في احتراسك، وإخفاقك مع تحققك، ونكولك في تصميمك، فإذا عرفت هذه المعاني، وسكنت هذه المغاني، وضح لك خفي الغيب ببادي الشهادة، وتداركت الأدلة بشفاء اليقين، ورحلت عن صدرك غلبات الهم، وتشاهدت السواء في كثرتها بتوحيد الواحد، وأشارت إلى الفيض الغامر، وأوصلتك إلى حقائق ما تراءى لعينك، وتخيل لوهمك، وهجس ببالك، وخنس عن عقلك، ونفى عن طرفك فيما لحقك الشك، وتميز من وهمك ما استحال بتحصيلك، وطرد عن قلبك ما طرقك بالشبه، هنالك تعلم أن العالم في إحدى جهتيه يشكل على العاقل الفحص عنه، وفي الجهة الثانية يحرم على المنصف التشكك فيه، لأنه إن كان فيما يوجد من انتثاره ما يفدح في حقائق التوحيد، ففيما يوجد من انتظامه ما يفتح أبواب التحقيق، وإن كان فيما ترى من اختلافه ما يبعث الحيرة، ففيما يعقل من اتساقه ما يفضي إلى التمييز، وإن كان فيما يجهل سره ما يتصل بالراحة، وإن كان بعض الحرمان غيظاً فإن بعض(9/86)
النبل غبطة، وإن كان طرف العجز جاذباً إلى اليأس إن في طرف القوة ما يستحصف به أسباب الأمل، فلا ترع، فليس ما جل عنك وجب أن يبطل عليك، ولا ما دق عن فهمك وجب أن يبهرجه نقدك، حاكم نفسك إلى نفسك، وعقلك إلى عقلك، فإنهما إن نكلا عن الشهادة في موضع استقصاء العلانية فإنهما يمران الشهادة في موضع ثقة بالحقيقة، ولا تكن إلباً عليهما فتخسر وأنت حاكم، وتحشر وأنت واهم.
قال عمر بن الخطاب رضي الله عنه: ما تكلم أحد بالفارسية إلا خب، ولا خب إلا ذهبت مروءته.
شاعر:
أما ترى الورد في أكفهم ... يجتث للقاطفين من ورقه.
كالقلب نار الهوى تلذعه ... والقلب يهوى الهوى على حرقه
قال أفلاطون: لولا قولي إني لا أعلم شيئاً إني أعلم لقلت: إني لا أعلم.
قال فيلسوف: ما كسبت فضيلة من العلم إلا علمي بأني لا أعلم.(9/87)
قال بعض أصحابنا: العالم قد يكون معانداً من حيث يخالف ما يعلمه، فأما الجاهل فلا يكون منصفاً لجهله بالإنصاف وفقد علمه بشرفه.
قيل لعالم: ما السرور؟ قال: معنى صح بالقياس، ولفظ وضح بعد التباس.
قيل لشجاع: ما السرور؟ قال: ضرب سريع، وقرن صريع.
قيل لملك: ما السرور؟ قال: إكرام ودود، وإرغام حسود.
قيل لعاقل: ما السرور؟ قال: عدو تداجيه، وصديق تناجيه.
قيل لأكار: ما السرور؟ قال: رفع غلة، وسد خلة.
قيل لمغن: ما السرور؟ قال: مجلس يقل هذره، وعود ينطق وتره.(9/88)
قيل لناسك: ما السرور؟ قال: عبادة خالصة من الرياء ورضى النفس بالقضاء.
للعطوي:
يا نفس دومي على العبادة والص ... صبر فخير العلقين في يدك
إني وإن كنت لابساً سملا ... فهمتي فوق كاهل الفلك
قال بعض الأدباء: الجالي عن مسقط رأسه ومحل رضاعته كالعير الناشط عن بلده الذي هو لكل عير فريسة، ولكل رام دريئة.
قالت الفرس: تربة الصبا تغرس في القلب حرمة وحلاوة، وكما تغرس الولادة رقة وجفاوة.
قال فيلسوف: فطرة الرجل معجونة بحب الوطن.
وكان بقراط يقول: يجب أن يداوى كل عليل بعقاقير أرضه، فإن الطبيعة تتطلع إلى هوائها، وتنزعو إلى غذائها.(9/89)
قال ابن عباس: لو قنع الناس بأرزاقهم كقناعتهم بأوطانهم ما اشتكى عبد الرزق.
شاعر:
سكر الولاية طيب ... وخمارها صعب شديد
لازلت في درك الشقا ... حتى تعاين ما تريد
قال ابن جريج: قرأت في موضع:
عش موسراً إن شئت أو معسراً ... لا بد في الدنيا من الغم
فكلما زادك في نعمة ... زاد الذي زادك في الهم
إني رأيت الناس في عصرنا ... لايطلبون العمل للعلم
إلا مباهاة لأصحابه ... وعدة للغشم والظلم
قال أعرابي: ما السيف عن الظالم بصائم، ولا الليل عن النهار بنائم.
قال فيلسوف: إنك لن تجد الناس إلا أحد رجلين: إما مؤخراً في نفسه قدمه حظه، أو مقدماً في نفسه أخره دهره، فأرض بما أنت فيه اختياراً، وإلا رضيت اضطراراً.(9/90)
قال رجل لسقراط: ما أقبح وجهك، قال: ما تقبيح صورتي إلى فأذم، ولا تحسين صورتك إليك فتحمد، قال: قد علمت، قال: فإذا عبت الصنعة مع علمك فقد عبت الصانع.
قيل لفيلسوف: ألا تحدثنا؟ قال: لا، قيل: لم؟ قال: لأنكم تجلون عن دقيقي وأدق عن جليلكم.
قيل لسقراط: ما تأمرنا أن نصنع بك إذا مت؟ قال: ليعن بذلك من يحتاج إلى المكان.
قال أعرابي: من لم يؤدب في صغره لم يفلح في كبره.
قال بعض الرؤساء: دع الوعد يتربص ثلاثاً، فإن كثير العطاء قبل الوعد صغير، وجليله حقير.
قال أعرابي: ما زلت أقوت عيني النوم حتى وقعت في لجته وعرقت في بحره.(9/91)
قال يحيى بن خالد: الوعد شبكة من شباك الكرام، يصطادون بها محامد الإخوان.
قال الموبذ بمرو: الوعد سحابة والإنجاز مطرة.
وقال آخر: لقح المعروف بالموعد، وأنتجه بالفعال، وأرضعه بالزيادة.
سئل ابن مسعود عن الوسوسة يجدها الرجل فقال: ذاك برازخ الإيمان.
يقال: عين العقل أبصر من عين الجسد.
نظر أعرابي إلى بعض أولاد الملوك فرآه سميناً فقال: لحاك الله ما ثناك الخبز.
قال قسطا بن لوقا: الخط هو مقدار ذو نعت واحد، وهو الطول(9/92)
بلا عرض ولا عمق، وهو لا يدرك على الانفراد بالعقل والوهم لا بالحس، وأما وجوده بالحس فإنه في البسيط إذ هو نهايته، فإن البسيط إذا ألقي منه عرضه بقي طوله فقط، وذلك هو الخط؛ ونهاية الخط نقطتان: فالنقطة هي شيء لا بعد له، أعني لا طول ولا عرض ولا عمق، وهي موجودة على الانفراد بالعقل والوهم لا بالحس، وأما وجودها بالحس فهو في الخط.
قال ابن المعتز في رسالة يذكر فيها محاسن أبي تمام ومساوئه: سهل الله لكم سبل الطلب، ووقاكم مكاره الزلل؛ ربما رأيت من تقديم بعضكم الطائي على غيره من الشعراء إفراطاً ظاهراً، وهو أوكد أسباب تأخير بعضكم إياه عن منزلته في الشعر لما يدعو إليه اللجاج، فأما قولي فيه فإنه بلغ غايات الإساءة والإحسان، فكأن شعره قوله:
إن كان وجهك لي تترى محاسنه ... فإن فعلك بي تترى مساويه
وقد جمعنا محاسن شعره ومساوئه في رسالتنا هذه، ورجونا بذلك ارتداع المسهب في امتداحه، ورد الراغب عنه إلى إنصافه، واختصرنا الكلام إشارة لقصد ما نزعنا إليه، وتوقياً لإطالة ما يكتفى بالإيجاز فيه، ولئن(9/93)
قدمنا مساوئه على محاسنة ففي ذلك الجور عليه، وإن قرب العهد بمحاسنه لأدعى للقلوب إليه.
قال أعرابي: إذا استشرت الشر شري.
كتب عبد الملك إلى الحجاج: أرهب أهل الخيانة وأرغب أهل الأمانة، فإن البريء، إذا لم يأمن العقوبة وخاف مثل ما يؤتى إلى أهل الخيانة، طأطأ ركضاً في السرقة.
قيل لعمرو بن عبيد: ما البلاغة؟ قال: كلام ألحمه التقوى ونسجه الإخلاص.
قال عامر بن عبد القيس: الدنيا والده الموت.
قال عياض بن عبد الله: الحب أعمى.
وقال بعض الزهاد: المساجد سوق الآخرة.
قال العتبي: سئل أعرابي عن أخوين له فقيل له: أخبرنا عن(9/94)
زيد، فقال: أسكن الناس فوراً، وأبعدهم غوراً، وأثبتهم عند الحجة، قالوا: فأخبرنا عن الآخر، قال: كان والله شديد العقدة، لين العطفة، يرضيه أقل ما يسخطه، قالوا: فأخبرنا عن نفسك، قال: والله إن أفضل ما في معرفتي بهما.
قال رجل لعتبة بن أبي سفيان: قدمت إليك أخوض المتالف، وأقطع لجج السراب مرة، وألتحف بالليل أخرى، مضمراً حسن الظن بك، هارباً من اليأس إلى رجائك.
وصف قطري الدنيا فقال: ما نال أحد منها حبرة إلا أعقبته عبرة، ولم يملأ من سرائها بطناً إلا منحته من ضرائها ظهراً، ولم يجد منها غنيمة رخاء إلا هطلت عليه مزنة بلاء، ولم يمس منها أمرؤ في جناح أمن إلا أصبح على قوادم خوف.
ذكر المدائني في كتاب نوادر القضاة أنه حضر وليمة على مائدة(9/95)
وأعرابي يحاذيه على مائدة أخرى فقال: أتحول إليك يا أبا العباس؟ قال: ما بنا إليك من وحشة فلا تجعلنا سلماً للشهوة.
تقدم رجل إلى شريح ليشهد فقال: إنك لتنشط للشهادة، قال: إنها لم تحقد علي، قال: لله درك، وقبل شهادته.
سئل رجل عن اليمن فقال: سيف اليمن قضاعة، وهامتها همدان، وسنامها مذحج، وريحانتها كندة، ولكل قوم قريش، وقريش اليمن الأنصار.
كتب بعض الحكماء إلى أخ له: إنك قد أوتيت علماً فلا تطفئن نور علمك بظلمة الذنوب فتبقى في الظلمة يوم يسعى أهل العلم بنورهم.
قال النضر بن معبد: لا يتكلم أحد بكلمة حتى يزمها ويخطمها، فعسى أن يكون في القوم من هو أعلم منه، فإن سكت سكت وهو قادر عليه، وإن بكته وجد للتبكيت موضعاً.
قال داود بن علي: احمدوا الله تعالى على النعمة التي أصبحتم ترتضعون درتها، وتتفيئون ظلها، وتفترشون وسادها ومهادها.
وقال آخر: الدنيا سوق الشر.
وقال آخر: الدنيا عين تبصر بها الآخرة.(9/96)
ويقال: الصدق يدل على اعتدال وزن العقل.
وقال آخر: الإسناد كسوة الحديث.
وقال ابن مسعود: كونوا جدو القلوب خلقان الثياب، تجفون في الأرض وتعرفون في السماء.
قال شداد بن أوس: إني أخاف عليكم شهوة خفية ونعمة ملهية، وذاك حين تشبعون من الطعام وتجوعون من العلم.
لما ماج أهل مكة لوفاة النبي صلى الله عليه وسلم استبشر أبو سفيان بن حرب، فقام سهيل بن عمرو فقال: والله إني لأعلم أن هذا الدين سيمتد امتداداً كالشمس في طلوعها إلى غروبها، فلا يغرنكم هذا من أنفسكم، وأشار إلى أبي سفيان، فإنه يعلم من هذا الأمر ما أعلم، ولكن حسد بني هاشم جاثم على صدره.
لما دنا خالد من أصحاب مسيلمة انتضوا سيوفهم قبل أن(9/97)
يلتقوا، فقال خالد، فشل قومك يا مجاعة، قال: كلا ولكنها اليمانية لا تلين حتى تشرق متونها، قال: ما أشد ما تحب قومك، قال: لأنهم حظي من ولد آدم، فقال خالد يوم ذلك:
إن السهام بالردى مفوقه ... والحرب ورهاء العقال مطلقه
وخالد من دينه على ثقه قال أبو قلابة: لا تجالسوا أصاب الأهواء فإني لا آمن أن يغمسوكم في ضلالتهم، أو يلبسوا عليكم بعض ما تعرفون.
وقال: إن الله تعالى لا يقبل من الأعمال إلا ما صفا ورق وصلب، فأما صفاؤها فلله، وأما رقتها فللإخوان، وأما صلابتها فعلى الكفار.
من خط ابن المعتز:
إذا رأين علماً ممتداً ... معمماً بالآل أو مردى
يحسبه الرائي حصاناً وردا ... مجللاً كتابة أو بردا
صددن عن عرنينه أو صدا آخر:
قلق لأفنان الرما ... ح للاقح منها وحائل
حتى إذا صغت المط ... ي بعيد هرولة العساقل(9/98)
ومعطل أشب يخر ... ق ذي الأعالي والأسافل
قد بت أدأبه إلي ... ك بغيهب هدب العياطل
آخر:
تم لوعة للندى وكم قلق ... للجود والمكرمات في قلقك
ألبسك الله منه عافية ... في نومك المعتري وفي أرقك
ينزع من جسمك السقام كما ... نزعت حبل اللئام من عنقك
ابتلع ثعلب عظماً فبقي في حلقه، فطلب من يعالجه ويخرجه، فجاء إلى كركي فجعل له أجراً على أن يخرج العظم من حلقه، فأدخل رأسه في فم الثعلب وأخرج العظم بمنقاره ثم قال للثعلب: هات الأجرة، فقال الثعلب: أنت أدخلت رأسك في فمي وأخرجته صحيحاً، لا ترضى حتى تطلب أجراً زيادة؟! قيل لثعلب: أتحمل كتاباً إلى الكلب وتأخذ مائة؟ قال: أما الكراء فواف تام، ولكن الخطر عظيم.(9/99)
ووقع في شرك صياد ثعلبان فقال أحدهما: يا أخي، أين نلتقي؟ فقال: في دكان الفراء بعد ثلاث.
قالت قحبة لصاحبتها: متى يكون الرجل أطيب للمرأة؟ قالت: إذا حلق هو مثل أمس، وانتفت هي مثل اليوم، فدخلت أصول شعرته في أصول شعرتها، فقالت لها الأخرى: قتلتيني، الساعة أصب!! وكانتا في غرفة تحتها خياط وقد سمع ما قالتا فصاح: يا قحاب، ثياب الناس في الدكان، لا يكف علينا!! قال الجماز: رأيت عجوزاً تسأل وتقول: من تصدق علي أطعمه الله من طيبات باب الطاق.
شاعر:
أقاموا الديدبان على يفاع ... وقالوا لا تنم للديدبان
إذا أبصرت شخصاً من بعيد ... فصفق بالبنان على البنان
تراهم خشية الأضياف عجلى ... يقيمون الصلاة بلا أذان(9/100)
قيل للحسن بن شهريار، وكان كاتباً لوصيف: لا تنصرف إلى منزلك إلى نصف النهار، فقال: ما أعجب هذا!! فإن لم يجيء نصف النهار إلى بعد العصر أقعد؟! رفع وكيل لبعض بني هاشم في حساب ثلاثمائة درهم في جلاء مرآة، فقال جمين: والله لو صدئ القمر لجلي بأقل من هذا.
قال بعضهم: قلت لمديني وهو محرم يتغنى على حماره: أما تتقي الله تتغنى وأنت محرم؟ فقال: إني أخاف النعاس وأن أقع عن حماري، قلت: فأين أنت عن القرآن؟ قال: جربناه فوجدناه يزيد في النوم.
قال عبد الله بن دينار: خرجت مع ابن عمر إلى السوق فرأى جارية صغيرة تغني فقال: لو ترك الشيطان شيئاً لترك هذه.
قال أعرابي لخمار: أعندك شيء يشبه قول الأعشى:
تريك القذى من دونها وهي دونه ... إذا ذاقها من ذاقا يتمطق
قال: نعم، وناوله قدحاً، فشرب وقال: ليس هذا أريد، أعندك ما قال الأخطل:(9/101)
صهباء قد عنست من طول ما حبست ... في مخدع بين جنات وأنهار
قال: نعم.
قال عبد الله بن المعتز، قال عبد العزيز بن مسلم: رأيت قبر أبي محجن بأرمينية عليه شجرات كرم.
قال الجماز: كنت في منظره وإذا على غلوى شيخ معه صبي في يوم بارد، فكنت أسمع الشيخ يقول للصبي: أعطني فروتي، فيناوله شيئاً لا أثبته، فنظرت عند الشيخ قنينة كلما طلب من الصبي فروته سقاه قدحاً منها، قال الشاعر:
إذا شربنا خمسة خمسة ... فقد لبسنا الفرو من داخل
قال أعرابي: من كلام العرب: نعم لباس المرء التقوى، ونعم حشو الدرع السخاء، وأنبل بالحياء خلقاً، وبالوقار مهابة، وبالبيان ارتفاعاً، وبالتواضع عزاً، وبالوفاء جمالاً، وبصدق الحديث مروءة.
قال بعض السلف: العجب ممن يشتري المماليك بالدراهم كيف(9/102)
لا يشتري الأحرار بالمكارم.
سرق رجل من مجلس أنوشروان جام ذهب، وأنوشروان يراه، فتفقده صاحب الشراب فقال: لا يخرجن أحد حتى يفتش، فقال أنوشروان: لا تعرضوا لأحد فقد أخذه من لا يرده، ورآه من لا ينم عليه.
زور رجل كتاباً عن المأمون إلى محمد بن الجهم في دفع مال إليه، فارتاب به محمد فأدخله على المأمون، فقال المأمون: لم أذكر هذا، فقال الرجل: يا أمير المؤمنين، أكل معروفك تذكر؟ قال: لا، قال: فلعل هذا مما نسيت، قال: لعله، ادفع إليه يا محمد ما في الكتاب.
مر عبد العزيز بن مروان بمصر فسمع امرأة تصيح بابنها: يا عبد العزيز، فوقف وقال: من المسمى باسمنا؟ ادفعوا إليه خمسمائة دينار؛ فما ولد في تلك الأيام ولد بمصر إلا سمي به.
مدح رجل رجلاً عند خالد بن عبد الله فقال: والله لقد دخلت(9/103)
إليه فرأيته أسرى الناس داراً وفرشاً وآلة وخدماً، فقال خالد: لقد ذممته، هذه حال من لم تدع فيه شهوته للمعروف فضلاً، ولا للكرم موضعاً.
قال أبو العيناء: قيل للحسن بن سهل: بالباب رجل راغب فقال: سلوه ما وسيلته؟ قال: وسيلتي أني أتيتك عام أول فبررتني، فقال: مرحباً بمن توسل إلينا بنا، ووصله.
صار عطاء بن أبي رباح إلى رجل من أشرف قريش فقال إني أتيتك بهدية فتفضل بقبولها، فقال: هاتها، قال: فلان كانت عليه نعمة فزالت فلو نظرت له، فقال: جزاك الله على هديتك خيراً، فما أحسبنا ننهض بمجازاتها، فقال عطاء: بل جزاك الله على قبولك إياها أفضل الجزاء.
وقل ما ترى في عصرنا من يقبل هدية مثل هذه، والله إني لأستحيي من رواية هذه المكارم في عصر يتباهى فيه باللؤم، ويتبجح بالسخف، ويحتج بالحزم في البخل، وقد تواصي الناس بكلام الكندي لعنة الله - حيث يوصي ابنه: يا بني، أما بعد فكن مع الناس كلاعب الشطرنج، تحفظ شاهك وتأخذ شاههم، فإن مالك إذا خرج عن يدك لم يعد(9/104)
إليك، وأعلم أن الدينار محموم فإذا صرفته مات، وأعلم أنه ليس شيء أسرع فناء من الدينار إذا كسر، والقرطاس إذا نشر، والجلد إذا قشر، والثوب إذا قصر. ومثل الدرهم مثل الطير الذي هو لك ما دام في يدك، فإذا طار صار لغيرك قال المتلمس:
قليل المال تصلحه فيبقى ... ولا يبقى الكثير مع الفساد
لحفظ المال أيسر من بغاة ... وسير في البلاد بغير زاد
وأعرف بيتاً قد بيت أكثر من مائة ألف في المساجد، وهو قول القائل:
فسر في بلاد الله والتمس الغنى ... تعش ذا يسار أو تموت فتعذرا
فاحذر يا بني أن تلحق بهم فتكون منهم.
لحا الله هذا الموصي وقبح هذه الوصية وأبعد قائلها والعامل بها.
قال علي كرم الله وجهه: إنما أمهل فرعون مع دعواه لسهولة إذنه وبذل طعامه.
قال بعض السلف: إذا استشرت فانصح، وإذا قدرت فاصفح(9/105)
قال ماجن لآخر: كم صمت من هذا الشهر؟ قال: وتدعني امرأتك أصوم منه شيئاً؟!
لعبد الصمد بن المعذل:
صرفت الود فانصرفا ... ولم ترع الذي سلفا
وبنت فلم أمت أسفا ... عليك ولم تمت أسفا
لابن أبي فنن:
وعرصة مجد يكسب الحمد ربها ... ممهدة للمجتدين قبابها
إذا صدرت عنها وفود تتابعت ... وفود تلاها بالنجاح إيابها
أرتها وجوه الصادرين بشارة ... وتصدقها أفراسها وعيابها
جعلتك حصناً دون كل ملمة ... تخاوص عيناها ويصرف نابها
ولبيت لما أن دعوت مشمراً ... ولا خير في ذي دعوة لا يجابها
وله:
أقصرت شرتي وولى العرام ... وارتجاع الشباب ما لا يرام
أخلقت مرة الليالي جديداً ... والليالي يخلقن والأيام
فعلى ما عهدته من شبابي ... وعلى الغانيات مني السلام(9/106)
يحرم الماجد المجد وقد ير ... زق قوم وإنهم لنيام
فدع الحرص والحريص ولا تم ... تهن النفس إنها أقسام
سر من عاش ماله فإذا حا ... سبة الله سره الإعدام
أرق المأمون ذات ليلة فوجه إلى محمد بن حازم الباهلي، فلما دخل عليه قال: قل بيتين الساعة، فقال:
أنت سماء ويدي أرضها ... والأرض قد تأمل غيث السما
فازرع يداً عندي محمودة ... تحصد بها عندي حسن الثنا
فقال المأمون: عشرة آلاف درهم، فقد أبى إلا أخذ مالنا وخديعتنا، فقال محمد:
وإذا الكريم أتيته بخديعة ... فرأيته فيما تحب يسارع
فاعلم بأنك لم تخادع جاهلاً ... إن الكريم بفضله يتخادع
فأمر له بعشرة آلاف درهم أخرى وقال: أخرجوه لا يفني بيت المال.
