هم قوموا درء الشآم وأيقظوا ... بنجد عيون الحرب وهي هواجع
يمدون بالبيض القواطع أيدياً ... وهن سواء والسيوف القواطع
إذا أسروا لم يأسر البغي عفوهم ... ولم يمس عان فيهم وهو كانع
إذا أطلقوا عنه جوامع غله ... تيقن إن المن أيضا جوامع
وإن صارعوا عن مفخر قام دونهم ... وخلفهم بالجد جد مصارع
فكم شاعر قد رامني فقذعته ... بشعري وهو اليوم خزيان ضارع
كشفت قناع عن حر وجهه ... فطيرته عن فكره وهو واقع
بعز يراها من يراها بسمعه ... ويدنو إليها ذو الحجى وهو شاسع
يود ودادا أن أعضاء جسمه ... إذا أنشدت شوقا إليها المسامع
قال أبو فراس الحمداني يفتخر
ووالله ما قصرت فيطلب العلى ... ولكن كان الدهر عني غافل
مواعيد آمال متى ما انتجعتها ... حلبت بكيات وهن حوافل
تدافعني الأيام عما أريده ... كما دفع الدين الغريم المماطل
فمثلي من نال الأعادي بسيفه ... ويا ربما غالته عنها الغوائل
وما لي لا تمسي وتصبح في يدي ... كرائم أموالي الرجال العقائل
احكم في الأعداء عنها صوارماً ... احكمها فيها إذا ضاق نازل
ومازال محمي الحمائل عنوة ... سوى ما أقلت في الجفون الحمائل
ينال اختيار الصفح عن كل مذنب ... له عندنا ما لا تنال الوسائل
لنا عقب الأمر الذي في صدوره ... تطاول أعناق العدى والكواهل(6/247)
أصاغرنا في المكرمات أكابر ... وآخرنا في المأثرات أوائل
إذا صلت صولا لم أجد لي مصاولاً ... وإن قلت قولا لم أجد من يقاول
وعرضت على سيف الدولة خيوله وبنو أخيه حضور فكل اختار منها وطلب حاجته من دون أبي فراس فعتب عليه سيف الدولة فأنشده
غيري يغيره الفعال الجافي ... ويحول عن شيم الكريم الوافي
لا أرتضي ودا إذا هو لم يدم ... عند الوفاء وقلة الإنصاف
تعس الحريص وقل ما يأتي به ... عوضا من الإلحاح والإلحاف
إن الغني هو الغني بنفسه ... ولو انه عاري المناكب جاف
ما كل ما فوق البسيطة كافيا ... فإذا اقتنعت فكل شيء كاف
ويعاف لي طبع الحريص أبوتي ... ومرؤتي وقناعتي وعفافي
ما كثر الخيل الجياد برائد ... شرفا ولا عدو السوام الصاف
ومكارمي عدد النجوم ومنزلي ... بين الكرام ومنزل الأضياف
لا أقتني لصروف دهري عدة ... حتى كأن صروفه أحلافي
خيلي وإن قلت كثير نفها ... بين الصوارم والقنا الرعاف
شيم عرفت بهن مذ أنا يافع ... ولقد عرفت بمثلها أسلافي
لأبي العلاء المعري في الفخر
ألا في سبيل المجد ما أنا فاعل ... عفاف ولإقدام وحزم ونابل
اعندي وقد مارست كل خفية ... يصدق واش أو يخيب سائل
تعد ذنوبي عند قوم كثيرة ... ولا ذنب لي إلا العلى والفضائل(6/248)
كأني إذا طلت الزمان وأهله ... رجعت وعندي للأنام طوائل
وقد سار ذكري في البلاد فمن لهم ... بإخفاء ضوءها متكامل
يهم الليالي بعض ما أنا مضمر ... ويثقل رضوى دون ما أنا حامل
وإني وإن كنت الأخير زمانه ... لآت بما لم تستطعه الأوائل
وأغدو ولو أن الصباح صوارم ... وأسري لو أن الظلام جحافل
وإني جواد لم يحل لجامه ... ونصل يمان أغفلته الصيافل
فإن كان في لبس الفتى شرف له ... فما السيف إلا غمده والحمائل
ولي منطق لم يرض لي كنه منزلي ... على أنني بين السماكين نازل
لدى موطن يشتاقه كل سيد ... ويقصر عن إدراكه المتناول
ولما رأيت الجهل في الناس فاشيا ... تجاهلت حتى ظن أني جاهل
فوا عجبا كم يدعي الفضل ناقص ... ووا أسفا كم يظهر النقص فاضل
وكيف تنام الطير في وكناتها ... وقد نصبت للفرقدين الحبائل
ينافس يومي في أمسي تشرفا ... وتحسد أسحاري علي الأصائل
وطال اعترافي بالزمان وصرفه ... فلست أبالي من تغول الغوائل
فلو بان عنقي ما تأسف منكبي ... ولو مات زندي ما بكته الأنامل
إذا وصف الطائي بالبخل مادر ... وعير قساً بالفهاهة باقل
وقال السهى للشمس أنت ضئيلة ... وقال الدجى للصبح لونك حائل
وطاولت الأرض السماء سفاهة ... وفاخرت الشهب الحصى والجنادل
فيا موت زر إن الحياة ذميمة ... ويا نفس جدي إن دهرك هازل(6/249)
الباب العاشر في المديح
زهير في مديح هرم بن سنان من قصيدة
إلى هرم سارت ثلاثا من اللوى ... فنعم مسير الواثق المتعمد
سواء عليه أي حين أتيته ... أساعة نحس تتقى أم بأسعد
أليس بضراب الكماة بسيفه ... وفكاك أغلال الأسير المقيد
كليث أبي شبلين يحمي عرينه ... إذا هو لاقى نجدة لم يعرد
ومدره حرب حميها يتقى به ... شديد الرجام باللسان وباليد
وثقل على الأعداء لا يضعونه ... وحمال أثقال ومأوى المطرد
أليس بفياض يداه غمامة ... ثمال اليتامى في السنين محمد
إذا ابتدرت قيس بن غيلان غاية ... من المجد من يسبق إليها يسود
سبقت إليها كل طلق مبرز ... سبوق إلى الغايات غير مجلد
كفضل جواد الخيل يسبق عفوه م السراع وإن يجهدن يجهد ويبعد
تقي نقي لم يكثر غنيمة ... بنهكة ذي قربى ولا بحقلد
سوى ربع لم يأت فيه مخانة ... ولا رهقا من عائذ متهود
يطيب له أوب افتراض بسيفه ... على دهش في عارض متوقد
فلو كان حمد يخلد الناس لم تمت ... ولكن حمد الناس ليس بمخلد
ولكن منه باقيات وراثة ... فأورث بنيك بعضها وتزود(6/250)
تزود إلى يوم الممات فإنه ... لو كرهته النفس آخر موعد
للنابغة الذبياني في عمرو بن الحارث الأصغر الغساني من قصيدة
وثقت له بالنصر إذ قيل قد غزت ... كتائب من غسان غير أشائب
بنو عمه دنيا وعمرو بن عامر ... أولئك قوم بأسهم غير كاذب
إذا ما غزوا بالجيش حلق فوقهم ... عصائب طير تهتدي بعصائب
يصاحبنهم حتى يغرن مغارهم ... من الضاربات بالدماء الدوارب
جوانح قد أيقن أن قبيله ... إذا ما التقى الجمعان أول غالب
لهن عليهم عادة قد عرفنها ... إذا عرض الخطي فوق الكواثب
على عارفات للطعان عوابس ... بهن كلوم بين دام وجالب
إذا استنزلوا عنهن للطعن أرقلوا ... إلى الموت إرقال الجمال المصاعب
فهم يتساقون المنية بينهم ... بأيديهم بيض رقاق المضارب
يطير فضاضاً بينها كل قونسٍ ... ويتبعها منهم فراش الحواجب
ولا عيب فيهم غير أن سيوفهم ... بهن فلول من قراع الكتائب
بضرب يزيل الهام عن سكناته ... وطعن كإيزاع المخاض الضوارب
لهم شيمة لم يعطها الله غيرهم ... من الجود والأحلام غير عوازب
مجلتهم ذات الإله ودينهم ... قويم فما يرجون غيرا لعواقب
رقاق النعال طيبت حجزاتهم ... يحيون بالريحان يوم السباسب
تحييهم بيض الولائد بينهم ... وأكسية الإضريج فوق المشاجب
يصونون أجساما قديما نعيمها ... بخالصة الأردان خضر المناكب(6/251)
ولا يحسبون الخير لا شر بعده ... ولا يحسبون الشر ضربة لازب
حبوت بها غسان إذ كنت لاحقا ... بقومي وإذ أعيت علي مذاهبي
لعلقمة الفحل في مدح الحارث الوهاب سيد بني غسان وملك الشام
إلى الحارث الوهاب أعملت ناقتي ... لكلكلها والقصريين وجيب
لتبلغني دار امرئ كان نائياً ... فقد قربتني من نداك قروب
وأنت امرؤ أفضت إليك أمانتي ... وقبلك ربتني فضعت ربوب
فأدت بنو كعب بن عوف ربيبها ... وغودر في بعض الجنود ربيب
فوالله لولا فارس الجون منهم ... لآبوا خزايا والإياب حبيب
تقدمه حتى تغيب حجوله ... وأنت لبيض الدارعين ضروب
مظاهر سربالي حديد عليهما ... عقيلا سيوف مخذم ورسوب
فجادلتهم حتى اتقوك بكبشهم ... وقد حان من شمس النهار غروب
وقائل من غسان أهل حفاظها ... وهنب وقاس جالدت وشبيب
تخشخش أبدان الحديد عليهم ... كما خشخشت يبس الحصاد جنوب
تجود بنفس لا يجاد بمثلها ... وأنت بها يوم اللقاء تطيب
كأن رجال الأوس تحت لبانه ... وما جمعت جل معا وعتيب
رفا فوقهم سقب السماء فداحصٌ ... بشكته لم يستلب وسليب
كأنهم صابت عليهم سحابة ... صواعقها لطيرهن دبيب
فلم تنج إلا شطبة بلجامها ... وإلا طمر كالقناة تجيب
وإلا كمي ذو حفاظ كأنه بما ابتل من حد الظنات خضيب(6/252)
وأنت الذي آثاره في عدوه ... من البؤس والنعمى لهن ندوب
وقي كل حي قد خبطت بنعمة ... فحق لشاس من نداك ذنوب
وما مثله في الناس إلا قبيله ... مساو ولا دان لذاك قريب
فلا تحرمني نائلا عن جنابة ... فغني امرؤ وسط القباب غريب
للفرزدق في عمر بن الوليد بن عبد الملك
إليك سمت يا ابن الوليد ركابنا ... وركبانها أسمى إليك واعمد
إلى عمر أقبلن معتمداته ... سراعاً ونعم الركب والمعتمد
ولم تجر إلا جئت للخيل سابقا ... ولا عدت إلا انت في العود أحمد
إلى ابن الإمامين اللذين أبوهما ... إمام له لولا النبوة يسجد
إذا هو أعطى اليوم زاد عطاؤه ... على ما مضى منه إذا أصبح الغد
بحق امرئ بين الوليد قناته ... وكندة فوق المرتقى يتصعد
أقول لحرف لم يدع رحلها لها ... سناما وتثوير القطا وهي هجد
عليك فتى الناس الذي إن بلغته ... فما بعده في نائل متلدد
وإن له نارين كلتاهما لها ... قرى دائم قدام بيته توقد
فهذي لعبط المشبعات إذا شتا ... وهذي يد فيها الجسام المهند
ولو خلد الفخر امرأ في حياته ... خلدت وما بعد النبي مخلد
وأنت امرؤ عودت للمجد عادة ... وهل فاعل إلا بما يتعود
تسائلني ما بال جنبك جافيا ... أهما جفا أم جفن عينك أرمد
فقلت لها لا بل عيال أراهم ... ومالهم ما فيه للغيث مقعد(6/253)
فقالت ألي ابن الوليد الذي له ... يمين بها الإمحال والفقر يطرد
يجود وإن لم ترتحل يا ابن غالب ... إليه وإن لاقيته فهو أجود
من النيل إذ عم المنار غثاؤه ... ومن يأته من راغب فه أسمد
فإن ارتداد الهم عجز على الفتى ... عليه كما رد البعير المقيد
ولا نجح في هم إذا لم يكن له ... زماع وحبل للصريمة محصد
جرى ابن أبي العاصي فأحرز غاية ... إذا أحرزت من نالها فهو أمجد
وكان إذا احمر الشتاء جفانه ... جفان إليها بادئون وعود
لهم طرق أقوامهم قد عرفنها ... إليهم وأيديهم إلى الشحم جمد
وما من حنيف آل مروان مسلم ... ولا غيره إلا عليه لكم يد
إذا عد قوم مجدهم وبيوتهم ... فضلتم إذا ما أكرم الناس عددوا
وللفرزدق في وصف الإمام زين العابدين
هذا الذي تعرف البطحاء وطأته ... والبيت يعرفه والحل والحرم
هذا ابن خير عباد الله كلهم ... هذا التقي النقي الطاهر العلم
إذا رأته قريش قال قائلها ... إلى مكارم هذا ينتهي الكرم
ينمى إلى ذروة العز التي قصرت ... عن نيلها عرب الإسلام والعجم
يكاد يمسكه عرفان راحته ... ركن الحطيم إذا ما جاء يستلم
في كفه خيزران ريحه عبق ... من كف أروع في عرنينه شمم
يغضي حياء ويغضي من مهابه ... فما يكلم إلا حين يبتسم
ينشق نور الهدى من نور غرته ... كالشمس ينجاب عن إشراقها القتم(6/254)
مشتقة من كرام القوم نبعته ... طابت عناصره والخيم والشيم
هذا ابن فاطمة إن كنت جاهلة ... بجده أولياء الله قد ختموا
ألله شرفه قدرا وعظمه ... جرى بذاك له في لوحه القلم
وليس قولك من هذا بضائره ... ألعرب تعرب من أنكرت والعجم
كلتا يديه غياث عم نفعهما ... يستوكفان ولا يعروهما عدم
سهلا لخليفة لا تخشى بوادره ... يزينه اثنان حسن الخلق والشيم
حمال أثقال أقوام إذا اقترضوا ... حلو الشمائل تحلو عنده نعم
ما قال لا قط إلا في تشهده ... لولا التشهد كانت لاءه نعم
عم البرية بالإحسان فانشقت ... عنها الغياهب والإملاق والعدم
من معشر حبهم دين وبغضهم ... كفر وقربهم منجى ومعتصم
إن عد أهل التقى كانوا أئمتهم ... أو قيل من خير أهل الأرض قيل هم
لا يستطيع جواد بعد غايتهم ... ولا يدانيهم قوم وإن كرموا
هم الغيوث إذا ما أزمة أزمت ... والأسد أسد الشرى والبأس محتدم
لا ينقص العسر بسطا من اكفهم ... سيان ذلك إن أثروا وإن عدموا
مقدم بعد ذكر الله ذكرهم ... في كل بدء ومختوم به الكلم
يأبى لهم أن يحل الذم ساحتهم ... خلق كريم وأيد بالندى هضم
أي الخلائق ليست في رقابهم ... لأولية هذا أو له نعم
من يعرف الله يعرف أولية ذا ... فالدين من بيت هذا ناله الأمم(6/255)
لابن خفاجة الأندلسي في مدح الأمير أبي يحيى بن إبراهيم
ضافي رداء المجد طماح العلى ... طامي عباب الجود رحب الدار
جرار أذيال المعالي والقنا ... حامي الحقيقة والحمى والجار
طرد القنيص بكل قيد طريدة ... زجل الجناح مورد الأظفار
ملتفة أعطافه بجبيرة ... مكحولة أجفانه بنضار
خدم القضاء مراده فكأنما ... ملكت يداه أعنة الأقدار
وعنى الزمان لأمره فكأنما ... أصغى الزمان به إلى أمار
وجلا الإمارة في رقيق نضارة ... جلت الدجى في حلة الأنوار
في حيث وشح لبة بقلادة ... منها وحلى معصما بسوار
جذلان يملأ منحة وبشاشة ... أيدي العفاة وأعين الزوار
أرج الندي بذكره فكأنه ... متنفس عن روضة معطار
بطل حوى الفلك المحيط بسرجه ... واستل صارمه يد المقدار
بيمينه يوم الوغى وشماله ... ما شاء من نارومن إعصار
والخيل تعثر في شبا شوك القنا ... قصداً وتسبح في الدم الموار
والبيض يكسر من سنا شمس الضحى ... فكأنه صدأ على دينار
والنقع الحسام النصر صحبة غبطة ... في كف صوال به سوار
لو أنه أوحى إليه بنظرة ... يوما لثار ولم ينم عن ثار
وقضى وقد ملكته هزة عزة ... تحت العجاج وضحكة استبشار(6/256)
لابن الأزرق الأندلسي في مدح الرئيس أبي يحيى بن عاصم وتهنئته بعيد
يا مطلع النوار زهرا يجتنى ... ومشعشع الصهباء نارا تلمس
بك مجلس الأنس اطمأن وبابن عا ... صم اطمأن من الرئاسة مجلس
بدر بأنوار الهدى متطلع ... غيث بأشتات الندى متجبس
حامي فلم نرتع لخطب يعتري ... ووفى فلم تحفل بدهر يبخس
شيم مهذبة وعلم راسخ ... ومكارم هتن ومجد أقعس
لو كان شخصا ذكره لبدا على ... أعطافه من كل حمد ملبس
ذاكم أبو يحيى به تحمى العلى ... وبه خلال الفخر طرا تحرس
بيت على عمد الفخار مطنب ... مجد على متن السماك مؤسس
إنا لنغدو هيما فينيلنا ... ريا ويوحشنا النوى فيؤنس
حتى أقمنا والأماني منهضا ... ت وابتسمنا والزمان معبس
لم ندر قبل يراعه وبنانه ... أن الذوابل بالغمام تبجس
هن اليراع بها يؤمن خائف ... ويحاط مذعور ويغنى مفلس
مهما انبهرت فهي السهام يرى لها ... وقع لأغراض البيان مقرطس
يشفي بمأمله الشكي المعتري ... يحيا بمأمنه الحمام المؤيس
قد جمع الأضداد في حركاته ... فلذا اطراد فخاره لا يعكس
عطشان ذو ري يبيس مثمر ... غضبان ذو صفح فصيح أخرس
لله من تلك اليراع جواذب ... للسحر منك كأنها المغنيطس
رضنا شماس القول في أوصافها ... فهي التي راضت لنا ما يشمس(6/257)
وإليكها حللا تشابه نسجها ... مثلي يفصلها ومثلك يلبس
واهنأ بعيد باسم متهلل ... وافاك يجهر بالسرور ويهمس
واحبس لواء الفخر موقوفا فإ ... ن الحمد موقوف عليك محبس
لأبي تمام في هارون الواثق بالله من قصيدة
سيروا بني الحاجات ينجح سعيكم ... غيث سحاب الجود منه هتون
فالحادثات بوبله مصفودة ... والمحل في شؤبوبه مسجون
حملوا ثقيل الهم واستنأى بهم ... سفر يهد المتن وهو متين
حتى إذا ألقوه عن أكتافهم ... بالعزم وهو على النجاح ضمين
وجدوا جناب الملك أخضر فاجتلوا ... هارون فيه كأنه هارون
ألفوا أمير المؤمنين وجده ... خضل الغمام وظله مسكون
فغدوا وقد وثقوا برأفة واثق ... بالله طائره لهم ميمون
ملكوا خطام العيش بالملك الذي ... أخلاقه للمكرمات حصون
ملك إذا خاض المسامع ذكره ... خف الرجاء إليه وهو ركين
ليث إذا خفق اللواء رأيته ... يعلو قرا الهيجاء وهي زبون
لحياضها متورد ولخطبها ... متعمد وبثديها ملبون
جعل الخلافة فيه رب قوله ... سبحانه للشيء كن فيكون
ولقد رأيناها له بقلوبنا ... وظهور خطب دونها وبطون
ولذاك قيل من الظنون حلية ... صدق وفي بعض القلوب عيون
ولقد علمنا مذ ترعرع أنه ... لأمين رب العالمين أمين(6/258)
يا ابن الخلائف إن بردك ملؤه ... كرم يذوب المزن منه ولين
يسمو بك السفاح والمنصور وال ... مهدي والمعصوم والمأمون
من يعش ضوء ألاك يعلم أنهم ... ملأ لدى ملإ السماء مكين
فرسان مملكة أسود خلافة ... ظل الهدى غاب لهم وعرين
في دولة بيضاء هارونية ... متكنفاها النصر والتمكين
قد أصبح الإسلام في سلطانها ... والهند بعض ثغورها والصين
يفدي الأمين الله كل منافق ... شنآنه بين الضلوع كمين
ممن يداه يسريان ولم تزل ... فينا وكلتا راحتيك يمين
تدعى بطاعتك الوحوش فترعوي ... والأسد في عريسها فتدين
ما فوق مجدك مرتقى مجد ألا كل افتخار دون فخرك دون
وله في المعتصم بالله عند فتح عمورية عاصمة الروم
السيف أصدق أنباء من الكتب ... في حده الحد بين الجد واللعب
بيض الصفائح لا سود الصحائف في ... متونهن جلاء الشك والريب
والعلم في شهب الأرماح لامعة ... بين الخميسين لا في السبعة الشهب
أين الرواية بل أين النجوم وما ... صاغوه من زخرف فيها ومن كذب
تخرصاً وأحاديثاً ملفقةً ... ليست بنبع إذا عدت ولا غرب
عجائبا زعموا الأيام مجفلة ... عنهن في صفر الإصفار أو رجب
وخوفوا الناس من دهياء مظلمة ... إذا بدا الكوكب الغربي ذو الذنب
فتح الفتوح تعالى أن يحيط به ... نظم من الشعر أو نثر من الخطب(6/259)
فتح تفتح أبواب السماء له ... وتبرز الأرض في أثوابها القشب
يا يوم وقعة عمورية انصرفت ... عنك المنى حفلا معسولة الحلب
أبقيت جد بني الإسلام في صعد ... والمشركين ودار الشرك في صبب
أم لهم لو رجوا أن تفتدى جعلوا ... فداءها كل أم برة وأب
وبرزة الوجه قد أعيت رياضتها ... كسرى وصدت صدودا عن أبي كرب
من عهد إسكندر أو قبل ذلك قد ... شابت نواصي الليالي وهي لم تشب
بكر فما افترعتها كف حادثة ... ولا ترقت إليها همة النوب
حتى إذا مخض الله السنين لها مخض الحليبة كانت زبدة الحقب
أتتهم الكربة السوداء سادرة ... منها وكان اسمها فراجة الكرب
جرى لها الفأل نحسا يوم أنقرة ... إذ غودرت وحشة الساحات والرحب
لما رأت أختها بالأمس قد خربت ... كان الخراب لها أعدى من الجرب
كم بين حيطانها من فارس بطل ... قاني الذوائب من آني دم سرب
بسنة السيف والخطي من دمه ... لا سنة الدين والإسلام مختضب
لقد تركت أمير المؤمنين بها ... للنار يوما ذليل الصخر والخشب
غادرت فيها بهيم الليل وهو ضحى ... يقله وسطها صبح من اللهب
حتى كأن جلابيب الدجى رغبت ... عن لونها أو كأن الشمس لم تغب
ضوء من النار والظلماء عاكفة ... وظلمة من دخان في ضحى شحب
فالشمس طالعة من ذا وقد أفلت ... والشمس واجبة من ذا لم تجب
تصرح الدهر تصريح الغمام لها ... عن يوم هيجاء منها طاهر جنب(6/260)
لم تطلع الشمس فيه يوم ذاك على ... بان بأهل ولم تغرب على عزب
ما ربع مية معمورا يطيف به ... غيلان أبهى ربى من ربعها الخرب
لم يعلم الكفر كم من أعصر كمنت ... له المنية بين السمر والقضب
تدبير معتصم بالله منتقم ... لله مرتغب في الله مرتهب
ومطعم النصل لم تكهم أسنته ... يوما ولا حجبت عن روح محتجب
لم يغز قوما ولم ينهض إلى بلد ... إلا تقدمه جيش من الرعب
لو لم يقد جحفلا يوم الوغى لغدا ... من نفس وحدها في جحفل لجب
رمى بك الله برجيها فهدمها ... ولو رمى بك غير الله لم يصب
من بعد ما أشبوها واثقين بها ... والله مفتاح باب المعقل الأشب
وقال ذو أمرهم لا مرتع صدر ... للسارحين وليس الورد من كثب
أمانياً سلبتهم نجح هاجسها ... ظبي السيوف وأطراف القنا السلب
إن الحمامين من بيض ومن سمر ... دلوا الحياتين من ماء ومن عشب
لبيت صوتا زبطرياً هرقت له ... كاس الكرى ورضاب الخرد العرب
عداك حر الثغور المستضامة عن ... برد الثغور وعن سلسالها الخصب
أجبته معلنا بالسيف منصلتا ... ولو أجبت بغير السيف لم تجب
حتى تركت عمود الشرك منقعرا ... ولم تعرج على الوتاد والطنب
لما رأى الحرب رأي العين توفلس ... والحرب مشتقة المعنى من الحرب
غدا يصرف بالأموال خزينتها ... فعزه البحر ذو التيار والعبب
هيهات زعزعت الأرض الوقور به ... عن غزو محتسب لا غزو مكتسب(6/261)
لم ينفق الذهب المربي بكثرته ... على الحصى وبه فقر إلى الذهب
إن الأسود أسود الغاب همتها ... يوم الكريهة في المسلوب لا السلب
ولى وقد ألجم الخطي منطقه ... بسكته تحتها الأحشاء في صخب
أحسى قرابينه صرف الردى ومضى ... يحتث أنجى مطاياه من الهرب
موكلا بيفاع الأرض يشرفه ... من خفة الخوف لا من خفة الطرب
إن يعد من حرها عدو الظليم فقد ... أوسعت جاحمها من كثرة الحطب
تسعون ألفا كآساد الشرى نضجت ... جلودهم قبل نضج التين والعنب
يا رب حوباء لما اجتث دابرهم ... طابت ولو ضمخت بالمسك لم تطب
ومغضب رجعت بيض السيوف به ... حي الرضاعن رداهم ميت الغضب
والحرب قائمة في مأزق لجب ... تجثو الرجال به صغرا على الركب
كم نيل تحت سناها من سنا قمر ... وتحت عارضها من عارض شنب
كم كان في قطع أسباب الرقاب بها ... إلى المخدرة العذراء من سبب
كم أحرزت قضب الهندي مصلته ... تهتز من قضب تهتز في كثب
بيض إذا انتضيت من حجبها رجعت ... أحق بالبيض أبدانا من الحجب
خليفة الله جازى الله سعيك عن ... جرثومة الدين والإسلام والحسب
بصرت بالراحة الكبرى فلم ترها ... تنال إلا على جسر من التعب
إن كان بين صروف الدهر من رحم ... موصولة أو ذمام غير مقتضب
فبين أيامك اللائي نصرت بها ... وبين أيام بدر أقرب النسب
أبقت بني الأصفر المصفر كأسهم ... صفر الوجوه وجلت أوجه العرب(6/262)
للتلمساني في مدح الملك المنصور محمد بن عثمان الأيوبي
أأخاف صرف الدهر أم حدثانه ... والدهر للمنصور بعض عبيده
ملك نداه فكني وانتاشني ... من مخلبيه ومن إسار قيوده
ملك إذا حدثت عن إحسانه ... حدثت عن مبدي الندى ومعيده
ساد الملوك بفضله وبنفسه ... والعز من آبائه وجدوده
وإذا ترنمت الرواة بمدحه ... وثنائه اهتزت معاطف جوده
لأبي المعالي راحة وكافة ... كالغيث يوم بروقه ورعوده
صب بتحصيل الثناء وجمعه ... كلف ببذل المال أو تبديده
مازال يشمل حاسديه نواله ... حتى أقر به لسان حسوده
سل عفوه وحسومه في غمده ... وحذار ثم حذار من تجريده
يغشى الورى متلفعا بردائه ... ويخوضها متسربلا بحديده
فترى الشحاح يفر منه مهابة ... والموت بين لهاته ووريده
يتقهقر الجيش اللهام مخافة ... منه إذا وافى أمام جنوده
وتعود مخفقة الرجاء عداته ... وقلوبها خفاقة كبنوده
في مهرك إن كسرت فيه القنا ... وصل الحسام ركوعه بسجوده
جارى الغمام ففاته بنواله ... كرما وفاق كبيره بزهيده
والدين أصله وشد مناره ... حين اعتنى بحقوقه وحدوده
والملك لم ينفك يعمل عزمه ... في نصر ظاهره ونصح سعيده
إن المنايا والأماني لم تزل ... طوعا لسابق وعده ووعيده(6/263)
وأرى الحياة لذيذة بحياته ... وأرى الوجود مشرفا بوجوده
فلو أنني خيرت من دهري المنى ... لاخترت طول بقائه وخلوده
يا آل أيوب جزيتم صالحاً ... عن محسن مدح الملوك مجيده
ونعمتم ما افتر عن ثغر الضحى ... صبح وما فضح الدجى بعموده
يا أيها الملك الذي حاز العلى ... فثنى عنان الفكر عن تحديده
أما الزمان فأنت درة عقده ... وسنان صدعته وبيت قصيده
والشعر أنت أحق من يهتز عن ... د سماعه ويميل عند نشيده
فاسلم لملك بل لمجد أنت في ... تأسيسه والله في تأييده
لأبي الطيب المتنبي في الحسين بن إسحاق التنوخي
هو البين حتى ما تأنى الخرائق ... ويا قلب حتى أنت ممن أفارق
وقفنا ومما زاد بثا وقوفنا ... فريقي هوى منا مشوق وشائق
وقد صارت الأجفان قرحى من البكا ... وصار بهاراً في الخدود الشقائق
على ذا مضى الناس اجتماع وفرقة ... وميت ومولود وقال ووامق
تغير حالي والليالي بحالها ... وشبت وما شاب الزمان الغرانق
وليل دجوجي كانا جلت لنا ... محياك فيه فاهتدينا السمالق
فما زال لولا نور وجهك جنحه ... ولا جابها الركبان لولا الأيانق
وهز اطار النوم حتى كأنني ... من السكر في الغرزين ثوب شبارق
شدوا بابن إسحاق الحسين فصافحت ... ذفاريها كيرانها والنمارق
بمن تقشعر الأرض خوفا إذا مشى ... عليها وترتج الجبال الشواهق(6/264)
فتى كالسحاب الجون يخشى ويرتجى ... يرجى الحيا منها وتخشى الصواعق
