ومن أديانهم المجوسية أو الصابئة ونصبوا بحسب تلك الآراء الصابئية أصنام الذهب للشمس وأصنام الفضة للقمر. وقسموا المعادن والأقاليم للكواكب. وزعموا عن قوى الكوكب تفيض على تلك الأصنام. فتتكلم تلك الأصنام وتفهم وتوحي للناس اعني الأصنام وتعلم الناس منافعهم وكذلك قالوا في الأشجار التي هي من قسمة تلك الكواكب إذا أفردت تلك الشجرة لذلك الكوكب وغرست له وفعل لها كذا فاضت روحانية ذلك الكوكب على تلك الشجرة وتوحي للناس وتكلمهم في النوم. ومن أديانهم اليهودية في حمير وكنانة وبني الحارث ابن كعب وكندة وأما النصرانية فكانت انتشرت فيهم. قال الفيروزأبادي إن قبائل شتى من بطون العرب اجتمعوا على النصرانية بالحيرة وهم العباد. وإن كثيراً من ملوك اليمن والحيرة تنصروا. وأما ملوك غسان فكانوا كلهم نصارى وكانت النصرانية في ربيعة وقضاعة وبهرا وتنوخ وتغلب وبعض طي. وكانت قريش نصبت في جملة أصنامها في الكعبة تمثال مريم مزوقاً وابنها عيسى في حجرها قاعداً مزوقاً. وذلك في العمود الذي يلي باب الكعبة ولم تطمس صورتهما بل بقيا إلى عهد ابن زبير فهلكا في الحريق (للنويري والأزرقي)
2 علوم العرب وآدابهم
413 فأما علم العرب الذي كانوا يتفاخرون به فعلم لسانهم وإحكام لغتهم ونظم الأشعار وتأليف الخطب. وكانوا مرسومين بين الأمم بالبيان في الكلام والفصاحة في المنطق والذلاقة في اللسان وكان لهم مع هذا معرفة بأوقات مطالع النجوم ومغاربها وعلم بأنواء الكواكب وأمطارها. على حسب ما أدركوه بفرط العناية وطول الجربة لاحتياجهم إلى معرفة ذلك في أسباب المعيشة لا على طريق تعلم الحقائق وأما علم الفلسفة فلم يمنحهم الله شيئاً منه ولا هيأ طبائعهم للعناية به. وكان الشعر ديوان خاصة العرب ومنتهى حكمتها والمنظوم من كلامها والمقيد لأيامها والشاهد على حكامها. به يأخذون وإليه يصيرون. وكانوا لا يهنئون إلا بغلام يولد أو شاعر ينبغ فيهم أو فرس تنتج. قال الصفدي: بل ما كان للعرب ما تفخر به إلا السيف والضيف والبلاغة, وكانوا كل حول يتقاطرون إلى سوق عكاظ ويتبايعون ويتناشدون ويتفاخرون ويتعاكظون. ولقد بلغ من كلف العرب بالشعر ونفضيلها له أن عمدت إلى سبع قصائد من الشعر القديم فكتبتها بماء الذهب في القباطي المدرجة. فقيل لها مذهبات وقد يقال لها معلقات لأنها علقت في أستار الكعبة. أما الكتابة فحكموا أن ثلاثة نفر من طيء كانوا على دين عيسى فوضعوا الخط وقاسوا هجاء العربية على هجاء السريانية. فتعلمه قوم من الأنبار وجاء الإسلام وليس أحد يكتب بالعربية غير بضعة عشر إنساناً ولقلة القراطيس عندهم عمدوا إلى كتف الحيوان فكتبوا عليها. وكان الناس فرقتين أهل الكتاب والأميون والأمي من كان لا يعرف الكتابة. فكانت اليهود والنصارى بالمدينة والأميون بمكة. (لأبي الفرج والجوهري) تم بحوله تعالى(3/317)
مجاني الأدب في حدائق العرب للأب لويس شيخو اليسوعي
الجزء الرابع(4/1)
الباب الأول في التدين
عظمة الخالق وجبروته
سبحان من تقدست سبحات جماله عن سمة الحدوث والزوال. وتنزهت سرادقات جلاله عن وصمة التغير والانتقال. تلألأت على صفحات الموجودات أنوار جبروته وسلطانه. وتهللت على وجنات الكائنات آثار ملكوته وإحسانه. تحيرت العقول والأفهام في كبرياء ذاته. وتولهت الأذهان والأوهام في بيداء عظمة صفاته. دل على ذاته بذاته. وشهد بوحدانيته نظام مصنوعاته. (شرح مواقف الأيجي للجرجاني) العظمة لك والكبرياء لجلالك يا قائم الذات. ومفيض الخيرات. وواجب الوجود وواهب العقول وفاطر الأرض والسماوات. ومبدي الحركة والزمان. ومبدع الحين والمكان. وفاعل الأرواح والأشباح وجاعل النور والظلمات. وتحرك الأفلاك المدبرات. ومزينها بالنجوم الثوابت والسيارات. ومقرر الأرض وممهدها لأنواع الحيوان وأصناف المعادن والنبات. دام حمدك وجل ثناؤك. وتعالى ذكرك وتقدست أسماؤك. لا إله إلا أنت وسعت رحمتك. وكثرت آلاؤك ونعماؤك. أفض علينا أنوار معرفتك. وطهر نفوسنا عن(4/3)
كدورات معصيتك. وأمطر علينا سحاب فضلك ومرحمتك واضرب علينا سرادقات عفوك ومغفرتك. وأدخلنا في حفظ عنايتك ومكرمتك.
(عجائب المخلوقات للقزويني)
متن الشيبانية في التوحيد
سأحمد ربي طاعة وتعبدا ... وأنظم عقداً في العقيدة أوحدا
وأشهد أن الله لا رب غيره ... تعزز قدماً بالبقا وتفردا
هو الأول المبدي بغير بداية ... وآخر من يبقى مقيماً مؤبدا
سميع بصير عالم متكلم ... قدير يعيد العالمين كما بدا
مريد أراد الكائنات لوقتها ... قديم فأنشأ ما أراد وأوجدا
إلهٌ على عرش السماء قد استوى ... وباين مخلوقاته وتوحدا
فلا جهة تحوي الإله ولا له ... مكان تعالى عنهما وتمجدا
إذ الكون مخلوق وربي خالق ... لقد كان قبل الكون رباً وسيدا
ولا حل في شيء تعالى ولم يزل ... ملياً غنياً دائم العز سرمدا
وليس كمثل الله شيء ولا له ... شبيه تعالى ربنا أن يحددا
ومن قال في الدنيا يراه بعينه ... فذلك زنديق طغا وتمردا
ولكن يراه في الجنان عباده ... كما صح في الأخبار نرويه مسندا
روي أن الزمخشري سأل الإمام الغزالي عن قول القائل: الرحمان على العرش استوى. فأجاب:
قل لمن يفهم عني ما أقول ... أترك البحث فذا شرح يطول(4/4)
ثم سر غامض من دونه ... ضربت بالسيف أعناق الفحول
أنت لا تعرف إياك ولم ... تدر من أنت ولا كيف الوصول
لا ولا تدري صفات ركبت ... فيك حارت في خفاياها العقول
أين منك الروح في جوهرها ... هل تراها أو ترى كيف تجول
أنت أكل الخبز لا تعرفه ... كيف يجري فيك أم كيف يؤول
فإذا كانت طواياك التي ... بين جنبيك بها أنت جهول
كيف تدري من على العرش استوى ... لا تقل كيف استوى كيف الوصول
فهو لا كيف ولا أين له ... هو رب الكيف والكيف يحول
وهو فوق الفوق لا فوق له ... وهو في كل النواحي لا يزول
جل ذاتاً وصفات وعلا ... وتعالى ربنا عما نقول
قصيدة لأحمد البرعي في الاستدلال على الحق تعالى
كل شيء منكم عليكم دليل ... وضح الحق واستبان السبيل
أحدث الخلق بين كاف ونون ... من يكون المراد حين يقول
من أقام السماء سقفاً رفيعاً ... يرجع الطرف عنه وهو كليل
ودحا الأرض فهي بحر وبر ... ووعود مجهولة وسهول
وجبال منيفة شامخات ... وعيون معينة وسيول
ورياح تهب في كل جو ... وسحاب يسقي الجهات ثقيل
ودرار بكم وشمس وبدر ... ونجوم طوالع وأفول
حكمته تاهت البصائر فيها ... واعتراها دون الذهول ذهول(4/5)
فالسماوات السبع والعرش والكر ... سي والحجب ذكرها التهليل
ممسك الطير في الهواء ومحيي ال ... حوت في الماء فهو كاف كفيل
سرمدي البقا أخيرٌ قديمٌ ... قصرت عن مدى علاه العقول
حيث لم يشتمل عليه مكان ... يحتويه أو غدوة وأصيل
من له الملك والملوك عبيد ... وله العز والعزيز ذليل
كل شيء سواه يفنى ويبلى ... وهو حي سبحانه لا يزول
ألفت بره البرايا فهم في ... رحمة ظلها عليهم ظليل
سيدي أنت مقصدي ومرادي ... أنت حسبي وأنت نعم الوكيل
أحي قلبي بموت نفسي وصلني ... وأنلني إن الكريم ينيل
وأجرني من كل خطب جليل ... قبل قول الوشاة صبر جميل
وافتقدني برحمة وأقلني ... من عثاري فإنني مستقيل
كيف يظمأ قلبي وعفوك بحر ... زاخر طافح عريض طويل
رب صفحاً فإن ذنبي كبير ... واصطباري على العذاب قليل
والرجا فيك والرضا منك فضل ... ولك المنُّ والعطاء الجزيل
نخبة من متن بدء الأمالي في التوحيد
يقول العبد في بدء الأمالي ... لتوحيد بنظم كاللآلي
إله الخلق مولانا قديم ... وموصوف بأوصاف الكمال
هو الحي المدبر كل أمر ... هو الحق المقدر ذو الجلال
صفات الله ليست عين ذات ... ولا غيراً سواه ذا انفصال(4/6)
صفات الذات والأفعال طراً ... قديماتٌ مصونات الزوال
نسمي الله شيئاً لا كالأشيا ... وذاتاً عن جهات الست خال
وليس الاسم غيراً للمسمى ... لدى أهل البصيرة خير آل
وما إن جوهر ربي وجسم ... ولا كل وبعض ذو اشتمال
ورب العرش فوق العرش لكن ... بلا وصف التمكن واتصال
وما التشبيه للرحمن وجهاً ... فصن عن ذاك أصناف الأهالي
ولا يمضي على الديان وقت ... وأحوال وأزمان بحال
ومستغن إلهي عن عباد ... تفرد ذو الجلال وذو المعاني
يميت الخلق طراً ثم يحيي ... فيجزيهم على وفق الخصال
لأهل الخير جنات ونعمى ... وللكفار إدراك النكال
ولا يفنى الجحيم ولا الجنان ... ولا أهلوهما أهل انتقال
يراه المؤمنون بغير كيف ... وإدراك وضرب من مثال
فينسون النعيم إذا رأوه ... فيا خسران أهل الاعتزال
قصيدة للبرعي في الحق سبحانه
أغيب وذو اللطائف لا يغيب ... وأرجوه رجاء لا يخيب
وأسأله السلامة من زمان ... بليت به نوائبه تشيب
وأنزل حاجتي في كل حال ... إلى من تطمئن به القلوب
ولا أرجو سواه إذا دهاني ... زمان الجور والجار المريب
فكم لله من تدبير أمر ... طوته عن المشاهدة الغيوب(4/7)
وكم في الغيب من تيسير عسر ... ومن تفريج نائبة تنوب
ومن كرم ومن لطف خفي ... ومن فرج تزول به الكروب
وما لي غير باب الله باب ... ولا مولى سواه ولا حبيب
كريم منعم بر لطيف ... جميل الستر للداعي مجيب
حليم لا يعاجل بالخطايا ... رحيم غيم رحمته يصوب
فيا ملك الملوك أقل عثاري ... فإني عنك أنأتني الذنوب
وأمرضني الهوى لهوان حظي ... ولكن ليس غيرك لي طبيب
وعاندني الزمان وقل صبري ... وضاق بعبدك البلد الرحيب
وعد النائبات إلى عدوي ... فإن النائبات لها نيوب
وآنسني بأولادي وأهلي ... فقد يستوحش الرجل الغريب
ولكني نبذت زمام أمري ... لمن تدبيره فيه عجيب
هو الرحمان حولي واعتصامي ... به وإليه مبتهلاً أنيب
إلهي أنت تعلم كيف حالي ... فهل يا سيدي فرج قريب
وكم متملق يخفي عناداً ... وأنت على سريرته رقيب
وحافر حفرة لي هار فيها ... وسهم البغي يدري من يصيب
وممتنع القوى مستضعف بي ... قصمت قواه عني يا حسيب
وذي عصبية بالمكر يسعى ... إلى سعي به يوم عصيب
فيا ديان يوم الدين فرج ... هموماً في الفؤاد لها دبيب
وصل حبلي بحبل رضاك وانظر ... إلي وتب علي عسى أتوب(4/8)
وراع حمايتي ونول نصري ... وشد عراي إن عرت الخطوب
وأفن عداي واقرن نجم حظي ... بسعد ما لطالعه غروب
وألهمني لذكرك طول عمري ... فإن بذكرك الدنيا تطيب
فظني فيك يا سندي جميل ... ومرعى ذود آمالي خصيب
قصيدة له في الابتهال إلى الله تعالى
قف بالخضوع وناد ربك يا هو ... إن الكريم يجيب من ناداه
واطلب بطاعته رضاه فلم يزل ... بالجود يرضي طالبين رضاه
واسأله مسألةً وفضلاً إنه ... مبسوطتان لسائله يداه
واقصده منقطعاً إليه فكل من ... يرجوه منقطعاً إليه كفاه
شملت لطائفه الخلائق كلها ... ما للخلائق كافل إلا هو
فعزيزها وذليلها وغنيها ... وفقيرها لا يرتجون سواه
ملك تدين له الملوك ويلتجي ... يوم القيامة فقرهم بغناه
هو أول هو آخر هو ظاهر ... هو باطن ليس العيون تراه
حجبته أسرار الجلال فدونه ... تقف الظنون وتخرس الأفواه
صمد بلا كف ولا كيفية ... أبداً فما النظراء والأشباه
شهدت غرائب صنعه بوجوده ... لولاه ما شهدت به لولاه
وإليه أذعنت العقول فآمنت ... بالغيب تؤثر حبها إياه
سبحان من عنت الوجوه لوجهه ... وله سجود أوجه وجباه
طوعاً وكرهاً خاشعين لعزه ... وله عليها الطوع والإكراه(4/9)
سل عنه دارات الوجود فإنها ... تدعوه معبوداً لها رباه
ما كان يعبد من إله غيره ... والكل تحت القهر وهو إله
أبدى بمحكم صنعه من نطفة ... بشراً سوياً جل من سواه
وبنى السماوات العلى والعرش وال ... كرسي ثم علا الجميع علاه
ودحا بسيط الأرض فرشاً مثبتاً ... بالراسيات وبالنبات حلاه
تجري الرياح على اختلاف هبوبها ... عن إذنه والفلك والأمواه
رب رحيم مشفق متعطف ... لا ينتهي بالحصر ما أعطاه
كم نعمة أولى وكم من كربة ... أجلى وكم من مبتلى عافاه
فإذا بليت بغربة أو كربة ... فادع الإله وقل سريعاً يا هو
لا محسن الظن الجميل به يرى ... سوءاً ولا راجيه خاب رجاه
ولحلمه سبحانه يعصى فلم ... يعجل على عبد عصى مولاه
يأتيه معتذراً فيقبل عذره ... كرماً ويغفر عمده وخطاه
وللبرعي في حمد الله
لك الحمد يا مستوجب الحمد دائماً ... على كل حال حمد فان لدائم
وسبحانك اللهم تسبيح شاكر ... لمعروفك المعروف يا ذا المراحم
فكم لك من ستر على كل خاطئ ... وكم لك من بر على كل ظالم
وجودك موجود وفضلك فائض ... وأنت الذي ترجى لكشف العظائم
وبابك مفتوح لكل مؤمل ... وبرك ممنوح لكل مصادم
فيا فالق الأصاح والحب والنوى ... ويا قاسم الأرزاق بين العوالم(4/10)
ويا كافل الحيتان في لج بحرها ... ومؤنس في الآفاق وحش البهائم
ويا محصي الأوراق والنبت والحصى ... ورمل القلا عداً وقطر الغمائم
إليك توسلنا بك اغفر ذنوبنا ... وخفف عن العاصين ثقل المظالم
وحبب إلينا الحق واعصم قلوبنا ... من الزيغ والأهواء يا خير عاصم
ودمر أعادينا بسلطانك الذي ... أذل وأفنى كل عاث وغاشم
ومن علينا يوم ينكشف الغطا ... بستر خطايانا ومحو الجرائم
وله أيضاً من قصيدة في الرجاء بالله
لكل خطب مهم حسبي الله ... أرجو به الأمن مما كنت أخشاه
وأستغيث به في كل نائبة ... وما ملاذي في الدارين إلا هو
ذو المن والمجد والفضل العظيم ومن ... يدعوه سائله رباه رباه
له المواهب والآلاء والمثل ال ... أعلى الذي لا يحيط الوهم علياه
القادر الآمر الناهي المدبر لا ... يرضى لنا الكفر والإيمان يرضاه
من لا يقال بحال عنه كيف ولا ... لفضله كم تعالى ربنا الله
ولا يغيره مر الدهور ولا ... كر العصور ولا الأحداث تغشاه
ولا يعبر عنه بالحلول ولا ... بالانتقال دنا أو ناء حاشاه
أنشأ العوالم أعلاماً بقدرته ... وأغرق الكل منهم بحر نعماه
قال علي بن أبي طالب
لبست توب الرجا والناس قد رقدوا ... فقمت أشكو إلى مولاي ما أجد
فقلت يا عدتي في كل نائبة ... ومن عليه لدفع الضر أعتمد(4/11)
لقد مددت يدي والضر مشتمل ... إليك يا خير من مدت إليه يد
قصيدة لعبد الغني النابلسي في الثقة بالله
كن مع الله تر الله معك ... واترك الكل وحاذر طمعك
والزم القنع بمن أنت له ... في جميع الكون حتى يسعك
بالصفا عن كدر الحس فغب ... واطرح الأغيار واترك خدعك
لا تموه بك واطلب منك ما ... فر من يوم بشأن ضيعك
نورك الله به كن مشرقاً ... واحذر الأضداد تطفئ شمعك
واعبد الله بكشف واصطبر ... وعلى الكشف توق جزعك
لا تقل لم يفتح الله ولا ... تطلب الفتح وحرر ورعك
كيفما شاء فكن في يده ... لك إن فرق أو إن جمعك
في الورى إن شاء خفضاً ذقته ... وإذا شاء عليهم رفعك
وإذا ضرك لا نافع من ... دونه والضر لا إن نفعك
وإذا أعطاك من يمنعه ... ثم من يعطي إذا ما منعك
ليس يوقيك أذاه أحد ... وإن استنصرت فيه شيع
إنما أنت له عبد فكن ... جاعلاً بالقرب منه ولعك
كلما نابك أمر ثق به ... واحترز للغير تشكو وجعك
لا تؤمل من سواه أملاً ... إنما يسقيك من قد زرعك
ليت لو تشعر ما كنت من ... قبل ما مولى الموالي اخترعك
كنت لا شيء وأصبحت به ... خير شيء بشراً قد طبعك(4/12)
تابعاً كن دائماً أنت ولا ... تتمن أنه لو تبعك
ودع التدبير في الأمر له ... واصنع المعروف مع من صنعك
واحتفظ حرمة من يبصر إن ... رمت فعلاً أو تنادي سمعك
كن به معتصماً واخضع له ... لا تعاند فيه واهجر بدعك
قال إبراهيم بن جعمان في هذا المعنى
قصدي رضاك لكل وجه أمكنا ... فامنن علي بذاك من قبل الفنا
ولئن رضيت فذاك غاية مطلبي ... والقصد كل القصد بل كل المنى
لو أبذلن روحي فدى لرأيتها ... أمراً حقيراً في جنابك هينا
وبقيت في خجل كعبد قد جنى ... والكل ملككم فما مني أنا
ولقد تفضلتم بإيجادي كما ... أنعمتم أيضاً بكوني مؤمنا
لولا تطولكم علي وفضلكم ... ما كنت موجوداً ولا مني ثنا
من ذا الذي يسعى ويشكو فضلكم ... لو عمر الأبدين يشكر معلنا
وأنا المسيكين الذي قد جاءكم ... للعفو منكم طالباً ولقد جنى
فباسمكم وبعزكم وبجاهكم ... منوا علي واذهبوا عني العنا
قال ابن دقيق العيد
لم يبق لي أمل سواك فإن يفت ... ودعت أيام الحياة وداعا
لا أستلذ بغير وجهك منظراً ... وسوى حديثك لا أريد سماعا
قصيدة للبابي في التوسل والاستعطاف
هوت المشاعر والمدا ... رك عن معارج كبريائك(4/13)
يا حي يا قيوم قد ... بهر العقول سنا بهائك
أثني عليك بما علم ... ت وأين علمي من ثنائك
متحجب في غيبك ال ... أحمى منيع في علائك
وظهرت بالآثار وال ... أفعال باد في جلائك
عجباً خفاؤك من ظهو ... رك أم ظهورك من خفائك
ما الكون إلا ظلمة ... قبس الأشعة من ضيائك
بل كل ما فيه فق ... ير مستميح من عطائك
ما في العوالم ذرة ... في جنب أرضك أو سمائك
إلا وجهتها إلي ... ك بالافتقار إلى غنائك
فانظر إلى من يستغي ... ثك عائذاً بك من بلائك
قذفت به من شاهق ... أيدي امتحانك وابتلائك
وسطت عليه لوازم ال ... أمكان صداً عن فنائك
ورمته في ظلم العنا ... صر والطبائعه في شبائك
فإذا ارعوى أو كاد نا ... دته القيود إلى ورائك
فالطف به فيما جرى ... في طي علمك من قضائك
واسلك به سنن الهدا ... ية في معارج أصفيائك
قال أبو الأسود الدؤلي
وإذا طلبت من الحوائج حاجة ... فادع الإله وأحسن الأعمالا
فليعطينك ما أراد بقدرة ... فهو اللطيف لما أراد فعالا(4/14)
إن العباد وشأنهم وأمورهم ... بيد الإله يقلب الأحوالا
فدع العباد ولا تكن بطلابهم ... لهجاً تضعضع للعباد سؤالا
قال أبو الفتح البستي
تقى الله والزم هدى دينه ... ومن بعد ذا فالزم الفلسفه
ولا تغترر بأناس رضوا ... من الدين بالزور والسفسفه
ودع عنك قوماً يعيبونها ... ففلسفة المرء فل السفه
لما حضرت الوفاة أبا الحسن الهمداني أنشد لنفسه
قالوا غداً نأتي ديار الحمى ... وينزل الركب بمغناهم
وكل من كان مطيعاً لهم ... أصبح مسروراً بلقياهم
فقلت لي ذنب فما حيلتي ... بأي وجه أتلقاهم
قالوا أليس العفو شأنهم ... لاسيما عمن ترجاهم
الباب الثاني في الزهد
الزهد في الدنيا والانقطاع إلى الله
(من النهج) خلق الله الخلق حين خلقهم غنياً عن طاعتهم آمناً من معصيتهم. لأنه لا تضره معصية من عصاه ولا تنفعه طاعة من أطاعه. فقسم بينهم معايشهم ووضعهم في الدنيا مواضعهم. فالمتقون فيها هم أهل الفضائل. منطقهم الصواب وملبسهم الاقتصاد ومشيهم(4/15)
التواضع. غضوا أبصارهم عما حرم عليهم ووقفوا أسماعهم على العلم النافع لهم. نزلت أنفسهم منهم في البلاء كالتي نزلت في الرخاء. لولا الأجل الذي كتب الله لهم لم تستقر أرواحهم في أجسادهم طرفة عين شوقاً إلى الثواب. وخوفاً من العقاب. عظم الخالق في أنفسهم فصغر ما دونه في أعينهم فهم والجنة كمن قدر رآها فهم فيها منعمون. وهم والنار كمن قد رآها فهم فيها خالدون معذبون. أرادتهم الدنيا فلم يريدوها وأسرتهم ففدوا أنفسهم منها. لا يرضون من أعمالهم القليل ولا يستكثرون الكثير. فهم لأنفسهم متهمون. ومن أعمالهم مشفقون. إذا زكي أحدهم خاف مما يقال له فيقول: أنا أعلم بنفسي من غيري وربي أعلم بنفسي مني. اللهم لا تؤاخذني بما يقولون واجعلني أفضل مما يظنون واغفر لي ما لا يعلمون. فمن علامة أحدهم أنك ترى له قوة في الدين. وحزماً في لين. وإيماناً في يقين. وحرصاً في علم. وعملاً في حلم. وقصداً في غنى. وخشوعاً في عبادة. وتجملاً في فاقة. وصبراً في شدة. وطلباً في حلال. ونشاطاً في هدى. وتحرجاً عن طمع. يعمل الأعمال الصالحة وهو على وجل. يمسي وهمه الشكر. ويصبح وهمه الذكر. يبيت حذراً ويصبح فرحاً. حذراً لما حذر من الغفلة. وفرحاً بما أصاب من الفضل والرحمة. إذا استصعبت عليه نفسه فيما تكره لم يعطها سؤلها فيما تحب. قرة عينه فيما لا يزول وزهادته فيما لا يبقى. يمزج الحلم بالعلم والقول بالعمل.(4/16)
تراه قريباً أمله. قليلاً زلله. خاشعاً قلبه. قانعة نفسه. منزوراً أكله. سهلاً أمره. حريزاً دينه. ميتة شهوته. مكظوماً غيظه. إن كان في الغافلين كتب في الذاكرين. وإن كان في الذاكرين لم يكتب من الغافلين. يعفو عمن ظلمه. ويعطي من حرمه. ويصل من قطعه. بعيداً فحشه. ليناً قوله. غائباً منكره. حاضراً معروفه. مقبلاً خيره. مدبراً شره. في الزلازل وقور. وفي المكاره صبور. وفي الرخاء شكور. لا يحيف على من يبغض. ولا يأثم فيمن يحب. يعترف بالحق قبل أن يشهد عليه. لا يضيع ما استحفظ. ولا ينسى ما ذكر. ولا ينابز بالألقاب. ولا يضار بالجار. ولا يشمت بالمصائب. ولا يدخل في الباطل. ولا يخرج من الحق. إن صمت لم يغمه صمته. وإن ضحك لم يعل صوته. وإن بغي عليه صبر حتى يكون الله هو الذي ينتقم له. نفسه منه في عناء والناس منه في راحة أتعب نفسه لآخرته وأراح الناس من نفسه. بعده عمن تباعد عنه زهد ونزاهة. ودنوه ممن دنا منه لين ورحمة. ليس تباعده بكبر وعظمة ولا دنوه بمكر وخديعة. (الكشكول لبهاء الدين العاملي) .
قصيدة للبرعي في الزهد
أحباب قلبي مضى زماني ... ونغصت عيشي الهموم
وفرق الموت أهل عصري ... فلا صديق ولا حميم
وأخلف الدهر خلف سوء ... كأنني بينهم يتيم(4/17)
والآن حان الرحيل مني ... وهذه الدار لا تدوم
وما تزودت غير ذنب ... عذابه دائم أليم
يصرح الوعظ بي وقلبي ... كأنه صخرة صميم
أبارز الله بالخطايا ... والله سبحانه حليم
فكم خلعت العذار جهلاً ... ولمت في الغي من يلوم
وكم تعاميت عن رشادي ... ومنهج الحق مستقيم
لا أنتهي عن قبيح فعلي ... ولا أصلي ولا أصوم
عصيت طفلاً وصرت أعصى ... والشيب في مفرقي يحوم
شيب وعيب وحمل ذنب ... والذنب بعد المشيب شوم
يا جامع المال من حرام ... سيقتضي مالك الغريم
وتقتضي وزره وتلقى ... في النار يغلي بها الحميم
وكيف يهنيك صفو عيش ... ختامه علقم عقيم
يا واسع اللطف جد بفضل ... ورحمة منك يا كريم
إن قال عبد الرحيم ذنبي ... فقل أنا المشفق الرحيم
وإن شكا من خصوم سوء ... فحل ما تعقد الخصوم
وسامح الكل في ذنوب ... أنت بها سيدي عليم
قال أمير المؤمنين لرجل يسأله أن يعظه. لا تكن ممن يرجو الآخرة بلا عمل. ويرجي التوبة بطول الأمل. يقول في الدنيا بقول الزاهدين. ويعمل فيها بقول الراغبين. إن أعطي منها لم يشبع. وإن(4/18)
منع لم يقنع. ينهى ولا ينتهي. ويأمر بما لا يأتي. يحب الصالحين ولا يعمل عملهم. ويبغض المذنبين وهو أحدهم. ويكره الموت لكثرة ذنوبه ويقيم على ما يكره الموت له. إن سقم ظل نادماً وإن صح أمن لاهياً. يعجب بنفسه إذا عوفي ويقنط إذا ابتلي. إن أصابه بلاء دعا مضطراً. وإن ناله رخاء أعرض مغتراً. تغلبه نفسه على ما تظن ولا يغلبها على ما يستيقن. يخاف على غيره بأدنى من ذنبه ويرجو لنفسه بأكثر من عمله. إن استغنى بطر وفتن. وإن افتقر قنط ووهن. يقصر إذا عمل. ويبالغ إذا سأل. إن عرضت له شهوة أسلف المعصية وسوَّف التوبة. وإن عرته محنة انفرج عن شرائط الملة. يصف العبر ولا يعتبر. ويبالغ في الموعظة ولا يتعظ. بهو بالقول مدل. ومن العمل مقل. ينافس فيما يفنى ويسامح فيما يبقى. يرى الغنم مغرماً. والغرم مغنماً. يخشى الموت. ولا يبادر القوت. يستعظم من معصية غيره ما يستقل أكثر منه من نفسه. ويستكثر من طاعته ما يحتقر من طاعة غيره. فهو على الناس طاعن. ولنفسه مداهن. اللهو مع الأغنياء أحب إليه من الذكر مع الفقراء. يحكم على غيره لنفسه ولا يحكم عليها لغيره. يرشد غيره ويغوي نفسه. فهو يطاع ويعصي. ويستوفي ولا يوفي. ويخشى الخلق على غير ربه ولا يخشى ربه في خلقه. قال جامع النهج كفى بهذا الكلام موعظة ناجعة وحكمة بالغة وبصيرة لمبصر وعبرة لناظر مفكر. (لبهاء الدين) .(4/19)
زهد رجل من بني عباس
قال عبد الله بن المعلم خرجنا من المدينة حجاجاً فإذا أنا برجل من بني هاشم من بني العباس بن عبد المطلب قد رفض الدنيا وأقبل على الآخرة. فجمعتني وإياه الطريق ف، ست به وقلت له: هل لك أن تعادلني فإن معي فضلاً من راحلتي. فجزاني خيراً. ثم أنس إلي فجعل يحدثني فقال: أنا رجل من ولد العباس كنت أسكن البصرة وكنت ذا كبر شديد ونعمة طائلة ومال كثير وبذخ زائد. فأمرت يوماً خادماً لي أن يحشو لي فراشاً من حرير ومخدة بورد نثير. ففعل. فإني لنائم إذا بقمع وردة قد نسيه الخادم فقمت إليه فأوجعته ضرباً. ثم عدت إلى مضجعي بعد إخراج القمع من المخدة. فأتاني آت في منامي في صورة فظيعة فهزني وقال: أفق من غشيتك وانتبه من رقدتك. ثم أنشأ يقول:
يا خل إنك إن توسد ليناً ... وسدت بعد اليوم صم الجندل
فامهد لنفسك صالحاً تسعد به ... فلتندمن غداً إذا لم تفعل
فانتبهت مرعوباً. وخرجت من ساعتي هارباً إلى ربي (مستقطف المستظرف للأبشيهي) .
قال أبو محمد البكري الشنتريني في الزهد
يا من يصيح إلى داعي السقاة وقد ... نادى به الناعيان الشيب والكبر
إن كنت لا تسمع الذكرى ففيم ثوى ... في رأسك الواعيان السمع والذكر(4/20)
ليس الأصم ولا الأعمى سوى رجل ... لم يهده الهاديان العين والأثر
لا الدهر يبقى ولا الدنيا ولا الفلك ال ... أعلى ولا النيران الشمس والقمر
ليرحلن عن الدنيا وإن كرها ... فراقها الثاويان البدو والحضر
قال ابن جبير الكناني أحد الراحلين إلى المشرق
عجبت للمرء في دنياه تطمعه ... في العيش ولأجل المحتوم يقطعه
يمسي ويصبح في عشواء يخبطها ... أعمى البصيرة والآمال تخدعه
يغتر بالدهر مسروراً بصحبته ... وقد تيقن أن الدهر يصرعه
ويجمع المال حرصاً لا يفارقه ... وقد درى أنه للغير يجمعه
تراه يشفق من تضييع درهمه ... وليس يشفق من دين يضيعه
وأسوأ الناس تدبيراً لعاقبة ... من أنفق العمر في ما ليس ينفعه
قال محمد بن الحسن الحميري من قصيدة
فؤاد بأيدي النائبات مصاب ... وجفن لفيض الدمع فيه مصاب
تناءت ديار قد ألفت وجيرة ... فهل لي إلى عهد الوصال إياب
وفارقت أوطاني ولم أبلغ المنى ... ودون مرادي أبحر وهضاب
مضى زمني والشيب حل بمفرقي ... وأبعد شيء أن يرد شباب
إذا مر عمر المرء ليس براجع ... وإن حل شيب لم يفده خضاب
ذو النون والزاهدة
قال ذو النون بينا أنا أسير على ساحل البحر إذ أبصرت بجارية عليها أطمار شَعرٍ. فإذا هي ناحلة ذابلة. فدنوت منها لأسمع ما تقول.(4/21)
فرأيتها متصلة الأحزان بالأشجان. وعصفت الرياح واضطربت الأمواج وظهرت الحيتان. فصرخت ثم سقطت إلى الأرض. فلما قامت نحبت ثم قالت: سيدي بك تقرب المتقربون في الخلوات. ولعظمتك سبحت النينان في البحار الزاخرات. ولجلال قدسك تصافقت الأمواج المتلاطمات. أنت الذي سجد لك سواد الليل وضوء النهار. والفلك الدوار والبحر الزخار. والقمر النوار والنجم الزهار. وكل شيء عندك بمقدار لأنك العلي القهار. ثم أنشدت:
يا مؤنس الأبرار في خلواتهم ... يا خير من حطت به النزال
من ذاق حبك لا يزال متيماً ... قرح الفؤاد متيماً بلبال
فقلت لها: عسى أن تزيديني من هذا. فقالت: إليك عني. ثم رفعت طرفها نحو السماء فقالت:
أحبك حبين حب الوداد ... وحباً لأنك أهل لذاكا
فأما الذي هو حب الوداد ... فحب شغلت به عن سواكا
وأما الذي أنت له ... فكشفك الحجب حتى أراكا
فما الحمد في ذا ولا ذاك لي ... ولكن لك الحمد في ذا وذاكا
ثم شهقت شهقة فإذا هي قد فارقت الحياة (أسواق الأشواق للبقاعي) .
ذلة الدنيا
قيل لبعض الحكماء: صف لنا الدنيا فقال: أمل بين يديك. وأجل مطل عليك. وشيطان فتان. وأماني جرارة العنان. تدعوك(4/22)
فتستجيب. وتزجرها فتخيب. ناقضة للعزيمة مرتجعة للعطية. كل من فيها يجري. إلى ما لا يدري. وقال أبو العرب الصقلي:
ولا يغررك منها حسن برد ... له علمان من علم الذهاب
فأوله رجاء من سراب ... وآخره رداء من تراب
قال ابن قاضي ميلة:
لدنياك نور ولكنه ... ظلام يحار به المبصر
فإن عشت فيها على أنها ... كما قيل فنظرة تعبر
فلا تعمرن بها منزلاً ... فإن الخراب لما تعمر
ولا تذخرن خلاف التقى ... فتفنى ويبقى الذي تذخر
ومن جيد شعر أبي العتاهية قوله:
وا عجبا للناس لو فكروا ... وحاسبوا أنفسهم أبصروا
وعبروا الدنيا إلى غيرها ... فإنما الدنيا لهم معبر
الخير مما ليس يخفى هو ال ... معروف والشر هو المنكر
والموعد الموت وما بعده ال ... حشر فذاك الموعد الأكبر
لا فخر إلا فخر أهل التقى ... غداً إذا ضمهم المحشر
ليعلمن الناس أن التقى ... والبر كانا خير ما يذخر
زوال الدنيا
(من النهج) واتقوا الله عباد الله وبادروا آجالكم بأعمالكم. وابتاعوا ما يبقى لكم بما يزول عنكم. وترحلوا فقد جد بكم السير.(4/23)
واستعدوا للموت فقد أظلكم. وكونوا قوماً صيح بهم فانتبهوا. وعلموا أن الدنيا ليست لهم بدار فاستبدلوا. فإن الله لم يخلقكم عبثاً ولم يترككم سدى. وما بين أحدكم وبين الجنة والنار إلا الموت أن ينزل به. وإن غاية تنقصها اللحظة وتهدمها الساعة لجديرة بقصر المدة. وإن غائباً يحدوه الجديدان الليل والنهار لحري بسرعة الأوبة. وإن قادماً يقدم بالفوز أو الشقوة لمستحق لأفضل العدة. فتزودوا في الدنيا من الدنيا ما تحرزون به نفوسكم غداً. فاتقى عبد من نصح نفسه وقدم توبته وغلب شهوته. فإن أجله مستور عنه وأمله خادع له. والشيطان موكل به يزين له المعصية ليركبها. ويمنيه التوبة ليسوفها. حتى تهجم منيته عليه أغفل ما يكون عنها. فيا لها حسرة على كل ذي عقل أن يكون عمره عليه حجة. وأن تؤديه أيامه إلى شقوة. نسأل الله سبحانه أن يجعلنا وإياكم ممن لا تبطره نعمة. ولا تقصر به عن طاعة ربه غاية. ولا تحل به بعد الموت ندامة ولا كآبة. (لبهاء الدين) .
قال أبو العتاهية:
عليكم سلام الله إني ومودع ... وعيناي من مض التفرق تدمع
فإن نحن عشنا يجمع الله بيننا ... وإن نحن متنا فالقيامة تجمع
ألم تر ريب الدهر في كل ساعة ... له عارض فيه المنية تلمع
أيا باني الدنيا لغيرك تبتني ... ويا جامع الدنيا لغيرك تجمع(4/24)
أرى المرء وثاباً على كل فرصة ... وللمرء يوماً لا محالة مصرع
تبارك من لا يملك الملك غيره ... من تنقضي حاجات من ليس يشبع
وأي امرئ في غاية ليس نفسه ... إلى غاية أخرى سواها تطلع
قال أيضاً:
طول التعاشر بين الناس مملول ... ما لابن آدم إن فتشت معقول
يا راعي الشاء لا تغفل رعايتها ... فأنت عن كل ما استرعيت مسؤول
إني لفي منزل ما زلت أعمره ... على يقيني بأني عنه منقول
وليس من موضع يأتيه ذو نفس ... إلا وللموت سيف فيه مسلول
لم يشغل الموت عنا مذ أعد لنا ... وكلنا عنه باللذات مشغول
ومن يمت فهو مقطوع ومجتنب ... والحي ما عاش مغشي وموصول
كل ما بدا لك فالآكال فانيةٌ ... وكل ذي أكل لا بد مأكول
قال الأسود الدارمي بعد نكبة الأكاسرة لآل المحرق:
ماذا نؤمل بعد آل محرق ... تركوا منازلهم وبعد إياد
أهل الخورنق والسدير وبارق ... والقصر ذي الشرفات من سنداد
نزلوا بأنقرة تسيل عليهم ... ماء الفرات يجيء من أطواد
جرت الرياح على رسوم ديارهم ... فكأنهم كانوا على ميعاد
ولقد غنوا فيها بأنعم عيشة ... في ظل ملك ثابت الأوتاد
فإذا النعيم وكل ما يلهى به ... يوماً يصير إلى بلى ونفاد
ومن رقيق ما جاء في الزهد قول أبي العتاهية:(4/25)
تعالى الله يا سلم بن عمرو ... أذل الحرص أعناق الرجال
هب الدنيا تساق إليك عفواً ... أليس مصير ذلك للزوال
نعى نفسي إلي من الليالي ... تصرفهن حالاً بعد حال
فما لي لست مشغولاً بنفسي ... وما لي لا أخاف الموت ما لي
أما في السالفين لي اعتبار ... وما لاقوه لم يخطر ببالي
كأني بالمنية أزعجتني ... ونعشي بين أربعة عجال
وخلفي نسوة يبكين بعدي ... كأن قلوبهن على المقالي
وحقك كل ذا يفنى سريعاً ... ولا شيء يدوم مع الليالي
قال علي بن أبي طالب:
إنما نعمة دنيا متعة ... وحياة المرء ثوب مستعار
وصروف الدهر في أطباقه ... حلقة فيها ارتفاع وانحدار
بينما الإنسان في عليائها ... إذ هوى في هوة منها فغار
قد شبه بعضهم الدنيا بخيال الظل فقال:
رأيت خيال الظل أعظم عبرة ... لمن كان في علم الحقائق راقي
شخوصاً وأشباحاً يخالف بعضها ... لبعض وأشكالاً بغير وفاق
تجيء وتمضي بابة بعد بابهٍ ... وتفنى جميعاً والمحرك باق
وقال شرف بن أسد في معناه:
يا من تملك ملكاً لا بقاء له ... حملت نفساً آثاماً وأوزارا
هل الحياة بذي الدنيا وإن عذبت ... إلا كطيف في الكرى زارا(4/26)
وقال بعضهم:
وغاية هذي الدار لذة ساعة ... ويعقبها الأحزان والهم والندم
وهاتيك دار الأمن والعز والتقى ... ورحمة رب الناس والجود والكرم
قال البستي:
أقول لمن لاح المشيب بفوده ... وألفيته عن غيه ليس يقصر
عذلتك إن أضللت رشدك خاطئاً ... وليل الشباب الوحف داج فمعذر
فهل لك في سن الكهولة عاذر ... إذا زغت عن قصدٍ وليلك مقمر
قال ابن حاجب يذكر إيوان كسرى:
يا من بنى بشاهق البنيان ... أنسيت صنع الدهر بالإيوان
هذي المصانع والدساكر والبنا ... وقصور كسرانا أنوشروان
كتب الليالي في ذراها أسطراً ... بيد البلى وأنامل الحدثان
إن الحوادث والخطوب إذا سطت ... أودت بكل موثق الأزكان
ذكر المنية والعواقب
قال مالك بن دينار:
أتيت القبور فناديتها ... فأين المعظم والمحتقر
وأين المذل بسلطانه ... وأين المذكى إذا ما افتخر
فنوديت من بينهم لا أرى ... شخوصاً لهم ولا من أثر
تفانوا جميعاً فلا مخبر ... وماتوا ومات الخبر
فيا سائلي عن أناس مضوا ... أما لك فيما ترى معتبر(4/27)
تروح وتغدو بنات الثرى ... وتمحى محاسن تلك الصور
قال سابق البربري وأجاد:
تلهو وتأمل أياماً تعد لنا ... سريعة المر تطوينا وتطويها
كم من عزيز سيلقى بعد عزته ... ذلاً وضاحكة يوماً ستبكيها
وللحتوف تربي كل مرضعة ... وللحساب برى الأرواح باريها
لا تبرح النفس تنعى وهي سالمة ... حتى يقوم بنادي القوم ناعيها
أموالنا لذوي الميراث نجمعها ... ودورنا لخراب الدهر نبنيها
ولأبي العتاهية:
خانك الطرف الطموح ... أيها القلب الجموح
لدواعي الخير والشر ... دنو ونزوح
هل لمطلوب بذنب ... توبة منه نصوح
كيف إصلاح قلوب ... إنما هن جروح
أحسن الله بنا أن ... الخطايا لا تفوح
فإذا المستور منا ... بين ثوبيه فضوح
كم رأينا من عزيز ... طويت عنه الكشوح
صاح منه برحيل ... صائح الدهر الصدوح
موت بعض الناس في الأر ... ض على قوم فتوح
سيصير المرء يوماً ... جسداً ما فيه روح
بين عيني كل حي ... علم الموت يلوح(4/28)
كلنا في غفلة وال ... موت يغدو ويروح
لبني الدنيا في الدن ... يا غبوق وصبوح
رحن في الوشي وأصبح ... ن عليهن المسوح
كل نطاح من الده ... ر له يوم نطوح
نح على نفسك يا مس ... كين إن كنت تنوح
لتموتن وإن عم ... رت ما عمر نوح
قال بهاء الدين زهير:
ليت شعري ليت شعري ... أي أرض هي قبري
ضاع عمري في اغتراب ... ورحيل مستمر
ومتى يوم وفاتي ... ليتني لو كنت أدري
ليس لي في كل أرض ... جئتها من مستقر
بعد هذا ليتني أع ... رف ما آخر عمري
ومتى أخلص مما ... أنا فيه ليت شعري
ولقد آن بأن أص ... حو فمالي طال سكري
أترى يستدرك الفا ... رط من تضييع عمري
قال آخر:
قدم لنفسك خيراً ... وأنت مالك مالك
من قبل أن تتفانى ... ولن حالك حالك
لم تدر نفسك حقاً ... أي المسالك سالك(4/29)
لجنة أم لنار ... إلى ممالك مالك
وأنت لا بد يوماً ... بعد التكاهل هالك
قال أبو العتاهية في وصف الموت:
كأن الأرض قد طويت علياً ... وقد أخرجت مما في يديا
كأني صرت منفرداً وحيداً ... ومرتهناً لديك بما عليا
كأن الباكيات علي يوماً ... ولا يغني البكاء علي شيا
ذكرت منيتي فنعين نفسي ... ألا أسعد أخيك يا أخيا
قال ابن المعتز عند موته:
يا نفس صبراً لعل الخير عقباك ... خانتك بعد طول الأمن دنياك
مرت بنا سحراً طير فقلت لها ... طوباك يا ليتني إياك طوباك
إن كان قصدك شرقاً بالسلام على ... شاطئ الفرات أبلغي إن كان مثواك
من موثق بالمنايا لا فكاك له ... يبكي الدماء على إلف له باكي
أظنه آخر الأيام من عمري ... وأوشك اليوم أن يبكي له باكي
وما أجود قول ابن أبي زمنين:
الموت في كل حين ينشر الكفنا ... ونحن في غفلة عما يراد بنا
لا تطمئن إلى الدنيا وبهجتها ... وإن توشحت من أبوابها الحسنا
أين الأحبة والجيران ما فعلوا ... أين الذين هم كانوا لنا سكنا
سقاهم الموت كأساً غير صافية ... فصيرتهم لأطباق الثرى رهنا
تبكي المنازل منهم كل منسجم ... بالمكرمات وترثي البر والمننا(4/30)
حسب الحمام لو أبقاهم وأمهلهم ... ألا يظن على معلومه حسنا
دخل عبد الله بن الفضل على أبي حفص الشطرنجي يعوده في علته التي مات فيها. فأنشده قوله:
نعى لك ظل الشباب المشيب ... ونادتك باسم سواك الخطوب
فكن مستعداً لداعي الفناء ... فإن الذي هو آت قريب
ألسنا نرى شهوات النفو ... س تفنى وتبقى عليها الذنوب
وقبلك داوى المريض الطبيب ... فعاش المريض ومات الطبيب
يخاف على نفسه من يتوب ... فكيف ترى حال من لا يتوب
ولأبي العتاهية:
لدوا للموت وابنوا للخراب ... فكلكم يصير إلى الذهاب
ألا يا موت لم أر منك بداً ... أتيت وما تحيف وما تحابي
كأنك قد هجمت على مشيبي ... كما هجم المشيب على شبابي
وجاء في قلائد العقيان:
أين الملوك ومن بالأرض قد عمروا ... قد فارقوا ما بنوا فيها وما عمروا
وأصبحوا رهن قبر بالذي عملوا ... عادوا رميماً به من بعد ما دثروا
أين العساكر ما ردت وما نفعت ... وأين ما جمعوا فيها وما اذخروا
أتاهم أمر رب العرش في عجل ... لم ينجهم منه لا مال ولا وزر
قال أبو العتاهية وله اليد الطولى في معاني الزهد:
إعمد لنفسك واذكر ساعة الأجل ... ولا تغرن في دنياك بالأمل(4/31)
سابق حتوف الردى واعمل على مهل ... ما دمت في هذه الدنيا على مهل
واعلم بأنك مسؤول ومفتحصٌ ... عما عملت ومعروض على العمل
لا تلعبن بك الدنيا وزخرفها ... فإنها قرنت في الظل بالمثل
لا يحذر النفس إلا ذو مراقبة ... يمسي ويصبح في الدنيا على وجل
ما أقرب الموت من أهل الحياة وما ... أحجى اللبيب بحسن القول والعمل
ما أحسن الدين والدنيا إذا اجتمعا ... وأقبح الكفر والإفلاس بالرجل
وله أيضاً:
قد سمعنا الوعظ لو ينفعنا ... وقرأنا جل آيات الكتب
كل نفس ستوافي سعيها ... ولها ميقات يوم قد وجب
جفت الأقلام من قبل بما ... حتم الله علينا وكتب
يهرب المرء من الموت وهل ... ينفع المرء من الموت الهرب
كل نفس ستقاسي عاجلاً ... كرب الموت فللموت كرب
أيها ذا الناس ما حل بكم ... عجباً من سهوكم كل العجب
وسقام ثم موت نازل ... ثم قبر ونزول وجلب
وحساب وكتاب حافظ ... وموازين ونار تلتهب
وصراط من يزل عن حده ... فإلى خزي طويل ونصب
قال بعضهم:
تلاحظني المنية من قريب ... وتلحظني ملاحظة الرقيب
وتنشر لي كتاباً فيه طي ... بخط الدهر أسطره مشيبي(4/32)
كتاب في معانيه غموض ... تلوح لكل أوات منيب
أزال الله يا صاحي شبابي ... فعوضت البغيض من الحبيب
وبدلت التكاسل من نشاطي ... ومن حسن النضارة بالشحوب
كذاك الشمس يعلوها اصفرار ... إذا جنحت ومالت للغروب
قال الإلبيري:
كأني بنفسي وهمي في السكرات ... تعالج أن ترقى إلى اللهوات
وقد زم رحلي واستقلت ركائبي ... وقد آذتني بالرحيل حداتي
إلى منزل فيه عذاب ورحمة ... وكم فيه من زجر لنا وعظات
ومن أعين سالت على وجناتها ... ومن أوجه في الترب منعفرات
وكم وارد فيه على ما يسره ... وكم وارد فيه على الحسرات
في الدهر ونوائبه
أنشد الخليفة المعتضد لما حضرته الوفاة قصيدة منها:
ولا تأمنن الدهر إني أمنته ... فلم يبق لي خلاً ولم يرع لي حقا
قتلت صناديد الرجال ولم أدع ... عدواً ولم أمهل على طغيه خلقا
وأخليت دار الملك من كل نازع ... فشردتهم غرباً ومزقتهم شرقا
فما بلغت النجم عزاً ورفعة ... وصارت رقاب الخلق أجمع لي رقا
رماني الردى سهماً فأخمد جمرتي ... فها أنا ذا في حفرتي عاجلاً ألقى
قال الإمام أبو مظفر الأبيوردي:
يا من يؤمل أن يعيش مسلماً ... جذلان لا يدهى بخطب يحزن(4/33)
أفرطت في شطط الأماني فاقتصد ... واعلم بأن من المنى ما يفتن
ليس الأمان من الزمان بممكن ... ومن المحال وجود ما لا يمكن
معنى الزمان على الحقيقة كاسمه ... فعلام نرجو أنه لا يزمن
قصيدة لإسماعيل المقري في التوبة
إلى كم تمادى في غرور وغفلة ... وكم هكذا نوم إلى غير يقظة
لقد ضاع عمر ساعة منه تشترى ... بملء السماء والأرض أية شيعة
أترضى من العيش الرغيد وعيشة ... مع الملأ الأعلى بعيش البهيمة
فيا درة بين المزابل ألقيت ... وجوهرة بيعت بأبخس قيمة
أفان بباق تشتريه سفاهة ... وسخطاً برضوان وناراً بجنة
أأنت صديق أم عدو لنفسه ... فإنك ترميها بكل مصيبة
ولو فعل الأعدا بنفسك بعض ما ... فعلت لمستهم لها بعض رحمة
لقد بعتها هوناً عليك رخيصة ... وكانت بهذا منك غير حقيقة
كلفت بها دنيا كثير غرورها ... تقابلنا في نصحها بالخديعة
عليك بما يجدي عليك من التقى ... فإنك في سهو عظيم وغفلة
تصلي بلا قلب صلاة بمثلها ... يصير الفتى مستوجباً للعقوبة
تخاطبه إياك نعبد مقبلاً ... على غيره فيها لغير ضرورة
ولو رد من ناجاك للغير طرفه ... تميزت من غيظ عليه وغيره
فويلك تدري من تناجيه معرضاً ... وبين يدي من تنحني غير مخبت
تقول مع العصيان ربي غافر ... صدقت ولكن غافر بالمشيئة(4/34)
وربك رزاق كما هو غافر ... فلم لم تصدق فيهما بالسوية
فكيف ترجي العفو من غير توبة ... ولست ترجي الرزق إلا بحيلة
وها هو بالأرزاق كفل نفسه ... ولم يتكفل للأنام بجنة
وما زلت تسعى في الذي قد كفيته ... وتهمل ما كلفته من وظيفة
تسيء به ظناً وتحسن تارة ... على حسب ما يقضي الهوى بالقضية
للبرعي في الإغراء بالتوبة
يا محسناً بالزمان ظناً ... لم تدر ما يفعل الزمان
لا تتبع النفس في هواها ... إن أتباع الهوى هوان
واخجلتي من عتاب ربي ... إن قال أسرفت يا فلان
إلى متى أنت في المعاصي ... تسير مرخى لك العنان
لو خوفتك الجحيم بطشي ... لشوقت قلبك الجنان
أنت شجاع على المعاصي ... وأنت عن طاعتي جبان
عندي لك الصلح وهو بري ... وعندك السيف والسنان
فاستحي من شيبة تراها ... في النار مسجونة تهان
أي أوان تتوب فيه ... هل بعد قطع الرجا أوان
يا سيدي هذه عيوبي ... وأنت في الخطب مستعان
يا من له في العصاة شأن ... وشأنه العطف والحنان
يا من ملا بره النواحي ... لم يخل من بره مكان
عفواً فإني رهين ذنبٍ ... حاشاك أن يغلق الرهان(4/35)
قال حريث بن جبلة العذري وقيل عثير بن لبيد العذري:
يا قلب إنك في الأحياء مغرور ... فاذكر وهل ينفعك اليوم تذكير
تريد أمراً فما تدري أعاجله ... خير لنفسك أم ما فيه تأخير
فاستقدر الله خيراً وارضين به ... فبينما العسر إذا دارت مياسير
وبينما المرء في الأحياء مغتبط ... إذ صار في الرمس تعفوه الأعاصير
حتى كأن لم يكن إلا توهمه ... والدهر في كل حاليه دهارير
يبكي الغريب عليه ليس يعرفه ... وذو قرابته في الحي مسرور
قال آخر:
ويلي إذا كان الجحيم جزائي ... ماذا يحل بمهجتي وبهائي
يبلي العذاب محاسني ويشينها ... ويطول مني في الجحيم بكائي
ويقول لي الجبار جل جلاله ... يا عبد سوء أنت من أعدائي
بارزتني وعصيت أمري جاهلاً ... ونسيت وعدي ما تخاف لقائي
وترى وجوه الطائعين كأنها ... بدر بدا في ليلة ظلماء
كشفوا الحجاب فشاهدوه وأدهشوا ... وكسوا نعيماً دائماً بضياء
قال أبو جعفر بن خاتمة مستغيثاً به تعالى:
يا من يغيث الورى من بعدما قنطوا ... ارحم عباداً أكف الفقر قد بسطوا
عودتهم بسط أرزاق بلا سبب ... سوى جميل رجاء نحوه انبسطوا
وعدت بالفضل في ورد وفي صدر ... بالجود إن أقسطوا والحلم إن قسطوا
عوارف ارتبطت شم الأنوف بها ... وكل صعب بقيد الجود يرتبط(4/36)
يا من تعرف بالمعروف فاعترفت ... بجم إنعامه الأطراف والواسط
وعالماً بخفيات الأمور فلا ... وهم يجوز عليه لا ولا غلط
عبد فقير بباب الجود منكسر ... من شأنه أن يوافي حين ينضغط
مهما أتى ليمد الكف أخجله ... قبائح وخطايا أمرها فرط
يا واسعاً ضاق خطو الخلق عن نعم ... منه إذا خطبوا في شكرها خبطوا
وناشراً بيد الإجمال رحمته ... فليس يحلق منه مسرفاً قنط
ارحم عبادك بضنك العيش ما لهم ... غير الدجنة لحف الثرى بسط
لكنهم من ذرى علياك في نمط ... سام رفيع الذرى ما فوقه نمط
ومن يكن بالذي يهواه مجتمعاً ... فما يبالي أقام الحي أم شحطوا
نحن العبيد وأنت الملك ليس سوى ... وكل شيء يرجى يعد ذا شطط
قال آخر:
أقصرت عن طلب البطالة والصبا ... لما علاني للمشيب قناع
لله أيام الشباب وأهله ... لو أن أيام الشباب تباع
فدع الصبا يا قلب واله عن الهوى ... ما فيك بعد مشيبك استمتاع
وانظر إلى الدنيا بعين مودع ... فلقد دنا سفر وحان وداع
والحادثات موكلات بالفتى ... والناس بعد الحادثات سماع
قال بشر بن المعتمر:
تعاف القذى في الماء لا تستطيعه ... وتكرع في حوض الذنوب فتشرب
وتوثر من أكل الطعام ألذه ... ولا تذكر المسكين من أين يكسب(4/37)
وترقد يا مسكين فوق نمارق ... وفي حشوها نار عليك تلهب
فحتى متى لا تستفيق جهالة ... وأنت ابن سبعين بذلك تلعب
قال أبو العتاهية:
فيا من بات ينمو بالخطايا ... وعين الله ساهرة تراه
أما تخشى من الديان طرداً ... بجرم دائماً أبداً تراه
أتعصي الله وهو يراك جهراً ... وتنسى في غد حقاً تراه
وتخلو بالمعاصي وهو دان ... إليك وليس تخشى من لقاه
وتنكر فعلها ولها شهود ... بمكتوب عليك وقد حواه
فيا حزن المسيء لشؤم ذنب ... وبعد الحزن يكفيه حماه
فيندب حسرة من بعد موت ... ويبكي حيث لا يجدي بكاه
يعض يديه من ندم وحزن ... ويندب حسرة ما قد عراه
فبادر بالصلاح وأنت حي ... لعلك أن تنال به رضاه
ما كتب على القبور
توفي رجل من كندة فكتب على قبره هذه الأبيات:
يا واقفين ألم تكونوا تعلموا ... أن الحمام بكم علينا قادم
لو تنزلون بشعبنا لعرفتم ... أن المفرط في التزود نادم
لا تستغروا بالحياة فإنكم ... تبنون والموت المفرق هادم
ساوى الردى ما بيننا في حفرة ... حيث المخدم واحد والخادم
ومما وجد على قبر:(4/38)
إن الحبيب من الأحباب مختلس ... لا يمنع الموت بواب ولا حرس
فكيف تفرح بالدنيا ولذتها ... يا من يعد عليه اللفظ والنفس
لا يرحم الموت ذا جاه لعزته ... ولا الذي كان منه العلم يقتبس
قد كان قصرك معموراً له شرف ... فقبرك اليوم في الأجداث مندرس
قال ابن الزقاق هذه الأبيات وأوصى أن تكتب على قبره:
أإخواننا والموت قد حال دوننا ... وللموت حكم نافذ في الخلائق
سبقتكم للموت والعمر طيه ... وأعلم أن الكل لا بد لاحقي
بعيشكم أو باضطجاعي في الثرى ... ألم نك في صفو من العيش رائق
فمن مر بي فليمض بي مترحماً ... ولا يك منسياً وفاء الأصادق
أمر أبو الصلت الإشبيلي أن تكتب هذه الأبيات على قبره:
سكنتك يا دار الفناء مصدقاً ... بأني إلى دار البقاء أصير
وأعظم ما في الأمر أني صائر ... إلى عادل في الحكم ليس يجور
فيا ليت شعري كيف ألقاه عندها ... وزادي قليل والذنوب كثير
فإن أك مجزياً بذنبي فإنني ... بشر عقاب المذنبين جدير
وإن يك عفو ثم عني ورحمة ... فثم نعيم زائد وسرور
حفرت هذه الأبيات على قبر ابن باق وهي من تصنيفه:
ترحم على قبر ابن باق وحيه ... فمن حق ميت الحي تسليم حيه
وقل أمن الرحمان روعة خائف ... لتفريطه في الواجبات وغيه
وإني بفضل الله أوثق واثق ... وحسبي وإن أذنبت حسب صفيه(4/39)
قال أبو محمد المقري الخياط على لسان ميت:
أيها الزائرون بعد وفاتي ... جدثاً ضمني ولحداً عميقا
سترون الذي رأيت من المو ... ت عياناً وتسلكون طريقا
نظم أسعد مصطفى اللقيمي قبل موته تاريخاً لقبره:
قبر به من أوثقته ذنوبه ... وغدا لسوء فعاله متخوفا
قد ضاع منه عمره ببطالة ... والعيش منه بالتكدر ما صفا
ماذا طوى قبر اللقيمي أرخوا ... مستمنح للعفو أسعد مصطفى
لما قتل سيف بن ذي يزن الحميري دفن في صنعاء بمقبرة ووضع في سريره عند رأسه لوح قد كتبت فيه هذا الأبيات:
أنا ابن ذي يزن من فرع ذي يمن ... ملكت من حد صنعاء إلى عدن
جلبت من فارس جيشاً على عجل ... في البحر أحملهم فيه على السفن
حتى غزوت بهم قوماً مهاجرة ... في البر جاسوا خلال الحي من يمن
بالخسف والذل حتى قال قائلهم ... ذوقوا ثمار ذوات الحقد والإحن
فأوقعوا بهم والدهر ذو دول ... حتى كأن مغار القوم لم يكن
حتى إذا ظفرت نفسي بما طلبت ... وزال ما كان في قلبي من الحزن
ونلت أكثر مما كنت آمله ... من قتلي الحبش حتى طاب لي وطني
جاء القضاء بما لا يستطاع له ... دفع ولا يشترى يا قوم بالثمن
من بعد ما جبت أحوالاً مصرمة ... قطر البلاد فلم أعجز ولم أهن
قد صرت مرتهناً في قاع مظلمة ... لله دري من ثاو ومرتهن(4/40)
الباب الثالث في المراثي
رثاء أعرابية لابنها
قال الأصمعي: حجت أعرابية ومعها ابن لها فأصيبت به. فلما دفن قامت على قبره وهي موجعة فقالت: والله يا بني لقد غذوتك رضيعاً. وفقدتك سريعاً. وكأنه لم يكن بين الحالين مدة ألتذ بعيشك فيها. فأصبحت بعد النضارة والغضارة ورونق الحياة والتنسم في طيب روائحها تحت أطباق الثرى جسداً هامداً ورفاً سحيقاً وصعيداً جرزاً. أي بني قد سحبت الدنيا عليك أذيال الفنا وأسكنتك دار البلى. ورمتني بعدك نكبة الردى. أي بني لقد أسفر لي عن وجه الدنيا صباح داح ظلامه. (ثم قالت) : أي رب منك العدل ومن خلقك الجور. وهبته لي قرة عين فلم تمتعني به كثيراً بل سلبتنيه وشيكاً. ثم أمرتني بالصبر ووعدتني عليه بالأجر فصدقت وعدك ورضيت قضاءك. فرحم الله من ترحم على من استودعته الردم ووسدته الثرى. اللهم ارحم غربته وآنس وحشته واستر سوءته يوم تنكشف السوءات. (فلما أرادت الرجوع إلى أهلها وقفت على قبره فقالت) : أي بني إني قد تزودت لسفري فليت شعري ما زادك لبعد طريقك ويوم معادك. اللهم إني(4/41)
أسألك له الرضا برضاي منه. قم قالت: استودعتك من استودعنيك في أحشائي جنيناً. وأثكل الوالدات ما أمض حرارة قلوبهن وأقلق مضاجعهن وأطول ليلهن وأقصر نهارهن وأقل أنسهن وأشد وحشتهن. وأبعدهن من السرور وأقربهن من الأحزان. فلم تزل تقول هذا ونحوه حتى أبكت كل من سمعها. وحمدت الله وصلت ركعات عند قبره وانطلقت.
الأحنف بن قيس والراثية
لما دفن الأحنف بن قيس بالكوفة قامت امرأة على قبره فقالت: لله درك من مجن في جنن. ومدرج في كفن. نسأل الذي فجعنا بموتك. وابتلانا بفقدك. أن يجعل سبيل الخير سبيلك. ودليل الرشد دليلك. وأن يوسع لك في قبرك. ويغفر لك في حشرك. فلقد كنت في المحافل شريفاً. وعلى الأرامل عطوفاً. ولقد كنت في الحي مسوداً. وإلى الخليفة موفداً. ولقد كانوا لقولك مستمعين. ولرأيك متبعين. وأنت أهل لحسن الثناء وطيب البقاء. أما والذي كنت من أجله في عدة. ومن الحياء إلى مدة. ومن المقدار إلى غاية. ومن الآثار إلى نهاية. الذي رفع عملك لما قضى أجلك. لقد عشت حميداً مودوداً. ومت سعيداً مفقوداً. ثم انصرفت وهي تقول:
لله درك يا أبا بحر ... ماذا تغيب منك في القبر
لله درك أي حشو ثرى ... أصبحت من عرف ومن نكر(4/42)
إن كان دهر فيك جد لنا ... حدثاً به وهنت قوى الصبر
فلكم يد أسديتها ويد ... كانت ترد جرائر الدهر
ثم انصرفت. فقال الناس: ما سمعنا كلام امرأة قط أبلغ ولا اصدق منه. فسئل عنها فإذا هي امرأته (زهر الآداب للقيرواني) .
قال أبو حبال البراء بن ربعي الفقعسي يرثي إخوته:
أبعد بني أمية الذين تتابعوا ... أرجي حياة أم من الموت أجزع
ثمانية كانوا ذؤابة قومهم ... بهم كنت أعطي ما أشاء وأمنع
أولئك إخوان الصفا رزئتهم ... وما الكف إلا إصبع ثم إصبع
لعمرك إني بالخليل الذي له ... علي دلال واجب لمفجع
وإني بالمولى الذي ليس نافعي ... ولا ضائري لممتع
وقال أشجع بن عمرو السلمي في ابن سعيد:
مضى ابن سعيد حين لم يبق مشرق ... ولا مغرب إلا له فيه مادح
وما كنت أدري ما فواضل كفه ... على الناس حتى غيبته الصفائح
فأصبح في لحد من الأرض ميتاً ... وكانت به حياً تضيق الصحاصح
سأبكيك ما فاضت دموعي فإن تغض ... فحسبك مني ما تجن الجوانح
فما أنا من رزء وإن جل جازع ... ولا بسرور بعد موتك فارح
كأن لم يمت حي سواك ولم تقم ... على أحد إلا عليك النوائح
لئن حسنت فيك المراثي وذكرها ... لقد حسنت من قبل فيك المدائح
وقال مويلك المزموم يرثي امرأته أم العلاء:(4/43)
أمرر على الجدث الذي حلت به ... أم العلاء فنادها لم تسمع
أني حللت وكنت جد فروقة ... بلداً يمر به الشجاع فيفزع
صلى عليك الله من مفقودة ... إذ لا يلائمك المكان البلقع
فلقد تركت صغيرة مرحومة ... لم تدر ما جزع عليك فتجزع
فقدت شمائل من لزامك حلوة ... فتبيت تسهر أهلها وتفجع
وإذا سمعت أنينها في ليلها ... طفقت عليك شؤون عيني تدمع
وقال أعرابي يرثي بنيه:
أسكان بطن الأرض لو يقبل الفدا ... فدينا وأعطيناكم ساكني الظهر
فيا ليت من فيها عليها وليت من ... عليها ثوى فيها مقيماً إلى الحشر
وقاسمني دهري بني مشاطراً ... فلما تقضى شطره مال في شطري
فصاروا ديوناً للمنايا ولم يكن ... عليهم لها دين قضوه على عسر
كأنهم لم يعرف الموت غيرهم ... فثكل على ثكل وقبر إلى قبر
وقد كنت حي الخوف قبل وفاتهم ... فلما توفوا مات خوفي من الدهر
فلله ما أعطى ولله ما حوى ... وليس لأيام الرزية كالصبر
رثى ذو الوزارتين ابن عبد البر رجلاً مات مجذوماً:
مات من كنا نراه أبداً ... سالم العقل سقيم الجسد
كان مثل السيف إلا أنه ... حسد الدهر عليه فصدي
قال ابن عبد ربه يرثي ولداً له:
قصد المنون له فمات فقيداً ... ومضى على صرف الخطوب حميدا(4/44)
بأبي وأمي هالكاً أفردته ... قد كان في كل العلوم فريدا
سود المقابر أصبحت بيضاً به ... وغدت له بيض الضمائر سودا
لم نرزه لما رزينا وحده ... وإن استقل به المنون وحيدا
لكن رزينا القاسم بن محمد ... في فضله والأسود بن يزيدا
وابن المبارك في الرقائق معمراً ... وابن المسيب في الحديث سعيدا
والأخفشين فصاحة وبلاغة ... والأعشيين رواية ونشيدا
كان الوصي إذا أردت وصية ... والمستفاد إذا طلبت مفيدا
ولى حفيظاً في الأزمة حافظاً ... ومضى ودوداً في الورى مودودا
ما كان مثلي في الرزية والداً ... ظفرت يداه بمثله مولودا
حتى إذا بدأ السوابق في العلى ... والعلم ضمن شلوه ملحودا
يا من يفند من البكاء مولهاً ... ما كان يسمع في البكا تفنيدا
تأبى القلوب المستكنة للأسى ... من أن تكون حجارة وحديدا
إن الذي باد السرور بموته ... ما كان حزني بعده ليبيدا
الآن لما أن حويت مآثراً ... أعيت عدواً في الورى وحسودا
ورأيت فيك من الصلاح شمائلاً ... ومن السماح دلائلاً وشهودا
أبكي عليك إذا الحمامة أطربت ... وجه الصباح وغردت تغريدا
لولا الحيا إني أزن ببدعة ... مما يعده الورى تعديدا
لجعلت يومي في الملاحة مأتماً ... وجعلت يومك في الموالد عيدا
قال الشمردل يرثي أخاه حكماً:(4/45)
يقولون احتسب حكماً وراحوا ... بأبيض لا يراه ولا يراني
وقبل فراقه أيقنت أني ... وكل بني أب متفارقان
أخ لو دعوت أجاب صوتي ... وكنت مجيبه أنى دعاني
فقد أفنى البكاء عليه دمعي ... ولو أني الفقيد إذاً بكاني
مضى لسبيله لم يعط ضيماً ... ولم ترهب غوائله الأداني
قتلنا عنه قاتله وكنا ... نصول به لدى الحرب العوان
قتيلاً ليس مثل أخي إذا ما ... بدا الخفرات مذهول الجنان
وكنت سنان رمحي من قناتي ... وليس الرمح إلا بالسنان
وكنت بنان كفي من يميني ... وكيف صلاحها بعد البنان
وكان يهابك الأعداء فينا ... ولا أخشى وراءك من رماني
فقد أبدوا ضغائنهم وشدوا ... إلي الطرف واغتمزوا لياني
فداك أخ نبا عنه غناه ... ومولى لا تصول له يدان
ومن رقيق مراثي لبيد:
بلينا وما تبلى النجوم الطوالع ... وتبقى الجبال بعدنا والمصانع
وقد كنت في أكناف دار مضنة ... ففارقني جار بأربد نافع
فلا جزع إن فرق الدهر بيننا ... فكل امرئ يوماً به الدهر فاجع
وما الناس إلا كالديار وأهلها ... بها يوم حلوها وعدوا بلاقع
ويمضون أرسالاً وتخلف بعدهم ... كما ضم أخرى التاليات المشائع
وما المرء إلا كالشهاب وضوئه ... يجور رماداً بعد إذ هو ساطع(4/46)
وما البر إلا مضمرات من التقى ... وما المال إلا عاريات ودائع
أليس ورائي إن تراخت منيتي ... لزوم العصا تحنى عليها الأصابع
أخبر أخبار القرون التي مضت ... أدب كأني كلما قمت راكع
فأصبحت مثل السيف أخلق جفنه ... تقادم عهد اليقين والنصل قاطع
فلا تبعدن إن المنية موعد ... علينا فدان للطلوع وطالع
أعاذل ما يدريك إلا تظنياً ... إذا رحل الفتيان من هو راجع
أتجزع مما أحدث الدهر بالفتى ... وأي كريم لم تصبه القوارع
لعمرك ما تدري الضوارب بالحصى ... ولا زاجرات الطير ما الله صانع
لما توفي محمد بن صالح قال سعيد بن حميد يرثيه:
بأي يد أسطو على الدهر بعدما ... أبان يدي غضب الذبابين قاضب
وهاض جناحي حادث جل خطبه ... وسدت عن الصبر الجميل المذاهب
ومن عادة الأيام أن صروفها ... إذا سر منها جانب ساء جانب
لعمري لقد غال التجلد أننا ... فقدناك فقد الغيث والعام جادب
فما أعرف الأيام إلا ذميمة ... ولا الدهر إلا وهو بالثأر طالب
ولا لي من الإخوان إلا مكاشر ... فوجه له راض ووجه مغاضب
فقدت فتى قد كان للأرض زينة ... كما زينت وجه السماء الكواكب
لعمري لئن كان الردى بك فاتني ... وكل امرئ يوماً إلى الله ذاهب
لقد أخذت مني النوائب حكمها ... فما تركت حقاً علي النوائب
ولا تركتني أرهب الدهر بعده ... لقد كل عني نابه والمخالب(4/47)
سقى جدثاً أمسى الكريم ابن صالح ... يحل به دان من المزن ساكب
إذا بشر الرواد بالغيث برقة ... مرته الصبا واستجلبته الجنائب
فغادر باقي الدهر تأثير صوبه ... ربيعاً زهت منه الربى والمذانب
قال بكر بن النطاح يرثي مالك بن علي الخزاعي وخرج على الشراة ليقاتلهم فأصيب بسهم:
يا عين جودي بالدموع السجام ... على الأمير اليمني الهمام
على فتى الدنيا وصنديدها ... وفارس الدين وسيف الإمام
لا تذخري الدمع على هالك ... أيتم إذ أودى جميع الأنام
طاب ثرى حلوان إذا ضمنت ... عظامه سقياً لها من عظام
أغلقت الخيرات أبوابها ... وامتنعت بعدك يا ابن الكرام
وأصبحت خليك بعد الوجى ... والقر تشكو منك طول الحمام
ارحل بنا نقرب إلى مالك ... كيما نحيي قبره بالسلام
كان لأهل الأرض في كفه ... غنى عن البحر وصوب الغمام
وكان في الصبح كشمس الضحى ... وكان في الليل كبدر الظلام
وسائل يعجب من موته ... وقد رآه وهو صعب المرام
قلت له عهدي به معلماً ... يضربهم عند ارتفاع القتام
والحرب من طار لها لم يكد ... يفلت من وقع صقيل الحسام
لم ينظر الدهر لنا إذا عدا ... على ربيع الناس في كل عام
لن يستقيلوا أبداً فقده ... ما هيج الشجو دعاء الحمام(4/48)
وقال أيضاً يرثيه:
يا حفرة ضمت محاسن مالك ... ما فيك من كرم ومن إحسان
لهفي على البطل المعرض خده ... وجبينه لأسنة الفرسان
خرق الكتيبة معلماً متنكباً ... والمرهفات عليه كالنيران
ذهبت بشاشة كل شيء بعده ... فالأرض موحشة بلا عمران
هدم الشراة غداة مصرع مالك ... شرف العلا ومكارم البنيان
قتلوا فتى العرب الذي كانت به ... تقوى على اللزبات في الأزمان
حرموا معداً ما لديه وأوقعوا ... عصبية في قلب كل يمان
هوت الجدود عن السعود لفقده ... وتمسكت بالنحس والدبران
لا يبعدن أخو خزاعة إذ ثوى ... مستشهداً في طاعة الرحمان
عز الغواة به وذلت أمة ... محبوةٌ بحقائق الإيمان
وبكاه مصحفه وصدر حسامه ... والمسلمون ودولة السلطان
وغدت تعقر خيله وتقسمت ... أذراعه وسوابغ الأبدان
أفتحمد الدنيا وقد ذهبت بمن ... كان المجير لنا من الحدثان
قال بهاء الدين العاملي يرثي والده:(4/49)
نوع فضل يضاهي التبر تربتها ... ودار أنس يحاكي الدر حصباها
عدا كل جيرة حلوا بساحتها ... صرف الزمان فأبلاهم وأبلاها
بدور تم غمام الموت جلها ... شموس فضل سحاب الترب غشاها
فالمجد يبكي عليها أسفاً ... والدين يندبها والفضل ينعاها
يا حبذا أزمن في ظلهم سلفت ... ما كان أقصرها عمراً وأحلاها
أوقات أنس قضيناها فما ذكرت ... إلا وقطع قلب الصب ذكراها
يا سادة هجروا واستوطنوا هجراً ... واهاً لقلب المعنى بعدكم واها
رعياً لليلات وصل بالحمى سلفت ... سقياً لأيامنا بالخيف سقياها
لفقدكم شق جيب المجد وانصدعت ... أركانه وبكم ما كان أقواها
وخر من شامخات العلم أرفعها ... وأنهد من باذخات الحلم أرساها
يا ثاوياً بالمصلى من قرى هجر ... كسيت من حلل الرضوان أرضاها
أقمت يا بحر بالبحرين فاجتمعت ... ثلاثة كن أمثالاً وأشبابها
ثلاثة أنت أسداها وأغزرها ... جوداً وأعذبها طعماً وأحلاها
حويت من درر الحلياء ما حويا ... لكن درك أعلاها وأغلاها
يا أخمصاً وطئت هام السهى شرفاً ... سقاك من ديم الوسمي أسماها
ويا ضريحاً علا فوق السماك علا ... عليك من صلوات الله أزكاها
فيك انطوى من شموس الفضل آخرها ... ومن معالم دين الله أسناها
ومن شوامخ أطواد الفتوة أر ... ساها وأرفعها قدراً وأنهاها
فاسحب على الفلك العلوي ذيل علا ... فقد حويت من العلياء أعلاها(4/50)
عليك مني سلام الله ما صدحت ... على غصون أراك الدوح ورقاها
قال أبو فراس الحمداني يرثي جابر بن ناصر الدين:
الفكر فيك مقصر الآمال ... والحرص بعدك غاية الجهال
لو كان يخلد بالفضائل فاضل ... وصلت لك الآجال بالآجال
لو كنت تفدى لافتدتك سراتنا ... بنفائس الأرواح والأموال
أو كان يدفع عنك بأس أقبلت ... صرعاً تكدس بالقنا العسال
أعزز على سادات قومك أن ترى ... فوق الفراش مقلب الأوصال
والسمر عندك لم ترق صدورها ... والخيل واقفة على الأطلال
والسابغات مصونة لم تبتذل ... والبيض سالمة مع الأبطال
وإذا المنية أقبلت لم يثنها ... حرص الحريص وحيلة المحتال
ما للخطوب وما لأحداث النوى ... أعجلن جابر غاية الإعجال
لما تسربل بالفضائل وارتدى ... برد العلى واعتم بالإقبال
وتشاهدت صيد الملوك لفضله ... وأرى المكارم من مكان عال
أأبا المرجي غير حزني دارس ... أبداً عليك وغير قلبي سال
ولئن هلكت فما الوفاء بهالك ... ولئن بليت فما الوداد ببال
لا زلت مغدوق الثرى مطروقه ... بسحابة مجرورة الأذيال
وحجبن عنك السيئات ولم يزل ... لك صاحب من صالح الأعمال
قالت هند بنت معبد ترثي خالد بن نضلة:
أأميم هيهات الصبا ذهب الصبا ... وأطار عني الحلم جهل غرابي(4/51)
أين الألى بالأمس كانوا جيرة ... أمسوا دفين جنادل وتراب
ماتوا ولو أني قدرت بحيلة ... لأحدث صرف الموت عن أحبابي
ما حيلتي إلا البكاء عليهم ... إن البكاء سلاح كل مصاب
وقال يحيى بن زياد يرثي أخاه عمراً:
ألا نوه الداعي بليل فأسمعا ... بخرق كريم كان في الناس أروعا
مضى صاحبي واستقبل الدهر صرعتي ... ولا بد أن ألقى حمامي فأصرعا
كأن لم نكن يا عمرو في دار غبطة ... جميعاً ولم نشرع إلى موعد معا
دفعنا بك الأيام حتى إذا أتت ... تريدك لم نسطع لها عنك مدفعا
فلم يبل ذكر منك كنت تجده ... جميل ولكن البلى فيك أسرعا
وما دنس الثوب الذي زودوكه ... وإن خانه ريب البلى فتقطعا
وطاب ثرى أصبحت فيه وإنما ... يطيب إذا كان الثرى لك مضجعا
أنشد محرز بن علقمة يرثي أخاه شريكاً:
لقد وارى المقابر من شريك ... كثير تكرم وقليل عاب
به كنا نصول على الأعادي ... وندفع مرة القوم الغضاب
صموت في المجالس غير عي ... جدير حين ينطق بالصواب
كريم الخلق لا طبع غبين ... ولا فحاشة نزق السباب
كريم مواطن الأحساب عف ... إذا الضليل مال به التصابي
دلوف بالقرى والليل قر ... إلى المتسنمين ذرى الركاب
وقال الأبيرد اليربوعي يرثي أخاه بريداً وتروى لسلمة الجعفي:(4/52)
أقول لنفسي في الخلاء ألومها ... لك الويل ما هذا التجلد والصبر
أما تعلمين الخبر أن لست لاقياً ... أخي إذ أتى من دون أثوابه القبر
فتى كان يدنيه الغنى من صديقه ... إذا ما هو استغنى ويبعده الفقر
فتى كان يعطي السيف في الحرب حقه ... إذا هتف الداعي ويشقى به الجزر
وسخىَّ بنفسي أنني سوف أغتدي ... على إثره يوماً وإن نفس العمر
وقال أيضاً فيه:
تطاول ليلي لم أنمه تقلباً ... كأن فراشي حال من دونه الجمر
فإن تكن الأيام فرقن بيننا ... فقد بان مني في تذكره العذر
أحقاً عباد الله أن لست لاقياً ... بريداً طوال الدهر ما لألأ العفر
فتى إن هوى استغنى يخرق في الغنى ... فإن قل مالاً لا يؤدبه الفقر
فليتك كنت الحي في الناس باقياً ... وكنت أنا الميت الذي غيب القبر
فتى يشتري حسن الثناء بماله ... إذا السنة الشهباء قل بها القطر
كأن لم يصاحبنا بريد بغبطة ... ولم تأتنا يوماً بأخباره السفر
ولما نعى الناعي بريداً تغولت ... بي الأرض فرط الحزن وانقطع الظهر
عساكر تغشى النفس حتى كأنني ... أخو سكرة دارت بهامته الخمر
إلى الله أشكو في بريد مصيبتي ... وبثي أحزاناً تضمنها الصدر
قالت الخنساء ترثي أخاها صخراً:
قذى بعينك أم بالعين عوار ... أم أقفرت إذ خلت من أهلها الدار
كأن عيني لذكراه إذا خطرت ... فيض يسيل على الخدين مدرار(4/53)
تبكي خناس على صخر وحق لها ... إذ رابها الدهر إن الدهر ضرار
لا بد من ميتة في صرفها غير ... والدهر في صرفه حول وأطوار
يا صخر وارد ماء قد توارده ... أهل الموارد ما في ورده عار
وإن صخراً لحامينا وسيدنا ... وإن صخراً إذا نشتو لنحار
وإن صخراً لتأتم الهداة به ... كأنه علم في رأسه نار
لم تره جارة يمشي بساحتها ... لريبة حين يخلي بيته الجار
مثل الرديني لم تنفد شبيبته ... كأنه تحت طي البرد أسوار
طلق اليدين بفعل الخير معتمد ... ضخم الدسيعة بالخيرات أمار
وقالت أيضاً:
يذكرني طلوع الشمس صخراً ... وأذكره لكل غروب شمس
ولولا كثرة الباكين حولي ... إلى إخوانهم لقتلت نفسي
وما يبكون مثل أخي ولكن ... أعزي النفس عنه بالتأسي
قال المتمم يرثي أخاه مالكاً:
أعيني جودي بالدموع لمالك ... إذا ذرت الريح الكنيف المربعا
فتى كان مقداماً إلى الروع ركضه ... سريعاً إلى الداعي إذا هو أفزعا
أبى الصبر آيات أراها وإنني ... أرى كل حبل دون حبلك أقطعا
وإني متى ما أدع باسمك لا تجب ... وكنت جديراً أن تجيب وتسمعا
سقى اله أرضاً حلها قبر مالك ... ذهاب الغوادي المدجنات فأمرعا
فإن تكن الأيام فرقن بيننا ... فقد بان محموداً أخي يوم ودعا(4/54)
وعشنا بخير في الحياة وقبلنا ... أصاب المنايا رهط كسرى وتبعا
فتى كان أحيا من فتاة حيية ... وأشجع من ليث إذا ما تمنعا
تقول ابنة العمري مالك بعدما ... أراك قديماً ناعم الوجه أفرعا
فقلت لها طول الإساءة ساءني ... ولوعة حزن تترك الوجه أسفعا
قال زهير يرثي بعض من يعز عليه:
أراك هجرتني هجراً طويلاً ... وما عودتني من قبل ذاكا
عهدتك لا تطيق الصبر عني ... وتعصي في ودادي من نهاكا
فكيف تغيرت تلك السجايا ... ومن هذا الذي عني ثناكا
فلا والله ما حاولت غدراً ... فكل الناس يغدر ما خلاكا
وما فارقتني طوعاً ولكن ... دهاك من المنية ما دهاكا
فيا من غاب عني وهو روحي ... وكيف أطيق من روحي انفكاكا
وليتك لو بقيت لضعف حالي ... وكان الناس كلهم فداكا
يعز علي حين أدير عيني ... أفتش في مكانك لا أراكا
ختمت على ودادك في ضميري ... وليس يزال مختوماً هناكا
لقد عجلت عليك يد المنايا ... وما استوفيت حظك من صباكا
فوا أسفي لجسمك كيف يبلى ... ويذهب بعد بهجته سناكا
وما لي أدعي أني وفي ... ولست مشاركاً لك في بلاكا
تموت وما أموت عليك حزناً ... وحق هواك خنتك في هواكا
ويا خجلي إذا قالوا محب ... ولم أنفعك في خطب أتاكا(4/55)
أرى الباكين فيك معي كثيراً ... وليس كمن بكى من قد تباكى
ويا من نوى سفراً بعيداً ... متى قل لي رجوعك من نواكا
جزاك الله عني كل خير ... وأعلم أنه عني جزاكا
فيا قبر الحبيب وددت أني ... حملت ولو على عيني ثراكا
سقاك الغيث تهتاناً وإلا ... فحسبك من دموعي ما سقاكا
ولا زال السلام عليك مني ... يزف على النسيم إلى ذراكا
قال أبو سعيد من رثاء في بني أمية:
بكيت وماذا يرد البكا ... وقل البكاء لقتلى كدا
أصيبوا معاً فتولوا معاً ... كذلك كانوا معاً في بجا
بكت لهم الأرض من بعدهم ... وناحت عليهم نجوم السما
وكانوا ضيائي فلما انقضى ... زماني بقومي تولى الضيا
وقال فيهم أيضاً وتروى هذه الأبيات للعبلي:
أفاض المدامع قتلى كدا ... وقتلى بكثوة لم ترمس
وقتلى بوج وباللابتين ... بيثرب هم خير ما أنفس
وبالزابيين نفوس ثوت ... وأخرى بنهر أبي فطرس
أولئك قوم أناخت بهم ... نوائب من زمن متعس
إذا ركبوا زينوا الراكبين ... وإن جلسوا زينة المجلس
هم أضرعوني لريب الزمان ... وهم ألصقوا الرغم بالمعطس
فما أنس لا أنس قتلاهم ... ولا عاش بعدهم من نسي(4/56)
كان لابن عمار ابن يقال معن فمات فقال يرثيه:
يا موت مالك مولعاً بضراري ... إني عيك وإن صبرت لزاري
تعدو علي كأنني لك واتر ... وأؤل منك كما يؤل فراري
نفس البعيد إذا أرادت قريبة ... ليست بناجية مع الأقدار
والمرء سوف وإن تطاول عمره ... يوماً يصير لحفرة الحفار
لما علا عظمي به فكأنه ... من حسن بنيته قضيب نضار
فجعتني بأعز أهلي كلهم ... تعدو عليه عدوة الجبار
هلا بنفسي أو ببعض قرابتي ... أوقعت أو ما كنت بالمختار
قالت هند بنت عتبة ترثي أبها وأخويها:
من حس لي الأخوين كال ... غصنين أو من راهما
قرمان لا يتظالما ... ن ولا يرام حماهما
ويلي على أبوي وال ... قبر الذي واراهما
لا مثل كهلي في الكهو ... ل ولا فتى كفتاهما
قال أعرابي يرثي ابنه وكان وقع صريعاً في الحرب:
حسين لا خير في الدنيا ومن فيها ... إذا أنت خليتها في من يخليها
نعى النعاة حسيناً لي فقلت لهم ... مالت بنا الأرض أو زالت رواسيها
الحزم والعزم كانا من صنيعته ... ما كل آلائه يا قوم أحصيها
نروي الرماح بأيدينا فنوردها ... بيضاً ونصدرها حمراً أعاليها(4/57)
ليت السماء على من تحتها وقعت ... وانشقت الأرض فانجابت بمن فيها
لا أصلح الله منا من يصالحكم ... ما لاحت الشمس في أعلى مجاريها
رثاء مشاهير العرب
قال الحسين بن مطير الأسدي في معن بن زائدة:
ألما على معن وقولا لقبره ... سقتك الغوادي مربعاً ثم مربعا
فيا قبر معن أنت أول حفرة ... من الأرض خطت للسماحة مضجعا
ويا قبر معن كيف واريت جوده ... وقد كان منه البر والبحر مترعا
بلى قد وسعت الجود ميت ... ولو كان حياً ضقت حتى تصدعا
فتى عيش في معروفه بعد موته ... كما كان بعد السيل مجراه مرتعا
ولما مضى معن مضى الجود فانقضى ... وأصبح عرنين المكارم أجدعا
قال ثابت بن هارون الرقي النصراني يرثي أبا الطيب المتنبي:
الدهر أخبث والليالي أنكد ... من أن تعيش لأهلها يا أحمد
قصدتك لما أن رأتك نفيسها ... بخلاً بمثلك والنفائس تقصد
ذقت الكريهة بغتة وفقدتها ... وكريه فقدك في الورى لا يفقد
قل لي إن استطعت الخطاب فإنني ... صب الفؤاد إلى خطابك مكمد
أتركت بعدك شاعراً والله لا ... لم يبق بعدك في الورى من ينشد
أما العلوم فإنها يا ربها ... تبكي عليك بأدمع لا تجمد
ورثاه أيضاً أبو القاسم المظفر بن علي الكاتب:
لا رعى الله سرب هذا الزمان ... إذ دهانا في مثل ذاك اللسان(4/58)
ما رأى الناس ثاني المتنبي ... أي ثان يرى لبكر الزمان
كان من نفسه الكبيرة في جي ... ش وفي كبرياء ذي سلطان
كان في لفظه نبياً ولكن ... ظهرت معجزاته في المعاني
لأبي عبد الرحمان العطوي من المرقص في رثاء ابن أبي داؤد:
وليس صرير النعش ما تسمعونه ... ولكنه أصلاب قوم تقصف
وليس فتيق المسك ما تجدونه ... ولكنه ذاك الثناء المخلف
وقال غيره فيه:
اليوم مات نظام الملك واللسن ... ومات من كان يستعدى على الزمن
وأظلمت سبل الآداب واحتجبت ... شمس المكارم في غيم من الكفن
قال جرير يرثي الوليد بن عبد الملك:
يا عين جودي بدمع هاجه الذكر ... فما لدمعك بعد اليوم مدخر
إن الخليفة قد وارى شمائله ... غبراء ملحودة في جولها زور
أمسى ينوه وقد جلت مصيبته ... مثل النجوم هوى من بينها القمر
كانوا شهوداً فلم يدفع منيته ... عبد العزيز ولا روح ولا عمر
وخالد لو أراد الدهر فديته ... أغلوا مخاطرة لو ينفع الخطر
قد شفني روعة العباس من فزع ... لما أتاه بدير القسطل الخبر
قال الشبراوي يرثي العلامة العبادي:
با طالباً راحة من دهره عبثاً ... أقصر فما الدهر إلا بالهموم ملي
كم منظر رائق أفنت جمالته ... يد المنون وأعيته عن الحيل(4/59)
وكم همام وكم قوم وكم ملك ... تحت التراب وكم شهم وكم بطل
وكم إمام إليه تنتهي دول ... قد صار بالموت معزولاً عن الدول
وكم عزيز أذلته المنون وما ... إن صدها عنه من مال ولا خول
يا عارفاً دهره يكفيك معرفة ... وإن جهلت تصاريف الزمان سل
هل في زمانك أو من قبله سمعت ... أذناك أن ابن أنثى غير منتقل
وهل رأيت أناساً قد علوا وغلوا ... في الفضل زادوا بما نالوا عن الأجل
أو هل نسيت لدوا للموت أو عميت ... عيناك عن واضع نعشاً ومحتمل
وهل رعى الموت ذا عز لعزته ... أو هل خلا أحد دهراً بلا خلل
الموت باب وكل الناس داخله ... لكن ذا الفضل محمول على عجل
وليس فقد إمام عالم علم ... كفقد من ليس ذا علم ولا عمل
وليس موت الذي ماتت له أمم ... كموت شخص من الأوغاد والسفل
لأجل ذا طال منا النوح وانحدرت ... منا الدموع كسيل وابل هطل
على إمام همام فاضل فطن ... حبر لبيب ملاذ للعلوم ولي
له يد وردت بحر الهدى وروت ... حديثه عن فنون السادة الأول
وكم له من تآليفٍ بجوهرها ... جلت وما احتاج معناها إلى حلل
قال اليزيدي بن مغيرة المقري يرثي الكسائي ومحمد بن الحسن وكانا قد خرجا مع الرشيد إلى خراسان فماتا في الطريق:
تصرمت الدنيا فليس خلود ... وما قد ترى من بهجة سيبيد
سيفنيك ما أفنى القرون التي خلت ... فكن مستعداً فالفناء عتيد(4/60)
أسيت على قاضي القضاة محمد ... فأذريت دمعي والفؤاد عميد
وقلت إذا ما الخطب أشكل من لنا ... بإيضاحه يوماً وأنت فقيد
وأقلقني موت الكسائي بعده ... وكادت بي الأرض الفضاء تميد
وأذهلني عن كل عيش ولذة ... وأرق عيني والعيون هجود
هما عالمان أوديا وتخرما ... وما لهما في العالمين نديد
فحزني إن تخطر على القلب خطرة ... بذكرهما حتى الممات جديد
قال محمد بن أبي العتاهية يرثي الأصمعي:
أسفت لفقد الأصمعي لقد مضى ... حميداً له في كل صالحة سهم
تقضت بشاشات المجالس بعده ... وودعنا إذا ودع الأنس والعلم
وقد كان نجم العلم فينا حياته ... فلما انقضت أيامه أفل النجم
قال المعتمد يرثي أحمد بن طولون:
إلى الله أشكو أسى ... عراني كوقع الأسل
على رجل أروع ... يرى منه فضل الوجل
شهاب خبا وقده ... وعارض غيث أفل
شكت دولتي فقده ... وكان يزين الدول
قال الشهاب المنصوري يرثي الإمام كمال الدين السيوطي:
مات الكمال فقالوا ... ولى الحجى والجلال
فللعيون بكاءٌ ... وللدموع انهمال
وفي فؤادي حزن ... ولوعة لا تزال(4/61)
لله علم وحلم ... وارته تلك الرمال
بكى الرشاد عليه ... دماً ومسر الضلال
قد لاح في الخير نقص ... لما مضى واختلال
وكيف لم نر نقصاً ... وقد تولى الكمال
علومه راسخات ... تزول منها الجبال
يقبره العلم ثاوٍ ... والفضل والإفضال
قال سليمان بن معبد يرثي يحيى بن معين:
لقد عظمت في المسلمين رزية ... غداة نعى الناعون يحيى فاسمعوا
فقالوا وإنا قد دفناه في الثرى ... فكاد فؤادي حسرة يتصدع
فقلت ولم أملك لعيني عبرة ... ولا جزعاً إنا إلى الله نرجع
ألا في سبيل الله عظم رزيتي ... بيحيى إلى من نستريح ونفزع
ومن ذا الذي يؤتى فيسأل بعده ... إذا لم يكن للناس في العلم مقنع
لقد كان يحيى في الحديث بقية ... من السلف الماضين حين تقشعوا
فلما مضى مات الحديث بموته ... وأدرج في أكفانه العلم أجمع
وصرنا حيارى بعد يحيى كأننا ... رعية راع بثهم فتصدعوا
وليس بمغن عنك دمع سفحته ... ولكن إليه يستريح المفجع
لعمرك ما للناس في الموت حيلة ... ولا لقضاء الله في الخلق مدفع
ولكنما أبكي على العلم إذ مضى ... فما بعد يحيى فيه للناس مفزع
فقد ترك الدنيا وفر بدينه ... إلى الله حتى مات وهو ممتع(4/62)
وقال إسحاق الموصلي يرثي أباه إبراهيم المغني:
أقول له لما وقفت بقبره ... عليك سلام الله يا صاحب العبر
ويا قبر إبراهيم حييت حفرة ... ولا زلت تسقى الغيث من سبل القطر
لقد عزني وجدي عليك فلم يدع ... لقلبي نصيباً من عزاء ولا صبر
وقد كنت أبكي من فراقك ليلة ... فكيف وقد صار الفراق إلى الحشر
لما مات أبو إسحاق الصابي رثاه الشريف الرضي الموسوي بقوله:
أعلمت من حملوا على الأعواد ... أرأيت كيف خبا ضياء النادي
جبل هوى لو خرَّ في البحر اغتدى ... من وقعه متتابع الأزباد
ما كنت أعلم قبل حطك في الثرى ... أن الثرى يعلو على الأطواد
قال الشهاب المنصوري يرثي العلامة محيي الدين الكافيحي:
بكت على الشيخ محيي الدين كافيحي ... عيوننا بدموع من دم المهج
كانت أسارير هذا الدهر من درر ... تزهى فبدل ذاك الدر بالسج
فكم نفى بسماح من مكارمه ... فقراً وقوم بالإعطاء من عوج
يا نور علم أراه اليوم منطفئاًُ ... وكانت الناس تمشي منه في سرج
فلو رأيت الفتاوى وهي باكية ... رأيتها في نجيع الدمع في لجج
ولو سرت بثناء عنه ريح صبا ... لاستنشقوا من شذاها أطيب الأرج
يا وحشة العلم من فيه إذا اعتركت ... أبطاله فتوارت في دجى الرهج
لم يلحقوا شأو علم من خصائصه ... أني ورتبته في أرفع الدرج
قد طال ما كان يقرينا ويقرونا ... في حالتيه بوجه منه مبتهج(4/63)
سقياً له وكساه الله نور سنا ... من سندس بيد الغفران منتسج
وقال أيضاً يرثي الحجازي أبا الطيب الخزرجي:
لهف قلبي على أفول الشهاب ... تحفة القوم نزهة الأصحاب
كان في مطلع البلاغة يسري ... فتوارى من الثرى بحجاب
فقدت بره أيامي المعاني ... ويتامى جواهر الآداب
هطلت أدمع السحاب عليه ... وقليل فيه دموع السحاب
وذوو الجمع أصبحوا حين ولى ... كلهم جامعاً بلا محراب
يا شهاباً طلوعه في سما الفضل ... ولمن أفوله في التراب
لك فيما ألفت تذكرة من ... ما انتقى دره أولو الألباب
روضة أينعت بفاكهة من ... حسن لفظ كثيرة وشراب
فسقى تربها الرباب لته ... تز وتربو على سماع الرباب
ورأى كسره فقابله الل ... هـ تعالى بالجبر يوم الحساب
قال عماد الكاتب يرثي صلاح الدين:
شمل الهدى والملك عم شتاته ... والدهر ساء وأقلعت حسناته
بالله أين الناصر الملك الذي ... لله خالصة صفت نياته
أين الذي ما زال سلطاناً لنا ... يرجى نداه وتتقى سطواته
أين الذي شرف الزمان بفضله ... وسمت على الفضلاء تشريفاته
أين الذي عنت الفرنج لبأسه ... ذلاً ومنها أدركت ثاراته
أغلال أعناق العدى أسيافه ... أطواق أجياد الورى حسناته(4/64)
الباب الرابع في الحكم
قال العسجدي لبعض أصحاب ابن العميد ذي الكفايتين: كيف رأيت الوزير. فقال: رأيته يابس العود ذميم العهود سيء الظن بالمعبود. فقال العسجدي: أما رأيت تلك الأبهة والصيت والمواكب والتجمل الظاهر والدار الجليلة والفرش السني والحاشية الجميلة. فقال ذلك الرجل: الدولة غير السؤدد. والسلطنة غير الكرم. والحظ غير المجد. أين الزوار والمنتجعون. وأين الآملون والشاكرون. وأين الواصفون الصادقون. وأين المنصرفون الراضون. وأين الهبات وأين التفضلات وأين الخلع والتشريفات. وأين الهدايا وأين الضيافات. هيهات هيهات لا تجيء الرئاسة بالترهات. ولا يحصل الشرف بالخزعبلات. أما سمعت قول الشاعر:
أبا جعفر ليس فضل الفتى ... إذا راح في فرط إعجابه
ولا في فراهة برذونه ... ولا في ملاحة أثوابه
ولكنه في الفعال الجمي ... ل والكرم الأشرف النابه
اجتمع عامر بن الظرب العدواني وحممة بن رافع الدوسي عند ملك من ملوك حمير. فقال: لا تسألا حتى أسمع ما تقولان. فقال عامر لحممة: أين تحب أن تكون أياديك. قال: عند ذي الرتبة(4/65)
العديم وعند ذي الخلة الكريم. والمعسر الغريم والمستضعف الحليم. قال: من أحث الناس بالمقت. قال: الفقير المحتال. والضعيف الصوال. والغني القوال. قال: فمن أحق الناس بالمنع. قال: الحريص الكاند والمستميد الحاسد. والمخلف الواجد. قال: من أجدر الناس بالصنيعة. قال: من إذا أعطي شكر. وإذا منع عذر. وإذا مطل صبر. وإذا قدم العهد ذكر. قال: من أكرم الناس عشرة. قال: من إذا قرب منح. وإذا ظلم صفح. وإن ضويق سمح. قال: من ألأم الناس. قال: من إذا سأل خضع. وإذا سئل منع. وإذا ملك كنع. ظاهره جشع. وباطنه طبع. قال: فمن أجلُّ الناس. قال: من عفا إذا قدر. وأجمل إذا انتصر. ولم تطغه عزة الظفر. قال: فمن أحزم الناس. قال: من أخذ رقاب الأسود بيديه. وجعل العواقب نصب عينيه. ونبذ التهيب دبر أذنيه. قال: فمن أخرق الناس. قال: من ركب الخطار. واعتسف الثمار. وأسرع في البدار قبل الاقتدار. قال: من أبلغ الناس. قال: من حلَّى المعنى المزيز باللفظ الوجيز. وطبق المفصل قبل التحزيز. قال: من أنعم الناس عيشاً. قال: من تحلى بالعفاف ورضي بالكفاف. وتجاوز ما يخاف إلى ما لا يخاف. قال: فمن أشقى الناس. قال: من حسد على النعم. وسخط على القسم. واستشعر الندم على ما انحتم. قال: من أغنى الناس. قال: من استشعر(4/66)
اليأس. وأظهر التجمل للناس واستكثر قليل النعم. ولم يسخط على القسم. قال: فمن أحكم الناس. قال: من صمت فادَّكر. ونظر فاعتبر ووعظ فازدجر. قال: من أجهل الناس. قال: من رأى الخرق مغنماً. والتجاوز مغرماً. (لابن عبد ربه) .
قال علي بن أبي طالب: أعجب ما في الإنسان قلبه وله مواد من الحكمة وأضداد من خلافها. فإن سنح له الرجاء أذله الطمع. وإن هاجه الطمع أهلكه الحرص. وإن ملكه اليأس قتله الأسف. وإن عرض له الغضب اشتد به الغيظ. وإن أسعد بالرضا نسي التحفظ. وإن أتاه الخوف شغله الحذر. وإن اتسع له الأمن استلبته الغرة. وإن أصابته مصيبة فضحه الجزع. وإن استفاد مالاً أطغاه الغنى. وإن عضته فاقة بلغ به البلاء. وإن جهد به الجوع قعد به الضعف. وإن أفرط في الشبع كظته البطنة. فكل تقصير به مضر وكل إفراط له قاتل.
نخبة من وصية ابن سعيد المغربي لابنه وقد أراد السفر
أودعك الرحمان في غربتك ... مرتقباً رحماه في أوبتك
فلا تطل حبل النوى إنني ... والله أشتاق إلى طلعتك
واختصر التوديع أخذاً فما ... لي ناظر يقوى على فرقتك
واجعل وصاتي نصب عين ولا ... تبرح مدى الأيام من فكرتك
خلاصة العمر التي حنكت ... في ساعة زفت إلى فطنتك(4/67)
فللتجاريب أمور إذا ... طالعتها تشحذ من غفلتك
فلا تنم عن وعيها ساعة ... فإنها عون إلى يقظتك
وكل ما كابدته في النوى ... إياك أن يكسر من همتك
فليس يدري أصل ذي غربة ... وإنما تعرف من شيمتك
وامش الهوينا مظهراً عفة ... وابغ رضا الأعين عن هيئتك
وانطق بحيث العي مستقبح ... واصمت بحيث الخير في سكتتك
ولج على رزقك من بابه ... واقصد له ما عشت في بكرتك
ووف كلاً حقه ولتكن ... تكسر عند الفخر من حدتك
وحيثما خيمت فاقصد إلى ... صحبة من ترجوه في نصرتك
وللرزايا وثبة ما لها ... إلا الذي تذخر من عدتك
ولا تقل أسلم لي وحدتي ... فقد تقاسي الذل في وحدتك
والتزم الأحوال وزناً ولا ... ترجع إلى ما قام في شهوتك
ولتجعل العقل محكاً وخذ ... كلاً بما يظهر في نقدتك
واعتبر الناس بألفاظهم ... واصحب أخاً يرغب في صحبتك
كم من صديق مظهر نصحه ... وفكره وقف على عثرتك
إياك أن تقربه إنه ... عون مع الدهر على كربتك
وانمُ نمو النبت قد زاره ... غب الندى واسم إلى قدرتك
ولا تضيع زمناً ممكناً ... تذكاره يذكي لظى حسرتك
والشر مهما اسطعت لا تأته ... فإنه حوز على مهجتك(4/68)
يا بني الذي لا ناصح له مثلي ولا منصوح لي مثله. قدمت لك في هذا النظم ما إن أخطرته بخاطرك في كل أوان رجوت لك حسن العافية إن شاء الله تعالى. وإن أخف منه للحفظ وأعلق بالفكر وأحق بالتقدم قول الأول:
يزين الغريب إذا ما اغترب ... ثلاث فمنهن حسن الأدب
وثانية حسن أخلاقه ... وثالثة اجتناب الريب
واصغ يا بني إلى البيت الذي هو يتيمة الدهر وسلم الكرم والصبر:
ولو أن أوطان الديار نبت بكم ... لسكنتم الأخلاق والآدابا
إذ حسن الخلق أكرم نزيل. والأدب أرحب منزل. ولتكن كما قال بعضهم في أديب متغرب: وكان كلما طرأ على ملك فكأنه معه ولد وإليه قصد. غير مستريب بدهره. ولا منكر شيئاً من أمره. وإذا دعاك قلبك إلى صحبة من أخذ بمجامع هواه فاجعل التكلف له سلماً وهب في روض أخلاقه هبوب النسيم. وحل بطرفه حلول الوسن. وانزل بقلبه نزول المسرة حتى يتمكن لك وداده. ويخلص فيك اعتقاده. وطهر من الوقوع فيه لسانك. وأغلق سمعك ولا ترخص في جانبه لحسود لك منه يريد إبعادك عنه لمنفعته. أو حسود له يغار لتجمله بصحبتك. ومع هذا فلا تغتر بطول صحبته ولا تتمهد بدوام رقدته. فقد ينبهه الزمان. ويتغير منه القلب واللسان. وإنما العاقل من جعل عقله معياراً وكان كالمرآة يلقى كل وجه بمثاله.(4/69)
وفي أمثال العامة: من سبقك بيوم فقد سبقك بعقل. فاحتذ بأمثلة من جرب. واستمع إلى ما خلد الماضون بعد جهدهم وتعبهم من الأقوال. فإنها خلاصة عمرهم وزبدة تجاربهم. ولا تتكل على عقلك فإن النظر في ما تعب فيه الناس طول أعمارهم وابتاعوه غالباً بتجاربهم يربحك ويقع عليك رخيصاً. وإن رأيت من له عقل ومروءة وتجربة فاستفد منه ولا تضيع قوله ولا فعله. فإن في ما تلقاه تلقيحاً لعقلك وحثاً لك واهتداء. وليس كل ما تسمع من أقوال الشعراء يحسن بك أن تتبعه حتى تتدبره. فإن كان موافقاً لعقلك مصلحاً لحالك فراع ذلك عندك وإلا فانبذه نبذ النواة. فليس لكل أحد يبتسم. ولا كل شخص يكلم. ولا الجود مما يعم به. ولا حسن الظن وطيب النفس مما يعامل به كل أحد. ولله در القائل:
وما لي لا أوفي البرية قسطها ... على ما قدر ما يعطي وعقلي ميزان
وإياك أن تعطي من نفسك إلا بقدر. فلا تعامل الدون بمعاملة الكفؤ. ولا الكفؤ بمعاملة الأعلى. ولا تضيع عمرك في من يعاملك بالمطامع ويثيبك على مصلحة حاضرة عاجلة بغائبة آجلة. ولا تجف الناس بالجملة ولكن يكون ذلك بحيث لا يلحق منه ملل ولا ضجر ولا جفاء. فمتى فارقت أحداً فعلى حسنى في القول والفعل فإنك لا تدري هل أنت راجع إليه. فلذلك قال الأول: ولما مضى سلم بكيت على سلم. وإياك والبيت السائر:(4/70)
وكنت إذا حللت بدار قوم ... رحلت بخزية وتركت عارا
واحرص على ما جمع قول القائل: ثلاثة تبقي لك الود في صدر أخيك. أن تبدأه بالسلام وتوسع له في المجلس وتدعوه بأحب الأسماء إليه. واحذر كل ما بينه لك القائل: كل ما تغرسه تجنيه إلا ابن آدم. فإذا غرسته يقلعك. وقول الآخر: ابن آدم ذئب مع الضعف أسد مع القوة. وإياك أن تثبت على صحبة أحد قبل أن تطيل اختباره. (ويحكى) أن ابن المقفع خطب في الخليل صحبته. فجاوبه أن الصحبة رق ولا أضع رقي في يديك حتى أعرف ملكتك. واستمل من عين من تعاشره وتفقد في فلتات الألسن وصفحات الأوجه. ولا يحملك الحياء على السكوت عما يضرك أن لا تبينه. فإن الكلام سلاح السلم. وبالأنين يعرف ألم الجرح واجعل لكل أمر أخذت فيه غاية تجعلها نهاية لك. واقبل من الدهر ما أتاك. من قرَّ عيناً بعيشه نفعه إذ الأفكار تجلب الهموم. وتضاعف الغموم. وملازمة القطوب. عنوان المصائب والخطوب. يستريب به الصاحب. ويشمت العدو والمجانب. ولا تضر بالوساوس إلا نفسك لأنك تنصر بها الدهر عليك. ولله در القائل:
إذا ما كنت للأحزان عوناً ... عليك مع الزمان فمن تلوم
مع أنه لا يرد عليك الغائب الحزن. ولا يرعوي بطول عنك الزمن. ولقد شاهدت بغرناطة شخصاً قد ألفته الهموم. وعشقته(4/71)
الغموم. ومن صغره إلى كبره لا تراه أبداً خلياً من فكرة حتى لقب بصدر الهم. ومن أعجب ما رأيته منه أنه يتنكد في الشدة ولا يتعلل بأن يكون بعدها فرج ويتنكد في الرخاء خوفاً من أن لا يدوم (وينشد) : توقع زوالاً إذا قيل تم. (وينشد) : وعند التناهي يقصر المتطاول. وله من الحكايات في هذا الشأن عجائب. ومثل هذا عمره مخسور يمر ضياعاً. ومتى رفعك الزمان إلى قوم يذمون من العلم ما تحسنه حسداً لك وقصداً لتصغير قدرك عندك وتزهيداً لك فيه فلا يحملك ذلك على أن تزهد في علمك وتركن إلى العلم الذي مدحوه. فتكون مثل الغراب الذي أعجبه مشي الحجلة فرام أن يتعلمه فصعب عليه. ثم أراد أن يرجع إلى مشيه فنسيه فبقي مخبل المشي كما قيل:
إن الغراب وكان يمشي مشية ... في ما مضى من سالف الأجيال
حسد القطا وأراد يمشي مشيها ... فأصابه ضرب من العقال
فأضل مشيته وأخطأ مشيها ... فلذاك كنوه أبا مرقال
ولا يفسد خاطرك من جعل يذم الزمان وأهله فيقول: ما بقي في الدنيا كريم ولا فاضل ولا مكان يرتاح فيه. فإن الذين تراهم على هذه الصفة أكثر ما يكونون ممن صحبه الزمان. واستخفت طلعته للهوان. وأبرموا على الناس بالسؤال فمقتوهم وعجزوا عن طلب الأمور لأنفسهم بقطع أسبابهم. ولا تزل هذين البيتين من فكرك:(4/72)
لِنْ إذا ما نلت عزاً ... فأخ العز يلين
فإذا نابك دهر ... فكما كنت تكون
والأمثال تضرب لذي اللب الحكيم. وذو البصر يمشي على الصراط المستقيم. والفطن يقنع بالقليل ويستدل باليسير. والله سبحانه خليفتي عليك لا رب سواه (ملخص عن المقري) .
طرفة من وصية ابن طاهر لابنه
أما بعد فعليك بتقوى الله وحده وخشيته ومراقبته عز وجل ومزايلة سخطه وحفظ رعيتك في الليل والنهار. والزم ما ألبسك من العافية بالذكر لمعادك. وما أنت صائر إليه وموقوف عليه ومسؤول عنه والعمل في ذلك كله بما يعصمك الله عز وجل وينجيك يوم القيامة من عقابه وأليم عذابه. فإن الله سبحانه وتعالى قد أحسن إليك وأوجب عليك الرأفة بمن استرعاك أمرهم من عباده. وألزمك العدل عليهم والقيام بحقه وحدوده فيهم. والذب عنهم والدفع عن حريمهم وبيوتهم. والحقن لدمائهم والأمن لسبيلهم. وإدخال الراحة عليهم. ومؤاخذك بما فرض عليك وموقفك عليه ومسائلك عنه مثيبك عليه بما قدمت وأخرت. ففرغ لذلك فهمك وعقلك ونظرك ولا يشغلك عنه شاغل وأنه رأس أمرك وملاك شأنك وأول ما يوفقك الله عز وجل به لرشدك. وليكن أول ما تلزم نفسك وتنسب إليه أفعالك المواظبة على ما افترض(4/73)
الله عليك من الصلوات. وإذا ورد عليك أمر فاستعن عليه باستخارة الله وتقواه. وآثر الفقه وأهله والدين وحملته فإن أفضل ما تزين به المرء الفقه في الدين والطلب له والحث عليه. والمعرفة بما يتقرب به إلى الله. فإنه الدليل على الخير كله والقائد إليه والآمر به والناهي عن المعاصي والموبقات كلها. ومع توفيق الله يزداد العبد معرفة له ودركاً للدرجات العلى في المعاد. مع ما في ظهوره للناس من التوقير لأمرك وا هيبة لسلطانك والأنسة بك والثقة بعدلك. وعليك بالاقتصاد في الأمور كلها. فليس شيء أبين نفعاً ولا أحضر أمناً ولا أجمع فضلاً منه. والقصد داعية إلى الرشد والرشد دليل على التوفيق والتوفيق قائد إلى السعادة وقوام الدين والسنن الهادية بالاقتصاد. فآثره في دنياك كلها ولا تقصر في طلب الآخرة والأجر والأعمال الصالحة والسنن المعروفة ومعالم الرشد. ولا غاية للاستكثار في البر والسعي له. إذا كان يطلب به وجه الله تعالى ومرضاته ومرافقة أوليائه في دار كرامته. واعلم أن القصد في شأن الدنيا يورث العز ويحصن من الذنوب وأنه لن تحوط نفسك ومن يليك ولا تستصلح أمورك بأفضل منه. فأته واهتد به تتم أمورك وتزد مقدرتك وتصلح خاصتك وعامتك. ولا تتهمن أحداً من الناس فيما توليه من عملك قبل أن تكشف أمره فإن إيقاع التهم بالبراء والظنون السيئة بهم مأثم. ولا يجدن عدو الله الشيطان في أمرك مغمزاً فإنه(4/74)
إنما يكتفي بالقليل من وهنك ويدخل عليك من الغم في سوء الظن ما ينغصك لذاذة عيشك. واعلم أنك تجد بحسن الظن قوة وراحة وتكتفي به ما أحببت كفايته من أمورك وتدعو به الناس إلى محبتك والاستقامة في الأمور كلها.. وتفرد بتقويم نفسك تفرد من يعلم أنه مسؤول عما صنع ومجزي بما أحسن ومأخوذ بما أساء. فإن الله عز وجل جعل الدين حرزاً وعزاً ورفع من اتبعه وعززه. فاسلك بمن تسوسه وترعاه نهج الدين وطريقة الهدى. وأقم حدود الله في أصحاب الجرائم على قدر منازلهم وما استحقوه. ولا تعطل ذلك ولا تتهاون به. ولا تؤخر عقوبة أهل العقوبة فإن في تفريطك في ذلك ما يفسد عليك حسن ظنك. واعتزم على أمرك في ذلك بالسنن المعروفة وجانب البدع والشبهات يسلم لك دينك وتقم لك مروءتك. وإذا عاهدت عهداً فف به وإذا وعدت خيراً فأنجزه واقبل الحسنة وادفع بها وأغمض عن عيب كل ذي عيب من رعيتك واسدد لسانك عن قول الكذب والزور وابغض أهله وأقص النميمة. فإن أول فساد أمورك في عاجلها وآجلها تقريب الكذوب لأن الكذب رأس المآثم. والزور والنميمة خاتمتها لأن النميمة لا يسلم صاحبها. ولا يستتم لمطيعها أمر. وأحبب أهل الصلاح والصدق وأعن الأشراف بالحق. وواس الضعفاء وصل الرحم وابتغ بذلك وجه الله تعالى وإعزاز أمره. والتمس فيه(4/75)
ثوابه والدار الآخرة واجتنب سوء الأهواء والجور واصرف عنهما رأيك. واملك نفسك عن الغضب وآثر الوقار والحلم. وإياك والحدة والطيش والغرور في ما أنت بسبيله. وإياك أن تقول أنا مسلط أفعل ما أشاء فإن ذلك سريع إلى نقص الرأي وقلة اليقين بالله وأخلص لله وحده النية فيه واليقين به. واعلم أن الملك لله سبحانه وتعالى يؤتيه من يشاء وينزعه ممن يشاء. ولن تجد تغير النعمة وحلول النقمة على أحد أسرع منه على جهله النعمة من أصحاب السلطان والمبسوط لهم في الدولة إذا كفروا نعم الله وإحسانه. واستطالوا بما آتاهم من فضله. ودع عنك شره نفسك. ولتكن ذخائرك وكنوزك التي تذخر وتكثر البر والتقوى
والمعدلة واستصلاح الرعية وعمارة بلادهم والتفقد لأمورهم والإغاثة لملهوفهم. واعلم أن الأموال إذا كانت في صلاح الرعية وإعطاء حقوقهم وكف المؤونة عنهم سمت وزكت ونمت وصلحت بها العامة وتزينت بها الولاة وطلب بها الزمان واعتقد فيها العز والمنعة. فأوف رعيتك من ذلك حصصهم وتعهد ما يصلح أمورهم. فتقر النعمة عليك وتستوجب المزيد من الله وكنت بذلك على جباية خراجك وجمع أموال رعيتك وعملك أقدر. وكان الجميع لما شملهم من عدلك وإحسانك أسكن لطاعتك وأطيب نفساً بكل ما أردت. وأجهد نفسك فيما حددت لك في هذا الباب ولتعظم خشيتك فيه وإنما يبقى من المال ما أنفق في سبيل الله.(4/76)
وإياك أن تنسيك الدنيا وغرورها أهل الآخرة فتتهاون بما يحق عليك. فإن التهاون يورث التفريط والتفريط يورث البوار. ولا تحقرن ذنباً ولا تمالئن حاسداً ولا ترحمن فاجراً. ولا تداهنن عدواً ولا تصدقن نماماً ولا تأمنن غداراً. ولا تأتين مدحاً ولا تمشين مرحاً. ولا تغمضن عن ظالم رهبة منه أو محاباة ولا تطلبن ثواب الآخرة في الدنيا..
واعلم أنك جعلت بولايتك خازناً وحافظاً وراعياً. وإنما سمي أهل عملك رعيتك لأنك راعيهم وقيمهم. تأخذ منهم ما أعطوك من عفوهم ومقدرتهم وتنفذه في قوام أمرهم وصلاحهم وتقويم أودهم. فاستعمل عليهم ذا الرأي والتدبير والتجربة والخبرة بالعمل والعلم بالسياسة والعفاف. ووسع عليهم في الرزق فإن ذلك من الحقوق اللازمة لك فيما تقلدت وأسند إليك. ولا يشغلك عنه شاغل ولا يصرفك عنه صارف. فإنك متى آثرته وقمت فيه بالواجب استدعيت به زيادة النعمة من ربك. وحسن الأحدوثة في عملك. وأحرزت به المحبة من رعيتك وأعنت على الصلاح. وفشت العمارة بناحيتك وظهر الخصب في كورك. وكثر خراجك وتوفرت أموالك. وقويت بذلك على ارتباط جندك وإرضاء العامة بإفاضة العطاء فيهم من نفسك. وكنت محمد السياسة مرضي العدل في ذلك عند عدوك. وكنت في أمورك كلها ذا عدل وآلة وقوة وعدة. فنافس في ذلك ولا تقدم عليه شيئاً تحمد فيه مغبة أمرك. واجعل(4/77)
في كل كورة من عملك أميناً يخبرك أخبار عمالك ويكتب إليك بسيرتهم وأعمالهم حتى كأنك مع كل عامل في عمله معاين لأموره كلها. فإن أردت أن تأمرهم بأمر فانظر في عواقب ما أردت من ذلك. فإن رأيت السلامة فيه والعافية ورجوت فليه حسن الدفاع والصنع فأمضه. وإلا فتوقف عنه وراجع أهل البصر والعلم به. ثم خذ فيه عدته. فإنه ربما نظر الرجل في أمر من أموره وقد أتاه على ما يهوى فأغواه ذلك وأعجبه. فإن لم ينظر في عواقبه أهلكه ونقض عليه أمره. فاستعمل الحزم في كل ما أردت وباشره بعد عون الله عز وجل بالقوة وأكثر من استخارة ربك في جميع أمورك. وافرغ من عمل يومك ولا تؤخره لغدك وأكثر مباشرته بنفسك. فإن للغد أموراً وحوادث تلهيك عن عمل يومك الذي أخرت. واعلم أن اليوم إذا مضى ذهب بما فيه وإذا أخرت عمله اجتمع عليك أمور يومين فيثقلك ذلك حتى تعرض عنه. وإذا أمضيت لكل يوم عمله أرحت نفسك وبدنك وأحكمت أمور سلطانك. وانظر أحرار الناس وذوي السن منهم ممن تستيقن صفاء طويتهم وشهدت مودتهم لك ومظاهرتهم بالنصح والمخالطة على أمرك. فاستخلصهم وأحسن إليهم. وتعاهد أهل البيوتات ممن قد دخلت عليهم الحاجة فاحتمل مؤونتهم وأصلح حالهم حتى يجدوا لخلتهم مساً. وأفرد نفسك بالنظر في أمور الفقراء والمساكين(4/78)
ومن لا يقدر على رفع مظلمة إليك والمحتقر الذي لا علم له بطلب حقه. فسل عنه أحفى مسألة ووكل بأمثاله أهل الصلاح من رعيتك. ومرهم برفع حوائجهم وحالاتهم إليك لتنظر فيها بما يصلح الله به أمرهم. وتعاهد ذوي البأساء وأيتامهم وأراملهم واجعل لهم أرزاقاً من بيت المال اقتدار بأمير المؤمنين أعزه الله في العطف عليهم والصلة لهم. ليصلح الله بذلك عيشهم ويرزقك به بركة وزيادة وأجر للأضراء من بيت المال. واعرف ما تجمع عمالك من الأموال وينفقون منها ولا تجمع حراماً ولا تنفق إسرافاً. وأكثر مجالسة العلماء ومشاورتهم ومخالطتهم. وليكن هواك إتباع السنن وإقامتها وإيثار مكارم الأمور ومعاليها. وليكن أكرم دخلائك وخاصتك عليك من إذا رأى عيباً فيك لم تمنعه هيبتك عن إنهاء ذلك إليك في سرك وإعلانك ما فيه من النقص. فإن أولئك أنصح أوليائك ومظاهرون لك. وانظر عمالك الذين بحضرتك وكتابك فوقت لكل رجل منهم في كل يوم وقتاً يدخل فيه عليك بكتبه ومؤامراته وما عنده من حوائج عمالك وأمور كورك ورعيتك. ثم فرغ لما يورده عليك من ذلك سمعك وبصرك وفهمك وعقلك. وكرر النظر فيه والتدبير له. فما كان موافقاً للحق والحزم فأمضه. وما كان مخالفاً لك فاصرفه إلى التثبت فيه والمسألة عنه. ولا تمتن على رعيتك ولا غيرهم بمعروف تؤتيه إليهم ولا تقبل من أحد منهم إلا الوفاء والاستقامة والعون في(4/79)
أمور أمير المؤمنين. ولا تضعن المعروف إلا على ذلك. وتفهم كتابي إليك وأكثر النظر فيه والعمل به. وليكن أعظم سيرتك وأفضل رغبتك ما كان لله رضى ولدينه نظاماً ولأهله عزاً وتمكيناً وللذمة وللملة عدلاً وصلاحاً. وأنا أسأل الله أن يحسن عونك وتوفيقك ورشدك وكلاءتك. والسلام. (لابن الأثير) .
وصية محمد الدكدجي لابنه
زر والديك وقف على قبريهما ... فكأنني لك قد نقلت إليهما
لو كنت حيث هما وكانا بالبقا ... زاراك حبواً لا على قدميهما
ما كان ذنبهما إليك فطالما ... منحاك نفس الود من نفسيهما
كانا إذا ما أبصرا بك علة ... جزعا لما تشكو وشق عليهما
كانا إذا سمعا أنبنك أسبلا ... دمعيهما أسفاً على خديهما
وتمنيا لو صادفا بك راحة ... بجميع ما يحويه ملك يديهما
فنسيت حقهما عشية أسكنا ... دار البقاء وسكنت في داريهما
فلتلحقهما غداً أو بعده ... حتماً كما لحقا هما أبويهما
ولتندمن على فعالك مثل ما ... ندما هما قدماً على فعليهما
بشراك لو قدمت فعلاً صالحاً ... وقضيت بعض الحق من حقيهما
فاحفظ حفظت وصيتي واعمل بها ... فعسى تنال الفوز من ربيهما
من شعر المثقب العبدي
لا تقولن إذا ما لم ترد ... أن تتم الوعد في شيء نعم(4/80)
حسن قول نعم من بعد لا ... وقبيح قول لا من بعد نعم
إن لا بعد نعم فاحشة ... فبلا فابدأ إذا خفت الندم
وإذا قلت نعم فاصبر لها ... بنجاز الوعد إن الخلف ذم
أكرم الجار وراعي حقه ... إن عرفان الفتى الحق كرم
إن شر الناس من يمدحني ... حين يلقاني وإن غبت شتم
قال يزيد بن الحكم الثقفي يعظ ابنه بدراً:
يا بدر والأمثال يض ... ربها لذي اللب الحكيم
دم للخليل بوده ... ما خير ود لا يدوم
واعرف لجارك حقه ... والحق يعرفه الكريم
واعلم بأن الضيف يو ... ماً سوف يحمد أو يلوم
والناس مبتنيان مح ... مود البناية أو ذميم
واعلم بني فإنه ... بالعلم ينتفع العليم
أن الأمور دقيقها ... مما يهيج له العظيم
والتبل مثل الدين تق ... ضاه وقد يلوى الغريم
والبغي يصرع أهله ... واظلم مرتعه وخيم
ولقد يكون لك البعيد ... أخاً ويقطعك الحميم
والمرء يكرم للغنى ... ويهان للعدم العديم
يملأ لذاك ويبتلى ... هذا فأيهما المضيم(4/81)
والمرء يبخل في الحقو ... ق وللكلالة ما يسيم
ما بخل من هو للمنو ... ن وريبها غرض رجيم
ويرى القرون أمامه ... همدوا كما همد الهشيم
وتخرب الدنيا فلا ... بؤس يدوم ولا نعيم
نخبة من حكم أبي عثمان لن لئون التجيبي
زاحم أولي العلم حتى ... تعد منهم حقيقه
ولا يردك عجز ... عن أخذ أعلى طريقه
فإن من جد يعطى ... فيما يجب لحوقه
--
الدرس رأس العلم فاحرص عليه ... فكل ذي علم فقير إليه
من ضيع الدرس يرى هاذياً ... عند اعتبار الناس ما في يديه
فعزة العالم من حفظه ... كعزة المنفق في ما عليه
--
ثلاث مهلكات لا محالة ... هوى نفس يقود إلى البطالة
وشح لا يزال يطاع دأباً ... وعجب ظاهر في كل حاله
--
أخوك الذي يحميك في الغيب جاهداً ... ويستر ما تأتي من السوء والقبح
وينشر ما يرضيك في الناس معلناً ... ويغضي ولا تألو من البر والنصح
--
حبيبك من يغار إذا زللتا ... ويغلظ في الكلام متى أسأتا
يسر إن اتصفت بكل فضل ... ويحزن إن نقصت أو انتقصتا
ومن لا يكترث بك لا يبالي ... أحدت عن الصواب أم اعتدلتا(4/82)
--
من تناسى ذنوبه قتلته ... وأبانت عنه الولي الحميما
ذكرك الذنب نفرة عنه تبقي ... لك إنكار فعله مستديما
--
ليس التفضل يا أخي أن تحسنا ... لأخ يجازي بالجميل من الثنا
إن التفضل أن تجازي من أسا ... لك بالجميل وأنت عنه في غنى
--
من عيني المرء يبدو ما يكتمه ... حتى يكون الذي يرعاه يفهمه
ما يضمر المرء يبدو من شمائله ... لناظر فيه يهديه توسمه
--
تعظيمك للناس تعظيم لنفسك في ... قلوب الأعداء طراً والأداء
من عظم الناس يعظم في النفوس بلا ... مؤونة وينل عز الأعزاء
--
ومستقبح من أخ خلة ... وفيه معايب تسترذل
كأعمى يخاف على أعور ... عثاراً وعن نفسه يغفل
--
خذ الأمور برفق واتد أبداً ... إياك من عجل يدعو إلى وصب
الرفق أحسن ما تؤتى الأمور به ... يصيب ذو الرفق أو ينجو من العطب
--
إن المسيء إذا جازيته أبداً ... بفعله زدته في غيه شططا
العفو أحسن ما يجزى المسيء به ... يهينه أو يريه أنه سقطا
--
سريرة المرء تبديها شمائله ... حتى يرى الناس ما يخفيه إعلانا
فاجعل سريرتك التقوى ترى أملاً ... في كل ما تبغيه وبرهانا(4/83)
--
تثبت بالأمور ولا تبادر ... لشيء دون ما نظر وفكر
قبيح أن تبادر ثم تخطي ... وترجع للتثبت دون عذر
نخبة من حكم أوردها البستي في ديوانه
يا من يسامي العلى عفواً بلا تعب ... هيهات نيل العلى عفواً بلا تعب
عليك بالجد إني لم أجد أحداً ... حوى نصيب العلى من غير ما نصب
--
الحر في التحقيق معتق ذاته ... من رق شهوته ومن غفلاته
ومن اقتنى ما ليس يمكن غصبه ... منه ووفر جاهداً حسناته
فأصخ لوعظي وانتفع بنصائحي ... وابخل بباقي العمر قبل فواته
وأمت بجهدك قوة الغضب الذي ... تحيا البصيرة والتقى بمماته
وعليك بالعدل الذي هو للفتى ... إن عدت الأوصاف خير صفاته
واعلم بأن مرارة العيش الذي ... إلا لوهن دب في عزماته
أنى يخاف الموت حي عالم ... يعتده فصلاً مقوم ذاته
لاسيما ووراء ذلك للفتى ... عيش رخاء العيش في لذاته
من ظن أن فناءه من موته ... فاعلم بأن فناءه بحياته
--
قل للفقيه مقالاً ليس يعدم من ... حلو العتاب ومر العتب تمزيجا
إذا فطمت امرءاً عن عادة قدمت ... فاجعل له يا عقيد الفضل تدريجا
ولا تعنف إذا قومت ذا عوج ... فربما أعقب التقويم تعويجا(4/84)
--
تكثرت بالأموال جهلاً وإنما ... تكثرت باللائي تروح وتغتدي
فأنت عليها خائف غصب غاصب ... وحيلة محتال خؤون ومرصد
إذا نامت الأجفان بت مكابداً ... دجى الليل إشفاقاً بطرف مسهد
فهلا اقتنيت الباقيات التي لها ... دوام على طول الزمان المؤبد
فضائل نفسانية ليس يهتدي ... إلى سلبها من أهلها كيد معتدي
هي العلم والتقوى هي البأس والحجى ... هي الجود بالموجود والفكر في الغد
--
وللمرء أضداد يرومون قسره ... وليس له منهم على حالة بد
فإن كان ذا خير جفاه شرارهم ... وإن كان شراً فالخيار له ضد
--
من صادم الدهر مغتراً بقوته ... فاحكم عليه بأن الدهر قد صدمه
ومن يبح قرناء السوء عشرته ... يكن قصاراه من إيناسهم ندمه
كم من وجود إذا استوضحت صورته ... رأيت أشرف من محصوله عدمه
وكل ذي شرف لولا خصائصه ... من الفضائل ساوى رأسه قدمه
--
نخبة من أراجيز الشيخ السابوري
الحمد لله العلي القاهر ... الواحد الفرد المليك القادر
مدبر الخلق ومنشي الرزق ... ذي المن والطول إله الخلق
هذا كتاب جامع الآداب ... مفصل منتظم الأبواب
حبرته بمنطقي تحبيراً ... لم آل فيه النصح والتيسيرا
أودعته محاسن المذاهب ... في الرأي والعقل وفي
التجارب(4/85)
وكل قول حسن منتخب ... يؤثر عن أهل الحجى والأدب
وما أتى من مثل مضروب ... مستملح مستطرف غريب
يزداد ذو العلم إذا رواه ... علماً إلى محمود ما أنشاه
ويحكم المغفل المغمورا ... حتى تراه أرباً نحريرا
لكنه يزداد في الأيام ... علماً بنقض الأمر والإبرام
وإنه يزداد يوماً يوماً ... في دهره تجربة وعلما
التجارب
وافطن لصرف الدهر والعجائب ... فإنه لا علم كالتجارب
كفاك من عاشرت من إخوان ... معرفة بصورة الزمان
لا تحمدن قبل اختبار أحدا ... بخلب من برقه إذا بدا
فربما أخلفك الطرير ... بلامع أنت به غرير
إن خفت من عاقبة الندامة ... فارض من النوال بالسلامة
ندامة المرء على التقصير ... أيسر من ندامة التعزير
وطالب الفضل من الأعداء ... كذي غليل شرق بماء
وانتهز الفرصة إما مرت ... فربما طلبتها ففرت
والأمر إن أعيا عليك من عل ... فاطلبه قبل فوته من أسفل
من لم يعظه الدهر بالتجارب ... لم يتعظ يوماً بقول صاحب
رُبَّ رحاً دارت بمن يليها ... تطحن في الحروب مركبيها(4/86)
من جالس الأعداء والحسادا ... لم يعدم الخبال والفسادا
ووحدة المرء بلا أنيس ... خير له من سيء الجليس
ناصح أخاك في الملمات الخير ... وكن إذا ناصحته على حذر
إذا لقيت الناس بالنصيحة ... فوطن النفس على الفضيحة
من صدق الصاحب والرفيقا ... لم يدع الصدق له صديقا
من سلك القصد إذا ما سارا ... في كل وجه أمن العثارا
الصمت وحفظ اللسان
الصمت للمرء حليف السلم ... وشاهد له بفضل الحكم
وحارس من زلل اللسان ... في القول إن عي عن البيان
فعذ به معتصماً من الخطا ... أو سقط يفرط في ما فرطا
إن السكوت يعقب السلامة ... فرب قول يورث الندامة
استبدل الخيفة من أمانه ... من لم يكن يحذر من لسانه
يظل مكروباً طويلاً سقمه ... من لا يزم قوله ويخطمه
من لم يكن لسانه من همه ... يفرح به ويسترح من غمه
من أحمد الأشياء في الإنسان ... زيادة العقل على اللسان
إسراف ذي الإطناب في المقال ... أضر من إسرافه في المال
لا شيء من جوارح الإنسان ... أحق بالسجن من اللسان
إن اللسان سبع عقور ... إن لم يسسه الرأي والتدبير
لا تطلقن القول في غير بصر ... إن اللسان غير مأمون الضرر(4/87)
فالقول ما أرسلته على عجل ... موكل به العثار والزلل
يا رب محقور من المقال ... يهيج شراً غير مستقال
ولفظة زائغة سبيلها ... قد سلبت نعمة من يقولها
لا تطلقن في مجلس مقاله ... إذا مضت ليس لها إقاله
الصبر
والصبر فاعلم من أعد العدد ... على صروف النائبات العود
فاجعله إن هم ألم معقلا ... واجعله عند النائبات موئلا
فالدهر لا يبقى على مضمار ... مختلف الإقبال والإدبار
من لم يكن عند البلايا صابرا ... سلا كما يسلو البهيم صاغرا
فاصبر إذا ما عضك الزمان ... فكل يوم للمليك شان
من يعتصم بالصبر عند الحادث ... فالحبل في يديه غير ناكث
إذا أتى ما لا تطيق دفعه ... فالصبر أولى ما اقتنيت نفعه
حلول ما حل من البلاء ... كالضيف يوماً حل في الفناء
فاصبر لضيف بك يوماً نزلا ... لا يلبث النازل أن يرتحلا
صدق النطق
وأكرم الآداب صدق النطق ... أكرم به أكرم به من خلق
أعدل شاهد على الصلاح ... أقرب منهاج إلى الفلاح
شرف به أخلاقك الكريمة ... أستر به حالاتك الذميمة
من صدق الحديث من المقال ... شاركه المثرون في الأموال(4/88)
والكذب فاعلم أفظع المساوي ... صاحبه مشف على المهاوي
من يشتهر يوماً بكذب المنطق ... ثم أتى بالصدق لم يصدق
من عذب الكذب على لسانه ... فالصدق ليس كائناً من شانه
ولكنه المنطق بالصواب ... خير من الإفصاح بالكذاب
لا تعصين قول ذوي التجارب ... لا تستعن في عمل بكاذب
المكارم
وانزع إلى مكارم الأخلاق ... فإنها من أنفس الأعلاق
تحميك من قوارع الملامة ... تمنحك الإعزاز والكرامة
أزين حلية على الإنسان ... وأشجع الأنصار والأعوان
فارحل إليها طالباً لفضلها ... واسم إليها راغباً في نيلها
فإنها تنحلك الفضائلا ... حمداً من الناس وذخراً آجلا
عليك ما يحمد من مقال ... فرض عليه النفس في الفعال
فكل ما استحييت أن يقالا ... فيك فلا تجتته فعالا
عليك حسن البشر في اللقاء ... فإنه من سبب الإخاء
يري على صاحبه قبولا ... من الورى ومنظراً جميلا
يهدي لك الإجلال والإعظاما ... يذود عنك الهم والملاما
القصيدة الزينبية لصالح بن عبد القدوس وقيل لعلي بن أبي طالب
صرمت حبالك بعد وصلك زينب ... والدهر فيه تصرم وتقلب(4/89)
وكذاك وصل الغانيات فإنه ... آل ببلقعةٍ وبرق خلب
فدع الصبا فلقد عداك زمانه ... وازهد فعمرك مر منه الأطيب
ذهب الشباب فما له من عودة ... وأتى المشيب فأين منه المهرب
دع عنك ما قد فات في زمن الصبا ... واذكر ذنوبك وابكها يا مذنب
واخش مناقشة الحساب فإنه ... لا بد يحصى ما جنيت ويكتب
والليل فاعلم والنهار كلاهما ... أنفاسنا بهما تعد وتحسب
لم ينسه الملكان حين نسيته ... بل أثبتاه وأنت لاه تلعب
والروح فيك وديعة أودعتها ... ستردها بالرغم منك وتسلب
وعرور دنياك التي تسعى لها ... دار حقيقتها متاع يذهب
وجميع ما حصلته وجمعته ... حقاً يقيناً بعد موتك ينهب
تباً لدار لا يدوم نعيمها ... ومشيدها عما قليل يخرب
فاسمع هديت نصائحاً أولاكها ... بر نصوح للأنام مجرب
أهدى النصيحة فاتعظ بمقاله ... فهو التقي اللوذعي الأدرب
لا تأمن الدهر الخؤون لأنه ... ما زال قدماً للرجال يؤدب
وعواقب الأيام في غصاتها ... مضض يذل له الأعز الأنجب
ويفوز بالمال الحقير مكانة ... فتراه يرجى ما لديه ويرغب
ويبش بالترحيب عند قدومه ... ويقام عند سلامه ويقرب
فاقنع ففي بعض القناعة راحة ... ولقد كسي ثوب المذلة أشعب
لا تحرصن فالحرص ليس بزائد ... في الرزق بل يشقي الحريص ويتعب(4/90)
كم عاجز في الناس يأتي رزقه ... رغداً ويحرم كيس ويخيب
فعليك تقوى الله فالزمها تفز ... إن التقي هو البهي الأهيب
واعمل بطاعتك تنل منه الرضا ... إن المطيع لربه لمقرب
وارع الأمانة والخيانة فاجتنب ... واعدل ولا تظلم يطيب لك مكسب
واحذر من المظلوم سهماً صائباً ... واعلم بأن دعاءه لا يحجب
واخفض جناحك للأقارب كلهم ... بتذلل واسمح لهم إن أذنبوا
وإذا بليت بنكبة فاصبر لها ... من ذا رأيت مسلماً لا ينكب
وإذا أصابك في زمانك شدة ... أو نالك الخطب الكريه الأصعب
فادع لربك إنه أدنى لمن ... يدعوه من حبل الوريد وأقرب
واحذر مؤاخاة الدني لأنه ... يعدي كما يعدي الصحيح الأجرب
واختر صديقك واصطفيه تفاخراً ... إن القرين إلى المقارن ينسب
ودع الكذوب فلا يكن لك صاحباً ... وإن الكذوب يشين حراً يصحب
وذر الحقود ولو صفا لك مرة ... وأبعده عن رؤياك لا يستجلب
إن الحقود وإن تقادم عهده ... فالحقد باق في الصدور مغيب
واحفظ لسانك واحترز من لفظه ... فالمرء يسلم باللسان ويعطب
وزن الكلام إذا نطقت ولا تكن ... ثرثارة في كل ناد تخطب
والسر فاكتمه ولا تنطق به ... فهو الأسير لديك إذ لا ينشب
واحرص على حفظ القلوب من الأذى ... فرجوعها بعد التنافر يصعب
إن القلوب إذا تنافر ودها ... شبه الزجاجة كسرها لا يشعب(4/91)
واحذر عدوك إذ تراه باسماً ... فالليث يبدو نابه إذ يغضب
وإذا الصديق رأيته متملقاً ... فهو العدو وحقه يتجنب
لا خير في ود امرئ متملق ... حلو اللسان وقلبه يتقلب
يعطيك من طرف اللسان حلاوة ... ويروغ منك كما يروغ الثعلب
يلقاك يحلف أنه بك واثق ... وإذا توارى عنك فهو العقرب
وإذا رأيت الرزق عز ببلدة ... وخشيت فيها أن يضيق المكسب
فارحل فأرض الله واسعة الفضا ... طولاً وعرضاً شرقها والمغرب
فلقد نصحتك إن قبلت نصيحتي ... فالنصح أغلى ما يباع ويوهب
خذها إليك قصيدة منظومة ... جاءت كنظم الدار بل هي أعجب
حكم وآداب وجل مواعظ ... أمثالها لذوي البصائر تكتب
فاصغ لوعظ قصيدة أولاكها ... طود العلوم الشامخات الأهيب
لامية ابن الوردي
اعتزل ذكر الأغاني والغزل ... وقل الفصل وجانب من هزل
ودع الذكرى لأيام الصبا ... فلأيام الصبا نجم أفل
واترك الغادة لا تحفل بها ... تمس في عز رفيع وتجل
وافتكر في منتهى حسن الذي ... أنت تهواه تجد أمراً جلل
واهجر الخمرة إن كنت فتى ... كيف يسعى في جنون من عقل
واتق الله فتقوى الله ما ... جاورت قلب امرئ إلا وصل
ليس من يقطع طرقاً بطلاً ... إنما من يتقي الله البطل(4/92)
كتب الموت على الخلق فكم ... فل من جيش وأفنى من دول
أين نمرود وكنعان ومن ... ملك الأرض وولى وعزل
أين من سادوا وشادوا وبنوا ... هلك الكل ولم تغن القلل
أين أرباب الحجى أهل النهي ... أين أهل العلم والقوم الأول
سيعيد الله كلاً منهم ... وسيجزي فاعلاً ما قد فعل
أي بني اسمع وصايا جمعت ... حكماً خصت بها خير الملل
اطلب العلم ولا تكسل فما ... أبعد الخير على أهل الكسل
واحتفل بالفقه في الدين ولا ... تشتغل عنه بمال وخول
واهجر النوم وحصله فمن ... يعرف المطلوب يحقر ما بذل
لا تقل قد ذهبت أيامه ... كل من سار على الدرب وصل
في ازدياد العلم إرغام العدى ... وجمال العلم إصلاح العمل
جمل المنطق بالنحو فمن ... يحرم الإعراب بالنطق اختبل
انظم الشعر ولازم مذهبي ... في إطراح الرفد لا تبغ النحل
فهو عنوان على الفضل وما ... أحسن الشعر إذا لم يبتذل
ملك كسرى عنه تغني كسرة ... وعن البحر اجتزاء بالوشل
إطرح الدنيا فمن عاداتها ... تخفض العالي وتعلي من سفل
عيشة الراغب في تحصيلها ... عيشة الجاهل فيها أو أقل
كم جهول بات فيها مكثراً ... وعليم مات منها بعلل
كم شجاع لم ينل فيها المنى ... وجبان نال غايات الأمل(4/93)
فاترك الحيلة فيها واتكل ... إنما الحيلة في ترك الحيل
لا تقل أصلي وفصلي أبداً ... إنما أصل الفتى ما قد حصل
قد يسود المرء من دون أب ... وبحسن السبك قد ينفى الزغل
إنما الورد من الشوك وما ... ينبت النرجس إلا من بصل
قيمة الإنسان ما يحسنه ... أكثر الإنسان منه أم أقل
بين تبذير وبخل رتبة ... وكلا هذين إن زاد قتل
ليس يخلو المرء من ضد ولو ... حاول العزلة في رأس جبل
دار جار السوء بالصبر وإن ... لم تجد صبراً فما أحلى النقل
جانب السلطان واحذر بطشه ... لا تعاند من إذا قال فعل
لا تل الأحكام إن هم سألوا ... رغبة فيك وخالف من عذل
إن نصف الناس أعداء لمن ... ولي الأحكام هذا إن عدل
قصر الآمال في الدنيا تفز ... فدليل العقل تقصير الأمل
غب وزر غباً تزد حباً فمن ... أكثر الترداد أضناه الملل
لا يضر الفضل إقلال كما ... لا يضر الشمس إطباق الطفل
خذ بنصل السيف واترك غمده ... واعتبر فضل الفتى دون الحلل
حبك الأوطان عجز ظاهر ... فاغترب تلق عن الأهل بدل
فبمكث الماء يبقى آسناً ... وسرى البدر به البدر اكتمل
نونية أبي الفتح البستي
زيادة المرء في دنياه نقصان ... وربحه غير محض الخير خسران(4/94)
وكل وجدان حظ لا ثبات له ... فإن معناه في التحقيق فقدان
يا عامراً لخراب الدهر مجتهداً ... بالله هل لخراب العمر عمران
ويا حريصاً على الأموال تجمعها ... أنسيت أن سرور المال أحزان
زع الفؤاد عن الدنيا وزخرفها ... فصفوها كدر والوصل هجران
وأرع سمعك أمثالاً أفصلها ... كما يفصل ياقوت ومرجان
أحسن إلى الناس تستعبد قلوبهم ... فطالما استعبد الإنسان إحسان
يا خادم الجسم كم تسعى لخدمته ... أتطلب الربح في ما فيه خسران
أقبل على النفس واستكمل فضائلها ... فأنت بالنفس لا بالجسم إنسان
وكن على الدهر معواناً لذي أمل ... يرجو نداك فإن الحر معوان
واشدد يديك بحبل الله معتصماً ... فإنه الركن إن خانتك أركان
من يتق الله يحمد في عواقبه ... ويكفه شر من عزوا ومن هانوا
من استعان بغير الله في طلب ... فإن ناصره عجز وخذلان
من كان للخير مناعاً فليس له ... على الحقيقة إخوان وجذلان
من جاد بالمال مال الناس قاطبة ... إليه والمال للإنسان فتان
من سالم الناس يسلم من غوائلهم ... وعاش وهو قرير العين جذلان
من كان للعقل سلطان عليه غدا ... وما على نفسه للحرص سلطان
من مد طرفاً بفرط الجهل نحو هوى ... أغضى على الحق يوماً وهو خزيان
من استشار صروف الدهر قام له ... على حقيقة طبع الدهر برهان
من يزرع الشر يحصد في عواقبه ... ندامة ولحصد الزرع إبان(4/95)
من استنام إلى الأشرار نام وفي ... قميصه منهم صل وثعبان
كن ريق البشر إلى الحر همته ... صحيفة وعليها البشر عنوان
ورافق الرفق في كل الأمور فلم ... يندم رفيق ولم يذممه إنسان
ولا يغرك حظ جره خرق ... فالخرق هدم ورفق المرء بنيان
أحسن إذا كان إمكان ومقدرة ... فلن يدوم على الإحسان إمكان
فالروض يزدان بالأنوار فاغمة ... والحر بالعدل والإحسان يزدان
صن حر وجهك لا تهتك غلالته ... فكل حر لحر الوجه صوان
دع التكاسل في الخيرات تطلبها ... فليس يسعد بالخيرات كسلان
لا ظل للمرء يعرى من نهي وتقى ... وإن أظلته أوراق وأفنان
والناس أعوان من والته دولته ... وهم عليه إذا عادته أعوان
سحبان من غير مال باقل حصر ... وباقل في ثراء المال سحبان
لا تودع السر وشَّاء به مذلاً ... فما رعى غنماً في الدو سرحان
لا تحسب الناس طبعاً واحداً فلهم ... غرائز لست تحصيهن ألوان
ما كل ماء كصداء لوارده ... نعم ولا كل نبت فهو سعدان
لا تستشر غير ندب حازم يقظ ... قد استوى منه أسرار وإعلان
فللتدابير فرسان إذا ركضوا ... فيها أبروا كل للحرب فرسان
وللأمور مواقيت مقدرة ... وكل أمر له حد وميزان
فلا تكن عجلاً في الأمر تطلبه ... فليس يحمد قبل النضج بحران(4/96)
كفى من العيش ما قد سد من عوز ... ففيه للحر قنيان وغنيان
وذو القناعة راض من معيشته ... وصاحب الحرص إن أثرى فغضبان
إذا جفاك خليل كنت تألفه ... فاطلب سواه فكل الناس إخوان
حسب الفتى عقله خلاً يعاشره ... إذا تحاماه إخوان وخلان
هما رضيعا لبان حكمة وتقى ... وساكنا وطن مال وطغيان
إذا نبا بكريم موطن فله ... وراءه في بسيط الأرض أوطان
يا ظالماً فرحاً بالعز ساعده ... إن كنت في سنة فالدهر يقظان
ما استمرأ الظلم لو أنصفت آكله ... وهل يلذ مذاق المرء خطبان
يا أيها العالم المرضي سيرته ... أبشر وأنت بغير الماء ريان
ويا أخا الجهل وقد أصبحت في لجج ... وأنت ما بينها لا شك ظمآن
لا تحسبن سروراً دائماً أبداً ... من سره زمن ساءته أزمان
يا رافلاً في الشباب الوحف منتشياً ... من كأسه هل أصاب الرشد نشوان
لا تغترر بشباب رائق خضل ... فكم تقدم قبل الشيب شبان
ويا أخا الشيب لو ناصحت نفسك لم ... يكن لمثلك في الإسراف إمعان
هب الشبيبة تبلي عذر صاحبها ... ما عذر أشيب يستهويه شيطان
كل الذنوب فإن الله يغفرها ... إن شيع المرء إخلاص وإيمان
وكل كسر فإن الدين يجبره ... وما لكسر قناة الدين جبران
خذها سوائر أمثال مهذبة ... فيها لمن يبتغي التبيان تبيان
ما ضر حسانها والطبع صائغها ... أن لم يصغها قريع الدهر حسان(4/97)
الباب الخامس في الأمثال
أمصال في معان مختلفة جمعها ابن عبد ربه في العقد الفريد
(في الصمت) * الصمت حكم وقليل فاعله * عي صامت خير من عي ناطق * الصمت يكسب أهله المحبة * استكثر من الهيبة الصموت * الندم على السكوت خير من الندم على الكلام * (من أصاب مرة وأخطأ مرة) * شخب في الإناء وشخب في الأرض * يشج مرة ويأسو أخرى * سهم لك وسهم عليك * أطرقي وميشي * (انكشاف الأمر بعد اكتتامه) * حصحص الحق * أبدى الصريح عن الرغوة * صرح المحض عن الزبدة* أفرخ القوم بيضتهم* برح الخفاء وكشف الغطاء* (الدعاء بالخير) للقادم من سفره: خير جاء ورد في أهل ومال* بلغ الله بك أكلأ العمر * نعم عوفك* في الزواج: على يد الخير واليمن* بالرفاء والبنين* هنئت ولا تنكد* هوت أمه وهبلت(4/98)
أمه * (الدعاء بالشر) * خوى نجمه وركدت ريحه* باخ ميسمه وكبا جواده* خمد ضرامه ونضب ماؤه* إنثلم ركنه وانهار جرفه * نقب خفه ودمن ظلفه* رغم أنفه وخر سقفه* غار ماؤه وسقط بهاؤه* قرع فناؤه وصفر إناؤه* (رمي الرجل غيره بالمعضلات) * رماه بأقحاف رأسه* ورماه بثالثة الأثافي* العصبية والأفيكة* كأنما أفرغ عليه ذنوباً* (المكر والخلابة) * فتل في ذروته* ضرب أخماساً لأسداس* ومنه قولهم: الذئب يأدو للغزال* (في الرجل المبرز في الفضل* ما يشق غباره* 'ذا جرى المذكي حسرت عنه الحمر* جري المذكيات غلاء أو غلاب* ليست له همة دون الغاية القصوى* (الرجل النبيه الذكر) * ما يحجر فلان في العكم* ما يوم حليمة بسر* أشهر من الأبلق* وهل(4/99)
يخفى على الناس النهار* ومثله: وهل يخفى على الناظر الصبح* وهل يجهل فلاناً إلا من يجهل القمر* (الرجل العزيز يعز به الذليل) * إن البغاث بأرضنا يستنسر* لا جر بوادي عوف* تمرد مارد وعز الأبلق* من عزَّ بزَّ* من قل ذل* من أمر فل (أمر أي كثر) * الرجل الصعب) * فلان ألوى بعيد المستمر* ما بللت منه بأفوق ناصل* ما يقعقع لي بالشنان* وما يصطلى بناره* ما تقرن به الصعبة* (الرجل العالم النحرير) * إنه لنقاب وإنه لعض* أنا جذلها المحكك وعذيقها المرجب* ومثله: إنه لجذل حكاك* عنيته تشفي الجرب* لذي الحلم قبل اليوم ما تقرع العصا* إنه لألمعي* ما حككت قرحة إلا أدميتها* الأمور تشابه مقبلة وتظهر مدبرة* ولا يعرفها مقبلة إلا العالم النحرير* فإذا أدبرت عرفها الجاهل والعالم* (الرجل المجرب) * إنه لشراب(4/100)
بأنقع* إنه لخراج ولاج* حلب الدهر أشطره وشرب أفاويقه* رجل منجذ* أزل لغز وأخرق* لا تغز إلا بغلام قد غزا* زاحم بعود أودع* (الانتقال من ذل إلى عز) * كنت كراعاً فصرت ذراعاً* كنت عنزاً فاستتيست* كنت بغاثاً فاستنسرت* (إعجاب الرجل بأهله) * كل فتاة بابنها معجبة* القرنبى في عين أمها حسنة* زين في عين والده ولده* حسن في كل عين من تود* (تشبيه الرجل بأبيه) * من أشبه أباه فما ظلم* العصية من العصا* ما أشبه حجل الجبال بألوان صخرها* ما أشبه الحول بالقبل* وما أشبه الليلة بالمبارحة* شنشنة أعرفها من أخزم* قال زهير:
وهل نبت الخطي إلا وشيجه ... وتغرس إلا في منابتها النخل
ومنه قول العامة: لا تلد الذئبة إلا ذئباً* حذو النعل بالنعل وحذو القذة بالقذة* (الحلم) * إذا نزا الشر اقعد* ومنه. الحليم مطية الجهول* لا ينتصف حليم من جاهل* أخر الشر فإن شئت تعجلته* وقولهم في الحليم: إنه كواقع الطير وكساكن(4/101)
الريح* كأنما على رؤوسهم الطير* ربما أسمع فأذر* حلمي أصم وأذني غير صماء* (مداراة الناس) * إذا لم تغلب فاخلب* وقولهم: إلا حظية فلا ألية* سوء الاستمساك خير من حسن الصرعة* ومنه قول أبي الدرداء: إنا لنبش في وجوه قوم وإن قلوبنا لتنفر عنهم* ومن قوله: شرار الناس من داراه الناس لشره* ومنه قول شبيب بن شيبة في خالد بن صفوان: ليس له صديق في السر ولا عدو في العلانية* يريد أن الناس يدارونه لشره وقلوب الناس تبغضه* (الاستعداد للأمر قبل نزوله) * قبل الرمي يراش السهم* قبل الرماية تملأ الكنائن* خذ الأمر بقوابله* شر الرأي الدبري* المحاجزة قبل المناجزة* التقدم قبل النزول* يا عاقد اذكر حلاً* خير الأمور أحمدها مغبة* ليس الدهر بصاحب من لم ينظر في العواقب* (حسن التدبير والنهي عن الخرق) * الرفق يمن والحرق شؤم* رب أكلة تحرم أكلات* قلب الأمر ظهراً لبطن* وجه الحجر وجهة ما* ول حارها من تولى قارها* (الأمر الشديد المعضل) * أظلم عليه يومه* وأين يضع المخنوق يده* لو كان ذا حيلة تحول* رأى الكواكب ظهراً* قال طرفة: وتريه النجم يجري بالظهر* (هلاك القوم) * طارت به العنقاء* وطارت(4/102)
بهمة عقاب ملاع* والمنايا على الحوايا* أتتهم الدهيم ترمي بالرضف* وهذا أمر لا ينادى وليده* التقت حلقتا البطان* وبلغ السيل الزبى* وجاوز الحزام الطبيبن* وتقول العامة: بلغ السكين الغظم* (اليأس والخيبة) * من لي بالسانح بعد البارح* جاء بخفي حنين* أطال الغيبة وجاء بالخيبة* ونظيره: سكت ألفاً ونطق خلفاً* (الظلم ترجع عاقبته على صاحبه) * من حفر مغواة وقع فيها* يعدو على كل امرئ ما يأتمر* عاد الرمي على النزعة* وتقول العامة: كالباحث عن مدية* رمي بحجره وقتل بسلاحه* (نفي المال عن الرجل) * ما له سعنة ولا معنة* ما له هلع ولا هلعة* ما له هارب ولا قارب* ما له عافطة ولا نافطة*(4/103)
ما به نبض ولا حبض* ما له سبد ولا لبد* (إذا لم يكن في الدار أحد) * ما بالدار دعوي ولا بها دبي* وما بها من غريب. ولا بها دوري ولا طوري. وما بها واتر وما بها صافر. وما بها ديار وما بها نافخ ضرمة. وما بها إرم* (استجهال الرجل ونفي العلم) * ما يعرف الحو من اللو. وما يعرف الحي من اللي. ولا هريراً من غرير. ولا قبيلاً من دبير* وما يعرف أي طرفيه أطول وأكبر* وما يعرف من يهره ممن يبره* وأي طرفيه أطول أنسب أبيه أم نسب أمه.
هذه أبيات ذهبت مذهب الأمثال وأكثرها للمتنبي وللحريري
إنعم ولذ فللأمور أواخر ... أبداً كما كانت لهن أوائل
إذا غامرت في شرف مروم ... فلا تقنع بما دون النجوم
إذا اعتاد الفتى خوض المنايا ... فأهون ما يمر به الوحول
إن السلاح جميع الناس تحمله ... وليس كل ذوات المخلب السبع
العبد ليس لحر صالح بأخ ... لو أنه في ثياب الحر مولود
إذا اشتبكت دموع في خدود ... تبين من بكى ممن تباكى
إن الكرام إذا ما أيسروا ذكروا ... من كان يألفهم في المنزل الخشن(4/104)
إن الزرازير لما قام قائمها ... توهمت أنها صارت شواهينا
إن كنت تطلب عزاً فاردع تعباً ... أو فاوض بالذل واختر راحة البدن
أيا حجر الشحذ حتى متى ... تسن الحديد ولا تقطع
إذا لم يعن قول النصيح قبول ... فكل معاريض الكلام فضول
إذا ما الجرح رم على فساد ... تبين فيه تفريط الطبيب
إذا الله لم يحرسك مما تخافه ... فلا السيف قطاع ولا الدرع مانع
إذا ندبوا للقول قالوا فأحسنوا ... ولكن حسن لقول خالفه الفعل
إن السماء إذا لم تبك مقلتها ... لم تضحك الأرض عن شيء من الزهر
بذا قضت الأيام ما بين أهلها ... مصائب قوم عند قوم فوائد
تريدين إدراك المعاني رخيصة ... ولا بد دون الشهد من إبر النحل
صديق عدوي داخل في عداوتي ... وإني لمن ود الصديق ودود
فلا حديقتهم يجنى لها ثمر ... ولا سماؤهم تنهل بالديم
قد تنكر العين ضوء الشمس من رمد ... وينكر الفم طعم الماء من سقم
كريشة بمهب الريح ساقطة ... لا تستقر على حال من القلق
كبر بلا نسب تيه بلا حسب ... فخر بلا أدب هذا من العجب
لم أرد الطير عن شجر ... قد بلوت المر من ثمره
لا خير في حسن الجسم وطولها ... إن لم يزن حسن الجسوم عقول
لا تقطعن ذنب الأفعى وترسلها ... إن كنت شهماً فاتبع رأسها الذنبا
له خلائق بيض لا يغيرها ... صرف الزمان كما لا يصدأ الذهب(4/105)
ما كل من طلب المعالي نافذاً ... فيها ولا كل الرجال فحولا
ما الذي عنده تدار المنايا ... كالذي عنده تدار الشمول
ما أنت أول ساو غره قمر ... ورائد أعجبته خضرة الدمن
ما إن يضر العضب كون قرابه ... خلقاً ولا البازي حقارة عشه
وكيف يبيت مضطجعاً جبان ... فرشت لجنبه شوك القتاد
وما الحسن في وجه الفتى شرف له ... إذا لم يكن في فعله والخلائق
وما في سطوة الأرباب عيب ... ولا في زلة العبدان عار
وما الحداثة عن حلم بمانعة ... قد يوجد الحلم في الشبان والشيب
وما منزل اللذات عندي بمنزل ... إذا لم أبجل عنده وأكرم
وما كل ناو للجميل بفاعل ... ولا كل فعال لم بمتمم
وما الخيل إلا كالصديق قليلة ... وإن كثرت في عين من لا يجرب
وكل امرئ يولي الجميل محبب ... وكل مكان ينبت العز طيب
ومن يجد الطريق إلى المعالي ... فلا يذر المطي بلا سام
واستكبر الأخبار قبل لقائه ... فلما التقينا صغر الخبر الخبر
ومن نكد الدنيا على الحران يرى ... عدواً له ما من صداقته بد
ومن البلية عذل من لا يرعوي ... عن جهله وخطاب من لا يفهم
ومن العداوة ما ينالك نفعه ... ومن الصداقة ما يضر ويؤلم
وكل يرى طرق الشجاعة والندى ... ولكن طبع النفس للنفس قائد
ورب كئيب ليس تندى جفونه ... ورب كثير الدمع غير كئيب(4/106)
وفي تعب من يجحد الشمس ضوءها ... ويجهد أن يأتي لها بضريب
وإن كان ذنبي كل ذنب فإنه ... محا الذنب كل المحو من جاء تائبا
وإطراق طرف العين ليس بنافع ... إذا كان طرف القلب ليس بمطرق
وكل امرئ يوماً سيعرف سعيه ... إذا حصلت عند الإله الحصائل
وقد نبح الكلب السحاب ودونها ... مهامه تغشى نظرة المتأمل
ومن يأمن الدنيا يكن مثل قابض ... على الماء خانته فروج الأصابع
ووضع الندى في موضع السيف العلى ... مضر كوضع السيف في موضع الندى
وما انتفاع أخي الدنيا بناظره ... إذا استوت عنده الأنوار والظلم
وهل يدعي الليل الدجوجي أنه ... تضيء ضياء الشمس شهب ظلامه
ولا تشم كل خال لاح بارقه ... ولو تراءى هتون السكب ثجاحا
والنار في أحجارها مخبوءة ... لا تلتظي إن لم تثرها الأزند
والهم يخترم الجسيم نحافة ... ويشيب ناصية الصبي ويهرم
ومن ينشد الركبان عن كل غالب ... فلا بد أن يلفي بشيراً وناعيا
وأول ما يكون الليث شبلاً ... ومبدأ طلعة القمر الهلال
والنجم تستصغر الأبصار صورته ... والذنب للطرف لا للنجم في الصغر
وكم مضمر بغضاً يريك محبة ... وفي الزند نار وهو في اللمس بارد
وما كل أزهار الرياض أريجه ... ولا كل أطيار الفلا تترنم
وما كل من هز الحسام بضارب ... وملا كل من أجرى اليراع بكاتب
وما كل وحش ترى ضيغماً ... ولا كل عود يسمى عفارا(4/107)
يخفي العداوة وهي غير خفية ... نظر العدو بما أسر يبوح
يا جل ما بعدت عليك بلادنا ... وطلابنا فارعد بأرضك وأبرق
يمر وعيد الظالمين بسمعه ... كما طن في لوح اللجين ذباب
يلقاك والعسل المصفى يجتنى ... من قوله ومن الفعال العلقم
نخبة من تغريد الصادح لابن حجة الحموي
من عرف الله أزال التهمة ... وقال كل فعله للحكمة
ومن أغاث البائس الملهوفاً ... أغاثه الله إذا أخيفا
فإن من خلائق الكرام ... رحمة ذي البلاء والأسقام
وإن من شرائط العلو ... العطف في البؤس على العدو
لا تغترر بالحفظ والسلامة ... فإنما الحياة كالمدامة
والعمر مثل الكأس والدهر القذر ... والصفو لا بد له من الكدر
فإنما الرجال بالإخوان ... واليد بالساعد والبنان
وموجب الصداقة المساعدة ... ومقتضى المودة المعاضده
وإن رأيت النصر قد لاح لكا ... فلا تقصر واحترز أن تهلكا
وأضعف الملوك طراً عقدا ... من غره السلم فأقصى الجندا
لا تيأسن من فرج ولطف ... وقوة تظهر بعد ضعف
تنال بالرفق وبالتأني ... ما لم تنل بالحرص والتعني
لا خير في جسامة الأجسام ... بل هو في العقول والأفهام
لا تحتقر شيئاً صغيراً محتقر ... فربما أسالت الدم الإبر(4/108)
كم حسن ظاهره قبيح ... وسمج عنوانه مليح
فالعاقل الكامل في الرجال ... لا ينثني لزخرف المقال
ما طاب فرع أصله خبيث ... ولا زكا من مجده حديث
والبغي فاحذره وخيم المرتع ... والعجب فاتركه شديد المصرع
والغدر بالعهد قبيح جداً ... شر الورى من ليس يرى العهدا
من قصيدة أبي العتاهية المثلية
إن الشباب والفراغ والجده ... مفسدة للمرء أي مفسده
يغنيك عن كل قبيح تركه ... يرتهن الرأي الأصيل شكه
ما عيش من آفته بقاؤه ... نغص عيشاً كله فناؤه
يا رب من أسخطنا بجهده ... قد سرنا الله بغير حمده
ما تطلع الشمس ولا تغيب ... إلا لأمر شأنه عجيب
لكل شيء معدن وجوهر ... وأوسط وأصغر وأكبر
وكل شيء لاحق بجوهره ... أصغره متصل بأكبره
من لك بالمحض وكل ممتزج ... وساوس في الصدر منه تختلج
الخير والشر هما أزواج ... لذا نتاج ولذا نتاج
من لك بالمحض وليس محض ... يخبث بعض ويطيب بعض
والخير والشر إذا ما عدا ... بينهما بون بعيد جدا
عجبت حتى غمني السكوت ... صرت كأني حائر مبهوت
كذا قضى الله فكيف أصنع ... الصمت إن ضاق الكلام أوسع(4/109)
الباب السادس في الأمثال والإشارات
الملك المتروي
ذكر الحكماء. وذوو الفضل من العلماء. أنه كان في بعض الأمصار. تاجر من أعيان التجار. وكان له غلام مخايل السعادة من جبينه لائحة. وروائح النجابة من أذيال شمائله فائحة. فأوسق له أبوه مركباً من المتاجر والمنافع. وأخذ في تعبية البضائع. وسلمه إلى الهواء والماء. بعد أن توكل على رب السماء. فسار بعض أيام. وهو في أهنأ مرام. وأطيب عيش ومقام. الماء رائق. والهواء موافق. والنكد مفارق. والسرور مرافق. وبينما السفينة من نسف العواصف أمينة. تجاري السهم والطير. وتباري الدهم في السير. وإذا بالرياح هاجت. والأمواج ماجت. وأثباج البحر تصادمت. وأطواد الأمواج على العرفاء تلاطمت. فعجز ذلك الملاح وترك شيمة الوقار والسكينة. ورقم نقش الحروف في ألواح السفينة. فشاهدوا من الهواء الأهوال. وغدا قاع البحر كالجبال. وصار طائر ذلك الغراب بمن فيه من الأصحاب. كأحوال الدنيا بين صعود وهبوط. وقيام وسقوط. طوراً يسامون الأفلاك(4/110)
وبما مرقوا منه من تحت الزور. فلم يزالوا عاجزين حيارى سكارى وما هم بسكارى يتناشدون:
وفلك ركبناه والبحر ذو ... هواء فثار وحار ومارا
فطوراً علونا السماء وطوراً ... رمينا إلى الأرض منها انحدارا
وآخر الأمر نسفت السفينة الرياح وأوعر الله سهلها. وخرقها فأغرقها وأهلها. وذهب البحر بأموالها وأرواحها. وتعلق الغلام بلوح من ألواحها. واستمر تقذفه الأمواج. وتصطدم به أثباج البحر الهياج. إلى أن وصل إلى ساحل. فخرج وهو كئيب ناحل. وصعد إلى جزيرة. فجعل يمشي في جناتها إلى أن أداه التوفيق. إلى فم طريق. فسار في تلك الجادة. وهداية الله له مادة. فانتهى به المسير إلى أن تراءى له سواد كبير. وبلغ مملكة عظيمة. وولاية جسيمة. ورأى على بعد مدينة مسورة حصينة. فعمد إلى ذلك البلد. وتوجه نحوه وقصد. فاستقبله طائفة من الرعال. نساء ورجال. يتبعهم جنود مجندة. وطوائف محشدة. من طبول تضرب. وفوارس تلعب. وزمور تزعق. وألسنة بالثناء تنطق. حتى إذا وصلوا إليه تراموا عليه. وأكبوا بين يديه. يقبلون يديه ورجليه. مستبشرين برؤيته. متبركين بطلعته. ثم ألبسوه الخلع السنية. وقدموا له فرساً علية. بكنبوش ذهب. وشرج مغرق. ووضعوا(4/111)
له التاج على المفرق. ومشوا في الخدمة بين يديه. والجنائب في المواكب تجر لديه. ينادون: حاشاك وإليك. سلطان الناس قادم عليك. حتى وصلوا إلى المدينة. ودخلوا قلعتها الحصينة. ففرشوا شقق الحرير. ونثروا النثار الكثير. وأجلسوه على السرير. وأطلقوا مجامر الند والعبير. ووقف في خدمته الصغير والكبير. والمأمور والأمير والدستور والوزير. وأنشدوه:
قدمت قدوم البدر بيت سعوده ... وأمرك فينا صاعد كصعوده
(قالوا) : إعلم يا مولانا أنك صرت لنا سلطاناً ونحن كلنا عبيدك. وتابع مرادك ومريدك. فافعل ما تختار. وتحكم في الكبار منا والصغار. وأمر فامتثال أمرك علينا محتوم. وما منا إلا له في خدمتك مقام معلوم. فجعل يتفكر في أمره ومبداه. ويتأمل ما صار إليه ويتدبر في منتهاه. فقال: إن هذا الأمر لا بد له من سبب. ولا بد له من آخر ومنقلب. فإنه لم يصدر في عالم الكون سدى. وإن لهذا اليوم من غير شك غداً. وإن الصانع القديم القادر الحكيم. السميع العليم البصير الحي المدير الكريم. لم يقدر هذه الأفعال. على سبيل الإهمال. ولم يحدث حدثاً لعباً ولا عبثاً. وجعل يلازم هذه الأفكار. آناء الليل وأطراف النهار. وهو مع ذلك قائم بشكر النعمة. ملازم باب مولاه بالطاعة والخدمة. واضع الأشياء في محلها. والمناصب في يد أهلها. ملتفت إلى أحوال الرعية عامل بينهم بالعدل(4/112)
والسوية. متعهد أمور الكبار والصغار. بأنواع الإحسان وأصناف المبار. مؤسس قواعد المملكة والسلطنة على أركان العقل والعدل مهما أمكنه. متفحص عن مصالح المملكة. سالك مع كل من أرباب الوظائف ما يقتضي مسلكه. ثم وقع اختياره بين أولئك الجماعة على شاب جليل البراعة. له في سوق الفضل والوفاء أوفر بضاعة. متصف بأنواع الكمال متحل بزينة الأدب والجمال. فاتخذه وزيراً. وفي أموره ناصحاً ومشيراً. فجعل يلاطفه ويرضيه. ويكرم ويدنيه. ويفيض عليه من ملابس الإنعام. وخلع الأفضال والإكرام. ما ملك به حبه قلبه. واستصفى خالص وده ولبه. وسكن في سويدائه. وتمكن به من ضمير أحشائه. إلى أن اختلى به وتلطف في خطابه. واستنصحه في جوابه. وسأله عن أمر إمرته وموجب رفعته وسلطته من غير معرفة الرفاق. ولا أهلية ولا استحقاق. ولا هو من بيت الملك. ولا في حر السلطة له فلك. ولا معه مال ولا خيل يهديها. ولا رجال ولا معرفة يدلي بها. ولا شجاعة وفضيلة يهتدي بتهذيبها. فقال ذلك الشاب في الجواب: اعلم أيها الملك الأعظم أن هذه البلدة وعساكر إقليمها وجنده قد اخترعوا أمراً. واصطلحوا على عادة تجرى. سألوا الرحمان أن يقبض لهم على أوان. شخصاً من جنس الإنسان. يكون عليهم ذا سلطان. فأجابهم إلى ذلك. فسلكوا في أمره هذه الممالك. وذاك أنهم في اليوم الذي قدمت عليهم. يرسل الله تعالى(4/113)
رجلاً من عالم الغيب إليهم. فيستقبلونه كما استقبلوك. ويسلكون معه طريقة الملوك. من غير نقص ولا زيادة. صارت هذه لهم عادة. فيستمر عليهم سنة. في هذه المرتبة الحسنة. فإذا انقضى الأجل المعدود. وجاء ذلك اليوم الموعود. عمدوا إلى ذلك السلطان وقد صار فيهم ذا إمكان ومكان وعلقة ونشب. وإخاء ونسب. وثبتت له أوتاد. وصار له أهل وأولاد. جروه برجله من التخت. وسلبوه ثوب العزة والرخت. وألبسوه ثوب الذل والنكال. وأوثقوه بالسلاسل والأغلال. وحمله الأهل والأقارب. وأتوا به إلى بحر قريب فوضعوه في قارب. وسلموه إلى موكلين ليوصلوه إلى ذلك الجانب. فيوصلوه إلى ذلك البر. وهو قفر أغبر. ليس به أنيس ولا رفيق. ولا جليس ولا صديق. ولا زاد ولا ماء. ونشوء ولا نماء. ولا مغيث ولا معين. ولا قريب ولا قرين. ولا قدرة ولا إمكان. على الوصول إلى العمران. ولا ظل ولا ظليل. ولا إلى الخلاص سبيل. ولا إلى طريق النجاة دليل. فيستمر هناك فريداً طريداً إلى أن يهلك عطشاً وجوعاً. لا يملك إقامة ولا يستطيع رجوعاً. ثم يستأنف أهل هذه البلاد. ما لهم من فعل معتاد. فيخرجون بالأهبة الكاملة. إلى تلك الطريق السابلة. فيقبض الله تعالى لهم رجلاً. فيفعلون معه مثل ما فعلوا مع غيره قولاً وعملاً. وهذا دأبهم وديدنهم. وقد ظهر لك ظاهرهم وباطنهم. فقال ذلك الغلام المفلح لذلك(4/114)
لوزير المصلح: فهل اطلع أحد ممن تقدم على عاقبة هذا المأثم. قال: كل عرف ذلك. وتحقق أنه عن قريب هالك. لكن غرور السلطة يلهيه. وسرور التحكم والتسلط يطغيه. وحضور اللذة الحاصلة لسوء العاقبة ينسيه. ولا يفيق من غفلته ويستيقظ من رقدته. إلا وعامه قد مضى. والأجل المضروب قد انقضى. وقد أحاطت به نوازل البلاء. وهجم عليه بوازل القضاء. فيستغيث ولا مغيث. وينادي الخلاص ولات حين مناص. فلما سمع الغلام هذا الكلام. أطرق مفكراً. وبقي متحيراً. وعلم أنه إن لم يتدارك أمره ويتلاف خيره وشره ويتدبر حاله. ومصيره ومآله. هلك هلاك الأبد. ولم يشعر به أحد. فأخذ يفكر في وجه
الخلاص. والتفصي من شرك الاقتناص. ثم قال للوزير الناصح الخبير: أيها الرفيق الشفيق. والنصوح الصديق. جزاك الله خيراً. وكفاك ضيماً وضيراً. إني قد فكرت في شيء ينفع نفسي ويحييها. ويدفع شر هذه البلية التي وقعت فيها. ولم يبق جهة مخلص. من هذا المقنص. إلا طريق واحد. وسبيل غير متعاهد. وهو أن تأخذ طائفة من البنائين وجماعة من المهندسين والنجارين. فتأمرهم أن يبنوا لنا هناك مدينة. ويشيدوا لنا فيها أماكن مكينة. ومخازن وحواصل. وتملأها من الزاد المتواصل. من المآكل الطيبة. والأطعمة والأشربة اللذيذة المستعذبة. ولا تغفل عن الإرسال. ولا تجيز الإمهال والإهمال. في الظهيرة والأسحار والغدو والآصال. إذ(4/115)
أوقاتنا محدودة. وأنفاسنا معدودة. وساعة تمضي منها غير مردودة. بحيث إذا نقلنا من هذه الأديار. وطرحنا في تلك المهامة والقفار. وجفانا الأصحاب. وتخلى الأخلاء عنا والأحباب. وأنكرنا المعارف والأوداء. واحتوشتنا في تلك البيداء. فنون الداء. نجد ما نستعين به على إقامة الأود. مدة إقامتنا في ذلك البلد. فأجاب بالسمع الطاعة. واختار من البنائين جماعة. وأحضر المراكب. وقطع البحر إلى ذلك الجانب. وجعل الملك يمدهم بالآلات والأدوات. على عدد الأنفاس ومدى الساعات. إلى أن أنهى البناؤون العمارة. وأكملوا حواصل الملك وداره. وأجروا فيها الأنهار. وغرسوا فيها الأشجار. فصارت تأوي إليها الأطيار. ويترنم فيها البلبل والهزار. وغدت من أحسن الأمصار. وبنوا حواليها الضياع والقرى. وزرعوا منها الوهاد والثرى. ثم أرسل إليها ما كان عنده من الخزائن. ونفائس الجواهر والمعادن. وجهز الخدم والحشم. وصنوف الاستعدادات من النعم. فما انقضت مدة ملكه. ودنت أوقات هلكه. إلا ونفسه إلى مدينته تاقت. وروحه إلى مشاهدتها اشتاقت. وهو مستوفز للرحيل. ورابض للنهوض والتحويل. فلما تكامل له في الملك العام. لم يشعر إلا وقد أحاط به الخاص والعام. ممن كان يفديه بروحه. من خادمه ونصوحه. ومن كان سامعاً لكلمته. من أعيان خدمه وحشمه. وقد تجردوا لجذبه من السرير. ونزع ما عليه من لباس الحرير ومشوا على عادتهم القديمة.(4/116)
وسلبوه مملكته العظيمة. وزالت الحشمة. والكلمة والحرمة. وشدوا وثاقه وذهبوا به إلى الحراقة ووضعوه. وقد ربطوه في المركب الذي هيأوه. وأوصلوه إلى ذلك البر من البحر. فما وصل إليه إلا وقد أقبلت خدمه عليه. وتمثلت طوائف الحشم والناس لديه. ودقت البشائر لمقدمه. وحل في سروره المقيم ونعمه. واستمر في أتم سرور. واستقر في أوفر حبور (ملخص عن فاكهة الخلفاء لابن عربشاه) .
نخبة من كشف الأسرار عن حكم الطيور والأزهار لابن غانم المقدسي
المقدمة
لقد أخرجني الفكر يوماً لأنظر ما أحدثته أيدي القدم في الحدث. وأوجدته الحكمة البالغة لا للعبث. فانتهيت إلى روضة قد رق أديمها. وراق نسيمها. ونم طيبها. وغنى عندليبها. وتحركت عيدانها. وتمايلت أغصانها. وتبلبلت بلابلها. وتسلسلت جداولها. وتسرحت أنهارها. وتضوعت أقطارها. وتنمقت أزهارها. وصوت هزارها. فقلت: يا لها من روضة ما أهناها. وخلوة ما أصفاها. فيا ليتني استصحبت صديقاً حميماً. يكون لطيب حضرتي نديماً. فناداني لسان الحال. في الحال. أتريد نديماً أحسن مني. أو مجيباً أفصح مني. وليس في حضرتك شيء إلا وهو ناطق بلسان حاله. مناد على نفسه بدنو ارتحاله. فاسمع له إن كنت من رجاله.(4/117)
ألم تر أن نسيم الصبا ... له نفس نشره صاعد
فطوراً ينوح وطوراً يفوح ... كما يفعل الفاقد الواجد
وسكب الغمام وندب الحمام ... إذا ما شكا غصنه المائد
ونور الصباح ونور الأقاح ... وقد هزه البارق الراعد
ووافى الربيع بمعنى بديع ... يترجمه ورده الوارد
وكل لأجلك مستنبط ... لما فيه نفعك يا جاحد
وكل لآلائه ذاكر ... مقر له شاكر حامد
وفي كل شيء له آية ... تدل على أنه واحد
إشارة النسيم
فأول ما سمعت همهمة النسيم. يترنم بصوته الرخيم. يقول بلسان حاله. مفصحاً عن سقمه وانتحاله: أنا لين الأعطاف. هين الانعطاف. سريع الائتلاف. يعترف بلطفي ذوو الألطاف. ولولا وجودي في الجو لجاف. ولا تظن أن اختلاف أهوائي. سبب إغوائي. بل اختلف في الفصول الأربع. لما هو أصلح لك وأنفع. فأهب في الربيع شمالاً فألقح الأشجار. وأعدل فصل الليل والنهار. وأهب في الصيف صباً فأنمي الثمار. وأصفي الأشجار. وأهب في الخريف جنوباً فتأخذ كل ثمرة حد طيبها. وتستوفي حق تركيبها. وأهب في الشتاء دبوراً ليخف عن كل شجرة حملها. ويجف ورقها ويبقى أصلها. فأنا الذي تنمو بي الثمار. وتزهو بي الأزهار.(4/118)
وتسلسل بي الأنهار. وتلقح الأشجار.