قال المبرد: أنشد أبو العالية الشام لنفسه:
ترحل فما بغداد دار إقامة ... ولا عند من يرجى ببغداد طائل
بلاد ملوك سمنهم في أديمهم ... وكلهم من حلية المجد عاطل
ولا غرو أن شلت يد الجود والندى ... وقل سماح من أناس ونائل(9/107)
إذا غضغض البحر الغطامط ماءه ... فليس عجيباً أن تغيض الجداول
أهدى عبيد الله بن السري إلى عبد الله بن ظاهر لما دخل مصر مائة مملوك، مع كل مملوك ألف دينار، وأرسلها ليلاً، فردها عبد الله وقال: لو كنت أقبل هديتك ليلاً قبلتها نهاراً، " بل أنتم بهديتكم تفرحون " النمل 36.
لما خطب للمأمون على منابر خراسان، كتب إليه الحارث بن سبيع السمرقندي: قد أظلنا الله بخلافة أمير أمير المؤمنين تحت جناح الطمأنينة، وبلغنا بها مدى الأمنية، فأدام الله من كرامته ما يتظلل به أقاصي وأداني رعيته، وجعله أعز خليفة، وجعلنا أسمع وأطوع رعية، فقال المأمون للفضل بن سهل: أتعرف قيمة هذا الكلام؟ قال: نعم يا أمير المؤمنين، يلقيك إياه بالسرور، فأعجبه قوله واستحسنه.
لأبي العالية الشامي:
من ذا الذي رد هتم الموت إذا وقعا ... أو استطاع من الأقدار ممتنعا
هيهات ما دون ورد الموت من عصر ... كل سيشرب من أنفاسه جرعا
يا عظم رزء يزيد إذ فجعت به ... لا در در الردى ماذا به فجعا
لله در أخ من زائر جدثا ... ماذا نعى منه ناعيه غداة نعى(9/108)
قد كنت أمنح لومي قبل مهلكه ... من استكان لريب الدهر أو خشعا
حتى رمتني المنايا من مصيبته ... بنكبة رمت فيها الصبر فامتنعا
أخي ظعنت وخلفت المقيم على ... كر الليالي لما لاقيته تبعا
ماذا أضفت إلى الإحشاء من حرق ... لما استجبت لداعي الموت حين دعا
وما منحت قلوباً فيك موجعة ... كادت تقطع من غمر الأسى قطعا
أغريت بالعين إذ هيجت عبرتها ... دمعاً إذا هيجته حرقة دفعا
يا غيبة منه ما أرجو الإياب لها ... قرعت قلبي بها إذ بنت فانصدعا
كادت توافق بي حتفاً بلا أجل ... لما طوى يأسها من أوبك الطمعا
يا حبل عز أذود الحادثات به ... دبت عليه صروف الدهر فانقطعا
أصحى صدى الترب في لحد ثويت به ... من ماء وجهك بعد الصوب قد نقعا
آليت بعدك لا أبكي على بشر ... ولا أقول له عند العثار لعا
كتب صاحب أرمينية إلى المنصور: إن الجند قد شغبوا علي، وطلبوه أرزاقهم وكسروا أقفال بيت المال وانتبهوه، فعزله ووقع في جوابه: لو عدلت لم يشغبوا، ولو قويت لم يتوثبوا.
ووقع المنصور في رقعة رجل سأله شيئاً: آتاك الله سعة تصون عرضك وتقي دينك.(9/109)
كتب صاحب جيش عبد الملك بن مروان يخبره بكثرة من لقي من جيش الروم، فوقع إليه: " إن ينصركم الله فلا غالب لكم " آل عمران.
ووقع المنصور في قصة رجل ذكر أن أمير المؤمنين أمر بأرزاق وأن الفضل أبطأ بها: " ما يفتح الله للناس من رحمة فلا ممسك لها " فاطر:2 أهدى رجل إلى عمرو بن سعيد في يوم نيروز وهو والي كسكر وكور دجلة عصافير على طبق تحت مكبة ورقعة فيها:
عصافير بعثت بها ملاحاً ... ليضحك لا ليأكلها الأمير
وما أهدى سواي إلى أمير ... عصافيراً على طبق تطير
فلما وضع بين يديه ورفع المكبة طارت العصافير، فأخذ الرقعة فقرأ الشعر وضحك وأمر له بجائزة.
نظر ثعلب إلى جمل يعدو فقال: ما وراءك؟ قال: جعلت فداك، سخرت الحمير والبغال، فقال: وما أنت والحمير والبغال؟ فقال: أخاف جور السلطان.
دخل كلب مسجداً خراباً فبال في محرابه، وفي المسجد قرد(9/110)
نائم، فقال للكلب: أما تستحي أن تبول في المحراب؟ فقال الكلب: ما أحسن ما صورك حتى تتعصب له! رأى كلب رغيفاً يتدحرج فتبعه فقال له: إلى أين؟ قال: إلى النهروان، قال الكلب: قل إلى عمان إن تركتك.
قيل للكلب: لماذا رأيت السبع تنبح؟ قال: أفزعه، قيل: فلم تضرط؟ قال: من فزعه.
قيل لرجل: ما بال الكلب إذا بال رفع رجله؟ قال: يخاف أن تتلوث دراعته، فهو يتوهم أنه بدراعه.
أنشد عبد الصمد:
يا غزالا لحظ عيني ... هـ لنا سم ذباح
ما ترد الطرف إلا ... وبنا منك جراح
أنت للحسن مصون ... ولك الحسن مباح
أنشد ثعلب:(9/111)
كيف السلو ولا أزال أرى لها ... رسما كحاشية اليماني المخلق
ربعا لواضحة الجبين غريرة ... كالشمس طالعة رخيم المنطق
قد كنت أعهدها به في غرة ... والعيش صاف العدى لم تنطق
حتى إذا نطقوا وأذن فيهم ... داعي الشتات برحلة وتفرق
خلت الديار فزرتها وكأنني ... ذو حية من سمها لم يفرق
قال ثعلب: العرب تقول: خذ على رسلك، أي على هينتك.
قال ابن أبي الرعد: لقي أبو علي البصير علي بن الجهم، فتجهمه علي في بعض ما جرى بينهما، فقال له أبو علي: لا تزد يا أبا الحسن في أعدائك فلعله أن يقع عليك مطبوع من الشعراء يسهل عليه من حوك القريض ما يعسر على غيره، واعلم أن مع الملوك ملالة فلا تأتهم من حيث لا يحبون فينبو بك منهم المطمئن، فقال ابن الجهم: نصيحة، وإن كان مخرج الكلام مخرج تهدد.
قال ابن المعتز: قال لي ابن أبي فنن: لما قال علي بن الجهم وهو محبوس في تشبيه نفسه بالسيف:
قالت حبست فقلت ليس بضائري ... حبسي وأي مهند لا يغمد
أذعن له شعراء زمانه.(9/112)
قال محمد بن موسى البربري: سمعت علي بن الجهم يصف أبا تمام ويمدحه، فقال له رجل: لو كان أخاك ما زاد على هذا، فقال علي: إلا يكن أخا بالنسب فإنه أخ بالأدب، أما سمعت ما خاطبني به:
إن يكد مطرف الإخاء فإننا ... نغدو ونسري في إخاء تالد
أو يختلف ماء الوصال فماؤنا ... عذب تحدر من غمام واحد
أو يفترق نسب يؤلف بيننا ... أدب أقمناه مقام الوالد
قيل للأعمش أيام زيد بن علي: ألا تخرج؟ فقال: أما والله ما أعرف أحداً أجعل عرضي دونه، فكيف دمي؟! أهدى ملك هدية إلى فيلسوف فردها إليه فقال: لم رددت هديتي؟ قال: لأن بذل الموجود وترك طلب المفقود يكونان عن غنى النفس وعزها، وأخذ الموجود وطلب المفقود يكونان عن فقر النفس وشحها، فما أحب أن تسخو وأشح، وتغنى وأفتقر.
أهدى ملك آخر إلى فيلسوف هدية فردها ولم يقبلها، فتنكد(9/113)
الملك من ذك وقال: لم فعلت هذا؟ قال: لم أفعله لحال رفعت نفسي عن الملك، ولا لجهل عرض بمعرفة الحظ وحسن موضعه، ولكنني قفوت في الفضل فضلك، وحثني على المكارم كرمك، فآثرتك بما آثرتني به، وسخت نفسي لك بما سخت نفسك به، ولم أحب أن أكون مظنة فضل، ورهين إحسان.
أنشد المأمون:
والله لا تختلف النجوم ... وتغرب الشمس فلا تقوم
وقمر في فلك يعوم ... إلا لأمر شأنه عظيم
تقصر دون علمه العلوم طرد أعرابي الطير عن زرعه في جدب وقال:
عجبت من نفسي ومن إشفاقها ... ومن طرادي الطير عن أرزاقها
في سنة قد كشفت عن ساقها ... حمراء تبري اللحم عن عرقاها
والموت في عنقي وفي أعناقها قال ابن درستويه، قيل للمبرد: أكنت أنت وأحمد بن يحيى جميعاً مع محمد بن عبد الله بن طاهر؟ قال: نعم، كنت معه جليساً ونديماً، وكان معه معلماً ومؤدباً.(9/114)
قال رجل للمبرد: أسمعني فلان في نفسي مكروهاً فاحتملته ثم أسمعني فيك فجعلتك أسوتي فاحتملته، فقال له: لسنا بسواء، احتمالك في نفسك حلم وفي صديقك غدر.
كتب المبرد إلى بشر بن سعد المرثدي: اقتضائي إياك - جعلني الله فداك - اقتضاء من تجب مطالبته لضروب: أحدها لاعتمادي عليك في الحاجة، وقصدي إياك بها مع كثرة الصديق وإمكان الشفيع، وقد قلت:
وقاك الله من إخلاف وعد ... وهضم أخوة أو نقض عهد
فأنت المرتضى أدباً وعلماً ... وبيتك في الذؤابة من معد
وتجمعنا أواصر لازمات ... شداد الأسر من سبب وود
إذا لم تأت حاجاتي سراعاً ... وقد ضمنتها بشر بن سعد
فأي الناس آمله لنفع ... وأرجوه لحل أو لعقد
وما كنت أخاف خلفاً ممن كرم أدبه، وشرف مركبه، وطاب حسبه، وإن كان قد أحوج إلى أن يعاتب بقول الشاعر:
أتناسيت أم نسيت إخائي ... والتناسي شر من النسيان(9/115)
ولقد كان ظني فيك علمي بك أنه لو توسل بي إليك لأضعاف ما سألتك لما احتيج فيه إلا إلى الخطاب اليسير، فلا تنكر هذا الإطناب في العتاب، فإنما يهز الصارم ويذكر المؤمن، وقد قال الشاعر:
أعاتب ليلى إنما الهجر أن ترى ... صديقك يأتي ما أتى لا تعاتبه
وأعاذني الله فيك أن تعتقد في قول الشاعر:
إذا مطلت امرءاً لحاجته ... فامض على مطله ولا تجد
قد أكثرت هازلاً في التوبيخ، واستحييت عائباً من التأنيب، والذي عندي في الحقيقة قول أبي العتاهية:
لا تكربنك حاجاتي أبا عمر ... فأنت منهن بين النجح والعذر
ما يقض منها فإن الله يسره ... وما تعذر فاحمله على القدر
احتيج أن يكتب على المعتضد كتاب ويشهد فيه عليه العدول، فكتب ابن ثوابة: في صحة من عقله، وجواز أم له وعليه؛ فلما عرضت النسخة على عبيد الله بن سليمان قال: هذا لا يجب أن يقال للخليفة، فضرب عليه وكتب: في سلامة من جسمه وأصالة من رأيه.
وقع علي بن أبي طالب إلى الحسن ابنه: رأي الشيخ خير من مشهد الغلام.
كتب عمرو بن العاصي إلى معاوية يسأله أن يعطي عبد الله بن(9/116)
كريب نهر معقل فإنه قد سأله، فوقع: " قد سألها قوم من قبلكم ثم أصبحوا بها كافرين " المائدة:102 قرئ للمأمون توقيع بنقطة، وذلك أن رجلاً كان سابق الحاج فورد مرة بعدما ورد غيره وكتب قصة يطلب رزقه، فلما قرأ المأمون وقع بنقطة ثانية تحت الباء فصار: سايق الحاج.
اشتكى الأسد علة شديدة، فعاده جميع السباع إلا الثعلب، فدخل عليه الذئب فقال: أصلح الله الملك، إن السباع قد زارتك وعادتك ما خلا الثعلب فإنه مستخف بك، فبلغ ذلك الثعلب فاغتم به، فلما جاءه قال له الأسد: ما لي لم أرك يا أبا الحصين؟ فقال: أصلح الله الأمير، بلغني وجعك فلم أزل أطوف في البلدان أطلب دواء لك حتى وجدته، فقال له: وأي شيء هو؟ قال: مرارة الذئب، قال الأسد: وكيف لي بذاك؟ قال: أرسل الساعة إليه والثعلب عنده، فأتى الذئب فوثب الأسد عليه، وكان ضعيفاً من وجعه فلم يتمكن منه وسلخ جلد إسته وأفلت الذئب، وخرج الثعلب يصيح به: يا صاحب السراويل الأحمر، إذا جلست عند الملوك فاعقل كيف تتكلم؛ فعلم الذئب الثعلب دل عليه.
لقي ثعلب عراقي ثعلباً شامياً فقال: عرفني ما عندك من حيل ثعالب الشام، فقال: عندي مائة حيلة ودستان، فقال العراقي: والله لأصحبنه حتى أستفيد منه، فلزمه؛ فبينما هما كذلك وقد اصطحبا في سفر حتى قال له العراقي: يا أخي، إن لقينا الأسد كيف الحيلة في التخلص منه؟ قال: لا يهمنك(9/117)
أمره فإن عندي حيلاً، فما انقضى كلامه حتى طلع الأسد، فقال العراقي للشامي: خذ في الحيلة، قال: والله ما عندي حيلة في هذا الوقت، قال إنا لله، ولم أخطرت نفسك وغررت أخاك؟ الآن لا تنطق بحرف، فلما دن الأسد قال لهما: من أين أقبلتما؟ قال العراقي: إياك أردنا وإليك قصدنا، قال: في ماذا؟ قال: إن أخي هذا يكون بالشام وأنا بالعراق في مالي، وإن أبانا مات وورثنا شويهات، فجاء أخي هذا يريد أن يذهب بها فقلت له: هلم إلى سيد السباع ليحكم بيننا، فمهما قال التزمناه، وكان الأسد جائعاً فقال في نفسه: لا أعجل في أكل هذين لكن أصبر عليهما ساعة حتى أقف على أمر الغنم وهما في قبضتي، قال: أين الشاء؟ قالا: في هذا البستان، وأشارا إلى بستان حصين له مجرى ماء ضيق، وقال أحدهما: أرسل أخي حتى يخرج الغنم فيقسمها الملك، قال: نعم، فقال للشامي: ادخل وأخرج الغنم وعجل، فدخل الشامي واقبل يأكل من الثمار، فلما أبطأ قال العراقي: قد قلت للملك إنه ظالم، فتأذن لي حتى أدخل خلفه وأخرجه إليك مع الشاء قميئاً ذليلاً؟ قال: ادخل وعجل، فدخل الثعلب البستان وأقبل يأكل من الثمار حتى شبع، ثم أشرف من الحائط على الأسد فقال له: يا أبا الحارث، اعلم أنا قد اصطلحنا فامض في دعة الله، فجعل الأسد يضرب بذنبه الأرض ويستشيط، فقال له الثعلب: إنما أنت قاض وما رأيت قاضياً يغضب من الصلح غيرك.
قالت ماجنة لجارة لها: اعلمي أن صديقي يوافي غداً، قالت: ومن أين علمت؟ قالت: حري يختلج، قالت: ومتى صار حرك يعبر الرؤيا؟(9/118)
قال رجل لامرأة: غطي صدرك، قالت: سبحان الله، تجمش بالتقوى؟! قال الجماز: سمعت ماجنة تقول: إذا دخلت جهنم فقال لي مالك: كلي من هذا الزقوم واشربي من هذا المهل، قلت: لا وحياتك يا أبا نصر ما أشتهيه وأخاف يغثي نفسي، فيقول: الشأن في معرفتها بكنيتي.
دخل عمارة بن حمزة على المنصور فجلس مجلسه، فقام رجل فصاح فقال: مظلوم يا أمير المؤمنين، قال: ومن ظلمك؟ قال: عمارة بن حمزة ظلمني وغصب ضيعتي، فقال المنصور: قم يا عمارة فاقعد مع خصمك، فقال عمارة: ما هو لي بخصم، قال: وكيف؟ قال: إن كانت الضيعة له فلست أنازعه، وإن كانت لي فقد جعلتها له، ولا أقوم من مكان شرفني به أمير المؤمنين لأجل ضيعة.
هجم قوم على زنجي ينيك شيخاً، فهرب الزنجي وعلقوا الشيخ، فقال: ما لكم؟ قالوا يا عدو الله، تتكلم؟! قال: ما لي لا أتكلم؟ ما لنا لا نناك؟ من أجل أنّا فقراء؟ احتسبوا على الفضل بن الربيع وعلى الحارث(9/119)
ابن زيادة وعلى غطريف بن أحمد - وعد قوماً من العسكر - إنما يحتسبون علينا لأنّا فقراء.
دخل رجل على محمد بن سليمان فقال له محمد: أين كنت فإني لم أرك منذ أيام، فأراد أن يقول التواني فقال: التهاون، فقال محمد: أنت علينا أهون.
قيل لأعرابي: صف نفسك، قال: إن كان أكل فقرب، وإن كان نبيذ فجرب، وإن كان قتال فغرب.
قال المبرد: كنت أغشى مجلس جعفر بن القاسم، وكان يتقلد إمارة البصرة للواثق، وأنا حدث السن، ليس في المجلس أصغر مني سناً، وكان يخلطني بحداثتي ويخاطبني، ثم تأخرت عنه لأسباب، فلما عدت قال لي: ما أخرك عنا؟ قلت: عله مرة وغيبة مرة، قال: وتوان مرة وتقصير مرة، فقلت: والله ما أغيب عن الأمير إلا بود حاضر، ولا أعصيه إلا بنية طائع فضحك ثم أنشد بيتين لإبراهيم بن المهدي، أحدهما:
ما إن عصيتك والغواة تمدني ... أسبابها إلا بنية طائع
فقلت: أعز الله الأمير، إذا كان سارق لفظ لا يفوتك فكيف يفوتك سارق مال؟ فضحك وقال أنا احب حضورك.(9/120)
قال المبرد: وقال لي يوماً وقد استحسن كلامي: أنت اليوم عالم، ثم قال: لا تظن أن قولي لك: أنت اليوم عالم أنك لم تكن عندي قبل كذلك، إن الله تعالى يقول: " والأمر يومئذ لله " الانفطار:19، وقد كان له الأمر قبل ذلك.
دخل رجل على عبد الملك بن مروان فقال: إني قد تزوجت امرأة وزوجت ابني أمها، ولا غنى لي عن رفد أمير المؤمنين، فقال عبد الملك: إن أخبرتني ما قرابة ما بين أولادكما إذا ولدتا فعلت ذلك، فغلب ذلك الرجل فقال: يا أمير المؤمنين، هذا حميد قد قلدته سيفك، ووليته ما وراء بابك، فسله عنها فإن أجاب لزمني الحرمان، فسأل حميداً فقال حميد: يا أمير المؤمنين، إنك ما قدمتني على العلم ولا نصبتني له، بل قدمتني على العمل بالسيف والطعن بالرمح، إلا أني أجيبه، ثم أقبل على الرجل وقال له: يا ابن المعروكة، يكون أحدهما عما للآخر والآخر خالاً له، فانخزل الرجل، فقال عبد الملك: أجاب وأصاب، وسكت وجهلت، ولكنك تستحق ما طلبت منا بامتحاننا إياك وصبرك علينا.
جاء رجل إلى سيفويه القاص فقال: إني أريد أن أتوب فأيش(9/121)
تشير علي؟ أحلق رأسي ولحيتي أو أشتري سلماً أو أنحدر إلى واسط؟! فر مزبد من والي المدينة وتوارى، وطلبه الوالي، فبينما هو في الطلب إذ سمع من المقابر صوت طنبور، فأقبل حتى وقف على قبر محفور وفيه سراج، وفوق القبر بواري، فكشف فإذا مزبد قائم وبيده طنبور في جوف القبر وعنده نبيذ، فقال له: اخرج يا عدو الله، قال مزبد: لا والله لا أخرج إليك ولا هذا من عملك، إنما عملك في العمارة، وليس لك علي سلطان.
كتب يزيد بن معاوية إلى أهل المدينة: أما بعد يا أهل المدينة، فوالله لقد رفقت بكم حتى أخرقتكم، ولبستكم حتى أخلقتكم، والله لأبو سفيان أحلم من حرب، ولمعاوية أحلم من أبي سفيان، وليزيد أحلم من معاوية، ثم أنشد:
إذا ما حلمنا كان آخر حلمنا ... زيادة باع عن يد المتطاول
وقد كتب إليكم أمير المؤمنين كتاباً فاسمعوه: بسم الله الرحمن الرحيم، من عبد الله يزيد أمير المؤمنين: سلام عليكم، أما بعد يا أهل المدينة، فوالله لقد حملتكم على رأسي ثم على عيني ثم على أنفي ثم على نحري، ووالله لئن جعلتكم تحت قدمي لأطأنكم وطأة(9/122)
المتثاقل، ولأشردنكم عن أوطانكم، ولأتركنكم أحاديث وأيادي سبا، تنسخ فيها كتبكم ككتب عاد وثمود، ثم أنشد:
أظن الحلم دل علي قومي ... وقد يستجهل الرجل الحليم
ومارست الرجال ومارسوني ... فمعوج علي ومستقيم
كتب مويس بن عمران إلى الجاحظ يدعوه: عندي قدران طبختهما بيدي يحكيان المسك الأذفر، فإن رأيت أن تصير إلي متفضلاً فعلت. فكتب إليه الجاحظ: مجلسك المجلس الذي يمنع المصر من التوبة، وينقض عزمه الأواه الحليم، وأنا علة من قرني إلى قدمي من حملي على نفسي ما ليس من عادتها، فهب لي نفسي هذا الأسبوع ثم أنا بين يديك تقتادني حيث شئت، فعلت إن شاء الله.