ولكنها تمضي وهذا مخيم ... وتكذب أحيانا وذا الدهر صادق
تخلى من الدنيا لينسى فما خلت ... مغاربها من ذكره والمشارق
غذا الهندوانيات بالهام والطلى ... فهن مداريها وهن المخانق
تشقق منهن الجيوب إذا غزا ... وتخضب منهن اللحى والمفارق
يجنبها من حتفه عنه غافل ... ويصلى بها من نفسه منه طالق
يحاجى به ما ناطق وهو ساكت ... يرى ساكتا والسيف عن فيه ناطق
نكرتك حتى طال منك تعجبي ... ولا عجب من حسن ما الله خالق
كأنك في الإعطاء للمال مبغض ... وفي كل حرب للمنية عاشق
ألا قلما تبقى على ما بدا لها ... وحل بها منك القنا والسوابق
سيحيى بك السمار ما لاح كوكب ... ويحدو بك السفار ما ذر شارق
فما ترزق الأقدار من أنت حارم ... ولا تحرم الأقدار من أنت رازق
ولا تفتق الأيام ما أنت راتق ... ولا ترتق الأيام ما أنت فاتق
لك الخير غيري رام من غيرك الغنى ... وغيري بغير اللاذقية لاحق
هي الغرض الأقصى ورؤيتك المنى ... ومنزلك الدنيا وأنت الخلائق
وقال أبو الطيب يمدح أبا شجاع فاتكا وكان يلقب بالمجنون
لا خيل عندك تهديها ولا مال ... فليسعد النطق إن لم تسعد الحال
واجز الأمير الذي نعماه فاجئةٌ ... بغير قول ونعمى الناس أقوال
فربما جزت الإحسان موليه ... خريدة من عذارى الحي مكسال(6/265)
وإن تكن محكمات الشكل تمنعني ... ظهور جري فلي فيهن تصهال
وما شكرت لأن المال فرحني ... سيان عندي إكثار وإقلال
لكن رأيت قبيحا أن يجاد لنا ... وأننا بقضاء الحق بخال
فكنت منبت روض الحزن باكره ... غيث سباخ الأرض هطال
غيث يبين للنظار موقعه ... أن الغيوث بما تأتيه جهال
لا يدرك المجد إلا سيد فطن ... لما يشق على السادات فعال
لا وارث جهلت يمناه ما وهبت ... ولا كسوب بغير السيف سال
قال الزمان له قولا فأفهمه ... أن الزمان على الإمساك عذال
تدري القناة إذا اهتزت براحته ... أن الشقي بها خيل وأبطال
كفاتك ودخول الكاف منقصة ... كالشمس قلت وما للشمس أمثال
ألقائد الأسد غذتها براثنه ... بمثلها من عداه وهي أشبال
ألقاتل السيف في جسم القتيل به ... وللسيوف كما للناس آجال
تغير عنه على الغارات هيبته ... وما له بأقاصي البر أهمال
له من الوحش ما اختارت أسنته ... عير وهيق وخنساء وذيال
تمسي الضيوف مشهاة بعقوته ... كأن أوقاتها في الطيب آصال
لو اشتهت لحم قاريها لبادرها ... خراذل منه في الشيزى وأوصال
لا يعرف الرزء في مال ولا ولد ... إلا إذا احتفز الضيفان ترحال
يزوي صدى الأرض من فضلات ما شربوا ... محض اللقاح وصافي اللون سلسال
تقري صوارمه الساعات عبط دم ... كأنما الساع نزال وقفال(6/266)
تجري النفوس حواليه مخلطة ... منها عداة وأغنام وآبال
لا يحرم البعد أهل البعد نائله ... وغير عاجزة عنه الأطيفال
أمضى الفريقين في أقرانه ظبة ... والبيض هادية والسمر ضلال
يريك مخبره أضعاف منظره ... بين الرجال وفيها الماء والآل
وقد يلقبه المجنون حاسده ... إذا اختلطن وبعض العقل عقال
يرمي بها الجيش لابد له ولها ... من شقه ولو أن الجيش أجبال
إذا العدى نشبت فيهم مخالبه ... لم يجتمع لهم حلم وريبال
يروعهم منه دهر صرفه أبدا ... مجاهر وصروف الدهر تغتال
أناله الشرف الأعلى تقدمه ... فما الذي بتوقي ما أتى نالوا
إذا الملوك تحلت كان حليته ... مهند وأصم الكعب عسال
أبو شجاع أبو الشجعان قاطبة ... هول نمته من الهيجاء أهوال
تملك الحمد حتى ما لمفتخر ... في الحمد حاء ولا ميم ولا دال
عليه منه سرابيل مضاعفة ... وقد كفاه من الماذي سربال
وكيف أستر ما أوليت من حسن ... وقد غمرت نوالا أيها النال
لطفت رأيك في بري وتكرمتي ... إن الكريم على العلياء يحتال
حتى غدوت وللأخبار تجوال ... وللكواكب في كفيك آمال
وقد أطال ثنائي طول لابسه ... إن الثناء على التنبال تنبال
إن كنت تكبر أن تختال في بشر ... فإن قدرك في الأقدار يختال
كأن نفسك لا ترضاك صاحبها ... إلا أنت على المفضال مفضال(6/267)
ولا تعدك صوانا لمهجتها ... إلا وأنت لها في الروع بذال
لولا المشقة ساد الناس كلهم ... ألجود يفقر والإقدام قتال
وإنما يبلغ الإنسان طاقته ... ما كل ماشية بالرجل شملال
إنا لفي زمن ترك القبيح به ... من أكثر الناس إحسان وإجمال
ذكر الفتى عمره الثاني وحاجته ... ما قاته وفضول العيش أشغال
وللمتنبي يمدح سيف الدولة ويذكر بناء قلعة الحدث
على قدر أهل العزم تأتي العزائم ... وتأتي على قدر الكرام المكارم
وتعظم في عين الصغير صغائرها ... وتصغر في عين العظيم العظائم
يكلف سيف الدولة الجيش همه ... وقد عجزت عنه الجيوش الخضارم
ويطلب عند الناس ما عند نفسه ... وذلك ما لا تدعيه الضراغم
يفدي أتم الطير عمرا سلاحه ... نسور الملا أحداثها والقشاعم
وما ضرها خلق بغير مخالب ... وقد خلقت أسيافه والقوائم
هل الحدث الحمراء تعرف لونها ... وتعلم أي الساقيين الغمائم
سقتها الغمام الغر قبل نزوله ... فلما دنا منها سقتها الجماجم
بناها فأعلى والقنا تقرع القنا ... وموج المنايا حولها متلاطم
وكان بها مثلا جنون فأصبحت ... ومن جثث القتلى عليها تمائم
طريدة دهر ساقها فرددتها ... على الدين بالخطي والدهر راغم
تفيت الليالي كل شيء أخذته ... وهن لما يأخذن منك غوارم
وكيف ترجي الروم والروس هدمها ... وذا الطعن أساس لها ودعائم(6/268)
وقد حاكموها والمنايا حواكم ... فما مات مظلوم ولا عاش ظالم
أتوك يجرون الحديد كأنهم ... سروا بجياد ما لهن قوائم
إذا برقوا لم تعرف البيض منهم ... ثيابهم من مثلها والعمائم
خميس بشرق الأرض والغرب زحفه ... وفي أذن الجوزاء منه زمازم
تجمع فيه كل لسن وأمة ... فما تفهم الحداث إلا التراجم
فلله وقت ذوب الغش ناره ... فلم يبق إلا صارم أو ضبارم
تقطع ما لا يقطع الدرع والقنا ... وفر من الأبطال من لا يصارم
وقفت وما في الموت شك لواقف ... كأنك في جفن الردى وهو نائم
تم بك الأبطال كلمى هزيمة ... ووجهك وضاح وثغرك باسم
تجاوزت مقدار الشجاعة والنهى ... إلى قول قوم أنت بالغيب عالم
ضممت جناحيهم على القلب ضمة ... تموت الخوافي تحتها والقوادم
بضرب أتى الهامات والنصر غائب ... وصار إلى اللبات والنصر قادم
حقرت الردينيات حتى طرحتها ... وحتى كأن السيف للرمح شاتم
ومن طلب الفتح الجليل فإنما ... مفاتيحه البيض الخفاف الصوارم
نثرتهم فوق الأحيدب نثرة ... كما نثرت فوق العروس الدراهم
تدوس بك الخيل الوكور على الذرى ... وقد كثرت حول الوكور المطاعم
إذا زلقت مشيتها ببطونها ... كما تتمشى في الصعيد الأراقم
أفي كل يوم ذا الدمستق مقدم ... قفاه على الإقدام للوجه لائم(6/269)
أينكر ريح الليث حتى يذوقه ... وقد عرفت ريح الليوث البهائم
وقد فجعته بابنه وابن صهره ... وبالصهر حملات المير الغواشم
مضى يشكر الأصحاب في فوته الظبا ... بما شغلتها هامهم والمعاصم
ويفهم صوت المشرفية فيهم ... على أن أصوات السيوف أعاجم
يسر بما أعطاك لا عن جهالة ... ولكن مغنوماً نجا منك غانم
لك الحمد في الدر الذي لي لفظه ... فإنك معطيه وإني ناظم
وإني لتعدو بي عطاياك في الوغى ... فلا أنا مذمومٌ ولا أنت نادم
على كل طيار إليها برجله ... إذا وقعت في مسمعيه الغماغم
ألا أيها السيف الذي لست مغمدا ... ولا فيك مرتاب ولا منك عاصم
هنيئا لضرب الهام والمجد والعلى ... وراجيك والإسلام أنك سالم
ولم لإيقي الرحمان حديك ما وقى ... وتفليقه هام العدى بك دائم(6/270)
الباب الحادي عشر في المراسلات
مراسلات بين الملوك والعيان
كتاب أبي القاسم بن الجد عن أمير المسلمين إلى أهل سبتة
كتابنا أبقاكم الله وأكرمكم بتقواه. وسركم لما يرضاه. وأسبغ عليكم نعماه. وقد رأينا والله بفضله يقرن جميع آرائنا بالتسديد. ويخلنا في كافة أنحائنا من النظر الحميد. إن نولي أبا زكريا يحيى بن أبي بكر محل ابننا. الناشئ في حجرنا. أعزه الله وسدده فيما قلدناه إياه من مدينتي فاس وسبتة وجميع أعمالها حرسهما الله على الرسم الذي تولاه غير قبله. فأنفذنا ذلك له. لما توسمناه من مخايل النجابة قبله. ووصيناه بما نرجو أن يجتذيه ويمتثله. ويجري قوله وعمله. ونحن من وراء اختباره. والفحص عن أخباره. لأنني بحول الله في امتحانه وتجريبه: والعناية بتخريجه وتدريبه. والله عز وجل يحقق مخيلتنا فيه. ويوفقه من سداد القول والعمل إلى ما يرضيه. فإذا وصل إليكم خطابنا فالتزموا له السمع والطاعة. والنصح والمشايعة جهد الاستطاعة. وعظموا بحسب مكانه منا قدره. وامتثلوا في كل عمل من أعمال الحق نهيه وأمره. والله تعالى يمده بتوفيقه وهدايته ويعرفكم يمن ولايته بعزته (لابن خاقان)
كتاب خالد إلى أبي بكر يخبره بفتح أجنادين
بسم الله الرحمن الرحيم إني أحمد إليك الله الذي لا إله إلا هو. ثم أزيده حمداً وشكراً على سلامة المسلمين ودمار الأعداء وإخماد جمرتهم وانصداع بيضتهم. وإنا لقينا جموعهم بأجنادين مع وردان صاحب حمص وقد نشروا كتبهم ورفعوا أعلامهم وتقاسموا بدينهم أن لا يفرون ولا ينهزمون. فخرجنا إليهم وأيقنا بالله متوكلين على الله فعلم ربنا ما أضمرناه في أفئدتنا وسرائرنا فرزقنا الصبر وأيدنا بالنصر. وكبت أعداء الله فقتلنا منهم في كل فج وشعب وواد. وجملة من أحصينا من الروم ممن قتل خمسون ألفا وقتل من المسلمين في أول يوم وثانيه أربع مائة وخمسة وسبعون رجلا ختم الله لهم بالشهادة. ونحن راجعون إلى دمشق فادع الله لنا بالنصر. والسلام عليك وعلى جميع المسلمين ورحمة الله وبركاته (فتوح الشام للواقدي)
كتاب الحريري إلى المسترشد بالله لما ولي الخلافة بعد المستظهر
للدهر أعز الله أنصار الديوان العزيز وأدام له مساعفة الأقدار. ومضاعفة الاقتدار. وإيلاء صنائع المبار. والاستيلاء على جوامع المسار. خطوب متفاضلة القيم. كتفاضل ما تنشيه(6/271)
من الغمم. وضروب متفاوتة الدرج. بحسب ما تفنيه من المهج. فأعظمها إيلاما للقلوب. وإضراماً للكروب. وإستجلابا للواعج الغموم. وإيجابا للوازم الحزن على العموم. رزء تساهم فيه الأنام. وأظلمت ليومه الأيام. وكان في معاهد الخلافة ناجما. وعلى سده الإمامة المقدسة هاجما. كالفجيعة بطود الدين الشامخ. ودوحة المجد الباذخ. وبحر الكرم الزاخر. وقبلة الماثر والمفاخر. واها هو خطب كاد يشيب منه الأطفال. وتنشق الأرض وتخر الجبال. غير أن الله جلت أسماؤه. وتعاظم علاؤه. نظر لأصناف عبيده. ومن على أهل توحيده. باستخلاف المسترشد بالله. ولولا هذه المنحة التي انتاشت الدين. وجبرت مصاب المسلمين. لفسدت الأرض. ولكن الله ذو الفضل على العالمين. نشر الله في الخافقين أعلام دولته. وحلى تواريخ السير بمناقب سيرته. وحقق آمال المستشفعين والمستضعفين في إسعافه ونصرته. قد التزم الخادم من شرائط هذين الأمرين المقدورين. والمقامين المشهورين. ما يلتزمه المباهي بإخلاص الطاعة. المتناهي في الخدمة المستطاعة.
كتاب ابن صمادح إلى المعتمد يغريه بقتل ابن زيدون وزير أبيه
يا أيها الملك العلي العظم ... اقطع وريدي كل باغ ينئم
واحسم بسيفك داء كل منافق ... يبدي الجميل وضد ذلك يكتم
لا تحقرن من الكلام قليله ... إن الكلام له سيوف تكلم
فاحسم دواعي كل شر دونه ... فالداء يسري إن غدا لا يحسم
كل سقط زند قد نما حتى غدا ... بركان نار كل شيء يحطم
وكذلك السيل الجحاف فإنما ... أولاه طل ثم وبل يسجم
واذكر صنيع أبيك أول مرة ... في كل متهم فإنك تعلم
لم يبق منهم من توقع شره ... فصفت له الدنيا ولذ الطعم
فعلى م تنكل عن صنيع مثله ... ولأنت أمضى في الخطوب وأشهم
وجنانك الثبت الذي لا ينثني ... وحسامك العضب الذي لا يكهم
والحال أوسع والعوالي جمة ... والمجد أشمخ والصريمة ضيغم
لا تتركن للناس موضع تهمة ... واحزم فمثلك في العظام يحزم
قد قال شاعر كندة فيما مضى ... بينا على مر الليالي يعلم
لا يسلم الشرف الرفيع من الأذى ... حتى يراق على جوانبه الدم
فاجعله قدوتك التي تعتادها ... في كل ما يبقى ورأيك أحكم
واسلم على الأيام أنك زينها ... وجمالها والدهر دونك مأتم
لازلت بالنصر العزيز مهنئا ... والدين عن محمود سعيك يبسم
ووقيت مكروه والحوادث واغتدت ... طير السعود باككم تترنم(6/272)
كتاب ألفنس بن سانشس إلى المعتمد
(لما ملك أذفنش ابن شانجه أعمال طليطلة طمع في الاستيلاء على الجزيرة كلها. وهابت الملوك أمره لكون طليطلة نقطة دائرها وخاطب المعتمد على الله أبا القسم بن عباد يطلب منه تسليم أعماله إلى رسله وعماله وتشطط عليه في الطلب. وأظهر له السرور بالغلب. فيما خاطبه به)
من الأنبيطور ذي الملتين الملك المفضل أذفنش بن شانجه إلى المعتمد بالله سدد الله آراءه وبصره مقاصد الرشاد. سلام عليك. من مشيد ملك شرفته القنا. ونبتت في ربعه المنى. باغترار الرمح بعامله. والسيف بساعد حامله. وقد أبصرتم بطليطلة نزال أقطارها. وما حاق بأهلها حين حصارها. فأسلمتم إخوانكم. وعطلتم بالدعة زمانكم. والحذر من أيقظ باله. قبل الوقوع في الحبالة. ولولا عهد سلف بيننا نحفظ زمانه. ونسعى بنور الوفاء أمامه. لنهض بنا نحوكم ناهض العزم ورائده. ووصل رسول الغزو ووارده. لكن الأقدار. تقطع بالأعذار. ولا يعجل إلا من خاف الفوت فيما يرومه. أو خشي الغلبة على ما يسومه. وقد حملنا الرسالة إليك القمس البرهانس وعنده من التسديد الذي تلقى به أمثالك. والعقل الذي تدبر به بلادك ورجالك. ما أوجب استنابته فيما يدق ويجل. فيما يصلح لا فيما يخل وأنت عندما تأتيه من آرائك. والنظر بعد هذا من ورائك. والسلام عليك. يسعى بيمينك وبين يديك (تاريخ العباديين)
جواب المعتمد بالله إلى الملك ألفنس بن سانشس
من الملك المصور بفضل الله المعتمد على الله محمد بن المعتضد بالله أبي عمرو بن عباد إلى أذفنش بن شانجه الذي لقب نفسه بملك الملوك وسماها بذي الملتين قطع الله بدعواه. سلام على من اتبع الهدى. أما بعد فإنه أول ما يبدأ به من دعواه أنه ذو الملتين والمسلمون أحق بهذا الاسم لأن الذي تملكوه من أمصار البلاد. وعظيم الاستعداد. ومجبى المملكة لا تبلغه قدرتكم. ولا تعرفه ملتكم. وإنما كانت سنة سعد أيقظ منها مناديك. وأغفل عن النظر السديد جميل مباديك. فركبنا مركب عجز نسخه الكيس. وعاطيناك كؤوس دعة قلت في اثنائها ليس. ولم تستحي أن تأمر بتسليم البلاد لرجالك. وإنا لنعجب من استعجالك. برأي لم تحكم أنحاؤه. ولا حسن انتحاؤه. وإعجابك بصنع وافقتك فيه الأقدار. واغتررت بنفسك أسوأ الاغترار. وتعلم أنا في العدد والعديد. والنظر السديد. ولدينا من كماة الفرسان. وحيل الإنسان. وحماة الشجعان. يوم يلتقي الجمعان. رجال تدرعوا الصبر. وكرهوا القبر. تسيل نفوسهم على حد الشفار. وينعاهم المنام في القفار. يديرون رحى المنون بحركات العزائم. ويشفون من خبط الجنون بخواتم العزائم. وقد أعدوا لك ولقومك جلادا رتبه الاتفاق. وشفارا حدادا شحذها الأصفاق. وقد يأتي المحبوب من المكروه. والندم من عجلة الشروه. نبهت من غفلة طال زمانها. وأيقظت من نومة تجدد إيمانها. ومتى كانت لأسلافك الأقدمين مع أسلافنا الأكرمين يد صاعدة. أو وقفة(6/273)
متساعدة. والأذل تعلم مقداره. وتتحقق مثاره. والحمد لله الذي جعل عقوبتنا توبيخك وتقريعك بما الموت دونه. وبالله نستعين ولا نستبطئ في مسيرنا إليك والله ينصر دينه. والسلام على من علم الحق فاتبعه. واجتنب الباطل وخدعه.
مكتوب المعتمد بن عباد إلى يوسف بن تاشفين يستنجده على الأذفنش
(من إشبيلية في غرة جمادى الأولى سنة 379) . أيد الله أمير المؤمنين ونصره ونصر به الدين فإن نحن العرب في هذه الأندلس قد تلفت قبائلنا. وتفرق جمعنا. وتغيرت أنسابنا. بقطع المادة من حنيفيتنا. فصرنا فيها شعوبا لا قبائل وأشتاتاً لا قرابة ولا عشائر. فقل ناصرنا وكثر شامتنا. وتولى علينا هذا العدو المجرم اللعين أذفنش. وأناخ علينا بكلكله ووطئ بقدمه وأسر المسلمين وأخذ البلاد والقلاع والحصون ونحن أهل هذه الأندلس ليس لأحد منا طاقة على نصرة جاره ولا أخيه ولو شاءوا لفعلوا. إلا أن الهواء والماء منعهم عن ذلك وقد ساءت الأحوال. وانقطعت الآمال. وأنتم أيد الله سلطانكم سيد حمير. ومليكها الأكبر. وأميرها وزعيمها نزعت بهمتي إليكم. واستصرخت بالله وبكم. واستعنت بحرمكم. لتجوزوا لجهاد هذا العدو الكافر وتحيوا شريعة الإسلام. وتذبوا عن دين محمد. ولكم بذلك عند الله الثواب الكريم. والأجر الجسيم. ولا حول ولا قوة إلا بالله علي العظيم. والسلام الكريم. على حضرتكم السامية ورحمة الله وبركانه (تاريخ غرناطة لابن الخطيب)
في الطلب والأشواق
لما استأسر الروم صرار كتب إلى أخته وإلى معشر الإسلام
ألا أيها الشخصان بالله بلغا ... سلامي إلى أطلال مكة والحجر
فلاقيتما ما عشتما ألف نعمة ... بعز وإقبال يدوم مع النصر
ولا ضاع عند الله ما تصنعانه ... فقد خف عني ما وجدت من الضر
بصنعكما بي نلت خيرا وراحة ... كذلك فعل الخير بين الورى يجري
وما لي وبيت الله موتي وإنما ... تركت عجوزا في المهامه والقفر
ضعيفة حيل ليس فيها جلادة ... على نائبات الحادثات التي تجري
وكنت لها ركنا بعيد رجالها ... وأكرمها جهدي وإن مسني فقري
وأطعمها من صيد كفي أرانباً ... مع الظبي والوحش المقيمة في البر
وأحمي حماها أن تضام فلم أزل ... لها ناصر في موقف الشر والضر
وإني أردت الله لا شيء غيره ... وجاهدت في جيش الملاعين بالمسر
كذلك أختي جاهدت كل كافر ... وما برحت بالطعن في الكر والفر
تقول وقد جار الفراق ببينه ... ألا يا أخي ما لي على البين من صبر(6/274)
ألا يا أخي هذا الفراق فمن لنا=بخير رجوع قادم منك بالبشر
ألا بلغاها عن أخيها تحية ... وقولا غريب مات في قبضة القهر
جريح طريح بالسيوف مبضع ... على نصرة الإسلام والطاهر الطهر
حمائم نجد بلغي قول شائق ... إلى عسكر الإسلام والسادة الغر
وقولي ضرار في القيود مكبل ... بعيد عن الأوطان في بلد وعر
وإن سألوا عني الأحبة خبري ... بأن دموعي كالسحاب وكالقطر
حمائم نجد إن أتيت خيامنا ... فقولي كذاك الدهر عسر
وقولي لهم أن الأسير بحرقة ... له علة بين الجوانح والصدر
له من عداد العمر عشر وسبعة ... وواحدة عند الحساب بلا نكر
وفي خده خال محته مدامع ... على فقد أوطان وكسر بلا جبر
مضى سائرا يبغي الجهاد تبرعا ... فوافاه أولاد اللئام على غدر
ألا فادفناني بارك الله فيكما ... ألا واكتبا هذا الغريب على قبري
ألا يا حمامات الحطيم وزمزم ... ألا أخبري أمي ودلي على قبري
عسى تسمح الأيام منها بزورة ... لقبر غريب لا يزار من النكر
للصاحب فخر الدين بن مكانس يستدعي سراج الدين الإسكندري ويداعبه
يا ذا الذي فكره مثل اسمه يقد ... فندت عنا وما من شأنك الفند
بم اعتذارك عن هذا الصدود لنا ... هذا وقد ضممنا بالجيرة بالبدل
عافاك ربك من داء القطيعة بل ... شفاك من داء أمر كله نكد
فيم التواني والخلان قد حفلت ... على المودة لا حقد ولا حمد
إن ذاع وصفك في تأديبهم طربوا ... أو جال ذكرك فيما بينهم سجدوا
إن لم تشرف بناديهم فما شرفوا ... أو لم تنفق لهم آدابهم كسدوا
إذا هجرت بني الآداب فابد لنا ... بم اعتذارك لا أهل ولا ولد
قد صرت توحشهم بدعا وإن قربوا ... وكنت تؤنسهم قربا وإن بعدوا
ما هكذا تفعل الدنيا بصاحبها ... فالناس بالناس ولإخوان تنتقد
وبعد فاحضر وذنب البعد مغتفر ... وإن تطاول من هجرانك الأمد
وأوعدوك فإن لم تأت نحوهم ... وكلهم منجز في الحال ما يعد
وأنت أدرى بقوم أن بلوا سلقوا ... بألسن ما لقتلى حربها قود(6/275)
لا زلت ترقى على زهر النجوم علا ... ما هبت الريح أقواما وما رصدوا
في العتاب واللوم
كتاب أبي بكر بن القصيرة عن أمير المسلمين وناصر الدين إلى طائفة متعدية
أما بعد يا أمة لا تعقل رشدها. ولا تجري إلى ما تقتضيه نعم الله عندها. ولا تقلع عن أذى تفشيه قربا وبعدا وجهدا. فإنكم لا ترعون لجار ولا لغيره حرمة. ولا تراقبون في مؤمن إلا ولا ذمة. قد أعمالكم عن مصالحكم الأشر. وأضلكم ضلالا بعيدا البطر. ونبذتم المعروف وراء ظهوركم وآتيتم ما ينكر مقتديا في ذلك صغيركم بكبيركم. وخاملكم بمشهوركم. ليس فيكم زاجر. ولا منكم إلا غوي فاجر. وما نرى إلا أن الله عز وجل قد شاء مسخكم. وأراد نسخكم وفسخكم. فسلط عليكم الشيطان يغركم ويغريكم. ويزين لكم قبائح معاصيكم. وكأنكم به قد نكص علي عقبيه عنكم. وقال: إني بريء منكم. وترككم في صفقة خاسرة. لا تستقيلونها إن لم تتوبوا في دنيا ولا آخرة وحسبنا هذا أعذارا لكم. وإنذارا قبلكم. فتوبوا. وأنيبوا. واقلعوا. وانزعوا. واقتصوا من أنفسكم كل من وترتموه. وأنصفوا جميع من ظلمتموه وغشمتموه. ولا تستطيلوا على أحد بعد. ولا يكن إلى أذاه صدور ولا ورد. وإلا عاجلكم من عقوبتنا ما يجعلكم مثلا سائرا. وحديثا غابرا. فاتقوا الله في أنفسكم وأهليكم. وإياكم والاغترار فإنه يورطكم فيما يرديكم ويسوقكم إلى ما يشمت بكم أعاديكم. وكفى بهذا تبصرة وتذكرة. ليست لكم بعدها حجة ولا معذرة. ولا توفيق إلا بالله تعالى.
كتاب الوزير الفقيه أبي القاسم ابن الجد عن أمير المسلمين وناصر الدين إلى أهل أشبيلية
كتابنا أبقاكم الله وعصمكم بتقواه. ويسركم من الاتفاق ولائتلاف إلى ما يرضاه. وجنبكم من أسباب الشقاق والخلاف ما يسخطه وينهاه. من حاضرة مراكش حرسها الله لست بقين من جمادى الأولى سنة اثنتي عشرة وخمسمائة. وقد بلغنا ما تأكد بين أعيانكم من أسباب التباعد والتباين. ودواعي التحاسد والتضاغن. واتصال التباغض والتدابر. وتمادي التقاطع والتهاجر. وفي هذا على فقهائكم وصلحائكم مطعن بين. وغمز لا يرضاه مؤمن دين. فهلا سعوا في إصلاح ذات البين سعي الصالحين. وجدوا في إبطال أعمال المفسدين. وبذلوا في تأليف الآراء المختلفة وجمع الأهواء المفترقة جهد المجتهدين. ورأينا والله موفق للصواب. أن نعذر إليكم بهذا الخطاب. فإذا وصل إليكم. وقرئ عليكم. فاقمعوا الأنفس الأمارة بالسوء. وارغبوا في السكون والهدوء. ونكبوا عن طريق البغي الذميم المشنو. واحذروا دواعي الفتن. وعواقب الإحن. وما يجر داء الضمائر. وفساد السرائر. وعمى البصائر. ووخيم المصاير. وأشفقوا على(6/276)
أديانكم وأعراضكم. وتوبوا إلى الصلاح في جميع أغراضكم واخلصوا السمع والطاعة لوالي أموركم. وخليفتنا في تدبيركم. وسياسة جمهوركم. أخينا الكريم علينا أبي إسحاق إبراهيم أبقاه الله. وأدام عزه بتقواه. واعملوا أن يده فيكم كيدنا. ومشهده كمشهدنا. فقفوا عند ما يحضكم عليه. ويدعوكم إليه. ولا تختلفوا في أمر من الأمور لديه. وانقادوا واسلم انقياد لحكمه وعزمه. ولا تقيموا على ثيج عناد بين حده ورسمه. والله تعالى يفيء بكم إلى الحسنى. وييسركم إلى ما فيه صلاح الدين والدنيا. بقدرته (قلائد العقيان لابن خاقان)
في المديح والتهنئة والشكر
من كتاب لأبي محمد البسطامي إلى بعض الأمراء
الحمد لله الذي أقام الأمير مقاما تسر به الخواطر. وأحيا به بلدة العلوم إحياء الروض بالسحب المواطر. وأعاد شمسها المنيرة إلى أفقها. وأحلها بالمطالع الذي هو من حقها. فعاد إلى وظيفتها عود الحلي إلى العاطل. وأظهرها به ظهور الحق على الباطل. فأصبحت منيرة شمسه ظاهرة في يومه بحسن ما عودها في أمسه. فنظر إليها نظر السحاب إلى مواقع وبلها. وحنوه على أهلها حنو المرضع على طفلها. فأصبحت رياح الأمن بها سارية. وسحاب اليمن من فوقها جارية والأرزاق تنهل من أقلامه كما ينهل المطر من مزنه. وأنواع الخيرات تجنى من كرمه كما جني الثمر من غصنه. لازالت أقلامه محكمة في أراضي العلماء. نافذا أمرها في أقاليم الفضلاء.
