الأب لويس شيخو اليسوعي
1859م- 1928م
أديب وصحفي ومؤرخ وباحث وناقد أدبي ولاهوتي ولغوي ورائد من رواد النهضة الأدبية والعلمية في الشرق، أنشأ مجلة (المشرق) ، وأسس المكتبة الشرقية في الجامعة اليسوعية في بيروت، وجاوزت مؤلفاته الأربعين.
ولد الأب لويس شيخو في مدينة ماردين بتركيا في 5 شباط عام 1859 وتلقى علومه الأولية فيها ثم انتقل إلى لبنان وتلقى دراسته في مدرسة (غزير) التابعة للآباء اليسوعيين في جبل لبنان، وانتظم في سلك الرهبانية اليسوعية.
سافر إلى فرنسا لمتابعة دراسته العليا في الفلسفة واللاهوت وتعلم عدة لغات منها اليونانية واللاتينية والفرنسية وتنقل في انكلترا والمانيا وايطاليا وغيرها من مراكز العلم في الغرب ودرس طريقة الغربيين في البحث والتأليف واطلع على خزائنه من كتب العرب ونسخ أمهات الكتب النادرة وتعرف إلى المستشرقين والأدباء واساتذة الجامعات، وأثناء اقامته في انكلترا درس اللغة الانكليزية واتقنها، وفي باريس عثر على تاريخ بيروت لمؤلفه صالح بن يحيى.
عاد إلى بيروت وعين مدرساً للأدب العربي في كلية القديس يوسف في بيروت وانصرف إلى التأليف ونشر عدة كتب مدرسية ودينية وصب اهتمامه على تاريخ الشرق العربي والمسيحي.
وفي عام 1898 أنشأ مجلة «المشرق» وأخذ يحررها وينشر أبحاثه العلمية والأدبية والتاريخية فيها واستمر على ادارتها مدة خمس وعشرين سنة، وأصبحت من أرقى المجلات العربية وتعتبر دائرة معارف لما احتوت من معلومات واسعة ولا تزال تصدر بعد وفاته.
ومن أهم انجازاته تأسيسه «المكتبة الشرقية» في الجامعة اليسوعية في بيروت التي زودها بنفائس الكتب المخطوطة والمطبوعة وأصبحت مرجعاً هاماً يرتادها الأدباء والعلماء والباحثون من كافة الأقطار العربية لمراجعة أبحاثهم وإغنائها بالمعلومات.
ويعتبر الأب شيخو من أكبر المفهرسين للكتب والمخطوطات ومن أهم مؤلفاته «تاريخ الآداب العربية» (1800-1825) و «تاريخ فن الطباعة في المشرق» ، و «مجاني الأدب في حدائق العرب» و «السر المصون في شيعة الفرمسون» (الماسونية) وهذا المؤلف ظهر لأول مرة عام 1909 ويعد من أهم وأوسع الكتب التي تناولت بالبحث فكرة نشوء الماسونية وتاريخها وغاياتها ونظامها وأسرارها من خلال دراسة موضوعية ورؤية لجوانبها الغامضة.
لقد وهب الأب لويس شيخو حياته وفكره لخدمة العلم والأدب والتاريخ لإغناء تراث أمته.
توفي لويس شيخو في الثامن من شهر كانون الثاني سنة 1928 وافته المنية في مدينة بيروت ودفن فيها.
من مؤلفاته:
1- المخطوطات العربية لكتبة النصرانية 1924.
2- النصرانية وآدابها بين عرب الجاهلية 1999.
3- تاريخ الآداب العربية 1991.
4- بيروت تاريخها وآثارها 1994.
5- تاريخ فن الطباعة في المشرق 1995.
6- شعراء النصرانية قبل الإسلام 1999.
7- شعراء النصرانية بعد الإسلام 1999.
8- السر المصون في شيعة الفرمسون 1909 ط ثانية 1999.
9- مجاني الأدب في حدائق العرب (6 أجزاء) .(/)
الجزء الأول
مجاني الأدب في حدائق العرب
الباب الأول في التدين والتقوى
اعتقاد وجود الله
1 إعلم أيها الإنسان أنك مخلوق ولك خالق. وهو خالق العالم وجميع ما في العالم. وأنه واحد. كان في الأزل وليس لكونه زوال. ويكون مع الأبد وليس لبقائه فناء. وجوده في الأزل والأبد واجب وما للعدم إليه سبيل. وهو موجود بذاته. وكل أحد إليه محتاج وليس له إلى أحد احتياج. وجوده به ووجود كل شيء به (للغزالي)
قدرة الله
2 إنه تعالى على كل شيء قدير. وإن قدرته وملكه في نهاية الكمال ولا سبيل إليه للعجز والنقصان. وإن السماوات السبع في قبضته وقدرته وتحت قهره وتسخيره ومشيئته. وهو مالك الملك لا ملك إلا ملكه (وله) .
علم الله
3 إنه تعالى عالم بكل معلوم وعلمه محيط بكل شيء. وليس شيء من العلى إلى الثرى إلا وقد أحاط به علمه. لأن الأشياء بعلمه ظهرت وبقدرته انتشرت. وإنه تعالى يعلم عدد رمال القفار وقطرات الأمطار وورق الأشجار وغوامض الأفكار. وإن ذرات(1/7)
الرياح والهواء في علمه ظاهرة مثل عدد نجوم السماء (وله) قال البرعي:
يرى حركات النمل في ظلم الدجى ... ولم يخف إعلان عليه وإسرار
ويحصي عديد النمل والقطر والحصى ... وما اشتملت بحر عليه وأنهار
حكمة الله وتدبيره
4 ليس من شيء قليل أو كثير صغير أو كبير زيادة أو نقصان راحة أو نصب صحة أو وصب إلا بحكمته وتدبيره ومشيئته. ولو اجتمع البشر والملائكة والشياطين على أن يحركوا في العالم ذرة أو يسكنوها أو ينقصوا منها أو يزيدوا فيها بغير إرادته وحوله وقوته لعجزوا عن ذلك ولم يقدروا. ما شاء كان وما لا يشاء لا يكون. ولا يرد مشيئته شيء. ومهما كان ويكون فإنه بتدبيره وأمره وتسخيره (للغزالي)
تقوى الله
5 قال البستي:
واشدد يديك بحبل الله معتصماً ... فإنه الركن إن خانتك أركان
وقال ابن الوردي:
واتق الله فتقوى الله ما ... جاورت قلب امرئ إلا وصل(1/8)
ليس من يقطع طرقاً بطلاً ... إنما من يتقي الله البطل
6 قال ابن عمران:
وسل الإله ولذ به لا تنسه ... فالله يذكر عبده إذ يذكره
وقال غيره:
لا تجعلن المال كسبك مفردا ... وتقى إلهك فاجعلن ما تكسب
ما أحسن ما قال أبو نواس لهارون الرشيد وقد أراد عقابه:
قد كنت خفتك ثم أمنني ... من أن أخافك خوفك الله
حمد الله تعالى
7 لك الحمد حمداً نستلذ به ذكرا=وإن كنت لا أحصي ثناءً ولا شكرا
لك الحمد حمداً طيباً يملأ السما ... وأقطارها والأرض والبر والبحرا
لك الحمد مقروناً بشكرك دائماً ... لك الحمد في الأولى لك الحمد في الأخرى
(للبرعي)
ملازمة الصلاة
8 ذكر أبو بكر الصلاة يوماً فقال: من حافظ عليها كانت له نوراً وبرهاناً ونجاة من النار. وكتب عمر إلى عماله: إن أهم أموركم عندي الصلاة. من حفظها وحافظ عليها حفظ دينه. ومن ضيعها فهو لما سواها أضيع (للشريشي) .(1/9)
ذكر الآخرة
9 إنه تعالى خلق الإنسان من نوعين من شخص وروح. وجعل الجسد منزلاً للروح لتأخذ زاداً لآخرتها من هذا العالم. وجعل لكل روح مدة مقدرة تكون في الجسد. وآخر تلك المدة هو أجل تلك الروح من غير زيادة ولا نقصان. فإذا جاء الأجل فرق بين الروح والجسد (للغزالي) 10 قال الإمام علي:
لا دار للمرء بعد الموت يسكنها ... إلا التي هو قبل الموت بانيها
وقال آخر:
وما من كاتب إلا سيفنى ... ويبقى الدهر ما كتبت يداه
فلا تكتب بكفك غير شيءٍ ... يسرك في القيامة أن تراه
(ألف ليلة وليلة) 11 عش ما شئت فإنك ميت. وأحبب ما شئت فإنك مفارقه. واعمل ما شئت فإنك مجزي به (للغزالي) .
قال أبو محفوظ الكرخي:
موت التقي حياة لا نفاد لها ... قد مات قوم وهم في الناس أحياء
وقال الشبرواي:
إذا ما تحيرت في حالة ... ولم تدر فيها الخطأ والصواب
فخالف هواك فإن الهوى ... يقود النفوس إلى ما يعاب(1/10)
12 حكي أن رجلاً حاسب نفسه. فحسب عمره فإذا هو ستون عاماً. فحسب أيامها فإذا هي أحد وعشرون ألف يوم وتسعمائة يوم. فصاح: يا ويلاه. إذا كان لي كل يوم ذنب فكيف ألقى الله بهذا العدد منها. فخر مغشياً عليه. فلما أفاق أعاد على نفسه ذلك وقال: فكيف بمن له في كل يوم عشرة آلاف ذنب. فخر مغشياً عليه. فحركوه فإذا هو قد مات (للقليوبي) 13 سئل عمر بن عبد العزيز: ما كان بدء توبتك. فقال: كنت يوماً أضرب غلاماً لي فقال: اذكر تلك الليلة التي تكون صبيحتها القيامة. فعمل ذلك الكلام في قلبي (للغزالي)
ذلة الدنيا
14 قال بعضهم: إن إبليس يعرض الدنيا كل يوم على الناس فيقول: من يشتري شيئاً يضره ولا ينفعه ويهمه ولا يسره. فيقول أصحابها وعشاقها: نحن. فيقول إنما ثمنها ليس دراهم ولا دنانير. وإنما هو نصيبكم من الجنة. فإني اشتريتها بأربعة أشياء بلعنة الله وغضبه وسخطه وعذابه وبعت الجنة بها. فيقولون: رضينا بذلك. فيقول: أريد أن أربح عليكم فيها. فيقولون: نعم. فيبيعهم إياها ثم يقول: بئست التجارة (له) 15 قال بعضهم:
وما أهل الحياة لنا بأهل ... ولا دار الفناء لنا بدار(1/11)
وما أموالنا إلا عوار ... سيأخذها المعير من المعار
وقال الفقيه الباجي:
فإن كنت أعلم علماً يقيناً ... بأن جميع حياتي كساعه
فلم لا أكون ضنيناً بها ... وأجعلها في صلاح وطاعه
قال آخر:
لا أسعد الله أياماً عززت بها ... دهراً وفي طي ذاك العز إذلال
زهد إبراهيم بن أدهم في الدنيا
16 حدث إبراهيم بن بشار قال: صحبت إبرهيم بن أدهم بن منصور بن إسحق البلخي بالشام. فقلت له: يا أبا إسحق خبرني عن بدء أمرك كيف كان فقال: كان أبي من ملوك خراسان وكنت شاباً. فركبت يوماً على دابة ومعي كلب. وخرجت إلى الصيد فأثرت ثعلباً. فبينما أنا في طلبه إذ هتف بي هاتفٌ: ألهذا خلقت أم بهذا أمرت. ففزعت ووقفت. ثم عدت فركضت الثانية ففعل مثل ذلك ثلاث مرات. ففكرت بنفسي: لا والله ما لهذا خلقت ولا بهذا أمرت. ثم نزلت وصادفت راعياً لأبي فأخذت منه جبةً من صوفٍ. فلبستها وأعطيته الفرس وما كان معي ثم دخلت البادية (للشريشي) 17 قال لقمان الحكيم: من يبيع الآخرة بالدنيا يخسرهما جميعاً (للثعالبي) 18 قيل: إن مثال الدنيا كمسافر طريق. أوله المهد وآخره اللحد.(1/12)
وفيما بينهما منازل معدودة. وإن كل سنة كمنزلة. وكل شهر كفرسخ. وكل يوم كميل. وكل نفس كخطوة. وهو يسير دائماً. فيبقى لواحد من طريقه فرسخ. ولآخر أقل أو أكثر (للغزالي) 19 قال أبو عبد الرحمان الخليل: الدنيا أمد والآخرة أبد. وقال أيضاً: الدنيا أضداد متجاورة وأشباه متباينة. وأقارب متباعدة وأباعد متقاربة (للشريشي) قال بعضهم:
إنما الدنيا فناء ... ليس للدنيا ثبوت
إنما الدنيا كبيت ... نسجته العنكبوت
كل ما فيها لعمري ... عن قليل سيفوت
ولقد يكفيك منها ... أيها العاقل قوت
20 قال أبو العتاهية: فلو كان هول الموت لا شيء بعده لهان علينا الأمر واحتقر الأمر ولكنه حشر ونشر وجنة ونار وما قد يستطيل به الخبر 21 سئل بعض الفلاسفة: من الذي لا عيب فيه. فقال: الذي لا يموت (للمستعصمي) قال الميداني:
العمر مثل الضيف أو ... كالطيف ليس له إقامة
وأخوالحجا في سائر ال ... أحوال مرتقب حمامه
والجاهل المغتر من ... لم يجعل التقوى اغتنامه(1/13)
الباب الثاني في الحكم
22 ما اكتسب أحد أفضل من عقل يهديه إلى هدى. ويرده عن ردى (للمستعصمي) 23 المهلب بن أبي صفرة قال: عجبت لمن يشتري العبيد بماله ولا يشتري الأحرار بفعاله. قيل: السخي قريب من الله قريب من الناس. قريب من الجنة. والبخيل بعيد من الله بعيد من الناس قريب من النار (للمستعصمي) 24 من ظريف كلام نصر بن سيار: كل شيء يبدو صغيراً ثم يكبر إلا المصيبة فإنها تبدو كبيرة ثم تصغر. وكل شيء يرخص إذا كثر إلا الأدب فإذا كثر غلا (من لطائف الملوك) 25 قال أنو شروان: المروة أن لا تعمل عملاً في السر تستحي منه في العلانية (للشريشي) 26 قال بعض السلف: العلوم أربعة: الفقه للأديان. والطب للأبدان. والنجوم للأزمان. والبلاغة للسان (للابشيهي)
27 قال بعض الحكماء: إن العلماء سرج الأزمنة. كل عالم سراج زمانه يستضيء به أهل عصره (وله) 28 قال علي بن أبي طالب: ما آتى الله تعالى عالماً علماً إلا أخذ(1/14)
عليه الميثاق أن لا يكتمه. وقال أيضاً: ما أخذ الله على الجهال أن يتعلموا حتى أخذ على العلماء أن يعلموا (للشريشي) 29 قيل لأفلاطون: ما هو الشيء الذي لا يحسن أن يقال وإن كان حقاً. قال: مدح الإنسان نفسه (للابشيهي) 30 قال ابن قرة: راحة الجسم في قلة الطعام. وراحة النفس في قلة الآثام. وراحة القلب في قلة الاهتمام. وراحة اللسان في قلة الكلام (من لطائف الوزراء) 31 قال أفلاطون الحكيم: لا تطلب سرعة العمل واطلب تجويده. فإن الناس لا يسألون في كم فرغ. وإنما ينظرون إلى إتقانه وجودة صنعته (أمثال العرب) 32 مثل الذي يعلم الناس الخير ولا يعمل به كمثل أعمى بيده سراج يستضئ به غيره وهو لا يراه (أمثال العرب) 33 قال عامر بن عبد القيس إذا خرجت الكلمة من القلب دخلت في القلب. وإذا خرجت من اللسان لم تتجاوز الآذان 34 قال الأصمعي: سمعت بعض العرب يقول: الفقر في الوطن غربة. والغنى في الغربة وطن. وقال آخر: اختر وطناً ما أرضاك. فإن الحر يضيع في بلده ولا يعرف قدره (للشريشي) 35 قيل: عشرة تقبح في عشرة. ضيق الصدر في الملوك. والعذر في الأشراف. والكذب في القضاة. والخديعة في العلماء.(1/15)
والغضب في الأبرار. والحرص في الأغنياء. والسفه في الشيوخ. والمرض في الأطباء. والتهزؤ في الفقراء. والفخر في من لا آل له 36 نظر فيلسوف إلى غلام حسن الوجه يتعلم العلم فقال: أحسنت إن قرنت بحسن خلقك حسن خلقك (للثعالبي) 37 قالت العرب: ليس على وجه الأرض قبيح إلا ووجهه أحسن شيء فيه (وله) 38 أضعف الناس من ضعف عن كتمان سره. وأقواهم من قوي على غضبه. وأصبرهم من ستر فاقته. وأغناهم من قنع بما تيسر له (أمثال العرب) 39 قيل: كان قس بن ساعدة يفد على قيصر زائراً فيكرمه ويعظمه. فقال له قيصر: ما أفضل العلم. قال: معرفة الإنسان نفسه. قال: وما أفضل العقل. قال: وقوف المرء عند علمه. قال: فما المال. قال: ما قضي بحقٍ (للأصبهاني) 40 قال حكيم: من ذا الذي بلغ مقاماً جسيماً فلم يبطر. واتبع الهوى فلم يعطب. وطلب إلى اللئام فلم يهن. وواصل الأشرار فلم يندم. وصحب السلطان فدامت سلامته (للمستعصمي) 41 قال حكيم لآخر: يا أخي كيف أصبحت. قال: أصبحت وبنا من نعم الله ما لا تحصيه مع كثير ما نعصيه. فما ندري أيهما نشكر. أجميل ما ينشر أو قبيح ما يستر (أمثال العرب)(1/16)
42 لا تحمل على يومك هم سنتك. كفاك كل يوم ما قدر لك فيه. فإن تكن السنة من عمرك فإن الله سبحانه سيأتيك في كل غدٍ جديد بما قسم لك. وإن لم تكن من عمرك فما همك بما ليس لك 43 قال علي: من استطاع أن يمنع نفسه من أربع خصال فهو خليق أن لا ينزل به مكروه: أللجاج والعجلة والتواني والعجب. فثمرة اللجاج الحيرة. وثمرة العجلة الندامة. وثمرة التواني الذلة. وثمرة العجب البغضة (للمستعصمي) 44 ذو الشرف لا تبطره منزلة نالها وإن عظمت كالجبل الذي لا تزعزعه الرياح. والدنئ تبطره أدنى منزلة كالكلإ الذي يحركه مر النسيم (أمثال العرب) 45 قال الحكيم: ثمانية تجلب الذلة على أصحابها وهي جلوس الرجل على مائدة لم يدع إليها. والتأمر على صاحب البيت. والطمع في الإحسان من الأعداء. ومضي المرء إلى حديث اثنين لم يدخلاه بينهما. واحتقار السلطان. وجلوس المرء فوق مرتبته. والتكلم عند من لا يستمع الكلام. ومصادقة من ليس بأهل (للغزالي) 46 قال الرشيد لحاجبه: احجب عني إذا قعد أطال وإذا سأل أحال. ولا تستخفن بذي الحرمة. وقدم أبناء الدعوة (للثعالبي) 47 أشد الناس عذاباً يوم القيامة إمام جائر ومن يري الناس أن فيه خيراً ولا خير فيه (للسيوطي)(1/17)
48 لا تحمدن المرء حتى تجربه=ولا تذمنه من غير تجريب
إن الرجال صناديق مقفلة ... وما مفاتيحها غير التجاريب
(للشبراوي) 49 قد قيل: إن الكتاب هو الجليس الذي لا ينافق ولا يمل. ولا يعاتبك إذا جفوته ولا يفشي سرك (لابن الطقطقي) 50 قال ابن الأحوص يذم من نفع الأباعد دون الأقارب:
من الناس من يغشى الأباعد نفعه ... ويشقى به حتى الممات أقاربه
وما خير من لا ينفع الأهل عيشه ... وإن مات لم يجزع عليه قرائبه
51 قيل: من لانت كلمته. وجبت محبته. وطلاقة الوجه عنوان الضمير. وشرك الآمل البصير. وقيل: حسن البشر اكتساب الذكر. والبشاشة مصيدة المودة. قال سفيان بن عيينة:
بُنَيَّ إن البِرَّ شيء هين ... وجه طليق وكلام لين
(للثعالبي) 52 قيل: ثلاثةٌ تورث ثلاثة: النشاط يورث الغنى. والكسل يورث الفقر. والشراهة تورث المرض
صاحب الشهوة عبد فإذا ... غلب الشهوة صار الملكا
53 العلم شجرة والعمل ثمرتها. لو قرأت العلم مائة سنة وجمعت ألف كتاب لا أكون مستعداً لرحمة الله تعالى إلا بالعمل. لأن ليس للإنسان إلا ما سعى. فمن كان يرجو لقاء ربه فليعمل(1/18)
عملاً صالحاً لأن من عمل عملاً صالحاً فأولئك هم يدخلون الجنة لا يظلمون شيئاً (للغزالي) 54 قال معاوية: عجبت لمن يطلب أمراً بالغلبة وهو يقدر عليه بالحجة. ولمن يطلبه بخرق وهو يقدر عليه برفق.
55 وكان جعفر بن سليمان عثر برجل سرق درة فباعها فلما بصر بالرجل استحيا. فقال له: ألم تكن طلبت هذه الدرة مني فوهبتها لك. فقال الرجل: نعم. فخلى سبيله 56 جنب كرامتك اللئام فإنك إن أحسنت إليهم لم يشكروا. وإن أنزلت بهم شديدة لم يصبروا (للثعالبي) أنشد بعضهم:
إن قل مالي فلا خلٌّ يصاحبني ... أو زاد مالي فكل الناس خلاني
فكم عدوٍّ لبذل المال صاحبني ... وصاحبٍ عند فقد المال خلاني
(ألف ليلة وليلة) 57 قال أبو العتاهية ذاكراً الموت:
ليت شعري فإنني لست أدري ... أي يوم يكون آخر عمري
وبأي البلاد تقبض روحي ... وبأي البقاع يُحفر قبري
58 قال شمس الدين النواجي:
خلوة الإنسان خيرٌ ... من جليس السوء عنده
وجليس الخير خيرٌ ... من جلوس المرء وحده(1/19)
59 قالوا: المملكة تخصب بالسخاء وتعمر بالعدل وتثبت بالعقل وتحرس بالشجاعة وتساس بالرئاسة. وقالوا: الشجاعة لصاحب الدولة (عن الفخري)
إذا ملك لم يكن ذا هبة ... فدعه فدولته ذاهبة
60 قال إبليس: إذا ظفرت من ابن آدم بثلاثة لم أطالبه بغيرها. إذا أعجب بنفسه واستكثر عمله ونسي ذنبه (للثعالبي) 61 سأل الإسكندر أرسطاطاليس: أيهما أفضل للملوك الشجاعة أم العدل. فقال أرسطاطاليس: إذا عدل السلطان لم يحتج إلى الشجاعة (للغزالي) 62 قال الشافعي: أنفع الأشياء أن يعرف الرجل قدر منزلته ومبلغ عقله ثم يعمل بحسبه (للثعالبي) 63 قال عمر بن الخطاب: يا أيها الناس إياكم والبطنة فإنها مكسلة عن الصلاة ومفسدة للقلب ومورثة للسقم. وقال علي بن أبي طالب: إذا كنت بطناً فَعُدَّ نفسك زَمِناً.
64 قال لقمان لابنه: يا بني لا تجالس الفجار ولا تماشهم. إتق أن ينزل عليهم عذاب من السماء فيصيبك معهم. وجالس الفضلاء والعلماء فإن الله تعالى يحيي القلوب الميتة بالفضيلة والعلم كما يحيي الأرض بوابل المطر (للشريشي) 65 قيل للإسكندر: ما بالك تعظم مؤدبك أكثر من تعظيمك(1/20)
لأبيك. فقال: إن أبي سبب حياتي الفانية ومؤدبي سبب حياتي الباقية. ولله در من قال:
أقدم أستاذي على نفس والدي ... وإن نالني من والدي الفضل والشرف
فذاك مربي الروح والروح جوهر ... وهذا مربي الجسم والجسم من صدف
وقال الإمام علي:
كن ابن من شئت واكتسب أدباً ... يغنيك محموده عن النسب
إن الفتى من يقول ها أنا ذا ... ليس الفتى من يقول كان أبي
66 سمع معاوية رجلاً يقول: غريب. فقال له: كلا الغريب من لا أدب له 67 قيل: المرء من حيث يثبت. لا من حيث ينبت. ومن حيث يوجد. لا من حيث يولد (للابشيهي) قال الشاعر:
لكل شيء زينة في الورى ... وزينة المرء تمام الأدب
قد يشرف المرء بآدابه ... فينا وإن كان وضيع النسب
68 وقيل: الفضل بالعقل والأدب. لا بالأصل والحسب. وقيل: المرء بفضيلته لا بفصيلته. وبكماله لا بجماله. وبآدابه لا بثيابه (للابشيهي)(1/21)
قال الإمام علي:
ليس الجمال بأثواب تزيننا ... إن الجمال جمال العلم والأدب
ليس اليتيم الذي قد مات والده ... بل اليتيم يتيم العلم والحسب
69 قال أمير المؤمنين علي كرم الله وجهه: الأدب حلي في الغنى. كنز عند الحاجة. عون على المروءة. صاحب في المجلس. مؤنس في الوحدة. تعمر به القلوب الواهية. وتحيا به الألباب الميتة. وتنفذ به الأبصار الكليلة. ويدرك به الطالبون ما يحاولون (أمثال العرب) 70 قال الشبراوي في أدب الأحداث:
قد ينفع الأدب الأطفال في صغرٍ ... وليس ينفعهم من بعده أدب
إن الغصون إذا قومتها اعتدلت ... ولا يلين ولو قومته الخشب
وقال الإمام علي يفاخر الأغنياء الجهال:
رضينا قسمة الجبار فينا ... لنا علمٌ وللجهال مال
فإن المال يفنى عن قريب ... وإن العلم ليس له زوال
ولله ما قال الآخر:
العلم في الصدر مثل الشمس في الفلك ... والعقل للمرء مثل التاج للملك
فاشدد يديك بحبل العلم معتصماً ... فالعلم للمرء مثل الماء للسمك(1/22)
وقال الحلي في حفظ اللغات:
بقدر لغات المرء يكثر نفعه ... وتلك له عند الشدائد أعوان
فبادر إلى حفظ اللغات مسارعاً ... فكل لسان بالحقيقة إنسان
71 سأل الإسكندر يوماً جماعة من حكمائه. وكان قد عزم على سفر. فقال: أوضحوا لي سبيلاً من الحكمة أحكم فيه أعمالي وأتقن به أشغالي. فقال كبير الحكماء: أيها الملك لا تدخل قلبك محبة شيء ولا بغضته. لأن القلب خاصيته كاسمه وإنما سمي قلباً لتقلبه. وأعمل الفكر واتخذه وزيراً. واجعل العقل صاحباً ومشيراً. واجتهد أن تكون في ليلك متيقظاً ولا تشرع في أمر بغير مشورة. وتجنب الميل والمحاباة في وقت العدل والإنصاف. فإذا فعلت ذلك جرت الأمور على إيثارك. وتصرفت باختيارك (للغزالي) قال بعضهم:
سرور المرء في الدنيا غرور ... غرور المرء في الدنيا سرور
خليل المرء فهو دليل عقل ... وعقل المرء مصباح ينير
72 ألعلم خليل المؤمن. والحلم وزيره. والعقل دليله. والعمل قائده. والرفق والده. والصبر أمير جنوده. فناهيك بخصلة تتأمر على هذه الخصلة الشريفة (للشبراوي)(1/23)
الباب الثالث في الأمثال السائرة
73 إثنان لا يشبعان طالب علم وطالب مال. أخوك من صدقك. إذا أردت أن تطاع فسل ما يستطاع. إذا بالغت في النصيحة هجمت بك على الفضيحة. إذا ضافك مكروه فاقره صبراً. إذا قدمت من سفر فأهد لأهلك ولو حجراً. آفة العلم النسيان. آفة المروءة خلف الوعد. إن الجواد قد يعثر. إن الحديد بالحديد يفلح. إن خيراً من الخير فاعله. إنك لا تجني من الشوك العنب. إن لم تغض على القذى لم ترض أبداً. إن لم يكن وفاق ففراق. إن يكن الشغل مجهدة فإن الفراغ مفسدة. أول الغضب جنون وآخره ندمٌ.
أحسن إن أردت أن يحسن إليك. الحر حر وإن مسه الضر. الحكمة ضالة المؤمن. حال الأجل دون الأمل. حافظ على الصديق ولو في الحريق. حفظك لسرك أوجب من حفظ غيرك له.
خير الأمور أوسطها دواء الدهر الصبر عليه رأس الحكمة مخافة الله. رب حرب شبت من لفظة. رب(1/24)
ضنك أفضى إلى ساحة وتعب إلى راحة. رب فرجة تعود ترحة. رب كلمة سلبت نعمة. ربما كان السكوت جواباً سلطان غشوم خير من فتنة تدوم. سوء الخلق يعدي الشر قليله كثير. شر الناس من لا يبالي أن يراه الناس. شهادات الفعال خير من شهادات الرجال أصعب ما على الإنسان معرفة نفسه طول التجارب زيادة في العقل ظاهر العتاب خير من باطن الحقد عثرة القدم أسلم من عثرة اللسان. عند الامتحان يكرم المرء أو يهان الغائب حجته معه في العجلة الندامة وفي التأني السلامة أقلل من طعامك تحمد منامك. قد ضل من كانت العميان تهديه. كثرة الضحك تذهب الهيبة. كل ممنوع متبوع.
لا رسول كالدرهم. قلب الأحمق في فيه ولسان العاقل في قلبه. لا تنه عن خلق وتأتي مثله. لا تكن رطباً فتعصر ولا يابساً فتكسر. ليس من عادة الكرام تأخير الإنعام. ليس من عادة الأشراف تعجيل الانتقام. المرء بأصغريه قلبه ولسانه
مثل الأغنياء البخلاء كمثل البغال والحمير تحمل الذهب(1/25)
والفضة وتعتلف بالتبن والشعير. من محضك مودته. فقد خولك مهجته. من طلب شيئاً وَجَدَّ وَجَدَ. من استحسن قبيحاً فقد عمله. من كتم سره بلغ مراده. من أعجب برأيه ضل. من تأنى نال ما تمنى. من أحب شيئاً أكثر من ذكره. من لانت كلمته وجبت محبته. من سلمت سريرته صلحت علانيته. من لم يركب الأهوال لم ينل الرغائب. نم آمناً تكن في أمهد الفرش. نِعمَ المؤدب الدهر. وَضعُ الإحسان في غير موضعه ظلمٌ. وعد الكريم دينٌ. ويلٌ أهون من ويلين.
يعمل النمام في ساعة فتنة شهر. يوم واحد للعالم خيرٌ من الحياة كلها للجاهل.
74 هذه أبيات تتمثل بها العرب وهي لشعراء مختلفين:
أحق دار بأن تدعى مباركة ... دار مباركٌ الملك الذي فيها
إذا ثارت خطوب الدهر يوماًَ ... عليك فكن لها ثبت الجنان
إذا لم تستطع أمراً فدعه ... وجاوزه إلى ما تستطيع
إذا مر بي يوم ولم أتخذ يداً ... ولم أستفد علماً فما ذاك من عمري
العلم ينهض بالخسيس إلى العلى ... والجهل يقعد بالفتى المنسوب
الكفر بالنعمة يدعو إلى ... زوالها والشكر أبقى لها
الماء يغسل ما بالثوب من درن ... وليس يغسل قلب المذنب الماء(1/26)
ألا بن ينشا على ما كان والده ... إن العروق عليها ينبت الشجر
إن العدو وإن أبدى مسالمة ... إذا رأى منك يوماً غرة وثبا
بالملح تصلح ما تخشى تغيره ... فكيف بالملح إن حلت به الغير
بلوت الرجال وأفعالهم ... فكل يعود إلى عنصره
تباً لمن يمسى ويصبح لاهياً ... ومرامه المأكول والمشروب
تعود فعال الخير دأباً فكل ما ... تعوده الإنسان كان له طبعاً
تلجي الضرورات في الأمور إلى ... سلوك ما لا يليق بالأدب
جزى الله الشدائد كل خير ... عرفت بها عدوي من صديقي
جراحات السنان لها التئام ... ولا يلتام ما جرح اللسان
حياك من لك تكن ترجو تحيته ... لولا الدراهم ما حياك إنسان
خاطر بنفسك كي تصيب غنيمة ... إن الجلوس مع العيال قبيح
خفض الجأش واصبرن رويداً ... فالرزايا إذا توالت تولت
دخولك من باب الهوى إن أردته ... يسير ولكن الخروج عسير
دعوى الصداقة في الرخاء كثيرة ... بل في الشدائد يعرف الإخوان
ذهب الشباب فأين تذهب بعده ... نزل المشيب وحان منك رحيل
رب من ترجو به دفع الأذى ... عنك يأتيك الأذى من قبله
رب يوم بكيت منه فلما ... صرت في غيره بكيت عليه
زيادة المرء في دنياه نقصان ... وشغله غير فعل الخير خسران
ستذكرني إذا جربت غيري ... وتعلم أنني نعم الصديق(1/27)
سكت عن السفيه فظن أني ... عييت عن الجواب وما عييت
صديقك حين تستغني كثير ... وما لك عند فقرك من صديق
صن العلم وارفع قدره وارع حقه ... ولا تلقه إلا إلى كل منصف
ضدان لما استجمعا حسنا ... والضد يظهر حسنه الضد
ظاهري دون باطني مستجاد ... ليت حالي يكون بالمقلوب
عتبت على عمرو فلما فقدته ... وجربت أقواماً بكيت على عمرو
عجبت لمن يشري العبيد بماله ... ولا يشتري حراً بلين مقاله
عليك نفسك فتش عن معايبها ... وخل عن عثرات الناس للناس
فإن كانت الأجسام منا تباعدت ... فإن المدى بين القلوب قريب
فتىً إن يرض لم ينفعك شيئاً ... وإن يغضب عليك فلا تبال
فلم أر كالأيام للمرء واعظاً ... ولا كصروف الدهر للمرء هاديا
فما أكثر الأصحاب حين تعدهم ... ولكنهم في النائبات قليل
قد يجمع المال غير آكله ... ويأكل المال غير من جمعه
قد زال ملك سليمان فغادره ... والشمس تنحط في المجرى وترتفع
قنع النفي بالكفاف وإلا ... طلبت منك فوق ما يكفيها
كانوا بني أم ففرق شملهم ... عدم العقول وخفة الأحلام
كأنك من كل النفوس مركب ... فأنت إلى كل الأنام حبيب
كل المصائب قد تمر على الفتى ... فتهون غير شماتة الأعداء
كل من أحوجك الدهر إليه ... وتعرضت له هنت عليه(1/28)
كم مات قوم وما ماتت مكارمهم ... وعاش قوم وهم في الناس أموات
لعمري ما ضاقت بلاد بأهلها ... ولكن أخلاق الرجال تضيق
لعمرك ما الأيام إلا معارة ... فما اسطعت من معروفها فتزود
لكل داء دواء يستطب به ... إلا الحماقة أعيت من يداويها
لكل شيء حسن زينة ... وزينة العقل حسن الأدب
للموت فينا سهام وهي صائبة ... من فاته اليوم سهم لم يفته غدا
ليس السعيد الذي دنياه تسعده ... إن السعيد الذي ينجو من النار
ما أحسن الصدق في الدنيا لقائله ... وأقبح الكذب عند الله والناس
ما بقومي شرفت بل شرفوا بي ... وبنفسي ارتفعت لا بجدودي
ما حك جلدك مثل ظفرك ... فتول أم أنت جميع أمرك
ما كل ما يتمنى المرء يدركه ... تجري الرياح بما لا تشتهي السفن
متى يبلغ البنيان يوماً تمامه ... إذا كنت تبنيه وغيرك يهدم
من يصنع الخير مع من ليس يعرفه ... كواقد الشمع في بيت لعميان
من يحمد الناس يحمدوه ... والناس من عابهم يعاب
من كان فوق محل الشمس رتبته ... فليس يرفعه شيء ولا يضع
نحن بنو الموتى فما بالنا ... نعاف ما لا بد من شربه
ندمت ندامة الكسعي لما ... رأت عيناه ما صنعت يداه
هب الدنيا تقاد إليك عفواً ... أليس مصير ذاك إلى الزوال
وإذا أتتك مذمتي من ناقص ... فهي الشهادة لي بأني كامل(1/29)
وجانب صغار الذنب لا تركبنها ... فإن صغار الذنب يوماً تجمع
وكان رجائي أن أعود ممتعاً ... فصار رجائي أن أعود مسلما
ولا خير فيمن لا يوطن نفسه ... على نائبات الدهر حين تنوب
ولرب نازلة يضيق بها الفتى ... ذرعاً وعند الله منها المخرج
وليس أخي إلا الصحيح وداده ... ومن هو في وصلي وقربي راغب
ولم أر كالمعروف أما مذاقه ... فحلو وأما وجهه فجميل
ومن عاش في الدنيا فلا بد أن يرى ... من العيش ما يصفو وما يتكدر
لا تقل أصلي وفصلي أبدا ... إنما أصل الفتى ما قد حصل
لا تسأل المرء عن خلائقه ... في وجهه شاهد من الخبر
لا تنه عن خلق وتأتي مثله ... عار عليك إذا فعلت عظيم
لا تنظرن إلى امرئ ما أصله ... وانظر إلى أفعاله ثم احكم
لا تذلك الفقير علك أن تس ...
قط يوماً والدهر قد رفعه
يريك البشاشة عند اللقا ... ويبريك في السر بري القلم
يفارقني من لا أطيق فراقه ... ويصحبني في الناس من لا أريده
يموت الفتى من عثرة من لسانه ... وليس يموت المرء من عثرة الرجل
ينال الفتى بالعلم كل غنيمة ... ويعلو مقاماً بالتواضع والأدب
يهون علينا أن تصاب جسومنا ... وتسلم أعراض لنا وعقول
يهمهم للشعير إذا رآه ... ويعبس إن رأى وجه اللجام(1/30)
الباب الرابع في أمثال عن ألسنة الحيوانات
كلاب وثعلب
75 كلاب مرة أصابوا جلد سبع. فأقبلوا عليه ينهشونه. فبصر بهم الثعلب فقال لهم: أما أنه لو كان حياً لرأيتم مخالبه كأنيابكم وأطول (مغزاه) النهي عن الشماتة بالموتى
الوز والخطاف
76 ألوز والخطاف تشاركا في المعيشة. فكان مرعاهما كليهما في محل واحد. فمر بهما الصيادون يوماً. فما كان من الخطاف إلا أن طار وسلم. فأما الوز فأدرك وذبح (مغزاه) من عاشر من لا يشاكله أحاق به السوء
قطُ
77 قطٌ مرة دخل دكان حداد. فأصاب المبرد. فأقبل يلحسه بلسانه والدم يسيل منه وهو يبلعه ويظنه من المبرد إلى أن فني لسانه فمات (مغزاه) أن الجاهل لا يفيق من جهله ما دام الطمع غالباً عليه.
صبي وعقرب
78 صبي مرة ً كان يصيد الجراد. فنظر عقرباً فظنها جرادةً. فمد(1/31)
يده ليأخذها ثم تباعد عنها. فقالت له: لو أنك قبضتني بيدك لتخليت عن صيد الجراد (مغزاه) أن سبيل الإنسان أن يميز بين الخير والشر. ويدبر لكل شيء تدبيراً على حدته
النموس والدجاج
79 بلغ ألنموس أن الدجاج قد مرضوا. فلبسوا جلود طواويس وأتوا ليزوروهم. فقالوا لهم: السلام عليكم أيها الدجاج. كيف أنتم وكيف أحوالكم. فقالوا: إنّا بخير يوم لا نرى وجوهكم (مغزاه) أن كثيراً يظهرون المحبة ويبطنون البغضاء
إنسان وصنم
80 إنسان كان له صنم في بيته يعبده ويذبح له كل يوم ذبيحة حتى أفنى عليه جميع ما كان يملكه. فشخص له الصنم أخيراً وقال له: لا تفن مالك علي ثم تلمني عند إله آخر (مغزاه) ينبغي للإنسان أن لا ينفق ماله في الخطيئة ثم يحتج أن الله أفقره
إنسان والموت
81 إنسان مرةً حمل جرزة حطب. فثقلت عليه. فلما أعيا وضجر من حملها رمى بها عن كتفه ودعا على روحه بالموت. فشخص له الموت قائلاً: ها أنا ذا. لم دعوتني. فقال له الإنسان: دعوتك لتحول هذه جرزة الحطب على كتفي (مغزاه) أن العالم بأسره يحب الدنيا وإنما يمل من الضعف والشقاء (للقمان)(1/32)
قطتان وقرد
82 قطتان اختطفتا جبنة وذهبتا بها إلى القرد لكي يقسمها بينهما. فقسمها إلى قسمين أحدهما أكبر من الآخر ووضعهما في ميزانه. فرجح الأكبر. فأخذ منه شيئاً بأسنانه وهو يظهر أنه يريد مساواته بالأصغر. ولكن إذ كان ما أخذه منه هو أكثر من اللازم رجح الأصغر. ففعل بهذا ما فعله بذاك ثم فعل بذاك ما فعله بهذا حتى كاد يذهب بالجبنة. فقالت له القطتان: نحن رضينا بهذه القسمة فأعطنا الجبنة. فقال إذا كنتما رضيتما فإن العدل لا يرضى. وما زال يقضم القسم الراجح منهما كذلك حتى أتى عليهما جميعاً. فرجعت القطتان بحزن وخيبة وهما تقولان:
وما من يد إلا يد الله فوقها ... ولا ظالم إلا سيبلى بأظلم
صائد وعصفور
83 كان صائد يصيد العصافير في يوم بارد. فكان يذبحها والدموع تسيل. فقال عصفور لصاحبه: لا بأس عليك من الرجل أما تراه يبكي. فقال له الآخر: لا تنظر إلى دموعه بل إلى ما تصنع يداه (للشريشي)
أسوَدُ
84 أسوَدُ في فصل الشتاء أقبل يأخذ الثلج ويفرك به بدنه. فقيل له: لماذا ذلك. فقال: لعلي أبيض. فقال له حكيم: يا هذا لا(1/33)
تتعب نفسك فربما اسودَّ الثلج من جسمك وهو باق على حاله (مغزاه) أن الشرير يقدر أن يفسد الخير وقليلاً ما يصلحه الخير (للقمان)
ثعلب وطبل
وهو مثل من يستكبر الشيء حتى يجربه فيستصغره 85 زعموا أن ثعلباً أتى أجمة فيها طبل معلق على شجرة. وكلما هبت الريح على قضبان الشجرة حركتها فضربت الطبل فسمع له صوت عظيم فتوجه الثعلب نحوه لما سمع من عظم صوته. فلما وصل إليه وجده ضخماً فأيقن في نفسه بكثرة الشحم واللحم فعالجه حتى شقه. فلما رآه أجوف لا شيء فيه قال: لا أدري لعل أفشل الأشياء أجهرها صوتاً وأعظمها جثة.
أسد وثعلب وذئب
وهو مثل من اتعظ بغيره واعتبر به 86 أسد وثعلب وذئب اصطحبوا فخرجوا يتصيدون. فصادوا حماراً وأرنباً وظبياً. فقال الأسد للذئب: أقسم بيننا. فقال: الأمر بين. الحمار للأسد والأرنب للثعلب والظبي لي. فخبطه الأسد فأطاح رأسه. ثم أقبل على الثعلب وقال: ما كان أجهل صاحبك بالقسمة هات أنت. فقال: يا أبا الحارث الأمر واضح. الحمار لغدائك والظبي لعشائك وتخلل بالأرنب فيما بين ذلك. فقال له الأسد: ما أقضاك. من علمك هذا الفقه. فقال:(1/34)
رأس الذئب الطائر من جثته (للقليوبي)
مثل فأرة البيت وفأرة الصحراء
87 قيل إن فأرة البيوت رأت فأرة الصحراء في شدة ومحنة فقالت لها: ما تصنعين ههنا اذهبي معي إلى البيوت التي فيها أنواع النعيم والخصب. فذهبت معها. وإذا صاحب البيت الذي كانت تسكنه قد هيأ لها الرصد لبنة تحتها شحمة. فاقتحمت لتأخذ الشحمة فوقعت عليها اللبنة فحطمتها. فهربت الفأرة البرية وهزت رأسها متعجبة وقالت: أرى نعمة كثيرة وبلاء شديداً. إن العافية والفقر أحب إلى من غنى يكون فيه الموت. ثم فرت إلى البرية (للابشيهي)
خنفسة ونحلة
88 خنفسة قالت مرة لنحلة: لو أخذتني معك لعسلت مثلك وأكثر. فأجابتها النحلة إلى ذلك. فلما لم تقدر على وفاء ما قالت ضربتها النحلة بحمتها. وفيما هي تموت قالت في نفسها: لقد استوجبت ما نالني من السوء. فإني لا أحسن الزفت فكيف العسل (مغزاه) أن أناساً كثيرين يدعون ما لاينبغي لهم فتنفضح عاقبتهم (للقمان)
مثل الخنزير والأتان
89 كان عند رومي خنزير فربطه إلى أسطوانة ووضع العلف(1/35)
بين يديه ليسمنه. وكان بجنبه أتان لها جحش. وكان ذلك الجحش يلتقط من العلف ما يتناثر فقال لأمه: يا أماه ما أطيب هذا العلف لو دام. فقالت له: يا بني لا تقربه فإن وراءه الطامة الكبرى. فلما أراد الرومي أن يذبح الخنزير ووضع السكين على حلقه جعل يضطرب وينفح. فهرب الجحش وأتى إلى أمه وأخرج لها أسنانه وقال: ويحك يا أماه انظري هل بقي في خلال أسناني شيء من ذلك العلف فاقلعيه. فما أحسن القنع مع السلامة (للابشيهي)
كلب وشوحة
90 كلب مرةً خطف بضعة لحم من المسلخ ونزل يخوض في النهر. فنظر ظلها في الماء وإذا هي أكبر من التي معه. فرمى التي معه فانحدرت شوحة فأخذتها. وجعل الكلب يجري في طلب الكبيرة فلم يجد شيئاً. فرجع في طلب التي كانت معه فلم يصبها. فقال: ويحي أنا الذي ألقيت نفسي في الغرور. لأني ضيعت ما كان تحت يدي. وسعيت في طلب ما ليس هو تحت يدي ولا يصلح لي (مغزاه) لا ينبغي للإنسان أن يترك شيئاً قليلاً موجوداً ويطلب شيئاً كبيراً مفقوداً
أرانب وثعالب
91 ألنسور مرة وقعت بينهم وبين الأرانب حربٌ. فمضت الأرانب إلى الثعالب يسومون منهم الحلف والمعاضدة على(1/36)
النسور. فقالوا لهم: لولا عرفناكم ونعلم لمن تحاربون لفعلنا ذلك (معناه) أن سبيل الإنسان ألا يحارب من هو أشد بأساً منه
غزال وثعلب
92 غزالٌ مرة عطش فجاء إلى عين ماء يشرب وكان الماء في جب عميق. ثم إنه لما حاول الطلوع لم يقدر فنظره الثعلب فقال له: يا أخي أسأت في فعلك إذ لم تميز طلوعك قبل نزولك
أسد وثور
93 أسد مرة أراد أن يفترس ثوراً فلم يجسر عليه لشدته. فمضى إليه متملقاً قائلاً: قد ذبحت خروفاً سميناً وأشتهي أن تأكل عندي هذه الليلة منه. فأجاب الثور إلى ذلك. فلما وصل إلى العرين ونظره فإذا الأسد قد أعد حطباً كثيراً وخلاقين كباراً فولى هارباً. فقال له الأسد: ما لك وليت بعد مجيئك إلى هنا. فقال له الثور: لأني علمت أن هذا الاستعداد لما هو أكبر من الخروف (معناه) أنه ينبغي للعاقل أن لا يصدق عدوه (للقمان)
كلبان
94 كلب مرةً كان في دار أصحابه دعوة. فخرج إلى السوق فلقي كلباً آخر. فقال له: اعلم أن عندنا اليوم دعوةً. فامض بنا لنقصف اليوم جميعاً. فمضى معه. فدخل به إلى المطبخ. فلما نظره الخدام قبض أحدهم على ذنبه ورمى به من الحائط إلى(1/37)
خارج الدار فوقع مغشياً عليه. فلما أفاق انتفض من التراب فرآه أصحابه فقالوا: أين كنت اليوم. أكنت تقصف. فإننا نراك خرجت اليوم لا تدري كيف الطريق (معناه) أن كثيرين يتطفلون فيخرجون مطرودين بعد الاستخفاف بهم والهوان
ناسك ومحتالون
وهو مثل من صدق الكذوب المحتال فكان من الخاسرين 95 زعموا أن ناسكاً اشترى عربضاً ضخماً ليجعله قرباناً وانطلق به يقوده. فبصر به قوم من المكرة فائتمروا بينهم أن يأخذوه منه. فعرض له أحدهم فقال: ما هذا الكلب الذي معك. ثم عرض له آخر فقال لصاحبه: ما هذا ناسكاً لأن الناسك لا يقود كلباً. فلم يزالوا معه على هذا ومثله حتى لم يشك أن الذي يقوده كلب وأن الذي باعه له سحر عينيه. فأطلقه من يده فأخذه المحتالون ومضوا به (كليلة ودمنة)
إنسان وأسد ودب في بئر
96 حُكي أن إنساناً هرب من أسد فوقع في بئر. وجد فيه دباً ثم وقع بعدهما الأسد. فقال للدب: كم لك ههنا. فقال له: منذ أيام وقد قتلني الجوع. فقال له: دعنا نأكل هذا الإنسان وقد كفينا الجوع. فقال له: وإذا عاودنا الجوع مرةً أخرى فماذا نصنع. ولكن الأولى أننا نحلف له أن لا نؤذيه فيحتال في(1/38)
خلاصنا لأنه أقدر منا على الحيلة. فحلفا له فاحتال حتى خلص وخلصهما. فكان نظر الدب أكمل من نظر الأسد (للقليوبي)
ثعلب وضبع
97 حكي أن الثعلب اطلع في بئر وهو عطش وعليها رشاء في طرفيه دلوان. فقعد في الدلو العليا فانحدرت فشرب. فجاءت الضبع فاطلعت في البئر فأبصرت القمر في الماء منتصفاً والثعلب قاعداً في قعر البئر. فقالت له: ما تصنع ههنا. فقال لها: إني أكلت نصف هذه الجبنة وبقي نصفها لك فانزلي فكليها. فقالت وكيف أنزل. قال تقعدين في الدلو. فقعدت فيها فانحدرت وارتفع الثعلب في الدلو الأخرى فلما التقيا في وسط البئر. قالت له: ما هذا. قال النجار يختلف. فضربت العرب بهما المثل في المختلفين (للشريشي)
إنسان وأسد ودب
98 حكي أن إنساناً هرب من أسد فالتجأ إلى شجرة فصعد عليها. وإذا فوقها دب يلقط ثمرها. فجاء الأسد تحت الشجرة ثم افترش ينتظر نزول الإنسان. فالتفت الرجل إلى الدب فإذا هو يشير إليه بإصبعه على فمه أن: اسكت لئلا يشعر الأسد أني ههنا. فتحير الرجل وكان معه سكين لطيف فأخذ يقطع الغصن الذي عليه الدب حتى أنهاه. فوقع الدب على الأرض فوثب عليه الأسد فتصارعا فافترس(1/39)
الأسد الدب وكر راجعاً ونجا الرجل بإذن الله تعالى (للقليوبي)
حمار وثور
99 زعموا أنه كان لبعضهم حمار قد أبطرته الراحة وثور قد أذله التعب. فشكا الثور أمره يوماً إلى الحمار وقال له: هل لك يا أخي أن تنصحني بما يريحني من تعبي هذا الشديد. فقال له الحمار: تمارض ولا تأكل علفك فإذا كان الصباح ورآك صاحبنا هكذا تركك ولم يأخذك للحراثة فتستريح. قالوا: وكان صاحبهما يفهم بلسان الحيوانات ففهم ما دار بينهما من الحديث. ثم إن الثور أخذ بنصيحة الحمار وعمل بموجبها. ولما أقبل الصباح حضر صاحبهما فرأى الثور غير آكل علقه فتركه وأخذ الحمار بدله. وحرث عليه كل ذلك اليوم. حتى كاد يموت تعباً. فندم على نصيحته للثور. ولما رجع عند المساء قال له الثور: كيف حالك يا أخي. فقال: بخير غير أني سمعت اليوم ما قد هالني عليك. فقال له الثور: وما ذاك. قال الحمار: سمعت صاحبنا يقول إذا بقي الثور هكذا مريضاً يجب ذبحه لئلا نخسر ثمنه. فالرأي الآن أن ترجع إلى عادتك وتأكل علفك خوفاً من أن يحل بك هذا الأمر العظيم. فقال له الثور: صدقت. وقام للحال إلى علفه فأكله. فعند ذلك ضحك صاحبهما (مغزاه) من كان قليل الرأي عمل ما كانت عاقبته وبالاً عليه (ألف ليلة وليلة)(1/40)
ذ
الباب الخامس في الفضائل والنقائص
النصيحة والمشورة
100 إن الحكيم إذا أراد أمراً شاور فيه الرجال وإن كان عالماً خبيراً. لأن من أعجب برأيه ضل. ومن استغنى بعقله زل. قال الحسن: الناس ثلاثة. فرجل رجل. ورجل نصف رجل. ورجل لا رجل. فأما الرجل الرجل فذو الرأي والمشورة. وأما الرجل الذي هو نصف رجل فالذي له رأي ولا يشاور. وأما الرجل الذي ليس برجل فالذي ليس له رأي ولا يشاور 101 وقال المنصور لولده: خذ عني ثنتين. لا تقل في غير تفكير. ولا تعمل بغير تدبير. وقال الفضل: المشورة فيها بركة. وقال أعرابي: لا مال أوفر من العقل. ولا فقر أعظم من الجهل. ولا ظهر أقوى من المشورة. وقيل: الرأي السديد أحمى من البطل الشديد. قال أزدشير: لا تستحقر الرأي الحزيل من الرجل الحقير فإن الدرة لا يستهان بها لهوان غائصها 102 قال بعض الخلفاء لجرير بن يزيد: إني قد أعددتك لأمر. قال: يا أمير المؤمنين إن الله تعالى قد أعد لك مني قلباً معقوداً بنصيحتك. ويداً مبسوطة لطاعتك. وسيفاً مجرداً على عدوك(1/41)
أنشد الأصمعي:
النصح أرخص ما باع الرجال فلا ... تردد على ناصح نصحا ولا تلم
إن النصائح لا تخفى مناهلها ... على الرجال ذوي الألباب والفهم
(للابشيهي)
المودة والصداقة
103 قال لقمان لابنه: يا بني ليكن أول شيء تكسبه بعد الإيمان خليلاً صالحاً. فإنما مثل الخليل كمثل النخلة. إن قعدت في ظلها أظلتك. وإن احتطبت من حطبها نفعك. وإن أكلت من ثمرها وجدته طيباً (أمثال العرب) 104 قد جاء في كتاب ألف ليلة وليلة:
المرء في زمن الإقبال كالشجرة ... والناس من حولها ما دامت الثمره
حتى إذا راح عنها حملها انصرفوا ... وخلفوها تقاسي الحر والغبره
قال زهير:
الود لا يخفى وإن أخفيته ... والبغض تبديه لك العينان
قال آخر:
إحذر عدوك مرةً ... واحذر صديقك ألف مرة
فلربما انقلب الصديق ... فكان أعلم بالمضرة
أسباب العداوة
105 قيل للشيب بن شيبة: ما بال فلان يعاديك. فقال: لأنه(1/42)
شقيقي في النسب. وجاري في البلد ورفيقي في الصناعة. وقال رجل لآخر: إني أخلص لك المودة. فقال: قد علمت. قال: وكيف علمت وليس معي من الشاهد إلا قولي. قال: لأنك لست بجار قريب. ولا بابن عم نسيب. ولا بمشاكل في صناعة (للثعالبي)
حفظ اللسان
106 قد قالت العلماء: الزم السكوت فإن فيه سلامة. وتجنب الكلام الفارغ فإن عاقبته الندامة (كليلة ودمنة) ومما أنشدوه في هذا الباب:
إحفظ لسانك أيها الإنسان ... لا يلدغنك إنه ثعبان
كم في المقابر من قتيل لسانه ... كانت تهاب لقاءه الشجعان
107 قال لقمان لولده: يا بني إذا افتخر الناس بحسن كلامهم. فافتخر أنت بحسن صمتك (للابشيهي) قال الشبرواي:
الصمت زين والسكوت سلامة ... فإذا نطقت فلا تكن مكثارا
ما إن ندمت على سكوتي مرة ... ولقد ندمت على الكلام مرارا
108 بلغنا أن قُسَّ بن ساعدة وأكثم بن صيفي اجتمعا فقال أحدهما لصاحبه: كم وجدت في ابن آدم من العيوب. فقال: هي أكثر من أن تحصر. وقد وجدت خصلة إن استعملها الإنسان(1/43)
سترت العيوب كلها. قال: ما هي. قال: حفظ اللسان (للابشيهي)
كتمان السر
109 قال علي كرم الله وجهه: سرك أسيرك فإذا تكلمت به صرت أسيره. وقال عمر بن عبد العزيز: القلوب أوعية والشفاه أقفالها والألسن مفاتيحها. فليحفظ كل إنسان مفتاح سره 110 قال الشاعر:
صن السر عن كل مستصحب ... وحاذر فما الرأي إلا الحذر
أسيرك سرك إن صنته ... وأنت أسيرله إن ظهر
قال غيره:
كل علم ليس في القرطاس ضاع ... كل سر جاوز الإثنين شاع
111 أسر بعض الناس إلى رجل حديثاً وأمره بكتمانه. فلما انقضى الحديث قال له: أفهمت. قال بل جهلت. ثم قال له: أحفظت. قال: بل نسيت. وقال عمرو بن العاص: إذا أفشيت سري إلى صديقي فأذاعه كان اللوم علي لا عليه. قيل له: وكيف ذلك. قال: لأني أنا كنت أولى بصيانته منه (للثعالبي) جاء في الفخري:
إذا ضاق صدر المرء عن سر نفسه ... فصدر الذي يستودع السر أضيق(1/44)
الصدق والكذب
112 إن الصدق عمود الدين وركن الأدب وأصل المروءة. فلا تتم هذه الثلاثة إلا به. وقال أرسطاطاليس: أحسن الكلام ما صدق فيه قائله وانتفع به سامعه. وإن الموت مع الصدق خير من الحياة مع الكذب. ومما جاء في هذا الباب قول محمود الوراق:
الصدق منجاة لأربابه ... وقربة تدني من الرب
(للابشيهي) 113 وخطب الحجاج فأطال فقام رجل فقال: الصلاة. فإن الوقت لا ينتظرك والرب لا يعذرك. فأمر بحبسه. فأتاه قومه وزعموا أنه مجنون وسألوه أن يخلي سبيله. فقال: إن أقر بالجنون خليته. فقال: معاذ الله لا أزعم أن الله ابتلاني وقد عافاني.
فبلغ ذلك الحجاج فعفا عنه لصدقه (للثعالبي) 114 قال بعض الحكماء: إن الكذب يهدي إلى الفجور والفجور يهدي إلى النار. وإن الصدق يهدي إلى البر والبر يهدي إلى الجنة. وما أحسن ما قال الشاعر:
إذا عُرِفَ الإنسان بالكذب لم يزل ... لدى الناس كذاباً ولو كان صادقا
فإن قال لا تصغي له جلساؤه ... ولم يسمعوا منه ولو كان ناطقا(1/45)
وقال محمود بن أبي الجنود:
لي حيلة في من ينمُّ ... م وليس في الكذاب حيلة
من كان يخلق ما يقو ... ل فحيلتي فيه قليلة
مذمة الحسود
115 وقف الأحنف على قبر الحارث بن معاوية. فقال: رحمك الله كنت لا تحقر ضعيفاً. ولا تحسد شريفاً قال بعض الشعراء:
إصبر على كيد الحسو ... د فإن صبرك قاتله
كالنار تأكل بعضها ... إن لم تجد ما تأكله
116 قال أرسطاطاليس: الحسد حسدان محمود ومذموم. فالمحمود أن ترى عالماً فتشتهي أن تكون مثله. أو زاهداً فتشتهي مثل فعله. والمذموم أن ترى عالماً أو فاضلاً فتشتهي أن يموت (للثعالبي) قال منصور الفقيه:
ألا قل لمن كان لي حاسداً ... أتدري على من أسأت الأدب
أسأت على الله في فضله=إذا أنت لم ترض ما قد وهب
ذم سوء الخلق
117 قال عمرو بن معدي كرب: الكلام اللين يلين القلوب التي هي أقسى من الصخور. والكلام يخشن القلوب التي هي أنعم من الحرير (للغزالي)(1/46)
118 قيل: سوء الخلق يعدي لأنه يدعو إلى أن يقابل بمثله. وروي عن بعض السلف: الحسن الخلق ذو قرابة عند الأجانب والسيء الخلق أجنبي عند أهله (للابشيهي) 119 صحب رجل رجلاً بسوء الخلق. فلما فارقه قال: قد فارقته وخلقه لم يفارقه. ونظر فيلسوف إلى رجل حسن الوجه خبيث النفس فقال: بيت حسن وفيه ساكن نذل
ذم الغضب
120 قيل لحكيم: أي الأحمال أثقل. فقال: الغضب. وروي أن إبليس قال: مهما أعجزني ابن آدم فلن يعجزني إذا غضب لأنه ينقاد لي فيما أبتغيه ويعمل بما أريده وأرتضيه. وقيل لأبي عباد: من أبعد من الرشاد السكران أم الغضبان. فقال: الغضبان لا يعذره أحد في مأثم يجترحه. وما أكثر من يعذر السكران
مدح التواضع وذم الكبر
121 قيل: من وضع نفسه دون قدره رفعه الناس فوق قدره. ومن رفعها عن حده وضعه الناس دون حده. وقيل لبزرجمهر: هل تعرف نعمة لا يحسد عليها. قال: نعم التواضع. قيل: فهل تعرف بلاءً لا يرحم صاحبه عليه. قال: نعم الكبر 122 قال عمر رضي الله عنه: أريد رجلاً إذا كان في القوم وهو أميرهم كان كبعضهم. وإذا لم يكن أميرهم فكأنه أميرهم.(1/47)
قال أبو تمام في هذا المعنى:
متبذل في القوم وهو مبجل ... متواضع في الحي وهو معظم
وقال آخر:
متواضع والنبل يحرس قدره ... وأخو التواضع بالنباهة ينبل
وقال الخوارزمي:
عجبت له لم يلبس الكبر حلة ... وفينا لأن جزنا على بابه كبر
(للثعالبي) 123 من أراد الدخول في مجلس العلماء يجب عليه أن يأتي بالتواضع والذل والخشوع والانكسار. فمن أتى بهذه الصفات ينال المغفرة من الملك الجبار. ومن أتى مثل قارون بالكبر والإكثار يجد القطيعة والعقوبة من الواحد القهار (للسيوطي) 124 قالت الحكماء: كل ذي نعمة محسود عليه إلا المتواضع. وقال عبد الملك: أفضل الرجال من تواشع عن رفعة وعفا عن قدرة وأنصف عن قوة. وقال رجل لبكر بن عبد الله: علمني التواضع. فقال له: إذا رأيت من هو أكبر منك فقل: سبقنى إلى العمل الصالح فهو خير مني. وإذا رأيت أصغر منك فقل: سبقته إلى الذنوب فهو خير مني وقال أبو العتاهية:
يا من تشرف في الدنيا ولذتها ... ليس التشرف رفع الطين بالطين
إذا أردت شريف القوم كلهم ... فانظر إلى ملك في زي مسكين(1/48)
وقال أبو الفتح البستي:
من شاء عيشاً رغيداً يستفيد به ... في دينه ثم في دنياه إقبالا
فلينظرن إلى من فوقه أدبا ... ولينظرن إلى من دونه مالا
(للشريشي) 125 وقيل: ده الكبر. متى كنت من أهل النبل لم يضرك التبذل ومتى لم تكن من أهله لم ينفعك التنبل. قال المأمون: ما تكبر أحد إلا لنقص وجده في نفسه. ولا تطاول إلا لوهن أحس من نفسه. قال بزرجمهر: وجدنا التواضع مع الجهل والبخل أحمد عند الحكماء من الكبر مع الأدب والسخاء. قال منصور الفقيه: يا قريب العهد بالمخرج لم لا تتواضع (للثعالبي)
ذم من اعتذر فأساء
126 قيل في المثل: عذره أشد من جرمه. رب إصرار أحسن من اعتذار. وقيل: تب من عذرك ثم من ذنبك قال الخبزري:
وكم مذنب لما أتى باعتذاره ... جنى عذره ذنباً من الذنب أعظما
(للثعالبي)
ذم الخمر
127 كان العباس بن علي المنصور يأخذ الكأس بيده ثم يقول لها: أما المال فتبلعين. وأما المروءة فتخلعين. وأما الدين فتفسدين(1/49)
قال أحمد بن الفضل:
تركت النبيذ وشرابه ... وصرت صديقاً لمن عابه
شارب يضل طريق الهدى ... ويفتح للشر أبوابه
قال أبو علي:
تركت النبيذ لأهل النبيذ ... وأصبحت أشرب عذباً قراحا
قال ابن الوردي:
أترك الخمرة إن كنت فتى ... كيف يسعى بجنون من عقل
(للشريشي)
مدح الكرم
128 قال بعض الحكماء: أصل المحاسن كلها الكرم. وأصل الكرم نزاهة النفس عن الحرام وسخاؤها بما تملك على الخاص والعام. وإن الجاهل السخي أحب إلى الله من العابد البخيل.
قال أكثم بن صيفي: صاحب المعروف لا يقع وإن وقع يجد له متكأ. وقيل للحسن بن سهل: لا خير في السرف. فقال: لا سرف في الخير. فقلب اللفظ واستوفى المعنى 129 سأل معاوية الأحنف بن قيس. فقال: يا أبا يحيى كيف الزمان. قال: الزمان أنت يا أمير المؤمنين. إن صلحت صلح الزمان. وإن فسدت فسد (للغزالي)(1/50)
مدح العدل
130 قال أنو شروان: العدل سور لا يغرقه ماء ولا يحرقه نار ولا يهدمه منجنيق. وقيل: عدل قائم خير من عطاء دائم. وقيل أيضاً: لا يكون العمران حيث لا يعدل السلطان وقيل لحكيم: ما قيمة العدل. قال: ملك الأبد. فقيل: فقيمة الجور. قال: ذل الحياة 131 قيل: بئس الزاد إلى المعاد ظلم العباد. وقيل: الظلم مرتعه وخيم. كتب عمر بن عبد العزيز إلى عامل: إذا دعتك قدرتك إلى ظلم الناس فاذكر قدرة الله عليك. وكان حفص بن غياث لقيه الرشيد فأقبل عليه يسأله. فقال في أثناء كلامه: نامت عيونك والمظلوم منتصب يدعو عليك وعين الله لم تنم (للثعالبي) قال أبو العباس السفاح: لأعملن اللين حتى لا ينفع إلا الشدة. ولأكرمن الخاصة ما أمنتهم على العامة. ولأغمدن سيفي حتى يسله الحق. ولأعطين حتى لا أرى للعطية موضعاً (للشبرواي)
مدح الصفح
132 قال ابن طباطبا: كان جرى بيني وبين رجل كلام احتملته عنه ثم ندمت. فرأيت في المنام كأن شيخاً أتاني فأنشدني:
أندمت حين صفحت عم ... ن قد أساء وقد ظلم(1/51)
لا تندمن فشرنا ... من أتبع الخير الندم
(للثعالبي) قال الشبراوي:
لا تنتقم إن كنت ذا قدرة ... فالصفح من ذي قدرة أصلح
وأصفح إذا إذنب خل عسى ... تلقى إذا أذنبت من يصفح
133 قيل لذة العفو أطيب من لذة التشفي. لأن لذة العفو يلحقها حمد العاقبة ولذة التشفى يلحقها غم الندامة. وقيل: العفو عن المذنب زكاة النفس. وقيل: ومن كرم الأخلاق أن يغفر الذنب. وقيل: الاحتمال قبر العيوب (للطرطوشي) قال البحتري:
إذا لم تضرب عن الحقد لم تفز ... بشكر ولم تسعد بتقريظ مادح
ذم المماراة
134 قال ميمون بن مهران: لا تمار من هو أعلم منك. فإنه يختزن عنك علمه ولم تضره شيئاً. وقال لقمان لابنه: من لا يملك لسانه يندم. ومن يكثر المراء يشتم. ومن يدخل مداخل السوء يتهم. يا بني لا تمار العلماء فيمقتوك. ألمراء يقسي القلوب ويورث الضغائن. إذا رأيت الرجل لجوجاً ممارياً معجباً بنفسه فقد تمت خسارته 135 قال مسعر بن كدام يخاطب ابنه:(1/52)
إني منحتك يا كدام نصيحتي ... فاسمع لقول أبٍ عليك شفيق
أما المزاحة والمراء فدعهما ... خلقان لا أرضاهما لصديق
إني بلوتهما فلم أخترهما ... لمجاور جاراً ولا لرفيق
مر حكيم بقوم فقالوا له شراً فقال خيراً. فقيل له في ذلك. فقال: كل ينفق مما عنده (للشريشي)
ذم المزاحة
136 سأل الحجاج ابن القرية عن المزح فقال: أوله فرح وآخره ترح. قال عمر بن عبد العزيز: لا يكون المزح إلا من سخف أو بطر. روي عن بعض الأدباء: إياكم والمزاح فإنه يذهب بهاء المؤمن ويسقط مروءته. وقيل: المزاح مجلبة للبغضاء مسلبة للبهاء مقطعة للإخاء. وقيل: إذا كان المزاح أول الكلام كان آخره الشتم واللطام (للثعالبي) قيل لرجل: كيف وجدت فلاناً: قال: طويل اللسان في اللوم والمزح قصير الباع في الكرم وثاباً على الشر مناعاً للخير. وكان نقش خاتم رستم وهو أحد ملوك الفرس: الهزل مبغضة والكذب منقصة والجور مفسدة (للطرطوشي)
وصية نزار لبنيه
137 لما حان ارتحال نزال من دار الدنيا إلى دار الآخرة أحضر أولاده الأربعة بين يديه وقال لهم: اعلموا يا أولادي أني راحل(1/53)
عنكم إلى دار الآخرة. وما أحضرتكم إلا لأشرح لكم وصيتي. فاحفظوا ما أقول لكم ولا تخالفوا وصيتي فيحل بكم الوبال في مخالفتي. قالوا: ما هي وصيتك يا أبانا. قال: وصيتي لكم هي أن يوقر صغيركم كبيركم. يا أولادي إياكم والتكبر فإنه مهلك الجبابرة ما ولع به أحد إلا هلك وفي غير طريق الحق سلك. يا أولادي إياكم والحسد فإنه يقلل الرزق ويذيب الجسد. والحسود لا يسود ولا يموت إلا وهو مكمود. وإياكم والطمع فإنه يرمي صاحبه في البلاء والعذاب. والقناعة غناء. يا أولادي إياكم والبخل فيبعدكم من الله ومن الخلق. ومن هان عليه ماله حسنت حاله وسمع مقاله. يا أولادي آسوا الناس بالطعام وأكثروا البشاشة وأفشوا السلام. وصلوا بالليل والناس نيام. يا أولادي إياكم والكسل فإنه يورث الفشل. يا أولادي إياكم والغضب فإنه يورث السخط. والبشاشة في الوجه تورث المحبة وهي خير من القرى. ومن لانت كلمته. وجبت محبته. يا أولادي لا تخالفوا وصيتي. واعلموا أني قد قسمت أموالي بينكم بالسوية. وجعلت قسم كل واحد منكم في كتابي هذا. فإذا وضعتموني في حفرتي وغابت عنكم جثتي وأتت العرب لعزاءي فاذبحوا لهم من نعمي. وإذا تفرقت العرب عنكم فاعتمدوا على كتابي ووصيتي ولا تثيروا الحرب بينكم (للاصمعي)(1/54)
الباب السادس في الحكايات واللطائف
138 قيل لمجنون: عد لنا المجانين. قال: هذا يطول بي. ولكن أعد العقلاء (للمستعصمي) 139 قيل للقمان: ما أقبح وجهك. قال: أتعيب هذا النقش علي أم على النقاش (للشريشي) 140 جلس الاسكندر يوماً فما رفع إليه حاجة فقال: لا أعد هذا اليوم من أيام ملكي (للابشيهي) 141 روي أن أبا العتاهية مر بدكان وراق فإذا كتاب فيه بيت من الشعر
لن ترجع الأنفس عن غيها ... ما لم يكن منها لها زاجر
فقال: لمن هذا. فقيل لأبي نواس. فقال: وددت أنه لي بنصف شعري (للطرطوشي) 142 قال رجل لأقليدس الحكيم: لا أستريح أو أتلف روحك. فقال: وأنا لا أستريح حتى أخرج الحقد من قلبك (للغزالي) 143 دخل ذو ذنب على سلطان فقال له: بأي وجه تلقاني. فقال: بالوجه الذي ألقى به الله وذنوبي إليه أعظم وعقابه أكبر. فعفا عنه (للمستعصمي)(1/55)
144 رأى الإسكندر رجلاً حسن الاسم قبيح السيرة فقال له: إما أن تغير اسمك أو سيرتك (للغزالي) 145 تكلم رجل عند عبد الملك بكلام ذهب فيه كل مذهب فقال له وقد أعجبه: ابن من أنت يا غلام. فقال: ابن نفسي يا أمير المؤمنين التي نلت بها هذا المقعد منك؟ قال: صدقت.
أخذ هذا المعنى ابن دريد فقال:
كن ابن من شئت وكن مؤدباً ... فإنما المرء بفضل حسه
وليس من تكرمه لغيره ... مثل الذي تكرمه لنفسه
(للشريشي) 146 رجل غضب عليه مولاه فقال: أسألك بالله إن علمت أني لك أطوع منك لله فاعف عني عفا الله عنك. فعفا عنه (للمستعصمي) 147 كان الإسكندر يوماً على تخت مملكته وقد رفع الحجاب. فقدم بين يديه لص فأمر بصلبه فقال: أيها الملك إني سرقت ولم يكن شهوة في السرقة ولم يطلبها قلبي. فقال الإسكندر: لا جرم أنك تصلب ولا يطلب قلبك الصلب ولا يريده (للغزالي) 148 كان إبراهيم بن أدهم يوماً يحفظ كرماً فمر به جندي فقال: أعطنا من هذا العنب. فقال: ما أمرني صاحبه. فأخذ يضربه بالسوط. فطأطأ رأسه وقال: اضرب رأساً طالما عصى الله.(1/56)
فانحجز الرجل ومضى (للطرطوشي) 149 عاد الخليفة المعتصم خاقان عند مرضه وكان لخاقان إذ ذاك ابن اسمه الفتح. فقال له المعتصم: داري أحسن أم دار أبيك. فقال: ما دام أمير المؤمنين في دار أبي فهي أحسن (لطائف الملوك) 150 وقال المعتصم للفتح وعلى يده خاتم ياقوت أحمر في غاية الحسن: أرأيت أحسن من هذا الخاتم. فقال: نعم اليد التي فيها (للغزالي) 151 قال الحسن والحسين لعبد الله بن جعفر: إنك قد أسرفت ببذل المال. فقال: بأبي أنتما وأمي. إن الله عودني أن يتفضل علي وعودته أن أتفضل على عبيده. فأخاف أن أقطع العادة فيقطع عني عادته (للشريشي) 152 حكي أن رجلاً تكلم بين يدي المأمون فأحسن. فقال: ابن من أنت. قال: ابن الأدب يا أمير المؤمنين. قال: نعم النسب انتسبت إليه (للابشيهي)
153 لقي هارون الرشيد الكسائي في بعض طرقه فوقف عليه وتحفى بسؤاله عن حاله. فقال: أنا بخير يا أمير المؤمنين. ولو لم أجد من ثمرة الأدب إلا ما وهب الله تعالى لي من وقوف أمير المؤمنين لكان ذلك كافياً محتسباً (للشريشي) 154 لطم رجل قيس بن عاصم في جامع البصرة فقال له:(1/57)
لعلك خاطرت أن تلطم سيد بني تميم. قال: نعم. فقال: ارجع فلست به (للطرطوشي) 155 قال رجل لابن عيينة: المزاح سبة. فقال: سنة ولكن لمن يحسنه (للثعالبي) 156 أبو العيناء قال له المتوكل: كيف ترى دارنا هذه. فقال: يا أمير المؤمنين رأيت الناس يبنون الدور في الدنيا وأنت تبني الدنيا في دارك. وقد نظم بعض الأدباء في هذا المعنى:
ولي مسئلة بعد ... فعاجلني بإخباري
بنيت الدار في دنيا ... ك أم دنياك في الدار
(من لطائف الوزراء)
الاعرابي والقمر
157 حكي أن أعرابياً ضل الطريق. فمات جزعاً وأيقن بالهلاك. فلما طلع القمر اهتدى ووجد الطريق. فرفع إليه رأسه ليشكره فقال له: والله ما أدري ما أقول لك ولا ما أقول فيك. أقول رفعك الله فالله قد رفعك. أم أقول نورك الله فالله قد نورك. أم أقول حسنك الله فالله قد حسنك. ولكن ما بقي إلا الدعاء أن ينسئ الله في أجلك. وإن يجعلني من السوء فداك
الاعرابي والناقة المفقودة
158 ضلت ناقة الأعرابي في ليلة مظلمة. فأكثر في طلبها فلم(1/58)
يجدها. فلما طلع القمر وانبسط نوره وجدها إلى جانبه ببعض الأودية. وقد كان اجتاز بموضعاً مراراً فلم يرها لشدة الظلام. فرفع رأسه إلى القمر وقال:
ماذا أقول وقولي فيك ذو حصر ... وقد كفيتني التفصيل والجملا
إن قلت لا زلت مرفوعاً فأنت كذا ... أو قلت زانك ربي فهو قد فعلا
(للشريشي) 159 غنى يوماً إبراهيم مغني الرشيد بين يديه فقال له: أحسنت أحسن الله إليك. فقال له: يا أمير المؤمنين إنما يحسن الله إلي بك. فأمر له بمائة ألف درهم 160 كان بهرام جالساً ذات ليلة تحت شجرة. فسمع منها صوت طائر فرماه فأصابه وقال: ما أحسن حفظ اللسان بالطائر والإنسان. لو حفظ هذا لسانه لما هلك (للأصبهاني) 161 أبو عبد الله الفارسي كان يتقلد قضاء بلخ. وكان صديق أبي يحيى الحمادي. فكتب هذا إليه يعاتبه على ترك المهاداة بما يجلب من بلخ. فأجابه أبو عبد الله: قد أهديت للشيخ عدل صابون ليغسل به طمعه والسلام (من لطائف الوزراء) 162 يقال إن أنو شروان ركب في بعض الأيام في الربيع(1/59)
على سبيل الفرجة. فجعل يسير في الرياض المخضرة ويشاهد الشجر المثمرة وينظر إلى الكروم ألف مرة. فنزل عن فرسه شكراً لربه وخر ساجداً واضعاً خده على التراب زماناً طويلاً. فلما رفع رأسه قال لأصحابه: إن خصب السنين من الملوك والسلاطين وحسن نيتهم وإحسانهم إلى رعيتهم. فالمنة لله الذي قد أظهر حسن نيتنا في سائر الأشياء (للغزالي)
لقمان والعبيد
163 روي عن لقمان أن مولاه سكر يوماً فخاطر قوماً أن يشرب ماء بحيرة. فلما أفاق عرف ما وقع فيه. فدعا لقمان وقال له: لمثل هذا كنت أختبئك. فقال لمولاه: أخرج أباريقك ثم اجمعهم. فلما اجتمعوا قال: على أي شيء خاطرتموه. قالوا: على أن يشرب ماء هذه البحيرة. قال: فإن لها مواد فاحبسوا عنها موادها. قالوا: وكيف نستطيع ذلك. قال لقمان: وكيف يستطيع هو أن يشربها ولها مواد 164 وحكى أبو إسحق الثعلبي قال: كان لقمان من أهون مماليك سيده عليه. فبعثه مولاه مع عبيد له إلى بستانه يأتونه بشيء من ثمر. فجاؤوه وما معهم شيء وقد أكلوا الثمر وأحالوا على لقمان. فقال لقمان لمولاه: ذو الوجهين لا يكون عند الله وجيهاً. فاسقني وإياهم ماءً حميماً ثم أرسلنا لنعدو. ففعل فجعلوا يتقيؤون تلك الفاكهة ولقمان يتقيأ ماءً. فعرف مولاه صدقه وكذبهم (للشريشي)(1/60)
الحاج والوديعة
165 وصل بعض المسافرين لقصد الحج مدينة ونزل عند صاحب له. فلما تمت مدة الإقامة وعزم على الرحيل أخبر صاحبه أن عنده أمانة وهي جملة من النقود والجواهر ويريد أن يودعها مؤتمناً إلى أن يرجع. فلما سمع منه صاحبه ذلك استحى أن يقول له ضعها عندي خوفاً من أن يظن أنه طامع فيها فأشار عليه أن يضعها عند القاضي. فأخذها وذهب إلى القاضي وقال له: إني رجل غريب وأريد الحج وعندي أمانة قدرها كذا من النقود والجواهر وأريد أن أسلمها إلى مولانا القاضي ليحفظها إلى أن أعود من الحج وأستلمها. فقال له القاضي: نعم. خذ هذا المفتاح وافتح هذا الصندوق وضعها فيه وأغلق الصندوق جيداً. ففعل وسلم المفتاح إلى القاضي وسلم عليه وتوجه. فلما قضى حجه ورجع ذهب إلى القاضي ليطلب الأمانة. فقال له: إني لا أعرفك وأنا عندي أمانات كثيرة فمن أين أعرف أن لك أمانة عندي. وأطال المحاولة معه فانصرف الرجل إلى صاحبه وأعلمه بذلك وغابه في هذه المشورة. فأخذه وذهب إلى بعض الأمراء المقربين إلى الملك وأخبره بتلك القضية. فوعدهما أنه في غد يذهب إلى القاضي ويجلس عنده ويخبره بقصة أخرى تخصه ويدخل ذاك الشخص صاحب الأمانة عليهما ويطلب أمانته من القاضي. فلما كان الغد(1/61)
ذهب ذلك الأمير إلى القاضي وجلس بجانبه. فلما انتهى تعظيمه وإجلاله من القاضي على حسب مقامه. قال له: لعل السبب الذي أوجبك إلى تشريفنا بقدومك خير. فقال له: نعم هو خير لك إن شاء الله تعالى. فقال: ما هو. قال الأمير: إني في ليلة أمس طلبني الملك فذهبت إليه. فلما انتهى المجلس وانصرف الناس وأردت أن أنصرف إذا هو أمرني أن أتخلف عنده. فلما اختلينا أسر إلي أنه يريد الحج في العام القابل ويريد أن يسلم المملكة جميعها لمن يعتمد ويؤتمن في ذلك إلى أن يعود بالسلامة. فاستشارني في الأمر فأشرت عليه أن يسلمها لجنابك لما نعهد عندك من الأمانة والعفة والصداقة أولى من تسليمها لبعض الذوات فربما يعمل محالفة أو تطمع نفسه في المملكة فيثير فتنة أو نحو ذلك. فأعجبه هذا الرأي وأجمع أنه بعد يومين يعقد مجلساً عاماً ويفعل ما أشرت به عليه. ففرح القاضي بذلك فرحاً شديداً وأثنى عليه. وإذا بصاحب الأمانة داخل عليهما فتمثل أمام القاضي وسلم. وقال: يا حضرة مولانا القاضي إن لي أمانة عندك وهي كذا وكذا سلمتها إليك في وقت كذا وكذا. فما أتم كلامه حتى قال له القاضي: نعم يا ولدي وأنا تذكرتك الليلة عند النوم وعرفتك وعرفت أمانتك فخذ هذا المفتاح واستلم أمانتك. فأخذها وسلم وانصرف. وانصرف ذلك الأمير أيضاً(1/62)
فلما مضى الميعاد الذي وعده القاضي ذهب إلى الأمير وسأله في شأن المملكة والملك. فقال له: أيها القاضي نحن لم نخلص منك أمانة الرجل الغريب الحاج إلا لما ملكناك الدنيا بأجمعها. فإذا ملكتها بأي شيء نخلصها. فعرف أنها حيلة وعاد خائباً.
166 حكي عن حاتم الطائي أنه مر يوماً بحلة بني عنزة. فاجتاز بأسير عندهم وكان الأسير صعلوكاً لا يملك الفدى. فلما رأى حاتماً صاح: أغثني يا أبا سفانة. ولم يكن مع حاتم ما يفديه به فضمن الفداء لأمير الحلة فأبى إلا أن يقبضه قبل إطلاق الأسير. فأقام حاتم مكانه في الأسر وأرسل الأعرابي إلى قومه في أحياء طيئ بعلامة منه حتى أتى بالفدى. فدفعه إلى القوم وأطلق نفسه من أسرهم (للحموي)
أمير بلخ وكلبه
167 حكى حاتم الأصم أن علي بن عيسى بن ماهان كان أمير بلخ. وكان يحب كلاب الصيد. ففقد كلب من كلابه يوما فاتهم به جار شقيق فاستجار به. فدخل شقيق على الأمير وقال: خلوا سبيله فإني أرد لكم كلبكم إلى ثلاثة أيام. فخلوا سبيله فانصرف شقيق مهتما لما صنع. فلما كان اليوم الثالث كان رجل من أهل بلخ غائباً وكان من رفقاء شقيق. وكان لشقيق فتى وهو رفيقه رأى في الصحراء كلباً في رقبته قلادة فقال: أهديه إلى شقيق. فحمله إليه فإذا هو كلب الأمير فسلمه إليه (القزويني)(1/63)
أبو دلف وجاره
168 يروى أن رجلاً كان جاراً لأبي دلف ببغداد. فأدركته حاجة وركبه دين فادح حتى أحتاج إلى بيع داره. فساوموه فيها فسمى لهم ألف دينار. فقالوا له: إن دارك تساوي خمسمائة دينار. فقال: أبيع داري بخمسمائة وجوار أبي دلف بخمسمائة. فبلغ أبا دلف الخبر فأمر بقضاء دينة ووصله وقال: لا تنتقل من جوارنا. فانظر كيف صار الجوار يباع كما يباع العقار. وقال الشاعر:
يلومونني أن بعت بالرخص منزلي ... ولم يعلموا جاراً هناك ينغص
فقلت لهم كفوا الملام فإنما ... بجيرانها تغلو الدار وترخص
(للشريشي)
أبو العلاء المعري والغلام
169 حكي أن غلاماً لقي أبا العلاء المعري فقال: من أنت يا شيخ. قال: فلان. قال: أنت القائل في شعرك:
وإني وإن كنت الأخير زمانة ... لآت بما لم تستطعه الأوائل
قال: نعم. قال: يا عماه إن الأوائل قد رتبوا ثمانية وعشرين حرفاً للهجاء فهل لك أن تزيد عليها حرفاً. (قال) فدهش المعري من ذلك وقال: إن هذا الغلام لا يعيش لشدة حذقه وتوقد فؤاده (للقليوبي)
يزيد وبدوية
170 كان يزيد بن المهلب عند خروجه من سجن عم بن عبد(1/64)
العزيز يسافر في البرية مع ابنه معاوية. فمر بامرأة بدوية فذبحت لهما عنزةً. فلما أكلا قال يزيد لابنه: ما يكون معك من النفقة. قال: مائة دينار. قال: أعطها إياها. هذه فقيرة يرضيها القليل وهي ما تعرفك. قال: إن كان يرضيها القليل فأنا لا يرضيني إلا الكثير وإن كانت لا تعرفني فأنا أعرف نفسي (لابن قتيبة)
العفو
171 وقعت دماء بين حيين من قريش. فأقبل أبو سفيان فما بقي أحد واضع رأسه إلا رفعه فقال: يا معشر قريش هل لكم في الحق أو في ما هو أفضل من الحق. قالوا: وهل شيء أفضل من الحق. قال: نعم. العفو. فبادر القوم فاصطلحوا (للشريشي)
الرشيد وحميد
172 غضب الرشيد على حميد الطوسي فدعا له بالنطع والسيف فبكى. فقال له: ما يبكيك. فقال: والله يا أمير المؤمنين ما أفزع من الموت لأنه لا بد منه وإنما بكيت أسفاً على خروجي من الدنيا وأمير المؤمنين ساخط علي. فضحك وعفا عنه (للابشيهي)
المصور المسروق
173 حكى عن أهل الروم أن مصوراً دخل بلداً ليلاً ونزل بقوم. فضيفوه فلما سكر قال: إني صاحب مال ومعي كذا وكذا ديناراً. فسقوه حتى طفح وأخذوا ما كان معه وحملوه إلى موضع(1/65)
بعيد منهم. فلما أصبح وكان غريباً لم يعرف القوم ولا المكان ذهب إلى والي المدينة وشكا. فقال له الوالي: هل تعرف القوم. قال: لا. قال: هل تعرف المكان. قال: لا. فكيف السبيل إلى ذلك. فقال الرجل: إني أصور صورة الرجل وصورة أهله فأعرضها على الناس لعل أحداً يعرفهم. ففعل ذلك وعرضها الوالي على الناس فقالوا: إنها صورة فلان الحمامي وأهله. فأمر بإحضاره فإذا هو صاحبه فاسترد من المال (آثار البلاد للقزويني)
النديم والجام
174 يقال إنه كان لأنو شروان نديم. وكان في مجلس الشراب جام من ذهب مرصع بالجوهر فسرقه النديم. ونظر إليه أنو شروان ورآه وهو يخفيه. فجاء الشرابي وطلب الجام فلم يجده. فنادى يا أهل المجلس قد ضاع لنا جام من ذهب مرصع بالجوهر. فلا يخرجن أحد حتى يرد الجام. فقال أنو شروان للشرابي: مكنهم من الخروج فإن الذي سرق ما يعيده. والذي رآه ما يغمز عليه (للطرطوشي)
الكنز والسياح
174 كان في غابر الزمان ثلاثة سائرين فوجدوا كنزاً فقالوا: قد جعنا فليمض واحد منا وليبتع لنا طعاماً. فمضى ليأتيهم بطعام فقال: الصواب أن أجعل لهما في الطعام سماً قاتلاً ليأكلاه فيموتا وانفرد أنا بالكنز دونهما. ففعل ذلك وسم الطعام. واتفق(1/66)
الرجلان الآخران أنهما إذا وصل إليهما بالطعام قتلاه وانفردا بالكنز دونه. فلما وصل إليهما بالطعام المسموم قتلاه وأكلا من الطعام فماتا. فاجتاز بعض الحكماء بذلك المكان فقال لأصحابه: هذه الدنيا. فانظروا كيف قتلت هؤلاء الثلاثة وبقيت بعدهم. ويل لطلاب الدنيا من الديان (للغزالي)
الجارية والقصعة
176 جاءت جارية لأبي عبد الله جعفر بقصعة من ثريد تقدمها إليه وعنده قوم. فأسرعت بها فسقطت من يدها فانكسرت فأصابه وأصحابه مما كان فيها. فارتاعت الجارية عند ذلك. فقال لها: أنت حرة لوجه الله تعالى. لعله أن يكون كفارة للروع الذي أصابك (للطرطوشي)
هارون الرشيد وأبو معاوية
177 كان هارون الرشيد يتواضع للعلماء. قال أبو معاوية الضرير وكان من علماء الناس: أكلت مع الرشيد يوماً. فصب على يدي الماء رجل فقال لي: يا أبا معاوية أتدري من صب الماء على يدك. فقلت: لا يا أمير المؤمنين. قال: أنا. فقلت: يا أمير المؤمنين أنت تفعل هذا إجلالاً للعلم. قال: نعم (الفخري) 178 لما مرض قيس بن سعد بن عبادة استبطأ إخوانه في العيادة فسأل عنهم. فقيل له: إنهم يستحيون مما لك عليهم(1/67)
من الدين. فقال: أخزى الله ما لا يمنع الإخوان من الزيارة. ثم أمر من ينادي: من كان لقيس عنده مال فهو منه في حل. فكسرت عتبة بابه بالعشي لكثرة العواد (للطرطوشي)(1/68)
عفو عبد الملك
182 تغيظ عبد الملك بن مروان على رجاء بن حياة فقال: والله لئن أمكننى الله منه لأفعلن به كذا وكذا. فلما صار بين يديه قال له رجاء بن حياة: يا أمير المؤمنين قد صنع الله ما أحببت فاصنع ما أحب الله. فعفا عنه وأمر له بصلة.
جعفر وغلامه
183 حكي عن جعفر الصادق أن غلاماً له وقف يصب الماء على يديه. فوقع الإبريق من يد الغلام في الطست فطار الرشاش في وجهه. فنظر جعفر إليه نظر مغضب. فقال: يا مولاي الله يأمر بكظم الغيظ. قال: قد عفوت عنك. قال: والله يحب المحسنين. قال: اذهب فأنت حر لوجه الله تعالى (للابشيهي)
المهدي وأبو العتاهية
184 لما حبس المهدي أبا العتاهية تكلم فيه يزيد بن منصور الحميري حتى أطلقه. فقال فيه أبو العتاهية:
ما قلت في فضله شيئاً لأمدحه ... إلا وفضل يزيد فوق ما قلت(1/69)
ما زلت من ريب دهري خائفاً وجلاً ... فقد كفاني بعد الله ما خفت
(للأصبهاني)
الموبذ وأنو شروان
185 سمع المؤبذ في مجلس أنو شروان ضحك الخدم فقال: أما يهاب هؤلاء الغلمان. فقال أنو شروان: إنما يهابنا أعداؤنا (للثعالبي)
الإيثار
186 من عجائب ما ذكر في الإيثار ما حكاه أبو محمد الأزدي. قال: لما احترق المسجد بمرو ظن المسلمون أن النصارى أحرقوه فأحرقوا خاناتهم. فقبض السلطان على جماعة من الذين أحرقوا الخانات. وكتب رقاعاً فيها القطع والجلد والقتل ونثرها عليهم فمن وقع عليه رقعة فعل به ما فيها. فوقعت رقعة فيها القتل بيد رجل فقال: والله ما كنت أبالي لولا أم لي. وكان بجنبه بعض الفتيان فقال له: في رقعتي الجلد وليس لي أم. فخذ أنت رقعتي وأعطني رقعتك. ففعل فقتل ذلك الفتى وتخلص هذا الرجل (للطرطوشي)
الاعرابي والجراد
187 قال الأصمعي: حضرت البادية فإذا أعرابي زرع براً له.(1/70)
فلما قام على سوقه وجاد سنبله أتت عليه رجل جراد. فجعل الرجل ينظر إليه ولا يدري كيف الحيلة فيه فأنشأ يقول:
مر الجراد على زرعي فقلت له ... إلزم طريقك لا تولع بإفساد
فقام منهم خطيب فوق سنبلة ... إنا على سفرٍ لا بد من زاد
(للدميري) 188 قيل لبعض السلاطين: لم لا تغلق الباب وتقعد عليه الحجاب. فقال: إنما ينبغي أن أحفظ أنا رعيتي لا أن يحفظوني (للثعالبي)
عبد الرحمان بن عوف وعمر بن الخطاب
189 قال عبد الرحمان بن عوف: دعاني عمر بن الخطاب ذات ليلة وقال: قد نزل بباب المدينة قافلة وأخاف عليهم إذا ناموا أن يُسرق شيئاً من متاعهم. فمضيت معه فلما وصلنا قال لي: نم أنت. ثم إنه جعل يحرس القافلة طول ليلته (للغزالي)
راكب البغل
190 حدث شبيب بن منصور قال: كنت في الموقف واقفاً على باب الرشيد فإذا رجل بشع الهيئة على بغل قد جاء فوقف وجعل الناس يسلمون عليه ويسائلونه ويضاحكونه. ثم وقف في الموقف فأقبل الناس يشكون إليه أحوالهم. فواحد يقول: كنت منقطعاً إلى فلان فلم يصنع بي خيراً. ويقول آخر: أملت فلاناً(1/71)
فخاب أملي وفعل بي. ويشكو آخر من حاله. فقال الرجل:
فتشت ذي الدنيا فليس بها ... أحد أراه لآخر حامد
حتى كأن الناس كلهم ... قد أفرغوا في قالب واحد
فسألت عنه فقيل: هو أبو العتاهية (للأصبهاني)
يحيى وأبو جعفر
191 كان يحيى بن سعيد خفيف الحال فاستقضاه أبو جعفر فلم يتغير. فقيل له في ذلك فقال: من كانت نفسه واحدة لم يغيره المال (للثعالبي)
عمر والسكران
192 روي أن عمر رأى سكران فأراد أن يأخذه ليعزره. فشتمه السكران فرجع عنه فقيل له: يا أمير المؤمنين لما شتمك تركته. قال: إنما تركته لأنه أغضبني. فلو عزرته لكنت قد انتصرت لنفسي فلا أحب أن أضرب مسلماً لحمية نفسي (للشريشي)
عروة وعبد الملك
193 دخل عروة بن الزبير مع عبد الملك بن مروان إلى بستان. وكان عروة معرضاً عن الدنيا. فحين رأى في البستان ما رأى قال: ما أحسن هذا البستان. فقال له عبد الملك: أنت والله أحسن منه لأنه يؤتي أكله كل عام وأنت تؤتي أكلك كل يوم (للشريشي)(1/72)
الفيلسوف والحسن الوجه
194 نظر فيلسوف إلى رجل حسن الوجه خبيث النفس فقال: بيت حسن وفيه ساكن نذل. ورأى آخر شاباً جميلاً فقال: سلبت محاسن وجهك فضائل نفسك. قال الموسوي:
لا تجعلن دليل المرء صورته ... كم مخبر سمج من منظر حسن (للثعالبي)
عمر والغلام
195 يقال إن عمر بن عبد العزيز كان ينظر ليلاً في قصص الرعية في ضوء السراج. فجاء غلام له فحدثه في معنى سبب كان يتعلق ببيته فقال له عمر: أطفئ السراج ثم حدثني. لأن هذا الدهن من بيت مال المسلمين ولا يجوز استعماله إلا في أشغال المسلمين (للغزالي)
صلاح الدين والمرأة المفقودة الولد
196 كان صلاح الدين إماماً كاملاً لم يَلِ مصر بعد الصحابة مثله لا قبله ولا بعده. وكان رقيق القلب جداً والناس يأمنون ظلمه لعدله. ومن صنائعه ما أخبر العماد قال: قد كان للمسلمين لصوص يدخلون ليلاًَ خيام الفرنج فيسرقون. فاتفق أن بعضهم أخذ صبياً رضيعاً من مهده ابن ثلاثة أشهر. فوجدت أمه عليه وجداً شديداً واشتكت إلى ملوكهم. فقالوا لها:(1/73)
إن سلطان المسلمين رحيم القلب فاذهبي إليه. فجاءت إلى السلطان صلاح الدين. فبكت وشكت أمر ولدها. فرق لها رقة شديدة ودمعت عيناه. فأمر بإحضار ولدها فإذا هو بيع في السوق. فرسم بدفع ثمنه إلى المشتري. ولم يزل واقفاً حتى جيء بالغلام فدفعه إلى أمه وحملها على فرسٍ إلى قومها مكرمة (حسن المحاضرة في أخبار القاهرة للسيوطي)
الربيع والإجانة
197 روي أن الربيع الجيزي صاحب الإمام الشافعي مر يوماً في أزقة مصر وإذا إجانة مملؤة رماداً طرحت على رأسه. فنزل عن دابته وأخذ ينفض ثيابه فقيل له: ألا تزجرهم. فقال: من استحق النار وصولح بالرماد فليس له أن يغضب (للقليوبي) 198 حضر رجل بين يدي بعض الملوك فأغلظ له السلطان. فقال له الرجل: إنما أنت كالسماء إذا أرعدت وأبرقت فقد قرب خيرها. فسكن غضبه وأحسن إليه (للطرطوشي)
غلام وعمه
199 غلام هاشمي أراد عمه أن يجازيه بسهو منه. فقال: يا عم إني قد أسأت وليس لي عقل فلا تسيء ومعك عقلك (للثعالبي)
الجار السوء
200 عرض على أبي مسلم الخولاني حصان جواد مضمر فقال(1/74)
لقواده: لماذا يصلح هذا. فقالوا له: للجهاد في سبيل الله. فقال: لا. فقالوا: للقاء العدو. فقال: لا. فقالوا له: فلماذا يصلح أصلحك الله. فقال: أن يركبه الرجل ويهرب من الجار السوء (للقليوبي) 201 لما أتي عمر بالهرمزان أراد قتله فاستسقى ماءً فأتاه بقدح فأمسكه بيده فاضطرب وقال: لا تقتلني حتى أشرب هذا الماء. فقال: نعم. فألفى القدح من يده. فأمر عمر بأن يقتل فقال: أو لم تؤمني وقلت: لا أقتلك حتى تشرب هذا الماء. فقال عمر: قاتله الله أخذ أماناً ولم نشعر به (للثعالبي)
السليك بن السلكة
202 روي عن أبي عبيدة أن السليك بن السلكة نزل على جماعة من كنانة ضيفاً. فأكرموه وجمعوا له إبلاً كثيرة وأعطوه إياها. وكان قد كبر وشاخ وذهبت قوته وانتقص عدوه فقالوا له: إن رأيت أن ترينا ما بقي من عدوك. قال: نعم. ألقوا إلي أربعين شاباً. وأتوني بدرع عظيمة. فأتوه بها واختاروا من شبابهم أربعين أقوياء عدائين. فلبس سليك الدرع. ثم قال للشبان: الحقوني. ثم عدا عدواً وسطاً وعدا الشبان وراءه جهدهم فلم يلحقوه حتى غاب عنهم. ثم كر راجعاً حتى عاد إلى القوم وحده يخطر والدرع عليه وسبق الشبان (للشريشي)(1/75)
صباح أبو العتاهية
203 قيل لأبي العاهية: كيف أصبحت. قال: على غير ما يحب الله وعلى غير ما أحب وعلى غير ما يحب إبليس. فقيل له في ذلك. فقال: لأن الله يحب أن أطيعه وأنا لست كذلك. وأنا أحب أن يكون لي ثروة ولست كذلك. وإبليس يحب مني المعصية ولست كذلك (للقليوبي)
يحيى بن أكثم والمأمون
204 حكي عن يحيى بن أكثم قال: بت ليلة عند المأمون فانتبه في بعض الليل فظن أني نائم. فعطش ولم يدع الغلام لئلا أنتبه. وقام متسللاً خائفاً هادئاً في خطاه. حتى البرادة فشرب ثم رجع وهو يخفي صوته كأنه لص حتى اضطجع. وأخذه سعال فرأيته يجمع كمه في فمه كيلا أسمع سعاله. وطلع الفجر فأراد القيام وقد تناومت فصبر إلى أن كادت تفوت الصلاة فتحركت فقال: الله أكبر يا غلام نبه أبا محمد. فقلت: يا أمير المؤمنين رأيت بعيني جميع ما كان الليلة من صنيعك. وكذلك جعلنا الله لكم عبيداً وجعلكم لنا أرباباً (لشمس الدين النواجي)
يحيى البرمكي وسائله
205 يقال أن يحيى بن خالد البرمكي خرج من دار الخلافة راكباً إلى داره فرأى على باب الدار رجلاً. فلما قرب منه يحيى نهض قائماً(1/76)
وسلم عليه وقال: يا أبا علي إلي ما بيديك وقد جعلت الله وسيلتي إليك. فأمر يحيى أن يفرد له موضع في داره وأن يحمل إليه في كل يوم ألف درهم وأن يكون طعامه من خاص طعامه. فبقي على ذلك شهراً كاملاً. فلما انقضى الشهر كان قد وصل إليه ثلاثون ألف درهم. فأخذ الرجل الدراهم وانصرف فقيل ليحيى فقال: والله لو أقام عندي مدة عمري وطول دهره لما منعته صلتي ولا قطعت عنه ضيافتي (للغزالي)
الأطيبان الأخبثان
206 ذكر أن لقمان النوبي الحكيم بن عنقاء بن بروق من أهل الله أعطاه سيده شاة وأمره أن يذبحها ويأتيه بأخبث ما فيها. فذبحها وأتاه بقلبها ولسانها. ثم أعطاه شاة أخرى وأمره بذبحها ويأتيه بأطيب ما فيها. فذبحها وأتاه بقلبها ولسانها. فسأله عن ذلك فقال له: يا سيدي لا أخبث منهما إذا خبثا. ولا أطيب منهما إذا طابا (للقليوبي)
حكاية أدهم
207 يذكر أن أدهم مر ذات يوم ببساتين مدينة بخارى. وتوضأ من بعض الأنهار التي تخللها فإذا بتفاحة يحملها ماء النهر فقال: هذه لا خطر لها. فأكلها ثم وقع في خاطره من ذلك وسواس فعزم على أن يستحل من صاحب البستان. فقرع باب(1/77)
البستان فخرجت إليه جارية فقال لها: ادعي لي صاحب المنزل. فقالت: إنه لامرأة فقال: استأذني عليها. ففعلت. فأخبر المرأة بخبر التفاحة فقالت له: إن هذا البستان نصفه لي ونصفه للسلطان والسلطان يومئذ ببلخ وهي مسير عشر من بخارى. وأحلته المرأة من نصفها. وذهب إلى بلخ فاعترضه السلطان في موكبه فأخبره الخبر واستحله. فانذهل السلطان من أمره وأعطاه ألف دينار (لابن بطوطة)
حكاية عبد العزيز
208 كان عبد العزيز بن مروان أميراً بمصر. فركب يوماً بموضع وإذا رجل ينادي ولده يا عبد العزيز. فسمع الأمير نداءه فأمر له بعشرة آلاف درهم لينفقها على ذلك الولد الذي هو سميه. ففشا الخبر بمدينة مصر فكل من ولد له في تلك السنة ولد سماه عبد العزيز. وبضد ذلك كان الحاجب تاش الأمير الحاجب الكبير بخراسان مجتازاً يوماً بصيارف بخارى ورجل ينادي غلامه وكان اسم الغلام تاشاً. فأمر بإزالة الصيارف ومصادرتهم. قال: إنما أردتم الاستخفاف باسمي. فانظر الآن الفرق بين الحر القرشي وبين المملوك المسترق بالدرهم (للغزالي)
لقمان والناسك
209 قال لقمان الحكيم: كنت أسير في طريق فرأيت رجلاً(1/78)
على مسح فقلت: ما أنت أيها الرجل. فقال: آدمي. قلت: ما اسمك. قال: حتى أنظر بماذا أسمي نفسي. فقلت له. من أين يعطيك. فقال: من حيث يشاء. فقلت: طوبى لك وقرة عين. فقال: ومن الذي يمنعك عن هذه الطوبى وقرة العين (للأصبهاني)
المتوكل وابو العيناء
210 سأل المتوكل أبا العيناء: ما أشد ما عليك في ذهاب بصرك. قال: ما حرمته يا أمير المؤمنين من رؤيتك. مع إجماع الناس على جمالك (للشريشي)
السفيه والحليم
211 شتم سفيه حليماً وهو ساكت. فقال: إياك أعني. فقال: وعنك أغضي. قال الشاعر:
شاتمني عبد بني مسمع ... فصنت عنه النفس والعرضا
ولم أجبه لاحتقاري له ... من ذا يعض الكلب إن عضا (للثعالبي)
قد روي أن بعض الحكماء رأى شيخاً يطلب العلم ويحب النظر فيه ويستحي فقال: يا هذا أتستحي أن تكون في آخر عمرك أفضل مما كنت في أوله. ولآن الصغر أعذر وإن لم يكن في الجهل عذر (للطرطوشي)(1/79)
الرازي وصبيان
212 حكى أبو علي الرازي قال: مررت بصبيان في طريق الشام يلعبون بالتراب وقد ارتفع الغبار فقلت: مهلاً قد غبرتم. فقال صبي منهم: يا شيخ أين تفر إذا هيل عليك التراب في القبر فغشي علي فأفقت والصبي قاعد عند رأس مع الصبيان يبكون. فقلت له: أعندك حيلة في الفرار من التراب. قال: أنا لا أعلم ولكن سل غيري. فقلت: ومن غيرك. قال: عقلك (للشريشي)
الحاج والعجوز
213 يقال إنه انقطع رجل من قافلة الحج وغلط الطريق ووقع في الرمل. فجعل يسير إلى أن وصل إلى خيمة فرأى في الخيمة امرأةً عجوزاً وعلى باب الخيمة كلباً نائماً. فسلم الحاج على العجوز وطلب منها طعاماً. فقالت العجوز: امض إلى ذلك الوادي. واصطد من الحيات بقدر كفايتك لأشوي لك منها وأطعمك. فقال الرجل: أنا لا أجسر أن أصطاد الحيات. فقالت العجوز: أنا أصطاد معك فلا تخف. فمضيا وتبعهما الكلب فأخذا من الحيات بقدر حاجتهما. فأتت العجوز وجعلت تشوي الحيات فلم ير الحاج بداً من الأكل وخاف أن يموت من الجوع والهزال فأكل. ثم إنه عطش فطلب منها الماء فقالت: دونك العين فاشرب. فمضى إلى العين فوجد الماء مراً مالحاً ولم يجد من شربه(1/80)
بداً. فشرب وعاد إلى العجوز وقال: أعجب منك أيتها العجوز ومن مقامك في هذا المكان واغتذائك بهذا الطعام. فقالت العجوز: كيف تكون بلادكم. فقال: في بلادنا الدور الرحبة الواسعة والفواكه اليانعة والمياه العذبة والأطعمة الطيبة واللحوم السمينة والنعم الكثيرة والعيون الغزيرة. فقالت العجوز: قد سمعت هذا كله فقل لي هل تكونون تحت يدي سلطان يجور عليكم وإذا كان لكم ذنب أخذ أموالكم واستأصل أحوالكم وأخرجكم من بيوتكم وأملاككم. فقال: قد يكون ذلك. فقالت: إذا يعود ذلك الطعام اللطيف. والعيش الظريف. والحلوى العجيبة مع الجور والظلم سماً ناقعاً. وتعود أطعمتنا مع الأمن درياقاً نافعاً. أما سمعت أن أجل النعم بعد نعمة الهدى الصحة والأمن (للغزالي)
حكاية أبي يعقوب يوسف
214 قصدنا من مدينة بيروت زيارة قبر أبي يعقوب يوسف الذي يزعمون أنه من ملوك المغرب. وهو بموضع يعرف بكرك نوع من بقاع العزيز. ويذكر أنه كان ينسج الحصر ويقتات بثمنها. وحكي عنه أنه دخل مدينة دمشق فمرض بها مرضاً شديداً وأقام مطروحاً بالأسواق. فلما برئ من مرضه خرج إلى ظاهر دمشق ليلتمس بستاناً يكون حارساً له. فاستؤجر(1/81)
لحراسة بستان للملك نور الدين وأقام في حراسته ستة أشهر. فلما كان في أوان الفاكهة أتى السلطان إلى ذلك البستان فأمر وكيل البستان أبا يعقوب أن يأتي برمان يأكل منه السلطان. فأتاه برمان فوجده حامضاً. فقال له الوكيل: أتكون في حراسة البستان منذ ستة أشهر ولا تعرف الحلو من الحامض. فقال: إنما استأجرتني على الحراسة لا على الأكل. فأتى الوكيل إلى الملك فأعلمه بذلك. فبعث الملك إليه وكان قد رأى في المنام إنه يجتمع مع أبي يعقوب فتفرس أنه هو. فقال له: أنت أبو يعقوب. قال: نعم. فقام إليه وعانقه وأجلسه إلى جانبه. ثم احتمله إلى مجلسه فأضافه بضيافة من الحلال المكتسب بكد يمينه. وقام عنده أياماً ثم خرج من دمشق فاراً بنفسه في أوان البرد الشديد (لابن بطوطة)
المنصور والمعتدى عليه
215 روي أن رجلاً من العقلاء غصبه بعض الولاة ضيعة له واعتدى عليه. فذهب إلى المنصور فقال له: أصلحك الله أذكر لك حاجتي أم أضرب لك قبلها مثلاً. فقال له: بل اضرب لي قبلها مثلاً. فقال أصلحك الله إن الطفل الصغير إذا نابه أمر يكرهه فإنه يفر إلى أمه لنصرته إذ لا يعرف غيرها ظناً منه أنه لا ناصر له فوقها. فإذا ترعرع واشتد كان فراره وشكواه(1/82)
إلى أبيه لعلمه بأن أباه أقوى من أمه على نصرته. فإذا بلغ وصار رجلاً وحزبه أمر شكا إلى الوالي لعلمه بأنه أقوى من أبيه. فإن زاد عقله واشتدت شكيمته شكا إلى السلطان لعلمه بأنه أقوى ممن سواه. فإن لم ينصفه السلطان شكا إلى الله تعالى لعلمه بأنه أقوى من السلطان. وقد نزلت بي نازلة وليس فوقك أحد أقوى منك إلا الله تعالى. فإن أنصفتني وإلا رفعت أمرها إلى الله تعالى. قال: بل ننصفك. وأمر بأن يكتب إلى واليه برد ضيعته إليه.