قام رجل إلى عمر بن عبد العزيز فقال: يا أمير المؤمنين، أنا فلان بن فلان، شهد أبي بدراً وأحداً والخندق وحنيناً - وجعل يعدد المشاهد - ولم ألبس الخز ولم أركب ولم أتزوج، فقال عمر: مشاهد والله ما تشبه مرج راهط ولا دير الجماجم، والله لأكسونك ولأزوجنك ولأحملنك، فكساه وزوجه وحمله وأثبت اسمه في شرف العطاء، وقال: بمثل هذا فليمت إلينا المتوسلون.(9/123)
قال مالك بن عمارة: كنت ربما جالست عبد الملك بن مروان وقبيصة بن ذؤيب وعروة بن الزبير في ظل الكعبة أيام الموسم، فنخوض مرة في الفقه ومرة في المذاكرة ومرة في أخبار الناس وأشعار العرب، فكنت لا أجد عند أحد ما أجد عند عبد الملك، من اتساعه في المعرفة، وتصرفه في فنون العلم، وحسن استماعه إذا حدث، وحلاوته إذا حدث؛ قال: فتفرق أصحابنا ذات ليلة وبقيت أنا وهو، فقلت: والله إني بك لمسرور لما أرى من كثرة تصرفك، وحسن حديثك، وإقبالك على جليسك، فقال لي: إنك إن تعش قليلاً فسوف ترى العيون إلي طامحة، والأعناق إلي قاصره، فإذا كان ذلك فلا عليك أن تعمل إلى فلا ملآن يديك فلما أفضت الخلافة إليه اتيته فكان أول ما وقعت عينه علي وهو على المنبر، كشر في وجهي وبسر، فقلت: لم يثبتني معرفة، أو عرفني فأظهر لي نكره، لكني لم أبرح من مكاني حتى قضى الصلاة ودخل المقصورة، فلم يلبث إلا ريثما دخل إذ خرج آذانه فقال: أين مالك بن عمارة قلت ها أنا ذا فأخذا بيدي فادخلني إليه فلما رأني مد يده إلي ثم قال: تراءيت في موضع لم يجز فيه إلا ما رأيت من الإعراض والانقباض، فأما الآن فحي هلا بك، كيف كنت بعدي وكيف كان مسيرك؟ قلت: خير، وعلى ما يحب أمير المؤمنين، فقال: أتذكر ما كنت قلت لك؟(9/124)
قلت: أجل، هو أعملني إليك يا أمير المؤمنين، قال: والله ما هو ميراث ادعيناه، ولكني أخبرك عن نفسي بشيء سميت بي إلى موضعي هذا: ما داهنت ذا ود ولا قرابة قط، ولا شمت بمصيبة عدو، ولا أعرضت عن محدث حتى ينتهي، ولا قصدت لكبيرة من محارم الله تلذذاً بها ولا واثباً عليها، وكنت من عبد مناف في بيتها، ومن بيتها في واسطة قلادتها، وكنت أرجو بهذه أن يرفع الله تعالى مني وقد فعل، ثم قال: يا غلام بوئه منزلاً في منزلي، فأخذ الغلام بيدي وقال: انطلق، فكنت في أخفض حال وألين بال، حيث يسمع كلامي وأسمع كلامه، فإذا حضر طعامه أو قعد لأصحابه أتاني الغلام فقال: إن شئت صرت إلى أمير المؤمنين فإنه قاعد لبطانته، فأمشي بلا حذاء ولا رداء، فيرفع من مجلسي، ويقبل علي ويحادثني ويسألني عن الحجاز مرة وعن العراق مرة، حتى إذا مضت عشرون ليلة، تعشيت في آخرها معه وقام من حضر، ونهضت لأقوم فقال: على رسلك أيها الرجل، فقعدت، فقال: أي الأمرين أحب إليك؟ المقام قبلنا، فلك النصفة في المحافظة والمخالطةت والمعشرة، أم الشخوص فلك الحباء والكرامة؟ فقلت: خرجت من أهلي على أني زائر لأمير المؤمنين - أكرمه الله - وعائد إليهم، فإن أمرني بالمقام اخترت فناءه على المال والأهل والولد، قال: بل أرى لك الرجوع إلى أهلك فإنهم متطلعون إلى قدومك، فتحدث بهم عهداً ويحدثون بك مثله، والخيار في زيارتنا والمقام فيهم إليك، وقد أمرت لك بعشرين ألف دينار وحملتك وكسوتك، أتراني ملأت يديك؟ فقلت: أراك يا أمير المؤمنين ذاكراً ما قلت؟ قال: أجل، ولا خير فيمن لا يذكر إذاً وعد، ولا ينسى إذا أوعد، ودع إذا شئت صحبتك السلامة؛ قال: فودعته وقبضت المال وانصرفت، فكان آخر العهد به.(9/125)
خرج إسماعيل بن إبراهيم إلى أخيه إسحاق بن إبراهيم، عليهم السلام، يطالبه بميراثه عن أبيه إبراهيم عليه السلام فقال: أما ترضى وأنت ابن أمتنا أن لا نستعبدك حتى تأتي وتطلب ميراثاً؟! فأوحى الله إلى إسماعيل: وعزتي وجلالي لأخرجن من صلبك من يستعبد أولاد إسحاق إلى يوم القيامة.
قيل لجمعة الإيادية: أي الرجال أحب إليك؟ قالت: أحب الحر النجيب، السهل القريب، السخي الأريب، المصقع الخطيب، الشجاع المهيب.
شاعر:
أريب يغض الطرف لا من غضاضة ... ولكن كبرا أن يقال به كبر
قيل للكلب: أنت تأكل عظاماً وتخرا عظاما، فأيش ربحك؟ قال: أدولب! قال فضيل بن عياض: من لم يصلح على تدبير الله لم يصلح على تدبير نفسه.
قبل لمالك بن دينار. لو تزوجت، قال: لو استطعت لطلقت نفسي.(9/126)
قال عبد الملك بن مروان: الهدية السحر الحلال.
دعا أعرابي على آخر فقال: صرد الله عليك المشرب، وأفقدك الأقرب.
ودعا أعرابي فقال: إن كنت كاذباً فلا سقيت هاطل الدر، ولا وقيت حادثة الدهر.
قال أعرابي لآخر: لا جادتك السماء بقطرة، ولا باتت بفنائك ذات بعرة، ولا حلبت ذات خف درة، فأماتك الله بهم وحسرة، باذلاً خيار الأسرة، ولا دراً عنك من ذي شر شره: إن كنت ظلمتني مد شعير أو صاع بر.
قيل في قوله تعالى: " إنه من سليمان وإنه بسم الله الرحمن الرحيم " النمل: 30، أي أنه من تعلمون؛ وقيل في قوله تعالى: " وترى الناس سكارى وما هم بسكارى " الحج:2، فلما عرف المعنى حمل على أن قوله: " تراهم سكارى " من الهول وليسوا بسكارى من الشرب؛ وقوله: " لا يموت فيها ولا يحيا " طه:74، لا يموت موت الراحة، ولا يحيا حياة المنفعة.
وقال بعض العلماء: يقوم الشيء مقام الشيء، منه قولهم: إسحاق ذبيح الله ولم يذبح قال: " والله ورسوله أحق أن يرضوه " التوبة:62، ولم يقل يرضوهما إذ كان رضاه رضى رسوله.(9/127)
سئل عمرو بن عبيد عن النبيذ فقال: إن الأشياء المألوفة والمعروفة والمأكولة والمشروبة وجميع الأغذية حلال حتى يجيء ما يحرمها، وليست بحرام حتى يجيء ما يحللها، وكانت الخمر حلالاً حتى جاء ما حرمها، فإن وجدنا في غيرها مثل ما وجدنا فيها فسبيله سبيلها، وإلا فالحرام حرام والحلال حلال؛ إن الله تعالى حرم الخمر لعلل معروفة وعللك مجهولة، فلذلك صار تحريمها تعبداً، وقد جدنا مسكرة في وقت هي فيه حلال ومسكرة في الوقت الذي يليه وهي فيه حرام، ولم يحسوا من طبائعهم تغيراً، ولو كانت العلة الإسكار وما يصنع السكر في الأموال وما يحدث من الشغل عن الصلاة والذكر لكان هذا موجوداً في طبعها وطبائع شاربيها قبل تجريمها، فدل ذلك على أنها حرمت لعلل مجهولة كما حرمت لعلل معلومة، ولا يقيس على المجهول إلا جاهل.
وقال: الحرام حرامان: حرام في حجة العقل وحرام في حجة السمع، فالذي في حجة العقل على ضربين: أحدهما حرام بعينه وفي عينه فقط، والآخر حرام لعلة مركبة فيه؛ فالحرام في عينه كالكذب والظلم وما لا يجوز أن ننتقل عنه أبداً، والحرام الآخر كذبح البهائم وذبح إبراهيم لإسحاق، لأن الذي حرمه على الإنسان عجزه عن تعويض المذبوح وأنه ليس له امتحان غيره بشيء يحدثه، ولا نعرف مقادير الامتحان ومصالحه، فلما أمر به مالك التعويض والذي له أن يمتحن ويعرف ظاهر المصلحة وباطنها حسن ذلك وجاز.(9/128)
قال: والحرام في السمع على ضربين: منصوص ومستخرج، فالمنصوص على ضربين: منه حرام لغير علة ومنه حرام لعلة، فما كان منهما لغير علة لم يكن لأحد أن يقيس عليه، وليس فيه متعلق، وما كان ذا علة فالقياس أن كل شيء فيه تلك العلة أنه حرام مثله.
قيل لهند: أي الرجال أحب إليك؟ قالت: أحب الرحب الذراع، الطويل الباع، السخي النفاع، الممتنع الدفاع، الدهثم المطاع، البطل الشجاع.
قال الهيثم بن عدي: زار رجل عمر بن عبيد الله بن معمر القرشي وهو على فارس فلم يحل منه بطائل، فأنشد يقول:
رأيت أبا حفص تجهم مقدمي ... ولط بقولي عذرة أو مواربا
فلا تحسبني إن تجهم مقدمي ... أرى ذاك عاراً أو أرى الخير ذاهبا
ومثلي إذا ما بلدة لم تواته ... ترحل عنها واستدام المعاتبا
ثم مضى، فبلغت الأبيات ابن معمر، فرده، وقال له: ما حملك على هذه الأبيات؟ أبيني وبينك قرابة؟ قال: لا، قال: فصهر؟ قال: لا، قال:(9/129)
فجوار؟ قال: لا، قال: فذمام؟ قال: نعم، قال، قال: ما هو؟ قال: كنت أدخل المسجد كل جمعة فأتخلل الصفوف حتى آتي صفك فأجلس إلى جانبك، قال: لقد متت بما يحفظ، كم أقمت ببابي؟ قال: أربعين ليلة، فأمر له بأربعين ألف درهم وكساه وحمله، فقال:
جزى الله خيراً والجزاء يكفه ... عن الزور يأتيه الجواد ابن معمر
تذمم إذ عاتبته ثم نالني ... بما شئت من مال وبرد محبر
قيل لجمعة: أي السحاب أحسن؟ قالت: زجل ركام ملتف، أسحم وحاف مسف، يكاد يمسه من قام بالكف.
شاعر:
أما ترى الأرض قد أعطتك عذرتها ... مخضرة واكتسى بالنور عاريها
فللسماء بكاء في جوانبها ... وللربيع ابتسام في نواحيها
مضرس بن ربعي:
وفتيان بنيت لهم خباء ... على قوسين طماحاً نزوحا
كأنا رابطون به فلو ... شديد النزو قماصاً رموحا
تبوئه وتهتكه علينا ... سموم تسفع الوجه الوضوحا
فلما أن تمشى النوم فيهم ... وكان النوم عندهم ربيحا(9/130)
هتكت سماءه والظل آز ... وما أنظرته حتى يسيحا
آز: أي مرتفع
قال ابن المعتز في مخاطبه بعض أصحابه: لو كنت أعلم أنك تحب معرفة خبري لم أبخل به عليك، ولو طمعت في جوابك لسألت عن خبرك، ولو رجوت العتبى منك لأكثرت عتابك، ولو ملكت الخواطر لم آذن لنفسي في ذكرك، ولولا أن يضيع وصف الشوق لأطلت به كتابي، ولولا أن عز السلطان يشغلك عني لشغلك سروري به، والسلام.
أنشد المرزباني:
فلو أني أستزدتك فوق ما بي ... من البلوى لأعوزك المزيد
ولو عرضت على الموتى حياتي ... بعيش مثل عيشي لم يريدوا
قيل لهند: أي السحاب أحب إليك؟ قالت: أحب كل صبيب دلاح، مثعنجر نضاج، متجاوب نواح، كأن برقه مصباح.
قال المفجع: تفاخر رجلان من بني هلال فقال أحدهما: والله الذي لا إله إلا هو ما اتخذت في إبلي قط عصا غير هذه مذ كنت فيها، فقال الآخر: تعست، والذي لا إله إلا هو ما اتخذت في إبلي عصا قط. وإما قول(9/131)
الشاعر:
صلب العصا بالنخس قد دماها ... إذا أرادت رشداً أغواها
تحسبه من إلفه أخاها
فإنه يعني بالعصا ها هنا نفسه، يقال: فلان صلب العصا إذا كانت فيه بقية من قوة، وقال: الرشيد والغوي ضربان من النبت، فيقول: إذا رعت هذا عطفها إلى هذا مخافة أن تبشم.
قال المفجع: يقال: بعير جذع - بالجيم والذال - الذي ركب صغيراً فقطعه ذلك عن النماء وأوهنه، ولا يكاد جسمه ينمي.
ويقال: محوى وحواء، مثل حوى وأحويه للموضع الذي يجتمعون فيه.
وكان يقال: اثنان لا يجتمعان: القنوع والحسد، واثنان لا يفترقان أبداً: الحرص والفجور.
قيل لجمعة: أي الخيل أحب إليك؟ قالت: أبغض كل بليد، وارم الوريد، لا ينجيك هارباً، ولا يظفرك طالباً، ولا يسرك شاهداً ولا غائباً.
وقيل لها: أي النوق أحب إليك؟ وقالت: كل ناقة علكوم،(9/132)
علنداة كتوم، مثل البازل المحجوم، القطم العيهوم.
كاتب: الوعد نافلة والإنجاز فريضة، فلا تفرضن على نفسك وعداً لا تنوي إنجازه، فيعود ما طلبت من المحمدة ذماً، ومن المصافاة معاداة، فإن الأول يقول: وفور العرض خلف من اكتساب المال والذم، وقد تعرض للذم من تبرع بالمواعيد.
قال رجل لأعرابي من بني عذرة: ما بال قلوبكم كأنها قلوب طير تنماث في الهوى كما يذوب الملح في الماء؟ قال: لأنا والله نرى محاجر أعين لا ترونها.
وقيل لبخيل: من أشجع الناس؟ قال: من يسمع وقع أضراس الناس على طعامه ولا تنشق مرارته.
كاتب: عز نفسك بما تعزي به غيرك، واستقبح من فعلك ما تستقبحه من مثلك، وتناول حظك إذا قرب منك قبل أن تطلبه وقد نأى عنك، واعلم أن أمض المصائب فقد سرور وحرمان أجر، فكيف إذا اجتمعا مع اكتساب وزر؟(9/133)
كاتب: الصبر ينجز لك الموعود، والجزع لا يرد عليك المفقود، فليسبق صبرك جزعك، تسلم من المصيبة بالأجر، وإلا رجعت إليه بعد الفوت حسيراً.
قال بعض الحكماء: العلوم ثلاثة: علم يرفع، وعلم ينفع، وعلم يزين، الرافع الفقه، والنافع الطب، والمزين الأدب.
كان بمرو قاص جيد الكلام، فكان إذا طال مجلسه بالبكاء يخرج من كمه طنبوراً صغيراً وينقره ويقول: مع هذا الغم الطويل يحتاج إلى فرح ساعة.
سمعت بعض المشايخ يقول: فعيل يكون بمعنى فاعل، وربما اشتركا فيه وربما غلب فعيل؛ فمما يشتركان فيه: ضمن فهو ضامن وضمين، ورشد فهو راشد ورشيد، وعلم فهو عالم وعليم؛ وربما غلب عليه فقيل: كثر فهو كثير، وقل فهو قليل، وصح فهو صحيح، ومرض فهو مريض، وعتق فهو عتيق.
ويكون فعيل بمعنى مفعول: فهو خضيب ودهين وكحيل وقتيل ولديغ، فأما السليم فليس من هذا. وهذا الجنس إذا كان فيه نعت المؤنث لم تلحقه الهاء، وإنما لم يلحقوها به لأنهم عدلوه عن مكحولة ومدهونة. وقد كانت الهاء سبقت إلى فعيل الذي يشارك فاعلا، في مثل مريضة وضمنية، فحذفوها،(9/134)
وهذا ليفرقوا بينهما، فإن لم يذكر المؤنث قيل: هذه قبيلة بني فلان، فلحقتها الهاء وقد جاء بغير هاء. ويكون اسماً غير مشتق مثل: شعير وقفير وبعير وجريب ونصيب، ويقع فيه ما أصله مشتق فيجري مجرى الاسم المحض مثل: قليب، كأنها سميت لأنه قلب ما أخرج منها، ثم صار اسماً لازماً. ويكون مصدراً في الأصوات وغيرها مثل: نهيق وشحيج وصهيل وصريف وخبير ورجيب. ويكون بمعنى الجمع وهو قليل مثل: حمير ونفير ومعير. ويكون بمعنى مفاعل، وهو من المعارضة في مثل: شبيه ونظير وعديل وقرين، ومنه: شريك وأكيل وشريب وقسيم.
ويكون بمعنى مفعل نحو قوله: " بديع السماوات " البقرة:117 يعني: مبدع، وكقوله عمرو بن معدي كرب: أمن ريحانة الداعي السميع قال أهل اللغة: أراد المسمع، وقال أبو عبيدة في " عذاب أليم " البقرة: 104: أي مؤلم.
ويكون بمعنى مفعل مثل: عقيد، فإنهم يقولون: أعقدت العسل فهو معقد، وحبل بريم أي مبرم، وعتيد أي معتد.
ويكون بمعنى مفعل مثل: وكلته فهو وكيل وموكل، ومن هذا قيل: موسى كليم الله، وكذلك جريء في معنى وكيل، لأنك جرأته على خصمه.
ويكون بمعنى مستفعل، مثل: استوزر فهو وزير، واستشهد فهو شهيد، واستأجرت أجيراً فهو أجير.
ويكون بمعنى مفتعل مثل: صفي من مصطفى، وعميد من معتمد.(9/135)
ويكون بمعنى مفعول اسما لازماً مثل: فريسة السبع، وأكيلة الذئب، والذبيحة: الشاة تعد للذبح، والبكلية: تمر يخلط بلبن، والربيكة، دقيق يخلط مع لبن وتمر، والسبيخة: القطعة الملفوفة من القطن المندوفة، ومثلها من الشعر القليلة. ويجوز أن تكون فريسة بمعنى مفترس ومفترسة كالذخيرة بمعنى مدخرة.
ويكون بمعنى فعال مثل: عقيم وعقام، وبخيل وبخال، وكهيم وكهام.
ويكون مشاركاً لفعل مثل: لسان ذلق وذليق، وبهج وبهيج، ولبق ولبيق، وشنع وشنيع.
ويقع موقع المصدر: كالحريق والوعيد.
ويكون واحداً وجمعاً في الصفات مثل: صديق ورفيق، وقد يجمع، قال الله تعالى: " وحسن أولئك رفيقاً " النساء:68.
ويكون نعتاً، فإذا أخبرت أنك قد دخلت تحته ولحقت بأهله ضممت عين الفعل، تقول: فقهت وعلمت، وإذا أخبرت أنك علمت شيئاً بعينه أو أشياء قلت: قد علمت ذلك.
ويكون بمعنى جمع مشتق من اسمه مثل: عدي وذكي وعري ونجي قال الله تعالى: " خلصوا نجيا " يوسف:80.
مر الفرزدق بخالد بن صفوان فقال: يا خالد، لو رأتك بنت شعيب ما قالت: " يا أبة استأجره، إن خير من استأجرت القوي الأمين " القصص:26، قال: وأنت يا أبا فراس، لو رأينك صويحبات يوسف(9/136)
لما أكبرنك ولا قطعن أيديهن.
لجميل بن معمر:
هواك بقلبي يا بثينة كالذي ... أناخ فأحيا العرق وهو دفين
الذي أناخ المطر، والعرق: عرق النخلة والشجر والزرع وغير ذلك.
قيل لحماد الراوية: أما تشبع من هذه العلوم؟ فقال: استفرغنا المجهود، فلما بلغنا المحدود، كنا كما قال الشاعر: إذا قطعنا علما بدا علم ابن الأعرابي قال: قيل لبعض أعراب بلحارث بن كعب: ما البلاغة؟ قال: السلاطة والإصابة والجزالة؛ أراد بالسلاطة: الجرأة على الكلام.
وأنشد:
ولما عصيت العاذلين ولم أبل ... مقالتهم ألقوا على غاربي حبلي
وهازئة مني تود لو ابنها ... على شيمتي أو أن قيمها مثلي
ويقال: شيئان لا يتفقان أبداً: الحرص والقحة. ولست أعرف معنى هذا الكلام لأني لا أرى حريصاً إلا وقحاً.
ويقال: المقدم في الحذق متأخر في الرزق.(9/137)
قيل لحكيم: ما البلاغة؟ قال: تصحيح الأقسام واختيار الكلام.
كان أبو حية النميري كذاباً، قال مرة: رميت ظبية فلما نفذ السهم ذكرت حبيبة لي شبهتها بها فتبعت السهم فأخذته.
وقال مرة أخرى: عن لي ظبي فرميته فراغ عن سهمي فعارضه، فراغ ثانية فلم يزل السهم يراوغه حتى صرعه ببعض الخبارات.
شاعر:
بان الشباب وكل شيء بائن ... والمرء مرتهن بما هو كائن
ظعنت به أيامه وشهوره ... إن المقيم على الحوادث ظاعن
ذهب الشباب وغاض ماء فرنده ... فاليوم منه كل صاف آجن
درست محاسنه وطار عرابه ... ولقد تكون له عليك محاسن
خان الزمان أخاك في لذاته ... إن الزمان لكل حر خائن
قال يونس: لو أمرنا بالجزع لصبرنا، واعلم أن هذه الأمور لا(9/138)
تملك ولا تدرك إلا برحب الذراع.
ويقال: لا يزال الناس بخير ما تباينوا، فإذا تساووا هلكوا.
يقال: إن مع الثروة التحاسد والتخاذل، ومع القلة التحاشد والتناصر.
قال طريح:
إن يعلموا الخير يخفوه وإن علموا ... شرا أذيع وإن لم يعلموا كذبوا
قال أعرابي: من عاب سفله فقد رفعه، ومن عاب شريفاً فقد وضع من نفسه.
شاعر:
يؤمل حسن الثناء البخيل ... ولم يرزق الله ذاك البخيلا
وكيف يسود أخو بطنه ... يمن كثيراً ويعطي قليلا
شاعر:
نعماك في عنق الزمان قلادة ... وعلى يمين الجود منك سوار
رسخ امتداحك في ثرى أكبادنا ... وكأن مدحك بيننا استغفار(9/139)
أصاب رجل رغيفين وعراقين فأكل رغيفاً وعراقاً، وأدركه بنوه وكانوا ثلاثة، وكلهم طلب ما بقي وذكر حاجته، فقال: ليصف كل واحد منكم كيف يأكله، فأيكم كان أعرف بأكله فهو أحق به، فقال الأول: أنا آكله حتى لا أدع فيه للذرة مقيلا، وقال الثاني: أنا آكله حتى يمر به المار فلا يدري أعظم العام هو أم عظم العام الأول، وقال الثالث، أما أنا فأجعل عظمه إداماً للحمه، فقال له: أنت صاحبه.
قال أعرابي: الجلل الذاهب عن المقدار صغراً أو كبرا.