كتب ذو الوزارتين أبو بكر بن أحمد بن رحيم إلى الوزير المشرف أخيه يهنيه بمولود من قصيدة
ورد الكتاب به فرحت كأنني ... نشوان راح في ثياب تبختر
لما فضضت ختامه فتبجلت ... بيض الأماني في سواد الأسطر
قبلت من فرح به خد الثرى ... شكراً ولا حظ لمن لم يشكر
يما مورد الخبر الشهي وحادي ال ... أمل القصي وهادي النباء السري
زدني من الخبر الذي أوردته ... يا برد ذاك على فؤاد المخبر
صفحا وعفوا للزمان فإنه ... ضحكت أسرة وجهه المتنمر
طلع البشير بنجم سعد لاح من ... أفق العلى وبشبل ليث مخدر
لله درك أي فرع سيادة ... أعطيته وقضيب دوحة مفخر
طابت أرومته وأينع فرعه ... والفرع يعرف فيه طيب العنصر
أنت الجدير بكل فضل نلته ... وحويته وبكل مكرمة حري
تهنا رحيما إنها قد أنجبت ... برحيم المحمود أسنى مذخر
نامت عيون الدهر عن جنباته ... وحمت مناهله متون الضمر(6/277)
وصفا له ولأخوة يتلونه ... ما الحياة لديك غير مكدر
فلانت بدر السعد وهو هلاله ولأنت سيف المجد وهو السمهري
لازلت تبقى للمحامد جامعا ... مع أحمد في ظل عيش أخضر
والسعد ينشر فوق رأسك راية ... تبقى مع العليا بقاء الأدهر
قال صفي الدين الحلي يشكر أنعام السلطان الملك المؤيد عماد الدين إسماعيل وقد حمل إليه تحفا وكسوات البيت وآلاته ومهماته جميعها
جزاك الله من حسناك خيراً ... وكان لك المهيمن خيرا راع
فقد قصرت بالإحسان لفظي ... كما طولت بالإنعام باعي
فأخرني الحياء وليس يدري ... جميع الناس ما سبب امتناعي
فاشكر حسن صنعك في اتصال ... وخطوي نحو ربعك في انقطاع
وقافية شبيه الشمس حسناً ... تردد بين كفي واليراع
لها فضل على غرر القوافي ... كما فضل البقاع على البقاع
غدت تثني على علياك لما ... ضمنت لربها نجح المساعي
فدمت ولا برحت مدى الليالي ... سعيد الجد ذا أمر مطاع
كتاب لسان الدين بن الخطيب إلى بعض الفضلاء
تعرفت قرب الدار ممن أحبه ... فكنت أجد البر لولا ضرورة
لا تلو من آي المحامد سورة ... وأبصر من شخص المحاسن صوره
كنت أبقاك الله تعالى لاغتباطي بولائك. وسروري بلقائك. أود أن أطوي إليك هذه المرحلة. وأجدد العهد بلقياك المؤملة. فمنع مانع. وما ندري في الآتي ما الله صانع. وعلى كل حال فشأني قد وضح منه سبيل مسلوك. وعمله مالك ومملوك. واعتقادي أكثر مما تسعه العبارة. والألفاظ المستعارة. وموصلها ينوب عني في شكر تلك الذات المستكملة شروط الوزارة. المتصفة بالعفاف والطهارة. والسلام (نفح الطيب للمقري)
في التعزية
كتاب أبي إسحاق الصابي إلى محمد بن العباس يعزيه عن طفل
الدنيا أطال الله بقاء الرئيس أقدار ترد في أوقاتها. وقضايا تجري إلى غاياتها. ولا يرد منها شيء عن مداه. ولا يصد عن مطلبه ومنحاه. فهي كالسهام التي تثبت في الأغراض. ولا ترجع بالاعتراض. ومن عرف ذلك معرفة الرئيس لم عند يأثر الزيادة ولم يقنط عند المصيبة. ولم يجزع عند النقيضة. وأمن أن يستخف أحد الطرفين حكمه. ويستنزل أحد(6/278)
الأمرين حزمه. ولم يدع أن يوطن نفسه على النازلة قبل نزولها. ويأخذ الأهبة للحالة قبل حلولها. وأن يجاور الخير بالشكر. ويساور المحنة بالصبر. فيتخير فائدة الأولى عاجلا. ويستمرئ عائدة الأخرى آجلا. وقد نفذ من قضاء الله في المولى الجليل قدرا. الحديث سناما أرمض واقض. وأقلق وأمض. ومسني من التألم له ما يحق على مثلي ممن توالت أيدي الرئيس إليه. ووجبت مشاركته في الملم عليه. فإنا لله وإنا إليه راجعون. وعند الله نحتسبه غصنا ذوى. وشهابا خبا. وفرعا دل على أصله. وخطيا أنبته وشيجه. وإياه نسأل أن يجعله للرئيس فردا صالحا وذخرا عتيدا. وأن ينفعه يوم الدين حيث لا ينفع إلا مثله بين البنين بجوده ومجده. ولئن كان المصاب به عظيماً. والحادث فيه جسيما. لقد أحسن الله إليه. وإلى الرئيس فيه. أما إليه. فإن الله نزهه باحترام. عن اقتراف الآثام. وصانه بالاختصار. عن ملابسة الأوزار. فورد دنياه رشيدا. وصدر عنها سعيدا. نقي الصحيفة من سواد الذنوب. بريء الساحة من درن العيوب. لم تدنه الحرائر. ولم تعلق به الصغائر والكبائر. قد رفع الله عنه دقيق الحساب. واسهم له الثواب مع أهل الصواب. وألحقه بالصديقين الفاضلين في المعاد. وبوأه حيث فضلهم من غير سعي واجتهاد. وأما الرئيس فإن الله لما اختار ذلك قبضة قبل رؤيته وقبل معانيه على الحالة التي يكون مها رقة. التي تتضاعف عندها الحرقة. وحماه من فتنة المرافقة. ليرفعه عن جزع المفارقة. وكان هو المبقى في دنياه. والواجب الماضي الذخيرة لأخراه. وقد قيل إن تسلم الحلة فالسخل هدر. وعزيز علي أن أقول المهون للمر من بعده ولا أوفي التوجه عليه. واجب فقده فهو له سلالة ومنه بضعة. ولكت ذلك طريق التسلية. وسبيل التعزية. والمنهج المسلوك في مخاطبة مثله ممن يقبل منفعة الذكرى وإن أغناه الاستبصار. ولا يأبي ورود الموعظة وإن كفاه الاعتبار. والله تعالى يقي الرئيس المصائب. ويعيده من النوائب. ويرعاه بعينه التي لا تنام. ويجعله في حماه الذي لا يرام. ويبقيه موفورا عير منتقص. يقدمنا إلى السوء أمامه. وإلى المحذور قدامه. ويبدأ بي من بينهم في هذه الدعوة. إذ كنت أراها من أسعد أحوالي. وأعدها من أبلغ أماني وآمالي (للقيرواني)
لأبي فضل الميكالي تعزية إلى أبي عمرو البحتري في أخ
لقد عاش أخوك نبيه الذكر. جليل القدر. عبق الثناء والنشر. يتجمل به أهل بلده. ويتباهى بمكانه ذوو مودته. ويفتخر الأثر وحاملوه بتراخي بقائه ومدته. حتى إذا تسنم ذروة الفضائل والمناقب. وظهرت محاسنه كالنجوم الثواقب. اختطفته يد المقدار. ومحت أثره بين الآثار. فالفضل خاشع الطرف لفقده. والكرم خالي الربع من بعده. والحديث يندب حاله ودرسه. وحسن العهد يبكي كافله وحارسه.(6/279)
للفقيه الكاتب أبي عبد الله اللوشي رسالة كتب بها إلى أمير المسلمين يعزيه في الأمير مزدلي
أطال الله بقاء أمير المسلمين. وناصر الدين. الشائع عدله. السابغ فضله. العظيم سلطانه. العلي مكانه. السني قدره وشانه. في سعد تطرف عنه أعين النوائب. وجد تصرف دونه أوجه المصائب. كل رزء أدام الله تأييده وأن عظم وجل. حتى استولى على النفوس منه الوجل. إذا عدا بابه. وتخطى بنابه. فقد أخطأ بحمد الله المقتل. وصد عن سواء الغرض وعدل. وإذا كانت أقدار الله تعالى غالبة لا تصاول. وأحكامه نافذة لا تزاول. فالصبر لواقعها أولى. وكتبته أدام الله تأييده والنفس بنار زفراتها محترقة. والعين بماء عبراتها شرقة مغرورقة. لما نفذ قدر الله المقدور. وقضاؤه المسطور. من وفاة الأمير الأجل أبي محمد مزدلي قدس الله وجه. وسقى ضريحه. فيا له من رزء قصم الظهر. ووسم النجوم الزهر. وأذكى الأحزان. وأبكى الأجفان. وأقصى المهاد بمكانته من الدولة المنيفة. ومنزلته من الإمرة الرفيعة الشريفة. وعند الله نحتسبه ذخيرة عظمى. ونسأله المغفرة له والرحمة. فإنه كان نور الله وجهه متوفر الهمة على الجهاد. من أهل الجد في ذلك والاجتهاد. وحسبه أنه لم يقض نحبه إلا وهو متجهز في عساكره فأدركه الموت مهاجرا. ومع الله تاجرا. وأرجو أن يكون تعالى قد قرن له فاتحة السعادة. بخاتمة الشهادة. وأمير المسلمين أورى في الرئاسة زندا من أن تضعضعه الخطوب وأن أهمّت. وتوجعه الحوادث إذا ادلهمت. والله يحسن عزاءه على فجعه. ولا يدني حادثا بعده من ربعه. بمنه عز وجل.
كتب الوزير أبو محمد بن القاسم معزيا أبا الحسن بن زنباع قي قريب مات له
يشاطرك الصبابة والسهادا ... ويمخضك المحبة والودادا
صديق لو كشفت الغيب عنه ... وجدت هواك قد ملأ الفؤادا
يعز عليه رزء بت عنه ... شقيق النفس تلهمها سدادا
أنشفق للعباد ونحن منهم ... من الرب الذي خلق العبادا
أراد بنا الفناء على سواء ... ولا بد لنا مما أرادا
لئن قدمت علقما مستفادا ... لقد أكرمت حظا مستفادا
ومثلك لا يضعضعه مصاب ... ولا يعطي لنائبه قيادا
وما زلت الرشيد نهى وحاشى ... لمثلك أن نعلمه الرشادا(6/280)
كتب بديع الزمان الهمذاني إلى أبي عامر عدنان الضبي يعزيه ببعض أقاربه
إذا ما الدهر جر على أناس ... حوادثه أناخ بآخرينا
فقل للشامتين بنا أفيقوا ... سيلقى الشامتون كما لقينا
أحسن ما في الدهر عمومه بالنوائب. وخصوصه بالرغائب. فهو يدعو الجفلى إذا ساء. ويختص بالنعمة إذا شاء. فلينظر الشامت فإن كان أفلت. فله أن يشمت. وينظر الإنسان في الدهر وصروفه. والموت وصنوفه. من فاتحة أمره. إلى خاتمة عمره. هل يجد أثراً في نفسه أم لتدبيره. عونا على تصويره. أم لعمله. تقديما لأمله. أم لحيله. تأخيرا لأجله. كلا بل هو العبد لم يكن شيئاً مذكوراً. خلق مقهوراً. ورزق مقدوراً. فهو يحيا جبراً. ويهلك صبراً. وليتأمل المرء كيف كان قبلاً. فإن كان العدم أصلاً. والوجود فضلاً. فليعلم الموت عدلاً. والعاقل من رفع من حوائل الدهر ما ساء ليذهب ما ضر بما نفع. وإن أحب أن لا يحزن فلينظر يمنة. هل يرى إلا يمنة. ثم ليعطف يسرة. هل يرى إلا حسرة. ومثل الشيخ الرئيس من تفطن لهذه الأسرار. وعرف هذه الديار. فأعد لنعمتها صدرا لا يملؤه فرحا. ولبؤسها قلبا لا يطيره جزعا. وصحب الدهر برأي من يعلم أن للمتعة حدا. وللعارية ردا. ولقد نعي إلي أبو قبيصة قدس الله روحه. وبرد ضريحه. فعرضت علي آمالي قعودا. وأماني سودا. وبكيت والسخي بما يملك. وضحكت وشر الشدائد ما يضحك. وعضضت الإصبع حتى أفنيته. وذممت الموت حتى تمنيته. والموت خطب قد عظم حتى هان. وأمر قد خشن حتى الآن. ونكر قد عم حتى عاد عرفا. والدنيا قد تنكرت حتى صار الموت أخف خطوبها. وجنت حتى صار أصغر ذنوبها. وأضمرت حتى صار أيسر غيوبها. وأبهمت حتى صار أظهر عيوبها. ولعل هذا السهم آخر ما في كنانتها. وأزكى ما في خزانتها. ونحن معاشر التبع نتعلم الأدب من أخلاقه. والجميل من أفعاله. فلا نحثه على الجميل وهو الصبر. ولا نرغبه في الجزيل وهو الأجر. فلير فيهما رأيه. إن شاء الله تعالى (رسائل بديع الزمان الهمذاني)
كتب أبو بكر الخوارزمي إلى رئيس طوس يعزيه عن شقيق له
كتابي عن سلامة، وما سلامة من يرى كل يوم ركنا مهدوداً. ولحدا ملحوداً. وأخا مفقوداً. وحوضا من المنية موروداً. ويعلم أن أيامه مكتوبة. وأنفاسه محسوبة. وإن شباك المنايا له منصوبة. أف لهذه الدنيا ما أكدر صافيها. وأخيب راجيها. وأغدر أيامها ولياليها. وأنغص لذاتها وملاهيها. تفرق بين الأحباء والأحباب بالفوات. وبين الأحياء والأموات بالرفات. ورد علي خبر وفاة فلان. فدارت بي الأرض حيرة. وأظلمت في عيني الدنيا حسرة وملأ الوله والوهل قلبي وساوس وفكرة. وتذكرت ما كان يجمعني وإياه من سكري الشباب والشراب. فعلمت أنه شرب بكاس أنا شارب من شرابها. ورمي بسهم سوف أرمى بها. فبكيت(6/281)
عليه بكاء لي نصفه. وحزنت عليه حزنا لنفسي شطره. وسألت الله تعالى أكرم مسئول. وأعظم مأمول. أن يفيض عليه من رحمته. ما يتمم به سهمه من نعمته. وأن يتغمد كل زلة ارتكبها برحمته. ويضاعف له كل حسنة اكتسبها بمنته. وأن يذكر له تلك الأخلاق الكريمة. وتلك المروءة الواسعة العظيمة. ثم تذكرت ما نزل بسيدي من الوحشة لفقده. والغمة من بعده. والتحسر على قربه ببعده. فخلص إلى قلبي وجع ثان أنساني الماضي. وثالث أنساني الثاني. حتى استفزع ذلك ما في صبري. بل ما في صدري. وحتى صار الوجع وجعين. والمصاب اثنين. ثم رجعت إلى أدب الله تعالى فقلت: إنا لله وإنا إليه راجعون اللهم لا شكاية لقضائك. ولا استبطاء لجزائك. ولا كفران لنعمتك. ولا مناصبة لقدرتك. اللهم ارحم الماضي رحمة تحبب إليه مماته. وابق الحي بقاء يهنيه حياته. واطبع على قلبه حتى لا يطيع داعية الجزع. ولا يضع عنانه بيد الهلع. ولا يثلم جانب الأجر والذخر بالإثم والوزر. ولا يجد عدوه الشيطان سبيلا إليه. ولا سلطانا عليه. اقتصرت من تعزية سيدي على هذا المقدار. لا جريا على مذهبي في الاقتصار والاختصار. ولكني لم أجد من لساني بسطة. ولا في قريحتي فضلة. ويحق لهذه الفادحة الحادثة أن تدع اللسان محصورا. والبيان مقصورا. أو أن تحدث في العقل خللا. وفي البيان شللا. وليعرفني سيدي خير ما هداه الله إليه من جميل العزاء. الذي لم يعدم جميل الجزاء. ليكون سكوتي إلى ما أعرفه من سلوته. أضعاف قلق كان بما ظننته من حرقته. وإن كنت اعلم أنه لا يخلي ساحة الحلم والعلم. ولا يخل بالواجب من التمسك بالحزم. ولا يحل عقدة صبره. ولا نتداعى أركان صدره. ولا يعمى الرشد في جميع أمره. وهذه شريطة الكمال. وسجية الرجال.
وكتب إلى قاضي سجستان حين نكبه أميرها
أما بعد أيد الله القاضي فإنه لم يحسن إلى غيره من أساء إلى نفسه. ولم ينصر أصدقاءه. من خذل حوباءه. وإنما يحب المرء أخاه بما فضل عن محبته لروحه التي له خيرها. وعليه ضيرها. وكانت محنة القاضي محنة شملت الأنام. وخصت الكرام. ووجب على كل من اشتم روائح العقل. وميز بين النقصان والفضل. أن ينفطر لها ألما. وأن يبكي عندها دما. وخلص إلي من ذلك ما أضحك مني الأعداء. وأبكى لي الأصدقاء. حتى غضضت طرفا طالما رفعته. وقبضت بنانا طالما بسطته. وحتى عزيت كما يعزى الثكلان. وسليت كما يسلى اللهفان. وأنا بعد ذلك استصعر فعل نفسي وهي جزعة هلعة. واستقل سعي عيني وهي سخية دمعة. وكان يجب على مقتضى هذه الجملة. وأساس هذه البنية. أن أحضر مجلس القاضي فأصابره نهارا وأساهره ليلا وتكون المحنة بيني وبينه أحملها عنه ويحملها عني. ولكني علمت أن والينا هذا رجل ينظر إلى الذنب الخفي. ويتغابى عن العذر الجلي. وله أذنان واحدة يسمع بها البلاغات وهي كاذبة. وأخرى يصم بها عن المعاذير وهي صادقة. وليس بينه وبين العفو نسب. ولا له إلى التثبت(6/282)
طريق ولا مذهب. ولو تعرضت لسخطه. بعد ما عرفته من شططه. لتحملت دونه الوزر في ظلمي. ولكنت مقدمته إلى ذمي. ومن قعد تحت الريبة ركبته. ومن تعرض للظنة نالته
ومن دعا الناس إلى ذمه ... رموه بالحق وبالباطل
وأقل ما كان ينبعث من حضوري أن يثب هذا الجواد وثبة يصون القاضي عنها. ويبتذلني لها. فأكون قد ضررت نفسي ولم أنفع غيري فإذا بالمحنة قد تضاعفت على القاضي ضعفين. وتكررت عليه كرتين. يرى بولي من أوليائه. داء لا يقدر على دوائه. ويرى وقودا لا يصل إلى إطفائه. ويتبين في حالة متصلة بحالة ثلمة لا يمكن سدها. ومحنة لا يستوي لها ردها. فلما مثلت بين تخلفي آمنا. وحضوري خائفا. عدلت بين طرفي في الرؤية. ووزنت بين مقداري المحنة. فرأيت أن أميل مع السلامة. وأقنع من العمل بالنية. واغتفر عهدة التفصيل لصحة الجملة. فغبت وكلي غير جسمي شاهد. وتميزت وما أنا إلا مشاهد. وبعدت وقلبي سهيم. وأغضيت على عين كلها قذى. وانطويت على صدر كله شجا. وانصرفت بقلب ساقط راض وأغمضت بجفن ضاحك باك وقلت:
فإن تسجنوا القسري لا تسجنوا اسمه ... ولا تسجنوا معروفه في القبائل
ولقد نسجت في ذم الظالم حلالا لا يبلها الماء. ولا يجففها الهواء. ولا تغطي عليه الظلماء. والمغبون من احتقب الإثم والغارم من غرم العرض والرابح من محنته فانية. ومثوبته باقية. ولو أنصف الظالم لكان يعزى. ولو أنصف المظلوم لكان يعنى. جعل الله تعالى هذه الحادثة بتراء عقماء ليس لها مدد. ولا ليومها غد. وجعل العمل بها آخر عهد القاضي بالعسر. وخاتمة لقائه لريب الدهر. ولا حرمه فيما نزل به مثوبة الصابرين. ولا أخلاه فيما بعده من الشاكرين. برحمته.
قال صفي الدين الحلي يعزي الملك الأفضل صاحب حماة بوالده الملك المؤيد
خفض همومك فالحياة غرور ... ورحى المنون على الأنام تدور
والمرء في دار الفناء مكلف ... لا قادر فيها ولا معذور
والناس في الدنيا كظل زائل ... كل إلى حكم الفناء يصير
فالنكس والملك المتوج واحد ... لا آمر يبقى ولا مأمور
عجبا لمن ترك التذكر وانثنى ... في الأمن وهو بعيشه مغرور
في فقدنا الملك المؤيد شاهد ... ألا يدوم مع الزمان سرور
ملك تيمنت الملوك برأيه ... فكأنه لصلاحهم إكسير
ما آل أيوب الذين سماحهم ... بحر بأمواج الندى مسجور
وبكت له أهل الثغور وطالما ... ضحكت لدست الملك منه ثغور(6/283)
أمسى عماد الدين بعد علومه ... ولطبه عما عراه قصور
وإذا القضاء جرى بأمر نافذ ... غلط الطبيب وأخطأ التدبير
إن لمت صرف الدهر فيه أجابني ... أبت النهى أن يعتب المقدور
أو قلت أين ترى المؤيد قال لي ... أين المظفر قبل والمنصور
أم أين كسرى ازردشير وقيصر ... والهرمزان وقبلهم سابور
أين ابن داود سليمان الذي ... كانت بجحفله الجبال تمور
والريح تجري حيث شاء بأمره ... منقادة وبه البساط يسير
فتكت بهم أيدي المنون ولم تزل ... خيل المنون على الأنام تغير
لو كان يخلد بالفضائل ماجد ... ما ضممت الرسل الكرام قبور
كل يصير إلى البلى فأجبته ... إني أعلم واللبيب خبير
كتب الطغرائي إلى معين الملك فضل الله في نكبته
فصبرا معين الملك إن عن حادث ... فعاقبة الصبر الجميل جميل
ولا تيأسن من صنع ربك له ... ضمين بأن الله سوف يديل
فإن الليالي إذ يزول نعيمها ... تبشر أن النائبات تزول
ألم تر أن الليل بعد ظلامه ... عليه لإسفار الصباح دليل
ألم تر أن الشمس بعد كسوفها ... لها صفحة تغشى العيون صقيل
وأن الهلال النضو يقمر بعد ما ... بدا وهو شخت الجانبين ضئيل
فقد يعطف الدهر الأبي عنانه ... فيشفى عليل أو يبل غليل
ويرتاش مقصوص الجناحين بعد ما ... تساقط ريش واستطار نسيل
ويستأنف الغصن السليب نضاره ... فيورق ما لم يعتوره ذبول
وللنجم من بعد الرجوع استقامة ... وللحظ من بعد الذهاب قفول
وبعض الروايا يوجب الشكر وقفها ... عليك وأحداث الزمان نكول
ولا غرو أن أخنت عليك فإنما ... يصادم بالخطب الجليل جليل
وأي قناة لم ترنح كعوبها ... وأي حسام لم تصبه فلول
أسأت إلى الأيام حتى وترتها ... فعندك أضغان لها وتبول
وصارمتها فيما أرادت صروفها ... ولولاك كانت تنتحي وتصول
وما أنت إلا السيف يسكن غمده ... ليشقى به يوم النزال قتيل
وما لك بالصديق يوسف أسوة ... فتحمل وطء الدهر وهو ثقيل
وما غض منك الحبس والذكر سائل ... طليق له في الخافقين زميل(6/284)
فلا تذعن للخطب آدك ثقله ... فمثلك للأمر العظيم حمول
فلا تجزعن للكبل مسك وقعه ... فإن خلاخيل الرجال كبول
في الوصاة
كتب بديع الزمان إلى أبي نصر الميكالي يوصيه بأبي نصر
أنا في مفاتحة الأمير بين ثقة تعد. ويد ترتعد. ولم لا يكون ذلك البحر وغن لم أره. فقد سمعت خبره. ومن رأى من السيف أثره. فقد رأى أكثره. وإذا لم ألقه. فهل أجهل خلقه. وما وراء ذلك من تالد أصل ونشب. وطارف فضل وأدب. وبعد همة وصيت. فمعلوم تشهد بذلك الدفاتر. والخبر المتواتر. وتنطق به الأشعار. كما تختلف عليه الآثار. والعين أقل الحواس إدراكا. والآذان أكثرها استمساكا. أن شيخنا أبا نصر بن دوسنام سألني طول هذه المدة. مكاتبة تلك السدة. مستشفعا بكتابي إلى الخلق العظيم. والعلق الكريم. والفضل الجسيم. وكل شيء على الميم في باب التفخيم. وبي أن أعرف شغل شاغل. وحتى أقبل وأداخل. دخولا معلوما. لا يقتضي لوما. فلا تظنن إلا الجميل وعرفته أن المرء وجوده. ثم جوده. وشفيع لا يعرف غريب ولكنه من غريب الخبيث. لا من غريب الحديث. فأبى إلا أن أفعل وقد فعلت على السخط من القرط. فإن قبلت الشفاعة فالمجد يأبي ألا أن يعمل عمله. وأن ردت فليست كلمة السوء مثله. والسلام.