النجاة بعون الله
216 روي أن سلطان صقلية أرق ذات ليلة ومنع النوم. فأرسل إلى قائد البحر وقال: أنفذ الآن مركباً إلى أفريقية يأتوني بأخبارها. فعمر القائد المركب وأرسله لحينه. فلما أصبحوا إذا بالمركب في موضعه لم يبرح فقال له الملك: أليس قد فعلت ما أمرتك به. قال: نعم امتثلت أمرك وأنفذت المركب ورجع بعد ساعة وسيحدثك مقدم المركب. فجاء مقدم المركب ومعه رجل فقال الملك: ما منعك أن تذهب حيث أمرت. قال: ذهبت في المركب فبينما أنا في جوف الليل والبحارون يجذفون فإذا أنا بصوت يقول: يا الله يا الله يا غياث المستغيثين يكررها مراراً. فلما استقر صوته في أسماعنا(1/83)
ناديناه مراراً: لبيك لبيك. وهو ينادي: يا الله يا الله يا غياث المستغيثين. ونحن نجيبه: لبيك لبيك. وتوجهنا نحو الصوت فألفينا هذا الرجل غريقاً في آخر رمق من الحياة. فأخرجناه من البحر وسألناه عن حاله فقال: كنا مقلعين من أفريقية فغرقت سفينتنا منذ أيام وما زلت أسبح حتى وجدت الموت فلم أشعر بالغوث إلا من ناحيتكم. فسبحان من أسهر سلطاناً وأرق جباراً في قصره لغريق في البحر وظلمة الوحشة حتى استخرجه من تلك الظلمات الثلاث ظلمة الليل وظلمة البحر وظلمة الوحشة. لا إله إلا أنت سبحانك يا أرحم الراحمين (للطرطوشي)
الجندي والمحتال
217 إنه كان بثغر الاسكندرية والٍ يقال له حسام الدين. فبينما هو جالس في دسته ذات ليلة إذ أقبل عليه رجل جندي وقال له: اعلم يا مولانا الوالي أني دخلت هذه المدينة في هذه الليلة ونزلت في خان كذا. فنمت فيه إلى ثلث الليل فلما انتبهت وجدت خرجي مشروطاً وقد سرق منه كيس فيه ألف دينار. فلم يتم كلامه حتى أرسل الوالي وأحضر المقدمين وأمرهم بإحضار جميع من في الخان وأمر بسجنهم إلى الصباح. فلما جاء الصبح أمر بإحضار آلة العقوبة وأحضر هؤلاء الناس بحضرة الجندي صاحب الدراهم وأراد عقابهم. وإذا برجل(1/84)
أقبل وشق الناس حتى وقف بين يدي الوالي والجندي فقال: أيها الأمير أطلق هؤلاء الناس كلهم فإنهم مظلومون. وأنا الذي أخذت مال هذا الجندي وها هو الكيس الذي أخذته من خرجه. ثن لأخرجه من كمه ووضعه بين يدي الوالي والجندي. فقال الوالي للجندي: خذ مالك وتسلمه فما بقي لك على الناس سبيل. وصار الناس وجميع الحاضرين يثنون على ذلك الرجل ويدعون له. ثم إن الرجل قال: أيها الأمير ما الشطارة أني جئت إليك بنفسي وأحضرت هذا الكيس وإنما الشطارة في أخذ هذا الكيس ثانياً من هذا الجندي. فقال له الوالي: وكيف فعلت يا شاطر حين أخذته. فقال: أيها الأمير إني كنت في مصر في سوق الصيارف إذ رأيت هذا الجندي لما صرف هذا الذهب ووضعه في هذا الكيس فتبعته من زقاق إلى زقاق فلم أجد لي إلى أخذ المال منه سبيلاً. ثم إنه سافر فتبعته من بلد إلى بلد وصرت احتال عليه في أثناء الطريق فما قدرت على أخذه منه. فلما دخل هذه المدينة تبعته حتى دخل في هذا الخان. فنزلت إلى جانبه ورصدته حتى نام وسمعت غطيطه. فمشيت إليه قليلاً قليلاً وقطعت الخرج بهذه السكين وأخذت الكيس هكذا. ومد يده وأخذ الكيس من بين أيادي الوالي والجندي وتأخر إلى خلف الوالي والجندي والناس ينظرون(1/85)
إليه ويعتقدون أنه يريهم كيف أخذ الكيس من الخرج. وإذا به قد جرى ورمى نفسه في بركة. فصاح الوالي على حاشيته وقال: ألحقوه وانزلوا خلفه. فما نزعوا ثيابهم ونزلوا في الدرج حتى كان الشاطر مضى إلى حال سبيله وفتشوا عليه فلم يجدوه. وذلك لأن أزقة الإسكندرية كلها تنفذ إلى بعضها. ورجع الناس ولم يحصلوا الشاطر. فقال الوالي للجندي: لم يبق لك عند الناس حق لأنك عرفت غريمك وتسلمت مالك وما حفظته. فقام الجندي وقد ضاع ماله وخلصت الناس من أيدي الجندي والوالي (ألف ليلة وليلة)
المأمون والصائغ
218 حدث سليمان الوراق قال: ما رأيت أعظم حلماً من المأمون. دخلت عليه يوماً وفي يده فص مستطيل من ياقوت أحمر له شعاع قد أضاء له المجلس وهو يقلبه بيده ويستحسنه. ثم دعا برجل صائغ وقال له: اصنع بهذا الفص كذا وكذا وأحلل فيه كذا وكذا. وعرفه كيف يعمل به. فأخذه الصائغ وانصرف. ثم عدت إلى المأمون بعد ثلاث فتذكره فاستدعى بالصائغ. فأتي به وهو يرعد وقد انتقع لونه. فقال المأمون: ما فعلت بالفص. فتلجلج الرجل ولم ينطق بكلام. ففهم المأمون بالفراسة أنه حصل فيه خلل. فولى وجهه عنه حتى(1/86)
سكن جأشه ثم التفت إليه وأعاد القول. فقال: الأمان يا أمير المؤمنين. قال: لك الأمان. فأخرج الفص أربع قطع وقال: يا أمير المؤمنين سقط من يدي على السندان فصار كما ترى. فقال المأمون: لا بأس عليك اصنع به أربع خواتم. وألطف له في الكلام حتى ظننت أنه كان يشتهى الفص على أربع قطع. فلما خرج الرجل من عنده قال: أتدرون كم قيمة هذا الفص. قلنا: لا. قال: اشتراه الرشيد بمائة ألف وعشرين ألفاً (للاتليدي)
حكاية نظام الملك وأبي سعيد الصوفي
219 حكى أن رجلاً يقال له أبو سعيد قصد نظام الملك فقال له: يا أمير المؤمنين أنا أبني لك مدرسة ببغداد مدينة السلام لا يكون في معمور الأرض مثلها يخلد بها ذكرك إلى أن تقوم الساعة. قال: فافعل. فكتب إلى وكلائه ببغداد أن يمكنوه من الأموال. فابتاع بقعة على شاطئ دجلة وخط المدرسة النظامية وبناها أحسن بنيان وكتب عليها اسم نظام الملك. وبنى حولها أسواقاً تكون محبسة عليها وابتاع ضياعاً وخانات وحمامات وقفت عليها. فكملت لنظام الملك بذلك رئاسة وسؤود وذكر جميل طبق الأرض خبره. وعم المشارق والمغارب أثره. وكان ذلك في سنى عشر الخمسين وأربعمائة من الهجرة.(1/87)
ثم رفع حساب النفقات إلى نظام الملك فبلغ ما يقارب ستين ألف دينار. ثم نمى الخبر إلى نظام الملك من الكتاب وأهل الحساب أن جميع ما أنفق نحو تسعة آلاف دينار وأن سائر الأموال احتجبها لنفسه وخانك فيها. فدعاه نظام الملك إلى أصبهان للحساب. فلما أحس أبو سعيد بذلك أرسل إلى الخليفة أبي العباس يقول له: هل لك في أن أطبق الأرض بذكرك وأنشر لك فخراً لا تمحوه الأيام. قال: وما هو. قال: أن تمحو اسم نظام الملك عن هذه المدرسة وتكتب اسمك عليها وتزن له ستين ألف دينار. فأرسل إليه الخليفة يقول: أنفذ من يقبض المال. فلما استوثق منه مضى إلى أصبهان فقال له نظام الملك: إنك رفعت لنا نحواً من ستين ألف دينار وأحب أن تخرج الحساب. فقال له أبو سعيد: لا تطل الخطاب إن رضيت فيها وإلا محوت اسمك المكتوب عليها وكتبت عليها اسم غيرك فأرسل معي من يقبض المال. فلما أحس نظام الملك بذلك قال: يا شيخ قد سوغنا لك جميع ذلك ولا تمح اسمنا. ثم إن أبا سعيد بنى بتلك الأموال الرباطات للصوفية واشترى الضياع والخانات والبساتين والدور ووقف جميع ذلك على الصوفية (للطرطوشي)(1/88)
الباب السابع في الفكاهات
220 نظر بعض الحكماء إلى أحمق على حجر فقال: حجر على حجر (للابشيهي) 221 نظر رجل إلى فيلسوف يؤدب شيخاً فقال له: ما تصنع. قال: أغسل حبشياً لعله يبيض (للمستعصمي) 222 قال الحاجري يهجو طبيباً:
يمشي وعزرائيل من خلفه ... يشمر الأردان للقبض
223 قيل إن رجلاً ادعى النبوءة في أيام أحد الملوك. فلما حضر بين يديه قال له: أنت نبي. قال: نعم. قال: وإلى من بعثت. قال: إليك. قال: أشهد أنك سفيه أحمق. قال: إنما يبعث لكل قوم مثلهم. فضحك الملك وأمر له بشيء (للابشيهي) 224 ترك رجل النبيذ فقيل له: لم تركته وهو رسول السرور إلى القلب. فقال: ولكنه بئس الرسول. يبعث إلى الجوف فيذهب إلى الرأس (للشريشي) 225 تنبأ إنسان فطالبوه بحضرة المأمون بمعجزة. فقال: إني أطرح لكم حصاة في الماء فتذوب. قالوا: رضينا. فأخرج حصاة من جيبه وطرحها في الماء فذابت. فقالوا: هذه حيلة. نعطيك(1/89)
حصاةً من عندنا ودعها تذوب. فقال: لستم أجل من فرعون ولا أعظم كرامة من موسى. فلم يقل فرعون لموسى: لم أرض بما تفعله بعصاك حتى أعطيك عصاً من عندي تجعلها ثعباناً. فضحك المأمون وأجازه (للابشيهي) 226 سرق رجل صرة من الدراهم ومضى حتى أتى إلى المسجد فدخل يصلي. فقرأ الإمام: وما تلك بيمينك يا موسى. وكان اسم الأعرابي. فقال: لا شك أنك ساحر. ثم رمى الصرة وخرج هارباً (للقليوبي) 227 قال بعض الملوك لصاحب خيله: قدم لي الفرس الأبيض. فقال له وزيره: أيها الملك لا تقل الفرس الأبيض. فإنه عيب يخل بهيبة الملوك ولكن الفرس الأشهب. فلما أحضر الطعام قال لصاحب السماط: قدم الصحن الأشهب. فقال الوزير: قل ما شئت فما لي حيلة في تقويمك (للابشيهي) 228 نظر أشعب إلى رجل يعمل طبقاً. فقال له الرجل: ما معنى ذلك. قال: لعله أن يهدي إلي يوماً فيه شيءٌ (للشريشي) 229 كان الشيخ المعروف بالشيخ الكرماني شاعراً على زي الفقراء عليل العينين وكان يصنع الأكحال ويبيع الطالبين. فاشترى منه أحد يوماً كحلاً بدرهم ورأى المشتري أن عينه عليلة فأعطاه(1/90)
درهمين وقال: هذا ثمن كحلك وهذا الآخر لك. اشتر به أنت أيضاً كحلاً وكحل عينيك. فاستحسن الشيخ ذلك (لابن طقطقي)
الحجاج والشيخ
230 حكي أن الحجاج خرج في بعض الأيام للتنزه فصرف عنه أصحابه وانفرد بنفسه فلاقى شيخاً من بني عجل فقال له: من أين أنت يا شيخ. قال: من هذه القرية. قال: ما رأيكم بحكام البلاد. قال: كلهم أشرار يظلمون الناس ويختلسون أموالهم. قال: وما قولك في الحجاج. قال: أنجس الكل سود الله وجهه ووجه من استعمله على هذه البلاد. فقال الحجاج: تعرف من أنا. قال: لا والله. قال: أنا الحجاج. قال: أنا فداك وأنت تعرف من أنا. قال: لا. قال: أنا زيد بن عامر مجنون بني عجل أصرع كل يوم مرة في مثل هذه الساعة. فضحك الحجاج وأجازه (لابن قتيبة)
الرشيد ومدعي النبوة
231 إدعى رجل النبوءة في زمان الرشيد. فلما أحضروه قدام أمير المؤمنين قال له: لكل نبي بينة تدل على نبوءته. فأي شي من دلائلك. قال: اسأل ما تريد. قال: أريد أن تصير هؤلاء المماليك المرد كلهم بلحى. فأطرق إلى الأرض ساعة ثم رفع رأسه وقال: كيف يحل أن أصير هؤلاء المرد بلحي وأغير هذه الصورة الحسنة ولكن أصير هؤلاء الذي هم بلحى مرداً في لحظة واحدة.(1/91)
فاستحسن الرشيد جوابه وعفا عنه (لابن طقطقي) 232 يقال إن هبنقة كان يرعى غنم أهله فيرعى السمان في العشب وينحي المهازيل. فقيل له: ويحك ما تصنع. فقال: لا أصلح ما أفسد الله ولا أفسد ما أصلح الله (لطائف العرب)
المعتصم وابن الجنيد
233 كان المعتصم يأنس بعلي بن الجنيد الإسكافي. وكان عجيب الصورة والحديث. فقال المعتصم لابن حماد: اذهب على ابن الجنيد وقل له أن يتهيأ ليزاملني. فأتاه فقال له: تهيأ لمزاملة أمير المؤمنين فإن مزاملة الخلفاء كبيرة. فقال: كيف أتهيأ لها. أصيب رأساً غير رأسي. اشتري لحية غير لحيتي. قال ابن حماد: شروطها الإمتاع بالحديث والمذاكرة والمنادمة. وأن لا تبصق ولا تسعل ولا تمخط ولا تتنحنح. وأن تتقدم في الركوب إشفاقاً عليه من الميل وأن يتقدمك في النزول. فمتى لم يفعل هذا المعادل كان ومثقلة الرصاص التي يعدل بها القبة واحداً. فقال لابن حماد: اذهب قل له: لا يزاملك إلا من كان دنئ الأصل. فرجع إلى المعتصم وأعلمه فضحك وقال: علي به. فلما جاء قال: يا علي أبعث إليك أن تزاملني فلا تفعل. فقال له: إن رسولك هذا الأرعن جاء إلى بشروط حسان السامي وخالويه الحاكمي. فقال: لا تبصق ولا تعطس وجعل يفرقع بصاداته وهذا لا أقدر عليه. فإن رضيت أن أزاملك إذا أتتني(1/92)
العطسة عطست وإلا فليس بيني وبينك عمل. فضحك المعتصم حتى فحص برجليه وقال: نعم زاملني على هذه الشروط (للشريشي)
الضيف الضجر الممل
234 أضاف رجل رجلاً فأطال المقام حتى كرهه. فقال الرجل لامرأته: كيف لنا أن نعلم مقدار مقامه. فقالت له: ألق بيننا شراً حتى نتحاكم إليه. ففعل. فقالت المرأة للضيف: بالذي يبارك لك في غدوك غداً أينا أظلم. فقال: والذي يبارك لي في قيامي عندكم شهراً ما أعلم.
البصري والدنيء
235 نزل بصري على مدني وكان صديقاً له. فألح عليه في الجلوس فقال المدني لامرأته: إذا كان يوم غد فإني أقول لضيفنا: كم ذراع يقفز فأقفز. فإذا قفز فأغلقي الباب خلفه. فلما كان الغد قال المدني: كم قفزك يا أبا فلان. قال: جيد. فعرض عليه أن يقفز معه فأجابه. فوثب المدني من داره إلى خارج أذرعا. وقال للضيف ثب أنت. فوثب الضيف إلى داخل الدار ذراعين. فقال له وثبت أنا إلى خارج الدار أذرعاً وأنت إلى داخلها ذراعين. فقال الضيف: ذراعان في الدار خير من أربع إلى خارج (للمبرد)
الشاعر والمأمون
236 أتى شاعر المأمون فقال: لقد قلت فيك شعرا. فقال:(1/93)
أنشدنيه. فقال:
حياك رب الناس حياكا ... إذ بجمال الوجه رقاكا
بغداد من نورك قد أشرقت ... وأورق العود بجدواكا
(قال) فأطرق المأمون ساعة وقال: يا أعرابي وأنا قد قلت فيك شعراً وأنشد يقول:
حياك رب الناس حياكا ... إن الذي أملت أخطاكا
أتيت شخصاً قد خلا كيسه ... ولو حوى شيئاً لأعطاكا
فقال يا أمير المؤمنين الشعر بالشعر حرامٌ. فاجعل بينهما شيئاً يستطاب. فضحك المأمون وأمر له بمال (للاتليدي)
هارون الرشيد وجعفر مع الشيخ البدوي
237 مما يحكى أن أمير المؤمنين هارون الرشيد خرج يوماً من الأيام هو وأبو يعقوب النديم وجعفر البرمكي وأبو نواس وساروا في الصحراء. فرأوا شيخاً متكئاً على حمار له فقال هارون الرشيد لجعفر: اسأل هذا الشيخ من أين هو. فقال له جعفر: من أين جئت. قال: من البصرة. قال له جعفر: وإلى أين سيرك. قال: إلى بغداد. قال له: وما تصنع فيها. قال: ألتمس دواء لعيني. فقال هارون الرشيد: يا جعفر مازحه. فقال: إذا مازحته أسمع منه ما أكره. فقال: بحقي عليك أن تمازحه. فقال جعفر للشيخ: إن وصفت لك دواء ينفعك فما الذي تكافئني به. فقال له: الله تعالى(1/94)
يكافئك عني بما هو خير لك من مكافأتي. فقال: أنصت إلي حتى أصف لك هذا الدواء الذي لا أصفه لأحد غيرك. فقال له: وما هو. فقال جعفر: خذ لك ثلاث أواق من هبوب الريح وثلاث أواق من شعاع الشمس وثلاث أواق من زهر القمر وثلاث أواق من نور السراج. واجمع الجميع وضعها في الريح ثلاثة أشهر. ثم بعد ذلك ضعها في هاون بلا قعر ودقها ثلاثة أشهر. فإذا دققتها فضعها في جفنة مشقوقة وضع الجفنة في الريح ثلاثة أشهر. ثم استعمل هذا الدواء في كل يوم ثلاثة دراهم عند النوم. واستمر على ذلك ثلاثة أشهر فإنك تعافى بإذن الله تعالى. فلما سمع الشيخ كلام جعفر قال: لا عافاك الله يا صاقع الذقن. خذ مني هذه اللطمة مكافأة لك على وصفك هذا الدواء. وبادره بضربة على أم رأسه. فضحك هارون الرشيد حتى استلقى وأمر لذلك الرجل بثلاثة آلاف درهم (ألف ليلة وليلة) 238 قيل لغلام: أما يكسوك معلمك. فأجاب: إن معلمي لو كان له بيت مملوء إبراً وجاء يعقوب ومعه الأنبياء شفعاء والملائكة ضمناء يستعير منه إبرة ليخيط بها ثوب ابنه يوسف الذي قد ما أعاره إياها فكيف يكسوني. وقد نظم ذلك من قال:
لو أن دارك أنبتت لك واحتشت ... إبراً يضيق بها فناء المنزل
وأتاك يوسف يستعير إبرة ... ليخيط قد قميصه لم تفعل(1/95)
العليل والناسك
239 نزل رجل بصومعة ناسك فقدم إليه الناسك أربعة أرغفة وذهب ليحضر إليه عدساً. فحمله وجاء فوجده قد أكل الخبز فذهب فأتى بغيره فوجده قد أكل العدس. ففعل معه ذلك عشر مرات. فسأله الناسك عن مقصده. قال: إلى الأردن. قال: لماذا. قال: بلغني أن بها طبيباً حاذقاً أسأله عما يصلح معدتي. فإني قليل الشهوة للطعام. فقال له الناسك: إن لي إليك حاجة. قال: وما هي. قال: إذا ذهبت وأصلحت معدتك فلا تجعل رجوعك عليّ وقال:
يا ضيفنا لو زرتنا لوجدتنا ... نحن الضيوف وأنت رب المنزل
الأعرابيان
240 قيل خرج أعرابي قد ولاه الحجاج بعض النواحي فأقام بها مدة طويلة. فلما كان في بعض الأيام ورد عليه أعرابي من حيه. فقدم إليه الطعام وكان إذ ذاك جائعاً فسأله عن أهله وقال: ما حال ابني عمير. قال: على ما تحب قد ملأ الأرض والحي رجالاً ونساءً. قال: فما حال أم عمير. قال: صالحة أيضاً. قال: فما حال الدار. قال: عامرة بأهلها. قال: وكلبنا إيقاع. قال: قد ملأ الحي نبحاً. قال: فما حال جملي زريق. قال: على ما يسرك. (قال) فالتفت إلى خادمه وقال: ارفع الطعام. فرفعه ولم يشبع الأعرابي. ثم(1/96)
أقبل عليه يسأله وقال: يا مبارك الناصية أعد على ما ذكرت قال: سل عما بدا لك. قال: فما حال كلبي إيقاع. قال: مات. قال: وما الذي أماته. قال: اختنق بعظمة من عظام جملك زريق فمات. قال: أو مات جملي زريق. قال: نعم. قال: وما الذي أماته. قال: كثر نقل الماء إلى قبر أم عمير. قال: أو ماتت أم عمير. قال: نعم. قال: وما الذي أماتها. قال: كثرة بكائها على عمير. قال: أو مات عمير. قال: نعم. قال: وما الذي أماته. قال: سقطت عليه الدار. قال: أو سقطت الدار. قال: نعم. فقام له بالعصا ضارباً. فولى من بين يديه هارباً (للابشيهي)
قصة أبي دلامة والخليفة السفاح
241 قيل إن أبا دلامة الشاعر كان واقفاً بين يدي السفاح في بعض الأيام فقال له الخليفة: سلني حاجتك. فقال له أبو دلامة: أريد كلب صيد. فقال: أعطوه إياه. فقال: وأريد دابة أتصيد عليها. قال: أعطوه إياها. قال: وغلاماً يقود الكلب ويصيد به. قال: أعطوه غلاماً قال: وجارية تصلح الصيد وتطعمنا منه. قال: أعطوه جارية. قال: هؤلاء يا أمير المؤمنين عبيدك. فلا بد لهم من دار يسكنونها. فقال: أعطوه داراً تجمعهم. قال: وإن لم يكن لهم ضيعة فمن أين يعيشون. قال: قد أقطعتك عشر ضياع عامرة وعشر ضياع غامرة. قال: وما الغامرة يا أمير(1/97)
المؤمنين. قال: ما لا نبات فيها. قال: قد أقطعتك يا أمير المؤمنين مائة ضيعة غامرة من فيافي بني أسدٍ. فضحك منه وقال: اجعلوها كلها عامرة (للاتليدي) 242 يحكى أنه قيل لبعض البخلاء: إن لكل رئيس علامة ينصرف بها ندماؤه. فما علامتك. قال: إذا قلت: يا غلام هات الطعام (للنواجي)
المأمون والطفيلي
243 روى ابن عامر الفهري عن أشياخه قال: أمر المأمون أن يحمل إليه من أهل البصرة عشرة رجال كانوا قد رموا عنده بالزندقة فحملوا إليه. فمر بهم طفيلي فرآهم مجتمعين فظن خيراً ومضى معهم إلى الساحل وقال: ما اجتمع هؤلاء إلا لوليمة. فانسل ودخل الزورق وقال: لا شك أنها نزهة. فلم يكن إلا يسير حتى قيدوا القوم وقيد معهم. فعلم أنه وقع فيما لا طاقة له به ورام الخلاص فلم يقدر. وساروا إلى أن وصلوا إلى بغداد وأدخلوا على المأمون. فاستدعى بهم بأسمائهم واحداً بعد واحد. وجعل يذكره بفعله وبقوله ويضرب عنقه حتى لم يبق إلا الطفيلي. وفرغت العشرة فقال المأمون للمتوكل: من هذا. فقال: لا أعلم يا أمير المؤمنين غير أننا رأيناه معهم فجئنا به. فقال: يا أمير المؤمنين لم أعرف من أحوالهم شيئاً وإنما رأيتهم مجتمعين فظننت أنها وليمة(1/98)
يدعون إليها فلحقت بهم. فضحك المأمون وقال: أو قد بلغ من شؤم التطفل أن يحل بصاحبه هذا المحل. لقد سلم هذا الجاهل من القتل ولكن يؤدب حتى لا يعود إلى مثلها (للاتليدي)
اللصان والحمار
244 قيل إن لصين سرقا حماراً ومضى أحدهما ليبيعه. فقابله رجل معه طبق فيه سمك فقال له: أتبيع هذا الحمار. قال: نعم. قال له: أمسك هذا الطبق حتى أركبه وأجربه فإن أعجبني اشتريته بثمن يعجبك. فأمسك اللص الطبق وركب الرجل الحمار يردده ويجربه ذهاباً وإياباً حتى ابتعد عن اللص كثيراً. فدخل بعض الأزقة ومازال يقطع به من زقاق إلى آخر حتى اختفى عنه بالكلية. فأخذت اللص الحيرة من ذلك وعرف أخيراً أنها حيلة عليه. فرجع بالطبق فالتقاه رفيقه فقال: ما فعلت بالحمار هل بعته. قال: نعم. قال: بكم. قال برأس ماله وهذا الطبق ربح. فقال متمثلاً: ولكم من سعى ليصطاد فاصطيد ولم يلق غير خفي حنين
القاضي والتاجر
245 كان القاضي ابن حديد ناظر الديوان بالإسكندرية وقاضيها. فبينما هو جالس في الديوان أحضر الترجمان بعض تجار الفرنج الواصلين ولحيته محلوقة وشواربه سالمة. وكان ابن حديد له لحية طويلة وشواربه خفيفة لا تكاد أن تتبين(1/99)
إلا من قرب. فسأل ابن حديد التاجر عن بضاعته وبلده والترجمان يفسر له. ثم قال للترجمان: قل له لأي معنى حلقت لحيتك وتركت شواربك. فسأله الترجمان عن ذلك. فقال الفرنجي: قل للقاضي إن الأسد بشوارب بلا لحية. والتيس بلحية بلا شوارب. فخجل القاضي وانقطع عن رد الجواب (للقليوبي) 246 كان أبو دلامة مع أبي مسلم في بعض حروبه. فدعا رجل من الأعداء إلى البراز. قال أبو مسلم لأبي دلامة: اخرج إليه. فأنشد يقول:
ألا لا تلمني إن فررت فإنني ... أخاف على فخارتي أن تحطما
فلو أنني في السوق أبتاع مثلها ... وجدك ما باليت أن أتقدما
فضحك أبو مسلم وأعفاه (للأصبهاني) 247 كان للفرزدق نديم يسمى زياداً الأقطع. فأتى بابه فخرج ابن له صغير فقال له: ابن من أنت. قال: ابن الفرزدق. قال: فما بالك حبشياً. قال: فما بال يدك مقطوعة. قال: قطعت في حرب الحرورية. قال: بل قطعت في اللصوصية. فقال: عليك وعلى أبيك لعنة الله. ثم أخبر الفرزدق بالخبر. فقال: أشهد أنه ابني حقاً
248 قدم لأعرابي كامخٌ (وهو أكلة مصنوعة من الحنطة واللبن) فلم يستطبه. وأكل منه شيئاً وخرج ودخل المسجد والإمام في الصلاة يقرأ: حرمت عليكم الميتة والدم ولحم الخنزير. فقال:(1/100)
الأعرابي: والكامخ لا تنسه أصلحك الله 249 مر ابن حمامة بابن هرمة وهو جالس بفناء بيته. فقال: السلام عليكم. فقال: قد قلت ما لا ينكر. قال: خرجت من أهلي بغير زادٍ. قال: ما ضمنت لأهلك قراك. قال: أفتأذن لي أن آتي ظل بيتك. قال: دونك الجبل يفيء عليك. قال: أنا ابن حمامة. قال: انصرف وكن ابن أي طائر شئت
المتشوق إلى الحرب
250 قال أفلح التركي: خرجنا مرة إلى حرب لنا ومعنا رجل كان يقول: أنا أتمنى أن أرى الحرب كيف هي. فأخرجناه معنا فأول سهم جاء وقع في رأسه. فلما انصرفنا دعونا له معالجاً فنظر إليه وقال: إن خرج الزج وفيه شيء من دماغه مات. وإن لم يخرج عليه شيء من دماغه لم يكن عليه بأس. فسبق فقبل رأسه وقال: بشرك الله بخير انزعه فما في رأسي دماغ. فقال الطبيب: وكيف ذلك. قال: لو كان فيَّ ذرة من دماغ ما كنت ههنا (للشريشي) 251 اختلف أعرابيان في رجل فقال الأول: من بني راسب. وقال الثاني: بل من بني طفاوة. فمر بهما باقل الربعي. فتحاكما إليه. فقال: ألقوه في الماء فإن رسب فهو من بني راسب. وإن طفا فمن بني طفاوة. فضرب المثل في حكمه (للقليوبي) 252 أعرابي لقي آخر فقال: ما اسمك. قال: فيض. فقال:(1/101)
ابن من. قال: ابن الفرات. قال: أبو من. قال: أبو بحر. قال: ليس لنا أن نكلمك إلا في زورق (للشريشي)
الراعي والجرة
253 قيل إنه كان لأحد الأغنياء راعٍ يرعى غنماً في إحدى البراري. وكان قد عين له معاشاً فيه شيء من السمن. فكان الراعي يبقى السمن ويذخره في جرة له كانت معلقة في كوخه. فبينما هو ذات يوم جالس في كوخه عند غروب الشمس. وهو متكئ على عصاه. أخذ يفكر بما يعمله فيما اجتمع عنده من السمن. فقال في نفسه: إني سأذهب به غداً على السوق وأبيعه وأشتري بثمنه نعجةً حاملاً فتضع لي نعجةً أخرى. ثم تكبر هذه وتلد لي مع أمها نعاجاً أخر وهكذا إلى أن يصير عندي قطيع كبير. فأرد ما عندي من الغنم إلى صاحبه واتخذ لي أجيراً يرعى غنمي. وأبتني لي قصراً عظيماً فأزينه بالمفروشات الحسنة والأواني المرصعة والمنقوشات البهجة. ومتى بلغ رشد ولدي أحضر له معلماً أديباً حكيماً يعلمه الأدب والحكمة وآمره بطاعتي واحترامي. فإن امتثل وإلا ضربته بهذه العصا. ورفع يده بعصاه فأصابت الجرة فكسرتها. فسقط السمن على رأسه ولحيته وثيابه متبدداً في كل جهة. فحزن لذلك حزناً عظيماُ قائلاً: هذا جزاء من يصغي إلى تخيلاته 254 حكى أن جُحى قال ذات يوم لرجل وهذا الرجل جاره:(1/102)
هل سمعت يا أخي البارحة صراخنا. فقال له: نعم. وأي شيءٍ نزل بكم. قال له: سقط ثوبي من أعلى السطح إلى الأرض. فقال له: وإذا سقط ما الذي يضره. قال له: يا أحمق لو كنت فيه ألست كنت أتكسر وأموت (للقليوبي)
المنصور وابن هرمة
255 دخل ابن هرمة على المنصور وامتدحه. فقال له المنصور: سل حاجتك. قال: تكتب إلى عاملك بالمدينة أنه إذا وجدني سكران لا يحدني. فقال له المنصور: هذا حد لا سبيل إلى تركه. فقال: ما لي حاجة غيرها. فقال لكاتبه: اكتب إلى عاملنا بالمدينة. من أتاك بابن هرمة وهو سكران فاجلده ثمانين جلدة واجلد الذي جاء به مائة. فكان الشرطة يمرون عليه وهو سكران ويقولون من يشتري ثمانين بمائة. فيمرون عليه ويتركونه (للاتليدي) 256 قال هلال الرائي وهو هلال بن عطية لبشار الشاعر وكان له صديقاً يمازحه: إن الله لم يذهب بصر أحدٍ إلا عوضه بشيء. فما عوضك. قال: الطويل العريض. قال: وما هذا. قال: أن لا أراك ولا أمثالك من الثقلاء (للأصبهاني)
حكاية بشار الطفيلي
257 حكي عن بشار الطفيلي أنه قال: رحلت يوماً إلى البصرة فلما دخلتها قيل لي: إن هنا عريفاً للطفيليين يبرهم ويكسوهم(1/103)
ويرشدهم على الأعمال ويقاسمهم. فسرت إليه فبرني وكساني وأقمت عنده ثلاثة أيام. وله جماعة يصيرون إليه بالزلات فيأخذ النصف ويعطيهم النصف. فوجهني معهم في اليوم الرابع فحصلت في وليمة فأكلت وأزللت معي شيئاً كثيراً. وجئته به فأخذ النصف وأعطاني النصف فبعت ما وقع لي بدراهم. فلم أزل على هذه الحالة أياماً. ثم دخلت يوماً عرس جليل فأكلت وخرجت بزلة حسنة. فلقيني إنسان فاشتراها بدينار فأخذته وكتمته وكتمت أمرها. فدعا جماعة من الطفيليين فقال: إن هذا البغدادي قد خان. فظن إني لا أعلم ما فعل. فاصفعوه وعرفوه ما كتمنا. فأجلسوني شئت أم أبيت وما زالوا يصفعوني واحداً بعد واحد. فيصفعني الأول منهم ويشم يدي ويقول: أكل مضيرة. ويصفعني الآخر ويشم يدي ويقول: أكل كذا. ويصفعني الآخر. حتى ذكروا كل شيء أكلته ما غلطوا بشيء منه. ثم صفعني شيخ منهم صفعة عظيمة وقال: باع الزلة بدينار. وصفعني آخر وقال: هات الدينار. فدفعته إليه وجردني من الثياب التي أعطانيها وقال: أخرج يا خائن في غير حفظ الله. فخرجت إلى بغداد وحلفت أن لا أقيم ببلد فيه طفيلية يعلمون الغيب.
كرم معن بن زائدة
258 حكي في أخبار معن بن زائدة أن رجلاً قال له: احملني(1/104)
أيها الأمير. فأمر له بناقة وفرس وبغلة وحمار. ثم قال له: لو علمت أن الله خلق مركوباً غير هذا لحملتك عليه. وقد أمرنا لك من الخز بجبة وقميص ودراعة وسراويل وعمامة ومنديل ومطرف ورداء ومساء وجورب وكيس. ولو علمنا لباساً غير هذا من الخز لأعطيناكه. ثم أمر بإدخاله إلى الخزانة وصب تلك الخلع عليه
طفيلي ومسافر
259 صحب طفيلي رجلاً في سفر. فلما نزلوا ببعض المنازل قال له الرجل: خذ درهماً وامض اشتر لنا لحماً. فقال له الطفيلي: قم أنت والله إني لتعب فاشتر أنت. فمضى الرجل فاشتراه. ثم قال له الرجل: قم فاطبخه. فقال: لا أحسن. فقام الرجل فطبخه. ثم قال الرجل للطفيلي: قم فاثرد. فقال: والله إني لكسلان. فثرد ثم قال له: قم فاغترف. قال: أخشى أن ينقلب على ثيابي. فغرف الرجل حتى ارتوى الثريد. فقال له: قم الآن فكل. قال: نعم إلى متى هذا الخلاف قد والله استحييت من كثرة خلافك. وتقدم فأكل (للشريشي)
المهدي والاعرابي
260 يحكى أن المهدي خرج يتصيد. فغار به فرسه حتى دخل إلى خباء أعرابي فقال: يا أعرابي هل من قرى. قال: نعم. فأخرج له قرص شعير فأكله. ثم أخرج له فضلة من لبن(1/105)
فسقاه. ثم أتاه بنبيذ في ركوة فسقاه قعبا. فلما شرب قال: يا أخا العرب أتدري من أنا. قال: لا والله. قال: أنا من خدم أمير المؤمنين الخاصة. قال له: بارك الله في موضعك. ثم سقاه قعباً آخر فشربه فقال: يا أعرابي أتدري من أنا. قال: زعمت أنك من خدم أمير المؤمنين الخاصة. قال: لا بل أنا من قواد أمير المؤمنين. قال: رحبت بلادك وطاب مرادك. ثم سقاه ثالثاً فلما فرغ منه قال: يا أعرابي أتدري من أنا. قال: زعمت أنك من قواد أمير المؤمنين. قال: لا ولكني أمير المؤمنين. فأخذ الأعرابي الركوة وأوكاها وقال: والله لو شربت الرابع لأدعيت أنك رسول الله. فضحك المهدي حتى غشي عليه. وأحاطت به الخيل ونزلت إليه الملوك والأشراف فطار قلب الأعرابي فقال له المهدي: لا بأس عليك ولا خوف. ثم أمر له بكسوة ومال (للاتليدي)
أبو سلمة الطفيلي
261 كان بالبصرة طفيلي يكنى أبا سلمة. وكان إذا بلغه خبر وليمة لبس لبس القضاة وأخذ ابنيه معه وعليهما القلانس الطوال والطيالسة. فتقدم أحدهما فيدق الباب ويقول: افتح يا غلام لأبي سلمة. ثم لا يلبث حتى يلحقه الآخر فيقول: افتح ويلك قد جاء أبو سلمة. ويتلوهما فإن لم يعرفهم البواب فتح لهم وإن عرفهم لم يلتفت إليهم. ومع كل واحد منهم فهر مدور يسمونه كيسان(1/106)
فينتظرون من دعي فإذا جاء وفتح له طرحوا الفهر في العتبة حيث يدور الباب فلا يقدرون على إغلاقه فيهجمون ويدخلون. فأكل أبو سلمة يوماً على بعض الموائد لقمة حارة من فالوذج وبلغها بشدة حرارتها. فتجمعت أحشاؤه فمات على المائدة (للشريشي)
حكاية باقل
263 ألعرب تقول: أعيا من باقل. ومن عيه أنه اشترى ظبياً فحمله على عنقه فسئل عن ثمنه فحل عنه يديه وفتح أصابعه وأشار بها. وأخرج لسانه يريد أنه بأحد عشر درهماً. فهرب الظبي. ولم يلهم أن يخبر عن سومه بلسانه. ولما عير باقل بفعله قال:
يلومون في عيه باقلاً ... كأن الحماقة لم تخلق
فلا تكثروا العتب في عيه ... فللعي أجمل بالأموق
خروج اللسان وفتح البنان ... أخف علينا من المنطق
سحاق الموصلي وكلثوم العتابي
263 من طرف إسحاق أن كلثوماً العتابي كان من العلم وغزارة الأدب وكثرة الحفظ والترسل والنظم على ما لم يكن عليه أحد. فحضر مجلس المأمون فوضع بين يديه ألف دينار وغمز إسحاق بالعبث به فأقبل إسحاق يعارضه في كل باب ويزيد عليه وهو لا يعرف إسحاق. فقال: أيأذن أمير المؤمنين في نسبة هذا الرجل(1/107)
والسؤال عن اسمه. فقال: افعل. فقال له العتابي: ما اسمك ومن أنت. فقال: أنا من الناس واسمي كل بصل. فقال له العتابي: أما النسبة فمعروفة وأما الاسم فمنكور. فقال له إسحق: ما أقل إنصافك أو ما كل ثوم من الأسماء. فالبصل أطيب من الثوم. فقال له العتابي: قاتلك الله ما أملحك. ما رأيت كالرجل حلاوة. أيأذن أمير المؤمنين في صلته بما وصلني فقد والله غلبني. فقال المأمون: بل ذلك موفور عليك. وأمر له بمثله. فانصرف إسحاق إلى منزله ونادمه العتابي بقية يومه (الأغاني) 264 ذكر أحمد بن دليل: مررت بمعلم يضرب صبياً ويقول: والله لأضربنك حتى تقول لي من حفر البحر. فقال: أعزك الله والله لا أدري أنا من حفر البحر فقل لي حتى أتعلم أنا. فقال: حفر البحر كردم أبو آدم عليه السلام (للشريشي)
جعفر والرشيد
265 حكى أن الرشيد أرق ذات ليلة أرقاً شديداً. فاستدعى جعفراً وقال: أريد منك أن تزيل ما بقلبي من الضجر. فقال الوزير: يا أمير المؤمنين كيف يكون على قلبك ضجر وقد خلق الله أشياء كثيرة تزيل الهم عن المهموم والغم عن المغموم وأنت قادر عليها. فقال الرشيد: وما هي يا جعفر. فقال له: قم بنا الآن حتى نطلع إلى فوق سطح هذا القصر فنتفرج على النجوم واشتباكها(1/108)
وارتفاعها والقمر وحسن طلعته. فقال الرشيد: يا جعفر ما تهم نفسي إلى شيء من ذلك. فقال: يا أمير المؤمنين افتح شباك القصر الذي يطلع على البستان وتفرج على حسن تلك الأشجار. واسمع صوت تغريد الأطيار. وانظر إلى هدير الأنهار. وشم روائح تلك الأزهار. فقال: يا جعفر ما تهم نفسي إلى شيء من ذلك. فقال يا أمير المؤمنين: افتح الشباك الذي يطلع على دجلة حتى نتفرج على تلك المراكب والملاحين. فهذا يصفق وهذا ينشد موالي. فقال الرشيد: ما تهم نفسي إلى شيء من ذلك. قال جعفر: قم يا أمير المؤمنين حتى ننزل إلى الإصطبل الخاص وننظر الخيل العربيات. ونتفرج على حسن ألوانها ما بين أدهم كالليل إذا أظلم وأشقر وأشهب وكميت وأحمر وأبيض وأخضر وأبلق وأصفر وألوان تحير العقول. فقال الرشيد: ما تهم نفسي إلى شيء من ذلك. فقال جعفر: يا أمير المؤمنين ما بقي إلا ضرب عنق مملوكك جعفر فإني والله قد عجزت عن إزالة هم مولانا. فضحك الرشيد وطابت نفسه وزال عنه كربه (للاتليدي)
الشيخ المحتال والمرأة
266 حكي أن بعض المجاورين كان لا يعرف الخط ولا القراءة وإنما كان يحتال على الناس بحيل يأكل منها الخبز. فخطر بباله يوماً من الأيام أن يفتح له مكتباً. ويقرئ فيه الصبيان فجمع ألواحاً(1/109)
وأوراقاً مكتوبة وعلقها في مكان وكبر عمامته وجلس على باب المكتب. فصار الناس ينظرون إلى عمامته وإلى الألواح والأوراق فيظنون أنه فقيه جيد فيأتون إليه بأولادهم. فصار يقول لهذا: اكتب. ولهذا: اقرأ. فصار الأولاد يعلم بعضهم بعضاً. فبينما هو ذات يوم جالس في باب المكتب على عادته وإذا بامرأة مقبلة من بعيد وبيدها مكتوب. فقال في باله: لا بد أن هذه المرأة تقصدني لأقرأ لها المكتوب الذي معها فكيف يكون عملي معها وأنا لا أعرف قراءة الخط. وهم بالنزول ليهرب منها. فلحقته قبل أن ينزل وقالت له: إلى أين. فقال لها: أريد أن أصلي الظهر وأعود. فقالت له: الظهر بعيد فاقرأ لي هذا الكتاب. فأخذه منها وجعل أعلاه أسفله وصار ينظر إليه ويهز عمامته تارة ويرقص حواجبه تارة أخرى ويظهر غيظاً. وكان زوج المرأة غائباً والكتاب مرسل إليها من عنده. فلما رأت الفقيه على تلك الحالة قالت في نفسها: لا شك أن زوجي مات وهذا الفقيه يستحي أن يقول لي أنه مات. فقالت له: يا سيدي إن كان مات فقل لي. فهز رأسه وسكت. فقالت له المرأة: هل أشق ثيابي. فقال لها: شقي. فقالت له: هل ألطم وجهي. فقال لها: الطمي. فأخذت الكتاب من يده وعادت إلى منزلها وصارت تبكي هي وأولادها. فسمع بعض جيرانها البكاء فسألوا عن حالها فقيل لهم: إنه جاءها(1/110)
كتاب بموت زوجها. فقال رجل: إن هذا كلام كذب لأن زوجها أرسل لي مكتوباً بالأمس يخبر فيه أنه طيب بخير وعافية وأنه بعد عشرة أيام يكون عندها. فقام من ساعته وجاء إلى المرأة وقال لها: أين الكتاب الذي جاءك فجاءت به إليه. فأخذه منها وقرأه وإذا فيه: أما بعد فإني طيب بخير وعافية وبعد عشرة أيام أكون عندكم وقد أرسلت إليكم ملحفة ومرطاً. فأخذت الكتاب وعادت به إلى الفقيه وقالت له: ما حملك على الذي فعلته معي. وأخبرته بما قال جارها من سلامة زوجها وإنه أرسل إليها ملحفة ومرطاً. فقال لها: صدقت ولكن يا حرمة اعذريني فإني كنت في تلك الساعة مغتاظاً مشغول الخاطر ورأيت المرط ملفوفاً في الملحفة فظننت أنه مات وكفنوه. وكان المرأة لا تعرف الحيلة فقالت له: أنت معذور. وأخذت الكتاب وانصرفت عنه
المغفل والشاطر
267 إن بعض المغفلين كان سائراً وبيده مقود حماره وهو يجره خلفه. فنظره رجلان من الشطار فقال واحد منهما لصاحبه: أنا آخذ هذا الحمار من هذا الرجل. فقال له: كيف تأخذه. فقال له: اتبعني وأنا أريك. فتبعه. فتقدم ذلك الشاطر إلى الحمار وقك منه المقود وأعطاه لصاحبه وجعل المقود في رأسه. ومشى خلف المغفل حتى علم أن صاحبه ذهب بالحمار ثم وقف فجره المغفل(1/111)
بالمقود فلم يمش. فالتفت إليه فرأى المقود في رأس رجل. فقال له: أي شيء أنت. فقال له: أنا حمارك ولي حديث عجيب. وهو أنه كان لي والدة عجوز صالحة جئت إليها في بعض الأيام وأنا سكران فقالت لي: يا ولدي تب إلى الله تعالى من هذه المعاصي. فأخذت العصا وضربتها بها فدعت علي فمسخني الله تعالى حماراً وأوقعني في يدك. فمكثت عندك هذا الزمان كله فلما كان هذا اليوم تذكرتني أمي وحن قلبها علي فدعت لي فأعادني الله آدمياً كما كنت. فقال الرجل: لا حول ولا قوة إلا بالله العظيم. بالله عليك يا أخي أن تجعلني في حل مما فعلت بك من الركوب وغيره. ثم خلى سبيله فمضى ورجع صاحب الحمار إلى داره وهو سكران من الهم والغم فقالت له زوجته: ما الذي دهاك وأين الحمار. فقال لها: أنت ما عندك خبر بأمر الحمار فأنا أخبرك به. ثم حكى لها الحكاية. فقالت: يا ويلتنا من الله تعالى كيف مضى لنا هذا الزمان كله ونحن نستخدم ابن آدم. ثم تصدقت واستغفرت وجلس الرجل في الدار مدة من غير شغل. فقالت له زوجته: إلى متى هذا القعود في البيت من غير شغل امض إلى السوق واشتر حماراً واشتغل عليه. فمضى إلى السوق ووقف ينظر إلى الحمير فإذا هو بحماره يباع. فلما عرفه تقدم إليه ووضع فمه على أذنه وقال له: ويلك يا مشؤوم ألعلك رجعت إلى السكر وضربت أمك. والله لن أشتريك أبداً (ألف ليلة وليلة)(1/112)
الباب الثامن في النوادر
268 كان عمر يقول: لو كنت تاجراً لما اخترت على العطر فإن فاتني ربحه لم يفتني ريحه (من لطائف الصحابة) 269 قيل: في التفاحة الصفرة الدرية. والحمرة الذهبية. وبياض الفضة. ونور القمر. يلتذ بها من الحواس ثلاث: العين بلونها. والأنف بعرفها. والفم بطعمها (للمستعصمي)
قوة المستعصم
270 كان الخليفة المستعصم بطلاً شجاعاً وفارساً صنديداً. لم يكن في بني العباس أشجع منه ولا أشد قلباً. قال ابن أبي دؤاد: كان المستعصم يقول لي: يا أبا عبد الله عض على ساعدي بأكثر قوتك. فأقول: والله يا أمير المؤمنين ما تطيب نفسي بذلك. فيقول: ما يضرني فأروم ذلك. فإذا هو لا تعمل فيه الأسنة فكيف تعمل فيه الأسنان. ويقال إنه طعنه بعض الخوارج وعليه درع. فأقام المستعصم ظهره. فقصم الرمح نصفين. وكان يشد يده على كتابة الدينار فيمحوها. ويأخذ عمود الحديد فيلويه حتى يصير طوقاً في العنق (للابشيهي)(1/113)
271 ذكر أن أهل أصفهان موصفون بالشح. نقل عن رجل أنه تصدق برغيف على ضرير بأصفهان فقال الضرير: أحسن الله غربتك. فقال الرجل: كيف عرفت غربتي. قال: لأني منذ ثلاثين سنة ما أعطاني أحد رغيفاً صحيحاً (للقزويني)
المعتصم والحمار
272 حكي أن المعتصم بينما هو يسير وحده وقد انقطع عن أصحابه في يوم مطرٍ إذ رأى شيخاً معه حمار عليه شوك وقد زلق الحمار وسقط في الأرض والشيخ قائم. فنزل عن دابته ليخلص الحمار. فقال له الشيخ: بأبي أنت وأمي لا تهلك ثيابك. فقال له: لا عليك. ثم إنه خلص الحمار وجعل الشوك عليه وغسل يده ثم ركب. فقال له الشيخ: غفر الله لك يا شاب. ثم لحقه أصحابه فأمر له بأربعة آلاف درهم. وهذا دليل على غاية ما يمكن أن يكون من طيب أعراق الملوك وسعة أخلاقهم (لابي الفرج المطي)
السلطان وناصر الدولة
273 أخبرني أبو الفضل المعتز بمصر قال: كان بمصر ملوك آل حمدان. وكان الرئيس ناصر الدولة. وكان يشكو دملة فأعيا الأطباء ولم يجد له شفاء. ثم إن السلطان دس على قتله فأرصد له رجلاً معه خنجر. فلما جاء في بعض دهاليز القصر وثب عليه الرجل وضربه بالخنجر. فجاءت الضربة أسفل من خاصرته فأصاب(1/114)
طرف الخنجر الدملة. فخرج ما فيها من الخلط ثم عافاه الله تعالى وصح وبرئ كأحسن ما كان (للطرطوشي)
المعتصم والطبيب سلمويه
274 حكى حنين قال: إن سلمويه النصراني كان عالماً بصناعة الطب فاضلاً في وقته. ولما مرض عاده المعتصم وبكى عنده وقال له: أشر على بعدك بما يصلحني. فقال: عليك بهذا الفضولي يوحنا ابن ماسويه وإذا وصف شيئاً فخذه. ولما مات سلمويه قال المعتصم: سألحق به لأنه كان يمسك حياتي ويدبر جسمي. وامتنع عن الأكل في ذلك اليوم وأمر بإحضار جنازته إلى الدار. وأن يصلى عليها بالشمع والبخور على رأي النصارى ففعل ذلك وهو يراهم (لأبي الفرج)
البخيل والدينار
275 كان بعض البخلاء إذا وقع الدرهم في يده يخاطبه ويقول له: أنت عقلي وديني. وصلاتي وصيامي. وجامع شملي وقرة عيني. وأنسي وقوتي. وعدتي وعمادي. ثم يقول له:
أهلاً وسهلاً بك من زائر ... كنت إلى وجهك مشتاقاً
ثم يقول: يا نور عيني وحبيب قلبي. قد صرت إلى من يصونك. ويعرف قدرك. ويعظم حقك. ويرعى قيمتك. ويشفق عليك. وكيف لا تكون كذلك وأنت تعظم الأقدار. وتعمر الديار. وتسمو على الأشراف. وترفع الذكر. وتعلي القدر. وتؤنس من(1/115)
الوحشة. ثم يطرحه في الكيس ويقول:
بنفسي محجوب عن العين شخصه ... ومن ليس يخلو من لساني ولا قلبي
فانظر يا عاقل إلى هذه الخساسة (للشريشي)
ذكر وفاة سليمان بن عبد الملك
276 كان سليمان بن عبد الملك كثير الأكل. حج مرة وكان الحر في الحجاز إذ ذاك شديداً فتوجه إلى الطائف طلباً للبرودة. وأتى برمان فأكل سبعين رمانة. ثم أتي بجدي وست دجاجات فأكلها. ثم أتي بزبيب من زبيب الطائف فأكل منه كثيراً. ونعس فنام ثم انتبه. فأتوه بالغداء فأكل على عادته. وقيل: كان سبب موته أنه أتاه نصراني وهو نازل على دابق بزنبيلين مملوءين تيناً وبيضاً. فأمر من يقشر له البيض وجعل يأكل بيضة وتينة حتى أتى على الزنبيلين. ثم أتوه بمخ وسكر فأكله فأتخم ومرض ومات (لأبي الفداء)
طباع الهنود
277 إن أهل الهند يعيبون الملاهي ولا يتخذونها. ولا يشربون الشراب ولا يتناولون الخل لأنه من الشراب وليس ذلك ديناً ولكن أنفة. ويقولون أي ملك شرب الشراب فليس بملك. وذلك أن حولهم ملوكاً يقاتلونهم فيقولون كيف يدبر أمر ملكه وهو سكران(1/116)
ملبوس ملوك الهند
278 إن ملوك الهند تلبس في آذانهم الأقراط من الجوهر النفيس المركب في الذهب. وتضع في أعناقهم القلائد النفيسة المشتملة على فاخر الجوهر الأحمر والأخضر واللؤلؤ مما يعظم قيمته. وهي اليوم كنوزهم وذخائرهم وتلبسه قوادهم ووجوههم. والرئيس منهم يركب على عنق رجل منهم وفي يده شيء يعرف بالجترة وهي مظلة من ريش الطواويس يأخذها بيده فيتقي بها الشمس وأصحابه محدقون به (سلسلة التواريخ)
ذكر عمود السواري في الاسكندرية
279 من غرائب مدينة الإسكندرية عمود الرخام الهائل الذي بخارجها المسمى عندهم بعمود السواري. وهو متوسط في غابة نخل وقد امتاز عن شجراتها سمواً وارتفاعاً. وهو قطعة واحدة محكمة النحت قد أقيم على قواعد حجارة مربعة أمثال الدكاكين العظيمة. ولا تعرف كيفية وضعه هنالك ولا يتحقق من وضعه (لابن بطوطة)
سبب موت الوليد بن عبد الملك
280 وقع بين الوليد بن عبد الملك و (بين) أخيه سليمان كلام. فعجل عليه سليمان بأمر يلحق بأمه. ففتح فاه ليجيبه. وإذا بجنبه عمر بن عبد العزيز فأمسك على فيه ورد كلمته وقال: يا ابن عبد الملك. أخوك وابن أمك وله السبق عليك. فقال:(1/117)
يا أبا حفص قتلتني. قال: وما صنعت بك. قال: رددت في صدري أحر من الجمر. ومال لجنبه فمات (للطرطوشي)
دير سمعان
281 دير سمعان بناحية دمشق في موضع نزه محدقة به البساتين والدور والقصور. وكان فيه حبيس مشهور منقطع عن الخلق جداً. وكان يخرج رأسه من كوة في كل سنة يوماً معلوماً فكل من وقع عليه بصره من المرضى والزمنى عوفي. فسمع به إبراهيم إبن أدهم فذهب إليه حتى يشاهد ذلك. قال: رأيت عند الدير خلقاً كثيراً من الواقفين عند الكوة يترقبون خروج رأس الحبيس. فلما كان ذلك اليوم أخرج رأسه ونظر إليهم يميناً وشمالاً. فكل من وقع نظره عليه قام سليماً معافى (للقزويني)
ذكر موتى أهل الصين
282 إذا مات رجل من أهل الصين لم يدفن إلا في اليوم الذي مات في مثله من قابلٍ. يجعلونه في تابوت ويخلونه في منازلهم ويجعلون عليه النورة. وأما الملوك فيجعلونهم في الصبر والكافور سنين. ومن لم يبك ضرب بالخشب كذلك النساء والرجال (سلسلة التواريخ)
محمد بن مروان وملك النوبة
283 ذكر محمد بن مروان للمهدي قال: لما شتت شمل بني(1/118)
مروان وقعت أنا بأرض النوبة. فأحببت أن يمكنني ملكهم من المقام عنده زماناً. فجاءني زائراً وهو رجل طويل أسود اللون. فخرجت إليه من قبتي وسألته أن يدخلها. فأبى أن يجلس إلا خارج القبة على التراب. فسألته عن ذلك فقال: إن الله تعالى أعطاني الملك فحق علي أن أقابله بالتواضع (للقزويني)
الطبيب والميت
284 حدث بعض الشاميين أن رجلاً خبازاً بينما هو يخبز في تنوره بمدينة دمشق إذ عبر عليه رجل يبيع المشمش. (قال) فاشترى منه وجعل يأكله بالخبز الحار. فلما فرغ سقط مغشياً عيه فنظروه فإذا هو ميت. فجعلوا يتربصون به ويحملون إليه الأطباء فيلتمسون دلائله ومواضع الحياة منه فقضوا بأنه ميت. فغسل وكفن وحمل إلى الجبانة. فلما خرجوا به من باب المدينة استقبلهم رجل طبيب يقال له اليبرودي وكان طبيباً ماهراً حاذقاً بالطب فسمع الناس يلهجون بقصته فقال لهم: حطوه حتى أبصره. فحطوه وجعل يقلبه وينظر في أمارات الحياة التي يعرفها. ثم فتح فمه وسقاه شيئاً وإذا الرجل قد فتح عينيه وتكلم عاد كما كان إلى دكانه (للطرطوشي)
المستحسن من أفعال السودان
285 من أفعالهم الحسنة قلة الظلم. فهم أبعد الناس عنه(1/119)
وسلطانهم لا يسامح أحداً في في شيء منه. ومنها شمول الأمن في بلادهم فلا يخاف المسافر فيها ولا المقيم من سارق ولا غاصب. ومنها عدم تعرضهم لمال من يموت ببلادهم من البيضان ولو كان القناطير المقنطرة. إنما يتركونه بيد ثقة من البيضان حتى يأخذه مستحقه. ومنها مواظبتهم للصلوات والتزامهم لها في الجماعات وضربهم أولادهم عليها. وإذا كان يوم الجمعة إن لم يبكر الإنسان إلى المسجد لم يجد أين يصلي لكثرة الزحام (لابن بطوطة)
غناء ابراهيم بن المهدي
286 حكى المنجم قال: حكى لي أن إبراهيم بن المهدي كان أحسن الناس غناءً. وذلك أني كنت أراه في مجالس الخلفاء مثل المأمون والمعتصم يغني المغنون فإذا ابتدأ هو لم يبق أحد من الغلمان والمتصرفين وأصحاب الصناعات والمهن الصغار والكبار إلا وقد ترك ما في يده وصار بأقرب موضع يمكنه أن يسمعه. فلا يزال مصغياً إليه لاهياً عما كان فيه ما دام يغني فإذا أمسك وغنى غيره رجعوا إلى أشغالهم. وقد رأيت منه شيئاً عجيباً لو حدثت به ما صدق. كان إذا ابتدأ يغني أصغت الوحش ومدت أعناقها ولم تزل تدنو منه حتى تضع رؤوسها على الدكان الذي كنا عليه. فإذا سكت نفرت عنا حتى تنتهي إلى أبعد غاية يمكنها التباعد فيها عنا 287 قد جاء في النوادر عن ليلى الأخيلية أن قال الحجاج: يا غلام(1/120)
اذهب إلى فلان فقل له يقطع لسانها. فأمر بإحضار الحجام فقالت: ثكلتك أمك. إنما أن تقطع لساني بالصلة. وهي لفظة مستعملة عند من له أمر ونهي. فتعجب من ذكائها (للشريشي)
إنصاف هرمز لرعيته
288 كان هرمز أنو شروان عادلاً يأخذ للأدنى من الشريف. وبالغ في ذلك حتى أبغضه خواصه واقام الحق على بنيه ومحبيه. وأفرط في العدل والتشديد على الأكابر وقصر أيديهم عن الضعفاء إلى الغاية. ووضع صندوقاً في أعلاق خرق وأمر أن يلقي المتظلم قصته فيه والصندوق مختوم بخاتمه. وكان يفتح الصندوق وينظر في المظالم خوفاً من أن لا توصل إليه الشكاوى على بطانته وأهله. ثم طلب أن يعلم بظلم المتظلم ساعة فساعة فأمر باتخاذ سلسلة من الطريق وخرق لها في داره إلى موضع جلوسه وقت خلوته وجعل فيها حرساً. فكان المتظلم يجيء من ظاهر الدار فيحرك السلسلة فيعلم به فيتقد بإحضاره وإزالة ظلامته.
شهادة جالينوس للنصارى
289 قد أدرك جالينوس عهد قوموذوس وكان دين النصارى قد ظهر في أيامه. وقد ذكرهم جالينوس في كتابه في جوامع كتاب أفلاطون في سياسة المدن فقال: إن جمهور الناس لا يمكنهم أن يفهموا سياقة الأقاويل البرهانية ولذلك صاروا محتاجين إلى(1/121)
رموز ينتفعون بها. (يعني بالرموز الإخبار عن الثواب العقاب في الدار الآخرة) . من ذلك أنا نرى الآن القوم الذين يدعون نصارى إنما أخذوا إيمانهم عن الرموز. وقد يظهر منهم أفعال مثل أفعال من تفلسف بالحقيقة. وذاك أن عدم جزعهم من الموت أمر قد نراه كلنا. وكذلك أيضاً عفافهم فإن منهم قوماً رجالاً ونساءً أيضاً قد أقاموا جميع أيامهم ممتنعين عن المآثم. ومنهم قوم قد بلغ من ضبطهم لأنفسهم في التدبير وشدة حرصهم على العدل أن صاروا غير مقصرين عن الذين يتفلسفون بالحقيقة. انتهى كلام جالينوس (لأبي الفداء)
محمد الزيات
290 قيل إن محمد بن عبد الملك الزيات عمل تنوراً من حديد. ووضع مسامير في داخله ليعذب من يريد عذابه. فكان هو أول من جعل فيه وقيل له: ذق ما رمت أن تذيق الناس (لابن طقطقي)
ظلم أبي رغال
291 كان أبو رغال ملكاً بالطائف وكان يظلم رعيته. فمر بامرأة ترضع صبياً يتيماً بلبن عنز لها فأخذها منها. وكانت سنة مجدبة فبقي الصبي بلا مرضعة فمات. فرمى الله أبا رغال بقارعة فأهلكه فرجمت العرب قبره وهو بين مكة والطائف (للأصبهاني)(1/122)
المتظلمون في بلاد الصين
292 في كل مدينة من مدن الصين شيء يدعى الدرا. وهو جرس على رأس ملك تلك المدينة. مربوط بخيط مار على ظهر الطريق للعامة كافة. وبين الملك وبينه نحو من فرسخ. فإذا حرك الخيط الممدود أدنى حركة تحرك الجرس. فمن كانت له ظلامة حرك هذا الخيط فيتحرك الجرس منه على رأس الملك. فيؤذن له في الدخول حتى ينهي حاله بنفسه ويشرح ظلامته وجميع البلاد فيها مثل ذلك (سلسلة التواريخ)
نظام الملك والشيخ الفقير
293 كان نظام الملك إذا دخل عليه الأئمة الأكابر يقوم لهم ويجلس في مسنده. وكان له شيخ فقير إذا دخل إليه يقوم له ويجلسه في مكانه ويجلس بين يديه. فقيل له في ذلك فقال: إن أولئك إذا دخلوا علي يثنون علي بما ليس في فيزيدني كلامهم عجباً وتيهاً. وهذا يذكرني عيوب نفسي وما أنا فيه من الظلم. فتنكسر نفسي لذلك فأرجع عن كثير مما أنا فيه (لأبي الفرج)
قيس بن سعد والأعرابي
294 قيل لقيس بعد سعد: هل رأيت قط أسخى منك. قال: نعم. نزلنا بالبادية على امرأة فحضر زوجها فقالت: إنه نزل بك ضيفان. فجاء بناقة فنحرها وقال: شأنكم. فلما جاء الغد جاء بأخرى(1/123)
ونحرها وقال: شأنكم. فقلت: ما أكلنا من التي نحرت البارحة إلا اليسير. فقال: إني لا أطعم أضيافي الغاب. فأقمنا عنده أياماً والسماء تمطر وهو يفعل كذلك. فلما أردنا الرحيل وضعنا في بيته مائة دينار وقلنا للمرأة: اعتذري لنا منه ومضينا. فلما متع النهار إذا رجل يصيح خلفنا: قفوا أيها الركب اللئام أعطيتمونا ثمن القرى، لتأخذنها وإلا طعنتكم برمحي فأخذناها وانصرف (للطرطوشي)
قلعة ماردين
295 قال القزويني: هي قلعة مشهورة على قلة جبل بالجزيرة ليس على وجه الأرض قلعة أحسن منها ولا أحكم ولا أعظم. وهي مشرفة على دنيسر ودارا ونصيبين وقدامها ربض عظيم فيه أسواق وفنادق ومدارس وربط. وضعها وضع عجيب ليس في شيء من البلدان مثلها. وذلك أن دورهم كالدرج كل دار فوق أخرى. وجل شربهم من الصهاريج المعدة في دورهم. وقال بعض الظرفاء في ماردين
حماها الله لي سكن ... لولا الضرورة ما فارقتها نفسا
موت ملوك السودان
296 إذا مات ملك السودان عقدوا له قبة عظيمة من خشب الساج ووضعوها في موضع قبره. ثم أتوا به على سرير قليل الفرش والوطاء فأدخلوه في تلك القبة. ووضعوا معه حليته وسلاحه وآنيته التي كان يأكل فيها ويشرب وأدخلوا فيها الأطعمة والأشربة(1/124)
وأدخلوا معها رجالاً ممن كان يخدم طعامه وشرابه. وأغلقوا عليهم باب القبة وجعلوا فوق القبة الحصر والأمتعة. ثم اجتمع الناس فردموا فوقها بالتراب حتى تأتي كالجبل الضخم. ثم يخندقون حولها حتى لا يوصل إلى ذلك الكوم إلا من موضع واحد. وهم يذبحون لموتاهم الذبائح (لابن عبد العزيز البكري)
ضعف رأي الخليفة الأمين
297 مما يحكى من تفريط الأمين وجهله أنه كان قد أرسل على حرب أخيه رجلاً من أصحاب أبيه يقال له علي بن عيسى بن ماهان. وأرسل معه خمسين ألفاً. وكان أول من بعث بعثه إلى أخيه. فمضى على ابن عيسى بن ماهان في ذلك العسكر الكثيف. وكان شيخاً من شيوخ الدولة جليلاً ومهيباً. فالتقى بطاهر بن الحسين ظاهر الري وعسكر طاهر نحو أربعة آلاف فارس. فاقتتلوا اقتتالاً شديداً كانت الغلبة فيه لطاهر. وقتل علي بن عيسى فأرسل طاهر رأسه إلى المأمون. وكتب إليه كتاباً نسخته: أما بعد فهذا كتابي إلى أمير المؤمنين أطال الله بقاءه ورأس علي بن عيسى بين يدي وخاتمه في يدي وجنده تحت أمري والسلام. وأرسل الكتاب على البريد فوصل إلى المأمون في ثلاثة أيام وبينهما مسير مائتين وخمسين فرسخاً. ثم إن خبر علي بن عيسى ورد إلى الأمين وهو يصطاد السمك فقال للذي أخبره بذلك: دعني فإن كوثراً قد اصطاد(1/125)
سمكتين وأنا إلى الآن ما اصطدت شيئاً. وكان كوثر خادماً له وكان يحبه (للفخري)
موت ملوك بلاد سرنديب
298 إذا مات الملك ببلاد سرنديب صير على عجلة قريباً من الأرض وعلق في مؤخرها مستلقياً على ظهره يجر شعر رأسه التراب عن الأرض. وامرأة بيدها مكنسة تحثو التراب على رأسه وتنادي: أيها الناس هذا ملككم بالأمس قد ملككم وكان أمره نافذاً فيكم وقد صار إلى ما ترون من ترك الدنيا وأخذ روحه ملاك الموت فلا تغتروا بالحياة بعده. وكلام نحو هذا ثلاثة أيام. ثم يهياً له الصندل والكافور والزعفران فيحرق به ثم يرمى برماده في الريح. والهند كلهم يحرقون موتاهم بالنار. وسرنديب آخر الجزائر. وهي من بلاد الهند. وربما أحرق الملك فتدخل نساؤه النار فيحترقن معه.
حذاقة أهل الصين
299 أهل الصين من أحذق خلق الله كفاً بنقش وصناعة وكل عمل لا يقدمهم فيه أحد من سائر الأمم. والرجل منهم يصنع بيده ما يقدر أن غيره يعجز عنه فيقصد به باب الملك يلتمس الجزاء على لطيف ما ابتدع. فأمر الملك بنصبه على بابه من وقته ذلك إلى سنة. فإن لم يخرج أحد فيه عيباً جازاه وأدخله في جملة صناعه وإن أخرج فيه عيب أطرحه ولم يجازه. وإن رجلاً منهم صور سنبلةً(1/126)
عليها عصفور في ثوب حرير لايشك الناظر إليها أنها سنبلة وأن عصفوراً عليها. فبقيت مدة ثم اجتاز بها رجل أحدب فعابها. فأدخل إلى ملك ذلك البلد وحضر صانعها. فسئل الأحدب عن العيب فقال: المتعارف عند الناس جميعاً أنه لا يقع عصفور على سنبلة إلا أمالها. وإن هذا المصور صور السنبلة قائمة لا ميل لها وأثبت العصفور فوقها منتصباً فأخطأ. فصدق ولم يثب الملك صانعها بشيْ (سلسلة التواريخ) 300 حدث ابن بطوطة بهذا الشأن قال: وأهل الصين أعظم الأمم إحكاماً للصناعات وأشدهم إتقاناً فيها. وذلك مشهور من حالهم قد وصفه الناس في تصانيفهم فأطنبوا فيه. وأما التصوير فلا يجاريهم أحد في إحكامه فإن لهم فيه اقتداراً عظيماً. ومن عجيب ما شاهدت لهم من ذلك أني ما دخلت قط مدينة من مدنهم ثم عدت إليها إلا ورأيت صورتي وصور أصحابي منقوشة في الحيطان والكواغد موضوعة في الأسواق. ولقد دخلت إلى مدينة السلطان فمررت على سوق النقاشين ووصلت إلى قصر السلطان مع أصحابي ونحن على زي العراقيين. فلما عدت من القصر عشياً مررت بالسوق المذكورة فرأيت صورتي وصورة أصحابي منقوشة في كاغد قد ألصقوه بالحائط. فجعل كل واحد منا ينظر إلى صورة صاحبه لا تخطئ شيئاً من شبهه. وذكر لي أن السلطان(1/127)
أمرهم بذلك وأنهم أتوا إلى القصر ونحن به فجعلوا ينظرون إلينا ويصورون صورنا ونحن لم نشعر بذلك. وتلك عادة لهم في تصوير كل من يمر بهم. وتنتهي حالهم في ذلك إلى أن الغريب إذا فعل ما يوجب فراره عنهم بعثوا صورته إلى البلاد وبحث عنه فحيثما وجد شبه تلك الصورة أخذ (لابن بطوطة)
عدل نور الدين
301 لم يكن في سير الملوك أحسن من سيرة نور الدين ولا أكثر تحرياً للعدل منه. وكان لا يأكل ولا يلبس ولا يتصرف قي الذي يخصه إلا من ملك كان له. قد اشتراه من سهمه من الغنيمة. ولقد شكا إليه زوجته من الضيقة. فأعطاها ثلاثة دكاكين في حمص كانت له يحصل منها في السنة نحو العشرين ديناراً. فلما استقلتها قال: ليس لي إلا هذا. وجميع ما في يدي أنا خازن فيه للمسلمين لا أخونهم فيه ولا أخوض نار جهنم لأجلك (لأبي الفرج)
الشيخ أبو عبد الله والفيلة
302 يحكى أن الشيخ أبا عبد الله بن خفيف قصد مرةً جبل سرنديب ومعه نحو ثلاثين من الفقراء. فأصابتهم مجاعة في طريق الجبل حيث لا عمارة وتاهوا عن الطريق. وطلبوا من الشيخ أن يأذن لهم في القبض على بعض الفيلة الصغار وهي في ذلك المحل كثيرة جداً ومنه تحمل إلى حضرة ملك الهند. فنهاهم الشيخ عن(1/128)
ذلك فغلب عليهم الجوع فتعدوا قول الشيخ وقبضوا على فيل صغير منها وذكوه وأكلوا لحمه وامتنع الشيخ من أكله. فلما ناموا تلك الليلة اجتمعت الفيلة من كل ناحية وأتت إليهم. فكانت تشم الرجل منهم وتقتله حتى أتت على جميعهم. وشمت الشيخ ولم تتعرض له وأخذه فيل منها ولف عليه خرطومه ورمى به على ظهره وأتى به الموضع الذي به العمارة. فلما رآه أهل تلك الناحية عجبوا منه واستقبلوه ليتعرفوا أمره. فلما قرب منهم أمسكه الفيل بخرطومه ووضعه عن ظهره إلى الأرض بحيث يرونه فجاؤوا إليه وذهبوا به إلى ملكهم فعرفوه خبره وهم كفار وأقام عندهم أياماً (لابن بطوطة)
موت المنصور
303 أخبر الفضل بن الربيع قال: كنت مع المنصور في السفر الذي مات فيه. فنزلنا بعض المنازل فدعا بي وهو في قبته إلى حائط وقال: ألم أنهكم أن تدعوا العامة تدخل هذه المنازل فيكتبون فيها ما لا خير فيه. قلت: وما هو. قال: ألا ترى ما على الحائط مكتوباً:
أبا جعفر حانت وفاتك وانقضت ... سنوك وأمر الله لا بد نازل
أبا جعفر هل كاهن أو منجم ... يرد قضاء الله أم أنت جاهل(1/129)
فقلت: والله ما على الحائط شيء وإنه لنقي أبيض. قال: إنها والله نفسي نعيت إلى الرحيل. فرحلنا وثقل حتى بلغ بئر ميمون. فقلت له: قد دخلت الحرم. قال: الحمد لله. وقبض من يومه. ولما حضرته الوفاة قال: السلطان من لا يموت (للشريشي)
يحيى بن خالد والفص
304 قيل ليحيى بن خالد بن برمك: أيها الوزير أخبرنا بأحسن ما رأيت في أيام سعادتك. قال: ركبت يوماً في بعض الأيام في سفينة أريد التنزه. فلما خرجت برجلي لأصعد اتكأت على لوح من ألواحها. وكان بإصبعي خاتم فطار فصه من يدي وكان ياقوتاً أحمر قيمته ألف مثقال من الذهب. فتطيرت من ذلك ثم عدت إلى منزلي وإذا بالطباخ قد أتى بذلك الفص بعينه وقال: أيها الوزير لقيت هذا الفص في بطن حوت وذلك لأني اشتريت حيتاناً للمطبخ فشققت بطنها فرأيت هذا الفص فقلت: لا يصلح هذا إلا للوزير أعزه الله تعالى. فقلت: الحمد لله هذا بلوغ الغاية
الذل بعد العزة
305 وقيل ليحيى: أخبرنا ببعض ما لقيت من المحن. قال: اشتهيت لحماً في قدر طباخ وأنا في السجن. فغرمت ألف دينار في شهوتي حتى أتيت بقدر ولحم مقطع في قصبة فارسية. والخل وسائر حوائجها في قصبة أخرى. وتركوا عندي ما أحتاج إليه. وأتيت(1/130)
بنار فأوقدت تحت القدر ونفخت ولحيتي في الأرض حتى كادت روحي تخرج. فلما نضجت تركتها تفور وتغلي وفتت الخبز. وعمدت لأنزلها فانفلتت من يدي وانكسرت القدر على الأرض فبقيت ألتقط اللحم. وأمسح منه التراب وآكله وذهب المرق الذي كنت اشتهيته وهذا أعظم ما مر بي (للاتليدي)
الخطيب والتلميذ
306 اشتهر في جزيرة صقلية أرخيلوخوس الخطيب الملقب بالغراب. وسار إليه الطلبة لاستفادة الخطابة منه. وكان من جملة قاصديه فتى من اليونان يقال له ثيسياس ورغب إليه في تعليم هذا الفن وضمن له عن ذلك مالاً معيناً فأجابه برغبته وعلمه. فلما أتقنها حاول الغدر به ورام فسخ ما وافقه عليه فقال له: يا معلم ما حد الخطابة. فقال: إنها المفيدة للإقناع. قال: إني أناظرك الآن في الأجرة. فإن أقنعتك بأنني لا أدفعها إليك لم أدفعها إذ قد أقنعتك بذلك. وإن لم أقدر على ذلك فلست أعطيك شيئاً لأنني لم أتعلم منك الخطابة التي هي مفيدة للإقناع. فأجابه المعلم وقال: وأنا أيضا أناظرك فإن أقنعتك بأنه يجب لي أخذ حقي منك أخذته أخذ من أقنع. وإن لم أقنعك فيجب أيضاً أخذه منك إذ قد نشأت تلميذاً يستظهر على معلمه. قد قيل في المثل: بيض رديء لغراب رديء (لابي الفرج)(1/131)
صفة مسجد البصرة وذكر خطيبها
307 مسجد البصرة من أحسن المساجد. وصحنه متناهي الانفساح مفروش بالحصباء الحمراء التي يؤتى بها من وادي السباع. شهدت مرةً بهذا المسجد صلاة الجمعة. فلما قام الخطيب به إلى الخطبة وسردها لحن فيها لحناً كثيراً جلياً فعجبت من أمره وذكرت ذلك للقاضي حجة الدين فقال لي: إن هذا البلد لم يبق به من يعرف شيئاً من علم النحو. وهذه عبرة لم تفكر فيها. سبحان مغير الأشياء ومقلب الأمور. هذه البصرة التي إلى أهلها انتهت رئاسة النحو وفيها أصله وفرعه ومن أهلها إمامه الذي لا ينكر سبقه لا يقيم خطيبها خطبة الجمعة على دوبه عليها (لابن بطوطة)
حلم المأمون
308 إنه كان للمأمون خادم يسرق طاساته التي يشرب فيها. فقال له المأمون: إذا سرقت شيئاً فأتني بما تسرقه فأشتريه منك. فقال له الخادم: اشتر مني هذه. وأشار إلى التي بين يديه. فقال: بكم. قال: بدينارين. قال: على شرط أنك لا تسرقها. قال: نعم. فأعطاه دينارين. فلم يعد الخادم يسرق بعدها شيئاً لما رأى من حلمه (للاتليدي)
ذكر العجلات التي يسافر عليها ببلاد الروم
309 ألروم يسمون العجلة عربة. وهي عجلات تكون للواحدة(1/132)
منهن أربع بكرات كبار ومنها ما يجره فرسان ومنها ما يجره أكثر من ذلك وتجرها أيضاً البقر والجمال على حال العربة في ثقلها أو خفتها. والذي يخدم العربة يركب أحد الأفراس التي تجرها ويكون عليه سرج وفي يده سوط يحركها للمشي وعود كبير يصوبها به إذا عاجت عن القصد. ويجعل على العربة شبه قبة من قضبان خشب مربوط بعضها إلى بعض بسيور جلد رقيق وهي خفيفة الحمل وتكسى باللبد أو بالملف. ويكون فيها طيقان مشبكة ويرى الذي بداخلها الناس ولا يرونه ويتقلب فيها كما يحب وينام ويأكل ويقرأ ويكتب وهو في حال سيره. والتي تحمل الأثقال والأزواد وخزائن الأطعمة من هذه العربات يكون عليها شبه البيت كما ذكرنا وعليه قفل (لابن بطوطة)
كرم حسن بن سهل
310 كان الحسن بن سهل وزيراً للمأمون. وتزوج المأمون ابنته بوران وانحدر في أهله وأصحابه وعساكره وأمرائه إلى فم الصلح بواسط. فقام الحسن بن سهل في إنزالهم قياماً عظيماً وبذل من الأموال ونثر من الدرر ما يفوت حد الكثرة حتى أنه عمل بطاطيخ من عنبر وجعل في وسط كل واحدة منها رقعةً بضيعة من ضياعه ونثرها فمن وقعت في يده بطيخة منها فتحها وتسلم الضيعة التي فيها. وكانت دعوةً عظيمةً تتجاوز حد(1/133)
الكثرة حتى أن المأمون نسب وزيره في ذلك إلى السرف. وقالوا: جملة ما أخرج على دعوة فم الصلح خمسون ألف ألف درهم. وكان الحسن بن سهل قد فرش للمأمون حصيرا ًمنسوجاً من ذهب ونثر عليه ألف لؤلؤة من كبار اللؤلؤ (الفخري)
ملك الروم وحاتم الطائي
311 من أعجب ما حكي عن حاتم الطائي هو أن أحد قياصرة الروم بلغته أخبار حاتم فاستغرب ذلك. وكان قد بلغه أن لحاتم فرساً من كرام الخيل عزيزة عنده فأرسل إليه بعض حجابه يطلب منه الفرس هدية إليه وهو يريد أن يمتحن سماحته بذلك. فلما دخل الحاجب ديار طيء سأل عن أبيات حاتم حتى دخل عليه. فاستقبله ورحب به وهو لا يعلم أنه حاجب الملك. وكانت المواشي حينئذ في المراعي فلم يجد إليها سبيلاً لقرى ضيفه فنحر الفرس وأضرم النار. ثم دخل إلى ضيفه يحادثه فأعلمه أنه رسول قيصر وقد حضر يستميحه الفرس فساء ذلك حاتماً وقال: هلا أعلمتني قبل الآن فإني قد نحرتها لك إذ لم أجد جزوراً غيرها بين يدي. فعجب الرسول من سخائه وقال: والله لقد رأينا منك أكثر مما سمعنا (لابن عبد ربهً)
وفاة نجل ملك إيذج
312 لما دخلت مدينة إيذج أردت رؤية السلطان فلم يتأت لي(1/134)
ذلك بسبب أنه لا يخرج إلا يوم الجمعة. وكان له ابن هو ولي عهده وليس له سواه فمرض في تلك الأيام ولما انتصف الليل في إحدى الليالي سمعنا الصراخ والنواح وقد مات المريض المذكور. ولما كان من الغد دخل علي شيخ الزاوية وأهل البلد وقالوا: إن كبراء المدينة من القضاة والفقهاء والأشراف والأمراء قد ذهبوا إلى دار السلطان للعزاء فينبغي لك أن تذهب في جملتهم. فأنفت من ذلك. فعزموا علي فلم يكن لي بد من المسير فسرت معهم. فوجدت مشور دار السلطان ممتلئاً رجالاً وصبياناً من المماليك وأبناء الملوك والوزراء والأجناد وقد لبسوا التلاليس وجلال الدواب وجعلوا فوق رؤوسهم التراب والتبن وبعضهم قد جز ناصيته. وانقسموا فرقتين فرقة بأعلى المشور وفرقة بأسفله. وتزحف كل فرقة إلى جهة الأخرى وهم ضاربون بأيديهم على صدورهم قائلون: مولانا. فرأيت من ذلك أمراً هائلاً ومنظراً فظيعاً لم أعهد مثله. ولما دخلت رأيت جهات المشور غاصةً بالناس. . . ونظرت يميناً وشمالاً لأرتاد موضعاً لجلوسي. فرأيت هنالك سقيفة مرتفعة عن الأرض بمقدار شبر وفي إحدى زواياها رجل منفرد عن الناس قاعد عليه ثوب صوف شبه اللبد يلبسه بتلك البلاد ضعفاء الناس أيام المطر والثلج وفي الأسفار. فتقدمت إلى حيث الرجل وانقطع عني أصحابي لما رأوا إقدامي نحوه(1/135)
وعجبوا مني وأنا لا علم عندي بشيء من حاله. فصعدت السقيفة وسلمت على الرجل فرد السلام وارتفع عن الأرض كأنه يريد القيام وهم يسمون ذلك نصف القيام. وقعدت في الركن المقابل له. ثم نظرت إلى الناس وقد رموني بأبصارهم جميعاً. فعجبت منهم ورأيت الفقهاء والمشايخ والأشراف مستندين إلى الحائط تحت السقيفة. وأشار إلي أحد القضاة أن أنحط إلى جانبه. فلم أفعل. وحينئذ استشعرت أنه السلطان. فلما كان بعد ساعة أتى شيخ المشايخ نور الدين الكرماني فصعد إلى السقيفة وسلم على الرجل. فقام إليه وجلس فيما بيني وبينه فحينئذ علمت أن الرجل هو السلطان. ثم جيء بالجنازة وهي بين أشجار الأترج والليمون والنارنج وقد ملأوا أغصانها بثمارها والأشجار بأيدي الرجال. فكأن الجنازة تمشي في بستان والمشاعل في رماح طوال بين يديها والشمع كذلك. فصلي عليها وذهب الناس معها إلى مدفن الملوك وهو بموضع يقال له هلا فيحان على أربعة أميال من المدينة. وهنالك مدرسة عظيمة يشقها النهر وبداخلها مسجد تقام فيه الجمعة وبخارجها حمام ويحف بها بستان عظيم وبها الطعام للوارد والصادر. ولم أستطع أن أذهب معهم إلى مدفن الجنازة لبعد الموضع فعدت إلى المدرسة (لابن بطوطة)(1/136)
الباب التاسع في الأسفار
سفر ابن بطوطة إلى مدينة بلغار
313 قال ابن بطوطة: كنت سمعت بمدينة بلغار فأردت التوجه إليها لأرى ما ذكر عنها من انتهاء قصر الليل بها وقصر النهار أيضاً في عكس ذلك الفصل. وكان بينها وبين محلة السلطان أوزبك خان سلطان الأتراك مسيرة عشر. فطلبت منه من يوصلني إليها فبعث معي من أوصلني إليها وردني إليه. ووصلتها في رمضان. فلما صلينا المغرب أفطرنا وأذن بالعشاء في أثناء إفطارنا فصليناها وأتممنا باقي الصلوات فطلع الفجر في إثر ذلك. ويقصر كذلك النهار بها في فصل قصره أيضاً وأقمت بها ثلاثاً. وكنت أردت الدخول إلى أرض الظلمة والدخول إليها من بلغار وبينهما مسيرة أربعين يوماً. ثم أضربت عن ذلك لعظم المؤونة فيه وقلة الجدوى. والسفر إليها لا يكون إلا في عجلات صغار تجرها كلاب كبار. فإن تلك المفازة فيها الجليد فلا تثبت قدم الآدمي ولا حافر الدابة فيها والكلاب لها الأظفار فتثبت أقدامها في الجليد. ولا يدخلها إلا الأقوياء من التجار الذين يكون لأحدهم مائة عجلة أو نحوها موقرة بطعامه وشرابه وحطبه. فإنها لا شجر فيها ولا حجر ولا مدر. والدليل(1/137)
بتلك الأرض هو الكلب الذي قد سار فيها مراراً كثيرة وتنتهي قيمته إلى ألف دينار ونحوها. وتربط العربة إلى عنقه ويقرن معه ثلاثة من الكلاب ويكون هو المقدم وتتبعه سائر الكلاب بالعربات فإذا وقف وقفت. وإذا كملت للمسافرين بهذه الفلاة أربعون مرحلة نزلوا عند الظلمة. وترك كل واحد منهم ما جاء به من المتاع هنالك. وعادوا إلى منزلهم المعتاد. فإذا كان الغد عادوا لتفقد متاقهم فيجدون بإزائه من السمور والسنجاب والقاقم. فإن رضي صاحب المتاع ما وجده إزاء متاعه أخذه وإن لم يرضه تركه.
رحلة ابن بطوطة إلى الصين ومحنته بالأسر
أحب ملك الهند أن يبعث هدايا نفيسة لملك الصين. فعين السلطان للسفر معي الأمير ظهير الدين الزنجاني وهو من فضلاء أهل العلم. والفتى كافوراً وإليه سلمت الهدية. وبعث معها الأمير محمد الهروي في ألف فارس ليوصلنا إلى الموضع الذي نركب منه البحر. وكان سفرنا في السابع عشر لشهر صفر سنة سبعمائة وثلاث وأربعين. وكان نزولنا في أول مرحلة بمنزل تلبت. ورحلنا منه إلى منزل أو ثم إلى بيانة. ثم سرنا منها إلى مدينة كول. ولما انتهينا إليها بلغنا أن بعض كفار الهنود حاصروا بلدة الجلالي وأحاطوا بها وهي على مسافة سبعة أميال من كول. فقصدناها والكفار يقاتلون(1/138)
أهلها وقد أشرفوا على التلف. ولم يعلم الكفار بنا حتى صدفنا الحملة عليهم وهم في نحو ألف فارس وثلاثة آلاف راجل فقتلناهم عن آخرهم واحتوينا على خيلهم وأسلحتهم. واستشهد من أصحابنا ثلاثة وعشرون فارساً وخمسة وخمسون راجلاً واستشهد الفتى كافور الساقي الذي كانت الهدية مسلمة بيده. فكتبنا إلى السلطان بخبره وأقمنا في انتظار الجواب. وكان الكفار في أثناء ذلك ينزلون من جبل هنالك منيع. فيغيرون على نواحي بلدة الجلالي. وكان أصحابنا يركبون كل يوم مع أمير تلكالناحية ليعينوه على مدافعتهم. وفي بعض تلك الأيام ركبت في جماعة من أصحابي ودخلنا بستاناً نقيل فيه وذلك فصل القيظ. فسمعنا الصياح فركبنا ولحقنا كفاراً أغاروا على قرية من قرى الجلالي فاتبعناهم. فتفرقوا وتفرق أصحابنا في طلبهم وانفردت في خمسة من أصحابي. فخرج عليهنا جملة من الفرسان والرجال من غيضة هنالك ففررنا منهم لكثرتهم. واتبعني نحو عشرة منهم ثم انقطعوا عني إلا ثلاثة منهم. ولا طريق بين يدي. وتلك الأرض كثيرة الحجارة. فنشبت يدا فرسي بين الحجارة فنزلت عنه واقتلعت يده وعدت إلى ركوبه. والعادة بالهند أن يكون مع الإنسان سيفان أحدهما معلق بالسرج ويسمى الركابي والآخر في التركش. فسقط سيفي الركابي من غمده وكانت حليته ذهباً فنزلت فأخذته وتقلدته وركبت(1/139)
وهم في أثري. ثم وصلت إلى خندق عظيم فنزلت ودخلت في جوفه فكان آخر عهدي بهم. ثم خرجت إلى واد في وسط شعراء ملتفة في وسطها طريق فمشيت عليه ولا أعرف منتهاه. فبينما أنا في ذلك خرج علي نحو أربعين رجلاً من الكفار بأيديهم القسي. فأحدقوا بي وخفت أن يرموني رمية رجل واحد إن فررت منهم. وكنت غير متدرع فألقيت بنفسي إلى الأرض واستأسرت وهم لا يقتلون من فعل ذلك. فأخذوني وسلبوني جميع ما علي غير جبة وقميض وسروال ودخلوا بي إلى تلك الغابة. فانتهوا بي إلى موضع جلوسهم منها على حوض ماء بين تلك الأشجار. وأتوني بخبز ماش وهو الجلبان فأكلت منه وشربت من الماء. وكان معهم مسلمان كلماني بالفارسية وسألاني عن شأني. فأخبرتهما ببعضه وكتمتهما أني من جهة السلطان فقالا لي: لا بد أن يقتلك هؤلاء أو غيرهم ولكن هذا مقدمهم. وأشارا إلى رجل منهم فكلمته بترجمة المسلمين وتلطفت له. فوكل بي ثلاثة منهم أحدهم شيخ ومعه ابنه والآخر أسود خبيث. وكلمني أولئك الثلاثة ففهمت منهم أنهم أمروا بقتلي. واحتملوني عشي النهار إلى كهف وسلط الله على الأسود منهم حمى مرعدة فوضع رجليه علي ونام الشيخ وابنه. فلما أصبح تكلموا فيما بينهم وأشاروا إلي بالنزول معهم إلى الحوض وفهمت أنهم يريدون قتلي. فكلمت الشيخ(1/140)
وتلطفت إليه فرق لي. وقطعت كمي قميصي وأعطيته إياهما لكي لا يأخذه أصحابه في إن فررت. ولما كان عند الظهر سمعنا كلاماً عند الحوض فظنوا أنهم أصحابهم. فأشاروا إلي بالنزول معهم فنزلنا ووجدنا قوماً آخرين. فأشاروا عليهم أن يذهبوا في صحبتهم فأبوا. وجلس ثلاثتهم أمامي وأنا مواجه لهم ووضعوا حبل قنب كان معهم بالأرض وأنا أنظر إليهم وأقول في نفسي: بهذا الحبل يربطونني عند القتل. وأقمت كذلك ساعة ثم جاء ثلاثة من أصحابهم الذين أخذوني فتكلموا معهم وفهمت أنهم قالوا لهم: لأي شيءٍ ما قتلمتموه. فأشار الشيخ إلى الأسود كأنه اعتذر بمرضه. وكان أحد هؤلاء الثلاثة شاباً حسن الوجه فقال لي: أتريد أن أسرحك. فقلت: نعم. فقال: اذهب. فأخذت الجبة التي كانت علي فأعطيته إياها وأعطاني منيرة بالية عنده وأراني الطريق فذهبت وخفت أن يبدو لهم فيدركوني. فدخلت غيضة قصب واختفيت فيها إلى أن غابت الشمس. ثم خرجت وسلكت الطريق التي أرانيها الشاب فأفضت بي إلى ماءٍ فشربت منه وسرت
إلى ثلث الليل فوصلت إلى جبل فنمت تحته. فلما أصبحت سلكت الطريق فوصلت ضحىً إلى جبل من الصخر عالٍ فيه شجر أم غيلان والسدر. فكنت أجني النبق فآكله حتى أثر الشوك في ذراعي آثاراً هي باقية به حتى الآن. ثم نزلت من ذلك الجبل إلى أرض مزدرعةٍ(1/141)
قطناً وبها أشجار الخروع. وهنالك بائن والبائن عندهم بئر متسعة جداً مطوية بالحجارة لها درج ينزل عليها إلى ورد الماء. وبعضها يكون في وسطه وجوانبه القباب من الحجر والسقائف والمجالس ويتفاخر ملوك البلاد وأمراؤها بعمارتها في الطرقات التي لا ماء بها. وسنذكر بعض ما رأيناه منها فيما بعد. ولما وصلت إلى البائن شربت منه ووجدت عليه شيئاً من عساليج الخردل قد سقطت لمن غسلها. فأكلت منها وادخرت باقيها ونمت تحت شجرة خروع. فبينما أنا كذلك إذ ورد البائن نحو أربعين فارساً مدرعين فدخل بعضهم إلى المزرعة ثم ذهبوا وطمس الله أبصارهم دوني. ثم جاء بعدهم نحو خمسين في السلاح ونزلوا إلى البائن وأتى أحدهم إلى شجرة إزاء الشجرة التي كنت تحتها فلم يشعر بي. ودخلت إذ ذاك في مزرعة القطن وأقمت بها بقية نهاري وأقاموا على البائن يغسلون ثيابهم ويلعبون. فلما كان الليل هدأت أصواتهم فعلمت أنهم قد مروا أو ناموا. فخرجت حينئذٍ وأتبعت أثر الخيل والليل مقمر وسرت حتى انتهيت إلى بائن آخرٍ عليه قبة. فنزلت إليه وشربت من مائه وأكلت من عساليج الخردل التي كانت عندي. ودخلت القبة فوجدتها مملوءة بالعشب مما يجمعه الطير فنمت بها وكنت أحس حركة حيوان في تلك العشب أظنه حية فلا أبالي بها لما بي من الجهد. فلما أصبحت سلكت طريقاً واسعةً(1/142)
تفضي على قرية خربة. وسلكت سواها فكانت كمثلها وأقمت كذلك أياماً. وفي بعضها وصلت إلى أشجارٍ ملتفة بينها حوض ماءٍ وداخلها شبه بيت وعلى جوانب الحوض نبات الأرض كالنجيل وغيره. فأردت أن أقعد هنالك حتى يبعث الله من يوصلني إلى العمارة. ثم إني وجدت يسير قوةٍ فنهضت على طريق وجدت بها أثر البقر. ووجدت ثوراً عليه بردعة ومنجل فإذا تلك الطريق تفضي إلى قرى الكفار. فاتبعت طريقاً أخرى فأفضت بي إلى قرية خربة ورأيت بها أسودين فخفتهما وأقمت تحت أشجار هنالك. فلما كان الليل دخلت القرية ووجدت داراً في بيت من بيوتها شبه خابية كبيرة يصنعونها لاختزان الزرع وفي أسفلها نقب يسع الرجل. فدخلتها ووجدت داخلها مفروشاً بالتبن وفيه حجرٌ جعلت رأسي عليه ونمت. وكان فوقها طائر يرفرف بجناحه أكثر الليل وأظنه كان يخاف فاجتمعنا خائفين. وأقمت على تلك الحال سبعة أيام من يوم أسرت وهو يوم السبت. وفي السابع منها وصلت إلى قرية للكفار عامرة وفيها حوض ماء ومنابت خضر فسألتهم الطعام فأبوا أن يعطوني. فوجدت حول بئر بها أوراق فجل فأكلتها. وجئت القرية فوجدت جماعة كفارٍ لهم طليعة فدعاني طليعتهم فلم أجبه. وقعدت إلى الأرض فأتى أحدهم بسيف مسلول ورفعه ليضربني به فلم ألتفت إليه لعظيم ما بي من(1/143)
الجهد. ففتشني فلم يجد عندي شيئاً فأخذ القميص الذي كنت أعطيت كميه للشيخ الموكل بي. ولما كان اليوم الثامن اشتد بي العطش وعدمت الماء ووصلت إلى قرية خراب فلم أجد بها حوضاً. وعادتهم بتلك القرى أن يصنعوا أحواضاً يجتمع بها ماء المطر فيشربون منه جميع السنة. فاتبعت طريقاً فأفضت بي إلى بئر غير مطوية عليها حبل مصنوع من نبات الأرض وليس فيه آنية يستقى بها فربطت خرقة كانت على رأسي في الحبل وامتصصت ما تعلق بها من الماء فلم يروني. فربطجت خفي واستقيت به فلم يروني. فاستقيت به ثانياً فانقطع الحبل ووقع الخف في البئر. فربطت الخف الآخر وشربت حتى رويت. ثم قطعته فربطت أعلاه في رجلي بحبل البئر وبخرق وجدتها هنالك. فبينما أنا أربطها وأفكر في حالي إذ لاح لي شخص فنظرت إليه فإذا رجل أسود اللون بيده إبريق وعكاز وعلى كاهله جراب. فقال لي: سلام عليكم. فقلت له: عليكم السلام ورحمة الله وبركاته. فقال لي بالفارسية: من أنت. فقلت له: أنا تائه. فقال لي: وأنا كذلك. ثم ربط إبريقه بحبل كان معه واستقى ماء. فأردت أن أشرب فقال لي: اصبر. ثم فتح جرابه فأخرج منه غرفة حمص أسود مقلو مع قليل أرز فأكلت منه وشربت وسألني عن اسمي. فقلت: محمد. وسألته عن اسمه. فقال لي: القلب الفارح. فتفاءلت بذلك(1/144)
وسررت به. ثم قال لي: بسم الله ترافقني. فقلت: نعم. فمشيت معه قليلاً ثم وجدت فتوراً في
أعضائي ولم أستطع النهوض فقعدت. فقال: ما شأنك. فقلت له: كنت قادراً على المشي قبل أن ألقاك فلما لقيتك عجزت. فقال: سبحان الله. اركب فوق عنقي. فقلت له: إنك ضعيف ولا تستطيع ذلك. فقال: يقويني الله. لا بد لك من ذلك. فركبت على عنقه وقال لي: قل حسبنا الله ونعم الوكيل. فأكثرت من ذلك. وغلبتني عيني فلم أفق إلا لسقوطي على الأرض. فاستيقظت ولم أر للرجل أثراً وإذا أنا في قرية عامرة. فدخلتها فوجدتها لرعية الهنود وحاكمها من المسلمين فأعلموه بي فجاء إلي. فقلت له: ما اسم هذه القرية. فقال لي: تاج بوره. وبينها وبين مدينة كول حيث أصحابنا فرسخان. وحملني ذلك الحاكم إلى بيته فأطعمني طعاماً سخناً واغتسلت وقال لي: عندي ثوب وعمامة أودعهما عندي رجل عربي مصري من أهل المحلة التي بكول. فقلت له: هاتهما ألبسهما إلى أن أصل إلى المحلة. فأتى بهما فوجدتهما من ثيابي كنت قد وهبتهما لذلك العربي لما قدمنا كول. فطال تعجبي من ذلك. وفكرت في الرجل الذي حملني على عنقه. فتذكرت ما أخبرني به ولي الله أبو عبد الله المرشدي حسبما ذكرناه في السفر الأول إذ قال لي: ستدخل أرض الهند وتلقى بها أخي دلشاد ويخلصك من شدة تقع فيها. وتذكرت قوله(1/145)
لما سألته عن اسمه فقال القلب الفارح. وتفسيره بالفارسية دلشاد. فعلمت أنه هو الذي أخبرني بلقائه وأنه من الأولياء. ولم يحصل لي من صحبته إلى المقدار الذي ذكرته. وكتبت تلك الليلة إلى أصحابي بكول معلماً لهم بسلامتي فجاؤوا إلي بفرس وثياب واستبشروا بي. ووجدت جواب السلطان قد وصلهم وبعث بفتىً يسمى بسنبل الجامدار عوضاً عن كافور المستشهد وأمرنا أن نتمادى على سفرنا ووجدتهم أيضاً قد كتبوا للسلطان بما كان من أمري وتشاءموا بهذه السفرة لما جرى فيها وعلي وعلى كافور وهم يريدون أن يرجعوا. فلما رأيت تأكيد السلطان في السفر أكدت عليهم وقوي عزمي فقالوا: ألا ترى ما اتفق لها في بداية هذه السفرة والسلطان يعذرك فلنرجع إليه أو نقم حتى يصل جوابه. فقلت لهم: لا يمكن المقام وحيثما كنا أدركنا الجواب. فرحلنا عن كول وأتممنا سفرنا إلى الصين حتى انتهينا إليها (لابن بطوطة)
نبذة من كتاب مروج الذهب للمسعودي (باختصار)
315 إننا نذكر في هذا الباب جملاً من أخبار ما اتصل بنا من البحر الحبشي والممالك والملوك وجملاً من ترتيبها وغير ذلك من أنواع العجائب فنقول: إن بحر الصين والهند وفارس واليمن متصلة مياهها غير منفصلة. إلا أن هيجانها وركودها يختلف لاختلاف(1/146)
مهاب رياحها وإبان ثورانها وغير ذلك. فبحر فارس تكثر أمواجه ويصعب ركوبه عند لين بحر الهند واستقامة الركوب فيه وقلة أمواجه. ويلين بحر فارس وتقل أمواجه ويسهل ركوبه عند ارتجاج بحر الهند واضطراب أمواجه وظلمته وصعوبته عند ركوبه. . . . والغوص على اللؤلؤ في بحر فارس إنما يكون في أول نيسان إلى آخر أيلول وما عدا ذلك من شهور السنة فلا غوص فيها. وتطلق المراكب من بحر فارس إلى البحر الثاني وهو المعروف بلاروي. لا يدرك قعره ولا يحصر كثرة من نهاياته ولا تضبط غاياته لغزر مائه واتساع فضائه. وكثير من البحريين يزعمون أن الوصف لا يحيط بأقطاره لما ذكرنا من تشعبه. وربما تقطعه السفن في الشهرين والثلاثة وفي الشهر على قدر مهاب الرياح والسلامة. وليس في هذه البحار (أعني ما اشتمل عليه البحر الحبشي) أكبر من هذا البحر لاروي ولا أشد. وفي عرضه بحر الزنج وبلادهم. وعنبر هذا البحر قليل. وذلك أن العنبر أكثره يقع إلى بلاد الزنج وساحل الشحر من أرض العرب. وأهل الشحر أناس من قضاعة بن حمير وغيرهم من العرب. ويدعى من سكن هذا البلد من العرب المهرة. أصحاب شعور وجمم ولغتهم بخلاف لغة العرب. وذلك أنهم يجعلون الشين بدلاً من الكاف وغير ذلك في خطابهم ونوادر كلامهم وهم ذوو فقر وفاقة. ولهم نجب يركبونها بالليل تعرف(1/147)
بالنجب المهرية تشبه في السرعة النجب البجاوية. بل عند جماعة أنها أسرع منها. يسيرون عليها على ساحل بحرهم. وأجود العنبر ما وقع إلى هذه الناحية وإلى جزائر الزنج وساحله. وهو المدور الأزرق. وأهل جزائر الزنج متفقو الكلمة لا يحصرهم العدد لكثرتهم ولا تحصى جيوش المرأة المتملكة عليهم. وبين الجزيرة والجزيرة نحو الميل والفرسخ والفرسخين والثلاثة. وليس يوجد في جزائر البحر ألطف صنعة من أهل هذه الجزائر في سائر المهن والصنائع من الثياب والآلات وغير ذلك. وبيوت أموال هذه الملكة الودع. وهذه الجزائر تعرف جميعاً بالدبجات. ومنها يحمل أكثر النارجيل. وآخر هذه الجزائر جزيرة سرنديب. ويلي سرنديب جزائر أخر نحو من ألف فرسخ. تعرف بالرامني معمورة فيها ملوك وفيها معادن ذهب كثيرة ويليها بلاد قيصور وإليها يضاف الكافور القيصوري. وأكثر ما ذكرنا من هذه الجزائر غذاؤهم النارجيل. ويحمل من هذه الجزائر خشب البقم والخيزران والذهب. وفيلتها كثيرة ومن أهلها من يأكل لحوم الناس. وتتصل هذه الجزائر بجزائر النجمالوس. وهم أمم عجيبة يخرجون في القوارب عند اجتياز المراكب بهم معهم العنبر والنارجيل وغير ذلك. فيتعاوضون بالحديد وشيء من الثياب ولا يبيعون ذلك بالدراهم والدنانير. ويليهم جزائر يقال لها أبرامان فيها أناس سود عجيبو الصور والمناظر(1/148)
مفلفلو الشعور لا مراكب لهم فإذا وقع غريق إليهم ممن كسر المركب به في البحر أكلوه وكذلك فعلهم بالمراكب إذا وقعت إليهم. وذكر لي جماعة من النواخذة أنهم ربما رأوا في هذا البحر سحاباً أبيض قطعاً صغاراً يخرج منه لسان طويل أبيض حتى يتصل بماء البحر فإذا اتصل به غلا لذلك وارتفعت منه زوابع عظيمة لا تمر زوبعة منها بشيء إلا أتلفته. وأما البحر الرابع فهو بحر كله وهو قليل الماء كثير الجزائر والصرائر. وذلك أن أهل المراكب يسمون ما بين الخليجين إذا كان طريقهم فيه الصر. ولهذا البحر أنواع من الجزائر والجبال عجيبة وإنما غرضنا التلويح بلمع من الأخبار عنها لا البسط. وكذلك البحر الخامس المعروف بكردنج كثير الجبال والجزائر فيه الكافور وماء الكافور. وفيه أجناس من الأمم منهم جنس يقال لهم الفنجب شعورهم مفلفلة وصورهم عجيبة يعرضون في قوارب لهم لطاف للمراكب إذا اجتازت بهم ويرمون بنوع من السهام عجيب قد أسقي السم. ثم يليه بحر الصنف وفيه مملكة المهراج ملك الجزائر وملكه لا يضبط لكثرته ولا تحصى جنوده. وقد حاز هذا الملك أنواع الأفاويه والطيب وليس أحد من الملوك ما له. ومما يجهز به من بلاده ويحمل من أرضه الكافور والعود والقرنفل والصندل والبسباسة والقافلة والكبابة وغير ذلك مما لم نذكره. وجزائره تصل ببحر لا يدرك
غايته ولا يعرف منتهاه. وهو مما يلي بحر(1/149)
الصين. وفي أطراف جزائره جبال كثيرة فيها الناس مخرمو الآذان بيض الوجوه يجزون شعورهم. وتظهر من جبالهم النار بالليل والنهار. بنهارها نار حمراء وبالليل تسود وتلحق بأعنان السماء لعلوها وذهابها في الجو تقذف بأشد ما يكون من صوت الرعود والصواعق. ثم يليه بحر الصين وهو بحر خبيث كثير الموج والخب. وتفسير الخب الشدة العظيمة في البحر. وفيها جبال كثيرة لا بد للمراكب من النفوذ بينها. وليس بعد بلاد الصين مما يلي البحر ممالك تعرف ولا بلاد توصف إلا بلاد السيلى وجزائرها. ولم يصل إليها من الغرباء أحد من العراق ولا غيرها فخرج عنها لصحة هوائها ورقة مائها وجودة تربتها ولكثرة خيرها إلا النادر من الناس. وأهلها مهادنون لأهل الصين وملوكها. والهدايا بينهم لا تكاد تنقطع. وقد قيل إنهم شعب من ولد عامور سكنوا هنالك على حسب ما ذكرنا من سكنى أهل الصين في بلادهم. وللصين أنهار كبار مثل دجلة والفرات تجري من بلاد الترك والتبت والصغد. وهم بين بخارى وسمرقند. وهنالك جبال النوشادر. فإذا كان الصيف رأيت في الليل نيراناً قد ارتفعت من تلك الجبال من نحو مائة فرسخ. وبالنهار يظهر منها الدخان لغلبة شعاع الشمس وضوءها وضوء النهار. ومن هنالك يحمل النوشادر. فإذا كان أول الشتاء من أراد من بلاد خراسان أن يسلك إلى بلاد الصين صار إلى ما هنالك.(1/150)
وهنالك واد بين تلك الجبال طوله أربعون ميلاً أو خمسون ميلاً. فيأتي إلى أناس هنالك على فم الوادي فيرغبهم في الأجرة النفيسة فيحملون ما معه على أكتافهم. وبأيديهم العصي يضربون جنبيه خوفاً أن يثلج ويقف فيموت من كرب الوادي. وهو يحضر أمامهم حتى يخرجوا إلى ذلك الرأس من الوادي. وهنالك غابات ومستنقعات للماء فيطرحون أنفسهم في ذلك الماء لما قد نالهم من شدة الكرب وحر النوشادر. ولا يسلك ذلك الطريق شيء من البهائم لأن النوشادر يلتهب ناراً في الصيف. فلا يسلك ذلك الوادي داعٍ ولا مجيب. فإذا كان الشتاء وكثرت الثلوج والأنداء وقع ذلك على الموضع فأطفأ حر النوشادر ولهيبه فيسلك الناس حينئذ ذلك الوادي. والبهائم لا صبر لها على ما ذكرناه من حره. وكذلك من ورد من بلاد الصين فعل به من الضرب ما فعل بالمار. والمسافة بين بلاد خراسان على الموضع الذي ذكرنا إلى بلاد الصين نحو من أربعين يوماً. بين عامر وغامر ودهاس ورمال. وفي غير هذا الطريق مما يسلكه البهائم نحو من أربعة أشهر إلا أن ذلك في خفارات أنواع من الترك. وقد رأيت ببلخ شيخاً جميلاً ذا رأي وفهم قد دخل الصين مراراً كثيرة ولم يركب البحر قط. وقد رأيت عدة من الناس ممن سلك من بلاد الصغد على جبال النوشادر إلى أرض التبت والصين ببلاد خراسان. وبلاد الهند متصلة ببلاد(1/151)
خراسان والسند مما يلي المنصورة والمولتان. والقوافل متصلة من السند إلى خراسان. وكذلك إلى الهند إلى أن تتصل هذه الديار ببلاد زابلستان.