شاعر يمدح الفضل بن يحيى:
مضى الفضل والإسلام واليأس والندى ... غداة غدا الفضل بن يحيى إلى الحفره
فصرن له في قبره مؤنساته ... كما كن أيام الحياة له حبره
وألبست الدنيا قتاماً لفقده ... وكانت بوجه الفضل ظاهرة النضره
فقل للذي يسعى ليدرك شأوه ... لقد رمت أمراً دونه تحسر القدره
يقال: خوت النجوم تخوية إذا انصبت لتغور.
لعتبة بن أبي لهب:
إنا أناس من سجيتنا ... صدق الكلام ورأينا حتم(9/140)
شاعر:
حسب الكذوب من البلي ... ة بعض ما يحكى عليه
فمتى سمعت بكذبة ... من غيره نسبت إليه
وقال الرشيد للفضل بن الربيع في بعض ما كلمه به: كذبت، فقال: يا أمير المؤمنين، وجه الكذاب لا يقابلك، ولسانه لا يقاولك.
قال ابن الأعرابي: يقال: قد سوم فلان غلامه تسويماً، إذا تركه يصنع ما يشاء، وسوم نفسه، وأسام الرجل ماشيته، وفلان يأبى أن يسام خطة الضيم.
ويقال: آرتثا على الرجل رأيه إذا اختلط، أصله من رثيئة اللبن؛ وفي المثل: إن الرثيئة مما يفثأ الغضب.
قال كسرى: الرأي الحزم، فإذا وضح الحزم فاعزم.
قيل للشام شام لأنه شام الكعبة، وبكة، قيل إن الأصل هو الباء لأن الناس يبك بعضهم بعضاً، يقال: ابتك القوم: إذا ازدحموا، ومنى(9/141)
لما يمنى فيه من الدم، والجمرات: لما يجمع فيها من الحصى، والتجمير: الاجتماع، ومنه: لا تجمروا المسلمين فتفتنوهم وتفتنوا نساءهم، أي لا تجمعوهم في المغازي، ولكن ليخلف قوم قوماً.
قال أبو عبيدة في قوله: " إنك لن تخرق الارض " الإسراء: 37: أي لن تقطع الأرض، والخرق: القطع.
وأنشد:
لله قومي معشراً ... أفنوا عدوهم اصطلاما
لا يتركون لوارث ... إلا سناناً أو حساما
أو مقربات بالقنا ... تمريهم عاماً فعاما
ما ذاك من عدم بهم ... لكنهم خلقوا كراما
ولى الحجاج بن يوسف وهرام بن يزداد أصفهان، وكان ابن عم كاتبه زاذان فروخ المجوسي، فكتب من أصفهان إلى الحجاج كتاباً وصف له فيه اختلال حال أصفهان، وسأله النظر إليهم بنقص خراجهم، فكتب إليه الحجاج: أما بعد، فإني استعملتك يا وهرام على أصفهان، أوسع المملكة(9/142)
رقعة وعملا، وأكثرها خراجاً بعد فارس والأهواز، وأزكاها أرضاً، حشيشها الزعفران والورد، وجبلها الفضة والإثمد، وأشجارها الجوز واللوز والكروم الكريمة والفواكه العذبة، ذبابها عوامل العسل، وماؤها فرات، وخيلها الماذيات الجياد، أنظف بلاد الله طعاماً، وألطفها شراباً، وأصحها تراباً، وأوفقها هواء، وأرخصها لحماً، وأطوعها أهلاً، وأكثرها صيداً، فأنخت يا وهرام عليها بكلكلك حتى اضطر أهلها إلى مسألتك ما سألت لهم، لتفوز بما يوضع عنهم، فإن كان ذلك باطلاً - ولا أبعدك عن ظن السوء - فزد وتعلم، وإن صدقت في بعضه فقد أخرجت البلاد؛ أتظن يا وهرام أنا ننفذ لك ما موهت وسخرت من القول وقعدت تشير علنا به؟ فعض يا وهرام على هن أبيك وحرامك، وايم الله لتبعثن إلي خراج أصفهان كله وإلا جعلتك طوابيق على أبواب مدينتها، فاختر لنفسك أوفق الأمرين أو رد، والسلام.
قال بن أبي فنن، قال لي المتوكل: ثيابك يا أحمد في رزمة أو تخت؟ قلت: في رزمة، قال: لا تفعل فهي في التخت أبقى وأنقى.
وقال المتوكل: ابن أبي فنن فأرة مسك.(9/143)
قال الحسين بن الضحاك: عتب علي المعتصم فقال: والله لأؤدبنه، فحجبني، فكتبت إليه:
غضب الإمام أشد من أدبه ... وبه استعذت وعذت من غضبه
أصبحت معتصماً بمعتصم ... أثنى الإله عليه في كتبه
لا والذي لم يبق لي سبباً ... أرجو النجاة به سوى سببه
ما لي شفيع غير رحمته ... ولكل من أشفى على عطبه
فالتفت إلى هارون الواثق فقال: بمثل هذا الكلام يستعطف الكرام.
قال محمد بن محمد بن عباد البصري، قال لي المأمون: بلغني أن فيك سرفاً، فقلت: منع الموجود سوء ظن بالمعبود.
لأشجع:
تريد الملوك مدى جعفر ... ولا يصنعون كما يصنع
وليس بأوسعهم في الغنى ... ولكن معروفة أوسع
وكيف ينالون غاياته ... وهم يجمعون ولا يجمع(9/144)
آخر:
وقائلة لم عرتك الهموم ... وأمرك ممتثل في الأمم
فقلت دعيني على غصتي ... فإن الهموم بقدر الهمم
رأيت هذين البيتين في دفتر في جلود كتب أيام بني مروان، ورأيت بعض الرؤساء يدعيهما ويعجب بهما ويعجب له من ذلك، فقلت لبعض الشيوخ من ندمائه: إن الحال فيما أنشد كيت وكيت، فقال لي: لا تتكلم، فإن ما وقفنا موقفنا هذا قط إلا أسعطنا المكروه، وحملنا على الكذب، وكلفنا تحسين القبيح وتحقيق الباطل، وما عيب الرئاسة إلا ما يشوبها من هذه الخلال الحائفة عليها الناقصة منها، ولو عرفت يا بني ما نعرف لما خففت إلى ما نخف إليه؛ احمد الله على ما انطوى عنك، وسله السلامة فيما بدا لك، واعلم أن من أراد فناء الرؤساء صبر على الخشناء والعوصاء.
كاتب: أظلني من مولاي عارض غيث أخلف ودقه، وشاقني لائح غوث كذب برقه، فقل في حران ممحل أخطأه النوء، وحيران مظلم خذله الضوء.
هذا نمط متكلف.
قال أعرابي للحسن بن سهل: لا تدع إحسانك عندي خداجاً،(9/145)
ولا تخلج معروفك إلي خلاجاً، ولا تسمني أن التمس ما قبلك علاجاً.
قال بعض السلف: أربعة أشياء من الدناءة: إقبالك على السفلة من أجل غناه، وإعراضك عن الشريف من أجل فقره.
قال بعض العلماء: الدلالة على أن الله تعالى أمر إبراهيم بما لا يريده أنه فداه بذبح عظيم.
قال أبو زيد البلخي في كتاب السياسة: إن السياسة صناعة، ثم هي من أجل الصناعات قدراً وأعلاها خطراً، إذ كانت صناعة بها تتهيأ عمارة البلاد، وحماية من فيها من العباد، وكل صانع من الناس فليس يستغني في إظهار مصنوعه عن خمسة أشياء تكون عللا لها: أحدها مادة له آلة ومادة يعمل بها؛ والثاني صورة ينحو بفعله نحوها؛ والثالث حركة يستعين بها في توحيد تلك الصورة بالمادة؛ والرابع غرض ينصبه في وهمه من أجله يفعل ما يفعل؛ والخامس آلة يستعملها في تحريك المادة. ومثال ذلك من صناعة البناء أن المادة التي يعمل منها البناء هي التراب والطين والحجارة والخشب، والصورة التي ينحوها بوهمه صورة البيت، والفاعل هو البناء، والغرض الذي من أجله يفعل سكنى البيت وإحراز ما يحرز فيه، والآلة التي بها يعمل هي آلات البناء. ومثال ذلك من صناعة الطب أن المادة التي يفعل به الطبيب إنما هي أجساد الناس المحتملة الصحة والسقم، والصورة التي ينحوها الطبيب بوهمه إنما هي(9/146)
الصحة، والفاعل هو الطبيب المعالج، والغرض الذي بسببه يفعل الطبيب إنما هو بقاء جسم المعالج المدة التي تتهيأ له أن يبقاها، والشيء الذي يتخذه الطبيب آلة في المعالجة وإفادة الصحة هو كالفصد وسقي الأدوية. فإذا نقل هذا المثال إلى صناعة السياسة قلنا: إن المادة فيها أمور الرعية التي يتولى الملك القيام بها، والصورة فيها إنما هي المصلحة التي ينجو نحوها وهي نظير الصحة، لأن المصلحة هي صحة ما، والصحة مصلحة ما، وكذلك المفسدة سقم ما، والسقم مفسدة، والفاعل هو عناية الملك بما يباشره من أمور الرعية، وغرضه فيما يفعله هو بقاء المصلحة ودوامها، والشيء الذي يقوم له مقام الآلة في صناعته إنما هو الترغيب والترهيب: وفعل السائس الذي نظير المعالجة من الطبيب ينقسم بكليته إلى قسمين: أحدهما التعهد والآخر والاستصلاح؛ أما التعهد فحفظ المستقيم وأمور الرعية على استقامة وانتظام من الهدوء والسكون حتى لا يزول عن الصورة الفاضلة؛ وأما الاستصلاح فرد ما عارضه منها الفساد والاختلال إلى الصلاح والالتئام. ونظير هذا التعهد والاستصلاح في صناعة السياسة من صناعة الطب - التي هي سياسة الأجساد - حفظ الصحة وإعادة الصحة، وكما أن الطب كله مدرج في هذين البابين، كذلك السياسة كلها مدرجة في نظيريهما، يعني التعهد والاستصلاح.
وصف أعرابي نفسه بالحفظ فقال: كنت كالرملة لا يقطر عليها شيء إلا شربته.(9/147)
قال بعض العلماء: المجادل يعرف بأحد الوجوه السبعة: بأن لا يذكر العلة، ومنها أن ينقض العلة، ومنها أن ينهي الكلام إلى محال، ومنها أن ينتقل في الكلام، ومنها أن يقول شيئاً يلزمه القول بمثله فيمتنع، وأن يجيب عن غير ما يسأل عنه، وأن يسكت للعجز.
العتابي: أما بعد، فقد دلف إليك أملي مستجيراً بك من الإعدام، على راحلة من الرجاء، يحدى بيمن الطائر، حتى أناخ بفناء جودك، فتعجل شكر ما أملته منك، تجن حلو ما استغرست لك.
قال الفرزدق لزياد الأعجم: يا أقلف، فقال زياد: يا ابن النمامة، أمك أخبرتك بهذا!! قال رجل للفرزدق: متى عهدك بالزنا؟ قال: مذ ماتت عجوزك، لا رضي الله عنها.
يقال: غشم الليل وأغشم، وعتم وأعتم، ودجا وأجى، وغسق وأغسق، وجنح وأجنح، وغطش وأغطش، وغبش وأغبش، كل هذا إذا أظلم.
قال أبو الحسن العامري: التعاون على البر داعية لاتفاق الآراء، واتفاق الآراء لإيجاد مجلبة المراد، مكسبة للوداد، وكما أن شر الناس(9/148)
من من أبغض الناس، كذلك خير الناس من نفع الناس، ولا نفع مع السباب والتباغي، وأرفع الناس نية أقدرهم على استصلاح البرية، ومن عجز عن تقويم نفسه الخاصة فهو عن تقويم غيره أعجز، والتسرع إلى تكذيب الأقول آفة من آفات النفس، والطمأنينة بها قبل الاختبار مضادة لطريق الحزم، والإصرار على التوقف مذلة لسلطان العقل، ومن لم يخلص لسانه لضميره لم يخلص ضمير غيره له، ومن صبر على استبراء حقائق الأحوال فقد أيد نفسه بالسلامة من الضلال، ومن خفي موقع الطلبة قبله لم ينفعه قرب المطلوب منه، ومن اهتم لغير ما خلق له فقد بدل جوهره بجوهر سواه، وكما أن نور الحق أشرق وأجلى، فهو للعقول الرمدة أضر وأعشى، والمفلوج شخصه لا تستقيم حركاته، وهيهات من نيل السعادة مع الهوينا والبطالة.
يقال: ثلاثة أشياء تستجيب من الصغير وتكره من الكبير: البخل والجبن والحسد، يدل الحسد من الصغير على همة وهو قبيح من الكبير، والبخل يدل منه على حزم لأنه فيه حفظ وهو عيب من فوقه والجبن يدل على عقل لأن فيه حراسة نفسه.
قيل لبزر جمهر: ما بال تعظيمك لمؤدبك أشد من تعظيمك لأبيك؟ قال: لأن أبي كان سبب حياتي الفانية، ومؤبي سبب حياتي الباقية.(9/149)
شاعر:
وما المرء إلا اثنان عقل ومنطق ... فمن فاته هذا وذاك فقد كفر
ولا سيما إن كان ممن نصيبه ... من الدين والدنيا قليلا إذا حضر
كتب علي بن عيسى الوزير في توقيع له: قد بلغت لك أقصى مرادك، وأنلتك غاية بغتك، وسامحتك مسامحة محاب لك معني بك، وأنت مع ذلك تستقل كثيري لك، وتستقبح حسني فيك، فكيف وأنت كما قال رؤية:
كالحوث لا يكفيه شيء يلهمه ... يصبح ظمآن وفي البحر فمه
وإذا تأملت حقيقة أمرك علمت أني ... عاملتك بما لا أجيب إليه غيرك
ولا أعامل بمثله سواك.
شاعر:
العالم العاقل إبن نفسه ... أغناه جنس علمه عن جنسه
من إنما حياته لنفسه ... فيومه أولى به من أمسه
كم بين من تكرمه لغيره ... وبين من تكرمه لنفسه
هذه الأبيات يرويها أصحابنا لابن معروف القاضي، وما سمعناها منه.
قال الزبير بن بكار، حدثنا العتبي قال، حدثني الحسن بن(9/150)
وصيف قال: أصابتنا ريح ببغداد جاءت بما لم تأت به ريح قط حتى ظننا أنها تؤدي بنا إلى القيامة؛ قال: فجعلت أطلب المهدي خوفاً من أن يسقط عليه شيء، فألفيته ساجداً وهو يقول: اللهم احفظ فينا نبيك عليه السلام، ولا تشمت بنا أعداءنا من الأمم، وإن كنت يا رب أخذت العوام بذنبي فهذه ناصيتي بين يديك يا ارحم الراحمين مع الدعاء كثير حفظت هذا منه فلما أصبح تصدق بألف ألف درهم وأعتق مائة رقبة وأحج مائة رجل؛ قال: ففعل جلة قواده وبطانته والخيزران ومن أشبه هؤلاء في خاص مالهم كنحو ما فعل، فكان الناس بعد ذلك إذا ذكروا الخصب قالوا في أمثالهم: لأخصب من صبيحة ليلة الظلمة.
شاعر:
وما شيء أردت به اكتسابا ... بأجمع للمعيشة من بيان
ما خمسة في سبعة ... مع سبع ذلك في مايه
وكمثل ذلك إذا أضف ... ت إليه جزء ثمانيه
ما نصف ألف في القيا ... س وربع ألف لا ميه
ألقيت ربع ثلاثة ... منه فصح حسابيه
وضربت ما حصلته ... في نصف ثلث ثمانيه
فاتته صورة طبعه ... بكماله متواليه(9/151)
إن غير الذي سواك كريم ... وسوى من سوى سواك لئيم
يقال: برك الجمل، وربضت الشاة، وجثمت الأرنب، وجثمتها أنا إذا صبرتها. أي حبستها على الموت.
قال الزهري: يحكى أن عرفجة بن أسعد أصيب أنفه يوم الكلاب فاتخذ أنفاً من روق فأنتن، فأمره النبي صلى الله عليه وسلم أن يتخذ أنفاً من ذهب؛ قال الأصمعي: اتخذ أنفاً من الورق أي ورق الشجر، فأما الورق فإنه لا ينتن؛ قيل: إن الأصمعي عني بالورق الرق الذي يكتب عليه، قال ابن قتيبة: كنت أحسب قول الأصمعي صحيحاً أنه لا ينتن حتى خبرني خبير أن الذهب لا يبليه الثرى ولا يصدئه الندى ولا تغلبه الأرض ولا يأكله التراب ولا يتغير ريحه علىالدول، وأنه ألطف شيء شخصاً وأثقل شيء وزنا، وقليلة يلقى في الزنبق فيرسب، وكثير غيره يلقى فيه فيطفو؛ وقال: الفضة تصدأ وتنتن وتبلى في الحرارة؛ وكتب عمر بن عبد العزيز في اليد إذا قطعت أن تختم بالذهب فإنه لا يقيح.(9/152)
سئل الحسن البصري عن السلف في الزعفران فقال: إذا نقي.
قال دغفل: يفضل العرب على العجم بثلاث: بحفظ الأنساب وضياع أنسابهم، وعفتنا عن حرمنا إذا نكحوا حرمهم من الأمهات والأخوات، والفصاحة طبيعتنا والبيان سجيتنا.
شاعر:
لعل له عذراً وأنت تلوم ... وكم لائم قد لام وهو مليم
قال ابن الأعرابي: النغف: دود يكون في أنوف الإبل والغنم، ولا يكون في البقر، الواحد منها نغفة.
قال: والعرب تقول للشيء المختلف فيه: محلف ومحنث.
شاعر:
أراني سأبدي عند أول سكره ... هواي لهند في خفاء وفي ستر
فإن رضيت كان الرضا سبب الهوى ... وإن غضبت حلمت أمري على السكر
نهى رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم عن كسب المومسة والحجام. المومسة: الزانية.(9/153)
يقال: النضنضة بطرف اللسان والشفتين، والمضمضة بالفم كله، والنضح كالرش، والنضخ كالتبليل، والقضم بالأسنان، والخضم بالفم كله.
قيل لأعرابي: لم تسمى الغراب غراباً؟ قال: لأنه نأى واغترب.
قال الأصمعي، قلت لأبي عمرو: الذفرى من الذفر؟ قال: نعم، والمعزي من المعز؛ والذفر: الرائحة الطيبة، فأما الذفر - بتسكين الفاء - فإنه النتن خاصة.
سأل المنصورعمرو بن عبيد عن قوله عليه السلام فيمن اقتنى كلباً لغير زرع ولا حراسة أنه ينقص كل يوم من أجره قيراط؛ قال: كذا جاء، ولا أدري لم قال ذلك.
قال النبي صلى الله عليه وعلى آله: لا زمام ولا خزام ولا رهبانية ولاتبتل ولا سياحة في الإسلام، وهو معنى قوله عز وجل ما جعل عليكم في الدين من حرج.
قال عبد الله بن عمر: دخل يحيى بن زكريا بيت المقدس وهو ابن ثماني حجج فنظر إلى عبادها وقد لبسوا مدراع الشعر وبرانس الصوف، وقد(9/154)
ثقبوا وسلكوا فيها السلاسل وشدوها إلى سواري المسجد، فهاله ذلك ورجع إلى أبويه، فمر بصبيان يلعبون فقالوا: يا يحيى، هلم فلنلعب، فقال: ما خلقنا للعب، فأتى أبويه فقال لهما: درعاني الشعر، ففعلا، ثم رجع إلى البيت المقدس فكان يخدمه نهاراً وليلاً حتى أتت له خمس وعشرون حجة، وأتاه الخوف فساح ولزم أطراف الأرض، في حديث طويل.
كان من حديث يسار الكواعب أنه كان عبداً لبعض العرب، وكان لمولاه بنات، فجعل يتعرض لهن ويريدهن على أنفسهن، فقلن: يا يسار، اشرب ألبان هذا اللقاح، ونم في ظلال هذه الخيام، وإياك والتعرض لبنات الأحرار، فأبى، فلما أكثر واعدنه ليلاً فأتاهن وقد أعددن له موسى، فلما خلا بهن قبض عليه فجببن مذاكيره.
شاعر:
شاتمني عبد بني مسمع ... فصنت عنه النفس والعرضا
ولم أجبه لاحتقاري به ... من ذا يعض الكلب إن عضا
سمع مطرف بن عبد الله ضجيج الناس بالدعاء فقال: لقد(9/155)
ظننت أن الله قد غفر لهم، ذكرت أني فيهم فكففت.
قال بعض السلف: إن الدنيا قد استودقت، وإن الناس قد انغطوا، فما ظنك بعد هذين؟ كان للحكم ابن يتعاطى الشراب فقال: يا بني دع الشراب، فإنما هو قيء في شدقك، أو سلح في عقبك، أو حد في ظهرك.
قال ابن عباس: ما انتفعت بكلام أحد بعد رسول الله صلى الله عليه وعلى آله كانتفاعي بكلام علي بن أبي طالب رضي الله عنه؛ كتب إلي: أما بعد، فإن المرء يسره درك ما يفوته، ويسوؤه فوت ما لم يدركه، فليكن سرورك بما نلت من أمر آخرتك، وليكن أسفك على ما فاتك منها، وما أتاك من الدنيا فلا تكن به فرحاً، وما فاتك منها فلا تكن عليه جزعاً، وليكن همك لما بعد الموت.
لما استقضي يحيى بن أكثم جاءه رجل فقال: إني نذرت أن أتصدق بجزء مالي، قال: تصدق بربع مالك بقول الله تعالى: " فخذ أربعة من الطير فصرهن إليك ثم اجعل على كل جبل منهن جزءاً " البقرة:260.
نذر المتوكل في علة إن وهب الله تعالى له العافية أن يتصدق بمال(9/156)
كثير، فعوفي، فأحضر الفقهاء فاستفتاهم فقال قائل: تصدق بمائتي درهم لأن الزكاة فيها تجب، وقال آخر شيءاً آخر، فقال رجل من آل الرسول صلى الله عليه وعلى آله: إن كنت نويت الدنانير فتصدق بثمانين ديناراً، فقال الفقهاء: ما نعرف هذا في كتاب الله تعالى ولا سنة رسوله صلى الله عليه وسلم، فقال: بلى، قال الله تعالى: " لقد نصركم الله في مواطن كثيرة ويوم حنين " التوبة:25، فعدوا وقائع رسول الله صلى الله عليه وعلى آله فإذا هي ثمانون.
شاعر:
يلج بي الهوى وتلج نفسي ... وفيما بيننا كبد تذوب
استقرض كوفي من جار له شيئاً فطلب رهناً، فكتب إليه: لو كان الرهن حاضراً لكان بيعه أهون علينا من استيجاب حمدك.
قال الأول: فقر يوجعك خير من غنى يطغيك، وغنى يحجزك عن الإثم خير من فقر يحملك على الإثم.
قال ابن السماك: من لم يتحرز من عقله بعقله، هلك من قبل عقله.
أطعم الناس أبو سفيان في حجة الوداع فقصر طعامه فاستعان برسول الله صلى الله عليه وعلى آله فأعانه بألف شاة، فقال أبو سفيان: بأبي(9/157)
أنت وأمي، حاربناك فما أحببناك، وسألناك فما أبخلناك.
قال لقمان لابنه: يا بني، ارحم الفقراء لقلة صبرهم، وارحم الأغنياء لقلة شكرهم، وارحم الجميع لطول غفلتهم.