كتاب ابن الخطيب إلى شيخه أبي عبد الله بن مرزوق التلمساني شافعا
يا سيدي أبقاكم الله تعالى محط الآمال وقبلة الوجوه. وبلغ سيادتكم ما تؤمله من فضل الله تعالى وترجوه. وكلأ بعين حفظه ذاتكم الفاخرة. وجعل عز الدنيا متصلا لكم بعز الآخرة. بعد تقبيل يدكم التي يدها لا تزال تشكر. وحسنتها عند الله تعالى تذكر. أنهي إلى مقامكم أن الشيخ أبا فلان مع كونه مستحق التجلة. بهجرة إلى أبوابكم الكريمة قدمت. ووسائل من أصالة وحشمة كرمت. وفضل ووقار وتنويه للولاية إن كانت ذات احتقار وسن اقتضى الفضل بره. وأدب شكر الاختبار عليه وسره. وله بمعرفة سلفكم الأرضى وسيلة مرعية. وفي الاعتراف بنعمتكم مقامات مرضية. وتوجه إلى بابكم والتمسك بأسبابكم. والمؤمل من سيدي ستره بجناح رعيه في حال الكبرة. ولحظه بطرف المبرة. أما في استعمال يليق بذوي الاحتشام أو سكون تحت رعي واهتمام. وإعانة على عمل صالح يكون مسكة ختام. وهو أحق الغرضين بالتزام. وإحالة سيدي في حفظه رسم مثله. على الله تعالى الذي يجزي المحسنين بفضله. ومنه نسأل أن يديم أيام المجلس العلمي محروسا من النوائب. مبلغ الآمال والمآرب. والمملوك قد قرر شأنه في إسعاف المقاصد المأمولة من الشفاعة إليكم. والتحسب في هذه الأبواب عليكم. وتقليب القلوب بيد الله تعالى الذي يعطي ويمنع. ويملك الأمر أجمع. والسلام (نفح الطيب للمقري)(6/285)
الباب الثاني عشر في التراجم
شعراء الجاهلية
أعشى قيس (629 م)
هو ميمون بن قيس بن جندل ويكنى أبا بصير وهو واحد من أحد الأعلام من شعراء الجاهلية وفحولهم. تقدم على سائرهم وليس ذلك بمجمع عليه لا فيه ولا في غيره. وكان قوم يقدمون الأعشى على سائر الشعراء فيحتجون بكثرة تصرفه في المديح والهجو وسائر فنون الشعر وليس ذلك لغيره. ويقال أنه أول من سأل بشعره وانتجع به أقاصي البلاد. وكان يغني في شعره فكانت العرب تسميه صناجة العرب. ومن أخباره أنه أتى الأسود العنسي وقد امتدحه فاستبطأ جائزته. فقال الأسود: ليس عندنا عين ولكن نعطيك عرضا. فأعطاه خمسمائة مثقال دهنا وبخمسمائة حللا وعنبرا. فلما مر ببلاد بني عامر خافهم على ما معه فأتى علقمة بن علاثة. فقال له: أجرني. فقال: قد أجرتك. قال: من الجن والإنس. قال نعم. قال ومن الموت. قال: لا. فأتى عامر بن الطفيل. فقال: أجرني. فقال قد أجرتك. قال: من الجن والإنس. قال: نعم. قال: ومن الموت. قال: نعم. قال: وكيف تجيرني من الموت. قال: إن مت وأنت في جواري بعثت إلى أهلك الدية. فقال: الآن علمت أنك قد أجرتني من الموت. فمدح عامراً وهجا علقمة. فقال علقمة: لو علمت الذي أراد كنت أعطيته إياه. ويخبر عن الأعشى أنه لما ظهر الإسلام وفد على محمد بقصيدة. فبلغ خبره قريشا فرصدوه على طريقه وقالوا: هذا صناجة العرب ما مدح أحدا قط إلا رفع من قدره. فلما ورد عليهم قالوا له: أين أردت يا أبا بصير. قال: أردت صاحبكم هذا لسلم. قالوا: غنه ينهاك عن خلل ويحرمها عليك. وكلها بك رفق ولك موافق. قال: وما هن. فقال أبو سفيان بن حرب: القمار. قال: لعلي أن لقيته أن أصيب منه عوضا من القمار. ثم ماذا. قالوا: الربا. قال: ما دنت ولا أدنت. ثم ماذا. قالوا: الخمر. قال: أوه ارجع إلى صبابة قد بقيت لي في المهراس فأشربها. فقال له أبو سفيان: هل لك في خير مما هممت به. قال: وما هو. قال: نحن وهو الآن في هدنة فتأخذ مائة من الإبل وترجع إلى بلدك سنتك هذه وتنظر ما يصير إليه أمرنا فإن ظهرنا عليه كنت قد أخذت خلفا وإن ظهر علينا أتيته. فقال: ما أكره ذلك. فقال أبو سفيان: يا معشر قريش هذا الأعشى والله لئن أتى محمدا ليضرمن عليكم نيران العرب(6/286)
بشعره. فاجمعوا له مائة من الإبل. ففعلوا فأخذوها وانطلق إلى بلده. فلما كان بقاع منفوحة رمى به بعيره فقتله (الأغاني لأبي الفرج الأصفهاني)
أوس بن حجر (620 م)
قال الأصمعي: هو أوس بن حجر بن مالك شاعر تميم من شعراء الجاهلية وفحولها. يجيد في شعره ما يريد. وهو من الطبقة الثانية وكان انقطع إلى فضالة بن كلدة لما جاد عليه النعم. فلما مات فضالة وكان يكنى أبا دليجة. قال فيه أوس بن حجر يرثيه:
يا عين لابد من سكب وتهمال ... على فضال جل الرزء والعالي
أبا دليجة من توصي بأرملة ... أم من لأشعث ذي طمرين ممحال
أبا دليجة من يكفي العشيرة إذ ... أمسوا من الأمر في لبس وبلبال
لا زال مسك وريحان له ارج ... على صداك بصافي اللون سلسال
ومن فاضل مراثيه ونادرها قوله:
أيتها النفس أجملي جزعا ... إن الذي تكرهين قد وقعا
إن الذي جمع السماحة والن ... م جدة والحزم والقوى جمعا
المخلف المتلف المزرأ لم ... يمتع بضعف ولم يمت طبعا
أودى وهل تنفع الإشاحة من ... شيء لمن قد يحاول النزعا
وعمر أوس بن حجر طويلا وكانت وفاته في أول ظهور الإسلام
تأبط شرا (530 م)
هو ثابت بن جابر بن سفيان الفهمي أحد محاضرين العرب ومغاويرهم المعدودين. وقد غلب عليه هذا اللقب لما خبره الأصمعي قال: سار تأبط شرا في ليلة ذات ظلمة وبرق ورعد فأخذ عليه الطريق أسد وقيل غول فلم يراوغه وهو يطلبه ويلتمس غرة منه فلا يقدر عليه حتى ظفر به وقتله. فلما أصبح حمله تحت إبطه وجاء به إلى أصحابه فقالوا له: لقد تأبطت شرا فقال:
ألا من مبلغ فتيان فهم ... بما لاقيت عند رحى بطان
وإني قد لقيت الغول تهوي ... بسهب كالصحيفة صحصحان
فقلت لها كلانا نضو أين ... أخو سفر فخلي لي مكاني
فشدت شدة نحوي فأهوى ... لها كفي بمصقول يماني
فأضربها بلا دهش فخرت ... صريعا لليدين وللجران
فقالت عد فقلت لها رويدا ... مكانك إنني ثبت الجنان
فلم أنفك متكئا عليها ... لأنظر مصبحا ماذا أتاني(6/287)
إذا عينان في رأس قبيح ... كرأس الهر مشقوق اللسان
وساقا مخدج وشواة كلب ... وثوب من عباء أو شنان
ومن أخباره أنه كان يشتار عسلا من غار من بلاد هذيل يأتيه كل عام. وإن هذيلاً ذكرته فرصدوه لإبان ذلك حتى إذا جاء هو وأصحابه تدلى فدخل الغار وقد أغاروا عليهم. فانفروهم وسبقوهم ووقفوا على الغار. فحركوا الحبل فأطلع تأبط شرا رأسه. فقالوا: اصعد. فقال: لا أراكم. قالوا: بلى قد رأيتنا. فقال: فعلام اصعد أعلى الطلاقة أو الفداء. قالوا: لا شرط لك. قال: فأراكم قاتلي وآكلي جنادئي. لا والله لا أفعل. قال: وكان قبل ذلك نقب في الغار نقبا أعده للهرب. قال: فجعل يسيل العسل من الغار ويهريقه ثم عمد إلى الزق فشده على صدره ثم لصق بالعسل. فلم يبرح يتزلق عليه حتى خرج سليما. وفاتهم موضعه الذي وقع فيه وبين القوم مسيرة ثلاث. فقال تأبط شرا في ذلك:
أقول للحيان وقد صفرت لهم ... وطابي ويومي ضيق الحجر معور
لكم خصلة إما فداء ومنة ... وإما دما والقتل بالحر أجدر
وأخرى أصادي النفس عنها وإنها ... لمورد حزم إن ظفرت ومصدر
فرشت لها صدري فزل عن الصفا ... بد جؤجؤ صلب ومتن مخصر
فخالط سهل الأرض لم يلدح الصفا ... به كدحة خزيان والموت ينظر
فأبت إلى فهم وما كنت آئبا ... وكم مثلها فارقتها وهي تصفر
إذا المرء لم يحتل وقد جد جده ... أضاع وقاسى أمره وهو مدبر
ولكن أخو الحزم الذي ليس نازلا ... بد الأمر إلا وهو للحزم مبصر
فذاك قريع الدهر ما كان حولا ... إذا سد منه منخر جاش منخر
فإنك لو قايست بالصب حيلتي ... بلحيان لم يقصر بي الدهر مقصر
وكان تأبط شراً أعدى ذي رجلين وذي ساقين وذي عينين. وكان إذا جاع لم تقم له قائمة فكان ينظر إلى الظباء فينتقي على نظره أسمنها. ثم يجري خلفه فلا يفوته حتى يأخذه فيذبحه بسيفه فيشويه ثم يأكله. وقيل إن تأبط شرا لقي ذات يوم رجلا من ثقيف يقال له أو وهب كان جبانا أهوج وعليه حلة جيدة. فقال أبو وهب لتأبط شرا: بم تغلب الرجال يا ثابت وأنت كما أرى دميم ضئيل. قال: باسمي. إنما أقول ساعة ما ألقى الرجل: أنا تأبط شرا فينخلع قبله حتى أنال منه ما أردت. فقال له الثقفي: فهل لك إن أن تبيعني اسمك. قال: نعم. قال: فبم تبتاعه. قال: بهذه الحلة وبكنيتي. قال له: افعل ففعل. وقال له تأبط شرا: لك اسمي ولي كنيتك. وأخذ حلته وأعطاه طمريه ثم انصرف. وقال في ذلك يخاطب زوجة الثقفي:
ألا هل أتى الحسناء أن حليلها ... تأبط شرا وأكتنيت أبا وهب(6/288)
فهبه تسمى اسمي وسميت باسمه ... فأين له صبري على معظم الخطب
وأين له بأس كبأسي وسورتي ... وأين له في كل فادحة قلبي
وقتل تأبط شرا في بلاد هذيل. ورمي به في غار يقال له رخمان (الأغاني)
حارث بن حلزة (560 م)
هو ابن مكروه بن يزيد اليشكري البكري صاحب المعلقة. وكان من خبر هذه القصيدة والسبب الذي دعا الحارث إلى قولها أن عمرو بن هند الملك وكان جبارا عظيم الشأن والملك لما جمع بكرا وتغلب ابني وائل وأصلح بينهما أخذ من الحيين رهنا من كل حي مائة غلام ليكف بعضهم عن بعض. فكان أولئك الرهن يكونون معه في مسيره ويغزون معه. فأصابتهم سموم في بعض مسيرهم فهلك عامة التغلبيين وسلم البكريون. فقالت تغلب لبكر: أعطونا ديات أبنائنا فإن ذلك لكم لازم. فأبت بكر بن وائل. فاجتمعت تغلب إلى عمرو بن كلثوم وأخبروه بالقصة. فقال عمرو: أرى والله الأمر سينجلي عن أحمر أصلح أصم من بني يشكر. فجاءت بكر بالحارث بن حلزة وجاءت تغلب بعمرو بن كلثوم. فلما اجتمعوا عند الملك قال عمرو بن كلثوم للحارث بن حلزة: يا أصم جاءت بك أولاد ثعلبة تناضل عنهم وهم يفخرون عليك. فقال الحارث: وعلى من أظلت السماء كلها يفخرون ثم لا ينكر ذلك. وقام الحارث بن حلزة فارتجل قصيدته هذه ارتجالا. توكأ على قوسه وأنشدها واقتطم كفه وهو لا يشعر من الغضب حتى فرغ منها. قال ابن الكلب: أنشد الحارث عمرو بن هند هذه القصيدة وكان به وضح فقيل لعمرو بن هند إن به وسحا. فأمر أن يجعل بينه وبينه ستر. فلما تكلم أعجب بمنطقه فلم يزل عمرو يقول: أدنوه أدنوه حتى أمر بطر الستر وأقعده معه قريبا منه لإعجابه به. وعمر الحارث طويلا وابنه ظليم من فحول شعراء العرب (شعراء الجاهلية لأبي عبيدة)
دريد بن الصمة (630 م)
هو معاوية بن الحارث فارس شجاع وشاعر فحل. وكان أطول الفرسان الشعراء غزوا وأبعدهم وأكثرهم ظفرا. وأيمنهم نقيبة عند العرب يقال أنه غزا مائة غزاة ما أخفق في واحدة منها. فأدرك الإسلام فلم يسلم. وخرج مع قومه يوم حنين مظاهرا للمشركين ول فضل فيه للحرب. وإنما أخرجوه تيمنا به ليقبسوا من ورائه. فمنعهم مالك بن عوف من قبول مشورته. وقتل دريد في ذلك اليوم على شركه. وله في أخيه عبد الله مراث أجاد فيها ما أراد. وأخبر أبو عبيدة قال: هجا دريد بن الصمة عبد الله بن جدعان التيمي تيم قريش فقال:
هل بالحوادث والأيام من عجب ... أم بابن جدعان عبد الله من كلب
قال فلقيه عبد الله بن جدعان بعكاظ فحياه وقال له: هل تعرفني يا دريد. قال: لا.(6/289)
قال: فلم هجوتني. قال: من أنت. قال: أنا عبد الله بن جدعان. قال: هجوتك لأنك كنت امرءاً كريماً فأحببت أن أضع شعري موضعه. فقال له عبد الله: لئن كنت هجوت لقد مدحت وكساه وحمله على ناقة برحلها. فاقل دريد يمدحه:
إليك ابن جدعان أعملتها ... مخففة للسرى والنصب
فلا خفض حتى تلاقي امرءاً ... جواد الرضا وحليم الغضب
وجلدا إذا الحرب مرت به ... يعين عليها بجزل الحطب
رحلت البلاد فما إن أرى ... شبيه ابن جدعان وسط العرب
سوى ملك شامخ ملكه ... له البحر يجري وعين الذهب
وكانت وفاته في وقعة حنين أدركه ربيعة بن رفيع السلمي فأخذ بخطام جمله وهو يظن أنها امرأة وذلك أنه كان شعار له فأناخ به. فإذا هو برجل شيخ كبير ولم يعرفه الغلام. فقال له دريد: ماذا تريد. قال: أقتلك. قال: ومن أنت. قال: أنا ربيعة بن رفيع السلمي. فأنشأ دريد يقول:
ويح ابن أكمة ماذا يردي ... من المرعش الذاهب الأدرد
فأقسم لو أن بي قوة ... لولت فرائصه ترعد
ويا لهف نفسي أن لا تكون ... معي قوة الشامخ الأمرد
ثم ضربه السلمي بسيفه فلم يغن شيئاً. فقال له: بئس ما سلحتك أمك. خذ سيفي هذا من مؤخر رحلي في القراب فاضرب وارفع عن العظام واخفض عن الدماغ. فإني كذلك كنت أفعل بالرجال. ففعل كما قال فوقع صريعا (لأبي زكريا النووي)
زهير بن أبي سلمى (631 م) وابنه كعب بن زهير (626 م)
زهير هو ربيعة بن رياح المزني. وكان سيدا كثير المال في الجاهلية حليما معروفا بالورع. وهو أحد الثلاثة المقدمين على سائر الشعراء. وهم امرؤ القيس وزهير والنابغة الذبياني. وكان أبو بكر يسميه شاعر الشعراء لأنه كان لا يعاظل في الكلام. وكان يتجنب وحشي الشعر ولم يمدح أحدا إلا بما فيه ويبعد عن سخف الكلام. ويجمع كثير المعاني في قليل من الألفاظ. وكان يطنب في مديح هرم بن سنان المري من آل أبي حارثة أحد غطارفة العرب. وله فيه غرر القصائد. وكان هرم قد آلى أن لا يمدحه زهير إلا أعطاه ولا يسأله إلا أعطاه. ولا يسلم عليه إلا أعطاه عبدا أو وليدة أو فرسا. فاستحيا زهير مما كان يقبله منه. فكان إذا رآه في مل قال: عموا صباحا غير هرم وخيركم استثنيت. حدث الجوهري عن عمر قال: قال عمر لابن زهير: ما فعلت الحلل التي كساها هرم أباك. قال: أبلاها الدهر. قال: لكن الحلل التي كساها أبوك هرما لم يبلها الدهر.(6/290)
وأما ابنه كعب فهو من المخضرمين ومن فحول الشعراء وكان له أخ اسمه بجير سمع من محمد فأسلم. فبلغ ذلك كعبا فقال:
ألا أبلغا عني بجيراً رسالة ... على أي شيء ويب غيرك دلكا
على خلق لم تلف أما ولا أبا ... عليه ولم تردك عليه أخا لكا
سقاك أبو بكر بكاس روية ... فأنهلك المأمون منها وعلكا
فبلغت أبياته محمدا فغضب عليه وأهدر دمه. وقال: من لقي منكم كعب بن زهير فليقتله. فكتب إليه أخوه يخبره وقال له: انج وما أراك بمفلت. وكتب إليه بعد ذلك يأمره أن يسلم فأسلم كعب. وقال قصيدته (بانت سعاد) يعتذر فيها إلى محمد فأمنه (الأغاني)
الشنفرى (510 م)
هو ثابت بن أوس الأزدي الشاعر من أهل اليمن. والشنفرى هو العظيم الشفتين. وهو شاعر من الأزد من العدائين. وكان في العب من العدائين من لا يلحقه الخيل منهم هذا وسليك بن السلكة وعمر بن براق وأسيد بن جابر وتأبط شرا. وكان الشنفرى حلف ليقتلن من بني سلامان مائة رجل فقتل منهم تسعة وتسعين. وكان ذا وجدا لرجل منهم يقول له الشنفرى: لطرفك. ثم يرميه فيصيب عينه. فاحتالوا عليه فأمسكوه وكان الذي أمسكه أسيد بن جابر أحد العدائين رصده حتى نزل في مضيق ليشرب الماء فوقف له فيه فأمسكه ليلا. ثم قتلوه فمر رجل منهم بجمجمته فضربها برجله فدخلت شظية من الجمجمة فمات منها. فمت القتلى مائة. وله الشعر الحسن في الفخر والحماسة منه لاميته المعروفة بلامية العرب (للميداني)
عروة بن الورد (596 م)
هو أبو نجد عروة بن الورد بن زياد العبسي شاعر من شعراء الجاهلية وفارس من فرسانها المقدمين الأجواد. وكان يلقب عروة الصعاليك لجمعه إياهم وقيامه بأمرهم إذا أخفقوا في غزواتهم. ولم يكن لهم معاش إلا مغزاه وكان يعارض حاتما في جوده. فكان غض الطرف قليل الفحش كثير العطاء حاميا لحقيقته. ومن شعره قوله:
إذا المرء لم يطلب معاشا لنفسه ... شكا الفقر أو لام الصديق فأكثرا
وصار على الأذنين كلا وأوشكت ... صلات ذوي القربى له أن تنكرا
وما طالب الحاجات من كل وجهة ... من الناس إلا من أجد وشمرا
فسر في بلاد الله والتمس الغنى ... تعش ذا يسار أو تموت فتعذرا
وقتل عروة في بعض غاراته. قتله رجل من طهية (من ديوانه)(6/291)
عمرو بن كلثوم (570 م)
هو ابن مالك بن عتاب التغلبي صاحب المعلقة المعروفة. وله في شعره غرائب يغوص في بحر الكلام على در المعنى الغريب. وكان يقوم بقصائده خطيبا بسوق عكاظ في مواسم مكة. وبنو تغلب تعظمها جدا يرويها صغارها وكبارها. ولما حضرته الوفاة وقد أنت عليه خمسون ومائة سنة جمع بنيه فقال: يا بني قد بلغت من المعمر ما لم يبلغه أحد من آبائي. ولابد أن ينزل بي ما نزل بهم من الموت. وإني والله ما عيرت أحد بشيء إلا عيرت بمثله. إن كان حقا فحقا وإن كان باطلا فباطلا. فكفوا عن الشتم فإنه أسلم لكم. وأحسنوا جواركم يحسن ثناءكم. وامتنعوا عن ضيم الغريب. وإذا حدثتم فعوا. وإذا حدثتم فأوجزا. فإن مع الإكثار تكون الأهذار. وأشجع القوم العطوف بعد الكر كما أن أكرم المنايا القتل. ولا خير فيمن لا روية له عند الغضب ولا من إذا عوتب لم يعتب. ومن الناس من لا يرجى خيره ولا يخاف شره. فبكؤه خير من دره. وعقوقه خير من بره.
عنترة العبسي (615 م)
هو عنترة بن شداد العبسي. وكانت أمه حبشية أمة حبشية يقال لها زبيبة. وكان سبب ادعاء أبي عنترة إياه أن بعض أحياء العرب أغاروا على بني عبس فأصابوا منهم واستاقوا إبلا فتبعهم العبسيون فلحقوهم فقاتلوهم عما معهم وعنترة يؤمئذ فيهم فقال له أبوه كر يا عنترة. فقال عنترة: العبد لا يحسن الكر. إنما يحسن الحلب والصر. فقال: كر وأنت حر فكر. وقاتل يؤمئذ قتالا حسنا فادعاه أبوه بعد ذلك وألحق به نسبه.
وعنترة أحد أغربة العرب وهم ثلاثة عنترة وخفاف بن ندبة والسليك بن السلكة. قال أبو عمرو الشيباني: غزت بنو عبس بني تميم وعليهم قيس بن زهير فانهزمت بنو عبس وطلبتهم بنو تميم فوقف لهم عنترة. ولحقهم كبكبة من الخيل فحامى عنترة عن الناس فلم يصب مدبر. , وكان قيس بن زهير سيدهم فساءه ما صنع عنترة يؤمئذ فقال حين رجع: والله ما حمى الناس إلا ابن السوداء. وكان قيس أكولا فبلغ عنترة ما قال. فقال يعرض به قصيدته التي يقول فيها:
بكرت تخوفي الحتوف كأنني ... أصبحت عن عرض الحتوف بمعزل
فأجبتها إن المنية منهل ... لابد أن أسقى بكأس المنهل
فاقني حياءك لا أبا لك واعلمي ... أني امرؤ سأموت إن لم أقتل
إن المنية لو تمثل مثلت ... مثلي إذا نزلوا بضنك المنزل
إني امرؤ من خير عبس منصبا ... شطري واحمي سائري بالمنصل(6/292)
وإذا الكتيبة أحجمت وتلاحظت ... ألفيت خيرا من معم مخول
والخيل تعلم والفوارس أنني ... فرقت جمعهم بضربة فيصل
إن يلحقوا أكرر وإن يستلحموا=أشدد وإن يلفوا بضنك أنزل ولقد أبيت على الطوى وأظله=حتى أنال به كريم المأكل وقيل لعنترة أنت أشجع العرب قال: لا. قال: فبماذا شاع لك هذا في الناس. قال: كنت أقدم إذا رأيت الإقدام عزما. وأحجم إذا رأيت الإحجام حزما. ولا أدخل موضعا إلا أرى لي منه مخرجا. وكنت أعتمد الضعيف الجبان فأضربه الضربة الهائلة يطير لها قلب الشجاع فاثني عليه فأقتله. وحدث عن عمر بن الخطاب أنه قال للحطئية: كيف كنتم في حربكم. قال: كنا ألف فارس حازم. قال: وكيف يكون ذلك. قال: كان قيس بن زهير فينا (وكان حازماً) فكنا لا نعصيه. وكان فارسنا عنترة فكنا نحمل إذا حمل ونحجم إذا أحجم. وكان فينا الربيع بن زياد وكان ذا رأي فكنا نستشيره ولا نخالفه. وكان فينا عروة بن الورد فكنا نأتم بشعره فكنا كما وصفت لك. فقال عمر: صدقت. قال ابن الكلب: كان عمرو بن معدي كرب يقول: ما أبالي من لقيت من فرسان العرب ما لم يلقني حراها وهجيناها يعني بالحرين عامر بن الطفيل وعتيبة بن الحارث بن شهاب وبالعبدين عنترة والسليك بن السلكة. وكان عنترة أحسن العرب شيمة وأعلاهم همة وأعزهم نفسا. وكان مع شدة بطشه حليما لين العريكة سهل الأخلاق. وكان شديد النخوة كريما مضيافا لطيف المحاضرة رقيق الشعر. وله فيه لطائف كثيرة يعرض فيه عن تنافر الألفاظ وخشونة المعاني. وعمر عنترة تسعين سنة.
النابغة الذبياني (604 م) والنابغة الجعدي (680 م)
هو زياد بن معاوية ويكنى أبا أمامة. وهو أحد الأشراف الذين غض الشعر منهم. وهو من الطبقة الأولى المقدمين على سائر الشعراء. وإنما لقب لطول باعه في الشعر. وكان يضرب للنابغة قبة من أدم بسوق عكاظ فتأتيه الشعراء فتعرض عليه أشعارها. وكان النابغة كبيرا عند النعمان خاصا به. وكان من ندمائه وأهل أنسه. ثم تغير عليه وأوعده وتهدده. فهرب منه فأتى قومه ثم شخص إلى ملوك غسان فامتدحهم. ثم كتب إلى النعمان يعتذر إليه بقصيدته الميمية التي مطلعها (يا دار مية) . فأمنه النعمان واستنشده من شعره فأذن له أن ينشده قصيدته التي يقول فيها:
حلفت فلم أترك لنفسك ريبة ... وليس وراء الله للمرء مذهب
لأنك شمس والملوك كواكب ... إذا طلعت لم يبد منهن كوكب
ثم أسن النابغة وكبر وتوفي في السنة التي قتل فيها النعمان بن المنذر أما النابغة الجعدي فهو أبو ليلى بن حسان بن قيس وكان أسن من النابغة الجعدي. وكان(6/293)
شاعرا مغلقا طويل البقاء في الجاهلية والإسلام. نادم المنذر ومدحه وكان على دين الحنيفية يقر بالتوحيد ويصوم ويستغفر ويتوقع أشياء لعواقبها ومن قوله:
الحمد لله لا شريك له ... من لم يقلها فنفسه ظلما
الحافظ الرافع السماء على ال ... أرض ولم يبن تحتها دعما
وكانت وفاته بأصبهان وله من العمر ما ينيف على المائة (شعراء الجاهلية لأبي عبيدة)
الشعراء المخضرمون
حسان بن ثابت (675 م) (54 هجري)
هو أبو عبد الرحمن حسان بن ثابت بن المنذر الأنصاري من المخضرمين. عاش ستين سنة في الجاهلية وستين سنة في الإسلام وتوفي بالمدينة. وقد أجمعت العرب على أن حسان أشهر أهل المدر. ولما كان أهل مكة يعيرون الإسلام ويهجون صاحبه أذن محمد لحسان أن يحمي أعراض المسلمين فقال: اهجهم وجبريل معك وسيعينك عليهم روح القدس. ومن قوله في الفخر:
نحن الملوك فلا حي يقاربنا ... من الملوك وفينا يؤخذ الربع
تلك المكارم حزناها مقارعة ... إذا الكرام على أمثالها اقترعوا
كم قد نشدنا من الأحياء كلهم ... عند النهاب وفضل العز يتبع
وننحر الكوم عبطا في منازلنا ... للنازلين إذا ما استطعموا شبعوا
ونحن نطعم عند المحل ما أكلوا ... من العبيط إذا لم يظهر الفرع
وننصر الناس تأتينا سراتهم=من كل أوب فتمضي ثم نتبع وقد تستحسن له قصائد في وقعة بدر يفخر بها. وفي آخر حياته كف بصره.
الحطيئة
الحطيئة لق لقب به لقصره واسمه أبو مليكة جرول بن أوس بن مالك من فحول الشعراء ومتقدميهم وفصحائهم. متصرف في جميع فنون الشعر من المديح والهجاء والفخر. وكان ذا شر وسفه ينتمي إلى كل قبيلة إذا غضب على الآخرين. وهو مخضرم أدرك الجاهلية والإسلام. وكان الحطيئة مطبوعاً على الهجاء دنيء النفس قبيح المنظر رث الهيئة فاسد الدين. وكان بذياً هجاء. فالتمس ذات يوم إنسانا يهجوه فلم يجده وضاق عليه ذلك فأنشأ يقول:
أبت شفتاي اليوم إلا تكلما ... بشر فما أدري لمن أنا قائله
وجعل يدهور هذا البيت في أشداقه ولا يرى إنسانا إذ اطلع في ركي فرأى وجهه فقال:
أرى لي وجها شوه الله خلقه ... فقبح من وجه وقبح حامله
قال ابن أبي بكر لقيت الحطيئة بذات عرق فقلت له: يا أبا ملكة من أشعر الناس(6/294)
فأخرج لسانه كأنه حية ثم قال: هذا إذا طمع. وأخبر المدائني قال: مر ابن الحمامة بالحطيئة وهو جالس بفناء بيته فقال: السلام عليكم. فقال: قلت ما لا ينكر. قال: إني خرجت من أهلي بغير زاد. فقال: ما ضمنت لأهلك قراك. قال: أفتأذن لي أن آتي ظل بيتك فأتفيأ به. قال: دونك الجبل يفيء عليك. قال: أنا ابن الحمامة. قال: انصرف وكن ابن أي طائر شئت. ومن شعره في المديح:
أولئك قوم إن بنوا أحسنوا البنا ... وإن عاهدوا أوفوا وإن عقدوا شدوا
وإن كانت للنعماء فيهم جزوا بها ... وإن أنعموا لا كدروها ولا كدوا
وإن قال مولاهم على جل حادث ... من الدهر ردوا فضل أحلامكم ردوا
وكان الحطيئة يهجو الزبرقان بن بدر. فاستعدى عليه الزبرقان عمر بن الخطاب فرفعه عمر إليه ثم أمره به فجعل في بئر فأنشده:
ماذا تقول لأفراخ بذي مرخ ... زغب الحواصل لا ماء ولا شجر
ألقيت كاسبهم في قعر مظلمة ... فاغفر عليك سلام الله يا عمر
أنت الإمام الذي من بعد صاحبه ... ألقى إليك مقاليد النهى البشر
لم يؤثروك بها إذ قدموك لها ... لكن لأنفسهم كانت بك الأثر
فأمنن على صبية بالرمل مسكنهم ... بين الأباطح تغشاهم بها القرر
فأخرجه وقال له: إياك وهجاء الناس. فأقام بالبادية إلى وفاته في خلافة عمر وكان قد بلغ من العمر نيفا ومائة سنة (الأغاني للأصفهاني)
الخنساء (646 م) (24 هجري)
هي تماضر بنت عمرو بن الشريد من سراة قبائل سليم من أهل نجد من شواعر العرب. وأجمع علماء الشعر أنه لم تكن قط امرأة قبلها ولا بعدها أشعر منها. وكان النابغة الذبياني يجلس لشعراء العرب بعكاظ على كرس ينشدونه فيفضل من يرى تفضيله. فأنشدته في بعض المواسم فأعجب بشعرها وقال لها: لولا أن هذا الأعمى أنشدني قبلك (يعني الأعشى) فضلتك على شعراء هذا الموسم. وأكثر شعرها في مراثي أخويها معاوية وصخر. وكان صخر قتل يوم الكلاب من أيام العرب. فلما مات دفن في أرض بني سليم بقرب عسيب وحضرت الخنساء القادسية مع بنيها وهم أربعة رجال فقالت لهم من أول الليل: يا بني أنكم أسلمتم طائعين وهاجرتم مختارين. والله الذي لا إله إلا هو إنكم لبنو رجل واحد كما أنكم بنو امرأة واحدة ما هجنت حسبكم. ولا غيرت نسبكم. واعلموا أن الدار الآخرة خير من الدار الفانية. اصبروا وصابروا ورابطوا واتقوا الله لعلكم تفلحون. فإذا رأيتم الحرب قد شمرت عن ساقيها. وجللت نارا على أوراقها. فتيمموا وطيسها. وحالدوا رسيسها. وتظفروا بالغنم والكرامة. في(6/295)
دار الخلد والمقامة. فلما أضاء لهم الصبح باكروا مراكزهم فتقدموا واحدا بعد واحد ينشدون أراجيز يذكرون فيها وصية العجوز لهم حتى قتلوا عن آخرهم. فبلغها الخبر فقالت: الحمد لله الذي شرفني بقتلهم. وأرجو من ربي أن يجمعني بهم مستقر الرحمة. وكان عمر بن الخطاب يعطيها أرزاق بنيها الأربعة وكان لكل منهم مئتا درهم حتى قبض. ومن قولها في أخيها صخر:
ألا يا صخر أن أبكيت عيني ... فقد أضحكتني زمنا طويلا
بكيتك في نساء معولات ... وكنت أحق من أبدى العويلا
دفعت بك الخضوب وأنت حي ... فمن ذا يدفع الخطب الجليلا
إذا قبح البكاء على قتيل ... رأيت بكاءك الحسن الجميلا
ولها فيه:
إذهب فلا يبعدنك الله من رجل ... دراك ضيم وكلاب بأوتار
فسوف أبكيك ما ناحت مطوقة ... وما أضاءت نجوم الليل للساري
وقالت أيضا:
وما بلغت كف امرئ متناولا ... من المجد إلا والذي نلت أطول
وما بلغ المهدون للناس مدحة ... وإن أطنبوا إلا الذي فيك أفضل
عمرو بن معدي كرب (643 م) (21 هجري)
هو أبو ثور بن عبد الله الزبيدي الصحابي من سادات أهل اليمن وفصحائهم يقول الشعر الحسن. وكان يعيد الغارة وشهد يوم القادسية وله فيها بلاء حسن. وكان هو آخر القوم. وكانت فرسه ضعيفة فطلب غيرها. فأتى بفرس بعكوة ذنبه وأجلد به إلى الأرض فأقعى الفرس فرده. وأتى بآخر ففعل به مثل ذلك فتحلحل ولم يقع. فقال: هذا على كل حال أقوى من تلك. وقال لأصحابه. إني حامل وعابر الجسر فإن أسرعتم بمقدار جزر الجزور وجدتموني وسيفي بيدي أقاتل به تلقاء وجهي وقد عقرني القوم وأنا قائم بينهم وقد قتلت وجردت. وإن أبطأتم وجدتموني قتيلا بينهم وقد قتلت وجردت ثم انغمس فحمل في القوم فقال بعضهم: يا بني زبيد تدعون صاحبكم والله ما نرى أن تدركوه حيا. فحملوا فانتهوا غليه وقد صرع عن فرسه وقد أخذ برجل فرس رجل من العجم فأمسكها وإن الفارس ليضرب الفرس فما تقدر أن تتحرك من يده. فلما غشيناه رمى الأعجمي بنفسه وخلى فرسه فركبه عمرو فصرعني. ثم شد على رستم وهو الذي كان قدمه ملك الفرس وكان رستم على فيل. فجذم عرقوبيه فسقط فمات رستم من ذلك فانهزم الفرس. وله في الحروب أخبار مأثورة يضرب الأعداء بسيفه الصمصامة. قيل أن عمر بن الخطاب استوهبه الصمصامة فوهبه عمرو له. فقيل(6/296)
عمرو: إنه غير فذكر له ذلك فغضب وقال: هاته فضرب عنق بعير ضربة واحدة فأبانها وقال: إنما أعطيتك السيف لا الساعد. وكان كثير الكذب فقيل له: إنك شجاع في الحرب والكذب فقال: إني كذلك وشهد عمرو وقعة اليرموك وكان يستشيره القواد في حروبهم.