إشارة الورد
ثم سمعت إشارة الشحارير بأفنانها. والأزاهير في تلون ألوانها. إذ قام الورد يخبر عن طيب وروده. ويعرف بعرفه عن شهوده. ويقول أنا الضيف الوارد بين الشتاء والصيف. أزور زيادة الطيف. فاغتنموا وقتي فالوقت سيف. فأنا الزائر وأنت المزور. والطمع في بقائي زور. ثم من علامة الدهر المكدور. والعيش الممرور. أنني حيث ما نبت دائر الأشواك تزاحمني. وتجاورني. فأنا بين الأدغال مطروح. وبنبال شوكي مجروح. وهذا دمي على ما عندي يلوح. فهذا حالي وأنا أشرف الوراد. وألطف الأوراد. فمن ذا الذي سلم من الأنكاد. ومن صبر على مرارة الدنيا فقد بلغ المراد. فبينما أنا أرفل في حلل النضارة. إذ اقتطفتني أيدي النظارة. فأسلمتني من بين الأزاهير. إلى ضيق القوارير. فيذاب جسدي. وتحرق كبدي. ويمزق جلدي. ويقطر دمعي الندي. فلا يقام بأودي:
فإن غبت جسماً كنت بالروح حاضراً ... فقربي سواء إن تأملت والبعد
وبالله من أضحى من الناس قائلاً ... كأنك ماء الورد إذ ذهب الورد
إشارة المرسين
فلما سمع المرسين كلام الورد. قال قد باح النسيم بسره. ونشر السحاب عقود دره. وتضوع البهار بذخره. وتبهرج الربيع(4/119)
بقلائد فخره. وخلع الورد عذاره. وسحب عن الروض الأنيق أزهاره. فقم بنا نتفرج. ونتيه بحسننا ونتبهرج. فأيام السرور نختلس. وأوقاته نحتبس. فلما سمع الورد كلام المرسين. قال له: يا أمير الرياحين. بئس ما قلت. ولو جمع بك الغضب ما صلت. فقد نزلت عن شيم الأمراء بعدم تأملك الصواب من الآراء. فمن المصيب إذا زللت. ومن الهادي إذا ضللت. تأمر باللهو عندك. وتحرض على النزه جندك. وأمير الرعية. صاحب الفكرة الردية. فلا يعجبك حسنك. إذا تمايل غصنك. واخضر أوراقك. وأكرم أعراقك. فأيام الشباب سريعة الزوال. دارسة الطلال. كالطيف الطارق. والخيال المارق. وكذلك الشباب. أخضر الجلباب والثياب. مختلف الأجناس. كاختلاف الحيوان بين الناس. فمنها ما يشم ويذبل. ويحول خطابه وينقل. وتطرقه حوادث الأيام. ويعود مطروحاً على الأكوام. ومنها ما يؤكل ثماره. وتجد في الناس آثاره. والسالم من النار أقله. وإياك والاغترار. في هذه الدار. فإنما أنت فريسة لأسد الحمام. وبعد فقد نصحتك والسلام.
إشارة النرجس
فأجابه النرجس من خاطره. وهو ناظر لمناظره. فقال: أنا رقيب القوم وشاهدهم. وسميرهم ومنادمهم. وسيد القوم خادمهم. أعلم من له همة. كيف تكون شروط الخدمة. أشد للخدمة وسطي.(4/120)
وأوثق بالعزيمة شرطي. ولا أزال واقفاً على قدم. وكذلك وظيفة من خدم. لا أجلس بين جلاسي. ولا أرفع إلى النديم راسي. ولا أمنع الطالب طيب أنفاسي. ولست لعهد من وصلني بناسي. ولا على من قطعني قاسي. وكاسي بصفوه لي كاسي. بني على قضب الزمرد أساسي. وجعل من اللجين والعسجد لباسي. أتلمح تقصيري فأطرق إطراق الخجل. وأفكر في مصيري فأحدق لهجوم الأجل. فإطراقي اعتراف بتقصيري. وإطلاقي نظر إلى ما فيه مصيري:
قمت من ذل على قدمي ... مطرقاً بالراس من زللي
لم يكن في القادمين غداً ... نافعي علمي ولا عملي
مقلتي إنسانها أبداً ... قط لا يرتد من وجلي
عجلاً في خيفة وكذا ... خلق الإنسان من عجل
إشارة البان
فلما نظر الأشجار إلى طرب البان بينهم. وتمايله دونهم. لامه على كثرة تمايله. وعنفوه على إعجابه بشمائله. فتمايل هنالك البان. وقال: قد ظهر عذري وبان. فمن ذا يلومني على تمايل أغصاني. واهتزاز أركاني. وأنا الذي بسطت لي الأرض مطارقها. وأظهرت لي الرياض زخارفها. وأهدت لي نسمات الأسحار لطائفها وظرائفها. فإذا رأيت ساعة نشور أموات النبات قد اقتربت. ورأيت الأرض قد اهتزت وربت. وحان ورود وردي. فأنظر إلى الورد وقد ورد.(4/121)
وإلى الورد وقد شرد. وإلى الزهر وقد اتقد. وإلى الحب وقد انعقد. وإلى الغصن اليابس وقد كسي بعدما انجرد. وإلى اختلاف المطاعم والمشارب وقد اتحد. فأعلم أن صانعها واحد أحد. وصاحبها صمد. وموجدها بالقدرة قد انفرد. فلا يفتقر إلى أحد. ولا يستغني عنه أحد. ولا يشاركه في ملكه أحد. فهنالك تمايلت قدودي. طرباً بطيب شهودي. وتبلبلت بلابل سعودي. على تحريك عودي. ثم تدركني عناية معبودي. فأفكر في عدم وجودي. وفوات مقصودي. فأنعطف على الورد فأخبره بورودي. وأخلع عليه من برودي. وأستخبره ابن مقصدي وورودي. فقال لي: وجودك كوجودي. وركوعك كسجودي. أنت بخضرة قدودك. وأنا بحمرة خدودي. فهلم نجعل في النار وقودك ووقودي. قبل نار خلودك وخلودي. فقلت له: إذا صح الائتلاف. ورضيت لنفسك بالتلاف. فليس للخلاف خلاف. فنقتطف على حكم الوفاق. ونختطف من بين الرفاق. فتصعد أنفاسنا بالاحتراق. وتقطر دموعنا بلا إشفاق. فإذا فنينا على صور أشباحنا. بقينا بمعاني أرواحنا. فشتان بين غدونا ورواحنا.
إشارة البنفسج
فتنفس البنفسج الصعداء. وتأوه تأوه البعداء. وقال: طوبى لمن عاش عيش السعداء. ومات موت الشهداء. إلى كم أذوب بالذبول كمداً. وأكتسي بالنحول أثواباً جدداً. أفنتني(4/122)
الأيام فما أطالت لي أمداً. وغيرتني الأحكام فما أبقت لي جلداً ولا جلداً. فما أقصر ما قضيت هيشاً رغداً. وما أطول ما بقيت يابساً مجرداً. وجملة خصولي. أنني أؤخذ أيام حصولي. فأقطع من أصولي. وأمنع من وصولي. وكم ممن يتقوى على ضيفي. ويعسف بي مع ترفي ولطفي وظرفي. فيتنعم من حضرتي ويستحليني من نظرتي. ثم لا ألبث إلا يوماً أو بعض يوم. حتى أسأم بأبخس سوم. ويعاد علي بعد الثناء باللوم. فأمسي مما لقيت ممعوكاً. وبأيدي الحوادث معروكاً. فإذا أصبحت يابساً. ومن النضارة آئساً. أخذني أهل المعاني. من هو للحكم يعاني. فتفشش بي الأورام الفاشية. وتلين الآلام القاسية. وتلطف بي الطبائع العاتية. وتدفع بدوائي الأدواء العادية. فالناس ممتعون بيابسي ورطبي. جاهلون بعظم خطبي. غافلون عما أودع بي من حكم ربي. وإني لمن يتدبرني عبرةٌ لمن اعتبر. وتذكرة لمن اذكر. وفي مزدجر لمن ازدجر:
ولقد عجبت من البنفسج إذ غدا ... يحكي بأوراق على أغصانه
جيشاً طوارفه الزبرجد رصعت ... أحجار ياقوت على خرصانه
فكأنما أعداؤه بجلادة ... شيلت رؤوسهم على عيدانه
إشارة الخزام
فلما رأى الخزام. ما يكابده الزهر من القيد والالتزام. فمنها ما يضام. وينثر بعد النظام. وبالثمن البخس يسام. قال:(4/123)
ما لي والزحام. لا أعاشر اللئام. ولا أسمع قول اللوام. وألزمت من بين الأزهار. أن لا أجاور الأنهار. ولا أقف على شفا جرف هار. أرافق الوحش في النفار. وأسكن البراري والقفار. أحب الخلوات. وأستوطن الفلوات. فلا أزاحم في المحافل. ولا تقطفني أيدي الأسافل. ولا أحمل إلى اللاعب والهازل. لكنني بعيد عن المنازل. تجدني في أرض نجد نازل. رضيت بالبر الفسيح. وقنعت بمجاورة الغار والشيح. تعبق بنشري الريح. فتحملني إلى ذوي التقديس والتسبيح. لا ينشقني إلا من له ذوق صحيح. وشوق صريح. وهو على زهد المسيح. وصبر الذبيح. فأنا رفيق السياح في الغدو والرواح. فلا أحضر على منكر. ولا أجلس عند من يشرب ويسكر. فأنا الحر الذي لا يباع في الأسواق. ولا ينادى علي بالنفاق في سوق النفاق. ولا ينظرني إلا من شمر عن ساق. وركب جواد العزيمة وساق. فلو رأيتني في البوادي. والنسيم يهيم بي في كل وادي أعطر البادي. بعطري البادي. وأروح النادي. بنشري النادي. إن عرض بذكري الحادي. حن إلي كل رائح وغادي.
إشارة الشقيق
فتنفس الشقيق بين ندمائه. وهو مضرج بدمائه. واستوى على ساقه ووثب. وقال: يا لله العجب. ما بال لوني باهي. وحسني زاهي. وقدري بين الرياحين واهي. فلا أحد بي يباهي. ولا ناظر(4/124)
إلي شاهي. فليت شعري ما الذي أسقط جاهي. أرفل في ثوبي القاني. وأنا مدحوض عند من يلقاني. فلا أنا في الحضرة حاضر. ولا يشار إلي بالنواظر. ولا أصافح بالمناخر. وما برحت في عدد الرياحين آخر. فأنا طريد عن صحبي. بعيد عن قربي. وما أظن ذلك إلا من سواد قلبي. فلما رأيت باطني محشواً بالذنوب. وقلبي مسوداً بالعيوب. علمت أن الله تعالى لا ينظر إلى الصور. ولكن ينظر إلى القلوب. فكان إعجابي بأثوابي سبباً لحجابي عن ثوابي. فكنت كالرجل المنافق الذي حسنت سيرته. وقبحت سريرته. وراق في المنظر سيمته. وقل في المخبر قيمته. ولو صلح قلبي لصلح أمري. ولو شاء ربي لطاب بين الخلائق ذكري. وفاح بين الأزاهير نشري. لكن الطيب لا يفوح إلا ممن يطيب. وعلامات القبول لا تلوح إلا على من رضي عنه الحبيب:
أنا قلبي قد سودته ذنوبي ... وقضى لي معذبي بشقائي
من رآني يظن خيراً ولكن ... خالقي عالم بأني مرائي
قد تحسنت منظراً ولباساً ... ورزايا محشوة بحشائي
وإحيائي إذا سئلت وما لي ... من جواب واخجلتي وإحيائي
لو كشفت الستور عن سوء حالي ... لرأيت السرور للأعداء
إشارة السحاب
فلما حسن العتاب. وطاب فصل الخطاب. دمع السحاب.(4/125)
فانبسط وساح في فسيح الرحاب: سبحان الله أينكر فضلي عليكم. وأنا الباعث طلي ووبلي إليكم. وهل أنتم إلا أطفال جودي. ونسل وجودي. كم ملأت البر براً ببري. والبحر دراً بدري. فلم يزل ثدي دري عليه دراراً. ومزيد بري إليه مدراراً. فإذا انقضت أيام الرضاع ولم يبق إلا الفطام. أقطع ثديي عنه فيصبح لأهل الدنيا حطام. فكأن بعثه في انسكاب عبراتي. ونشوره في بعث قطراتي. فالكل في الحقيقة أطفالي. ولو اعترفوا بحقي لكانوا من الجو أطفالي.
إشارة الهزار
(قال) : فبينما أنا مصغ لمنادمة أزهارها. على حافات أنهارها. إذ صاحت فصاحة أطيارها من أوكارها. فأول ما صوت الهزار. ونادى على نفسه بخلع العذار. وباح بما يكاتمه من الأسرار. وقال بلسان حاله: أنا الهائم اللهفان. الصادي الظمآن. إذا رأيت فصل الربيع قد حان. ومنظره البديع قد آن. تجدني في الرياض فرحان. وفي الغياض أردد الألحان. أغني وأطرب فأنا بنغمتي طربان. ومن نشوتي سركان. فإذا زمزم النسيم وصفقت أوراق الأغصان. أرقص على العيدان. فكأنما الزهر والنهر لي عيدان. وأنت تحسبني في ذلك عابثاً. لا والله ولست باليمين حانثاً. وإنما أنوح حرباً لا طرباً. وأبوح ترحاً لا فرحاً. لأني ما وجدت روضة.(4/126)
إلا تبلبلت على بلبالها. ولا نزهة إلا نحت على اضمحلالها. ولا خضرة إلا بكيت على زوالها. لأني ما رأيت صفوة إلا تكدرت. ولا عيشة حلوة إلا تمررت. فقرأت في مثال العرفان. كل من عليها فان. فكيف لا أنوح. على حال يحول. ووقت يدول. وعيش يزول. ووصل عن قريب مفصول. وهذه الجملة من شرح حالي تغني عن الفصول:
حديث ذاك لحمى روحي وريحاني ... فلا تلمني إذا كررت ألحاني
روض به الراح والريحان قد جمعا ... وحضرة ما لها في حسنها ثاني
من أبيض يققٍ أو أصفر فقع ... أو أخضر رقق أو أحمر قاني
والأنس دان وشمل الوصل مجتمع ... هذا هو العيش إلا أنه فاني
إشارة الباز
فنادى الباز. وهو في ميدان البراز. ويحك لقد صغر جرمك. وكبر جرمك. وقد أقلقت بتغريدك الطير. وإطلاق لسانك يجلب إليك الضير. وما يفضي بك إلى خير. أوَ ما علمت أن ما يهلك الإنسان إلا عثرات اللسان. فلولا لقلقة لسانك. ما أخذت من بين أقرانك. وحبست في ضيق الأقفاص. وسد عليك باب الخلاص. وهل ذلك إلا ما جناه عليك لسانك. فافتضح به بيانك. فلو اهتديت بسمتي. واقتديت بصمتي. لبرئت من الملامة. وعلمت أن الصمت رفيق السلامة. ألم ترني لزمت الصموت. وألفت(4/127)
السكوت. فكان الصمت جمالي. ولزوم الأدب كمالي. أقتنصت من البرية جبراً. وجلبت إلى بلاد الغربة قهراً. فلا بالسريرة بحت. ولا على الأطلال نحت. بل دأبت حين غربت. وقربت حين جربت. وامتنحت حين امتحنت. وعند الامتحان. يكرم المرء أو يهان. فلما رأى مؤدبي تخليط الوقت. خاف علي من المقت. فكم بصري بكمة: لا تمدن عينيك. وعقد لساني بعقدة: لا تحرك به لسانك. وقيدني بقيد: لا تمش في الأرض مرحاً. فأنا في وثاقي لا أتألم. ومما ألاقي لا أتكلم. فلما كممت وأدبت. وجربت وهذبت. استصلحني مؤدبي لإرسالي إلى الصيد. وزال عني ذلك القيد. فأطلقت وأرسلت. فما رفعت الكمة عن عيني. حتى أصلحت ما بينه وبيني فوجدت الملوك خدامي. وأكفهم تحت أقدامي:
أمسكت عن فضل الكلام لساني ... وكففت عن نظر الدنا لساني
ما ذاك إلا أن قرب منيتي ... لزخارف اللذات قد أنساني
أدبت آداب الملوك وعلمت ... روحي هناك ضنائع الإحسان
أرسلت من كف الملوك مجرداً ... وجعلت ما أبغيه نصب عياني
حتى ظفرت ونلت ما أملته ... ثم استجبت إليه حين دعاني
هذا لعمري رسم كل مكلف ... بوظائف التسليم للإيمان
إشارة الحمام
(قال) : فبينما أنا مستغرق في لذة كلامه. معتبر بحكمه(4/128)
وأحكامه. إذ رأيت أمامه حمامة. قد جعلت طوق العبودية في عنقها علامة. فقلت لها: حدثيني عن ذوقك وشوقك. وأوضحي لي ما الحكمة في تطويس طوقك. فقالت: أنا المطوقة بطوق الأمانة. المقلدة بتقليد الصيانة. ندبت لحمل الرسائل. وتبليغ الوسائل للسائل. ولكني أخبرك عن القصة الصحيحة. فإن الدين النصيحة. ما كل طائر أمين. ولا كل حالف يصدق في اليمين. ولا كل سالك من أصحاب اليمين. وإنما المخصوص بحمل الأمانة جنسي. فيشترى بالتحريج. ويعرف الطريق بالتدريج. فأقول: حملوني فأحمل كتب الأسرار. ولطائف الرسائل والأخبار. فأطير وعقلي مستطير. خائفاً من جارح جارح. حاذراً من سائح سابح. جازعاً من صائد ذابح. فأهاجر. وأكابد الظمأ في الهواجر. وأطوي على الطوى في المحاجر. فلو رأيت حبة قمح مع شدة جوعي رجعت عنها. فأرتفع خشية من كمين فخ مدفون. أو شرك يعيقني عن تبليغ الرسالة. فأنقلب بصفقة المغبون. فإذا وصلت. وفي مأمني حصلت. أديت ما حملت. وعملت ما علمت. فهنالك طوقت. وبالبشارة خلقت. وأنقلب إلى شكر الله على ما وفقت.
أيا ربي وصلتم أو هجرتم ... فعبدكم على حفظ الأمانة
مقيم لا يزحزحه عذول ... ولا يثني معنفه عنانه
حملت لأجلكم ما ليس تقوى ال ... جبال الشم تحمله رزانة(4/129)
وحفظ العهد وفاه حر ... وطوقه فتى إلا وزانه
إشارة الخطاف
(قال) : فبينما نحن نتذاكر أوصاف الأشراف. وأشراف الأوصاف. إذ نظرت إلى خطاف. وهو بالبيت قد طاف. فقلت: ما لي أراك للبيت لازماً. وعلى مؤانسة الإنس عازماً. فلو كنت في أمرك حازماً. لما فارقت أبناء جنسك. ورضيت في البيوت بحبسك. ثم إنك لا تنزل إلا في المنازل العامرة. والمساكن التي هي بأهلها عامرة. فقال: يا كثيف الطبع. يا ثقيل السمع. إسمع ترجمة حالي. وكيف عن الطير ارتحالي. إنما فارقت أمثالي. وعاشرت غير أشكالي. واستوطنت السقوف. دون الشعاب والكهوف. لفضيلة الغربة. ولزوماً لآداب الصحبة. صحبت من ليس مني لأكون غريباً. وجاورت خيراً مني لأحرز بينهم نصيباً. فأعيش عيش الغرباء. وأفوز بحصبة الأدباء. والغريب مرحوم في غربته. ملطوف به في صحبته. فقصدت المنازل غير مضر بالنازل. أبتني بيتي من حافات الأنهار. وأكتسب قوتي من ساحات القفار. فلست للجار كمن جار. ولا لأهل الدار كالغدار. بل أحسن جواري مع جاري. وليس منهم رسم جاري. أكثر سوادهم. ولا أستطعم زادهم. فزهدي فيما في أيديهم. هو الذي حببني إليهم. فلو شاركتهم في قوتهم لما بقيت معهم في بيوتهم. فأنا شريكهم في أنديتهم. لا في أغذيتهم. مزاحمهم(4/130)
في أوقاتهم. لا في أقواتهم. مكتسب من أخلاقهم. لا من أرزاقهم. منتهب من حالهم. لا من مالهم. مقتبس من برهم لا من برهم. راغب في حبهم. لا في حبهم. مقتدياً بقوله: ازهد في الدنيا يحبك الله. وازهد فيما في أيدي الناس يحبك الناس. قال فقلت: لله درك لقد عشت سعيداً. وسرت سيراً حميداً. ووفقت أمراً رشيداً. وقلت قولاً سديداً. فلا أطلب على موعظتك مزيداً.
إشارة البوم
(قال) : فناداني البوم. وهو منفرد في الخراب مهموم. أيها الصديق الصادق. والخل الرافق. لا تكن بمقالة الخطاف واثقاً. ولا لفعله موافقاً. فإنه إن سلم من شبه زادهم. فما سلم من نزه فرحهم وأعيادهم. وتكثير سوادهم. وقد علمت أن من كثر سواد قوم فهو منهم. ولو صحبهم ساعة كان مسؤولاً عنهم. وقد فهمت أن مبتدأ التفريط من آفات التخليط. والخلطة غلطة. وأول السيل نقطة. واعلم أن السلامة في العزلة. فمن وليها فلا يخاف عزلة. فهلا استسن بسنتي. وتأسى بوحدتي. واعتزل المنازل والنازل. وزهد في المأكل والآكل. ألا تراني لا أشاركهم في منازلهم. ولا أجالسهم في مجالسهم. ولا أساكنهم في مساكنهم. ولا أزاحمهم في أماكنهم. بل اخترت الداثر من الجدران. ورضيت بالخراب عن العمران. فسلمت من الأنكاد. وأمنت شر الحساد. ولم أزل عن الأحباب وحيداً.(4/131)
ومن القرناء فريداً. وعن الأتراب بعيداً شريداً. فمن كان مسكنه التراب. كيف يساكن الأتراب. من علم بأن العمر وإن طاب قصير. وأن كلاً إلى الفناء يصير. بات على خشن الحصير. وأفطر على قرص الشعير. ورضي من الدنيا باليسير. وعلم أن فريقاً في الجنة وفريقاً في السعير. أنا نظرت إلى الدنيا وخرابها. وإلى الآخرة واقترابها. وإلى القيامة وحسابها. وإلى النفس واكتسابها. فشغلني التفكر في حالي عن منزلي الخالي. وأذهلني ما علي وما لي. وأذهبني عن أهلي ومالي. وأهمني صحتي واعتلالي. عن القصور العوالي. فجلا اليقين عن بصر بصيرتي كل شبهة. فعلمت أن لا فرصة تدوم ولا نزهة. وأنه كل شيء هالك إلا وجهه. فعرفت من هو. وما عرفت ما هو. وحيث كنت فلا أرى إلا هو. فإذا نطقت فلا أقول إلا هو. (قال) : فأخذت موعظته بمجامع قلبي. وخلعت عني ملابس عجبي.
إشارة الدرة
(قال) : وبينما أنا في هذه الحال إذ صاحت الدرة من عمل عملي فهو مسعود. ومن حذا حذوي فهو موعود بدار الخلود. ألا تراني لما علت همتي وسمت عزيمتي. كيف غلت قيمتي. فلم أرض لنفسي. ما يرتضيه أبناء جنسي. لكني نظرت إلى الوجود. وما فيه فرأيت آدم وبنيه من دون الكل هو المقصود. خلق الله الكائنات من أجلهم وخلقهم من أجله. فوصل حبلهم بحبله. وفعل معهم ما هو من أهله.(4/132)
فلذلك زاحمتهم في كلامهم. وشاركتهم في طعامهم. فأتشبه بهم وإن لم أكن منهم. وأتخلق بهم وأخاطبهم لا أرغب عنهم. فغلت قيمتي. إذ علت همتي. فأحلوني محل النديم. وألف بيني وبينهم السميع العليم. فأذكر كما يذكرون. وأشكر كما يشكرون:
اختبر حالي تجدني ... من أصح الناس مخبر
أنا قد أحببت قوماً ... شرفوا معنى ومنظر
كبروا قدراً وذكراً ... فهم أزكى وأطهر
(قال) : فلما سام نفسه بهذا السوم. وجلس في صدر مجالس القوم. قلت ما رأيت كاليوم. البهائم في اليقظة وأنا في النوم. فمالي لا أزاحم على أبواب ذي المراحم. لعله يوهب مرحوم لراحم. ويقال: مرحباً بالقادم. ها قد وهبنا الجناية للنادم.
إشارة الديك
(قال) : فقلت: تالله لقد فاز أهل الخلوات. وامتاز أهل الصلوات. ومنع من الجوار أهل الغفلات. فعند ذلك نادى الديك. كم أناديك. وأنت في تعاميك وتغاشيك. جعلت الأذان لي وظيفة. أوقظ به من كان نائماً كالجيفة. وأبشر الذين يدعون ربهم تضرعاً وخيفة. وفي إشارة لطيفة. أصفق بجناحي بشراً للقيام. وأعلن بالصياح تنبيهاً للنيام. فتصفيق الجناح. بشرى بالنجاح. وترديد الصياح. دعاء للفلاح. لا أخل بوظيفتي ليلاً ولا نهاراً. ولا أغفل عن(4/133)
وردي سراً ولا إجهاراً. قسمت وظائف الطاعات. على جميع الساعات. فما تمر ساعة. إلا ولي فيها وظيفة طاعة. فبي تعرف المواقيت. ولا تغلو قيمتي ولو اشتريت باليواقيت. فهذا حالي. مع قيامي على عيالي. وإشفاقي على أطفالي. فأنا بين الدجاج. أقنع بالأجاج. ولا أختص دونهم بحبة. ولا أتجرع دونهم بشربة. وهذه حقيقة المحبة. إن رأيت حبة دعوتهم إليها. ودللتهم عليها. فمن شأني الإيثار. إذا حصل القتار. ثم إني طوع لأهل الدار. أصبر لهم على سوء الجوار. يذبحون أفراخي. وأنا لهم كالخل المؤاخي. وينتهبون أتباعي. وأنا في نفعهم ساعي. فهذه شيمة أوصافي. وسجية إنصافي. والله لي كافي:
بذكر الله يدفع كل خوف ... ويدنو الخير ممن يرتجيه
ولكن أين من يصغي ويدري ... معاني ما أقول ومن يعيه
إشارة البط
(قال) : فنادى البط. وهو في الماء ينغط. وقال: يا من بدني همته انحط. لا أنت مع الطير فترقى. ولا تسلم من الضير فتبقى. فأنت كالميت لا أرضاً تقطع ولا لزومك في مكان واحد ينفع. سقوط نفسك ألقاك على المزابل. ووقوفك عند الطل حجبك عن الوابل. وما ربح في المتاجر من لم يقطع المراحل. ولا يظفر بالجواهر من هو واقف بالساحل. فلو ثبت تمكينك. وقوي يقينك لطرت في الهواء. ومشيت على الماء. ألم ترني كيف ملكت هواي. فملكت(4/134)
عالمي الماء والهواء. فأنا في البر سائح وفي البحر سابح. وفي الهواء سارح. وقد جعلت البحر مركز عزي. ومعدن كنزي. فأغوص في صفاء تلاليه. فأجتلي جواهر لآليه. وأطلع فيه على حكمه ومعانيه. ولا يعرف ذلك إلا من يعانيه. فمن وقف على ساحله. لم يظفر إلا بزبده وأجاجه. ومن لم يحذر من دواخله ولجاجه. غرق في متلاطم لججه وأمواجه. فالسعيد من ركب قارب قرباته. ورفع قلوع تضرعاته. متعرضاً لنسمات نفحاته. ماداً لبان رجائه بجذباته. ثم قطع كثائف ظلماته. فوصل إلى مجمع بحري ذاته وصفاته. فهنالك يقع على عين حياته فيرد من عذبه وفراته:
يا طالباً للمعالي ... مهر المعالي غالي
قدم فأول نقد ... معجل الآجال
ما استعذب الموت إلا ... من ذاق ذوق الرجال
حماه دون الوصال ... حماة حد النصال
كذا القصور العوالي ... حفت بسمر العوالي
والشهد دون جناه ... لدغ كحد النبال
قد طاف حول حماه ... ذوو الجدود العوالي
وصابروا في هواه ... عليه مر النكال
صاموا وبالذكر قاموا ... في مظلمات الليالي
إن كنت بطال فاترك ... منازل الأبطال(4/135)
إشارة النحل
(قال) : فنادت النحلة: يا لها من نحلة. ما صح في روايتها رحلة. فالعارف من ظهر معناه. وقبل دعواه. وعلم صفاء سره من نجواه. ومن محا حقيقة دعواه. ثبتت حقيقة معناه. فلا تقل قولاً يبطله فعلك. ولا ترب فرعاً ينقضه أصلك. ألا تراني لما طاب مطعمي وصفا مشربي. طيف رفعت رتبتي. وعلا منصبي. وكمل أدبي. لولا أني أكلت الحلال. ولزمت أشرف الخلال. حتى صرت كالخلال. أسلك سبل ربي ذللاً. وأشكر من نهمه فصولاً وجملاً. أبتغي المباح. الذي ليس على أكله من جناح. فأجعل في الجبال بيوتي. ومن مباح الأشجار قوتي. أبتني بيوتاً يعجز كل صانع عن تأسيسها. ويتحير إقليدس في حل شكل تسديسها. ثم أسقط على الزهر والثمر. فلا آكل ثمرة. ولا أهشم زهرة. بل أتناول منها شيئاً على هيئة الطل. فأتغدى به قانعة وإن قل. ثم أعود إلى عشي. وقد صفا كدر عيشي. فأشتغل في وكري بفكري وذكري. وأخلص لمولاي شكري. ولا أفتر عن الذكر. ولا أغفل عن الشكر. قد أنتج علمي وعملي. شمعي وعسلي. فالشمع ثمرة العلم المنقول. والعسل ثمرة العمل المقبول. فالشمع للضياء والعسل للشفاء. فإذا أتاني قاصد يستضيء بضيائي. وإن أتاني عليل يستشفي بشفائي. فلا أذيقه حلاوة نفعي. حتى أجرعه مرارة لسعي. ولا أنيله شهدي. إلا بعد مكابدة جهدي. فإن اقتنصه(4/136)
مني قهراً. أحامي عنه جهراً. وأدافع عنه بروحي. وأقول يا روح روحي. ثم أقول لمن جناني. واستخرجني من جناني. أنت يا جاني علي جاني. فإن كنت للرموز تعاني. فقد رمزت لك في معاني. إنك لا تصل إلى وصالي. حتى تصبر على حد نصالي:
اصبر على مر هجري ... إن رمت مني وصالا
واترك لأجل هواي ... من صد جهلاً وصالا
ومت إذا شئت تحيا ... واستعجل الآجالا
إن كنت معنى تمعنى ... فقد ضربت مثالا
فإن فهمت رموزي ... إقدم وإلا فلالا
إشارة الشمع
(قال) : فسمع النحل استغاثة شمعه. فأصغى إليه بسمعه. فإذا هو يحترق بالنار. ويبكي بأدمع غزار. ويقول: أيها النحل أما يكفيني. أن رميت منك ببيني. وفرق الدهر ما بينك وبيني. فأنت في الوجود أبي. وفي الاتحاد سببي. فأفردت عنك بتحريقي. أنا والعسل شقيقي. وهو أخي ورفيقي. فبينما نحن مجتمعان. وفي قرارنا ملتئمان. إذ فرقت بيننا يد النار ورمتنا ببعد الدار. وشط ما بيننا المزار. فأفردت عنه وأفرد عني. وبنت منه وبان مني. ثم سلطت علي النار. ولم أكن من أهل الأوزار. فكبدي تحترق. وجسدي تحت رق. وأهل المعرفة يستضيئون بنور إشراقي. فأنا في إشراق وإحراق.(4/137)
ودمع مهراق. قائم في الخدمة على ساق. أحمل ضرري وضيري. وأحرق نفسي لأشرق على غيري. فأنا معذب بشري. وغيري متمتع بخيري. فكيف ألام على اصفراري. ودموعي الجواري. ثم تقصدني الأوباش. من الفراش. يريدون إطفائي. وإذهاب أضوائي. فأحرقه مكافأة لفعله. ولا يحيق المكر السيئ إلا بأهله. فلو ملئت الأرض فراشاً لكنت منهم بأمان. ولو ملئت أوباشاً لما أطفئوا نور الإيمان. يريدون ليطفئوا نور الله بأفواههم ويأبى الرحمان. وهذا رمز لمن تمعناه بيان:
قد أتى يا نور عيني ... منك نور أي نور
فهداي وضلالي ... بك يا كل سروري
لم يطق كل عذول ... فيك يرميني بزوري
وكذا كل هواء ... لم يطق إطفاء نوري
إشارة الغراب
(قال) : فبينما أنا في نشوة هذا العتاب. ولذة هذا الشراب. إذ سمعت صوت غراب. ينعق بتفريق الأتراب. وينوح نوح المصاب. ويبوح ما يجده من أليم العذاب. وقد لبس من الحداد جلباب. ورضي من بين العباد بتسويد الثياب. فقلت: أيها النادب لقد كدرت ما كان صافياً. ومررت ما كان حلواً شافياً. فما لك لم تزل في البكور ساعياً. وعلى الربوع ناعياً. وإلى البين داعياً. إن رأيت شملاً(4/138)
مجتمعاً أنذرته بشتاته. وإن شاهدت قصراً عالياً بشرت بدروس عرصاته. فأنت لدى الخليط المعاشر أشأم من قاشر. وعند اللبيب الحاذر ألأم من جاذر. فناداني بلسان زجره الفصيح. وأشار بعنوان حاله الصريح ويحك أنت لا تفرق بين الحسن والقبيح. وقد تساوى لديك العدو والنصيح. لا بالكناية تفهم ولا بالتصريح. كأن المواعظ في أذنيك ريح وكلام المواعظ في سمع هواك كالنبيح. أما تذكر رحيلك من هذا الفيح الفسيح. إلى ظلمة القبر وضيق الضريح. أما بلغك ما جرى على أبيك آدم وهو ينادي على نفسه ويصيح. أما تعتبر بنوح نوح. وهو يبكي وينوح. على دار ليس بها أحد مستريح. أما تقتدي بصبر الذبيح. أما يكفيك ما تم على داود حتى بكى بقلبه القريح. أما تهتدي بزهد المسيح. أي جمع لم يتفرق. أي شمل لم يتمزق. أي صفو لم يتكدر. أي حلو لم يتمرر. أي أمل لم يقطعه الأجل. أي تدبير لم يبطله التقدير. أي بشير لم يعقبه نذير. أي يسير ما عاد عسير. أي حال ما حال. أي مقيم ما زال. أي مال عن صاحبه ما مال. أين ذوو العمر الطويل. أين ذوو المال الجزيل. أين ذوو الوجه الجميل. أما قرضهم الموت جيلاً بعد جيل. أما سوى في الثرى بين العبد الذليل والمولى الجليل. أما هتف بالمتمتع في دنياه قل: متاع الدنيا قليل. فكيف تلومني على نواحي. وتستشئم بصياحي. في مسائي وصباحي. ولو علمت أيها(4/139)
اللاحي. بما فيه صلاحك وصلاحي لاتشحت بوشاحي. ووافقتني في سواد جناحي. وأجبتني بالنواح. من سائر النواحي. لكن ألهاك لهوك. وحجبك عجبك وزهوك. وها أنا أعرف النازل. بخراب المنازل. وأحذر الآكل غصة المآكل. وأبشر الراحل. بقرب المراحل. وصديقك من صدقك. لا من صدقك. ومن عذلك لا من عذرك. ومن بصرك لا من نصرك. ومن وعظك. فقد أيقظك ومن أنذرك فقد حذرك. ولقد أنذرتك بسوادي. وحذرتك بتردادي. وأسمعتك ندائي في النادي. ولكن لا حياة لمن تنادي:
أنوح على ذهاب العمر مني ... وحقي أن أنوح وأن أنادي
وأندب كلما عاينت ركباً ... حدا بهم لوشك المبين حادي
يعنفني الجهول إذا رآني ... وقد ألبست أثواب الحداد
فقلت له اتعظ بلسان حالي ... فإني قد نصحتك باجتهادي
وها أنا كالخطيب وليس بدعاً ... على الخطباء أثواب السواد
ألم ترني إذا عاينت ربعاً ... أنادي بالنوى في كل وادي
أنوع على الطلول فلم يجبني ... بساحتها سوى خرس الجماد
وأكثر في نواحيها نواحي ... من البين المفتت للفؤاد
تيقظ يا ثقيل السمع وافهم ... إشارة ما تشير به الغوادي
فما من شاهد في الكون إلا ... عليه من شهود الغيب بادي
فكم من رائح فيها وغاد ... ينادي من دنو أو بعاد(4/140)
لقد أسمعت لو ناديت حياً ... ولكن لا حياة لمن أنادي
إشارة الهدهد
(قال) : فلما كدر علي الغراب وقتي. وحذرني مقتي. انصرفت من حضرتي. إلى خلوة فكرتي. فهتف بي هاتف من سماء فطرتي. أيها السامع منطق الطير. المتأسف على فوات الخير. تالله لو صغت الضمائر. لنفذت البصائر. واهتدى السائر. وما ضل الحائر. ولو طابت الخواطر. لبانت الأمائر. ولو شرحت السرائر. لظهرت البشائر. ولو انشرحت الصدور. لظهر لك النور. ولو ارتفعت الستور. لانكشف المستور. ولو طهرت القلوب. لظهرت سرائر الغيوب. ولو خلعت ثياب الإعجاب. لرفع لك الحجاب. ولو غبت عن عالم العيب. لشاهدت عالم الغيب. ولو قطعت العلائق. لانكشفت لك الحقائق. ولو خالفت العادة. لما انقطعت عنك المادة. ولو تجردت عن الإرادة. لوصلت إلى رتبة السيادة. ولو ملت عن هواك لمال بك إليه. ولو فارقت أباك لجمعك عليه. ولو بعد عنك لوجدت الزلفى لديه. ولكنك مسجون في سجن طبعك. مقيد بقيد مألوفك. متشاغل بشواغل نفسك. متعلق بحبال خيال حسك. قد أزمنتك برودة عزمك وأحرقتك حرارة حرصك. وأثقلتك تخمة بطرك. واستعمتك عفونة رعونتك. وبرسمتك وساوس شهوتك. فأنت بارد الهمة. مقعد العزمة. جامد الفكرة. فاسد الفطرة. كثير(4/141)
الحيرة. قد انعكس ذوق فهمك. فرأيت الحسن قبيحاً. والقبيح حسناً. ألا ترى إلى الهدهد حين حسنت سيرته. وصت سريرته. كيف نفذت بصيرته. فتراه يشاهد بالنظر. ما تحجبه الأرض عن سائر البشر. فيرى في بطنها الماء الثجاج. كما تراه أنت في الزجاج. ويقول بصحة ذوقه وصدقه: هذا عذب فرات وهذا ملح أجاج. ويقول: أنا الذي أوتيت مع صغر الجثمان. ما لم يؤته سليمان. فإن كنت ممن يقبل نصحي. فحسن سيرتك. وأصف سريرتك. وطيب أخلاقك. وراقب خلاقك. وتأدب بأحسن الآداب. ولو أنها من الدواب. فإنه من لم يأخذ إشارته من صرير الباب وطنين الذباب. ونبيح الكلاب. وحشرات التراب. ويفهم ما يشير به مسير السحاب. ولمع السراب. وضياء الضباب. فليس من ذوي الألباب.
إشارة الكلب
(قال) : فبينما أنا مستغرق في لذة الخطاب. منصت للجواب. إذ ناداني كلب على الباب. يلقط من المزابل ما يسقط من اللباب. فقال: يا من هو من وراء الحجاب. يا محجوباً عن المسبب بالأسباب. يا مسبلاً ثياب الإعجاب. تأدب بآدابي. فإن فعل الجميل دابي. وسس نفسك بسياستي. واسمع ما أقول لك من فراستي. وما عليك من خساستي. فإني إن كنت في الصورة حقيراً. تجدني في المعنى فقيراً. لا أزال واقفاً على أبواب سادتي. غير راغب في سيادتي. فلا(4/142)
أتغير عن عادتي. ولا أقطع عنهم مادتي. أطرد فأعود. وأضرب ولست بالحقود. وأنا حافظ للود باق على العهود. أقوم إذا كان الأنام رقود. وأصوم والخوان ممدود. وليس لي مال معدود. ولا سماط ممدود. ولا رباط معهود. ولا مقام محمود. إن أعطيت شكرت. وإن منعت صبرت. لا أرى في الآفاق شاكياً. ولا على ما فات باكياً. إن مرضت فلا أعاد. وإن مت فلا أحمل على أعواد. وإن غبت فلا يقال ليته عاد. وإن فقدت فلا تبكيني الأولاد. وإن سافرت فلا أستصحب الزاد. لا مال لي يورث. ولا عقار فيحرث. إن فقدت فلا يبكى علي. وإن وجدت فلا ينظر إلي. وأنا مع ذلك أحوم حول حماهم. وأدوم على وفاهم. عاكف على مزابلهم. قانع بطلهم دون وابلهم. فإن أعجبك خلالي فتمسك بأذيالي. وتعلق بحبالي. وإن أردت وفاقي. فتخلق بأخلاقي:
وتعلم حفظ المودة مني ... وتمسك إلى العلى بحبالي
أنا كلب حقير قدر ولكن ... لي قلب خال من الإدغال
أحفظ الجار في الجوار ودأبي ... أن أحامي عليهم في الليالي
وتراني في كل عسر ويسر ... صابراً شاكراً على كل حال
لا يبالى علي إن مت جوعاً ... أو سقتني الأيام مر النكال
لا يراني الإله أشكو لخلق ... إذ على الله في الأمور اتكالي
أحمل الضيم فيه صوناً لعرضي ... وفراراً من مر ذل السؤال(4/143)
فخلالي على خساسة قدري ... في المعالي يفقن كل خلال
إشارة الجمل
فقال الجمل: أيها الراغب في السلوك. إلى منازل الملوك. إن كنت تعلمت من الكلب زهداً وفقراً. فتعلم مني جلداً وصبراً. فإن من توسد الفقر. وجب عليه معانقة الصبر. فإن الفقير الصابر. معدود من الأكابر. ها أنا أحمل الأحمال الثقال. وأقطع المراحل الطوال. وأكابد الأهوال. وأصبر على مر النكال. ولا يعتريني في ذلك ملال. ولا أصول صولة الأرذال. بل أنقاد للطفل الصغير. ولو شئت لاستصعبت على الأمير الكبير. فأنا الذلول. الذي للأثقال حمول. وفي الأحمال ذمول. ولست بالخائن ولا بالملول. ولا بالصائل عن المصول. ولا بالمائل عن القفول. أقطع في الوحول. ما تعجز عنه الصناديد الفول. وأصابر في ظمأ الهواجر وفي الحاجر لا أحول. فإذا قضيت حق صاحبي. وبلغت مأربي. ألقيت حبلي على غاربي. وذهبت في البوادي. أكتسب من المباح زادي. وإن سمعت صوت الحادي. سلمت إليه قيادي. وأوصلت فيه سهادي. ومددت عنقي لبلوغ مرادي. فإن ضللت فالدليل هادي. وإن زللت أخذ بيدي من إليه انقيادي. فأنا المسخر لكم بإشارة وتحمل أثقالكم. فلا أزال بين رحلة ومقام. حتى أصل إلى ذلك المقام.(4/144)
إشارة الفرس
فقال الفرس: أيها الفقير الصابر. الطالب سبل المآثر. تعلم مني حسن الأدب. وصدق الطلب. لبلوغ الأرب. ها أنا أحمل مباهلي. على كاهلي. فأجتهد في السير. وأنطلق به كالطير. أهجم هجوم الليل. وأقتحم اقتحام السيل. فإذا كان طالباً أدرك بي طلبه. وبلغ بي أربه. وإن كان مطلوباً قطعت عن طالبه سببه. وجعلت أسباب الردى عنه محجبة. فلا يدرك مني إلا الغبار. ولا يسمع عني إلا الأخبار. فإن كان الجمل هو الصابر المجرب. فأنا الشاكر المقرب. وإن كان هو المقتصد اللاحق. فأنا المجتهد السابق. فإذا كان يوم اللقا. وأوان الملتقى. أقدمت إقدام الواله. وسبقت ضرب نباله. وذاك متخلف لثقل أحماله. معاق لتفتيش ما في رحاله. ورأيت ثم حقوقاً لا يستوفيها إلا كل موف. وطريقاً ر يقطعها إلا كل مخف. فلذلك شمرت عن ساق. وتضمرت ليوم السباق. وقلت لمن أسكره الطيش فما أفاق. وغره العيش الذي قد راق: ما عندكم ينفد وما عند الله باق. فيا من هو عن المراد مردود. وفي الطراد مطرود. هلا نظرت إلى الوجود. وفهمت المقصود. وأقمت على نفسك الحدود. وأوثقت جوارحك بالقيود. وذكرت الأجل المحدود. والنفس المعدود. وخشيت اليوم الموعود. ها أنا لما أوثق سائسي قيدي. أمن قائدي كيدي. فكم أكل سائقي من صيدي.(4/145)
وكم لي على مسابقي من أيدي. أوثقت بشكالي. كيلا أصول على أشكالي. وأخذت بعناني. كيلا أذهب إلى غير ما عناني. وألجمت بلجامي. لئلا يفسد علي نظامي. وألزمت بحزامي. خشية من غفلتي عن قيامي. ونعلت بالحديد أقدامي. كيلا أكل عند إقدامي. فأنا الموعود بالنجاة. المعدود للجاه. المشدود للسلامة. المقصود بالكرامة. والخير معقود بنواصي إلى يوم القيامة. خلقت من الريح. وألهمت التقديس والتسبيح. وما برح ظهري عزاً. وبطني كنزاً. وصحبتي حرزاً. وكم حززت أهل النفاق حزاً. فكم أخليت منهم الآفاق فهل تحس منهم من أحد أو تسمع لهم ركزاً. (فجاوبته) تالله لقد حويت من الخلال أجملها. ومن الفعال أكملها.
إشارة دود القز
فقالت دودة القز: تالله ليست الفحولية بالصور والهياكل. ولا الرجولية بترك المشارب والمآكل. ولا الإيثار ببذل النثار. إنما الجود لمن جاد بموجوده. وآثر بحياته ووجوده. فإن كانت خصال الخير معدودة. فأجلها مع دودة. أنا في الدود كدودة. ولأهل الود ودودة. أنا المتوالدة من غير والد ولا مولودة. أؤخذ في البداية بزراً. كما يأخذ الزارع بذراً. فإذا تمت أيام حملي. وآذنت القدرة بجمع شملي. انفصل عن ذلك الحمل(4/146)
نسلي. وحصل من ذلك الفصل وصلي. فأنظر في يوم ميلادي. فلا أرى لي أباً ولا أماً. ولا خالاً ولا عماً. فتكتنفني أيدي الرجال والنساء. بالتربية في الصباح والمساء. وأحمى عن تخاليط الأغذية حائداً. ولا أطعم إلا غذاء واحداً. فإذا تم حولي. وبدت قوتي وحولي. بادرت إلى شكر من أنعم علي. ومكافأة من أحسن إلي. فأشرع في عملي ما يصلح للإنسان. قياماً بمأمور: هل جزاء الإحسان إلا الإحسان. فأبتدر من غير دعوى. ولا إظهار شكوى. فأنسج بإلهام التقدير. ما يعجز عنه أهل التدبير. فأسبل من لعابي ما أشكر عليه بعد ذهابي. وأستخرج من صنعة صانعي ملابس. تزين اللابس. فالملوك تفتخر بخزي. والسلاطين تتنافس في أردية قزي. فأنا أجمل المطارف. وأرهج الزخارف. فإذا كافيت من أحسن إلي. وأديت شكر ما وجب له علي. جعلت بيتي المنسوج قبري. وفي طية نشري. فأضيق علي حبسي. وأهلك نفسي بنفسي. وأمضي إلى رمسي. كمضي أمسي. فأنا الذي أجود بخيري. وأبالغ في نفع غيري. وأنا المعذبة بضيري. ثم من نكد هذه الدار المجبولة على الأكدار. أنني ابتليت بحريق النار وحسد الجار. وقد اعتدى علي ظلماً وجار. وهو هذه العنكبوت. المخصوصة بأوهن البيوت. تجاورني وتجاوزني. وتقول: لي نسج ولك نسيج. وأمري وأمرك مزيج. فقلت لها: ويحك أنت نسجك شبكة الذباب. ومجمع(4/147)
للتراب. وأنا نسجي زينة الكواعب الأتراب. أما قد ضرب بضعفك المثل. وأين الكحل من الكحل. وأين البدر من النجم إذا أفل.
إشارة العنكبوت
فقالت العنكبوت: إن كان بيتي أوهن البيوت. وحبلي مبتوت. فإن فضلي عليك في سجل الذكر مثبوت. أما أنا فما لأحد علي منة. ولا لأم علي حنة. من حين أولد أنسج لنفسي أبيات. في جميع الأوقات. فأول ما أقصد زاوية البيت. وإن كان خراباً فهو أحسن ما أويت. فأقصد الزوايا. لما فيها من الخبايا ولما في سرها من النكت الخفايا. فألقي لعابي على حافلتها. حذراً من الخلطة وآفاتها. ثم أفرد من طافا غزلي خيطاً دقيقاً. منكساً في الهواء رقيقاً. فأتعلق به مسبلة يدي. ممسكة برجلي. فيظن الغر بتلك الحالة. أنني ميت لا محالة. فتمر الذبابة فأختطفها بحبائل كيدي. وأودعها شبكة صيدي. وأنت أيها الغدارة. التي بزخرفها غرارة. إنما جعلت زينة لناقصات العقول. ولهو للصبيان الذين ليس لهم معقول. وقد حرمت على الرجال الفحول. لأن حسنك عن قريب يحول. وما لك في الحقيقة محصول. ولا إلى الطريقة وصول. فيا ويح محروم حرم السؤال:
أيها المعجب فخراً ... بمقاصير البيوت
فارض في الدنيا بثوب ... ومن العيش بقوت
واتخذ بيتاً ضعيفاً ... مثل بيت العنكبوت(4/148)
3 ثم قل يا نفس هذا ... بيت مثواك فموتي
إشارة النملة
فقالت النملة: إذا ما رماك الدهر بمرمى فنم له. وتعلم مني قوة الاستعداد. وتحصيل الزاد. ليوم المعاد. وانظر إلى غرة عزمي. وصحة حزمي. وتأكل كيف شدت يد القدرة للخدمة وسطي. فأول ما فتحت عيني من العدم. رأيتني واقفة على القدم. لأكون من جملة الخدم. ثم كلفت بجمع المؤونة. بتيسير المعونة. ثم أعطيت قوة الشم من بعد الفراسخ. ما لا يدركه العالم الراسخ. فأدبر ما أذخره من الحب لقوتي. في بيوتي. فيلهمني فالق الحب والنوى. أن أقسم الحبة نصفين بالسوى. فإن كانت الحبة كزبرة. فلها حكمة مدبرة. وهو أن أفلقها أربع فلق فإنها إذا انفلقت نصفين نبتت. وإن قطعت أربعاً انقطعت. وإن خفت عليها في الشتاء عفونة الأرض أن تضرها. أخرجتها في يوم شامس فتجففه الشمس بحرها. فلا يزال ذلك دابي. وأنت تظن أنه أردى بي. وتعتقده في نقصاً. وانهماكاً على الدنيا وحرصاً. كلا كلا لو علمت حقيقة أمري. لأقمت في ذلك عذري. ولارتفع عندك قدري. فكل نملة تجتهد في سيرها. وتحصيل خيرها. لنفع غيرها. متعرضة للهلاك. ومصايد الأشراك. فإما أن تهلك عطشاً أو جوعاً. أو تقع في مفازة فلا تجد رجوعاً. تختطفها ذبابة. أو تطأها دابة. فتلقي ما في أيديها بين(4/149)
أيديهن. فتقسمه بالسوية عليهن من غير خصوص. ولا حظ منقوص.
إشارة العنقاء
(قال الشيخ) : لكم البشارة. يا أهل البشارة. إن فهمتم رمز هذه العبارة. فأنصتوا بضرب هذه الأمثال المستعارة. (قيل) اجتمع الطيور وقالوا: لا بد لنا من ملك نعترف له ونعرف به. فهلموا ننطلق في طلبه. ونستمسك بسببه. ونعش في ظله. ونعتصم بحبله. وقد بلغنا أن بجزائر البحر ملكاً يقال له عنقاء مغرب. قد نفذ حكمه في المشرق والمغرب. فهلموا بنا إليه. متوكلين عليه. فقيل لهم إن البحر عميق والطريق مضيق. والسبيل سحيق. وبين أيديكم جبال شاهقة. وبحار مغرقة. ونيران محرقة. ولا سبيل لكم إلى الاتصال. ولو تقطعت الأوصال. فدون وصاله حد النصال. فأقمن في أوكاركن. فإن العجز من شانكن. والملك غني عنكن. وإن الله لغني عن العالمين. قالوا: صدقت ولكن منادي الطلب ينادي. ففروا إلى الله. فطاروا بأجنحة ويتفكرون في خلق السماوات والأرض. صابرين على ظمأ الهواجر. بإشارة: ومن يخرج من بيته مهاجراً. فسلكن سبيلاً عدلاً. إن أخذن ذات اليمين أرمتهن برودة الرجاء. وإن عدلن ذات الشمال أحرقتهن حرارة الخوف. فهم بين سباق. ولحاق ومحاق. وتلاش واحتراق. وتغاش واستغراق. وبعد وافتراق. حتى وصل كل منهم إلى جزيرة الملك وقد سقط ريشه. وتكدر عيشه.(4/150)
وتضاعف نحوله. وتزايد ذبوله. فوصلوا إليه خماصاً. بعدما كن بطاناً. وجئنه فرادى بعد أن فارقن أوطاناً. فلما أن وصلوا إلى جزيرة الملك وجدوا فيها ما تشتهيه الأنفس وتلذ الأعين. قم قالوا: نحن لا نريد إلا الملك الذي خرجنا من أجله على المحاجر. وقطعنا إليه كل حاجر. وصبرنا على ظمأ الهواجر. ثم لا نشتغل بالملابس والمفاخر. فو الذي لا إله إلا هو. لا نريد إلا هو. ثم قال لهم الملك: ويحكم لأي شيء جئتم. وبأي شيء أتيتم. قالوا: أتيناك بذلة العبيد. وإنك لتعلم ما نريد. فقال لهم: ارجعوا من حيث جئتم. فأنا الملك شئتم أو أبيتم. وإن الله لغني عنكم. قالوا: سيدي أنت الغني ونحن الفقراء. وأنت العزيز ونحن الأذلاء. وأنت القوي ونحن الضعفاء. فبأي قوة نرجع وقد ذهب قوانا. ونحل عرانا. واضمحل وجودنا مما اعترانا. فقال هم الملك: وعزتي وجلالي إذا صح افتقادكم. وثبت انكساركم. فعلي انجباركم. انطلقوا فداووا العليل. في ظلي الظليل. وقيلوا في خير مقيل. فحصلوا حيث وصلوا. فلما حضروا نظروا. فإذا الحجب قد رفعت. والأحباب قد جمعت. وشاهدوا ما لا عين رأت ولا أذن سمعت:
يا قلب بشراك أيام الرضا رجعت ... وهذه الدار للأحباب قد جمعت
أما ترى نفحات الحي قد عبقت ... أنفاسها وبروق القرب قد لمعت
فعش هنيئاً بوصل غير منفصل ... مع من تحب وحجب الهجر قد رفعت
وانظر جمال الذي من أجل رؤيته ... قلوب عباده في حبه انصدعت(4/151)
الباب السابع في الذكاء والأدب
مدح مختلف العلوم
قد مدح أبو عثمان الجاحظ أنواع العلوم وذمها بأعيانها معرباً عن قدرته على الكلام وبعد شأوه في البلاغة. وحين سئل عن الأثر فقال: هو أخبار الماضين. وأنباء الغابرين. وقصص المرسلين. وآداب الدنيا والدين. ومعرفة الفرض والنافلة والشريعة والسنة. والمصلحة والمفسدة والنار والجنة. إلى صاحبه تشد الرحال. وحوله يعتكف الرجال. ويسير به ذكره في البلدان. ويبقى اسمه على ممر الزمان. قيل: فالفقه. قال: فيه علم الحلال والحرام. وبه تعرف الشرائع وتقام الحدود والأحكام. وهو عصمة في الدنيا وزينة في الآخرة. يخطب لصاحبه فضل الأعمال ويخلع عليه ثوب الجمال. ويلبسه الغنى ويبلغه مرتبة القضاء. قيل: فالكلام. قال: عيار كل صناعة. وزمام كل عبارة. وقسطاس يعرف به الفضل والرجحان. وميزان يعلم به الزيادة والنقصان. وكير تميز به الخاص والعام. والخالص والمشوب. ويعرف به الإبريز والستوق. وينظر به الصفو والكدر. وسلم يرتقي به إلى معرفة الصغير والكبير. ويوصل به إلى الحقير والخطير. وأدلة للتفصيل والتحصيل. وإدراك الدقيق والجليل. وآلة(4/152)
لإظهار الغامض المشتبه. وأداة لكشف الخفي والملتبس. وبه تعرف ربوبية الرب وحجة الرسل. ويحترز به من شبهات المقالات. وفساد التأويلات. وبه تدفع مضلات الأهواء والنحل. وتبطل تأويلات الأديان والملل. وينزه عن غباوة التقليد وغمة الترديد. قيل: فالفلسفة. قال: أداة الضمائر وآلة الخواطر. ونتائج العقل وأدلة لمعرفة الأجناس والعناصر. وعلم الأعراض والجواهر. وعلل الأشخاص والصور. واختلاف الأخلاق والطبائع والسجايا والغرائز. قيل: فالنجوم. قال: معرفة الأهلة ومقادير الأظلة. وسموت البلدان. وإقدام الزوال في كل وقت وزمان. وعلم ساعات الليل والنهار في الزيادة والنقصان. وأمارات الغيوث والأمطار. وأوقات سلامة الزرع والثمار. قيل: فالطب. قال: سائس الأبدان. والمنبه على طبائع الحيوان. وبه يكون حفظ الصحة. ومرمة العلة. والوقوف على المنافع والمضار. والإبانة عن خبايا الأسرار. وعلم يضطر إليه الخاص والعام. ويفتقر إليه الناس والأنعام. ولا يستغني عنه الصغير والكبير. ويحتاج إليه الحقير والخطير. قيل: فالنحو. قال: يبسط من العيي اللسان. ويجري من الحصر البيان. وبه يسلم من هجنه اللحن وتحريف القول. وهو آلة الصواب المنطق وتسديد كلام العرب. قيل: فالحساب. قال: علم طبيعي لا خلاف عليه. واضطراري لا مطعن فيه. ثابت الدلالة صائب المقالة. واضح البرهان شديد البنيان.(4/153)
سالم من المناقضة. خال من المعارضة. حاكم يقطع الخلاف. مؤد إلى الإنصاف والانتصاف. وبه حفظ الأعمال. ونظام الأموال. وقوام أمور الملوك والتجار. وثبات قوانين البلاد والأمصار. قيل: فالعروض. قال: ميزان الشعر وعيار النظم. ورائض الطبع وسائس الفهم. وبه يعرف الصحيح من المريض. وفلك عليه مدار القريض. قيل: فالخط. قال: لسان اليد ولهجة الضمير. ووحي الفكر وناقل الخبر. وحافظ الأثر. وعمدة الدين والدنيا. ولقاح اللفظ والمعنى. فهذا آخر ما حكي عن الجاحظ في مدح العلوم (طرائف اللطائف) .
أبو تمام والمتنبي وأبو عبادة البحتري
قال ابن الأثير: لقد وقفت من الشعر على كل ديوان ومجموع. وأنفدت شطراً من العمر في المحفوظ منه والمسموع. فألفيته بحر لا يوقف على ساحله. وكيف ينتهي إحصاء قول لم تحص أسماء قائله. فعند ذلك اقتصرت منه على ما تكثر فوائده. وتتشعب مقاصده. ولم أكن ممن أخذ بالتقليد والتسليم. في إتباع من قصر نظره على الشعر القديم. إذ المراد من الشعر إنما هو إبداع المعنى الشريف. في اللفظ الجزل اللطيف. فمتى وجدت ذلك فكل مكان خيمت فهو بابل. وقد اكتفيت من هذا بشعر أبي تمام حبيب بن أوس وأبي عبادة الوليد وأبي الطيب المتنبئ. وهؤلاء الثلاثة عن لات الشعر وعزاه ومناته. الذين ظهرت على أيديهم حسناته ومستحسناته. وقد حوت أشعارهم(4/154)
غرابة المحدثين وفصاحة القدماء. وجمعت بين الأمثال السائرة وحكمة الحكماء. أما أبو تمام فإنه رب معان. وصيقل ألباب وأذهان. قد شهد له بكل معنى مبتكر. لم يمش فيه على أثر. فهو غير مدافع عن مقام الإغراب. الذي برز فيه على الإضراب. ولقد مارست من الشعر كل أول وأخير. ولم أقل ما أقوله إلا بتنقير. فمن حفظ شعر الرجل وكشف عن غامضه. وراض فكره برائضه. أطاعته أعنة الكلام. وكان قوله في البلاغة ما قالته حذام. فخذ مني في ذلك قول حكيم. وتعلم ففوق كل ذي علم عليم. وأما أبو عبادة البحتري فإنه أحسن في سبك اللفظ على المعنى. وأراد أن يشعر فغنى. ولقد حاز طرفي الرقة والجزالة على الإطلاق. فبينا يكون في شظف نجد حتى يتشبث بريف العراق. وسئل أبو الطيب المتنبئ عنه وعن أبي تمام وعن نفسه فقال: أنا وأبو تمام حكيمان. والشاعر البحتري ولعمري إنه أنصف في حكمه. وأعرب في قوله هذا عن متانة علمه. فإن أبا عبادة أتى في شعره بالمعنى المقدود من الصخرة الصماء. في اللفظ المصوغ من سلاسة الماء. فأدرك بذلك بعد المرام. مع قربه إلى الأفهام. وما أقول إلا أنه أتى في معانيه بأخلاط الغالية. ورقي في ديباجه لفظه إلى الدرجة العالية. وأما أبو الطيب المتنبئ فإنه أراد أن يسلك مسلك أبي تمام فقصرت عنه خطاه. ولم يغطه الشعر من قياده ما أعطاه. ولكنه حظي في شعره بالحكم والأمثال. واختص(4/155)
بالإبداع في وصف مواقف القتال. وأنا أقول قولاً لست فيه متأثماً. ولا منه متلثماً. وذلك أنه إذا خاض في وصف معركة كان لسانه أمضى من نصالها. وأشجع من أبطالها. وقامت أقواله السامع مقام أفعالها. حتى نظن الفريقين قد تقابلا. والسلاحين قد تواصلا. وطريقه في ذلك تضل بسالكه. وتقوم بعذر تاركه. ولا شك أنه كان يشهد الحروب مع سيف الدولة فيصف لسنه ما أداه إليه عيانه. ومع هذا فإني رأيت الناس عادلين فيه عن السنن المتوسط. فإما مفرط في وصفه وإما مفرط. وهو وإن انفرد بطريق صار أبا عذره. فإن سعادة الرجل كانت أكثر من شعره. وعلى الحقيقة فإنه خاتم الشعراء. ومهما وصف به فهو فوق الوصف وفوق الإطراء. ولقد صدق في قوله من أبيات يمدح بها سيف الدولة:
لا تطلبن كريماً بعد رؤيته ... إن الكرام بأسخاهم يداً ختموا
ولا تبال بشعر بعد شاعره ... قد أفسد القول حتى أحمد الصمم
ولما تأملت شعره بعين المعدلة البعيدة عن الهوى. وعين المعرفة التي ما ضل صاحبها وما غوى. وجدته أقساماً خمسة. خمس منها في الغاية التي انفرد بها. وخمس من جيد الشعر الذي يشاركه فيه غيره. وخمس منه من متوسط الشعر. وخمس دون ذلك. وخمس في الغاية المتقهقرة التي لا يعبأ بها. وعدمها خير من وجودها. ولو لم يقلها أبو الطيب لوفاه الله شرها. فإنها هي التي ألبسته لباس(4/156)
الملام. وجعلت عرضه شارة لسهام الأقوام. ولسائل هنا أن يسأل ويقول: لم عدلت إلى شعر هؤلاء الثلاثة دون غيرهم. فأقول: إني لم أعدل إليهم اتفاقاً وإنما عدلت نظراً واجتهاداً. وذلك أني وقفت على أشعار الشعراء قديمها وحديثها حتى لم يبق ديوان شاعر مفلق يثبت شعره على المحك إلا وعرضته على نظري. فلم أجد أجمع من ديوان أبي تمام وأبي الطيب للمعاني الدقيقة ولا أكثر استخراجاً للطيف الأغراض والمقاصد. ولم أجد أحسن تهذيباً للألفاظ من أبي عبادة ولا أنفس ديباجة ولا أبهج سبكاً. فاخترت دواوينهم لاشتمالها على محاسن الطرفين من المعاني والألفاظ. ولما حفظتها ألقيت ما سواها ما ما بقي على خاطري من غيرها (المثل السائر لابن الأثير) .
وصف القلم
قالوا: القلم أحد اللسانين وهو المخاطب للغيوب. بسراير القلوب. على لغات مختلفة من معان معقولة. بحروف معلولة. متباينات الصور مختلفات الجهات. لقاحها التفكير ونتاجها التدبير. تخرس منفردات. وتنطق مزدوجات. بلا أصوات مسموعة ولا ألسن محدودة ولا حركات ظاهرة. خلا قلم حرف باريه. قطته ليتعلق المداد فيه وأرهف جانبيه ليرد ما انتشر عنه إليه وشف رأسه ليحتبس المداد عليه. فهنالك استمد القلم بشقه ونثر في القرطاس بخطه حروفاً أحكمها التفكر وأولى الأسماع بها الكلام الذي سداه العقل وألحمه(4/157)
اللسان ونهسته اللهوات وقطعته الأسنان ولفظته الشفاه ورعته الأسماع عن أنحاء شتى من صفات وأسماء. قال البحتري:
طعان بأطراف القوافي كأنه ... طعان بأطراف القنا المتكسر
قال بعض الكتاب يصف محبرة:
ولقد مضيت إلى المحدث آنفاً ... وإذا بحضرته ظباء رتع
وإذا ظباء الإنس تكتب كل ما ... يملي وتحفظ ما يقول وتسمع
يتجاذبون الحبر من ملمومة ... بيضاء تحملها علائق أربع
من خالص البلور غير لونها ... فكأنها سبج يلوح ويلمع
إن نكسوها لم تسل ومليكها ... فيما حوته عاجلاً لا يطمع
ومتى أمالوها لرشف رضابها ... أداه فوها وهي لا تتمنع
وكأنها قلبي يضن بسره ... أبداً ويكتم كل ما يستودع
وصف الخط
سئل بعض الكتاب عن الخط متى يستحق أن يوصف بالجودة. قال: إذا اعتدلت أقسامه. وطالت ألفه ولامه. واستقامت سطوره وضاهى صعوده حدوره. وتفتحت عيونه. ولم تشتبه راؤه ونونه. وأشرق قرطاسه وأظلمت أنقاسه. ولم تختلف فصوله. وأسرع إلى العيون تصوره. وإلى العقول تثمره. وقدرت فصوله. واندمجت أصوله. وتناسب دقيقه وجليله. وخرج من نمط الوراقين. وبعد عن تصنع المحبرين. وقام لصاحبه مقام النسبة والحلية (للقيراوني) .(4/158)
قصيدة ابن البواب في وصف صناعة الخط
يا من يريد إجادة التحرير ... ويروم حسن الخط والتصوير
إن كان عزمك في الكتابة صادقاً ... فارغب إلى مولاك في التيسير
أعدد من الأقلام كل مثقف ... صلب يصوغ صياغة التحبير
وإذا عمدت لبريه فتوخه ... عند القياس بأوسط التقدير
أنظر إلى طرفيه فاجعل بريه ... من جانب التدقيق والتخصير
واجعل لجلفته قواماً عادلاً ... يخلو عن التطويل والتقصير
حتى إذا أتقنت ذلك كله ... إتقان طب بالمراد خبير
فاصرف لرأي القط عزمك كله ... فالقط فيه جملة التدبير
لا تطمعن في أن أبوح بسره ... إني أضن بسره المستور
لكن جملة ما أقول بأنه ... ما بين تحريف إلى تدوير
وألق دواتك بالدخان مدبراً ... بالخل أو بالحصرم المعصور
وأضف إليه مغرة قد صولت ... مع أصفر الزرنيخ والكافور
حتى إذا ما خمرت إلى ال ... ورق النقي الناعم المخبور
فاكبسه بعد القطع بالمعصار كي ... ينأى عن التشعيث والتغبير
ثم اجعل التمثيل دأبك صابراً ... ما أدرك المأمول مثل صبور
إبدأ به في اللوح منتضياً له ... عزماً تجرده عن التشمير
لا تخجلن من الردي تخطه ... في أول التمثيل والتسطير(4/159)
فالأمر يصعب ثم يرجع هيناً ... ولرب سهل جاء بعد عسير
حتى إذا أدركت ما أملته ... أضحيت رب مسرة وحبور
فاشكر إلهك واتبع رضوانه ... إن الإله يحب كل شكور
وارغب لكفك أن تخط بنانها ... خيراً تخلفه بدار غرور
فجميع فعل المرء يلقاه غداً ... عند التقاء كتابه المنشور
في الأدب وتربية الصغار
كتب أبو الفضل هبة الله إلى أبي علي مدرس ابنه:
أبا علي هو الدهر الخؤون وما ... يحظى بجدواه إلا الجاهل الغمر
إني لأشكر ما أوليت من حسن ... حتى أرى وبه أسمو وأفتخر
ولو أردت مكافأة على منن ... أسديتها لتقضى دونها العمر
عهدت فضلك لا يحتاج تذكرة ... وحسن رأيك ما في نفعه ضرر
راجع سدادك فيه فهو إن سمحت ... به الليالي على أحداثها وزر
واحفظ له حق آباء ومعرفة ... مضت بتأكيدها الأيام والعصر
وأوله منك قسطاً من ملاحظة ... فما يرى لك في إهماله عذر
فإن نبعة طابت منابته ... صلب على العجم ما في عوده خور
مغرى بما زاد في قدر ونزلة ... وما تبدى له في خلده شعر
دلائل مخبرات عن نجابته ... كالنار تخبر عن ضوضائها الشرر
من معشر حلت العلياء بينهم ... يعد شكرهم فخراً إذا شكروا
قال لسان الدين في تربية الولد أحسن آدابهم. واجعل(4/160)
الخير دابهم. وخف عليهم من إشفاقك وحنانك. أكثر من غلظة جنابك. واكتم عنهم ميلك. وأفض فيهم جودك ونيلك. وأثبهم على حسن الجواب. وسبق لهم خوف الجزاء على رجاء الثواب. وعلمهم الصبر على الضرار. والمهلة عند استحقاق الجرائر. وخذهم بحسن السرائر. وحبب إليهم مراس الأمور الصعبة المراس. وحسن الاصطناع والاحتراس. والاستكثار من أولي المراتب والعلوم. والسياسات والحلوم. والمقام المعلوم. وكره إليهم مجالسة الملهين. ومصاحبة الساهين. جاهد أهواءهم عن عقولهم. وحذر الكذب على مقولهم. ورشحهم إذا آنست منهم رشداً أو هدياً. وأرضعهم من المؤازرة والمشاورة ثدياً. لتمرنهم على الاعتياد وتحملهم على الازدياد. ورضهم رياضة الجياد. واحذر عليهم الشهوات فهي داؤهم. وأعداؤك في الحقيقة وأعداؤهم. وتدارك الخلق الذميمة كل ما نجمت. وأقذعها إذا هجمت. قبل أن يظهر تضعيفها. ويقوى ضعيفها
إن الغصون إذا قومتها اعتدلت ... ولن تلين إذا قومتها الخشب
وإذا قدروا على التدبير. وتشوفوا للمحل الكبير. فإياك أن توطنهم في مكانك جهد إمكانك. وفرقهم في بلدانك تفريق عبدانك. واستعملهم في بعوث جهادك. والنيابة عنك في سبيل اجتهادك. وانظر إليهم بأعين الثقات. فإن عين الثقة تبصر ما لا تبصر عين المحبة والمقة (للمقري) .(4/161)
الباب الثامن في السيف والقلم
فاخر صاحب سيف صاحب قلم فقال صاحب القلم: أنا أقتل بلا غرر. وأنت تقتل على خطر. وصرير الأقلام أشد من صليل الحسام. فقال صاحب السيف: القلم خادم السيف إن تم مراده وإلا فإلى السيف معاده. أما سمعت قول أبي تمام:
السيف أصدق أنباء من الكتب ... في حده الحد بين الجد اللعب
بيض الصفائح لا سود الصحائف في ... متونهن جلاء الشك والريب
قال أبو الطيب المتنبئ:
حتى رجعت وأقلامي قوائل لي ... المجد للسيف ليس المجد للقلم
اكتب بنا أبداً بعد الكتاب به ... فإننا نحن للأسياف كالخدم
وقال ابن الرومي في تفضيل القلم على السيف:
لعمرك ما السيف سيف الكمي ... بأخوف من قلم الكاتب
له شاهد إن تأملته ... ظهرت على سره الغائب
أداة المنية في جانبيه ... فمن مثله رهبة الراهب
سنان المنية في جانب ... وحد المنية في جانب
ألم تر في صدره كالسنان ... وفي الردف كالمرهف القاضب
قال الصولي أنشدني طلحة بن عبيد الله في القلم:(4/162)
وإذا أمر على المهارق كفه ... بأنامل يحملن شختاً مرهفا
متقاصراً متطاولاً ومفصلاً ... وموصلاً ومشتتاً ومؤلفا
ترك العداة رواجفاً أحشاؤها ... وقلاعها قلعاً هنالك رجفا
كالحية الرقشاء إلا أنه ... يستنزل الأروى إليه تلطفا
يرمي به قلماً يمج لعابه ... فيعود سيفاً صارماً ومثقفا
وقال فيه أيضاً محمود بن أحمد الأصبهاني:
أخرس ينبيك بإطراقه ... عن كل ما شئت من الأمر
يذري على قرطاسه دمعة ... يبدي بها السر وما يدري
يرى أسيراً في دواة وقد ... أطلق أقواماً من الأسر
أخرق لو لم تبره لم يكن ... يرشق أقواماً ولم يبري
كالبحر إذ يجري وكالليل إذ ... يغشى وكالصارم إذ يفري
وقال أحمد بن جرار:
أهيف ممشوق بتحريكه ... يحل عقد السر إعلان
له لسان مرهف حده ... من ريقه الكرسف ريان
ترى بسيط الفكر في نظمه ... شخصاً له حد وجثمان
كأنما يسحب في إثره ... ذيلاً من الحكمة سحبان
لولاه ما قام منار الهدى ... ولا سما للملك ديوان
فصل في التفاوت بين مراتب السيف والقلم في الدول
اعلم أن السيف والقلم كلاهما آلة لصاحب الدولة يستعين(4/163)
بها على أمره. إلا أن الحاجة إلى السيف في أول الدولة ما دام أهلها في تمهيد أمرهم أشد من الحاجة إلى القلم إذ القلم في تلك الحال فقط منفذ للحكم السلطاني. والسيف شريك في المعونة. وكذلك في آخر الدولة حيث تضعف عصبيتها ويقل أهلها بما ينالهم من الهرم. فتحتاج الدولة إلى الاستظهار بأرباب السيوف وتقوى الحاجة إليهم في حماية الدولة والمدافعة عنها. كما كان الشأن أول الأمر في تمهيدها. فتكون للسيف مزية في الحالتين على القلم. ويكون أرباب السيف حينئذ أوسع جاهاً وأكثر نعمة وأسنى إقطاعاً. وأما في وسط الدولة فيستغني صاحبها بعض الشيء عن السيف. لأنه قد تمهد أمره ولم يبق همه إلا في تحصيل ثمرات الملك من الجباية والضبط ومباهاة الدول وتنفيذ الأحكام. والقلم هو المعين له في ذلك فتعظم الحاجة إلى تصريفه وتكون السيوف مهملة في مضاجع غمودها. إلا إذا نابت نائبة أودعت إلى سد فرجة وما سوى ذلك فلا حاجة إليها. فيكون أرباب الأقلام في هذه الحالة أوسع جاهاً وأعلى مرتبة وأعظم نعمة وثروة. وأقرب إلى السلطان مجلساً وأكثر إليه تردداً. وفي خلواته نجياً. لأنه حينئذ آلته التي بها يستظهر على تحصيل ثمرات ملكه والنظر في أعطافه وتثقيف أطرافه والمباهاة بأحواله. ويكون الوزراء حينئذ وأهل السيوف مستغنى عنهم مبعدين عن ناظر السلطان حذرين على أنفسهم من بوادره. وفي معنى ذلك ما كتب به أبو مسلم(4/164)
للمنصور حين أمره بالقدوم: أما بعد فإنه مما حفظناه من وصايا الفرس: أخوف ما يكون الوزراء إذا سكنت الدهماء. سنة الله في عباده والسلام (مقدمة ابن خلدون) .
قال ابن الرومي:
إن يخدم القلم السيف الذي خضعت ... له الرقاب ودانت خوفه الأمم
فالموت والموت لا شيء يقابله ... ما زال يتبع ما يجري به القلم
بذا قضى الله للأقلام مذ بريت ... أن السيوف لها مذ أرهفت خدم
قال حبيب في قلم ابن عبد الملك الزيات وأحسن:
لك القلم الأعلى الذي بسنانه ... تصاب من المرء الكلى والمفاصل
له الجلوات اللاء لولا نجيها ... لما احتفلت للملك تلك المحافل
لعاب الأفاعي القاتلات لعابه ... وأرى الجنى اشتارته أيد عواسل
له ديمة طل ولكن وقعها ... بآثاره في الشرق والغرب وابل
فصيح إن استنطقته وهو راكب ... وأعجم إن خاطبته وهو راجل
إذا ما امتطى الخمس اللطاف وأفرغت ... عليه شعاب الفكر وهي حوافل
أطاعته أطراف القنا وتقوضت ... لنجواه تقويض الخيام الجحافل
إذا استعذر الذهن الذكي وأقبلت ... أعاليه في القرطاس وهي أسافل
وقد رفدته الخنصران وسددت ... ثلاث نواحيه الثلاث الأنامل
رأيت جليلاً شأنه وهو مرهف ... ضنى وسميناً خطبه وهو ناحل
قال أبو الفتح البستي:(4/165)
إذا افتخر الأبطال يوماً بسيفهم ... وعدوه مما يكسب المجد والكرم
كفى قلم الكتاب فخراً ورفعة ... مدى الدهر أن الله أقسم بالقلم
لأبي الفرج بن الدهان
قوم إذا أخذوا الأقلام من قصب ... ثم استمدوا بها ماء المنيات
نالوا بها من أعاديهم وإن بعدوا ... ما لا ينال بحد المشرفيات
في شرف الكتاب
الكتاب عماد الملك وأركانه. وعيونه المبصرة وأعوانه. وبهاء الدول ونظامها. ورؤوس الرئاسة وقوامها. ملابسهم فاخرة. ومحاسنهم باهرة. وشمائلهم لطيفة. ونفوسهم شريفة. مدار الحل والعقد عليهم. ومرجع التصرف والتدبير إليهم. يهم تحلى العواطل. وتبتسم ثغور المعاقل. مجالسهم بالفضائل معمورة. وبنداهم أندية القصاد مغمورة. يهدون إلى الأسماع أنواع البديع. وينزهون الأحداق في حدائق التوشج والتوشيع. هم أهل البراعة واللسن. وشيمتهم لف القبيح ونشر الحسن. يميلون إلى القول بموجب المدح. ولا يملون من مراجعة الراغبين في المنح. دأبهم استخدام الناس بالمعروف. وعدم التورية عن العاني والملهوف. يجلون الكبير ويبجلون الصغير. ولا يخلون بمراعاة النظير. لهم إلى الخير رجوع والتفات. وبالجملة فقد حازوا جميع جميل الصفات:
كتبت فلولا أن هذا محلل ... وذاك حرام قست خطك بالسحر(4/166)
فإن كان زهراً فهو صنع سحابة ... وإن كان دراً فهو من لجة البحر
بأيديهم أقلام. تختلس بلطفها الأحلام. صافية الجواهر. زاهية الأزاهر. لينة الأعطاف. ناعمة الأطراف. تبكي وهي مبتسمة. وتسكت وهي بما يطرب السمع متكلمة. قد اعتدلت قدودها. واشرقت في سماء البراعة سعودها. أسنتها مرهفة. ومطارفها مفوفة. تجتهد في خدمة الباري. وتبدي من دررها ما يفضح الدراري. تميس في وشي أبرادها. وتشرح الصدور بعذوبة إيرادها. نشأت على شطوط الأنهار. وتعلمت اللحن من إعراب الأطيار. طويلة الأنابيب. تسلب القلوب بحسن الأساليب. تدهش الناظر وتخجل العامل. ولا ترضى بامتطاء غير الأنامل. الشجاعة كامنة في مهجتها. والفصاحة جارية على لهجتها. تبهر بالنضارة نواظر البهار. وتطرز بالليل أردية النهار. إن قالت لم تترك مقالاً لقائل. وإن صالت رجعت السيوف مستترة بأذيال الحمائل. سجدت للطرس فرفعت إلى أعلى الرتب. وحلت وسبقت فسميت بالقصب (لكمال الدين الحلبي) .
اعتمد ابن وهب بقلم صلب فصر القلم في يده فأنشد:
إذا ما التقينا وانتضينا صوارماً ... يكاد يصم السامعين صريرها
تساقط في القرطاس منها بدائع ... كمثل اللآلي نظمها ونثيرها
تقود أبيات البيان بفطنة ... ويكشف عن وجه البلاغة نورها
تظل المنايا والعطايا شوارعاً ... تدور بما شئنا وتمضي أمورها(4/167)
الباب التاسع في اللطائف
وزير المأمون والشاعر
كان أبو عباد الرازي وزير المأمون شديد الحدة سريع الغضب. ربما اغتاظ من بعض من يكون بين يديه فرماه بدواته أو شتمه فأفحش. فدخل إليه الغالبي الشاعر وأنشده:
لما أنخنا بالوزير ركابنا ... مستعصمين بجوده أعطانا
ثبتت رحا ملك الإمام بثابت ... وأفاض فينا العدل والإحسانا
يقري الوفود طلاقة وسماحة ... والناكثين مهنداً وسنانا
من لم يزل للناس غيثاً ممرعاً ... متخرقاً في جوده معوانا
فلما وصل إلى قوله في جوده وقف وأرتج عليه. وصار يكرر في جوده مراراً. حتى ضجر أبو عباد وغلبت عليه السوداء فقال: يا شيخ فقل: قرنانا أو صفعانا وخلصنا. فضحك جميع من كان بالمجلس وذهب غيظه هو أيضاً فضحك مع الناس. وأتم الغالبي قافيته بقوله معوانا. ثم وصله الوزير (لابن الطقطقي) .
قال بعض الشعراء في ظلم الدنيا:
عتبت على الدنيا بتقديم جاهل ... وتأخير ذي لب فأبدت لي العذرا
بنو الجهل أبنائي وأما ألوا النهي ... فإنهم أبناء ضرتي الأخرى(4/168)
قال آخر في الشكر:
لقد أضحت خلال أبي حصين ... حصوناً في الملمات الصعاب
كساني طل وابله وآوى ... غرائب منطقي بعد اغتراب
وكنت كروضة سقيت سحاباً ... فأثلت بالنسيم على السحاب
قال أبو تمام:
إذا كنت من كل الطباع مركباً ... فأنت إلى كل القلوب حبيب
قال آخر في قلة المروءة:
مررت على المروءة وهي تبكي ... فقلت لها لما تبكي الفتاة
فقالت كيف لا أبكي وأهلي ... جميعاً دون خلق الله ماتوا
قال البهاء زهير في المودة:
حفظت لكم ذاك الوداد وصنته ... فها هو مختوم لكم بختام
فلا تنكروا طيب النسيم إذا سرى ... إليكم فذاك الطيب فيه سلامي
مروان بن أبي حفصة وجعفر البرمكي
دخل مروان بن أبي حفصة على جعفر بن يحيى فأنشده:
أبر فما ترجو الجياد لحاقه ... أبو الفضل سباق الأضاميم جعفر
وزير إذا ناب الخلافة حادث ... أشار بما عنه الخلافة تصدر
فقال جعفر: أنشدني مرثيتك في معن بن زائدة فأنشده:
أقمنا باليمامة أو نسينا ... مقاماً لا نريد به زوالا
وقلنا أين نذهب بعد معن ... وقد ذهب النوال فلا نوالا(4/169)
وكان الناس كلهم لمعن ... إلى أن زار حفرته عيالا
حتى فرغ من القصيدة وجعفر يرسل دموعه على خديه. فقال: هل أثابك على هذه المرثية أحد من أهل بيته وولده. قال: لا. قال: فلو كان معن حياً ثم سمعها منك كان يثيبك عليها. قال: أربعمائة دينار. قال: فإنا كنا نظن أنه لا يرضى لك بذلك وقد أمرنا لك عن معن رحمه الله بالضعف مما ظننته وزدناك مثل ذلك. فأقبض من الخازن ألفاً وستمائة دينار قبل أن تخرج. فقال مروان يذكر جعفراً وما سمح به عن معن:
نفحت مكافئاً عن جود معن ... لنا فيما تجود به سجالا
فعجلت العطية يا ابن يحيى ... لنادبه ولم ترد المطالا
فكافأ عن صدى معن جواد ... بأجود راحة بذلت نوالا
بنى لك خالد وأبوك يحيى ... بناء في المكارم لن ينالا
كان البرمكي لكل مال ... تجود به يداه يفاد مالا
الصلات والصلاة
ومما يستحسن من تجنيس الصلات والصلاة حكاية أحمد بن المدير. وكان إذا مدحه شاعر ولم يرض شعره قال لغلامه: امض به إلى المسجد فلا تفارقه حتى يصلي مائة ركعة ثم خله. فتحاماه الشعراء إلا الأفراد المجيدون. فجاء الحسين بن عبد الرحمان البصري فاستأذنه في النشيد. فقال: أعرفت الشرط. قال: نعم وأنشد:(4/170)
أردنا في أبي حسن مديحاً ... كما بالمدح تنتجع الولاة
فقلنا أكرم الثقلين طراً ... ومن كفاه دجلة والفرات
فقالوا يقبل المدحات لكن ... جوائزه على المدح الصلاة
فقلت لهم وما تغني صلاتي ... عيالي إنما تغني الزكاة
فأما إذ أبى إلا صلاتي ... وعاقتني الهموم الشاغلات
فيأمر لي بكسر الصاد منها ... لعلي أن تنشطني الصلات
فتصلح لي على هذا حياتي ... ويصلح لي على هذا الممات
فضحك واستظرفه وأمر له بمائة دينار (للشريشي) .
حدث الصولي قال: ولد للهادي ولد في أول يوم ولي الخلافة فدخل أبو العتاهية فأنشده:
أكثر موسى غيظ حساده ... وزين الأرض بأولاده
وجاءنا من صلبه سيد ... أصيد في تقطيع أجداده
فاكتست الأرض به بهجة ... واستبشر الملك ميلاده
وابتسم المنبر عن فرحة علت بها ذروة أعواده
كأنني بعد قليل به ... بين مواليه وقواده
في محفل تخفق راياته ... قد طبق الأرض بأجناده
فأمر له موسى بألف دينار وكان ساخطاً عليه فرضي عنه (الأغاني) .
معن بن زائدة والثلاث جوار
كان معن بن زائدة في بعض صيوده فعطش فلم يجد مع(4/171)
غلمانه ماء. فبينما هو كذلك وإذا بثلاث جوار قد أقبلن حاملات ثلاث قرب فسقينه. فطلب شيئاً من المال مع غلمانه فلم يجده. فدفع لكل واحدة منهن عشرة أسهم من كنانته نصولها من ذهب. فقالت إحداهن: ويلكن لم تكن هذه الشمائل إلا لمعن بن زائدة. فلتقل كل واحدة منكن شيئاً من الأبيات. فقالت الأولى:
يركب في السهام نصول تبر ... ويرمي للعدى كرماً وجودا
فللمرضى علاج من جراح ... وأكفان لمن سكن اللحودا
وقالت الثانية:
ومحارب من فرط جود بنانه ... عمت مكارمه الأقارب والعدى
صيغت نصول سهامه من عسجد ... كي لا يفوته التقارب والندى
وقالت الثالثة:
ومن جوده يرمي العداة بأسهم ... من الذهب الإبريز صيغت نصولها
لينفقها المجروح عند دوائه ... ويشتري الأكفان منها قتيلها
الحسين بن الضحاك عند المتوكل
حدث الصولي قال: كان للحسين بن الضحاك ابن يسمى محمداً له أرزاق فمات فقطعت أرزاقه. فقال يخاطب المتوكل ويسأله أن يجعل أرزاق ابنه المتوفى لزوجته وأولاده:
إني أتيتك شافعاً ... بولي عهد المسلمينا
وشبيهك المعتز أو ... جه شافع في العالمينا(4/172)
يا ابن الخلائف الأول ... ين ويا أبا المتأخرينا
إن ابن عبدك مات وال ... أيام تخترم القرينا
ومضى خلف صبية ... بعراصه متلددينا
ومهيرة عبرى خلا ... ف أقارب مستعبرينا
أصبحن في ريب الحوا ... دث يحسنون بك الظنونا
قطع الولاة جراية ... كانوا بها مستمسكينا
فامنن برد جميع ما ... قطعوه غير مراقبينا
أعطاك أفضل ما تؤم ... ل أفضل المتفضلينا
(قال) : فأمر المتوكل له بما سأل فقال يشكره:
يا خير مستخلف من آل عباس ... إسلم وليس على الأيام من باس
أحييت من أملي نضواً تعاوره ... تعاقب اليأس حتى مات بالياس
الباهلي والرشيد
قدم على الرشيد أعرابي من باهلة وعليه جبة حبرة ورداء يمان قد شده على وسطه ثم ثناه على عاتقه. وعمامة قد عصبها على فوديه. وأرخى لها عذبة من خلفه فمثل بين يدي الرشيد. فقال: سعيداً يا أعرابي خذ في شرف أمير المؤمنين. فاندفع في شعره. فقال الرشيد: يا أعرابي أسمعك مستحسناً وأنكرك متهماً. فقل لنا بيتين في هذين يعني محمداً الأمين وعبد الله المأمون ابنيه وهما حفافاه. فقال: يا أمير المؤمنين حملتني على الوعر القردد. وأرجعتني(4/173)
على السهل الحدرد روعة الخلافة وبهر الدرجة ونفور القوافي على البديهة. فأوردني تتألف لي نوافرها ويسكن روعي. قال: قد فعلت وجعلت اعتذارك بدلاً من امتحانك. قال: يا أمير المؤمنين نفست الخناق. وسهلت ميدان السباق. فأنشأ يقول:
بنيت لعبد الله ثم محمداً ... ذرى قبة الإسلام فاخضر عودها
هما طنباها بارك الله فيهما ... وأنت أمير المؤمنين عمودها
فقال الرشيد: بارك الله فيك فسل ولا تكن مسألتك دون إحسانك. قال: الهنيدة. فأمر له بمائة ناقة وسبع خلع (لابن عبد ربه) .
قال البستي يعتذر:
أسأت إلى نفسي وطأمنت من قدري ... فحكم غنى أخلاقك الغر في فقري
فما العقل إلا خاتم أنت فصه ... وعفوك نقش الفص فاختم به عذري
وقال أيضاً في رسالة أتته من بعض أصحابه:
ما إن سمعت بنوار له ثمر ... في الوقت يمتع سمع المرء والبصرا
حتى أتاني كتاب منك مبتسماً ... عن كل لفظ ومعنى أشبه الدررا
فكان لفظك في آلائه زهراً ... وكان معناك في أثنائه ثمرا
تسابقا فأصابا القصد في طلق ... الله من ثمر قد سابق الزهرا
وقال وهو من أجمل ما قيل في باب الشكر:
أقول وخير القول ما لا يشوبه ... رثاء وخير الناس من هو صادق
تركب من شكري وبرك صورة ... فبرك بي حي وشكري ناطق(4/174)
وقال يعتذر إلى ابن أبي محمد الموصلي وقد حجب عن بابه:
قد جئت معتذراً والعفو من شيمك ... فامهد لعذري مقيلاً في ذرى كرمك
وإن أردت جعلت الخد واسطة ... حتى يكون شفيعاً لي إلى قدمك
علي بن الخليل ويزيد بن المزيد
ولد ليزيد بن مزيد ابن فأتاه علي بن الخليل فقال: اسمع أيها الأمير تهنئة بالفارس الوارد. فتبسم وقال: هات. فأنشده:
يزيد يا ابن الصيد من وائل ... أهل الرئاسات وأهل المعال
يا خير من أنجبه والد ... ليهنك الفارس ليث النزال
جاءت به غراء ميمونة ... والسعد يبدو في طلوع الهلال
عليه من معن ومن وائل ... سيما تباشير وسيما جلال
والله يبقيه لنا سيداً ... مدافعاً عنا صروف الليالي
حتى نراه قد علا منبراً ... وفاض في سؤاله بالنوال
وسد ثغراً فكفى شره ... وقارع الأبطال تحت العوال
كما كفانا ذاك آباؤه ... فيحتذي أفعالهم عن مثال
فأمر له عن كل بيت بألف دينار (الأغاني) .
قال علي بن ظافر: خرج المعتصم بن صمادح صاحب المرية يوماً على بعض منتزهاته. فحل بروضة قد سفرت عن وجهها البهيج. وتنفست عن مسكها الأريج. وماست معاطف أغصانها. وتكللت بلآلئ الطل أجياد قضبانها. فتشوق إلى الوزير أبي طالب بن غانم(4/175)
أحد وزراء دولته وسيوف صولته. فكتب إليه بديهاً في وريقة كرنب بعود من شجرة:
أقبل أبا طالب إلينا ... واسقط سقوط الندى علينا
فنحن عقد بغير وسطى ... ما لم تكن حاضراً لدينا
أخبر أمية بن عبد العزيز قال: كنت مع الحسن بن باديس بالمهدية في الميدان وقد رمى بالنشاب فصنعت فيه بديهاً:
يا مليكاً قد خلقت كفه ... لم تدر إلا الجود والباسا
إن النجوم الزهر مع بعدها ... قد حسدت في قربك الناسا
كما تمنى البدر لو أنه ... أضحى لنشابك برجاسا
سخط الفضل بن الربيع على ابن سيابة فاسترضاه فامتنع. فكتب إليه ابن سيابة بهذه الأبيات:
إن كان جرمي قد أحاط بحرمتي ... فأحط بجرمي عفوك المأمولا
فكم ارتجيتك في التي لا يرتجى ... في مثلها أحد فنلت السؤلا
وضللت عنك فلم أجد لي مذهباً ... ووجدت حلمك لي عليك دليلا
هبني أسأت وما أسأت أقر كي ... يزداد عفوك بعد طولك طولا
فالعفو أجمل والتفضل بامرئ ... لم يعدم الراجون منه جملا
فلما قرأها الفضل دمعت عيناه ورضي عنه (بدائع البدائه للأزدي) .
وشي بابن سيد عند أبي جعفر فجافاه فكتب إليه:
ولا غرو أن تعفو وأنت ابن من غدا ... يعود عفواً من كبار الجرائم(4/176)
لكم آل عمار بيوت رفيعة ... تشيد من كسب الثنا بدعائم
إذا نحن أذنبنا رجونا ثوابكم ... ولم نقتنع بالعفو دون المكارم
وإنك فرع من أصول كريمة ... ولا تلد الأزهار غير الكمائم
وإني مظلوم لزور سمعته ... وقد جئت أرجو العفو في زي ظالم
فعفا عنه وقربه إليه ووصله (الذخيرة لابن بسام) .
كتب ابن خروف لبعض الرؤساء:
يا من حوى كل مجد ... بجده وبجده
أتاك نجل خروف ... فامنن عليه بجده
كتب آخر إلى بعض الوجوه:
تبسم الثغر عن أوصافكم فسرى ... من طيب عرفكم ريح فأحيانا
فمن هناك عشقناكم ولم نركم ... والأذن تعشق قبل العين أحيانا
لأبي الوليد مما يكتب على قوس:
إني إذا رفعت سماء عجاجتي ... والحرب تقعد بالردى وتقوم
وتمر والأبطال في جنباتها ... والموت من فوق النفوس يحوم
مرقت لهم منا الحتوف كأنما ... نحن إلهلة والسهام نجوم
قال أبو عبد الله محمد بن زرقون:
يا معدن الفضل وطود الحجى ... لا زلت في بحر العلى تغترف
عبدك بالباب فقل منعماً ... يدخل أو يصبر أو ينصرف
كتب ابن هذيل الفزاري للغني بالله سلطان ابن الخطيب:(4/177)
ليس يا مولاي لي من جابر ... إذ غدا قلبي من البلوى جذاذا
غير صك أحمر تكتب لي ... فيه يمناك اعتناء صح لهذا
سلم على المتنبئ بعض أصحابه فلم يرد. فقال معتذراً:
إذ كنت حين لقيتني ... متوجعاً لتغيبك
فشغلت عن رد السلا ... م وكان شغلي عنك بك
سأل الحجاج ابن القرية قال: أخبرني عن أول من نطق بالشعر. فقال: آدم وهو حين قتل قاين أخاه هابيل فأنشد:
تغيرت البلاد ومن عليها ... فوجه الأرض مغبر قبيح
تغير كل ذي طعم ولون ... ولم ير في الدنى شيء مليح
بكت عيني وحق لها التباكي ... وجفني بعد أحبابي قريح
فأجابه إبليس على قوله: فأجابه إبليس على قوله:
تنوح على البلاد وما عليها ... وبالفردوس ضاق بك الفسيح
وكنت به وعرسك في نعيم ... من الدنيا وقلبك مستريح
فما زالت مكايدتي ومكري ... إلى أن فاتك الثمن الربيح
للأمير أبي الفتح المعري في المرقص:
أبا صالح أشكو إليك نوائباً ... عرتني كما يشكو النبات إلى القطر
لتنظر نحوي نظرة لو نظرتها ... إلى الصخر فجرت العيون من الصخر
وفي الدار خلفي صبية قد تركتهم ... يطلون إطلال الفراخ إلى الوكر
جنيت على روحي بروحي جناية ... فأثقلت ظهري بالذي خف من ظهري(4/178)
لتاج الدين بن أبي الحواري في المرقص
ووالله ما أخرت عنك مدائحي ... لأمر سوى أني عجزت عن الشكر
وقد رضت فكري مرة بعد مرة ... فما ساغ أن أهدي إلى مثلكم شعري
فإن لم يكن فتلك نقيصة ... وإن كان دراً كيف يهدى إلى البحر
كتب ابن وضاح المرسي لرئيس قطع عنه إحسانه فقطع مدحه:
هل كنت إلا طائراً بثنائكم ... في دوح مجدكم أقوم وأقعد
إن تسلبوني ريشكم وتقلصوا ... عني ظلالكم فكيف أغرد
كتب الحمداني إلى القاضي أبي حصين عند مسيره إلى الرقة:
يا طول شوقي إن كان الرحيل غداً ... لا فرق الله فيما بيننا أبدا
يا من أصافيه في قرب وفي بعد ... ومن أخالصه إن غاب أو شهدا
راع الفراق فؤاداً كنت تؤنسه ... وزاد بين الجفون الدمع والسهدا
لا يبعد الله شخصاً لا أرى أنساً ... ولا تطيب لي الدنيا إذا بعدا
أضحى وأضحيت في سر وفي علن ... أعده والداً إذ عدني ولدا
ما زال ينظم في الشعر مجتهداً ... فضلاً وأنظم فيه الشعر مجتهدا
حتى اعترفت وعزتني فضائله ... وفات سبقاً وحاز الفضل منفردا
إن قصر الجهد عن إدراك غايته ... فأعذر الناس من أعطاك ما وجدا
لا يطرق النازل المحدور ساحته ... ولا تمد إليه الحادثات يدا
أبقى لنا الله مولانا ولا برحت ... أيامنا أبداً في ظله جددا(4/179)
الباب العاشر في المديح
بلعة بن قيس وبنو هاشم
قال بلعاء بن قيس: العرب كالبدن وقريش روحها. وقريش روح بني هاشم سرها ولبها. وموضع غاية الدين والدنيا منها. وهاشم ملح الأرض وزينة الدنيا. وحي العالم والسنام الأضخم. والكاهل الأعظم. ولباب كل جوهر كريم وسر كل عنصر شريف. والطينة البيضاء والمغرس المبارك والنصاب الوثيق ومعدن الفهم وينبوع العلم. وثهلان ذو الهضاب في الحلم والسيف. الحسام في العزم مع الأناة والحزم والصفح عن الجرم والقصد بعد المعرفة والصفح بعد المقدرة. وهم الأنف المقدم. والسنام الأكرم. وكالماء الذي لا ينجسه شيء. وكالشمس التي لا تخفى بكل مكان. وكالذهب لا يعرف بالنقصان. وكالنجم للحيران والبارد للظمآن (للقيرواني) .
مديح المأمون
قال ابن أبي طاهر: دخل المأمون بغداد فتلقاه وجوه أهلها. فقال له رجل منهم: يا أمير المؤمنين بارك الله لك في مقدمك. وزاد في نعمتك وشكرك عن رعيتك. تقدمت من قبلك. وأتعبت من بعدك. وآيست أن يعاين مثلك. أما فيما مضى فلا نعرفه. وأما(4/180)
فيما بقي فلا نرجوه. فنحن جميعاً ندعو لك ونثني عليك. خصب لنا جنابك وعذب ثوابك. وحسنت نظرتك. وكرمت مقدرتك. جبرت الفقير. وفككت الأسير. والخير بفنائك. والشر بساحة أعدائك. والنصر منوط بلوائك. والخذلان مع ألوية حسادك. والبر فعلك. قد طحطح عدوك غضبك. وهزم مقانبهم قوارع الأعداء ظفرك. الذهب عطاؤك. والدواة رمزك. والأوراق لحظك وأطرافك (لابن عبد ربه) .
مدح مقامات الحريري
إني لم أر في كتب العربية والأدب. ولا في تصانيف العجم والعرب. كتاباً أحسن تأليفاً. وأعجب تصنيفاً. وأغرب ترصيفاً. وأشمل للعجائب العربية. وأجمع للغرائب الأدبية. وأكثر تضمناً لأمثال العرب. ونكت الأدب. من المقامات التي أنشأها الإمام جمال العصر. وكمال الدهر. أبو محمد القاسم بن علي الحريري البصري برد الله مضجعه. وطيب مهجعه. إنشاء فاخراً. وكتاباً باهراً. وتصنيفاً عجيباً معجزاً. وتأليفاً عزيزاً معوزاً. نعم كتاب بديع. له قدر رفيع. قد تمت حسناته. ودلت على الإعجاز آياته. هذا ولما خرج مقبول النظام. متداولاً فيما بين الأنام. أكب أبناء زماننا على تحصيله. وواظبوا على تفهم جمله وتفصيله. غير أن أكثرهم ربما(4/181)
خبطوا فيه خبط عشواء. إذ وقعوا منه في معضلة عمياء. ولا يهتدون إلى سواء السبيل. بل يترددون في تيه بلا دليل (للمطرزي) .
قال البرعي في إبراهيم بم محمد الحكمي:
إلى صارم الدين الفتى ابن محمد ... رمت بي مقادير جرت وخطوب
وحطت بي الآمال في خير منزل ... لدى خير من يلوي إليه أديب
فوافيت أعلى الناس نفساً ومنصباً ... وأخصب ربعاً والزمان جدب
هو الكوثر الفياض في آل فارح ... به العيش يحلو والزمان يطيب
غمام يعم الخلق ظلاً فنائلاً ... لكل من الراجين فيه نصيب
عليك سلام الله جئتك زائراً ... وشأني وقيت الشائنين عجيب
أؤمل منك البر والبر واسع ... وأرجو نداك الجم وهو قريب
فقم بي وعاملني بما أنت أهله ... فإن رجاني فيك ليس يخيب
وصن ماء وجهي عن زمان معاند ... وصل حبل أنسي فالغريب غريب
ودمت منار الدين ما لاح بارق ... وما اهتز غصن في الأراك رطيب
ولا زلت مأمولي وعوني ونصرتي ... على نائبات الدهر حين تنوب
حدث إبراهيم بن المدبر قال: مرض المتوكل مرضة خيف عليه منها. ثم عوفي وأذن للناس في الوصول إليه فدخلوا على طبقاتهم كافة. ودخلت معهم فلما رآني استدناني حتى قمت وراء الفتح ونظر إلي مستنطقاً فأنشدته:
يوم أتانا بالسرور ... بالحمد لله الكبير(4/182)
أخلصت فيه شكره ... ووفيت فيه بالنذور
لما اعتللت تصدعت ... شعب القلوب من الصدور
من بين ملتهب الفؤا ... د وبين مكتئب الضمير
يا عدتي للدين وال ... دنيا وللخطب الخطير
كانت جفوني ثرة ال ... آماق بالدمع الغزير
لو لم أمت جزعاً لعم ... رك إنني عين الصبور
يومي هنالك كالسني ... ن وساعتي مثل الشهور
يا جعفر المتوكل ال ... عالي على البدر المنير
اليوم عاد الدين غض ... العود ذا ورق نضير
واليوم أصبحت الخلا ... فة وهي أرسى من ثبير
قد حالفتك وعاقدت ... ك على مطاولة الدهور
فقال المتوكل للفتح: إن إبراهيم ينطق عن نية خالصة وود محض وما قضينا حقه. فتقدم بأن يحمل إليه الساعة خمسون ألف درهم.
مدح مطيع بن إياس معن بن زائدة بقصيدته التي أولها:
أهلاً وسهلاً بسيد العرب ... ذي الغرر الواضحات والنجب
فتى نزار وكهلها وأخي ال ... جود حوى عانيه من كثب
جاء الذي تفرج الهموم به ... حين يلز الوضين بالحقب
شهم إذا الحرب شب دائرها ... أعاده عودة على القطب
يطفئ نيرانها ويوقدها ... إذا خبت نارها بلا حطب(4/183)
ليث بخفان قد حمى أجماً ... فصار منها في منزل أشب
شبلاه قد أزيا به فهما ... شبهاه في جده وفي لعب
قد ومقا شكله وسيرته ... وأحكما منه أكرم الأدب
نعم الفتى تقرن الصعاب به ... عند تجاثي الخصوم للركب
ترى له الحلم والنهى خلقاً ... في صولة مثل جاحم اللهب
سيف الإمامين ذاك وذا إذا ... قل بناة الوفاء والحسب
ذا هوادة لا يخاف نبوتها ... ودينه لا يشاب بالريب
فلما سمعها معن قال له: إن شئت مدحناك كما مدحتنا. وإن شئت أثبناك. فاستحيا مطيع من اختيار الثواب على المديح وهو محتاج إلى الثواب فأنشأ:
ثناء من أمير خير كسب ... لصاحب نعمة وأخي ثراء
ولكن الزمان برى عظامي ... وما مثل الدراهم من دواء
فضحك معن حتى استلقى. وقال: لقد لطفت حتى تخلصت منها. صدقت لعمري ما مثل الدراهم من دواء. وأمر له بثلاثين ألف درهم وخلع عليه وحمله (الأغاني) . قال البستي يمدح آل فريعون:
بنو فريعون قوم في وجوههم ... نور الهدى وضياء السؤدد العالي
كأنما خلقوا من سؤدد وعلا ... وسائر الناس من طين وصلصال
من تلق منهم تقل هذا أجلهم ... شأناً وأسمحهم بالنفس والمال(4/184)
يا سائلي ما الذي حصلت عندهم ... دع السؤال وقم فانظر إلى حالي
أفادني الملك الميمون طائره ... عزاً وألبسني سربال إقبال
واشتق من حقه بحراً طغى وطما ... حبابه فوق أفكاري وآمالي
فإن أكن ساكتاً عن شكر أنعمه ... فإن ذاك لعجزي لا لإغفالي
وقال في أبي نصر:
أبا نصر نصرت على الأعادي ... وصرت لكل ذي فضل إماما
برأي يهزم الجيش اللهاما ... وعزم يخجل السيف الحساما
قال أبو تمام يمدح أبا الحسن موسى بن عبد الملك:
إن يكن في الأرض شيء حسن ... فهو في دور بني عبد الملك
ما يبالون إذا ما أفضلوا ... ما بقي من مالهم أو ما هلك
عقلت ألسنهم عن قول لا ... فهي لا تعرف إلا هو لك
منهم موسى جواد ماجد ... لا يرى ما لم يهب مما ملك
زينوا الأرض كما قد زينت ... بنجوم الليل آفاق الفلك
قال خالد بن جعفر يمدح أبا عمرو أحيحة بن الجلاح:
إذا ما أردت لعز من آل يثرب ... فناد أبا عمرو أحيحة يسمع
بنى في العلى والفخر والمجد منزلاً ... له فوق أكناف السماكين موضع
وإن هز في يوم الكريهة سيفه ... رأيت شعاع الموت في السيف يلمع
وإن وهبت كفاه والغيث هاطل ... يدوم عطاه والسحائب تقلع
ويأمن في أبياته كل خائف ... ويشبع من نعماه من ليس يشبع(4/185)
مناقب في الجلاح كانت قديمة ... فسار عليها وابنه يتتبع
قال بعض الشعراء يمدح ابن أبي داود:
ترك المنابر والسرير تواضعاً ... وله منابر لو يشا وسرير
ولغيره يجبى الخراج وإنما ... يجبى إليه محامد وأجور
قال أبو العباس الكوراني يمدح الأمير يوسف بن عبد المؤمن:
إن الإمام هو الطبيب وقد شفى ... علل البرايا ظاهراً ودخيلا
حمل البسيطة وهي تحمل شخصه ... كالروح يوجد حاملاً محمولا
قال أبو بكر بن عبد العزيز في المدح:
قد هززناك في المكارم غصنا ... واستلمناك في النوائب ركنا
ووجدنا الزمان في لان عطفاً ... وتأتى فعلاً وأشرق حسنا
فإذا ما سألته كان سمحاً ... وإذا ما هززته كان لدنا
أنت ماء السماء أخصب وادي ... هـ ورقت رياضه فانتجعنا
نزعت بي إلى ودادك نفس ... قلما استصحبت سوى الفضل خدنا
قال ابن النبيه يمدح صلاح الدين يوسف بن أيوب:
هو العادل الظلام للمال والعدى ... خزائنه قد أقفرت وديارها
كريم له نفس تجود بما حوت ... وأعجب شيء بعد ذاك اعتذارها
حسام له حد يروع مضاؤه ... وصفحة صفح للذنوب اغتفارها
له راحة في السلم تجنى جنانها ... ويوم هياج الحرب توقد نارها
أنامله طوراً غصون نواضر ... وطوراً سيوف داميات شفارها(4/186)
قال النابغة يمدح غسان حين ارتحل من عندهم راجعاً:
لا يبعد الله جيراناً تركتهم ... مثل المصابيح تجلو ليلة الظلم
هم الملوك وأبناء الملوك لهم ... فضل على الناس في اللأواء والنعم
أحلام عاد وأجساد مطهرة ... من المعقة والآفات والآثم
دخل شاعر على الملك الواثق وقال له:
إني رأيتك سيدي في مجلس ... قعد الملوك بحافته وقاموا
فكأنك الدهر الصؤول عليهم ... وكأنهم من حولك الأيام
فقال: أحسنت كم أملت اطلب ما تشاء. قال: يا مولاي يدك بالعطية أوسع من لساني بالمسلة. فوهبه ألف دينار وخلع عليه.
قال ابن نباتة في الملك المؤيد صاحب حماة:
لنا ملك قد قاسمتنا هباته ... فنثر العطا منه ونظم الثنا منا
يذكرنا أخبار معن بجوده ... وننشي له لفظاً فينشي لنا معنى
وأحسن ما سمع في القسم على المدح قول الشاعر:
حلفت بمن سوى السماء وشادها ... ومن مرج البحرين يلتقيان
ومن قام في المعقول من غير رؤية ... بأثبت من إدراك كل عيان
لما خلقت كفاك إلا لأربع ... عقائل لم تعقل لهن ثواني
لتقبيل أفواه وإعطاء نائل ... وتقليب هندي وحبس عنان
قال شرف الدين القيرواني:
جاور علياً ولا تحفل بحادثة ... إذا ادرعت فلا تسأل عن السل(4/187)
سل عنه وانطق به وانظر إليه تجد ... ملء المسامع والأفواه والمقل
قالت الخنساء في أخيها وقد أرادت مساواته بأبيه مع مراعاة حق الوالد بزيادة مدح لا ينقص به حق الوالد:
جارى أباه فأقبلا وهما ... يتعاوران ملاءة الفخر
وهما قد برزا كأنهما ... صقران قد حطا على وكر
برقت صفيحة وجه والده ... ومضى على غلوائه يجري
أولى فأولى أن يساويه ... لولا جلال السن والكبر
قال زهير بن أبي سلمى في بني سنان:
قوم أبوهم سنان حين تنسبهم ... طابوا وطاب من الأولاد ما ولدوا
لو كان يقعد فوق الشمس من كرم ... قوم بآبائهم أو مجدهم قعدوا
وقال يمدح هرم بن سنان:
وأبيض فياض يداه غمامة ... على معتفيه ما تقب فواضله
تراه إذا ما جئته متهللاً ... كأنك تعطيه الذي أنت سائله
أخو ثقة لا تتلف الخمر ماله ... ولكنه قد يتلف المال نائله
قال أعشى قيس يمدح الأسود بن المنذر أخا النعمان:
أنت خير من ألف ألف من النا ... س إذا ما كبت وجوه الرجال
فرع نبع يهتز في غصن المج ... د غزير اللهي عظيم الجمال
فإذا من عصاك أصبح محزو ... ناً وكعب الذي يطيعك عال
قال عروة بن الورد:(4/188)
لو كانت الريح حقاً تحمل الخبرا ... حملت ريح الصبا أنفاسنا سحرا
إلى الشجاع الذي ما سل صارمه ... إلا ودم العدى فوق الصعيد جرى
ليث يلاقي رجال ارحب مقتدراً ... وطعنه في حشاها وافق القدرا
يا حامياً عبس قد بتنا على وجل ... من فارس لا يخاف البؤس والضررا
لقد رجوناك عند الخطب تدركنا ... ومن دماهم تروي الصارم الذكرا
قال علي بن جبلة يمدح أبا دلف وكان قتل قرقور في الحرب:
امتدح من وائل رجلاً ... عصر الآفاق في عصره
المنايا في مناقبه ... والعطايا في ذرا حجره
ملك تندى أنامله ... كانبلاج النوء عن مطره
مستهل عن مواهبه ... كابتسام الروض عن زهره
إنما الدنيا أبو دلف ... بين باديه ومختصره
فإذا ولى أبو دلف ... ولت الدنيا على أثره
يا دواء الأرض إن فسدت ... ومديل اليسر من عسره
كل من في الأرض من عرب ... بين باديه إلى حضره
مستعير منك مكرمة ... يكتسيها يوم مفتخره
وزحوف في صواهله ... كصياح الحشر في أثره
قدته والموت مكتمن ... في مذاكيه ومستجره
زرته والخيل عابسة ... تحمل البؤس على عقره
خارجات تحت راياتها ... كخروج الطير من وكره(4/189)
ولقرقور أدرت رحاً ... لم تكن ترتد في فكره
قد تأنيت البقاء له ... فأبى المحتوم من قدره
فلما أنشد علي بن أبي جبلة هذه القصيدة استحسنها أبو دلف وسر بها وأمر له بمائة ألف درهم.
أخبر علي بن سليمان الأخفش قال: بينا أبو دلف يسير مع أخيه معقل وهما إذ ذاك بالعراق إذ مر بامرأتين تتماشيان. فقالت إحداهما لصاحبتها: هذا أبو دلف. قالت: من أبو دلف. قالت الذي يقول فيه الشاعر (إنما الدنيا أبو دلف) . (قال) : فاستعبر أبو دلف حتى جرى دمعه. قال له معقل: مالك يا أخي تبكي. قال: لأني لم أقض حق علي بن جبلة (الأغاني) .
قال آخر في المدح:
أهل بأن يسعى إليه ويرتجى ... ويزار من أقصى البلاد على الرجا
فلقد غدا بالمكرمات مقلداً ... وموشحاً ومختماً ومتوجا
قال المتنبئ يمدح سيف الدولة:
ضاق الزمان ووجه الأرض عن ملك ... ملء الزمان وملء السهل والجبل
ونحن في جذل والروم في وجل ... والبر في شغل والبحر في خجل
وقال أيضاً:
يا أكرم الناس أخلاقاً وأوفرهم ... عقلاً وأسبقهم فيه إلى الأمد
أصبحت أفضل من يمشي على قدم ... بالرأي والعقل لا بالبطش والجلد(4/190)
لئن ضعفت وأضناك السقام فلم ... يضعف قوى عقلك الصافي ولم يمد
لو كان أفضل ما في الخلق بطشهم ... دون العقول لكان الفضل للأسد
قال عمارة اليمني: (ابن خلكان)
يا لسان الزمان لفظاً ومعنى ... وربيع الأنام كفاً ومغنى
تعتلي كوكباً وتشرق شمساً ... وتحامي ليثاً وتنهل مزنا
قال آخر:
إذا حللت بأرض وهي مجدبة ... قليلة الغيث لم يخطر بها الساري
فليس ترحل إلا وهي معشبة ... كأنما أنت فيها رحمة الباري
قال أبو الفرج الببغاء في سيف الدولة بن حمدان:
نداك إذا ضن الغمام غمام ... وعزمك إن فل الحسام حسام
فهذا ينيل الرزق وهو ممنع ... وذاك يرد الجيش وهو لهام
ومن طلب الأعداء بالمال والظبى ... وبالسعد لم يبعد عليه مرام
قال أبو الفتح البستي في نجل بعض الأمراء:
فتى جمع العلياء علماً وعفة ... وجوداً وبأساً لا يفيق فواقا
كما جمع التفاح شكلاً وبهجة ... ورائحة محبوبة ومذاقا
قال عمار بن الحسن يمدح عبد الله بن لهيمة:
إذا سار عبد الله من مرو ليلة ... فقد سار منها نورها وجمالها
إذا ذكر الأحبار من كل بلدة ... فهم أنجم فيها وأنت هلالها
أنشد محمد بن هانئ في جعفر بن علي بن غلبون:(4/191)
لو خلد الدهر ذا عز لعزته ... كنت الأحق بتعمير وتخليد
تبلى الكرام وآثار الكرام وما ... تزداد في كل عصر غير تجديد
لأبي الشيص الخزاعي:
عشق المكارم فهو مشتغل بها ... والمكرمات قليلة العشاق
وأقام سوقاً للثناء ولم تكن ... سوق الثناء تعد في الأسواق
بث الصنائع في البلاد فأصبحت ... تجبى إليه محامد الآفاق
قال أبو حوثة:
قوم إذا اقتحموا العجاج رأيتهم ... أسداً وخلت وجوههم أقمارا
لا يعدلون يرفدهم عن سائل ... عدل الزمان عليهم أو جارا
وإذا الصريح دعاهم لملمة ... بذلوا النفوس وفارقوا الأعمارا
وإذا زناد الحرب أخمد نارها ... قدحوا بأطراف الأسنة نارا
قال العرندس يمدح قوماً:
هينون لينون أيسار ذوو كرم ... سواس مكرمة أبناء أيسار
فيهم ومنهم يعد المجد متلداً ... ولا يعد نثا خزي ولا عار
لا ينطقون عن الفحشاء إن نطقوا ... ولا يمارون إن ماروا بإكثار
من تلق منهم تقل لاقيت سيدهم ... مثل النجوم التي يسري بها الساري
قال الحزين الليثي في علي بن الحسين بن علي بن أبي طالب:
هذا الذي تعرف البطحاء وطأته ... والبيت يعرفه والحل والحرم
إذا رأته قريش قال قائلها ... إلى مكارم هذا ينتهي الكرم(4/192)
الباب الحادي عشر
في الفخر والحماسة
قال أبو بكر الأرجاني في باب الفخر:
أنا أشعر الفقهاء غير مدافع ... في العصر أو أنا أفقه الشعراء
شعري إذا ما قلت دونه الورى ... بالطبع لا يتكلف الإلقاء
كالصوت في قلل الجبال إذا علا ... للسمع هاج تجاوب الأصداء
قال القاضي الرشيد أبو الحسين الغساني الأسواني:
جلت لدي الرزايا بل جلت همتي ... وهل يضر جلاء الصارم الذكر
غيري يغيره عن حسن شيمته ... صرف الزمان وما يأتي من الغير
لو كانت النار الياقوت محرقة ... لكان يشتبه الياقوت بالحجر
فلا تغرنك أطماري وقيمتها ... فإنما هي أصداف على درر
ولا تظن خفاء النجم عن صغر ... فالذنب من ذاك محمول على البصر
قال عنتر يتهدد هوازن وجشم وكانا قد أغارا على ديار عبس:
سكت فغر أعدائي السكوت ... وظنوني لأهلي قد نسيت
وكيف أنام عن سادات قوم ... أنا في فضل نعمتهم ربيت
وإن دارت بهم خيل الأعادي ... ونادوني أجبت متى دعيت
بسيف حده موج المنايا ... ورمح صدره الحتف المميت
خلقت من الحديد أشد قلباً ... وقد بلي الحديد وما بليت(4/193)
وإني قد شربت دم الأعادي ... بأقحاف الرؤوس وما رويت
وفي الحرب العوان ولدت طفلاً ... ومن لبن المعامع قد سقيت
فما للريح في جسمي نصيب ... ولا للسيف في أعضاي قوت
ولي بيت علا فلك الثريا ... تخر لعظم هيبته البيوت
وقال أيضاً يفتخر:
أعادي صرف الدهر لا يعادى ... وأحتمل القطيعة والبعادا
وأظهر نصح قوم ضيعوني ... وإن خانت قلوبهم الودادا
أعلل بالمنى قلباً عليلاً ... وبالصبر الجميل وإن تمادى
تعيرني العدى بسواد جلدي ... وبيض خصائلي تمحو السوادا
وردت الحرب والأبطال حولي ... تهز أكفها السمر الصعادا
وخضت بمهجتي بحر المنايا ... ونار الحرب تتقد اتقادا
وعدت مخضباً بدم الأعادي ... وكرب الركض قد خضب الجوادا
وسيفي مرهف الحدين ماض ... تقد شفاره الصخر الجمادا
ورمحي لما طعنت به طعيناً ... فعاد بعينه نظر الرشادا
ولولا صارمي وسنان رمحي ... لما رفعت بنو عبس عمادا
قال عمرو بن معدي كرب:
ليس الجمال بمئزر ... فاعلم وإن رديت بردا
إن الجمال معادن ... ومناقب أورثن مجدا
أعددت للحدثان سا ... بغة وعداء علندا(4/194)
نهداً وذا شطب يق ... د البيض والأبدان قدا
وعلمت أني يوم ذا ... ك منازل كعباً ونهدا
قوم إذا لبسوا الحدي ... د تنمروا حلقاً وقدا
كل امرئ يجري إلى ... يوم الهياج بما استعدا
نازلت كبشهم ولم ... أر من نزال الكبش بدا
هم ينذرون دمي وأن ... ذر إن لقيت بأن أشدا
كم من أخ لي صالح ... بوأته بيدي لحدا
ما إن جزعت ولا هلع ... ت ولا يرد بكاي زندا
ألبسته أثوابه ... وخلقت يوم خلقت جلدا
أغني غناء الذاهبي ... ن أعد للأعداء عدا
ذهب الذين أحبهم ... وبقيت مثل السيف فردا
قال عنتر وقد خرج إلى ديار بني زبيد في طلب رأس ابن محارب:
أطوي فيافي الفلا والليل معتكر ... وأقطع البيد والرمضاء تستعر
ولا أرى مؤنساً غير الحسام وإن ... قل الأعادي غداة الروع أو كثروا
فحاذري يا سباع البر من رجل ... إذا انتضى سيفه لا ينفع الحذر
ورافقيني تري هاماً مفلقة ... والطير عاطفة تمسي وتبتكر
ما خالد بعد ما قد سرت طالبه ... بخالد لا ولا الجيداء تفتخر
ولا ديارهم بالأهل آنسة ... يأوي الغراب بها والذب والنمر
وقال بعض بني أسد:(4/195)
وإني لأستغني فما أبطر الغنى ... وأعرض ميسوري على مبتغي قرضي
وأعسر أحياناً فتشتد عسرتي ... وأدرك ميسور الغنى ومعي عرضي
وما نالها حتى تجلت وأسفرت ... أخو ثقة مني بقرض ولا فرض
وأبذل معروفي وتصفو خليقتي ... إذا كدرت أخلاق كل فتى محض
وأستنقذ المولى من الأمر بعدما ... يزل كما زل البعير عن الدحض
وأمنحه مالي وودي ونصرتي ... وإن كان محني الضلوع على بغضي
ويغمره حلمي ولو شئت ناله ... قوارع تبري العظم عن كلم مض
وأقضي على نفسي إذا الأمر نابني ... وفي الناس من يقضى عليه ولا يقضي
ولست بذي وجهين فيمن عرفته ... ولا البخل فاعلم من سمائي ولا أرضي
وإني لسهل ما تغير شيمتي ... صروف ليالي الدهر بالقتل والنقض
ولعنترة في يوم المصانع:
إذا كشف الزمان لك القناعا ... ومد إليك صرف الدهر باعا
فلا تخش المنية والتقيها ... ودافع ما استطعت لها دفاعا
ولا تختر فراشاً من حرير ... ولا تبك المنازل والبقاعا
وحولك نسوة يندبن حزناً ... ويهتكن البراقع واللفاعا
يقول لك الطبيب دواك عندي ... إذا ما جس كفك والذارعا
ولو عرف الدبيب دواء داء ... يرد الموت ما قاسى النزاعا
وفي يوم المصانع قد تركنا ... لنا بفعالنا خبراً مشاعا
أقمنا بالذوابل سوق حرب ... ويرنا النفوس لها متاعا(4/196)
حصاني كان دلال المنايا ... فخاض غبارها وشرى وباعا
وسيفي كان في الهيجا طبيباً ... يداوي راس من يشكو الصداعا
أنا العبد الذي خبرت عنه ... وقد عاينتني فدع السماعا
ولو أرسلت رمحي مع جبان ... لكان بهيبتي يلقى السباعا
ملأت الأرض خوفاً من حسامي ... وخصمي لم يجد فيها اتساعا
إذا الأبطال فرت من خوف بأسي ... ترى الأقطار باعاً أو ذراعا
وقال مضرس بن ربعي:
إنا لنصفح عن مجاهل قومنا ... ونقيم سالفة العدو الأصيد
ومن نخف يوماً فساد عشيرة ... نصلح وإن نر صالحاً لا نفسد
وإذا نموا صعداً فليس عليهم ... منا الخبال ولا نفوس الحسد
ونعين فاعلنا على ما نابه ... حتى نيسره لفعل السيد
ونجيب داعية الصباح بثائب ... عجل الركوب لدعوة المستنجد
فنقل شوكتها ونفثاً حميها ... حتى تبوخ وحمينا لم يبرد
وتحل في دار الحفاظ بيوتنا ... رتع الجمايل في الدرين الأسود
وقال عنترة العبسي:
واجهدي في عداوتي وعنادي ... أنت والله لم تلمي ببالي
إن لي همة أشد من الصخ ... ر وأقوى من راسيات الجبال
وحساماً إذا ضربت به الده ... ر تخلت عنه القرون الخوالي
وسناناً إذا تعسفت بي اللي ... ل هداني وردني عن ضلالي(4/197)
وجواداً ما سار إلا سرى البر ... ق وراه من اقتداح النعال
أدهم يصدع الدجى بسواد ... بين عينيه غرة كالهلال
يفتديني بنفسه وأفدي ... هـ بنفسي يوم القتال ومالي
وإذا قام سوق حرب العوالي ... وتلظى بالمرهفات الصقال
كنت دلالها وكان سناني ... تاجراً يشتري النفوس الغوالي
يا سباع الفلا إلا اشتعل الحر ... ب اتبعيني من القفار الخوالي
اتبعيني تري دماء الأعادي ... سائلات بين الربى والرمال
ثم عودي من بعد ذا واشكريني ... واذكري ما رأيته من فعالي
وخذي من جماجم القوم قوتاً ... لبنيك الصغار والأشبال
وقال عبد الله بن رواحة الأنصاري:
متى ما تأت يثرب أو تردها ... تجدنا نحن أكرمها جدودا
وأغلظها على الأعداء ركناً ... وألينها لباغي الخير عودا
وأخطبها إذا اجتمعوا لأمر ... وأقصدها وأوفاها عهودا
إذا ندعى لثار أو لجار ... فنحن الأكثرون بها عديدا
متى ما ندع في جشم وعوف ... تجدني لا أغم ولا وحيدا
وحولي جمع ساعدة بن عمرو ... وتيم اللات قد لبسوا الحديدا
زعمتم أنكم نلتم ملوكاً ... ونزعم أننا نلنا عبيدا
وما نبغي من الأحلاف وتراً ... وقد نلنا المسود والمسودا
قال أبو الفتح البستي:(4/198)
ونحن أناس لا نذل لجانف ... علينا ولا نرضى حكومة حائف
ملكنا العوالي بالمعالي فجارنا ... عزيز ومن نفل به غير خائف
ورثنا عن الآباء عند اخترامها ... صفائح تغني عن رسوم الصحائف
تؤمرنا أسيافنا ورماحنا ... إذا لم يؤمرنا لواء الخلايف
بنينا بأطراف الأسنة كعبة ... أطاف بها قسراً ملوك الطوائف
فمن شاء فليخشن ومن شاء فليلن ... فما نقدنا إن قارضونا بزائف
وسوف نجازي بالطائف أهلها ... ونسقي زعاف السم أهل الكتائف
قال القريظ بن أنيف يفتخر بقومه:
قوم إذا الشر أبدى ناجذيه لهم ... طاروا إليه زرافات ووحدانا
لا يسألون أخاهم حين يندبهم ... في النائبات على ما قال برهانا
لكن قومي وإن كانوا ذوي عدد ... ليسوا من الشر في شيء وإن هانا
يجزون من ظلم أهل الظلم مغفرة ... ومن إساءة أهل السوء إحسانا
كأن ربك لم يخلق لخشيته ... سواهم من جميع الناس إنسانا
فليت لي بهم قوماً إذا ركبوا ... شنوا الإغارة فرساناً وركبانا
ولله عنتر حيث يقول:
أنا في الحرب العوان ... غير مجهول المكان
وحسامي مع قناتي ... لفعالي شاهدان
إنني أطعن خصمي ... وهو يقظان الجنان
أسقه كاس المنايا ... وفراها منه دان(4/199)
خلق الرمح لكفي ... والحسام الهندواني
ومعي في المهد كانا ... فوق صدري يؤنساني
وإذا ما الأرض صارت ... وردة مثل الدهان
والدما تجري عليها ... لونها أحمر قاني
فاسقياني واسمعاني ... نغمة كي تطرباني
أطيب الأصوات عندي ... حسن صوت الهندواني
وصرير الرمح جهراً ... في الوغى يوم الطعان
وصياح القوم فيه ... وهو للأبطال دان
قال علي بن أبي طالب في همدان:
ولما رأيت الخيل تقرع بالقنا ... فوارسها حمر العيون دوام
وأقبل رهج في السما كأنه ... غمامة دجن أو عراض قتام
ومن كل حي قد أتتنا عصابة ... ذوو نجدات في اللقا كرام
وناديت فيهم دعوة فأجابني ... فوارس من همدان غير لئام
فوارس من همدان ليسوا بعزل ... غداة الوغى من شائك وسنام
يقودهم حامي الحقيقة منهم ... سعيد بن قيس والكريم يحامي
جزى الله همدان الجنان فإنهم ... سهام الأعادي عند كل حمام
متى تأتهم في دارهم تستضيفهم ... تبت ناعماً في غبطة وطعام
وقوم يحبون الإمام وهديه ... سراع إلى الهيجا بكل حسام
فلو كنت بواباً على باب جنة ... لقلت لهمدان ادخلوا بسلام(4/200)
ومن المعجب في هذا الباب قول مجير الدين بن تميم:
لو كنت تشهدني وقد حمي الوغى ... في موقف ما الموت فيه بمعزل
لترى أنابيب القناة على يدي ... تجري دماً من تحت ظل القسطل
قال بدر الدين بن فضل الله يتهدد تيمورلنك على لسان الظاهر برقوق:
السيف والرمح والنشاب قد علمت ... منا الحروب فسل منها تلبيكا
إذا التقينا تجد هذا مشاهدة ... في الحرب فاثبت فأمر الله آتيكا
بخدمة الحرمين الله شرفنا ... فضلاً وملكنا الأمصار تمليكا
وبالجميل وحلو النصر عودنا ... خذ التواريخ واقرأها فتنبيكا
ومن يكن ربه الفتاح ناصره ... فمن يخاف وهذا القول يكفيكا
قصيدة ابن سناء الملك في الفخر
سواي يهاب الموت أو يرهب الردى ... وغيري يهوى أن يعيش مخلدا
ولكنني لا أرهب الدهر إن سطا ... ولا أحذر الموت الزؤام إذا عدا
ولو مد نحوي حادث الدهر كفه ... لحدثت نفسي أن أمد له يدا
توقد عزمي يترك الماء جمرة ... وحيلة حلمي تترك السيف مبردا
وفرط احتقاري للأنام لأنني ... أرى كل عار من حل سؤددي سدى
ويأبى إبائي أن يراني قاعداً ... وإني أرى كل البرية مقعدا
وأظمأ إن أبدى لي الماء منه ... ولو كان لي نهر المجرة موردا
ولو كان إدراك الهدى بتذلل ... رأيت الهدى أن لا أمل إلى الهدى
وقدماً بغيري أصبح الدهر أشيباً ... وبي وبفضلي أصبح الدهر أمردا(4/201)
وإنك عبدي يا زمان وإنني ... على الرغم مني أن أرى لك سيدا
وما أنا راض واطئ الثرى ... ولي همة لا ترتضي الأفق مقعدا
ولو علمت زهر النجوم مكانتي ... لخرت جميعاً نحو وجهي سجدا
أرى الخلق دوني إذ أراني فوقهم ... ذكاء وعلماً واعتلاء وسؤددا
وبذل نوالي زاد حتى لقد غدا ... من الغيظ منه ساكن البحر مزبدا
ولي قلم في أنملي إن هززته ... فما ضرني أن لا أهز المهندا
إذا صال فوق الطرس وقع صريره ... فإن صليل المشرفي له صدى
لأبي الطمحان القيني
وإني من القوم الذين هم هم ... إذا مات منهم سيد قام صاحبه
نجوم سماء كلما غاب كوكب ... بدا كوكب تأوي إليه كواكبه
أضاءت لهم أحسابهم ووجوههم ... دجى الليل حتى نظم الجزع ثاقبه
وما زال منهم حيث كانوا مسود ... تسير المنايا حيث سارت كتائبه
لحسان بن ثابت الأنصاري
ولقد تقلدنا العشيرة أمرها ... ونسود يوم النائبات ونعتلي
وتزور أبواب الملوك ركابنا ... ومتى نحكم في البرية نعدل
ونحاول الأمر المهم خطابه ... فيهم ونفصل كل أمر معضل
قال أبو الجراح البكري
إنا لنبني على ما شيدته لنا ... آباؤنا الغر من مجد ومن كرم
لا يرفع الضيف عيناً في منازلنا ... إلا إلى ضاحك منا ومبتسم(4/202)
إني إذا كان قومي في الورى علماً ... فإنني علم في ذلك العلم
قال الأديب أبو بكر يحيى بن بقي من قصيدة له
هو الشعر أجرى في ميادين سبقه ... وأفرج من أبوابه كل مبهم
وسل أهله عني هل امتزت منهم ... بطبعي وهل غادرت من متردم
سلكت أساليب البديع فأصبحت ... بأقوالي الركبان في البيد ترتمي
وربتما غنى به كل ساجع ... يردده في شجوه والترنم
وضيعني قومي لأني لسانهم ... إذا أفحم الأقوام عند التكلم
وطالبني دهري لأني زنته ... وإني فيه غرة فوق أدهم
من شعر حسان بن ثابت قوله
إن الذوائب من فهر وإخوتهم ... قد بينوا سنناً للناس تتبع
يرضى بها كل من كانت سريرته ... تقوى الإله وبالأمر الذي شرعوا
قوم إذا حاربوا ضروا عدوهم ... أو حاولوا النفع في أشياعهم نفعوا
سجية تلك منهم غير محدثة ... إن الخلائق فاعلم شرها البدع
لو كان في الناس سباقون بعدهم ... فكل سبق لأدنى سبقهم تبع
لا يرفع الناس ما أوهت أكفهم ... عند الرقاع ولا يوهون ما رقعوا
إن سابقوا الناس يوماً فاز سبقهم ... أو وارثوا أهل المجد بالندى منعوا
لا يفخرون إذا نالوا عدوهم ... وإن أصيبوا فلا صور ولا هلع
ولا يضنون عن جار بفضلهم ... ولا يمسهم في مطمع طمع
كأنهم أفضل الأحياء كلهم ... إن جد بالناس جد القول أو سمع(4/203)
ومما يستجاد لعبيد بن الأبرص قوله
يا أيها السائل عن مجدنا ... إنك عن مسعاتنا جاهل
إن كنت لم تسمع بآبائنا ... فسل تنبأ أيها السائل
سائل بنا حجراً غداة الوغى ... يوم تولى جمعه الحافل
قومي بنو دودان أهل الحجى ... يوماً إذا ألقحت الحائل
كم فيهم من آئد سيد ... ذي نفحات قائل فاعل
من قوله قول ومن فعله ... فعل ومن نائله نائل
لا يحرم السائل إن جاءه ... ولا يعفي سيبه العاذل
الطاعن الطعنة يوم الوغى ... يذهل منه البطل الباسل
وقال كعب يمدح الأنصار
لا يشتكون الموت إن نزلت بهم ... شهباء ذات معاقر وأوار
ورثوا السيادة كابراً عن كابر ... إن الكرام هم بنو الأخيار
قال المتنبئ:
سيعلم الجمع ممن ضم مجلسنا ... بأنني خير من تسعى به قدم
أنا الذي نظر الأعمى إلى أدبي ... وأسمعت كلماتي من به صمم
الخيل والليل والبيداء تعرفني ... والسيف والرمح والقرطاس والقلم
قال جعفر بن شمس الخلافة:
أنا الذهب الإبريز مالي آفة ... سوى نقص تمييز المعاند في نقدي
ورب جهول عابني بمحاسني ... ويقبح ضوء الشمس في الأعين الرمد(4/204)
الباب الثاني عشر في الهجو
كان الرشيد أحمد بن الزبير قد اجتمعت فيه صفات وأخلاق تقتضي أن تجود معاني الهجاء فيه. من ذلك أنه كان أسود ولا يزال يدعي الذكاء وأن خاطره من نار. فقال فيه ابن قادوس:
إن قلت من نار خلق ... ت وفقت كل الناس فهما
قلنا صدقت فما الذي ... أطفاك حتى صرت فحما
قال ابن عبد ربه في بخيل:
يراعة غرني منها وميض سناً ... حتى مددت إليها الكف مقتبسا
فصادفت حجراً لو كنت تضربه ... من لؤمه بعصا موسى لما انبجسا
قال أبو نواس في آخر:
أبو نوح دخلت عليه يوماً ... فغداني برائحة الطعام
وقدم بيننا لحماً سميناً ... أكلناه على طبق الكلام
فلما أن رفعت يدي سقاني ... كؤوساً خمرها ريح المدام
فكان كمن سقى الظمآن آلاً ... وكنت كمن تغدى في المنام
وقال أيضاً في غيره:
رأيت أبا زرارة قال يوماً ... لحاجبه وفي يده الحسام
لئن وضع الخوان ولاح شخص ... لاختطفن رأسك والسلام(4/205)
فما في الأرض أقبح من خوان ... عليه الخبز يحضره الزحام
قال آخر:
لقد عثرت بجنح الليل رجلي ... على شخص ولم يك في حسابي
فقال مجاوباً لي أنت أعمى ... فقلت نعم ودواس الكلاب
قال أبو نواس في بعض من هجاه:
ولقد قتلتك بالهجاء فلم تمت ... إن الكلاب طويلة الأعمار
قال جرير يهجو الفرزدق:
وقد زعموا أن الفرزدق حية ... وما قتل الحيات من أحد قبلي
قال ابن دريد في نفطويه:
لو أوحي النحو إلى نفطويه ... ما كان النحو يعزى إليه
أحرقه الله بنصف اسمه ... وصير الباقي صراخاً عليه
قال إبراهيم بن العباس الصولي في من هجره:
وكنت أخي بالدهر حتى إذا نبا ... نبوت فلما عاد عدت مع الدهر
فلا يوم إقبال عددتك طائلاً ... ولا يوم إدبار عددتك في وتر
وما كنت إلا مثل أحلام نائم ... كلا حالتك من وفاء ومن غدر
هجا ابن خروف مهذب الدين بن الطيب:
إن الأعيرج حاز الطب أجمعه ... أستغفر الله إلا العلم والعملا
وليس يجهل شيئاً من غوامضه ... إلا الدلائل والأمراض والعللا
في حيلة البر قلت عنده حيل ... بعد اجتهاد ويدري للردى حيلا(4/206)
الروح يشكو لجثمان العليل على ... علاته فإذا ما طبه رحلا
من شعر ابن المبارك قوله في هجو قاض:
قد يفتح المرء حانوتاً لمتجره ... وقد فتحت لك الحانوت بالدين
بين الأساطين حانوت بلا غلق ... تبتاع بالدين أموال المساكين
صيرت دينك شاهيناً تصيد به ... وليس يفلح أصحاب الشواهين
من شعر أبي العباس يهجو بني الزبير:
بني أسد لا تذكروا الفخر إنكم ... متى تذكروه تكذبوا وتحمقوا
من تسألوا فضلاً تضنوا وتبخلوا ... ونيرانكم بالشر فيها تحرق
إذا استبقت يوماً قريش خرجتم ... بني أسد سكتاً وذو المجد يسبق
تجيئون خلف القوم سوداً وجوهكم ... إذا ما قريش للأضاميم أصفقوا
وما ذاك إلا أن للؤم طابعاً ... يلوح عليكم رسمه ليس يخلق
قال أبو العباس الكوراني يذم أهل مدينة فاس:
مشى اللؤم في الدنيا طريداً مشرداً ... يجوب بلاد الله شرقاً ومغربا
فلما أتى فاساً تلقاه أهلها ... وقالوا له أهلاً وسهلاً ومرحبا
قال علي بن المفرج المنجم لما احترقت دار ابن صورة بمصر:
أقول وقد عاينت دار ابن صورة ... وللنار فيها مارج يتضرم
كذا كل مال أصله من مهاوش ... فعما قليل في نهابر يغرم
وما هو إلا كافر طال عمره ... فجاءته لما استبطأته جهنم
قال الأديب أبو بكر يحيى بن بقي لما انصرف عن المغرب(4/207)
وقد ذم عند أهلها مثواه. وصفرت من نائلهم يداه:
أقمت فيكم على الإقتار والعدم ... لو كنت حراً أبي النفس لم أقم
وظلت أبكي لكم عذراً لعلكم ... تستيقظون وقد نمتم عن الكرم
فلا حديقتكم يجنى بها ثمر ... ولا سماؤكم تنهل بالديم
أوغلت في المغرب الأقصى وأعجزني ... نيل الرغائب حتى أبت بالندم
قال أحمد الشاهيني يهجو أبا البقاء الصالحي الساحر:
أبا البقاء لحاك الله من رجل ... فيك الطبيعة قد قدت من الحجر
كم يدعي بعلوم النجم معرفة ... وليس تفرق بين النجم والقمر
هجا بعض المغاربة قبائل البربر فقال:
رأيت آدم في نومي فقلت له ... أبا البرية إن الناس قد حكموا
إن البرابر نسل منك قال إذا ... حواء طالقة إن كان ما زعموا
الباب الثالث عشر في الألغاز
لغز في خاتم للصفدي:
ومستدير تروق العين بهجته ... كأنه ملك نجم الدجى فيه
حروفه أربع قد ركبت فإذا ... ما قلت أول حرف تم باقيه
قال بعضهم ملغزاً في قلم:(4/208)
وطائر في وكره نائم ... يطير في الأرض بأسراره
حياته في قطع أوداجه ... وعيشه في قط منقاره
يكرع في مستنقع القار كي ... يأخذ بالمنقار من قاره
قال ابن بصاقة ملغزاً في البيضة:
ومولودة لا روح فيها وإنها ... لتقبل نفخ الروح بعد ولادها
وتسمو على الأقران في حومة الوغى ... ولكن سمواً لم يكن بمرادها
أراد في البيت الأوزل بيضة الدجاجة وفي الثاني بيضة الحرب.
أنشد الإمام ابن الحلاوي رجل لغزاً في شبابه فقال:
وناطقة خرساء باد شحوبها ... تكنفها عشر وعنهن تخبر
يلذ إلى الأسماع رجع حديثها ... إذا سد منها منخر جاش منخر
كان ابن شبيب مقدماً في حل الألغاز لا يكاد يتوقف عما يسأل عنه. فتفاوض أبو غالب بن الحصين وأبو منصور محمد بن سليمان في أمر ابن شبيب هذا وما هو عليه من حل اللغز. فقال أبو منصور: تعال حتى نعمل لغزاً محالاً ونسأله عنه. فنظم أبو المنصور:
وما شيء لع في الرأس رجل ... وموضع وجهه منه قفاه
إذا غمضت عينك أبصرته ... وإن فتحت عينك لا تراه
ونظم أيضاً:
وجار هو تيار ... ضعيف العقل ضوار
بلا لحم ولا ريش ... وهو في الرمز طيار(4/209)
بطبع بارد جداً ... ولكن كله نار
وأنفذا اللغزين إليه. فكتب على الأول: هو طيف الخيال. وكتب على الثاني: هو الزئبق. فجاءا إليه وقالا: هب اللغز الأول هو طيف الخيال. والبيت الثاني يساعدك عليه فكيف تعمل في البيت الأول. فقال: لأن المنام يفسر بالعكس. لأن من بكى يفسر له بالضحك. ومن مات يفسر له بطول الحياة. وقوله في الثاني هو طيار أن أرباب صنعة الكيمياء يرمزون للزئبق بالطيار والفرار والآبق وما أشبه ذلك لأنه يناسب صفته وأما برده فظاهر. ولإفراط برده ثقل جسمه وجرمه. وكله نار لسرعة حركته وتشكله في افتراقه والتئامه. فأعجبا من ذكائه وتوقد عقله (لابن حجة الحموي) .
قال الصفدي في المدام:
وما شيء حشاه فيه داء ... وأوله وآخره سواء
إذا ما زال آخره فجمع ... يكون الحد فيه والمضاء
وإن أهملت أوله ففعل ... له بالرفع والنصب اعتناء
لابن المعتز في شمعة:
صفراء من غير علل ... مركوزة مثل الأسل
كأنها عمر الفتى ... والنار فيها كالأجل
للحلي في دود القز:
وما حوت عكسه مثل طرده ... له جسد سبط وليس له قلب(4/210)
ضعيف وكم أغنت مجاجة رتعه ... فقيراً به أمسى ومربعه خصب
يرى من خشاش الأرض طوراً وتارة ... من الطير لكن دونه تسبل الحجب
شقي لنفع الغير يسجن نفسه ... وليس له في السجن أكل ولا شرب
لبعضهم في البحر:
وحمال أثقال البرية قادر ... ويعجز إن حملته نصف درهم
يسير بأيدي الناس شرقاً ومغرباً ... فيسري بلا رجل له سير أرقم
لآخر في الفكر:
وما شيء يجوب الأرض سبقاً ... ويبصر ما أراد بغير عين
يشاهد ما يريد بلا لغوب ... ولا يبرح بلا كدر ومين
للمتنبئ في الحمى:
وزائرة كأن بها حياء ... فليس تزور إلا في الظلام
بذلت لها المطارف والحشايا ... فعافتها وباتت في عظامي
يضيق الجلد عن نفسي وعنها ... فتوسعه بأنواع السقام
ومن لطائف ما وقع في باب الألغاز أن شيخ الشيوخ بحماة كتب إلى والده ملغزاً في باب بقوله:
ما واقف بالمخرج ... يذهب طوراً ويجي
لست أخاف شره ... ما لم يكن بمرتج
فكتب إليه والده في الجواب: ذهاب ومجيء وخوف وشر هذا باب خصومة. والسلام.(4/211)
قال القاضي محي الدين بن عبد الظاهر ملغزاً في باب أيضاً:
أي شيء تراه في الدور والكت ... ب مجازاً هذا وذاك محقق
هو زوج وتارة هو فرد ... وهو في أكثر الأحايين يطرق
وطليق في نشأتيه ولكن ... بحديد من بعد ذلك يوثق
وهو في القلب يستوي وتراه ... بان تصحيفه لمن يترمق
فأجبني عنه بقيت مطاعاً ... لست في حلبة الفضائل تسبق
قال صاحب دواوين الإنشاء بدمشق المحروسة ملغزاً في فاختة:
وما طار يهوى الرياض تنزهاً ... ويسرح في أفنانها ويغرد
وفيه أخ إن تهت عنه فأخته ... تدل على ما قد عنيت وترشد
هذا اللغز ورد إلى الديار المصرية وحله زين الدين بن العجمي بقوله:
أيا من له مجد أثيل وسؤدد ... غدا دون مرقاه سماك وفرقد
تفيد يسار المقترين يمنه ... ويسراه من يمنى الغمامة أجود
سؤالك عن أنثى طروب ولم تزل ... على هودها في الروض تشدو وتنشد
وتجذبني بالطوق عند نشيدها ... لنحو التصابي لا أطيق أفند
ومذبان منها الطرف أمست بعكسها ... تخاف الردى ممن لها يترصد
وإن سلبت ثاني الأخير فإنه ... على العكس خاف بل يلوح ويشهد
فأولها مع ما يليه وطرفها ... لنا فاه بالمعنى الذي فيه يقصد
بقيت بقاء الدهر عزك باذخ ... وفي مفرق الجرزا لواؤك يعقد
فخذ مبيناً مغضياً عن إساءتي ... فإنك للإحسان أهل ومقصد(4/212)
وقال ملغزاً في درة:
أي شيء في الجمادات يلقى ... وتراه من بعد ذا حيوانا
وترى ذلك الجماد عزيزاً ... غالياً منه رصعوا تيجانا
وترى الروح منه في حيوان ... ذي جناح ويألف الطيرانا
وإذا ما شدا على العود يوماً ... فوق دف يحرك الأغصانا
أو بدا في مقفص فابن برد ... عند أسجاعه يصير مهانا
كله طائر وفي ثلثيه ... لك ذو أربع مع العكس بانا
كله عاطل به تتحلى ... كل خود وتستقل الجمانا
وتراه عند الملوك عظيماً ... وبتصحيفه حقيراً مهانا
عكسه في تصحيفه زد بنقص ... فالمعمى هنا فكن يقظانا
وإذا لم تدر التصاحيف ذره ... للذي فيه فهو يدري البيانا
وبتحريفه تؤدب من شئ ... ت إذا كان يجهل العرفانا
ثلثاه در نفيس وفي في ... هـ إذا جاء يصحب المرجانا
لكن الثلث عنده نصف وحثر ... ذب عنا تصحيفه ما اعترانا
وهو في البر نافر وإذا ما ... حضروه قد يألف الإنسانا
فافترسه بالحل إن كنت ليثاً ... فهو لغز عن فضله قد أبانا
قال الحموي في القفص:
أي مغنى أعواده بيت شدو ... مرقص مطرب وبالقلب صفق
ولمجموعه النباتي حسن ... فزت من بعضه بسجع المطوق(4/213)
الباب الرابع عشر في الوصف
(قال أعرابي يصف قوماً) : هم ليوث غابات. وغيوث جدبات. ما في عهودهم خور. ولا في صفوهم كدر. ولا في خدودهم صعر. ولا في عيونهم خزر. ولا في صدورهم وغر. ولا في حديثهم زور. ولا في قولهم خلف.
وصف مصر
روي أن عمر بن الخطاب كتب إلى عمرو بن العاص وهو أمير مصر: أن صف لي مصر. فكتب إليه: أصلح الله الأمير. مصر تربة غبراء. وشجرة خضراء. طولها شهر. وعرضها عشر. يكنفها جبل أغبر. ورمل أعفر. يخط وسطها نهر ميمون الغدوات. مبارك الروحات. يجري بالزيادة والنقصان. كجري الشمس والقمر له أوان. تظهر به عيون الأرض وينابيعها. حتى إذا أصلح عجاجه. وتعظمت أمواجه. لم يكن وصول بعض أهل القرى إلى بعض إلا في خفاف القوارب. وصغار المراكب. فإذا تكاملت تلك كذلك نكص على عقبه كأول من بدأ في شدته وطما في حدته. فعند ذلك يظهر أهل ملة محقورة يخرجون من كل محلة يحرثون بطون أوديته وروابيه. يبذرون الحب. يرجون الثمار من الرب لغيرهم ما سعوا من كسبهم.(4/214)
وينال منهم من غير حدهم. حتى إذا أشرق وأشرف سقاه من فوقه الندى. وغذاه من تحته الثرى. فعند ذلك يدر حلابه. ويغني ذبابه. فبينما هي يا أمير المؤمنين درة بيضاء. إذا هي عنبرة سوداء. فإذا هي زبرجدة خضراء. فتعالى الله الفعال لما يشاء. فلما وقف عمر على كلامه قال: لله درك يا ابن العاص لقد وصفت لي مصر حتى كأني شاهدتها.
وصف دابة
قيل اشترى رجل دابة من دميرة. فوجد بها عيوباً كثيرة. فحضر إلى القاضي يشتكي حاله. وما أصابه من الغم وناله. فقال له القاضي: ما قصتك وشكواك. وما الذي من الهم والغم دهاك. فقال: أيها القاضي. إني بحكتك راضي. اشتريت من هذا الغريم دابة اشترط لي فيها الصحة والسلامة. فوجدت بها عيوباً أعقبتني ندامة. وقد سألته ردها فأبى. وقال عند رؤيته إياي: لا أهلاً بك ولا مرحباً. فقال القاضي: أبن ما بها من العيوب. وإلا جعلتك على هذه الخشبة مصلوب. فقال: كلها عيوب وذنوب. وهي أيها القاضي أنحس مركوب. وأخس مصحوب. إن ركبتها رقصت. وإن سقتها رقدت. وإن نزلت عنها شردت. تقطع في يديها. وتصك برجليها. حدباء جرباء كباء. لا تقوم حتى تحمل على الخشب. ولا تنام حتى تكبل بالسلب. إن قربت من الجرار كسرتها.(4/215)
وإن دنت من الصغار رفستهم. وإن دار حولها أهل الدار كدمتهم. تكش على أسنانها. وتقرص في عنانها. وتمشي في سنة أقل من يوم. الويل لراكبها إن وثب عليه القوم. وإن رمت تقديمها تأخرت. وإن لكزتها شخرت ونخرت. من استنصر بها خذلته. ومن ساقها رمته. فقتلته. ومتى حملتها فلا تنهض. وتقرض في حبلها. وتجفل من ظلها. ولا تعرف منزل أهلها. كدامة. هجامة. نوامة كأنها هامة. وهي في الدواب شامة. حرونة. ملعونة مجنونة. تقلع الوتد وتمرض الجسد. وتفتت الكبد. ولا تركن إلى أحد. تشمر وتغدر وتعثر. واقفة الصدر. محلولة الظهر. بداءة الأذنين. عمشاء العينين. طويلة الإصبعين. قصير الرجلين ضيقة الأنفاس. مقلعة الأضراس. صغيرة الرأس. كثيرة النعاس. مشيها قليل. وجسمها نحيل. وراكبها عليل. وهو بين الأعزاء ذليل. تجفل من الهواء. وتعثر بالنوى. وتخبل بشعرة. نهاقة شهاقة غير مطراقة. وتحشر صاحبها في كل ضيق. وتهوس عليه في المكان المضيق. وتنقطع به في الطريق عن الصديق. وتعض ركبة الرفيق. وهي عديمة التوفيق. على التحقيق. فإن ردها فأكرم جانبه. وإن لم يردها فاصفع غاربه. وفك مضاربه. ولا تحوجني أن أضاربه. والسلام (الكنز المدفون للسيوطي) .
وصف إبليس لنفسه
قال شيخ العفاريت الطغاة المصاليت: إني من قديم الزمان.(4/216)
وبعيد الحدثان. أضللت كثيراً من الناس. بالمكر والخداع والوسواس. وكان من جنس بني آدم كذا وكذا ألف عالم خدامي ومعي. وجندي وتبعي. منهم رؤوس الزهاد. وعلماء العباد. وعلى محبتي مضوا. وبإتباع أوامري قضوا. فأنا فتنة العالم. وأعدى أعداء بني آدم. الشيطان الرجيم. وإبليس الذميم. اسم ذاتي ووصف صفاتي. أنا رأس العفاريت المتمردين. ومحل غضب رب العالمين. خلقت من مارج من نار. وطبعت على إلقاء البوار والدمار. رجوم النجوم إنما أعدت لأجلي. وعتاة الغواة لا تصل رؤوسها إلى مواطئ رجلي. الشياطين تستمد من زواخر مكري. والزنديق يقتبس من ضمائر فكري. لم تمر قضية من الزمان الغابر إلا ولي شركة فيها. ولا حدثت محنة لنبي ولا ولي إلا وأنا متعاطيها. جدي إبليس. نهض لجدي التعيس. وإلى نحو آدم هوى. فعصى ربه فغوى. وأنا قضيت بالتسويل. حتى قتل قاين هابيل. أنا سولت لأولاد يعقوب وحاولت في قضية أيوب. وأنا كنت العون. لهامان وفرعون. وجرأت على قتل الأنبياء والأولياء وتوصلت بتزيين الوسواس. لقاتلي الذين يأمرون بالقسط من الناس. ودعوت إلى عبادة العجل قوم موسى. وساعدت في التفريق والإضلال بين أمة عيسى. وكم أغويت من بلدان. بما زخرت من أوثان. وقد بلغني عن جمع من مسترقي السمع وطن على أذني ووعاه خاطري. ووقر في ذهني.(4/217)
وأنا أشارف التخوم. وأسارق النجوم. واسابق الوجوم. بي تكثر البدع بين الجماعات والجمع. ويظهر من الفتن ما بطن. ويغلب من التتار. وأهل البوار والخسار. أنواع الشرور والجدال. إلى حين يظهر الدجال وتستمر إلي هذه الأمور. إلى يوم البعث والنشور. وبالجملة والتفصيل أنا شيخ التكفير والتضليل. وتلك صنعتي من الابتداء. وحرفتي إلى الانتهاء. أسهم مرامي المشؤومة نافذة في المشارق والمغارب. وسيوف مناشري المسمومة قاطعة في الأعاجم والأعارب. كم لي في الأطراف والآفاق والأكناف من قاض ونائب. ومانع من الخير وصاحب. وكم لي من جابي. منوط بتفريق قلوبهم وجمع سويدائها إلى بابي. وكم لي في الزوايا من خبايا. وفي أصحاب الروايات من درايات. وفقيه في النادي. فاق الحاضر والبادي. يعلم لي في الشيطنة أولادي. وفي البيلسة حفدتي وأجنادي. وبالجملة غالب الطوائف. وأرباب الوظائف. على باب خدمتي واقف. وعلى طاعة مراسيمي ليلاً ونهاراً عاكف. مناي مناهم. ورضاي رضاهم. وإن خالف بعض سري نجواهم إلا الذين آمنوا وعملوا الصالحات وقليل ما هم (ابن عربشاه) .
وصف بعض البلغاء رجلاً فقال: إن بسيط الكف. رحب الصدر. موطأ الأكناف. سهل الخلق. كريم الطباع. غيث مغوث. وبحر زخور. وضحوك السن. بشير الوجه. بادي القبول.(4/218)
غير عبوس. يستقبلك بطلاقة. ويحييك ببشر. ويستدبرك بكرم غيث وجميل بشر. تبهجك طلاقته. ويرضيك بشره. ضحاك على مائدته عبد لضيفائه. غير ملاحظ لأكيله. بطين من العقل. خميص من الجهل. راجح الحلم. ثاقب الرأي. طيب الخلق. محصن الضريبة. معط غير سأال. كاس من كل مكرمة. عار من كل ملامة. إن سئل بذل. وإن قال فعل (للقيرواني) .
قال مجير الدين بن تميم في وصف ناعورة:
وناعورة قد ألبست لحيائها ... من الشمس ثوباً فوق أثوابها الخضر
كطاووس بستان تدور وتنجلي ... وتنفض عن أرياشها بلل القطر
قال نور الدين بن سعد الأندلسي في دولاب الناعورة:
لله دولاب يفيض بسلسل ... في روضة قد أينعت أفنانا
قد طارحته بها الحمائم ثجوها ... فيجيبها ويرجع الألحانا
فكأنه دنف يدور بمعهد ... يبكي ويسأل فيه عن بانا
ضاقت مجاري جفنيه عن دمعه ... فتفتحت أضلاعه أجفانا
قال ابن النبيه:
وروضة وجنات الورد قد خجلت ... فيها ضحى وعيون النرجس انفتحت
تشاجر الطير في أفنانها سحراً ... ومالت القضب للتعنيق واصطلحت
والقطر قد رش ثوب الدوح حين رأى ... مجامر الزهر في أذياله نفحت
قال علي بن رستم المعروف بابن الساعاتي:(4/219)
والطل في سلك الغصون كلؤلؤ ... رطب يصافحه النسيم فيسقط
والطير تقرأ والغدير صحيفة ... والريح تكتب والغمام ينقط
قال ابن عبد الظاهر يصف روضاً:
روض به أشياء لي ... ست في سواه تؤلف
فمن الهزاء تهازر ... من القضيب تقصف
ومن النسيم تلطف ... ومن الغدير تعطف
زهرية صفي الدين الحلي
ورد الربيع فمرحباً بوروده ... وبنور بهجته ونور وروده
وبحسن منظره وطيب نسيمه ... وأنيق ملبسه ووشي بروده
فصل إذا افتخر الزمان فإنه ... إنسان مقلته وبيت قصيده
يغني المزاج عن العلاج نسيمه ... باللطف عند هبوبه وركوده
يا حبذا أزهاره وثماره ... ونبات ناجمه وحب حصيده
وتجاوب الأطيار في أشجاره ... كبنات معبد في مواجب عوده
والغصن قد كسي الغلائل بعدما ... أخذت يدا كانون في تجريده
نال الصبا بعد المشيب وقد جرى ... ماء الشبيبة في منابت عوده
والورد في أعلى الغصون كأنه ... ملك تحف به سراة جنوده
وانظر لنرجسه الجني كأنه ... طرف تنبه بعد طول هجوده
وأعجب لآذريونه وبهاره ... كالتبر يزهو باختلاف نقوده
وانظر إلى المنظوم من منثوره ... متنوعاً بفصوله وعقوده(4/220)
أو ما ترى الغيم الرقيق وما بدا ... للعين من أشكاله وطروده
والسحب تعقد في السماء مآتماً ... والأرض في عرس الزمان وعيده
والغيم يحكي الماء في جريانه ... والماء يحكي الغيم في تجعيده
فابكر إلى روض الصراة وظلها ... فالعيش بين بسيطه ومديده
قال أبو الحسن بن نزار في مدينة وادي آش:
وادي الأشات يهيج وجدي كلما ... أذكرت ما أفضت بك النعماء
لله ظلك والهجير مسلط ... قد بردت لفحاته الأنداء
والشمس ترغب أن تفوز بلحظة ... منه فتطرف طرفها الأفياء
والنهر يبسم بالحباب كأنه ... سلخ نضته حية رقطاء
فلذاك تحذره الغصون فميلها ... أبداً على جنباته إيماء
قال مجير الدين بن تميم:
مذ قيل للأغصان إن الورد قد ... وافى إلى الأزهار وهو أمير
بسمت ثغور الأقحوان مسرة ... لقدومه وتلون المنثور
قال الصابئ في شمعة:
وليلة من محاق الشهر مدجنة ... لا النجم يهدي السرى فيها ولا القمر
كلفت نفسي بها الإدلاج ممتطياً ... عزماً هو الصارم الصمصامة الذكر
إلى حبيب له في النفس منزلة ... ما حلها قبله سمع ولا بصر
ولا دليل سوى هيفاء مخطفة ... تهدي الركاب وجنح الليل معتكر
غصن من الذهب الإبريز أثمر في ... أعلاه ياقوتة صفراء تستعر(4/221)
تأتيك ليلاً كما يأتي المريب فإن ... لاح الصباح طوتها دونها الجدر
قال أبو العلاء المعري في الشمعة أيضاً:
وصفراء لون التبر مثلي جليدة ... على نوب الأيام والعيشة الضنك
تريك ابتساماً دائماً وتجلداً ... وصبراً على ما نابها وهي في الهلك
ولو نطقت يوماً لقالت أظنكم ... تخالون أني من حذار الردى أبكي
فلا تحسبوا دمعي لوجد وجدته ... فقد تدمع الأحداق من كثرة الضحك
كتب الصابئ في وصف الببغاء إلى ابن نصر المعروف بالببغاء:
ألفتها صبيحة مليحة ... ناطقة باللغة الفصيحة
عدت من الأطيار واللسان ... يوهمني بأنها إنسان
تنهي إلى صاحبها الأخبارا ... وتكشف الأسرار والأستارا
بكماء إلا أنها سميعة ... تعيد ما تسمعه طبيعة
زارتك من بلادها البعيدة ... واستوطنت عندك كالقعيدة
ضيف قراه الجوز والأرز ... والضيف في إتيانه يعز
تراه في منقارها الخلوقي ... كلؤلؤ يلقط بالعقيق
تميس في حلتها الخضراء ... مثل الفتاة الغادة العذراء
خريدة خدورها الأقفاص ... ليس لها من حبسها خلاص
نحبسها وما لها من ذنب ... وإنما ذاك لفرط الحب
تلك التي قلبي بها مشغوف ... كنيت عنها واسمها معروف
يشرك فيها شاعر الزمان ... الكاتب المعروف بالبيان(4/222)
ذلك عبد الواحد بن نصر ... تقيه نفسي حادثات الدهر
قال بعض الشعراء يصف بغداد بعد أن حاصرها طاهر بن الحسين وخرب بناءها:
بكيت دماً على بغداد لما ... فقدت نضارة العيش الأنيق
تبدلنا هموماً من سرور ... ومن سعة تبدلنا بضيق
أصابتنا من الحساد عين ... فأفنت أهلها بالمنجنيق
وقوم أحرقوا بالنار قسراً ... ونائحة تنوح على غريق
وصائحة تنادي وإصباحا ... وباكية لفقدان الشقيق
تفر من الحريق إلى التهاب ... ووالدها يفر إلى الحريق
حيارى هكذا ومفكرات ... عليهن القلائد في الحلوق
ينادين الشفيق ولا شفيق ... وقد فقد الشفيق من الشفيق
ومغترب قرب الدار ملقى ... بلا رأس بقارعة الطريق
توسط من قتالهم جميعاً ... فما يدرون من أي الفريق
فما ولد يقيم على أبيه ... وقد فر الصديق من الصديق
ومهما أنس من شيء تولى ... فإني ذاكر دار الرفيق
وصف صفي الدين الحلي حديقة قال:
وأطلق الطير فيها سجع منطقه ... ما بين مختلف فيها ومتفق
والظل يسرق بين الدوح خطوته ... وللمياه دبيب غير مسارق
وقد بدا الورد مفتراً مباسمه ... والنرجس الغض فيها شاخص الحدق(4/223)
من أحمر ساطع أو أخضر نضر ... أو أصفر فاقع أو أبيض يقق
والسحب تبكي وثغر البرق مبتسم ... والطير تسجع من تيه ومن أنق
فالطير في طرب والسحب في حرب ... والماء في هرب والغصن في قلق
قال القاضي التنوخي يصف دجلة في الظلام والقمر يلمع عليها:
أحسن بدجلة والدجى متصوب ... والبدر في أفق السماء مغرب
فكأنها فيه بساط أزرق ... وكأنها فيها طراز مذهب
وقال أيضاً:
كم ليلة سامرت فليها بدرها ... من فوق دجلة قبل أن يتغيبا
والبدر يجنح للأفول كأنه ... قد سل فوق الماء سيفاً مذهبا
قال ابن الجزري في حمامة:
وما نازحات ساجعات بشجوها ... ترنح أغصان النقا وترنم
تنوح بلا إلف وتملي غرامها ... على ورق الأشجار والطل يرقم
وتغرب في ألحانها وفنونها ... فتعرب عن أشجانها وهي تعجم
وتنظر فرخيها قد اختطفتهما ... كواسر أطيار على الأفق حوم
ترامت بها أيدي النوى عن وكونها ... فلا عيشها يصفو ولا يتصرم
بأكثر مني لوعة وصبابة ... سوى أنها تبدي الغرام وأكتم
من المعجب قول بدر الدين يوسف بن لؤلؤ من قصيدة:
باكر إلى روضة تستجلها ... فثغرها في الصبح بسام
والنرجس الغض اعتراه الحيا ... فغض طرفاً فيه أسقام(4/224)
وبلبل الدوح فصيح على الأي ... كة والشحرور تمتام
ونسمة الريح وفي ضعفها ... لها بنا مر وإلمام
قال الشيخ أبو سهل في وصف فرس:
أطرف فات طرفي أم شهاب ... هفا كالبرق ضرمه التهاب
أعار الصبح صفحته نقابا ... ففر به وصح لنا النقاب
إذا ما انقض كل النجم عنه ... وضلت عن مسالكه السحاب
سل الأرواح عن أدنى مداه ... فعند الريح قد يلقى الجواب
قصيدة الشيخ عبد الغني النابلسي في وصف الشام:
إن سامك الخطب المهول فأقلقا ... فانزل بأرض الشام واسكن جلقا
تجد المرام بها وكل مناك بل ... وترى بها عزاً وتفصح منطقا
بلد سمت بين البلاد محاسناً ... ونمت بهاء واستزادت رونقا
زاد السرور بها لكل معرج ... لاسيما إن كان من أهل التقى
إن تعشقوا وطناً فذي أولى لكم ... دون البلاد بأن تحب وتعشقا
خير الأناس أناسها يرعون أن ... واع الوداد ويحفظون الموثقا
هي جنة للطائعين معدة ... يتمتعون ولا يرون بها شقا
طابت هواء للنفوس وماؤها ... عذب زلال سائغ لمن استقى
جلت محاسنها عن التعداد فلن ... أت بما يختار منه وينتقى
يا حسن واديها وطيب شميمه ... قد فاح عرف الزهر فيه وعبقا
وتراسلت أطياره بين الربى ... سحراً فهيجت الفؤاد الشيقا(4/225)
كيف اتجهت يخر نحوك ماؤه ... وإليك يركع كل غصن أورقا
يا حبذا إشراق مرجتها التي ... أضحى غني الهم فيها مملقا
وتلاعبت فرسانها وتراكضت ... ما بينها تعلو الجياد السبقا
ضحكت أزاهرها على أغصانها ... فأتى النسيم يميلهن وصفقا
قد دندنت أنهارها في جريها ... لما شدا ذاك الحمام وشقشقا
والصالحية يا لها من منزل ... فيها قبور الصالحين أولي التقى
وبها القصور العاليات تزخرفت ... مثل النجوم زهت بكل من ارتقى
تسمو على أطراف جلق بهجة ... وطلاوة فيها السرور تحققا
سقيت دمشق الشام صوب غمامة ... أشفى على غيطانها فتدفقا
كم نزهة للعين فيها قد زهت ... وسرت على طرف الهموم فأطرقا
ما الجامع الأموي إلا نزهة ... فيها تراه بالعبادة مشرقا(4/226)
قد أتقنت صناعة بنيانه ... فأتى المزخرف زانه وتأنقا
وترى رؤوس العلم فيه دائماً ... في كل فن من تداوله رقى
وثلاث هاتيك المآذن تنجلي ... مثل العرائس قد لبسن اليلمقا
من فوقها أهل الأذان ترسلوا ... بترنم يشجي الفؤاد الشيقا
والعشرة الأبواب لما أن زهت ... فتحت على المشتاق باباً مغلقا
يا حبذاك الصحن أشرق وانجلى ... فغدا به ماء النسيم مرقرقا
فيه الصحاب روائحاً وغودياً ... ما بينه وتجمعاً وتفرقا
من حوله الأسواق تشرق في الدجى ... مثل النهار بما بها قد علقا
فيها ترى ما تشتهي وتلذه ... وبيوت قهوات شذاها عبقا
هي شامنا أعلى الإله منارها ... وبها أدام الله عيشاً ريقا
لم ترض عيني غيرها من منظر ... ولذا ترى قلبي بها متعلقا(4/227)
لله أيام تقضت لي بها ... ما زلت نحو ظلالها متشوقا
هي منشأي لا حاجر وطويلع ... ومحل أنسي لا الغوير ولا النقا
وطني وأول ما وطئت بها الثرى ... لا زال عيشي عن حماها مطلقا
لذ يا فؤاد بما بها من معشر ... إن سامك الخطب المهول فأقلقا(4/228)
الباب الخامس عشر في الحكايات
هارون بن عبد الله والفيل
قال القزويني: كان هارون بن عبد الله مولى الأزد شجاعاً شاعراً. ولما حارب الهند المسلمين بالفيل لم يقف قدام الفيل شيء. وقد ربطوا في خرطومه سيفاً هذاماً ثقيلاً يضرب به يميناً وشمالاً لا يرفعه فوق رأس الفيالين على ظهره ويضرب به. فوثب هارون وثبة أعجله بها عن الضرب زلزق بصدر الفيل وتعلق بأنيابه فجال به الفيال جولة كاد يحطمه من شدة ما جال به. وكان هارون شديد الخلق رابط الجأش. فاعتمد في تلك الحالة على نابيه وأصلهما مجوف فانقلعتا من أصلهما. وأدبر الفيل وبقي النابان في يد هارون. وكان ذلك سبب هزيمة الهند وغنم المسلمون. فقال هارون في ذلك:
مشيت إليه رادعاً متمهلاً ... وقد وصلوا خرطومه بحسام
فقلت لنفسي إنه لفيل ضارباً ... بأبيض من ماء الحديد هذام
فإن تنكئي منه فعذرك واضح ... لدى كل منخوب الفؤاد عبام
ولما رأيت السيف في رأس هضبة ... كما لاح برق من خلال غمام
فعافسته حتى لزقت بصدره ... فلما هوى لازمت أي لزام
وعذت بنابيه وأدبر هارباً ... وذلك من عادات كل محامي(4/229)
الوفاء والفضل والمعروف عند بعض الكرماء
حكي أنه بينما كان عمر بن الخطاب جالساً في بعض الأيام وعنده أكابر الصحابة. وأهل الرأي وإلهابة. وهو في القضايا. يحكم بين الرعايا. إذ أقبل شاب من أحسن الشباب. نظيف الأثواب. يكتنفه شابان من أحسن الشباب أيضاً. وقد جذباه وسحباه. وأوقفاه بين يدي أمير المؤمنين ولبباه. فلما وقفوا بين يديه. نظر إليهما وإليه. فقالا: يا أمير المؤمنين نحن أخوان شقيقان. جديران بإتباع الحق حقيقان. كان لنا أب شيخ كبير. حسن التدبير. معظم في قبائله. منزه عن رذائله. معروف بفضائله. ربانا صغاراً. وأولانا غزاراً. كما قيل في المعنى:
لنا والد لو كان للناس مثله ... أب آخر أغناهم بالمناقب
فخرج اليوم إلى حديقة له يتنزه في أشجارها. ويقتطف يانع أثمارها. فقتله هذا الشاب. وعدل عن طريق الصواب. فنسألك القصاص عما جناه. والحكم فيه بما أمرك الله. قال الراوي: فنظر عمر إلى الشاب. وقال له: قد سمعت فما الجواب. والغلام مع ذلك ثابت الجنان. خال من الاستيحاش. قد خلع ثياب الهلع. ونزع لباس الجزع. فتبسم عن مثل الجمان. وتكلم بأفصح لسان. وحيا بكلمات حسان. ثم قال يا أمير المؤمنين والله لقد وعيا. في ما ادعيا. وصدقا فيما نطقا. وأخبرا بما جرى. وعبرا عما طرا. وسأنهي(4/230)
قصتي بين يديك. والأمر فيها إليك. اعلم أني عريم من العرب العرباء نبت في منازل البادية. وصبحت علي أسود السنين العادية. فأقبلت إلى ظاهر هذا البلد. بإلهل والمال والولد. فأفضت بي بعض طرائقها. إلى المسير بين حدائقها. بنياق إلي حبيبات علي عزيزات. بينهن فحل كريم الأصل. كثير النسل. مليح الشكل. حسن النتاج. يمشي بينهن كأنه ملك عليه تاج. فدنت النوق إلى حديقة قد ظهر من الحائط شجرها. فتناولتها بمشفرها. فطردتها عن تلك الحديقة فإذا شيخ قد ظهر. وتسور الحائط وزفر. وفي يده اليمنى حجر. يتمادى كالليث إذا خطر. فضرب الفحل بذلك الحجر فأصاب مقتله وأباده. فلما رأيت الفحل سقط لجنبه وانقلب. توقدت في جمرات الغضب. فتناولت ذلك الحجر بعينه فضربته به. فكان سبب حينه ولقي سوء منقلبه. والمرء مقتول بما قتل به. بعد أن صاح صيحة عظيمة. وصرخ صرخة أليمة. فأسرعت هارباً من مكاني. فلم أكن بأسرع من هذين الشابين فأمسكاني. وأحضراني كما تراني. قال عمر: قد اعترفت. بما اقترفت. وتعذر الخلاص. ووجب القصاص. ولات حين مناص. فقال الشاب: سمعاً وطوعاً لما حكم الإمام. ورضيت بما اقتضته شريعة الإسلام. ولكن لي أخ صغير. كان له أب خبير. خصه قبل وفاته بمال جزيل. وذهب جليل. وأحضره بين يدي. وسلم أمره إلي. وأشهد الله(4/231)
علي. وقال: هذا لأخيك عندك. فاحفظه جهدك. فاتخذت لذلك مدفناً. ووضعته فيه ولا يعلم به أحداً إلا أنا. فإن حكمت الآن بقتلي ذهب الذهب. وكنت أنت السبب. وطالبك الصغير بحقه. يوم يقضي الله بين خلقه. وإن أنظرتني ثلاثة أيام. أقمت من يتولى أمر الغلام. وعدت وافياً بالذمام. ولي من يضمنني على هذا الكلام. فأطرق عمر ساعة ثم نظر. إلى من حضر. وقال: من يقوم على ضمانه. والعود إلى مكانه. قال: فنظر الغلام إلى وجوه أهل المجلس الناظرين. وأشار إلى أبي ذر دون الحاضرين. وقال: هذا يكفلني. وهو الذي يضمنني. فقال عمر: أتضمنه يا أبا ذر على هذا الكلام. قال: نعم أضمنه إلى ثلاثة أيام. فرضي الشابان بضمان أبي ذر. وأنظراه ذلك القدر. فلما انقضت مدة الإمهال. وكاد وقتها يزول أو زال. حضر الشابان إلى مجلس عمر. والصحابة حوله كالنجوم حول القمر. وأبو ذر قد حضر. والخصم ينتظر. فقال: أين الغريم يا أبا ذر. وكيف يرجع من قد فر. فلا نبرح من مكاننا. حتى تفي بضماننا. فقال أبو ذر: وحق الملك العلام. إن انقضى تمام الأيام. ولم يحضر الغلام. وفيت بالضمان. وسلمت نفسي وبالله المستعان. فقال عمر: والله إن تأخر الغلام لأمضين في أبي ذر ما اقتضته شريعة الإسلام. فهملت عبرات الناظرين. وارفضت نفحات الناظرين. وعظم الضجيج.(4/232)
وآل النشيج. فعرض كبار الصحابة على الشابين أخذ الدية. واغتنام الاثنية. فأصرا على عدم القبول. وأبيا الأخذ بثار المقتول. فبينما الناس يموجون تلهفاً لما مر. ويصيحون تأسفاً على أبي ذر. إذ أقبل الغلام. ووقف بين يدي الإمام. وسلم عليه أتم سلام. ووجهه يتهلل مشرقاً. ويتكلل عرقاً. وقال: قد أسلمت الصبي إلى أخوالي. وعرفتهم خفي أحوالي. وأطلعتهم على مكان ماله وأموالي. ثم اقتحمت هاجرات الحر. ووفيت وفاء الحر الأغر. فعجب الناس من صدقه ووفائه. وإقدامه على الموت واجترائه. فقال: من غدر لم يعف عنه من قدر. ومن وفى رحمه الطالب وعفا. وتحققت أن الموت إذا حضر لم ينج منه احتراس. وبادرت كي لا يقال ذهب الوفاء من الناس. فقال أبو ذر: والله يا أمير المؤمنين لقد ضمنت هذا الغلام ولم أعرفه من أي يوم. ولا رأيته قبل ذلك اليوم. ولكنه نظر إلى من حضر فقصدني. وقال: هذا يضمنني. فلم أستحسن رده. وأبت المروءة أن تخيب قصده. إذ ليس في إجابة القصد من باس. كي لا يقال: ذهب الفضل من الناس. فقال الشابان عند ذلك: يا أمير المؤمنين قد وهبنا لهذا
الغلام دم أبينا. فلتبدل وحشته بإيناس. كي لا يقال: ذهب المعروف من الناس. فاستبشر الإمام بالعفو عن الغلام. وعجب من صدقه ووفائه. واستغزر مروءة أبي ذر دون جلسائه. واستحسن اعتماد الشابين إتباع المعروف(4/233)
وأثنى عليهما أحسن ثناء وتمثل بهذا البيت:
من يصنع الخير لم يعدم جوائزه ... لا يذهب العرف بين الله والناس
ثم عرض عليهما أمير المؤمنين أن يصرف لهما من بيت المال دية أبيهما. فقالا: يا أمير المؤمنين إنما عفونا عنه ابتغاء لوجه الله. ومن نيته كذا. لا يتبع إحسانه منا ولا أذى. قال الراوي: فاعتددتها من أنفس العجائب. وأثبتها في ديوان الغرائب (للاتليدي) .
جحدر والسبع
قيل إن جحدر بن ربيعة كان بطلاً شجاعاً فاتكاً شاعراً بليغاً. فغزا أهل اليمامة وأبادهم فبلغ ذلك الحجاج بن يوسف. فكتب إلى عامله يوبخه بتغلب جحدر ويأمره بالتوجه إليه حتى يقتله أو يحمله إليه أسيراً. فوجه العامل إليه فتية من بني حنظلة وجعل لهم الجعائل العظيمة إن هم قتلوا جدراً أو أتوا به أسيراً. فتوجه الفتية إلى طلبه فلما دنوا من مكانه أرسلوا إليه يقولون إنهم يريدون الانقطاع إليه والقيام بخدمته. فوثق بذلك منهم وسكن إلى قولهم. فبينما هو معهم يوماً إذ وثبوا إليه فشدوه وثاقاً وقدموا به إلى العامل. فوجهه معهم إلى الحجاج. فلما قدموا به عليه مثل بين يديه. قال له: أنت جحدر. قال: نعم أصلح الله الأمير. قال: ما جرأك على ما بلغني عنك. قال: أصلح الله الأمير. كلب الزمان. وجفوة السلطان. وجراءة الجنان. قال: وما بلغ من أمرك. قال: لو ابتلاني الأمير(4/234)
وجعلني مع الفرسان لرأى مني ما يعجبه. قال الراوي: فتعجب الحجاج من ثبات عقله ومنطقه. ثم قال: يا جحدر إني قاذف بك في حفائر بها أسد عظيم. فإن قتلك كفانا مؤنتك. وإن قتلته عفونا عنك. قال: أصلح الله الأمير. قرب الفرج إن شاء الله تعالى. فأمر به فصفدوه بالحديد ثم كتب لعامله أن يرتاد له أسداً عظيماً ويحمله إليه. فارتاد له العامل أسداً كريه المنظر كاشراً خبيثاً قد أفنى عامة المواشي. وأمر بأن يصير في قفص حديد ويسحب القفص على عجل. فلما قدم به على العجل إلى الحجاج أمر به فألقي في الحفائر ولم يطعم شيئاً ثلاثة أيام حتى جاع واستكلب. ثم أمر بجحدر أن ينزلوه إليه فأعطوه سيفاً وأنزلوه إليه مقيداً وأشرف الحجاج عليه والناس حوله ينظرون إلى الأسد ما هو صانع بجحدر. فلما نظر الأسد إلى جحدر نهض ووثب وتمطى وزأر زئيراً دوى منه الجبال وارتاعت منه أهل الأرض. فشد عليه جحدر وهو يقول:
ليث وليث في مجال ضنك ... كلاهما ذو قوة وسفك
وصولة وبطشة وفتك ... إن يكشف الله قناع الشك
فأنت لي في قبضتي وملكي
ثم دنا منه وضربه بسيفه ففلق هامته. فكبر الناس وأعجب الحجاج. وقال: الله درك ما أنجدك. ثم أمر به فأخرج من الحفائر وفك وثاقه وقيده. وقال له: اختر إما أن تقيم عندنا فنكرمك ونقرب(4/235)
منزلتك. وإما أن نأذن لك فتلحق ببلادك ونشرط عليك أن لا تحدث منكراً ولا تؤذي أحداً. قال: بل أختار صحبتك أيها الأمير. فجعله من سماره وخواصه. ثم لم يلبث أن ولاه على اليمامة وكان من أمره ما كان.