السفرة الثانية من سفرات السندباد البحري
316 قال السندباد البحري إني لما انهمكت في اللذات وانتهاب المسرات خطر ببالي السفر واشتاقت نفسي للمتجر ونسيت ما لقيت من الشدات. فأخذت في الأهبة واشتريت متاعاً مليحاً وشددت الأحمال وسافرت مع تجار مرافقين ورفاق موافقين. حتى وصلنا إلى ساحل البحر وركبنا في مركب مكين ونحن بالله نستعين. وما زلنا نسير من جزيرة إلى جزيرة ونحن نبيع ونشتري ونتعوض حتى نزلنا ذات يوم على جزيرة كثيرة الأشجار والأثمار. خالية من الناس ما فيها ديار ولا نافخ نار. فرسا المركب عليها. وطلع التجار إليها. وتنزهوا على رياضها وأنهارها. وجمعوا من أزهارها وأثمارها. وأنا قد أخذت السفرة والمدام وجلست على ساقية جارية بين أشجار مثمرة فأكلت وشربت وطاب لي المنام. فرقدت مكاني بين الأشجار. فما استيقظت إلا والمركب قد أقلع وسار وسافر وغاص في البحر. فقمت ولم أجد عندي أنيساً ولا جليساً. والمركب(1/152)
قد أبعد عني وما بقيت أنظره. فصرخت ولطمت على رأسي وانقطع رجاي من الحياة والدنيا وكادت مرارتي تنفطر من الندم. ووقعت على الأرض مغشياً علي زماناً طويلاً وبكيت ولمت روحي حيث لم أنته عن السفر. وندمت حيث لا تنفع الندم وقلت: لا حول ولا قوة إلا بالله العلي العظيم. وبقيت كالمجنون لا أقدر على السكوت فصعدت على شجرة عالية ونظرت يميناً وشمالاً. فلم أر غير الماء والسماء فنظرت وإذا شيء أبيض قد لاح لي من البعد فنزلت من الشجرة. وأخذت السفرة وكان فيها زاد كثير. ثم إني قصدت ذلك البياض وإذا هي قبة كبيرة شاهقة ملسة ناعمة. فدنوت منها ودرت حولها فلم أجد لها باباً ولم أطق الصعود إليها من ملاستها. وكانت استدارتها خمسين خطوة فبقيت متحيراُ في ذلك وكانت الشمس قد قاربت الغروب. وإذا الجو قد أظلم وظهرت غيمة كبيرة فتأملتها وإذا هي طير. فتذكرت ما أخبر البحريون عن طير الرخ الذي هو بقدر الغيمة وتلك القبة هي بيضته. وإذا بالطير قد نزل عليها وأنا في جانبها. فوقع أحد مخالبه قدامي كأنه سكة حديد كبيرة. فحللت عمامتي من رأسي وشددت نفسي في طرف العمامة وفي المخلب شداً وثيقاً. وقلت لعل هذا الطير يخرجني من هذه الجزيرة إلى مكان عامر. فلما أصبح الصباح أقلع الرخ وطار في الفضاء وأنا مربوط في مخلبه ربطاً وثيقاً والسفرة معي. ولم يزل(1/153)
مرتفعاً وأنا متعلق بمخلبه فطار وعلا إلى الجو حتى ظننت أنه قد احتك بالسماء. ثم نكس رأسه وطلب الأرض فلم أحس بنفسي إلا وأنا على وجه الأرض. فحللت العمامة من مخالبه وإذا به ضرب على حية كأنها جمل وأخذها وطار. وبقيت أنا في وادٍ عميق لا يبلغ النظر إلى ارتفاعه ولا سبيل للنزول إليه ولا الصعود فقلت: إنا لله وإنا إليه راجعون. كل نائبة تأتيني أصعب من الأخرى. ثم إني تمشيت في ذلك الوادي وإذا أرضه جميعها من حجر الألماس. وهو من أفخر الجواهر الغالية الثمن. وفي ذلك الوادي حيات كل واحدة تبلع الفيل وهي كثيرة جداً. وتختفي بالنهار من هذا الطير الذي ذكرناه وتسعى بالليل. فبقيت متحيراً ذلك اليوم إلى أن أمسى المساء. ثم إنني عمدت إلى مغارة في كهف صغير ودخلت إليه وسددت بابه بحجر كبير وأخرجت ما بقي معي من الزاد في السفرة. فأكلت كفايتي وأنا أرتعد من الخوف. وإذا بالحيات خرجت تسعى بعضها كالأفيال وبعضها كالجمال. وعاينت ما هالني منها حتى طلع الفجر وقد اختفت الحيات. فخرجت أمشي في الوادي وأنا في حيرة عظيمة. وبينما أنا واقف في الوادي إذ وقع بجانبي شقة لحم طري. فالتفت وإذا بشقق كثيرة قد تساقطت من أعلى الجبال. فتذكرت ما أخبر به البحريون أنه وادي الألماس الذي يقصده التجار ويشرحون اللحم ويرمونه(1/154)
فيه فيلتصق فيه بعض الألماس فتنزل النسور وتصعده إلى الجبل حتى تطعمه أفراخها. فيأتي التجار ويأخذون ما لصق به من الأحجار كل تاجر من شقته وليس أحد يقدر أن يأخذ منه شيئاً إلا بهذه الحيلة. فطار قلبي بذلك وجمعت من الوادي ما قدرت من أفخر الألماس المليح وملأت السفرة. وأتيت إلى شقة كبيرة تجللت فيها وربطتها في العمامة ربطاً وثيقاً والسفرة معي. وبعد قليل أتت النسور وكل منها حمل شقة وارتفع بها إلى أعلى الجبل. وشقتي حملها نسر كبير ووضعها فوق الجبل أيضاً. وإذا بصيحات قد علت على النسور فأجفلت وتركت اللحوم وطارت. فأتى التجار كل واحد إلى شقته فنهض صاحب شقتي ليأخذ ما لصق بها. فوجدني وارتعد مني
فقلت له: لا تخف أنا إنسان مثلك. فصرخ وبكى وقال: يا خيبة تجارتي فيك. فقلت له: لا بأس عليك. أنا معي شيء أعطيك أكثر مما حصل لرفاقك. ثم إنه تقدم وحل الشقة والعمامة وأخرجني. وإذا بالتجار قد اجتمعوا إلي وسألوني عن حالي وعرفوني. فحكيت لهم ما جرى فتعجبوا عجباً عظيماً وقالوا: الحمد لله على سلامتك. ثم مضوا وأنا معهم إلى مجمع التجار. ثم أخرجت من السفرة التي معي وأعطيت صاحب شقتي نصيبه وكنت قد ملأتها من الجواهر الثمينة. ونمت تلك الليلة عندهم وهم يسألوني عن عمري وأنا لا أعي من فرحي وأظن أني في المنام.(1/155)
ثم قمنا في الغد وسرنا في جبال عالية حتى أتينا على جزية عظيمة وفيها شجرة الكافور كل شجرة منها تظلل مائة رجل وأكثر. وهو أنهم يثقبون أعلى الشجرة فيسيل منها ماء الكافور ويملأ جراراً عديدة. وبعد ذلك يظهر قطر الكافور كالصمغ ثم يبطل وتجف الشجرة. وفي هذه الجزيرة وحش يسمى الكركدن. وهو كرعايا البقر دون الفيل وأكبر من الجاموس ومأكوله نبات الأرض. وله قرن واحد في وسط رأسه طوله ذراع وعرضه قبضة وفيه صورة من أوله إلى آخره. فإذا انشق رأيت الصورة بياضاً في سواد يشبه صورة إنسان وبعض الحيوان. وذكروا أن هذا القرن يتخذ منه كل منطقة تساوي ألف دينار. وهذا الحيوان هو الكركدن يشك الفيل بقرنه يحمله على رأسه فيسيل دهنه على عيني الكركدن فيعميه ويبقى ملقى على الأرض. فيأتي الطير الذي هو الرخ ويأخذ الاثنين في مخالبه ويطير في الجو ويمضي يطعمهما فراخه. ورأيت في تلك الجزيرة عجائب كثيرة تحير العقل. ثم إني بعت من الألماس الذي معي وتعوضت شيئاً كثيراً ومازلت أسير من جزيرة إلى جزيرة ومن بلاد إلى بلاد حتى وصلت إلى البصرة. ومنها إلى بغداد ودخلت داري ومعي من المال ما لا يوصف ولا يعد. فتصدقت وأعطيت الفقراء والمحتاجين. وبقيت على هذا الحال أقضي الأوقات بالهناء والمسرات. ونسيت ما لاقيت من المشقات.(1/156)
السفرة الثالثة
317 ولما أصبح صباح اليوم الثاني جلس السادات لاستماع حكاية ما أصابه في السفرة الثالثة. فقال السندباد البحري: فلما انهمكت في اللذات وغرقت في الهناء والمسرات ونسيت ما لقيت من العناء والمشقات وبقيت كذلك برهة من الأوقات خطر ببالي السفر واشتاقت نفسي للمتجر. فشددت الأحمال الثقال والأمتعة الغوالي. وسافرت من بغداد إلى بعض البلاد حتى وصلت إلى ساحل البحر مع تجار مرافقين ورفاق موافقين ومعي من البضائع ما يسر المشتري والبائع. فنزلنا في البحر العجاج المتلاطم بالأمواج الواسع الفجاج الداخل إليه مفقود والخارج منه مولود. فسرنا أياماً وليالي مدة من الزمان ونحن نبيع ونشتري. ونأخذ ونعطي من جزيرة إلى جزيرة ومن مكان إلى مكان. فلما كان بعض الأيام ونحن على وجه المياه وإذا بالبحر قد هاج وماج وتلاطم بالأمواج والمركب قد بقي في أقصى البعد البعيد ونحن بقينا في حال سوء وأمر شديد ولم ندر أي مكان نريد. فما كان إلا القليل حتى حط الرئيس الشراع وأبطل الحديث والنزاع وأوقف المركب ونادى بالويل والثبور وعظائم الأمور وقال لنا: اعلموا أننا قد وقعنا في جزائر الزغب الوحشيين. وقد أحاطوا بنا وليس لنا سبيل إلى قتل واحد منهم لأنهم أكثر من الجراد. وإن قتلنا واحداً منهم(1/157)
فإنهم يقتلون كل من في المركب. وبينا نحن في هذا الكلام إذ أحاط بنا أناس شنيعو الخلقة زغب حمر لا يفهم لهم كلام. وهم صغار وحشيون طول كل واحد أربعة أشبار يتسلقون الأخشاب بأيديهم من غير أن يصعدوا بأرجلهم. ففزعنا منهم ولم نتكلم بكلمة. فنصبوا الشراع كما أرادوا وساروا وأخذوا المركب بجميع من كان فيه. ومضوا وبقينا نحن في الجزيرة لا نعلم في أي أرض ولا أي مكان. فحزنا على ما نابنا وما أصابنا وليس في اليد حيلة. ثم إننا صبرنا على ذلك وأقمنا في الجزيرة وحصلنا من النبات ما يرد الرمق. فبينما نحن كذلك إذ بان لنا بيت في الجزيرة من بعيد فقصدناه وإذا هو قصر عظيم وشاهق وله بابان من الأبنوس وهو مغلق. فدفعناه فانفتح ودخلنا فيه فنظرنا في صدره إيواناً عالياً وسدة منصوبة قدام الإيوان وآثار طبيخ ونار وعظام وسفافيد حديد كباراً. فتعجبنا من ذلك وفزعنا فزعاً عظيماً. وكانت الشمس قد قاربت الغروب وإذا بالأرض قد ارتجت وتزعزت ودخل من الباب صورة إنسان لونه أسود وطوله أعلى من نخلة وعينه تلمع كالجمر وأنيابه كالسياخ الغليظة وفمه أوسع من فم بعير كبير وشفته السفلى إلى صدره وآذانه كآذان الفيل منبسطة على كتفه وأظافيره كمخالب أعظم الوحوش. فلما نظرناه غبنا عن صوابنا وبقينا مطروحين كالموتى بعضنا على بعض. ثم دخل وجلس في(1/158)
السدة وبعد قليل قام وأتى إلينا. فمد يده فوقعت علي دون الكل فصرت كالميت. فأخذني إلى قبال وجهه وجعل يقلبني كما يقلب القصاب رأس الغنم. فلما رآني ضعيفاً قليل اللحم ألقاني من يده. وبدأ يقلبنا واحداً واحداً حتى وقعت يده على رئيس المركب. فرآه سميناً وعريض الأكتاف فقبضه كما يقبض العصفور. وأخذ سفوداً من تلك سفافيد الحديد. ثم أوقد ناراً عظيمة وشواه حتى استوى على الجمر ثم جلس في ذلك الإيوان ومزقه بأظافيره وأكله جميعه وانطرح على السرير في الإيوان ونام وغط. فلما عاينا ما فعل من الأهوال قلنا: إنا لله وإنا إليه راجعون فما هذه إلا ميتة شنيعة. وما زلنا نرتعد من المساء إلى الفجر حتى أنه قام وفتح الباب ومضى. فلما بعد عنا قمنا ونحن بأسوأ حال وسعينا في الجزيرة لعلنا نرى مكاناً نلجأ فيه منه فلم نجد. ولم نقدر أن نتخلف بعضنا عن بعض. فلما أدركنا المساء رجعنا إلى القصر من خوفنا وإذا بالأسود قد جاء أيضاً وفعل بنا مثل العادة ونقى الأسمن فينا وأخذه وشواه وأكله ودخل إلى مكانه ونام ونخر إلى الصباح. ثم قام ومضى ونحن لا نعي من الفزع فقلنا: نلقى أرواحنا في البحر ونموت غرقاً خير من هذه الميتة الشنيعة. فقال بعضنا: تعالوا حتى نعمل على هلاكه ونستريح من شره. فقلت لهم: تعالوا نعمل لنا كلكات من هذه الأخشاب تسع كل واحدة ثلاثة رجال ونتركها على(1/159)
شاطئ البحر مشدودة وندبر الحيلة في هلاكه. فإذا أهلكناه أقمنا إلى أن يجوز بنا مركب. وإذا لم نقدر أن نهلكه ننزل في الكلكات ونسير في البحر ودعونا نغرق. فأجابوا إلى مشورتي وصنعنا كما قلت لهم وتركنا الكلكات مشدودة على شاطئ البحر. ولما كان المساء دخلنا إلى
القصر واختفينا. فأتى الأسود إلينا ونقى السمين فينا وشواه وأكله ونام كعادته وبدأ ينخر. فقمنا وأخذنا سفافيد الحديد وأوقدنا النار وأحميناها حتى صارت مثل النار. ثم أخذ عشرة رجال منا أعنى عشرة أقوياء عشرة سفافيد ودنوا من الأسود. ونحن نعرف أنه لا يفيق إلا الصباح. وكان نائماً على ظهره ينخر كالرعد. فوضعنا السفافيد في عينيه. فصرخ صرخة عظيمة وقعنا منها جميعاً على الأرض وقد أيسنا من الحياة. ثم إنه نهض قائماً وأخذ الباب في وجهه وخرج. فلما طلع الفجر وأضاء النهرا قمنا ونحن نرجف من الخوف وجعلنا ندور في الجزيرة ونأكل بعض النبات والحشيش إلى أن جاء المساء. فأتينا إلى جانب البحر وجلسنا وقلنا: إن غابت الشمس ولم يجئ يكون قد هلك. فبينما نحن في هذا الكلام وإذا بالأسود قد أقبل واثنان يقودانه ومعه جماعة طوال مثله أيضاً. فلما رأيناهم نزلنا في الكلكات وقذفناها في البحر. فلما أن نظرونا أتوا إلينا وأدركونا وصرخوا فينا ورمونا بحجارة كبار. فأهلكوا أكثرنا في البحر فنجوت ورفيقي الاثنين. ولم نزل(1/160)
نقذف ونجتهد والريح تلعب بنا يميناً وشمالاً ولا ندري أين نحن. وبقينا كذلك الليل كله. فلما طلع الفجر ألقتنا الريح إلى الساحل فطلعنا ونحن في حال العدم وتلك الجزيرة كثيرة الأشجار والأثمار ففرحنا بخلاصنا من الموت واسترحنا قليلاً وأكلنا كفايتنا من الأثمار وبقينا كذلك إلى المساء. ونمنا على جانب البحر وإذا صوت دبيب عظيم وصل إلينا. فإذا هي حية عظيمة كأنها نخلة فدنت منا وجذبت الواحد منا وبلعته. وبعد ساعة قذفت عظامه ومضت. وبقيت أنا ورفيقي نرتعد إلى الصباح من الخوف وقد أشرفنا على الهلاك وقلنا: إننا قد فرحنا من خلاصنا من الأسود والبحر ووقعنا في أنحس من ذلك وأصعب من الغرق والحريق. فمنا ندور في الجزيرة فرأينا شجرة عالية جداً. فأكلنا من بعض الأثمار ونحن في غم شديد من الخوف حتى أدركنا المساء فطلعنا إلى شجرة عالية حتى نخلص من الحية. فلما جاء الليل والظلام إذا بالحية قد أتت وأدارت بين الأشجار حتى انتهت إلينا وتعلقت في الشجرة وجذبت رفيقي وابتلعته وكان أسفل منى وبقيت وحدي أرتعد حتى إلى الصباح فنزلت من الشجرة كالميت وقد أيقنت أنها المساء تبلعني أيضاً كما بلعت رفاقي. فأردت أن أرمي روحي في البحر ولكن الروح حلوه. وإني توكلت على الله ودرت وطفت في الجزيرة وأنا محتار في أمري فرأيت أخشاباً مقطوعة فشددت بعضها إلى بعض. ولما جاء المساء(1/161)
ربطت الأخشاب في يدي ورجلي وواحدة في ظهري وواحدة في جنبي وشددتها بليف الشجر وانطرحت انتظر الموت. فلما كان المساء أتت الحية تسري إلى أن وصلت إلي. فجعلت تقلبني يميناً وشمالاً وتجذبني وأنا أبعد عنها ولا تقدر على ابتلاعي من تلك الأخشاب التي أنا مشدود بها. ولم تزل تلعب بي كما تلعب القطة بالفارة حتى أضاء الفجر ومضت عني. فلما أشرقت الشمس حللت الأخشاب عني وأنا مثل الميت من عظم ما قاسيت من نفسها الكريه. وكان الموت أهون علي مما قاسيته تلك الليلة. ثم أتيت إلى جانب البحر وأردت أن ألقي نفسي في الماء وإذا بمركب من بعد وهو كأنه قطعة من الجبل في البحر. فناديته بأعلى صوتي ورفعت عمامتي إلى فوق فرآني أصحاب المركب فأتوا إلي وأخذوني في زورق إلى المركب وسألوني عن حالي. فحكيت لهم حكايتي من الأول إلى الآخر فتعجبوا عجباً عظيماً. وقال كل مشايخ المركب: إن الأسود الكبير قد ذكره البحريون وهم كثيرون ذوو خلقة عظيمة يشبهون بني آدم ويأكلون الناس بالحياة ومطبوخين وأما الحية التي ذكرتها تختفي في النهار وتظهر بالليل ولا يخلص منها أحد فالحمد لله الذي خلصك منها. ثم إنهم فرحوا بي وأطعموني من زادهم وأعطاني رئيس المركب ثياباً وكسوة وسرت معهم في المركب وأنا لا أصدق ذلك وأظن أني في المنام. وما زلنا نسير(1/162)
من جزيرة إلى جزيرة حتى أشرفنا على جزيرة السلاهط. وفيها الصندل الكثير. فرسا المركب هناك. وخرج التجار إلى الجزيرة ونقلوا بضائعهم وبدؤوا يبيعون ويشترون مع أهلها. فقال لي الرئيس: يا أخي. قلت: نعم يا سيدي. فقال لي: معنا وديعة لرجل تاجر كان معنا من مدة زمان وعدم ونحن نتاجر له فيها حتى ننظر أحداً من أهله نعطيه إياها. وأنا أريد أن تحرسها فأعطيك أجرتك. ثم إنه أحضر حمالين ونقلوها إلى باقي الأحمال. وابتدأ الكاتب يكتب الأحمال باسم
أصحابها. فقال الكاتب للرئيس: وهذه الأحمال باسم من اكتبها. قال: السندباد البحري. فلما سمعت ذلك الكلام انزعجت وخفق قلبي ثم إني صبرت حتى انتقلت الأحمال إلى أماكنها وجلس التجار في راحتهم. فتقدمت إلى الرئيس وقلت له: يا مولاي أين صاحب هذه الوديعة وكيف أمره وحاله. فقال لي: كان معنا من مدة سنتين تاجر رجل تاجر بغدادي اسمه السندباد البحري. فنزلنا ذات يوم على جزيرة في البحر كثيرة الأشجار والأثمار فخرج التجار إليها ليستريحوا ويتنزهوا على أشجارها وأثمارها. فلما كان آخر النهار اجتمع جميع التجار إلى المركب والسندباد ليس هو معهم فنسيناه في الجزيرة وسرنا لا ندري ما جرى له. وهذا ماله وسأقر له به وقد كسب شيئاً كثيراً. ونحن ندور على واحد من أهله أو من بلده حتى نرسل له رزقه فما وجدنا. فقلت له: أنا(1/163)
السندباد البحري وهذا مالي ورزقي. فلما سمع الرئيس كلامي قال: لا حول ولا قوة إلا بالله العلي العظيم ما بقي أحد يخاف الله. يا سبحان الله أنت رجل غريق وقد خلصك الله من هذه الشدائد والأهوال ونجاك من الموت الشنيع وبعد هذا تدعي بمال رجل ميت حتى تأخذه. أما تخاف من الله تعالى. فقلت له: يا سيدي والله العظيم الذي هو خلصني من جميع الأهوال الصعبة إني أنا السندباد البحري وأنا الذي نسوني في الجزيرة وكنت قد رقدت على بعض سواقيها فلما انتبهت ما وجدت أحداً. ثم إني حكيت له جميع حكايتي وقلت له: إن التجار المترددين إلى وادي الألماس يشهدون لي وهم يعرفوني. فبهت الرئيس والجماعة من كلامي وبقي أناس تصدق وأناس تكذب. وإذا بتاجر تقدم إلي وعانقني وقبلني وقال: يا جماعة أما حكيت لكم أني وجدت في شقتي في بعض أسفاري في وادي الألماس لما رمينا شقق اللحم رجلاً ملتفاً فلم تصدقوني. والله العظيم إن هذا هو الرجل الذي وجدته في شقتي وأعطاني من أفخر الألماس الغالي وهذا هو السندباد البحري بالحقيقة. وحينئذ لما حققني الرئيس عرفني أيضاًَ فنهض وعانقني بوداد وقبلني وسلم علي وباقي التجار أيضاً وقالوا لي: الحمد لله على سلامتك. والله العظيم إن حكايتك من أعجب العجب ويجب أن تكتب بماء الذهب. ثم إني تسلمت مالي جميعه(1/164)
وشكرت الله تعالى. ودعوت للرئيس. بما صنع معي من الجميل. ثم إننا بعنا واشترينا وتعوضنا من هناك إلى بلاد أخر ومعي من الأموال شيء لا يوصف. وأخذنا السنبل والقرنفل والدارصيني وسرنا في سواحل الهند. ورأينا سمكاً في حد جانب البحر تبلغ الواحدة عشرين ذراعاً. ورأيت سلحفاة عرضها عشرون ذراعاً. وما زلنا نسير من ساحل إلى ساحل ومن بلاد إلى بلاد حتى أتيت بلدي بغداد. ومعي الأموال والأحمال والبضائع الغالية ودخلت أوطاني. واجتمعت بأهلي وإخواني. وتصدقت على المحتاجين. وأعطيت الفقراء والمساكين. وأخذت في الهناء والمسرات وانتهاب الفرصات. ونسيت ما لاقيت من الشدائد المرات والمشقات الصعاب. ونويت أن أترك السفر. فلما سمع السادات كلامه تعجبوا عجباً عظيماً وسبحوا الله الكريم. وانصرفوا إلى منازلهم بغاية التكريم (ألف ليلة وليلة)(1/165)
الباب العاشر في غرائب الموجودات
المعدنيات
318 قال القزويني: الجواهر المعدنية كثيرة لا يعرف الإنسان منها إلا القليل. فمن الحكماء من كان له عناية بالبحث عنها فاستخرج خاصية بعضها. وعددها نحو من سبعمائة صنف. فأوردنا طرفاً منها. وما فيها من الخواص العجيبة. فمن المعادن ما هو صلب لا يذوب بالنار البتة. بل ينكسر بالفاس كأصناف اليواقيت. ومنها ما هو تراب رخو يذوب في الماء كالأملاح والزاجات. ومنها ما هو نبات كالمرجان. ومنها ما هو من الحيوان كالدر واللآلئ. ومنها ما هو متولد في الهواء كالرجوم. ومنها ما ينعقد في الماء. ومنها ما بينهما ألفة كالذهب والألماس. ومنها ما بينهما مجاذبة شديدة كالحديد والمغناطيس فإن بين هذين الحجرين ميلاً شديداً. فإذا شم الحديد رائحة المغناطيس يذهب حتى يلتزق به ويمسكه. ومنها ما بينهما مخالفة كالسنباذج وسائر الأحجار فإنه يحكها ويجعلها ملساء. وكالألماس وبقية المعادن فإن الألماس يقهر سائر الأحجار. ومنها ما فيه قوة منظفة كالنوشادر فإنه ينظف سائر الأحجار من الوسخ. وليس هذا القول الذي ذكرناه جامعاً لخواص الأحجار(1/166)
كلها بل أوردناه على سبيل التعجب والمثال. ولنذكر الآن بعض الأحجار وشيئاً من خواصها مرتبة على حروف المعجم 319 (الإثمد) . قال أرسطو: هو حجر معروف له معادن كثيرة وأغلبه في أكناف المشرق وأجوده الأصبهاني. وهو حجر يخالطه الرصاص. يحد البصر وينفع العيون اكتحالاً ويحسنها ويدفع عنها نزول الماء ويقوي أعصابها ويدفع عنها كثيراً من الآفات والأوجاع لا سيما العجائز والمشايخ الذين ضعفت أبصارهم (عجائب المخلوقات للقزويني) 320 (الرجوم) . لما كنت في مدينة بركي سألني يوماً سلطانها في المجلس فقال لي: هل رأيت قط حجر أنزل من السماء. فقلت: ما رأيت ذلك ولا سمعت به. فقال لي: إنه قد نزل بخارج بلدنا هذا حجر من السماء. ثم دعا رجالاً وأمرهم أن يأتوا بالحجر. فأتوا بحجر أسود أصم شديد الصلابة له بريق قدرت أن زنته قنطاراً. وأمر السلطان بإحضار القطاعين فحضر أربعة منهم فأمرهم أن يضربوه فضربوا عليه ضربة رجل واحد أربع مرات بمطارق الحديد فلم يؤثر فيه شيئاً. فعجبت من أمره. وأمر برده إلى حيث كان 321 (القار) . نزلنا مع القافلة موضعاً يعرف بالقيارة. والقرى والعمارة متصلة بينه وبين الموصل وهو بمقربة من دجلة. وهنالك أرض سوداء فيها عيون تنبع بالقار ويصنع له أحواض(1/167)
يجتمع فيها. فتراه شبه الصلصال على وجه الأرض حالك اللون صقيلاً رطباً وله رائحة طيبة. وحول تلك العيون بركة كبيرة سوداء يعلوها شبه الطحلب الرقيق فتقذفه إلى جوانبها فيصير أيضاً قاراً. وبمقربة من هذا الموضع عين كبيرة فإذا أرادوا نقل القار منها أوقدوا عليها النار فتنشف النار ما هنالك من رطوبة مائية. ثم يقطعونه قطعاً وينقلونه. وقد تقدم لنا ذكر العين التي بين الكوفة والبصرة على هذا النحو (لابن بطوطة) 322 (ألعنبر) . ما يقع من العنبر إلى سواحل بحر فارس هو شيء تقذفه الأمواج إليه. ومبدأه من بحر الهند. على أنه لا يعرف مخرجه. غير أن أجوده ما وقع إلى بلاد بربر أو حدود بلاد الزنج وما والاها. وهو الأبيض المدور والأزرق النادر كبيض النعام أو دون ذلك. وذلك أن البحر إذا اشتد هيجانه قذف من قعره العنبر. ومنه ما يوجد فوق البحر ويزن وزناً كثيراً. فإذا رآه الحوت المعروف بالتال ابتلعه. فإذا حصل في جوفه قتله. وطفا الحوت فوق الماء. وله قوم يرصدونه في قوارب. قد عرفوا الأوقات التي توجد فيها هذه الحيتان المبتلعة العنبر. فإذا عاينوا منها شيئاً اجتذبوه إلى الأرض بكلاليب حديد فيها حبال متينة تنشب في ظهر الحوت. فيشقون عنه ويخرجون العنبر منه (مروج الذهب للمسعودي)(1/168)
323 (النحاس) . وفي مدينة تكدا من أعمال أفريقية معدن النحاس. وهو بخارجها يحفرون عليه في الأرض. ويأتون به إلى البلد فيسبكونه في دورهم. يفعل ذلك عبيدهم وخدمهم. فإذا سبكوه نحاساً احمر صنعوا منه قضباناً في طول شبر ونصف. بعضها رقاق وبعضها غلاظ. فتباع الغلاظ منها بحساب أربع مائة قضيب بمثقال ذهب. وتباع الرقاق بحساب ستمائة وسبع مائة بمثقال. وهي صرفهم. يشترون برقاقها اللحم والحطب. ويشترون بغلاظها العبيد والخدم والذرة والسمن والقمح. ويحمل النحاس منها إلى مدينة كوبر من بلاد الكفار (لابن بطوطة)
324 (ألياقوت) . حجر صلب شديد اليبس رزين صاف شفاف مختلف الألوان أحمر وأصفر وأخضر. أما الأحمر فأشرفها وأنفسها. وهو حجر إذا نفخ عليه النار ازداد حسناً وحمرةً. ومعدنه البلدان الجنوبية عند خط الاستواء. وهو قليل الوجود عزيز (للقزويني)
ذكر معدن الياقوت في جزيرة سيلان
325 ألياقوت العجيب البهرمان إنما يكون ببلدة كنكار في جزيرة سيلان. فمنه ما يخرج من الخور وهو عزيز عندهم. ومنه ما يحفر عنه. وجزيرة سيلان يوجد الياقوت في جميع مواضعها. وهي متملكة فيشتري الإنسان القطعة منها. ويحفر عن الياقوت فيجد أحجاراً بيضاء مشعبة وهي التي يتكون الياقوت في أجوافها.(1/169)
فيعطيها الحكاكين فيحكونها حتى تنفلق أحجار الياقوت. فمنه الأحمر ومنه الأصفر ومنه الأزرق ويسمونه النيلم. وعادتهم أن ما بلغ ثمنه من أحجار الياقوت إلى مائة فنم فهو للسلطان يعطى ثمنه ويأخذه وما نقص عن تلك القيمة فهو لأصحابه. وصرف مائة فنم ستة دنانير من الذهب. وجميع النساء بجزيرة سيلان لهن القلائد من الياقوت الملون ويجعلنه في أيديهن وأرجلهن عوضاً من الأسورة والخلاخيل. ويصنعن منه شبكة يجعلنها على رؤوسهن. ولقد رأيت على جبهة الفيل الأبيض سبعة أحجار منه كل حجر أعظم من بيضة الدجاجة. ورأيت عند السلطان سكرجة على مقدار الكف من الياقوت فيها دهن العود. فجعلت أعجب منها فقال: إن عندنا ما هو أضخم من ذلك (لابن بطوطة)
النبات
326 ألنبات متوسط بين المعادن والحيوان. بمعنى أنه خارج عن نقصان الجمادية الصرفة التي للمعادن وغير واصل إلى كمال الحس والحركة اللتين اختص بهما الحيوان لكنه يشارك الحيوان في بعض الأمور. لأن البارئ تعالى يخلق لكل شيء من الآلات ما يحتاج إليها في بقاء ذاته ونوعه وما زاد عليها يكون ثقلاً وكلأ عليه لا يخلقه. ولا حاجة للنبات إلى الحس والحركة بخلاف الحيوان. ومن عجيب صنع الله تعالى أن الحب والنوى إذا حصلا في تربة(1/170)
ندية وأصابهما حر الشمس انشقا وجدبا بقوة خلقها الله تعالى فيهما الأجزاء اللطيفة الأرضية من الأرض والمائية من الماء. ثم إن تلك الأجزاء يتراكم بعضها على بعض بواسطة قوى خلقها الله تعالى فيها. حتى يصير الحب نجماً بالغاً ذا عرق وقضبان وأوراق وأزهار. وحب النوى شجراً عظيماً ذا عروق وساق وأغصان وأوراق وثمرة (للقزويني) 327 (بطيخ خوارزم) . لا نظير له في بلاد الدنيا شرقاً ولا غرباً. إلا ما كان من بطيخ بخارى. ويليه بطيخ أصفهان. وقشره أخضر وباطنه أحمر. وهو صادق الحلاوة وفيه صلابة. ومن العجائب أنه يقدد وييبس في الشمس. ويجعل في القواصر. كما يصنع عندنا بالشريحة وبالتين المالقي. ويحمل من خوارزم إلى أقصى بلاد الهند والصين. وليس في جميع الفواكه اليابسة أطيب منه. وكنت أيام إقامتي بدهلي من بلاد الهند متى قدم المسافرون بعثت من يشتري لي منهم قديد البطيخ. وكان ملك الهند إذا أتي إليه بشيء منه بعث إلي به لما يعلم من محبتي له. ومن عادته أنه يطرف الغرباء بفواكه بلادهم ويتفقدهم بذلك (لابن بطوطة) 328 (ألتورزي) . ومن غرائب بلاد السودان شجرة طويلة الساق دقيقتها تسمى تورزي تنبت في الرمال. ولها ثمر كبير منتفخ داخله صوف أبيض. تصنع منه الثياب والأكسية. ولا(1/171)
تؤثر النار فيما صنع من ذلك الصوف من الثياب ولو أوقدت عليه الدهر. وأخبر الفقيه عبد الملك أن أخل اللامس بلد هناك ليس لهم ليس إلا من هذا الصنف. وقد حدث جماعة أنهم رأوا منه أهداب منديل عند أبي الفضل البغدادي تحمى عليه النار فيزداد بياضاً. ويكون له النار غسلاً وهو كثوب الكتان. (للبكري)
329 (ألتنبول) . شجر يغرس كما نغرس دوالي العنب ويصنع له معرشات من القصب كما يصنع لدوالي العنب. أو يغرس في مجاورة النارجيل فيصعد فيها كما تصعد الدوالي وكما يصعد الفلفل. ولا ثمر للتنبول وإنما المقصود منه ورقه وهو يشبه ورق العليق وأطيبه الأصفر. وتجتنى أوراقه في كل يوم وأهل الهند يعظمون التنبول تعظيماً شديداً. وإذا أتى الرجل دار صاحبه وأعطاه خمس ورقات منه فكأنما أعطاه الدنيا وما فيها لا سيما إن كان أميراً أو كبيراً. وإعطاؤه عندهم أعظم شأناً وأدل على الكرامة من إعطاء الفضة والذهب. وكيفية استعماله أن يؤخذ قبله الفوفل وهو يشبه جوز الطيب. فيكسر حتى يصير أطرافاً صغاراً ويجعله الإنسان في فيه ويعلكه. ثم يأخذ ورق التنبول فيجعل عليه شيئاً من النورة ويمضغها مع الفوفل. وخاصيته أنه يطيب النكهة ويذهب بروائح الفم ويهضم الطعام. ويقطع ضرر شرب الماء على الريق.
330 (ألعود الهندي) . شجره يشبه شجر البلوط إلا أن قشره(1/172)
دقيق وأوراقه كأوراق البلوط سواء ولا ثمر له. وشجرته لا تعظم كل العظم وعروقه طويلة ممتدة وفيها الرائحة العطرة. وأما عيدان شجرته وورقها فلا عطرية فيها. وكل ما ببلاد المسلمين من شجره فهو متملك وأما الذي في بلاد الكفار فأكثره غير متملك. والمتملك منه ما كان بقافلة. وهو أطيب العود. وكذلك القماري هو أطيب أنواع العود ويبيعونه لأهل الجاوة بالأثواب. ومن القماري صنف يطبع عليه كالشمع. وأما العطاس فإنه يقطع العرق منه ويدفن في التراب أشهراً فتبقى فيه قوته. وهو من أعجب ألوانه.
331 (ألقرنفل) . أشجار عادية ضخمة وهي ببلاد الكفار أكثر منها ببلاد الإسلام. وليست بممتلكة لكثرتها. والمجلوب إلى بلادنا منها هو العيدان. والذي يسميه أهل بلادنا نوار القرنفل هو الذي يسقط من زهره وهو شبيه بزهر النارنج. وثمر القرنفل هو جوز بوا المعروفة في بلادنا بجوزة الطيب. والزهر المتكون فيها هو البسباسة. رأيت ذلك كله وشاهدته 332 (ألكافور) . شجرة قصب كقصب بلادنا إلا أن الأنابيب منها أطول وأغلظ. ويكون الكافور في داخل الأنابيب وإذا كسرت القصبة وجد في داخل الأنبوب مثل شكله من الكافور. قال القزويني: الكافور شجرة كبيرة هندية تظل خلقاً كثيراً تألفها(1/173)
النسور. فلا يصل إليها الناس إلا في الوقت المعلوم من السنة. وهي سفحية بحرية. خشبها خشبة بيضاء هشة خفيفة. ربما احتبس في خللها شيء من الكافور فينقب أعلى الشجرة فيسيل منها ماء الكافور عدة جرار. ثم ينقب أسفل من ذلك وسط الشجرة فينساب منها قطع الكافور 333 (أللبان) . شجرة اللبان صغيرة تكون بقدر قامة الإنسان إلى ما دون ذلك. وأغصانها كأغصان الخرشف. وأوراقها صغار رقاق. وربما سقطت فبقيت الشجرة منها دون ورقة. واللبان صمغية تكون في أغصانها. وهي في بلاد المسلمين أكثر منها في بلاد غيرهم (لابن بطوطة) قال القزويني: وشجرة اللبان تسمى الكندر. وهي شجرة ذات شوك لا تسمو أكثر من ذراعين تنبت في الجبال بشحر عمان. ورقها كورق الآس وهو رقيق. وإذا شرطت الورقة منه فطر منها ماء شبه اللبن ثم عاد صمغاً. وذلك الصمغ هو اللبان 334 (ألمصطكى) . هو من شجرة تنبت بجزيرة مصطكى سميت به. تشبه شجر الفستق الصغار. وفي فصل الربيع تشرط تلك الشجر بمشاريط فيسيل منها المصطكى ثم يجمد على الشجر وهو الجيد. والذي يقطر على الأرض يكون دون ذلك. وجزيرة مصطكى جنوبي قسطنطينية بالقرب من فم الخليج القسطنطيني (لابي الفداء)(1/174)
335 (ألنارجيل) . وهو جوز الهند. من أغرب الأشجار شأناً وأعجبها أمراً. وشجره شبه شجر النخل لا فرق بينهما إلا أن هذه تثمر جوزاً وتلك تثمر ثمراً. وجوزها يشبه رأس ابن آدم لأن فيها شبه العينين والفم وداخلها شبه الدماغ إذا كانت خضراء وعليها ليف شبه الشعر. وهم يصنعون منه الحبال للمراكب. والجوزة منها وخصوصاً التي بجزائر ذئبة المهل تكون بمقدار رأس الآدمي. ومن خواص هذا الجوز تقوية البدن وإسراع السمن والزيادة في حمرة الوجه ففعله فيها عجيب. ومن عجائبه أنه يكون في ابتداء أمره أخضر فمن قطع بالسكين قطعة من قشره وفتح رأس الجوزة شرب منها ماءً في النهاية من الحلاوة والبرودة. ومزاجه حار
336 (ألمهوا) . من أثمار بلاد الهند المهوا. وأشجاره عادية وأوراقه كأوراق الجوز إلا أن فيها حمرة وصفرة. وثمره مثل الأجاص الصغير شديد الحلاوة. وفي أعلى كل حبة منه حبة صغيرة بمقدار حبة العنب مجوفة. وطعمها كطعم العنب إلا أن الإكثار من أكلها يحدث في الرأس صداعاً. ومن العجب أن هذه الحبوب إذا يبست في الشمس كان مطعمها كمطعم التين. وكنت آكلها عوضاً من التين إذ لا يوجد ببلاد الهند. وهم يسمون هذه الحبة الأنكور. وتفسيره بلسانهم العنب. والعنب بأرض الهند عزيز(1/175)
جداً. ولا يكون بها إلا في مواضع بحاضرة دهلي وببلاد أخر. ويثمر مرتين في السنة. ونوى هذا الثمر يصنعون منه الزيت ويستصبحون به (لابن بطوطة)
الحيوان
337 أما الحيوان ففي المرتبة الثالثة من الكائنات وأبعد المولدات عن الأمهات. لأن المرتبة الأولى للمعادن. وهي باقية على الجمادية لقربها من البسائط. والمرتبة الثانية للنبات. فإنها متوسطة بين المعادن والحيوان لحصول النشوء والنمو وفوات الحس والحركة. والمرتبة الثالثة للحيوان. وهو قد جمع بين النشوء والنمو والحس والحركة. وهذه قوى موجودة في جميع أفراد الحيوان حتى في الذباب والبعوض والديدان (للقزويني)
نوع النعم
338ٍ (ألإبل) . قيل: ما خلق الله شيئاً من الدواب خيراً من الإبل. إن حملت أثقلت وإن سارت أبعدت وإن حلبت أروت وإن نحرت أشبعت. ولما أراد الله أن تكون الإبل سفائن البر صبرها على احتمال العطش. وجعلها ترعى كل شيء نابت في البراري والمغاور مما لا يرعاه سائر البهائم. والإبل من الحيوانات العجيبة وإن كان عجبها سقط من أعين الناس بكثرة رؤيتهم لها. وذاك أنه حيوان عظيم الجسم سريع الانقياد. ينهض بالحمل(1/176)
الثقيل ويبرك به بصوت واحد. ويأخذ زمامه صبي فيذهب به حيث شاء. ويتخذ على ظهره بيت فيجعل فيه الإنسان مأكوله ومشروبه وملبوسه وظروفه ووسائده كما في بيته. ويتخذ للبيت سقفاً وهو يمشي بكل ذلك. (للدميري) 339ٍ (ألزرافة) . حيوان غريب الخلقة. رأسه كرأس الإبل. وقرنه كقرون البقر. وجلده كجلد النمر. وقوائمه وأظلافه كالبقر. وذنبه كذنب الظبي. ولما كان مأكولها ورق الشجر خلق الله تعالى يديها أطول من رجليها وهي ألوان عجيبة. وقال القزويني: الزراقة طويلة العنق. وصورتها بالبعير أقرب. وجلدها بالببر أشبه. وهي من الخلق العجيب ليس عندها إلا ظرافة الصورة
نوع السباع
340 (ألثعلب) . وهو معروف. ذو مكر وخديعة. وله حيل في طلب الرزق. فمن ذلك أنه يتماوت وينفخ بطنه ويرفع قوائمه حتى يظن أنه مات فإذا قرب منه حيوان وثب عليه وصاده. وحيلته هذه لا تتم على كلب الصيد. ومن لطيف أمره أنه إذا تسلطت عليه البراغيث حملها وجاء إلى الماء وقطع قطعة من صوفه وجعلها في فيه ونزل في الماء. والبراغيث تطير قليلاً حتى تجتمع في تلك الصوفة فيلقيها في الماء ويخرج. وفروه أدفأ الفراء وفيه الأبيض والرمادي وغير ذلك (للابشيهي)(1/177)
341 (خيل البحر) . ولما وصلنا خليج النيل رأيت على ضفته ست عشرة دابة ضخمة الخلقة. فعجبت منها وظننتها فيلة لكثرتها هنالك. ثم إني رأيتها دخلت في النهر فقلت لأبي بكر بن يعقوب: ما هذه الدواب. فقال: هي خيل البحر خرجت ترعى في البر. وهي أغلظ من الخيل ولها أعراف وأذناب ورؤوسها كرؤوس الخيل وأرجلها كأرجل الفيلة. ورأيت هذه الخيل مرة أخرى لما ركبنا النيل من تنبكتو إلى كوكو وهي تعوم في الماء وترفع رؤوسها وتنفخ. وخاف منها أهل المركب فقربوا من البر لئلا تغرقهم. ولهم حيلة في صيدها حسنة وذلك أن لهم رماحاً مثقوبة قد جعل في ثقبها شرائط وثيقة فيضربون الفرس منها. فإن صادفت الضربة رجله أو عنقه أنفذته وجذبوه بالحبل حتى يصل إلى الساحل فيقتلونه ويأكلون لحمه. ومن عظامها بالساحل كثير (لابن بطوطة)
342 (ألدب) . حيوان جسيم يحب العزلة. فإذا جاء الشتاء يدخل وجاره الذي اتخذه في الغيران ولا يخرج حتى يطيب الهواء. فإذا جاع يمص يديه ورجليه. فيدفع بذلك جوعه ويخرج من وجاره فصل الربيع كأسمن ما يكون. ويخاصمه البقر فإذا نطحه البقر استلقى. ويأخذ بيديه قرنيه ويعضه عضاً شديداً ويقهره. وقال بعضهم: إذا ولدت أنثاه جرواً تصعد به إلى أعلى شجرة خوفاً عليه من النمل لأنها تضعه قطعة لحم. ثم لا تزال تلحسه وترفعه في الهواء(1/178)
أياماً حتى تنفرج أعضاؤه وتخشن ويصير له جلد. وقيل إن الدب يقيم أولاده تحت شجرة الجوز ثم يصعد فيرمي بالجوز إليها إلى أن تشبع. وربما قطع من الشجرة الغصن العتل الضخم الذي لا يقطع إلا بالفأس والجهد ثم يشد به على الفارس فلا يضرب أحداً إلا قتله (للدميري والقزويني) 343 (ألفيل) . حيوان يوجد بأرض الهند. وهو أضخم الحيوان وأعظمه جرماً. وما ظنك بخلق ربما كان نابه أكثر من ثلاث مائة منٍ. وهو مع ذلك أملح وأظرف من كل نحيف الجسم رشيق. وأهل الهند يزعمون أن أنياب الفيل قرناه يخرجان مستبطنين حتى يخرقان. وخرطوم الفيل أنفه ويده. وبه يتناول الطعام إلى جوفه وبه يقاتل وبه يصيح. وصياحه ليس في مقدار جرمه. وله أذنان كل واحدة كترس متحركتان دائماً يدفع بهما الذباب والبق عن فيه. لأن فمه مفتوح دائماً فلو دخل من الذباب أو البق في فمه أو أذنه لهلك. والفيل يعادي الحية إذا رآها فسخها تحت رجليه. والحية تلسع ولده فتهلكه. وقيل إن الفيل جيد السباحة. وإذا سبح رفع خرطومه كما يغيب الجاموس جميع بدنه إلا منخريه. ويقوم خرطومه مقام عنقه. والخرق الذي في خرطومه لا ينفذ وإنما هو وعاء إذا ملأه من طعام أو ماء أو لجه في فيه لأنه قصير العنق لا ينال ماء ولا مرعى. وأهل الهند تجعله في القتال. وفيه من الفهم(1/179)
ما يقبل به التأديب ويفعل ما يأمره به سائسه من السجود للملك وغير ذلك من الخير والشر في حالتي السلم والحرب. وفيه من الأخلاق أنه يقاتل بعضه بعضاً والمقهور منهما يخضع للقاهر. وربما مر بالإنسان فلا يشعر به لحسن خطوه واستقامته. وذكر في كتاب كليلة ودمنة أن الفيل لا يأكل علفه إلا أن يتلمق (للابشيهي والدميري) 344 (ألقاقم والسمور) . ألقاقم هو أحسن أنواع الفراء. وتساوي ألفروة منه ببلاد الهند ألف دينار. وهي شديدة البياض من جلد حيوان صغير في طول الشبر. وذنبه طويل يتركونه في الفروة على حاله. والسمور دون ذلك. تساوي الفروة منه أربعمائة دينار فما دونها. ومن خاصية هذه الجلود أنه لا يدخلها القمل. وأمراء الصين وكبارها يجعلون منه الجلد الواحد متصلاً بفرواتهم عند العنق. وكذلك تجار فارس والعراقين (لابن بطوطة) 345 (ألقرد) . حيوان قبيح مليح. يضحك ويطرب ويفهم سريعاً. ويتعلم الصناعات الدقيقة كالنسيج. فإن الثياب العريضة لا يحوكها صائغ واحد فيعلم الصانع قرداً ويرمي المحوك إلى جانب القرد والقرد يرمي إليه. وأهدى ملك النوبة إلى المتوكل قردين أحدهما خياط والآخر صانع. وأهل اليمن يعلمون القرود قضاء حوائجهم. حتى البقال والقصاب إذا غاب سلم دكانه إلى القرد(1/180)
يحفظه أشد الحفظ حتى يرجع صاحبه (للابشيهي والقزويني) 346 (ألكركدن) . في بلاد الهند البشان وهو الكركدن. له في جبهته قرن واحد. وهو أسود في وسطه صورة بيضاء. وهذا الكركدن دون الفيل في الخلقة إلى السواد ما هو يشبه الجاموس قوي ليس كقوته شيء من الحيوان. وليس له مفصل في ركبتيه ولا في يده. وهو من لدن رجله إلى إبطه قطعة واحدة. والفيل يهرب منه. وهو يجتر كما تجتر البقر والإبل. ولحمه حلال قد أكلناه. وهو في مملكة سرنديب كثير في غياضهم وهو في سائر بلاد الهند. غير أن قرون هذا أجود. فربما كان في القرن صورة رجل. وصورة طاووس وصورة سمكة وسائر الصور. وأهل الصين يتخذون منها المناطق وتبلغ المنطقة ببلاد الصين ألفي دينار وثلاثة آلاف وأكثر على قدر حسن الصورة. وهذا كله يشترى من بلاد رهمني بالودع وهو عين البلاد (سلسلة التواريخ)
347 (ألكلب) . حيوان كثير الرياضة شديد المجاهدة كثير الوفاء دائم الجوع والسهر. يخدم بأدنى مراعاة خدمة كثيرة من الملازمة والحراسة ودفع اللص. حكى أبو عبيدة قال: خرج رجل إلى الجبانة ومعه أخوه وجاره لينظروا إلى الناس. فتبعه كلب له فضربه ورماه بحجر فلم ينته ولم يرجع. فلما قعد ربض الكلب بين يديه. فجاء عدو له في طلبه فلما رآه خاف على نفسه. فإذ بئر(1/181)
هناك قريبة القعر فنزل فيها وأمر أخاه وجاره أن يهيلا عليه التراب. ثم ذهب أخوه وجاره إلى سبيلهما وصار الكلب ينبح حوله. فلما انصرف العدو أتاه الكلب فما زال يبحث في التراب إلى أن كشفه عن رأسه فتنفس الرجل ومر به أناس فتناولوه وردوه إلى أهله. فلما مات ذلك الكلب عمل له قبراً ودفنه فيه. وجعل عليه قبة وسمي ذلك قبر الكلب وفي ذلك قيل:
تفرق عنه جاره وشقيقه ... وما حاد عنه كلبه وهو ضاربه
ومن ذلك ما حكي أن رجلاً قتل ودفن. وكان معه كلب فصار يأتي كل يوم إلى الموضع الذي دفن فيه وينبح وينبش ويتعلق برجل هناك. فقال الناس: إن لهذا الكلب شأناً فكشفوا عن ذلك وحفروا ذلك الموضع فوجدوا قتيلاً. فقبضوا على ذلك الرجل الذي ينبح عليه الكلب وضربوه فأقر بقتله فقتل والكلب من الحيوان الذي يعرف الحسنة. ويعيش الكلب في الغالب عشر سنين. وربما بلغ العشرين سنة. ووصف للمتوكل كلب بأرمينية يفترس الأسد. فأرسل من جاء به إليه. فجوع أسداً وأطلقه عليه فتهارشا وتواثبا حتى وقعا ميتين. وقيل: كلب الصياد يشبه به الفقير المجاور للغني. لأنه يرى من نعمته وبؤس نفسه ما يفتت كبده. والكلب نوعان أهلي وسلوقي نسبة إلى سلوق مدينة باليمن تنسب إليها الكلاب السلوقية وكلا النوعين في الطبع سواء(1/182)
نوع الطيور
348 (ألباز) . وكنيته أبو الأشعث. هو من أشد الحيوان تكبراً وأضيقها خلقاً. تختلف ألوانه وهو أصناف. منها البازي والباشق والشاهين والبيدق والصقر. والبازي أحرها مزاجاً لأنه لا يصبر على العطش. فلذلك لا يفارق الماء والأشجار المتسعة والظل الظليل. وهو خفيف الجناح سريع الطيران تكثر أمراضه من كثرة طيرانه. لأنه كلما طار انحط لحمه وهزل. وأحسن أنواعه ما قل ريشه واحمرت عيناه مع حدة ودونه الأزرق الأحمر العينين. والأصفر دونهما. ومن صفاته أنه طويل العنق عريض الصدر (للابشيهي) 349 (ألحمام) . هو أنواع كثيرة. والكلام في الذي ألف البيوت وهو قسمان أحدهما بري. وه الذي يوجد في القرى والآخر أهلي وهو أنواع وأشكال. فمنه الرواعب والمراعيش والشداد والغلاب والمنسوب. ومن طبعه أنه يطلب وكره ولو كان في مسافة بعيدة. ولأجل ذلك يحمل الأخبار. ومنه من يقطع عشرة فراسخ في يوم واحد. وربما صيد وغاب عن وطنه عشر سنين. وهو على ثبات عقله وقوة حفظه حتى يجد فرصة فيطير ويعود إلى وطنه. وسباع الطير تطلبه أشد الطلب. وخوفه من الشاهين أشد من غيره. وهو أطير منه لكن إذا أبصره يعتريه ما يعتري الحمار إذا رأى الأسد. والشاة إذا رأت الذئب. والفأر إذا رأى الهر(1/183)
350 (ألخطاف) . أنواع كثيرة. فمنه نوع دون العصفور رمادي اللون يسكن ساحل البحر. ومنه ما لونه أخضر وتسميه أهل مصر الخطار, ونوع طويل الأجنحة رقيق يألف الجبال. ونوع أصغر منه يألف المساجد يسميه الناس السنونو لا يفارق البيوت. وهي تبني بيتها في أعلى مكان بالبيت. وتحكم بنيانه وتطينه. فإن لم تجد الطين ذهبت إلى البحر فتمرغت بالتراب والماء وأتت فطينته. وهي لا تربل داخله بل على حافته أو خارجاً عنه. وعنده ورع كثير لأنه وإن ألف البيوت لا يشارك أهلها في أقواتهم ولا يلتمس منهم شيئاً. ولقد أحسن واصفه حيث يقول:
كن زاهداً فيما حوته يد الورى ... تبقى إلى كل الأنام حبيباً
وانظر إلى الخطاف حرم زادهم ... أضحى مقيماً في البيوت ربيبا
ومن شأنه أنه لا يفرخ في عش عتيق بل يجدد له عشاً 351 (ألخفاش) . طير يوجد في الأماكن المظلمة. وذلك بعد الغروب وقبل العشاء. لأنه لا يبصر نهاراً ولا في ضوء القمر. وقوته البعوض وهذا الوقت هو الذي يخرج فيه البعوض أيضاً لطلب رزقه. فيأكله الخفاش. فيتسلط طالب رزق على طالب رزق. وهو من الحيوان الشديد الطيران. قيل إنه يطير الفرسخين في ساعة. وهو يعمر مثل النسر وتعاديه الطيور فتقتله
352 (ألزنبور) . حيوان فوق النحل له ألوان. وقد أودعه الله(1/184)
حكمة في بنيانه بيته. وذلك أنه يبنيه مربعاً. له أربعة أبواب كل باب مستقبل جهة من الرياح الأربع. فإذا جاء الشتاء دخل تحت الأرض وبقي إلى أيام الربيع. فينفخ الله تعالى فيه الروح فيخرج ويطير. وفي طبعه التهافت على الدم واللحم. ومن خاصيته أنه إذا وضع في الزيت مات. وفي الخل عاش. ولسعته تزال بعصارة الملوخية (للابشيهي) 353 (ألعلق الطيار) . رأينا في بلاد الهند العلق الطيار. ويكون بالأشجار والحشائش التي تقرب من الماء. فإذا قرب الإنسان منه وثب عليه. فحيثما وقع في جسده خرج منه الدم الكثير. والناس يعدون له الليمون يعصرونه عليه. فيسقط عنهم. ويجردون الموضع الذي يقع عليه بسكين خشب معد لذلك. ويذكر أنبعض الزوار مر بذلك الموضع فتعلقت به العلق. فأظهر الجلد ولم يعصر عليها الليمون. فنزف دمه ومات (لابن بطوطة) 354 (ألكركي) . طير محبوب للملوك. وله مشتى ومصيف. فمشتاه بأرض مصر ومصيفه بأرض العراق. وهو من الحيوان الرئيس. قيل إنه إذا نزل بمكان اجتمع حلقةً ونام وقام عليه واحد يحرسه. وهو يصوت تصويتاً لطيفاً حتى يفهم أنه يقظان. فإذا تمت نوبته أيقظ غيره لنوبته. وإذا مشى وطئ الأرض بإحدى رجليه وبالأخرى قليلاً خوفاً من أن يحس به. وإذا طار سار سطراً(1/185)
يقدمه واحد كهيئة الدليل. ثم تتبعه البقية (للقزويني)
غرائب مائية
355 (ألجوهر) . أصل الجوهر وهو الدر على ما قيل أن حيواناً يصعد من البحر على ساحله وقت المطر ويفتح أذنه يلتقط بها المطر. ويضمها ويرجع إلى البحر فينزل في قراره. ولا يزال مطبقاً أذنه على ما فيها خوف أن يختلط بأجزاء البحر. حتى ينضج ما فيها ويصير دراً (للابشيهي)
ذكر مغاص الجوهر
356 رأينا مغاص الجوهر فيما بين سيراف والبحرين في خور راكد مثل الوادي العظيم. فإذا كان شهر أبريل وشهر مايه تأتي إليه القوارب الكثيرة فيها الغواصون وتجار فارس والبحرين والقطيف. ويجعل الغواص على وجهه مهما أراد أن يغوص شيئاً يكسوه من عظم الغيلم وهي السلحفاة. ويصنع من هذا العظم أيضاً شكلاً شبه المقراض يشده على أنفه. ثم يربط حبلاً في وسطه ويغوص. ويتفاوتون في الصبر في الماء فمنهم من يصبر الساعة. فإذا وصل إلى قعر البحر يجد الصدف هنالك فيما بين الأحجار الصغار مثبتاً في الرمل فيقتلعه بيده أو يقطعه بحديدة عنده معدة لذلك(1/186)
ويجعلها في مخلاة جلد منوطة بعنقه. فإذا ضاق نفسه حرك الحبل فيحس به الرجل الممسك للحبل على الساحل فيرفعه إلى القارب فتؤخذ منه المخلاة. ويفتح الصدف فيوجد في أجوافها قطع لحم تقطع بحديدة فإذا باشرت الهواء جمدت فصارت جواهر. فيجمع جميعها من صغير وكبير فيأخذ السلطان خمسه والباقي يشتريه التجار الحاضرون بتلك القوارب. وأكثرهم يكون له الدين على الغواصين فيأخذ الجوهر في دينه أو ما وجب له منه (لابن بطوطة) 357 (ألرعاد) . إن في البحر سمكاً يسمى الرعاد. إذا دخل في شبكة فكل من جر تلك الشبكة أو وضع يده عليها أو على حبل من حبالها. تأخذه الرعدة حتى لا يملك من نفسه شيئاً كما يرعد صاحب الحمى. فإذا رفع يده زالت عنه الرعدة. فإن أعادها عادت إليه الرعدة. وهذا أيضاً من العجائب. فسبحان الله جلت قدرته 358 (ألمرجان) . هو واسطة بين النبات والمعدن. لأنه بتشجره يشبه النبات. وبتحجره يشبه المعدن. ولا يزال ليناً في معدنه. فإذا فارقه تحجر ويبس. (خواصه النظر فيه يشرح الصدر ويبسط النفس ويفرج القلب. وأنواعه كثيرة أحمر وأزرق وأبيض. وأصله من البحر قيل إنه شجر ينبت. وقيل إنه من حيوانه (للابشيهي)(1/187)
الباب الحادي عشر في أوصاف البلاد
آثار آسية
359 (ألأردن) . ألأردن ناحية بأرض الشام في غربي الغوطة وشماليها. وقصبتها طبرية بينها وبين بيت المقدس ثلاثة أيام. بها البحيرة المنتنة التي يقال لها بحيرة لوط. ودورة البحيرة ثلاثة أيام. والجبال تكنفها. فلا ينتفع بهذه البحيرة ولا يتولد فيها حيوان. وقد تهيج في بعض الأعوام فيهلك أهل القرى الذين هم حولها كلهم حتى تبقى خالية مدة. ثم يأتي يسكنها من لا رغبة له في الحياة. وإن وقع في هذه البحيرة شيء لا يبقى منتفعاً به. حتى الحطب إذا وقع فيها لا تعمل النار فيه البتة. وذكر ابن الفقيه أن الغريق فيها لا يغوص بل يبقى طافياً إلى أن يموت (للقزويني) 360 (إربل) . مدينة محدثة وقي قاعدة بلاد شهر زور في عراق العجم. وقال ياقوت في المشترك: وإربل مدينة بين الزابين. وهما نهران كبيران. ومنها إلى الموصل يومان خفيفان. وإربل أيضاً اسم لمدينة صيدا من سواحل الشام. وعن بعض أهلها: إربل مدينة كبيرة وقد خرب غالبها. ولها قلعة على تلٍ عالٍ في داخل السور مع جانب المدينة. وهي في مستوٍ من الأرض. والجبال منها على(1/188)
أكثر من مسيرة يوم. ولها قني كثيرة تدخل منها اثنتان إلى المدينة للجامع ودار السلطنة. وهي فيما بين الشرق والجنوب عن الموصل (لابي الفداء) 361 (أصبهان) . من عراق العجم في نهاية الجبال من جهة الجنوب. وأصبهان مدينتان إحداهما تعرف باليهودية وسميت اليهودية لأن بخت نصر لما خرب بيت المقدس نقل أهلها إلى أصبهان فبنوا لهم بها منازل. فتطاولت المدة فخربت حي مدينة أصبهان وعمرت محلة اليهود. ثم خالطهم المسلمون فيها فوسعوها وبقي اسم اليهود عليها فقيل لها اليهودية. وأصبهان من أخصب البلاد وأوسعها خطة. وبأصبهان معدن الكحل مصاقب لفارس. ويسير الإنسان من أصبهان إلى الري مشرقاً وليس بالنصب (عراقي العجم لابن حوقل) 362 (أقصرا) . في بلاد الروم. وهي ذات أشجار وفواكه كثيرة. ولها نهر كبير داخل في وسط البلد. ويدخل الماء إلى بعض بيوتها من نهر آخر. ولها قلعة كبيرة حصينة في وسط البلد. قال ابن سعيد: وهي التي تعمل فيها البسط الملاح وهي في عرض أقشار وأطول منها. وهي كثيرة الفواكه تحمل منها إلى قونية على العجل في بسيط كله مراع وأودية. ويقول أهل تلك البلاد إن مسافة هذه الطريق ثمانية وأربعون فرسخاً. وكذلك من أقصرا إلى مدينة قيسارية. وبين أقصرا وقونية ثلاث مراحل(1/189)
363 (أماسيا) . قال فيها بعض من رآها. هي بلدة كبيرة من الروم بسور وقلعةٍ. ولها بساتين ونهر كبير ونواعير يسقى بها. قال ابن سعيد: وفي شرقي فرضة سنوب بميلة إلى الجنوب مدينة أماسيا. وهي من مدن الحكماء. وهي مشهورة بالحسن وكثرة المياه وكروم وبساتين. وبينها وبين سنوب ستة أيام. ونهر أماسيا يمر على أماسيا ويصب في بحر سنوب. وعن بعض من رآها أن بها معدن الفضة 364 (أنطاكية) . قاعدة بلاد الشام. وهي بلدة كبيرة ذات أعين وسور عظيم. داخله خمسة أجبل وقلعة ويمر بظاهرها نهر العاصي والنهر الأسود مجموعين. قال ابن حوقل: أنطاكية أنزه بلد الشام بعد دمشق. عليها سور من صخر يحيط بها وبجبل مشرف عليها. وتجري المياه في دورهم وسككهم ومسجد جامعهم. ولها ضياع وقرى ونواحٍ خصبة جداً. قال في العزيزي: ومساحة دور السور اثنا عشر ميلاً (لابي الفداء) 365 (أنطاليا) . مدينة من بلاد الروم مشهورة. وميناها غير مأمونة في الأنواء. وبها أسطول صاحب الدروب. وكانت بها الروم فاستولى عليها المسلمون في عصرنا. قال من رآها: هي ذات أشجار وبساتين ومحمضات كثيرة. ولها قلعة حصينة. قال ابن حوقل: وأنطاليا حصن للروم على شط البحر منيع واسع الرستاق(1/190)
كثير الأهل. ومما نقلناه عن ثابت بن الحميد المستولي على أنطاليا في زماننا قال: وأنطاليا بلدة صغيرة وهي أكبر من العلايا وهي في غاية الحصانة لعلو سورها. ولها بابان إلى البحر وإلى البر. وداخل البلد وبخارجه المياه جارية. ولها بساتين كثيرة من المحمضات وأنواع الفواكه. وهي في الغرب عن قونية على مسيرة عشرة أيام (لابن سعيد)
366 (أوال) . جزيرة بالقرب من القطيف وهي في بحر فارس على مسيرة يوم للريح الطيبة من القطيف. وبها مغاص مفضل على غيره. وقطر هذه الجزيرة مسيرة يومين من كل جهة. وبها تقدير ثلاثمائة ضيعة وما يزيد. وبها كروم كثيرة إلى الغاية ونخيل وأترج. وبها صحراء ومراعٍ ومزدرعها على عيون بها. وهي حارة جداً (لابي الفداء) 367 (أيا سلوق) . إن مدينة أيا سلوق. هي مدينة كبيرة قديمة معظمة عند الروم. وفيها كنيسة كبيرة مبنية بالحجارة الضخمة. ويكون طول الحجر منها عشر أذرع فما دونها منحوتة أبدع نحتٍ. والمسجد الجامع بهذه المدينة من أبدع مساجد الدنيا لا نظير له في الحسن. وكان كنيسة للروم معظمة عندهم يقصدونها من البلاد. فلما فتحت هذه المدينة جعلها المسلمون مسجداً جامعاً. وحيطانه من الرخام الملون وفرشه الرخام الأبيض وهو مسقف بالرصاص.(1/191)
وفيه إحدى عشر قبة منوعة. وفي وسط كل قبة صهريج ماء والنهر يشقه. وعن جانبي النهر الأشجار المختلفة الأجناس. ودوالي العنب ومعرشات الياسمين. وله خمسة عشر باباً (لابن بطوطة) 368 (إيلاق) . قال ابن حوقل: وإيلاق إقليم يقارب إقليم الشاش بنواحي بخارى في بلاد ما وراء النهر. وقصبته مدينة تسمى بنكث. وهي مدينة عليها سور ولها عدة أبوابٍ. وتجري في المدينة المياه. ولها بساتين كثيرة. ولها حائط يمتد من جبل اسمه سابلغ حتى ينتهي إلى وادي الشاش لمنع الترك من الدخول إلى بلادها. ولإيلاق نهر يعرف بنهر إيلاق. وإقليم إيلاق متصل بإقليم الشاش لا فصل بينهما. وهي من أنزه بلاد الله (لابي الفداء) 369 (بارين) . من أعمال حماة. وهي بلدة صغيرة ذات قلعة قد دثرت. ولها أعين وبساتين. وهي على مرحلة من حماة. وهي غربي حماة بميلة يسيرة إلى الجنوب وبها آثار عمارة قديمة تسمى الرفنية ولها ذكر شهير في كتب التاريخ. وحصن بارين هو حصن أحدثه الفرنج في سنة بضع وثمانين وأربع مائة. ثم ملكه المسلمون وبقي مدة ثم أخربوه 370 (بانياس) . من أعمال دمشق بانياس. اسم لبلدة صغيرة ذات أشجار ومحمضات وغيرها وأنهار. وهي على مرحلة ونصف من دمشق من جهة الغرب بميلة إلى الجنوب. والصبيبة اسم لقلعتها وهي من(1/192)
الحصون المنيعة. قال في العزيزي: ومدينة بانياس في لحف جبل الثلج. وهو مطل عليها والثلج على رأسه كالغمامة لا يعدم منه صيفاً ولا شتاءً 371 (بدليس) . روي عن بعض أهل تلك البلاد: وبدليس في أرمينية بين ميا فارقين وبين خلاط. وهي مدينة مسورة وقد خرب نصف سورها. والمياه تخترق المدينة من عيون في ظاهرها. ولها بساتين في واد. وهي دون حماة في القدر. وهي بين جبال تحف بها. وبردها وشتاؤها شديد وثلوجها كثيرة. قال ابن حوقل: وهي بلد صغير عامر كثير الخير خصب. قال في العزيزي: وبينها وبين خلاط سبعة فراسخ (لابي الفداء) 372 (بردعة) . قاعدة مملكة أران. وهي مدينة كبيرة من أران في أقصى أذربيجان. كثيرة الخصب نزهة. وعلى أقل من فرسخ منها موضع يسمى الأندراب. يكون مسيرة يوم في يوم بساتين مشتبكة. وجميعها فواكه ومنها البندق والشاهبلوط. وعلى بابها سوق تسمى الكركي يجتمع الناس فيه كل يوم أحد. وهو مجمع عظيم. وهي في مستو من الأرض ولها بساتين ومياه كثيرة. وهي قريبة من نهر الكر (لابن حوقل) 373 (بعلبك) . من أعمال دمشق في الجبل هي بلدة قديمة ذات أسوار. ولها قلعة حصينة عظيمة البناء. وهي ذات أشجار وأنهار(1/193)
وأعين. وهي كثيرة الخير. قال ابن بطوطة: مدينة بعلبك هي حسنة قديمة من أطيب مدن الشام. تحدق بها البساتين الشريفة. والجنات المنيفة. وتخترق أرضها الأنهار الجارية. وتضاهي دمشق في خيراتها المتناهية. ومن بعلبك إلى الزبداني ثمانية عشر ميلاً. والزبداني مدينة ليس لها أسوار. وهي على طرف وادي بردى. والبساتين متصلة من هناك إلى دمشق. وهي بلد حسن كثير المنازه والخصب. ومنه إلى دمشق ثمانية عشر ميلاً
374 (بلخ) . مدينة بلخ في مستو من الأرض وبينها وبين أقرب جبل إليها أربعة فراسخ. والمدينة نحو نصف فرسخ في مثله. ولها نهر يسمى دهاس يجري في ربضها. وهو نهر يدير عشر أرحية. والبساتين في جميع جهات بلخ تحتف بها. وببلخ الأترج وقصب السكر ويقع في نواحيها الثلوج. وقال في اللباب: بلخ من خراسان فتحها الأحنف بن قيس التميمي زمن عثمان. وخرج من بلخ عالم لا يحصى من الأئمة والعلماء والصلحاء (لابي الفداء) 375 (بيت المقدس) . هي المدينة المشهورة التي كانت محل الأنبياء وقبلة الشرائط ومهبط الوحي. بناها داود وفرغ منها سليمان فأوحى الله تعالى إليه أن سلني حاجتك. فقال: يا رب أسألك أن تغفر لي ذنبي. فقال: لك ذلك. قال: وأسألك أن تغفر لمن جاء إلى هذا البيت يريد الصلاة فيه. فقال: لك ذلك. ثم ضرب(1/194)
الدهر ضرباته واستولت عليها الأمم وخربوها. وقد عمرها أحد ملوك الفرس. فصارت أعمر مما كانت وأكثر أهلاً. والتي عليها الآن أرضها وضياعها جبال شاهقة. وليس بقربها أرض وطيئة. وزروعها على أطراف الجبال. وأما نفس المدينة ففي فضاء في وسط ذلك وأرضها كلها حجر. وفيها عمارات كثيرة حسنة وشرب أهلها من ماء المطر ليس فيها دار إلا وفيها صهريج. مياهها تجتمع من الدروب. ودروبها حجرية ليست كثيرة الدنس. لكن مياهها رديئة. وفيها ثلاث برك بركة بني اسرائيل وبركة سليمان وبركة عياض. قال محمد بن أحمد البشاري المقدسي: إنها متوسطة الحر والبرد وقل ما يقع فيها من ثلج. ولا ترى أحسن من بنيانها ولا أنظف. ولا أنزه من مساجدها. وقد جمع الله فيها فواكه الغور والسهل والجبل. والأشياء المتضادة كالأترج واللوز. والرطب والجوز. والتين والموز (للقزويني) 376 (بيت لحم) . سرت من بيت المقدس إلى مدينة بيت لحم فوجدت على طريقي عين سلوان. وهي العين التي أبرأ فيها السيد المسيح الضرير الأعمى ولم تكن له قبل ذلك عينان. وبقربها بيوت كثيرة منقورة في الصخر. وفيها رجال قد حبسوا أنفسهم فيها عبادة. وأما بيت لحم وهو الموضع الذي ولد فيه السيد المسيح فبينه وبين المقدس ستة أميال. وفي وسط الطريق قبر راحيل أم(1/195)
يوسف وأم ابن يامن ولدي يعقوب. وهو قبر عليه اثنا عشر حجراً. وفوقه قبة معقودة بالصخر. وبيت لحم هناك وفيها كنيسة حسنة البناء متقنة الوضع فسيحة مزينة إلى أبعد غاية. حتى أنه ما أبصر في جميع الكنائس مثلها بناءً. وهي في وطاء من الأرض ولها باب من جهة المغرب وبها من أعمدة الرخام كل مليحة. وفي ركن الهيكل في جهة الشمال المغارة التي ولد بها السيد المسيح وهي تحت الهيكل. وداخل المغارة المذود الذي وجد به. وإذا خرجت من بيت لحم نظرت في الشرق منه كنيسة الملائكة الذين بشروا الرعاة بمولد السيد المسيح (للادريسي) 377 (ألبيرة) . من جند قيسرين في بلاد الشام قلعة حصينة مرتفعة على حافة الفرات في البر الشرقي الشمالي لا ترام. ولها واد يعرف بوادي الزيتون به أشجار وأعين. وهي بلدة ذات سوق وعمل. قال ابن سعيد: وقلعتها على صخرة وهي الآن ثغر الإسلام في وجوه التتر. وهي فرضة على الفرات. وهي في الشرق عن قلعة الروم على نحو مرحلة. وهي في الغرب عن قلعة نجم وفي الجنوب والغرب عن سروج (لابي الفداء) 378 (بيروت) . مدينة على ضفة البحر عليها سور حجارة كبيرة واسعة. ولها بمقربة منها جبل فيه معدن حديد جيد. يقطع ويستخرج منه الكثير ويحمل إلى بلاد الشام. وبها غيضة أشجار(1/196)
صنوبر مما يلي جنوبها تتصل إلى جبل لبنان. وتكسير هذه الغيضة اثنا عشر ميلاً في مثلها. وشرب أهلها من الآبار. ومنها إلى دمشق يومان. قال ابن بطوطة: ومدينة بيروت حسنة الأسواق. وجامعها بديع الحسن. وتجلب منها إلى ديار مصر الفواكه والحديد. قال أبو الفداء: وهي على ساحل البحر وهي ذات برجين ولها بساتين ونهر وهي خصبة. وكان بها مقام الأوزاعي الفقيه. ولها ميناء جليل. وبينها وبين مدينة جبيل ثمانية عشر ميلاً (للادريسي) 379 (تبت) . بلاد متاخمة للصين من إحدى جهاته وللهند من أخرى. مقدار مسافتها مسيرة شهر. بها مدن وعمارات كثيرة ولها خواص عجيبة في هوائها ومائها وأرضها من سهلها وجبلها. ولا تحصى عجائب أنهارها وثمارها وآبارها. وهي بلاد تقوى بها طبيعة الدم فلهذا الغالب على أهلها الفرح والسرور (للقزويني)
380 (تدمر) . بليدة ببادية الشام من أعمال حمص وهي في شرقي حمص. وأرض تدمر غالبها سباخ وبها نخيل وزيتون. وبها آثار عظيمة أولية من الأعمدة والصخور. وهي عن حمص على نحو ثلاث مراحل. وبينها وبين دمشق تسعة وخمسون ميلاً (لابي الفداء) 381 (تفليس) . من إقليم أران قصبة كرجستان. عليها سوران ولها ثلاثة أبواب. وهي خصبة جداً كثيرة الفواكه. وبها حمامات(1/197)
مثل حمامات طبرية ماؤها ينبع سخناً بغير نار. وقال في اللباب: وتفليس آخر بلدة من أذربيجان مما يلي الثغرة قال ابن سعيد: وكان المسلمون قد فتحوها وسكنوها مدة طويلة. وخرج منها علماء. ثم استرجعها الكرج وهم نصارى (لابن حوقل) 382 (ألتيه) . هو الموضع الذي ضل فيه موسى مع بني إسرائيل بين أيلة ومصر وبحر القلزم وجبال السراة أربعون فرسخاً في أربعين فرسخاً. لما امتنعوا من دخول الأراضي المقدسة حبسهم الله تعالى هذا التيه أربعين سنة. كانوا يسيرون في طول نهارهم فإذا انتهى مسيرهم إلى آخر التيه رجعوا من حيث جاؤوا. وكان مأكولهم المن والسلوى. ولما أعوزهم الماء ضرب موسى الصخرة فتفجر منها الماء. وكان يبعث الله تعالى سحابة تظلهم بالنهار وعموداً من النور يستضيئون به بالليل. هذا نعمة الله عليهم. وهم عصاة مسخوطون. فسبحان من عمت رحمته البر والفاجر (للقزويني) 383 (حلب) . من عواصم الشام بلدة عظيمة قديمة ذات قلعة مرتفعة حصينة. ولها بساتين قلائل ويمر بها نهر قويق. وهي على مدرج طريق العراق إلى الثغور وسائر الشامات. قال في العزيزي: وهي مدينة جليلة عامرة حسنة المنازل عليها سور من حجر وفي وسطها قلعة على تل لا ترام 384 (حلوان) . آخر مدن العراق. ومنها يصعد إلى بلاد الجبال.(1/198)
وأكثر ثمارها التين وليس بالعراق مدينة بالقرب من الجبل غيرها. ويسقط على جبلها الثلج دائماً. قال ابن حوقل: وحلوان مدينة في سفح جبل مطل على العراق. وبها النخيل والتين الموصوف. والثلج منها على مرحلة. وقال في المشترك: حلوان آخر حد العراق من جهة الجبال وبينها وبين بغداد خمس مراحل 385 (حماة) . مدينة أولية وبلدة قديمة وهي من أنزه البلاد الشامية. والعاصي يستدير على غالبها من شرقيها وشماليها. ولها قلعة حسنة البناء مرتفعة. وفي داخلها الأرحية على الماء. وبها نواعير على العاصي تسقي أكبر بساتينها. ويدخل منها الماء إلى كثير من دورها. ونهر حماة يسمى نهر الأرنط والنهر المقلوب لجريه من الجنوب إلى الشمال. ويسمى العاصي لأن غالب الأنهر تسقي الأراضي بغير دواليب ولا نواعير بل بأنفسها تركب البلاد ونهر حماة لا يسقى إلا بنواعي تنزع منه الماء. وهو يجري بكليته من الجنوب إلى الشمال وأوله نهر صغير من ضيعة قريبة من بعلبك تسمى الرأس في الشمال عن بعلبك على نحو مرحلة عنها.
ويسير من الرأس شمالاً حتى يصل إلى مكان يقال قائم الهرمل بين جوسية والراس. ويمر في واد هناك وينبع من هناك غالب النهر المذكور من موضع يقال له مغارة الراهب. ويستدير النهر المذكور ويرجع ويسير جنوباً ومغرباً ويمر على سور أنطاكية حتى(1/199)
يصب في بحر الروم عند السويدية (لابي الفداء) 386 (حمص) . مدينة أولية وهي إحدى قواعد الشام. وهي ذات بساتين شربها من نهر العاصي وهي في مستوٍ من الأرض خصبة جداً أصح بلدان الشام تربة. وليس بها عقارب ولا حيات. وأكثر زروع رساتيقها عذي. قال العزيزي: مدينة حمص هي قصبة الجند وهي من أصح بلدان الشام هواءً. وبظاهر حمص على بعض ميل يجري النهر المقلوب وهو نهر الأرنط. ولهم عليه جنان حسنة وكروم. (لابن حوقل)
387 (دمشق) . مدينة من أجل بلاد الشام وأحسنها مكاناً وأعدلها هواءً وأطيبها ثرى وأكثرها مياهاً وأغزرها فواكه وأعمها خصباً وأوفرها مالاً وأكثرها جنداً وأشمخها بناءً. ولها جبال ومزارع تعرف بالغوطة وطول الغوطة مرحلتان في عرض مرحلة بها ضياع كالمدن. ومدينة دمشق جامعة لصنوف من محاسن وضروب من الصناعات وأنواع من الثياب الحرير كالخز والديباج النفيس الثمين العجيب الصفة والقديم المثال الذي يحمل منها إلى كل بلد ويتجر به منها إلى كل الآفاق والأمصار المصاقبة لها والمتباعدة عنها. ولدمشق في داخلها على أوديتها أرحاء كثيرة. وأما الحلاوات فبها منها ما لا يوجد بغيرها ولا يوصف كثرة وطيباً وجودة. وصناعاتها نافقة وتجاراتها رابحة(1/200)
وهي من أغنى البلاد الشامية. ومنها إلى مدينة بعلبك في جهة الشرق مرحلتان (للادريسي) 388 (دلي) . مدينة كبيرة في الهند. وسورها من آجر وهو أكبر من سور حماة. وهي في مستو من الأرض وتربتها مختلطة بالحجر والرمل ويمر على فرسخ منها نهر كبير دون الفرات. وغالب أهلها مسلمون وسلطانها مسلم والسوقة كفرة. ولها بساتين قليلة وليس بها عنب وتمطر في الصيف وهي بعيدة عن البحر. وبجامعها مأذنة لم يعمل في الدنيا مثلها وهي من حجر أحمر ودرجها نحو ثلاث مائة وستين درجة. وليست مربعة بل كثيرة الأضلاع عظيمة الارتفاع واسعة من تحتها وارتفاعها يقارب منارة إسكندرية (لابي الفداء) 389 (دير باعربا) . هو بين الموصل والحديثة على شاطئ دجلة. والحديثة بين تكريت والموصل. والنصارى يعظمونه جداً وله حائط مرتفع نحو مائة ذراع في السماء. وفيه رهبان كثيرون وفلاحون وله مزارع. وفيه بيت ضيافة ينزله المجتازون فيضافون فيه 390 (دير باعنتل) . من جوسية على أقل من ميل. وجوسية من أعمال حمص على مرحلة منها من طريق دمشق. وهو على يسار القاصد دمشق. وفيه عجائب منها صور الأنبياء عليهم السلام(1/201)
وقصصهم محفورة منقوشة. وبه هيكل مفروش بالمرمر لا تستقر عليه القدم. وصورة مريم في حائط منتصبة كلما ملت إلى ناحية كانت عينها إليك 391 (دير الروم) . هو بيعة كبيرة حسنة البناء محكمة الصنعة للنسطورية خاصة وهي ببغداد في الجانب الشرقي منها. وللجاثليق فلاية إلى جانبها وبينه وبينها باب يخرج منه إليها في أوقات صلواتهم وقربانهم. وهي حسنة المنظر عجيبة البناء مقصودة لما فيها من عجائب الصور وحسن العمل. والأصل في هذا الاسم أن أسرى من الروم قدم بهم إلى المهدي فأسكنوا داراً في هذا الموضع فسميت بهم. وبنيت البيعة هناك وبقي الاسم عليها (معجم البلدان لياقوت) 392 (رأس العين) . إن رأس العين في مستو من الأرض في الجزيرة. ويخرج منها فوق ثلاثمائة عين كلها صافية ويصير من هذه الأعين نهر الخابور. قال في العزيزي: ورأس عين تسمى عين وردة وهي أول مدن ديار ربيعة من جهة ديار مضر. وهي رأس ماء الخابور (لابن حوقل) 393 (ألراوندان) . من جند قنسرين في بلاد الشام قلعة حصينة عالية على جبل مرتفع أبيض. ولها أعين وبساتين وفواكه وواد حسن ويمر تحتها نهر عفرين بلدة صغيرة محفوفة بالرمان. وهي في(1/202)
الغرب والشمال عن حلب. وبينهما نحو مرحلتين. وهي في الشمال عن حارم ويجري نهر عفرين من الشمال إلى الجنوب على الراوندان إلى عمق حارم في واد متسع بين جبال وبذلك الوادي قرايا وزيتون كثير. وهي كورة من بلاد حلب 394 (ألرملة) . بلدة بفلسطين اختطها سليمان بن عبد الملك الأموي وهي مشهورة. قال العزيزي: والرملة قصبة فلسطين وهي محدثة وبينها وبين بيت المقدس مسيرة يوم. وقال: الرملة لم تكن مدينة قديمة وإنما كانت المدينة لد. فأخربها سليمان بن عبد الملك وبنى مدينة الرملة. وبينهما نحو ثلاثة فراسخ. ولد في ناحية المشرق. وكان لعبد الملك دار بالرملة. وجر إلى الرملة قناة ضعيفة للشرب وأكثر شربهم الآن من آبار عذبة ومن صهاريج يجتمع فيها مياه المطر. وهي في سهل من الأرض 395 (ألرها) . من ديار مضر في الجزيرة. قال في العزيزي: والرها مدينة رومية عظيمة فيها آثار عجيبة. وهي بالقرب من قلعة الروم من الجانب الشرقي الشمالي عن الفرات. وكانت الرها مدينة كبيرة وبها كنيسة عظيمة وفيها أكثر من ثلاثمائة دير للنصارى. وهي اليوم خراب
396 (رودس) . جزيرة في بحر الروم فتحها المسلمون في زمن معاوية. وامتداد هذه الجزيرة من الشمال إلى الجنوب بانحراف(1/203)
نحو خمسين ميلاً وعرضها نصف ذلك. وبين هذه الجزيرة وذنب أقريطش مجرى واحد. وبعض رودس للفرنج وبعضها لصاحب اصطنبول. ورودس في الغرب عنقبرس بإنحراف إلى الشمال. وهي بين جزيرة المصطكى وجزيرة أقريطش 397 (زيتون) . فرضة الصين وهي مدينة مشهورة على ألسن التجار المسافرين إلى تلك البلاد وهي مدينة على خور من البحر. والمراكب تدخل إليها من بحر الصين في الخور المذكور وقدره نحو خمسة عشر ميلاً ولها نهر هي عند رأسه. وعن بعض من رآها أنها تمتد. وهي على نصف يوم من البحر. ولها خور حلو تدخل فيه المراكب من البحر إليها. وهي دون حماة في القدر. ولها سور خراب خربة التتر. وشرب أهلها من الخور المذكور ومن آبارها 398 (سعرت) . من ديار ربيعة في الجزيرة على جبيل وهي أكبر من المعرة. ويحيط بها الوطأة وهي بالقرب من شط دجلة في شمالي دجلة وشرق. وهي عن ميا فارقين على مسيرة يوم ونصف وميا فارقين في الشمال عن سعرت وسعرت في الجنوب عنها. وشرب أهل سعرت من مياه نبع قريبة من وجه الأرض ويحيط بسعرت الجبال والشعرة. ولها الأشجار الكثيرة من التين والرمان والكروم جميع ذلك عذي لا يسقى. وسعرت عن الموصل على خمسة أيام(1/204)
399 (سنجار) . من الجزيرة في جنوبي نصبين. وهي من أحسن المدن وجبلها من أخصب الجبال. ومن كتاب ابن حوقل: وسنجار مدينة في وسط برية ديار ربيعة بالقرب من الجبال. وليس بالجزيرة بلد فيه نخل غير سنجار. وعن بعض أهلها: وسنجار عن الموصل على ثلاث مراحل. سنجار في جهة الغرب والموصل في جهة الشرق. وسنجار مسورة وهي في ذيل جبل وهي قدر المعرة. ولها قلعة ولها بساتين ومياه كثيرة من القني. والجبل في شماليها (لابي الفداء) 400 (السند) . ناحية بين الهند وكرمان وسجستان. وبها بيت الذهب المشهور. وهو معبد تعظمة الهند والمجوس. حكى أن الإسكندر لما فتح تلك البلاد دخل هذا المعبد فأعجبه فكتب إلى أرسطاطاليس وأطنب في وصف قبة هذا البيت. فأجابه أرسطو إني رأيتك تتعجب من قبة عملها الآدميون وتدع التعجب من هذه القبة المرفوعة فوقك وما زينت به من الكواكب وأنوار الليل والنهار 401 (سيلان) . جزيرة عظيمة بين الصين والهند دورتها ثمان مائة فرسخ وسرنديب داخل فيها. وبها قرى ومدن كثيرة وعدة ملوك لا يدين بعضهم لبعض. ويجلب منها الأشياء العجيبة. وفيها الصندل والسنبل والدارصيني والقرنفل والبقم وسائر العقاقير. وقد يوجد فيها من العقاقير ما لا يوجد في غيرها. وقيل بها معادن الجواهر وإنها جزيرة كثيرة الخير (للقزويني)(1/205)
402 (ألشوبك) . من الشراة في بلاد الشام بلد صغير كثير البساتين. وغالب ساكنيه النصارى. وهو شرقي الغور وهو على طرف الشام من جهة الحجاز. وينبع من ذيل قلعتها عينان إحداهما عن يمين القلعة والأخرى عن يسارها كالعينين للوجه. وتخترقان بلدتها ومنهما شرب بساتينها. وهي في واد من غربي البلد. وفواكهها من المشمش وغيره مفضلة وتنقل إلى ديار مصر. وقلعتها مبنية بالحجر الأبيض وهي على تل مرتفع أبيض مطل على الغور من شرقيه (لأبي الفداء) 403 (شيراز) . مدينة في بلاد فارس إسلامية محدثة بناها محمد ابن القسم بن أبي عقيل وهو ابن عم الحجاج بن يوسف الثقفي. وسميت بشيراز تشبيهاً بجوف الأسد. وذلك أن عامة المير بتلك النواحي تحمل إلى شيراز ولا يحمل منها شيء إلى غيرها. وبها قبر سيبويه. قال في العزيزي: مدينة شيراز جليلة واسعة بها منازل واسعة سرية كثيرة المياه. وشربهم من عيون تتخرق البلد وتجري من دورهم. وليس يكاد يخلو دار بشيراز من بستان حسن ومياه تجري. وأسواقها عامرة جليلة. ومنها إلى أصبهان اثنان وسبعون فرسخاً. (لابن حوقل) 404 (شيلا) . بلدة من أواخر بلاد الصين في غاية الطيب لا يرى بها ذو عاهة من صحة هوائها وعذوبة مائها وطيب تربتها. أهلها(1/206)
أحسن الناس صورة وأقلها أمراضاً. وذكر أن الماء إذا رش في بيتها تفوح منه رائحة العنبر. وهي قليلة الآفات والعلل قليلة الذباب والهوام. إذا اعتل أحد الناس في غيرها ونقل إليها زالت علته. قال محمد بن زكرياء الرازي: من دخلها استوطنها ولا يخرج عنها لطيبها ووفور خيراتها وكثرة ذهبها والله الموفق (للقزويني)
405 (صنعاء) . من أعظم مدن اليمن تشبه دمشق لكثرة مياهها وأشجارها. وهي شرقي عدن بشمال في الجبال وهي معتلة الهواء ويتقارب فيها ساعات الشتاء والصيف. وهي كانت كرسي ملوك اليمن في القديم. وبها تل عظيم يعرف بغمدان كان قصر ملوك اليمن. وبينها وبين عدن مدينة جبلة. قال في العزيزي: مدينة صنعاء مدينة جليلة وهي قصبة اليمن وبها أسواق جليلة ومتاجر كثيرة.
406 (صهيون) . مدينة من جند قنسرين بلدة ذات قلعة حصينة لا ترام من مشاهير معاقل الشام. وبقلعتها المياه كثيرة متيسرة من الأمطار. وهي على صخر أصم. وبالقرب منها واد به من المحمضات ما لا يوجد مثله في تلك البلاد. وهي في ذيل الجبل من غربيه. وتظهر من عند اللاذقية وبينهما نحو مرحلة وهي في الشرق بميلة إلى الجنوب عن اللاذقية (لأبي الفداء) 407 (صور) . مدينة صور هي التي يضرب بها المثل في الحصانة(1/207)
والمنعة لأن البحر محيط بها من ثلاث جهاتها ولها بابان أحدهما للبر والثاني للبحر. وأما الباب الذي للبحر فهو بين برجين عظيمين وبناؤها ليس في بلاد الدنيا أعجب ولا أغرب شأناً منه لأن البحر محيط بها من ثلاث جهاتها. وعلى الجهة الرابعة سور تدخل السفن تحت السور وترسو هنالك. وكان فيما تقدم بين البرجين سلسلة حديد معترضة لا سبيل إلى الداخل هنالك ولا إلى الخارج إلا بعد حطها وكان عليها الحراس والأمناء فلا يدخل داخل ولا يخرج خارج إلا على علم منهم. قال بعضهم: وصور بلد من أحصن الحصون التي على ساحل البحر. ويقال إنه أقدم بلد بالساحل وإن عامة حكماء اليونانيين منها. قال ابن سعيد: صور لا ترام بحصار من جهة البر. وقد حفر الفرنج حولها حتى أداروا بها البحر. وبين صور وعكاء اثنا عشر ميلاً. وفتحت في سنة تسعين وستمائة مع عكاء وخربت وهي الآن خراب خالية (لابن بطوطة) 408 (صيدا) . مدينة صيدا في البلاد الشامية على ساحل البحر المالح. فيه سور حجارة ينسب إلى امرأة كانت في الجاهلية. وهي مدينة كبيرة عامرة الأسواق رخيصة الأسعار. محدقة بها البساتين والأشجار. غزيرة المياه واسعة الكور لها أربعة أقاليم هي متصلة بجبل لبنان. إقليم يعرف بإقليم جزين. وفيه مجرى وادي الحر وهو مشهور بالخصب وكثرة الفواكه. وإقليم السربة. وهو إقليم جليل. وإقليم كفر فيلا وإقليم الرامي. وهو نهر يشق جبالها ويصب إلى البحر. وجميع هذه الأربعة أقاليم تشتمل على نيف وستمائة ضيعة. وشرب أهلها من ماء يجري إليها من جبلها في قناة. . . ومن مدينة صيدا إلى حصن الناعمة وهو كالمدينة الصغيرة عشرون ميلاً. والناعمة مدينة حسنة. وأكثر نبات أرضها شجر الخرنوب الذي لا يعرف بمعمور الأرض مثله قدراً ولا طيباً. ومنها يتجهز به إلى الشام وإلى ديار مصر. وإليها ينسب الخرنوب الشامي وإن كان الخرنوب في الشام كثيراً فهو بالناعمة أكثر وأطيب. ومن حصن الناعمة إلى طرف بيروت أربعة وعشرون ميلاً (للادريسي) 409 (ألصين) . أما بلاد الصين فطويلة عريضة طولها من المشرق إلى المغرب أكثر من مسيرة شهرين. وعرضها من بحر الصين في الجنوب إلى سد يأوج ومأجوج في الشمال. وقد قيل إن عرضها أكثر من طولها ويشتمل عرضها على الأقاليم السبعة. وأهل الصين أحسن الناس سياسة وأكثرهم عدلاً وأحذق الناس في الصناعات. وهم قصار القدود عظام الرؤوس. وهم أهل مذاهب مختلفة فمنهم مجوس وأهل أوثان وأهل نيران. ومدينتهم الكبرى يقال لها خمدان يشقها نهرها الأعظم. وأهل الصين أحذق خلق الله تعالى بنقش وتصوير بحيث يعمل الرجل الصيني بيده ما يعجز عنه أهل الأرض. والصين الأقصى ويقال له صين الصين هو نهاية العمارة من جهة(/)
الشرق وليس وراءه غير المحيط. ومدينته العظمى يقال لها السيلا وأخبارها منقطعة عنا 410 (طبرية) كانت فيما مضى مدينة كبيرة ضخمة ولم يبق منها إلا رسوم تنبىء على ضخامتها وعظم شأنها. وهي في الغور على ضفة بحيرة لها طولها اثنا عشر ميلاً وعرضها ستة أميال. والجبال من غربي المدينة والبحيرة من شرقيها والجبال تدور بها. وكانت طبريا قديماً قاعدة الأردن. وهي مدينة خراب فتحها صلاح الدين من الفرنج وخربت. وقد اشتق اسمها من اسم طبريوس أحد ملوك الروم الأوائل. وبطبرية عيون ماء في غاية الحرارة وعليها حمام يغتسل الناس فيها
411 (عسقلان) . بلدة بها آثار قديمة على جانب البحر. بينها وبين غزة نحو ثلاثة فراسخ. وهي من جملة ثغور الإسلام الشامية. ومدينة عسقلان هي على ضفة البحر على تلعة. وهي من أجل مدن الساحل وليس لها ميناء. وشرب أهلها من آبار حلوة. وبينها وبين غزة اثنا عشر ميلاً وبينها وبين الرملة ثمانية عشر ميلاً. وهي في زماننا خراب ليس بها ساكن. قال القزويني: عسقلان مدينة على ساحل بحر الروم كان يقال لها عروس الشام. افتتحت في أيام عمر بن الخطاب على يد معاوية بن أبي سفيان. ولم تزل في يد المسلمين إلى أن استولى الفرنج عليها سنة ثمان وأربعين وخمسمائة. حكى(1/210)
بعض التجار أن الفرنج اتخذوا مركباً علوه قدر سور عسقلان. وأشحنوه رجالا ًوسلاحاً وأجروه حتى لصق بسور عسقلان. ووثبوا على السور وملكوها قهراً. وبقيت في يدهم خمساً وثلاثين سنة إلى أن استنقذها صلاح الدين. ثم عاد الفرنج وفتحوا عكة فخربها في سنة سبع وثمانين وخمسمائة (لأبي الفداء) 412 (عمان) . في بلاد العرب مدينة كبيرة على ساحل البحر مرساها فرسخ في فرسخ. وبلاد عمان ثلاثون فرسخاً وما ولي البحر سهول ورمال وما تباعد عنه حزون وجبال. وهي مدن منها مدينة عمان وهي حصينة على الساحل. ومن الجانب الآخر مياه تجري إلى المدينة. وفيها دكاكين التجار مفروشة بالنحاس مكان الآجر. وهي كثيرة النخل والبساتين وضروب الفواكه والحنطة والشعير والأرز وقصب السكر. وفي الأمثال من تعذر عليه الرزق فعليه بعمان. وفي أحوازها مغاص اللؤلؤ. وعمان من أحواز اليمن سميت بعمان ابن سباء (للشريشي) 413 (غزة) . أول بلاد الشام مما يلي مصر متسعة الأقطار كثيرة العمارة حسنة الأسواق بها المساجد العديدة ولا سور عليها. وكان بها مسجد جامع حسن أنيق البناء محكم الصنعة ومنبره من الرخام الأبيض. قال أبو الفداء: غزة متوسطة في العظم ذات بساتين(1/211)
على ساحل البحر وبها قليل نخيل وكروم خصبة. وبينها وبين البحر أكوام رمال تلي بساتينها ولها قلعة صغيرة (لابن بطوطة) 414 (قبرس) جزيرة بقرب طرسوس دورها مسيرة ستة عشر يوماً. قال ابن عمر العذري: يجلب منها اللاذن الجيد ولا يجمع في غيرها. والذي يجمع من الشجر يحمل إلى القسطنطينية لأنه يعادل عود الطيب. وسائر ما يجمع هو الذي يستعمله الناس على وجه الأرض. والزاج القبرسي مشهور كثير المنافع جداً عزيز الوجود أفضل الزاجات كلها. وعن ابن سعيد: طول جزيرة قبرس مائتا ميل من الغرب إلى الشرق. ولها ذنب دقيق في شرقيها ويقرب إلى ساحل الشام. وقال الشريف الإدريسي: دور جزيرة قبرس مائتان وخمسون ميلاً.