لبيد (680 م)
هو أبو عقيل بن ربيعة بن مالك العامري أحد شعراء الجاهلية المعدودين فيها والمخضرمين. وهو من أشرف الشعراء المجيدين والفرسان المعمرين. وأدرك لبيد الإسلام وحسن إسلامه ونزل الكوفة أيام عمر فأقام بها حتى مات في آخر خلافة معاوية. وكان عمره مائة وخمسا وأربعين سنة. وكان لبيد جوادا من أفصح شعراء العرب وأقلهم لغوا في شعره يقضي منه العجب لجودة اختياره وصحة إنشاده. وقيل أنه هو الذي جمع القرآن. فقال عند جمعه:
الحمد لله إذ لم يأتني أجلي ... حتى لبست من الإسلام سربالا
ولم يقل غير هذا البيت في الإسلام. وقيل أن عمر بن الخطاب استنشده أيام خلافته من شعره فانطلق فكتب سورة البقرة في صحيفة ثم أتى بها وقال: أبدلني الله هذه في الإسلام مكان الشعر. فسر عمر بجوابه وأجزل عليه العطاء. وله المعلقة المقامة المشهورة (لأبي عبيدة)
الشعراء المسلمون
ابن خفاجة (450 - 533 هجري) (1060 - 1138 م)
هو أبو إسحاق بن أبي الفتح بن عبد الله بن خفاجة الأندلسي الشاعر ولد بجزيرة شقر من أعمال بلنسية من بلاد الأندلس وكان مقيما بشرق الأندلس ولم يتعرض لاستماحة ملوك طوائفها مع تهافتهم على أهل الأدب. وله ديوان شعر أحسن فيه كل إحسان. وابن خفاجة هذا هو مالك أعنة المحاسن وناهج طريقها. العارف بترصيعها وتنميقها. الناظم لعقودها. الراقم لبرودها. المجيد لإرهافها. العالم بجلائها وزفافها. تصرف في فنون الإبداع كيف شاء وأبلغ دلوه من الإجادة الرشاء. فشعشع القول وروقه ومد في ميدان الإعجاز طلقه. فجاء نظامه أرق من النسيم العليل. وآنق من الروض البليل. يكاد يمتزج بالروح وترتاح له النفس كالغصن المروح. أن وصف فناهيك من غرض انفرد بمضماره. وتجرد بحمى ذماره. وإن مدح فلا الأعشى للمحلق. ولا حسان لأهل جلق. وإن تصرف في فنون الأوصاف. فهو فيها كفارس خصاف. وكان في شبيبته مخلوع الرسن. في ميدان مجونه. كثير الوسن. بين صفا الانتهاك وحجونه. لا يبالي بمن التبس. ولا أي نار اقتبس. إلا أنه قد نسك نُسك ابن أذينة. وغض عن إرسال نظره في أعقاب الهوى عينه. وقد أثبت ما يقف عليه اللواء. وتصرف إليه الأهواء. (قلائد العقيان لابن خاقان)(6/297)
ابن دريد (223 - 321 هجري) (839 - 934 م)
هو أبو بكر محمد بن دريد الأزدري ولد بالبصرة ونشأ بعمان. وطلب علم النحو وكان من أكابر علماء العربية مقدما في اللغة وأنساب العرب وأشعارهم. وكان شاعرا كثير الشعر. فمن ذلك مقصورته المشهورة فكان يقال أن أبا بكر بن دريد أعلم الشعراء وأشعر العلماء. وله في الكتب كتاب الجمهرة في اللغة وكتاب الاشتقاق وكاتب الخيل الكبير وكتاب الخيل الصغير وكتاب الأنواء وكتاب الملاحن وكتاب أدب الكتاب إلى غير ذلك. وذكر أنه مات هو وأبو هاشم الجباءي في يوم واحد ودفنا في مقبرة الخيزران. وقال الناس: مات علم اللغة والكلام بموت ابن دريد والجباءي. ورثاه جحظة فقال:
فقدت بابن دريد كل منفعة ... لما غدا ثالث الأحجار والترب
قد كنت أبكي لفقد الجود آونة ... فصرت أبكي لفقد الجود والأدب (للأنباري)
ابن الرومي (211 - 282 هجري) (837 - 896 م)
هو أبو الحسن بن جورجيس المعروف بابن الرومي. الشاعر المشهور صاحب النظم العجيب. والتوليد الغريب. يغوص على المعاني النادرة فيستخرجها من مكانها ويبرزها في أحسن صورة. ولا يترك المعنى حتى يستوفيه إلى آخره ولا يبقى فيه بقية. وله القصائد المطوية والمقاطيع البديعة. وله في الهجاء والمديح كل شيء ظريف. فمن ذلك قوله وما سبقه أحد إلى هذا المعنى:
آراؤكم ووجوهكم وسيوفكم ... في الحادثات إذا دجون نجوم
منها معالم للهدى ومصابح ... تجلو الدجى والخريات رجوم
ومات ابن الرومي ببغداد وفيها يقول وقد غاب عنها في بعض أسفاره:
بلد صبحت به الشبيبة والصبا ... ولبست ثوب العيش وهو جديد
فإذا تمثل في الضمير رأيته ... وعليه أغصان الشباب تميد
ابن زيدون (354 - 405 هجري) (966 - 1014 م)
هو أبو الوليد أحمد بن عبد الله بن أحمد بن غالب بن زيدون المخزومي الأندلسي القرطبي الشاعر المشهور كان غاية منثور ومنظوم. وخاتمة شعراء بني مخزوم. اخذ من حر الأيام حرا. وفاق الأنام طرا. وصرف السلطان نفعا وضرا. ووسع البيان نظما ونثرا. إلى أدب ليس للبحر تدفقه. ولا للبدر تألقه. وشعر ليس للسحر بيانه. ولا للنجوم اقترانه وحظ من النثر غريب المعاني. شعري الألفاظ والمعاني. وكان من أبناء وجوه الفقهاء بقرطبة. وبرع أدبه وجاد شعره. وعلا شأنه وانطلق لسانه. ثم انتقل عن قرطبة إلى المعتضد عباد صاحب إشبيلية فجعله من خواصه يجالسه في خلواته. ويركن إلى إشاراته. وكان معه في(6/298)
صورة وزير وله شيء كثير من الرسائل والنظم فمن ذلك قوله:
يا بائعا حظه مني ولو بدلت ... لي حياة بحظي منه لم أبع
يكفيك أنك إن حملت قلبي ... ما لا يستطيع قلوب الناس يستطع
ته أحتمل واستطل أصبر وعز أهن ... وول أقبل وقل أسمع ومر أطع
وله القصائد الطنانة ولولا خوف الإطالة لذكرنا بعضها. ومن بديع قلائده قصيدته النونية التي منها:
تكاد حين تناجيكم ضمائرنا ... يقضي علينا الأسى لولا تأسينا
حالت لبعدكم أيامنا فغدت ... سودا وكانت بكم بيضا ليالينا
بالأمس كنا وما يخشى تفرقنا ... واليوم نحن وما يرجى تلاقينا
وهي طويلة وكل أبياتها نخب. وكانت وفاته بإشبيلية (الذخيرة لابن بسام)
ابن مطروح (592 ... 649 هجري) (1197
1252 م)
هو أبو الحسن يحيى بن مطروح الملقب جمال الدين من أهل صعيد مصر. ونشأ هناك وأقام بقوص مدة وتنقلت به الأحوال في الخدم والولايات. ثم اتصل بخدمة السلطان الملك الصالح أبي الفتح أيوب الملقب نجم الدين الأيوبي. وكان إذ ذاك نائبا عن أبيه الملك الكامل بالديار المصرية فرتبه السلطان ناظرا في الخزانة. ولم يزل يقرب منه ويحظى عنده إلى أن ملك الملك الصالح دمشق. فرتبه بدمشق نائبا في صورة وزير لها. فحسنت حالته وارتفعت منزلته. ثم تغير عليه الملك الصالح وتنكر له وعزله عن ولايته لأمور نقمها عليه. فيقي ابن مطروح مواظبا على الخدمة مع الإعراض عنه إلى أن مات الملك الصالح. فدخل مصر وأقام بها في داره إلى وفاته. وكانت أدواه جميلة وخلاله حميدة. جمع بين الفضل ولمروءة والأخلاق المرضية. ويستجاد له قوله في بعض أسفاره وقد نزل في طريقه بمسجد وهو مريض:
يا رب إن عجز الطبيب فداوني ... بلطيف صنعك واشفني يا شافي
أنا من ضيوفك قد حسبت وإن من ... شيم الكرام البر بالأضياف
وكان بينه وبين أدباء عصره مذاكرات أدبية لطيفة ومكاتبات في الغيبة. واجتمع في مصر ببهاء الدين زهير الشاعر. ولابن مطروح ديوان شعر يتداوله الناس (لابن خلكان)
ابن النبيه (559 - 619 هجري) (1165 - 1223 م)
هو أبو الحسن علي الشاعر البارع كمال الدين بن النبيه المصري. بدر فصاحته تحلى بصفة الكمال. وشمس بلاغته لا يعتري سناها زوال. كلامه تعشقه الطباع. وتلتذ به الأسماع. وله شعر أعذب من الماء الزلال. وأغرب من السحر الحلال. ونثر ألطف من كاسات الشمول وأرق من نسمات الشمال. فالنظم والنثر عنده جتان عن يمين وشمال. مدح بني(6/299)
أيوب واتصل بالملك الأشرف موسى وكتب له الإنشاء. فحبر حلل البراعة ووشى. وأطرب المسامع وأنشا. ومدحه بقصائد نظم بها في جيد الدهر اللآلي. وخلد ذكره في صحائف الأيام والليالي. وله الديوان المشهور انتخبه من نتائج فكره. ونفثات سحره. لأنه كان ينتقي الدرة الفريدة وأختها. ويتحرى النادرة الشاردة ليثبتها. وسكن ابن النبيه نصيبين الشروق وتوفي بها.
أبو تمام حبيب بن أوس (190 - 228 هجري) (807 - 843 م)
قال الصولي: كان أبوه نصرانيا. وكان وأحد عصره في ديباجة لفظه وبضاعة شعره وحسن أسلوبه. ولك كتاب الحماسة التي دلت على غزارة فضله. وإتقان معرفته بحسن اختياره. وله مجموع آخر سماه (فحول الشعراء) جمع فيه بين طائفة كبيرة من شعراء الجاهلية والمخضرمين والإسلاميين. وكان له من المحفوظات ما لا يلحقه فيه غيره. قيل أنه كان يحفظ أربعة آلاف أرجوزة للعرب. غير القصائد والمقاطع. ومدح الخلفاء وأخذ جوائزهم. وجاب البصرة. وقال العلماء: خرج من قبيلة طي ثلاثة كل واحد مجيد في بابه حاتم الطائي في جوده. وداود بن نصير الطائي في زهده. وأبو تمام حبيب بن أوس الطائي في شعره. وأخباره كثيرة ورأيت الناس يطبقون على أنه مدح الخليفة بقصيدته السنية فلما انتهى فيها قوله:
إقدام عمرو في سماحة حاتم ... في حلم أحنف في ذكاء إياس
قال الوزير أتشبه أمير المؤمنين بأجلاف العرب فأطرق ساعة ثم رفع رأسه وأنشد يقول:
لا تنكروا ضربي له من دونه ... مثلا شرودا في الندى والباس
فالله قد ضرب الأقل لنوره ... مثلا من المشكاة والنبراس
فقال الوزير للخليفة: أي شيء طلبه فاعطه. وذكر الصولي أن أبا تمام لما مدح محمد بن عبد الملك الزيات الوزير بقصيدته التي منها قوله:
ذيمة سمحة القياد سكوب ... مستغيث بها الثرى المكروب
لو سمعت بقعة لا عظام أخرى ... لسعى نحوها المكان الجديب
قال له ابن الزيات: يا أبا تمام إنك لتحلي شعرك من جواهر لفظك وبديع معانيك ما يزيد حسنا على بهي الجواهر في أجياد الكواعب. وما يدخر لك شيء من جزيل المكافأة إلا ويقصر عن شعرك في الموازاة. ورثاه الحسن بن وهب بقوله:
فجع القريض بخاتم الشعراء ... وغدير روضته حبيب الطائي
ماتا معا فتجاورا في حفرة ... وكذاك كانا قبل في الأحياء
أبو العتاهية (130 - 211 هجري) (748 - 827 م)
هو أبو إسحاق إسماعيل بن القاسم العنزي المعروف بأبي العتاهية الشاعر المشهور مولده(6/300)
بعين التمر وهي بليدة بالحجاز قرب المدينة. ونشأ بالكوفة وسكن بغداد وكان يبيع الجرر فقيل له الجرار. قال أشجع السلمي الشاعر المشهور:. إذن الخليفة المهدي للناس في الدخول عليه. فدخلنا فأمرنا بالجلوس فاتفق أن جلس بجنبي بشار بن برد. وسكت المهدي فسكت الناس فسمع بشار حسا فقال لي: من هذا. فقلت: أبو العتاهية. فقال: أتراه ينشد في هذا المحفل فقلت: أحسبه سيفعل. قال فأمره المهدي فأنشد:
أتته الخلافة منقادة ... إليه تجرر أذيالها
فلم تك تصلح إلا له ... ولم يك يصلح إلا لها
ولو رامها أحد غيره ... لزلزلت الأرض زلزالها
ولو لم تطعه بناب القلوب ... لما قبل الله أعمالها
فقال لي بشار: انظر ويحك يا أشجع هل طار الخليفة عن فرشه. قال أشجع: فوالله ما انصرف أحد عند ذلك المجلس بجائزة غير أبي العتاهية. وله في الزهد أشعار كثيرة وهو من مقدمي المولدين في طبقات بشار وأبي النواس وتلك الطائفة. وشعره كثير. وتوفي ببغداد ولما حضرته الوفاة قال: اشتهي أن يجيء مخارق المغني ويغني عند رأسي. والبيتان له من جملة أبيات
إذا ما انقضت مني من الدهر مدتي ... فإن عزاء الباكيات قليل
سيعرض عن ذكري وتسنى مودتي ... ويحدث للخليل خليل
وأوصى أن يكتب على قبره=إن عيشا يكون آخره المو_ت لعيش معجل التنغيض (لابن خلكان)
أبو فراس الحمداني (320 - 357 هجري) (933 - 969 م)
هو الحارث بن أبي العلاء الحمداني كان فرد دهره وشمس عصره أدباً. وفضلاً وكرماً ومجداً. وبلاغة وبراعة. وفروسية وشجاعة. وشعره مشهور بين الحسن والجودة. والسهولة والجزالة والعذوبة. والفخامة والحلاوة. ومعه وراء الطبع وسمة الظرف وعزة الملك. ولم تجتمع هذه الخلال قبله إلا في شعر عبد الله بن المعتز. وأبو فراس يعد أشعر منه عند أهل الصنعة ونقدة الكلام. وكان الصاحب بن عباد يقول: بدئ الشعر بملك وختم بملك. يعني امرأ القيس وأبا فراس. وكان المتنبي يشهد له بالتقدم والتبريز ويتحامى جانبه. فلا ينبري لمباراته. ولا يجترئ على مجارته. وإنما لم يمدحه ومدح من دونه من آل حمدان تهيبا له وإجلالا. لا إغفالا وإضلالا. وكان سيف الدولة يعجب جدا بمحاسن أبي فراس ويميزه بالإكرام على سائر قومه. ويستصحبه في غزواته ويستخلفه في أعماله. وأسر أبو فراس مرتين فالمرة الأولى بمغارة الكحل في سنة ثمان وأربعين وثلاثمائة وما تعدوا به خرشنة وهي قلعة ببلاد الروم والفرات يجري من تحتها. وفيها أنه ركب فرسه وركضه برجله فأهوى به من أعلى الحصن(6/301)
إلى الفرات. والمرة الثانية أسره الروم على منبج في شوال سنة احدى وخمسين وحملوه إلى قسطنطينية. وأقام في الأسر أربع سنين وله في الأسر أشعار كثيرة مثبتة في ديوانه. وكانت مدينة منبج إقطاعا له ومن شعره:
قد كنت عدتي التي أسطو بها ... ويدي إذا اشتد الزمان وساندي
فرميت منك بضد ما أملته ... والمرء يشرق بالزلال البارد
فصبرت كالولد التقي لبره ... أغضى على ألم لضرب الوالد
ومحاسن شعره كثيرة. وقتل في واقعة جرت بينه وبين موالي أسرته في سنة سبع وخمسين وثلاثمائة. ورأيت في ديوانه أنه لما حضرته الوفاة كان ينشد مخاطبا ابنته:
أبنيتي لا تجزعي ... كل الأنام إلى ذهاب
نوحي علي بحسرة ... من خلف سترك والحجاب
قولي إذا كلمتني ... فعييت عن رد الجواب
زين الشباب أبو فرا ... س لم يمتع بالشباب
هذا يدل على أنه لم يقتل أو يكون قد جرح وتأخر موته ثم مات من الجراحة (اليتيمة للثعالبي)
أبو نواس (145 - 198 هجري) (763 - 814 م)
هو أبو علي الحسن بن هانئ المعروف بأبي نواس الحكمي الشاعر المشهور ولد بالبصرة ونشأ بها ثم خرج إلى الكوفة ثم صار إلى بغداد فاستحلاه والبة بن الحباب. ورأى فيه مخايل النجابة فصار أبو نواس معه. وروي أن الخصيب صاحب ديوان الخراج بمصر سأل أبا نواس عن نسبه فقال: أغناني أدبي عن نسبي. فأمسك عنه. قال إسماعيل بن نوبخت: ما رأيت قط أوسع علما من أبي نواس ولا أحفظ منه مع قلة كتبه. وهو في الطبقة الأولى من المولدين وشعره عشرة أنواع وهو مجيد في العشرة. وقد اعتنى بجمع شعره جماعة من الفضلاء منهم أبو بكر الصولي وعلي بن حمزة فلهذا يوجد ديوانه مختلفا ومع شهرة ديوانه لا حاجة إلى ذكر شيء منه. ورأيت في بعض الكتب أن المأمون كان يقول: لو وصفت الدنيا نفسها لما وصفت بمثل قول أبي النواس:
ألا كل حي هالك وابن هالك ... وذو نسب في الهالكين عريق
إذا امتحن الدنيا لبيب تكشفت ... له عن عدو في ثياب صديق
وكان محمد الأمين قد سخط على أبي نواس لقضية جرت له معه فتهدده بالقتل وحبسه. فكتب إليه من السجن:
بك أستجير من الردى ... متعوذا من سطو باسك
وحياة رأسك لا أعو ... د لمثلها وحياة راسك
من ذا يكون أبا نوا ... سك إن قتلت أبا نواسك(6/302)
وله معه وقائع كثيرة. وكانت وفاته ببغداد. وإنما قيل له أبو نواس لذؤابتين كانتا له تنوسان على عاتقيه. وصفه أبو عبد الله الجماز قال: كان أبو نواس أظرف الناس منطقا وأغزرهم أدبا. وأقدرهم على الكلام وأسرعهم جوابا وأكثرهم حياء. وكان أبيض اللون جميل الوجه مليح النغمة والإشارة. ملتف الأعضاء بين الطويل والقصير. مسنون الوجه قائم الأنف. حسن العنين والمضحك. حلو الصورة لطيف الكف والأطراف. وكان فصيح اللسان جيد البيان. عذب الألفاظ حلو الشمائل كثير النوادر. وأعلم الناس كيف تكلمت العرب. راوية للأشعار علامة بالأخبار كأن كلامه شعر موزون (لابن خلكان والقيرواني)
الأبيوردي (498 - 557 هجري) (1105 - 1163 م)
هو أبو المظفر محمد بن أبي العباس الأبيوردي الشاعر المشهور. كان من الأدباء المشاهير راوية نسابة شاعرا ظريفا. قسم ديوان شعره إلى أقسام منها العراقيات ومنها النجديات وغير ذلك. وكان من أخبر الناس بعلم الأنساب. نقل عنه الحفاظ الأثبات الثقات. وكان فخر الرؤسات. حسن الاعتقاد جميل الطريقة متصرفا في فنون جمة من العلوم. عارفا بتاريخ العرب فصيح الكلام حاذقا في تصنيف الكتب. وافر العقل كامل الفضل. فريد دهره وحيد عصره. وكان فيه تيه وكبر وعزة نفس. ومن محاسن شعره قوله:
ملكنا أقاليم البلاد فأذعنت ... لنا رغبة أو رهبة عظماؤها
فلما انتهت أيامنا علقت بنا ... شدائد أيام قليل رخاؤها
وكان إلينا في السرور ابتسامها ... فصار علينا في الهموم بكاؤها
وصرنا نلاقي النائبات بأوجه ... رقاق الحواشي كاد يقطر ماؤها
إذا ما هممنا أن نبوح بما جنت ... علينا الليالي لم يدعنا حياؤها
وله تصانيف كثيرة مفيدة منها تاريخ أبيورد وكتاب المختلف والمؤتلف. وطبقات كل فن وما اختلف وائتلف في أنساب العرب. وله في اللغة مصنفات كثيرة لم يسبق إلى مثلها. وكان حسن السيرة جميل الأثر له معاملة صحيحة. وكانت وفاته بأصبهان مسموماً (لابن خلكان)
البحتري (206 - 284 هجري) (822 - 898 م)
هو أبو عبادة الوليد بن عبيد البحتري شاعر مقدم لا يعدل به أحد يفضل على حبيب. والناس في تفضيلهما على اختلاف. ولد بمنبج ونشأ وتخرج بها. ثم خرج إلى العراق ومدح جماعة من الخلفاء أولهم المتوكل وأقام ببغداد دهرا طويلا ثم عاد إلى الشام. وكان حسن المذهب نقي الكلام ختم به الشعراء المحدثون. وله تصرف في ضروب الشعر سوى الهجاء فإن بضاعته فيه نزرة. وحدث البحتري عن نفسه قال: وكان أول أمري أني دخلت على أبي(6/303)
سعيد محمد بن يوسف الثغري فأنشدته قصيدة أولها (أأفلني صب من هوى فاقما) . فسر أبو يوسف بها وقال: أحسنت والله يا فتى وأجدت. وفي مجلسه رجل رفيع نبيل قريب المجلس منه فوق كل من حضر. فأقبل علي وقال: أما تستحي مني. هذا شعر تنتحله وتنشده بحضرتي. فقال له أبوس عيد: أحقا ما تقول. قال نعم. وإنما علقه مني وسبق به إليك وزاد فيه. ثم فأنشد أكثر القصيدة حتى تشككني علم الله في نفسي وبقيت متحيرا. فقال لي أبو سعيد: يا فتى قد كان لك في قرابتك مني ما يغنيك عن هذا. فجعلت أحلف بكل محرجة من الإيمان أن الشعر لي ما سمعته منه ولا انتحلته فلم ينفع ذلك شيئاًَ. وأطرق أبو سعيد وقطع بي حتى تمنيت أن يساخ بي في الأرض. فقمت منكسب البال أجر رجلي فما بلغت باب الدار حتى ردني الغلام. فأقبل علي الرجل وقال: الشعر لك يا بني. والله ما قلته قط ولا سمعته ألا منك. ولكنني كنت ظننت أنك تهاونت بموضعي فأقدمت على الإنشاد بحضرتي تريد مضاهاتي حتى عرفني الأمير بنسبك. ولوددت أن لا تلد طائية ألا مثلك. ودعاني وضمني إليه وعانقني وأبو سعيد يضحك. فلزمته بعد ذلك وأخذت عنه واحتذيت فنه.
وعن أبي الغوث عن أبيه البحتري قال: قال لي أبو تمام: بلغني أن بين حميد أعطوك مالا جليلا فبم مدحتهم فأنشدني شيئا منه. فأنشدته فقال لي: كم أعطوك. فقلت: كذا. فقال لي: ظلموك. ما وفوك حقك والله لبيت منها خير مما أخذت. ثم أطرق قليلا ثم قال: لعمري لقد مات الكرام وذهب الناس وغاضت المكارم وكسدت أسواق الأدب. وأنت والله يا بني أمير الشعراء غدا بعدي. فقمت فقبلت رأسه ويديه ورجليه وقلت: والله لهذا القول أسر لي مما وصل إلي منهم. قيل للبحتري أيكما أشعر أنت أو أبو تمام قال: جيده خير من جيدي ورديئي خير من رديئه. وصدق فإن أبو تمام لا يتعلق به أحد في جيده. وربما اختل لفظه لا معناه. والبحتري لا يختل لفظه وقيل له: قد عثرت باحتذائك أبا تمام في شعرك. فقال: أيعاب علي أن أتبع أبا تمام ماعملت بيتا قط حتى أخطر شعره ببالي. وذكروا معنى تعاوره البحتري وأبو تمام فقال المبرد للبحتري: أنت في هذا أشعر من أبي تمام. فقال: لا والله ذلك الرئيس الأستاذ. والله ما أكلت الخبز إلا به. قال المبرد: شعر البحتري أحسن استواء من شعر أبي تمام. لأن البحتري يقول القصيدة كلها فتكون سليمة من طعن طاعن. وأبو تمام يقول البيت النادر والبارد (وهذا المعنى كان أعجب إلى الأصمعي) . وما أشبهه إلا بغائص يخرج الدرة ثم قال: لأبي تمام والبحتري من المحاسن ما لو قيس بأكثر شعر الأوائل ما وجدوا فيه مثله وذكر المبرد شعرا له وقدمه على نظرائه:
وإذا ذكرت محاسن أبني صاعد ... أدت إليك مخايل ابني مخلد
كالفرقدين إذا تأمل ناظر ... لم يعل موضع فرقد عن فرقد
وبعدها:
أغنت يداه يدي وشرد جوده ... بخلي فأفقرني بما أغناني(6/304)
وله أيضا في الفتح بن خاقان وقد نزل إلى الأسد وقتله:
حملت عليه السيف لا عطفك انثنى ... ولا يدك ارتدت ولا حده بنا
فأحجم لما لم يجد فيك مطعما ... وصمم لما لم يجد عنك مهربا
وله فيه:
وما منع الفتح بن خاقان نيله ... ولكنها الأيام تعطي وتحرم
سحاب خطاني جوده وهو مسبل ... وبحر عداني فيضه وهو مفعم
أأشكو نداه بعد أن وسع الورى ... ومن ذا يذم الغيث إلا مذمم
والبحتري مكثر جدا وديوان شعره نشخ مختلفا بالزيادة والنقصان لأن شعره لا ينضبط لكثرته. قال البحتري: كنت أذم الشعر في حداثتي وكنت أرجع فيه إلى الطبع ولم أكن أقف على تسهيل مأخذه ووجوه اقتضابه حتى قصدت أبا تمام وانقطعت فيه إليه واتكلت في تعريفه عليه. فكان أول ما قال لي: أبا عبادة تخير الأوقات وأنت قليل الهموم صفر من الغموم. ومن ذاك وقت السحر لأن النفس تكون قد أخذت بحظها من الراحة وقسطها من النوم. فإن أردت النسيب فجعل اللفظ رقيقا والمعنى رشيقا. وإذا أخذت في مدح سيد فأشهر مناقبه. وأظهر مناسبه. وأبن معالمه. وإياك أن تشين شعرك بالألفاظ الهجينة. وكن كأنك خياط تقطع الثياب على مقادير الأجسام. وإذا عارضك الضجر فأرح نفسك ولا تعمل إلا وأنت فارغ القلب. واجعل شهوتك إلى قول الشعراء الذريعة إلى حسن نظمه. فإن الشهوة تجمع النفس. وجملة الحال أن تعتبر نفسك بما سبق من شعر الماضين فما استحسن العلماء فاقصده وما تركوه فاجتنبه ترشد أن شاء الله تعالى. فأعلمت نفسي فيما قال فوفقت على السياسة.
ومن أخبار البحتري أنه كان بحلب شخص يقال له طاهر بن محمد الهاشمي مات أبوه وخلف له مقدار مائة ألف دينار فأنفقها على الشعراء والزوار في سبيل الله. فقصده البحتري من العراق فلما وصل إلى حلب قيل له أنه قد قعد في بيته لديون ركبته. فاغتم البحتري لذلك غما شديدا وبعث المدحة إليه مع بعض مواليه. فلما وصلته ووقف عليها بكى ودعا بغلام له وقال له: بع داري. فقال له: أتبيع دارك وتبقى على رؤوس الناس. فقال: لابد من بيعها. فباعها بثلاثمائة دينار فأخذ صرة وربط فيها مائة دينار وأنفذها إلى البحتري. وكتب إليه معها رقعة فيها هذه الأبيات:
لو يكون الحباء حسب الذي أن ... ت لدينا به محل وأهل
لحثيت اللجين والدر واليا ... قوت حثوا وكان ذاك يقل
والأديب الأريب يسمح بالعذ ... ر إذا قصر الصديق المقل
فلما وصلت الرقعة إلى البحتري رد الدنانير وكتب إليه:
بأبي وأنت والله للبر أهل ... والمساعي بعد وسعيك قبل
والنوال القليل يكثر إن شا ... ء مرجيك والكثير يقل(6/305)
غير أني رددت برك إذ كا ... ن ربا منك والربا لا يحل
وإذا ما جزيت شعرا بشعر ... قضي الحق والدنانير فضل
فلما عادت الدنانير إليه حل الصرة وضم إليها خمسين دينارا أخرى وحلف أنه لا يردها عليه وسيرها فلما وصلت البحتري أنشأ يقول:
شكرتك أن الشكر للعبد نعمة ... ومن يشكر المعروف فالله زائده
لكل زمان واحد يقتدى به ... وهذا زمان أنت لا شك واحده (الأغاني)
البستي (339- 400 هجري) (951 - 1012 م)
هو أبو الفتح علي بن محمد الكاتب البستي الشاعر المشهور صاحب الطريقة الأنيقة والتجنيس الأنيس. البديع التأسيس. وكان في عنفوان أمره كاتبا لباتيوز صاحب بست. فلما افتتحها الأمير ناصر الدولة أبو منصور سبكتكين أراد أبو الفتح أن يتنحى عن الخدمة فدل عليه فاستحضره وفوض إليه مهمات ديوانه مع كون بايتوز في قيد الحياة. فأشفق من سعي حساده فطلب أن يعتزل في بعض أطراف المملكة حتى تسكن الفتنة ويستقر الأمر فأجيب إلى طلبه وأشار عليه بناحية الرخج. فبقي فيها حتى استدعاه السلطان. المعظم يمين الدولة محمود بن سبكتكين وقد كتب له عدة فتوح. فبقي عنده إلى أن زحزحه القضاء عن خدمته ونبذه إلى ديار الترك فانتقل بها إلى جوار ربه. وله نثر رائق بديع وفصول قصار تجري مجرى الأمثال.