عصيان إبراهيم بن المهدي على أمير المؤمنين المأمون وما جرى له في اختفائه
حكى الواقدي قال: إن إبراهيم بن المهدي أخا هارون الرشيد لما آل أمر الخلافة إلى المأمون ابن أخيه هارون الرشيد لم يبايعه بل ذهب إلى الري وادعى فيها الخلافة لنفسه. وأقام مالكها سنة وأحد عشر شهراً واثني عشر يوماً وابن أخيه المأمون يتوقع منه الانقياد إلى الطاعة والانتظام في سلك الجماعة حتى يئس من عوده. فركب بخيله ورجله وذهب إلى الري وحاضر المدينة وافتتحها ودخلها. قال إبراهيم عن نفسه: فخفت على دمي وخرجت مسرعاً من داري عند الظهر وأنا لا أدري إلى أين أتوجه. وكان المأمون قد جعل لمن أتاه بي مائة ألف درهم. وفيما كنت سائراً في الطريق إذا أنا بزقاق فمشيت فيه فوجدته غير نافذ. فقلت: إنا لله وإنا إليه راجعون إن رجعت على أثري يرتاب في أمري والشارع غير نافذ فما الحيلة. ثم نظرت فرأيت في صدر الشارع عبداً أسود قائماً على باب دار. فتقدمت إليه وقلت له: هل عندك موضع أقيم به ساعة من النهار. فقال: نعم وفتح الباب. فدخلت إلى بيت نظيف(4/236)
فيه حصير وبساط ووسد نظيفة من جلود. ثم إن الأسود أغلق علي الباب ومضى. فتوهمت أنه سمع بجعالة المأمون للذي يأتيه بي وطمع بالربح وخرج يدل علي فبقيت أتقلى على جمر الغضا. فبينما كنت أفكر في ذلك إذ أقبل ومعه حمال حامل كل ما تحتاج إليه من خبز ولحم وقدراً جديدة وجرة نظيفة وكيزاناً جدداً فحطها عن الحمال وقال له: امض بخير. فخرج وأقفل وراءه باب الدار وجاء إلي وقال لي: جعلت فداك يا مولاي إني رجل حجام وأعلم أنك تتقدر مني لما أتولاه من معيشتي. فشأنك أنت بما لم تقع عليه يدي. قال إبراهيم: وكنت شديد الجوع ولي حاجة عظيمة إلى الطعام فطبخت لنفسي قدراً لم أدر في عمري أني أكلت ألذ منها. فلما قضيت أربي من الطعام قال لي الأسود: هل لك يا مولاي في شراب فإنه ينفي الهم ويدفع الغم. فقلت له: ما أكره ذلك رغبة في مؤانستك. فمضى وجاءني بقدح وبدست ملآن شراباً مطيباً وقال لي: روق لنفسك مخافة أن تتقزز مني. فنظرت في الدست فرأيت شراباً في غاية الجودة فروقت منه. ثم أتاني بفاكهة وأبقال مختلفة. وبعده قال لي: يا مولاي أتأذن لي أن أقعد في ناحية أمامك وآتي بشراب لي فأشربه سروراً بك. فقلت له: افعل فشرب وشربت. ثم دخل إلى خزانة له فأخرج منها عوداً وقال لي: ليس من قدري أن أسألك في الغناء ولكن إن أردت أن(4/237)
عبدك يغني فلك علو الرأي. فقلت له: ومن أين لك أني أحسن الغناء. فقال: يا سبحان الله. مولاي أشهر من أن يخفى ألست أنت سيدي إبراهيم بن المهدي خليفتنا في الأمس الذي جعل المأمون لمن دله عليك مائة ألف درهم. فلما سمعت ذلك عظم الرجل في عيني وثبتت مروءته عندي. فتناولت العود وأصلحته وقد مر بخاطري فراق أهلي وولدي ووطني فغنيت:
وعسى الذي أهدى ليوسف أهله ... وأعزه في السجن وهو أسير
أن يستجيب لنا ويجمع شملنا ... والله رب العالمين قدير
فاستولى عليه الطرب المفرط وطاب خاطره وقال لي: يا سيدي ومولاي أتأذن لي أن أغني ما سنح بخاطري وإن كنت من غير أهل الصناعة. فقلت: وهذا من زيادة أدبك ومروءتك. فأخذ العود وأنشد:
شكونا إلى أحبابنا طول ليلنا ... فقالوا لنا ما أقصر الليل عندنا
وذاك لأن النوم يغشى عيونهم ... سريعاً ولا يغشى لنا النوم أعينا
فلو أنهم كانوا يلاقون مثلما ... نلاقي لكانوا في المضاجع مثلنا
قال إبراهيم فداخلني من الطرب ما لا مزيد عليه وأذهب مني كل ما كان بي من الهلع فقلت له: لقد أحسنت كل الإحسان وأذهبت عني ألم الأحزان. فزدني من هذه النزهات فأنشد للسموءل:
تعيرنا أنا قليل عديدنا ... فقلت لها إن الكرام قليل(4/238)
قال إبراهيم: فاشتد علي الطرب ونمت ولم أستيقظ إلا بعد العشاء. فعاودني فكري في نفاسة هذا الحجام وحسن أدبه. فقمت ثم أخذت خريطة كانت صحبتي فيها دنانير لها قيمة. فرميت بها إليه وقلت له: استودعك الله وأسألك أن تتصرف في هذا ولك عندي المزيد إن أمنت من خوفي. فأبى أخذها وأعادها علي بعزة وقال: يا مولاي إن الصعاليك منا لا قدر لهم عندكم. أآخذ على ما وهبنيه الزمان. قربك وحلو لك في منزلي غنى. والله لئن راجعتني بها لأقتلن نفسي. فأعدت الخريطة إلى كمي وقد أثقلني حملها وانصرفت. ولما انتهيت إلى باب داره قال لي: يا سيدي إن هذا المكان أخفى لك من غيره وليس علي في مؤونتك ثقل فأقم عندي إلى أن يفرج الله عنك. فقلت له: بشرط أن تنفق مما في هذه الخريطة. فأوهمني الرضا بذلك الشرط. فأقمت عنده أياماً على تلك الحالة في ألذ عيش وهو لم يصرف من الخريطة شيئاً. فتذممت من الإقامة في بيته واحتشمت من التثقيل عليه. فتزييت بزي النساء بالخف والنقاب وودعته وخرجت. فلما صرت في الطريق داخلني من الخوف أمر شديد وجئت لأعبر الجسر. وإذا بموضع مرشوش فنظرني جندي ممن كان يخدمني فصاح وقال: هذا حاجة المأمون. ثم تعلق بي فمن حلاوة الروح دفعته هو وفرسه فوقعا في ذلك المزلق فصار عبرة. وتبادر الناس إليه فاجتهدت(4/239)
أنا في المشي حتى قطعت الجسر فدخلت شارعاً فوجدت باب دار وامرأة واقفة في الدهليز. فقلت لها: يا سيدة النساء احقني دمي فإني رجل خائف. فقالت لي: على الرحب والسعة. وأطلعتني إلى غرفة وفرشت لي فراشاً وقدمت لي طعاماً وقالت: هدئ روعك فما علم بك مخلوق. فبينما هي كذلك إذا بالباب يطرق طرقاً عنيفاً. فخرجت وفتحت الباب وإذا بصاحبي الذي دفعته على الجسر وهو مشدوخ الرأس ودمه يسيل على ثيابه وليس معه فرس. فقالت له: يا هذا ما دهاك. فقال: إني ظفرت بالغنى وانفلت مني. وأخبرها بما جرى له. فأخرجت له عصائب وعصبت رأسه وفرشت له فنام عليلاً. ثم إنها طلعت إلي وقالت: أظنك أنت صاحب القضية. فقلت لها: نعم. فقالت: لا بأس عليك ولا تخف. ثم جددت لي الكرامة فأقمت عندها ثلاثاً. ثم قالت لي: إني خائفة عليك من هذا الرجل (وعنت زوجها) لئلا يطلع عليك فينم بك. فالأولى بك أن تنجو بنفسك في خير. فسألتها المهلة إلى الليل. فقالت: لا بأس بذلك. فلما جن الليل لبست زي النساء وخرجت من عندها وأتيت إلى بيت جارية لي. فلما رأتني بكت وتوجعت وحمدت الله على سلامتي وخرجت وهي توهمني أنها تريد السوق للاهتمام بالضيافة وظننت بها خيراً. فما شعرت إلا بإبراهيم الموصلي قد أقبل بخيله ورجله والجارية معه. فأسلمتني إليه فرأيت الموت(4/240)
عياناً. فحملوني بالزي الذي أنا فيه إلى المأمون. فعقد مجلساً عاماً وأدخلني إليه فلما مثلت بين يديه سلمت عليه بالخلافة. فقال: لا سلم الله عليك ولا حياك ولا رعاك. فقلت له: مهلاً يا أمير المؤمنين إن ولي الثأر محكم بالقصاص ولكن العفو أقرب للتقوى. وقد جعلك الله فوق كل عفو كما جعل ذنبي فوق كل ذنب. فإن تقتل فبعدلك وإن تعف فمن فضلك. ثم أنشدت:
ذنبي إليك عظيم ... وأنت أعظم منه
فخذ بحقك أو لا ... فاصفح بحلمك عنه
إن لم أكن عند فعلي ... من الكرام فكنه
قال: فرفع المأمون رأسه ونظر فبدرته قائلاً:
أتيت ذنباً عظيماً ... وأنت للعفو أهل
فإن عفوت فمن ... وإن قتلت فعدل
فرق لي المأمون فرأيت وجهه قد هش واستروحت روائح الرحمة من شمائله. ثم أقبل على العباس وأخيه أبي إسحاق وجميع من حضر من خاصته وقال لهم: ماذا ترون في أمره فكل أشار بقتلي إلا أنهم اختلفوا في القتلة. فقال المأمون لأحمد بن أبي خالد: ما تقول يا أحمد. فقال: يا أمير المؤمنين إن قتلته فقد وجدنا مثلك قد قتل مثله. وإن عفوت عنه لم نجد مثلك قد عفا عن مثله. فنكس المأمون رأسه مطرقاً إلى الأرض ساعة. ثم رفعه وأنشد:(4/241)
قومي هم قتلوا أميم أخي ... فإذا رميت يصيبني سهمي
(قال) فكشفت عند ذلك المقنعة عن رأسي وكبرت تكبيرة عظيمة فرحاً وقلت: عفا والله أمير المؤمنين. فقال المأمون: لا بأس عليك يا عماه. فقلت: يا أمير المؤمنين ذنبي أعظم من أن أتفوه معه بعذر. وعفوك أعظم من أن أنطق معه بشكر ولكني أقول:
إن الذي خلق المكارم حازها ... في صلب آدم للإمام السابع
ملئت قلوب الناس منك مهابة ... وتظل تكلأهم بقلب خاشع
فعفوت عمن لم يكن عن مثله ... عفو ولم يشفع إليك بشافع
ورحمت أطفالاً كأفراخ القطا ... وحنين والدة بقلب جازع
فقال المأمون: لا تثريب عليك اليوم وقد عفوت عنك ورددت عليك مالك وضياعك بأجمعها. فقبلت الأرض وأنشدت:
رددت مالي ولم تبخل علي به ... وقبل ردك مالي قد حقنت دمي
نأيت منك وقد خولتني نعماً ... هما الحياتان من موت ومن عدم
فلو بذلت دمي أبغي رضاك به ... والمال حتى أسل النعل من قدمي
ما كان ذاك سوى عارية رجعت ... إليك لو لم تعرها كنت لم تلم
فإن جحدتك ما أوليت من نعم ... إني إلى اللوم أولى منك بالكرم
فقال المأموت: إن من الكلام لدراً وهذا منه. ثم خلع علي وقال لي: يا عم إن أبا إسحاق أخي والعباس أشارا علي بقتلك. فقلت له: إنها نصحاك يا أمير المؤمنين ولكنك فعلت بما أنت أهله. فقال(4/242)
المأمون: يا عم لقد أمت حقدي بحياة عذرك. وقد عفوت عنك ولم أجرعك مرارة امتنان الشافعين. ثم إن المأمون سجد وقبل الأرض ورفع رأسه وقال لي: يا عم أتدري لماذا سجدت وقبلت الأرض. فقلت: نعم أظنه شكراً لله تعالى الذي أظفرك بعدو دولتك. فقال: ما أردت هذا ولكن سكراً لله تعالى الذي ألهمني العفو عنك فحدثتني الآن حديثك في اختفائك. فشرحت له صورة أمري مع الحجام والجندي وامرأته وما جرى لي مع جارتي. فأمر المأمون بإحضار الجميع. فدعا جاريتي وكانت منتظرة للجائزة. فقال لها: ما حملك على ما فعلت بسيدك. فقالت: الرغبة في المال. فقال لها المأمون: ألك ولد أو زوج. فقالت: لا. فأمر بضربها مائة سوط وخلد سجنها. ثم أحضر الجندي وامرأته والحجام. فسأل الجندي ما حمله على ما فعل. فقال: الرغبة في المال. فقال له المأمون: أنت يجب أن تكون حجاماً لتتعلم الحجامة. ثم طرده من الجندية وأكرم زوجته وأمر فأدخلوها القصر. وقال: هذه امرأة عاقلة تصلح للمهمات. ثم التفت إلى الحجام وقال له: لقد ظهر من مروءتك ما يوجب المبالغة في إكرامك. فسلم له دار الجندي بما فيها وخلع عليه وأعطاه رزق الجندي وأجرى له ألف دينار في كل سنة. فلم يزل في تلك النعمة إلى أن توفاه الله (حديقة الأفراح لليمني) .(4/243)
الباب السادس عشر في الفكاهات
كتب ابن الخازن الكاتب الدينوري إلى الحكم أبي القاسم الأهوازي وقد فصده وآلمه:
رحم الإله مجدلين سليمهم ... من ساعديك مبضع بمبضع
فعصائب تأتيهم بعصائب ... نشرت فتطوي أذرعاً في الأذرع
أفصدتهم بالله أم أقصدتهم ... وخزاً بأطراف الرماح الشرع
دست المباضع أم كنانة أسهم ... أم ذو الفقار مع البطين الأنزع
غرراً بنفسي إن لقيتك بعدها ... يا عنتر العبسي غير مدرع
كتب بعض الظرفاء إلى صاحب له يطلب خمراً:
أشكو إليك براغيثاً بليت بها ... سوداً إذا انتبهوا في الليل لم أنم
أصيد هذا فيبقى ذا فيلدعني ... فينقضي الليل في صيدي ولدغهم
وقد تيقنت أني ليس ينقذني ... سوى ابنة الكرم يا ابن الجود والكرم
ابعث إلي دم العنقود أشربها ... لكي أنام ولا أشعر بسفك دمي
قال ابن الذروي في ابن أبي حصينة الأحدب:
لا تظنن حدبة الظهر عيباً ... فهي في الحسن من صفات الهلال
وكذاك القسي محدودبات ... وهي أنكى من الظبأ والعوالي
وإذا ما علا السنام ففيه ... لقروم الجمال أي جمال(4/244)
كون الله حدبة فيك إن شئ ... ت من الفضل لا من الإفضال
فأتت ربوة على طود حلم ... منك أو موجة ببحر نوال
ما رأتها النساء إلا تمنت ... أنها حلية لكل الرجال
قال ابن دانيال في أحدب يسمى حسان:
قسماً بحسن قوامك الفتان ... يا أوحد الأمراء في الحدبان
يا مشبه الغصن الرطيب إذا انثنى ... من حدبة فيميس كالريان
يا مخجلاً شكل الزمان بقده ... حاشاك أن تعزى إلى نقصان
ما عاب قامتك الحسود جهالة ... إلا أجبت مقالة ببنيان
هل تحسن الحركات إلا أن يرى ... ذو حدبة في حلبة الميدان
لولاك ما اشتقنا قباب المنحنى ... من حاجر والتل من عسفان
والعود أحدب وهو يلهي مطرباً ... ولقد سمعت بنغمة العيدان
وانظر سفين البحر لولا حدبة ... في ظهره لم يقو للطوفان
ومدبراً الإكسير يدعى أحدباً ... في علمه والقسط في الميزان
وإذا اكتسى الإنسان قيل تمثلاً ... بالمذح قامت حدبة الإنسان
يفديك في الحدبان كل مكربس ... يمشي الهوينا مشية السرطان
منجمع الكتفين أقوس قد بدا ... في هيئة المتخوف الضعفان
الطبيب والخليفة
يحكى أن فلاحاً حصل له شدة من مرض آلمه وأصاب قدمه فجاء إلى طبيب وشكا إليه الآلام وقال: ألمي في رجلي ضاعف همي(4/245)
وأضعف هممي. فقال له الطبيب: لا بأس يا حبيب هذا داء هين. وعلاجه بين. أعطني ديناراً أصف لك دواء شافياً. فأعطاه ما اشتهى واستوصفه الدواء. فقال ضمده بعجة بيض كثيرة الأبراز. وضع عليه عسلاً مسخناً على النار. ففعل ذلك فبرمت قدمه. وزال بالكلية ألمه. ففكر الفلاح في أمر الطبيب. وقوله المصايب. فرأى الراحة. في ترك الفلاحة والاشتغال بعلم الطب فإنه أمر هين يسير. وبأدنى أمر حقير. يحصل المال الكثير. فباع آلات الزراعة. وعزم على تعاطي ما في الطب والتعبير من الصناعة. وجمع كتباً ودفاتر. وكراريس مخرمة مناثر. ووسع أكمامه. ووضع على رأسه عمامة كغمامة. وجمع عقاقير وأوراقاً وبسط بسطه في بعض الأسواق. وأشار على لسان مخبر: أن المكان الفلاني فيه طبيب معبر وهو أستاذ الزمان وعلامة الأوان. وتلامذته في الطب حكماء اليونان. وفي التعبير ابن سيرين وكرمان. وتصدر كأبي زيد وساسان. عاملاً بما قاله شيخ البيان وهو:
الطب أهون علم يستفاد فطر ... بين الأنام به طير الزنابير
واجمع لذاك كراريساً منثرة ... وجملة من حشيش من عقاقير
وضع على الرأس بقياراً تدوره ... كقبة النسر في وزن القناطير
واجمع معاجين من رب تخلطها ... واسحق سفوفاً وأكحال العوارير
وسم ما شئت من أسماء معربة ... كالسند والهند والسرحا وخنفور
وقل من الهند جاء هذا ومن عدن ... هذا وهذا أتى من ملك تقفور(4/246)
وذا من البحر بحر الصين معدنه ... وذا من البربر المدعو ببربور
فإن رأيت بالاستسقاء ذا ورم ... فقل تورم من لسع الزنابير
إن اقشعر فقل برد عراه وإن ... نجم قل حره وهج التنانير
وإن أتاك مريض لا تخف وأشر ... بما ترى من دواء دونه البوري
فإن يعش قل دواءي كان منعشه ... وإن يمت قل أتاه حكم مقدور
فإن أصبت فقل علمي ومعرفتي ... وفي التخالف قل ضد المقادير
وإن رأيت ففيها فر منه ولا ... تنطق يخطئك في جهل وتكثير
وأنت تحتاج في هذا وذاك إلى ... ذوق ومعرفة مع حسن تدبير
فاتفق أن زمام خليفة الأنام رأى في المنام شيئاً هاله. وغير حاله. فحصل له في رأسه صداع. وفي فؤاده أوجاع. فسمع بهذا الجديد. وأنه أستاذ مفيد. فقال: ماذا تشكو. فقال: في فؤادي أوجاع. وفي رأسي صداع. فقال: يا زين من فاخر. أعطني ديناراً آخر. اصف لك أيسر دواء. يحصل لك منه العافية والشفاء. فدفع إليه الدينار. وطلب منه دواء الدوار. وما بفؤاده من ألم. أورثه الوهج والضرم. فقال: يا أبا الفيض. ضمد رجلك بعجة بيض. مضافاً إليها عسل مشتار. وليكن ذلك مسخناً بالنار. فاستشاط غضباً. وفار كالنار شواظاً ولهباً. وعرف أنه جاهل. وعن طرق العلم غافل. فأدبه التأديب البالغ ورده إلى ما كان عليه من منادمة السالغ. واستمر على كلاحته. بعد رجوعه إلى فلاحته (فاكهة الخلفاء لابن عربشاه) .(4/247)
الفضل بن يحيى والأعرابي
ومما جاء في أخبار البرامكة ما رواه الأصمعي قال خرج الفضل للصيد والقنص. وبينما هو في موكبه إذ رأى أعرابياً على ناقة قد أقبل من صدر البرية يركض في سيره. قال: هذا يقصدني فلا يكلمه أحد غيري. فلما دنا الأعرابي ورأى المضارب تضرب. والخيام تنصب. والعسكر الكثير والجم الغفير. وسمع الغوغاء والضجة ظن أنه أمير المؤمنين. فنزل وعقل راحلته وتقدم إليه وقال: السلام عليك يا أمير المؤمنين ورحمة الله وبركاته. قال: اخفض عليك ما تقول. فقال: السلام عليك أيها الأمير. فقال: الآن قاربت اجلس. فجلس الأعرابي. فقال له الفضل: من أين أقبلت يا أخا العرب. قال: من قضاعة. قال: من أدناها أو من أقصاها. قال: من أقصاها. فقال: يا أخا العرب. مثلم من يقصد من ثمانمائة فرسخ إلى العراق لأي شيء. قال: قصدت هؤلاء الأماجد الأنجاد. الذين قد اشتهر معروفهم في البلاد. قال: من هم. قال: البرامكة. قال الفضل: يا أخا العرب إن البرامكة خلق كثير. وفيهم جليل وخطير. ولكل منهم خاصة وعامة. فهل أفرزت لنفسك منهم من اخترت لنفسك وأتيته لحاجتك. قال: أجل أطولهم باعاً وأسمحهم كفاً. قال: من هو. قال: الفضل ابن يحيى بن خالد. فقال له الفضل: يا أخا العرب إن الفضل جليل القدر عظيم الخطر. إذا جلس للناس مجلساً عاماً لم يحضر مجلسه(4/248)
إلا العلماء والفقهاء والأدباء والشعراء والكتاب والمناظرون للعلم. أعالم أنت. قال: لا. قال: أفأديب أنت. قال: لا. قال: أفعارف أنت بأيام العرب وأشعارها. قال: لا. قال: وردت على الفضل بكتاب وسيلة. قال: لا. فقال: يا أخا العرب غرتك نفسك. مثلك يقصد الفضل بن يحيى وهو ما عرفتك عنه من الجلالة. بأي ذريعة أو وسيلة تقدم عليه. قال: والله يا أمير ما قصدته إلا لإحسانه المعروف. وكرمه الموصوف. وبيتين من الشعر قلتهما فيه. فقال الفضل: يا أخا العرب أنشدني البيتين فإن كانا يصلحان أن تلقاه بهما أشرت عليك بلقائه. وإن كانا لا يصلحان أن تلقاه بهما بررتك بشيء من مالي ورجعت إلى ياديتك وإن كنت لم تستحق بشعرك شيئاً. قال: أفتفعل أيها الأمير. قال: نعم. قال: إني أقول:
ألم تر أن الجود من عهد آدم ... تحدر حتى صار يمتصه الفضل
ولو أن أماً مسها جوع طفلها ... غذته باسم الفضل لاغتذا الطفل
قال: أحسنت يا أخا العرب. فإن قال لك: هذان البيتان قد مدحنا بهما شاعر وأخذ الجائزة عليهما فأنشدني غيرهما. فما تقول. قال أقول:
قد كان آدم حين حان وفاته ... أوصاك وهو يجود بالحوباء
ببنيه أن ترعاهم فرعيتهم ... وكفيت آدم عولة الأبناء
قال: أحسنت يا أخا العرب. فإن قال لك الفضل ممتحناً هذان البيتان أخذتهما من أفواه الناس. فأنشدني غيرهما. فما تقول وقد(4/249)
رمقتك الأدباء بالأبصار وامتدت الأعناق إليك وتحتاج أن تناضل عن نفسك. قال: إذن أقول:
ملت جهابذ فضل وزن نائله ... ومل كتابه إحصاء ما يهب
والله لولاك لم يمدح بمكرمة ... خلق ولم يرتفع مجد ولا حسب
قال: أحسنت يا أخا العرب. فإن قال لك الفضل هذان البيتان مسروقان. أنشدني غيرهما. فما تقول: قال. إذن أقول:
ولو قيل للمعروف ناد أخا العلا ... لنادى بأعلى الصوت يا فضل يا فضل
ولو أنفقت جدواك من رمل عالج ... لأصبح من جدواك قد نفد الرمل
قال: أحسنت يا أخا العرب فإن قال لك الفضل: هذان البيتان مسروقان أيضاً. أنشدني غيرهما فماذا تقول. قال أقول:
وما الناس إلا اثنان صب وباذل ... وإني لذاك الصب والباذل الفضل
على أن لي مثلاً إذا ذكر الورى ... وليس الفضل في سماحته مثل
قال: أحسنت يا أخا العرب. فإن قال لك الفضل: أنشدني غيرهما فما تقول. قال: أقول أيها الأمير:
حكى الفضل عن يحيى سماحة خالد ... فقامت به التقوى وقام به العدل
وقام به المعروف شرقاً ومغرباً ... ولم يك للمعروف بعد ولا قبل
قال: أحسنت. فإن قال لك: قد ضجرنا من الفاضل والمفضول أنشدني بيتين على الكنية لا على الاسم فما تقول. قال: إذن أقول:
ألا يا أبا العباس يا واحد الورى ... ويا ملكاً خد الملوك له نعل(4/250)
إليك تسير الناس شرقاً ومغرباً ... فرادى وأزواجاً كأنهم نحل
قال: أحسنت يا أخا العرب. فإن قال لك الفضل: أنشدنا غير الاسم والكنية والقافية. قال: والله لئن زادني الفضل وامتحنني بعدها لأقولن أربعة أبيات ما سبقني إليهن عربي ولا أعجمي. ولئن زادني بعدها لأجمعن قوائم ناقتي هذه وأجعلها في فم الفضل. ولأرجعن إلى قضاعة خاسراً ولا أبالي. فنكس الفضل رأسه وقال للأعرابي: يا أخا العرب أسمعني الأبيات الأربعة. قال أقول:
ولائمة لامتك يا فضل في الندى ... فقلت لها هل يقدح اللوم في البحر
اتنهين فضلاً عن عطاياه للورى ... فمن ذا الذي ينهى السحاب عن القطر
كأن نوال الفضل في كل بلدة ... تحدر ماء المزن في مهمه قفر
كأن وقود الناس ف كل وجهة ... إلى الفضل لاقوا عنده ليلة القدر
قال: فأمسك الفضل عن فيه وسقط على وجهه ضاحكاً. ثم رفع رأسه وقال: يا أخا العرب أنا والله الفضل بن يحيى. سل ما شئت. فقال: سألتك بالله أيها الأمير إنك لهو. قال: نعم. قال له: فأقلني. قال: أقالك الله اذكر حاجتك. قال عشرة آلاف درهم. قال الفضل: ازدريت بنا وبنفسك يا أخا العرب. تعطى عشرة آلاف درهم في عشرة آلاف وأمر بدفع المال. فلما صار المال إليه حسده وزير الفضل وقال: يا مولاي هذا إسراف. يأتيك جلف من أجلاف العرب بأبيات استرقها من أشعار العرب فتجزيه بهذا المال.(4/251)
فقال: استحقه بحضوره إلينا من أرض قضاعة. قال الوزير: أقسمت عليك إلا أخذت سهماً من كنانتك وركبته في كبد قوسك وأومأت به إلى الأعرابي. فإن رد عن نفسه ببيت من الشعر وإلا فاستعطف مالك ويكون له في بعضه كفاية. فأخذ الفضل سهماً وركبه في كبد قوسه وأومأ إلى الأعرابي وقال له: رد سهمي ببيت من الشعر فأشأ يقول:
لقوسك قوس الجود والوتر الندى ... وسهمك سهم العز فارم به قفري
قال فضحك الفضل وأنشأ يقول:
إذا ملكت كفي منالاً ولم أنل ... فلا انبسطت كفي ولا نهضت رجلي
على الله إخلاف الذي قد بذلته ... فلا مبق لي بخلي ولا متلفي بذلي
أروني بخيلاً نال مجداً ببخله ... وهاتوا كريماً مات من كثرة البذل
ثم قال الفضل لوزيره أعط الأعرابي مائة ألف درهم لقصده وشعره ومائة ألف درهم ليكفينا شر قوائم ناقته. فأخذ الأعرابي المال وانصرف. وهو يبكي فقال له الفضل: مم بكاؤك يا أعرابي. أإستقلالاً للمال الذي أعطيناك. قال: لا ولكني أبكي على مثلك يأكله التراب وتواريه الأرض. وتذكرت قول الشاعر:
لعمرك ما الرزية فقد مال ... ولا فرس يموت ولا بعير
ولكن الرزية فقد حر ... يموت لموته خلق كثير
ثم انصرف الأعرابي مسروراً (أعلام الناس للاتليدي) .(4/252)
الباب السابع عشر في النوادر
مدينة الزهراء في الأندلس
كان الخليفة عبد الرحمان الناصر كلفاً بعمارة الأندلس وإقامة معالمها وتخليد الآثار الدالة على قوة الملك وعزة السلطان. فأفضى به الإغراق في ذلك إلى أن ابتنى مدينة الزهراء البناء الشائع ذكره المنتشر صيته. واستفرغ جهده في تنميقها وإتقان قصورها وزخرفة مصانعها. فاستدعى عرفاء المهندسين وحشد برعاء البنائين من كل قطر فوفدوا عليه حتى من بغداد والقسطنطينية. ثم أخذ في بناء المستنزهات وأنشأ مدينة الزهراء الموصوفة بالقصور الباهرة. وأقامها بطرق البلد على ضفة نهر قرطبة. ونسق فيها كل اقتدار معجز ونظام. وكان قصر الخليفة متناهياً في الجلالة والفخامة. أطبق الناس على أنه لم يبن مثله في الإسلام البتة. وما دخل إليه أحد من سائر البلاد النائية والنحل المختلفة إلا وكلهم قطع أنه لم ير له شبهاً بل لم يسمع به بل لم يتوهم كون مثله. ولو لم يكن فيه إلا السطح الممرد المشرف على الروضة المباهي بمجلس الذهب والقبة. وعجيب ما تضمنه من إتقان الصنعة وفخامة الهمة وحسن المستشرف وبراعة الملبس والحلة ما بين مرمر مسنون وذهب مصون وعمد كأنما أفرغت في القوالب. وتماثيل(4/253)
لا تهدى الأوهام إلى سبيل استقصاء التعبير عنها (لكفى مثلاً) . وكنت ترى في مقصورة الخليفة بركة يجري الماء فيها بصنعة محكمة وفي وسطها يعوم أسد عظيم الصورة بديع الصنعة شديد الروعة. لم يشاهد أبهى منه فيما صور الملوك في غابر الدهر. مطلي بذهب إبريز وعيناه جهرتان لهما وبيض شديد. فيمج الماء في تلك البركة من فيه فيبهر المناظر بحسنه وروعة منظره وثجاجة صبه. فتسقى من مجاجة جنان هذا القصر على سعتها ويستفيض على ساحاته وجنباته. وهذه البركة وتمثالها من أعظم آثار الملوك في غالب الدهر لفخامة بنيانها. وما يخص سائر البنايا فكان الناصر قد جلب إليها الرخام الأبيض المجزع من رية والأبيض من غيرها والوردي والأخضر من أفريقية. وبنى في القصر المجلس وجعل في وسطه اليتيمة التي أتحف الناصر بها إليون ملك قسطنطينية. وكانت قرامد هذا القصر من الذهب والفضة وهذا المجلس في وسطه صهريج عظيم مملوء بالزيبق. وكان في كل جانب من هذا المجلس ثمانية أبواب قد انعقدت على حنايا من العاج والأبنوس المرصع بالذهب وأصناف الجواهر قامت على سوار من الرخام الملون والبلور الصافي. وكانت الشمس تدخل على تلك الأبواب فيضرب شعاعها في صدر المجلس وحيطانه فيصير من ذلك نور يأخذ بالأبصار. وكان بناء الزهراء في غاية الإتقان والحسن وبها من المرمر والعمد كثير وأجرى فيها الماء وأحدق بها(4/254)
البساتين. وقد أتقنه إلى الغاية وأنفق عليه أموالاً طائلة. ووضع في وسط البحيرة قبة من زجاج ملون منقوش بالذهب وجلب الماء على رأس القبة بتدبير أحكمه المهندسون. فكان الماء ينزل من أعلى القبة على جوانبها محيطاً بها ويتصل بعضه ببعض وكانت قبة الزجاج في غلالة مما سكب خلف الزجاج لا يفتر من الجري وتوقد فيها الشموع فيرى لذلك منظر بديع. وتم بناء الزهراء بأربعين سنة (للمقري) .
عجائب مصر منها المقياس والأهرام والنيل
قال ضياء الدين بن الأثير في وصف مصر: ولقد شاهدت منها بلداً يشهد بفضله على البلاد. ووجدته هو المصر وما عداه فهو السواد. فما رآه راء إلا ملأ عينه وصدره. ولا وصفه واصف إلا علم أنه لم يقدر قدره. وبه من عجائب الآثار ما لا يضبطها العيان فضلاً عن الإخبار. من ذلك الهرمان اللذان هرم الدهر وهما لا يهرمان. قد اختص كل منهما بعظم البناء. وسعة الفناء. وبلغ من الارتفاع غاية لا يبلغها الطير على بعد تحليقه. ولا يدركها الطرف على مدى تحديقه. فإذا أضرم برأسه قبس ظنه المتأمل نجماً. وإذا استدار عليه قوس السماء كان له سهماً. ومن عجائب مصر المقياس الذي يعتبر فيه قدر زيادة فيض النيل كل سنة. وابتداؤه من شهر جونة ومعظم انتهائه أغشت وآخرها أول شهر أكتوبر. والمقياس عمود رخام سمر في موضع ينحصر فيه الماء عند انتهائه إليه. وهو مفصل على اثنتين وعشرين(4/255)
ذراعاً. وكل ذراع مفصلة على أربعة وعشرين قسماً أقساماً متساوية تعرف بالأصابع. فإذا استوى الماء تسع عشرة ذراعاً في الفيض فهي الغاية عندهم في طيب العام. وربما كان الماء فيها كثير العموم الفيض. والمتوسط ما استوى سبع عشرة ذراعاً وهو أحسن مما زاد عليه. والذي يستحق به السلطان خراجه ست عشرة ذراعاً فصاعداً. وعليها تعطى البشارة للذي يرقب الزيادة في كل يوم ويعلم بها مياومة.
ومن المباني التي يبلى الزمن ولا تبلى وتدرس معالمه وأخبارها لا تدرس الأهرام التي بأعمال مصر. وهي على نحو سبعة أميال في الصحراء التي يفضى منها إلى الإسكندرية. وهي قديمة العهد معجزة البناء غريبة المنظر مربعة الشكل كأنها القباب المضروبة. قد قامت في جو السماء لاسيما الاثنان منها. في سعة الواحد منهما من ركنه إلى ركنه ثلاثمائة خطوة وست وستون خطوة محددة الأطراف في رأي العين. وربما أمكن الصعود إليها على خطر ومشقة فتلقى أطرافها المحددة كأوسع ما يكون من الرحاب. قد أقيمت من الصخور العظام المنحوتة وركبت تركيباً بديع الإلصاق يكاد يعجز أهل الأرض نقض بنيانها. أما الهرمان العظيمان فمحاذيان للفسطاط. كل واحد منهما جسم من أعظم الحجارة مربع القاعدة. ارتفاع عموده أربع مائة ذراع يحيط بها أربعة سطوح مستويات الأضلاع وفي أعلاه سطح مربع رحب. وهما مع هذا العظم من إحكام الصنعة وإتقان(4/256)
الهندسة وحسن التقدير بحيث أنه لم يتأثر بعصف الرياح وهطل السحاب وزعزعة الزلازل. وهذا البناء ليس بين حجارته ملاط إلا ما يتخيل أنه ثوب أبيض فرش بين حجرين أو ورقة لا يتخلل بينهما الشعرة. وطول الحجر منها خمسة أذرع في سك ذراعين. قال بعضهم: ما سمعت بشيء عظيم فجئته إلا رأيته دون صفته إلا الهرمين. فإني لما رأيتهما كان رؤيتهما أعظم من صفتهما. وقد اختلفوا في من بنى الأهرام. قال بعضهم:
حسرت عقول ذوي النهى الأهرام ... واستصغرت لعظيمها الأجرام
ملس مونقة البناء شواهق ... قصرت لعال ذونهن سهام
لم أدر حين كبا التفكير دونها ... واستوهمت لعجيبها الأوهام
أقبور أملاك الأعاجم هن أم ... طلسم رمل هن أم أعلام
وزعم بعضهم أن الأهرام بمصر قبور ملوك عظام بها آثروا أن يتميزوا على سائر الملوك بعد مماتهم كما تميزوا عنهم في حياتهم. فيبقى ذكرهم على تطاول الدهور. قال أمية بن عبد العزيز:
بعيشك هل أبصرت أحسن منظراً ... على ما رأت عيناك من هرمي مصر
أنافا بأعناء السماء وأشرفا ... على الجو إشراف السماك أو النسر
وقال الفقيه عمارة اليمني الشاعر:
خليلي ما تحت السماء بنية ... تماثل في إتقانها هرمي مصر
تنزه طرفي في بديع بنائها ... ولم يتنزه في المراد بها فكري(4/257)
وقال سيف الدين بن حبارة:
لله أي غريبة وعجيبة ... في صنعة الأهرام للألباب
أخفت عن الأسماع قصة أهلها ... وقصت على الأنباء كل نقاب
فكأنما هي كالخيام مقامة ... من غير ما عمد ولا أطناب
قال القضاعي: من عجائب مصر النيل. قالوا ليس على وجه الأرض نهر أطول من النيل. لأن مسيره شهر في بلاد الإسلام وشهران في بلاد النوبة وأربعة أشهر في الخراب إلى أن يخرج ببلاد القمر خلف خط الاستواء. وليس في الدنيا نهر يصب من الجنوب إلى الشمال ويمد في شدة الحر عند انتقاص المياه والأنهار كلها ويزيد بترتيب وينقص بترتيب إلا النيل. وجعله الله تعالى سقياً يزرع عليه ويستغنى عن المطر به في زمان القيظ إذا نضب المياه. قال ابن خروف:
ما أعجب النيل ما أبهى شمائله ... في ضفتيه من الأشجار أدواح
من جنة الخلد فياض على ترع ... تهب فيها هبوب الريح أرواح
ليست زيادته ماء كما زعموا ... وإنما هي أرزاق وأرباح
(أخبار مصر والقاهرة لجلال الدين السيوطي)
عنترة والأسد
قال الراوي: وفي يوم من الأيام توغل عنتر في البر بالجمال والغنم. وقصد بها الروابي والأكم. إلى أن حميت عليه الشمس. وبعد عن حب عبس. فقصد شجرة من الأشجار. يستظل بها من حر النهار.(4/258)
وسرحت الأغنام ترعى في ذلك المرعى. وإذا هو بأسد كبير من بطن الوادي ظهر يمشي ويتبختر. أفطس المنخر. يطير من عينيه الشرر. يقلب الوادي إذا همر. بأنياب أحد من النوائب. ومخالب أمر من المصائب. شدوق شدقم. عبوس أدغم. تسمع الرعد إذا همهم ودمدم. يلمع البرق من عينيه إذا أظلم الليل وأعتم. شديد الحيل صعب المراس. عريض الكتف كبير الراس. فلما ظهر من بطن الوادي وشمت الخيل رائحته فرت من هيبته. وكذلك النوق والجمال. شردت في اليمين والشمال. فلما نظر عنتر إلى ذلك الأمر المنكر. نزل إلى الوادي حتى يبصر. والسيف في يده مشهر. وإذا هو بالأسد رابط باسط يديه. وهو يلعب بذنبه ويضرب به جنبيه. والشر يطير من عينيه. فعند ذلك زعق عنتر عليه زعقة دوت بها الجبال. وقال مرحباً بك يا أبا الأشبال. يا كلب الفلا. يا نحس وحوش البيدا. فلقد أبديت بأسك وصولتك. وافتخرت بهمتك وهمهمتك. فلا شك أنك ملك السباع. وسلطانهم المطاع. ولكن عد بالخيبة والإذلال. فما أنا كمن لاقيته من الرجال. أنا مهلك الأبطال. أنا ميتم الأطفال. فأنا لا أرضى أن أقتلك بسنان ولا بحسام. ولا بد أن أسقيك كأس الحمام. ثم إنه ألقى السيف من يده وحمل على السبع وهو ينشد:
يا أيها السبع الهجوم على الردى ... ها قد بقيت معفراً منهوبا
أتريد أموالي تكون مباحة ... ها قد تركتك بالدما مخضوبا(4/259)
شردت أغنامي ولم تك عالماً ... أني هزبر لا أزال مهيبا
هذي فعالي فيك يا كلب الفلا ... هلا شهدت مواقعاً وحروبا
لو كنت تعلم أن هذا تلتقي ... مني وتضحي للحمام شروبا
لم تأت نحوي تبتغي صيداً فقد ... وافاك حتفك عاجلاً مصبوبا
ثم هجم على الأسد. ووقع عليه كوقوع البرد. ونفخ عليه مثل الثعبان الأسود. ووثب عليه حتى ساواه في وثبته. وصرخ عليه صرخة أعظم من صرخته. وقبض على فمه بكفيه. واتكأ عليه فشق حنكيه. إلى حد كتفيه. وصاح صيحة أزعج بها الوادي وجانبيه. وصبر على الأسد حتى قضي عليه. (سيرة عنتر لابن إسماعيل) .
ذكر القهوة
إعلم أن القهوة هي النوع المتخذ من قشر البن أو منه مع حبة المجحم أي المقلي. وصفتها أن يوضع القشر أما وحده وهي القشرية أو مع البن المجحم المدقوق وهي البنية في ماء. ثم يغلى عليه حتى تخرج خاصيته. ومنهم من يجد غاية اعتدال استوائها بطعم مذاقها إلى المرارة. ثم تشرب. فمن قائل لحلها يرى أنها الشراب الطهور المباركة على أربابها. الموجبة للنشاط والإعانة على ذكر الله تعالى وفعل العبادة لطلابها. ومن قائل بحرمتها مفرط في ذمها والتشييع على شرابها. وكثر فيها من الجانبين التصانيف والفتاوى. وبالغ القائل بحرمتها فادعى أنها من الخمر وقاسها وساوى. وبعضهم نسب إليها.(4/260)
الإضرار بالعقل والبدن. إلى غير ذلك من الدعاوى والتعصبات المؤدية إلى الجدال والفتن. وأما اشتقاق اسم القهوة (كما قال العلامة الفخر أبو بكر بن أبي يزيد في مؤلفه إثارة النخوة بحل القهوة) فمن الإقهاء وهو الاجتواء أي الكراهة. أو من الإقهاء بمعنى الإقعاد من أقهى الرجل عن الشيء أي قعد عنه وكراهة كل شيء والقعود عنه بحسبه. ومنه سميت الخمرة قهوة لأنها تقهي أي تكره الطعام أو تقعد عنه أو تقعد عن النوم. وكان ظهورها وانتشارها على يد جمال الدين بن سعيد المعروف بالذبحاني. وكان متولياً لوظيفة تصحيح الفتاوى بعدن. وسبب إظهاره لها أنه كان عرض له أمر اقتضى الخروج من عدن إلى بر العجم فأقام به مدة فوجد أهله يستعملون القهوة ولم يعلم لها خاصية. ثم عرض له لما رجع إلى عدن مرض فتذكرها فشربها فنفعته فيه. ووجد فيها من الخواص أنها تذهب النعاس والكسل وتورث البدن خفة ونشاطاً. فلما سلك طريق التصوف صار هو وغيره من الصوفية بعدن يستعينون بشربها على ما ذكرناه. ثم تتابع الناس بعدن على شربها للاستعانة بها على مطالعة العلم وغير ذلك من الحرف والصناعات ولم تزل في انتشار. قال بعضهم في وصفها:
يا قهوة تذهب هم الفتى ... أنت لحاوي العلم نعم المراد
شراب أهل الله فيها الشفا ... لطالب الحكمة بين العباد
نطبخها قشراً فتأتي لنا ... في نكهة المسك ولون المداد(4/261)
فيها لنا تبر وفي حانها ... صحبة أبناء الكرام الجياد
كاللبن الخالص في حله ... ما خرجت عنه سوى بالسواد
قال آخر:
عرج على القهوة في حانها ... فاللطف قد حف بندماتها
فإنها لا غم تبقي إذا ... قابلك الساقي بفنجانها
لا يوجد الغم بحاناتها ... قد خضع الغم لسلطانها
بمائها نغسل أكدارنا ... ونحرق الهم بنيرانها
يقول من أبصر كانونها ... أف على الخمر وأدنانها
فاشرب ولا تسمع كلام الذي ... بجهله يفتي ببطلانها
(عمدة الصفوة في حل القهوة لعبد القادر الجزيري)
ذكر الأندلس وما خص به أهلها من العوائد والاختراعات
اعلم أن فضل الأندلس ظاهر. كما أن حسن بلادهم باهر. أشراف عرب المشرق افتتحوها. وسادات أشراف الشام والعراق نزلوها. فبقي النسل فيها بكل إقليم. على عرق كريم. فلا يكاد بلد منها يخلو من كاتب ماهر. وشاعر قاهر. وقد أعانتهم على الشعر أنسابهم العربية. وبقاعهم النضرة وهممهم الأبية. قال صاحب الفرحة: أهل الأندلس عرب في الأنساب والعزة والأنفة وعلو الهمم وفصاحة اللسان وطيب النفوس وإباء الضيم وقلة احتمال الذل والسماحة بما في أيديهم والنزاهة عن الخضوع وإتيان الدنية.(4/262)
هنديون في إفراط عنايتهم بالعلوم وحبهم فيها وضبطهم لها وروايتهم صينيون في إتقان الصنائع العملية وإحكام المهن الصورية. تركيون في معاناة الحروب ومعالجات آلاتها والنظر في مهماتها. بغداديون في نظافتهم وظرفهم ورقة أخلاقهم. ونباهتهم وذكائهم وحسن نظرهم وجودة قرائحهم ولطافة أذهانهم وحدة أفكارهم ونفوذ خواطرهم. يونانيون في استنباطهم للمياه ومعاناتهم لضروب الفراسات واختيارهم لأجناس الفواكه وتدبيرهم لتركيب الشجر وتحسينهم للبساتين بأنواع الخضر وصنوف الزهر. فهم أحكم الناس لأسباب الفلاحة. ومنهم ابن بصال صاحب كتاب الفلاحة الذي شهدت له التجربة بفضله. وهم أصبر الناس على مطاولة التعب في تجويد الأعمال. ومقاساة النصب في تحسين الصنائع. أحذق الناس بالفروسية وأبصرهم بالطعن والضرب. ومن فضائلهم اختراعهم للخطوط المخصوصة بهم (قال) وكان خطهم أولاً مشرقياً. وعد ابن غالب من فضائلهم اختراعهم للموشحات التي استحسنها أهل المشرق وصاروا ينزعون منزعها. وأما نظمهم ونثرهم فلا يخفى على من وقف عليهما علو طبقاتهم. ثم قال أبو غالب: ولما نفذ قضاء الله تعالى على أهل الأندلس بخروج أكثرهم عنها في هذه الفتنة الأخيرة المبيرة تفرقوا ببلاد المغرب الأقصى من بر العدوة في بلاد أفريقية. فأما أهل البادية فمالوا في البوادي إلى ما اعتادوه وداخلوا أهلها(4/263)
وشاركوهم فيها. فاستنبطوا المياه وغرسوا الأشجار وأحدثوا الأرحي الطاحنة بالماء وغير ذلك. وعلموهم أشياء لم يكونوا يعلمونها ولا رأوها. فشرفت بلادهم وصلحت أمورهم وكثرت مستغلاتهم وعمتهم الخيرات. وأما أهل الحواضر فمالوا إلى الحواضر واستوطنوها. وأما أهل الأدب فكان منهم الوزراء والكتاب والعمال وجباة الأموال والمستعملون في أمور المملكة. ولا يستعمل بلدي ما وجد أندلس. وأما أهل الصنائع فإنهم فاقوا أهل البلاد وقطعوا معاشهم وأجملوا أعمالهم وصيروهم أتباعاً لهم ومتصرفين بين أيديهم. ومتى دخلوا في شغل عملوه في أقرب مدة وأفرغوا فيه من أنواع الحذق والتجويد ما يميلون به النفوس إليهم ويصير الذكر لهم. ولا يدفع هذا عنهم إلا جاهلي أو مبطل. ومن حكاياتهم في الذكاء واستخراج العلوم واستنباطها أن أبا القاسم عباس بن فرناس حكيم الأندلس أول من استنبط بالأندلس صناعة الزجاج من الحجارة وأول من فك بها كتاب العروض للخليل. وأول من فك الموسيقى وصنع الآلة المعروفة بالمثقال ليعرف الأوقات على غير رسم ومثال. واحتال في تطيير جثمانه وكسا نفسه بالريش ومد له جناحين وطار في الجو مسافة بعيدة. ولكنه لم يحسن الاحتيال في وقوعه. ولم يدر أن الطائر إنما يقع على زمكه ولم يعمل له ذنباً. وصنع في بيته هيئة السماء وخيل للناظر فيها النجوم والغيوم والبروق والرعود. (للمقري) .(4/264)
الباب الثامن عشر في المراسلات
فصل في المراسلات بين الملوك والأمراء
كتاب كسرى بن هرمز إلى موريقي ملك الروم
لما وثب الفرس على هرمز ملكهم فسملوا عينيه ثم قتلوه وملكوا عليهم بحرام المرزبان. كان لهرمز ابن حدث اسمه كسرى وهو المعروف بأنوشروان العادل. فتنكر كأنه سائل وشق سلطان الفرس حتى جاء نصيبين وصار إلى الرها ومنها إلى منبج وكتب إلى موريقي كتاباً نسخته:
للأب المبارك والسيد المقدم موريقي ملك الروم من كسرى ابن هرمز السلام. أما بعد فإني أعلم الملك أن بهرام ومن معه من عبيد أبي جهلوا قدرهم ونسوا أنهم عبيد وأنا مولاهم. وكفروا نعم آبائي لديهم فاعتدوا علي وأرادوا قتلي. فهممت أن أفزع إلى مثلك فأعتصم بفضلك وأكون خاضعاً لك. لأن الخضوع لملك مثلك وإن كان عدواً أيسر من الوقوع في أيدي العبيد المردة. لأن يكون موتي على أيدي الملوك أفضل وأقل عاراً من أن يجري على أيدي العبيد. ففزعت إليك ثقة بفضلك ورجاء أن تترأف على مثلي وتمدني بجيوشك لأقوى بهم على محاربة العدو وأصير لك ولداً سامعاً ومطيعاً إن شاء الله تعالى.
فلما قرأ موريقي كتاب كسرى بن هرمز عزم على إجابة مسلته لأنه لجأ إليه فأنجده بعشرين ألفاً. وسير له من الأموال أربعين قنطاراً وكتب إليه كتاباً نسخته: من موريقي عبد يشوع المسيح إلى كسرى ملك الفرس ولدي(4/265)
وأخي السلام. أما بعد فقد قرأت كتابك وفهمت ما ذكرت فيه من أمر العبيد الذين تمردوا عليك. وكونهم غمطوا أنعم آبائك وأسلافك غمطاً وخروجهم عليك ودحضهم إياك عن ملكك فتداخلني من ذلك أمر حركني على التراف بك وعليك وإمدادك بما سألت. فأما ما ذكرت من أن الاستتار تحت جناح ملك عدو والاستظلال بكنفه آثر من الوقوع في أيدي العبيد المردة والموت على أيدي الملوك ورغبت إلينا في ذلك فقد صدقنا قولك وقبلنا كلامك وحققنا أملك وأتممنا بغيتك وقضينا حاجتك وحمدنا سعيك وشكرنا حسن ظنك بنا. ووجهنا إليك بما سألت من الجيوش والأموال وصيرتك لي ولداً وكنت لك أباً. فاقبض الأموال مباركاً لك فيها وقد الجيوش وسر على بركة الله وعونه. ولا يعترك الضجر والهلع. بل تشمر لعدوك ولا تقصر فيما يجب لك إذا تطأطأت من درجتك وانحططت عن مرتبتك. فإني أرجو أن يظفرك الله بعدوك ويرد كيده في نحره ويعيدك إلى مرتبتك برجاء الله تعالى. (لأبي الفرج الملطي) .
كتاب عمر بن الخطاب إلى عمرو بن العاص
إني أحمد إليك الله الذي لا إله إلا هو. أما بعد فقد عجبت من كثرة كتبي إليك في إبطائك بالخراج وكتابك إلي ببنيات الطرق. وقد علمت أني لست أرضى منك إلا بالحق البين. ولم(4/266)
أقدمك مصر أجعلها لك طعمة ولا لقومك. ولكني وجهتك لما رجوت من توفيرك الخراج وحسن سياستك فإذا أتاك كتابي فاحمل الخراج فإنما هو في المسلمين وعندي من تعلم قوم محصورون. والسلام.
(فكتب عمرو بن العاص) : أما بعد فقد أتاني كتاب أمير المؤمنين يستبطئني في الخراج. ويزعم أني أعند عن الحق وأنكب عن الطريق. وإني والله ما أرغب عن صالح ما تعلم ولكن أهل الأرض استنظروني إلى أن تدرك غلتهم فنظرت للمسلمين فكان الرفق بهم خيراً من أن يخرق بهم فتصير إلى ما لا غنى بهم عنه. والسلام (لجلال الدين السيوطي) .
كتاب عنبسة بن إسحاق إلى المأمون وهو عامله على الرقة
يصف خروج الأعراب بناحية سنجار وعبثهم بها يا أمير المؤمنين قد قطع سبل المجتازين من المسلمين والمعاهدين نفر من شذاذ الأعراب الذين لا يرقبون في مؤمن إلا ولا ذمة ولا يخافون في الله حداً ولا عقوبة. ولولا ثقتي بسيف أمير المؤمنين وحصده هذه الطائفة وبلوغه في أعداء الله ما يردع قاصيهم ودانيهم لأذنت بالاستنجاد عليهم ولأسعيت الخيل إليهم. وأمير المؤمنين معان في أموره بالتأيد والنصر. (فكتب إليه المأمون) :
أسمعت غير كهام السمع والبصر ... لا يقطع السيف إلا في يد الخدر
سيصبح القوم من سيفي وضاربه ... مثل الهشيم ذرته الريح بالمطر(4/267)
(فوجه عنبسة بالبيتين إلى الأعراب فما بقي منهم اثنان) (لابن عبد ربه) .
في الطلب وحسن التواصل
كتاب أبي العيناء إلى عبيد الله بن سليمان
أنا أعزك الله وولدي وعيالي زرع من ورعك إن أسقيته راع وزكا. وإن جفوته ذبل وذوى. وقد مسني منك جفاء بعد بر وإعفال بعد تعاهد حتى تكلم عدو وشمت حاسد. ولعبت بي ظنون رجال كنت بهم لاعباً ولهم مخرساً. ولله در أبي الأسود في قوله:
لا تهني بعد أن أكرمتني ... وشديد عادة منتزعة
(فوقع في رقعته) : أنا أسعدك الله على الحال التي عهدت وميلي إليك كما علمت. وليس من أنسيناه أهملناه ولا من أخرناه تركناه مع اقتطاع الشغل لنا واقتسام زماننا. وكان من حقك علينا أن تذكرنا بنفسك وتعلمنا أمرك. وقد وقعت لك برزق شهرين لتريح غلتك وتعرفني مبلغ استحقاقك لأطلق لك باقي أرزاقك إن شاء الله. والسلام. (للقيرواني) .
فصول لابن عبد ربه
للمفضل أن يخص بفضله من شاء لله الحمد ثم له فيما أعطى ولا حجة عليه فيما منع. كن كيف شئت فإني واجد أمري خالصة سريرتي. أرى ببقائك بقاء سروري وبدوام النعمة عندك دوامها عندي. لا أزال أبقاك الله أسأل الكتاب إليك. فمرة أتوقف توقف المخفف عنك(4/268)
من المؤونة ومرة أكتب كتاب الراجع منك إلى الثقة. والمعتمد منك على المقيل لا أعدمنا الله دوام عزك ولا سلب الدنيا بهجتها بك ولا أخلانا من الصنع لله. فإنا لا نعرف إلا نعمتك ولا نجد للحياة طعماً إلا في ظلك. ولئن كانت الرغبة إلى بشر من الناس خساسة وذلاً لقد جعل الله الرعية إليك كرامة وعزاً. لأنك لا تعرف حراً قعد به دهره إلا سبقت مسلته بالعطية وصنت وجهه عن الطلب والذلة. (فصل) : لك أصلحك الله عندي إياد تشفع لي إلى محبتك ومعروف يوجب عليك الود والإتمام. وأنا أسأل الله أن ينجزني ما لم تزل الفراسة تعدنيه فيك. (فصل) : قد أجل الله قدرك عن الاعتذار وأغناني في القول وأوجب عليك أن تقنع بما فعلت وترضى بما أنعمت وصلت أو قطعت. (العقد الفريد) .
كان الأمير عبد الرحمان قد جفا ابنه المنذر وأبعده لسوء خلقه فكتب إلى أبيه: إني قد توحشت في هذا الموضع توحشاً ما عليه من مزيد وعدمت فيه من كنت آنس إليه. وأصبحت مسلوب العز فقيد الأمر والنعي فإن كان ذلك عقاباً لذنب كبير ارتكبته وعلمه مولاي ولم أعلمه فإني صابر على تأديبه ضارع إليه عفوه وصفحه:
وإن أمير المؤمنين وفعله ... لكالدهر لا عار بما فعل الدهر
(فلما وقف الأمير على رقعته أرجعه إلى ما اعتاده) (للمقري) .(4/269)
في الأشواق
كتاب إسحاق بن إبراهيم الموصلي إلى بعض الجلة يستدعيه يومنا يوم لين الحواشي وطيء النواحي وسماؤنا قد أقبلت ورعدت بالخير وبرقت. وأنت قطب السرور ونظام الأمور. فلا تفردنا فنقل. ولا تفرد عنا فنذل (للقيرواني) .
كتاب أبي العباس الغساني كاتب صاحب أفريقية لبعض الأصدقاء
سر إلى مجلس يكاد يسير شوقاً إليك. ويطير بأجنحة من جواه حتى يحل بين يديك. فلله در كماله. إن طلعت بدراً بأعلاه وجماله إن ظهرت غرة بمحياه. فهو أفق قد حوى نجوماً تتشوق إلى طلوع بدرها. وقطر قد اشتمل على أنهار تتشوق إلى بحرها. لتستمد منه. فإن مننت بالحضور وإلا فيا خيبة السرور. قال ابن الزين:
والراح قد أقسمت الدنيا على ساق ... والكأس أصبح غضباناً على الساقي
والراح قد أقسمت أن لا تطيب لنا ... حتى ترى وجهك الزاهي بإشراق
وأعين الزهر نحو الباب ناظرة ... وقد صغت أذن السوسان للطاق
فاسمح بجودك فضلاً بالحضور لنا ... ما دام شمل مسرات الهنا باق
فلو دعيت إلى هذا سعيت له ... يا حبذاك على رأسي وأحداقي
كتاب الصاحب ابن عباد إلى صديق له
مجلسنا يا سيدي مفتقر إليك معول في شوقه عليك. وقد أبت راحته أن تصفو إلا أن تتناول يمناك. وأقسم غناؤه لا يطيب حتى(4/270)
تعيه أذناك. ونحن لغيبتك كعقد ذهبت واسطته وشباب قد أخذت جدته. وإذا غابت شمس السماء عنا فلا بد أن تدنو شمس الأرض منا. فإن رأيت أن تحضر لتنصل الواسطة بالعقد. ونحصل بك في جنة الخلد. فكن إلينا أسرع من السهم في ممره. والماء إلى مقره. لئلا يخبث من يومي ما طاب ويعود من نومي ما طار. والله أعلم (للنواجي) .
فصول في العتاب والاعتذار
فصول لأحمد بن يوسف لولا حسن الظن بك أعزك الله لكان في إغضابك عني ما يقبضني عن الطلبة إليك. ولكن أمسك برمق من الرجاء علمي برأيك في رعاية الحق وبسط يدك إلى الذي لو قبضتها عنه لم يكن له إلا كرمك مذكراً وسؤددك شافعاً. (فصل) لا سبيل إلى شكايتك إلا إليك والاستعانة إلا بك. وما أحق من جعلك على أمر عوناً أن تكون له إلى النجا سبباً. وقال الشاعر:
عجبت لقلبك كيف انقلب ... ومن طول ودك أنى ذهب
وأعجب من ذا وذا أنني ... أراك بعين الرضا في الغضب
(فص) . إن مسألتي إليك حوائجي مع عتبك علي من اللوم. وإن إمساكي عنها في حال ضرورة إليها مع علمي بكرمك في السخط والرضا لعجز. غير أني أعلم أن أقرب الوسائل في طلب رضاك مسألتك ما سنح من الحاجة. إذ كنت لا تجعل عتبك سبباً لمنع معروفك.(4/271)
فصل في العتاب للعتابي
تأنينا إفاقتك من سكرتك وترقبنا انتباهك من رقدتك. وصبرنا على تجرع الغيظ فيك. فها أنا قد عرفتك حق معرفتك في تعديك لطورك واطراحك حق من غلط في اختيارك (لابن عبد ربه) .
فصول لابن مكرم في الاعتذار
ليس يزيلني عن حسن الظن بك فعل حملك الأعداء عليه. ولا يقطعني عن رجائك عتب حدث علي منك. بل أرجو أن يتقاضى كرمك إنجاز وعدك إذ كان أبلغ الشفعاء إليك. وأوجب الوسائل لديك. (فصل) أنت أعزك الله أعلم بالعفو والعقوبة من أن تجازيني بالسوء على ذنب لم أجنه بيد ولا لسان بل جناه علي لسان واش. فأما قولك إنك لا تسهل سبيل العذر فأنت أعلم بالكرم وأرعى لحقوقه. وأقعد بالشرف وأحفظ لذماماته من أن ترد يد مؤملك صفراً من عفوك إذا التمسه. ومن عذرك إذا جعل فضلك شافعاً فيه.
مرض الحسن بن وهب فلم يعده ابن الزيات ولم يتعرف خبره فكتب إليه:
أيها ذا الوزير أيدك الل ... هـ وأبقاك لي زماناً طويلا
أجميلاً تراه يا أكرم النا ... س لكيما أراه أيضاً جميلا
أنني قد أقمت عشراً عليلاً ... ما ترى مرسلاً إلي رسولا
إن يكن يوجب التعهد في الصح ... بة منا علي منك طويلا
فهو أولى يا سيد الناس براً ... وافتقاداً لمن يكون عليلا(4/272)
فأجابه ابن الزيات:
دفع الله عنك نائبة الده ... ر وحاشاك أن تكون عليلا
أشهد الله ما علمت وماذا ... ك من العذر جائزاً ومقبولا
ولعمري أن لو علمت فلازم ... تك حولاً لكان عندي قليلا
فاجعلن لي إلى التعلق بالعذ ... ر سبيلاً إن لم أجد لي سبيلا
فقديماً ما جاد بالصفح والعف ... ووما سامح الخليل خليلا
فصول في الذم
كتاب أبي بكر الخوارزمي إلى العامل على البريد بالأهواز
كنت ظننت ب يا أخي ظناً كذبه قبح فعلك. وضعف هجرك ووصلك. فإنك لا تعمل فيهما على قياس واجب ولا تصبر منهما على طعام واحد. فلا جرم لقد رجعت في ودي لك وما كنت أرجع في هبة. وندمت على ثقتي بك وعهدي أن لا أندم على حسنة (للخوارزمي) .
كتاب عمر بن الخطاب إلى أبي موسى الأشعري
أما بعد فإن للناس نفرة عن سلطانهم. فاحذر أن تدركني وإياك عمياء مجهولة. وضغائن محمولة. وأهواء متبعة ودنيا مؤثرة. فأقم الحدود ولو ساعة من النهار وباشر أمور المسلمين وافتح بابك لهم. فإنما أنت رجل منهم غير أن الله جعلك أثقلهم حملاً. وقد بلغ أمير المؤمنين أنه فشت لك ولأهل بيتك هيئة في لباسك ومطعمك ومركبك ليس للمسلمين مثلها. فإياك يا عبد الله أن تكون كالبهيمة(4/273)
همها في السمن والسمن حتفها. واعلم أن العامل إذا زاغ زاغت رعيته. وأشقى الناس من يشقى به الناس. والسلام (لابن عبد ربه) .
كتاب صلاح الدين إلى معز الدين صاحب الجزيرة
إنك أنت قصدت الانتماء إلي ابتداء وراجعتني في ذلك مراراً. وأظهرت الخيفة على نفسك وقلبك وبلدك من أهلك. فقبلتك وآويتك ونصرتك وبسطت يدك في أموال الناس ودمائهم وأعراضهم. فنفذت إليك ونهيتك عن ذلك مراراً فلم تنته. فاتفق وقوع هذه الواقعة للإسلام فدعوناك فأتيت بعسكر قد عرفته وعرفه الناس. وأقمت هذه المدة المديدة وقلقت هذا القلق وتحركت هذه الحركة. وانصرفت عن غير طيب نفس وغير قصد حال مع العدو. فانظر لنفسك وأبصر من تنتمي إليه غيري. واحفظ نفسك ممن يقصدك فما لي إلى جانبك التفات (سيرة صلاح الدين لابن شازي) .
كتاب عبد الله بن طاهر إلى محمد بن عبد الملك الزيات
أحلت عما عهدت من أدبك ... أم نلت ملكاً فتهت في كتبك
أم قد ترى أن في ملاطفة ال ... إخوان نقصاً عليك في أدبك.
أكان حقاً كتاب ذي مقة ... يكون في صدره وأمتع بك
أتعبت كفيك في مكاتبتي ... حسبك مما لقيت من تعبك
(فكتب إليه محمد بن عبد الملك الزيات)
كيف أخون الإخاء يا أملي ... وكل شيء أنال من سببك(4/274)
أنكرت شيئاً فلست فاعله ... ولن تراه يخط في كتبك
إن يك جهل أتاك من قبلي ... فعد بفضل علي من حسبك
فاعف فدتك النفوس عن رجل ... يعيش حتى الممات في أدبك
فصول في التوصية
كتاب عمر إلى أبي عبيدة بعد فتوح الشام
وبعد فإني وليتك أمور المسلمين فلا تستحي فإن الله لا يستحي من الحق. وإني أوصيك بتقوى الله الذي يبقى ويفنى ما سواه والذي استخرجك من الضلال إلى الهدى. وقد استعملتك على جند ما هنالك مع خالد فاقبض جنده واعزله عن إمارته. ولا تقل إني أرجو لكم النصر فإن النصر إنما يكون مع اليقين والثقة بالله. وإياك التغرير بإلقاء المسلمين إلى الهلكة. وغض عن الدنيا عينك وأله عنها قلبك. وإنما بينك وبين الآخرة ستر الخمار وقد تقدمك سلفك. وأنا كأنك منتظر سفراً ورحيلاً من داء مضت نضارتها وذهبت زهرتها. فأحزم الناس فيها الرحال عنها لغيرها ويكون زاده التقوى. وراع المسلمين ما استطعت. وأما اختصامك أنت وخالد في الصلح أو القتال فأنت الولي وصاحب الأمر. والسلام ورحمة الله وبركاته عليك وعلى جميع المسلمين (فتوح الشام للواقدي) .
كتاب بديع الزمان إلى ابن أخته
أنت ولدي ما دمت والعلم شأنك. والمدرسة مكانك.(4/275)
والمحبرة حليفك. والدفتر أليفك. فإن قصرت ولا أخالك. فغيري خالك والسلام. (رسائل بديع الزمان الهمذاني) .
فصول لمحمد بن عبد الملك الزيات للخلفاء في التوصية
إن حق الأولياء على السلطان تنفيذ أمورهم وتقويم أودهم ورياضة أخلاقهم. وأن يميز بينهم فيقدم محسنهم ويؤخر مسيئهم. ليزداد هؤلاء في إحسانهم ويزدجر هؤلاء عن إساءتهم. (وفصل له) : إن الله أوجب لخلفائه على عباده حق الطاعة والنصيحة. ولعبيده عل خلفائه بسط العدل والرأفة وإحياء السنن الصالحة. فإذا أدى كل إلى كل حقه كان ذلك سبباً لتمام المعونة واتصال الزيادة واتساق الكلمة ودوام الألفة. (وفصل) : ليس من نعمة يجددها الله لأمير المؤمنين في نفسه خاصة إلا اتصلت برعيته عامة وشملت الرعية كافة وعظم بلاء الله عندهم فيها ووجب عليهم شكره عليها. لأن الله جعل بنعمته تمام نعمتهم وبتدبيره وذبه عن دينه حفظ حريمهم. وبحياطته حقن دمائهم وأمن سبيلهم. فأطال الله بقاء أمير المؤمنين منطوي القلب على مناصحتهم مؤيداً بالنصر. معززاً بالتمكين موصول البقاء بالنعيم المقيم.
فصول في المديح والشكر
فصول للحسن بن وهب
من شكرك على درجة رفعته إليها أو ثروة أقدرته إياها. فإن(4/276)
شكري لك على مهجة أحييتها وحشاشة أبقيتها ورمق أمسكت به وقمت بين التلف وبينه فلكل نعمة من نعم الدنيا حد تنتهي إليه ومدى يوقف عنده وغاية من الشكر يسمو إليها الطرف. خلا هذه النعمة التي قد فاقت الوصف وأطالت الشكر وتجاوزت قدره. وأنت من وراء كل غاية. رددت عنا كيد العدو وأرغمت أنف الحسود. فنحن نلجأ إليه منها إلى ظل ظليل وكنف كريم فكيف يشكر الشاكر وأين يبلغ جهد المجتهد. (وله إلى إبراهيم بن العباس) : وصل كتابك فما رأيت كتاباً أسهل فنوناً ولا أملس متوناً ولا أكثر عيوناً ولا أحسن مقاطع ومطالع منه. أنجزت فيه عدة الرأي وبشرى الفراسة. وعاد الظن يقيناً والأمل مبلوغاً والحمد لله الذي بنعمته تتم الصالحات.
كتاب ابن مكرم إلى أحمد بن المدبر
إن من النعمة على المثني عليك أن لا يخاف الإفراط ولا يأمن التقصير. ويأمن أن تلحقه نقيصة الكذب. ولا ينتهي به المدح إلى غاية إلا وجد فضلك تجاوزها. ومن سعادة جدك أن الداعي لا يقدم كثرة المتابعين له والمؤمنين معه (لابن عبد ربه) .
فصول في التهنئة والهدايا
فصل للحسن بن وهب
لئن تخلقت عن عيادتك بالعذر الواضح من العلة ما أغفل قلبي ذكرك ولا لساني عن خبرك. ولما بلغتني إفاقتك كتبت(4/277)
مهنئاً بالعافية معفياً من الجواب إلا بخبر السلامة. (للقيرواني) .
كتاب سعيد بن حميد إلى بعض أهل السلطان في يوم النيروز
أيها السيد الشريف عشت أطول الأعمار بزيادة من العمر موصولة بفرائضها من الشكر. لا ينقضي حق نعمة حتى يحدد لك أخرى ولا يمر بك يوم إلا كان مقصراً عما بعده. وفياً عما قبله. وإني وإن أهديت نفسي فهي ملك لك لا حظ فيها لغيرك. ورميت بطرفي إلى كرائم مالي فوجدتها منك. فإن كنت أهديت منها شيئاً لمهد مالك إليك. ونزعت إلى مودتي فوجدتها خالصة لك قديمة غير مستحدثة. فرأيتني إن جعلتها هديتي لم أجدد لها اليوم الجديد براً ولا لطفاً. ولم أميز منزلة من شكري بمنزلة من نعمتك إلا كان الشكر مقصراً عن الحق والنعمة زائداً على ما تبلغه الطاقة. فجعلت الاعتراف بالتقصير عن حقك هدية إليك والإقرار بالعجز عما يجب لك براً أتوصل به إليك.
وكتب بعض الكتاب إلى بعض الملوك
النفس لك والرجاء موقوف عليك والأمل مصروف نحوك. فما عسى أن أهدي إليك في هذا اليوم وهو يوم سهلت فيه العادة سبيل الهدايا للسادة. فاقتصرنا على هدية تقتضي بعض الحق وتقوم عندك مقام أجمل البر. ولا زلت أيها الأمير دائم السرور والغبطة في أتم أحوال العافية وأعلى منازل الكرامة تمر بك الأعياد الصالحة.(4/278)
فتخلقها وأنت جديد تستقبل أمثالها فتلقاك ببهائها (لابن عبد ربه) .
فصول في التعزية
كتاب الخوارزمي إلى الشيخ أبي بكر
بلغني ما قاساه سيدي أيده الله تعالى في هذه المصيبة من غم يشكي بل يبكي. وجزع يضني بل يفني. والموت خطب ثقل حتى خف وكثر حتى قل. وهان على الباقي لما رآه بالماضي. وعلى المعزى لما نظره في المعزى. ودخل الجميع تحت قول المتنبئ:
فيدفن بعضنا بعضاً ويمشي ... أواخرنا على هام الأوالي
وشيخي أعرف بالله. من أن يتأدب بغير أدب الله. ولا يسلم لقضاء الله. ولكن لمفاجأة المصيبة لذعة يستراح منها إلى مباثة الصديق. وإلى تسلية الأخ الشقيق. والسلام (رسائل الخوارزمي) .
غيره لبعضهم
أما بعد فإن أحق من تعزى وأول من تأنس وسلم الأمر الله وقيل تأديبه في الصبر على نكبات الدنيا وتجزع غصص البلوى من تنجز من الله وعده وأخلص له نفسه واعترف له بما هو أهله. وفي قلبه سلوة من فقد كل حبيب وإن لم تطب النفس عنه وأنس من كل فقيد وإن عظمت اللوعة. والموت سبيل الماضين والغابرين ومورد الخلائق أجمعين. وفي أنبياء الله وسالف أوليائه أفضل العبرة وأحسن الأسوة. فهل أحد منهم إلا وقد أخذ من فجائع الدنيا بأجزل الإعطاء(4/279)
ومن الصبر عليها باحتساب الأجر فيها بأوفر الأنصباء. فوهب الله لك من عصمة الصبر ما يكمل لك به زلفى الفائزين وقربة الشاكرين. وجعلك من المرضيين قولاً وفعلاً (لابن عبد ربه) .
كتاب أبي العيناء إلى المهدي بعد موت الخليفة المنصور
أجر الله أمير المؤمنين على أمير المؤمنين قبله وبارك له فيما خلقه له. فلا مصيبة أعظم من مصيبة إمام والد ولا عقبى أفضل من خلافة الله على أوليائه. فاقبل من الله أفضل العطية واصبر له على أعظم الرزية.
فصول إلى عليل
كتاب أبي بكر الخوارزمي إلى تلميذ له قد ظهر عليه الجدري
وصلني خبر الجدري فنال مني وهج حزني. وراع قلبي وأسهر عيني وهذه العلة وإن كانت موجعة. وفي رأي العين فظيعة شنيعة. فإنها السلامة أقرب وطريقها إلى الحياة أقصد. لأن عين الطبيب تقع عليها. وظاهر الداء أسلم من باطنه. وبارز الجرح أهون من كامنه. ولعمري إنها تورث سواد العين. وتذهب من الوجه بديباجة الحسن ولكن ذلك يسير في جنب السلامة للروح اللطيفة. والنفس الشريفة. ولست أستطيع لك غير الدعاء. لا أسأل صحتك. إلا ممن خلق علتك. ورأى لك أن تحسن ظنك بربك. وتستغفر من ذنبك. وتجعل الصدقة شفيعك. واليقين طبيبك. وتعلم أنه لا داء أدوأ من أجل. ولا دواء أشفى من مهل. ولا فراش(4/280)
أوطأ من أمل. شفاك الله تعالى. وحسبك به طبيباً. (للخوارزمي) .
وتب إلى تلميذ له ورد عليه كتابه بأنه عليل
وصل كتابك يا سيدي فسرني نظري إليه. ثم غمني اطلاعي عليه لما تضمنه من ذكر علتك. جعل الله تعالى أولها كفارة وآخرها عاقبة. ولا أعدمك على الأولى أجراً. وعلى الآخرة شكراً. وبودي لو قرب علي متناول عيادتك. فاحتملت عنك بالتعهد والمساعدة بعض أعباء علتك. فلقد خصني من هذه العلة قسم كقسمك. ومرض قلبي لمرض جسمك. وأظن أني لو لقيتك عليلاً لانصرفت عنك وأنا أعل منك فإني بحمد الله تعالى جلد على أوجاع أعضائي. غير جلد على أوجاع أصدقائي. شفاك الله وعافاك. وكفاني فيك المحذور وكفاك. وغفر ذنبك. وشرح قلبك وأعلى كعبك له.
فصول في وصاة للجاحظ
أما بعد فإن أحق من أسعفته في حاجته وأجبته إلى طلبته من توسل إليك بالأمل ونزع نحوك بالرجاء. وإن فلاناً أسبابه متصلة بنا يلزمنا ذمامه وبلوغ موافقته من أياديك عندنا. وأنا لنا موضع الثقة من مكافأته فأولنا فيه ما نعرف موقعنا من حسن رأيك وتكون مكافأة لحقه علينا (وله) : أما بعد فقد أتانا كتابك في فلان وله لدينا من الذمام ما يلزمنا مكافأته ورعاية حقه. ونحن من المعتبة بأمره على ما كان في حرمته ويؤدي شكره (لابن عبد ربه) .(4/281)
الباب التاسع عشر في التراجم
شعراء النصرانية
(البراق بن روحان 525)
هو أبو النصر بن روحان بن أسد التميمي من شعراء الطبقة الثانية وهو جاهلي قديم. وكان في صغره يتبع رعاة الإبل ويحلب اللبن ويأتي به إلى راهب حول المراعي فيتعلم منه تلاوة الإنجيل وكان يدين بدينه. ثم اشتهر أمره وسار بعد ذلك. وظهر منه من القيام والفروسية في الحرب التي وقعت بين بني ربيعة وبني إياد ولخم ما لم يكن لغيره. ومن شعره:
يا طالب الأمر لا يعطى أمانيه ... استعمل الصبر في ما كنت تبغيه
والبس لسرك ما تخفيه مجتهداً ... والبس عفافك في ما كنت تعنيه
فصاحب الصدق يجني صدقه حسناً ... وصاحب الشر سوء الشر يجنيه
ولما وقعت بين بني ربيعة وبني طي وقضاعة الحروب المشهورة وتعاظمت الفتنة بينهم واتسعت أعيا التدبير في الصلح حتى لحق شرهم من كان معتزلاً عنهم. فاجتمع إلى البراق كليب بن ربيعة وإخوته(4/282)
وسائر قبائل ربيعة يستنجدونه وقالوا: قد جل الخطب فلا قرار لنا عليه. وكان البراق معتزلاً عنهم بقومه. فأخذته الغيرة وأنشأ يقول:
لعمري لست أترك آل قومي ... وأرحل عن فنائي أو أسير
أأنزل بينهم إن كان يسر ... وأرحل إن ألم بهم عسير
ثم نادى في قومه وقال: قد علمتم كثرة قبائل طي وشدة بأسهم ونجدتهم فشدوا بنا الخيل وأبدوهم بالغارة. فوضعوا فيهم السيوف وعلت الأصوات وتبادرت إليهم الناس وحملت عليهم كل قبيلة بما يليها. فاعتركوا ساعة وولت طي وقضاعة بعد قتلة مريعة. وأتبعهم البراق. وامتلأت أيديهم من الغنائم وانقادت إليهم العربان. وعظمت منزلة البراق في أعين الناس واستهالوا أمره وأثنوا عليه جميلاً. وكانت وفاته سنة خمسمائة وخمس وعشرين للمسيح.
(إمرؤ القيس 566)
قال الأصمعي: هو امرؤ القيس بن حجر ابن الحارث من بني كندة صاحب المعلقة المشهورة. وكان من فحول شعراء الطبقة الأولى مقدماً على سائر شعراء الجاهلية. سبق إلى أشياء ابتدعها واستحسنها العرب واتبعته عليها الشعراء. وكان حجر أبو امرئ القيس ملكاً على بني أسد فقتلوه غيلة. قال ابن السكيت: فجاء رسول إلى امرئ القيس فأخبره عن أمر أبيه فقال: الخمر علي واللعب حرام حتى أقتل من بني أسد مائة. وأجز نواصي مائة.
ثم قام امرؤ القيس وكان إذ ذاك غلاماً قد ترعرع يسير في أحياء(4/283)
العرب. ولما جنه الليل رأى برقاً فقال:
أرقت لبرق بليل أهل ... يضيء سناه بأعلى الجبل
أتاني حديث فكذبته ... بأمر تزعزع منه القلل
بقتل بني أسد ربهم ... ألا كل شيء سواه جلل
ثم ارتحل حتى نزل بكراً وتغلب فسألهم النصر على بني أسد. وبعث العيون على بني أسد فنذروا بالعيون ولجأوا إلى بني كنانة. فنهض إليهم وبنو أسد جامون على الماء فقاتلهم حتى كثرت الجرحى والقتلى فيهم. وحجز الليل بينهم وهربت بني أسد. فلما أصبحت بكر وتغلب أبوا أن يتبعوه وقالوا له: قد أصبت ثأرك. فقال: والله ما فعلت ولا أصبت من بني كاهل ولا من غيرهم من بني أسد أحداً. قالوا: بلى ولكنك رجل مشؤوم. وكرهوا قتالهم بني كنانة وانصرفوا عنه فمضى هارباً لوجهه حتى لحق بحمير. ثم خرج فظفر ببني أسد (قالوا) وألح المنذر في طلب امرئ القيس وأمده أنوشروان بجيش من الأساورة فسرحهم في طلبه. وتفرق حمير ومن كان معه عنه فنجا في عصبة من بني آكل المرار حتى نزل بالحارث بن شهاب من بني حنظلة ومع امرئ القيس أدراع يتوارثونها ملكاً عن ملك. فقلما لبثوا عند الحارث بن شهاب حتى بعث إليه المنذر مائة من أصحابه يوعده بالحرب إن لم يسلم إليه بني آكل المرار. فأسلمهم ونجا امرؤ القيس ومعه يزيد بن معاوية بن الحارث وبنته هند بنت امرئ(4/284)
القيس والأدرع والسلاح. ثم قال له عمرو بن جابر بن مازن الفزاري: يا ابن حجر إني أراك في خلل من قومك وأنا أنفس بمثلك من أهل الشرف. أفلا أدلك على بلد فقد جئت قيصر وجئت النعمان فلم أر لضيف نازل ولا لمجتد مثله ولا مثل صاحبه. قال: من هو وأين منزله. قال: السموءل بتيماء وسوف أضرب لك مثله. هو يمنع ضعفك حتى ترى ذات غيك. وهو في حصن حصين وحسب كبير. فمضى القوم حتى قدموا على السموءل فأنشده قوله:
ولقد أتيت بني المصاص مفاخراً ... وإلى السموءل زرته بالأبلق
فأتيت أفضل من تحمل حاجة ... إن جئته في غارم أو مرهق
عرفت له الأقوام كل فضيلة ... وحوى المكارم سابقاً لم يسبق
وعرف لهم السموءل حقهم فأنزلهم في مجلس له براح فكان عنده ما شاء الله. ثم إنه طلب إليه أن يكتب له إلى الحارث بن أبي شمر الغساني بالشام ليوصله إلى قيصر. فاستنجد له رجلاً واستودع عنده الأدراع والمال وأقام معها يزيد بن الحارث بن معاوية ابن عمه. فمضى حتى انتهى إلى قيصر فقبله وأكرمه وكانت له عنده منزلة. فاندس رجل من بني أسد يقال له الطماح حتى أتى إلى بلاد الروم فأقام مستخفياً. ثم إن قيصر ضم إليه جيشاً كثيفاً وفيهم جماعة من أبناء الملوك. فلما فصل دخل الطماح على قيصر. فقال: إن العرب قوم غدر ولا تأمن أن يظفر بما يريد ثم يغزوك بمن بعثت معه. فبعث إليه قيصر(4/285)
حينئذ بحلة وشي مسمومة منسوجة بالذهب. وقال له: إني أرسلت إليك بحلتي التي كنت ألبسها تكرمة لك فإذا وصلت إليك فالبسها باليمن والبركة. واكتب إلي بخبرك من منزل منزل. فلما وصلت إليه لبسها فأسرع فيه السم وسقط جلده فسمي ذا القروح (الأغاني) .
(عدي بن زيد 582) .
هو من أولاد نزار وكان شاعراً فصيحاً من شعراء الجاهلية وكان نصرانياً. وكان أبوه لما أيفع طرحه في الكتاب حتى إذا حذق أرسله المزربان مع ابنه شاهان مرد إلى كتاب الفارسية. فكان يختلف مع ابنه ويتعلم الكتابة والكلام بالفارسية. حتى خرج من أفهم الناس بهما وأفصحهم بالعربية. وقال الشعر وتعلم الرمي بالنشاب فخرج من الأساورة الرماة. وتعلم لعب العجم على الخيل بالصوالجة وغيرها. ثم أثبته كسرى مع ولد المرزبان فكان عدي أول من كتب بالعربية في ديوان كسرى. يؤذن له عليه في الخاصة وهو معجب به قريب منه فارتفع ذكر عدي. ولما تولى النعمان بن المنذر على الحيرة استدعى عدي بن زيد من المدائن مع أخوين له اسمهما أبي عامر فأكرمهم وأجزل صلاتهم وزوج عدياً ابنته هنداً وولاه مملكته وكل شيء سوى اسم الملك. ثم حسده وحبسه في محبس لا يدخل عليه فيه أحد. فجعل عدي يقول الشعر وهو في الحبس فمن قوله:
ألا من مبلغ النعمان عني ... وقد تهوى النصيحة بالمغيب
أحظي كان سلسلة وقيداً ... وغلاً والبيان لدى الطبيب(4/286)
أتاك بأنني قد طال حبسي ... ولم تسأم بمسجون حريب
وبيتي مقفر إلا نساء ... أرامل قد هلكن من النحيب
يبادرن الدموع على عدي ... كشن خانه خرز الربيب
فهل لك أن تدارك ما لدينا ... ولا تغلب على الرأي المصيب
فإني قد وكلت اليوم أمري ... إلى رب قريب مستجيب
وكتب إلى أخيه أبي وهو مع كسرى:
وتقول العداة أودى عدي ... وبنوه قد أيقنوا بعلاق
يا أبا مسهر فأبلغ رسولاً ... إخوتي إن أتيت صحن العراق
أبلغا عامراً وأبلغ أخاه ... أنني موثق شديد وثاقي
في حديد مضاعف وغلال ... وثياب منضحات خلاق
فاركبوا في الحرام فكوا أخاكم ... إن عيراً تجهزت لانطلاق
فلما قرأ أبي كتاب عدي قام إلى كسرى فكلمه في أمره وعرفه خبره. فكتب إلى النعمان يأمره بإطلاقه. فأتى النعمان أعداء عدي فأغروه على قتله فقتله. (لأبي الفرج الأصبهاني) .(4/287)
(حاتم الطائي 605)
هو ابن عبد الله بن سعد الطائي. وكان نصرانياً من الكرم على أفضل جانب. فيفك العاني ويحمي الذمار ويقري الضيف ويشبع الجائع ويفرج عن المكروب ويطعم الطعام ويفشي السلام. ولم يرد طالب حاجة قط. وكان حاتم من شعراء العرب جواداً يشبه شعره جوده. ويصدق قوله فعله. وكان حيثما نزل عرف منزله وكان مظفراً إذا قاتل غلب. وإذا غنم أنهب. وإذا سئل وهب. وكان إذا جن الليل يوعز إلى غلامه أن يوقد النار في يفاع من الأرض لينظر إليها من أضله الطريق فيأوي إلى منزله ويقول:
أوقد فإن الليل ليل قر ... والريح يا موقد ريح صر
عسى يرى نارك من يمر ... إن جلبت ضيفاً فأنت حر
وكان إذا أهل الشهر ينحر عشراً من الإبل فيطعم الناس (دواوين العرب)
(أمية بن أبي الصلت 624)
هو أبو القاسم بن أبي الصلت الثقفي من أهل الطائف من شعراء الطبقة الأولى. وكان أمية من رؤساء ثقيف وفصحائهم يتعبد في الجاهلية ويؤمن بالبعث. وينشد في أثنائه الشعر المليح وأدرك الإسلام ولم يسلم. وله في الفخر:(4/288)
ورثنا المجد عن كبرا نزار ... فأورثنا مآثرنا بنينا
وكنا حيثما علمت معد ... أقمنا حيث ساروا هاربينا
تخبرك القبائل من معد ... إذا عدوا سعاية أولينا
بأنا النازلون بكل ثغر ... وأنا الضاربون إذا التقينا
وأنا المانعون إذا أردنا ... وأنا العاطفون إذا دعنا
وأنا الحاملون إذا أناخت ... خطوب في العشيرة تبتلينا
وأنا الرافعون على معد أكفاً في المكارم ما بقينا
نشرد بالمخافة من أتانا ... ويعطينا المقادة من يلينا
تسير بمعشر قوماً لقوم ... وندخل دار قوم آخرينا
وحضر يوماً مجلس بعض الرؤساء وبين يديه أطباق من الذهب فيها ورد أبيض وأحمر فأمره بوصفها فقال:
كأنما الورد الذي نشره ... يعبق من طيب معانيكا
دماء أعدائك مسفوكة ... قد قابلت بيض أياديكا
ومن شعره قوله يمدح ابن جدعان التيمي صديقه:
خليل لا يغيره صباح ... عن الخلق الجميل ولا مساء
وأرضك كل مكرمة بنتها ... بنو تيم وأنت لها سماء
إذا أثنى عليك المرء يوماً ... كفاه من تعرضه الثناء
قال الليثي: لما مرض أمية المرض الذي مات فيه جعل يقول: قد دنا أجل وهذه المرضة منيتي. فلما دنت وفاته أغمى عليه قليلاً(4/289)
ثم أفاق وهو يقول: لبيكما لبيكما ها أنا ذا لديكما. لا مال لي يفديني ولا عشيرة تحميني. رفع رأسه وهو يقول:
كل حي وإن تطاول دهراً ... حائر مرة إلى أن يزولا
ليتني كنت قبل ما قد بدا لي ... في قلال الجبال أرعى الوعولا
إجعل الموت نصب عينك واحذر ... غولة الدهر إن للدهر غولا
ثم قضى نحبه في قصر من قصور الطائف (لأبي زكريا النووي) .
(أبو زبيد 645)
هو حرملة بن المنذر من بني طيء. وكان نصرانياً وعلى دينه مات. وهو ممن أدرك الجاهلية والإسلام. كان يزور الملوك وخاصة ملوك العجم وكان عالماً بسيرهم. وكان عثمان ابن عفان يقربه إلى ذلك ويدني مجلسه. وكان يكثر وصف الأسد فتذاكروا مآثر العرب وأشعارها فالتفت عثمان إلى أبي زبيد وقال: يا أخا تبع المسيح أسمعنا بعض قولك. فقد أنبئت أنك تجيد. فأنشده قصيدته التي يقول فيها:
من مبلغ قومنا النائين إذا شحطوا ... أن الفؤاد إليهم شيق ولع
ووصف الأسد فقال عثمان: تالله تفتأ تذكر الأسد ما حييت والله إني لأحسبك جباناً هراباً. قال: كلا يا أمير المؤمنين ولكني رأيت منه منظراً وشهدت منه مشهداً لا يبرح ذكره يتجدد ويتردد في قلبي. ومعذور أنا يا أمير المؤمنين غير ملوم. فقال له عثمان: وأنى كان ذلك. قال: خرجت في صيابة أشراف من أبناء قبائل العرب ذوي هيئة(4/290)
وشارة حسنة ترمي بنا المهاري بأكسائها ونحن نريد الحارث بن أبي شمر الغساني ملك الشام. فاخروط بنا السير في حمارة القيظ حتى إذا عصبت الأفواه وذبلت الشفاه وسالت المياه. واذكت الجوزاء المعزاء وصر الجندب قال قائل: أيها الركب غوروا بنا في ضوج هذا الوادي. وإذا واد قد بدا لنا كثير الدغل دائم الغلل. اشجاره مغنة وأطياره مرنة. فحططنا رحالنا بأصول دوحات كنهبلات. فأصبنا من فضلات الزاد وأتبعناها الماء البارد. فإنا لنصف حر يومنا ومماطلته إذ صر أقصى الخيل أدذنيه. وفحص الأرض بيديه. فوالله ما لبث أن جال. ثم حمحم الخيل وتعكعكت الإبل وتقهقرت البغال. فمن نافر بشكاله وناهض بعقاله. فعلمنا أن قد أوتينا وأنه السبع ففزع كل واحد منا إلى سيفه فاستله من جرابه. ثم وقفنا رزدقاً أرسالاً وأقبل أبو الحارث من أجمته يتظالع في مشيته. من نعته كأنه مجنوب أو في هجار بصدره نحيط. ولبلاعمه غطيط. ولطرفه وميض. ولأرساغه نقيض. كأنما يخبط هشيماً. أو يطأ صريماً. وإذا هامه كالمجن وخد كالمسن وعينان سجراوان كأنهما سراجان يتقدان. وكف شثنة البراثن إلى مخالب كالمحاجن. فضرب بيده فأرهج. وكشر فأفرج عن أنياب كالمعاول مصقولة غير مفلولة. ثم أقعى فاقشعر ثم مثل فاكفهر. ثم تجهم فازبأر. فلا وذو بيته في السماء ما اتقيناه إلا بأخ لنا من فزارة كان ضخم الجزارة. فوقصه ثم نفضه نفضة فقضقض متنيه فجعل(4/291)
يلغ في دمه. فذمرت لأصحابي فاختلج رجلاً أعجر ذا حوايا فنفضه نفضة تزايلت مفاصله. ثم نهم ففرفر ثم زفر فبربر. ثم زأر فجرجر. ثم لحظ فوالله لخلت البرق يتطاير من تحت جفونه من شماله ويمينه. فأرعشت الأيدي واصطكت الأرجل وأطت الأضلاع. وارتجت الأسماع. وشخصت العيون. وتحققت الظنون وانخزلت المتون. فقال له عثمان: اسكت فقد أرعبت قلوب المسلمين. ويقال إن أبا زبيد عمر مائة سنة بنيف ودفن في الرقة في بيعة النصارى (الأغاني) .
(القطامي 710)
هو لقب غلب عليه واسمه عمير بن شييم وكان نصرانياً. قال أبو عمرو بن العلاء: أول ما حرك من القطامي ورفع من ذكره أنه قدم في خلافة الوليد بن عبد الملك دمشق ليمدحه فقيل له: إنه بخيل لا يعطي الشعراء والشعر لا ينفق عنده. وهذا عبد الواحد بن سليمان فامدحه. فمدحه فقال له: كم أملت من أمير المؤمنين. فقال: أملت أن يعطيني ثلاثين ناقة. فقال: قد أمرت لك بخمسين ناقة موقرة براً وتمراً وثياباً ثم أمر بدفع ذلك إليه. ولما سار عمير بن الحباب لمحاربة بني عتاب وفيهم أخلاط تغلب استحر بهم القتل وأصيب أكثرهم وأسر منهم كثير منهم القطامي. وأخذت إبله فأتى الأمير زفر فخلى سبيله ورد عليه مائة ناقة فقال القطامي يمدحه:
يا زفر بن الحارث ابن الأكرم ... قد كنت في الحي قديم المقدم
إذا حجم القوم ولما تحجم ... إنك وابنيك حفظتم محرمي(4/292)
وحقن الله بكفيك دمي ... من بعد ما جف لساني وفمي
أنقذتني من بطل معمم ... والخيل تحت العارض المسوم
أخبر المدائني قال: قال عبد الملك بن مروان للأخطل وعنده عامر الشعبي: أتحب أن لك قياضاً بشعرك شعر أحد من العرب أم تحب أنك قلته. قال: لا والله يا أمير المؤمنين إلا أني وددت أني كنت قلت أبياتاً قالها رجل منا مغدف القناع. قليل السماع قصير الذراع. قال: وما قال. فأنشده قول القطامي في عبد الواحد سليمان:
إنا محيوك فاسلم أيها الطلل ... وإن بليت وإن طالت بك الطيل
ليس الجديد به تبقى بشاشته ... إلا قليلاً ولا ذو حلة يصل
والعيش لا عيش إلا ما تقر به ... عين ولا حال إلا سوف تنتقل
قد يدرك المتأني بعض حاجته ... وقد يكون مع المستعجل الزلل
حتى أتى على آخرها. فقال عبد الملك بن مروان: ثكلت القطامي أمه. هذا والله الشعر.
(الأخطل 712)
هو أبو مالك غياث بن غوث بن الصلت بن الطارفة. وأصل تسميته بالأخطل أنه هجا رجلاً من قومه فقال له: يا غلام إنك الأخطل اللسان. فغلبت عيه. وكان الأخطل نصرانياً ومحله في الشعر أكبر من أن يحتاج إلى وصف. وهو وجرير والفرزدق طبقة واحدة. سئل حماد الراوية عن الأخطل فقال: ما تسألوني عن رجل قد حبب شعره إلي النصرانية. وقال أبو عمرو: لو أدرك(4/293)
الأخطل يوماً واحداً من الجاهلية ما قدمت عليه أحداً. قيل لجرير ما تقول في الأخطل. قال: كان أشدنا اجتراء وأرمانا للفرائص وأمدح الناس لكريم. وكان أبو عبيدة يقول: شعراء الإسلام الأخطل ثم جرير ثم الفرزدق. وكان يشبه الأخطل بالنابغة لصحة شعره. ويقول: الأخطل أشبه بالجاهلية وأشدهم أمر شعر وأقلهم سقطاً. أخبر علي بن مجاهد قال: دخل الأخطل على عبد الملك فقال: يا أمير المؤمنين زعم ابن المراغة أنه يبلغ مدحتك في ثلاثة أيام. وقد أقمت في مدحتك (خف القطين فراحوا منك وأبكروا) سنة فما بلغت كلما أردت. فقال عبد الملك: ما سمعناه يا أخطل. فأنشده إياها فجعلت أرى عبد الملك يتطاول لها. ثم قال: ويحك يا أخطل أتريد أن أكتب إلى الآفاق أنك أشعر العرب. قال: أكتفي بقول أمير المؤمنين. وأمر له بجفنة كانت بين يديه فملئت دراهم وألقى عليه خلعاً. وخرج به مولى لعبد الملك على الناس يقول: هذا شاعر أمير المؤمنين هذا أشعر العرب. وأخبر أبو عمرو وقال: لقد كان الأخطل يجيء وعليه جبة خز وفي عنقه سلسلة ذهب فيها صليب ذهب حتى يدخل على عبد الملك بغير إذن. قال الأخطل: فضلت الشعراء في المديح والهجاء بما لا يلحق بي فيه. فقولي بالمديح:
نفسي فداء أمير المؤمنين إذا ... أبدى النواجذ يوم عارم ذكر
الخائض الغمرة الميمون طائره ... خليفة الله يستسقي به المطر(4/294)
وقولي في الهجاء:
وكنت إذا لقيت عبيد تيم ... وتيماً قلت أيهما العبيد
لئيم العالمين يسود تيماً ... وسيدهم وإن كرهوا مسود
قال عبد الخالق: وصدق لعمري لقد فضلهم. قال الجوهري: كان مما يقدم به الأخطل أنه كان أخبث الشعراء هجاء في عفاف من الفحش. وقال الأخطل: ما هجوت أحداً قط بما تستحي العذراء أن تنشده إياها. قال ابن عبد المطلب: قدمت الشام وأنا شاب. فكنت أطوف في كنائسها ومساجدها فدخلت كنيسة دمشق. وإذا الأخطل فيها محبوس. فجعلت أنظر إليه فسال عني فأخبر بنسبي. فقال: يا فتى إنك لرجل شريف وإني أسألك حاجة. فقلت: حاجتك مقضية. قال: إن القس حبسني ههنا فتكلمه ليخلي عني. فأتيت القس فانتسبت له فرحب وعظم. فقلت: إن لي إليك حاجة. فقال: ما حاجتك. قلت: الأخطل تخلي عنه. قال: أعيذك بالله من هذا. مثلك لا يتكلم فيه. فاسق يشتم أعراض الناس ويهجوهم. فلم أزل أطلب إليه حتى مضى معي متكئاً على عصاه. فوقف عليه ورفع عصاه وقال: يا عدو الله أتعود تشتم الناس وتهجوهم وتقذف المحصنات. وهو يقول: لست بعائد ولا أفعل ويستخذي له. قال: فقلت له: يا أبا مالك الناس يهابونك والخليفة يكرمك وقدرك في الناس قدرك وأنت تخضع لهذا هذا الخضوع(4/295)
وتستخذي له. فجعل يقول لي: إنه الدين إنه الدين (الأغاني) .
خطباء النصرانية
(قس بن ساعدة)
هو أسقف نجران خطيب العرب وشاعرها وحليمها وحكيمها وحكمها في عصره. يقال إنه أول من علا على شرف وخطب عليه وأول من قال في كلامه: أما بعد. وأول من اتكأ عند خطبته على سيف أو عصاً. حدث بعضهم قال: كأني أنظر إلى قس بسوق عكاظ وهو يقول: أيها الناس اسمعوا وعوا: من عاش مات. ومن مات فات. وكل ما هو آت آت. ليل داج وسماء ذات أبراج. بحار تزخر ونجوم تزهر. وضوء وظلام. وبر وأنام. ومطعم ومشرب. وملبس ومركب. ما لي أرى الناس يذهبون ولا يرجعون. أرضوا بالمقام فأقاموا أم تركوا فناموا. وإله قس بن ساعدة ما على وجه الأرض أفضل من الدين. فطوبى لمن أدركه فاتبعه وويل لمن خالفه. ثم أنشأ يقول:
في الذاهبين الأولي ... ن من القرون لنا بصائر(4/296)
لما رأيت موارداً ... للموت ليس لها مصادر
ورأيت قومي نحوها ... يمضي الأصاغر والأكابر
أيقنت أني لا محا ... لة حيث صار القوم صائر
(إليا الثالث 1128-1190)
هو ابن الحديثي المعروف بأبي حليم. هذا الأب كان كهلاً حسن الخلقة تام القامة حبيباً كريماً عالماً فاضلاً من أهل بلد ميا فارقين وكان مطراناً على نصيبين فانتشرت شهرته. ولما استناح يشوعياب ورد إلى بغداد مع الآباء للاختيار. واتفق عليه الجمهور لأن الآباء الواردين معه لم يكن منهم من يماثله علماً وحكمة وكرماً وحسناً وبلاغة وفصاحة. اختير في خلافة المستضيء وأقيم فطركاً بدير المدائن. ووفقه الله وأجرى الخيرات على يده. وأقام جماعة من المطارنة وجدد بناء هيكل مار(4/297)
ماري الرسول وغيره من البيع والأديار. وكان من أوصافه الجميلة بحسن الخلق والخلقة سخياً بالمال في عمل الخير مع الناس الضعفاء والمساكين ومع الحكام والمتولين لأجل جاه دين النصرانية. ومع ذلك كان مرتاضاً بالعلوم النحوية واللغوية السريانية والعربية والعلوم الحكمية. ومن جملة موضوعاته كتاب تراجيم الأعياد السيدية وخطب ومواعظ كثيرة ورسائل كثيرة في إثبات الأمانة والاعتقاد وصحة دين النصرانية. ودبر الكرسي تدبيراً حسناً واستناح يوم الخميس الثاني عشر من نيسان. وكانت مدة رئاسته أربع عشرة سنة. وعند مرضه الذي توفي فيه جاء الآباء والرؤساء إلى عيادته فأخذ يرثي نفسه ويعزيهم وفي آخر ذلك قال:
أروني من يقوم لكم مقامي ... إذا ما الأمر جل عن الخطاب
بمن تستصرخون إذا حثوتم ... بأنملكم علي من التراب
(ملخص عن كتاب المجدل لعمرو بن متى)
مشاهير أطباء النصرانية
(جيورجيس بن بختيشوع 770)
كان المنصور في صدر أمره عندما بنى بغداد أدركه ضعف في معدته وسوء استمراء وقلة شهوة وكلما عالجه الأطباء ازداد مرضه. فقيل له عن جيورجيس بن(4/298)
بختيشوع الجنديسابوري إنه أفضل الأطباء فتقدم بإحضاره فأنفذه العامل بجند يسابور بعدما أكرمه. فخرج ووصى ولده بختيشوع بالبيمارستان. واستصحب معه تلميذه عيسى بن شهلاثا. ولما وصل إلى بغداد أمر المنصور بإحضاره. فلما وصل إلى الحضرة دعا له بالفارسية والعربية فعجب المنصور من حسن منطقه ومنظره. وأمره بالجلوس وسأله عن أشياء أجابه عنها بسكون. وخبره بمرضه فقال له جيورجيس: أنا أدبرك بمشيئة الله وعونه. فأمر له في الوقت بخلعة جليلة وتقدم إلى الربيع بإنزاله في أجمل موضع من دوره وإكرامه كما يكرم أخص الأهل. ولم يزل جيورجيس يتلطف له في تدبيره حتى برئ من مرضه وفرح به فرحاً شديداً. وكان المنصور أمر أن يحمل إليه من الجواري الروميات ثلاث فردهن جيورجيس. فلما اتصل الخبر إلى المنصور أحضره وقال له: لم رددت الجواري. قال: لا يجوز لنا معشر النصارى أن نتزوج بأكثر من امرأة واحدة ما دامت المرأة حية لا نأخذ غيرها. فحسن موقع هذا من الخليفة وزاد موضعه عنده وهذا ثمرة العفة. ثم مرض جيورجيس مرضاً صعباً ولما اشتد مرضه أمر المنصور بحمله إلى دار العامة. وخرج ماشياً إليه وتعرف خبره فخبره وقال له: إن رأى أمير المؤمنين أن يأذن لي في الانصراف إلى بلدي لأنظر أهلي وولدي وإن مت قبرت مع آبائي. فقال المنصور: إنني منذ رأيتك وجدت راحة من الأمراض التي(4/299)
تعتادني. فقال جيورجيس: أنا أخلف بين يدي أمير المؤمنين عيسى تلميذي فهو ماهر. فأمر لجيورجيس بعشرة آلاف دينار وأذن له في الانصراف. وأنفذ معه خادماً وقال: إن مات في الطريق فاحمله إلى منزله ليدفن هناك كما أحب. فوصل إلى بلده حياً.
(بختيشوع بن جيورجيس 798)
قيل إن الرشيد في خلافته مرض من صداع لحقه. فقال ليحيى بن خالد بن برمك. هؤلاء الأطباء ليسوا يفهمون شيئاً وينبغي أن تطلب لي طبيباً ماهراً. فقال له عن بختيشوع بن جيورجيس. فأرسل البريد في حمله من نيسابور. ولما كان بعد أيام ورد ودخل على الرشيد فأكرمه وخلع عليه خلعة سنية. ووهب له مالاً وافراً وجعله رئيس الأطباء. ولما كان في سنة خمس وسبعين ومائة (790) مرض جعفر بن يحيى. فتقدم الرشيد إلى بختيشوع أن يخدمه ولما أفاق جعفر من مرضه قال لبختيشوع: أريد أن تختار لي طبيباً ماهراً أكرمه وأحسن إليه قال بختيشوع: لست أعرف من هؤلاء الأطباء أحذق من ابني جبريل. فقال له جعفر: أحضرنيه فلما أحضره شكا إليه مرضاً كان يخفيه. فدبره في مدة ثلاثة أيام وبرأ فأحبه جعفر مثل نفسه.
(حنين بن إسحاق 809-874)
في أيام المتوكل اشتهر حنين بن إسحاق الطبيب النصراني العبادي. ونسبته إلى العباد وهم قوم من نصارى العرب من قبائل شتى اجتمعوا وانفردوا عن(4/300)
الناس في قصور ابتنوها بظاهر الحيرة. وتسموا بالعباد لأنه لا يضاف إلا إلى الخالق وما العبيد فيضاف إلى المخلوق والخالق. وينسب إليهم خلق كثير منهم عدي بن زيد الشاعر المشهور. وكان إسحاق والد حنين صيدلانياً بالحيرة. فلما نشأ حنين أحب العلم فدخل بغداد وحضر مجلس يوحنا بن ماسويه وجعل يخدمه ويقرأ عليه. ثم توجه إلى بلاد الروم وأقام بها سنتين حتى أحكم اللغة اليونانية وتوصل في تحصيل كتب الحكمة غاية إمكانه. وعاد إلى بغداد بعد سنتين ونهض من بغداد إلى أرض فارس. ودخل البصرة ولزم الخليل ابن أحمد حتى برع في اللسان العربي ثم رجع إلى بغداد. قال يوسف الطبيب: دخلت يوماً على جبريل بن بختيشوع فوجدت حنيناً وجبريل يخاطبه بالتبجيل ويسميه الربان. فأعظمت ما رأيت وتبين ذلك جبريل مني. فقال: تستكثر هذا مني في أمر هذا الفتى. فوالله لئن مد له في العمر ليفضحن سرجيس. وسرجيس هذا هو الرأس عيني اليعقوبي ناقل علوم اليونانيين في السرياني. ولم يزل أمر حنين يقوى وعلمه يتزايد وعجائبه تظهر في النقل والتفاسير حتى صار ينبوعاً للعلوم ومعدناً للفضائل. واتصل خبره بالخليفة المتوكل فأمر بإحضاره. ولما حضر أقطعه إقطاعاً سنياً وأحب امتحانه. فاستدعاه وأمر أن يخلع عليه. فشكر حنين هذا الفعل ثم قال له بعد أشياء جرت: أريد أن تصف لي دواء يقتل عدواً نريد قتله. وليس(4/301)
يمكن إعلان هذا ونريده سراً. فقال حنين: ما تعلمت غير الأدوية النافعة ولا علمت أن أمير المؤمنين يطلب مني غيرها. ثم رغبه وهدده وأحضر سيفاً ونطعاً. فقال حنين: قد قلت لأمير المؤمنين ما فيه الكفاية. قال الخليفة. فإني أقتلك. قال حنين: لي رب يأخذ لي حقي غداً في الموقف الأعظم. فتبسم المتوكل وقال له: طب نفساً فإننا أردنا امتحانك والطمأنينة إليك. فقبل حنين الأرض وشكر له. فقال الخليفة: ما الذي منعك من الإجابة مع ما رأيته من صدق الأمر منا في الحالين. قال حنين: شيئان هما الدين والصناعة. أما الدين فإنه يأمرنا باصطناع الجميل مع أعدائنا فكيف ظنك بالأصدقاء. وأما الصناعة فإنها موضوعة لنفع أبناء الجنس ومقصورة على معالجاتهم. ومع هذا فقد جعل في رقاب الأطباء عهد مؤكد بأيمان مغلظة أن لا يعطوا دواء قتالاً لأحد. فقال الخليفة: إنهما شرعان جليلان. وأمر بالخلع فأفيضت عليه فخرج وهو أحسن الناس حالاً وجاهاً (لأبي الفرج الملطي) .
(إسحاق بن حنين 830-911)
هو أبو يعقوب إسحاق بن حنين ابن إسحاق العبادي الطبيب المشهور كان أوحد عصره في علم الطب. وكان يلحق بأبيه في النقل. وفي معرفته باللغات وفصاحته فيها. وكان يعرب كتب الحكمة التي بلغة اليونانيين إلى اللغة العربية كما كان يفعل أبوه. إلا أن الذي وجد من تعريبه في كتب الحكمة من كلام أرسطاطاليس وغيره أكثر مما يوجد من تعريبه لكتب(4/302)
الطب. وكان قد خدم من الخلفاء والرؤساء من خدمه أبوه. ثم انقطع إلى القاسم بن عبيد الله وزير الإمام المعتضد بالله. واختص به حتى إن الوزير المذكور كان يطلعه على أسراره ويفضي إليه بما يكتمه عن غيره له. ولأبيه المصنفات المفيدة في الطب. ولحقه الفالج في آخر عمره. وكانت وفاته سنة ثمان وتسعين ومائتين (لابن خلكان) .
(يوحنا بن ماسويه 857)
ومن أطباء الرشيد يوحنا بن ماسويه النصراني السرياني ولاه الرشيد ترجمة الكتب الطبية القديمة. وخدم الرشيد ومن بعده إلى أيام المتوكل. وكان معظماً ببغداد جليل القدر وله تصانيف جميلة. وكان يعقد مجلساً للنظر ويجري فيه من كل نوع من العلوم القديمة بأحسن عبارة وكان يدرس ويجتمع إليه تلاميذ كثيرون. وكان في يوحنا دعابة شديدة يحضره من حضر لأجلها في الأكثر. وكان من ضيق الصدر وشدة الحدة على أكثر مما كان عليه جبريل بن بختيشوع. وكانت الحدة تخرج من يوحنا ألفاظاً وهي مضحكة. ففما حفظ من نوادره أن رجلاً شكا إليه علة وكان أشار عليه بالفصد. فقال له: لم أعتد الفصد. قال له يوحنا: ولا أحسبك اعتدت العلة من بطن أمك (لأبي الفرج) .
(ابن التلميذ 1165)
وهو أبو الحسن هبة الله بن التلميذ النصراني الطبيب الملقب بأمين الدولة. شيخ النصارى والأطباء وسلطان الحكماء مقصد العالم في علم الطب بقراط عصره(4/303)
وجالينوس زمانه. ختم به هذا العلم ولم يكن في الماضي من بلغ مداه في الطب. عمر طويلاً. وعاش نبيلاً جليلاً. ورأيته وهو شيخ بهي المنظر حسن الرواء عذب المجتلى والمجتبى لطيف الروح ظريف الشخص بعيد الهم عالي الهمة ذكي الخاطر مصيب الفكر حازم الرأي رأس النصارى وقسيسهم ورئيسهم. وله في النظم كلمات رائقة وحلاوة جنية وغزارة بهية. وذكر في أنموذج الأعيان من شعراء الزمان أن ابن التلميذ المذكور كان متفنناً في العلوم ذا رأي رصين. وعقل متين. طالت خدمته للخلفاء والملوك. وكانت مجالسته أحسن من التبر المسبوك والدر في السلوك. وكان يتعجب في أمره كيف حرم الإسلام مع كمال فهمه وغزارة عقله وعلمه. وكان إذا ترسل استطال وسطا. وإذا نظم وقع بين أرباب النظم وسطا. وكان بينه وبين أوحد الزمان هبة الله الحكيم المشهور تنافس وكان هذا يهودياً فأسلم في أواخر عمره. وأصابه الجذام فعالج نفسه بتسليط الأفاعي على جسده فبالغت في نهشه فبرى من الجذام. فعمل فيه ابن التلميذ شعراً:
لنا صديق يهودي حماقته ... إذا تكلم تبدو فيه من فيه
يتيه والكلب أعلى منه منزلة ... كأنه بعد لم يخرج من التيه
وكان ابن التلميذ متواضعاً وأوحد الزمان أبو البركات متكبراً فعمل فيهما البديع الأسطر لابي شعراً:
أبو الحسن الطبيب ومقتفيه ... أبو البركات في طرفي نقيض(4/304)
فهذا بالتواضع في الثريا ... وهذا بالتكبر في الحضيض
وتوفي ابن التلميذ سنة ستين وخمسمائة وقد ناهز المائة من عمره (1165) . ولم يبق ببغداد من الجانبين من لم يحضر البيعة ولم يشهد جنازته. ولابن التلميذ في الطب تصانيف نافعة في بابها منها كتاب أقراباذين وحواش على كليات ابن سينا (الخريدة للعماد الأصبهاني) .
مشاهير المؤرخين والكتاب والفلاسفة من أهل النصرانية
(أبو الفرج الملطي 1226 - 1286)
جمال الدين غريغوريوس أبو الفرج بن حكيما. الطبيب المعروف بابن العبري تاج الفضلاء. محلل المشكلات الخفية من الكلمات الإلهية. وحيد العصر وفريد الزمان. رئيس رؤساء الأمة النصرانية وخلاصة نضار الملة اليعقوبية. كان كثير الاطلاع وحصل علوماً شتى وأتقنها وانفرد بالطب في زمانه حتى شدت إليه الرحال بأرض(4/305)
المغرب. وأقيم أسقفاً على مدينة ملطية وأخذ عنه كثير من فضلاء المسلمين. ومن تصانيفه كتاب تاريخ مختصر الدول وهو من أشهر التواريخ وشرح قانون ابن سينا وبقراط وديوسقورس وكتاب دفع أهم وديوان شعر في الإلهيات وغيرها.
(ثابت بن قرة 836-902)
أبو الحسن بن كرايا الحاسب كان في مبدأ أمره صيرفياً بحران ثم انتقل إلى بغداد. واشتغل بعلوم الأوائل فمهر فيها. وكان الغالب عليه الفلسفة وله تآليف كثيرة في فنون من العلم مقدار عشرين تأليفاً. وأخذ كتاب إقليدس الذي عربه حنين بن إسحاق العبادي فهذبه ونقحه وأوضح منه ما كان مستعجماً. وكان من أعيان عصره في الفضائل. وجرى بينه وبين أهل مذهبه أشياء أنكرها عليه في المذهب. فرافعوه إلى رئيسهم فأنكر عليه مقالته ومنعه من دخول الهيكل فتاب ورجع عن ذلك. ثم خرج من حران ونزل كفر توثا وأقام بها مدة إلى أن قدم محمد بن موسى من(4/306)
بلاد الروم. فاجتمع به فرآه فاضلاً فصيحاً فاستصحبه إلى بغداد وأنزله في داره ووصله بالخليفة. وعقبه بها إلى الآن. وله ولد يسمى إبراهيم بلغ رتبة أبيه في الفضل وكان من حذاق الأطباء. عالج مرة السري الرفاء الشاعر فأصاب العافية فعمل فيه هو أحسن ما قيل في طبيب:
هل للعليل سوى ابن قرة شافي ... بعد الإله وهل له من كافي
فكأنه عيسى بن مريم ناطقاً ... يهب الحياة بأيسر الأوصاف
يبدو له الداء الخفي كما بدا ... للعين رضراض الغدير الصافي
(الكندي 246هجري 860 م)
هو يعقوب بن إسحاق الكندي النصراني. وكان شريف الأصل بصرياً وكان أبوه إسحاق أميراً على الكوفة للمهدي والرشيد. ويعقوب هذا أوحد عصره في فنون الآداب وشهرته تغني عن الأطناب. وكان له اليد الطولى بعلوم اليونان والهند والعجم متفنناً عالماً بالطب والمنطق وتأليف اللحون والهندسة والهيئة والفلسفة. وله في أكثر هذه العلوم تآليف مشهورة ولم يكن في العرب من اشتهر عند الناس بمعاناة علم الفلسفة حتى سموه فيلسوفاً غير يعقوب. وكان معاصراً لقسطا بن لوقا الفيلسوف البعلبكي النصراني واستوطن بغداد وأخذ عن أبي معشر البلخي. ومن أنسباء يعقوب هذا عبد المسيح بن إسحاق الكندي وله رسالة مشتهرة فند فيها اعتراضات ابن إسماعيل الهاشمي على النصرانية. ذكرها أبو الريحان البيروني في تاريخه.(4/307)
(الصابئ 934-983)
أبو الحسن إبراهيم بن هلال بن إبراهيم ابن زهرون بن حبور الحراني الصابئ صاحب الرسائل المشهورة والنظم البديع. وكان كاتب الإنشاء ببغداد عن الخليفة وعن عز الدولة بختيار بن معز الدولة ابن بويه الديلمي. وتقلد ديوان الرسائل سنة تسع وأربعين وثلاثمائة. وكانت تصدر عنه مكاتبات إلى عضد الدولة بن بويه بما يؤلمه فحقد عليه. فلما قتل عز الدولة وملك عضد الدولة بغداد اعتقله في سنة إحدى وسبعين. وكان قد أمره أن يصنع له كتاباً في أخبار الدولة الديلمية فعمل الكتاب التاجي. فقيل لعضد الدولة إن صديقاً للصابئ دخل عليه فرآه في شغل شاغل من التعليق والتسويد والتبييض فسأله عما يعمل فقال: أباطيل أنمقها وأكاذيب ألفقها. فحركت ساكنه وهاجت حقده ولم يزل مبعداً في أيامه. وكان متشدداً في دينه. وجهد عليه عز الدولة أن يسلم فلم يفعل وله كل شيء حسن من المنظوم والمنثور (لابن خلكان) .(4/308)
الباب العشرون في التاريخ
صاحب الشريعة الإسلامية محمد بن عبد الله
ذكر النسابون أن نسبته ترتقي إلى إسماعيل بن إبراهيم الخليل الذي ولدت له هاجر أمة سارا زوجته. وكان ولاده بمكة سنة اثنتين وتسعين وثمانمائة للإسكندر ولما مضى من عمره سنتان بالتقريب مات عبد الله أبوه وكان مع أمه آمنة بنت وهب ست سنين. فلما توفيت أخذه إليه جده عبد المطلب بحياطته وضمه إليه وكفله. ثم خرج به وهو ابن تسع سنين إلى الشام. فلما نزلوا بصرى خرج إليهم راهب عارف اسمه بحيرا من صومعته وجعل يتخلل القوم حتى انتهى إليه فأخذه بيده وقال: سيكون من هذا الصبي أمر عظيم ينتشر ذكره في مشارق الأرض ومغاربها. ولما كمل له من العمر خمس وعشرون سنة عرضت عليه امرأة ذات شرف ويسار اسمها خديجة أن يخرج بمالها تاجراً إلى الشام وتعطيه أفضل ما تعطي غيره. فأحابها إلى ذلك وخرج. ثم رغبت فيه وعرضت نفسها عليه فتزوجها وعمرها يومئذ أربعون سنة. وأقامت معه إلى أن توفيت بمكة اثنتين وعشرين سنة. ولما كمل له أربعون سنة أظهر الدعوة. ولما مات أبو طالب عمه وماتت أيضاً خديجة زوجته أصابته قريش بعظيم من أذى(4/309)
فهاجر عنهم إلى المدينة وهي يثرب. وفي (السنة الأولى) من هجرته احتفل الناس إليه ونصروه على المكيين أعدائه. وفي (السنة الثانية) من هجرته إلى المدينة خرج بنفسه إلى غزاة بدر وهي البطشة الكبرى وهزم بثلاثمائة وثلاثة عشر رجلاً من المسلمين ألفاً من أهل مكة المشركين. وفي هذه السنة صرفت القبلة عن جهة البيت المقدس إلى جهة الكعبة. وفيها فرض صيام ضهر رمضان. وفي (السنة الثالثة) خرج إلى غزاة أحد وفيها هزم المشركون المسلمين وشج في وجهه وكسرت رباعيته. وفي (السنة الرابعة) غزا بني النضير اليهود وأجلاهم إلى الشام. وفيها اجتمع أحزاب شتى من قبائل العرب مع أهل مكة وساروا جميعاً إلى المدينة. فخرج إليهم ولأنه هال المسلمين أمرهم أمر بحفر خندق وبقوا بضعة وعشرين يوماً لم يكن بينهم حرب. وفي (السنة السادسة) خرج بنفسه إلى غزاة بن المصطلق وأصاب منهم سبياً كثيراً. وفي (السنة السابعة) خرج إلى غزاة خيبر مدينة اليهود وينقل عن علي بن أبي طالب أنه عالج باب خيبر واقتلعه وجعله مخبأ وقاتلهم. وفي (الثامنة) كانت غزاة الفتح فتح مكة وعهد المسلمين أن لا يقتلوا فيها إلا من قاتلهم. وأمن من دخل المسجد ومن أغلق على نفسه بابه وكف يده ومن تعلق بأستار الكعبة سوى قوم يؤذونه. وأسلم أبو سفيان وهو عظيم مكة من تحت السيف. وفي (السنة التاسعة) خرج إلى غزاة تبوك من بلاد الروم ولم يحتج فيها إلى(4/310)
حرب. وفي (السنة العاشرة) حج حجة الوداع. ثم وعك مرض وتوفي يوم الاثنين لليلتين بقيتا من صفر وكان عمره ثلاثاً وستين سنة. ولما توفي أراد أهل مكة المهاجرين رده إليها لأنها مسقط رأسه. وأراد أهل المدينة من الأنصار دفنه بالمدينة لأنها دار هجرته ومدار نصرته. ثم دفنوه بالمدينة في حجرته حيث قبض. (لأبي الفرج) .
ذكر الخلفاء الراشدين (632 - 661)
خلافة أبي بكر (632 - 634)
ثم اجتمع المهاجرون والأنصار للمبايعة فارتفعت الأصوات وكثر اللغط. فلما أشفق عمر الاختلاف قال: إنا والله ما وجدنا امرءاً هو أقوى من مبايعة أبي بكر ثم قال لأبي بكر: ابسط يدك فأبايعك. فبسط يده فبايعه وبايعه المهاجرون وبايعه الأنصار. ولما بويع أبو بكر ضرب بعثاً على أهل المدينة ومن حولهم. وأمر أسامة بن زيد فقال له الناس: إن هؤلاء جل المسلمين على ما ترى نجم فيهم النفاق وانتفضوا بك. فليس ينبغي لك أن تفرق عنك جماعة المسلمين. فقال: والذي نفس أبي بكر بيده لو ظننت أن السباع تخطفني لأنفذت بعث أسامة إلى الشام. ولو لم يبق في القرى غيري لأنفذته. ثم خرج أبو بكر إلى البعث حتى أتاهم. فأشخصهم وشيعهم وهو ماش وأسامة راكب. فقال له أسامة: يا أمير المؤمنين والله لتركبن أو لأنزلن. فقال: لا نزلت ولا أركب وما علي أن أغبر قدمي في سبيل الله ساعة. (تاريخ الملوك للطبري) .
خبر الأسود العنسي ومسيلمة الكذابين (634)
كان الأسود هذا غلب على صنعاء ومفازة حضرموت إلى عمل الطائف إلى البحرين. وادعى النبوة وطابقت عليه اليمن وجعل يستطير استطارة الحريق. فبعث أبو بكر رجالاً لمحاولته أو مصاولته. فدخلوا على أزاد وهي امرأته فقالوا لها: يا ابنة العم قد عرفت بلاء هذا(4/311)
الرجل عند قومك قتل أباك وطأطأ في قومك القتل وسفل بمن بقي مهم فهل عندك من ممالأة عليه. فأجابت أزاد إلى قولهم. ولما جن الليل أدخلت الدجال في مقصورة الأسود زوجها. وهو يغط فألحموه بمئلاة وأمروا الشفرة على حلقه. فخار خوار الثور. فابتدر الحرس الباب وهم حول المقصورة: ما هذا ما هذا. فقالت المرأة: النبي يوحى إليه. ولما قتل الأسود وأراح الله الإسلام من شره تراجع الأمراء واعتذر الناس (الآداب السلطانية للفخري) .
ثم ظهر مسيلمة الكذاب. وأوقع أعظم فتنة في أهل اليمامة وكان يؤذن له ويشهد له بالرسالة. وكان يسجع لقومه بأسجاع يزعم أنها قرآن ويأتي بمخارق يزعم أنها معجزات فيقع منها ضد المقصود. فأمر أبو بكر خالد بن الوليد بالمسير إلى محاربته. وكان بينهما وقعات واشتد الحرب بين الفريقين. واقتحم المسلمون بأجمعهم إلى مسيلمة وأصحابه. فقاتلوهم حتى احمرت الأرض بالدماء. ونظر عبد أسود اسمه وحشي إلى مسيلمة فرماه بحربة فوقعت على خاصرته فسقط عن فرسه قتيلاً. (للطبري) .
فتح العراق (632) والشام (633-638) وموت أبي بكر (635)
ومن هناك توجه خالد إلى أرض العراق فزحف إلى الحيرة ففتحها صلحاً. وكان ذلك أول شيء افتتح من العراق وقد كان أبو بكر وجه قبل ذلك أبا عبيدة بن الجراح في زهاء عشرين ألف رجل إلى الشام. وبلغ هرقل ملك الروم ورود العرب إلى أرض الشام. فوجه إليهم سرجيس البطريق في خمسة آلاف رجل من جنوده ليحاربهم. وكتب أبو بكر إلى خالد عند افتتاحه الحيرة بأن يسير إلى أبي عبيدة بأرض الشام. ففعل والتقى العرب والروم بأجنادين فانهزم الروم. وقتل سرجيس البطريق وذلك أنه في هربه سقط من فرسه. فركبه غلمانه فسقط فركبوه ثانية فهبط أيضاً. وقال لهم: فوزوا بأنفسكم واتركوني أقتل وحدي. وفي سنة ثلاث عشرة للهجرة مرض أبو بكر خمسة عشر يوماً ومات رحمه الله يوم الاثنين لثمان خلون من جمادى الآخرة وهو ابن ثلاث وستين سنة وكانت خلافته سنتين وأربعة أشهر.
خلافة عمر (634-644) فتح دمشق (636) فارس (632) مصر (642)
ثم قام بالأمر بعده عمر بن الخطاب بويع له بالخلافة في اليوم الذي مات فيه أبو بكر. فقام بعده بمثل سيرته وجهاده وثباته وصبره على العيش الخشن والقناعة باليسير وفتح الفتوحات الكبار والأقاليم الشاسعة. وهو أول من سمي بأمير المؤمنين فأرخ التاريخ ودون الدواوين ومصر الأمصار وشهد بدراً. وهو أول من عس في عمله لحفظ الدين والناس. وهابه الناس هيبة عظيمة وزاد في الشدة في مواضعها واللين في مواضعه. ولما ولي الأمر لم يكن له همة إلا العراق. فعقد لأبي عبيدة بن مسعود على زهاء ألف رجل وأمره بالمسير إلى العراق فعبروا إليها. فزحف إليهم العجم فتناجزوا من وقت الزوال إلى أن توارت الشمس بالحجاب.(4/312)
فحمل العرب حملة رجل واحد وقتلوا مهران قائدهم. فانهزم العجم لاحقين بالمدائن. ثم ولى يزدجرد عظيماً من عظماء مزاربته له سن وتجربة يقال له رستم. وعقد أيضاً لرجل آخر يسمى الهرمزان في جنود كثيرة. وعند الالتقاء قتل هذان المرزبانان ومرت العرب في أثر العجم يقتلون من أدركوا منهم. (تاريخ ابن خلدون) .
وفي خلافة عمر فتح أبو عبيدة وخالد دمشق بعد حصار سبعة أشهر فخرج أهل دمشق وبذلوا الصلح لأبي عبيدة. فأمنهم وصالح أهل طبرية وقيسارية وبعلبك. وعلى يد عمر انتهى الفتح إلى حمص والرها وماردين وطرابلس وعسقلان وما يليها من الساحل وبيت المقدس. وفتح عمرو بن العاص مصر عنوة وفتح الإسكندرية صلحاً. حتى هاب عمر ملوك فارس والروم. ومع ذلك كلية بقي على حاله كما كان قبل الولاية في لباسه وزيه وأفعاله وتواضعه يسير منفرداً من غير حرس ولا حجاب. لم تغيره الإمرة ولم يستطل على مسلم لسانه. ولا حابى أحداً في الحق. وكان لا يطمع الشريف في حيفه ولا يبأس الضعيف من عدله. ومات عمر يوم الأربعاء لخمس بقين من ذي الحجة. وقتله أبو لؤلؤ المجوسي وكان عمره ثلاثاً وستين سنة. وكانت خلافته عشر سنين وستة أشهر. ولما فتح عمرو بن العاص مصر طلب منه يوحنا النحوي النصراني كتب الحكمة التي في الخزائن الملكية. فكتب عمرو إلى الخليفة يستأذن أمير المؤمنين. فكتب إليه عمر: الكتب التي ذكرتها فإن كان فيها ما يوافق كتاب الله ففي كتاب الله عنه غنى. وإن كان فيها ما يخالفه فلا حاجة إليه فتقدم بإعدامها. فشرع عمرو في تفريغها على حمامات الإسكندرية وإحراقها في مواقدها. فاستيقدت في مدة ستة أشهر. (لابن العميد) .
عثمان بن عفان (645-657)
بويع له بالخلافة في أول يوم من سنة أربع وعشرين. وكانت له شفقة ورأفة بالرعية. وافتتحت في أيامه أفريقية وغزا معاوية قبرس وأنقرة فافتتحها وانتزع عثمان عمرو ابن العاص عن الإسكندرية. فأمر عليها أخاه لأمه. ثم إن الناس أنكروا على عثمان أشياء منها كلفه بأقاربه. فحنقت العرب على ذلك وجمعوا الجموع ونزلوا فرسخاً من المدينة. وبعثوا إلى عثمان من يستتبعه ويقول له: إما أن تعتدل أو تعتزل.
وكتب عثمان إليهم كتاباً يقول فيه: إني أنزع عن كل شيء أنكرتموه وأتوب إلى الله. فلم يقبلوا منه ثم اشتد عليه الحصار عشرين يوماً حتى تسور محمد بن أبي بكر مع رجلين حائط عثمان فضربه أحدهم بمشقص في أوداجه. وقتله الآخر والمصحف في حجره. وكانت خلافته اثنتي عشرة سنة. وعمره نيف وثمانون سنة (للدميري) .
علي بن أبي طالب (657-661)
ولما قتل عثمان اجتمع طلحة والزبير والمهاجرون والأنصار وأتوا علياً يبايعونه(4/313)
فأبى. وقال: أن أكون وزيراً لكم خير من أن أكون أميراً ومن اخترتم رضيته. فألحوا عليه وقالوا: لا نعلم أحق منك حتى غلبوه في ذلك. ثم ادعى الزبير بن العوام وطلحة الإكراه بعد ذلك وتمالآ على نقض إمارة علي. فلحق بهم وناجزهم الحرب وقتل الزبير وطلحة. وسميت هذه الوقعة وقعة الجمل. ولما بلغ معاوية خبر الجمل دعا أهل الشام إلى القتال. فخرج علي من الكوفة واقتتلوا قتالاً شديداً في صفين. ثم تهادنا وافترقا. ثم تعاهد شبيب وابن الملجم على قتل علي وكمنا له في المسجد. فلما خرج علي ونادى بالصلاة علاه شبيب بالسيف وضربه ابن الملجم على مقدم رأسه. فدعا علي قبل موته الحسن والحسين ابنيه ووصاهما وقال: أوصيكما بتقوى الله ولا تبغيا الدنيا وإن بغتكما. ولا تأسفا على شيء ذوى منها عنكما. وقولا الحق وارحما اليتيم وكونا للظالم خصماً وللمظلوم ناصراً. ولا تأخذكما في الله لومة. ولما حضرته الوفاة كتب وصيته العامة ثم قبض. وصفه ضرار بن ضمرة قال: كان علي بعيد المدى شديد القوى يتفجر العلم من جوانبه. وتنطق الحكمة من نواحبه. يستوحش من الدنيا وزهرتها. ويأنس بالليل ووحشته. غزير العبرة. طويل الفكرة. يعجبه من اللباس ما خشن ومن الطعام ما جشب. وكان فينا كأحدنا. يجيبنا إذا سألناه ويأتينا إذا دعوناه. ونحن مع تقربه لا نكاد نكلمه هيبة له. لا يطمع القوي في باطله ولا ييأس الضعيف من عدله. (لابن خلدون) .
الحسن بن علي بن أبي طالب (661 - 662)
ولما قتل علي اجتمع أصحابه بالكوفة فبايعوا ابنه الحسن. وبويع معاوية بالشام. فسار الحسن إلى المدائن واستقر بها خمسة أشهر. ولما رأى المناوشة بين أصحابه قال: لا حاجة لي في هذا الأمر وقد رأيت أن أسلمه إلى معاوية فيكون في عنقه تباعته وأوزاره. فقال له الحسين أخوه: أنشدك الله أن لا تكون أول من عاب أباه ورغب عن رأيه. فقال: لا بد من ذلك وقد اخترت العار على النار. وبعث إلى معاوية بتسليم الأمر إليه واشترط عليه شروطاً. فأجابه معاوية إلى ما التمسه منه. فسلم الأمر إلى معاوية وبايع له لخمس بقين من ربيع الأول. وذلك لأنه رأى المصلحة في جمع الكلمة وترك القتال. (لأبي الفداء) .
دولة الأمويين (662-746)
خلافة معاوية (662 - 680)
ولما بويع بالخلافة استقام له الملك وصفت له الولاية. وكان معاوية مليح الشكل عظيم الهيبة وافر الحشمة يلبس الثياب الفاخرة ويركب الخيول المسومة. وكان كثير البذل والعطا محسناً إلى رعيته. وهو أول من اتخذ المقاصير وأقام الحرس والحجاب وأول من مشى بين يديه صاحب الشرطة بالحراب وله في الحلم أخبار كثيرة. واعلم أن معاوية كان مربي(4/314)
دول وسائس أمم واعي ممالك ابتكر في الدولة أشياء لم يسبقه أحد إليها. منها أنه وضع البريد لوصول الأخبار بسرعة. واخترع ديوان الخاتم فصارت التواقيع تصدر منه مختومة لا يتمكن أحد من تغييرها. وفي سنة خمسين سير جيشاً كثيفاً إلى القسطنطينية فأوغلوا في بلاد الروم وحاصروا القسطنطينية ولم يدخلوها. وفي أيامه بنيت القيروان وكمل بناؤها في خمس سنين. ولما حضرته الوفاة جمع أهله فقال: ألستم أهلي. قالوا: بلى فداك الله بنا. قال: فهذه نفسي قد خرجت من قدمي فردوها علي إن استطعتم. فبكوا وقالوا: ما لنا إلى هذا سبيل. فرفع صوته بالبكاء. ثم قال: فلا تغركم الدنيا بعدي. وتوفي بدمشق في مستهل رجب سنة ستين. (للفخري) .
خلافة يزيد بن معاوية (680-683)
بويع له بالخلافة يوم مات أبوه. وكان يزيد بحمص فقدم منها وبايعه الناس. ولم يبايعه الحسين بن علي بن أبي طالب ولا عبد الله بن زبير. فسير جيشاً إلى محاربة الحسين فأدركوه فحملوا عليه وأصحابه واحترزوا رأس الحسين. أما عبد الله بن زبير فلحق بمكة وتحصن في المسجد الحرام. فسار إليه الحصين بن نمير ونصب المنجنيق على أبي قبيس ورمى به الكعبة فحرقت أستارها. وبينما هم كذلك إذ ورد إلى الحصين الخبر بموت يزيد بن معاوية. فأرسل إلى ابن زبير يسأله الموادعة فأجابه إلى ذلك. وتوفي يزيد في شهر ربيع الأول سنة أربع وستين. وكان آدم جعداً حور العينين. بوجهه آثار جدري حسن اللحية خفيفها طويلاً. وكان موفر الرعية في اللهو والقنص. تعلم الفصاحة ونظم الشعر في بادية بني كلب (لأبي الفداء) .
معاوية الثاني (683) ومروان بن الحكم (684)
ثم قام بعده بالأمر معاوية ابنه ولم تكن ولايته غير ثلاثة أشهر. ثم تخلى بالعبادة ومات بالطاعون. وأما عبد الله بن زبير فلما مات يزيد دعا الناس إلى البيعة وادعى الخلافة. فظفر بالحجاز والعراق وخراسان واليمن ومصر والشام والأردن. ثم بويع بالأردن لمروان بن الحكم وكان كاتب السر لعثمان. ثم دخل الشام فأذعن أهلها له بالطاعة وشار إليه من قبل عبد الله بن زبير الضحاك بن قيس. فاقتتلوا بغوطة دمشق فقتل الضحاك. ومات مروان بدمشق مخنوقاً. وكانت مدة خلافته تسعة أشهر.
عبد الملك بن مروان (685-705)
بويع سنة خمس وستين بالشام. وأما ابن الزبير فبعث أخاه مصعباً على العراق فقدم البصرة وأعطاه أهلها الطاعة. واستولى المصعب على العراقين فسار إليه عبد الملك بن مروان. فالتقوا بسكن وقتل مصعب واستقام العراق لعبد الملك. وكان الحجام بن يوسف الثقفي على شرطه فرأى عبد الملك من نفاذه وجلادته ما أعجب به. فبعثه إلى عبد الله بن زبير فقتله وسلخ جلده وحشاه تبناً وصلبه. وتوفي عبد الملك سنة ست وثمانين وكان حازماً عاقلاً(4/315)
فقيهاً عالماً وكان ديناً. فلما تولى الخلافة استوته الدنيا فتغير عن ذلك (لأبي الفرج) .
الوليد بن عبد الملك (705-715)
هو سادس خلفائهم وكان مغرماً بالبناء واستوثقت له الأمور. ومن بناياته المسجد الأقصى وأعطى المجذمين ومنعم السؤال إلى الناس. وأعطى كل مقعد خادماً وكل ضرير قائداً. ومنع الكتاب النصارى من أن يكتبوا الدفاتر بالرومية ولكن بالعربية. وفي أيامه أجاز طارق بن زياد إلى الأندلس فنهض لذريق ملك القوط وزحف طارق فالتقوا بفحص شريش فهزم الله لذريق وأذعنت الأندلس لأمر الوليد. وفتحت في أيامه الفتوحات الكثيرة من ذلك ما وراء النهر. وتغلغل الحجاج في بلاد الترك. وتغلغل مسلمة بن عبد الملك في بلاد الروم ففتح وسبى. وفتح محمد بن القاسم الثقفي بلاد الهند. وفي سنة ثمان وثمانين أمر الوليد ببناء جامع دمشق. وكان فيه كنيسة فهدمها. فأنفق عليه أموالاً كثيرة تجل عن الوصف. وفي أيامه توفي الحجاج وقيل أنه أحصي من جملة الذين قتلهم الحجاج فكانوا مائة ألف وعشرين ألفاً. ومات الوليد سنة ست وتسعين. (للدميري) .
سليمان بن عبد الملك (715-717) عمر بن عبد العزيز (717-720)
ثم قام بالأمر بعده أخوه سليمان وهو سابعهم. وأحسن السيرة ورد المظالم وآوى المقترين وأخرج المحبوسين. وكان غيوراً شديد الغيرة نهماً واتخذ ابن عمه عمر بن عبد العزيز وزيراً وجهز أخاه مسلمة لغزو القسطنطينية. ونزل سليمان في مرج دابق فشتى مسلمة على قسطنطينية وزرع الناس بها الزرع وأكلوه. وأقام مسلمة قاهراً قسطنطينية حتى جاءه الخبر بموت سليمان متخماً. وكانت خلافة سليمان سنتين وثمانية أشهر واستخلف وزيره عمر بن عبد العزيز.
كان عمر عفيفاً زاهداً ناسكاً عابداً تقياً. وهو أول من فرض لأبناء السبيل. وأبطل في الخطب سب علي. وكان إليه المنتهى في العلم والفضل والشرف والورع والتآلف ونشر العدل. وتوفي عمر بدير سمعان وكان موته بالسم عند أكثر أهل التاريخ. فإن بني أمية علموا أنه إن امتدت أيامه أخرج الأمر من أيديهم وأنه لا يعهده بعده إلا لمن يصلح للأمر فعالجوه وما أمهلوه. وكانت خلافته سنتين وخمسة أشهر. وكان في وجهه شجة من رمح دابة. وكان يدعى بالأشج. وكان متحرياً سيرة الخلفاء الراشدين. وكانت نفقته كل يوم درهمين. وفي أيامه تحركت دولة بني هشام وكان كثيراً ما يتمثل بهذه الأبيات:
نهارك يا مغرور سهر وغفلة ... وليلك نور والردى لك لازم
يغرك ما يفنى وتفرح بالمنى ... كما غر باللذات في النوم حالم
وشغلك فيما سوف تكره غبه ... كذلك في الدنيا تعيش البهائم(4/316)
يزيد الثاني (720-724) هشام (724-743)
ثم قام بالأمر بعده يزيد بن عبد الملك. وكان أبيض جسيماً مليح الوجه خرج في أيامه يزيد بن المهلب فأرسل عليه أخاه مسلمة فقاتله وظفر به. ثم توفي يزيد لأربع سنين من خلافته بعد أن عهد بالخلافة إلى أخيه هشام. بويع له بالخلافة يوم مات أخوه. وكان حازماً عاقلاً صاحب سياسة حسنة أبيض. وكان ذا رأي ودهاء وحزم وفيه حلم وقلة شره وقام بالخلافة أتم قيام. وكان يجمع الأموال ويوصف بالبخل والحرص. يقال إنه جمع من الأموال ما لم يجمعه خليفة قبله. وفي أيامه غزا المسلمون بلاد الترك فانتصروا وغنموا شيئاً كثيراً. وقتلوا من الأتراك مقتلة عظيمة وقتلوا ابن خاقان ملك الترك. وكان المتولي لحربهم أسد بن عبد الله القسري. وفي أيام هشام أيضاً خرج زيد بن زين العابدين ودعا إلى نفسه فأسرعت إليه الشيعة. وكان الوالي على الكوفة من قبل هشام يوسف بن عمر الثقفي. فجمع العساكر وناوش زيداً القتال فأصاب زيداً سهم في جبهته فحمل من المعركة فمات ودفن. فلما أصبحوا استخرجه يوسف من قبره فصلبوه. ومات هشام بالرصافة سنة خمس وعشرين ومائة. وكان مرضه الذبحة.
الوليد الثاني (743-744) يزيد الثالث (744-744)
كان الوليد مقيماً في البادية فلما مات هشام سار من فوره إلى دمشق وأقام في الخلافة سنة واحدة وكان أكمل بني أمية أدباً وفصاحة وظرفاً وأعرفهم باللغة والنحو. وكان جواداً مفضالاً. ومع ذلك لم يكن بني أمية أكثر إدماناً للشراب والسماع ولا اشد مجوناً وتهتكاً واستخفافاً بأمر الأمة من الوليد بن يزيد. فأجمع أهل دمشق على خلعه وقتله لاشتهاره بالمنكرات وتظاهره بالكفر والزندقة. فلم يلبث إلا أياماً يسيرة حتى قتل شر قتلة وصلب رأسه على شرافات قصره ثم على أعلى سور بلده. ولما قتل اضطربت البلاد واستنصر على بني أمية أعداؤهم ولم تقم لهم قائمة بعده. ثم تولى يزيد الثالث ابن الوليد وابن عمر الوليد بن يزيد وسمي الناقص فتفاءل بنو أمية بولايته فأقام في الخلافة والأمور مضطربة عليه. وكان مظهراً للنسك محمود السيرة مرضي الطريقة ويتخلق بأخلاق عمر بن عبد العزيز. وكان ذا دين وورع إلا أنه لم يمتع وبغتته المنية.
إبراهيم بن الوليد (745) مروان الثاني (746)
ثم بويع أخوه إبراهيم فلم يلبث له أمر. ومكث سبعين يوماً فسار إليه مروان بن محمد. فبز إليه الخليفة وعسكر دمشق فخذله جنده وحاصروا عليه بعد أن أنفق عليهم الخزائن واختفى أمرهم فبايع الناس مروان واستوثق له الأمر وخلعوا إبراهيم. وظهر السفاح بالكوفة. وبويع له بالخلافة. فجهز جيشاً لقتال مروان بن محمد فالتقى الجمعان قرب الموصل. فهزم مروان وقتل في هربه وظهرت دولة بني عباس وانقرضت دولة بني أمية (لأبي الفداء) .
تم بحوله تعالى(4/317)
الجزء الخامس(5/1)
الباب الأول
في التدين
عظمة الخالق وجبروته والخلاص له تعالى
الحمد لله العظيم شأنه القوي سلطانه. ألظاهر إحسانه. ألباهر حجته وبرهانه. ألمحتجب بالجلال. والمنفرد بالكمال. والمتردي بالعظمة في الآباد والآزال. لا يصوره وهم وخيال. ولا يحصره حد ومثال. ذي العز الدائم السرمدي. والملك القائم الديمومي. والقدرة الممتنع إدراك كنهها. والسطوة المستوعر طريق استيفاء وصفها. نطقت الكائنات بأنه الصانع المبدع. ولاح من صفحات ذرات الوجود بأنه الخالق المخترع. وسم عقل الإنسان بالعجز والنقصان. وألزم فصيحات الألسن وصف الحصر في حلبة البين. وأحرقت سبحات وجهه الكريم أجنحة طائر الفهم. وسدت تعززا وإجلالا. ولم يجد من فرط الهيبة في فضل الجبروت مجالا. فعاد البصر كليلا. والعقل عليلا. ولم ينتهج إلى كنه الكبرياء سبيلا. فسبحان من عز معرفته لولا تعريفه. وتعذر على العقول تحديد هو تكييفه. ثم ألبس قلوب الصفوة من عباده ملابس العرفان. وخصهم من بين عباده بخصائص الإحسان. فصارت ضمائرهم من(5/3)
مواهب الأنس مملؤة. فتهيأت لقبول الأمداد القدسية. واستعدت لورود الأنوار العلوية. واتخذت من الأنفاس العطرة بالأذكار جلاسا. وأقامت على الظاهر والباطن من التقوى حراسا. وأشعلت في ظلم البشرية من اليقين نبراسا. واستحقرت فوائد الدنيا ولذاتها. وأنكرت مصايد الهوى وتبعاتها. وامتطت غوارب الرغبوت والرهبوت. واستفرشت بعلو همتها بساط الملكوت. وامتدت إلى المآل أعناقها. وطمحت إلى اللامع العلوي أحداقها. واتخذت من الملإ الأعلى مسامرا ومحاورا. ومن النور الأغر الأقصى مزاورا ومجاورا. أجساد أرضية بقلوب سماوية وأشباح فرشية. بأرواح عرشية. نفوسهم في منازل الخدمة سيارة. وأرواحهم في فضاء القرب طيارة. مذاهبهم في العبودية مشهورة. وأعلامهم في أقطار الأرض منشورة. يقول الجاهل بهم فقدوا وما فقدوا. ولكن سمت أحوالهم فلم يدركوا. وعلا مقامهم فلم يملكوا. كائنين بالجثمان. بائنين بقلوبهم عن أوطان الحدثان. لأرواحهم حول العرش تطواف. ولقلوبهم من خزائن البر إسعاف. يتنعمون بالخدمة في الدياجر. ويتلذذون من وهج الظمأ بظمأ الهواجر. سلوا بالصلوات عن الشهوات. وتعوضوا بحلاوة التلاوة عن اللذات. يلوح من صفحات وجوههم بشر الوجدان وينم على مكنون سرائرهم نضارة العرفان. لا يزال في كل عصر منهم علامون بالحق. داعون للخلق. منحوا بحسن المتابعة رتبة الدعوة(5/4)
وجعلوا للمتقين قدوة فلا يزال تظهر في الخلق آثارهم. وتزهر في الآفاق أنوارهم. من اقتدى بهم اهتدى. ومن أنكرهم ضل واعتدى. فلله الحمد على ما هيأ للعباد. من بركة خواص حضرته من أهل الوداد (عوارف المعارف للسهروردي)
قال أمية بن أبي الصلت في الخالق سبحانه:
إله العالمين وكل أرض ... ورب الراسيات من الجبال
بناها وابتنى سبعا شدادا ... بلا عمد يرين ولا رجال
وسواها وزينها بنور ... من الشمس المضيئة والهلال
ومن شهب تلألأ في دجاها ... مراميها أشد من النصال
وشق الأرض فانبجست عيونا ... وأنهارا من العذب الزلال
وبارك في نواحيها وزكى ... بها ما كان من حرث ومال
فكل معمر لابد يوما ... وذي دنيا يصير إلى زوال
ويفنى بعد جدته ويبلى ... سوى الباقي المقدس ذي الجلال
وسيق المجرمون وهم عراة ... إلى ذات المقامع والنكال
فنادوا ويلنا ويلا طويلا ... وعجوا في سلاسلها الطوال
فليسوا متين فيستريحوا ... وكلهم ببحر النار صالي
وحل المتقون بدار صدق ... وعيش ناعم تحت الظلال
لهم ما يشتهون وما تمنوا ... من الأفراح فيها والكمال(5/5)
صفاته تعالى
هو الله الظاهر بآياته. ألباطن بذاته. القريب برحمته. ألبعيد بعزته. ألكريم بآلائه. ألعظيم بكبريائه. أقادر فلا يرام. والمليك الذي له الأقضية والأحكام. الذي تفرد بالبقاء. وتوحد بالعزة السناء. واستأثر بأحاسن الأسماء. ودل على قدرته بخلق الأرض والسماء. كان ولا مكان ولا زمان ولا بينيان. ولا ملك ولا إنسان. فأنشأ المعدوم إبداعا. وأحدث ما لم يكن إنشاء واختراعا. جل وتعالى فيما خلق عن احتذاء صورة واستدعاء مشورة. واقتفاء رسم ومثال. وافتقار إلى نظر قياس واستدلال. ففي كل ما أبدع وصنع وفطر وقدر دليل على أنه الواحد بلا ظهير والقادر بلا نصير. والعالم بلا تبصير وتذكير. والحكيم بلا رؤية وتفكير. والحي الذي لا يموت وبيده الخير. وهو على كل شيء قدير. رفع السماء عبرة للنظار. وعلة للظلم والأنوار. وسببا للغيوث والأمطار. وحياة للمحول والقفار. ومعاشا للوحوش والأطيار. ووضع الأرض مهادا للأبدان. وقرارا للحيوان. وفراشا للجنوب والمضاجع. وبساطا للمكاسب والمنافع. وذلولا لطلاب الرزق وأرباب الصنائع. وأشخص الجبال أوتادا راسية وأعلاما بادية. وعيونا جارية. وأرحاما لأجنة الأعلاق حاوية. وجعل البحار مغيض لفضول الأنهار. ومغاير لسيول(5/6)
المطار. ومراكب لرفاق التجار. ومضارب لمصالح الأمطار. ومناهج الأوطار. وتحوي من الدر والمرجان نباتا. وتنبع من بين الملح الأجاج عذبا فراتا. وتقذف للآكلين لحما طريا. وتحمل للابسين جواهر وحليا. واستخلف على عمارة عالمه من انتخبهم من خلقه وآثرهم بإلهامه. ودبرهم بأوامره ,أحكامه (لأبي نصر العتبي) قصيدة أبي محمد بن السيد البطليوسي في التوحيد
إلا هي إني شاكر لك حامد ... وإني لسع في رضاك وجاهد
وإنك مهم زلت النعل بالفتى ... على العائد التواب بالعفو عائد
تباعدت مجدا وأدنيت تعطفا ... وحلما فأنت المدني المتباعد
وما لي على شيء سواك معول ... إذا دهمتني المعضلات الشدائد
أغيرك أدعو لي إلاهاً وخالقاً ... وقد أوضح البرهان أنك واحد
وقدما دعا قوم سواك فلم يقم ... على ذاك برهان ولا لاح شاهد
وبالفلك الدوار قد ضل معشر ... وللنيرات السبع داع وساجد
وللعقل عباد وللنفس شيعة ... وكلهم عن منهج الحق حائد
وكيف يضل القصد ذو العلم والنهى ... ونهج الهدى من كان نحوك قاصد
وهل يوجد المعلول من غير علة ... إذا صح فكر أو رأى الرشد راشد
وهل غبت عن شيء فينكر منكر ... وجودك أم لم تبد منك الشواهد
وفي كل معبود سواك دلائل ... من الصنع تبدي أنه لك عابد(5/7)
وكل وجود عن وجودك كائن ... فواجد أصناف الورى لك واحد
سرت منك فيها واحدة لو منعتها ... لأصبحت الأشياء وهي بوائد
وكم لك في خلق الورى من دلائل ... يراها الفتى في نفسه ويشاهد
كفى مكذبا للجاحدين نفوسهم ... تخاصمهم إن أنكروا وتعاند
لأمية بن أبي الصلت النصراني في الكمالات الالهية
لك الحمد والنعماء والملك ربنا ... فلا شيء أعلى منك مجدا وأمجد
مليك على عرش السماء مهيمن ... لعزته تعنو الوجود وتسجد
عليه حجاب النور والنور حوله ... وأنهار نور حوله تتوقد
فلا بصر يسمو إليه بطرفه ... ودون حجاب النور خلق مؤيد
ملائكة أقدامهم تحت عرشه ... بكفيه لولا الله كلوا وأبلدوا
قيام على الأقدام عانين تحته ... فرائصهم من شدة الخوف ترعد
وسبط صفوف ينظرون قضاءه ... يصيخون بالأسماع للوحي ركد
أمين لوحي القدس جبريل فيهم ... وميكال ذو الروح القوي المسدد
وحراس أبواب السماوات دونهم ... قيام عليها بالمقاليد رصد
فنعم العباد المصطفون لأمره ... ومن دونهم جند كثيف مجند
ملائكة لا يفترون عبادة ... كروبية منهم ركوع وسجد
فساجدهم لا يرفع الدهر رأسه ... يعظم ربا فوقه ويمجد
وراكعهم يحنو له الدهر خاشعا ... يردد آلاء الإله ويحمد
ومنهم ملف في الجناحين رأسه ... يكاد لذكرى ربه يتقصد(5/8)
من الخوف لا ذو سامة بعبادة ... ولا هو من طول التعبد يجهد
ودون كثيف الماء في غامض الهوا ... ملائكة بالأمر فيها تردد
وبين طباق الأرض تحت بطونها ... ملائكة بالأمر فيها تردد
فسبحان من لا يعرف الخلق قدره ... ومن هو فوق العرش فرد موحد
ومن لم تنازعه الخلائق ملكه ... وإن لم تفرده العباد فمفرد
مليك السماوات الشداد وأرضها ... وليس لشيء عن قضاه تأود
هو الله باري الخلق والخلق كلهم ... إماء له طوعا جميعا وأعبد
وأنى يكون الخلق كالخالق الذي ... يدوم ويبقى والخليقة تنفد
وليس لمخلوق من الدهر جدة ... ومن ذا على مر الحوادث يخلد
ونفنى ولا يبقى سوى الواحد الذي ... يميت ويحيي دائبا ليس يهمد
تسبحه الطير الجوانح في الخفى ... وإذ هي في جو السماء تصعد
ومن خوف ربي سبح الرعد فوقنا ... وسبحه الأشجار والوحش أبد
وسبحه النينان والبحر زاخرا ... وما ضم من شيء وما هو مقلد
ألا أيها القلب المقيم على الهوى ... إلى أي حين منك هذا التصدد
عن الحق كالأعمى المميط عن الهدي ... وليس يرد الحق إلا منفد
وحالات دنيا لا تدوم لأهلها ... وبينا الفتى فيها مهيب مسود
إذ انقلبت عنه وزال نعيمها ... وأصبح من ترب القبور يوسد
وفارق روحا كان بين جنانه ... وجاور موتى مالهم متردد
فأي فتى قبلي رأيت مخلدا ... له في قديم الدهر ما يتودد(5/9)
ومن يبتليه الدهر منه بعثرة ... سيكبو لها والنائيات تردد
فلم تسلم الدنيا وإن ظن أهلها ... بصحتها والدهر قد يتجدد
ألست ترى فيما مضى لك عبرة ... فمه لا تكن يا قلب أعمى يلدد
فكن خائفا للموت والبعث بعده ... ولاتك ممن غره اليوم أوغد
فإنك في دنيا غرور لأهلها=وفيها عدو كاشح الصدر موقد وسيلة إلى الله تعالى لعبد الرحيم البرعي
لي في نوالك يا مولاي آمال ... من حيث لا ينفع الأهلون والمال
أوصي إليك لعملي أن لطفك بي ... دون الورى لم يحل عني إذا حالوا
فأرض عني خصومي واقض يا أملي ... ديني فإن حقوق الخلق أثقال
ولم يضق بيمنك العفو إن ختمت ... لي بالشهادة أقوال وأفعال
كن لي إذا أغمضوا عيني وانصرفوا ... باكين أسمع منهم كل ما قالوا
وامنن بروح وريحان علي إذا ... ضاق الخناق فهول الموت أهوال
وجاءني ملك الموت الموكل بي ... وبالنفوس فللأعمار آجال
واستخرج النفس أملاك مطهرة ... لها إلى لطفك المأمول ترحال
جاؤا إليك بها يا رب يقدمها ... لحضرة القدس جبريل وميكال
ثم انثنت عن قريب نحو مغتسل ... في حيث يرجوك مغسول وغسال
وليس لي ولمثلي غير جودك يا ... من لا يدانيه أشباه وأمثال
أصبحت بين يديك اليوم مطرحاً ... ولي بنفسي عن الأغيار إشغال
فأولني يا غفور العفو منك فلا ... يبقى علي من الأوزار مثقال(5/10)
وإن نزلت إلى بيت الخراب ولا ... أب هناك ولا عم ولا خال
ألهمني يا خالقي ذكر الجواب ففي ... ذاك المقام جوابات وتسآل
هناك لا أمل يرجى ولا عمل ... يجزى ولا حيلة عندي فأحتال
فافتح لروحي إلى الفردوس باب رضا ... يهدي رياح رياض ظلها ضال
والطف ورائي بأطفال وأمهم ... إن كان خلفي أويلادٌ وأطفال
حتى إذا نشر الأموات وارتعدت ... فرائض الخلق من بعض الذي نالوا
وعادت الروح في الجسم الضعيف وقد ... تفرقت منه أعضاء وأوصال
فجد عليه ولاطفني بعفوك عن ... ذنبي فشأنك إنعام وإفضال
وقل كفيتك يا عبد الرحيم أذى الدام ... رين فانزل حمى ما فيه إهمال
يا واسع اللطف قد قدمت معذرتي ... إن كان يغني عن التفصيل إجمال
جنبني العجب والشح المطاع ومر ... نفسي تخالف هواها فهو قتال
وعد علي بنور منك مبتهج ... يزكو به بصري والمع والبال
وارحم بني وآبائي وحاشيتي ... يعمهم يا إلهي منك إقبال
ماذا أقول ومني كل معصية ... ومنك يا سيدي حلم وإمهال
وما أكون وما قدري وما عملي ... في يوم توضع في الميزان أعمال
لكن أييأس من روح الإله فدى ... عبد عليه من الإيمان سربال
رباه أنت الله معتمدي ... في كل حال إذا حالت بي الحال
وله في التوحيد
تجلت لوحدانية الحق أنوار ... فدلت على أن الجحود هو العار(5/11)
وأغرت لداعي الحق كل موحد ... بمقعد صدق حبذا الجار والدار
وأبدت معاني ذاته بصفاته ... فلم يحتمل عقل المحبين إنكار
تراءى لهم في الغيب جل جلاله ... عيانا فلم يدركه سمع وأبصار
معان عقلن العقل والعقل ذاهل ... وإقباله في يرزخ البحث إدبار
إذا هم وهم الفكر إدراك ذاته ... تعارض أوهام عليه وأفكار
وكيف يحيط الكيف إدراك حده ... وليس له في الكيف حد ومقدار
وأين يحل الأين منه ولم يكن ... مع الله غير الله عين وآثار
ولاشيء معلوم ولا الكون كائن ... ولا الرزق مقسوم ولا الخلق إفطار
ولا الشمس بالنور المنير مضيئة ... ولا القمر الساري ولا النجم سيار
فأنشأ في سلطانه الأرض والسما ... ليخلق منها ما يشاء ويختار
وزين بالكرسي والعرش ملكه ... فمن نوره حجب عليه وأستار
فسبحان من تعنو الوجوه لوجهه ... ويلقاه رهن الذل من هو جبار
عظيم يهون الأعظمون لعزه ... شديد القوى كاف لذي القهر قهار
لطيف بلطف الصنع فضلنا على ... خلائق لا تحصى وذلك إيثار
يرى حركات النمل في ظلم الدجى ... ولم يخف إعلان عليه وإسرار
ويحصي عد يد النمل والقطر والحصى ... وما اشتملت نجد عليه وأغوار
أضاءت قلوب العارفين بنوره ... فباحت بأحوال المحبين أسرار
وشق على أسمائهم من علا اسمه ... على الأصل فهو البر والقوم أبرار
فذاك الذي يلجا إليه توكلا ... علي ويعصى وهو بالحلم ستار(5/12)
فأدنى الرجا للخلق من باب فضله ... لتمحى إساءات وتغفر أوزار
تسبح ذرات الوجود بحمده ... ويسجد بالتعظيم مجم وأشجار
ويبكي غمام الغيث طوعا لأمره ... فتضحك مما يفعل الغيث أزهار
فيا نفس للإحسان عودي فربما ... أقلت عثاراً فابن آدم معثار
إلهي أذقني برد عفوك واهدني ... إليك بما يرضيك فالدهر غرار
8-قصيدة علي بن ابي طالب في الابتهال إلى الله
لك الحمد يا ذا الجود والمجد والعلى ... تباركت تعطي من تشاء وتمنع
إلهي وخلاقي وحرزي وموئلي ... إليك لدى الإغسار واليسر أفزع
إلهي لئن خيبتني أو طردتني ... فمن ذا الذي أرجو ومن أتشفع
إلهي لئن جلت وجمت خطيئتي ... فعفوك عن ذنبي أجل وأوسع
إلهي لئن أعطيت نفسي سؤلها ... فها أنا في روض الندامة أرتع
إلهي ترى حالي وفقري وفاقتي ... وأنت مناجاتي الخفية تسمع
إلهي فلا تقطع رجائي ولا تزغ ... فؤادي فلي في باب جودك مطمع
إلهي أجرني من عذابك إنني ... أسير ذليل خائف لك أخضع
إلهي فآنسني بتلقين حجتي ... إذا كان لي في القبر مثوى ومضجع
إلهي لئن عذبتني ألف حجة ... فحبل رجائي منك لا يتقطع
إلهي إذا لم ترعني كنت ضائعا ... وعن كنت ترعاني فلست أضيع
إلهي إذا لم تعف عن غير محسن ... فمن لمسيء بالهوى يتمتع
إلهي لئن قصرت في طلب التقى ... فلست سوى أبواب فضلك أقرع(5/13)
إلهي أقلني عثرتي وامح حوبتي ... فإني مقر خائف أتضرع
إلهي لئن خيبتني أو طردتني ... فما حيلتي يا رب أم كيف أصنع
إلهي حليف الحب بالليل ساهر ... يناجي ويبكي والمغفل يهجع
وكلهم يرجو نوالك راجيا ... لرحمتك العظمى وفي الخلد يطمع
إلهي يمنيني رجائي سلامة ... وقبح خطيئاتي علي يشنع
من قصيدة للبرعي في الرجاء
إليه به سبحانه أتوسل ... وأرجو الذي يرجى لديه وأسال
وأحسن قصدي عن خضوعي وذلتي ... له وعليه وحده أتوكل
وأصحب آمالي إلى فضل جوده ... وأنزل حاجاتي بمن ليس يبخل
فسبحانه من أول هو آخر ... وسبحانه من آخر هو أول
وسبحانه من تعنو الوجوه لوجهه ... ومن كل ذي عز له يتذلل
ومن هو فرد لا نظير له ولا ... شبيه ولا مثل به يتمثل
ومن كلت الأفهام عن وصف ذاته ... فليس لها في الكيف والأين مدخل
تكفل فضلا لا وجوبا برزقه ... على الخلق فهو الرازق المتكفل
ولم يأخذ العبد المسيء بذنبه ... ولكنه يرجي لأمر ويمهل
حليم عظيم راحم متكرم ... رؤوف رحيم واهب متطول
جواد مجيد مشفق متعطف ... جليل جميل منعم متفضل
له الراسيات الشم تهبط خشية ... وتنشق عن ماء يسيح ويخضل
وأنشأ من لاشيء سحبا هواطلا ... يسبح فيها رعده ويهلل(5/14)
وأحيا نواحي الأرض من بعد موتها ... بمنسجم غيث من السحب يهمل
يحيط بما تخفي الضمائر علمه ... ويدري دبيب النمل والليل أليل
فيا غافر الزلات وهي عظيمة ... ويا نافذ التدبير ما شاء يفعل
أجب دعوتي يا سيدي واقض حاجتي ... سريعا فشأن العبد يدعو ويعجل
ولا يرتجي من عند غيرك رحمة ... ولا يبتغي فضلا لمن يتفضل
فحقق رجائي فيك يا غاية المنى ... فأنت لمن يرجوك حصن مؤمل
وإن فتحت جنات عدن لداخل ... فقل يا عبدي هذه الجنة ادخلوا
فجودك يا ذا الكبرياء مؤمل ... وحبلك للراجين بالخير يوصل
وله أيضا في الرجاء من قصيدة
عسى فرج يأتي به الله عاجلا ... يسر به الملهوف إن عمه اللهف
فمن محن الأيام قلبي معذب ... ألم بروحي قبل حتف الفنا حتف
فكم هم صرف الدهر يصرف نابه ... علي فجاء الغوث وانصرف الصرف
ولم أعتصم بالله إلا ومد لي ... من البر ظلا في رضاه له وكف
وإني لمستغنٍ بفقري وفاقتي ... إليه ومستقوٍ وإن كان بي ضعف
فكم راح روح الله في خلقه وكم ... غدا قبل أن يرتد للناظر الطرف
بقدرة من شد الهوا وبنى السما ... طرائق فوق الأرض فهي لها سقف
وألقى الجبال الشم فيها رواسيا ... فليس لها من قبل موعدها نسف
وألبسها من سندس النبت بهجة ... من النبت ما صنف يشابهه صنف
وسخر من نشر السحاب لواقحا ... إذا انتشرت درت سحائبها الوطف(5/15)
وكم في غريب الملك والملكوت من ... عجائب لا يحصى لأيسرها وصف
ولم تحط الست الجهات بذاته ... فأين يكون الأين والقبل والخلف
إلهي أقلني عثرتي وتولني ... بعفو فإن النائبات لها عنف
خلعت عذاري ثم جئتك عامدا ... بعذري فإن لم تعف عني فمن يعفو
وأنت غياثي عند كل ملمة ... وكهف إذا لم يبق بين الورى كهف
ومن قصيدة له في الدعاء
لك الحمد حمدا طيبا أنت أهله ... على كل حال يشمل السر والجهرا
إلهي تغمدني برحمتك التي ... وسعت وأوسعت البرايا بها برا
وقو بروح منك ضعفي وهمتي ... على الفقر واغفر زلتي واقبل العذرا
وصن ماء وجهي فالسؤال مذلة ... وعن جور دهر لم يزل حلوه مرا
ولاطف أطيفالي وإخوتهم فقد ... رمتهم خطوب ما أطاقوا لها صبرا
وهم يألفون الخير والخير واسع ... لديك ولا والله ما عرفوا شرا
ربوا في ربي روض النعيم وظله ... فجدد لهم من جودك النعمة الخضرا
وبعد حياتي في رضاك توفني ... على الملة البيضاء والسنة الزهرا
وفي القبر آنس وحشتي عند وحدتي ... فإن نزيل القبر يستوحش القبرا
وإن ضاق أهل الحشر ذرعا لموقف ... به الكتب تعطى باليمين وباليسرى
فقل فزت يا عبد الرحيم برحمتي ... ومغفرتي لا تخش بؤسا ولا ضرا
وله في الدعاء أيضا
مقييل العاثرين أقل عثاري ... وخذ لي من بني زمني بئاري(5/16)
وجملني بعافية وعفو ... من الأمراض والعلل الطواري
ولا تشمت بي الأعداء ونظر ... إلي برحمة نظر اختيار
فقد هتكوا حماي وعاندوني ... غلى نعم تدر على دياري
وإن تضرري وعناي منهم ... نظير تذللي لك وافتقاري
فإن يخسر بسوقهم اتجاري ... ففضلك سوق أرباح التجار
وإن يك عقني صحبي وجاري ... فجودك بالذي أرجوه جاري
فأنت بنيتها سبعا شداد ... يزين جوها شهب سواري
ومهدت الأراضي من نجود ... وغور أو عمار أو قفار
وسخرت البحار السبع تجري ... بها الأفلاك من غاد وسار
وسخرت الشمس خلف البدر تسعى ... كسعي الليل في طرف النهار
وتمسك في الهواء الطير بسطا ... وقبضا في رواح وابتكار
وتكفل كل وحش في البراري ... وترزق كل حوت في البحار
إلهي عافني وأصح جسمي ... وصل واقبل برحمتك اعتذاري
وطهر قالبي وتغش قلبي ... بأنوار السكينة والوقار
وإن كررت مسئلتي فكلني ... إلى كرم يفيض بلا انحصار
فتحت يدي أطيفال صغار ... فهبني للأطيفال الصغار
أجاهد فيك محتسبا عليهم وأبذل فيك جهدي واقتداري
وتيسير الأمور عليك دوني ... ففرج هم عسري باليسار(5/17)
الباب الثاني
في الخطب والمواعظ
نخبة من كتاب أطباق الذهب لعبد المؤمن المغربي الأصبهاني
المقالة الأولى
يا أرباب القوة والطاقة. انظروا بعين الإفاقة. إلى أهل الفاقة. ويا ركبان الناقة. رفقا بضعفاء الساقة. ويا حملة الأوزار وخزنة المال المستعار. لا تجروا ذيل الافتخار على أرباب الافتقار. فقلوبهم خير من قلوبكم. ومطلوبهم أعز من مطلوبكم شغلكم التجول بالأسواق. عن تنسم قبول الأشواق. وألهاكم حب الرزق عن الرزاق. ويا عمار الخراب وشاب الشراب لا تعمروا هذه القرية الحلجاء. ولا تسكنوا هذه المهلكة الفيحاء. لا تتخذوا الدنيا الفانية سوقا. إن الباطل كان زهوقا
المقالة الثانية
ابن آدم عجن من الصلصال. ثم تاه بشرائف الخصال. وما درى أن الخصال الحميدة من مواهب الرحمان. لا من مكاسب الإنسان. ما العقل إلا عطية من عطاياه. وما النفس إلا مطية من مطاياه. فإن شاء زمها بزمام الهدى. وإن شاء تركها سدى. فمن يستطيع لنفسه خفضا أو رفعا. قل فمن يملك لكم من الله شيئا إن أراد بكم ضرا أو أراد بكم نفعا(5/18)
المقالة الحادية عشرة
ألعاقل قصي مرامي النظر. فسيح موامي العبر. علي مرام الخطر. يقرأ مكتوب أسرار الغد من عنوان اليوم. ويقطف ثمار الغيب من صنوان النوم. يرى موعود الله ناجزا. ومكنونه بارزا. فكن يقظا حاذرا. ومثل الغيب حاضرا. وإذا ملكت فاذكر القادر وقدرته. وإذا بغمت فاذكر الصائد وقترته. واعلم أن مسرات الأيام مقرونة بالغم. وحلاوة الدنيا معجونة بالسم. والمح الدهر بعين الذكاء. وإذا ضحكت فاجهش للبكاء. وإياك أن تقنع من العلوم بالقشور. ومن الرق المنشور بالدوائر والعشور. أولئك قوم نزلوا هذه الثنية. وغفلوا عن المرحلة الثانية. وشغلوا بالدنيا الدنية. فهم في مهابط الغي سافلون. وفي مباذل العيش رافلون. يعلمون ظاهرا من الحياة الدنيا وهم عن الآخرة غافلون
المقالة الخامسة عشرة
من الناس من يستطيب ركوب الأخطار وورود التيار. لحوق العار والشنار لأجل الدينار. ويستلذ سف الرماد ونقل السماد. لأجل الأولاد. ويصبر على نسف الجبال. وتجشم الأهوال لشهوة المنال. يبدل الأيمان بالكفر. ويحفر الجبال بالظفر للدنانير الصفر. ويلج عرين الأسود. للدراهم السود. لا يكره صداعا. إذا نال كراعا. ويلقى النوائب بقلب صابر. في طاعة الشيخ أبي جابر. يأبى العز(5/19)
طبيعة. ويرى الذل شريعة. ومن الناس من يختار العفاف. ويعاف الإسفاف. يدع الطعام طاويا ويذر الشراب صاديا. ويرى المال رائحا وغاديا. يترك الدنيا لطلابها. ويطرح الجيفة لكلابها. لا يسترزق لئام الناس. ويقنع بالخبز الناس. يكره المن والأذى. ويعاف الماء على القذى. إن أثرى جعل موجوده معدوما. وإن أقوى حسب قفاره مأدوما. جوف خال. وثوب بال. ومجد عال. وثوب أسمال. وراءه عز وجمال. وعقب مرزوق. وذيل مفتوق. يجره فتى مغبوق
لله تحت قباب العز طائفة ... أخفاهم في رداء الفقر إجلالا
هم السلاطين في أثواب مسكنة ... استعبدوا من ملوك الأرض أقيالا
غبر ملابسهم شم معاطسهم ... جروا على قلل الخضراء أذيالا
هذي السعادة لا ثوبان من عدن ... خيطا قميصا فصارا بعد أسمالا
تلك المناقب لا قعبان من لبن ... شيبا بما فعادا بعد أبوالا
هم الذين جلبوا أبراء من التكلف ... يحسبهم الجاهل أغنياء من التعفف
المقالة الحادية والعشرون
يا من يسعى لقاعد ويسهر لراقد. ويا من يحرس لراصد ويزرع لحاصد. ويبخل لباذل. ويجمع لآكل. تبني الإيوان وعن قليل ينهدم ركناك. وتبسط الرواق وفي الجدث سكناك. قلب كقلوب الكفار وحرص كحرص الفار. ينقب بالأظفار ولا يبقى على المأدوم والقفار. قل لي إذا وقعت الواقعة. وقرعت القارعة. وأزف لك(5/20)
الرحيل. واجتمع الطبيب والعليل. واختلف الغسال والغسيل. والعائد يغمز عينيه والطبيب يقلب كفيه. حتى إذا انقطع نفسك. وخفي جرسك. أينفعك حينئذ حلال أصبته. أم حرام غضبته. أم نشب حرشته. أو ولد حضنته أو ربع أسسته أو نبع غرسته. أو حطام حرسته أو قفر حرثته. أو وفر أورثته. كلا لا ينفعك فيء قد غنمته. ولا يضرك شيء عدمته. ولا ينجيك إلا خير أمضيته. أو خصم أرضيته. فانتبه يا نائم. واستقم يا هائم. لقد تهت في بادية لا يبلغك ندائي. وترديت في هاوية لا يبلغها ردائي. تغيم هواؤك وسيصحي. حين لا ينفعك نصحي. ولا تعص الله في أولاد سوء إذا حضرك الموت غابوا. وما حزنوا لما أصيبوا بل فرحوا بما أصابوا. وإن تدعهم لا يسمعوا دعاءك ولو سمعوا ما استجابوا
من ديوان خطب الإمام إبراهيم بن بدوي النحاس
الخطبة الأولى لشهر محرم
الحمد لله قسم الزمان أعواما. وقسم الأعوام شهورا وأياما. على ما اقتضته الحكمة والتدبير. وافتتح كل عام بشهره المحرم. وجمله بيوم عاشوراء المجمل المعظم الذي فضله في الجاهلية والإسلام شهير. أحمده سبحانه وتعالى وأشكره وأتوب إليه وأستغفره وأستعيذ به وأستخير. أم بعد فيا عباد الله هذا عام جديد قد نزل بكم فأكرموا نزله. وحل فيكم بحلل الإيقاظ فالبسوا حلله. فإنه لكم(5/21)
موقظ ونذير. ما من يوم يمر إلا وهو ينادكم بلسان حاله. ها أنا مؤذن كل راحل بقرب ارتحاله. فليتأهب للمسير. إلى دار المصير. يا أيها المسرور بتجديد الأعوام. المغرور بقدوم الأهلة وتتابع الأيام. أما علمت أنها تقصر عمرك القصير. أما علمت أن تتابع الملوين. وتعاقب النيرين. لم يبقيا من عمرك إلا اليسير. أما علمت أن في تصرم الأيام بالغفلة والمنام أشد حرمان وتحسير. أما علمت أن في انقراض الأعمار بمرور الدهور والإعصار أعظم عبرة وتذكير. أتظن أن غيرك الراحل عن الدنيا وأنت المقيم. أو أن من أخذ غيرك يتركك في كل واد تهيم. لا والله بل لا بد يوما أن تسلك في سلكهم ويلتحق النظير بالنظير. فانتبه يا مسكين فالدنيا أضغاث أحلام. ودار الفناء لا تصلح للمقام. وكأنك بها وقد كسف بدرها المنير واعتبر بغيرك فالعاقل من بغيره اعتبر. وتزود من التقوى لطول السفر. فإنه والله سفر خطير وذر المحارم وقم على أقوام سنن. وشمر عن ساعد الجد في أداء الفرائض والسنن. وإياك إياك والتقصير وقدم صالح الأعمال بين يديك. واجعل الموت دائما نصب عينيك. ولا تنسه فنسيانه ضلال كبير. واعبد الله كأنك تراه أو يراك. وإياك إياك وأن يراك حيث نهاك. فيشتد عليك النكير. وهو وإن استترت مطلع عليك. وأقرب إليك من نفسك التي بين جنبيك. أل يعلم من خلق وهو اللطيف الخبير. يعلم ما يلج في الأرض وما يخرج منها. وما ينزل(5/22)
من السماء وما يعرج عنها وهو معكم أينما كنتم والله بما تعملون بصير
خطبة لشهر صفر
الحمد لله الذي عم الوجود برحمته. وأفاض على كل موجود سجال نعمته. وغمر الأنام. ببحر جوده وكرمه المتلاطم. سبحانه لا نحصي ثناء عليه. إن الأمر كله منه وإليه. لا إله إلا هو أحكم حاكم وأرحم راحم. أحمده سبحانه وتعالى وأشكره وأتوب إليه وأستغفره من جميع الذنوب والآثم. أما بعد فيا أيها الإنسان ما أجهلك بنعم مولاك وأنساك. مع أنك غريق في لجج بحرها مذ أوجدك وأنشاك. ولو تدبرت الوجود. لرأيته ساعيا في مصالحك كالخادم. أخرجك من خسة العدم إلى شرف الوجود. وغمرك في تيار بحار الفضل والجود. وأنت تعلم ذلك غلى التحقيق واليقين الجازم. ثم ما زال يربيك ويحسن إليك برزقه المتزايد. وأنت تشكوه لخلقه شكاية المضطر الفاقد. كأنك من ورد منهلها غير شريب أو أنت لها عادم. والعجب أنك تعد النقم والمحن. وتنسى ما لله عليك من النعم والمنن. وربما كانت المحنة منة عند الفهيم العالم. كم في الفقر من أجروكم في الضر من تكفير وزر. فما ربك بظلام للعبيد بل عدل في كل ما هو به حاكم. فأديموا رحمكم الله شكر المنعم بخاص التقوى وصالح العبادة. وأحسنوا فإن أحسنوا الحسنى وزيادة.(5/23)
والذين كسبوا السيئات جزاء سيئة بمثلها وترهقهم ذلة ما لهم من الله من عاصم
(من ديوان خطب الشيخ زكريا الأنصاري)
خطبة لربيع الآخر
الحمد لله الذي عزت معرفته فلا يدرك بالمعقول خافيها. وجلت صفته فلا يتكدر بالمنقول صافيها. وتمت كلمته فلا يرد حكم قاضيها. ودامت أزليته فمن ذا يضاهيها. أحمده سبحانه وتعالى على نعمه التي لا يمكن تناهيها. أيها الناس استدركوا ما فات من أعماركم بالتوبة فالدنيا كمثل المنام. وحصلوا التوبة فقد قرب الرحيل والانصرام. فما أسعد من بادر بقية عمره بالاغتنام. وما أحسن من دعاه مولاه فأجابه بالذل والاحتشام. وما أبرك من خلع عليه خلع القبول والإنعام. وما أشقى من ذهبت في البطالة شهوره والأيام. وكتب عليه الملكان القبائح والآثام. وما أقسى قلب من عصى الملك العلام. يسمع المواعظ فكأنها أضغاث أحلام. وتمضي عليه الليالي والأيام. وهو مصر على الآثام. ويطمع في دخول الجنة وقد ضرب بينه وبينها بسور له باب. ويتصنع بعمارة ظاهره وباطنه خراب. ويتعفف عن القليل وهو للكثير نهاب. فما عذر هذا إذا اجتمعت الخلائق. وتحققت الحقائق. ووزنت الأعمال بالدقائق. وجاءت كل نفس معه شهيد وسابق. ووضع الكتاب. ونوقش الحساب. ولم يدر(5/24)
ما الجواب. وأحاطت به ملائكة العذاب. يوم تجد كل نفس عملها. وتسأل عن قولها وفعلها. يوم يسأل العالمون عن علمهم. والحاكمون عن حكمهم. يوم تظهر الأسرار. وتنكشف الأستار. ويتجلى الملك الجبار. فكيف تعصون الله وقد أقررتم بربوبيته. وكيف تسخطونه وقد علمتم كمال عظمته. فيا عباد الله أطيعوا الله يصلح لكم أعمالكم ويعطف عليكم القلوب. واجتنبوا معاصي الله فالوعيد غير مكذوب
خطبة له لجمادى الأولى
الحمد لله مظهر الحمد ومبديه. ومنجز الوعد وموفيه. ومعد العبد ومشقيه. ومرسل السحاب ومنشيه. الذي يجيب دعوة داعيه. ويقبل توبة العاصي وإن كثرت معاصيه. أحمده سبحانه وتعالى حمدا يوافي إنعامه ويكافيه. أيها الناس داركوا ما فرط من أيام البطالة. فسيلقى كل عامل منكم أعماله. يوم يستقيل فلا يجاب إلى الإقالة. يعض أنامله على الضلالة. يوم تحشر فيه للعرض. على ديان السماوات والأرض. يوم تزدحم فيه الخلائق قويا وضعيفا. ودينا وشريفا. ويصير على كل قدم ألف قدم فلا يستطيع أحد عن نفسه دفعا ولا تخفيفا. وتنشر الدواوين. وتطاير الصحف وتنصب الموازين. والملائكة قد حفوا بالخلائق أجمعين. وقد خشعت الأصوات للرحمن. قد تجلى الملك الديان. هنالك تشيب الأطفال. وتوضع في الأعناق الأغلال. ويقاد المجرمون إلى جهنم وأهل الضلال. فهذا مأخوذ(5/25)
بناصيته. وهذا مسحوب على جبهته ووجهه وهذا قد سامحه ربه ونجاه. وهذا يقول وافضحتاه واسؤتاه. وهذا ألف غش في الحساب. وهذا يدعو فلا يجاب وهذا رحمه الملك التواب. وهذا قربه رب الأرباب. وهذا أبعده وانقطعت عنه الأسباب. فكيف حال العاصي قليل الأعمال. كثير الجهل والضلال. في هذا اليوم الشديد النكال. الكثير الأهوال. فيا عباد الله توبوا إلى الله وقدموا الأعمال الصالحات. وأقلعوا عن الذنوب والسيئات. لتلبسوا بين يدي الله تكريما وتشريفا. ولا تتبعوا كيد الشيطان إن كيد الشيطان كان ضعيفا
نخبة من ديوان خطب ابن نباتة
خطبة لشهر صفر
الحمد لله الرقيب على عباده. ألقريب من أهل صحبته ووداده. ألقاهر من حاربه من عباده. ألقامع من نازعه ودافعه عن مراده. أحمده سبحانه وتعالى على ما أولانا من مننه وإمداده. إبن آدم كم لله عليك من نعمة أنت لها كاتم. وكم له لديك من نقمة أنت مع موجدتها كاظم. لو تفكرت في أحوالها لرأيتها مشحونة بالعظائم. ولو تدبرت في الوجود لرأيته ساعيا في مصالحك كالخادم. فوا عجبا تعد النقم. وتنسى النعم. وربما كانت النقمة نعمة عند فهم الذكي العاقل العالم. كم في الفقر من أجر وكم في الضر من تكفير سيئة ودفع مأثم. فما ربك بظلام للعبيد بل هو عادل في كل ما هو به حاكم. فيا مشغولا(5/26)
بالإعراض عن مولاك أفق فإنك في الحسب غالط وفي دعواك ظالم. إن أحرمك مرة فكم من مرة أعطاك. وإن أسقمك يوما فكم من أيام عافاك. فو الله لولا رحمته ما دفع عنك المآلم. ولا أوصل إليك المكارم. كم عاملك وعالم فكيف إذا عبدته بالأركان. ومجدته باللسان. ووحدته بالجنان. وكنت في محبته كالهائم. فو الله ما عز شيء إلا وهان. ولاتم أمر إلا وأخذ في النقصان. وما أطاعه عبد مع الإخلاص إلا وغمره ببحر جوده المتلاطم
وله من خطبة في الصلاة
تارك الصلاة إذا وضع في قبره وأهيل عليه التراب بالمسحاة يخاطبه القبر بلسان فصيح وألفاظ معربات. لا أهلا بك ولا سهلا يا من ضيع في الدنيا حقوق رب المخلوقات. يا طول ما مشيت على ظهري وتركت الصلوات. وسهوت عنها بالشهوات واللذات. اليوم تنظر مني عذابا لا تطيقه الجبال الراسيات. فيضمه القبر ضمة واحدة. فتصير أضلاعه مختلفات. فاتقوا الله حق تقواه في جميع الأوقات
وله من غيرها
أيها الناس قرب الرحيل وأنتم عن الطاعة غافلون. وأنقصت الآجال وأنتم على المعاصي عاكفون. وترادفت الأهوال وأنتم في طغيانكم تعمهون. فهل أنتم على ثقة من الحياة والقرار. أم بينكم وبين(5/27)
الله عهد على البقاء في هذه الدار. كلا والله إنكم منها راحلون ولنعيمها مفارقون أما تعتبرون بمن مضى من الأموات. أما تخافون من العرض على رب السماوات. أما ترون أهوال القيامة وقد تواردت. أما ترون القلوب من الحسد عن بعضها تنافرت. أما ترون الفواحش وقد أصبحت ظاهرة. أما ترون الهمم عن الخيرات قاصرة. أما ترون أن البدع قد كثرت وعمت. أما ترون الفتن غلبت وطمت. أما ترون أن الأمانة قد ذهبت وضاعت. أما ترون الخيانة قد كثرت وشاعت. فكأني بكم وقد طرقكم طارق المنون. وأخذكم بغتة وأنتم لا تشعرون. فتنبهوا رحمكم الله قبل هجوم الموت. وتزودوا الآخرتكم قبل الفوت. قبل العرض على الملك الجبار. قبل كشف الأسرار. قبل يوم القصاص. قبل تعذر الخلاص. قبل دنو الشمس من الرؤوس. قبل هلاك الأرواح والنفوس
خطبة لابن رندقة الطرطوشي
يا أيها الرجل (وكلنا ذلك الرجل) ألق إلى سمعك وأعرني لبك فإن كنت لا تدري متى الموت فاعلمن بأنك لا تبقى إلى آخر الدهر أين آدم أبو الأولين والآخرين. أين إبراهيم خليل رب العالمين. أين الأمم الماضية. أين الملوك السالفة أين القرون الخالية. أين الذين نصبت على مفارقهم التيجان. أين الذين اعتزوا بالأجناد والسلطان. أين أصحاب السطوة والولايات. أين الذين خفقت على رؤوسهم الألوية(5/28)
والرايات. أين الذين قادوا الجيوش والعساكر. أين الذين عمروا القصور والدساكر. أين الذين اقتحموا المخاطر والمخاوف. أين الذين دانت لهم المشارق والمغارب. أين الذين تمتعوا في اللذات والمآرب. أين الذين تاهوا على الخلائق كبرا وعتيا. أين الذين راحوا في الحلل بكرة وعشيا. أين الذين استلانوا الملابس أثاثا ورئيا. وكم أهلكنا قبلهم من قرن هم أحسن أثاثا ورئيا. أين الذين ملأوا ما بين الخافقين عزا. أين الذين فرشوا القصور خزا وقزا. أين الذين تضعضعت لهم الأرض هيبة وهزا. أين الذين استذلوا العباد قهرا ولزا. هل تحس منهم من أحد أو تسمع لهم ركزا. أفناهم والله مفني الأمم. وأبادهم مبيد الرمم. وأخرجهم من سعة القصور. وأسكنهم في ضنك القبور. تحت الجنادل والصخور. فأصبحوا لا ترى إلا مساكنهم فعاث الدود في أجسامهم. واتخذ مقيلا في أبدانهم. فسالت العيون على الخدود وامتلأت تلك الأفواه بالدود. وتساقطت الأعضاء وتمزقت الجلود. فلم ينفعهم ما جمعوا ولا أغنى عنهم ما كسبوا. أسلمك الأحبة والأولياء. وهجرك الإخوان والأصفياء. ونسيك القرباء والبعداء. فأنسيت ولو نطقت لأنشدت قولنا عن سكان الثرى. ورهائن الترب والبلى:
مقيم بالحجون رهين رمس ... وأهلي رائحون بكل واد
كأني لم أكن لهم حبيبا ... ولا كانوا الأحبة في السواد(5/29)
فعوجوا بالسلام فإن أبيتم ... فأوموا بالسلام على بعاد
فإن طال المدى وصفا خليل ... سوانا فاذكروا صفو الوداد
وذاك أقل ما لك من حبيب ... وآخره إلى يوم التناد
فلو أنا بموقفكم وقفنا ... سقينا الترب من مهج الفؤاد
وله أيضا
(يا أيها الرجل) اعتبر بمن مضى من الملوك والأقيال. وخلا من الأمم والأجيال. وكيف بسطت لهم الدنيا وأنسئت لهم الآجال. وأفسح لهم في المنى والآمال. وأمدوا بالآلات والعدد والأموال. كيف طحنهم بكلكله المنون. واختدعهم بزخرفه الدهر الخؤون. وأسكنوا بعد سعة القصور. بين الجنادل والصخور. وعاد العين أثرا. والملك خبرا. فأما اليوم فقد ذهب صفو الزمان وبقي كدره. فالموت تحفة لكل مرء كأن الخير أصبح خاملا والشر أصبح غائرا وأصبح الجور عاليا. وكأن العلم أصبح مدفونا والجهل منشورا. وكأن اللؤم أصبح باسقا والكرم ذاويا. وكأن الود أصبح مقطوعا والبغض موصولا. وكأن الكرامة قد سلبت من الصالحين ونوجي بها الأشرار. وكأن الخبيث أصبح مستيقظا والوفاء نائما. وكأن الكذب أصبح مثمرا والصدق قاحلا. وكأن الأشرار أصبحوا يسامون السماء وأصبح الأخيار يردون بطن الأرض. أما ترى(5/30)
الدنيا تقبل إقبال الطالب. وتدبر إدبار بالهارب. وتصل وصال الملول. وتفارق فراق العجول. فخيرها يسير. وعيشها قصير. وإقبالها خديعة. وإدبارها فجيعة. ولذاتها فانية. وتبعاتها باقية. فاغتنم غفوة الزمان. وانتهز فرصة الإمكان. وخذ من نفسك لنفسك. وتزود من يومك لغدك. ولا تنافس أهل الدنيا في خفض عيشهم. ولين ريشهم. ولكن انظر إلى سرعة ظغنهم وسوء منقلبهم.