415 (قزوين) . بالقرب من أرمينية وهي في فضاءٍ من الأرض. وهي طيبة الهواء كثيرة البساتين وهي مدينتان إحداهما في وسط الأخرى. وهذه المدينة أنشأها سابور ذو الأكتاف وجدد بها هارون الرشيد سوراً مانعاً وجامعاً كبيراً وذلك في سنة أربع وخمسين ومائة. ومن العجائب أن مقصورة هذا الجامع في غاية الارتفاع. وهي على شكل بطيخة ليس لها مثال في الدنيا. ومن العجائب أن بساتين هذه المدينة لا تسقى في السنة إلا مرة واحدة. وإليها ينسب الشيخ زكريا: بن محمد بن محمود القزويني(1/212)
وصاحب كتاب عجائب المخلوقات وغيره من العلماء. قال ابن حوقل: وقزوين مدينة لها حصن وماؤها من السماء والآبار. ولها قناة صغيرة للشرب ولا تفضل عن ذلك. وهي مدينة خصبة وهي ثغر الديلم (عجائب الأقطار لمحمد بن إياس) 416 (ألكرك) . بلد مشهور من البلقاء. وله حصن عالي المكان وهو أحد المعاقل بالشام التي لا ترام. وعلى بعض مرحلة منه موتة. وتحت الكرك وادٍ فيه حمام وبساتين كثيرة وفواكهها مفضلة من المشمش والرمان والكمثرى وغير ذلك. وهو على أطراف الشام من جهة الحجاز وبين الكرك والشوبك نحو ثلاث مراحل (لابي الفداء) 417 (أللاذقية) مدينة من سواحل بحر الشام عتيقة سميت باسم بانيها (وهي لفظة رومية) . وفيها أبنية قديمة ولها مرفأ جيد وقلعتان متصلتان على تلٍ مشرفٍ على ربضها. ملكها الفرنج فيما ملكوه من بلاد الساحل في صدور سنة خمسمائة. وللمسلمين بها جامع وقاض وخطيب. قال بعضهم: اللاذقية أجل مدينة بالساحل منعةً وعمارةً ولها ميناء حسنة مفضلة على غيرها. وهي بلدة ذات صهاريج. وبها دير مسكون يعرف بالفاروس حسن البناء. ومنها إلى أنطاكية ثمانية وأربعون ميلاً (للقزويني)
418 (ملطية) . بلدة من بلاد الروم ذات أشجار وفواكه(1/213)
وأنهار ويحتف بها جبال كثيرة الجوز. وجميع الثمار مباحة لا مالك بها. وهي قاعدة الثغور وهي شمالي الجبل الدائر الذي سيس في غربيه. وهي بلدة ميسورة في بسيطٍ والجبال تحف بها من بعدٍ. ولها نهر صغير عليه بساتين كثيرة يسقيها ويمر بسور البلد. وهي شديدة البرد وهي في الجنوب عن سيواس. ولملطية أيضاً قني تدخل البلد وتجري في دروره وسككه. والجبال محيطة بها على بعد منها (لابن سعيد) 419 (مليبار) . ناحية واسعة بأرض الهند تشتمل على مدنٍ كثيرة بها شجرة الفلفل وهي شجرة عالية لا يزول الماء من تحتها وثمرتها عناقيد إذا ارتفعت الشمس واشتد حرها تنضم على عناقيدها أوراقها وإلا أحرقتها الشمس قبل إدراكها. وشجر الفلفل مباح إذا هبت الريح سقطت عناقيدها على وجه الماء فيجمعها الناس. ويحمل الفلفل من أقصى المشرق إلى أقصى المغرب وأكثر الناس انتفاعاً به الفرنج يحملونه في بحر الشام إلى أقصى المغرب (للقزويني) 420 (ألموصل) . قاعدة ديار الجزيرة وهي على دجلة في جانبها الغربي. وقبالة الموصل من البر الآخر الشرقي في مدينة نينوى الخراب. وفي جنوبي الموصل يصب الزاب الأصغر إلى دجلة عند مدينة أثور الخراب. وعن بعض أهلها الموصل في مستو من الأرض ولها سوران قد خرب بعضهما ومسورها أكبر من مسور دمشق.(1/214)
والعامر في زماننا نحو ثلثيها ولها قلعة من جملة الخراب. والطريق من الموصل إلى ميا فارقين على حصن كيفا ستة أيام. وعلى ماردين ثمانية أيام ومدينة نينوى هذه هي البلدة التي أرسل إليها يونس النبي 421 (نصيبين) . قاعدة ديار ربيعة قال ابن سعيد: وهي مخصوصة بالورد الأبيض ولا يوجد فيها وردة حمراء. قال: وفي شماليها جبل كبير منه ينزل نهرها المعروف بنهر الهرماس ويمر على سور نصيبين والبساتين عليه ونصيبين شمالي سنجار. وجبل نصيبين هو الحودي. قال في العزيزي: ونصيبين قصبة ديار ربيعة ونهرها نهر الهرماس. وبها عقارب قاتلة يضرب بها المثل. قال القزويني: ونصيبين مدينة عامرة من بلاد الجزيرة. وظاهرها في غاية النزاهة وباطنها يضاد ظاهرها. وهي وخمة لكثرة مياهها وأشجارها مضرة سيما بالغرباء. وحكي أن بعض التجار أراد دخول نصيبين وكان به عقابيل المرض وصفرة اللون. فتمسك بكمه بعض ظرفاء نصيبين وقال: ما أخليك تدخل حتى تشهد على نفسك شاهدين عدلين أنك ما دخلت نصيبين إلا على هذه الصفة كيلا يقال أمرضته نصيبين (لابي الفداء) 422 (هراة) . من خراسان ولها أعمال وداخل هراة مياه جارية. والجبل منها على نحو فرسخين وليس بحبلها محتطب ولا مرعى. ومنه(1/215)
حجارة الأرحية وغيرها. وعلى رأس هذا الجبل بيت نار يسمى سرشك وخارج هراة المياه والبساتين. وقال في المشترك: هراة كانت مدينة عظيمة مشهورة بخراسان خربها التتر. وهراة فتحت في زمان عثمان رضي الله عنه والنسبة إليها هروي (لابن حوقل) 423 (همذان) مدينة كبيرة ولها أربعة أبواب ولها مياه وبساتين وزروع كثيرة وهي من بلاد الجبل على طريق. وقال في الأنساب: همذان مدينة من الجبال على طريق الحاج والقوافل. وقد قال بعض فضلاء همذان:
همذان لي بلد أقول بفضله ... لكنه من أقبح البلدان
صبيانه في القبح مثل شيوخه ... وشيوخه في العقل كالصبيان
424 (يافا) . بلدة صغيرة في فلسطين. كثيرة الرخاء ساحلية من الفرض المشهورة. ومدينة يافا كانت حصناً كبيراً فيه أسواق عامرة ووكلاء التجار وميناء كبير فيه مرسى المراكب الواردة إلى فلسطين والمقلعة منها إلى كل بلد. وبينها وبين الرملة ستة أميال وهي في الغرب عن رملة
425 (يزمير) . مدينة كبيرة على ساحل البحر معظمها خراب ولها قلعة متصلة بأعلاها. وأمير هذه المدينة عمر ابن السلطان محمد بن آبدين. وكان هذا الأمير كريماً صالحاً كثير الجهاد له أجفان غزوية يضرب بها على نواحي القسطنطينية العظمى فيسبي(1/216)
ويغنم ويفني ذلك كرماً وجوداً. ثم يعود إلى الجهاد إلى أن اشتدت على الروم وطأته. فرفعوا أمرهم إلى البابا فأمر نصارى جنوة وإفرنسة بغزوه فغزوه. وجهز جيشاً من رومة وطرقوا مدينته ليلاً في عدد كثير من الأجفان وملكوا المرسى والمدينة. ونزل إليهم الأمير عمر من القلعة فقاتلهم فاستشهد هو وجماعة من ناسه. واستقر النصارى بالبلد ولم يقدروا على القلعة لمنعتها (للادريسي)
ذكر الشام
(من كتاب زبدة كشف الممالك وبيان الطرق والمسالك لخليل بن شاهين الظاهري) 426 قسم الأوائل الشام خمسة أقسام. الأول فلسطين وأول حدودها من طريق مصر رفح وهي العريش. ثم يليها غزة. ثم رملة وفلسطين. فمن مدنها إيلياء وهي بيت المقدس. وعسقلان ورملة ونابلس ومدينة حبرون المعروفة بالخليل. ومسيرة فلسطين طولاً أربعة أيام من رفح إلى اللجون. وعرضها من يافا إلى أريحا. والثاني حوران ومدينتها العظمى طبرية. ومن مدنها الغور واليرموك وبيسان. والثالث الغوطة ومدينتها العظمى دمشق وطرابلس. وقيل إنها من الأرض المقدسة. وصفد وبعلبك وما تشتمل عليه تلك الأماكن من المدن. والرابع حمص ومن أعمالها مدينة سلمية. وفيها مزار علي بين أبي طالب والخامس قنسرين ومدينتها العظمى حلب وحماة وسرمين وأنطاكية(1/217)
وأما المملكة الغزاوية ففيها مدينة غزة وهي مدينة حسنة بأرض مستوية وهي كثيرة الفواكه. وفيها من الجوامع والمدارس والعمارات الحسنة ما يورث العجب. وتسمى دهليز الملك. وبها معاملات وقرى وهي مملكة متسعة. وأما مدينة الرملة فليست هي مملكة. وإنما هي إقليم يشتمل على قرى عديدة. وهي مدينة حسنة بها جوامع ومدارس ومزارات. من جملتها الجامع الأبيض عجب من العجائب وأما المملكة الكركية فليست هي من الشام. وهي مملكة بمفردها وتسمى مآب. وهي مدينة حصينة معقل من معاقل الإسلام. بها قلعة ليس لها نظير في الإسلام ولا في الفرنج تسمى حصن الغراب لم تكن فتحت عنوة قط. وإنما فتحها صلاح الدين يوسف بن أيوب بعد فتح القدس في سنة ثلاث وثمانين وخمسمائة. وكانت بيد البرنس أرناط. وكان يتعرض للحجاج والحكاية في ذلك تطول. وملخصها أنه نزل بعسكره نجدة إلى الفرنج على وقعة حطين. وأمكن الله صلاح الدين من جميع ملوك الفرنج وكان من جملتهم البرنس أرناط صاحب الكرك. فحصل الفتوح بواسطة ذلك واستمرت الشوبك مدة بيد الفرنج إلى أن قدر الله فتحها بسبب عجيب. وذلك أن والدة أرناط تسببت في فتح ذلك لخلاص ولدها وفتح الحصنان وقتل أرناط. والشوبك مضافة إلى الكرك(1/218)
وهي حصينة أيضاً. ومسيرة معاملة الكرك من العلى إلى زيزاء مقدار عشرين يوماً بسير الإبل. وهي بلد عذبة بها قرى كثيرة ومعاملات والمسلك إليها صعب في منقطعات قليلة الماء حتى إنه إذا وقف أحد على درب من دروبها يمنع الفارس عن المسير. وأوصافها كثيرة اخترتها خوف الإطالة وأما المملكة الصفدية فإنها مملكة متسعة قيل إنها تشتمل على ألف ومائتي قرية ولها عدة معاملات. وأعظم مدنها صفد وهي مدينة متفرقة ثلاث قطع وهي عذية. وبها جوامع ومدارس ومزارات وأماكن حسنة وحمامات وأسواق. وبها قلعة حصينة يقال إنها لا يوجد نظيرها عشر قلاع قد فتحت من قريب. ومدينة عكة كانت حصينة جداً فلما فتحها الملك صلاح الدين أيوب هدم أسوارها. وهي الآن ميناء المملكة الصفدية. ولما هدمها جهز قفلها بمفتاحه وهو حمل فرس إلى سجن قلعة الكرك. وهو بها الآن عجيب من عجائب الدنيا. ومدينة صور وهي الآن خراب. وبالمملكة الصفدية قرى كبار نظيرة المدن كالمينة والناصرة والمعرك وما أشبه ذلك. وقيل إن بالمملكة الصفدية الشقيف وكابول وغيرها سبع قلاع غالبها خراب الآن. وبها المزارات والأماكن المباركة
وأما المملكة الشامية فإنها مملكة متسعة جداً وهي عدة أقاليم ومدن وقلاع. وقد تقدم أن مدينتها العظمى دمشق وهي مدينة حسنة إلى الغاية بها تخت المملكة وهو مغطى ولا يكشف غطاؤه إلا إذا جلس السلطان عليه. وفضائل الشام كثيرة وبها جوامع حسنة ومدارس وأماكن مباركة وشوارع وأسواق وحمامات وبساتين وأنهر وعمائر يتحير الواصف فيها. وبها بيمارستان لم ير مثله في الدنيا قط. وقيل إن البيمارستان المذكور منذ عمر لم تنطفئ فيه النار. وأما جامع بني أمية فهو إحدى العجائب الثلاث. ولقد رأيت في بعض التواريخ أن عجائب الدنيا ثلاث. منارة الإسكندرية وجامع بني أمية وحمام طبرية. وأما الميدان الأخضر وما به من القصور الحسنة فعجيب من العجائب. وأما غرائب دمشق فيعجز الواصف عن حصرها. من جملتها الجبهة والربوة والصالحية والسبعة والعنابة. وبها قبر نور الدين محمود بن زنكي وقبر صلاح الدين يوسف بن أيوب. وبدمشق المحروسة سبعة أنهر إذا اجتمعت صارت مثل النيل. وأما ما بها من الفواكه الرطبة والرياحين والأقمشة فمما يطول شرحه. وبها الثلج لا يزال على الجبال صيفاً وشتاءً وجميع أهلها يشربون منه وينقل منه إلى السلطان وأركان الدولة الشريفة. وأما مدينة حسبان فيها قلعة خربة وإقليمها البلقاء تشتمل على نيف وثلاثمائة قرية بأرض مستوية وهي أيضاً ن معاملة دمشق. وأما صرخد فإنها مدينة عجيبة لصعوبتها ولها قلعة حصينة. وأما بانياس فهي مدينة لطيفة يزرع بها الأرز يجلب منها إلى دمشق وغيرها. ولها إقليم بعضه(1/219)
يعرف بالحولة. تشتمل على مائتي قرية وهي أيضاً من معاملات دمشق. وأما حوران فقيل إن بها عدة أقاليم والمستفيض بين الناس أنه نيف عن ألف قرية. بها مدينة اللجإ ومدن صغار متفرقة. وهي أيضاً من معاملة دمشق. وأما إقليم الغوطة فقيل إنه نيف عن ثلاثمائة قرية وبه مدن صغار وبلدان تشابه المدن. وهي أيضاً من معاملة دمشق. وأما إقليم نجران فهو عجيب لكثرة أوعاره. وبه عدة بلدان قيل إنها نيف عن مائة وستين قرية. وهي أيضاً من معاملة دمشق. وأما الزبداني فهو مقارب مدينة. وله إقليم نيف وخمسون قرية وبه أنهر كثيرة وهو أيضاً من معاملة دمشق. وأما السويدية فأصلها مدينة كبيرة وهي الآن غالبها خراب. ولها إقليم يشتمل على ما ينيف عن مائتي قرية وهي أيضاً من معاملة دمشق. وأما مدينة بعلبك فإنها مدينة حسنة لها قلعة حصينة بها عمد قيل إن سليمان أمر بعمارتها. وببعلبك جوامع ومدارس وأماكن مباركة وأسواق وحمامات وبساتين وأنهر ما يطول شرحه. ولها إقليم حسن يشتمل على ثلاثمائة وستين قرية. وهي أيضاً من معاملة دمشق. وأما حمص فإنها مدينة حسنة وهي تشتمل على سور وقلعة. وقيل إنها مدينة فوق مدينة. وهي عجيبة من العجائب. وبها قبر خالد بن الوليد. وبها جوامع ومدارس وأسواق وحمامات. وأما مدينة صيدا فهي ميناء دمشق وهي مدينة لطيفة على شاطئ البحر المحيط ترد(1/220)
إليها المراكب. ولها إقليم به ما ينيف عن مائتي قرية. وهي أيضاً من معاملة دمشق. وأما مدينة بيروت فهي ميناء أيضاً ولها إقليم به عدة قرى. وهي أيضاً من معاملة دمشق وأما المملكة الطرابلسية فإنها مملكة جيدة أعظم مدنها طرابلس وهي حسنة بها جوامع ومدارس وعمائر وهي على شاطئ البحر المحيط. وأما اللاذقية فإنها مدينة متسعة وغالبها خراب. وهي قريبة من البحر المحيط ولها معاملة بها قرى كثيرة. وهي أيضاً من معاملة طرابلس وأما المملكة الحموية فإنها مملكة متسعة تشتمل على مدن وقلاع وأقاليم وقرى وأعظم مدنها حماة. وهي مدينة(1/221)
حسنة إلى الغاية تشتمل على سور محكم وأبراج عديدة. ولها قلعة أخربها تيمورلنك وبها نهر العاصي محيط وبه نواعير كثيرة. وبها منتزهات كثيرة وبها جوامع ومدارس ومساجد وأماكن ومزارات مما يطول شرحه
وأما المملكة الحلبية فإنها مملكة متسعة إلى الغاية تشتمل على مدن وقلاع ومعاملات وقرى عديدة. وأعظم مدنها حلب. وهي عذية تشتمل على سور محكم وقلعة محكمة. وبها جوامع ومدارس ومساجد ومزارات وعمائر حسنة وأسواق وحمامات يطول وصفها وهي باب الملك. وأما مدينة أنطاكية فمتسعة جداً بها قبر حبيب النجار. ولها إقليم به عدة قرى. وهي من معاملة حلب. ومن توابع حلب أيضاً مدينة جعبر ومدينة الرحبة وسيجر(1/222)
وسرمين وإقليم الباب وإقليم كلس وعزاز وسيس بالقرب من البحر المحيط والرمضانية ومدينة قلعة المسلمين وهي لطيفة بها قلعة حصينة إلى الغاية. وهي على شط الفرات. وأما مدينة عين تاب فهي مدينة حسنة. قال فيها أبو الفداء: عين تاب قاعدة ناحيتها. ولها أسواق جليلة وهي مقصودة للتجار والمسافرين. وهي عن حلب في جهة الشمال على ثلاث مراحل وبالقرب من عين تاب دلوك وهو حصن خراب له ذكر في فتوح صلاح الدين ونور الدين. وأما مدينة البيرة فهي مدينة حسنة. ولها قلعة محكمة لطيفة وهي أيضاً على شط الفرات. وهنالك جسر موضوع على مراكب تجوز به الركبان على نهر الفرات. ولها قرى عديدة وهي أيضاً من توابع حلب. وأما مدينة الرها فهي مدينة كبيرة تشتمل على سور وغالبها الآن خراب وبها قلعة حصينة وأهلها من ديار بكر. وبها عدة قرى وهي الآن خراب وأما مملكة ملطية فإنها مدينة حسنة كثيرة المياه والفواكه في أرض مستوية. تشتمل على سور محكم وسبع قلاع وتشتمل على سبعة أقاليم وعلى قرى كثيرة وأهلها من الروم. كانت تحت السلطان علاء الدين حتى فتحها الناصر محمد بن قلاوون وجعلها مملكة بمفردها وكثير من الناس يظن أنها من المملكة الحلبية. ولو أردنا وصف جميع ما يتعلق بملك الشام من المدن لطال المقال وحصل الملال(1/223)
آثار أوروبا
427 (إفرنجة) . أرض واسعة في آخر غربي الإقليم السادس. ذكر المسعودي أن بها نحو مائة وخمسين مدينة قاعدتها بريزة وأن طولها مسيرة شهر وعرضها أكثر. وأن أهلها الإفرنج وهم نصارى أهل حرب في البر والبحر. ولهم صبر وشدة في حروبهم لا يرون الفرار أصلاً لأن القتل عندهم أسهل من الهزيمة. ومعاشهم على التجارات والصناعات (للقزويني) 428 (برطانية) . أول ما يلقاك إذا ابتدأت من الغرب من العمائر التي خلف الإقليم السابع إلى جهة الشمال جزيرة برطانية. وهي في البحر المحيط. ويقال للبحر الخارج من البحر المحيط بحر برطانية وبحر برديل. وهو محدق بهذه الجزيرة من سائر جهاتها. وبقي لها مدخل إلى الأندلس من الجهة الشرقية الجنوبية. ومسافة هذه الجزيرة في الطول ثمانية عشر يوماً من الجانب الجنوبي. واتساعها نحو أحد عشر يوماً في الوسط. ولها ملك منفرد (لابن سعيد) 429 (بلنسية) . على بحيرة يصب فيها نهر يمر على شمالي بلنسية وهي من شرق الأندلس. وبلنسية في أحسن مكان وقد حفت بالأنهار الجنان فلا ترى إلا مياهاً تتفرع ولا تسمع إلا أطياراً تسجع. ولها بحيرة حسنة وهي على القرب من بحر الزقاق. وحيث خرجت منها لا تلقى إلا منازه. وهي شرقي مرسية وغربي طوطرشة. ومن(1/224)
مشاهير منازهها الرصافة ومنية ابن عامرٍ. ومن أعمالها مدينة شاطبة وهي حصينة. قال ابن سعيد: ويقال إن ضوء مدينة بلنسية يزيد على ضوء بلاد الأندلس. وجوها صقيل أبداً لا يرى فيه ما يكدره أبداً (لابي الفداء) 430 (جنوة) . وهي على غربي خور عظيم من البحر أعني بحر الروم. والبحر فيما بينها وبين الأندلس يدخل في الشمال. وبالقرب من جنوة جبل الأنبردية. وبلاد جنوة غربي بلاد البيازية. قال الشريف الإدريسي: وجنوة لها جنات وأودية وبها مرسى جيد مأمون ومدخله من الغرب. وعن بعض أهلها أن جنوة في ذيل جبل عظيم وهي على حافة البحر ولها ميناء عليه سور. وهي مدينة كبيرة إلى الغاية. ولها بساتين فيها أنواع الفواكه. ودور أهلها عظيمة كل دار بمنزلة قلعة. ولذلك اغتنوا عن عمل سور على جنوة. ولها عيون ماءٍ منها شربهم وشرب بساتينهم (لابن سعيد)
431 (جيان) . في الأندلس في نهاية من المنعة والحصانة. وهي عن قرطبة في الشرق وبينهما خمسة أيام وبلاد جيان جمعت كثرة العيون والثمار مع طيبة الأرض وبها الحرير الكثير. وجيان من أعظم مدن الأندلس وأكثرها خصباً وحصانة. ولم يقدر النصارى عليها إلا بعد حصار طويل. فسلمها إليهم ابن الأحمر صاحب غرناطة. وكان من أعمال جيان مدينة قجاظة. وهي مدينة نزهة(1/225)
كثيرة الخصب أخذها النصارى بالسيف (لابي الفداء) 432 (رومة) . هي على جانبي نهر الصفر (أي التيبر) وهي مدينة مشهورة ومقر خليفة النصارى المسمى بالبابا وهي على جنوبي خور البنادقة. وبلاد رومة غربي قلقزية. دور سورها أربعة وعشرون ميلاً وهو مبني بالآجر ولها واد يشق وسط المدينة وعليه قناطر يجاز عليها من الجهة الشرقية إلى الجهة الغربية. وامتداد كنيسة رومة ستمائة ذراع في مثله وهي مسقفة بالرصاص ومفروشة بالرخام وفيها أعمدة كثيرة عظيمة وعلى يمين الداخل من آخر أبوابها حوض رخام عظيم للمعمودية وفيه ماءٍ جار أبدا. وفي صدر الكنيسة كرسي من ذهب يجلس عليه البابا. وتحته باب مصفح بالفضة يدخل منه إلى أربعة أبواب واحد بعد آخر يفضي إلى سرداب فيه مدفون بطرس حواري عيسى. ولهذه المدينة كنيسة أخرى مدفون فيها بولس. وبحذاء قبر بطرس حوض رخام منقوش عظيم فيه فرش الكنيسة وستورها التي تزين بها أعيادهم (للادريسي) 433 (صقلية) . جزيرة بين جزيرة جربة وتونس. ومن مدنها مدينة مسينة. ومسينة في الزاوية الشمالية من جزيرة صقلي. وهي مدينة مشهورة بكثرة العنب والخمر. وهي في جانب الجزيرة المقابل لقلقرية. وجزيرة صقلية كثيرة الزلازل بحيث تكثر تهدم أبنيتها منها. وبالجزيرة أكثر من مائة حصن. ودور جزيرة صقلية(1/226)
سبعة عشر يوماً وطولها على الاستقامة خمسة أيام. وأكبر مدنها وقاعدتهامدينة بلرم. ولها مدن كثيرة لكن أشهرها هاتان المدينتان أعني بلرم ومسينة. وكانت للمسلمين فخرجت عنهم وهي اليوم للنصارى. قال الشريف الإدريسي: ودور صقلية خمس مائة ميل (لابي الفداء) 434 (طلوزة) . في شرقي بردال مدينة طلوزة من أعمال إفرنجة. يقال إن لصاحبها الفرنجي في الجبال التي في شماليه وشرقيه نيفاً على ألف حصن. وهو قريب من صاحب فرنسة. والنهر في جنوبيها تصعد منه مراكب البحر المحيط إليها بالقصدير والنحاس اللذين يجلبان من جزيرة انكلطرة وجزيرة إرلندة. وتحمل على الظهر إلى نربونة. ومنها تحمل في مراكب الفرنج إلى الإسكندرية (لابن سعيد) 435 (طليطة) . قاعدة الأندلس. وهي في شرقي مدينة وليد على جبل عالٍ. وهي من أمنع البلاد وأحصنها. ولها نهر يمر بأكثرها وهي مدينة أولية ومعنى اسمها أنت فارح. ومنها إلى نهاية الأندلس الشرقية عند الحاجز نحو نصف شهر. وكذلك إلى البحر المحيط بجهة شلب. وهو نهاية الأندلس الغربية وتحدق الأشجار بطليطلة من كل جهة ويصير بها الجلنار في قدر الرمانة من غيرها. ويكون بها الشجرة فيها أنواع من الثمر. ونهر طليطلة ينحدر إليها من عند(1/227)
حصن هناك يقال له باجة. ويعرف نهر طليطلة به فيقال نهر باجة 436 (قسطنطينية) . قال في العزيزي: وارتفاع سور القسطنطينية أحد وعشرون ذراعاً. ولها أربع عشرة معاملة وحكى لي بعض من سافر إليها قال: سورها كبير وكنيستها مستطيلة ودار الملك تسمى بلاط الملك وليست قريبة من الكنيسة وداخل سورها مزدرع وبساتين. وبالمدينة خراب كثير وأكثر عمارتها بالجانب الشرقي الشمالي. وإلى جانب الكنيسة عمود عال دوره أكثر من ثلاث باعات وعلى رأسه فارس وفرس من نحاس وفي إحدى يدي الفارس كرة وقد فتح أصابع يده الأخرى وهو يشير بها. قيل إن ذلك صورة قسطنطين باني هذه المدينة. قال ابن سعيد: وقسطنطينية بناها قسطنطين رافع دين النصرانية. وبين قسطنطينية وسنوب نحو ستة أيام في البر 437 (لاردة) . من أعمال الأندلس على شرقي نهر يصب في نهر سرقسطة. وفي شرقي لاردة جبل البرت الفاصل بين الأندلس والأرض الكبيرة. وهي مدينة أولية وكانت من قواعد شرق الأندلس. ولها ماء مجلوب في قني قد أعجزت صنعته جميع العالم. قال ابن سعيد: ومدينة لاردة من المدن الجليلة بالجهة المشهورة بالثغر من شرق الأندلس
438 (مرسية) . مدينة محدثة إسلامية بنيت في أيام الأمويين(1/228)
الأندلسيين. ومرسية في شرق الأندلس تشبه إشبيلية التي في غرب الأندلس بكثرة المنازه والبساتين. وهي على الذراع الشرقي الخارج من عين نهر إشبيلية ومرسية من قواعد شرق الأندلس ولها عدة منتزهات منها الرشاقة وجبل إيل وهو جبل تحته البساتين وبسيط تسرح فيه العيون (لابي الفداء)
آثار إفريقية
439 (أجدابية) . مدينة في المغرب وهي مدينة كبيرة في صحراء. أرضها صفاً وأبارها منقورة في الصفا طيبة الماء وبها عين ماء عذبة. ولها بساتين لطاف ونخل يسير وليس بها من الأشجار إلا الأراك. وبها جامع حسن البناء بناه أبو القاسم بن عبيد الله له صومعة مثمنة بديعة العمل وحمامات وفنادق كثيرة وأسواق حافلة مقصودة. وأهلها ذوو يسار أكثرهم أقباط. ولها مرسى على البحر يعرف بالماحور لها ثلاثة قصور بينه وبينها ثمانية عشر ميلاً. وليس لمباني مدينة أجدابية سقوف خشب. إنما هي أقباء طوب لكثرة رياحها ودوام هبوبها. وهي راخية الأسعار كثيرة التمر يأتيها من مدينة أوجلة أصناف التمر (للبكري) 440 (أغمات) . في مكان أفيح طيب التراب كثير النبات والأعشاب. والمياه تخترقه شمالاً ويميناً وحولها جنات محدقة(1/229)
وبساتين وأشجار ملتفة. وهي طيبة المقام صحيحة الهواء. وبها نهر ليس بالكبير يشق المدينة ويأتيها من جنوبها ويخرج من شماليها وربما جمد بها النهر في الشتاء حتى يجتاز الأطفال عليه. قال: وهذا شيء عايناه غير مرة. وتسمى هذه أغمات وريكة. قال ابن سعيد: ومدينة أغمات في شمالي جبل درن وهي كانت حاضرة البلاد قبل بنيان مراكش. وهي ذات مياه وفواكه كثيرة. وهي في الجنوب بميلة إلى الشرق عن مراكش وهي من أقصى المغرب. قال ابن سعيد أيضاً: كانت كرسي ملك أمير المسلمين يوسف بن تاشفين قبل أن يختط مدينة مراكش ويبنيها وهي مدينة قديمة (للادريسي) 441 (الإسكندرية) . على شط بحر الروم وبها المنارة المشهورة. وبها عمود السواري وطوله نحو ثلاث وأربعين ذراعاً. والمنارة في وسط الماء والبحر محيط بها وهي من بناء الإسكندر ولذلك نسبت إليه وهي موضوعة على رقعة الشطرنج. وهي من أجل المدن وأزقتها كالصلبان لا يضيع فيها الغريب. ولها جزيرة فيها بساتين ومنازه. والحنطة تجلب إلى الإسكندرية ولذلك لا تكون مرخصة لأن أرضها سبخة. ولها سور من الحجر. ولها أربعة أبواب. باب رشيد وباب سدرة وباب البحر وباب رابع لا يفتح إلا يوم الجمعة (لابي الفداء)(1/230)
442 (بونة) . في ساحل إفريقية على آخر سلطنة بجاية أول سلطنة أفريقية. ولها نهر متوسط يصب في البحر من جهة الغرب عنها. قال في العزيزي: ومدينة بونة هذه مدينة جليلة عامرة على البحر خصبة الزرع كثيرة الفواكه رخية. وبظاهرها معادن الحديد ويزرع بها كتان كثير. وحدث بها عن قريب مغاص على المرجان ليس كمرجان مرسى الخزر. قال الإدريسي: وبونة وسطة ليست بالكبيرة ولا بالصغيرة. وهي على نحر البحر. وكانت لها أسواق حسنة وبساتين قليلةوأكثر فواكهها من باديتها (لابن سعيد) 443 (تهوذا) . من المغرب الأقصى مدينة آهلة كثيرة الثمار والنخيل والزروع. وهي مدينة أولية بنيانها بالحجر. ولها أموال كثيرة وحولها ربض قد خندق على جميعه واستدار بالمدينة. وبها جامع جليل ومساجد كثيرة وأسواق وفنادق ونهر ينصب في جوفها من جبل أوراس. سكانها العرب وقوم من قريش. وإن كانت بينهم وبين من يجاورهم حرب أرسلوا ماء النهر في الخندق المحيط بمدينتهم فشربوا منه وامتنعوا من عدوهم به. وفي المدينة بئر لا تنزح أولية وآبار كثيرة طيبة. وأعداؤهم هوارة ومكناسة. وأهل تهوذا على مذاهب أهل العراق. وحولها بساتين كثيرة من صنوف الثمار وضروب البزر يجود بها البزور وحواليها أزيد من عشرين قرية (للبكري)(1/231)
444 (تونس) . قاعدة أفريقية وهي على بحيرة مالحة خارجة من البحر. وبين ساحل البحيرة عند تونس وبين فمها عند البحر عشرة أميال. وهو مسافة البحر عن تونس. ودور هذه البحيرة نحو أربعة وعشرين ميلاً. قال في العزيزي: ومدينة تونس مدينة جليلة قديمة البناء. ولها مياه ضعيفة جارية يزرع عليها. وهي كثيرة الغلات خصبة. وجبل زغوان بالقرب منها. وهو عنها في جهة الغرب بميلة إلى الجنوب على مسيرة يومين (لابي الفداء)
445 (تيهرت) . مدينة مسورة من الغرب الأوسط لها ثلاثة أبواب. وهي في سفح جبل يقال له جزول. ولها قصبة مشرفة على السوق تسمى المعصومة. وهي على نهر يأتيها من جهة القبلة يسمى مينة. وهو في قبلها. ونهر آخر يجري من عيون تجتمع تسمى تاتش ومن تاتش شرب أهلها وبساتينها وهو في شرقيها وفيها جميع الثمار وسفرجلها يفوق سفرجل الآفاق حسناً وطعماً ومشماً. وسفرجلها يسمى بالفارس. وهي شديدة البرد كثيرة الغيوم والثلج 446 (دمياط) . مدينة فسيحة الأقطار. متنوعة الثمار عجيبة الترتيب أخذت من كل حسن بنصيب. وهي على شاطئ النيل وأهل الدور الموالية له يستقون منه الماء بالدلاء. وكثير من دورها بها دركات ينزل فيها إلى النيل. وشجر الموز بها كثير يحمل إلى مصر في المركب وغنمها سائمة هملاً بالليل والنهار. ولهذا يقال في دمياط(1/232)
سورها حلواء وكلابها غنم. وإذا دخلها أحد لم يكن له سبيل إلى الخروج عنها إلا بطابع الوالي. فمن كان من الناس معتبراً طبع له في قطعة كاغد يستظهر به لحراس بابها. وغيرهم يطبع على ذراعه فيستظهر به (لابن بطوطة) قال أبو الفداء: وخربت دمياط في سنة ثمان وأربعين وستمائة. وكانت أسوارها من عمارة المتوكل الخليفة العباسي. وكان سبب تخريبها ما قاساه المسلمون عليها من الشدة مرة بعد أخرى بسبب قصد الفرنج إياها بجموعهم مرة أخرى 447 (مراكش) . من المغرب الأقصى محدثة بناها يوسف بن تاشفين في أرض صحراوية. وجلب إليها المياه وأكثر الناس فيها البساتين فكثر وخمها. ولا يكاد الغريب يسلم فيها من الحمى. وجنوبي مملكة مراكش جبل درن وشماليها مملكة سلا وغربيها البحر المحيط. وشرقيها الجهات التي بين سجلماسة وفاس. ودور مراكش سبعة أميال ولها سبعة عشر باباً. وحرها شديد وهي في شمالي أغمات بميلة يسيرة إلى الغرب وبينهما نحو خمسة عشر ميلاً (لابن سعيد)(1/233)
الباب الثاني عشر في التاريخ
خلق العالم والابوين وسقوطهما
448 آدم أبو البشر خلق بعد أن خلق الله تعالى السماء العليا أي الفلك التاسع المتحرك بالحركة الأولى من المشرق إلى المغرب. والأرض وتسع مراتب الملائكة والنور والأركان الأربعة. وخلق تعالى في اليوم الثاني الرقيع وهو سماء الدنيا أي الفلك الثامن وما ضمنه من الأرقعة السبع وفي اليوم الثالث أمر الله تعالى الماء فاجتمع إلى مكان واحد صائراً بحراً. وأظهرت الأرض منبتة عشباً وأشجاراً مثمرة وغير مثمرة. وفي اليوم الرابع قال عز من قائل: لتكن مصابيح أي كواكب في علو الرقيع للفصل بين النهار والليل ولدلالات الأوقات والأيام والأعوام. فرصعت الثوابت بالفلك الثامن والنيران والخمسة المتحيرة كل بفلكه. واستولت الشمس على سلطان النهار. واستولى القمر على سلطان الليل. وبقي الفلك التاسع وحده متطلساً. وفي اليوم الخامس خلق الله تعالى التنانين(1/234)
العظام وكل نفس متحركة في الماء وكل طائر ذي جناح. وفي اليوم السادس خلق الله تعالى الأرض فأخرجت أنفساً حيوانية بهائم وسباعاً وحشرات. قال الكتاب المقدس: إن الرب الإله جبل الإنسان تراباً من الأرض ونفخ في أنفه نسمة حياة فصار الإنسان نفساً حية. وأوقع الرب الإله سباتاً على آدم فنام فاستل إحدى أضلاعه وسد مكانها بلحم. وبنى الرب الإله الضلع التي أخذها من آدم امرأة فأتى بها آدم. وأسكنهما فردوس عدن وهو الجنة. ومستقرها نحو المشرق. وأباحهما الأكل من جميع ثمار الجنة خلا شجرة معرفة الخير والشر. وأردف ذلك يوم السبت فلم يخلق فيه شيئاً. . . ثم دخل الشيطان في الحية وخدعت حواء فأكلت من الثمرة التي نهاهما الله تعالى عن الأكل منها. وأعطت أيضاً آدم بعلها فأكل. فانفتحت أعين قلبيهما. وأهبط بهما من جنة عدن إلى الأرض. وقد اختلفت علماؤنا في أمر الثمرة المنهي عنها فقال قوم إنها البر. وقال آخر إنها العنب. وقال الأكثرون إنها التين
أبناء آدم
449 ثم بعد ستين سنة لانتفاء من الجنة ولدت حواء قايين ثم هابيل. وقرب قايين قرباناً من ثمار أرضه لكونه فلاحاً. فلم يقبل لفساد طريقته. ورفع هابيل قرباناً من أبكار غنمه لكونه راعياً فقبل لحسن سيرته. فأسر قايين عداوة أخيه فقتله غيلة(1/235)
ومن بني آدم شيت يقال أنه أول من ابتدع الكتابة وشوق ولده إلى الحياة السعيدة التي كانت لأبيه في الجنة. فانقطعوا إلى جبل حرمون منعكفين على العبادة والنسك والعفة. فسموا لذلك بني ألوهيم أي الإله. وولد شيت أنوش ويقال إنه أول من دعا اسم الرب. ومنحه الله تعالى معرفة الأكوان ومسير الكواكب وولد لأنوش قينان ولقينان مهلليل ولمهلليل يارد وليارد أخنون. وتمسك أخنون هذا بوصايا الله الطاهرة وعمل بها. وتتبع الخير وصدف عن الشر مواظباً على العبادة ثلاثمائة سنة. فنقله الله إلى حيث شاء حياً وقيل إلى الفردوس. وأخنون ولد له لامك ولامك ولد له نوح (لابي الفرج الملطي باختصار)
ذكر الطوفان
450 ذكر أهل الأخبار أن نوحاً أول نبي بعث وأن قومه كانوا أهل أوثان يعبدونها من دون الله. فبعث لهم نوح فدعاهم إلى الله فكانوا يبطشون به ويستخفون به. وهو يقول لهم: أللهم اغفر لقومي فإنهم لا يعلمون. فلما كثر استخفافهم به أوحى الله إليه أن اصنع الفلك فإنهم مغرقون. فأقبل على قطع الخشب وضرب الحديد وتهيئة العود بالقارب وغيره. فصنعه من خشب الساج وجعل طوله ثلاث مائة ذراع. وعرضه خمسين ذراعاً. وطوله في السماء ثلاثين ذراعاً. وكان قومه في خلال صنعه السفينة يأتونه أفواجاً يستخفون(1/236)
عقله. ويعدون فعله من جنونه ويقولون له: عملت سفينة في البر. فيقول لهم: سوف تعلمون. فلما اطمأنوا في الفلك فتحت أبواب السماء بماء منهمر وتفجرت الأرض عيوناً. فكان بين إرسال الماء وارتفاعه أربعون يوماً. فلما بلغ الماء إليهم أووا إلى الجبال فكانت الجبال تستقبلهم بالحجارة وتغرقهم في الماء فماتوا غرقى. وارتفع الفلك وجعل يجري في موج كالجبال ودار الأرض ولم يبق شيء من الخلائق ولا من الشجر إلا نوح ومن معه. وانتهت الفلك أخيراً إلى جبل عال فنزلت عليه (للشريشي باختصار) 451 وقسم نوح المسكونة بين بنيه عرضاً من الجنوب إلى الشمال. فأعطى بلاد السودان حاماً وبلاد السمر ساماً وبلاد الشقر يافت. ثم مات وله تسعمائة وخمسون سنة. فمن خلق العالم إلى ورود الطوفان على الرأي السبعيني ألفان ومائتان واثنتان وأربعون سنة وسام بن نوح ولد له أرفخشاد وقيل عن نوحاً أوصى إلى سام ابنه وقال له: إني إذا مت فأخرج تابوت أبينا آدم من الفلك وخذ معك من أولادك ملكيصاداق وسيرا معاً بالتابوت إلى حيث يهديكما ملاك الرب. فعملا بهذه الوصية(1/237)
وهداهما الملاك إلى جبل بيت المقدس ووضعا التابوت على قلة هناك فغاص فيها. فعاد سام إلى أهله ولم يعد ملكيصادق لكنه بنى ثم مدينة اسمها أورشليم أي قرية السلام. وسكنها باقي أيامه لهجاً بالعبادة وما أراق دماً. وكان قربانه خبزاً وخمراً فقط. . . وقد ضرب مثلاً للمسيح في نبوءة داود حيث قال: أنت الكاهن إلى الأبد بهيئة ملكيصادق. وعلى تلك القلة التي فيها قبر آدم صلب السيد المسيح
برج بابل وتبلبل الألسنة
452 ثم بعد ذلك قال الناس بعضهم لبعض هلموا نضرب لبناً ونحرق آجراً ونبن صرحاً شامخاً في علو السماء يكون لنا ذكراً كيلا نتبدد على وجه الأرض. فلما جدوا بذلك في أرض شنعار ونمرود بن كوش قات راصفي الصرح بصيده. وهو أول ملك قام بأرض بابل. قال الله: هذا ابتداء علمهم ولا يعجزون عن شيء يهتمون به. سوف أفرق لغاتهم لئلا يعرف أحدهم ما يقول الآخر. فبدد الله شملهم على وجه الأرض. وأرسل رياحاً عاصفةً فهدم الصرح ومات فيه نمرود الجبار. وتبلبلت لغات الآدميين فدعي اسم الموضع بابل
ذكر ابراهيم
453 تارح بن ناحور ولد إبراهيم. وبنى مورفوس ملك فلسطين مدينة دمشق قبل ميلاد إبراهيم بعشرين سنة. ولما بلغ عمره ستين(1/238)
سنة أحرق إبراهيم هيكل الأصنام بقرية الكلدانيين ودخل هاران أخوه ليطفئ النار فاحترق ولذلك فر إبراهيم وعمره ستون سنة مع أبيه تارح وناحور أخيه ولوط بن هاران أخيه المحترق إلى مدينة حران وسكنها أربع عشرة سنة. ثم خاطبه الله قائلاً: انتقل عن هذه الأرض التي هي ديار آبائك إلى حيث آمرك. فأخذ سارا امرأته ولوط ابن أخيه. وصعد إلى أرض كنعان. وحارب ملوك كدر لا عومر وقهرهم. وفي سنة خمس وثمانين من عمره وعده الله أن يجعل نسله كعدد الكواكب التي في السماء وذريته كرمل البحار. فوثق إبراهيم بالله حق الثقة. وبعد مائة سنة مضت من عمر إبراهيم ولد له إسحاق من سارا. ولما حصل لإسحاق تسع عشرة سنة أصعده إبراهيم لجبل نابو (والصحيح جبل موريا) ليضحي به ضحية لله تعالى. ففداه الله بحمل مأخوذ من الشجرة وأنقذه. ولما بلغ إسحاق أربعين سنة نزل إليعازر وليد بيت إبراهيم إلى حران وجاء برفقا زوجة إسحاق. ولما توفي إبراهيم دفن إلى جانب سارا زوجته في المغارة المضاعفة التي ابتاعها من عفرون الحثي
ذكر إسحق وولديه
454 وإسحاق بن إبراهيم ولد له توأمان يعقوب وعيسو. وكان يعقوب الأصغر. وفي سبع وسبعين سنة من عمره أخذ من عيسو(1/239)
أخيه البكورة ومن إسحاق أخيه تبريك البكورة بالحيلة المذكورة في التوراة. وهي أن إسحاق لما طعن في السن ذهب بصره. وكان عيسو أزب ويعقوب أجرد. فألبسته أمه مسك جدي وقدمته إلى إسحاق فقال يعقوب: هذا عيسو ابنك أعطه بركة بكورته فجسه إسحاق وقال: مجسة عيسو وشمائل يعقوب. ومع ارتيابه فيه لم يأب تبريكه. ولما حنق عليه عيسو أوه هرب من قدامه إلى حران. ورأى يعقوب في أول ليلة خرج من بيت أبيه فاراً من أخيه في منامه سلماً منصوباً في الأرض رأسه إلى السماء والملائكة يصعدون وينزلون عليه وعظمة الله ظاهرة في أعلاه. فانتبه يعقوب وقال: لا ريب أن هذا بيت الله. فأخذ الحجر الذي كان تحت رأسه ونصبه مذبحاً. وسكب عليه دهناً رمزاً إلى دهن الميرون الذي به تتقدس هياكل الله عندنا. ووصل يعقوب إلى بيت لابان واختطب راحيل وليا ابنتيه. وولدت له ليا روبيل أي العظيم لله ثم شمعون أي الطائع ثم لاوي أي التام ثم يهوذا أي الشاكر. ومن ذريته ظهر الملك المسيح المدعو ابن داود بالجسد. ثم إياخر أي حاضر الرجاء ثم زبولون أي النجاة من هول الليل. وولدت بلهة أمة راحيل داناً أي الحكم ونفتالي أي المتضرع. وولدت راحيل ابنين يوسف أي الزيادة ثم بنيامين. وولدت زلقا أمة ليا جاد أي الحظ ثم أشير أي المجد. وجملة بني يعقوب اثنا عشر وهم الأسباط(1/240)
أي قبائل بني إسرائيل. وبعد ميلاد لاوي بثلاث سنين ولدت راحيل يوسف وبيع ابن سبع عشرة سنة (لابي الفرج الملطي باختصار)
ذكر اسر يوسف
455 لما كان يوسف من الحسن ومن حب أبيه على ما اشتهر حسدته إخوته وألقوه في الجب. وأقام يوسف في الجب حتى مرت بإخوته السيارة. فأخرجوا يوسف من الجب وباعوه للعرب بثمن بخس. قيل عشرون درهماً. وذهبوا به إلى مصر فباعه أستاذه فاشتراه الذي على خزائن مصر. قال ابن إسحاق: اشتراه عزيز مصر وهو وزيرها أو صاحب شرطتها واسمه إطفير وقيل فوطيفار. وكان فرعون مصر حينئذ الريان بن الوليد رجلاً من العماليق. ولما اشترى العزيز يوسف راودته امرأته عن نفسها فأبى وهرب منها. ووصل أمرها إلى زوجها. وما زالت تشكو إليه من يوسف حتى حبسه ودام في السجن. ثم عبر الرؤيا للمحبوسين من أصحاب الملك والرؤيا التي أريها فرعون. ثم استعمله ملك مصر عندما خشي السنة والغلاء على خزائن الزرع في سائر مملكته بقدر جمعها وتصريف الأرزاق منها وأطلق يده بذلك في جميع أعماله وألبسه خاتمه وحمله على مركبته. ويسف لذلك العهد ابن ثلاثين سنة. وكان ذلك سبباً لانتظام شمله بأبيه وإخوته لما أسابتهم السنة بأرض كنعان. وجاء(1/241)
بعضهم للميرة وكال لهم يوسف ورد عليهم بضاعتهم وطالبهم بحضور أخيهم. فكان ذلك كله سبباً لاجتماعه بأبيه يعقوب بعد أن كبر وعمي. ولما وصل يعقوب إلى بلبيس قريباً من مصر خرج يوسف ليلقاه. وأطلق لهم فرعون أرض بلبيس يسكنون بها وينتفعون. وعاش يعقوب مجتمعاً ببنيه سبع سنين وأوصى يوسف قبل وفاته أن يدفنه مع أبيه إسحاق. ففعل يوسف ذلك. فسار به إلى أرض فلسطين وخرج معه أكابر مصر وشيوخها بإذن من فرعون. وانتهوا إلى مدفن إبراهيم وإسحق فدفنوه في المغارة عندهما. وانتقلوا إلى مصر على أن أدركته الوفاة فقبض لمائة وعشرين من عمره. وأدرج في تابوت وختم عليه ودفن. وكان أوصى أن يحمل عند خروج بني إسرائيل إلى أرض فلسطين فيدفن هنالك. ولم تزل وصيته محفوظة إلى أن حمله موسى عند خروجه ببني إسرائيل من مصر (لابي الفداء وابن الأثير وغيرهما)
ولادة موسى
456 وبعد وفاة يوسف أقام الأسباط بمصر وتناسلوا وكثروا حتى ارتاب القبط بكثرتهم واستعبدوهم. وفي التوراة أن ملكاً من الفراعنة جاء بعد يوسف لم يعرف شأنه ولا مقامه في دولة آبائه. فاسترق ببني إسرائيل واستعبدهم. فعمد الفراعنة إلى قطع نسلهم بذبح الذكور من ذريتهم. فلم يزالوا على ذلك مدة من الزمان(1/242)
حتى ولد موسى وهو موسى بن عمران بن لاوي من القادمين إلى مصر مع يعقوب. وولد عمران بمصر ولد هارون لثلاث وسبعين من عمره وموسى لثمانين فجعلته أمه في تابوت. وألقته في ضحضاح اليم وأرصدت أخته على بعد لتنظر من يلتقطه فتعرفه. فجاءت ابنة فرعون إلى البحر مع جواريها فرأته واستخرجته من التابوت. فرحمته وقالت: هذا من العبرانيين فمن لنا بظئر ترضعه. فقالت لها أخته: أنا آتيكم بها. وجاءت بأمه فاسترضعتها له ابنة فرعون إلى أن فصل. فأتت به إلى ابنة فرعون وسمته موسى وسلمته لها. فنشأ عندها ثم شب وخرج يوماً يمشي في الناس وله صولة بما كان له في بيت فرعون من المربى والرضاع فهم لذلك أخواله. فرأى عبرانياً يضربه مصري فقتل المصري الذي ضربه ودفنه. وخرج يوماً آخر فإذا هو برجلين من بني إسرائيل وقد سطا أحدهما على الآخر فزجره فقال له: ومن جعل لك هذا أتريد أن تقتلني كما قتلت الآخر بالأمس. ونمى الخبر إلى فرعون فطلبه وهرب موسى إلى أرض مدين عند عقبة إيلة. وبنو مدين أمة عظيمة من بني إبراهيم عليه السلام كانوا ساكنين هنالك. وكان ذلك لأربعين سنة من عمره (لابن خلدون)
بعثة موسى
457 ولما بلغ موسى ثمانين سنة وكان يرعى غنم يثرون حميه.(1/243)
تراءى له ملاك الرب في جبل حوريب وهو طور سينا بلهيب النار في العوسج والعوسج لا يحترق فدعاه الله من العوسج قائلاً: يا موسى. فقال: ها أنا. فقال له: حل نعليك من قدميك لأن المكان الذي أنت قائم عليه مقدس. ثم قال له الرب: قد سمعت استغاثة شعبي من المصريين ونزلت لخلاصهم على يدك. فقال موسى: من أنا حتى أمضي إلى فرعون رسولا. فقال له الله: أنا أكون معك. قال موسى: فإن قالوا لي ما اسم ربك فماذا أقول لهم. قال: قل الأزلي الذي لا يزال. فقال موسى: إن لساني ألثغ ثقيل النطق كيف يقبل مني فرعون. قال الله له: إني قد جعلتك إلها لفرعون وهارون أخاك نبياً بين يديك يقول لفرعون ما نقص عليه فيرسل ابني بكري إسرائيل. وأنا أقسي قلب فرعون فلا يطيعكما فأظهر آياتي بأرض مصر. فلما مضى موسى وهارون إلى فرعون بالرسالة. قال لهما: اصنعا لي آية. فألقى موسى عصاه فإذا هي تنين. فدعا فرعون السحرة ففعلوا كذلك. فابتلعت عصا موسى عصيهم. ومع هذا أبى فرعون أن يرسلهم. فصنع الرب بمصر من الآيات ما قد شرح في التوراة (لابي الفرج الملطي)
خروج آل اسرائيل من مصر
458 ثم تمادى فرعون في تكذيب موسى ومناصبته. واشتد جوره على بني إسرائيل واستعبادهم واتخاذهم سخرياً في مهنة الأعمال(1/244)
فأصابت فرعون وقومه الجوائح العشرة واحدة بعد أخرى. يسالمهم عند وقوعها ويتضرع إلى موسى في الدعاء بانجلائها إلى أن أوحى الله إلى موسى بخروج بني إسرائيل من مصر. ففي التوراة أنهم أمروا عند خروجهم أن يذبح أهل كل بيت حملاً من الغنم إن كان كفايتهم أو يشتركوا مع جيرانهم إن كان أكثر. وإن ينضحوا دمه على أبوابهم لتكون علامة. وأن يأكلوه سواء برأسه وأطرافه. ومعناه لا يكسرون منه عظماً ولا يدعون شيئاً خارج البيوت. وليكن خبزهم فطيراً ذلك اليوم وسبعة أيام بعده. وذلك في اليوم الرابع عشر من فصل الربيع وليأكلوا بسرعة وأوساطهم مشدودة وخفافهم في أرجلهم وعصيهم في أيديهم ويخرجوا ليلاً. وما فضل من عشائهم ذلك يحرقوه بالنار. وشرع هذا عيداً لهم ولأعقابهم ويسمى عيد الفصح. وفي التوراة أيضاً أنه قتل في تلك الليلة أبكار النساء من القبط ودوابهم ومواشيهم. ليكون لهم بذلك شغل عن بني إسرائيل. وأنهم أمروا أن يستعيروا منهم حلياً كثيراً يخرجون به فاستعاروه. وخرجوا في تلك الليلة بما معهم من الدواب والأنعام وكانوا ستمائة ألف أو يزيدون. وشغل القبط عنهم بالمآتم التي كانوا فيها على موتاهم. وأخرجوا معهم تابوت يوسف استخرجه موسى من المدفن الذي كان به بإلهام من الله تعالى. وساروا لوجههم حتى انتهوا إلى ساحل البحر بجانب الطور.(1/245)
وأدركهم فرعون وجنوده وأمر موسى بأن يضرب البحر بعصاه ويقتحمه. فضربه فانفلق وسار فيه بنو إسرائيل وفرعون وجنوده في اتباعه فهلكوا. ونزل بنو إسرائيل بجانب الطور وسبحوا مع موسى بالتسبيح المنقول عندهم. وهو نسبح الرب البهي الذي قهر الجنود ونبذ فرسانها في البحر المنيع المحمود إلى آخره. قالوا وكانت مريم أخت موسى وهارون تأخذ الدف بيدها ونساء بني إسرائيل في أثرها بالدفوف والطبول وهي ترتل لهن التسبيح: سبحان الرب القهار الذي قهر الخيول وركبانها ألقاها في البحر وهو معنى الأول(1/246)
السير في البرية
459 ثم ارتحل بنو إسرائيل من بحر القلزم إلى برية شور ثم إلى برية سين. وشكوا الجوع فبعث الله لهم المن حباتٍ بيضاً منتشرة على الأرض مثل ذرير الكزبرة. فكانوا يطحنونه ويتخذون منه الخبز لأكلهم. ثم قرموا إلى اللحم فبعث لهم السلوى طيراً يخرج من البحر وهو طير السماني فيأكلون منه ويدخرون. ثم طلبوا الماء فأمر أن يضرب بعصاه الحجر فانفجرت منه المياه (لابن خلدون)
اعطاء الوصايا
460 ثم قال الله لموسى: اصعد إلي أنت وهارون وناداب وأبيهو ولداه وسبعون شيخاً. ففعلوا ذلك ودنا موسى وحده والباقون وقفوا أسفل الجبل. وعرفهم موسى وصايا الله. ثم نزلوا وأقام موسى بالجبل أربعين يوماً صائماً. وتقدم الله إليه بالفرائض مكتوبة في لوحين من حجر. ولما استبطأ بنو إسرائيل مجيء موسى قالوا لهارون: قم اعمل لنا إلهاً يمضي أمامنا لأن أخاك ما نعلم ما كان منه. وأحضروه حلي الذهب التي لنسائهم وأولادهم وأحدثوا العجل. ولما عاد موسى عرف فعلهم غضب غضباً شديداً وضرب باللوحين سفح الجبل وكسرهما. وألقى على العجل المبارد وطرح سحالته في النار ورمى رماده في الماء وأمر بني إسرائيل أن يشربوا منه جميعهم. وقال لبني لاوي:(1/247)
الرب يأمركم أن يقتل الرجل منكم أخاه ونسيبه فقتل منهم ثلاثة آلاف رجل 461 ثم رقي موسى إلى الجبل ومعه لوحان من حجرٍ. وأقام فيه أربعين يوماً صائماً طاوياً لياليها وعاد نازلاً وبيده اللوحان مكتوبة فيهما العشر وصايا وهي: الرب إلهك واحد. فِ بيمينك. إحفظ يوم السبت. أكرم والديك. لا تقتل. لا تزن. لا تسرق. لا تشهد بالزور. لا تتمن منزل أخيك. لا تتمن قنية رفيقك. وقال الله: ملعون من يشتم والديه. ملعون من يظلم جاره. ملعون من يضل الأعمى عن السبيل. ملعونن من يحيف في القضاء على اليتيم والمسكين ومن يضرب صاحبه غيلة ومن يرشو في قتل نفس. ملعون من لا يثبت على هذه السنن. فإن أنتم خالفتموها تزرعون ويأكل زرعكم أعداؤكم. وتنهزمون من غير أن يطردكم أحد. وأرسل عليكم الوحوش فتفنيكم. ولا تشبعون طعاماً ولا تروون ماءً. ولا تقبل لكم صلاة وأخرب أرضكم وأبددكم بين الأمم المبغضة لكم وأختس قدركم (لابي الفرج)
التيه
462 ولما دخل بنو إسرائيل البرية بعثوا منهم اثني عشر نقيباً من جميع الأسباط فأتوهم بالخبر عن الجبارين. فاستطابوا البلاد واستعظموا العدو من الكنعانيين والعمالقة. ورجعوا إلى قومهم(1/248)
يخبرونهم الخبر وخذلوهم إلا يوشع وكالب. فقالا لهم ما قالا. وهما الرجلان اللذان أنعم الله عليهما. وخام بنو إسرائيل عن اللقاء وأبوا من السير إلى عدوهم والأرض التي ملكهم الله إلى أن يهلك الله عدوهم على غير أيديهم. فسخط الله ذلك منهم. وعاقبهم بأن لا يدخل الأرض المقدسة أحد من ذلك الجبل إلا كالب ويوشع. وإنما يدخلها أبناؤهم والجيل الذي بعدهم 463 وأقاموا على ذلك ثم ارتاب واحد منهم اسمه قورح بن بصهار ابن قهات وهو ابن عم موسى فارتاب هو وجماعة منهم من بني إسرائيل بشأن موسى. واعتمدوا مناصبته فأصابتهم قارعة وخسفت بهم وبه الأرض. وأصبحوا عبرة للمعتبرين. واعتزم بنو إسرائيل على الاستقالة مما فعلوه والزحف إلى العدو. ونهاهم موسى عن ذلك فلم ينتهوا وصعدوا جبل العمالقة فحاربهم أهل ذلك الجبل فهزموهم وقتلوهم في كل وجه. فأمسكوا وأقام موسى على الاستغفار لهم. فأرسل إلى ملك أدوم يطلب الجواز عليه إلى الأرض المقدسة فمنعهم وحال دون ذلك
464 ثم قبض هارون لمائة وثلاث وعشرين سنة من عمره ولأربعين سنة من يوم خروجهم من مصر. وحزن له بنو إسرائيل لأنه كان شديد الشفقة عليهم. وقام بأمره الذي كان يقوم به ابنه ألعازار. ثم زحف بنو إسرائيل إلى بعض ملوك كنعان فهزموهم(1/249)
وقتلوهم وغنموا ما أصابوا معهم. وبعثوا إلى سيحون ملك الأموريين من كنعان في الجواز في أرضه إلى الأرض المقدسة فمنعهم. وجمع قومه وغزا بني إسرائيل في البرية فحاربوه وهزموه وملكوا بلاده إلى حد بني عمون. ونزلوا مدينته وكانت لبني موآب وتغلب عليها سيحون. ثم قاتلوا عوجاً وقومه من كنعان وهو المشهور بعوج بن عنق وكان شديد البأس فهزموه وقاتلوه وبنيه وأثخنوا في أرضه وورثوا أرضهم إلى الأردن بناحية أريحا. وخشي ملك بني موآب من بني إسرائيل واستجاش بمن يجاوره من بني مدين وجمعهم. ثم أرسل إلى بلعام بن بعور وكان ينزل في التخم. بين بلاد بني عمون وبني موآب وكان مجاب الدعوة معبراً للأحلام. واستدعاه ليستعين بدعائه فأتاه الوحي بالنهي عن الدعاء. وألح عليه ذلك الملك وأصعده إلى الأماكن الشاهقة وأراه معسكر بني إسرائيل منها فدعا لهم وأنطقه الله بظهورهم وأنهم يملكون إلى الموصل. فغضب الملك وانصرف بلعام إلى بلده. وفشا في بني إسرائيل الفساد فهلك منهم أربعة وعشرون ألفاً. ثم أقاموا كذلك أربعين سنة في برية سينا وفاران يترددون حوالي جبال الشراة وأرض ساعير وأرض بلاد الكرك والشوبك وموسى بين ظهرانيهم يسأل الله لطفه بهم ومغفرته ويدفع عنهم مهالك سخطه. حتى ارتحل بنو إسرائيل ونزلوا شاطئ الأردن. وقال الله: قد ملكتكم ما بين الأردن(1/250)
والفرات كما وعدت آباءكم. وأكمل الله الشريعة والأحكام والوصايا لموسى وقبضه إليه لمائة وعشرين سنة من عمره بعد أن عهد إلى فتاه يشوع أن يدخل ببني إسرائيل إلى الأرض المقدسة ليسكنوها. ويعملوا بالشريعة التي فرضت عليهم فيها. ودفن بالوادي في أرض موآب ولم يعرف قبره لهذا العهد (لابن خلدون)
قضاة اسرائيل
يشوع بن نون
465 ولما مات موسى قام بتدبر بني إسرائيل يشوع بن نون وأقام بهم في التيه ثلاثة أيام. ثم ارتحل بهم إلى الشريعة بالغور واسمه الأردن. فلم يجد سبيلاً للعبور فأمر يشوع حاملي صندوق الشهادة الذي فيه الألواح بأن ينزلوا إلى حافة الشريعة. فوقفت حتى انكشفت أرضها وعبر بنو إسرائيل ثم عادت الشريعة كما كانت. ونزل يشوع بهم على أريحا محاصراً لها ثم أمر بني إسرائيل أن يطوفوا حول أريحا سبع مرات وأن يصوتوا بالقرون. فعندما فعلوا هبطت الأسوار ورسخت وتساوت بالخنادق بها. ودخل بنو إسرائيل أريحا بالسيف وقتلوا أهلها. وبعدها سار إلى نابلس إلى المكان الذي بيع فيه يوسف فدفن عظام يوسف هناك. وكان(1/251)
موسى قد استخرج يوسف من مصر واستصحبه إلى التيه. وبقي معهم أربعين سنة. وتسلمه يشوع إلى أن دفنه بعد فراغه من أريحا. وملك يشوع الشام وفرق فيه عماله ودبر بني إسرائيل نحو ثمان وعشرين سنة. ثم توفي يشوع ودفن في كفر حارس (تمنة سارح) (لابن الوردي)
دبورة وبارق
466 وبعد وفاة يشوع تغلب يابين ملك حاصور على أمة إسرائيل عشرين سنة. وكان لقائد جيشه رجل اسمه سيسرا تسع مائة مركبة من حديد يجر كل واحدة منها أربعة أفراس تحمل نفراً من الرجال المقاتلين. وكانت الأمة معه في ضنك شديد فاستغاثوا إلى الله فأنشأ لهم امرأة نبية اسمها دبورة فأنقذتهم منه. ولما تولت دبورة النبية وهي من سبط أفرائيم أمر بني إسرائيل أشركت معها في التدبير رجلاً اسمه بارق من سبط نفتالي. ووليا الأمر أربعين سنة وجيش بارق من بني إسرائيل عشرة آلاف رجل مقاتل. والتقى عساكر سيسرا الجمة فانكسر الكنعانيون. ونزل سيسرا عن فرسه ملتجئاً إلى امرأة من بني إسرائيل اسمها ياعيل. فعرفته وآوته في منزلها وسقته عوض الماء الذي طلبه لبناً ودثرته فنام وحيث ثقل في نومه أخذت سكة من حديد وسمرتها في صماخه حتى مات. ثم خرجت إلى باب منزلها فرأت بارق مجداً في طلب سيسرا فقالت له:(1/252)
هلم أريك من تريد. فدخل ورأى سيسرا ملقى ميتاً والسكة في أذنه. وما زال بارق في طلب يابين ملك حاصور حتى ظفر به فقتله
المديانيون وجدعون
467 وبعد موت دبورة وبارق توثن بنو إسرائيل كعادتهم وأسلموا في يدي بني مدين فاستعبدوهم سبع سنين. وهرب بنو إسرائيل من شدة ما قاسوا من المديانيين واتخذوا لهم بيوتاً الكهوف والمغارات وسكنوها. وصار كلما زرعوا زرعاً صعدت العمالقة والمديانيون ورعوه وقرضوه وأقلحوا وجه الأرض من كل نبات بكثرة أنعامهم وماشيتهم وأغنامهم. ولما رأى الله ذل بني إسرائيل رحمهم وأرسل ملاكاً إلى رجل اسمه جدعون بن يوآش. وأمره أن يتولى خلاص الإسرائيليين. فولي تدبيرهم أربعين سنة. وقتل ملوك الأعراب مضطهديهم
يفتاح
468 ثم ولي تدبير بني إسرائيل أبيملك بن جدعون ثم تولع ثم يائير الجلعادي ثم يفتاح. وفي زمانه طغا بنو إسرائيل في عبادة الأوثان فأسلمهم الله في أيدي بني عمون فنكد بهم عيش الأمة ثماني عشرة سنة. ويفتاح هذا قتل ملك بني عمون وهم بنو لوط وكان قد نذر على نفسه أنه إن ظفر بالعدو وكر منتصراً أول من لمح من ذوي قرابته قربه لله تعالى قرباناً. فلما انتصر وعاد دانياً من منزله(1/253)
أقبلت عليه ابنته العذراء تهنئه بالنصر فقال لها: كبت لوجهي كبتاً يا ابنتي وأنا اليوم اكببت على وجهي بك. فعلمت ما به واستمهلته شهرين أن تنوح على بكارتها مع أترابها دائرة في الصحارى. فأذن لها في ذلك وعند تمام المدة ضحى بها ضحية بموجب ندره المكروه. وكان مدة ولايته ست سنين (لابي الفرج)
شمشون
469 ثم بعد ذلك عبد بنو إسرائيل الأصنام وسلط الله عليهم بني فلسطين فقهروهم أربعين سنة. ثم خلصهم من أيديهم شمشون ابن مانوح من سبط دان ويعرف بشمشون القوي لفضل قوة كانت في يده ويعرف أيضاً بالجبار. وكان عظيم سبطه ودبر بني إسرائيل عشر سنين بل عشرين سنة. وكثرت حروبه مع بني فلسطين وأثخن فيهم وأتيح لهم عليه في بعض الأيام فأسروه ثم حملوه وحبسوه. واستدعاه ملكهم يوماً إلى بيت آلهتهم. فأمسك عمود البيت وهزه بيده فسقط البيت على من فيه وماتوا جميعاً
عالي الكاهن
470 ولما هلك شمشون وقعت الفتنة بين بني إسرائيل ففني فيها سبط بنيامين عن آخرهم. ثم سكنت الفتنة وكان الكاهن فيهم لذلك العهد عالي. فلما سكنت الفتنة كانوا يرجعون إليه في أحكامهم وحروبهم. وكان له ابنان عاصيان لم يحسن تربيتهما. وكثر(1/254)
لعهده قتال بني فلسطين. وفشا المنكر من ولديه وأمر بدفعهما عن ذلك فلم يزدادا إلا عتواً وطغياناً. وأنذره الأنبياء بذهاب الأمر عنه وعن ولده. ثم هزمهم بنو فلسطين في بعض أيامهم وأصابوا منهم. فتذامر بنو إسرائيل واحتشدوا وحملوا معهم تابوت العهد ولقيهم بنو فلسطين فانهزم بنو إسرائيل أمامهم وقتلوا ابني عالي الكاهن كما أنذر به أبوهما
وصموئيل. وبلغ أباهما الكاهن خبر مقتلهما فمات أسفاً لعشرين سنة من دولته. وغنم بنو فلسطين التابوت فيما غنموه واحتملوه إلى بلادهم بعسقلان وغزة وضربوا الجزية على بني إسرائيل. ولما مضى القوم بالتابوت وضعوه عند آلهتهم فقلاها مراراً. فأخرجوه إلى ناحية من القرية فأصيبوا. فتبادروا بإخراجه وحملوه على بقرتين لهما تبيعان فوضعتاه عند أرض بني إسرائيل. وأقبل إليه بنو إسرائيل فكان لا يدنو منه أحد إلا مات. حتى أذن صموئيل لرجلين منهم حملاه إلى بيتهما فكان هنالك حتى ملك طالوت (لابن العميد النصراني بتصرف)
صموئيل
471 وكان عالي الكاهن قد كفل صموئيل. وكانت أم صموئيل نذرت أن تجعله خادماً في المسجد. وألقته هنالك فكفله عالي. وأوصى له بالكهونية. ثم أكرمه الله بالنبوءة. وولاه بنو إسرائيل أحكامهم فدبرهم عشر سنين. وقال جرجيس بن العميد: عشرين(1/255)
سنة. ونهاهم عن عبادة الأوثان فانتهوا. وحاربوا أهل فلسطين واستردوا ما كانوا أخذوا لهم من القرى والبلاد واستقام أمرهم. ثم دفع الأمر إلى ابنيه يوآل وأبيا وكانت سيرتهما سيئة. فاجتمع بنو إسرائيل إلى صموئيل وطلبوه أن يسأل الله في ولاية ملك عليهم. فجاء الوحي بولاية طالوت فولاه. وصار أمر بني إسرائيل ملكاً بعد أن كان مشيخة والله معقب الأمر بحكمته لا رب غيره (لابن خلدون)
ملوك اسرائيل
تملك شاول
472 كان شاول من سبط بنيامين وتسميه العرب طالوت. كان شاباً لم يكن في بني إسرائيل أتم منه خلقة. فخرج يوماً مع غلام له طائفين على أتن ضلت لهما. وانتهيا إلى القرية التي فيها صموئيل النبي. وقال الغلام لشاول: ههنا رجل عظيم نذهب إليه لعله يدلنا على الأتن. وعندما هما بذلك خرج إليهما صموئيل. فقالا له: دلنا على بيت النظار. لأن في ذلك الزمان كانت تسمى الأنبياء نظارة. فقال لهما: أنا النظار ادخلا منزلي وكلا معي طعاماً فأنبئكما عن بغيتكما. فلما دخلا معه البيت. قال لهما: لا تهتما بأمر الأتن فقد وجدت. ولم تكن لذة بني إسرائيل إلا لك يا شاول ولآل أبيك. فقال له شاول مستعفياً: قبيلتي أقل سبط بنيامين.(1/256)
وأخذ صموئيل قرن الدهن وأفاضه على رأس شاول قائلاً: إن الله اصطفاك لتكون ملكاً لميراثه (لابي الفرج) 473 وكان لطالوت من الولد يوناثان وملكيشوع وإشبوشت وأبيناداب. وقام طالوت بملك بني إسرائيل. وحارب أعداءهم من بني فلسطين وعمون وموآب والعمالقة ومدين. فغلب جميعهم ونصر بنو إسرائيل نصر الأكفاء له. وأول من زحف إليهم ملك بني عمون ونازل قرية بلقاء فهجم عليهم طالوت وهو في ثلاثمائة ألف من بني إسرائيل فهزمهم واستلحمهم. ثم أغزى ابنه في عساكر بني إسرائيل إلى فلسطين فنال منهم. واجتمعوا لحرب بني إسرائيل فزحف إليهم طالوت وصموئيل فانهزموا واستلحمهم بنو إسرائيل. وأمر شاول أن يسير إلى العمالقة وأن يقتلهم ودوابهم ففعل واستبقى ملكهم أجاج مع بعض الأنعام. فجاء الوحي إلى صموئيل بأنَّ الله قد سخطه وسلبه الملك فخبره بذلك. وهجره صموئيل فلم يره بعد. وأمر صموئيل أن يقدس داود (لابن خلدون)
مسيح داود
474 فأوحى الله إلى صموئيل: قم وانطلق إلى شخص اسمه يسي من قرية بيت لحم فقد ارتضيت من بنيه ملكاً. فمضى إليه صموئيل وقال: أريد أن أمسح أحد أولادك ملكاً. فقال له يسي: أنى لي بذلك. وأحضر ابنه الكبير فأعجبه حسنه فأوحى الله إليه أن:(1/257)
نظري ليس كنظر البشر. فأعرض عنه ووقف صموئيل حتى عرض عليه سبعة من بنيه. فلم يفض على أحدهم. فقال ليسى: هل بقي من بنيك أحد. قال: بقي غلام وهو أصغرهم سناً يرعى الغنم. فقال: ائتني به. فأحضره يسى وأفاض عليه القرن ومسح ملكاً ومضى إلى منزله
جليات وداود
475 وفي تلك الأيام ظهر علج من الفلسطينيين اسمه جليات والعرب تسميه جالوت. وكان يسب بني إسرائيل ويستهين بهم. فدنا منه داود قائلاً: أنت أتيتني بالسيف والدرقة وأنا أتيتك باسم الرب الذي عيرت صفوفه. وتناول داود حجراً من خريطته فوضعه في مقلاعه. ثم رماه فغيبه في جبهة العلج فوقع على وجهه. فسل داود سيفاً وقطع به رأسه 476 وكان شاول قد أصابه ريح سوءٍ فقيل له: ليكن عندك إنسان جيد الضرب بالصنج ذي الأوتار ليلهيك عما بك. ووصف له داود أنه ماهر في ذلك. فطلبه من أبيه وكان يلهيه. وكانت بنات إسرائيل بعد قتل داود جليات يغنين ويصرخن ويقلن: قتل شاول ألوفاً وداود عشرات ألوف. فحسد شاول داود وزج يوماً برمح لطيف كان عنده بيده نحوه. فارتاع لذلك داود. فخافه شاول ورأسه على ألف رجل وقال يوماً: من آتاني برأس مائتي فلسطيني(1/258)
زوجته ابنتي ميكال. فخرج داود وقتل منهم مائتي رجل وأتاه برؤوسهم فزوجه إياها فأحبت داود حباً شديداً. وكذلك أخوها يوناثان وجميع بني إسرائيل. وحذر يوناثان داود من أبيه وهربه إلى بعض الجبال. وخرج شاول في طلبه حتى أتى مع أصحابه إلى مغارة في ذلك الجبل وباتوا فيها. فسار داود ليلاً وأتى إلى المغارة وصادف شاول نائماً فقطع قطعة من ردائه ورجع إلى أصحابه. ولما أصبح النهار وخرج شاول من المغارة ناداه داود وقبل الأرض بين يديه وقال له: لا تسمع في سيدي قول واشٍ فقد أسلمك الله في يدي اليوم ولم يدركك مني سوء وهذا طرف ردائك معي. قال له شاول: جزاك الله خيراً إنك ستملك. فاحلف لي أنك لا تهلك ذريتي. فحلف له ومضى شاول إلى منزله. ومات صموئيل النبي. وخرج شاول في طلب داود مرة ثانية ونام في بعض الطريق ليلاً مع أصحابه. فأتاه داود وهو نائم ورام أصحاب داود قتله. فمنعهم قائلاً: لا يحل لأحد أن يمد يده إلى مسيح الرب اتركوه ليومه. ثم أخذ رمحه وكوز الماء وانطلق فعلم شاول وقال: خطئت في طلبك يا داود ولست بعائد
موت شاول
477 وقاتل بعد ذلك الفلسطينيون بني إسرائيل وقتل يوناثان وإخوته. وهرب شاول وخاف أن يدركوه فتحامل على سيفه حتى(1/259)
خرج من ظهره. وأدركه القوم فقطعوا رأسه وأنفذوه إلى بيوت أصنامهم وصلبوا جسده على سور مدينتهم. وجاء شخص من بني إسرائيل وادعى أنه قتل شاول. فقال له داود: كيف طاوعتك نفسك أن تقتل مسيح الله. فقتله وناح داود وأصحابه على شاول ويوناثان ابنه. ورثاهما قائلاً: إن حجفة شاول مصبوغة بدم القتلى وقوس يوناثان لم تكن تنكص إلى ورائها وحربة شاول لم تكن تنثني. لقد كان أخف من النسور سيراً وأشجع من الأسد بطشاً. يا بنات إسرائيل ابكينان شاول الذي كان يكسوكن الأرجوان والبهرمان. وكان مدة ملكه على رأي أوسا بيوس أربعين سنة
ملك داود بن يسى
478 لما قتل شاول استقام داود في ملكه وقال لناثان النبي يومئذ: أنا ساكن في بيوت الأرز وسكينة الرب يعني مسكن الزمان في الخيم أفلا أبني له بيتاً فأوحى الله إلى ناثان النبي وقال له: قل لعبدي داود لا تبني لي بيتاً لأن ابنك الذي أقيمه مكانك هو يبني بيتاً على اسمي. ثم تقدم داود إلى يوآب قائد جيشه ليحصي عدد مقاتلة بني إسرائيل. فغاب يوآب عنه في مدن بني إسرائيل وقراهم تسعة أشهر وعشرين يوماً. ثم أتاه وقال له: وجدت عدة مقاتلة بني إسرائيل ثمانمائة ألف رجل وبني يهوذا خمسمائة ألف نفس. فأوحى الله إلى جاد النبي قائلاً: قل لداود قد رأيت الغلبة بكثرة(1/260)
جيوشك ولم تعلم أني الناصر فها أنا مبتليك عن ذلك بإحدى ثلاث فاختر واحدة منهن: إما قحط سبع سنين. وإما استيلاء عدو ثلاثة أشهر. وإما موتان ثلاثة أيام. فقال داود: أن تكون يد الله مؤدبتنا خير لنا. فاختار الموت. فمات من الصبح إلى ثلاث ساعات من النهار سبعون ألفاً من رجال بني إسرائيل. فقال داود: إلهي وسيدي إن كنت خطئت فما ذنب هذه الغنم. أحلل عقوبتك بي وببيت أبي. فرفع الله الموت عنهم. وآتاه مع الملك النبوة وتلا الزبور. وانتخب من سبط لاوي مائة وثمانية وثمانين شيخاً يرتلون المزامير ترتيلاً كل أسبوع أربعة وعشرون منهم اثنا عشر في صف واثنا عشر في آخر (لابي الفرج) 479 وقاتل داود بني كنعان فغلبهم. ثم طالت حروبه مع بني فلسطين واستولى على كثير من بلادهم ورتب عليهم الخراج. ثم حارب أهل موآب وأمون وأهل أدوم وظفر بهم وضرب عليهم الجزية ثم خرب بلادهم. واختط مدينة صهيون وسكنها. ثم انتفض عليه ابنه أيشالوم وقتل أخاه أمون غيرة منه وهرب. ثم استماله داود ورده وأهدر دم أخيه وصير له الحكم بين الناس. ثم رجع ثانياً لأربع سنين بعدها وخرج معه سائر الأسباط. فهزمه داود وأدركه يوآب وزير داود وقد تعلق بشجرة فقتله. وقتل في الهزيمة عشرون ألفاً من بني إسرائيل. وسيق رأس أبشالوم لولي(1/261)
أبيه داود فبكى عليه وحزن طويلاً. واستألف الأسباط ورضي عنهم ورضوا عنه. ثم عهد عند تمام أربعين سنة من دولته لابنه سليمان. ومسحه ناثان النبي وصادوق الحبر مسحة التقديس (لابن خلدون)
ملك سليمان بن داود
480 ولي الملك سليمان وهو ابن اثنتي عشرة سنة. وعند ذلك أوحى الله إليه في المنام وقال له: سلني ما أحببت حتى أعطيكه. فقال سليمان: يا ربي قوتي تعجز عن التدبير ولا علم لي بالقضاء بين شعبك فامنحني قلباً فهماً وعقلاً رزيناً. فقال له: سأعطيك ما لم يكن لأحد من الملوك. وإن سلكت سبيلي أطلت عمرك ولا أزيل الملك عن بنيك. فأصبح سليمان مسروراً وجلس على كرسي الملك. فأتته امرأتان تختصمان إليه في صبي تدعي كل واحدة منهما أنه ولدها. فقال سليمان لسيافه: اقطع الصبي بنصفين وأعط لكل واحدة نصفه. فقالت الواحدة: نعم حتى لا يكون لي ولا لها. وقالت الأخرى: ادفعه إليها أيها الملك ولا تقتله. فعلم سليمان أنه ابنها فدفعه إليها. فرأى بنو إسرائيل ذلك وتحققوا أن الله قد آتى سليمان حكمة وعلماً. وخضع الملوك له وهادنوه. . . وفي رابع سنة لملكه شرع في بنيان بيت المقدس وهو المعروف بالمسجد الأقصى في جبل الأموريين في أندر أران اليبوسي وطوله ستون ذراعاً وعرضه عشرون ذراعاً وعلوه ثلاثون ذراعاً. وتممه في سبع(1/262)
سنين. وبنى سبع مدن من جملتها تدمر. ولما شيد سليمان بيت الرب شكر الله ودعا لبني إسرائيل بالبركة. وجثا على ركبتيه وبسط يديه إلى السماء وقال: اللهم إله إسرائيل ليس مثلك في السماوات العلى ولا في الأرضين السفلى. وقد وفيت لعبدك داود بالوعد الذي وعدته. فأسألك أنه إن أثم بنو إسرائيل وانهزموا من أعدائهم ودعوك في هذا البيت فاستجب لهم واغفر خطاياهم وانصرهم على أعدائهم. وإذا أثموا فاحتبس عنهم المطر فأتوا هذا البيت فأهطل لهم مطراً وأروا أرضهم بغيثك وإذا كان في الأرض جوع أو جراد أو موت أو مرض فاستغاثوا إليك فاستجب لهم. إذا أتى أحد من الأمم الغريبة إلى هذا البيت ودعاك فاستجب له لتعلم شعوب الأرض أنك أنت وحدك فيخافوك. ثم قرب قرابين كثيرة من الذبائح وجعل ذلك عيداً لله سبعة أيام. فكان الملوك يقصدونه ليسمعوا حكمته ويأتونه بالهدايا النفيسة. وأتته ملكة التيمن وقدمت له مائة وعشرين قنطاراً من الذهب وطيباً وجواهر ثمينة وقالت له: يا سليمان لقد زاد خبرك على خبرك طوبى عبيدك السامعين حكمتك يكون الرب إلهك مباركاً. وأعطاها سليمان من جميع الألطاف أحسنها وعادت إلى بلدها. ولسليمان كتاب الأمثال في الحكمة العملية ناهيك من كتاب. وكان مدة ملكه أربعين سنة ومات ودفن في تربة أبيه داود. وكان ارتفاع مملكته(1/263)
التي هي أربعون فرسخاً في مثلها في العام ستمائة ألف وستمائة وستين قنطاراً ذهباً سوى الهدايا وأرباح المتاجر. وكان ما يحتاج إليه سليمان لمائدته في كل يوم من الدقيق مائة كر ومن الثيران ثلثين رأساً ومن الغنم مائة رأس سوى الظباء والأيائل وأنواع الطيور (لابي الفرج بتصرف)
رحبعام وافتراق العشرة أسباط
481 وملك بعد سليمان ابنه رحبعام. وكان رديء الشكل شنيع المنظر فأظهر الصلابة على بني إسرائيل وقال لهم: أنا خنصري أغلظ من ظهر أبي. ومهما كنتم تخشون من أبي فإني أعاقبكم بأشد منه. فخرج عن طاعته عشرة أسباط لم يبق معه غير سبطي يهوذا وبنيامين. وتملك على العشرة أسباط ياربعام عبد سليمان وكان جاحداً وأظهر الكفر وعبادة الأوثان. واستقر لولد داود الملك على السبطين فقط. وصار للأسباط العشرة ملوك بعد ياربعام تعرف بملوك الأسباط نحو مائتين وإحدى وستين سنة. (ونحن نكتفي بذكر بني داود) 482 رحبعام استمر ملكاً للسبطين (ببيت المقدس وعسقلان وغزة ودمشق وحلب وحمص وحماة وما ولي ذلك إلى أرض الحجاز) إلى دخول السنة الخامسة من ملكه. فغزاه فرعون مصر واسمه شيشاق. ونهب المال المخلف عن سليمان. وزاد رحبعام في عمارة(1/264)
بيت لحم وغزة وصور وغيرها. وملك سبع عشرة سنة (لابن الوردي)
ملك يوشافاط ويورام
483 ثم ملك بعده أبيام ثم آسا. ثم ملك يوشافاط وكان رجلاً صالحاً كثير العناية بعلماء بني إسرائيل. وخرج عليه عدو من ولد العيس وجاؤوا في جمع عظيم. وخرج يوشافاط لقتالهم فألقى الله بين أعدائه الفتنة. واقتتلوا فيما بينهم حتى انمحقوا وولوا منهزمين. فجمع يوشافاط منهم غنائم كثيرة وعاد بها إلى القدس مؤيداً منصوراً واستمر في ملكه خمساً وعشرين سنة. ثم ملك بعده ابنه يورام ثماني سنين. وتزوج ابنة أحآب ملك العشرة الأسباط وقتل إخوته كلهم. فنزلت عليه البلوى ومات مبطوناً. وملك بعده ابنه أحزيا سنة واحدة
عتليا ويوآش
484 عتليا أم أحزيا ملكت سبع سنين. وأباحت للرجال السجود للأصنام في مدينة القدس. وأبادت ذرية المملكة لتستبد وحدها بها ولا يبقى من ينافسها عليها. ولم ينج سوى يوآش حافدها أي ابن أحزيا ابنها الذي سرقته عمته يوشابع امرأة يوياداع رئيس الكهنة وربته سراً. ثم ملك يوآش بن أحزيا أربعين سنة. ولي الملك وله يومئذ سبع سنين. وذلك لأن يوياداع رئيس الكهنة قتل عتليا الباغية(1/265)
جدته وقلده الملك. ولم يعترف له بجميله لكنه بعد وفاة يوياداع قتل جميع أولاده ثم اغتاله مماليكه (لابي الفرج)
امصيا وعزيا
485 ثم ولوا مكانه ابنه أمصيا. فسار إلى أدوم وظفر بهم وقتل منهم نحواً من عشرين ألفاً. ثم زحف إليه ملك الأسباط بالسامرة. ولقيه فهزمه وحصل أمصيا في أسره. . . وكان لعهده من الأنبياء يونان وناحوم وتنبأ لعصره عاموص. ولما قتل أمصيا ولوا ابنه عزيا وطالت مدته ثلاثة وخمسين سنة. ولعهده كان من الأنبياء يوشع وعزيا وأشعيا ويونس. وانتهت عساكر عزيا إلى ثلاثمائة ألف. وأصابه البرص بدعاء الكاهن لما أراد أن يخالف التوراة في استعمال البخور وهو محرم إلا على سبط لاوي. فبرص ولزم بيته سنة. وصار ابنه يوتام ينظر في أمر الملك إلى أن خلف أباه وكان صالحاً تقياً (لابن العميد باختصار)
آحاز وانتهاء ملك اسرائيل
486 وهلك يوتام لست عشرة من ملكه. وملك ابنه آحاز فخالف سنة آبائه وعبد بنو إسرائيل الأوثان في زمانه. وحاربه فقحيا ملك السامرة مستنجداً برصين ملك الشام. وأهلك من آل يهوذا مائة وعشرين ألفاً. وفي سنة ثمان لملك أحاز غزاه شلمنآسر ملك بابل وكتب آحاز نفسه عبداً له وأخذ جميع ما وجد في بيت الرب والملك(1/266)
من الذهب والفضة والآنية. وحاصر مدينة شمرين (وهي السامرة) ثلاث سنين وفتحها. وقتل هوشع وسبى العشرة الأسباط وفرقهم في جبال آشور وأراضي بابل وبلاد الفرس. ومن أفلت من هذا السبي انضاف إلى ملك السبطين يهوذا وبنيامين. وبطل بذلك ملك العشرة الأسباط
ملك حزقيا
487 حزقيا بن آحاز ملك تسعاً وعشرين سنة. وأطاع الله وأزال الأصنام فظفره الله بأعدائه تظفيراً. وفي السنة الرابعة من ملكه صعد شلمنآسر ملك بابل إلى أرض السامرة مرة ثانية وسبى جميع من تبقى من العشرة الأسباط. وفي السنة العاشرة من ملك حزقيا غزا سنحاريب ملك آشور ديار القدس وبصلاة حزقيا خلصت أورشليم. ومرض حزقيا ليموت فبكى بكاءً شديداً وناح قائلاً: إن البركة التي جعلها الله في ذرية داود انقطعت مني وعندي تنقضي سلالة ملك ابن يسى. فزاد الله في حياته خمسة عشرة سنة وولد له ابن فسماه منسى
هلاك جيش سنحاريب
488 ونزل سنحاريب على أورشليم وأرسل إلى حزقيا يقول له: لا تغتر بربك فسأهلكك. فذعر منه حزقيا وأنفذ إلى أشعيا النبي يقول له: هذا يوم بلاء فادع إلى ربك. فأوحى الله إلى أشعيا(1/267)
قائلاً: قل لحزقيا لا تخف من سنحاريب فإني راده في الطريق الذي جاء فيه. وبعث الله ملاكاً فقتل في معسكر سنحاريب مائة ألف وخمسة وثمانين ألفاً من الجند. فعاد منهزماً إلى أشور وهنالك قتله ابناه وهو ساجد في بيت صنمه. وفي زمان حزقيا كان طوبيا الصديق من جالية بني إسرائيل قاطنا بنينوى. وقصة مناولة ملاك الرب إياه مرارة داوى بها عينيه وبرئه من عماه مذكورة في كتابه
ملك منسى واسره وتوبته
489 ثم ملك بعده ابنه منسى واجتمع له ملك الأسباط الاثني عشر. وارتكب كل محظور ومحرم. وعمل صنماً ذا أربعة أوجه وأمر بالسجود له. ونشر أشعيا النبي ناهيه عن المنكر. فرذل الله منسى وأسلمه إلى الأشوريين فأسروه وأخذوه مسلسلاً إلى أشور وسجنوه في برج النحاس بمدينة نينوى. وعند ذلك تاب إلى الله ودعا ودعاؤه مشهور فتاب الله عليه ورده إلى ملكه. وحال وصوله إلى أورشليم أخرج الصنم ذا الوجوه الأربعة من الهيكل وطهره وبنى سور أروشليم الجنوبي
ملك آمون ويوشيا
490 ثم ملك ابنه آمون سنتين واغتاله عبيده وقتلوه وأقيم يوشيا مكانه ولما ملك أحسن السيرة وهدم الأوثان وكان صالح(1/268)
الطريقة مستقيم الدين وقتل كهنة الأصنام وهدم البيوت والمذابح التي بناها ياربعام وتنبأ لعهده إرميا وأخبرهم بالجلاء سبعين سنة. ثم خرج يوشيا لحرب الملك فرعون وانهزم يوشيا. وهلك بسهم أصابه لسنتين وثلاثين من مكة (لابن خلدون)
ملك يوآحاز ويوياقيم ابني يوشيا
491 ملك يوآحاز ثلاثة أشهر وكان فاسد الطريقة. فسباه فرعون الأعرج وأوثقه بالحديد وأنفذه إلى مصر ومات هناك ونصب يوياقيم أخاه مكانه. وملك بعده يوياقيم إحدى عشرة سنة وكان قبيح المذهب مذموم الطريقة وقبل عليه الجزية لملك مصر كل سنة مائة قنطار ذهباً. وفي السنة الثالثة لملكه صعد بخت نصر ملك بابل إلى بيت المقدس وسباها وجلا أكثر أهلها إلى بابل ومعهم دانيال النبي ووضع الجزية على يوياقيم نزل بخت نصر نزولاً على أورشليم وأخذ مالاً من يوياقيم وعاد وبعد ثلاث سنين مات يوياقيم 492 ثم ملك بعده ابنه يوياكين ويسمى يكنيا. ولما مضت عليه ثلاثة أشهر من ملكه قصده ملك بابل وحاصر بيت المقدس. فخرج بكنيا إليه مستأمناً مع أمه وحشمه وعبيده فجلاهم كلهم إلى بابل ولم يترك في أورشليم إلا شيخاً مسناً وعجوزاً ضعيفة.(1/269)
وولى على من تخلف بأورشليم صدقياً بن يوشيا عم يكنيا وبقي يكنيا معتقلاً في بابل سبعاً وثلاثين سنة
ملك صدقيا بن يوشيا
493 كان اسمه مثنيا وبخت نصر سماه صدقيا ملك إحدى عشرة سنة. ثم عصى ومنع الجزية التي كان يؤديها إلى بخت نصر فعاد إليه وأسره وذبح أولاده بين يديه وسمل عينيه وسار به إلى أشور وجعله يدير الرحى مثل الحمار وكان عمره اثنتين وثلاثين سنة. ولما مات رميت جثته وراء السور فأكلته الكلاب. وفي هذه المرة دخل بخت نصر إلى مصر وجزائر البحر وهدم مدناً كثيرة وأحرق مدينة صور وقتل حيرام ملكها. وبعث بخت نصر نبوزردن إلى أورشليم فدعثر سورها وأحرق الهيكل. وكان لإرميا عند هذا القائد منزلة فسأله في أمر كتب الوحي فلم يحرقها فجمعها ووضعها مع لوحي الناموس وعصا موسى ومجمرة البخور وباقي آلات القدس في تابوت العهد ورمى بها في بعض الآبار ولم يعرف مكانها إلى الآن. وجلس إرميا النبي ينوح على أورشليم عشرين سنة ثم انتقل إلى مصر فقبض عليه قوم من اليهود وحبسوه في جب ثم أخرجوه ورجموه فمات ودفن في مصر. ثم في زمان الإسكندر نقل تابوته إلى الإسكندرية فدفن هناك. وكان حزقيال النبي في جملة من سبي إلى بابل فقتله اليهود لأجل توبيخه لهم. فمن السنة الرابعة من ملك(1/270)
سليمان التي كان فيها الشروع في بنيان هيكل الرب إلى خرابه الكلي وحريقه أربعمائة واثنتان وأربعون سنة. وعلى رأي من جعل مدة ملك صدقيا تسعاً وستين سنة تكون مدة الهيكل عامراً خمسمائة سنة (لابي الفرج)
رؤيا بخت نصر
494 رأى بخت نصر صنماً رأسه من ذهب وصدره وذراعاه منفضة وبطنه وفخذاه من نحاس وساقاه من حديد وقدماه بعضهما حديد وبعضهما خزف. وأن حجراً انقطع من الجبل من غير يد قاطعة له وصك الصنم فاندق الحديد والنحاس وغيره وصار جميع ذلك مثل الغبار وألوت به ريح عاصفة ثم صار الحجر الذي صك الصنم جبلاً عظيماً امتلأت منه الأرض كلها. فقال بخت نصر: لا أصدق تعبير ما رأيته إلا ممن يخبر بما رأيت. وكتم بخت نصر ذلك وسأل العلماء والسحرة والكهنة عن ذلك فلم يطق أحد أن ينبئه بذلك حتى سأل دانيال. فخبره دانيال بصورة رؤياه كما رآها بخت نصر ولم يخل منها بشيء. ثم عبرها له دانيال فقال: الرأس ملكك وأنت بين الملوك بمنزلة رأس الصنم الذهب. والذي يقوم بعدك دونك بمنزلة الفضة من الذهب. ثم يكون كل متأخر أقل ممن قبله مثلما النحاس دون الفضة والحديد دون النحاس. وأما القدمان والأصابع التي بعضها حديد وبعضها خزف فإن المملكة(1/271)
تصير آخر الوقت مختلطة مختلفة بعضها قوي وبعضها ضعيف. ثم إن الله يقيم بعد ذلك مملكة لاتبيد إلى آخر الدهر. هذا تعبير رؤياك. فخر بخت نصر ساجداً لدانيال وأمر له بالخلع وأن يقرب له القرابين (لابي الفداء)
الفتيان الثلاثة في أتون النار
495 ورأس بخت نصر دانيال على جميع حكماء بابل وولى أعمامه حننيا وعزريا وميشائيل أمر مدينة بابل. وسماهم بأسماء نبطية شدرك وميشك وعبدنجو. ثم اتخذ بخت نصر صنماً من ذهب طوله ستون ذراعا ًفي عرض ستة أذرع. وتقدم إلى جميع عظماء دولته أن يوافوا عيد الصنم وأنهم إذا سمعوا صوت القرن وباقي أنواع الزمر يخرون سجداً للصنم. فامتثل الجميع أمره ما عدا حننيا وعزريا وميشائيل فسعى بهم قوم إلى بخت نصر أنهم لايعتدون بأمره. فاستشاط من ذلك غضباً وأمر أن يسجر الأتون فوق ماكان يسجر سبعة أضعاف الوقود وأن يزجوا بسراويلهم وقلانيسهم وباقي ثيابهم في أتون النار. فلما فعل بهم ذلك أحرقت النار الذين سعوا بهم وأما هم فمكثوا في النار ممجدين لله. وملاك الطل نزل عليهم وأمال عنهم لهيب النار فلم تنك فيهم ولا في ثيابهم ولا في لباسهم. فلما شاهد الملك ذلك بهت تعجبا ًوقال: أرى الرابع منهم شبيه المنظر ببني الآلهة يعني الملاك. وناداهم بأسمائهم قائلاً:(1/272)
ياعباد الله العلي اخرجوا. فخرجوا من النار ولم يشط شيء من ثيابهم ولاشعورهم. فرفع بخت نصر درجاتهم
وليمة بلشصر بن بخت نصر
496 وملك بعد بخت نصر ابنه بلشصر وعمل هذا وليمة عظيمة لألف رجل من أكابر دولته. وكان يشرب الخمر بإزائهم وأمر وهو يشرب أن يؤتى بآنية هيكل الرب التي سباها أبوه من أورشليم. وشرب فيها مع عظمائه فظهرت قبالته كف يد كاتبة عقابه في ضوء المصباح على الحائط. فرابته الكتابة وأحضر حكماء بابل ليترجموا الكتابة فعجزوا عن حلها. فامتعض لذلك امتعاضاً شديداً. فأخبرته أمه عن دانيال النبي أنه دراك غيب وحلال عقد فاستدعاه وضمن له أن يلبسه الأرجوان وأن يوليه ثلث الملك إن أول الكتابة. فقال دانيال: لتكن مواهبك لك واجعل ذخائر بيتك لغيري. أما الكتابة فقراءتها: أحصي إحصاءً وزن وأعري. وتأويلها أن الله أحصى ملكك وسلبه ووزنك زنة فوجدك شائلاً فلذا أعراك من ملكك فأنت عار عريةً. وفي تلك الليلة اغتاله داريوس المادي وقتله
دانيال في جب الأسد
497 داريوس المادي استولى على الملك وهو من أبناء اثنتين وستين سنة وحسنت منزلة دانيال النبي عنده وأقام في ولايته مائة(1/273)
وعشرين قائداً. ورأس عليهم ثلاثة رجال أحدهم دانيال وكان يرجع في سرائره إليه. فساء ذلك أرباب الدولة وجعلوا يطلبون عليه حجة يوقعونه بها عن مرتبته. فلم يظفروا منه بهفوة غير أنه يدين بغير دين الملك. فساروا إلى الملك وقالوا: عن دانيال يعبد إلهاً غريباً. وفي سنتنا أن من دان في أرضنا بدين غير ديننا وتعدى سنة أهل ماداي وفارس قذف به في جب الأسد. فلما لم يقدر الملك على إبطال شريعة قومه تقدم بقذف دانيال في جب الأسد وقال له: إلهك ينجيك. وانصرف إلى منزله وبات طاوياً وطار عنه نومه إشفاقاً على دانيال. وجاء الملك داريوس في صباح اليوم الثاني ليبكي على دانيال لكثرة اغتمامه له. فلما دنا من الجب ناداه: يا دانيال هل قدر معبودك أن ينجيك من السباع. أجابه دانيال قائلاً: أيها الملك عش خالداً إن إلهي بعث لي ملاكه وسد أفواه الأسد فلم تهلكني. فحسن موقع ذلك من الملك جداً وأخرج دانيال من الجب وألقى وشاته فيه مع نسائهم وبنيهم وذريتهم. فما استقروا في قرار الجب إلا ومزقتهم الأسد ورضت عظامهم رضاً
انتهاء جلاء بابل
498 ثم ولي داريوس كورش الفارسي وأذن لبني اسرائيل في عمارة أورشليم. فجمعهم كورش الملك وخيرهم قائلاً: من اختار الصعود فليصعد ومن أباه فليقم. فكان عدد مؤثري الصعود خمسين(1/274)
ألفاً من الرجال غير النساء والأولاد زربابل ملكهم ويشوع كاهنهم. وعنهما قال ملاك الرب لزكريا النبي إن هذين ابنا الدلال وهما يقومان بين يدي رب العالمين. فصعدت هذه الشرذمة من بني إسرائيل في السنة الأولى من ملك كورش إلى أورشليم وهموا بعمارتها. ولأن الفلسطينيين مجاوريهم أعنتوهم كان تشييدهم الهيكل على التراخي في ست وأربعين سنة. وعظم كورش أيضاً شأن دانيال وفوض إليه سياسة ملكه. فغار لله غيرة وكسر الصنم المسمى بيلا وقتل التنين معبود البابليين. فمقت ورمي في جب فيه سبعة أسد. وكان حبقوق النبي في الشام قد طبخ طبيخاً ومضى يطعم الحواصيد. فأخذه ملاك الرب بشعر رأسه ووضعه في بابل على فم الجب فقال: دانيال دانيال قم خذ الطعام الذي أنفذ لك ربك. فقال دانيال: ذكرني الله ولم يهملني. وأخذ الملاك بحبقوق ووضعه في موضعه. ونجا دانيال من الجب بعد سبعة أيام وهلك مبغضوه. ثم رأى الرؤيا على نهر الفرات وعرفه ملاك الرب مدة السنين التي بقين من السبي ومن ظهور السيد المسيح وآلامه وموته. ومات دانيال ودفن في قصر شوشن أعني مدينة تستر
احشوروش واستر
499 وجرى ملوك الفرس على سنة كورش في تكريم بني إسرائيل إلا قليلاً في أيام أحشروش منهم. كان وزيره هامان وكان من(1/275)
العمالقة. . . فكان هامان يعاديهم لذلك وعظمت سعايته فيهم وحمل أحشروش على قتلهم. وكان مردخاي من رؤسائهم قد زوج أخته من الرضاع (وكانت ابنة عمه) لأحشروش. فدس إليها مردخاي أن تشفع إلى الملك في قومها. فقبلها وعطف عليهم وأعادهم إلى أن انقرضت دولة الفرس بمهلك دارا
ملك ارتحششتا
500 ارتحششتا الطويل اليدين ملك إحدى وأربعين سنة. وفي سنة سبع من ملكه أمرعزرا الحبر وهو الذي تسميه العرب العزير أن يصعد إلى أورشليم ويجتهد في عمارتها. وفي سنة عشرين من ملكه أرسل نحميا الساقي الخصي أيضاً ليجد في ترميمها. وفي هذا الزمان لم يكن لليهود نار قدس لأنهم رموها في بئر وقت جلائهم. فأتوا بحمأة منها ووضعوها على حطب القربان فاشتعلت بأمر الله بعد أن طفئت مائة سنة وأربعين سنة بالتقريب (لابي الفرج)
يهوديت واليفانا
501 قمباسوس بن كورش ملك ثماني سنين. وفي أيامه كانت يهوديت المرأة العبرية التي احتالت على أليفانا الماجوجي صاحب جيش قمباسوس. وقطعت رأسه وأمنت اليهود بأسه(1/276)
الاسكندر في بيت المقدس
502 واستولى بنو يونان بمهلك دارا على ملك فارس وملك الإسكندر بن فيلبس ودوخ الأرض وفتح سواحل الشام وسار إلى بيت المقدس. لأنها من طاعة دارا. وخاف الكهنة من وصوله إليهم. ورأى في بعض تمثال رجلاً فقال: أنا رجل أرسلت لمعونتك ونهاه عن أذية المقدس وأوصاهم بامتثال إشارتهم. فلما وصل إلى البيت لقيه الكاهن فبالغ في تعظيمه ودخل معه إلى الهيكل وبارك عليه. ورغب إليه الإسكندر أن يضع هنالك تمثاله من الذهب ليذكر به. فقال: هذا حرام لكن تصرف همتك في مصالح الكهنة والمصلين ويجعل لك من الذكر دعاؤهم لك وأن يسمى كل مولود لبني إسرائيل في هذه السنة بالإسكندر. فرضي الإسكندر وحمل لهم المال وأجزل عطية الكاهن. وسأله أن يستخبر الله في حرب دارا. فقال له: امض والله مظفرك. وقرأ له سفر دانيال. وقص عليه الإسكندر رؤيا رآها فأولها له بأنه يظفر بدارا ثم انصرف الإسكندر (لابن خلدون)
ذكر نقل التوراة
503 لما ملك الإسكندر وعظم ملك اليونان وقهروا الفرس أطاعهم بنو إسرائيل وغيرهم. وتولت ملوك اليونان بعد الإسكندر(1/277)
وكان يقال لكل واحد منهم بطليموس. وذلك أن الإسكندر مات فملك بعده بطليموس بن لاغوس عشرين سنة. ثم ملك بعده بطليموس محب أخيه فوجد ثلاثين ألف أسير من اليهود فأعتقهم وأمرهم بالعود إلى بلادهم. ففرح بنو إسرائيل بذلك. وأرسل رسولاً إلى بني إسرائيل المقيمين بالقدس وطلب منهم أن يرسلوا إليه عدة من علمائهم لنقل التوراة وغيرها إلى اللغة اليونانية. فسارعوا إلى أمره وازدحموا على الرواح إليه. ثم اتفقوا أن يبعثوا من كل سبط من أسباطهم ستة نفر فبلغوا اثنين وسبعين رجلاًَ. فلما وصلوا إلى بطليموس أحسن قراهم وصيرهم ستاً وثلاثين فرقة وخالف بين أسباطهم وأمرهم فترجموا له ستة وثلاثين نسخة من التوراة وقابل بطليموس بعضها ببعض فوجدها مستوية لم تختلف اختلافاً يعتد به. وفرق النسخ المذكورة في بلاده. وبعد فراغهم من الترجمة وصلهم وجهزهم إلى بلدهم. وسأله المذكورون نسخة من تلك النسخ فأسعفهم بنسخة. وعادوا إلى بيت المقدس. فنسخة التوراة المنقولة لبطليموس حينئذ أصح التوراة وأثبتها (لابن الوردي)
اضطهاد أنطيوخوس الشهير
504 ولما ملك أنطيوخوس الصغير الملقب بأبيفانس أي الشهير ورد بيت المقدس ونجس الهيكل بنصبه صنم زاوس وهو المشتري فيه. وألزم أليعازر الكاهن أن يضحي للصنم الأضحية ولأنه أبى(1/278)
أماته بالعقاب. ثم سعى إليه بامرأة اسمها إشموني مع سبعة بنيها أنهم يسبون الأصنام. فأحضرهم بين يديه وأمر بقطع لسان الأول وأطراف جميع أعضائه وإلقائه في الطاجن. وسلخ جلدة رأس الثاني. وكذلك أمات الباقين وبعدهم أمهم بأنواع العذاب ودفنوا في أورشليم. ثم بعد مجيء المخلص نقل مؤمنو النصارى أجسادهم إلى مدينة أنطاكية وبنوا عليها كنيسة (لابي الفرج)
اخبار متتيا ويهوذا ابنه المكالي
505 ثم فر اليهود إلى الجبال والبراري وكان في من هرب منهم متتيا ابن يوحنا بن شمعون الكاهن الأعظم ويعرف بحشمناي من نسل هارون. وكان رجلاً صالحاً خيراً شجاعاً وأقام بالبرية. وحزن لما نزل بقومه. فلما أبعد أنطيوخوس الرحلة عن القدس بعث متتيا إلى اليهود يعرفهم بمكانه ويتمعض لهم ويحرضهم على الثورة على اليونانيين. فأجابوه وتراسلوا في ذلك وبلغ الخبر أفلنيوس قائد أنطيوخوس فسار في عسكره إلى البرية طالباً متتيا وأصحابه. فلما وصل إليهم حاربهم فغلبوه وانهزم في عساكره. وقوي اليهود على الخلاف. وهلك متتيا خلال ذلك وقام بأمره ابنه يهوذا فهزم عساكر أفلنيوس ثانية. وشغل أنطيوخوس بحروب الفرس فزحف إليهم من مقدونية واستخلف عليهم ابنه أوباتير وضم إليه عظيماً من قومه اسمه ليسياس. وأمرهم أن يبعثوا العساكر إلى اليهود فبعثوا(1/279)
ثلاثة من قوادهم وهم نيقانور وبطليموس وجرجياس وعهد إليهم بإبادة اليهود حيث كانوا. فسارت العساكر واستنفروا سائر الأرمن من نواحي دمشق وحلب وأعداء اليهود من فلسطين وغيرهم. وزحف يهوذا بن متييا مقدم اليهود للقائهم. بعد أن تضرعوا إلى الله وطافوا بالبيت وتمسحوا به. ولقيهم عسكر نيقانور فهزموه وأثخنوا فيه بالقتل وغنموا ما معهم. وقبضوا على أفلنيوس القائد الأول لأنطيوخوس فأحرقوه بالنار. ورجع نيقانور إلى مقدونية فدخلها وخبر ليسياس وأوباتير ابن الملك بالهزيمة فجزعوا لها. قم جاءهم الخبر بهزيمة أنطيوخوس أمام الفرس. ثم وصل إلى مقدونية واشتد غيظه على اليهود وجمع لغزوهم فهلك دون ذلك بطاعون في جسده ودفن في طريقه. وملك أوباتير وسموه أنطيوخوس باسم أبيه. ورجع يهوذا بن متتيا إلى القدس فهدم جميع ما بناه أنطيوخوس من المذابح وأزال ما نصبه من الأصنام وطهر المسجد وبنى مذبحاً جديداً للقربان وأصعد المحرقات وأشعل النار ولم تنطفئ إلى الخراب الثاني أيام الجلوة. واتخذوا ذلك اليوم عيداً سموه عيد العساكر. ونازلهم ليسياس فزحف إليه يهوذا بن متتيا في عسكر اليهود وثبت عسكر ليسياس فزحف فانهزموا ولجأ إلى بعض الحصون. وطلب النزول على الأمان على أن لا يعود إلى حربهم. فأجابه يهوذا على أن يدخل أوباتير معه في العقد وكان ذلك وتم(1/280)
الصلح. وعاهد أوباتير اليهود على أن لا يسير إليهم. وشغل يهوذا بالنظر في مصالح قومه
ولاية يوناتان وشمعون اخوي يهوذا
506 ثم خرج ديمتريوس في ثلاثين ألفاً من الروم لمحاربة اليهود. وخرجت عساكرهم من القدس وفروا عن قائدهم يهوذا وافترقوا في الشعاب. وأقام معه منهم فل قليل واتبعهم ديمتريوس. فلقيه يهوذا وأكمن له. فانهزم اليهود وخرج عليهم كمين الروم فقتل يهوذا في كثير من ولاته ودفن إلى جانب أبيه متتيا. ولحق أخوه يوناتان في من بقي من اليهود بنواحي الأردن وتحصنوا ببيت حجلة في البرية فحاصرهم قائد ديمتريوس هنالك أياماً. ثم بيتوه فهزموه وخرج يوناتان واليهود في أتباعه فقبضوا عليه. ثم أطلقوه على مسالمة اليهود وأن لا يسير إلى حربهم. فهلك يوناثان إثر ذلك وقام بأمر اليهود أخوهما الثالث شمعون. فاجتمع إليه اليهود من كل ناحية وعظمت عساكره وغزا جميع أعدائهم ومن ظاهر عليهم من سائر الأمم. وزحف إليه ديمتريوس قائد الروم بأنطاكية فهزمه شمعون وقتل غالب عسكره ولم تعاودهم الروم بعدها بالحرب إلى أن هلك شمعون (لابن خلدون بتصرف)
ذكر ملك هرقانس وابنه
507 ثم ولي أمر اليهود بعد شمعون هرقانس ابنه وجمع الملك(1/281)
والكهنوت. وحاصر في ولايته أنطيوخوس أغريبوس أورشليم ففتح هرقانس قبر داود النبي ووجد فيه ثلاثة آلاف قنطار من الذهب كان قد خزنها القدماء هناك. فأعطى منها ثلاثمائة قنطار لأغريبوس ورحل عنه. وفي هذا الزمان أخرب هرقانس مدينة شمرين وهي نابلس. وقام بعد هرقانس ملك اليهود أرسطابولس ابن يوناتان سنة واحدة متتوجاً
ملك يوحنا الاسكندر وولديه
508 ثم اغتاله أخوه أنطيغونيس واغتيل من يوحنا أخيه الآخر الذي سمي الإسكندر. وولي سبعاً وعشرين سنة وكان ذا بأس. ثم مات يوحنا الإسكندر ملك اليهود وخلف ولدين هرقانس وأرسطابولس مسميين باسمي عميهما. وكانت أمهما سيلينا أي القمر ذات سطو. فنصبت هرقانس ابنها رئيس الكهنة وأرسطابولس ابنها الآخر ملكاً. وبعد قليل جلاه بمبيوس قائد جيش قيصر إلى رومية. واستمر هرقانس أخوه ملكاً لليهود أربعاً وثلاثين سنة. وفي سنة ست من ملك أوغسطس قيصر سبي هرقانس ملك اليهود إلى فارس ووليهم هيرودس بن أنطقطروس العسقلاني من قبل قيصر وهدم سوري أورشليم واحاجز على تركة الكهنوت ولم يترك أحداً يتولى رئاسة الكهنة إلا سنة واحدة وفي أيامه ظهر المسيح (لابي الفرج)(1/282)
العذراء في الهيكل
509 قال الطبري: وكانت حنة أم مريم لا تحبل فنذرت لله إن حملت لتجعلن ولدها حبيساً ببيت المقدس على خدمته على عاداتهم في ندر مثله. فلما حملت ووضعتها لفتها في خرقتها وجاءت بها إلى المسجد. فدفعتها إلى عباده وهي ابنة إمامهم فتنازعوا في كفالتها. وأراد زكرياء أن يستبد بها لأن زوجه إيشاع (أليصابات) خالتها. ونازعوه في ذلك لمكان أبيها من إمامتهم. فاقترعوا فخرجت قرعة زكرياء عليها. فكفلها ووضعها في مكان شريف من المسجد لا يدخله سواها وهو المحراب في ما قيل. والظاهر أنها دفعتها إليهم بعد مدة إرضاعها. فأقامت في المسجد تعبد الله وتقوم بسدانة البيت في نوبتها حتى كان يضرب بها المثل في عبادتها. وظهرت عليها الأحوال الشريفة والكرامات
ذكر يوحنا المعمدان
510 وكانت خالتها إيشاع زوج زكرياء. أيضاً عاقراً. وطلب زكرياء من الله ولداً فبشره بيحيى (يوحنا) نبياً كما طلب لأنه قال: يرثني. فكان كذلك. وكان حاله في نشوئه وصباه عجباً وولد في دولة هيرودس ملك بني إسرائيل. وكان يسكن القفار ويقتات الجراد ويلبس الصوف من وبر الإبل. وولاه اليهود الكهنوتية ببيت المقدس. ثم أكرمه الله بالنبوءة وكان لعهده على اليهود بالقدس(1/283)
(والصحيح بالجليل) أنتيباس بن هيرودس يسمى هيرودس باسم أبيه وكان شريراً فاسقاً واغتصب امرأة أخيه وتزوجها. ولم يكن ذلك في شرعهم مباحاً فنكر ذلك عليه العلماء والكهنوتية وفيهم يحيى بن زكرياء المعروف بيوحنان ويعرفه النصارى بالمعمدان. فقتل جميع من نكر عليه ذلك وقتل فيهم يحيى
خطبة العذراء مريم
511 وأما مريم سلام الله عليها فكانت بالمسجد على حالها من العبادة إلى أن أكرمها الله بالولاية. وفي كتاب أن أمها حنة توفيت لثمان سنين من عمر مريم. وكان من سنتهم أنها إن لم تقبل التزويج يفرض لها من أرزاق الهيكل. فأوحى الله إلى زكرياء أن يجمع أولاد هارون (والصحيح يهوذا) ويردها إليهم فمن ظهرت من عصاه آية يدفعها إليه تكون له شبه زوجة ولا يقربها. وحضر الجمع يوسف النجار فخرج من عصاه حمامة بيضاء ووقفت على رأسه. فقال له زكرياء: يا يوسف هذه عذراء الرب تكون لك شبه زوجة ولا تردها. فاحتملها وهي بنت ثنتي عشرة سنة إلى ناصرة
بشارة الملاك لمريم
512 فأقامت معه إلى أن خرجت يوماً تستسقى من العين. فعرض لها الملك أولاً وكلمها ثم عاودها وبشرها بولادة عيسى فحملت وذهبت إلى زكرياء. ثم رجعت إلى ناصرة. ووقع في إنجيل متى أن(1/284)
يوسف خطب مريم ووجدها حاملاً قبل أن يجتمعا فعزم على فراقها خوفاً من الفضيحة. فأمر في نومه أن يقبلها وأخبره الملك بأن المولود من روح القدس. وكان يوسف صديقاً وولد على فراشه يسوع (لابن خلدون باختصار)
ميلاد المسيح