مر بخالد بن صفوان صديقان، فعرج أحدهما عليه وطواه الآخر، فقيل له في ذلك، فقال: عرج علينا هذا لفضله، وطوانا ذاك لثقته بالمودة.
قال ابن شهاب: من قدم أرضاً فأخذ من ترابها فجعله في مائها ثم شربه عوفي من وبائها.
قيل لزاهد: ما جزاء من إذا سئل أعطى؟ قال: أن يطاع فلا يعصى.
قال ابن عباس: أبهمت البهائم إلا عن أربع: عن معرفة الرب، وابتغاء النسل، وطلب المعاش، وحذر الموت.
قال القاضي أبو حامد: الرب ها هنا سائسها ومالكها، فأما معرفة الله تعالى فإن الكبار من العقلاء يموجون فيها ويضجون بسببها، فإن أصل المعرفة هو العقل، والبهائم لا عقول لها، وإنما هي ذوات حواس تصادف بحواسها ما(9/158)
لاءمها، فإذا توالت المصادفة الألفة بينها وبين الأشياء، وأما ما ارتفع عن الحس فإنها منه في جانب بعيد، ومكان سحيق.
مر أنو شروان بشيخ يغرس شجرة جوز، فوقف عليه وقال: يا شيخ، أتطمع أن تأكل من هذه الشجرة التي قد توليت غرسها وسقيها وتعهدها؟ قال: لا أيها الملك، ولكن الدنيا دفعت إلينا عامرة فإني أحب أن أردها وهي عامرة، فأعجب المك بكلامه وقال: زه! وأعطاه أربعة آلاف درهم، فقال: أيها الملك، ما أسرع ما أثمرت هذه الشجرة، فقال كسرى: زه! وأعطاه أربعة آلاف درهم أخرى، فقال: أيها الملك، لكل شجرة في كل سنة حمل واحد وهذه حملت مرتين، فقال: زه! وأعطاه أربعة آلاف درهم، وسدوا فمه، وانصرف.
قيل لفتح الموصلي: ادع الله لنا، فقال: اللهم هنئنا عطاءك، ولا تكشف عنا غطاءك.
مدح بعض الشعراء الجنيد، وكان من كبار العمال، فأجازه، فقال الشاعر: ما أكرمك لولا ثلاث خصال، قال: ويلك وما هي؟ وهل بعد ثلاث من خير؟ قال: تأمر للرجل بالجائزة السنية ثم تشتمه فتكدر ذلك عليه، قال: ثم ماذا؟ قال: وتضع الطعام فيدخل الناس فلا تنزلهم منازلهم، ولو أنزلت كان أشرف لك، قال: ثم ماذا؟ قال: جواريك يخترقن الصفوف فلا تأخذك لذلك غيرة، قال: فبكم أمرنا لك؟ قال: بعشرة آلاف درهم، قال: يا(9/159)
غلام ادفع إلى هذا الماص بظر أمه عشرة آلاف أخرى، ثم أعادها حتى بلغت تسعين ألفا أخرى، فوضعت بين يديه؛ ثم أقبل عليه فقال: أما قولك إني أضع الطعام ولا أنزل الناس منازلهم فلقد فكرت فرأيت في الناس من له همة وفيهم غير ذلك، فوكلتهم إلى أنفسهم، لأن من انحط عن أعلى غاية كان النقص أولى به، فهم بأنفسهم أخبر مني بهم؛ وأما قولك إن جواري يخترقن الصفوف فلا تأخذني لذلك غيرة، فلو أن واحدة رأت في عينها من هو أحسن مني فاختارته وهبتها له؛ وأم العطية مع الشتم فكيف رأيتها؟ فأنشأ الشاعر يقول:
إن الجنيد الكريم أوله ... يزين منه قديمه كرمه
يعطي على شتمة وإن صغرت ... تسعين ألفا طوبى لمن شتمه
وحسن وجه الجنيد قد عرفوا ... يمنع من كل ريبة خدمه
وما يبالي إذا بلا هممه ... طباخه بالطعام من طعمه
كان سليمان بن عبد الملك إذا حضر طعامه فتحت الأبواب(9/160)
ورفعت الستور ودخل الناس، فإذا انقضى ذلك نادى مناديه: إن أمير المؤمنين مرتفع من مجلسه، فهل لأحد منكم حاجة؟ فقام رجل ذات يوم فقال: يا أمير المؤمنين، إن لي في بيت مالك مائتي دينار، وأنا الآن مملك بابنة عم لي، وقد ضرب علي أجل إن جزته فرق بيني وبينها، فإن رأى أمير المؤمنين أسلفني هذه المائتين فأقضي عني، فقال: يا ابن اللخناء، أقسطار أنا حتى أسلفك؟ بل أهب لك مائتي دينار ومائتي دينار، وجعل يكررها حتى انقطع نفسه على ثلاثة آلاف دينار، فقبضها الرجل، فأتاه الناس يهنئونه قال: فأين قوله يا ابن اللخناء؟ فبلغ ذلك سليمان فقال: صدق، وددت أني افتديتها بأضعاف ذلك ولم أقلها.
قال ابن عباس: لعن الله القدرية، وما قالوا كما قال الله، ولا كما قالت الملائكة ولا كما قالت الأنبياء، ولا كما قال لوط، ولا كما قال أهل الجنة، ولا كما قال أهل النار، ولا كما قال الشيطان الرجيم، قال الله تعالى: " وما تشاؤون إلا أن يشاء الله " الإنسان: 30، وقالت الملائكة: " علم لنا إلا ما علمتنا " البقرة: 32، وقال الأنبياء: " ولا ينفعكم نصحي إن أردت أن أنصح لكم إن كان الله يريد أن يغويكم " هود ":34، وقال: لوط: " لو أن لي بكم قوة أو آوي إلى ركن شديد " هود:80، وقال أهل الجنة: " وما كنا لنهتدي لولا أن هدانا الله " الأعراف: 43، وقال أهل النار: " غلبت علينا شقوتنا " المؤمنون:106، وقال الشيطان: " رب بما أغويتني " الحجر:39.
شاعر:(9/161)
لعمري لئن بيعت في أرض غربة ... ثيابي إذ ضاقت علي المآكل
فما أنا إلا السيف يأكل جفنه ... له حلية من نفسه وهو عاطل
كان رسول الله صلى الله عليه وعلى آله إذا دعا لمتزوج قال: على اليمن والسعادة والطير الصالح، والرزق الواسع، والمودة عند الرحم.
وكان صلى الله عليه وسلم ينهى أن يقال بالرفاه والبنين ويقول بأوفى التحيات وأعذب الكلام.
كتب رجل إلى صديق له: بلغني ما يسر الله لك من اجتماع الشمل، وضم الأهل والإلف، فشركتك في النعمة، وساهمتك في السرور، وشاهدتك بقلبي، وتمثلت ما أنت فيه بعيني، فهنالك الله تعالى ما أنت فيه بما قسم لك بالسرور والحبور، ودفع المحذور، على مر الأزمنة والدهور.
قال الحجاج لابن القرية: اخطب علي هنداً بنت أسماء ولا تزد على ثلاث كلمات، فأتاهم فقال: أتيتكم من عند من تعلمون، والأمير يعطيكم ما تسألون، أفتجيبون أم تردون؟ فقالوا: بل نجيب، فرجع إلى الحجاج فقال: أقر الله عينك، وجمع شملك بالسرور والغنى على أسعد السعود، وإيمن الجدود، وأبرك العقود، وجعلها الله تعالى ولوداً ودوداً، وجمع بينكما على البركة والخير.
قال جعفر بن محمد الفاطمي عن أبيه عن جده قال حججت(9/162)
ومعي جماعة من أصحابنا، فأتينا المدينة، فأفردوا لنا مكاناً ننزله، فاستقبلنا علام لأبي الحسن موسى بن جعفر على حمار له حضر يتبعه الطعام، فنزلنا بين النخل، وجاء هو فنزل، وأتي بالطست والماء، وفبدأ فغسل يديه، وأدير الطست عن يمينه حتى بلغ آخرنا، ثم أعيد إلى من عن يساره حتى أتى على آخرنا، ثم قدم الطعام فبدأ بالملح وقال: كلوا باسم الله، ثم ثنى بالخل، ثم أتي بكتف مشوية فقال: كلوا باسم الله فإن هذا الطعام كان يعجب رسول الله صلى عليه وعلى آله، ثم أتي بسكباج فقال: كلوا باسم الله فهذا طعام كان يعجب أمير المؤمنين رضي الله عنه، ثم أتي بلحم مقلي فيه باذنجان فقال: كلوا بسم الله فهذا طعام كان يعجب الحسن بن علي رضي الله عنهما، ثم أتي بلبن حامض قد ثرد فيه فقال: كلوا بسم الله فإن هذا الطعام كان يعجب الحسن بن علي رضي الله عنهما، ثم أتي بأضلاع باردة فقال: كلوا بسم الله فإن هذا طعام كان يعجب علي بن الحسين رضي الله عنهما، ثم أتي بجنب مبرد فقال: كلوا بسم الله فإن هذا طعام كان يعجب محمد بن علي، ثم أتي بلون فيه بيض كالعجة فقال: كلوا بسم الله فإن هذا طعام كان يعجب جعفراً، ثم أتي بحلواء فقال: كلوا بسم الله فإن هذا طعام كان يعجبني. ورفعت المائدة(9/163)
فذهب أحدنا ليلتقط ما كان تحتها فقال: مه، إن ذلك يكون في المنازل تحت السقوف، فأما في مثل هذا المكان فهو لعافية الطير والبهائم. ثم أتي بالخلال فقال: إن من حق الخلال أن تدير لسانك في فمك، فما أجابك ابتلعته، وما امتنع فالخلال. وأتي بالطست والماء، فابتدأ بأول من على يساره حتى انتهى إليه فغسل، ثم غسل من عن يمينه إلى آخرهم، ثم قال: يا عاصم، كيف أنتم في التواصل والتيار؟ قال: على أفضل ما كان عليه أحد، قال: أيأتي أحدكم إلى كم أخيه أو منزله عند الضيقة فيستخرج كيسه ويأخذ ما يحتاج إليه فلا ينكر عليه؟ قال: لا، قال: فلستم على ما أحب من التواصل.
قال بعض السلف: لصانع المعروف إجلال القلوب، وثناء الألسن، وحسن الأحدوثة، وذخر العاقبة، وفخر الأعقاب.
شاعر:
ولم أر كالمعروف أما مذاقه ... فحلو وأما وجهه فجميل
آخر:؟ سقاني من كميت اللو - ن صرفاً غير ممزوج
فلما دارت الكاس ... على ناي وتصنيج
جعلنا القمص في اللبا ... ت أمثال الدواويج
كاتب: الحمد لله على عامر مهاجرتك، وسلامة بدأتك(9/164)
ورجعتك، وعظم المنة بأوبتك، فشكر الله سعيك، وتقبل نسكك، وجعلك ممن انقلب مفلحاً منجحاً، قد ربحت صفقته، ولم تبر تجارته، ولا أعدمك تقبل عملك، وتوفيقاً يحوك دينك، وشكراً يرتبط نعمتك، وهناك الله تعالى ذلك، وطيبه لك في الدنيا مع الأهل وجمع الشمل، ولا أعدمك مزيداً منه.
قال أعرابي في ذم الدنيا: جمة المصائب، كدرة المشارب لا تمتعك بصاحب.
قال أعرابي: من علم أن رزقه طالبه أراح بدنه من الدؤوب ونفسه من الذنوب.
نظرت أعرابية إلى قوم يدفنون ميتاً فقالت: جافى الله عن ميتكم ثقل الثرى، وأعانه على طول البلى.
ومدح أعرابي رجلاً فقال: ذاك والله مضغة من ذاق لفظها، وإنه مع ذلك عذب في أفواه الأصدقاء.
وقال أعرابي في آخر: لم يزل ينهب الدهر ما له حتى مال له الدهر، فبخل الدهر عليه ولم يبخل على الدهر.(9/165)
نظر أعرابي إلى فارس فقال: كأنه والله باز على مرقب، بيده رمح طويل يقصر به الآجال.
وقال أعرابي: هو والله إذا لوين أحلى من الجنى، وإذا خوشن أمر من الألاء.
وذكر أعرابي مودة رجل فقال: مودته مشوبة الفعال، وسماؤه قليلة البلال، وأرضه دائمة الإمحال، هو اليد الجذاء، والأزمة الحصداء، أبعد مقاله قريب، وأقرب فعاله بعيد، يقول ما لا يفعل، ويفعل ما لا يقول.
كاتب: من اتسع في الإفضال اتسعت فيه الأقوال، من شاكر مثن، ومادح مطر، ولسنا نصفك بما يعن لنا ويبدو على ألسنتنا، مما يتقرب به ذو الرغبة، ويفزع إليه ذو الرهبة، لاشتراك مرغوب، واستجلاب مطلوب، ولكنا ننطق عن سيرتك بإفصاح، ونبين عنها بإيضاح، يكف شغب الكائد، ويطيل غم الحاسد.
قال أعرابي: طالب الفلاح كالضارب بالقداح، سهم له وسهم عليه.
شاعر:(9/166)
وعصبة لما توسطتهم ... ضاقت علي الأرض كالخاتم
كأنهم من بعد أفهامهم ... لم يخرجوا بعد إلى العالم
يضحك إبليس سروراً بهم ... لأنهم عار على آدم
قيل لأعرابي: أتعرف ربك؟ قال: إن عرفناه أبلانا، وإن أنكرناه أصلانا.
قال مسلم: مازلت أستجفي عائشة في قولها: بمن الله لا بمنك، حتى سألت أبا زرعة الرازي فقال: ولت الحمد أهله.
حمل إلى حماد القرشي دنانير فردها فقال له أصحابه، وكانوا أضيافه على كسر قد بدع بها كبة غزل: ما وجب أن ترد، فقال: إني لم أختر الفقر للغنى، إنما اخترت الفقر للفقر.
كان العتابي واقفاً بباب المأمون، فوافى يحيى بن أكثم، فقال له العتابي: إن رأيت أن تعلم أمير المؤمنين مكاني فافعل، فقال: لست بحاجب، فقال: قد علمت، ولكنك ذو فضل، وذو الفضل معوان، قال: سلكت بي غير طريقي، قال: إن الله أتحفك منه بجاه ونعمة، وهو مقبل عليك بالزيادة(9/167)
إن شكرت، وبالتغيير إن كفرت، وأنا لك اليوم خير منك لنفسك، لأني أدعوك إلى ما فيه ازدياد نعمتك وأنت تأبى علي، ولكل شيء زيادة وزكاة، وزكاة الجاه رفد المستعين؛ فدخل على المأمون فأخبره الخبر، فأمر للعتابي بثلاثين ألف درهم.
بلغ عمر بن عبد العزيز أن ابنه بالمدينة اشترى خاتماً قيمة فصه ألف درهم، فكتب عمر رضي الله عنه: عزمت عليك لما بعت خاتمك بألف درهم، وجعلتها في ألف بطن جائع فقير، واستعملت خاتماً من ورق وجعلت فصه منه ونقشت عليه: رحم الله امرءاً عرف قدره.
شاعر:
شعرات في الرأس بيض ودعج ... حل رأسي خيلان: روم وزنج
طار عن لمتي غراب شبابي ... وعلاني من بعده شاه مرج
أيها الشيب لم والعت برأسي ... إنما لي عشر وعشر وبنج
قال أعرابي في رجل: ذاك والله رضيع الجود والمفطوم به، عقيم من الخنا، معتصم بالتقوى، إذا خرست الألسن عن(9/168)
الرأس حذف بالصواب كما تحذف الأرنب، فإن طالت الغاية، ولم يكن دونها نهاية تمهل أمام القوم سابقاً.
قال بعض الأطباء: إذا أخذ زبل العصافير وديف بلعاب الإنسان وطلي على الثؤلول قلعه.
قال الحجاج لعنبسة بن سعيد: يا عنبسة، بلغني أنك تشبه إبليس في قبح وجهك، قال: وما ينكر الأمير أن يكون سيد الإنس يشبه سيد الجن؟!
لما نزل قوله تعالى: " وأنذر عشيرتك الأقربين " الشعراء: 214، أتى رسول الله صلى الله عليه وعلى آله قمة جبل فعلا أعلاها ونادى: يا آل عبد مناف، إني نذير، وإنما مثلي ومثلكم كمثل رجل يربأ أهله، فرأى العدو فخشي أن يسبقوه فجعل يهتف وينادي: يا صباحاه! الدبول: الجداول، سميت بذلك لأنها تدبل أي تصلح، قال(9/169)
الكسائي: أرض مدبولة: إذا أصلحت بالسرجين، وكل شيء دبلته ودملته فقد أصلحته، ومنه يقال: داملت الصديق إذا استصلحته. ومدفن المدينة يسمى بقيع الغرقد، والغرقد: شجر الغضا وكل شجر له شوك، مثل الطالح والسلم والسدر والسمر.
قال أعرابي: إن الله تعالى أفرح بتوبة العبد من المضل الواجد، والظمآن الوارد، والعقيم الوالد.
قال أعرابي: رب حرب أنفع من سلم، وجهل خير من علم.
كاتب: قد سرني ردك لي عما التمسته منك ليكون ذلك عقوبة لي على سوء اختياري لك، وتأديباً على قصدي بأملي إياك.
قال أعرابي: رب صبابة غرست من لحظة، ورب حرب جنيت من لفظة.
قال أعرابي: رب وحدة خير من جليس، ووحشة أحسن من أنيس.(9/170)
قال أعرابي: ربما أخطأ البصير قصده، وأصاب الغوي رشده، وشد الأشل زنده.
قيل لكثير: كيف تصنع إذا عز عليك قول الشعر؟ قال: أطوف في الرباع المحيلة، والرياض المعشبة، فيسهل علي أرصنه، ويسرع إلي أحسنه.
قال بعض السلف: ما استدعي شارد الشعر بمثل المكان الخالي، والمستشرف العالي، والماء الجاري، وله أوقات يسرع فيها أتيه، ويسمح فيها أبيه.
كاتب: كتبت عن عافية في البدن، وسقم في الحال، فأنا بين شكر وشكوى، وبلاء جميل وبلوى، أستحق بالشكر الزيادة، وبالسقم العيادة، أما استخبارك عن أمري فظاهر أمري بالسلامة يسرك، وأما باطن حالي فبالاختلال يسوءك.
كاتب: كتبت وأنا سالم في نفسي، فأما ما تتم به السلامة فقد أخطأني موقعه، لأني ببلد ليس فيه عمل يجدي، ولا حر يسدي، وأنا أحمد(9/171)
الله حمداً يصونني عن العمل إلا لطاعته، ويغنيني عما سواه بكرمه وكفايته.
قال أعرابي: من تنعم بك بدنه، تعبد لك قلبه، ومن جهد ظاهره فيك، ثقل باطنه عليك.
قال أعرابي لآخر: اجعل لي وكيلاً من نفسك يقوم عندك بعذري، ويخاصمك إلى كرمك في أمري.
كاتب: أصبحوا في زهرة رياضك راتعين، وفي غمرة حياضك شارعين.
قال أعرابي: هذا مقام من لا يتكل عندك على المعذرة، بل يعتمد منك على المغفرة.
قال ابن الكلبي: لما أتي الحجاج بالأسرى من أصحاب ابن الأشعث، جعل يعرضهم على السيف حتى انتهى إلى شاب فيهم فقال: أصلح الله الأمير، إن لي حرمة، قال: وما هي؟ قال: ذكرت في عسكر ابن الأشعث بسوء فرددت عنك الشتائم وقلت للشاتم: والله لقد كذبت في مقالتك، وأفكت في نطقك، والله ما في الحجاج مغمز ولا مطعن في حسب ولا(9/172)
نسب، ولا مفسد في بطن ولا ظهر، فإن شئت في غير ذلك فقل، فقال الحجاج: ومن يعلم ما تقول؟ فرمى الرجل بطرفة إلى رجل بالقرب منه فقال: هذا يعلم ما أقول، فقال الحجاج: ما تقول فيما قال؟ قال: صدق أيها الأمير، فقال: يخلى عن هذا لذبه عنا، ولهذا حرمه حفظ شهادته؛ فخلوا عنهما.
قال المدائني: قدم على أسد بن عبد الله بخراسان رجل، فانتظر قعوده للناس فكان يحجب عنه، فلما دخل إليه قال: أصلح الله الأمير، إن لي عندك يداً، قال: وما يدك؟ قال: أخذت بركابك يوم كذا، قال صدقت، قل حاجتك، قال: توليني أبيورد، قال: ولم؟ قال: لأكسب مائة ألف درهم، قال: فإنا قد أمرنا لك بها وأقررنا صاحبنا على عمله، قال: أصلح الله الأمير، لم تقض ذمامي، قال: ولم وقد أعطيتك ما أملت، وسرغتك ما أمرت لك به، وأعفيتك من المحاسبة أن صرفناك عنها، قال ولم تصرفني ولا يحب الصرف إلا لأمرين: إما لعجز أو لخيانة، فإن سلمت منهما لم أصرف، قال: فأنت أميرها ما دامت خراسان لنا، فلم يزل عليها حتى عزل أسد.
قال المدائني: جاء رجل إلى نصر بن سيار فذكر قرابة، قال: وما قرابتك؟ قال: ولدتني وإياك فلانة، قال: قرابة عورة، قال: إن القرابة(9/173)
مثل الشن البالي يرقعه أهله فينتفعون به، قال: حاجتك؟ قال: مائة ناقة ومائة نعجة ربى - إي معها أولادها - قال: أما النعاج فخذها، وأما النوق فنأمر لك بأثمانها.
قال الشعبي: حضرت مجلس زياد وحضره رجل فقال: أصلح الله الأمير، إن لي حرمة أفاذكرها؟ قال: هاتها، قال: رأيتك بالطائف وأنت غليم ذو ذؤابة وقد أحاط بك جماعة من الغلمان وأنت تركض هذا مرة برجلك وتنطح هذا مرة برأسك وتكدم هذا مرة بأسنانك، وكانوا مرة ينثالو عليك وهذه حالتك وحالهم، ومرة يندون عنك وأنت تتبعهم حتى كاثروك واستقووا عليك، فجئت حتى أخرجتك من بينهم وأنت سليم وكلهم جريح، قال: صدقت أنت أنت ذاك الرجل؟ قال: أنا ذاك، قال: حاجتك؟ قال: حاجة مثلي الغنى عن الطلب، قال: يا غلام أعطه كل سفراء وبيضاء عندك، ونظر فإذا قيمه ما يملك في ذلك اليوم أربعة وخمسون ألف درهم، فأخذها وانصرف، فقيل له بعد ذلك: أنت رأيت زياداً وهو غلام بهذه الحال؟ قال: إي والله لقد رأيته وقد اكتنفه صبيان صغيران كأنهما من سخال المعز، فلولا أدركته لظننت أنهما يأتيان على نفسه.