من خطبة للسان الدين ابن الخطيب في ذم الكسل
ألكسل مزلقة الربح. ومسخرة الصبح. إذا رقدت النفس في فراش الكسل استغرقها نوم الغفلة. لو كنا نسمع أو نعقل ما كنا في أصحاب السعير. الندامة في الكسل. كالسم في العسل. الكسل آفة الصنائع. وأرضه في البضائع. العجز والكسل. يفتحان الخمول ولا تسل. الفلاح إذا مل الحركة. عدم البركة.
ظهران لا يبلغان المرء إن ركبا ... باب السعادة ظهر العجز والكسل
وفي اغتنام الأنام من أضاع الفرصة. تجزع الغصة. إن كان لك من الزمان شيء فالحال. وما سواه فمحال. تارك أمره إلى غد. لا يفلح للأبد. الإنسان ابن ساعته. فليحطها من إضاعته. التسويف سم الأعمال. وعدو الكمال. لم يحرم المبادرة. إلا في النادر. ما درجت أفراخ ذل إلا من وكر طماعة. ولا بصقت فروع ندم غلا من جرثومة إضاعة. العزم سوق. والتاجر الجسور مرزوق. من وثق بعهد الزمان.(5/31)
علقت يداه بحبال الحرمان. الربح في ضمن الجسارة. والمضيع أولى بالخسارة (نفخ الطيب للمقري)
خطبة الخلفاء
خطبة أبي بكر عندما بويع بالخلافة
أيها الناس إني قد وليت عليكم ولست بخيركم. والضعيف فيكم قوي عندي حتى آخذ الحق له. والقوي منكم الضعيف عندي حتى آخذ الحق منه. لا يدع أحد منكم الجهاد في سبيل الله. فإنه لا يدع قوم إلا ضرب به الله بالذل. ولا تشيع الفاحشة في قوم إلا عمهم الله بالبلاء. وإنما أنا متبع ولست بمبتدع. فإن استقمت فتابعوني. وإن زغت فقوموني. وإنكم تردون وترحمون في أجل قد غيب عنكم علمه. فإن استطعتم ألا يمضي هذا الأجل إلا وأنتم في عمل صالح فافعلوا. وإن الله لا يقبل من الأعمال إلا ما أريد به وجهه. فأريدوه بأعمالكم وإن ما أخلصتم لله من أعمالكم فطاعة أتيتموها وخطأ ظفرتم به وضرائب أديتموها وسلف قدمتموه من أيام فانية لأخرى باقية لحين فقركم وحاجتكم. اعتبروا عباد الله بمن مات منكم وتفكروا فيمن كان قبلكم أين كانوا أمس وأين هم اليوم. أين الجبار. أين الذين كان لهم ذكر القتال والغلبة في مواطن الحروب. قد تضعضع بهم الدهر وصاروا رميما. قد تركت عليهم القالات الخبيثات والخبيثين والخبيثون للخبيثات. وأين الملوك الذين أثاروا(5/32)
الأرض وعمروها قد بعدوا وأنسي ذكرهم وصاروا كلا شيء. ألا وقد أبقى الله عليهم التبعات وقطع عنهم الشهوات. ومضوا والأعمال أعمالهم والدنيا دنيا غيرهم. وبقينا خلفاً بعدهم. فإن نحن اعتبرنا بهم نجونا وإن اغتررنا كنا مثلهم. أين الوضاء الحسنة وجوههم المعجبون بشبابهم. صاروا ترابا وصاروا ما فرطوا فيه حسرة عليهم. أين الذين بنوا المدائن وحصنوها بالحوائط وجعلوا فيها الأعاجيب قد تركوها لمن خلفهم. فتلك مساكنهم خاوية وهم في ظلمات القبور. هل تحس فيهم من أحد وتسمع لهم ركزا. أين من تعرفون من أبنائكم وإخوانكم قد انتهت بهم آجالكم. فوردوا على ما قدموا فحلوا عليه وأقاموا للشقوة والسعادة بعد الموت. ألا إن الله ليس بينه وبين أحد من خلقه سبب يعطي به خيرا ولا يصرف به عنه سوء إلا بطاعته وإتباع أمره. واعلموا أنكم عبيد مدينون وأن ما عنده لا يدركه إلا بطاعته. أما إنه لا خير بخير بعده النار ولا شر بشر بعده الجنة (من تاريخ الطبري باختصار)
خطبة لعلي بن أبي طالب
(حمد الله وأثنى عليه ثم قال) : أوصيكم عباد الله ونفسي بتقوى الله ولزوم طاعته وتقديم العمل وترك الأمل. فإنه من فرط في عمله. لم ينتفع بشيء من أمله. أين التعب بالليل والنهار. المقتحم للجج البحار. ومفاوز القفار. يسير من وراء الجبال. وعالج الرمال.(5/33)
يصل الغدو بالرواح والمساء بالصباح. في طلب محقرات الأرباح. هجمت عليه منيته. فعظمت بنفسه رزيته. فصار ما جمع بورا. وما اكتسب غرورا. ووافى القيامة محسورا. أيها اللاهي الغار بنفسه كأني بك وقد أتاك رسول ربك لا يقرع لك بابا. ولا يهاب لك حجابا. ولا يقبل منك بديلا. ولا يأخذ منك كفيلا. ولا يرحم لك صغيرا. ولا يوقر فيك كبيرا. حتى يؤديك إلى قعر مظلمة. أرجاؤها موحشة. كفعله بالأمم الخالية. والقرون الماضية. أين من سعى واجتهد وجمع وعدد. وبنى وشيد وزخرف ونجد. وبالقليل لم يقنع. وبالكثير لم يمتع. أين من قاد الجنود. ونشر البنود. أضحوا رفاتا. تحت الثرى أمواتا. وأنتم بكأسهم شاربون. ولسبيلهم سالكون. عباد الله فاتقوا الله وراقبوه واعملوا لليوم الذي تسير فيه الجبال. وتشقق السماء بالغمام. وتطاير الكتب عن الأيمان والشمائل (لابن عبد ربه)
خطبة أخرى له حماسية
لما أغار سفيان بن عوف الأسدي على الأنبار في خلافة علي وعليها حسان البكري فقتله وأزال تلك الخيل عن مسارحها. فخرج علي حتى جلس على باب السدة فحمد الله وأثنى عليه ثم قال:
أما بعد فإن الجهاد باب من أبواب الجنة. فمن تركه ألبسه الله ثوب الذل وأشمله البلاء وألزمه الصغار وسامه الخسف. ومنعه النصف. ألا وإني دعوتكم إلى قتال هؤلاء القوم ليلا ونهارا وسرا وإعلانا. وقلت لكم: اغزوهم قبل أن يغزوكم فو الله ما غزي قوم(5/34)
قط في عقر دارهم إلا ذلوا. فتواكلتم وتخاذلتم وثقل عليكم قولي. فاتخذتموه وراءكم ظهريا حتى شنت عليكم الغارات. هذا أخو غامد قد بلغت خيله الأنبار وقتل حسان البكري. وأزال خيلكم عن مسارحها وقتل منكم رجالا صالحين ثم انصرفوا وافرين ما كلم رجل منهم. فلو أن رجلا مسلما مات من بعد هذا أسفا ما كان عندي ملوما بل كان به عندي جديرا. فوا عجبا من جد هؤلاء في باطلهم وفشلكم عن حقكم. فقبحا لكم وترحا حين صرتم غرضا يرمى يغار عليكم ولا تغيرون. وتغزون ولا تغزون. ويعصى الله وترضون. فإذا أمرتكم بالمسير إليهم في أيم الحر قلتم: حمارة القيظ أمهلنا حتى يسبخ عنا الحر. وإذا أمرتكم بالمسير إليهم ضحى في الشتاء قلتم أمهلنا حتى ينسلخ عنا هذا القر. فأنتم والله من السيف أفر يا أشباه الرجال ولا رجال. ويا أحلام أطفال وعقول ربات الحجال. وددت أن الله أخرجني من بين أظهركم وقبضني إلى رحمته من بينكم وأني لم أركم ولم أعرفكم معرفة. ولله حرت وهنا ووريتم والله صدري غيظا. وجرعتموني الموت أنفاسا. وأفسدتم علي رأيي بالعصيان والخذلان حتى قالت قريش: إن ابن أبي طالب شجاع ولكن لا علم له بالحرب. لله أبوهم وهل منهم أحد أشد لها مراسا وأطول تجربة مني لقد مارستها وأنا ابن عشرين. فها أنا ذا قد نفيت على الستين. ولكن لا رأي لمن لا يطاع (عن نهج البلاغة والعقد الفريد والأغاني)(5/35)
خطبة عمر بن العزيز بخناصرة
أيها الناس إنكم لم تخلقوا عبثا ولم تتركوا سدى. وإن لكم معادا يحكم الله بينكم فيه. فخاب وخسر من خرج من رحمة الله التي وسعت كل شيء وحرم جنة عرضها السماوات والأرض. واعلموا أن الأمان غدا لمن يخاف اليوم وباع قليلا بكثير وفانيا بباق. ألا ترون أنكم في أصلاب الهالكين. وسيخلفها من بعدكم الباقون حتى يردوا إلى خير الوارثين. ثم إنكم في كل يوم تشيعون غاديا ورائحا إلى الله قد قضى نحبه وبلغ أجله. ثم إنكم في كل يوم تشيعون غاديا ورائحا إلى الله قد قضى نحبه وبلغ أجله. ثم تغيبونه في صدع من الأرض ثم تدعونه غير موسد ولا ممهد. قد خلع الأسباب. وفارق الأحباب. وواجه الحساب. غنيا عما ترك فقيرا إلى ما قدم. وأيم الله إني لأقول لكم هذه المقالة وما أعلم عند أحد منكم أكثر مما عندي. وأستغفر الله لي ولكم وما تبلغنا حاجة يتسع لها ما عندنا إلا سددناها. ولا أحد منكم إلا وددت أن يده مع يدي ولحمتي الذين يلونني حتى يستوي عيشنا وعيشكم. وأيم الله إني لو أردت غير هذا من عيش أو غضارة لكان اللسان به ناطقا ذلولاً عالماً بأسبابه. ولكنه مضى من الله سنة عادلة دل فيها على طاعته ونهى عن معصيته
خطبة الخليفة المهدي
الحمد لله الذي ارتضى الحمد لنفسه ورضي به من خلقه. أحمده على(5/36)
آلائه. وأمجد لبلائه. وأستعينه وأومن به وأتوكل عليه توكل راض بقضائه وصابر لبلائه ... أوصيكم عباد الله بتقوى الله فإن الاقتصار عليها سلامة. والترك لها ندامة. وأحثكم على إجلال عظمته وتوقير كبريائه وقدرته. والانتهاء إلى ما يقرب من رحمته. وينجي من سخطه وينال به ما لديه من كريم الثواب. وجزيل المآب. فاجتنبوا ما خوفكم الله من شديد العقاب. وأليم العذاب. ووعيد الحساب. يوم توقفون بين يدي الجبار. وتعرضون فيه على النار. يوم لا تتكلم نفس إلا بإذنه فمنهم شقي وسعيد. يوم يفر المرء من أخيه. وأمه وأبيه وصاحبه وبنيه. لكل امرىء منهم يومئذ شأن يغنيه. يوم لا تجزي نفس عن نفس شيئا ولا يقبل منها عدل ولا تنفعها شفاعة ولا هم ينصرون. يزم لا يجزي والد عن ولده ولا مولود هو جاز عن والده شيئا. إن وعد الله حق فلا تغرنكم الحياة الدنيا ولا يغرنكم بالله الغرور. فإن الدنيا دار غرور وبلاء وشرور. واضمحلال وزوال. وتقلب وانتقال. قد أفنت من كان قبلكم وهي عائدة عليكم وعلى من بعدكم. من ركن إليها صرعته. ومن وثق بها خانته. ومن أملها كذبته. ومن رجاها خذلته. عزها ذل وغناها فقر. والسعيد من تركها والشقي فيها من آثرها. والمغبون فيها من باع حظه من دار آخرته بها. فالله الله عباد الله والتوبة مقبولة والرحمة مبسوطة. وبادروا بالأعمال الزكية في هذه الأيام الخالية قبل أن يؤخذ بالكظم وتندموا فلا(5/37)
تنالون الندم يوم حسرة وتأسف. وكآبة وتلهف. يوم ليس كالأيام. وموقف ضنك المقام
من خطبة لهارون الرشيد
الحمد لله نحمده على نعمه ونستعينه على طاعته ونستنصره على أعدائه. ونؤمن به حقا ونتوكل عليه مفوضين إليه.. أوصيكم عباد الله بتقوى الله فإن في التقوى تكفير السيئات. وتضعف الحسنات وفوزا بالجنة ونجاة من النار. وأحذركم يوما تشخص فيه الأبصار. وتبلى فيه الأسرار. يوم البعث ويوم التغابن ويوم التلاقي ويوم التنادي. يوم لا يستغتب من سيئة ولا يزداد في حسنة. يوم الآزفة إذ القلوب لدى الحناجر كاظمين. ما للظالمين من حميم ولا شفيع يطاع. يعلم خيانة الأعين وما تخفي الصدور.. فاتقوا يوما ترجعون فيه إلى الله. ثم توفى كل نفس ما كسبت. حصنوا إيمانكم بالأمانة ودينكم بالورع وصلاتكم بالزكاة.. وإياكم والأماني فقد غررت وأوردت وأوبقت كثيرا حتى أكذبتهم مناياهم. فتناوشوا التوبة من مكان بعيد وحيل بينهم وبين ما يشتهون فرغب ربكم عن الأمثال والوعد وقدم إليكم الوعيد. وقد رأيتم وقائعه بالقرون الخوالي جيلا فجيلا. وعهدتم الآباء والأبناء والأحبة والعشائر باختطاف الموت إياهم من بيوتكم ومن بين أظهركم لا تدفعون عنهم ولا تولون دونهم. فزالت عنهم الدنيا وانقطعت بهم الأسباب فأسلمتم إلى أعمالهم عند(5/38)
المواقف والحساب. ليجزي الذين أساءوا بما عملوا والذين أحسنوا بالحسنى
خطبة المأمون في الفطر
(قال بعد التكبير والتحميد) : ألا وإن يومكم هذا يوم عيد وسنة وابتهال ورغبة. يوم ختم الله به صيام شهر رمضان وافتتح به حج بيته الحرام. فجعله أول أيام شهور الحج وجعله معقبا لمفروض صيامكم ومقتبل قيامكم. فاطلبوا إلى الله حوائجكم واستغفروه بتفريطكم. فإنه يقال: لا كثير مع ندم واستغفار. ولا قليل مع تماد وإصرار. (ثم قال:) اتقوا الله عباد الله وبادروا الأمر الذي لم يحضر الشك فيه أحدا منكم وهو الموت المكتوب عليكم. فإنه لا يستقال بعده عثرة ولا تخطر قبله توبة. اعلموا أنه لا شيء بعده إلا فوقه ولا يعين على جرعه وعكره وكربه وعلى القبر وظلمته ووحشته وضيفه وهول مطلعه ومسئلة ملكيه إلا العمل الصالح الذي أمر الله به. فمن زلت عند الموت قدمه فقد ظهرت ندامته. وفاتته استقامته. ودع من الرجعة إلى ما لا يجاب إليه وبذل من الفدية ما لا يقبل منه. فالله الله عباد الله كونوا قوما سألوا الرجعة فأعطوها إذ منعها الذين طلبوها. فإنه ليس يمنى المتقدمون قبلكم إلا هذا الأجل المبسوط لكم. فاحذروا ما حذركم الله منه واتقوا اليوم الذي يجمعكم الله فيه. لوضع موازينكم ونشر صحفكم الحافظة لأعمالكم. فلينظر عبد ما يضع في ميزانه مما يثقل به وما يملى في صحيفته الحافظة لما عليه ...(5/39)
ولست أنهاكم عن الدنيا بأكثر مما نهيتكم به الدنيا عن نفسها. فإن كل ما بها يحذر منها وينهى عنها وكل ما فيها يدعو إلى غيرها. وأعظم ما رأته أعينكم من فجائعها وزوالها ذم الله لها والنهي عنها فإنه يقول تبارك وتعالى: فلا تغرنكم الحياة الدنيا ولا يغرنكم بالله الغرور. وقال: إنما الحياة الدنيا لعب ولهو وزينة وتفاخر بينكم وتكاثر في الأموال والأولاد. فانتفعوا بمعرفتكم بها ,بإخبار الله عنها واعلموا أن قوما من عباد الله أدركتهم عصمة الله. فحذروا مصارعها وجانبوا خدائعها. وآثروا طاعة الله فيها وأدركوا الجنة بما يتركون منها
خطبة قطري بن الفجاءة التميمي في منبر الأزارقة في ذم الدنيا
أما بعد فإني أحذركم الدنيا فإنها حلوة خضرة حفت بالشهوات وراقت بالقليل. وتجلببت بالعاجل وغمرت بالآمال. وتحلت بالأماني وزينت بالغرور. لا تدوم زهرتها ولا تؤمن فجعتها. غرارة ضرارة. وحائلة زائلة. ونافدة بائدة. لا تعدو إذا تناهت إلى أمنية أهل الرغبة فيها والرضا بها أن تكون كما قيل: كماء أنزلناه فاختلط به نبات الأرض فأصبح هشيما. مع أن امرأ لم يكن منها في حبرة ألا عقبته بعدها عبرة. ولم يلق من سرائها بطنا. إلا منحته من ضرائها ظهرا. ولم تطله منها ديمة رخاء. إلا هطلت عليه مزنة بلاء. وحري إذا أصبحت له منتصرة أن تمسي له خاذلة متنكرة. وإن جانب منها اعذوذب واحلولى أمر عليه منها جانب فأوبا. وإن ليس امروء من غضارتها(5/40)
ورفاهيتها نعما أرهقته من نوائبها غما. ولم يمس امروء منها في جناح أمن إلا أصبح منها في قوادم خوف. غرارة غرور ما فيها باقية فان ما عليها لا خير في شيء من زادها إلا التقوى. من أقل منها استكثر مما يؤمنه. ومن استكثر منها لم يدم له. وزال عما قليل عنه استكثر ما يوبقه. كم واثق بها قد فجعته وذي طمأنينة إليها قد صرعته. وكم من احتال بها قد خدعته. وكم ذي أبهة فيها قد صيرته حقيراً وذي نخوة فيها قد ردته ذليلا. وذي تاج قد كبته لليدين والفم. سلطانها دول وعيشها رنق. وعذبها أجاج. وحلوها مر وغذاؤها سمام. وأسبابها زحام وقطافها سلع. حيها بعرض موت وصحيحها بعرض سقم. ومنيعها بعرض اهتضام. مليكها مسلوب وعزيزها مغلوب. وضعيفها وسليمها منكوب. وجارها وجامعها محروب. مع أن من وراء ذلك سكرات الموت وزفراته وهول المطلع والوقوف بين يدي الحكم العدل. ليجزي الذي أساؤا بما عملوا ويجزي الذين أحسنوا بالحسنى. ألستم في مساكن من كان منكم أطول أعمارا وأوضح آثارا وأعد عديدا وأكثف جنودا وأعتد عتاداً وأطور عناداً. تعدوا الدنيا أي تعبد وآثروها أي إيثار وظعنوا عنها بالكره والصغار. فهل بلغكم أن الدنيا سمحت لهم بفدية. وأغنت عنهم مما قد أملتهم به بخطب بحيلة. بل أرهقتهم بالفوادح وضعضعتهم بالنوائب وعفرتم للمناخر. وأعانت عليهم ريب المنون وأرهقتهم بالمصائب وقد رأيتم تنكرها(5/41)
لمن دان لها وآثرها وأخلد إليها. حتى ظعنوا عنها لفراق الأبدي. إلى آخر الأمد. هل زودتهم إلا الشقاء وأحلتهم إلا الضنك. أو نورت لهم غلا الظلمة. وعاقبتهم إلا الندامة أفهذه تؤثرون. أو على هذه تحرصون أو إليها تطمئنون. فبئست الدار لمن لم يتهمها ولم يكن فيها غلى وجل منها. اعلموا وأنتم تعلمون أنكم تاركوها الأبد فإنما هي لعب ولهو وزينة وتفاخر بينكم وتكاثر في الأموال والأولاد. فاتعظوا فيها بالذين يبنون بكل ريع آية تبعثون وتتخذون مصانع لعلكم تخلدون. وبالذين قالوا من أشد منا قوة. واتعظوا بمن رأيتم من إخوانكم كيف حملوا إلى قبورهم فلا يدعون ركبانا. وأنزلوا فلا يدعون ضيفانا. وجعل لهم من الضريح أكنان. ومن التراب أكفان. ومن الرفات جيران. فهم جيرة لا يجيبون داعيا ولا يمنعون ضيما. إن أخصبوا لم يفرحوا. وإن قحطوا. لم يقنطوا. جمع وهم آحاد. جيرة وهم أبعاد. متناؤون وهم يزارون ولا يستزيرون. حلماء قد ذهبت أضغانهم. وجهلاء قد ماتت أحقادهم. لا يخشى فجعهم. ولا يرجى دمعهم. وهم كمن لم يكن. إستبدلوا بظهر الأرض بطنا وبالسعة ضيفا وبالآل غربة وبالنور ظلمة. فجاؤوها حفاة عراة فردى غير أن ظعنوا بأعمالهم إلى الحياة الدائمة إلى خلود الأبد. فاحذروا ما حذركم الله وانتفعوا بمواعظه واعتصموا بحبله عصمنا الله وإياكم بطاعته ورزقنا وإياكم أداء حقه (لابن عبد ربه)(5/42)
نخبة من كتاب تراجم الأعياد السيدية لابن الحديثي المعروف بابي الحليم
خطبة للصوم الكبير المبارك للقس روبيل الدنيسري
الحمد لله المحير الذي لا يجار عليه. القدير الذي لا ملجأ منه إلا إليه. مبدئ الخلق ومعيده. ومنشئ الرزق ومفيده. مسير مشرقات النجوم ومغيرها. ومدبر حركات الأفلاك ومديرها. ألمدرك المقيت. ألمهلك المميت. الذي صور أصناف الخليقة فأبدع تصويرها. وقرر اختلاف أجناسها فأحسن في تقديرها. ونشر رحمته على ضعفها وقويها. وصغيرها وكبيرها. الذي لا يراد في حكمته ولا يراجع. سامك السماء. بغير عمد في الهواء. وساطح الأرض طافية على تيار الماء. أحمده والحمد من نعمه. وأعول في القبول غلى كرمه. حمدا لا يكون لمتصله انفصال. على ما لا يدرك شكره ولا ينال. لا شريك له ولا ضد. ولا عديل ولا ند. ألحي الذي لا يموت ولا يبلى. ألقيوم الذي لا يسمى بما سمى نفسه ولا يكنى. أيها الناس أسيموا القلوب في هذا الصوم المبارك في رياض الحكم. وأديموا النحيب على ابيضاض اللمم. إلزموا التقوى يلزمكم وقارها. واحتموا الدنيا يحتمكم صغارها. أوصيكم عباد الله وإياي بتقوى الله فإنها عروة ما لها انفصام. وذروة ما لها انهدام. وقدوة يؤم إليها الكرام. وجذوة تضيء بها الأفهام. من تعلق بحبلها حمته محذور العاقبة. ومن تحقق بحملها وقته(5/43)
شرور كل نائبة. قيدوا ألسنتكم من الخوض في الباطل. واقطعوا عن النطق بغيبة كل غافل. ألا وإن عثرة الرجل سريع اندمالها. وعثرة اللسان فظيع وبالها. ومن أبصر عيوب نفسه عمي عمن سواه. ومن هتك عرض أخيه كان خصمه الله. قد عمتكم رحمكم الله من الصوم النعمة السابغة. ولزمتكم من الله الحجة البالغة. ألا وإنه صوم جعله الله مصباح العام. وواسطة النظام. وأشرف قواعد النصرانية بنور الصيام. فتأهبوا رحمكم الله لهذه الأيام الشريفة المباركة ولاغتنام وردها. فكم طليق فيها من وثاق الذنوب. وحقيق بنيل كل مطلوب. ينزل الله لكم فيها الأرزاق. ويجعل ببركتها فكاك الأعناق. فاهربوا إلى الله يا عباد الله فيها من سوء الاجتراح. واطلبوا منه حوائجكم تظفروا بالنجاح. فلا دعاء فيه إلا مسموع. ولا عمل فيه إلا مرفوع. ولا خير إلا مجموع. ولا ضر إلا مدفوع. يا أيها العاقل هذا أوان ازديادك واستماعك. ويا أيها الغافل هذا وقت تيقظك واقتلاعك. ما سأل الله فيها سائل إلا أعطاه. ولا استجار به مستجير إلا أعزه وكفاه. فرحم الله امرأ تيقظ قلبه من سنة هواه. واختار لنفسه ما يحمده من سواه. قبل أن تترامى به الأقدار. ويحل به الحذار. وتوحش منه الديار. ولا يسمع منه الاعتذار. ولا يفصح بخطاب. ولا يسمع بجواب. مختطفا من الأحباب مرتهنا بالاكتساب. وحيدا في منزل الاغتراب. موجها يوم الحساب. أذي الأهل وأقرب(5/44)
الأصحاب. تجهزوا فقد ضرب فيكم بوق الرحيل. وبرزوا فقد قربت لكم نوق التحويل. ودعوا التمسك بخدع الأباطيل. والكون إلى التسويف والتعليل. أظلنا الله وإياكم في ذلك اليوم بظل عرشه. ووقانا وإياكم حلول أليم بطشه. وعدل بنا وبكم إلى سبيل السلامة. وحمل عنا وعنكم أعباء الظلامة. وجعل الإخلاص بتوحيده نورا لنا ولكم في ظلمات القيامة. ونزع منا ومنكم غل القلوب ورفع عنا وعنكم ذل الذنوب. وجمع لنا ولكم في الدارين كل محبوب. وأيدنا وإياكم يوم القيامة بالاستبصار بتصاريف أقداره. وأسعدنا وإياكم يوم الانبعاث بجواره
(دعاء للآباء) . ألهم احرس أيام أبي الآباء الجاثليق الفطرك الكبير الممجد واحجبه بحجاب العصمة. وخلصه من قوارع كل نقمة. وأسبل عليه ستور الرأفة والرحمة. وبلغه أقصى المراد والهمة. آمين أللهم وأسعد المولى فلانا بسعادة تبسط بها آمال أوليائه. وتقبض آجال أعدائه وافتح له أقفال القلوب. وأنجح له السؤال في المطلوب. وأحصنه من الدنيا وحتوفها. وسلمه من موارد خسوفها أللهم وجد على بني المعمودية بعصمة مانعة من اقتراف السيئات ونعمة جامعة لصنوف الخيرات. ورحمة ماضية لسوالف الخطيئات. أللهم وإذا انقضت من الدنيا أيامنا. وأزف عند الموت حمامنا. وأحاطت بنا الأقدار. وشخصت إلى قدوم الملائكة الأبصار. وعلا(5/45)
الأنين. وعرق الجبين. فمر أللهم ملك الموت بقبض أرواحنا شفيقا. وبنزع نفوسنا رؤوفا رفيقا. أللهم اغفر لنا ما أسررناه وما أعلناه. وما قدمن وأخرناه. وما أحصيته ونسيناه. وعلمته وجهلناه. ولا تدع لنا أملا إلا وبلغتناه. ولا سؤالا إلا وأنلتناه. ولا شرا إلا وكفيتناه. يا خير من عول عليه عبده ورجاه. برحمتك يا أرحم الراحمين. آمين
لذكر السيدة مريم العذراء الواقع بين عيد الميلاد وعيد الظهور
أحمد لله الذي أنار بأنوار الحكم مصابيح العقول. ألذي تنزه بالعزة أستار الظلام فعرفت سر العقل والعاقل والمعقول. ألذي تنزه بالعزة القدسية عن الأجناس والأنواع والفصول. وتقدس بسلطان الأحدية عن مشابهة الموضوع والمحمول. أذي أطلع شمس البرارة من مشرق سيدة النساء الطاهرة البتول. ودرع الكلمة الأزلية هيكلا ناسوتيا أظهره في العالم الكوني على هيئة الرسول. نحمده حمدا يقوده رائد التوفيق إلى أبواب القبول. ونشكره سرمدا على إيلاء الآلاء الضافية الأهداب والذيول. أيها المؤمنون انتقلت البيعة الأرثادكسية ابنة النور. من شرف إلى شرف ومن نور إلى نور. ومن الحبور بالميلاد الغريب. إلى السرور بذكر والدة السر العجيب. من بكر الأعياد المخصوصة بالولد. إلى عيد البكر حافظة البكرية إلى الأبد. من الأفراح بعيد منير العقول. إلى طرب الأرواح بعيد السيدة البتول. هذا اليوم الذي خص(5/46)
بالهناء والخدمة. وأهدي فيه هدايا السلام للطاهرة الملآنة من النعمة. هذا اليوم الذي قرت ببهجته العيون. وسرت بفرحته قلوب الأبكار والعون. هذا اليوم الذي توقرت فيه الحسرة اليهودية. وافتخرت بيمن مطلعه الأسرة الدؤودية. هذا اليوم الذي صدقت فيه المخايل. وأعطيت البتول الطوبى من كل الأمم وقاطبة القبائل. أليوم تشرف قبيل النساء. قدمت ركائب الأفراح على النفساء. تحلى الجيد البتولي بدر العزة القعساء. خرت ساجدة في الإيوان المغاري جباه الأساورة الرؤساء. أليوم خمدت جمرات النوائر. همدت حرارت الشكوك الثوئر. أشرقت بنور المسيح أبصار البصائر. تأرجت أنواف الخلق بآراج التهاني والبشائر. أليوم صفت المناهل والموارد. تأنست قلوب الشوارد. أذعن بالعفاف المريمي كل ضال ومارد. نظر الأعداء سيدة النساء نظر الأسود الحوارد. أليوم طربت آفاق الغبراء. إبتهجت نفس السيدة العذراء. لاح صباح المنقبة الغراء. تفطرت مرائر اليهود الأغراء. أليوم خفقت بنود السعادة. نشرت أعلام الإفادة. صبت على شعب السيد المسيح بركات الولادة. وضعت على المفرق المريمي إكليل الجبلة الآدمية. تشرفت القرية البيت لحمية. فتقت بنور المسيح أبصار الخلق العمية. أليوم افتخرت الأنام وأقطار الورى.(5/47)
قهقرت الآثام والأوزار إلى الورا. تخرصت أفواه الاغمار بالقول الهراه رشق اليهود الأغبياء ذات التقى والطهارة بسهام الفرى. أليوم ظهرت الآيات العجيبة. بهرت المعجزات الغريبة. زالت كواذب الظنون عن الخطيبة. أزالت الآيات البواهر عن قلب يوسف مواقع الشكوك والريبة. فالواجب علينا الآن يا أمة السيد المسيح أن ندنو بالهمم والولاء إلى خدمة أم المسيح ونبجل بالاكرام عيد الدرة اليتيمة. نتلقى بالإعظام ذكر اللؤلؤة الغالية القيمة. نشاهد في إيوان المغارة. ذات التقى والطهارة. نحدق إلى سكينة القدس والرحمة. سرادق العز والعظمة. خزانة الأسرار السماوية. وصدفة درة الحياة الأبدية. مشرق الشمس الأزلية. ألسماء الثانية العلية. هيكل القدرة العظيمة. مقصورة النعمة الجسيمة. باب الأسرار الخفية. حجاب الأنوار البهية. درجة الشرف الإنسي. أوج الكوكب القدسي. دقيقة الرحمة الغريرة. حقيقة الحكمة المنيرة. ذات المباهي والمفاخر. نجلة البررة الأطهار والشرف الفاخر. مريم العذراء الصفية. متكئة على السدة المغلفية. وهي مجللة بالنور والبهاء. آذنة لمن رام الدخول وتقديم هدايا الهناء. نتأمل بعيون البصائر شرف الولادة. ونلمح سيدة النساء معتجرة برداء البهاء والسعادة. قد احتفت ملائكة السماء بسيدتها. واصطفت أجناد العلاء لخدمتها.(5/48)
نرى صبية خاملة الذكر مسكينة. نشاهد محيا قد مد عليه قناع الحياء والسكينة. فقيرة في العالم. أثرت بفقرها أبناء آدم. خاملة تخدمها الزمر الملائكية. حاملة لعقد التيجان على المفارق الملكية.
يتيمة لم يكن لها في فسيح الأرض مأوى. ضئيلة افتخرت بضآلتها أمها حوا. ننظر إلى ملوك المجوس وقد وضعوا التيجان على رؤوسهم وأدنو أصناف الهدايا والقرابين إلى ملكهم وقدوسهم. شدوا من قطمه على أسنة الرماح بنودا وأعلاما. واستكتبوا من ديوان رحمته لهم أمانا وذماما. نشاهد يوسف الشيخ العدول. واقفا على قدم الأفراح أمام البتول. قد أزال عن مكامن قلبه الهواجس والخطرات. واستنصل من زلة الظنون السوالف والأوهام الخطرات. قد أشحنت زوايا قلبه بالبهجة والمسرة. ولاح على وجهه البهي نور البشر والابتسام من أثناء الأسرة. يتعجب من الآيات الغرائب. ويتحجب لملوك الفرس بإدناء السلام وتقديم الحقائب. وقد أشعر نفسه بالهيبة. وترقرقت دموع الأفراح على وقار الشيبة. فلنسج نحن لهذه الرأفة العمميمة. ونشكر ترادف الآلاء والنعم الجسيمة. نملا الأفواه من التهليل والتسبيح. ونضفر أكاليل المدائح لأم السيد المسيح. نحمل هذه الآيات الظاهرة على صدق اليقين. ونؤمن بالآيات الباهرة إيمان المصدقين. نرفض ملابس الأوزار والذنوب. ونرحض بماء(5/49)
التوبة أوضار القلوب. نوطن النفوس على الصفح والإغضاء. ونستعد مع الأبكار الخمس بالمصابيح والأضواء. ولنتبع من القنايا البائدة ميمنة المسيح. ونتقيل بالملائكة الأطهار في التقديس والتسبيح. ونتشفع بصلاة زهرة البشرية. الزاهرة بالأنوار البهية. غمامة الأسرار العلية. التي أومضت منها بروق البتولية. ذات الوضاء الأشرق. والثناء الأفيح الأعبق. ألسيدة الطاهرة الزكية. سكينة القدرة العلية. أن يرفع الله عنا موارد النقم بصلاتها. ويجمع لنا شوارد النعم بدعائها وبركاتها. ويوفقنا للتعلق في يوم القيامة بأهدابها. ونكون في مجمع الأبرار من خواصها وأصحابها. ويؤهلنا لفعل نحوز به رضاه في طاعتها. ويجعلنا من أصحاب اليمين بصلاتها وشفاعتها. ويمزجنا بزمرة الآباء المؤيدين. وجميع الشهداء والقديسين. برحمته التي تعم الأحياء والميتين. ويسبغ سجالها على الخلق كافة أجمعين
لعيد السلاق (أي الصعود)
الحمد لله الذي هدانا إلى طريق الهدى وواضح منهاجه. وفتح لنا باب الملكوت بإقليد شرعه الفضلي بعد إغلاقه وإرتاجه. وثقف نوعنا البشري بالأوامر والنواهي من زيغه واعوجاجه. وقاده بأمة العناية إلى الحظائر القدسية بعد إباءته ولجاجه. وأرسل مخلص الكل ظاهرا بصورة الناسوت لإبراء جبلة آدم وعلاجه. فرتب له من قوانين شرعه الاختصاصي دواء أفضى إلى صحته وتعديل(5/50)
مزاجه. وشرف مفرقه بإكليل الملك الأبدي وتاجه. وأصعده سرا إلى قمم السماء يوم سلاقه ومعارجه. نحمده حمدا تقد في ظلماء القلوب أضواء سراجه. ونشكره شكرا تزهو كواكب الإخلاص في أفقه وأبراجه. أيها المؤمنون إن أسنى الأيام العظام. وأبهى المواسم وأحلى المواقيت الكرام. التي تفتر لها المضاحك والمباسم. يوم ختمت به معاقد الأعياد المسيحية. وسلمت قواعد الكهنوت إلى الزمر المسليحية. يوم رقيت فيه صفوة الجبلة البشرية إلى المحل الشامخ. واستوطأت صهوة العز الأبدي والشرف الباذخ. يوم توقل مخلص البرايا أشمخ الذروات العلية وأسمى القلل العواصم. هذا اليوم العظيم والميقات النبيه. والعيد الذي جلت مفاخره عن النظائر والتشبيه. هذا اليوم الذي أشرق فيه هلال الحق من سدف السرار. وتلت فيه نحور العقائد بقلائد الأسرار. هذا اليوم الذي تحققت فيه براهين الرجاء. هذا اليوم الذي رأته الأبصار فيه صاعدا على المناكب الأكروبية. ولمحته الأفكار قاعدا على منصة الرتب العلية. هذا اليوم الذي رش فيه طل الخيرات من غمام معينه. وأمطر سحائب البركات على الأنصار من يمن يمينه. أليوم فتحت أبواب مدينة الأطهار. نصيت ستور الأسرار عن بيعة الأبكار.(5/51)
طربت ملائكة السماء برئيس الأحبار. تبوأ مقعد العز الأبدي على منبر الأنوار. أليوم برحت الأسرار والخفايا. منحت الأذخار والعطايا. صفحت الأوزار والخطايا. صعد المسيح إلى العلاء وسبى السبايا. أليوم أفلت رجاء الأحياء والأموات. أرتجت أرجاء السماوات. حق النجاء لذوي الخطايا والهفوات. واستغفر المخلص لأمته كل الخطايا والزلات. أليوم انحسرت غمة العبودية. اكتأبت الأمة اليهودية. صحت الكلمة الداوودية. رقي المسيح بالمجد وأصوات القرون إلى سدة الأبدية. أليوم أخفقت أدلة الضلال. أشرقت أهلة الإقبال. أورقت غصون الآمال. رقيت صورة آدم من قعر الحضيض الأوهد إلى ذروات الكمال. أليوم هبت نسائم الرضاء والاختصاص. هبت نوائم آمال التلاميذ الخواص. أليوم قرت عيون الأملاك. تشرفت متون الأفلاك. سكن الشوق الآدمي واستراح. ملئت قلوب أهل السماء بالبهجة والأفراح. ملك صفوة جنسه إقليم السماء. شرف بأخص الألقاب وأحسن الأسماء. رقيت قلاعته إلى قلة السماء العلية. استوطنت أرائك النور في قصور الأزلية. استبشر سكان الصفيح الأعلى بإيابه. تعلقت الزمر الملائكية بذيوله وأهدابه. تبركت السماء بوطء أقدامه. برز الإذن من سرادق الأزلية بتعظيمه وإكرامه. سمعت ضجة الملائكة بتقريضه ومديحه. تعالت لجة الملإ الأعلى بتمجيده وتسبيحه.(5/52)
نستبشر نحن معاشر المؤمنين بسلاق السيد المسيح. نتقيل بأصناف الملائكة في السجود والتسبيح. نرفع الهمم عن مساقط الشهوات الأرضية. نقود القلوب بأزمة العزائم إلى الطريق المرضية. ننفض عن الأبدان قشور الكثافة. ونسربل الأذهان بنور اللطافة. نرقى إلى قلل العلى بأقدام الفكر. ونلحظ بأبصار النهي مخلصنا ابن البشر. نراه على سدة النور جالسا. وبالحضرة القدسية مستأنسا. وفي خدور النور مزفوفا. وبأجناد السماء محفوفا. نكتنف بظله الظليل الوارف. ونشكر أنعمه التوالد والطوارف. نتشبث بأهداب أثوابه. ونلصق الخدود خاضعة على أعتاب أبوابه. ونطلب من مظان رحمته. وديوان إحسانه ورأفته. أن يسبل ستور الرضوان على بوادي عيوبكم. ويروي بماء الغفران صوداي قلوبكم. ويجعل عيونكم بالرؤية المسيحية قريرة. وقلوبكم بأنوار البهجة العيدية فرحة مستنيرة. ووجوهكم يوم فيئته بادية السفور مشرقة الوضاء. ومصابيح أعمالكم مستعرة بالأنوار زاهرة الأضواء. ولا برحت غمائم البركات عليكم واكفة. ونسائم الخيرات متتابعة الهبوب مترادفة. وأبواب السماء لدعواتكم مفتوحة. وخطاياكم وآثامكم بالعفو والغفران مصفوحة. وإذا ما آب مخلصكم من سماء عزته. وأشرق نور لوائه الأزهر على أشخاص أمته. يجعلكم مع الأصفياء في زمرته. ويقعدكم على سدد النور مع أهل الاصطفاء عن
ميمنته. آمين(5/53)
الباب الثالث
في الأمثال
نخبة من أمثال العرب للميداني
آخر الدواء الكي * آفة المروءة خلف الموعد * آكل لحمي ولا أدعه لآكل * آكل من السوس * آكل من ضرس * آكل من نار * آلف من حمام مكة * آلف من الحمى * آلف من غراب عقدة * آلف من كلب * آمن من الأرض * آب وقدح الفوزة المنيح * أبت الدراهم إلا أن تخرج أعنقاها * أبخل من ذي معذرة * أبخل من صبي * أبخل من الضنين بنائل غيره * أبخل من كلب * إبدأهم بالصراخ يفروا * أبرد من بزد الكوانين * أبرد من جربياء * أبرد من عضرس * أبرد من غب المطر * أبرد ممن يستعمل النحو في الحساب * أبشع من(5/54)
مثل غير سائر * أبصر من عقاب ملاع * أبصر من فرس بيهماء في غلس * أبطأ من غراب نوح * أبغض من الشيب إلى الغواني * أبغى من المحبرة * أبغض من وجوه التجار يوم الكساد * أبقى على الدهر من الدهر * أبقى من وحي في حجر * أبكى من اليتيم * إبلي لم أبع ولم أهب * ابن آدم حريص على ما منع عليه * إبنه على كتفه وهو يطلبه * أبين من فلق الصبح * أتبع الحسنة السيئة تمحها * أتت عليه أم اللهيم * اتخذ الباطل دخلا * أترب فندح * أترف من ربيب نعمة * أترك الشر يترك * إتكلنا منه على خص * أتمك من سنام * أتى عليهم ذو أتى * أتيه من قوم موسى * أثبت في الدار من الجدار * أثبت من أصم رأسا * أثبت من الوشم * أثقف من سنور * أثقل من طود * أثقل من المنتظر * ألإثم حزاز القلوب * أجدى من الغيث في أوانه * أجرأ من أسامة * أجرد من صلعة * اجلس حيث تؤخذ بيدك(5/55)
وتبر. لا حيث تؤخذ برجلك وتجر * أجمع من نمله * أجوع من ذئب * أجهل من فراش * يجري بليق ويذم * جدح جوين من سويق غيره * أسمع جعجعة ولا أرى طحنا * مال سرجه * فلان لا تندى صفاته * أحد حماريك فاز جري * أحرص من الذرة * أحسن من بيضة في روضة * أحسن من الدهم الموقفة * أحسن من زمن البرامكة * أحسن من شنف الأنضر * إحفظ ما في الوعاء بشد الوكاء * أحكم من لقمان * أحكى من قرد * أحل من لبن الأم * أحلب حلبا لك شطره * أحلى من حياة معادة * أحلى من نيل المنى * أحمض من صفع الذل في بلد الغربة * أحمق بلغ * أحمق من الممتخط بكوعه * أحمل من الأرض * أحير من(5/56)
ليل * أحيا من فتاة * أخبرته بعجري وبجري * أخبرته خبوري وشقوري وفقوري * أخبط من عشواء * أخبط من حاطب ليل * اختلط الخاثر بالزباد * أخذ في ترهات البسابس * أخذت الأرض زخاريها * أخذنا في البرقلة * أخذني بأطير غيري * أخذه على غل غيظه * أخرج الطمع من قلبك تحل القيد من رجلك * إن في الشر خيارا * إن الخصاص يرى من جوفها الرقم * إن في المعاريض لمندوحة عن الكذب * عادت إلى عترها لميس * هذا برض من عد * يبلغ الخضم بالقضم * لكل ساقطة لاقطة * عاد السهم إلى النزعة * هو كالكاتب على صفحات الماء * أشهر من نار على علم * إن كنت ريحا فقد لاقيت(5/57)
إعصارا * بعلة الورشان يأكل رطب المشان * لا يعرف الهر من البر * عند الرهان تعرف السوابق * لا تهرف بما لا تعرف * أنجز حر ما وعد * فلان يعلم من حيث تؤكل الكتف * ألقى حبله على غاربه * إنما يضن بالضنين * مخر نبق لينباع * هو إمعة وهو إمرة * هما زندان في وعاء * إذا ارجحن شاصيا فارفع يدا * هون عليك ولا تولع بإشفاق * لا تكن حلوا فتسترط ولا مرا فتعاف * يجمع بين الأروى والنعام * ليس قطا مثل قطي * جاء بعد الهياط والمياط * كالمستغيث من الرمضاء بالنار * لا آتيك أو يؤوب القارظ العنزي * أخذه برمته *(5/58)
نخبة من أمثال الميداني وابن نباتة وغيرهما مع شرحها
يوم عبيد (ويقال عبيد)
يضرب لليوم المنحوس الطالع. وكان عبيد بن الأبرص تصدى فيه للنعمان في يوم بؤسه. وكان له يوم بؤس من لقيه فيه أهلكه ويوم نعيم من لقيه فيه أكرمه. فقال النعمان: يا عبيد أنك مقتول فأنشدني (اقفر من أهله ملحوب) . فأنشد:
اقفر من أهله عبيد ... فظل لا يبدي ولا يعبد
ثم قتله وصار يومه يضرب به المثل. قال أبو تمام:
لما أظلتني سماؤك أقبلت ... تلك الشهود على وهي شهودي
من بعد ما ظن الأعادي أنه ... سيكون لي يوم كيوم عبيد
صمصامة عمرو بن معدي كرب الزبيدي
من أشهر سيوف العرب وبه يضرب المثل في كرم الجوهر وحسن المنظر والمخبر والمضاء. وكان عمرو فارس زبيد حسن الاستعمال له في الجاهلية. وفيه يقول:
سناني ازرق لا عيب فيه ... وصمصامي يصمم في العظام
وقال عبد الله بن العباس لبعض اليمانيين: لكم من السماء نجمها ومن الكعبة ركنها ومن السيوف صمصامها. يعني سهيلا والركن اليماني وصمصامة عمرو بن معدي كرب
حديث خرافة
خرافة رجل من بني عذرة استهوته الجن. فلما رجع إلى قومه جعل يحدثهم بالأعاجيب من أحاديث الجن. وكانت العرب إذا سمعت حديثا لا أصل له قالت: حديث خرافة
نخوة العرب
لم تزل تتميز العرب عن سائر الأمم بالنخوة لما فيها من الشجاعة والكرم والفصاحة حتى أن النعمان بن المنذر امتنع عن مصاهرة كسرى ابرويز ملك الفرس
عروة الصعاليك
هو عروة بن الورد العبسي. وإنما سمي عروة الصعاليك لأنه كان إذا شكا أحد إليه الفقر أعطاه فرسا ورمحا وقال له: إن لم تستغن بهما فلا أغناك الله
جوف حمار
من أمثال العرب هو اكف من حمار وأخلى من جوف حمار. وهو ابن مويلع من عاد.(5/59)
وجوف واد له طويل عريض لم يكن ببلاد العرب أخصب منه. وفيه من كل الثمرات فخرج بنوه يتصيدون فأصابتهم صاعقة فهلكوا فقال: لا اعبد من اهلك أولادي. فكفر ودعا قومه إلى الكفر فمن خالفه قلته. فأخرب الله تعالى واديه فضرب به المثل في الخراب فقال امرؤ القيس:
وواد كجوف العير قفر قطعته ... به الذئب يعوي كالخليع المعيل
حصن تيماء
بلدة بين الحجاز والشام ولها حصن يتمثل به في الحصانة ويقال أن سليمان بناه بالحجارة والكلس فمنعته العرب. ثم ملكه عادياء اليهودي ثم ابنه السموءل. وفيه يقول الأعشى:
أرى عاديا لم يمنع الموت ماله ... وفرد لتيماء اليهودي ابلق
بناه سليمان بن دارات حقبة ... له ازجٌ صم وطين موثق
يوازي كبيدات السماء ودونه ... ملاط ودارات وكلس وخندق
كعبة نجران وقصر غمدان
نجران أقدم بلاد اليمن وكان لها كعبة تحج فخربت وضرب بها المثل في الخراب وزوال الدولة. قال أبو عبيدة: أحبت العرب أن تشارك العجم في البنيان وتنفرد بالشعر. فبنوا غمدان وهو قصر شاهق مشهور وكعبة نجران وحصن تيماء الابلق الفرد وغير ذلك من البنيان. وغمدان أحد الأبنية الوثيقة للعرب يتمثل به في الحصانة والوثاقة سكنه ملوك حمير. ثم تنقلت به أحوال أدت إلى خرابه
إن الموصين بنو سهوان
قيل هذا معناه: إنما يحتاج إلى الوصية من يسهو ويغفل فأما أنت فغير محتاج إليها لأنك لا تسهو. وقال بعضهم: يريد بقوله (بنو سهوان) جميع الناس لأن كلهم يسهو. والأصوب في معناه أن يقال أن الذين يوصون بالشيء يستولي عليهم السهو حتى كأنه موكل بهم. ويضرب لمن يسهو عن طلب شيء أمر به. والسهوان السهو ويجوز أن يكون صفة أي بنو رجل سهوان وهو آدم حين عهد إليه فسها ونسي. يقال رجل سهوان وساه أي إن الذين يوصون لا بد أن سهوا لأنهم بنو آدم
أكرم من حاتم طيئٍ
جواد العرب المضروب به المثل في الجود وفيه يقول الشاعر:
لما سألتك شيئا ... بدلت رشدا بغي
عمن تعلمت هذا ... آن لا تجود بشيء(5/60)
أما مررت بعبد ... لعبد حاتم طي
وكان يضرب بجود طي المثل حيث منهم حاتم وأوس بن حارثة. وهما في الجود والكرم على جانب عظيم. وروي أن أوسا وحاتما وفدا على عمر بن هند. فدعا أوسا فقال له: أنت أفضل أم حاتم فقال: أبيت اللعن لو وهبني حاتم وولدي لوهبني في ساعة واحدة. ثم دعا حاتما فقال له: أنت أفضل أم اوس. فقال أبيت اللعن أتعدلني باوس ولأحد ولده أفضل مني. فقال عمرو: ما أدري أيكما أفضل وما منكما الأسيد كريم. ومن محاسن أوس أن النعمان بن المنذر دعا بحلة نفيسة وعنده العرب وفيهم كل سيد كريم وفيهم أوس. فقال أحضروا غدا فأني ملبس هذه الحلة أكرمكم. فحضر القوم إلا أوس. فقيل له: لم تتخلف. فقال إن كان المراد غيري فأجل الأشياء بي أن لا أكون حاضرا وإن كنت المراد فسأطلب. فلما جلس النعمان ولم ير أوسا قال: اذهبوا إلى أوس فقولوا له: أحضر آمنا مما خفت. فحضر وألبس الحلة. فحسدوه قوم من أهله وقالوا البشر بن أبي خازم: اهجه. فهجاه بشر فأغار أوس على أبله واكنسحها وطلبه فجعل بشر لا يستجير حيا من أحياء العرب إلا قالوا له: قد أجرناك من الأنس والجن إلا من أوس. وكان في هجائه إياه ذكر أمه. فما لبث يسيرا حتى أتى به أسيرا. فدخل أوس إلى أمه واستشارها في أمره. فقالت: أرى أن ترد عليه ماله وتعفو عنه وأفعل أنا مثل ذلك فلا يقيك هجاءه إلا مدحه. فأخبره أوس بما قالت أمه. فقال: لا جرم والله لا مدحت غيرك حتى أموت
ألمعيدي تسمع به خير من أن تراه
هذا مثل يضرب لمن يكون خبره خيرا من منظره. وأول من قاله النعمان لشقة ابن ضمرة في خبر طويل. معناه أنه كان يغير على مال النعمان ويطلبه النعمان فلا يقدر عليه إلى أن أمنه وكان يعجبه ما يسمع عنه من الشجاعة والإقدام. فلما رآه استزرى منظره لأنه كان دميم الخلقة فقال: تسمع بالمعيدي خير من أن تراه. فقال: أبيت اللعن أن الرجال ليست بجزر وإنما يعيش المرء بأصغريه قلبه ولسانه. فأعجب النعمان كلامه وجعله من خواصه إلى أن مات. ومعيد اسم قبيلة
أبدى الصريح عن الرغوة
أي وضح الأمر وبان. قال بعضهم:
ألم تسل الفوارس يوم غول ... نبضلة وهو موتور مشيح
رأوه فازدروه وهو حر ... وينفع أهله الرجل القبيح
ولم يخشوا مصالته عليهم ... وتحت الرغوة اللبن الصريح
يقول رأوني فازدروئي لدمامتي فلما كشفوا عني وجدوا غير ما رأوا ظاهرا(5/61)
إن الشقي وافد البراجم
هو عمار بن صخر التميمي. والبراجم خمسة من أولاد حنظلة والعرب تضرب المثل بوافد البراجم. وذلك أن الملك عمرو بن هند أحرق تسعة وتسعين رجلا من بني تميم لثار له عندهم وكان قد آلى أن يحرق منهم مائة. فبينما هو يلتمس بقية المائة إذ مر رجل من البراجم يسمى عمارا قادم من سفر فاشتم رائحة القتار فظن إن الملك إتخذ طعاما فعدل إليه. فقيل له ممن أنت. قال: من البراجم. فألقي في النار. وقيل في المثل أن الشقي وافد البراجم. ومن هنالك عيرت بنو تميم بحب الطعام
شقائق النعمان
قال أبو محمد: شقائق النعمان منسوبة إلى النعمان بن المنذر. وكان خرج إلى الحضر وقد اعتم نبته من بين أخضر وأصفر وأحمر وإذا فيه من هذه الشقائق شيء. فقال: ما أحسنها احموها. فحموها فسميت شقائق النعمان
أفصح من سحبان وائل
هو وائل بن معن بن أعصر وكان خطيبا يضرب به المثل في الفصاحة. قال الشاعر في ضيف نزل به:
أتانا ولم يعدله سحبان وائل ... بيانا وعلما بالذي هو قائل
فما زال عنه اللقم حتى كأنه ... من العي لما أن تكلم باقل
أبر من العملس
كان برا بأمه وكان يحملها على عاتقه حمل إليها غبوقاً من لبن في عس. فصادفها نائمة فكره إنباهها والانصراف عنها. فأقام مكانه قائماً يتوقع انتباهها حتى أصبح
أبطش من دوسر
قالوا أن دوسر إحدى كتائب النعمان بن المنذر ملك العرب. وكانت له خمس كتائب الرهائن والصنائع والوضائع والأشهاب ودوسر. أما الرهائن فإنهم كانوا خمس مائة رجل رهائن لقبائل العرب يقيمون على باب الملك سنة ثم يجيء بدلهم خمسمائة أخرى وينصرف أولئك إلى أحيائهم. فكان الملك يغزو بهم ويوجههم في أموره. وأما الصنائع فبنو قيس وكانوا خواص الملك لا يبرحون بابه. أما الوضائع فإنهم كانوا ألف رجل من الفرس يضعهم ملك الملوك بالحيرة نجدة لملك العرب. وكانوا أيضا يقيمون سنة ثم يأتي بدلهم ألف رجل وينصرف أولئك. وأما الأشاهب فأخوة ملك العرب وبنو عمه ومن يتبعهم من أعوانهم سموا(5/62)
الأشاهب لأنهم كانوا بيض الوجوه. فأما دوسر فأنها كانت أخشن كتائبه وأشدها بطشا ونكاية وكانوا من كل قبائل العرب وأكثرهم من ربيعة. سميت دوسر اشتقاقا من الدسر وهو الطعن بالثقال لثقل وطأتها. قال الشاعر:
ضربت دوسر فيهم ضربة ... أثبتت أوتاد ملك فاستقر
وكان ملك العرب عند رأس كل سنة وذلك أيام الربيع يأتيه وجوه العرب وأصحاب الرهائن وقد صير لهم أكلا عنده وهم ذوو الآكال. فيقيمون عنده أشهرا ويأخذون أكالهم ويبدلون رهائنهم وينصرفون إلى أحيائهم
أبأى ممن جاء برأس خاقان
هذا خاقان ملك من ملوك الترك خرج من ناحية باب الأبواب. وظهر على أرمينية وقتل الجراح بن عبد الله عامل هشام بن عبد الملك عليها. وغلظت نكايته في تلك البلاد. فبعث هشام إليه سعيد بن عمرو الجرشي وكان مسلمة صاحب الجيش فأوقع سعيد بخاقان ففض جمعه واحتز رأسه وبعث به إلى هشام. فعظم أثره في قلوب المسلمين وفخم أمره ففخر بذلك حتى ضرب به المثل
أبصر من زرقاء اليمامة
هي عنزة اليمامة. واليمامة اسمها وبها سمي البلد وهي امرأة من جديس. وذكر الجاحظ أنها كانت تبصر الشيء من مسيرة ثلاثة أيام. فلما قتلت جديس طمسا خرج رجل من طسم إلى حسان بن تبع فاستجاشه ورغبه في الغنائم فجهز إليهم جيشا. فلما صاروا من جو على مسيرة ثلاث ليال صعدت الزرقاء فنظرت إلى الجيش. وقد أمروا أن يحمل كل رجل منهم شجرة يستتر بها ليلبسوا عليها. فقالت: يا قوم أتتكم الأشجار أو أتتكم حمير فلم يصدقوها. فقالت على مثال رجز:
أقسم بالله لقد دب الشجر ... أو حمير قد أخذت شيئا بجر
فلم يصدقوها فقالت: بالله لقد أرى رجلا ينهش كتفا أو يخصف النعل فلم يصدقوها. ولم يستعدوا حتى صبهم حسان فاجتاحهم. وكانت أول من اكتحل بالإثمد من العرب
أبلغ من قس
قس بن ساعدة بن حذافة بن زهير بن إياد بن الأيادي أسقف نجران. وكان من حكماء العرب وأعقل من سمع به منهم. وهو أول من كتب من فلان إلى فلان. وأول من أقر بالبعث من غير علم. وأول من قال: إما بعد. وأول من قال: البينة على من ادعى واليمين على من أنكر. وقد عمر مائة سنة ونيفا(5/63)
الحديث شجون
وهذا المثل لضبة بن أد. وكان له ابنان سعد وسعيد فخرجا في طلب إبل لهما فرجع سعيد ولم يرجع سعد. فكان ضبة لوا رأى رجلا مقبلا قال: أسعد أم سعيد فذهبت مثلا. ثم أن ضبة بينا هو يسير يوما ومعه الحرث بن كعب في الشهر الحرام فأتى على مكان فقال له الحرث: أترى هذا الموضع فإني لقيت فتى هيئته كذا وكذا فقتلته وأخذت منه هذا السيف. فإذا بصفة سعد. فقال له ضبة: ارني السيف انظر إليه فناوله فعرفه فقال له: إن الحديث شجون. ثم ضربه به حتى قتله. فلامه الناس في ذلك وقالوا: أقتلت في الشهر الحرام. قال: سبق السيف العذل. فذهبت مثلا
أتانا صكة عمي
عمي رجل من عدوان وكان يفتي في الحج فأقبل معتمرا ومعه ركب حتى نزلوا بعض المنازل في يوم شديد الحر. فقال عمي: من جاءت عليه هذه الساعة من غد وهو حرام لم يقض عمرته فهو حرام إلى قابل. فوثب الناس في الظهيرة يضربون (أي يسيرون) حتى وافوا البيت وبينهم وبينه من ذلك الموضع ليلتان. فضرب مثلا فقيل: أتانا صكة عمي إذا جاء في الهجيرة الحارة. وقيل كان عمي رجلا مغوارا فغزا قوما عند قائم الظهيرة وصكهم صكة شديدة فصار مثلا لكل من جاء في ذلك الوقت
كأنه سنور عبد الله
يضرب لمن لا يزيد سنا إلا ازداد نقصانا وجهلا. وفيه يقول بشار بن برد الأعمى:
أبا مخلف ما زلت سباح غمرة ... صغيرا فلما شبت خيمت بالشاطي
كسنور عبد الله بيع بدرهم ... صغيرا فلما شب بيع بقيراط
فمي ملآن من الماء
يضرب لمن يريد أن يتكلم ولكن له ما يحجزه عن الكلام. ولله بعض الشعراء وقد عوتب على قلة كلامه:
قالت الضفدع قولا ... فسرته الحكماء
في فمي ماء وهل ين ... طق من في فيه ماء
أحلم من الأحنف
هو أبو فخر الضحاك بن قيس التميمي الأحنف من التابعين ومن كلامه: رب غيظ تجرعته مخافة ما هو أشد منه. ومن قوله: كثرة المزاح تذهب بالهيبة. السؤدد كرم الأخلاق وحسن الفعل. الداء اللسان البذي والخلق الردي. وكان الأحنف شهد مع علي بن أبي طالب وقعة(5/64)
بصفين. ولما استقر الأمر لمعاوية دخل عليه يوما. فقال له معاوية: والله يا أحنف ما أذكر يوم صفين إلا كانت حزازة في قلبي إلى يوم القيامة. فقال له الأحنف: والله يا معاوية أن القلوب التي أبغضاك بها لفي صدورنا. وإن السيوف التي قاتلناك بها لفي أغمادها. وإن تدن من الحرب فترا ندن منك شبرا. وإن تمش إليها نهرول إليك. ثم قام وخرج. وكانت أخت معاوية من وراء حجاب تسمع كلامه فقالت: يا أمير المؤمنين من هذا الذي يتهدد ويتوعد. فقال: هذا الذي إذا غضب غضب لغضبه مائة ألف من بن تميم ولا يدرون لما غضب وأخبر النويري عنه قال: كان معاوية قد كتب إلى عماله أن يوفدوا إليه الوفود من الأمصار. فكان فيمن أتاه محمد بن عمرو بن حزم من المدينة والأحنف بن قيس في وفد أهل البصرة. ثم أن معاوية قال للضحاك بن قيس الفهري: لما تجتمع الوفود أني متكلم فإذا سكت فكن أنت الذي تدعو إلى بيعة يزيد وتحض عليها. فلما جلس معاوية للناس تكلم فعظم أمر الإسلام وحرمة الخلافة وحقها فحمد الله وأثنى عليه. ثم قال الضحاك: يا أمير المؤمنين أنه لا بد للناس من وال بعدك فذلك أحقن للدماء وأصلح للدهماء وآمن للسبيل وخير في العاقبة. والأيام عوج كل يوم في شأن ويزيد ابن أمير المؤمنين في حسن هديه. وهو من أفضلنا علماً وحلماً وأبعدنا رأياً. فخوله عهدك واجعله لنا علماً بعدك ومفزعاً نلجأ إليه ونسكن إلى ظله. وتكلم عمرو بن سعيد الأشدق بنحو من ذلك. ثم قام يزيد بن المقنع العذري فقال: هذا أمير المؤمنين (وأشار إلى معاوية) فإن هلك فهذا (وأشار إلى يزيد) ومن أبى فهذا (وأشار إلى سيفه) . فقال معاوية: اجلس فأنت سيد الخطباء. فأذعن من حضر من الوفود. فقال معاوية للأحنف: ما تقول يا أب بحر. فقال: نخافكم أن صدقنا ونخاف الله أن كذبنا. وأنت يا أمير المؤمنين اعلم بزيد في ليله ونهاره وسره وعلانيته ومدخله ومخرجه. فإن كنت تعلمه لله تعالى ولهذه الأمة رضى فلا تشاور فيه. وإن كنت تعلم منه غير ذلك فأنت صائر إلى الآخرة وإنما علينا أن نقول: سمعنا وأطعنا
أحمق من أبي غبشان
إن خزاعة أخذ فيها وت شديد وزعاف عمهم بمكة. فخرجوا منها ونزلوا الظهران. وكان فيهم رجل يقال له حليل بن حبشية وكان صاحب البيت. وكان له بنون وبنت يقال لها حبى وهي امرأة قصي بن كلاب. فمات حليل وكان أوصى ابنته حبى بالحجابة وأشرك معها أبا غبشان الملكاني. فلما رأى قصي بن كلاب أن حليلا قد مات وبنوه غيب والمفتاح في يد امرأته طلب إليها أن تدفع المفتاح إلى ابنها عبد الدار بن قصي وحمل بنيه على ذلك فقال: أطلبوا إلى أمكم حجابة جدكم. ولم يزل بها حتى سلمت له بذلك. وقالت: كيف أصنع بأبي غبشان وهو وصي معي. فقال قصي: أنا أكيفك أمره. فاتفق أن اجتمع أبو غبشان مع قصي في شرب بالطائف(5/65)
فخدعه قصي عن مفاتيح الكعبة بأن أسكره ثم اشترى منه المفاتيح بزق خمر وأشهد عليه ودفع المفاتيح إلى ابنه عبد الدار بن قصي وسيره إلى مكة. فلما أشرف عبد الدار على دور مكة رفع عقيرته وقال: معاشر قريش هذه مفاتيح بيت أبيكم إسماعيل قد ردها الله عليكم من غير غدر ولا ظلم. فأفاق أبو غبشان من سكره أندم من الكسعي. فقال الناس: أحمق من أبي غبشان. أندم من أبي غبشان. وأخسر صفقة من أبي غبشان. فذهبت أمثالا. وأكثر الشعراء فيه القول
صفقة لم يشهدها حاطب
هو حاطب بن أبي بلتعة وكان حازما خبيرا. إذا باع بعض قومه أو اشترى جعل ذلك على يده لئلا يغبن فيه. فباع بعض أهله بيعة ليست عن يده فغبن فيها فقيل: هي صفقة لم يشهدها حاطب. يضرب لمن يقضي أمرا ليس عن يد أربابه
أحمق من هبنقة
قيل أنه جعل في عنقه قلادة من ودع وعظام وخزف وهو ذو لحية طويلة. فسئل عن ذلك. فقال: لأعرف بها نفسي ولئلا أضل. فبات ذات ليلة وأخذ أخوه قلادته فتقلدها فلما أصبح ورأى القلادة في عنق أخيه فقال: يا أخي أنت أنا فمن أنا. وقيل أنه ضل له بعير فجعل ينادي: من وجد بعيري فهو له. فقيل له: فلم تنشده. قال: فأين حلاوة الوجدان
أحول من أبي قلمون وأبي براقش
أبو برقش وأبو قلمون كنية الرجل الكثير التلون القليل الارتباط. وأصل أبي قلمون كنية لثياب ابريسم تنسج بمصر وبلاد الروم تتلون بالعيون ألوانا. قال بديع الزمان في بعض مقاماته:
أنا أبو قلمون ... في كل لون أكون
قلب له ظهر المجن يضرب لمن كان لصاحبه على مودة ورعاية ثم حال عن العهد. وقد يضرب للمحاربة بعد المسالمة. لأن ممسك المجن إذا جعل ظهره خارج لم يكن إلا ليتقي به ولا يفعل ذلك إلا المحارب
هو أبطأ من فند
اسم أبي زيد صاحب عائشة بنت سعد بن أبي وقاص. كان من المفنين المحسنين أرسلته عائشة ذات يوم ليأتيها بشعلة نار من بيوت الجيران. فوجد قوماً ذاهبين إلى مصر فتبعهم من فوره وأقام هناك سنة ثم قدم. ولما دخل الحي أخذ ناراً وجاء يعدو إلى بيت عائشة. فعثر بحجر هناك وتبددت النار التي كان قد أتى بها فقال: تعست العجلة. وفيه يقول الشاعر:
ما رأينا لغراب مثلاً ... أن بعثناه يجيء بالمشمله(5/66)
غير فندٍ أرسلته قابساً ... فثوى حولا وسب العجلة
المشملة كساء يتدثر به. وغراب اسم رجل أرسلوه ليأتيهم بها فأبطأ. فقال بعضهم البيتين مشبها إياه بفند المذكور آنفا.
أحشفا وسوء كيلة
حكى الأصمعي أن أبا جعفر المنصور لقي أعرابيا بالشام وقال له: أحمد الله يا أعربي الذي رفع عنكم الطاعون بولايتنا أهل البيت. فقال له الأعرابي: أن الله أعدل من أن يجمع علينا حشفا وسوء كيلة. فلا يجمع بين ولايتكم والطاعون. يضرب لمن يجمع بين خصلتين مكروهتين
كل الصيد في جوف الفرا
أصله أن ثلاثة رجال خرجوا يصطادون فاصطاد أحدهم أرنبا والآخر ظبيا والآخر حمار وحش. فاستبشر الأولان وتطاولا فقال الثالث: كل الصيد في جوف الفرا. يضرب للرجل يكون له حاجات كثيرة منها واحدة عظيمة فتقضى له فيقول ذلك. أو يقال له ذلك على معنى أنه لم يبال بفوات البواقي. الفرا حما الوحش
أهدى من القطا
قيل أن القطا تترك فراخها في الصحراء وتذهب عند طلوع الفجر في طلب الماء من مسير ليلة فترده ضحوة يومها فتحمل الماء إلى فراخها فتنهلها. ثم ترجع بعد الزوال إلى تلك المسافة فتشرب وتأتي فراخها في عيشة يومها فتسقيها عللا بعد نهل ولا تخطئ مواضع فراخها
لا تطعم العبد الكراع فيطمع في الذراع
قيل لعمرو بن عدي ابن أخت جذيمة الأبرش. وكان قد هام على وجهه في البراري حتى توحش. واتفق أن رجلين من اليمن كانا يطلبانه جلسا في بعض الطريق يأكلان ومعهما امرأة تسقيهما الخمر فاقبل عليهما عمرو وجلس معهما على الطعام وهما لا يعرفانه. ثم سأل المرأة أن تسقيه فقالت المثل. يضرب لمن يرخص له في القليل فيطمع في الكثير
قبة نجران هي قبة عظيمة يضرب بها المثل قيل أنها كانت تظلل ألف رجل. وكان إذا نزل بها مستجير أجير أو خائف أمن أو جائع أشبع أو مسترفد أعطي أو طالب حاجة قضيت. وكانت هذه القبة لعبد المسيح بن دارس بن عدي. ونجران بلد في اليمن كانت هذه القبة بجانب نهر فيها وكانت العرب تسميها كعبة نجران لأنهم كانوا يقصدون زيارتها كما يقصدون زيارة الكعبة. وعلى ذلك قول الأعشى يخاطب ناقته(5/67)
وكعبة نجران حتم عليك ... حتى تناخي بأبوابها
تزور يزيدا وعبد المسيح ... وقيسا وهم خير أربابها
أنت تئق وأنا مئق فكيف نتفق
يضرب للمتنافيين في الخلق. فأن التئق هو الممتلئ غيظا والمئق هو الباكي. فكان التئق ينزع إلى الشر لغيظه. والمئق يضيق ذراعا باحتماله. والتئق السريع إلى الشر والمئق السريع إلى البكاء
حال الجريض دون القريض
أصله أن رجلا كان له ابن نبغ في الشعر فنهاه عنه. فجاش به صدره ومرض حتى أشرف على الموت. فأذن له أبوه حينئذ في قول الشعر فقال: حال الجريض دون القريض أي أن غصة الموت حالت بينه وبين قول الشعر. يضرب لأمر يعوق دونه عائق
ليس القوادم كالخوافي
يضرب في تفصيل بعض الناس على بعضهم لما بينهم من التفاوت. والقوادم مقاديم ريش الطير وهي عشر ريشات في كل جناح ويقال لها القدامى. والخوافي ما دون القوام من الريش
أتبع الفرس لجامه والناقة زمامها
أي أنك قد جدت بالفرس. واللجام أيسر خطبا فأتم الحاجة. كما أن الفرس لا غنى به عن اللجام. يضرب لاستكمال المعروف
أعز من الزباء
الزباء هي فارعة ابنة مليح بن البراء ملكة جزيرة العرب يضرب بها المثل في العز والمنعة. وكان أبوها الريان الغساني ملكا على الحضر وقتله جذيمة الأبرش وطرد الزباء إلى الشام. فلحقت بالروم وكانت عربية اللسان كبيرة الهمة. وكان لها شعر إذا مشت سحبته وراءها وذا نشرته جللها فسميت الزباء. والأزب الكثير الشعر. وبلغت من همتها إنها جمعت الرجال وبذلت الأموال وعادت إلى دار أبيها ومملكته فأزالت جذيمة عنها وقتلته. وبنت على الفرات مدينتين متقابلتين وجعلت بينهما أنفاقا تحت الأرض وتحصنت. وأما مقلتها فأن قصيرا لما فارق جذيمة وعاد إلى بلاده احتال في قتلها فجذع أنفه وضرب جسده ورحل إليها زاعما أن عمرو ابن أخت جذيمة صنع به ذلك وأنه لجأ إليها هاربا منه واستجار بها. ولم يزل يتلطف لها بطريق التجارة وكسب الأموال إلى أن وثقت وعلم خفايا قصرها وأنفاقه. ثم وضع رجالا من قوم عمرو في غرائر وعليهم السلاح وحملهم على الإبل على أنها قافلة متجر إلى أن دخل بهم مدينتها. فحلوا الغراير وأحاطوا بقصرها وقتلها قبل أن تصل إلى نفقها في حكاية مشهورة وذلك بعد مبعث المسيح(5/68)
أجود من هرم
هو هرم بن سنان بن أبي حارثة المري. قال زهير بن أبي سلمى فيه:
أن البخيل ملوم حيث كان ولك ... ن الجواد على علا ته هرم
هو الجواد الذي يعطيك نائله ... غفواً ويظلم أحياناً فيظلم
ووفدت ابنة هرم على عمر فقال لها: ما كان الذي أعطى أبوك زهيراً حتى قابله من المديح بما قد سار فيه. فقالت: أعطاه خيلاً تنضى وإبلا تتوى وثيابا تبلى ومالا يفنى. فقال عمر: لكن ما أعطاكم زهير لا يبليه الدهر ولا يفنيه العصر وهو قوله:
قوم سنان أبوهم حين تنسبهم ... طابوا وطاب من الأولاد ما ولدوا
محسدون على ما كان من نعم ... لا ينزع الله عنهم ما له حسدوا
إنس إذا أمنوا جن إذا فزعوا ... مرزؤون بهاليلٌ إذا جهدوا
احترس من العين فوالله لهي أنم عليك من اللسان
قال أبو عبيدة: معناه رب عين أنم من لسان. وقال الشاعر:
لا جزى الله دمع عيني خيراً ... بل جزى الله كل خير لساني
نم طرفي فليس يكتم شيئا ... ووجدت اللسان ذا كتمان
كنت مثل الكتاب أخفاه طي ... تخبرك العيون عن القلوب
قال زهير:
وإن تك في صديق أو عدو ... تخبرك العيون عن القلوب
أحزم من الحرباء
لأنه لا يخلي عن ساق شجرة حتى يمسك ساق شجرة أخرى. ومنها قول الحريري: اعتلقنا به اعتلاق الحرباء بالأعواد. وقوله أيضا: أبرز يا بني في بكور أبي زاجر. وجرأة أبي الحرث. وخرامة أبي قرة (وهو الحرباء) . وختل أبي جعدة. وحرص أبي عقبة. ونشاط أبي وثاب. ومكر أبي الحصين. وصبر أبي أيوب. وتلطف أبي غزوان. وتلون أبي براقش. وفي معناه قول الشاعر:
أنى أتيح له حرباء تنضبةٍ ... لا يرسل الساق إلا ممسكا ساقا
ضرب أخماسا لأسداس
أصله أن الرجل إذا أراد سفرا بعيدا عود أبله أن تشرب خمسا أي كل خمسة أيام مرة. ثم عودها على السدس حتى إذا أخذت في السير تصبر عن الماء. يضرب لمن يسعى في المكر
آخر البز على القلوص
يقال فرس مقلص إذا كان طويل القوائم. وإذا كان كذلك كان أسرع. وقيل له مقلص(5/69)
تشبيها بالرجل الذي قلص ثيابه أي شمرها فظهرت رجلاه. يضرب عند آخر المهد بالشيء وعند انقطاع أثره وذهاب أمره
أحذر من قرلى
قالوا: أنه طير من بنات الماء صغير الجرم حديد البصر سريع الاختطاف. لا يرى إلا مرفرفاً على وجه الماء على جانب كطيران الحدأة. يهوي بإحدى عينيه إلى قعر الماء طمعا ويرفع الأخرى إلى الهواء حذرا. فإن أبصر في الماء ما يستقل بحمله من سمك أو غيره انقض عليه كالسهم المرسل فأخرجه من قعر الماء. وإن أبصر في الهواء جارحا مر في الأرض. وكما ضربوا به المثل في الاختطاف كذلك ضربوا به المثل في الحذر والحزم فقالوا: احذر من القرلى كما قالوا: احذر من غراب. وقالوا احزم من قرلى كما قالوا احزم من حرباء. قال الشاعر:
حذرا كن كالقرلى ... أن رأى خيرا تدلى
أو رأى شرا تولى
أوفى من السموءل
هو السموءل بن عاديا من بهود يثرب الذي يضرب به المثل في الوفاء. وسبب ذلك أن امرء القيس بن حجر الكندي لما قتل أبوه وكان ملكا في كندة خرج يستنجد بملك الروم فمر على تيما وفيها حصن السموءل المسمى بالابلق المذكور في شعره. فأودع السموءل مائة درع وسلاحا ومضى. فسمع الحارث بن ظالم بها فجاء ليأخذها منه فأبى السموءل وتحصن بحصنه. فأخذ الحارث ابنا للسموءل وناداه أما أن تسلم الأدراع لي وأما قتلت ولدك. فأبى أن يسلم الأدراع فضرب وسط الغلام بالسيف فقطعه وأبوه يراه وانصرف. ومات امرؤ القيس قبل أن يعود إلى تيماء ومنع السموءل الأدراع إلى أن مات هو أيضا. وضرب به المثل وقال الأعشى في ذلك:
كن كالسموءل إذ طاف الهمام به ... في حجفل كسواد الليل جرار
بالأبلق الفرد من تيماء منزله ... حصن حصين وجار غير غدار
إذ سامه خطيتي خسف فقال له ... مهما تقله فأني سامع جار
فقال غدر وشكل أنت بينهما ... فاختر فما فيهما حظ لمختار
فشك غير طويل ثم قال له ... اقتل أسيرك إني مانع جاري
عندي له خلف أن كنت قاتله ... وإن قتلت كريما غير خوار
فسوف يعقبه أن كنت قاتله ... رب كريم وقوم أهل أطهار
مالا كثيرا وعرضا غير ذي دنس ... وإخوة مثله ليسوا بأشرار
جدوا على أدب بهم بلا ترف ... ولا إذا شمرت حرب باغمار
فقال يقدمه إذ قام يقتله ... أشرف سموأل فانظر للدم الجاري(5/70)
سأقتل ابنك صبرا أو تجيء بها ... طوعا فأنكر هذا أي إنكار
فشك أوداجه والصدر في مضض ... عليه منطويا كالدرع بالنار
واختار أدراعه أن لا يسب بها ... ولم يكن عنده فيها بحتار
وقال لا نشتري عارا بمكرمة ... واختار مكرمة الدنيا على العار
فصان بالصبر عرضا لم يشنه خنا ... وزنده في الوفاء الثاقب الواري
والسموءل من شعراء الجاهلية المجيدين وله في الحماسة اللامية المشهورة. ومن شعره أيضا إني إذا ما الأمر بين شكه=وبدت عواقبه لمن يتأمل
وتبرأ الضعفاء من إخوانهم ... وأناخ من حز الصميم الكلكل
أدع التي هي أرفق الخلان بي ... عند الحفيظة للتي هي أجمل
وله:
يا ليت شعري حين أندب هالكا ... ماذا تونبني به أنواحي
أيقلن لا تبعد فرب كريهة ... فرجتها بشجاعتي وسماحي
ولقد أخذت الحق غير مخاصم ... ولقد بذلت الحق غير ملاحي
رجع بخفي حنين
قيل كان حنين اسكافا من أهل الحيرة ساومه أعرابي بخفين فلم يشتر منه شيئا فغاظه. فخرج فعلق أحد الخفين على شجرة في طريقه وتقدم قليلا وطرح الأخرى وكمن. فجاء الأعرابي فرأى أحد الخفين فوق الشجرة فقال: ما أشبهه بخف حنين لو كان معه الآخر لتكلفت أخذه. وتقدم فرأى الخف الآخر مطروحا فنزل وعقل بعيره وأخذه ورجع ليأخذ الأول. فخرج حنين من الكمين فأخذ بعيره وذهب ورجع الأعرابي إلى حيه بخفي حنين
أعدى من الشنفرى
هو ابن الأوس الازدري وكان من العدائين. ومن حديثه فيما ذكر أبو عمرو الشيباني أنه خرج الشنفرى وتأبط شرا وعمرو بن براق. فأغاروا على بجيلة فوجدوا لهم رصدا على الماء. فلما مالوا له في جوف الليل قال لهم تأبط شرا: إن الماء رصدا وإني لأسمع وجيب قلوب القوم. فقالا: ما سمع شيئاً وما هو إلا قلبك يجيب. فوضع أيديهما على قلبه وقال: والله ما يجيب وما كان وجابا. قالوا: فلا بد لنا من ورد الماء. فخرج الشنفرى فلما رآه الرصد عرفوه فتركوه حتى شرب الماء ورجع إلى أصحابه. فقال: والله ما بالماء أحد. ولقد شربت من الحوض. فقال تأبط شراً: بلى ولكن القوم لا يريدونك إنما يريدونني. ثم ذهب ابن براق فشرب ورجع ولم يتعرضوا له. فقال تأبط شراً للشنفرى: إذا أنا كرعت من الحوض فإن القوم سيشدون علي فيأسرونني. فأذهب كأنك تهرب ثم كن في أصل ذلك القرن فإذا(5/71)
سمعتني أقول: خذوا خذوا فتعال فأطلقني. وقال لابن براق: إني سآمرك لستاسر للقوم ولا تنأ عنهم ولا تمكنهم من نفسك. ثم مر تأبط شراً حتى ورد الماء فحين كرع من الحوض شدوا عليه فأخذوه وكتفوه بوتر. وطار الشنفرى وأتى حيث أمره وأنحاز ابن البراق حيث يرونه. فقال تأبط شراً: يا معشر بجيلة هل لكم في خير أن تياسرونا في الفداء ويستأسر لكم ابن براق. قالوا: نعم. فقال: ويلك يا ابن براق أما الشنفرى فقد طار وهو يصطلي بنار بني فلان. وقد علمت ما بيننا وبين أهلك فهل لك أن تستأسر ويياسرونا في الفداء. قال: لا والله حتى أروز نفسي شوطا أو شوطين. فجعل يستن نحو الجبل ويرجع حتى إذا رأوا أنه أعيا طمعوا فيه فاتبعوه. ونادى تأبط شراً: خذوا خذوا. فخالف الشنفرى إلى تأبط شراً: يا معشر بجيلة أأعجبكم عدو ابن براق. أما والله لأعدون لكم عدواً ينسيكم عدوه. ثم أحضر ثلاثتهم فنجوا. ففي ذلك يقول تأبط شراً:
ليلة صاحوا وأغروا بي سراعهم ... بالعيكتين لدى معدي بن براق
كأنما حثحثوا حصا قوادمه ... أو أم خشف بذي شث وطباق
لا شيء أسرع مني غير ذي عذر ... أو ذي جناح بجنب الريد خفاق
فكل هؤلاء الثلاثة كانوا عدائين ولم يسر المثل إلا بالشنفرى
أندم من الكسعي
هو غامد بن الحرث. ومن حديث الكسعي أنه خرج يرعى أبله في واد فيه حمض وشوحط. فرأى قضيب شوحط نابتا في صخرة صماء ملساء. فقال: نعم منبت العود. في قرار الجلمود. ثم أخذ سقاءه فصب ما كان فيه من ماء في أصله فشربه لشدة ظمائه وجعل يتعاهده بالماء سنة حتى سبط العود وبسق واعتدل. فقطعه وجعل يقوه ويقوم أوده حتى صلح. فبراه قوسا وهو يرتجز ويقول:
ادعوك فاسمع يا إلهي جرسي ... يا رب شددني لنحت قوسي
وأنفع بقوسي ولدي وعرسي ... فإنها من لذتي لنفسي
انحتها صفراء لون الورس ... صلداء ليست مثل قوس النكس
ثم برى بقيته خمسة أسهم وهو يرتجز ويقول:
هن لعمري خمسة حسان ... يلذ للرمي بها البنان
كأنما قوامها ميزان ... فابشروا بالخصب يا صبيان
أن لم يعقني الشؤم والحرمان ... أو يرمني بكيده الشيطان
ثم أخذ قوسه وأسهمه وخرج إلى مكمن كان مورد الحمر في الوادي. فوارى شخصه حتى(5/72)
إذا وردت رمى عيرا منها بسهم. فمرق منه بعد أن أنفذه وضرب صخرة فقدح منها نار. فظن أنه قد أخطأ فقال:
أعوذ بالله العزيز الرحمان ... من نكد الجد معا والحرمان
مالي رأيت السهم فوق الصفوان ... يرمي شرارا مثل لون العقيان
فاخلف اليوم رجاء الصبيان ثم وردت حمر أخرى فرمى عيرا فصنع سهمه كالأول فظنه أخطأ فقال:
أعوذ بالرحمان من شر القدر ... أأخطأ الهم لارهاف الوتر
أم ذاك من سوء احتيال ونظر ... وأنني عهدي لرام ذو ظفر
مطعم بالصيد في الدهر ثم وردت حمر أخرى فرمى عيرا بسهم. ففعل سهمه كالأول فظنه أخطأ فقال:
يا حسرتا للشؤم والجد النكد ... قد شفني القوت لأهلي والوالد
والله ما خلفت في ذاك العمد ... لصبيتي من سبد ولا لبد
اذهب بالحرمان مع طول الأمد ثم وردت حمر أخرى فصنع كالأولى فقال:
ما بال سهمي يظهر الحباحبا ... وكنت أرجو أن يكون صائبا
إذ أمكن العير وأبدي جانبا ... وصار ظني فيه ظنا كاذبا
وخفت أن أرجع يومي خائبا إذ أفلتت أربعة ذواهبا
ثم وردت أخرى فصنع كالأول فقال:
أبعد خمس قد حفظت عدها ... أحمل قوسي وأريد ردها
أخزى الإله لينها وشدها ... والله لا تسلم عندي بعدها
ولا أرجي ما حييت رفدها ... قد أعذرت نفسي وأبلت جهدها
ثم خرج من مكمنه فاعترضته صخرة فضرب بالقوس عليها حتى كسرها. ثم قال: أبيت ليلتي ثم آتي أهلي. فبات فلما أصبح رأى خمسة حمر مصرعة ورأى أسهمه مضرجة بالدم. فندم على ما صنع وعض على أنامله حتى قطعها وقال:
ندمت ندامة لو أن نفسي ... تطاوعني إذا لقتلت نفسي
تبين لي سفاه الرأي مني ... لعمر الله حين كسرت قوسي
وقد كانت بمنزلة المفدى ... لدي وعند صبياني وعرسي
فلم أملك غداة رأيت حولي ... حمير الوحش أن ضرجت خمسي(5/73)
الباب الرابع في المقامات
نخبة من مقامات السيد الفاضل ابي بكر الحسيني الحضرمي
المقامة الشعرية
حدث الناصر بن فتاح قال: سافرت إلى جو نفور. مع جماعة من مندسور. ولما قربنا منها قلت لهم: أين تنزلون فيها. قالوا: في بعض مدارسها. فقلت لهم: أنا سأنزل في بيت واليها وحارسها. لأني امتدحته بأبيات رائية. وأرجو أن يجيزني بجائزة سنية. فذهبت إلى دار الأمير. فوجدتها قد جمعت الصغير والكبير. فتأملته فإذا هو قد جمع بين الفقه والأدب. وحاز طرفي الكمال الغريزي والمكتسب. واحتوى على المنثور والمنظوم. ويفتي في جميع العلوم. والطلبة واقفون بين يديه. يرفعون أسئلتهم إليه. ثم لما فرع من الدرس في المنقول. شرع يدرس في علم المعقول. ثم قصده الشعراء بقصائدهم وأبياتهم. وهو يعطيهم على حسب نياتهم. فعند ذلك صغرت نفسي في عيني. وأخفيت الأبيات بعينها خوفا من ظهور شيني. فلم يلبث أن قام شاب وأنشد الأبيات بعينها بعد أن نقص منها جزءين. والجماعة يبالغون في تحسينها وهي هذه:
يا صاحب النفس الأبية م والنهى حزت المدى(5/74)
وحللت موضع عزة ... فوق السهى ولك الندى
وحويت فضلا ما له ... من منتهى فبك الهدى
فهب الألوف تفضلا ... فلأنها سم العدى
فسر بها الوالي وأعطاه هبة جزيلة. وخلعة جميلة. فقام شيخ وقال: أيها الوالي هذه أبياتي وإنها سداسية الأجزاء. فانظر كيف سرقها وأخذ عليها الجزاء. وهي من كامل البحر ومن ضربه الثاني. فردها إلى الثامن قصدا لخفض شاني. فقال له الوالي: كيف قلت. فقال:
يا صاحب النفس الأبية والنهى ... حزت المدى فاشكر نعيم الباري
وحللت موضع عزة فوق السهى ... ولك الندى والذكر في الأمصار
وحويت فضلا ما له من منتهى ... فيك الهدى والنور في الأسحار
فهب الألوف تفضلا فلأنها ... سم العدى ومسرة الأخيار
فالتفت الوالي إلى الشاب. وقال له: يا دنس الإهاب. أما تعلم أن سرقة الشعر كسرقة البر والشعير. وأن من تجرأ على أخذ القليل تجرأ على الكثير. فقال: أيها الوالي. جعل الله كعبك العالي. إمتحنا فعند الامتحان. يكرم المرء أو يهان. ومع التعديل والتجريح. يعرف الفاسد من الصحيح. فقال الشيخ: لقد نطقت بلساني. وعبرت عما في جناني. فمر أيها الوالي من أردته أن يبتدي. ليتبين لك المعتدي. واشتغل الوالي ببعض شانه. عن الشاب وامتحانه. فاضطرب الشيخ اضطراب الرشا. وظن أن الوالي ممن يقبل الرشى. فقال له الوالي:(5/75)
دع الاضطراب. وأسمع الجواب. ثم اشتغل عنه بأمر رعيته. فاضطرب الشيخ على جاري سجيته. وقام منتصبا. وأنشد مضطربا:
أشكو إلى حبر الزمان وقسه ... من جن هذا الحي بل من إنسه
وأقول يا عين الألى عشقوا الندى ... صدقا وشادوا حصنه من أسه
أبطا الجواب على الكئيب وطالما ... قد كان ينثر دره من حدسه
والمرء لا يرجو الكريم سوى إذا ... سئم اللبيب من الأذى عن نفسه
وأخو الندى يسقي غروس نواله ... سقي الحيا لزروعه ولغرسه
لا تطو كشحا عن جوابي إنني ... كالميت يرجو نشره من رمسه
فقال الفتى مغضبا. وأشار إلى الشيخ مخاطبا: يا أذل من وتد. ويا كثير الحسد. هل اطلع على أبياتك أحد. ثم التفت إلى الوالي. وقال ودمع خديه كاللآلي:
يا من زكت في الأصل دوحة غرسه ... وسما بفضل حازه وبحدسه
لا تصغ للعذال فيمن قد حوى ... فضلا ولم يرض الأذى من نفسه
وأراد أن يمشي إلى السادس. فقال الوالي: حسبك أيها الفارس. ثم إنه أعطى الشيخ مثل ما أعطى الفتى. وأصلح بينهما وقال: قد ضل من بغى وعتا. فخرجا من داره. وقلبي يصلى بناره. وضاق علي الفضا. وشب في فؤادي جمر الغضا. حيث سرقت مني الأبيات. ولم أقدر على الإثبات. وأخفيت ما أجنه الضمير. خوفا من أن أكون أضحوكة للكبير والصغير. وذهبت إلى رفقتي في المدرسة. وقد(5/76)
غلب علي الفكر والوسوسة. ولما قدمت عليهم. ونظرت عيني إليهم فإذا الرجل والفتى لبسا أحسن الملابس. وتصدرا أعلى المجالس. وتأملهما ووقفت على التحقيق. أنهما من جملة أصحابي في الطريق. وأردت أن أظهر القضية. وأوطن النفس على الأمنية أو المنية. ثم رأيت أن الصبر بمثلي أحرى. فاحتسبت الثواب في الدار الأخرى. ثم سألت عنه وعن الفتى. فقيل: هما رحلة الصيف والشتاء أبو الظفر الهندي ونجله الأديب. اللذان عليهما شعرة الذيب. فسألت الله الأمان والظفر. في الإقامة والسفر
المقامة الوعظية
روى الناصر بن فتاح قال: اشتاقت نفسي إلى الأترنج. فسألت عنه فقيل لي إنه لا يوجد إلا في بلدة صرنج. فسافرت إليها مع جماعة من الأدباء. والعلماء والخطباء. فلما وصلنا إلى فنائها. سألنا عن علمائها. فقيل ليس بها إلا الحاكة والصابغون. والحدادون والصائغون. وفيها جماعة من الحكماء والعلماء الأعلام. ولكنهم قد تغيروا بصحبة الحكام. وقد فشافيها فعل الحرام والظلم. ولم ينتظم لحاكمها حكم. فقلت لأصحابي: إني أرى في السفر السلامة. والعطب والضرر في الإقامة. وأخشى أن يخسف الله بهم الأرض. ونهلك بسببهم فسافروا تغنموا. وتجنبوا مواضع التهم لئلا تتهموا. فلما وعت كلامي المسامع. قالوا: ما منا إلا مطيع لك وسامع. ولما خرجنا من(5/77)
البلد نحو ميل. ضاق من كثرة الخلق علينا السبيل. وانثالوا من كل ناحية ومكان. وتجمعوا من جميع البلدان. وهم قاصدون إلى البلدة التي خرجنا منها. والبقعة التي تجاوزنا عنها. ويقلون دخل البلد بعض الوعاظ. وقد فاق في بلاغته خطيب عكاظ. وإنه سيخطب ويعظ الناس يوم الجمة. فطوبى لمن يراه ويسمعه. فرجعت دون رفقتي. وأخذت معي قدر نفقتي. ولما قضينا النفل والفرض. جلست لاستماع الوعظ. فأقبل الواعظ يمشي مائسا. وبردائه متطلسا وصعد المنبر وقال: الحمد لله الكبير المتعال. الذي جرت عادته بالإمهال. دون الإهمال. الذي رفع العلم حتى رفع العلم حتى قصر كل مقصر دونه. وأشهد أن لا إله إلا هو عز وجل. شهادة عبد بذل لعباده النصيحة. وحذرهم من العصيان والوقوع في الفضيحة. وبعد فيا أيها الناس أوصيكم بتقوى الله وطاعته. والاحتراز من إبليس وبطانته. فانتبهوا من سنة الغفلة. ولا تغتروا بالمهلة. فإن رسوم الدين ببلدكم قد عفت. وأعلام الهدى قد طمست. وأحام الشريعة قد عطلت. والفرائض قد رفضت. والمحارم قد انتهكت. والخمور قد سربت. والأيتام والضعفاء قد ظلمت. حتى لبس الإسلام في هذا الزمان الفر ومقلوبا. فجعل أعلاه أسفله وأسفله أعلاه. وقرب فيه الجاهل. وأبعد فيه الفاضل. واستكمل الفاجر. واستنقص فبه الطاهر. وكذب الصادق وصدق الكاذب. واستؤمن الخائن واستخون(5/78)
الأمين. وهاجت الدهماء. وكثر الضلال والعمى. فلم يبق من الإسلام إلا اسمه. ولا من الدين إلا رسمه. وأنتم عباد الله غير الله معذورين من الله بتغيير ذلك. ولا متروكين عن المؤاخذة بذلك. فتوبوا وصححوا التوبة قبل إغلاق بابها. وقبل طلوع الشمس من مغربها. فبكى القوم حتى كاد أحدهم لا يستطيع الحركة. إلا إذا آخر حركه. ولقد رأيت الواحد يسبح في دموعه. وكدت من زفراته أعلم عدد ضلوعه. ولما رأى الخطيب القوم كجزوع نخل منقر. هرب كالسيل المنهمر. وتبعته في طريقته. لأطلع على حقيقته. فالتفت إلي وقال: يا مهدي. ارجع أنا أبو الظفر الهندي. فرجعت إلى رفقتي السابقة. وجوانحي من كثرة البكاء والخوف خافقة
نخبه من مقامات بديع الزمان الهمذاني
المقامة القريضية
حدثنا عيسى بن هشام قال: طرحتني النوى مطارحها حتى إذا وطئت جرجان الأقصى. فاستظهرت على الأيام بضياع أجلت فيها يد العمارة. وأموال وقفتها على التجارة. وحانوت جعلته مثابة. ورفقة اتخذتها صحابة. وجعلت للدار. حاشيتي النهار. وللحانوت ما بينهما. فجلسنا يوما نتذاكر القربض وأهله وتلقاءنا شاب قد جلس غير بعيد ينصت وكأنه يفهم ويسكت وكأنه لا يعلم. حتى إذا مال الكلام بنا ميله. وجر الجدال فيناذيله. قال: قد أصبتم عذيقه. ووافيتم(5/79)
جذيله. ولو شئت للفظت وأفضت. ولو قلت لأصدرت وأوردت. ولجلوت الحق في معرض بيان يسمع الصم. وينزل العصم. فقلت: يا فاضل ادن فقد منيت. وهات فقد أثنيت. فدنا وقال: سلوني أجبكم. واسمعوا أعجبكم. فقلنا: ما تقول في امرىء القيس. قال: هو أول من وقف بالديار وعرصاتها. واغتدى والطير في وكناتها. ووصف الخيل بصفاتها. ولم يقل الشعر كاسبا. ولم يجد القول راغبا. ففضل من تفتق للحيلة لسانه. وتنجع للرغبة بنانه. قلنا: فما تقول في النابغة قال: يثلب إذا حنق. ويمدح إذا رغب. ويعتذر إذا رهب. ولا يرمي إلا صائبا. قلنا فما تقول في زهير. قال: يذيب الشعر والشعر يذيبه. ويدعو القول والسحر يجيبه. قلنا: فما تقول في طرفة. قال: هو ماء الأشعار وطينتها. وكنز القوافي ومدينتها. مات ولم تظهر أسرار دفائنه. ولم تفتح أغلاق خزائنه. قلنا فما تقول في جرير والفرزدق. وأيهما أسبق. فقال: جرير أرق شعرا. وأغزر غزرا. والفرزدق أمتن صخرا. وأكثر فخرا. وجرير أوجع هجوا وأشرف يوما. والفرزدق أكثر روما. وأكرم قوما. وجرير إذا نسب أشجى. وإذا ثلب أردى. وإذا مدح أسنى. والفرزدق إذا افتخر أجزى. وإذا احتقر أزرى. وإذا وصف أوفى. قلنا: فما تقول في المحدثين من الشعراء والمتقدمين منهم. قال: المتقدمون أشرف لفظا. وأكثر من المعاني حظا. والمتأخرون ألطف صنعا وأرق نسجا. قلنا: فلو أريت من أشعارك.(5/80)
ورويت لنا من أخبارك. قال: خذهما في معرض واحد وقال:
أما تروني أتغشى طمرا ... ممتطيا في الضر أمرا مرا
مضطبنا على الليالي غمرا ... ملاقيا منها صروفا حمرا
أقصى أماني طلوع الشعرى ... فقد عنينا بالأماني دهرا
وكان هذا الحر أعلى قدرا ... وماء هذا الوجه أغلى سعرا
ضربت للسر قبابا خضرا ... في دار دارا وإوان كسرى
فانقلب الدهر لبطن ظهرا ... وعاد عرف العيش عندي نكرا
لم يبق من وفري إلا ذكرا ... ثم إلى اليوم هلم جرا
لولا عجوز لي بسر من را ... وأفرخ دون جبال بصرى
قد جلب الدهر عليهم ضرا ... قتلت يا سادة نفسي صبرا
قال عيسى بن هشام: فأنلته ما تاح. وأرض عنا فراخ. فجعلت أنفيه وأثبته. وأنكره وكأني أعرفه. ثم دلتني عليه ثناياه. فقلت: الإسكندري والله. فقد كان فارقنا خشفا. ووافانا جلفا. ونهضت على إثره. ثم قبضت على خصره. وقلت ألست أبا الفتح. ألم نربك فينا وليدا ولبثت فينا من عمرك سنين. فأي عجوز لك بسر من را. فضحك إلي وقال:
ويحك هذا الزمان زور ... فلا يغرنك الغرور
لا تلتزم حالة ولكن ... در بالليالي كما تدور(5/81)
المقامة الجرجانية
حدثنا عيسى بن هشام قال: بينا نحن بجرجان في مجمع لنا نتحدث وما فينا إلا منا. إذ وقف علينا رجل ليس بالطويل المتمدد. ولا القصير المتردد. كث العثنون يتلوه صغار. في أطمار. فافتتح الكلام بالسلام. وتحية الإسلام. فولانا جميلاً. وأوليناه جزيلاً. فقال: يا قوم إني امرؤ من أهل الإسكندرية من الثغور الأموية. نمتني سليم ورحبت بي عبس. جبت الآفاق. وتقصيت العراق. وجلت البدو والحضر. وداري ربيعة ومضر. ما هنت. حيث كنت. فلا يزرين بي عندكم ما ترونه من سملي وأطماري. فلقد كنا والله من أهل ثم ورم. نرغي لدى الصباح. ونثغي عند الرواح:
وفينا مقامات حسان وجوههم ... وأندية ينتابها القول والفعل
على مكثريهم رزق من يعتريهم ... وعند المقلين السماحة والبذل
ثم إن الدهر يا قوم قلب لي من بينهم ظهر المجن. فاعتضت بالنوم السهر. وبالإقامة السفر. تترامى بي المرامي. وتتهادى بي المرامي. وقلعتني حوادث الزمن قلع الصمغة. فأصبح وأمسي أنقى من الراحة وأعرى من صفحة الوليد. وأصبحت فارغ الفناء. صفر الإناء. مالي كآبة الأسفار. ومعاقرة السفار. أعاني الفقر. وأماني الفقر. فراشي المدر. ووسادي الحجر:
بآمد مرة وبرأس عين ... وأحيانا بميا فارقينا(5/82)
ليلة بالشآم ثمت بالأه ... واز رحلي وليلة بالعراق
فما زالت النوى تطرح بي كل مطرح حتى وطئت بلد الحجر وأحلتني بلد همذان. فقبلني أحياؤها. واشرأب إلي أحباؤها. ولكن ملت لأعظمهم جفنة. وأزهدهم جفوة:
له نار تشب على يفاع ... إذا النيران ألبست القناعا
فوطأ لي مضجعا. ومهد لي مهجعا. فإن ونى لي ونية هب لي ابن كأنه سيف يمان. أو هلال بدا في غير قتمان. وأولاني نعما ضاق عنها قدري. واتسع بها صدري. أولها فرش الدار. وآخرها ألف دينار. فما طيرتني إلا النعم. حيث توالت. والديم لما انثالت. فطلعت من همذان طلوع الشارد. ونفرت نفار الآبد. أفري المسالك. وأقتفر المهالك. وأعاني الممالك. على أني خلقت أم مثواي وزغلولا لي:
كأنه دملج من فضة نبه ... في ملعب من عذارى الحي مفصوم
وقد هبت بي إليكم ريح الاحتياج. ونسيم الإلفاج. فانظروا رحمكم الله لنقض من الأنقاض. هدته الحاجة وكدته الفاقة:
أخا سفر جواب أرض تقاذفت ... به فلوات فهو أشعث أغبر
جعل الله للخير عليكم دليلا. ولا جعل للشر إليكم سبيلا. قال عيسى بن هشام: فرقت والله له القلوب. واغرورقت للطف كلامه العيون. ونلناه ما تاح في ذلك الوقت. وأعرض عنا حامدا لنا. فتبعته فإذا هو شيخنا أبو الفتح الإسكندري(5/83)
المقامة البصرية
حدثنا عيسى بن هشام قال: دخلت البصرة وأنا من سني في فتاء ومن الزي في حبر ووشاء. ومن الغنى في بقر وشاء. فأتيت المربد في الزي في رفقة تأخذهم العيون ومشينا غير بعيد إلى بعض تلك المنتزهات. في تلك المتوجهات. وملكتنا أرض فحللناها. فما كان بأسرع من ارتداد الطرف حتى عن لنا سواد. تخفضه وهاد وترفعه نجاد. وعلمنا أنه يهم بنا فأتلعنا له حتى أداه إلينا سيره ولقينا بتحية الإسلام. ورددنا عليه مقتضى السلام. ثم أجال فينا طرفه وقال: يا قوم ما منكم إلا من يلحظني شزرا. ويوسعني حزرا. وما ينبئكم عني. أصدق مني. أنا رجل من أهل الإسكندرية. من الثغور الأموية. قد وطأ لي الفضل ورحب بي عيش ونماني بيت. ثم جعجع بي الدهر عن ثمه ورمه. وأتلاني زغاليل حمر الحواصل:
كأنهم حيات أرض محلة ... فلو يعضون لذكى سمهم
إذا نزلنا أرسلوني كاسبا ... وإن رحلنا ركبوني كلهم
ونشزت علينا البيض وشمست منا الصفر. وأكلتنا السود وحطمتنا الحمر. وانتابنا أبو مالك. فما يلقانا أبو جابر إلا عن عقر. وهذه البصرة ماؤها هضوم. وفقيرها مهضوم. والمرء من ضرسه في شغل. ومن نفسه في كل. فكيف بمن
يطوف ما يطوف ثم يأوي ... إلى زغب محددة العيون(5/84)
كساهن البلى شعثا فتمسي ... جياع الناب ضامرة البطون
ولقد أصبحن اليوم وسرحن الطرف في حي كميت. وبيت كلا بيت. وقلبن الأكف على ليت. ففضضن عقد الدموع. وأفضن ماء الضلوع. وتداعين باسم الجوع:
والفقر في زمن اللئا ... م لكل ذي كرم علامة
رغب الكرم إلى اللئا ... م وتلك أشراط القيامة
ولقد اخترتكم يا سادة. ودلتني عليكم السعادة. وقلت قسما. إن فيهم لدسما. فهل من فتى يعشيهن. أو يغشيهن. وهل من حر يغديهن. أو يرديهن. قال عيسى بن هشام: فو الله ما استدان على حجاب سمعي كلام رائع أبرع وأرفع وأبدع مما سمعت منه. لا جرم إنا استمحنا الأوساط. ونفضنا الأكمام وبحثنا الجيوب. ونلته أنا مطرفي وأخذت الجماعة إخذي. وقلنا له: الحق بأطفالك فأعرض عنا بعد شكر وفاه. ونشر ملأ به فاه
المقامة القردية
حدثنا عيسى بن هشام قال: بينا أنا بمدينة السلام. قافلا من البلد الحرام. أميس ميس الرجلة. على شاطئ الدجلة. أتأمل تلك الطرائف. وأتقصى تلك الزخارف. إذا انتهيت إلى حلقة رجال مزدحمين يلوي الطرب أعناقهم. ويشق الضحك أشداقهم. فساقني الحرص إلى ما ساقهم حتى وقفت بمسمع صوت الرجل دون مرأى(5/85)
وجهه لشدة الهجمة. وفرط الزحمة. فإذا هو قراد يرقص قرده. ويضحك من عنده. فرقصت رقص المحرج. وسرت سير الأعرج. فوق رقاب الناس يلفظني عاتق هذا لسرة ذاك. حتى افترشت لحية رجلين. وقعدت بعد الأين. وقد أشرقني الخجل بريقه. وأرهقني المكان بضيقه. ولما فرغ القراد من شغله. وانتفض المجلس عن أهله. قمت وقد كساني الدهش حلته. لأرى صورته. فإذا هو والله أبو الفتح الإسكندري. فقلت: ما هذه الدناءة ويحك. فأنشأ يقول:
ألذنب للأيام لا لي ... فاعتب على صرف الليالي
بالحمق أدركت المنى ... ورفلت في حلل الجمال
المقامة العلمية
حدثنا عيسى بن هشام قال: كنت قي بعض مطارح الغربة مجتازا فإذا أنا برجل يقول لآخر: بم أدركت العلم وهو يجيبه. قال: طلبته فوجدته بعيد المرام. لا يصطاد بالسهام. ولا يقسم بالأزلام. ولا يرى في المنام. ولا يضبط باللجام. ولا يورث عن الأعمام. ولا يستعار من الكرام. فتوسلت إليه بافتراش المدر. واستناد الحجر. ورد الضجر. وركوب الخطر وإدمان السهر. واصطحاب السفر وكثرة النظر. وإعمال الفكر. فوجدته شيئا لا يصلح إلا للغرس. ولا يغرس إلا في النفس. وصيدا لا يقع إلا في الندر. ولا ينشب إلا في الصدر. وطائرا لا يخدعه إلا قنص اللفظ.(5/86)
ولا يعلقه إلا شرك الحفظ. فحملته على الروح وحبسته على العين. وأنفقت من العيش وخزنت في القلب. وحررت بالدرس واسترحت من النظر إلى التحقيق. ومن التحقيق إلى التعليق. واستعنت في ذلك بالتوفيق. فسمعت من الكلام ما فتق السمع ووصل إلى القلب. وتغلغل في الصدر. فقلت: يا فتى ومن أين مطلع هذه الشمس. فجعل يقول:
إسكندرية داري ... لو قر فيها قراري
لكن بالشام ليلي ... وبالعراق نهاري
المقامة الملوكية
حدثنا عيسى بن هشام قال: كنت في منصر في من اليمن. وتوجهي إلى نحو الوطن. أسري ذات ليلة لا سانح بها إلا الضبع. ولا بارح إلا السبع. فلما انتضي نصل الصباح. وبرز جبين المصباح. عن لي في البراح. راكب شاكي السلاح. فأخذني منه ما يأخذ الأعزل. من مثله إذا أقبل. لكني تجلدت فوقفت وقلت: أرضك لا أم لك فدوني شرط الحداد. وخرط القتاد. وحمية أزدية. وأنا سلم إن كنت. فمن أنت. فقال: سلما أصبت. ورفيقا كما أحببت. فقلت: خبرا أحببي. وسرنا فلما تخالينا. وحين تجالينا. أجلت القصة عن أبي الفتح الإسكندري. وسألني عن أكرم من لقيته من الملوك فذكرت ملوك الشام. ومن بها من الكرم. وملوك العراق ومن(5/87)
بها من الأشراف. وأمراء الأطراف. وسقت الذكر. إلى ملوك مصر. فرويت ما رأبت وحدثته بعوارف ملوك اليمن ولطائف ملوك الطائف وختمت مدح الجملة. بذكر سيف الدولة. فأشأ يقول:
يا ساريا بنجوم الليل يمدحها ... ولو رأى الشمس لم يعرف لها خطرا
وواصفا للسواقي هبك لم تزر ال ... بحر المحيط ألم تعرف له خبرا
من أبصر الدر لم يعدل به حجرا ... ومن رأى خلفا لم يذكر البشرا
زره تزر ملكا يعطي بأربعة ... لم يحوها أحد وانظر إلية ترى
أيامه غررا ووجهه قمرا ... وعزمه قدرا وسيبه مطرا
ما زلت أمدح أقواما أظنهم ... صفو الزمان فكانوا عنده كدرا
(قال عيسى بن هشام) فقلت: من هذا الملك الرحيم الكريم. فقال: كيف يكون. ما لم تبلغه الظنون. وكيف أقوال. ما لم تقبله العقول. ومتى كان ملك يأنف الأكارم. إن بعث بالدراهم. والذهب. أيسر ما يهب. والألف. لا يعمه إلا الخلف. وهذا جبل الكحل قد أضر به الميل. فكيف لا يؤثر ذلك العطاء الجزيل. وهل يجوز أن يكون ملك يرجع من البذل إلى سرفه. ومن الخلق إلى شرفه ومن الدين إلى كلفه. ومن الملك إلى كنفه ومن الأصل إلى سلفه ومن النسل إلى خلفه
فليت شعري من هذي مآثره ... ماذا الذي ببلوغ النجم ينتظر(5/88)
المقامة البخارية
حدثنا عيسى بن هشام قال: أحلني جامع بخارى وقد انتظمت مع رفقة في سلك الثريا. وحين احتفل الجامع بأهله طلع إلينا ذو طمرين قد أرسل صوانا. واستتلى طفلا عرياناً. يضيق بالضر ويسعه. ويأخذه القر ويدعه. لا يملك غير القشرة بردة. ولا يلتقي لحياة رعدة. فوقف الرجل وقال: لا ينظر لهذا الطفل إلا من رحم الله طفله. ولا يرق لهذا الضر إلا من لا يأمن مثله. يا أصحاب الخروز المفروزة. والأردية المطروزة. والدور المنجدة. والقصور المشيدة. إنكم لن تأمنوا حادثا. ولن تعدموا وارثا. فبادروا الخير ما أمكن. وأحسنوا مع الدهر ما أحسن. فقد والله طمعنا السكباج. وركبنا الهملاج. ولبسنا الديباج. وافترشنا الحشايا بالعشايا. فما راعنا غلا هبوب الدهر بغدره. وانقلاب المجن لظهره. فعاد الهملاج قطوفا. والديباج صوفا. وهلم جرا إلى ما تشاهدون من حالي وزيي. فها نحن نرتضع من الدهر ثدي عقيم. ونركب من الفقر ظهر بهيم. فلا نرنو إلا بعين اليتيم. ولا نمد إلا يد العديم. فهل من كريم يجلو غياهب هذه البؤوس. ويفل شبا هذه النحوس. ثم قعد مرتفقا وقال للطفل: أنت وشأنك. فقال: ما عسى أن أقول وهذا الكلام لو لقي الشعر لحلقه. أو الصخر لفلقه. وإن قلبا لم ينضجه لنيئ. وقد سمعتم يا قوم ما لم تسمعوا قبل اليوم. فليشغل كل منكم بالجود يده. وليذكر غده. واقياً بي ولده. وامنحوني(5/89)
وأشكركم. واذكروني أذكركم. وأعطوني أشكركم. قال عيسى بن هشام: فما انسني في وحدتي غلا خاتم ختمت به خنصره. فلما تناوله أنشأ وجعل يقول:
وممنطقٍ من نفسه ... بقلادة الجوزاء حسنا
متألفٍ من غير أس ... رته على الأيام خدنا
علقٌ سني قدره ... لكن من أهداه أسنى
أقسمت لو كان الورى ... في المجد لفظا كنت معنى
قال عيسى بن هشام: فنلناه ما تاح من الفور فأعرض عنا حامداً لنا. فتبعته حتى سفرت الخلوة عن وجهه. فإذا هو والله شيخنا أبو الفتح الإسكندري. وإذا الطلا زغلوله فقلت: أبا الفتح شبت وشب الغلام. فأين السلام وأين الكلام. فقال:
غريبا إذا جمعتنا الطريق ... أليفا إذا نظمتنا الخيام
فعلمت أنه يكره مخاطبتي فتركته وانصرفت(5/90)
الباب الخامس في المناظرة
مناظرة الأزهار أو المقامة الوردية
حدثنا الريان عن أبي الريحان. عن أبي الورد أبان. عن بلبل الأغصان. عن ناظر الإنسان. عن كوكب البستان. عن وابل الهتان. قال: مررت يوما على حديقة. خضرة نضرة أنيقة. طلولها وديقة. وأغصانها وريقة. وكوكبها أبدى بريقه. ذات ألوان وأفنان. وأكمام وأكنان. وإذا بها أزرار الأزهار مجتمعة. وأنوار الأنوار ملتمعة. وعلى منابر الأغصان أكابر الأزاهر. والصبا تضرب على رؤوسها من الأوراق الخضر بالمزاهر. فقلت لبعض من عبر: ألا تحدثوني ما الخبر. فقال: إن عساكر الرياحين قد حضرت. وأزهار البساتين قد نظرت لما نضرت. واتفقت على عقد مجلس حافل. لاختيار من هو بالملك أحق وكافل. وها أكابر الأزهار قد صعدت المنابر. لبيدي كل حجته للناظر. ويناظر بين أهل المناظر. في أنه أحق أن يتأمر على البوادي منها والحواضر. فجلست لأحضر فصل الخطاب. وأسمع ما يأتي به كل من الحديث المستطاب (فهجم الورد) بشوكته. ونجم من بين الرياحين معجبا بإشراق(5/91)
صورته. وإفراق صولته. وقال: بسم الله المعين وبه نستعين. أنا الورد ملك الرياحين. والوارد منعشا للأرواح ومتاعا لها إلى حين. ونديم الخلفاء والسلاطين. والمرفوع أبدا على الأسرة لا أجلس على ترب ولا طين. والظاهر لوني الأحمر على أزاهر البساتين. والعزيز عند الناس. والمودود بين الجلاس للإيناس. والعادل في المزاج. والصالح في العلاج. أسكن حرارة الصفراء. وأقوي الباطن من الأعضاء. وابرد أنواع اللهيب الكائنة في الراس. وربما أستخرجها منه بالعطاس. وانفع من القلاع والقروح. وأنا بعطريتي ملائم لجوهر الروح. ومن تجرع من مائي يسيرا. نفع من الغشي والخفقان كثيرا. ودهني شديد النفع للخراجات. وفيه مآرب كثيرة لذوي الحاجات. وأنا مع ذلك جلد صبار. أجري مع الأقدار. إذا صليت بالنار. فلهذا رفعت من أغصاني الأشائر. ودقت من داراتي البشائر. وأعملت لي المشاعر. وقال في الشاعر:
للورد عندي محل ... ورتبة لا تمل
كل الرياحين جند ... وهو الأمير الأجل
إن جاء عزوا وتاهوا ... حتى إذا غاب ذلوا
(فقام النرجس) على ساق. ورمى الورد منه بالأحداق. وقال: لقد تجاوزت الحد يا ورد. وزعمت أنك جمع في فرد. إن اعتقدت أن لك بحمرتك فخرة. فإنها منك فجرة. وإن قلت إنك نافع(5/92)
في العلاج. فكم لك في منهاج الطب من هاج. فاحفظ حرمتك. وإلا كسرت بقائم سيفي شوكتك. ويكفيك قول البستي فيك:
لا يغرنك أنني لين الم ... س لأني إذا انتضيت حسام
أنا كالورد فيه راحة قوم ... ثم فيه لآخرين زكام
ولكن أنا القائم لله في الدياجي على ساقي. ألساهر طول الليل في عبادة ربي فلا تطرف أحداقي. وأنا مع ذلك المعد للحروب. ألمدعو عند تزاحم الكروب. ألا ترى وسطي لا يزال مشدودا. وسيفي لا يزال مجرودا. وأنا فريد الزمان. في المحاسن والإحسان. ولهذا قال في كسرى أنوشروان: النرجس ياقوت أصفر. بين در أبيض على زمرد أخضر. وأنا المقرون في مهمات الأدواء بالصلاح. أنفع غاية النفع. من داء الثعلب والصرع. ومن الدليل على صلاحي. أن أبا نواس غفر له أثنى علي بأبيات قالها في امتداحي:
تأمل في رياض الأرض وانظر ... إلى آثار ما صنع المليك
عيون من لجين شاخصات ... بأحداق كما الذهب السبيك
على قضيب الزبرجد شاهدات ... بأن الله ليس له شريك
ولقد أحسن ابن الرومي حيث قال. مبينا فضلي على كل حال:
أيها المحتج للور ... د بزور ومحال
ذهب النرجس بالفض ... ل فأنصف في المقال
(فقام الياسمين) وقال: آمنت برب العالمين. لقد تجبست(5/93)
يا جبس. وأكثرك رجس ننجس. وأنت قليل الحرمة. واسمك مشمول بالعجمة. وكيف تطلب الملك وأنت بعد قائم مشدود الوسط في الخدمة رأسك لا يزال منكوس. وأنت المهيج للقيء المصدع من المحرورين للروس. أصفر من غير علة. مكسو أحقر حلة. ويكفيك بعض واصفيك.
أرى النرجس الغض الزكي مشمراً ... على ساقه في خدمة الورد قائم
وقد ذل حتى لف من فوق رأسه ... عمائم فيها لليهود علائم
ولكن أنا زين الرياض. والموسوم في الوجه بالبياض. شطر الحسن كما ورد. وأنا ألطف من ورد جاورد. ونشري أعبق من نشرك صباحا وندا. فأنا أحق بالملك منك منصورا ومؤيدا. وأنا النافع من أمرض العصب الباردة. والملطف للرطوبات الجامدة. أنفع من اللقوة والشقيقة والزكام. ومن وجع الرأس البلغمي والسوداوي. ودهني نافع من الفالج ووجع المفاصل. ويحلل الأعضاء ويجلب العرق الفاضل. يقول لي لسان الحال: لست الهزيل مقاما ياسمين. ويشهد لسان الألثغ بأني الدر الغالي إذا قال: يا ثمين
أنا الياسمين الذي ... لطفت فنلت المنى
فريحي لمن قد نأى ... وعيني إلى من دنا
وقد شفت حضرتي ... لصبري على من جنى
(فقام البان) وأبدى غاية الغضب وأبان وقال: لقد تعديت(5/94)
يا ياسمين طورك. وأبعدت في المداغورك. وكونك أضعف الكون. وكثرة شمك تصفر اللون. وإذا سحق اليابس منك ورض. وذر على الشعر الأسود أبيض. وإذا قسم اسمك قسمين صار ما بين يأس ومينٍ. وإن ذكرت نفعك. فأنت كما قيل لا تساوي جمعك. ولقد صدق القائل. من الأوائل:
لا مرحبا بالياسمين ... وإن غدا في الروض زينا
صحفته فوجدته ... متضمنا يأسا ومينا
ولكن أنا ذو الاسمين. والظافر بالأصل والفرع بالقسمين. والقريب من الباز. والمضروب بقدي المثل في الاهتزاز. أزهاري عالية وأدهاني غالية. وقد ألبست خلعة السنجاب. واتفق على فضلي الأنجاب. أنفع بالشم من مزاحه حار. وأرطب دماغه وأسكن صداعه. ودهني نافع لكل وجع بارد. وتحت ذلك صور كثيرة الموارد. من الراس والضرس. ويكفي في وردي. قول ابن الوردي:
تجادلنا أماء الزهر أذكى ... أم الخلاف أم ورد القطاف
وعقبى ذلك الجدل اصطلحنا ... وقد وقع الوفاق على الخلاف
(فقام النسرين) بين القائمين. منتصرا لأخيه الياسمين. وقال: أتتعدى يابان على شقيقي. وأين الفري من الذهب الدبيقي. ألم يعرفك الحال. قول من قال:
لله بستان حللنا دوحه ... في جنة قد فتحت أبوابها(5/95)
والبان تحسبه سنانيرا رأت ... بعض الكلاب فنفشت أذنابها
ولكن أنازين البستان. وفي من الذهب والفضة لونان. أنفع من أورام الحلق واللوزتين ووجع الأسنان. ومن برد العصب والدوي والطنين في الآذان. وأسكن القيء والفواق. وأقوي القلب والدماغ على الإطلاق. وبي غاية الانتفاع. والبري مني إذا لطخ به الجبهة سكن الصداع. ويكفيك من المعاني. قول من عناني:
ما أحسن النسرين عندي وما ... أملحه مذ كان في عيني
زهر إذا ما أنا صفحته ... وجدته بشرى ويسرين
(فقام البنفسج) وقد التهب. ولاحت عليه زرقة الغضب. وقال: أيها النسرين لست عندنا من المعدودين. ولا في الصلاح من المحمودين. لأنك حار يابس إنما توافق المبرودين. ولا تصلح إلا للمشايخ المبلغمين. وأنت كثير الإذاعة فلست على حفظ الأسرار بأمين. ويعجبني ما قال فيك بعض المتقدمين:
ولم أنس قول الورد لا تركنوا إلى ... معاهدة النسرين فهو يمين
ألا تنظروا منه بنانا مخضبا ... وليس لمخضوب البنان يمين
ولكن أنا اللطيف الذات. ألبديع الصفات. ألمشبه برزق اليواقيت. وأعناف الفواخيت. ومزاجي رطب بارد. ومنافعي كثيرة الموارد. أولد دما في غاية الاعتدال. وأنفع الحار من الرمد والسعال. وأسكن الصداع الصفراوي والدموي لمن شم أو ضمد.(5/96)
وألين الصدر وأنفع من التهاب المعد. وكفاني شرفا بين الإخوان. أن دهني سيد الأدهان. بارد في الصيف حار في الشتاء فهو صالح في كل الأزمان. وذلك لأنه يسكن القلق. وينوم أصحاب الأرق. ومنافعي لا تحصى. وما أودعه خالقي في لا يستقصى. من رآني أذن بالانشراح. وتفاءل بالانفساح. ألا تسمع قول من باح وصاح:
يا مهديا لي بنفسجا أرجا ... يرتاح صدري له وينشرح
بشرني عاجلا مصحفه ... بأن ضيق الأمور ينفسح
(فقام اللينوفر) على ساق. وحشد الجيوش وساق. وأنشد بعد إطراق:
بنفسج الروض تاه عجبا ... وقال طيبي للجو ضمخ
فأقبل الزهر في احتفال ... والبان في غيظه تنفخ
ثم قال البنفسج: بأي شيء تدعي الإمارة. وتطاوع نفسك والنفس أمارة. وأكثر ما عندك أنك تشبه بالعذار وبالنار في الكبريت. وحاصل هذين يرجع إلى أشنع صيت. وما من نفع ذكرته عنك إلا وأنا أفعل مثله وأكثر. وأنا أحرى بسلامة العاقبة منك وأجدر. من شرب اليابس منك ولده قبضا على القلب. وربى في معدته وأمعائه وأحدث له الكرب. وقد كفانا الورد مؤونة الرد عليك. وحذرنا من القرب منك والإصغاء إليك. فقال:
أعلي يفتخر البنفسج جاهلاً ... وإلي يعزى كل فضل يبهر(5/97)
وأنا المحبب للقلوب زمانه ... وبمقدمي أهل المسرة تفخر
وقال الحاكي. عن الورد الباكي:
عانيت ورد الروض يلطم خده ... ويقول وهو على البنفسج محنق
لا تقربوه وإن تضوع نشره ... ما بينكم فهو العدو الأزرق
ولكن أنا اللطيف الغواص. ألكثير الخواص. أسكن الصداع الحار. وأذهب بالأرق والأسهار. وما أحسن ما قال في. بعض واصفي:
يرتاح للينوفر القلب الذي ... لا يستفيق من الغرام وجهده
والورد أصبح في الروائح عبده ... والنرجس المسكي خادم عبده
يا حسنه في بركة قد أصبحت ... محشوة مسكا تشاب بنده
ومني صنف يقال له البشنين. يشابهني في التكوين. لا في التلوين. ويحدث عند إطباق النيل. وله في منافع الطب تنويل. دهنه محمود في البرسام. إذا تسعط به ذو الأسقام. وقد أنشد فيه. من أراد أن يوصله حقه ويوفيه:
وبركة بغدير الماء قد طفحت ... بها عيون من البشنين قد فتحت
كأنها وهي تزهو في جوانبها ... مثل السماء وفيها أنجم سبحت
(فقام الآس) وقد استعد. وقال: لقد تجاوزت يا لينوفر الحد. ألست المضعف للمرء في قواه. الجالب له صفة الشيخوخة في صباه. ولقد عرفك. من قال حين وصفك:
ولينوفر أبدى باطن له ... مع الظاهر المخضر حمرة عندم(5/98)
فشبهته لما قصدت هجاءه ... بكاسات حجام بها لوثة الدم
أنا المقوي للأبدان. الحابس للإسهال والعرق وكل سيلان. ألمنشف من الرطوبات. ألمانع من الصنان. ألمسكن للأورام والحمرة والشرى والصداع والخفقان. وأنا الباقي في طول الزمان. وقال في بعض الأعيان:
الآس سيد أنواع الرياحين ... في كل وقت وحين في البساتين
يبقى على الدهر لا تبلى نضارته ... لا في المصيف ولا في برد كانون
وقال آخر:
للآس فضل بقائه ووفائه ... ودوام منظره على الأوقات
قامت على أغصانه ورقاته ... كنصول نبل جئن مؤتلفات
(فقام الريحان) وقال: يا آس. لأجرحنك جرحا ما له من آس:
إذا قالت حذام فصدقوها ... فإن القول ما قالت حذام
وأنا الوارد في: عليكم بالمرزنجوش. فشموه فإنه جيد للخشام وأنا أنفع من لسعة العقرب لمن بالخل ضمد. ودهني يدخل في الضمادات للفالج الذي يعرض فيه ميل الرقبة إلى خلف وفي تشنج الأعصاب. ومع هذا فأنا المنوه باسمي في القرآن. حيث يقال: فروح وريحان. وحسبك مني في التشبيه. قول من قال على البديه:
أما ترى الريحان أهدى لنا ... حما حما منه فأحيانا
كأنه في ظله والندى ... زمرد يحمل مرجانا(5/99)
فعطف عليه الآس. وقال: يا ريحان أتريد أن تسود. وأنت تشبه بهامات العبيد السود. ألم يغنك عن مقصوري. قول الشهاب المنصوري:
وريحان تميس به غصون ... يطيب بشمه لثم الكؤوس
كسودان لبسن ثياب خز ... وقد قاموا مكاشيف الرؤوس
قال الراوي: فلما أبدى كل ما لديه. وقال ما ورد عليه. اتفق رأي الناظرين. وأهل الحل والعقد من الحاضرين. على أن يجعلوا بينهم حكما عادلا. يكون لقطع النزاع بينهم فاصلا. فقصدوا رجلا عالما بالأصول والفروع. حافظا للآثار الموقوف منها والمرفوع. عارفا بالأنساب. مميزا بين الأسماء والألقاب. والأتباع والأصحاب. مديد الباع. بسيط اليدين في معرفة الخلاف والإجماع. خبيرا بمباحث الجدل. واستخراج مسالك العلل. متبحراً في علوم اللغة والإعراب. مطلعا بعلوم البلاغة والخطاب. محيطا بفنون البديع. حافظا للشواهد الشعرية التي هي أبهى من زهر الربيع. شديد الرمية. سديد الإصابة. ألشعر والنظم صوغ بيانه. والنثر والإنشاء طوع بنانه. والتاريخ الذي هو فضيلة غيره فضلة ديوانه. فلما مثلوا بين يديه. ووقعت أعينهم عليه. قالوا: يا فريد الأرض. يا عالم البسيطة ما بين طولها والعرض. إنا أخصام بغى بعضنا على بعض. فانظر في حالنا لنكون لك ذخيرة يوم العرض. واحكم بيننا بالحق.(5/100)
واقض لأينا بالملك أحق. فقال: أيتها الأزهار إني لست كالذي تحاكم إليه العنب والرطب. ولا الذي تقاضى إليه المشمش والتوت ولا التين والعنب. إني لا أقبل الرشا. ولا أطوي على الغل الحشا ولا أميل مع صاحب رشوة. ولا أستحل من مال المسلمين حسوة. إنما أحكم بما ثبت في السنة. ولا أسلك غلا طريقا موصلا للجنة. فقصوا علي الخبر. لأعرف من فجر منكم وبر. فلما قص عليه كل قوله. وأبدى هينه وهوله. قال: ليس أحد منكم عندي مستحقا للملك. ولا صالحا للانخراط في هذا السلك. ولكن الملك الأكبر. والسيد البر. وصاحب المنبر ذو النشر الأعطر. والقدر الأخطر. ألسيد الأيد الصالح الجيد هو الفاغية. وقد جاء في الحديث: إن سيد الرياحين في الدنيا والآخرة الفاغية اشتمل على ما في الرياحين من الحسنى وحكم له بالسيادة. وشهد له بها وناهيك بالشهادة (قال) فلما سمعت الرياحين الأحاديث في فضل الفاغية أطرقوا رؤوسهم خاشعين. وظلت أعناقهم لها خاضعين. ودخلوا تحت أمره سامعين طائعين. ومدوا أيديهم لها مبايعين بالإمرة ومتابعين. وقالوا لقد كنا قبل في غفلة عن هذا إنا كنا ظالمين. وإنا إذا لمن الآثمين. وقضى بينهم بالحق وقيل الحمد لله رب العالمين
مناظرة بين فصول العام
حضر فصول العام مجلس الأدب. في يوم بلغ منه الأديب(5/101)
نهاية الأرب. بمشهد من ذوي البلاغة. ومتقي صناعة الصياغة. فقام كل منهم يعرب عن نفسه. ويفتخر على أبناء جنسه
(فقال الربيع) : أنا شاب الزمان. وروح الحيوان. وإنسان عين الإنسان. أنا حياة النفوس. وزينة عروس الغروس. ونزهة الأبصار. ومنطق الأطيار. عرف أوقاتي ناسم. وأيامي أعياد ومواسم. فيها يظهر النبات. وتنشر الأموات. وترد الودائع. وتتحرك الطبائع. ويمرح جنيب الجنوب. وينزح وجيب القلوب. وتفيض عيون الأنهار. ويعتدل الليل والنهار. كم لي عقد منظوم. وطراز وشي مرقوم. وحلة فاخرة. وحلية ظاهرة. ونجم سعد يدني راعيه من الأمل. وشمس حسن تنشد: يا بعد ما بين برج الجدي والحمل. عساكري منصورة. وأسلحتي مشهورة. فمن سيف غصن مجوهر. ودرع بنفسج مشهر. ومغفر شقيق أحمر. وترس بهار يبهر. وسهم آس يرشق فينشق. ورمح سوسن سنانه أزرق. تحرسها آيات. وتكنفها ألوية ورايات. بي تحمر من الورد خدوده. وتهتز من البان قدوده. ويخضر عذار الريحان. وينتبه من النرجس طرفه الوسنان. وتخرج الخبايا من الزوايا. ويفتر ثغر الأقحوان قائلا: أنا ابن جلا وطلاع الثنايا
إن هذا الربيع شيء عجيب ... تضحك الأرض من بكاء السماء
ذهب حيثما ذهبنا ودر ... حيث درنا وفضة في الفضاء(5/102)
(وقال الصيف) : أنا الخل الموافق. والصديق الصادق. والطبيب الحاذق. أجتهد في مصلحة الأصحاب. وأرفع عنهم كلفة حمل الثياب. وأخفف أثقالهم. وأوفر أموالهم. وأكفيهم المؤونة. وأجزل لهم المعونة. وأغنيهم عن شراء الفرا. وأحقق عندهم أن كل الصيد في جوف الفرا. ونصرت بالصبا. وأوتيت الحكمة في زمن الصبا. بي تتضح الجادة. وتنضج من الفواكه المادة. ويزهو البسر والرطب. وينصلح مزاج العنب. ويقوى قلب اللوز. ويلين عطف التين والموز. وينعقد حب الرمان. فيقمع الصفراء ويسكن الخفقان. وتخضب وجنات التفاح. ويذهب عرف السفرجل مع هبوب الرياح. وتسود عيون الزيتون. وتخلق تيجان النارنج والليمون. ومواعدي منقودة. وموائدي ممدودة. ألخير موجود في مقامي. والرزق مقسوم في أيامي. ألفقير ينصاع بملء مده وصاعه. والغني يرتع في ملكه وأقطاعه. والوحش تأتي زرافات ووحدانا. والطير تغدو خماصا وتروح بطانا. قال ابن حبيب:
مصيف له ظل مديد على الورى ... ومن حلا طعما وحلل أخلاطا
يعالج أنواع الفواكه مبديا ... لصحتها حفظا يعجز بقراطا
(وقال الخريف) : أنا سائق الغيوم. وكاسر جيش الغموم. وهازم أحزاب(5/103)
السموم. وحادي نجائب السحائب. وحاسر نقاب المناقب. أنا أصد الصدى. وأجود بالندى. وأظهر كل معنى جلي. وأسمو بالوسمي والولي. في أيامي تقطف الثمار. وتصفوا الأنهار من الأكدار. ويترقرق دمع العيون. ويتلون ورق الغصون. طورا يحاكي البقم. وتارة يشبه الأرقم. وحينا يبدو حلته الذهبية. فيجذب إلى خلته القلوب الأبية. وفيها يكفى الناس هم الهوام. ويتساوى في لذة الماء الخاص والعام. وتقدم الأطيار مطربة بنشيشها. رافلة في الملابس المجددة في ريشها. وتعصر بنت العنقود. وتوثق في سجن الدن بالقيود. على أنها لم تجترح إثما. ولم تعاقب إلا عدوانا وظلما. بي تطيب الأوقات وتحصل اللذات. وترق النسمات. وترمى حصى الجمرات. وتسكن حرارة القلوب. وتكثر أنواع المطعوم والمشروب. كم لي من شجرة أكلها دائم. وحملها للنفع المتعدي لازم. وورقها غير زائل. وقدود أغصانها تخجل كل رمح ذابل. ولابن حبيب:
إن فصل الخريف وافى إلينا ... يتهادى في حليه كالعروس
عيره كان للعيون ربيعا ... وهو ما بيننا ربيع النفوس
(وقال الشتاء) :
أنا شيخ الجماعة. ورب البضاعة. والمقابل بالسمع والطاعة. أجمع شمل الأصحاب. وأسبل عليهم الحجاب. وأتحفهم بالطعام والشراب. ومن ليس له بي طاقة أغلق من دونه الباب. أميل إلى(5/104)
المطيع. ألقادر المستطيع. المعتضد بالبرود والفرا. المستمسك من الدثار بأوثق العرى. ألمرتقب قدومي وموافاتي. ألمتأهب للسبع المشهورة من كافاتي. ومن يعش عن ذكري. ولم يمتثل أمري. أرجفته بصوت الرعد. وأنجزت له من سيف البرق صادق الوعد. وسرت إلية بعساكر السحاب. ولم أقنع من الغنيمة بالإياب. معرفي معروف. ونيل نيلي موصوف. وثمار إحساني دانية القطوف. كم لي من وابل طويل المدى. وجود وافر الجدا. وقطر حلا مذاقه. وغيث قيد العفاة إطلاقه. وديمة تطرب السمع بصوتها. وحيا يحيي الأرض بعد موتها. أيامي وجيزة. وأوقاتي عزيزة. ومجالسي معمورة. بذوي السيادة مغمورة. بالخير والمير والسعادة. نقلها يأتي من أنواعه بالعجب. ومناقلها تسمح بذهب اللهب. وراحها تنعش الأرواح. وتفتن العقول الصحاح. إن ردتها وجدت مالا ممدودا. وإن زرتها شاهدت لها بنين شهودا:
وإذا رميت بفضل كأسك في الهوا ... عادت عليك من العقيق عقودا
يا صاحب العودين لا تهملهما ... حرك لنا عودا وحرق عودا
فلما نظم كل منهم سلك مقاله. وفرغ من الكلام على شرح حاله. أخذ الجماعة من الطرب ما يأخذ أهل السكر. وتجاذبوا أطراف مطارف الثناء والشكر. وظهرت أسرار السرور. وانشرحت صدور الصدور. وهبت نسمات قبول الإقبال. وأنشد الحال:(5/105)
وماذا يعيب المرء في مدح نفسه ... إذا لم يكن في قوله بكذوب
ثم انفض المجلس وحل النطاق. وتفرق شمل أهله وآخر الصحبة الفراق (نسيم الصبا لابن حبيب الحلبي)
البحر والبر
قد تفاوض لسان حال البحر ولسان حال البر. وهما في محاورة بين عيد الفطر وعيد النحر. بعتاب في السر منزه عن الشر. (فقال البر) : يا صاحب الدر ومعدن الدر أغرقت رياضي. ومزقت جسوري وأحواضى. وأغرقت جثتي ودخلت جنتي. وتلاطمت أمواجك على جنتي. وأكلت جزائري وجروفي. وأهلكت مرعى فصيلي وخروفي. وأهزلت ثوري وحملي. وفرسي وجملي. وأجريت سفنك على أرض لم تجر عليها. ولم تمر طرف غرابها إليها. وغرست أوتادها على أوتاد الأرض. وعرست في مواطن النفل والفرض. وجعلت مجرى مراكبك في مجرى مراكبي. ومشى حوتك على بطنه في سعد أخبية مضاربي. وغاص ملاحك في ديار فرحي. وهاجرت من القرى إلى أم القرى. وحملت فلاحي أثقاله على القرى. وقد تلقيتك من الجنادل بصدري. وحملتك إلى برزخك على ظهري. وقبلت أمواجك بثغري. وخلقت مقياسي فرحا بقدومك إلى مصري. وقد جرت وعدلت. وفعلت ما فعلت. وأخرجت ما بيني وبينك. واخترت رحيلك وبينك. فعلك تغيض. ولا يكون ذهابك علي(5/106)
ذهاب بغيض. أو تفارق هذه الفجاج. وتختلط بالبحر العجاج. وإن لم تفعل شكوناك إلى من أنزلك من السماء. وأنعم بك علينا من خزائن الماء:
إذا لم تكن ترحم بلادا ولم تغث ... عبادا فمولاهم يغيث ويرحم
وإن صدرت منهم ذنوب عظيمة ... فعفو الذي أجراك يا بحر أعظم
نمد إليه أيديا لم نمدها ... إلى غيره والله بالحال أعلم
(قال البحر) : يا بر يا ذا البر. ومنبت البر. هكذا تخاطب ضيفك. وهو يخصب شتاءك وصيفك. وقد ساقني الله إلى أرضك الجرز. ومعدن الدر والخرز. لأبهج زرعها وأخيلها. وأخرج أبها ونخيلها. وأكرم مثوى ساكنك. وأنزل البركة في أماكنك. وأثبت لك في قلب أهلك أحكام المحبة. وأنبت بك لهم في كل سنبلة مائة حبة. وأحييك حياة طيبة يبتهج بها عمرك الجديد. ويتلو كذلك يحيي الله الموتى ألسنة العبيد. وأطهرك من الأوساخ. وأحمل إليك الإبليز فأطيبك به من عرق السباخ. وأنا هدية الله إلى مصرك. وملك عصرك القائم بنصرك. وكذلك أنمي مال السلطان. ولولا بركاتي عليك ومسيري في كل مسرى إليك لكنت واديا غير ذي زرع. وصاديا غير ذي ضرع. هذا ولم أتحرك إليك إلا بإذن أسمعه بأذن. وأخرج لأجلك من جنات عدن. وأدخل بعد إحيائك في البحر الأعظم. وقيل إنه جهنم. وتهتز طربا إذا رحلت(5/107)
عنك بأمر من أرسلني إليك وتتبسم فلا أقل من أن تزودني بشكر. في صحو وسكر. فإلى الله البر. أحاكمك أيها البر. وأسأله أن يسخرك ويسخرني لأهل الخير والبر. فأنا وأنت إلى خيره فقيران. وترابك ومائي لأهل عباده طهوران. وبعد ذلك فأقول لك يا مبارك المسالك. وكنانة الله المحروسة بالملائك:
سريت أنا ماء الحياة فلا أذى ... إذا عشت للأصحاب فالمال هين
فكن خضرا يا بر واعلم بأنني ... إلى طينك الظمآن بالري أحسن
وأسعى إليه من بلاد بعيدة ... وأحسن أجري بالتي هي أحسن
إذا طاف طوفاني بمقياسك الذي يسر بإتيان الوفاء ويعلن
فقم وتلقاه ببسطتك التي ... لروضتها فضل على الروض بين
ولعمري لقد تلطف البر في عتابه وأحسن. ودفع البحر في جوابه بالتي هي أحسن. وقد اصطلحنا على مصالحنا بين العيدين. وصارا بفضل الله لنا كالعبدين. وهما بحمد الله خوانان لعباده. أو أخوان متظافران على عمارة بلاده. فالله تعالى يخصب مرعاهما. ويحرسهما ويرعاهما. ويثبتهما بالجبال الشواهق. ويقر بهما جفون الأحداق وعيون الحدائق (الكنز المدفون للسيوطي)
وفود العرب على كسرى
روى ابن القطامي عن الكلبي قال: قدم النعمان المنذر على كسرى وعنده وفود الروم والهند والصين. فذكروا من(5/108)
ملوكهم وبلادهم. فافتخر النعمان بالعرب وفضلهم على جميع الأمم لا يستثني فارس ولا غيرها. فقال كسرى وأخذته عزة الملك: يا نعمان لقد فكرت في أمر العرب وغيرهم من الأمم. ونظرت في حال من يقدم علي من وفود الأمم. فوجدت الروم لها حظا في اجتماع ألفتها وعظم سلطانها. وكثرة مدائنها ووثيق بنيانها. وأن لها دينا يبين حلالها وحرامها. ويرد سفيهها ويقيم جاهلها. ورأيت الهند نحوا من ذلك في حكمتها وطبها مع كثرة أنهار بلادها وثمارها. وعجيب صناعاتها وطيب أشجارها. ودقيق حسابها وكثرة عددها. وكذلك الصين في اجتماعها وكثرة صناعات أيديها وفروسيتها وهمتها في آلة الحرب وصناعة الحديد. وأن لها ملكا يجمعها. والترك والخزر على ما بهم من سوء الحال في المعاش وقلة الريف والثمار والحصون وما هو رأس عمارة الدنيا من المساكن والملابس لهم ملوك تضم قواصيهم وتدبر أمرهم. ولم أر للعرب شيئا من خصال الخير في أمر دين ولا دنيا ولا حزم ولا قوة. ومع أن مما يدل على مهانتها وذلها وصغر همتها محلتهم التي هم بها مع الوحوش النافرة والطير الحائرة. يقتلون أولادهم من الفاقة. ويأكل بعضهم بعضا من الحاجة. قد خرجوا من مطاعم الدنيا وملابسها ومشاربها ولهوها ولذاتها. فأفضل طعام ظفر به ناعمهم لحوم الإبل التي يعافها كثير من السباع لثقلها وسوء طعمها وخوف دائها. وإن قرى أحدهم ضيقا عدها مكرمة. وإن أطعم أكلة عدها غنيمة.(5/109)
تنطق بذلك أشعارهم وتفتخر بذلك رجالهم. ما خلا هذه التنوخية التي أسس جدي اجتماعها وشد مملكتها ومنعها من عدوها. فجرى لها ذلك إلى يومنا هذا. وإن لها مع ذلك آثارا لبوسا وقرى وحصونا وأمورا تشبه بعض أمور الناس (يعني اليمن) . ثم لا أراكم تستكينون على ما بكم من الذلة والقلة والفاقة والبؤس حتى تفتخروا وتريدوا أن تنزلوا فوق مراتب الناس. قال النعمان: أصلح الله الملك. حق لأمة الملك منها أن يسمو فضلها ويعظم خطبها وتعلو درجتها. إلا أن عندي جوابا في كل ما نطق به الملك في غير رد عليه ولا تكذيب له. فإن أمنني من غضبه نطقت به. قال كسرى: قل فأنت آمن. قال النعمان: أما أمتك أيها الملك فليست تنازع في الفصل لموضعها الذي هي به من عقولها وأحلامها وبسطة حكمها وبحبوحة عزها. وما أكرمها الله به من ولاية آبائك وولايتك. وأما الأمم التي ذكرت فأي أمة تقرنها بالعرب إلا فضلتها. قال كسرى: بماذا. قال النعمان: بعزها ومنعتها وحسن وجوهها وبأسها وسخائها وحكمة ألسنتها وشدة عقولها وأنفتها ووفائها. فأما (عزها ومنعتها) فإنها لم تزل مجاورة لآبائك الذين دوخوا البلاد ووطدوا الملك وقادوا الجند. ولم يطمع فيهم طامع ولم ينلهم نائل. حصونهم ظهور خيلهم ومهادهم الأرض وسقوفهم السماء. وجنتهم السيوف وعدتهم الصبر. إذ غيرهم من الأمم إنما عزها الحجارة والطين وجزائر البحور. وأما (حسن وجوهها وألوانها) فقد يعرف فضلهم في(5/110)
ذلك على غيرهم من الهند المنحرفة. والصين المنحفة. والترك المشوهة. والروم المقشرة. وأما (أنسابها وأحسابها) فليست أمة من الأمم إلا وقد جهلت آباءها وأصولها وكثيرا من أولها وآخرها. حتى أن أحدهم يسأل عمن وراء أبيه دنيا فلا ينسبه ولا يعرفه. وليس أحد من العرب إلا يسمي آباءه أبا فأبا. أحاطوا بذلك أحسابهم. وحفظوا به أنسابهم. فلا يدخل رجل في غير قومه. ولا ينتسب إلى غير نسبه ولا يدعي إلى غير أبيه. وأما (سخاؤها) فإن أدناهم رجلا الذي تكون عنده البكرة أو الناب. عليها بلاغه في حمولته وشبعه وريه. فيطرقه الطارق الذي يكتفي بالفلذة ويجتزئ بالشربة. فيعقرها له ويرضى أن يخرج عن دنياه كلها فيما يكسبه حسن الأحدوثة وطيب الذكر. وأما (حكمة ألسنتهم) فإن الله تعالى أعطاهم في أشعارهم ورونق كلامهم وحسنه ووزنه وقوافيه مع معرفتهم من ألسنة الأجناس. ثم خيلهم أفضل الخيل ونساؤهم أعف النساء. ولباسهم أفضل اللباس. ومعادنهم الذهب والفضة. وحجارة جبالهم الجزع. ومطاياهم التي لا يبلغ على مثلها سفن ولا يقطع بمثلها بلد قفر. وأما (دينها وشريعتها) فإنهم متمسكون به حتى يبلغ أحدهم من نسكه بدينه أن لهم أشهراً حرماً وبلداً محرماً وبيتاً محجوجاً. ينسكون فيه مناسكهم ويذبحون فيه ذبائحهم.