513 أوغسطس قيصر ملك ستاً وخمسين سنة وباسمه سمي شهر آب أوغسطس. وفي أيامه جدد هيرودس مدينة نابلس وعظم قصر أسطراطون وسماها قيصرية. وهي المعروفة بفيلبس وبنى أيضاً مدينة جبلة. وفي السنة الثالثة والأربعين من ملك أوغسطس قيصر وهي سنة تسع وثلاثمائة من تاريخ الإسكندر ولد السيد المسيح من مريم العذراء ليلة الثلاثاء في الخامس والعشرين من كانون الأول. وفي تلك السنة كان قد أرسل قيصر الملك كيرينوس القاضي مع أصحاب الجزية إلى أورشليم. فصعد يوسف خطيب مريم من الناصرة مدينته إلى أورشليم ليثبت اسمه. وعند موافاتهم بيت لحم ولدت مريم. وأتى المجوس بألطافهم من المشرق فأهدوها إلى المسيح. وهي ذهب ومر ولبان. وكانوا قد مروا أولاً بهيرودس وسألهم عن أمرهم فقالوا له: إن عظيماً كان لنا وهو أنبأنا بكتاب وضعه ذاكراً فيه: سيولد في فلسطين مولود أصله من لاسماء ويتعبد له أكثر العالم. وآية ظهوره أنكم ترون نجماً غريباً وهو يهديكم إلى حيدث هو.(1/285)
فإذا رأيتموه فاحملوا ذهباً ومراً ولباناً وانطلقوا إليه وألطفوه بها واسجدوا له. والآن قد ظهر النجم وأتينا ليتم ما أمرنا به. فقال لهم هيرودس: قد أصبتم الرأي فانطلقوا وابحثوا عن الصبي نعما. فإذا وجدتموه فأعلموني لأنطلق أنا أيضاً فأسجد له. فمضوا ولم يعودوا إليه فغضب غضباً شديداً. وأمر بذبح جميع أطفال بيت لحم من ابن سنتين وما دون لعدم علمه بوقت ولادة المخلص. وكانت مريم يومئذ ابنة ثلاثة عشرة سنة وعمرت إحدى وخمسين سنة. وكتب لنغينوس الفيلسوف إلى قيصر يعلمه عن مجيء المجوس قائلاً في رسالته: إن فرس المشرق دخلوا سلطانك وقربوا القرابين لصبي ولد بأرض يهوذا فأما من هو وابن من هو فلم يبلغنا بعد. فأجابه قيصر: إن هيرودس عاملنا على اليهود هو يعلمنا ما أمر هذا المولود وقضيته. وكتب قيصر إلى هيرودس يستعلمه الخبر. فكتب إليه وعرفه قول المجوس له وأنه ذبح أطفال بيت لحم أجمعين ليكون قد أتى على نفس الصبي معهم. وفي تلك الليلة التي أتت المجوس هرب يوسف مع مريم والمولود إلى مصر ولبثوا بها سنتين. ولما بلغهم موت هيرودس عادوا إلى الناصرة مدينتهم. وقبل أن يموت هيرودس قتل امرأته مريم التي كانت ابنة يوحنا الإسكندر ملك اليهود وأخاها وأمها بالجملة وكل من وجد من نسل الملوك. ثم حدث له استسقاء زقي ونقرس شديد. وبقي في عذاب أليم(1/286)
مدة سنتين. ثم مات وولي مكانه أرخيلاوس ابنه تسع سنين. ثم اعتقله أوغسطس وجعل ملك اليهود أرباعاً وولي في الثلاثة أرباع ثلاثة من إخوة أرخيلاوس وهم هيرودس وأنطفطرس وفيلبس وفي الربع الرابع لوسانيا
ملك طيباريوس قيصر
514 طيباريوس قيصر ملك اثنتين وعشرين سنة. وفي السنة الأولى من ملكه عرضت زلزلة عظيمة وسقط فيها مواضع كثيرة ومات خلق من الناس والمواشي. وفي السنة السابعة بنى هيرودس ابن هيرودس مدينة طبرية على اسم طيباريوس الملك. وفي السنة الرابعة عشرة ولي بيلاطس القضاء على اليهود ونصب تمثال قيصر في الهيكل. واضطرب لذلك اليهود وبعد ثلاث سنين اعتمد المسيح من يوحنا بن زكرياء يوم الأربعاء وقيل يوم الأحد لست خلون من كانون الأخير. وكان ابن ثلاثين سنة ومن ههنا بدأ بإظهار الآيات الباهرة وإفشاء سر ملكوت الله والحث على العمل بسنة الفضيلة فضلاً عن سنة العدالة
ابجر ملك الرها والمسيح
515 وفي السنة التاسعة عشرة من ملك طيباريوس وهي سنة ثلاثمائة واثنتين وأربعين أرسل أبجر ملك الرها رسولاً اسمه حنان إلى المسيح بكتاب يقول فيه: من أبجر الأسود على يسوع المتطبب(1/287)
الظاهر بأورشليم. أما بعد فإنه بلغني عنك وعن طبك الروحاني وأنك تبرئ الأسقام من غير أدوية. فأنا أسألك أن تصير إلي لعلك تشفي ما بي من السقم. وقد بلغني أن اليهود يرومون قتلك. ولي مدينة واحدة نزهة وهي تكفيني وإياك نسكن فيها في هدوء والسلام. فأجابه المسيح بكتاب قائلاً: طوباك أنك آمنت بي ولم ترني. وأما ما سألتني من المصير إليك فإنه يجب أن أتمم ما أرسلت له وأصعد إلى أبي. ثم أرسل إليك تلميذاً لي يبرئ سقمك ويمنحك ومن معك حياة الأبد. فلما أخذ حنان الجواب من المسيح جعل ينظر إليه ويصور صورته في منديل لأنه كان مصوراً وأتى به إلى الرها ودفعه إلى أبجر الأسود. وقيل إن المسيح تمندل بذلك المنديل ماسحاً به وجهه فانتقشت فيه صورته. وبعد صعود المسيح إلى السماء أرسل أدي أحد الاثنين والسبعين إلى الرها وأبرأه من سقامه (لابي الفرج باختصار)
كرازة المسيح
516 ثم جاء يوحنا المعمدان من البرية وهو يحيى بن زكرياء ونادى بالتوبة والدعاء إلى الدين. وقد كان أشعيا أخبر أنه يخرج أيام المسيح وجاء المسيح من الناصرة ولقيه بالأردن فعمده يوحنا وهو ابن ثلاثين سنة. ثم خرج إلى البرية واجتهد في العبادة والصلاة(1/288)
والرهبانية واختار تلامذته الاثني عشر. سمعان بطرس وأخوه أندراوس ويعقوب بن زبدى واخوه يوحنا وفيلبس وبرتلماوس وتوما ومتى العشار ويعقوب بن حلفا وتداوس وسمعان القانوي ويهوذا الإسخريوطي. وشرع في إظهار المعجزات. ثم قبض هيرودس الصغير على يوحنا وهو يحيى بن زكرياء لتكبره عليه في زوجة أخيه فقتله. ثم شرع المسيح الشرائع من الصلاة والصوم وسائر القربات وحلل وحرم. وظهرت على يديه الخوارق والعجائب وشاع ذكره في النواحي. واتبعه الكثير من بني إسرائيل وخافه رؤساء اليهود على دينهم وتآمروا في قتله 517 وجمع عيسى الحواريين فباتوا عنده ليلتين يطعمهم ويبالغ في خدمتهم بما استعظموه. قال: وإنما فعلته لتتأسوا به. وقال يعظهم: ليكفرن بي بعضكم قبل أن يصيح الديك ثلاثاً ويبيعني أحدكم بثمن بخس وتأكلوا ثمني. ثم افترقوا وكان اليهود بعثوا العيون عليهم. فأخذوا واحداً من الحواريين فتبرأ منهم وتركوه. وجاء يهوذا الإسخريوطي وبايعهم على الدلالة عليه بثلاثين درهماً. وأراهم مكانه الذي كان يبيت فيه وأصبحوا به إلى فلاطس (بيلاطس) البنطي قائد قيصر على اليهود. وحضر جماعة الكهنة وقالوا: هذا يفسد ديننا ويحل نواميسنا ويدعي الملك فاقتله. وتوقف فصاحوا به وتوعدوه بإبلاغ الأمر إلى قيصر فأمر بقتله (لابن خلدون)(1/289)
موت المسيح وصعوده إلى السماء
518 وفي هذه السنة تمت الأربعة والسبعون سبة التي أوحى الله إلى دانيا النبي أن سبعين أسبوعاً تطمئن أمتك ثم يأتي الملك المسيح ويقتل. هذا إذا ابتدأنا بتعديدها من آخر سنة عشرين لملك أرتحششتا الطويل البدين. وهي السنة التي أرسل فيها نحميا الساقي إلى أورشليم وجدد العهد بتقريب القرابين وكتب عزرا كتب الوحي. وفي هذه السنة أعني التاسعة عشرة من ملك طيباريوس قيصر صلب المسيح يوم الجمعة الثالث عشر من آذار. وكان فصح اليهود يوم السبت وإنما أكله المسيح مع تلاميذه يوم الجمعة لتعذر إتمامه في وقته بسبب صلبه نهار الجمعة. وكان الصعود يوم الخميس لثلاث خلون من أيار. وصار القنطيقوسطي يوم الأحد لثلاث عشرة ليلة خلت من أيار. وفي هذا اليوم سمع كهنة اليهود من داخل الهيكل صوت هاتف يهتف بهم قائلاً: قد أزمعنا على الانتقال من ههنا فراعهم ذلك جداً (لابي الفرج)
ابتداء النصرانية
519 ثم ظهر عيسى لتلاميذه بعد صلبه وأمرهم بتبليغ رسالته في النواحي كما عين لهم من قبل. وعند علماء النصارى أن الذي بعث من الحواريين إلى رومة بطرس ومعه بولس من الأتباع ولم يكن حوارياً. وإلى أرض السودان والحبشة ويعبرون عن هذه(1/290)
الناحية بالأرض التي تأكل أهلها والناس متى العشار. وأندرواس إلى أرض بابل. وإلى المشرق توما. وإلى أرض إفريقية فيلبس. وإلى أفسس قرية أصحاب الكهف يوحنا. وإلى أورشليم وهي بيت المقدس يعقوب. وإلى أرض العرب والحجاز برتلماوس. وإلى أرض برقة والبربر سمعان القانوي. قال ابن إسحاق: ثم وثب اليهود على بقية الحواريين يعذبونهم ويفتنونهم. وسمع قيصر ذلك وكتب إليه فلاطس (بيلاطس) البنطي قائده بأخباره ومعجزاته وبغي اليهود عليه وعلى يوحنا قبله فأمرهم بالكف عن ذلك. ويقال قتل بعضهم. وانطلق الحواريون إلى لجهات التي بعثهم إليها عيسى فآمن به بعض وكذب بعض. . . وأما بطرس كبير الحواريين وبولس اللذان بعثهما عيسى إلى رومة فإنهما مكثا هنالك يقيمان دين النصرانية. ثم كتب بطرس الإنجيل بالرومية ونسبه إلى مرقس تلميذه. وكتب متى إنجيله بالعبرانية في بيت المقدس. وكتب لوقا إنجيله بالرومية وبعثه إلى بعض أكابر الروم. وكتب يوحنا بن زبدى إنجيله برومة (والصواب بأفسس) . ثم اجتمع الرسل الحواريون برومة (والصحيح بالقدس) ووضعوا القوانين الشرعية لدينهم وصيروها (بعد موت بطرس) بيد إقليمطس (إكلمنضس) تلميذ بطرس. وكتبوا فيها عدة الكتب التي يجب قبولها. فمن القديمة التوراة خمسة أسفار وكتاب يشوع بن نون وكتاب القضاة وكتاب راعوث وكتاب(1/291)
يهوذا وأسفار الملوك أربعة كتب وسفر المقابيين ثلاثة كتب وكتاب عزرا الإمام وكتاب قصة هامان وكتاب أيوب الصديق ومزامير داود النبي وكتب ولده سليمان خمسة. ونبوات الأنبياء الصغار والكبار ستة عشر كتاباً وكتاب يشوع بن شارخ (سيراخ) . ومن الحديثة كتب الإنجيل الأربعة وكتب القتاليقون سبع رسائل وكتاب بولس أربع عشرة رسالة والأبركسيس وهو قصص الرسل تشتمل على كلام الرسل وما أمروا به ونهوا عنه (لابن خلدون)
ولاية هيرودس اغريباس
520 وفي السنة الأولى من ملك غايوس قيصر ولي هيرودس أغريباس على اليهود سبع سنين. وفي هذه السنة قتل بيلاطس البنطي نفسه وأرسل فيلكس قاضياً إلى أورشليم وملأ محارب اليهود أصناماً. فأرسلوا رسولين حكيمين هما فيلون ويوسيفوس العبريان إلى قيصر يتضورون من صنيع الناظر. فمضيا واستعطفاه متقدماً بإزالة ما كره اليهود عنهم. وفي السنة الرابعة ورد فطرنيوس الناظر من رومة إلى أورشليم ونصب صورة زاوس أي المشتري في هيكل الرب. وتمت نبوءة دانيال النبي الذي قال: علامة نجسة قائمة حيث لا ينبغي
ملك قلوذيوس قيصر
521 ثم ملك بعد غايوس قيصر قلوذيوس. وفي السنة الثانية من(1/292)
ملكه ظهر رجل مصري بأرض يهوذا وادعى النبوءة وأفسد خلقاً من الناس. وأراد أن يكبس أورشليم قهراً فتوجه إليه فيلكس البطريق فقتله وقتل عامة أتباعه. وظهر أيضاً رجل يسمى قورنثوس وكان يقول: إن في ملكوت الله أكلاً وشرباً. وفي هذا الزمان أمر قلوذيوس قيصر بإحصاء اليهود الذين في سلطانه فبلغ عددهم ستمائة وأربعاً وتسعين ربوة وأربعة آلاف نفس. وفي يوم عيد الفصح وقع اليهود في الخليطى. وضغط الناس بعضهم بعضاً فمات في الزحام ثلاثون ألف نفس. وكان اليهود متفرقين على سبع فرق. الأولى الربانيون وهم كتاب الناموس ومعلموه. والثانية اللاويون الذين لم يفارقوا خدمة الهيكل. والثالثة المعتزلة الذين يؤمنون بقيامة الموتى ويقولون بوجود الملائكة ويصومون يومين في الأسبوع. والرابعة الزنادقة الذين يجحدون القيامة والملائكة. والخامسة المغتسلون الذين يقولون لايثاب الإنسان إن لم يغتسل كل يوم. والسادسة النساك الذين لا يأكلون شيئاً فيه روح. والسابعة السمرة الذين لا يقبلون من الكتب إلا التوراة وهي المجسمة ملك نيرون وعصيان اليهود
522 نيرون قيصر ملك أربع عشرة سنة. وفي السنة الثالثة عشرة من ملكه اضطهد النصارى وضرب عنق بولس وصلب بطرس منعكساً. وعصى اليهود عليه فغزاهم إسفسيانوس القائد مع جيوش(1/293)
كثيرة. وحاصر أورشليم زماناً طويلاً فما دنا من فتحها أتاه الخبر بموت نيرون. فنصب إسفسيانوس ابنه طيطش مكانه في محاربة اليهود. ونهض راجعاً إلى رومة. وغزا الإسكندرية وفتحها وركب في البحر وسار إلى رومة وملكها (لابي الفرج)
حصار اورشليم وانقراض دولة اليهود
523 وعظمت الفتن والحروب بين اليهود داخل القدس وكثر القتل وسالت الدماء في الطرقات وقتل الكهنة على المذبح. وهم لا يقربون الصلاة في المسجد لكثرة الدماء. وتعذر المشي في الطرقات من سقوط حجارة الرمي ومواقد النيران بالليل. وكان يوحنان أخبث القوم وشرهم. ولما انسلخ الشتاء زحف طيطش في عساكرالروم إلى أن نزل على القدس. وركب إلى باب البلد يتخير المكان لمعسكره ويدعوهم إلى السلم فصموا عنه واكمنوا له بعض الخوارج في الطريق فقاتلوه وخلص منهم بشدته. فعبي عسكره من الغد ونزل بجبل الزيتون شرقي المدينة ورتب العساكر والآلات للحصار. واتفق اليهود داخل المدينة ورفعوا الحرب بينهم وبرزوا إلى الروم فانهزموا. ثم عاودوا فظهروا. ثم انتفضوا بينهم وتحاربوا ودخل يوحنان إلى القدس يوم الفطر فقتل جماعة من الكهنة وقتل جماعة أخرى خارج المسجد. وزحف طيطش وبرزوا إليه فردوه إلى قرب معسكره. وبعث إليهم قائده نقانور في الصلح فأصابه سهم(1/294)
فقتله. فغضب طيطش وصنع كبشاً وأبراجاً من الحديد توازي السور وشحنها بالمقاتلة. فأحرق اليهود تلك الآلات ودفنوها وعادوا إلى الحرب بينهم. وكان يوحنان قد ملك القدس ومعه ستة آلاف أو يزيدون من المقاتلة ومع شمعون عشرةآلاف من اليهود وخمسة آلاف من أدوم. وبقية اليهود بالمدينة مع ألعازر. وأعاد طيطش الزحف بالآلات وثلم السور الأول وملكه إلى الثاني فاصطلح اليهود بينهم وتذامروا واشتدت الحرب وباشرها طيطش بنفسه. ثم زحف بالآلات إلى السور الثاني فثلمه. وتذامر اليهود فمنعوهم عنه ومكثوا كذلك أربعة أيام. وجاء المدد من الجهات إلى طيطش ولاذ اليهود بالأسوار وأغلقوا الأبواب ورفع طيطش الحرب ودعاهم إلى المسالمة فامتنعوا. فجاء بنفسه في اليوم الخامس وخاطبهم ودعاهم وجاء معه يوسف بن كريون فوعظهم ورغبهم في أمنه الروم ووعدهم وأطلق طيطش أسراهم فجنح الكثير من اليهود إلى المسالمة. ومنعهم هؤلاء الرؤساء الخوارج وقتلوا من يروم الخروج إلى الروم. ولم يبق من المدينة ما يعصمهم إلا السور الثالث. وطال الحصار واشتد الجوع عليهم والقتل ومن وجد خارج المدينة لرعي العشب قتله الروم وصلبوه حتى رحمهم طيطش ورفع القتل عمن يخرج في ابتغاء العشب. ثم زحف طيطش إلى السور الثالث من أربع جهاته ونصب الآلات وصبر اليهود على الحرب وتذامر(1/295)
اليهود وصعب الحرب وبلغ الجوع في الشدة غايته. واستأمن مناي الكاهن إلى الروم وهو الذي خرج في استدعاء شمعون فقتله شمعون. وقتل بنيه وقتل جماعة من الكهنة والعلماء والأئمة ممن حذر منه أن يستأمن. ونكر ذلك ألعازر بن عناني ولم يقدرعلى أكثر من الخروج عن بيت المقدس. وعظمت المجاعة فمات أكثر اليهود. وأكلوا الجلود والخشاش والميتة. ثم أكل بعضهم بعضاً. وعثر على امرأة تأكل ابنها فأصابت رؤساءهم لذلك رحمة وآذنوا في الناس بالخروج فخرجت منهم أمم. وهلك أكثرهم حين أكلوا الطعام. وابتلع بعضهم في خروجه ما كان له من ذهب أو جوهر ضنةً به. وشعر بهم الروم فكانوا يقتلونهم ويشقون عنها بطونهم وشاع ذلك في توابع العسكر من العرب والأرمن فطردهم طيطش. وطمع الروم في فتح المدينة وزحفوا إلى سورها الثالث بالآلات. ولم يكن لليهود طاقة بدفعها وإحراقها فثلموا السور. وبنى اليهود خلف الثلمة فأصبحت منسدة. وصدمها الروم بالكبش فسقطت من الجدة. واستماتوا في تلك الحال إلى الليل. ثم بيت الروم المدينة وملكوا الأسوار عليهم. وقاتلوهم من الغد فانهزموا إلى المسجد وقاتلوا في الحصن. وهدم طيطش البناء ما بين الأسوار إلى المسجد ليتسع المجال. ووقف ابن كربون يدعوهم إلى الطاعة فلم يجيبوا وخرج جماعة من الكهنة فأمنهم ومنع الرؤساء بقيتهم. ثم باكرهم طيطش(1/296)
بالقتال من الغد فانهزموا إلى الأقداس وملك الروم المسجد وصحنه. واتصلت الحرب أياماً وهدمت الأسوار كلها. وثلم سور الهيكل وأحاط العساكر بالمدينة حتى مات أكثرهم وفر كثير. ثم اقتحم عليهم الحصن فملكه ونصب الأصنام في الهيكل ومنع من تخريبه. ونكر رؤساء الروم ذلك ودسوا من أضرم النار في أبوابه وسقفه. وألقى الكهنة أنفسهم جزعاً على دينهم وحرقوا. واختفى شمعون ويوحنان في جبل صهيون. وبعث إليهم طيطش بالأمان فامتنعوا وطرقوا القدس في بعض الليالي فقتلوا قائداً من قواد العسكر ورجعوا إلى مكان اختفائهم. ثم هرب عنهم أتباعهم وجاء
يوحنان ملقياً بيده إلى طيطش فقيده. وخرج إليه يوشع الكاهن بآلات من الذهب الخالص من آلات المسجد فيها منارتان ومائدتان. ثم قبض على فنحاس خازن الهيكل فأطلعه على خزائن كثيرة مملوءة دنانير ودراهم وطيباً فامتلأت يده منها. ورحل عن بيت المقدس بالغنائم والأموال والأسرى. وأحصي الموتى في هذه الوقعة فكان عددهم ألف ألف ومائة ألف والسبي والأسارى مائة ألف. وكان طيطش في كل منزلة يلقي منهم إلى السباع إلى أن فرغوا. وكان في من هلك شمعون أحد الخوارج الثلاثة. . . . وانقضت دولة اليهود أجمع. والبقاء لله سبحانه وتعالى لا انقضاء لملكه (لابن خلدون باختصار)(1/297)
نخبة من كتاب دخول قبط مصر في النصرانية لتقي الدين المقريزي في تعريف النصارى والمسيح عيسى كلمة الله
524 إعلم أن النصارى أتباع عيسى بن مريم عليه السلام سموا نصارى لأنهم ينتسبون إلى قرية الناصرة من جبل الجليل. ويعرف هذا الجبل بجبل كنعان. وهو الآن في زماننا من جملة معاملة صفد. والأصل في تسميتهم نصارى أن عيسى لما نشأ بقرية الناصرة قيل له يسوع الناصري. ثم تلاعبت العرب بهذه الكلمة وقالوا لمن آمنوا بعيسى نصارى. والتنصر الدخول في دينهم 525 واعلم أن المسيح روح الله وكلمته التي ألقاها إلى مريم هو عيسى. وأصل اسمه بالعبرانية التي هي لغة أمه إنما هو يشوع وسمته النصارى يسوع. ومعنى يسوع في اللغة الربانية المخلص. ونعت بالمسيح وهو الصديق وقيل لأنه كان لا يمسح بيده صاحب عاهة إلا برأ. وقيل المسيح اسم مشتق من المسح أي الدهن لأن الروح القدس قام لجسد عيسى مقام الدهن الذي كان عند بني إسرائيل يمسح به الملك ويمسح به الكهنوت. وقيل لأنه مسح بالبركة. وقيل هي كلمة عبرانية أصلها ماشيح وتلاعبت بها العرب وقالت مسيح. وكان من خبره عليه السلام أن مريم بينما هي في محرابها بشرها الله تعالى بعيسى. فحملت بعيسى كما تحمل النساء لكن من(1/298)
غير ذكر. ثم وضعت بعد تسعة أشهر بقرية بيت لحم من عمل مدينة القدس في خامس عشرين كانون الأول. وقدمت رسل ملك فارس في طلبه ومعهم هدية له فيها ذهب ومر ولبان. فتطلبه هيرودس ملك اليهود بالقدس ليقتله وقد أنذر به. فسارت به مريم وهو طفل على حمار ومعها يوسف النجار حتى قدموا أرض مصر فسكنوها مدة أربع سنين وقيل سبع سنين. ثم عادوا فنزلت به مريم قرية الناصرة من جبل الجليل واستوطنتها فنشأ بها عيسى حتى بلغ ثلاثين سنة. فصار هو ويحيى (يوحنا) ابن زكرياء على نهر الأردن فاغتسل عيسى فيه ومضى إلى البرية وأقام بها أربعين يوماً لا يتناول طعاماً ولا شراباً. ثم طاف القرى ودعا إلى الله تعالى وأبرأ الأكمه والأبرص وأحيا الموتى بإذن الله. وبكت اليهود وأمرهم بالزهد في الدنيا والتوبة من المعاصي. فآمن به الحواريون وكانوا قوماً صيادين وعددهم اثنا عشر رجلاً. وكذب عيسى عامة اليهود وضللوه واتهموه بما هو بريء منه وكانت له ولهم عدة مناظرات آلت بهم إلى أن اتفق أحبارهم على قتله وطرقوه ليلة الجمعة. وأخذوه وأتوا به إلى بيلاطس البنطي شحنة القدس من قبل الملك طيباريوس قيصر. وراودوه على قتله وهو يدافعهم عنه. حتى غلبوه على رأيه بأن دينهم اقتضى قتله فأمكنهم منه(1/299)
526 ثم اجتمعوا بعد رفعه بعشرة أيام في علية صيون التي يقال لها اليوم صهيون خارج القدس. وظهرت لهم حوارق فتكلموا بجميع الألسن. فأمن بهم فيما يذكر عند ذلك زيادة على ثلاثة آلاف إنسان. فأخذهم اليهود وحبسوهم فظهرت كرامتهم وفتح الله لهم باب السجن ليلاً. فخرجوا إلى الهيكل وطفقوا يدعون الناس. فهمت اليهود بقتلهم وقد آمن بهم نحو الخمسة آلاف إنسان فلم يتمكنوا من قتلهم. وتفرق الحواريون في أقطار الأرض يدعون إلى دين المسيح. فسار بطرس رأس الحواريون واسمه شمعون الصفا إلى أنطاكة ورومة. فاستجاب له بشر كثير وقتل في خامس أبيب وسار أندراوس أخوه إلى نيقية وما حولها فآمن به كثير. وسار يعقوب بن زبدي أخو يوحنا الإنجيلي إلى الأندلس فتبعه جماعة وقتل. وسار يوحنا الإنجيلي إلى بلد آسيا وأفسس فكتب إنجيله باليوناني بعد ما كتب متى ومرقس ولوقا أناجيلهم فوجدهم قد قصروا في أمور فتكلم عليها. وكان ذلك بعد رفع المسيح بثلاثين سنة. وكتب ثلاثة رسائل ومات وقد أناف على مائة سنة. وسار فيلبس إلى قيسارية وما حولها وقتل بها وقد اتبعه جماعة من الناس. وسار برثولوماوس إلى أرميينية وبلاد البربر وواحات مصر فآمن به كثير وقتل. وسار توما إلى الهند وقتل هناك. وسار متى العشار إلى(1/300)
فلسطين وصور وصيدا ومدينة بصرى. وكتب إنجيله بالعبراني بعد رفع المسيح بتسع سنين وقتل بعد ما استجاب له بشر كثير. وقتل يعقوب بن حلفا في القدس. وسار يهوذا من أنطاكية على الجزيرة فآمن به كثير من الناس. وسار شمعون إلى سميساط وحلب ومنبج وبزنطية فقتل. وسار متياس إلى بلاد الشرق وسار بولس الطرسوسي إلى دمشق وبلاد الروم ورومة فقتل في خامس أبيب 527 وتفرق أيضاً سبعون رسولا أخر في البلاد فآمن بهم الخلائق. ومن هؤلاء السبعين مرقس الإنجيلي. ومضى إلى بطرس برومة وصحبه وكتب الإنجيل عنده بالفرنجية بعد رفع المسيح باثنتي عشرة سنة. ودعا الناس برومة ومصر والحبشة والنوبة. وأقام حنانيا أسقفاً على الإسكندرية وخرج إلى برقة وكثرت النصارى في أيامه وقتل في ثاني عيد الفصح بالإسكندرية (62 للمسيح) ومن السبعين أيضاً لوقا الإنجيلي الطبيب تلميذ بولس (والأصح أنه ليس من السبعين) . كتب الإنجيل باليونانية بعد رفع المسيح بعشرين سنة ثم قتل (75) 528 وكان بطرس لما نزل بأنطاكية أقام بها داريوس (أفوديوس) بطركا وأنطاكية إحدى الكراسي الأربعة التي للنصارى وهي رومية والإسكندرية والقدس وأنطاكية فأقام داريوس بطرك أنطاكية سبعاً وعشرين سنة وهو أول بطاركتها وتوارث من بعده البطاركة بها البطركية واحداً بعد واحد ودعا شمعون الصفا برومية(1/301)
خمساً وعشرين سنة فآمنت به بطركية وسارت إلى القدس وكشفت عن خشبات الصليب وسلمتها إلى يعقوب الأسقف وبنت هناك كنيسة وعادت إلى رومية وقد اشتدت على دين النصرانية فآمن معها عدة من أهلها. ولما قتل الملك نيرون قيصر بطرس رأس الحواريين برومة أقيم من بعده لينوس بطرك رومة. وهو أول بطرك صار على رومة. وقام من البطاركة بها واحداً بعد واحد إلى يومنا هذا الذي نحن فيه. ولما قتل يعقوب أسقف القدس على يد اليهود هدموا بعده البيعة وأخذوا خشبة الصليب والخشبتين معها ودفنوها والقوا على موضعها تورباً كثيراً فصار كوماً عظيماً حتى أخرجتها هيلاني أم قسطنطين. وأقيم بعد قتل يعقوب سمعان ابن عمه. فمكث اثنتين وأربعين سنة أسقفاً ومات فتداول الأساقفة بعده الأسقفية بالقدس واحداً بعد الآخر
بطاركة الاسكندرية والاضطهادات العشرة
529 ولما أقام مرقس حنانيا بطرك الإسكندرية جعل معه اثني عشر قساً وأمرهم إذا مات البطرك أن يجعلوا عوضه واحداً منهم. ويقيموا بدل ذلك القس واحداً من النصارى حتى لا يزالوا أبداً اثني عشر قساً. فلم تزل البطاركة تعمل من القسوس على أن اجتمع الثلاثمائة والثمانية عشر كما ستراه إن شاء الله تعالى. وكان بطرك الإسكندرية يقال له البابا من عهد حنانيا هذا أول بطاركة(1/302)
الإسكندرية إلى أن أقيم ديمتريوس وهو الثاني عشر من بطاركة الإسكندرية. ولم يكن بأرض مصر أساقفة فنصب الأساقفة بها وكثروا بقراها. وصار الأساقفة يسمون البطرك الأب. والقسوس وسائر النصارى يسمون الأسقف الأب ويجعلون لفظة البابا تختص ببطرك الإسكندرية ومعناها أب الآباء. ثم انتقل هذا الاسم عن كرسي الاسكندرية إلى كرسي رومة من أجل أنه كرسي بطرس رأس الحواريين فصار بطرك رومة يقال له البابا. واستمر على ذلك إلى زمننا الذي نحن فيه. وأقام حنانيا في بطركية الإسكندرية اثنتين وعشرين سنة. فأقيم بعده ميليو (ميليوس أو ابيليوس 84) فأقام ثنتي عشرة سنة وتسعة أشهر ومات. وفي أثناء ذلك ثار اليهود على النصارى وأخرجوهم من القدس فعبروا الأردن وسكنوا تلك الأماكن. وكان بعد هذا بقليل خراب القدس وجلوة اليهود وقتلهم على يد طيطش بعد رفع المسيح بنحو أربع وأربعين سنة. فكثرت النصارى في أيام بطركية ميليو وعاد كثير منهم إلى القدس بعد تخريب طيطش لها. وبنوا بها كنيسة وأقاموا سمعان أسقفاً 530 ثم أقيم بعد ميليو بالإسكندرية في البطركية كرتيانو (كردو 87) وفي أيام الملك تريانوس قيصر أصاب النصارى منه بلاء كبير وقتل منهم جماعة كثيرة واستعبد باقيهم. فنزل بهم بلاء لا يوصف في العبودية حتى رحمهم الوزراء وأكابر الروم وشفعوا(1/303)
فيهم. فمن عليهم قيصر وأعتقهم. ومات كرتيانو بطرك الإسكندرية (107) وكان جيد السيرة. فقدم بعده أبريمو (أفرام) فأقام اثنتي عشرة سنة. واشتد الأمر على النصارى في أيام الملك أدريانوس قيصر وقتل منهم خلائق لا يحصى عددهم. وقدم مصر فأفنى من بها من النصارى. وخرب ما بني في مدينة القدس من كنيسة النصارى. ومنع اليهود من التردد إليها وأنزل عوضهم بالقدس اليونانيين وسمى القدس إيليا. فلم يتجاسر اليهود أن يدنوا من القدس. وأقيم بعد موت أبريمو بطرك الإسكندرية بسطس (119) فأقام إحدى عشرة سنة. فخلفه أومينيو (130) فأقام ثلاث عشرة سنة. ثم أقيم بعده مرقيانو (43) بطرك الإسكندرية وأقام تسع سنين وستة أشهر. فقدم بعده على الإسكندرية كلوتيانو (153) فاقام أربعة عشرة سنة. وفي أيامه اشتد الملك أراليانوس (اوريليوس) قيصر على النصارى وقتل منهم خلقاً كثيراً. وقدم على كرسي الإسكندرية بعد كلونيا وأغريبو (أغريبينوس) بطركاً أقام اثنتي عشرة سنة. وفي أيام بطركيته اتفق رأي البطاركة بجميع الأمصار على حساب فصح النصارى ووقت صومهم ورتبوا كيف يستخرج ووضعوا الحساب الإبقطي وبه يستخرجون معرفة وقت صومهم وفصحهم واستمروا على ما رتبوه فميا بعد. وكانوا قبل ذلك يصومون بعد الغطاس أربعين يوماً كما صام المسيح ويفطرون في عيد الفصح لأن عيد الفصح كانت(1/304)
فيه قيامة المسيح من الأموات بقولهم. وكانالحواريون قد أمروا أن لايغير عن وقته وأن يعملوه كل سنة في ذلك الوقت. ثم أقيم بكرسي الإسكندرية بعد أغريبو في البطركية يوليانوس (179) فأقام عشر سنين. واستخلف بعده ديمتريوس (189) فأقام في البطركية ثلاثاً وأربعين سنة ومات وكان فلاحاً أمياً وله زوجة لم يعرفها قط. وفي أيامه أثار الملك سوريانوس قيصر على النصارى بلاءً كبيراً في جميع مملكته وقتل منهم خلقاً كثيراً. وقدم مصر وقتل جميع من فيها من النصارى وهدم كنائسهم وبنى بالإسكندرية هيكلاً لأصنامه
531 ثم أقيم بعده في بطركية الإسكندرية تاوكلا (ويسمى هيركلاس) فأقام بعده ست عشرة سنة. فلقي النصارى من الملك مكسيمينوس قيصر شدة عظيمة وقتل منهم خلقاً كثيراً. فلما ملك فيلبس قيصر أكرم النصارى. وقدم على بطركية الإسكندرية ديونيسيوس (247) فأقام تسع عشرة سنة. وفي أيامه كان الراهب أنطونيوس المصري وهو أول من ابتدأ بلبس الصوف وابتدأ بعمارة الديارات في البراري. وأنزل بها الرهبان. ولقي النصارى من الملك دقيوس قيصر شدة فإنه أمرهم أن يسجدوا لأصنامه فأبوا من السجود لها فقتلهم أبرح قتل. وفر منه الفتية أصحاب الكهف من مدينة أفسس واختفوا بمغارة في جبل شرقي المدينة وناموا. فضرب الله على آذانهم فلم يزالوا نائمين ثلاثمائة سنة وازدادوا تسعاً. وقام من(1/305)
بعده بالإسكندرية مكسيموس (265) فأقام بطركاً اثنتي عشرة سنة. فأقيم بعده تاونا (287) بطركاً مدة ثلاث عشرة سنة ومات. وكانت النصارى قبله تصلي بالإسكندرية خفية من الروم خوفاً من القتل. فلاطف تاونا الروم وأهدى إليهم تحفاً جليلة حتى بنى كنيسة مريم بالإسكندرية فصلى بها النصارى جهاراً. واشتد الأمر على النصارى في أيام الملك أوريليانوس قيصر وقتل منهم خلقاً كثيراً. ولما كانت أيام دقلطيانوس قيصر خالف عليه أهل مصر والإسكندرية فقتل منهم خلقاً كثيراً. وكتب بغلق كنائس النصارى وأمر بعبادة الأصنام وقتل من امتنع منها. فاستشهد خلائق كثيرة جداً. وأقيم في البطركية بعد تاونا بطرس (300) فأقام إحدى عشرة سنة وقتل بالإسكندرية بالسيف لامتناعه من السجود للأصنام. فقام بعده تلميذه أرشلاوس (أشيلاس 311) فأقام سنتين ومات. وبدقلطيانوس هذا وقتله نصارى مصر يؤرخ قبط مصر إلى يومنا هذا. ثم قام بعده مكسميانوس قيصر فاشتد على النصارى وقتل منهم خلقاً كثيراً حتى كانت القتلى منهم تحمل على العجل وتلقى في البحر
تنصر قسطنطين وبدعة آريوس وحرمه
ثم قام بعد أرشلاوس في بطركية الإسمندرية إسكندروس تلميذ بطرس الشهيد فأقام ثلاثاً وعشرين سنة ومات في ثاني عشرين برموده. وفي بطركيته كان مجمع النصارى بمدينة نيقية. وفي أيامه(1/306)
كتب النصارى وغيرهم من أهل رومة على قسطنطين وكان على مدينة بيزنطية يحثونه على أن ينقذهم من جور مكسنطيس وشكوا إليه عتوه فأجمع على المسير لذلك. وكانت أمه هيلاني من أهل قرى مدينة الرها قد تنصرت على يد أسقف الرها وتعلمت الكتب. فلما مر بقريتها قسطس صاحب شرطة دقلطيانوس رآها فأعجبته فتزوجها وحملها إلى بزنطية مدينته فولدت له قسطنطين وكان جميلاً. فأنذر دقلطيانوس منجموه بأن هذا الغلام قسطنطين سيملك الروم ويبدل دينهم فأراد قتله ففر منه إلى الرها وتعلم بها الحكمة اليونانية حتى مات دقليطانوس فعاد إلى بزنطية فسلمها له أبوه قسطس ومات فقام بأمرها بعد أبيه إلى أن استدعاه أهل رومة. فأخذ يدبر في مسيره فرأى في منامه كواكب في السماء على هيئة الصليب وصوت من السماء يقول له: احمل هذه العلامة تنتصر على عدوك فقص رؤياه على أعوانه. وعمل شكل الصليب على أعلامه وبنوده وسار لحرب مكسنطيس برومة. فبرز إليه وحاربه فانتصر قسطنطين عليه وملك رومة. وتحول منها فجعل دار ملكه قسطنطينية. وكان هذا ابتداء رفع الصليب وظهوره في الناس فاتخذه النصارى وعظموه. وأكرم قسطنطين النصارى ودخل في دينهم في السنة الثانية عشرة من ملكه على الروم. وأمر ببناء الكنائس في جميع ممالكه وكسر الأصنام وهدم بيوتها وعمل الجمع بمدينة نيقية.(1/307)
وسببه أن الإسكندروس بطرك الإسكندرية منع آريوس من دخول الكنيسة وحرمه لمقالته ونقل عن بطرس الشهيد بطرك الإسكندرية أنه قال عن آريوس إن إيمانه فاسد وكتب بذلك على جميع البطاركة. فمضى آريوس إلى قسطنطين ومعه أسقفان فاستغاثوا به وشكوا الإسكندروس فأمر بإحضاره من الإسكندرية فحضر هو وآريوس. وجمع له الأعيان من النصارى ليناظروه. فاستحسن الملك قسطنطين كلام إسكندروس وأمره أن يحرم آريوس فحرمه. وسأل الإسكندروس الملك أن يحضر الأساقفة. فأمره بهم فأتوه من جميع ممالكه واجتمعوا بعد ستة أشهر بمدينة نيقية وعددهم ثلاثمائة وثمانية عشر. فمال قسطنطين إلى قولهم وأعرض عما سواه. وأقبل على الثلاثمائة والثمانية عشر وأمر لهم بكراسي وأجلسهم عليها. ودفع إليهم سيفه وخاتمه وبسط أيديهم في جميع مملكته. فباركوا عليه ووضعوا له كتاب قوانين الملوك وقوانين الكنيسة وفيه ما يتعلق بالمحاكمات والمعاملات وكتبوا بذلك إلى سائر الممالك. وكان رئيس هذا المجمع الإسكندروس وأسطاس بطرك أنطاكية ومقاريوس أسقف القدس. ووجه سلطوس (سلوسترس) بطرك رومة بقسيسين اتفقا معهم على حرم آريوس فحرموه ونفوه. ووضع الثلاثمائة والثمانية عشر الأمانة المشهورة عندهم وأوجبوا أن يكون الصوم متصلاً بعيد الفصح على ما رتبه البطاركة في أيام الملك(1/308)
أوراليوس قيصر كما تقدم. وانصرفوا من مجلس قسطنطين بكرامة جليلة. والإسكندروس هذا هو الذي كسر الصنم النحاس الذي كان في هيكل زحل بالإسكندرية وكانوا يعبدونه ويجعلون له عيداً في ثاني عشر هتور ويذبحون له الذبائح الكبيرة. فأراد الإسكندروس كسر هذا الصنم فمنعه أهل الإسكندرية. فاحتال عليهم وتلطف في حيلته إلى أن قرب العيد. فجمع الناس ووعظهم وقبح عندهم عبادة الصنم وحثهم على تركه وأن يعمل هذا العيد لميكائيل رئيس الملائكة الذي يشفع فيهم عند الإله فإن ذلك خير من عمل العيد للصنم فلا يتغير عمل العيد الذي جرت عادة أهل البلد لعمله. فرضي الناس بهذا ووافقوه على كسر الصنم فكسروه وأحرقوه وعمل بيته كنيسة على اسم ميكائيل فلم تزل هذه الكنيسة بالإسكندرية إلى أن حرقها جيوش الإمام المعز لدين الله لما قدموا في سنة ثمان وخمسين وثلاثمائة واستمر عيد ميكائيل عند النصارى باقياً يعمل في كل سنة
وجدان الصليب وانتشار شيعة آريوس
533 وفي السنة الثانية العشرين من ملك قسطنطين سارت أمه هيلاني إلى القدس وبنت بها كنائس للنصارى. فدلها مقاريوس الأسقف على الصليب وعرفها ما عملته اليهود. ثم دلوها على الموضع فحفرته فإذا قبر وثلاث خشبات. زعموا أنهم لم يعرفوا الصليب المطلوب من الخشبات الثلاث إلا بأن وضعت كل واحدة منها على(1/309)
ميت قد بلي. فقام حياً عندما وضعت عليه خشبا منها. فعملوا لذلك عيداً عرف عندهم بعيد الصليب. وعملت له هيلاني غلافاً من ذهب وبنت كنيسة القيامة وأقامت مقاريوس على بناء بقية الكنيسة. وكانت مدة ما بين ولادة المسيح وظهور الصليب ثلاثمائة وثماني وعشرين سنة 534 ثم قام في بطركية الإسكندرية بعد الإسكندروس تلميذه أثاناسيوس الرسولي (336) . فأقام ستاً وأربعين سنة ومات بعد ما ابتلي بشدائد وغاب عن كرسيه ثلاث مرات. وفي أيامه جرت مناظرات طويلة مع أوسابيوس الأسقف آلت إلى حرمه وفراره. فإنه تعصب لآريوس وقال: إن الإنجيل لم يقل إن المسيح خلق الأشياء وإنما قال: به خلق كل شيء لأنه كلمة الله التي بها خلق السماء والأرض وإنما خلق الله تعالى جميع الأشياء بكلمته فالأشياء به كونت لا أنه كونها. وإنما الثلاثمائة والثمانية عشر تعدوا على آريوس وفي أيامه بعثت هيلاني بمال عظيم إلى مدينة الرها فبني بها كنائسها العظيمة 535 فلما قام قسطنطين (قسطنس) بن قسطنطين في الملك بعد أبيه غلبت مقالة آريوس على القسطنطينية وأنطاكية والإسكندرية وصار أكثر أهل مصر آريوسيين واستولوا على ما بها من الكنائس ومال الملك إلى رأيهم وحمل الناس عليه. وأخبر كيرلس أسقف القدس أنه ظهر من السماء على القبر الذي بكنيسة القيامة شبه صليب من نور في يوم عيد العنصرة بعشرة أيام من شهر أيار في الساعة الثالثة(1/310)
من النهار حتى غلب نوره على نور الشمس. ورآه جميع أهل القدس عياناً. فأقام فوق القبر عدة ساعات فآمن من اليهود وغيرهم عدة آلاف
اضطهاد يوليانوس الجاحد وشيعة مقدونيوس
536 ثم لما ملك يوليانوس ابن عم قسطنطين اشتدت نكايته بالنصارى وقتل منهم خلقاً كثيراً ومنعهم من النظر في شيء من الكتب. وأقفل الكنائس والديارات ونصب مائدة كبيرة عليها أطعمة مما ذبحه لأصنامه ونادى: من أراد المال فليضع البخور على النار وليأكل من ذبائح الحنفاء ويأخذ ما يريد من المال. فامتنع كثير من الروم وقالوا: نحن نصارى. فقتل منهم خلائق ومحا الصليب من أعلامه وبنوده. وفي أيامه سكن القديس أناريون (إلاريون) برية الأردن وبنى بها الديارات. وهو أول من سكن برية الأردن من النصارى. ولما ملك يونيانوس على الروم وكان متنصراً أعاد كل من فر من الأساقفة إلى كرسيه. وكتب إلى أثاناسيوس بطرك الإسكندرية أن يشرح له الأمانة المستقيمة. فجمع الأساقفة وكتبوا له يلزم أمانة الثلاثمائة والثمانية عشر. فثار أهل الإسكندرية على أثاناسيوس ليقتلوه. ففر فأقاموا بدله لوقيوس وكان آريوسياً. فاجتمع الأساقفة بعد خمسة أشهر وحرموه وأعادوا أثاناسيوس إلى كرسيه فأقام بطركاً إلى موته 537 فخلفه بطرس (373) ثم وثب الآريوسيون عليه بعد سنتين ففر منهم واستجار ببطرك رومة وأعادوا لوقيوس فأقام ثلاث سنين(1/311)
ووثب عليه أعداؤه ففر منهم فردوا بطرس فأقام إلى موته. وكان في أيامه والنس ملك الروم وكان آريوسياً. ونفى سائر الأساقفة لمخالفتهم لرأيه وقام في بطركية الإسكندرية طيماتاوس (380) فأقام خمسة سنين ومات. وفي أيامه كان المجمع الثاني من مجامع النصارى بقسطنطينية (381) . فاجتمع مائة وخمسون أسقفاً وحرموا مقدونيوس عدو روح القدس وكل من قال بقوله. وسبب ذلك أنه قال بأن روح القدس مخلوق. وحرموا معه غير واحد لعقائد شنيعة تظاهروا بها في المسيح. وزاد الأساقفة في الأمانة التي رتبها الثلاثمائة والثمانية عشر. ونؤمن بالروح القدس الرب المحيي المنبثق من الآب. وحرموا أن يزاد فيها بعد ذلك شيء أو ينقص منها شيء. وفي أيامه بنيت عدة كنائس بالإسكندرية واستتيب جماعة كثيرة من مقالة آريوس. ورد الملك أغرديانوس كل من نفاه والنس من الأساقفة. وأمر أن يلزم كل واحد دينه ما خلا المنانية
537 ثم أقيم بكرسي الإسكندرية تاوفيلا (385 - 412) واشتد الملك تاودلسيوس على الآريوسيين وأمر فأخذت منهم كنائس النصارى. وأسقط من جيشه من كان آريوسياً وطرد من كان في ديوانه وخدمه منهم. وهدم بيوت الأصنام. وفي أيامه بنيت كنيسة مريم بالقدس
القديس كيرلس وهرطقة نسطوريس
538 ثم أقيم على بطركية الإسكندرية كيرلس (412) فأقام(1/312)
اثنتين وثلاثين سنة ومات وفي أيامه كان المجمع الثالث من مجامع النصارى بسبب نسطوريس بطرك قسطنطينة. فإنه منع أن تكون مريم أم عيسى. وقال: إنما ولدت مريم إنساناً اتحد بمشية الله يعني عيسى فصار بالاتحاد بالمشية خاصة لا بالذات وإن إطلاق الإله على عيسى ليس هو بالحقيقة بل بالهيئة والكرامة. وقال في خطبة الميلاد: إن مريم ولدت إنساناً وأنا لا أعتقد في ابن شهرين أو ثلاثة الإلهية ولا أسجد له سجودي للإله. فلما بلغ كيرلس بطرك الإسكندرية مقالة نسطوريس كتب إليه يرجعه عنها فلم يرجع. فكتب إلى بطرك رومة وإلى يوحنا بطرك أنطاكية وإلى يوناليوس أسقف القدس يعرفهم بذلك. فكتبوا بأجمعهم إلى نسطوريس ليرجع عن مقالته فلم يرجع. فتواعد البطاركة على الاجتماع بمدينة أفسس فاجتمع بها مائتا أسقف وامتنع نسطوريس من المجيء إليهم بعد ما كرروا الإرسال في طلبه غير مرة. فنظروا في مقالته وحرموه (431) . ونفي إلى الصعيد فنزل مدينة إخميم وأقام بها سبع سنين ومات فدفن بها. وظهرت مقالته فقبلها برصوما أسقف نصيبين ودان بها نصارى أرض فارس والعراق والموصل والجزيرة إلى الفرات وعرفوا إلى اليوم بالنسطورية
أوطاخي وديوسقوروس وحرمهما في مجمع الخلقيدوني
539 ثم قدم تاودلسيوس الصغير ملك الروم في الثانية من ملكه ديوسقورس بطركا بالإسكندرية (444) . فظهر في أيامه مذهب(1/313)
أوطاخي أحد القسوس بالقسطنطينية. وزعم أن جسد المسيح لطيف غير مساوٍ لأجسادنا وأن الابن لم يأخذ من مريم شيئاً. فاجتمع عليه مائة وثلاثون أسقفاً وحرموه. ثم صار المجمع الرابع من مجامع النصارى بمدينة خلقدونية (451) وسببه أن ديوسقورس بطرك الإسكندرية قال: إن المسيح جوهر من جوهر وطبيعة من طبيعتين ومشية من مشيتين. وكان رأي مرقيان والنصارى أنه جوهران وطبيعتان ومشيتان وأقنومٌ واحدٌ فوافقه الأساقفة على رأيه ما خلا ديوسقورس وستة أساقفة فإنهم لم يوافقوا الملك. فحرم ديوسقورس ونفي وأقيم عوضه برطارس (451) وأما ديوسقورس فإنه توجه في نفيه فعبر على القدس وفلسطين وعرفهم مقالته فتبعوه وقالوا بقوله. وقدم عدة أساقفة يعقوبية ومات وهو منفي. وسبب تسمية اليعقوبية بهذا أن ديوسقورس كان له تلميذ اسمه يعقوب وكان يرسله وهو منفي إلى أصحابه فنسبوا إليه. وفي أيامه ظهر الفتية أهل الكهف. وفي أيام مرقيان وثب أهل الإسكندرية على برطارس البطرط وقتلوه في الكنيسة وحملوا جسده إلى الملعب الذي بناه بطليموس وأحرقوه بالنار من أجل أنه ملكي الاعتقاد (457) وملك زينون وأكرم اليعقوبية وأعزهم لأنه كان يعقوبياً. وفي أيامه اخترق الملعب الذي بناه بطليموس. ولما ملك نسطاس أغراق ساويرسوس على تأثير اعتقاد اليعقوبية فأمر أن يكتب إلى جميع مملكته بقبول قول ديوسقورس وترك المجمع(1/314)
الخلقيدوني. فبعث إليه بطرك أنطاكية بأن هذا الذي فعلته غير واجب وأن المجمع الخلقيدوني هو الحق. فغضب الملك ونفاه وأقام بدله. وفي أيام يسطانوس أقيم استيريوس في بطركية الإسكندرية فجد برجوع النصارى إلى رأي الملكية فقبل نصارى مصر الأمانة ووافقه رهبان ديارات بومقار. وفي أيام يوسطينيانوس ثارت السامرة على فلسطين وهدموا كنائس النصارى وقتلوا جماعة منهم. فبعث الملك جيشاً قتلوا من السامرة خلقاً كثيراً وجدد بناء الكنائس وأنشأ مارستاناً ببيت المقدس للمرضى ووسع في بناء كنيسة بيت لحم وبنى ديراً بطور سيناء. وعمل فيها حصناً حوله عدة قلال ورتب فيها حرشاً لحفظ الرهبان. وفي أيامه كان المجمع الخامس من مجامع النصارى وفيه حرم أريجانس لقوله بتناسخ الأرواح (553) . وفي أيام فوقا ملك الروم بعث كسرى ملك فارس جيشه إلى بلاد الشام ومصر فخربوا كنائس القدس وفلسطين وقتلوا النصارى وسبوا منهم سبياً وأخذوا قطعة من عود الصليب. فسار هرقل إلى بلاد فارس وغلب الفرس ودارت رحى الحرب على كسرى ورجع هرقل ظافراً. ثم دخل القدس وقد تلقاه النصارى بالأناجيل والصلبان والبخور والشموع. ثم رمم الكنائس وجددها ولم يلبث أن ظهر الإسلام في أيامه وخرج ملك مصر والشام من يد النصارى ذمة للمسلمين (تم بحوله تعالى)(1/315)
الجزء الثاني
الباب الأول في التدين
في الإخلاص لله تعالى والثناء عليه
1 إن الله تعالى واحد لا أول لوجوده ولا آخر لأبديته. قيوم لا يفنيه الأبد. ولا يغيره الأمد. بل هو الأول والآخر والظاهر والباطن. منزه عن الجسمية ليس كمثله شيء. وهو فوق كل شيءٍ. فوقيته لا تزيده بعداً عن عباده وهو أقرب إلى العبيد من حبل الوريد. وهو على كل شيءٍ شهيدٌ. وهو معكم أينما كنتم. لا يشابه قربه قرب الأجسام. كما لا يشابه ذاته ذوات الأجرام. منزهٌ عن أن يجده زمان. مقدسٌ عن أن يحيط به مكانٌ. تراه أبصار الأبرار. في دار القرار. على ما دلت عليه الآيات والأخبار. حي قادرٌ. جبارٌ قاهرٌ. لا يعتريه عجزٌ ولا قصورٌ. ولا تأخذه سنةٌ ولا نومٌ. له الملك والملكوت. والعزة والجبروت. خلق الخلق وقدر أرزاقهم وآجالهم. لا تحصى مقدوراته. ولا تتناهى معلوماته. عالمٌ بجميع المعلومات. لا يعزب عنه مثقال ذرةٍ في الأرض ولا في السماوات. يعلم السر والخفي ويطلع على هواجس الضمائر. وخفيات السرائر. مريدٌ للكائنات. مدبرٌ للحادثات. لا يجري في ملكه قليلٌ ولا كثيرٌ. جليلٌ ولا حقيرٌ. نفعٌ أو ضرٌ إلا بقضائه وقدره وحكمه. فما شاءً كان وما لم(2/3)
يشأ لم يكن. فهو المبدئ المعيد. الفاعل لما يريد. لا معقب لحكمه. ولا راد لقضائه. ولا مهرب لعبدٍ عن معصيته. إلا بتوفيقه ورحمته. ولا قوة له على طاعته. إلا بمحبته وإرادته. سميعٌ بصيرٌ متكلمٌ بكلام لا يشبه كلام خلقه. وكل ما سواه سبحانه وتعالى فهو حادثٌ أو جده بقدرته. وما من حركةٍ وسكونٍ إلا وله في ذلك حكمة دالةٌ على وحدانيته. قال أبو العتاهية:
فيا عجبا كيف يعصي الإله ... أم كيف يجحده الجاحد
وفي كل شيءٍ له آيةٌ ... تدل على أنه الواحد
ولله في كل تحريكةٍ ... وتسكينةٍ في الورى شاهد
وقال غيره:
كل ما ترتقي إليه بوهمٍ ... من جلالٍ وقدرةٍ وسناء
فالذي أبدع البرية أعلى ... منه سبحان مبدع الأشياء
(مستقطف الابشيهي)
تنزيه الخالق تعالى
2 اعلم أن البارئ تعالى ليس له صورةٌ ولا قالبٌ. وأنه تعالى ليس له صورةٌ ولا قالبٌ. وأنه تعالى لا ينزل ولا يحل في قالبٍ. وأنه منزهٌ عن الكيف والكم. وعن لماذا ولم. وأنه لا يشبهه شيءٌ. وكلما يخطر في الوهم والخيال والفكر من التكيف والتمثل. فإنه منزهٌ عن ذلك. لأن تلك من صفات المخلوقين وهو خالقها فلا يوصف بها. وأنه تعالى جده ليس(2/4)
في مكان ولا على مكان. فإن المكان لا يحصره وكل ما في العالم فإنه تحت عرشه وعرشه تحت قدرته وتسخيره فإنه قبل خلق العالم كان منزهاً عن المكان. وليس العرش بحامل له بل العرش وحملته يحملهم لطفه وقدرته. وأنه تقدس عن الحاجة إلى المكان قل خلقه العالم وبعد خلقه وأنه متصفٌ بالصفة التي كان عليها في الأزل. ولا سبيل للتغير والانقلاب إلى صفاته. وهو سبحانه متقدسٌ عن صفات المخلوقين منزهٌ. وهو في الآخرة مرئيٌ كما نعلمه في الدنيا بلا مثل ولا شبهٍ. كذلك نراه في الآخرة بلا مثلٍ ولا شبهٍ. لأن تلك الرؤية لا تشابه رؤية الدنيا. ليس كمثله شيءٌ. (التبر المسبوك للغزالي)
عظمة الخالق
3 قال الإمام عليٌ:
كيفية المرء ليس المرء يدركها ... فكيف كيفية الجبار بالقدم
هو الذي أنشأ الأشياء مبتدعا ... فكيف يدركه مستحدث النسم
قال آخر:
تبارك الله في علياء عزته ... فكل كل لسانٍ عن تعاليه
لا كون يحصره لا عين تنظره ... لا كشف يظهره لا جهر يبديه
حارت جميع الورى في كنه قدرته ... فليس يدرك معنى من معانيه
سبحانه وتعالى في جلالته ... وجل عزاً ولطفاً في تساميه(2/5)
4 قال حكيمٌ: أشهد أن السماوات والأرض آياتٌ دالاتٌ. وشواهد قائماتٌ. كل يؤدي عنه الحجة ويشهد له بالربوبية. وقال آخر: سل الأرض من غرس أشجارك. وشق أنهارك. وجنى ثمارك. فإن لم تجبك إخباراً. أجابتك اعتباراً. وقال الشاعر:
لقد جئت أبغي لنفسي مجيراً ... فجئت الجبال وجئت البحوراً
فقال لي البحر إذ جئته ... فكيف يجير ضريرٌ ضريرا
رحمة الله
5 سمع الفضيل بن عياض رجلاً يشكو بلاءً نزل به فقال: يا هذا أتشكو من يرحمك إلى من لا يرحمك.. (العقد الفريد لابن عبد ربه) أبياتٌ عن فم الرحمان:
فكم لبيت عبدي إذ دعاني ... وراعيت الوداد وما رعاني
أنا المرخي السور على المعاصي ... على العبد الجسور إذا عصاني
وأصفح للأثيم إذا أتاني ... وعاتب نفسه عما جفاني
وإن ناداني الخاطي بصدق ... وإخلاصٍ حوى كل المعاني
فمن يأتي إلي ينال عزاً ... ويحظى بالمسرة والأماني
(في الخبر) إن الله تعالى خلق جهنم من فضل رحمته سوطاً يسوق به عباده إلى الجنة.. (وفي الخبر أيضاً) إن الله تعالى يقول: إنما خلقت الخلق ليربحوا علي ولم أخلقهم لأربح عليهم (الكشكول لبهاء الدين العاملي)(2/6)
محبة الخالق
6 كل فعل يقرب صاحبه من الله تعالى فهو برٌ. ولا يحصل التقرب إليه إلا بالتبرئ ممن سواه. فمن أحب شيئاً فقد حجبٍ عن الله تعالى وأشرك شركاً خفياً لتعلق محبته بغير الله سبحانه.. (للقاشاني) دخل هارون على بعض النساك فسلم عليه. فقال: وعليك السلام أيها الملك أتحب الله. قال: نعم. قال: فتعصيه. قال: نعم. قال: كذبت والله في حبك إياه إنك لو أحببته لما عصيته. ثم أنشد يقول:
تعصي الإله وأنت تظهر حبه ... هذا لعمري في الفعال بديع
لو كان حبك صادقاً لأطعته ... إن المحب لمن يحب مطيع
في كل يوم يبتديك بنعمةٍ ... منه وأنت لشكر ذاك مضيع
(سراج الملوك للطرطوشي) قال عز الدين المقسي في الهيام بحبه تعالى وحده:
قبيحٌ على قلبٍ يذوب صبابةً ... وتنظر عيناه لمن ليس هو الله
أيجمل أن تهوى هواه وتدعي ... سواه وما في الكون يعشق إلا هو
فإن كان من تهواه في الحسن واحداً ... فكن واحداً في الحبٌ إن كنت نهواه(2/7)
7 من كلام ابن زهرة الأندلسي: لا يكون العبد محباً لخالقه حتى يبذل نفسه في مرضاته سراً وعلانيةً. فيعلم الله من قلبه أنه لا يريد إلاه. وسئل ما علامة العارف فقال: عدم الفتور عن ذكره وعدم الملال من حقه وعدم الأنس بغيره. وقال: ليس العجب من حبي لك وأنا عبدٌ فقيرٌ. ولكن العجب من حبك لي وأنت ملكٌ قديرٌ. (لبهاء الدين العاملي)
حمد الله
8 قال بعضهم:
ألحمد لله بقدر الله ... لا قدر وسع العبد ذي التناهي
قال محمودٌ الوراق:
إلهي لك الحمد الذي أنت أهله ... على نعم ما كنت قط لها أهلا
أزيدك تقصيراً تزدني تفضلاً ... كأني بالتقصير أستوجب الفضلا
وله أيضاً:
أيا رب قد أحسنت عوداً وبدأةً ... إلي فلم ينهض بإحسانك الشكر
فمن كان ذا عذرٍ إليك وحجةٍ ... فعذري إقراري بأن ليس لي عذر
قال أبو الأسود الدولي:
وإذا طلبت من الحوائج حاجةً ... فادع الإله وأحسن الأعمالا
إن العباد وشأنهم وأمورهم ... بيد الإله يقلب الأحوالا
فدع العباد ولا تكن بطلابهم ... لهجاً تضعضع للعباد سؤالا(2/8)
ومما أورده الأصبهاني عن أبي محمدٍ التيمي قوله:
لا تخضعن لمخلوقٍ على طمعٍ ... فإن ذاك مضرٌ منك بالدين
وارغب إلى الله مما في خزائنه ... فإنما هو بين الكاف والنون
أما ترى كل من ترجو وتأمله ... من الخلائق مسكين ابن مسكين
(الأغاني)
الرجاء بالله والتوكل عليه
9 لما حضر بشر بن المنصور الموت فرح فقيل له: أتفرح بالموت فقال: أتجعلون قدومي على خالقٍ أرجوه كمقامي مع مخلوقٍ أخافه قال الشيخ شهابٌ:
توكل على الرحمان في الأمر كله ... فما خاب حقاً من عليه توكلا
وكن واثقاً بالله واصبر لحكمه ... تفز بالذي ترجوه منه تفضلا
ولله الشافعي حيث يقول:
ولما قسا قلبي وضاقت مذاهبي ... جعلت رجائي نحو عفوك سلما
تعاظمني ذنبي فلما قرنته ... بعفوك ربي كان عفوك أعظما
قيل لأعرابي وقد مرض: إنك تموت. قال: وإذا مت فإلى أين يذهب بي. قالوا: إلى الله. قال: فما كراهتي أن يذهب بي إلى من لم أر الخير إلا منه.
الدعاء إلى الله
10 قال الأصمعي: سمعت أعرابياً وهو يقول في دعائه: اللهم إني(2/9)
أسألك عمل الخائفين وخوف العاملين حتى أتنعم بترك النعيم طمعاً فيما وعدت وخوفاً مما أوعدت. اللهم أعذني من سطواتك وأجرني من نقماتك. سبقت لي ذنوبٌ وأنت تغفر لمن يحوب إليك بل أتوسل وأفر منك إليك.
العفو من الله
11 قال الإمام عليٌ:
إلهي لا تعذبني فإني ... مقرٌ بالذي قد كان مني
فما لي حيلةٌ إلا رجائي ... بعفوك إن عفوت وحسن ظني
فكم من زلة لي في الخطايا ... عضضت أناملي وقرعت سني
يظن الناس بي خيراً وإني ... لشر الخلق إن لم تعف عني
(دعاءٌ) اللهم إن مغفرتك أرجى من عملي وإن رحمتك أوسع من ذنبي. اللهم إن لم أكن أهلاً أن أبلغ رحمتك فرحمتك أهلٌ أن تبلغني لأنها وسعت كل شيءٍ يا أرحم الراحمين 12. (دعاءٌ آخر) . اللهم إني أسألك باسمك العظيم الأعظم الأعز الأجل الأكرم الذي إذا دعيت به على مغالق أبواب السماء للفتح بالرحمة انفتحت. وإذا دعيت به على مضايق أبواب الأرض للفرج انفرجت. وإذا دعيت به على مضايق أبواب الأرض للفرج انفرجت. وإذا دعيت به على العسر لليسر تيسرت. وإذا دعيت به على الأموات للنشور انتشرت. وإذا دعيت به على كشف البأساء والضراء انكشفت. وبجلال وجهك الكريم أكرم الوجوه.(2/10)
وأعز الوجوه. الذي عنت له الوجوه. وخضعت له الرقاب. وخشعت له الأصوات. ووجلت له القلوب. من مخافتك. وبقوتك التي تمسك السماء أن تقع على الأرض إلا بإذنك. وتمسك السماوات والأرض أن تزولا. وبمشيتك التي دان لها العالمون وبكلمتك التي خلقت بها السماوات والأرض. وبحكمتك التي صنعت بها العجائب وخلقت بها الظلمة وجعلتها ليلاً. وجعلت الليل سكناً. وخلقت بها النور وجعلته نهاراً. وجعلت النهار نشوراً مبصراً. وخلقت بها الشمس وجعلت الشمس ضياءٌ. وخلقت بها القمر وجعلت القمر نوراً. وخلقت بها الكواكب وجعلتها نجوماً وبروجاً ومصابيح وزينةً ورجوماً. وجعلت لها مشارق ومغارب. وجعلت لها مطالع ومجاري. وجعلت لهاً فلكاً ومسابح وقدرتها في السماء منازل. فأحسنت تقديرها. وصورتها فأحسنت تصويرها. وأحصيتها بأسمائك إحصاءً. ودبرتها بحكمتك تدبيراً. فأحسنت تدبيرها. وسخرتها بسلطان الليل وسلطان النهار والساعات وعدد السنين والحساب. وجعلت رؤيتها لجميع الناس مرأى واحداً (لبهاء الدين)
إغراء بإيثار الدين
13 قال لقمان لابنه: إن الدنيا بحرٌ عريضٌ قد هلك فيه الأولون والآخرون. فإن استطعت أن تجعل سفينتك تقوى الله وعدتك(2/11)
التوكل على الله وزادك العمل الصالح فإن نجوت فبرحمةٍ الله وإن هلكت فبذنوبك. (لابن عبد ربه)
أرى رجالاً بأدنى الدين قد قنعوا ... ولا أراهم رضوا في العيش بالدون
فاستغن بالدين عن دنيا الملوك كما م ... استغنى الملوك بدنياهم عن الدين
من الديوان المنسوب إلى أمير المؤمنين:
أبني إن من الرجال بهيمةً ... في صورة الرجل السميع المبصر
فطن لكل رزيةٍ في ماله ... فإذا أصيب بدينه لم يشعر
قال الرافعي:
أقيما على باب الرحيم أقيما ... ولا تنيا في ذكره فتهيما
هو الباب من يقرع على الصدق بابه ... يجده رؤوفاً بالعباد رحيماً
(لبهاء الدين) قال أبو العتاهية:
حتى متى ذو التيه في تيهه ... أصلحه الله وعافاه
يتيه أهل التيه من جهلهم ... وهم يموتون وإن تاهوا
من طلب العز ليبقى به ... فإن عز المرء تقواه(2/12)
ذكر فروع شجرة الإيمان أي الأعمال
14 الأعمال التي هي فروع الإيمان هي تجنب المحارم وأداء الفرائض. وهي قسمان أحدهما بينك وبين الله تعالى مثل الصوم والصلاة والزكاة والعفة عن الحرام. والأخرى ما بينك وبين الخلق وهي العدل في الرعية والكف عن الظلم. والأصل في ذلك أن تعمل فيما بينك وبين الخالق تعالى من طاعة أمره والإزدجار بزجره ما تختار أن يعتمده عبدك في حقك. وأن تعمل فيما بينك وبين الناس ما تريد أن يعمل معك من سواك إذا كان غير السلطان وكنت من رعيته. واعلم أنه ما كان بينك وبين الخالق تعالى فإن عفوه قريبٌ وإنه غفورٌ رحيمٌ. أما ما يتعلق بمظالم الخلق فإنه لا يتجاوز به عنك على كل حال يوم القيامة. وخطره عظيمٌ ولا يسلم من هذا الخطر أحدٌ من الملوك إلا ملكٌ عمل بالعدل في رعيته. (للغزالي) قال المعري:
لو يعلم الإنسان مقداره ... لم يفخر المولى على عبده
لولا سجاياه وأخلاقه ... لكان كالمعدوم في وجده
ومجده أفعاله لا الذي ... من قبله كان ولا بعده
15 كان يزيد الرقاشي يقول: يا يزيد من يقوم عنك أو يصلي لك أو يترضى لك ربك إذا مت. وكان خالد بن معدان يقول:(2/13)
إذا أنت لم تزرع وأبصرت حاصداً ... ندمت على التفريط في زمن البذر
مما ينسب لحضرة الإمام الشافعي:
إن لله عباداً فطنا ... طلقوا الدنيا وخافوا لفتنا
نظروا فيها فلما علموا ... أنها ليست لحيٍ وطنا
جعلوها لجةً واتخذوا ... صالح الأعمال فيها سفنا
من كلام بعض الأكابر: ليس العيد. لمن لبس الجديد. إنما العيد لمن أمن الوعيد. سئل بعض الرهبان متى عيدكم. فقال: يوم لا نعصي الله سبحانه وتعالى فذلك عيدنا. ليس العيد لمن لبس الملابس الفاخرة. إنما العيد لمن أمن عذاب الآخرة. ليس العيد لمن لبس الرقيق. إنما العيد لمن عرف الطريق. (لبهاء الدين) 16 قال أبو العتاهية:
ترجو النجاة ولم تسلك مسالكها ... إن السفينة لا تجري على اليبس
وقال الآخر:
إعمل وأنت من الدنيا على حذرٍ ... وأعلم بأنك بعد الموت مبعوث
واعلم بأنك ما قدمت من عملٍ ... يحصى عليك وما خلفت موروث
وقال غيره:
إحزن على أنك لا تحزن ... ولا تسئ إن كنت لا تحسن
وأضعف عن الشر كما تدعي ... ضعفاً عن الخير وقد يمكن(2/14)
قال الحسن: بادروا بالعمل الصالح قبل حلول الأجل. فإن لكم ما أمضيتم لا ما أبقيتم
العجاج والأعرابي
17 خرج الحجاج ذات يومٍ فأصحر وحضر غداؤه. فقال: اطلبوا من يتغدى معنا. فطلبوا فلم يجدوا إلا أعرابياً في شملةٍ فأتوه به. قال له: هلم. قال له: قد دعاني من هو أكرم منك فأجبته. قال: ومن هو. قال: الله تبارك وتعالى دعاني إلى الصيام فأنا صائمٌ. قال: صومٌ في مثل هذا اليوم على حرٍ. قال: صمت ليومٍ هو أحر منه. قال: فافطر اليوم وتصوم غداً. قال: أو يضمن لي الأمير أن أعيش إلى غدٍ. قال: ليس ذلك إلي. قال: فكيف تسألني عاجلاً بآجل ليس لي إليه سبيلٌ. قال: إنه طعامٌ طيبٌ. قال: والله ما طيبه خبازك ولا طباخك ولكن طيبته العافية. قال الحجاج: تالله ما رأيت كاليوم. (لابن عبد ربه)
الصلاة
18 إن الصلاة عماد الدين وعصام اليقين ورأس القربات وغرةً الطاعات. قال بعضهم: إن الصلاة تمسكن وتواضعٌ وتضرعٌ وتأوه وتنادمٌ. ورؤى عن الله سبحانه في الكتب السالفة أنه قال: ليس كل مصل أتقبل صلاته. إنما أقبل صلاة من تواضع لعظمتي ولم يتكبر على عبادي وأطعم الفقير الجائع لوجهي. (أحياء علوم الدين للغزالي) .(2/15)
تفقد هشامٌ بعض ولده لم يخضر الجمعة فقال: ما منعك من الصلاة. قال: نفقة دابتي. قال: أفعجزت عن المشي. فمنعه الدابا سنةً. (لأبي الفرج)
خسر الذي ترك الصلاة وخابا ... وأبى معاداً صالحاً ومآبا
إن كان يجحدها فحسبك أنه ... أضحى بربك كافراً مرتابا
أو كان يتركها لنوع تكاسلٍ ... غطى على وجه الصواب حجابا
19 (بيان اختلاف الخلق في لذاتهم) . أنظر إلى الصبي في أول حركته وتميزه فإنه يظهر فيه غريزةٌ بها يستلذ اللعب حتى يكون ذلك عنده ألذ من سائر الأشياء. ثم يظهر فيه بعد ذلك استلذاذ اللهو ولبس الثياب الملونة وركوب الدواب الفارهة فيستخف معه اللعب بل يستهجنه. ثم يظهر فيه بعد ذلك لذة الزينة والمنزل والخدم فيحتقر ما سواها لها. ثم يظهر فيه بعد ذلك لذة الجاه والرئاسة والتكاثر من المال والتفاخر بالأعوان والأتباع والأولاد وهذا آخر لذات الدنيا. وإلى هذه المراتب أشار القائل: إنما حياة الدنيا لعب ولهوٌ وزينةٌ وتفاخرٌ. ثم بعد ذلك فقد تظهر لذة العلم بالله تعالى والقرب منه والمحبة له والقيام بوظائف عباداته وترويح الروح بمناجاته فيستحقر معها جميع اللذات السابقة ويتعجب من المنهمكين فيها. وكما أن طالب الجاه والمال يضحك من لذة الصبي باللعب بالجوز مثلا كذلك صاحب المعرفة والمحبة يضحك من لذة(2/16)
الطالب الجاه والمال. وانتهى بوصوله إلى ذلك.
لذات الجنة
20 جاء في الحديث إن في الجنة ما لا عين رأت ولا أذن سمعت ولا خطر على قلب بشرٍ. (لبهاء الدين) قال بعضهم:
ألا قل لسكان وادي الحمى ... هنيئاً لكم في الجنان الخلود
أفيضوا علينا من الماء فيضاً ... فنحن عطاشٌ وأنتم ورود
الباب الثاني في الزهد
حد الزهد
21 قيل للزهري ما الزهد. قال: أما أنه ليس تشعيث اللمة ولا قشف الهيئة. ولكنه صرف النفس عن الشهوة. وقيل لآخر: ما الزهد في الدنيا قال: أن لا يغلب الحرام صبرك. ولا الحلال شكرك وقيل لمحمد بن واسعٍ: من أزهد الناس في الدنيا. قال: من لا يبالي بيد من كانت الدنيا. وقيل للخليل بن أحمد: من أزهد الناس في الدنيا. قال: من لم يطلب المفقود حتى يفقد الموجود. (لابن عبد ربه)(2/17)
ذلة الدنيا
22 قال بعض الحكماء: الدنيا كالماء المالح كلما ازداد صاحبه شرباً ازداد عطشاً. وكالكأس من العسل في أسفله السم فللذائق منه حلاوةٌ عاجلةٌ وفي أسفله الموت الذعاف. وكأحلام النائم التي تفرحه في منامه فإذا استيقظ انقطع الفرح. وكالبرق الذي يضيء قليلاً ويذهب وشيكاً ويبقى راجيه في الظلام مقيماً. وكدودة الإبريسم التي لا يزداد الإبريسم على نفسها لفاً إلا ازدادت من الخروج بعداً وفيه قيل:
كدودٌ كدود القز ينسج دائماً ... ويهلك غماً وسط ما هو ناسجه
الراهب والمسافر
23 قال وهب بن منبهٍ: صحب رجلٌ بعض الرهبان سبعة أيام ليستفيد منه شيئاً فوجده مشغولاً عنه بذكر الله تعالى والفكر لا يفتر. فالتفت إليه في اليوم السابع فقال: يا هذا قد علمت ما تريد. حب الدنيا رأس كل خطيئةٍ والزهد في الدنيا رأس كل خيرٍ. فاحذر رأس كل خطيةٍ وارغب في رأس كل خيرٍ. وتضرع إلى ربك أن يهب لك تاج كل خيرٍ. قال: فكيف أعرف ذلك. قال: كان جدي رجلاً من الحكماء قد شبه الدنيا بسبعة أشياء فشبهها بالماء الملح يغر ولا يروي. ويضر ولا ينفع. وبالبرق الخلب يغر ولا ينفع. وبسحاب الصيف يمر ولا ينفع. وبظل الغمام يغر ويخذل.(2/18)
وبزهر الربيع ينضر. ثم يصفر فتراه هشيماً. وبأحلام النائم يرى السرور في منامه فإذا استيقظ لم يكن في يده إلا الحسرة. وبالعسل المشوب بالسم الزعاف يغر ويقتل 24 كتب علي بن أبي طالب إلى سليمان إنما مثل الدنيا كمثل الحية لينٌ لمسها ويقتل سمها. فأعرض عنها وعما يعجبك منها لقلة ما يصحبك منها. ودع عنك همومها لما تيقنت من فراقها. وكن أسر ما تكون فيها أحذر ما تكره منها. فإن صاحبها كلما اطمأن فيها إلى سرورٍ أشخص منها إلى مكروهٍ. وقال أبو العتاهية:
هي الدار دار الأذى والقذى ... ودار الغرور ودار الغير
فلو نلتها بحذافيرها ... لمت ولم تقض منها الوطر
أيا من يؤمل طول الحياة ... وطول الحياة عليه خطر
إذا ما كبرت وبان الشباب ... فلا خير في العيش بعد الكبر
من الديوان المنسوب إلى أمير المؤمنين:
حلاوة دنياك مسمومةٌ ... فما تأكل الشهد إلا بسم
فكن موسراً شئت أو معسراً ... فما تقطع الدهر إلا بهم
إذا تم أمرٌ بدا نقصه ... توقع زوالاً إذا قيل تم
25 قال حكيمٌ لبعض أصحابه: تريد أن أريك الدنيا. فقال: نعم. فأخذ بيده وانطلق حتى وقف به على مزبلةٍ فيها رؤوس الآدميين ملقاةٌ. وبقايا عظام نخرةٍ وخرقٍ قد تمزقت وتلوثت بنجاساتٍ. فقال:(2/19)
هذه رؤوس الناس التي تراها كانت مثل رؤوسكم كانت مملؤةً من الحرص والاجتهاد على جمع الدنيا. وكانوا يرجون من طول الأعمار ما ترجون. وكانوا يجدون في جمع المال وعمارة الدنيا كما تجدون. فاليوم نعرت عظامهم وتلاشت أجسامهم كما ترى. وهذه الخرق كانت أثوابهم التي كانوا يتزينون بها عند التجمل وقت الرعونة والتجمل والتزين. فاليوم قد ألقتها الريح في النجاسات. وهذه عظام دوابهم التي كانوا يطوفون أقطار الأرض على ظهورها. وهذه النجاسات كانت أطعمتهم اللذيذة التي كانوا يحتالون في تحصيلها لا يقربها أحد من نتنها. فهذه جملة أحوال الدنيا كما تشاهد وترى. فمن أراد أن يبكي على الدنيا فلبيك فإنها موضع البكاء.. (قال) فبكى جماعة الحاضرين ولله الحريري حيث قال:
يا طالب الدنيا الدنية إنها ... شرك الردى وقرارة الأكدار
دار متى ما أضحكت في يومها ... أبكت عداً تباً لها من دار
غاراتها لا تنقضي وأسيرها ... لا يفتدى بجلائل الأخطار
فأقطع علائق حبها وطلابها ... تلق الهدى ورفاهة الأسرار
26 مثل أهل الدنيا واشتغالهم واهتمامهم بأحوالها ونسيان الآخرة وإهمالها كمثل قوم ركبوا مركباً في البحر فعدلوا إلى جزيرةٍ لأجل قضاء الحاجة. فنزلوا إلى الجزيرة والملاح يناديهم لا تطيلوا المكث(2/20)
لئلا يفوت الوقت ولا تشتغلوا بغير الصلاة فإن المركب سائرٌ. فمضوا وتفرقوا في الجزيرة وانتشروا في نواحيها فالعقلاء منهم لم يمكثوا وعادوا إلى المركب. فوجدوا الأماكن خاليةً فجلسوا في أطهر أماكنه وأوفقها. وأطيب مواضعه وأرفقها. ومنهم قوم نظروا إلى عجائب تلك الجزيرة. ووقفوا يتنزهون في زهرها وأثمارها. وروضها وأشجارها. ويسمعون ترنم أطيارها. ويتعجبون من حصبائها الملونة وأحجارها. فلما عادوا إلى المركب لم يجدوا فيه موضعاً ولا رأوا متسعاً. فقعدوا في أضيق مواضعه وأظلمها. ومنهم قومٌ وقفوا مع عجائب تلك الجزيرة فتحيروا. وفي الرجوع لم يتفكروا. حتى سار المركب فبعدوا عنه وانقطعوا وفي أماكنهم تخلفوا. إذ لم يصغوا إلى المنادي ولم يسمعوا فمنهم من هلك من الجوع ومنهم من أكلته السباع. ونهشته الضباع. فالقوم المتقدمون هم المؤمنون المتقون. والقوم المتخلفون الهالكون هم الذين نسوا الله ونسوا الآخرة وسلموا كليتهم إلى الدنيا وركنوا إليها واستحبوا الحياة الدنيا على الآخرة. وأما الجماعة المتوسطون فهم العصاة الذين حفظوا أصل الإيمان ولكنهم لم يكفوا يدهم عن الدنيا. فمنهم من تمتع بغناه ونعمته. ومنهم من تمتع مع فقره وحاجته. إلى أن ثقلت أوزارهم. وكثرت أوساخهم وآصارهم (للغزالي) 27 لما حضرت هشام بن عبد الملك الوفاة نظر إلى أهله يبكون(2/21)
حوله فقال: جاد لكم هشام بالدنيا وجدتم له بالبكاء. وترك لكم ما جمع وتركتم عليه ما حمل. ما أعظم منقلب هشام إن لم يغفر الله له قال أبو العتاهية:
أيا من عاش في الدنيا طويلاً ... وأفنى العمر في قبل وفال
وأتعب نفسه فيما سيفنى ... وجمع من حرامٍ أو حلال
هب الدنيا تقاد إليك عفواً ... أليس مصير ذلك للزوال
(للطرطوشي)
زوال الدنيا
28 إعلم أن الدنيا منزلة وليست بدار قرارٍ والإنسان فيها على صورة مسافرٍ. فأول منازله بطن أمه وآخر منازله لحد قبره. وإنما وطنه وقراره ومكئه واستقراره بعدها. فكل سنةٍ تنقضي من عمر الإنسان كالمرحلة. وكل شهرٍ ينقضي منه كاستراحة المسافر في سفره. وكل أسبوع فكقريةٍ تلقاه في طريقه. وكل يوم فكفرع يقطعه. وكل نفسٍ فكخطوةٍ يخطوها. وبقدر كل نفس يتنفسه يقرب من الآخرة. وهذه الدنيا قنطرة فمن عبر القنطرة واشتغل بعمارتها فني فيها زمانه. وأنسي المنزلة التي إليها مصيره وهي مكانه. وكان جاهلاً غير عاقلٍ. وإنما العاقل الذي لا يشتغل في دنياه إلا بإعداد زاده لمعاده. ويكتفي منها بقدر حاجته. ومهما جمعه منها فوق كفايته كان سماً قاتلاً. وتمنى أن تكون جميع خزائنه وسائر(2/22)
ذخائره فانيةً رماداً وتراباً لا فضةً وذهباً. ولو جمع مهما جمع فإنما يصيبه ما يأكله ويلبسه لا سواه. وجميع ما يخلفه يكون حسرةً وندامةً ويصعب عليه نزعه عند موته. فحلالها حسابٌ. وحرامها عذابٌ. إن كان قد جمع المال من حلال طلب منه الحساب. وإن كان قد جمعه من حرام أو وجب عليه العقاب. وكان أشد عليه من حسرة حلول العذاب به في حفرته وآخرته. واعلم أن راحة الدنيا أيام قلائل وأكثرها منغص بالتعب. ومشوبٌ بالنصب. وبسببها تفوت راحة الدنيا الآخرة التي هي الدائمة الباقية والملك الذي لا يفنى ولا نهاية له. فسهل على العاقل أن يصبر في هذه الأيام القلائل لينال راحة دائمة بلا انقضاء. والدنيا ليست بشيء في جنب الآخرة ولا نسبة بينهما لأن الآخرة لا نهاية لها ولا يدرك الوهم طولها. (للغزالي) 29 لما بنى المأمون بن ذي النون وكان من ملوك الأندلس قصره وأنفق في بنائه بيوت أمواله فجاء على أكمل بنيان في الأرض. وكان من عجائبه أنه صنع فيه بركة ماءٍ كأنه بحيرةٌ. وبنى في وسطها قبة وسيق الماء من تحت الأرض حتى علا إلى رأس القبة على تدبير قد أحكمه المهندسون. وكان الماء ينزل من أعلى القبة حواليها محيطاً بها متصلاً بعضه ببعض. فكانت القبة في غلالةٍ من ماء سكباً لا يفتر والمأمون قاعدٌ فيها. فروي عنه أنه بينما هو نائمٌ إذ سمع منشداً ينشد هذه الأبيات:(2/23)
أتبني بناء الخالدين وإنما ... مقامك فيها لو عقلت قليل
قد كان في ظل الأراك كفايةٌ ... لمن كان يوماً يقتضيه رحيل
فلم يلبث بعدها إلا يسيراً حتى قضى نحبه. (للطرطوشي) قال بعض الأكابر في مرض موته من قصيدةٍ:
نمضي كما مضت القبائل قبلنا ... لسنا بأول من دعاه الداعي
تبقى النجوم دوائر أفلاكها ... والأرض فيها كل يومٍ ناع
وزخارف الدنيا يجوز خداعها ... أبداً على الأبصار والأسماع
خطبة أبي الدرداء في أهل الشام
30 لما دخل أبو الدرداء الشام قال: يا أهل الشام اسمعوا قول أخٍ لكم ناصحٍ. فاجتمعوا عليه فقال: مالي أراكم تبنون ما لا تسكنون. وتجمعون ما لا تأكلون. وتقولون ما لا تدركون. إن الذين كانوا قبلكم بنوا مشيداً. أملوا بعيداً. وجمعوا كثيراً. فأصبح أملهم غروراً. وجمعهم بوراً. ومساكنهم قبوراً وروى الجاحظ قال: وجد مكتوباً على حجرٍ: ابن آدم. لو رأيت يسير ما بقي من أجلك. لزهدت في طول ما ترجو من أملك. ولرغبت في الزيادة من عملك ولقصرت عن حرصك وميلك. وإنما يلقاك غداً ندمك. وقد زلت بك قدمك. وأسلمك أهلك وحشمك. وتبرأ منك القريب. وانصرف عنك الحبيب. فلا أنت في عملك زائدٌ. ولا إلى أهلك عائدٌ. (للطرطوشي)(2/24)
قال فخر الدين البكري:
نهاية إقدام العقول عقال ... وأكثر سعي العالمين ضلال
وأرواحنا في وحشةٍ من جسومنا ... وحامل دنيانا أذى ووبال
ولم نستفد عن بحثنا طول عمرنا ... سوى أن جمعنا فيه قيل وقالوا
وكم قد رأينا من رجالٍ ودولةٍ ... فبادوا جميعاً مسرعين وزالوا
قال علي بن أبي طالبٍ:
لكل اجتماع من خليلين فرقةٌ ... وإن الذي دون الفراق قليل
أرى علل الدنيا علي كثيرةً ... وصاحبها حتى الممات عليل
وإن افتقادي واحداً بعد واحدٍ ... دليلٌ على أن لا يدوم خليل
وقال أيضاً:
ألا أيها الموت الذي ليس تاركي ... أرحني فقد أفنيت كل خليل
أراك بصيراً بالذين أحبهم ... كأنك تنحو نحوهم بدليل
وقال بعض بني ضبة:
أقول وقد فاضت دموعي حرةً ... أرى الأرض تبقى والأخلاء تذهب
أخلا بي لو غير الحمام أصابكم ... عتبت ولكن ما على الموت معتب
(للطرطوشي) 31 الدنيا لا تصفو لشارب. ولا تبقى لصاحب. يقال كان على قبر(2/25)
يعقوب بنٍ ليثٍ مكتوبٌ. هذه الأبيات عملها قبل موتهٍ وأمر أن تكتب على قبره وهي هذه:
سلامٌ على أهل القبور الدوارس ... كأنهم لم يجلسوا في المجالس
ولم يشربوا من بارد الماء شربةً ... ولم يأكلوا ما بين رطبٍ ويابس
فقد جاءني الموت المهول بكسرةٍ ... فلم تنجني منه ألوف فوارس
فيا زائر القبر اتعظ واعتبر بنا ... ولاتك في الدنيا هديت بآنس
(للغزالي) قال ابن سادة:
بنو الدنيا بجهل عظموها ... فجلت عندهم وهي الحقيرة
يهارش بعضهم بعضاً عليها ... مهارشة الكلاب على العقيرة
قال الإمام عليٌ:
إذا عاش الفتى ستين عاماً ... فنصف العمر تمحقه الليالي
ونصف النصف يذهب ليس يدري ... لغفلته يميناً عن شمال
وثلث النصف آمالٌ وحرصٌ ... وشغلٌ بالمكاسب والعيال
وباقي العمر أسقامٌ وشيبٌ ... وهمٌ بارتحال وانتقال
فحب المرء طول العمر جهلٌ ... وقسمته على هذا المثال
32 يا أيها الرجل لا تخدعن كما خدع من قبلك. فإن الذي أصبحت فيه من النعم إنما صار إليك بموت من كان قبلك وهو خارج من يدك مثل ما صار إليك. فلو بقيت الدنيا للعالم لم تصر للجاهل. ولو(2/26)
بقيت للأول لم تنتقل للآخر. يا أيها الرجل لو كانت الدنيا كلها ذهباً وفضةً ثم سلمت عليك بالخلافة وألقت إليك مقاليدها وأفلاذ كبدها ثم كنت طريدة للموت ما كان ينبغي لك أن تتهنأ بعيشٍ. لا فخر فيما يزول ولا غنى فيما يفنى.
33 قال مالك بن أنسٍ: ركب ملكٌ يوماً في ري عظيم فتشرف له الناس ينظرون إليه أفواجاً حتى مر برجل يعمل شيئاً مكباً عليه لا يلتفت إليه ولا يرفع رأسه. فوقف الملك عليه وقال: كل الناس ينظرون إلي إلا أنت. فقال الرجل: إني رأيت ملكا مثلك وكان على هذه القرية فمات هو ومسكينٌ فدفن إلى جانبه في يوم واحدٍ وكنا نعرفهما في الدنيا بأجسادهما. ثم كنا نعرفهما بقبريهما. ثم نسفت الريح قبريهما وكشفت عنهما فاختلطت عظامهما فلم أعرف الملك من المسكين. فلذلك أقبلت على عملي وتركت النظر إليك. وقد قيل في المعنى:
وحقك لو كشفت الترب عنهم ... لما عرف الغني من الفقير
ولا من كان يلبس ثوب شعرٍ ... ولا البدن المنعم بالحرير
قال التهامي:
وإنا لفي الدنيا كركب سفينةٍ ... نظن وقوفاً والزمان بنا يجري
وقال الآخر:
لا تخدعنك بعد طول تجارب ... دنيا تغر بوصلها وستقطع(2/27)
أحلام نومٍ أو كظل زائل ... إن اللبيب بمثلها لا يخدع
34 إن سليمان بن عبد الملك لبس أفخر ثيابه ومس أطيب طيبه ونظر في مرآة فأعجبته نفسه وقال: أنا الملك الشاب. وخرج إلى الجمعة وقال لجاريته: كيف ترين. فقالت:
أنت نعم المتاع لو كنت تبقى ... غير أن لا بقاء للإنسان
ليس فيما بدا لنا منك عيبٌ ... عابه الناس غير أنك فان
فأعرض بوجهه ثم خرج وصعد النبر وصوته يسمع آخر المسجد. ثم ركبته الحمى فلم يزل صوته ينقص حتى لم يسمعه من حوله. فصلى ورجع فلم تدر عليه الجمعة الأخرى إلا وهو في قبره.
أنشد القاضي أبو العباس الجرجاني هذه الأبيات:
بالله ربك كم قصر مررت به ... قد كان يعمر بالذات والطرب
طارت عقاب المنايا في جوانبه ... فصاح من بعده بالويل والحرب
اعمل وكن طالباً للرزق في دعةٍ ... فلا وربك ما الأرزاق بالطلب
وأنشد أيضاً:
أيها الرابع البناء رويداً ... لن تذود المنون عنك المباني
إن هذا البناء يبقى وتفنى ... كل شيءٍ أبقى من الإنسان
قال بعض الحكماء: أيها الناس إن الأيام تطوى. والأعمار تفنى. والأبدان في الثرى تبلى. وإن الليل والنهار يتراكضان تراكض البريد. يقربان كل بيعدٍ. ويخلقان كل جديد. (للطرطوشي)(2/28)
35 قال حكيمٌ: وجدت مثل الدنيا والمغرور بالدنيا المملوءة آفات مثل رجل ألجأه خوفٌ إلى نئرٍ تدلى فيها وتعلق بغصنين نابتين على شفير البئر. ووقعت رجلاه على شيءٍ فمدهما فنظر فإذا بحيات أربع قد أطلعن رؤوسهن من جحورهن. ونظر إلى أسفل البئر فإذا بثعبان فاغرٍ فاه نحوه. فرفع بصره إلى الغصن الذي يتعلق به فإذا في أصله جرذان أبيض وأسود يقرضان الغصن دائبين لا يفتران. فبينماً هو مهتمٌ بنفسه ابتغاء الحيلة في نجاته إذ نظر فإذا بجانبٍ منه حجر نحلٍ قد وضعن شيئاً عن عسلٍ فتطاعم منه فوجد حلاوته. فشغلته عن الفكر في أمره والتماس النجاة لنفسه. ولم يذكر أن رجليه فوق أربع حيات لا يدري من تساوره منهن وأن الجرذين دائبان في قرض الغصن الذي يتعلق به وأنهما إذا أوقعاه وقع في لهوات التنين. ولم يزال لاهياً غافلاً حتى هلك. قال الحكيم: فشبهت الدنيا المملوءة آفات وشروراً ومخاوف بالبئر. وشبهت الحياة الأربع بالأخلاط الأربع التي في جسد الإنسان من المرتين والبلغم والدم. وشبهت الغصن الذي تعلق به بالحياة. وشبهت الجرذين الأبيض والأسود الذين يقرضان الغصن دائبين لا يفنران بالليل والنهار ودورانهما في إفناء الأيام والآجال. وشبهت الثعبان الفاغر فاه بالموت الذي لا بد منه. وشبهت العسلة التي تطاعمها بالذي يرى الإنسان ويسمع ويلبس فيلهيه ذلك عن عاقبة أمره. (لابن عبد ربه) .(2/29)
36 جاذب رجلٌ من كنانة أبا العتاهية في شيءٍ ففخر عليه الكناني واستطال بقوم من أهله فقال أبو العتاهية:
دعني من ذكر أبٍ وجد ... ونسبٍ يعليك سوء المجد
ما الفخر إلا في التقى والزهد ... وطاعةٍ تعطي جنان الخلد
(للأصبهاني) 37 قال غانمٌ الوراق: دخلت على أبي نواس قبل وفاته بيومٍ فقال لي: أمعك ألواحك. قلت: نعم. قال اكتب:
دب في السقام سفلاً وعلوا ... وأراني أموت غضواً فعضوا
ليس تمضي من لحظةٍ لي إلا ... نقصتني بمرها بي جزوا
ذهبت حدتي بطاعة نفسي ... وتذكرت طاعة الله نضوا
لهف نفسي على ليالٍ وأيا ... م تجاوزتهن لعباً ولهوا
قد أسأنا كل الإساءة فاللهم ... صفحاً عنا وغفراً وعفوا
(للشريشي)
نوائب الدهر
38 لما نزل سعد بن أبي وقاص الحيرة قيل له: ههنا عجوزٌ من بنات الملوك يقال لها الحرقة بنت النعمان بن المنذر. وكانت من أجل عقائل العرب. وكانت إذا خرجت إلى بيعتها نشرت عليها ألف قطيفة خزٍ وديباج ومعها ألف وصيفٍ. فأرسل إليها سعد فجاءت كالشن البالي. فقالت: يا سعد كنا ملوك هذا المصر قبلك. يجبى(2/30)
إلينا خراجه ويطيعنا أهله مدةً من المدد. حتى صار بنا صائح الدهر فشتت ملأنا. والدهر ذو نوائب وصروفٍ. فلو رأيتنا في أيامنا لأرعدت فرائصك فرقاً منا. فقال لها سعدٌ: ما أنعم ما تنعمتم به. قال: سعة الدنيا علينا وكثرة الأصوات إذا دعونا. ثم أنشأت تقول:
وبينا نسوس الناس والأمر أمرنا ... إذا نحن فيهم سوقةٌ ليس ننصف
فتباً لدنيا لا يدوم نعيمها ... تقلب تاراتٍ بنا وتصرف
ثم قالت: يا سعد إنه لم يكن أهل بيتٍ بخيرٍ إلا والدهر يعقبهم حسرةً حتى أمر الله على الفريقين. فأكرمها سعد وأمر بردها (للطرطوشي) قال بعضهم:
يعاندني دهري كأني عدوه ... وفي كل يوم بالكريهة يلقاني
وإن رمت خيراً جاء دهري بضده ... وإن يصف لي يوماً تكدر في الثاني
39 قال ابن المعتز:
يا دهر ويحك قد أكثرت فجعاتي ... شغلت أيام دهري بالمصيبات
ملأت ألحاظ عيني كلها مزناً ... فأين لهوي وأحبابي ولذاتي
حمداً لربي وذماً للزمان فما ... أقل في هذه الدنيا ملذاتي
قال غيره:
ألا إنما الدنيا كظل سحابةٍ ... أظلتك يوماً ثم عنك اضمحلت(2/31)
قال غيره:
ألا إنما الدنيا كظل سحابةٍ ... أظلتك يوماً ثم عنك اضمحلت
فلا تك فرحاناً بها حين أقبلت ... ولا تك جزعاناً بها حين ولت
وقال آخر:
عريت من الشباب وكنت غصناً ... كما يعرى من الورق القضيب
ونحت على الشباب بدمع عيني ... فما نفع البكاء ولا النحيب
فيا ليت الشباب يعود يوماً=فأخبره بما فعل المشيب وأنشد آخر:
ما الناس إلا مع الدنيا وصاحبها ... فكيفما انقلبت يوماً به انقلبوا
يعظمون أخا الدنيا فإن وثبت ... عليه يوماً بما لا يشتهي وثبوا
40 قال ذو الكلاح الحميري في الدنيا:
إن صفا عيش امرئ في صبحها ... جرعته ممسياً كأس الردى
ولقد كنت إذا ما قيل من ... أنعم العالم عيشاً قيل ذا
قال أبو بكر الأرجاني:
يقصد أهل الفضل دون الورى ... مصائب الدنيا وآفاتها
كالطير لا يحبس من بينها ... إلا التي تطرب أصواتها
كتب البحتري إلى أحد أصحابه وكان معتقلاً في السجن:
وما هذه الأيام إلا منازلٌ ... فمن منزل رحبٍ إلى منزلٍ ضنك
وقد هذبتك النائبات وإنما ... صفا الذهب الإبريز قبلك بالسبك
أما في رسول الله يوسف أسوةٌ ... لمثلك محبوساً على الظلم والإفك
أقام جميل الصبر في السجن برهةً ... فآل به الصبر الجميل إلى الملك(2/32)
قال محمد بن الفضل:
هانت الدنيا على الل ... هـ فأعطاها اللئاما
فهم فيها يعيشو ... ن ويلحون الكراما
ذكر الموت
41 كان في بلاد الروم مما يلي أرض الأندلس رجلٌ نصرانيٌ قد بلغ في التخلي من الدنيا مبلغاً عظيماً. واعتزل الخلق ولزم قلل الجبال والسياحة في الأرض إلى الغاية القصوى. فورد على المستعين بن هودٍ في بعض الأمر فأكرمه ابن هود. ثم أخذ بيده وجعل يعرض عليه ذخائر ملكه وخزائن أمواله وما حوته من البيضاء والحمراء وأحجار الياقوت والجواهر وأمثالها ونفائس الأعلاق والجواري والحشم والأجناد والكراع والسلاح. فأقام على ذلك أياماً فلما انقضى قال له: كيف رأيت ملكي. قال: رأيت ملكك ولكنه تعوزك فيه خصلةٌ إن أنت قدرت عليها تم انتظام ملكك. وإن لم تقدر عليها فهذا الملك شبه لا شيءٍ. قال: وما هي الخصلة. قال: تعمد فتصنع غطاءً عظيماً حصيناً قوياً وتكون مساحته قدر البلد. ثم تركبه على البلد حتى لا يجد ملك الموت مدخلاً إليك. فقال المستعين: سبحان الله أو يقدر البسر على مثل هذا. فقال العلج: يا هذا أفتفتخر بأمر تتركه غداً. ومثال من يفتخر بما يفنى كمن يفتخر بما يراه في النوم.. (سراج الملوك للطرطوشي)(2/33)
قال المتنبي:
نحن بنو الموتى فما بالنا ... نعاف ما لا بد من شربه
يموت راعي الضأن في جهله ... ميتة جالينوس في طبه
قال أبو العتاهية:
وأرى الطبيب بطبه ودوائه ... لا يستطيع دفاع مكروهٍ أتى
ما للطبيب يموت بالداء الذي ... قد كان يبرئ منه فيما قد مضى
ذهب المداوي والمداوى والذي ... جلب الدواء وباعه ومن اشترى
قال ابن العربي وتذكر الأحبة في القبور:
ضمت لنا آرامنا الآراما ... فكأن ذاك العيش كان مناما
يا واقفين على القبور تعجبوا ... من قائمين كيف صاروا نياما
تحت التراب موسدين اكفهم ... قد عاينوا الحسنات والآثاما
لا يوقظون فيخبرون بما رأوا ... لا بد من يومٍ يكون قياما
وجد على قبرٍ:
قف واعتبر يا من ترى ... قبري وما بي قد جرى
بالأمس كنت نظيركم ... واليوم أبراني البرى
قل ربنا ألطف بنا ... وأرحم عظاماً في الثرى
قال أبو العتاهية:
تعلقت بآمال ... طوالٍ أي آمال
وأقبلت على الدنيا ... ملحاً أي إقبال(2/34)
أيا هذا تجهز ... لفراق الأهل والمال
فلا بد من الموت ... على حال من الحال
43 قال الأصمعي: صنع الرشيد طعاماً وزخرف مجالسه وأحضر أبا العتاهية وقال له: صف لنا ما نحن فيه من نعيم هذه الدنيا. فقال أبو العتاهية:
عش ما بدا لك سالماً ... في ظل شاهقة الفضور
فقال الرشيد: أحسنت ثم ماذا. فقال:
يسعى عليك بما اشتهيت ... لدى الرواح أو البكور
فقال: حسنٌ ثم ماذا. فقال:
فإذا النفوس تقعقعت ... في ظل حشرجة الصدور
فهناك تعلم موقناً ... ما كنت إلا في غرور
فبكى الرشيد. فقال الفضل بن يحيى: بعث إليك أمير المؤمنين لتسيره فحزنته. فقال الرشيد. دعه فإنه رآنا في عمى فكره أن يزيدنا بنه.. (للفخري) 44 أنشد أبو العتاهية:
الموت بين الخلق مشترك ... لا سوقةٌ يبقى ولا ملك
ما ضر أصحاب القليل وما ... أغنى عن الأملاك ما ملكوا
وقال أيضاً:
لا تأمن الموت في طرفٍ ولا نفس ... إذا تسترت بالأبواب والحرس(2/35)
واعلم بأن سهام الموت قاصدةٌ ... لكل مدرع منا ومترس
ولله در من قال:
أتعمى عن الدنيا وأنت بصير ... وتجهل ما فيها وأنت خبير
وتصبح تبنيها كأنك خالدٌ ... وأنت غداً عما بنيت تسير
وترفع في الدنيا بناء مفاخر ... ومثواك بيتٌ في القبور صغير
ودونك فاصنع كلما أنت صانعٌ ... فإن بيوت الميتين قبور
قال عمر بن عبدٍ العزيز:
أنظر لنفسكٍ يا مسكين في مهلٍ ... ما دام ينفعك التفكير والنظر
قف بالمقابر وانظر إن وقفت بها ... لله درك ماذا تستر الحفر
45 قال محمد بن بشير:
ويلٌ لمن لم يرحم الله ... ومن تكون النار مثواه
والويل لي من كل يوم أتى ... يذكرني الموت وأنساه
كأنه قد قيل في مجلسٍ ... قد كنت آتية وأغشاه
سار البشيري إلى ربه ... يرحمنا الله وإياه
قال ابن عبد ربه:
أصبح القبر مضجعي ... ومحلي وموضعي
صرعتني الحتوف في الت ... رب يا ذل مصرعي
أين إخواني الذي ... ن إليهم تطلعي(2/36)
مت وحدي فلم يمت ... واحدٌ منهم معي
قال بديع الزمان:
إنما الدنيا غرورٌ ... ولمن أصغى نصيح
ولسان الدهر بالوع ... ظ لواعيه فصيح
ونحن لاهون وآجا ... ل المنايا لا تريح
46 قال رجلٌ لأبي الدرداء: ما لنا نكره الموت. فقال: لأنكم أخربتم آخرتكم وعمرتم دنياكم. فكرهتم أن تنتقلوا من العمران إلى الخراب. (لبهاء الدين) مما وجد على قبرٍ:
تناجيك أجداثٌ وهن سكوت ... وسكانها تحت التراب خفوت
أيا جامع الدنيا لغير بلاغةٍ ... لمن تجمع الدنيا وأنت تموت
قال بعضهم:
يا خالط الدين بالدنيا وباطلها ... ترضى بدنياك شيئاً ليس يسواه
حتى متى أنت في لهوٍ وفي لعبٍ ... والموت نحوك يهوي فاتحاً فاه
قال آخر:
تروى من الدنيا فإنك راحل ... واعلم بأن الموت لا شك نازل
نعيمك في الدنيا غرورٌ وحسرةٌ ... وعيشك في الدنيا محالٌ وباطل
ألا إنما الدنيا كمنزل راكبٍ ... أناخ عشياً وهو في الصبح راحل(2/37)
47 وقال بعض الشعراء:
جزى الله عنا الموت خيراً فإنه ... أبر بنا من كل برٍ وأرأف
يعجل تخليص النفوس من الأذى ... ويدني من الدار التي هي أشرف
دخل العتبي المقابر فأنشأ يقول:
سقياً ورعياً لإخوان لنا سلفوا ... أفناهم حدثان الدهر والأبد
نمدهم كل يومٍ من بقيتنا ... ولا يؤوب إلينا منهم أحد
48 كان علي بن أبي طالبٍ إذا دخل المقبرة قال: السلام عليكم يا أهل الديار الموحشة. والمحال المقفرة. من المؤمنين والمؤمنات. اللهم اغفر لنا ولهم وتجاوز بعفوك عنا وعنهم. ثم يقول: الحمد لله الذي جعل لنا الأرض كفاتاً أحياءً وأمواتاً. والحمد لله الذي منها خلقنا وإليها معادنا وعليها محشرنا. طوبي لمن ذكر المعاد وعمل الحسنات وقنع بالكفاف ورضي عن الله عز وجل. (لابن عبد ربه) 49 الأيام خمسةٌ يومٌ مفقودٌ. ويومٌ مشهودٌ. ويومٌ مورودٌ. ويومٌ موعودٌ. ويومٌ ممدودٌ. فالمفقود أمسك الذي فاتك مع ما فرطت فيه. والمشهود يومك الذي أنت فيه فتزود فيه من الطاعات. والمورود هو غدك لا تدري هل هو من أيامك أم لا. والموعود هو آخر أيامك من أيام الدنيا فاجعله نصب عينك. والممدود هو آخرتك وهو يومٌ لا انقضاء له. فاهتم له غاية اهتمامك فإنه إما نعيم دائم أو عذابٌ مخلدٌ.(2/38)
50 جاء في النهج: أيها الناس إنما الدنيا دار مجازٍ والآخرة دار قرار فخذوا من ممر كم لمقركم. ولا تهتكوا أستاركم عند من يعلم أسراركم. وأخرجوا من الدنيا قلوبكم قبل أن تخرج منها أبدانكم. ففيها اختبرتم ولغيرها خلقتم.. (لبهاء الدين) كم من ليالٍ أحييتها بتكرار العلم ومطالعة الكتب. وحرمت على نفسك النوم. لا أعلم ما كان الباعث فيه. فإن كان نيتك غرض الدنيا وجذب حطامها وتحصيل مناصبها والمباهاة في الأقران والأمثال فويلٌ لك ثم ويل لك. وإن كان قصدك فيه تهذيب أخلاقك وكسر النفس الأمارة بالسوء فطوبى لك ثم طوبى لك. ولقد صدق من قال:
سهر العيون لغير وجهك ضائعٌ ... وبكاؤهن لغير فقدك باطل
(أيها الولد للغزالي) وكان آخر ما قاله ذو الرمة:
يا رب قد أشرفت نفسي وقد علمت ... علما يقيناً لقد أحصيت آثاري
يا مخرج الروح من جسمي إذا احتضرت=وفارج الكرب زحزحني عن النار
في الخوف
سئل ابن عباسٍ عن الخائفين لله. فقال: هم الذين صدقوا(2/39)
الله في مخافة وعيده. قلوبهم بالخوف قرحةٌ وأعينهم على أنفسهم باكيةٌ. ودموعهم على خدودهم جاريةٌ. يقولون كيف نفرح والموت من ورائنا. والقبور من أمامنا. والقيامة موعدنا. وعلى جهنم طريقنا. وبين يدي ربنا موقفنا. وقال عليٌ: ألا إن عباد الله المخلصين لمن رأى أهل الجنة فاكهين وأهل النار في النار معذبين. شرورهم مأمونةٌ. وقلوبهم محزونةٌ. وأنفسهم عفيفةٌ. وحوائجهم خفيفةٌ. صبروا أياماً قليلةً لعقبى راحةٍ طويلةٍ. قال الحسن: عجباً لمن خاف العقاب ولم يكف. ولم رجا الثواب ولم يعمل. (لابن عبد ربه)
في التوبة
52 لما حضرت عمر بن عبد العزيز الوفاة قال: اللهم إنك أمرتني فقصرت. ونهيتني فعصيت. وأنعمت علي فأفضلت. فإن عفوت فقد مننت. وإن عاقبت. فما ظلمت.
قال بعضهم:
إنك في دارٍ لها مدةٌ ... يقبل فيها عمل العامل
أما ترى الموت محيطاً بها ... يقطع فيها أمل الآمل
تعجل الذنب بما تشتهي ... وتأمل التوبة من قابل
والموت يأتي بعد ذا غفلة ... ماذا يفعل الحازم العاقل
قال لقمان لابنه: يا بني اجعل خطايا بين عينيك إلى آن(2/40)
تموت. وأما حسناتك فاله عنها فإنه قد أحصاها من لا ينساها 53 حكى أنه حاك بعض العارفين ثوباً وتأنق في صنعته. فلما باعه رد عليه بعيوبٍ فيه فبكى. فقال المشتري: يا هذا لا تبك فقد رضيت به. فقال: ما بكائي لذلك بل لأني بالغت في صنعته وتأنقت في جهدي فرد علي بعيوب كانت خفيةً علي. فأخاف أن يرد علي عملي الذي أنا عملته منذ أربعين سنة. (لبهاء الدين) 54 إسمع مني كلاماً تفكر فيه حتى تجد خلاصاً. لو أنك أخبرت أن السلطان بعد الأسبوع يجيئك زائراً فأنا أعلم أنك في تلك المدة لا تشتغل إلا بإصلاح ما علمت أن نظر السلطان سيقع عليه من الثياب والبدن والدارٍ والفراش وغيرها. والآن تفكر إلى ما أشرت به فإنك فهم ذكي والكلام الفرد يكفي الكيس والعاقل تكفيه الإشارة. إن الله تعالى لا ينظر إلى صوركم ولا إلى أعمالكم ولكن ينظر إلى قلوبكم ونياتكم. (أيها الولد للغزالي) 55 من خطب علي بن أبي طالبٍ: أيها الناس لا تكونوا ممن خدعته الدنيا العاجلة وغرته الأمنية واستهوته البدعة فركن إلى دارٍ سريعة الزوال وشيكة الانتقال. إنه لم يبق من دنياكم هذه في جنب ما مضى إلا كإناخة راكبٍ أو صرة حالب فعلام تعرجون وماذا تنتظرون. فكأنكم وبما أصبحتم فيه من الدنيا لم يكن وبما تصيرون إليه من الآخرة لم يزل. فخذوا الأهبة لأزوف النقلة(2/41)
وأعدوا الزاد لقرب الرحلة. واعلموا أن كل امرئٍ على قدمٍ قادمٌ. وعلى ما خلف نادمٌ.
56 (ومن خطبةٍ له) . أيها الناس حلوا أنفسكم بالطاعة. وألبسوا قناع المخافة. واجعلوا آخرتكم لأنفسكم. وسعيكم لمستقركم. وأعلموا أنكم عن قليل راحلون. وإلى الله صائرون. ولا يغني عنكم هنا لك إلا صالح عملٍ قد متموه. أو حسن ثوابٍ حزتموه. إنكم إنما تقدمون على ما قدمتم. وتجازون على ما أسلفتم. فلا تخدعنكم زخارف دنيا دنيةٍ. عن مراتب جنانٍ عليهٍ. فكأن قد انكشف القناع وارتفع الأرتياب. ولاقى كل امرئٍ مستقره وعرف مثواه ومنقلبه قال بعضهم:
آن يا ذلي ويا خجلي ... إن يكن مني دنا أجلي
لو بذلت الروح مجتهداً ... ونفيت النوم من مقلي
كنت بالتقصير معترفاً ... خائفاً عن خيبة الأمل
فعلى الرحمان متكلي ... لا على علمي ولا عملي
57 قال بعض العارفين: إذا كان أبونا آدم بعد ما قيل له: أسكن أنت وزوجك الجنة. صدر منه ذنب واحد فأمر بالخروج من الجنة. فكيف نرجو نحن دخولها مع ما نحن مقيمون عليه من الذنوب المتابعة والخطايا المتواترة. (لبهاء الدين) اجعل الهمة في الروح والهزيمة في النفس والموت في البدن لأن(2/42)
منزلك القبر. فأهل المقابر ينظرونك في كل لحظةٍ حتى تصل إليهم. إياك إياك أن تصل إليهم بلا زادٍ.
قال شاعرٌ:
يا ذا الذي ولدتك أمك باكياً ... والناس حولك يضحكون سرورا
احرص على عملٍ تكون به متى ... يبكون حولك ضاحكا مسرورا
58 روي أن الحسن البصري أعطي شربة ماءٍ باردٍ. فلما أخذ القدح غشيٍ على عقله وسقط من يده. فلما أفاق قيل له: ما بالك يا أبا سعيدٍ. قال: إني ذكرت أمنية أهل النار حين يقولون لأهل الجنة: أفيضوا علينا من الماء أو مما رزقكم الله. قالوا: إن الله حرمهما على الكافرين.
روي في وصايا لقمان الحكيم لابنه أنه قال: يا بني لا يكونن الديك أكيس منك. ينادي وقت السحر وأنت نائمٌ. لقد أحسن من قال:
لقد هتفت في جنح ليلٍ حمامةٌ ... على فننٍ وهناً وإني لنائم
كذبت وبيت الله لو كنت عاشقاً ... لما سبقتني بالبكاء الحمائم
وأزعم أني هائمٌ ذو صبابةٍ ... لربي ولا أبكي وتبكي البهائم
دعاء
59 اللهم إني أسألك من النعمة تمامها. ومن العصمة دوامها. ومن الرحمة شمولها. ومن العافية حصولها. ومن العيش أرغده. ومن(2/43)
العمر أسعده. ومن الإحسان أتمه. ومن الإنعام أعمه. ومن الفضل أعذبه. ومن اللطف أنفعه. اللهم كن لنا ولا تكن علينا. اللهم اختم بالسعادة آجالنا. وحقق بالزيادة آمالنا. وأقرن بالعافية غدونا وآصالنا. واجعل إلى رحمتك مصيرنا ومرجعنا. وصب سجال عفوك على ذنوبنا. ومن علينا بإصلاح عيوبنا. وأجعل التقوى زادنا. وفي دينك اجتهادنا. وعليك توكلنا واعتمادنا. ثبتنا على نهج الاستقامة. وأعذنا في الدنيا من موجبات الندامة. يوم القيامة. وخفف عنا ثقل الأوزار. وارزقنا عيشة الأبرار. واكفنا وأصرف عنا شر الأشرار. وأعتق رقابنا ورقاب آبائنا وأمهاتنا وعشيرتنا من عذاب القبر ومن النيران. برحمتك يا أرحم الراحمين. (أيها الولد للغزالي)
المراثي
60 قال الأصبهاني في الأغاني: لما رأى الفلاسفة تابوت الإسكندر وقد أخرج ليدفن قال بعضهم: كان الملك أمس أهيب منه اليوم. وهو اليوم أوعظ منه أمس. وقال آخر: سكنت حركة الملك في لذاته. وقد حركنا اليوم في سكونه جزعاً لفقده. وهذان المعنيان أخذهما أبو العتاهية برثاء ابنه عليٍ قال:
بكيتك يا علي بدمع عيني ... فما أغنى البكاء عليك شيئاً
وكانت في حياتك لي عظاتٌ ... وأنت اليوم أوعظ منك حيا
قال ابن عبد ربه في ولدٍ مات له:(2/44)
بليت عظامك والأسى يتجدد ... والصبر ينفد والبكا لا ينفد
يا غائباً لا يرتحى لإيابه ... ولقائه دون القيامة موعد
ما كان أحسن ملحداً ضمنته ... لو كان ضم أباك ذاك الملحد
باليأس أسلو عنك لا بتجلدي ... هيهات أين من الحزين تجلد
67 قال ابن الأحنف يرثي ابنه:
ولما دعوت الصبر بعدك والأسى ... أجاب الأسى طوعاً ولم يجب الصبر
فإن ينقطع منك الرجاء فإنه ... سيبقى عليك الحزن ما بقي الدهر
وقالت أعربيةٌ ترثي ولدها:
يا قرحة القلب والأحشاء والكبد ... يا ليت أمك لم تحبل ولم تلد
لما رأيتك قد أدرجت في كفنٍ ... مطيباً للمنايا آخر الأبد
أيقنت بعدك أني غير باقيةٍ ... وكيف يبقى ذراعٌ زال عن عضد
قال أعرابي يرثي ابنه:
بني لئن ضننت جفونٌ بمائها ... لقد قرحت مني عليك جفون
دفنت بكفي بعض نفسي فأصبحت ... وللنفس منها دافنٌ ودفين
قال العتبي يرثي بعض أولاده:
أصبحت بخدي للدموع رسوم ... أسفاً عليك وفي الفؤاد كلوم
والصبر يحمد في المواطن كلها ... إلا عليك فإنه مذموم(2/45)
الباب الثالث
في الحكم
62 قال الحكماء: لا يطلب الرجل حكمةً إلا بحكمةٍ عنده. وقالوا: إذا وجدتم الحكمة مطروحةً على السكك فخذوها. وقال زيادٌ: أيها الناس لا يمنعنكم سوء ما تعلمون منا أن تنتفعوا بأحسن ما تسمعون منا فإن الشاعر يقول:
إعمل بعلمي وإن قصرت في عملي ... ينفعك قولي ولا يضرك تقصيري
63 قال الرياحي في خطبته بالمربد: يا بني رياح لا تحقروا صغيراً تأخذون عنه. فإني أخذت من الليث بسالته. ومن الحمار صبره. ومن الخنزير حرصه. ومن الغراب حرره. ومن الثعلب روغانه. ومن السنور ضرعه. ومن القرد حكايته. ومن الكلب نصرته. ومن ابن آوى حذره. ولقد تعلمت من القمر سير الليل. ومن الشمس ظهور الحين بعد الحين. (لابن عبد ربه) 64 قال كعبٌ: استحيوا من الله في سرائركم كما يستحيون من الناس في علانيتكم. وقيل: من يستحي من الناس ولا يستحي من نفسه فلا قدر لنفسه عنده. وقال رجل للنعمان. أوصني. فقال: استحي من الله كما تستحي من رجلٍ من عشيرتك(2/46)
65 قال الأحنف بن قيسٍ: لا صديق لمتلون. ولا وفاء لكذوبٍ. ولا راحة لحسوٍ. ولا مرؤة لدنيءٍ. ولا زعامة ليسيءٍ الخلق.