وقف رجل على معاوية وهو في مجلس العامة فقال: يا أمير(9/174)
المؤمنين، إن لي حرمة، قال: وما هي؟ قال: دنوت من ركابك يوم صفين وقد قربت ذابتك لتنهزم، ورأى أهل العراق الفتح والظفر، فقلت لك: والله لو كانت هند بنت عتبة مكانك ما هربت، واختارت أن تموت كريمة أو تعيش حميدة؛ أين تهرب وقد قلدتك العرب أزمة أمورها، وأعطوك قياد الأعنة؟ فقلت لي: اخفض صوتك لا أم لك، ثم ثبت وثابت حماتك إليك وتمثلت بقول عمرو بن الإطنابة:
وقولي كلما جشأت وجاشت ... مكانك تحمدي أو تستريحي
قال: صدقت، ولوددت أنك خفضت من صوتك، يا غلام أعطه خمسين ألف درهم، ولو أحسنت الأدب لأحسنا لك الزيادة.
رفع إلى أنو شروان أن العامة تؤنب الملك في تقديمه فلانا وليس له شرف أصيل ولا نسب، فوقع: اصطناعنا له نسب.
هذا الذي قاله لطيف حلو، له وجه عريض في التأويل، وعليه حجة قوية في الجدال، وقد كان بعض أصحابنا يقول: الاصطناع لا يشرف الجوهر الخسيس، والاطراح لا يضع الجوهر النفيس، وسبيل الملك أن يكون كالناقد(9/175)
الذي ينفي الزائف ويقتني الجيد، فما انتكثت الدول وانتقضت الملل إلا بهذا التأويل الذي ينشئه هوى الملك في واحد بعد واحد، على أنا لا نجحد أن تكون النجابة في بعض الخاملين، والفسالة في بعض المشرفين، لأن الغرائز والنحائر مختلفات، وكل من شوطه على حد إن زاد مكرها في وقت نقص مختاراً في وقت، وأصل كل معروف نكرة، وآخر كل معروف نكرة، ولكن الأولى بالقياس على عادة الناس تقديم من له قديم، فليس طلاب الذهب من معدنه كطلب المعدن في الأرض، على أن هه القضية في زماننا مطوية، وهذا الشأن متروك.
رفع إلى كسرى أن النصارى الذين بحضرة باب الملك يقرفون بالتجسس، فوقع: من لم يظهر ذنبه لم تظهر من عقوبة له.
ورفع إليه أن بعض الناس ينكر إصغاء الملك إلى أصحاب الأخبار، فوقع: هؤلاء بمنزلة مداخل الضياء إلى البيت المظلم، وليس بقطع مواد النور مع الحاجة إليه وجه عند العقلاء.
قال بعض أصحابنا: أما الأصل في هذا التدبير فصحيح، لأن الملك محتاج إلى الأخبار، ولكن الأخبار تنقسم إلى ثلاثة أوجه: خبر يتصل بالدين، والواجب عليه أن يبالغ ويحتاط في حفظه وحراسته ونفي القذى عن طريقه(9/176)
وساحته، وخبر يتصل بالدولة ورسومها، فينبغي أن يتقظ في ذلك خوفاً من كيد ينفذ وحيلة تتم؛ وخبر يدور بين الناس في متصرفهم وشأنهم وحالهم، حتى إذا زاحمتهم فيه اظطغنوا عليك وتمنوا زوال ملكك، وأرصدوا العداوة لك، وكانوا عليك مع عدوك. وإنما لحق الناس من هذا الخبر هذا العارض لأن في منع الملك إياحم عنه وتتبعه لهم كرباً على قلوبهم، ولهيباً في صدورهم، فلا بد لهم في الدهر الصالح، والزمان المعتدل، والخصب المتتابع، والسبيل الآمن، والخير المتصل، من فكاهة وطيب واسترسال وأشر وبطر، وكل ذلك من آثار النعمة الدارة، والقلوب القارة، فإن أغضى الملك بصره عل ىهذا القسم عاش محبوباً، وإن تنكر لهم فقد جعلهم أعداء، والسلام.
ورفع إلى أنوشروان أن عامل الأهواز قد جنى من المال ما يزيد على الواجب، وأن ذلك يجحف بالرعايا، فوقع: يرد هذا المال على هؤلاء الضعفاء، فإن تكثير الملك بظلم رعيته بمنزلة من يحصن سطوحه بما اقتلعه من قواعد بنيانه.
ورفع إليه أن الأمر كان خرج باختيار رجل للشرطة، وقد سمي لذلك فلان، فوقع: يحتاج لهذا العمل إلى رجل في طباعه البغضة للأشرار،(9/177)
واستقصاء أصول الأموال، والغلظة على الظلمة، والرقة على الضعفاء، وهذا رجل يختار لغير هذا العمل.
قال أبو سعيد السيرافي: إن هذا لزيد، إذا كان المشار إليه هو زيد، وكسروا اللام ليزول اللبس، وأصلها الفتح، لأن الباب في الحروف المفردة أن تبنى على الفتح، فإذا وصلتها بالمكني عادت إلى أصلها من الفتح، وذلك قوله: إن هذا له، وإن هؤلاء لنا، لأنك تقول في مكني المرفوع: إن هذا لأنا، وإن هؤلاء لنحن، وإن هذا لهو، وأنشد:
وإني امرؤ من عصبة خندقية ... أبت للأعادي أن تنيخ رقابها
قال يحيى بن غسان: عاتبت غسان بن عباد في اقتصاده في ملبسه فقال: من عظمت مؤونته على نفسه قل نفعه على غيره.
أنشد السيرافي:
فصددت عن أطلالهن بجسرة ... عيرانة كالقصر ذي البنيان
كسفينة الهندي طابق ظهرها ... بسقائف مكسوحة ودهان
فكأنما هي بعد غب كلالها ... أو أسفع الخدين شاة إران(9/178)
يعني ثوراًوحشياً، ويسمى الثور الوحشي شاة، والبقرة الوحشية شاةٍ، وإران: نشاط، إرن يأرن أرنا والاسم الإران، يقال: الإران: كناس الوحش، يقال: الإران: سرير الميت، ومنه قول طرفة: أمون كألواح الإران نسأتها فأما قوله: ها أناذا وها نحن أولاء، وها هو ذاك، وها أنت ذا، وها أنتم أولاء، وها أنتن أولاء، فها للتنبيه، والأسماء بعدها مبتدآت، والخبر أسماء الإشارة ذا وذلك، وإن شئت جعلت الضمير المقدم هو الخبر، والإشارة هي الاسم.
وأما ها فيجوز أن يكون مع ذا وفصل بينهما أنت، والمراد بها أن يكون ذا، والتقدير: أنا هذا، ويجوز أن يكون التنبيه للضمير أنهما يشتركان في الإبهام، فأما من قدر ها مع ذا وفصل بينهما فإنه يحتج بقول زهير:
تعلما ها لعمر الله ذا قسماً ... فاقصد بذرعك واننظر كيف تنسلك
وإنما هو: تعلما هذا لعمر الله قسماً، ويحتج أيضاً بقوله: فقلت لهم هذا لها وها وذا ليا(9/179)
والتقدير: هذا لها وهذا لي، وإنما يقول القائل: هاأناذا، إذا طلب رجل لم يدر أحاضر أم غائب، يقال: هاأناذا، أي الحاضر أنا، وإنما يقع جواباً؛ تم كلام السيرافي.
قال أبو العيناء: لما عزل إسماعيل بن حماد بن أبي حنيفة شيعوه فقالوا: عففت عن أموالنا وعن دمائنا، فقال: وعن أبنائكم، يعرض بيحيى ابن أكثر في اللواط.
قال أبو السائب المخزومي: كان جدي في الجاهلية يكتني بأبي السائب وبه اكتنبت، وكان خليطاً لرسول الله صلى الله عليه في الجاهلية، فكان رسول الله صلى الله عليه وعلى آله إذا ذكره في الإسلام قال: نعم الخليط كان أبو السائب، لا يشاري ولا يماري.
قال الزبير بن بكار: أدخل ابن جندب على المهدي في القراء، وفي القصاص، وفي الشعراء وفي الرماة، وفي المغنين، فأجازه فيهم كلهم.
لما حضرت الوليد بن عقبة الوفاة أتاه أهل الكوفة يدعون له ويثنون عليه فقال: يا أهل الكوفة، حبكم والله صلف، وبغضكم تلف؛ وإني لفي آخر يوم من أيام الدنيا وأول يوم من أيام الآخرة، اللهم إن كان أهل(9/180)
الكوفة صدقوا في شهادتهم فأصلني نار جهنم، وإن كانوا كذبوا علي فاجعل ذلك كفارة لما تعلم من ذنوبي.
سمعت القاضي أبا حامد يقول: دخل بلال بن أبي بردة مسجد دمشق ولزم سارية، وكان يحسن صلاته وتسبيحه حتى عرف بهديه، فرآه عمر ابن عبد العزيز فهم بأن يجعل إليه من أمور المسلمين شيئاً فقال له خادم: يا أمير المؤمنين، في الأناة خير كثير، وفي العجلة ندم، فأرسلني إليه واسألني عنه أعرض عليك ضميره، فإن كان على ما تحلى به في ظاهره كنت من تقديمه وتوليته على يقين، وإن كان بخلاف ذلك كفيت نفسك الاهتمام به، والمسلمين الفتنة، فقال له عمر: خذ فيما ألهمك الله، فجاء الخادم إلى بلال بن أبي بردة وصلى بجنبه، وسلم عليه وأنسه، وأخذ في شجون الحديث يستنزله، وألقى إليه في عرض الحديث ذكر الولاية، وعرفه ما فيها من العز في الدنيا وعرض الجاه ومعونة المسلمين، فقبل ذلك بلال وهش له، فقال الخادم: فما لي إن شرعت في ذلك؟ قال بلال: عشرة آلاف درهم، فوافقه وانصرف إلى عمر وعرفه الحال وحكى الصورة، فقال عمر: لحاه الله، أتانا بدينه يطلب دنيا لا تبقى له.
قرأت بخط ابن المعتز، قال التوزي: خرجت مع أبي عبيدة من المسجد فتوكأ علي ثم قال: أنت أولى من ألقينا عبالتنا عليه.(9/181)
وقال أعرابي: اللهم إني أعوذ بك من خطرات الإثم ونظرات السوء.
قال إبراهيم النخعي: إن بني أمية أدمجوا بالحلم إدماجاً.
قال علي كرم الله وجهه في خطبته بصفين: قدموا الدارع، وأخروا الحاسر، وأميتوا الأصوات، والتووا في أطراف الأسنة، وادرعوا العجاج.
كان ابن سيرين إذا دعي إلى وليمة قال: يا جارية، هاتي قدحاً من سويق، قال: ألست قد دعيت؟ قال: أكره أن أجعل حدة جوعي على طعام النماس.
قال الحسن: الإنسان يهدم عمره مذ سقط من بطن أمه.
رئي بعض العلماء وهو يكتب من فتى حديثاً فقيل له: ما مثلك يكتب من هذا، فقال: أما إني أحفظ منه، لكني أردت أن أذيقه كأس الرياضة ليدعوه ذلك إلى الازدياد من العلم.
كتب أنو شروان إلى أصبهبذ خراسان: اعلم أن عدوك الأقرب الخرق، وجندك الأعظم الرفق.(9/182)
قال ابن عباس: لم يمل إلى المغالبة إلا من أعياه سلطان الحجة.
كان عمر بن الخطاب رضي الله عنه يقول للرجل إذا استعمله: إن العمل كير، فانظر كيف تخرج منه.
أركان النعيم: الصحة والأمن والغنى والشباب.
لرجل من بني أسد:
فإن تغمضوا فالحرب كأس مريرة ... إذا صدرت عنها الأسنة ترعف
إذا ركبوا لم يركبوها وطية ... هي الغول للأقوان حين تشوف
إذا التقت الأبطال كان سجالها ... صفائح بصرى والقنا المتقصف
ويوردها الأقوام ممن يعلها ... رواء وقرح القوم لا يتقرف
تفرق ألافا وتعتام سادة ... وتعدي الصحيح فهو أجرب أكلف.
قال ثعلب: يقال: ما له عبر وسهر، وما له بئي بطنه، مثل(9/183)
بعي، أي شق بطنه، وما له عرن في أنفه أي طعن. ويقال: ما له مسحه الله برصاً واستخفه رقصاً.
قال: ويقال: أخافه الله وأهانه؛ ويقال: أرانيه الله أغر محجلاً، أي مقتول محلوق الرأس مقيداً؛ ويقال: أطفأ الله ناره، أي أعمى عينيه؛ ويقال: خلع الله نعليه، أي جعله مقعداً؛ ويقال: جذه الله جذ الصليان؛ قال، ويقال: وصف الله في حاجتك، أي لطف لك فيها؛ ويقال: سقاك الله دم جوفك؛ قال ابن صاعد: إذا هريق دم الإنسان هلك؛ وقال غيره: معناه دعا عليه بأن يقتل ابنه فيضطر إلى أخذ ديته فيشرب من ألبان الإبل.
وقال ابن مهدي: تأوبك الله بالعافية وقرة العين؛ نعوذ بالله من السيل الجارف والجيش الجائح؛ يقال: نعوذ بالله من أمواج البلاء وبرائق الفتن وخيبة الرجاء.
قال المبرد: قلت لمجنون يوماً: أجز لي هذا البيت:
أرى اليوم يوماً قد تكاثف غيمه ... وإبراقه فاليوم لاشك ماطر
فقال:
وقد حجبت فيه السحائب شمسه ... كما حجبت ورد الخدود المعاجر(9/184)
لابن أبي فنن:
ألا رب مكروب أجيب دعاؤه ... وذي أود قومته فتقوما
ومستسلم للحادثات منعته ... بحزمك أن يغتال أو يتهضما
أبي لك حزم الرأي إلا صرامة ... وبذلك للمعروف إلا تكرما
خلائق غر قد بسطت ببذلها ... لسان الذي يثني وإن كان أعجما
جمعت بها شمل المعالي فأصبحت ... لديك صفايا ما يحاذرن مقسما
مددنا بأيدينا إليك فراغب ... وذو همة يمسي له النجم توأما
وذو أدب لولا رجاؤك أصبحت ... بضاعته مردودة حيث يمما
قال المفجع: حدثنا إسحاق بن إبراهيم قال: سمعت أبا عثمان المازني يقول: تزوج رجل من بكر بن وائل امرأة من بني دارم، فأراد نقلها إلى أهله، وكان معها بكر فجعل البكر يحن، فقالت:
ألا أيها البكر اليماني إنني ... وإياك في بكر لمغتربان
نحن وأبكي إن ذا لبلية ... وإنا على البلوى لمصطحبان
وقال: " إلا أن تغمضوا فيه " البقرة:267 "؛ الإغماض: الاقتصار على ما دون الحق.
قال أبو حنيفة: حدثنا الرياشي عن محمد بن سلام قال: يقال: الخاطب أحلى شيء لساناً، وعلى لسان كل خاطب تمرة، وهو من الحلاوة.
قال أبو عثمان: سمعت أبا زيد يقول، الكلابيون يقولون: " وإن جنحوا للسلم فاجنح لها " الأنفال:61. وسمعت أبا السمال(9/185)
يقرأ: " وحبط ما صنعوا فيها " هود:16، قال: وسمعته يقرأ: " فسوف يكون لزاماً " الفرقان " 77؛ وسمعته يقرأ: " إنكم لذائقوا العذاب الأليم " الصافات: 38؛ قال: وسمعته يقرأ: " قل الحق " الكهف: 29 - بفتح اللام -، ويقرأ: " فحاسوا خلال الديار " الإسراء:5 قال الرياشي: ما جاء من الجمع على فعيل: كلب وكليب، وعبد وعبيد، وطس وطسيس، ويد ويدي، وأنشد:
فلن أذكر النعمان إلا بصالح ... فإن له عندي يديا وأنعما
قال: والحرمد والثأط والحمأة والخلب: الطبن؛ ويقال بيت مخلوب أي مطين.
قال التوزي: البلذم: ما تدلى من الصدر؛ قال الأصمعي: وقيل بلدامة، وهو المضطرب.
يقال: قدر لزبة أي عظيمة، وغنم خليطة إذا كانت عظاماً.(9/186)
وقال علي بن أبي طالب رضي الله عنه: لسان المرء سيف يخطر في جوانحه.
قال وهب: الدناير والدراهم خواتيم الله في أرضه، فمن ذهب بخاتم الله قضيت حاجته.
قال معاوية: كان أبو سفيان طويل الأناة بعيد القعر، نائم الهوى يقظان الرأي.
قال عمر: أدروا للمسلمين لقحتهم، أي العطاء.
قال ابن عباس: المطر بعل الأرض.
وقال النبي صلى الله عليه وعلى آله: كل صلاة ليس فيها قراءة فهي خداج.
وقال عليه السلام: خير الناس رجل ممسك بعنان طرفه، كلما سمع هيعة طار إليها.
يقال: كرش الرجل: جماعته، وعيبته: موضع سره؛ قال(9/187)
النبي صلى الله عليه وعلى آله: الأنصار كرشي وعيبتي.
وكان جرير بن حازم يتنقص صالح بن عبد القدوس، فقال صالح:
قل للذي لست أدري من تلونه ... أناصح أم على غش يداجيني
إني لأكثر مما سمتني عجباً ... يد تشج وأخرى منك تأسوني
تغتابني عند أقوام وتمدحني ... في آخرين وكل عنك يأتيني
هذان شيئان شتى بون بينهما ... فاكفف لسانك عن شتمي وتزييني
أرضى عن المرء ما أصفى خليقته ... وليس شيء مع البغضاء يرضيني
قال: ثعلب: العرب تقول: أنا لومة وأخي عذلة، أي أنا اعذله وهو يلومني.
قال أبو العتاهية لابنه يوماً: يا بني، إنك لا تصلح لمشاهدة الملوك، قال: لم يا أبة؟ قال: لأنك بارد المشاهدة، حار النسيم، ثقيل الظل.
من أمثال العرب: رب كلمة تقول لصاحبها دعني.(9/188)
قال أحمد بن حنبل: ما شبهت الشباب إلا بشيء كان في كمي فسقط.
قال ابن شوذب: قدم أبو مسلم فتلقاه ابن أبي ليلى فقبل يد أبي مسلم، فقيل له: تقبل يد أبي مسلم؟ فقال: قد تلقى أبو عبيدة بن الجراح عمر ابن الخطاب فقبل يده، فقيل له: أتشبه أبا مسلم بعمر بن الخطاب؟ فقال: أفتشبهونني بأبي عبيدة؟ قال ابن عباس: سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يخطب بمنىً، فقال للأنصار: ألم تكونوا ضلالاً فهداكم الله تعالى بي؟ ألم تكونوا خائفين فأمنكم الله تعالى بي؟ ألم تكونوا أذلاء فأعزكم الله تعالى بي؟ ثم قال: ما لي أراكم لا تجيبون؟ قالوا: ما نقول؟ قال: تقولون: ألم يطردك قومك فآويناك، وكذبوك فصدقناك؟ قال: فجثوا على الركب، قالوا: أنفسنا وأموالنا لك يا رسول الله، فأنزل الله تعالى: " قل لا أسألكم عليه أجراً إلا المودة في القربى " الشورى:23.
قال الضحاك: قال ابن عباس في قوله: " قل لا أسألكم عليه أجراً إلا المودة في القربى " نسخت بقوله تعال: " ما سألتكم من أجر فهو لكم " سبأ: 47.(9/189)
ذكر السعادة في مجلس بعض الأشراف فقال أحد القوم: كفاكم أن الصدق محمود إلا منهم، وأن أصدقهم أخبثهم.
لعيسى بن أرطأة في المهدي:
الآن قر الملك في مقره ... وابتسم العباس عن مفتره
وسكنت هامة مقشعرة ... إلى بني العباس أهل سره
ومنهل طعنت في مغبره ... وقد دجا الليل بمكفهره
بناعج ينفح ثني دره ... كأنه في فره وكره
قدح أدرته يدا مدره ... إلى إمام عمنا ببره
للعقيلي أستاذ علي بن الجهم:
أرى ألفات قد كتبن على راسي ... بأقلام شيب في صحائف أنقاس
فإن تسأليني من يمل حروفها ... فكف الليالي تستمد بأنفاسي
جرى في جلود الغانيات لشيبتي ... قشعريرة من بعد لين وإيناس
وقد كنت أجري من هواهن مرة ... مجاري نعيم الماء من قضب الآس
دخل سفيان الثوري على المهدي وهو بمكة فقال له: حدثنا أبو(9/190)
عمران أيمن بن نابل عن قدامة بن عبد الله بن عمار الكلابي قال: رأيت رسول الله صلى الله عليه وسلم يرمي جمرة العقبة يوم النحر لا ضرب ولا طرد، ولا إليك إليك؛ وقد رأيت الناس يضربون بين يديك؛ وجاء عن عمر بن الخطاب رضي الله عنه أنه أنفق في حجة حجها ثماني عشر ديناراً وقال: ما أحسب هذا إلا سرفاً في أموال المسلمين، وما أراك تدري كم أنفقت؛ فقال المهدي: لو كان المنصور حياً ما احتمل هذا الكلام منك، فقال سفيان: لو كان المنصور حياً ثم أخبرك لما لقي ما ستقر بك مجلسك.
قال الفضل بن سهل: الناس بين نعمة ومصيبة، وفيهما الابتلاء والمحنة، ثم لا تلبث المصيبة إذا أخذ فيها بأدب الله تعالى أن تعود نعمة قد تصرمت أيام كرهها وبقي مأمول أجرها، ولن تلبث النعمة إذا ضيع ما يجب فيهما من الحق أن تعود مصيبة تنصرم أيام بشاشتها وتطول في العاقبة حيرة أهلها.
شاعر:
فلا تنكري فيض الدموع فإنها ... معاذير عين فاتها ما تؤمل
قال الحسن: عربي مقتصد أحب إلي من مولى مجتهد.
حبوكرى وأم حبوكرى: داهية؛ قال: والحبوكرى: رملة يضل فيها سالكها ثم صارت داهية، هكذا قال ثعلب في أسماء الدواهي.
قال ثعلب: إنه لضب تلعة، ما يؤخذ مذنباً ولا يدرك حفيراً، أي لا يؤخذ بذنبه ولا يلحق لبعد خفرته.(9/191)
قال ثعلب: يقال: كذب واختلق، وإنه لزلوق أي كذوب، ويقال: كذوب ممزج أي يمزج حقاً بباطل، وأنشد:
لاتقبلن قول عذوب ممزج ... أطلس وغد في دريسي منهج
قال ثعلب: يقال: لا أبقى الله لك سارحاً ولا جارحاً، أي لا أبقى الله له مالاً، والجارح: الحمار والفرس والشاء، وليست الإبل والرقيق من الجوارح، وإنما سميت الجوارح لجروح آثارها في الأرض، وليس للآخر جروح.
قال ابن عباس: لما بلغ النبي صلى الله عليه وعلى آله هجاء الأعشى علقمة بن علاثه نهى أحداً من أصحابه أن يروي هجاءه أو يهجوه أحد منهم، قالوا: يا رسول الله، ما السبب؟ قال: إن أبا سفيان شعث مني عند قيصر فرد عليه علقمة وكذب أبا سفيان.
قال ابن عباس: قام شاب من الأنصار إلى عمر بن الخطاب رضي الله عنه فقال:
اذكر بلائي إذ فاجاك ذو سفه ... يوم السقيفة والصديق مشغول(9/192)
قال: وكان الفتى قد رد عن عمر قول سيفه من موالي الأنصار كلاماً أغلظ فيه لعمر فقال عمر رضي الله عنه: أنا ذاكر لبلائك، ثم قال بأعلى صوته: أدن مني، فدنا منه الشاب فأخذ بيده حتى استشرف الناس وقال: ألا إن هذا رد عني سفيها من قومه يوم السقيفة، ثم حمله على نجيب وزاد في عطائه وولاه صدقة قومه، وقرأ عمر: " هل جزاء الإحسان إلا الإحسان " الرحمن: 60.