فيلقى الرجل قاتل أبيه أو أخيه وهو قادر على أخذ ثأره وإدراك رغمه منه(5/111)
فيحجزه كرمه ويمنعه دينه عن تناوله بأذى. وأما (وفاؤها) فإن أحدهم يلحظ اللحظة ويومئ الإيماء فهي ولثٌ وعقدةٌ لا يحلها إلا خروج نفسه. وإن أحدهم ليرفع عودا من الأرض فيكون رهنا بدينه فلا يغلق رهنه ولا تخفر ذمته. وإن أحدهم ليبلغه أن رجلاً استجار به وعسى أن يكون نائياً عن داره فيصاب. فلا يرضى حتى يفني تلك القبيلة التي أصابته أو تفنى قبيلته لما أخفر من جواره. وإنه ليلجأ إليهم المجرم المحدث من غير معرفة ولا قرابة فتكون أنفسهم دون نفسه وأموالهم دون ماله. وأما قولك أيها الملك (يئدون أولادهم) فإنما يفعله بعض جهلتهم بالإناث أنفة من العار. وأما قولك (إن أفضل طعامهم لحوم الإبل على ما وصفت منها) فما تركوا ما دونها إلا احتقارا له. فعمدوا إلى أجلها وأفضلها فكانت مراكبهم وطعامهم. مع أنها أكثر البهائم شحوما وأطيبها لحوما. وأرقها ألبانا وأقلها غائلة. وأحلاها مضغة. وإنه لا شيء من اللحمان يعالج بما يعالج به لحمها إلا استبان فضلها عليه. وأما (تحاربهم وأكل بعضهم بعضا وتركهم الانقياد لرجل يسوسهم ويجمعهم) . فإنما يفعل ذلك من يفعله من الأمم إذا آنست من نفسها ضعفا وتخوفت نهوض عدوها إليها بالزحف. وإنه إنما يكون في المملكة العظيمة أهل بيت واحد يعرف فضلهم على سائر غيرهم فيلقون إليهم أمورهم وينقادون لهم بأزمتهم. وأما العرب فإن ذلك كثير فيهم حتى لقد حاولوا أن يكونوا ملوكا(5/112)
أجمعين مع أنفتهم من أداء الخراج والعشر والصبر على القسر. أما اليمن التي وصفها الملك فلما أتى جد الملك الذي أتاه عند غلبة الجيش له على ملك متسق وأمر مجتمع فأتاه مسلوبا طريدا مستصرخا قد تقاصر عن إيوائه. وصغر في عينه ما شيد من بنائه. ولولا ما وتر به من يليه من العرب لمال إلى مجال. ولوجد من يجيد الطعان ويغضب للأحرار من غلبة العبيد الأشرار. (قال) فعجب كسرى لما أجابه النعمان به وقال: إنك لأهل لموضعك من الرئاسة في أهل إقليمك ولما هو أفضل. ثم كساه من كسوته وسرحه إلى موضعه من الحيرة
فلما قدم النعمان الحيرة وفي نفسه ما فيها مما سمع من كسرى من تنقص العرب وتهجين أمرهم بعث إلى أكثم بن صيفي وحاجب بن زرارة التميميين وإلى الحارث بن ظالم المري. فلما قدموا عليه في الخورنق قال لهم: قد عرفتم هذه الأعاجم وقرب جوار العرب منها. وقد سمعت من كسرى مقالات تخوفت أن يكون لها غور. أو يكون إنما أظهرها لأمر أراد أن يتخذ به العرب خولاً كبعض طماطمته في تأديتهم الخراج إليه كما يفعل بملوك الأمم الذين حوله. فاقتص عليهم مقالات كسرى وما رد عليه. فقالوا: أيها الملك وفقك الله ما أحسن ما رددت وأبلغ ما أجبت به. فمرنا بأمرك وادعنا إلى ما شئت. قال: إنما أنا رجل منكم وإنما ملكت(5/113)
وعززت بمكانكم وما يتخوف من ناحيتكم. وليس شيء أحب إلي مما سدد الله به أمركم وأصلح به شأنكم وأدام به عزكم. والرأي أن تسيروا بجماعتكم أيها الرهط وتنطلقوا إلى كسرى. فإذا دخلتم نطق كل رجل منكم بما حضره ليعلم أن العرب على غير ما ظن أو حدثته نفسه. ولا ينطق رجل منكم بما يغضبه فإنه ملك عظيم السلطان كثير الأعوان مترف معجب بنفسه. ولا تنخزلوا له انخزال الخاضع الذليل. وليكن أمر بين ذلك تظهر به وثاقة حلومكم وفضل منزلتكم وعظيم أخطاركم. وليكن أول من يبدأ منكم بالكلام أكثم بن صيفي لسنى حاله ثم تتابعوا على الأمر من منازلكم التي وضعتكم بها. فإنما دعاني إلى التقدمة إليكم علمي بجميل كل رجل منكم على التقدم قبل صاحبه. فلا يكونن ذلك منكم فيجد في آدابكم مطعنا. فإنه ملك مترف وقادر مسلط. ثم دعا لهم بما في خزائنه من طرائف حلل الملوك لكل رجل منهم حلة وعممه عمامة وختمه بياقوتة. وأمر لكل رجل منهم بنجيبة مهرية وفرس نجيبة وكتب معهم كتاباً: أما بعد فإن الملك ألقى إلي من أمر العرب ما قد علم. وأجبته بما قد فهم. بما أحببت أن يكون منه على علم. ولا يتجلجلج في نفسه أن أمة من الأمم التي احتجزت دونه بمملكتها وحمت ما يليها بفضل قوتها تبلغها في شيء من الأمور التي يتعزز بها ذوو الحزم والقوة والتدبير والمكيدة. وقد أوفدت أيها الملك رهطا من العرب لهم(5/114)
فضل في أحسابهم وأنسابهم وعقولهم وآدابهم. فليسمع الملك وليغامض عن جفاء إن ظهر من منطقهم. وليكرمني بإكرامهم وتعجيل سراحهم. وقد نسبتهم في أسفل كتابي هذا إلى عشائرهم فخرج القوم في أهبتهم حتى وقفوا بباب كسرى بالمدائن. فدفعوا إليه الكتاب فقرأه وأمر بإنزالهم إلى أن يجلس لهم مجلسا يسمع منهم. فلما أن كان بعد ذلك بأيام أمر مرازبته ووجوه أهل مملكته فحضروا وجلسوا على كراسي عن يمينه وشماله. ثم دعا بهم على الولاء والمراتب التي وصفهم النعمان بها في كتابه. وأقام الترجمان ليؤدي إليه كلامهم فأقام كل منهم خطبة أخذت بمجامع قلب الملك.... فلما انتهوا عن الكلام. قال كسرى: قد فهمت ما نطقت به خطباؤكم وتفنن فيه متكلمكم. ولولا أني أعلم أن الأدب لم يثقف أودكم ولم يحكم أمركم وأنه ليس لكم ملك يجمعكم فتنطقون عنده منطق الرعية الخاضعة الباخعة فنطقتم بما استولى على ألسنتكم وغلب على طباعكم. لم أجز لكم كثيراً مما تكلمتم به وإني لأكره أن أجبه وفودي أو أحنق صدورهم. والذي أحب هو إصلاح مدبركم وتألف شواذكم والإعذار إلى الله فيما بيني وبينكم. وقد قبلت ما كان في منطقكم من صواب وصفحت عما كان فيه من خلل. فانصرفوا إلى ملككم فأحسنوا مؤازرته والتزموا طاعته واردعوا سفهاءكم وأقيموا أودهم. وأحسنوا أدبهم فإن في ذلك صلاح العامة (لابن عبد ربه)(5/115)
الباب السادس في الحكايات واللطائف
الأعرابي ومعن بن زائدة
كان معن بن زائدة أميرا على العراق وكان له في الكرم اليد البيضاء وهو من الحلم على أعظم جانب. فقدم عليه أعرابي ذات يوم يمتحن حلمه. فلما وقف قال:
أتذكر إذ لحافك جلد شاة ... وإذ نعلاك من جلد البعير
قال معن: أذكر ولا أنساه. فقال الأعرابي:
فسبحان الذي أعطاك ملكا ... وعلمك الجلوس على السرير
قال معن: يا أخا العرب السلام سنة وشأنك في الأمير. فقال الأعرابي:
سأرحل عن بلاد أنت فيها ... ولو جار الزمان على الفقير
قال معن: يا أخا العرب إن جاورتنا فمرحبا بك وإن رحلت فمصحوب بالسلامة. فقال الأعرابي:
فجد لي يا ابن ناقصة بشيء ... فإني قد عزمت على المسير(5/116)
قال معن: أعطوه ألف دينار يستعين بها على سفره. فأخذها وقال:
قليل ما أتيت به وأني ... لأطمع منك بالمال الكثير
قال معن: أعطوه ألفا آخر. فأخذها وقال:
سألت الله أن يبقيك ذخرا ... فمالك في البرية من نظير
فقال معن: أعطوه ألفا آخر. فقال الأعرابي: يا أمير المؤمنين ما جئت إلا مختبرا حلمك لما بلغني عنه. فلقد جمع الله فيك من الحلم ما لو قسم على أهل الأرض لكفلهم. فقال معن: يا غلام كم أعطيته على نظمه قال: ثلاثة آلاف دينار. فقال: أعطه على نثره مثلها. فأخذها ومضى في طريقه شاكرا
الشاعر المتعصب للعجم
(قال بديع الزمان الهمذاني) كنت عند الصاحب كافي الكفاة أبي القاسم إسماعيل بن عباد يوما وقد دخل عليه شاعر من شعراء العجم. فأنشده قصيدة يفضل فيها قومه على العرب وهي:
غنينا بالطبول عن الطلول ... وعن عنس عذافرة ذمول
فلست بتارك إيوان كسرى ... لتوضيح أو لحومل فالدخول
وضب بالفلا ساع وذئب ... بها يعوي وليث وسط غيل
يسلون السيوف لرأس ضب ... حراشا بالغداة وبالأصيل
إذا ذبحوا فذلك يوم عيد ... وإن نحروا ففي عرس جليل
أما لو لم يكن للفرس إلا ... نجار الصاحب القرم النبيل(5/117)
لكان لهم بذلك خير فخر ... وجيلهم بذلك خير جيل
فلما وصل إلى هذا الموضع من إنشاده قال له الصاحب: فقدك. ثم اشرأب ينظر إلى الزوايا وأهل المجلس وكنت جالسا في زاوية البهو فلم يرني. فقال: ابن أبي الفضل. فقمت وقلبت الأرض وقلت: أمرك. قال: أجب عن ثلاثتك. قلت: وما هي. قال: أدبك ونسبك ومذهبك. فأقبلت على الشاعر فقلت: وما هي. قال: أدبك ونسبك ومذهبك. فأقبلت على الشاعر فقلت: لا فسحة للقول ولا راحة للطبع إلا السرد كما تسمع ثم أنشدت أقول:
أراك على سفا خطر مهول ... بما أودعت لفظك من فضول
تريد على مكارمنا دليلا ... متى احتاج النهار إلى دليل
ألسنا الضاربين جزى عليكم ... وإن الجزي أولى بالذليل
متى قرع المنابر فارسي ... متى عرف الأغر من الحجول
متى عرفت وأنت بها زعيم ... أكف الفرس أعراف الخيول
فخرت بملء ما ضغتيك هجرا ... على قحطان والبيت الأصيل
وتفخر أن مأكولا ولبسا ... وذلك فخر ربات الحجول
ففاخرهن في خد أسيل ... وفرع في مفارقها رسيل
وأمجد من أبيك إذا تزيا ... عراة كالليوث عن الخيول
(قال) فلما أتممت إنشادي التفت إليه الصاحب. وقال له: كيف رأيت. قال: لو سمعت به ما صدقت. قال: فإذن جازتك جوازك. إن رأيتك بعدها ضربي عنقك. ثم قال: لا أدري أحدا يفضل العجم على(5/118)
العرب إلا وفيه عرق من المجوسية ينزع إليه (بدائع البدائه للأزدي) روى عقيل بن خالد عن ابن شهاب أن مروان بن الحكم وعبد الله بن الزبير اجتمعا ذات يوم في حجرة عائشة والحجاب بينهما وبينها يحدثانها ويسألانها. فجرى الحديث بين مروان وابن الزبير ساعة وعائشة تسمع. فقال مروان:
فمن يشإ الرحمان يخفض بقدره ... وليس لمن لم يرفع الله رافع
فقال ابن الزبير:
فقوض إلى الله الأمور إذا اعترت ... وبالله لا بالأقربين أدافع
فقال مروان:
وداو ضمير القلب بالبر والتقى ... فلا يستوي قلبان قاس وخاشع
فقال ابن الزبير:
ولا يستوي عبدان هذا مكذب ... عتل لأرحام العشيرة قاطع
فقال مروان:
وعبد يجافي جنبه عن فراشه ... يبيت يناجي ربه وهو راكع
فقال ابن الزبير:
وللخير أهل يعرفون بهديهم ... إذا اجتمعت عند الخطوب المجامع
فقال مروان:
وللشر أهل يعرفون بشكلهم ... تشير إليهم بالفجور الأصابع
فسكت ابن الزبير ولم يجب فقالت عائشة: يا عبد الله ما لك(5/119)
لم تجب صاحبك. فو الله ما سمعت تجاولا في نحو ما تجاولتما فيه أعجب إلي من تجاولكما. فقال ابن الزبير: إني خفت عوار القول فكففت جلس أبو إسحاق النجيرمي عند كافور الإخشيدي فدخل عليه أبو الفضل بن عياش فقال: أدام الله أيام مولانا (وكسر ميم أيام) فتبسم كافور إلى أبي إسحاق. فقطن لذلك فقال ارتجالا:
لاغرو أن لحن الداعي لسيدنا ... وغص من دهش بالريق أو بهر
فمثل سيدنا حالت مهابته ... بين الأديب وبين الفتح بالحصر
وإن يكن خفض الأيام عن غلط ... في موضع النصب لا عن قلة البصر
فإن أيامه خفض بلا نصب ... وإن دولته صفو بلا كدر
فأمر له بثلاثمائة دينار وللنجيرمي بمائتين أخبر الشيخ تاج الدين العلامة أبو اليمن الكندي قال: بلغني أن علقمة بن عبد الرزاق العليمي لما قصد بدرا الجمالي بمصر رأى على بابه أشراف الناس وكبراءهم وشعراءهم. فسألهم عن حالهم فكل أخبره عن طول مقامه ببابه وتعذر لقائه له. وسألوه عن حاله فأخبرهم بقدومه قاصدا له. فكل أيسه من لقائه. فبينا هم كذلك إذ خرج بدر يريد الصيد. فلما رآه مقبلا علا نشزا من الأرض ثم جعل في عمامته ريشة نعام يشهر بها نفسه. فلما قرب إليه أو مأ برقعة كانت معه وأنشأ يقول:
نحن التجار وهذه أعلاقنا ... درر وجود يمينك المبتاع(5/120)
قلب وفتشها بسمعك إنما ... هي جوهر تختاره الأسماع
كسدت علينا بالشآم وكلما ... قل النفاق تعطل الصناع
فأتاك يحملها إليك تجارها ... ومطيها الآمال والأطماع
حتى أناخوها ببابك والرجا ... من دونها السمسار والبياع
فوهبت ما لم يعطه في دهره ... هرم ولا كعب ولا القعقاع
وسبقت هذا الناس في طلب العلى ... فالناس بعدك كلهم أتباع
يا بدر أقسم لو بك اعتصم الورى ... ولجوا إليك جميعهم ما ضاعوا
(قال) وكان على يد بدر باز فدفعه إلى البازدار فضرب على يده وانفرد به عن الجيش وجعل يستعيده الأبيات وهو ينشدها إلى أن استقر في مجلسه. ثم التفت إلى جماعة غلمانه وخاصته وأصحابه وقال: من أحبني فليخلع على هذا الشاعر. قال علقمة: فو الله لقد خرجت من عنده ومعي سبعون بغلا تحمل الخلع أهدى ابن عباد إلى فخر الدولة ابن بويه ديناراً وزنه ألف مثقال. وكان على أحد جانبيه مكتوبا:
وأحمر يحكي الشمس شكلا وصورة ... فأوصافه مشتقة من صفاته
فإن قيل دينار فقد صدق اسمه ... وإن قيل ألف كان بعض سماته
بديع ولم يطبع على الدهر مثله ... ولا ضربت أضرابه لسراته
فقد أبرزته دولة فلكية ... أقام بها الإقبال صدر قناته
وصار إلى شاهنشاه انتسابه ... على أنه مستصغر لعفاته(5/121)
يخير أن يبقى سنين كوزنه ... لتستبشر الدنيا بطول حياته
تأنق فيه عبده وابن عبده ... وغرس أياديه وكافي كفاته
وكان على الجانب الآخر سورة الإخلاص ولقب الخليفة الطائع لله ولقب فخر الدولة واسم جرجان لأنه ضرب بها كتب البهاء زهير إلى نجم الدين البادراني رسول الديوان يعتذر لتأخيره عن لقائه لما وصل إلى الديار المصرية قصيدة منها:
على الطائر المأمون تأخير قادم ... وأهلا وسهلا بالعلى والمكارم
قدمت بحمد الله أكرم مقدم ... مدى الدهر يبقى ذكره في المواسم
قدوما به الدنيا أضاءت وأشرقت ... ببشر وجوه أو بضوء مباسم
فيا حسن ركب جئت فيه مسلما ... ويا طيب ما أهدته أيدي الرواسم
أمولاي سامحني فإنك أهله ... وإن لم تسامحني فما أنت ظالمي
ووالله ما حالت عهود مودتي ... وتلك يمين لست فيها بآثم
مقيم وقلبي في رحالك سائر ... لعلك ترضاه لبعض المواسم
ولو كنت عنه سائلا لوجدته ... على بابك الميمون أول قادم
وإلا فسل عنه ركابك في الدجا ... لقد بريت من لثمه للمناسم
البندبيجي والحمامة
اجتاز المنازي البندبيجي الشاعر (وبندبيج قصر بالرافقان بين بغداد وحلوان) بسوق باب الطاق ببغداد حيث تباع الطير. فسمع حمامة تلحن في قفص فاشتراها وأرسلها وقال:(5/122)
ناحت مطوقة بباب الطاق ... فجرى سوابق مدمعي المهراق
حنت إلى أرض الحجاز بحرقة ... تشجي فؤاد الهائم المشتاق
إن الحمائم لم تزل بحنينها ... قدما تبكي أعين العشاق
كانت تفرح في الأراك وربما ... كانت تفرح في فروع الساق
تعس الفراق وجذ حبل وتينه ... وسقاه من سم الأساود ساقي
يا ويحة ما باله قمرية ... لم تدر ما بغداد في الآفاق
فأتى الفراق بها العراق فأصبحت ... بعد الأراك تنوح في الأسواق
فشريتها لماس معت حنينها ... وعلى الحمامة عدت بالإطلاق
بي مثل ما بك يا حمامة فاسألي ... من فك أسرك أن يحل وثاقي
(نثار الارهاز لابن منظور)
الفرزدق والأسير
حكي أن سليمان بن عبد الملك أمر الفرزدق بضرب أعناق أسارى من الروم فاستعفاه الفرزدق فلم يفعل. فقام فضرب عنق رومي منهم فنبا السيف عنه. فضحك سليمان ومن حوله فقال الفرزدق:
أيعجب الناس إن أضحكت سيدهم ... خليفة الله يستسقى به المطر
لم ينب سيفي من رعب ولا دهش ... عن الأسير ولكن أخر القدر
ولن يقدم نفسا قبل ميتتها ... جمع اليدين ولا الصمصامة الذكر
ثم أغمد سيفه وهو يقول:(5/123)
ما إن يعاب سيد إذا حبا ... ولا يعاب صارم إذا نبا
ولا يعاب شاعر إذا كبا ثم جلس وهو يقول:
كذاك سيوف الهند تنبو ظبلتها ... وتقطع أحينا مناط التمائم
ولن نقتل الأسرى ولكن نفكهم ... إذا أثقل الأعناق حمل المغارم
وهل ضربة الرومي جاعلة لكم ... أبا عن كليب أو أخا مثل دارم
فشاع حديث الفرزدق بهؤا حتى حكي أن المهدي أتى بأسرة من الروم فأمر بقتلهم وكان عنده شبيب بن شيبة فقال الفرزدق له: اضر عنق هؤا العلج. فقال: يا أمير قد علمت ما ابتلي به الفرزدق فعيره به قوم إلى اليوم. فقال: إنما أردت تشريفك وقد أعفيتك. وكان أبو الهول الشاعر حاضرا فقال:
جزعت من الرومي وهو مقيد ... فكيف ولو لاقيته وهو مطلق
دعاك أمير المؤمنين لقتله ... فكاد شبيب عند ذلك يفرق
فنح شبيبا عن قراع كتيبة ... وأدن شبيبا من كلام يلفق
(أدب الدنيا والدين للماوردي) كتاب ابن التعاويذي الشاعر إلى الإمام الناصر لدين الله يسأله أن يجدد له رابتا لمعاشه:
خليفة الله أنت بالدين وال ... دنيا وأمر الإسلام مضطلع
أنت لما سنه الأئمة أع ... لام الهدى مقتف ومتبع(5/124)
فالناس في الشرع والسياسة وال ... إحسان والعدل كلهم شرع
يا ملكا يردع الحوادث وال ... أيام عن ظلمها فترتدع
أرضي قد أجدبت وليس لمن ... أجدب يوما سواك منتجع
ولي عيال لا در درهم ... قد أكلوا دهرهم وما شبعوا
إذا رأوني ذا ثروة جلسوا ... حولي ومالوا إلي واجتمعوا
وطالما قطعوا حبالي إع ... راضاً إذا لم تكن معي قطع
يمشون حولي شتى كأنهم ... عقارب كلما سعوا لسعوا
فمنهم الطفل والمراهق والر ... م ضيع يحبو والكهل واليفع
لا قارح منهم أؤمل أن ... ينالني خيره ولا جذع
لهم حلوق تفضي إلى معد ... تحمل في الأكل فوق ما تسع
من كل رحب المعاء أجوافه ... ناري الحشا لا يمسه الشبع
لا يحسن المضغ فهو يترك في ... فيه بلا كلفة ويبتلع
فاستأنفوا لي رسما أعود على ... ضنك معاشي به فيتسع
وإن زعمتم أني أتيت بها ... خديعة فالكريم ينخدع
حاشا لرسم الكريم ينسخ من ... نسخ دواوينكم فينقطع
فوقعوا لي بما سألت فقد ... أطمعت نفسي واستحكم الطمع
ولا تطيلوا معي فلست ولو ... دفعتموني بالراح أندفع(5/125)
الباب السابع في الفكهات
بغلة أبي دلامة
كان أبو دلامة كوفيا أسود مولى لبني أسد أدرك آخر أيام بني أمية ونبغ في أيام بني العباس ومدح السفاح والمنصور والمهدي. وكان صاحب نوادر وملح. وأما بغلته فكانت جامعة لعيوب الدواب كلها. وكانت أشوه الدواب خلقا في منظر العين وأسوأها خلقا في مخبرها. فكان إذا ركبها تبعه الصبيان يتضاحكون به. وكان يقصد ركوبها في مواكب الخلفاء والكبراء ليضحكهم بشماسها حتى نظم فيها قصيدته المشهورة وهي:
أبعد الخيل أركبها كراما ... وبعد الفره من خضر البغال
رزقت بغيلة فيها وكال ... وليته لم يكن غير الوكال
رأيت عيوبها كثرت وليست ... وإن أكثرت ثم من المقال
ليحصي منطقي وكلام غيري ... عشير خصالها شر الخصال
فأهون عيبها أني إذا ما ... نزلت وقلت امشي لا تبالي
تقوم فما تبت هناك شبرا ... وترمحني وتأخذ في قتالي
وإني إن ركبت أذيت نفسي ... بضرب باليمين وبالشمال
وبالرجلين أركلها جميعا ... فيا لك في الشقاء وفي الكلال(5/126)
أتاني خائب يستام مني ... عريق في الخسارة والضلال
وقال تبيعها قلت ارتبطها ... بحكمك إن بيعي غير غال
فأقبل ضاحكا نحوي سرورا وقال أراك سهلا ذا جمال
هلم إلي يخلو بي خداعا ... وما يدري الشقي لمن يخالي
فقلت بأربعين فقال أحسن ... إلي فإن مثلك ذو سجال
فأترك خمسة منها لعلمي ... بما فيه يصير من الخبال
فلما ابتاعها مني وتبت ... له في البيع غير المستقال
أخذت بثوبه أبرأت مما ... أعد عليه من سوء الخلال
برئت إليك من مششي يديها ... ومن جرذ ومن بلل المخالي
ومن فتق بها في البطن ضخم ... ومن عقالها ومن انفتال
ومن قطع اللسان ومن بياض ... بعينيها ومن قرض الحبال
ومن عض الغلام ومن خراط ... إذا ما هم صحبك بارتحال
وأقطى من فريخ الذر مشيا ... بها عرنٌ وداءٌ من سلال
وتكسر سرجها أبدا شماسا ... وتقمص للإكاف على اغتيال
ويدبر ظهرها من مس كف ... وتهرم في الجمام وفي الجلال
تظل لركبة منها وقيذا ... يخاف عليك من ورم الطحال
ومشغار تقدم كل سرج ... تصير دفتيه على القذال
وتخفى لو تسير على الحشايا ... ولو تمشي على دمث الرمال
وترمح أربعين إذا وقفنا ... على أهل المجالس للسؤال(5/127)
فتقطع منطقي وتحول بيني ... وبين حديثهم فيما توالي
وتذعر للدجاجة إذ تراها ... وتنفر للصفير وللخيال
فأما الإعتلاف فأدن منها ... من الأتبان أمثال الجبال
وأما القت فأت بألف وقر ... كأعظم حمل أحمال الجمال
فلست بعالف منه ثلاثا ... وعندك منه عود للخلال
وإن عطشت فأوردها دجيلا ... إذا أوردت أو نهري بلال
فذاك لريها سقيت حميما ... وإن مد الفرات فللنهال
وكانت قارحا أيام كسرى ... وتذكر تبعا عند الفصال
وقد دبرت ونعمان صبي ... وقبل فصاله تلك الليالي
وتذكر إذ نشا بهرام جور ... وعاملة على خرج الجوالي
وقد مرت بقرن بعد قرن ... وآخر عهدها لهلاك مالي
فأبدلني بها يا رب طرفا ... يزين جمال مركبه جمالي
وأنشدها المهدي فقال: لقد أقلت من بلاء عظيم. فقال: والله يا أمير المؤمنين لقد مكثت شهرا أتوقع صاحبها أن يردها. فقال المهدي لصاحب دوابه: خيره بين مركبين في الإصطبل. فقال: إن كان الاختيار إلي فقد وقعت في شر من البغلة ولكن مره يختر لي. ففعل (شرح مقامات الحريري للشريشي ووافي الوفيات للصفدي)
الخليفة ولأصمعي
من ألطف ما اتفق أن بعض الخلفاء كان يحفظ الشعر من(5/128)
مرة. وعنده مملوك يحفظه من مرتين وجارية من ثلاث مرات. وكان بخيلا جدا فكان الشاعر إذا أتاه بقصيدة قال له: إن كانت مطروقة بأن يكون أحد منا يحفظها نعلم أنها ليست لك فلا نعطيك لها جائزة. وإن لم نكن نحفظها فنعطيك وزن ما هي فيه مكتوبة. فيقرأ الشاعر القصيدة فيحفظها الخليفة من أول مرة ولو كانت ألف بيت. ويقول للشاعر: اسمعها علي فإني أحفظها وينشدها بكمالها. ثم يقول وهذا المملوك أيضا يحفظها. وقد سمعها المملوك مرتين مرة من الشاعر ومرة من الخليفة فيحفظها ويقرأها. ثم يقول الخليفة: وهذه الجارية التي وراء الستر تحفظها أيضا. وقد سمعتها ثلاث مرات مرة من الشاعر ومرة من الخليفة ومرة من المملوك فتقرأها بحروفها. فيخرج الشاعر صفر اليدين. وكان الأصمعي من جلسائه وندمانه. فنظم أبياتاً مستصعبة ونقشها في أسطوانة ولفها في ملاءة وجعلها على ظهر بعير. ولبس جوخةً بدوية مفرجة من وراء ومن قدام. وضرب له لثاما لم يبين منه غير عينيه وجاء إلى الخليفة وقال: إني امتدحت أمير المؤمنين بقصيدة. فقال يا أخا العرب إن كانت لغيرك فلا نعطيك لها جائزة. وإن كانت لك نعطيك زنة ما هي مكتوبة فيه. قال قد رضيت وأنشد:
صوت صفير البلبل ... هيج قلب الثمل
ألماء والزهر معا ... مع حسن لحظ المقل(5/129)
وأنت حقا سيدي ... وسؤددي وموللي
وطاب لي نوح الحما ... م قوققو بالزجل
قد فاح من لحظاتها ... عبير ورد الخجل
وقلت وصوص وصوص ... فجاء صوت من عل
وقال لا لا لا للا ... وقد غدا مهرولي
وفتية يسقونني ... قهيوة كالعسل
شممتها في أنففي ... أذكى من القرنفل
في بستتانٍ حسنٍ ... بالزهر والسرولل
والعود دندن دندنٌ ... والطبل طبطبطب لي
والرقص أرطب طبطب ... والماء شقشقشق لي
شووا شووا شووا على ... وريق السفرجل
وغرد القمري يصح ... من ملل من مللي
فلو تراني راكبا ... على حمار أعزل
أمشي على ثلاثة ... كمشية العرنجلي
والناس قد ترجمني ... في السوق بالبقلل
والكل كع كع ككع ... خلفي ومن حويللي
لكن مشيت هاربا ... من خشية في عقللي
إلى لقاء ملك ... معظم مبجل
يأمر لي بخلعة ... حمراء كالدململ(5/130)
أجر فيها مأربا=ببغدد كالدلدل (قال) فلما فرغ من إنشادها بهت الملك فيها ولم يحفظها الخليفة لصعوبتها. ثم نظر إلى الملوك فأشار إليه أنه ما حفظ منها شيئا. وفهم من الجارية أنها ما حفظت منها شيئا. فقال الخليفة: يا أخا العرب إنك صادق وهي لك بلا شك فإني ما سمعتها قبل ذلك. فهات الرقعة التي هي مكتوبة فيها حتى نعطيك زنتها. فقال يا مولاي إني لم أجد ورقا أكتب فيه. وكان عندي قطعة عمود رخام من عهد أبي وهي ملقاة في الدار ليس لي بها حاجة فنقشتها فيها. ولم يسع الخليفة إلا أن أعطاه زنتها ذهبا. فنفد جميع ما في خزانة الملك من المال فأخذ الأصمعي ذلك وانصرف. فلما ولى قال: يغلب على ظني أن هذا الأعرابي هو الأصمعي. فأحضره وكشف عن وجهه فإذا هو الأصمعي. فتعجب من صنيعه ورجع عما كان يعامل به الشعراء وأجرهم على عوائد الملوك (حلبة الكميت للنواجي)
قال أبو الفتح كشاجم يرثي سكينا سرقت له في قصيدة بديعة منها
يا قاتل الله كتاب الدواوين ... ما يستحلون من أخذ السكاكين
لقد دهاني لطيف منهم ختل ... في ذات حد كحد السيف مسنون
فأفقرت بعد عمران بموقعها ... منها دواة فتى بالكتب مفتون
تبكي على مدية أودى الزمان بها ... كانت على جائر الأقلام تغريني(5/131)
كانت تقوم أقلامي وتنحتها ... نحتا ونسخطها بريا فترضيني
وأضحك الطرس والقرطاس عن حلل ... تنوب للعين عن نور البساتين
هيفاء مرهقة بيضاء مذهبة ... قال الإله لها سبحانه كوني
لكن مقطي أمسى شامتا جذلا ... وكان في ذلة منها وفي هون
فصين حتى يضاهي في صيانته ... جاهي لصونيه عمن لا يدانيني
ولست عنها بسال ما حييت ولا ... بواجد عوضا منها بسكين
رثاء هر لابن العلاف
قال الصاحب ابن عباد: أنشدني أبو الحسن بن أبي بكر الحسن بن علي العلاف البغدادي المقري الأديب قصيدة والده في الهر كنى به عن ابن المعتز قتله المقتدر. فخشي من المقتدر ونسبها إلى الهر وعرض به في أبيات منها. وقيل أنما كنى بالهر عن المحسن ابن الوزير أبي الحسن علي بن الفرات أيام محنته لأنه لم يجسر أن يذكره ويرثيه. وقيل كان له هر يأنس به فكان يدخل أبراج الحمام التي لجيرانه ويأكل فراخها. فأمسكه أربابها فذبحوه فرثاه بقصيدة. وقال ابن خلكان: وهي من أحسن الشعر وأبدعه وعددها خمسة وستون بيتا. وطولها يمنع من الإتيان بجميعها فنأتي بمحاسنها فيها أبيات مشتملة على حكم أولها:
يا هر فارقتنا ولم تعد ... وكنت عندي بمنزل الولد
فكيف ننفك عن هواك وقد ... كنت لنا عدة من العدد(5/132)
تطرد عنا الأذى وتحرسنا ... بالغيب من حية ومن جرد
وتخرج الفأر من مكامنها ... ما بين مفتوحها إلى السدد
يلقاك في البيت منهم مدد ... وأنت تلقاهم بلا مدد
لا عدد كان منك منفلتا ... منهم ولا واحد من العدد
لا ترهب الصيف عند هاجرة ... ولا تهاب الشتاء في الجمد
وكان يجري ولا سداد لهم ... أمرك في بيتنا على سدد
حتى اعتقدت الأذى لجيرتنا ... ولم تكن للأذى بمعتقد
وحمت حول الردى لظلمهم ... ومن يحم حول حوضه يرد
وكان قلبي عليك مرتعدا ... وأنت تنساب غير مرتعد
تدخل برج الحمام متئدا ... وتبلع الفرخ غير متئد
وتطرح الريش في الطريق لهم ... وتبلع اللحم بلع مزدرد
أطعمك ألغي لحمها فرأى ... قتلك أربابها من الرشد
حتى إذا داوموك واجتهدوا ... وساعد النصر كيد مجتهد
كادوك دهرا فما وقعت وكم ... أفلت من كيدهم ولم تكد
فحين أخفرت وانهمكت وكا ... شفت وأسرفت غير مقتصد
صادوك غيظا عليك وانتقموا ... منك وزادوا من يصد يصد
ثم شفوا بالحديد أنفسهم ... منك ولم يرعووا على أحد
فلم تزل للحمام مرتصداً ... حتى سقيت الحمام بالرصد
لم يرحموا صوتك الضعيف كما ... لم ترث منها لصوتها الغرد(5/133)
أذاقك الموت ربهن كما ... أذقت أفراخه يدا بيد
كأن حبلا حوى بجودته ... جيدك للخنق كان من مسد
كأن عيني تراك مضطربا ... فيه وفي فيك رغوة الزبد
وقد طلبت الخلاص منه فلم ... تقدر على حيلة ولم تجد
فما سمعنا بمثل موتك إذ مت ولا مثل عيشك النكد
فجدت بالنفس والبخيل بها ... أنت ومن لم يجدبها يجد
عشت حريصا يقوده طمع ... ومت ذا قاتل بلا قود
يا من لذيذ الفراخ أوقعه ... ويحك هلا قنعت بالغدد
ألم تخف وثبة الزمان كما ... وثبت في البرج وثبة الأسد
عاقبة الظلم لا تنام وإن ... تأخرت مدة من المدد
أردت أن تأكل الفراخ ولا ... يأكلك الدهر أكل مضطهد
هذا بعيد من القياس وما ... أعزه في الدنو والبعد
لا بارك الله في الطعام إذا ... كان هلاك النفوس في المعد
كم دخلت لقمة حشا شره ... فأخرجت روحه من الجسد
ما كان أغناك عن تسورك ال ... برج ولو كان جنة الخلد
قد كنت في نعمة وفي دعة ... من العزيز المهيمن الصمد
تأكل من فأر بيتنا رغدا ... فأين بالشاكرين للرغد
وكنت بددت شملهم زمنا فاجتمعوا بعد ذلك البدد
فلم يبقوا لنا على سبدٍ في جوف أبياتنا ولا لبد(5/134)
وفتتوا الخبز في السلال وكم ... تفتتت للعيال من كبد
وفرغوا قعرها وما تركوا ... ما علقته يد على وتد
ومزقوا من ثيابنا جددا ... فكلنا في المصائب الجدد
رثاء ديك لابن معمعة الحمصي
يا لبن أقيال وائل والكرام الصيد من تغلب قروم القروم
والأمير الذي عليه أمارا ... ت المعالي من حادث وقديم
قد مدحت الأمير بالأمس منثو ... راً وجئت الغداة بالمنظوم
فاستمع قصتي وفرج بإحسا ... نك ما بي من طارقات الهموم
لي ديك حضنته وهو في البيضة من منصب كريم الخيم
ثم ربيته كتربية الطفل رضيعا وعند حال الفطيم
يأكل العفو كيف ما شاء من ما ... لي أكل الولي مال اليتيم
هو عندي بصورة كيف الولد البرم وفي صورة الصديق الحميم
أبيض اللون أفرق العرف نظا ... ر بعين كأنها عين ريم
وعلى نحره وشاحان من شذ ... ر بديع ولؤلوء منظوم
رافع راية من الذنب المشرف يسعى بها كسعي الظليم
وإذا ما مشى تبختر مشي الطرب النتشي من الخرطوم
وسم الأرض وسم طين كتاب ... بخواتيم كاتب مختوم
وله خنجران في قصب السا ... قين قد ركبا لحفظ الحريم
وعليه من ريشه طيلسان ... ضيع من صيغة اللطيف الحكيم(5/135)
وجميع الديوك تشهد في حمص له بالجلال والتعظيم
يتجاوبن بالصياح مشيرا ... ت إليه في ذاك بالتسليم
وإذا ما رأيته بين خمس ... من دجاجاته كبار الجسوم
قلت ملك يخدمنه فتيات ... يتهادين بين زنج وروم
وترى عرفه فتحسبه التا ... ج على رأس كسروي كريم
ثاقب العلم بالمواقيت ليلاً ... ونهاراً وحاذق بالنجوم
ويحث الجيران حولي على البرم ... كحث المدير كأس النديم
وله أيها الأمير علي العهد في سالف الزمان القديم
أنه آمن من الشر عندي ... غير يوم المشيئة المحتوم
وقد احتجت أن أضحي في العيد به حاجة الأديب العديم
وبناتي يقلن يا أبتانا ... أنت في ذاك بين غدر ولوم
وتراهن حوله يتباكين م بدمع لفقده مسجوم
وعزيز سواك من يفتديه ... فافده سيدي بذبح عظيم
تبق في ذاك سنة لك يبقي ... ذكرها ذكر كبش إبراهيم
قصيدة مساور الوراق في وصف وليمة
اسمع بنعتي للملوك ولا ترى ... فيما سمعت كميت الأحياء
إن الملوك لهم طعام طيب ... يستأثرون به على الفقراء
إني نعت لذيذ عيشي كله ... والعيش ليس لذيذه بسواء
ثم اختصصت من اللذيذ وعيشه ... صفة الطعام بشهوة الحلواء(5/136)
فبدأت بالعسل الشديد بياضه ... شهد تباكره بماء سماء
إني سمعت لقول ربك فيهما ... فجمعت بين مبارك وشفاء
أيام أنت هناك بين عصابة ... حضروا ليوم تنعم الأكفاء
لا ينطقون إذا جلست إليهم ... فيما يكون بلفظة عوراء
متنسمين رياح كل هبوبة ... بين النخيل بغرفة فيحاء
فقعدت ثم دعوت لي بمبذرق ... متشمراً يسعى بغير رداء
قد لف كميه على عضلاته ... قلص القميص مشمر سعاء
فأتي بخبز كالملأ منقط ... فبناه فوق أخاون السيراء
حتى ملاها ثم ترجم عندها ... بالفارسية داعيا بوجاء
فإذا القصاع من الخلنج لديهم ... تبدو جوانبها مع الوصفاء
إرفع وضع وهنا وهاك وههنا ... قصف الملوك ونهمة القراء
يأتون ثم يلون كل طريفة ... قد حالفته موائد الخلفاء
من كل ذي قرن وجدي راضع ... ودجاجة مربوبة عشواء
وثريدة ملمومة قد صففت ... من فوقها بأطايب الأعضاء
هذا الثريد وما سواه تعلل ... ذهب الثريد بنهمتي وهوائي
ولقد كلفت بنعت جدي راضع ... قد صنته شهرين بين رعاء
قد نال من لبن كثير طيب ... حتى تفتق من رضاع الشاء
من كل أحمر لا يقر إذا ارتوى ... من بين رقص دائم وثغاء
متعكن الجنبين صاف لونه ... عبل القوائم من غذاء رخاء(5/137)
فإذا مرضت فداوني بلحومها ... إني وجدت لحومهن دوائي
ودع الطبيب ولا تثق بدوائه ... ما خالفتك رواضع الأجداء
إن الطبيب إذا حباك بشربة ... تركتك بين مخافة ورجاء
وإذا تنطع في دواء صديقه ... لم يعد ما في جونة الرقاء
نعت الطبيب هليلجاً وبليلجاً ... ونعت غيرهما من الأدواء
رطب المشان مجزعا يؤتي به ... والرازفي فما هما بسواء
وضآنيا زرقا كأن بطونها ... قطع الثلوج نقية الأمعاء
محمد بن بشير والشاة
كان محمد بن بشير من شعراء أهل البصرة وأدبائهم وهو من خثعمٍ وكان من بخلاء الناس. وكان له في داره بستان قدره أربع طوابيق قلعها من داره فغرس فيه أصل رمان وفسيلة لطيفة وزرع حواليه بقلا. فأفلتت شاة لمنيع جار له. فأكلت البقل ومضغت الخوص ودخلت إلى بيته فلم تجد فيه إلا القراطيس فيها شعره وأشياء من سماعاته فأكلتها. وخرجت فعدا إلى الجيران في المسجد يشكو ما جرى عليه وعاد فزرع البستان. وقال يصفه ويهجو شاة منيع:
لي بستان أنيق زاهر ... ناضر الخضرة ريان ترف
راسخ الأعراق ريان الثرى ... غدقٌ تربته ليست تجف
مشرق الأنوار مياد الندى ... منثن في كل ريح منعطف
تملك الريح عليه أمره ... فإذا لم يؤنس الريح وقف(5/138)
يكتسي في الشرق ثوبي يمنه ... ومع الليل عليها يلتحف
ينطوي الليل عليه فإذا ... واجه الشرق تجلى وانكشف
صابر ليس يبالي كثرة ... حز بالمنجل أو منه نتف
لا ترى للكف فيه أثرا ... فيه بل ينمي على مس الأكف
فترى الأطباق لا تمهله ... صادرات واردات تختلف
فيه للخارف من جيرانه ... كل ما احتاج إليه مخترف
أقحوان وبهار مؤنق ... وسوى ذلك من كل الطرف
وهو في الأيدي يحيون به ... وعلى الآناف طوراً يستشف
أعفه يا رب من واحدة ... ثم لا أحفل أنواع التلف
إكفه شاة منيع وحدها ... يوم لا يصبح في البيت علف
إكفه ذات سعال شهلة ... متعت في شر عيش بالخرف
إكفه يا رب وقصاء الطلى ... ألحم الكتفين منها بالكتف
وغدا الصبية من جيرانها ... ليجروها إلى مأوى الجيف
فتراها بينهم مسحوبة ... تجرف الترب بجنب منحرف
فإذا صاروا إلى المأوى بها ... أعملوا الآجر فيها والخزف
ثم قالوا ذا جزاء للذي ... تأكل البستان منا والصحف
لا تلوموني فلو أبصرت ذا ... كله فيها إذن لم أنتصف(5/139)
الباب الثامن في المديح
قال أبو تمام أبا سعيد
أبا سعيد وما وصفي بمتهم ... على المعالي وما سكري بمخترم
لئن جحدتك ما أوليت من حسن ... إني لفي اللؤم منك في الكرم
أمسى ابتسامك والألوان كاسفة ... تبسم الصبح في داج من الظلم
كذا أخوك الندى لو أنه بشر ... لم يلف طرفة عين غير مبتسم
رددت رونق وجهي في صحيفته ... رد الصقال بهاء الصارم الخذم
وما أبالي وخير القول أصدقه ... حقنت لي ماء وجهي أو حقنت دمي
قصيدة خلف بن خليفة مولى قيس بن ثعلبة في قومه
عدلت إلى فخر العشيرة والهوى ... إليهم وفي تعداد مجدهم شغل
إلى هضبة من آل شيبان أشرقت ... لها الذروة العلياء والكاهل العبل
إلى النفر البيض الألاء كأنهم ... صفائح يوم الروع أخلصها الصقل
إلى معدن العز المؤيد والندى ... هناك هناك الفضل والخلق الجزل
أحب بقاء القوم للناس إنهم ... متى يظعنوا من مصرهم ساعة يخلوا
عذاب على الأفواه ما لم يذقهم ... عدو وبالأفواه أسماؤهم تحلو
عليهم وقار الحلم حتى كأنما ... وليدهم من أجل هيبته كهل
إذا استجهلوا لم يعزب الحلم عنهم ... وإن آثروا أن يجهلوا عظم الجهل(5/140)
هم الجبل الأعلى إذا ما تناكرت ... ملوك الرجال أو تخاطرت البزل
ألم تر أن القتل غال إذا رضوا ... وإن غضبوا في موطن رخص القتل
لنا فيهم حصن حصين ومعقل ... إذا حرك الناس المخاوف والأزل
لعمري لنعم الحي يدعو صريخهم ... إذا الجار والمأكول أرهقه الأكل
سعاة على أفناء بكر بن وائل ... وتبل أقاصي قومهم لهم تبل
إذا طلبوا ذحلا فلا الذحل فائت ... وإن ظلموا أكفاءهم بطل الذحل
مواعيدهم فعل إذا ما تكلموا ... بتلك التي إن سميت وجب الفعل
بحور تلاقيها بحور غزيرة ... إذا زخرت قيس وإخوتها ذهل
قصيدة محمد بن هانئ في جعفر بن علي بن غلبون
فتقت لكم ريح الجلاد بعنبر ... وأمكم فلق الصباح المسفر
وجنيتم ثمر الوقائع يانعا ... بالنصر من ورق الحديد الأخضر
وضربتم هام الكماة ورعتم ... بيض الخدود بكل ليث مخدر
أبني العوالي السمهرية والسيو ... ف المشرفية والعديد الأكثر
من منكم الملك المطاع كأنه ... تحت السوابغ تبع في حمير
ألقائد الخيل العتاق شوازبا ... خزراً إلى لحظ السنان الأخزر
شعث النواصي حشرة آذانها ... قب الأياطل داميات الأنسر
تنبو سنابكهن عن عفر الثرى ... فيطأن في خد العزيز الأصعر
في فتية صدأ الدروع عبيرهم ... وخلوقهم علق النجيع الأحمر
لا يأكل السرحان شلو طعينهم ... مما عليه من القنا المتكسر(5/141)
أنسوا بهجران الأنيس كأنهم ... في عبقري البيد جنة عبقر
ومشوا على قطع النفوس كأنما ... تمشي سنابك خيلهم في مرمر
قوم يبيت على الحشايا غيرهم ... ومبيتهم فوق الجياد الضمر
وتظل تسبح في الدماء قبابهم ... فكأنهن سفائن في أبحر
فحياضهم من كل مهجة ضالع ... وخيامهم من كل لبدة قسور
وكفاك من حب السماحة أنها ... منهم بموضع مقلة من محجر
قصيدة المتنبي في شجاع بن محمد الطائي المنبجي
إلى واحد الدنيا إلى ابن محمد ... شجاع الذي لله ثم له الفضل
إلى الثمر الحلو الذي طيئٌ له ... فروع وقحطان بن هود لها أصل
إلى القابض الأرواح والضيغم الذي ... تحدث عن وقفاته الخيل والرجل
إلى رب مال كلما شت شمله ... تجمع في تشتيته للعلى شمل
همام إذا ما فارق الغمد سيفه ... وعاينته لم تدر أيهما النصل
رأيت ابن أم الموت لو أن بأسه ... فشا بين أهل الأرض لا نقطع النسل
على سابح موج المنايا بنحره ... غداة كأن النبل في صدره وبل
وكم عين قرن حدقت لنزاله ... فلم تغض إلا والسنان لها كحل
إذا قيل رفقا قال للحلم موضع ... وحلم الفتى في غير موضعه جهل
ولولا تولي نفسه حمل حلمه ... عن الأرض لانهدت وناء بها الحمل
تباعدت الآمال عن كل مقصد ... وضاقت بها إلا إلى بابه السبل
ونادى الندى بالنائمين عن السرى ... فأسمعهم هبوا فقد هلك البخل(5/142)
وحالت عطايا كفه دون وعده ... فليس له إنجاز وعدة ولا مطل
فأقرب من تحديدها رد فائت ... وأيسر من إحصائها القطر والرمل
وما تنقم الأيام ممن وجهها ... لأخمصه في كل نائبة نعل
وما عزه فيها مراد أراده ... وإن عز إلا أن يكون له مثل
كفى ثعلاً فخراً بأنك منهم ... ودهر لأن أمسيت من أهله أهلى
وويل لنفس حاولت منك غرة ... وطوبى لعين ساعة منك لا تخلو
فما بفقير شام برقك فاقة ... ولا في بلاد أنت صبيها محل
جمالية ابن نباتة في ابن الشهاب محمود
كم من جمال عنده ضر الفتى ... ولكم جمال عنده السراء
كجمال دين الله وابن شهابه ... لا الظلم حيث يرى ولا الظلماء
ألماجد الراقي مراتب سؤدد ... قد رصعت بجواره الجوزاء
ذاك الذي أمسى السهى جاراً له ... لكن حاسد مجده العواء
عمت مكارمه وسار حديثه ... فبكل أرض نعمة وثناء
وسعت يراعته بأرزاق الورى ... فكأنها قلب وتلك رشاء
وحمى العواصم رأيه ولطالما ... قعد الحسام وقامت الآراء
عجبا لنار ذكائه مشبوبة ... وبظله تتفيأ الأفياء
غنى اليراع به وأزهر طرسه ... وكذا تكون الروضة الغناء
يا راكب العزمات غايات المنى ... مغنى شهاب الدين والشهباء
ذي المجد لا في ساعديه عن العلا ... قصر ولا في عزمه إعياء(5/143)
والعدل بردع قادرا عن عاجز ... فالذئب هاجعة لديه الشاء
والحلم يروي جابر عن فضله ... والفضل يروي عن يديه عطاء
يا أكمل الرؤساء لا مستثنيا ... أحدا إذا ما عدت الرؤساء
يا من مللت من المعادِ له وما ... ملت لدي معادها النعماء
إن لم يقم بحقوق ما أوليتني ... مدحي فأرجو أن يقوم دعاء
شهدت معاليك الرفيعة والندى ... أن الورى أرض وأنت سماء
من قصيدة ابن مطروح في الوزير عماد الدين
وهبت علينا نفخة عنبرية ... كعرف عماد الدين حين تقابله
فقمت من الإجلال أنشد مدحه ... وقد سبقتني قبل ذاك فواضله
تكافأ في الإحسان شعري ومدحه ... ولكن بخصل السبق فازت أنامله
وما كنت إلا الروض باكره الحيا ... فأينع ذاويه ورقت خمائله
وضاع شذا أزهاره وتدفقت ... بمدحك من هذا الثناء جداوله
تخاف عداه من توقد عزمه ... وتأمن إذ يطفو ويطفح نائله
يبشر منه البشر راجي نواله ... كذا الغيث لا تخفى علينا مخايله
ألم تر أن البرق يبدو أمامه ... وتتبعه من بعد ذاك هواطله
لم أر غيثا مثل غيث سماحة ... تميم مصرا من ذرى الشرق وباله
كفى والدا من حمل هم لولده ... فكل الورى أيتامه وأرامله
على مهل يا من يحاول مجده ... فبين الثريا والسماك منازله
كريم له بيت كريم تقاسمت ... أواخره إرث العلى وأوائله(5/144)
له شيم لو أن في الدهر بعضها ... لما غالت الحر الكريم غوائله
بليغ إذا ما أورد اللفظ خلته ... عن الوحي يملينا الذي هو قائله
تحلى به الدهر الذي كان عاطلا ... فأضحى مليا بالنباهة خامله
وأثنى عليه ليله ونهاره ... وطالبت به أسحاره وأصائله
وإني وإن أتحفته بمدائح ... هي السحر إلا أن فكري بابله
فما تعبت لي فكرة في مديحه ... لأني راوي الفضل عنه وناقله
فلا حمد لي فيما أقول وإنما ... كتبت الذي أملت علي فضائله
عفاف وإقدام وحزم ونائل ... ألا في سبيل المجد ما أنت فاعله
إذا سار فوق الراسيات تزعزعت ... وصدعت السبع الشداد صواهله
ورب خميس طبق السهل والربى ... وزاحمت الجوزاء منه عوامله
بكم يا بني شيخ الشيوخ تأيدت ... قواعد هذا الدين واشتد كاهله
وقد علم السلطان في كل موقف ... بأنك كافيه وأنك كافله
وأخلق بملك أنت حارس سرحه ... وحامي حماه أن تصان معاقله
قصيدة ابن الحسن القاضي في الوزير الحسن بن أضحى
يأيها الملك مضمون لك الظفر ... أبشر فمن جندك التأييد والقدر
وأب لنا سالما والسعد مقتبل ... والدين منتظم والكفر منتثر
وقد طلعت على البيضاء من كثب ... كما تطلع في جنح الدجى القمر
حللت في أرضها في جحفلٍ لجبٍ ... كما يحل بها في الأزمة المطر
وحولك الصيد من لمتونةٍ وهم ... أبطال يوم الوغى والأنجم الزهر(5/145)
والعرب ترفل فوق الغرب سابحة ... كالأسد ليس لها إلا القنا ظفر
من كل أروع وضاح عمامته ... كالبدر نحو لقاء الجيش يبتدر
شعاره البر والتقوى ومؤنسه ... في ليله رمحه والصارم الذكر
ذؤابة المجد من قحطان كلهم ... أبوهم حمير ذو المجد أو مضر
ومن زناتة أبطالٌ غطارفةٌ ... ذووا تجارب في يوم الوغى صبر
ولمطةٍ وهم أهل الطعان لدى ال ... هيجاء في زمر تقتادها زمر
كأنهم في جبين المجد إذ ركبوا ... مصممين إلى أعدائهم غرر
وقعت حرب بالجزيرة بين بني تغلب فتولى الإصلاح بينهم الفتح بن خاقان فقال البحتري فيما تعلق بعضه بذكر الهيبة
بني تغلب أعزز علي بأن أرى ... دياركم أمست وليس لها أهل
خلت دمنة من ساكنيها وأوحشت ... مرابع من سنجار يهمي بها الوبل
إذا ما التقوا يوم الهياج تحاجزوا ... وللموت فيما بينهم قسمة عدل
كفي من الأحياء لاقى كفيه ... ومثل من الأقوام راجعه مثل
إذا ما أخ جر الرماح انتهى له ... أخ لا بليد في الطعان ولا وغل
تحوطهم البيض الرقاق وضمر ... عتاق وأحساب بها يدرك التبل
بطعن يكب الدراعين دراكه ... وضرب كما تزغو المخزمة البزل
تجافي أمير المؤمنين عن التي ... علمتم وللجانين في مثلها النكل
وكانت يد الفتح بن خاقان عندكم ... يد الغيث عند الأرض أجدبها المحل
ولولاه طلت بالعقوق دماؤكم ... فلا قود يعطى الأذل ولا عقل(5/146)
تلاقيت يا فتح الأراقم بعد ما ... سقاهم بأوحى سمه الأرقم الصل
وهبت لهم بالسلم باقي نفوسهم ... وقد أشرفوا أن يستتمهم القتل
أتاك وفد الشكر يثنون بالذي ... تقدم من نعماك عندهم قبل
فلم أر يوما كان أكثر سؤددا ... من اليوم ضمتهم إلى بابك السبل
تراءوك من أقصى السماط فقصروا ... خطاهم وقد جازوا الستور وهم عجل
ولما قضوا صدر السلام تهافتوا ... على يد بسام سجيته البذل
إذا شرعوا في خطبة قطعتهم ... جلالة طلق الوجه جانبه سهل
إذا نكسوا أبصارهم من مهابة ... ومالوا بلحظ خلت أنهم قبل
نصبت لهم طرفا حديدا ومنطقا ... سديداً ورأياً مثل ما انتضي النصل
وسل سخيمات الصدور فعالك ال ... كريم وأبرى غلها قولك الفصل
بك التأم الشعب الذي كان بينهم ... على حين بعد منه واجتمع الشمل
فما برحوا حتى تعاطت أكفهم ... قراك فلا ضغن لديهم ولا ذحل
وجروا برود العصب تضفو ذيولها ... عطاء كريم ما تكاءده بخل
وما عمهم عمرو بن غنم بنسبة ... كما عمهم بالأمس نائلك الجزل
فمهما رأوا من غبطة في اصطلاحهم ... فمنك بها النعمى جرت ولك الفضل
من قصيدة لإبراهيم بن العباس في الفضل بن سهل
يمضي الأمور على بديهته ... وتريه فكرته عواقبها
فيظل يصدرها ويوردها ... فيعم حاضرها وغائبها
وإذا ألمت صعبة عظمت ... فيها الرزية كان صاحبها(5/147)
ألمستقل بها وقد رسبت ... ولوت على الأيام جانبها
وعدلتها بالحق فاعتدلت ... ووسعت راغبها وراهبها
وإذا الحروب بدت بعثت لها ... رأيا تفل بها كتائبها
رأيا إذا نبت السيوف مضى ... عزم بها فشفى مضاربها
وإذا الخطوب تأثلت ورست ... هدت فواضله نوائبها
وإذا جرت بضميره يده ... أبدت به الدنيا مناقبها
قصيدة أبي محمد عبد الله بن أيوب التيمي في عمرو بن مسعدة
غريب يحن لأوطانه ... ويبكي على عصره الذاهب
كفاك أبو الفضل عمرو الندى ... مطالعة الأمل الكاذب
وصديق الرجاء وحسن الوفاء ... لعمرو بن مسعدة الكاتب
عريض الفناء طويل البنا ... ء في العز والشرف الثاقب
هو المرتجى لصروف الزمان ... ومعتصم الراغب الراهب
جواد بما ملكت كفه ... على الضيف والجار والصاحب
نؤمله لجسام الأمور ... ونرجوه للجلل الكارب
خصيب الجناب مطير السحاب ... بشميته لين الجانب
يروي القنا من نحور العدى ... ويغرق في الجود كاللاعب
إليك تبدت بأكوارها ... حراجيج في مهمه لاحب
كأن نعاما تباري بنا ... بوابل من برد عاصب
يردن ندى كفك المرتجى ... ويقضين من حقك الواجب(5/148)
ولله ما أنت من خابر ... بسجل لقوم ومن خارب
فتسقي العدى بكؤوس الردى ... وتسبق مسئلة الطالب
وكم راغب نلته بالعطا ... وكم نلت بالعطف من هارب
وتلك الخلائق أعطيتها ... وفضل من المانع الواهب
كسبت الثناء وكسب الثنا ... ء أفضل مكسبة الكاسب
يقينك يجلو ستور الدجا ... وظنك يخبر بالغائب
وهذا الشعر يتدفق طبعا وسلاسة
لما خلص محمد بن عبد الله بن طاهر إبراهيم بن المدبر جود المسالة في أمره وبذل أن يحتمل في ماله كل ما يطالب به فأعفاه المتوكل من ذلك ولم يلتفت إلى عبيد الله ووهبه لابن طاهر وكان إبراهيم استغاث به ومدحه بقوله:
دعوتك من كرب ولبيت دعوتي ... ولم تعترضني إذ دعوت المعاذر
إليك وقد جليت أوردت همتي ... وقد أعجزتني عن همومي المصادر
نمى بك عبد الله في العز والعلا ... وحاز لك المجد المؤثل طاهر
فأنتم بنو الدنيا وأملاك جوها ... وساستها والأعظمون الأكابر
مآثر كانت للحسين ومصعب ... وطلحة لا تحوي مداها المفاخر
إذا بذلوا قيل الغيوث البواكر ... وإن غضبوا قيل الليوث الهواصر
تعطيكم يوم اللقاء البواتر ... وتزهو بكم غير المقام المنابر
وما لكم غير الأسرة مجلس ... ولا لكم غير السيوف مخاصر
ولي حاجة إن شئت أحرزت مجدها ... وسرك منها أول ثم آخر
كلام أمير المؤمنين وعطفه ... فما لي بعد الله غيرك ناصر(5/149)
وإن ساعد المقدور فالنحج واقع ... وإلا فإني مخلص الود شاكر
قال عنتر بن شداد الملك كسرى أنوشروان
يا أيها الملك الذي راحاته ... قامت مقام الغيث في أزمانه
يا قبلة القاصد يا تاج العلى ... يا بدر هذا العصر في كيوانه
يا مخجلا نوء السماء بجوده ... يا منقذ المحزون من أحزانه
يا ساكنين ديار عبس إنني ... لاقيت من كسرى ومن إحسانه
ما ليس يوصف أو يقدر أو يفي ... أوصافه أحد بوصف لسانه
ملك حوى رتب المعالي كلها ... بسمو مجد حل في إيوانه
مولى به شرف الزمان وأهله ... والدهر نال الفخر من تيجانه
وإذا سطا خاف الأنام جميعهم ... من بأسه والليث عند عيانه
ألمظهر الإنصاف في أيامه ... بخصاله والعدل في بلدانه
أمسيت في ربع خصيب عنده ... متنزها فيه وفي بستانه
ونظرت بركته تفيض وماؤها ... يحكي مواهبه وجود بنانه
في مربع جمع الربيع بربعه ... من كل فن لاح في أفنانه
وطيوره من كل نوع أنشدت ... جهرا بأن الدهر طوع عنانه
ملك إذا ما جال في يوم اللقا ... وقف العدو محيرا في شانه
والنصر من جلسائه دون الورى ... والسعد والإقبال من أعوانه
فلأشكرن صنيعه بين الملا ... وأطا عن الفرسان في ميدانه
قال أبو نواس في البرامكة:(5/150)
إن البرامكة الكرام تعلموا ... فعل الجميل وعلموه الناسا
كانوا إذا غرسوا سقوا وإذا بنوا ... لا يهدمون لما بنوه أساسا
وإذا هم صنعوا الصنائع في الورى ... جعلوا لها طيب البقاء لباسا
لشمس الدين القادري الشاعر المفلق في جلال الدين السيوطي
إمام اجتهاد عالم العصر عامل ... بجامع فضل ناسك متهجد
ويحسد طرف النجم بالعلم طرفه ... إذا بات ليلا فيه وهو مسهد
ويقدح زند العزم زند ذكائه ... فيصبح منه فكره يتوقد
ومن مدد المولى وعين عناية ... وتوفيقه يحيا ويحمي ويحمد
ومجتهد قد طال في العلم مدركا ... وباعا ففي كل العلوم له يد
فحق له دعوى اجتهاد لأنه ... هو البحر علما زاخر اللج مزبد
فمن ذاك علم بالكتاب وسنة ... تبين ما في بحره فهو مورد
وفحوى خطاب ثم مفهوم ما به ... يدل على مفهومه حيث يوجد
ومعرفة الأخبار ثم رواتها ... عدولا ومن بالطعن فيه تردد
وفي النحو والتصريف للمرء عصمة ... من اللحن فاللحان باللحن مكمد
ومعرفة الإعراب أرفع مرتقى ... فطوبى لمن يرقى إليه ويصعد
وعلم المعاني والبيان كلاهما ... مراق إلى علم البديع ومصعد
وسلطان منقول الفقيه متى يجد ... وزيرا من المعقول فهو مؤيد
وإن الجلال السيوطي للهدى ... ككوكب علم بالضيا يتوقد
وقد جاد صوب العلم روضة أصله ... فطاب له بالعلم فرع ومحتد(5/151)
والذي حسد مغرى بتعداد فضله ... على نفسه يبكي أسى ويعدد
فلو أبصر الكفار في العلم درسه ... وقد شاهدوا تقريره لتشهدوا
فخذها جلال الدين في المدح كاعباً ... لها جيد حسن بالنجوم مقلد
ولا تبتئس من قول واش وحاسد ... فما برحت أهل الفضائل تحسد
ومن لحظت مسعاه عين عناية ... فطرف أعاديه مدى الدهر أرمد
فهذا اعتقاد المؤمنين أولي النهي ... فلا يك في هذا لديك تردد
وإن جلال الدين منهم فإنه ... بيمنى علوم الدين سيف مجرد
وإن القوافي ضقن ذراعا عن الذي ... له من تصانيف فليست تعدد
وإن الفقير القادري لعاجز ... عن المدح في علياه إذ يتقصد
وقاه إله العرش من كل محنة ... وما أضمرت يوما عداه وحسد
مديح الخلفاء
مديح معاوية لابن أرطاة
وإني امرؤ أنمى إلى أفضل الورى ... عديداً إذا ارفضت عصا المتحلف
إلى نضد من عبد شمس كأنهم ... هضاب أجا أركانها لم تقصف
ميامين يرضون الكفاية إن كفوا ... ويكفون ما ولوا بغير تكلف
غطارفة ساسوا البلاد فأحسنوا ... سياستها حتى أقرت لمردف
فمن يك منهم موسرا يفش فضله ... ومن يك منهم معسرا يتعفف
وإن تبسط النعمى لهم يبسطوا بها ... أكفاً سباطاً نفعها غير مقرف
وإن تزو عنهم لا يضجوا وتلفهم ... قليلي التشكي عندها والتكلف(5/152)
إذا انصرفوا للحق يوما تصرفوا ... إذا الجاهل الحيران لم يتصرف
سموا فعلوا فوق البرية كلها ... ببنيان عال من منيف ومشرف
دخل كثير أبو صخر والأحوص على عمر بن عبد العزيز فأنشده كثير
وليت فلم تشتم عليا ولم تخف ... بذيا ولم تتبع مقالة مجرم
وقلت فصدقت الذي قلت بالذي ... فعلت فأضحى راضيا كل مسلم
ألا إنما يكفي الفتى بعد زيغه من الأود البادي ثقاف المقوم
لقد لبست لبس الملوك ثيابها ... تراءت لك الدنيا بكف ومعصم
وتومض أحيانا بعين مريضة ... وتبسم عن مثل الجمان المنظم
فأعرضت عنها مشمئزا كأنما ... سقتك مدوفا من سمام وعلقم
وقد كنت من أجيالها في ممنعٍ ... ومن بحرها في مزبد الموج مفعم
وما زالت سباقاً إلى كل غاية ... صعدت بها أعلى البناء المقدم
فلما أتاك الملك عفوا ولم يكن ... لطالب دنيا بعده من تكلم
تركت الذي يقنى وإن كان مؤنقا ... وآثرت ما يبقى برأي مصمم
فأضررت بالفاني وثمرت للذي ... أمامك في يوم من الهول مظلم
وما لك إذ كنت الخليفة مانع ... سوى الله من مال رغيب ولا دم
سمالك همٌّ في الفؤاد مؤرق ... صعدت به أعلى المعالي بسلم
فلو يستطيع المسلمون تقسموا ... لك الشطر من أعمارهم غير ندم
فعشت به ما حج لله راكب ... مغذ مطيف بالمقام وزمزم
فأربح بها من صفقة لمبايع ... وأعظم بها أعظم بها ثم أعظم(5/153)
فقال له يا كثير إن الله سائلك عن كل ما قلت. ثم تقدم إليه الأحوص فاستأذنه فقال: قل ولا تقل إلا حقا فإن الله سائلك فأنشده:
وما الشعر إلا خطبة من مؤلف ... بمنطق حق أو بمنطق باطل
فلا تقبلن إلا الذي وافق الرضا ... ولا ترجعنا كالنساء الأرامل
رأيناك لم تعدل عن الحق يمنة ... ولا يسرة فعل الظلوم المجادل
ولكن أخذت الحق جهدك كله ... وتقفو مثال الصالحين الأوائل
فقلنا ولم نكذب بما قد بدا لنا ... ومن ذا يرد الحق من قول عادل
ومن ذا يرد السهم بعد صدوفه ... على فوقه إن عاد من نزع نابل
ولولا الذي قد عودتنا خلائف ... غطاريف كانت كالليوث البواسل
لما وخدت شهرا برحلي جسرة ... تقدمتون البيد بين الرواحل
ولكن رجونا منك مثل الذي به ... صرفنا قديما من ذويك الأفاضل
فإن لم يكن للشعر عندك موضع ... وإن كان مثل الدر من قول قائل
وكان مصيبا صادقا لا يعيبه ... سوى أنه يبنى بناء المنازل
فإن لنا قربى ومحض مودة ... وميراث آباء مشوا بالمناصل
فذادوا عدو السلم عن عقر دارهم ... وأرسو عمود الدين بعد تمايل
فقبلك ما أعطى الهنيدة جلة ... على الشعر كعبا من سديس وبازل
فكل الذي عددت يكفيك بعضه ... ونيلك خير من بحور سوائل
أخبر علي بن سليمان الأخفش قال كان الرشيد قد أخذ صالح بن عبد القدوس وعلي بن الخليل في الزندقة وكان علي الخليل استأذن أبا نواس في الشعر فأنشده علي بن الخليل قصيدة منها(5/154)
خير البرية أنت كلهم ... في يومك الغادي وفي أمس
وكذاك لن تنفك خيرهم ... تمسي وتصبح فوق ما تمسي
لله ما هارون من ملك ... بر السريرة طاهر النفس
ملك عليه لربه نعم ... تزداد جدتها على اللبس
تحكي خلافته ببهجتها ... أنق السرور صبيحة العرس
من عترةٍ طابت أرومتها ... أهل العفاف ومنتهى القدس
نطق إذا احتضرت مجالسهم ... وعن السفاهة والخنا خرس
إني إليك لجأت من هرب ... قد كان شردني ومن لبس
واخترت حلمك لا أجاوزه ... حتى أوسد في ثرى رمسي
لما استخرت الله في مهل ... يممت نحوك رحلة العنس
كم قد قطعت إليك مدرعا ... ليلا بهيم اللون كالنقس
إن هاجني من هاجس جزع ... كان التوكل عنده ترسي
فأطلقه الرشيد وقتل صالح بن عبد القدوس واحتج عليه في أنه لا يقبل له توبة بقوله:
والشيخ لا يترك أخلاقه ... حتى يوارى في ثرى رمسه
أخبر محمد بن العباس اليزيدي قال حدثني عمي عبد الله وأخي أحمد قالا لما بلغ المأمون وصار في حد الرجال أمرنا الرشيد أن نعمل له خطبة يقوم بها يوم الجمعة. فعملنا له خطبته المشهورة وكان جهير الصوت حسن اللهجة. فلما خطب بها رقت له قلوب الناس وأبكى من سمعه. فقال أبو محمد اليزيدي يمدح المأمون
لتهن أمير المؤمنين كرامة ... عليه بها شكر الإله وجوب
بأن ولي العهد مأمون هاشم ... بدا فضله إذ قام وهو خطيب
ولما رماه الناس من كل جانب ... بأبصارهم والعود منه صليب(5/155)
رماهم بقول أنصتوا عجبا له ... وفي دونه للسامعين عجيب
ولما وعت آذانهم ما أتى به ... أنابت ورقت عند ذاك قلوب
فأبكى عيون الناس أبلغ واعظ ... أغر بطاحي النجار نجيب
مهيب عليه للوقار سكينة ... جريء جنان لا أكع هيوب
ولا واجب فوق المنابر قلبه ... إذا ما اعترى قلب النجيب وجيب
إذا ما علا المأمون أعواد منبر ... فليس له في العالمين ضريب
تصدع عنه الناس وهو حديثهم ... تحدث عنه نازح وقريب
شبيه أمير المؤمنين حزامة ... إذا وردت يوما عليه خطوب
إذا طاب أصل في عروق مشاجه ... فأغصانه من طيبه ستطيب
فقل لأمير المؤمنين الذي به ... يقدم عبد الله فهو أديب
كأن لم تغب عن بلدة كان والياً ... عليها ولا التدبير منك يغيب
تتبع ما يرضيك في كل أمره ... فسيرته شخص إليك حبيب
ورثتم بني العباس إرث محمد ... فليس لحي في التراث نصيب
فلما وصلت هذه الأبيات إلى الرشيد أمر لأبي محمد بخمسين ألف درهم ولابنه محمد بن أبي محمد بمثله (الأغاني)
أنشد حسين بن الضحاك يوم بويع بالخلافة للمعتصم
خير الوفود مبشر بخلافة ... خصت ببهجتها أبا إسحاق
وافته في الشهر الحرام سليمة ... من كل مشكلة وكل شقاق
أعطته صفقتها الضمائر طاعة ... قبل الأكف بأوكد الميثاق(5/156)
سكن الأنام إلى إمام سلامة ... عف الضمير مهذب الأخلاق
فحمى رعيته ودافع دونها ... وأجار مملقها من الإملاق
قل للأولى صرفوا الوجوه عن الهدى ... متعسفين تعسف المراق
إني أحذركم بوادر ضيغم ... درب بحطم موائل الأعناق
متأهب لا يستفز جنانه ... زجل الرعود ولامع الأبراق
لم يبق من متعزمين توثبوا ... بالشأم غير جماجم أفلاق
من بين منجدل تمج عروقه ... علق الأخداع أو أسير وثاق
وثنى الخيول إلى معاقل قيصر ... تختال بين أجرة ودقاق
يحملن كل مشمر متغشم ... ليث هزبر أهرت الأشداق
حتى إذا أم الحصون منازلاً ... والموت بين ترائب وتراقي
هرت بطارقها هرير قساور ... بدهت بأكره منظر ومذاق
ثم استكانت للحصار ملوكها ... ذلا وناط حلقها بخناق
هربت وأسلمت اللواء عشية ... لم يبق غير حشاشة الأرماق
حتى أتمها فقال له المعتصم: ادن مني. فدنا منه فمل فمه جوهرا من جوهر كان بين يديه. ثم أمره بان يخرجه من فيه فأخرجه وأمر بان ينظم ويدفع إليه. ويخرج إلى الناس وهو في يده ليعلموا موقعه من رأيه ويعرفوا فعله فكان أحسن ما مدح به يومئذ (الأغاني)
أخبر إبراهيم بن حسن بن سهل قال كنا مع الواثق بالقاطول وهو يتصيد فصاد صيدا حسنا وهو في الزو من الإوز والدراج وطير الماء وغير ذلك. ثم رجع فتغدى ودعا بالجلساء والمغنين وطرب وقال من ينشد. فقام الحسين بن الضحاك فأنشده
سقى الله بالقاطول مسرح طرفكا ... وخص بسقياه مناكب قصركا
حتى انتهى إلى قوله:(5/157)
تحين للدراج في جنباته ... وللغر آجال قدرن بكفكا
حتوفاً إذا وجهتهن قواضباً ... عجالاً إذا أغريتهن بزجركا
أبحت حماما مصعداً ومصوباً ... وما رمت في حاليك مجلس لهوكا
تصرف فيه بين نايٍ ومسمعٍ ... ومشمولةٍ من شطت مسافة عزمكا
قضيت لباناتٍ وأنت مخيمٌ ... مريحٌ وإن شطت مسافة عزمكا
وما نال طيب العيش إلا مودع ... وما طاب عيش نال مجهود كدكا
فقال الواثق: ما يعدل الراحة ولذة الدعة شيء فلما انتهى إلى قوله:
خلقت أمين الله للخلق عصمة ... وأمنا فكل في ذراك وظلكا
وثقت بمن سماك بالغيب واثقا ... وثبت بالتأييد أركان ملككا
فأعطاك معطيك الخلافة شكرها ... وأسعد بالتقوى سريرة فلبكا
وزادك من أعمارنا غير منة ... عليك بها أضعاف أضعاف عمركا
ولا زالت الأقدار في كل حالة ... عداة لمن عاداك سلماً لسلمكا
إذا كنت من جدواك في كل نعمة ... فلا كنت إن لم أفن عمري بشكركا
فطرب الواثق فضرب الأرض بمخصرة كانت في يده وقال: لله درك يا حسين ما أقرب قلبك من لسانك. فقال: يا أمير المؤمنين جودك ينطق المفحم بالشعر والجاحد بالشكر. فقال له: لن تنصرف إلا مسرورا. ثم أمر له بخمسين ألف درهم
قصيدة أبي بكر بن عمار الخليفة المعتضد بالله العبادي
ملك إذا ازدحم الملوك بمورد ... ونحاه لا يردون حتى يصدرا
أندى على الأكباد من قطر الندى ... وألذ في الأجفان من سنة الكرى
قداح زند المجد لا ينفك عن ... نار الوغى إلا إلى نار القرى(5/158)
لا خلق أقرأ من شفار حسامه ... إن كنت شبهت المواكب أسطرا
أيقنت أني من ذراه بجنة ... لما سقاني من نداه الكوثرا
وعلمت حقا أن ربعي مخصب ... لما سألت به الغمام الممطرا
من لا توازنه الجبال إذا احتبى ... من لا تسابقه الرياح إذا جرى
ماض وصدر الرمح يكهم والظبى ... تنبو وأيدي الخيل تعثر في البرى
فإذا الكتائب كالكواكب فوقهم ... من لا مهم مثل السحاب كنهورا
من كل أبيض قد تقلد أبيضاً ... عضباً وأسمر قد تأبط أسمرا
ملك يروقك خلقه أو خلقه ... كالروض يحسن منظرا أو مخبرا
أقسمت باسم الفضل حتى شمته ... فرأيته في بردتيه مصورا
وجهلت معنى الجود حتى زرته ... فقرأته في راحتيه مفسرا
فاح الثرى متعطرا بثنائه ... حتى حسبنا كل ترب عنبرا
وتتوجت بالزهر صلع هضابه ... حتى ظننا كل هضب قيصرا
هصرت يدي غصن الندى من كفه ... وجنت به روض السرور منورا
حسبي على الصنع الذي أولاه أن ... أسعى بجد أو أموت فأعذرا
يا أيها الملك الذي حاز المنى ... وحباه منه بمثل حمدي أنورا
ألسيف أفصح من زياد خطبة ... في الحرب إن كانت يمينك منبرا
ما زلت تغني من عنى لك راجيا ... نيلا وتفني من عتا وتجبرا
حتى حللت من الرئاسة محجرا ... رحبا وضمت منك طرفا أحورا
شقيت بسيفيك أمة لم تعتقد ... إلا اليهود وإن تسمت بربرا(5/159)
أثمرت رمحك من رؤوس كماتهم ... لما رأيت الغصن يعشق مثمرا
وصبغت درعك من دماء ملوكهم ... لما علمت الحسن يلبس أحمرا
نمقتها وشيا بذكرك مذهبا ... وفتقتها مسكا بحمدك أذفرا
من ذا ينافحني وذكرك صندل ... أوردته من نار فكري مجمرا
فلئن وجدت نسيم حمدي عاطرا ... فلقد وجدت نسيم برك أعطرا
وإليكها كالروض زارته الصبا ... وحنا عليه النور حتى نورا
لما عقد المتوكل لولاة العهود من ولده ركب بسر من رأى ركبة لم ير أحسن منها وركب ولاة العهود بين يديه والأتراك بين أيديهم الطبر زينات المحلاة بالذهب. ثم نزل في الماء فجلس فيه والجيش معه في الجوانحيات وسائر السفن. وجاء حتى نزل في القصر الذي يقال له العروس وأذن للناس فدخلوا إليه. فلما تكاملوا بين مثل إبراهيم بن العباس بين الصفين فاستأذن في الإنشاد فأذن له فأنشد
ولما بدا جعفر في الخميس م بين المطل وبين العروس
بدا لابسا بهما حلة ... أزيلت بها طالعات النحوس
ولما بدا بين أحبابه ... ولاة العهود وعز النفوس
غدا قمرا بين أقماره ... وشمسا مكللة بالشموس
لإيقاد نار وإطفائها ... ويوم أنيق ويوم عبوس
ثم أقبل على ولاة العهود فقال:
أضحت عرى الإسلام وهي منوطة ... بالنصر والإعزاز والتأييد
بخليفة من هاشم وثلاثة ... كنفوا الخلافة من ولاة عهود
قمر توافت حوله أقماره ... فحففن مطلع سعده بسعود
رفعتهم الأيام وارتفعوا بها ... فسعوا بأكرم أنفس وجدود(5/160)
فأمر له المتوكل بمائة ألف درهم وأمر له ولاة العهود بمثلها
قصيدة البحتري في الخليفة المتوكل لما دخل الموصل يوم الفطر
ألله مكن للخليفة جعفر ... ملكاً يحسنه الخليفة جعفر
نعمى من الله اصطفاه بفضلها ... والله يرزق من يشاء ويقدر
فأسلم أمير المؤمنين ولا تزل ... تعطى الزيادة في البقاء وتشكر
عمت فواضلك البرية فالتقى ... فيها المقل على الغنى والمكثر
بالبر صمت وأنت أفضل صائم ... وبسنة الله الرضية تفطر
فانعم بيوم الفطر عينا إنه ... يوم أغر من الزمان مشهر
أظهرت عز الملك فيه بجحفل ... لجب يحاط الدين فيه وينصر
خلنا الجبال تسير فيه وقد غدت ... عددا يسير بها العديد الأكثر
فالخيل تصهل والفوارس تدعي ... والبيض تلمع والأسنة تزهر
والأرض خاشعة تميد بثقلها ... والجو معتكر الجوانب أغبر
والشمس ماتعةٌ توقد في الضحى ... طوراً ويطفئها العجاج الأكدر
حتى طلعت بضوء وجهك فانجلى ... ذاك الدجى وإنجاب ذاك العثير
وافتن فيك الناظرون فإصبعٌ ... يوماً إليك بها وعين تنظر
يجدون رؤيتك التي فازوا بها ... من أنعم الله التي لا تكفر
ذكروا بطلعتك الرشيد فهللوا ... لما طلعت من الصفوف وكبروا
حتى انتهيت إلى المصلى لابساً ... نور الهد يبدو عليك ويظهر
ومشيت مشية خاشع متواضعٍ ... لله لا تزهى ولا تتكبر(5/161)
فلوان مشتاقا تكلف غير ما ... في وسعه لسعى إليك المنبر
أيدت من فصل الخطاب بحكمة ... تنبي عن الحق المنير وتخبر
ووقفت في برد الخطيب مذكراً ... بالله تنذر تارة وتبشر
صلوا وراءك آخذين بعصمة ... من ربهم وبذمة لا تخفر
ومواعظ شفت الصدور من الذي ... يعتادها وشفاؤها متعذر
حتى لقد علم الجهول وأخلصت ... نفس المرئي واهتدى المتحير
فاسعد بمغفرة الإله فلم يزل ... يهب الذنوب لمن يشاء ويغفر
ألله أعطاك المحبة في الورى ... وحباك بالفضل الذي لا ينكر
ولأنت أملأ للعيون لديهم ... وأجل قدرا في الصدور وأكبر
من قصيدة لكمال الدين المعروف بابن النبيه في الناصر أحمد أمير المؤمنين
إمام عدل لتقوى الله باطنه ... وللجلالة والإحسان ظاهره
تجسد الحق في أثناء بردته ... وتوجهت باسمه العالي منابره
له على ستر سر الغيب مطلع ... فما موارده إلا مصادره
راع بطرف حمى الإيمان ساهرُهُ ... ساطٍ بسيف أباد الجور شاهرة
في صدره البحر أو في بطن راحته ... كلاهما يغمر السؤال زاخرة
محجبٌ في سجوف العز لو فرجت ... عن نور وجه يباهي الصبح باهرة
نضاه سيفاً على أعداء دولته ... ما كل سيف له تثنى خناصره
فضل اصطفاء أتى من غير مسئلةٍ ... يغنى به عن أخٍ برٍ يؤازره
تهن نعمى أمير المؤمنين ودم ... يا أيها الأشرف الميمون طائرة(5/162)
بحد سيفك آيات العصي نسخت ... إذا تفرعن يوم الروع كافرة
سل الكلى والطلى يا من يساجله ... فالرمح ناظمه والسيف ناثره
تنجست بدم القتلى صوارمه ... وطهرت بيد التقوى مآزره
جم النوال سريع البطش متئد ... كالدهر يرجى كما تخشى بوادره
إذا حبا أغنت الأيدي مواهبه ... وإن سطا سدت الدنيا عساكره
أين المفر لمن عاداه من يده ... والوحش والطير أتباع تسايره
إن يصعد الجو ناشته خواطفه ... أو يهبط الأرض غالته كواسره
يا جامعا بالعطايا شمل عترته ... كالقطب لولاه ما صحت دوائره
إن جاد شعري فهذا الفضل علمني ... من غاض في البحر جاءته جواهره
وقال أيضا يمدح السلطان موسى الأشرف
يستوجب النصر من صحت عزائمه ... ويقتني الشكر من عمت مكارمه
بالمال والنفس نال المجد طالبه ... إن العظيم لمن هانت عظائمه
في كل دور لهذا الدين منتظر ... يشيده بعد ما تخفى معالمه
فاليوم كل إمامي يوفقنا ... بأن شاه أرمن المهدي قائمه
من يملأ الأرض عدلا بعد ما ملئت ... جورا وكشف غماها صوارمه
يا يوم دمياط ما أبقيت من شرف ... لمن تقدم إلا أنت هادمه
رأت بنو الأصفر الأعلام طالعة ... والنقع يرمد عين الشمس فاحمه
والجيش يلتف مرطاه على ملكٍ ... كالليث تزأر حوليه ضراغمه
والجو يبكي سهاما كلما ضحكت ... عن كل برق يماني غمائمه(5/163)
وكل طرف إذا طال الطراد به ... يطير من حدة لولا شكائمه
ودون دمياط بحر حال بينهم ... من الظبا ليس ينجو منه عائمه
ذلوا لملك أعان الله صاحبه ... موسى سليمانه والسيف خاتمه
وسلموها وردوا أهلها ومضوا ... والثغر من فرح يفتر باسمه
كأنهم أبصروا ما قد مضى زمنا ... كما يرى مزعج الأحلام نائمة
أشبهت جدك إبراهيم واتفقت ... على عزائمك العليا عزائمه
قل للكماة وسرته سلامته ... هذا هو الموت فاحذر أن تلاثمه
عادوا بحزن إلى أوطانهم ومضوا ... وكل بيت وقاهم فيه مأتمه
تبكي النساء على أسرى ملوكهم ... وذاك أمر قضى بالعدل حاكمة
يا باذلا في سبيل الله مهجته ... لله لا للذي جادت معالمه
لولاك زلزل دين المصطفى ووهى ... وأصبح البيت قد حلت محارمه
أقول للحاسد المحزون ذا ملك ... والنجم والفلك والدوار خادمه
هذا اختصاص إلهي ومرتبة ... ما في الملوك عليها من يزاحمه
لا فارقت ألسن المداح دولته ... فأحسن الروض ما غنت حمائمه
وله فيه أيضاً
حظي من الزمن القليل وهذه ... نفثات في وهذه كلماتي
أشكو إلى شاه أرمن موسى الملي ... ك الأشرف السبق للغايات
ملك إذا اعتكر العجاج رأيته ... طلق المحيا واضح القسمات
أو كان قبل اليوم كان جبينه ... أولى من التشبيه بالمشكاة(5/164)
جرار أذيال الجيوش يحفها ... طير السماء وكاسر الفلوات
ضمنت لها عادات نصر الله أن ... تجري جرايتها على العادات
أسد براثنها النصال تقحمت ... أجم الوشيح فغبن في غابات
طلعت من الخوذ الحديد وجوههم ... فكأنها الأقمار في الهالات
واستلأت حلق الدروع عليهم ... فكأنها لحجٌ على هضبات
يرمي بها سبل المهالك ماجد ... كم خاض دون الموت في غمرات
كم ركعة لقناه في ثغر العدى ... ولسيفه في الهام من سجدات
سمر ذوابل لا يبل غليلها ... إلا إذا سقيت دم المهجات
يلهي مسامعه الصليل وأين من ... طبع القيون تطبع القينات
ظل البنود مقليه ومهاده ... جرد تطير به إلى الغابات
دهم تخيرها الصباح على الدجى ... فغدا ومطلعه من الجبهات
حمر تربت بين مشتجر القنا ... لابد دون الورد من شوكات
شهب بها قذفت شياطين العدى ... فجرت كجري الشهب مشتعلات
هذا الذي أرضى العباد وربهم ... بغرائب الإحسان والحسنات
هذا الذي استغنى عن الوزراء في ... تدبير عقد الرأي والرايات
سبحان من جمع المكارم عنده ... وقضى على أمواله بشتات
وقال أيضا يمدحه
قد مسني الضر ومالي سوى ... من يمنع الجار ولا يمنع
الملك الأشرف شاه أرمن ... مظفر الدين الفتى الأروع(5/165)
إن غاض ماء الرزق موسى وإن ... شمسي تغرب إنه يوشع
له يد ظاهرها كعبة ... وفي الندى باطنها مشرع
بيضاء في السلم ولكنها ... حمراء إذ سن القنا يقرع
إذا دجا النقع وصلت به ... بيض سجود وقنا ركع
سل حساما وامتطى أشقرا فأي برقيه به أسرع
طرف من الصبح له غرة ... ومن رياح أربعٍ أربع
في جحفلٍ يحمد يوم الوغى ... في جمعه تفريق ما يجمع
بحر حديد موج أبطاله ... يزبد بيضا وقنا يلمع
ملك له الأملاك من رهبة ... ورغبة أعناقها خضع
يخيفها السطوة من بأسه ... لكنها في جوده تطمع
لا ترتضي همته غاية ... من رتب المجد ولا تقنع
مبتكر للمجد مداحه ... تبتكر المدح الذي يصنع
تنزهت أفعاله فهو عن ... ما تمدح الناس به أرفع
يا ابن الذي لو كاده تبع ... لكان كالعبد له يتبع
كفاه فخراً أن تكون ابنه ... وأنت في أولاده إن دعوا
بقيت للإسلام ما غردت ... قمرية في دوحها تسجع
وقال يمدحه ويستعطفه
ألله أبدي البدر من أزراره ... والشمس من قسمات موسى أطلعا
الأشرف الملك الذي ساد الورى ... كهلا ومكتمل الشباب ومرضعا(5/166)
ردت به شمس السماح على الورى ... فاستبشروا ورأوا بموسى يوشعا
سهل إذا لمس الصفا سال الندى ... صعب إذا لحظ الأصم تصدعا
دان ولكن من سؤال عفاته ... سام على سمك السماء ترفعا
يا برق هذا منك أصدق شيمة ... يا غيث هذا منك أحسن موقعا
يا روض هذا منك أبهج منظرا ... يا بحر هذا منك أعذب مشرعا
يا سهم هذا منك أصوب مقصدا ... يا سيف هذا منك أسرع مقطعا
يا صبح هذا منك أسفر غرة ... يا نجم هذا منك أهدى مطلعا
حملت أنامله السيوف فلم تزل ... شكرا لذلك سجدا أو ركعا
حلت فلا برحت مكانا لم يزل ... من در أفواه الملوك مرصعا
أمظفر الدين استمع قولي وقل ... لعثار عبدٍ أنت مالكه لعا
أيضيق بي حرم اصطناعك بعدما ... قد كان منفرجا علي موسعا
وعلى كلا الحالين إني شاكر ... داع لأن الله يسمع من دعا
وقال يمدحه وهي من القصائد المرقصة
والله لو قيس به حاتم ... لقل ما قد قيل فيه وهان
ذا يملأ الأرض بإحسانه ... وذاك يمتن بملء الجفان
يروي العلى عن نفسه عن أب ... عال فنا في نصه عن فلان
قد نظم المجد له نسبة ... كالدر تجلوه وجوه الحسان
طلق الندى طلق الحيا طلق نص ... ل السيف طلق الأمر طلق اللسان
يقول من يسمع ألفظه ... هذا جني يانع أم جنان(5/167)
له على وقع الظبى هزة ... إذا التقى الجمعان يوم الرهان
صالت وصلت في رؤوس العدى ... كأن في الآذان منها أذان
مولاي جد وأنعم وصل واقتدر ... وافتك فما تفرح أم الجبان
واركب جواد الدهر واسبق إلى ... ما تشتهيه قد ملكت العنان
دمتم بني أيوب في نعمة ... تجوز في التخليد حد الزمان
والله ما زلتم ملوك الورى ... سرقا وغربا وعلي الضمان
قال ابن عنين في الملك العادل وفي أولاده
وله البنون بكل أرض منهم ... ملك يقود إلى الأعادي عسكرا
من كل وضاح الجبين تخاله ... بدراً وإن شهد الوغى فغضنفرا
متقدم حتى إذا النقع انجلى ... بالبيض عن سبي الحريم تأخرا
قوم زكوا أصلا وطابوا محتداً ... وتدفقوا جوداً وراقوا منظرا
وتعاف خيلهم الورود بمنهل ... ما لم يكن بدم الوقائع حمرا
يعشو إلى نار الوغى شغفا بها ... ويجل أن يعشو إلى نار القرى
ألعادل الملك الذي أسماؤه ... في كل ناحية تشرف منبرا
وبكل أرض جنة من عدله الصافي أسال نداه فيها كوثرا
عدل يبيت الذئب منه على الطوى ... غرثان وهو يرى الغزال الأعفرا
ما في أبي بكر لمعتقد الهدى ... شك مريب أنه خير الورى
سيفٌ صقال المجد أخلص متنه ... وأبان طيب الأصل منه الجوهرا
ما مدحه بالمستعار له ولا ... آيات سؤدده حديث يقترى(5/168)
بين الملوك الغابرين وبنيه ... في الفضل ما بين الثريا والثرى
نسخت خلائقه الحميدة ما أتى ... في الكتب كسرى الملوك وقيصرا
ملك إذا خفت حلوم ذوي النهي ... في الروع زاد رصانة وتوقرا
ثبت الجنان تراع من وثباته ... وثباته يوم الوغى أسد الشرى
يقظ يكاد يقول عما في غد ... ببديهة أغنته أن يتفكرا
حلم تخف له الحلوم وراءه ... رأي وعزم يخفر الإسكندرا
يعفو عن الذنب العظيم تكرما ... ويصد عن قول الخنا متكبرا
لا تسمعن حديث ملك غيره ... يروى فكل الصيد في جوف الفرا
قال الصاحب جمال الدين يحيى بن مطروح يمدح المستنصر بالله
لادرَّ دري إن ونت بي همةٌ ... عن قصد دار ظلها لا يبرح
بغداد أيتها المذاكي إنها ... أنجى وأنجع للشؤون وأنجح
خببا وتقريبا وإنضاء فبي ... شوق إلى ذاك الجناب مبرح
هذا هو الملك الذي لا يبتغى ... لسواك والشرف الذي لا يرجح
مستنصرا بالله يمسي دائبا ... فيما يعز به لديه ويصبح
تعرو المنابر حين يذكر هيبة ... حتى الجماد لذكره يترنح
تغشى النواظر إن بدت أنواره ... فالطرف يطرف والجوانح تجنح
يعفو ويصفح قادرا عمن تركتهم ... فرقا وأعينهم لعودي تطمح
ما نلت من شرف ومجد باذخ ... وغدا بنا فوق الكواكب مطرح(5/169)
فبذلك الشرف الذي أوتيته ... وبحسن منقلبي إذا فليفرحوا
إني لأربح متجرا من معشر ... أضحت بضائعهم تذال وتطرح
جلبوا الذي يفنى وينفد عاجلا ... وجلبت ما يبقى فمن هو أربح
الله حسبك يا ابن عم محمد ... فلسمط مدحك ذي اللآلي تصلح
لا ثل عرش خلافة مذ حطتها ... قرأت على أعدائها لن تفلحوا
وقد استقر الملك فوق سريرها ... والعز تحت لوائها لا يبرح
في ظله للائذين فلذ به ... إن كنت تقبل من نصيح ينصح
ما لا رأت عين ولا سمعت به ... أذن ولا أمسى ببال يسنح
إن الخلافة لم تكن إلا لكم ... من آدم وهلم جرا تصلح
وقال يمدح الملك الأشرف مظفر الدين أبا الفتح موسى أخا الملك الكامل
لا شيء يطرب سامعا كحديثه ... إلا الثناء على علا شاه أرمن
الأشرف الملك الكريم المجتبى ... موسى وتمم بالرحيم المحسن
ملك إذا أنفقت عمرك كله ... في نظرة من وجهه لم تغبن
وإذا انتخبت له دعاء صالحا ... لم تلق غير مشارك ومؤمن
يا أيها الملك الذي من فاته ... نظر إليك فما أراه بمؤمن
أفنيت خيلك والصوارم والقنا ... وعداك والأموال ماذا تقتني
أبقت لك الذكر الجميل مخلدا ... شيم لها الأملاك لم تتفطن
وشجاعة رجف العراق لذكرها ... وتهامة وبلاد عبد المؤمن
ولى الخوارزمي منها هاربا ... وهلم جرا قلبه لم يسكن(5/170)
ودعاؤه في ليله ونهاره ... يا رب من سطوت موسى نجني
ما كان أشوقني للثم بنانه ... ولقد ظفرت بلثمها فليهنني
ودخلت من أبوابه في جنة ... يا ليت قومي يعلمون بأنني
يا مكثري الدعوى اخفضوا أصواتكم ... ما كل رافع صوته بمؤذن
أنا من يحدث عنه في أقطارها ... من كان في شك به فليوقن
هذا مقامٌ لا الفرزدق ماهر ... فيه ولا نظراؤه لكنني
ملك الملوك إليكها من ناظمٍ ... مترسل متنوع متفنن
إن شئت نظما فالذي أمليته ... أو شئت نثراً فاقترح واستحسن
لا تخدعن بظاهر عن باطن ... قد يظهر الإنسان ما لم يبطن
والسبعة الأفلاك ما حركاتها ... إلا مخافة أن تقول لها اسكني
عاشت عداك ولا أشح عليهم ... عمي النواظر عنك خرس الألسن
حدث العلامة لسان الدين بن الخطيب قال للسلطان الظافر وأنا بمدينة سلا لما انفصل طالبا حقه بالأندلس قصيدة كان صنع الله مطابقا لاستهلالها. ووجهت بها إلى رندة قبل الفتح. ثم لما قدمت أنشدتها بين يديه بعد الفتح وفاء بنذري. وسميتها الفتح الغريب في الفتح القريب
الحق يعلو والأباطل تسفل ... والحق عن أحكامه لا يسأل
فإذا استحالت حالة وتبدلت ... فالله عز وجل لا يتبدل
واليسر بعد العسر موعود به ... والصبر بالفرج القريب موكل
والمستعد بما يؤمل ظافر ... وكفاك شاهد قيدوا وتوكلوا
أمحمد والحمد منك سجية ... بحليها بين الورى يتجمل(5/171)
أما سعودك فهو دون منازع ... عقد بأحكام القضاء يسجل
ولك السجايا الغر والشيم التي ... بغريبها يتمثل المتمثل
ولك الوقار إذا تزلزلت الربى ... وهفت من الروع الهضاب المثل
عوذ كما لك ما استطعت فإنه ... قد تنقص الأشياء مما تكمل
إن كان ماض من زمانك قد مضى ... بإساءة قد سرك المستقبل
هذا بذاك فشفع الثاني الذي ... أرضاك فيما قد جناه الأول
والله قد ولاك أمر عباده ... لما ارتضاك ولاية لا تعزل
وإذا تغمدك الإله بنصره ... وقضى لك الحسنى فمن ذا يخذل
وظعنت عن أوطان ملكك راكبا ... متن العباب فأي صبر يجمل
والبحر قد حنيت عليك ضلوعه ... والريح تقطع للزفير وترسل
ولك الجواري المنشآت قد اغتدت ... تختال في برد الشباب وترفل
غرقت بصفحته النمال وأوشكت ... تبغي النجاة فأوثقتها الأرجل
فالصرح منه ممرد والصفح منه مورد والشط منه مهدل
وبكل أزرق إن شكت ألحاظه ... مره العيون فبالعجاجة يكحل
متأوداً أعطافه في نشوةٍ ... مما يعل من الدماء وينهل
عجبا له إن النجيع بطرفه ... رمدٌ ولا يخفى عليه مقتل
لله موقفك الذي وثباته ... وثباته مثل به يتمثل
والخيل خط والمجال صحيفة ... والسمر تنقط والصوارم تشكل
والبيض قد كسرت حروف جفونها ... وعوامل الأسل المثقف تعمل(5/172)
لابن رشيد يمدح أمير المؤمنين عبد المؤمن الكرمي
دراري من نور الهدى تتوقد ... مطالعها فوق المجرة أسعد
وأنهار جود كلما أمسك الحيا ... يمد بها طامي الغوراب مزبد
وآساد حرب غابها شجر القنا ... ولا لبد إلا العجاج الملبد
مساعير في الهيجا مساعير الندى ... بأيديهم يحمى الهجير ويبرد
تشب بهم ناران للحرب والقرى ... ويجري
بهم سيلان جيش وهسجد
ويستمطرون البرق والبرق عبدهم ... سيوف على أفق العداة تجرد
سلام على المهدي أما قضاؤه ... فحتم وأما أمره فمؤكد
إمام الورى عم البسيطة عدله ... على حين وجه الأرض بالجور أربد
بصير رأى الدنيا بعين جليلة ... فلم يغنه إلا المقام الممجد
ولما مضى والأمر لله وحده ... وبلغ مأمول وأنجز موعد
تردى أمير المؤمنين رداءه ... وقام بأمر الله والناس هجد
بعزمة شيحان الفؤاد مصمم ... يقوم به أقصى الوجود ويعقد
مشيئته ما شاءه الله إنه ... إذاهم فالحكم الإلهي يسعد
كتائبه مشفوعة بملائكٍ ... تزاد بها في كل حال وترفد
وما ذاك إلا نية خلصت له ... فليس له فيما سوى الله مقصد
إذا خطبت راياته وسط محفل ... ترى قمم الأعداء في الترب تسجد
وإن نطقت بالفصل فيهم سيوفه ... أقر بأمر الله من كان يجحد
معيد علوم الدين بعد ارتفاعها ... ومبدي علوم لم تكن قبل تعهد(5/173)
جزى الله عن هذا الأنام خليفة ... به شربوا ماء الحياة فخلدوا
وحياه ما دامت محاسن ذكره ... على مدرج الأيام تتلى وتنشد
فدم للورى غيثا وعزا ورحمة ... فقربك في الدارين منح مسعد
وزادت بك الأعياد حسنا وبهجة ... كأنك للأعياد زيٌّ مجدد
ولا زلت للأيام تبلى جديدها ... وعمرك في ريعانه ليس ينفد
قال ابن صردر يمدح السلطان ملكشاه
قد رجع الحق إلى نصابه ... وأنت من كل الورى أولى به
ما كنت إلا السيف سلته يد ... ثم أعادته إلى قرابه
هزته حتى أبصرته صارما ... رونقه يغنيه عن ضرابه
أكرم بها وزارة ما سلمت ... ما استودعت إلا إلى أصحابه
مشوقة إليك مذ فارقتها ... شوق أحي الشيب إلى شبابه
مثلك محسود ولكن معجز ... أن يدرك البارق في سحابه
حاولها قوم ومن هذا الذي ... يخرج ليثا خادرا من غابه
يدمي أبو الأشبال من زاحمه ... في جيشه بظفره ونابه
وهل رأيت أو سمعت لابسا ... ما خلع الأرقم من إهابه
تيقنوا لما رأوها ضيعة ... أن ليس للجو سوى عقابه
إن الهلال يرتجى طلوعه ... بعد السرار ليلة احتجابه
والشمس لا يؤيس من طلوعها ... وأن طواها الليل في جنابه
ما أطيب الأوطان إلا أنها ... للمرء أحلى أثر اغترابه(5/174)
كم عودة دلت على مآبها ... والخلد للإنسان في مآبه
لو قرب الدر على طالبه ... ما نجح الغائض في طلابه
ولو أقام لازما أصدافه ... لم تكن التيجان في حسابه
ما لؤلؤ البحر ولا من صانه ... إلا وراء الهول من عبابه
قال أحمد بن أبي القاسم الخلوف في الملك المسعود
وافتر ثغر الزهر بشرا إذ رأى ... وجه المليك تحفه البشراء
ساس الخلافة بالمكارم والحجى ... إذ لم يسسها مثله الخلفاء
تعلو السماء ثلاثة من أرضه ... ألفضل والإفضال والنعماء
وثلاثة قد جنبت أخلاقه ... ألخلق والآثام والشحناء
وثلاثة في العزم من أفعاله ... ألنقض والإبرام والآراء
والمجد وهو اثنان أحرز وأحدا ... أعمامه والآخر الآباء
يقظاته والليل مرخ سجفه ... تركت عيونا ما لها إغفاء
بحر لكفي تجره نعماؤه ... بدر لعيني تبده الأضواء
لو عانيت منه السحائب ما أرى ... حارت فلم تتجبس الأنواء
وإذا اختفى عن منكريه فعاذر ... أن لا تراه مقلة عمياء
هذي المآثر ليس ينشي مثلها ... بان ولم يسمو بها النظراء
تتحير الشعراء فيها إذ تذل م ببحرها الكبراء والعظماء
لم يثن في طلب أعنة خليه ... لما اعترت مهزومها النكباء(5/175)
أو ما سمعت بيومه المشهود في ... سراط إذ سارت به الأنباء
ملك العباد فأظهرت آراؤه ... عفوا فتمم فضله الإبداء
فضل أقر به العداة ولم أجد ... كالفضل قد شهدت به الأعداء
لا يعد منك السائلون فإنهم ... في ظل عز أدركوا ما شاءوا
كن حيث شئت أسر إليك فإنني ... أهدى إليك ولم وأنت ذكاء
فنظمت فيك بديع شعرٍ فات أن ... ترقى إلى حجراته الشعراء
وقال أيضا فيه
مليك تصدى ينصر الحق في الورى ... إذا عصبة منهم لظلم تصدت
زعيم به أيدي المكارم أيدت ... وليث به كف المظالم كفت
أخو البأس والنعمى يرجى ويختشى ... لأيام سلم أو لأيام فتنة
رؤوف على العاني إذا الدهر خانه ... صفوح عن الجاني إذا الرجل زلت
هجوم على الأعداء من كل جانب ... شفوق على الأصحاب من كل وجهة
مدبر أمر ليس يصدر رأيه ... فيقرع في إصداره سن غفلة
حليف ندى يأوي إلى بيت سؤدد ... دعائمه مثل السماك تعلت
ترقى محلا لو ترقت لبابه ... بدور الدياجي رفعة ما تهدت
جواد يعيد الجدب خصبا كأنما ... أياديه بالغيث السكوب استهلت
ولا عيب في نعمائه غير أنها ... لسائله قبل السؤال أعدت
له همة فاقت على كل همة ... بدولة ملك أخجلت كل دولة
هنيئا لوفد سائرين لبابه ... لقد حمدوا المسرى بصبح المسرة(5/176)
أمولاي إن القصد آل مآله ... إليك وأيدي الحال نحوك مدت
فجد للخلوف النازح الدار بالرضا ... على مهجة للهلك فيك استعدت
فأنت ملاذي واعتمادي وغايتي ... وعزي وسلطاني وذخري وعمدتي
ولا زلت في أمن ويمن وبهجة ... ويسر وخير وارتقاء وعزة
وجاه ونصر واعتلاء وسؤدد وفخر ومجد واقتدار ورفعة
وله فيه أيضا من قصيدة
ملك سمي أخلاقه فترفعت ... عن رتبة الأشباه والأمثال
قمر جلا ظلم الخطوب ضياؤه ... عنا وبدر كامل الإجلال
إن كان عال في الخلافة قدره ... فأبوه منها في محل عال
ذو همة رفعت عوامل نصبها ... فقضت بحزم الخفض للأفعال
وعوامل حدت لقطع مكيدها ... فهي القواضب في مضا وصقال
لا عيب في نعماه إلا أنها ... توفيك ما وعدت بغير مطال
عجبا لها وهي التي مع عدلها ... ظلامةٌ في بذلها للمال
تولي العطايا بغير من متبع ... وتجيب راجيها بغير سؤال
حسنت معاليه فليس للطفها ... حد فيعربه لسان مقال
هذا هو الشرف الذي قد جل أن ... تطرى لديه غرائب الأمثال
من معشرهم في الندى سحب وفي ... نقع الحروب هم حمى الأبطال
فهم هم الآساد في يوم الوغى ... وهم هم الأقيال يوم سجال
شادوا حمى الإسلام بالبيض التي ... منها تهل سحائب الآجال(5/177)
ألله أعلى قدرهم وأحلهم ... رتب الوفا والجود والإفضال
يا مالكا عوّذت طلعته وجو ... د بنانه بالشمس والأنفال
قل للذي قد راح ينكر أنني ... في النظم غير مصدق الأقوال
قام الدليل على افتراه وقد محا ... فلق البيان غياهب الإشكال
فدع استماع مقال حاسد نعمة ... يسعى لعمر أبيك سعي ضلال
فهو الحسود وهل سمعتم حاسداً ... قد ساد في حال من الأحوال
وهو الكذوب تعرضا وخيانة ... صب الإله عليه صوب نكال
والبدر ما أبدى لعينك عاطلاً ... إلا لتعلم قدرَ قدرِ الحالي
فأنا الذي أوضحت غير مدافع ... سبل الظلام لغزل الأغزال
وشهرت في شرق البلاد وغربها ... بعلوم آداب القريض العالي
فاحفظ نفيس عقود نظمي إنه ... نعم النفيس وأنت نعم الكالي
واستجل منه كل نسمات غدت ... تفتر عن وصف السناء العالي
وتلقها بالرحب منك فإنما ... قد قابلتك بأوجه الإقبال
لم لا ومدحك قد كفاها حلة ... فاقت بها فخرا على الأمثال
فلك السلامة والهنا ما أنشدت ... سفرت وجوه الحسن عن تمثال
قصيدة خطيب مكة الشيخ محيي الدين الشهاب العليف في السلطان بايزيد
فيا راكبا يسري على ظهر ضامر ... إلى الروم يهدي نحوها طيب النشر
لك الخير إن وافيت برسا فسر بها ... رويداً لإسطنبول سامية الذكر
لدى ملك لا يبلغ الوصف كنهه ... شريف المساعي نافذ النهي والأمر(5/178)
إلى بايزيد الخير الملك الذي ... حمى بيضة الإسلام بالبيض والسمر
وجرد للدين الحنيفي صارماً ... أباد به جمع الطواغيت والكفر
وجاهدهم في الله حق جهاده ... رجاء بما يبغي من الفوز والأجر
له هيبة ملء الصدور وصولة ... مقسمة بين المخافة والذعر
أطاع له ما بين روم وفارس ... ودان له ما بين بصرى إلى مصر
هو البحر إلا أنه دائم العطا ... وذلك لا يخلو من المد والجزر
هو البدر إلا أنه كامل الضيا ... وذاك حليف النقص في معظم الشهر
هو الغيث إلا أن للغيث مسكة ... وذا لا يزال الدهر ينهل بالقطر
هو السيف إلا أن للسيف نبوة ... وفلا وذا ماضي العزيمة في الأمر
سليل بني عثمان والسادة الألى ... علا مجدهم فوق السماكين والنسر
ملوك كرام الأصل طابت فروعهم ... وهل ينسب الدينار إلا إلى التبر
محوا أثر الأعداء بالسيف فاغتدت ... بهم حوزة الإسلام سامية القدر
فيا ملكا فاق الملوك مكارماً ... فكل إلى أدنى مكارمه يجري
فدتك ملوك الأرض طرا لأنها ... سرارٌ وأنت البدر في غرة الشهر
تعاليت عنهم رفعةً ومكانةً ... وذاتاً وأوصافاً تجل عن الحصر
لك العزة القعساء والرتبة التي ... قواعدها تسمو على منكب النسر
سموت علوا إذ دنوت تواضعاً ... وقمت بحق الله في السر والجهر
غدت بك أرض الروم تزهو ملاحة ... وترفل في ثوب الجلالة والفخر
ألست ابن عثمان الذي سار ذكره ... مسير ضياء الشمس في البر والبحر(5/179)
يمينك تروي عن يسار ونائل ... ووجهك يروي في البشاشة عن بشر
وإني لصوان لدر قلائدي ... عن المدح إلا فيك يا ملك العصر
فقابل رعاك الله شكري بمثله ... فإنك للمعروف من أكرم الذخر
فلا زلت محروس الجناب مؤيدا ... من الله بالتوفيق والعز والنصر
قصيدة الشيخ قطب الدين النهروالي في السلطان سليم خان
لك الحمد يا مولاي في السر والجهر ... على عزة الإسلام والفتح والنصر
كذا فليكن فتح البلاد إذا سعت ... له الهمم العليا إلى أشرف الذكر
جنود رمت في كوكبان خيامها ... وآخرها بالنيل من شاطئ مصر
تجر من الأبطال كل غضنفر ... بصارمه يسطو على مفرق الدهر
عساكر سلطان الزمان مليكنا ... خليفة هذا العصر في البر والبحر
حمى حوزة الدين الحنيفي بالقنا ... وبيض المواضي والمثقفة السمر
له في سرير الملك أصل مؤثل ... تلقاه عن أسلافه السادة الغر
ملوك تساموا للعلا وخلائف ... أولو العزم في أزمانهم وأولو الأمر
شموس بفيض النور تمحو غياهباً ... من الكفر منهم يستمد ضيا البدر
هم ملؤوا عين الزمان وقلبه ... فقرت عيون العالمين من البشر
هم العقد من أغلى اللآلي منظما ... وسلطاننا في الملك واسطة الدر
شهنشاه سلطان الملوك جميعهم ... سليم كريم أصله أطيب النجر
عماد يلوذ المسلمون بظله ... وسد منيع للأنام من الكفر
وحين أتاه أن قد احتل جانب ... من اليمن الأقصى أصر على القهر(5/180)
وساق لها جيشاً حميساً عرمرماً ... يدك فجاج الأرض في السهل والوعر
لهم أسد شاكي السلاح عرينه ... طوال الرماح السمهرية والبتر
وزير عظيم الشان ثاقب رأيه ... يجهز في آن جيوشا من الفكر
يقوم بأعباء الوزارة قومةً ... يشد جيوش الدين بالأيد والأزر
أياد له بالبأس كاسرة العدا ... ولكنها بالجود جابرة الكسر
به أمن الله البلاد وطمَّن العباد وأضحى الدين منشرح الصدر
سنان عزيز القدر يوسف عصره ... ألم تره في مصر أحكامه تجري
تدلى إلى أقصى البلاد بجيشه ... ومهد ملكا قد تمزق بالشر
وقطع رؤوساً من كبار رؤوسهم ... لهم باطن السرحان والطير كالقبر
وكان عصا موسى تلقف كلما ... بدا من صنيع الملحدين من السحر
ولا زال فيهم عامل الرمح عاملاً ... ولا برحوا في الذل بالقتل والأسر
وما يمنٌ إلا ممالك تُبَّعٍ ... وناهيك من ملكٍ قديمٍ ومن فخر
وقد ملكتها آل عثمان إذ مضت ... بنو طاهر أهل الشهامة والذكر
فهل يطمع الزيدي في ملك تبع ... ويأخذه من آل عثمان بالمكر
أبى الله والإسلام والسيف والقنا ... وسر أمير المؤمنين أبي بكر(5/181)
الباب التاسع في الهجو
قال بعض الشعراء في عذول:
وقالوا فلان في الورى لك شاتم ... وأنت له دون الخلائق تمدح
فقلت ذروه ما به وطباعه ... فكل إناء بالذي فيه ينضح
إذا الكلب لا يؤذيك عند نبيحه ... فذره إلى يوم القيامة ينبح
قال آخر في طبيب:
يا ملك الموت وابن زهر ... جاوزتما الحد والنهاية
ترفقا بالورى قليلا ... في واحد منكما الكفاية
قال غيره في قاض يحب الرشوة:
رأيت شاة وذئبا وهي ماسكة ... بأذنه وهو منقاد لها ساري
فقلت أعجوبة ثم التفت أرى ... ما بين نابيه ملقى نصف دينار
فقلت للشاة ماذا الإلف بينكما ... والذئب يسطو بأنياب وأظفار
تبسمت ثم قالت وهي ضاحكة ... بالتبر يكسر ذاك الضيغم الضاري
قال خفاف بن ندبة يهجو العباس بن مرداس
أرى العباس ينقص كل يوم ... ويزعم أنه جهلا يزيد
فلو نقضت عزائمه وبادت ... سلامته لكان كما يريد
ولكن المعائب أفسدته ... وكذب المرء أقبح ما يفيد(5/182)
فأبشر أن بقيت بيوم سوء ... يشيب له من الخوف والوليد
كيومك إذ خرجت تفوق ركضاً ... وطار القلب وانتفخ الوريد
ودع قول السفاهة لا تقله ... فقد طال التهدد والوعيد
وقال:
أعباس إنا وما بيننا ... كصدع الزجاجة لا يجبر
فلست بكفء لأمثالنا ... وشتمك أنت به أجدر
ولسنا بأهل لما قلته ... ونحن بشتمكم نعذر
فقصرك مني رقيق الذبا ... ب عضب كريهته تحذر
وأزرق في رأس خطية ... إذا هز كعب لها تخطر
يلوح السنان على متنها ... كنار على مرقب تسعر
فأجابه العباس
خفاف ألم تر ما بيننا ... يزيد استعارا إذا يسعر
ألم تر أنا نهين البلا ... د للسائلين وما نغدر
لنا شيم غير مجهولة ... توارثها الأكبرُ الأكبر
فقد يعلم الحي عند الصبا ... ح أن العقيلة بي تستر
وقد يعلم الحي عند الرها ... ن أني أنا الشامخ المخطر
فأنى تُعيرني بالفخار ... أرى أن هذا هو المنكر
لأبي المصبح أعشى همذان يهجو مدينة مكران وكان الحجاج أتى به إليها أسيراً
ولم تك من حاجتي مكران ... ولا الغزو فيها ولا المتجر
وخبرت عنها ولم آتها ... فما زلت من ذكرها أذعر(5/183)
بأن الكثير بها جائع ... وأن القليل بها مقتر
وأن لحى الناس من حرها ... تطول فتجلم أو تضفر
ويزعم من جاءها قبلنا ... بأنا سنسهم أو ننحر
أعوذ بربي من المخزيا ... ت فيما أسر وما أجهر
وحدثت أن ما لنا رجعة ... سنين ومن بعدها أشهر
إلى ذاك ما شاب أبناؤنا ... وباد الأخلاء والمعشر
وما كان بي من نشاط لها ... وإني لذو عدة موسر
ولكن بعثت لها كارها ... وقيل انطلق كالذي يؤمر
فكان النجاء ولم ألتفت ... إليهم وشرهم منكر
هو السيف جرد من غمده ... فليس عن السيف مستأخر
وكم من أخ لي مستأنس ... يظل به الدمع يستحسر
يودعني أنتحب عبرة ... له كالجداول أو أغرز
فلست بلاقيه من بعده ... يد الدهر ما هبت الصرصر
وقد قيل إنكم عابرو ... ن بحرا لها لم يكن يعبر
إلى السند والهند في أرضهم ... هم الجن لكنهم أنكر
وما رام غزوا لها قبلنا ... أكابر عاد ولا حمير
ولا رام سابور غزوا لها ... ولا الشيخ كسرى ولا قيصر
ومن دونها معبر واسع ... وأجر عظيم لمن يؤجر(5/184)
هجو طيلسان ابن حرب
كان أحمد بن حرب المهلبي من المنعمين على الحمدوني الشاعر والمحسنين إليه وله فيه مدائح كثيرة. فوهب له طيلسانا أخضر لم يرضه. قال أبو العباس المبرد: فأنشد فيه عشر مقطعات فاستحلينا مذهبه فيه فجعلها فوق الخسين فطارت كل مطار وسارت كل مسار فمنها:
يا ابن حرب كسوتني طيلساناً ... مل من صحبة الزمان وصدا
فحسبنا نسج العناكب قد حي ... ل إلى ضعف طيلسانك سدا
طال ترداده إلى الرفو حتى ... لو بعثناه وحده لتهدى
وقال فيه أيضا:
يا طيلسان ابن حرب قد هممت بأن ... تودي بجسمي كما أودى بك الزمن
ما فيك من ملبس بغني ولا ثمن ... قد أوهنت حيلتي أركانك الوهن
فلو تراني لدى الرفاء مرتبطا ... كأنني في يديه الدهر مرتهن
أقول حين رآني الناس ألزمه ... كأنما لي في حانوته وطن
من كان يسأل عنا أين منزلنا ... فالأقحوانة منا منزل قمن
وقال أيضاً:
قل لابن حرب طيلسا ... نك قوم نوح منه أحدث
أفنى القرون ولم يزل ... عمن مضى من قبل يورث
وإذا العيون لحظنه ... فكأنه بالحظ يحرث
يودى إذا لم أرفه ... فإذا رفوت فليس يلبث
كالكلب إن تحمل علي ... هـ الدهر أو نتركه يلهث
وقال أيضاً:(5/185)
قل لابن حرب طيلسانك قد ... أوهى قواي بكثرة الغرم
متبينٌ فيه لمبصره ... آثار رفو أوائل الأمم
وكأنه الخمر التي وصفت ... في يا شقيق الروح من حكم
فإذا رممناه فقيل لنا ... قد صح قال له البلى انهدم
مثل السقيم برا فراجعه ... نكس فأسلمه إلى سقم
أنشدت حين طغى فأعجزني ... ومن العناء رياضة الهرم
وله:
طيلسان لابن حرب جاءني ... خلعة في يوم نحس مستمر
فإذا ما صحت فيه صيحة ... تركته كهشيم المحتظر
وإذا ما الريح هبت نحوه ... طيرته كالجراد المنتشر
مهطع الداعي إلى الرافي إذا ... ما رآه قال ذا شيء نكر
وإذا رفاؤه حاول أن ... يتلافاه تعاطى فعقر
قال الفرزدق يهجو إبليس
ألم ترني عاهدت ربي فإنني ... لبين رتاجٍ قائمٌ ومقام
على قسم لا أشتم الدهر مسلماً ... ولا خارجاً من في سوء كلام
أطعتك يا إبليس سبعين حجة ... فلما انتهى شيبي وتم تمامي
فررت إلى ربي وأيقنت أنني ... ملاقٍ لأيام المنون حمامي
ولما دنا رأس التي كنت خائفاً ... وكنت أرى فيها لقاء لزام
حلفت على نفسي لأجتهدنها ... على حالها من صحة وسقام
ألا طالما قد بت يوضع ناقتي ... أبو الجن إبليس بغير خطام(5/186)
يظل يمنيني على الرحل واركا ... يكون ورائي مرة وأمامي
يبشرني أن لن أموت وأنه ... سيخلدني في جنة وسلام
فقلت له هلا أخيك أخرجت ... يمينك من خضر البحور طوامي
رميت به في اليم لما رأيته ... كفرقة طودي يذبل وشمام
فلما تلاقى فوقه الموج طامياً ... نكصت ولم تحتل له بمرام
ألم تأت أهل الحجر والحجر أهله ... بأنعم عيش في بيوت رخام
فقلت اعقروا هذي اللقوح فإنها ... لكم أو تنيخوها لقوح غرام
فلما أناخوها تبرأت منهم ... وكنت نكوصا عند كل ذمام
وآدم قد أخرجته وهو ساكن ... وزوجته من خير دار مقام
وأقسمت يا إبليس أنك ناصح ... له ولها إقسام غير أثام
فظلا يخيطان الوراق عليهما ... بأيديهم من أكل شر طعام
وكم من قرون قد أطاعوك أصبحوا ... أحاديث كانوا في ظلال غمام
وما أنت يا إبليس بالمرء ابتغي ... رضاه ولا يقتادني بزمام
سأجزيك من سوآت ما كنت سقتني ... إليه جروحا فيك ذات كلام
تعيرها في النار والنار تلتقي ... عليك بزقوم لها وضرام
وإن ابن إبليس وإبليس ألبنا ... لهم بعذاب الناس كل غلام
هما تفلا في فِيَّ من فمويهما ... على النابح العاوي أشد رجام
من مليح شعر الخطيب الحصكفي في هجو مغن ردي الصوت
ومسمعٍ غناءه ... يبدل بالفقر الغنى(5/187)
أبصرته فلم تخب ... فراستي لما دنا
ورمت أن أروح م للظن به ممتحنا
فقلت من بينهم ... هات أخي غن لنا
فانشال منه حاجب ... وحاجب منه انحنى
وامتلأ المجلس من ... فيه نسيما منتنا
أوقع إذ وقع في م الأنفس أسباب العنا
وما اكتفى باللحن والتخليط حتى لحنا
يوهم زمرا أنه ... قطعه ودندنا
وصاح صوتا نافرا ... يخرج من حد البنا
وما درى محضره ... ماذا على القوم جنى
فذا يسد أنفه ... وذا يسد الأذنا
ومنهم جماعة ... تستر عنه الأعينا
فاغتظت حتي كدت من ... غيظي أبث الشجنا
وقلت يا قوم اسمعوا ... إما المغني أو أنا
أقسمت لا أجلس أو ... يخرج هذا من هنا
قالوا لقد رحمتنا ... وزلت عنا المحنا
فحزت في إخراجه ... راحة نفس والثنا
وحين ولى شخصه ... قرأت فيهم معلنا
الحمد لله الذي ... أذهب عنا الحزنا(5/188)
قال الأديب كمال الدين علي بن محمد بن المبارك الشهير بابن الأعمى في ذم دار كان يسكنها
دار سكنت بها أقل صفاتها ... أن تكثر الحشرات في جناتها
ألخير عنها نازح متباعد ... والشر دان من جميع جهاتها
من بعض ما فيها البعوض عدمته ... كم أعدم الأجفان طيب سباتها
وتييت تسعرها براغيث متى ... غنت لها رقصت على نغماتها
رقص بتنقيط ولكن قافه ... قد قدمت فيه على أخواتها
وبها ذباب كالضباب يسد عين الشمس ما طربي سوى غناتها
أين الصوارم والقنا من فتكها ... فينا وأين الأسد من وثباتها
وبها خفافيش تطير ما هو معجز ... أبصارنا عن وصف كيفياتها
وبها من الجرذان ما قد قصرت ... عنه العتاق الجرد في حملاتها
وبها خنافس كالطنافس أفرشت ... في أرضها وعلت على جنباتها
وبنات وردان وأشكال لها ... مما يفةت العين كنه ذواتها
أبدا تمص دماءنا فكأنها ... حجامة لبدت على كاساتها
وبها من النمل السليماني ما ... قد قل ذر الشمس عن ذراتها
ما راعني شيء سوى وزغاتها ... فتعوذوا بالله من ذراتها
سجعت على أوكارها فظننتها ... ورق الحمام سجعن في شجراتها
وبها زنابير تظن عقاربا حر السموم أخف من زفراتها(5/189)
وبها عقارب كالأقارب رتع ... فينا حمانا الله لدغ حماتها
كيف السبيل إلى النجاة ولا نجا ... ة ولا حياة لمن رأى حياتها
منسوجة بالعنكبوت سماؤها ... والأرض قد نسجت على آفاتها
فضجيجها كالرعد في جنباتها ... وترابها كالرمل في خشناتها
والبوم عاكفة على أرجائها ... والدود تبحث في ثرى عرصاتها
والجن تأتيها إذا جن الدجى ... تحكي الخيول الجرد في حملاتها
والنار جزء من تلهب حرها ... وجهنم تعزى إلى لفحاتها
شاهدت مكتوبا على أرجائها ... ورأيت مسطورا على جنباتها
لا تقربوا منها وخافوها ولا ... تلقوا بأيديكم إلى هلكاتها
أبدا يقول الداخلون ببابها ... يا رب نج الناس من آفاتها
قالوا إذا ندب الغراب منازلا ... يتفرق السكان من ساحاتها
وبدارنا ألفا غراب منازلا ... يتفرق السكان من ساحاتها
صبرا لعل الله يعق راحة ... للنفس إذ غلبت على شهواتها
دار تبيت الجن تحرس نفسها ... فيها وتندب باختلاف لغاتها
كم بت فيها مفردا والعين من ... شوق الصباح تسح من عبراتها
وأقول يا رب السماوات العلى ... يا رازقا للوحش في فلواتها
أسكنتني بجهنم الدنيا ففي ... أخراي هب لي الخلد في جناتها
واجمع بمن أهواه شملي عاجلا ... يا جامع الأرواح بعد شتاتها(5/190)
الباب العاشر في الزهريات
زهرية بديع الزمان الهمذاني
برز الربيع لنا برونق مائه ... فانظر لروعة أرضه وسمائه
فالترب بين ممسك ومعنبر ... من نوره بل مائه وروائه
والماء بين مصندل ومكفر ... في حسن كدرته ولون صفائه
والطير مثل المحصنات صوادح ... مثل المغني شاديا بغنائه
والورد ليس بممسك رياه إذ ... يهدي لنا نفحاته من مائه
زمن الربيع جلبت أزكى متجر ... وجلوت للرائين خير جلائه
فكأنه هذا الرئيس إذا بدا ... في خلقه وصفاته وعطائه
بحمى أعز محجر وندى أغر ... محجل في خلقه ووفائه
يعشو إليه المختوي والمجتدي ... والمجتوي هو هاربٌ بذمائه
ما البحر في تزخاره والغيث في ... إمطاره والجو في أنوائه
بأجل منه مواهباً ورغائباً ... لا زال هذا المجد حلف فنائه
والسادة الباقون سادة عصرهم ... متمدحون بمدحه وثنائه
نخبة من زهرية ابن الراجح الحلي
نثرت عقود سمائها الأنداء ... بيد النسيم فللثرى إثراء
وبدت تباشير الربيع كأنما ... نشرت حبائر وشيها صنعاء(5/191)
وافتر ثغر الأقحوانة باسماًً ... إذ للشقيقة مقلة رمداء
والأرض قد زهيت بحلي نباتها ... والجو حلة سحبه دكناء
والروض في نشوات سكرته وقد ... طافت عليه الديمة الوطفاء
وثنى الحيا عطف الغدير فصفقت ... أطرافه وتغنت الورقاء
فكأن أعطاف الغصون منابر ... والورق في أوراقها خطباء
هذا الربيع أجب نداء سروره ... تشملك منه بروحك السراء
نخبة من زهرية لابن مكانس
قالها في وصف شجرة سرح على شاطئ النيل
يا سرحة الشاطئ المنساب كوثره ... على اليواقيت في أشكال حصباء
حلت عليك عزاليها السحاب إذا ... نوء الثريا استهلت ذات أنواء
وإن تبسم فيك النور من جذل ... سقاك من كل غيم كل بكاء
لا صوح الدهر منك الزهر وانبجست ... عليك كل هتون الودق سوداء
رحماك بالوارف المعهود منك فكم ... لنا بظلك من ألطاف أهواء
وكم نزلنا مقيلا منك ما حمي ال ... هجير إذ حيث لا مرأى لحرباء
نظل من فيئك الفضفاض في ظلل ... من الغمام يقينا كل ضراء
يا طبةً بدواء القيظ عالمة ... أنت الشفاء من الرمضا لذي الداء
لها مطارف ظل سجسج فمصيفها يعادل فيه طيب مشتاء
خمائل الروض منشاها ومرضعها ... ضرع النميرين من نيل وأنواء
فاستمهدت دوحها المخضل وافترشت نجم الربى ورقت عرشا على الماء(5/192)
بديعة الحسن قد فاز الجناس لها ... من المعاني بأفنان وأفياء
وصوت بلبلها الراقي ذرى غصن ... في حلة من دمقس الريش دكناء
كقرع ناقوس ديري على شرف ... مسبح في ظلام الليل دعاء
كم صفق الموج من أزهارها طربا ... فنقطته ببيضاء وصفراء
كأنها من جنان الخلد قد كملت ... حسنا وحسبك من خضراء لفاء
مالت على النهر إذ جاش الخرير به ... كأنها أذن مالت لإصغاء
كأنما النهر مرآة وقد عكفت ... عليه تدهش في حسن ولألاء
ذو شاطئ راق غب القطر فهو على ... نهر الأبلة يزري أي إزراء
كأنه عند تفريك النسيم له ... فرند سيف نضته كف جلاء
إذا شدوت حمامات الأراك على ... أغصانها فترينا رقص هيفاء
من كل ورقاء في الأفنان صادحة ... بين الحدائق في فيحاء زهراء
ورق تغنت بجنات رقين على ... عيدانها فاله في مغنى وغناء
نخبة من زهرية بدر الدين الذهبي
ترنح عطف البان في الحلل الخضر ... وغنى بألحان على عوده القمري
وراقت أزاهير الحدائق بالضحى ... نواظر أحداق بنورها النضر
وأشرق خد الورد بيدي تضاره وأشرق جيد الغصن في لؤلوء القطر
وبات سقيط الطل في كل روضة ... ينبه في أرجائها ناعس الزهر
وقد غض طرف النرجس الغض من حيا ... ئه والأقاحي منه مبتسم الثغر(5/193)
وما ذهبت شمس الأصيل عشية ... إلى الغرب حتى أذهبت فضة النهر
وغنت قيان الطير في كل أيكة ... وقد راق كحل الطل في مقل الغدر
قيان كساها الخد ديباج وجهه ... وصاغت لها الأحداق طوقا على نحر
أقامت لها دوح الأراك أرائكاً ... وأرخت لها أوراق أستارها الخضر
وأمسى أصيل اليوم ملقى من الضنا ... على فرش الأزهار في آخر العمر
بكته حمامات الأراك وشققت ... عليه الصبا أثواب روضاتها النضر
فكم من نحيب للحمائم بالضحى ... عليه وللأنواء من دمعة تجري
زهرية ابن الوكيع
ألست ترى وشي الربيع تنسما ... وما صنع الربعي فيه ونظما
وقد حكت الأرض السماء بنورها ... فلم أر في التشبيه أيهما سما
فخضرتها كالجو في حسن لونه ... وأنوارها تحكي لعينك أنجما
فمن نرجس لما رأى حسن نفسه ... تداخله عجب به فتبسما
وأبدى على الورد الجني تطاولا ... وأظهر غيظ الورد في خده دما
وزهر شقيق نازع الورد فضله ... فزاد عليه الورد فضلا وقدما
فظل لفرط الحزن يلطم خده ... فأظهر فيه اللطم جمرا مضرما
ومن سوسن لما رأى الصبغ دونه ... على كل أنواع الرياض تقسما
تجلبب من زرق اليواقيت حلة ... فأغرب في الملبوس فيها وأحكما
وأنوار منثور تخالف شكلها ... فصار بها شكل الربيع منمنما
جواهر لو قد طال فيها حياتها ... رأيت بها كل الملوك مختما(5/194)
الباب الحادى عشر في السيف والقلم
وصف السيف
قال محمود بن سليمان الحلبي يصف سيفا استوهبه: وقلدتني منناً سيفاً تلمع مخايل النصر من غمده. وتشرق جواهر الفتح في فرنده. وإذا سابق الأجل إلى قبض النفوس عرف الأجل قدره فوقف عند حده. ومتى جرده على ملك من ملوك العدى وهت عزائمه وعجز جناح جيشه. قال ابن عبد ربه:
بكل رديني كأن سنانه ... شهاب بدا في ظلمة الليل ساطع
تقاصرت الآجال في طول متنه ... وعادت به الآمال وهي فجائع
وساءت ظنون الحرب في حسن ظنه ... فهن لحبات القلوب قوارع
وذي شطب تقضي المنايا لحكمه ... وليس لما تقضي المنية دافع
فرند إذا ما اعتن للعين راكد ... وبرق إذا ما اهتز بالكف لامع
يسلل أرواح الكماة انسلاله ... ويرتاع منه الموت والموت رائع
إذا ما التقت أمثاله في وقيعة ... هنالك ظن النفس بالنفس واقع
وصف سيف عمرو بن معدي كرب
لما صار سيف عمرو بن معدي كرب وكان يسمى الصمصامة إلى الهادي. وكان عمرو وهبه لسعيد بن العاص فتوارثه ولده إلى أن مات(5/195)
المهدي فاشتراه موسى الهادي بمال جليل. وكان أوسع بني العباس كفا وأكثرهم عطاء. ودعا بالشعراء وبين يديه متكل فيه بدرة فقال: قولوا في هذا السيف. فبدر ابن يامين البصري فقال:
حاز صمصامة الزبيدي من بين جميع الأنام موسى الأمين
سيف عمرو وكان فيما سمعنا ... خير ما أغمدت عليه الجفون
أخضر اللون بين خديه برد ... من ذعافٍ تميس فيه المنون
أوقدت فوقه الصواعق نارا ... ثم شابت به الذعاف القيون
فإذا ما سللته بهر الشمس ضياء فلم تكد تستبين
ما يبالي من انتضاه لحرب ... أشمال سطت به أم يمين
يستطير الأبصار كالقبس المشعل ما تستقر فيه العيون
وكأن الفرند والجوهر الجا ... ري على صفحتيه ماء معين
نعم مخراق ذا الخليفة في الهيجاء يقضي به ونعم القرين
قال موسى: لم يتعد ما في نفسي واستحقه. وأمر له بالمكتل والسيف. فلما خرج قال للشعراء: إنما دخلتم معي وحرمتم من أجلي فشأنكم المكتل وفي السيف غنائي (زهر الآداب للقيرواني) قال البحتري يصف سيفا:
قد جدت بالطرف الجواد فثنه ... لأخيك من جدوى يديك بمقصل
يتناول الروح البعيد مناله ... عفوا ويفتح في القضاء المقفل
بإنارة في كل حتف مظلم ... وهداية في كل نفس مجهل(5/196)
يغشى الوغى فالترس ليس بجنة ... من حده والدرع ليس بمعقل
ماض وإن لم تمضه يد فارس ... بطل ومصقول وإن لم يصقل
مصغ إلى حكم الردى فإذا مضى ... لم يلتفت وإذا قضى لم يعدل
متوقد يبري بأول ضربة ... ما أدركت ولو أنها في يذبل
وكأن فارسه إذا استغنى به ... في الروع يعصي بالسماك الأعزل
فإذا أصاب فكل شيء مقتل ... وإذا أصيب فما له من مقتل
وصف القلم
القلم هو اليراع الذي نفثت الفصاحة في روعه. وكمنت الشجاعة بين ضلوعه. فإذا قال أراك كيف نسق الفريد في الأجياد. وإذا صال أراك كيف الاختلاف بين الآساد. وله خصائص أخرى يبدعها إبداعاً. فإذا لم يأت بها غيره تصنعاً أتي هو بها صناعا. فطوراً يرى نحلة تجني عسلا. وطورا يرى إماما يلقي درسا. وطورا يرى ورفاء تصدح بين الأوراق. وطورا يرى جوادا مخلقا بخلوق السباق. وطورا يرى أفعوانا مطرقا والعجب أنه لا يزهي غلا عند الإطراق. ولطالما نفث سحرا وجلب عطرا. وأدار في القرطاس خمرا. وتصرف في وجوه المعاني.. فلا تحظى بد دوله غلا فخرت على الدول. وغنيت به عن الخيل والخول. وقالت: أعلى الممالك على الأقلام لا على الأسل. ولربما لقي هذا القول بإعظام النكير. وقالوا: من أين للقصبة الضعيفة هذا الخطر الكبير. وللهائم عذر أن(5/197)
لا تعرف من ملاذ الأطعمة غير الشعير. ولو أنصف هؤلاء لعلموا أن القلم هو مزمار المعاني. كما أن أخاه في النسب مزمار الأغاني. فهذا يأتي بغرائب الحكم. كما يأتي ذلك بغرائب النغم. وكلاهما شيء واحد في الإطراب. غير أن أحدهما يلعب بالأسماع والآخر يلعب بالألباب.
(قال) وقد أوردت في وصف القلم فصلا آخر من كتاب إلى بعض الإخوان وهو: وقلمه هو القلم الذي إذا قذف بشهب بيانه رأيت نجوماً. وإذا ضرب بشبا حده رأيت كلوماً. فإذا صور المعاني في ألفاظها رأيت أرواحاً وجسوماً. وقد شرف الله دولة يجلس في حفلها. ويخطب عن أهلها. فهو لها في الحسن طراز. وفي الذب عضب جراز. ولطالما قال فاستخف موقرا وكسا وقارا. وأطال(5/198)
فوجدت إطالته لحلاوتها إقصاراً. وادعى الانفراد بهذه المزية فأقرت له الأعداء إقرارا. وكل هذا فضل لقلمه غير مدفوع. وشاهده مرئي لديه وإن غدا قبله وهو مسموع. وفي طلعة البدر ما يغنيك عن زحل. فأقوال غيره منتقلة عن أول إلى آخر والذي يقوله لم يقل. فهو رب المعاني المخترعة يستخرجها من قليبها. ويبرزها من ثوبها القشيب وليس خلق الأثواب كقشيبها. وقد أمسك القلم قوم رضوا منم الكتابة بتحسين المشهور. وهؤلاء قصروا هممهم على الزيف دون الباب. ولم يعلموا أن القشر لذوي القشور واللب لذوي الألباب. وقد قيل: إن من الأقلام رخمة في كف رخمة وعقابا في كف عقاب (هذا فصل من الكلام قد اغترفت معانيه من بحر. ونحت ألفاظه من صخر. فتقت معانيه من صوار مسك. وأخذت ألفاظه من فريد سلك. بل جنيت معانيه من ثمرات مختلف طعمها. ونسجت ألفاظه من دبابيج مؤتلف رقمها. فانظر أيها المتأمل إليها نظر المتعجب بما فيها من الإعجاب. واسجد لها فللبلاغة سجود كسجود الكتاب) (الوشي المرقوم لابن الأثير)
صفة قلم لابن عبد ربه
بكفه ساحر البيان إذا ... أداره في صحيفة سحرا
ينطق في عجمة بلفظته ... يصم عنه ويسمع البصرا(5/199)
يرى المقادير تسترق له ... أعظم به في ملمة خطرا
شخت ضئيل لفعله خطر ... أعظم به في ملمة خطرا
تمج فكاه ريقة صغرت ... وخطبها في القلوب قد كبرا
إذا امتطى الخنصرين أذكر من ... سحبان فيما أطال واختصرا
يواقع النفس منه ما حذرت ... وربما جنبت به الحذرا
مهفهف تردهي به صحف ... كأنما جليت به دررا
نوادر تقرع القلوب بها ... إن تستبنها وجدتها صورا
يخاطب الغائب البعيد بما ... يخاطب الشاهد الذي حضرا
وصف الشعر لعبد الله الناشئ
قال الناشئ في فصل من كتابة في الشعر: الشعر قيد الكلام وعقل الآداب. وسور البلاغة. ومعدن البراعة. ومجال الجنان. ومسرح البيان. وذريعة المتوسل. ووسيلة المتوصل. وذمام الغريب. وحرمة الأديب. وعصمة الهارب. وعدة الراهب. ورحلة الداني. ودوحة المتمثل. ومنحة المتجمل. وحاكم الأعراب. وشاهد الصواب. (ثم قال) الشعر ما كان سهل المطالع. فصل المقاطع. فحل المديح جزل الافتخار. رقيق النسيب سائر المثل. سليم الزلل. عديم الخلل. رائع الهجاء. موجب المعذرة. محب المعتبة. مطمع المسالك. فائت المدارك. قريب البيان. بعيد المعاني. نائي الأغوار. ضاحي القرار. نقي المستشف. قد(5/200)
هريق فيه ماء الفصاحة. وأضاء له نور الزجاجة. فانهل في صادي الفهم. وأضاء في بهم المرائي. لمتأمله ترقرق. ولمستشفه تألق. يروق المتوسم. ويسر المتبرسم. قد أيدت صدوره متونه. وزهت في وجوهه عيونه. وانقادت كواهله لهواديه. وطابقت آثاره لمستوضحه. وأشبه الروض في وشي ألوانه. وتعمم أفنانه. وإشراق أنواره. وابتهاج أنجاده وأغواره. وأشبه الوشي في اتفاق رقومه. واتساق رسومه. وتسطير كفوفه. وتحبير حروفه. وحكى العقد في التئام فصوله. وانتظام وصوله. وازديان ياقوته بدره. وفريده بشذره. قد كشف الإيجار موارده. وصقلت مداوس الدرب مناصله. وشحذت مدارس الأدب فواصله. فجاء سليما من المعايب مهذبا من الأدناس يتحاشاه الابن. وتتحاماه الهجن. مهديا إلى الأسماع بهجته. وغلى العقول حكمته. وقد قلت في الشعر قولاً جعلته مثلاً لقائليه. وأسلوبا لسالكيه. وهو:
الشعر ما قومت زيغ صدروه ... وشددت بالتهذيب أسر متونه
ورأبت بالإطناب شعب صدوعه ... وفتحت بالإيجاز عور عيونه
وجمعت بين قريبه وبعيده ... ووصلت بين مجمه ومعينه
وعمدت منه لكل أمر يقتضي ... شبها به فقرنته بقرينه
فإذا بكيت به الديار وأهلها ... أجريت للمحزون ماء شؤونه
ووكلته بهمومه وغمومه ... دهراً ولم يسر الكرى بجفونه(5/201)
وإذا مدحت به جوادا ماجد ... وقضيته بالشكر حق ديونه
أصفيته بنفيسه ورصينه ... ومنحته بخطيره وثمينه
فيكون جزلاً في اتفاق صنوفه ... ويكون سهلا في اتساق فنونه
وإذا أردت كناية عن ريبة ... باينت بين ظهوره وبطونه
فجعلت سامعه يشوب شكوكه ... ببيانه وظنونه بيقينه
وإذا عتبت على أخ في زلة ... وأشكت بين مخيله ومبينه
فيحول ذنبك عند من يعتده ... عتبا عليه مطالبا بيمينه
والقول يحسن منه في منثوره ... ما ليس يحسن منه في موزونه
قال ابن الرشيق يصف الصناعة الشعرية
لعن الله صنعة الشعر ماذا ... من صنوف الجهال فيها لقينا
يؤثرون الغريب منه على ما ... كان سهلا للسامعين مبينا
ويرون المحال معنى صحيحا ... وخسيس الكلام شيئا ثمينا
يجهلون الصواب منه ولا يد ... رون للجهل أنهم يجهلونا
فهم عند من سوانا يلامو ... ن وفي الحق عندنا يعذرونا
إنما الشعر ما تناسب في النظم وإن كان في الصفات فنونا(5/202)
فأتى بعضه يشاكل بعضا ... وأقامت له الصدور المتونا
كل معنى أتاك منه على ما ... تتمنى لو لم يكن أن يكونا
فتناهى من البيان إلى أن ... كاد حسنا يبين للناظرينا
فكأن الألفاظ منه وجوه ... والمعاني ركبن فيه عيونا
قائما في المرام حسب الأماني ... يتحلى بحسنه المنشدونا
فإذا ما مدحت بالشعر حراً ... رمت فيه مذاهب المسهبينا
فجعلت النسيب سهلاً قريباً ... وجعلت المديح صدقا مبينا
وتنكبت ما تهجن في السمع وإن كان لفظه موزونا
وإذا ما قرضته بهجاء ... عبت فيه مذاهب المرفنينا
فجعلت التصريح منه دواء ... وجعلت التعريض داء دفينا
وإذا ما بكيت فيه على الغا ... دين يوما للبين والظاعنينا
حلت دون الأسى وذللت ما كا ... ن من الدمع في العيون مصونا
ثم إن كنت عاتبا شبت بالوع ... د وعيدا وبالصعوبة لينا
فتركت الذي عتبت عليه ... حذرا آمنا عزيزا مهينا
وأصح القريض ما فات في النظم وإن كان واضحا مستبينا
فإذا قيل أطمع الناس طرا ... وإذا ريم أعجز المعجزينا
جرير والفرزدق والأخطل
قال هشام بن عبد الملك لخالد بن صفوان صف لي جريرا والفرزدق والأخطل فقال: يا أمير المؤمنين أما أعظمهم فخرا.(5/203)
وأبعدهم ذكرا. وأحسنهم عذرا. وأيسرهم مثلا. وأحلاهم عللا. البحر الطامي إذا زخر. والحامي إذا ذعر. والسامي إذا خطر. الذي إذا هدر قال. وإذا أخطر صال. الفصيح اللسان. الطويل العنان. فالفرزدق. وأما أحسنهم نعتا. وأمدحهم بيتا. وأقلهم فوتا. الذي إذا هجا وضع. وإذا مدح رفع. فالأخطل. وأما أغرزهم بحرا. وأرقهم شعرا. وأهتكهم سترا. الأغر الأبلق. الذي إن طلب لم يسبق. وغن طلب لم يلحق. فجرير. وكلهم ذكي الفؤاد. رفيع العماد. واري الزناد. قال مسلمة بن عبد الملك وكان حاضرا: ما سمعنا بمثلك يا ابن الزناد. قال مسلمة بن عبد الملك وكان حاضرا: ما سمعنا بمثلك يا ابن صفوان في الأولين. ولا في الآخرين. أشهد أنك أحسنهم وصفا. وألينهم عطفا. وأخفهم مقالا. وأكرمهم فعالا. فقال خالد: أتم الله عليك نعمته. وأجزل لك قسمته. أنت والله أيها الأمير ما علمت كريم الفراس. عالم بالناس. جواد في المحل. بسام عند البذل. حليم عند الطيش. في الذروة من قريش. من أشراف عبد شمس. ويومك خير من الأمس. فضحك هشام وقال: ما رأيت يا ابن صفوان لتخلصك في مدح هؤلاء ووصفهم حتى أرضيتهم جميعا وسلمت منهم (زهر الآداب للقيراوني)
وصف التاريخ
التاريخ معاد معنوي يعيد الإعصار وقد سلفت. وينشر أهلها وقد ذهبت آثارهم وعفت. وبه يستفيد عقول التجارب من(5/204)
كان غرا. ويلقى من بعده من الأمم وهلم جرا. فهم لديه أحياء وقد تضمنتهم بطون القبور. وعنه غيب وقد جعلتهم الأخبار في عداد الحضور. ولولا التاريخ لجهلت الأنساب. ونسيت الأحساب. ولم يعلم الإنسان أن أصله من تراب. وكذلك لولاه لماتت الدول بموت زعمائها. وعمي على الأواخر حال قدمائها. ولم يحط علما بما تداولته الأرض من حوادث سمائها. ولمكان العناية به لم يخل منه كتاب من كتب الله المنزلة. فمنها ما أتى بأخباره المجملة. ومنها ما أتى بأخباره المفصلة. وقد ورد في التوراة مفردا في سفر من أسفارها. وتضمن تفصيل أحوال الأمم السالفة ومدد أعمارها. وقد كانت العرب على جهلها بالقلم وخطه. والكتاب وضبطه. تصرف إلى التواريخ جمل دواعيها. وتجعل لها أول حظ من مساعيها. فتستغني بحفظ قلوبها. عن حفظ مكتوبها. وتعتاض برقم صدورها. عن رقم سطورها. كل ذلك عناية منها بأخبار أوائلها. وأيام فضائلها. وهل الإنسان إلا ما أسسه ذكره وبناه. وهل البقاء لصورة لحمه ودمه لولا بقاء معناه (لابن الأثير)(5/205)
الباب الثاني عشر في الوصف
وصف نزهة
حكى عمر بن علي المطوعي قال: رأى الأمير السيد أبو الفضل عبيد الله بن أحمد أدام الله عزه أيام مقامه بجوين أن يطالع قرية من قرى ضياعه تدعى نجاب على سبيل التنزه والتفرج. فكنت في جملة من استصحبه إليها من أصحابه. واتفق أنا وصلنا والسماء مصحية والجو صاف لم يطرز ثوبه بعلم الغمام. والأفق فيروزج لم يعبق به كافور السحاب. فوقع الاختيار على ظل شجرة باسقة الفروع متسقة الأوراق والغصون. قد سترت ما حواليها من الأرض طولا وعرضا. فنزلنا تحتها مستظلين بسماوة أفنانها. مستترين من وهج الشمس بستارة أغصانها. وأخذنا نتجاذب أذيال المذاكرة. ونتسالب أهداب المناشدة والمحاورة. فماش عرنا بالسماء إلا وقد أرعدت وأبرقت. وأظلمت بعدما أشرقت. ثم جادت بمطر كأفواه القرب فأجادت. بل أوفت عليها وزادت. حتى كاد غيثها يعود عيثاً. وهم وبلها أن يستحيل ويلا. فصبرنا على أذاها وقلنا سحابة صيف عما قليل تقشع. فإذا نحن بها قد أمطرتنا بردا كالثغور. لكنها من ثغور العذاب. لا من الثغور العذاب. فأيقنا بالبلاء. وسلمنا لأسباب القضاء. فما مرت(5/206)
إلى ساعة من النهار. حتى سمعنا خرير الأنهار. ورأينا السيل قد بلغ الزبى. والماء قد غمر لا قيعان ولا ربي. فبادرنا إلى حصن القرية لائذين من السيل بأفنيتها. وعائذين من لا قطر بأبنيتها. وأثوابنا قد صندل كافوريها ماء الوبل. وغلف طرازيها طين الوحل. ونحن نحمد الله تعالى على سلامة الأبدان. وإن فقدنا بياض الأكمام والأردان. فلما سل سيف الصبح من غمد الظلام. وصرف بوالي الصحو عامل الغمام. رأينا صواب الرأي أن نوسع الإقامة بها رفضا. ونتخذ الارتحال عنها فرضا. فما زلنا نطوي الصحاري أرضا فأرضا. غلى أن وافينا المستقر ركضا. فلما نفضنا غبار ذلك المسير. الذي جمعنا في ربقة الأسير. وأفضينا إلى ساحة التيسير. بعد ما أصبنا بالأمر العسير. وتذاكرنا ما لقينا من التعب والمشقة. في قطع ذلك الطريق وطي تلك الشقة. أخذ الأمير السيد القلم فعلق هذه الأبيات ارتجالا:
دهتنا السماء غداة السحاب ... بغيث على افقه مسبل
واشرف أصحابنا من أذاه ... على خطر هائل معضل
فمن لائذ بفناء الجدار ... وآو إلى نفق مهمل
ومن مستجير ينادي الغريق ... هناك ومن صارخ معول
وجادت علينا سماء السقوف ... بدمع من الوجد لم يهمل
كأن حراما لها أن ترى ... يبيساً من الأرض لم يبلل
وأقبل سيل له روعة ... فأدبر كل عن المقبل(5/207)
فيقلع ما شاء من دوحة ... وما يلق من صخرة يحمل
فمن عامر رده غامرا ... ومن معلم عاد كالمجل
كفانا بليته ربنا ... فقد وجب الشكر للمفضل
لابن حجة الحموي يصف حماة ويتشوق إليها
يا صادقا الأنفاس يا أهل الذكا ... يا طاهر الأذيال كم لك من نبا
يا نسمة الخير الذي من طيبه ... نتنشق الأخبار عن تلك الربى
وإذا تنسمت الذا وتعطرت ... منك الذيول وطبت يا ريح الصبا
عرج على وادي حماة بسحرة ... متيمما منه صعيدا طيبا
وأحمل لنا في طي بردك نشره ... فبغير ذاك الطيب لن نتطيبا
وأسرع إلي وداو في مصر به ... قلبا على نار البعاد مقلبا
لله ذاك السفح والوادي الذي ... مازال روض الأنس فيه مخصبا
وانعم بمصر نسبة لكن أرى ... وادي حماة ولطفه لي أنسبا
ارض رضعت بها ثدي شبيبتي ... ومزجت لذاتي بكاسات الصبا
يا ساكني مغنى حماة وحقكم ... من بعدكم ما ذقت عيشا طيبا
ومهالك الحرمان تمنع عبدكم ... من أن ينال من التلاقي مطلبا
وإذا اشتهيت السير نحو دياركم ... قرأ النوى لي في الأواخر من سبا
وقد التفت إليك يا دهري بطو ... ل تعتبي ويحق لي أن أعتبا
قررت لي طول الشتات وظيفة ... وجعلت دمعي في الدود مرتبا
وأسرتني لكن بحق محمد ... يا دهر كن مخلصي متسببا(5/208)
فمحمد ومدينة قد حلها لم ... ألق غيرهما لقلبي مطلبا
وصف الخيل
أهدى عبد الله بن طاهر إلى المأمون فرسا وكتب إليه: قد بعثت إلى أمير المؤمنين بفرس يلحق الأرانب في الصعداء. ويجاوز الظباء في الاستواء. ويسبق في الحدور جري الماء كما قال تأبط شراً:
ويسبق وقد الريح من حيث تنتحي ... بمخترق من شدة المتدارك
جمع محمد بن الحسين بين هذين الكلامين وزاد فيه فقال يصف فرسا: هو حسن القميص. جيد الفصوص. ويثق القصب. نقي العصب. يبصر بأذنيه. ويتبوع بيديه. ويداخل برجليه. كأنه موج في لجة أو سيل في حدور. يناهب المشي قبل أن يبعث. ويلحق الأرانب في الصعداء. ويجاوز جواري الظباء في الاستواء. ويسبق في الحدور جري الماء. إن عطف جار. وإن أرسل طار. وإن كلف السير أمعن وسار. وإن حبس صفن. وإن استوقف قطن. وإن رعى ابن. قال أبو تمام:
ما مقرب يختال في أشطانه ... ملآن من صلف به وتلهوق
بحوافر حفر وصلب أصلب ... واشعر شعر وخلق أخلق
ذو أولقٍ تحت العجاج وإنما ... من صحة إفراط ذاك الأولق
صافي الأديم كأنما ألبسته ... من سندس برد ومن إستبرق
إمليسه إمليده لو علقت ... في صهوتيه العين لم تتعلق(5/209)
مسود شطر مثل ما اسود الدجى ... مبيض شطر كابيضاض المرهق
وقال إسحاق بن خلف النهر والي لأبي دلف وكان له فرس أدهم يسميه غرابا
كم كم تجرعه المنون ويسلم ... لو يستطيع شكا إليك له الفم
من كل منبت شعرة من جلده ... خط ينمقه الحسام المخذم
ما تدرك الأرواح أدنى جريه ... حتى يفوت الريح وهو مقدم
رجعته أطراف الأسنة أشقرا ... واللون أدهم حين ضرجه الدم
وكأنما عقد النجوم بطرفه ... وكأنما بعرى المجرة ملجم
قال أبو نصر بن عمر التميمي السعدي وكان شاعرا مجيدا جمع بين حسن السبك وجودة المعنى طاف البلاد ومدح الملوك والوزراء والرؤساء وله في سيف الدولة بن حمدان غرر القصائد ونخب المدائح وكان قد أعطاه فرسا أدهم أغر محجلاً فكتب إليه
يا أيها الملك الذي أخلاقه ... من خلقه ورواؤه من رأيه
قد جاءنا الطرف الذي أهديته ... هاديه يعقد أرضه بسمائه
يحتل منه على أغر محجل ... ماء الدياجي قطرة من مائه
فكأنما لطم الصباح جبينه ... فاقتص منه فخاض في أحشائه
متمهلا والبرق من أسمائه ... متبرقعاً والحسن من أكفائه
ما كانت النيران تكمن حرها ... لو كان للنيران بعض ذكائه
لا تعلق الألحاظ في أعطافه ... إلا إذا كفكفت من غلوائه
لا يكمل الطرف المحاسن كلها ... حتى يكون الطرف من أسرائه
قال آخر في وصف فرس(5/210)
له زهو طاووس وخطر حمامة ... وتدويم باز وانقضاض عقاب
ووثب ظبي وانجفال نعامة ... وإهذاب سيد وانسياب حباب
وصولة ضرغام وروغ ثغالة ... ولحظ قطامي وحذر غراب
وجدل عنان وانثناء ذؤالة ... ووقد ضرام وانصياع شهاب
وهيج أخي شول وتدفيق جيأل ... وإيماض برق والتماع سراب
وإعصاف ريح واهتزاز يراعة ... ودرة نوء وانجياب سحاب
وصف بركار لابي الفتح كشاجم وكان استهداه من صاحب
جدلي ببركارك الذي صنعت ... فيه يدا قينه الأعاجيبا
ملتم الشعبتين معتدل ... ما شين من جانب ولا عيبا
أوثق مسماره وغيب عن ... نواظر الناقدين تغييبا
فعين من يجتليه يحسبه ... في قالب الإعتدال مصبوبا
قد ضم قطريه محكما لهما ... ضم محب إليه محبوبا
يزداد حرصا عليه مبصره ... ما زاده بالبنان تقليبا
ذو مقلة بصيرة مذهبة ... لم تأله رقة وتهذيبا
ينظر منها إلى الطراب فما ... به يزال الصواب مطلوبا
لولاه ما صح خط دائرة ... ولا وجدنا الحساب محسوبا
ألحق فيه فإن عدلت إلى ... سواه كان الحساب تقريبا
لوعين أقليدس به بصرت ... خر له بالسجود مكبوبا
فابعثه واجنبه لي بمسطرة ... تلق الثنا بالعلاء مجنوبا(5/211)
ًولأبي يصف أسطرلابا
ومستدير كجرم البدر مسطوح ... عن كل رابقة الإشكال مصفوح
صلب يدار على قطب يثبته ... تمثال طرف بشكم الحذق مكبوح
ملء البنان وقد أوفت صفائحه ... على الأقاليم من أقطارها الفيح
تلفي به السبعة الأفلاك محدقة ... بالماء والنار والأرضين والريح
تنبيك عن طالع الأبراج هيئته ... بالشمس طورا وطورا بالمصابيح
وإن مضت ساعة أو بعض ثانية ... عرفت ذاك بعلم فيه مشروح
وإن تعرض في وقت يقدره ... لك التشكك جلاه بتصحيح
مميز في قياسات الطلوع به ... بين المشائيم منها والمناجيح
له على الظهر عينا حكمه بهما ... يحوي الضياء ويجنيه من اللوح
وفي الدوائر من أشكاله حكم ... تنقخ العقل منا أي تنقيح
لا يستقل لما فيه بمعرفة ... إلا الحصيف اللطيف الحس والروح
حتى ترى الغيب فيه وهو منغلق ال ... أبواب عمن سواه جد مفتوح
نتيجة الذهن والتفكير صوره ... ذوو العقول الصحيحات المراجيح
قال أحمد صفي الدين بن صالح بن أبي الرجال يصف روضة صنعاء
روضة قد صبا لها السعد شوقا ... قد صفا ليلها وطاب المقيل
جوها سجسج وفيها نسيم ... كل غصن إلى لقاه يميل
صح سكانها جميعا من الدا ... ء وجسم النسيم فيها عليل
إيه يا ماء نهرها العذب صلصل ... حبذا يا زلال منك الصليل(5/212)
إيه يا ورقها المزنة غني ... فحياة النفوس منك الهديل
روض صنعاء فقت طبعا ووصفا ... فكثير الثناء فيك قليل
ته على الشعب شعب بوان وافخر ... فعلى ما تقول قام الدليل
نهر دافق وجو فنيق ... زهر فائق وظل ظليل
وثمار قطافها دانيات ... يجتنيها قصيرنا والطويل
لست أنسى انتعاش شحرور غصن ... طربا والقضيب منه يميل
وعلى رأس دوحة خاطب الور ... ق ودمع الغصون طلا يسيل
ولسان الرعود يهتف بالسحب فكان الخفيف منها الثقيل
وفم السحب باسم عن بروق ... مستطير شعاعها مستطيل
وزهور الربى تعجب من ذا ... شاخصا طرفها المليح الجميل
فيه لي رفقة رقاق الحواشي ... كاد لين الطباع منهم يسيل
أريحيون لو تسومهم النفس لجادوا فليس منهم منهم بخيل
تتهادى من العلوم كؤوسا ... طيبات مزاجها زنجبيل
طاب لي رأدها وطاب ضحاها ... كيف أسحارها وكيف الأصيل
قال إسماعيل بن علي المعروف بابن عز القضاة يصف شموعا
وزهر شموع إن مددن بنانها ... لتحمو سطور الليل نابت عن البدر
وفيهن كافورية خلت أنها ... عمود صباح فوقه كوكب الفجر
وصفراء تحكي شاحبا شاب رأسه ... فأدمعها تجري على ضيعة العمر
وخضراء يبدو وقدها فوق خدها ... كنرجسة تزهو على الغصن النضر(5/213)
فلا غرو أن يحكي الأزاهر حسنها ... أليس جناها النحل قدما من الزهر
قال أبو بكر الأرجاني يصف الشمعة وقد أحسن فيها كل الإحسان واستغرق كل الصفات
نمت بأسرار ليل كان يخفيها ... وأطلعت قلبها للناس من فيها
قلب لها لم يرعنا وهو مكتمن ... ألا ترى فيه نارا من تراقيها
غريقة في دموع وهي تخرقها ... أنفاسها بدوام من تلظيها
تنفست نفس المهجور إذ ذكرت ... عهد الخليط فبات الوجد يذكيها
يخشى عليها الردى مهما ألم بها ... نسيم ريح إذا وافى يحييها
قد أثمرت وردة حمراء طالعة ... تجني على الكف إن أهويت تجنيها
ورد تشاك به الأيدي إذا قطفت ... وما على غصنها شوك يوقيها
صفر غلائلها حمر عمائمها ... سود ذوائبها بيض لياليها
صفة نزهة على نهر سرقسطة
قال علي بن ظافر: ذكر صاحب قلائد العقيان ما هذا معناه: إن المستعين بالله أحمد بن أحمد بن المؤتمن بن هود الجذامي صاحب سرقسطة والثغور ركب نهر سرقسطة يوما لتفقد بعض معاقله. المنتظمة بجيد ساحله. وهو نهر رق ماؤه وراق. وأزرى على نيل مصر ودجلة والعراق. وقد اكتنفته البساتين من جانبيه وألقت ظلالها عليه. فما تطاد عين الشمس أن تنظر إليه. هذا على اتساع عرضه. وبعد سطح الماء من أرضه. وقد توسط زورقه زوارق حاشيته توسط البدر للهالة.(5/214)
وأحاكت به إحاطة الطفاوة للغزالة. وقد أعدوا من مكايد الصيد ما استخرج ذخائر الماء. وأخاف حتى حوت السماء. وأهلة الهالات طالعة من الموج في سحاب. وقانصة من بنات الماء كل طائرة كالشهاب. فلا ترى إلا صيودا كصيد الصوارم. وقدود اللهاذم. فقال الوزير أبو الفضل بن حسادي والطرب قد استهواه. وبديع ذلك المرأى استرق هواه:
لله يوم أنيق واضح الغرر ... مفضض مذهب الآصال والبكر
كأنما الدهر لما ساء أعتبنا ... فيه بعتبى وأبدى صفح معتذر
نسير في زورق حف السفين به ... من جانبيه بمنظوم ومنتثر
مد الشراع به نشرا على ملك ... بذ الأوائل في أيامه الأخر
هو الإمام الهمام المستعين حوى ... علياء مؤتمن في هدي مقتدر
تحوي السفينة منه آية عجبا ... بحر تجمع حتى صار في نهر
تثار من قعره النينان مصعدة ... صيدا كما ظفر الغواص بالدرر
صفة الليل
قال بعض الأدباء لابنه يا بني اجعل نظرك في العلم ليلا. فإن القلب في الصدر كالطير ينتشر بالنهار ويعود إلى وكره في الليل. فهو في الليل ساكن ما ألقيت إليه من شيء وعاه. وقال بعضهم: في الليل تجم الأذهان وتنقطع الأشغال. ويصح النظر وتؤلف الحكمة وتدر الخواطر. ويتسع مجال القلب. والليل أحرى في(5/215)
مذهب الفكر. وأخفى لعمل البر. وأعون على صدقة السر. وأصح لتلاوة الذكر. وأرباب الأمر يختارون الليل على النهار لرياضة النفوس. وسياسة التقدير في دفع الملم. وإمضاء المهم. وإنشاء الكتب ونظم الشعر وتصحيح المعاني. وإظهار الحجج وإصابة غرض الكلام. وتقريبه من الأفهام. وفي الليل تتزاور الأحباب. لا يطرقك فيه خبر قاطع. ولا شغل مانع سأل هشام بن عبد الله خالد بن صفوان: كيف كان سيرك. فقال: بينا أنا أسير ذات ليلة إذ عصفت ريح شديد ظلماؤها. أطبق سماؤها وطبق سحابها. وتغلق ربانها. فبقيت محرنجماً كالأشقر إن تقدم نحر. وأن تأخر عقر. لا أسمع لواطئ همسا. ولا لنابح جرسا. تدلت علي غيومها. توارت عني نجومها. فلا أهتدي بنجم طالع. ولا بعلم لامع. أقطع محجة. وأهبط بحجة. في ديمومة قفر. بعيدة القعر. فالريح تخطفني. والشوك يخبطني. في ريح عاصف. وبرق خاطف. قد أوحشني إكامها. وقطعني سلامها. فبينا أنا كذلك قد ضاقت علي معارجي. وسدت مخارجي. إذ بدا نجم لائح. وبياض واضح. عرجت إلى إكام مجر ذيله فإذا أنا بمصابيحكم هذه فقرت العين. وانكشف الرين فقال هشام: لله درك. ما أحسن وصفك (سر الليال لابن منظور)
صفة عاصفة
ذكر السيوطي عاصفة حدثت سنة ثلاث وتسعين قال: كان(5/216)
في ليلة الجمعة التاسع من جمادى الآخرة أتى عارض فيه ظلمات متكاثفة. وبروق خاطفة. ورياح عاصفة. فقوي أهويتها. واشتد هبوبها. فتدافعت لها أعنة مطلقات. وارتفعت لها صواعق مصعقات. فرجفت لها الجدران واصطفقت. وتلاقت على بعدها واعتنقت. وثار بين السماء والأرض عجاج فقيل: لعل هذه على هذه أطبقت. وتحسب أن جهنم قد سال منها واد. وعدا منها عاد. وزاد عصف الرياح إلى أن انطفأت سرج النجوم. ومزقت أديم السماء ومحت ما فوقه من الرقوم. لا عاصم من الخطف للأبصار. ولا ملجأ من الخطب إلا معاقل الاستغفار. وفر الناس نساء ورجالا. ونفروا من دورهم خفافا وثقالا. لا يستطيعون حيلة ولا يهتدون سبيلا. فاعتصموا بالمساجد الجامعة. وأذعنوا للنازلة بأعناق خاضعة. ووجوه عانية. ونفوس عن الأهل والمال سالية. ينظرون من طرف خفي. ويتوقعون أي خطب جلي. قد انقطعت من الحياة علقهم. وغمت عن النجاة طرقهم. ووقعت الفكرة فيما هم عليها قادمون. وقاموا إلى صلاتهم وودوا أن لو كانوا من الذين هم عليها دائمون. إلى أن أذن الله في الركود. وأسعف الهاجدين بالهجود. وأصبح كل يسلم على رفيقه. ويهنيه بسلامة طريقه. ويرى أنه قد بعث بعد النفخة. وأفاق بعد الصيحة والصرخة. وأن الله قد رد له الكرة. وأدبه بعد أن كان يأخذه على الغرة. ووردت الأخبار. بأنها كسرت المراكب في البحار. والأشجار(5/217)
في القفار. وأتلفت خلقا كثيرا من السفار. ومنهم من فر فلم ينفعه الفرار (حسن المحاضرة للسوطي)
صفة انكسار العدو
وصف سليمان الحلبي العدو بالخور والوهن في قتاله وما يظهرونه من الرهج بالحركة وإعداد الأهبة والاحتشاد. قال: وأما رهج العدو المخذول بالحركة ورمي الصيت بها فإن عدته الصياح. وقوة الجبان في القول والقول يذهب في الرياح. وقد علموا أنهم ما أقدموا إلا وكان أحد سلاحهم الهرب. ولا طمعوا في النجاح فكان لهم في غير النجاة أرب. يبالغون في الاحتشاد والجازر لا يهوله كثرة الغنم. ويستكثرون من السواد وجنود من لا ينفع أشبه شيء بالعدم. فقوتهم ضعيفة. ووطأتهم خفيفة. وثباتهم أقصر من حل العقال. وصبرهم أسرع من الظل في الانتقال. وخيولهم لا تطيع أمر أعنتها إلا في الفرار. فإن طمعوا في اللقاء فستردهم كلام سيوفنا كأقسام الكلام الثلاثة هزيماً وأسيراً وصريعاً
وصف ابن سليمان الحلبي غلبة على التتار
(قال) إن التتار استنجدوا بكل طائفة وأقدموا على البلاد الإسلامية بنفوس طامعة. وقلوب خائفة. وذلك بعد أن أقاموا مدة يشترون المخادعة بالموادعة. ويسرون المصارمة. في المسالمة. وحين تيسر مرادهم. وتكمل احتشادهم. استدرجناهم إلى مصارعهم.(5/218)
واستجريناهم ليقربوا في القتل من مضاجعهم. ويبعدوا في الهرب عن مواضعهم. وصدمناهم بقوة الله صدمة لم يكن لهم بها قبل. وحملنا عليهم حملة ألجأهم طوفانها إلى ذلك الجبل. وهل يعصم من أمر الله جبل. فحصرناهم في ذلك الفضاء المتسع. وضايقناهم كما قد رأى ومزقناهم كما قد سمع. وأنزلناهم على حكم السيف الذي نهل من دمائهم حتى روي وأكل من لحومهم حتى شبع. وتبعتهم جيوشنا المنصورة تتخطفهم رماحها. وتتلقفهم صفاحها. ويبددهم في الفلوات رعبها. ويفرقهم في القفار طعنها المتدارك وضربها. ويقتل من فات السيوف منهم العطش والجوع. ويخيل للحي منهم أن وطنه كالدنيا التي ليس للميت إليها رجوع. ولعله قد رأى من ذلك فوق ما وصف عيانا. وأنهم ما أقدموا إلا ونصرنا الله عليهم في مواطن كثيرة. وما ساقتهم الأطماع في وقت ما إلا إلى حتوفهم. ولا عاد منهم قط في وقعة إلا آحاد تخبر عن مصارع ألوفهم. ولقد أضاع الحزم من حيث لم يستدم نعم الله عليه بطاعتنا التي كان في مهاد أمنها ووهاد يمنها. وحماية عفوها. وبرد رأفتها التي كدرها بالمخالفة بعد صفوها. يصون رعاياه بالطاعة عن القتل والسار. ويحمي أهل ملته بالحذر عن الحركات التي ما نهضوا إليها إلا وجروا ذيول الخسار. ولقد عرض نفسه وأصحابه لسيوفنا التي كان من سطواتها في أمان. ووثق بما ضمن له التتار من(5/219)
نصره. وقد رأى ما آل إليه أمر ذلك الضمان. وجر بنفسه بموالاة التتار عناء كان عنه في غنى. وأوقع روحه بمظاهرة المغول في حومة السيوف التي تخطفت أولياءه من هنا ومن هنا. واقتحم بنفسه موارد هلاك سلبت رداء الأمن عن منكبيه. واغتر هو وقومه بما زين لهم الشيطان من غروره فنكص على عقبيه. وعاد كيده في نحره. بعد أن تعرض للوقوف بين ناب الأسد وظفره. وهو يعلم أننا مع ذلك نرعى له حقوق طاعة أسلافه التي ماتوا عليها. ونحفظ له خدمة آبائه التي بذلوا نفوسهم ونفائسهم في التوصل إليها. والسيوف الآن مصغية إلى جوابه لتكف إن أبصر سبل الرشاد. أو تتعوض برؤوس حماته وكماته عن الأغماد. إن أصر على العناد والخير يكون (حسن التوسل إلى صناعة الترسل)
ذكر دار الوزير الصاحب بن عباد بأصبهان
جرى الشعراء بحضرة الصاحب بن عباد في ميدان اقتراحه في ذكر الدار التي بناها بأصبهان وانتقل إليها. واقترح على أصحابه وصفها فقال الأستاذ أبو العباس الضي:
دار الوزارة ممدود سرادقها ... ولاحق بذرى الجوزاء لاحقها
والأرض قد واصلت غيظ السماء بها ... فقطرها أدمع تجري سوابقها
تود لو أنها من أرض عرصتها ... وأن أنجمها فيها طوابقها
تفرعت شرفات في مناكبها ... يرتد عنها كليل العين رامقها
مثل العذارى وقد شدت منطقها ... وتوجت بأكاليل مفارقها
دار الأمير التي هذي وزيرتها ... أهدت لها وشحا راقت نمارقها
تزهى بها مثل ما تزهى بسيدنا ... مؤيد الدولة الميمون طارقها
هذي المعالي التي اغتض الزمان بها ... وافتك منسوقة والله ناسقها
إن الغمائم قد آلت معاهدة ... لا زايلتها ولا زالت تعانقها
لا رضها كل ما جادت مواهبها ... وفي ديار أعاديها صواعقها
ومنها قصيدة الشيخ أبي الحسن صاحب البريد أولها:
دار على العز والتأييد مبناها ... وللمكارم والعلياء مغناها
دار تباهي بها الدنيا وساكنها ... طرا وكم كانت الدنيا تمناها
فاليمن أقبل مقرونا بيمناها ... واليسر أصبح مقرونا بيسراها
من فوقها شرفات طال أدناها ... يد الثريا فقل لي كيف اقصاها
كأنها غلمة مصطفة لبست ... بيض الغلائل أمثالا وأشباها
أنظر إلى القبة الخضراء مذهبة ... كأنها الشمس أعطتها محياها
لما بنى الناس في دنياك دورهم ... بنيت في دارك الغراء دنياها
وقال ابن القاسم بن المنجم
هي الدار قد عم الأقاليم نورها ... فلو قددت بغداد كانت تزورها
ولو خيرت دار الخلافة بادرت ... إليها وفيها تاجها وسريرها
لتسعد فيها يوم حان حضورها ... وتشهد دنيا لا يخاف غرورها
فما جملت عين الزمان بمثلها ... ولا خال راءٍ أن يحيء نظيرها(/)
يقول الأولى قد فوجئوا بدخولها ... وحيرهم تحبيرها وحبيرها
أفي كل قصر غادة وحبيبها ... وفي كل بيت روضة وغديرها
وقال لها الله العلي صفاته ... سأحميك ما ضم الليالي كرورها
أهنيك بالعمران والعمر دائم ... لبانيك ما أفنى الدهور مرورها
وقد أسجلت علياك عمدة ملكها ... وخطت بأعلام السعود سطورها
ودارت لها الأفلاك كيف أدرتها ... ودانت إلى أن قيل أنت مديرها
وهاك ابنة الفكر التي قد خطبتها ... وقدم من قبل الزمان مهورها
فإن كان للدار التي قد بنيتها ... نظير ففي عرض القريض نظيرها
وإلا جررت الذيل في ساحة العلى ... وقلت القوافي قد أعيد جريرها
ذكر عبد الرحمن وغزواته
قال ابن عبد ربه: تولى أمير المؤمنين عبد الرحمان القمر الأزهر. والأسد الغضنفر. الميمون النقيبة. المحمود الضريبة. سيد الخلفاء وأنجب النجباء. صبيحة هلال ربيع الأول سنة ثلاثمائة (فقلت فيه:)
بدا الهلال جديدا ... والملك غض جديد
يا نعمة الله زيدي ... ما كان فيه مزيد
فتولى الملك وهي جمرة تحتدم. ونار تضطرم. وشقاق ونفاق فأخمد نيرانها. وسكن زلازلها. وافتتحها عودا كما افتتحها بدا. سميه عبد الرحمان بن معاوية وقد قيل في أشعار غزواته كلها أشعار قد جالت في الأمصار. وشردت في البلدان حتى أتهمت وأنجدت وأعرقت.(5/222)
وكان أول غزاة غزاها الغزاة المعروفة بغزاة المنتلون افتتح بها سعين حصنا قد نكبت عنها الطوائف. وأعيت على الخلائف. (وفيها أقول:)
وقد أوضح الله للإسلام منهاجا ... والناس قد دخلوا في الدين أفواجا
وقد تزينت الدنيا لساكنها ... كأنما ألبست وشيا وديباجا
يا ابن الخلائف إن المزن لو عملت ... نداك ما كان منها الماء ثجاجا
والحرب لو علمت بأسا تصول به ... ما هيجت من جبال الدين أهياجا
وأصبح النصر معقودا بألوية ... تطوي المراحل مهجيرا وإدلاجا
أدخلت في قبة الإسلام مارقة ... أخرجتها من ديار الجور إخراجا
بحجفل تشرق الأرض الفضاء به ... كالبحر يقذف بالأمواج أمواجا
يقوده البدر يسري في كواكبه ... عرمرما كسواد الليل رجراجا
تروق فيه بروق الموت لامعة ... ويسمعون به للرعد أهزاجا
غادرت في عفرتي جيان ملحمة ... أبكيت منها بأرض الغدر أعلاجا
في نصف شهر تركت الأرض ساكنة ... من بعد ما كان فيها الطبر قد ماجا
تملا بك الأرض عدلا مثل ما ملئت ... جورا وتوضح للمعروف منهاجا
يا بدر ظلمتها يا شمس صبحتها ... يا ليث حومتها إن هائج هاجا
إن الخلافة لن ترضى ولا رضيت ... حتى عقدت لها في رأسك التاجا
ولم يكن مثل هذه الغزاة لملك في الجاهلية والإسلام وله غزاة مارتش أخت بدر وحنين وله غزاة جيان وفيها قلت في أرجوزتي:
ثم انتحى جيان في غزواته ... بعسكر يسعد من هماته(5/223)
وافتتح الحصون حصنا حصنا ... وأوسع الناس جميعا أمنا
ولم يزل حتى انتحى جيانا ... فلم يدع بأرضها شيطانا
فأصبح الناس جميعا أمه ... قد عقد الإل لهم والدمه
ولم يدع من جنها مريدا ... بها ولا من إنسها عنيدا
إلا كساه الذل والصغار ... وعمه وأهله دمار
فأقبل العلج لهم مغيثا ... يوم الخميس مسرعا حثيثا
بين يديه الرجل والفوارس ... وحوله الصلبان والنواقس
وكان يرجو أن يزيل العسكرا ... عن جانب الحصن الذي قد دمرا
فاعتاقه بدرٌ بمن لديه ... مستبصراً في زحفه إليه
حتى التقت ميمنة بميسره ... واعتلت الأرواح عند الحنجره
فقتلوا قتلا ذريعا فاشيا ... وأدبر العلج ذميما خاسيا
فأشرعت بينهم الرماح ... وقد علا التكبير والصياح
وفارقت أغمادها السيوف ... وفغرت أفواهها الحتوف
والتقت الرجال بالرجال ... وانغمسوا في غمرة القتال
في موقف زاغت به الأبصار ... وقصرت في طوله الأعمار
فانقضت العقبان والسلالقه ... رهقاً على مقدم الجلالقه
عقبان موت تخطف الأرواحاً ... وتشبع السيوف والرماحا
فانهزم الأعداء عند ذاكا ... وانكشف عورته هناكا
فاتصل الفتح بفتح ثان ... والنصر بالنصر من الرحمان(5/224)
الباب الثالث عشر في المراثي
قالت الفرعة المرية ترثي أخاها مسعود بن شداد
يا عين جودي لمسعود بن شداد ... بكل ذي عبرات شجوه بادي
شهاد أندية رفاع أبنية ... شداد ألوية فتاح أسداد
نحار راغية قتال طاغية ... حلال رابية فكاك أقياد
فوال محكمة نقاض مبرمة ... فراج مبهمة حباس أوراد
حلال ممرعة حمال معضلة ... قراع مفظعة طلاع أنجاد
جماع كل خصال الخير قد علموا ... زين القرين وخطل الظالم العادي
أبا زرارة لا تبعد فكل فتى ... يوماً رهين صفيحات وأعواد
قال أبو مالك يرثي أبا نضر والده لما قتل
زال عنا السرور إذ زلت عنا ... وازدهانا بكاؤنا والعويل
ورأينا القريب منا بعيداً ... وجفانا صديقنا والخليل
ورمانا العدو في كل وجه ... وتجنى على العزيز الذليل
يا أبا النضر سوغ أبكيك ما عشت سويا وذاك مني قليل
حملت نعشك الملائكة الأبرار إذ ما لنا إليه سبيل
غير أني كذبتك الود لم تقطر جفوني دما وأنت قتيل
رضيت مقلتي بإرسال دمعي ... وعلى مثلك النفوس تسيل(5/225)
أسواك الذي أجود عليه ... بدمي إنني إذا لبخيل
عثر الدهر فيك عثرة سوء ... لم يقل مثلها المعين المقيل
قل لمن ضن بالحياة فإنا ... بعده في التراب صرعى حلول
حفرة حشوها وفاء وحلم ... وندى فاضل ولب أصيل
وعفاف عما يشين وحلم ... راجح الوزن بالرواسي يميل
وبنان يمينها غير جعد ... وجبين صلت وخد أسيل
وامرؤ أشرقت صفيحة خديه عليه بشاشة وقبول
توفي أعرابي في يوم عيد فقال يرثيه
لبس الرجال جديدهم في عيدهم ... ولبست حزن أبي الحسين جديدا
أيسرني عيد ولم أر وجهه ... فيه ألا بعدا لذلك عيدا
فارقته وبقيت أخلد بعده ... لا كان ذاك بقا ولا تخليدا
من لم يمت جزعا لفقد حبيبه ... فهو الخؤون مودة وعهودا
مت مع حبيبك إن قدرت ولا تعش ... من بعده ذا لوعة مكمودا
ما أم خشف قد ملا أحشاءها ... حذرا عليه وجفنها تسهيدا
إن نام لم تهجع وطافت حوله ... فيبيت مكلوءا بها مرصودا
مني بأوجع إذ رأيت نوائحاً ... لأبي الحسين وقد لطمن خدودا
ولقد عدمت أبا الحسين جلادتي ... لما رأيت جمالك المفقودا
كنت الجليد على الرزايا كلها ... وعلى فراقك لم أجد تجليدا
ولئن بقيت وما هلكت فإن لي ... أجلا وإن لم أحصه معدودا(5/226)
لا موت لي إلا إذا الأجل انقضى ... فهناك لا أتجاوز المحدودا
حزني عليك بقدر حبك لا أرى ... يوما على هذا وذاك مزيدا
ما هد ركني بالسنين وإنما ... أصبحت بعدك بالأسى مهدودا
يا ليت أني لم أكن لك والدا ... وكذاك أنك لم تكن مولودا
فلقد شقيت وربما شقي الفتى ... بفراق من يهوى وكان سعيدا
من ذم جفنا باخلا بدموعه ... فعليك جفني لم يزل محمودا
فلأنظمن مراثياً مشهورة ... تنسي الأنام كثيراً ولبيدا
وجميع من نظم القريض مفارقا ... ولداً له أو صاحباً مفقودا
لابن حسن التهامي يرثي ولده الصغير
حكم المنية في البرية جاري ... ما هذه الدنيا بدار قرار
بينا يرى الإنسان فيها مخبرا ... حتى يرى خبرا من الأخبار
طبعت على كدر وأنت تريدها ... صفوا من الأكدار والأقذار
ومكلف الأيام ضد طباعها ... متطلب في الماء جذوة نار
وإذا رجوت المستحيل فإنما ... تبني الرجاء على شفير هار
فالعيش نوم والمنية يقظة ... والمرء بينهما خيال سار
والنفس إن رضيت بذلك أو أبت ... منقادة بأزمة الأقدار
فاقضوا مآربكم عجالاً إنما ... أعماركم سفر من الأسفار
وتركضوا خيل الشباب وحذروا ... أن تسترد فإنهن عوار
فالدهر يخدع بالمنى ويغص إن ... هنا ويهدم ما بنى ببوار(5/227)
ليس الزمان وإن حرصت مسالما ... خلق الزمان عداوة الأحرار
يا كوكبا ما كان أقصر عمره ... وكذا تكون كواكب الأسحار
وهلال أيام مضى لم يستدر ... بدرا ولم يمهل لوقت سرار
عجل الخسوف إليه قبل أوانه ... فمحاه قبل مظنة الإبدار
فكأن قلبي قبره وكأنه ... في طيه سر من الأسرار
أبكيه ثم أقول معتذرا له ... وفقت حين تركت ألأم دار
جاورت أعدائي وجاور ربه ... شتان بين جواره وجواري
ولقد جريت كما جريت لغاية ... فبلغتها وأبوك في المضمار
فإذا نطقت فأنت أول منطقي ... وإذا سكت فأنت في إضماري
رثاء أعرابية لابنها
يا عمرو مالي عنك من صبر ... يا عمرو يا أسفي على عمرو
لله يا عمرو وأي فتى ... كفنت يوم وضعت في القبر
أحثو التراب على مفارقه ... وعلى غضارة وجهه النضر
حين استوى وعلا الشباب به ... وبدا منير الوجه كالبدر
ورجا أقاربه منافعه ... ورأوا شمائل سيد غمر
وأهمه همي فساوره ... وغدا مع الغادين في السفر
ربيته دهراً أفنقه ... في اليسر أغذوه وفي العسر
حتى إذا التأميل أمكنني ... فيه قبيل تلاحق الثغر
وجعلت من شغفي أنقله ... في الأرض بين تنائف غبر(5/228)
أدع المزارع والحصون به ... وأحله في المهمه القفر
ما زلت أصعده وأحدره ... من قتر موماةٍ إلى قتر
هربا به والموت يطلبه ... حيث انتويت به ولا أدري
وإذا منيته تساوره ... قد كدحت في الوجه والنحر
وإذا له علق وحشرجة ... مما يجش به من الصدر
والموت يقبضه ويبسطه ... كالثوب عند الطي والنشر
فمضى وأي فتى فجعت به ... جلت مصيبته عن القدر
لو قيل تفديه بذلت له ... مالي وما جمعت من وفر
أو كنت مقتدرا على عمري ... آثرته بالشطر من عمري
قد كنت ذا فقر له فعدا ... ورمى علي وقد رأى فقري
لو شاء ربي كان متعني ... بابني وشد بأزره أزري
بنيت عليك بني أحوج ما ... كنا إليك صفائح الصخر
لا يبعدنك الله يا عمري ... إما مضيت فنحن بالإثر
هذي سبيل الناس كلهم ... لا بد سالكها على سفر
رثاء مشاهير العرب
قال عبد الله بن همام السلولي يرثي بعض أمراء بني حرب
تعزوا يا بني حرب بصبر ... فمن هذا الذي يرجو الخلودا
لقد وارى قليبكم بناناً ... وحزماً لا كفاء له وجودا(5/229)
وجدناه بغيضا في الأعادي ... حبيبا في رعيته حميدا
أمينا مؤمنا لم يقص أمرا ... فيوجد غبه إلا رشيدا
فقد أضحى العدو رخي بال ... وقد أضحى التقي به عميدا
فعاض الله أهل الدين منكم ... ورد لكم خلافتكم جديدا
مجانبة المحاق وكل نحس ... مقاربة الأيامن والسعودا
خلافة ربهم كونوا عليها ... كما كنتم عنابسة أسودا
يعلمها الكهول المرد حتى ... تذل بها الأكف وتستقيدا
إذا ما بان ذو ثقة بلوتم ... أخا ثقة بها صنعا مجيدا
تلقفها يزيد عن أبيه ... فخذها يا معاوي عن يزيدا
فإن دنياكم بكم اطمأنت ... فأولوا أهلها خلقا شديدا
وإن شغبت عليكم فاعصبوها ... عصابا يستدر بها شديدا
وأن لانت لكم فتلقفوها ... ولا ترموا بها الغرض البعيدا
قال أشجع بن عمرو السلمي يرثي منصور بن زياد
يا حفرة الملك المؤمل رفده ... ما في ثراك من الندى والخير
لازلت في ظلين ظل سحابة ... وطفاء دانيةٍ وظل حبور
وسقى الولي على العهاد عراص ما ... والاك من قبر ومن مقبور
يا يوم منصور أبحث حمى الندى ... وفجعته بوليه المذكور
يا يومه أعريت راحلة الندى ... من ربها وحرمت كل فقير
ذلت بمصرعه المكارم والندى ... وذباب كل مهند مأثور(5/230)
أفلت نجوم بني زياد بعد ما ... طلعت بنور أهلة وبدور
لولا بقاء محمد لتصدعت ... أكبادنا أسفا على منصور
أبقى مكارم لا تبيد صفاتها ... ومضى لوقت حمامه المقدور
أصبحت مهجورا بحفرتك التي ... بدلتها من قصرك المعمور
بليت عظامك والصفح جديدة ... ليس البلى لفعالك المشهور
إن كنت ساكن حفرة فلقد ترى ... سكنا لعودي منبر وسرير
لمروان بن أبي حفصة في معن بن زائدة
مضى لسبيله معن وأبقى ... مكارم لن تبيد ولن تنالا
كأن الشمس يوم أصيب معن ... من الإظلام ملبسة جلالا
هو الجبل الذي كانت نزار ... تهد من العدو به الجبالا
وعطلت الثغور لفقد معن ... وقد يروي بها الأسل النهالا
وأظلمت العراق وأورثتها ... مصيبته المجللة اعتلالا
وظل الشأم يرجف جانباه ... لركن العز حين وهى فمالا
وكادت من تهامة كل أرض ... ومن نجد تزول غداة زالا
فإن يعل البلاد له خشوع ... فقد كانت تطول به اختيالا
أصاب الموت يوم أصاب معنا ... من الأحياء أكرمهم فعالا
وكان الناس كلهم لمعن ... إلى أن زار حفرته عيالا
ولم يك طالب للعرف ينوي ... إلى غير ابن زائدة ارتحالا
مضى من كان يحمل كل عبء ... ويسبق فضل نائله السؤالا(5/231)
وما عمد الوفود لمثل معن ... ولا حطوا بساحته الرحالا
ولا بلغت أكف ذوي العطايا ... يمينا من يديه ولا شمالا
وما كانت تجف له حياض ... من المعروف مترعة سجالا
فليت الشامتين به فدوه ... وليت العمر مد له فطالا
ولم يك كنزه ذهبا ولكن ... سيوف الهند والسمر الصقالا
وذخرا من محامد باقيات ... وفضل تقى به التفضيل نالا
مضى لسبيله من كنت ترجو ... به عثرات دهرك أن تقالا
فلست بمالك عبرات عين ... أبت بدموعها إلا انهمالا
فلهف أبي عليك إذ اليتامي ... غدوا شعثا وقد أضحوا سلالا
ولهف أبي عليك إذ القوافي ... لممتدح بها ذهبت ضلالا
أقمنا باليمامة إذ يئسنا ... مقاما لا نريد لها زيالا
وقلنا أين نرحل بعد معن ... وقد ذهب النوال فلا نوالا
سيذكرك الخليفة غير قال ... إذا هو في الأمور بلا الرجالا
ولا ينسى وقائعك اللواتي ... على أعدائه جعلت وبالا
حباك أخو أمية بالمراثي ... مع المدح الذي قد كان قالا
وألقى رحلة أسفا وآلى ... يمينا لا يشد له حبالا
رثا بني برمك لسليمان بن برمك
أصبت بسادة كانوا عيونا ... بهم نسقى إذا انقطع الغمام
فقلت وفي الفؤاد ضريم نار ... وللعبرات من عيني انسجام(5/232)
على المعروف والدنيا جميعا ... ودولة آل برمك السلام
جزعت عليك يا فضل بن يحيى ... ومن يجزع عليك فلا يلام
هوت بك أنجم المعروف فينا وعز بفقدك القوم اللئام
ولم أر قبل قتلك يا ابن يحيى ... حساما قده السيف الحسام
برين الحادثات له سهاما ... فغالته الحوادث والسهام
ليهن الحاسدين بأن يحيى ... أسير لا يضيم ويستضام
وأن الفضل بعد رداء عز ... غدا ورداؤه ذال ولام
وقد آليت معتذرا بنذر ... ولي فيما نذرت به اعتزام
بأن لا ذقت بعدكم مداما ... وموتي أن يفارقني المدام
أألهو بعدكم وأقر عينا ... علي اللهو بعدكم حرام
وكيف يطيب لي عيش وفضل ... أسير دونه البلد الشآم
وجعفر ثاويا بالجسر أبلت ... محاسنه السمائم والقتام
أمر به فيغلبني بكائي ... ولكن البكاء له اكتتام
أما والله لولا خوف واش ... وعين للخليفة لا تنام
لطفنا ركن جذعك واستلمنا ... كما للناس بالحجر استلام
قال محمد بن محمد القوصي يرثي الإمام محمد المعروف بابن دقيق العيد
سيطول بعدك في الطلول وقوفي ... أروي الثرى من مدمعي المذروف
لو كان يقبل فيك حتفك فدية ... لفديت من علمائنا بألوف(5/233)
أو كان من حمر المنايا يمانع ... منعتك سمرقنا وبيض سيوف
يا طالبي المعروف أين مصيركم ... مات الفتى المعروف بالمعروف
ألمشتري العليا بأعلى قيمة ... من غير ما بخس ولا تطفيف
ما عنف الجلساء قط ونفسه ... لم يخلها يوما من التعنيف
يا مرشد الفتيان إذ ما أشكلت ... طرق الصواب ومنجد الملهوف
من للضعيف يعينه أنى أتى ... مستصرخا يا غوث كل ضعيف
من لليتامى والأرامل كافل ... يرجونه في شتوة ومصيف
أفنيت عمرك في تقى وعبادة ... وإفادة للعلم أو تصنيف
وسبحت في بحر العلوم مكابدا ... أمواجه والناس دون سيوف
وبذلت سائر ما حويت ولم تدع ... لك من تليد في العلا وطريف
يا شمس مالك تطلعين ألم تري ... شمس المعارف غيبت بكسوف
لهفي على حبر بكل فضيلة ... قد كان مرجوا لكل مخيف
كان الخفيف على تقي مؤمن ... لكن على الفجار غير خفيف
عم المصاب به الطوائف كلها ... لما ألم وخص كل حنيف
بشراك يا ابن علي العالي الذرى ... إذ بت ضيفا عند خير مضيف
ولقد نزلت على كريم غافر ... بالنازلين كما علمت رؤوف
للحافظ بن حجر في رثاء الحافظ الإمام الكبير زين الدين العراقي
مصاب لم ينفس للخناق ... أصار الدمع جارا للمآق
فروض العلم بعد الزهو ذاو ... وروح الفضل قد بلغ التراقي(5/234)
فطاف بأرض مصر كل علم ... بكأس الحين للعلماء ساقي
فيا أهل الشآم ومصر فابكوا ... على عبد الرحيم بن العراقي
على الحبر الذي شهدت قروم ... له بالإنفراد على اتفاق
ومن ستين عاما لم يجارى ... ولا طمع المجاري في اللحاق
فأصبح بالكرامة في اصطباح ... وبالتحف الكريمة في اغتباق
فيا أسفا ويا حزنا عليه ... أرق من النسيمات الرقاق
ويا أسفا لتقييدات علم ... تولت بعده ذات انطلاق
عليه سلام ربي كل حين ... يلاقيه الرضا فيما يلاقي
وأسقت لحده سحب الغوادي ... إذا انهملت همت ذات انطباق
وزانت ريئه في كل يومٍ ... تحيات إلى يوم التلاقي
للبرهان القيراطي يرثي جمال الدين عبد الرحيم شيخ الشافعية
نعم قبضت روح العلى والفضائل ... بموت جمال الدين صدر الأفاضل
تعطل من عبد الرحيم مكانه ... وغيب عنه فاضل أي فاضل
أحقا وجوه الفقه زال جمالها ... وحطت أعالي هضبها للأسافل
قفوا خبرونا من يقوم مقامه ... ويوفض في ميدان كل مناضل
قفوا خبرونا هل له من مشابه ... قفوا خبرونا هل له من مماثل
فأعظم بحبر كان للعلم ساعيا ... بعزم صحيح ليس بالمتكاسل
وأعظم به يوم الجدال مناظرا ... إذا قال لم يترك مكانا لقائل(5/235)
وأسيافه في البحث قاطعة الظبا ... بجوهرها لم يفتقر للصياقل
يقوم بإيضاح المسائل مرشداً ... لمستفهم أو طالب أو مسائل
له قدم في الفقه سابقة الخطا ... يقتصر عنها كل حاف وناعل
تبارك من أعطاه فيه مراتباً ... يقر له بالفضل كل مجادل
فكم كان يبدي فيه كل غريبة ... ويظهر من أبكاره بالعقائل
أحل جمال الدين في الخلد ربه ... ليخطى بعفو منه شاف وشامل
وحياه بالريحان والروح والرضا ... إله البرايا في الضحى والأصائل
لقد كان في الأعمال والعلم مخلصا ... لمن لم يضيع في غد سعي عامل
فلهفي لأمداح عليه تحولت ... مراثي تبكي بالدموع الهوامل
يساعدني فيه الحمام بشجوها ... وأغلبها من لوعتي بالبلابل
صرفت فيه كنز صبري وأدمعي ... وأفنيت من هذا وهذا حواصلي
وما نحن إلا ركب موت إلى البلى ... تسيرنا أيامنا كالرواحل
قطعنا إلى نحو القبور مراحلا ... وما بقيت إلا أقل المراحل
وهذا سبيل العالمين جميعهم فما الناس إلا راحل بعد راحل
لبهاء الدين زهير يرثي فتح الدين عثمان والي الإسكندرية
عليك سلام الله يا قبر عثمان ... وحياك عني كل روح وريحان
وما زال منهلا على تربك الحيا ... يغاديك منه كل أوطف هتان
لقد خنته في الود غذ عشت بعده ... وما كان في ود الصديق بخوان
وعهدي بصبري في الخطوب يطيعني ... فما لي أراه اليوم أظهر عصياني(5/236)
فيا ثاويا قد طيب الله ذكره ... فأضحى وطيب الذكر عمر له ثان
وجدت الذي أسلاك عني وإنني ... وحقك ما حدثت نفسي بسلوان
لقد دفن الأقوام يوم وفاته ... بقية معروف وخير وإحسان
يواجهني في كل يوم خياله ... كما كنت ألقاه قديما ويلقاني
وأقسم لو ناديته وهو ميت ... لجاوبني تحت التراب ولباني
هنيئا له قد طاب حيا وميتا ... فما كان محتاجا لتطييب أكفاني
صديقي الذي إذ مات موت مهجتي ... فما لي لا أبكيه والرزء رزآن
وكان أنيسي مذ حظيت بقربه ... وكنت كأني بين أهلي وأوطاني
وقد كان أسلاني عن الناس كلهم ... ولا أحد عنه من الناس أسلاني
كريم المحيا باسم متهلل ... متى جئته لم تلقه غير جذلان
يمن لمن يرجوه من غير منة ... فإن قلت منان فقل غير منان
فقدت حبيبا وابتليت بغربة ... وحسبك من هذين أمران مران
هو الموت ما فيه وفاء لصاحب ... وهيهات إنسان يموت لإنسان
وما الناس إلا راحل بعد راحل ... إلى العالم الباقي من العالم الفاني
مرثية أبي الحسن الأنباري في الوزير أبي طاهر
لما استعرت الحرب بعد عز الدولة بن بويه وابن عمه عضد الدولة ظفر عضد الدولة بوزير عز الدولة أبي طاهر محمد بين بقية فسلمه وشهره وعلى رأسه برنس. ثم طرحه للفيلة فقتلته. ثم صلب عند داره بباب الطاق وعمره نيف وخمسين سنة. ولما صلب رثاه أبو الحسن محمد بن عمران يعقوب الأنباري أحد العدول ببغداد بهذه القصيدة الغراء. فلما وقف عليها عضد الدولة قال: وددت لو أني المصلوب وتكون هذه القصية في.(5/237)
علو في الحياة وفي الممات ... لحق تلك إحدى المعجزات
كأن الناس حولك حين قاموا ... وفود نداك أيام الصلاة
كأنك قائم فيهم خطيب ... وكلهم قيام للصلاة
مددت يدك نحوهم احتفاء ... كمدهما إليه بالهبات
ولما ضاق بطن الأرض عن أن ... يضم علاك من بعد الوفاة
أصاروا الجو قبرك واستعاضوا ... عن الأكفان ثوب السافيات
لعظمك في النفوس بقيت ترعى ... بحراس وحفاظ ثقات
وتوقد حولك النيران ليلا ... كذلك كنت أيام الحياة
ركبت مطية من قبل زيد ... علاها في السنين الماضيات
وتلك قضية فيها تأس ... نباعد عنك تعبير العداة
ولم أر قبل جذعك قط جذعا ... تمكن من عناق المكرمات
أسأت إلى النوائب فاستثارت ... فأنت قتيل ثار النائبات
وكنت تجير من صرف الليالي ... فصار مطالبا لك بالتراث
وصير دهرك الإحسان فيه ... إلينا من عظيم السيئات
وكنت لمعشر سعدا فلما ... مضيت تفرقوا بالمنحسات
غليل باطن لك في فؤادي ... يخفف بالدموع الجاريات
ولو أني قدرت على قيام ... بفرضك والحقوق الواجبات
ملأت الأرض من نظم القوافي ... ونحت بها خلاف النائحات
ولكني أصبر عنك نفسي ... مخافة أن أعد من الجناة(5/238)
ومالك تربة فأقول تسقى ... لأنك نصب هطل الهاطلات
عليك تحية الرحمان تترى ... برحمات غواد رائحات
وقال فيه حين أنزل عن الصليب:
لم يلحقوا بك عاراً إذ صلبت بلى ... باءوا بإثمك ثم استرجعوا ندما
وأيقنوا أنهم فيفعلهم غلطوا ... وأنهم نصبوا من سؤدد علما
فاسترجعوك وواروا منك طود علا ... بدفنه دفنوا الإفضال والكرما
لئن بليت فلا يبلى نداك ولا ... تنسى وكم هالك ينسى إذا قدما
تقاسم الناس حسن الذكر فيك كما ... تركت مالك بين الناس مقتسما
قال العقيلي يرثي صديقا له صلب
لعمري لئن أصبحت فوق مشذب ... طويل تعفيك الرياح مع القطر
لقد عشت مبسوط اليدين مبرزا ... وعوفيت عند الموت من ضغطة القبر
وأفلت من ضيق التراب وغمه ... ولم تفقد الدنيا فهل لك من شكر
فما تشتفي عيناي من دائم البكا ... عليك ولو أني بكيت إلى الحشر
فطوبى لمن يبكي أخاه مجاهرا ... ولكنني أبكي لفقدك في سري
قال مصعب بن عبد الله الزبيري يرثي إسحاق الموصلي
أتدري لمن تبكي العيون الذوارف ... وينهل منها واكف ثم واكف
نعم لامرئ لم يبق في الناس مثله ... مفيد لعلم أو صديق ملاطف
تجهز إسحاق إلى الله غاديا ... فلله ما ضمت عليه اللفائف
وما حمل النعش المزجى عشية ... إلى القبر إلا دامغ العين لاهف(5/239)
صدورهم مرضى عليه عميدة ... لها أزمة من ذكره وزفازف
ترى كل مخزون تفيض جفونه ... دموعاً على الخدين والوجه شاسف
جزيت جزاء المحسنين مضاعفا ... كما كان جدواك الندى المتضاعف
فكم لك فينا من خلائق جزلة ... سبقت بها منها حديث وسالف
هي الشهد أو أحلى إلينا حلاوة ... من الشهد لم يمزج به الماء غارف
ذهبت وخليت الصديق بعولة ... به أسف من حزنه مترادف
بكت داره من بعده وتنكرت ... معالم من آفاتها ومعارف
فما الدار بالدار التي كنت أعتري ... وإني بها لولا افتقاديك عارف
هي الدار إلا أنها قد تخشعت ... وأظلم منها جانب وهو كاسف
وبان الجمال والفعال كلاهما ... من الدار واستنت عليها العواصف
خلت داره من بعده فكأنما ... بعاقبة لم يغن في الدار طارف
يسر الذي فيها إذا ما بدا له ... ويفتر منها ضاحكاً وهو واقف
بما كان ميمونا على كل صاحب ... يعين على ما نابه ويكانف
سريع إلى إخوانه برضائه ... وعن كل ما ساء الأخلاء صادف
رثاء الخلفاء والملوك
للمهلبي يرثي المتوك
لا حزن إلا أراه دون ما أجد ... وهل كمن فقدت عيناي مفتقد
هلا أتاه معادية مجاهرة ... والحرب تسعر والأبطال تطرد
فخر فوق سرير الملك منجدلاً ... لم يحمه ملكه لما انقضى الأمد(5/240)
قد كان أنصاره يحمون حوزته ... وللردى دون أرصاد الفتى رصد
وأصبح الناس فوضى يعجبون له ... ليثاً صريعاً تنزى حوله النقد
علتك أسياف من لا دونه أحد ... وليس فوقك إلا الواحد الصمد
ضجت نساؤك بعد العز حين رأت ... خدا كريما عليه قارت جسد
أضحى شهيد بني العباس موعظة ... لكل ذي عزة في رأسه صيد
فلو جعلتم على الأحرار نعمتكم ... حمتكم السادة المركوزة الحشد
قوم هم الجذم والأنساب تجمعكم ... والمجد والدين والأرحام والبلد
من مرثية ابن عبدون الفهري لملوك بني الأفطس
الدهر يفجع بعد العين بالأثر ... فما البكاء على الأشباح والصور
فلا تغرنك من دنياك نومتها ... فما صناعة عينيها سوى السهر
تسر بالشيء لكن كي تغر به ... كالأيم ثار إلى الجاني من الزهر
كم دولة وليت بالنصر خدمتها ... لم تبق منها وسل ذكراك عن خبر
هوت بدارا وفلت غرب قاتله ... وكان غضبا على الأملاك ذا أثر
واسترجعت من بني ساسان ما وهبت ... ولم تدع لبني يونان من أثر
وما أقالت ذوي الهيئات من يمن ... ولا أجارت ذوي الغايات من مضر
ومزقت سبأ في كل قاصية ... فما التقى رائح منها بمبتكر
وخضبت شيب عثمان دما وخطت ... إلى الزبير ولم تستحي من عمر
وأوثقت في عراها كل معتمد ... وأشرفت بقذاها كل مقتدر
وروعت كل مأمون ومؤتمن ... وأسلمت كل منصور ومنتصر(5/241)
سحقا ليومكم يوما ولا حملت ... بمثله ليلة في سالف العمر
من للأسرة أو من للأعنة أو ... من للأسنة يهديها إلى الثغر
من للبراعة أو من لليراعة أو ... من للسماحة أو للنفع والضرر
أو دفع كارثة أو قمع آزفة ... أو ردع حادثة تعمي على القدر
ويب السماح وويب البأس لو سلما ... وا حسرة الدين والدنيا على عمر
سقت ثرى الفضل والعباس هامية ... تعزي إليهم سماحاً لا إلى المطر
ومر من كل شيء فيه أطيبه ... حتى التمتع بالآصال والبكر
أين الجلال الذي عمت مهابته ... قلوبنا وعيون الأنجم الزهر
أين الإباء الذي أرسوا قواعده ... على دعائم من عز ومن ظفر
أين الوفاء فقد اصفوا شرائعه ... فلم يرد أحد منهم على كدر
على الفضائل إلا الصبر بعدهم ... سلام مرتقب للأجر منتظر
يرجو عسى وله في أختها طمع ... والدهر ذو عقب شتى وذو غير
لابن النبيه يرثي ولد الناصر أمير المؤمنين
الناس للموت كنحيل الطراد ... فالسابق السابق منها الجواد
والله لا يدعو إلى داره ... إلا من استصلح من ذي العباد
والموت نقاد على كفه ... جواهر يختار منها الجياد
والمرء كالظل ولا بد أن ... يزول ذاك الظل بعد امتداد
لا تصلح الأرواح إلا إذا ... سرى إلى الأجساد هذا الفساد
أرغمت يا موت أنوف القنا ... ودست أعنقا السيوف الحداد(5/242)
كيف تخرمت عليا وما ... أنجده كل طويل النجاد
نجل أمير المؤمنين الذي ... من خوفه يرعد قلب الجماد
مصيبة أذكت قلوب الورى ... كأنما في كل قلب زناد
نازلة جلت فمن أجلها ... سن بنو العباس لبس السواد
مأتمة في الأرض لكنها ... عرس على السبع الطباق الشداد
طرقت يا موت كريما فلم ... يقنع بغير النفس للضيف زاد
قصفته من سدرة المنتهى ... غصنا فشلت يد أهل الفساد
يا ثالث السبطين خلفتني ... أهيم من همي في كل واد
يا نائما في غمرات الردى ... كحلت أجفاني بميل السهاد
ويا ضيجع الترب أقلقتني ... كأنما فرشي شوك القتاد
دفنت في الترب ولو أنصفوا ... ما كنت إلا في صميم الفؤاد
لو لم تكن أسخنت عيني سقت ... مثواك عيناي كصوب العهاد
لأبي بكر بن عبد الصمد يرثي الخليفة المعتمد بالله
ملك الملوك أسامع فأنادي ... أم قد عدتك عن السماع عواد
لما خلت منك القصور ولم تكن ... فيها كما قد كنت في الأعياد
أقبلت في هذا الثرى لك خاضعا ... وتخذت قبرك موضع الإنشاد
قد كنت أحسب أن تبدد أدمعي ... نيران حزن أضرمت بفؤادي
فإذا بدمعي كلما أجريته ... زادت علي حرارة الأكباد
فالعين في التسكاب والتهتان وال ... أحشاء في الإحراق والإيقاد(5/243)
يا أيها القمر المنير أهكذا ... يمحى ضياء النير الوقاد
أفقدت عيني مذ فقدت إنارة ... لحجابها في ظلمة وساد
ما كان ظني قبل موتك أن أزر ... قبرا يضم شوامخ الأطواد
الهضبة الشماء تحت ضريحه ... والبحر ذو التيار والأزباد
عهدي بملك وهو طلق ضاحك ... متهلل الصفحات للقصاد
أيام يخفق حولك الرايات فو ... ق كتائب الرؤساء والأجناد
والأمر أمرك والزمان مبشر ... بممالك قد أذعنت وبلاد
والخيل تمرح والفوارس تنحني ... بين الصوارم والقنا المياد
للمفتي أبي السعود السلطان سليمان
أصوت صاعقة أم نفخة الصور ... فالأرض قد ملئت من نقر ناقور
أصاب منها الورى دهياء داهية ... وذاق منها البرايا صعقة الطور
تصدعت فلل الأطواد وارتعدت ... كأنها قلب مرعوب ومذعور
أتى بوجه نهار لا ضياء له ... كأنه غارة شنت بديجور
أم ذاك نعي سليمان الزمان ومن ... قضت أوامره في كل مأمور
مدار سلطنة الدنيا ومركزها ... خليفة الله في الآفاق مذكور
معلي معالم دين الله مظهرها ... في العالمين بسعي منه مشكو
وحسن رأي إلى الخيرات منصرف ... وصدق عزم على الألطاف مقصور
بآية العدل والإحسان ممتثل ... بغاية القسط والإنصاف موفور
مجاهد في سبيل الله مجتهد ... مؤيد من جناب القدس منصور(5/244)
براية رفعت للمجد خافقة ... تحوي على علم بالنصر منشور
وعسكر ملأ الآفاق محتشد ... من كل قطر من الأقطار محشور
يا نفس مالك في الدنيا مخلفة ... من بعد رحلته عن هذه الدور
وكيف تمشين فوق الأرض غافلة ... أليس جثمانه فيها بمقبور
حق على كل نفس أن تموت أسى ... لكن ذلك أمر غير مقدور
يا نفس فاتئدي لا تهلكي أسفا ... فأنت منظومة في سلك معذور
إذ لست مأمورة بالمستحيل ولا ... بما سوى بذل مجهود وميسور
إن المنايا وإن عمت محرمة ... على شهيد جميل الحال مبرور
ابتاع سلطنة العقبى بسلطنة ال ... دنيا فأعظم بربح غير محصور
بل حاز كلتيهما إذ حل منزله ... من لم يغايره في أمر ومأمور
فإنه عينه في كل مأثرة ... وكل أمر عظيم الشان مأثور
أضحى بقبضته الدنيا برمتها ... ما كان من مجهل منها ومعمور
سبحان من ملك جلت مفاخره ... عن البيان بمنظوم ومنثور
لا زال أحكامه بالعدل جارية ... بين البرية حتى نفخة الصور
لأبي البقاء صالح بن شريف الرندي يرثي الأندلس
لكل شيء إذا ما تم نقصان ... فلا يغر بطيب العيش إنسان
هي الأمور كما شاهدتها دول ... من سره زمن ساءته أزمان
وهذه الدار لا تبقي على أحد ... ولا يدوم على حال لها شان
يمزق الدهر حتما كل سابغة ... إذا نبت مشرفيات وخرصان(5/245)
وينتضي كل سيف للفناء ولو ... كان ابن ذي يزن والغمد غمدان
أين الملوك ذوو التيجان من يمن ... وأين منهم أكاليل وتيجان
وأين ما شاده شداد في إرم ... وأين ماساسه في الفرس ساسان
وأين ما حازه قارون من ذهب ... وأين عاد وشداد وقحطان
أتى على الكل أمر لا مرد له ... حتى قضوا فكأن القوم ما كانوا
وصار ما كان من ملك ومن ملك ... كما حكى عن خيال الطيف وسنان
دار الزمان على دارا وفاتله ... وأم كسرى فما آواه إيوان
كأنما الصعب لم يسهل له سبب ... يوما ولم يملك الدنيا سليمان
فجائع الدهر أنواع منوعة ... وللزمان مسرات وأحزان
وللحوادث سلوان يسهلها ... وما لما حل بالإسلام سلوان
دهى الجزيرة أمر لا عزاء له ... هوى له أحد وانهد ثهلان
أصابها العين في الإسلام فارتزأت ... حتى خلت منه أقطار وبلدان
فاسأل بلنسية ما شأن مرسية ... وأين شاطبة أم أين جيان
وأين قرطبة دار العلوم فكم ... من عالم قد سما فيها له شان
وأين حمص وما تحويه من نزه ... ونهرها العذب فياض وملآن
قواعد كن أركان البلاد فما ... عسى البقاء إذا لم تبق أركان
تبكي الحنيفية البيضاء من أسف ... كما بكى لفراق الإلف هيمان
على ديار من الإسلام خالية ... قد أقفرت ولها بالكفر عمران
حيث المساجد قد صارت كنائس ما ... فيهن إلا نواقيس وصلبان(5/246)
حتى المحاريب تبكي وهي جامدة ... حتى المنابر ترثي وهي عيدان
يا غافلا وله في الدهر موعظة ... إن كنت في سنة فالدهر يقظان
وماشيا مرحا يليه موطنه ... أبعد حمص تغر المرء أوطان
تلك المصيبة أنست ما تقدمها ... وما لها مع طول الدهر نسيان
يا راكبين عتاق الخيل ضامرة ... كأنها في مجال السبق عقبان
وحاملين سيوف الهند مرهفة ... كأنها في ظلام النفع نيران
وراتعين وراء البحر في دعة ... لهم بأوطانهم عز وسلطان
أعندكم نبأ من أهل أندلس ... فقد سرى بحديث القوم ركبان
كم يستغيث صناديد الرجال وهم ... قتلى وأسرى فما يهتز إنسان
ماذا التقاطع في الإسلام بينكم ... وأنتم يا عباد الله إخوان
ألان فوس أبيات لها همم ... أما على الخير أنصار وأعوان
يا من لذلة قوم بعد عزهم ... أحال حالهم جور وطغيان
بالأمس كانوا ملوكا في منازلهم ... واليوم هم في بلاد الكفر عبدان
فلو تراهم حيارى لا دليل لهم ... عليهم من ثياب الذل ألوان
ولو رأيت بكاهم عند بيعهم ... لهالك الأمر واستهوتك أحزان
يا رب أم وطفل حيل بينهما ... كما تفرق أرواح وأبدان
وطفلة مثل حسن الشمس إذ طلعت ... كأنما هي ياقوت ومرجان
يقودها العلج عند السبي مكرهة ... والعين باكية والقلب حيران
لمثل هذا يذوب القلب من كمد إن كان في القلب إسلام وإيمان(5/247)
الباب الرابع عشر في الفخر
قال المهلهل
إنا بنو شم معاطسنا ... بيض الوجوه إذا ما أفزع البلد
قوم إذا عاهدوا وفوا وإن عقدوا ... شدوا وإن شهدوا يوم الوغى اجتهدوا
وإن دعوتهم يوما لمكرمة ... جاءوا سرعا وإن قام الخنى قعدوا
لا يرقدون على وتر يكون لهم ... وإن يكن عندهم وتر العدى رقدوا
قال الحصين بن الحمام المري
تأخرت أستبقي الحياة فلم أجد لنفسي حياة مثل أن أتقدما
فلسنا على الأعقاب تدمى كلومنا ... ولكن على أقدامنا تقطر الدما
نفلق هاما من رجال أعزة ... علينا وهم كانوا أعق وأظلما
قال الطرماح بن حكيم
لقد زادني حبا لنفسي أنني ... بغيض إلى كل امرئ غير طائل
وأني شقي باللئام ولا ترى ... شقيا بهم إلا كريم الشمائل
إذا ما رآني قطع الطرف بينه ... وبيني فعل العارف المتجاهل
ملأت عليه الأرض حتى كأنها ... من الضيق في عينيه كفة حابل
أكل امرئ ألفى أباه مقصرا ... معاد لأهل المكرمات الأوائل
إذا ذكرت مسعاه والداه اضطنى ... ولا يضطني من شتم أهل الفضائل(5/248)
وما منعت دار ولا عز أهلها ... من الناس إلا بالقنا والقنابل
قال الأديب الأبيوردي في الفخر
عجبت لمن يبغي مداي وقد رأى ... مساحب ذيلي فوق هام الفراقد
ولي نسب في الحي عال يفاعه ... رحيب مساري العرق زاكي المحافد
وفي من الفضل لو ذكرته ... كفاني أن أزهى بجد ووالد
وورثنا العلى وهي التي خلقت لنا ... ونحن خلقنا للعلى والمحامد
أبا فأبا من عبد شمس وهكذا ... إلى آدم لم ينمنا غير ماجد
وقال أيضا
لو رأيت على الرمح الريدني معصما ... وزرت العدى والحرب فاغرة فما
وقد زعموا أني ألين عريكتي ... لهم إذ توسطت الخصاصة معدما
أما علموا أني وإن كنت مقترا ... أروي من القرن الحسام المصمما
ويشرق وجهي حين ينسب والدي ... وتلقى عليه للسيادة ميسما
وإن ذكروا آباءهم فوجوههم ... تشبهها قطعا من الليل مظلما
وللفقر خير من أب ذي دناءة ... إذا هز للفخر ابنه عاد مفحما
متى حصلت أنساب قيس وخندف ... فلي من روابيهن أشرف منتمي
وإن نشرت منها صحيفة ناسب ... رأيت بدورا من جدودي وأنجما
لهم أوجه عند الفخار يزينها ... عرانين ما شمت هوانا ومرغما
ليقصد مس الضغن فينا بذرعه ... ولا يستثر منا بواديه ضيغما
فإن المنايا حين يضمون غلة ... ليلعقن من أطراف أرماحنا الدما(5/249)
وقال أيضا متحمساً
الناس من خولي والدهر من خدمي ... وقمة النجم عندي موطئ القدم
وللبيان لساني والندى خضل ... به يدي والعلى يخلقن من شيمي
والنسر يتبع سيفي حين يلحظه ... والدهر ينشد ما يهمي به قلمي
فأين مثل أبي في العرب قاطبة ... ومن كخالي في صيابة العجم
لو صيغت الأرض لي دون الورى ذهبا ... لم ترضها لمرجي نائل هممي
وعن قليل أرى في مأزق حرج ... به تشام السريجيات في القمم
والبيض مردفة تبدو خلاخلها ... في مسلك وحل من عبرة ودم
فالمجد في صهوات الخيل مطلبه ... والعز في ظبة الصمصامة الخذم
قال المتنبي في صباه على لسان بعض التنوخيين
قضاعة تعلم أني الفتى ال ... ذي ادخرت لضروف الزمان
ومجدي يدل بين خندف ... على أن كل كريم يماني
أنا ابن اللقاء أنا ابن السخاء ... أنا ابن الضراب أنا ابن الطعان
أنا ابن الفيافي أنا بان القوافي ... أنا ابن السروج أنا ابن الرعان
طويل النجاد طويل العماد ... طويل القناة طويل السنان
حديد الحفاظ حديد اللحاظ ... حديد الحسام حديد الجنان
يسابق سيفي منايا العباد ... إليهم كأنهما في رهان
يرى حده غامضات القلوب ... إذا كنت في هبوة لا أراني
سأجعله حكما في النفوس ... ولو ناب عنه لساني كفاني(5/250)
قال عنترة يتوعد النعمان بن المنذر ملك العرب ويفتخر بقوله
لا يحمل الحقد من تعلو به الرتب ... ولا ينال العلى من طبعه الغضب
لله در بني عبس لقد نسلوا ... من الأكارم ما قد تنسل العرب
قد كنت فيما مضى أرعى جمالهم ... واليوم أحمي حماهم كلما نكبوا
لئن يعيبوا سوادي فهو لي نسب ... يوم النزال إذا ما فاتني النسب
إن كنت تعلم يا نعمان أن يدي ... قصيرة عنك فالأيام تنقلب
إن الأفاعي وإن لانت ملامسها ... عند التقلب في أنيابها العطب
اليوم تعلم يا نعمان أي فتى ... يلقى أخاك الذي قد غره العصب
فتى بخوض غبار الحرب مبتسما ... وينثني وسنان الرمح مختضب
إن سل صارمه سالت مضاربه ... وأشرق الجو وانشقت له الحجب
والخيل تشهد لي أني أكفكفها ... والطعن مثل شرار النار يلتهب
إذا التقيت الأعادي يوم معركة ... تركت جمعهم المغرور ينتهب
لي النفوس وللطير اللحوم ولل ... وحش العظام وللخيالة السلب
لا أبعد الله عن عيني غطارفة ... إنسا إذا نزلوا جنا إذا ركبوا
أسود غاب ولكن لا نيوب لهم ... إلا الأسنة والهندية القضب
تعدو بهم أعوجيات مضمرة ... مثل السراحين في أعناقها القبب
ما زلت ألقى صدور الخيل مندفقا ... بالطعن حتى يضج السرج واللبب
فالعمى لو كان في أجفانهم نظروا ... والخرس لو كان في أفواهمم خطبوا
والنفع يوم طراد الخيل يشهد لي ... ولا ضرب والطعن والأقلام والكتب(5/251)
وقال في إغارته على بني حريقة
حكم سيوفك في رقاب العذل ... وإذا نزلت بدار ذل فارحل
وإذا الجبان نهاك يوم كريهة ... خوفا عليك من ازدحام الجحفل
فاعص مقالته ولا تحفل بها ... واقدم إذا حق اللقا في الأول
واختر لنفسك منزلا تعلو به ... أو مت كريما تحت ظل القسطل
إن كنت في عدد العبيد فهمتي ... فوق الثريا والسماك الأعزل
أو أنكرت فرسان عبس نسبتي فسنان رمحي والحسام يقر لي
وبذابلي ومهندي نلت العلى ... لا بالقرابة والعديد الأجزل
ورميت مهري في العجاج فخاضه ... والنار تقدح من شفار الأنصل
خاض العجاج محجلا حتى إذا ... شهد الوقيعة عاد غير محجل
ولقد نكبت بني حريقة نكبة ... لما طعنت صميم قلب الأخيل
وقتلت فارسهم ربيعة عنوة ... والهيذبان وجابر بن مهلهل
لا تسقني ماء الحياة بذلة ... بل فاسقني بالعز كأس الحنظل
ماء الحياة بذلة كجهنم ... وجهنم بالعز أطيب منزل
وقال أيضا
اليوم أسعرها حربا تذل لها ... كل الجبابرة الماضين في الحقب
وأترك الدم يجري من غلاصمهم ... إذا علوت رؤوس القوم بالقضب
كم سيد إذ رآني حين أطلبه ... ألقى السلاح وغر النفس للهرب
أنا الشجاع لنار الحرب أضرمها ... وأرتمي القوم بالإرغام والعطب(5/252)
والموت يفزع مني في الهياج إذا ثار العجاج وصار النفع كاللهب
وراحتي في لقا الأبطال إن طعنت ... زرق الأسنة للأقران من كثب
كم قسطل خضته لم أخش غائلة ... وساحة الحرب قصدي وهي لي طلبي
لأفعلن فعلا لا مثال لها ... فعلا يؤرخ في الأوراق والكتب
واصطليها يقينا والبحار دم ... لأن في موجها يزداد لي طربي
وأجعل الجو كالليل البهيم إذا ... ثار الغبار على الأقطار كالحجب
وليس لي مؤنس في كل معركة ... إلا الجواد وسيفي يشتكي غضبي
روى أبو حاتم عن أبي عبيدة قال كان عبد الملك بن مروان في سمره مع أهل بيته وولده وخاصته فقال لهم ليقل كل واحد منكم أحسن ما قيل من الشعر وليفصل رأي تفضيله. فأنشدوا وفضلوا. فقال بعضهم النابغة. وقال بعضهم الأعشى. فلما فرغوا قال أشعر من هؤلاء الذي يقول. وأنشد لمعد بن أوس
وذي رحم قلمت أظفرا ضغنه ... بحلمي عنه وهو ليس له حلم
يحاول رغمي لا يحاول غيره ... وكالموت عندي أن يحل به الرغم
فإن أعف عنه أغض عينا على قذى ... وليس له بالصفح عن ذنبه علم
وإن أنتصر منه أكن مثل رائش ... سهام عدو يستهاض به العظم
صبرت على ما كان بيني وبينه ... وما يستوي حرب الأقارب والسلم
وبادرت منه النأي والمرء قادر ... على سهمه ما كان يمكنه السهم
ويشتم عرضي في مغيبتي جاهدا ... وليس له عندي هوان ولا شتم
إذا سمته وصل القرابة سامني ... قطيعتها تلك السفاهة والإثم
وإن أدعه للنصف يأب إجابتي ... ويدع لحكم جائر غيره الحكم(5/253)
فلولا اتقاء الله والرحم التي ... رعايتها حق وتعطيلها ظلم
إذا لعلاه بارق وخطمته ... بوسم شنار لا يشابهه وسم
ويسعى إذا أبني لهدم مصالحي ... وليس الذي بين كمن شانه الهدم
يود لو أني معدم ذو خصاصة ... وأكره جهدي أن يخالطه العدم
فما زلت في ليني له وتعطفي ... عليه كما تحنو على الولد الأم
وخفضي له مني الجناح تألفاً ... لتدنيه مني القرابة والرحم
وصبري على أشياء منه تريبني ... وكظمي على غيظي وقد ينفع الكظم
لاستل عنه الضغن حتى سللته ... وقد كان ذا ضغن يصوبه الحزم
رأيت انثلاماً بيننا فرقعته ... برفقي أحيانا وقد يرقع الثلم
وأبرأت غل الصدر منه توسعا ... بحلمي كما يشفى بأدوية سقم
فأطفأت نار الحرب بيني وبينه ... فأصبح بعد الحرب وهو لنا سلم
قال عنترة
أحن إلى ضرب السيوف القواضب ... وأصبو إلى طعن الرماح اللواعب
وأشتاق كاسات المنون إذا صفت ... ودارت على راسي سهام المصائب
ويطربني والخيل تعير بالقنا ... حداة المنايا وارتهاج المواكب
وضرب وطعن تحت ظل عجاجة ... كجنح الدجى من وقع أيدي السلاهب
تطير رؤوس القوم تحت ظلامها ... وتنقض فيها كالنجوم الثواقب
وتلمع فيها البيض من كل جانب ... كلمع بروق في ظلام الغياهب
لعمرك إن المجد والفخر والعلى ... ونيل الأماني وارتفاع المراتب(5/254)
لمن يلتقي أبطالها وسراتها ... بقلب صبور عند وقع المضارب
ويبني بحد السيف مجداً مشيداً ... على فلك العلياء فوق الكواكب
ومن لم يروي رمحه من دم العدى ... إذا اشتبكت سمر القنا بالقواضب
يعطي القنا الخطي في الحرب حقه ... ويبري بحد السيف عرض المناكب
يعيش كما عاش الذليل بغصة ... وإن مات لا يجري دموع النوادب
لضائل عزم لا تباع لضارع ... وأسرار حزم لا تذاع لعائب
رزت بها دهرا على كل حادث ... ولا كحل إلا من غبار الكتائب
إذا كذب البرق اللموع لشائم ... فبرق حسامي صادق غير كاذب
قال أبو بجير الحادث بن عباد
سل حي تغلب عن بكر ووقعتهم ... بالحنو إذ خسروا جهراً وما رشدوا
فأقبلوا بجناحيهم يلفهما ... منا جناحان عند الصبح فاطردوا
فأصبحوا ثم صفوا دون بيضهم ... وأبرقوا ساعة من بعد ما رعدوا
وأيقنوا أن شيبانا وإخوتهم ... قيسا وذهلا وتيم اللات قد رصدوا
ويشكر وبنو عجل وإخوتهم ... بنو حنيفة لا يحصى لهم عدد
ثم اتقينا ونار الحرب ساطعة ... وسمهري العوالي بيننا قصد
طورا ندير رحانا ثم نطحنهم ... طحنا وطورا نلاقيهم فنجتلد
حتى إذا الشمس دارت أجفلوا هربا ... عنا وخلوا عن الأموال وانجردوا
فروا إلى النمر منا وهو عمهم ... فما وفى النمر إذ طاروا وهم مرد
نحن الفوارس نغشى الناس كلهم ... ونقتل الناس حتى يوحش البلد(5/255)
لقد صبحناهم بالبيض صافية ... عند اللقاء وحر الموت يتقد
والخيل تعلم أني من فوارسها ... يوم الطعان وقلب الناس يرتعد
وقد حلفت يمينا لا أصالحهم ... مادام منا ومنهم في الملا أحد
قال سليمان بن أبي الزوائد يفتخر
هلا سألت منازلاً بفزار ... عمن عهدت به من الأحرار
عدي رجالك واسمعي يا هذه ... عني مقالة عالم مفخار
سأعد سوداتٍ لنا ومكارماً ... وأبوة ليست على بعار
قيس وخندف والداي كلاهما ... والعم بعد ربيعة بن نزار
من مثل فارسنا دريد فارسا ... في كل يوم تعانق وكرار
وبنو زياد من لقومك مثلهم ... أو مثل عنترة الهزبر الضاري
والحي من سعد ذؤابة قومهم ... والفخر منهم والسنام الواري
والمانعون من العدو ذمارهم ... والمدركون عدوهم بالثار
وبنو سليم نكل من عاداهم ... وحيا العفاة ومعقل الفرار
ليسوا بأنكاس إذا حاستهم ال ... موت العداة وصمموا لمغار
قال عمرو بن معدي كرب يصف صبره وجلده في الحرب
أعاذل عدتي بأني ورمحي ... وكل مقلص سلس القياد
أعاذل إنما أفني شبابي ... إجابتي الصريح إلى المنادي
مع الأبطال حتى سل جسمي ... وأقرح عاتقي حمل النجاد
ويبقى بعد حلم القوم حلمي ... ويفني بعد زاد القوم زادي(5/256)
ومن عجب عجبت له حديث ... بديع ليس من بدع السداد
تمنى أن يلاقيني قييسٌ ... وددت وأينما مني ودادي
تمناني وسابغتي قميصي ... كأن قتيرها حدق الجراد
وسيف لابن ذي قيعان عندي ... تخير نصله من عهد عاد
فلو لاقيتني للقيت ليثا ... هصورا ذا ظبا وشبا حداد
ولاستيقنت أن الموت حق ... وصرح شحم قلبك عن سواد
أريد حباءة ويريد قتلي ... عذيرك من خليلك من مراد
أنشد ابن الكلبي لحاتم الطائي
وعاذلة هبت بليل تلومني ... وقد غاب عيوق الثريا فعردا
تلوم على إعطائي المال ضلة ... إذا ضن بالمال البخيل وصردا
تقول ألا أمسك عليك فإنني ... أرى المال عند الممسكين معبدا
ذريني وحالي إن مالك وافر ... وكل امرئ جار على ما تعودا
أعاذل لا آلوك إلا خليقتي ... فلا تجعلي فوقي لسانك مبردا
ذريني يكن مالي لعرضي جنة ... يقي المال عرضي قبل أن يتبددا
أريني جوادا مات هزلا لعلني ... أرى ما ترين أو بخيلا مخلدا
وغلا فكفي بعض لومك واجعلي ... إلى رأي من تلحين رأيك مسندا
ألم تعلمي أني إذا الضيف نابني ... وعز القرى أقري السديف المسرهدا
أسود سادات العشيرة عارفا ... ومن دون قومي في الشدائد مذودا
وألفى لأعراض العشيرة حافظا ... وحقهم حتى أكون المسودا(5/257)
يقولون أهلكت مالك فاقتصد ... وما كنت لولا تقولون سيدا
كلوا الآن من رزق الإله وأيسروا ... فإن على الرحمان رزقكم غدا
سأذخر من مالي دلاصاً وسابحاً ... وأسمر خطياً وعضيا مهندا
وذلك يكفيني من المالي كله ... مصونا إذ ما كان عندي متلدا
وأنشد له أيضا من قصيدة
مهلا نوار أقلي اللوم والعذلا ... ولا تقولي لشيء فات ما فعلا
ولا تقولي لمال كنت مهلكه ... مهلا وإن كنت أعطي البحر والجبلا
يرى البخيل سبيل المال واحدة ... إن الجواد يرى في ماله سبلا
إن البخيل إذا مات يتبعه ... سوء الثناء ويجوي الوارث الإبلا
فاصدق حديثك إن المرء يتبعه ... ما كان يبني إذا ما نعشه حملا
ليت البخيل يراه الناس كلهم ... كما يراهم فلا يقرى إذا نزلا
لا تعذليني على مالي وصلت به ... رحما وخير سبيل المال ما وصلا
يسعى الفتى وحمام الموت يدركه ... وكل يوم يدني للفتى الأجلا
إني لأعلم أني سوف يدركني ... يومي وأصبح عن دنياي مشتغلا
لصفي الدين الحلي
سلس الرماح العوالي عن معالينا ... واستشهدي البيض هل خاب الرجا فينا
وسائلي العرب والأتراك ما فعلت ... في أرض قبر عبيد الله أيدينا
لما سعينا فما رقت عزائمنا ... عما نروم ولا خابت مساعينا
يا يوم وقعة زوراء العراق وقد ... دنا الأعادي كما كانوا يدينونا(5/258)
بضمر ما ربطناها مسومة ... إلا لنغزو بها من بات يغزونا
وفتية إن نقل أصغوا مسامعهم ... لقولهم أو دعوناهم أجابونا
قوم إذا استخصموا كانوا فراعنة ... يوما وإن حكموا كانوا موازينا
تدرعوا العقل جلبابا فإن حميت ... نار الوغي خلتهم فيها مجانينا
إذا ادعوا جاءت الدنيا مصدقة ... وإن دعوا قالت الأيام آمينا
إن الزرازير لما قام قائمها ... توهمت أنها صارت شواهينا
ظنت تأني البزاة الشهب عن جزع ... وما درت أنه قد كان تهوينا
ذلوا بأسيافنا طول الزمان فمذ ... تحكموا أظهروا أحقادهم فينا
لم يغنهم مالنا عن نهب أنفسنا ... كأنهم في أمان من تقاضينا
ثم انثنينا وقد ظلت صوارمنا ... تميس عجبا وتهتز القنا لينا
وللدماء على أثوابنا علق ... بنشره عن عبير المسك يغنينا
إنا لقوم أبت أخلاقنا شرفا ... أن نبتدي بالأذى من ليس يؤذينا
بيض صنائعنا سود وقائعنا ... خضر مرابعنا حمر مواضينا
لا يظهر العجز منا دون نيل منى ... ولو رأينا المنايا في أمانينا
قصيد السموءل في الفخر
إذا المرء لم يدنس من اللؤم عرضه ... فكل رداء يرتديه جميل
وإن هو لم يحمل على النفس ضيمها ... فليس إلى حسن الثناء سبيل
تعيرنا أنا قليل عديدنا ... فقلت لها إن الكرام قليل
وما قل من كانت بقاياه مثلنا ... شباب تسامى للعلى وكهول(5/259)
وما ضرنا أنا قليل وجارنا ... عزيز وجار الأكثرين ذليل
لنا جبل يحتله من نجيرة ... منيع يرد الطرف هو كليل
رسا أصله تحت الثرى وسما به ... إلى النجم فرع لا ينال طويل
هو الأبلق الفرد الذي شاع ذكره ... يعزُّ على من رامه ويطول
وإنا لقوم لا نرى القتل سبة ... إذا ما رأته عامر وسلول
يقرب حب الموت آجالنا لنا ... وتكرهه آجالهم فتطول
وما مات منا سيد حتف أنفه ... ولا طل يوما حيث كان قتيل
تسيل على حد الظبات نفوسنا ... وليست على غير الظبات تسيل
صفونا ولم نكدر وأخلص سرنا ... إناث أطابت حملنا وفحول
علونا إلى خير الظهور وحطنا ... لوقت إلى خير البطون نزول
فنحن كماء المزن ما في نصابنا ... كهام ولا فينا يعد بخيل
وننكر إن شئنا على الناس قولهم ... ولا ينكرون القول حين نقول
إذا سيد منا خلا قام سيد ... قؤولٌ لما قال الكرام نقول
وما أخمدت نار لنا دون طارق ... ولا ذمنا في النازلين نزيل
وأيامنا مشهورة في عدونا ... لها غرر معلومة وحجول
وأسيافنا في كل شرق ومغرب ... بها من قراع الدارعين فلول
معودة أن لا تسل نصالها ... فتغمد حتى يستباح قبيل
سلي إن جهلت النسا عنا وعنهم ... فليس سواء عالم وجهول
فإن بني الديان قطب لقومهم ... تدور رحاهم حولهم وتجول(5/260)
الباب الخامس عشر في المراسلات
مراسلات بين الملوك والأمراء
كتاب أبي القاسم الحريري إلى الوزير سعد الملك يستغيثه على العرب الذين غزوا مدينة البصرة
لو اطلع مولانا على ما فاجأ البصرة وأهلها من الفتك والقهر. والنهب والأسر. إلى ما منوا به من الشتات. وافتضاح الحفرات. واحتراق المساكن والخانات. وانتشار الفساد. إلى قرى السواد. لرأى منظرا يحرق الأكباد. ويبكي العين الجماد. وقد أشرفت البصرة على العفاء. واللحاق بالصحراء. وأن يؤرخ أنه رأسها في هذه الدولة الغراء. إذ كان توالى عليها من الأحداث. في هذه السنين الثلاث. ما يدمر أعمر البلدان ولم يعهد مثله في سالف الزمان. فإن أنعم وعجل النظر للرعية. بترتيب النجدة القوية. وإسقاط معاملة الذرب. في الهرب من العرب. ولا خفاء بما في تنفيس الكرب من القرب
وكتب إليه يشكره وأصحب كتابه بقصيدة
دعا العبد للمجلس الفلاني دامت جدوده سعيدة. وسعوده جديدة. وعلياؤه محسودة. وأعداؤه محصودة. دعاء من يتقرب بإصداره. على بعد داره. ويقصر عليه ساعاته. مع قصور مسعاته.(5/261)
وشكره للإنعام الذي أوصله إلى التحميل والتأميل. وجمع له بين التنويه والتنويل. شكر من أطلق من أسره. وأذيق طعم اليسر بعد عسره. ولو نهضت به القدمان. وأسعده عون الزمان. لقدم اعتماد الباب المعمور. وأسرع إليه إسراع العبد المأمور. ليؤدي بعض حقوق الإحسان. ويتلو صحف الشكر باللسان. لكن أنى ينهض المقعد. ومن له بأن يصعد فيسعد. ولما قصرت خطوة العبد وحرم حظوة القصد. ولزمه مع وضوح العذر. أن يفصح عن الشكر. خدم بما ينبئ عن فكره المريض. ويشهد بطبع طبعه في القريض. ولولا أن الهدية على حسب مهديها. وبه تتعلق مساويها. لما قدر أن يهدي الورق إلى الشجر. ويبيض شعرا كبياض الشعر. هذا على أن ذنب المعترف مغفور. والمجتهد وإن أخطأ معذور. وهو يرجو أن يلحق بمن نيته خير من عمله. ليبلغ قاصية أمله. وللآراء العلية في تشريف خدمته بالاستعراض. وصون مدحته عن الاعتراض. وتأهيله من مزايا الغيجاب والجزاب. بما يميزه على الأحزاب. مزيد العلو (للحريري)
نسخة كتاب من نائب الشام إلى نائب حلب يخبره بوفاة الملك الصالح
إن المرسوم الشريف زاده الله شرفا ورد على المملوك يتضمن خبرين. هذا ساء وهذا سر. وهذا عق القلوب وهذا بر. وهذا ضر الجوانح وهذا نفع أضعاف ما ضر. أما الأول فبما قضاه الله تعالى وقدره من وفاة أستاذنا السلطان السعيد. وابن أستاذنا السلطان(5/262)
السعيد الشهيد. الملك الصالح نصر الله شبابه. وأسقى عهد الرضوان عهده وترابه. بمرض كما سمع مولانا لم تنفع فيه الأدوية والرقى. وعرض استولى على ذلك الجوهر الفريد فتركه بعد حركة اللقاء لقى. وارد خطب لم ترده البروج المشيدة والجنود المجندة
وقد فارق الناس الأحبة قبلنا ... وأعيا دواء الموت كل طبيب
وأما الثاني فبما حباه الله وهناه من جلوس مولانا السلطان الأعظم الملك الكامل سيف الدنيا والدين أبي الفتوح شعبان أخيه خلد الله ملكه على سرير السلطنة الشريفة. سلطانا عادلا. وملكا نشأ في أفق الملك هلالا إلى أن ظهر كاملا. وسيفا تخضع لعزته رقاب ملوك الغرب والشرق. ومتوجا يظهر بإشراق جبينه مابين الملوك من الفرق. وإن كلمة الإجماع انعقدت على ملكه الرفيع. وإن العزاء المقتضب يجيء بالهناء السريع. وإن الطلعة الشريفة قد أطلعت في أفق الملك المرجب هلال شعبان في ربيع. فسرت السرائر وضربت بعد ضروب الهناء نوب البشائر. وأخذت الأرض زخرفها والمدن زينتها من كل زاه وزاهر. سجعت الخطباء بالاسم الشريف فكادت أن تورق أعواد المنابر. وظهرت بالابتهاج حتى على وجوه الدراهم والدنانير أمائر. وأصبحت أيدي الرجاء بها ملية. وتسابق الألسن بحمد الله تعالى على أن جعل هذا البيت الشريف نجوم سماء كلما غاب كوكب تأوي إليه كواكب بهية. وجهز المملوك المثال(5/263)
الشريف المختص بمولانا ليأخذ حظه من هذه البشرى. وينشرها من طي البروج مع نفحات الروض تترى. فطمع الرعايا من فضل الهناء إلى أحسن المطامح. ويرضون عن باقي الزمان وماضيه فيصفونه بكامل وصف ويثنون عليه بصالح. والله تعالى يملأ له البشائر أوطاراً وأوطاناً. ويسر الدين والدنيا أبدا بتلاوة هذا البيت الشريف ويجعل لكما سلطانا آخره: والحمد لله وحده (الكنز المدفون للسيوطي)
لأبي بكر الخوارزمي إلى والي بلاد قومس وقد ورد عليه ابنه للقراءة
ورد علي كتاب الفقيه بعد نزاع كان إليه وحرص عليه. وبعد أن اقترحته على الدهر. وخلعت فيه ربقة العزاء والصبر. ولم أدر بأبيهما أنا أشد سرورا أبالكتاب وهو أيسر واصل. أم بحامله وهو أجل حامل. فلان ولدي قد اقتطعت له من فراغي فلذة على أنني لو درسته حتى تحفى الأقلام. ويفنى الكلام. وتحصر الأفهام والأوهام. ثم لقمته العلم لقمة. وسكبت له آداب العرب والعجم. وخرجت له من الفقيه قاصرا. ولكان وقوعي دون أدنى مواجبه علي ظاهراً. ولكن الإقرار عذر قوي. كما أن الإنكار ذنب طوي. وقد كان هذا الولد أديبا مجملا. فصار بحمد الله تعالى أديبا مفصلا. وكان أغر فصار أغر محجلاً. وأرجو أن الله يحيي به مآثر سلفه الصالحين. ويعلي به(5/264)
منازل آبائه الأولين. فيكون أولهم علما وأدبا. وهو آخرهم ميلادا ونسبا
في الأشواق وحسن التواصل
كتب أبو النصر العتبي كاتب السلطان محمود إلى صديق له
هذا يوم قد رقت غلائل صحوه وهبت شمائل خيره. وضحكت ثغور رياضه. واطرد ورود النسيم فوق حياضه. وفاحت مجامر الأزهار. وانتثرت قلائد الأغصان من فرائد الأنوار. وقام خطباء الأطيار. على منابر الأشجار. ودارت أفلاك الأيدي بشموس الراح. في بروج الأقداح. فبحق الفتوة التي زان الله بها طبعك. والمروءة التي قصر عليها أصلك وفرعك. إلا ما تفضلت علينا بالحضور. ونظمت لنا بك عقود السرور (حلبة الكميت للنواجي)
كتب الشيخ البسطامي إلى بعض السادة
أما بعد فالعبد الكليم. ينهي إلى السيد الرحيم. من شوقه الذي ملك قياده. وعمر بفوائده فؤاده. ومابرح العبد يدعو لمولانا في سره وجهره. وينشر على بساط إحسانه جوهر شكره. ويتشوق إليه تشوق الساهر غلى المنام. ويهديه من ثنائه أحسن من ضحك الزهر لبكاء الغمام:
والروض يبدو زهرها متبسما ... فكأنه لبكا الغمام قد اشتفى
وقد سطرت هذه العبودية مظهرا من إحسان مولانا ما لا يخفى. وذاكراً من تفضلاته ما تعجز عنه الألسن وصفا. المسؤول من صدقاته(5/265)
حسن الوصية بوافد سلامه. ووارد كلامه. فإن العبد يرى له حقا في أول رسالته إلى ذلك ألجناب الكريم. ويؤثره لوقوع عينيه على ذلك الوجه الوسيم. وكان يود أن لو كان مكان هذا الكتاب. وساعدت الأيام على زيارة ذلك الجناب. فإن رؤيتكم مما تبتهج بها الخواطر. وتنتعش بها القلوب انتعاش الروض إذا باكرته الغيوم المواطر. لا زال مولانا وافر الإحسان. متزيناً بأحسن مناقب الإنسان (مناهج التوسل لعبد الرحمان البسطامي)
كتب أبو عبد الرحمان محمد طاهر إلى صاحب قليبرة يستدعي منه أقلاما
قد عدمت أطال الله بقاءك بهذا القطر الأقلام. وبها يشخص الكلام. وهي حلية البيان. وترجمان اللسان. عليها تفرع شعاب الفكر. وذكرها منزل في محكم الذكر. ومنابتها بلدك. ويدك فيها يدك. وأريد أن ترتاد لي منها سبعة كعدد الأقاليم. حسنة التقليم. وفضية الأديم. ولا يعتمد منها إلا صليبها. الطول أنابيبها. وإذا استمدت من أنفاسها. وافاك الشكر من أنفاسها (قلائد العيقان)
كتب أبو بكر الخوارزمي إلى كاتب
اعتذر سيدي من صغر الكتاب واختصاره. فقد أغناه الله تعالى عن تكلفه من اعتذاره. وإنما الصغير ما صغر قدره. لا ما صغر حجمه. فأما ما أفاد. وجاوز المراد. فليس بصغير. بل أكبر من كبير. وأما شكره لي على تفضيلي لكلامه. فإني من هذا بعد في ميدان(5/266)
عريض مديد. وفي شوط بعيد. لم أبلغ عشر عشره. ولم أقض منه أيسر يسره. والحق أني وإن اجتهدت فأني غير بالغ منه ما في ضمن النية. ولا آت على ما في الهمة والأمنية. ولكني سأقف عقلي انتهاء الطاقة. وأحمل مجهودي أقصى الغاية. والتمادح بيننا بعد الحال التي عتقت حتى أخلقت. وقدمت حتى هرمت. فصل لا يحتاج إليه ولا يعرج عليه. وأسأل الله تعالى أن يجعل أخوتنا متصلة في الدنيا بأخوتنا يوم الدين. فإن الأخلاء يومئذ بعضهم لبعض عدو إلا المتقين
في العتاب واللوم والاعتذار
وكتب أبو بكر الخوارزمي إلى تلميذ له
إن كنت أعزك الله لا ترانا موضعا للزيارة. فنحن في موضع الاستزارة. وإن كنت تعتقد أنك قد استوفيت ما كان لدينا. فسقط حقنا عنك وبقي حقك علينا. فقد يزور الصحيح الطبيب بعد خروجه من دائه. واستغنائه عن دوائه. وقد تجتاز الرعية على باب الأمير المعزول فتتجمل له ولا تعيره عزله. ولو لم تزرنا إلا لترينا رجحانك. كما طالما رأينا نقصانك لكان ذلك فعلا صائبا. وفي القياس واجبا
لما أراد الملك الناصر مبايعة ابنه أبي مروان اتخذ لذلك صنيعا في قصر الزهراء وأرسل فاستدعى وجوه مملكته. فلم يتخلف من بينهم إلا أبو إبراهيم من أكابر علماء المالكية. فأمر الخليفة ولي العهد بالكتاب إليه والتفنيد له فكتب إليه رقعة نسختها
بسم الله الرحمان الرحيم حفظك الله وتولاك وسددك(5/267)
ورعاك. لما امتحن أمير المؤمنين مولاي وسيدي أبقاه الله الأولياء الذين يستعد بهم وجدك متقدما في الولاية متأخرا عن الصلة. على أنه قد أنذرك أبقاه الله خصوصا للمشاركة في السرور الذي كان عنده لا أعمه الله توالي المسرة. ثم أنذرت من قبل إبلاغا في التكرمة فكان منك على ذلك كله من التخلف ما ضاقت عليك فيه المعذرة. واستبلغ أمير المؤمنين في إنكاره ومعاتبتك عليه فأعيت عليك عنك الحجة. فعرفني أكرمك الله ما العذر الذي أوجب توقفك عن إجابة دعوته ومشاهدة السرور الذي سر به ورغب المشاركة فيه. لنعرفه أبقاه الله بذلك فتسكن نفسه العزيزة إليه
(فأجابه أبو إبراهيم) سلام على الأمير سيدي ورحمة الله قرأت أبقى الله الأمير سيدي هذا الكتاب وفهمته. ولم يكن توفقي لنفسي إنما كان لأمير المؤمنين سيدنا. لعلمي بمذهبه وسكوني إلى تقواه واقتفائه لأثر سلفه الطيب فإنهم يستبقون من هذه الطبقة بقية لا يمتهنونها بما يشينها ولا بما يغض منها ويطرق إلى تنقيصها. يستعدون بها لدينهم ويتزينون بها عند رعاياهم ومن يفد عليهم من قصادهم. فلهذا تخلفت ولعلمي بمذهبه توقفت. إن شاء الله تعالى (للمقري)
قال السيد عباس بن علي الموسوي المكي في صدر كتاب أرسل به الأمير ناصر في بندر المخا شاكياً عليه صاحب السبار وهو إذ ذاك في البندر المذكور
قل للأمير أدام الله دولته ... ما هكذا شرط جار الجنب بالجار(5/268)
قد استجرت بكم من كافر دنس ... فظ غليظ لعين نسل كفار
يعطي السبار إلى من يشتهي وأنا ... يعطى سباري بإقتار وإعسار
والغير يعطيه ما يهواه خاطره ... من الطعام ومن بر ودينار
لو أن لي غير هذا الرزق ما نظرت ... عيني له قط في سري وإجهاري
لكن مولاي يدري أن ليس لنا ... سوى السبار الذي يأتي بمقدار
فكيف تغفل عنا يا أمير وقد ... أوصى المليك بنا والخالق الباري
فانظر بعين كرام في جواهرهم ... ولا تكلني لتعريف وتذكار
ولا تدعني أقل ما قيل من قدم ... بيتا غدا مثلا بين الملا جاري
ألمستجير بعمرو عند كربيه ... كالمستجير من الرمضاء بالنار
لعمرو بن بحر الجاحظ في الاعتذار
أما بعد فنعم البديل من الزلة الاعتذار. وبئس العوض من التوبة الإصرار. فإنه لا عوض من إخائك. ولا خلف من حسن رأيك. وقد انتقمت مني زلتي بجفائك. فأطلق أسير تشوقي إلى لقائك. فإنني بمعرفتي ببلوغ حلمك وغاية عفوك ضمنت لنفسي العفو من زلتها عندك. (أما بعد) فقد مسني من الألم ما لم يشفه غير مواصلتك مع حبسك الاعتذار من هفوتك. ولكن ذنبك تغتفره مودتك فامنن علينا بصلتك تكن بدلا من مساءتك. وعوضا من هفوتك. (أما بعد) فإن أولى الناس عندي بالصفح من أسلمه إلى ملكك التماس رضاك من غير مقدرة منك عليه (لابن عبد ربه)(5/269)
كتب أبو بكر الخوارزمي إلى تلميذ له قطع في مجلس وكابر واخلط
بلغني أنك ناظرت. فلما توجهت عليك الحجة كابرت. ولما وضع نير الحق على عنقك ضجرت وتضاجرت. وقد كنت أحسب أنك أعرف بالحق من أن تعقه. وأهيب لحجاب الإنصاف والعدل من أن تشقه. كأنك لم تعلم أن لسان الضجر ناطق بالعجز. وأن وجه الظلم مبرقع بالقبح. وأنك إذا استدركت على نقد الصارفة. وتتبعت خطأ الحكماء والفلاسفة. فقد طرقت إلى عيبك لعائبك. ونصرت عدوك على صاحبك. وقد عجبت من حسن ظنك بك. وأنت إنسان والله المستعان
في المديح
كتاب البسطامي إلى بعض الأصحاب
وصل شريف الكتاب. من رحيم الجناب. أدام الله سعادته. وزاد إقباله وسيادته. وهو بديع المعاني. رفيع المباني. بحلي الروض مسطور. والوشي منثور. بخط كالنار أو أزهر. ولفظ كالدر أو أنور. وصل فأوصل أنسا كان بعيدا. وملأ قلبا كان الشوق إليه عميدا. فأما ما أعارني من فضائله العلية. وفواضله الجلية. التي هو موشح بحليتها. ومتجمل بحلتها. فقوبل بصالح الدعاء. وفائح الحمد والثناء. أدام الله لذيذ خطابه بالزلال. وجديد كتابه بالنوال من لطائف القاضي محمد بن أحمد قوله مجاوبا محمد بن خليل السمرجي الجداوي أزهر الربا أهديت أم لؤلؤ المقعد أم الزهر جاءت في بديع من السرد(5/270)
أم الروض لا فالروض ماء وتربة ... وعشب وذا شيء يجل عن الحد
أم النسمات العاطرات تأرجت ... بأعبق من مسك فتيق ومن ند
وما هي إلا بنت فكر فريدة ... تبختر من وشي البلاغة في برد
نفائس أفكار أتت لم أجد لها ... جزاء سوى الشكر المكلل بالحمد
ودر قريض رمت إدراك شأوه ... فقصر عنه في تطلبه كدي
حلى صاغها من حاز كل فضيلة ... بها قد حلي جيد المكارم والمجد
أخو الأدب الغض الذي جمعت به المحاسن حتى صار يعرف بالفرد
أديب أريب ألمعي مهذب ... ذكي سجاياه تجل عن الحد
له خلق أزهى من الروض باسما ... وذهن دقيق الفكر أمضى من الحد
لأنفاسه في الطرس أي تضوع ... تصعد منه دائما عبق الند
فلله ما أهديت يا بدر من يد ... وكم لك أيضا قبلها من يد عندي
أياد توالت منك عجلى كأنها ... شرار أطارته الأكف على الزند
وإني في عجزي من الشكر سائل ... مسامحتي فيما أعيد وما أبدي
بمالك في سمعي وطرفي وخاطري ... من الصيت والمرأى المعظم والود
فؤادك في قلبي ألذ من المنى ... وذكرك أحلى في لساني من الشهد
فدم زينة الآداب بدر كمالها ... ودرة تاج العصر واسطة العقد
قال شرف المدرسين المفتي عبد الرحمان بن عيسى من قصيدة في صدر كتاب أرسل به إلى الشيخ أبي العباس أحمد المقري المغربي عالم فارس وخطيبه مراجعا
وافى لنا روض نضير ... أنق تسامى عن نظير(5/271)
ففضضته فرأيته ... في الحسن كالدر النثير
ونشقت من رياه ما يسمو على نشر العبير
فكأنما هو روضة ... تهتز في يوم مطير
أزهارها ككواكب ... قد زينت فلك الأثير
وافى فكاد القلب من ... فرط السرور به يطير
إذ جاءنا من جهبذ ... علم معارفه السرور به يطير
علامة لم يلف في ... هذا الزمان له نظير
إن جال في التفسير فالتيسير أعسره يسير
وإن انتحى للنحو وضحه بتسهيل العسير
وإليه في فن البلا ... غة كل مسؤول يشير
وإذا تعانى الشعر قلت هو الفرزدق أم جرير
يا من إليه المنتهى ... في كل فن والمصير
إسلم ودم ما دامت ال ... أفلاك فينا تستدير
في الشكروالتهنئة
فصل لأبي الفضل الميكالي إلى بعض إخوانه في الشكر
إذا لم يؤت المرء في شكر المنعم إلا من عظم قدر الإنعام والاصطناع. واستغراقه منه قوى الاستقلال والاضطلاع. فليس عليه في القصور عن كنه واجبه عتب. ولا تلحقه فيه نقيصة ولا عيب. ولئن ظهر عجزي عن حق هذه النعمة فإني أحمل على حسن الثناء على من(5/272)
لا يعجزه حمله. ولا يؤوده ثقله. ولا يزكوا الشكر إلا لديه. ولا تعرف الرغبة إلا إليه. والله يبقيه لمجد يقيم أعلامه وفضل يقضي ذمامه. وعرف يثبت أقسامه. ووالي إكرامه. وعدو يديم قمعه وإرغامه
لابن العميد إلى عضد الدولة يهنئه بولدين
أطال الله بقاء الأمير الأجل عضد الدولة دام عزه وتأييده. وعلوه وتمهيده. وبسطته وتوطيده. وظاهر له من كل خير مزيده. وهنأه ما احتظاه به على قرب البلاد. من توافر الأعداد وتكثر الأمداد. وتثمر الأولاد. وأراه من النجابة في البنين والأسباط ما أراه من الكرم في الآباء والأجداد. ولا أخلى عينه من قرة. ونفسه من مسرة. حتى يبلغ غاية مهله. ويستغرق نهاية أمله. ويستوفي ما بعد حسن ظنه. وعرفه الله السعادة فيما بشر عبده من طلوع بدرين هما انبعثا من نوره واستنارا من دوره. وحفا بسريره. وجعل وفدهما متلائمين. وورودهما توأمين. بشيرين بتظاهر النعم. وتوافر القسم. ومؤذنين بترادف بنين يجمعهم منخرق الفضاء. ويشرق بنورهم أفق العلاء. وينتهي بهم أمد النماء. إلى غاية تفوت غاية الإحصاء. ولا زالت السبل عامرة. والمنهل غامرة. بصفائح صادرهم بالبشر وآملهم بالنيل القاصد
ولبعضهم في التهنئة بالقدوم من سفر
أهنئ سيدي ونفسي بما يسر الله من قدومه سالما. وأشكر(5/273)
الله على ذلك شكرا قائما. غيبة المكارم مقرونة بغيبتك. وأوبة النعم موصولة بأوبتك. فوصل الله تعالى قدومك من الكرامة بأضعاف ما قرن به مسيرك من السلامة. هنأ الله إيابك. بلغك محابك. فما زلت بالنية مسافرا. وبأفعال الذكر والفكر لك ملاقيا. إلى أن جمع الله شمل سروري بأوبتك. وسكن نافر قلبي بعودتك. فأسعدك الله بتقدمك سعادة تكون فيها مقابلا وبالأماني ظافرا. ولا أوحش منك أوطان الفضل ورباع المجد بمنه وكرمه
وكتب الخوارزمي إلى وزير صاحب خوارزم بعد محنته يهنئه
فهمت ما ذكره الشيخ من توبة الدهر إليه من ذنبه. وخطبته لسلمه بعد حربه. فانقشعت ضبابة المحنة.. وهكذا تكون أحوال المقبلين. فإن الأيام إذا غلطت فجنت عليهم. رجعت فاعتذرت إليهم. والزمان إذا حاربهم خطأ سالمهم عمدا. فيستوفون في الحالين أجر المحنة. وزيادة بشكر النعمة. والآن عرف الشيخ بحقيقته. ووزن بزنته. ووقف السلطان والرعية على تفصيله وجملته. هذا وقد صقلت هذه الفترة خلائق الشيخ بالتجارب. ووضعت في يده مرآة النظر في العواقب. وهذبت أفعاله من كل شوب وغسلت عنه وضر كل عيب. على أنه لم يزل مبرأ من كل رذيلة. ومخصوصا بكل فضيلة. ولكن الأيام عملها في التعليم. وخاصتها في باب التنبيه والتقويم. فالحمد لله الذي رد إلى ذلك الأمير جماله(5/274)
وبهاءه. وعمر بابه وفناءه. وسر شيعته وأولياءه. وغم حسدته وأعداءه. ولم يفجعه بالعلق النفيس الذي لا يشترى بالأثمان. ولا يوزن بالميزان. ولا يكال بالقفزان. ولا يرى مثله في هذا الزمان. كما لم ير في سائر الأزمان. ثم الحمد لله الذي حول كتبي من التعزية إلى التهنئة وأخرج القاضي من ميدان الصبر. إلى ميدان الشكر
في التعزية
لأبي قاسم في التعزية
ترامى إلينا خبر مصابك بفلان. فخلص إلينا من الاغتمام به ما يحصل في مثله ممن أطاع ووفى وخدم ووالى. وعلمنا أن لفقدك مثله لوعة. وللمصاب به لذعة. فآثرنا كتابنا هذا إليك في تعزيتك على يقيننا بأن عقلك يغني عن عظتك. ويهدي إلى الأولى بشيمتك بأن عقلك والأزيد في رتبتك. فليحسن أعزك الله صبرك على ما أخذه منك وشكرك لما أبقى لك وليتمكن من نفسك ما وفر لك من ثواب الصابرين. وأجزل من ذخر المحسنين
لأبي الفضل الميكالي من كتاب تعزية بالأمير ناصر الدين
أقدار الله تعالى في خلقه لم تزل تختلف بين مكروه ومحبوب. وننصرف بين موهوب ومسلوب. غادية أحكامها مرة بالمصائب والنوائب. ورائحة أقسامها تارة بالعطايا والرغائب. ولكن أحسنها في العيون أثرا. وأطيبها في الأسماع خبرا. وأحراها بأن تكسب(5/275)
القلوب عزاء وتصبرا. ما إذا انطوى نشر. وإذا انكسر جبر. وإذا أخذ بيد رد بأخرى. وإذا وهب بيمنى سلب بيسرى. كالمصيبة بفلان التي قرحت الأكباد. وأوهنت الأعضاد. وسودت وجوه المكارم والمعالي. وصورت الأيام في صور الليالي. وغادرت المجد وهو يلبس حداده. والعدل وهو يبكي عماده. حتى إذا كاد اليأس يغلب الرجاء ويرد الظنون مظلمة النواحي والأرجاء. قبض الله تعالى من الأمير الجليل من اجتمعت عليه الأهواء. ورضيت به الدهماء. فآسى به حادث الكلم. وسد بمكانه عظيم الثلم. ورد الآمال والنفوس قد استبدلت بالحيرة قوة وارتدارا. وصارت للدولة المباركة أعوانا وأنصارا
كتب بديع الزمان إلى ابن أخته يعزيه بأخيه
قد ورد كتابك بما ضمنته من تظاهر نعم الله عليك. وعلى أبويك فسكنت إلى ذلك. من حالك. وسألت الله بقاءك. وأن يرزقني لقاءك. وذكرت مصابك بأخيك فكأنما فتتت عضدي. وطعنت في كبدي. فقد كنت معتضداً بمكانه. والقدر جار لشانه. وكذا المرء يدبر. والقضاء يدمر. والآمال تنقسم. والآجال تبتسم. والله يجعله فرطا ولا يريني فيك سوءا أبدا وأنت أيدك الله وارث عمره. وسداد ثغره. ونعم العوض بقاؤك. وأبوك سيدي أيده الله وألهمه الجميل. وهو الصبر. وآتاه الجزيل. وهو الأجر.(5/276)
وأمتعه بك طويلا. فما سؤت بديلا. والسلام
وكتب الخوارزمي إلى الملك لما أصيب بابنه عن خوارزم شاه
كتبت وأنا مقسم بين فرحة وترحة. ومردد بين محنة ومنحة. أشكو جليل الرزية. وأشكر جزيل العطية وأسأل الله تعالى للأمير الماضي الغفران والرحمة. وللأمير السيد التأييد والنعمة. فإن المصيبة بالماضي وإن كانت تستوعب الصبر. فإن الموهبة في الباقي تستنفد الشكر. والحمد لله الذي كسر. ثم جبر. وسلب. ثم وهب. وابتلى. ثم أولى. وأخذ ثم أعطى. كتب على المشرق خاصة. بل علي الدنيا كافة. أن تطمس آثارها. وتظلم أقطارها. وتهب ريح الخراب عليها. وتنظر عين الكمال إليها. حتى ذبلت شجرة المملكة. ووهن ركن الملة. وطرف ناظر الدولة. وانثلم جانب الدعوة. ثم استدرك الله تعالى برحمته خلقه. فرد إلى الأمير حقه. وقرت الدولة في قرارها. وعادت النعمة إلى نصابها. وطلعت الشمس من مطلعها. ووضعت الرئاسة في موضعها. فأنا الآن بين شاكية الأيام وشكرها وبين حرب الدهر وسلمه. أبكي وأنا ضاحك وأضحك وأنا باكي العين. إلا أن الضحك علي أغلب. والفرح إلي من الغم أقرب. لأن المصيبة ماضية. والنعمة باقية. رحم الله الماضي رحمة تهون علينا مصرعه. وتبرد له مضجعه. وتضاعف حسناته. وتمحو سيئاته. وأعان الأمير على رعاية ما استرعاه. وألهمه شكر ما أعطاه. وتولاه فيما ولاه.(5/277)
ووالاه جزيل ما أولاه. وأيده بالهيبة سلطانه. وثبت بالبقاء أركانه.