(مؤنس الوحيد للثعالبي) 66 قيل: تجنب من أربعة أشياء لتخلص من أربعة أشياء. تجنب من الحسد لتخلص من الحزن. ولا تجالس جليس السوء وقد تخلصت من الملامة. ولا تركب المعاصي وقد خلصت من النار. ولا تجمع المال وقد استرحت من عداوة الخلق. (للغزالي) 67 قال بعض الشعراء:
بقدر الكد تكتسب المعالي ... ومن طلب العلى شهر الليالي
يغوص البحر من طلب اللآلي ... ويحظى بالسيادة والنوال
ومن طلب العلى من غير كدٍ ... أضاع العمر في طلب المحال
68 قال بعضهم: دخلت على سفيان الثوري بمكة فوجدته مريضاً وقد شرب دواءً. فقلت له: إني أريد أن أسألك عن أشياء. فقال لي: قل ما بدا لك. فقلت له: أخبرني من الناس. قال: الفقهاء. قلت له: فمن الملوك. قال: الزهاد. قلت له: فمن الأشراف. قال: الأتقياء. قلت: فمن الغوغاء. قال: من يكتب الحديث ويأكل به أموال الناس. قلت فمن السفلة. قال: الظلمة أولئك هم أصحاب النار.
روي أن سعيد بن عمر بن حذيم وعظ عمر بن الخطاب يوماً. فقال(2/47)
له عمر: ومن يطيق ذلك. قال: أنت يا أمير المؤمنين. ما هو إلا أن تقول فتطاع. فلا يجسر أحدٌ على مخالفتك. (نوادر القليوبي) 69 قال أبو عمرو: ولما احتضر ذو الإصبع دعا ابنه أسيداً. فقال له: يا بني إن أباك قد فني وهو حيٌ وعاش حتى سئم العيش. وإني موصيك بما إن حفظته بلغت في قومك ما بلغته. فأحفظ عني ألن جانبك لقومك يحبوك. وتواضع لهم يرفعوك. وأبسط لهم وجهك يطيعوك. ولا تستأثر عليهم بشيءٍ يسودك. وأكرم صغارهم كما تكرم كبارهم يكرمك كبارهم. ويكبر على مودتك صغارهم. وأسمح بما لك. وأعزز جارك. وأعن من استعان بك. وأكرم ضيفك. وأسرع النهضة في الصريخ فإن لك أجلاً لا يعدوك. وصن وجهك عن مسئلة أحدٍ شيئاً فبذلك يتم سؤددك. (للأصبهاني) 70 سئل بعض الحكماء: أي الأمور أشد تأبيداً للعقل وأيها أشد إضراراً به. فقال: أشدها تأييداً له ثلاثة أشياء: مشاورة العلماء. وتجربة الأمور. وحسن التثبت. وأشدها إضراراً به ثلاثة أشياء: الاستبداد. والتهاون. والعجلة. (لابن عبد ربه) 71 قال الشاعر:
إن المكارم أخلاقٌ مطهرةٌ ... فالدين أولها والعقل ثانيها
والعلم ثالثها والحلم رابعها ... والجود خامسها والعرف ساديها
والبر سابعها والصبر ثامنها ... والشكر تاسعها واللين عاشيها(2/48)
والعين تعلم من عيني محدثها ... إن كان من حزبها أو من أعاديها
والنفس تعلم أني لا أصدقها ... ولست أرشد إلا حين أعصيها
72 قالوا: ثلاثةٌ لا يندم على ما سلف إليهم. الله في عملٍ له والمولى الشكور فيما أسدي إليه. والأرض الكريمة فيما بذر فيها. وقالوا: ثلاثةٌ لا بقاء لها. ظل الغمام. وصحبة الأشرار. والثناء الكاذب. وقالوا: ثلاثةٌ لا تكون إلا في ثلاثةٍ. الغنى في النفس. والشرف في التواضع. والكرم في التقوى. وقالوا: ثلاثة لا تعرف إلا في ثلاثةٍ. ذو البأس لا يعرف إلا عند اللقاء. وذو الأمانة لا يعرف إلا عند الأخذ والعطاء. والإخوان لا يعرفون إلا عند النوائب.
73 قال أبرويز لكاتبه: اعلم أن دعائم المقالات أربعٌ. إن التمس لها خامسٌ لم يوجد. وإن نقص منها واحدٌ لم تتم. وهي سؤالك الشيء. وأمرك بالشيء. وإخبارك عن الشيء. وسؤالك عن الشيء. فإذا طلبت فأسجح. وإذا سألت فأوضح. وإذا أمرت فاحكم. وإذا أخبرت فحقق. واجمع الكثير مما تريد في القليل مما تقول. (يريد الكلام الذي تقل حروفه وتكثر معانيه) 74 قالت الحكماء: الإخوان ثلاثةٌ. أخٌ يخلص لك وده. ويبذل لك رفده. ويستفرغ في مهمك جهده. وأخ ذو نيةٍ يقتصر بك على حسن نيته. دون رفده ومعونته. وأخٌ يتملق لك بلسانه.(2/49)
ويتشاغل عنك بشأنه. ويوسعك من كذبه وأيمانه.
75 قال بعض الحكماء لابنه: يا بني تعلم حسن الاستماع كما تتعلم حسن الحديث. وليعلم الناس أنك أحرص على أن تسمع منك على أن تقول. فأحذر أن تسرع في القول فيما يجب عنه الرجوع بالفعل. حتى يعلم الناس أنك على فعل ما لم تقل أقرب منك إلى قول ما لم تفعل. (لابن عبد ربه) 76 أنشد بعض الشعراء:
يا أيها الرجل المعلم غيره ... هلا لنفسك كان ذا التعليم
تصف الدواء لذي السقام وذي الضنى ... كيما يصح به وأنت سقيم
ونراك تصلح بالرشاد عقولنا ... أبداً وأنت من الرشاد عديم
فأبدأ بنفسك وأنهما عن غيها ... فإذا انتهت عنه فأنت حكيم
فهناك يقبل ما تقول ويهتدي ... بالقول منك وينفع التعليم
لا تنه عن خلق وتأتي مثله ... عارٌ عليك إذا فعلت عظيم
77 قال أرسطاطا ليس للإسكندر: إن الناس إذا قدروا أن يقولوا قدروا أن يفعلوا. فاحترس من أن يقولوا تسلم من أن يفعلوا.
78 قال العتي: اجتمعت العرب والعجم على أربع كلمات. قالوا: لا تحملن على قلبك ما لا تطيق. ولا تعملن عملاً ليس لك فيه منفعةٌ. ولا تثق بامرأة. ولا تغتر بمالٍ وإن كثر.(2/50)
79 قال لقمان لابنه: لا تركن إلى الدنيا ولا تشغل قلبك بها فإنك لم تخلق لها. وما خلق الله خلقاً أهون عليه منها فإنه لم يجعل نعيمها ثواباً للمطيعين. ولا بلاءها عقوبةً للعاصين. يا بني لا تضحك من غير عجب. ولا تمش في غير أربٍ. ولا تسأل عما لا يعنيك. يا بني لا تضع مالك وتصلح مال غيرك. فإن مالك ما قدمت. ومال غيرك ما تركت. يا بني إنه من يرحم يرحم. ومن يصمت يسلم. ومن يقل الخير يغنم. ومن يقل الباطل يأثم. ومن لا يملك لسانه يندم. يا بني زاحم العلماء بركبتيك. وأنصت إليهم بأذنبك. فإن القلب يحيا بنور العلماء. كما تحيا الأرض الميتة بمطر السماء.
80 قال عمر بن عتبة: لما بلغت خمس عشرة سنة قال لي أبي: يا بني قد تقطعت عنك شرائع الصبا. فألزم ألحياء تكن من أهله. ولا تزايله فتبين منه. ولا يغرنك من مدحك بما تعلم خلافه من نفسك. فإنه من قال فيك من الخير ما لم يعلم إذا رضي. قال فيك من الشر مثله إذا سخط. فأستأنس بالوحدة من جلساء السوء تسلم من غب عواقبهم. (لابن عبد ربه) 81 قال أبو العيناء:
إذا أعجبتك خصال امرئٍ ... فكنه يكن منك ما يعجبك
فليس على المجد والمكرمات ... حجابٌ إذا جئته يحجبك
82 من كلام أوميرس: إتهم أخلاقك السيئة فإنها إذا وصلت(2/51)
إلى حاجاتها من الدنيا كانت كالحطب للنار والماء للسمك. وإذا عزلتها عن مآربها وحلت بينها وبين ما تهوى انطفأت كانطفاء النار عند فقدان الحطب. وهلكت كهلاك السمك عند فقدان الماء 83 قال أبو الفتح البستي:
إذا طالبتك النفس يوماً بشهوةٍ ... وكان إليها في الخلاف طريق
فخالف هواها ما استطعت فإنما ... هواها عدوٌ والخلاف صديق
84 ومن كلام أمير المؤمنين نقله الشيخ المفيد في الإرشاد: كل قول ليس لله فيه ذكرٌ فهو لغوٌ. وكل صمتٍ ليس فيه فكرٌ فسهوٌ. وكل نظرٍ ليس فيه اعتبارٌ فلهوٌ.
85 ومن كلام الحكماء: إن مرتكب الصغيرة ومرتكب الكبيرة سيان. فقيل: وكيف ذلك. فقالوا: الجرأة واحدةٌ. وما عف عن الدرة. من يسرق الذرة.
86 (سانحةٌ) غفلة القلب عن الحق من أعظم العيوب. وأكبر الذنوب. ولو كانت آنا من الآنات أو لمحةً من اللمحات. حتى إن أهل القلوب عدوا الغافل في آن الغفلة من جملة الكفار. وكما يعاقب العوام على سيئاته. كذلك يعاقب الخواص على غفلاتهم. فاجتنب الاختلاط بأصحاب الغفلة على كل حالٍ. إن أردت أن تكون من زمرة أهل الكمال.
87 أوصى بعض الحكماء ابنه فقال: ليكن عقلك دون دينك.(2/52)
وقولك دون فعلك. ولباسك دون قدرك 88 عن أمير المؤمنين: أربع من خصال الجهل. من غضب على من لا يرضيه. وجلس إلى من لا يدنيه. وتفاقر إلى من لا يغنيه. وتكلم بما لا يعنيه.
89 قيل لحكيم: إن الذي قلته لأهل مدينة كذا لم يقبلوه. فقال: لا يلزمني أن يقبل بل يلزمني أن يكون صواباً.
قال حكيم: لا يكون الرجل عاقلاً حتى يكون عنده تعنيف الناصح ألطف موقعاً من ملق الكاشح. (لبهاء الدين) 90 قال أبو الفتح البستي:
إذا صحبت الملوك فالبس ... من التوقي أعز ملبس
وأدخل إذا ما دخلت أعمى ... وأخرج إذا ما خرجت أخرس
91 قال بعضهم: عشيرتك من أحسن عشرتك. وعمك من عمك خيره. وقريبك من قرب منك نفعه.
92 قال سقراط وهو تلميذ فيثاغورس الحكيم: إذا أقبلت الحكمة خدمت الشهوات العقول. وإذا أدبرت خدمت العقول الشهوات.
93 من كلام الحكماء: لا تكن ممن يرى القذى في عين أخيه ولا يرى الجذع المعترض في حدق نفسه.
94 ومن كلام بعض الحكماء: ثلاثةٌ لا يستخف بهم. السلطان(2/53)
والعالم والصديق. فمن استخف بالسلطان ذهبت دنياه. ومن أستخف بالعالم ذهب دينه. ومن أستخف بالصديق ذهبت مودته. (لبهاء الدين) 95 أنشد بعض الشعراء:
ثلاثةٌ يجهل مقدارها ... ألأمن والصحة والقوت
فلا تثق بالمال من غيرها ... لو أنه در وياقوت
قيل: لا ينبغي للعاقل أن يسكن بلدا ليس فيه خمسة أشياء. سلطانٌ حازمٌ. وقاضٍ عادلٌ. وطبيبٌ عالمٌ. ونهرٌ جارٍ. وسوقٌ قائمٌ قال بعض الحكماء: ثلاثٌ مهلكاتٌ وثلاثٌ منجياتٌ. فأما المهلكات. فشحٌ مطاعٌ. وهوىً متبعٌ. وإعجاب المرء بنفسه. وأما المنجيات. فخشية الله في السر والعلانية. والقصد في الغنى والفقر. والعدل في الرضاء والغضب. (لطائف العرب) 96 قيل: إذا أقبلت الدنيا على إنسانٍ أعارته محاسن غيره. وإذا أدبرت عنه سلبته محاسن نفسه. (رسالة آداب للمستعصمي) 97 قيل: ما من خصلةٍ تكون للغني مدحاً إلا وتكون للفقير ذماً. فإن كان حليماً قيل ذليلٌ. وإن كان شجاعاً قيل: أهوج. وإن كان لسناً قيل: مهذارٌ.
قال بعضهم:
إذا كنت لا ترجى لدفع ملمةٍ ... ولم يك في المعروف عنك مطمع(2/54)
ولا أنت ممن يستعان بجاهه ... ولا أنت يوم الحشر ممن يشفع
فعيشك في الدنيا وموتك واحدٌ ... وعود خلالٍ من وصالك أنفع
قال عمر للأحنف بن قيس: من كثر ضحكة قلت هيبته. ومن أكثر من شيءٍ عرف به. ومن كثر مزاحه. كثر سقطه. ومن كثر سقطه. قل ورعه. ومن قل ورعه. قل حياؤه. ومن ذهب حياؤه. مات قلبه.
98 قال الحسن: أيها الناس نافسوا في الكارم. وسارعوا في المغانم. ولا تحتسبوا بمعروفٍ لم تعجلوه. ولا تكسبوا بالمطل ذماً. واعلموا أن حوائج الناس من نعم الله عليكم. فلا تملوا النعم فتحول نقماً. وأن أجود الناس من أعطى من لا يرجوه. وأن أعفى الناس من عفا عن قدرةٍ. ومن أحسن أحسنَ الله إليه. والله يحب المحسنين. وقال أيضاً: لا تتكلف ما لا تطيق. ولا تتعرض لما لا تدرك. ولا تعد بما لا تقدر عليه. ولا تنفق إلا بقدر ما تستفيد. ولا تطلب من الجزاء إلا بقدر ما صنعت. ولا تفرح إلا بما نلت من طاعة الله تعالى. ولا تتناول إلا ما رأيت نفسك أهلاً له.
99 قال ابن عباسٍ: لجليسي على ثلاثٌ. أن أرميه بطرفي إذا أقبل. وأن أوسع له إذا جلس. وأصغي إليه إذا حدث.
100 أوصى عبد الله بن عباسٍ رجلاً. فقال: لا تتكلم بما لا يعنيك. حتى تجد له موضعاً. ولا تمادين(2/55)
حليماً ولا سفيهاً. فإن الحليم يطغيك. والسفيه يؤذيك. واذكر أخاك إذا توارى عنك بما تحب أن يذكرك إذا تواريت عنه. ودعه مما تحب أن يدعك منه فإن ذلك العدل. واعمل عمل امرئٍ يعلم أنه مجزي بالإحسان مأخوذ بالإجرام.
101 قال عبد الله بن جعفر: كمال المرء في خلال ثلاثٍ. معاشرة أهل الرأي والفطنة. ومداراة الناس بالمعاشرة الجميلة. والاقتصاد من بخل وإسرافٍ.
قال يزرجمهر لكسرى وعنده أولاده: أي أولادك أحب إليك. قال: أرغبهم في الآداب. وأجزعهم من العار. وأنظرهم إلى الطبقة التي فوقهم.
102 قال بهرام جور: ينبغي للملك أن لا يضيع التثبت عندما يقول وما يفعل. فإن الرجوع عن الصمت أحسن من الرجوع عن الكلام. والعطية بعد المنع خيرٌ من المنع بعد العطية. والإقدام على العمل بعد التأني خيرٌ من الإمساك عنه بعد الإقدام عليه.
103 وقال كسرى لحكماء الفرس وقد اجتمعوا إليه: ليتكلم كل واحد منكم بكلمات ولا يكثرها. فقال أحدهم: هير الملوك أرحبهم ذرعا عند الضيق. وأعدلهم حكماً عند الغضب. وأرحمهم إذا سلط. وأبعدهم من الظلم عند القدرة. وأطلبهم لرضاء الرعية. وأبسطهم وجهاً عند المسألة. فقال كسرى: حسبي هذا لا أريد عليه مزيداً.(2/56)
104 قال بعض ملوك الفرس لمرازبته: أوصيكم بخمسة أشياء فيها راحة أنفسكم. واستقامة أموركم. أوصيكم بترك المراء. واجتناب التفاخر. والاصطبار على القناعة. والرضاء بالحظوظ. وأوصيكم بكل ما لم أقل مما يجمل. وأنها كم عن كل ما لم أقل مما يقبح.
قال ابن السماك: الكمال في خمسٍ. أن لا يعيب الرجل أحداً بعيبٍ فيه مثله. حتى يصلح ذلك العيب من نفسه. فإنه لا يفرغ من إصلاح عيبٍ حتى يهجم على آخر. فتشغله عيوبه عن عيوب الناس. والثانية أن لا يطلق لسانه ويده حتى يعلم أوفي طاعةٍ ذلك أم في معصيةٍ. والثالثة أن لا يلتمس من الناس إلا ما يعلم أنه يعطيهم من نفسه مثله. والرابعة أن يسلم من الناس باستشعار مداراته وتوفيتهم حقوقهم. والخامسة أن ينفق الفضل من ماله. ويمسك لفضل من لسانه.
105 قال حاتمٌ الزاهد: إذا رأيت من أخيك عيباً فإن كتمته عنه فقد خنته. وإن قلته لغيره فقد اغتبته. وإن واجهته فقد أوحشته. فقال له إنسانٌ: فما الذي أصنع. قال: تكني عنه وتعرض به. وتجعله في جملةٍ الحديث.
106 قال ابن وهبٍ: لا يكون الرجل عاقلاً حتى يكون فيه عشر خصال: الكبر منه مأموناً. والخير فيه مأمولاً. ويقتدي بأهل الأدب من قبله فيكون إماماً لمن بعده. وحتى يكون الذل في طاعة الله أحب(2/57)
إليه من العز في معصية الله. وحتى يكون الفقر في الحلال أحب إليه من الغنى في الحرام. وحتى يكون عيشة القوت وحتى يستقل الكثير من عمله ويستكثره من غيره. ولا يتبرم بطلب الحوائج قبله. وأن يخرج من بيته فلا يستقبل أحداً إلا رأى أنه دونه. (للمستعصمي) 107 قال بعض الشعراء:
لا تحقرن عدواً في مخاصمةٍ ... ولو يكون ضعيف البطش والجلد
فللبعوضة في الجرح المديد يدٌ ... تنال ما قصرت عنه يد الأسد
108 (من النهج) . كتب أمير المؤمنين إلى الحارث الهمداني: تمسك بحبل الدين. وانتصحه وأحل حلاله. وحرم حرامه. وصدق بما سلف من الحق واعتبر بما مضى من الدنيا ما بقي منها. فإن بعضها يشبه بعضاً وآخرها لاحقٌ بأولها. وكلها حائلٌ مفارقٌ. وعظم اسم الله أن تذكره إلا على حقٍ. وأكثر ذكر الموت وما بعد الموت. ولا تتمن الموت إلا بشرطٍ وثيقٍ. وأحذر كل عملٍ يرضاه صاحبه لنفسه. ويكرهه لعامة المؤمنين. وأحذر كل عملٍ يعمل في السر ويستحيا منه في العلانية. وأحذر كل عملٍ إذا سئل صاحبه عنه أنكر وأعتذر منه. ولا تجعل عرضك غرضا لنبال القوم. ولا تحدث بكل ما سمعت فكفى بذلك كذباً. ولا ترد على الناس كل ما حدثوك به فكفى بذلك جهلاً. واكظم الغيظ. وأحلم عند الغضب.(2/58)
وتجاوز عند القذرة. وأصفح عن الزلة تكن لك العاقبة. وأستصلح كل نعمةٍ أنعم الله بها عليك. ولا تصنع نعمةٌ من نعم الله عندك. وليبن عليك أثر ما أنعم الله به عليك. وأعلم أن أفضل المؤمنين أفضلهم تقدمةً من نفسه وأهله وماله. وأنك ما تقدم من خيرٍ يبق لك ذخره. وما تؤخر يكن لغيرك خيره. وأحذر صحبة من يقبل رأيه وينكر عمله. فإن الصاحب معتبرٌ بصاحبه. وأحذر منازل الغفلة والجفاء وقلة الأعوان على طاعة الله. وأقصر رأيك على ما يعنيك. وإياك ومقاعد الأسواق فإنها محاضر الشيطان ومعاريض الفتن. وأطع الله في كل أمورك فإن طاعة الله تعالى فاضلةٌ على ما سواها. وإياك أن ينزل بك الموت وأنت آبق من ربك في طلب الدنيا. وإياك ومصاحبة الأشرار فإن الشر بالشر ملحقٌ. وفر إلى الله وأحب أحباءه. وأحذر الغضب فإنه جندٌ من جنود إبليس والسلام. (لبهاء الدين العاملي)
نخبة من أرجورة ابن مكانس
109 هل من فتى ظريف. معاشر لطيف. يسمع من مقالي. ما يرخص اللآلي. أمنحه وصيه. ساريةً سرية. تنير في الدياجي. كلمة السراج. رشيقة الألفاظ. تسهل للحفاظ. جادت بها القريحة. في معرض النصيحة. أنا الشفيق الناصح. أنا المجد المازح. إن تبتغ الكرامة وتطلب السلامة. أسلك مع الناس الأدب. ترى من الدهر العجب.(2/59)
لن لهم الخطايا. واعتمد الآدابا. تنل بها الطلابا. وتسحر الألبابا. ولا تطاول بنشب. ولا تفاخر بنسب. فالمرء ابن اليوم. والعقل زين القوم. ما أروض السياسة. لصاحب الرئاسة. إن شئت تلغى محسنا. فلا تقل يوماً أنا. ألعز في الأمانة. والكيس في الفطانه. ألقصد باب البركه. والخرق داعي الهلكه. لا تغضب الجليسا. لا توحش الأنيسا. لا تصحب الخسيسا. لا تسخط الرئيسا. لا تكثر العتابا. تنفر الأصحابا. فكثرة المعاتبه. تدعو إلى المجانبة. وإن حللت مجلسا. بين سراةٍ رؤوسا. إقصد رضا الجماعة. وكن غلام الطاعة. ودارهم باللطف. وأحذر وبال السخف. واختصر السؤالا. وقلل المقالا. ولا تكن معربدا. ولا بغيضاً نكدا. لا تحمل الطعاما. والنقل والمداما. فذاك في الوليمة. شناعةٌ عظيمه. لا يرتضيها آدمي. غير مقل عادم. وقل من الكلام. ما لاق بالمدام. كرائق الأشعار. وطيب الأخبار. وأترك كلام السفلة. والنكت المبتذلة. إياك والتطفيلا. شؤمه الوبيلا. ولا تكن مبذولا. ولا تكن ملولا. ألبخل لا تألفه. والخل لا تصدفه. ولا تقل لمن تحب. ضيف الكرام يصطحب. ولا تكن ملحاحا. وأجتنب المزاحا. فكثرة المجون. نوعٌ من الجنون. فالشؤم في اللجاج. والحر لا يداجي. وهذه الوصية. للأنفس الأبية. أختارها لنفسي. وإخوتي وجنسي. فهاكها وصيه تصحبها التحية. تحملها الكرام. إليك والسلام.(2/60)
110 إني ناصحك ببعض نصائح أقبلها مني ليلاً يكون عملك خصماً عليك يوم القيامة. تعمل منها وتدع منها. وأما ما تدع فالأول أن لا تناظر أحداً في مسئلةٍ ما استطعت. لأن فيها آفةً كثيرةً وإثمها أكبر سن نفعها إذ هي منبع كل خلق ذميم كالرثاء والحسد والكبر والحقد والعداوة والمباهاة وغيرها. نعم لو وقع مسئلةٌ بينك وبين شخص أو قومٍ وكان إرادتك فيها أن يظهر الحق جاز لك البحث لكن لتلك الإرادة علامتان. إحداهما أن لا تفرق بين أن ينكشف الحق على لسانك أو على لسان غيرك. وثانيتهما أن يكون البحث في الخلاء أحب إليك من أن يكون في الملإ. والثاني مما تدع وهو أن تحذر وتحترز من أن تكون واعظاً ومذكراً لأن آفته كثيرةٌ إلا أن تعمل بما تقول أولاً ثم تعظ به الناس فتفكر فيما قيل لبعضهم: عظ نفسك فإن اتعظت فعظ الناس وإلا فاستحي ربك إن ابتليت بهذا العمل.
وأما ما ينبغي لك أن تفعله. فالأول أن تجعل معاملتك مع الله تعالى. بحيث لو عمل معك بها عبدك ترضى بها منه. ولا يضيق خاطرك عليه ولا تغضب. وما لا ترضى لنفسك من عبدك المجازي فلا ترض به لله تعالى وهو سيدك الحقيقي. والثاني كلما عملت بالناس اجعله كما ترضى لنفسك منهم. لأنه لا يكمل إيمان العبد حتى يحب لسائر الناس ما يحب لنفسه. والثالث إذا قرأت العلم(2/61)
أو طالعته ينبغي أن يكون علماً يصلح قلبك ويزكي نفسك. (ليها الولد للغزالي بتصرف)
(من كلام موفق الدين عبد اللطيف بن يوسف البغدادي)
111 (قال) ينبغي أن تحاسب نفسك كل ليلةٍ إذا أويت إلى منامك. وتنظر ما اكتسبت في يومك من حسنةٍ فتشكر الله عليها. وما اكتسبت من سيئة فتستغفر الله منها وتقلع عنها. وترتب في نفسك ما تعمله في غدك من الحسنات. وتسأل الله الإعانة على ذلك.
(وقال) أوصيك ألا تأخذ العلوم من الكتب وإن وثقت من نفسك بقوة الفم. وعليك بالأستاذين في كل علمٍ تطلب اكتسابه. ولو كان الأستاذ ناقصاً فخذ عنه ما عنده حتى تجد أكمل منه. وعليك بتعظيمه وترحيبه وإن قدرت أن تفيده من دنياك فأفعل. وإلا فبلسانك وثنائك. وإذا قرأت كتاباً فأحرص كل الحرص على أن تستظهره وتملك معناه. وتوهم أن الكتاب قد عدم وأنك مستغن عنه لا تحزن لفقده.
وإذا كنت مكباً على دراسة كتاب وتفهمه فإياك أن تشتغل بآخر معه. وأصرف الزمان الذي تريد صرفه في غيره إليه. وإياك أن تشتغل بعلمين دفعة واحدةً. وواظب على العلم الواحد سنة أو سنتين أو ما شاء الله. وإذا قضيت منه وطرك. فانتقل إلى علمٍ آخر.(2/62)
ولا تظن أنك إذا حصلت علما فقد اكتفيت. بل تحتاج إلى مراعاته لينمي ولا ينقص. ومراعاته تكون بالمذاكرة والتفكر واشتغال المبتدئ بالتحفظ والتعلم ومباحثة الأفران واشتغال العالم بالتعليم والتصنيف. وإذا تصديت لتعليم علم أو للمناظرة فيه فلا تمزج به غيره من العلوم. فإن كل علم مكتفٍ بنفسه مستغنٍ عن غيره. فإن استعانتك في علم بعلم عجز عن استيفاء أقسامه كمن يستعين بلغة في لغةٍ أخرى إذا ضاقت عليه أو جهل بعضها.
(قال) وينبغي للإنسان أن يقرأ التواريخ وأن يطلع على لسير وتجارب الأمم. فيصير بذلك كأنه في عمره القصير قد أدرك الأمم الخالية وعاصرهم وعاشرهم وعرف خيرهم وشرهم.
(قال) وينبغي أن يكثر اتهامك لنفسك ولا تحسن الظن بها وتعرض خواطرك على العلماء وعلى تصانيفهم. وتتثبت ولا تعجل ولا تعجب. فمع العجب العثار ومع الاستبداد الزلل. ومن لم يعرق جبينه إلى أبواب العلماء لم يعرق في الفضيلة. ومن لم يخجلوه لم يبجله الناس. ومن لم يبكتوه. لم يسود. ومن لم يحتمل ألم التعلم والتفكر فحرك لسانك بذكر الله تعالى وبتسابيحه. وخاصةً عند النوم فيتشربه لبك ويتعجن في خيالك. وتتكلم به في منامك. وإذا حدث لك فرح وسرورٌ ببعض أمور الدنيا فاذكر الموت وسرعة(2/63)
الزوال وأصاف المنغصات. وإذا أحزنك أمرٌ فاسترجع. وإذا اعترتك غفلةٌ فاستغفر. فأجعل الموت نصب عينك والعلم والتقى زادك إلى الآخرة. وإذا أردت أن تعصي الله تعالى فاطلب مكان لا يراك فيه. واعلم أن الناس عيون الله على العبد يريهم خيره وإن أخفاه. وشره وإن ستره. فباطنه مكشوف لله. والله يكشفه لعباده. فعليك أن تجعل باطنك خيراً من ظاهرك. وسرك أصح من علانيتك.
ولا تتألم إذا أعرضت عنك الدنيا. ولو عرضت لك لشغلتك عن كسب الفضائل. وقلما يتعلق في العلم ذو الثروة إلا أن يكون شريف الهمة جداً. وأن يثري بعد تحصيل العلم. وإني لا أقول: إن الدنيا تعرض عن طالب العلم بل هو الذي يعرض عنها. لأن همته مصروفة إلى العلم فلا يبقى له التفات إلى الدنيا. والدنيا إنما تحصل بحرصٍ وفكر في وجوهها. فإذا غفل عن أسبابها لم تأته. وأيضاً فإن طالب العلم تشرف نفسه عن الصنائع الرذلة والمكاسب الدنية. وعن أصناف التجارات. وعن التذلل لأرباب الدنيا. والوقوف على أبوابهم. ولبعض إخواننا بيت:
من جد في طلب العلوم أفاته ... شرف العلوم دناءة التحصيل
وجميع طرق مكاسب الدنيا تحتاج إلى فراغ لها. وحذق فيها وصرف الزمان إليها. والمشتغل بالعلم لا يسعه شيء من ذلك.(2/64)
وإنما ينتظر أن تأتيه الدنيا بلا سبب. وتطلبه من غير أن يطلبها طلب مثلها. وهذا ظلمٌ منه وعدوان. ولكن إذا تمكن الرجل في العلم وشهرته خطب من كل جهةٍ. وعرضت عليه المناصب وجاءته الدنيا صاغرة فأخذ ما أهدته وماء وجهه موفورٌ. وعرضه ودينه مصونٌ.
واعلم أن للعلم عبقة وعزفاً ينادي على صاحبه. ونوراً وضياءٌ يشرق عليه ويدل عليه. كتاجر مسكٍ لا يخفى مكانه. ولا تجهل بضاعته. وكمن يمشي بمشعل في ليلٍ مدلهم. والعالم مع هذا محبوب أين ما كان. وكيف ما كان لا يجد إلا من يميل إليه. ويؤثر قربه ويأنس به. ويرتاح بمداناته.
واعلم أن العلوم تغور. ثم تفور. تغور في زمانٍ. وتفور في زمان. بمنزلة النبات أو عيون المياه. وتنتقل من قومٍ إلى قومٍ. ومن موضع إلى موضعٍ.
(قال) اجعل كلامك في الغالب بصفات أن يكون وجيزاً فصيحاً في معنى مهم أو مستحسن. فيه إلغازٌ ما وإيهام كثيرٌ أو قليلٌ. ولا تجعله مهملا ككلام الجمهور بل رفعه عنهم ولا تباعده عليهم جداً.
(وقال) إياك والهذر والكلام فيما لا يعني. وإياك والسكوت في محل الحاجة ورجوع النوبة إليك. إما لاستخراج حق. أو اجتلاب مودةٍ. أو تنبيهٍ على فضيلة. وإياك والضحك مع كلامك. وكثرة الكلام. وتبتير الكلام. بل اجعل كلامك سرداً بسكونٍ ووقارٍ.(2/65)
بحيث يستشعر منك أن وراءه أكثر منه. وأنه عن خميرةٍ سابقةٍ. ونظر متقدم.
(وقال) إياك الغلظة في الخطاب. والجفاء في المناظرة فإن ذلك يذهب ببهجة الكلام ويسقط فائدته. ويعدم حلاوته. ويجلب الضغائن. ويمحق المودات. ويصير القائل مستثقلاً. سكوته أشهى إلى السامع من كلامه. ويثير النفوس على معاندته ويبسط الألسن بمخاشنته وإذهاب حرمته.
(وقال) لا تترفع بحيث تستثقل. ولا تتنازل بحيث تستحسن وتستحقر. (وقال) اجعل كلامك كله جدلاً. وأجب من حيث تعقل. لا من حيث تعتاد وتألف. (وقال) انتزح عن عادات الصبا. وتجرد عن مألوفات الطبيعة. واجعل كلامك لاهوتياً في الغالب لا ينفك من خبر أو قول حكيم. أو بيتٍ نادرٍ. أو مثل سائرٍ.
(وقال) تجنب الوقيعة في الناس. وثلب الملوك والغلظة على المعاشر. وكثرة الغضب. وتجاوز الحد فيه. (وقال) استكثر من حفظ الأشعار الأمثالية. والنوادر الحكمية. والمعاني المستغربةٍ.(2/66)
الباب الرابع في الأمثال السائرة
من نثر اللآلي لعلي بن أبي طالب
112 (أ) . إيمان المرء يعرف بأيمانه. أدب المرء خير من ذهبه. أداء الدين من الدين. أحسن إلى المسيء تسد. إخوان هذا الزمان جواسيس العيوب. أخوك من واساك بنشبٍ لا من واساك بنسب. (ب) . بشر نفسك بالظفر بعد الصبر. بركة المال في أداء الزكاة. بع الدنيا بالآخرة تربح. بكاء المرء من خشية الله تعالى قرة العين. باكر تسعد. بطن المرء عدوه. بركة العمر حسن العمل. بلاء الإنسان من اللسان. بشاشة الوجه عطيةٌ ثانيةٌ. (ت) . توكل على الله يكفك. تدارك في آخر العمر ما فاتك في أوله. تكاسل المرء في الصلاة من ضعف الإيمان. تغافل عن المكروه توقر. (ث) . ثلمة الدين موت العلماء. ثبات الملك بالعدل. ثواب الآخرة خيرٌ من نعيم الدنيا. ثناء الرجل على معطيه مستزيد. (ج) . جد بما تجد. جولة الباطل ساعةٌ وجولة الحق إلى قيام الساعة. جودة الكلام في الاختصار. جليس المرء مثله. جليس المرء غنيمة. جالس الفقراء تزد شكراً. جل من لا يموت. (ح) . حياء المرء ستره. حموضات للطعام. خيرٌ من حموضات الكلام. (خ) . خف الله تأمن من غيره.(2/67)
خالف نفسك تسترح. خير الأصحاب من يدلك على الخير. خليل المرء دليل عقله. خوف الله يجلو القلب. خلو القلب خيرٌ من ملء الكيس. هير المال ما أنفق في سبيل الله. (د) . دليل عقل المرء فعله ودليل علمه قوله. دوام السرور برؤية الإخوان. دولة الأرذال آفة الرجال. دين الرجل حديثه. دولة الملوك في العدل. دار من جفاك تخجيلاً. دم على كظم الغيظ تحمد عواقبك. (ذ) ذنبٌ واحدٌ كثيرٌ وذكرٌ وألف طاعة قليلٌ. ذكر الأولياء ينزل الرحمة. ذليل الخلق عزيزٌ عند الله. ذكر الموت جلاء القلب. ذكر الشباب حسرة. (ر) رؤية الحبيب جلاء العين. رفاهية العيش في الأمن. رسول الموت الولادة. (ز) . زيارة الحبيب إطراء المحبة. زوايا الدنيا مشحونة بالرزايا. زيارة الضعفاء من التواضع. زينة الباطن خير من زينة الظاهر. (س) . سيرة المرء تنبئ عن سريرته. سمو المرء التواضع. (ش) . شين العلم الصلف. شمروا في طلب الجنة. شيبك ناعيك. شحيح غني أفقر من فقير سخيٍ. (ص) . صدق المرء نجاته. صحة البدن في الصوم. الصبر يورث الظفر. صلاة الليل بهاء النهار. صلاح الإنسان في حفظ اللسان. صاحب الأخيار تأمن الأشرار. صمت الجاهل ستره. صلاح الدين في الورع وفساده في الطمع. (ض) . ضل سعي من رجا غير الله تعالى. ضرب الحبيب أوجع. ضل من ركن إلى الأشرار. (ط) . طاب من وثق بالله. طلب(2/68)
الأدب أولى من طلب الذهب. (ظ) . ظلم المرء يصرعه. ظلامة المظلوم لا تضيع. ظمأ المال أشد من ظمأ الماء. ظل عمر الظالم قصيرٌ وظل عمر الكريم فسيح. (ع) . عش قنعاً تكن ملكاً. عيب الكلام تطويله. عاقبة الظالم وخيمةٌ. (غ) . غدرك من دلك على الإساءة. (ف) . فاز من ظفر بالدين. فخر المرء بفضله. أولى من فخره بأصله. فاز من سلم من شر نفسه. فسدت نعمة من كفرها. (ق) . قبول الحق من الدين. (ك) . كلام الله دواء القلب. كفران النعمة مزيلها. كفى بالشيب داء. كمال العلم في الحلم. (ل) . لين الكلام قيد القلوب. (م) . من كثر كلامه كثر ملامه. مجلس العلم روضة من رياض الجنة. مصاحبة الأشرار ركوب البحر. (ن) . نسيان الموت صدأ القلب. نم آمنا تكن في أمهد الفرش. نضرة الوجه في الصدق. (و) . ولاية الأحمق سريعة الزوال. وحدة المرء خيرٌ من جليس السوء. (هـ) . هم السعيد آخرته وهم الشقي دنياه. هلاك المرء في العجب. هربك من نفسك أنفع من هربك من الأسد. (لا) . لا دين لمن لا مروءة له. لا فقر للعاقل. (ي) . يعمل النمام في ساعةٍ فتنة أشهرٍ. يسود المرء قومه بالإحسان إليهم.
نبذةٌ
من كتاب غرر الحكم ودرر الكلم جمعه عبد الواحد بن محمد بن كلام علي بن أبي طالب 113 (أ) . الدين يعصم. الدنيا تسلم. الصيانة رأس المرؤة. أحلق(2/69)
سيف قاطعٌ. العجب عنوان الحماقة. البشاشة حبل المودة. الارتقاء إلى الفضائل صعبٌ. الانحطاط إلى الرذائل سهلٌ. السكوت عن الأحمق جوابه. إمام عادلٌ خيرٌ من مطر وابلٍ. المحسن حي وإن نقل إلى منازل الأموات. العاقل إذا سكت فكر وإذا انطق ذكر وإذا نظر اعتبر. الداعي بلا عمل كالقوس بلا وترٍ. إعجاب الرجل بنفسه عنوان ضعف عقله. أحسن الجود عفو بعد مقدرةٍ. (ب) . بركوب الأهوال تكسب الأموال. بالسخاء يستر العيوب. (ت) . تكلموا تعرفوا فإن المرء مخبوءٌ تحت لسانه. (ث) . ثوب التقى أشرق الملابس. ثوب الآخرة ينسي مشقة الدنيا. ثروة العاقل في علمه وثروة الجاهل في ماله. ثلاثٌ يوجبن المحبة الدين والتواضع والسخاء. (ج) . جهاد النفس أفضل الجهاد. (ح) . حسن الأدب يستر قبح النسب. حلاوة الظفر تمحو مرارة الصبر. حد اللسان يقطع الأوصال. (خ) . خير الثناء ما جرى على ألسنة الأخبار. (د) . دوام الفتن من أعظم المحن. (ر) . رب سكوتٍ أبلغ من كلامٍ. (ز) . زلت العالم كانكسار السفينة تغرق وتغرق معها غيرها. زخارف الدنيا تفسد العقول الضعيفة. (س) . سلاح اللئام قبح الكلام. سمع الأذن لا ينفع مع غفلة القلب. (ش) . شر الناس من لا يبالي أن يراه الناس مسيئاً. شيئان لا يعرف فضلهما إلا من فقدهما الشباب والعافية. (ص) . ضمتك حتى تستنطق أجمل من(2/70)
نطقك حتى تسكت. صوم النفس عن لذات الدنيا أفضل الصيام صدر العاقل صندوق سره. (ض) . ضع فخرك واحطط كبرك وكما تزرع تحصد وكما تدين تدان. ضعف البصر لا يضر مع استنارة البصيرة. (ط) . طوبى لمن غلب نفسه ولم تغلبه ومن ملك هواه ولم يملكه. طلب الثناء بغير استحقاق خرقٌ. (ظ) . ظن العاقل أصبح من يقين الجاهل. ظرف الرجل تنزهه عن المحارم ومبادرته إلى المكارم. (ع) . عليك بالآخرة تأتك الدنيا صاغرة. عند الامتحان يكرم المرء أو يهان. عجبت لعامر دار الفناء وتارك دار البقاء. عجبت لمن يجهل نفسه كيف يعرف ربه. عبد الشهوة أذل من عبد الرق. عبد المطامع أسيرٌ لا يفك أسره. عاشر أهل الفضائل تنبل. عداوة الأقارب أمس من لسع العقارب. (غ) . غاية المعرفة أن يعرف المرء نفسه. غنى المؤمن بالله. غنى العاقل في حكمته. غنى الجاهل في قنيته. (ف) . في الذكر حياة القلوب. في رضا الله نيل المطلوب. في الدنيا عمل ولا حساب. في الآخرة الحساب ولا عملٌ. في الاستشارة عين الهداية. فقد البصر أهون من فقد البصيرة. (ق) . قد يبعد القريب. قد يلين الصليب. قلة الأكل تمنع كثيراً الباطل كما أن قليل النار يحرق كثير الحطب. (ك) . كل طير يأوي لي شكله. كل شيءٍ من الدنيا سماعه أعظم من عيانه. كل(2/71)
وعاءٍ يضيق بما جعل فيه إلا العلم فإنه يتسع. كم يفتح بالصبر من غلقٍ. كيف ينجو من الله هاربه. كيف يسلم من الموت طالبه. كن عالماً ناطقاً أو مستمعاً واعياً. كلام الرجل ميزان عقله. كلما قاربت أجلاً فأحسن عملاً. (ل) . ليس من عادةٍ الكرام تأخير الإنعام. للشدائد تذخر الرجال. (م) . من توقر وقر. ومن تكبر حقر. من استشار العاقل ملك. من استبد برأيه هلك. ما حقر نفسه إلا عاقلٌ. ما أعجب برأيه إلا جاهلٌ. (ن) . نعم الإدام الجوع. (هـ) . هدي من أطاع ربه. وخاف ذنبه. هلك امرؤٌ لا يعرف قدره. هانت عليه نفسه من أمر عليه لسانه. (و) . وقروا كباركم توقركم صغاركم. وقار الشيب أجمل من نضارة الشباب. (لا) . لا تثقن بعهد من لا دين له. لا تعد ما تعجز عن الوفاء به. لا تثق بمن يذيع سرك. لا يسترقك الطمع فقد جعلك الله حراً. (ي) . يستدل على الكريم بحسنٍ بشره وبذل خيره. يستدل على إدبار الدول بأربعٍ تضيع الأصول والتمسك بالفروع وتقديم الأرذال وتأخير الأفاضل. يبلغ الصادق بصدقه ما لا يبلغه الكاذب باحتياله.
نخبة أمثال انتقاها الأبشتهي
114 (أ) . إذا ذهب الحياء حل البلاء. إذا اصطنعت المعروف فاستره وإذا اصطنع إليك فانشره. أفضل الناس من لم تفسد الشهوة دينه. أفضل المعروف إغاثة الملهوف. أظهر الناس محبةً(2/72)
أحسنهم لقاءً. إياك وفضول الكلام فإنه يظهر من عيوبك ما بطن ويحرك من عدوك ما سكن. (ب) . بالتأني تسهل المطالب. بخفض الجانب تأنس النفوس. (ث) . ثمرة العلوم العمل بالمعلوم. (ح) . ألحازم من حفظ ما في يده ولم يؤخر شغل يومه لغده. حق يضر خيرٌ من باطل يسر. (خ) . خير الناس من أخرج الحرص من قلبه وعصى هواه في طاعة ربه. خير المال ما أخذ من الحلال وصرف في النوال. (ر) . ألرفق مفتاح الرزق. (ش) . شر الناس من ينصر الظلوم ويخذل المظلوم. (ص) . صاحب العقل مغبوطٌ. صداقة الجاهل تعبٌ. (ع) علمٌ لا ينفع كدواءٍ لا ينجع. عظ المسيء بحسن أفعالك ودل على الجميل بجميل خلالك. عثرة الرجل تزيل القدم وعثرة اللسان تزيل النعم. ألعجلة أخت الندامة. (ق) . قد خاطر من استبد برأيه. (ك) . كلام المرء بيان فضله وترجمان عقله. كل يفر من ضده ويميل إلى جنسه. (ل) . لا تفتح باباً يعييك سده. أللسان سيفٌ قاطعٌ لا يؤمن حده والكلام سهم نافذٌ لا يمكن رده. لا يجد العجول فرحاً ولا الغضوب سروراً ولا الملول صديقاً. لا يخلو المرء من ودودٍ يمدح وعدوٍ الورع. من قرب السفلة واطرح ذوي الأحساب والمروءات استحق الخذلان. من عفا تفضل. من كظم غيظه فقد حلم. ومن حلم فقد صبر. من صبر فقد ظفر. من(2/73)
أكثر من مقاله سئم ومن سؤاله حرم. من أعجب بعمله حبط أجره. من رجع في هبته بالغ في خسته. من جاد بماله جل ومن جاد بمرضه ذل. من حفر حفيراً لأخيه كان حتفه فيه. من قال مالا ينبغي سمع مالا يشتهي. من لزم الرقاد عدم المراد. من نظر في العواقب سلم من النوائب. من أسرع في الجواب أخطأ في الصواب. من حسنت خصاله طالب وصاله. من عرف بشيءٍ نسب إليه. (ن) . نصرة الحق شرفٌ ونصرة الباطل سرفٌ.
نخبة أمثال أوردها بهاء الدين العاملي في كتابه الكشكول
115 (أ) . إذا لم يكن ما تريد فأرد ما يكون. إذا هرب الزاهد من الناس فاطلبه. إذا ذكر جليسك عندك أحداً بالسوء فاعلم أنك ثانية. أفضل الزاد ما تزود للمعاد. إن سلمت من الأسد فلا تطمع في صيده. أول المعرفة الاختبار. أيسر شيءٍ الدخول في العداوة وأصعب شيءٍ الخروج منها. (ب) . بعض الكلام أقطع من الحسام. (ت) . التقى ملجمٌ. (خ) . خير أهلك من كفاك. خير سلاحك ما وقاك. (د) . الدال على الخير كفاعله. (ر) . رب أكلهٍ تمنع أكلاتٍ. ألرفق يمنٌ والخرق شومٌ. (س) . ألسعيد من وعظ بغيره. (ص) . صغير الشر يوشك أن يكبر. (ع) . عند الغاية يعرف السبق. (ق) . قبل الرماية تملأ الكنائن. ألقريب من قرب نفعه. القول ينفذ ما لا ينفذ الإبر. قيدوا النعم بالشكر. (ك) . كلبٌ(2/74)
جوالٌ خيرٌ من أسدٍ رابضٍ. كل مبذول. مملولٌ. كل ممنوعٍ مرغوبٌ فيه. كل وعاءٍ يضيق بما جعل فيه إلا وعاء العلم فإنه يتسع. (ل) . لا تبلغ الغايات بالأماني. لكل عملٍ ثوابٌ. لكل زمانٍ رجالٌ. لكل سرٍ مستودعٌ. ليس منك من غشك. (م) . ما حك جلدك مثل ظفرك. من أفسد بين اثنين فعلى يديهما هلاكه. من جرى في عنان أمله عثرت رجله بأجله. من رفعك فوق قدرك فاتقه. من لان عوده كثفت أغصانه. من لم تصلحه الكرامة أصلحه الهوان. من يزرع المعروف يحصد الشكر 116 أبيات تتمثل بها العرب لشعراء مختلفين:
إذا جاء موسى وألقى العصا ... فقد بطل السحر والساحر
إذا كان رب البيت بالدف مولعاً ... فشيمة أهل البيت كلهم الرقص
إذا ما أراد الله إنقاذ نملةٍ ... سمت بجناحيها إلى الجو تصعد
أحب شيءٍ إلى الإنسان ما منعا ... والشيء يرغب فيه حين يمتنع
أقلب طرفي لا أرى غير صاحبٍ ... يميل مع النعماء حيث تميل
ألا كل شيءٍ ما خلا الله باطلٌ ... وكل نعيمٍ لا محالة زائل
إن الفساد ضده الصلاح ... ورب جدٍ جره المزاح
أتمنى على الزمان محالاً ... أن ترى مقلتاي طلعة حر
إذا ضاع شيءٌ بين أم وبنتها ... فإحداهما يا صاح لا شك آخذه
ألم تر أن المرء تدوى يمينه ... فيقطعها عمداً ليسلم سائره(2/75)
إنك لو تستنشق الشحيحا ... وجدته أنتن شيءٍ ريحا
انتهز الفرصة في حينها ... والتقط الجوز إذا ينثر
أيها السائل عما قد مضى ... هل جديدٌ مثل ملبوسٍ خلق
أقرر بذنبك ثم اطلب تجاوزنا ... عنه فإن جحود الذنب ذنبان
إذا امتحن الدنيا لبيب تكشفت ... له عن عدوٍ في ثياب صديق
جربت دهري وأهليه فما تركت ... لي التجارب في ود أمري غرضا
حسبك مما تبتغيه القوت ... ما أكثر القوت لمن يموت
حياك من لم تكن ترجو تحيته ... لولا الدراهم ما حياك إنسان
ألخير لا يأتيك متصلا ... والشر يسبق سيله المطر
رب مهزولٍ سمينٌ عرضه ... وسمين الجسم مهزول الحسب
ألرزق يخطى باب عاقل قومه ... ويبيت بواباً بباب الأحمق
ستبدي لك الأيام ما كنت جاهلاً ... ويأتيك بالإخبار من لم تزود
ضاقت ولو لم تضق لما انفرجت ... والعسر مفتاح كل ميسور
العنز لا يسمن إلا بالعلف ... لا يسمن العنز بقولٍ ذي لطف
فإن تك في صديق أو عدوٍ ... تخبرك العيون عن الضمير
فأقطع حبائل خلٍ لا تلائمه ... فربما ضاقت الدنيا باثنين
ألفقر فيما جاوز الكفافا ... من أتقى الله رجا وخافا
في كل مستحسن عيبٌ بلا ريب ... ما يسلم الذهب الإبريز من عيب
فلو كان حمدٌ يخلد المرء لم تمت ... ولكن حمد المرء غير مخلد(2/76)
قدر لرجلك قبل الخطو موضعها ... فمن علا زلقاً عن غرىٍ زلجا
قد يدرك المتأني حسن حاجته ... وقد يكون مع المستعجل الزلل
قد ينعم الله بالبلوى وإن عظمت ... ويبتلي الله بعض القوم بالنعم
قد يدرك الشرف الفتى ورداؤه ... خلقٌ وحبيب قميصه مرقوع
كان يقال من أتى خوانا ... من غير أن يدعى إليه هانا
كذا قضى الله فكيف أصنع ... ألصمت إن ضاق الكلام أوسع
ألكلب لا يذكر في مجلسٍ ... إلا تراه عندما يذكر
كنت في كربتي أفر إليهم ... فهم كربتي فأين الفرار
لكل إنسانٍ طبيعتان ... خيرٌ وشرٌ وهما ضدان
لكل شيءٍ معدنٌ وجوهر ... وأوسطٌ وأصغرٌ وأكبر
لكل ما يؤذي وإن قل ألم ... ما أطول الليل على من لم ينم
ليس من مات فاستراح بميتٍ ... إنما الميت ميت الأحياء
ما انتفع المرء بمثل عقله ... وخير ذخر المرء حسن فعله
ما زالت الدنيا لنا دار أذى ... ممزوجة الصفو بألوان القذى
ما كنت لو أكرمت أستعصي ... لا يهرب الكلب من القرص
ما بال من ليست له حاجةٌ ... يكون أنفاً بين عينين
ما عاش من عاش مذموماً خصائله ... ولم يمت من يكن بالخير مذكورا
ما كلف الله نفساً فوق طاقتها ... ولا تجود يدٌ إلا بما تجد
من لم يكن في بيته طعام ... فما له في بيته مقام(2/77)
من يفعل الخير لم يعدم جوائزه ... لا يذهب العرف بين الله والناس
من يزرع الخير يحصد ما يسر به ... وزارع الشر مكنوس على الرأس
هناكم الله بالدنيا ومتعكم ... بما نحب لكم منها ونرضاه
واقنع بما أوتيته تنل المنى ... وإذا دهتك ملمةٌ فتصبر
وإذا سخطت لضر حالك مرةً ... ورأيت نفسك قد عدت فتبصر
والله أرحم بالعباد فلا تسل ... بشراً تعش عيش الكرام وتؤجر
وأحسن فإن المرء لا بد ميتٌ ... وإنك مجزي بما كنت ساعيا
وما للمرء خيرٌ في حياةٍ ... إذا ما عد من سقط المتاع
وما المرء إلا كالهلال وضوئه ... يوافي تمام الشهر ثم يغيب
وقد تسلب الأيام حالات أهلها ... وتعدو على أسد الرجال الثعالب
وما لامرئٍ طول الخلود وإنما ... يخلده طول الثناء فيخلد
والمرء يفرح بالأيام يقطعها ... وكل يومٍ مضى يدني من الأجل
وإذا نزعت عن العواية فليكن ... لله ذاك النزع لا للناس
والنفس راغبةٌ إذا رغبتها ... وإذا ترد إلى قليلٍ تقنع
وما الدهر والأيام إلا كما ترى ... رزية مال أو فراق حبيب
وما المرء إلا الأصغران لسانه ... ومعقوله والجسم خلقٌ مصور
وكيف تريد أن تدعى حكيماً ... وأنت لكل ما تهوى تبوع
وترى الناس كثيراً فإذا ... عد أهل العقل قلوا في العدد
وكم من فتى يمسي ويصبح آمناً ... وقد نسجت أكفانه وهو لا يدري(2/78)
ومن يك ذا فم مرٍ مريضٍ ... يجد مراً به الماء الزلالا
ولكل شيءٍ آفة من جنسه ... حتى الحديد سطا عليه المبرد
ومن سره أن لا يرى ما يسؤه ... فلا يتخذ شيئاً يخاف له فقداً
يزيد تفضلاً وأزيد شكراً ... وذلك دأبه أبداً ودأبي
ويطلب الإنسان من فعله ... ففعله عن أصله يخبر
الباب الخامس
في الأمثال عن السنة الحيوانات
الثعلب والديك
117 حكى أن الثعلب مر في السحر بشجرةٍ فرأى فوقها ديكاً. فقال له: أما تنزل نصلي جماعةً. فقال: إن الإمام نائمٌ خلف الشجرة فأيقظه. فنظر الثعلب فرأى الكلب وولى هارباً. فناداه الديك ما تأتي لنصلي. فقال: قد انتقض وضوئي فأصبر حتى أجدد لي وضوءً وأرجع
الأسد والثعلب والذئب النمام
118 ذكر ابن الجوزي في آخر كتاب الأذكياء. قال: مرض الأسد فعادته السباع والوحوش ما خلا الثعلب فنم عليه الذئب. فقال الأسد: إذا حضر فأعلمني. فلما حضر الثعلب أعلمه الذئب(2/79)
بذلك. وكان قد أخبر بما قاله الذئب. فقال الأسد: أين كنت يا أبا الفوارسٍ. فقال: كنت أطلب لك الدواء. قال: وأي شيءٍ أصبت. قال: قيل لي: خرزةٌ في عرقوب أبي جعدة. قال: فضرب الأسد بيده في ساق الذئب فأدماه. ولم يجد شيئاً. وخرج دمه يسيل على رجله. وأنسل الثعلب. فمر به الذئب فناداه: يا صاحب الخف الأحمر إذا قعدت عند الملوك فأنظر ما يخرج منك. فإن المجالس بالأمانات.
رجل وقبرة
وهو مثل من يكون وابصة سمعٍ ينخدع لكل شيءٍ 119 رجلٌ صاد قبرة. فقالت له: ما تريد أن تصنع بي. قال: أذبحك وآكلك. قالت: والله إني لا أسمن ولا أغني من جوع. ولا أشفي من قرمٍ. ولكني أعلمك ثلاث خصالٍ هي خير لك من أكلي: أما الواحدة فأعلمك إياها وأنا على يدك. والثانية إذا صرت على الشجرة. والثالثة إذا صرت على الجبل. قال: نعم. فقالت وهي على يده: لا تأسفن على ما فاتك. فخلى عنها. فلما صارت على الشجرة قالت له: لا تصدق بما لا يكون. فلما صارت على الجبل قالت: يا شقي لو ذبحتني لوجدت في حوصلتي درةً وزنها عشرون مثقالاً. (قال) فعض على شفتيه وتلهف ثم قال: هاتي الثالثة. قالت: قد نسيت الثنتين الأوليين فكيف أعلمك الثالثة.(2/80)
قال: وكيف ذلك. قالت: ألم أقل لك: لا تأسفن على ما فاتك. وقد تأسفت علي وأنا فتك. وقلت لك: لا تصدق بما لا يكون وقد صدقت. فإنك لو جمعت عظامي ولحمي وريشي لم تبلغ عشرين مثقالاً. فكيف يكون في حوصلتي درة وزنها كذلك (للشريشي)
الكلب والطبل
120 حكي أن كلباً كان من عادته إذا سمع صوت طبل في مكان ذهب إليه يظن أن فيه عرساً أو وليمةً. فعمل الناس حيلةً على ذلك الكلب وتواطئوا بأن يضربوا الطبل في قريتين كلما أتى الكلب إلى مضرب الطبل يسكت ويضرب في القرية الأخرى. ففعلوا ذلك. فجعل الكلب يجري بين القريتين كلما جاء قريةً منهما أسكتوا الطبل وضرب في القرية الأخرى. ولم يزل كذلك حتى مات الكلب جائعاً عطشاناً. (أنيس الجليس للسيوطي)
الصياد والصدفة
وهو مثل من لا يميز بين الأمور 121 حكي أن صياداً كان في بعض الخلجان يصيد فيه السمك في زورق. فرأى ذات يومٍ في عقيق الماء صدفة تتلألأ حسناً. فتوهمها جوهراً له قيمةٌ. وكان قد ألقى شبكته في البحر فاشتملت على سمكةٍ كانت قوت يومه فخلاها وقذف نفسه في الماء ليأخذ الصدفة. فلما أخرجها وجدها فارغة لا شيء فيها مما ظن. فندم على ترك ما في يده(2/81)
للطمع وتأسف على ما فاته. فلما كان في اليوم الثاني تنحى عن ذلك المكان وألقى شبكته فأصاب حوتاً صغيراً. ورأى أيضاً صدفة سنيةً فلم يلتفت إليها وساء ظنه بها فتركها. فاجتاز بها بعض الصيادين فأخذها فوجد فيها درةً تساوي أموالاً. (كليلة ودمنة)
العصفور والفخ
122 حكى أن عصفوراً مر بفخ. فقال العصفور: ما لي أراك متباعداً عن الطريق. فقال الفخ: أردت العزلة عن الناس لآمن منهم ويأمنوا مني. فقال العصفور: فما لي أراك مقيماً في التراب. فقال: تواضعاً. فقال العصفور: فما لي أراك ناحل الجسم. فقال نهكتني العبادة. فقال العصفور: فما هذا الحبل الذي على عاتقك. قال: هو ملبس النساك. فقال العصفور: فما هذه العصا. قال: أتوكأ عليها وأهش بها على غنمي. فقال العصفور: فما هذا القمح الذي عندك. قال: هو فضل قوتي أعددته لفقير جائع أو ابن سبيل منقطعٍ. فقال العصفور: إني ابن سبيل وجائع فهل لك أن تطعمني. قال: نعم دونك. فلما ألقى منقاره أمسك الفخ بعنقه. فقال العصفور: بئس ما اخترت لنفسك من الغدر والخديعة. والأخلاق الشنيعة. ولم يشعر العصفور إلا وصاحب الفخ قد قبض عليه. فقال العصفور في نفسه: بحق قالت الحكماء: من تهور ندم. ومن حذر سلم. وكيف لي بالخلاص. ولات حين مناص. (للشبراوي)(2/82)
الغراب والسنور والنمر
123 إن غراباً وسنوراً كانا متآخيين. فبينما هما تحت شجرة على تلك الحالة إذ رأيا نمراً مقبلاً على تلك الشجرة التي كانا تحتها. ولم يعلما به حتى صار قريباً من الشجرة. فطار الغراب إلى أعلى الشجرة وبقي السنور متحيراً. فقال للغراب: يا خليلي هل عندك حيلةٌ في خلاصي كما هو الرجاء فيك. فقال له الغراب: إنما تلتمس الإخوان عند الحاجة إليهم في الحيلة عند نزول المكروه بهم. وما أحسن قول الشاعر:
إن صديق الحق من كان معك ... ومن يضر نفسه لينفعك
ومن إذا ريب الزمان صدعك ... شتت فيك نفسه ليجمعك
وكان قريباً من الشجرة رعاة معهم كلابٌ. فذهب الغراب حتى ضرب بجناحه وجه الأرض ونعق وصاح. ثم تقدم إليهم وضرب بجناحه وجه الكلاب. وارتفع قليلاً وتبعته الكلاب. وصارت في أثره فرفع الراعي رأسه فرأى طائراً يطير قريباً من الأرض ويقع فتبعه. وصار الغراب لا يطير إلا بقدر النجاة والخلاص من الكلاب. ويطمعها في أن تفترسه. ثم ارتفع قليلاً. وتبعه الكلاب حتى انتهى إلى الشجرة التي تحتها النمر. فلما رأت الكلاب النمر وثبت عليه فولى هارباً. وكان يظن أنه يأكل القط فنجا منه ذلك القط بحيلة صاحبه الغراب. (ألف ليلة وليلة)(2/83)
العابد والدرتان
124 حكى أنه كان في بني إسرائيل عابدٌ ضاقت عليه معيشته. فخرج إلى الصحراء يعبد الله ويسأله أن يعطيه شيئاً. فنودي ذات يوم: أيها العابد مد يك وخد. فمد يده فوضع عليها درتان كأنهما كوكبان ضياءٌ. فجاء بهما إلى منزله وقال لامرأته: قد أمنا من الفقر. ثم إنه رأى ذات ليلةٍ في منامه أنه في الجنة فرأى فيها قصراً. فقيل له: هذا قصرك. فرأى فيه أريكتين متقابلتين إحداهما من الذهب الأحمر والأخرى من الفضة. وسقفهما من اللؤلؤ وقيل له: إحداهما مقعدك والأخرى مقعد امرأتك. فنظر إلى سقفهما فإذا فيه موضعٌ خال مقدار درتين. فقال: ما بال هذا الموضع خالياً. فقيل: لم يكن خالياً وإنما أنت تعجلت في الدنيا الدرتين وهذا موضعهما. فانتبه من منامه باكياً وأخبر امرأته بذلك. فقالت له زوجته: أن أدع الله واسأله حتى يردهما إلى مكانهما. فخرج إلى الصحراء وهما في كفه وصار يدعو الله ويتضرع إليه أن يردهما. ولم يزل كذلك حتى أخذتا من كفه ونودي أن: رددناهما إلى مكانهما. (للقليوبي)
بطتان وسلحفاة
125 قيل: كان في الزمان الأول غديرٌ عظيمٌ وقد سكنت فيا بطتان وسلحفاةٌ. ووقعت الألفة بينهم. واستأنس بعضهم ببعض(2/84)
فأتفق أن غيض الماء فيبس الغدير. فجاءت البطتان لوداع السلحفاة وقالتا: اعلمي أيتها الصديقة المشفقة أن حال الدنيا الدنية آخرها الفرقة والقطيعة. وقد يبس ماء الغدير الذي هو سبب حياة المخلوقات وقد آن الرحيل ووقع الشتت بيننا. فلم نجد إلا الانتقال إلى غدير آخر. فلما سمعت السلحفاة هذا الكلام بكت ونادت بالويل والثبور وقالت: أيتها الصديقتان المشفقتان فما حيلتي أن أذهب معكما، وما سبب أن أكون معكما. قالت البطتان: نأخذك معنا ولكننا نخاف أن تتكلمي لأنك لم تملكي لسانك. قالت السلحفاة: الآن عهدت أن لا أنطق. فقالت البطتان: إذا رأى الخلق أننا حملناك وطرنا بك وتعجب كلهم على طيراننا بك وأخبر بعضهم بعضاً فعليك أن تصبري ولا تتكلمي بشيءٍ. ولا تنسى قول الفضلاء: إنه من صمت نجا. وقولهم: البلاء موكلٌ بالمنطق. وإن لم تصبري وتكلمت بشيءٍ فلا تلومن إلا نفسك. ويكون ذنبك عليك. فلما سمعت السلحفاة كلامهما قالت: لا أتكلم أبداً بل أتمسك بذكر الله فلن أكلم اليوم إنسياً. فلما أخذت البطتان عهداً على السلحفاة أتتا بقضيبٍ وقالتا للسلحفاة: أمسكي وسط القضيب بفمك وضمي شفتيك محكماً. ففعلت السلحفاة ما قالتا. ثم أخذت البطتان بطرفي القضيب على عنقهما. ثم طارتا في الهواء مع السلحفاة. فرأى بعض الناس ذلك وأخبر بعضهم بعضاً. ونادوا: يا عجباه. انظروا كيف(2/85)
حملت البطتان السلحفاة. ثم إن السلحفاة سمعت كلام الناس. فصبرت ساعةً فلم تقدر على الصبر من كثرة تعجب الخلق. فأجابتهم: لم تعجبون من أمرنا أفلا ترون كيف حملتني البطتان. وما كان بعد أن تكلمت إلا أن وقعت على الحضيض فهلكت. (للسيوطي)
أعمى ومقعد
126 (قالوا) إن أعمى ومقعداً كانا في قرية بفقرٍ وضرٍ لا قائد للأعمى ولا حامل للمقعد. وكان في القرية رجلٌ يطعمهما في كل يوم احتساباً قوتهما من الطعام والشراب. فلم يزالا في عافية إلى أن هلك المحتسب. فأقاما بعده أياماً فاشتد جوعهما وبلغ الضور منهما جهده. فأجمعا رأيهما على أن يحمل الأعمى المقعد. فيدله المقعد على الطريق ببصره. ويستقل الأعمى بحمل المقعد ويدوران في القرية يستطعمان أهلها. ففعلا فنجمع أمرهما. ولو لم يفعلا هلكا. (للطرطوشي)
الحمامتان
127 زعموا أن حمامتين ذكراً وأنثى ملأا عشهما من الحنطة والشعير. فقال الذكر للأنثى: إنا إذا وجدنا في الصحاري ما نعيش به فلسنا نأكل مما ههنا شيئاً. فإذا جاء الشتاء ولم يكن في الصحاري شيءٌ رجعنا إلى ما في عشنا فأكلناه. فرضيت الأنثى بذلك وقالت له: نعم ما رأيت. وكان ذلك الحب ندياً حين وضعاه في عشهما. فانطلق(2/86)
الذكر فغاب. فلما جاء الصيف يبس الحب وضمر. فلما رجع الذكر رأى الحب ناقصاً. فقال: أما كنا أجمعنا رأينا على أن لا نأكل منه شيئاً فلم أكلته. فجعلت تحلف أنها ما أكلت منه شيئاً وجعلت تعتذر إليه. فلم يصدقها وجعل ينقرها حتى ماتت. فلما جاءت الأمطار ودخل الشتاء تندى الحب وامتلأ العش كما كان. فلما رأى الذكر ذلك تندم. ثم اضطجع إلى جانب حمامته وقال: ما ينفعني الحب والعيش بعدك. إذ طلبتك فلم أجدك ولم أقدر عليك. وإذا فكرت في أمرك وعلمت أني قد ظلمتك ولا أقدر على تدارك ما فات. ثم استمر على حزنه. فلم يطعم طعاماً ولا شراباً حتى مات إلى جانبها. (كليلة ودمنة)
العابد والكلب
128 إنه كان في جبل لبنان رجلٌ من العباد منزوياً عن الناس في غارٍ في ذلك الجبل. وكان يصوم النهار ويأتيه كل ليلةٍ رغيفٌ يفطر على نصفه ويتسحر بالنصف الآخر. وكان على ذلك مدة طويلةً لا ينزل من دلك الجبل أصلاً. فأتفق أن انقطع عنه الرغيف ليلةً من الليالي فاشتد جوعه وقل هجوعه. فصلى العشاءين وبات تلك الليلة في انتظار شيءٍ يدفع به الجوع فلم يتيسر له شيءٌ. وكان في أسفل ذلك الجبل قريةٌ سكانها نصارى. فعندما أصبح العابد نزل إليهم واستطعم شيخاً منهم فأعطاه رغيفين من خبز الشعير فأخذهما(2/87)
وتوجه إلى الجبل. وكان في دار ذلك الشيخ النصراني كلبٌ جربٌ مهزول فلحق العابد ونبح عليه وتعلق بأذياله. فألقى إليه العابد رغيفاً من ذينك الرغيفين ليشتغل به عنه. فأكل الكلب ذلك الرغيف. ولحق العابد مرةً أخرى وأخذ في النباح والهرير. فألقى إليه العابد الرغيف الآخر فأكله. ولحقه تارةً أخرى واشتد هريره وتشبث بذيل العابد ومزقه. فقال العابد: سبحان الله إني لم أر كلباً أقل حياءً منك. إن صاحبك لم يعطني إلا رغيفين وقد أخذنهما مني. ماذا تطلب بهريرك وتمزيق ثيابي. فأنطق الله تعالى ذلك الكلب فقال: لست أنا قليل الحياء. اعلم أني ربيت في دار ذلك النصراني أحرس غنمه وأحفظ داره. وأقنع بما يدفعه لي من عظام أو خبز. وربما نسيني فأبقى أياماً لا آكل شيئاً. بل ربما يمضي علينا أيامٌ لا يجد هو لنفسه شيئاً ولا لي. مع ذلك لم أفارق داره منذ عرفت نفسي ولا توجهت إلى باب غيره. بل كان دأبي أنه إن حصل شيءٌ شكرت وإلا صبرت. وأما أنت فبانقطاع الرغيف عنك ليلةً واحدةً لم يكن عندك صبرٌ ولا كان منك تحملٌ حتى توجهت من باب رازق العباد إلى باب إنسانٍ. فأينا أقل حياءً أنا أم أنت. فلما سمع العابد ذلك ضرب بيده على رأسه وخر مغشياً عليه. (لبهاء الدين)(2/88)
تاجر ومستودع عنده
وهو مثل من أخذ بثأره بمثل ما ثئر به 129 زعموا أنه كان بأرض كذا تاجرٌ. وأنه أراد الخروج يوماً إلى بعض الوجوه ابتغاء الرزق. وكان عنده مئة من حديداً. فأودعها رجلاً من إخوانه وذهب في وجهه. ثم قدم بعد ذلك بمدةٍ. فجاء والتمس الحديد. فقال له صاحبه: قد أكلته الجرذان. فقال: قد سمعت أنه لا شيء أقطع من أنيابها للحديد. ففرح الرجل بتصديقه ما قال وادعى. ثم إن التاجر خرج فلقي ولداً للرجل. فأخذه وذهب به إلى منزله. فجاء الرجل من الغد. فقال: هل عندك علم بابني. قال: لما خرجت من عندك بالأمس رأيت بازياً قد اختطف صبياً. فلعله ابنك. فلطم الرجل على رأسه وقال يا قوم: هل سمعتم أو رأيتم أن البزاة تختطف الصبيان. فقال: نعم إن أرضا تأكل جرذانها مئة من حديدٍ ليس بعجب أن تختطف بزاتها الفيلة. قال الرجل: أكلت حديدك وهذا ثمنه. فاردد علي ابني.
براعةٌ وقرودٌ
وهو مثل من لا يتعظ بكلام غيره فيغامر بنفسه فيعطب 130 زعموا أن جماعةً من القردة كانوا سكاناً في جبل. فالتمسوا في ليلةٍ باردةٍ ذات رياح وأمطار ناراً فلم يجدوا. فرأوا يراعةً تطير كأنها شرارة نارٍ فظنوها ناراً. فجمعوا حطباً كثيراً وألقوه عليها.(2/89)
وجعلوا ينفخون طمع أن يوقدوا ناراً يصطلون بها. وكان قريباً منهم طائرٌ على شجرةٍ ينظرون إليه وينظر إليهم وقد رأى ما صنعوا. فجعل يناديهم ويقول: لا تتعبوا. فإن الذي رأيتموه ليس بنارٍ فلما طال ذلك عليه. عزم على القرب منهم لينهاهم عما هم فيه. فمر به رجلٌ فعرف ما عمد إليه. فقال له: لا تلتمس تقويم مالا يستقيم. فإن الحجر الصلب الذي لا ينقطع لا تجرب عليه السيوف. والعود الذي لا ينحني لا يعمل منه القوس. فلا تتعب. فأبى الطائر أن يطيعه. وتقدم إلى الفردة ليعرفهم أن اليراعة ليست بنارٍ. وإذا بأحدهم تناوله وضرب به الأرض فمات.
شريكان
وهو مثل من التمس صلاح نفسه بفساد غيره
131 زعموا أنه كان لتاجر شريكٌ. فاستأجرا حانوتاً وجعلاً متاعهما فيه. وكان أحدهما قريب المنزل من الحانوت. فأضمر في نفسه أن يسرق عدلاً من أعدال رفيقه. وفكر في الحيلة لذلك وقال: إن أتيت ليلاً لم آمن أن أحمل أحد أعدالي أو إحدى رزمي وأنا لا أعرفها. فيذهب عنائي وتعبي باطلاً. فأخذ رداءه وألقاه على ما أضمر أخذه من أعدال شريكه وانصرف إلى منزله. وجاء رفيقه بعد ذلك ليصلح الأعدال فوجد رداء شريكه على بعض أعداله. فقال: هذا رداء صاحبي ولا أحسبه إلا قد نسيه. وما الرأي أن أدعه ههنا.(2/90)
ولكن أجعله على رزمه فلعله يسبقني إلى الحانوت فيجده حيث يحب. ثم أخذ الرداء وألقاه على أحد أعدال رفيقه وأقفل الحانوت ومضى إلى منزله. فلما هجم الليل أتى رفيقه ومعه رجلٌ قد واطأه على ما عزم عليه. وضمن له جعلاً على حمله. فصار إلى الحانوت والتمس الرداء في الظلمة. حتى إذا حس به احتمل العدل الذي تحته وأخرجه هو والرجل. وجعلا يتراوحان على حمله حتى أتى منزله وهو ينحط تعباً فرزح. فلما أصبح افتقده وإذا به بعض متاعه. فندم أشد الندم. ثم انطلق إلى الحانوت فوجد شريكه قد سبقه إليه وفقد العدل وجلس مغتماً يقول: سوءتا من رفيق صالحٍ قد ائتمنني على ماله وخلفني فيه. ماذا تكون حالي عنده ولست أشك في تهمته إياي. ولكن قد وطنت نفسي على غرامته. فقال له الخائن: يا أخي لا تغتم. فإن الخيانة شر ما عمل الإنسان والمكر والخديعة لا يؤديان إلى خير. وصاحبهما مغرورٌ أبداً. وما عاد وبال البغي إلا على صاحبه. وأنا أحد من مكر وخدع. فقال له صاحبه: كيف كان ذلك. فأخبره بخبره. فأضرب الرجل عن توبيخه وقبل معذرته. وندم هو غاية الندامة.
رجل وابن عرس
وهو مثل من لا يتثبت في أمره بل يهجم على أعماله بالعجلة 132 زعموا أن رجلاً كان له غلامٌ. واتفق يوماً أن امرأته قالت(2/91)
له: اقعد عند ابنك حتى أذهب إلى الحمام فأغتسل وأسرع العودة. ثم انطلقت وخلفت زوجها والغلام. فلم يلبث أن جاءه رسول الملك يستدعيه. ولم يجد من يخلفه عند ابنه غير ابن عرس. وكان داجناً عنده وقد رباه صغيراً. فهو عنده عديل ولده. فتركه الرجل عند الصبي وأغلق عليهما البيت وذهب مع الرسول. فنحرج من بعض أحجار البيت حيةٌ سوداء. فدنت من الغلام فضربها ابن عرسٍ فقتلها. ثم قطعها وامتلأ فمه من دمها. ثم جاء الرجل وفتح الباب. فاستقبله ابن عرسٍ كالمشير له بما صنع. فلما رآه ملوثاً بالدم طار عقله. وظن أنه قد خنق ولده. ولم يتثبت في أمره ولم يترو فيه حتى يعلم حقيقة ما جرى. ولكن عجل على ابن عرسٍ المسكين بضربة عكازٍ كان في يده على أم رأسه فوقع ميتاً. ثم لما دخل رأى الغلام سليماً حياً وعنده أسود مقطعٌ. ففهم القصة وتبين له سوء فعله في العجلة. فلطم على رأسه وقال: ليتني لم أرزق هذا الولد. ولم أغدر هذا الغدر. ثم دخلت زوجته فوجدته على تلك الحال. فقالت له: ما شأنك. فأخبرها الخبر وحسن فعل ابن عرسٍ وسوء مكافأته له. فقالت: هذا ثمرة العجلة.
فيلةٌ وأرنبٌ
وهو مثل من صرف الأذى عن قومه بحيلته
133 زعموا أن أرضاً من أراضي الفيلة تتابعت عليها السنون(2/92)
وأجدبت. وقل ماؤها وغارت عيونها. وذوى نباتها ويبس شجرها. فأصاب الفيلة عطشٌ شديدٌ. فشكون ذلك إلى ملكهن فأرسل الملك رسله ورواده في طلب الماء في كل ناحيةٍ. فرجع إليه بعض الرسل فأخبره قائلاً: قد وجدت بمكان كذا عيناً يقال لها عين القمر كثيرة الماء فتوجه ملك الفيلة بأصحابه إلى تلك العين ليشرب منها هو وفيلته. وكانت العين في أرض لأرانب فوطئنهن وهن في أحجارهن فهلك منهن كثيرٌ. فاجتمعن إلى ملكهن فقلن له: قد علمت ما أصابنا من الفيلة. فقال: ليحضر كل ذي رأيٍ رأيه. فتقدمت واحدةٌ من الأرانب يقال لها فيروز. وكان الملك يعرفها بحسن الرأي والأدب. فقالت: إن رأى الملك أن يبعثني إلى الفيلة ويرسل معي أميناً ليرى ويسمع ما أقول ويرفعه إلى الملك. فقال لها الملك: أنت أمينةٌ ونرضى بقولك. فأنطلقي إلى الفيلة وبلغي عنا ما تريدين. واعلمي أن الرسول برأيه وعقله ولينه وفضله يخبر عن عقل المرسل. فعليك باللين والمؤاتاة. فإن الرسول هو الذي يلين الصدور إذا رفق. ويخشن الصدور إذا خرق. ثم إن الأرنب انطلقت في ليلةٍ قمراء حتى انتهت إلى الفيلة. وكرهت أن تدنو منهن مخافة على الجبل بأرجلهن. فيقتلنها وإن كن غير متعمداتٍ. ثم أشرفت على الجبل ونادت ملك الفيلة وقالت له: إن القمر أرسلني إليك والرسول غير ملومٍ فيما يبلغ وإن أغلظ في القول. قال ملك الفيلة: فما الرسالة.(2/93)
قالت: يقول لك. إنه من عرف قوته على الضعفاء فاغتر لذلك بالأقوياء كانت قوته وبالاً عليه. وأنت قد عرفت فضل قوتك على الدواب فغرك ذلك. فعمدت إلى العين التي تسمى باسمي فوردتها وكدرتها. فأرسلني إليك لأنذرك أن لا تعود إلى مثل ذلك. وإنك إن فعلت يغشي بصرك ويتلف نفسك. وإن كنت في شكٍ من رسالتي. فهلم إلى العين من ساعتك فإنه موافيك إليها. فعجب ملك الفيلة من قول الأرنب فانطلق إلى العين مع فيروز الرسول. فلما نظر إليها رأى ضوء القمر فيها. فقالت له فيروز الرسول: خذ بخرطومك من الماء فاغسل به وجهك واسجد للقمر. فأدخل الفيل خرطومه في الماء فتحرك. فنحيل له أن القمر ارتعد. فقال: ما شأن القمر ارتعد. أتراه غضب من إدخالي جحفلتي في الماء. قالت الأرنب: نعم. فسجد الفيل للقمر مرة أخرى. وتاب إليه مما صنع وشرط أن لا يعود إلى مثل ذلك هو ولا أحدٌ من الفيلة.
أرنبٌ وأسد
وهو مثل من دفع المكروه برأيه وأحسن تدبيره وحيلته 134 زعموا أن أسداً كان في أرض أريضةٍ كثيرة المياه والعشب. وكان فيها من الوحوش في سعة المياه والمرعي كثيرٌ إلا أنه لم يكن ينفعها ذلك لخوفها من أسد كان مستبداً بالأمر فيها. فاجتمعت إليه وقالت له: إنك تصيب منا الدابة بعد الجهد والتعب. وقد رأينا(2/94)
لك رأيا فيه صلاح لك وأمن لنا. فإن أنت أمنتنا ولم تخفناً فلك علينا في كل يومٍ دابةٌ نبعث بها إليك في وقت غدائك. فرضي الأسد بذلك وصالح الوحوش عليه. ووفين بها له إلى أن أصابت القرعة أرنبا. فقالت للوحوش: إن أنتن رفقتن بي فيما لا يضركن رجوت أن أريحكن من الأسد. فقلن: وما الذي تكفيننا من الأمور. قالت: تأمرن الذي ينطلق بي إلى الأسد أن يمهلني ريثما أبطئ عليه. بعض الإبطاء. فقلن لها: ذلك لك. فانطلقت الأرنب متباطئةً حتى جاوزت الوقت الذي كان يتغدى فيه الأسد. ثم تقدمت إليه وحدها رويداً وقد جاع وغضب. فقام من مكانه نحوها. فقال: من أين أقبلت. قالت: أنا رسول الوحوش إليك بعثني ومعي أرنب لك فتبعني أسدٌ في بعض تلك الطريق فأخذها مني غصباً. وقال: أنا أولى بهذه الأرض وما فيها من الوحوش. فقلت: إن هذا غداء الملك أرسلت به الوحوش معي إليه فلا تغصبنيه. فسبك وشتمك. فأقبلت مسرعةً إليك لأخبرك. فقال الأسد: أو في زمني غاصبٌ انطلقي معي فأريني موضع هذا الأسد. فانطلقت إلى جبٍ فيه ماءٌ غامرٌ صافٍ. فاطلعت فيه وقالت: هذا المكان. فتطلع الأسد فرأى ظله وظل الأرنب في الماء فلم يشك في قولها. ثم وثب عليه ليقاتله فغرق في الجب. فانقلبت الأرنب إلى الوحوش فأعلمتهن صنيعها بالأسد. (كليلة ودمنة)(2/95)
الباب السادس في الفضائل والنقائص
الصبر
135 قال بعض العلماء: الصبر عشرة أقسامٍ: الصبر عن شهوة البطن يسمى قناعةً وضده الشره. والصبر عن شهوة الجسد يسمى عفة وضده الشبق. والصبر على المعصية يسمى صبراً وضده الجزع. والصبر على الغناء يسمى ضبط النفس وضده البطر. والصبر عند القتال يسمى الشجاعة وضده الجبن. والصبر عند الغضب يسمى حلماً وضده الحمق. والصبر عند النوائب يسمى سعة الصدر وضده الضجر. والصبر حفظ السر يسمى الكتمان وضده الخرق. والصبر عن فضول المعيشة يسمى الزهد وضده الحرص. والصبر عند توقع الأمور يسمى التؤدة وضده الطيش. (للقليوبي) ومن أحسن ما جاء في باب الصبر قول بعضهم:
بنى الله للأخيار بيتاً سماؤه ... همومٌ وأحزانٌ وحيطانه الضر
وأدخلهم فيه وأغلق بابه ... وقال لهم مفتاح بابكم الصبر
قال آخر:
إصبر قليلاً وكن بالله معتصماً ... ولا تعاجل فإن العجز بالعجل
ألصبر مثل اسمه في نائبةٍ ... لكن عواقبه أحلى من العسل(2/96)
136 قال بعض الحكماء: الصبر صبران. صبرٌ على ما تكره وصبرٌ عما تحب. والثاني أشدهما على النفس. (لبهاء الدين) من الديوان المنسوب إلى أمير المؤمنين:
إني رأيت وفي الأيام تجربةٌ ... للصبر عاقبةً محمودة الأثر
لا تضجرن ولا يدخلك معجزةٌ ... فالنجح يهلك بين العجز والضجر
لامرأة من العرب
أيها الإنسان صبراً ... إن بعد العسر يسرا
إشرب الصبر وإن كا ... ن من الصبر أمرا
137 شكا رجلٌ إلى جعفر الصادق أذية جاره. فقال له: اصبر عليه. قال: ينسبني إلى الذل. قال: إنما الذليل من ظلم. (للمستعصمي) قال علي بن أبي طالبٍ:
إصبر قليلاً فبعد العسر تيسير ... وكل أمر له وقتٌ وتدبير
وللمهيمن في حالاتنا نظرٌ ... وفوق تدبيرنا لله تدبير
قال بعضهم:
إذا ما أتاك الدهر يوماً بنكبةٍ ... فأفرغ لها صبراً وأوسع لها صدرا
فإن تصاريف الزمان عجيبةٌ ... فيوماً ترى يسراً ويوماً ترى عسرا
قال آخر:
وكم غمرةٍ هاجت بأمواج غمرةٍ ... تلقيتها بالصبر حتى تجلت(2/97)
وكانت على الأيام نفسي عزيزةً ... فلما رأت صبري على الذل ذلت
138 قال الفضيل بن عياض: ألا ترون كيف يزوي الله الدنيا عمن يحب ويمررها عليهم تارةً بالجوع ومرةً بالحاجة. كما تصنع الأم الشفيقة بولدها تفطمه بالصبر مرة وبالحضض أخرى وإنما تريد صلاحه. (لبهاء الدين) أنشد بعضهم:
وإذا بليت بعسرةٍ فالبس لها ... صبر الكريم فإن ذلك أحزم
لا تشكون إلى العباد فإنما ... تشكو الرحيم إلى الذي لا يرجم
وقال آخر:
واصبر إذا ما شئت إكليل الهنا ... فبغير حسن الصبر لن تتكللا
فإذا كرهت الصبر فاعلم أنما ... حقاً كرهت بأن تكون مكللا
قال بعض الشعراء:
ما أحسن الصبر في الدنيا وأجمله ... عند الإله وأنجاه من الجزع
من شد بالصبر كفا عند مؤلمةٍ ... ألوت يداه بحبل غير منقطع
قال آخر
أما والذي لا يعلم الغيب غيره ... ومن ليس في كل الأمور له كفو
لئن كان بدء الصبر مرا مذاقه ... لقد يجتنى من بعده الثمر الحلو
قال محمد الأبيوردي:
تنكر لي دهري ولم يدر أنني ... أعز وأهوال الزمان تهون(2/98)
وظل يريني الخطب كيف اعتداؤه ... وبت أريه الصبر كيف يكونه
139 قال علي بن أبي طالبٍ: اعلموا أن الصبر من الأمور بمنزلة الرأس من الجسد. إذا فارق الرأس الجسد فسد الجسد. وإذا فارق الصبر الأمور فسدت الأمور. ولله من قال:
على قدر فضل المرء تأتي خطوبه ... ويجمد منه الصبر مما يصيبه
فمن قل فيما يلتقيه اصطباره ... فقد قل فيما يلتقيه نصيبه
قال الشبراوي:
وإذا مسك الزمان بضرٍ ... عظمت دونه الخطوب وجلت
وأتت بعده نوائب أخرى ... سئمت نفسك الحياة وملت
فاصطبر وانتظر بلوغ الأماني ... فالرزايا إذا تواليت تولت
قال محمود الوراق:
ألدهر لا يبقى على حالةٍ ... لكنه يقبل أو يدبر
فإن تلقاك بمكروهه ... فاصبر فإن الدهر لا يصبر
140 (من كتاب أنيس العقلاء) . اعلم أن النصر مع الصبر. والفرج مع الكرب. واليسر مع العسر. قال بعض الحكماء: بمفتاح عزيمة الصبر تعالج مغاليق الأمور. وقال بعضهم: عند انسداد الفرج. تبدو مطالع الفرج. (لبهاء الدين) ولله در من قال:
ألصبر مفتاح ما يرجى ... وكل صعبٍ به يهون(2/99)
فاصبروا وإن طالت الليالي ... فربما أمكن الحرون
وربما نيل باصطبارٍ ... ما قيل هيهات لا يكون
قال أبو الفتح البستي:
تحمل أخاك على ما به ... فما في استقامته مطمع
وأنى له خلقٌ واحدٌ ... وفيه طبائعه الأربع
قال غيره:
دع الأيام تفعل ما تشاء ... وطيب نفساً إذا نزل البلاء
ولا تجزع لحادثة الليالي ... فما لحوادث الدنيا بقاء
إذا ما كنت ذا قلبٍ قنوعٍ ... فأنت ومالك الدنيا سواء
قال آخر:
إدفع بصبرك حادث الأيام ... وترج لطف الواحد العلام
لا تيأسن وإن تضايق كربها ... ورماك ريب صروفها بسهام
فله تعالى بين ذلك فرجةٌ ... تخفى على الأبصار والأوهام
كم من نحيٍ بين أطراف القنا ... وفريسةٍ سلمت من الضرغام
الحلم
141 قيل لقيس بن عاصمٍ: ما الحلم. قال: أن تصل من قطعك. وتعطي من حرمك. وتعفو عمن ظلمك. قال علي بن أبي طالبٍ: حلمك على السفيه يكثر أنصارك عليه. (قالوا) لا يظهر الحلم إلا مع الانتصار. كما لا يظهر العفو إلا مع الاقتدار. (وقالوا) ما قرن(2/100)
شيءٌ إلى شيءٍ أزين من حلمٍ إلى علمٍ. ومن عفو إلى قدرةٍ. قال معاوية: إني لأستحي من ربي أن يكون ذنبٌ أعظم من عفوي. أو جهلٌ أكبر من حلمي. أو عورةٌ لا أواريها بستري. وقال المورق العجلي: ما تكلمت في الغضب بكلمةٍ ندمت عليها في الرضا. (لابن عبد ربه) قال النواجي:
يخاطبني السفيه بكل قبحٍ ... وأكره أن أكون له مجيبا
يزيد سفاهةً وأزيد حلماً ... كعودٍ زاده الإحراق طيبا
142 قالت الحكماء: يدرك بالرفق مالا يدرك بالعنف. ألا ترى أن الماء على ليئه يقطع الحجر على شدته. وقال أشجع السلمي لجعفر بن يحيى: ما كاد يدرك بالرجال ولا بالمال ما أدركت بالرفق.
وقال النابغة.
ألرفق يمنٌ والأناة سعادةٌ ... فاستأن في رفق تلاق نجاحا
قال الشعبي لعبد الملك: إنك على إيقاع ما لم توقع أقدر منك على رد ما أوقعت. وأخذ ذلك الشاعر فقال:
فداويته بالحلم والمرء قادرٌ ... على سهمه ما دام في كفه السهم
(للثعالبي) قيل لهشام بن عبد الملك: تطمع في الخلافة وأنت بخيل جبانٌ. قال: ولم لا أطمع فيها وأنا حليم عفيفٌ. (لأبي الفرج)(2/101)
143 قال البحتري: تناس ذنوب قومك إن حفظ الذم نوب إذا قدمن من الذنوب (قيل) الاعتراف. يزول به الاقتراف. لا عتب مع إقرار. ولا ذنب مع استغفار. ألمعترف بالجريرة مستحق للغفيرة. قال محمد بن حازمٍ:
إذا ما امرؤٌ من ذنبه جاء تائبا ... إليك فلم تغفر له فلك الذنب
قال عمرو بن كلثومٍ لصديقٍ له أنكر ذنباً: إما أن تقر بذنبك فيكون إقرارك حجةً لنا في العفو. وإلا فطب نفساً بالانتصار منك
أقرر بذنبك ثم اطلب تجاوزنا ... عنه فإن حجود الذنب ذنبان
قال أبو بكر الصولي:
وكنت إذا الصديق أراد غيظي ... وأشرقني على شرق بريق
غفرت ذنوبه وصفحت عنه ... مخافة أن أعيش بلا صديق
144 أتى المنصور برجل أذنب. فقال: إن الله يأمر ب
العدل والإحسان. فإن أخذت في غيري بالعدل فخذ في بالإحسان. فعفا عنه. قال أبو فراس:
إن لم تجاف عن الذنو ... ب وجدتها فينا كثيرة
لكن عادتك الجمي ... لة أن تغض على الجريرة
(للثعالبي) دخل ابن حزيم على المهدي وقد عتب على بعض أهل الشام(2/102)
وأراد أن يغزوهم جيشاً. فقال: يا أمير المؤمنين عليك بالعفو عن المذنب والتجاوز عن المسيء. فلأن يطيعك العرب طاعة محبةٍ خير لك من أن تطيعك طاعة خوفٍ. (لابن عبد ربه) لما ظفر المأمون بإبراهيم بن المهدي شاور فيه أحمد بن أبي خالد الأحول الوزير. فقال: يا أمير المؤمنين إن قتلته فلك نظراء. وإن عفوت فما لك نظيرٌ. (وفيات الأعيان لابن خلكان)
العدل
145 اعلم أن العدل ميزان الله تعالى في الأرض الذي يؤخذ به للضعيف من القوي والمحق من المبطل. واعلم أن عدل الملك يوجب محبته وجوره يوجب الافتراق عنه. قيل: دعوة المظلوم تحمل على الغمام وتفتح لها أبواب السماء. وسأل الإسكندر حكماء أهل بابل: أيما أبلغ عندكم الشجاعة أم العدل. قالوا إذا استعملنا العدل استغنينا به عن الشجاعة. ويقال: عدل السلطان. أنفع من خصب الزمان. (للابشيهي) 146 إن السلطان إذا عدل انتشر العدل في رعيته. وأقاموا الوزن بالقسط وتعاطوا الحق فيما بينهم. ولزموا قوانين العدل. فمات الباطل وذهبت رسوم الجور. وانتعشت قوانين الحق. فأرسلت السماء غياثها وأخرجت الأرض بركاتها. وتمت تجارتهم. وزكت زروعهم. وتناسلت أنعامهم. ودرت أرزاقهم. ورخصت أسعارهم.(2/103)
وامتلأت أوعيتهم. فواسى البخيل. وأفضل الكريم. وقضيت الحقوق. وإذا جار السلطان انتشر الجور في البلاد وعم العباد. فرقت أديانهم. واضمحلت مروآتهم. وفشت فيهم المعاصي. وذهبت أماناتهم. وتضعضعت النفوس. وقنطت القلوب. فمنعوا الحقوق. وتعاطوا الباطل. وبخسوا المكيال والميزان. فرفعت منهم البركة. وأمسكت السماء غياثها. ولم تخرج الأرض زرعها ونباتها. وقل في أيديهم الحطام. وقنطوا وأمسكوا الفضل الموجود. وتناجزوا على المفقود. فمنعوا الزكوات المفروضة. وبخلوا بالمؤاساة المسنونة. وقبضوا أيديهم عن المكارم. وتنازعوا المقدار اللطيف وتجاحدوا القدر الخسيس. ففشت فيهم الأيمان الكاذبة. والحيل في البيع. والخداع في المعاملة. والمكر والحيلة في القضاء والاقتضاء. ومن عاش كذلك فبطن الأرض خيرٌ له من ظهرها. (للطرطوشي) قال أزدشير لابنه: يا بني إن الملك والعدل أخوان لا غنى بأحدهما عن صاحبه. فالملك أسٌ والعدل حارسٌ. فما لم يكن له أس فمهدومٌ. وما لم يكن له حارسٌ فضائعٌ. (لابن عبد ربه)
الوفاء
147 قال الحجاج بن يوسف الثقفي: ما خلقت إلا فريت. وما وعدت إلا وفيت. (للقزويني) (قالوا) من تحلى بالوفاء. وتخلى عن الجفاء. فذلك من إخوان(2/104)
الصفاء. (وقالوا) الوفاء ضالةٌ كثيرٌ ناشدها. قليلٌ واجدها. كما قيل: الوفاء من شيم الكرام. والغدر من خلائق اللئام. (الكنز المدفون للسيوطي) قال بعض الشعراء في أهل زمانه:
ذهب الوفاء ذهاب أمس الذاهب ... فالناس بين محالفٍ وموارب
يفشون بينهم المودة والصفا ... وقلوبهم محشوةٌ بعقارب
148 (قالوا) وعد الكريم نقدٌ. ووعد اللئيم تسويفٌ. قال عمر ابن الحارث: كانوا في قديم الزمان يفعلون ولا يقولون. ثم صاروا يقولون يفعلون. ثم صاروا يقولون ولا يفعلون قال زيادٌ الأعجم:
لله درك من فتىً ... لو كنت تفعل ما تقول
لا خير في كذب الجوا ... د وحبذا صدق البخيل
الصداقة والخلة
149 (قيل) المرس كثير بأخيه. قال الأحنف بن قيسٍ: خير الإخوان من إن استغنيت عنه لم يزدك في المودة. وإن احتجت إليه لم ينقصك. وإن كوثرت عضك. وإن استرفدت رفدك. وأنشد أحمد بن أبان:
إذا أنا لم اصبر على الذنب من أخٍ ... وكنت أجازيه فأين الفاضل
ولكن أداويه فإن صح سرني ... وإن هو أعيا كان فيه تحامل(2/105)
قال آخر:
وليس أخي من دني بلسانه ... ولكن أخي من ودني وهو غائب
ومن ماله مالي إذا كنت معدماً ... وما لي له إن أعوزته النوائب
قال أبو العتاهية:
إصحب ذوي الفضل وأهل الدين ... فالمرء منسوبٌ إلى القرين
قال طرفة بن العبد:
إذا كنت في قومٍ فصاحب خيارهم ... ولا تصحب الأردا فتردى مع الردي
عن المرء لا تسأل وسل عن قرينه ... فكل قرين بالمقارن يقتدي
150 قيل لبزرجمهر: من أحب إليك أخوك أم صديقك. فقال: ما أحب أخي إلا إذا كان لي صديقاً. وقال عبد الله بن عباسٍ: ألقرابة تقطع. والمعروف يكفر. وما رأيت كتقارب القلوب قال بعض الأكابر: ينبغي أن تستنبط لزلة أخيك سبعين عذراً. فإن لم يقبله قلبك فقل لقلبك: ما أقساك. يعتذر إليك أخوك سبعين عذراً فلا تقبل عذره فأنت المعتوب لا هو قال المبرد.
ما القرب إلا لمن صحت مودته ... ولم يخنك وليس القرب للنسب(2/106)
كم من قريبٍ دوي الصدر مضطغنٍ ... ومن بعيدٍ سليمٍ غير مقترب
قال المغيرة بن شعبة:
وليس الذي يلقاك بالبشر والرضا ... وإن غبت عنه آلمتك عقاربه
قال بشارٌ:
تود عدوي ثم تزعم أنني ... صديقك إن الرأي منك لعازب
وليس أخي من ودني رأي عينه ... ولكن أخي من ودني وهو غائب
151 مما أوصى به أمير المؤمنين أولاده: يا بني عاشروا الناس عشرةً إن غبتم حنوا إليكم. وإن فقدتم بكوا عليكم. يا بني: إن القلوب جنودٌ مجندة تتلاحظ بالمودة وتتناجى بها وكذلك هي في البغض. فإذا أحببتم الرجل من غير خيرٍ سبق منه إليكم فأرجوه. وإذا أبغضتم الرجل من غير سوءٍ سبق منه إليكم فاحذروه.
قال الطغرائي:
أخاك أخاك فهو أجل ذخرٍ ... إذا نابتك نائبة الزمان
وإن بانت إساءته فهبها ... لما فيه من الشيم الحسان
تريد مهذبا لا عيب فيه ... وهل عودٌ يفوح بلا دخان
قال العطوي:
صن الود إلا عن الأكرمين ... ومن بمؤاخاته تشرف
ولا تغترر من ذوي خلةٍ ... وإن موهوا لك أو زخرفوا(2/107)
152 قال بزرجنهر: من لم يكن له أخ يرجع إليه في أموره ويبذل نفسه وماله في شدته فلا يعدن نفسه من الأحياء. من كلام بعض العارفين: ألأخ الصالح خيرٌ من نفسك. لأن النفس أمارةٌ بالسوء والأخ الصالح لا يأمر إلا بالخير. في الخبر: المرء كثيرٌ بأخيه. ويقال: الرجل بلا إخوان كالشمال بلا يمينٍ. ويقال: من اتخذ إخواناً. كانوا له أعواناً. وقال المغيرة بن شعبة: ألتارك للإخوان متروكٌ. وقال شبيب بن شبة: عليك بالإخوان فإنهم زينةٌ في الرخاء. وعدةٌ عند البلاء. (لبهاء الدين) قال الشاعر:
تكثر من الإخوان ما اسطعت إنهم ... عمادٌ إذا استنجدتهم وظهير
وما بكثير ألف خل وصاحب ... وإن عدوا واحداً لكثير
153 وقال العتبي: لقاء الإخوان نزهة القلوب. وقال ابن عائشة القرشي: مجالسة الإخوان مسلاةٌ للأحزان. وقال سعيد بن مسلمٍ: إن في لقاء الإخوان لغنماً وإن قل. (ظرائف اللطائف لأبي نصر المقدسي) وقيل لعلي بن الهيثم: ما تحب للصديق. فقال: ثلاث خلالٍ. كتمان حديث الخلوة. والمواساة عند الشدة. وإقالة العثرة. (للمستعصمي) 154 قال عبد الله بن جعفرٍ: عليك بصحبة من إن صحبته زانك.(2/108)
وإن عبت عنه صانك. وإن احتجت إليه مانك. وإن رأى منك خلة سدها. أو حسنةً عدها. وقال الحسن بن وهبٍ: من حقوق المودة أخذ عفو الإخوان. والإغضاء عن تقصير إن كان. (وقيل) خير الإخوان من إذا نسيت ذنبك لم يقرعك به. ومعروفه عندك لم يمن عليك به. (للشريشي) قال الإسكندر: انتفعت بأعدائي اكثر مما انتفعت بأصدقائي لأن أعدائي كانوا يعيروني ويكشفون لي عيوبي وينبهوني بذلك على الخطأ فأستدركه. وكان أصدقائي يزينون لي الخطأ ويشجعوني عليه. (الآداب السلطانية للفخري) .
ولله در أبي حيان الأندلسي إذ أنشد:
عداي لهم فضل علي ومنهٌ ... فلا أذهب الرحمان عني الأعاديا
هم بحثوا عن زلتي فاجتنبتها ... وهم نافسوني فاكتسبت المعاليا
للشورة
155 سئل بعض الحكماء: أي الأمور أشد تأييداً للعقل وأيها اشد إضراراً به. فقال: أشدها تأييداً له ثلاثة أشياء. مشاورة العلماء. وتجربة الأمور. وحسن التثبت. وأشدها إضراراً به ثلاثة أشياء. الاستبداد. والتهاون. والعجلة. كان علي بن أبي طالب يقول: رأي الشيخ أحسن من جلد الغلام. قال العتبي: قيل لرجلٍ من عبسٍ ما أكثر صوابكم. قال: نحن ألف رجلٍ وفينا حازمٌ واحدٌ.(2/109)
فنحن نشاوره فكأنا ألف حازمٍ. قال الشاعر:
ألرأي كالليل مسوداً جوانبه ... والليل لا ينجلي إلا بإصباح
فاضمم مصابيح آراء الرجال إلى ... مصباح رأيك تزدد ضوء مصباح
قال الأرجائي
إقرن برأيك رأي غيرك واستشر ... فالحق لا يخفى على الاثنين
للمرء مرآةٌ تريه وجهه ... ويرى قفاه بجمع مرآتين
156 قال حكيمٌ: إذا شاورت العاقل صار عقله لك. وقال العتابي: المشورة عين الهداية. وقد خاطر من استغنى برأيه. وقال ابن المعتز: المشورة راحةٌ لك وتعب لغيرك. ومن أكثر المشورة لم يعدم عند الصواب مادحاً وعند الخطأ عاذراً. (لأبي نصر المقدسي)
كتمان السر
157 قال أنوشروان: من حصن سره فله بتحصينه خصلتان. الظفر بحاجته. والسلامة من السطوات. وقيل: كلما كثرت خزان الأسرار زادت ضياعاً. وقيل انفرد بسرك لا تودعه حازماً فيزل. ولا جاهلاً فيخون. (للابشيهي) وقال كعب بن سعدٍ الغنوي.
ولست بمبدٍ للرجال سريرتي ... ولا أنا عن أسرارهم بمسائل
وقال آخر:
يا ذا الذي أودعني سره ... لا ترج أن تسمعه مني(2/110)
لم أجره قط على فكرتي ... كأنه لم يجر في أذني
قال ابن الخطير:
لا يكتم السر إلا كل ذي ثقةٍ ... والسر عند خيار الناس مكتوم
فالسر عندي في بيتٍ له غلقٌ ... ضاعت مفاتيحه والباب مختوم
قال أبو المحاسن الشواء في شخص لا يكتم السر وقد أجاد فيه:
لي صديقٌ إذا وإن كان لا ينطق ... إلا بغيبة أو محال
أشبه الناس بالصدى إن تحدثه ... حديثاً أعاده في الحال
الصمت وحفظ اللسان
158 سئل سولون: أي شيءٍ أصعب على الإنسان. قال: الإمساك عن الكلام بما لا يعنيه. شتم رجلٌ سخنيس الحكيم فأمسك عنه. فقيل له في ذلك. فقال: لا أدخل حرباً الغالب فيها أشر من المغلوب. ومن كلام بعض الحكماء. لاتبع هيبة السكوت بالرخيص من الكلام. قال أرسطاطا ليس: اختصار الكلام طي المعاني. وقيل له: ما أحسن ما حمله الإنسان. قال: السكوت. ومن كلام الحكماء: يستدل على عقل الرجل بقلة مقاله. وعلى فضله بكثرة احتماله. (لبهاء الدين) 159 اجتمع أربعة ملوكٍ فتكلموا. فقال ملك الفرس: ما ندمت على ما لم أقل مرةً وندمت على ما قلت مراراً. وقال قيصر: أنا على رد ما لم أقل أقدر مني على رد ما قلت. وقال ملك الصين: ما لم(2/111)
أتكلم بكلمةٍ ملكتها فإذا تكلمت بها ملكتني. وقال ملك الهند: العجب ممن يتكلم بكلمةٍ إن رفعت ضرت وإن لم ترفع لم تنفع. (كليلة ودمنة) 160 ذكر ابن خلكان أن رجلاً كان يجالس الشعبي ويطيل الصمت. فقال له الشعبي يوماً: ألا تتكلم. فقال: أصمت فأسلم. وأسمع فأعلم. إن حظ المرء في أذنه له وفي لسانه لغيره (للدميري) قال ابن السكيت:
يصاب الفتى من عثرة بلسانه ... وليس يصاب المرء من عثرة الرجل
فعثرته بالقول تذهب رأسه ... وعثرته بالرجل تبرا على مهل
161 قال بعض السلف: ألندم على الصمت خيرٌ من الندم على القول. ومن فصول ابن المعتز: من أخافه الكلام أجاره الصمت. وقال أيضاً: الخطأ بالصمت يختم. والخطل بمثله لا يكتم وقال آخر:
ألصمت يكسب أهله ... صدق المودة والمحبة
والقول يستدعي لصا ... حبه المذمة والمسبه
فأرغب عن القول ولا ... يهتاج منك إليه رغبه
162 ويقال: من علامات العاقل حسن سمته. وطول صمته. وقال(2/112)
بعض الحكماء: أول العلم الصمت. والثاني حسن الاستماع. والثالث الحفظ. والرابع العمل به. والخامس نشره. كان يقال: مقتل الرجل بين فكيه. وقال بعض البلغاء: اللسان. أجرح جوارح الإنسان. وقال آخر: اللسان سبعٌ صغير الجرم. (لأبي نصر المقدسي) سمعت بعض الشيوخ يقول: أشد الناس بلاءً وأكثرهم عناءً. من له لسانٌ مطلقٌ. وقلبٌ مطبقٌ. فهو لا يستطيع أن يسكت ولا يحسن أن يتكلم. (الكنزل المدفون) قال نضر بن شميل:
وإذا بليت بجاهل متحكم ... يجد المحال من الأمور صوابا
أوليته مني السكوت وربما ... كان السكوت عن الجواب جوابا
قال فيلسوفٌ: كما أن الآنية تمتحن بإطنانها فيعرف صحيحها أو مكسورها. كذلك الإنسان يعرف حاله بمنطقه. (لبهاء الدين) 163 شاور معاوية الأحنف بن قيس في استخلافه يزيد. فسكت عنه فقال: مالك لا تقول. فقال: إن صدقناك أسخطناك. وإن كذبناك أسخطنا الله. فسخط أمير المؤمنين أهون علينا من سخط الله.
فقال له: صدقت قال الحسن البصري: لسان العاقل من وراء قلبه فإذا أراد الكلام تفكر. فإن كان له قال. وإن كان عليه سكت. وقلب(2/113)
الأحمق من وراء لسانه. فإذا أراد أن يقول قال. (لابن عبد ربه) قال زهيرٌ:
كأين ترى من معجبٍ لك صامتٍ ... زيادته أو نقصه في التكلم
لسان الفتى نصفٌ ونصفٌ فؤاده ... فلم يبق إلا صورة اللحم والدم
الكذب
164 ألكذب هو الإخبار على خلاف الواقع. قال بعضهم: لو لم أدع الكذب تورعاً. تركته تصنعاً. (الكنز المدفون للسيوطي)
قال عمر: عليك بالصدق وإن قتلك. وما أحسن ما قيل في ذلك:
عليك بالصدق ولو أنه ... أحرقك الصدق بنار الوعيد
وأبغ رضا المولى فأغبى الورى ... من أسخط المولى وأرضى العبيد
وقيل: لكل شيءٍ حليةٌ وحلية النطق الصدق. (للابشيهي) 165 قال علي بن عبيدة: الصدق ربيع القلب. وزكاة الخلقة. وثمرة المروءة. وشعاع الضمير. وعن جلالة القدر عبارته. وإلى اعتدال وزن العقل ينسب صاحبه. قال بعض الفلاسفة: الكذاب والميت سواء. لأن فضيلة الحي النطق فإذا لم يوثق بكلامه فقد بطلت حياته. قال الحسن بن سهلٍ: الكذاب لصٌ. لأن اللص يسرق مالك. والكذاب يسرق عقلك. ولا تأمن من كاذبٍ لك أن يكذب عليك. ومن اغتاب غيرك عندك فلا تأمن أن يغتابك عند غيرك.(2/114)
حسب الكذوب من المها ... نة بعض ما يحكى عليه
ما إن سمعت بكذبةٍ ... من غيره نسبت إليه
(زهر الآداب للقيرواني)
التواضع والكبر
166 قيل لبعضهم: ما التواضع. فقال: اجتلاب المجد واكتساب الود. فقيل: ما الكبر. فقال: اكتساب البغض. (وقيل) التواشع أحد مصايد الشف. من لم يتضع عند نفسه. لم يرتفع عند غيره.
نظر مطرفٌ إلى المهلب وعليه حلةٌ يسحبها. فقال: ما هذه المشية التي يبغضها الله تعالى. فقال: أو ما تعرفني. قال: بلى أولك مادةٌ مذرةٌ وآخرك جيفةٌ قذرةٌ. فلم يعد إلى تلك المشية بعد ذلك. ونظر الحسن إلى رجل يخطر في ناحية المسجد. فقال: انظروا إلى هذا ليس منه عضو إلا والله عليه فيه نقمةٌ وللشيطان فيه لعبةٌ.