عرض رجل لسعيد بن العاص وهو أمير الكوفة فقال: أيد الله الأمير، يدي عندك بيضاء، قال: وما هي؟ قال كبت بك دابتك فيما بين الحيرة والكوفة، وقد تقدمت غلمانك، فهويت إليك فجذبت بضبعك، وهززتك مراراً، ثم سقيتك ماء، ثم دنوت من ركابك فأخذته حتى ركبت، قال: فأين كنت عني من ذاك؟ قال: حجبت عنك، قال: قد أمرنا لك بمائتي ألف درهم وما يملكه الحاجب تأديباً له إذ حجب مثلك وهذه وسيلتك؛ فإذا ما يملك الحاجب أضعاف ما أعطاه.
كاتب: عرضت عليك مودتي فأعرضت عني، وأعرض غيري عنك فتعرضت له، فالله المستعان على فوت ما أملته لديك، وبه التعزي عما أصبته منك.
قال الكسائي: سمعت أعرابية من بني أسد، وقد كانت عمرت، ونظرت إلى نساء في هوادج، ورجالهن يطردون بهن، وقد تركت(9/193)
العجوز وهم يريدون نجعة، فقالت: من أمسى والله في مثل حالي فقد هلك، ومن كان مثل هؤلاء فقد ملك، فقال لها رجال الحي: ما ملكن؟ قالت: ملكن والله عرانين كريمة، من قبائل شريفة، تعني أزواجهن.
قال الأصمعي، قال عيسى بن عمر: كنت بالبادية فتضيفت امرأة فدخلت الخباء فجعلت ترقق زوجها عن قرى ويريغها، فسمعتها تقول: أنا ابنة الأقيل، المعم المخول، فإن كنت تجهلني فسل؛ وسمعت الزوج يقول: أنا ابن بلال، الكريم العم والخال. ثم أتتني بقرص مثل فرسن البكر البكر فأكلته.
كاتب: قد رأيتك لحقي غامطاً، وللسانك علي باسطاً وأنشد:
إذا أنكرت أحوال الصديق ... فلست من التحير في مضيق
طريقاً كنت تسلكه زماناً ... فأسبغ فاجتنبه إلى طريق
آخر:
من يحمد الصبر وأسبابه ... فلست بالحامد للصبر
فكم ساقني الصبر من جرعة ... أمر في الطعم من الصبر(9/194)
أنشد أحمد بن الطيب لأبي الخطاب الطائي:
قالوا تعشقتها سمراء قلت لهم ... لون الغوالي ولن المسك والعود
إني امرؤ ليس شأن البيض مرتفعاً ... عندي ولو خلت الدنيا من السود
آخر:
ألم تر أن المسك قدر حفينة ... بمال وأن الملح حمل بدرهم
قال أبو يوسف القاضي لابن نهيك: ما تقول في السواد؟ قال: النور في السواد، يعني: نور العين في سوادها.
نظر ابن أبي عتيق إلى جارية سوداء حالكة فقال: لو اقتسمتها الغواني خيلاناً لحظين بها.
شاعر يهجو فتى من بني هاشم:
أما أبو فهو من هاشم ... وأمه ذات حر عبل
مقرفة حصنها منجب ... فضاع فيها كرم الفحل
أنشد أحمد بن الطيب:
وما الناس إلا خادع ومخدع ... وصاحب إسهاب وآخر كاذب
كان أبو بكر الأصم وهشام بن الحكم صاحب الإمامية والتشبيه(9/195)
يقولان في المسخ بالقلب ويقولان: جائز أن يقلب الله خردلة في عظم جبل من غير أن يزيد فيها جسماً أو عرضاً، أو ينقص منها جسماً أو عرضاً، والأجسام هي الأشياء ذات الطول والعرض والعمق، والأعراض صفاتها التي لا توجد إلا فيها ولو فارقتها لم تقم بأنفسها.
قال أحمد بن الطيب: وأما أنا فأقول: إن الله يمتحن بما شاء من شاء، كيف شاء، ومتى شاء، أين شاء، وليس لنا أن نقترح في شيء من محنة الزمان ولا المكان، ولا الممتحن، ولا صورة الممتحن، لأنه العالم بمصالحنا، القادر على تصريف أحوالنا، الذي يرفع بعضنا فوق بعض ليتخذ بعضنا بعضاً سخرياً، فالممتحن بالعلم والتمكن غير الممتحن بالنقص والتوهين، وليس لأحد على الله حجة، تعالى عما يقول الظالمون علواً كبيراً.
وقال أبو العيناء، قال الأصمعي: دخل ابن سعية اليهودي على معاوية فأنشده:
ولكنما دهري رواق تحفه ... ثمانون ألفا من كمي ومعلم
يقودون قود الخيل أوتارها القنا ... إذا استمطروا جادت سماؤك بالدم
سأطلب مجداً ما حييت وسؤدداً ... بماء شبابي أو يولون مأتمي(9/196)
فقال معاوية: لمن هذا؟ قال لأبي، فقال: نحن أحق بهذا من أبيك.
قال أحمد بن الطيب: قال صاحب كتاب الأخلاق في الحيلة لتقبيح الغضب عند سريع الغضب: إن الغضبان خارج الصورة عن الاعتدال أما تراه جاحظ العينين، بادي العروق، دار الأوداج، مضطرب الأوصال، مشوه البنية، مختلف الحركة، مكدود النفس، حار المزاج، مضطرم الحرارة، مدخول الروية، عامر الفكرة، ظاهر العجز، جاهلاً بقدر الحق.
قال أحمد: وإن قال آخر في مقابلة القول في وصف المغضب وتحسين الغضب عنده: أما ترى هذه الحمية، أم ترى حسن الوفاء، أما ترى الليث العادي، كذا والله يحمي الذمار، ويأنف الأحرار، ولهذا قيل، النار ولا العار، هذه والله عين النائم إذا استيقظت الغطارفة الذادة، عين الساكن إذا تحركت القادة، هذا والله كما قال جرير: لا أبتدي ولكن أعتدي وكما قال ابن أم كلثوم:
ألا لا يجهلن أحد علينا ... فنجهل فوق جهل الجاهلينا
وكما قال الجعدي:
ولا خير في حلم إذا مل تكن له ... بوادر تحمي صفوة أن يكدرا
قال عبد الله بن صفوان: ما يسرني بملابسة الأمور حمر النعم، قيل له: ولم ذاك؟ قال: لأن الأمر إذا غشيك فشخصت له تركك، وإذا تطأطأت له تخطاك.(9/197)
وقال قيصر لقس: ما أفضل الحكمة؟ قال: معرفة الإنسان بقدره، قال: فما أكمل العقل؟ قال: وقوف الإنسان عند حلمه، قال: فما أوفر الحلم؟ قال: حلم الإنسان عند استماع شتمه، قال: فما أصوت المروءة. قال: استبقاء الإنسان ماء وجهه، قال: فما أكل المال؟ قال: ما أعطي الحق منه، قال: فما أحسن السخاء؟ قال: البذل قبل المسألة، قال: فما أنفع الأشياء؟ قال: تقوى الله وإخلاص العمل له، قال: فأي الملوك خيراً؟ قال: أقربهم من الحلم عند المقدرة، وأبعدهم من الجهل عند الغضب، ومن يرى أنه لايضبط ملكه إلا بالعدل بين رعيته.
قال بعض الحكماء: أفضل الحكماء من وهب له علم بلا وعي فاختار الصمت على الكلام إلا في موضعه.
وروى أن قساً دخل على هرقل ملك الروم أيضاً فقال: له أخبرني عما بلوت من الزمان وتصرفه، واختبرت من أخلاق أهله؟ قال: قد صحبنا الزمان فوجدناه صاحباً خواناً، ووجدنا الأنساب ليس بالآباء والأمهات ولكنها الأخلاق المحمودة، وفي ذلك أقول:
لقد حلبت الزمان أشطره ... ثم شربت الصريح من حلبي(9/198)
فلم أر الفضل والتشرف في ... قول الفتى إنني من العرب
حتى ترى سامياً إلى خلق ... يزيد محموده على الحسب
ما ينفع المرء في فهاهته ... من عقل جد مضى وعقل أب
ما المرء إلا ابن نفسه فبها ... يعرف عند التحصيل في النسب
حتى إذا الدهر غال مهجته ... الفيته تربة من الترب
قال أحمد: وقد قال قس هذا، وأنا لا أقول كما قال، بل أقول إذا كان الفتى في بيت شرف ولم يكن له في نفسه فضيلة، كان شرفه زائداً في نقصه، وإذا كان الفتى في بيت نقص وكانت له فضيلة في نفسه، كان نقص أبيه زائداً في شرفه، ولكن التام الكامل، والشريف الراجح، والأديب الشريف، كما قال الأول: وابن السري إذا سرى أسراهما ومذهب قس العامري الذي يقول:(9/199)
إني وإن كنت ابن سيد عامر ... وفارسها المتلاف في كل موكب
فما سودتني عامر عن وراثة ... أبى الله أن أسموا بأم ولا أب
ولكنني أحمي حماها وأتقي ... أذاها وأرمي من رماها بمقنب
وقال آخر:
وما الحسب الموروث لا در دره ... بمرتفع إلا بآخر مكتسب
إذا العود لم يثمر وإن كان شعبة ... من المثمرات اعتده الناس في الحطب
وللمجد قوم ساوروه بأنفس ... كرام ولم يعلوا بأم ولا بأب
دعا أعرابي على آهر فقال: لا رشد قائده، ولا سعد رائده، ولا أورى قادحه، ولا أذكى رائحة، ولا أصاب غيثاً، ولا وافق إلا ليثاً.
بعض الكلام ينسب إلى علي رضي الله عنه، وهو بالمنسوب إليه أشبه.
قال أعرابي: جهل يكفي خير من أدب يحوج، ونقص يمثر خير من علم يخدع.
قال أعرابي: من غره السراب، تقطعت به الأسباب.
وقال أعرابي: لكل قضاء جالب، ولكل در حالب.(9/200)
وقال أعرابي: عداوة ذي القرابة، كالنار في الغابة.
وقال أعرابي: لكل كلام وعاء، ولكل بذر مزرع.
وقال أعرابي: أي امرىء باشرته فلم ينتصح، وغلق سنيته فلم ينفتح.
وقال أعرابي: رب منع أكرم من عطاء، وشوك أمهد من وطاء.
وقال أعرابي: ليس كل طالب يصيب، ولا كل غائب يؤوب.
وقال أعرابي: إذا أوقدوا أشبوا، وإذا اصطنعوا أربوا.
وقال أعرابي: رحم الله فلاناً، كان يهتدي برأيه الصحب، ويستدل بناره الركب.
قال أحمد بن الطيب: وأنا أستحسن قول القائل: إن العزيز يزداد بالعفو عزاً، والذليل يزداد بالعفو ذلاً؛ وهذا شبيه بما يقوله جالينوس في طلاب الأدب وهو قوله: إن ابن الوضيع إذا كان أديباً كان نقص أبيه زائداً في فضله، وابن الشريف إذا كان غير أديب فشرف أبيه زائد في نقصه. والعلة في صحة هذا القول واضحة بينة، وذلك أن الشرف في الآباء دال على مكان(9/201)
الأبناء، فإذا دل الشرف على ناقص في نفسه كان الشرف سبباً لوقوف الناس على عيوبه.
وفي الباب الآخر أن الناس فيما أتى من غير معدنه في غير منبته أشد كلفاً، ومنه أشد تعجباً، إذ كانت الأسباب دونه منقطعة، وحباله من الفضل منفصمة، فليس يخلص ابن الناقص إلى الزيادة والتقديم بنفسه إلا بنفس قوية، وهمه بعيدة، وعناية شريفة، فلذلك شهد الناس بالتقديم لشريف لو كان أديباً، لأن الممكن أهون مطلباً من المتعذر، والسهل أسهل مراماً من الوعر، فتكلف الصعب صعب، وتكلف الصعب في طلب الجميل أفضل أمراً ممن أتاه الفضل عفواً، إلا السعيد الفاضل والمقدم الكامل الشريف الأديب.
للنظام:
لن يدرك المجد أقوام وإن كرموا ... حتى يذلوا وإن عزوا لأقوام
ويشتموا فترى الألوان كاسفة ... لا ذل ضعف ولكن ذل أحلام
وإن دعا الجار لبوا عند دعوته ... في النائبات بإسراج وإلجام
مستلئمين لهم عند الوغى زجل ... كأن أسيافهم أغرين بالهام
قال أعرابي: لايزال الوجه كريماً ما بقي حياؤه، والغصن نضيراً ما بقي لحاؤه.(9/202)
قال أعرابي: الوجه المصون بالحياء، كالجوهر المكنون في الوعاء.
قال أعرابي: رونق صفحة الوجه عند الحياء، كفرند صفحة السيف عند الجلاء.
قال أعربي: ما المتبختر في وشي ردائه، بأحسن من المتقارب في قيد حيائه.
قال أعرابي: اشحذ بالعدل على الطاعة قلوب الأوداء، كما ترهف السيف لمقارعة الأعداء.
أنشد أحمد بن الطيب:
ولا تعجل على أحد بظلم ... فإن الظلم مرتعه وخيم
ولا تفحش وإن ملئت غيظاً ... على أحد فإن الفحش لوم
ولا تقطع أخاك لأجل ذنب ... فإن الذنب يغفره الكريم
وما قتل السفاهة مثل حلم ... يعود به على الجهل الحليم
إذا استودعت سراً فاكتمنه ... فخير زوامل السر الكتوم
قال أعرابي: فوت المعروف أيسر من مراس التسويف.
سمع أعرابي كلاماً فقال: هذا كلام لم يغتصب تعسفاً، ولم يقتضب تكلفاً.
قال أعرابي: الاستطالة عند النعمة طبع، وعند النكبة ضرع.(9/203)
قال أعرابي: أنا أستغني بحفي لحظك عن جفي لفظك.
ذكر القدر في مجلس عمر بن عبد العزيز فقال من حضرة: فأعلمنا رأيك فيه، فقال: كما أن بوادي الخير من الله، فكذلك بوادي الشر منه، وقد سبق به علمه.
قدم البصرة أمية بن عبد الله بن خالد بن أسيد منهزماً من أبي فديك الحروري، فهاب وجوه أهلها تلقيه وقالوا: ما عسى أن نقول: الحمد لله الذي هزمك، أو الحمد لله الذي نجاك؟ ثم بلغهم أن خالد بن صفوان خرج يتلقاه، فخرجوا إليه ليشهدوا فضيحته، بزعمهم، وقالوا: ما تراه يقول له؟ فلما طلع قال له خالد: بارك الله لك أيها الأمير في مقدمك، والحمد لله الذي نظر لنا عليك، ولم ينظر لك علينا، فقد تعرضت للشهادة جهدك بخذلان من معك لك، فعلم الله فاقتنا إليك. فرجعوا وهم يقولون: لا يعييه كلام بعد هذا.
قال أعرابي: هو كالسيف إن مسست متنه كنت راضياً، وإن لمست حده كان ماضياً.
قال أعرابي: لكل توبة غرس، ولكل بناء أس، وعند كل مأتم عرس.(9/204)
قال أعرابي لصاحب له: استظهر على الدهر بخفة الظهر.
قال أعرابي: زلة الجبان في التقصير، وزلة الشجاع في التغرير، وزلة البخيل في التقتير، وزلة السخي في التبذير.
قال أعرابي: هجين عاقل خير من هجان جاهل.
قال أعرابي: لا تبذل رفدك لمن لا يعرف حقك.
قال أعرابي: رب نطق صدع جمعاً، وسكوت شعب صدعاً.
قال أعرابي: رب حافظ مضيع.
قال أعرابي: هذا غنىً إلا أنه منىً وقال آخر: هذا غناء لولا أنه فناء، وعلاء لولا أنه بلاء، وبقاء لولا أنه شقاء.
قال أعرابي في كلام له: رملة حضنتني أحشاؤها، وأرضعتني أحساؤها.(9/205)
قال أعرابي لصاحب له: قطعت أوصالي إذ صرمت وصالي.
وقال آخر: الجهل أخصب رحلاً، والأدب أكثر محلاً.
وقال آخر: ثوب السفيه قمل، وقلب الجاهل نغل.
وقال آخر: الدنيا منزل نقلة، ومحل مثلة.
وقال آخر: أما فلان فركوب للأهوال، وأما فلان فألوف للظلال.
لدعبل الخزاعي:
إذا غزونا فمغزانا بأنقرة ... وأهل سلمى بسيف البحر من جرت
هيهات هيهات بين المنزلين لقد ... أنضيت شوقي وقد أبعدت ملتفتي
جلت محلا بقطر الأرض منتبذاً ... تقصر الريح عنه كلما جرت
فما ينال بها الهيمان مورده ... إلا بنص وجذب العيس بالبرة
أحببت أهلي ولم أظلم بحبهم ... قالوا تعصبت جهلاً، قول ذي بهت
أحمي حماهم وأرمي في معارضهم ... وأستقلهم إذا ما رجلهم هوت
لهم لساني بتقريظي وممتدحي ... نعم، وقلبي وما تحويه مقدرتي(9/206)
دعني أصل رحمي إن كنت قاطعها ... لابد للرحم الدنيا من الصلة
لولا العشائر ما رجيت عارفة ... ولا لحقت على الأيام من ترة
فاحفظ عشيرتك الأذنين إن لهم ... حقا يفرق بين الزوج والمرة
قومي بنو حمير والأسد أسرتهم ... وآل كندة والأحياء من علة
ثبت الحلوم فإن سلت حفائظهم ... سلو السيوف فأردوا كل ذي عنت
هم أثبت الناس أقداماً إذا بغتوا ... وقل ما تثبت الأقدام في البغت
كم نفسوا كرب مكروب وكم صبروا ... على الشدائد من لأواء فانجلت
كم عين ذي حول فقأت ناظرها ... وكم قطعت لأهل الغل من حمة
كم من عدو تحاماني وقد نشبت ... فيه المخالب يعدو عدو منفلت
لو عاش كبشا تميم ثمت استمعا ... شعري لماتا ومات الوغد ذو الرمة
وصار بالعدوة القصوى يؤرقه ... خوفي فبات وجاش القلب لم يبت
تقدمته بنات القلب طائرة ... خوفاً لضغم أبي شبلين منهرت
كالليث لو أزم الليث الهصور به ... ما غض طرفاً ولم يجزع ولم يصت
نفسي تنافسني في كل مكرمة ... إلى المعالي ولو خالفتها أبت
كم قد وطئت على أحشاء متعبة ... للنفس كانت طريق اللين والدعة
وكم زحمت طريق الموت معترضاً ... بالسيف صلتا فأداني إلى السعة
والجود يعلم أني منذ عاهدني ... ما خنته وقت ميسوري ومعسرتي
والضيف يعلم أني حين يطرقني ... ماضي الجنان على كفي ومقدرتي
أهوى هواه ويهوى ما أسر به ... ينال ما يشتهي والنفس ما اشتهت
ما يرحل الضيف عني غب ليلته ... إلا بزاد وتشييع ومعذرة
قال العواذل أودى المال قلت لهم ... ما بين أجر ألقاه ومحمدة(9/207)
أفسدت مالك، قلت المال يفسدني ... إذا بخلت به والجود مصلحتي
أرزاق ربي لأقوام يقدرها ... من حيث شاء فيجريهن في هبتي
فليشكروا الله ما شكري بزائدهم ... وليحمدوه فإن الحمد ذو مقة
لا تعرضن بمزح لامرء سفه ... ما راضه قلبه أجراه في الشفة
فرب قافية بالمزح جارية ... مشبوبة لم ترد إنماءها نمت
رد السلى مستتماً بعد قطعته ... كرد قافية من بعدما مضت
إني إذا قلت بيتاً مات قائلة ... ومن يقال له والبيت لم يمت
قال بعض شيوخ الطب: الطب ينقسم قسمين وهما: العلم، والعمل؛ قال: والعلم ثلاثة: علم الطبائع، وعلم الأسباب، وعلم العلامات.
وعلم الطبائع سبعة أقسام: على الأسطقسات، وعلم المزاج، وعلم الأخلاط، وعلم الأعضاء، وعلم القوى، وعلم الأفعال، وعلم الأرواح.
قال: والأسباب ثلاثة: البادية والسابقة والواصلة.
والعلامات ثلاث: الحاضرة والسالفة والآتية.
والاسطقسات أربعة: النار والهواء والماء والأرض؛ قال: والنار حارة يابسة، والهواء حار رطب، والماء بارد رطب، والأرض باردة يابسة.
والمزاج تسعة: واحد معتدل وثمانية غير معتدلة، وهذه الثمانية أربعة مفردة، وهي الحار والبارد والرطب واليابس، وأربعة مركبة وهي: الحار(9/208)
اليابس، والحار الرطب، والبارد اليابس، والبارد الرطب.
والأخلاط أربعة: الدم والمرة الصفراء، والسوداء والبلغم؛ فالدم حار رطب، والمرة الصفراء حارة يابسة، والبلغم بارد رطب، والمرة السوداء باردة يابسة.
والأعضاء قسمان: بسيط ومركب؛ فالبسيط كالعظم والعصب والعروق، والمركب كالرأس واليدين والرجلين. ومن الأعضاء أعضاء رئيسة، وأعضاء مرؤوسة، وأعضاء ليست برئيسة ولا مرؤوسة؛ فالرئيسة أربعة: الدماغ والقلب والكبد والأنثيان؛ والمرؤوسة ما يخدم هذه الرئيسة، وذلك أن الدماغ يخدمه العصب، والقلب يخدمه الشرايين، والكبد يخدمه العروق، والانثيان يخدمهما أوعية المني؛ وما ليس برئيس ولا خادم كالعظام والغضاريف والشحم واللحم والأعضاء التي لها قوى رئيسة كالمعدة والكلى.
والقوى ثلاث: طبيعية ومسكنها الكبد، والقوى الطبيعية سبع: القوة الجاذبة، والقوة الممسكة، والقوة الهاضمة، والقوة المغيرة، والقوة الدافعة، والقوة المولدة، والقوة الغاذية؛ والقوى النفسانية ثلاث: القوة المحسنة، والقوة المدبرة، والقوة المحركة. فأما القوى المحسنة فهي الحواس الخمس: السمع والبصر والشم والمذاق واللمس؛ والقوى المدبرة ثلاث: الفكر، والوهم، والحفظ؛ والوهم في مقدم الدماغ، والفكر في وسطه، والحفظ في آخره؛ والقوة المحركة واحدة، وهي التي تكون عنها الحركة الإرادية، والانتقال من مكان إلى مكان.
والأفعال صنفان: أحدهما بسيط والآخر مركب؛ فالبسيط ما يكون من قوة واحدة كالجذب والإمساك؛ والمركب ما يكون بقوتين كالشهوة، فإنها تتم بقوتين: إحداهما جاذبة، والأخرى ممسكة، وكنفوذ الغذاء فإنه يتم بالقوة الجاذبة والدافعة.