وكتب إلى أبي طاهر وزير أبي علي بن إلياس بكرمان
كتب ولما اتصل بي خبر المصيبة لم أملك من قلبي إلا ما شغلته بها. ولا من عيني إلا ما بكيت به لها. ونزل بي ما ينزل بمن قارعه الزمان عن واحده ونازعه الموت في بعض نفسه. وزل عن يده الذخر الذي ادخره لصروف الزمان. وسلب السيف الذي لم يزل يعده للقاء الأقارن. ثم تنجزت موعود الله تعالى بالصبر والغزاء. ولقد كانت المصيبة بفلان جراحة لا دواء لها إلا الصبر. وخسرانا لا جبر له إلا الأجر. فها أنا أيد الله تعالى الشيخ جريح يد الدهر ولا طبيب لمن جرحه. وسليب يد الموت ولا ضامن لمن اجترحه. وقد دفنت يدي بيدي. وبكيت على عيني بعيني. وأفردت في نفسي عن نفسي والرزية بمثل فلان رزايا. كما أن العطية كانت ببقائه عطايا. ولكن لا كثير من المصائب مع التأدب بأدب الله تعالى. كما لا قليل من المواهب مع الإيمان بالله تعالى. رحم الله فلانا الجامع لمحاسن الآداب. الشيخ حلما وإن كان غض الشباب. فلقد اختضر وهو فتي السن. واهتصر وهو رطب الغصن. وكسوف البدر عند تمامه أوقع. وكسر العود عند اعتداله أوجع:
إن الفجيعة بالرياض نواضراً ... لأشد منها بالرياض ذوابلا(5/278)
الباب السادس عشر في التراجم
فقهاء المسلمين وخطباؤهم
ابن الجوزي (510-597 هجرية) (1117-1201 مسيحية)
هو أبو الفرج عبد الرحمان الواعظ الملقب جمال الدين الحافظ. كان علامة عصره وإمام وقته في الحديث وصناعة الوعظ. صنف في فنون عديدة منها زاد المسير في علم التفسير أربعة أجزاء أتي فيه بأشياء غريبة. وله في الحديث تصانيف كثيرة وله المنتظم في التاريخ وهو كبير. وله الموضوعات في أربعة أجزاء ذكر فيها كل حديث موضوع. وكتبه أكثر من أن تعد وكتب بخطه شيئا كثيرا والناس يغالون في ذلك حتى يقولوا أنه جمعت الكراريس التي كتبها وحسبت مدة عمره وقسمت الكراريس على المدة فكان ما خص كل يوم تسع كراريس. وهذا شيء عظيم لا يكاد يقبله العقل.
السهروردي (539-632هـ) (1145-1234م)
هو أبو حفص عمر بن محمد البكري الملقب شهاب الدين السهر وردي. كان فقيها شافعي المذهب شيخا صالحا ورعا كثير الاجتهاد في العبادة والرياضة. وتخرج عليه خلق كثير من الصوفية في المجاهدة والخلوة. ولم يكن في آخر عمره في عصره مصله. وصحب عمه أبا النجيب وعنه أخذ التصوف والوعظ وانحدر إلى البصرة إلى الشيخ أبي محمد بن عبد ورأى غيرهم من الشيوخ. وحصل طرفا صالحا من الفقه والخلاف وقرأ الأدب وعقد مجلس الوعظ سنين. وكان شيخ الشيوخ ببغداد وكان له مجلس وعظ وعلى وعظه قبول كثير. وله تآليف حسنة منها كتاب عوارف المعارف وهو أشهرها: ورأيت جماعة ممن حضر مجلسه وقعدوا في خلوته وتسليكه كجاري عادة الصوفية. فكانوا يحكون غرائب مما يطرأ عليهم فيها مما يجدونه من الأحوال الخارقة. وكان أرباب الطريق من مشايخ عصره يكتبون إليه من البلاد صورة فتاوى يسألونه عن شيء من أحوالهم سمعت أن بعضهم كتب إليه: يا سيدي إن تركت العمل أخلدت إلى البطالة وان عملت داخلني العجب فأيهما أولى. فكتب جوابه: اعمل واستغفر الله تعالى من العجب. وله من هذا شيء كثير. وذكر في كتاب عوارف المعارف أبياتاً لطيفة عنها قوله فيه تعالى:
إن تأملتكم فكلي عيون ... أو تذكرتكم فكلي قلوب(5/279)
جلال الدين السيوطي (849-911هـ) (1445-1505م)
هو الإمام عبد الرحمان بن الكمال الخضيري العالم العلامة الفقيه المحدث الحافظ المفسر الأصولي الأديب الجدلي. أخذ عن جماعة من علماء وقته ودرس الفلسفة والرياضيات فصار أوسع نظراً وأطول باعاً من مشاهير فضلاء عصره. وكتب في كل مسألة مصنفاً بأقوالها وأدلتها النقلية والقياسية. منها المقامات الطبية وأنيس الجليس وحسن المحاضرة في أخبار مصر والقاهرة وبلغت مصنفاته نحوا من أربعمائة مصنف. هذا وقد انتهت إليه الرئاسة بمصر وكانت الطلبة تشد إليه الرحال من كل بلدة وتتقاطر إليه من كل صقع إذ كان مبرزا من أهل النظر والمنظرة وإليه كانت الرحلة من الغرب والأندلس وأضحى ركنا من أركان الإسلام
أبو الفتح الشهرستاني (467-548هـ) (1074-1153م)
كان إماماً مبرزاً فقيهاً وبرع في الفقه وتفرد فيه. وصنف كتاب نهاية الأقدام في علم الكلام. وكتاب الملل والنحل. وتلخيص الأقسام لمذاهب الأنام. وكان كثير المحفوظ حسن المحاورة يعظ الناس ودخل بغداد سنة عشر وخمسمائة وأقام بها ثلاث سنين وظهر له قبول كثير عند العوام. وله شعر قليل منه قوله:
لقد طفت في تلك المعاهد كلها ... وسيرت طرفي بين تلك المعالم
فلم أر إلا واضعا كف حائر ... على ذقن أو قارعا سن نادم
موفق الدين عبد اللطيف (557-629هـ) (1161-1231م)
هو الشيخ الإمام الفاضل موفق الدين البغدادي. كان مشهورا بالعلوم متحليا بالفضائل مليح العبارة. كثير التصنيف وكان متميزا في النحو واللغة عارفا بعلم الكلام والطب. متطرفا من العلوم العقلية فكان في صباه اشغله والده بالأدب فلم يعرف اللعب واللهو ولم يخل وقتا من أوقاته النظر في الكتب والتصنيف والكتابة وكان لكثرة ما يرى في نفسه يستفيض فضلاء زمانه. ومصنفاته عديدة تنيف على المائة والستين. ورحل إلى دمشق واجتمع بتاج الدين الكندي وجرى بينهما مباحثات وكان الكندي شيخا بهيا ذكيا مثريا له جانب من السلطان لكنه كان معجبا بنفسه فاظهر الله عليه عبد اللطيف. ثم توجه إلى زيارة القدس بظاهر عكا ودخل مصر ثم عاد إلى القدس ثانية بعد أن هادن صلاح الدين الفرنج. فدخل على السلطان ورأى به ملكا عظيما يملأ العين روعة والقلوب محبة. ولما حضره وجد مجلسه حافلا بأهل العلم يتذاكرون بأصناف العلوم. وصلاح الدين يحسن الاستماع والمشاركة. فأكرم صلاح الدين مثواه وعين له راتباً لكل شهر. إلى أن مات صلاح الدين فانتقل عبد اللطيف إلى مصر. فكان في النهار يقرئ الناس بالجامع الأزهر وكان في الليل يشتغل على نفسه. فصنف كتاب الإفادة والاعتبار في(5/280)
الأمور المعاينة في أرض مصر. ثم عاد راجعا إلى بغداد وبها كانت وفاته (لابن أبي أصيبعة)
الغزالي (451-505هـ) (1058-1111م)
هو الإمام حجة الإسلام أبو حامد محمد الغزالي لم تر العيون مثله لساناً وبياناً وخاطراً وذكاء وعلما وعملا. فاق أقرانه من تلامذة الحرمين وصار في أيام إمام الحرمين مفيدا مصنفا والإمام يتبجح به. وكان مجلس نظام الملك مجمع الفضلاء. فوقع لأبي حامد في مجلسه ملاقاة الفحول ومناظرة الخصوم في فنون العلوم فاقبل نظام الملك عليه. وانتشر ذكره في الآفاق فرسم له تدريس المدرسة النظامية ببغداد. وصنف كتبا لم يصنف مثلها. ثم حج وترك الدنيا واختار الزهد والعبادة وبالغ في تهذيب الأخلاق. ودخل بلاد الشام وصنف كتباً كثيرة لم يسبق غلى مثلها في عدة فنون منها المنتحل في علم الجدل. والتبر المسبوك. وإحياء علوم الدين. وهو من أنفس الكتب وأجملها وهو كتاب لا يستغني عنه طالب الآخرة. ثم عاد إلى خراسان مواظبا على العبادات إلى أن انتقل إلى جوار الحق بطوس عن أربع وخمسين سنة (للقزويني)
الماوردي (364-450هـ) (974-1059م)
هو علي ابن حبيب الإمام الجليل القدر الرفيع الشأن أبو الحسن الماوردي صاحب الحاوي والإقناع في الفقه وأدب الدنيا والدين والأحكام السلطانية وقانون الوزارة وسياسة الملك وغير ذلك. وكان إماماً جليلاً رفيع الشأن له اليد الباسطة في المذهب والتفنن التام في سائر العلوم. قال الشيخ أبو اسحاق: درس بالبصرة وبغداد سنين كثيرة. وله مصنفات كثيرة في الفقه والتفسير وأصول الدين والأدب. وجعل عليه القضاء ببلدان كثيرة. وقال ابن خبران: كان رجلاً عظيم القدر متقدماً عند السلطان أحد الأئمة. له التصانيف الحسان في كل فن. ومن كلام الماوردي الدال على دينه ومجاهدته لنفسه ما ذكره في كتاب أدب الدنيا والدين فقال: ومما أنذرك به من حالي أنني صنفت في البيوع كتاباً جمعت له ما استطعت من كتب الناس. وأجهدت فيه نفسي وكدرت فيه خاطري حتى إذا تهذب واستكمل وكدت أعجب به. وتصورت أنني أشد الناس اضطلاعاً لعلمه حضرني وأنا في مجلسي أعرابيان فسألاني عن بيع عقداه في البادية على شروط تضمنت أربع مسائل لم أعرف لشيء منها جواباً. فأطرقت مفكراً وبحالي وحالهما معتبرا. فقالا: أما عندك فيما سألناك عنه جواب وأنت زعيم هذه الجماعة. قلت: لا. فقالا: أيها لك. وانصرفا ثم أتيا من يتقدمه في العلم كثير من أصحابي. فسألاه فأجباهما مسرعا بما أقنعهما فكان ذلك زاجر نصيحة ونذير عظة تذلل لهما قياد النفس وانخفض بهما جناح العجب.(5/281)
أدباء المسلمين
الفتح بن خاقان (480-535هـ) (1087-1140م)
هو أبو نصر الفتح بن محمد بن عبد الله بن خاقان القيسي الاشبيلي له عدة تصانيف منها كتاب قلائد العقيان وقد جمع فيه شعراء المغرب طائفة كثيرة. وتكلم على ترجمة كل واحد منهم بأحسن عبارة وألطف إشارة. وله أيضاً كتاب مطمح الأنفس ومسرح التأنس في ملح أهل الأندلس. وهو ثلاث نسخ كبرى وصغرى ووسطى. وهو كتاب كثير الفائدة وكلامه فيه يدل على غزارة فضله وسعة مارته. وكان كثير الأسفار سريع التنقلات. وقال الحافظ أبو الخطاب بن دحية: كان ابن خاقان خليع العذار في دنياه. لكن كلامه في تآليفه كالسحر الحلال. والماء الزلال. قتل ذبحاً في مسكنه بفندق من حاضرة مراكش صدر سنة خمس وثلاثين وخمسمائة. وأن الذي أشار بقتله أمير المسلمين أبو الحسن علي بن يوسف بن تاشفين وهو أخو أبي إسحاق إبراهيم بن يوسف بن تاشفين الذي ألف له أبو نصر المذكور قلائد العقبان وقد ذكره في خطبة الكتاب. (لابن خلكان)
ابن عبد ربه (246-328هـ) (861-940م)
هو الفقيه العالم أبو عمر أحمد بن عبد ربه عالم ساد بالعلم ورأس. واقتبس من الحظوة ما اقتبس. وشهر بالأندلس حتى سار إلى المشرق ذكره. واستطار شرر الذكاء فكره. وكانت له عناية بالعلم وثقة ورواية له متسقة. وأما الأدب فهو كان حجته وبه غمرت الأفهام لجته. مع صيانة وورع. وديانة ورد ماءها فكرع. وله التأليف المشهور الذي سماه بالعقد. وحماه عن عثرات النقد. لأنه أبرزه مثقف القناة. مرهف الشباة. تقصر عنه ثواقب الألباب. وتبصر السحر منه في كل باب. وله شعر انتهى منتهاه. وتجاوز سماك الإحسان وسماه. وكان ابن عبد ربه من العلماء المكثرين من المحفوظات والاطلاع على أخبار الناس. وكتابه العقد الفريد من الكتب الممتعة حوى من كل معنى شهي وكل نادرة غريبة (نفح الطيب للمقري)
أبو الفرج الأصبهاني (284-356هـ) (897-967م)
هو علي بن الحسين القرشي الأموي الكاتب صاحب كتاب الأغاني. وحده مروان آخر خلفاء بني أمي. وهو أصبهاني الأصل بغدادي المنشأ. كان من أعيان أدبائها وأفراد مصنفيها. وكان عالماً بأيام الناس والأنساب والسير. كان يحفظ من الشعر والأغاني والأخبار والآثار ما لم ير قط من يحفظ مثله. ويحفظ دون ذلك من عوم أخر منها اللغة والنحو ونتف من الطب والنجوم والأشربة وغير ذلك. وله شعر يجمع إتقان العلماء وإحسان الظرفاء(5/282)
والشعراء. وله المصنفات المستملحة منها كتاب الأغاني الذي وقع الاتفاق على أنه لم يعمل في بابه مثله. يقال أنه جمعه في خمسين سنة وحمله إلى سيف الدولة بن حمدان فأعطاه ألف دينار واعتذر إليه. وحكي عن الصاحب بن عباد أنه كان في أسفاره وتنقلاته يستصحب حمل ثلاثين جملاً من كتب الأدب ليطالعها. فلما وصل إليه كتاب الأغاني لم يكن بعد ذلك يستصحب سواه استغناء به عنها. ومنها كتاب الإماء الشواعر وكتاب الديارات وكتاب الحانات وآداب الغرباء. وحصل له ببلاد الأندلس كتب صنفها لبني أمية ملوك الأندلس يوم ذاك وسيرها إليهم سراً وجاءه الأنعام منهم سرا. ومن ذلك كتاب أيام العرب وسبعمائة يوم وكتاب التعديل والافتصاف في مآثر العرب ومثالبها وغير ذلك وكان منقطعاً إلى وزير المهلبي وله فيه مدائح منها قوله:
ولما انتجعنا لائذين بظله ... أعان وما عني ومن وما منا
وردنا عليه مقترين فراشنا ... وردنا نداه مجدبين فاخصبنا (لابن خلكان)
بديع الزمان (353-398هـ) (964-1008م)
هو أبو الفضل أحمد بن الحسين الهمذاني مفخر همذان ونادرة الفلك وبكر عطارد وفريد الدهر وغرة العصر. ومن لم يلف نظيره في ذكاء القريحة وسرعة الخاطر وشرف الطبع. وصفاء الذهن وقوة النفس. ولم يدرك قرينه في ظرف النثر وملمحه وغرر النظم ونكته. ولم يرو أن أحداً بلغ مبلغه من لب الأدب وسره. وجاء بمثل إعجازه وسحره. فإنه كان صاحب عجائب وبدائع وغرائب ولقبه بالبديع يدل على قدره. فمنها أنه كان ينشد القصيدة لم يسمعها قط وهي أكثر من خمسين بيتاً. فيحفظها كلها ويوردها إلى آخرها لا ينخرم حرف منها. وينظر في الأربع والخمس الأوراق من كتاب لم يعرفه ولم يره نظرة واحدة خفيفة ثم يعيدها عن ظهر قلبه. هذا ويسردها سرداً. وكان يقترح عليه عمل قصيدة وإنشاء رسالة في معنى غريب وباب بديع. فيفرغ منها في الوقت والساعة والجواب ما فيها. وكان ربما يكتب الكتاب المقترح عليه فيبتدئ بآخر سطوره ثم هلم جرا إلى الأول ويخرجه كأحسن شيء وأملحه. ويوشح القصيدة الفريدة من قبله بالرسالة الشريفة من إنشائه. فيقرأ من النظم النثر ومن النثر النظم. ويعطي القوافي الكثيرة فيصل بها الأبيات الرشيقة. ويقترح عليه كل عروض من النظم والنثر في فيرتجعه في أسرع من الطرف على ريق لا يبلعه ونفس لا يقطعه. وكلامه كله عفو الساعة وفيض اليد ومسارقة القلم ومجارات الخاطر. وكان مع هذا مقبول الصورة خفيف الروح حسن العشرة ناصع الطرف. عظيم الخلق شريف النفس. كريم العهد خالص الود. حلو الصداقة مر العداوة. فارق همذان سنة ثمانين وثلاثمائة وهو مقتبل الشبيبة غض الحداثة. وقد درس على أبي الحسين ابن فارس وأخذ عنه جميع ما عنده. واستنفذ علمه وورد حضرة الصاحب أبي القاسم بن عباد.(5/283)
نتزود من ثمارها وحسن آثارها. وولي نيسابور في سنة اثنتين وثمانين وثلاثمائة. فنشر بها بزه وأظهر طرزه وأملى أربعمائة مقامة نحلها أبا الفتح الإسكندري في الكدية وغيرها. وضمنها ما تشتهي الأنفس من لفظ أنيق. قريب المأخذ. بعيد المرام. وسجع رشيق المطلع والمقطع كسجع الحمام. وجد يروق فيملك القلوب وهزل يشوق فيسحر العقول. ثم ألقى عصاه بهراة فعاش فيها عيشة راضية. وحين بلغ أشده واربى على أربعين سنة ناداه الله فلباه وفارق دنياه. فقامت نوادب الأدب وانثلم حد القلم. وبكاه الفضائل والأفاضل. ورثاه الأكارم مع المكارم. على أنه ما مات من لم يمت ذكره. ولقد خلد من بقي على الأيام نظمه ونثره (اليتيمة للثعالبي)
أبو منصور الثعالبي (350-429هـ) (961-1038م)
هو أبو منصور عبد الملك بن محمد بن إسماعيل الثعالبي النيسابوري كان في وقته راعي تلعات العلم. وجامع أشتات النثر والنظم. ورأس المؤلفين في زمانه. وإمام المصنفين بحكم قرآنه. وسار ذكره سير المثل. وضربت إليه آباط الإبل. وطلعت دواوينه في المشارق والمغارب. طلوع النجم في الغياهب. تآليفه أشهر مواضع. وأبهر مطالع. وأكثر روا لها وجامع. من أن يستوفيها أحد أو وصف. أو يوفي حقوقها نظم أو رصف. وذكر له طرف من النثر ونورد شيئاً من نظمه. فمن ذلك ما كتبه إلى الأمير أبي الفضل الميكالي:
لك في المفاخر البلاغة جمة ... أبدا لغيرك في الورى لم تجمع
بحران بحر في البلاغة شابه ... شعر الوليد وحسن لفظ الأصمعي
وترسل الصابي يزين علوه ... خط ابن مقلة ذو المحل الأرفع
شكرا فكم من فقرة لك كالغنى ... وافى الكريم بعبد فقر مدقع
وإذا تفتق نور شعرك ناضرا ... فالحسن بين مرصع ومصرع
أرجلت فرسان الكلام ورضت أفراس البديع وأنت أمجد مبدع
ونقشت في فص الزمان بدائعاً ... تزري بآثار الربيع الممرع
وله من التآليف يتيمة الدهر. في محاسن أهل العصر. وهو أكبر كتبه وأحسنها وأجمعها. وفيها يقول أبو الفتوح نصر الله بن قلاقس الشاعر الإسكندري المشهور:
أبيات أشعار اليتيمة ... أبكار أفكار قديمه
ماتوا وعاشت بعدهم ... فلذاك سميت اليتيمه
وله أيضا كتاب فقه اللغة وسحر البلاغة وسر البراعة. ومونس الوحيد في المحاضرات. جمع فيها أشعار الناس وأخبارهم. وفيها دلالة على كثرة اطلاعه (الذخيرة لابن بسام)
الحريري (446-516هـ) (1054-1122م)
هو أبو محمد القاسم بن علي الحريري البصري الحرامي صاحب المقامات. كان أحد(5/284)
أئمة عصره ورزق الحظوة التامة في عمل المقامات. واشتملت على شيء كثير من كلام العرب من لغاتها وأمثالها ورموز أسرار كلامها ومن عرفها حق معرفتها استدل بها على فضل هذا الرجل وكثرة اطلاعه وغزارة مادته. وكان سبب وضعه لها ما حكاه ولده أبو القاسم عبد الله قال: كان ابي جالساً في مسجد بني حرام فدخل شيخ ذو طمرين عليه أهبة السفر. رث الحال فصيح الكلام حسن العبارة. فسألته الجماعة من أين الشيخ. فقال: من سروج. فاستخبروه عن كنيته فقال: أبو زيد. فعمل أبي المقامة المعروفة بالحرامية وهي الثامنة والأربعون وعزاها إلى أبي زيد المذكور واشتهرت. فبلغ خبرها الوزير شرف الدين أبا نصر أنوشروان بن خالد بن محمد القاشاني وزير الإمام المسترشد بالله فلما وقف عليها أعجبته وأشار على والدي أن يضم إليها غيرها. فأتمها خمسين مقامة. وغلى الوزير المذكور أشار الحريري في خطبة المقامات بقوله: فأشار من إشارته حكم. وطاعته غنم. إلى أن أنشئ مقامات أتلو فهيا تلو البديع. وإن لم يدرك الظالع شأو الضليع. وقد اعتنى بشرحها خلق كثير فمنهم من طول ومنهم من اختصر. ورأيت في بعض المجاميع أن الحريري لما عمل المقامات كان قد عملها أربعين مقامة وجملها من البصرة غلى بغداد وادعاها فلم يصدقه في ذلك جماعة من أدباء بغداد. وقالوا: إنها ليست من تصنيفه بل هي لرجل مغربي من أهل البلاغة مات بالبصرة ووقعت أوراقه إليه فادعاها. فاستدعاه الوزير إلى الديوان واقترح عليه إنشاء رسالة في واقعد عينها. فأخذ الدواة والورقة ومكث زمانا كثيراً فلم يفتح الله عليه بشيء من ذلك. فقام وهو خجلان فقال فيه أبو القاسم علي بن أفلح:
شيخ لنا من ربيعه الفرس ... ينتف عثنونه من الهوس
أنطقه الله بالمشان كما ... رماه وسط الديوان بالخرس
وكان الحريري يزعم أنه من ربيعة الفرس. وكان مولعا بنتف لحيته عند الفكرة وكان يسكن في مشان البصرة. فلما رجع إلى بلده عمل عشر مقامات أخر وسيرهن واعتذر من عيه وحصره في الديوان لما لحقه من المهابة. وللحريري تآليف حسان منها درة الغواص في أوهام الخواص. ومنها ملحة الأعراب المنظومة في النحو وله أيضاً شرحها. وله ديوان رسائل وشعر كثير غير شعره الذي في المقامات. وله قصائد استعمل فيها التجنيس كثيرا. ويحكى أنه كان دميماً قبيح المنظر. فجاءه شخص غريب يزوره ويأخذ عنه شيئاً فلما رآه استزرى شكله ففهم الحريري ذلك منه. فلما التمس منه أن يملي عليه قال له اكتب:
ما أنت أول سار غره قمر ... ورائد أعجبته خضرة الدمن
فاختر لنفسك غيري أنني رجل=مثل المعيدي فاسمع بي ولا ترني فخجل الرجل منه وانصرف. وتوفي الحريري بالبصرة (لابن خلكان)(5/285)
الشريشي (557-619هـ) (1162-1222م)
هو الكمال أبو العباس أحمد من أهل شريش. وله تآليف أفاد بما حشد فيها منا جمع مشاهير قصائد العرب وشروح لقمامات الحريري كبير ووسط وصغير وفي الكبير من الآداب ما لا كفء له. لم يترك منها فائدة إلا استخرجها. ولا فريدة إلا استدرجها. ولا نكتة إلا علقها. ولا غريبة إلا استحقها. فجاء شرحه يغني عن كل شرح. وكان الشريشي يقرئ العربية وأخذ عنه جماعة وأقام في بلنسية ثم رحل إلى اشبيلية وانتقل إلى المشرق. وكانت وفاته بشريش بلده.
ابن أبي الرندقة الطرطوشي (451-520هـ) (1059-1126م)
هو الفقيه العالم أبو بكر الفهري الطرطوشي صاحب سراج الملوك وكفى هذا الكتاب دليلا على فضله. وكان زاهدا عابدا متورعا متقللا من الدنيا قوالا للحق. وكان يقول: إذا عرض لك أمر دنيا وأخرى فبادر بأمر الأخرى يحصل لك أمر الدنيا. وصحب بسرقسطة القاضي أبا الوليد وأخذ عنه مسائل في الحساب والفرائض. وقرأ الأدب على أبي محمد بن حزم بمدينة اشبيلية ثم رحل إلى المشرق سنة ست وسبعين وأربعمائة. ودخل بغداد والبصرة فتفقه هنالك عند أبي بكر الشاشي وأبي محمد الجرجاني وسمع بالبصرة من أبي علي التستري. وسكن الشام مدة ودرس بها وكان راضيا باليسير. قال الصفدي في ترجمة الطرطوشي: أن الأفضل ابن أمير الجيوش أنزله في مسجد شقيق الملك بالقرب من الرصد وكان يكرهه. فلما قتل الأفضل ولي بعده المأمون بن البطائحي فأكرم الشيخ إكراماً كثيراً أوله ألف الشيخ سراج الملوك. ومن تآليفه مختصر تفسير الثعالبي والكتاب الكبير في مسائل الخلاف. وتوفي بالإسكندرية وشهرته تغني عن الأطناب فيه. وحكي أنه كتب على سراج الملوك الذي أهداه لولي الأمر بمصر:
الناس يهدون على قدرهم ... لكنني أهدي على قدري
يهدون ما يفنى وأهدي الذي ... يبقى على مر الأيام والدهر (للمقري)
بهاء الدين العالمي (953-1031هـ) (1547-1622م)
الشيخ العلامة اللوذعي بهاء الدين بن حسين العاملي هو علم الأئمة الأعلام. وسيد علماء الإسلام. وبحر العلم المتلاطمة أمواجه. وفحل الفضل الناتجة لديه أفراده وأزواجه. وطود المعارف الراسخ. وفاؤها الذي لا تحد له فراسخ. وجوادها الذي لا يؤمل له لحاق. وبدرها الذي لا يعتريه محاق. إليه انتهت رئاسة المذهب والملة. وبه قامت قواطع البراهين والأدلة. جمع فنون العلم فانعقد عليه الإجماع وتفرد بصنوف الفضل فبهر النواظر والأسماع. فما من فن إلا وله فيه القدم المعلى. والمورد العذب المحلى. إن قال لم يدع قولاً لقائل. أو طال لم يأت غيره بطائل. ومن مصنفاته التفسير المسمى بالعروة الوثقى والزبدة في الأصول وخلاصة الحساب(5/286)
والمخلاة والكشكول فيه كل نادرة من علوم شتى وتشريح الأفلاك وغير ذلك من الرسائل المختصرة والفوائد المحررة. وكان مولده بقزوين ثم خرج من بلده وتنقلت به الأسفار إلى أن وصل إلى أصفهان. فوصل خبره إلى سلطانها شاه عباس فطلبه لرئاسة العلماء. فوليها وعظم قدره وارتفع شأنه ثم دخل مصر. وامتدح بها الأستاذ أبا الحسن البكري بقصيدة مطلعها:
يا مصر سقيا لك من جنة ... قطوفها يانعة دانية
ثم قدم القدس ولزم فناء المسجد الأقصى. وكان متسما بلبس السياح مؤنسا بالوحشة دون الإيناس. ثم أقلع إلى حلب ورجع إلى أصفهان فتوفي فيها (لأحمد المتنبي)
أبو إسحاق القيرواني (390-453هـ) (1000-1061م)
هو أبو إسحاق إبراهيم بن علي بن تميم المعروف بالحصري القيرواني الشاعر المشهور. له ديوان شعر وكتاب زهر الآداب وثمر الألباب جمع فيه كل غريبة في ثلاثة أجزاء. وكتاب المصون في سر الهوى المكنون. في مجلد واحد فيه ملح وآداب. ذكره ابن الرشيق في كتابه الأنموذج وحكى شيئا من أخباره وأحواله وأنشد جملة من أشعاره وقال: كان شبان القيروان يجتمعون عنده ويأخذون عنه. ورأس عندهم وشرف لديهم. وسارت تأليفاته وانثالت عليه الصلات من الجهات. وتوفي أبو إسحاق المذكور بقيروان
أهل الرواية واللغة من المسلمين
الأصمعي (123-216هـ) (741-831م)
هو أبو سعيد عبد الملك الباهلي من أبناء عدنان. وكان عالما عارفا بأشعار العرب وآثارها. كثير التطوف في البوادي لاقتباس علومها وتلقي أخبارها. فهو صاحب غرائب الأشعار. وعجائب الأخبار. وقدوة الفضلاء. وقبلة الأدباء. قد استولى على الغايات في حفظ اللغات وضبط العلوم الأدبيات. صاحب دين متين. وعقل رصين. وكان خاصا بالرشيد آخذا لصلاته. وله من التصانيف كتاب خلق الإنسان وكتاب الأجناس وكتاب الأنواء وكتاب الخيل وكتاب الإنشاء وكتاب الأمثال وكتاب النوادر وكتاب النبات وغير ذلك وكان هارون الرشيد قد استخلصه لمجلسه. وأجازه علي أبو يوسف القاضي بجوائز كثيرة وعمر نيفا وتسعين سنة ورثاه الحسن بن مالك:
لا در نبات الأرض إ فجعت ... بالأصمعي لقد أبقت لنا أسفا
عش ما بدا لك في الدنيا فلست ترى ... في الناس منه ولا من علمه خلفا
سيبويه (621-161هـ) (739-778م)
هو أبو بشر عمرو الحارثي وسيبويه ومعناه بالفارسية رائحة التفاح. وكان من(5/287)
أهل فارس ومنشأه بالبصرة. وكان أعلم المتقدمين والمتأخرين بالنحو كان أخذه عن الخليل. ولم يوضع فيه مثل كتابه. قال الجاحظ: أردت الخروج إلى محمد بن عبد الملك ففكرت في شيء أهديه فلم أجد شيئا أشرف من كتاب سيبويه. فقال: والله ما أهديت إلى شيئا أحب إلي منه. وكان يقال بالبصرة: قرأ فلان الكتاب. فيعلم انه كتاب سيبويه. وكان أبو العباس المبرد إذا أراد مريد أن يقرأ عليه كتاب سيبويه يقول له: هل ركبت البحر. تعظيما لكتاب سيبويه واستصعابا لما فيه. وكان أبو عثمان المازني يقول: من أراد أن يعمل كتابا كبيرا في النحو بعد كتاب سيبويه فليستح. ولما ورد سيبويه إلى بغداد من البصرة والكسائي يومئذ يعلم الأمين بن هارون الرشيد فجمع بينهما وتناظرا. وجرى مجلس يطول شرحه. وزعم الكسائي أن العرب تقول: كنت أظن الزنبور أشد لسعا من النحلة فإذا هو إياها فقال سيبويه: ليس المثل كذا بل: فإذا هو هي: وتشاجرا طويلا واتفقا على مراجعة عربي خالص لا يشوب كلامه شيء من كلام أهل الحضر وكان الأمين شديد العناية بالكسائي لكونه معلمه. فاستدعى عربيا وسأله. فقال كما قال سيبويه. فقال له: نريد أن تقول كما قال الكسائي. فقال: إن لساني لا يطاوعني على ذلك فإنه ما يسبق إلا إلى الصواب. فقرروا معه أن شخصا يقول: قال سيبويه كذا. وقال الكسائي كذا. فالصواب مع من منهما. فيقول العربي: مع الكسائي. فقال: هذا يمكن. ثم عقد لهما المجلس واجتمع أئمة هذا الشأن وحضر العربي وقيل له ذلك فقال: الصواب مع الكسائي وهو كلام العرب. فعلم سيبويه أنهم تحاملوا عليه وتعصبوا للكسائي فخرج من بغداد وقد حمل في نفسه لما جرى عليه وقصد فارس فتوفي بشيراز (ملخص عن نزهة الألباء وابن خانكان)
سياح المسلمين
ابن بطوطة (703-777هـ) (1304-1376م)
هو أبو عبد الله بن إبراهيم اللواتي الطنجي الملقب بشمس الدين ابن بطوطة. وهو الذي طاف الأرض معتبرا. وطوى الأمصار مختبرا. وباحث فرق الأمم. وسبر سير العرب والعجم. ثم ألقى عصا التسيار بحاضرة فاس العليا وكان مولده بطنجة سنة ثلاث وسبعمائة. وكان خروجه من موطنه عام خمسة وعشرين وسبعمائة وله من العمر اثنتان وعشرون سنة. فأخذ يتقلب في بلاد العراق ومصر والشام واليمن والهند ودخل مدينة دهلي حاضرة ملك الهند وهو السلطان محمد شاه. واتصل بملكها لذلك العهد وهو فيروزجوه. وكان له منه مكان واستعمله بخطة القضاء بمذهب المالكية في عمله. ثم ساح في الأقطار الصينية والتترية وأواسط أفريقية في بلاد السودان وفي الأندلس. ثم انقلب إلى المغرب واتصل بالسلطان أبي عنان من ملوك بني مرين. وكان يحدث عن شأن رحلته وما رأى من العجائب بممالك الأرض. ويأتي من أحواله ما يستغربه السامعون. فغمره أبو عنان من إحسانه الجزيل وامتنانه الحفي الحفيل.(5/288)
ما أنساه الماضي بالحال. وأغناه عن طول الترحال. فأنفذ إليه الملك بأن يملي محمد بن جزي الكلبي ما شاهده في رحلته من الأمصار. وما علق بحفظه من نوادر الأخبار. فأملى من ذلك ما فيه نزهة الخواطر. وبهجة المسامع والنواظر. من كل غريبة أفاد باجتلائها. وعجيبة أطرف بانتحائها. فامتثل ابن جزي ما أمر به. فضم أطراف ما أملاه ابن بطوطة في تصنيف جاء على فوائده مشتملا. ولنيل مقاصده مكملا. فوسمه بتحفة النظار. في غرائب الأمصار وعجائب الأسفار. (لابن جزي)
ابن جبير (540-614هـ) (1145-1217م)
هو أبو الحسين الكناني صاحب الرحلة. ولد ببلنسية وعني بالأدب فبلغ الغاية فيه وتقدم في صناعة القريض والكتابة. ومن شعره قوله وقد دخل إلى بغداد فاقتطع غصنا نضيرا من أحد بساتينها فذوى في يده:
لا تعترب عن وطن ... واذكر تصاريف النوى
أما ترى الغصن إذا ... ما فارق الأصل ذوى
وقوله يخاطب من أهدى له موزا: يا مهدي الموز تبقى=وميمه لك فاء
وزايه عن قريب ... لمن يعاديك تاء
ثم رحل إلى دمشق ودخل بغداد وانكفأ راجعا إلى المغرب وكان انفصاله عن غرناطة ثانية بقصد الرحلة الشرقية سنة 578. ونزل البر الإسكندري وتجول في البلاد ودخل الشام والعراق والجزيرة ورحلته مشهورة بأيدي الناس وكانت وفاته بالإسكندرية.
ابن سعيد (610-673هـ) (1214-1275م)
هو أبو الحسن نور الدين بن سعيد الأديب الرحالة الطرفة العجيب الشأن في التجول في الأقطار ومداخلة الأعيان. المتمتع بالخزائن العلمية. وتقييد الفوائد المشرقية والمغربية. أخذ من أعلام اشبيلية وتآليفه كثيرة منها المرقصات والمطربات وموضوعات غريبان في أسفاره إلى المغرب والمشرق. وتعاطى نظم الشعر في حد من الشبيبة يعجب فيه من ذلك قوله في صفة نهر:
كأنما النهر صفحة كتبت ... أسطرها والنسيم ينشئها
لما أبانت عن حسن منظرها ... مالت عليها الغصون تقرؤها
وقال باقتراح الملك الصالح صاحب حمص أن يكتب بالذهب على تفاحة عنبر قدمها لابن عمه الملك الصالح ملك الديار المصرية:
أنا لون الشباب والخال أهدي ... ت لمن قد كسا الزمان شبابا(5/289)
ملك العالمين نجم بني أيو ... ب ولا زال في المعالي مهابا
جئت ملأى من الثناء عليه ... من شكوري احسانه والثوابا
لست ممن له خطاب ولكن ... قد كفاني أريج عرفي خطابا
ثم قفل غلى مصر ولقي هاء الدين زهيراً وجمال الدين بن مطروح. ثم تحول إلى دمشق ودخل على السلطان المعظم وحضر مجلس خلوته. ودخل الموصل وبغداد ورحل إلى البصرة ودخل أرجان ثم عاد إلى المغرب. وصنف في رحلته مجموعا سماه بالنفحة المسكية. واتصل بخدمه الأمير أبي عبد الله المستنصر فنال الدرجة الرفيعة من حظوته إلى أن توفي بتونس.
فلاسفة الإسلام وأطباؤهم
(ابن رشد 595هـ - 1198م) (الرازي 311هـ - 923م)
ابن رشد هو أبو الوليد المالكي وزير دهره وعظيمه وفيلسوف عصره وحكيمه. وكان عالماً بالرأي متفنناً للعلوم تولى رئاسة الفتاوى في مراكش ثم استوطن إشبيلية فاشتهر بالتقدم في علم الأول حتى فاق أهل زمانه وطارد ذكره إلى أقطار الأندلس والمغرب فاستدعاه سلطان مراكش إلى حاضرته ولقي عنده حظوة وشمله بالصلات والمكارم وكانت وفاته في مراكش وله تآليف جليلة عزيزة الوجود منها الكليات في الطب وتعريب مصنفات أرسطاطاليس وتلخيصها. وأما الرازي فهو أبو بكر بن زكريا المشهور أقبل في شبيبته على دراسة كتب الطب والفلسفة والكيمياء قرأها قراءة رجل متعقب على مؤلفيها فبلغ من معرفة غوابرها الغاية وأضحى إمام وقته في الطب وعلوم الأوائل والمشار إليه في ذلك العصر تشد غليه الرحال لأخذها عنه وصنف فيها الكتب النافعة فمن ذلك كتاب الحاوي وهو عمدة الأطباء في النقل منه والرجوع إليه عند الاختلاف. ومنها كتاب في إثبات صناعة الكيمياء وتصانيف كثيرة كلها يحتاج إليها. ودبر الرازي مارستان الري وبغداد في أيام المكتفي وعمي في آخر عمره
ابن زهر (507-595هـ ((1114-1198)
كان من أهل بيت كلهم علماء رؤساء حكماء وزراء نالوا المراتب العلية وتقدموا عند الملوك ونفذت أوامرهم. قال الجاحظ: وكان ابن زهر بمكان من اللغة مكين. ومورد من الطب عذب معين كان يحفظ شعر ذي الرمة وهو ثلث لغة العرب مع الإشراف على جميع أقوال أهل الطب والمنزة العليا عند أصحاب المغرب مع سمو النسب وكثرة الأموال والنشب. ومن شعره قوله:
ولي واحد مثل فرخ القطا ... صغير تخلف قلبي لديه
نأت عنه داري فيا وحشتا ... لذلك الشخيص وذاك الوجيه
تشوقني وتشوقته ... فيبكي علي وابكي عليه(5/290)
لقد تعب الشوق ما بيننا ... فمنه إلي ومني إليه
وله وقد شاخ وغلب عليه الشيب:
إني نظرت إلى المرآة إذ جليت ... فأنكرت مقلتاي ك ما رأتا
رأيت فيها شيخا لست أعرفه ... وكنت أعهده من قبل ذاك فتى
فقلت أين الذي بالأمس كان هنا ... متى ترحل عن هذا المكان متى
فاستضحكت ثم قالت وهي معجبة ... إن الذي أنكرته مقلتاك أتى
كانت سليمى تنادي يا أخي وقد ... صارت سليمى تنادي اليوم يا أبتا
وأوصى أنه إذا مات يكتب على قبره هذه الأبيات وفيها إشارة إلى طبه ومعالجته للناس وهي:
تأمل بحقك يا واقفا ... ولاحظ مكانا دفعنا إليه
تراب الضريح على وجنتي ... كأني لم أمش يوما عليه
أداوي الأنام حذار المنون ... وها أنا قد صرت رهنا لديه
وتوفي ممتحنا بعلة بين كتفيه بمدينة قرطبة (لابن خانكان)
ابن سينا (370-428هـ) (980-1037م)
هو أبو علي الحسين بن سينا الشيخ الرئيس حكى عن نفسه قال: إن أبي كان رجلا من بلخ. ثم انتقلنا إلى بخارى في أيام نوح بن منصور وأحضرت معلم القرآن والأدب. فكملت العشر من العمر وقد أتيت على القرآن وعلى كثير من الأدب حتى كان يقضى مني العجب. ثم جاء إلى بخاري أبو عبد الله الناتلي وكان يدعي الفلسفة فأنزله أبي دارنا رجاء تعلمي منه. فقرأت ظواهر المنطق عليه وإما دقائقه فلم يكن عنده منها خبره. ثم أخذت أقرأ الكتب على نفسي وأطالع الشروح وكذلك كتاب إقليدس فقرأت من أوله خمسة أشكال أو ستة عليه. ثم توليت حل الكتاب بأسره. ثم انتقلت إلى المجسطي وفارقين الناتلي ثم رغبت في علم الطب وصرت أقرأ الكتب المصنفة فيه وتعهدت المرضى فانفتح علي من أبواب المعالجات المقتبسة من التجربة ما لا يوصف. وأنا في هذا الوقت من أبناء ست عشرة سنة. ثم توفرت على القراءة سنة ونصفا ولكما كنت أتحير في مسألة أو لم أكن أظفر بالحد الأوسط في قياس ترددت إلى الصلاة وابتهلت إلى مبدع الكل حتى فتح لي المغلق والمتعسر. وكنت أرجع بالليل إلى داري واضع السراج بين يدي واشتغل بالقراءة والكتابة. فمهما غلبني النوم أو شعرت بضعف عدلت إلى شرب قدح من الشراب ريثما تعود إلي قوتي. ثم أرجع إلى القراءة ومتى أخذني أدنى نوم أحلم بتلك المسائل بأعيانها. حتى أن كثيرا منها انفتح لي وجوهها في المنام. ولم أزل كذلك حتى أحكمت علم المنطق والطبيعي والرياضي. ثم عدت إلى العلم الإلهي وقرأت كتاب ما بعد الطبيعة. فما كنت أفهم ما فيه والتبس علي غرض واضعه. حتى أعدت قراءته أربعين مرة وصار لي محفوظا وأنا مع ذلك لا أفهمه.(5/291)
وأيست من نفسي وقلت: هذا كتاب لا سبيل إلى فهمه. وإذا أنا يوماً حضرت وقت العصر في سوق الوراقين وبيد دلال مجلد ينادي عليه. فعرضه علي فرددته رد متبرم معتقد أن لا فائدة في هذا العلم. فقال لي: اشتر مني هذا فإنه رخيص أبيعكه بثلاثة دراهم وصاحبه محتاج إلى ثمنه فاشتريته فإذا هو كتاب لأبي نصر الفارابي في أغراض كتاب ما بعد الطبيعة. فرجعت إلى بيتي وأسرعت قراءته فانفتح علي في الوقت أغراض ذلك الكتاب بسبب أنه قد صار لي على ظهر القلب. وفرحت بذلك وتصدقت بشيء على الفقراء شكرا لله تعالى. فلما بلغت ثماني عشرة سنة من عمري فرغت من هذه العلوم كلها وكنت إذ ذاك للعلم أحفظ ولكنه اليوم معي أنضج وإلا فالعلم واحد لم يتجدد لي بعده شيء. ثم مات والدي وتصرفت بي لأحوال وتقلدت شيئا من أعملا السلطان. ودعتني الضرورة إلى الارتحال من بخارى والانتقال عنها إلى جرجان. وكان قصدي الأمير قابوس.. فاتفق في أثناء هذا أخذ قابوس وحبسه وموته. ثم مضيت إلى دهستان ومرضت بها مرضا صعبا وعدت إلى جرجان (اه) . قال أبو عبيد الجوزجاني: وصنف ابن سينا بجرجان أول القانون ومختصر المجسطي وغير ذلك. ثم انتقل إلى الري واتصل بخدمة السيدة وابنها مجد الدولة. ثم خرج إلى قزوين ومنها إلى همذان فاتصل بخدمة كربانويه وتولى النظر في أسبابها. ثم سألوه تقلد الوزارة فتقلدها ثم اتفق تشويش العسكر عليه واشفاقهم منه على أنفسهم. فكبسوا داره وأخذوه إلى الحبس وأخذوا جميع ما كان يملكه. وساموا الأمير شمس الدولة قتله. فامتنع منه وعدل إلى نفيه عن الدولة طلبا لمرضاتهم. فتوارى الشيخ في دار بعض أصدقائه أربعين يوما فعاد الأمير طلبه وقلده الوزارة ثانيا. ولما توفي شمس الدولة وبويع ابنه طلبوا أن يستوزر الشيخ فأبى عليهم وتوارى في دار أبي غالب العطار. وهناك أتي على جميع الطبيعيات والإلهيات ما خلا كتابي الحيوان والنبات من كتاب الشفاء وكاتب علاء الدولة سرا يطلب المسير إليه فاتهمه تاج الملك بمكاتبته وأنكر عليه ذلك. وحث في طلبه فدل عليه بعض أعدائه فأخذوه وأدوه إلى قلعة يقال لها بردوان وأنشأ هناك قصيدة منها:
دخولي باليقين كما تراه ... وكل الشك في أمر الخروج
وبقي فيها أربعة أشهر ثم أخرجوه وحملوه إلى همذان. ثم خرج منها متنكرا وأنا وأخوه وغلامان معه في زي الصوفية. إلى أن وصلنا إلى أصفهان فصادف في مجلس علاء الدولة الإكرام والإعزاز الذي يستحقه مثله وصنف هناك كتبا كثيرة. وكان سبب موته قولنج عرض له. وكان ينتكس ويبرأ كل وقت ثم قصد علاء الدولة همذان وسار معه الشيخ. فعاودته في الطريق تلك العلة إلى أن وصل إلى همذان. وعلم أن قوته قد سقطت وأنها لا تفي بدفع المرض. فأهمل مداواته لنفسه وأخذ يقول المدبر الذي كان يدبرني قد عجز عن التدبير. والآن فلا تنفع المعالجة وبقي على هذا أياما ثم انتقل إلى جوار ربه ودفه بهمذان. وفيه قال بعضهم:(5/292)
ما نفع الرئيس من حكمه الط ... ب ولا حكمه على النيرات
ما شفاه الشفاء من ألم المو ... ت ولا نجاة كتاب النجاة
وكفر الغزالي ابن سينا في أصول. منها قوله لأجساد لا تحشر وإنما المثاب والمعاقب هي الأرواح وقوله بقدم العالم واعتقاد هذا كفر صريح (لأبي الفرج الملطي)
مؤرخو المسلمين
ابن الأثير (555-630هـ) (1159-1233م)
أبو الحسن علي بن عبد الواحد الشيباني المعروف بابن الأثير الجزري الملقب عز الدين. ولد بالجزيرة ونشأ بها ثم سار إلى الموصل مع والده وأخويه. وسكن الموصل وسمع بها من أبي الفضل عبد الله بن أحمد الخطيب الطوسي ومن في طبقته. وقد بغداد مرارا حاجا ورسولا من صاحب الموصل. ثم رحل إلى الشام والقدس وسمع هناك من جماعة. ثم عاد إلى الموصل ولزم بيته منقطعا إلى التوفير على النظر في العلم والتصنيف. وكان بيته مجمع الفضل لأهل الموصل والواردين عليها. وكان إماما في حفظ الحديث ومعرفته وما يتعلق به وحافظا للتواريخ المتقدمة والمتأخرة. وأخيرا بأنساب العرب وأيامهم ووقائعم وأخبارهم. صنف في التاريخ كتابا كبيرا سماه الكامل ابتدأ فيه من أول الزمان إلى آخر سنة ثمان وعشرين وستمائة. وهو من خيار التواريخ واختصر كتاب الأنساب لأبي سعد عبد الكريم المسعاني. واستدرك عليه فيه مواضع ونبه على أغلاط. وزاد أشياء أهملها. وهو كتاب مفيد جدا وأكثر ما يوجد اليوم بأيدي الناس هذا المختصر. وله كتاب أخبار الصحابة في ست مجلدات كبار. وأقام بحلب بصورة الضيف عند الطواشي شهاب الدين طغريل الخادم أتابك الملك العزيز ابن الملك الظاهر صاحب حلب وكانت فيها وفاته (لابن خلكان) ابن خلدون (732-808هـ) (1332-1406م)
هو محمد بن عبد الرحمان بن خلدون الحضرمي قاضي القضاة وينسب سلفه غلى وائل بن حجر من عرب اليمن. وكانوا نزلاء اشبيلية فعند الحادثة بالأندلس انتقلوا منها عن نباهة وشهرة واستقروا بتونس. وأما المترجم به فهو رجل فاضل حسن الخلق. جم الفضائل باهر الخصل. رفيع القدر ظاهر الحياء. أصيل المجد وقور المجلس. خاصي الزي عالي الهمة. عزوف عن الضيم صعب المقادة. قوي الجاش طامح لفتن الرئاسة. خاطب للحظ متقدم في فنون عقلية ونقلية. متعدد المزايا سديد البحث كثير الحفظ صحيح التصور. بارع الخط مغرى بالتجلة. جواد حسن العشرة مبذول المشاركة. مقيم لرسم التعين عاكف على رعي خلال الأصالة. مفخر من مفاخر التخوم المغربية. قرأ القرآن ببلده. وتأدب بأبيه وانصرف من أفريقية منشئه(5/293)
بعد أن تعلق بالخدمة السلطانية على الحداثة وإقامته لرسم العلامة بحكم الاستبانة عام ثلاثة وخمسين وسبعمائة. وعرف فضله وخطبه السلطان منفق سوق العلم والأدب أبو عنان فارس ابن علي بن عثمان واستحضره بمجلس المذاكرة. فعرف حقه وأوجب فضله واستعمله على الكتابة أوائل عام ستة وخمسين. ثم عظم عليه حمل الخاصة من طلبة الحضرة لبعده عن حسن التأني وشفوفه بثقوب الفهم وجودة الإدراك. فأغروا به السلطان. فأصابته شدة تخلصه منها أجله إلى أن أفضى الأمر إلى السعيد ولده. فاعتبه قيم الملك لحينه وأعاده غلى رسمه ودالت الدولة إلى السلطان أبي سالم وكان له به الاتصال قبل تسوغ المحنة بما أكد حظوته. فقلده ديوان الإنشاء مطلق الجرايات محرر السهام نبيه الرتبة إلى آخر أيامه. ولما ألقت الدولة مقادها بعده إلى الوزير عمر بن عبد الله مدبر الأمر وله إليه وسيلة وفي حليه شركة وعنده حق رابه تقصيره عما ارتمى إليه أمله فساء ما بينهما بما آلي إلى انفصاله عن الباب المريني. وورد على الأندلس في أول ربيع الأول عام أربعة وستين وسبعمائة. واهتز له السلطان وأركب خاصته لتلقيه وأكرم وفادته. وخلع عليه وأجلسه بمجلسه. ولم يدخر عنه برا ومؤاكلة ومراكبة ومطايبة. وله التاريخ الكبير الذي سماه ديوان العبر وكتاب المبتدأ والخبر في تاريخ العرب والعجم والبربر ومن عاصرهم من ذوي السلطان الأكبر. وقد عرف في آخره بنفسه وأطال وذكر أنه لما كان بالأندلس وحظي عند السلطان أبي عبد الله شم من وزيره ابن الخطيب رائحة الانقباض فقوض الرحال ولم يرض من الإقامة بحال. ولعب بكرته صوالجة الأقدار. حتى حل بالقاهرة المعزية وتخذها خير دار. وتولى بها قضاء القضاة. ثم قدم على تمرلنك. فأكرمه غاية الإكرام وأعاده إلى الديار المصرية. وقد كان ابن خلدون هذا من عجائب الزمان. وله من النظم والنثر ما يزري بعقود الجمان. مع الهمة العلية. والتبحر في العلوم النقلية والعقلية. وكانت وفاته بالقاهرة. قال الحاج خليفة: ومقدمة ابن خلدون المشهورة هي الكتاب الأول من تاريخه المذكور آنفا وهي في العمران وما يعرض له. ولابن خلدون نظم رائق منه قوله يهنئ بعض الوزراء:
هنيئا بصوم لا عداه قبول ... وبشرى بعيد أنت فيه منيل
وهنئتها من عزة وسعادة ... تتابع أعوام بها وفصول
سقى الله دهرا أنت إنسان عينه ... ولامس ربعا في حماك محول
فعصرك مابين الليالي مواسم ... لها غرر وضاحة وحجول (للمقري)
أبو الفداء (672-732 هـ) (1273-1331 م)
إسماعيل بن علي بن شذي الملك المؤيد عماد الدين أبو الفداء صاحب حماة برع في الفقه والأصول والعربية والتاريخ والأدب وصار من جملة أمراء دمشق إلى أن كان الملك الناصر محمد بن قلاوون بالكرك بالغ في خدمته إلى أن وعده الملك الناصر محمد بسلطنة حماة(5/294)
ثم قام بوعده بعد مدة وجعل أبا الفداء سلطانا على حماة. واحضره إلى القاهرة فأكرمه وأركبه بشعار السلطنة ومشى الأمراء والأكابر في خدمته حتى مشى الأمير أرغون النائب بالديار المصرية. وقام له الملك الناصر بكل ما يحتاج إليه من التشريف والإنعامات على وجوه الدولة والخيول بقماش الذهب وغير ذلك ولقبه بالملك الصالح وأمره بالتوجه إلى محل سلطنته بحماة. فخرج إليها من ديار مصر بتحمل زائد وعظمة على عادة الملوك. فوصلها في جمادى الآخرى سنة عشر وسبعمائة. وعاد معه إلى القاهرة وأذن له أن يخطب باسمه بحماة وأعماله إلى القاهرة ومعه أنواع من الهدايا والتحف للملك الناصر محمد بن قلاوون ويعود إلى محل سلطنته. ثم في كل قليل يتحف الملك الناصر بالأشياء الظريفة الغريبة. قال بعضهم في وصفه: هو الملك الجليل. وأما ظله ظليل. عالم تخفق بالنصر أعلامه. وحاكم تجري لمصالح الرعية أقلامه. بيته مشيد. وملكه مؤيد وصدره للطالبين مشروح. وبابه لأرباب الفضائل مفتوح. كان جوادا سخيا. باسلا كميا. ممدوحا محمودا. منتابا مقصودا. ذا تدبير وسياسة وحشمة ورئاسة. وفضل ومكارم. وحلم ومراحم وعدل وإنصاف. ومعروف وأوقاف. يحب أهل العلم والأدب. ويفيض عليهم سحائب القرب والقرب. زاحم بهمته النجوم. وشارك في عدة من العلوم. وألف تاريخا كثير الفوائد. ونظم الحاوي نظما يسخر بالعقود والقلائد. وله مصنفات معروفة. وقريض به قراضة ذهبه موصوفة. باشر النيابة ثم السلطنة بحماة مدة طويلة. وأسدى إلى سكان حماها ما استوجب به شكر مناقبه الجميلة وكان له نظم ونثر وتصانيف كثيرة. وكتاب تقويم البلدان هذبه وجدوله. وكتاب الموازين. وكانت وفاته بحماة ودفن في ترتبه المعروفة بإنشائه عن ستين سنة. ورثاه محمد بن نباتة المصري بعد مراثٍ أشهرها قوله:
ما للندى لا يلبي صوت داعيه ... أظن أن ابن شاذ قام ناعيه
ما للرجاء قد استدت مذاهبه ... وللزمان قد اسودت نواحيه
ما لي أرى الملك قد قضت مواقفه ... ما لي أرى الوفد قد فاضت مآقيه
نعى المؤيد ناعيه فيما أسفا ... للغيث كيف غدت عنا غواديه
وا روعتا لصباح من زريته ... أظن أن صباح الحشر ثانية
وا حسرتاه لنظمي في مدائحه ... كيف استحال لنظمي في مراثيه
أبكيه بالدر من جفني ومن كلمي ... والبحر أحسن ما بالدر أبكيه
أروي بدمعي ثرى ملك له شيم ... قد كان يذكرها الصادي فترويه(5/295)
أذيل ماء جفوني بعده أسفا ... لماء وجهي الذي قد كان يحميه
جار من الدمع لا ينفك يطلقه ... من كان يطلق بالأنعام جاريه
ومهجة كلما فاهت لوعتها ... قالت رزية مولاها لها ايه
ليت المؤيد لا زادت عوارفه ... فزاد قلبي المعنى من تلظيه
ليت الأصاغر يفدى الأكبرون بها ... فكانت الشهب في الآفاق تفديه
الطبري (224-310هـ) (829-923م)
أبو جعفر محمد بن جرير صاحب التفسير الكبير والتاريخ الشهير. كان أحد أئمة العلماء بحكم قوله يرجع إلى رأيه لمعرفته وفضله. وكان قد جمع من العلوم ما لم يشاركه فيه أحد من أهل عصره. وكان بصيرا عارفا بأيام الناس. وتاريخه أصح التواريخ وأثبتها لم يقلد فيه أحدا. واستوطن الطبري بغداد وأقام فيها حتى توفي. وكان أسمر إلى الأدمة أعين نحيف الجسم مديد القامة فصيح اللسان ذكر له أبو إسحاق الشيرازي شعرا:
إذا أعرت لم يعلم شقيقي ... واستغني فيستغني صديقي
حبائي حافظ لي ماء وجهي ... ورفقي في مطالبتي رفيقي
ولو أني سمحت ببذل نفسي ... لكنت إلى الغنى سهل الطريق
تقي الدين المقريزي (766-845هـ) (1365-1442م)
هو أحمر بن عبد الصمد الشيخ الإمام العالم البارع عمدة المؤرخين وعين المحدثين تقي الدين المقريزي البعلبكي الأصل المصري الدار والوفاة. نشأ بالقاهرة وتفقه على مذهب الحنفية. ثم تحول شافعيا بعد مدة طويلة. وتفقه وبرع وصنف التصانيف المفيدة النافعة الجامعة لكل علم. وكان ضابطاً مؤرخاً مفنناً محدثاً معظماً في الدول. وفي حسبة القاهرة أول ولايته من قبل الملك الظاهر برقوق عوضا عن شمس الدين محمد النجانسي ثم عزل بالقاضي بدر الدين العينتابي ثم وليها عنه أيضا وولي عدة وظائف دينية. وعرض عليه قضاء دمشق في أوائل الدولة الناصرية فأبى أن يقبل ذلك. وكان إماماً مفنناً كتب الكتب الكثيرة بخطه وانتقى أشياء وحصل الفوائد. واشتهر ذكره في حياته وبعد موته في التاريخ وغيره. حتى صار به يضرب المثل. وكان له محاسن شتى ومحاضرة جيدة إلى الغاية لاسيما في ذكر السلف من العلماء والملوك وغير ذلك. وكان منقطعا في داره ملازما للعبادة قل أن يتردد إلى أحد إلا لضرورة. وقرأت عليه كثيرا من مصنفاته وكان يرجع إلى قولي فيما أذكره له من الصواب ويغير ما كتبه أولا في مصنفاته. وانتفعت به واستفدت منه وكان كثير الكتباة والتصنيف. وصنف كتبا كثيرة من ذلك إمتاع الأسماع في ستة مجلدات وهو كتاب نفيس وله كتاب(5/296)
الخبر عن البشر ذكر فيه القبائل في أربعة مجلدات وعمل له مقدمة في مجلد. وكتاب السلوك في معرفة دول الملوك في عدو مجلدات يشتمل على ذكر ما وقع من الحوادث غلى يوم وفاته. وله تاريخه الكبير المقفي في تراجم أهل مصر والواردين إليها ولو كمل هذا التاريخ تجاوز الثمانين مجلدا. وله كتاب المواعظ والاعتبار في ذكر الخطط والآثار في عدو مجدلات وهو في غاية الحسن. وكتاب مجمع الفوائد ومنبع العوائد كمل منه نحو الثمانين مجلدا كالتذكرة وكتاب شذور العقود وكتاب الأوزان والأكيال الشرعية. وكتاب إزالة التعب والعناء في معرفة الحال في الغناء. وكتاب المقاصد السنية في الأجسام المعدنية. وله عدة تصانيف أخر ولم يزل ضابطا حافظا للوقائع والتاريخ إلى أن توفي ودفن بالقاهرة (المنهل الصافي لأبي المحاسن)
الواقدي (130-207هـ) (747-823م)
أبو عبد الله محمد الواقدي المدني مولى بني هاشم. كان إماما عالما له التصانيف في المغازي وغيرها. وله كتاب الردة ذكر فيه ارتداد العرب. ويعزى إليه تاريخ فتوح الشام والجزيرة وغيرهما. وتولى الواقدي القضاء بشرقي بغداد وكان المأمون يكرم جانبه ويبالغ في رعايته. ومن غريب ما أخبر الواقدي عن نفسه ما نصه قال: كان لي صديقان أحدهما هاشمي وكنا كنفس واحدة فنالتين ضائقة شديدة وحضر العيد. فقالت امرأتي: أما نحن في أنفسنا فنصبر على البؤس والشدة. وأما صبياننا هؤلاء فقد قطعوا قلبي لأنهم يرون صبيان الجيران قد تزينوا في عيدهم وأصلحوا ثيابهم وهم على هذه الحال من الثياب الرثة فلو احتلت في شيء فصرفته في كسوتهم. (قال) فكتبت إلى صديقي الهاشمي أسأله التوسعة علي بما حضر فوجه إلي كيسا مختوما ذكر أن فيه ألف درهم. فما استقر قراري حتى كتب إلي الصديق الآخر يشكو مثل ما شكوت لي صاحبي الهاشمي. فوجهت إليه الكيس بختمه وخرجت إلى المسجد فأقمت فيه ليلتي مستحيا من امرأتي. فلما دخلت عليها استحسنت ما كان مني ولم تعنفني عليه. فبينا أنا كذلك إذ وافى صديقي الهاشمي ومعه الكيس كهيئته. فقال لي: أصدقني عما فعلته فيما وجهت به إليك. فعرفته الخبر على وجهه فقال لي: إنك وجهت إلى وما أملك على الأرض إلا ما بعثت به إليك. وكتبت إلى صديقنا أسأله المواساة فوجه كيسي بخاتمي. قال الواقدي: فتواسينا ألف درهم فيما بيننا. ونمى الخبر إلى المأمون فدعا بي فشرحت له الخبر فأمر لنا بسبعة آلاف دينار لكل واحد منا ألفي دينار وللمرأة ألف دينار (وفيات الأعيان لابن خلكان)(5/297)
الباب السابع عشر في التاريخ
دولة العباسيين
ابتداء دولة بني عباس (750) خلافة السفاح (750-754م)
لما اضطرب حبل بني أمية انتقل الملك إلى آل عباس. واعلم أن الدولة العباسية كانت دولة ذات خدع ودهاء وغدر. وكان قسم التحيل والمخادعة فيها أوفر من قسم القوة والشدة خصوصا في أواخرها. فإن المتأخرين منهم بطلوا قوة الشدة والنجدة وركنوا إلى الحيل والخدع. إلا أنها كانت دولة كثيرة المحاسن جمة المكارم أسواق العلوم فيها قائمة. وبضائع الآداب فيها نافقة. وشعائر الدين فيها معظمة. والخيرات فيها دائرة. والدنيا عامرة. والحرمات مرعية. والثغور محصنة. حتى كانت آخرها فانتشر الجبر واضطرب الأمر وأول من تولى الخلافة منهم أبو العباس السافح (132هـ) . وكان كريما وقورا عاقلا كاملا كثير الحياء حسن الأخلاق. وتحول السفاح من الحيرة غلى الأنبار. ولما استوثق له الأمر تتبع بقايا بني أمية ورجالهم فوضع السيف فيهم وأغراه على قتلهم سديف الشاعر فأنشده وسليمان بن عبد الملك حاضر في مجلسه مع سبعين رجلا من بني أمية:
لا يغرنك ما ترى من رجال ... إن تحت الضلوع داء دويا(5/298)
فضع السيف وارفع السوط حتى ... لا ترى فوق ظهرها أمويا
فالتفت أحدهم إلى من بجانبه وقال: قتلنا العبد. ثم أمر بهم السفاح فضربوا بالسيوف حتى قتلوا. وبسط النطوع عليهم وجلس فوقهم فأكل الطعام وهو يسمع أنين بعضهم حتى ماتوا جميعا. وبالغ بنو العباس في استئصال شأفة بني أمية حتى نبشوا قبورهم بدمشق واستصفوا أموال أصحابهم. ثم لم تطل مدة السفاح حتى مات بالأنبار سنة مئة وست وثلاثين. واستوزر له حفص بن سليمان أبو سلمة الخلال وكان سمحا كريما مطماعا كثير البذل مشغوفاً بالتنوق بالسلاح والدواب فصيحا عالما بالأخبار والأشعار والسير والجدل والتفسير حاضر الحجة ذا يسار ومرؤة ظاهرة. فلما بويع السفاح استوزره وفوض الأمور إليه وسلم إليه الدواوين ولقب وزير آل محمد. ثم تغير عليه وكتب إلى أبي مسلم يعلمه بما عزم عليه أبو سلمة من نقل الدولة عن بني عباس. فلما قرأ أبو مسلم الكتاب فطن لغرض السفاح فأرسل قوما من أهل خرسان قتلوا أبا سلمة (للفخري)
أبو جعفر المنصور (754-755)
بويع السفاح في سنة مئة وست وثلاثين. وكان المنصور من عظماء الملوك وحزمائهم وعقلائهم وذوي الآراء الصائبة منهم والتدبيرات السديدة. وقورا شديد الوقار حسن الخلق في الخلوة من أشد الناس احتمالا لما يكون من عبث أو مزاح. وكان يلبس الخشن وربما رقع(5/299)
قميصه ولم يكن يرى في دار المنصور لهو ولعب. قال يزيد بن هبيرة: ما رأيت رجلا في حرب أو سلم أمكر أو أنكر ولا أشد تيقظا من المنصور. لقد حاصرني تسعة شهور ومعي فرسان العرب فجهدنا كل الجهد حتى ننال من عسكره شيئا فما قدرنا لشدة ضبطه له وتيقظه. ورتب القواعد وأقم الناموس. وكان مبخلاً يضرب بشحه الأمثال. فسمي لبخله أبا الدوانيق لمحاسبة العمال والصناع على الدانق والحبة. والصحيح أنه كان رجلا حازما يعطي في موضع العطاء ويمنع في موضع المنع. وكان المنع عليه أغلب. ولما بويع للمنصور قتل أبا مسلم الخراساني وكان سبب قتله أن أبا مسلم كان قد قدم من الحج مع أبي جعفر المنصور فأرسله لقتال عمه عبد الله بن علي وكان عبد الله بأرض نصيبين. فاقتتل هو وأبو مسلم عدة دفوع حتى انهزم عبد الله بن علي وظفر بعسكره. فكتب المنصور إلى أبي مسلم بالولاية على مصر والشام وصرفه عن خراسان. فلم يجب أبو مسلم إلى ذلك وتوجه يريد خراسان. فخافه أبو جعفر المنصور وأجمع الرأي وعلم المكايد وهجر النوم إلى أن اقتنصه. فلما دخل على المنصور أقبل عليه يعاتبه ويذكر عثراته. فجعل أبو مسلم يعتذر إليه. فقال: قتلني الله إن لم أقتلك. ثم أوعز إلى حرسه فضربوه بسيوفهم وهو يصرخ ويستأمن ويقول: استبقني لعدوك يا أمير المؤمنين. فقال له المنصور: وأي عدو إلي أعدى منك. وكان أبو مسلم ذا رأي وتدبير وحزم(5/300)
ومروءة. وكان فتاكا قاسي القلب سوطه سيفه. وفي عهده خرج الراوندية وكان هؤلاء قوما من أتباع أبي مسلم يقولون بالتناسخ. فحبس المنصور نحوا من مائتين منهم فغضب الباقون واجتمعوا وحملوا بينهم نعشا كأنهم في جنازة وجاؤوا إلى السجن فرموا بالنعش وأخرجوا أصحابهم. وحملوا على الناس ستمائة رجل وقصدوا قصر المنصور. فخرج المنصور من القصر ماشيا وجاء معن بن زائدة الشيباني وكان مستخفياً من المنصور لقتاله مع ابن هبيرة وقد اشتد طلب المنصور له. فحضر عنده متلثما هذا اليوم فقاتل بين يديه قتلا شديدا وأبلى بلاء حسنا. وكان المنصور راكبا على بغلة ولجامها في يد الربيع حاجبه فأتي معن وقال: تنح فأنا أحق بهذا اللجام في هذا الوقت. فقال المنصور: صدق. ادفع اللجام إليه. فلم يزل يقاتل حتى انكشفت الحال وظفر بالراوندية فاستنسبه المنصور فقال: طلبتك يا أمير المؤمنين معن بن زائدة. فقال: قد أمنك الله على نفسك ومالك ومثله يصطنع وأحسن إليه وولاه اليمن (تاريخ ابن خلدون)(5/301)
وفي أيام المنصور نبغت الدولة البرمكية. وكان السفاح قد استورد بعد أبي سلمة خالد بن برمك من رجال الدولة العباسية. وكان خالد فاضلا جليلا كريما حازما يقظا خف على قلب الخليفة وكان عظيم المنزلة عنده. فكثر الوافدون على باب خالد ومدحه الشعراء وانتجعه الناس. فلما تولى المنصور الخلافة أقره على وزارته وأكرمه واستشاره. وكانت وفاة المنصور سنة ثمان وخمسين ومائة ببير ميمونة على أميال من مكة وهو محرم بالحج وهو ابن ثلاث وستين سنة. وكان طويلا أسمر نحيفا خفيف اللحية رحب الجبهة كأن عينيه لسانان ناطقان. صارما مهيبا ذا جبروت وسطوة(5/302)
محمد المهدي (775-785) وابنه موسى الهادي (785-786)
ثم قام بالأمر بعده ابنه المهدي بالله. بويع له بالخلافة يوم وفاة أبيه المنصور بعهد منه. وأول من بين تعزيته وتهنئته أبو دلامة فقال:
عيناي واحدة ترى مسرورة ... بأميرها جذلى وأخرى تذرف
تبكي وتضحك تارة ويسؤها ... ما نكرت ويسرها ما تعرف
فيسؤها موت الخليفة محرما ويسرها أن قام هذا يخلف
ما إن رأيت كما رأيت ولا أرى ... شعرا أسرحه وآخر أنتف
هذا حباه الله فضل خلافة ... ولذاك جنات النعيم تزخرف
وكان المهدي شهما فطنا كريما شديدا على أهل الإلحاد والزندقة. لا تأخذه في إهلاكهم لومة لائم. وكانت أيامه شبيهة بأيام أبيه في الفتوق والحوادث والخوارج. وكان يجلس في كل وقت لرد المظالم. وفي سنة خمس وستين ومائة سير المهدي ابنه الرشيد لغزو الروم فسار حتى بلغ خليج قسطنطينية وصاحب الروم وقتئذ إيريني امرأة لاون الملك. وذلك أن ابنها كان صغيرا قد هلك أبوه وهو في حجرها فجزعت المرأة من المسلمين. وطلبت الصلح من الرشيد فجرى الصلح بينهم على الفدية. ومات المهدي بما سبذان واختلف في موته ولما توفي المهدي كان الرشيد معه في ما سبذان فكتب على الهادي يعلمه بوفاة المهدي والبيعة له. فنادى بالرحيل إلى بغداد ولما قدمها استوزر الربيع بن يونس. وكان الربيع جليلا نبيلا منفذا للأمور(5/303)
مهيبا فصحيا كافيا حازما خبيرا بالحساب والأعمال. حاذقا بأمور الملك بصيرا بما يأتي ويذر محبا لفعل الخير. وتتبع الهادي الزنادقة لوم تطل مدته. وسبب وفاته أنه لما ولي الخلافة كانت أمه الخيرزان تستبد بالأمور دونه وكلمته يوما في أمر لم يجد إلى إجابتها سبيلا. فقالت: لا بد من الإجابة إليه. فغضب الهادي وقال: والله لأقضيتها لك. قالت: إذا لا أسألك حاجة أبدا. قال: لا أبالي. فقامت مغضبة فقال: مكانك. والله لئن بلغني أنه وقف في بابك أحد من قوادي لأضربن عنقه. ما هذه المواكب التي تغدو وتروح غلى بابك. أما لك مغزل يشغلك أو مصحف يذكرك أو بيت يصونك. فانصرفت وهي لا تعقل ووضعت جواريها عليه لما مرض فقتلنه بالغم وبالجلوس على وجهه فمات. وكانت خلافته سنة وثلاثة أشهر
هارون الرشيد (786-809)
وولي بعد الهادي بعهد من أبيه أخوه هارون الرشيد الخامس من العباسيين سنة سبعين ومئة ومولده في الري. وأمه الخيزران أم الهادي وفيها قال مروان بن أبي حفصة الشاعر:
يا خيزران هناك ثم هناك ... أمسى يسوس العالمين ابناك
وكان فصيحا بليغا أديبا كثير العبادة كثير الحج. قال فيه شاعر:
فمن يطلب لقاءك أو يرده ... ففي الحرمين أو أقصى الثغور
وكان يصلي في خلافته كل يوم مائة ركعة لا يتركها إلا لعلة.(5/304)
ويتصدق كل يوم من صلب ماله بألف درهم. ويحب العلم وأهله ويعظم حرمات الإسلام. ومن غريب ما اتفق لهارون الرشيد أن لآخاه موسى الهادي لما ولي الخلافة سأل عن خاتم عظيم القدر كان لأبيه المهدي. فبلغه أن الرشيد أخذه فطلبه منه فامتنع من إعطائه فألح عليه فيه فحنق عليه الرشيد. ومر على جسر بغداد فرماه في الدجلة. فلما مات الهادي وولي الرشيد الخلافة أتي ذلك المكان بعينه ومعه خاتم رصاص. فرماه في ذلك المكان فأمر الغطاسين أن يلتمسوه فغاصوا عليه فاستخرجوا الخاتم الأول. فسر به الرشيد وعد ذلك من سعادته وإبقاء ملكه. وكان الرشيد يبكي على نفسه وعلى إسرافه وذنوبه. وكان قاضيه الإمام أبو يوسف. وكان يعظمه كثيرا ويمتثل أمره. وله مناقب لا تحصى ومحاسن لا تستقصى وله أخبار في اللهو واللذات سامحه الله. وفي أول خلافته حج بالناس وفرق مالا كثيرا. وكان حجه ماشيا على اللبود تفرش له منزل إلى منزل. وفي سنة اثنتين وسبعين ومائة بايع الرشيد لعبد الله المأمون بولاية العهد بعد الأمين وولاه خراسان وما يتصل بها إلى همذان ولقبه المأمون وسلمه غلى جعفر بن يحيى البرمكي. وغزا المسلمون بالصائفة فبلغوا أفسس مدينة أصحاب الكهف. واستعمل الرشيد حميد بن معيوب على الأساطيل ممن بسواحل الشام ومصر إلى قبرس فهزم وخرب وسبى من أهلها نحوا من سبعة عشر ألفا وجاء بهم إلى الواقعة(5/305)
فبيعوا بها. وفي سنة سبع وثمانين ومائة خلعت الروم إيريني الملكة وملكوا نيفيفوز وكانت إيريني تعظم الرشيد وتبجله وتدر عليه الهدايا. فلما تولى نيقيفور وعاث وتمكن من ملكه كتب إلى الرشيد: من نيقيفور ملك الروم إلى الرشيد ملك العرب. أما بعد فإن الملكة إيريني كانت وضعتك موضع الملوك ووضعت نفسها موضع السوقة. وإني واضعك بغير ذلك الموضع وعامل على تطرق بلادك والهجوم على أمصارك أو تؤدي إلى ما كانت المرأة تؤدي إليك. والسلام. فلما ورد كتابه على الرشيد استفزه الغضب وكتب إليه: بسم الله الرحمان الرحيم من عبد الله هارون أمير المؤمنين إلى نيقيفور زعيم الروم. فهمت كتابك والجواب ما تراه دون ما تسمعه. ثم شخص من شهره ذلك يوم بلاد الروم في جميع لم يسمع بمثله وقواد لا يجارون نجدة ورأيا. فلما بلغ ذلك نيقيفور ضاقت عليه الأرض بما رحبت. وجد الرشيد يتوغل بلاد الروم فيقتل ويغنم ويسبي ويخرب الحصون ويعفي الآثار حتى أناخ على هرقلة وهي من أوثق حصن وأعزه جانبا وأمنعه ركنا. فحصر الرشيد أهلها وغمهم وألح بالمجانيق والسهام والعرادات حتى رموا سورها وفتح الأهل ألأبواب مستأمنين. وفي هذه السنة ذاتها أوقع الرشيد بالبرامكة وقتل جعفر بن يحيى وكتب إلى العمال في جميع النواحي بالقبض على البرامكة واستصفى ما لهم.(5/306)
وفي سنة اثنتين وتسعين ومائة سار الرشيد من الرقة إلى بغداد يريد خراسان لحرب رافع بن الليث وكان ظهر ببلاد ما وراء النهر مخالفا للرشيد بسمرقند. ولما صار الخليفة ببعض الطريق ابتدأت به العلة ولما بلغ جرجان في صفر اشتد مرضه وكان معه ابنه المأمون في مسيره إلى مرو ومعه جماعة من القواد وسار الرشيد إلى طوس فمات ودفن بها سنة ثلاث وتسعين ومائة. وكانت خلافته ثلاثا وعشرين سنة. وكان عمره سبعا وأربعين سنة وكان جميلا أبيض جعدا قد وخطه الشيب. قال النهر والي: أعلم أن مما يتحققه العاقل أن الدنيا دار الأكدار وأن(5/307)
أخف الخلق بلاء وألما الفقراء. وأعظم الناس تعبا وهما وغما هم الملوك والأمراء. فارض بحال فقرك. ولا تتعد طورك. إن هارون الرشيد من أعقل الخلفاء العباسيين وأكملهم رأيا وتدبيرا وفطنة وقوة واتساع مملكة وكثرة خزائن بحيث كان يقول للسحابة: أمطري حيث شئت فإن خراج الأرض التي تمطرين فيها يجيء إلي. ومع ذلك كان أتعبهم خاطرا وأشغلهم قلبا (لأبي الفرج الملطي وغيره بتصرف)
الأمين بن الرشيد (809-813)
انتهى الأمر إليه بعد أبيه. وكان الأمين كثير اللهو واللعب منقطعا إلى ذلك مشتغلا به عن تدبير مملكته. فأقبل ينكث عهد المأمون وسعى بخلعه والبيعة لبنه موسى. فأمر له بالدعاء على المنابر ونهى عن الدعاء للمأمون. وأمر بإبطال ما ضرب المأمون من الدراهم والدنانير بخراسان فنمى الشر بينهما. فجهز المأمون لقتاله طاهر ابن الحسين وهرثمة بن أعين فسارا إليه وحاصراه ببغداد. وتراموا بالمنجانيق وأقام الحصار مدة سنة فتضايق الأمر على الأمين وفارقه أكثر أصحابه. وكتب طاهر إلى وجوه أهل بغداد سرا يعدهم إن أعانوه ويتوعدهم إن لم يدخلوا في طاعته. فأجابوه وصرحوا بخلع الأمين فنجا الأمين بنفسه وركب حراقة أعدها له هرثمة. وكان وعده بالأمان. فلما صار الأمين في الحراقة خرج عليه أصحاب طاهر وكانوا كمنوا له. فرموا الحراقة بالحجارة فانكفأت بمن فيها. فشق(5/308)
الأمين ثيابه وسبح إلى بستان فأدركوه وحملوه إلى طاهر. فبعث إليه جماعة وأمرهم بقتله فاحتزوا رأسه. فأمر طاهر بنصبه فلما رآه الناس سكنت الفتنة. ثم جهزه طاهر إلى المأمون وصحبته خاتم الخلافة. فشكر المأمون الله على ما رزقه من الظفر. (للدميري)
عبد الله المأمون أخو الأمين (813-833)
بويع له البيعة العامة في بغداد في سنة ثمان وتسعين ومائة. وكان المأمون من أفاضل الخلفاء وعلمائهم وحكمائهم وحلمائهم. أتم رجال بني عباس حزما وعزما وفراسة وفهما. وكان قد أخذ من العلوم بقسط. وضرب فيها بسهم. وتأدب وتفقه وبرع في فنون التاريخ والأدب والنجوم ولما كبر اعتنى بالفلسفة وعلوم الأول. وهو الذي استخرج كتاب إقليدس وأمر بترجمته وتفصيله. وعقد المجالس في خلافته للمناظرة في الأديان والمقالات. وكان المأمون عظيم العفو جوادا بالمال وكان يقول: لو يعلم الناس ما أجد في العفو من اللذة لتقربوا غلي بالذنوب وكان أبيض مليح الوجه مربوعاً طويل اللحية دينا عارفا بالعلم فيه دهاء وسياسة. وفي أيامه خرج عليه إبراهيم بن المهدي عمه فبايعه بعض بني العباس وخلعوا المأمون فجد المأمون في المسير إلى بغداد فظفر بإبراهيم ولم يؤاخذه وأحسن إليه. ثم صفا الملك بعد ذلك للمأمون وسكنت الفتن(5/309)
وقام المأمون بأنباء الخلافة وتدبير المملكة قيام حزماء الملوك وفضلائهم. ثم خرج إلى الثغر ودخل بلاد الجزيرة والشام وأقام بها مدة طويلة ثم غزا الروم وفتح فتوحات كثيرة وأبلى بلاء حسنا. وتوفي في بعض غزواته سنة ثماني عشرة ومائتين وهو ابن تسع وأربعين سنة. وكانت خلافته عشرين سنة ودفن بطرسوس
العلوم في زمانه
قال القاضي صاعد بن أحمد الأندلسي: إن العرب في صدر الإسلام لم تعن بشيء من العلوم إلا بلغتها ومعرفة أحكام شريعتها حاشا صناعة الطب. فإنها كانت موجودة عند أفراد منهم غير منكورة عند جماهيرهم لحاجة الناس طرأ غليها. فهذه كانت حال العرب في الدولة الأموية. فلما أدال الله تعالى للهاشمية وصرف الملك إليهم ثابت الهمم من غفلتها. وهبت الفطن من ميتتها. فكان أول من عني منهم بالعلوم الخليفة الثاني أبو جعفر المنصور. وكان مع براعته في الفقه كلفا في علم الفلسفة وخاصة في علم النجوم. ثم لما أفضت الخلافة فيهم إلى الخليفة السابع عبد الله المأمون بن هارون الرشيد تمم ما بدأ به جده المنصور فأقبل على طلب العلم في مواضعه. وداخل ملوك الروم وسألهم صلته بما لديهم من كتب الفلسفة. فبعثوا غليه منها ما حضرهم. فاستجاد لها مهرة التراجمة وكلفهم إحكام ترجمتها. فترجمت له على غاية ما أمكن ثم حرص الناس على قراءتها(5/310)
ورغبتهم في تعليمها. فكان يخلو بالحكماء ويأنس بمناظرتهم ويلتذ بمذاكراتهم علما منه بأن أهل العلم هم صفوة الله من خلقه ونخبته من عباده. إنهم صرفوا عنايتهم إلى نيل فضائل النفس الناطقة وزهدوا فيما يرغب فيه الصين والترك. ومن نزع منزعهم من التنافس في دقة الصنائع العملية. والتباهي بأخلاق النفس والتفاخر بالقوى. إذ علموا أن البهائم تشركهم فيها وتفضلهم في كثير منها. فلهذا السبب كان أهل العلم مصابيح الدجى وسادة البشر وأوحشت الدنيا لفقدهم.
أخوه المعتصم بالله (833-842)
بويع يوم وفاة المأمون ولما بويع له تشغب الجند ونادوا باسم العباس بن المأمون فخرج إليهم العباس وقال لهم: قد بايعت عمي فسكنوا. وكان المعتصم سديد الرأي يحمل ألف رطل ويمشي بها. وانتشأ عامياً يكتب كتابة مغشوشة ويقرأ قراءة ضعيفة. وهو أول من أدخل الأتراك الدواوين وكان يتشبه بملوك الأعاجم. وبلغ غلمانه الأتراك ثمانية عشرة ألفاً. وألبسهم أطواق الذهب والديباج وكانوا يطردون الخيل في بغداد فضاقت بهم المدينة وتأذى بهم الناس. فبنى المعتصم مدينة سر من رأى بقرب بغداد وانتقل إليها سنة (220هـ) . وفي سنة ثلاث وعشرون ومائتين خرج توفيل بن ميخائيل ملك الروم إلى بلاد المسلمين فأوقع بأهل زبطرة وعاد غلى مالطية وغيرها فاستباحها قتلا وسبيا. فاستعظمه المعتصم ولما بلغه أن عمورية عين(5/311)
النصرانية وهي أشرف عندهم من قسطنطينية وأنه لم يتعرض أحد إليها منذ كان الإسلام جهز إليها بما لا يماثله أحد من السلاح والآلة والعدد. وجرى بين المسلمين والروم عليها قتال شديد أفضى إلى فتح عمورية. فهدمت وأحرقت بعد أن حاصرها نحو شهرين فقتل من الروم ثلاثين ألفا وأسر ثلاثين ألفا. وفي سنة سبع وعشرين تغير المعتصم على الأفشين بأمر بقتله وتوفي المعتصم سنة 227 وهو أغلظ الخلفاء الذين ألزموا الناس القول بخلق القرآن وجبر علماء الإسلام على ذلك وأذاقهم الهوان وامتحن بذلك أحمد بن حنبل (لأبي الفرج)
هارون الواثق (842-847) المتوكل على الله (847-861)
ثم ملك بعده ابنه هارون الواثق من أفضل خلفائهم وكان لبيبا فطنا فصيحا شاعرا. وكان يتشبه بالمأمون في حركاته وسكناته. ولما ولي الخلافة أحسن إلى بني عمه الطالبيين وبرهم. ولم يقع في أيامه من الفتوح الكبار والحوادث المشهورة ما يأسر. وفي عهده غزا المسلمون في البحر جزيرة صقلية وفتحوا مدينة مسينة في عهد الملكة ثاودورا. وكانت ملكت بعد توفيل ملك الروم وابنها ميخائيل بن توفيل وهو صبي. ومات الواثق بداء الاستسقاء وكان عمره اثنين وثلاثين سنة. وكان أبيض مليح يعلوه اصفرار حسن اللحن. ثم ولي بعده أخوه جعفر المتوكل على الله وبويع له بالخلافة بسر من رأى. وله من العمر ست وعشرون سنة. فعقد البيعة لبنيه الثلاثة بولاية العهد(5/312)
وهم المنتصر والمعتز والمؤيد. وفي ثماني وثلاثين ومائتين انتهى الروم إلى دمياط بالأساطيل فأحرقوا وسبوا وساروا إلى مصر ورجعوا ولم يعرض لهم أحد. وفي سنة سبع وأربعين كثر المماليك الأتراك في بغداد فاستولوا على المملكة فصار بيدهم الحل والعقد والولاية والعذل إلى أن حملهم الطغيان على العدوان. وسطوا على الخليفة المتوكل وكان بين المتوكل وابنه المنتصر مباينة. فاتفق مع باغر قائدهم فدخلوا عليه في مجلس أنسه وعنده الوزير الفتح بن خاقان فصاح الفتح: ويلكم هذا سيدكم. ورمى بنفسه فضربهما باغر فماتا جميعا
تتمة أخبار الخلفاء العباسيين
المنتصر بالله (861) المستعين بالله (862) المعتز بالله (866)
ثم خلفه ابنه المنتصر بالله ولم يتهن بالخلافة لاستيلاء المماليك الأتراك على المملكة فدسوا إلى طبيبه ليسمه ففصده بمبضع مسموم فمات ستة أشهر من مبايعته. ويحكى أنه بات ليلة في وعكة وانتابه فزعا وهو يبكي فسألته أمه: ما يبكيك. قال: أفسدت ديني ودنياي رايت ابي الساعة وهو يقول: قتلتني يا محمد لأجل الخلافة والله لا تتمتع بها إلا أياما ثم مصيرك إلى النار. فاستمر موهوما من ذلك المنام فما عاش بعد ذلك غلا أياما قلائل. ثم ملك بعده المستعين بالله وهو أحمد بن محمد بن المعتصم بايعه الأمراء وأكابر المماليك ولم يولوا أحدا من ولد المتوكل لئلا يطالب بدمه. وكانت تلك الأيام أيام فتن وحروب وخروج خوارج. واعلم أن المستعين كان مستضعفا في رأيه وعقله وتدبيره. وكانت أيامه شديدة الاضطراب ولم يكن فيه من الخصال المحمودة إلا أنه كان كريما وهوبا خلع في سنة اثنتين وخمسين ثم قتل بعد ذلك. وملك بعده المعتز بالله وهو أبو عبد الله محمد بن المتوكل بويع بالخلافة سنة اثنين وخمسين ومائتين عقيب خلع المستعين وكان المعتز جميل الشخص حسن الصورة. ولم يكن بسيرته ورأيه وعقله بائس إلا أن الأتراك كانوا قد استولوا منذ قتل المتوكل على المملكة واستضعفوا الخلفاء فكان الخليفة في يدهم كالأثير إن شاؤوا أبقوه وإن شاؤوا خلعوه وإن شاؤوا قتلوه. قيل أنه لما جلس المعتز على سرير الخلافة قعد خواصه وأحضر المنجمين وقال لهم: انظروا كم يعيش(5/313)
وكم يبقى فيالخلافة. وكان بالمجلس بعض الظرفاء فقال: أنا أعرف من هؤلاء بمقدار عمره وخلافته. فقالوا له: فكم تقول أنه يعيش وكم يملك. قال: مهما أراد الأتراك فلم يبق في المجلس إلا من ضحك. وفي سنة خمس وخمسين ومائتين صار الأتراك إلى المعتز يطلبون أرزاقهم فما طالهم بحقهم. فلما رأوا أنه لا يحصل منه شيء دخل غليه جماعة منهم فجروا برجله إلى باب الحجرة وضربوه بالدبابيس ثم أدخلوه سردابا وجصصوا عليه فمات (للنهراولي)
المهتدي بالله (869) المعتمد على الله (870) المعتضد بالله (892)
ثم ملك بعده المهتدي بالله وهو أبو عبد الله محمد بن الواثق. كان المهتدي من أحسن الخلفاء مذهبا. وأجملهم طريقة وسيرة وظهرهم ورعا وأكثرهم عبادة. كان يتشه بعمر بن عبد العزيز ويقول: إني أستحي أن يكون في بني أمية مثله ولا يكون مثله في بني العباس. وكان يجلس للمظالم فيحكم حكما يرتضيه الناس وكان يتقلل في مأكوله وملبوسه. وكان المهتدي قد أطرح الملاهي وحرم الغناء والشراب ومنع أصحابه من الظلم والتعدي. وكان سبب المهتدي أنه قتل بعض الموالي فشغب عليه الأتراك وهاجوا وأخذوه أسيرا وعذبوه ليخلع نفسه فلم يفعل فقتلوه وهو ابن سبع وثلاثين سنة. ثم ملك بعده المعتمد على الله وكان مستضعفا وكان أخوه الموفق طلحة الناصر هو الغالب على أموره فللمعتمد الخطبة والسكة والتسمي بأمير المؤمنين ولأخيه طلحة الأمر والنهي وقود العساكر ومحاربة الأعداء ومرابطة الثغور وترتيب الوزراء والأمراء. وكان المعتمد مشغولا عن ذلك بلذاته. وفي أيامه خرج أحمد بن طولون وظفر بحلب وأنطاكية وبقية العواصم واستقل بمصر وأخذ خراجها وكان يومئذ عامرة آهلة. ثم توفي المعتمد وكان أسمر ربعة رقيقا مدور الوجه مليح العينين صغير اللحية أسرع إليه الشيب منهمكا على اللهو والمسكرات. ثم ملك بعده المعتضد بن الموفق وكان شهما عاقلا فاضلا حمدت سيرته ولي والدنيا خربا والثغور مهملة. فقام قياما مرضيا حتى عمرت مملكته وكثرت الأموال وضبطت الثغور. وكان قوي السياسة شديدا على أهل الفساد حاسما لمواد أطماع عساكره عن أذى الرعية. وكانت أيامه أيام فتوق وخوارج كثيرين منهم عمرو بن الليث الصفار. كان قد عظم شأنه وفخم أمره واستولى على أكثر بلاد العجم. فآلت عاقبته إلى القيد والأسر والذل. فقام المعتضد في إصلاح المتشعب من مملكته والعدل في رعيته حتى مات. وكان المعتضد سار إلى الموصل قاصدا إلى الأعراب والأكراد فأوقع بهم وقتل منهم وخرج إلى الجزيرة يريد قلعة ماردين وكانت لحمدان فهدمها وظفر بحمدان ملكها. ومات سنة (289) (للفخري)
المكتفي بالله (902) المقتدر بالله (908) القاهر بالله (932)
أخذ للمكتفي أبوه البيعة قبل موته بثلاثة أيام. وكان المكتفي من أفاضل الخلفاء وسيما جميلا بديع الحسن دري اللون معتدل الطول وكان حسن العقيدة كارها لسفك الدماء.(5/314)
وفي أيامه ظهر القرامطة وهم قوم من الخوارج خرجوا وقطعوا الدرب على الحاج. واستأصلوا شأفتهم وقتلوا فيهم مقتلة عظيمة. وسرح المكتفي إليهم جيوشا كثيرة فأوقع بهم وقتل بعض زعمائهم. وكانت خلافة المكتفي ست سنين. فانقصف غصن شبابه القشيب. ويبس عود جماله النضر الرطيب. فانتقل من دار الفناء إلى دار الجزاء والبقاء. ثم قام بالأمر بعده أخوه أبو الفضل جعفر المقتدر بويع له يوم وفاة أخيه وهو ابن ثلاث عشر سنة. وضعف دست الخلافة في أيامه. وكان المقتدر سمحا كثير الإنفاق وولي الخلافة ثلاث مرات فتغلب الجند عليه واتفقوا على خلعه وعقدوا البيعة لأبي العباس بن المعتز. وكان ابن المعتز أكثر العباسيين فضلا وأدبا ومعرفة موسيقى وأشعر الشعراء مطلقا في التشبيهات المبتكرة الغريبة للرقص التي لا يشق غباره فيها أحد. فأرسل المقتدر وقبض على ابن المعتز وقتله في حبسه واستقام الأمر للمقتدر بعد الاضمحلال ولاح بدر فلاحه بعد الزوال وهذه ولايته الثانية. ثم جرت بين المقتدر وبين مؤنس المظفر أمير الجيوش منافرة أدت إلى خلع المقتدر ومبايعة أخيه القاهر. ثم أعيد المقتدر ثالثة وحمله الجنود على أعناقهم إلى دار الخلافة فجلس على السرير وصفح عن أخيه القاهر. ثم وقع بينه وبين مؤنس حرب فتوغل المقتدر في المعركة فضربه واحد من البربر فسقط إلى الأرض فقال لضاربه: ويحك أنا الخليفة. فقال له: أنت المطلوب وذبحه بالسيف. وفي أيامه نبعت الدولة الفاطمية بالمغرب. وولي أخوه القاهر بالله مكانه فما لبث أن هر القاهر المذكور وسلمت عيناه فجعل يستعطي في شوارع بغداد (للدميري)
الراضي بالله (934) المتقي بالله (940) المستكفي بالله (944) المطيع لله (946)
وعقبه في الخلافة أبو العباس بن المقتدر ولقبوه الراضي بالله. وفي أيامه ضعف أمر الخلافة العباسية فكانت فارس في يد ابن بويه. والموصل وديار بكر في يد بني حمدان. ومصر والشام في يد الفاطميين. والأندلس في يد الرحمن الأموي. فلم يبق في يد الراضي سوى بغداد وما والاها. فبطلت دواوين المملكة ونقص قدر الخلافة وعم الخراب. ثم تولى بعده أبو إسحاق أخوه ولقب المتقي بالله لم يكن له من السيرة ما يأسر وقبض عليه توزون التركي وسمل عينيه سنة (333) . وبويع بعده لابن عمه المستكفي بالله واستمر في خلافته سنة واحدة وامسكه من أمرائه معز الدولة بن بويه فسمل عينيه وضمه إلى المتقي بالله والقاهر بالله فصاروا ثلاثة أثافي العمى. وولي الخلافة بعده ابن عمه المطيع لله سنة (334) . وفي أيامه قويت شوكة آل بويه وتم أمكره على ضعف الخلافة وطالبت أيامه إلى أن خلع نفسه
الطائع لله (974) القادر بالله (991) القائم بأمر الله (1031)
وبويع لولده عبد الكريم في سنة (363) . ولقب الطائع لله وكان مغلوبا عليه من قبل أمرائه. وما كان له إلا العظمة الظاهرة. وكان شديد القوة. في خلقه حدة كريما شجاعا(5/315)
بطلا جوادا سمحا إلا أن يده كانت قصيرة مع ملوك بني بويه. فقبضوا عليه وبايعوا أبا العباس أحمد القادر بالله (381) . وكان حسن الطريقة والسمت كثير الخير والدين والمعروف. وفي أيامه تراجع وقار الدولة العباسية ونما رونقها وأخذت أمورها في القوة ومكث القادر في الخلافة مدة طويلة حتى أنافت خلافته على إحدى وأربعين سنة. وولي بعده بعهد منه ولده أبو جعفر وقلب القائم بأمر الله وكان خيرا دينا باهر الفضل غلا أنه مغلوب بيد أمرائه وطالبت مدته مع ذلك. وفي أيامه انقرضت بني بويه وظهرت الدولة السلجوقية
المقتدي بالله (1075) المستظهر بالله (1049) المسترشد بالله (1118)
328 تولي بعد بعهد منه حفيده أبو القاسم ولقب المقتدي بالله. وكان من نجباء بني عباس دينا. ومن جملة صلاحه أن السلطان ملكشاه من آل سبكتكين قصد أن يظهر الحنف والحيف على الخليفة المذكور فأرسل غليه يقول له: أخرج من بغداد. فتلطف به المقتدي فأبى. فاستمهله عشرة أيام فأمهله. فصار الخليفة يصوم ويتضرع إلى الله فنفذ دعائه وهو مظلوم. فهلك السلطان ملكشاه قبل مضي عشرة أيام وعدت هذه كرامة للخليفة المقتدي وكانت وفاته بسنة (487) فجأة. وتولي بعده ابنه أبو العباس ولقب المستظهر بالله وكان كريم الأخلاق سهل العريكة مهذب الخلال. وكان قد غلب عليه ملوك آل سلجوق. ثم خلفه ابنه أبو المنصور ولقب المسترشد بالله وكان شجاعا دينا مقداما ذا رأي وهمة عالية فأحيا مجد بني العباس. وخرج إلى قتال السلطان مسعود السلجوقي فاستظهر عليه وقتل المسترشد غيلة (لأبي الفرج)
الراشد (1135) المقتفي لأمر الله (1136) المستنجد بالله (1160)
ثم قام بأمر بعده ابنه الراشد ولم تطل مدة خلافته فجهز عسكرا كثيفا لمحاربة مسعود فدخل السلطان بغداد واستبد بتدبير الأمور وخلع الراشد وولى عمه أبا عبد الله ولقب المقتفي بأمر الله. وكان عالما دمث الأخلاق خليقا بالإمارة كامل السؤدد بيده أزمة الأمور كان لا يجري في خلافته أمر وإن صغر إلا بتوقيعه. وجرى في أيامه فتن وحروب بينه وبين سلاطين العجم كانت الغلبة فيها له. وثار في أيامه العيارون والمفسدون فنهض بقمعهم أتم نهوض. ثم عقبه ابنه المستنجد وكان شهما عارفا بالأمور أزال المكوس والمظالم. وفي أيامه ضعفت دول الفاطميين في مصر. وخنق المستنجد في الحمام أكابر دولته عقيب مرضة صعبة
المستضيء بالله (1170) الناصر لدين الله (1180) الظاهر بالله (1225)
تولي بعده ابنه أبو محمد ولقب المستضيء بالله. وكان حسن السيرة كريم النفس وكثر ثناء الخلق عليه لكنه لم يكن بسيرته بائس. ثم ملك بعده ابنه الناصر لدين الله وكان الناصر من أفضل الخلفاء وأعيانهم. بصير بالأمور متوقد الذكاء والفطنة. وطالت مدته وصفا له الملك وأحب مباشر أحوال الرعية حتى كان يتمشى في الليل في دروب بغداد ليعرف(5/316)
أخبار الرعية وما يدور بينهم. وفي أيامه كان ظهور صلاح الدين واستيلائه على مصر واستخلاصه بيت المقدس من أيدي النصارى الافرنج. إزالة دولة الفاطميين. وتولى مكانه بعد موته ابنه محمد الظاهر بأمر الله ولم تطل أيامه ولم يجر فيها ما يسيطر لكنه أظهر العدل والإحسان. قيل أنه فرق ليلة عيد النحر على الفقراء مائة ألف دينار. فلامه الوزير على ذلك فقال: دعني أفعل الخير فإني لا أدري كم أعيش فلم يلبث أن توفاه الله وأثابه على عمله الصالح
المستنصر بالله (1226) المستعصم بالله (1242) انتهاء الخلافة (1258)
وتولى بعده أبو جعفر ولقب المستنصر بالله كان المستنصر بالله شهما جوادا يباري الربح كرما وجودا. وكانت هباته وعطاياه أشهر من أن يدل عليها وأعظم من أن تحصى. وله الآثار الجليلة منها (وهي أعظمها) المستنصرية وهي أعظم من أن توصف وشهرتها تغني عن وصفها. وكان المستنصر يقول: إني أخاف أن الله لا يثيبني على ما أهبه وأعطيه لأن الله تعالى يقول: لن تنالوا البر حتى تنفقوا مما تحبون وأنا والله لا فرق عندي بين التراب والذهب. وكانت أيامه طيبة والدنيا في زمانه ساكنة والخيرات والأعمال عامرة. وفي أيامه فتحت إربل ومات المستنصر في سنة أربعين وستمائة. وسلم على ابنه المستعصم بالله بالخلافة وهو آخر الخلفاء العباسيين وكانت مدة دولتهم خمسمائة وأربعا وعشرين سنة وكان المستعصم بالله مستضعف الرأي قليل الخبرة واهي العزيمة وكان وزيره ابن العلقمي عدوا له يداريه في الظاهر وينافقه في الباطن وكان تدبيره على إزالة الخلافة من بني العباس. فأذن للجند بالتفرق والذهاب أين شاؤوا وعظم الهرج ببغداد. ووقعت الفتن فصار ابن العلقم يكاتب هولاكو ملك التتر ويستحثه لقصد بغداد ويخبره عن صورة أخذها وضعف الخلافة وانحلال العسكر فزحف هولاكو بعسكر جرار إلى بغداد والمعتصم ومن معه في غفلة عنه لاخفاء ابن العلقمي عنه سائر الأخبار. إلى أن وصل إلى بلاد العراق واستأصل من بها قتلا وأسرا. وتوجه إلى بغداد وأرسل غلى الخليفة يطلب إليه فاستيقظ الخليفة من نوم الغرور. وندم على غفلته حيث لا ينفع الندم. وجمع من قدر عليه وبرز لقتلاه بأربعين ألف مقاتل. فثبتوا مع ترافتهم على حد السيوف من إقبال الفجر إلى إدبار النهار إلى أن عجزوا عن الاصطبار وولوا الإدبار بالأدبار. وأعقبهم التتار. ووضع السيف فيهم. وقتلوا من المسلمين في ثلاث أيام ما ينيف على ثلاثمائة وسبعين ألف نفس. وسبوا ورموا كتب مدارس بغداد في نهر دجلة فكانت لكثرتها جسرا يمرون عليه ركابا ومشاة. وكانت هذه فتنة من أعظم مصائب الإسلام. وأخذوا المستعصم وأولاده وجماعته وأتوا به إلى هولاكو فاستبقاه أياماً إلى أن استصفى أمواله ودفائنه. ثم رمى رقاب أولاده وأتباعه وأمر أن يوضع الخليفة في غرارة ويرفس بالأرجل إلى أن يموت ففعل به ذلك (1258م) وانقطعت خلافة بني العباس وهم سبع وثلاثون خليفة أولهم السفاح وآخرهم المستعصم (للنهرولي) تم بحوله تعالى(5/317)
الجزء السادس(6/1)
الباب الأول في الخطب
نخبة من كتاب أطواق الذهب في المواعظ والخطب للزمخشري
اللهم إني أحمدك على ما أزلت إلي من نعمتك. وعلى ما أزلت عني من نقمتك. وعلى أني لم أكن أهلاً للأولى. وكنت بالثانية أولى. لولا فضل منك سابق حمد الحامد وراءه يقطف. وإن أعنق فكأنه مصفود يرسف. وكرم باسق شكر الشاكرين ينوء تحته بجناح مهيض. وإن حلق فكأنه لاصق بالحضيض. ثم إني أحمدك حمداً بعد حمدٍ ما هجس في ضمير نفس. ولا اتصل يماً بظن ولا حدس. من تيسر الفيئة التي بإحسانك المتظاهر جذبت إليها بضبعي. وبسلطانك القاهر قسرت عليها طبعي. وبنظرك الصادق خففت علي مجاشمها المتعبة. وسهلت بحل إساري وعتقي. ورقيتني إلى رتبة القناعة وهي الرتبة العليا. وزهدتني في الحرص على زخرف الدنيا. وطيبت نفسي بغوارز أخلافها عن الغزار. وترضيتها بعد الدرة بالغزار.
(المقالة الأولى) ما يخفض المرء عدمه ويتمه. إذا رفعه دينه(6/3)
وعلمه ولا يرفعه ماله وأهله. إذا خفضه فجوره وجهله. والعلم هو الأب. بل هو للثأي أرأب. والتقوى هي الأم. بل هي إلى اللبان أضم. فأحرز نفسك في حرزهما. وأشدد يدك بغرزهما. يسقك الله نعمةً صيبةً. ويحيك حياةً طيبة.
(المقالة الثانية) يا ابن آدم أصلك من صلصال كالفخار. وفيك ما لا يسعك من التيه والفخار. تارة بالأب والجد. وأخرى بالدولة والجد. ما أولاك بأن لا تصعر خديك. ولا تفتخر بجديك تبصر خليلي مم مركبك. وإلى مَ منقلبك. فخفض من غلوائك. وخل بعض خيلائك.
(المقالة الثامنة) ما أسعدك لو كنت في سلامة الضمير. كسلاسة الماء النمير. وفي النقاء عن الريبة كمرآة الغريبة. وفي نفاذ الطية. كصدر الخطية. وفي أخذ الأهبة. كالواقع في النهبة. لكنك ذو تكدير. كرجرجة الغدير. ومتلطخ بالخبائث. كالكثير المحانث. وذو عجز وتواني. كمكسال الغواني. وتارك للاستعداد. كالشاك في المعاد.
(المقالة العاشرة) استمسك بحبل مؤاخيك. ما استمسك بأواخيك. واصحبه ما أصحب للحق وأذعن. وحل مع أشياعه وظعن. فإن تنكرت أنحاؤه. ورشح بالباطل إناؤه. فتعوض من صحبته وإن عوضت الشسع. واصطرف بحبله وإن أعطيت النسع. فصاحب(6/4)
الصدق أنفع من الترياق النافع. وقرين السوء أضر من السم الناقع.
(المقالة الحادية عشرة) الشهم الحذر. بعيد مطارح الفكر. قريب مسارح النظر. لا يرقد ولا يكرى. إلا وهو يقظان الذكرى. يستنبط العظة من اللمح الخفي. ويستجلب العبرة من الطرف القصي. فإذا نظرت إلى نبات نعش فاستجلب عبرتك. وإذا رأيت بني نعش فاستجلب عبرتك. واعلم أن من الجوائز. أن تروح غداً على الجنائز.
(المقالة السادسة عشرة) الكريم إذا ريم على الضيم نبا. والسري متى سيم الخسف أبى. والرزين المختبي بحمالة الحلم. ينفر نفرة الوحشي عن الظلم. إشفاقاً على ظفره أن يقلم. وعلى ظهره أن يكلم. وقلما عرفت الأنفة والإباء. في غير من شرفت منه الآباء. ولا خير فيمن لم يطب له عرق. وذنب الكلب ما به طرق (المقالة السابعة عشرة) الوجه ذو الوقاحة. من وجوه الرقاحة. يفيء على صاحبه الأنفال. ويفتح له الأقفال. ويلقطه الأرطاب. ويلقمه ما استطاب. ويجسره على قول المنطيق. وييسر له فعل ما لا يطيق. وكل ذي وجه حيي. ذو لسانٍ عيي. معتقل لا ينشط لمقال. ولا ينشط من عقال. ولا يزال ضيق الذرع. بكيء الضرع. يشبع غيره وهو طيان. ويعطش هو وصاحبه ريان. ولكن لا كان من يتوقح. لأجل أن يترفه ويترفح. فلعمري ما النائل الوتح. إلا ما(6/5)
ناله الوقح. وأيم الله إن الرشحة في الجبين. أحسن من الشمم في العرنين. ولئن تفر عرضك وما في سقائك جرعة. خير من أن تملك البحر وما في وجهك مزعة.
(المقالة الثامنة عشرة) عزة النفس وبعد الهمة. الموت الأحمر والخطوب المدلهمة. ولكن من عرف منهل الذل فعافه. استعذب نقيع العز وذعافه. ومن لم يصطل بحر الهيجاء لم يصل إلى برد المغنم. ومن لم يصبر على براثن أسد اللقاء يصب أطرافاً كالغنم. وتحت علم الملك المطاع. ذكر السيوف والأنطاع. ومن لم يقض عليه عسر يقذه. لم يقيض له يسر ينفذه. وما الحكمة الإلهية إلا هي. وهي القاعدة التي أمر عليها العبد ونهي. اليوم عزاء في كلف وكرب وغداً جزاء بزلف وقرب.
(المقالة الحادية والعشرون) لا تنتفع بما لا تني أن تبتني وتقتني. وتعتن بغرس ما لا تجتني. هلم إلى استشارة عقلك فتبصر. وإلى استخارة ذهنك فتدبر. وقل لي إذا شق بصرك. واشتد حصرك. وعانيت الجد فشغلك عن ددك. وأوحشك تفريطك فسقط في يدك. ما يغني حينئذٍ عنك بنيانك. وما يجدي عليك قنيانك. وهل ينفعك نخيلك الصنوان وغير الصنوان. أم يدفع عنك ما يخرج من طلعها من القنوان (المقالة الثانية والعشرون) خل عن يدك الباطل واللدد.(6/6)
واعتنق الجد والزم الجدد. إن الله تعالى خلقك جداً لا عبثاً. وفطرك إبريزاً لا خبثاً. لولا أن نفسك بكسبها الخبيث خبثتك. وبلطخ عملها السيئ لوثتك. فأرخيت عنانك فيما أنت عنه مزجور. وتوليت بركتك عما أن عليه مأجور. إلقاء بيدك إلى التهلكة. وإضاعة لحظك في عظيم المهلكة.
(المقالة الرابعة والعشرون) من لعمل كالظهر الدبر. ومن لقلب كالجرح الغبر. دووي بكل دواء ينجع. واحتيل عليه بكل حيلة فلم ينفع. متى رفوت منه جانباً انتقض عليه آخر. وإذا سددت من فساده منخراً جاش منخره ضاقت عن تدبيره فطن الأناسي. وأعضل علاجه على الطيب النطاسي. فيا ويلتا من هذا السقام. ويا غوثتا من هذا الداء العقام. وما أحق بمثلي أن يبيت بليلةٍ سليم. كلما تليت: إلا من أتى الله بقلب سليم.
(المقالة الخامسة والعشرون) احرص وفيك بقية. على أن تكون لك نفس تقية. فلن يسعد إلا التقي. وكل من عداه فهو شقي. قبل أن ترى الشيب المجلل. والصلب المهلل. والجلد المتشنن. والرأي المتقنن. والنوء المتخاذل. والوطء المتثاقل. والرثية في المفاصل ناهضة. والرعشة للأنامل نافضة. وقبل أن لا تقدر على ما أنت عليه قادر. ولا تصدر عما أنت عنه صادر.
(المقالة الحادية والثلاثون) قلبك آمن. وجأشك متطامن.(6/7)
ورأيك في الشهوات باتر. وشوقك إلى ما عند الله فاتر. وأنت مترفه مترف. أطيب قطف لك مخترف. في أكناف السعة راتع. ولأخلاف الدعة راضع. وفي تيه الغفلات هائم. كأنك إحدى البهائم ما هذا خلق المؤمن. ولا هكذا صفة الموقن. المؤمن راهب راغب. ساغب لاغب. ذو هيئة بذة. محتم من كل لذة. إن رأى من نفسه جماحاً ألجم وحجر. وإن أحس منها مطمعاً ألقمها الحجر.
(المقالة الثالثة والثلاثون) يا عدب الدينار والدرهم متى أنت عتيقهما. ويا أسير الحرص والطمع متى أنت طليقهما. هيهات لا عتاق إلا أن تكاتب على دينك الممزق. ولا إطلاق أو تفادي بخيرك الملزق. يا من يشبعه القرص. ما هذا الحرص. ويا من ترويه الجرع. ما هذا الجزع. ستعلم غداً إذا تندمت. أن ليس لك إلا ما قدمت. وإذا لقيت المنون. لم ينفعك مال ولا بنون. ما يصنع بالقناطير المقنطرة. عابر هذه القنطرة. وما يريد من البهجة والفرحة. نازل ظل هذه السرحة.
(المقالة الثامنة والثلاثون) لم أر فرسي رهان. مثل الحق والبرهان. لله درهما متخاصرين. ولا عدمتهما من متناصرين. اصطحبا غير مبانين. اصطحاب أبانين. من شديده بغرزهما. فقد اعتز بعزهما. ومن زل عنهما فهو من الذلة أذل. ومن القلة أقل.
(المقالة التاسعة والثلاثون) أيها الشيخ الشيب ناهيك به ناهياً.(6/8)
فما لي أراك ساهياً لاهياً. أبق على نفسك وأربع. فهذه أخرى المراحل الأربع. ومن بلغ رابعة المراحل. فقد بلغ من الحياة الساحل. وما بعدها إلا المورد الذي ليس لأحد عنه مصدر. ولا زيد من عمرو بوروده أجد. هو لعمر الله مشرع. جميع الناس فيه شرع. وأحقهم بالاستعداد له من شارفه وأولاهم بالإشفاق له من فارقه.
(المقالة الثالثة والأربعون) ما لعلماء السوء جمعوا عزائم الشرع ودونوها. ثم رخصوا فيها لأمراء السوء وهونوها. ليتهم إذ لم يرعوا شروطها لم يعوها. وإذا لم يسمعوها كما هي لم يسمعوها. إنما حفظوا وعلقوا. وصفقوا وحلقوا. ليقمروا المال وييسروا. ويفقروا الأيتام ويؤسروا. إذا أنشبوا أظفارهم في نشب فمن يخلص. وإن قالوا لا نفعل أو يزاد كذا فمن ينقص. دراريع ختالة. ملؤها ذراريح قتالة. وأكمام واسعة. فيها أصلال لاسعة. وٌلام. كأنها أزلام. وفتوى. يعمل بها الجاهل فيتوى. إن وازنت بين هؤلاء والشرط. وجدت الشرط أبعد من الشطط. حيث لم يطلبوا بالدين الدنيا ولم يثيروا الفتنة بالفتيا.
(المقالة الرابعة والأربعون) هب أنك اتقيت الكبائر التي نصت. وتجنبت العظائم التي قصت. ورضت نفسك مع الرائضين. على أن لا تخوض مع الخائضين. فما قولك في هنات توجد منك وأنت ذاهل. في هفوات تصدر عنك وأنت غافل. ولعلك ممزق الشلوح(6/9)
مأكول. وإلى المؤاخذة باقترافها موكول. فمثلك مثل الرئبال. في محاماته عن الأشبال. يصد عن التصدي لها البطل الحميس. بل يرد عن مرابضها الخميس. ثم يصبح أبو الشبل والنمل إلى ابنه كالحبل. وهي بأوصاله مطيفة. كأنما كسته فطيفة. فما أغنى عنه ذياده. حتى تم للنمل كياده.
(المقالة السابعة والأربعون) الحازم من لم يزل على جده. لم يزل عنه إلى ضده. وذو الرأي الجزل. من ليس في شيء من الهزل. وكيف يكون حازماً من هو مازح. هيهات البون بينما نازح. وكفاك أن المزح. مقلوب الحزم كما أن الحزم مقلوب المزح. رب كلمة غمستك في الذنوب. وأفرغت على أخيك ملء الذنوب. فإن كان حراً زرعت الغمر في سويدائه. وإن كان عبداً نزعت المهابة من أحشائه. وتقول إنها مزاحة. وعليك في أن تقولها مزاحة. ويحك يا تلعابة. لو علمت ما في الدعابة لأطعت في إطراحها نهاتك. ولما غراغرت بها لهاتك. أسرك أن داعبت الرجل فضحك. ولم تشعر أنه بذلك فضحك. حيث أعلم لو فطنت لإعلامه. أنك الشيخ المضحوك من كلامه. وذلك ما ليس به خفاء. أنه من صفات السخفاء.
(المقالة الرابعة والستون) شبت وعرامك ما وخط عارضيه مشيب. وشخت وغرامك رداء شبابه قشيب. مالي أراك صعب المراس. جامح الرأس. كأن وافد المشيب لم يخطمك. وكأن ارتقاء(6/10)
السن لم يحطمك. الشيخوخة تكسب أهلها سمتاً. وأنت ما أكسبتك إلا أمتا. لو علمت أي وقد حل بفودك. لتبرقعت حياء من وفدك. ولكن محياك لم يتعلم الحياء. ولم يتهج من حروفه الحاء ولا الياء. تثب إلى الشر كما تثب الظباء. وتلهث إلى اللهو كما يلهث الظماء. إن حمحم الباطل فأسمع من سمع. وإن همهم الحق فكأنك بلا سمع. حملت نفسك على الرياضات وهي ريضة. ومن يحتلب اللباء من اللبؤة المغيضة.
خطبة لبديع الزمان الهمذاني
أيها الناس إنكم لم تتركوا سدى. وإن اليوم غداً. وإنكم واردو هوة. فأعدوا لها ما استطعتم من قوة. وإن بعد المعاش معاداً فأعدوا لها زادا. ألا لا عذر فقد بينت لكم المحجة. وأخذت عليكم الحجة. من السماء بالخبر. ومن الأرض بالعبر. ألا وإن الذي بدأ الخلق عليما. يحيي العظام رميما. إلا وإن الدنيا دار جهاز. وقنطرة جواز. من عبرها سلم. ومن عمرها ندم. إلا وقد نصبت لكم الفخ ونثرت لكم الحب فمن يرتع. يقع. ومن يلقط. يسقط. ألا وإن كذبت حيلة العاقل فاكتسوها. والغنى حلة الطغيان فلا تلبسوها. كذبت ظنون الملحدين. الذين جحدوا الدين. وجعلوا أقواله عضين. إن بعد الحدث حدثاً. وإنكم لم تخلقوا عبثاً. فحذار حر النار. وبدار عقبى الدار. إلا وإن العلم أحسن على علاته. والجهل أقبح على(6/11)
الاته. وإنكم أشقى من أظلته السماء. إن شقى بكم العلماء. الناس بأئمتهم. فإن انقادوا بأزمتهم. نجوا بذمتهم. والناس رجلان عالم يرعى. ومتعلم يسعى. والباقون هامل نعام. وراتع أنعام. ويل عال أمر من سافله. وعالم شيء من جاهله. وقد سمعت أن علي بن الحسين كان قائما يعظ الناس ويقول: يا نفس حتام إلى الحياة ركونك. وإلى الدنيا وعمارتها سكونك. أما اعتبرت بمن مضى من أسلافك. وبمن وارته الأرض من آلافك. ومن فجعت به من إخوانك. ونقل إلى دار البلى من أقرانك:
فهم في بطون الأرض بعد ظهورها ... محاسنهم فيها بوال دواثر
خلت دورهم منهم وأقوت عراصم ... وساقتهم نحو المنايا المقادر
وخلوا عن الدنيا وما جمعوا لها ... وضمتهم تحت التراب الحفائر
كم اختلست أي المنون. من قرون بعد قرون. وكم غيرت ببلاها. وغيبت أكثر الرجال في ثراها:
وأنت على الدنيا مكب منافس ... لخطابها فيها حريص مكاثر
على خطر تمشي وتصبح لاهياً ... أتدري بماذا لو عقلت تخاطر
وإن امرءاً يسعى لدنياه جادهاً ... ويذهل عن أخراه لا شك خاسر
انظر إلى الأمم الخالية. والملوك الفانية. كيف انتسفتهم الأيام. وأفناهم الحمام. فانمحت آثارهم. وبقيت أخبارهم:
فأصبحوا رميما في التراب وأقفرت ... مجالس منهم عطلت ومقاصر(6/12)
وخلوا عن الدنيا وما جمعوا بها ... وما فاز منهم غير من هو صابر
وحلوا بدار لا تزاور بينهم ... وأنى لسكان القبور التزاور
فما إن ترى إلا رموسا ثووا بها ... مسطحة تسفي عليها الأعاصير
كم عاينت من عزة وسلطان. وجنود وأعوان. قد تمكن من دنياه. ونال منها مناه. فبنى الحصون والدساكر. وجمع الأعلاق والعساكر:
فما صرفت كف المنية إذ أتت ... مبادرة تهوي إليه الذخائر
ولا دفعت عنه الحصون التي بنى ... وحفت به أنهارها والدساكر
ولا قارعت عنه المنية حيلة ... ولا طمعت في الذب عنه العساكر
يا قوم الحذر الحذر. والبدار البدار. من الدنيا ومكايدها. وما نصبت لكم من مصايدها. وتجلت لكم من زينتها. واستشرفت لكم من بهجتها:
وفي دون ما عينت من فجعاتها ... إلى رفضها داع وبالزهد آمر
فجد ولا تغفل فعيشك بائد ... وأنت إلى دار المنية صائر
ولا تطلب الدنيا فإن طلابها ... وإن نلت منها رغبة لك ضائر
وكيف يحرص عليها لبيب. أو يسر بها أريب. وهو على ثقةٍ من فنائها لا تعجبون ممن ينام وهو يخشى الموت. ولا يرجو الفوت:
ألا لا ولكنا نغر نفوسنا ... وتشغلها اللذات عما تحاذر
وكيف يلذ العيش من هو موقن ... بموقف عدل حيث تبلى السرائر
كأنا نرى أن لا نشور وأننا ... سدى ما لنا بعد الفناء مصاير(6/13)
كم غرت الدنيا من مخلد إليها. وصرعت من مكب عليها. فلم تنعشه من عثرته ولم تقله من صرعته. ولم تداوه من سقمه. ولم تشفه من ألمه:
بلى أوردته بعد عز ورفعة ... موارد سوء ما لهن مصادر
فلما رأى أن لا نجاة وأنه ... هو الموت لا ينجيه منه المؤازر
تندم لو أغناه طول ندامة ... عليه وأبكته الذنوب الكبائر
بكى على ما سلف من خطاياه. وتحسر على ما خلف من دنياه. حيث لم ينفه الاستعبار. ولم ينجه الاعتذار:
أحاطت به أحزانه وهمومه ... وإبليس لما أعجزته المعاذر
فليس له من كربة الموت فارج ... وليس له مما يحاذر ناصر
وقد خسئت فوق المنية نسفه ... ترددها منه اللهى والحناجر
فإلى متى ترفع بآخرتك دنياك. وتركب في ذاك وهواك. إني أراك ضعيف اليقين. يا رافع الدنيا بالدين. أبهذا أمرك الرحمن. أم على هذا دللك القرآن:
تخرب ما يبقى وتعمر فانيا ... فلا ذاك موفور ولا ذاك عامر
فهل لك إن وافاك حتفك بغتة ... ولم تكتسب خيرا لدى الله عاذر
أترضى بأن تقتضي الحياة وتنقضي ... ودينك منقوص ومالك وافر
نخبة من خطب الحريري
أيا السادر في غلوائه. السادل ثوب خيلائه. الجامح في(6/14)
جهالاته. الجانح إلى خزعبلاته. إلى م تستمر على غيك. وتستمرئ مرعى بغيك. وحتى م تتناهى في زهوك. ولا تنتهي عن لهوك. تبارز بمعصيتك. ما لك ناصيتك. وتجترئ بقبح سيرتك. على عالم سريرتك. وتتوارى عن قريبك. وأنت بمرأى رقيبك. وتستخفي من مملوكك. وما تخفى خافية على مليكك. أتظن أن ستنفعك حالك. إذا آن ارتحالك. أو ينقذك مالك. حين توبقك أعمالك. أو يغني عنك ندمك. إذا زلت قدمك. أو يعطف عليك معشرك. يوم يضمك محشرك. هلا انتهجت محجة اهتدائك. وعجلت معالجة دائك. وفللت شباة اعتدائك. وفدعت نفسك فهي أكبر أعدائك. أما الحمام ميعادك. فما إعدادك. وبالمشيب إنذارك. فما إعذارك. وفي اللحد مقيلك. فما قيلك. وإلى الله مصيرك. فمن نصيرك. طالما أيقظك الدهر فتناعست. وجذبك الوعظ فتقاعست. وتجلت لك العبر فتعاميت. وحصحص لك الحق فتماريت. وأذكرك الموت فتناسيت. وأمكنك أن تؤاسي فما آسيت. تؤثر فلساً توعيه. على ذكر تعيه. وتختار قصراً تعليه. على بر توليه. وترغب عن هاد تستهديه. إلى زاد تستهديه. وتغلب حب ثوب تشتهيه. على ثواب تشتريه. يواقيت الصلات. أعلق بقلبك من مواقيت الصلاة. ومغالاة الصدقات. آثر عندك من موالاة الصدقات. وصحاف الألوان. أشهى إليك من صحائف الأديان. ودعابة الأقران. آنس لك(6/15)
من تلاوة القرآن. تأمر بالعرف وتنتهك حماه. وتحمي عن النكر ولا تتحاماه. وتزحزح عن الظلم ثم تغشاه. وتخشى الناس والله أحق أن تخشاه. ثم أنشد:
تبا لطالب دنيا ... ثنى إليها انصبابه
ما يستفيق غراما ... بها وفرط صبابه
ولم درى لكفاه ... مما يروم صبابه
وله أيضاً من خطبة
أيا من يدعي الفهم ... إلى كم يا أخا الوهم
تعبي الذنب والذم
وتخطي الخطأ الجم
أما بان لك العيب ... أما أنذرتك الشيب
وما في نصحه ريب
ولا سمعك قد صم
أما نادى بك الموت ... أما أسمعك الصوت
أما تخشى من الفوت
فتحتاط وتهتم
فكم تسدر في السهو ... وتختال من الزهو
وتنصب إلى اللهو
كأن الموت ما عم
وحتام تجافيك ... وإبطاء تلافيك
طباعاً جمعت فيك
عيوباً شملها انضم
إذا أسخطت مولاك ... فما تقلق من ذاك
وإن أخفق مسعاك
تلظيت من الهم(6/16)
وإن لاح لك النقش ... من الأصفر تهتش
وإن مر بك النعش
تغاممت ولا غم
تعاصي الناصح البر ... وتعتاص وتزور
وتنقاد لمن غر
ومن مان ومن نم
تسعى في هوى النفس ... وتحتال على الفلس
وتنسى ظلمة الرمس
ولا تذكر ما ثم
ولو لاحظك الحظ ... لما طاح بك اللحظ
ولا كنت إذا الوعظ
حلا الأحزان تغتم
ستذري الدم لا الدمع ... إذا عانيت لا جمع
يقي في عرصة الجمع
ولا خال ولا عم
كأني بك تنحط ... إلى اللحد وتنغط
وقد أسلمك الرهط
إلى أضيق من سم
هناك الجسم ممدود ... ليستأكله الدود
إلى أن ينخر العود
ويمسى العظم قد رم
ومن بعد فلا بد ... من العرض إذا اعتد
صراط جسره مد
على النار لمن أم
فكم من مرشد ضل ... ومن ذي غزة ذل
وكم من عالمٍ ذل
وقال الخطب قد طم
فبادر أيها الغمر ... لما يحلو به المر
فقد كاد يهي العمر(6/17)
وما أقلعت عن ذم
ولا تركن إلى الدهر ... وإن لان وإن سر
فتلفى كمن اغتر
بأفعى تنفث السم
وخفض من تراقيك ... فإن الموت لاقيك
وسار في تراقيك
وما ينكل إن هم
وجانب صعر الخد ... إذا ساعدك الجد
وزم اللفظ إن ند
فما أسعد من زم
ونفس عن أخي البث ... وصدقه نث
ورم العمل الرث
فقد أفلح من رم
ورش من رشية انحص ... بما عم وما خص
ولا تأس على النقص
ولا تحرص على اللم
وعاد الخلق الرذل ... وعود كفك البذل
ولا تستمع العذل
ونزهها عن الضم
وزود نفسك الخير ... ودع ما يعقب الضير
وهيئ مركب السير
وخف من لجة اليم
بذا أوصيت يا صاح ... وقد بحت كمن باح
فطوبى لفتى راح
بآدابي يأتم
وله من خطبة وهي عرية من الإعجام
الحمد لله الممدوح الأسماء. المحمود الآلاء. الواسع العطاء(6/18)
المدعو لحسم اللأواء. مالك الأمم ومصور الرمم. ومكرم أهل السماح والكرم. ومهلك عاد وإرم. أدرك كل سر علمه. ووسع كل مصر حلمه. وعم كل عالم طوله. وهد كل مارد حوله. أحمد حمد موحد مسلم. وأدعوه دعاء مؤمل مسلم. وهو الله لا إله إلا هو الواحد الأحد. العادل الصمد ... ما همر ركام. وهدر حمام. وسرح سوام. وسطا حسام. اعملوا رحمكم الله عمل الصلحاء. واكدحوا لمعادكم كدح الأصحاء. واردعوا أهواءكم ردع الأعداء. وأعدوا للرحلة إعداد السعداء. وادرعوا حلل الورع. وداووا علل الطمع. وسووا أود العمل. وعاصوا وساوس الأمل. وصورا لأوهامكم حؤول الأحوال. وحلول الأهوال. ومساورة الأعلال. ومصارمة المال والآل. وادكروا الحمام وسكرة مصعره والرمس وهول مطلعه. واللحد ووحدة مودعه. الملك وروعة سؤاله ومطلعه. والمحو الدهر ولؤم كره. وسوء محاله ومكره. كم طمس معلماً. وأمر مطمعاً. وطحطح عرمرماً. ودمر ملكاً مكرماً. همه سك المسامع. وسح المدامع. وإكثار المطامع. وإرداء المسمع والسامع. عم حكمه الملوك الرعاع. والمسود والمطاع. والمحسود والحساد. والأساود والآساد. ما مول إلا مال. وعكس الآمال. وما وصل إلا وصال. وكلم الأوصال. ولا سر إلا وساء. ولؤم وأساء. ولا أصح إلا ولد الداء. وروع الأوداء. الله الله. رعاكم الله. إلى م مداومة اللهو. ومواصلة السهو. وطول(6/19)
الإصرار. وحمل الآصار. واطراح كلام الحكماء. ومعاصاة إله السماء. أما الهرم حصادكم. والمدر مهادكم. أما الحمام مدرككم. والصراط مسلككم. أما الساعة موعدكم. والساهرة موردكم. أما أهوال الطامة لكم مرصدة. أما دار العصاة الحطمة المؤصدة. حارسهم مالك. ورواؤهم حالك. وطعامهم السموم. وهواؤهم السموم. لا مال أسعدهم ولا ولد. ولا عدد حماهم ولا عدد. ألا رحم الله امرءاً ملك هواه. وأم مسالك هداه. وأحكم طاعة مولاه. وكدح لروح مأواه. وعمل ما دام العمر مطاوعاً. والدهر موادعاً. والصحة كاملة. والسلامة حاصلة. وإلا دهمه عدم المرام. وحصر الكلام. وإلمام الآلام. وحموم الحمام. وهدؤ الحواس. ومراس الأرماس. آها لها حسرة ألمها مؤكد. وأمدها سرمد. وممارسها مكمد. ما لولهه حاسم. ولا لسدمه راحم. ولا له مما عراه عاصم. ألهكم الله أحمد الإلهام. وردا كم دراء الإكرام. وأحكم دار السلام. وأسأله الرحمة لكم ولأهل ملة الإسلام. وهو أسمح الكرام. والمسلم والسلام.
وله من خطبة أخرى
مسكين ابن آدم وأي مسكين. ركن من الدنيا إلى غير ركين. واستعصم منها بغير مكين. وذبح من حبها بغير سكين. يكلف بها لغباوته. ويكلب عليها لشقاوته. ويعتد فيها لمفاخرته. ولا يتزود منها(6/20)
لآخرته. أقسم بمن مرج البحرين. ونور القمرين. ورفع قدر الحجرين. لو عقل ابن آدم. لما نادم. ولو فكر في ما قدم لبكى الدم. ولو ذكر المكافأة. لاستدرك ما فات. ولو نظر في المآل. لحسن قبح الأعمال. يا عجبا كل العجب. لمن يقتحم ذات اللهب. في اكتناز الذهب. وخزن النشب. لذوي النسب. ثم من البدع العجيب أن يعظك وخط المشيب. وتؤذن شمسك بالمغيب. ولست ترى أن تنيب. وتهذب المعيب. ثم اندفع ينشد. إنشاد من يرشد:
يا ويح من أنذره شيبه ... وهو على غي الصبا منكمش
يعشو إلى نار الهوى بعدما ... أصبح من ضعف القوى يرتعش
ويمتطي اللهو ويعتده ... أوطأ ما يفترش المفترش
ولم يهب الشيب الذي ما رأى ... نجومه ذو اللب إلا دهش
ولا انتهى عما نهاه النهي ... عنه ولا بالى بعرض خدش
فذاك إن مات فسحقاً له ... وإن يعش عد كأن لم يعش
لا خير في محيا امرئ نشره ... كنشر ميت بعد عشر نبش
وحبذا من عرضه طيب ... يروق حسنا مثل برد رقش
فقل لمن قد شاكه ذنبه ... هلكت يا مسكين أو تنتقش
فأخلص التوبة تطمس بها ... من الخطايا السود ما قد نقش
وعاشر الناس بخلق رضى ... ودار من طاش ومن لم يطش
ورش جناح الحر إن حصه ... زمانه لا كان من لم يرش(6/21)
وأنجد الموتور ظلما فإن ... عجزت عن إنجاده فاستجش
وأنعش إذا ناداك ذو كبوة ... عساك في الحشر به تنتعش
وهاك كأس النصح فاشرب وجد ... بفضلة الكأس على من عطش
موعظة لابن الجوزي
إخواني اعلموا أن من عمل في الأيام خيرا حمد أمره. ومن اقترف فيها شرا أضاع عمره. سيندم غدا من قصر على تقصيره. ويتلهف من ترك العمل لمصيره. ويبكي هاجر الهدى بعد تبصيره. إنما هي أوقات مبادرة تذهب. واغتنام أيام تنهب. فبادر بعمرك قبل الفوت. واغتنم حياتك قبل الموت. يا من يعصي مولاه على ما يريد. ويبارزه بالمعاصي وهو أقرب إليه من حبل الوريد. وهو في دار الأرباح لا يكسب ولا يستفيد. ولا يشوقه الوعد ولا يخوفه الوعيد. أمله طويل وليس العمر بمديد. والمواعظ تقرع القلوب فتجدها أقسى من الصخور وأصلب من الحديد. تيقظ يا مغرور وافهم يا بليد. فالأمل طويل والأمن عريرٌ شريدٌ. وطريق العقاب بعيد مديد. كيف ترجو البقاء في دار الفناء والرحيل. تأمل الرضا والزمان قد مضى في غير الجميل. أعددت الجواب وقد علمت أن الحساب يأتي على الكثير والقليل. فإلى متى تضيع الوقت الشريف. وحتى متى تتقرب إلى الملك اللطيف. وكيف أعرضت عن القيام بتخفيف التكليف. وأين تأثير الإنذار عندك والتخويف. يا من إذا دعي إلى صلاحه أبى(6/22)
وتخلف. وإذا وعد بتوبة تمادى وأخلف. وإذا هم بفعل الخير توانى وسوف. وإذا أدى واجبا شق عليه وتكلف. وإذا لاح له ما يهوى من المخازي لم يتأن ولم يتوقف. وإذا بارز بالمعاصي لم يتحذر ولم يتخوف. هذا ميدان المجاهدة فأين اجتهادك. هذا الرحيل قد دنا فأين زادك. هذا الصراط قد مد فأين استعدادك. هذا ركن الفناء وثيق فأين اعتمادك. هذا الاعتبار قد لاح فأين أجدادك. هذا نذير الرحيل قد صاح فهل تم مرادك. وكيف نسيت مأربك فأثرت على يقينك ارتيابك. أفأمنت توبيخك وعتابك حتى ملأت من الخطايا. كتابك. ليت شعري ما الذي أصابك. حتى اخترت خطأك ورفضت صوابك. أنسيت حشرك وحسابك. أم أعددت للسؤال جوابك. يا هذا أبك على ذنوبك وكن حزيناً وجلا. قبل أن يأتي يوم الحسرة وأنت مطرق خجلا. وكن على طلب الخلاص بالإخلاص مستسهلا. قبل أن يصير دمعك إذا صغى سمعك منهملاً. كيف يكون حالك إذا خرج الخلائق من القبور وفار البحر المسجور. وتدكدكت الجبال والصخور. وتمزقت السماء وهي تمور. وتقطعت الأرض وهي تحور. فهل ترى في ذلك اليوم من فتور. كيف يكون حالك إذا انكشفت غدا الأمور. وانهتكت من المذنبين الستور وبرز العدل الذي لا يجور. وذل كل جبار فجور. وتجلى العزيز الصبور. وحيل بينك وبينه يا مغرور. فناديت بالويل(6/23)
والثبور. كيف يكون حالك إذا قدمت غدا النجب للمطيعين. وانقطعت أنت في حملة المنقطعين. كيف يكون حالك إذا نشرت غدا أعلام التائبين. وبقيت أنت مع الخائبين. كيف يكون حالك إذا حشر الناس سكارى. من هول يوم القيامة حيارى. وحسبت أنت مع الأسارى. ودمعك يسيح. وجفنك قريح. وعينك عبرى. وكبدك حرى. وعقلك مسلوب. وفؤادك يذوب. وظلم المعاصي قد انكشفت. والشدائد عليك قد تضاعفت. وصحيفتك قد ظهرت. والزبانية إليك قد تبادرت. والجحيم قد أزفرت. وأستارك قد انتهكت. وقبائحك قد برزت وذنوبك قد اشتهرت. ودموعك قد انهمرت. وعينك قد استعبرت. وتلتفت عن اليمين وعن الشمال. وقد خابت منك الآمال. تنادي في قلبك: الحريق. كيف أمضي وأين الطريق. فحينئذ يهرب منك الأخ الشفيق. وينال الخل الودود والصاحب والرفيق. اللهم أجرنا من هول ذلك اليوم. واجعلنا من تباع الفائزين من القوم. يا من لا تأخذه سنة ولا نوم.