بهاء الدين زهير (581 - 656 هجري) (1186 - 1259 م)
أبو الفضل زهير المقلب بهاء الدين الكاتب من فضلاء عصره وأحسنهم نظما ونثرا وخطا ومن أكبرهم مروءة. كان قد اتصل بخدمة السلطان الملك الصالح نجم الدين بن الملك الكامل بالديار المصرية. وتوجه في خدمته إلى البلاد الشرقية. وأقام بها إلى أن ملك الملك الصالح مدينة دمشق فانتقل إليها في خدمته. وأقام كذلك إلى أن جرت الكائنة المشهورة على الملك الصالح. وخرجت عنه دمشق وخانه عسكره وهو على نابلس وتفرق عنه. وقبض عليه ابن عمه الملك الناصر داود صاحب الكرك واعتقله بقلعة الكرك. فأقام بهاء الدين زهير وملك الديار المصرية. وقدم إليها بهاء سنة سبع وثلاثين وستمائة فاجتمعت به ورأيت فوق ما سمعت عنه من مكارم الأخلاق وكثرة الرياضة ودماثة السجايا. وكان متمكنا من صاحبه كبير القدر عنده لا يطلع على سره الخفي غيره. ومع هذا كله فإنه كان لا يتوسط عنده إلا بالخير. ونفع خلقا كثيرا بحسن وساطته وجميل سفارته وأنشدني كثيرا من شعره. وديوانه كثير الوجود بأيدي الناس. وله شعر جيد. فمن ذلك ما قاله وقد غرقت به سفينة فسلم(6/306)
بنفسه منها وذهب ما كان معه:
لا تعتب الدهر في خطب رماك به ... أن استرد فقدما طالما وهبا
حاسب زمانك في حالي تصرفه ... تجده أعطاك أضعاف الذي سلبا
والله قد جعل الأيام دائرة ... فلا ترى راحة تبقى ولا تعبا
ورأس مالك وهي الروح قد سلمت ... لا تأسفن لشيء بعدها ذهبا
ما كنت أول مفدوح بحادثة ... كذا مضى الدهر لا بدعا ولا عجبا
ورب مال نما من بعد مرزئة ... أما ترى الشمع بعد القطف ملتهبا
وكانت وفاته بالقاهرة بالوباء (لابن خلكان)
جرير (42 - 110 هجري) (663 - 729 م)
هو أبو حرزة جرير بن عطية التميمي الشاعر المشهور من فحول شعراء الإسلام وكان بينه وبين الفرزدق مهاجاة ونقائض وهو أشعر من الفرزدق والأخطل ويختلف في أيهم المتقدم. واحتج من قدم جرير بأنه كان أكثرهم فنون شهر وأسهلهم ألفاظا وأقلهم تكلفا وكان دينا عفيفا. وسئل أعرابي أيهم عندكم أشعر الشعراء. قال: بيوت الشعر فخر ومديح وهجاء. وفي كلها غلب جرير. فقال في الفخر:
إذا غضبت عليك بنو تميم ... حسبت الناس كلهم غضابا
وقال في مديح ابن مروان:
ألستم خير من ركب المطايا ... وأندى العالمين بطون راح
وقال في هجاء لراعي الشاعر:
فغض الطرف إنك من نمير ... فلا كعبا بلغت ولا كلابا
وذكر الأصمعي قال: كان ينهش جريرا ثلاثة وأربعون شاعرا فينبذهم وراء ظهر ويرمي بهم واحداً واحدا وثبت له الفرزدق والأخطل. وامتدح جرير الخلفاء فمن قوله في مدح عمر:
إنا لنرجوا إذا ما الغيث أخلفنا ... من الخليفة ما نرجو من المطر
نال الخلافة إذ كانت له قدرا ... كما أتى ربه موسى على قدر
أأذكر الجهد والبلوى التي نزلت ... أن تكتفي بالذي بلغت من خبري
مازلت بعدك في دار تعرفني ... قد طال بعدك إضعادي ومنحدري
لا ينفع الحاضر المجهود بداينا ... ولا يجود لنا باد على حضر
كم بالمواسم من شعثاء أرملة ... ومن يتيم ضعيف الصوت والبصر
يدعوك دعوة ملهوف كان به ... خبلا من الحن أو مسا من البشر
ممن يعدك تكفي فقد والده ... كالفرخ في العش لم ينهض ولم يطر (الأغاني)(6/307)
صفي الدين الحلي (685 - 740 هجري) (1287 - 1340 م)
هو عبد العزيز بن سرايا الحلي الملقب بصفي الدين مناهل ألفاظه العذاب صافية من شوائب التعقيد. ورياض معانيه بنشرها اللباب شاقية لمن كرع من نهرها الرائق المديد وأخبر عن نفسه قال: كنت قبل أن أشب عن الطوق. وأعلم ما دواعي الشوق. تهجا بالشعر نظما وحفظا. متقنا علومه معنى ولفظا. فأعده من أدب الفضائل. ثم جرت بالعراق حروب ومحن أوجبت بعدي عن عريني. وهجر أهلي وقربني. بعد أن تكمل لي من الأشعار. ما سبقني إلى الأمصار. فحططت رحالي بفناء ملوك آل أرتق أصحاب ماردين. فثبتوا بالإحسان فدمي. وصانوا عن بني الزمان وجهي ودمي. فنظمت في مدح السلطان العظم نجم الدين أبي الفتح غازي تسعا وعشرين قصيدة. كل منها تسعة وعشرون بيتا على حرف من حروف المعجم يبدأ في كل بيت منها وبه يختم. ووسمته بدرر النحور. في مدائح الملك المنصور. ثم قذف بي خوف بلادي إلى الديار المصرية. وأهلت للمثول في الحضرة الشريفة الملكية الناصرية. فشملني من الأنعام ما الزمتني المروءة مكافأة تلك الحقوق. ورأيت كفرانها كالعقوق. فجمعت له من جد شعره وهزله. ورقيق لفظه وجزله. فبوبته أبين التبويب. ورتبته أحسن الترتيب فوقع عنده بموقع الاستحسان. وأكرم مثواي وأجزل علي الإحسان. (آه) ولصفي الدين الحلي مؤلفات منها كتاب في علم الرمي وكتاب في أغلاط العرب. وكانت وفاته في بغداد (من ديوانه)
الخوارزمي (316 - 383 هجري) (929 - 992 م)
هو أبو بكر محمد بن العباس الخوارزمي الشاعر المشهور ويقال له البطر خزي أيضا ابن أخت الطبري صاحب التاريخ وأبو بكر المذكور أحد الشعراء المجيدين الكبار المشاهير. كان إماما في اللغة والأنساب. أقام بالشام مدة وسكن بنواحي حلب وكان يشار إليه في عصره. ويحكى أنه قصد حضرة الصاحب بن عباد وهو بارجان فلما وصل إلى بابه قال لأحد حجابه. قل للصاحب: على الباب أحد الأدباء وهو يستأذن في الدخول. فدخل الحاجب واعلمه فقال الصاحب: قل له: قد ألزمت نفسي أن لا يدخل علي من الأدباء إلا من يحفظ عشرين ألف بيت من شعر العرب. فخرج إليه الحاجب واعلمه بذلك. فقال له أبو بكر: ارجع إليه وقل له: هذا القدر من شعر الرجال أم من شعر النساء. فدخل الحاجب فأعاد عليه ما قال. فقال الصاحب: هذا يكون أبو بكر الخوارزمي فأذن له في الدخول. فدخل عليه فعرفه وانبسط له. وأبو بكر المذكور له ديوان رسائل وديوان شعر ومن نظمه قوله:
رأيتك أن أيسرت خيمت عندنا ... مقيما وإن أعسرت زرت لماما
فما أنت إلا البدر أن قل ضوءه ... أغب وإن زاد الضياء أقاما(6/308)
وكان أبو بكر قليل الوفاء فهجاء أبو سعيد أحمد بن شهيب الخوارزمي:
أبو بكر له أدب وفضل ... ولكن لا يدوم على البقاء
مودته إذا دامت لخل ... فمن وقت الصباح إلى المساء
وملحه ونوادره كثيرة. ولما رجع من الشام سكن نيسابور ومات بها. (لابن خلكان)
الطغرائي (455 - 513هجري) (1066 - 1120 م)
199 هو مؤيد الدين الأصبهاني المنشأ المعروف بالطغرائي كان عزيز الفضل لطيف الطبع. فاق أهل عصره بصنعة النظم والنثر. وله ديوان شعر جيد. ومن محاسن قصيدته المعروفة بلامية العجم. وكان عملها ببغداد في سنة خمس وخمسمائة يصف حاله ويشكو زمانه. وكان الطغرائي ولي الوزارة بمدينة إربل مدة وذكر العماد الكاتب في تاريخ الدولة السلجوقية أن الطغرائي المذكور كان ينعت بالأستاذ وكان وزير السلطان مسعود بن محمد السلجوقي بالموصل. وأنه لما جرى بينه وبين أخيه السلطان محمود المصاف بالقرب من همذان وكانت النصرة لمحمود فأول من أخذ الأستاذ أبو إسماعيل وزير مسعود. فاخبر به وزير محمود وهو الكمال نظام الدين السميرمي فقال: من يكن ملحدا يقتل. وقد كانوا خافوا منه فاعتمدوا قتله بهذه الحجة وقتل في سوق ببغداد عند المدرسة النظامية. وقيل قتله عبد أسود كان للطغرائي المذكور لأنه قتل أستاذه. (لابن خلكان)
الفارضي (576 - 632 هجري) (1181 - 1235 م)
هو عمر بن أبي الحسن الحموي الأصل المصري المولد والدار والوفاة المعروف بابن الفارض المنعوت بالشرف. له ديوان شعر لطيف. وأسلوبه فيه رائق ظريف. ينحو منحى طريقة الفقراء. وله قصيدة مقدار ستمائة بيت على اصطلاحهم ومنهجهم. وما ألطف قوله من جملة قصيدة طويلة:
أهلا بما لم أكن أهلا بموقعه ... قول المبشر بعد اليأس بالفرج
لك البشارة فأخلع ما عليك فقد ... ذكرتم على ما فيك من عوج
وأحسن ما قال في صفة الباري قوله:
وعلى تفنن واصفيه بحسنه ... يفنى الزمان وفيه ما لم يوصف
وله دوبيت مواليا وألغاز. وسمعت أنه كان رجلا صالحا كثير الخير على قدم التجرد جاور مكة زمانا وكان حسن الصحبة محمود العشرة. وكانت ولادته بالقاهرة وتوفي بها ودفن من الغد بسفح المقطم (لابن خلكان)(6/309)
الفرزدق (38 - 120 هجري) (659 - 729 م)
اسمه همام بن غالب بن صعصعة دارمي من أشراف تميم. والفرزدق لقب به لهجومة وجهه وغلظه. والفرزدق قطع العجين. وكان الفرزدق ردي الطباع قبيح المنظر. سيء المخبر. قاذفا للمحصنات خبيث الهجو. وكان مهيبا تخافه الشعراء. وقد يحتج البعض في تقديمه على انه يميل إلى جزالة الشعر وفخامته وشدة أسره. والفرزدق أكثر الشعراء مقلدا والمقلد المغنى المشهور الذي يضرب به المثل فمن ذلك قوله:
كنا إذا الجبار صعر خده ... ضربناه حتى تستقيم الأخداع
وقوله: وكنت كذئب السوء لما رأى دما=بصاحبه يوما أحال على الدم وقوله: ترى كل مظلوم إلينا فراره=ويهرب منا جهده كل مظلم وقوله: ترى الناس ما سرنا يسيرون حولنا=وإن نحن أومأنا إلى الناس وقفوا وله القصائد الغراء في الرثاء والفخر والهجو والمديح فمن ذلك قصيدته الميمية في زين العابدين. وقوله في بني المهلب:
فلأمدحن بني المهلب مدحة ... غراء قاهرة على الأشعار
مثل النجوم أمامها قمراؤها ... تجلو العمى وتضيء ليل السار
ورثوا الطعان عن المهلب والقرى ... وخلائقا كتدفق الأنهار
كان المهلب للعراق وقاية ... وحيا ومعقل الفرا
وإذا الرجال رأوا يزيد رأيتهم ... خضع الرقاب نواكس الأبصار
ومات الفرزدق سنة مات فيها الحسن وابن سيرين وجرير (للشريشي)
اللخمي (519 - 596 هجري) (1126 - 1200 م)
هو أبو علي عبد الرحيم بن أحمد اللخمي العسقلاني المصري الدار المعروف بالقاضي الفاضل الملقب مجير الدين وزير السلطان الملك الناصر صلاح الدين وتمكن منه غاية التمكن. وبرز في صناعة الإنشاء وفاق المتقدمين وله فيه غرائب مع الإكثار. إن مسودات رسائله في المجلدات والتعليقات في الأوراق إذا جمعت ما تقصر عن مائة مجلدة وهو مجيد في أكثرها. وهو رب القلم والبيان. واللسن واللسان. والقريحة والوقادة. والبصيرة النقادة. والبديهة المعجزة. والبديعة المطرزة. والفضل الذي ما سمع في الأوائل بمن لو عاش في زمانه لتعلق بغباره. أو جرى في مضماره. يخترع الأفكار. ويفترع الأبكار. ويطلع الأنوار. ويبدع الأزهار. وهو ضابط الملك بآرائه. إن شاء أنشأ في يوم واحد بل في ساعة واحدة ما لو(6/310)
دون لكان لأهل الصناعة. خير بضاعة. أين قس عند فصاحته. وأين قيس في مقام حصافته ومن حاتم وعمرو في سماحته وحماسته. وملحه ونوادره كثرة وله في النظم أيضاً أشياء حسنة منها قوله:
وإذا السعادة لاحظتك عيونها ... نم فالمخاوف كلهن أمان
واصطد بها العنقاء فهي حبائل ... واقتد بها الجوزاء فهي عنان
وكانت وفاته بالقاهرة (الخريدة للعماد الأصبهاني)
أبو العلاء المعري (363 - 449 هجري) (974 - 1085 م)
هو أحمد بن عبد الله القضاعي المعري التنوخي كان علامة عصره. وله التصانيف المشهورة والرسائل المأثورة. وله من النظم لزوم ما لا يلزم. وله سقط الزند وهو متن التنوير وكتاب الأيك والغصون. وكان متضلعاً من فنون الدب. واخذ عنه أبو القاسم التنوخي والخطيب أبو زكريا يحيى التبريزي شارح الحماسة وغيرها ثم عمي بالجدري. ومن تصانيفه وصفه وإطرائه. فقال أبو العلاء: كأنما نظر المتنبي إلي بلحظ الغيب حيث يقول:
أنا الذي نظر الأعمى إلى أدبي ... وأسمعت كلماتي من به صمم
واختصر ديوان أبي تمام حبيب وشرحه وديوان البحتري وديوان المتنبي وتكلم على غريب أشعارهم ومعانيها ومآخذهم من غيرهم وما اخذ عليهم. وتولى الانتصار لهم والنقد في بعض المواضع عليهم. والتوجيه للخطأ في بعض الأماكن. ورحل إلى بغداد مرتين. ولما رجع منها في المرة الثانية لزم منزله وشرع في التصنيف. وكان يملي على بضع عشرة محبرة في فنون من العلوم. وأخذ عنه ناس وسار إليه الطلبة من الآفاق والعلماء والوزراء وأهل الأقدار وسمى نفسه رهن المحبسين للزومه منزله ولذهاب عينيه. ومكث خمسا وأربعين سنة لا يأكل اللحم تزهدا. وعمل الشعر وهو ابن إحدى عشرة سنة. ولما توفي قرئ على قبره سبعون مرثية منها قول أبي الفتح حصينة المعري:
العلم بعد أبي العلاء مضيع ... والأرض خالية الجوانب بلقع
أودى وقد ملأ البلاد غرائباً ... تسري كما تسري النجوم الطلع
ما كنت اعلم وهو يوضع في الثرى ... أن الثرى فيه الكواكب تودع
جبل ظننت وقد تزعزع ركنه ... أن الجبال الراسيات تزعزع
لو فاضت المهجات يوم وفاته ... ما استكثر فيه فيكيف الدمع
عين تسهد للمفاف وللتقى ... أبدا وقلب للمهيمن يخشع
شيم تجمله فهن لمجده ... تاج ولكن بالثناء يرصع
جادت ثراك أبا العلاء غمامة ... كندى يديك ومزنة لا تقلع(6/311)
ما ضيع الباكي عليك دموعه ... إن الدموع على سواك تضيع
قصدتك طلاب العلوم ولا أرى ... للعمل بابا بعد بابك يقرع
مات النهى وتعطلت أسبابه ... وقضى التأدب والمكارم أجمع
أبو الطيب المتنبي (303 - 354 هجري) (916 - 966 م)
هو أبو الطيب أحمد بن عبد الصمد الجعفي الكندي المعروف بالمتنبي الشاعر المشهور. وهو من أهل الكوفة وقدم الشام في صباه واشتغل بفنون الدب ومهر فيها. وكان من المكثرين من نقل اللغة والمطلعين على غريبها وحواشيها. ولا يسأن عن شيء إلا واستشهد فيه بكلام العرب من النظم والنثر. وأما شعره فهو في النهاية ولا حاجة إلى ذكر شيء منه لشهرته لكن الشيخ تاج الدين الكندي كان يروي له بيتين لا يوجدان في ديوانه وهما:
أبعين مفتقر إليك نظرتني ... فأهنتني وقذفتني من حالق
لست الملوم أنا الملوم لأنني ... أنزلت آمالي بغير الخالق
ولما كان بمصر مرض وكان له صديق يغشاه في علته فلما أبل انقطع عنه. فكتب إليه: وصلتني وصلك الله معتلا. وقطعتني مبلا. فإن رأيت أن لا تحبب العلة إلي. ولا تكدر الصحة علي فعلت إن شاء الله تعالى. والناس في شعره على طبقات. فمنهم من يرجحه من يرجحه على أبي تمام ومن بعده ومنهم من يرجح أبا تمام عليه وله التشابيه البديعة كقوله:
في جحفل ستر العيون غباره ... فكأنما يبصرن بالآذان
واعتنى العلماء بديوانه فشرحوا أكثر من أربعين شرحا ما بين مطولات ومختصرات ولم يفعل هذا بديوان غيره. ولا شك أنه كان رجلا مسعودا ورزق في شعره السعادة التامة. وإنما قيل له المتنبي لأنه ادعى النبوءة في بادية السماوة وتبعه خلق كثير من بني كلب وغيرهم. فخرج إليه لؤلؤ أمير حمص نائب الأخشيدية فأسره وتفرق أصحابه وحبسه طويلا. ثم استتابه وأطلقه. وقيل غير ذلك وهذا أصح. وقيل أنه قال: أنا أول من تنبأ بالشعر. ثم التحق بالأمير سيف الدولة بن حمدان سنة 337. وكان لسيف الدولة مجلس يحضره العلماء كل ليلة فيتكلمون بحضرته. فوقع بين المتنبي و (بين) ابن خالويه النحوي كلام. فوثب ابن خالويه على المتنبي فضرب وجهه بمفتاح كان معه فشجعه وخرج ودمه يسيل على ثيابه. فغضب وخرج إلى مصر سنة 346 وامتدح كافورا ولما لم يرضه هجاء وفارقه سنة 350 فوجه كافور خلفه رواحل إلى جهات شتى فلم يلحق به. وقصد المتنبي بلاد فارس ومدح عضد الدولة بن بويه الديلمي فأجزل جائزته. ولما رجع من عنده قاصدا بغداد ثم الكوفة في شعبان لثمان خلوان منه عرض له فاتك بن أبي الجهل الأسدي بعدة من أصحابه. وكان مع المتنبي أيضا جماعة من أصحابه فقاتلوه. فقتل المتنبي وابنه وغلامه مفلح بالقرب من النعمانية (اليتيمة للثعالبي وغير ذلك)(6/312)
الباب الثالث عشر في التاريخ
أخبار الفرنج فيما ملكوا من سواحل الشام وثغوره وكيف تغلبوا عليه وبداية أمرهم في ذلك ومصايره
الزحفة الأولى (1091 - 1099 م)
كانت دولة الفرنسيين من أعظم دول الفرنج واستفحل أمرهم بعد الروم. وكان مبتدأ خروجهم سنة تسعين وأربعمائة (1087 م) فتجهزوا لذلك. وكان ملوكهم الحاضرون بقدوين والقمص (ريموند) وغفريد وبويموند. فجعلوا طريقهم في البر على القسطنطينية فمنعهم ملك الروم (ألكسيس) من العبور عليه من الخليج حتى شرط عليهم أن يسلموا له أنطاكية لكون المسلمين كانوا أخذوها من مماليكهم فقبلوا شرطه وسهل لهم العبور في خليجه. فأجازوا في العدد العدة وانتهوا إلى بلاد قليج أرسلان صاحب قونية فجمع للقائهم فهزموه. ثم ساروا إلى إنطاكية وبها باغيسيان من أمراء السلجوقية فأخذوها عنوة ووضعوا السيف في المسلمين الذين بها ونهبوا أموالهم. وقتل باغيسيان وحمل رأسه إليهم وردوا أمر المدينة إلى بويموند (1099م) . فلما سمع كربوقا صاحب الموصل بحال الفرنج وملكهم إنطاكية جمع العساكر وسار إلى الشام في كثير من الأمراء والقواد فزحفوا إلى إنطاكية وحاصروها ثلاثة عشر يوماً. فوهن الفرنج واشتد عليهم الحصار لما جاءهم على غير استعداد وطلبوا الخروج على الأمان فامتنع كربوقا. ثم أن كربوقا أساء السيرة فيمن اجتمع معه من الملوك والأمراء فخبثت نياتهم عليه. وكان مع الفرنج راهب مطاع فيهم فقال لهم: إن زج الحربة التي طعن بها المسيح مدفونة بكنيسة الفتيان فإن وجدتموها فإنكم تظفرون. وأمرهم بالصوم والتوبة ففعلوا ذلك ثلاثة أيام. فلما كان اليوم الرابع أدخلهم الموضع فحفروا عليها جميع الأماكن فوجدوها كما ذكر. فقال لهم: أبشروا بالظفر. فقويت عزيمتهم وخرجوا اليوم الخامس. فلما تكاملوا ولم يبق بإنطاكية أحد منهم ضربوا مصافاً عظيماً فولى المسلمون منهزمين فقتل الفرنج منهم ألوفا وغنموا ما في العسكر من الأقوات والأموال والدواب والأسلحة فصلحت حالهم وعادت إليهم قوتهم. وساروا إلى معرة النعمان فملكوها وزحفوا إلى حمص فصالحهم أهلها واستولى بقدوين على مدينة الرها وملطية فملكها. ثم دخلت سنة اثنتين وتسعين وأربعمائة فسار الفرنج إلى البيت المقدس وكان بيت المقدس قد(6/313)
ملكه السلجوقية. ثم طمع فيه أهل مصر فاستولوا عليه فصار أمر المقدس في يد خليفة مصر. فاستناب عليها افتخار الدولة الذي كان بدمشق فقصده الفرنج وحاصروه أربعين ليلة ونصبوا على المدينة برجين وملكوها من الجانب الشمالي وركب الناس السيف فاحصي القتلى فكانوا سبعين ألفاً أو يزيد. وغنموا من المدينة ما لا يقع عليه الإحصاء وجاء الصريخ إلى بغداد صحبة القاضي أبي سعيد الهروي فكثر البكاء والأسف. وقال في ذلك المظفر الأبيوردي:
مزجنا دماء بالدموع السواجم ... فلم يبق منا عرضة للمراجم
وشر سلاح المرء دمع يفيضه ... إذا الحرب شبت نارها بالصوارم
وكيف تنام العين ملء جفونها ... على هفوات أيقظت كل نائم
وإخواننا بالشام أضحى مقيلهم ... ظهور المذاكي أو بطون القشاعم
يسومهم الروم الهوان وأنتم ... تجرون ذيل الخفض فعل المسالم
أترضى صناديد الأعارب بالأذى ... وتغضي على ذل كماة العاجم
فليتهم إذ لم يذودوا حمية ... على الدين ضنوا غيرة بالمحارم
ملك غدفريد (1099 م) وبقدوين الأول (1100 م)
وتمكن الفرنج من البلاد وولا على بيت المقدس غفريد من ملوكهم. ولما بلغ خبر الواقعة إلى مصر جمع الأفضل الجيوش والعساكر واحتشد وسار إلى عسقلان وأرسل إلى الفرنج بالتكبر والتهديد. فأعادوا الجواب ورحلوا مسرعين فكسبوه بعسقلان على غير أهبة فهزموه واستلحموا المسلمين ونهبوا سوادهم. ونازل الفرنج عسقلان حتى مانع أهلها الفرنج بعشرين ألف دينار وعادوا إلى القدس. ثم أتموا الفتح واستولى تنكري على طبرية وتقلد عليها الإمارة ثم افتتح حصن حيفا. وكانت وفاة غفريد سنة ثلاثة وتسعين وأربعمائة.
وقام بالأمر بعده أخوه بقدوين صاحب الرها. وسار في ملك الفرنج إلى سروج وقيسارية فملكوها عنوة (1100 م) وملكوا أرسوف بالأمان. وفي سنة 495 للهجرة سار ضجيل (ريموند) إلى طرابلس وشد حصارها وأعانه أهل الجبل والنصارى من أهل سوادها. ثم صالحوه على مال وخيل ورحل عنهم إلى أنطرسوس من أعمال طرابلس فحاصرها وملكها عنوة. ثم رحل إلى حمص ونازلها وملك أعمالها. ثم استفحل أمر الفرنج بالشام وندب بقدوين جمعا كثيرا ممن سار إلى زيارة القدس للغزو فأغاروا على عكا وقيسارية واكتسحوا نواحيها. وفي سنة 497 هجري وصلت مراكب من بلاد الفرنج تحمل خلقا كثيرا من التجار والحجاج فاستعان بهم ضجيل على حصار طرابلس فحاصروها برا وبحرا حتى يئسوا منها فارتحلوا إلى جبيل وملكوها بالأمان. ثم سير الأفضل صاحب مصر عسكرا ضخما إلى قهر الفرنج فملكوا الرملة واستنجدهم صاحب عسقلان وطغركين أتابك صاحب دمشق فقصدهم بقدوين فاقتتلوا وكثرت(6/314)
بينهم القتلى واستشهد صاحب عسقلان وتحاجزوا وعاد كل إلى بلده. ثم سار الفرنج إلى حصن أفامية فحاصروه حتى جهد أهلها الجوع وملكوا البلد والقلعة. وقتلوا القاضي المتغلب عليها. وفي سنة 499 هجري سار ضحيل ثالثة إلى طرابلس وأقام عليها وبنى بالقرب منها حصنا وبنى تحته ربضا وهو المعروف بحصن ضجيل فسار صاحب طرابلس إليه وأحرق الربض ووقف ضجيل على بعض سقوفه المحرقة فانخسف به فهلك وحمل إلى القدس ودفن فيه. وفي سنة 502 هجري سار طغركين أتابك من دمشق إلى طبرية فزحف إليه ابن أخت بقدوين ملك القدس واقتتلوا فانكشف المسلمون ثم استماتوا وهزموا الفرنج وأسروا ابن أخت الملك فقتله طغركين بعد أن فادى نفسه بثلاثين ألف دينار وخمسمائة أسير فلم يقبل منه إلا الإسلام أو القتل. ولما كانت سنة 503 هجري وصل القمص (ريموند) بن ضجيل بمراكب عديدة مشحونة بالرجال والسلاح والميرة وحاصروا طرابلس مع بقدوين ملك القدس ونصبوا عليها الأبراج. فاشتد بهم الحصار وعدموا القوت لتأخر الأسطول المصري بالميرة فملكوها عنوة وأثخنوا فيها. ثم استولى الفرنج على بيروت عنوة واجتمعوا مع قو كثير ممن قصد الحج والغزو ونازلوا صيداً براً وبحراً وأسطول مصر يعجز عن إنجادهم. ثم زحفوا إلى صور في أبراج الخشب المصفحة فضعفت نفوسهم أن يصيبهم مثل ما أصاب أهل بيروت فاستأمنوا فأمنهم الفرنج وعاد بقدوين إلى القدس. ثم دخلت سنة 504 هجري فقصد بقدوين الديار المصرية فانتهى إلى الفرما ودخلها وأحرقها وأحرق جامعها ومساجدها ورحل عنها راجعاً إلى الشام وهو مريض فهلك في الطريق قبل وصوله إلى العريش. فرحل أصحابه بجثته فدفنوها بكنيسة القيامة (لأبي الفداء ولمجير الدين الحنبلي)
ملك بقدوين الثاني (1118م) زنكي وفتوحاته
ووصى بقدوين ببلاده القمص صاحب الرها وهو بقدوين الثاني الذي كان أسره جكرمش وأطلقه جادلي وكان حاضرا في القدس لزيارة الحج. فسلم أمر الرها لجوسلين وكان شجاعا من فحولهم أغار مرارا على جموع العرب والتركمان وغنم أموالهم ومواشيهم. وفي عهد بقدوين الثاني سار أبو الغازي صاحب ماردين إلى غزوا الفرنج واجتمع بطغركين صاحب دمشق فاستولوا على رميلة من أعمال دمشق وغيرها من بلاد الفرات فبالغوا في تحصينها واعتزموا على تخريب بلاد الفرنج. فأسروا وغنموا وقتل صاحب إنطاكية فاستنجد الفرنج ببقدوين فحشد العساكر وزحف إلى مقاتلة المسلمين فناجزهم أبو الغازي وصدق الحملة عليهم فقاتلوه أشد القتال وهزموه. ثم رجع طغركين إلى دمشق وأبو الغازي إلى ماردين فاغتالته بها المنية. ثم قام بعده بلك ابن أخيه فعادوا الحرب ففتك بلك في الفرنج فتكة شنعاء فأسر جوسلين صاحب الرها وحبسه في خرت برت فسار بقدوين إليه في جموعه فهزمهم بلك وأسر الملك وجماعة من زعمائهم وحبسهم في قلعة خرت برت مع جوسلين. ثم سار بلك إلى حران وملكها ولما غاب من(6/315)
خرت برت تحيل الفرنج وخرجوا من محبسهم بمداخلة بعض الجند. وسار بقدورين إلى بلده وملك الآخرون القلعة فعاد بلك إليهم وحاصرها وارتجعها من أيديهم ورتب فيها الحامية. وفي سنة 518 هجري أخذ الفرنج يافا وملكوا مدينة صور بعد حصار طويل وكانت للحلفاء العلويين أصحاب مصر. وكان ملكها بالأمان فدخلها الفرنج وخرج المسلمون بما قدروا على حمله من أموالهم. وفي عهد بقدوين ظهر عماد الدين أتابك زنكي بن أنقر وكان أول أمره أن السلطان محمود السلجوقي ولاه على الموصل والجزيرة وديار بكر ثم استقل في ملكه واستولى على الشام وأورث بنيه ملكها. وكانت لهم دولة عظيمة ونشأت عن دولتهم دولة بني أيوب وتفرعت منها. ثم سار زنكي إلى قتال الفرنج وكانوا قد اجتمعوا على حلب وحاصروها فضاق الأمر على أهلها. فلما قرب زنكي من حلب أجفل عنه الفرنج ورحلوا عنها فسلم أهل حلب المدينة والقلعة إليه. ثم اجتمع الفرنج سنة 520 هجري وساروا إلى دمشق ونزلوا مرج الصفر واستنجد طغركين صاحبها أمراء التركمان من ديار بكر وغيرها فجاءوا إليه. وخرج إلى الفرنج والتقى معهم فسقط طغركين في المعترك. فظن أصحابه أنه قتل فانهزم طغركين والخيالة والفرنج في اتباعهم وقد أثخنوا في رجاله التركمان. فلما اتبعوا المنهزمين خالف الرجالة إلى معسكرهم فنهبوا سوادهم وقتلوا من وجدوا فيه ولحقوا بدمشق ورجع الفرنج عن المنهزمين فوجدوا خيامهم وأثقالهم منهوبة فانهزموا أيضاً. فمات بعد زمان ملكهم بقدوين (1131) (لابن خلدون)
فلك (1131 م) بقدوين الثالث (1145 م) حروب زنكي ووفاته
وصار الأمر إلى فلك من زعمائهم وفي عهد سير زنكي عسكرا كثيفا لفتح دمشق فبعث معين الدولة أنز صاحبها إلى ملك الفرنج ليستنجده على مدافعته على أن يحاصر قاشاش فإذا فتحها أعطاهم إياها. فأجابوا إلى ذلك حذرا من استطالة زنكي على دمشق فمحص الله عسكر زنكي فانهزموا. ثم سار معين الدولة مع الفرنج قاشاش فملكها وأعطاها إلى الفرنج كما عاهدهم وكانت لزنكي. فاستحلموا بها الحامية واستبد بها الفرنج. ثم استقام الأمر بعد فلك لبقدوين الثالث (1145) . وفي أيامه مات صاحب الرها فسار عماد الدين إليها فحاصرها ثمانية وعشرين يوما ونقب سورها ونصبوا عليها السلالم وتسلموها وفتحوا البلد عنوة وأفحشوا في القتل والسبي والنهب. ثم نادوا بالأمان فتراجع النصارى إلى البلد فاقروهم في الجزية. ثم أقام زنكي مدة حتى أصلح أسوارها وخنادقها فحسنت عمارتها وأنزل بها الحامية. ثم تسلم مدينة سروج وسائر الأماكن التي كانت بيد الفرنج شرقي الفرات إلا البيرة لامتناعها. ومات زنكي صاحب الموصل سنة 541 هرجي قتله جماعة من مماليكه. وكان عماد الدين زنكي حسن الصورة أسمر اللون مليح العينين قد وخطه الشيب وكان قد زاد عمره على ستين سنة. وكان شديد الهيبة على عسكره. وكان له الموصل وما معها من البلاد وملك الشم خلا دمشق. وكان شجاعاً وكانت الأعداء محيطة(6/316)
بمملكته من كل جهة وهو ينتصف منها ويستولي على بلادهم. ودفن في الرقة فولي أمر الموصل بعده أخوه قطب الدين مودود. وكان أخوه الأكبر نورد الدين محمود بالشام وله حلب وحماة. فسار إلى سنجار وملكها ولم يحاققه أخوه قطب الدين ثم اصطلحا وأعاد نور الدين سنجار إلى قطب الدين وتسلم هو مدينة حمص والرحبة فبقي الشام له وديار الجزيرة لأخيه. فلما قتل الأتابك زنكي طمع جوسلين أن يسترد الرها وكان مقيماً في ولايته في تل باشر فراسل أهل الرها وعامتهم من الأرمن وحملهم على العصيان على المسلمين وتسليم البلد له فأجابوه وأوعدوه ليوم عينوه فسار في عسكره وملك البلد. فزحف إليهم نور الدين واقتحم البلد واستباح أهله.