والأرواح ثلاث: الروح الطبيعية التي تكون في الكبد، وتنفذ القوة(9/209)
الطبيعية مع الغذاء في العروق إلى جميع الأعضاء؛ والثانية: الروح النفسانية التي تكون في الدماغ؛ والثالثة من الأرواح وأهمها التي تنفذ الحس والحركة في العصب إلى جميع الأعضاء.
فهذه أقسام الجزء الأول من قسمي الطب وهو العلم، وسيأتي على أثره بعد قسم العمل كلام رائق، وحكمة معشوقة، ولفظ مطرب، وبلاغة شريفة. وقد يقول العائب: أطلت هذا الفصل في الطب حتى كأن الكتاب نصب لهذا الغرض، أو أريد به هذا الباب؛ واعلم أن الأمر ليس كذلك، ولكن عن هذا الفصل ودل على حسن ونفع، فوجب في الرأي أن يصحب جميع الغرر التي تقدمته ليكون الكتاب آخذاً من كل أدب بنصيب.
سمعت الأنصاري يقول: إن الله تعالى جعل على كل كلمة حكمة، وعلى كل قول دليلاً وحجة، ومع كل دعوى برهاناً وبينة، وعند كل شبهة وقفة ومهلة، وفي كل نازلة نصاً أو علة، ولم يسقط شيئاً عن مرتبة البيان، كما لم يرفع أحداً مرتبة التبيين، فمن أحب أن يظفر بالحق فليطمع نفسه فيه، مع التجرد في الطلب، والتحقق بالغرض، ومفارقة العادة وما عليه المنشأ، ولا يأنس بتقليد العالم حتى يتبين كما يتبين العالم، ولا يستوحش من وحدته إذا عرف المطلوب من نفسه بكمال عقله مع وضوح حجته.
ويقال: ما الأسودان، والأبيضان، والأسوءان،(9/210)
والأعجمان، والأذفران، والأربدان، والأنقصان، والأشهران، والأبخلان، والأكذبان، والأدفعان، والأوحيان، والأوقفان، والأعوران، والأنكدان، والأعذبان، والأقطعان، والأمنعان، والأقويان، والأنفسان، والأعليان، والأشبهان، والأشرفان، والأغرران، والأشنبان، والأهينان؟ وسيمر بك تفسير هذه المثاني مستقصى بعد أوراق يسيرة.
قال يحيى بن نصر: سمعت أبا حنيفة يقول: احتجت إلى ماء في البادية فجاء أعرابي ومعه قربة ماء ملأى فقلت: بكم تبيع؟ فقال: بخمسة، فما كسته فأبى النقصان، فدفعت الثمن إليه قم قلت: يا أعرابي هل لك في سويق طيب؟ قال: إي ورب الكعبة، فقدمته إليه في حفنة، فلما استوفى منه قال: اسقني شربة، قلت: والله لا شربتها إلا بخمسة، فما زال كذلك حتى اشترى مني شربة بخمسة، ففضل الماء عندي، وعادت الدراهم.
كان أبو سيف القاضي راكباً وغلامه يعدو وراءه، فقال له رجل: أتستحيل أن تعدي غلامك؟ لم لا تركبه؟ قال: أيجوز عندك أن أسلم غلامي مكارياً؟ قال: نعم، قال: فيعدو معي كما يعدو مع الحمار لو كان مكارياً.
قيل لربيعة بن أبي عبد الرحمن: ما رأس الزهادة؟ قال: جمع الأشياء من حلها ووضعها في مواضعها.
قال الأصمعي: دخلت البادية فرأيت أعرابية من أحسن الناس وجهاً تحت أقبح الناس وجهاً فقلت: يا هذه، أترضين أن تكوني تحت هذا؟(9/211)
قالت: يا هذا، لبئس ما قلت، لعله أحسن فيما بينه وبين الله ربه فجعلني ثوابه، وأسأت فيما بيني وبين ربي فجعله عقوبتي، أفلا أرضى بما رضي الله تعالى لي؟ قال: فأسكتتني والله.
قال أبو حنيفة: إذا جاء عن النبي صلى الله عليه وعلى آله شيء أخذناه، وإذا جاء عن الصحابة تخيرنا، وإذا جاء عن التابعين زاحمناهم.
قال أبو معاذ: أهل الكوفة صاروا موالي لأبي حنيفة لأن الضحاك الحروري دخل الكوفة عنوة فجلس في الجامع فحكم بقتل الرجال وسبي الذراري، فخرج أبو حنيفة إليه بقميص ورداء فقال: أريد أن أكلمك بكلمة، قال: هات، قال: لأي شيء استحللت دخول هذه البلدة وترويع النساء والصبيان؟ قال: لأن القوم مرتدون، فقال أبو حنيفة: لم يزل كان هذا دينهم، أو كانوا على غير هذا؟ فقال: كيف قلت؟ أعد علي، فأعاد، فقال الضحاك: أخطأنا، أخطأنا، أغمدوا سيوفكم وارجعوا.
قال خارجة بن مصعب: دعا أبو جعفر أبا حنيفة إلى القضاء(9/212)
فأبى فحبسه، ثم دعا به فقال له: أترغب عما نحن فيه؟ فقال: أصلح الله أمير المؤمنين، لا أصلح للقضاء، فقال: كذبت، فقال أبو حنيفة: قد حكم علي أمير المؤمنين بأني لا أصلح لأنه نسبني إلى الكذب، فإن كنت كاذباً فإني لا أصلح، وإن كنتُ صادقاً فقد قلت: إني لا أصلح، فرده إلى الحبس.
قال أبو يحيى الحماني: رأيت نجماً سقط فقيل: هذا أبو حنيفة، ثم سقط آخر فقيل: هذا سفيان، ثم سقط آخر فقيل: هذا مسعر، فمات أبو حنيفة ثم سفيان ثم مسعر.
قال عبد الله بن داود: كتب رجل كتاباً على لسان أبي حنيفة إلى والي جرجان فوصله بأربعة آلاف درهم، فقيل لأبي حنيفة فقال: إن كان ذاك مما ينفعكم فافعلوا.
كان أبو حنيفة يقول: ما صليت صلاة إلا وأنا أستغفر الله من تركي الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر.
وكان أبو حنيفة يقول: ابن أبي ليلى استحل مني ما لا أستحل من سنور.(9/213)
أسلم أبو حنيفة ابنه حماداً إلى المعلم فعلمه الحمد فوصله بخمسمائة درهم، فقال المعلم: إن هذا عظيم، فقال أبو حنيفة: يا هذا، ليس للقرآن عندك قدر؟! قال يزيد بن هارون: أدركت الناس فما رأيت أفضل ولا أعقل ولا أورع من أبي حنيفة.
قال محمد بن الحسن: قام أبو حنيفة ليلة بهذه الآية: " بل الساعة موعدهم والساعة أدهى وأمر " القمر: 46.
قال فيلسوف للإسكندر: أيها الملك، إني مررت بمصور فقلت: إنك قد أكثرت حلي هذه الجارية، فقال: نعم لم يمكني أن أجعلها حسنة فجعلتها غنية.
قال فيلسوف: الجمال الظاهر الحسن يقدر المصور أن يحكيه بالأصباغ، فأما الجمال الذي للأنفس فلا يمكن، لأنه للإنسان بالطبع.
قال الحسن بن وهب في مجلسه: لو ساعدنا الزمان لجاءت بنات - كذا كان اسمها، جمع بنت، وكانت جارية كاتب راشد - فما تكلم حتى دخلت فقال: ما أحسن ما قال في هذا ابن أبي أمية:(9/214)
وفاجأتني والطرف نحوك شاخص ... وذكرك ما بين اللسان إلى القلب
فيا فرحة جاءت على إثر ترحة ... ويا غفلتي عنها وقد نزلت قربي
هذه رسالة أفادنيها أبو سليمان وزعم أنها لأرسطاطاليسن وقرأها بعض مشايخ الفلسفة فقال: هي من كلام بعض الملوك، ولا أقف منها على أكثر مما حكيت، ولولا جلالتها في نفسها ما سقتها ها هنا، قال:
أما بعد، فإن حقاً على المرء أن ينظر إلى محاسن الناس ومساوئهم، وموقعها منهم في منافعها ومضارها، فيلتمس المنافع لنفسه من مثل ما نفعهم، وينفي المضار عنها من مثل ما ضرهم، فيوظف للأمور وظائفها ويجعل بين طبقاتها حدوداً يزايل بينها، ثم يأخذ نفسه بتأديبها في إحياء علم ما يعلم من الأمور بالعمل، واستجلاب علم ما جهل منها بالتعليم، ثم لا يكون تأديبه لنفسه في غير وقت واحد ولا معلوم، فإنه واجد في كل حين من أحايين الدهر، وطبقة من طبقاته التي هو راكبها في كل حال من حالات نفسه التي تتحرك من ضروب النصب واللهو موضع تأديب وتقويم لها حتى لا يكون لأهل طبقة من الطبقات، رفيعة كانت أو وضيعة، عليه في طبقته التي يشاركهن فيها فضل، فإن امرءاً لا يلتمس أن يكون له فضل على طبقة من الطبقات إلا دعاه فضله(9/215)
عليهم إلى الرغبة عنهم حتى يترقى في منزلته إلى مشاركة أهل المنزلة التي فوق منزلته، كأن طلب الراحة يذهب بالراحة ويورث النصب، وترك التأديب ضرر، وذو الضرر نصب عليل فقير، فمنهاج التأديب تيقظ المرء لطلب الأدب، ثم لا يمنعك عصيان النفس من إدامة تيقظها، فإن الحاجة إليها مع حبها للراحة سيحملها على طلب الراحة ببعض الطاعة، فإذا همت النفس ببعض الإجابة كان أول ما تؤخذ به إعطاء الدين حقه وإشعار النفس حظها، ثم الاستكثار من فوائد الإخوان، فإن كثرتهم تقيل العثرة، وتنشر المحمدة، وتعهد الإخوان بالملاطفة، فإن التارك متروك، ثم تعهد إخوان الإخوان، فإن إخوان الإخوان من الإخوان بمنزلة العلم المستدل به على الوفاء، ثم تعهد أهل المكاثرة المشبهين بالإخوان بالصبر عليهم، إما طمعا في تحويل ذلك عنهم صدقاً، وإما اتقاء كلمة فاجرة أتت من لفظ مائق، ثم تعهد الضعفاء على المسكنة وأهل الزمانة عند الضعف، والعقب عند الموت، ثم حسن التعاطي إن كان لك فضل بإسقاط المنة وإحراز الفضل، والسخط على نفسك في التقصير، ثم تعهد الملوك بالتقريظ والملازمة، فإن همتها في أنفسها الامتداح، وفي الناس الاستعباد، ثم تعهد النصحاء بالخلوة، فإن نصيبهم منك واستفادتك منهم في الخلوة، ثم تعهد الصلحاء بالمصافاة لتعرف بالخير وتتسم به، ثم تعهد الأكفاء بالمكارم فإنها تحسن العمل وتثمر الإخاء، ثم تعهد الحامد بتفتيش(9/216)
الدخلة، ثم تعهد ضعفاء ذوي الرحم بالرحمة وأقويائهم بالتعليم، ثم تعهد الأعداء ذوي التنصل بالمغفرة، وذوي الاعتراف بالرأفة والرحمة، ثم تعهد الحساد بالمغايظة، وأهل البغي بالعزيمة، وأهل المشاتمة بالمحقرة، وأهل المواثبة بالوقار في الأمر في الشبهات بالكف، والمجهولات بالإرجاء، والواضحات بالعزيمة، والمستترات بالبحث، ثم إحياء العذر عند المداهنة، والتجميل عند الغيظ، والكظم عند الغضب، والوقار عند المستجهلات، ثم تعهد الجار بالرفق، والقرين بالمواساة، والصاحب بالمطاوعة، والزائر بالتحفة، ثم صحبة الملوك بكتمان السر، وتقريظ الأفعال، ثم قس بين خيار إخوانك وشرارهم، ثم انظر أي الفريقين تستجمع لك به مودتهم، فإن تشبهك بخيارهم يزيدك عند شرارهم نفاقاً، والسلام.
قال أعرابي في وصف قوم: ألحاظهم سهام، وألفاظهم سمام.
قال أعرابي: لاتنظر إلى صغر جرمه، وانظر إلى عظيم جرمه.
وقال آخر: قد يكدي الجاد ويكل الحاد قال أعرابي في وصف كلام: قد رعى الشيح، واستنشق تلك الريح.
قال أعرابي: من شاخ باخ.(9/217)
قال أعرابي: علم الكلام في وجهه يلوح، ونشر الجود من ثوبه يفوح، والمجد يغدو معه ويروح.
وقال أعرابي: من كره النطاح، لم ينل النجاح.
آخر: الصبر مر، لا يتجرعه إلا حر.
قال ثعلب في المجالسات: أشرف عبد الملك على أصحابه وهم يذكرون سيرة عمر رضي الله عنه، فغاظه ذلك فقال: حسبكم من ذكر عمر فإنه إزراء بالولاة، ومفسدة للرعية.
قال ثعلب، قال ابن عائشة: قال قنيع النصري يهجو موسى ابن عمرو بن سعيد بن العاص:
كل بني العاصي حمدت عطاءهم ... وإني لموسى في العطاء للائم
وليس بمعط نائلاً وهو قاعد ... وحسبك من بخل امرئ وهو قائم
فإن يك من قوم كرام فإنه ... ذنابى أبت أن تستوي والقوادم
قال ثعلب، قال السدي: أتيت كربلاء أبيع البز بها، فعمل لنا شيخ من طيء طعاماً فتعشينا عنده، فذكرنا قتل الحسين بن علي رضي الله(9/218)
عنهما، فقلنا: ما شرك أحد في قتله إلا مات بأسوأ ميتة، فقال: ما أكذبكم يا أهل العراق قال أنا ممن شرك في ذلك، فلم يبرح حتى دنا من المصباح وهو يتقد بفنط، فذهب ليخرج الفتيلة فأخذت النار في لحيته، فعدا وألقى نفسه في الماء، فرايته كالحممة من ساعته، لا رحمه الله.
قال ثعلب: فلج الرجل على خصمه يفلج فلجاً وفلوجاً.
قال ثعلب: نزلت بسحسحه، وعقوته، وعرصته، وعذرته، وعقاته، وعقاره، وعراقه وعيقته، وعراته، وعراه، وعرقانه، وحراه، ليس فيها شيء مهموز الألف.
قال ثعلب: سمع هشام بن عبد الملك زيد بن علي يقول: ما أحب أحد الحياة إلا ذل، قال: فخامة منذ سمع ذلك منه.
كان الحسين بن زيد يلقب ذا الدمعة وذلك لكثرة بكائه، فقيل له في ذلك فقال: وهل تركت النار والسهمان لي مضحكاً؟ يريد السهمين اللذين أصابا زيد بن علي ويحيى بن زيد بخراسان.(9/219)
قال ثعلب: هو يتحوف مالي، أي يأخذ من أطرافه.
ويقال: ما في السماء طخاء وطحاء: هو الرقيق من الغيم.
قال أبو عبيدة: مخسول: مرذول؛ ويقال: حبج إذا ضرط؛ ويقال: احتمس الديكان واحتمشا إذا اقتتلا؛ ويقال: حمس الشر وحمش إذا اشتد؛ ويقال: جاحس في القتال وجاحش.
عن الأصمعي: وتنسمت منه علماً وتنشمت أي أخذت وأتيته بسدفة من الليل وشدفة، وهو السدف والشدف.
ويقال: رجل غديان وعشيان وصبحان وقيلان وغبقان، من الصبوح والقيل والغبوق.
قال ثعلب: قال معاوية لعتبة يوم الحكمين: يا أخي، أما ترى ابن عباس قد فتح عينيه ونشر أذنيه، ولو قدر أن يتكلم بهما فعل؟ وغفلة أصحابه مجبورة بيقظته، وهو رجلهم، وهي ساعتنا الطولى، فاكفنيه؛ قال: قلت: بجهدي؛ قال: فقعدت بجنبه، فلما أخذ القوم في الكلام أقبلت عليه(9/220)
بالحديث، فقرع يدي وقال: ليست ساعة حديث، فأظهرت غضباً وقلت: يا ابن عباس، إن ثقتك بأحلامنا أسرعت بك إلى أعراضنا، وقد والله تقدم فيك العذر، وكثير من الصبر، قم أوزعته؛ فجاش به مرجله حتى ارتفعت أصواتنا، فأخذوا بأيدينا فنحوني عنه ونحوه عني؛ قال: فأتيت عمرو بن العاص فرماني بمؤخر عينه، أي ما صنعت؟ فقلت: كفيتك التقوالة، فحمحم كما تحمحم الفرس للشعير، وفات ابن عباس أول الكلام فكره أن يتكلم به في آخره.
قال ثعلب: مر رجل بأعرابية بالمناخ بالكوفة تمرض أخاً لها في شدة أصابتهم، ثم راح بالعشي فسأل عنه فقيل: دفناه، وإذا هي تأكل سويقاً معها قد خلطته باللبن، فقال لها الرجل: ما أسرع ما نسيت أخاك وأكلت، فقالت:
على كل حال يأكل المرء زاده ... على البؤس والضراء والحدثان
أنشد ثعلب:(9/221)
ألا ذهب الشهاب المستنير ... ومدرهنا الكمي إذا نغير
ووهاب المئين إذا ألمت ... بنا الحدثان والأنق الصبور
ذهب إلى أن الحدثان والحوادث واحد.
قال: الحمولة: الإبل الكبار، والفرش: الصغار؛ وسمعت أبا حامد يقول: عيب على أبي علي الجبائي في كتابه في التفسير حين ذهب في الفرش إلى ما يفرش؛ وسمعت بعد من يقول: الكسائي قال ذلك، والناس على أن الفرش الصغار من الإبل.
قال ثعلب: قالت امرأة في ابنها:
ظني به له لو قد جثوا على الركب ... وابتدروا الحرب بحد وغضب
أن سوف يلفى إربة من الإرب الإربة: الداهية.
قال ثعلب: وقالت أخرى في ابنها:
لو ظمئ القوم فقالوا من فتى ... يحلف لا يردعه خوف الردى(9/222)
فبعثوا سعداً إلى الماء سدى ... في ليلة بيانها مثل العمى
بغير دلو ورشاء لأستقى ... أمرد يهدي رأيه رأي اللحى
وقال ثعلب: الخبيئة ما خبأته، والبينة ما جعلته بين يديك وقال في قوله تعالى: " ولا تقولوا لما تصف ألسنتكم الكذب " النحل: 116، رده على الألسنة والكذب رد على ما قاله.
للحارث بن خالد:
لعمري لئن لم يجمع الله بيننا ... بما شاء لا نزداد إلا تماديا
أعد الليالي مذ نأيت ولم أكن ... بما نلت من عيشي أعد اللياليا
أخاف انقطاع العيش دون لقائكم ... بأرض ولو منيت نفسي الأمانيا
إذا ما بكى ذو الشجو أصغيت نحوه ... وآسيته بالشجو ما دام باكيا
قال أعرابي وقد سئل عن رجل فقال: إن ملك عسف، وإن أنفق أسف، وإن حدث جزف، وإن صافيته تكبر، وإن أظهرت له النصح أنكر، النظر إليه غيظ، والصبر عليه غصة، والفكر فيه حيرة، والقرب منه معرة.(9/223)
قال العتبي: خرج النعمان بن المنذر متنزهاً إلى بادية له، فدعا بطعامه، فأقبل أعرابي يمشي مشي النعامة حتى قعد على السفرة، فجعل يلف العظم باللحم والقوم ينظرون إليه، فقال: لا ينظر إلينا من يشبع، فإن الجائع كالجشع، فقال: النعمان: ما اسمك؟ قال: أبيت اللعن، نعامة، قال: وأي اسم نعامة؟ قال: أبيت اللعن، إن الاسم علامة وليس بكرامة، ولو كان ذلك كذلك لاشترك الناس في اسم واحد.
قيل لعيسى بن مريم عليه السلام: ألا تتزوج؟ قال: وما أصنع بزوجة تموت؟ قيل: أفلا تنبي؟ قال على طريق السبيل أبني.
لما زوج شبيب بن شبية ابنه قصده الناس وقالوا: اليوم يهب هبوبه، فما زاد على أن حمد الله تعالى وأثنى عليه وقال: أما بعد، فإن المعرفة منا ومنكم وبنا وبكم تمنعنا من الإكثار، وإن فلاناً ذكر فلانة.
قال العتبي: قدم أبو علاثة على طلحة بن عبد الله بن خلف وهو صاحب سجستان، فقال: أرثيت أبي؟ قال: نعم، وأنشده:
ألم يأت فتيان السماحة أنني ... عقرت على قبر الجواد جوادي
فما زاد شيئاً عقره إذ عقرته ... سوى أنني منه شفيت فؤادي(9/224)
قال: أو فعلت ذلك؟ قال: لا، قال: ولم؟ قال: كان أعجف، قال: لو فعلت لأعطيتك عطية لم يأخذها شاعر قط، ولكن لا أخيبك، فأعطاه اثني عشر ألفاً.
كاتب: أنا في ثوب المسرة أرفل، ونجم الوحشة مني آفل.
قال المأمون لطاهر: صف لي عبد الله ابنك؟ قال: إن مدحته هجوته، وإن هجوته ظلمته، ولد الناس ابناً وولدت والدت، يحسن ما أحسن ولا أحسن ما يحسن.
قال العتبي: طلب ابن عم لي الولد بعد نيف وتسعين سنة، فقلت له في ذلك فقال: سبقته باليتم قبل أن يسبقني بالعقوق.
قال النبي صلى الله عليه وعلى آله لرجل، ورأى معه صبياً: من هذا؟ قال: ابني، قال: أمتعك الله به، أما إني لو قلت لك: بارك الله لك فيه قدمته.
قال ابن الأعرابي: بنات الليل أهواله، والصبر عليه وعلى سراه وشدة الطلب فيه.(9/225)
قال المأمون: لم أر أشجى من مرتجز بحدو، ومرتجل يشدو.
نظر بعض السلف إلى رجل يسب آخر في كلام جرى بينهما فقال: يا هذا تملي على حافظيك كتاباً، فانظر ما تقول.
هذا آخر الجزء التاسع وسنتبعه بالعاشر على ما يعز ويهون، وعلى الله تعالى المعونة فيما أوجب المنة، ونفى الظنة، فقد والله برمت بهذا الكتاب لسوء التأتي في النقل، وقلة الإصابة عند الرواية؛ نعم، ولحال قد وقفت على مدرجة الناس، بين قوم إن بسطت حديثهم، وذكرت خبيثهم، وما يضمرونه ويظهرونه من سوء النيات، وخبث الطويات، والمطالبة لأهل الفضل بالأوتار، وصدودهم عن الأحرار، كنت مجانياً للأدب المرضي، والعادة الحسنة، وإنما أقول هذا لأني قد عدمت من أهل زماني رئيساً يرغب في المكارم، ويتشوف إلى المحامد، ويرى اصطناع الجميل كنزاً، والإحسان إلى الأحرار ذخراً، ويتبجح بالكرم، ويباهي بالمعروف، ويأخذ بالفضل الذي هو به أشكل، وهو منه أجمل، وبه أليق، فيعينني على تمام الكتاب، رغبة في الذكر، وتوخياً للثواب، والسلام.
والحمد لله رب العالمين وصلواته على سيدنا محمد نبيه وآله وصحبه وسلم تسليماً.(9/226)