نخبة من مواعظ لسان الدين الخطيب
الحمد لله الولي الحميد. المبدئ المعيد. البعيد في قربه من العبيد. القريب في بعده فهو أقرب من حبل الوريد. محيي ربوع العارفين بتحيات حياة التوحيد. ومغني نفوس الزاهدين بكنوز احتقار(6/24)
الافتقار إلى العرض الزهيد. ومخلص خواطر المحققين من سجون دجون التقييد. إلى فسح التجريد. نحمده وله الحمد المنتظمة درره في سلوك الدوام وسموط التأييد. حمد من نزه أحكام وحدانيته وأعلام فردانيته عن مرابط التقييد. ومخابط الطبع والبليد. ونشكره شكر من افتتح بشكره أبواب المزيد. ونشهد أنه الله الذي لا إله إلا هو شهادة نتخطى بها معلم الخلق إلى حضرة الحق على كبد التفريد ... آه أي وعظ بعد وعظ الله تعالى يا أحبابنا يسمع. وفيما ذا وقد تبين الرشد من الغي يطمع. يا من يعطي ويمنع. إذا لم تقم الصنيعة فماذا تصنع. اجمعنا بقلوبنا يا من يفرق ويجمع. ولين حديدها بنار خشيتك فقد استعاذ الحكيم من قلب لا يخشع ومن عين لا تدمع. اعملوا رحمكم الله أن الحكمة ضالة المؤمن. يأخذها من الأقوال والأحوال ومن الجماد والحيوان. وما أملاه الملوان. فإن الحق نور لا يضره أن صدر من الخامل. ولا يقصر بمحموله احتقار الحامل. وأنتم تدرون أنكم في أطوار سفر لا تستقر لها دون الغاية رحلة. ولا تتأتى معها إقامة ولا مهلة. من الأصلاب إلى الأرحام إلى الوجود إلى القبور إلى النشور إلى إحدى داري البقاء أفي الله شك. فلو أبصرتم مسافراً في البرية يبني ويفرش. ويمهد ويعرش. ألم تكونوا تضحكون من جهله. وتعجبون من ركاكة عقله. ووالله ما أموالكم وأولادكم وشواغلكم عن الله التي فيها اجتهادكم إلا بقاء سفر في قفر. أو أعراس في ليلة نفر.(6/25)
كأنكم بها مطرحة تعبر فيها المواشي. وتنبو العيون عن خبرها المتلاشي. إنما أموالكم ولذاتكم فتنة. والله عنده أجر عظيم. ما بعد المقيل إلا الرحيل. ولا بعد الرحيل إلا المنزل الكريم أو المنزل الوبيل. وإنكم تستقبلون أهوالا سكرات الموت بواكر حسابها. وعتب أبوابها. فلو كشف الغطاء عن ذرة منها لذهلت العقول وطاشت الألباب. وما كل حقيقة يشرحها الكلام. يا أيها الناس إن وعد الله حق فلا يغرنكم بالله الغرور أفلا أعددتم لهذه الورطة حيلة. وأظهرتم للاهتمام بها مخيلة. أتعويلا على عفوه مع المقاطعة وهو القائل في مقام التهديد. إن عذابي لشديد. أأمنا من مكره مع المنابذة. ولا يأمن مكر الله إلا القوم الخاسرون. أطعما في رحمته مع المخالفة كما قيل: فسأكتبها للذين يتقون. أو مشاقة ومعاندة. ومن يشاقق الله فإن الله شديد العقاب:
هكذا هكذا يكون التعامي ... هكذا هكذا يكون الغرور
يا حسرة على العباد ما يأتيهم من رسوم إلا كانوا به يستهزئون. وما عدا عما بدا ورسولكم الحريص عليكم الرؤوف الرحيم يقول لكم: الكيس من دان نفسه وعمل لما بعد الموت. والأحمق من اتبع نفسه هواها وتمنى على الله الأماني. فعلام بعد هذا المعول. وماذا يتأول. اتقوا الله سبحانه في نفوسكم وانصحوها. واغتنموا فرص الحياة واربحوها. أن تقول نفس: يا حسرتا على ما فرطت في جنب(6/26)
الله وإن كنت لمن الساخرين. وتنادي أخرى: هل إلى مرد من سبيل. تستغيث أخرى: يا ليتنا نرد فنعمل غير الذي كنا نعمل. وتقول أخرى: رب أرجعوني. فرحم الله من نظر لنفسه. قبل غروب شمسه. وقدم لغده من أمسه. وعلم أن الحياة تجر إلى الموت. والغفلة تقود إلى الفوت. والصحة مركب الألم. والشيبة سفينة تقطع إلى الساحل الهرم.
وله أيضاً من عظة
إخواني صمت الآذان والنداء جهير. وكذب العيان والمشار إليه شهير. أين الملك وأين الظهير. أين الخاصة أين الجماهير. أين القيل والعشير. أين ابن أردشير. صدق والله الناعي وكذب البشير. وغش المستشار واتهم المشير. وسئل عن الكل فأشار إلى التراب المشير:
خذ عن حياتك للممات الآتي ... وبدار ما دام الزمان مواتي
لا تغتر فهو السراب بقيعة ... قد خودع الماضي به الآتي
يا من يؤمل واعظا ومذكرا ... يوما ليوقظه من الغفلات
هلا اعتبرت ويا لها من عبرة ... بمدافن الآباء والأمات
قف بالبقيع وناد في عرصاته ... فلكم به من جيرة ولدات
درجوا ولست بخالد من بعدهم ... متميز عنهم بوصف حياة
والله ما استهللت حيا صارخا ... إلا وأنت تعد في الأموات
كيف الحياة لدارج متكلف ... سنة الكرى بمدارج الحيات(6/27)
أسفا علينا معشر الأموات لا ... ننفك عن شغل بهاك وهات
ويغرنا لمع السراب فنغتدي ... في غفلة عن هادم اللذات
يا من غدا وراح وألف المراح. يا من شرب الراح ممزوجة بالعذاب القراح. وقعد لعيان صروف الزمان مقعد الاقتراح. كأنك والله باختلاف الرياح. وسماع الصياح. وهجوم غارة الاجتياح. فأديل الخفوت من الارتياح. ونسيت أصوات الغناء برنات الرياح. وعوضت عرر النوب القباح. من غرر الوجوه العهود الكريمة بمر المساء عليها والصباح. وأصبحت كماة النطاح. من تحت البطاح. وخملت المهندة والرماح ذليلة من بعد الجماح.
تبا لطالب دنيا لا بقاء لها ... كأنما هي في تصريفها حلم
صفاؤها كدر سراؤها ضرر ... أمانها غدر أنوارها ظلم
شبابها هرم راحاتها سقم ... لذاتها ندم وجدانها عدم
فخل عنها ولا تركن لزهرتها ... فإنها نعم في طيها نقم
يا مشتغلا بداره. ورم جداره. عن إسراعه إلى النجاة وبداره. يا من صاح بإنذاره. وشيب عذاره. يا من صرف عين اعتذاره بأقذاره. يا من قطعه بعد مزاره. وثقل أوزاره. يا معتلقاً ينتظر هجوم جزاره. يا من أمعن في خمر الهوى خف من إسكاره. يا من خالف مولى رقه توق من إنكاره. يا كلفا بعارية ترد. يا مفتونا بأنفاس تعد.(6/28)
يا معولا على الإقامة والرحال تشد. كأني بك وقد أوثق الشد وألصق بالوسادة الخد. والرجل تقبض والأخرى تمد. واللسان يقول يا ليتنا نرد:
إن إلى الله وإن له ... ما أشغل الإنسان عن شانه
يرتاح للأثواب يزهى بها ... والخيط مغزول لأكفانه
ويخزن الفلس لوارثه ... مستنفدا مبلغ أكوانه
قوض عن الفاني رحال امرئ ... مد إليه عين عرفانه
ما ثم إلا موقف زاهد ... قد وكل العدل بميزانه
مفرط يشقى بتفريطه ... ومحسن يجزى بإحسانه
يا هذا خفي عليك مرض اعتقادك. فالتبس الشحم بالورم. جهلت قيم المعادن فبعت الشبه بالذهب. فسد حسن ذوقك فتفكهت بحنظلة. أين حرصك من أجلك. أين قولك من عملك. يدركك الحياء من الفل فتتحامى حمى الفاحشة في البيت بسببه. ثم تواقعها بعين خالق العين. ومقدر الكيف والين. تالله ما فعل فعلك بمعبوده. من قطع بوجوده. ما يكون من نجوى ثلاثة إلى عليم. تعود عليك مساعي الجوارح التي سخرها لك بالقناطير المقنطرة من الذهب والفضة فتبخل منها في سبيله بفلس. وأحد الأمرين لازم إما التكذيب وإما الحماقة وجمعك بين الحالتين عجيب. يرزقك السنين العديدة من غير حق وجب لك وتسيء الظن به في يوم. توجب الحق(6/29)
وتعتذر بالغفلة. فما بال التمادي. تعترف بالذنب فما الحجة في الإصرار والبلد الطيب يخرج نباته بإذن ربه والذي خبث لا يخرج إلا نكدا. يا مدعي النسيان ماذا فعلت بعد التذكير. يا معتذرا بالغفلة أين ثمرة التنبيه. يا من قطع بالرحيل أين الزاد. يا ذبابة الحرص كم ذا تلجج في ورطة الشهد. يا نائما ملء عينيه حذار الأجل قد أنذر. يا ثمل الاغترار قرب خمار الندم. تدعي الحذق بالصنائع وتجهل هذا القدر. تبذل النصح لغيرك وتغش نفسك هذا الغش. اندمل جرح توبتك على عظم قام بناء عزمتك على رمل. نبتت خضراء دعواتك على دمنة. عقد كفك من الحق على قبضة ماء. أفمن زين له سوء عمله فرآه حسناً. فإن الله يضل من شاء ويهدي من يشاء. إذا غام جو هذا المجلس وابتدأ رش غمام الدموع قالت النفس الأمارة: حوالينا لا علينا. فدالت رياح الغفلة وسحاب الصيف هفاف. كلما شد طفل العزيمة على ردة التوبة صانعته ظئر الشهوة عن ذلك بعصفور. إذا ضيق الخوف فسحة المهل سرق الأمل حدود الجار. قال بعض الفضلاء: كانوا إذا فقدوا قلوبهم. تفقدوا مطلوبهم. ولو صدق الوعظ لأثر. اللهم لا أكثر طبيب يداوي الناس وهو عليل. والخطب جليل والمتفطن قليل فهل إلى الخلاص سبيل. اللهم انظر إلينا بعين رحمتك التي وسعت الأشياء وشملت الأموات والحياء. يا دليل الحائرين دلنا. يا عزيز ارحم ذلنا. يا ولي من لا ولي له كن لنا(6/30)
كلنا. إن أعرضت عنا فمن لنا نحن المذنبون وأنت غفار الذنوب. فقلب قلوبنا يا مقلب القلوب. وستر عيوبنا يا ستار العيوب. يا أمل الطالب ويا غاية المطلوب.
وللسان الدين في المواعظ ما خاطب به بعض من استدعى منه الموعظة ونصه
إذا لم أنح يوما على نفسي التي ... بحرائها أحببت كل حبيب
وقد صحح عندي أن غادية الردى ... تدب لها والله كل دبيب
فمن ذا الذي يبكي عليها بأدمعي ... إذا كنت موصوفا برأي لبيب
كم قد نظرت إلى حبيب تغار من إرسال طرفك بكتاب الهوى إلى إنسانه. وقد ذبلت بالسقم نرجسة لحظة وذوت وردة خده واصفرت لمغيب الفراق شمس حسنه وهو يجود بنفسه التي كان يبخل منها بالنفس. يخاطب بلسان حاله مسترحما. وليت الفحل يهضم نفسه وأنت على أثر مسحبه إلى دست الحكم. وما أدري ما يفعل بي ولا بكم. ومنها تالله: لو لم يكن المخبر صادقا لنشب بحلق العيش بعده شوكة الشك:
ولو أنا إذا متنا تركنا ... لكان الموت راحة كل حي
ولكنا إذا متنا بعثنا ... ونسأل بعده عن كل شي
فالحازم من بتر الآمال طوعا. وقال: بيدي لا بيد عمرو. يا أيها الناس إن وعد الله حق فلا تغرنكم الحياة الدنيا ولا يغرنكم بالله الغرور. وقال أمير الوعاظ: وبضدها تتميز الأشياء. يا مقتولا(6/31)
ما له طالب ثار. بريد الموت مطلق الأعنة فيطلبك وما يحميك حصن. ثوب حياتك منسوج من طاقات أنفاسك. والأنفاس تستلب ذرات ذاتك وحركات الزمان قوية في النسيج الضعيف. فيا سرعة التمزيق يا رابطا مناه بخيط الأمل إنه ضعيف الفتل. صياد التلف قد بث الصقور. وأرسل العقبان ونصب الأشراك وقطع المواد فكيف السلامة. تهيأ لسرعة الموت وأشد منها قلب القلب ليت شعري لما يؤول أمر. مركب الحياة تجري في بحري البدن برخاء الأنفاس. ولا بد من عاصف قاصف بفلكه ويغرق الركاب:
فاقضوا مآربكم عجالاً إنما ... أعماركم سفر من الأسفار
(وقال) كأنك بحرب التلف قد قامت على ساق وانهزمت بجنود الأمل. وإذا بملك الموت قد بارز الروح يجذبها بخطاطيف الشدائد من قيان العروق قد شد أكتاف الذبيح وحار البصر لشدة الهول. وملائكة الرحمة عن اليمين قد فتحوا أبوب الجنة وملائكة العذاب عن اليسار قد فتحوا أبواب النار. وجميع المخلوقات تستوكف الخبر ولكون كله قد قام على صيحة: سعد فلان أو شقي فلان. فهناك تنجلي أبصار الذين كانت أعينهم في غطاء عن ذكرى ويحك تهيأ لتلك الساعة حصل زادا قل الفوت:
تمتع من شميم عرار نجد ... فما بعد العيشة من عرار
مثل لعينيك سرعة الموت وما قد عزمت أن تفعل حينئذ في(6/32)
وقت الأسر فافعله في وقت الإطلاق. قال أبو تمام:
أتأمل في الدنيا تجد وتعمر ... وأنت غدا فيها تموت وتقبر
تلقح آمالا وترجو نتاجها ... وعمرك مما قد ترجيه أقصر
تحوم على إدراك ما قد كفيته ... وتقبل بالآمال فيه وتدبر
وهذا صباح اليوم ينعاك ضوءه ... وليلته تنعاك إن كنت تشعر
ورزقك لا يعدوك إما معجل ... على حاله يوما وإما مؤخر
ولا حول محتال ولا وجه مذهب ... ولا قدر يزجيه إلا المقدر
وقد قدر الأرزاق من ليس عادلا ... عن العدل بين الخلق فيما يقدر
فلا تأمن الدنيا وإن هي أقبلت ... عليك فما زالت تخون وتغدر
فما تم فيها الصفو يوما لأهله ... ولا الرنق إلا ريثما يتغير
وما لاح نجم لا ولا ذر شارق ... على الخلق إلا حبل عمرك يقصر
تطهر وألحق ذنبك اليوم توبة ... لعلك منه إن تطهرت تطهر
وشمر فقد أبدى لك الموت وجهه ... وليس ينال الفوز إلا المشمر
فهذي الليالي مؤذناتك بالبلى ... تروح وأيام كذلك تبكر
وأخلص لدين الله صدرا ونية ... فإن الذي تخفيه يوما سيظهر
ود يستر الإنسان باللفظ فعله ... فيظهر عنه الطرف ما كان يستر
تذكر وفكر في الذي أنت صائر ... إليه غدا إن كنت ممن يفكر
فلا بد يوما إن تصير لحفرة ... بأثنائها تطوى إلى اليوم تنشر(6/33)
نخبة من خطب الأعياد السيدية لابن الحديثي المعروف بأبي الحليم لعيد الميلاد الجسدي المقدس
الحمد لله الذي تفردت ذاته بوصف الأحدية فلا يقاس بالآحاد. وتميز بصفاته عن مراتب العددية فلا يماثل خصائص الأعداد. وعلا بعز العظمة والاقتدار عن النظراء والأشباه والأنداد. وتقدس بسلطان الربوية والاعتلاء عن ذمائم أوصاف العباد. الذي أفرغ بدائع صور الخلائق الكونية في قوالب المواد. وأخرجها إلى نور كمال الفعل من ظلمة نقائص القوة والاستعداد. وأرشدنا من تيه ظلام الأضاليل بنور الاهتداء إلى أنهج الجواد. وفصم عن أعناقنا أرباق الخطايا يوم إشراق مسيحه من المطلع البتولي بالميلاد. نحمده حمدا يبرأ من المعايب والتزييف في حدق حذقة النقاد. ونشكر سوابغ نعمه الجسيمة شكرا تترنح لرونق بثه شوامخ الأطواد. أيها المؤمنون إن يومكم هذا أشرف الأيام. وألطف المواقيت المعظمة وبكر الأعياد الكرام. يوم الفرح الأعظم والسرور الكامل. يوم الاستبشار الأكرم والحبور الشامل. يوم الهناء الأوفر والجذل الجديد. يوم العيد الأكبر وميلاد النجل الوحيد. يوم ابتهاج القلوب والأذهان. يوم إزالة الذنوب بالغفران. يوم أنذرت به البشائر النبوية. يوم جل عن النظائر والأشباه المثلية. يوم تفتحت فيه أبواب السعادات أمام البشر. وحصلت فيه غرائب الإفادات(6/34)
بميلاد المسيح المنتظر. هذا اليوم الذي افترت فيه نواجذ الحقائق. وتبسمت ثغور الجود والأنعام في وجوه الخلائق. هذا اليوم الذي كتبت فيه صكوك الخلاص المطلق. وأسفر ليل الشكوك عن غرة الصباح الأشرق. هذا اليوم الذي تألق فيه كوكب الحياة من أفرثا. وحقق لنا في العالم الملكوتي حصة في النور وإرثا. هذا اليوم الذي أشرقت فيه للأتقياء شمس البرارة. وذرت من الفلك المريمي في آفاق المغارة. هذا اليوم الذي اهتزت لفرحته أعطاف درة الحياة فيأكناف قرية داود. هذا اليوم الذي ظهرفيه السيد المسيح من المقصورة البتولية. مجلببا بالناسوت على نور الأزليو. وبشرت فيه بصالح الرجاء أصقاع البرية. وتيمن بمولده الجسدي أبناء الجبلة البشرية. اليوم قرت شقاشق أشعيا النبي الممجد في الأنبياء أن البتول الطاهرة تحبل وتلد أشرف الأبناء. اليوم انقض الكوكب الصبحي في فلك آل يعقوب. وفض بنوره أغساق الضلال من آفاق القلوب. اليوم نصل خضاب الأضاليل. أصحرت هضاب الأباطيل. تناثرت أوراق الرذائل. بدا الإيراق في أغصان الفضائل. اليوم تبلجت أقمار الحقائق. فتحت الذخائر والكنوز. نضيت ستور الأسرار عن وجوه الأمثال والرموز. اليوم تدكدكت أعران الضلال. تبركت الأذهان بميلاد مفيد الكمال. تنفس صباح(6/35)
السعادة والإقبال. تسربلت جبلة آدم من فخر الولادة المسيحية أسنى حلة وأبهى سربال. اليوم أنجم سحاب العطايا. أنجم ضباب الخطايا. فتحت خزائن المواهب. منحت صوائن الأذخار لكل آت وذاهب. اليوم سقطت أجنة الطغيان. لبست جنة الغفران. ظهرت سنة الإيمان. تقهقرت الأكنة عن القلوب والأذهان. اليوم أصبحت القلوب من الأدران مخمومة. وأغصان الذنوب عن الأذهان مجمومة. والأمة اليهودية عن النام مذمومة. وبحجار الهجاء والمذام محصوبة مرجومة. فينبغي لنا معاشر المؤمنين أن تنجلي محاسن العياد بأبصار البصائر. ونستشف بعين الاعتبار هذه النعم الغزائر. فإننا نرى حبلا تنزه عن مساقط النطف الزرعية. ميلادا لم تنفض به الختوم الطبيعية. أما قد شاخ معها اسم البتولية. خطيباً يفصح بالثناء على القدرة العلية. معلفاً أزرى برونقه على السدد النورية. مغارة أربت شرفاً على الأواوين السرية. رعاة شبوا من شظايا العصي نارا مضية. مجوسا تقرب القرابين وتدني الهدية. ملائكة تنادي بالسلام والرجاء في أرجاء البرية. كوكبا يهدي موكبا من أقيال المجوس إلى وصيد المغارة البيت لحمية. قمطاً تشرفت بها العلام والبنود الملكية. طفلا ترتج لهيبته أقطاب الكرات الفلكية. فهلموا الآن يا أصفياء سيدنا المسيح. ننثر من صدف الأفواه لآلئ التسبيح. نكثر من التمجيد لهذه الرأفة. ونقف أمام الله بالرعدة(6/36)
والمخافة. نتواهب الضغائن وخسائس الأحقاد. ونحل أجياد العقائد. بنفائس عقود الاعتقاد. نغتسل من دساتير القلوب أساطير الشكوك. ونخر له سجدا بقرابين العمال مع الملوك. نخلص النيات والسرائر. ونعد لنا في ظلل النور أخارير الذخائر. نتطهر من أوضار الجسوم وخطايا النفوس. ونقدم له الطاعة القلبية مع هدايا المجوس. نطرب لمولده مع رعاة الأغنام. ونسر بالفرحة التي
عمت اليوم كل الأنام. نستشر هذه المفاخر والمناقب. ونستشف مآثر العيد السعيد بالآراء الثواقب. ونقف في هذا السر الشريف وقوف الملائكة الأطهار. ونتأمل الأسرار الإلهية بعيون العقول والأفكار. ونضرع إلى الذي هدانا من متايه الأضاليل. وقادنا إلى مدارج الهدى بخزائم أوامر الإنجيل. أن يشرف جوارحنا بطاعته. ويضاعف مرابحنا برأفته. ويسدل على أبواب حواسنا ستور بعصمته. ويجعل هذا العيد السعيد مباركا على أمته. ميمون النقائب على شعبه المقدس ورعيته. ويزرع الألفة والمحبة في بيعته. ويخمد نوائر الفتن الثوائر في أقطار الأرض برحمته. ويعيد كل خليل حائد عن جدد الاستواء إلى زمرته. ويقصي كل مريد خلع ربقة الطاعة عن أظلال عنايته. ويجعل سيدنا ومولانا أمير المؤمنين فلانا في أكناف الحرم الحريز الأمنع وألطاف الظل المديد الأوسع. وأعراف الحمى العزيز الأشرس. وأعلى ذروات العز الشديد الأقعس. وأن يسبغ ظل(6/37)
الظليل الناصري. على شعب السيد المسيح الناصري ليحمي سربهم من الأذاء بصارم عدله. ويحرس شربهم من الأقذاء بوافر إحسانه وعزيز فضله. بشفاعة الأطهار من الشهداء المؤيدين. وصلاة الأخيار من السعداء المتزهدين. آمين.
لصباح أحد القيامة المبارك
الحمد لله المتفرد بالكمال في عزة اقتداره. المتوحد بالجلال في سرادق مجده ووقاره. المحتجب عن لفتات الأبصار بستور أنواره. المنتقب عن لمحات الأفكار بنور أستاره. الذي أعجزت الأفهام موانع معرفته. وعجزت الأوهام عن مواقع قدرته. وذهلت الأفكار في بدائع فطرته. ودهشت بصائر النظار في صنائع حكمته. الذي أرسل مسيحه ووجوه الإيمان ملفعة برداء الضلال. وملابس الجهل والبهتان ساحبة الذلاذل والذيال. ومرابع الفضائل دارسة المعالم والأطلال. ومراتع الرذائل مخصبة الأخلاء ممتدة الظلال. فسدد بلفظة الأقدام العاثرة. وشيد بوعظه الأعلام الداثرة. ورد الخلق من فجاج الردى بالمعجزات القاهرة. وقادهم إلى منهاج الهدى بالآيات الباهرة. حتى صفا مشرب الإيمان من أكدار رنقة. وأشرق الحق كالشمس المنيرة في دائرة فلقه. وأزهرت كواكب الهدى في وجوه ومشرقه. وتجلى الدين المسيحي في أفخر أثوابه وبهاء رونقه. نحمده حمد من حسر في أداء(6/38)
فرائض الطاعات عن ساقه ومرفقه. ونشكره شكرا تتبلج أهلة الإخلاص على جبينه ومفرقه. أيام المؤمنون إن ذا يوم القيامة وبداية الجلوس عن اليمين. فلنفرح بهذا العيد وليعانق بعضنا بعضا. اليوم يوم القيامة المسيحية ومبدأ التجديد. وأشرف المبادي اليمينية وأول العالم العتيد. يوم أبدرت في سمائه أهلة الإنعام. وألبست الجبلة البشرية في أثنائه حلة المجد وإكرام. يوم لاحت على مفارقه طرر الكمال. وامتدت على جبهته غرر السعادة والإقبال. يوم تحلت بعقود مناقبه المعاصم والجياد. وتطوقت بقلائد فخره نحور المواقيت والأعياد. يوم عطر أثواب الزمان تأرج نشره. وأقمر ليل الأذهان بتبلج فجره. يوم لاح على جبين المجد إشراق نجاحه. وباح بأسرار السعد إسفار صباحه. وتهللت وجوه الإقبال بفوز قداحه. واهتزت معاطف القلوب بحميا ريحه ونشوة راحهِ. يوم أضاءت في حنادس الكآبة مطالع جلاله. وأشرفت في سماء القلوب كواكب سعده وطوالع إقباله. يوم ظهرت علائم البركات على صفحاته. وهبت نسائم الخيرات من نفحاته. وقدحت أنوار السعادة من زنوده. وعرست ركائب الجود على مناهله ووروده. وحلت معاقد الأحزان لفرحته. وقام أهل الأرض والسماء على قدم الابتهاج في صبحته. يوم بشرنا بالفلاح أديمة. ونشر علينا راية الأفراح نسيه. وزالت عن الخلائق ضراؤه. وانحسرت عن معرفة الحق نكراؤه. وتجلت في(6/39)
ملابس الإشراق مطالع بدوره. وتفرت أغساق الضلال عن القلوب بطوالع نوره. هذا اليوم الذي تسورت بفخره معاصم الكمال. وأضحكت بدائع أسراره مباسم الآمال. وبسطت فرحته قوابض الأسرة. وانتقلت القلوب من وحشة الأحزان إلى أنس المسرة. هذا اليوم الذي أذهلت اللباب غرائبه. وأخرقت العقول عجائبه. وأشرقت في سماء المجد كواكبه. وزينت أجياد العياد مناقبه. اليوم تكسف بدور الأضاليل. تكشفت ستور الأباطيل. تشققت رموس الأبرار. تألقت نفوس الأخيار. خرج هلال الناسوتية عن ظلم السرار. ظهر مخلص الكل من المطلع القبري مبرقعا برداء الأنوار. اليوم عطست أنوف الجود. تفوقت شنوف الوجود. فتحت خزائن النعمة. منحت صوائن الحكمة. تبلجت أقمار المعارف. تجللت الأبدان بأبهى المطارف. هذا اليوم الذي أضحت فيه غرر الآمال مبيضة. ولطائم الإقبال منفضة. ومواكب الشيطان مرفضة. وكواكب البهتان منقضة. هذا اليوم الذي تبلجت الحقائق في سدقته. وابتهجت الخلائق في صبحته. صبت البركات في بركته. وعمت الخيرات بيمنه وبركته. فإن هذا هو اليوم الذي صنعه الرب هلموا نبتهج ونفرح فيه (مزمور 118: 24) . معاشر المؤمنين لقد أتتكم بشرى القيامة في أبرك البكر وأيمن الأصباح. وقدمت عليكم ركائب البهجة بادية الغرر والأوضاح. وذرت عليكم من(6/40)
أشرف المطالع شموس المسرة والأفراح. فالهناء بالقيامة المسيحية لسائر الجسوم والأرواح. فهلموا الآن نؤم المدينة القدسية بأقدام العقول والأفكار. نلمح السيد المسيح بعيون البصائر والاعتبار. نره متألقاً من المطلع القبري. ممزقا ملابس الموت عن طبعه البشري. ننظر ملائكة السماء بالحلل النورية. جاثمة على صهوة السدة القرية. نبتهج مع مريم المجدلية وبوحان. نسر بالقيامة البكرية مع شمعون الصفا ويوحنان. نسع بأقدام الهمم إلى جليل الجلال. نتلق مخلص الكل بالإكرام والإجلال. نتهادبالسلام وحسن التحية. ونهز أعطاف القلوب بنشوة أريحية. نستسل السخائم والأحقاد
بالقبلة. ونستبشر بهذا اليوم العظيم مع الزمرة السليحية. نبعث القمم من قبور الغفلة والإهمال. ونشمر عن سوق العزائم تشمير الرجال. ونعد لنا في خزائن الملكوت صوالح العمال. ونستعد بالمصابيح والأضواء ليوم المآل. فلنقترب الآن علانية إلى كرسي نعمته. لنظفر بالمراحم ونجد النعمة للعون في زمان الضيق (عبرانيين: 4: 16) . ونطلب من الله أن يجعل هذا العيد السعيد. واليوم الأشرف المجيد. مباركا عليكم ميمون النقائب. مؤذنا بالسعادات الخافقة الأعلام الممتدة الذوائب. ويتقبل منكم ما أسلفتموه من الأعمال الصوالح. وذخرتموه في خزائن الملكوت من المتاجر والمرابح. ولا برحتم مكنوفين بكل نعمة وارفة الأظلال. ومنحة ضافية(6/41)
الأهداب والأذيال. يتأرج في الآفاق نشر رياها. ويتبلج في سماء الإشراق بشر محياها. راتعين في أخلاء سعادات متبلجة البدور. وادعين في أثناء مواهب مبتهجة الوجوه باسمة الثغور. ولا برحت شوارد النعم لديكم ثاوية. وموارد الحكم لقلوبكم راوية. وزنود الفضائل في ألبابكم وارية. وجنود الرذائل عنكم متوازية. حتى تتلقوا مورد مخلصكم يوم النشأة الأخرى. ترفلون في أثواب النعيم الأبدي في العراص الملكوتية. وتقتعدون سرر العز والإكرام مع الأولياء الخواص والزمر الملائكية. بشفاعة الآباء والقديسين. وسائر الشهداء والمنتخبين. آمين.
لعيد الرسل الأطهار
الحمد لله الذي أنار بسبحات نوره بصائر الخلصاء. وطبع سر ظهوره في صفحات سرائر الأخصاء. ووضع أكاليل المواهب الملكوتية على مفارق رؤوس الأصفياء. وأيد بنور الحكم اللاهوتية عقول الأنصار والسليحين الأوصياء. نحمده على ما أفاض علينا من حلل المجد وملابس السناء. ونشكره على جزائل نعمائه شكرا يملأ أقطار الأرض وأكناف السماء. أيها المؤمنون إن الثناء على مناقب الرسل الفضلاء زكاة الفصاحة. ونشر محاسن الرسل الأولياء يهدي إلى الأرواح روح الراحة. فإن نسائم نشر مفاخرهم إذا تأرجت وضاعت. أوجدت في قلوب من ذكر الله ما كنت أضاعت. أولئك الذين اختارهم(6/42)
السيد المسيح من أحقر المناسب. وأصارهم من درج الإمامة الكهنوتية في أوفى الرتب وأعلى المناصب. واصطفاهم خدما لشريف سدته. ودعاة يرسلهم إلى آفاق الأرض لنشر أوامر ناموسه ودعوته. وجعلهم بروجا اثني عشرية لشمس سلطانه وأشعته. وساعات ناطقة لنهار شرعه الفضلي وبشارته. واختصهم ملائكة لعرش عزته الذي لا يطور به ثل. وجنود محتفة بلواء سلطانه القدسي الذي لا يلم بعقده حل. ورتبهم أيمة للخلق وأعلاما للدلالة. وشرفهم بتاج الكهنوت وأكاليل الرسالة. ومثلهم بالملح المصلحة للطعوم التفهة. والأنوار الزواهر في السماء البيعي الذي تضيء بأنواره كل جهة. وبذر زروع القدس والإيمان في فراديس أذهانهم. وأنبت غروس سرائر الملكوت في جنان جنانهم. وأمرهم بأن يكونوا مصابيح الدجى. وسلم إليهم أقاليد على استنزال المواهب واستغزار العطايا. وأثبت أسماءهم في بيعة الأبكار وجرائد الأسماء. وأنفذ حكمهم في أطراف الأرض وأكناف المساء. وقال لهم ما تحلونه في الأرض فهو مثلول المباني والقواعد. وما تربطونه في الأرض والسماء فهو مرموم النواحي مربوط المعاقد. وأمرهم بالسعي في المتابه والمجاهل بقلوب قوية. وأن يغشوا غمرات الكرائه بنفوس عازفة عن الشهوات أبية. ينتقلون في الأغوار والأنجاد. بغير سلاح يحمي سربهم من الأذاء ولا زاد يردون على الممالك والأمصار(6/43)
ويردون الأمم العاصية من حندس المساء إلى ضياء النهار. يجنبون الجنوب في الطاعات المسيحية وثير المراقد. ويستوطئون النوم على مضاجع السيال وخشن الغراقد. ويقطعون المسافات الشاسعة بشسوع مقطعة. ويخوضون البحور الزواخر بقلوب محتفة بالتأييد وأذهان مشجعة. يرفلون إلى سائر الآفاق بنجائب الهمم العلية. ويتوقلون أعناق اللجج العميقة بأقدام العزائم القدسية. صابرين على معاناة البلايا والمصاعب. مثابرين على مكافحة الأهوال في الشقق البعيدة والمتاعب. ينتقلون من امة إلى أمة. وينقلون عن القلوب غمة بعد غمة لا تزعجهم نار الأهوال إذا تأججت وشبت. ولا تذهلهم عقارب الأقدار إذا ازبارت ودبت. ولا تتقلقل عزائمهم عن عواصف رياح الوعيد إذا هبت. ولا تتزلزل هممهم عن طلبة الله إذا أصابتهم غمائم التهديد وصبت. يخلبون بالآيات الباهرة قلوب ربات الهوادج. يزعجون سدد الممالك العظام بالكلمات السواذج. فهم كأناس نضيت عن أشباح أبدانهم جلابيب البشرية. أو كأنهم ملائكة تأرضوا فانقضوا من صفيح السماء الأثيرية. شعث اللمم والنواصي صوافي الأذهان. سهم الوجوه ضوامر الأبدان. ضئال الجسوم من تحمل أعباء العبادة. غبر الوجوه من تعفير الخدود على هبوات الثرى وقشف الزهادة. نحاف الأبدان من التهجد في ظلمات الدياجر. شحاب الألوان من لفحات السمائم وحر الهواجر. قد لبسوا ملابس الفقر على فقرات بالية. ونزعوا عن(6/44)
القلوب حنادس الكفر بخطرات عالية ... مساكين ترجف من سطوتهم أسرة الممالك. جبن قد قهروا ذوي البأس والنجدة والسجاحة. لكن أربوا بالحجج الدوامغ على أرباب الفصاحة ... ليس لهم في خزائن القلوب من العفائل غيرحب حب المسيح. ولا لهم في جيوب الجنوب من الموال الجزائل غير الإيمان الصحيح. لا يثني ثنية عزائمهم عن الثناء على سيدهم ثان. ولا في صدفات قلوبهم غير درة التوحيد شيء ثان. من شذور كلامهم تنظم عقود العقائد. وبنود أفهامهم تستل السخائم وينحل معقود الحقائد. هجموا على ملوك الروم وفلاسفة اليونان. وهم منهمكون في غمرات الغي وعبادة الأوثان. قد أذهلتهم شبه الشكوك فلم تغادر لهم لبا. حتى اتخذوا لهم الصنم المسبوك إلها وربا. قد عسعست دياجير الكفر على الأبصار بصائرهم. وعشعش البهتان والضلال في أوعار سرائرهم. فما فيهم إلا من عدم بهاء العقل
الشريف فبهم. وضري على شهوات الجسد السخيف حتى نهم. قد عاثت ذئاب الخطايا في أجسامهم. وفاحت رائحة الذنوب وزفرة الأجرام من أفمامهم. فما زالوا يصدعون قلوبهم بصوادق البراهين والبينات. ويقطعون أعذار الحكماء بمدى الأدلة وصوارم الآيات. حتى انفلقت بيضة الأذهان عن فرخ الحقائق. وافترت مضاحك الإيمان في وجوه الخلائق. وحاز الحق قصبات السبق يوم رهانه. وتنكست أعلام الضلال بظاهر معجزه وبرهانه. فانتقل الناس إلى نهار البشارة(6/45)
المسيحية من ليل الظلام الدامش. ووضعوا أقدامهم على جدد الهدى بعد ان كانوا على الطرق الطوامس. وقادهم عن تيه الأضاليل وفجاج الردى. وأعادوهم بشرع المسيح إلى سديد المقاصد ومنهاج الهدى. بآيات قطت قواضبها عرى الأباطيل من قلوب الحكماء. وقطعت مضاربها علائق الشبهات من أذهان الفضلاء. فكم من ميت طواه الفناء في مدارج أكفانه فنشروه وأنشروه. وأعمى أزالوا غشاوة العماء عن بصره فبصروه ونصروه. وكم مكتتم في مخادع الحياء من وحشة برصه فأظهروه وطهروه. وذي لمم حيل بينه وبين الحجى البرء والشفاء بشروه. وكم من مقعد حلوا قيد الزمانة من رجله فأنهضوه ... وكلام عليه مسحة البشاعة بينوه بالآيات البواهر وحققوه. حتى انتشرت أعلام راياته الخافقة. وتألقت على الآفاق ذوائب شمسه الشارقة. وزهرت كواكب الإيمان في سماء البيعة. وتقرر في قلوب الخلق شرف السنة الإفضالية ومفاخر الشريعة ... فلما أزف وقت ارتحالهم. وخسفت عقدة الموت أقمار آجالهم. ففيهم من عمر طويلاً. وفيهم من مات قتيلاً. وفيهم من قتل مصلوباً. وصلب مكبوباً. وقبر محصوباً. وقتل مضروباً. فمن عمر منهم عاش بالله سعيداً. ومن قتل منهم مات في الله شهيداً. وشقوا في عالم الفناء قليلاً. وسعدوا في عالم البقاء طويلاً. واستخلفوا على رعايا المسيح أيمةً يهدون إلى مقار الملكوت مؤيدين بالمواهب الروحانية ووقار الكهنوت ...(6/46)
الباب الثاني في الخطب الحماسية
تحريض خالد على القتال في أجنادين
يا معاشر الناس أنصروا الله ينصركم. وقاتلوا في سبيل الله واحتبسوا أنفسكم في سبيل الله واصبروا على قتال أعدائكم. وقاتلوا عن حريمكم وأولادكم ومدينكم. وليس لكم ملجأ تلجأون إليه ومكمن تكمنون فيه. فاقرنوا المناكب وقدموا المضارب. ولا تحملوا حتى آمركم بالحملة. ولتكن السهام مجتمعة إذا خرجت من أكباد القسي كأنها تخرج من كبد قوس واحد. فإنه إذا تلاحقت السهام رشقا كالجراد لم يخل أن يكون فيها سهم صائب. واصبروا وصابروا ورابطوا واتقوا الله لعلكم تفلحون. واعلموا أنكم لا تلقون عدوا مثل هذه الفئة حماتهم وأبطالهم وملوكهم.
خطبة أمراء المسلمين لأهل جيشهم قبل وقعة اليرموك
ولما حان القتال خرج معاذ محرضا الناس يقول: يا أهل الدين ويا أنصار الهدى والحق اعلموا أن رحمة الله تعالى لا تنال إلا بالعمل والنية ولا تدرك بالمعصية والتمني وبغير عمل مرضي. ولا يؤتى الله مغفرته الواسعة إلا الصالحين والصادقين. فإنه قد قسم أن ليستخلفنهم في الأرض كما استخلف الذين من قبلهم. واستحيوا رحمكم(6/47)
الله ومن الله تعالى أن يراكم الله منهزمين من عدوكم وانتم في قبضته وليس لكم ملجأ من دونه.
وخرج من بعده أبو سفيان بن حرب فطاف بين الصفوف وهو شاك في سلاحه راكب فرسه وهو يقول: معاشر الناس أنتم العرب الكرام السادة العظام وقد أصبحتم في ديار العلاج منقطعين عن الأهل والوطن. والله لا ينجيكم منهم اليوم إلا الطعن والضرب تبلغون بذلك أربكم وتنالون الفوز من ربكم. واعلموا إن الصبر في مواطن البأس مما يفرج الله به الهم وينجي به من الغم فأصدقوهم القتال فإن النصر ينزل مع الصبر. فإن صبرتم ملكتم أمصارهم وبلادهم واستعبدتم نساءهم وأبناؤهم. وإن وليتم فليس بين أيديكم إلا مفاوز لا تقطع إلا بالزاد الكثير والماء الغزير وهؤلاء يرجعون إلى دار وقصور. فامتنعوا بسيوفكم وجاهدوا في الله حق جهاده ولا تموتن إلا وأنتم مسلمون. (فتوح الشام للواقدي)
خطبة طارق قبل فتوح الأندلس
لما بلغ طارقاً دنو ردريق قام في أصحابه فمحمد الله وأثنى عليه بما هو أهله ثم حث المسلمين على الجهاد ورغبهم ثم قال: أيها الناس أين المفر. والبحر من ورائكم وليس لكم والله إلا الصدق والصبر. واعلموا أنكم في هذه الجزيرة أضيع من الأيتام. في مأدبة اللئام. وقد استقبلكم عدوكم بجيشه. وأسلحته وأقواته موفورة(6/48)
وانتم لا وزر لكم إلا سيوفكم ولا أقوات إلا ما تستخلصونه من أيدي عدوكم. وإن امتدت بكم الأيام على افتقاركم ولم تنجزوا لكم أمرا ذهب ريحكم وتعوضت القلوب من رعبها عنكم الجرأة عليكم. فادفعوا عن أنفسكم خذلان هذه العاقبة من أمركم بمناجزة هذا الطاغية. فقد ألقت به إليكم مدينته الحصينة وإن انتهاز الفرصة فيه لممكن إن سمحتم لأنفسكم بالموت. وغني لم أحذركم أمرا أنا عنه بنجوة ولا حملتكم على خطة أرخص متاع فيها النفوس. أبدأ بنفسي. واعلموا أنكم إن صبرتم على الأشق قليلا استمتعتم بالأرفة الألذ وقد بلغكم ما أنشأت هذه الجزيرة من الخيرات العميمة. وقد أنتخبكم الوليد بن عبد الله أمير المؤمنين من الأبطال عربانا. ورضيكم لملوك هذه الجزيرة أصهارا وأختانا. ثقة منه بارتياحكم للطعان. واستماحكم بمجالدة الأبطال والفرسان. ليكون حظه منكم ثواب الله على إعلاء كلمته وإظهار دينه الجزيرة. وليكون مغنمها خالصة لكم من دونه ومن دون المؤمنين سواكم. والله تعالى ولي إنجادكم على ما يكون لكم ذكرا في الدارين. واعلموا إني أول مجيب إلى ما دعوتكم إليه وإني عند ملتقى الجمعين حامل بنفسي على طاغية القوم لذريق فقاتله إن شاء الله تعالى. فاحملوا معي فإن هلكت بعده فقد كفيتم أمره ولم يعوزكم بطل عاقل تسندون(6/49)
أموركم إليه. وإن هلكت قبل وصولي إليه فاحلفوني في عزيمتي هذه واحملوا بأنفسكم عليه واكتفوا الهم من فتح هذه الجزيرة بقتله.
خطبة أبي حمزة بالمدينة
قال مالك بن أنس: خطبنا أبو حمزة خطبة شك فيها المستبصر وردت المرتاب. قال أوصيكم بتقوى الله وطاعته والعمل بسنته وصلة الرحم وتعظيم ما صغرت الجبابرة في حق الله. وتصغير ما عظمت من الباطل وإماتة ما أحيوا من الجور. وإحياء ما أماتوا من الحقوق. وأن يطاع الله ويعصى العباد في طاعته فالطاعة للعباد من أهل طاعة الله ولا طاعة لمخلوق في معصية الخالق ندعو إلى سنة الله والقسم بالسوية والعدل في الرعية ووضع الأخماس في مواضعها التي أمر الله بها. إنا والله ما خرجنا أشرا ولا بطرا ولا لهوا ولا لعبا. ولا لدولة ملك نريد أن نخوض فيها ولا لثأر قد نيل منا. ولكن لما رأينا الأرض قد أظلمت ومعالم الجور قد ظهرت وكثر الادعاء في الدين وعمل بالهوى وعطلت الأحكام وقتل القائم بالقسط وعنف القاتل بالحق سمعنا مناديا ينادي إلى الحق وإلى طريق مستقيم. فأجبنا داعي الله (الآية) فأقبلنا من قبائل شتى قليلين مستضعفين في الأرض. فآوانا الله وأيدنا بنصره فأصبحنا بنعمته إخوانا وعلى الدين أعوانا. يا أهل المدينة أولكم خير أول وآخركم شر آخر. إنكم أطعتم قراءكم وفقهاءكم فاختانوكم عن كتاب غير ذي عوج(6/50)
بتأويل الجاهلين وانتحال المبطلين. فأصبحتم عن الحق ناكبين أمواتا غير أحياء وما تشعرون. يا أهل المدينة يا أبناء المهاجرين والأنصار والذين اتبعوهم بإحسان ما أصح أصلكم وأسقم فرعكم. كان آباءكم أهل اليقين وأهل المعرفة بالدين والبصائر الناقدة والقلوب الواعية وأنتم أهل الضلالة والجهالة. واستعبدتكم الدنيا فأذلتكم والأماني فأضلتكم. فتح الله لكم باب الدين فأفسدتموه. وأغلق عنكم باب الدنيا ففتحتموه. وسارع إلى الفتنة بطاء عن السنة. عمي عن البرهان. صم عن العرفان. عبيد الطمع حلفاء الجزع. نعم ما ورثكم آباءكم لو حفظتموه وبئس ما تورثون أبنائكم إن تمسكوا به. نصر الله آباءكم على الحق وخذلكم على الباطل. كان عدد آباءكم قليلا طيبا وعددكم كثير خبيث. اتبعتم الهوى فأرداكم. واللهو فأسهاكم. ومواعظ القرآن تزجركم فلا تزدجرون. وتعبركم فلا تعتبرون. سألناكم. عن ولاتكم هؤلاء فقلتم والله ما فيهم الذي يعلم. أخذ المال من غير صلة فوضعوه في غير حقه وجاروا في الحكم فحكموا بغير ما أنزل الله. واستثاروا بفيئنا فجعلوه دولة بين الأغنياء منهم وقلنا لكم: تعالوا إلى هؤلاء الذين ظلمونا وظلموكم وجاروا في الحكم فحكموا بغير ما أنزل الله. فقلتم: لا نقوى على ذلك ووردنا إنا أصبنا من يكفينا فقلنا: نحن نكفيكم ثم الله راع علينا وعليكم إن ظفرنا لنعطين كل ذي حق حقه. فجئنا فارتقينا الرماح بصدورنا والسيوف(6/51)
بوجوهنا فعرضتم لنا دونهم فقاتلتمونا فأبعدكم الله. فوالله لو قلتم: لا نعرف الذي تقول ولا نعلمه لكان أعذر مع أنه لا عذر للجاهل. ولكن أبى الله إلا أن ينطق بالحق على ألسنتكم ويأخذكم به في الآخرة (العقد الفريد لابن عبد ربه)
تقليد السلطان إلى الملك الظاهر
(لما بويع بالخلافة للمستنصر بالله صعد فخر الدين بن لقمان رئيس الكتاب منبرا فقرأ على الملك تقليد السلطان وكان التقليد من إنشائه. وصورته:)
الحمد لله الذي أضفى على الإسلام ملابس الشرف. وأظهر بهجة دره وكانت خافية بما استحكم عليها من الصدف. وشيد ما وهي من علائه حتى أنسى به ذكر من سلف. وفيض لنصره ملوكا اتفق عليهم من اختلف. أحمده على نعمه التي وقعت العين منها في الروض الأنف. وألطافه التي وقف الشاكر عليها فليس له عنها منصرف. وبعد فإن أولى الأولياء بتقديم ذكره. وأحقهم أن يصبح القلم راكعا وساجدا لتسطير مناقبه وبره. من سعى فأضحى سعيه للحمد متقدما. ودعا إلى طاعته فأجاب من كان منجدا ومتهما. وما بدت يد في المكرمات إلا كان لها زندا ومعصما ولا استباح بسيفه حمى وغى إلا أضرم منه نارا وأجرى منه دما. ولما كانت هذه المناقب الشريفة مختصة بالمقام العالي المولوي السلطاني الملكي الظاهري الركني شرفه الله وأعلاه. ذكره الديوان العزيز المستنصري أعز الله(6/52)
سلطانه تنويها بشريف قدره. واعترافا بصنيعه الذي تنفد العبارة المسهبة ولا تقوم بشكره. وكيف لا وقد أقام الدولة العباسية بعد أن أقعدتها زمانة الزمان. وأذهبت ما كان لها من محاسن وإحسان. وعتب دهرها المسيء لها فأعتب. وأرضى عنها زمنها وقد كان صال عليها صولة مغضب. فأعاد لها سلما بعد أن كان عليها حربا. وصرف إليها اهتمامه فرجع كل متضايق من أمورها واسعا رحبا. ومنح أمير المؤمنين عند القدوم عليه حنوا وعطفا. وأظهر من الولاء رغبة في ثواب الله ما لا يخفى. وأبدى من الاهتمام بأمر الشريعة والبيعة أمرا لو رامه غيره لامتنع عليه. ولو تمسك بحبله متمسك لانقطع به قبل وصوله إليه. ولكن الله ادخر هذه الحسنة ليثقل بها ميزان ثوابه. ويخفف بها يوم القيامة حسابه والسعيد من خفف من حسابه. فهذه منقبة أبى الله إلا أن يخلدها في صحيفة صنعه. ومكرمة تضمنت لهذا البيت الشريف لجمعه. بعد أن حصل الإياس من جمعه. وأمير المؤمنين يشكر لك هذه الصنائع. ويعترف أنه لولا اهتمامك لا تسع الخرق على الراقع. وقد قلدك الديار المصرية والبلاد الشامية. والديار البكرية والحجازية واليمنية والفراتية. وما يتجدد من الفتوحات غورا ونجدا. وفوض أمر جندها ورعاياها إليك حتى أصبحت بالمكارم فردا. ولا جعل منها بلدا من البلاد ولا حصنا من الحصون يستثنى. ولا جهة من الجهات(6/53)
تعد في الأعلى ولا في الأدنى. فلاحظ أمور الأمة فقد أصبحت لها حاملا. وخلص نفسك من التبعات اليوم ففي غد تكون مسؤولاً لها سائلا. ودع الاغترار بأمر الدنيا فما نال أحد منها طائلا. وما رآها أحد بعين الحق إلا رآها حائلا زائلا. فالسعيد من قطع منها آماله الموصولة. وقدم لنفسه زاد التقوى تقدمة غير التقوى مردودة لا مقبولة. وأبسط يدك بالإحسان والعدل فقد أمر الله بالعدل وحث على الإحسان. وكفر به عن المرء ذنوبا كتبت عليه وآثاما. وجعل يوما واحدا منها كعبادة العابد ستين عاما. وما سلك أحد سبيل العدل إلا واجتنى ثماره من الأفنان ورجع الأمر بعد تداعي أركانه وهو مشيدا الأركان. وتحصن به من حوادث زمانه. والسعيد من تحصن من حوادث الزمان. وكانت أيامه في الأيام أبهى من الأعياد. وأحلى من العقود إذا حلي بها عاطل الجياد. وهذه الأقاليم المنوطة بك تحتاج إلى نواب وحكام. وأصحاب رأي من أصحاب السيوف والأقلام. فإذا استعنت بأحد منهم في أمورك فنقب عليه تنقيبا. واجعل عليه في تصرفاته رقيبا. واسأل عن أحواله ففي يوم القيامة تكون عنه مسؤولاً وبما اجترم مطلوبا. ولا تول منهم إلا من تكون مساعيه حسنات لك ولا ذنوبا. وأمرهم بالأناة في الأمور والرفق. ومخالفة الهوى إذا ظهرت أدلة الحق. وأن يقابلوا الضعفاء في حوائجهم بالثغر بالباسم والوجه الطلق. وأن لا(6/54)
يعاملوا أحدا على الإحسان والإساءة إلا بما يستحق. وأن يكونوا لمن تحت أيديهم من الرعايا إخوانا. وان يوسعوهم برا وإحسانا. وأن لا يستحلوا حرماتهم إذا استحل الزمان لهم حرمانا. فالمسلم أخو المسلم ولو كان أميرا عليه وسلطانا. والسعيد من نسج ولاته في الخير على منواله. واستسنوا بسنته في تصرفاته وأحواله. وتحملوا عنه ما تعجز قدرته عن حمل أثقاله. ومما يؤمرون به أن يمحى ما أحدث من سيئ السنن. وجدد من المظالم التي هي من أعظم المحن. وأن يشتري بإبطالها المحامد. فإن المحامد رخيصة بأغلى ثمن. ومهما جبي بها من الأموال فإنما هي باقية في الذم حاصلة. وأجياد الخزائن وإن أضحت بها حالية فإنما
هي على الحقيقة منها عاطلة. وهل أشقى ممن احتقب إثما. واكتسب بالمساعي الذميمة دما. وجعل السواد العظم له يوم القيامة خصما. وتحمل ظلم الناس فيما صدر عنه من أعماله وقد خاب من حمل ظلما. وحقيق بالمقام الشريف المولوي السلطاني الملكي الظاهري الركني أن تكون ظلامات الأنام مردودة بعدله. وعزائمه تخفف ثقلا لا طاقة له بحمله. فقد أضحى على الإحسان قائدا. وصنعت له الأيام ما لم تصنعه لغيره ممن تقدم من الملوك وإن جاء آخرا. فاحمد الله على أن وصل إلى جانبك إمام هدى أو جب لك مزية التعظيم. ونبه الخلائق على ما أفضل الله به من هذا الفضل العظيم. وهذه أمور يجب أن تلاحظ وترعى. وأن يوالي عليها حمد(6/55)
الله فإن الحمد يجب عليها وشرعا. وقد تبين أنك صرت في الأمور أصلا وصار غيرك فرعا. ومما يجب أيضا تقديم ذكره أمر الجهاد الذي أضحى على الأمة فرضا. وهو العمل الذي يرجع به مسود الصحائف مبيضا. وقد وعد الله المجاهدين بالأجر العظيم. وأعد لهم عنده المقام الكريم. وبك صان الله حمى الإسلام من أن يبتذل. وبعزمك حفظ على المسلمين نظام هذه الدول.. وسيفك أثر في قلوب الكافرين قروحا لا تندمل. وبك يرجى أن يرجع من الخلافة ما كان عليه في الأيام الأول. فأيقظ لنصرة الإسلام جفنا ما كان غافيا ولا هاجعا. وكن في مجاهدة أعداء الله إماما متبوعا لا تابعا. هداك الله إلى مناهج الحق ومازلت مهتديا إليها. وألزمك المراشد ولا تحتاج إلى تنبيه عليها. والله ممدك بأسباب نصره ويوزعك شكر نعمه فإن النعمة تستتم بشكره (للسيوطي)
خطبة أبي أذينة يغري الأسود بني المنذر بقتل آل غسان وكانوا قتلوا أخا له
ما كل يوم ينال المرء ما طلبا ... ولا يسوغه المقدار ما وهبا
وأحزم الناس من إن فرصة عرضت ... لم يجعل السبب الموصول منقضبا
وأنصف الناس في كل المواطن من ... سقى المعادين بالكاس التي شربا
وليس يظلمهم من راح يضربهم ... بحد سيف به من قبلهم ضربا
والعفو إلا عن الأكفاء مكرمة ... من قال غير الذي قد قلته كذبا
قتلت عمرا وتستبقي لزيد لقد ... رأيت رأيا يجر الويل والحربا(6/56)
لا تقطعن ذنب الأفعى وترسلها ... إن كنت شهما فاتبع رأسها الذنبا
هم جردوا السيف فاجعلهم له جزرا ... وأوقدوا النار فاجعلهم لها حطبا
إن تعف عنهم يقول الناس كلهم ... لم يعف حلما ولكن عفوه رهبا
هم أهلة غسان ومجدهم ... عال فإن حاولوا ملكا فلا عجبا
وعرضوا بفداء واصفين لنا ... خيلا وإبلا تروق العجم والعربا
أيحلبون دما منا ونحلبهم ... رسلا لقد شرفونا في الورى حلبا
علام تقبل منهم فدية وهم ... لا فضة قبلوا منا ولا ذهبا
قال في الدين الحلي يحرض السلطان الملك الصالح على الاحتراز من المغول ومنافرتهم عن إقبالهم ويهينه بعيد النخر
لا يمتطي المجد من لم يركب الخطرا ... ولا ينال العلى من قدم الحذرا
ومن أراد العلى عفوا لا تعب ... قضى ولم يقض من إدراكها وطرا
لابد للشهد من نحل يمنعه ... لا يجتني النفع من لم يحمل الضررا
لا يبلغ السؤل إلا بعد مؤلمة ... ولا يتم المنى إلا لمن صبرا
واحزم الناس من لومات من ظمإ ... لا يقرب الورد حتى يعرف الصدرا
وأغزر الناس عقلا من إذا نظرت ... عيناه أمرا غدا بالغير معتبرا
فقد يقال عثار الرجل إن عثرت ... ولا يقال عثار الرأي إن عثرت
من دبر العيش بالآراء دام له ... صفوا وجاء إليه الخطب معتذرا
يهون بالرأي ما يجري القضاء به ... من أخطأ الرأي لا يستذنب القدر
من فاته العز بالأقلام أدركه ... بالبيض يقدح من أطرافها الشررا(6/57)
بكل أبيض قد أجرى الفرند به ... ماء الردى فلو استقطرته قطرا
خاض العجاجة عريانا فما انقشعت ... حتى اتى بدم الأبطال مؤتزرا
لا يحسن الحلم إلا في مواطنه ... ولا يليق الوفا إلا لمن شكرا
ولا ينال العلى إلا فتى شرفت ... خلاله فأطاع الدهر ما أمر
كالصالح الملك المرهوب سطوته ... فلو توعد قلب الدهر لانفطرا
لما رأى الشر قد أبدى نواجذه ... والغدر عن نابه للحرب قد كشرا
رأى القسي إناثا في حقيقتها ... فعافها واستشار الصارم الذكرا
فجرد العزم من قبل الصفاح لها ... ملك عن البيض يستغني بما شهرا
يكاد يقرأ من عنوان همته ... ما في صحائف ظهر الغيب قد سطرا
كالبحر والدهر في يومي ندى وردى ... والليث والغيث في يومي وغى وقرى
ما جاد للناس إلا قبل ما سألوا ... ولا عفا قط إلا بعد ما قدرا
لا موه في بذله الأموال قلت لهم ... هل تقدر السحب ألا ترسل المطرا
إذا غدا الغصن غضا من منابته ... من شاء فليجن من أفنانه الثمرا
من آل ارتق المشهور ذكرهم ... إذ كان كالمسك إن أخفيته ظهرا
الحاملين من الخطي أطوله ... والناقلين من الأسياف ما قصرا
لم يرحلوا عن حمى أرض إذا نزلوا ... إلا وأبقوا بها من جودهم أثرا
تبقى صنائعهم في الأرض بعدهم ... والغيث إن سار أبقى بعده الزهرا
لله در سما الشهباء من فلك ... وكلما غاب نجم أطلعت قمرا
يا أيها الملك الباني لدولته ... ذكر أطوى ذكر أهل الأرض وانتشرا(6/58)
كانت عداك لها دست فقد صدعت ... حصاة جدك ذاك الدست فانكسرا
فأوقع إذا غدروا سوط العذاب بهم ... يظل يخشاك صرف الدهر إن غدرا
وأرعب قلوب العدى تنصر بخذلهم ... إن النبي بفضل الرعب قد نصرا
ولا تكدر بهم نفسا مطهرة ... فالبحر من يومه لا يعرف الكدرا
ظنوا تأنيك عجزا وما علموا ... أن التأني فيهم يعقب الظفر
أحسنتم فبغوا جهلا وما اعترفوا ... لكم ومن كفر النعمى فقد كفرا
وأسعد بعيدك ذا الأضحى وضح به ... وصل وصل لرب العرش مؤتمرا
وانحر عداك فبالإنعام ما انصلحوا ... إن كان غيرك للأنعام قد نحرا
ولصفي الدين الحلي يحرض السلطان الملك المنصور نجم الدين غازي ابن ارتق صاحب ماردين على حضوره حصار قلعة إربل حين أرسل الجيوش ولم يحضرها سنة اثنتين وسبعمائة
أبدسنا وجهك من حجابه ... فالسيف لا يقطع في قرابه
والليث لا يرهب من زئيره ... إذا اغتدى محتجبا بغابه
والنجم لا يهدي السبيل ساريا ... إلا إذا أسفر من حجابه
والشهد لولا أن يذاق طعمه ... لما غدا مميزا عن صابه
إذا بدا نورك لا يصده ... تزاحم الموكب في ارتكابه
ولا يضر البدر وهو مشرق ... أن رفيق الغيم من نقابه
قم غير مأمور ولكن مثلما ... هز الحسام ساعة اجتذابه
كم مدرك في يومه بعزمه ... ما لم يكن بالأمس في حسابه
من كانت السمر اللدان رسله ... كان بلوغ النصر من جوابه(6/59)
ولا تقل إن الصغير عاجز ... هل يجرح الليث سوى ذبابة
فارم ذرى قلعتهم بقلعة ... تقلع أس الطود من ترابه
فإنها إذا رأتك مقبلا ... مادت وخر السور لاضطرابه
إن لم تحاك الدهر في دوامه ... فإنها تحكيه في انقلابه
وأجل لهم عزما إذا جلوته ... في الليل أغنى الليل عن شهابه
عزم مليك يخضع الدهر له ... وتسجد الملوك في أعتابه
تحاذر الأحداث من حديثه ... وتجزع الخطوب من خطابه
قد صرف الحجاب عن حضرته ... وصير الهيبة من حجابه
إذا رأى المر بعين فكره ... رأى خطاء الرأي من صوابه
وإن أجال رأيه في مشكل ... أعانه الحق على طلابه
تنقاد مع آرائه أيامه ... مثل انقياد اللفظ مع إعرابه
لا يزجر البارح في اعتراضه ... ولا غراب البين في تنعابه
يقرأ من عنوان سر رأيه ... ما سطر القضاء في تابه
قد أشرقت بنوره أيامه ... كأنما تبسم عن أحسابه
يكاد أن تلهيه عن طعامه ... مطالب الحمد وعن شرابه
ما سار للناس ثناء سائر ... إلا حط رحله ببابه
إذا استجار ماله بكفه ... أعانه الجود على ذهابه
وإن كسا الدهر الأنام مفخراً ... طننته يخلع من ثيابه
يا ملكا يرى العدو قربه ... كالأجل المحتوم في اقترابه(6/60)
لا تبذل الحلم لغير شاكر ... فإنه يفضي إلى إعجابه
فاغز العدى بعزمة من شأنها ... إتيان حزم الرأي من أبوابه
تسلم أرواح العدى إلى الردى ... وترجع الأمر إلى أربابه
حتى تقول كل رب رتبة ... قد رجع الحق إلى نصابه
قد رفع الله العذاب عنهم ... فشمروا الساعد في طلابه
رنوا إلى الملك بعين غادر ... أطمعه حلمك في اقتضابه
إن لم تقطع بالظبي أوصالهم ... لم تقطع الآمال من أسبابه
لا تقبل العذر فإن ربه ... قد أضمر التصحيف في كتابه
فتوبة المقلع إثر ذنبه ... وتوبة الغادر مع عقابه
لو أنهم خافوا كفاء ذنبهم ... لم يقدموا يوما على ارتكابه
فاصرم حبال عزمهم بصارم ... قد بالغ القيون في انتخابه
يعتذر الموت إلى شفرته ... وتقصر الآجال عن عتابه
يذيقهم في شبيه أضعاف ما ... أذاقه القيون من شبابه
يا ملكا يعتذر الدهر له ... وتخدم الأيام في ركابه
لم يك تحريضي لكم إساءة ... ولم أحل في القول عن آدابه
ولا يعيب السيف وهو صارم ... هز يد الجاذب في انتدابه
ذكر مشهور ونظمي سائر ... كلاهما أمعن في اغترابه
ذكر جميل غير أن نظمه ... يزيده حسنا مع اصطحابه
كالدر لا يظهر حسن عقده ... إلا جواز السلك في أثقابه(6/61)
الباب الثالث في المناظرات
مناظرة بين بلاد الأندلس
هذا ما خاطب به أديب الأندلس أبو بحر صفوان بن إدريس الأمير عبد الرحمن ابن السلطان يوسف بن عبد المؤمن بن علي: لما تخاصمت فيك من الأندلس الأمصار. وطال بها الوقوف على حبك والاقتصار. كلها يفصح قولا. ويقول: أنا أحق وأولى ويصيخ إلى إجابة دعوته ويصغي. ويتلو إذا بشر بك: ذلك ما كنا نبغي. تنمرت (حمص) غيظا. وكادت تفيظ فيظاً. وقالت: ما لهم يزيدون وينقصون ويطمعون ويحرصون. إن يتبعون إلا الظن وإن هم لا يخرصون. ألهم السهم الأسد. والساعد الأشد. والنهر الذي يتعاقب عليه الجزر والمد. أنا مصر الأندلس والنيل نهري. فحسبي أن أفيض في ذلك الشرف. وإن تحجبتم بأشرف اللبوس. فأي إزار اشتملتموه كشنتبوس. إلى ما شئت من أبنية رحاب. وروض يستغني بنضرته عن السحاب. قد ملأت زهراتي وهادا وأنجاداً. وتوشح سيف نهري بحدائقي نجادا. فأنا أولاكم بسيدنا الهمام وأحق. الآن حصحص الحق. فنظرتها (قرطبة) شزراً وقالت: لقد كثرت نزرا. وبذرت في الصخر الأصم بزرا. كلام العدى ضرب من(6/62)
الهذيان. وإني للإيضاح والبيان. متى استحال المستقبح مستحسنا. ومن أودع أجفان المهجور وسنا. أفمن زين له سوء عمله فرآه حسنا. يا عجبا للمراكز تقدم على الأسنة. وللأثفار تفضل على الأعنة. إن ادعيتم سبقا. فما عند الله خير وأبقى. لي البيت المطهر الشريف. والاسم الذي ضرب عليه رواقه التعريف. في بقيعي محل الرجال الأفاضل. فليرغم أنف المناضل. وفي جامعي مشاهد ليلة القدر. فحسبي من نباهة القدر. فما لأحد أن يستأثر علي بهذا السيد الأعلى. ولا أرضى له أن يوطئ غير ترابي نعلا. فأقروا لي بالأبوة. وانقادوا لي على حكم البنوة. ولا تكونوا كالتي نقضت غزلها من بعد قوة. وكفوا عن تباريكم. ذلكم خير لكم عند باريكم. (فقالت غرناطة) : لي المعقل الذي يمتنع ساكنه من النجوم. ولا تجري إلا تحته جياد الغيث السجوم. فلا يلحقني من معاند ضرر ولا حيف. ولا يهتدي إلي خيال طارق ولا طيف. فاستسلموا قولا وفعلا. فقد أفلح اليوم من استعلى. لي بطاح تقلدت من جداولها أسلاكا. واطلعت كواكب زهرها فعادت أفلاكا. فحسني لا يطمع فيه ولا يحتال. فدعوني فكل ذات ذيل تختال. فأنا أولى بهذا السيد الأعدل. وما لي به من عوض ولا بدل. ولم لا يعطف علي عنان مجده وبثني. وإن أنشد يوما فإياي يعني:
بلاد بها عق الشباب تمائمي ... وأول أرض مس جلدي ترابها(6/63)
فما لكم تعتزون لفخري وتنتمون. وتتأخرون في ميداني وتتقدمون. تبرؤوا إلي مما تزعمون. ذلكم خير لكم إن كنتم تعلمون. (فقالت مالقة) : أتتركوني بينكم هملا. ولم تعطوني في سيدنا أملا. ولم ولي البحر العجاج. والسيل الثجاج. والجنات الأثيرة. والفواكه الكثيرة. لدي من البهجة ما تستغني به الحمام عن الهديل. ولا تجنح الأنفس الرقاق الحواشي إلى تعويض عنه ولا تبديل. فما لي لا أعطى في ناديكم كلاما. ولا أنشر في جيش فخاركم أعلاما. فكان الأمصار نظرتها ازدراء. فلم تر لحديثها في ميدان الذكر إجراء. لأنها موطن لا يحلى منه بطائل. ونظن البلاد تأولت فيها قول القائل:
إذا نطق السفيه فلا تجبه ... نخير من إجابته السكوت
(فقالت مرسية) : أمامي تتعاطون الفخر. وبحضرة الدر. تنفقون الصخر. إن عدت المفاخر فلي منها الأول والآخر. أين أوشالكم من بحري. وخرزكم من لؤلؤ نحري. فلي الروض النضير. والمرأى الذي ما له من نظير. فمن دوحات. كم لها من بكور وروحات. ومن أرجاء. إليها تمد أيدي الرجاء. فأبنائي فيه في الجنة الدنيوية مودعون. يتنعمون فيما يأخذون ويدعون. ولهم فيها ما تشتهي أنفسهم ولهم فيها ما يدعون. فانقادوا لأمري. وحاذروا اصطلاء جمري. وخلوا بيني وبين سيدنا أبي زيد. وإلا ضربتكم ضرب زيد. فانا أولاكم بهذا المستأثر بالتعظيم. وما يلقاها إلا(6/64)
ذو حظ عظيم. (فقالت بلنسية) : فيم الجدال والقراع. وعلام الاستهام والاقتراع. وإلام التعريض والتصريح. وتحت الرغوة اللبن الصريح. أنا أحوزه من دونكم. فاخمدوا ناري تحرككم وهدونكم. فلي المحاسن الشامخة الأعلام. والجنات التي تلقي إليها الآفاق يد الاستسلام. وبرصافتي وجسري أعارض مدينة السلام. فأجمعوا على الانقياد لي والسلام. وإلا فعضوا بنانا. واقرعوا أسنانا. فأنا حيث لا تدركون وإني ومولانا لا يهلكنا بما فعل السفهاء منا. (فعند ذلك ارتمت جمرة تدمير بالشرار) واستدت أسهمها لنحور الشرار وقالت: عش عجبا. ترعجبا. أبعد العصيان والعقوق. تتهيأن لرتب ذوي الحقوق. هذه سماء الفخر فمن ضمك أن تعرجي. ليس بعشك فادرجي. لك الوصب والخبل. الآن وقد عصيت قبل. أيتها الصانعة الفاعلة. من أدراك أن تضرب وما أنت فاعلة. ما الذي يجديك الروض والزهر. أم يفيدك الجدول والنهر. وهل يصلح العطار ما أفسد الهر. هل أنت إلا محط رحل النفاق. ومنزل ما لسوق الخصب فيه من نفاق. ذراك لا يكتحل الطرف فيه بهجوع. وقراك لا يسمن ولا يغني من جوع. فإلام تبرز الإماء في منصة العقائل. ولكن اذكري قول القائل:
بلنسة بيني عن القلب سلوة ... فإنك روض لا أحن لزهرك
وكيف يحب المرء دارا تقسمت ... على صارمي جوع وفتنة مشرك(6/65)
بيد أني أسأل الله تعالى أن يوقد من توفيقك ما خمد. ويسيل من تسديدك ما جمده. ولا يطيل عليك في الجهالة الأمد. وإياه سبحانه نسأل أن يرد سيدنا ومولانا إلى أفضل عوائده. ويجعل مصائب أعدائه من فوائده. ويكمن حسامه من رقاب المشغبين. ويبقيه وجيها في الدنيا والآخرة ومن المقربين. ويصل له تأييدا وتأبيدا. ويمهد له الأيام حتى تكون الأحرار لعبيد عبيده عبيدا. ويمد على الدنيا بساط ويهبه ملكا لا ينبغي لأحد من بعده:
آمين آمين لا أرضي بواحدة ... حتى أضيف إليها ألف آمينا
ثم السلام الذي يتأنق عقبا ونشرا. ويتألق رونقا وبشرا. على حضرتهم العلية. ومطالع أنوارهم السنية الجليلة. ورحمة الله تعالى وبركاته. (نفح الطيب للمقري)
نخبة من مغايرة بين السيف والقلم للشيخ جمال الدين ابن نباتة
(قال) . برز القلم بإفصاحه. ونشط لارتياحه. ورقي من الأنامل على أعواده. وقام خطيبا بمحاسنه في حلة مداده. والتفت إلى السيف وقال: بسم الله الرحمن الرحيم والقلم وما يسطرون. ما أنت بنعمة ربك بمجنون. الحمد لله الذي علم بالقلم وشرفه بالقسم. وخط به ما قدر وقسم. أما بعد فإن القلم منار الدين والدنيا ونظام الشرف والعليا. ومحاديح الخير إذا احتاجت الهمم إلى السقيا. ومفتاح باب اليمن المجرب إذا أعيا. وسفير الملك المحجب.(6/66)
وعذيق الملك المرجب. وزمام أموره السائرة. وقادمة أجنحة الطائرة. ومطلق أرزاق عفاته المتواترة. وأنملة الهدى المشيرة إلى ذخائر الدنيا والآخرة. به رقم الكتاب الذي لا يأتيه الباطل. وسننه التي تهذب الخواطر الخواطل. فهو في مراضي الدول عونة للشائدين. وبعين الله في ليالي النقس تقلب وجهه في الساجدين. إن نظمت فرائد العلوم فإنما هو سلكها. وإن علت أسرة الكتب فإنما هو ملكها. أو رقمت برود البيان فإنا هو جلالها. وإن تشعبت فنون الحكم فإنما هو أمانها ومآلها. وإذا انقسمت أمور الممالك فإنما هو عصمتها وثمالها. وإن اجتمعت رعايا الصنائع فإنما هو إمامها المتلفع بسواده. وإن زخرت بحار الأفكار فإنما هو المستخرج دررها من ظلمات مداده. وإن وعد وفى بجلب النفع. وإن أوعد أخاف كأنما يستمد من النفع. هذا وهو لسان الملوك المخاطب. ورسيلها لأبكار الفتوح والخاطب. والمنفق في تعمير دولها محصول أنفاسه. والمتحمل أمورها الشاقة على عينه ورأسه. والمتيقظ لجهاد أعدائها والسيف في جفنه نائم. والمجهز لبأسها وكرمها جيشي الحروب والمكارم. والجاري بما أمر الله من العدل والإحسان. والمسود الناصر فكأنما هو لعين الدهر إنسان. طالما ذب عن حرمها. فشد الله أزره ورفع ذكر. وقام في المحاماة عن دينها أشعث أغبر لو أقسم على الله لا بره. وقاتل على البعد والصوارم في القرب. وأوتي(6/67)
من معجزات النبوءة نوعا من النصر بالرعب. وبعث جحافل السطور فالقسي دالات والرماح ألفات واللامات لامات. والهمزات كواسر الطير التي تتبع الجحافل. والأتربة عجاجها المحمر من دم الكلى والمفاصل. فهو صاحب فضيلتي العلم والعمل. وساحب ذيلي الفخار في الحرب والسلم. لا يعاديه إلا من سفه نفسه. ولبس لبسه. وطبع على قلبه. وفل الجدال من غربه. وخرج في وزن المعارضة عن ضربه. وكيف يعادى من إذا كرع في نقسه. قيل إنا أعطيناك الكوثر. وإذا ذكر شانئه السيف قيل إن شانئك هو الأبتر. أقول قولي هذا وأستغفر الله من الشرف وخيلاته. والفخار وكبريائه. وأتوكل على الله فيما حكم. وأسأله التدبير فيما جرى به القلم. ثم اكتفى بما ذكره من أدواته. وجلس على كرسي دواته متمثلا بقول القائل:
قلم يفل الجيش وهو عرمرم ... والبيض ما سلت من الأغماد
وهبت له الآجام حين نشابها ... كرم السيول وصولة الآساد
فعند ذلك نهض السيف قائما عجلا. وتملظ لسانه للقول مرتجلا. وقال: بسم الله الرحمن الرحيم وأنزلنا الحديد فيه بأس شديد ومنافع للناس وليعلم الله من ينصره ورسله بالغيب إن الله قوي عزيز. الحمد لله الذي جعل الجنة تحت ظلال السيوف. وشرع حدها في ذوي العصيان فأغصتهم بماء الحتوف. وشيد مراتب الذين(6/68)
يقاتلون في سبيله صفا كأنهم بنيان مرصوص وعقد موصوف. وأجناهم من ورق حديدها الأخضر ثمار نعيمها الدانية القطوف. أما بعد فإن السيف زند الحق الوري وزنده القوي. وحده الفارق بين الرشيد والغوي. والنجم الهادي إلى العز وسبيله. والثغر الباسم عن تباشيره فلوله. وخصه الله على الأقلام بأن به للحق منهاجا. وأطلعه في ليالي النقع والشك سراجا وهاجا. وفتح باب الدين بمصباحه حتى دخل فيه الناس أفواجا. فهو ذو الرأي الصائب. وشهاب العزم الثاقب. وسماء العز التي زينت من آثاره بزينة الكواكب. والحد الذي كأنه ماء دافق يخرج من عند قطع الأجساد من بين الصلب والترائب. لا تجحد آثاره ولا ينكر قراراه. إذا اشتبت في الدجى والنقع ناره. يجمع بني الحالتين البأس والكرم. ويصاغ في طوق الحليتين فهو إما طوق في نحور الأعداء وإما خلخال في عراقيب أهل النقم. وتحسم به أهواء الفتن المضلة. وتحذف بهمته الجازمة حروف العلة. وإذا انحنى في سماء القتام بالضرب فهو القوي الاستطاعة الطويل المعمر. إذا قصف سواه في ساعة فما أولاه بطول الإحسان. وما أجمل ذكره في أخبار المعمرين ومقاتل الفرسان. كأن الغيث في غمده للطالب المنتجع. وكأنه زناد يستضاء به إلا أن دفع الدماء شرره الملتمع. كم قد مد فأدرك الطلاب. ودعا النصر بلسانه المحمر من أثر الدماء فأجاب. وتشعبت(6/69)
الدول لقائم نصره المنتظر. وحازت أبكار الفتوح بحده الظفر. وغدت أيامها به ذات حجول معلومة وغرر. وشدت به الظهور وحمدت علائقه في الأمور. واتخذته الملوك حرزا لسلطانها. وحصنا على أوطانها وقطانها. وجردته على صروف الأقدار في شانها. وندب فما أعيت عليه المصالح. وباشر اللمم فهو على الحقيقة بين الهدى والضلال فرق واضح. وأغاث في كل فصل فهو إما لغمده سعد الأخبية وإما لحامله سعد السعود. وإما لصده سعد الدابح. يجلس على رؤوس الأعداء قهرا. ويشرح أنباء الشجاعة قائلا للقلم: ذلك تأويل ما لم تستطع عليه صبرا. وهل يفاخر من وقف الموت على بابه. وعض الحرب الضروس بنابه. وقذفت شياطين القراع بشهبه. ومنح آيات شريفة منها طلوع الشمس من غربه. ومنها: أن الله أنشنأ برقه فكان للمارد مصرعا. وللرائد مرتعا. أقول قولي هذا وأستغفر الله العظيم من لفظ يجمح. ورأي إلى الخصام يجنح. ولسان يحوجه اللدد إلى أن يخرج فيجرح. وأتوكل عليه في صد الباطل وصرفه. وأسأله الإعانة على كل باحث عن حتفه بظلفه. ثم اختفى في بعض الخمائل. وتمثل بقول القائل:
سل السيف عن أصل الفخار وفرعه ... فإني رأيت السيف أفصح مقولا
(فلما وعى القلم) خطبته الطويلة الطائلة. ونشطته الجليلة الجائلة. وفهم كنايته وتلويحه. وتعريضه بالذم وتصريحه. وتعديله في(6/70)
الحديث وتجريحه. استغاث باللفظ النصير. واحتد وما أدراك ما حدة القصير. وقام في دواته وقعد. واضطرب على وجه القرطاس وارتعد. وعدل إلى السب الصراح. ورأى أنه إن سكت تكلم ولكن بأفواه الجراح. فانحرف إلى السيف وقال: أيها المعتز بطبعه. المغتر بلمعه. الناقض حبل الأنس بقطعه. الناسخ بهجيره من ظلال العيش فيئا. السراب الذي يحسبه الظمآن ماء حتى إذا جاءه لم يجده شيئا. الحبيس الذي طالما عادت عليه عوائد شره. أتعرض بسبي. وتتعرض لمكايد حربي. ألست ذا الخدع البالغة والحرب خدعة. والمنن النافعة ولا خير فيمن لا تبغي الأنام نفعه. ألست المسود الأحق بقول القائل:
نفس عصام سودت عصاما ... وعلمته الجود والإقداما
أتفاخرني وأنا للوصل وأنت للقطع. وأنا للعطاء وأنت للمنع. وأنا للصلح وأنت للضراب. وأنا للعمارة وأنت للخراب. وأنا المعمر. وأنت المدمر. وأنت المقلد وأنا صاحب التقليد. وأنت العابث وأنا المجود ومن أولى من القلم بالتجويد. فما أقبح شبهك. وما أشنع يوما ترى فيه العيون وجهك. أعلى مثلي يشق القول. ويرفع الصوت والصول. وأنا ذو اللفظ المكين. وأنت ممن دخل تحت قول القرآن: أو من ينشأ في الحلية وهو في الخصام غير مبين. فقد تعديت حدك. وطلبت ما لم تبلغ به جهدك. هيهات أنا المنتصب(6/71)
لمصالح الدول وأنت في الغمد طريح. والمتعب في تمهيدها وأنت غافل مستريح. والساهر وقد مهد لك في الغمد مضجع. والجالس عن يمين الملك وأنت عن يساره فأي الحالتين أرفع. والساعي في تدبير حال القوم. والمفني لنفعهم العمر إذا كان نفعك يوما أو بعض يوم. فاقطع عنك أسباب المفاخرة. واستر أنيابك عند المكاشرة. فما يحسن بالصامت محاورة المفصح. والله يعلم المفسد من المصلح. على أنه لا ينكر لمثلك التصدي. ولا يستغرب منه على مثلي التعدي. ما أنا أول من أطاع البارئ وتجرأت عليه. ومددت يد العدوان إليه. أو لست الذي قيل فيه:
شيخ يرى الصلوات الخمس نافلة ... ويستحل دم الحجاج في الحرم
قد سلبت الرحمة وإنما يرحم الله من عباده الرحماء. وجلبت القسوة فكم هيجت سبة حمراء. وأثرت دهماء. وخمشت الوجوه وكيف لا وأنت كالظفر كونا. وقطعت اللذات ولم لا وأنت كالصبح لونا. أين بطشك من حلمي. وجهلك من علمي. وجسمك من جسمي:
شتان ما بين جسم صيغ من ذهب ... وذاك جسمي وجسم صيغ من بهق
أين عينك الزرقاء من عيني الكحيلة. ورؤيتك الشنعاء من رؤيتي الجميلة. أين لون الشيب من لون الشباب. وأين نذير الأعداء من رسول الأحباب. هذا وكم أكلت الأكباد غيظا.(6/72)
وحميت الأضغان قيظا. وشكوت الصدى فسيقت ولكن بشواظ من نار. وأخنت عليك الأيام حتى انتعل بأبعاضك الحمار. ولولا تعرضك إلي لما وقعت في المقت. ولولا إساءتك لما كنت تصقل في كل وقت. فدع عنك هذا الفخر المديد. وتأمل وصفي إذا كشف عنك الغطاء فبصرك اليوم حديد. وافهم قول ابن الرومي:
بذا قضى الله في الأقلام إذ بريت ... أن السيوف لها مذ أرهفت خدم
(فعند ذلك وثب السيف) على قده. وكان الغضب يخرجه من حده. وقال: أيها المتطاول على قصره. والماشي على طريق غرره. والمتعرض منى إلى الدمار. والمتحرش بي فهو كما تقول العامة: ذنبه قش ويتحرش بالنار. لقد شمرت عن ساقك حتى أغرقتك الغمرات. وأتعبت نفسك فيما لا تدرك إلى أن أذهبها التعب حسرات. أو لست الذي طالما أرعش السيف للهيبة عطفك. ونكسر للخدمة رأسك وطرفك. وأمر بعض رعيته وهو السكين فقطع قفاك وشق أنفك. ورفعك في مهمات خاملة وحطك. وجذبك للاستعمال وقطك. فليت شعري كيف جسرت. وعبست على مثلي وبسرت. وأنت السوقة وأنا الملك. وأنا الصادق وأنت المؤتفك. وأنت لصون الحطام وأنا لصون الممالك. وأنت لحفظ المزارع وأنا لحفظ المسالك. وأنت للفلاحة وأنا الفلاح. وأنت حاطب الليل من نقسه وأنا ساري الصباح. وأنا الباصر وأنت الأرمد. وأنا(6/73)
المخدوم الأبيض وأنت الخادم الأسود. وأقسم بمن صير في قبضتي أنواع اليمن إنك عن بلوغ قدري لأذل رتبة. وعن بري كفي لأخيب طلبة. فإني لا أنكر قول بعض أربابك حيث قالوا:
أف لرزق الكتبه ... أف له ما أصعبه
يرتشف الرزق به ... من شق تلك القصبة
يا قلما يرفع في الط ... رس لوجهي ذنبه
ما أعرف السكين إلا ... كاتبا ذا متربه
إن عاينت الديوان وقعت في الحساب والعذاب. أو البلاغة سحرت وبالغت فأنت ساحر كذاب. أو فخرت بتقييد العلوم فما لك منها سوى لمحة الطرف. أو برقم المصاحف فإنك تعبد الله على حرف. أو جمعت عملا فإنما جمعك للتكسير. أو رفعت إلي طرفك رجع البصر خاسئا وهو جسير. وهل أنت في الدول إلا هيال تكتفي الهمم بطيفه. أو إصبع تلعق بها الرزق إذا أكل الضارب بقائم سيفه. وساع على رأسه قل ما أجدى. وسار ربما أعطى قليلا وأكدى. ثم وقف وأكدى. أين أنت من حظي الأسنى وكفي الأغنى. وما خصصت به من الجوهر الفرد إذا عجزت أنت عن العرض الأدنى. كم برزت فما أغنيت في مهمه. وكم خرجت من دواتك لتسطير سيئة. فخرجت كما قيل من ظلمة إلى ظلمة. وهب أنك كما قلت مفتوق اللسان. جريء الجنان. مداحل بمخلبك بين ذوي الاقتناص.(6/74)
معدود من شياطين الدول وأنت في الطرس والنقس بين بناء وغواص. فلو جريت خلفي إلى أن تخفى. وصحت بصريرك إلى أن تخفت وتخفى. لما كنت مني إلا بمنزلة المدرة من السماك الرامح. والبعرة على تيار الخضم الطافح. فلا تعد نفسك بمعجزي فإنك ممن يمين. ولا تحلف لها أن تبلغ مداي فليس لمخضوب البنان يمين. ومن صلاح نجمك أن تعترف بفضلي الأكبر. وتؤمن بمعجزتي التي بعثت منك إلى الأسود والأحمر. لتستوجب حقا. وتسلم من نار حر تلظى لا يصلاها إلا الأشقى. وإن لم يتضح لرأيك إلا الإصرار. وأبت حصائد لسانك إلا أن توقعك في النار. فلا رعى الله عزائمك القاصرة. ولا جمع عقارب ليل نفسك التي إن عادت فإن نعال السيوف لها حاضرة. ثم قطع الكلام. وتمثل بقول أبي تمام:
السيف أصدق إنباء من الكتب ... في حده الحد بين الجد واللعب
بيض الصفائح لا سود الصحائف في ... متونهن جلاء الشك والريب.
فلما تحقق تحريف القلم حرجه. وفهم مقدار الغيظ الذي أخرجه. وسمع هذه المقالة التي يقطر من جوانبها الدم. ورأى أنه هو البادي بهذه المناقشة والبادي أظلم. رجع إلى خداعه. وتنحى عن طريق قراعه. وعلم أن الدهر دهره. والقدر على حكم الوقت قدره. وأنه أحق بقول القائل:
لحنها معرب وأعجب من ذا ... أن إعراب غيرها ملحون(6/75)
فالتفت إليه وقال: أيها الملتهب في قدحه. والخارج عما نسب إليه من صفحه. ما هذه الزيادة في السباب. والتطفيف في كيل الجواب. وأني علم الشيوخ عن جهل الشباب. أما كان الأحسن بك أن تترك هذا الرفث. وتلم أخاك على الشعث. وتحلم كما زعمت أنك السيد. وتزكو على الغيظ كما يزكو على النار الجيد. أما تعلم أني معينك في تشييد الممالك. ورفيقك فيما تسلكه لنفعها من المسالك. أما أنا وأنت للملك كاليدين. وفي تشييده كالركنين. وما أراك عبتني في الأكثر إلا بنحول الجسد الذي ليس خلقه علي. وضعفه الذي ليس أمره إلي. على أن أذكى النسيمات أعلها وأنفها. وهذه سادات العرب تعد ذلك من فضلها الأظهر. وحسنها الأشهر. ولو أنك تقول بالفصاحة. وتقف في هذه الساحة. لأسمعتك في ذلك من أشعارهم. وأتحفتك بما يفخرون به من آثارهم. فيا لله من هذه الحجة البائرة. والكرة الخاسرة. وعلى هذه النسبة ما عبتني به من فقر الأنبياء. وذل الحكماء. على أن إطلاقات معروفي معروفة وسطوات أمري في وجوه الأعداء المكسوفة مكشوفة. فاستغفر الله مما فرط في مقالك. والتفويض من عوائد احتمالك. فلا تشمت بنا الأضداد ولا تسلط بفرقتنا المفسدين في الأرض. إن الله لا يحب الفساد. واغضض الآن من خيلائك بعض هذا الغض. ولا تشك أني قسيمك وإن أبيت إلا أن تهدد. وتجرد(6/76)
الشغب وتحدد. فاذكر محلنا في اليد الشريفة السلطانية الملكية المؤيدة. أيد الله نعمها. وجازى بالإحسان شيمها. وأيقظ في الآجال والآمال سيفها وقلمها. ولا عطل مشاهد المدح من أنسها. ولا أخلى فرائض البأس والكرم من قيام خمسها. فاقسم من باسه بالليل وما وسق. ومن بشر طلعته بالقمر إذا اتسق. لو تجاوز الأسد والظباء. بتلك اليد لوردا بالأمن في منهل. ورتعا في روض لا يجهل. فما ينبغي لنا بين تلك الأنامل غير سلوك الأدب. والمعاضدة على محو الأزمات والنوب. والاستقامة على الحق ولا عوج. والحديث من تلك الراحة عن البحر ولا حرج. هذه نصيحتي إليك والدين النصيحة. والله تعالى يطلعك على معاني الرشد الصريحة. ويجعل بينك وبين الغي حجابا مستورا. وينسيك ما تقدم من القول وكان ذلك في الكتاب مسطورا. فعند ذلك نكس السيف طرفه وقبل خديعة القلم قائلا لأمر ما جدع قصير أنفه وأمسك عن المشاغبة خفية الزلل. فإن السيوف معروفة بالخلل. ثم قال: أيها الضعيف الجبار. البازغ في ليل المداد نجما وكم في النجوم غرار. لقد تظلمت من أمر أنت البادي بظلمه. وتسورت إلى فتح باب أنت السابق إلى فتح ختمه. وقد فهمت الآن ما ذكرت من أمر اليد الشريفة ونعم ما ذكر. وأحسن بما أشرت. وما أنسانيه إلا الشيطان أن ذكره وقد تغافلت عن قولك الأحسن. ورددتك(6/77)
إلى أمك الدواة كي تقر عينها ولا تحزن. وسألت الله تعالى أن يزيد محاسن تلك اليد العالية تماما على الذي أحسن فإنها اليد التي:
لو أثر التقبيل في يد منعم ... لمحا براجم كفها التقبيل
والراحة التي:
تسعى القلوب لغوثها ولغيثها ... فيجيبه التأمين والتأميل
والأنامل التي علمها الله بالسيف والقلم. ومكنها من رتبتي العلم والعلم. ودارك بكرمها آمال العفاة بعد إن ولا ولم. ولولا أن هذا المضمار يضيق عن وصفه السابق إلى غاية الخصل. ومجده الذي إذا جر ذيله ود الفضل لو تمسك منه بالفضل. لأطلت الآن في ذكر مجدها الأوضح. وأفصحت في مدحها ولا ينكر لمثلها أن أنطقت الصامت فأفصح. ثم إنك بعدما تقدم من القول المزيد. والمجادلة التي عز أمرها على الحديد. أقررت أنت أننا للملك كاليدين. ولم تقر أينا اليمين. وفي آفاقه كالقمرين. ولم تذكر أينا الواضحة الجبين. وما يشفي ضناي ويروي صداي إلا أن يحكم بيننا من لا يرد حكمه. ولا يتهم فهمه. فيظهر أينا المفضول من الفاضل. والمخذول من الخاذل. ويقصر عن القول المناظر. ويستريح المناضل. وقد رأيت أن يحكم بيننا المقام الأعظم الذي أشرت إلى يده الشريفة. وتوسلت بمحاسنها اللطيفة. فإنه مالك زمامنا. ومنشئ غمامنا. ومصرف كلامنا. وحامل أعبائنا. الذي ما هوى للهوى وصاحب(6/78)
أمرنا ونهينا وتالله ما ضل صاحبكم وما غوى. ليفصل الأمر بحكمه ويقدمنا إلى مجلسه الشريف فيحكم بيننا بعلمه. فقد خيرة الله على ذلك الاشتراط. وقل بعد تقبيلنا الأرض له في ذلك البساط: خصمان بغى بعضنا على بعض فاحكم بيننا بالحق ولا تشطط. واهدنا إلى سواء الصراط. فنشط القلم فرحا. ومشى في أرض الطرس مرحا. وطرب لهذا الجواب. وخر راكعا وأناب. وقال: سمعا وطاعة. وشكر الله على هذه الساعة يا برد ذاك الذي قالت على كبدي الآن ظهر ما تبغيان. وقضي الأمر الذي فيه تستفتيان. وحكم بيننا الرأي المنير. ونبأنا بحقيقة الأمر ولا ينبئك مثل خبير. ثم تفاصلا على ذلك. وتراضينا على ما يحكم به المالك. وكانوا أحق بها وأهلها وانتبه المملوك من سنة فكره. وطالع بما اختلج سواد هذه الليلة في سره. والله تعالى يديم أيام مولانا السلطان التي هي نظام المفاخر. ومقام المآثر. وغوث الشاكي وغيث الشاكر. ويمتع بظلال مقامه الذي لا تكسر الأيام مقدار ما هو جابر. ولا تجبر ما هو كاسر. إن شاء الله تعالى (خزانة الأدب للحموي)
رسالة لابن الوردي في السيف والقلم
لما كان السيف والقلم عدتي العمل والقول. وعمدتي الدول فإن عدمتها دولة فلا حول. وركني إسناد الملك المعربين عن(6/79)
المخفوض والمرفوع. ومقدمتي نتيجة الجدل الصادر عنهما المحمول والموضوع. فكرت أيهما أعظم فخرا. وأعلى قدرا. فجلست لهما مجلس الحكم والفتوى. ومثلتهما في الفكر حاضرين للدعوى. وسويت بين الخصمين في الإكرام. واستنطقت لسان حالهما للكلام (فقال القلم) : بسم الله مجراها ومرساها. والنهار إذا جلاها. والليل إذا يغشاها. أما بعد حمد الله بارئ القلم. ومشرفه بالقسم. وجعله أول ما خلق. وجمل الورق بغصنه كما جمل الغصن بالورق. والصلاة على القائل: جفت الأقلام. فإن القلم قصب الباق. والكاتب بسبعة أقلام من طبقات الكتاب في السبع الطباق. جرى بالقضاء والقدر. وناب عن اللسان فيما نهى وأمر. طالما أربى على البيض والسمر في ضرابها وطعانها. وقاتل في البعد والصوارم في القرب ملء أجفانها. وماذا يشبه القلم في طاعة ناسه. ومشيه لهم على أم رأسه. (قال السيف) : بسم الله الخافض الرافع. وأنزلنا الحديد فيه بأس شديد ومنافع. أما بعد حمد الله الذي أنزل آية السيف. فعظم بها حرمة الجرح وآمن خيفة الحيف والصلاة على الذي نفذ بالسيف سطور الطورس. وخدمته الأقلام ماشية على الرؤوس. وعلى آله وصحبه الذين أرهفت سيوفهم. وبنيت بها على كسر الأعداء حروفهم. فإن السيف عظيم الدولة. شديد الصولة. محا أسطا البلاغة. وأساغ ممنوع الإساغة. من اعتمد على غيره(6/80)
في قهر الأعداء تعب. وكيف لا وفي حده الحد بين الجد واللعب. فإن كان القلم شاهدا فالسيف قاضي. وإن اقتربت مجادلته بأمر مستقبل قطعه السيف بفعل ماضي. به ظهر الدين. وهو العدة لقمع المعتمدين. حملته دون القلم يد نبينا. فشرف بذلك في الأمم شرفا بينا. الجنة تحت ظلاله. ولاسيما حين يسل فترى ودق الدم يخرج من خلاله. زيتن بزينة الكواكب سماء غمده. وصدق القائل: السيف أصدق إنباء من ضده. لا يعبث به الحامل. ولا يتناوله كالقلم بأطراف الأنامل. ما هو كالقلم المشبه بقوم عروا عن لبوسهم. ثم نكسوا كما قيل على رؤوسهم. فكان السيف خلق من ماء دافق. أو كوكب راشق. مقدرا في السرد. فهو الجوهر الفرد. لا يشرى كالقلم بثمن بخس. ولا يبلى كما يبلى القلم بسواد وطمس. كم لقائمه المنتظر. من أثر. في عين أو عين في أثر. فهو في حراب القوم قوام الحرب. ولهذا جاء مطبوع الشكل داخل الضرب. (قال القلم) : أومن ينشأ في الحلية وهو الخصام غير مبين. يفاخر وهو القائم عن الشمال الجالس على اليمين. أنا المخصوص بالري وأنت المخصوص بالصدى. أنا آلة الحياة وأنت الردى. ما لنت إلا بعد دخول السعير. وما حددت إلا عن ذنب كبير. أنت تنفع في العمر ساعة. وأنا أفني العمر في الطاعة. أنت للرهب. وأنا للرغب. وإذا كان بصرك حديدا فبصري ما ذهب. أين(6/81)
تقليدك من اجتهادي. وأين نجاسة دمك من تطهير مدادي. (قال السيف) : أمثلك يعير مثلي بالدماء. فطالما أمرت بعض فراخي وهي السكين. فأصبحت من النفاثات في عقدك يا مسكين. فأدخلت من الحياة جثمانك. وشقت أنفك وقطعت لسانك. ويك إن كنت للديوان فحاسب مهموم. أو للإنشاء فخادم لمخدوم. أو للبليغ فساحر مذموم. أو للفقيه فناقص في المعلوم. أو للشاعر فسائل محروم. أو للشاهد فخائف مسموم. أو للمعلم فللحي القيوم. وأما أنا فلي الوجه الأزهر. والحلية والجوهر. والهيبة إذا أشهر. والصعود على المنبر. شكلي الحسن علي. ولم لا حملك الحطب بدلي. ثم إني مملوك كمالك. فإنك كناسك. أسلك الطرائق. وأقطع العلائق. (قال القلم) : إما أنا فابن ماء السماء. وأليف الغدير وحليف الهواء. وأما أنت فابن النار والدخان. وباتر الأعمار وخوان الإخوان. تفصل ما لا يفصل. وتقطع ما أمر الله به أن يوصل. لا جرم شمر السيف وصقل قفاه. سقي ماء حميما فقطع معاه. يا غراب البين. ويا عدة الحين. ويا معتل العين. ويا ذا الوجهين. كم أفنيت وأعدمت. وأرملت وأيتمت. (قال السيف) : يا ابن الطين. ألست ضامرا وحرفت. ونكرت وعرفت. وسطرت هجوا وشتما. وخلدت عارا وذما أبشر بفرط روعتك. وشدة خيفتك. إذا قست بياض(6/82)
صفيحتي بسواد صحيفتك. فألن خطابك فأنت قصير المدة. وأحسن جوابك فعندي حدة. وأقلل من غلطتك وجبهتك. واشتغل عن دم في وجهي بمدة في وجهك. وإلا فأدنى ضربة مني تروم أرومتك. فتستأصل أصلك وتجتث جرثومتك. فسقيا لمن
غاب بك عن غابك. ورعيا لمن هاب بك لسلخ إهابك. (فلما رأى القلم) السيف قد احتد. ألان له من خطابه ما اشتد. وقال: أما الأدب فيؤخذ عني. وأما اللطف فيكتسب مني. فإن لنت لنت. وإن أحسنت أحسنت. نحن أهل السمع والطاعة. ولهذا تجمع في الدواة الواحدة منا جماعة. وأما أنتم فأهل الحدة والخلاف. ولهذا لم يجمعوا بين سيفين في غلاف. (قال السيف) : أمكر ودعوى عفة. لأمر ما جدع قصير أنفه لو كنت كما زعمت ذا أدب. لما قابلت رأس الكاتب بعقدة الذنب. أنا ذو الصيت والصوت. وغراراي لسانا مشرفي يرتجل غرائب الموت. أنا من مارج من نار. والقلم من صلصال كالفخار. وإذا زعم القلم أنه مثلي أمرت من يدق رأسه بنعلي. (قال القلم) : صه فصاح السيف بلا سعادة كالأعزل. (قال السيف) : مه فقلم البليغ يغير حظ مغزل. (قال القلم) : أنا أزكى وأطهر. (قال السيف) : أنا أبهى وأبهر. فتلا (ذو القلم) لقلمه: إنا أعطيناك الكوثر. فتلا (صاحب السف) لسيفه: فصل لربك وانحر. فتلا (ذو القلم) لقلمه: إن شانئك هو الأبتر. (قال) : أما وكتابي(6/83)
المسطور. وبيتي المعمور. والتوراة والإنجيل. والقرآن ذي التبجيل. إن لم تكف عني غربك. وتبعد مني قربك. لأكتبنك من الصم البكم. ولأسطرن عليك بعلمي سجلا بهذا الحكم. (قال السيف) : أما ومتني المتين. وفتحي المبين. ولساني الرطبين. ووجهي الصلبين. إن لم تغب عن بياضي بسوادك. لأسخمن وجهك بمدادك. ولقد كسبت من الأسد في الغابة. توقيح العين والصلابة. مع أني ما ألوتك نصحا. أفنضرب عنكم الذكر صفحا. (قال القلم) : سلم إلي مع من سلم. إن كنت أعلى فأنا أعلم. وإن كنت أحلى فأنا أحلم. وإن كنت أقوى فأنا أقوم. أو كنت ألوى فأنا ألوم. أو كنت أطرى فأنا أطرب. أو كنت أعلى فأنا أغلب. أو كنت أعتى فأنا أتب. أو كنت أقضى فأنا أقضب. (قال السيف) : كيف لا أفضلك والمقر الفلاني شد أزري. (قال القلم) : كيف لا أفضلك وهو عز نصره ولي أمري.
(قال الحكم بين السيف والقلم) : فلما رأيت الحجتين ناهضتين. والبينتين بينتين متعارضتين. وعلمت أن لكل واحد منهما نسبة صحيحة إلى هذا المقر الكريم. ورواية مسندة عن حديثة القديم. لطفت الوسيلة. دققت الحيلة. حتى رددت القلم إلى كنه. وأغمدت السيف فنام ملء جفنه. وأخرت بينهما الترجيح. وسكت عما هو عندي الصحيح. إلى أن يحكم المقر بينهما بعلمه. ويسكن(6/84)
سورة غضبها الوافر ولجاجهما المديد ببسيط حلمه. ويعاملهما بما وقر في صدره من الوقار وسكن في قبله من السكينة. وإذا كان في هذه المدينة مالكنا فلا يفتى ومالك في المدينة.
مشاورة المهدي لأهل بيته في حرب خراسان
هذا ما تراجع فيه المهدي ووزراؤه وما دار بينهم من تدبير الرأي في حرب خراسان أيام تحاملت عليهم العمل واعتفت. فحملتهم الدالة وما تقدم لهم من المكانة على أن نكثوا بيعتهم ونقضوا موثقهم وطردوا العمال والتوا بما عليهم من الخراج. وحمل المهدي ما يجب من مصلحتهم وبكره من عنتهم على أن أقال عثرتهم واغتفر زلتهم. واحتمل دالتهم تطولا بالفضل واتساعا بالعفو وأخذا بالحجة ورفقا بالسياسة. ولذلك لم يزل مذ حمله الله أعباء الخلاة وقلده أمور الرعية رفيقا بمدار سلطانه بصيرا بأهل زمانه باسطا للمعدلة في رعيته تسكن إلى كنفه وتأنس بعفوه وتثق بحلمه. فإذا وقعت الأقضية اللازمة والحقوق الواجبة فليس عنده هوادة ولا إغضاء ولا مداهنة إثرة للحق وقياما بالعدل وأخذا بالحزم. فدعا أهل خراسان الاغترار بحلمه والثقة بعفوه إن كسروا الخراج وطردوا العمال وسألوا ما ليس لهم من الحق. ثم خلطوا احتجاجا باعتذار وخصومة بإقرار وتنصلا باعتلال. فلما انتهى ذلك إلى المهدي خرج إلى مجلس خلائه وبعث إلى نفر من لحمته ووزرائه فأعلمهم الحال واستنصحهم للرعية. ثم أمر الموالي بالابتداء وقال للعباس بن محمد: أي عم تعقب قلونا وكن حكما بيننا. وأرسل إلى ولديه موسى وهارون فاحضرهما الأمر وشاركهما في الرأي وأمر محمد بن الليث بحفظ مراجعتهم وإثبات مقالتهم في كتاب
(فقال سلام صاحب المظالم) : أيها المهدي إن في كل أمر غاية ولكل قوم صناعة واستفرغت رأيهم واستغرقت أشغالهم واستنفدت أعمارهم. وذهبوا بها وذهبت بهم وعرفوا بها وعرفت بهم. ولهذه الأمور التي جعلنا فيها غاية وطلبت معونتنا عليها أقوام من أبناء الحرب وساسة الأمور وقادة الجنود وفرسان الهزاهز وإخوان التجارب وأطفال الوقائع الذين وشحتهم سحالها. وفيأتهم ظلالها.(6/85)
وعفتهم شدائدها. وقرمتهم نواجذها. فلو عجمت ما قبلهم وكشفت ما عندهم لوجدت نظائر تؤيد أمرك. وتجارب توافق نظرك. وأحاديث تقوي قلبك. فأما نحن معاشر عمالك وأصحاب دواوينك فحسن بنا وكثير منا أن نقوم بثقل ما حملتنا من عملك واستودعتنا من أمانتك. وشغلتنا به من إمضاء عدلك وإنفاذ حكمك وإظهار حقك. (فأجابه المهدي) : إن في كل قوم حكمة ولكل زمان سياسة وفي كل حال تدبيرا يبطل الآخر الأول ونحن أعلم بزماننا وتدبير سلطاننا. (قال) : نعم أيها المهدي أنت متسع الرأي وثيق العقدة. قوي المنة بليغ الفطنة. معصوم النية محضور الروية. مؤيد البديهة موفق العزيمة. معان بالظفر مهدي إلى الخير. إن هممت ففي عزمك مواقع الظن. وإن اجتمعت صدع فعلك ملتبس الشك. فاعزم يهد الله إلى الصواب قلبك. وقل ينطق الله بالحق لسانك. فإن جنودك جمة وخزائنك عامرة. ونفسك سخية وأمرك نافذ. (فأجابه المهدي) : إن المشاورة والمناظرة بابا رحمة ومفتاحا بركة لا يهلك عليهما رأي ولا يتفيل معهما حزم. فأشيروا برأيكم وقولوا بما يحضركم فإني من ورائكم وتوفيق الله من وراء ذلك. (قال الربيع) : أيها المهدي إن تصاريف وجوه الرأي كثيرة. وإن الإشارة ببعض معاريض القول يسيرة. ولكن خراسان أرض بعيدة المسافة متراخية الشقة متفاوتة السبيل. فإذا ارتأيت من محكم التدبير ومبرم(6/86)
التقدير ولباب الصواب رأيا قد أحكمه نظرك وقلبه تدبيرك فليس وراءه مذهب طاعن ولا دونه معلق لخصومة عائب. ثم أجبت البرد به وانطوت الرسل عليه كان بالحري أن لا يصل إليهم محكمه. وقد حدث منهم ما ينقضه. فالسر أن ترجع إليك الرسل وترد عليك الكتب بحقائق أخبارهم وشوارد آثارهم ومصادر أمورهم. فتحدث رأيا غيره وتبتدع تدبيرا سواه. قد انفجرت الحق وتحللت العقد واسترخى الخناق وامتد الزمان. ثم لعلما موقع الآخرة كمصدر الأولى. لكن الرأي لك أيها المهدي وفقك الله أن تصرف إجالة النظر وتقليب الفكر فيما جمعتنا له واستشرتنا فيه. من التدبير لحربهم والحيل في أمرهم إلى الطب لرجل ذي دين فاضل. وعقل كامل. وورع واسع ليس موصوفا بهوى في سواك. ولا مهتما في أثرة عليك ولا ظنينا على دخلة مكروهة. ولا منسوبا إلى بدعة محذورة فيقدح في ملكك ويربض الأمور لغيرك. ثم تسند إليه أمورهم وتفوض إليه حربهم وتأمره في عهدك ووصيتك إياه بلزوم أمرك ما لزمه الحزم وخلاف نهيك إذا خالفه الرأي عن استحالة الأمور واشتداد الأحوال التي ينقض أمر الغائب عنها ويثبت رأي الشاهد لها. فإنه إذا فعل ذلك فواثب أمرهم من قريب وسقط عنه ما يأتي من بعيد تمت الحيلة وقويت المكيدة ونفذ العمل وأحد النظر إن شاء الله. (قال الفضل بن العباس) : أيها المهدي إن(6/87)
ولي الأمور وسائس الحروب ربما نحى جنوده وفرق أمواله في غير ما ضيق أمر حربه ولا ضغطه حال اضطرته فيقعد عند الحاجة إليها وبعد التفرقة لها عديما منها فاقعد لها لا يثق بقوة ولا يصول بعدة ولا يفزع إلى ثقة. فالرأي لك أيها المهدي وفقك الله أن تعفي خزائنك من الإنفاق للأموال وجنودك من مكابدة الأسفار ومقارعة الخطار وتغرير القتال. ولا تسرع للقوم في الإجابة إلى ما يطلبون والعطاء لما يسالون فيفسد عليك أدبهم وتجرئ من رعيتك غيرهم. ولكن أغزهم بالحيلة وقاتلهم بالمكيدة وصارعهم باللين وخاتلهم بالرفق. وأبرق لهم بالقول وأرعد نحوهم بالفعل. وابعث البعوث وجند الجنود وكتب الكتائب واعقد الأولوية وانصب الرايات. وأظهر أنك موجه إليهم الجيوش مع أحنق قوادك عليهم وأسوئهم أثرا فيهم. ثم ادسس الرسل وابثث الكتب وضع بعضهم على طمع من وعدك وبعضا على خوف من وعيدك. وأوقد بذلك وأشباهه نيران التحاسد فيهم واغرس أشجار التنافس بينهم. حتى تملأ القلوب من الوحشة وتنطوي الصدور على البغضة ويدخل كلا من كل الحذر والهيبة. فإن مرام الظفر بالغيلة. والقتال بالحيلة. والمناهبة بالكتب والمكايدة بالرسل والمقارعة بالكلام
اللطيف المدخل في القلوب القوي الموقع من النفوس المعقود بالحجج الموصول بالحيل المبني على اللين الذي يستميل القلوب ويسترق(6/88)
العقول والآراء. ويستميل الأهواء. ويستدعي المؤاتاة أنفذ من القتال بظبات السيوف وأسنة الرماح. كما أن الوالي الذي يستنزل طاعة رعيته بالحيل ويفرق كلمة عدوه بالمكايدة أحكم عملا وألطف منظرا وأحسن سياسة من الذي لا ينال ذلك إلا بالقتال والإتلاف للأموال والتغرير والخطار. وليعلم المهدي أنه إن وجه لقتالهم رجلا لم يسر لقتالهم إلا بجنود كثيفة تخرج عن حال شديدة وتقدم على أسفار ضيقة وأموال متفرقة وقواد غششة إن ائتمنتهم استنفدوا ماله وإن استنصحهم كانوا عليه لا له. (قال المهدي) : هذا رأي قد أسفر نوره وأبرق ضوءه وتمثل صوابه للعيون ومجد حقه في القلوب. ولكن فوق كل ذي علم عليم. ثم نظر إلى ابنه علي. فقال: ما تقول. (قال علي) : أيها المهدي إن أهل خراسان لم يقلعوا عن طاعتك ولم ينصبوا من دونك أحد يقدح في تغيير ملكك ويربض الأمور لفساد دولتك. ولو فعلوا لكان الخطب أيسر والشأن أصغر. والحال أدل لأن الله مع حقه الذي لا يخذله وعنده موعده الذي لا يخلفه. ولكنهم قوم من رعيتك وطائفة من شيعتك الذين جعلك الله عليهم واليا. وجعل العدل بينك وبينهم حاكما. طلبوا حقا وسألوا إنصافا. فإن أجبت إلى دعوتهم ونفست عنهم قبل أن يتلاحم منهم حال أو يحدث من عندهم فتق أطعت أمر الرب. وأطفأت نائرة الحرب. ووفرت خزائن المال. وطرحت تغرير القتال. وحمل(6/89)
الناس محمل ذلك على طبيعة جودك وسجية حلمك وإسجاح خليفتك ومعدلة نظرك. فأمنت أن تنسب إلى ضعف وأن يكون ذلك فيما بقي دربة. وإن منعتهم ما طلبوا ولم تجبهم إلى ما سألوا اعتدلت بك وبهم الحال وساويتهم في ميدان الخطاب فما أرب المهدي أن يعمد إلى طائفة من رعيته مقرين بمملكته مذعنين بطاعته لا يخرجون أنفسهم عن قدرته فيملكهم أنفسهم ويخلع نفسه عنهم ويقف على الحيل معهم. ثم يجازيهم السوء في حد المقارعة ومضمار المخاطرة. أيريد المهدي وفقه الله الأموال فلعمري لا ينالها ولا يظفر بها إلا بإنفاق أكثر منها مما يطلب منهم وإضعاف ما يدعي قبلهم. ولو نالها فحملت إليه أو وضعت بخرائها بين يديه ثم تجافى لهم عنها وطال عليهم بها لكان مما إليه وينسب وبه يعرف من الجود الذي طبعه الله عليه وجعل قرة عينه ونهمة نفسه فيه. فإن قال المهدي: هذا رأي مستقيم سديد في أهل الخراج الذين شكوا ظلم عمالنا وتحامل ولاتنا. فأما الجنود الذين نقضوا مواثيق العهود وأنطقوا لسان الإرجاف وفتحوا باب المعصية وكسروا قيد الفتنة فقد ينبغي لهم أن أجعلهم نكالا لغيرهم وعظة لسواهم. فليعلم المهدي أنه لو أتي بهم مغلولين في الحديد مقرنين في الأصفاد ثم اتسع لحقن دمائهم عفوه. ولإقالة عثرتهم صفحه. واستبقاهم لما هم فيه من حزبه أو لمن بإزائهم من عدوه لما كان بدعا من رأيه ولا مستنكرا من نظره. لقد علمت(6/90)
العرب أنه أعظم الخلفاء والملوك عفوا وأشدهم وقعا وأصدقهم صولة. وأنه لا يتعاظمه عفو ولا يتكاءده صفح وإن عظم الذنب وجل الخطب. فالرأي للمهدي وفقه الله أن يحلل عقدهم الغيظ بالرجاء لحسن ثواب الله في العفو عنهم. وأن يذكر أولى حالاتهم وضيعة عيالاتهم برا بهم وتوسعا لهم. فإنهم إخوان دولته وأركان دعوته وأساس حقه الذين بعزتهم يصول وبحجتهم يقول. وإنما مثلهم فيما دخلوا فيه من مساخطه وتعرضوا له من معاصيه وانطووا فيه عن إجابته. ومثله في قلة ما غير ذلك من رأيه فيهم أو نقل عن حاله لهم أو تغير من نعمته بهم كمثل رجلين أخوين متناصرين متوازين أصاب أحدهما خبل عارض ولهو حادث فنهض إلى أخيه بالأذى وتحامل عليه بالمكروه. فلم يزدد أخوه إلا رقة له ولطفا به واحتيالا لمداواة مرضه ومراجعة حاله عطفا عليه وبرا به ومرحمة له. (فقال المهدي) : أما علي فقد كوى سمت الليان. وفض القلوب في أهل خراسان. ولكل نبأ مستقر. فقال: ما ترى يا أبا محمد (يعني موسى ابنه) . (فقال موسى) : أيها المهدي لا تسكن إلا حلاوة ما يجري من القول على ألسنتهم وأنت ترى الدماء تسيل من خلل فعلهم. الحال من القوم ينادي بمضمرة شر وخفية حقد. قد جعلوا المعاذير عليها سترا واتخذوا العلل من دونها حجابا. رجاء أن يدافعوا الأيام بالتأخير والأمور بالتطويل فيكسروا حيل المهدي فيهم ويفنوا جنوده عنهم. حتى يتلاحم
أمرهم(6/91)
وتتلاحق مادتهم وتستفحل حربهم وتستمر الأمور بهم. والمهدي من قولهم في حال غرة ولباس أمنة قد فتر لها وأنس بها وسكن إليها. ولولا ما اجتمعت به قلوبهم وبردت عليه جلودهم من المناصبة بالقتال والإضمار للقراع عن داعية ضلال أو شيطان فساد لرهبوا عواقب أخبار الولاة وغب سكون الأمور. فليشدد المهدي وفقه الله أزره لهم ويكتب كتائبه نحوهم وليضع المر على أشد ما يحضره فيهم. وليوقن أنه لا يعطيهم خطة يريد بها صلاحهم إلا كانت دربة إلى فسادهم وقوة على معصيتهم وداعية إلى دعوتهم وسببا لفساد من بحضرته من الجنود. ومن بابه من الوفود. الذين إن أقرهم وتلك العادة وأجراهم على ذلك الأرب. لم يبرح في فتق حادث وخلاف حاضر لا يصلح عليه دين ولا تستقيم به دنيا. وإن طلب تغييره بغير استحكام العادة واستمرار الدربة لم يصل إلى ذلك إلا بالعقوبة المفرطة والمؤونة الشديدة. والرأي للمهدي وفقه الله أن لا يقيل عثرتهم ولا يقبل معذرتهم حتى تطأهم الجيوش وتأخذهم السيوف. ويستحر بهم القتل ويحدق بهم الموت. ويحيط بهم البلاء ويطبق عليهم الذل. فإن فعل المهدي بهم ذلك كان مقطعة لكل عادة سوء فيهم. وهزيمة لكل عادة سوء فيهم. واحتمال المهدي في مؤونة غزوتهم هذه تضع عنه غزوات كثيرة ونفقات عظيمة.
(قال المهدي) : قد قال القوم فاحكم يا أبا الفضل. (فقال(6/92)
العباس بن محمد) : أيها المهدي أما الموالي فأخذوا بفروع الرأي وسلكوا جنبات الصواب وتعدوا أمورا قصر بنظرهم عنها أنه لم تأت تجاربهم عليها. (وأما الفضل) فأشار بالأموال أن لا تنفق. والجنود أن لا تفرق. وبان لا يعطى القوم ما طلبوا ولا يبذل لهم ما سألوا. وجاء بأمر بين ذلك استصغارا لأمرهم واستهانة بحربهم وإنما يهيج جسيمات الأمور صغارها. (أما علي) فأشار باللين وأفرد الرفق وإذا جرد الوالي لمن غمط أمره وسفه حقه اللين بحتا والخير محضا لم يخلطهما بشدة تعطف القلوب على لينه ولا بشر يحبسهم إلى خيره. فقد ملكهم الخلع لعذرهم ووسع لهم الفرجة لثني أعناقهم. فإن أجابوا دعوته وقبلوا لينه من غير خوف اضطرهم ولا شدة ونزوة في رؤوسهم يستدعون بها البلاء إلى أنفسهم ويستصرخون بها رأي المهدي فيهم. وإن لم يقبلوا دعوته ويسرعوا لإجابته باللين المحض والخير الصراح فذلك ما عليه الظن بهم والرأي فيهم وما قد يشبه أن يكون من مثلهم. لأن الله تعالى خلق الجنة وجعل فيها من النعيم المقيم والملك الكبير ما لا يخطر على قلب بشر ولا تدركه الفكر ولا تعلمه نفس ثم دعا الناس إليها ورغبهم فيها. فلولا أنه خلق نارا جعلها لهم رحمة يسوقهم بها إلى الجنة لما أجابوا ولا قبلوا. (أما موسى) فأشار بأن يعصبوا بشدة لا لين فيها وأن يرموا بشر لا خير معه. وإذا أضمر الوالي لمن فارق طاعته وخالف جماعته(6/93)
الخوف مفردا والشر مجردا ليس معهما طمع ولا لين يثنيهم اشتدت الأمور بهم وانقطعت الحال منهم إلى أحد أمرين: إما إن تدخلهم الحمية من الشدة والأنفة من الذلة والامتعاض من القهر فيدعوهم ذلك إلى التمادي في الخلاف والاستبسال في القتال والاستسلام للموت. وإما أن ينقادوا بالكرة ويذعنوا بالقهر على بغضة لازمة وعداوة باقية تورث النفاق وتعقب الشقاق. فإذا أمكنتهم فرصة أو ثابت لهم قدرة أو قويت لهم حال عاد أمرهم إلى أصعب وأغلظ وأشد مما كان. (وقال) في قول أبي الفضل أيها المهدي أكفى دليل وأوضح برهان وأبين خبر. بأن قد أجمع رأيه وحزم نظره على الإرشاد ببعثة الجيوش إليهم وتوجيه البعوث نحوهم مع إعطائهم ما سألوا من الحق وإجابتهم إلى ما سألوه من العدل. (قال المهدي) : ذلك رأي. (قال هارون) : خلطت الشدة أيها المهدي باللين. وانتظم أمر الدنيا بالدين. فصارت الشدة أمر فطام لما تكره وعاد اللين أهدى قائد إلى ما تحب. ولكن أرى غير ذلك. (قال المهدي) : لقد قلت فولا بديعا. وخالفت به أهل بيتك جميعا. والمرء مؤتمن بما قال وظنين بما ادعى حتى يأتي ببينة عادلة وحجة ظاهرة فاخرج عما قلت. (قال هارون) : أيها المهدي إن الحرب خدعة والأعاجم قوم مكرة. وربما اعتدلت الحال بهم واتفقت الأهواء منهم. فكان باطن ما يسرون على ظاهر ما يعلنون. وربما افترقت الحالان وخالف(6/94)
القلب اللسان فانطوى القلب على محجوبة تبطن. واستسر بمدخولة لا تعلن. والطبيب الرفيق بطبه البصير بأمره العالم بمقدم يده وموضع ميسمه لا يتعجل بالدواء حتى يقع على معرفة الداء. فالرأي للمهدي وفقه الله أن يفر باطن أمرهم فر المسنة. ويمخض ظاهر حالهم مخض السقاء بمتابعة الكتب ومظاهرة الرسل وموالاة العيون حتى تهتك حجب عيونهم وتكشف أغطية أمورهم. فإن انفرجت الحال وأفضت الأمور به إلى تغيير حال أو داعية ضلال اشتملت الأهواء عليه وانقاد الرجال إليه. وامتدت العناق نحوه بدين يعتقدونه وإثم يستحلونه عصبهم بشدة لا لين فيها ورماهم بعقوبة لا عفو معها. وإن انفرجت العيون واهتصرت الستور ورفعت الحجب والحال فيهم مريعة والأمور بهم معتدلة في أرزاق يطلبونها وأعمال ينكرونها وظلامات يدعونها وحقوق يسألونها بماتة سابقتهم ودالة مناصحتهم فالرأي للمهدي وفقه الله أن يتسع لهم بما طلبوا ويتجافى لهم عما كرهوا ويشعب من أمرهم ما صدعوا ويرتق من فتقهم ما قطعوا. ويولي عليهم من أحبوا ويداوي بذلك مرض قلوبهم وفساد أمورهم. فإنما المهدي وأمته وسواد أهل مملكته بمنزلة الطبيب الرفيق والوالد الشفيق والراعي الجرب الذي يحتال لمرابض غنمه وضوال رعيته حتى يبرئ المريضة من داء علتها. ويرد الصحيحة إلى أنس جماعتها. ثم إن خراسان بخاصة الدين لهم(6/95)
دالة محمولة وماتة مقبولة ووسيلة معروفة وحقوق واجبة. لأنهم أيدي دولته وسيوف دعوته وأنصار
حقه وأعوان عدله. فليس من شأن المهدي الاضطغان عليهم ولا المؤاخذة لهم ولا التوعر بهم ولا المكافأة بإساءتهم. لأن مبادرة حسم الأمور ضعيفة قبل أن تقوى ومحاولة قطع الأصول ضئيلة قبل أن تغلظ أحزم في الرأي وأصح في التدبير من التأخير لها والتهاون بها. حتى يلتئم قليلها بكثيرها وتجتمع أطرافها في جمهورها. (قال المهدي) : مازال هارون يقع وقع الحيا حتى خرج خروج القدح من الماء. قال وانسل انسلال السيف فيما ادعى فدعوا ما سبق موسى فيه أنه هو الرأي. وثنى بعده هارون ولكن من لأعنه الخيل وسياسة الحرب وقادة الناس إن أمعن بهم اللجاج وأفرطت بهم الدالة. (قال صالح) : لسنا نبلغ أيها المهدي بدوام البحث وطول الفكر أدنى فراسة رأيك وبعض لحظات نظرك. وليس ينقص عنك من بيوتات العرب ورجالات العجم ذو دين فاضل ورأي كامل وتدبير قوي. تقلده حربك وتسودعه جندك. ممن يحتمل الأمانة العظيمة ويضطلع بالأعباء الثقيلة. وأنت بحمد الله ميمون النقيبة مبارك العزيمة مخبور التجارب محمود العواقب معصوم العزم. فليس يقع اختيارك ولا يقف نظرك على أحد توليه أمرك وتسند إليه ثغرك إلا أراك الله ما تحب وجمع لك منه ما تريد.(6/96)
(قال المهدي) : إني لأرجو ذلك لقديم عادة الله فيه وحسن معونته عليه. ولكن أحب الموافقة على الرأي والاعتبار للمشاورة في الأمر المهم. (قال محمد بن الليث) : أهل خراسان أيها المهدي قوم ذوو عزة ومنعة وشياطين خدعة. زروع الحمية فيهم نابتة. وملابس الأنفة عليهم ظاهرة. فالرؤية عنهم عازبة والعجلة عنهم حاضرة. تسبق سيولهم مطرهم وسيوفهم عذلهم. لأنهم بين سفلة لا تعدو مبلغ عقولهم ومنظر عيونهم. (وبين) رؤساء لا يلجمون إلا بشدة ولا يفطمون إلا بالمر. وإن ولى المهدي عليهم وضيعا لم تنقد له العظماء. وإن ولى أمرهم شريفا تحامل على الضعفاء. وإن أخر المهدي أمرهم ودافع حربهم حتى يصيب لنفسه من حشمه ومواليه أو بني عمه أو بني أبيه ناصحا يتفق عليه أمرهم وثقة تجتمع له أملاؤهم بلا أنفة تلزمهم ولا حمية تدخلهم ولا مصيبة تنفرهم تنفست الأيام بهم وتراخت الحال بأمرهم. فدخل بذلك من الفساد الكبير والضياع العظيم ما لا يتلافاه صاحب هذه الصفة وإن وجد. ولا يستصلحه وإن جهد. إلا بعد دهر طويل وشر كبير. وليس المهدي وفقه الله فاطما عاداتهم. ولا قارعا صفاتهم. بمثل أحد رجلين لا ثالث لهما ولا عدل في ذلك بهما. أحدهما لسان ناطق موصول بسمعك ويد ممثلة لعينك. وصخرة لا تزعزع وبهيمة لا تثنى وبازل لا يفزعه صوت الجلجل. نقي العرض نزيه النفس جليل الخطر قد اتضعت الدنيا عن(6/97)
قدره وسما نحوه الآخرة بهمته. فجعل الغرض الأقصى لعينه نصبا والغرض الأدنى لقدمه موطئا. فليس يقبل عملا. ولا يتعدى أملا. وهو رأس مواليك. وأنصح بني أبيك. رجل قد غذي بلطيف كرامتك. ونبت في ظل دولتك. ونشأ على قوائم أدبك. فإن قلدته أمرهم وحملته ثقلهم وأسندت إليه ثغرهم كأن قفلا فتحه أمرك وبابا أغلقه نهيك. فجعل العدل عليه وعليهم أميرا والإنصاف بينه وبينهم حاكما. وإذا أحكم المنصفة وسلك المعدلة فأعطاهم ما لهم وأخذ منهم ما عليهم غرس في الذي لك وبين صدورهم وأسكن لك في السويداء داخل قلوبهم طاعة راسخة العروق باسقة الفروع متماثلة في حواشي عوامهم متمكنة في قلوب خواصهم. فلا يبقى فيهم ريب إلا نفوه. ولا يلزمهم حق إلا أدوه. وهذا أحدهما. ولآخر عود من غيضتك ونبعة من أرومتك فتي السن كهل الحلم راجح العقل محمود الصرامة مأمون الخلاف يجرد فيهم سيفه ويبسط عليهم خيره بقدر ما يستحقون وعلى حسب ما يستوجبون. وهو فلان أيها المهدي فسلطه أعزك الله عليهم ووجهه بالجيوش إليهم. ولا تمنعك ضراعة سنه وحداثة مولده فإن الحلم والثقة مع الحداثة خير من الشك والجهل من الكهولة. وإنما أحداثكم أهل البيت فيما طبعكم الله عليه واختصكم من مكارم الخلاق ومحامد الفعال ومحاسن الأمور وصواب التدبير وصرامة الأنفس كفراخ عناق الطير(6/98)
المحكمة لأخذ الصيد بلا تدريب. والعارفة لوجوه النفع بلا تأديب. فالحلم والعمل والعزم والحزم والجود والتودة والرفق ثابت في صدوركم مزروع في قلوبكم مستحكم لكم متكامل عندكم بطبائع لازمة وغرائز نابتة. (قال معاوية بن عبد الله) : إفتاء أهل بيتك أيها المهدي في الحلم على ما ذكر. وأهل خراسان في حال عز على ما وصف. ولكن إن ولى المهدي عليهم رجلا ليس بقديم الذكر في الجنود ولا بنبيه الصوت في الحروب. ولا بطويل التجربة للأمور ولا بمعروف السياسة للجيوش والهيبة في الأعداء. دخل ذلك أمران عظيمان وخطران مهولان. أحدهما أن الأعداء يغتمزونها منه ويحتقرونها فيه. ويجترئون بها عليه في النهوض به والمقارعة له والخلاف عليه. قبل ماحين الاختبار لأمره والتكشف لحاله والعلم بطباعه. والأمر الآخر أن الجنود التي يقود والجنود التي يسوس إذا لم يختبروا منه البأس والنجدة ولم يعرفوه بالصوت والهيبة انكسرت شجاعتهم وماتت نجدتهم واستأخرت طاعتهم إلى حين اختبارهم ووقوع معرفتهم. وربما وقع البوار. قبل الاختبار. وبباب المهدي وفقه الله رجل مهيب نبيه حنيك صيت. له نسب زاك وصوت عال. قد قاد الجيوش وساس الحروب. وتألف أهل خراسان واجتمعوا عليه بالمقة. ووثقوا به كل الثقة. فلو ولاه المهدي أمرهم لكفاه الله شرهم. (قال المهدي) : جانبت قصد الرمية وأبيت إلا عصبية. إذ(6/99)
رأي الحدث من أهل بيتنا كرأي عشرة حلماء من غيرنا. ولكن أين تركتم ولي العهد. (قالوا) : لم يمنعنا من ذكره إلا كونه شبيه جده. ونسيج وحده. ومن الدين وأهله. بحيث يقصر القول عن أدنى فضله.
ولكن وجدنا الله عز وجل حجب عن خلقه وستر من دون عباده علم ما تختلف به الأيام ومعرفة ما تجري عليه المقادير من حوادث الأمور وريب المنون المخترمة لخوالي القرون ومواضي الملوك. فكرهنا شسوعه عن محلة الملك ودار السلطان ومقر الإمامة والولاية. وموضع المدائن والخزائن ومستقر الجنود ومعدن الجود. ومجمع الأموال التي جعلها الله قطبا لدار الملك ومصيدة لقلوب الناس. ومثابة لإخوان الطمع وثوار الفتن ودواعي البدع وفرسان الضلال وأبناء الموت. وقلنا: إن وجه المهدي ولي عهده فحدث في جيوشه وجنوده ما قد حدث بجنود الرسل من قبله لم يستطع المهدي أن يعقبهم بغيره إلا أن ينهد إليهم بنفسه. وهذا خطر عظيم وهول شديد إن تنفست الأيام بمقامه. واستدارت الحال بإمامه. حتى يقع عوض لا يستغنى عنه أو يحدث أمر لابد منه. صار ما بعده مما هو أعظم هولا وأجل خطرا له تبعا وبه متصلا. (قال المهدي) : الخطب أيسر مما تذهبون إليه. وعلى غير ما تصفون المر عليه. نحن أهل البيت نجري من أسباب القضايا ومواقع الأمور على سابق من العمل ومحتوم من الأمر. وقد تناهى ذلك بأجمعه إلينا وتكامل بحذافيره عندنا. فيه(6/100)
ندبر وعلى الله نتوكل. إنه لابد لوي عهدي (وولي عهدي عقبي بعدي) أن يقود إلى خراسان البعوث ويتوجه نحوها بالجنود. أما الأول فإنه يقدم إليهم رسله ويعمل فيهم حيله. ثم يخرج نشطا إليهم حنقا عليهم يريد أن لا يدع أحد من إخوان الفتن ودواعي البدع وفرسان الضلال إلا توطأه بحر القتل وألبسه قناع القهر وقلده طوق الذل. ولا أحدا من الذين عملوا في قص جناح الفتنة وإخماد نار البدعة ونصرة ولاة الحق إلا أجرى عليهم ديم فضله وجداول نصله. فإذا خرج مزمعا به مجمعا عليه لم يسر إلا قليلا حتى يأتيه أن قد عملت حيله وكدحت كتبه ونفذت مكايده. فهدأت نافرة القلوب ووقعت طائرة الأهواء واجتمع عليه المختلفون بالرضا. فيميل نظرا لهم وبرا بهم وتعطفا عليهم إلى عدو قد أخاف سبيلهم وقطع طريقهم ومنع حجاجهم بيت الله الحرام وسلب تجارهم رزق الله الحلال. وأما الآخر فإنه يوجه إليهم ثم تعتقد له الحجة عليهم بإعطاء ما يطلبون وبذل ما يسألون. فإذا سمحت الفرق بقراباتها له وجنح أهل النواحي بأعناقهم نحوه فأصغت إليه الأفئدة واجتمعت له الكلمة وقدمت عليه الوفود قصد لأول ناحية نجعت بطاعتها وألقت بأزمتها فألبسها جناح نعمته وأنزلها ظل كرامته وخصها بعظيم حبائه. ثم عم الجماعة بالمعدلة وتعطف عليهم بالرحمة فلا يبقى فيهم ناحية دانية ولا فرقة قاصية إلا دخلت عليها بركته. ووصلت إليها منفعته.(6/101)
فأغنى فقيرها. وجبر كسيرها. ورفع وضيعها. وزاد رفيعها ما خلا ناحيتين ناحية يغلب عليها الشقاء وتستميلهم الأهواء فتستخف بدعوته وتبطئ عن إجابته وتتثاقل عن حقه فتكون آخر من يبعث وأبطأ من يوجه. فيصطلي عليها موجدة ويبتغي لها علة. لا يلبث أن يجد بحق يلزمهم وأمر يجب عليهم فتستلحمهم الجيوش وتأكلهم السيوف ويستحر بهم القتل ويحيط بهم الأسر ويفنيهم التتبع. حتى يخرب البلاد ويوتم الأولاد وناحية لا يبسط لهم أمانا ولا يقبل لهم عهدا ولا يجعل لهم ذمة. لأنهم أول من فتح باب الفرقة وتدرع جلباب الفتنة وربض في شق العصا. لكنه يقتل أعلامهم ويأسر قوادهم. ويطلب هرابهم في لجج البحار وقلل الجبال وخمل الأودية وبطون الأرض تقتيلاً وتغليلاً وتنكيلاً حتى يدع الديار خرابا والنساء أيامى. وهذا أمر لا نعرف له في كتبنا وقتا ولا نصحح منه غير ما قلنا تفسيرا. وأما موسى ولي عهدي فهذا أوان توجهه إلى خراسان وحلوله بجرجان. وما قضى الله على الشخوص إليها والمقام فيها خير لمسلمين مغبة وله بإذن الله عاقبة من المقام. بحيث يغمر في لجج بحورنا ومدافع سيولنا ومجامع أمواجنا. فيتصاغر عظيم فضله ويتذأب مشرق نوره ويتقلل كثير ما هو كائن منه. فمن يصحبه من الوزراء ويختار له من الناس. (قال محمد بن الليث) : أيها المهدي إن ولي عهدك أصبح لأمتك وأهل ملتك علما قد تثنت نحوه أعناقها ومدت سمته أبصارها.(6/102)
وقد كان لقرب داره منك ومحل جواره لك عطل الحال غفل الأمر واسع العذر. فأما إذا انفرد بنفسه وخلا بنظره وصار إلى تدبيره فإن من شان العامة أن تتفقد مخارج رأيه وتستنصت لمواقع آثاره. وتسأل عن حوادث أحواله في بره ومرحمته وإقساطه ومعدلته وتدبيره وسياسته ووزرائه وأصحابه. ثم يكون
ما سيق إليهم أغلب الأشياء عليهم وأملك الأمور به وألزمها لقلوبهم وأشدها استمالة لرأيهم وعطفا لأهوائهم. فلا يعلم المهدي وفقه الله ناظرا له فيما يقوي عمد مملكته ويسدد أركان ولايته ويستجمع رضا أمته بأمر هو أزين لحاله وأظهر لجماله. وأفضل مغبة لأمره وأجل موقعا في قلوب رعيته وأحمد حالا في نفوس أهل ملته ولا أدفع مع ذلك باستجماع الأهواء له وأبلغ في استعطاف القلوب عليه من مرحمة تظهر من فعله ومعدلة تنتشر عن أثره ومحبة للخير وأهله. وأن يختار المهدي وفقه الله من خيار أهل كل بلدة وفقهاء أهل كل مصر أقواما تسكن العامة إليهم إذا ذكروا وتأنس الرعية بهم إذا وصفوا. ثم تسهل لهم عمارة سبل الإحسان وفتح باب المعروف كما قد كان فتح له وسهل عليه.
(قال المهدي) : صدقت ونصحت ثم بعث في ابنه موسى فقال: أي بني إنك قد أصبحت لسمت وجوه العامة نصبا ولمثنى أعطاف الرعية غاية. فحسنتك شاملة وإساءتك نائية وأمرك(6/103)
ظاهر. فعليك بتقوى الله وطاعته فاحتمل سخط الناس فيهما ولا تطب رضاهم بخلافهما. فإن الله عز وجل كافيك من أسخطه عليك إيثارك رضاه. وليس بكافيك من يسخطه عليك إيثارك رضا من سواه. ثم اعلم أن لله تعالى في كل زمان فترة من رسله وبقايا من صفوة خلقه وخبايا لنصرة حقه يجدد حبل الإسلام بدعواهم ويشيد أركان الدين بنصرتهم. ويتخذ لأولياء دينه أنصارا وعلى إقامة عدله أعوانا يسدون الخلل ويقيمون الميل ويدفعون عن الأرض الفساد. وإن أهل خراسان أصبحوا أيدي دولتنا وسيوف دعوتنا الذين نستدفع المكاره بطاعتهم ونستصرف نزول العظائم بمناصحتهم وندافع ريب الزمان بعزائمهم ونزاحم ركن الدهر ببصائرهم. فهم عماد الأرض إذا أرجفت كفنها. يخوف الأعداء إذا أبرزت صفحتها وحصون الرعية إذا تضايقت الحال بها. قد مضت لهم وقائع صادقات ومواطن صالحات أخمدت نيران الفتن وقمصت دواعي اليدع وأذلت رقاب الجبارين. ولم ينفكوا كذلك ما جروا مع ريح دولتنا وأقاموا في ظل دعوتنا واعتصموا بحبل طاعتنا التي أعز الله بها ذلتهم ورفع بها ضعتهم. وجعلهم بها أربابا في أقطار والأرض وملوكا على رقاب العالمين بعد لباس الذل وقناع الخوف وإطباق البلاء ومخالفة الأسى وجهد البأس والضر. فظاهر عليهم لباس كرمتك وأنزلهم في حدائق نعمتك. ثم اعرف لهم حق(6/104)
طاعتهم ووسيلة دالتهم وماتة سابقتهم وحرمة مناصحتهم بالإحسان إليهم والتوسعة عليهم والإثابة لمحسنهم والإقالة لمسيئهم. أي بني ثم عليك العامة فاستدع رضاها بالعدل عليها واستجلب مودتها بالإنصاف لها. وتحسن بذلك لربك وذلك أن تأمر قاضي كل بلد وخيار أهل كل مصر أن يختاروا لأنفسهم رجلا توليه أمرهم وتجعل العدل حاكما بينه وبينهم. فإن أحسن حمدت وإن أساء عذرت. ولا ينفكن في ظل كرامتك نازلا وبعرى حبلك متعلقا رجلان أحدهما كريمة من كرائم رجالات العرب وأعلام بيوتات الشرف له أدب فاضل وحلم راجح ودين صحيح. والآخر له دين غير مغمور وموضع غير مدخول بصير بتقليب الكلام وتصريف الرأي وأنحاء العرب ووضع الكتب عالم بحالات الحروب وتصاريف الخطوب. يضع آدابا نافعة وآثارا باقية من محاسنك وتحصين أمرك وتحلية ذكرك. فتستشيره في حربك وتدخله في أمرك. فرجل أسبته كذلك فهو يأوي إلى محلتي ويرعى في خضرة جناني. ولا تدع أن تختار لك من فقهاء البلدان وخيار الأمصار أقواما يكونون جيرانك وسمارك وأهل مشاورتك فيما تورد وأصحاب مناظرتك فيما تصدر. فسر على بركة الله أصحبك الله من عونه وتوفيقه دليلا يهدي إلى الصواب قلبك وهاديا ينطق بالخير لسانك (لابن عبد ربه)(6/105)
الباب الرابع في المقامات
نخبة من مقامات ابن الوردي
المقامة الانطاكية
حدث إنسان. من معرة النعمان. قال: كثيرا ما كنت أسمع بني البرية. الثناء على نزه أنطاكية. وأنها قطع لمن لم يصلها. وخروج لمن لم يدخلها. لفرط ثنائه عليها. تجهزت للمسير إليها. فلما دخلتها. وشاهدتها وتأملتها. أكبرت طولها وطولها. وعجبت لحصانتها والعاصي دائر حولها. فانتهيت من بدايتها. إلى دار ولايتها. فوجدت والي المدينة. شابا ذا سكينة. فلما سلمت عليه. وأجلسني إليه. أخذ من مؤانستي. وأظهر الابتهاج بمجالستي. فغبطته بحسن زينته. وطيب مدينته. فتنفس الصعداء. وترنم منشدا:
كم من صديق صدوق الود تحسبه ... في راحة ولده الهم والكمد
لا تغبطن بني الدنيا بنعمتهم ... فراحة القلب لم يظفر بها أحد
قلت: لله در فصاحتك. ما السبب في عدم راحتك. قال: لقد جمعت هذه المدينة بين عرب وروم. وأنا معهم في الحي القيوم. لا أطيق فيهم قرارا. لو اطلعت عليهم لوليت منهم فرارا. ومن يطيق الجمع بين الضدين. أم من يقدر على موالاه ندين. وكيف يظفر ساكن أنطاكية بنيل أرب. وقد حنيت أضلع العجم.(6/106)
على بغض العرب. كم أجد ويلعبون. وهم من بعد غلبهم سيغلبون:
من كل فظ أعجمي ... غث الكلام مذمم
إن نبهته مروءة ... فتقول عجمته نم
قلت: قصر عن خطاك خطاك. واشكر من أنطاك أنطاك. فسورها منيع. وعاصيها مطيع. وأطيارها تحن إلى نغماتها الجوارح. وأنهارها مطردة وعيونها سوارح. ونسيمها يبطل رائحة المسك السحيق. وساكنها يزهى على الغصن الوريق. يصدأ بهوائها السلاح. وتجلى به القلوب والأرواح. برية بحرية. سهلية جبلية:
متكامل فيها السرور لمن بها ... يوما أقام كما تكامل سورها
وخلت قلوب قصورها فاستضحكت ... إذ عاش شاكرها ومات كفورها
من حل فيها نال وصل حبيبها ... وشفى كليم الروح منه طورها
ما تلك إلا حنة الدنيا وها ... ولدانها جليت عليك وحورها
فمضيئة وسنية وندية ... أرجاؤها ورياضها وقصورها
لما بكى فقد الهموم سحابها ... ضحكت وقد عاش السرور زهورها
فالأرض منها سندس وخلاله ... سلت سيوف والسيوف نهورها
هي دار مملكة الرضا فلأجل ذا ... قد أسبلت دون الهموم ستورها
جمعت فنون الطيب في أفنائها ... وعلا على المسك الذكي عبيرها
تصفيق عاصيها المطيع مرقص ... أغصانها لما شدته طيورها
فربوعها محروسة وسفوحها ... مأنوسة لا ينطوي منشورها(6/107)
فأعجب لأرض كالسماء منيرة ... أضحت تضيء شموسها وبدورها
فتبسمت وتنسمت أرجاؤها ... أرجا فما الغصن النضير نظيرها
فلما أتمت جلاء هذه العروس. ورقمها سامعوها على وجنات الطروس. قال الوالي: لقد زدت وصفها. وشمخت على البلاد أنفها. وما أنطاكية لو كان عندك إنصاف. إلا طرف سكنته الأطراف. فلو أنك جمعت بين الأختين. وأرهقت العدة لنقص البيعتين. وأغلقت باب البحر. وجسرت على قطع الجسر. وسودت البيضاء. وأيبست الخضراء. لكان أهون علي من هذا النظم الأنيق. في استرقاق هذا البلد العتيق. وماذا تركت لدمشق من المنة والصفة. وقيل إنها قي الأرض هي الجنة لقد عرفت النكرة ونكرت المعرفة. ثم نظر إلي خجلا. وأنشد مرتجلا:
مدحت أنطاكية ... حتى توارى عقلها
ولم يكن عندي كما ... ذكرته محلها
لأنها دائرة ... علا عليها ذلها
فكيف لا أبغضها ... وكيف لا أملها
وعجمها أكثرها ... وعربها أقلها
لولا حبيب ساكن ... فيها ولولا ظلها
لقلت من مدن لظى ... لكنني أجلها
لكن أقول قولة ... ليس يرد عدلها(6/108)
لو كان فيها راحة ... ما فارقتها أهلها
فلما تم الوالي نظامه. ابتدرت ملامه. وقلت: إذا رغبت عن أنطاكية وأهليها. فما وجه مقامك فيها. فقال: ألزمني أن أقيم. مرسموك كريم. ممن غمرني بالعطا. وإذا خولف سطا. فكيف الخلاص. ولات حين مناص. من مدينة بيت الماء أرفع منها بكثير. ولعظم السمكة فيها قدر كبير:
فقلت وقد أنكرت منه مقاله ... وغرت لها ويلاه من سوء حالها
ألا طالما كانت أسرة ملكها ... مكللة بالدر قبل زوالها
وكم خفقت فيها البنود وكم حوت ... ملوكها ترى الجوزاء تحت نعالها
معظمة في الملتين بحسنها ... مكرمة في الدولتين بمالها
ألم تحترم فيها حبيبا نزيلها ... وما أنت لو أنصفتني من رجالها
وسافرت منها ذلك الوقت منشدا ... وعيناي كل أسعدت بسجالها
قفا نبك من ذكرى حبيب ومنزل ... لقد هزلت حتى بدا من هزالها
نخبة من مقامات شهاب الدين الخفاجي
من مقامتي الغربة والمغربية
حدث الربيع بن الريان. عن شقيق بن النعمان. قال: لما هزتني أريحية الشباب. إلى اقتعاد سنام الأرض على غارب الاغتراب. وقد أجدبت الأرض من كل ماجد. يجتني جنى المجد لثمار المحامد. وتعطلت من كريم تلتف عليه المحافل. وتسير في ظلال(6/109)
أعلامه الجحافل. وتبدلت بأنسها وحشا. فلا ترى غير جائع يتجشا. وأقسمت ببيت سالت ببطحائه أعناق المطايا. وثمل ركبانه بكأس السرى في الغدايا والعشايا. لأغتربن غربة قارظية يخفق منها قلب الخافقين. وتدبغ أديم الجسد على ممر الجديدين. وتنسي صخرة السؤال عن حصين. وتنسي غطفان. غربة سنان. فقال لي خبير الأيام: الهجرة من سنن الكرام. كما فر موسى حين هم به القبط. وقد كنت قرأت في بعض الأسفار. إذا أراد الله سعه رزق عبد حبب له الأسفار. فزجرت السانح والبارح. والطائر الغادي والرائح. حتى رأيت الصبح انبلج. ومر بي طائر أغر من البلج. فتمسكت بذيل الحزم. وصممت على العزم. وقلت:
بقولك طه سافروا تغنموا لقد ... بدالي فأل في المطالب رابح
فما خط في رمل ولا طرق الحصى ... كأيدي جياد في السراب سوابح
وجنبت الجياد إلى المهاري. ولبست حلة دجى مزررة بالدراري. مع صقور على متون أعوجيات وركاب. بإقدام أقدام ترف بين غرز وركاب. على سفن ذود وزوارق. وسروج سوابح في بحار السراب غوارق. فلم يزل يرفعنا الآل. بين رفاق صحب وآل. على عبس ما لها غير النصب عقال. وظهور سوابح ما لها غير الكلال شكال. حتى نزلنا على الخورنق والسدير. وأنخنا مطايا العزم بين روضة وغدير. فسألنا عن بيضة البلد. وطودها الذي له بسفحها أرفع سند.(6/110)
فقالوا: هو النضر بن كنانة. المقرطس سهام آرائه من أعز كنانة. شيخ لبس عمائم دهره الثلاث. فهي على هامة همته ثلاث. من شجرة مورقة النسب. مثمرة بيانع ثمار الحسب. جاهه عريض طويل. فائض على العدو والخليل. وطيب شمائله في كل ناد انتشر. فغمة روضات تزدري الزهر. هيجها نضح من نضح السحر. فقلت: بخ بخ الجاه زكاة الشرف. ومن أحسن إلى من أساء إليه فقد انتصف. ومن تردى بساطع الأنوار. واحتبى بحباء الوقار. ولم يبق له ليل يصيح بجانبه نهار. فالسعادة له شعار ودثار. فقلت: سأفيض له وعلي أجمل ردا. وأذهب إليه في رفقتي غدا. فلما عطس الصباح. وشمتته كل ذات جناح. ورفعت ذكاء رأسها من مشرق الأنوار. فأشرقت على عالم الكون والفساد لنشاهد ما فيه من الأسرار. أتيت داره. فرأيت بدورا لها المنازل دارة. دار يسافر بها النظر. ويتسابق في محاسنها السمع والبصر. داخلها بهو وقصور. وسرادق لا يعرف كما له القصور. في صدرها همام خلفه وسادة. أحدق به وجوده أعيان وسيادة. يتنفسون بأنفاس النعامى. بين أوراق ريحان وخزامي:
لو أنصفوه لقاموا في مجالسه ... على الرؤوس قيام الظل في الماء
فقلت له: حياك الله وبياك. ولا زالت مشكاة أنسك مشرقة بمحياك. فرد التحية بأحسن منها وما ردها. وأمدها بطلاقة بشر(6/111)
كانت سلما لكرامة أعدها. وحوله من حواشيه قئام. وأغصان غلمان بناديه قيام. كأن على رؤوسهم الطير. يتهلل بشرهم بكل خير ومير. في روض ناد مثمر مورق. عليه مخايل جود مغدق. فتجاذبنا أهداب الحديث. وأتى بنوادر حارة من كل تليد وحديث. فلما خضنا لجة الكلام ووقفت الأقلام على ساحل التمام. قال لي: قات من هناتك. وأنشدني ما قلته من أبياتك. فأنشدته منها:
سل الزمان علي عضبه ... ليروعني وأحد غربه حده
وأسال من جفني كرا ... هـ مراغما وأسال من غربه مجرى الدمع
وأجالني في الأفق أط ... وي شرقه وأجوب غربه مغربه
فبكل جو طلعة ... في كل يوم لي وغربه غروب
وكذا المغرب شخصه ... متغرب ونواره غربه بعيده
فلما ارتوى الحديث من اعذب الموارد والمصادر. ورجع الحوار حار النوادر. بارد البوادر. قال: لا فض الله فاك. ولا أقض في مهد الهنا مثواك. فقد تركت بنيات الطريق. وجلوت خرائد فكرك في معرض أنيق. ولم تنثر درر المدامع. إلا من در مودع في صدف المسامع. وما أقصر الليل على الراقد. وأهون السقم على العائد. وقد أصبت دار المقامة. فأنت جار أبي دؤاج بدار الكرامة. فألزمه لزوم الطوق جيد الحمامة. فآمالك لا تظمأ بهذا المقام. وكيف يظمأ من كان جار الغمام.(6/112)
ما بين عصر سابق متلفت ... شوقا إليك ولاحق يتطلع
نخبة من مقامات بديع الزمان الهمذاني
المقامة الأهوازية
حدثنا عيسى بن هشام قال: كنت بالأهواز في رفقة متى ما ترق العين فيهم تسهل. ليس فينا إلا أمرد بكر الآمال. أو مختط حسن الإقبال. مرجو الأيام والليال. فأفضنا في العشرة كيف نضع قواعدها. والأخوة كيف نحكم معاقدها. والشرب في أي وقت تتعاطاه. والأنس كيف نتهاداه. وفائت الحظ كيف نتلاقاه. والشراب من أين نحصله. والمجلس كيف نرتبه. فقال: أحدنا علي البيت والنزل. وقال آخر: علي الشراب والنقل. ولما أجمعنا على المسير استقبلنا رجل في طمرين في يمناه عكازة. وعلى كتفه جنازة. فتطيرنا لما رأينا الجنازة وأعرضنا عنها صفحا. وطوينا دونها كشحا. فصاح بنا صيحة كادت لها الأرض تنفطر. والسماء تنكدر. وقال: لترنها صغرا. ولتركبنها كرها وقسرا. ما لكم تتطيرون من مطية ركبها أسلافكم وسيركبها أخلافكم. وتتقذرون سيراً وطئه آباؤكم. وسيطأه أبناؤكم. أما والله لتحملن على هذه العيدان. إلى تلكم الديدان. ولتنقلن بهذه الجياد. إلى تلكم الوهاد. وقد حان حينه ويحكم تتطيرون. كأنكم مخيرون. وتتكرهون. كأنكم منزهون. هل تنفع هذه الطيرة. يا فجرة. قال عيسى بن هشام: فلقد نغص(6/113)
ما كنا قد عقدناه. وأبطل ما كنا أردناه. فلمنا إليه وقلنا له: ما أحوجنا إلى وعظك. وأعشقنا للفظك. ولو شئت لزدت قال: إن وراءكم موارد أنتم واردوها وقد سرتم إليها عشرين حجة:
وإن امرءا قد سار عشرين حجة ... إلى منهل من ورده لقريب
ومن فوقكم من يعلم أسراركم. ولو شاء لهتك أستاركم. يعاملكم في الدنيا بحلم ويقضي عليكم في الآخرة بعلم. فليكن الموت منكم على ذكر. لئلا تأتوا بنكر. فإنكم إذا استشعرتموه. لم تجمحوا. ومتى ذكرتموه. لم تمرحوا. وإن نسيتموه. فهو ذاكركم. وإن كرهتموه. فهو زائركم. قلنا: فما حاجتك. قال: أطول من أن تحد. وأكثر من أن تعد. قلنا: فسانح الوقت. قال: رد فائت العمر. ودفع نازل الأمر. قلنا: ليس ذلك إلينا ولكن ما شئت من متاع الدنيا وزخرفها. قال: لا حاجة لي فيها.
المقامة القزوينية
حدثنا عيسى بن هشام قال: غزوت الثغر بقزوين. سنة خمس وسبعين. فيمن غزاه. فما أجزنا حزنا. إلا هبطنا بطنا. حتى وقف المسير بنا على بعض قراها. فمالت الهاجرة بنا إلى ظل أثلاث. في حجرتها عين كلسان الشمعة. أصفى من الدمعة. تسيح في الرضراض. سيح النضناض. فنلنا من الطعام ما نلنا. ثم ملنا إلى الظل فقلنا. فما ملكنا النوم حتى سمعنا صوتا أنك من صوت حمار فذاد عن القوم.(6/114)
رائد النوم. وفتحت التوأمتين إليه وقد حالت الأشجار دونه. وأصغيت فإذا هو يقول. على إيقاع الطبول:
أدعو إلى الله فهل من مجيب ... إلى ذرى رحب ومرعى خصيب
وجنة عالية ما تني ... قطوفها دانية ما تغيب
يا قوم إني رجل تائب ... من بلد الكفر وأمري عجيب
إن أك آمنت فكم ليلة ... جحدت ربي واتيت المريب
يا رب خنزير تمششته ... ومسكر أحرزت منه النصيب
ثم هداني الله وانتاشني ... من ذلة الكفر اجتهاد المصيب
فظلت أخفي الدين في أسرتي ... واعبد الله بقلب منيب
أسجد للات حذار العدى ... ولا أرى الكعبة خوف الرقيب
وأسأل الله إذا جنني ... ليل وأضناني يوم عصيب
رب كما أنك أنقذتني ... فنجني إني فيهم غريب
ثم اتخذت الليل لي مركبا ... وما سوى العزم أمامي جنيب
فقدك من سيري في ليلة ... يكاد رأس الطفل فيها يشيب
حتى إذا جزت بلاد العدى ... إلى حمى الدين نفضت الوجيب
فقلت إذ لاح شعار الهدى ... نصر من الله وفتح قريب
فلما بلغ هذا البيت قال: يا قوم وطئت داركم بعزم لا العشق شاقه. ولا الفقر ساقه. وقد تركت وراء ظهري حدائق وأعنابا. وكواعب أترابا. وخيلا مسمومة. وقناطير مقنطرة. وعدة وعديدا.(6/115)
ومراكب وعبيدا. وخرجت خروج الحية من حجره. وبرزت بروز الطائر من وكره. مؤثرا ديني على دنياي. جامعا يمناي إلى يسراي. واصلا سيري بسراي. فلو دفعتم لنار بشرارها. ورميتم الروم بحجارها. وأعنتموني على غزوها مساعدة وإسعادا. ومرافدة وإرفادا. ولا شطط فكل على قدر قدرته. وحسب ثروته. ولا استكثر البدرة. وأقل الذرة. ولا أرد التمرة. ولكل مني سهمان سهم أذلقه للقاء. وآخر أفوقه بالدعاء. وأرشق به أبواب السماء. عن قوس الظلماء. قال عيسى بن هشام: فاستفزني رائع ألفاظه وسروت جلباب النوم. وعدوت إلى القوم. فإذا والله شيخنا أبو الفتح الإسكندري بسيف قد شهره. وزي قد نكره. فلما رآني غمز علي بعينه وقال: رحم الله من أعاننا بفاضل ذيله. وقسم لنا من نيله. ثم أخذ وخلوت به فقلت أأنت من أولاد النبيط فقال:
أنا حالي مع الزما ... ن كحالي مع النسب
نسبي في يد الزما ... ن إذا سامه انقلب
أنا أمسي من النبي ... ط وأضحي من العرب
المقامة الناجمية
حدثنا عيسى بن هشام قال: بت ذات ليلة في كتيبة فضل من رفقائي فتذاكرنا الفصاحة. وما ودعنا الحديث حتى قرع علينا الباب. فقلت: من المنتاب. فقال: وفد الليل وبريده. وفل الجوع(6/116)
وطريده. وغريب نضوه طليح. وعيشه تبريح. ومن دون فريخه مهامه فيح. وضيف ظله خفيف. وضالته رغيف. فهل منكم مضيف. فتبادرنا إلى فتح الباب وأنخنا راحلته. وجمعنا رحلته. وقلنا: دارك أتيت. وأهلك وافيت. وهلم البيت. وضحكنا إليه ورحبنا به ورأيناه ضالته وساعدناه حتى شبع. وحادثناه حتى أنس. وقلنا: من الطالع بمشرقه. الفاتن بمنطقه. فقال: لا يعرف العود كالعاجم. وأنا المعروف بالناجم. عاشرت الدهر لأخبره. فعصرت أعصره. وحلبت أشطره. وجربت الناس لأعرفهم فعرفت منهم غثهم وسمينهم. والغربة لأذوقها فما لمحنتي أرض إلا فقأت عينها. ولا انتظمت رفقه إلا ولجت بينها. فأنا في الشرق أذكر. وفي الغرب لا أنكر. فما ملك إلا وطئت بساطه. ولا خطب إلا خرقت سماطه. وما سكنت حرب إلا وكنت فيها سفيرا. قد جربني الدهر في زمني رضائه وبوسه. ولقيني بوجهي بشره وعبوسه. فما بحت لبوسه إلا بلبوسه:
وإن كان صرف الدهر قدما أضربي ... وحملني من ريبه ما يحمل
فقد جاء بالإحسان حيث أحلني ... محلة صدق ليس عنها محول
قلنا: لا فض فوك. ولله أنت وأبوك. ما يخرم السكوت إلا عليك ولا يحل النطق إلا لك. فمن أين طلعت وأين تغربت. وما الذي يحدو أملك أمامك. ويسوق غرضك قدامك. قال: أما الوطن. فاليمن. وأما لوطر. فالمطر. وأما السائق فالضر. والعيش(6/117)
المر. قلنا: فلو أقمت بهذا المكان لقاسمناك العمر فما دونه ولصادقت من الأمطار ما يزرع. ومن الأنواء ما يكرع. قال: ما أختار عليكم صحبا. ولقد وجدت فناءكم رحبا. ولكن أمطاركم ماء والماء لا يروي العطاش. قلنا: فأي الأمطار يرويك. قال: مطر خلفي وأنشأ يقول:
سجستان أيتها الراحلة ... وبحرا يؤم المنى ساحله
ستقصد أرجان إن زرتها ... بواحدة مائة كاملة
وفضل الأمير على ابن العميد ... كفضل قريش على باهله
قال عيسى بن هشام: فخرج وودعناه. وأقمنا بعده برهة نشتاقه. ويؤلمنا فراقه. فبيننا نحن بيوم غيم في سمط الثريا جلوس إذا المراكب تساق والجنائب تقاد وإذا رجل قد هجم علينا فقلنا: من الهاجم. فإذا شيخنا الناجم. يرفل في نيل المنى. وذيل الغنى. فقمنا إليه معانقين وقلنا: ما وراءك يا عصام. فقال: جمال موقرة وبغال مثقلة. وحقائب مقفلة. وأنشأ يقول:
مولاي أي رذيلة لم يأبها ... خلف وأي فضيلة لم يأتها
لم يسمع العافين إلا هاكها ... لفظا وليس يجاب إلا هاتها
إن المكارم أسفرت عن أوجه ... بيض وكان الخال في وجناتها
بابي شمائله التي تجلو العلا ... ويدا ترى البركات في حركاتها
من عدها حسنات دهر إنني ... ممن يعد الدهر من حسناتها
قال عيسى بن هشام: فسألنا الله بقاءه. وأن يرزقنا لقاءه.(6/118)
وأقام الناجم أياما مقتصرا من لسانه. على شكر إحسانه. ولا ينصرف من كلامه إلا في مدح أيامه. والتحدث بإنعامه.
نخبة من مقامات الحريري
المقامة البرقعيدية
حكى الحارث بن هما. قال: أزمعت الشخوص من برقعيد. وقد شمت برق عيد. فكرهت الرحلة عن تلك المدينة. أو أشهد بها يوم الزينة. فلما أظل بفرضه ونفله. وأجلب بخيله ورجله. اتبعت الستة في لبس الجديد. وبرزت مع من برز للتعييد. وحين التأم جمع المصلى وانتظم. وأخذ الزحام بالكظم. طل شيخ في شملتين. محجوب المقلتين. وقد اعتضد شبه النحلاة. واستقاد لعجوز كالسعلاة. فوقف وقفة متهافت. وحيا تحية خافت. ولما فرغ من دعائه. أجال خمسه في وعائه. فأبرز منه رقاعا قد كتبن بألوان الأصباغ. في أوان الفراغ. فناولهن عجوزه الحيزبون. وأمرها بأن تتوسم الزبون. فمن آنست ندى يديه. ألقت ورقة منهن لديه. فأتاح لي القدر المعتوب. رقعة فيها مكتوب:
لقد أصبحت موقوذا ... بأوجاع واوجال
وممنوا بمختال ... ومحتال ومغتال
وخوان من الإخوا ... ن قال لي لإقلالي
وإعمال من العما ... ل في تضليع أعمالي(6/119)
فكم أصلى بأذحال ... وإمحال وترحال
وكم أخطر في بال ... ولا أخطر في بال
فليت الدهر لما جا ... ر أطفا لي أطفالي
فلولا أن أشبال_ي أغلالي وأعلالي لما جهزت آمالي=إلى آل ولا وال ولا جررت أذيالي=على مسحب إذلالي فمحرابي أحر بي=وأسمالي أسمى لي
فهل حر يرى تخفي ... ف أثقالي مثقالي
ويطفي حر بلبالي ... بسربال وسروال
قال الحارث بن همام: فلما استعرضت حلة الأبيات تقت إلى معرفة ملحمها. وراقم علمها. فناجاني الفكر بأن الوصلة إليه العجوز. وأفتاني بأن حلوان المعرف يجوز. فرصدتها وهي تستقري الصفوف صفا فصفا. وتستوكف الأكف كفا كفا. وما إن ينجح لها عناء. ولا يرشح على يدهاء إناء. فلما أكدى استعطافها. وكدها مطافها. عاذت بالاسترجاع. ومالت إلى إرجاع الرقاع. وأنساها الشيطان ذكر رقعتي. فلم تعج إلى بقعتي. وآبت إلى الشيخ باكية للحرمان. شاكية تحامل الزمان. فقال: إن لله. وأفوض أمري إلى الله. ثم أنشد:
لم يبق صاف ولا مصاف ... ولا معين ولا معين
وفي المساوي بدا التساوي ... فلا أمين ولا ثمين(6/120)
ثم قال لها: مني النفس وعديها. واجمعي الرقاع وعديها. فقال: لقد عددتها. لما استعدتها. فوجدت يد الضياع. قد غالت إحدى الرقاع. فقال: تعسا لك يا لكاع. أنحرم ويحك القنص والحبالة. والقبص والذبالة. إنها لضغث على إبالة. فانصاعت تقص مدرجها. وتنشد مدرجها. فلما دانتني قرنت بالرقعة درهما وقطعة. وقلت لها: إن رغبت في المشوق المعلم. وأشرت إلى الدرهم. فبوحي بالسر المبهم. وإن أبيت أن تشرحي. فخذي القطعة واسرحي. فمالت إلى استخلاص البدر التم. والأبلج الهم. وقالت: دع جدالك. وسل عما بدالك. فاستطلعتها. طلع الشيخ وبلدته. والشعر وناسج بردته. فقالت: إن الشيخ من أهل سروج. وهو الذي وشى الشعر المنسوج. ثم خطفت الدرهم خطفه الباشق. ومرقت مروق السهم الراشق. فخالج قلبي أن أبا زيد هو المشار إليه. وتأجج كربي لمصابه بناظريه. وآثرت أن أفاجيه وأناجيه. لأعجم عود فراستي فيه. وما كنت لأصل إليه إلا بتخطي رقاب الجمع. المنهي عنه في الشرع. وعفت أن يتأذى بي قوم. أو يسري إلي لوم. فسدكت بمكاني. وجعلت شخصه قيد عياني. إلى أن انقضت الخطبة. وحقت الوثبة. فخففت إليه. وتوسمته على التحام جفنيه. فإذا ألمعيتي المعية ابن عباس. وفراستي فراسة إياس. فعرفته حينئذ شخصي. وآثرته بأحد قمصي. وأهبت به إلى قرص. فهش لعارفتي وعرفاني. ولبى دعوة(6/121)
رغفاني. وانطلق ويدي زمامه. وظلي إمامه. والعجوز ثالثه الأثافي. والرقيب الذي لا يخفى عليه خافي. فلما استحلس وكنتي وأحضرته عجالة مكنتي. قال لي: يا حارث أمعنا ثالث. فقلت: ليس إلا العجوز. قال: ما دونها سر محجوز. ثم فتح كريمتيه. ورأرأ بتوأمتيه. فإذا سراجا وجهه يقدان. كأنهما الفرقدان. فابتهجت بسلامة بصره. وعجبت من غرائب سيره. ولم يلقني قرار. ولا طاوعني اصطبا. حتى سألته ما دعاك إلى التعامي. مع سيرك في المعامي. وجوبك الموامي. وإيغالك في المارمي. فتظاهر باللكنة. وتشاغل باللهنة. حتى إذا قضى وطره. أتأر إلي نظره. وأنشد:
ولما تعامى الدهر وهو أبو الورى ... عن الرشد في أنحائه ومقاصده
تعاميت حتى قيل إني أخو عمى ... ولا غرو أن يحذو الفتى حذو والده
ثم قال لي: انهض إلى المخدع فأتني بغسول يروق الطرف. وينقي الكف. وينعم البشرة. ويعطر النكهة. ويشد اللثة. ويقوي المعدة. وليكن نظيف الظرف. أريج العرف. فتي الدق. ناعم السحق. يحسبه اللامس ذرورا. ويخاله الناشق كافورا. واقرن به خلالة نقية الأصل. محبوبة الوصل. أنقية الشكل. مدعاة إلى الأكل. لها نحافة الصب. وصقال العضب. وآلة الحرب. ولدونة الغصن الرطب. قال: فنهضت فيما أمر. لأدرأ عنه الغمر. ولم أهم إلى أنه قصد أن يخدع. بإدخالي المخدع. ولا تظنيت أنه سخر من(6/122)
الرسول. في استدعاء الخلالة والغسول. فلما عدت بالملتمس. في أقرب من رجع النفس. وجدت الجو قد خلا. والشيخ والشيخة قد أجفلا. فاستشطت من مكره غضبا. وأوغلت في إثره طلبا. فكان كم قمس في الماء. أو عرج به إلى عنان السماء.
المقامة الإسكندرية
قال الحارث بن هما: طحا بي مرح الشباب. وهوى الاكتساب. إلى أن جبت ما بين فرغانة. وغانة. أخوض الغمار. لأجني المثا. واقتحم الأخطار. لكي أدرك الأوطار. وكنت لفقت من أفواه العلماء. وثقفت من وصايا الحكماء. أنه يلزم الأديب الأريب. إذا دخل البلد الغريب. أن يستميل قاضيه. ويستخلص مراضيه. ليشتد ظهره عند الخصام. ويأمن في الغربة جور الحكام. فاتخذت هذا الأدب إماما. وجعلته لمصالحي زماما. فما دخلت مدينة. ولا ولجت عرينة. إلا وامتزجت بحكامها امتزاج الماء بالراح. وتقويت بعناية تقوي الأجساء بالأرواح. فبينما أنا عند حاكم الإسكندرية. في عيشة عرية. وقد أحضر مال الصدقات. ليفضه على ذوي الفاقات. إذ دخل شيخ عفرية. تعتله امرأة مصيبة. فقالت: أيد الله القاضي. وأدام به التراضي. إني امرأة من أكرم جرثومة. وأطهر أرومة. وأشرف خؤولة وعمومة. ميسمي الصون. وشيمتي الهون. وخلقي نعم العون. وبيني وبين جاراتي بون. وكان أبي إذا خطبني بناة المجد.(6/123)
وأرباب الجد. وسكتهم وبكتهم. وعاف وصلتهم وصلتهم. واحتج بأنه عاهد الله تعالى بخلفة. أن لا يصاهر غير ذي حرفة. فقيض القدر لنصبي. ووصبي. أن حضر هذا الخدعة نادي أبي. فأقسم بين رهطه. أنه وفق شرطه. وادعى أنه طالما نظم درة إلى درة. فباعهما ببدرة. فاغتر أبي بزخرفة محاله. وزوجنيه قبل اختبار حاله. فلما استخرجني من كناسي. ورحلني عن أناسي. ونقلني إلى كسره. وحصلني تحت أسره. وجدته قعدة جثمة. وألفيته ضجعة نومة. وكنت صحبته برياش وزي. وأثاث وري. فما يرح يبيعه في سوق الهضم. ويتلف ثمنه في الخضم والقضم. إلى أن مزق ما لي بأسره. وأنفق مالي في عسره. فلما أنساني طعم الراحة. وغادر بيتي أنقى من الراحة. قلت له: يا هذا إنه لا مخبأ بعد بوس. ولا عطر بعد عروس. فانهض للاكتساب بصناعتك. وأجنيني ثمرة براعتك. فزعم أن صناعته قد رميت بالكساد. لما ظهر في الأرض من الفساد. ولي منه سلالة. كأنه خلالة. وكلانا ما ينال معه شبعة. ولا ترفأ له من الطوى دمعة. وقد قدته إليك. وأحضرته لديك. لتعجم عود دعواه. وتحكم بيننا بما أراك الله. فأقبل القاضي عليه وقال له: قد وعيت قصص عرسك. فبرهن الآن عن نفسك. وإلا كشفت عن لبسك. وأمرت بحبسك. فأطرق إطراق الأفعوان. ثم شمر للحرب العوان. وقال:(6/124)
إسمع حديثي فإنه عجب ... يضحك من شرحه وينتحب
أما امرؤ ليس في خصائصه ... عيب ولا في فخاره ريب
سروج داري التي ولدت بها ... والأصل غسان حين أنتسب
وشغلي الدرس والتبخر في ال ... علم طلابي وحبذا الطلب
ورأس مالي سحر الكلام الذي ... منه يصاغ القريض والخطب
أغوص في لجة البيان فأخ ... تار اللآلي منها وأنتخب
وأجتني اليانع الجني من ال ... قول وغيري للعود يحتطب
وآخذ اللفظ فضة فإذا ... ما صغته قيل إنه ذهب
وكنت من قبل أمتري نشبا ... بالأدب المقتنى وأحتلب
ويمتطي أخمصي لحرمته ... مراتبا ليس فوقها رتب
وطالما زفت الصلات إلى ... ربعي فلم أرض كل من يهب
فاليوم من يعلق الرجاء به ... أكسد شيء في سوقه الأدب
لا عرض أبنائه يصان ولا ... يرقب فيهم إلا ولا نسب
كأنهم في عراصهم جيف ... يبعد من نتنها ويجتنب
فحار لبي لما منيت به ... من الليالي وصرفها عجب
وضاق ذرعي ضيق ذات يدي ... وساورتني الهموم والكب
وقادني دهري المليم إلى ... سلوك ما يستشينه الحسب
فبعت حتى لم يبق لي سبد ... ولا بتاب إليه أنقلب
وادنت حتى أثقلت سافلتي ... بحمل دين من دونه العطب(6/125)
ثم طويت الحشا على سغب ... خمسا فلما أمضني السغب
لأم أر إلا جهازها عرضا ... أجول في بيعه واضطرب
فجلت فيه والنفس كارهة ... والعين عبرى والقلب مكتئب
وما تجاوزت إذ عبثت به ... حد التراضي فيحدث الغضب
أو أنني إذا عزمت خطبتها ... زخرفت قولي لينجح الأرب
فو الذي سارت الرفاق إلى ... كعبته تستحثها النجب
ما المنكر بالمحصنات من خلقي ... ولا شعاري التمويه والكذب
ولا يدي مذ نشأت نيط بها ... إلا مواضي البراع والكتب
بل فكرتي تنظم القلائد لا ... كفي وشعري المنظوم لا السخب
فهذه الحرفة المشار إلى ... ما كنت أحوي بها وأجتلب
فإذن لشرحي كما أذنت لها ... ولا تراقب واحكم بما يجب
قال: فلما أحكم ما شاده. وأكمل إنشاده. عطف القاضي إلى الفتاة. بعد أن شعف بالأبيات وقال: إما إنه قد ثبت عند جميع الحكام وولاة الأحكام. انقراض جيل الكرام. وميل الأيام إلى اللئام. وإني لأخال بعلك صدوقا في الكلام. بريئا من الملام. وهاهو قد اعترف لك بالقرض. وصرح عن المحض. وبين مصداق النظم. وتبين أنه معروق العظم. وإعنات المعذر ملأمة. وحبس المعسر مأثمة. وكتمان الفقر زهادة. وانتظار الفرج بالصبر عبادة.(6/126)
فارجعي إلى خدرك. واعذري أبا عذرك. ونهني عن غربك. وسلمي لقضاء ربك. ثم إنه قرض لهما في الصدقات حصة. وناولهما من دراهمها قبصة. وقال لهما: تعلالا بهذه العلالة. وتنديا بهذه البلالة. واصبرا على كيد الزمان وكده. فعسى الله أن يأتي بالفتح أو أمر من عنده. فنهضا وللشيخ فرحة المطلق من الإسار. وهزة الموسر بعد الإعسار. قال الراوي: وكنت عرفت أنه أبو زيد ساعة بزغت شمسه. ونزعت عرسه. وكدت أفصح عن افتتانه. وأثمار أفنانه. ثم أشفقت من عثور القاضي على بهتانه. وتزويق لسانه. فلا يرى عند عرفانه أن يرشحه لإحسانه. فأحجمت عن القول إحجام المرتاب. وطويت ذكره كطي السجل للكتاب. إلا أني قلت بعدما فصل. ووصل إلى ما وصل: لو أن لنا من ينطلق في أثر. لأتانا بفص خبره. وبما ينشر من حبره. فأتبعه القاضي أحد أمنائه. وأمره بالتجسس عن أنبائه. فما لبث أن رجع متدهدها. وقهقر مقهقها. فقال له القاضي: مهيم. يا أبا مريم. فقال: لقد عانيت عجبا. وسمعت ما أنشأ لي طربا. فقال له: ماذا رأيت. وما الذي وعيت. قال: لم يزل الشيخ مذ خرج يصفق بيديه. ويخالف بين رجليه. ويغرد بملء شدقيه: ويقول:
كدت أصلى ببليه ... من وقاح شمرية
وأزور السجن لولا ... حاكم الإسكندرية
فضحك القاضي حتى هوت دنيته. وذوت سكينته. فلما فاء(6/127)
إلى الوقار. وعقب الاستغراب بالاستغفار. قال: اللهم بحرمة عبادك المقربين. حرم حبسي على المتأدبين. ثم قال لذلك الأمين: علي به. فانطلق مجدا بطلبه. ثم عاد بعد لأيه. مخبرا بنأيه. فقال له القاضي: أما أنه لو حضر. لكفي الحذر. ثم لأوليته ما هو به أولى. ولآريته أن الآخرة خير له من الأولى. قال الحارث بن همام: فلما رأيت صغو القاضي إليه. وفوت ثمرة التنبيه عليه. غشيتني ندامة الفرزدق حين أبان النوار. والكسعي لما استبان النهار
المقامة البغدادية
روى الحارث بن همام. قال: ندوت بضواحي الزوراء مع مشيخة من الشعراء. لا يعلق لهم مبار بغبار. ولا يجري معهم ممار في مضمار. فأفضنا في حديث يفضح الأزهار. إلى أن نصفنا النهار. فلما غاض در الأفكار. وصبت النفوس إلى الأوكار. لمحنا عجوزا تقبل من البعد وتحضر إحضار الجرد. وقد استتلت صبية أنحف من المغازل. وأضعف من الجوازل. فما كذبت إذ رأتنا. أن عرتنا. حتى إذا ما حضرتنا: قالت: حيا الله المعارف. وإن لم يكن معارف. اعلموا يا مآل الأمل. وثمال الأرامل. أني من سروات القبائل. وسريات العقائل. لم يزل أهلي وبعلي يحلون الصدر ويسيرون القلب. ويمطون الظهر. ويولون اليد. فلما أردى الدهر الأعضاد. فجع بالجوارح الأكباد. وانقلب ظهرا لبطن. نبا الناظر. وجفا الحاجب.(6/128)
ما بات جار لهم ساغبا ... ولا لروع قال حال الجريض
فغيضت منهم صروف الردى ... بحار جود لم نخلها تغيض
وأودعت منهم بطون الثرى ... أسد التحامي وأساة المريض
فمحملي بعد المطايا المطا ... وموطني بعد اليفاع الحفيض
وأفرخي ما تأتلي تشتكي ... بؤسا له في كل يوم وميض
إذا دعا القانت في ليله ... مولاه نادوه بدمع يفيض
يا رازق النعاب في عشه ... وجابر العظم الكسير المهيض
اتح لنا اللهم من عرضه ... من دنس الذم نقي رخيص
يطفئ نار الجوع عنا ولو ... بمذقة من حازر أو محيض
فهل فتى يكشف ما نابهم ... ويغنم الشكر الطويل العريض
قال الراوي: فوالله لقد صدعت بأبياتها أعشار القلوب. واستخرجت خبايا الجيوب. حتى ماحها من دينه الامتياح. وارتاح لرفدها من لم نخله يرتاح. فلما افعوعم جيبها تبرا. وأولاها كل منا برا. تولت يتلوها الأصاغر. وفوها بالشكر فاغر. فاشرأبت الجماعة السر المرموز. إلى سبرها. لتبلو مواقع برها. فكفلت لهم باستنباط مغتصة بالأنام. مختصة بالزحام. فانغمست في الغمار. واملست من الصبية الأغمار. ثم عاجت بخلو بال. إلى مسجد خال. فأماطت الجلباب. ونضت النقاب. وأنا ألمحها من خصاص الباب. وأرقب ما(6/129)
ذهبت العين. وفقدت الراحة. وصلد الزند. ووهنت اليمين. وضاع اليسار. وبانت المرافق. ولم يبق لنا ثنية ولا ناب. فمذ اغبر العيش الأخضر. وازور المحبوب الأصفر. اسود يومي الأبيض. وابيض فودي الأسود. حتى رثى لي العدو الأزرق. فحبذا الموت الأحمر. وتلوي من ترون عينه فراره. وترجمانه اصفراره. قصوى بغية أحدهم ثردة. وقصارى أمنيته بردة. وكنت آليت أن لا أبذل الحر إلا للحر. ولو أني مت من الضر. وقد ناجتني القرونة. بأن توجد عندكم المعونة. وآذنتني فراسة الحوباء. بأنكم ينابيع الحباء. فنضر الله امرءاً أبر قسمي. وصدق توسمي. ونظر إلي بعين يقذيها الجمود. ويقذيها الجود. قال الحارث بن همام: فهمنا لبراعة عبارتها. وملح استعارتها. وقلنا لها: قد فتن كلامك. فكيف إلحامك. فقالت: يفجر الصخر. ولا فخر. فقلنا: إن جعلنا من رواتك. لم نبخل بمؤاساتك. فقالت: لأرينكم أولا شعاري. ثم لأروينكم أشعاري. فأبرزت ردن درع دريس. وبرزت برزة عجوز دردبيس. وأنشدت:
أشكو إلى الله اشتكاء المريض ... ريب الزمان المعتدي البغيض
يا قوم إني من أناس عنوا ... دها وجفن الدهر عنهم غضيض
فخارهم لي له دافع ... وصيتهم بين الورى مستفيض
تشب للسارين نيرانهم ... ويطعمون الضيف لحما غريض(6/130)
ستبدي من العجاب. فلما انسرت أهبة الخفر. رأيت محيا أبي زيد قد سفر. فهممت أن أهجم عليه. لأعنفه على ما أجرى إليه. فاسلنقى اسلنقاء المتمردين. ثم رفع عقيرة المغردين. واندفع ينشد:
يا ليت شعري أدهري ... أخاط علما بقدري
وهل درى كنه غوري ... في الخدع أم ليس يدري
وكم قد قمرت بنيه ... بحيلتي وبمكري
وكم برزت بعرف ... عليهم وبنكر
أصطاد قوما بوعظ ... وآخرين بشعر
وأستفز بخل ... عقلا وقعلا بخمر
وتارة أنا صخر ... وارة أخت صخر
ولو سلكت سبيلا ... مألوفة طول عمري
لخاب قدحي وقدحي ... ودام عسري وخسري
فقل لمن لام هذا ... عذري فدونك عذري
قال الحارث بن همام: فلما ظهرت على جلية أمره. وبديعة أمره. وما زخرف في شعره من عذره. علمت أن شيطانه المريد. لا يسمع التفنيد. ولا يفعل إلا ما يريد. فثنيت إلى أصحابي عناني. وأبثثتهم ما أثبته عياني. فوجموا لصيغة الجوائز. وتعاهدوا على محرمة العجائز.