واشترى رجلٌ شيئاً فمر بسلمان وهو أمير المدائن فلم يعرفه. فقال: أحمل معي هذا يا علج فحمله فكان من يتلقاه يقول: أدفعه إلي أيها الأمير. فقال: والله لا يحمله إلا العلج. والرجل يعتذر إليه ويسأله أن يرده عليه. فأبى حتى حمله إلى مقره. (للثعالبي) قال بعضهم:
مثل المجد الذي تطلبه ... مثل الظل الذي يمشي معك
أنت لا تدركه متبعاً ... فإذا وليت عنه تبعك(2/115)
167 قال بعض الحكماء لبعض الوزراء: إن تواضعك في شرفك أشرف لك من شرفك. قال بعضهم:
ومن البولى التي لي ... س لها في الناس كنه
أن من يعرف شيئاً ... يدعي أكثر منه
(لبهاء الدين) قال أبو العتاهية:
عجبت للإنسان في فخره ... وهو غداً في قبره يقبر
أصبح لا يملك تقديم ما ... يرجو ولا تأخير ما يحذر
حكى أن المنصور كان جالساً فألح عليه الذباب حتى أضجره. فقال: انظروا من بالباب من العلماء. فقالوا: مقاتل بن سليمان. فدعا به ثم قال له: هل تعلم لأي حكمةٍ خلق الله الذباب. قال: ليذل به الجبابرة. قال: صدقت. ثم أجازه. (للابشيهي) 168 قال بعض الحكماء: أحق من كان للكبر مجانباً. وللإعجاب مبايناً. من جل في الدنيا قدره. وعظم فيها خطره. لأنه يستقل بعالي همته كل كثير. ويستصغر معها كل كبير ورد في بعض الكتب السماوية: عجباً لمن قيل فيه من الخيرٍ ما ليس فيه ففرح. وقيل فيه من الشر ما هو فيه فغضب. (للعاملي)(2/116)
الحسد
169 (قيل) الحسد أن تتمنى زوال نعمة غيرك. ألحسد أول ذنبٍ عصي الله به في السماء والرض. قال ابن المقفع: الحسد والحرص دعامتا الذنوب. فالحرص أخرج آدم من الجنة. والحسد نقل إبليس عن جوار الله. وقال أيضاً: لله در الحسد ما أعدله يقتل الحاسد قبل أن يصل إلى المحسود. وقيل: الحسود لا يسود. (للثعالبي) قال ابن المعتز:
ألمجد والحساد مق ... رونان إن ذهبوا فذاهب
ولئن ملكت المجد لم ... تملك مودات الأقارب
170 قال بعضهم: أعظم الذنوب عند الله الحسد والحاسد مضادٌ لنعمة الله. خارج عن أمر الله. تارك لعهد الله. وقال معاوية: كل إنسان أقدر أن أرضيه إلا حاسد نعمةٍ فلا يرضيه إلا زوالها. وكان يقال: الحقد داءٌ دويٌ. ويقال: من كثر حقده دوي قلبه. ويقال: الحقد مفتاح كل شرٍ. ويقال: حل عقد الحقد. ينتظم لك عقد الود. (لأبي نصر المقدسي) قال أبو تمامٍ:
وإذا أراد الله نشر فضيلةٍ ... طويت أتاح لها لسان حسود
لولا اشتعال النار فيما جاورت ... ما كان يعرف طيب عرف العود(2/117)
ذم الغيبة
171 اعلم أن الغيبة من أقبح القبائح وأكثرها انتشاراً في الناس حتى لا يسلم منها إلا القيل من الناس. وهي ذكرك الإنسان بما يكره ولو بما فيه. سواءٌ كان في دينه أو بدنه أو نفسه أو خلقه أو خلقه أو ماله أو غير ذلك مما يتعلق به. سواءٌ ذكرته بلفظك أو بكتابك أو رمزت إليه بعينك أو يدك أو رأسك أو نحو ذلك. وقيل للربيع ابن خثيمٍ: ما نراك تغيب أحداً. فقال: لست عن نفسي راضياً فأتفرغ لذم الناس. وأنشد:
لنفسي أبكي ليس أبكي لغيرها ... لنفسي من نفسي عن الناس شاغل
172 إستح من ذم من لو كان حاضراً لبالغت في مدحه. ومدح من لو كان غائباً لسارعت إلى ذمه. ومن كلامهم: كما أن الذباب يتبع مواضع الجروح فينكيها ويجتنب المواضع الصحيحة. كذلك الأشرار يتبعون المعايب فيذكرونها ويدفنون المحاسن. (لبهاء الدين) 173 إعلم أنه كما يحرم على المغتاب ذكر الغيبة كذلك يحرم على السامع استماعها. فيجب على من يستمع إنساناً يبتدئ بغيبةٍ أن ينهاه إن لم يخف ضرراً. فإن خافه وجب عليه الإنكار بقلبه ومفارقة ذلك المجلس إن تمكن من مفارقته. (للابشيهي) سمع علي رجلاً يغتاب آخر عند ابنه الحسن فقال: يا بني نزه(2/118)
سمعك عنه فإنه نظر إلى أخبث ما في وعائه فأفرغه في وعائك. (للمستعصمي) قال الشبراوي:
وسمعك صن عن سماع القبح ... كصون اللسان عن النطق به
فإنك عند سماع القبيح ... شريكٌ لقائله فانتبه
المزاح
174 قال بعض حكماء العرب: المزاح يذهب المهابة ويورث الضغينة أو المهانة. وقال ابن المعتز: المزاح يا كل الهيبة كما تأكل النار الحطب. ومن كثر مزاحه لم يزل في استخفاف به وحقدٍ عليه.
قال ناصح الدين ابن الدهان:
لا تجعل الهزل دأبا فهو منقصةٌ ... والجد تعلو به بين الورى القيم
ولا يغرنك من ملك تبسمه ... ما سحت السحب إلا حين تبتسم
175 كان يقال: الإفراط في المزح مجون والاقتصاد فيه ظرافة. ويقال: المزح في الكلام. كالملح في الطعام. وقد نظمه أبو الفتح ألبستي فقال:
أقد طبعك المكدود بالهم راحةً ... قليلاً وعلله بشيٍ من المزح
ولكن إذا أعطيته المزح فليكن ... بمقدار ما تعطي الطعام من الملح
(لأبي نصر المقدسي)(2/119)
الكرم
176 ألجود سهولة البذل وسقوط شح النفس. وقد قيل في كريمٍ:
يا واحد العرب الذي ... أضحى وليس له نظير
لو كان مثلك آخر ... ما كان في الدنيا فقير
(الكنز المدفون) قال أكثم بن صيفيٍ حكيم العرب: ذللوا أخلاقكم للمطالب. وقودوها إلى المحامد. وعلموها المكارم. وصلوا من رغب إليكم. وتحلوا بالجود يلبسكم المحبة. ولا تعتقدوا البخل فتتعجلوا الفقر. (لابن عبد ربه) قال أبو تمام يصف الخليفة المعتصم:
تعود بسط الكف حتى لو أنه ... أراد انقباضاً لم تطعه أنامله
هو البحر من أي النواحي أتينه ... فلجته المعروف والجو ساحله
ولو لم يكن في كفه غير روحه ... لجاد بها فليتق الله سائله
177 (قالوا) السخي من كان مسروراً ببذله متبرعاً بعطائه. لا يلتمس عرض دنيا فيحبط عمله. ولا طلب مكافأة فيسقط شكره. ويكون مثله فيما أعطى مثل الصائد الذي يلقي الحب للطائر لا يريد نفعه ولكن نفع نفسه. وقيل لبعض الحكماء: من أجود الناس. قال: من جاد من قلةٍ. وصان وجه السائل عن المذلة (لبهاء الدين) قال أبو الحسين الجزار في الحث على الإنفاق:(2/120)
إذا كان لي مالٌ علام أصونه ... وما ساد في الدنيا من البخل دينه
ومن كان يوماً ذا يسار فإنه ... خليق لعمري أن تجود يمينه
178 قال بعضهم: الجود أشرف الأخلاق. وأنفس الأعلاق. وقال ابن المعتز: الجود حارس النفس من الذم. وقال آخر: الأسخياء يعبدهم المال. والبخلاء يعبدونه. وقال بعض السلف: لو كان شيءٌ يشبه الربوبية لقلت: الجود. ويقال: من جاد ساد. ومن بخل رذل. وقال عمر: السيد الجواد حين يأل. وقال أبو نواس:
أنت للمال إذا أمسكته ... فإذا أنفقته فالمال لك
قال شاعر يمدح بعض الخلفاء:
بنت المكارم وسط كفك منزلاً ... وجعلت مالك للأنام مباحا
فإذا المكارم أغلقت أبوابها ... كانت يداك لقفلها مفتاحا
179 كتب كسرى إلى هرمز استقلل كثير ما تعطي. واستكثر قليل ما تأخذ. فإن قرة عين الكريم فيما يعطي. وقرة عين اللئيم فيما يأخذ. ولا تجعل الشحيح لك معيناً. ولا الكذاب أميناً. فإنه لا إعانة من شح ولا أمانة مع كذبٍ. والسلام. (للمستعصمي) وأنشد أعرابيٌ:
وكم وقد رأينا من فروع كثيرةٍ ... تموت إذا لم تحيهن أصول
ولم أر كالمعروف أما مذاقه ... فحلو وأما وجهه فجميل(2/121)
الشكر
180 ألشكر الثناء على المحسن بذكر إحسانه. وقال إبراهيم الشيباني: كنت أرى رجلاً من وجوه أهل الكوفة لا يجف لبه. ولا يستريح قلبه. في طلب حوائج الناس وإدخال المرافق على الضعيف. فقلت له: أخبرني عن الحال التي هونت عليك هذا التعب في القيام بحوائج الناس ما هي. قال: قد والله سمعت تغريد الأطيار بالأسحار. في فروع الأشجار. سمعت خفوق أوتار العيدان. وترجيع أصوات القيان. فما طربت من صوتٍ قط طربي من ثناء حسن بلسانٍ حسنٍ على رجلٍ قد أحسن. وما سمعت أحسن من شكر حرٍ لرجل حرٍ. (للشريشي) 181 قال سليمان التيمي: إن الله أنعم على عباده بقدر قدرته. وكلفهم من الشكر بقدر طاقتهم. (قيل) الشكر أفضل من النعم لأنه يبقى والنعم تفنى. (وقيل) الشكر زيادةٌ في النعم. وأمانٌ من النقم. (وقالوا) كفر النعمة يوجب زوالها. وشكرها يوجب المزيد فيها. (وقالوا) من حمدك فقد وفاك حق نعمتك. (وقالوا) إذا قصرت يداك عن المكافأة فليطل لسانك بالشكر. وقال محمد بن صالحٍ الواقدي: دخلت على يحيى بن خالد البرمكي فقلت: إن ههنا قوماً يشكرون لك معروفاً. فقال: يا محمد هؤلاء يشكرون معروفاً فكيف لنا شكر شكرهم. (لابن عبد ربه)(2/122)
182 ألقناعة الاكتفاء بالموجود. وترك التشوق إلى المفقود قال بعض الحكماء لابنه: يا بني العبد حر إذا قنع. والجر عبدٌ إذا طمع. وقال بعضهم: من لم يقنع بالقليل لم يكتف بالكثير ومن فصول ابن المعتز: أعرف الناس بالله من رضي بما قسم له. وقال أبو العتاهية:
إن كان لا يغنيك ما يكفيكا ... فكل ما في الأرض لا يغنيكا
قال غيره:
إذا شئت أن تحيا سعيداً فلا تكن ... على حالةٍ إلا رضيت بدونها
ومن طلب العليا من العيش لم يزل ... حقيراً وفي الدنيا أسير غبونها
183 (قالوا) الغني من استغنى بالله. والفقير من أفتقر إلى الناس (وقالوا) لا غني إلا غني النفس. (لابن عبد ربه) قال النووي:
وجدت القناعة أصل الغنى ... فصرت بأذيالها ممتسك
فلا ذا يراني على بابه ... ولا ذا يراني به منهمك
وعشت غنياً بلا درهم ... أمر على الناس شبه الملك
نظر عبد الملك بن مروان عند موته وهو في قصره إلى قصار يضرب بالثوب المغسلة. فقال: يا ليتني كنت قصاراً ولم أتقلد الخلافة. فبلغ كلامه أبا حاتم. فقال: الحمد لله الذي جعلهم إذا(2/123)
حضرهم الموت يتمنون ما نحن فيه. وإذا حضرنا الموت لم نتمن ما هم فيه. قال بعضهم:
بقدر الصعود يكون الهبوط ... فإياك والرتب العالية
وكن في مكانٍ إذا ما سقطت ... تقوم ورجلاك في عافيه
184 كان أنوشروان يمسك عن الطعام وهو يشتهيه ويقول: نترك ما نحب لئلا نقع فيما نكره. كان سقراط الحكيم قليل الأكل خشن اللباس. فكتب إليه بعض الفلاسفة: أنت تحسب أن الرحمة لكل ذي روحٍ واجبةٌ وأنت ذو روحٍ فلا ترحمها. فكتب له سقراط في جوابه: إنما أريد أن آكل لأعيش. وأنت تريد أن تعيش لتأكل. والسلام.
185 من كلام بعض الحكماء: إذا طلبت العز فاطلبه بالطاعة. وإذا أردت الغنى فأطلبه بالقناعة. فمن أطاع الله عز نصره. ومن لزم القناعة زال فقره. قال أرسطو: القنية ينبوع الأحزان. نظمه أبو الفتح البستي بقوله:
يقولون مالك لا تقتني ... من المال ذخراً يفيد الغنى
فقلت وأفحمتهم في الجواب ... لئلا أخاف ولا أحزنا
(لبهاء الدين)
البطنة
186 (قالوا) البطنة تذهب الفطنة. رأى أبو الأسود الدولي(2/124)
رجلاً يلقم لقماً منكراً. فقال: كيف أسمك. قال: لقمان. قال: صدق الذي سماك. ورأى أعرابيٌ رجلاً سميناً. فقال له: ارى عليك قطفيةً من نسج أضراسك. قيل لبزرجمهر: أي وقتٍ فيه الطعام أصلح. قال: أما لمن قدر فإذا جاع. ولمن لم يقدر فإذا وجد. قيل لبعضهم: ما أفضل الدواء. قال: أن ترفع يدك عن الطعام وأنت تشتهيه. (قالوا) أحذروا البطنة فإن أكثر العلل إنما تتولد من فضول الطعام. (لابن عبد ربه)
ذم النبيذ
187 جاء في المبهج: الخمر مصباح السرور. ولكنها مفتاح الشرور. وقيل لبعض الحكماء: أشرب معنا. فقال: أنا لا أشرب ما يشرب عقلي. وقيل لبعضهم: النبيذ كيمياء الطرب. فقال: نعم ولكنه داعية الحرب. قال يزيد المهلبي:
لعمرك ما يحصى على الناس شرها ... وإن كان فيها لذةٌ وهناء
مراراً تريك الغي رشداً وتارةً ... تخيل أن المحسنين أساؤوا
وأن الصديق الماحض الود مبغضٌ ... وأن مديح المادحين هجاء
وجربت إخوان النبيذ فقلما ... يدوم لإخوان النبيذ إخاء
العزلة
188 (يقال) العزلة عن الناس توقي العرض. وتبقي الجلالة. وتستر الفاقة. وقال مكحولٌ: إن كان الفضل في الجماعة. فإن(2/125)
السلامة في الوحدة والعزلة. قال الجرجاني:
ما تطعمت لذة العيش حتى ... صرت في وحدتي لكتبي جليسا
إنما الذل في مداخلة النا ... س فدعها ولكن كريماً رئيسا
ليس عندي شيءٌ أجل من العل ... م فلا أبتغي سواه أنيسا
(لأبي نصر المقدسي) 189 ألعزلة عن الخلق هي الطريق الأقوم الأسد. ففر من الخلق فرارك من الأسد. فطوبى لمن لا يعرفونه بشيءٍ من الفضائل والمزايا. لأنه سالمٌ من الآلام والرزايا. فاحبس نفسك في زاوية العزلة. فإن عزلة المرء عزله. قيل لبعض الزهاد: إلى أي شيءٍ أفضت بكم الخلوة. فقال: إلى الأنس بالله تعالى ولله در من قال:
أنست بوحدتي ولزمت بيتي ... فطاب الأنس لي وصفا السرور
وأدبني الزمان فلا أبالي ... بأني لا أزار ولا أزور
ولست بسائل ما عشت يوماً ... أسار الجند أم ركب الأمير
قيل لدعبل الشاعر: ما الوحشة عندك. فقال: النظر إلى الناس ثم أنشد:
ما أكثر الناس لا بل أقلهم ... ألله يعلم أني لم أقل فندا
إني لأفتح عيني حين أفتحها ... على كثيرٍ ولكن لا أدرى أحدا
(لبهاء الدين)(2/126)
الباب السابع
في الذكاء والأدب
العقل
190 قال حكيمٌ: العقل أشرف الأحساب. وأحصن معقلٍ. قال آخر: أشد الفاقة عدم العقل. وقال آخر: كل شيءٍ إذا كثر رخص إلا العقل فإنه كلما كثر غلا. قال الشاعر:
يعد رفيع القوم من كان عاقلاً ... وإن لم يكن في قومه بحسيب
إذا حل أرضاً عاش فيها بعقله ... وما عاقلٌ في بلدةٍ بغريب
(لأني نصر المقدسي) 191 افتخر بعض الأغنياء عند بعض الحكماء بالآباء والأجداد. وبزخارف المال المستفاد. فقال له ذلك الحكيم: إن كان في هذه فخرٌ فينبغي أن يكون الفخر لها لا لك. وإن كان آباؤك كما ذكرت أشرافاً فالفخر لهم لا لك (للفخري) 192 اعلموا أن العاقل من أطاع الله. وإن كان دميم المنظر حقير الخطر دني المنزلة رث الهيئة. وأن الجاهل من عصى الله تعالى. وإن كان جميل المنظر عظيم الخطر شريف المنزلة حسن الهيئة فصيحاً نطوقاً. فالقردة والخنازير أعقل عند الله تعالى ممن عصاه. ولا تغتروا بتعظيم أهل الدنيا إياكم فإنهم من الخاسرين. (أحباء علوم الدين)(2/127)
193 قال أنوشروان: إن العاقل أقرب إلى الله تعالى عز وجل. والعقل كالشمس في الدنيا. وهو قلب الحسنات. والعقل حسنٌ في كل أحدٍ وهو في الأكابر والزعماء أحسن. والعقل في جسد الإنسان كالرطوبة في الشجرة. لأن الشجرة ما دامت رطبةً طريةً كان الخلق من رائحتها ونشر أزهارها وطيب ثمارها ونضارتها وطراءتها فلا تصلح حينئذ لسوى القطع والإحراق والقلع. قال أيضاً: ليس لملك ولا لرعيةٍ خيرٌ من العقل. فإن بضيائه يفرق بين القبيح والمليح. والجيد والرديء. والحق والباطل. والصدق والكذب. (التبر المسبوك للغزالي)
العلم وشرفه
194 قيل: العلماء في الأرض كالنجوم في السماء. لولا العلم لكان الناس كالبهائم. وقال بعض الحكماء: العلم حياة القلوب ومصباح الأبصار. وقال ابن المعتز في فصوله: الجاهل صغيرٌ وإن كان شيخاً. والعالم كبيرٌ وإن كان حدثاً. وقال أيضاً: ما مات من أحياء العلوم. قال بعض الحكماء لابنه: يا بني خذ العلم من أفواه الرجال فإنهم يكتبون أحسن ما يسمعون. ويحفظون أحسن ما يكتبون. ويقولون أحسن ما يحفظون. (لأبي نصر المقدسي) 195 لما ولي عمر بن عبد العزيز وفد عليه الوفود من كل بلدٍ.(2/128)
فوفد عليه الحجازيون فتقدم منهم غلامٌ للكلام. وكان حديث السن. فقال عمر: لينطق من هو أسن منك. فقال الغلام: أصلح الله أمير المؤمنين. إنما المرء بأصغريه قلبه ولسانه. فإذا منح الله العبد لساناً لافظاً وقلباً حافظاً فقد استحق الكلام. ولو أن الأمر يا أمير المؤمنين بالسن لكان في الأمة من هو أحق منك بمجلسك هذا فتعجب عمر من كلامه. وسأل عن سنه فإذا هو ابن إحدى عشرة سنة. فتمثل عمر عند ذلك بقول الشاعر:
تعلم فليس المرء يولد عالما ... وليس أخو علمٍ كمن هو جاهل
وإن كبر القوم لا علم عنده ... صغيرٌ إذا التفت عليه المحافل
196 قيل لبزرجمهر: أي الاكتساب أفضل. قال: العلم والأدب كنزان لا ينفدان. وسراجان لا يطفآن وحلتان لا تبليان. من نالهما أصاب الرشاد. وعرف طريق المعاد. وعاش رفيعاً بين العباد. (للقيرواني) قال الشبراوي:
ألعلم أنفس ذخرٍ أنت ذاخره ... من يدرس العلم لم تدرس مفاخره
أقبل على العلم واستقبل مقاصده ... فأول العلم إقبالٌ وآخره
197 قيل للخليل بن أحمد: أيهما أفضل ألعلم أو المال. قال: العلم.(2/129)
قيل له: فما بال العلماء يزدحمون على أبواب الملوك. والملوك لا يزدحمون على أبواب العلماء. قال: ذلك لمعرفة العلماء بحق الملوك وجهل الملوك بحق العلماء. قال بعضهم:
ألعلم يحيى قلوب الميتين كما ... تحيا البلاد إذا ما مسها المطر
والعلم يجلو العمى عن قلب صاحبه ... كما يجلي سواد الظلمة القمر
(لابن عبد ربه) 198 قال الجاحظ: دخلت على محمد بن إسحاق أمير بغداد في أيام ولايته وهو جالسٌ في الديوان والناس مثلٌ بين يديه كأن على رؤوسهم الطير. ثم دخلت إليه بعد مدةٍ وهو معزولٌ وهو جالسٌ في خزانة كتبه وحواليه الكتب والدفاتر والمحابر والمساطر فما رأيته أهيب منه في تلك الحال. (للفخري) قال بعض الشعراء:
من يعدم العلم يظلم عقله أبداً ... نراه أشبه ما نلقاه بالنعم
كم من نفوس غدت لله مخلصةً ... بالعلم في صفحة القرطاس والقلم
والعقل شمسٌ ونور العلم منبثقٌ ... منها ومنها ثمار الفضل فاقتهم.
شرائط العلم
199 (قالوا) لا يكون العالم عالماً حتى تكون فيه ثلاث خصالٍ. لا(2/130)
يحتقر من دونه. ولا يحسد من فوقه. ولا يأخذ على العلم ثمناً. ومدح خالد بن صفوان رجلاً فقال: كان بديع المنطق. جزل الألفاظ. عربي اللسان. قليل الحركات. حسن الإشارات. حلو الشمائل. كثير الطلاوة وصموتا وقوراً. قال الشافعي:
أخي لا تنال العلم إلا بستةٍ ... سأنبيك عن تفصيلها ببيان
ذكاءٌ وحرصٌ واجتهاد وبلغةٌ ... وصحبة أستاذٍ وطول زمان
200 كان حمزة من خطباء العرب ومن علماء زمانه. ضرب به المثل في الفصاحة وطول العمر. سأله معاوية يوماً عن أشياء فأجابه عنها. فقال له: بم نلت العلم. قال: بلسانٍ سؤول. وقلبٍ عقول. ثم قال يا أمير المؤمنين: إن للعلم آفة وإضاعة ونكداً واستجاعةً. فآفته النسيان. وإضاعته أن تحدث به غير أهله. ونكده الكذب فيه واستجاعته أن صاحبه منهوم لا يشبع أبداً. (للدميري)
آفات العلم
201 من كلام بعض الأعلام: من ازداد في العلم رشداً. ولم يزدد في الدنيا زهداً. فقد ازداد من الله بعداً. ومن كلام بعض الأكابر: إذا لم يكن العالم زاهداً في الدنيا فهو عقوبةٌ لأهل زمانه. قال بعض الحكماء: إذا أوتيت علماً فلا تطفئ نور العلم بظلمة الذنوب فتبقى في الظلمة يوم يسعى أهل العلم بنور عليهم. في بعض الحكماء: لست منتفعاً بما تعلم ما لم تعمل بما تعلم. فإن(2/131)
زدت في علمك فأنت مثل رجلٍ حزم حزمةً من حطبٍ وأراد حملها فلم يطق فوضعها وزاد عليها. (لبهاء الدين)
(قالوا) لو أن أهل العلم صانوا علمهم لسادوا أهل الدنيا. لكن وضعوه غير موضعه فقصر في حقهم أهل الدنيا. قال حكيمٌ: ألا أخبركم بشر الناس. قالوا: بلى. قال: العلماء إذا فسدوا. (لابن عبد ربه) 202 قال ابن المعتز: العلم جمالٌ لا يخفى. ونسبٌ لا يجفى. وقال أيضاً: زلة العلم كانكسار سفينةٍ تغرق ويغرق معها خلقٌ كثيرٌ. قال غيره: إذا زل العالم. زل بزلته عالمٌ. قال ابن المعتز: المتواضع في طلاب العلم أكثرهم علما كما أن المكان المنخفض أكثر البقاع ماءً. إذا علمت فلا تذكر من دونك من الجهال. واذكر من فوقك من العلماء. وقال أيضاً: مات خزنة الأموال وهم أحياء وعاش خزان العلم وهم أمواتٌ. مثل علمٍ لا ينفع ككنزٍ لا ينفق منه. (للقيرواني) قال أبو محمدٍ البطلوسي النحوي:
أخو العلم حيٌ خالدٌ بعد موته ... وأوصاله تحت التراب رميم
وذو الجهل ميت وهو ماش على الثرى ... يظن من الأحياء وهو عديم(2/132)
الأدب
203 قال شبيب بن شبة: اطلبوا الأدب فإنه مادة العقل ودليلٌ على المروءة. وصاحب في الغربة. ومؤنس في الوحشة. وصلةٌ في المجلس. قال عبد الملك بن مروان لبنيه: عليكم بطلب الأدب فإنكم إن احتجتم إليه كان لكم مالاً. وإن استغنيتم عنه كان لكم جمالاً. وقال ابن المقفع: إذا أكرمك الناس لمال أو لسلطان فلا يعجبك ذلك. فإن الكرامة تزول بزوالهما. ليعجبك إذا كرموك لدينٍ أو أدبٍ قال الشافعي:
علمي معي حيثما يممت ينفعني ... قلبي وعاءٌ له لا بطن صندوقي
إن كنت في البيت كان العلم فيه معي ... أو كنت في السوق كان العلم في السوق
204 قال بزرجمهر: الجهل هو الموت الأكبر. والعلم هو الحياة الشريفة. من أكثر أدبه شرف وإن كان وضيعاً. وساد إن كان غريباً. وارتفع صيته وإن كان خاملاً. وكثرت حوائج الناس إليه وإن كان فقيراً. (للسيوطي) قال بعضهم:
ألسبع سبعٌ ولو كلت مخالبه ... والكلب كلب ولو بين السباع ربي
وهكذا الذهب الإبريز خالطه ... صفر النحاس فكان الفضل للذهب(2/133)
لا تنظرن لأثوابٍ على أحدٍ ... إن رمت تعرفه فانظر إلى الأدب
فالعود لو لم تفح منه روائحه ... لم يفرق الناس بين العود والحطب
دخل أبو العالية على ابن عباسٍ فأقعده معه على السرير وأقعد رجالاً من قريش تحته. فرأى سوء نظرهم إليه وجهومة وجوههم. فقال: مالكم تنظرون إلي نظر الشحيح إلى الغريم المفلس. هكذا الأدب يشرف الصغير على الكبير. ويرفع المملوك على المولى. ويقعد العبيد على الأسرة. قال الشاعر:
مالي عقلي وهمتي حسبي ... ما أنا مولى ولا أنا عربي
إذا انتمى منتمٍ إلى أحدٍ ... فإنني منتم إلى أدبي
(للابشيهي) 205 دخل سالم بن مخزومٍ على عمر بن عبد العزيز فتخلى له عن الصدر. فقيل له في ذلك. فقال: إذا دخل عليك من لا ترى لك عليه فضلاً فلا تأخذ عليه شرف المنزلة. قال بعضهم:
أيها الفاخر جهلاً بالحسب ... إنما الناس لأم ولأب
إنما الفخر بعقلٍ راحجٍ ... وبأخلاقٍ حسانٍ وأدب
قال آخر:
لا تذخر غير العلو ... م فإنها تعم الذاخائر
فالمرء لو ربح البقا ... ء مع الجهالة كان خاسر
دخل محمد بن زيادٍ مؤدب الواثق على الواثق. فأظهر إكرامه(2/134)
وأكثر إعظامه. فقيل له: من هذا يا أمير المؤمنين. قال: هذا أول من فتق لساني بذكر الله. وأدناني من رحمة الله
تأديب الصغير
206 قالت الحكماء: من أدب ولده صغيراً سر به كبيراً. وقالوا: أطبع الطين ما كان رطباً. وأعدل العود ما كان لدنا. وقال صالح ابن عبد القدوس:
وإن من أدبته في الصبا ... كالعود يسقي الماء في غرسه
حتى تراه مورقاً ناضراً ... بعد الذي أبصرت من يبسه
والشيخ لا يترك أخلاقه ... حتى يوارى في ثرى رمسه
إذا ارعوى عاد له جهله ... كذي الضنى عاد إلى نكسه
ما تبلغ الأعداء من جاهلٍ ... ما يبلغ الجاهل من نفسه
قال بعضهم في سوء تربية صغير:
فيا عجباً لمن ربيت طفلاً ... ألقمه بأطراف البنان
أعلمه الرماية كل يومٍ ... فلما أشتد ساعده رماني
أعلمه الفتوة كل وقتٍ ... فلما طر شاربه جفاني
وكم علمته نظم القوافي ... فلما قال قافيةً هجاني
قال بعض الحكماء: الحياء في الصبي خيرٌ من الخوف. لأن الحياء يدل على العقل. والخوف يدل على الجبن. (لابن عبد ربه)(2/135)
ما ينبغي للوالد في تربية ابنه
207 ينبغي للوالد أن لا يسهو من تأديب ولده. ويحسن عنده الحسن. ويقبح عنده القبيح. ويحثه على المكارم وعلى تعلم العلم والأدب. ويضربه على ذلك. قال بعضهم:
لا تسه عن أدب الصغير ... وإن شكا ألم التعب
ودع الكبير وشأنه ... كبر الكبير عن الأدب
208 قال ابن عتبة يوصي مؤدب ولده: ليكن أول إصلاحك بني إصلاحك لنفسك. فإن عيوبهم معقودة بعيبك. فالحسن عندهم ما فعلت. والقبيح ما تركت. علمهم الدين ولا تملهم فيه فيتركوه. ولا تتركهم منه فيجروه. وروهم من الشعر أعفه. ومن الكلام أشرفه. ولا تخرجهم من علم إلى علم حتى يحكموه. فإن ازدحام الكلام في السمع مضلةٌ للفهم. تهددهم بي وأدبهم دوني. وكن كالطبيب الذي لا يعجل بالدواء قبل معرفة الداء. وجنبهم محادثة السفهاء. وروهم سير الحكماء (كتاب الدراري لكمال الدين الحلبي) 209 أوصى الرشيد مؤدب ولده الأمين فقال: إن أمير المؤمنين قد دفع إليك مهجة نفسه وثمرة قلبه. فصير يدك عليه مبسوطة وطاعتك عليه واجبةً. أقرئه كتب الدين. وعرفه الآثار. وروه الأشعار. وعلمه السنن وبصره مواقع الكلام. وأمنعه الضحك إلا في أوقاته. ولا تمرر بك ساعةٌ إلا وأنت مغتنم فيها فائدةً تفيده(2/136)
إياها من غير أن تخرق به فتميت ذهنه. ولا تمعن في مساحته فيستحلي الفراغ ويألفه. وقومه ما استطعت بالقرب والملانية. فإن أباهما فعليك بالشدة والغلظة. (للشريشي)
رقة الأدب في الظاهر
210 قال أبو حفصٍ: حسن الأدب في الظاهر عنوان حسن الأدب في الباطن. قيل لأبي وائل: أيكما أكبر أنت أم الربيع ابن خثيمٍ. قال: أنا أكبر منه سناً. وهو أكبر مني عقلاً.
قال رجاء بن حياةٍ لعبد العزيز: ما رأيت أكرم أدباً ولا أكرم عشيرة من أبيك. سمرت عنده ليلةً فبينا نحن كذلك إذ عشي المصباح ونام الغلام. فقلت: يا أمير المؤمنين قد عشي المصباح ونام الغلام فلو أذنت لي أصلحته. فقال: إنه ليس من مروءة الرجل أن يستخدم ضيفه. ثم حط رداءه عن منكبيه. وقام إلى الدبة. فصب من الزيت في المصباح وأشخص الفتيلة. ثم رجع فلم يقم أحدٌ.
قال بعضهم في معاشرة الأدباء:
فكم من جاهل أمسى أديباً ... بصحبة عاقل. وغدا إماما
كما البحر من ثم تحلو ... مذاقته إذا صحب الغماما
الأدب في الحديث والاستماع
211 قالت الحكماء: رأس الأدب كله حسن الفهم والتفهم.(2/137)
والإصغاء للمتكلم. قال بعض الحكماء لابنه: يا بني تعلم حسن الاستماع كما تتعلم حسن الحديث. وليعلم الناس أنك أحرص على أن تسمع منك على أن تقول. فاحذر أن تسرع في القول فيما يجب عنه الرجوع بالفعل. قالوا: من حسن الأدب أن لا تغالب أحداً على كلامه. وإذا سئل غيرك فلا تجب عنه. وإذا حدث بحديثٍ فلا تنازعه إياه. ولا تقتحم عليه فيه. ولا تره أنك تعلمه.
يقال إن هشاماً كتب إلى ملك الروم: من هشام أمير المؤمنين إلى الملك الطاغية. فكتب إليه: ما ظنت أن الملوك تسب. وما الذي يؤمنك أن أجيبك: من ملك الروم إلى الملك المذموم.
الأدب في المجالسة
212 قال إبراهيم النخعي: إذا دخل أحدكم بيتاً فليجلس حيث أجلسه أهله. قال سعيد بن العاص: ما مددت رجلي قط بين يدي جليسي. ولا قمت حتى يقوم. وقال أيضاً: لجليسي على ثلاثُ. إذا دنا رحبت به. وإذا جلس وسعت له. وإذا حدث أقبلت عليه. قال زيادٌ: إياك وصدور المجالس وإن صدرك صاحبها فإنها مجلس قلعةٍ. ولأن أدعى من بعد إلى قربٍ أحب إلي من أن أقصى من قرب إلى بعدٍ. قال ابن المعتز: لا تسرع إلى أرفع موضع في المجلس فالموضع الذي تحط إليه خيرٌ من الموضع الذي تحط منه. (لابن عبد ربه)(2/138)
213 قال محمد بن عبيد الله: بعثني أبي إلى المعتمد في شيءٍ. فقال لي: اجلس. فاستعظمت ذلك. فأعاد. فاعتذرت بأن ذلك لا يجوز. فقال: يا محمد إن ترك أدبك في القبول مني خيرٌ من أدبك في خلاقي.
دخل رجلٌ من أهل الشام على أبي جعفرٍ المنصور فاستحسن لفظه وأدبه. فقال له: سل حاجتك. فقال: يبقيك الله يا أمير المؤمنين ويزيد في سلطانك. فقال: سل حاجتك فليس في كل وقتٍ يمكن أن يؤمر لك بذلك. فقال: ولم يا أمير المؤمنين فو الله ما أخاف بخلك. ولا أستقصر أجلك. ولا أغتنم مالك. وإن عطاءك لزينٌ. وما بامرئٍ بذل وجهه إليك نقصٌ ولا شينٌ. فأعجب المنصور كلامه. وأثنى عليه في أدبه ووصله.
214 وقف الأحنف بن قيسٍ ومحمد بن الأشعث بباب معاوية فأذن للأحنف ثم لمحمد بن أشعث. فأسرع محمدٌ في مشية حتى دخل قبل الأحنف. فلما رآه معاوية. قال له: إني والله ما أذنت له قبلك وأنا أريد أن تدخل قبله. وإنا كما نلي أموركم كذلك نلي أدبكم. وما تزيد متزيدٌ إلا لنقص يجده من نفسه (للمستعصمي) ومن الأدب ألا تنتاب صاحباً فتثقل عليه. قال الثعالبي:
عليك بإقلال الزيارة إنها ... إذا كثرت كانت إلى الهجر مسكا(2/139)
فإني رأيت الغيث يسأم دائماً ... ويسأل بالأيدي إذا هو أمسكا
الأدب في المماشاة
215 قال يحيى بن أكثم: ما شيت المأمون يوماً من الأيام في بستان مؤنسة بنت المهدي. فكنت من الجانب الذي يستره من الشمس. فلما انتهى إلى آخره وأراد الرجوع أردت أن أدور إلى الجانب الذي يستره من الشمس. فقال: لا تفعل ولكن كن بحالك حتى أسترك كما سترتني. فقلت: يا أمير المؤمنين لو قدرت أن أقيك حر النار لفعلت فيكيف الشمس. فقال: ليس هذا من كرم الصحبة ومشى ساتراً لي من الشمس كما سترته. (لابن عبد ربه)
الأدب في الأكل
216 قال الغزالي: إذا حضر الطعام فلا ينبغي لأحدٍ أن يبتدئ في الأكل ومعه من يستحق التقدم عليه لكبر سنٍ أو زيادة فضل. إلا أن يكون هو المتبوع المقتدى به. فحينئذٍ ينبغي أن لا يطول عليهم الانتظار إذا اجتمعوا للأكل. وينبغي أن لا يسكت على الطعام. ولكن يتكلم عليه بالمعروف وبالحديث عن الصالحين وأهل الأدب في الأطعمة. قال بعض الأدباء: أحسن الآكلين من لا يحوج صاحبه إلى تفقده في الأكل. وينبغي لمن قدم له أخوه الطست أن يقبله ولا يرده. (للمستعصمي)(2/140)
الكتاب والقلم
217 قال بعض الحكماء: القلم صائغ الكلام مفرغ ما يجمعه القلب. ويصوغ ما يسكبه اللب. (الكنز المدفون) قال بعضهم ملغزاً في قلمٍ:
وساكن رمسٍ طعمه عند رأسه ... إذا ذاق من ذاك الطعام تكلما
يقوم ويمشي صامتاً متكلماً ... ويرجع من في القبر منه مقوما
وليس بحيٍ يستحق كرامةً ... وليس بميتٍ يستحق الترحما
قال بالعتابي: ببكاء القلم تبتسم الكتب. والأقلام مطايا الفطن. قال أرسطاطا ليس: عقول الرجال تحت سن أقلامهم. قال ثمامة ابن أشرس: ما أثرته الأقلام. لم تطمع في دراسته الأيام.
218 قيل في الكتاب: إنه الجليس الذي لا ينافق ولا يمل. ولا يعاتبك إذا جفوته ولا يفشي سرك. قال بعضهم في فضيلته:
جليس الأنيس يأمن الناس شره ... ويذكر أنواع المكارم والنهى
ويأمر بالإحسان والبر والتقى ... وينهى عن الطغيان والشر والأذى
الشعر
219 قال عمر بن الخطاب: رووا أولادكم الشعر تعذب ألسنتهم. فإن أفضل صناعات الرجل الأبيات من الشعر. يقدمها في حاجته يستعطف بها قلب الكريم. ويستميل بها قلت اللئيم. وقال أيضاً: الشعر جزلٌ من كلام العرب يسكن به الغيظ. وتطفأ به النائرة.(2/141)
ويبغ له القوم من ناديهم. ويعطى به السائل. وقال ابن عباسٍ: الشعر علم العرب وديوانها فتعلموه كان بنو أنف الناقة يعيبون بهذا الاسم في الجاهلية حتى قال فيهم الحطيئة:
قومٌ هم الأنف والأذناب غيرهم ... ومن يساوي بأنف الناقة الذنبا
فعاد هذا الاسم فخراً لهم وشرفاً فيهم. (لابن عبد ربه) 220 قيل لبعض الشعراء: من أشعر الناس. قال: النابغة إذا رهب وزهير إذا رغب. وحريرٌ إذا غضب. وعنترة إذا ركب قال عبد الملك للفرزدق: من أشعر الناس في الإسلام. قال: كفاك بابن النصرانية إذا مدح. (يريد الأخطل شاعر بني أمية النصراني) (الأغاني)
الباب الثامن في اللطائف
221 رأى الإسكندر سمياً له لا يزال ينهزم في الحروبٍ فقال له: يا هذا إما أن تغير فعلك أن تغير اسمك
222 بعث ملكٌ إلى عبدٍ له: مالك لا تخدمني وأنت عبدي. فأجابه: لو اعتبرت لعلمت أنك عبد عبدي. لأنك تتبع الهوى فأنت عبده وأنا أملكه فهو عبدي (للمستعصمي)(2/142)
223 قالت بنو تميم لسلامة بن جندلٍ: مجدنا بشعرك. قال: افعلوا حتى أقول (لابن عبد ربه) 224 سأل حكيمٌ غلاماً معه سراجٌ: من أين تجيء النار بعد ما تنطفئ. فقال: إن أخبرتني إلى أين تذهب أخبرتك من أين تجيء.
225 قال ابن الرومي في أعمى أغلظ في كلامه:
كيف يرجو الحياء منه صديقٌ ... ومكان الحياء منه خرابٌ
226 مروان بن أبي محمدٍ الجعدي آخر ملوك بني أمية كتب إلى عامل له أهدى إليه غلاماً أسود فقال: لو علمت عدداً أقل من واحد ولونا شراً من السوادٍ لأهديته والسلام.
227 وصيفٌ التركي والي السام أصابته مصيبةٌ فركب إليه محمد ابن عبد الملك الزيات فعزاه بأخبار وأمثال. ثم أصيب محمدٌ بمصيبةٍ فركب إليه وصيف فقال له: يا أبا جعفر أنا رجلٌ أعجمي لا أدري ما أقول لك. ولكن انظر ما عزيتني به ذاك اليوم فعز به نفسك الآن. فاستظرف الناس كلامه. (لطائف الوزراء)
الأعرابي والسنور
228 صاد أعرابي سنوراً ولم يكن يعرفه. فلقيه رجل فقال له: ما هذا السنور. ولقيه آخر فقال: ما هذا القط. ثم لقيه آخر فقال: ما هذا الهر. ثم لقيه آخر فقال: ما هذا الضيون. ثم لقيه آخر فقال: ما هذا الخيدع. ثم لقيه آخر فقال: ما هذا الخيطل. ثم لقيه(2/143)
آخر فقال: ما هذا الدم. فقال الأعرابي في نفسه: أجمله وأبيعه فيجعل الله لي فيه مالاً كثيراً. فلما أتى السوق قيل له: بكم هذا. قال: بمائتي درهم. فقيل له: إنه يساوي نصف درهم. فرمى به ثم قال: ما أكثر أسماءه وأقل ثمنه. (للدميري) 229 حكي أن الحجاج اشترى غلامين أحدهما أسود والثاني أبيض. فقال لهما في بعض الأيام: كل واحدٍ يمدح نفسه ويذم رفيقه.
فقال الأسود:
ألم تر أن المسك لا شيء مثله ... وأن بياض اللفت حملٌ بدرهم
وأن سواد العين لا شك نورها ... وأن بياض العين لا شيء فأعلم
وقال الأبيض:
ألم تر أن البدر لاشيء مثله ... وأن سواد الفحم حملٌ بدرهم
وأن رجال الله بيضٌ وجوههم ... ولا شك أن السود أهل جهنم
فضحك صاحبهما وأجازهما
(ألف ليلةٍ وليلة) 230 حكى أن هارون الرشيد لما حضر بين يديه بعض أهل المغرب قال له: يقال إن الدنيا بمثابة طائر ذنبه المغرب. فقال الرجل: صدقوا يا أمير المؤمنين وإنه طاووس. فضحك الرشيد وتعجب من سرعة جواب الرجل وانتصاره لقطره. (نفح الطيب للمقري) 231 قال بعضهم ملغزاً في ميزانٍ:(2/144)
وقاض قد قضى في الأرض عدلاً ... له كفٌ وليس له بنان
رأيت الناس قد قبلوا قضاه ... ولا نطقٌ لديه ولا بيان
وقد أحسن أبو سرفٍ ملغزاً في إبرةٍ:
ضئيلة الجسم لها ... فعلٌ متين السبب
حافرها في رأسها ... وعينها في الذنب
232 أعتق عمر بن عتبة غلاماً له كبيراً. فقام إليه عبدٌ صغيرٌ. فقال: اذكرني يا مولاي ذكرك الله بخيرٍ. فقال: إنك لم تحترف. فقال: إن النخلة قد تجتنى زهواً. قبل أن تصير معواً. فقال: قاتلك الله لقد استعتقت وأحسنت. وقد وهبتك لواهبك. كنت أمس لي واليوم مني.
دعوة أكثم بن صيفي لأولاده
233 دعا أكثم بن صيفيٍ أولاده عند موتهٍ. فاستدعى إضمامةً من الهام. فتقدم إلى كل واحدٍ منهم أن يكسرها. فلم يقدر أحدٌ على كسرها. ثم بددها فتقدم إليهم أن يكسروها. فاستسهلوا كسرها. فقال: كونوا مجتمعين ليعجز من ناوأكم عن كسركم كعجزكم عن كسرها مجتمعةً. فإنكم إن تفرقتهم سهل كسركم وأنشد:
كونوا جميعاً يا بني إذا اعترى ... خطبٌ ولا تتفرقوا آحاداً
تأبى القداح إذا اجتمعن تكسراً ... وإذا افترقن تكسرت أفراداً
234 قال الشعبي: وجهني عبد الملك إلى ملك الروم فلما انصرفت(2/145)
دفع إلي كتاناً مختوماً. فلما قرأه عبد الملك رأيته تغير. فقال: يا شعبي أعلمت ما كتب هذا النذل. قلت: لا. قال: إنه كتب: ينبغي للعرب أن لا تملك إلا من أرسلت به إلي. فقلت: يا أمير المؤمنين إنه لم يرك فكان يعرف فضلك. وإنه حساك على استخدامك مثلي. فسري عنه. (للثعالبي)
235 لما علا أمر يعقوب بن ليثٍ ارتفع قدره. وظهر اسمه وذكره. وملك كرمان وسجستان. وكان الخليفة في ذلك الزمان المعتمد. فكتب إلى يعقوب. إنك كنت رجلاً صفاراً فمن أين تعلمت تدبير الممالك. فرد يعقوب إليه جواباً وقال: إن المولى الذي أعطاني الدولة أعطاني التدبير. (للغزالي)
الأعرابي الشاعر والخليفة
236 استدعى بعض الخلفاء شعراء مصر. فصادفهم شاعر فقيرٌ بيده جرةٌ فارغةٌ ذاهباً بها إلى البحر ليملأها ماءً. فتبعهم إلى أن وصلوا إلى دار الخلافة. فبالغ الخليفة في إكرامهم والإنعام عليهم. ورأى ذلك الرجل والجرة على كتفه ونظر إلى ثيابه الرئة وقال: من أنت وما حاجتك. فأنشد:
ولما رأيت القوم شدوا رحالهم ... إلى بحرك الطامي أتيت بجرتي
فقال الخليفة: املأوا له الجرة ذهباً وفضةً. فحسده بعض الحاصرين وقال: هذا فقيرٌ مجنونٌ لا يعرف قيمة هذا المال وربما(2/146)
أتلفه وضيعه. فقال الخليفة: هو ماله يفعل به ما شاء. فملست له ذهباً وخرج إلى الباب ففرق الجميع. وبلغ الخليفة ذلك فاستدعاه وعاتبه على ذلك. فقال:
يجود علينا الخيرون بما لهم ... ونحن بمال الخيرين نجود
فأعجبه ذلك. وأمر أن تملأ له عشر مراتٍ وقال: الحسنة بعشرة أمثالها. (حلبة الكميت للنواجي) 237 ألح رجلٌ على الأحنف بالشتم. فلما فرغ قال له: هل لك في الغداء. فإنك مذ اليوم تحدو بجمال ثقالٍ. وقال له رجلٌ: إن قلت واحدة لتسمعن عشراً. فقال: وأنت إن قلت عشراً لم تسمع واحدةً. (للابشيهى) 238 قال شرف الدولة بن منقذٍ ملغزاً في الزنبور والنحل:
ومغر دين ترنماً في مجلسٍ ... فنفاهما لأذاهما الأقوام
هذا يجود بما يجود بعكسه ... هذا فيحمد ذا وذاك يلام
239 جاءت امرأة إلى قيس بن سعد بن عبادة فقالت له: مشت جرذان بيتي على العفاء. فقال: سأدعهم يثبون وثوب الأسود. ثم أرسل لها ما ملأ البيت من سائر الحبوب والأطعمة. (والعفاء التراب. ومرادها أنه لم يبق في بيتها شيءٌ يأكله الفار)
شقيق والبطيحة
245 اشترى شقيق البلخي بطيخة لامرأته. فوجدتها غير طيبةٍ(2/147)
فغضبت. فقال لها: على من تغضبين. أعلى البائع. أم على المشتري. أم على الزارع. أم على الخالق. فأما البائع فلو كان منه لكان أطيب شيءٍ يرغب فيه. وأما المشتري فلو كان منه لاشترى أحسن الأشياء. وأما الزارع فلو كان منه لأنبت أحسن الأشياء. فلم يبق إلا غضبك على الخالق فاتقي الله وارضي بقضائه. (للقليوبي)
إسحاق الموصلي عند البرامكة
241 قال إسحاق بن إبراهيم الموصلي: دعاني يحيى بن خالدٍ فدخلت عليه فوجدت الفضل وجعفراً وولديه جالسين بين يديه. فقال إسحاق: أصبحت اليوم مهموماً فأردت الصبوح لأتسلى فغني صوتاً لعلي أرتاح له فغنيته:
إذا نزلوا بطحاء مكة أشرقت ... بيحيى وبالفضل بن يحيى وجعفر
فما خلقت إلا لجودٍ أكفهم ... وأرجلهم إلا لأعواد منبر
فسر وأمر لي بمائة ألف درهم. وأمر لي كل واحدٍ من ولديه بمائة ألف درهم. فتحملت المال وانصرفت (للنواجي)
الروم بموت أحد الخلفاء
242 لما مات بعض الخلفاء تجيشت الروم واحتشدت واجتمعت ملوكها وقالوا: الآن يستقل المسلمون بعضهم ببعض فتمكننا الغرة فيهم والوثبة عليهم. وضربوا في ذلك مشاورات. وتراجعوا فيه بالمناظرات. وأجمعوا على أنه فرصة الدهر. وثغرة النحر. وكان رجلٌ(2/148)
منهم من ذوي الرأي والمعرفة غائباً عنهم فقالوا: من الحزم عرض الرأي عليه. فلما أخبروه بما أجمعوا عليه قال: لا أرى ذلك صواباً. فسألوه عن علة ذلك. فقال: غداً أخبركم إن شاء الله. فلما أصبحوا غدوا عليه للوعد وقالوا: لقد وعدتنا. قال: نعم. فأمر فإحضار كلبين عظيمين قد أعدهما. ثم حرش بينهما وألب كل واحدٍ منهما على الآخر فتواثبا وتهارشا حتى سالت دماؤهما. فلما بلغ الغاية فتح باب بيتٍ عنده وأرسل منه الكلبين ذئباً عنده قد أعده. فلما أبصراه تركا ما كانا عليه وتألفت قلوبهما. ووثبا جميعاً على الذئب فنالا منه ما أرادا. ثم أقبل الرجل على أهل الجمع فقال لهم: مثلكم مع المسلمين مثل هذا الذئب مع الكلاب لا يزال الهرج والقتال بينهم وتألفوا على العدو. فاستحسنوا قوله وتفرقوا عن رأيه.
الرشيد والذكي
243 يحكى أن رجلاً استأذن هارون الرشيد فقال: إني أصنع ما تعجز الخلائق عنه. فقال الرشيد: هات. فأخرج أنبوبةً فصب منها إبرا عدةً. ثم وضع واحدةً في الأرض. وقام على قدميه وجعل يرمي إبرةً إبرةً من قامته فتقع كل إبرةٍ في عين الإبرة الموضوعة حتى فرغ دسته. فأمر الرشيد بضربه مائة سوطٍ ثم أمر له بمائة دينار فسئل عن جمعه بين الكرامة والهوان فقال: وصلته لجودة ذكائه. وأدبته لكي لا يصرف فرط ذكائه في الفضول.(2/149)
الملك وسائق الحمار
244 مر بعض الملوك بغلام يسوق حماراً غير منبعثٍ وقد عنف عليه في السوق فقال: يا غلام أرفق به. فقال الغلام: أيها الملك في الرفق به مضرةٌ عليه. قال: وما مضرته. قال: يطول طريقه ويشتد جوعه. وفي العنف به إحسانٌ إليه. قال: وما الإحسان إليه. قال يخف حمله ويطول أكله. قال: فأعجب الملك بكلامه وقال له: قد أمرت لك بألف درهمٍ. فقال: رزقٌ مقدورٌ. وواهبٌ مأجورٌ. قال: وقد أمرت بإثبات اسمك في جيشي. فقال: كفيت مؤونةً. ورزقت بها معونةً. قال: لولا أنك حديث السن لاستوزرتك. قال: لن يعدم الفضل من رزق العقل. قال: فهل تصلح لذلك. قال: إنما يكون المدح والذم بعد التجربة. ولا يعرف الإنسان نفسه حتى يبلوها. قال: فاستوزره فوجده ذا رأيٍ صائبٍ وفهمٍ رحيبٍ ومشورةٍ تقع مواقع التوفيق. (للطرطوشي) 245 فر حماسٌ عن العدو منهزماً يوم الخندمة. فلامته امرأته. فقال:
أنك لو شاهدت يوم الخندمه ... إذ فر صفوانٌ وفر عكرمة
إذ لحقونا بالسيوف المسلمه ... يفلقن كل ساعدٍ وجمجمة
ضرباً فلا تسمع إلا غمغمه ... لم تنطقي في اللوم أدنى كلمه(2/150)
عمر بن الخطاب والصمصامة
246 بعث عمر بن الخطاب إلى عمرو بن معدي كرب أن يبعث إليه بسيفه المعروف بالصمصامة. فبعث به إليه. فلما ضرب به وجده دون ما كان يبلغه عنه. فكتب غليه في ذلك. فرد عليه: إنما بعثت إلى أمير المؤمنين بالسيف ولم أبعث بالساعد الذي يضرب به.
إبراهيم الموصلي عند الرشيد
247 قال الأصمعي: كنت عند الرشيد إذ دخل عليه إبراهيم الموصلي فأنشده:
وآمرة بالبخل قلت لها اقصري ... فليس إلى ما تأمرين سبيل
فعالي فعال المكثرين تجملا ... ومالي كما قد تعلمين قليل
فكيف أخاف الفقر أو أحرم الغنى ... ورأي أمي المؤمنين جميل
فقال: لله أبيات تأتينا بها ما أحسن أصولها. وأبين فصولها. وأقل فضولها. يا غلام أعطه عشرين ألفاً. قال: والله لا أخذت منه درهماً. قال: ولم. قال: لأن كلامك يا أمير المؤمنين خيرٌ من شعري. قال: أعطوه أربعين ألفاً. قال الأصمعي: فعلمت أنه أصيد لدراهم الملوك مني.
248 كتب أبو دلامة إلى بعض ولاة الكوفة رقعةً فيها هذه الأبيات:
إذا جئت الأمير فقل سلامٌ ... عليك ورحمة الله الرحيم(2/151)
فأما بعد ذاك فلي غريمٌ ... من الأنصار قبح من غريم
لزومٌ ما علمت لباب داري ... لزوم الكلب أصحاب الرقيم
له مائةٌ علي ونصف أخرى ... ونصف النصف في صكٍ قديم
دراهم ما انتفعت بها ولكن ... وصلت بها شيوخ بني تميم
قال فبعث إليه بمائة ألف درهمٍ. (للشريشي)
أزهر وأبو جعفر المنصور
249 روى الشيباني قال: كان أبو جعفرٍ المنصور أيام بني أمية إذا دخل دخلَ مستتراً. فكان يجلس في حلقه أزهر السمان المحدث. فلما أفضت الخلافة إليه قدم عليه أزهر فرحب به وقربه وقال له: ما حاجتك يا أزهر. قال: داري منهدمةٌ. وعلي أربعة آلاف درهم. فوصله باثني عشر ألفاً وقال: قد قضينا حاجتك يا أزهر فلا تأتنا طالباً. فأخذها وارتحل فلما كان بعد سنةٍ أتاه فلما رآه أبو جعفر قال: ما جاء بك يا أزهر. قال: جئتك مسلماً. قال: قد أمرنا لك باثني عشر ألفاً واذهب فلا تأتنا طالباً ولا مسلما. فأخذها ومضى. فلما كان بعد سنةٍ أتاه. فقال: ما جاء بك يا أزهر. قال: أتيت عائداً. قال: إنه يقع في خلدي أنك جئت طالباً. قال: ما جئت إلا عائداً. قال: قد أمرنا لك بأثني عشر ألفاً. واذهب فلا تأتنا طالباً ولا مسلماً ولا عائداً. فأخذها وانصرف. فلما مضت السنة أقبل. فقال له: ما جاء بك يا أزهر.(2/152)
قال: دعاءٌ كنت أسمعك تدعو به يا أمير المؤمنين جئت لأكتبه. فضحك أبو جعفر وقال: إنه دعاءٌ غير مستجابٍ. وذلك أني قد دعوت الله به أن لا أراك فلم يستجب لي وقد أمرنا لك باثني عشر ألفاً. وتعالى متى شئت فقد أعيتني فيك الحيلة.
250 أبطأ عبيد الله بن يحيى عن الديوان فأرسل إليه المتوكل يتعرف خبره فكتب إليه:
عليلٌ من مكانين ... من الإفلاس والدين
ففي هذين لي شغلٌ ... وسحبي شغل هذين
فبعث إليه بألف دينار
المستعطي بالحلم
251 قال العتبي: دخل ابن دعبلٍ على بشر بن مروان لما ولي الكوفة فقعد بين السماطين ثم قال: أيها الأمير إني رأيت رؤيا فأذن لي في قصصها. فقال: قل. فقال:
أغفيت قبل الصبح نوم مسهدٍ ... في ساعةٍ ما كنت قبل أنامها
فرأيت أنك جدت لي بوصيفة ... موسومةٍ حسنٌ علي قيامها
وببدرةٍ حملت إلي وبغلةٍ ... شهباء ناحيةٍ يصر لجامها
قال له بشر بن مروان: كل شيءٍ رأيت فهو عندي إلا البغلة فإنها دهماء فارهةٌ. قال: برئت من نسبي إن كنت رأيتها إلا دهماء إلا أني غلطت.(2/153)
252 قال البطين الشاعر: قدمت على ابن يحيى الأرميني فكتبت إليه.
رأيت في النوم أني راكب فرساً ... ولي وصيفٌ وفي كفي دنانير
فقال قومٌ لهم حذقٌ ومعرفةٌ ... رأيت خيراً وللأحلام تعبير
رؤياك فسر غداً عند الأمير تجد ... تعبير ذاك وفي الفال التباشير
فجئت مستبشراً مستشعراً فرحاً ... وعند مثلك لي بالفعل تبشير
(قال) فوقع لي في أسفل كتابي: أضغاث أحلامٍ وما نحن بتأويل الأحلام بعالمين. ثم أمر لي بكل شيءٍ ذكرته في أبياتي ورأيته في منامي.
253 مدح بعض الشعراء أميراً فنحيبه. فأنشده:
لئن أخطأت في مدحي ... ك ما أخطأت في منعي
لقد أحللت آمالي ... بوادٍ غير ذي زرع
السائل وعبيد الله بن عباس
254 من جود عبيد الله بن عباسٍ أنه أتاه سائلٌ وهو لا يعرف فقال له: صدق فإني نبئت أن عبيد الله بن عباس أعطى سائلاً ألف درهمٍ فاعتذر إليه. فقال له: وأين أنا من عبيد الله. قال: أين أنت منه في الحسب أم في كثرة المال. قال: فيهما. قال: أما الحسب في الرجل فمروءته وفعله. وإذا شئت فعلت. وإذا فعلت كنت حسيباً. فأعطاه ألفي درهم وأعتذر إليه من ضيق الحال. فقال له السائل:(2/154)
إن لم تكن عبيد الله بن عباسٍ فأنت خير منه. وإن كنت هو فأنت اليوم خيرٌ منك أمس. فأعطاه ألفاً أخرى. فقال السائل: هذه هزة كريمٍ حسيبٍ. والله لقد نقرت حبة قلبي فأفرغتها في قلبك فما أخطأت إلا باعتراض الشد من جوانحي.
255 قال أحمد بن مطير: أنشدت عبد الله بن طاهرٍ أبياتاً كنت مدحت بها بعض الولاة وهي:
له يوم بؤسٍ فيه للناس أبؤسٌ ... ويوم نعيمٍ فيه للناس أنعم
فيقطر يوم الجود من كفه الندى ... ويقطر يوم البؤس منه كفه الدم
فلو أن يوم البؤس لم يثن كفه ... عن الناس لم يصبح على الأرض مجرم
ولو أن يوم الجود فرغ كفه ... لبذل الندى ما كان بالأرض معدم
فقال لي عبد الله: كم أعطاك. قلت: خمسة آلافٍ. قال: فقبلتها. قلت: نعم. قال لي: أخطأت. ما ثمن هذه إلا مائة ألفٍ.
256 قال العتبي: سمعت عمي ينشد لأبي عباس الزبيري:
وكل خليفة وولي عهدٍ ... لكم يا آل مروان الفداء
إمارتكم شفاءٌ حيث كانت ... وبعض إمارة الأقوام داء
فأنتم تحسنون إذا ملكتم ... وبعض القوم إن ملكوا أساؤوا
أأجعلكم وغيركم سواءً ... وبينكم وبينهم الهواء(2/155)
هم أرض لأرجلكم وأنتم ... لأيديهم وأرجلهم سماء
فقلت له: كم أعطى عليها. قال: عشرين ألفاً 257 دخل معن بن زائدة على أبي جعفر فقال له: كبرت يا معن. قال: في طاعتك يا أمير المؤمنين. قال: وإنك لتتجلد. قال: على أعدائك يا أمير المؤمنين. قال: وإن فيك لبقيةً. قال: هي لك يا أمير المؤمنين. قال: أي الدولتين أحب إليك أو أبغض. أدولتنا أم دولة بني أمية. قال: ذلك إليك يا أمير المؤمنين. إن زاد برك على برهم كانت دولتك أحب إلي. وإن زاد برهم على برك كانت دولتهم أحب إلي. قال: صدقت 258 دخل المأمون يوماً بيت الديوان فرأى غلاماً جميلاً على أذنه قلم فقال: من أنت يا غلام. قال: أنا الناشئ في دولتك. والمتقلب في نعمتك. والمؤمل لخمتك الحسن بن رجاءٍ. قال المأمون: بالإحسان في البديهة تفاضلت العقول. ارفعوا هذا الغلام فوق مرتبته.
259 كتب رجلٌ من أهل الأدب إلى عليلٍ:
نبئت أنك معتلٌ فقلت لهم ... نفسي الفداء له من كل محذور
يا ليت علته بي ثم كان له ... أجر العليل وإني غير مأجور
260 دخل محمد بن عبد الله على المتوكل في شكاة له يعوده فقال:
ألله يدفع عن نفس الإمام لنا ... وكلنا للمنايا دونه عرض(2/156)
فليت أن الذي يعروه من مرضٍ ... بالعائدين جميعاً لا به المرض
فبالإمام لنا من غيرنا عوضٌ=وليس في غيره منه لنا عوض
فما أبالي إذا ما نفسه سلمت ... لو باد كل عباد الله وانقرضوا
(لابن عبد ربه) 261 لما قدم نصر بن منيع بين يدي المأمون وكان قد أمر بضرب عنقه قال يا أمير المؤمنين: أسمع مني كلماتٍ أقولها. قال: قل. فأنشأ يقول:
زعموا بأن الصقر صادف مرةً ... عصفور برٍ ساقه التقدير
فتكلم العصفور تحت جناحه ... والصقر منقض عليه يطير
إني لمثلك لا أتمم لقمةً ... ولئن شويت فإنني لحقير
فتهاون الصفر المدل بصيده ... كرماً وأفلت ذلك العصفور
فعفا عنه (لابن خلكان)
الدجاجة المدفونة في بقعة مباركة
262 قال الشيباني: نزل عبد الله بن جعفر إلى خيمة أعرابية ولها دجاجةٌ وقد دجنت عندها. فذبحتها وجاءت بها إليه. فقالت: يا أبا جعفر هذه دجاجةٌ لي كنت أدجنها وأعلفها من قوتي وألمسها في آناء الليل فكأنما ألمس بنتي زلت عن كبدي. فنذرت لله أن أدفنها في أكرم بقعةٍ تكون. فلم أجد تلك البقعة المباركة إلا بطنك. فأردت أن أدفنها فيه. فضحك عبد الله بن جعفرٍ وأمر لها بخمسمائة درهم.(2/157)
263 دخل عقيلٌ على معاوية وقد كف بصره. فأجلسه معاوية على سريره ثم قال له: أنتم معشر بني هاشم تصابون في أبصاركم. قال: وأنتم معشر بني أمية تصابون في بصائركم.
264 كان بطلميوس الأخير ملك الروم يقول: ينبغي للعاقل إذا أصبح أن ينظر في المرآة فإن رأى وجهه حسناً لم يشنه بقبحٍ. وإن رآه قبيحاً لم يجمع بين قبيحين. (ثمرات الأوراق للحموي) .
265 قال حسانٌ: خرجنا مع ابن المبارك مرابطين إلى الشام. فبينما هو يمشي وأنا معه في أزقة المصيصة إذ لقي سكران قد رفع عقيرته يتغنى. فأخرج ابن المبارك برنامجاً من كمه فكتب البيت. فقلنا له: أتكتب بيت شعرٍ سمعته من سكران. قال: أما سمعتم المثل. رب جوهرة في مزبلة: قلنا: نعم. قال: فهذه جوهرةٌ في مزبلةٍ.
266 استأذن نصيب بن رياحٍ على عمر بن عبد العزيز فلم يأذن له فقال: أعلموا أمير المؤمنين أني قلت شعراً أوله الحمد لله. فأعلموه فأذن له. فأدخل عليه وهو يقول:
ألحمد لله أما بعد يا عمر ... فقد أتتنا بك الحاجات والقدر
فأنت رأس قريش وابن سيدها ... والرأس فيه يكون السمع والبصر
فأمر له بحلية سيفه. (لابن عبد ربه) 267 حدث محمد بن يزيد قال: كان ثابت قطنة قد ولي عملاً من أعمال خراسان. فلما صعد المنبر يوم الجمعة رام الكلام فتعذر(2/158)
عليه وحصر فقال: سيجعل الله بعد عسر يسراً وبعد عيٍ بياناً. وأنتم إلى أميرٍ فعال أحوج منكم إلى أميرٍ قوالٍ
وإلا أكن فيكم خطيباً فإنني ... بسيفي إذا جد الوغى لخطيب
فبلغت كلماته خالد بن صفوان. (ويقال الأحنف بن قيسٍ) فقال: والله ما علا ذلك المنبر أخطب منه (الأغاني) 268 نظر جعفر بن محمدٍ إلى فتى على ثيابه أثر مدادٍ. فونبه على ذلك فقال:
لا تجز عن من المداد فإنه ... عطر الرجال وحلية الكتاب
فأجابه:
حمارٌ في الكتابة يدعيها ... كدعوى آل حربٍ في زياد
فدع عنك الكتابة لست منها ... ولو لطخت نفسك بالسواد
269 حدث الغلابي قال: تهدد عبد الله بن معنٍ أبا العتاهية وخوفه. فقال أبو العتاهية يهجوه:
ألا قل لابن عمنٍ والذي م في الودٌ قد حالا
لقد بلغت ما قال ... فما باليت ما قالا
ولو كان من الأسد ... لما راع ولا هالا
فصغ ما كنت حليت ... به سيفك خلخالا
فما تصنع بالسيف ... إذا لم تك قتالا
أرى قومك أبطالاً ... وقد أصبحت بطالا(2/159)
(قال) فقال عبد الله: ما لبست السيف قط فلمحني إنسانٌ إلا قلت: إنه يحفظ شعر أبي العتاهية في فينظر إلي بسببه. (للشريشي) 270 حدث المدائني قال: عير زيادٌ الأعجم المغيرة بن جناء في مجلس المهلب بالبرص. فقال له المغيرة: إن عتاق الخيل لا تشينها الأوضاح ولا تعير بالغرر والحجول. وقد قال صاحبنا بلعا بن قيسٍ لرجل عيره بالبرص: إنما أنا سيف الله جلاه وأستله على أعدائه. (الأغاني) 271 قيل لبعض المجانين وقد اقبل من المقبرة: من أين جئت فقال: من هذه القافلة النازلة. قيل: ماذا قلت لهم. قال: قلت لهم متى ترحلون. فقالوا: حين علينا تقدمون. (لبهاء الدين) 272 قال بعض الشعراء:
لكل فتى خرجٌ من العيب ممتلٍ ... على كتفه منه ومن أهل دهره
فعين عيوب الناس نصب عيونه ... وعين عيوب النفس من خلف ظهره
وعد عرقوب
273 كان عرقوبٌ وعد رجلاً ثمر نخلةٍ فلما أطلعت أتاه فقال: دعها حتى تبلح. فلما أبلحت قال: دعها حتى تزهي. فلما أزهت أتاه. فقال:(2/160)
دعها حتى ترطب. ثم أتاه فقال: دعها حتى تتمر. فلما أتمرت عدا عليها البلاء فجدها فضرب به المثل في الخلف. قال الشاعر:
من كان خلف الوعد شيمته ... والغدر عرقوبٌ له مثل
274 حدث أبو العالية قال: دخل التيمي إلى الفضل بن الربيع في يوم عيدٍ فأنشده:
لعمرك ما الأشراف في كل بلدةٍ ... وإن عظموا للفضل إلا صنائع
ترى عظماء الناس للفضل خشعاً ... إذا ما بدا والفضل لله خاشع
تواضع لما زاده الله رفعةً ... وكل جليلٍ عنده متواضع
فأمر له بعشرة آلاف درهم. (الأغاني) 275 قال بعضهم ملغزاً في اسم عليٍ:
اسم الذي تيمني ... أوله ناظره
إن فاتني أوله ... فإن لي آخره
276 لجير الدين في زهر اللوز:
أزهر اللوز أنت لكل زهرٍ ... من الأزهار يأتينا إمام
لقد حسنت بك الأيام حتى ... كأنك في فم الدنيا ابتسام
277 كتب بعضهم على هديةٍ وأرسلها:
يا أيها المولى الذي ... عمت أياديه الجليلة
إقبل هدية من يرى ... في حقك الدنيا قليله
278 قال بعضهم لابن سيناء: هلا تسافر بحراً. فقال:(2/161)
لا أركب البحر أخشى ... علي منه المعاطب
طينٌ أنا وهو ماءٌ ... والطين في الماء ذائب
279 سمع رجلٌ رجلاً يقول: أين الزاهدون في الدنيا. الراغبون في الآخرة. فقال له: يا هذا أقلب كلامك وضع يدك على من شئت.
280 قال بعض أصحاب القلوب: إن الناس يقولون: افتحوا أعينكم حتى تبصروا. وأنا أقول: غمضوا أعينكم حتى تبصروا.
281 كان في زمان ديوجانس الحكيم رجلٌ مصورٌ فترك التصوير وصار طبيباً فقال له: أحسنت إنك لما رأيت خطأ التصوير ظاهراً للعين وخطأ الطب يواريه التراب تركت التصوير ودخلت في الطب.
282 قال أبو تمام يمدح قوماً يجودون بأنفسهم:
يستعذبون مناياهم كأنهم ... لا يأسون من الدنيا إذا قتلوا
283 وفد حاجب بن زرارة على أنوشروان فأستأذن عليه. فقال للحاجب: سله من هو. فقال: رجلٌ من العرب. فلما مثل بين يديه قال له أنوشروان: من أنت. فقال: سيد العرب. قال: أليس زعمت أنك واحدٌ منهم. فقال: إني كنت كذلك. فلما أكرمني الملك بمكالمته صرت سيدهم. فأمر بحشو فيه درا (للعاملي) 284 قيل: إن جريراً أفخر العرب حيث يقول:
ترى الناس إن سرنا يسيرون خلفنا ... وإن نحن أومأنا إلى الناس وقفوا(2/162)
عين أبصرت بقلعها
285 حكي عن بعض الشعراء أنه دخل على أحد الخلفاء فوجده جالساً وإلى جانبه جاريةُ سوداء تدعى خالصة. وعليها من الحلي وأنواع الجواهر واللآلئ مالا يوصف. فصار الشاعر يمتدحه وهو يسهو عن استماعه. فلما خرج كتب على الباب:
لقد ضاع شعري على بابكم ... كما ضاع درٌ على خالصه
فقرأه بعض حاشية الخليفة وأخبره به. فغضب لذلك وأمره بإحضار الشاعر. فلما وصل إلى الباب مسح العينين اللتين في لفظة ضاع. وأحضر بين يديه. فقال له: ما كتبت على الباب. قال: كتبت.
لقد ضاء شعري على بابكم ... كما ضاء درٌ على خالصه
فأعجبه ذلك وأنعم عليه. وخرج الشاعر وهو يقول: لله درك من شعر قلعت عيناه فأبصر (للنواحي) 286 تفاخر بعضهم على أحد الشعراء. فقال فيه الشاعر:
دهرٌ علا قدر الوضيع به ... وترى الشريف يحطه شرفه
كالبحر يرسب فيه لؤلؤه ... سفلاً وتعلو فوقه جيفه
قال آخر في هذا المعنى:
لا غرو أن فاق الدنيء أخا العلا ... في ذا الزمان وهل لذلك جاحد
فالدهر كالميزان يرفع كل ما ... هو ناقصٌ ويحط ما هو زائد(2/163)
الفلاح الحكيم
287 قيل: وقف كسرى على فلاح يغرس نخلاً وقد طعن في السن. فقال له كسرى متعجباً منه: أيها الشيخ أتؤمل أن تأكل من تمر هذا النخل وهو لا يحمل إلا بعد سنين كثيرةٍ. وأنت قد فني عمرك. فقال: أيها الملك غرسوا وأكلنا وغرسنا فيأكلون. فقال متعجباً من كلامه: زه. وأعطي الفلاح ألف دينار فأخذها وقال: أيها الملك ما أعجل ما أتمر هذا النخل. فاستحسن كسرى ذلك وقال: زه. فأعطاه ألف دينار أخرى. فأخذها وقال: أيها الملك وأعجب من كل شيءٍ أن النخل أتمر السنة مرتين. فاستحسن كسرى ذلك وقال: زه. فأعطاه ألف دينارٍ أخرى ثم تركه وانصرف. (للاتليدي)
عفو معن بن زائدة عن أسراه
288 قيل: إن معناً قبض على عدةٍ من الأسرى فعرضهم على السيف. فالتفت إليه بعضهم وقال له: أصلح الله الأمير لا تجمع علينا بين الجوع والعطش ثم القتل. فو الله إن كر الأمير يبعد عن ذلك. فأمر لهم حينئذ بطعام وشراب. فأكلوا وشربوا ومعن ينظر إليهم. فلما فرغوا من أكلهم قالوا له: أيها الأمير أطال الله بقاءك إننا قد كنا أسراك والآن صرنا ضيوفك. فانظر كيف تصنع بضيوفك. فعند ذلك قال لهم معنٌ: قد عفوت عنكم. فقال له أحدهم: والله أيها الأمير إن عندنا عفوك عنا أشرف من يوم(2/164)
ظفرك بنا. فسر معنا هذا الكلام وأمر لكل منهم بكسوةٍ ومالٍ. (لابن عبد ربه) 289 لما قتل الوزير نظام الملك أكثر الشعراء من المراثي فيه. فمن ذلك قول شبل الدولة مقاتل بن عطية:
كان الوزير نظام الملك جوهرةً ... مكنونةً صاغها الباري من الشرف
جاءت فلم تعرف الأيام قيمتها ... فردَّها غيرةً منه إلى الصدف
المتنبي والكتاب
290 من أرق ما حكي أن المتنبي امتدح بعض أعداء صاحب مملكته. فبلغه ذلك فتوعد المتنبي بالقتل. فخرج هارباً ثم اختفى مدة. فأخبر الملك أنه ببلدة كذا. فقال الملك لكاتبه: اكتب للمتنبي كتاباً ولطف له العبارة. واستعطف خاطره وأخبره أني رضيت عنه. ومره بالرجوع إلينا. فإذا جاء إلينا فعلنا به ما نريد. وكان بين الكاتب والمتنبي مصادقة في السر. فلم يسع الكاتب إلا الامتثال. فكتب كتاباً ولم يقدر أن يدس فيه شيئاً خوفاً من الملك أن يقرأه قبل ختمه. غير أنه لما انتهى إلى آخره وكتب إن شاء الله تعالى شدد النون (إنَّ) . وقرأه السلطان وختمه وبعث به إلى المتنبي. فلما وصل إليه ورأى تشديد النون ارتحل من تلك البلدة على الفور. فقيل له(2/165)
في ذلك. فقال: اشار الكاتب بتشديد النون إلى ما جاء في القرآن: إن الملأ يأتمرون بك ليقتلوك. فأخرج إني لك من الناصحين. فأنظر إلى بلوغ هذا الغرض بألطف عبارة. ويحكى أن المتنبي كتب الجواب وزاد ألفاً في آخر لفظة إن إشارة إلى ما قيل: إنا لن ندخلها أبداً ما داموا فيها. (للنواجي) 291 قال بعضهم ملغزاً في النار:
وآكلةٍ بغير فهم وبطٍ ... لها الأشجار والحيوان قوت
فما أطعمتها انتعشت وعاشت ... ولو أسقيتها ماءً تموت
292 وقال آخر ملغزاً في بجمع:
ما طائرٌ في قلبه ... يلوح للناس عجب
منقاره في رأسه ... والعين منه في الذنب
293 رأى أبو المعمار أميراً جائراً يصلي فقال:
قد بلينا بأميرٍ ... ظلم الناس وسبح
فهو كالجزار فيهم ... يذكر الله ويذبح
294 قال عبد الحكم بن أبي إسحاق في رجل وجب عليه القتل. فرماه مستوفي القصاص بسهم فأصاب كبده فقتله. فقال عبد الحكم.
أخرجت من كبد القوس ابنها فغدت ... تئن والأم قد تحنو على الولد(2/166)
وما درت أنه لما رميت به ... ما سار من كبدٍ إلا إلى كبد
295 كان الوزير صفي الدين المعروف بابن شكر وزير الملك العادل ابن أيوب بمصر. فعزل عبد الحكم المذكور عن خطابة جامع مصر. فكتب إليه:
فلأي بابٍ غير بابك أرجع ... وبأي جودٍ غير جودك أطمع
سدت على مسالكي ومذاهبي ... إلا إليك فدلني ما أصنع
فكأنما الأبواب بابك وحده ... وكأنما أنت الخليقة أجمع
ذكاء المأمون
296 حكى أن أم جعفرٍ عاتبت الرشيد في تقريظه للمأمون دون الأمين ولدها. فدعا خادماً وقال له: وجه إلى الأمين والمأمون خادماً يقول لكل واحدٍ منهما على الخلوة: ما تفعل بي إذا أفضت الخلافة إليك. فأما الأمين فقال للخادم: أقطعك وأعطيك. وأما المأمون فإنه قام إلى الخادم بدواةٍ كانت بين يديه وقال: أتسألني عما أفعل بك يوم يموت أمير المؤمنين. وخليفة رب العالمين إني لأرجو أن نكون جميعاً فداءً له. فقال الرشيد لأم جعفر: كيف ترين. فسكتت عن الجواب. (لابن خلكان) 297 لما قتل ذو الرئاستين دخل المأمون على أمه فقال: لا تجزعي فإني ابنك بعد ابنك. فقالت: أفلا أبكي على ابن اكسبني ابناً مثلك.(2/167)
298 نظر رجل من الحذاق إلى رجل من جهال الناس عليه ثياب حسنةٌ ويتكلم ويلحن. فقال له: تكلم على قدر ثيابك. أو ألبس على قدر كلامك. (للقيرواني) 299 وصف بعض النبلاء بخيلاً فقال: هو جلمٌ أي مقصٌ. من حيث جئته وجدت لا. (الكنز المدفون) 300 دخل طبيبٌ على عليلٍ فقال له: أنا وأنت والعلة ثلاثةٌ فإن أعنتني عليها بالقبول مني صرنا أثنين وانفردت العلة فقوينا عليها. (الملل والنحل للشهر ساني) 301 كان الملك الكامل قد تغير على بعض إخوته. فكتب إليه الصلاح وزيره مستشفعاً:
من شرط صاحب مصر أن يكون كما ... قد كان يوسف في الحسنى لإخوته
ساؤوا فقابلهم بالعفو وافتقروا ... فبرهم وتولاهم برحمته
عبد الملك بن مروان والحجاج
302 أمر عبد الملك بن مروان أن يعمل باب بينت المقدس فيكتب عليه اسمه. وسأله الحجاج أن يعمل له باباً. فأذن له فاتفق أن صاعقةً وقعت فاحترق منها باب عبد الملك. وبقي باب الحجاج فعظم ذلك على عبد الملك. فكتب الحجاج إليه: بلغني أن ناراً نزلت من السماء(2/168)
فأحرقت باب أمير المؤمنين ولم تحرق باب الحجاج. وما مثلنا في ذلك إلا كمثل ابني آدم إذ قرباناً فتقبل من أحدهما ولم يتقبل من الآخر. فسري عنه لما وقف عليه.
303 روى الحافظ الحميدي لأبي محمد علي الأموي في الافتراق:
إن كانت الأبدان نائيةً ... فنفوس أهل الظرف تأتلف
يا رب مفترقين قد جمعت ... قلبهما الأقلام والصحف
304 من شعر ابن مسهرٍ كتبه إلى بعض الرؤساء في علةٍ:
ولما اشتكيت اشتكى كل ما ... على الأرض واعتل شرقٌ وغرب
لأنك قلبٌ لجسم الزمان ... وما صح جسمٌ إذا اعتل قلب
305 قال أبو الميمون المبارك الكناني في البراغيث:
ومعشرٍ يستحل الناس قتلهم ... كما استحلوا دم الحجاج في الحرم
إذا سفكت دماً منها فما سفكت ... يداي من دمها المسفوك غير دمي
306 كلم الشعبي عمر بن هبيرة الفزاري أمير العراقين في قومٍ حبسهم ليطلقهم فأبى. فقال له: أيها الأمير إن حبستهم بالباطل فالحق يخرجهم. وإن حبستهم بالحق فالعفو يسعهم. فأطلقهم. (لابن خلكان) 307 لما بنى محمد بن عمران قصره حيال قصر المأمون قيل له: يا أمير المؤمنين باراك وباهاك. فدعاه وقال: لم بنيت هذا القصر حذاءي. قال: يا أمير المؤمنين أحببت أن ترى نعمتك علي فجعلته نصب(2/169)
عينك. فأستحسن المأمون جوابه وعفا عنه. (للمستعصمي)
أن للعالم خالقاً
308 حكى أن دهرياً جاء إلى هارون الرشيد وقال: يا أمير المؤمنين قد أتفق علماء عصرك مثل أبي حنيفة على أن للعالم صانعاً فمن كان فاضلاً من هؤلاء فمره أن يحضر ههنا حتى أبحث معه بين يديك وأثبت أنه ليس للعالم صانعٌ. فأرسل هارون الرشيد إلى أبي حنيفة لأنه كان أفضل العلماء. وقال: يا إمام المسلمين اعلم أنه قد جاء إلينا دهريٌ وهو يدعي نفي الصانع ويدعوك إلى المناظرة. فقال أبو حنيفة: أذهب بعد الظهر. فجاء رسول الخليفة وأخبر بما قال أبو حنيفة. فأرسل ثانياً. فقام أبو حنيفة وأتى إلى هارون الرشيد. فاستقبله هارون وجاء به وأجلسه في الصدر وقد أجتمع الأكابر والأعيان. فقال الدهري: يا أبا حنيفة لم أبطأت في مجيئك. فقال أبو حنيفة: قد حصل لي أمرٌ عجيب فلذلك أبطأت. وذلك أن بيتي وراء دجلة. فخرجت من منزلي وجئت إلى جنب دجلة حتى أعبرها فرأيت بجنب دجلة سفينةً عتيقةً مقطعةً قد افترق ألواحها. فلما وقع بصري عليها اضطربت الألواح وتحركت واجتمعت وتوصل بعضها ببعض وصارت السفينة صحيحةً بلا نجار ولا عمل عامل. فقعدت عليها وعبر الماء وجئت ههنا. فقال الدهري: أسمعوا أيها الأعيان ما يقول إمامكم وأفضل زمانكم.(2/170)
فهل سمعتم كلاماً أكذب من هذا كيف تحصل السفينة المكسورة بلا عمل نجارٍ فهو كذبٌ محضٌ قد ظهر من أفضل علمائكم. فقال أبو حنيفة: أيها الكافر المطلق إذا لم تحصل السفينة بلا صائعٍ ونجار فكيف يجوز أن يحصل هذا العالم من غير صانعٍ أم كيف تقول بعدم الصانع. فعند ذلك أمر الرشيد بضرب عنق الدهري فقتلوه. (أنيس الجليس للسوطي)
الباب التاسع في الحكايات
309 قال بعض أصحاب الإسكندر إنه دعاهم فلكي ليلةً ليريهم النجوم ويعرفهم خواصها وأحوال سيرها. فأدخلهم إلى بستانٍ وجعل يمشي معهم ويشير بيده إليها حتى سقط في بئرٍ هناك. فقال: من تعاطى علم ما فوقه بلي بجهل ما تحته. (لبهاء الدين) 310 حكي أن رجلاً انكسرت به السفينة في البحر فوقع إلى جزيرةٍ فعمل شكلاً هندسياً على الأرض فرآه بعض أهل تلك الجزيرة فذهبوا به إلى الملك فأحسن إليه وأكرم مثواه وكتب الملك إلى سائر ممالكه: أيها الناس اقتنوا ما إذا كسرتم في البحر صار معكم. (تاريخ الحكماء للشهر زوري)(2/171)
بزرجمهر في حبسه
311 سخط كسرى على بزرجمهر فحبسه في بيتٍ مظلمٍ وأمر أن يصفد بالحديد فبقي أياماً على تلك الحالة. فأرسل إليه من يسأله عن حاله فإذا هو مشروح الصدر مطمئن النفس فقالوا له: أنت في هذه الحالة من الضيق ونراك ناعم البال. فقال: اصطنعت ستة أخلاطٍ وعجنتها واستعملتها فهي التي أبقتني على ما ترون. قالوا: صف لنا هذه الأخلاط لعلنا ننتفع بها عند البلوى. فقال: نعم. أما الخلط الأول فالثقة بالله عز وجل. وأما الثاني فكل ما شاءه الله كائنٌ. وأما الثالث فالصبر خير ما ستعمله الممتحن. وأما الرابع فإذا لم أصبر فماذا أصنع ولا أعين نفسي بالجزع. وأما الخامس فقد يكون أشد مما أنا فيه. وأما السادس فمن ساعةٍ إلى ساعةٍ فرج. فبلغ ما قاله كسرى. فأطلقه وأعزه.
312 كان عمر بن عبد العزيز واقفاً مع سليمان بن عبد الملك أيام خلافته فسمع صوت رعدٍ ففزع سليمان منه ووضع صدره على مقدم رحله. فقال له عمر: هذا صوت رحمته فكيف صوت عذابه.
المدعو إلى الوليمة والسائل
313 دعا رجلٌ آخر إلى منزله وقال: لنأكل معك خبزاً وملحاً فظن الرجل أن ذلك كنايةٌ عن طعام لطيف لذيذ أعده صاحب المنزل. فمضى معه فلم يزد على الخبز والملح. فبينا هما يأكلان إذ وقف(2/172)
بالباب سائلٌ. فنهره صاحب المنزل مراراً فلم ينزجر. فقال له: اذهب وإلا خرجت وكسر رأسك. فقال المدعو: يا هذا انصرف فإنك لو عرفت من صدق وعيده ما عرفت من صدق وعده ما تعرضت له.
علي بن أبي رافع وابنة علي بن أبي طالب
314 عن علي بن أبي رافع. قال: كنت على بيت مال علي بن أبي طالب وكاتبه. فكان في بيت ماله عقد لؤلؤٍ كان أصابه يوم البصرة فأرسلت إلي بنت علي بن أبي طالب فقالت لي: إنه قد بلغني أن في بيت مال أمير المؤمنين عقد لؤلؤ. وهو في يدك وأنا أحب أن تعيرنيه أجمل به في يوم الأضحى. فأرسلت إليها: عاريةٌ مضمونة مردودة بعد ثلاثة أيامٍ يا بنت أمير المؤمنين. فقالت: نعم عاريةٌ مضمونةٌ مردودة بعد ثلاثة أيام. فدفعته إليها وإذا أمير المؤمنين رآه عليها فعرفه. فقال لها: من أين جاء إليك هذا العقد. فقالت: استعرته من ابن أبي رافع خازن بيت مال أمير المؤمنين لأتزين به في العيد ثم أرده. فبعث إلي أمير المؤمنين فجئته فقال لي: أتخون المسلمين يا ابن أبي رافع. فقلت: معاذ الله أن أخون المسلمين. فقال: كيف أعرت بنت أمير المؤمنين العقد الذي في بيت مال المسلمين بغير إذني ورضاهم. فقلت: يا أمير المؤمنين إنها بنتك وسألتني أن أعيرها تتزين به. فأعرتها إياه عاريةً مضمونةً مردودة(2/173)
على أن ترده سالماً إلى موضعه. فقال: رده من يومك وإياك أن تعود إلى مثله فتنالك عقوبتي. ثم قال: ويل لابنتي. لو كانت أخذت العقد على غير عاريةٍ مردودةٍ مضمونةٍ لكانت إذن أول هاشميةٍ قطعت يدها في سرقةٍ. فبلغت مقالته ابنته فقالت له: يا أمير المؤمنين أنا ابنتك وبضعةٌ منك فمن أحق بلبسه مني. فقال لها: يا بنت ابن أبي طالب لا تذهبي بنفسك عن الحق. أكل نساء المهاجرين والأنصار يتزين في مثل هذا العيد بمثل هذا. فقبضته منها ورددته إلى موضعه. (لبهاء الدين)
الحلاوة المدخرة
315 حدث عن الوزير مؤيد الدين القمي مملوكه بدر الدين أيار قال: طلب ليلةً من الليالي حلاوة النبات فعمل في الحال منها صحونٌ كثيرة وأحضرت بين يديه في تلك الليلة. فقال لي: يا أياز أتقدر أن تذخر هذه الحلاوة لي موفرة إلى يوم القيامة. فقلت: يا مولانا وكيف يكون ذلك وهل يمكن هذا. قال: نعم. تمضي في هذه الساعة إلى مشهد موسى والجواد. تضع هذه الأصحن قدام أيتام العلويين فإنها تدخر لي موفرة إلى يوم القيامة. قال أياز: فقلت: السمع والطاعة ومضيت وكان نصف الليل إلى المشهد وفتحت الأبواب ونبهت الصبيان الأيتام ووضعت الأصحن بين أيديهم ورجعت. (للفخري)(2/174)
بهرام جور والراعي
316 حكى أن املك بهرام جور خرج يوماً للصيد فظهر له حمار وحش فاتبعه حتى خفي عن عسكره. فظفر به فمسكه. ونزل عن فرسه يريد أن يذبحه. فرأى راعياً أقبل من البرية فقال له يا راعي أمسك فرسي هذا حتى أذبح هذا الحمار فمسكه ثم تشاغل بذبح الحمار. فلاحت منه التفاتةٌ فرأى الراعي يقطع جوهرة في عذار فرسه. فأعرض الملك عنه حتى أخذها وقال: إن النظر إلى العيب من العيب. ثم ركب فرسه ولحق بعسكره. فقال له الوزير: أيها الملك السعيد أين جوهرة عذار فرسك. فتبسم الملك ثم قال: أخذها من لا يردها وأبصر من لا ينم عليه فمن رآها منكم مع أحدٍ فلا يعارضه بشيءٍ بسبب ذلك. (للقليوبي)
الملك المتعظ بمجنون
317 من الحكايات اللطيفة أن بعض الملوك قصد التفرج على المجانين. فلما دخل عليهم رأى فيهم شاباً حسن الهيئة نظيف الصورة يرى عليه آثار اللطف. وتلوح عليه شمائل الفطنة. فدنا منه وسأله مسائل فأجابه عن جميعها بأحسن جوابٍ. فتعجب منه عجباً شديداً ثم إن المجنون قال للملك: قد سألتني عن أشياء فأجبتك وإني سأسألك سؤالاً واحداً. قال: وما هو. قال: متى يجد النائم لذة النوم. ففكر الملك ساعةً ثم قال: يجد لذة النوم حال نومه. فقال(2/175)
المجنون: حالة النوم ليس له إحساسٌ. فقال الملك: قبل الدخول في النوم. فقال المجنون: كيف توجد لذته قبل وجوده. فقال الملك: بعد النوم. فقال المجنون: توجد لذته وقد انقضى. فتحير الملك وزاد إعجابه. وقال: لعمري إن هذا لا يحصل من عقلاء كثيرةٍ فأولى أن يكون نديمي في مثل هذا اليوم وأمر أن ينصب له تختٌ بإزاء شباك المجنون. ثم استدعى بالشراب فحضر. فتناول الكأس وشرب ثم ناول المجنون فقال: أيها الملك أنت شربت هذا لتصير مثلي فأنا أشربه لأصير مثل من. فأتعظ الملك بكلامه ورمى القدح من يده وتاب من ساعته. (للاتليدي)
الشاب السارق
318 سرق شابٌ سرقةً فأتى به إلى المأمون. فأمر بقطع يده فتقدم لتقطع يده فأنسد الشاب يقول:
يدي يا أمير المؤمنين أعيذها ... بعفوك أن تلقى نكالاً يشينها
فلا خير في الدنيا ولا حاجةٌ بها ... إذا ما شمالٌ فارقتها يمينها
وكانت أم الشاب واقفة على رأسه فبكت وقالت: يا أمير المؤمنين إنه ولدي وواحدي. ناشدتك الله إلا رحمتني وهدأت لوعتي. وجدت بالعفو عما استحق العقوبة. فقال المأمون: هذا حدٌ من حدود الله تعالى. فقالت: يا أمير المؤمنين اجعل عفوك عن هذا الحد ذنباً من الذنوب التي تستغفر منها. فرق لها المأمون وعفا عنه.(2/176)
المأمون والفقير
319 حكى أن المأمون أشرف يوماً على فصره فرأى رجلاً يكتب بفحمةٍ على حائط قصره. فقال المأمون لبعض خدمه: اذهب إلى ذلك الرجل فانظر ما كتب وأتني به. فبادر الخادم إلى الرجل مسرعاً وقبض عليه وقال: ما كتبت. فإذا هو كتب هذين البيتين:
يا قصر جمع فيك الشؤم واللوم ... متى تعشش في أركانك البوم
يوماً يعشش فيك البوم من فرحي ... أكون أول من ينعاك مرغوم
ثم إن الخادم قال له: أجب أمير المؤمنين. فقال الرجل: سألتك بالله لا تذهب بي إليه. فقال الخادم: لا بد من ذلك. ثم ذهب به. فلما مثل بين يدي أمير المؤمنين وأعلم بما كتب. فقال له المأمون: ويلك ما حملك على هذا. فقال: يا أمير المؤمنين إنه لا يخفى عليك ما حواه قصرك هذا من خزائن الأموال والحلي والحلل والطعام والشرابٍ والفرش والأواني والأمتعة والجواري والخدم وغير ذلك مما يقصر عنه وصفي. ويعجز عنه فهمي. وإني قد مررت عليه الآن وأنا في غاية من الجوع والفاقة. فوقفت مفكراً في أمري وقلت في نفسي: هذا القصر عامر عالٍ. وأنا جائعٌ ولا فائدة لي فيه. فلو كان خراباً ومررت به لم أعدم رخامه أو خشبةً أو مسماراً أبيعه وأتقوت بثمنه. أو ما علم أمير المؤمنين رعاه الله قول الشاعر:
إذا لم يكن للمرء في دولة امرئٍ ... نصيب ولا حظٌ تمنى زوالها(2/177)
وما ذاك من بغض له غير أنه ... يرجي سواها فهو يهوى انتقالها
فقال المأمون: يا غلام أعطه ألف درهم. ثم قال: هي لك في كل سنةٍ ما دام قصرنا عامر بأهله مسروراً بدولته وأنشدوا في معنى ذلك:
إذا كنت في أمرٍ فكن فيه محسناً ... فعما قليلٍ أنت ماضٍ وتاركه
(إعلام الناس للاتليدي)
الأدب يرفع الخامل
320 روي أن المأمون لم يكن من خلفاء بني العباس خليفةٌ أعلم منه في جميع العلوم. وكان له في كل أسبوعٍ يومان يجلس فيهما لمناظرة العلماء. فيجلس المناظرون من الفقهاء والمتكلمين بحضرته على طبقاتهم ومراتبهم. فبينما هو جالسٌ معهم إذ دخل في مجلسه رجلٌ غريبٌ وعليه ثيابٌ بيضٌ رثةٌ. فجلس في آخر الناس وقعد من وراء الفقهاء في مكانٍ مجهول. ثم ابتدأوا في الكلام وشرعوا في معضلات المسائل. وكان من عادتهم أنهم يديرون المسألة على أهل المجلس واحداً بعد واحدٍ. فكل من وجد زيادةً لطيفة أو نكتةً غريبةً ذكرها. فدارت المسألة إلى أن وصلت إلى ذلك الرجل الغريب. فتكلم وأجاب بجوابٍ أحسن من أجوبة الفقهاء كلهم. فأستحسن الخليفة كلامه وأمر أن يرفع من ذلك المكان إلى أعلى منه. فلما وصلت إليه المسألة الثانية أجاب بجوابٍ أحسن من الجواب الأول.(2/178)
فأمر المأمون أن يرفع إلى أعلى من تلك الرتبة. فلما دارت المسألة الثالثة أجاب بجوابٍ أحسن وأصوب من الجوابين الأولين. فأمر المأمون أن يجلس قريباً منه. فلما انقضت المناظرة أحضر والماء وغسلوا أيديهم وأحضروا الطعام فأكلوا. ثم نهض الفقهاء فخرجوا ومنع المأمون ذلك الشخص من الخروج معهم وأدناه منه ولاطفه ووعده بالإحسان إليه والإنعام عليه. ثم تهيأ مجلس الشراب وحضر الندماء الملاح ودارت الراح. فلما وصل الدور إلى ذلك الرجل وشب قائماً على قدميه وقال: إن أذن لي أمير المؤمنين تكلمت كلمة واحدةً. قال له: قل ما تشاء. فقال: قد علم الرأي العالي زاده الله علوا أن العبد كان اليوم في هذا المجلس الشريف من مجاهيل الناس ووضعاء الجلاس. وأن أمير المؤمنين قربه وأدناه بيسير من العقل الذي أبداه وجعله مرفوعاً على درجة غيره. وبلغ به الغاية التي لم تسم إليها همته. والآن يريد أن يفرق بينه وبين ذلك القدر اليسير من العقل الذي أعزه بعد الذلة وكثره بعد القلة. وحاشا وكلا أن يحسده أمير المؤمنين على هذا القدر الذي معه من العقل والنباهة والفضل. لأن العبد إذا شرب الشراب تباعد عنه العقل وقرب منه الجهل وسلب أدبه. وعاد إلى تلك الدرجة الحقيرة كما كان وصار في أعين الناس حقيراً مجهولاً. فأرجو من الرأي العالي أنه لا يسلب منه هذه الجوهرة بفضله وكرمه وسيادته وحسن شيمته.(2/179)
فلما سمع الخليفة المأمون منه القول مدحه وشكره وأجلسه في رتبته ووقره. وأمر له بمائة ألف درهم وحمله على فرسٍ وأعطاه ثياباً فاخرةً. وكان في كل مجلس يرفعه ويقربه إلى جماعة الفقهاء حتى صار أرفع منهم درجة وأعلى مرتبةً. (ألف ليلة وليلة)
عدالة أنوشروان في بناية الإيوان
321 حكى أن قيصر ملك الروم أرسل رسولاً إلى ملك فارس أنوشروان صاحب الإيوان. فلما وصل ورأى عظمة الإيوان وظرافته وعظمة مجلس كسرى على كرسيه والملوك في خدمته ميز الإيوان فرأى في بعض جوانبه اعوجاجاً. فسأل الترجمان عن ذلك. فقال له: إن هناك بيتا لعجوزٍ كرهت بيعه عند عمارة الإيوان. ولم ير الملك إكراهها على البيع فأبقى بيتها في جانب الإيوان. فذلك ما رأيت وسألت. فقال الرومي: وحق رأسه إن هذا الاعوجاج أحسن من الاستقامة وإن ما فعله ملك الزمان لم يؤرخ فيما مضى لملكٍ ولا يؤرخ فيما بقي لملكٍ. فأعجب كسرى كلامه ورده مسروراً محبوراً. (للابشيهي)
الغلام والثعلب
322 كان لرجلٍ من أغنياء التجار ولد نجيبٌ صرفه من صغر سنه في التجارة ببلده حتى رضي بخبرته فيها. فلما بلغ أشده أراد أن يعوده على الأسفار في تجارة الأقطار. فجهزه تجهيزاً يليق بأمثاله وأصحابه ومضى الغلام. فلما كان على مسيرة أيام من المدينة نزل(2/180)
ذات ليلةٍ في بعض المروج. وكانت الليلة مقمرةً. فقام يتمشى وقد مضى جزءٌ من الليلٍ. فبصر بثعلب طريحٍ وقد أخذه الهرم والإعياء وضعف عن الحركة. فوقف عنده وأخذ يتفكر في أمره ويقول: يكف يرزق هذا الحيوان المسكين وما أظن إلا أنه يموت جوعاً. فبينما هو كذلك إذا هو بأسدٍ مقبل قد افترس فريسةً فجاء حتى قرب من الثعلب. فتناول منها حتى شبع وترك بقيتها ومضى. فعند ذلك تحامل الثعلب على نفسه وأخذ يتحرك قليلاً قليلاً حتى انتهى إلى ما تركه الأسد. فأكل حتى شبع والغلام يتعجب من صنع الله في خلقه. وما ساق لهذا الحيوان العاجز من رزقه. وقال فيه نفسه: إذا كان سبحانه قد تكفل بالأرزاق فلأي شيءٍ احتمال المشاق وركوب الأسفار واقتحام الأخطار. ثم انثنى راجعاً إلى والده فأخبره الخبر وشرح له ما ثنى عزمه عن السفر. فقال له: يا بني قد أخطأت النظر إنما أردت بك أن تكون أسداً تأوي إليك الثعالب الجياع. لا أن تكون ثعلباً جائعاً تنتظر فضلة السباع. فقبل نصيحة أبيه ورجع لما كان فيه.
الثوب المبيع
323 قال ابن الخريف: حدثني والدي قال: أعطيت أحمد بن حسب الدلال ثوباً وقلت: بعه لي وبين هذا العيب الذي فيه. وأريته خرقاً في الثواب. فمضى وجاء في آخرٍ النهار فدفع إلى ثمنه(2/181)
وقال: بعته على رجلٍ أعجميٍ غريبٍ بهذه الدنانير. قلت له: وأريته العيب وأعلمته به. فقال: لا وإنني نسيت ذلك. فقلت: لا جزاك الله خيراً امض معي إليه. وذهبت معه وقصدنا مكانه فلم نجده. فسألنا عنه فقيل: إنه رحل إلى مكة مع قافلة الحجاج. فأخذت صفة الرجل من الدلال واكتريت دابة ولحقت القافلة. وسألت عن الرجل فدللت عليه فقلت له: إن الثوب الفلاني الذي اشتريته أمس من الدلال فلانٍ بكذا وكذا فيه عيب فهاته وخذ ذهبك. فقام وأخرج الثوب وطاف على العيب حتى وجده. فلما وجده قال: يا شيخ أخرج ذهبي حتى أراه وكنت لما قبضته لم أميزه ولم أنتقده. فأخرجته فلما رآه قال: هذا ذهبي انتقده يا شيخ. فنظرت إليه وإذا هو مغشوشٌ لا يساوي شيئاً. فأخذه ورمى به وقال لي: قد اشتريت منك هذا الثوب على عيبه بهذا الذهب. ودفع إلي بمقدار ذلك الذهب المغشوش ذهباً جيداً وعدت به.