زحفة الفرنج الثانية إلى المشرق (1147 م) غزوات نور الدين
ولما استولى المسلمون على الرها أخذ ظل الفرنج بالتقلص في المشرق فذهب القسوس والرهبان إلى بلاد النصرانية من الروم والفرنج يستنجدونهم على المسلمين ويخوفونهم استيلاءهم على إنطاكية وما يخشى بعد ذلك من ارتجاعهم بيت المقدس. فتألبت أمم الفرنج من كل ناحية وسيروا مددا لهم على المسلمين لما يرونه من تفرد هؤلاء بالشام بين عدوهم. فسار في سنة 543 هجري ملك الفرنج (لويس الرابع) وملك الألمان (كوتراد) مع الأمراء في جموع عظيمة قاصدين بلاد الإسلام لا يشكون في الغلب والاسيتلاء لكثرة عساكرهم وتوفر عددهم وأموالهم فتجمعوا بالقسطنطينية وساروا إلى الشام فهلك منهم جمع كثير بدسائس ملك القسطنطينية فلما وصلوا الشام اجتمع عليهم عساكر بقدوين ممتثلين أمرهم. فجدوا بالمسير إلى دمشق فحاصروها فقام معين الدولة أنزفي مدافعتهم المقام المحمود. ثم قاتلهم الفرنج فنالوا من المسلمين بعد الشدة والمصابرة. فقوي الفرنج ونزل ملك الألمان الميدان الأخضر فبعص معين الدين إلى سيف الدين عازي بن زنكي يدعوه إلى نصرة المسلمين. فجمع عساكره وسار إلى الشام واستدعى أخاه نور الدين من حلب ونزلوا على حمص فبعض معين الدولة إلى طائفتي الفرنج من سكان الشام والواردين مع الألمان يتهددهم بتسليم البلد إلى صاحب الموصل. فلم يزل يضرب بينهم وجعل للفرنج حصن بانياس طعمة. فاجتمعوا إلى ملك الألمان وخوفوه من صاحب الموصل وقتلوا له في الذروة والغارب حتى رحل عن دمشق ورجع إلى بلاده على البحر المحيط (1149 م) . وفي سنة 546 هجري جمع نور الدين محمود عسكره وسار إلى بلاد جوسلين الفرنجي وهي شمالي حلب. وكان جوسلين فارس الفرنج غير مدافع قد جمع الشجاعة والرأي فسار في عسكره نحو نور الدين فالتقوا واقتتلوا وانهزم المسلمون وقتل منهم وأسر جمع كثير. وكان في جملتهم سلاحدار نورد الدين فأخذه جوسلين ومعه سلاح نور الدين فسيره إلى الملك مسود بن قلج أرسلان صاحب قونية واقصرا وقال له: هذا سلاح دار زوج ابنتك وسيأتيك بعده ما أعظم منه. فلما علم نور الدين الحال عظم عليه أعمل الحيلة على جوسلين وهجر الراحة ليأخذ ثأره.(6/317)
وأحضر جماعة من الأمراء التركمان وبذل لهم الرغائب أن ظفروا بجوسلين وسموه إليه. لأنه علم عجزه عنه في القتال. فجعل التركمان عليه العيون فخرج متصيداً فظفر به طائفة منهم وحملوه إلى نور الدين أسيراً. فسار نور الدين إلى قلاع جوسلين فملكها وهي عين تاب والراوندان ودلوك ومرعش وغير ذلك من أعماله. وفي سنة 548 هجري ملك الفرنج مدينة عسقلان من يد العلوية خلفاء مصر فاستطالوا على دمشق ووضعوا عليها الجزية. وكان صاحبها مجير الدين أنز واهي القوى مستضعف القوة فخشي نور الدين عليها من الفرنج. فكاتب أهل دمشق واستمالهم في الباطن ثم سار إليها وحصرها وملك المدينة. فلحق مجير الدين بمدينة بغداد وأقام بها إلى أن توفي وأما نور الدين فزحف إلى بعلبك واستنزل عنها صاحبها ونازل قلعة حارم وهي للفرنج فرحل عنها ولم يملكها. وفي بعض مسيره كبسه الفرنج وهو نازل في البقيعة تحت حصن الأكراد. فلم يشعر نور الدين وعسكره إلا وقد أظلت عليهم صلبان الفرنج وقصدوا خيمة نور الدين. فلسرعة ذلك ركب نور الدين فرسه وفي رجله السنجة فنزل إنسان كردي فقطعها فنجا نور الدين وقتل الكردي فأحسن نور الدين إلى مخليصه ووقف عليهم الوقوف. وسار نور الدين إلى مجير حمص ولحق به المنهزمون فتوافقت إليه الإمداد فسار إلى حارم وسار وأخذها من الفرنج بعد مصاف جرى بين الفريقين وانتصر فيه نور الدين ودار رحى الحرب عليهم. ثم عزم على منازلة بانياس لقلة حاميتها فحاصرها وضيق عليها ففتحها وشحن قلعتها بالمقاتلة والسلاح. وفي سنة 544 هجري (1159 م) توفي بقدوين صاحب القدس في مدينة إنطاكية (لابن الأثير)
ملك أموي (1159 م) وفاة نور الدين وظهور صلاح الدين
فقام بعده بالأمر أمالريك أخوه. وفي سنة 556 هجري تولى العاضد لدين الله وهو آخر الخلفاء العلويين بالديار المصرية. وكانت دولة العلويين بمصر قد أخذت في التلاشي وصار استبداد وزرائها على خلفاءها. فهرب شاور وزير العاضد صاحب مصر من ضرغام الذي نازعه في الوزارة إلى الشام ملتجئا إلى نور الدين ومستجيرا بهم. وطلب منه إرسال العساكر معه إلى مصر ليعود إلى منصبه ويكون له ثلث دخل البلاد. فتقدم نور الدين بتجهيز الجيوش وقدم عليها أسد الدين شيركوه فتجهز وساروا جميعاً وشاور في صحبتهم. ووصل أسد الدين والعساكر إلى مدينة بلبيس فخرج إليهم أخو ضرغام بعسكر المصريين ولقيهم فانهزم وخرج ضرغام من القاهرة فقتل وخلع على شاور وأعيد إلى الوزارة. وأقام أسد الدين بظاهر القاهرة فغدر به شاور وعاد عما كان وعده نور الدين. وأرسل إلى الفرنج يستمدهم فسارعوا إلى تلبية دعوته ونصرته فلما قربوا مصر فارقها أسد الدين وقدص مدينة بلبيس وجعلها ظهرا يتحصن به. فحصره بها العساكر المصرية والفرنج ثلاثة أشهر وهو يغاديهم القتال ويراوحهم فلم يبلغوا منه غرضاً. فراسله الفرنج في الصلح والعود إلى الشام فأجابهم إلى ذلك وسار إلى الشام. ثم(6/318)
عاده نور الدين إلى صمر سنة 562 هجري فأغار أسد الدين ودوخ بلادها. ثم هلك وقام صلاح الدين ابن أخيه مكانه. وفي ولايته مات العاضد ومحا الله دعوة العلويين وذهب بدولتهم فاستولى صلاح الدين على بلاد مصر وكان بها عاملا لنور الدين ثم استطال صلاح الدين على نور الدين فاسترجعه سار إليه صلاح الدين. ثم كر راجعا إلى مصر وكتب لنور الدين يعتذر له بأنه بلغه عن بعض سلفه العلويين بمصر أنهم معتزمون على الوثوب. فلم يقبل نور الدين عذره في ذلك واعتزم على عزله عن مصر. فاستشار صلاح الدين أباه نجم الدين وكان خيرا عاقلا حسن السيرة ذا حزم ورأي فأشار عليه بملاطفة نور الدين ومراعاته ففعل وأظهر الطاعة. وكان نور الدين يستفحل ملكا مع الأيام فدخل بلاد الفرنج وعبث بها فخافوا عن لقائه فاكتسح بلادهم وخرب ما مر به من القلاع ثم شرع في التجهز لأخذ مصر من صلاح الدين بن أيوب فأتاه أمر الله الذي لا مرد له سنة 559 هجري. وكان نور الدين أسمر طويل القامة ليس له لحية إلا في حكة حسن الصورة وكان قد اتسع ملكه جداً وخطب له في الحرمين وفي اليمن ومصر وكان مولده سنة 511 هجري وطبق ذكره الأرض بحسن سيرته وعدله. وكان في الزهد والعبادة على قدم عظيم وكان يصلي كثيرا من الليل فكان كما قيل:
جمع الشجاعة والخشوع لربه ... ما أحسن المحراب في المحراب
وهو الذي حصن قلاع الشم وبنى الأسوار على مدنها لما تهدمت بالزلازل. ولما توفي اجتمع الأمراء والمقدمون وأهل الدولة بدمشق وبايعوا ابنه الملك الصالح إسماعيل وهو ابن إحدى عشرة سنة. وأطاعه الناس بالشام. وكان صلاح الدين بمصر وخطب له هناك وضرب السكة باسمه ثم استفحل ملكه وعظمت دولة بني أيوب من بعهد إلى أن انقرضوا. ولما مات نور الدين سار ابن أخيه سيف الدين غازي من الموصل وملك جميع البلاد الجزيرية. واجتمع الفرنج وحاصروا قلعة بانياس من أعمال دمشق. فراسلهم أهل دمشق وتهددوهم بسيف الدين صحاب الموصل فصالحهم على مال يبعثونه إليهم فتقررت الهدنة. وبلغ ذلك صلاح الدين فنكره واستعظمه وكتب إلى الصالح يقبح مرتكب أهل دمشق ويعدهم بغزوة الفرنج. وفي سنة 570 هجري توفي أمالريك ملك الفرنج صاحب القدس (1175) (كتاب الروضتين)
بقدوين الرابع (1175 م) فتوحات صلاح الدين
فعقبه في الملك ابنه بقدوين الرابع وكان مجذوماً. فلما رأى أهل دمشق أن العدو قد استفحل وكون ولد نور الدين طفلا لا ينهض بأعباء الملك كاتبوا صلاح الدين فطار إليهم. فخرج إليه أهل الدولة بمقدمهم وسلموا إليه المدينة فاستخلف عليها أخاه سيف الإسلام طغركين ابن أيوب. ثم سار إلى محاربة سيف الدين غازي صاحب الموصل فاستولى على حمص وحماة ثم زحف إلى حلب وأقام محاصرا لها وبها الملك الصالح بن نور الدين فاجتمع أهل حلب وقاتلوا(6/319)
صلاح الدين وصدوه عن حلب. وأرسل كمشتكين إلى سنان مقدم الإسماعيلية أموالا عظيمة ليقتلوا صلاح الدين فأرسل سنان جماعة فوثبوا على صلاح الدين فقتلوا غيره. فرحل صلاح الدين عن حلب بسبب نزول الفرنج على حمص فاسترجعها. وملك بعلبك ثم سار إلى ملاقاة سيف الدين فصدق عليه الحملة. فانهزم سيف الدين وغنم سواده ومخلفه واتبع عساكر حلب حتى أخرجهم منها. وقطع صلاح الدين حينئذ الخطبة للملك الصالح وأزال اسمه عن السكة واستبد بالسلطنة. ورحل عن حلب سنة 570 هجري ثم سار إلى بلد الإسماعيلية فنهب بلدهم وخربه وأحرقه. ثم أتم مسيره إلى مصر فأمر ببناء السور الدائر على مصر والقاهرة والقلعة التي على جبل المقطم. ثم أمر ببناء المدرسة الشافعية. ولما دخلت سنة 573 هجري سار صلاح الدين من مصر إلى ساحل الشام لغزو الفرنج فوصل إلى عسقلان. فاكتسح أعمالها ولم ير للفرنج خبرا فانساح في البلاد وانقلب إلى الرملة. فما راعه إلا الفرنج مقبلين في جموعهم وأبطالهم وقد افترق أصحاب صلاح الدين في السرايا فتمت الهزيمة على المسلمين وقاربت حملات الفرنج السطان فمضى منهزما إلى مصر على البرية في قل قليل ولحقهم الجهد والعطش ودخل القاهرة. وأخذت الفرنج العسكر الذين كانوا يتفرقون في الإغارات أسرى. فكان وهنا عظيما جبره الله بوقعة حطين (1169 م) . فطمع الفرنج بسبب بعد السطان بمصر وهزيمته فهجموا على بلاد حماة وحارم وعاثوا فيها إلى أن صانعهم المسلمون بالمال فرحلوا عنها. وفي سنة 576 هجري توفي سيف الدين غازي صاحب الموصل والجزيرة وله من العمر ثلاثون سنة وكان حسن الصورة مليح الشباب تام القامة أبيض اللون عاقلا عادلا عفيفا من أموال الرعية مع شح كان فيه. ثم توفي بعده الملك الصالح بن نور الدين صاحب حلب. فسار صلاح الدين من مصر واستخلف فيه ابن أخيه. ثم أغار على بيروت وسواحل الشام وانقلب إلى الجزيرة وملك الرها والرقة وماردين ونصيبين وحصر الموصل وأقام عليها منجنيقا. ثم علم أن حصارها يطول فأقلع عنها واحتل مدينة حلب واقطعها أخاه الملك العادل. ثم سار إلى الكرك وضيق مخنقها فجمعت الفرنج فارسها وراجلها فلم يتمكن السلطان فتحها. فسار إلى نابلس وأحرقها ونهب ما بتلك النواحي وقتل وأسر وسبى ثم عاد إلى دمشق. فلم يلبث أن خرج ثانياً إلى حصار الموصل فلم ينل منها بغيته واستقر الصلح بينه وبين صاحب الموصل بأن يسلم صاحب الموصل إلى السلطان شهرزور وأعمالها وأن يخطب له ويضرب اسمه على الدراهم. فانحرف عن الموصل وأقام بحران مريضا واشتد به المرض حتى أيسوا منه ثم أنه عوفي وعاد إلى دمشق (لأبي الفداء وابن خلدون)
بقدوين الخامس (1185 م)
وكان بقدوين الرابع ملك القدس قد مات بالشام (1185 م) وأوصى بالملك لابن أخيه صغيرا فكفله أرناط صاحب طرابلس. فقام أرناط بتدبير الملك وكان من أعظم الفرنج.(6/320)
مكراً وأشدهم ضررا وطمع أن تكون كفالته ذريعة إلى الملك. ثم مات الصغير (بقدوين الخامس) فتزوجت الملكة ابن غتم (غي دي لوسينيان) من الفرنج القادمين من الغرب وتوجته. وأحضرت البطرك والقسوس والرهبان والاستبارية والدواوية والبارونة وأشهدتهم خروجها له عن الملك. فأنف أرناط وغضب وجاهر بالشقاق لهم. وراسل صلاح الدين فسار بفرقة من عسكره إلى الكرك فحاصرها. وأمر ابنه الأفضل بإرسال بعض إلى عكا ليكتسحوا نواحيها. فصحبوا صفورية وبها جمع من الفداوية والاستبارية فبرزوا إليهم. وكانت بينهم حروب شديدة تولى الله النصر فيها للمسلمين فانهزم الفرنج وقتل مقدمهم. ثم سار صلاح الدين بنفسه ونزل على طبرية وحصر مدينتها وفتحها عنوة بالسيف. وكانت طبرية للقومص (أرناط) وكان قد هادن السلطان ودخل في طاعته. فأرسلت الفرنج إلى القومص المذكور القسوس والبطرك ينهونه عن موافقته السلطان ويوبخونه فسار معهم واجتمع الفرنج لملتقى السلطان.
ذكر وقعة حطين (1189 م)
فرحل الفرنج من وقتهم وساعتهم وقصدوا طبرية للدفع عنها. فأخبرت الطلائع الإسلامية الأمراء بحرة الفرنج فالتقى العسكران على سطح جبل طبرية قرب تل يقال له تل حطين فلما حان القتال خرج القومص محرضاً الناس يقول لهم: لا قعود بعد اليوم. ولابد لنا من رقم القوم. وإذا أخذت طبرية أخذت البلاد. وذهبت الطراف والتلاد. فما يبقى لنا صبر. ولا بعد هذا الكسر جبر. فالمسيح لنا والصليب معنا والمعمودية عمدتنا. والنصرانية نصرتنا. ورماحنا. فراحنا. وصحافنا. صحافنا. وفي لوائنا اللأواء ومع اودائنا الداوية الأدواء. وطوارقنا الطوارق. وبيارقنا البوائق. وسيف الاستبسار بتار تيار. ولقرن الباروني من مقارنته بوار. وقد عثم بحرنا الساحل. وشدد بابه المعاقد والمعاقل. وهذه الأرض تسمعنا نيفا وتسعين سنة. وسلاطين الإسلام ما صدقوا أن يسلموا إلينا ويسالمونا. ويبذلوا لنا القطائع ويقاطعونا. وطالما صفونا وما صافونا. وهادونا وهادنونا. وفي جمعنا تفريقهم. وفي فيئتنا تعويقهم.
ثم ماجت خضارمهم. وهاجت ضراغمهم. وطارت قشاعمهم. وثارت غماغمهم. وسدت الآفاق غمائمهم. وهم كالجبال السائرة. وكالبحار الزاخرة. أمواجها متلطخة وأفواجها مزدحمة. وفجاجها محتدمة وأعلاجها مصطلمة. وقد جوي الجو. وضوي الضو. ودوى الدو. وحوافز الحوافز للأرض حوافز. والفوارس اللوابس في البيض سوافر. فرتب السلطان في مقابلتهم أطلاءه. وقصر على مقاتلتهم آراءه. وحجز بينهم وبين الماء. ولليوم قيظ. وللقوم غيط. فنفر النفير وتصادم العسكران والتحم القتال فأيقن بالويل والثبور. وأحست نفوسهم أنهم في غد زوار القبور. كلما خرجوا جرحوا. وبرح بهم مر الحرب وحملوا وهم ظماء. وما لهم سوى ما بأيديهم من ماء الفرندماء. فشوتهم نار السهام وأشوتهم. وصممت عليهم(6/321)
قلوب القسي القاسية وأصمتهم. وأعجزوا وأعرجوا. وأحرجوا وأخرجوا. كلما حملوا ردوا وأردوا. وكلما ساروا وشدوا أسرو فاضطرموا واضطربوا. والتهفوا والتهبوا. فأووا إلى جبل حطين يعصمهم من طوفان الدمار. فأحاطت بحطين بوارق البوار. فرشفتهم الحنايا. وقشرتهم المنايا. وصاروا للردى درايا. ومن بقي منهم فجردوا العزيمة. واحتالوا في الهزيمة. وأسروا الملك البرنس أرناط ومقدم الفداوية. ولم يصابوا منذ ملكوا هذه البلاد بمثل هذه الوقعة. ثم استحضر صلاح الدين الأسرى وأوقع البرنس أرناط على ما قال وقال له: ها أنا أنتصر لمحمد ثم عرض عليه الإسلام فلم يفعل. ثم سل النمجاء وضربه بها. وقتل أسرى الفداوية والاستبارية أجمعين ثم استحضر الملك وأمنه وطيب قلبه (الفتح القدسي لعماد الدين الكاتب)
فتح القدس لصلاح الدين (1189 م)
ولما فرغ صلاح الدين من طبرية سار عنها إلى عكا فنازلها واعتصم الفرنج الذين بها بالأسوار وأشاروا بالاستئمان فأمنهم. ثم لمك قيسارية وحيفا ويافا وصيدا وبيروت وجبل عسقلان. ثم شمر عن ساق الجد والاجتهاد في قصد القدس. وكان نزوله عليه في رجب سنة 583 هجري فنزل بالجانب الغربي. وكان مشحوناً بالمقاتلة والخيالة والرجالة. ثم انتقل لمصلحة رآها إلى الجانب الشمالي ونصب عليه المناجيق وضايقه بالزحف والقتال وكثرة الرماة حتى أخذ النقب في السور مما يلي وادي جهنم. فملا رأى العدو ما نزل بهم من الأمر الذي لا يندفع عنهم وظهرت لهم أمارات نصرة السلطان وكان قد ألقى في قلوبهم مما جرت على أبطالهم ورجالهم في السبي والقتل والأسر وما جرى على حصونهم من الاستيلاء والأخذ علموا أنهم إلى ما صاروا إليه صائرون. وبالسيف الذي قتل به إخوانهم مقتولون. واستكانوا وأخلدوا إلى طلب الأمان. فأبى السلطان وقال: لا أفعل بكم إلا كما فعلتم بالمسلمين حين ملكتموه سنة 481 هجري من القتل والسبي. قال له باليان: أيها السلطان أعلم أننا إذا رأينا أن الموت لابد منه لنقتلن أولادنا ونساءنا ونحرق أموالنا ولا نترككم تغنمون منا ديناراً ولا درهماً. ولا تسبون وتأسرون رجلاً أو امرأة. فإذا فرغنا من ذلك أخربنا الصخرة والمسجد الأقصى ثن نقتل من عندنا من أسارى المسلمين وهم خمسة آلاف أسير ولا نترك لنا دابة ولا حيوانا إلا قتلناه. ثم خرجنا كلنا وحينئذ لا يقتل الرجل منا حتى يقتل أمثاله ونموت أعزاء ونظفر كرماء. فاستشار صلاح الدين أصحابه عن أي شيء تنجلي. فأجاب صلاح الدين حينئذ إلى بذل الأمان للفرنج واستقر أن يزن الرجل عشرة دنانير يستوي فيه الغني والفقير وتزن المرأة خمسة دنانير ويزن الطفل من الذكور ولإناث دينارين. فمن أدى ذلك إلى أربعين يوماً فقد نجا وإلا صار مملوكاً. فبذل باليان عن الفقراء ثلاثين ألف دينار فأجيب إلى ذلك. وسلمت المدينة يوم الجمعة السابع(6/322)
والعشرين من رجب فخلف أخاه الملك العادل بالقدس يقرر قواعدها. وتحرر عزمه على قصد صور لمحاصرتها فامتنعت عنه. فعدل إلى فتح قلعة جبلة ودخل اللاذقية واستولى على قلعة صهيون. ثم سار إلى مدينة صور وقد خرج إليها المركيس وصار صاحبها وقد ساسها أحسن سياسة. فقسم صلاح الدين القتال على العسكر كل جمع لهم وقت معلوم يقاتلون فيه بحيث يتصل القتال على أهل البلد. على أن الموضع الذي يقاتلون فيه قريب المسافة تكيفه الجماعة اليسيرة من أهل البلد تحفظه. وعليه الخنادق التي قد وصلت من البحر إلى البحر فلا يكاد الطائر يطير عليها. لأن المدينة كالكف في البحر والساعد متصل بالبر والبحر في جانبي الساعد والقتال أنما هو في الساعد فلذلك لم يتمكن منها صلاح الدين ورحل عنها (لأبي الفرج الملطي)
زحفة الفرنج الثالثة إلى المشرق (1190 م)
فلما تم الخطب على الفرنج بفتح القدس بعثوا الرهبان والأقسة إلى بلادهم بخبر بيت القدس واستنصار النصرانية لها. فقام ملك الفرنسيس (فيليب) وملك أنكلطرة (ريكارد) وملك الألمان وجمعوا عساكرهم وساروا للجهاد. فسار فيليب وملك الأنكطار بحرا وقصد ملك الألمان قسطنطينية فعجز ملك الروم (أيساكيوس أنكلوس) عن منعه وكان عاهد صلاح الدين بذلك. فكتب إلى السلطان يعلمه: من ايساكيوس انكلوس ضابط الروم إلى النسيب سلطان مصر صلاح الدين المحبة والمودة: قد وصل خط نسبتك الذي نفذت إلى ملكي فما أظن أن نسبتك تسمع أخبارا ودية وأنه قد سار في بلادي الألمان. ولا غرو فإن الأعداء يرجفون بأشياء كذب على قدر أغراضهم. ولو تشتهي أن تسمع الحق فإنهم قد تأذوا وتعبوا كثيرا وقد خسروا كثيرا من المال والدواب والرجال ومات منهم وقتلوا. وبالشدة قد تخلصوا من أيدي أجناد بلادي وقد ضعفوا. وبحيث أنهم لا يصلون إلى بلادك فإن وصلوا كانوا ضعافاً بعد شدة كبيرة لا ينفعون جنسهم ولا يضرون نسبتك (تم) . ثم عبر ملك الألمان خليج القسطنطينية ومروا بمملكة قليج أرسلان وتبعهم التركمان يخفون بهم ويتحفظون منهم وكان الفصل شتاء فهلك أكثرهم من البرد والجوع. ولما ولوا إلى بلاد طرطوس أقاموا على نهر (السيدنوس) ليعبروه فعن لملكهم أن يسبح فيه فهلك غرقاً. فملك بعده ابنه وأتموا المسير إلى الشام فبلغوا طرابلس وقد أفناهم الموت ولم يبق منهم إلا ستة آلاف رجل. وهلك ابن ملك الألمان في عكا وحزن الفرنج عليه حزنا عظيما. ثم وصل ملك الفرنسيس بحراُ. وكان عظيما عندهم مقدما محترما من كبار ملوكهم تنقاد إليه العساكر بأسرها بحيث إذا حضر حكم على الجميع. وقدم في ست بطس تحمله وميرته وما يحتاج إليه من الخيل وخواص أجناده. ثم وصل بعده ملك الأنكطار وكان شديد البأس بينهم عظيم الشجاعة قوي الهمة له وقعات عظيمة وله جسارة على الحرب وهو دون الفرنسيس عندهم في الملك والمنزلة لكنه أكثر مالا منه وأشهر في(6/323)
الحرب والشجاعة. وكان من خبره أنه وصل إلى جزيرة قبرص ولم ير أن يتجاوزها الأوان تكون له وفي حكمه. فاستولى عليها ثم زحف إلى الشام (سيرة صلاح الدين لابن شازي)
حصار عكا والصلح (1191 م) زحفة الفرنج الرابعة (1196 م)
فاتفق الفرنج جميعا على الرحيل إلى عكا ومحاصرتها فنزلوا عليها وأحاطوا بها من البحر إلى البحر فليس للمسلمين إليها طريق. فنزل صلاح الدين قبالتهم وبعث إلى الأطراف يستنفر الناس. فجاءت عساكر الموصل وديا بكر وسائر الجزيرة وبقي المسلمون يغادرون القتال ويراوحونه أشهرا. فتتابعت أمداد الفرنج من وراء البحر لإخوانهم المحاصرين لعكا حتى جهد المسلمين بعكا الحصار وضعفت نفوس أهل البلد ووهنوا. فبعثوا إلى الفرنج في تسليمها على أن تصالحهم على الأمان فيعطوهم مائتي ألف دينار ويطلق لهم خمسمائة أسير ويعيد لهم الصليب الصلبوت فأجابوا إلى ذلك. فدخل الفرنج عكا واستراحوا مما كانوا فيه. ثم تخلف صلاح الدين عن وفاء الشروط فركب الفرنج وخرجوا ظاهر المدينة بالفارس والراجل وركب المسلمون إليهم وحملوا عليهم فانكشفوا عن موقفهم. فوضع الفرنج السيف في المسلمين وقتلوا الأسرى. فلما رأى صلاح الدين ذلك رحل إلى ناحية عسقلان وأخربها. ثم هم بترميم ما ثلم من أسوار القدس وسد فروجه وأمر بحفر خندق خارج الفصيل. فنقلت الحجارة للبنيان وكان صلاح الجين يركب إلى الأماكن البعيدة وينقلها على منكبيه فيقتدي به العسكر. ثم سار ملك اللانكطار في ساقة الفرنج فحملهم وانهزموا إلى يافا. فأقاموا بها والمسلمون قبالتهم ثم ساروا إلى قيسارية والمسلمون يتبعونهم ثم رحلوا إلى أرسوف فسبقهم المسلمون إليها فحملوا على المسلمين وهزموهم. ثم ساروا إلى داروم ثم إلى القدس فانتهوا إلى بيت قوجة على فرسخين من القدس. فاستعد صلاح الدين للحصار فوفد عليه رسوم الفرنج وعقدت الهدنة معهم. وكان سبب ذلك أن ملك الانكطار قد طال مغيبه عن بلاده وطال عليه البيكار. فكاتب الملك العادل يسأله الدخول على السلطان فأجاب السلطان إلى ذلك واتفق عليه الرأي الأمراء لما حدث عنده العسكر من الضجر ونفاد النفقات. فتحالفوا على ذلك ولم يحلف ملك الانكطار بل أخذوا يده وعاهدوه. واعتذر بأن الملوك لا يحلفون وقنع السلطان بذلك. وكانت الهدنة على أن يستقر بيد الفرنج يافا وقيسارية وأرسوف وحيفا وعكا مع أعمالها وأن تكون عسقلان خرابا وأذن للفرنج في زيارة القدس. وكان يوما مشهودا غشي الناس من الطائفتين من الفرح والسرور ما لا يعلمه إلا الله. وارتحل ملك انكلطرة فيالبحر عائدا إلى بلده. وأقام الكند هنري صاحب صور بعد المركيس ملكا على الفرنج بسواحل الشام وتزوج الملكة التي كانت تملكهم قبله. وكر صلاح الدين راجعا إلى دمشق وكانت وفاته فيها سنة 589 هجري وعمره سبع وخمسون سنة. وكان صلاح الدين حليما كريما حسن الأخلاق متواضعا صبورا كثير التغافل عن ذنوب أصحابه.(6/324)
وكان ذا سياسة حسنة وهيبة عظيمة وعدل وافر وغزوات كثيرة. وكان يوم وفاته لم يصب الإسلام والمسلمين بمثله منذ فقدوا الخلفاء الراشدين. وغشي القلعة والبلد والدنيا من الوحشة ما لم يعلمه إلا الله. فيتمنى الناس أن يكونوا فداء من يعز عليهم. واستقر بعده الملك لابنه العزيز عثمان في مصر ولولده الملك الأفضل بدمشق. ولما توفي صلاح الدين وملك أولاده بعده جدد العزيز الهدنة مع الكند هنري ملك الفرنج كما عقد أبوه معه. وكان أمير بيروت يبعث الثواني للإغارة على الفرنج فشكوا ذلك إلى العادل فلك يكفهم. فأرسلوا إلى ملوكهم وراء البحر يستنجونهم فأمدوهم بالعساكر وأكثرهم من الألمان. فوصل منهم جمع عظيم إلى الساحل واستولوا على قلعة بيروت. فار الملك العادل صاحب الجزيرة إلى يافا واتتهم النجدة من مصر والجزيرة. فملكوا المدينة وخربوها وامتنع الحامية بالعقلة فحاصروها وفتحوها عنوة واستباحوها. فجاء الفرنج من عكا لصريخ إخوانهم فبلغهم وفاة الكند هنري فرجعوا ثم اعتزموا ونازلوا تبنين سنة 594 هجري فأرسل الملك العادل إلى الملك العزيز صاحب مصر. فسار العزيز بنفسه واجتمع بعمه على تبنين فرحل الفرنج على أعقابهم إلى صور خائبين. ثم اختاروا لهم ملكا صاحب قبرص أوري الثاني خليفة غيدوا فجاءهم وزوجوه بملكتهم زوجة الكند هنري. ثم تناوش المسلمون والفرنج القتال ثم تراسلوا مع الملك العادل في الصلح وانعقد بينهم في السنة ورجع العادل إلى دمشق وسار الفرنج إلى بلادهم (لابن الشازي)
زحفة الفرنج الخامسة واستيلاؤهم على القسطنطينية (1189 - 1204 م)
كان هؤلاء الفرنج بعدما ملكوا الشام اختلفت أحوالهم في الفتنة والمهادنة مع الروم التي كانت بأيديهم من قبل. وظاهرهم الروم على المسلمين في بعض المرات فملكوا مدينة القسطنطينية من الروم. كيفية الخبر عن ذلك أن ملوك الروم أصهروا إلى ملوك الفرنج وتزوجوا منهم بنتا لملك الروم فولدت ابنا. ثم وثب على الملك أخوه فانتزع الملك من يده وحبسه. فلحق الولد بملك الفرنج مستصرخا به فوصل إليهم وقد تجهز الفرنج لاستنقاذ القدس من يد المسلمين وانتدب لذلك ثلاثة من ملوكهم دموس البنادقة وهو صاحب الأسطول الذي ركبوا فيه وكان شيخا أعمى لا يركب ولا يمشي إلا بقائد ومقدم الفرنسيس ويسمى المركيش والثالث يسمى كندرفلندر وهو أكثرهم عددا. فجعل الملك ابن أخيه معهم وأوصاهم بمظاهرته على ملك القسطنطينية ولما وصلوا إليها خرج عم الصبي وقاتلهم. وأضرم شيعة الصبي النار في نواحي البلد فاضطرب العسكر ورجعوا وفتح شيعة الصبي باب المدينة وأدخلوا الفرنج وخرج عمه هاربا. ونصب الفرنج الصبي في الملك وأطلقوا أباه من السجن واستبدوا بالحكم. فعظم ذلك على الروم فوثبوا على الصبي وقتلوه وأخرجوا الفرنج من البلد. فأقام الفرنج بظاهرها محاصرين لهم فاقتحموا وأفحشوا في النهب ونجا كثر من الروم إلى الكنائس وأعظمها كنيسة أيا صوفيا فلم تغن عنهم. ثم تنازع الملوك الثلاثة(6/325)
على الملك بها وتقارعوا فخرجت القرعة على الكند فلندر على أن يكون لدموس البنادقة الجزائر البحرية أقريطس ورودس وغيرها ويكون لمركيش الفرنسيس الخليج مثل نيقية وفيلادلف ولم تدم له فإنها تغلب عليها بطريق من بطارقة الروم اسمه لشكري. ولم تزل القسطنطينية بيد الفرنج إلى سنة 660 هجري فقصدها الروم واستعادوها من الفرنج.