المقامة الكرجية
حكى الحارث بن همام: شتوت بالكرج لدين أقتضيه.(6/131)
وأرب أقضيه. فبلوت من شتائتها الكالح. وصرها النافح. ما عرفني جهد البلاء. وعكف بي على الاصطلاء. فلم أكن أزايل وجاري. ولا مستوقد ناري. إلا لضرورة أدفع إليها. أو إقامة جماعة أحافظ عليها. فاضطررت في يوم جوه مزمهر. ودجنه مكفهر. إلى أن برزت من كناني. لمهم عناني. إذا شيخ عاري الجلدة. بادي الجردة. وقد اعتم بريطة. واستثفر بفويطة. وحواليه جمع كثيف الحواشي. وهو ينشد ولا يحاشي:
يا قوم لا ينبئكم عن فقري ... أصدق من عريي أوان القر
فاعتبروا بما بدا من ضري ... باطن حالي وخفي أمري
وحاذروا انقلاب سلم الدهر ... فإنني كنت نبيه القدر
آوي إلى وفر وحد يفري ... تفيد صفري وتبيد سمري
وتشتكي كومي غداة أقري ... فجرد الدهر سيوف الغدر
وشن غارات الرزايا الغبر ... ولم يزل يسحتني ويبري
حتى عفت داري وغاض دري ... وبار سعري في الورى وشعري
وصرت نضو فاقة وعسر ... عاري المطا مجردا من قشري
كأنني المغزل في التعري ... لا دفء لي في الصن والصنبر
غير التضحي واصطلاء الجمر ... فهل خضم ذو رداء غمر
يسترني بمطرف أو طمر ... طلاب وجه الله لا لشكري
ثم قال: يا أرباب الثراء. الرافلين في الفراء. من أوتي خيرا(6/132)
فلينفق. ومن استطاع أن يرفق فليرفق. فإن الدنيا غرور. والدهر عثور. والمكنة زورة طيف. والفرصة مزنة صيف. وإني والله لطالما تلقيت الشتاء بكافاته. وأعددت الأهب له قبل موافاته. وها أنا اليوم يا سادتي. ساعدي وسادتي. وجلدتي وبردتي. وحفنتي. وجفنتي. فليعتبر العاقل بحالي. وليبادر صرف الليالي. فإن السعيد من اتعظ بسواه. واستعد لمسراه. فقيل له قد جلوت علينا أدبك. فاجل لنا نسبك. فقال: تبا لمفتخر. بعظم نخر. إنما الفخر بالتقى. والأدب المنتقى. ثم أنشد:
لعمرك ما الإنسان إلا ابن يومه ... على ما تجلى يومه لا ابن أمسه
وما الفخر بالعظم الرميم وإنما ... فخار الذي يبغي الفخار بنفسه
ثم إنه جلس محقوقفاً. واجرنثم مقفقفاً. وقال: اللهم يا من غمر بنواله. وأمر بسؤاله. اعني على البرد وأهواله. وأتح لي حرا يؤثرا من خصاصة. ويؤاسي ولو بقصاصة. قال الراوي: فلما جلى عن النفس العصامية. والملح الأصمعية. جعلت ملامح عيني تعجمه. ومرامي لحظي ترجمه. حتى استبنت أنه أبو زيد. وأن تعريه أحبولة صيد. ولمح هو أن عرفاني قد أدركه. ولم يأمن أن يهتكه. فقال: أقسم بالسمر والقمر. والزهر والزهر. إنه لن يسترني إلا من طاب خيمه. وأشرب ماء المروءة أديمه. فعقلت ما عناه. وإن لم يدر القوم معناه. وساءني ما يعانيه من الرعدة. واقشعرار الجلدة. فعمدت(6/133)
لفروة هي بالنهار رياشي. وفي الليل هي فراشي. فنضوتها عني. وقلت له: اقبلها مني. فما كذب أن افتراها. وعيني تراها. ثم أنشد:
لله من ألبسني فروة ... أضحت من الرعدة لي جنة
ألبسنيها واقيا مهجتي ... وقي شر الإنس والجنة
سيكتسي اليوم ثنائي وفي ... غد سيكسى سندس الجنة
قال: فلما فتن قلوب الجماعة. بافتتانه في البراعة. ألقوا عليه من الفراء المغشاة. والجباب املوشاة. ما آده ثقله. ولم يكد يقله. فانطلق مستبشرا بالفرج. مستقيا للكرج. وتبعته إلى حيث ارتفعت التقية. وبدت السماء نقية. فقلت له: لشد ما قرسك البرد. فلا تتعر من بعد. فقال: ويك ليس من العدل. سرعة العذل. فلا تعجل بلوم هو ظلم. ولا قف ما ليس لك به علم. فوالذي نور الشيبة. وطيب تربة طيبة. لو لم أتعر لرحت بالخيبة. وصفر العيبة. ثم نزع إلى الفرار. وتبرقع بالاكفهرار. وقال: أما تعلم أن شنشنتي الانتقال من صيد إلى صيد. والانعطاف من عمرو إلى زيد. وأراك قد عقتني وعققتني. وأقتني أضعاف ما أفدتني. فأعفني عافاك الله من لغوك. واسدد دوني باب جدك ولهوك فجبذته جبذ التعابة. وجعجعت به للدعابة. وقلت له: والله لو لم أوارك. وأغط على عوارك. لما وصلت إلى صلة. ولا انقلبت أكسى من بصلة. فجازني عن إحساني إليك. وستري لك وعليك. بأن(6/134)
تسمح لي برد الفروة. أو تعرفني كافات الشتوة. فنظر إلي نظر المتعجب. وازمهر ازمهرار المتغضب. ثم قال: أما رد الفروة فأبعد من رد أمس الدابر. والميت الغابر. وأما كافات الشتوة فسجان من طبع على ذهنك. وأوهى وعاء خزنك. حتى نسيت ما أنشتك بالدسكرة. لابن سكرة:
جاء الشتاء وعندي من حوائجه ... سبع إذا القطر عن حاجاتنا حبسا
كن وكيس وكانون وكاس طلا ... بعد الكباب وكف ناعم وكسا
ثم ثاقل: لجواب يشفي. خير من جلباب يدفي. فاكتف بما وعيت وانكفي. ففارقته وقد ذهبت فروتي لشقوتي. وحصلت على الرعدة طول شتوتي.
المقامة التفليسية
حكى الحارث بن همام قال: عاهدت الله تعالى مذ يفعت. أن لا أؤخر الصلاة ما استطعت. فكنت مع جوب الفلوات. ولهو الخلوات. أراعي أوقات الصلاة. وأحاذر من مأثم الفوات. وإذا رافقت في رحلة. أو حللت بحلة. مرجت بصوت الداعي إليها. وافتديت بمن يحافظ عليها. فاتفق حين دخلت تفليس. أن صليت مع زمرة مفاليس. فلما قضينا الصلاة. فأزمعنا الانفلات. برز شيخ بادي اللقوة. بالي الكسوة والقوة. فقال: عزمت على من خلق من طينة الحرية. وتفوق در العبية. إلا ما تكلف لي لبثة. واستمع(6/135)
مني نفثة. ثم له الخيار من بعد. وبيده البذل والرد. فعقد له القوم الحبى. ورسوا أمثال الربى. فلما آنس حسن إنصاتهم. ورزانة حصاتهم. قال: يا أولي الأبصار الرامقة. والبصائر الراثقة. أما يغني عن الخبر العيان. وينبئ عن النار الدخان. شيب لائح. ووهن فادح. وداء واضح. والباطن ففاضح. ولقد كنت والله ممن ملك ومال. وولي وآل. ورفض وأنال. ووصل وصال. فلم تزل الجوائح تسحت. والنوائب تنحت. حتى الوكر قفر. والكف صفر. والشعار ضر. والعيش مر. والصبية يتضاغون من الطوى. ويتمنون مصاصة النوى. ولم أقم هذا المقام الشائن. وأكشف لكم الدفائن. إلا بعد ما شقيت ولقيت. وشبت مما لقيت. فليتني لم أكن بقيت. ثم تأوه تأوه الأسيف. وأنشد بصوت ضعيف:
أشكو إلى الرحمان سبحانه ... تقلب الدهر وعدوانه
وحادثات قرعت مروتي ... وقوضت مجدي وبنيانه
واهصرت عودي ويا ويل من ... تهتصر الأحداث أغصانه
وأمحلت ربعي حتى جلت ... من ربعي الممحل جرذانه
وغادرتني حائرا برائرا ... أكابد الفقر وأشجانه
من بعد ما كنت أخا ثروة ... يسحب في النعمة أردانه
يختبط العافون أوراقه ... ويحمد السارون نيرانه
فأصبح اليوم كأن لم يكن ... أعانه الدهر الذي عانه(6/136)
وازور من كان له زائرا ... وعاف عافي العرف عرفانه
فهل فتى يحزنه ما يرى ... من ضر شيخ دهره خانه
فيفرج الهم الذي همه ... ويصلح الشان الذي شانه
قال الراوي: فصبت الجماعة إلى أن تستثبته. لتستنجش خبأته. وتستنفض حقيبته. فقالت له: قد عرفنا قدر رتبتك. ورأينا در مزنتك. فعرفنا دوحة شعبتك. واحسر اللثام عن نسبتك. فأعرض إعراض من مني الإعنات. وجعل يلعن الضرورات. ويتأفف من تغيض المروءات. ثم أنشد بلفظ صادع. وجرس خادع:
لعمرك ما كل فرع يدل ... جناه اللذيذ على أصله
فكل ما حلا حين تؤتى به ... ولا تسأل الشهد عن نحله
وميز إذا ما اعتصرت الكروم ... سلافة عصرك من خله
لتغلي وترخص عن خبرة ... وتشري كلا شرى مثله
فعار على الفطن اللوذعي ... دخول الغميزة في عقله
قال: فازدهى القوم بذكائه ودهائه. واختلبهم بحسن أدائه مع دائه. حتى جمعوا له خبايا الخبن. وخفايا الثبن. وقالوا له: يا هذا إنك حمت على ركية بكية. وتعرضت لخلية خلية. فخذ هذه الصبابة. وهبها لا خطأ ولا إصابة. فنزل قلهم منزلة منزلة الكثر. ووصل قبوله بالشكر. ثم تولى يجر شقه. وينهب بالخبط طرقه. قال المخبر بهذه الحكاية: فصور لي أنه محيل لحليته. متصنع في مشيته. فنهضت(6/137)
أنهج منهاجه. وأقفوا أدراجه. وهو يلحظني شزراً. ويوسعني هجراً. حتى إذا خلا الطريق. وأمكن التحقيق. نظر إلي نظر من هش وبش. وما حض بعدما غش. وقال: إن لأخالك أخا غربة. ورائد صحبة. فهل لك في رفيق يرفق بك ويرفق. وينفق عليك وينفق. فقلت له: لو أتاني هذا الرفيق. لواتاني التوفيق. فقال لي: قد وجدت فاغتبط. واستكرمت فارتبط. ثم ضحك مليا. وتمثل لي بشرا سويا. فإذا هو شيخنا السروجي لا قبلة بجسمه. ولا شبهة في وسمه. ففرحت بلقيته. وكذب لقوته. وهممت بملامته. على سوء مقامته. فشحافاه. وأنشد قبل أن ألحاه:
ظهرت برث لكيما يقال ... فقير يزجي الزمان المزجى
وأظهرت للناس أن قد فلجت ... فكم نال قلبي به ما ترجى
ولولا الرثاثة لم يرث لي ... ولولا التفالج لم ألق فلجا
ثم قال: أنه لم يبق لي بهذه الأرض مرتع. ولا في أهلها مطمع. فإن كنت الرفيق. فالطريق الطريق. فسرنا منها متجردين. ورافقته عامين أجردين. وكنت على أن أصحبه ما عشت. فأبى الدهر المشت
المقامة المروية
حكى الحارث بن هام قال: حبب إلي مذ سعت قدمي. ونفث قلمي. أن أتخذ الأدب شرعة. والاقتباس منه نجعة.(6/138)
فكنت أنقب عن أخباره. وخزانة أسراره. فإذا ألفيت منهم بغية الملتمس. وجذوة المقتبس. شددت يدي بغرزه. واستنزلت منه زكاة كنزه. على أني لم ألق كالسروجي في غزارة السحب. ووضع الهناء مواضع النقب. إلا أنه كان أسير من المثل. وأسرع من القمر في النقل. وكنت لهوى ملاقاته. واستحسان مقاماته. أرغب في الاغتراب. وأستعذب السفر الذي هو قطعة من العذاب. فلما تطوحت إلى مرو. ولا غرو. بشرني بلمقاه زجر الطير. والفأل الذي هو بريد الخير. فلم أزل أنشده في المحافل. وعند تلقي القوافل. فلا أجد عنه مخبرا. ولا أرى له أثرا ولا عثيراً. حتى غلب اليأس الطمع. وانزوى التأميل وانقمع. فإني لذات يوم بحضرة والي مرو. وكان ممن جمع الفضل والسرو. إذ طلع أبو زيد في خلق مملاق. وخلق ملاق فحيا الوالي تحية المحتاج. إذا لقي رب التاج. ثم قال له: اعلم وقيت الذم وكفيت الهم. أن من عذقت به الأعمال. أعلقت به الآمال. ومن رفعت له الدرجات. رفعت إليه الحاجات. وأن السعيد من إذا قدر. وواتاه القدر. أدى زكاة النعم. كما يؤدي زكاة النعم. والتزم لأهل الحرم. ما يلتزم للأهل والحرم. وقد أصبحت بحمد الله عميد مصرك. وعماد عصرك. تزجى الركائب إلى حرمك. وترجى الرغائب من كرمك. وتنزل المطالب بساحتك. وتستنزل الراحة من راحتك. وكان فضل الله عليك عظيما.(6/139)
وإحسانه لديك عميماً. ثم إني شيخ ترب بعد الإتراب. وعدم الأعشاب حين شاب. قصدتك من محلة نازحة. وحالة رازحة. آمل من بحرك دفعة. ومن جاهك رفعة. والتأميل أفضل وسائل السائل. ونائل النائل. فأوجب لي ما يجب عليك. وأحسن كما أحسن الله إليك. وإياك أن تلوي عذارك. عمن ازدارك. وأم دارك. أو تقبض راحك. عمن امتاحك. وأمتار سماحك. فوالله ما مجد من جمد. ولا رشد من حشد. بل اللبيب من إذا وجد جاد. وإن بدا بعائدة عاد. والركيم من إذا استوهب الذهب. لم يهب أن يهب. ثم أمسك يرقب أكل غرسه. ويرصد مطيبة نفسه. وأحب الوالي أن يعلم هل نطفته ثمد. أم لقريحته مدد. فأطرق يروي في استيراء زنده. واستشفاف فرنده. والتبس على أبي زيد سر صمتته. وإرجاء لصلته. فتوغر غضبا. وأنشد مقتضبا:
لا تحفرن أبيت اللعن ذا أدب ... لأن بدا خلق السربال سبروتا
ولا تضع لأخي التأميل حرمته ... أكان ذا لسن أم كان سكينا
وانفخ بعرفك من وافاك مختبطاً ... وانعش بغوثك من ألفيت منكوبا
فخير مال الفتى مال أشاد له ... ذكرا تناقله الركبان أو صيتا
وما على المشتري حمدا بموهبة ... غبن ولو كان ما أعطاه ياقوتا
لولا المروءة ضاق العذر عن فطن ... إذا اشرأب إلى ما جاوز القوتا
لكنه لابتناء المجد جد ومن ... حب السماح ثنى نحو العلى ليتا(6/140)
وما تنشق نشر الشكر ذو الكرم ... إلا وأزرى بنشر المسك مفتوتا
والحمد والبخل لم يقض اجتماعهما ... حتى لقد خيل ذا ضبا وذا حوتا
والسمح في الناس محبوب خلائقه ... والجامد الكف ما ينفك ممقوتا
وللشحيح على أمواله علل ... يوسعنه أبدا ذما وتبكيتا
فجد بما جمعت كفاك من نشب ... حتى يرى مجتدي جدواك مبهوتا
فقال له الوالي: تالله لقد أحسنت. فأي ولد الرجل أنت. فنظر إليه عن عرض. وأنشد وهو مغضض:
لا تسأل المرء من أبوه ورز ... خلاله ثم صله أو فاصرم
فما يشين السلاف حين حلا ... مذاقها كونها ابنة الحصرم
قال: فقربه الوالي لبيانه الفاتن. حتى أحله مقعد الخاتن. ثم فرض له من سيوب نيله. ما آذن بطول ذيله وقصر ليله. فنهض عنه يردن ملآن. وقلب جذلان. وتبعته حاذيا حذوه. وقافيا خطوه. حتى إذا خرج من بابه. وفصل عن غابه. قلت له: هنئت بما أوتيت. ومليت بما أوليت. فأسفر وجهه وتلالا. ووالى شكرا لله تعالى. ثم خطر اختيالا. وأنشد ارتجالا:
من يكن نال بالحماقة حظا ... أو سما قدره لطيب الأصول
فبفضلي انتفعت لا بفضولي ... وبقولي ارتفعت لا بقيولي
ثم قال: تعسا لمن جدب الأدب. وطوبى لمن جد فيه ودأب. ثم ودعني وذهب. وأودعني اللهب.(6/141)
الباب الخامس في اللطائف
عبد الله بن الحجاج عند عبد الملك بن مروان
لما قتل عبد الله بن الزبير وكان عبد الله بن الحجاج من أصحابه وشيعته احتال حتى دخل على عبد الملك بن مروان وهو يطعم الناس. فدخل حجرة فقال له: ما لم يا هذا لا تأكل. قال: لا أسحل أن آكل حتى تأذن لي. قال: قد أذنت للناس جميعاً. قال: لم أعلم. فآكل بأمرك. قال: كل فأكل وعبد الملك ينظر إليه. ويعجب من فعاله. فلما أكل الناس جلس عبد الملك في مجلسه وجلس خواصه بين يديه وتفرق الناس فجاء عبد الله بن الحجاج ووقف بين يديه. ثم استأذنه في الإنشاد فأذن له فأنشده:
أبلغ أمير المؤمنين فإنني ... مما لقيت من الحوادث موجع
منع القرار فجئت نحوك هاربا ... جيش يجر ومقنب يتلمع
فقال عبد الملك: وما خوفك لا أم لك لولا أنك مريب. فقال عبد الله:
كنا تنحلنا البضائر مرة ... وإليك إذ عمي البصائر نرجع
إن الذي يعصيك منا بعدها ... من دينه وحياته متودع
آتي رضاك ولا أعود لمثلها ... وأطيع أمرك ما أمرت وأسمع(6/142)
وأعطي نصيحتي الخليفة ناجعا ... وخزامة الأنف المقود فاتبع
فقال له عبد الملك: هذا لا نقبله منك إلا بعد المعرفة بك وبذنبك. فإذا عرفت الحوبة قبلنا التوبة. فقال عبد الله:
ولقد وطئت بني سعيد وطأة ... وابن الزبير فعرشه متضعضع
فقال عبد الملك: لله الحمد والمنة على ذلك فقال عبد الله:
مازلت تضرب منكبا عن مكنب ... تعلو ويسفل غيركم ما يرفع
ووطئتهم في الحرب حتى أصبحوا ... حدثا يؤس وغابرا يتجعجع
فحوى خلافتهم ولم يظلم بها ... القرم قرم بني قصي الأنزع
لا يستوي خاوي نجوم آفل ... والبدر منبلجا إذا ما يطلع
وضعت أمية واسطين لقومهم ... ووضعت وسطهم فنعم الموضع
بيت أبو العاصي بناه بربوة ... عالي المشارف عزه ما يدفع
فقال له عبد الملك: إن توريتك عن نفسك لتريبني فأي الفسقة أنت وماذا تريد. فقال:
جربت أصيبيتي يد أرسلتها ... وإليك بعد معادها ما ترجع
ووأرى الذي يرجو تراث محمد ... أفلت نجومهم ونجمك يسطع
فقال عبد الملك: ذلك جزاء أعداء الله. فقال له عبد الله بن الحجاج:
فانعش أصيبيتي الألاء كأنهم ... حجل تدرج بالشبة جوع
فقال عبد الملك: لا أنعشهم الله وأجاع أكبادهم ولا أبقى وليدا من نسلهم فإنهم نسل كافر فاجر لا يبالي ما صنع. فقال عبد الله:(6/143)
مال لهم مما يضن جمعته ... يوم القليب فحيز عنهم أجمع
فقال له عبد الملك: لعلك أخذته من غير حله وأنفقته في غير حقه. وأرصدت به لمشاقة أولياء الله وأعددته لمعاونة أعدائه. فنزعه منك إذا استظهرت به على معصية الله. فقال عبد الله:
أدنو لترحمني وتجبر فاقتي ... فأراك تدفعني فأين المدفع
فتبسم عبد الملك. فقال عبد الله: أمنت ورب الكعبة. فقال عبد الملك: كن من شئت إلا عبد الله بن الحجاج. قال: أنا والله هو قد وطئت دارك وأكلت طعامك وأنشدتك. فإن قتلتني بعد ذلك فأنت وما تراه. وأنت بما عليك في هذا عارف. ثم عاد إلى إنشاده فقال:
ضاقت ثياب الملبسين وفضلهم ... عني فألبسني فثوبك أوسع
فنبذ عبد الملك إليه مطرفاً كان على كتفه وقال: ألبسه لا لبست. فالتحف به ثم قال له عبد الملك: أولى لك. والله لقد طاولتك طمعا في أن يقوم بعض هؤلاء فيقتلك. فأبى الله ذلك فلا تجاورني في بلد. وانصرف آمنا فقم حيث شئت. ثم أمضى له الأمان (للأصبهاني)
إجازة عبيد الأبرص وامرئ القيس
لقي عبيد بن الأبرص امرئ القيس فقال له عبيد: كيف معرفتك بالأوابد. فقال: ألق ما أحببت. فقال عبيد:
ما حبة ميتة قامت بميتتها ... درداء ما أنبتت سنا وأضراسا
فقال امرؤ القيس:(6/144)
تلك الشعيرة تسقى في سنابلها ... فأخرجت بعد طول المكث أكداسا
فقال عبيد:
ما السود والبيض والأسماء واحدة ... لا يستطيع لهن الناس تمساسا
فقال امرؤ القيس:
تلك السحاب إذا الرحمن أرسلها ... روى بها من محول الأرض أيباسا
فقال عبيد:
ما مرتجات على هول مراكبها ... يقطعن طول المدى سيرا وإمراسا
فقال امرؤ القيس:
تلك النجوم إذا حالت مطالعها ... شبهتها في سواد الليل أقباسا
فقال عبيد:
ما القاطعات لأرض لا أنيس بها ... تأتي سراعا وما يرجعن أنكاسا
فقال امرؤ القيس:
تلك الرياح إذا هبت عواصفها ... كفى بأذيالها للترب كناسا
فقال عبيد:
ما الفاجعات جهارا في علانية ... أشد من فيلق مملوءة باسا
فقال امرؤ القيس:
تلك المنايا فما يبقين من أحد ... يكفتن حمقى وما يبقين أكياسا
فقال عبيد:
ما السابقات سراع الطير في مهل ... لا يشتكين ولو ألجمتها فاسا(6/145)
فقال امرؤ القيس:
تلك الجياد عليها القوم قد سبحوا ... كانوا لهن غداة الروع أحلاسا
فقال عبيد:
ما القاطعات لأرض الجو في طلق ... قبل الصباح وما يسرين قرطاسا
فقال امرؤ القيس:
تلك الأماني يتركن الفنى ملكا ... دون السماء ولم ترفع به راسا
فقال عبيد:
ما الحاكمون بلا سمع ولا بصر ... ولا لسان فصيح يعجب الناسا
فقال امرؤ القيس:
تلك الموازين والرحمن انزلها ... رب البرية بين الناس مقياسا
قال علي بن ظافر: دخلت مع جماعة من أصحابنا على صديق لنا نعوده وبين يديه بركة قد راق ماؤها. وصحت سماؤها. وقد رص تحت دساتيرها نارنج فتن قلوب الحضار. وملأ بالمحاسن عيون النظار. فكأنما رفت صوالج فضة على كرات من النضار. فأشار الحاضرون إلى وصفها فقلت بديهاً:
أبدعت يا ابن هلال في فسقية ... جاءت محاسنها بما لم يعهد
عجبا لأمواه الدساتير التي ... فاضت على نارنجها المتوقد
فكأنهن صوالج من فضة ... رفعت لضرب كرات خالص عسجد(6/146)
علي بن ظافر عند الملك العادل
قال علي بن ظافر: ومن عجب ما دهيت به ورميت إلا أن الله بفضله نصر وأعطى الظفر وأعان خاطري الكليل. حتى مضى مضاء السيف الصقيل. أني كنت في خدمة مولانا العادل (خلد الله ملكه) بالإسكندرية سنة إحدى وستمائة مع من ضمته حاشية العسكر المنصور من الكتاب ودخلت سنة اثنتين وستمائة ونحن بالثغر مقيمون بالخدمة. مرتضعون لأفاويق النعمة. فحضرت مع من حضر للهناء. من الفقهاء والعلماء. والمشايخ والكبراء. وجماعة الديوان والأمراء. في يوم من أيام الجلوس لإمضاء الأحكام. والعرض لطوائف الأجناد بالتمام. فلم يبق أحد من أهل البلد ولا من العسكر إلا حضر مهنئا. ومثل شاكر وداعيا. فلما غض المجلس بأهله. وشرق بجمع الناس وحفله. وخرج مولانا السلطان (خلد الله ملكه) إلى مجلسه. واستقر في دسته. أخرج كتابا ناوله إلى الصاحب الجل صفي الدين أبي محمد عبد الله بن علي وزير دولته. وكبير جملته. وهو مفضوض الختام. مفكوك الفدام ففتحه فإذا فيه قطعة وردت من المولى الملك المعظم أبقاه الله. كتبها إليه يتشوقه ويستعطفه لزيارته ويرققه ويستحث عود ركابه إلى الشام للمثاغرة بها وقمع عدوها. ويعرض بذكر مصر وشدة حرها ووقد جمرها. وذلك بعد أن وصل إلى خدمته بالثغور ثم رجع إليها. والأبيات:
أروي رماحك من نحور عداكا ... وانهب بخيلك من أطاع سواكا(6/147)
واركب خيولا كالسعالي شربا ... واضرب بسيفك من يشق عصاكا
واجلب من الأبطال كل سميذع ... يفري بعزمك كل من يشناكا
واسترعف السمر اللدان وروها ... واسق المنية سيفك السفاكا
وسر الغداة إلى العداة مبادرا ... بالضرب في هام العدو دراكا
واقرن رماحك بالثغور فإنها ... مشتاقة أن تبتنى بعلاكا
فالعز في نصب الخيام على العدى ... تردي الطغاة وتدفع الملاكا
والنصر مقرون بهمتك التي ... قد أصبحت فوق السماك سماكا
فإذا عزمت وجدت من هو طائع ... وإذا نهضت وجدت من يخشاكا
والنصر في الأعداء يوم كريهة ... أحلى من الكاس الذي رواكا
والعجز أن تسمي بمصر مخيما ... وتحل في تلك العراص عراكا
فأرح حشاشتك الكريمة من لظى ... مصر لكي تحظى الغداة بذاكا
فلقد غدا قلبي عليك بحرقة ... شغفا ولا حر البلاد هناكا
وانهض إلى راجي لقاك مسارعا ... فمناي من كل الأمور لقاكا
وأبرد فؤاد المستهام بنظرة ... وأعد عليه العيش من رؤياكا
واشف الغداة عليل صب هائم ... أضحى مناه من الحياة مناكا
فسعادتي بالعادل الملك الذي ... ملك الملوك وقارن الأفلاكا
فبقيت لي يا مالكي في غبطة ... وجعلت في كل الأمور فداكا
فلما تلا الصاحب على الحاضرين محكم آياتها. وجلا منها العروس التي حازت من المحاسن أبعد غاياتها. أخذوا في استحسان نظامها.(6/148)
وتناسق غريب التئامها. والثناء على الخاطر الذي نظم محكم أبياتها وأطلع من مشرق فكره آياتها. فقال السلطان (خلد الله ملكه) : نريد من يجيبه عنا بأبيات على قافيتها. فالتفت مسرعا إلي وأنا على يمينه وقال: يا مولانا مملوكك فلان هو فارس هذا الميدان. والمعتاد للتخلص من مضايق هذا الشان. ثم قطع وصلا من درج كان بين يديه وألقاه إلي. وعمد إلى دواته فأدارها بين يدي فقال له السلطان: أهكذا على مثل هذه الحالة. قال: نعم أنا جربته فوجدته متقد الخاطر حاضر الذهن سريع إجابة الفكر. فقال السلطان: وعلى كل حال قم إلى ههنا لتنكف عنك أبصار الناطرين. وتنقطع جلبة الحاضرين. وأشار إلى مكان عن يمين البيت الخشب الذي هو منقرد به فقمت وقد فقدت رجلي انزالا. وذهني اختلالا. لهيبة المجلس في صدري وكثرة من حضره من المترقبين لي المنتظرين حلول فاترة الشماتة وبي. فما هو إلا أن جلسن حتى ثاب إلي خاطري. وانثال الشعر على ضمائري. فكنت أرى فكري كالبازي الصيودلا يرى كلمة إلا أنشب فيها منسره. ولا معنى إلا شك فيه ظفره. فقلت في أسرع وقت:
وصلت من الملك المعظم تحفة ... ملأت بفاخر درها الأسلاكا
أبيات شعر كالنجوم جلالة ... فلذا حكت أوراقها الأفلاكا
عجبا وقد جاءت كمثل الروض إذ ... لم تذوها بالحر نار ذكاكا(6/149)
جلت الهموم عن الفؤاد كمثل ما ... تجلو وجهك الأحلاكا
كقميص يوسف إذ شفت يعقوب رياه شفتني مثله رياكا
قد أعجزت شعراء أهل زماننا ... حسنا فلم لا تعجز الأملاكا
ما كان هذا الفضل يمكن مثله ... أن يحتويه من الأنام سواكا
لم لا أغيب عن الشآم وهل له ... من حاجة عندي وأنت هناكا
أم كيف أخشى والبلاد جميعها ... محمية في جاه طعن قناكا
يكفي الأعادي حر بأسك فيهم ... أضعاف ما يكفي الولي نداكا
ما زرت مصر لغير ضبط ثغورها ... فلذا صبرت فديت عن رؤياكا
أم البلاد علا عليها قدرها ... لا سيما مذ شرفت بخطاكا
طابت وحق لها ولم لا وهي قد ... حوت المعلى في القداح أخاكا
أنا كالسحاب أزور أرضا ساقيا ... حينا وأمنح غيرها سقياكا
مكثي جهاد للعدو لأنني ... أغزوه بالرأي السديد دراكا
لولا الرباط وفضله لقصدت بالسي ... ر الحثيث إليك نيل رضاكا
ولئن أتيت إلى الشآم فإنما ... يحتثني شوقي إلى لقياكا
إني لأمنحك المحبة جاهدا ... وهواي فيما تشتهيه هواكا
فافخر فقد أصبحت بي وببأسك الحام ... مي وكل مملك يخشاكا
لا زلت تقهر من يعادي ملكنا ... أبدا ومن عاداك كان فداكا
وأعيش أنظر ابنك الباقي أبا ... وتعيش تخدم في السعود أباكا
ثم عدت إلى مكاني وقد بيضتها. وحليت بزهرها ساحة القرطاس(6/150)
الأبيض وروضتها. فلما رآني السلطان (خلد الله ملكه) قد عدت قال: أعملت شيئا. ظنا منه أن العمل في تلك اللمحة متعذر. وبلوغ الغرض فيها غير متصور. فقلت: نعم. فقال: أنشدنا فصمت الناس وحدقت الأبصار وأصاخت الأسماع. وظن الناس بي الظنون. وترقبوا مني ما يكون. فما توالى إنشادي حتى صفقت الأيدي إعجابا. وتغامزت الأعين استغرابا. وحين انتهيت إلى ذكر مولانا الكامل بأنه المعلى إذا ضربت قداحهم. وسردت أمداحهم. إغرورقت عيناه دمعا لذكره. وأبان صمته مخفي المحبة فأعلن بسره. وحين انتهيت إلى آخرها فاض دمعه. ولم يمكنه منعه. ثم قام فوضع فرجية من خاص ملابسه كانت عليه على كتفي (بدائع البدائه للأزدي)
للبابي يرثي ضرسه بعد قلعه
أي طود من الرواسي العظام ... فجعتنا به يد الأيام
هدمته نوازل الدهر والده ... ر ولوع بهدم عز الكرام
فهوى شياظيا من الذروة القع ... ساء فسرا وأنفه في الرغام
صاحب كان لي وفيا وبي بر ... اخفيا يعولني بالتزام
وخليلي في كل مخمصة كا ... ن عتيد الإطعام والإنعام
أبيض الوجه في اللقالين المل_مس صعب المراس عند الصدام
كاسر طاحن إذا اصطم الصف ... ان ماضي الشبا ألد الخصام
ضعضعت ركنه الخطوب وثلت ... عرش سلطانه المنيع السامي(6/151)
أين مني وأين هيهات أني ... أتهنا من بعده بطعام
يا رفيقي مذ كنت طفلا إلى أن ... جلل الشيب مفرقي بالثغام
وصديقي الذي تخولت من جد ... واه قوتي وقوتي وقوامي
من يروض الصعاب بعدك من للب ... طش من للقراع من للصدام
رب قشر محضته عن لباب ... ولحوم عرقتها عن عظام
ما قدرناك حق قدرك حتى ... نبت فاذهب ممتعا بسلام
وتأسى فكم صريع بهذا الث ... غر أدرته غارة الأيام
أبدلتني عن الثريا بني نع ... ش كرور السنين والأعوام
فجعتني بكل أبيض طلا ... ع الثنايا مستأسد بسام
أي وتر تبغي النوازل مني ... بعد ضعف القوى وفت العظام
من يرد صحبه الزمان طويلا ... فليوطن نفسا على الآلام
كل صعب يهون إن أنعم إلي ... هـ على عبده بحسن الختام
حدث أبو هريرة النحوي قال: كان أبو الشبل البرجمي قد اشترى كبشا للأضحى فجعل يعلفه ويسمنه فأفلت يوما على قنديل له كان يسرجه بين يديه وسراج وقارورة للزيت. فنطحه فكسره وانصب الزيت على ثيابه وكتبه وفراشه. فلما عاين ذلك ذبح الكبش قبل الأضحى وقال يرثي سراجه:
يا عين ابكي لفقد مسرجة ... كانت عمود الضياء والنور
كانت إذا ما الظلام ألبسني ... من حندس الليل ثوب ديجور
شقت بيرانها غياطلة ... شقا رعى الليل بالدياجير
صينية الصين حين أبدعها ... مصور الحسن بالتصاوير(6/152)
وقبل ذا بدعة أتيح لها ... من قبل الدهر قرن يعفور
وصكها صكة فما لبثت ... أن وردت عسكر المكاسير
وإن تولت فقد لها تركت ... ذكرا سيبقى على الأعاصير
من ذا رأيت الزمان ياسره ... فلم يشب يسره بتعسير
ومن أباح الزمان صفوته ... فلم يشب صفوه بتكدير
مسرجتي لو فديت ما بخلت ... عنك يد الجود بالدنانير
ليس لنا فيك ما نقدره ... لكنما الأمر بالمقادير
مسرجتي كم كشفت من ظلم ... جليت ظلماءها تنوير
أوحشت الدار من ضيائك وال ... بيت إلى مطبخ وتنور
قلبي حزين عليك إذا سجلت ... عليك بالدمع عين تنمير
إن كان أودى بك الزمان فقد ... أبقيت منك الحديث في الدور
دع ذكرها واهج قرن ناطحا ... واسرد أحاديثه بتفسير
كان حديثي أني اشتريت فما اش ... تريت كبشا سليل خنزير
فلم أزل بالنوى أسمنه ... والتبن والقت والأثاجير
أيرد بالماء في القلال له ... وأتقي فيه كل محذور
تخدمه طول كل ليلتها ... خدمة عبد بالذل مأسور
فلم يزل يغتذي السرور وما ال ... محزون في عيشه كمسرور
حتى عدا طوره وحق لمن ... يكفر نعمى تقريب تغيير
فمد قرنيه نحو مسرجة ... تعد في صون كل مذخور(6/153)
شد عليها بقرن ذي حنق ... معود للنطاح مشهور
وليس يقوى بروقه جبل ... صلد من الشمخ المذاكير
فكيف تقوى عليه مسرجة ... أرق من جوهر القوارير
تكسرت كسرة لها ألم ... وما صحيح الهوى كمكسور
فأدركته شعوب فانشعبت ... بالروع والشلو غير مقتور
أديل منه فأدركته يد ... من المنايا بجد مطرور
يلتهب الموت في ظباه كما ... تلتهب النار في المساعير
ومزقته المدى فما تركت ... كف القرى منه غير تعسير
واعتاله بعد كسرها قدر ... صيره نهزة السنانير
فمزقت لحمه براثنها ... وبذرته أشد تبذير
واختلسته الحداء خلسا مع ال ... غربان لم تزدجر لتكبير
وصار حظ الكلاب أعظمه ... يهشم ألحاءها بتكسير
كم كاسر نحوه وكاسرة ... سلاحها في شفى المناقير
وخامع نحوه وخامعة ... سلاحها في شبا الأظافير
قد جعلت حلو شلوه عرسا ... بلا افتقار إلى مزامير
ولا مغن سوى هما همها ... إذا تمطت لوارد العير
يا كبش ذق إذ كسرت مسرجتي ... لمدية الموت كأس تنحير
بغيت ظلما والبغي مصرع من ... بغى على أهله بتغيير
أضحية ما أظن صاحبها ... في قسمة لحمها بمأجور(6/154)
قال أبو العلاء المعري من قصيدة على لسان درع يخاطب سيفا
ألم يبلغك فتكي بالمواضي ... وسخري بالأسنة والزجاج
وأني لا يغير لي قتيرا ... خضاب كالمدام بلا مزاج
منعت الشيب من كتم التراقي ... ولم أمنعه من خطر العجاج
فهل حدثت بالحرباء يلقى ... برأس العير موضحة الشجاج
تصيح ثعالب المران كربا ... صياح الطير تطرب لابتهاج
حرام أن يراق نجيع قرن ... يجوب النقع وهو إلي لاجي
يقضب عنه أمراس المنايا ... لباس مثل أغراس النتاج
تعوذ بي حليف التاج قدما ... وفارس لم تهم بعقد تاج
شهدت الحرب قبل ابني بغيض ... وكنت زمان صحراء النباج
فلا يطعمك في الغمرات وردي ... فإني ربة المر الأجاج
فإن تركد بغمدك لا تخفني ... وإن تهجم علي فغير ناج
متى ترم السلوك بي الرزايا ... تجد قضاء مبهمة الرتاج
يرد حديدك الهندي سردي ... رفاتا كالحطيم من الزجاج
تناجيني إذا اختلف العوالي ... أتدري ويب غيرك من تناجي
كأن كعوبها متناثرات ... نوى قسب ترضخ للنواجي
مموهة كأن بها ارتعاشا ... لفرط السن أو داء اختلاج
تضيفني الذوابل مكرهات ... فترحل ما أذيقت من لماج
إذا ما السهم حاول في نهجا ... فإني عنه ضيقة الفجاج(6/155)
وهل تعشق النبال إلى ضياء ... ثنى السمراء مطفاة السراج
يهون علي والحدثان طاغ ... أتنذرني الفوارس أو تفاجي
فلو طعن الفتى بأشد غصن ... حناه أشد حصن في الهياج
أخالتني ظماء الخط لجا ... فألقت ركن شابة في اللجاج
وليس لكر يوم الشر ناف ... سوى كر من الأدراع ساج
وقال أيضا من قصيدة على لسان رجل يسأل أمه عن درع أبيه
ما فعلت درع والدي أجرت ... في نهر أم مشت على قدم
أم استعيرت من الأراقم فار ... تدت عواريها بنو الرقم
أم بعتها تبتغين مصلحة ... في سنة والسماء لم تغم
عابسة لم يجد بها الأسد ... م الظبية إلا ضعائف الرهم
أم كنت صيرتها له كفنا ... فتلك ليست من آلة الرجم
لعله أن يجيء مدرعا ... يوم رجوع النفوس في الرمم
أم كنت أودعتها أخا ثقة ... فخان والخوان أقبح الشيم
ضافية في المجر صافية ... ليست بمطوية على قتم
كأنها والنصال تأخذها ... أضاة حزن تجاد بالديم
ضن بها ربها لضنتها ... به وكم ضنة من الكرم
تحسبها من رضاب غادية ... مجموعة أو دموعها السجم
ضاحكة بالسهام ساخرة ... بالرمح هزاءة من الخدم
عادتها أرمها ظيا وقتا ... من عهد عاد وأختها إرم(6/156)
تغرها غرة السراب نهى ... في ناجري النهار محتدم
أو عمل الكفر من يدين به ... في البعث إبان مجمع الأمم
ذات قتير شابت بمولدها ... ولم يكن شيبها من القدم
فما عددنا بياضها هرما ... حين يعد البياض في الهرم
ما خضبته المهندات لها ... ولا العوالي سوى رشاش دم
ملبس قيل ما خيط مشبهه ... لدارم قبلنا ولا درم
رآه كهلان من معاقله ... في الحرب دون العبيد والحشم
عذبها الهالكي صانعها ... في جاحم من وقوده ضرم
ينفر عنها ضب العذاة كما ... يهاب نقعا من بارد شيم
يد المنايا إذا تصافحها ... أعي بها من يدين في رحم
معابل الرمي عندها عبل ... ملقى وسحم النصال كالسحم
فهي فم العود بزهن به ... وهن شوك القتاد والسلم
لأبي الحفص الفارضي في التغزل بالكمالات الإلهية
أوميض برق بالأبيرق لاحا ... أم في ربي نجد أرى مصباحا
أم تلك ليلى العامرية أسفرت ... ليلا قصيرت المساء صباحا
يا راكب الوجناء وقيت الردى ... إن جبت حزنا أو طويت بطاحا
وسلكت نعمان الأراك فعج إلى ... واد هناك عهدته فياحا(6/157)
فبأيمن العلمين من شرقيه ... عرج وأم أرينه الفواحا
وإذا وصلت إلى ثنيات اللوى ... فانشد فؤادا بالأبيطح طاحا
واقر السلام أهيله عني وقل ... غادرته لجنابكم ملتاحا
يا ساكني نجد أما من رحمة ... لأسير إلف لا يريد سراحا
هلا بعثتم للمشوق تحية ... في طي صافية الرياح رواحا
يحيا بها من كان يحسب هجرتكم ... مزحا ويعتقد المزاح مزاحا
يا أهل ودي هل لراجي وصلكم ... طمع فينعم باله استرواحا
مذ غبتم عن ناظري لي أنة ... ملأت نواحي أرض مصر نواحا
وإذا ذكرتكم أميل كأنني ... من طيب ذكركم سقيت الراحا
وإذا دعيت إلى تناسي عهدكم ... ألفيت أحشائي بذاك شحاحا
سقيا لأيام مضت مع جيرة ... كانت ليالينا بهم أفراحا
حيث الحمى وطني وسكان الغضا ... سكني ووردي الماء فيه مباحا
وأهيله أربي وظل نخيله ... طربي ورملة وادييه مراحا
واها على ذلك الزمان وطيبه ... أيام كنت من اللغوب مراحا
قسما بمكة والمقام ومن أتى ال ... بيت الحرام ملبيا سياحا
ما رنحت ريح الصبا شيح الربى ... إلا وأهدت منكم أرواحا(6/158)
خمرية أبي الحفص الفارضي وشرحها للشيخ حسن البوريني
شربنا على ذكر الحبيب مدامة ... سكرنا بها من قبل أن يخلق الكرم
(شربنا) أي معاشر السالكين في طريق الله تعالى. (على ذكر الحبيب) أي المحبوب وهو الحق تعلى. وقد يراد (بالذكر) الذكر باللسان أو بالقلب والجنان. وأشار إلى أن ذكر الله عنده من أقوى أسباب الطرب. (مدادمة) أي خمرة. والمعنى هنا شراب المحبة الإلهية الناشئة من شهود آثار الأسماء الحمالية لمحضرة العلية. وقوله (سكرنا) أي غبنا لذة وطربا بنشأة تلك الخمرة. وقوله (من قبل أن يخلق الكرم) يشير إلى قول القائل: ألست أنا ربكم قبل أن يخلق الكرم إلى الوجود.
لها البدر كأس وهي شمس يديرها ... هلال وكم يبدو إذا مزجت نجم
هذا البيت عجيب في بابه فإنه مشتمل على ذكر ألفاظ يناسب بعضها بعضا وهي البدر والشمس والهلال والنجم وكذلك الكاس والإدارة والزج. وقول: لها البدر كاس أي قلب العالم المحقق العامل (وهي شمس) أي المدامة المراد بها المعرفة الإلهية التي تفيض أنوارها في جميع الكائنات تشبه الشمس في طلوعها وإشراقها. وقوله يديرها أي ينشر أسماء تلك الحضرة الإلهية وصفاتها. وقوله هلال هو ذاك البدر إلا أنه محتجب.
ولولا شذاها ما اهتديت لحانها ... ولولا سناها ما تصورها الوهم
يقول: لولا روائح تلك الحضرات لما اهتديت إلى الأسماء الحسنى والصفات العليا لأن عبيرها عطر الأكوان. وقوله: لولا سناها إلخ كنى به عن النور الروحاني الذي بضوئه أدرك الإنسان حقيقة الوجود الإلهي.
ولم يبق منها الدهر غير حشاشة ... كأن خفاها في صدور النهى كتم
يقول: إن زخارف الدنيا تشغل القلوب الغافلة عن النهوض إلى شهود تجليات الحق. ويشبه خفاء تلك الحقيقة عند العقول البشرية خفاء الأسرار وكتمها في صدور الذين أوتوا العلم الإلهي
فإن ذكرت في الحي أصبح أهله ... نشاوى ولا عار عليهم ولا إثم
يعني إن ذكرت تلك الحضرة عند المتأهلين بالاستعداد لقبول أنوار الفيض الرباني فيصبحون سكارى ويغيبون عن أوهامهم في التحقق بمعاني الجلال
ومن بين أحشاء الدنان تصاعدت ... ولم يبق منها في الحقيقة إلا اسم
يقول: إنه بتقاصر الهمم الروحانية على نيل هذه ولانحراف قلوب البشر أخنفت(6/159)
العلوم الإلهية شيئا فشيئا من صدور الرجال حتى تواردت ولم يبق منها غلا الاسم
وإن خطرت يوما على خاطر امرئ ... أقامت به الأفراح وارتحل الهم
يقول أن تجلي العزة الإلهية يبدد كل غم ويشمل القلوب بكل فرح.
ولو نظر الندمان ختم إنائها ... لأسكرهم من دونها ذلك الختم
يقول أن أثر التجلي الرباني في قلب السالكين جدير بتبديد سقامهم
ولو نضحوا منها قبر ميت ... لعادت إليه الروح وانتعش الجسم
ولو طرحوا في فيء حائط كرمها ... عليلا وقد أشفى لفارقه السقم
ولو قربوا من حانها مقعدا مشى ... وتنطق من ذكرى مذاقتها البكم
ولو عبقت في الشرق أنفاس طيبها ... وفي الغرب مزكوم لعاد له الشم
ولو خضبت من كأسها كف لامس ... لما ضل في ليل وفي يده النجم
ولو جليت سرا على أكمه غدا ... بصيرا ومن راووقها تسمع الصم
ولو أن ركبا يمموا ترب أرضها ... وفي الركب ملسوع ملا ضره المس
ولو رسم الراقي حروف اسمها على ... جبين مصاب جن أبرأه الرسم
وفوق لواء الجيش لو رقم اسمها ... لأسكر من تحت اللوا ذلك الرقم
تهذب أخلاق الندامى فيهتدي ... بها لطريق العزم من لا له عزم
ويكرم من لم يعرف الجود كفه ... ويحلم عند الغيظ من لا له حلم
ولو نال فدم القوم لثم فدامها ... لأكسبه معنى شمائلها اللثم
أراد الشاعر بهذه الأبيات صفة ما تنتجه الحضرة الإلهية في البشر وذوي العاهات من برء أسقامهم أن شملت قلوبهم الحقائق العرفانية وأن أرادوا نهج المسالك الربانية
يقولون لي صفها فأنت بوصفها ... خبير أجل عندي بأوصافها علم
صفاء ولا ماء ولطف ولا هوا ... ونور ولا نار وروح ولا جسم(6/160)
قد جمع الشاعر أوصافه عز وجل فإن هذه الصفات باعتبار تجلي حقيقتها الغيبية عليه ظاهرة له بأربعة أوصاف الصفاء واللطف والضياء والروح فهي روح مجر عن كشافات العناصر الأربعة بعيدة عن كل جسم حسي
تقدم كل الكائنات حديثها ... قديما ولا شكل هناك ولا رسم
يريد أن وجود الله قد سبق وجود الكائنات بأجمعها قبلما تبدع الصور الحسية في عالم الكون
وقامت بها الأشياء ثم لحكمة ... بها احتجبت عن كل من لا له فهم
أي بواسطة هذه الحكمة قد خلقت الكائنات وإنما قد خفيت عن الخطأة والذين لم يدركوا الإلهيات
وهامت بها روحي بحيث تمازجا اتحادا ... ولا جر تخلله جرم
يقول أن لفرط شغفه بهذه الحكمة الربانية قد كاد يستحيل إليها
ولا قبلها قبل ولا بعد بعدها ... وقبلية الأبعاد فهي لها حتم
وقالوا شربت الإثم كلا وإنما ... شربت التي في تركها عندي الإثم
إن هذا البيت رد على من اتهمه بشرب الخمرة فيقول إن سكره لا بالخمرة المعتصرة من العنب بل بالعزة الإلهية التي هام بحبها.
هنيئا لأهل الدير كم سكروا بها ... وما شربوا منها ولكنهم هموا
يقول أنه يستطوب الرهبان والعباد الذين شربوا من هذه المدامة بل رغبوا إلى مشاهدة الجمال الإلهي
وعندي منها نشوة قبل نشأتي ... معي أبدا تبقى وإن بلي العظم
يقول إن قلبه تشرب محبة الله فلا يعدمها وإن فاجأته المنية
فما سكنت والهم يوما بموضع ... كذلك لم يسكن مع النغم الغم
فلا عيش في الدنيا لمن عاش صاحيا ... ومن لم يمت سكرا بها فاته الحزم
على نفسه فلبيك من ضاع عمره ... وليس له نصيب ولا سهم
هذا القول إغراء بشرب هذه المدامة السماوية التي أضحت مبدأ كل سرور فإنها حثما حلت تضمحل أكدار العالم وخطوب الدهر(6/161)
الباب السادس في الوصف
وصف المطر والسحابة
أخبرنا عبد الرحمن عن الأصمعي قال: سئل أعرابي عن مطر فقال: استقل سد مع انتشار الطفل فشصا واحزأل. ثم اكفهرت أرجاؤه. واحمومت أرحاؤه. وابذعرت فوارقه. وتضاحكت بوارقه. واستطار وادقه. وارتتقت جوبه. وارثعن هيدبه. وحشكت أخلافه. واستقلت أردافه. وانتشرت أكنافه. فالرعد مرتجس. والبرق مختلس. والماء منبجس. فأترع الغدر. وأنبث الوجر. وخلط الأوعال بالآجال. وقرن الصيران بالرئال. فللأودية هدير. وللشراج خرير. وللتلاع زفير. وحط النبع والعتم من القلل الشم. إلى القيعان الصحم. فلم يبق في القلل إلا معصم مجرنثم. أو داحض مجرجم. وذلك من قضاء رب العالمين على عباده المذنبين أخبر الأصمعي قال: سألت أعربياً من بني عامر بن صعصعة عن مطر صاب بلادهم فقال: نشأ عارضا. فطلع ناهضا. ثم ابتسم وامضا. فاعتن في الأقطار فأشجارها. وامتل في الآفاق فغطاها. ثم ارتجز فهمهم. ثم دوى فأظلم. فأدرك ودث وبغش. ثم قطقط فأفرط. ثم ديم فأغمط. ثم ركد فأثجم. ثم وبل فسجم. وجاد فأنعم. فقمس الربى.(6/162)
وأفرط الزبى. سبعا تباعا. ما يريد انقشاعا. حتى إذا ارتوت الحزون. وتضحضحت المتون. ساقه ربك إلى حيث شاء كما جلبه من حيث شاء.
أخبرنا أبو حاتم عن الأصمعي قال: سمعت أعرابيا من غني يذكر مطرا أصابهم في غب جدب فقال: تدارك ربك خلقه وقد كلبت الأمحال. وتقاصرت الآمال. وعكف الياس. وكظمت الأنفاس. وأصبح الماشي مصرما. والمترب معدما. وجفيت الحلائل. وامتهنت العقائل. فأنشأ سحابا ركاما. كنهورا سجاما. بروقه متألقة ورعوده متقعقعة. فسح ساجيا راكدا ثلاثا غير ذي فواق. ثم أمر ربك الشمال فطحرت ركامه. وفرقت جهامه. فانقشع محمودا. وقد أحيا فأغنى. وجاد فأورى. فالحمد لله الذي لا تكت نعمه. ولا تنفد قسمه. ولا يخيب سائله. ولا ينزر نائله.
وأخبرنا أبو حاتم عن الأصمعي قال: مررت بغلمة من الأعراب فقلت: أيكم يصف لي الغيث وأعطيه درهما. فقال: كلنا يصف (وهم ثلاثة) . فقلت: صفوا فأيكم ارتضيت صفته أعطيته الدرهم. فقال أحدهم: عن لنا عارض قصرا تسوقه لاصبا وتحدوه الجنوب. يحبو حبو المعتنك حتى إذا ازلأمت صدوره. انثجلت خصوره. ورجع هديره. أصعق زئيره. واستقل نشاصه. وتلاءم خصاصه. وارتعج ارتعاصه. وأوفدت سقابه. وامتدت أطنابه. تدارك ودقه. وتألق برقه. وحفزت تواليه. وانسفحت عزاليه.(6/163)
فغادر الثرى عمدا. والعزاز ثئدا. والحث عقدا. والضحاضح متواصية. والشعاب متداعية. (قال الآخر) : تراءت المخايل من الأقطار. تحن حنين العشار. وتترامى بشهب النار. قواعدها متلاحكة. وبواسقها متضاحكة. وأرجاؤها متقاذفة. وأرجاؤها متراصفة. فوصلت الغرب بالشرق. والوبل بالودق. سحا دراكا. متتابعا لكاكا. فضحضحت الجفاجف. وأنهرت الصفاصف. وحوضت الأصالف. ثم أقلعت محسبة محمودة الآثار. موقوفة الحبار. (وقال الثالث) : والله ما خلته بلغ خمسا: هلم الدرهم أصف لك. فقلت لا أو تقول كما قالا. فقال: والله لأبذنهما وصفا. ولأفوقنهما رصفا. قلت: هات لله أبوك. فقال: بينا الحاضر بين الياس. والإبلاس. قد غمرهم الإشفاق. رهبة الإملاق. قد حقبت الأنواء. ورفرف البلاء. واستولى القنوط على القلوب. وكثر الاستغفار من الذنوب. ارتاح ربك لعباده. فأنشأ سحابا مسجهرا كنهورا. معنونكا محلولكا. ثم استقل واحزأل. فصار كالسماء دون السماء. وكالأرض المدحورة في لوح الهواء. فأحسب السهول. وأتاق الهجول. وأحيا الرجاء. وأمات الضراء. وذلك من قضاء رب العالمين. (قال) : فملأ والله اليفع صدري فأعطيت كل واحد منهم درهما وكتبت كلامهم (صفة السحاب والغيث لابن دريد)
لابن الأثير في وصف الخيل
(قلت في وصف فرس أدهم) : وطالما امتطيت صهوة مطهم(6/164)
نهد. فغنيت عن نشوة الكميت من ذات نهد. يسابق الريح فيغبر في وجهها دون شق غباره. وإذا ظهر عليها رجعت حسرى في مضماره. نسب إلى الأعوج وهو مستقيم في الكر والفر. وقد حنقت عليه عين الشمس إذ لا يمكنها أن ترسم ظله على الأرض إذا مر. ليلي الإرهاب لطم جبينه الصباح ببهائه. فعدا عليه وخاض يقتص منه في أحشائه. كما قال ابن نباتة السعدي:
وكأنما لطم الصباح جبينه ... فاقتص منه فخاض في أحشائه
وقد أغتدي عليه والطير في وكناتها فلا يفوتني الأجدل. وإذا أطلقته لصيد الوحش رأيتني على منجرد قيد الأوابد هيكل.
(وقلت في وصف فرس هجين) : فرس له من العربية حسب ومن الكردية نسب. فهو من بينهما مستنتج. لا ينتسب إلى خبيب ولا إلى أعوج. ومن صفاته أنه رحب اللبان. عريض البطان. سلس العنان. ينثني على قدر الطعان. وعلى قدر الكرة والصولجان. قد استوت حالته قادما ومتأخرا. فإذا أقبل خلته مرتفعا. وإذا أدبر خلته منحدرا. كأنه في حسنه دمية محراب. وفي خلقه ذروة هضاب. وهو في سباقه ولحاقه مخلق بخلق المضمار. وبدم السراب والصوار فهو منسوب إلى ذوات القوادم. وإن كان محسوبا في ذوات القوائم. كأنما ثنى لجامه على سالفة عقاب. وشد حزامه على بارقة سحاب (الوشي المرقوم لابن الأثير)(6/165)
سفر البحر
لما ركبنا البحر. وحللنا منه بين السحر والنحر. شاهدنا من أهواله. وتنافي أحواله. ما لا يعبر عنه. ولا يبلغ له كنه
البحر صعب المرام جداً ... لا جعلت حاجتي إليه
أليس ماء ونحن طين ... فما عسى صبرنا عليه
فكم استقبلتنا أمواجه بوجوه بواسر. وطارت إلينا من شراعه عقبان كواسر. قد أزعجتنا أكف الريح من وكرها. كما نبهت اللجج من سكرها. فلم تبق شيئا من قوتها ومكرها. فسمعنا للجبال صفيرا. وللرياح دويا عظيما وزفيرا. وتيقنا أنا لا نجد من ذلك إلا فضل الله مجيرا وخفيرا. وإذا مسكم الضر في البحر ضل من تدعون إلا إياه. وأيسنا من الحياة لصوت تلك العواصف والمياه. فلا حيا الله ذلك الهول المزعج ولا بياه. والموج يصفق لسماع أصوات الرياح فيطرب بل ويضطرب. فكأنه من كاس الجنون يشرب أو شرب. فيبتعد ويقترب وفرقه تلتطم وتصطفق. وتختلف ولا تكاد تتفق. فتخال الجو يأخذ بنواصيها. وتجذبها أيديه من قواصيها. حتى كاد سطح الأرض يكشف من خلالها. وعنان السحب يخطف في استقلالها. وقد أشرفت النفوس على التلف من خوفها واعتلالها. وآذنت الأحوال بعد انتظامها باختلالها. وساءت الظنون. وتراءت في صورها المنون. والشراع في قراع مع جيوش الأمواج. التي أمدت(6/166)
منها الأفواج بالأفواج. ونحن قعود. كدود على عود. ما بين فرادى وأزواج. وقد نبت بنا من القلق أمكنتنا. وخرست من الفرق ألسنتنا. وتوهمنا أنه ليس في الوجود أغوار ولا نجود. إلا السماء والماء وذلك السفين. ومن في قبر جوفه دفين. مع ترقب هجوم العدو في الرواح والغدو. فزادنا لك الحذر. الذي لم يبق ولم يذر. على ما وصفناه من هول البحر قلقا. وأجرينا إذ ذاك في ميدان الإلقاء باليد إلى التهلكة طلقا. وتشتتت أفكارنا فرقا. وذبنا أسى وندما وفرقا. إلى أن قضى الله بالنجاة وكل ما أراد فهو الكائن وإن نهى عنه وأخطأ المائن. فرأينا البر وكأننا قبل لم نره. وشفيت به أعيننا من المره. وحصل بعد الشدة الفرج. وشممنا من السلامة أطيب الأرج (نفح الطيف للمقري)
وصف دولة بني حمدان
كان بنو حمدان ملوكا وأمراء. وأوجههم للصباحة. وألسنهم للفصاحة. وأيديهم للسماحة. وعقولهم للرجاحة. وسيف الدولة مشهور بسيادتهم. وواسطة قلادتهم. كان رضي الله تعالى عنه وأرضاه. وجعل الجنة مأواه. غرة الزمان. وعماد الإسلام ومن به سداد الثغور وسداد الأمور. وكانت وقائعه في عصاة العرب تكف باسها وتفل أنيابها. وتذل صعابها. وتكفي الرعية سوء آدابها. وغزواته تدرك من طاغية الروم الثار. وتحسم شرهم المثار. وتحسن في الإسلام(6/167)
الآثار. وحضرته مقصد الوفود. ومطلع الجود. وقبلة الآمال ومحط الرحال. وموسم الأدباء. وحلبة الشعراء. ويقال إنه لم يجتمع بباب أحد من الملوك بعد الخلفاء ما اجتمع ببابه من شيوخ الشعر ونجوم الدهر. وإنما السلطان سوق يجلب إليها ما ينفق لديها. وكان أديبا شاعرا محبا لجيد الشعر شديد الاهتزاز لما يمدح به. فلو أدرك ابن الرومي زمانه لما احتاج إلى أن يقول:
ذهب الذين تهزهم مداحهم ... هز الكماة عوالي المران
كانوا إذا امتدحوا رأوا ما فيهم ... فالأريحية فيهم بمكان
وكان كل من أبي محمد عبد الله بن محمد بن الفياض الكاتب وأبي الحسن علي بن محمد السميساطي قد اختار من مدائح الشعراء لسيف الدولة عشرة آلاف بيت كقول المتنبي:
خليلي إني لا أرى غير شاعر ... فلم منهم الدعوى ومني القصائد
فلا تعجبا إن السيوف كثيرة ... ولكن سيف الدولة اليوم واحد
له من كريم الطبع في الحرب منتض ... ومن عادة الإحسان والصفح غامد
ولما رأيت الناس دون محله ... تيقنت أن الدهر للناس ناقد
أخو غزوات ما تغب سيوفه ... رقابهم إلا وسيحان جامد
بذا قضت الأيام ما بين أهلها ... مصائب قوم عند قوم فوائد
ومن شرف الإقدام أنك فيهم ... على القتل موموق كأنك شاكد
وأن دما أجريته بك فاخر ... وأن فؤادا رعته لك حامد(6/168)
وكل يرى طوق الشجاعة والندى ... ولكن طبع النفس للنفس قائد
نهبت من الأعمار ما لو حويته ... لهنئت الدنيا بأنك خالد
فأنت حسام الملك والله ضارب ... وأنت لواء الدين والله عاقد
أحبك يا شمس الزمان وبدره ... وإن لا مني فيك السهى والفراقد
وذاك لأن الفضل عندك باهر ... وليس لأن العيش عندك بارد
وكقول السري بن أحمد الموصلي:
أغرتك الشهاب أم النهار ... أراحتك السحاب أم البحار
خلقت منية ومنى فأضحت ... تمور بك البسيطة أو تمار
تحلي الدين أو تحمي حماه ... فأنت عليه سور أو سوار
سيوفك من شكاة الثغر برء ... ولكن للعدى فيها بوار
وكفاك الغمام الجود يسري ... وفي أحشائه ماء ونار
يسار من سجيتها المنايا ... ويمنى من عطيتها اليسار
حضرنا والملوك له قيام ... تغض نواظر فيها انكسار
وزرنا منه ليث الغاب طلقا ... ولم نر قبله ليثا يزار
فكان لجوهر المجد انتظام ... وكان لجوهر الحمد انتثار
فعشت مخيرا لك في الأماني ... وكان على العدو لك الخيار
فضيفك للحيا المنهل ضيف ... وجارك للربيع الطلق جار
وكقول أبي فراس الحارث بن سعيد الحمداني:
أشدة ما أراه فيك أم كرم ... تجود بالنفس والأرواح تصطلم(6/169)
يا باذل النفس والأموال مبتسما ... أما يهولك لا موت ولا عدم
لقد ظننتك بين الجحفلين ترى ... أن السلامة من وقع القنا تصم
نشدتك الله لا تسمح بنفس على ... حياة صاحبها يحيا بها أمم
هي الشجاعة إلا أنها سرف ... وكل فضلك لا قصد ولا أمم
إذا لقيت رقاق البيض منفردا ... تحت العجاج فلم تستكثر الخدم
من ذا يقاتل من تلقى القتال به ... وليس فضل عنك الخيل والبهم
تضن بالطعن عنا ضن ذي بخل ... ومنك في كل حال يعرف الكرم
لا تبخلن على قوم إذا قتلوا ... أثنى عليك بنو الهيجاء دونهم
ألست ما لبسوا ركبت ما ركبوا ... عرفت ما عرفوا علمت ما علموا
هم الفوارس في أيديهم أسل ... فإن رأوك فأسد والقنا أجم
وكقول أبي العباس أحمد بن محمد النامي:
خلقت كما أرادتك المعالي ... فأنت لمن رجاك كما يريد
عجيب أن سيفك ليس يروى ... وسيفك في الوريد له ورود
وأعجب منه رمحك حين يسقى ... فيصحو وهو نشوان يميد
وكقول أبي نضر بن نباتة وهو من شعراء العراق:
حاشاك أن يدعيك العرب واحدها ... يا من ثرى قدميه طينة العرب
فإن يكن لك وجه مثل أوجههم ... عند العيان فليس الصفر كالذهب
وإن يكن لك نطق مثل نطقهم ... فليس مثل كلام الله في الكتب
وكادت غمائم جود سيف الدولة تفيض. ومآثر كرمه تستفيض.(6/170)
فتؤرخ بها أيام المجد وتخلد في صحائف حسن الذكر (اليتيمة للثعالبي) قال بشر بن أبي عوانة يصف قتاله الأسد وقتله إياه
أفاطم لو شهدت ببطن خبت ... وقد لاقى الهزبر أخاك بشرا
إذا لرأيت ليثا أم ليثا ... هزبرا أغلبا لاقى هزبرا
تبهنس إذ تقاعس عنه مهري ... محاذرة فقلت عقرت مهرا
أنل قدمي ظهر الأرض إني ... رأيت الأرض أثبت منك ظهرا
وقلت له وقد أبدى نصالا ... محددة ووجها مكفهرا
يكفكف غيلة إحدى يديه ... ويبسط للوثوب علي أخرى
يدل بمخلب وبحد ناب ... وباللحظات تحسبهن جمرا
وفي يمناي ماضي الحد أبقي ... بمضربه قراع الموت أثرا
نصحتك فالتمس يا ليث غيري ... طعاما إن لحمي كان مرا
أم يبلغك ما فعلته كفي ... بكاظمة غداة قتلت عمرا
فلما ظن أن النصح غش ... وخال مقالتي زورا وهجرا
مشى ومشيت من أسدين راما ... مراما كان إذ طلباه وعرا
سللت له السام فخلت أني ... شققت به لدى الظلماء فجرا
وأطلقت المهند من يميني ... فقد له من الأضلاع عشرا
فخر مضرجا بدم كأني ... هدمت به بناء مشمخرا
بضربة فيصل تركته شفعا ... لدي وقبلها قد كان وترا
وقلت له يعز علي أني ... قتلت مناسبي جلدا وقهرا(6/171)
ولكن رمت أمرا لم يرمه ... سواك فلم أطق يا ليث صبرا
فلا تجزع فقد لاقيت حرا ... يحاذر أن يعاب فمت حرا
صفة النفس لابن سيناء الرئيس
هبطت إليك من المحل الأرفع ... ورقاء ذات تعزز وتمنع
محجوبة عن كل مقلة عارف ... وهي التي سفرت ولم تتبرقع
وصلت على كره إليك وربما ... كرهت فراقك فهي ذات توجع
أنفت وما سكنت فلما استأنست ... ألفت مجاورة الخراب البلقع
وأظنها نسيت عهودا بالحمى ... ومنازلا بفراقها لم تقنع
حتى إذا اتصلت بهاء هبوطها ... من ميم مركزها بدار الأرجع
علقت بها ثاء الثقيل فأصبحت ... بين المعالم والطلول الخضع
تبكي وقد ذكرت عهودا بالحمى ... بمدامع تهمي ولما تقلع
وتظل ساجعة على الدمن التي درست بتكرار الرياح الأربع
إذ عاقها الشرك الكثيف وصدها ... قفص عن الأوج الفسيح الأربع
حتى إذا قرب المسير إلى الحمى ... ودنا الرحيل إلى الفضاء الأوسع
وعدت مفارقة لكل مخلف ... فيها حليف الترب غير مسيع
هجعت وقد كشف الغطاء فأبصرت ... ما ليس يدرك بالعيون الهجع
وبدت تغرد فوق ذروة شاهق ... والعلم يرفع كل من لم يرفع
فلأي شيء أهبطت من شامخ ... سام إلى قعر الحضيض الأوضع
إن كان أهبطها الإله لحمة ... طويت عن الفذ اللبيب الأروع(6/172)
فهبوطها إن كان ضربة لازب ... لتكون سامعة لما لم يسمع
وتكون عالمة بكل حقيقة ... في العالمين وخرقها لم يرفع
وهي التي قطع الزمان طريقها ... حتى لقد غربت بغير المطلع
فكأنها برق تألق بالحمى ... ثم انطوى فكأنه لم يلمع
قال علي بن محمد الأيادي يصف أسطول القائم فأجاد ما أراد
إعجب لأسطول الإمام محمد ... ولحسنه وزمانه المستغرب
لبست به الأمواج أحسن منظر ... يبدو لعين الناظر المستعجب
من كل مشرقة على ما قابلت ... إشراف صدر الأجدل المتنصب
دهماء قد لبست ثياب تصنع ... تسبي العقول على ثياب ترهب
من كل أبيض في الهواء منشر ... منها وأسحم في الخليج مغيب
كمراءة في البر يقطع سيرها ... في البحر أنفاس الرياح الشذب
محفوفة بمجادف مصفوفة ... في الجانبين دوين صلب صلب
كقوادم النسر المرفرف عريت ... من كاسيات رياشه المتهدب
وتحثها أيدي الرجال إذا ونت ... بمصعد منه بعيد مصوب
خرقاء تذهب إن يد لم تهدها ... في كل أوب للرياح ومذهب
جوفاء تحمل كوكبا في جوفها ... يوم الرهان وتستقل بمركب
ولها جناح يستعار بطيرها ... طوع الرياح وراحة المتطرب
يعلو بها حدب العباب مطارة ... في كل لج زاخر مغلولب
تنصاع من كثب كما نفر القطا ... طورا وتجتمع اجتماع الربرب(6/173)
ولواحق مثل الأهلة جنح ... لحق المطالب فائتات المهرب
يذهبن فيما بينهن لطافة ... ويجئن فعل الطائر المتغلب
وعلى كواكبها أسود خلافة ... تختال في عدد السلاح المرهب
فكأنما البحر استعار بزيهم ... ثوب الجمال من الربيع المذهب
قال أبو فراس الحمداني يصف قتال سيف الدولة لأهل قنسرين وقبائل العرب
ولما سار سيف الدين سرنا ... كما هيجت آسادا غضابا
أسنته إذا لاقى طعانا ... صوارمه إذا لاقى ضرابا
دعانا والأسنة مشرعات ... فكنا عند دعوته الجوابا
صنائع فاق صانعها ففاقت ... وغرس طاب غارسه فطابا
وكنا كالسهام إذا أصابت ... مراميها فراميها أصابا
فلما اشتدت الهيجاء كنا ... أشد مخالباً وأحد نابا
وأمنع جانبا وأعز جارا ... وأوفى ذمة وأقل عابا
سقينا بالرماح بني قشير ... ببطن العنتر السم المذابا
وسرنا بالخيول إلى نمير ... تجاذبنا أعنتها جذابا
ولما أيقنوا أن لا غياث ... دعوه للمغوثة فاستجابا
وعاد إلى الجميل لهم فعادوا ... وقد مدوا لما يهوى الرقابا
أمر عليهم خوفا وأمنا ... أذقهم به أزيا وصابا
أحلهم الجزيرة بعد يأس ... أخو حلم إذا ملك العقابا
ديارهم انتزعناها اقتسارا ... وأرضهم اغتصبناها اغتصابا(6/174)
ولو رمنا حميناها البوادي ... كما تحمي أسود الغاب غابا
إذا ما أرسل الأمراء جيشا ... إلى الأعداء أرسلنا الكتابا
أنا ابن الضاربين الهام قدما ... إذا كره المحامون الضرابا
ألم تعلم ومثلك قال حقا ... باني كنت أثقبها شهابا
لابن طباطبا الحسيني في وصف الليل
وتنوفة مد الضمير قطعتها ... والليل فوق إكامها يتربع
ليل يمد دجاه دون صباحه ... آمال ذي الحرص الذي لا يقنع
باتت كواكبه تحوط بقاءه ... في كل أفق منه نجم يلمع
زهر يثير على الصباح طلائعاً ... حول المساء فهن حسرى ضلع
ومتيقظات في المسير كأنها ... باتت تناجي بالذي يتوقع
والصبح يرقب من دجاه غرة ... متضائل من سحقه يتطلع
متنفسا فيه جنانا واهنا ... في كل لحظة ساعة يتشجع
حتى انزوى الليل البهيم لضوئه ... وقد استجاب ظلامه يتقشع
وبدت كواكبه حيارى فيه لا ... تدري بوشل ريالها ما تصنع
متهادلات النور في آفاقها ... مستعبرات في الدجى تسترجع
وكواكب الجوزاء تبسط باعها ... لتعانق الظلماء وهي تودع
وكأنها في الجو نعش أخ ولا ... يبكي ويوقف تارة ويشيع
وكأنما الشعرى العبور وراءها ... ثكلى لها دمع غزير يهمع
وبنات نعش قد برزن حواسر ... قدامها أخواتهن الأربع(6/175)
عبرى هتكن قناعهن على الدجى ... جزعا وآلت بعد لا تتقنع
وكأن أفقا من تلألؤ نجمه ... عند افتقاد الليل عيني تدمع
والفجر في صوف الهواء مورد ... مثل المدامة في الزجاج تشعشع
يا ليل ما لك لا تغيب كواكبا ... زفراتها وجدا عليك تقطع
لو أن لي بضياء صبحك طاقة ... يا ليل كنت أوده لا يسطع
حذرا عليك ولو قدرت بحيلتي ... جرعته الغصص التي تتجرع
يا صبح هاك شبيبتي فافتك بها ... ودع الدجى بسواده يتمتع
أفقدتني أنسي بأنجمها التي ... أصبحت من فقدي لها أتوجع
للربيع بن زياد العبسي في وصف حرب
قيدت لهم فيلق شهباء كالحة ... بالموت تسري وبالأبطال تقتسر
صريف أنيابها صوت الحديد إذا ... فض الحديد بها أبناؤها الوقر
ودرها الموت يقوى في مخالبها ... للواردين يوافي وردها الصدر
في جوها البيض والماذي مختلط ... والجرد والمرد والخيطة السمر
حتى إذا وجهتها وهي كالحة ... شوهاء منها حمام الموت ينتظر
جاءت بكل كمي معلم ذكر ... في كفه ذكر يسعى به ذكر
مستوردين الوغى للموت ردهم ... يوم الحفاظ على روادهم عسر
لهم سرابيل من ماء الحديد ومن ... نضح الدماء سرابيل لهم أخر
مظاهرات عليهم يوم بأسهم ... لونان جون وأخرى فوقهم حمر
في يوم حتف يهال الناظرون له ... ما إن تبين لهم شمس ولا قمر(6/176)
فالبيض يهتفن والأبصار خاشعة ... مما ترى وخدود القوم تنعفر
نكسوهم مرهفات غير مجدبة ... يشفي اختراط ظباها من به صعر
هندية كاشتعال النار تقصمهم ... بها مغاوير عن أحسابهم غير
لصفي الدين الحلي في وصف صيد الكراكي عند قدومها من البطائح ورحيلها إلى الجبال في فصل الربيع
أهلا بها قوادماً رواحلاً ... تطوي الفلا وتقطع المراحلا
تذكرت آكام دربنداتها ... وعافت الآجام والسواحلا
أذكرها عرف الربيع إلفها ... فأقبلت لشوقها حواملا
تقرق في الجو بصوت مطرب ... يشوق من كان إليها مائلا
لما رأت حر الصيف مقبلا ... وطيب برد القر ظلا زائلا
أهملت التخبيط في مطارها ... وعسكرت لسيرها قوافلا
تنهض من صرح الجليل تحتها ... بأرجل لبرده قوابلا
قد أنفت أيام كانون لها ... من أن ترى من الحلى عواطلا
فضاعفت الطل لها قلائدا ... والثلج في أرجلها خلاخلا
لما دعاني صاحبي لبرزة ... ونبه الزميل والمقاولا
أجبته مستبشرا بقصدها ... نبهتم ليث عرين باسلا
ثم برزنا نقتفي آثاره ... ونقصد الأملاق والمنهلا
والصبح قد أعمنا بنوره ... لما انثنى جنح الظلام راحلا
وقد أقمنا في المقامات لها ... معالما تحسبها مجاهلا(6/177)
نرشقها من تحتها ببندق ... يعرج كالشهب إليها واصلا
فما رقي تحت الطيور صاعد ... إلا اغتدى بها البلاء نازلا
لله أيام بهور بابل ... أضحى بها الدهر علينا باخلا
فكم قضينا فيه شملا جامعا ... وكم صحبنا فيه جمعا شاملا
ولصفي الدين الحلي في صفة الشمع
جلت الظلماء باللهب ... إذ بدت في الليل كالشهب
فانجلت في تاجها فجلت ... ظلم الأحزان والكرب
سفرت كالشمس ضاحكة ... من تواري الشمس في الحجب
ما رأينا قبل منظهرا ضاحكا في زي منتحب
كيف لا تحلو ضرائبها ... وبها ضرب من الضرب
خلتها والليل معتكر ... ونجوم الأفق لم تغب
قضبا من فضة غرست ... فوق كثبان من الذهب
أو يواقيتا منضدة ... بين أيدينا على قضب
أو رماحا في العدى طعنت ... فغدت محمرة العذب
أو سهاما نصلها ذهب ... لسوى الظلماء لم تصب
أو أعالي حمر ألوية ... نشرت في جحفل لجب
أو شواظا للقرى رفعت ... تتراءى في ذرى كثب
أو لظى نار الحباحب قد ... لمعت للعين عن لبب
أو عيون الأسد موصدة ... في ذرى غاب من القصب(6/178)
أو شفيق الروض منتظما ... فوق مجدول من القصب
أو ذرى نيلوفر رفعت ... فوق قضبان من الغرب
وصف القيل لأبي الحسن الجوهري
فيل كرضوى حين يل ... بس من رقاق الغيم بردا
مثل الغمامة ملئت ... أكنافها برقا ورعدا
رأس كقلة شاهق ... كسيت من الخيلاء جلدا
فتراه من فرط الدلا ... ل مصعرا للناس خدا
يزهى بخرطوم مث ... ل الصولجان يرد ردا
يسطو بساريتي لجب ... ن يحطمان الصخر هدا
أذناه مروحتان أس ... ندتا إلى الفودين عقدا
عيناه غائرتان ضي ... قتا لجمع الضوء عمدا
فك كفوهة الخلي ... ج يلوك طول الدهر حقدا
تلقاه من بعد فتحسبه غماماً قد تبدى
متنا كبنيان الخور ... نق مائلا في الدهر كدا
ردفا كدكة عنبر ... متمايل الأوراك نهدا
ذنبا كمثل السوط يضرب حوله ساقا وزندا
يخطو على أمثال أعمدة الخباء إذا تصدى
أو مثل أميال نضد ... ن من الصخور الصم نضدا
متوردا حوض المن ... ية حيث لا يشتاق وردا(6/179)
متملكا فكأنه ... متطلبٌ ما لا يؤدى
متلفعا بالكبريا ... ء كأنه ملك مفدى
أدنى إلى الشيء البعي ... د يراد من وهم وأهدى
أذكى من الإنسان حتى لو رأى خللا لسدا
وصف الكرمة للطغرائي
وكرمة أعراقها في الثرى ... بعيدة المنزع والمضرب
كريمة تلتف أغصانها م الغضة بالأقرب فالأقرب
يمتاح من قعر الثرى ريها ... أشطانها عفوا ولم تجدب
ألقحها الريح وصوب الحيا ... والشمس في المشرق والمغرب
فأعقبت حاملها بعد ما ... عاشت رمانا وهي لم تعقب
ووضعتها بحمى ينتمي ... إلى أب أكرم به من أب
وألحفتها خضر أوراقها ... معذوبة بالحلب الأعذب
وبدلت خضر عناقيدها ... بأدهم النجوم والأشهب
فاستسلفت ماء وجاءت به ... مدامة كالقبس الملهب
ولم تزل بالرفق حتى اكتسى ... لجينها من صنعها المذهب
فالأشقر المنسوج من نسلها ... سليل ذاك الأشهب المنجب
ترى الثريا من عناقيدها ... تلوح في أخضر كالغيهب
ألوانها شتى وأنواعها ... مثقفات النجر والمنصب
كم سبج فيه وكم جزعة ... صحيحة التدوير لم تثقب(6/180)
من حالك اللون كجنح الدجى ... وناصع يلمع كالكوكب
أطيب بها حلا ومحظورة ... في كرمها وكأسها الأطيب
زهرية الفقيه أبي الحسن بن زنباع
أبدت لنا الأيام زهرة طيبها ... وتسربلت بنضيرها وقشيبها
واهتز عطف الأرض بعد خشوعها ... وبدت بها النعماء بعد شحوبها
وتطلعت في عنفوان شبابها ... من بعد ما بلغت عتي مشيبها
وقفت عليها السحب وقفة راحم ... فبكت لها بعيونها وقلوبها
فعجبت للأزهار كيف تضاحكت ... ببكائها وتبشرت بقطوبها
وتسربلت حللا تجر ذيولها ... من لدمها فيها وشق جيوبها
فلقد أجاد المزن في إنجادها ... وأجاد حر الشمس في ترتيبها
ما أنصف الخيري يمنع طيبه ... لحضورها ويبيحه لمغيبها
وهي التي قامت عليه بدفئها ... وتعاهدته بدرها وحليبها
فكأنه فرض عليه موقت ... ووجوبه متعلق بوجوبها
وعلى سماء الياسمين كواكب ... أبدت ذكاء العجز عن تغييبها
زهر توقد ليلها ونهارها ... وتفوت شأو خسوفها وغروبها
فتأرجت أرجاؤها بهبوبها ... وتعانقت أزهارها بنكوبها
وتصوبت فيها فروع جداول ... تتصاعد الأبصار في تصويبها
تطفو وترسب في أصول ثمارها ... والحسن بين طفوها ورسوبها
أو ما ترى الأزهار ما من زهرة ... إلا وقد ركبت فقار قضيبها(6/181)
والطير قد خفقت على أفنانها ... تلقي فنون الشدو في أسلوبها
تشدو وتهتز الغصون كأنما ... حركاتها رقص على تطريبها
قال ابن حمديس الصقلي يصف دارا بناها المنصور بن أعلى ببجاية
أعمر بقصر الملك ناديك الذي ... أضحى بمجدك بيته معمورا
قصر لو أنك قد كحلت بنوره ... أعمى لعاد إلى المقام بصيرا
واشتق من معنى الجنان نسيمه ... فيكاد يحدث بالعظام نشورا
نسي الصبيح مع الفصيح بذكره ... وسما ففاق خورنقا وسديرا
أبصرته فرأيت أبدع منظر ... ثم انثنيت بناظري محسورا
فظننت أني حالم في جنة ... لما رأيت الملك فيه كبيرا
لو أن بالإيوان قوبل حسنه ... ما كان شيئا عنده مذكورا
أعيت مصانعه على الفرس الألى ... رفعوا البناء وأحكموا التدبيرا
ومضت على الروم الدهور وما بنوا ... لملوكهم شهبا له ونظيرا
أذكرتنا الفردوس حين أريتنا ... غرفا رفعت بناءها وقصورا
ومحصب بالدر تحسب تربه ... مسكا تضوع نشره وعبيرا
تستخلف الأبصار منه إذا أتى ... صبحا على غسق الظلام منيرا
ثم ذكر بركة فيه عليها أشجار من ذهب وفضة ترمي فروعها المياه. ثم تفنن وذكر أسودا على حافاتها قاذفة بالمياه أيضا فقال:
وضراغم سكنت عرين رئاسة ... تركت خرير الماء فيه زئيرا
فكأنما غشى النضار جسومها ... وأذاب في أفواهها البلورا(6/182)
أسد كأن سكونها متحرك ... في النفس لو وجدت هناك مثيرا
وتذكرت فتكاتها فكأنما ... أقعت على أدبارها لتثورا
وتخالها والشمس تجلو لونها ... نارا وألسنها اللواحس نورا
فكأنما سلت سيوف جداول ... ذابت بلا نار فعدن غديرا
وكأنما نسج النسيم لمائه ... درعا فقدر سردها تقديرا
وبديعة الثمرات تعبر نحوها ... عيناي بحر عجائب مسجورا
شجرية ذهبية نزعت إلى ... سحر يؤثر في النهى تأثيرا
قد صوبحت أغصانها فكأنما قبضت بهن من الفضاء طيورا
وكأنما تأبى لوقع طيرها ... أن تستقل بنهضها وتطيرا
من كل واقعة ترى منقارها ... ماء كسلسال اللجين نميرا
خرس تعد من الفصاح فإن شدت ... جعلت تغرد بالمياه صفيرا
وكأنما في كل غصن فضة ... لانت فأرسل خيطها مجروها
وتريك في الصهريج موقع قطرها ... فوق الزبرجد لؤلوءا منثورا
ضحكت محاسنه إليك كأنما ... جعلت لها زهر النجوم ثغورا
ومصفح الأبواب تبرا نظروا ... بالنقش فوق شكوله تنظيرا
وإذا نظرت إلى غرائب سقفه ... أبصرت روضا في السماء نضيرا
وضعت به صناعها أقلامها ... فأرتك كل طريدة تصويرا
وكأنما للشمس فيه ليقةٌ ... مشقوا بها التزويق والتشجيرا
وكأنما اللازرد فيه مخرم ... بالخط في ورق المساء سطورا(6/183)
الباب السابع في الشعر القديم
نخب من المعلقات
نخبة من معلقة امرئ القيس بن حجر الكندي
وليل كموج البحر أرخى سدوله ... علي بأنواع الهوم ليبتلي
فقلت له لما تمطى بصلبه ... وأردف أعجازا وناء بكلكل
ألا أيها الليل الطويل ألا انجلي ... بصبح وما الإصباح منك بأمثل
فيا لك من ليل كأن نجومه ... بأمراس كتان إلى صمم جندل
وقد أغتدي والطير في وكناتها ... بمنجرد قيد الأوابد هيكل
مكر مفر مقبل مدبر معا ... كجلمود صخر حطه السير من عل
كميت يزل اللبد عن حال متنه ... كما زلت الصفواء بالمتنزل
على الذبل جياش كأن اهتزامه ... إذا جاش فيه حميه غلي مرجل
مسح إذا ما السابحات على الونى ... أثرن غبارا بالكديد المركل
يزل الغلام الخف عن صهواته ... ويلوي بأثواب العنيف المثقل
درير كخذروف الوليد أمره ... تتابع كفيه بخيط موصل
له أيطلا ظبي وساق نعامة ... وإرخاء سرحان وتقريب تتفل
فعن لنا سرب كأن نعاجه ... عذارى دوار في ملاء مذيل
فألحقنا بالهاديات ودونه ... جواحرها في صرة لم تزيل(6/184)
فعادى عداء بين ثور ونعجة ... دراكا ولم ينضح بماء فيغسل
فظل طهاة اللحم من بين منضج ... صفيف شواء أو قدير معجل
ورحنا يكاد الطرف يقصر دونه ... متى ما ترق العين فيه تسهل
فبات عليه سرجه ولجامه ... وبات بعيني قائما غير مرسل
أصاح ترى برقا أريك وميضه ... كلمع اليدين في حبي مكلل
يضيء سناه أو مصابيح راهب ... أمال سليطا بالذبال المفتل
قعدت له وصحبتي بين ضارج ... وبين العذيب بعد ما متأملي
على قطن بالشيم أيمن صوبه ... وأيسره على الستار فيذبل
فأضحى يسح الماء فوق كتفيه ... يكب على الأذقان دوح الكنهبل
ومر على القنان من نفيانه ... فأنزل منه العصم من كل منزل
وتيماء لم يترك بها جذع نخلة ... ولا أطما إلا مشيدا بجندل
نخبة من معلقة طرفة بن العبد البكري
أنا الرجل الضرب الذي تعرفونه ... خشاش كرأس الحية المتوقد
وآليت لا ينفك كشحي بطانة ... لغضب رقيق الشفرتين مهند
حسام إذا ما قمت منتصرا به ... كفى العود منه البدء ليس بمعضد
أخي ثقة لا ينثني عن ضريبة ... إذا قيل مهلا قال حاجزه قدي
إذا ابتدر القوم السلاح وجدتني ... منيعا إذا بلت بقائمة يدي
وبرك هجود قد أثارت مخافتي ... بواديها أمشي بغضب مجرد
فمرت كهاة ذات خفيف جلالة ... عقيلة شيخ كالوبيل يلندد(6/185)
يقول وقد تر الوظيف وساقها=ألست ترى أن قد أتيت بمؤيد
وقال إلا ماذا ترون بشارب ... شديد علينا بغيه متعمد
فقال ذروه إنما نفعها له ... وإلا تكفوا قاصي البرك يزدد
فظل الإماء يمتللن حوارها ... وتسعى علينا بالسديف المسرهد
فإن مت فانعيني بما أنا أهله ... وشقي علي الجيب يا ابنة معبد
ولا تجعليني كامرئ ليس همه ... كهمي ولا يغني غنائي ومشهدي
بطيء عن الجلى سريع إلى الخنا ... ذلول بأجماع الرجال ملهد
فلو كنت وغلافي الرجال لضرني ... عداوة ذي الأصحاب والمتوحد
ولكن نفى عني الرجال جراءتي ... عليهم وإقدامي وصدقي ومحتدي
لعمرك ما أمري علي بغمة ... نهاري ولا ليلي علي بسرمد
ويوم حبست النفس عند عراكها ... حفاظا على عوراته والتهدد
على موطن يخشى الفتى عنده الردى ... متى تعترك فيه الفرائص ترعد
وأصفر مضبوح نظرت حوازه ... على النار واستودعته كف مجمد
ستبدي لك الأيام ما كنت جاهلاً ... ويأتيك بالأخبار من لم تزود
ويأتيك بالأخبار من لم تبع له ... بتاتا ولم تضرب له وقت موعد
نخبة من معلقة زهير أبي سلمى المزني
فأقسمت بالبيت الذي طاف حوله ... رجال بنوه من قريش وجرهم
يمينا لنعم السيدان وجدتما ... على كل حال من سحيل ومبرم
سعى الله ساعيا غيظ بن مرة بعدما ... تبزل ما بين العشيرة بالدم(6/186)
تدار كتما عبسا وذبيان بعدما ... تفانوا ودقوا بينهم عطر منشم
وقد قلتما إن ندرك السلم واسعا ... بمال ومعروف من القول نسلم
فأصبحتما منها على خير موطن ... بعيدين فيها من عقوق ومأثم
عظيمين في عليا معد هديتما ... ومن يستبح كنزا من المجد يعظم
تعفى الكلوم بالمئين فأصبحت ... ينجمها من ليس فيها بمجرم
فأصبح يجري فيهم من تلاكم ... مغانم شتى من إفال مزنم
إلا أبلغ الأحلاف عني رسالة ... وبيان هل أقسمتم كل مقسم
فلا تكتمن الله ما في صدوركم ... ليخفي ومهما يكتم الله يعلم
يؤخر فيوضع في كتاب فيدخر ... ليوم الحساب أو يعجل فينقم
وما الحرب إلا ما علمتم وذقتم ... وما هو عنها بالحديث المرجم
متى تبعثوها تبعثوها ذميمة ... وتضر إذا ضريتموها فتضرم
فتعرككم عرك الرحى بثقالها ... وتلقح كشافا ثم تنتج فتتئم
فتنتج لكم غلمان أشأم كلهم ... كأحمر عاد ثم ترضع فتفطم
فتغلل لكم ما لا تغل لأهلها ... قرى بالعراق من قفيز ودرهم
رعوا ظمأهم حتى إذا تم أوردوا ... غمارا تفرى بالسلاح وبالدم
فقضموا منايا بينهم ثم أصدروا ... إلى كلأ مستوبل متوخم
لعمرك ما جرت عليهم رماحهم ... دم ابن نهيك أو قتيل المثلم
ولا شاركت في الموت في دم نوقل ... ولا وهب منها ولا ابن المخزم(6/187)
فكلا أراهم أصبحة يعقلونه=صحيحات مال طالعات بمخرم
لحي حلال يعصم الناس أمرهم ... إذا طرقت إحدى الليالي بمعظم
كرام فلاذوا الضغن يدرك تبله ... لديهم ولا الجاني عليهم بمسلم
سئمت تكاليف الحياة ومن يعش ... ثمانين حولا لا أبا لك يسأم
وأعلم ما في اليوم والأمس قبله ... ولكنني عن علم ما في غد عم
رأيت المنايا خبط عشواء من تصب ... تمته ومن تخطئ يعمر فيهرم
ومن لا يصانع في أمور كثيرة ... يضرس بأنياب ويوطأ بمنسم
ومن يجعل المعروف من دون عرضه ... يفره ومن لا يتق الشتم يشتم
ومن يك ذا فضل فيبخل بفضله ... على قومه يستغن عنه ويذمم
ومن يوف لا يذمم ومن يهد قبله ... إلى مطمئن البر لا يتجمجم
ومن هاب أسباب المنايا ينلنه ... وإن يرق أسباب السماء بسلم
ومن يجعل المعروف في غير أهله ... يكن حمده ذماً عليه ويندم
ومن يعص أطراف الزجاج فإنه ... يطيع العوالي ركبت كل لهذم
ومن لا يذد عن حوضه بسلاحه ... يهدم ومن لا يظلم الناس يظلم
ومن يغترب يحسب عدوا صديقه ... ومن لا يكرم نفسه لا يكرم
ومن لم يزل يسترحل الناس نفسه ... ولا يعفها يوما من الذل يندم
ومهما تكن عند امرئ من خليقة ... وإن خالها تخفى على الناس تعلم
وكأين ترى من صامت لك معجب ... زيادته أو نقصه في التكلم
لسان الفتى نصف ونصف فؤاده ... فلم يبق إلا صورة اللحم والدم(6/188)
وإن سفاه الشيخ لا حلم بعده ... وإن الفتى بعد السفاهة يحلم
سألنا فأعطيتم وعدنا وعدتم ... ومن أكثر التسآل يوما سيحرم
نخبة من معلقة لبيد بن ربيعة العامري
اقطع لبانة من تعرض وصله ... ولخير واصل خلة صرامها
بطليح أسفار تركن بقية ... منها فأحنق صلبها وسنامها
وإذا تغالى لحمها وتحسرت ... وتقطعت بعد الكلال خدامها
فلها هباب في الزمام كأنها صهباء خف مع الجنوب جهامها
أفتلك أم وحشية مسبوعة ... خذلت وهادية الصوار قوامها
خنساء ضيعت الفرير فلم ترم ... عرض الشقائق طوفها وبغامها
لمعفر قهد تنازع شلوه ... غبس كواسب لا يمن طعامها
صادفن منها غرة فأصبنها ... إن المنايا لا تطيش سهامها
باتت وأسبل واكف من ديمة ... تروي الخمائل دائما تسجامها
تجتاف أصلا قالصا متنبذا ... بعجوب أنقاء يميل هيامها
يعلو طريقة متنها متواتر ... في ليلة كفر النجوم غمامها
وتضيء في وجه الظلام منيرة ... كجمانة البحري سل نظامها
حتى إذا انحسر الظلام وأسفرت ... بكرت تزل عن الثرى أزلامها
علهت تردد في نهاء صعائد ... سبعا تؤاما كاملا أيامها
حتى إذا يئست وأسحق حالق ... لم يبله إرضاعها وفطامها
وتسمعت زر الأنيس فراعها ... عن ظهر غيب والأنيس سقامها(6/189)
فغدت كلا الفرجين تحسب أنه ... مولى المخافة خلفها وأمامها
حتى إذا يئس الرماة وأرسلوا ... غضفا دواجن قافلا أعصامها
فلحقن واعتكرت لها مدرية ... كالسمهرية حدها وتمامها
لتذودهن وأيقنت إن لم تذد ... أن قد أحم من الحتوف حمامها
فتقصدت منها كساب فضرجت ... بدم وغودر في المكر سخامها
فبتلك إذ رقص اللوامع بالضحى ... واجتاب أردية السراب إكامها
أقضى اللبانة لا أفرط ريبة ... أو أن يلوم بحاجة لوامها
وغداة ريح قد وزعت قرة ... قد أصبحت بيد الشمال زمامها
ولقد حميت الحي تحمل شكتي ... فرط وشاحي إذ غدوت لجامها
فعلوت مرتقبا على ذي هبوة ... حرج إلى أعلامهن فتامها
حتى إذا ألقت يدا في كافر ... وأجن عورات الثغور ظلامها
أسهلت وانتصب كجذع منيفة ... جرداء يحصر دونها جرامها
رفعتها طرد النعام وفوقه ... حتى إذا سحنت وخف عظامها
قلقت رحالتها وأسبل نحرها ... وابتل من زبد الحميم حزامها
ترقى وتطعن في العنان وتنتحي ... ورد الحمامة إذ أجد حمامها
وكثيرة غرباؤها مجهولة ... ترجى نوافلها ويخشى ذامها
غلب تشذر بالذخول كأنها ... جن البدي رواسيا أقدامها
أنكرت باطلها وبؤت بحقها ... عندي ولم يفخر علي كرامها
وجزور أيسار دعوت لحتفها ... بمغالق متشابه أجسامها(6/190)
أدعو بهن لعاقر أو مطفل ... بذلت لجيران الجميع لحامها
فالضيف والجار الجنيب كأنما ... هبطا تبالة مخصبا أهضامها
تأوي إلى الأطناب كل رذية ... مثل البلية قالص أهدامها
ويكللون إذا الرياح تناوحت ... خلجا تمد شوارعا أيتامها
إنا إذا التقت المجامع لم يزل ... منا لزاز عظيمة جشامها
ومقسم يعطي العشيرة حقها ... ومغذمر لحقوقها هضامها
فضلا وذو كرم يعين على الندى ... سمح كسوب رغائب غنامها
من معشر سنت لهم آباؤهم ... ولكل قوم سنة وإمامها
إن يفزعوا تلق المغافر عندهم ... والسن تلمع كالكواكب لامها
لا يطبعون ولا تبور فعالهم ... إذ لا تميل مع الهوى أحلامها
فاقنع بما قسم المليك فإنما ... قسم الخلائف بيننا علامها
وإذا الأمانة قسمت في معشر ... أوفى بأوفر حظنا قسامها
فبنى لنا بيتا رفيعا سمكه ... فسما إليه كهلها وغلامها
فهم السعاة إذا العشيرة أفظعت ... وهم فوارسها وهم حكامها
وهم ربيع للمجاور فيهم ... والمرملات إذا تطاول عامها
وهم العشيرة أن يبطئ حاسد ... أو أن يميل مع العدو لئامها
نخبة من معلقة عمرو بن كلثوم التغلبي
أبا هند فلا تعجل علينا ... وأنظرنا نخبرك اليقينا
بأنا نورد الرايات بيضا ... ونصدرهن حمرا قد روينا(6/191)
وأيام لنا غر طوال ... عصينا الملك فيها أن ندينا
وسيد معشر قد توجوه ... بتاج الملك يحمي الحجرينا
تركنا الخيل عاكفة عليه ... مقلدة أعنتها صفونا
وأنزلنا البيوت بذي طلوح ... إلى الشامات ننفي الموعدينا
وقد هرت كلاب الحي منا ... وشذبنا قتادة من يلينا
متى تنقل إلى قوم رحانا ... يكونوا في اللقاء لها طحينا
يكون ثفالها شرقي نجد ... ولهوتها قضاعة أجميعينا
نزلتم منزل الأضياف منا ... فعجلنا القرى أن تشتمونا
قريناكم فعجلنا قراكم ... قبيل الصبح مرداة طحونا
نعم أناسنا ونعف عنهم ... ونحمل عنهم ما حملونا
نطاعن ما تراخى الناس عنا ... ونضرب بالسيوف إذا غشينا
بسمر من قنا الخطي لدن ... ذوابل أو ببيض يعتلينا
كأن جماجم الأبطال فيها ... وسوق بالأماغر يرتمينا
نشق بها رؤوس القوم شقا ... ونختلب الرقاب فيختلينا
وإن الضغن بعد الضغن يفشو ... عليك ويخرج الداء الدفينا
ونحن إذا عماد الحي خرت ... على الأحفاض نمنع من يلينا
نجذ رؤوسهم في غير بر ... فما يدرون ماذا يتقونا
كأن سيوفنا منا ومنهم ... ومخاريق بأيدي لاعبينا(6/192)
كأن ثيابنا منا ومنهم خضبن بأرجوان أو طلينا
إذا ما عي بالإسناف حي ... من الهول المشبه أن يكونا
نصبنا مثل رهوة ذات حد ... محافظة وكنا السابقينا
بشبان يرون القتل مجدا ... وشيب في الحروب مجربينا
حديا الناس كلهم جميعا ... مقارعة بينهم عن بنينا
فأما يوم خشينا عليهم ... فتصبح خيلنا عصبا ثبينا
وأما يوم لا نخشى عليهم ... فنمعن غارة متلببينا
برأس من بني جشم بن بكر ... ندق به السهولة والحزونا
ألا لا يعلم الأقوام أنا ... تضعضعنا وأنا قد ونينا
ألا لا يجهلن أحد علينا ... فنجهل فوق جهل الجاهلينا
بأي مشية عمرو بن هند ... نكون لقيلكم فينا قطينا
بأي مشية عمرو بن هند ... تطيع بنا الوشاة وتزدرينا
تهددنا وتوعدنا رويدا ... متى كنا لمك مقتوينا
فإن قناتنا يا عمرو أعيت ... على الأعداء قبلك أن تلينا
إذا عض الثقاف بها اشمأزت ... وولته عشوزنة زبونا
فهل حدثت في جشم بن بكر ... بنقص في خطوب الأولينا
ورثنا مجد علقمة بن سيف ... أباح لنا حصون المجد دينا
ورثت مهلهلا والخير منه ... زهير نعم ذخر الذاخرينا(6/193)
وعتابا وكلثوما جميعا ... بهم نلنا تراث الأكرمينا
وذا البرة الذي حدث عنه ... به نحمى ونحمي الملتجينا
ومنا قبله الساعي كليب ... فأي المجد إلا قد ولينا
متى نعقد قرينتنا بحبل ... تجد الحبل أو تقص القرينا
ونوجد نحن أمنعهم ذمارا ... وأوفاهم إذا عقدوا يمينا
ونحن غداة أوقد في خزازى ... رفدنا فوق رفد الرافدينا
وكنا الأيمنين إذا التقينا ... وكان الأيسرين بنو أبينا
فصالوا صولة فيمن يليهم ... وصلنا صولة فيمن يلينا
فآبوا بالنهاب وبالسبايا ... وأبنا بالملوك مصفدينا
إليكم يا بني بكر إليكم ... ألما تعرفوا منا اليقينا
ألما تعلموا منا ومنكم ... كتائب يطعن ويرتمينا
علينا البيض واليلب اليماني ... وأسياف يقمن وينحنينا
علينا كل سابغة دلاصٍ ... ترى فوق النطاق لها غضونا
إذا وضعت عن الأبطال يوما ... رأيت لها جلود القوم جونا
كأن غضونهن متون غدر ... تصفقها الرياح إذا جرينا
وتحملنا غداة الروع جرد ... عرفن لنا نقائذ وافتلينا
وردن دوارعا وخرجن شعثا ... كأمثال الرصائع قد بلينا
ورثناهن عن آباء صدق ... ونورثها إذا متنا بينينا
على آثارنا بيض حسان ... نحاذر أن تقسم أو تهونا(6/194)
ظعائن من بني جشم بن بكر ... خلطن بميسم حسبا ودينا
يقتن جيادنا ويقلن لستم ... بعولتنا إذا مل تمنعونا
أخذن على بعولتهن عهدا ... إذا لاقوا كتائب معلمينا
ليستلبن أفراسا وبيضا ... وأسرى في الحديد مقرنينا
ترانا بارزين وكل حي ... قد اتخذوا مخافتنا قرينا
وإنا العاصمون بكل كحل ... وإنا الباذلون لمجتدينا
وإنا المانعون لمن يلينا ... إذا ما البيض فارقت الجفونا
كأنا والسيوف مسللات ... ولدنا الناس طرا أجمعينا
يدهدهن الرؤس كما يدهدي ... حزاورة بأبطحها الكرينا
وقد علم القبائل من معد ... إذا قبب بأبطحابنينا
بأنا الطامعون إذا قدرنا ... وأنا المهلكون إذا ابتلينا
وأنا المانعون لما أردنا ... وأنا النازلون بحيث شينا
وأنا التاركون إذا سخطنا ... وأنا الآخذون إذا رضينا
وأنا العاصمون إذا أطعنا ... وأنا العازمون إذا عصينا
ونشرب إن وردنا الماء صفوا ... ويشرب غيرنا كدرا وطينا
ألا أبلغ بني الطماح عنا ... ودعميا فكيف وجدتمونا
إذا ما الملك سام الناس خسفا ... أبينا أن نقر الخسف فينا
ملآنا البر حتى ضاق عنا ... وظهر البحر نملأه سفينا
لنا الدنيا ومن أضحى عليها ... ونبطش حين نبطش قادرينا(6/195)
إذا بلغ الفطام لنا صبي ... تخر له الجبابر ساجدينا
نخبة من معلقة الحارث بن حلزة اليشكري
وأتانا من الحوادث والأن ... باء خطب نعنى به ونساء
أن إخوننا الأراقم يغلو ... ن علينا في قيلهم وإحفاء
يخلطون البري منا بذي الذن ... ب ولا ينفع الخلي الخلاء
زعموا أن كل من ضرب العي ... ر موال لنا وأنا الولاء
أجمعوا أمرهم عشاء فلما ... أصبحوا أصبحت لهم ضوضاء
من مناد ومن مجيب ومن تص ... هال خيل خلال ذاك رغاء
أيا الناطق المرقش عنا ... عند عمرو وهل لذاك بقاء
لا تخلنا على غراتك إنا ... قبلما قد وشى بنا الأعداء
فبقينا على النشاءة تنمي ... نا حصون وعزة قعساء
قبل ما اليوم بيضت بعيون النماس فيها تغيظ وإباء
فكأن المنون تردي بنا أر ... عن جونا ينجاب عنه العماء
مكفهرا على الحوادث لا تر ... توه للدهر مؤيد صماء
إرمي بمثله جالت الخي ... ل وتأبى لخصمها الإجلاء
ملك مقسط وأفضل من يم ... شي ومن دون ما لديه الثناء
أيما خطة أردتم فأدو ... ها إلينا تسعى بها الأملاء
إن نبشتم ما بني ملحة فالصا ... قب فيه الأموات والحياء
أو نقشتم فالنقش يحشمه النا ... س وفيه الإسقام والإبراء(6/196)
أو سكتم عنا فكنا كمن أغ ... مض عينا فيها جفنها الأقذاء
أو منعتم ما تسألون فمن حدمثتموه له علينا العلاء
هل علمتم أيام ينهب النا ... س غوارا لكل حي عواء
إذا رفعنا الجمال من سعف البح ... رين سيرا حتى نهاها الحساء
ثم ملنا على تميم فأحرم ... نا وفينا بنات قوم إماء
لا يقيم العزيز بالبلد السه ... ل ولا ينفع الذليل النجاء
ليس ينجي الذي يوائل منا ... رأس طود وحرة رجلاء
ملك أضرع البرية لا يو ... جد فيها لما لديه كفاء
كنكاليف قومنا إذ غزا المن ... ذر هل نحن لابن هند رعاء
ما أصابوا من تغلبي فمطلو ... ل عليه إذا أصيب العفاء
أيها الناطق المبلغ عنا ... عند عمرو وهل لذاك انتهاء
من لنا عنده من الخير آيا ... ت ثلاث في كلهن القضاء
آية شارق الشقيقة إذ جا ... ءت معد لكل حي لواء
حول قيس مستلئمين بكبش ... قرظي كأنه عبلاء
وصتيت من العواتك لا تن ... هاه إلا مبيضة رعلاء
فرددناهم بطعن كما يخ ... رج من خربة المزاد الماء
وحملناهم على حزم ثهلا ... ن شلالا ودمي النساء
وجبهناهم بطعن كما تن ... هز في جمة الطوي الدلاء
وفعلنا بهم كما علم الله وما إن للحائنين دماء(6/197)
ثم حجرا أعني ابن أم قطام ... وله فارسية خضراء
أسد في اللقاء ورد هموس ... وربيع إن شمرت غبراء
وفككنا غل امرئ القي عنه ... بعدما طال حبسه والعناء
ومع الجون جون آل بني الأو ... س عنود كأنها دفواء
ما جزعنا تحت العجاجة إذ ولوا شلالا وإذا تلظى الصلاء
وأقدناه رب غسان بالمن ... ذر كرها إذ لا تكال الدماء
وأتيناهم بتسعة أملا ... ك كرام أسلابهم أغلاء
وولدنا عمرو بن أم إياس ... من قريب لما أتانا الحباء
مثلها تخرج النصيحة للقو ... م فلاة من دونها أفلاء
فاتركوا الطيخ والتعدي وإما ... تتعاشوا ففي التعاشي الداء
واذكروا حلف ذي المجاز وما قدم فيه العهود والكفلاء
حذر الجور والتعدي وهل ين ... قض ما في المهارق الأهواء
وأعلموا أننا وإياكم في ... ما اشترطنا يوم احتلفنا سواء
عنناً باطلاً وظلماً كما تع ... تر عن حجرة الربيض الظباء
أعلينا جناح كندة أن يغ ... نم غازيهم ومنا الجزاء
أم علينا جرى إياد كما ني ... ط بجون المحمل الأعباء
ليس منا المضربون ولا قي ... س ولا جندل ولا الحذاء
وثمانون من تميم بأيدي ... هم رماح صدورهن القضاء(6/198)
تركوهم ملحبين وآبوا ... بنهاب يصم منها الحداء
أم علينا جرى حنيفة أم ما ... جمعت من محارب غبراء
أم علينا جرى قضاعة أو لي ... س علينا فيما جنوا أنداء
ثم جاءوا يسترجعون فلم تر ... جع لهم شامة ولا زهراء
لم يحلوا بني زراح ببرقا ... ء نطاع لهم عليهم دعاء
ثم فاؤا منهم بقاصمة الظهر ولا يبرد الغليل الماء
ثم خيل من بعد ذاك مع العملاق لا رأفة ولا إبقاء
وهو الرب والشهيد على يو ... م الحيارين والبلاء بلاء
نخبة من معلقة عنتر بن شداد العبسي
هلا سألت الخيل يا ابنة مالك ... إن كنت جاهلة بما لم تعلمي
إذا لا أزال على راحلة سابح ... نهد تعاوره الكماة مكلم
طورا يجرد للطعان وتارة ... يأوي إلى حصد القسي عرمرم
يخبرك من شهد الوقيعة أنني ... أغشى الوغى وأعف عند المغنم
ومدجج كره الكماة نزاله ... لا ممعن هربا ولا مستسلم
جادت يداي له بعاجل طعنة ... بمثقف صدق الكعوب مقوم
فشككت بالرمح الأصم ثيابه ... ليس الكريم على القنا بمجرم
فتركته جزر السباع ينشنه ... يقضمن حسن بنانه والمعصم
مشك سابغة هتكت فروجها ... بالسيف عن حامي الحقيقة معلم
ربذ يداه بالقداح إذا شتا ... هتاك غايات التجار ملوم(6/199)
لما رآني قد نزلت أريده ... أبدى نواجذه بغير تبسم
عهدي به مد النهار كأنما ... خضب البنان ورأسه العظلم
فطعنته بالرمح ثم علوته ... بمهند صافي الحديدة مخدم
بطل كأن ثيابه فس سرحة ... يحذى نعال السبت ليس بتوأم
نبئت عمرا غير شاكر نعمتي ... والكفر مخبثة لنفس المنعم
ولقد حفظت وصاة عمي بالضحى ... إذ تقلص الشفتان عن وضح الفم
في حومة الحرب التي لا تشتكي ... غمراتها الأبطال غير تغمغم
إذ يتقون بي الأسنة لم أخم ... عنها ولكني تضايق مقدمي
لما رأيت القوم أقبل جمعهم ... يتذامرون كررت غير مذمم
يدعون عنتر والرماح كأنها ... أشطان بئر في لبان الأدهم
مازلت أرميهم بثغرة نحره ... ولبانه حتى تسربل بالدم
فازور من وقع القنا بلبانه ... وشكا إلي بعبرة وتحمحم
لو كان يدري ما المحاورة اشتكى ... ولكان لو علم الكلام مكلمي
ولقد شفى نفسي وأبرأ سقمها ... قيل الفوارس ويك عنتر أقدم
والخيل تقتحم الخبار عوابسا ... من بين شيظمة وأجرد شيظم
ذلل ركابي حيث شئت مشايعي ... لبي وأحفزه بأمر مبرم
ولقد خشيت بأن أموت ولم تكن ... للحرب دائرة على ابني ضمضم
الشاتمي عرضي ولم أشتمهما ... والناذرين إذا لم القهما دمي
إن يفعلا فلقد تركت أباهما ... جزر السباع وكل نسر قشعم(6/200)
لامية العرب
أقيموا بني أمي صدور مطيكم ... فإني إلى قوم سواكم لأميل
فقد حمت الحاجات والليل مقمر ... وشدت لطيات مطايا وأرحل
وفي الأرض منأى للكريم عن الأذى ... وفيها لمن خاف القلى متعزل
لعمرك ما بالأرض ضيق على امرئ سرى راغبا أو راهبا وهو يعقل
ولي دونكم أهلون سيد عملس ... وأرقط زهلول وعرفاء جيأل
وهم الأهل لا مستودع السر ذائع ... لديهم ولا الجاني بما جر يخذل
ولك أبي باسل غير أنني ... إذا عرضت أولى الطرائد أبسل
وإن مدت الأيدي إلى الزاد لم أكن ... بأعجلهم إذ أجشع القوم أعجل
وما ذاك إلا بسطة عن تفضل ... عليهم وكان الأفضل المتفضل
وإني كفاني فقد من ليس جازيا ... بحسني ولا في قربه متعلل
ثلاثة أصحاب فؤاد مشيع ... وأبيض إصليت وصفراء عطيل
إذا زل عنها السهم حنت كأنها ... مرزأة عجلى ترن وتعول
ولست بمهياف يعشي سوامه ... مجدعة سقبانها وهي بهل
ولا جباء أكهى مرب بعرسه ... يطالعها في شأنه كيف يفعل
ولا خرق هيق كأن فؤاده ... يظل به المكاء يعلو ويسفل
ولا خالف دارية متغزل ... يروح ويغدو داهنا يتكحل
ولست بعل شره دون خيره ... ألف إذا ما رعته اهتاج أعزل(6/201)
ولست بمحيار الظلام إذا انتحت ... هدى الهوجل العسيف يهماء هوجل
إذا الأمعز الصوان لاقى مناسمي ... تطاير منه قادح ومفلل
أديم مطال الجوع حتى أميته ... وأضرب عند الذكر صفحا فأذهل
وأستف ترب الأرض كيلا يرى له ... علي من الطول امرؤ متطول
ولولا اجتناب الذأم لم يلف مشرب ... يعاش به إلا لدي ومأكل
ولكن نفسا مرة لا تقيم بي ... على الضيم إلا ريثما أتحول
وأطوي على الخمص الحوايا كما انطوت ... خيوطة ماري تغاري وتفتل
وأغدو على القوت الزهيد كما غدا ... أزل تهادله التنائف أطحل
غدا طاويا يعارض الريح هافيا ... يخوت بأذناب الشعاب ويعسل
فلما لواه القوت من حيث أمه ... دعا فأجابته نظائر نحل
مهلهملة شيب الوجوه كأنها ... قداح بكفي ياسر تتقلقل
أو الخشرم المبعوث حثحت دبره ... محا بيض أرداهن سام معسل
مهرته فوه كأن شدوقها ... شقوق العصي كالحات وبسل
فضج وضجت بالبراح كأنها ... وإياه نوح فوق علياء ثكل
وأغضى وأغضت واتسى واتست به ... مراميل عزاها وعزته مرمل
شكا وشكت ثم ارعوى بعد وارعوت ... وللصبر إن لم ينفع الشكو أجمل
وفاء وفاءت بادرات وكلها ... على نكظ مما يكاتم مجمل
وتشرب أسآري القطا الكدر بعدما ... سرت قربا أحناؤها تتصلصل
هممت وهمت وابتدرنا وأسدلت ... وشمر مني فارط متمهل(6/202)
فوليت عنها وهي تكبو لعقره ... يباشره منها ذقون وحوصل
كأن وغاها حجرتيه وحوله ... أضاميم من سفر القبائل نزل
توافين من شتى إليه فضمها ... كما ضم أذواج الأصاريم منهل
فعبت غشاشا ثم مرت كأنها ... مع الصبح ركب من أحاظة مجفل
وآلف وجه الأرض عند افتراشها ... بأهدأ تنبيه سناسن قحل
وأعدل منحوضا كأن فصوصه ... كعاب دحاها لاعب فهي مثل
فإن تبتئس بالشنفرى أم قسطل ... لما اغتبطت بالشنفرى قبل طول
طريد جنايات تياسرن لحمه ... عقيرته لأيها حم أول
تنام إذا ما نام يقظى عيونها ... حثاثا إلى مكروهه تتغلغل
وإلف هموم ما تزال تعوده ... عيادا كحمى الربع أو هي أثقل
إذا وردت أصدرتها ثم إنها ... تثوب فتأتي من تحيت ومن عل
فإما تريني كابنة الرمل ضاحيا ... على رقة أحفى ولا أتنعل
فإني لمولى الصبر أجتاب بزه ... على مثل قلب السمع والحزم أنعل
وأعدم أحيانا وأغنى وإنما ... ينال الغنى ذو البعدة المتبذل
فلا جزع من خلة متكشف ... ولا مرح تحت الغنى أتخيل
ولا تزدهي الأجهال حلمي ولا أرى ... سؤولا بأعقاب الأقاويل أنمل
وليلة نحس يصطلي القوس ربها ... وأقطعه اللاتي بها يتنبل
دعست على غطش وبغش وصحبتي ... سعار وإرزيز ووجر وأفكل
فأيمت نسوانا وأيتمت ولدة ... وعدت كما أبدأت والليل أليل(6/203)
وأصبح عني بالغميضاء جالسا ... فريقان مسؤل وآخر يسأل
فقالوا لقد هرت بليل كلابنا ... فقلنا أذئب عس أم عس فرعل
فلم تك إلا نبأة ثم هومت ... فقلنا قطاة ريع أم ريع أجدل
فإن يك من جن لأبرح طارقا ... وإن يك إنساً ما كها الإنس تفعل
ويوم من الشعرى يذوب لعابه ... أفاعيه في رمضائه تتململ
نصبت له وجهي ولا كن دونه ... ولا ستر إلا الأتحمي المرعيل
وضاف إذا هبت له الريح طيرت ... لبائد عن أعطافه ما ترجل
وحرق كظهر الترس قفر قطعته ... بعاملتين ظهره ليس يعمل
وألحقت أولاه بأخراه موفيا ... على قنة أقعي مرارا وأمثل
ترود الأراوي الضخم حولي كأنها ... عذارى عليهن الملأ المذيل
ويركدن بالآصال حولي كأنني ... من العصم أدفى ينتحي الكيح أعقل
نخبة من لامية العجم للطغرائي*
أصالة الرأي صانتني عن الخطل ... وحلية الفضل زانتني لدى العطل
مجدي أخيرا ومجدي أولا شرع ... والشمس رأد الضحى كالشمس في الطفل
فيم الإقامة بالزوراء لا سكني ... بها ولا ناقتي فيها ولا جملي
ناء عن الأهل صفر الكف منفردٌ ... كالسيف عري متناه من الخلل
فلا صديق إليه مشتكي حزنى ... ولا أنيس إليه منتهى جذلي
طال اغترابي حتى حن راحلتي ... ورحلها وقرى العسالة الذبل(6/204)
وضج من لغب نضوي وعج لما=يلقى ركابي ولج الركب في عذلي
أريد بسطة كف أستعين بها ... على قضاء حقوق للعلى قبلي
والدهر يعكس آمالي ويقنعني ... من الغنيمة بعد الكد بالقفل
حب السلامة يثني هم صاحبه ... عن المعالي ويغري المرء بالكسل
فإن جنحت إليه فاتخذ نفقا ... في الأرض أو سلما في الجو فاعتزل
ودع عمار العلى للمقدمين على ... ركوبها واقتنع منهن بالبلل
يرضى الذليل بخفض العيش يخفضه ... والعز بين رسيم الأنيق الذلل
فادرأ بها في نحور البيد حافلة ... معارضات مثاني اللجم بالجدل
إن العلى حدثتني وهي صادقة ... فيما تحدث أن العز في النقل
لو أن في شرف المأوى بلوغ منى ... لم تبرح الشمس يوما دارة الحمل
أهبت بالحظ لو ناديت مستمعا ... والحظ عني بالجهال في شغل
لعله إن بدا فضلي ونقصهم ... لعينه نام عنهم أو تنبه لي
أعلل النفس بالآمال أرقبها ... ما أضيق العيش لولا فسحة الأمل
لم ارتض العيش والأيام مقبلة ... فكيف أرضى وقد ولت على عجل
غالى بنفسي عرفاني بقيمتها ... فصنتها عن رخيص القدر مبتذل
وعادة النصل أن يزهو بجوهره ... وليس يعمل إلا في يدي بطل
ما كنت أوثر أن يمتد بي زمني ... حتى أرى دولة الأوغاد والسفل
تقدمتني أناس كان شوطهم ... وراء خطوي إذا أمشي على مهل
هذا جزاء امرئ أقرانه درجوا ... من قبله فتمنى فسحة الأجل(6/205)
وإن علاني من دوني فلا عجب=لي أسوة بانحطاط الشمس عن زحل
فاصبر لها غير محتل ولا ضجر ... في حادث الدهر ما يغني عن الحيل
أعدى عدوك أدنى من وثقت به ... فحاذر الناس واصحبهم على دخل
وإنما رجل الدنيا وواحدها ... من لا يعول في الدنيا على رجل
غاض الوفاء وفاض الغدر وانفرجت ... مسافة الخلف بين القول والعمل
وحسن ظنك بالأيام معجزة ... فظن شرا وكن منها على وجل
وشان صدقك عند الناس كذبهم ... وهل يطابق معوج بمعتدل
إن كان ينجع شيء في ثباتهم ... على العهود فسبق السيف للعذل
يا واردا سؤر عيش كله كدر ... أنفقت عمرك في أيامك الأول
فيم اعتراضك لج البحر تركبه ... وأنت يكفيك منه مصة الوشل
ملك القناعة لا يخشى عليه ولا ... تحتاج فيه إلى الأنصار والخول
ترجو البقاء بدار لا ثبات لها ... فهل سمعت بظل غير منتقل
ويا خبيرا على الأسرار مطلعا ... أنصت ففي الصمت منجاة من الزلل
قد رشحوك لأمر إن فطنت له ... فاربأ بنفسك أن ترعى مع الهمل
قصيدة النابغة يعتذر بها إلى النعمان وكان قد جفاه
يا دار مية في العلياء فالسند ... أقوت وطال عليها سالف الأبد
وقفت فيها أصيلانا أسائلها ... عيت جوابا وما بالربع من أحد
إلا أواري لأيا ما أبينها ... والنؤي كالحوض بالمظلومة الجلد(6/206)
خلت سبيل أتي كان يحبسه ... ورفعته إلى السجفين فالنضد
أضحت خلاء وأضحى أهلها احتملوا ... أخنى عليها الذي أخنى على لبد
فعد عما مضى إذ لا ارتجاع له ... وانم القتود على عيرانة أجد
مقذوفة بدخيس النحض بازلها ... له صريف صريف القعو بالمسد
كأن رحلي وقد زال النهار بنا ... بذي الجليل على مستأنس وحد
من وحش وجرة موشي أكارعه ... طاوي المصير كسيف الصقيل الفرد
سرت عليه من الجوزاء سارية ... تزجي المشال عليه جامد البرد
فارتاع من صوت كلاب فبات له ... طوع الشوامت من خوف ومن صرد
فبثهن عليه واستمر به ... صمع الكعوب بريئات من الحرد
فهاب ضمران منه حيث يوزعه ... طعن المعارك عند المحجر النجد
شك الفريصة بالمدرى فأنقذها ... شك المبيطر إذ يشفي من العضد
كأنه خارجا من جنب صفحته ... سفود شرب نسوه عند مفتأد
فظل يعجم أعلى الروق منقبضا ... في حالك اللون صدق غير ذي أود
لما رأى واشق إقعاص صاحبه ... ولا سبيل إلى عقل ولا قود
قالت له النفس إني لا أرى طمعا ... وإن مولاك لم يسلم ولم يصد
فتلك تبلغني النعمان إن له ... فضلا على الناس في الأدنى وفي البعد
ولا أرى فاعلا في الناس يشبهه ... وما أحاشي من الأقوام من أحد
إلا سليمان إذ قال الإله له ... قم في البرية فاحددها عن الفند
وخيس الجن إني قد أذنت لهم ... يبنون تدمر بالصفاح والعمد(6/207)
فمن أطاع أعقبه بطاعته ... كما أطاعك واد لله على الرشد
ومت عصاك فعاقبه معاقبة ... تنهى المظلوم ولا تقد على ضمد
إلا لمثلك أو من أنت سابقه ... سبق الجواد إذا استولى على الأمد
فلا لعمر الذي قد زرته حججا ... وما هريق على الأنصاب من جسد
ما إن أتيت بشيء أنت تكرهه ... إذا فلا رفعت سوطي إلي يدي
إذا فعاقبني ربي معاقبة ... قرت بها عين من يأتيك بالحسد
هذا لأبرأ من قول قذفت به ... طارت نوافذه حرى على كبدي
مهلا فداء لك الأقوام كلهم ... وما أثمر من مال ومن ولد
لا تقذفني بركن لا كفاء له ... ولو تأثفك الأعداء بالرفد
فما الفرات إذا جاشت غواربه ... ترمي أواذيه العبرين بالزبد
يمده كل واد مزبد لجب ... فيه حطام من الينبوت والخضد
يظل من خوفه الملاح معتمصاً ... بالخيزرانة بعد الأين والنجد
يوما بأجود منه سيب نافلة ... ولا يحول عطاء اليوم دون غد
أنبئت أن أبا قابوس أوعدني ... ولا قرار على زأر من الأسد
هذا الثناء فإن تسمع لقائله ... فما عرضت أبيت اللعن بالصفد
ها إن تا عذرة إن لم تكن نفعت ... فإن صاحبها قد تاه في البلد
نخبة من قصيدة الأعشى ميمون بن قيس بن جندل
أبلغ يزيد بني شيبان مألكةً ... أبا ثبيتٍ أما تنفك تأتكل
الست منتهيا من نحت أثلتنا ... ولست ضائرها ما أطت الإبل(6/208)
تغري بنا رهط مسعود وإخوته ... يوم اللقاء فيردي ثم تعتزل
كناطح صخرة يوما ليفلقها ... فلم يضرها وأوهى قرنه الوعل
لا أعرفنك إن جدت عداوتنا ... والتمس النصر منكم عوض تحتمل
تلحم أبناء ذي الجدين إن غضبوا ... أرماحنا ثم تلقاهم وتعتزل
لا تقعدن وقد أكلتها حطبا ... تعوذ من شرها يوما وتبتهل
سائل بني أسد عنا فقد علموا ... أن سوف يأتيك من أبنائنا شكل
واسأل قشيراً وعبد الله كلهم ... واسأل ربيعة عنا كيف نفتعل
إنا نقاتلهم حتى نقتلهم ... عند اللقاء وإن جاروا وإن جهلوا
قد كان في آل كهف إن هم احتربوا ... والجاشرية من يسعى وينتضل
إني لعمر الذي حطت مناسمها ... تخدي وسيق إليه الباقر الغيل
لئن قتلتم عميدا لم يكن صددا ... لنقتلن مثله منكم فنمتثل
وإن منيت بنا في ظل معركة ... لا تفلنا من دماء القوم ننتقل
لا ينتهون ولن ينهى ذوي شطط ... كالطعن يهلك فيه الزيت والفتل
حتى يظل عميد القوم مرتفقا ... يدفع بالراح عنه نسوة عجل
أصابه هندواني فأقصده ... أو ذابل من رماح الخط معتدل
كلا زعمتم بأنا لا نقاتلكم ... إنا لأمثالكم يا قومنا قتل
نحن الفوارس يوم الحنو ضاحية ... جنبي فطيمة لا ميل ولا عزل
قالوا الطراد فقلنا تلك عادتنا ... أو تنزلون فإنا معشر نزل
قد نخضب العير من مكنون فائله ... وقد يشيط على أرماحنا البطل(6/209)
الباب الثامن في المراثي
رثاء أعرابية لابنها
أيا ولدي قد زاد قلبي تلهبا ... وقد حرقت مني الشؤون المدامع
وقد أضرمت نار المصيبة شعلة ... وقد حميت مني الحشا والأضالع
وأسأل عنك الركب هل يخبرونني ... بحالك كيما تستكن المضاجع
فلم يك فيهم مخبر عنك صادق ... ولا فيهم من قال إنك راجع
فيا ولدي مذ غبت كدرت عيشتي ... فقلبي مصدوع وطرفي دامع
وفكري مسقوم وعقلي ذاهب ... ودمعي مسفوح وداري بلاقع
لكعب بن سعد الغنوي في أخيه أبي المغوار
تتابع أحداث تخر من إخوتي ... فشيبن رأسي والخطوب تشيب
لعمري لئن كانت أصابت منية ... أخي والمنايا للرجال شعوب
لقد كان أما حلمه فمروح ... علي وأما جهله فغريب
أخي ما أخي لا فاحش عند بيته ... ولا ورع عند اللقاء هيوب
أخ كان يكفيني وكان يعينني ... على النائبات السود حين تنوب
حليم إذا ما سورة الجهل أطلقت ... حبي الشيب للنفس اللجوج غلوب
هو العسل الماذي حلما وشيمة ... وليث إذا لاقى العداة قطوب
هوت أمه ما يبعث الصبح غاديا ... وماذا يؤدي الليل حين يؤوب(6/210)
هوت أمه ماذا تضمن قبره ... من المجد والمعروف حين يثيب
أخو سنوات يعلم الضيف أنه ... سيكثر ما في قدره ويطيب
حبيب إلى الزوار غشيان بيته ... جميل المحيا شب وهو أديب
إذا قصرت أيدي الرجال عن العلى ... تناول أقصى المكرمات كسوب
جموع خلال الخير من كل جانب ... إذا حل مكروه بهن ذهوب
مفيد لملقى الفائدات معاود ... لفعل الندى والمكرمات ندوب
وداع دعا يا من يجيب إلى الندى ... فلم يستجبه عند ذاك مجيب
فقلت ادع أخرى وارفع الصوت جهرة ... لعل أبا المغوار منك قريب
يجبك كما قد كان يفعل إنه ... بأمثاله رحب الذراع أريب
أتاك سريعا واستجاب إلى الندى ... كذلك قبل اليوم كان يجيب
فتى ما يبالي أن تكون بجسمه ... إذا حال حالات الرجال شحوب
إذا ما تراءى للرجال رأيته ... فلم ينطقوا اللغواء وهو قريب
على خير ما كان الرجال رأيته ... وما الخير إلا طعمة ونصيب
حليف الندى يدعو الندى فيجيبه ... سريعا ويدعوه الندى فيجيب
غياث لعان لم يجد من يغثه ... ومختبط يغشى الدخان غريب
عظيم رماد النار رحب فناؤه ... إلى سند لم تحتجبه عيوب
حليم إذا لم الحلم زين أهله ... مع الحلم في عين العدو مهيب
غنينا بخير حقبة ثم حجت ... علينا التي كل الأنام تصيب
فأبقت قليلا ذاهبا وتجهزت ... لآخر والراجي الحياة كذوب(6/211)
وأعلم أن الباقي الحي منهم ... إلى أجل أقصى مداه قريب
لقد أفسد الموت الحياة وقد أتى ... على يومه علق علي جنيب
فإن تكن الأيام أحسن مرة ... إلي فقد عادت لهن ذنوب
وإني لباكيه وإني لصادق ... عليه وبعض القائلين كذوب
فلوك كانت الدنيا تباع اشتريته ... بها إذ به كان النفوس تطيب
فوالله لا أنساه ما ذر شارق ... وما اهتز بي فرع الأراك قضيب
قال دريد بن الصمة في مقتل أخيه عبد الله
تنادوا فقالوا أردت الخيل فارسا ... فقلت أعبد الله ذلكم الردي
فإن يك عبد الله خلى مكانه ... فما كان وقافا ولا طائش اليد
دعاني أخي والخيل بيني وبينه ... فلما دعاني لم يجدني بقعدد
فجئت إليه والرماح تنوشه ... كوقع الصياصي في النسيج الممدد
فطاعنت عنه الخيل حتى تنفست ... وحتى علاني حالك اللون أسود
فما رمت حتى خرقتني رماحهم ... وغودرت أكبو في القنا المتقصد
قتال امرئ آسى أخاه بنفسه ... ويعلم أن المرء غير مخلد
كميش الإزار خارج نصف ساقه ... بعيد عن الآفات طلاع أنجد
قليل التشكي للمصيبات حافظ ... من اليوم أعقاب الأحاديث في غد
سليم الشظى عبل السوابح والشوى ... طويل القنا نهد نبيل المقلد
يفوت طويل القوم عقد عذاره ... منيف كجذع النخلة المتجرد
له كل من يلقى من الناس واحد ... وإن يلق مثنى القوم يفرح ويزدد(6/212)
تراه خميص البطن والزاد حاضر ... عتيد ويغدو في القميص المقدد
وإن مسه الإقواء والجهد زاده ... سماحا وإتلافا لما كان في اليد
صبا ما صبا حتى علا الشيب رأسه ... فلما علاه قال للباطل ابعد
وطيب نفسي أنني لم أقل له ... كذبت ولم أبخل بما ملكت يدي
لما دفن المهلهل أخاه كليبا قام على قبره يرثيه
أهاج قذاء عيني الاذكار ... هدوءا فالدموع لها انحدار
وصار الليل مشتملا علينا=كأن الليل ليس له نهار
وبت أراقب الجوزاء حتى ... تقارب من أوائلها انحدار
أصرف مقلتي في إثر قوم ... تباينت البلاد بهم فغاروا
وأبكي والنجوم مطلعات ... كان لم تحوها عني البحار
على من لو نعيت وكان حيا ... لقاد الخيل يحجبها الغبار
دعوتك يا كليب فلم تجبني ... وكيف يجيبني البلد القفار
أجبني يا كليب خلاك ذم ... ضنينات النفوس لها مزار
أجبني يا كليب خلاك ذم ... لقد فجعت بفارسها نزار
سقاك الغيث إنك كنت غيثا ... ويسرا حين يلتمس اليسار
أبت عيناني بعدك أن تكفا ... كأن قذى القتاد لها شفار
وإنك كنت تحلم عن رجال ... وتعفو عنهم ولك اقتدار
وتمنع أن يمسهم لسان ... مخافة من يجير ولا يجار
كأني إذ نعى الناعي كليبا ... تطاير بين جنبي الشرار(6/213)
فدرت وقد عشي بصري عليه ... كما دارت بشاربها العقار
سألت الحي أين دفنتموه ... فقالوا لي بسفح الحي دار
فسرت إليه من بلدي حثيثا ... وطار النوم وامتنع القرار
وحادت ناقتي عن ظل قبر ... ثوى فيه المكارم والفخار
لدى أوطان أروع لم يشنه ... ولم يحدث له في الناس عار
أتغدوا يا كليب معي إذا ما ... جبان القوم أنجاه الفرار
أتغدوا يا كليب معي إذا ما ... حلوق القوم يشحذها الشفار
خذ العهد الأكيد علي عمري ... بتركي كل ما حوت الديار
ولست بخالع درعي وسيفي ... إلى أن يخلع الليل النار
وإلا أن تبيد سارة بكر ... فلا يبقى لها أبداً إثار
وقال مالك بن الريب التميمي يرثي نفسه ويصف قبره. وكان قد خرج مع سعيد بن عفان أخي عثمان لما ولي خراسان، فلما كان ببعض الطريق أراد أن يلبس خفه فإذا بأفعى فيه فلسعته فلما أحس بالموت أنشأ يقول
دعاني الهوى من أهل أود وصحبتي ... بذي الطبسين فالتقت ورائيا
أجبت الهوى لما دعاني بزفرة ... تقنعت منها أن ألام ردائيا
ألم ترني بعت الضلالة بالهدى ... وأصبحت في جيش ابن عفان غازيا
لعمري لئن غالت خراسان هامتي ... لقد كنت عن بابي خراسان نائيا
فلله دري يوم أترك طائعا ... بني بأعلى الرقمتين وماليا
ودر الظباء السانحات عيشة ... يخبرن أني هالك من أماميا
تفقدت من يبكي علي فلم أجد ... سوى السيف والرمح الرديني باكيا(6/214)
وأشفر خنذيذ يجر عنانه ... إلى الماء لم يترك له الموت ساقيا
ولما تراءت عند مرو منيتي ... وحل بها حسمي وحانت وفاتيا
أقول لأصحابي ارفعوني فإنني ... يقر بعيني أن سهيل بداليا
فيا صاحبي رحلي دنا الموت فانزلا ... برابية إني مقيم لياليا
أقيما علي اليوم أو بعض ليلة ... ولا تعجلاني قد تبين ما بيا
وقوما إذا ما استل روحي فهيئا ... لي السدر والأكفان ثم ابكيانيا
ولا تحسداني بارك الله فيكما ... من الأرض ذات العرض أن توسعا ليا
وخطا بأطراف الأسنة مضجعي ... وردا على عيني فضل ردائيا
خذاني فجراني ببردي إليكما ... فقد كنت قبل اليوم صعبا قياديا
وقد كنت عطافاً إذا الخيل أدبرت ... سريعا لدى الهيجا إلى من دعانيا
وقد كنت محموداً لدى الزاد والقرى ... وعن شتم ابن العم والجار وانيا
وقد كنت صباراً على القرن في الوغى ... ثقيلا على الأعداء عضبا لسانيا
وطورا تراني في ضلال ومجمع ... وطورا تراني والعتاق ركابيا
وطورا تراني في رحى مستديرة ... تخرق أطراف الرماح ثيابيا
وقوما على بئر الشبيك فاسمعا ... بها الوحش والبيض الحسان الروانيا
بأنكما خلفتماني بقفرة ... تهيل علي الريح فيها السوافيا
ولا تنسيا عهدي خليلي بعدما ... تقطع أوصالي وتبلى عظاميا
فلن يعدم الولدان مني تحيتي ... ولن يعدم الميراث مني مواليا
يقولون لا تبعد وهم يدفنونني ... وأين مكان البعد إلا مكانيا(6/215)
غداة غد يا لهف نفسي على غد ... إذا أدلجوا عني وخلفت ثاويا
وأصبح ما لي من طريف وتالد ... لغيري وكان المال بالأمس ماليا
وبالرمل مني نسوة لو شهدنني ... بكين وفدين الطبيب المداويا
فمنهن أمي وابنتاها وخالتي ... وباكية أخرى تهيج البواكيا
وما كان عهد الرمل مني وأهله ... ذميما ولا ودعت بالرمل قاليا
فيا ليت شعري هل بكت أم مالك ... كما كنت لو عالوا بنعيك باكيا
إذا مت فاعتادي القبور وسلمي ... على الريم أسقيت الغمام الغواديا
تري جدثا قد جرت الريح فوقه ... غبارا كلون القسطلاني هابيا
فيا راكبا إما عرضت فبلغن ... بني مالك والريب أن لا تلاقيا
وبلغ أخي عمران بردي ومئزري ... وبلغ عجوزي اليوم أن لا تدانيا
وسلم على شيخي مني كليهما ... كثيرا وعمي وابن عمي وخاليا
وعطل قلوصي في الركاب فإنما ... ستبرد أكبادا وتبكي بواكيا
أقلب طرفي فوق رحلي فلا أرى ... به من عيون المؤنسات مراعيا
وقال متمم بن نويرة اليربوعي يرثي أخاه مالكا
لعمري وما دهري بتأبين مالك ... ولا جزع مما أصاب فأوجعا
لقد كفن المنهال تحت ردائه ... فتى غير مبطان العشيات أروعا
لبيب أعان اللب منه سماحة ... خصيب إذا ما راكب الجدب أوضعا
أغر كنصل السيف يهتز للندى ... إذا لم تجد عند امرئ السوء مطمعا
وما كان وقافا إذا الخيل أحجمت ... ولا طالبا من خشية الموت مفزعا(6/216)
ولا بكهام ناكلٍ عن عدوه ... إذا هو لاقى حاسر أو مقنعا
إذا ضرس الغزو الرجال وجدته ... أخا الحرب صدقا في اللقاء سميدعا
أقول وقد طار السنا في ربابه ... بجون تسح الماء حتى تريعا
تحيته مني وإن كان نائيا ... وأمسى ترابا فوقه الأرض بلقعا
فكنا كندماني جذيمة حقبة ... من الدهر حتى قيل لن يتصدعا
فلما تفرقنا كأني ومالكا ... لطول اجتماع لم نبت ليلة معا
وفقد بني أمي تولوا ولم أكن ... خلافهم أن أستكين فأخضعا
ولكنني أمضي على ذاك مقدما ... إذا بعض من يلقى الخطوب تضعضها
قعيدك أن لا تسمعيني ملامة ... ولا تنكئي جرح الفؤاد فيجعا
وحسبك أني قد جهدت فلم أجد ... بكفي عنه للمنية مدفعا
سقى الله أرضا حلها قبر مالك ... رهام الغوادي المزجيات فأمرعا
لشبل بن معبد البجلي يرثي بنيه وكانوا أصيبوا بالطاعون
أتى دون حلو العيش حتى أمره ... نكوب على آثارهن نكوب
تتابعن في الأحباب حتى أبدنهم ... فلم يبق منهم في الديار غريب
برتني صروف الدهر من كال جانب ... كما تبترى دون اللحاء عسيب
فأصبحت إلا رحمة الله مفرداً ... لدى الناس صبراً والفؤاد كئيب
إذا رد قرن الشمس عللت بالأسى ... ويأوي إلي الحزن حين يؤوب
ونام خلي البال عني ولم أنم ... كما لم ينم نائي الفناء غريب
فقلت لأصحابي وقد قذفت بنا ... نوى غربة عمن يحب شطوب(6/217)
متى العهد بالأهل الذين تركتهم ... لهم في فؤادي بالعراق نصيب
فما ترك الطاعون في ذي قرابة ... إليه إذا حان الإياب نؤوب
فقد أصبحوا لا دارهم منك غربة ... بعيد ولا هم في الحياة قريب
وكنت ترجي أن تؤوب إليهم ... فغالتهم من دون ذاك شعوب
وإنا وإياهم كوادر منهل ... على حوضه بالباكيات نهيب
إليه تناهينا ولو حال دونه ... مياه رواء كلهن شروب
فهون عني بعض وجدي أنني ... رأيت المنايا تغتدي وتؤب
ولسنا بأحيا منهم غير أننا ... إلى أجل ندعى له فنجيب
وإني إذا ما شئت لاقيت أسوة ... تكاد لها نفس الحزين تطيب
فتى كان ذا أهل ومال فلم يزل ... بد الدهر حتى صار وهو حريب
وكيف عزاء المرء عن أهل بيته ... وليس له في الغابرين حبيب
متى يذكروا يفرح فؤادي لذكرهم ... ويسجم دمع بينهن نحيب
دموع سراها الشجو حتى كأنها ... جداول تجري بينهن غروب
إذا ما أردت الصبر هاج لي البكا ... فؤاد إلى أهل القبور طروب
فوجدي بأهلي وجدها غير أنهم ... شباب يزنون الندى ومشيب
قصيدة أبي ذؤيب الهذلي وهو خويلد بن خالد وكان له أولاد سبعة فماتوا كلهم إلا طفلاً فقال يرثيهم
أمن المنون وريبها تتوجع ... والدهر ليس بمعتبٍ من يجزع
قالت إمامة ما لجسمك شاحبا ... منذ ابتذلت ومثل مالك ينفع(6/218)
ولقد حرصت بأن أدافع عنهم ... وإذا المنية أقبلت لا تدفع
وإذا المنية أنشبت أظفارها ... ألفيت كل تميمة لا تنفع
فالعين بعدهم كأن جفونها ... كحلت بشوك فهي عور تدمع
وتجلدي للشامتين أريهم ... أني لريب الدهر لا أتضعضع
حتى كأني للحوادث مروة ... نصف المشقر كل يوم تقرع
لابد من تلف مقيم فانتظر ... أبأرض قومك أو بأخرى المضجع
ولقد أرى أن البكاء سفاهة ... ولسوف يولع بالبكا من يفجع
وليأتين عليك يوما مرة ... يبكي عليك معنفا لا تسمع
فلئن بهم فجع الزمان وريبه ... إني بأهل مودتي لمفجع
وقال في الطفل الذي بقي له
والنفس راغبة إذا رغبتها ... وإذا ترد إلي قليل تقنع
قال الأصمعي: هذا أفضل بيت قالته العرب.
عينية علي بن جبلة في حميد الطوسي
أللدهر تبكي أم على الدهر تجزع ... وما صاحب الأيام إلا مفجع
ولو سهلت عنك الأسى كان في الأسى ... عزاء معز للبيب ومقنع
تعز بما عزيت غيرك إنها ... سهام المنايا حائمات ووقع
أصبنا بيوم في حميد لو أنه ... أصاب عروش الدهر ظلت تضعضع
وأدبنا ما أدب الناس قبلنا ... ولكنه لم يبق للصبر موضع
ألم تر للأيام كيف تصرمت ... به وبه كانت تذاد وتدفع(6/219)
وكيف التقى مثوى من الأرض ضيق ... على جبل كانت به الأرض تمنع
ولما انقضت أيامه انقضت العلى ... وأضحى به أنف الندى وهو أجدع
وراح عدو الدين جذلان ينتحي ... أماني كانت من حشاه تقطع
وكان حميد معقلا ركعت به ... قواعد ما كانت على الضيم تركع
وكنت أراه كالرزايا رزئتها ... ولم أدر أن الخلق تبكيه أجمع
لقد أدركت فينا المنايا بثأرها ... وحلت بخطب وهيه ليس يرفع
نعاء حميداً للسرايا إذا غدت ... تذاد بأطراف الرماح وتوزع
وللمرهق المكروب ضاقت بأمره ... فلم يدر في حوملتها كيف يصنع
وللبيض خلتها البعول ولم يدع ... لها غيره داعي الصباح المفزع
كأن حميدا لم يقد جيش عسكر ... إلى عسكر أشياعه لا تروع
ولم يبعث الخيل المغيرة بالضحى ... مراحا ولم يرجع بها وهي ظلع
رواجع يحملن النهاب ولم تكن ... كتائبه إلا على النهب ترجع
هوى جبل الدنيا المنيع وغيثها ال ... مريع وحاميها الكمي المشيع
وسيف أمير المؤمنين ورمحه ... ومفتاح باب الخطب والخطب أفظع
فأقنعه من ملكه ورباعه ... ونائله قفر من الأرض بلقع
على أي شجو تشتكي النفس بعده ... إلى شجوه أو يذخر الدمع مدمع
ألم تر أن الشمس حال ضياؤها ... عليه وأضحى لونها وهو أسفع
وأوحشت الدنيا وأودى بهاؤها=وأجدب مرعاها الذي كان يمرع
وقد كانت الدنيا به مطمئنة ... فقد جعلت أوتادها تتقلع(6/220)
بكى فقده روح الحياة كما بكى ... نداه الندى وابن السبيل المدفع
وأيقظ أجفانا وكان لها الكرى ... ونامت عيون لم تكن قبل تهجع
انشد أبو محمد الليثي في يزيد بن مزيد
أحق أنه أودى يزيد ... فبين أيها الناعي المشيد
أحامي الملك والإسلام أودى ... فما الأرض ويحك لا تميد
تأمل هل ترى الإسلام مالت ... دعائمه وهل شاب الوليد
أما هدت لمصرعه نزار ... بلى وتقوض المجد المشيد
وجل ضريحه إذ حل فيه ... طريف المجد والمجد تليد
فمن يحمي حمى الإسلام أم من ... يذب عن المكاره أو يذود
وأين يؤم منتجع ولاج ... وأين تحط أرحلها الوفود
فلو قبل الفداء فداه منا ... بمهجته المسود والمسود
أبعد يزيد تختزن البواكي ... دموعا أو تصان له الخدود
وإن تجمد دموع لئيم قوم ... فليس لدمع ذي حسب جمود
وإن يك غاله دهرٌ لما قد ... يفادى من مخافته الأسود
فإن يك عن خلود قد دعنه ... مآثره فكان لها الخلود
فما أودى امرؤٌ أودى وأبقى ... لوارثه مكارم لا تبيد
ليبكك خامل ناداك لما ... تواكله الأقارب والبعيد
ويبكك شاعر لم يبق دهر ... له نشبا وقد كسد القصيد
وأصيب المجد والإسلام لما ... أصابك بالردى سهم شديد(6/221)
لقد زى ربيعة أن يوما ... عليها مثل يومك لا يعود
ومثلك من قصدن له المنايا ... بأسهمها وهن له جنود
سقى جدثاً أقام به يزيد ... من الوسمي بسام رعود
ليذهب من أراد فلست آسى على من مات بعدك يا يزيد
وقال صفي الدين الحلي يرثي الملك ناصر الدين عمر
بكى عليك الحسام والقلم ... وانفجع العلم فيك والعلم
وضجت الأرض فالعباد بها ... لاطمة والبلاد تلتطم
تظهر أحزانها على ملك ... جل ملوك الورى له خدم
أبلج غض الشباب مقتبل ال ... عمر ولكن مجده هرم
محكم في الورى وآمله ... يحكم في ماله ويحتكم
ويجتمع المجد والثناء له ... وماله في الوفود يقتسم
قد سئمت جوده الأنام ولا ... يلقاه من بذله الندى سأم
ما عرفت منه لا ولا نعم ... بل دونهن الآلاء والنعم
الواهب الألف وهو مبتسم ... والقاتل الألف وهو مقتحم
مبتسم والكماة عابسةٌ ... وعابس والسيوف تبتسم
يستصغر الغضب أن يصول به ... إن لم تجرد من قبله الهمم
ويستخف القناة يحملها ... كأنها في يمينه قلم
لم يعلم العالمون ما فقدوا ... منه ولا الأقربون ما عدموا
ما فقد فرد من الأنام كمن ... إن مات ماتت لفقده أمم(6/222)
والناس كالعين إن نقدتهم ... تفاوتت عن نقدك القيم
يا طالب الجود قد قضى عمر ... فكل جود وجوده عدم
ويا منادي الندى ليدركه ... أقصر ففي مسمع الندى صمم
مضى الذي كان للأنام أبا ... فاليوم كل الأنام قد يتموا
وسار فوق الرقاب مطرحاً ... وحوله الصافنات تزدحم
مقلبات السروج شاخصةً ... لها زفير ذابت به اللجم
وحل دارا ضاقت بساكنها ... ودون أدنى دياره إرم
كأنه لم يطل إلى رتب ... تقتصر من دون نيلها الهمم
ولم يهمد للملك قاعدة ... بها عيون العقول تحتلم
ولم تقبل له الملوك يدا ... ترغب في سلمها فتستلم
ولم يقد للحروب أسد وغى ... تسري بها من رماحها أجم
أين الذي كان للورى سنداً ... ورحب أكنافه لها حرم
أين الذي إن سرى إلى بلدٍ ... لا ظلم يبقى به ولا ظلم
أين الذي يحفظ الزمام لنا ... إن حفزت عند غيره الذمم
يا ناصر الدين وابن ناصره ... ومن به في الخطوب يعتصم
وصاحب الرتبة التي وطئت ... لها على هامة السهى قدم
يثني عليك الورى وما شهدوا ... من السجايا إلا بما علموا
يبكيك مألوفك التقى أسفاً ... وصاحباك العفاف والكرم(6/223)
لأبي تمام في محمد بن الفضل الحميري
ريب دهر أصم دون العتاب ... مرصد بالأوحال والأوصاب
جف در الدنيا فقد أصبحت تك ... تال أرواحنا بغير حساب
إن ريب الزمان يحسن أن يه ... دي الرزيا إلى ذوي الأحساب
فلهذا يجف بعد اخضرار ... قبل روض الوهاد روض الروابي
لم تدر عينه عن الحمس ... ضعضعت ركن حمير الأرباب
بطشت منهم بلؤلؤة الغ ... واص حسنا ودمية المحراب
بالصريح الصيرح والأورع الأر ... وع منهم وباللباب اللباب
ذهبت يا محمد الغر من أيامك الواضحات أي ذهاب
عبس اللحد والثرى منك وجها ... غير ما عابس ولا قطاب
أطفأ اللحد والثرى لبك المس ... رج في وقت ظلمة الألباب
وتبدلت منزلا ظاهر الجد ... ب يسمى مقطع الأسباب
يا شهابا خبا لآل عبيد الل ... هـ أعزز بفقد هذا الشهاب
زهرة غضة تفتح عنها ال ... مجد في منبت أنيق الجناب
خلق كالمدام أو كرضاب ال ... مسك أو كالعبير أو كالملاب
وحياء ناهيك في غير عي ... وصبا مشرق بغير تصابي
أنزلته الأيام عن ظهرها من ... بعد إثبات رجله في الركاب
حين سامى الشباب واغتدت الدن ... يا عليه مفتوحة الأبواب(6/224)
وحكى الصارم المحلى سوى أم ... ن حلاه جواهر الآداب
وهو غض الآراء والحزم خرق ... ثم غض النوال غض الشباب
قصدت نحوه المنية حتى ... وهبت حسن وجهه للتراب
ولحبيب يرثي القاسم طوق
جوى ساروا الأحشاء والقلب واغله ... ودمع يضيم العين والجفن هامله
وفاجع موت لا عدو يخافه ... فيبقى ولا يلقى صديقا يجامله
وأي أخي عزاء أو جبرية ... ينابذه أو أي رام يناضله
إذا ما جرى مجرى دم المرء حكمه ... وبثت على طرق النفوس حبائله
سنشكوه إعلانا سرا ونية ... شكية من لا يستطيع يقاتله
فمن مبلغ عني ربيعة أنه ... تقشع طل الجود منها ووابله
وأن الحجى منها استطارت صدوعه ... وأن الندى منها أصيبت مقاتله
مضى للزيال القاسم الواهب اللهى ... ولو لم يزايلنا لكنا نزايله
ولم تعلموا أن الزمان يريده ... بفجع ولو أن المنايا تراسله
فتى سيط حب المكرمات بلحمه ... وخامره حق السماح وباطله
فتى لم يذق سكر الشباب ولم تكن ... تهب شمالا للصديق شمائله
فتى جاءه مقداره واثنتا العلى ... يداه وعشر المكرمات أنامله
فتى ينفح الأيام من طيب ذكره ... ثناء كأن العنبر الورد شامله
لقد فجعت عتابه وزهيره ... وتغلبه أخرى الليالي ووائله
وكان لهم غيثا وعلما لمعدم ... فيسأله أو باحث فيسائله(6/225)
ومبتدر المعروف تسري هباته ... إليهم ولا تسري إليه مغوائله
فتى لم تكن تغلي الحقود بصدره ... وتغلي لأضياف الشتاء مراجله
وكن سجاياه يضيف ضيوفه ... ويرجى مرجيه ويسأل سائله
طواه الردى طي الرداء وغيبت ... فضائله عن قومه وفواضله
طوى شيما كانت تروح وتغتدي ... وسائل من أعيت عليه وسائله
فيا عارضا للعرف أقلع مزنه ... ويا واديا للجود جفت مسائله
ألم ترني أنزفت عيني على أبي ... محمد النجم المغيب آفله
وأخضلتها فيه كما لو أتيته ... طريد الليالي أخضلتني نوافله
ولكنني أطري الحسام إذا مضى ... وإن كان يوم الروع غيري حامله
وآسى على جيحان لو غاض ماؤه ... وإن كان ذودا غير ذودي ناهله
عليك أبا كلثوم الصبر إنني ... أرى الصبر أخراه تقى وأوائله
يعادل وزنا كل شيء ولا أرى ... سوي صحة التوحيد شيئا يعادله
فأنت سنام للفخار وغارب ... وصنواك منه منكباه وكاهله
وليست أثافي القدر إلا ثلاثها ... ولا الرمح إلا لهذماه وعامله
لأبي العلاء المعري في جعفر بن الهدب
أحسن بالواجد من وجده ... صبر يعيد النار في زنده
ومن أبى في الرزء غير الأسى ... كان بكاه منتهى جهده
فليذرف الجفن على جعفر ... إذ كان لم يفتح على نده
والشيء لا يكثر مداحه ... إلا إذا قيس إلى ضده(6/226)
ليس الذي يبكى على وصله ... مثل الذي يبكى على صده
والطرف يرتاح إلى غمضه ... وليس يرتاح إلى سهده
كان الأسى فرضا لو أن الردى ... قال لنا افدوه فلم نفده
هل هو إلا طالع للهدى ... سار من الترب إلى سعده
فبات أدنى من يد بيننا ... كأنه الكوكب في بعده
يا دهر يا منجز إيعاده ... ومخلف المأمول من وعده
أي جديد لك لم تبله ... وأي أقرانك لم ترده
تستأسر العقبان في جوها ... وتنزل الأعصم من فنده
أرى ذوي الفضل وأضدادهم ... يجمعهم سيلك في مده
إن لم يكن رشد الفتى نافعا ... فغيه انفع من رشده
تجربة الدنيا وأفعالها حثت أخا الزهد على زهده
إن زماني برزاياه لي ... صيرني أمرح في قده
كأننا في كفه ماله ... ينفق ما يختار من نقده
لو عرف الإنسان مقداره ... لم يفخر المولى على عبده
أضحى الذي أجل في سنه ... مثل الذي عوجل في مهده
ولا يبالي الميت في قبره ... بذمه شيع أم حمده
والواحد المفرد في حتفه ... كالحاشد المكثر من حشده
وحالة الباكي لآبائه ... كحالة الباكي على ولده
ما رغبة الحي بأبنائه ... عما جنى الموت على جده(6/227)
ومجده أفعاله لا الذي ... من قبله كان ولا بعده
لولا سجاياه وأخلاقه ... لكان كالمعدوم في وجده
تشتاق أيار نفوس الورى ... وإنما الشوق إلى ورده
تدعو بطول العمر أفواهنا ... لمن تناهى القلب في وده
يسر إن مد بقاء له ... وكل ما يكره في مده
أفضل ما في النفس يغتالها ... فنستعيذ الله من جنده
كم صائن عن قبلة خده ... سلطت الأرض على خده
وحامل ثقل الثرى جيده ... وكان يشكو الضعف من عقده
ورب ظمآن إلى مورد ... والموت لو يعلم في ورده
ومرسل الغارة مبثوثة ... من أدهم اللون ومن ورده
يخوض بحرا نقعه ماؤه ... يحمله السابح في لبده
أشجع من قلب خطية ... على طويل الباع ممتده
يرى وقوع الزرق في درعه ... مثل وقوع الزرق في جلده
لا يصل الرمح في طرفه ... ولا إلى المحكم من سرده
يلقى عليه الطعن إلقاءك ال ... حسب على المسرع في عقده
بلحظة منه فما دونها ... يرد غرب الجيش عن قصده
أمهله الدهر فأودى به ... مبيضه يحدى بمسوده
فيا أخا المفقود في خمسة ... كالشهب ما سلاك عن فقده
جاءك هذا الحزن مستجديا ... أجرك في الصبر فلا نجده(6/228)
سلم إلى الله فكل الذي ... ساءك أو سرك من عنده
لا يعدم الأسمر في غابه ... حتفا ولا الأبيض في غمده
إن الذي الوحشة في داره ... تؤنسه الرحمة في لحده
لا أوحشت دارك من شمسها ... ولا خلا غابك من أسده
ولأبي العلاء المعري في فقيه حنفي
غير مجد في ملتي واعتقادي ... نوح باك ولا ترنم شاد
وشبيه صوت النعي إذا قي ... س بصوت البشير في كل ناد
أبكت تلكم الحمامة أم عن ... ت على فرع غصنها المياد
صاح هذي قبورنا تملأ الرح ... ب فأين القبور من عهد عاد
خفف الوطأ ما أظن أديم ال ... أرض إلا من هذه الأجساد
وقبيح بنا وإن قدم العه ... د هوان الآباء والأجداد
سران استطعت في الهواء رويدا ... لا اختيالا على رفات العباد
رب لحد قد صار لحدا مرارا ... ضاحك من تزاحم الأضداد
ودفين على بقايا دفين ... في طويل الأزمان والآباد
تعب كلها الحياة فما أع ... جب إلا من راغب في ازدياد
إن حزنا في ساعة الموت أضعا ... ف سرور في ساعة الميلاد
خلق الناس للبقاء فضلت ... أمة يحسبونهم للنفاد
إنما ينقلون من دار أعما ... ل إلى دار شقوة أو رشاد
ضجعة الموت رقدة يستريح ال ... جسم فيها والعيش مثل السهاد(6/229)
أبنات الهديل أسعدن أوعد ... ن قليل العزاء بالإسعاد
فتسلبن واستعرن جميعا ... من قميص الدجى ثياب حداد
ثم غردن في المآتم واندب ... ن بشجو مع الغواني الخراد
قصد الدهر من أبي حمزة الأو م اب مولى حجى وخدن اقتصاد
وفقيها أفكاره شدن للنع ... مان ما لم يشده شعره زياد
فالعراقي بعده للحجازي م قليل الخلاف سهل القياد
وخطيبا لو قام بين وحوش ... علم الضاريات بر النقاد
راويا للحديث لم يحوج المع ... روف من صدقه إلى الإسناد
أنفق العمر ناسكا يطلب العل ... م بكشف عن أصله وانتقاد
مستقي الكف من قليب زجاج ... بغروب اليراع ماء مداد
ذا بنان لا تلمس الذهب الأح ... مر زهدا في العسجد المستفاد
ودعا أيها الحفيان ذاك الم ... شخص إن الوداع أيسر زاد
واغسلاه بالدمع إن كان طهرا ... وادفناه بين الحشى والفؤاد
واحبواه لأكفان من ورق المص ... حف كبرا عن أنفس الأبراد
واتلوا النعش بالقراءة والتس ... بيح لا بالنحيب والتعداد
أسف غير نافع واجتهاد ... لا يؤدي إلى غناء اجتهاد
طالما أخرج الحزين جوى الحز ... ن إلى غير لائق بالسداد
كيف أصبحت في محلك بعدي ... يا جديرا مني بحسن افتقاد
قد أقر الطبيب عنك بعجز ... وتقضى تردد العواد(6/230)
وانتهى اليأس منك واستشعر الو ... جد بأن لا معاد حتى معاد
هجد الساهرون حولك للتم ... ريض وريح لأعين الهجاد
لا يغيركم الصعيد وكونوا ... فيه مثل السيوف في الأغماد
فعزيز علي خلط الليالي ... رم أقدامكم برم الهوادي
كنت خل الصبا فلما أراد ال ... بين وافقت رأيه في المراد
ورأيت الوفاء للصاحب الأو م ل من شيمة الكريم الجواد
وخلعت الشباب غضا فيا لي ... تك أبليته مع الأنداد
فاذهبا خير ذاهبين حقيقي ... ن بسقيا روائح وغواد
ومراث لو أنهن دموع ... لمحون السطور في الإنشاد
فليكن للمحسن الأجل المم ... دود رغما لآنف الحساد
وليطب عن أخيه نفسا وأبنا ... ء أخيه جرائح الكباد
وإذا البحر غاض عني ولم أرْ ... وَفلا ري بادخار الثماد
كل بيت للهدم ما تبتني الو ... قاء والسيد الرفيع العماد
واللبيب اللبيب من ليس يغت ... ر بكون مصيره للفساد
قال أبو الطيب المتنبي يرثي أبا شجاع فاتك
الحزن يقلق والتجمل يردع ... والدمع بينهما عصي طيع
يتنازعان دموع عين مسهد ... هذا يجيء بها وهذا يرجع
النوم بعد أبي شجاع نافر ... والليل معي والكواكب ظلع
إني لأجبن من فراق أحبتي ... وتحسن نفسي بالحمام فأشجع(6/231)
ويزيدني غضب الأعادي قسوة ... ويلم بي عب الصديق فأجزع
تصفو الحياة لجاهل أو غافل ... عما مضى منها وما يتوقع
ولمن يغالط في الحقائق نفسه ... ويسومها طلب المحال فتطمع
أين الذي الهرمان من بنيانه ... ما قومه ما يومه ما المصرع
تتخلف الآثار عن أصحابها ... حينا ويدركها الفناء فتتبع
لم يرض قبل أبي شجاع مبلغ ... فبل الممات ولم يسعه موضع
كنا نظن دياره مملوءة ... ذهبا فمات وكل دار بلقع
وإذا المكارم والصوارم والقنا ... وبنات أعوج كل شيء يجمع
المجد أخسر والمكارم صفقة ... من أن يعيش بها الكريم الأروع
والناس أنزل في زمانك منزلا ... من أن تعايشهم وقدرك أرفع
برد حشاي إن استطعت بلفظة ... فلقد تضر إذا تشاء وتنفع
ما كان منك إلى خليل قبلها ... ما يستراب به ولا ما يوجع
ولقد أراك وما تلم ملمة ... إلا نفاها عنك قلب أصمع
ويد كأن قتالها ونواها ... فرض يحق عليك وهو تبرع
يا من يبدل كل يوم حلة ... أنى رضيت بحلة لا تنزع
مازلت تخلعها على من شاءها ... حتى لبست اليوم ما لا تخلع
ما زلت تدفع كل أمر فادح ... حتى أتى المر الذي لا يدفع
فظللت تنظر لا رماحك شرع ... فيما عراك ولا سيوفك قطع
بأبي الوحيد وجيشه متكاثر ... يبكي ومن شر السلاح الأدمع(6/232)
وإذا حصلت من السلاح على البكا ... فحشاك رعت به خدك تقرع
وصلت إليك يد سواء عندها ال ... باز الأشيهب والغراب الأبقع
من للمحافل والجحافل والسرى ... فقدت بفقدك نيرا لا يطلع
ومن اتخذت على الضيوف خليفة ... ضاعوا ومثلك لا يكاد يضيع
فتحا لوجهك يا زمان فإنه ... وجه له من كل لؤم برقع
أيموت مثل أبي شجاع فاتك ... ويعيش حاسده الخصي الأوكع
أيد مقطعة حوالي رأسه ... وقفا يصيح بها ألا من يصفع
أبقيت أكذب كاذب أبقيته ... وأخذت أصدق من يقول ويسمع
وتركت أنتن ريحةٍ مذمومةٍ ... وسلبت أطيب ريحةٍ تتضوع
فاليوم قرَّ لكل وحش نافر ... دمه وكان كأنه يتطلع
وتصالحت ثمر السياط وخيله ... وأوت إليها سوقها وأذرع
وعفا الطراد فلا سنان راعف ... فوق القناة ولا حسام يلمع
ولى وكل مخالم ومنادم ... بعد اللزوم مشيع ومودع
من كان فيه لكل قوم ملجأ ... ولسيفه في كل قوم مرتع
إن حل في فرس ففقيها ربها ... كسرى تذل له الرقاب وتخضع
قد كان أسرع فارس في طعنة ... فرسا ولكن المنية أسرع
لا قلبت أيدي الفوارس بعده ... رمحاً ولا حملت جوادا أربع(6/233)
وله أيضا يرثي والدة سيف الدولة وقد توفيت بميافارقين وجاءه الخبر بموتها إلى حلب
نعد المشرفية والعوالي ... وتقتلنا المنون بلا قتال
ونرتبط السوابق مقربات ... وما ينجين من خبب الليالي
ومن لم يعشق الدنيا قديما ... ولكن لا سبيل إلى الوصال
نصيبك في حياتك من حبيب ... نصيبك من منامك من خيال
رماني الدهر بالأرزاء حتى ... فؤادي في غشاء من نبال
فصرت إذا أصابني سهام ... تكسرت النصال على النصال
وهان فما أبالي بالرزايا ... لأني ما انتفعت بأن أبالي
وهذا أول الناعين طرا ... لأول ميتة في ذا الجلال
كأن الموت لم يفجع بنفس ولم يخطر لمخلوق ببال
صلاة الله خالقنا حنوط ... على الوجه المكفن بالجمال
على المدفون قبل الترب صونا ... وقبل اللحد في كرم الخلال
فإن له ببطن الأرض شخصا ... جديدا ذكرناه وهو بالي
وما أحد يخلد في البرايا ... بل الدنيا تؤول إلى زوال
أطاب النفس أنك مت موتا ... تمنته البواقي والخوالي
وزلت ولم تري يوما كريها ... يسر الروح فيه بالزوال
رواق العز حولك مسبطرٌّ ... وملك علي ابنك في كمال
سقى مثواك غاد في الغوادي ... نظير نوال كفك في النوال(6/234)
أسائل عن بعدم كل مجد ... وما عهدي بمجد عنك خالي
يمر بقبرك العافي فيبكي ... ويشغله البكاء عن السؤال
وما أهداك للجدوى عليه ... لو أنك تقدرين على فعال
بعيشك هل سلوت فإن قلبي ... وإن جانبت أرضك غير سال
نزلت على الكراهة في مكان ... بعدت عن النعامى والشمال
تحجب عنك رائحة الخزامي ... وتمنع منك أنداء الطلال
بدار كل ساكنها غريب ... طويل الهجر منبت الحبال
حصان مثل ماء المزن فيه ... كتوم السر صادقة المقال
يعللها نطاسي الشكايا ... وواحدها نطاسي المعالي
إذا وصفوا له داء بثغر ... ساقه أسنة الأسل الطوال
وليست كالإناث ولا اللواتي ... تعد لها القبور من الحجال
ولا من في جنازتها تجار ... يكون وداعها نفض النعال
مشى الأمراء حوليها حفاة ... كأن المرو من زف الرئال
وأبرزت الخدور مخبآت ... يضعن النقس أمكنة الغوالي
أتتهن المصيبة غافلات ... فدمع الحزن في دمع الدلال
ولو كان النساء كمن فقدنا ... لفضلت النساء على الرجال
وما التأنيث لاسم الشمس عيب ... ولا التذكير فخر للهلال
وأفجع من فقدنا من وجدنا ... قبيل الفقد مفقود المثال
يدفن بعضنا بعضا وتمشي أواخرنا على هام الأوالي(6/235)
أسيف الدولة استنجد بصبر ... وكيف بمثل صبرك للجبال
فأنت تعلم الناس التعزي ... وخوض الموت في الحرب السجال
وقال يرثي جدته وكانت بئست منه لطول غيبته فكتب إليها كتابا فلما وصلها قبلته وحمت من وقتها لما غلب من السور فماتت
ألا لا أري الأحداث حمدا ولا ذما ... فما بطشها جهلا ولا كفها حلما
إلى مثل ما كان الفتى مرجع الفتى ... يعود كما أبدي ويكري كما أرمي
لك الله من مفجوعة بحبيبها ... قتيلة شوق غير ملحقها وصما
أحن إلى الكأس التي شربت بها ... وأهوى لمثواها التراب وما ضما
بكيت عليها خيفة في حياتها ... وذاق كلانا ثكل صاحبه قدما
ولو قتل الهجر المحبين كلهم ... مضى بلد باق أجدت له صرما
عرفت الليالي قبل ما صنعت بنا ... فلما دهتني لم تزدني بها علما
أتاها كتابي بعد يأس وترحة ... فمات سرورا بي فمت بها هما
حرام على قلبي السرور فإنني ... أعد الذي ماتت به بعدها سما
تعجب من خطي ولفظي كأنها ... ترى بحروف السطر أغربة عصما
وتلثمه حتى أصار مداده ... محاجر عينيها وأنيابها سحما
رقا دمعها الجاري وجفت جفونها ... وفارق حبي قلبها بعدما أدمى
ولم يسلها إلا المنايا وإنما ... أشد من السقم الذي أذهب السقما
طلبت لها حظا ففاتت وفاتني ... وقد رضيت بي لو رضيت لها قسما
فأصبحت أستسقي الغمام لقبرها ... وقد كنت أستسقي الوغى والقنا الصما(6/236)
وكنت قبيل الموت أستعظم النوى ... فقد صارت الصغرى التي كانت العظمى
مبيني أخذت الثار فيك من العدى ... فكيف بأخذ الثار فيك من الحمى
وما انسدت الدنيا علي لضيقها ... ولكن طرفا لا أراك به أعمى
فوا أسفا أن لا أكب مقبلا ... لرأسك والصدر الذي ملئا حزما
وأن لا ألاقي روحك الطيب الذي ... كان ذكي المسك كان له جسما
ولو لم تكوني بنت أكرم والد ... لكان أباك الضخم كونك لي أما
لئن لذ يوم الشامتين بيومها ... فقد ولدت مني لآنافهم رغما
تغرب لا مستعظما غير نفسه ... ولا قابلا إلا لخالقه حكما
ولا سالكا إلا فؤاد عجاجة ... ولا واجد إلا لمكرمة طعما
يقولون لي ما انت في كل بلدة ... وما تبتغي ما ابتغي جل أن يسمى
كأن بينهم عالمون بأنني ... جلوب إليهم من معادنه اليتما
وما الجمع بين الماء والنار في يدي ... بأصعب من أن أجمع الجد والفهما
ولكني مستنصر بذبابه ... ومرتكب في كل حال به الغشما
وجاعله يوم اللقاء تحيتي ... وإلا فلست السيد البطل القرما
إذا قل عزمي عن مدى خوف بعده ... فأبعد شيء ممكن لم يجد عزما
وإني لمن قوم كأن نفوسنا ... بها أنف أن تسكن اللحم والعظما
كذا أنا يا دنيا إذا شئت فاذهبي ... ويا نفس زيدي في كرائهها قدما
فلا عبرت بي ساعة لا تعزني ... ولا صحبتني مهجة تقبل الظلما(6/237)
الباب التاسع في الفخر
قال طرفة يفتخر في قومه
سائلوا عنا الذي يعرفنا ... بقوانا يوم تحلاق اللمم
يوم تبدي البيض عن أسوقها ... وتلف الخيل أعراج النعم
أجدر الناس برأس صلدمٍ ... حازمٍ المر شجاع في الوغم
كامل يحمل آلاء الفتى ... نبه سيد ساداتٍ خضم
خير حي من معد علموا ... لكفي ولجار ابن عم
يجبر المحروب فينا ماله ... ببناء وسوام وخدم
نقل للشحم في مشتاتنا ... نحرٌ للنيب طراد القرم
نزع الجاهل في مجلسنا ... فترى المجلس فينا كالحرم
وتفرعنا من ابني وائل ... هامة المجد وخرطوم الكرم
من بني بكر إذا ما نسبوا ... وبني تغلب ضرابي البهم
حين يحمي الناس تحمي سربنا ... واضحي الوجه معروفي الكرم
بحساماتٍ تراها رسباً ... في الضريبات مترات العصم
وفحول هيكلات وقحٍ ... وأعوجيات على الشأو أزم
وقنا جرد وخيل ضمر ... شزب من طول تعلاك اللجم
وشباب وكهول نهد ... كليوثٍ بين عريس الأجم(6/238)
نمسك الخيل على مكروهها ... حين لا يمسك إلا ذو كرم
نذر الأبطال صرعى بينها ... تعكف العقبان فيها والرخم
لعبيد بن الأبرص الأسدي
ولا أبتغي ود امرءٍ قل خيره ... وما أنا عن وصل الصديق بأصيد
وإني لأطفي الحرب بعد شبوبها ... وقد أوقدت للغي في كل موقد
وإني لذو رأي يعاش بفضله ... وما أنا من علم الأمور بمبتدي
إذا أنت حملت الخؤون أمانة ... فإنك قد أسندتها شر مسند
وجدت خؤون القوم كالغر يتقى ... وما خلت عم الجار إلا بمعهد
ولا تظهرن ود امرئ قبل خبره ... وبعد بلاء المرء فاذمم أو أحمد
ولا تتبعن الرأي منه تقصه ... ولكن برأي المرء ذي اللب فاقتد
ولا تزهدن في وصل أهل قرابة ... لذخر وفي وصل الأباعد فازهد
وإن أنت في مجد أصبت غنيمة ... فعد للذي صادفت من ذاك وازدد
تزود من الدنيا متاعا فإنه ... على كل حال خير زاد المزود
تمنى امرئ القيس موتي وإن أمت ... فتلك سبيل لست فيها بأوحد
لعل الذي يرجو رداي وميتتي ... سفاها وجبنا أن يكون هو الردي
فما عيش من يرجو خلافي بضائري ... ولا موت من قد مات قبلي بمخلدي
وللمرء أيام تعد وقد دعت ... حبال المنايا للفتى كل مرصد
فمن لم يمت في اليوم لابد أنه ... سيعلقه حبل المنية في غد
فقل للذي يبغي خلاف الذي مضى ... تهيأ لأخر مثلها فكأن قد(6/239)
فإنا ومن قد باد منا لكالذي ... يروح وكالقاضي البتات ليغتدي
وقال عروة بن الورد العبسي الملقب بعروة الصعاليك
فإن فاز سهم للمنية لم أكن ... جزوعاً وهل عن ذاك من متاخر
لحى الله صعلوكا إذا جن ليله ... مضى في المشاش آلفا كل مجزر
يعد الغنى من نفسه كل ليلةٍ ... أصاب قراها من صديق ميسر
ينام عشاء ثم يصبح طاويا ... يحت الحصى عن جنبه المتعفر
قليل التماس المال إلا لنفسه ... إذا هو أضحى كالعريش المجور
يعين نساء الحي لا يستعنه ... فيمسي طليحاً كالبعير المحسر
ولكن صعلوكا صحيفة وجهه ... كضوء شهاب القابس المتنور
مطلا على أعدائه يزجرونه ... بساحتهم زجر المنيح المشهر
وإن بعدوا لا يأمنون اقترابه ... تشوق أهل الغائب المتنظر
فذلك إن يلق المنية يلقها ... حميدا وإن يستغن يوما فأجدر
أيهلك معتم وزيد ولم أقم ... على ندب يوما ولي نفس مخطر
ستفزع بعد اليأس من لا يخافنا ... كواسع في أخرى السوام المنفر
يطاعن عنها أول الخيل بالقنا ... وبيض خفاف ذات لون مشهر
فيوما على نجد وغارات أهلها ... ويوم بأرض ذات شت وعرعر
يناقلن بالمشط الكرام إلى النهى ... نقاب الحجاز في السريح المسير
يريح على الليل أضياف ماجدٍ ... كريم ومالي سارحاً مال مقتر
سلي الساغب المعتر يا أم مالكٍ ... إذا ما اعتراني بين قدري ومجزري(6/240)
أأبسط وجهي إنه أول القرى ... وأبذل معروفي له دون منكري
قال حسان بن ثابت الأنصاري
لعمر أبيك الخير يا شعث مانبا ... علي لساني في الخطوب ولا يدي
لساني وسيفي صارمان كلاهما ... ويبلغ ما لا يبلغ السيف مذودي
وإن أك ذا مال كثير أجد به ... وإن يهتصر عودي على الجهد يحمد
فلا المال ينسيني حيائي وعفتي ... ولا واقعات الدهر يفللن مبردي
وأكثر أهلي من عيال سواهم ... وأطوي على الماء القراح المبرد
وإني لمعط ما وجدت وقائل ... لموقد ناري ليلة الريح أوقد
وإني لقوال لدى البث مرحبا ... وأهلاً إذا ما جاء من غير مرصد
وإني ليدعوني الندى فأجيبه ... وأضرب بيض العارض المتوقد
وإني لحلو تعتريني مرارة ... وإني لتراك لما لم أعود
وإني لمزج للمطي على الوجى ... وإني لتراك الفراش الممهد
فلا تعجلن يا قيس وأربع فإنما ... قصاراك أن تلقى بكل مهند
حسام وأرماح بأيدي أعزةٍ ... متى ترهم يا ابن الخطيم تبلد
ليوث لها الأشبال تحمي عرينها ... مداعيس بالخطي في كل مشهد
فقد لاقت الأوس القتال وأطردت ... وأنت لدى الكبات في كل مطرد
نفتكم عن العلياء أم لئيمة ... وزند متى تقدح به النار يصلد
وقال بشر بن أبي حازم الأسدي
سائل تميما في الحروب وعامرا ... وهل المجرب مثل من لم يعلم(6/241)
إنا إذا نعروا لحرب نعرة ... نشفي صداعهم بأسمر صلدم
نعلو القوانس بالسيوف ونعتزي ... والخيل مشعلة النحور من الدم
يخرجن من خلل الغبار عوابسا ... خبب السباع بكل أكلف ضيغم
من كل مسترخي النجاد منازل ... يسمو إلى الأقرن غير مقلم
ففضضن جمعهم وأدبر حاجب ... تحت العجاجة في الغبار الأقتم
وعلى عقابهم المذلة أصبحت ... نبذت بأفضح ذي مخالب جهضم
أقصدن حجرا قبل ذلك والقنا ... شرع إليه وقد أكب على الفم
ينوي محاولة القيام وقد مضت ... فيه مخارص كل لدن لهذم
ولقد خبطن بني كلاب خبطة ... ألحقنهم بدعائم المتخيم
وسلقن كعبا قبل ذلك سلقةً ... بقنا تعاوره الكف مقوم
حتى سقينا الناس كأسا مرة ... مكروهة حسواتها كالعلقم
قل للمثلم وابن هند بعده ... إن كنت رائم عزنا فاستقدم
تلق الذي لاقى العدو وتصطبح ... كأسا صبابتها كطعم العلقم
نحبو الكتيبة حين نفترش القنا ... طعنا كألهاب الحريق المضرم
ولقد حبونا عامرا من خلفه ... يوم النسار بطعنة لم تكلم
قال الفرزدق واسمه همام بن غالب التميمي
لنا العزة القعساء والعدد الذي ... عليه إذا عد الحصى يتخلف
لنا حيث آفاق البرية تلتقي ... عديد الحصى والقسور المتخندف
ومنا الذي لا تنطق الناس عنده ... ولكن هو المستأذن المتصرف(6/242)
تراهم قعودا حلوه وعيونهم ... مكسرة أبصارها ما تطرف
وبنيان بيت الله نحن ولاته ... وبيتٌ بأعلى الرامتين مشرف
ترى الناس يسيرون خلفنا ... وإن نحن أومأنا إلى الناس وقفوا
ولا عز إلا عزنا قاهر له ... ويسألنا النصف الذليل فننصف
وإن فتنوا يوما ضربنا رؤوسهم ... على الدين حتى يقتل المتألف
فإنك إن تسعى لتدرك دارماً ... لأنت المعنى يا جرير المكلف
أتطلب من عند النجوم مكانة ... بريق وعير ظهره يتقرف
وشيخين قد عاشا ثمانين حجة ... ذليلين ذا هم وذلك أعجف
عطفت عليك الحرب إني إذا ونى ... أخو الحرب كرار على القرن معطف
أتى لجرير رهط سوء أذلة ... وعرض لئيم للمخازي موقف
وجدت الثرى فينا إذا وجد الثرى ... ومن هو يرجو فضله المتضيف
ونمنع مولانا وإن كان نائيا ... بنا داره مما يخاف ويأنف
ترى جارنا فينا بخير وإن جنى ... ولا هو مما ينطف الجار ينطف
وكنا إذا نامت كلاب عن القرى ... إلى الضيف نمشي مسرعين ونخلف
وقد علم الجيران أن قدورنا ... جوامع للأرزاق والريح زفزف
ترى حولهن المعتفين كأنهم ... على صنم في الجاهلية عكف
وما قام منا قائم في ندينا ... فينطق إلا بالتي هي أعرف
وإن لمن قوم بهم يتقى الردى ... ورأب الثأي والجانب المتخوف
وأضياف ليل قد نقلنا قراهم ... إلينا فأتلفنا المنايا وأتلفوا(6/243)
وكنا إذا ما استكره الضيف بالقرى ... أتته العوالي وهي بالسم رعف
وكل قرى الأضياف نقري من القنا ... ومتعبطا منه السنام المسدف
وجدنا أعز الناس أكثرهم حصى ... وأكرمهم من بالمكارم يعرف
وكلتاهما فينا لنا حين نلتقي ... عصائب لاقى بينهن المعرف
منازيل عن ظهر القليل كثيرنا ... إذا ما دعا ذو الثورة المتردف
فقلنا الحصى عنه الذي فوق ظهره ... بأحلام جهال إذا ما تعطفوا
وجهل بحلم قد دفعنا جنونه ... وما كاد لولا عزنا يتزحلف
زججنا بهم حتى استبانوا حلومهم ... بنا بعد ما كاد القنا يتقصف
قال الأديب أبو عبد الله بن الفخار المالقي
بأي حسام أم بأي سنان ... أنازل ذاك القرن حين دعان
لئن عري اليوم الجواد لعلة ... فبالأمس شدوا سرجه لطعان
وإن عطل السهم الذي كنت رائشاً ... ففيه دم الأعداء أحمر قان
إلا إن درعي نثرة تبعية ... وسيفي صدق إن هززت يماني
وما قصبات السبق إلا لأدهمي ... إذا الخيل جالت في مجال رهان
تمنى لقائي من حللت وثاقه ... وأعطى غداة المن ذلة عان
وقد علم الأقوام من صح وده ... ومن كان منا دائم الشنآن
وما يزدهيني قول كل مموه ... وليس له بالمعضلات يدان
ويزعم أني في البيان مقصر ... ويأبى بناني واقتدار لساني
وإني اناضٌ بكل عظيمة ... يضيق عليها ذرع كل جنان(6/244)
نهضت بها وحدي وغيري مدع ... يشارك أهل القول شرك عنان
أينسى مقامي إذ أكافح دونه ... وقد طار قلب الذعر بالخفقان
ويذكر يوما قمت فيه بخطبة ... كآثار عد الماء بالسيلان
وما هو إلا المرء يقطع رأسه ... وإن دهنوه حيلة بدهان
تهاون بالإنصاف حتى أحله ... وقد كان ذا عز بدار هوان
ولو كان يعطي الزائرين حقوقهم ... لما تركوه في يد الحدثان
قال الطغرائي يفتخر
أبى الله أن أسمو غير فضائلي ... إذا ما سما بالمال كل مسود
وإن كرمت قبلي أوائل أسرتي ... فغني بحمد الله مبدأ سؤددي
يذم لأجلي المهر إن يكب مرة ... بجدي وإن ينهض بجدي يحمد
وما منصب إلا وقدري فوقه ... ولو حط رجلي بين نسر وفرقد
إذا شرفت نفس الفتى زاد قدره ... على كل أسنى منه ذكرا وأمجد
كذاك حديد السيف إن يصف جوهرا ... فقيمته أضعافه وزن عسجد
تكاد ترى من لا يقاس نجاده ... بشسعي إذا ما ضمنا صدر مشهد
وما المال إلا عارةٌ مستردة ... فهلا بفضلي كاثروني ومحتدي
إذا لم يكن لي في الولاية بسطة ... يطول بها باعي وتسطو بها يدي
ولا كان لي حكم مطاع أجيزه ... فأرغم أعدائي وكبت حسدي
فأعذر إن قصرت في حق مجتد ... وآمن أن يعتادني كيد معتد
أأكفى ولا أكفي وتلك غضاضة ... أرى دونها وقع الحسام المهند(6/245)
ولولا تكاليف العلى ومغارمٌ ... ثقال وأعقاب الأحاديث في غد
لأعطيت نفسي في التخلي مرادها ... فذاك مرادي مذ نشأت ومقصدي
من الحزم أن لا يضجر المرء بالذي ... يعانيه من مكروهة فكأن قد
إذا جلدي في الأمر خان ولم يعن ... مريرة عزمي ناب عنه تجلدي
ومن يستعن بالصبر نال مراده ... ولو بعد حين إنه غير مسعد
قال أبو تمام يفتخر بقومه
أنا ابن الذين استرضع الجود فيهم ... وقد ساد فيهم وهو كهل ويافع
نجوم طواليع جبال فوارع ... غيوثٌ هواميع سيول دوافع
مضوا وكان المكرمات لديهم ... لكثرة ما أوصوا بهن شرائع
فأي يد في المحل مدت فلم يكن ... لها راحة من جودهم وأصابع
هم استودعوا المعروف محفوظ مالنا ... فضاع وما ضاعت لدينا الودائع
بها ليل لو عاينت فيض أكفهم ... لأيقنت أن الرزق في الأرض واسع
إذا خفقت بالبذل أرواح جودهم ... حداها الندى واستنشقتها المطامع
رياح كريح العنبر الغض في الندى ... ولكنها يوم اللقاء زعازع
هي السم ما تنفك في كل بلدة ... تسيل به أرماحهم وهو ناقع
أصارت لهم أرض العدو قطائعاً ... نفوس لحد المرهفات قطائع
بكل فتى ما شاب من ورع وقعة ... ولكنه قد شبن منه الوقائع
إذا ما أغاروا فاحتووا مال معشر ... أغارت عليهم فاحتوته الصنائع
فتعطي الذي تعطيهم الخيل والقنا ... اكف لإرث المكرمات موانع(6/246)