ولما ملك الفرنج القسطنطينية من يد الروم تكالبوا على البلاد ووصل جمع منهم إلى الشام وأرسوا بعكا عازمين على ارتجاع القدس من المسلمين. ثم ساروا في نواحي الأردن فاكتسحوها وكان العادل بدمشق استنفر العساكر من الشام ومصر. وسار فنزل بالطور قريبا من عكا لمدافعتهم وهم قبالته وساروا إلى كفر كنا فاستباحوه. ثم تراسلوا في المهادنة على أن ينزل لهم العادل عن كثير من مناصف الرملة وغيرهم ويعطيهم يافا. ولما استقرت الهدنة أعطى العساكر دستورا وسار إلى مصر وأقام في دار الوزارة. فقصد الفرنج حماة وقاتلهم صاحبها ناصر الدين فهزموه. وفي سنة 603 هجري أكثر الفرنج الغارات بالشام بحدثان ما ملكوا القسطنطينية فعجز المسلمون عن دفاعهم. وأغار أهل قبرص في البحر على أسطول مصر فظفروا منه بعدة قطع وأسروا من وجدوا فيها. فبعث العادل إلى صاحب عكا يحتج عليه بالصلح فاعتذر بأن أهل قبرص في طاعة إفرنج القسطنطينية وأنه لا يحكم له عليهم فخرج العادل في العساكر إلى عكا حتى صالحه صاحبها على إطلاق أسرى من المسلمين. ثم نازل طرابلس ونصب عليها المجانيق وعاث العسكر في بلادها وقطع قناتها ثم عاد إلى دمشق (لابن خلدون)
زحفة الفرنج السادسة إلى المشرق (1216 م) الزحفة السابعة (1228 م)
كان صاحب رومية أعظم ملوك الفرنج بالعدوة الشمالية من البحر الرومي وكانوا لكهم يدينون بطاعته. فبلغه اختلاف أحوال الفرنج بساحل الشام وظهور المسلمين عليهم فانتدب إلى إمدادهم وجهز إليهم العساكر فامتثلوا أمره من أيالته. وتقدم إلى ملوك الفرنج أن يسر بأنفسهم وتوافت الإمداد إلى عكا سنة 614 هجري. فسار الملك العادل من مصر إلى نابلس فبرز الفرنج ليصدوه وكان في خف من العساكر فخام عن لقائهم فأغاروا على بلاد المسلمين ونازلوا بانياس ورجعوا إلى عكا وامتلأت أيديهم من النهب والسبي. ثم حاصروا حصن الطور وهو الذي اختطه الملك العادل فرجعوا عنها. فبعث السلطان وخر بها لئلا يملكها الفرنج وخرب أسوار القدس حذا عليه منهم ثم سار الفرنج في البحر إلى دمياط وأرسوا بسواحلها والنيل بينهم وبينها. وكان على النيل برج حصين تمر منه إلى سور دمياط سلاسل من حديد محكمة تمنه السفن في البحر الملح أن تصعد في النيل إلى مصر. فلما نزل الفرنج بذلك الساحل خندقوا عليهم وبنوا سورا بينهم وبين الخندق وشرعوا في حصار دمياط واستكثروا من آلات الحصار فبعث ذلك البرج أربعة(6/326)
أشهر حتى ملكوه. فعبوا البر المتصل بدمياط واشتد قي قتالها وهي في قلة من الحامية لإجفال المسلمين عنها بغتة. ولما جهدهم الحصار وتعذر عليهم القوت استأمنوا إلى الفرنج فملكوها سنة 616 هجري وقاموا في عمارتها وتحصينها وأقام الكامل قريبا منهم لحماية البلاد وبنى المنصورة بقرب مصر عند مفترق البحر من جهة دمياط. وكان الكامل قد خلف أباه السلطان العادل بالملك في مصر وكان العادل قد توفي سنة 615 هجري وكان له من العمر خمس وسبعون سنة. وكان العادل حازما ومتيقنا غزير العقل سديد الآراء ذا مكر وخديعة أتته السعادة واتسع ملكه. وفي سنة 618 هجري كان اجتماع الملك المعظم والملك الأشرف مع نجدة صاحب ماردين وعسكر حلب والملك الناصر صاحب حماة والملك المجاهد صاحب حمص واتصال الجميع بالملك الكامل على عزم قصد الفرنج ورد دمياط منهم. فأحاطوا بهم وضيقوا السبيل عليهم فأجابوا إلى الصلح على تسليم دمياط وإطلاق ما بأيديهم من أسرى المسلمين وإطلاق ما بأيدي المسلمين من أسراهم وقرر الصلح الدكاد نائب البابا وملك عكا وملوك فرنجة ومقدمو الفداوية والاستبارية. وتسلم الكامل دمياط يوم الأربعاء تاسع عشر رجب وكانت مدة مقام الفرنج بها سنة كاملة وأحد عشر شهرا.
وفي سنة 621 هجري قدم إمبراطور الألمان إلى عكا مع جموعه والإمبراطور معناه ملك الأمراء. وإنما اسم الإمبراطور المذكور فرديك (فريديريك الثاني) وكان بين ملوك الفرنج محبا للحكمة والمنطق والطب مائلا إلى المسلمين. وكان الملك الكامل قد أرسل إليه فخر الدين يستدعيه إلى قصد الشام بسبب أخيه المعظم. فوصل الإمبراطور وقد مات المعظم فنشب به الملك الكامل. ولما وصل الإمبراطور استولى على صيدا وكانت مناصفة بين المسلمين والفرنج وسورها خراب. فعمر الفرنج سورها واحتلوا فيها ثم ترددت الرسل بين الملك الكامل وبين الإمبراطور. ولما طال الأمر ولم يجد الملك الكامل بدا من المهادنة أجاب الإمبراطور إلى تسليم القدس إليه على أن تستمر أسوارها خرابا ولا يعمرها الفرنج. ولا يتعرضوا إلى قبة الصخرة ولا إلى الجامع الأقصى ويكون الحكم في الرساتيق إلى والي المسلمين. ويكون لهم من القرايا ما هو على الطريق من عكا إلى القدس فقط ووقع الاتفاق على ذلك وتحالفا عليه. وتسلم الإمبراطور القدس ورجع إلى عكا وركب البحر إلى بلده. وكانت وفاة الملك الكامل صاحب مصر بدمشق سنة 635 هجري. فاستولى على مصر ابنه العادل فخرج بعد وفاة الملك الكامل صاحب الكرك الناصر داود إلى القدس وكان الفرنج عمروا قلعتها فحاصروها وفتحها وضرب القلعة وخرب برج داود (لأبي الفداء)
زحفة الفرنج الثامنة إلى المشرق (1248 - 1252 م)
كان ملك افرنسة (هو لويس بن لويس) من أعظم ملوك الفرنج ويسمونه ريد افرنس فاعتزم على سواحل الشام وسار لذلك كما سار من قبله ملوكهم. فخرج قاصدا الديار المصرية فجمع عساكره فارسها وراجلها وركب البحر بأموال جزيلة وأهبة جميلة فأجاز إلى(6/327)
قبرص وشتى بها. ثم عبر سنة 647 هجري دمياط وبها بنو كنانة أنزلهم الصالح ابن الملك العادل بها حامية. فلما رأوا ما لا قبل لهم به أجفلوا عنها. فملكها ري افرنس بغير تعب ولا قتال وكان هذا من أعظم المصائب. فبلغ الخبر إلى الصالح وهو بدمشق وعساكره نازلة بحمص فكر راجعا إلى مصر ونزل المنصورة وقد أصابه بالطريق وعك. وأمر بصلب الأمراء المنهزمين من دمياط وكانوا أربعة وخمسين أميرا فاشتد عليه فتوفي. وكان ملكه في الديار المصرية تسع سنين وكان مهيبا عالي الهمة عفيفا طاهر اللسان والذيل وكان جمع من الممالك الترك ما لم يجمع بغيره. وكتم أهل الدولة موته حذرا من الفرنج وقامت زوجته شجرة الدر بالأمر وكانت تركية داهية لا نظير لها من النساء والرجال. فجمعت الأمراء وقوت جأشهم واستحلفتهم. فبايعوا ابن الصالح الملك المعظم تورانشاه ثم انتشر خبر الوفاة. فشره الفرنج إلى قتال المسلمين ودلف طرف منهم إلى المعسكر فانكشف المسلمون وقتل الأتابك فخر الدين مقدم العسكر. ودخل الفرنج المنصورة ولم ينالوا منها نيلا طائلا لأنهم حصولا مضايق أزقتها. وكانت العامة يقاتلونه بالحجارة والآجر والتراب وخيولهم الضخمة لم تتمكن من الجولان بين الدروب. ثم عبى ريد افرنس جيوشه وسار بهم طالباً أرض مصر فصبر المصريون إلى أن عبر الفرنج الخليج من النيل المسمى اشمون فتوجهوا نحوهم والتقى العسكران واقتتل الفريقان قتالا شديدا وانجلت الحروب عن كسرة الفرنج برا وبحرا. فضعف حالهم لذلك فأرسلوا يطلبون القدس وبعض الساحل وأن يسلموا دمياط إلى المسلمين فلم تقع الإجابة إلى لك. ثم أقام الفرنج قبالة المسلمين بالمنصورة وفنيت أزوادهم وانقطع عنهم المدد من دمياط فلم يبقى لهم صبر على المقام. فرحلوا متوجهين إلى دمياط وركب المسلمون أكتافهم وبذلوا فيهم السيف فلم يسلم منهم إلا القليل وقتل منهم أكثر من ثلاثين ألفا. واعتقل الملك ريد افرنس ومعه جماعة من خواصه وأكابره. وفي خلال ذلك هلك الملك المعظم قتله المماليك لشهرين من ملكه وقدموا عليهم أميرا منهم يلقب بعز الدين التركماني. ونهضوا إلى ريد افرنس وجددوا معه اليمين وافتدى منهم بألف ألف دينار وتسليم دمياط فأطلقوه. فأقلع مع أصحابه إلى عكا سنة 648 هجري وأتم عمار يافا وهدم المسلمون سور دمياط لما حصل للمسلمين عليها من الشدة مرة بعد أخرى. ثم استقر الملك بعد قتل شجرة الدر في أيدي الأشرف موسى فبقي في إمارته مدة وعزل لخمس سنين من ولايته وانقرض به ملك بني أيوب. واجتمعت مصر والشام في مملكة الترك فاستبدوا بالملك. وكان أول ملكهم المعزايبك التركماني ثم خلفه ابنه المنصور خلعه قطز المعزي فاستبد بالملك وارتجع الشام من التتر وكانوا استولوا عليها سنة 658 هجري ثم قتل المظفر واستقل الظاهر بيبرس البندقداري سنة 658 هجري ثم جهز العساكر فسار إلى مقاتلة التتر فأجفلوا وولوا هاربين. وقصد قيسارية وهي للفرنج فاقتحم عليها وفتحها وشن على أعمالها الغارة. وسرح عسكر إلى حيفا وأرسوف وملكها.(6/328)
عنوة ثم كر راجعاً إلى طرابلس وبها بويموند الفرنجي فلم يدرك منها وطره. فسار إلى صفد وفتحها واستلحم الفرنج الذين بها وأفحش في قتلهم ثم رجع إلى مصر وأمر بتحديد الجامع الأزهر وإقامة الخطبة به. ثم خرج إلى دمشق واكتسح بسائط عكا واحتل مدينة يافا وصيدا وسار إلى إنطاكية ثانية وفتحها إلى الأمان فخرب قلعتها وأضرمها نارا فبقيت في ملك الفرنج نحو 170 سنة.
زحفة الفرنج التاسعة وحصار تونس (1270) انقراض دولة الفرنج في المشرق (1191)
وفي سنة 668 هجري في أيام المستنصر بالله عبد الله محمد صاحب تونس اعتزم ريد فرنس لويس بن لويس على الحركة إلى تونس. فأرسل إلى ملوك النصارى يستنصرهم إلى غزوها وأرسل إلى البابا خليفة المسيح بزعمهم فأوعز إلى ملوك النصرانية لمظاهرته. فأجاب جماعة من ملوك الفرنج لغزو بلاد المسلمين فشاع خبر استعداد النصارى للغزو. وهم المسلمون بترميم الثغور وأمر المستنصر بسائر عمالاته بالاستنكار من العدة وأرسل في الثغور بذلك وبإصلاح الأسوار واختزان الأحباب. وأوفد السلطان على ملك افرنسيس رسله وما شرطته على أن يكف غربه فلم يرض وجمع الطاغية حشده وركب أساطيله إلى تونس سنة 668 هجري. فاجتمعوا بسردانية ونادى السلطان بالنذير بالعدو والاستعداد له والنفير إلى أقرب المرافئ وبعث الثواني لاستطلاع الخبر. فتوالت بعد مدة الأساطيل بمرسى قرطاجة فنزلوا بالساحل وكانوا زهاء ستة آلاف فارس وثلاثين ألفا من الرجال. وكانت أساطيلهم ثلاثمائة بين صغار وكبار وكانوا سبعة يعاسيب فيهم الفرنسيس وأخوه صاحب صقلية والعلجة زوج الطاغية وتسمى الرينة. وأنزلوا عساكرهم بالمدينة القديمة من قرطاجة وكانت ماثلة الجدران فوصلوا ما فصله الخراب من أسوارها بألواح الخشب ونضدوا شرفاتها وأداروا على السور خندقا بعيد المهوى. وتحصنوا وأقاموا محترسين بتونس ستة أشهر والمدد يأتيه في أساطيله من البحر من صقلية والعدوة بالرجال والأسحلة والأقوات. وبعث السلطان في ممالكه حشدا فوافته الإمداد من كل ناحية من المغرب والأندلس وقبائل العرب فاتصلت الحرب ومات من الفريقين خلق. وفي خلال ذلك هلك ريد افرنسيس يقال أصابه مرض الوباء ولما توفي اجتمع النصارى على ابنه فبايعوه. ثم بعثت مشيخة الفقهاء لعقد الصلح مع الفرنج بمال أغرقه لهم صاحب تونس. فرجع الفرنج إلى عدوتهم. وفي سنة 688 هجري في أيام السلطان المنصور قلاوون استنفر المسلمون من مصر إلى حصار طرابلس فنصب عليها المجانيق وفتحها عنوة فاستباحها. ثم خلفه في الملك ابنه الأشرف خليل فكان أول أعماله حصار عكا متما عزم أبيه. فتناوشوا القتال مع الفرنج وهدم الخليل كثيرا من أبراجها وشحنها بالمقاتلة واستلحموا من كان فيها وأكثروا القتل والسبي في الفرنج واستوعبهم السيف. وبلغ الخبر إلى الفرنج بصور وصيدا وبيروت فأجفلوا عنها توركوها خاوية فانقطع أمر الفرنج من المشرق سنة 690 هجري (لابن خلدون)(6/329)
ذكر التتر - فتوحات جنكزخان (1163 - 1227 م)
اتفق أهل التاريخ أن التتر أمم لا يضمها إحصاء. وهم رجال يسكنون الخيام المتخذة من اللبود لشدة البرد في بلادهم. وأكثر دوابهم الخيل وأقواتهم الأرز وألبان الخيل. ولحومها. وتعرف ملوكهم بالخان وهي سمتهم الخاصة. وكانوا مبددين في دشت قبجان في حدود ملك الخط والصين وفي سهول وأوعار يهارجون فيها كالحيوانات السائمة لا حاكم يردعم ولا دين يجمعهم حتى نبغ فيهم هذا الطاغية جنكزخان. وكان ظهوره في زمان ركن الدين بن زنكي. وكان وقتئذ المستولي على قبائل الترك المشارقة وأوتك خان. وهو المسمى الملك يوحنا من القبيلة التي يقال لها كريت وهي طائفة تدين بالنصرانية. وكان رجل مؤيد من غير هذه القبيلة يقال له تموجين ملازما لخدمة أوتك خان من سن الطفولية إلى أن بلغ حد الرجولية. وكان ذا بأس في قهر الأعداء فحسده الأقران وسعوا به إلى أوتك خان. ولا زالوا يغتابونه عنده حتى اتهمه بتغيير النية وهم باعتقاله والقبض عليه. فأطلع تموجين على المكيدة فكر مع خدمه على أوتك خان فقتله وأبطاله فسمي جنكزخان. ثم علا شأنه وأرسل الرسل إلى جميع الترك فمن أطاعه وتبعه سعد ومن خالفه خذل. فسار أولا يقصد سلطان الخطا والصين والتون خان فأباده. واستصفى ولايته وبلاده (601 هجري) .
وكان جنكزخان رجلا أميا لا يقرأ ولا يكتب وكان لم يتقيد بدين بل يعظم علماء كل طائفة. وكان يميل إلى النصارى ويحسن الظن بهم ويكرمهم ويرجع إلى قول أساقفهم ولا يعدل عن رأيهم. واخترع جنكزخان هو لنفسه في الملك قواعد سلك فيها. ولما لم يكن للتتر كتاب ولا خط فأمر عقلاء مملكته وأذكياء قبيلته أن يضعوا خطا وقلما فوضعوا له قلم المغل ورتبوا له كتابا اسمه الباسق الكبير. وكان كرس مملكته قراقروم. وكان سبب مسيره إلى ممالك الإسلام أنه أرسل إلى خوارزم شاه محمد بهدايا يسأل الموادعة والإذن للتجار من الجانبين في التردد في متاجرهم فاستنكف السلطان من ذلك وقتل الرسل خفية. ففشا الخبر إلى جنكزخان فسار في العساكر واستولى على انزار وبخارى وسمرقند وأضرموا في محالها النار وجعل عمالها وأمراءها نكالا لغيرهم. وتوغلوا في البلاد وانتهوا إلى بلاد ديجور واكتسحوا كل ما مروا عليه. ففر من وجهة خوارزمشاه فسرح جنكزخان العساكر في أثره نحوا من عشرين ألفا فأجفلوه إلى خراسان وإلى طبرستان فخاض بحرها ووصل إلى بعض الجزائر فطرقه المرض بها فمات. (تاريخ القرماني وأبي الفرج الملطي) فسار التتر بعد مهلك خوارزم شاه إلى خراسان ففتحوا كلات من أحصن القلاع إلى جانب جيجون وأوسعوها نهبا وعبر إلى بلخ وملكوها على الأمان (607 هجري) . ثم ساروا إلى مرو وهراة وهما من أمنع البلاد فحاصروها عشرا وصدقوا عليهما الحملة فملكوهما(6/330)
وأحرقوهماونهبوا نواحيها. ثم ساروا القتال جلال الدين بن خوارزم شاه وكان عهد له أبوه قبل موته وكان جلال الدين هذا استظهر على التتر وكبسهم في قندهار. فبعث جنكزخان إلى مدينة خوارزم عسكرا عظيما لعظمها لأنها كرس الملك وموضع العساكر. فسارت عساكر التتر إليها مع ابنيه جغاطاي واوكطاي فحاصروها خمسة أشهر ونصبوا عليها الآلات فامتنعت. فاستمدوا عليها جنكزخان فأمدهم بالعساكر متلاحقة. فزحفوا إليها وملكوا جانبا منها ومازالوا يملكونها ناحية إلى أن استوعبوها ثم فتحوا السد الذي يمنع ماء جيحون عنها وهم ينقمون عليه فادركوه وهو نازل مع عسكره على نهر السند. ولما لم ير وسيلة للخلاص اقتحم النهر بفرسه وفر ناجيا بنفسه وتخلص من عسكره ثلاثمائة فارس وأربعة آلاف رجل وبعض أمرائه. فأجاز التتر إلى بلاد ما وراء النهر وإلى همذان وقزوين وأذربيجان وهم يضعون السيف في من قاومهم ويؤمنون من سالمهم ويفتحون عنوة المدن الممتنعة عنهم ويستبيحونها. ثم إنضاف إلى التتر جموع من التركمان والأكراد وساروا إلى الكرج واثخنوا فيهم. وافتتحوا قصبتهم تبريز (لابن خلدون وابن الأثير) ثم ساروا إلى بيلقان فحاصروها. وبعثوا إلى أهل البلد رجلا من أكابرهم يقرر معم في المصانعة والصلح فقتلوه. فأقام التتر في حصارهم وملكوا البد عنوة (608 هجري) , واستلحموا أهلها وأفحشوا في القتل واستباحوا جميع الضاحية قتلا ونهبا وتخريبا. ثم ساروا إلى قاعدة اران وهي كنجة فصالحوا أهلها ثم عبروا الدرنبر (الدنيبر) وخرجوا إلى الأرض الفسيحة وبها أمم القفجاق والان واللكن وطوائف من الترك. فأوقعوا بتلك الطوائف واكتسحوا عامة البسائط. وقاتلهم جموع من القفجان واللان ودافعوهم ولم يطق التتر مغالبتهم. ثم عادوا إلى محاربة قفجاق وانتهوا إلى مدينتهم الكبرى سراي على بحر نيطش المتصل بخليج القسطنطينية فملكوها. وافترق أهلها واعتصم بعضهم بالجبال والغياض وركب بعضهم إلى بلاد الروم. ثم ساروا سنة (610 هجري) إلى بلاد الروس المجاورة لقفجاق وهي بلاد فسيحة وأهلها يدينون بالنصرانية فاستطرد لهم التتر مراحل ثم كروا عليهم واكتسحوا بلادهم وأثخنوا فيهم قتلا وسلبا ونهبا. ثم قصدوا بلغار وهدموا وأحرقوا ونهبوا وأرهقوا. وفي سنة (614 هجري) قفل جنكزخان من الممالك الغربية إلى منازله القديمة الشرقية فعرض له مرض في طريقه. ولما قوي مرضه استدعى أولاده جغاطاي واوكطاي وتولي خان وأورخان وأوصاهم بوصايا وطرائق في سياسة الملك وعين لكل من هؤلاء مملكة من الممالك وأوصى بالتخت لوكطاي.
ظهور تيمورلنك وفتوحاته (736 - 803 هجري) (1336 - 1405 م)
ذكر لتيمور نسب يتصل بجنكزخان من جهة النساء. وكان رجلا ذا قامة شاهقة(6/331)
أبيض اللون مشربا بحمرة عظيم الجبهة والرأس عريض الأكتاف مستكمل البنية جهير الصوت وبه قزل. فلما بلغ أشده جعل يطوف في الصحارى والغابات يتربض الفرصة لاستنفاذ بلده فانضم إلى الحسين أمير خراسان لمحاربة أمير بلاد ما وراء النهر فظفر به. ثم حاول على الأمير حسين ونقض عهده وانتزع منه مدينة بلخ فأخربها وقتل الحسين شر قتلة. ثم عبر جيحون وحاصر السلطان غياث الدين في هراة وكبس المدينة وفتك بغياث الدين ثم عاد إلى خراسان ووضع السيف في أهل سجستان وأفناهم من بكرة أبيهم. ثم خرب المدينة ولم يبق لها من أثر. وفي سنة (788 هجري) زحف إلى بلاد فارس وعراق العجم فاستولى عليهما. ولما بلغه موت فيروز شاه سلطان الهند قفل إلى الهند وفتح مدنها الجزيرة واستخلف عليها رجلا من أصحابه. وسار نحو سيواس وكان يملكها الأمير سليمان بن السلطان بايزيد فخام عن لقاء تيمور وفر ناجيا بنفسه. ثم أجمع على فتح الشام فضم إليه أطرافه لقتال ملكها فرج برقوق من الملوك السراكسة فالتقى بابنه عند حلب فهزمه ودخل المدينة واستباحها. وملك حماة وبعلبك على الأمان. ثم زحف إلى دمشق فخرج إلى برقوق لمحاربته فالتحم الفريقان وآل القتال إلى كسرة برقوق وقهره فافتتح تيمور دمشق عنوة وقتل وسفك الدماء. وعاث فيها وأضرم النار في جامعها الأموي. وفي سنة (795 هجري) كر عساكره على مدينة بغداد وهزم سلطانها أحمد من ولد هولاكو وتملكها بعد أن أوسع أهلها قتلا وسبيا. ثم صمم العزم على الإغارة على ممالك الأتراك فسار إلى قراباغ وكان لا يدخل في مسيره قرية إلا أفسدها ولا ينزل على مدينة إلا محاها وبددها. ثم راسل السلطان بايزيد خان المجاهد الغازي يدعوه إلى طاعته فتوجه إلى ملاقاته واجتمع العسكران على نحو ميل من مدينة أنقرة. فاشتعلت الحرب بين الفئتين من الضحى إلى العصر حتى ترك السلطان طائفة من عسكره وذهبوا إلى تيمور فكان ذلك سببا لكسرته ووقوعه في مخالب تيمور فكبله في قفص من حديد فقضى فيه نحبه. ثم اندرأ تيمور راجعاً إلى سمرقند مظفرا فما فتئ أن وافته المنون وكشف الله عن العالم كربه (807 هجري) فملك بعده ابنه شاخ رخ ثم انتقل الملك إلى أعقابه إلى أن تلاشى واضمحل (لأبي الفرج)
ظهور الدولة العثمانية وذكر سلاطينها (699 - 1303 هجري) (1299 - 1884 م)
قال القرماني وهم من أعظم السلاطين أبهة وجلالة وأشدهم قوة وآثارا. وأول من ملك منهم الأمير عثمان الغازي (699 هجري 1300 م) وأصله من التراكمة الرحالة النزالة من طائفة التتر وهو ابن أرطغرل بن سليمان شاه. وكان شجاعا ومقداما افتتح بلادا كثيرة من يد السلجوقيين فاستقل عليها. ثم ولي بعده ابنه أورخان (726 هجري 1326 م) افتتح بروسا وجعلها مقر سلطنته واستولى على كليبولي وهي مدينة جليلة على شاطئ البحر بينها وبين القسطنطينية ستة وثمانون ميلا. ثم ملك بعده ولده مراد الأول الغازي (761 هجري 1360 م) افتتح أدرنة سنة(6/332)
(761 هجري) وهو أول من اتخذ المماليك وسماهم بنشرية يعني العسكر الجديد وألبسهم اللباد الأبيض المثنى. ثم ملك بعده ولده السلطان يلدرم بايزيد خان (792 هجري 1389 م) وله فتوحات كثيرة منها نيفية عاصمة بلاد الكرمان وتوقات وصامسون. وحاصر الاستانة ولم يفتحها والتزم صاحبها بالخراج. ثم استظهر تيمورلنك على بايزيد كما مر (1402 م) . ثم خلفه ابنه محمد الأول بعد أن قتل إخوته (816 هجري 1414 م) وفتك ببلاد القرمان. ثم خلفه ابنه مراد الثاني (824 هجري 1422 م) الذي غزا بلاد ارنود وفتح مورة وسالونيك وضرب السكة باسمه وانتصر عليه ملك المجر. ثم ولي الأمر بعده ابنه محمد الثاني (855 هجري 1451 م) وهو الذي فتح القسطنطينية (1453 م) وغزا بوسنة وغلبه القرال (حنا هونياد) في بلاد بلغراد ودفعه الاستبارية عن رودس. ثم ملك بعده ابنه بايزيد الثاني (886 هجري 1481 م) قاتل أخاه جم وغلبه ثم استنزل عن الملك لابنه سليم الأول (918 هجري 1513 م) . ففتح سليم مصر والشام واستولى على بلاد العرب وفارس وأباد ملك الجراكسة فيها. ثم خلفه ابنه سليمان خان (926 هجري 1520 م) استولى على رودس وكوفوس وعراق العجم ورده النصارى عن فينا ومالطة (وكان يحميها لافالت) . ثم ملك بعده سليم الثاني ابنه (974 هجري 1567 م) فتح تونس وقبرص واليمن وغلبه الفرنج في خليج (ليبنت) . ثم تولى بعده السلطان مراد الثالث (982 هجري 1573 م) قهر الكرج وفتح تفليس. ثم ملك ابنه محمد الثالث (1003 هجري 1595 م) غزا المجر وغلبهم. ثم عقبه ابنه أحمد الأول (1012 هجري 1603 م) وهادن الفرنج. ثم تولى بعده السطان أخوه مصطفى الأول وخلعه الينشرية الثلاثة أشهر من ملكه. ثم ملك عثمان الثاني ابن أحمد الأول (1027 هجري 1618 م) قتله الينشرية وأرجعوا مصطفى ثانية (1031 هجري) . ثم خلفه مراد الرابع (1032 هجري 1623 م) فتح بغداد وقهر العجم. ثم تولى الملك بعده ابنه إبراهيم (1049 هجري 1640 م) ثم السلطان الغازي محمد الرابع (1058 هجري 1647 م) غلبه المجر في سنغودار وكسر عسكره سوبيسلي في فينا ثم ملك بعده سليمان خان الثاني (1099 هجري 1988 م) فتح جزيرة كدنية. ثم ملك بعده أحمد الثاني (1102 هجري 1691 م) انتصر عليه اللان. ثم ملك مصطفى الثاني (1106 هجري 1695 م) . ثم الغازي أحمد الثاني (1115 هجري 1704 م) . ثم الغازي محمود الأول (1142 هجري 1732 م) . ثم عثمان الثالث (1168 هجري 1757 م) . ثم مصطفى الثالث (1171 هجري 1769 م) . ثم عبد الحميد خان الأول (1187 هجري 1775 م) . ثم سليم خان الثالث (1203 هجري 18010 م) . ثم الغازي عبد المجيد خان (1255 هجري 1841 م) . ثم عبد العزيز خان (1277 هجري 1863 م) . ثم مراد خان الخامس فخلع (1293 هجري 1876 م) . ثم السلطان عبد الحميد (1293 هجري 1877 م) فخلع سنة (1327 هجري 1909م) وخلفه أخوه رشاد السلطان الدستوري وسمي محمد الخامس. أيده الله بالعز والتوفيق.
* إنما اثبتناها في باب الشعر القديم وهي ليست منه إيثاراً لذكرها مع لامية العرب(6/333)