كسرى أنوشروان والمؤدب
324 روي أن كسرى أنوشروان كان له معلمٌ حسن التأديب يعلمه حتى فاق في العلوم. فضربه المعلم يوماً من غير ذنبٍ فأوجعه. فحقد أنوشروان عليه. فلما ولي الملك قال للمعلم. ما حملك على ضربي يوم كذا وكذا. فقال له: لما رأيتك ترغب في العلم رجوت(2/182)
لك الملك بعد أبيك. فأحببت أن أذيقك طعم الظلم لئلا تظلم. فقال أنوشروان: زه زه ورفع قدره. (للابشيهي)
الهادي والخارجي
325 ذكر صاحب السكردان أن الهادي كان يوماً في بستانٍ يتنزه على حمارٍ ولا سلاح معه. وبحضرته جماعةٌ من خواصه وأهل بيته. فدخل عليه حاجبه وأخبره أن بالباب بعض الخوارج له بأسٌ ومكايد وقد ظفر به بعض القواد. فأمر الهادي بإدخاله. فدخل عليه بين رجلين قد قبضا على يديه. فلما أبصر الخارجي الهادي جذب يديه من الرجلين واختطف سيف أحدهما وقصد الهادي. ففر كل من كان حوله وبقي وحده وهو ثابتٌ على حماره. حتى إذا دنا منه الخارجي وهم أن يعلوه بالسيف أومأ إلى وراء الخارجي وأوهمه أن غلاماً وراءه وقال: يا غلام اضرب عنقه. فظن الخارجي أن غلاماً وراءه. فالتفت الخارجي فنزل الهادي مسرعاً عن حماره فقبض على عنق الخارجي وذبحه بالسيف الذي كان معه. ثم عاد إلى ظهر حماره من فوره. والخدم ينظرون إليه ويتسللون عليه وقد ملئوا منه حياءً ورعباً. فما عاتبهم ولا خاطبهم في ذلك بكلمةٍ. ولم يفارق السلاح بعد ذلك اليوم. (إعلام الناس للاتليدي)
المنصور وأبو عبد الله
326 قال المنصور للربيع: علي بجعفر. قتلني الله إن لم أقتل أبا عبد(2/183)
الله. فلما مثل بين يديه حرك شفتيه ثم قرب وسلم. فقال: لا سلام الله عليك يا عدو الله تعمل علي الغوائل في ملكي. قتلني الله إن لم أقتلك. فقال: يا أمير المؤمنين إن سليمان أعطي فشكر. وإن أيوب ابتلى فصبر. وإن يوسف ظلم فغفر. وأنت على أثر منهم وأحق من تأسى بهم. فنكس المنصور رأسه ملياً ثم رفع رأسه وقال: إلي أبا عبد الله فأنت القريب القرابة. وأنت ذو الرحم الواشجة. والسليم الناحية. القليل الغائلة. ثم صافحه بيمينه وعانقه بشماله. وأجلسه معه على فراشه وأقبل يسائله ويحادثه. ثم قال: عجلوا لأبي عبد الله إذنه وجائزته وكسوته. فلما خرج أمسكه الربيع وقال له: رأيتك قد حركت شفتيك فانجلى الأمر وأنا خادم السلطان ولا غنى لي عنه فعلمني إياه. فقال: نعم. قلت: اللهم احرسني بعينك التي لا تنام. واكنفني بحفظك الذي لا يرام. لا أهلك وأنت رجائي فكم من نعمةٍ أنعمتها علي قل عندها شكري فلم تحرمني. وكم من بليةٍ ابتليت بها قل عندها صبري فلم تخذلني. اللهم بك أدرأ في نحره وأعوذ بك من شره. (للشريشي)
القاضي والنصراني المحسن
327 حكي أن فقيراً جاء إلى قاضٍ في ويوم عاشوراء وقال له: أعز الله القاضي وإني رجل فقيرٌ وذو عيالٍ وقد جئتك مستشفعاً بهذا اليوم أن تعطيني عشرة أمنانٍ لحماً ودرهمين لأشبع أطفالي في هذا(2/184)
اليوم ولك الجزاء على الله. فوعده إلى الظهر. فلما جاء الظهر عاد إليه. فوعده إلى العصر. فلما جاء العصر عاد إليه وأولاده في منزله ذابت أكبادهم من الجوع فوعده إلى المغرب. فعاد إليه عند الغروب. فقال له: ما عندي شيءٌ أعطيكه. فرجع الفقير منكسر القلب باكي العين خائفاً من أطفاله كيف جوابه لهم. فمر وهو يبكي بنصرانيٍ جالس على بابه. فرآه باكياً فقال له: لم بكاؤك يا هذا. فقال له: لا تسأل عن حالي. فقال له: سألتك بالله أن أعلمني بحالك. فأخبره بحاله مع القاضي. فقال له النصراني: ما هذا اليوم عندكم. فقال له: هو يوم عاشوراء. فرق له النصراني وأعطاه أكثر مما ذكر من الخبز واللحم وأعطاه عشرين درهماً فوق الدرهمين. فقال له: خذ هذا وهو لك ولعيالك علي في كل شهرٍ. فذهب به الفقير لأطفاله فرحاً مسروراً. فلما رآه أطفاله فرحوا فرحاً شديداً. ثم نادوا بأعلى أصواتهم: اللهم من أدخل علينا السرور فأدخل عليه الفرح عاجلاً. فلما كان الليل ونام القاضي سمع هاتفاً يقول له: ارفع رأسك. فرفعه وإذا هو ينظر قصرين مبنيين لبنهٌ من ذهبٍ ولبنهٌ من فضةٍ. فقال: إلهي لمن هذا القصران. فأجب إنهما كانا لك لو قضيت حاجة الفقير فلما رددته صارا للنصراني فلانٍ. فانتبه القاضي مرعوباً ينادي بالويل والثبور. ثم سار إلى النصراني وقال له: ما فعلت البارحة من الخير. فقال له: ولم ذا سؤالك. فأخبره بما(2/185)
رأى. ثم قال له: بعني هذا الجميل الذي فعلته البارحة مع الفقير بمائة ألف درهمٍ. فقال له النصراني: إني لا أبيع ذلك بملء الأرض ذهباً. فرحم الله ثراه وجعل الجنة مثواه. (للقليوبي)
إجارة معن لرجل استغاث به وكان المنصور قد أهدر دمه
328 روي أن أمير المؤمنين المنصور أهدر دم رجلٍ كان يسعى بفساد دولته مع الخوارج من أهل الكوفة. وجعل لمن دل عليه أو جاء به مائة ألف درهمٍ. ثم إن الرجل ظهر في بغداد. فبينما هو يمشي مختفياً في بعض نواحيها إذ بصر به رجلٌ من أهل الكوفة فعرفه فأخذ بمجامع ثيابه وقال: هذا بغية أمير المؤمنين. فبينما الرجل على هذه الحالة إذ سمع وقع حوافر الخيل. فالتفت فإذا فعن إلى الرجل المتعلق به وقال له: ما شأنك وهذا. فقال له: إنه بغية أمير المؤمنين الذي أهدر دمه وجعل لمن دل عليه مائة ألف درهمٍ. فقال: دعه. وقال لغلامه: أنزل عن دابتك وأحمل الرجل عليها. فصاح الرجل المتعلق به وصرخ واستجار بالناس وقال: أيحال بيني وبين بغية أمير المؤمنين. فقال له معنٌ: اذهب فقل لأمير المؤمنين وأخبره أنه عندي. فأنطلق الرجل إلى المنصور وأخبره. فأمر المنصور بإحضار معنٍ في الساعة. فلما وصل أمر المنصور إلى معن دعا جميع أهل بيته ومواليه وأولاده وأقاربه وحاشيته وجميع من يلوذ به وقال لهم:(2/186)
أقسم عليكم بأن لا يصل إلى هذا الرجل مكروه أبداً وفيكم عينٌ تطرف. ثم إنه سار إلى المنصور فدخل وسلم عليه فلم يرد عليه المنصور السلام. ثم إن المنصور قال له: يا معن أتتجرأ علي. قال: نعم يا أمير المؤمنين. فقال المنصور: ونعم أيضاً. وقد اشتد غضبه. فقال معنٌ: يا أمير المؤمنين كم من مرةٍ تقدم في دولتكم بلائي وحسن عنائي. وكم من مرةٍ خاطرت بدمي. أفما رأيتموني أهلاً بأن يوهب لي رجلٌ واحدٌ استجار بي بين الناس بوهمه أني عبدٌ من عبيد أمير المؤمنين وكذلك هو. فمر بما شئت ها أنا بين يديك. قال: فأطرق المنصور ساعةً ثم رقع رأسه وقد سكن ما به من الغضب وقال له: قد أجرناه لك يا معن. فقال له معنٌ: إن رأى أمير المؤمنين أن يجمع بين الأجرين فيأمر له بصلةٍ فيكون قد أحياه وأغناه. فقال المنصور: قد أمرنا له بخمسين ألف درهمٍ. فقال له معنٌ: يا أمير المؤمنين إن صلات الخلفاء على قدر جنايات الرعية. وإن ذنب الرجل عظيمٌ فأجزل صلته. قال: قد أمر ناله بمائة ألف درهم. فقال له معنٌ: عجلها يا أمير المؤمنين فإن خير البر عاجله. فأمر بتعجيلها فحملها وانصرف وأتى منزله وقال للرجل: يا رجل خذ صلتك والحق بأهلك وإياك ومخالفة الخلفاء في أمورهم بعد هذه. (للابشيهي) 329 كان ملكٌ من ملوك الفرس عظيم المملكة شديد النقمة.(2/187)
وكان له صاحب مطبخ. فلما قرب إليه طعامه في بعض الأيام سقطت نقطةٌ من الطعام على يديه. فزوى لها الملك وجهه وعلم صاحب المطبخ أنه قاتله. فكفأ الصحفة على رأسه. فقال الملك: علي به. فلما أتاه قال له: قد علمت أن سقوط النقطة أخطأت بها يدك. فما عذرك في الثانية. قال: استحيت للملك أن يقتل مثلي في سني وقديم حرمتي في نقطةٍ فأردت أن أعظم ذنبي ليحسن به قتلى ولئلا ينسبك الناس إلى الظلم والجور. فقال له الملك: إن لطف الاعتذار ينجيك من القتل فأنت حر لوجه الله. (لابن عبد ربه)
الرشيد والدمشقي
330 رفع إلى هارون الرشيد أن رجلاً بدمشق من بقايا بني أمية عظيم المال كثير الجاه مطاعٌ في البلد له جماعةٌ وأولادٌ ومماليك يركبون الخيل ويحملون السلاح ويغزون الروم. وأنه سمحٌ جوادٌ كثير البذل والضيافة وأنه لا يؤمن منه. فعظم ذلك على الرشيد. قال منارة: وكان وقوف الرشيد على هذا وهو بالكوفة في بعض حججه في سنه ستٍ وثمانين ومائةٍ وقد عاد من الموسم. وقد بايع للأمين والمأمون والمعتصم أولاده فدعاني وهو خال. وقال: إني دعوتك لأمر يهمني وقد منعني النوم فأنظر كيف تعمل. ثم قص على خبر الأموي وقال: أخرج الساعة فقد أعددت لك الخيول وأزحت علتك في الزاد والنفقة والآلة. وتضم إليك مائة(2/188)
غلامٍ وأسلك البرية وهذا كتابي إلى نائب دمشق وهذه قيودٌ فأبدأ بالرجل فإن سمع وأطاع فقيده وجني به. وإن عصى فتوكل به أنت ومن معك لئلا يهرب. وأنفذ الكتاب إلى أمير دمشق ليكون مساعداً واقبضا عليه وجني به وأجلتك لذهابك ستاً ولإيابك ستاً ويوماً لمقامك. وهذا محملٌ تجعله في شقةٍ منه إذا قيدته وتقعد أنت في الشقة الأخرى. ولا تكل حفظه إلى غيرك حتى تأتيني به في الثالث عشر يوماً من خروجك. فإذا دخلت داره فتفقدها وجميع ما فيها من أهله وولده وغلمانه وقدر نعمته والحال والمحال. واحفظ ما يقوله الرجل حرفاً بحرفٍ من ألفاظه منذ يقع طرفك عليه حتى تأتيني به. وإياك أن يشذ عنك شيءٌ من أمره. انطلق. قال منارة: فودعته وانطلقت وخرجت فركبت الإبل وسرت أطوي المنازل أسير الليل والنهار إلى أن وصلت إلى دمشق في أول الليلة السابعة وأبواب البلد مغلقةٌ. فكرهت طروقها ليلاً فبت بظاهر البلد إلى أن فتح بابها من غدٍ. فدخلت على هيئتي ثم أتيت باب الرجل وعليه صف عظيمٌ وحاشيةٌ كثيرةٌ فلم أستأذن ودخلت بغير إذنٍ. فلما رأى القوم ذلك سألوا بعض من معي عني. قال: هذا منارة رسول أمير المؤمنين إلى صاحبكم. (قال) فلما صرت في صحن الدار نزلت ودخلت مجلساً رأيت فيه قوماً جلوساً فظنت أن الرجل فيهم. فقاموا ورحبوا بي. فقلت: أفيكم(2/189)
فلانٌ. قالوا: لا. نحن أولاده وهو في الحمام. فقلت: استعجلوه. فمضى بعضهم يستعجله وأنا أتفقد الدار والأحوال والحاشية فوجدتها ماجت بأهلها موجاً كثيراً. فلم أزل كذلك حتى خرج الرجل بعد أن أطال مكثه. واستربت به وأشد قلقي وخوفي من أن يتوارى إلى أن رأيت شيخاً بزي الحمام يمشي في صحن الدار وحواليه جماعةٌ كهولٌ وأحداثٌ وصبيانٌ. وهم أولاده وغلمانه فعلمت أنه الرجل. فجاء وجلس وسلم على سلاماً خفيفاً. وسألني عن أمير المؤمنين واستقامة أمر حضرته فأخبرته بما وجب. وما قضى كلامه حتى جاؤوا بأطباق فاكهةٍ فقال: تقدم يا منارة وكل معنا. فقلت: ما لي إلى ذلك من سبيل. فلم يعاودني فأكل هو ومن معه. ثم غسل يديه ودعا بالطعام فجاؤوا إليه بمائدةٍ حسنةٍ لم أر مثلها إلا للخليفة. فقال: يا منارة ساعدنا على الأكل. لا يزيدني على أن يدعوني باسمي كما يدعوني الخليفة. فامتنعت عليه فما عاودني. فأكل ومن معه وكانوا تسعةً من أولاده. فتأملت أكله في نفسه فوجدته يأكل أكل الملوك. ووجدت ذلك الاضطراب الذي كان في داره قد سكن ووجدتهم لا يرفعون شيئاً من بين يديه قد وضع على المائدة إلا تهيأ غيره حالاً أعظم وأحسن منه. وقد كان غلمانه أخذوا لما نزلت إلى الدار مالي وغلماني وعدلوا بهم إلى دار أخرى. فما أطاقوا مما نعتهم وبقيت وحدي وليس بين يدي إلا خمسة أو ستة غلمان وقوفٍ على رأسي.(2/190)
فقلت في نفسي: هذا جبارٌ عنيدٌ فإن امتنع من الشخوص لم أطق إشخاصه بنفسي ولا بمن معي ولا حفظه إلا أن يلحقني أمير البلد. وجزعت جزعاً شديداً ورابني منه استخفافه وتهاونه بأمري. يدعوني باسمي ولا يفكر في امتناعي من الأكل. ولا يسأل عما جئت به ويأكل مطمئناً وأنا مفكرٌ في ذلك. فلما فرغ من أكله وغسل يديه دعا بالنجور فتنجر وقام إلى الصلاة فصلى الظهر وأكثر من الدعاء والابتهال. ورأيت صلاته حسنةً. فلما انتقل من المحراب أقبل علي وقال: ما أقدمك يا منارة. فأخرجت كتاب أمير المؤمنين ودفعته إليه ففضه وقرأه. فلما أستتم قراءته دعا أولاده وحاشيته فأجتمع منهم خلقٌ كثيرٌ. فلم أشك أنه يريد أن يوقع بي. فلما تكاملوا ابتدأ فحلف أيماناً غليظةً فيها الطلاق والعتاق والحج والصدقة والوقف أن لا يجتمع اثنان في موضع واحدٍ. وأمرهم أن ينصرفوا
ويدخلوا منازلهم ولا يظهروا إلى أن يكشف لهم أمرٌ يعتمدون عليه وقال: هذا كتاب أمير المؤمنين بالمضي إليه ولست أقيم بعد نظري فيه ساعةً واحدةً. فاستوصوا بمن ورائي من الحريم خيراً. وما لي حاجةٌ أن يصحبني أحدٌ. هات قيودك يا منارة. فدعوت بها وكانت في سفطٍ ومد رجليه فقيدته وأمرت غلماني بحمله حتى صار في المحمل وركبت في الشق الآخر وسرت من وقتي. ولم ألق أمير ولا غيره. وسرت بالرجل وليس معه أحدٌ إلى أن(2/191)
صرنا بظاهر دمشق. فابتدأ يحدثني بانبساط حتى انتهينا إلى بستانٍ حسنٍ في الغوطة فقال لي: أترى هذا. قلت: نعم. قال: إنه لي. وفيه من غرائب الأشجار كيت وكيت. ثم انتهى إلى آخر فقال مثل ذلك. ثم انتهى إلى مزارع حسانٍ وقرى فقال مثل ذلك: هذا لي. فأشتد غيظي منه. وقلت: ألست تعلم أن أمير المؤمنين أهمه أمرك حتى أرسل إليك من انتزعك من بين أهلك ومالك وولدك وأخرجك فريداً مقيداً مغلولاًُ ما تدري إلى ما يصير إليه أمرك ولا كيف يكون. وأنت فارغ القلب من هذا حتى تصف ضياعك وبساتينك بعد أن جئتك. وأنت لا تفكر فيم جئت به. وأنت ساكن القلب قليل التفكر لقد كنت عندي شيخاً فاضلاً. فقال لي مجيباً: إنا لله وإنا إليه راجعون. أخطأت فراستي فيك. لقد ظننت أنك رجلٌ كامل العقل وأنك ما حللت من الخلفاء هذا المحل إلا لما عرفوك بذلك. فإذا كلامه يشبه كلام العوام. والله المستعان. أما قولك في أمير المؤمنين وإزعاجه وإخراجه إياي إلى بابه على صورتي هذه فإني على ثقةٍ من الله عز وجل الذي بيده ناصية أمير المؤمنين. ولا يملك أمير المؤمنين لنفسه نفعاً ولا ضراً إلا بإذن الله عز وجل. ولا ذنب لي عند أمير المؤمنين أخافه. وبعد فإذا عرف أمير المؤمنين أمري وعرف سلامتي وصلاح ناحيتي سرحني مكرماً. فإن الحسدة والأعداء رموني عنده بما ليس في(2/192)
وتقولوا علي الأقاويل فلا يستحل دمي ويخرج من إيذائي وإزعاجي. ويردني مكرماً ويقيمني ببلاده معظماً مبجلاً. وإن كان قد سبق في علم الله عز وجل أنه يبدر إلي منه بادرة سوءٍ وقد حضر أجلي وكان سفك دمي على يده. فإني أحسن الظن بالله الذي خلق ورزق وأحيا وأمات. وإن الصبر والرضا والتسليم إلى من يملك الدنيا والآخرة. وقد كنت أحسب أنك تعرف هذا فإذن قد عرفت مبلغ فهمك. فإني لا أكلمك بكلمةٍ واحدةٍ حتى يفرق بيننا أمير المؤمنين إن شاء الله تعالى. ثم أعرض عني فما سمعت منه لفظة غير التسبيح أو طلب ماءٍ أو حاجةٍ حتى شارفنا الكوفة في اليوم الثالث عشر بعد الظهر والنجب قد استقبلتني قبل ستة فراسخ من الكوفة يتجسون خبري. فحين رأوني رجعوا عني متقدمين بالخبر إلى أمير المؤمنين. فانتهيت إلى الباب في آخر النهار فحططت رحلي. ودخلت على الرشيد وقبلت الأرض بين يديه ووقفت. فقال: هات ما عندك يا منارة وإياك أن تغفل منه عن لفظةٍ واحدةٍ. فسقت الحديث من أوله إلى آخره حتى انتهيت إلى ذكر الفاكهة والطعام والغسل والبخور وما حدثتني به نفسي من امتناعه. والغضب يظهر في وجه أمير المؤمنين ويتزايد. حتى انتهيت إلى فراغ الأموي من الصلاة والتفاته إلي وسؤاله عن سبب قدومي ودفعي الكتاب إليه ومبادرته إلى إحضار ولده وأهله وأصحابه وحلفه عليهم أن لا يتبعه أحدٌ(2/193)
وصرفه إياهم ومد رجليه فقيدته. فما زال وجه الرشيد يسفر حتى انتهيت إلى ما خاطبني به عند توبيخي له لما ركبنا في المحمل فقال: صدق والله ما هذا الرجل إلا محسود على النعمة مكذوب عليه. ولعمري لقد أزعجناه وآذيناه ورعنا أهله. فبادر بنزع قيوده وأتني به. (قال) فخرجت ونزعت قيوده وأدخلته إلى الرشيد. فما هو إلا أن رآه حتى رأيت ماء الحياء يجول في وجه الرشيد. فدنا الأموي وسلم بالخلافة ووقف. فرد عليه الرشيد رداً جميلاً وأمره بالجلوس. فجلس وأقبل عليه الرشيد فسأله عن حاله. ثم قال له: بلغنا عنك فضل هيئةٍ وأمور أحببنا معها أن نراك ونسمع كلامك ونحسن إليك فاذكر حاجتك. فأجاب الأموي جواباً جميلاً وشكر ودعا ثم قال: ليس لي عند أمير المؤمنين إلا حاجةٌ واحدةٌ. فقال: مقضيةٌ فما هي. قال: يا أمير المؤمنين تردني إلى بلدي وأهلي وولدي. قال: نفعل ذلك. ولكن سل ما تحتاج إليه في مصالح جاهك ومعاشك فإن مثلك لا يخلو أن يحتاج إلى شيء من هذا. فقال: يا أمير المؤمنين عما لك منصفون وقد واستغنيت بعدلهم عن مسألتي. فأموري مستقيمةٌ وكذلك أهل بلدي
بالعدل الشامل في ظل أمير المؤمنين. فقال الرشيد: أنصرف محفوظاً إلى بلدك واكتب إلينا بأمر إن عرض لك. فودعه الأموي. فلما ولي خارجاً قال الرشيد: يا منارة أحمله من وقتك وسر به رجعاً كما جئت به حتى إذا وصلت إلى مجلسه(2/194)
الذي أخذته منه فودعه وانصرف. قال منارة: فما زلت معه حتى انتهى إلى محله ففرحت به أهله وأعطاني عطاء جزيلاً وانصرفت. (للاتليدي)
استقامة رجل اشتكي عليه ظلماً
331 نقل عن الربيع حاجب أبي جعفرٍ المنصور قال: ما رأيت رجلاً أحضر جناناً ولا أربط جأشاً من رجل سعي به إلى المنصور أن عنده ودائع وأموالاً لبني أمية. فأمرني بإحضاره فأحضرته ودخلت به إليه. فقال له المنصور: قد رفع إلينا خبر الودائع والأموال التي عندك لبني أمية فأخرجها لنا. فقال: يا أمير المؤمنين أوارثٌ أنت لبني أمية. قال: لا. قال: أفأنت لهم وصيٌ. قال: لا. فقال له الرجل: إذا فما سبب سؤالك عما في يدي في ذلك. فأطرق المنصور ساعةً ثم رفع رأسه وقال للرجل: إن بني أمية ظلموا المسلمين في هذه الأموال وأنا وكيلهم في حقهم فأريد أن آخذ هذه الودائع وأردها إلى بيت المال. فقال الرجل: يا أمير المؤمنين يلزم في ذلك إقامة البينة العادلة على أن الذي في يدي هو لبني أمية ولنهم قد خانوا به واغتصبوه ظلماً من أموال المسلمين. فإن بني أمية كان لهم أموال غير أموال المسلمين. فعاد المنصور وأطرق إلى الأرض ساعةً ثم رفع رأسه والتفت إلي وقال لي: يا ربيع ما وجب على الرجل عند ناشئٌ. ثم إن المنصور ألتفت إلى الرجل وبشر به(2/195)
مبتسماً في وجهه وقال له: هل لك من حاجةٍ فأقضيها لك. فقال: نعم يا أمير المؤمنين حاجتي أن تنفذ كتابي على البريد إلى أهلي في الشام ليسكنوا إلى سلامتي فقد راعهم إشخاصي من عندهم. ثم أسألك حاجةً أخرى يا أمير المؤمنين. فقال له: وما هي. فقال: أريد من كرم أمير المؤمنين أن يجمع بيني وبين من سعى بي إليه فو الله ما عندي لبني أمية شيءٌ. ولا في يدي مالٌ ولا وديعةٌ ولا في معرفتي أن لهم عند أحدٍ شيئاً. ولكني لما مثلت بين يديك وسألتني رأيت ما قلته أقرب إلى الخلاص والنجاة. فألتفت أمير المؤمنين المنصور إلي وقال لي: يا ربيع اجمع بينه وبين من سعى به. قال الربيع: فأخذت الرجل وجمعته بالذي سعى به. فحين رآه الرجل قال: هذا غلامي ضرب على ثلاثة آلاف دينار من مالي وأبق بها مني. فلما سمع المنصور ذلك هدده وشدد عليه وأمر بتعذيبه. فأقر عند ذلك الغلام بصدق كلام الرجل وأنه غلامه. وأنه أخذ المال الذي ذكره مولاه وأبق به. وسعى بمولاه ليجري عليه أمر الله ويسلم هو من الوقوع في يده. فالتفت المنصور إلى الرجل وقال: نسألك الصفح عنه. فقال الرجل: يا أمير المؤمنين صفحت عن جرمه وأبرأت ذمته من المال وأعطيته ثلاثة آلاف دينار أخرى. فقال المنصور: ما على ما فعلت من الكرم مزيدٌ. فقال: بلى يا أمير المؤمنين هو كلامك لي وعفوك عني. ثم استأذن(2/196)
وانصرف. وكان المنصور بعد ذلك يذكره يتعجب ويقول لي: ما رأيت قط مثل هذا الرجل يا ربيع. (للاتليدي)
غيلان بن سلمة عند كسرى
332 خرج أبو سفيان في جماعةٍ من قريش يريدون العراق بتجارةٍ. فلما ساروا ثلاثاً جمعهم أبو سفيان فقال لهم: إنا من مسيرنا هذا لعلى خطر ما. قدومنا على ملكٍ جبار لم يأذن لنا في القدوم عليه وليست بلاده لنا بمتجرٍ. ولكن أيكم يذهب بالعير فإن أصيب فنحن براء من دمه وإن غنم فله نصف الربح. فقال غيلان بن سلمة: دعوني إذاً فأنا لها ... فلما قدم بلاد كسرى تخلق ولبس ثوبين أصفرين. وشهر أمره وجلس بباب كسرى حتى أذن له فدخل عليه وبينهما شباك من ذهب. فخرج إليه الترجمان وقال له: يقول لك الملك: ما أدخلك بلادي بغير إذني. فقال: قل له: لست من أهل عداوة لك ولا أتيتك جاسوساً لضدٍ من أضدادك. وإنما جئت بتجارة تستمتع بها. فإن أردتها فهي لك. وإن لم تردها وأذنت في بيعها لرعيتك بعتها. وإن لم تأذن في ذلك رددتها. (قال) فجعل يتكلم فإذا سمع صوت كسرى سجد. فقال له الترجمان: يقول لك الملك: لم سجدت. فقال: سمعت صوتاً عالياً حيث لا ينبغي لأحدٍ أن يعلو صوته إجلالاً للملك فعلمت أنه لم يقدم على رفع الصوت هناك غير الملك فسجدت إعظاماً له. (قال) فاستحسن كسرى ما فعل وأمر له بمرفقةٍ(2/197)
توضع تحته. فلما أتى بها رأى عليها صورة الملك فوضعها على رأسه فأستجهله كسرى وأستحمقه. وقال للترجمان: قل له: إنما بعثنا بهذه لتجلس عليها. قال: قد علمت ولكني لما أتيت بها رأيت عليها صورة الملك فلم يكن حق صورته على مثلي أن يجلس عليها. ولكن كان حقها التعظيم فوضعتها على رأسي لأنه أشرف أعضائي وأكرمها علي. فأستحسن فعله جداً. ثم قال له: ألك ولدٌ. قال: نعم. قال: فأيهم أحب إليك. قال: الصغير حتى يكبر. والمريض حتى يبرأ. والغائب حتى يؤوب. فقال كسرى: زه. ما أدخلك علي ودلك على هذا القول والفعل إلا حظك. فهذا فعل الحكماء وكلامهم وأنت من قوم جفاةٍ لا حكمة فيهم. فما غذاؤك. قال: خبز البر. قال: هذا العقل من البر لا من اللبن والتمر. ثم اشترى منه التجارة بأضعاف ثمنها وكساه وبعث معه من الفرس من بني له أطماً بالطائف فكان أول أطمٍ بني بها. (للأصبهاني)
المأمون وراثي البرامكة
333 قال خادم المأمون: طلبني أمير المؤمنين ليلةً وقد مضى من الليل ثلثه. فقال لي: خذ معك فلاناً وفلاناً وسماها لي أحدهما علي ابن محمد والآخر دينار الخادم. واذهب مسرعاً لما أقول لك. فإنه بلغني أن شيخاً يحضر ليلاً إلى آثار دور البرامكة وينشد شعراً ويذكرهم ذكراً كثيراً ويندبهم ويبكي عليهم ثم ينصرف. فأمض أنت وعلى(2/198)
ودينارٌ حتى تردوا تلك الخرابات فاستتروا خلف بعض الجدر. فإذا رأيتم الشيخ قد جاء وبكى وندب وأنشد أبياتاً فأتوني به. (قال) فأخذتهما ومضينا حتى أتينا الخرابات فإذا نحن بغلام قد أتى ومعه بساطٌ وكرسيُ جديدٌ. وإذا شيخٌ قد جاء وله جمالٌ وعليه مهابةٌ ولطفٌ فجلس على الكرسي وجعل يبكي وينتحب ويقول هذه الأبيات:
ولما رأيت السيف جندل جعفراً ... ونادى منادٍ للخليفة في يحيى
بكيت على الدنيا وزاد تأسفي ... عليهم وقلت الآن لا تنفع الدنيا
مع أبياتٍ أطالها. فلما فرغ قبضنا عليه وقلنا له: أحب أمير المؤمنين ففرع فزعاً شديداً وقال: دعوني حتى أوصي بوصية فإني لا أوقن بعدها بحياةٍ. ثم تقدم إلى بعض الدكاكين فأستفتح وأخذ ورقةً وكتب فيها وصية وسلمها إلى غلامه. ثم سرنا به فلما مثل بين يدي أمير المؤمنين فقال حين رآه: من أنت وبم استوجب منك البرامكة ما تفعله في خرائب دورهم. قال الشيخ: يا أمير المؤمنين إن للبرامكة أيادي خطيرة عندي أفتأذن لي أن أحدثك بحالي معهم. قال: قل. فقال: يا أمير المؤمنين أنا المنذر بن المغيرة من أولاد الملوك. وقد زالت عني نعمتي كما تزول عن الرجال. فلما ركبني الدين واحتجت إلى بيع مسقط رأسي ورؤوس أهلي وبيتي الذي ولدت فيه أشاروا علي بالخروج إلى البرامكة فخرجت من(2/199)
دمشق ومعي نيفٌ وثلاثون رجلاً من أهلي وولدي وليس معنا ما يباع ولا ما يوهب. حتى دخلنا بغداد ونزلنا في بعض المساجد. فدعوت ببعض ثيابٍ كنت أعددتها لأستر بها فلبستها وخرجت. وتركتهم جياعاً لا شيء عندهم. ودخلت شوارع بغداد سائلاً عن البرامكة. فإذا أنا بمسجدٍ مزخرف وفي جانبه شيخٌ بأحسن زيٍ وزينهٍ. وعلى الباب خادمان وفي الجامع جماعةٌ جلوسٌ. فطمعت في القوم ودخلت المسجد وجلست بين أيديهم. وأنا أقدم رجلاً وأؤخر أخرى. والعرق يسيل مني لأنها لم تكن صناعتي. وإذا الخادم قد أقبل ودعا القوم فقاموا وأنا معهم. فدخلوا دار يحيى بن خالدٍ فدخلت معهم وإذا بيحيى جالس على دكةٍ له وسط بستانٍ. فسلمنا وهو يعدنا مائةً وواحداً. وبين يديه عشرةٌ من ولده. وإذا بمائةٍ واثنا عشر خادماً قد أقبلوا ومع كل خادم صينيةٌ من فضةٍ على كل صينيةٍ ألف دينار. فوضعوا بين يدي كل رجلٍ منا صينيةً. فرأت القاضي والمشايخ يصبون الدنانير في أكمامهم ويجعلون الصواني تحت آباطهم ويقول الأول فالأول حتى بقيت وحدي لا أجسر على أخذ الصينية. فغمزني الخادم فجسرت وأخذتها وجعلت الذهب في كمي والصينية في يدي. وقمت وجعلت أتلفت إلى وراءي مخافة أن أمنع من الذهاب. فوصلت وأنا كذلك إلى صحن الدار ويحيى يلاحظني. فقال للخادم: ائتني بهذا الرجل.(2/200)
فأتى بي. فقال: مالي أراك تتلفت يميناً وشمالاً. فقصصت عليه قصتي فقال للخادم: ائتني بولدي موسى. فأتاه به. فقال له: يا بني هذا رجلٌ غريب فخذه إليك واحفظه بنفسك ونعمتك. فقبض موسى ولده على يدي وأدخلني إلى دار من دوره. فأكرمني غاية الإكرام وأقمت عنده يومي وليلتي في ألذ عيشٍ وأتم سرورٍ. فلما أصبح دعا بأخيه العباس وقال له: الوزير أمرني بالعطف على هذا الفتى وقد علمت اشتغالي في بيت أمير المؤمنين. فأقبضه إليك وأكرمه. ففعل ذلك وأكرمني غاية الإكرام. ثم لما كان من الغد تسلمني أخوه أحمد. ثم لم أزل في أيدي القوم يتداولونني على مدة عشرة أيام لا أعرف خبر عيالي وصبياني أفي الأموات هم أم في الأحياء. فلما كان اليوم الحادي عشر جاءني خادمٌ ومعه جماعةٌ من الخدم. فقالوا: قم فأخرج إلى عيالك بسلام. فقلت: وا ويلاه سلبت الدنانير والصينية وأخرج على هذه الحالة. إنّا لله وإنّا إليه راجعون. فرفع الستر الأول ثم الثاني ثم الثالث ثم الرابع. فلما رفع الخادم الستر الأخير. قال لي: مهما كان لك من الحوائج فأرفعها إلي. فإني مأمورٌ بقضاء جميع ما تأمرني به. فلما رفع الستر الأخير رأيت حجرةً كالشمس حسناً ونوراً. استقبلني منها رائحة الند والعود ونفحات المسك. وإذا بصبياني وعيالي يتقلبون في الحرير والديباج وحمل إلي ألف ألف درهمٍ وعشرة آلاف دينارٍ. ومنشوراً بضيعتين(2/201)
وتلك الصينية التي كنت أخذتها بما فيها من الدنانير والبنادق. وأقمت يا أمير المؤمنين مع البرامكة في دورهم ثلاث عشرة سنةً لا يعلم الناس أمن البرامكة أنا أم رجلٌ غريبٌ. فلما جاءتهم البلية ونزل بهم يا أمير المؤمنين من الرشيد ما نزل أجحفني عمرو بن مسعدة وألزمني في هاتين الضيعتين من الخراج مالا يفي دخلهما به. فلما تحامل على الدهر كنت في آخر الليل أقصد خرابات دورهم فأندبهم وأذكر حسن صنعهم إلي وأبكي على إحسانهم. فقال المأمون: علي بعمرو بن مسعدة. فلما أتى به قال له: تعرف هذا الرجل. قال: يا أمير المؤمنين هو بعض صنائع البرامكة. قال: كم ألزمته في ضيعتيه. قال: كذا وكذا. فقال له: رد إليه كل ما أخذته منه في مدته وأفرغهما له ليكونا له ولعقبه من بعده. (قال)
فعلا نحيب الرجل. فلما رأى المأمون كثرة بكائه قال له: يا هذا قد أحسنا إليك فما يبكيك. قال: يا أمير المؤمنين وهذا أيضاً من صنيع البرامكة. لو لم آت خراباتهم فأبكيهم وأندبهم حتى أتصل خبري إلى أمير المؤمنين ففعل بي ما فعل من أين كنت أصل إلى أمير المؤمنين. قال إبراهيم بن ميمون: فرأيت المأمون وقد دمعت عيناه وظهر عليه حزنه وقال: لعمري هذا من صنائع البرامكة فعليهم فابك وإياهم فاشكر ولهم فأوف ولإحسانهم فاذكر. (للاتليدي)(2/202)
الباب العاشر
في الفكاهات
334 قرع قوم على الجاحظ الباب فخرج صبي له. فسألوه ما يصنع. فقال: هو يكذب على الله. قيل: كيف. قال: نظر في المرآة فقال: الحمد لله الذي خلقني فأحسن صورتي. (لكمال الدين الحلبي) 335 تحاكم إلى أبي يوسف القاضي الرشيد وزبيدة في الفالوذج واللوذنيج أيهما أطيب. فقال: أنا لا أحكم على الغائب. فأمر باتخاذهما وتقديمها إليه. فجعل يأكل من هذا مرةً ومن ذاك أخرى حتى نصف الجام. ثم قال: يا أمير المؤمنين ما رأيت أعدل منهما كلما أردت أن أسجل لأحدهما أدلى الآخر بحجته. (للابشيهي)
العائد والمريض
336 مرض صديقٌ لحامد بن العباس فأراد أن ينفذ إليه ابنه يعوده. فأوصاه وقال: إذا دخلت فاجلس في أربع الموضع وقل للمريض: ما تشكو. فإذا قال: كذا وكذا فقيل: سليمٌ إن شاء الله. وقل له: ما يجيئك من الأطباء. فإذا قال: فلانٌ. فقل: مباركٌ ميمونٌ. وقل له: ما غذاؤك. فإذا قال: كذا وكذا. فقل طعامٌ محمودٌ. فذهب الابن فدخل على العليل. وكانت بين يديه منارةٌ فجلس عليها لارتفاعها. فسقطت على صدر العليل فأوجعته. ثم جلس فقال(2/203)
للعليل: ما تشكو. فقال بضجرة: أشكو علة الموت. فقال: سليمٌ إن شاء الله. قال: فمن يجيئك من الأطباء. قال: ملك الموت. قال: مباركٌ ميمونٌ. قال: فما غذاؤك. فقال: سم الموت. قال طعامٌ طيبٌ محمودٌ. (لكمال الدين الحلبي)
الطبخ المفضل
337 من ظريف ما اتفق لأبي الرقعمق قال: كان لي إخوانٌ أربعةٌ وكنت أناديهم في أيام الأستاذ كافور. فأتى إلي رسولهم في يوم باردٍ وليست لي كسوةٌ تحصنني من البرد. فقال الرسول: إخوانك يقرأون عليك السلام ويقولون لك: اصطبحنا اليوم وذبحنا شاةً سمينةً فاشته ما نطبخه لك وأتنا عاجلاً. فكتبت إليهم:
إخواننا قصدوا الصبوح بسحرة ... فأتى رسولهم إلي خصيصا
قالوا اقترح شيئاً نجد لك طبخه ... قلت اطبخوا لي جبةً وقميصا.
فذهب الرسول إليهم بالرقعة. فما شعرت حتى عاد ومعه أربع خلعٍ وأربع صررٍ في كل صرةٍ عشرة دنانير فلبست إحداها وسرت إليهم.
338 وحكى أنه أتى برجل مدني سكران إلى بعض الولاة فأمر بإقامة الحد عليه. وكان الرجل طويلاً والجلاد قصيراً فلم يتمكن من ضربه. فقال الجلاد تقاصر لينالك الضرب. فقال له: ويلك إلى أكل الفالوذج تدعوني. ولقد وددت لو أني أطول من(2/204)
عوج ابن عنق وأنت أقصر من يأجوج ومأجوج. (للنواجي)
الأعرابي وجرو الذئب
339 حكي أن أعرابياً أخذ جرو ذئبٍ فرباه بلبن شاة فقال: إذا ربيته مع الشاة يأنس بها فيذب عنها ويكون أشد من الكلب. فلا يعرف طبع أجناسه. فلما قوي وثب على شاته فافترسها. فقال الأعرابي:
بقرت شويهتي وفجعت قلبي ... وأنت لشاتنا ولد ربيب
غذيت بدرها وربيت فينا ... فمن أنباك أن أباك ذيب
عدل غريب
340 جاءت امرأةٌ إلى قاض فقالت: مات زوجي وترك أبويه وولداً وامرأةً وأهلاً وله مالٌ. فقال لأبويه الثكل. ولولده اليتم. ولامرأته الخلف. ولأهله القلة والذلة. والمال يحمل إلينا حتى لا يقع فيه بينكم خصومةٌ. (للثعالبي)
أبو دلامة وابن سليمان في الصيد
341 روي أن أبا دلامة كان منحرفاً على علي بن سليمان فاتفق أن خرج المهدي إلى الصيد ومعه علي وأبو دلامة. فرمى المهدي ظبياً عن له فأنفذ مقاتله. ورمى علي بن سليمان فاصطاد كلباً من كلاب الصيد فارتجل أبو دلامة:
قد رمى المهدي ظبياً ... شك بالسهم فؤاده(2/205)
وعلي بن سليما ... ن رمى كلباً فصاده
فهنيئاً لهما ك ... ل فتى يأكل زاده
فضحك المهدي حتى كاد يسقط (بدائع البدائة للازدي)
342 يحكى أن أعرابياً استضاف حاتماً فلم ينزله. فبات جائعاً مقروراً. فلما كان في السحر ركب راحلته وانصرف. فتقدمه حاتمٌ. فلما خرج من بين البيوت لقيه متنكراً فقال له: من كان أبا مثواك البارحة. قال: حاتمٌ. قال: فكيف كان مبيتك عنده. قال: خير مبيتٍ. نحر لي ناقةً فأطعمني لحماً عبيطاً وأسقاني الخمر. وعلف راحلتي وسرت من عندهٍ بخير حالٍ. فقال له: أنا حاتمٌ. وإنك لا تبرح حتى ترى ما وصفت فرده. وقال له: ما حملك على الكذب. فقال له الأعرابي: إن الناس كلهم يثنون عليك بالجود. ولو ذكرت شراً كنت أكذب. فرجعت مضطر إلى قولهم إبقاء على نفسي لا عليك. (للشريشي)
الفتى والحمار
343 قيل مضى فتىً في طريق على حمارٍ له حتى أمسى فنزل في منزلٍ بالطريق. وإذا برجل قد أقبل على مهرٍ فاستقبله الفتى وحياه فأنس به. وجلساً يتحادثان برهةً فاستلطفه الرجل. ثم دعا بطعام فحضر. ودعا بعلفٍ لمهرة فقدم إليه. وجلس يأكل والفتى. ولم يكن معه نفقةٌ لعلف حماره فنظر إلى الرجل وقال:(2/206)
يا سيدي نظمي يعاب بنثركا ... فلذاك شعري لا يقاس بشعركا
أوليتني فضلاً وإني عاجزٌ ... ما طال عمري أن أقوم بشكركا
أنا في ضيافتك العشية كلها ... فاجعل حماري في ضيافة مهركا
فضحك الرجل. وقال: ما هي إلا غفلةٌ مني. ودعا بعلفٍ للحمار كعلف المهر فقدم إليه. (لابن خلكان) 344 قيل لرجل جبانٍ في بعض الوقائع: تقدم. فأنشأ يقول:
وقالوا تقدم قلت لست بفاعلٍ ... أخاف على فخارتي أن تحطما
فلو كان لي رأسان أتلفت واحداً ... ولكنه رأسٌ إذا راح أعقما
ولو كان مبتاعاً لدى السوق مثله ... فعلت ولم أحقل بأن أتقدما
فأوتم أولاداً وأرمل نسوةً ... فكيف على هذا ترون التقدما
أبو دلامة في بيت الدجاج
345 كان المهدي قد كسا أبا دلامة ساجاً فأخذ به وهو سكران. فأتى به إلى المهدي فأمر بتمزيق الساج عليه وأن يحبس في بيت الدجاج. فلما كان في بعض الليل وصحا أبو دلامة من سكره ورأى نفسه بين الدجاج صاح: يا صاحب البيت. فاستجاب له السجان وقال: ما لك يا عدو الله. قال: ويلك من أدخلني مع الدجاج. قال: أعمالك الخبيثة. أتي بك أمير المؤمنين وأنت سكران. فأمر بتمزيق ساجك وحبسك مع الدجاج. قال له: ويلك ارقب لي سراجاً وجني بدواةٍ وورقٍ. فكتب أبو دلامة إلى المهدي:(2/207)
أمير المؤمنين فدتك نفسي ... علام حبستني وخرقت ساجي
أقاد إلى السجون بغير ذنبٍ ... كأني بعض عمال الخراج
ولو معهم حبست لهان ذاكم ... ولكني حبست مع الدجاج
دجاجاتٌ يطيف بهن ديكٌ ... ينادي بالصياح إذا يناجي
وقد كانت تخبرني دنوبي ... بأني من عذابك غير ناجي
على أني وإن لاقيت شراً ... لخيرك بعد ذاك الشر راجي
ثم قال أوصلها إلى أمير المؤمنين فأوصلها إليه السجان. فلما قرأها أمر بإطلاقه وأدخله عليه فقال له: أين بت الليلة أبا دلامة. قال: في بيت الدجاج يا أمير المؤمنين. قال: فما كنت تصنع. قال: كنت أقوقي معهن حتى أصبحت. فضحك المهدي وأمر له بصلةٍ جزيلةٍ وخلع عليه كسوةً شريفةً.
في أي الاثنين أغلب على الرجل الأدب أو الطبع
346 قيل إن ملكا من ملوك فارس كان له وزيرٌ حازمٌ مجربٌ فكان يصدر عن رأيه ويتعرف اليمن في مشورته. ثم إنه هلك ذلك الملك وقام بعده ولده فأعجب بنفسه مستبداً برأيه ومشورته. فقيل له: إن أباك كان لا يقطع أمراً دونه. فقال: كان يغلط فيه وسأمتحنه بنفس. فأرسل إليه فقال له: أيهما أغلب على الرجل الأدب أو الطبيعة. فقال له الوزير: الطبيعة أغلب لأنها أصلٌ والأدب فرعٌ. وكل فرعٍ يرجع إلى أصله. فدعا بسفرته فلما وضعت أقبلت سنانير(2/208)
بأيديهما الشمع فوقفت حول السفرة فقال للوزير: اعتبر خطأ وضعت مذهبك متى كان أبو هذه السنانير شماعاً. فسكت عنه الوزير وقال: أمهلني في الجواب إلى الليلة المقبلة. فقال: ذلك لك. فخرج الوزير فدعا بغلام له فقال: التمس لي فأراً واربطه في خيطٍ وجني به. فأتاه به الغلام فعقده في سبنيته وطرحه في كمه. ثم راح من الغد إلى الملك فلما حضرت سفرته أقبلت السنانير بالشمع حتى حفت بها فحل الوزير الفأر من سبنيته ثم ألقاه إليها. فاستبقت السنانير إليه ورمت بالشمع حتى كاد البيت يضطرم ناراً. فقال الوزير: كيف رأيت غلبة الطبع على الأدب ورجوع الفرع إلى أصله. قال: صدقت. ورجع إلى ما كان أبوه عليه معه. فإنما مدار كل شيءٍ على طبعه والتكلف مذمومٌ من كل وجهٍ. (لابن عبد ربه)
المستخبر عن وفاة أبيه
347 بينا قومٌ جلوس عند رجلٍ من أهل المدينة يأكلون عنده حيتاناً. إذا استأذن عليهم أشعب. فقال أحدهم إن من شأن أشعب البسط إلى أجل الطعام. فاجعلوا كبار هذه الحيتان في قصعةٍ بناحيةٍ ويأكل معنا الصغر. ففعلوا وأذن له. فقالوا له كيف رأيك في الحيتان. فقال إن لي عليها لحرداً شديداً وحنقاً لأن أبي مات في البحر وأكلته الحيتان. قالوا له فدونك خذ بثأر أبيك. فجلس ومديده إلى حوتٍ منها صغيرٍ. ثم وضعه عند أذنه وقد نظر إلى(2/209)
القصعة التي فيها الحيتان في زاوية المجلس فقال أتدرون ما يقول لي هذا الحوت. قالوا لا. قال إن يقول إنه لم يحضر موت أبي ولا أدركه لأن سنه يصغر عن ذلك. ولكن قال لي عليك بتلك الكبار التي في زاوية البيت فهي أدركت أباك وأكلته.
المحب الإيجاز
348 اصطحب نحويٌ ورجلٌ في سفرٍ. فمرض النحوي. وأراد الرجل أن يرجع إلى بلده. فأراد النحوي أن يحمله رسالةً إلى أهله فقال له: قل لأهلي: لقد أصابه صدعٌ في رأسه. وبلى بوجع أضراسه. ووقعت الخمدة في أنفاسه. وقد فترت يداه. وتورمت رجلاه. وشخصت عيناه. وانحلت ركبتاه. وأصابه وجع في ظهره. وضربانٌ في صدره. وهزالٌ في طحاله. وتقطعٌ في أوصاله. وخفقان في قلبه. وألم في صلبه وماءٌ في عينيه. وريحٌ في ساقيه. وارتخاءٌ في حنكه. ونبضانٌ في صدغيه. وسكونٌ في نبضه من تواتر غشيانه وسكتةٌ في لسانه. فقال الرجل: يا سيدي الشيخ أنا أكره أن أطيل الكلام ولكن أقول لهم: مات والسلام.
البقرة الغارقة
349 حكى في الإحياء أن شخصاً كان له بقرةٌ وكان يشوب لبنها بالماء ويبيعه. فجاء السيل في بعض الأودية وهي واقفةٌ ترى فمر عليها فعرقها. فجلس صاحبها ليندبها. فقال له بعض بنيه: يا أبت لا(2/210)
تندبها فإن المياه التي كنا نخلطها بلبنها اجتمعت فغرقتها. (للابشيهي)
السائل والبخيل
350 قيل إن سائلاً أتى إلى باب رجل من أغنياء أصفهان فسأل شيئاً لله. فسمعه الرجل فقال لعبده: يا مبارك قل لعنبر: يقول لجوهرٍ وجوهرٌ يقول لياقوتٍ وياقوتٌ يقول لألماس وألماس يقول لفيروز وفيروزٌ يقول لمرجان ومرجان يقول لهذا السائل: يفتح الله عليك. فسمعه السائل فرفع يديه إلى السماء وقال: يا رب قل لجبرائيل يقول لميكائيل وميكائيل يقول لدردائيل ودردائيل يقول لكيكائيل وكيكائيل يقول لإسرافيل وإسرافيل يقول لعزرائيل أن يزور هذا البخيل. فخجل التاجر ومضى السائل الحال سبيله. (لليمني) 351 قال بعض الشعراء يصف بخيلاً
لا يخرج الزئبق من كفه ... ولو ثقبناها بمسمار
يحاسب الديك على نقده ... ويطرد الهر من الدار
يكتب في كل رغيفٍ له ... يحرسك الله من الفار
352 قال عبد الله بن سالمٍ الخياط في رجل كثير الكلام:
لي صاحبٌ في حديثه البركة ... يزيد عند السكون والحكيه
لو قال لا في قيل أحرفها ... لردها بالحروف مشتبكة
353 حكى دعبلٌ قال: كنا عند سهل بن هارون يوماً فوجدناه يتضور جوعاً. ثم إنه نادى غلاماً له وقال: ويحك أين الغداء. فجاء(2/211)
بقعةٍ فيها ديكٌ مطبوخ. فتأمله ثم قال: أين الرأس. فقال الغلام: رميته. قال: إني لأكره أن يرمى برجله فكيف برأسه. ويحك أما علمت أن الرأس رئيس الأعضاء ومنه يصرخ الديك. ولولا صوته ما أريد. وفيه فرقه الذي يتبرك به. وعينه التي يضرب بها المثل. فيقال شراب كعين الديك. ودماغه مفييدٌ لوجع البطن. ولم أر عظماً أهش تحت الأسنان من عظم رأسه. وهبك ظننت أني لا آكله أما قلت عنده من يأكله. انظر في أي مكانٍ رميته فأتني به. فقال: بحياتك ما أدري أين رميته. قال: لكني أدري وأعرف. رميته في بطنط الله حسبك. نعوذ بالله من البخل وأهله. (للقيرواني)
الإصبع المقطوعة
354 قال الشيباني: بلغني أن أعرابيين ظريفين من شاطين العرب حطمتهما سنةٌ فانحدرا إلى العراق. فبينما هما يتماشيان في السوق وأسم أحدهما خندان إذا فارسٌ قد أوطأ دابته رجل خندان فقطع إصبعاً من أصابعه. فتعلقا به حتى أخذ أرش الإصبع. وكانا جائعين مقرورين. فلما صار المال بأيديهما قصد إلى بعض الكرابج فابتاعا من الطعام ما اشتهيا. فلما شبع صاحب خندان أنشأ يقول:
فلا غرثٌ ما دام في الناس كربجٌ ... وما بقيت في رجل خندان إصبع
السفط المقفل 355 أتي الحجاج بسفطٍ قد أصيب في بعض خزائن كسرى مقفلٍ:(2/212)
فأمر بالقفل فكسر فإذا فيه سقط آخر مقفل. فقال الحجاج: من يشتري مني هذا السفط بما فيه فتزايد فيه أصحابه حتى بلغ خمسة آلاف دينارٍ. فأخذه الحجاج ونظر فيه فقال: ما عسى أن يكون فيه إلا حماقةً من حماقات العجم. ثم أنفذ البيع وعزم على المشتري أن يفتحه ويريد ما فيه. ففتحه بين يديه فإذا فيه رقعةٌ مكتوب فيها: من أراد أن تطول لحيته فليمشطها من أسفل. (لابن عبد ربه) 356 دخل بشارٌ الضرير على المهدي وعنده خاله يزيد بن منصورٍ الحميري فأنشده قصيدةً يمدحه بها. فلما أتمها قال له يزيد: ما صناعتك أيها الشيخ. فقال له: أثقب اللؤلؤ. فقال له المهدي: أتهزأ بخالي. فقال: يا أمير المؤمنين ما يكون جوابي له وهو يراني شيخاً أعمى أنشد شعراً. فضحك المهدي وأجازه.
357 كان أبو الشمقمق الشاعر الظريف المشهور قد لزم بيته لأطمارٍ رثةٍ كان يستحي أن يخرج بها إلى الناس. فقال له بعض إخوانه يسليه عما رأى من سوء حاله: أبشر يا أبا الشمقمق فقد روي أن العارين في الدنيا هم الكاسون يوم القيامة. فقال له: إن كان ذلك حقاً فإني لأكونن بزازاً يوم القيامة (لبهاء الدين) 358 قال ابن سكرة الهاشمي في صاحب يعرف بابن البرغوث:
بليت ولا أقول بمن لأني ... متى ما قلت من هو يصحبوه
خليلٌ قد نفى عني رقادي ... فإن أغمضت أيقظني أبوه(2/213)
الحمار المحبوس
359 كان على المدينة طائف يقال له صفوان. فجاء الحزين الديلي إلى شيخ من أهل المدينة فاستعاره حماره وذهب إلى العقيق فشرب. وأقبل على الحمار وقد سكر. فجاء الحمار حتى وقف به على باب المسجد كما كان صاحبه عوده إياه. فمر به صفوان فأخذه فحبسه وحبس الحمار فأصبح الحمار محبوساً معه فأنشأ يقول:
أيا أهل المدينة خبروني ... بأي جريرةٍ حبس الحمار
فما للعير من جرم إليكم ... وما بالعير إن ظلم انتصار
فردوا الحمار على صاحبه وضربوا الحزين الحد. (الأغاني)
البرهان القاطع
360 ادعى رجلٌ في أيام المأمون أنه إبراهيم الخليل. فقال له المأمون: إن معجزة الخليل الإلقاء في النار. فنحن نلقيك فيها لنرى حالك. قال: أريد واحدةً أخف من هذه. قال: فبرهان موسى إذا ألقى العصا فصارت ثعباناً. قال: هذه أصعب علي من الأولى. قال: فبرهان عيسى وهو إحياء الموتى. قال: مكانك وصلت. أنا أضرب رقبة القاضي يحيى بن أكثم وأحييه لكم في هذه الساعة. فقال يحيى: أنا أول من آمن بك وصدق. فضحك المأمون وأعطاه جائزة.
المتظلم من خصمه
361 بينما عبد الله بن جعفر راكب إذ تعرض له رجل في الطريق(2/214)
فمسك بعنان فرسه وقال: سألتك بالله أيها الأمير أن تضرب عنقي. فبهت فيه عبد الله وقال: أمعتوهٌ أنت. قال: لا ورأس الأمير. قال: فما الخبر. قال: لي خصم ألد قد لزمني وألح وضيق علي وليس لي به طاقةٌ. قال: ومن خصمك. قال: الفقر. فالتفت عبد الله لفتاه وقال: أدفع له ألف دينار. ثم قال له: يا أخا العرب خذها ونحن سائرون. ولكن إذا عاد إليك خصمك متغشماً فأتنا متظلماً. فإنا منصفوك منه إن شاء الله. فقال الأعرابي: إن معي من جودك ما أدحض به حجة خصمي بقية عمري. ثم أخذ المال وأنصرف.
سليمان بن عبد الملك والأعرابي
362 ذكر أن سليمان بن عبد الملك خرج ذات يوم إلى الصيد وكان كثير التطير. فبينا هو في بعض الطريق إذ لقيه رجلٌ أعور. فقال: أو ثقوه. فأوثقوه ومروا به على بئر خرابٍ قد تهجم. فقال سليمان: ألقوه في هذه البئر فإن صدنا في يومنا هذا أطلقناه وإلا قتلناه لتعرضه لنا مع علمه بتطيرنا. فألقوه في تلك البئر فما رأى سليمان في عمره صيداً أكثر من ذلك اليوم. فلما رجعوا ومروا على الرجلٍ أمر بإخراجه. فلما وقف بين يديه قال: يا شيخ ما رأيت أسر وأبر من طلعتك. قال الشيخ: صدقت ولكني أنا ما رأيت أشأم من طلعتك علي. فضحك سليمان وأحسن إليه وأمر بإطلاقه.
363 اعترض بعض الأعراب المأمون فقال: يا أمير المؤمنين(2/215)
أنا رجلٌ من الأعراب. قال: لا عجب. قال: إني أريد الحج. قال: الطريق واسعةٌ. قال: ليس معي نفقةٌ. قال: قد سقط عنك الحج. قال: أيها الأمير جئتك مستجدياً لا مستفتياً. فضحك المأمون وأمر له بجائزة. (لليمني) 364 كان العماد بن جبريل المعروف بابن أخي العلم صاحب ديوان بيت المال بمصر. وكان قد وقع فانكسرت يده. فقال فيه ابن المسلم العراقي:
إن العماد بن جبريل أخي علمٍ ... له يدٌ أصبحت مذمومة الأثر
تأخر القطع عنها وهي سارقةٌ ... فجاءها الكسر يستقصي عن الخبر
365 دخل العبسي على بعض الرؤساء فمنعه البواب فقال:
حمدت بوابك إذ ردني ... وذمه غيري على رده
لأنه قلدني نعمةً ... تستوجب الإغراق في حمده
أراحني من قبح ملقاك لي ... وكبرك الزائد في حده
366 كتب سبط بن التعاويذي قصيدةً وسيرها إلى مجاهد الدين الزيني فأجازه جائزة سنيةً. وسير معها بغلةً فوصلت إليه وقد هزلت من تعب الطريق فكتب إليه:
مجاهد الدين دمت ذخراً ... لكل ذي فاقة وكنزا
بعثت لي بغلة ولكن ... قد مسخت في الطريق عنزا
367 ذكر بعض أصحاب الجزولي اليزدكنتي أنه حضر عنده(2/216)
ليقرأ عليه قراءة أبي عمرو. فقال بعض الحاضرين: أتريد أن تقرأ على الشيخ النحو. قال: فقلت: لا. فسألني آخر كذلك: فقلت: لا. فأنشد الشيخ وقال: قل لهم:
لست للنحو جئتكم ... لا ولا فيه أرغب
خل زيداً لشأنه ... أينما شاء يذهب
أنا ما لي ولامرئٍ ... أبد الدهر يضرب
الباهلي والأعرابي
368 كانت العرب تسنكف الانتساب إلى قبيلة باهلة وتضرب بها المثل في الحمق والجهل. ويحكى أن أعرابياً لقي شخصاً في الطريق فسأله: من أنت. فقال: من باهلة. فرثى له الأعرابي. فقال ذلك الشخص: وأزيدك أني لست من صميمهم ولكن من مواليهم. فأقبل الأعرابي عليه يقبل يديه ورجليه. فقال له: ولم هذا. فقال: لأن الله تبارك وتعالى ما ابتلاك بهذه الرزية في الدنيا إلا ويعوضك الجنة في الآخرة. (لابن خلكان)
أبان بن عثمان والأعرابي
369 حدثنا ابن زبنجٍ قال: كان أبان بن عثمان من أهزل الناس وأعبثهم. فبينا نحن ذات يوم عنده وعنده أشعب إذا أقبل أعرابيٌ ومعه جمل له. والأعرابي أشقر أزرق أزعر غضوب يتلظى كأنه أفعى ويتبين الشر في وجهه. ما يدنو منه أحدٌ إلا شتمه ونهره. فقال(2/217)
فكاد يدخل بعضه في بعضٍ غيظاً. ولم يقدر على الكلام. ثم قال: هات قلنسوتي فأخرج قلنسوةً طويلةً خلقةً قد علاها الوسخ والدهن وتخرقت تساوي نصف درهمٍ. فقال: قوم. قال: قلنسوة الأمير تعلو هامته ويصلي فيها الصلوات الخمس ويجلس للحكم ثلاثون ديناراً. قال: أثبت. فأثبت ذلك ووضعت القلنسوة بين يدي الأعرابي. فتربد وجهه وجحظت عيناه وهم بالوثوب ثم تماسك وهو متقلقلٌ. ثم قال لأشعب: هات ما عندك. فأخرج خفين خلقين قد نقبا وتقشرا وتفتقا. فقال: قوم. قال: خفا الأمير يطأ بهما الروضة ويعلو بهما المنبر أربعون ديناراً. فقال: ضعهما بين يديه. فوضعهما ثم قال للأعرابي: اضمم إليك متاعك وقال لبعض الأعوانٍ: اذهب فخذ الجمل. وقال لآخر: امض مع الأعرابي فاقبض منه ما بقي لنا عليه من ثمن المتاع وهو عشرون ديناراً. فوثب الأعرابي فأخذ القماش فضرب به وجوه القوم لا يألو في شدة الرمي به. ثم قال للأمير: أتدري أصلحك الله من أي شيءٍ أموت. قال: لا. قال: لم أدرك أباك عثمان فأشترك والله في دمه إذ ولد مثلك. ثم نهض مثل المجنون حتى أخذ برأس بعيره. وضحك أبانٌ حتى سقط وضحك كل من كان معه. وكان الأعرابي بعد ذلك إذا لقي أشعب يقول له: يا ابن الخبيثة حتى أكافئك على تقويمك المتاع يوم قوم. فيهرب أشعب منه. (الأغاني)(2/219)
الباب الحادي عشر
في النوادر
370 أمسك على النابغة الجعدي الشعر أربعين يوماً فلم ينطق. ثم إن بني جعدة غزوا قوماً فظفروا فلما سمع فرح وطرب فاستحثه الشعر فذل له ما استصعب عليه. فقال له قومه: بحياتك لنحن بإطلاق لسان شاعرنا أسر من الظفر بعدونا. (لبهاء الدين)
وضع الشطرنج
371 لما افتخر ملوك فارس على ملوك الهند بوضع الملك نردشير لنفسه النرد وضع صصّه الحكيم الشطرنج وعرضها على الملك وأظهر خفي أمرها ومكنون سرها. فقال له: اقترح ما تشتهي. قال: أن تضع حبة من البر في البيت الأول ولا تزال تضاعفها حتى تنتهي إلى آخر البيوت فمهما بلغ تعطيني. فاستخف الملك عقله واحتقر ما طلب وقال له: كنت أظنك برجاحة عقلك وتوقد فكرك تطلب شيئاً نفيساً. فقال: أيها الملك إنك لما أمرتني بالتمني لم يخطر ببالي غير ذلك ولا سبيل إلى الرجوع عنه. فأمر له الملك لما سأل وتقدم بإحضار الحساب وأمرهم بحساب ذلك. فأعملوا في بلوغ قصده مطايا الأفكار. حتى لاح لهم نجم صدقه فعرفوه بعد(2/220)
الإنكار. فلم يجدوا في بلاد الدنيا ما يفي له مراده من البر ولو كانت الرمال من أمداده. (للقليوبي)
المريض والخنفساء
372 حكى القزويني أن رجلاً رأى خنفساء فقال: ماذا يريد الله تعالى من خلق هذه. أحسن شكلها أو طيب ريحها. فابتلاه الله تعالى بقرحة عجز عنها الأطباء حتى ترك علاجها. فسمع يوماً صوت طبيب من الطرقيين ينادي في الدرب. فقال: هاتوه حتى ينظر في أمري. فقالوا: وما تصنع بطرقي وقد عجز عنك حذاق الأطباء. فقال: لابد لي منه. فلما أحضروه ورأى القرحة استدعى بخنفساء. فضحك الحاضرون منه. فتذكر العليل القول الذي سبق منه. فقال: أحضروا له ما طلب فإن الرجل على بصيرة من أمره، فأحضروها له فأحرقها وذر رمادها على قرحته فبرئ بإذن الله تعالى. فقال للحاضرين: إن الله تبارك وتعالى أراد أن يعرفني أن أخس المخلوقات أعز الأدوية. (للدميري)
النعمان وسنمار
373 بنى النعمان بن امرئ القيس قصراً بظاهر الحيرة في ستين سنة أسمه الخورنق. بناه رجل من الروم يقال له سنمار. وكان يبني على وضع عجيب لم يعرف أحد أن يبني مثله. فلما فرغ من بنائه كان قصراً عجيباً لم يكن للملوك مثله. ففرح به النعمان. فقال(2/221)
له سنمار: إني لأعلم موضع آجرة لو زالت لسقط القصر كله. فقال له النعمان: هل يعرفها أحد غيرك. قال: لا. فأمر به فقذف من أعلى القصر إلى أسفله فتقطعت أوصاله. فاشتهر ذلك حتى ضرب به المثل فقال الشاعر:
جزاني جزاه الله شر جزائه ... جزاء سنمار وما كان ذا ذنب
سوى رصه البنيان ستين حجة ... يعل عليه بالقراميد والسكب
فلما رأى البنيان تم شهوقه ... وآض كمثل الطود والشامخ الصعب
وظن سنمار به كل حبوة=وفاز لديه بالمودة والقرب فقال اقذفوا بالعلج من فوق رأسه=فهذا لعمر الله من أعجب الخطب فصعد النعمان قلته ونظر إلى البحر تجاهه وإلى البر خلفه والبساتين حوله. ورأى الظبي والحوت والنخل فقال لوزيره: ما رأيت أحسن من هذا البناء قط. فقال له وزيره: له عيب عظيم. قال: وما ذلك. قال: إنه غير باق. قال النعمان: وما الشيء الذي هو باق. قال: ملك الآخرة. قال: فكيف تحصيل ذلك. قال: بترك الدنيا. قال: فهل لك أن تساعدني في طلب ذلك. قال: نعم. فترك الملك وتزهد هو ووزيره. (للقزويني)
الوزير الحاسد
374 حكي أن رجلاً من العرب دخل على المعتصم فقربه وأدناه وجعله نديمه. وكان له وزير حاسد فغار من البدوي وحسده وقال(2/222)
في نفسه: إن لم أحتل على هذا البدوي في قتله أخذ بقلب أمير المؤمنين وأبعدني منه. فصار يتلطف بالبدوي حتى أتى به إلى منزله فطبخ له طعاماً وأكثر فيه من الثوم. فلما أكل البدوي منه قال لك احذر أن تقرب من أمير المؤمنين فيشم منك رائحة الثوم فيتأذى من ذلك فإنه يكره رائحته. ثم ذهب الوزير إلى أمير المؤمنين فخلا به. وقال: يا أمير المؤمنين إن البدوي يقول عنك للناس: إن أمير المؤمنين أبخر وهلكت من رائحة فمه. فلما دخل البدوي على أمير المؤمنين جعل كمه على فمه مخافة أن يشم منه رائحة لثوم. فلما رآه أمير المؤمنين وهو يستر فمه بكمه قال: إن الذي قاله الوزير عن هذا البدوي صحيح. فكتب أمير المؤمنين كتاباً إلى بعض عماله يقول له فيه: إذا وصل إليك كتابي هذا فاضرب رقبة حامله. ثم دعا بالبدوي ودفع إليه الكتاب وقال له: امض به إلى فلان وأتني بالجواب. فامتثل البدوي ما رسم به أمير المؤمنين وأخذ الكتاب وخرج به من عنده فبينما هو بالباب إذ لقيه الوزير فقال: أين تريد. قال: أتوجه بكتاب أمير المؤمنين إلى عامله فلان. فقال الوزير في نفسه: إن هذا البدوي يحصل له من هذا التقليد مال جزيل. فقال له: يا بدوي ما تقول فيمن يريحك من هذا التعب الذي يلحقك في سفرك ويعطيك ألفي دينار. فقال: أنت الكبير وأنت الحاكم ومهما رأيته من الرأي أفل. قال: أعطني الكتاب.(2/223)
فدفعه إليه وأعطاه الوزير ألفي دينار وسار بالكتاب إلى المكان الذي هو قاصده. فلما قرأ العامل الكتاب أمر بضرب رقبة الوزير. فبعد أيام تذكر الخليفة في أمر البدوي وسأل عن الوزير من أولها إلى آخرها. فقال له: أنت قلت عني للناس إني أبخر. فقال: معاذ الله يا أمير المؤمنين أن أتحدث بما ليس لي به علم وإنما كان ذلك مكراً منه وحسداً. وأعلمه كيف دخل به بيته وأطعمه الثوم وما جرى له معه. فقال أمير المؤمنين: قاتل الله الحسد ما أعدله بدأ بصاحبه فقتله. ثم خلع على البدوي واتخذه وزيراً الوزير بحسده. (اللابشيهي)
كلب جاد بنفسه
375 كان ملك عظيم الشأن يحب التنزه والصيد. وكان له كلب قد ربّاه لا يفارقه. فخرج يوماً إلى بعض منتزهاته وقال لبعض غلمانه: قل للطباخ يصلح لنا ثردة بلبن. فجاءوا باللبن إلى الطبّاخ ونسي أن يغطيه بشيء واستغل بالطبخ. فخر من بعض الشقوق أفعى فكرع في ذلك اللبن ونفث في الثردة من سمه. والكب رابض يرى ذلك ولم يجد حيلة تصل بها إلى الأفعى. وكان هناك جارية خرساء زمني قد رأت ما صنع الأفعى. ووافى الملك من الصيد في(2/224)
آخر النهار فقال: يا غلمان أدركوني بالثردة فلما وضعت بين يديه أومأت الخرساء إليه فلم يفهم ما تقول. ونج الكلب وصاح فلم يلتفت إليه ولج في الصياد فلم يعلم مراده. فقال للغلمان. نحوه عني. ومد يده إلى اللبن بعد ما رمى إلى الكلب ما كان يرمي إليه. فلم يلتفت الكلب إلى شيء من ذلك ولم يلتفت إلى غير الملك. فلما رآه يريد أن يضع اللقمة من اللبن في فمه ظفر إلى وسط المائدة وأدخل فمه وكرع من اللبن وسقط ميتاً وتنثر لحمه وبقي الملك متعجباً من الكلب ومن فعله. فأومأت الخرساء إليهم فعرفوا مرادها وما صنع الكلب. فقال الملك: لحاشيته هذا الكلب قد فداني بنفسه وقد وجب أن نكافئه. وما يحمله ويدفنه غيرّي. فدفنه وبنى عليه قبة في ظاهر المدينة. (للحموي) .
إبراهيم الخواص والسبع
376 حكى إبراهيم الخواص قال: في بعض أسفاري انتهيت إلى شجرة قعدت تحتها فإذا سبع هائل يأتي نحوي. فلما دنا مني رأيته يعرج. فإذا يده منتفخة وفيها فتخٌ فهمهم وتركها في حجري. وعرفت أنه يقول: عالج هذه. فأخذت خشبة فتحت بها الفتخ ثم شددتها بخرقة خرقتها من ثوبي. فغاب ثم جاءني ومعه شبلان يبصبصان ورغيف تركه عندي ومشى. (للقزويني)(2/225)
المطيب أسم الله
377 كان سبب توبة بشر بن الحارث أنه أصاب في الطريق ورقة وفيها اسم الله تعالى مكتوب. وقد وطئتها الأقدام فأخذها واشترى بدراهم كانت معه غالية. فطيب بها الورقة وجعلها في شق حائط فرأى في النوم كأن قائلاً يقول له: يا بشر طيبت اسمي لأطيبن اسمك في الدنيا والآخرة. فلما تنبه من نومه تاب. (لابن خانكان)
الدواء الشافي
378 قال بعض الأبدال مررت ببلاد المغرب على طبيب والمرضى بين يديه وهو يصف لهم علاجهم. فتقدمت إليه وقلت: عالج مرضي يرحمك الله. فتأمل في وجعي ساعة ثم قال: خذ عروق الفقر وورق الصبر مع إهليلج التواضع. واجمع الكل في إناء اليقين وصب عليه ماء الخشية وأوقد تحته نار الحزن. ثم صفّه بمصفاة المراقبة في جام الرضا. وامزجه بشراب التوكل. وتناوله بكف الصدق. واشربه بكأس الاستغفار. وتمضمض بعده بماء الورع. واحتم عن الحرص والطمع فتشفى إن شاء الله تعالى. (لبهاء الدين العاملي)
ذكر الأمم التي دخلت في دين النصارى
379 من الأمم المنتصرة أمة الروم. على كثرتها وعظم ملوكها واتساع بلادها. (ومن الكامل وغيره) أن الروم كانت تدين بدين الصابئة ويعبدون أصناماً على أسماء الكواكب. ومازالت الروم(2/226)
ملوكها ورعيتها كذلك حتى تنصر قسطنطين وحملهم على دين النصارى فتنصروا عن آخرهم. ومن أمم النصارى (الأرمن) كانوا بأرمينية. وقاعدة ملكها خلاط. ولما ملكناها صاروا فيها رعية. ثم تغلبوا وملكوا منا طرسوس والمصيصة وبلاد سيس مدينة بقلعة حصينة هي كرسي ملكهم في زماننا هذا. ومنها (الكرج) بلادهم مجاورة لبلاد خلاط إلى الخليج القسطنطيني وإلى نحو الشمال. ولهم جبال منيعة وقلاع حصينة. والغالب عليهم النصرانية. يلي ملكهم الرجال والنساء بالوراثة. وهم خلق كثير في صلح التتار اليوم. ومنها (الجركس) على شرقي بحر نيطش في شظف من العيش غالبهم نصارى. ومنها (الروس) لهم جزائر في بحر نيطش وبحر القسطنطينية ولهم بلاد شمالي البحر. ومنها (البلغار) نسبة إلى مدينة بسكنونها شمالي نيطش كان غالبهم نصارى فأسلم بعضهم. ومنها (الألمان) أكبر أمم النصارى غربي القسطنطينية إلى الشمال جنودهم كثيرة. قصد ملكهم في مائة ألف مقاتلة صلاح الدين بن أيوب فهلك هو وغالب عسكره في الطريق. ومنها (البرجان أمة بل أمم طاغية مثلثون. بلادهم متوغلة في الشمال. سيرهم منقطعة لبعدهم عناء وجفاء طباعهم. ومنها (الفرنج) أمم أصل بلادهم فرنجة ويقال فرنسة جوار جزيرة الأندلس شمالها يقال لملكهم الفرنسيس. قصد ديار مصر وأخذ دمياط. ثم أسره المسلمون(2/227)
واستنقذوا دمياط منه بعد موت الملك الصالح أيوب ابن الكامل. وقد غلب الفرنج على معظم الأندلس. ولهم في بحر الروم جزائر مشهورة مثل ثقلية وقبرس وأقريطش. ومنهم (الجنوية) نسبة إلى جنوة مدينة عظيمة. وبلادهم كبيرة غربي القسطنطينية على بحر الروم. ومنهم (البنادقة) مدينتهم البندقية على خليج من بحر الروم تمتد نحو سبعمائة ميل في جهة الشمال والغرب. وهي قريبة من جنوة في البر. بينهما ثمانية أيام. (لابن الوردي)
ذكر أمم الهنود وتقاسيهم وعوائدهم
380 أم الهند فرق منهم (الباسوية) . زعموا أن لهم رسولاً ملكاً روحانياً نزل بصورة البشر أمرهم بتعظيم النار والتقرب إليها بالطيب والذبائح. ونهاهم عن القتل والذبح لغير النار. وسن لهم أن يتوشحوا بخيط يعقدونه من مناكبهم الأيامن إلى تحت شمائلهم. وعظم البقر وأمر بالسجود لها حيث رأوها. ومنهم (اليهودية) يقولون: الأشياء كلها صنع الخالق فلا يعافون شيئاً. ويتقلدون بعظام الناس ويمسحون رؤوسهم وأجسادهم بالرماد. ومنهم (عبدة الشمس وعبدة القمر) . ومنهم (عبدة الأصنام) وهم كالصابئة ولكل طائفة صنم. وأشكال الأصنام مختلفة. ومنهم (عباد الماء الجلهكينية) . يزعمون أن الماء ملك وهو أصل كل شيء إذا الرجل عبادة الماء تجرد ودخل الماء إلى وسطه.(2/228)
ويقيم ساعتين أو أكثر ومعه رياحين يقطعها صغاراً ويليها فيه. وهو يسبح ويقرأ. وإذا أراد الانصراف حرك الماء بيده. ثم نقط منه على رأسه ووجهه وسجد وانصرف. ومنهم (عباد النار والأكنواطرية) . عبادتهم أن يحفروا أخدود مربعاً ويؤججوا به النار ثم لا يدعون طعاماً لذيذاً ولا ثوباً ولا شراباً لطيفاً ولا عطراً فائحاً ولا جوهراً نفيساً إلا طرحوه في تلك النار تقرباً إليها. وحرموا إلقاء النفوس فيها خلافاً لطائفة أخرى. ومنهم (البراهمة) أصحاب فكرة وعلم بالفلك والنجوم. وتخالف طريقتهم منجمي الروم والعجم. لأن أكثر أحكامهم باتصالات الثوابت دون السيارات. يعظمون أمر الفكر ويقولون: هو المتوسط بين المحسوس والمعقول. ويجتهدون في صرف الفكر عن المحسوسات ليتجرد الفكر عن هذا العالم ويتجلى له ذلك العالم. فربما يخبر عن المغيبات. (للشهرستاني باختصار) 381 ومن عوائد أمم الهند إقامة عيد كبير على رأس كل مائة سنة. فيخرج أهل البلد جميعاً من شيخ وشاب وكبير وصغير إلى صحراء خارج البلد فيها حجر كبير منصوب. فينادي منادي الملك لا يصعد على هذا الحجر غلا من حضر العيد السابق قبل هذا. فربما جاء الشيخ الهرم الذي ذهبت قوته وعمي بصره أو العجوز الشوهاء وهي تربض من الكبر. فيصعدان على ذلك الحجر أو أحدهما وربما لا يجيء أحد ويكون قد فني ذلك القرن بأسره. فمن صعد على ذلك(2/229)
الحجر نادى بأعلى صوت: قد حضرت العيد السابق وأنا طفل صغير وكان ملكنا فلاناً ووزيرنا فلاناً. ثم يصف الأمة السابقة من ذلك القرن كيف طحنهم الموت وأهلكهم البلاء وصاروا تحت الثرى. ثم يقوم خطيبهم فيعظ الناس ويذكرهم بالموت وغرور الدنيا وتقلبها بأهلها. فيكثر في ذلك اليوم البكاء وذكر الموت والتأسف على صدور الذنوب والغفلة عن ذهاب العمر. ثم يتوبون ويكثرون الصدقات ويخرجون من التبعات. (لبهاء الدين العاملي)
382 ومن عوائدهم في مملكة بلهرا وغيره من ملوك الهند من يحرف نفسه بالنار. وذلك لقولهم بالتناسخ وتمكنه في قلوبهم وزوال الشك فيه عنهم. وفي ملوكهم من إذا قعد للملك طبخ له أرز ثم وضع بين يديه على ورق الموز وينتدب من أصحابه الثلاثمائة والأربعمائة باختيارهم لأنفسهم لا بإكراه من الملك لهم. فيعطيهم الملك من ذلك الأرز بعد أن يأكل منه. ويتقرب رجل رجلٌ منهم فيأخذ منه شيئاً يسيراً فيأكله. فيلزم كل من أكل من هذا الأرز إذا مات الملك أو قتل أو يحرقوا أنفسهم بالنار عن آخرهم في اليوم الذي يموت فيه. لا يتأخرون عنه حتى لا يبقى منهم عين ولا إثر. وإذا عزم الرجل على إحراق نفسه صار على باب الملك فاستأذن. ثم دار في الأسواق وقد أججت له النار في حطب جزل كثير. عليها رجال يقومون بإيقادها حتى تصير كالعقيق حرارة والتهاباً. ثم يعدو(2/230)
وبين يديه الصنوج دائراً في الأسواق وقد احتوشه أهله وذوو قرابته. وبعضهم يضع على رأسه إكليلاً من الريحان يملأه جمراً ويصب عليه السندروس وهو مع النار كالنفط. ويمشي وهامته تحترق وروائح لحم رأسه تفوح وهو لا يتغير في مشيته. ولا يظهر منه جزع حتى يأتي النار فيثب فيها فيصير رماداً. فذكر بعض من حضر أن رجلاً منهم أراد دخول النار فلما أشرف عليها أخذ الخنجر فوضعه على رأس فؤاده فشقه بيده. ثم أدخل يده اليسرى فقبض على كبده فجذب منها ما تهيأ له وهو يتكلم. ثم قطع بالخنجر منها قطعة فدفعها إلى أخيه استهانة بالموت. وصبر على الألم ثم زج بنفسه في النار إلى لعنة الله. ومن عوائدهم القمار بالديكة والنرد والديكة عندهم عظيمة الأجسام وافرة الصياصي. يستعملون لها من الخناجر الصغار المرهفة ما يشد على صياصيها ثم ترسل. وقمارهم في الذهب والفضة والأرضين والنبات وغير ذلك. فيبلغ الديك الغالب جملة من الذهب. (كتاب سلسلة التواريخ)
نبذة من عوائد السودان
383 إن عاصمة ملك السودان تسمى بالغابة ويكتنفها الحدائق والمساكن وبناء بيوتهم بالحجارة وخشب السنط. وللملك قصر وقباب وقد أحاط بذلك كله حائط كالسور. وحول مدينة الملك غابات وشعراء يسكن فيها سحرتهم وهم الذين يقيمون دينهم. وفيها(2/231)
دكاكيرهم وقبور ملوكهم. ولتلك الغابات حرس ولا يمكن أحداً دخولها ولا معرفة ما فيها. وهناك سجون الملك فإذا سجن فيها أحداً انقطع عن الناس خبرة. وتراجمة الملك من المسلمين وكذلك صاحب بيت ماله وأكثر وزرائه. ولا يلبس المخيط من أهل دين الملك غيره وغير ولي عهده. ويلبس سائر الناس ملاحف القطن والحرير والديباج على قدر أحوالهم. وهم أجمع يحلقون لحاهم. وملكهم يتحلى بحلي النساء في العنق والذراعين. ويجعل على رأسه الطراطير المذهبة عليها عمائم القطن الرفيعة. وهو يجلس للناس والمظالم في قبة. ويكون حوالي القبة عشرة أفراس بثياب مذهبة. ووراء الملك عشرة من الغلمان يحملون الجحف والسيوف المحلاة بالذهب. وعن يمينه أولاد ملوك بلده قد ضفروا على رؤوسهم الذهب وعليهم الثياب الرفيعة. ووالي المدينة بين يدي الملك جالس في الأرض وحواليه الوزراء. وعلى باب القبة كلاب منسوبة لا تكاد تفارق موضع الملك تحرسه. في أعناقها سواجير الذهب والفضة يكون في الساجور عدد رمانات ذهب وفضة. وهم ينذرون بجلوسه بطبل وهو خشبة طويلة منقورة فيجتمع الناس. فإذا دنا أهل دينه منه جثوا على ركبهم ونثروا التراب على رؤوسهم فتلك تحيتهم له. وديانتهم المجوسية وعبادة الدكاكير وإذا مات ملكهم عقدوا له قبة عظيمة من خشب الساج ووضعوها في موضع قبره. ثم أتوا به(2/232)
على سرير قليل الفرش والوطاء فأدخلوه في تلك القبة. ووضعوا معه حليته وسلاحه وآنيته التي كان يأكل فيها ويشرب. وأدخلوا فيها الأطعمة والأشربة وأدخلوا معه رجالاً ممن كان يخدم طعامه وشرابه. وأغلقوا عليهم باب القبة وجعلوا فوق القبة الحصر والأمتعة. ثم اجتمع الناس فردموا فوقها بالتراب حتى تأتي كالجبل الضخم. ثم يخندقون حولها حتى لا يوصل إلى ذلك إلا من موضع واحد. وهم يذبحون لموتاهم الذبائح ويقربون لهم الخمور.
المسالك والممالك للبكري)
فائدة فيما خصت به كل بلدة
384 يقال: أفاعي سجستان. وثعابين مصر. وذباب تل قافل. وأوز غيلة. ويقال: برود اليمن. وقباطي مصر. وديباج الروم. وخز السوس. وحرير الصين. وملح مرو. وأكسية فارس. وحلل أصبهان. وسقلاطوني بغداد. وعمائم الأبلة. ويقال: سنجاب خرخيز. وسمور بلغار. وثعالب الخزر. وفنك كاشغر. وحواصل هراة. وقاقم التغرغز. ويقال: عتاق البادية. ونجائب الحجاز. وحمير مصر. وبراذين طخارستان. وبغال برذعة. ويقال: سكر الأهواز. وعسل أصفهان. وقصب مصر. ودبس أرجان. ورطب العراق. وعناب جرجان. وتمر كرمان. وإجاص بست. وسفرجل نيسابور. وتفاح الشام. ومشمش طوس. وكمثر نهاوند. ونارنج البصرة. وفشوش(2/233)
هراة. وأترج طبرستان. وتين حلوان. وعنب بغداد. وموز اليمن وورد جور. ونيلوفر شروان. وزعفران قم. وتمر حناء مكة. ويقال: طواعين الشام. وطحال البحرين. وحمى خيبر. ودمامل الجزيرة. وعرق مكة. ووباء مصر. وبرسام العراق. وقروح بلح. والنار الفارسية. ويقال: شتاء أرمية. ومصيف مصر. وصواعق تهامة. وزلزال الديبل. ويقالك شقرة الروم. وسواد الزنج. وغلظ الترك. وجفاء الختل. ودمامة الصين. ولطافة بغداد. وقصر يأجوج. وطول مأجوج. وذكاء مصر. وبلادة الشام. وحماقة الحبش. ويقال: رطب توت. ورمان بابه. وموز هتور. وسمك كهيك. ولبن.............. ونبق بشنس. (الكنز المدفون)(2/234)
العقعق السارق
385 حدث حماد بن إسحاق عن أبيه قال: كان لي وأنا صبي عقعق قد بيته وكان يتكلم بكل شيء سمعه. فسرق خاتم ياقوت كان أبي واضعه على حجز ليتوضأ ثم رجع فلم يجده. فطلبه وضرب غلامه الذي كان واقفاً فلم يقف له على خبر. فبينا أنا ذات يوم في دارنا إذ أبصرت العقعق قد نبش تراباً. فأخرج الخاتم منه ولعب به طويلاً ثم رده فيه ودفنه. فأخذته وجئت به إلى أبي فسر بذلك وقال يهجو العقعق:(2/235)
إذا بارك الله في طائر ... فلا بارك الله في العقعق
طويل الذنابي قصير الجناح ... متى ما يجد غفلة يسرق
يقلب عينيه في رأسه=كأنهما قطرتا زئبق (الأغاني)
قصة أصحاب الكهف (سنة 251 للمسيح)
386 كان للروم ملك اسمه دقيانوس (دسيوس) وكان يعبد الأصنام ويذبح للطواغيت. وكان ينزل قرى الروم ولا يترك فيها أحداً مؤمناً إلا فتنه حتى يعبد الأصنام. فنزل يوماً مدينة أصحاب الكهف وهي أفسوس وكان فيها بقايا على دين عيسى بن مريم يعبدون الله. فهرب منه أهل الإيمان. وكان حين قدم المدينة اتخذ شرطة من الكفار من أهلها يتتبعون أهل الإيمان في أماكنهم. فمن وقع به الملك خيره بين القتل وعبادة الأصنام. فمنهم من يرغب ومنهم من يأبى فيقتل. ثم يؤمر بأجسادهم أن تعلق على سور المدينة وعلى كل باب.
فاتفق أن سبعة فتيان من أولاد البطارقة من أشراف القوم خرجوا ذات يوم لينظروا إلى المعذبين من إخوتهم. ففتح الله أبصارهم فكانوا يرون الرجل إذا قتل هبطت إليه الملائكة من السماء وعرجوا بروحه. فآمنوا وتضرعوا إلى الله وجعلوا يقولون: ربنا رب السماوات والأرض لن ندعو من دونه إلهاً لقد قلنا إذا شططنا. اللهم اكشف عن عبادك المؤمنين هذه الفتنة وادفع البلاء والغم عن(2/236)
الذين آمنوا بك. فبينما هم على ذلك إذ أدركهم الشرطة وكانوا قد دخلوا في مصلى لهم فوجدوهم سجدوا على وجوههم يبكون ويتضرعون إلى الله تعالى فلما عثروا عليهم الملك قال لهم: ما منعكم أن تعبدوا آلهتنا فاختاروا إما أن تذبحوا لآلهتنا وإما أن أقتلكم. فقال مكسلمينا وهو أكبرهم: إن لنا إلهاً ملأت السماوات والأرض عظمته لن ندعو من دونه إلهاً. أما الطواغيت وعبادتها فلن نعبدها أبداً فاصنع ما بدا لك. فلما قال ذلك أمر الملك فنزع منهم الملبوس الذي كان عليهم من لبوس عظمائهم وقال: إن فعلتم ما فعلتم فإني سأؤخركم وأفرغ لكم وأنجزكم ما وعدتكم من العقوبة. وما يمنعني أن أعجل ذلك إلا أني أراكم شباباً حديثة أسنانكم. فلا أحب أن أهلككم حتى أجعل لكم أجلاً تتذاكرون فيه وتراجعون عقولكم. ثم أمر هم فأخرجوا من عنده. وانطلق دقيانوس إلى مدينة سوى مدينتهم لبعض أموره.
فلما علم الفتية أن دقيانوس خرج من مدينتهم ائتمروا أن يأخذ كل رجل منهم نفقة من بيت أبيه فيتصدقوا منها ثم يتزدوا بما بقي. ثم ينطلقوا إلى كهف قريب من المدينة فيمكثون فيه ويعبدون الله تعالى. حتى إذا جاء دقيانوس أتوه فقاموا بين يديه فيصنع بهم ما شاء. فلما جنهم الليل خرجوا إلى الجبل وجعلوا نفقتهم إلى فتى منهم يقال له تمليخا. فكان يبتاع لهم طعامهم من المدينة. وكان(2/237)
من أجملهم وأجلدهم. وكان إذا دخل المدينة لبس ثياب المساكين واشترى طعامهم وتجسس لهم الأخبار. فلبثوا كذلك زماناً. ثم أخبرهم أن الملك يتطلبهم. فبينما هم كذلك عند غروب الشمس يتحدثون ويتدارسون إذ ضرب الله على آذانهم في الكهف. فوقف الملك على أمرهم فألقى إبليس في نفسه أن يأمر بالكهف فيسد عليهم حتى يموتوا جوعاً وعطشاً. وقد توفى الله أرواحهم وفاة النوم. ثم عمد رجلان مؤمنان كانا في بيت الملك فكتبا شأن الفتية وأسماءهم وأنسابهم في رقيم. وجعلاه في تابوت من نحاس وجعلاه في البنيان. وناموا ثلاثمائة سنة وازداد واتسعا وفقدهم الملك وقومهم قال محمد بن إسحاق: وتحزب الناس في ملكه أحزاباً فمنهم من يؤمن بالله ويعلم أن الساعة حق ومنهم من يكذب. فحزن حزناً شديداً لما رأى أهل الباطل. يزيدون ويظهرون على أهل الحق ويقولون: لا حياة إلا الحياة الدنيا. وإنما تبعث الأرواح ولا تبعث الأجساد.
ثم إن الرحمان الرحيم أراد أن يظهر الفتية أصحاب الكهف ويبين للناس شأنهم ويجعلهم آية ليعلموا بها أن الساعة آتية لا ريب فيها. فألقى الله في نفس رجل من ذلك الجبل أن يبني فيه حظيرة لغنمه. فاستأجر عاملين فجعلا ينزعان تلك الأحجار ويبنيان بها تلك الحظيرة. حتى فرغ ما على فهم الكهف. فلما فتح عليهم(2/238)
الباب أذن الله ذو القدرة والعظمة والسلطان محبي الموتى أن يقوم الفتية. فجلسوا فرحين مستبشرة وجوههم طيبة أنفسهم. فسلم بعضهم على بعض. حتى كأنما استيقظوا من ساعتهم التي كانوا يستيقظون فيها إذا أصبحوا من ليتهم التي يبيتون فيها. ثم قاموا إلى الصلاة فصلوا كما كانوا يفعلون لا يرى في وجوههم ولاشك في أبشارهم ولا ألوانهم شيء يكرهونه. إنما هم كهيئتهم حيد رقدوا. وهم يرون أن ملكهم دقيانوس الجبار في طلبهم. فلما قضوا صلاتهم قال لهم مكسلمينا: يا إخوتاه اعلموا أنكم ملاقو الله فلا تكفروا بعد إيمانكم إذا دعاكم غداً. ثم قال لتمليخا: انطلق على المدينة فاسمع ما يقوله الناس في شأننا. فتلطف ولا تشعرن بنا أحداً وابتع لنا طعاماً وأتنا به فإنه قد نالنا الجوع. فأخذ تمليخا الثياب التي كان يتنكر فيها وأخذ ورقاً من نفقتهم التي كانت معهم التي ضربت بطابع دقيانوس. فانطلق تمليخا خارجاً فلما مر بباب الكهف رأى الحجارة منزوعة عن باب الكهف. فعجب منها ثم مر فلم يبال بها. حتى أتى باب المدينة مستخفياً يصد عن الطريق تخوفاً من أن يراه أحد من أهلها فيعرفه فيذهب به إلى دقيانوس الجبار. ولم يسعر أن دقيانوس وأهله قد هلكوا قبل ذلك بثلاثمائة سنة. فلما رأى تمليخا باب المدينة رفع رأسه فرأى فوق ظهر الباب علامة تكون لأهل الإيمان. فلما رآها عجب وجعل ينظر إليها مستخفياً. فنظر يميناً وشمالاً فلم ير أحداً ممن يعرفه.(2/239)
ثم ترك ذلك الباب وتحول إلى باب آخر من أبوابها فرأى مثل ذلك. فجعل يخيل إليه أن المدنية ليست بالتي كان يعرفها. ورأى ناساً كثيرين محدثين فلم يعرفهم قبل ذلك. فجعل يمشي ويتعجب منهم ومن نفسه ويخيل إليه أنه حيران. ثم رجع إلى الباب الذي منه. فجعل يتعجب منه ومن نفسه ويخيل له فيقول: يا ليت شعري أما هذه عشية أمس كان المؤمنون يخفون هذه العلامة العلامة ويستخفون بها. فأما اليوم فأنها ظاهرة لعلي حالم. ثم يرى انه ليس بنائم فأخذ كساءه وجعله على رأسه.
ثم دخل المدنية فجعل يمشي بين ظهراني سوقها فيسمع ناساً كثيرين يذكرون الله ثم عيسى بن مريم. فزاده عجباً ورأى كأنه حيران. فقام مسنداً ظهره إلى جدار من جدران المدينة ويقول في نفسه: ما أدري ما هذا أما عشية أمس فما كان على وجه الأرض إنسان يذكر عيسى بن مريم إلا قتل. وأما الغداة فأسمع كل إنسان يذكر أمر عيسى بن مريم ولا يخاف. ثم قال في نفسه: لعل هذه ليست المدنية التي أعرفها أسمع كلام أهلها ولا أعرف أحداً لكني ما أعلم مدنية أقرب من مدينتنا ثم قام كالحيران لا يتوجه وجهاً. ثم لقي فتى من أهل المدينة. فقال: يا فتى ما اسم هذه المدينة. فقال: أفسوس. فقال في نفسه: لعل بي مساً أو أمراً أذهب عقلي. ثم إنه أفاق فقال: لو عجلت الخروج من المدينة قبل أن يفطن بي لكان(2/240)
أكيس بي. فدنا من الذين يبيعون الطعام فأخرج الورق التي كانت معه فأعطاها رجلاً منهم فقال: يا عبد الله بعني بهذه الورق طعاماً. فأخذها الرجل ونظر إلى ضرب الورق ونقشها وعجب منها. ثم طرحها إلى رجل من أصحابه فنظر إليها. ثم جعلوا يتطارحونها بينهم من رجل إلى رجل وهم يعجبون منها. ثم جعلوا يتشاورون من أجله ويقول بعضهم: إن هذا الرجل قد أصاب كنزاً خبيئاً في الأرض منذ زمان ودهر طويل. فلما رآهم يتشاورون من أجله فرق فرقاً شديداً وحزن حزناً عظيماً. وجعل يرتعد ويظن أنهم فطنوا به وعرفوه وإنما يريدون أن يحملوه إلى ملكهم دقيانوس. وجعل أناس آخرون يأتونه فيتعرفونه فقال لهم وهو شديد الفرق: اقضوا لي حاجتي فقد أخذتم ورقي وإلا فأمسكوا طعامكم فلا حاجة لي فيه. فقالوا له: من أنت يا فتى وما شأنك. إنك لقد وجدت كنزاً من كنوز الأولين وأنت تريد أن تخفيه عنا فانطلق معنا وشاركنا فيه يخف عليك ما وجدت. فإنك إن لم تفعل نأت بك السلطان فنسلمك إليه فيقتلك. فلما سمع قولهم عجب في نفسه وقال قد وقعت في كل شيء أحذر منه. ثم قالوا: يا فتى إنك لا تستطيع أن تكتم شيئاً وجدته ولا تظن في نفسك أن سنخفي عليك فأطرق تمليخا لا يدري ما يقول وما يرجع إليه وفرق حتى لم يحر إليهم جواباً. فلما رأوه لا يتكلم أخذوا كساءه فطوقوه في عنقه. ثم جعلوا يقودونه في سكك المدينة مكبلاً(2/241)
حتى سمع به كل من فيها فقيل: أخذ رجل عنده كنز. واجتمع عليه أهل المدينة صغيرهم وكبيرهم فجعلوا ينظرون إليه ويقولون: ما هذا الفتى من أهل هذه المدينة وما رأيناه فيها قط وما نعرفه. فجعل تمليخا ما يدري ما يقول لهم مع ما سمع منهم. فلما اجتمع عليه أهل المدينة فرق وسكت ولم يتكلم. ولو قال إنه من أهل المدينة لم يصدق. وكان مستيقناً أن أباه وإخوته بالمدينة وأن حسبه من أهل المدينة من عظماء أهلها وأنهم سيأتونه إذا سمعوا. وقد استيقن أنه عشية أمس كان يعرف كثيراً من أهلها وأنه لا يعرف اليوم من أهلها أحداً.
فبينما هو قائم كالحيران ينتظر من يأتيه من بعض أهله إما أبوه أو بعض إخوته فيخلصه من أيديهم إذ اختطفوه فانطلقوا به إلى رئيسي المدينة ومدبريها اللذين يدبران أمرها. وهما رجلان صالحان اسم أحدهما أرموس والآخر إصطفوس. فلما انطلق به إليهما ظن تمليخا إنما ينطلق به إلى دقيانوس الجبار ملكهم الذي هربوا منه. فجعل يلتفت يميناً وشمالاً وجعل الناس يسخرون به كما يسخرون من المجنون والحيران. وجعل تمليخا يبكي ثم رفع رأسه إلى السماء وقال: اللهم إله السماء وإله الأرض أفرغ علي اليوم صبراً وأولج معي روحاً منك تؤيدني به عند هذا الجبار. وجعل يبكي ويقول في نفسه: فرق بيني وبين إخوتي يا ليتهم يعلمون ما لقيت وأين يذهب بي. فلو أنهم يعلمون فيأتون فنقوم جميعاً بين يدي هذا الجبار. فإنا كنا(2/242)
توافقنا لنكونن معاً لا نكفر بالله ولا نعبد الطواغيت من دون الله عز وجل. فرق بيني وبينهم فلم أرهم ولم يروني. وقد كنا توافقنا أن لا نفترق في حياة ولا موت أبداً. يا ليت شعري ما هو فاعل بي أقاتلي أم لا.
ثم انتهى به إلى الرجلين الصالحين أرموس وإصطفوس فلما رأى تمليخا أنه لم يذهب به إلى دقيانوس أفاق وسكن عنه البكاء فأخذ أرموس وإصطفوس الورق فنظرا إليها وعجبا منها. ثم قال له أحدهما: أين الكنز الذي وجدته يا فتى. لهذا الورق يشهد عليك أنك قد وجدت كنزاً. فقال له تمليخا: ما وجدت كنزاً ولن هذا الورق ورق آبائي ونقش هذه المدينة وضربها. ولكني ما أدري ما أقول لكم. قال أحدهما: من أنت. فقال له تمليخا: أما ما أرى فإني كنت أرى أني من أهل هذه المدينة. فقالوا له: من أبوك ومن يعرفك بها. فأنباهم باسم أبيه فلم يجدوا أحداً يعرفه ولا أباه. فقال له أحدهما: أنت رجل كذاب لا تخبر بالحق. فلم يدر تمليخا ما يقول لهم غير أنه نكس رأسه إلى الأرض. فقال بعض من حوله: هذا الرجل مجنون. وقال بعضهم: ليس بمجنون ولكنه يحمق نفسه عمداً لكي يفلت منكم. فقال له أحدهما ونظر إليه نظراً شديداً: أتظن أنا نرسلك ونصدقك أن هذا مال أبيك. ولنقش هذه الورق وضربها أكثر من ثلاثمائة سنة. وأنت غلام شاب تظن أنك تأفكنا وتسخر(2/243)
بنا ونحن شمط كما ترى. وحولك سراة أهل المدينة وولاة أمرها وخزائن هذه البلدة بأيدينا. وليس عندنا من هذا الضرب درهم ولا دينار. وإني لأظنني سآمر بك فتضرب وتعذب عذاباً شديداً ثم أوثقك حتى تقر بهذا الكنز الذي وجدت. فلما قال له ذلك قال لن تمليخا: أنبئوني عن شيء أسألكم عنه فإن فعلتم صدقتكم ما عندي. قالوا: سل لا نكتمك شيئاً. قال فما فعل الملك دقيانوس. فقالوا له: ليس نعرف اليوم على وجه الأرض ملكاً يسمى دقيانوس. ولم يكن إلا ملكاً قد هلك منذ زمان ودهر طويل وقد هلكت بعده قرون كثيرة. فقال لهم تمليخا: فوالله ما يصدقني أحد من الناس بما أقول. لقد كنا فتية الملك وإنه أكرهنا على عبادة الأوثان والذبح للطواغيت فهربنا منه عشية أمس فنمنا. فلما انتبهنا خرجت لأشتري لأصحابي طعاماً وأتجسس لهم الأخبار فإذا أنا كما ترون. فلما سمع أرموس وإصطفوس ما يقول تمليخا قالا: يا قوم لعل هذه آية من آيات الله عز وجل جعلها الله لكم على يدي هذا الفتى. فانطلقوا بنا معه ليرينا أصحابه كما قال. فانطلق معه أرموس وإصطفوس وانطلق معهما أهل المدينة كبيرهم وصغيرهم نحو أصحاب الكهف لينظروا إليهم.
ولما رأى الفتية أصحاب الكهف تمليخا قد احتبس عنهم بطعامهم(2/244)
وشرابهم عن القدر الذي كان يأتيهم فيه ظنوا أنه قد أخذ وذهب به إلى ملكهم دقيانوس الذي هربوا منه. فبينما هم يظنون ذلك ويتخوفونه إذ سمعوا الأصوات وجلبة الخيل مصعدة نحوهم. فظنوا أنهم رسل الجبار دقيانوس بعث غليهم ليؤتى بهم. فقاموا حين سمعوا ذلك على الصلاة وسلم بعضهم على بعض وقالوا: انطلقوا بنا إلى أخينا تمليخا فإنه الآن بين يدي الجبار دقيانوس ينتظر متى نأتيه. فبينما هم يقولون ذلك وهم جلوس بين ظهراني الكهف فلم يروا إلا أرموس وأصحابه وقوماً وقوفاً على باب الكهف وقد سبقهم تمليخا. فدخل عليهم وهو يبكي فلما رأوه يبكي بكوا معه. ثم سألوه عن شأنه فأخبرهم بخبره وقص عليهم المسألة. فعرفوا عند ذلك أنهم كانوا نياماً بإذن الله تعالى ذلك الزمان كله. وإنما أوقظوا ليكونوا آية للناس وتصديقاً للبعث وليعلموا أن الساعة آتية لا ريب فيها. ثم دخل على أثر تمليخا أرموس فرأى تابوتاً من نحاس مختوماً بخاتم من فضة. فقام بباب الكهف ودعا رجالاً من عظماء أهل المدينة وفتح التابوت عندهم. فوجدوا فيه لوحين من رصاص مكتوباً فيهما عن مكسلمينا وتمليخا ومرطوكش ونوالس وسانيوس وبطنيوس وكشفوطط كانوا فتية هربوا من ملكهم دقيانوس الجبار مخافة أن يفتنهم عن دينهم فدخلوا في هذا الكهف. فلما أخبر بمكانهم أمر بهذا الكهف فسد عليهم بالحجارة. وإنا كتبنا شأنهم وخبرهم ليعلم من بعدهم إن عثروا عليهم. فلما قرؤوه عجبوا وحمدوا الله عز وجل الذي أراهم آية البعث فيهم. ثم رفعوا أصواتهم بحمد الله وتسبيحه. ثم دخلوا على الفتية الكهف فوجدوهم جلوساً بين ظهرانيه ووجوههم مشرقة ولم تبل ثيابهم. فخر أرموس وأصحابه سجداً لله تعالى وحمدوا الله الذي أراهم آية من آياته. ثم كلم بعضهم بعضاً وأنبأهم الفتية عن الذي لقوا من ملكهم دقيانوس(2/245)
الجبار. ثم إن أرموس وأصحابه بعثوا بريداً على ملكهم الصالح تاودسيوس أن عجل لعلك تنظر على آية من آيات الله تعالى جعلها الله آية على ملكك. وجعلها أية للعالمين ليكون ذلك نوراً وضياءً وتصديقاً بالبعث. فأعجل على فتية بعثهم الله وكان قد توفاهم منذ أكثر من ثلاثمائة سنة. فلما أتى الملك الخبر قام من السدة التي كان عليها وذهب عنه همه. وقال: أحمد الله رب العالمين رب السماوات والأرض وأعبدك وأسج لك. تطولت علي ورحمتني برحمتك فلم تطفئ النور الذي كنت جعلته لآبائي.
فلما أنبئ به أهل المدينة ركبوا إليه وساروا معه حتى صعدوا نحو الكهف وأتوه فلما أرى الفتية تادوسيوس فرحوا به وخروا سجداً على وجوههم. وقام تاودوسيوس قدامهم ثم اعتنقهم وبكى.(2/246)
وهم جلوس بين يديه على الأرض يسجون الله تعالى ويحمدونه. ثم قال الفتية لتادودسيوس: نستودعك الله ونقرأ عليك السلام حفظك الله ومد ملكك ونعيذك بالله من شر الجن والإنس. فبينما الملك قائم رجعوا إلى مضاجعهم فناموا وتوفى الله أرواحهم. وقام الملك فجعل ثيابه عليهم. وأمر أن يجعل لكل واحد تابوت من ذهب. فلما أمسوا ونام أتوه في المنام وقالوا: إنا لم نخلق من ذهب ولا فضة ولكنا خلقنا من التراب وإلى التراب نصير. فاتركنا كما كنا في الكهف على التراب حتى يبعنا الله. فأمر الملك حينئذ بتابوت من ساج فجعلوا فيه. وحجبهم الله حين خرجوا من عندهم بالرعب فلم يقدر أحد أن يطلع عليهم. وأمر الملك فجعل على باب الكهف مسجداً يصلى فيه. وجعل لهم عيداً عظيماً. (للدميري بتلخيص)
الباب الثاني عشر في الأسفار
387 السفر أحد أساب المعاش التي بها قوامه ونظامه لأن الله تعالى لم يجمع منافع الدنيا في أرض بل فرقها وأحوج بعضها إلى بعض. ومن فضله أن صاحبها يرى من عجائب الأمصار. وبدائع الأقطار.(2/247)
ومحاسن الآثار. ما يزيده علماً. ويفيده فهماً. بقدرة الله وحكمته. ويدعوه إلى شكر نعمته. ويسمع العجائب. ويكسب التجارب. ويفتح المذاهب. ويجلب المكاسب. ويشد الأبدان. وينشط الكسلان. ويسلي الأحزان. ويطرد الأسقام. ويشهي الطعام. ويحط سورة الكبر. ويبعث على طلب الذكر. وقال حاتم طيء: إذا لزم البيوت رأيتهم عماة عن الأخبار خرق المكاسب.
388 وفي المبهج: من آثر السفر على العقود. فلا يبعد أن يبعد أن يعود مورق العود. وربما أسفر السفر عن الظفر. وتعذر في الوطن قضاء الوطر. وتقول العامة: كلب جوال خير من أسد رابض. (للمقدسي) قال علي بن أبي طالب:
تغرب عن الأوطان في طلب العلى ... وسافر ففي الأسفار خمس فوائد
تفرج هم واكتساب معيشة ... وعلم وآداب وصحبة ماجد
فإن قيل في الأسفار ذل ومحنة ... وقطع الفيافي وارتكاب الشدائد
فموت الفتى خير له من مقامة ... بدار موان بين واش وحاسد
389 قال المأمون: لا شيء ألذ من السفر في كفاية لأنك تحل كل يوم في محلة لم تحلها وتعاشر قوماً لم تعاشرهم. وفي كتاب الهند: من لم يركب الأهوال لم ينل الرغائب. قال الشاعر:
لا يمنعنك خفض العيس في دعة ... من أن تبدل أوطاناً بأوطان
تلقى بكل بلاد إن حللت بها ... أهلاً بأهل وإخواناً بإخوان(2/248)
وقال أيضاً:
بلاد الله واسعة فضاء ... ورزق الله في الدنيا فسيح
فقل للقاعدين على هوان ... إذا ضاقت بكم أرض فسيحوا
قال غيره:
اشد من فاقه الزمان ... مقام حر على هوان
فاسترزق الله واستعنه ... فإنه خير مستعان
وإن نبا منزل بحر ... فمن مكان إلى مكان
قال آخر:
سافر تجد عوضاً عمن تفارقه ... وانصب فإن لذيذ العيش في النصب
ما في المقام لذي لب وذي أدب ... معزة فاترك الأوطان واغترب
إني رأيت وقوف الماء يفسده ... إن ساح طاب وإن لم يجر يطب
والبدر لولا أفول منه ما نظرت ... إليه في كل حين عين مرتقب
والأسد لولا فراق الغاب ما قنصت=والسهم لولا فراق القوي لم يصب
والتبر كالترب ملقى في معادنه ...(2/249)
والعود في أرضه نوع من الحطب
فإن تغرب هذا عز مطلبه ... وإن أقام فلا يعلو إلى الرتب
390 أوصى بعض الحكماء صديقاً له وقد أراد سفراً فقال: إنك تدخل بلداً لا تعرفه ولا يعرفك أهله فتمسك بوصيتي تنفق بها فيه. عليك بنظافة البزة فإنها تنبئ عن النشء في النعمة. والأدب الجميل فإنه يكسب المحبة. وليكن عقلك دون دينك وقولك دون فعلك ولباسك دون قدرك. والزم الحياء والأنفة فإنك إن استحيت من الفظاظة اجتنبت الخساسة. وإن أنفت عن الغلبة لم يتقدمك نظير في مرتبة. قال أو الفتح البستي:
لئن تنقلت من دار إلى دار ... وصرت بعد ثواء رهن أسفار
فالحرُّ حرٌّ عزيز النفس حيث ثوى ... والشمس في كل برج ذات أنوار
391 أوصت أعرابية ابنها في سفر فقالت: يا بني إنك تجاور الغرباء، وترحل عن الأصدقاء. ولعلك لا تلقى غير الأعداء. فخالط الناس بجميل البشر. واتق الله في العلانية والسر. مثل بنفسك مثال ما استحسنت من غيرك فاعمل به. وما استقبحت من غيرك فاجتنبه. فإن المرء لا يرى عيب نفسه. (للقيرواني) 392 قال بعض الحكماء: الغريب كالغرس الذي زايل أرضه(2/250)
وفقد شربه ذاو لا يزهر. وذابل لا يثمر. ويقال: الغريب كالوحش النائي عن وطنه فهو لكل رام رمية ولك سبع فريسة. وقال آخر: الغريب كاليتيم الفطيم الذي ثكل أبويه فلا أم ترأمه ولا أب يرأف به. ويقال: عسرك في بلدك خير من يسرك في غربتك. قال بعضهم:
يا نفس ويحك في التغرب ذلة ... فتجرعي كأس الأذى وهوان
وإذا نزلت بدار قوم دارهم ... فلهم عليك تعزز الأوطان
قال الطريفي:
أرى وطني كعش لي وكن ... أسافر عنه في طلب المعاش
ولولا أن كسب القوت فرض ... لما برح الفراخ من العشاشا
(للمقدسي)
سفر ابن بطوطة إلى القسطنطينية (سنة 1334 م)
393 رغبت الخاتون بيلون ابنة ملك الروم من السلطان أوزبك زوجها أن يأذن لها في زيارة أبيها. فسافرنا في العاشر من شوال في صحبة الخاتون بيلون وتحت حرمتها. ورحل السلطان في تشييعها مرحلة ورجع هو والملكة وولي عهده. وسافر سائر الخواتين في صحبتها مرحلة ثانية ثم رجعن. وسافر صحبتها الأمير بيدرة في خمسة آلاف من عسكره. وكان عسكر الخاتون نحو خمسمائة فارس. منهم خدامها من المماليك والروم نحو مائتين والباقون من الترك.(2/251)
وكان معها من الجواري نحو مائتين أكثرهم روميات وكان لها من العربات نحو أربعمائة عربة ونحو ألفي فرس لجرها وللركوب. وكان معها من الفتيان الروميين عشرة ومن الهنديين مثلهم وقائدهم الأكبر يسمى بسنبل الهندي وقائد الروميين يسمى بميخائيل. ويقول له الأتراك لؤلؤاً. وهو من الشجعان الكبار. وتركت أكثر جواريها وأثقالها بمحلة السلطان غذ كانت قد توجهت برسم الزيارة. وتوجهنا إلى مدينة أكك وهي مدينة متوسطة حسنة العمارة كثيرة الخيرات شديدة البرد. وعلى مسيرة يوم من هذه المدينة جبال الروس. وهم شقر الشعور زرق العيون قباح الصور أهل غدر وعندهم معادن الفضة ومن بلادهم يؤتى بسبائك الفضة التي بها يباع ويشترى في هذه البلاد ووزن السبيكة منها خمس أواق.
ثم وصلنا بعد عشر من هذه المدينة إلى مدينة سرداق وهي على ساحل البحر ومرساها من أعظم المراسي وأحسنها. وبخارجها البساتين والمياه وينزلها الترك وطائفة من الروم تحت ذمتهم. وهم أهل الصنائع وأكثر بيوتها خشب. وكانت هذه المدينة كبيرة فخرب معظمها بسبب فتنة وقعت بين الروم والترك. وكانت الضيافة تحمل إلى الخاتون في كل منزل من تلك البلاد من الخيل والغنم والبقر وألبان البقر والغنم. والسفر في هذه البلاد مضحى ومعشى. وكل أمير بتلك البلاد يصحب الخاتون بعساكره إلى آخر حد بلاده(2/252)
تعظيماً لها لا خوفاً عليها. لأن تلك البلاد آمنة. ثم وصلنا إلى البلدة المعروفة باسم سلطوق وبينها وبين أول عمالة الروم ثمانية عشر يوماً في برية غير معمورة. منها ثمانية أيام لا ماء ها يتزود لها الماء ويحمل في الروايا والقرب على العربات. وكان دخولنا إليها في أيام البرد في منتصف ذي القعدة قلم نحتج إلى كثير من الماء. ورحلنا في هذه البرية ثمانية عشر يوماً مضحى ومعشى. وما رأينا إلا خيراً.
ثم وصلنا بعد ذك إلى حضن مهتولي وهو أول عمالة الروم. وكانت الروم قد سمعت بقدوم هذه الخاتون على بلادها فوصلها على هذا الحصن كفالي نقوله الرومي في عسكر عظيم وضيافة عظيمة. وجاءت الخواتين من دار أبيها ملك القسطنطينية. وبين مهتولي والقسطنطينية مسيرة اثنين وعشرين يوماً منها ستة عشر يوماً على الخليج وستة منه إلى القسطنطينية ولا يسافر من هذا الحصن إلا بالخيل والبغال. وتترك العربات به لأجل الوعر والجبال. وجاء كفالي المذكور ببغال كثيرة وبعثت إلي الخاتون بستة منها وأوصت أمير ذلك الحصن بمن تركته من أصحابي وغلماني مع العربات والأثقال فأمر لهم بدار. ورجع الأمير بيدرة بعساكره ولم يسافر مع الخاتون إلا ناسها. ثم وصلنا حصن مسلمة بن عبد الملك وهو بسفح جبل على نهر زخار يقال له إصطفيلي. ولم يبق من هذا الحصن إلا آثاره وبخارجه قرية كبيرة. ثم سرنا يومين ووصلنا إلى الخليج(2/253)
وعلى ساحله قرية كبيرة فوجدنا فيه المد فأقمنا حتى كان الجزر. وخضناه وعرضه نحو ميلين. ومشينا أربعة أميال في رمال. ووصلنا الخليج الثاني فخضناه وعرضه نحو ثلاثة أميال. ثم مشينا نحو ميلين في حجارة ورمل ووصلنا الخليج الثالث وقد ابتدأ المد. فتعبنا فيه وعرضه ميل واحد. فعرض الخليج كله مائيه ويابسه اثنا عشر ميلاً. وتصير ماء كلها في أيام المطر فلا تخاض إلا في القوارب. وعلى ساحل هذا الخليج الثالث مدينة الفنيكة وهي صغيرة لكنها حسنة مانعة. وكنائسها وديارها حسان والأنهار تخرقها والبساتين تحفها ويدخر بها العنب والأجاص والتفاح والسفرجل من السنة إلى الأخرى. وأقمنا بهذه المدينة ثلاثةً والخاتون في قصر لأبيها هنالك. ثم قدم أخوها شقيقها واسمه كفالي قراس في خمسة آلاف فارس شاكين في السلاح. ولما أرادوا لقاء الخاتون ركب أخوها المذكور فرساً أشهب ولبس ثياباً بيضاً وجعل على رأسه مظللاً بالجواهر. وجعل على يمينه خمسة من أبناء لملوك وعن يساره مثلهم لابسين البياض أيضاً. وعليهم مظلات مزركشة بالذهب. وجعل بين يديه مائة من المشاءين ومائة فارس قد أسبغوا الدروع على أنفسهم وخيلهم. وكل واحد منهم يقود فرسا مسرجاً مدرعاً عليه شكة فارس من البيضة المجوهرة والدروع والقوس والسيف. وبيده رمح في طرف رأسه راية. وأكثر تلك الرماح مكسوة بصفائح الذهب والفضة.(2/254)
وتلك الخيل المقودة هي مراكب ابن السلطان وقسم فرسانه على أفواج كل فوج فيه مائتا فارس. ولهم أمير قد قدم أمامه عشرة من الفرسان شاكين في السلاح وكل واحد منهم يقود فرساً. وخلفه عشرة من العلامات ملونة بأيدي عشرة من الفرسان. وعشرة أطبال يتقلدها عشرة من الفرسان. ومعهم ستة يضربون الأبواق والأنفار والصرنايات وهي الغيطات. وركبت الخاتون في مماليكها وجواريها وفتيانها وخدامها. وهم نحو خمسمائة عليهم ثياب الحرير المزركشة بالذهب المرصعة. وعلى الخاتون حلة يقال لها النخ أو النسيج مرصعة بالجوهر. وعلى رأسها تاج مرصع وفرسها مجلل بجل حرير مزركش بالذهب. وفي يديه ورجليه خلاخل الذهب وفي عنقه قلائد مرصعة. وعظم السرج مكسو ذهباً مكلل جوهراً. وكان التقاؤهما في بسيط من الأرض على نحو ميل من البلد. وترجل لها أخوها لأنه أصغر سناً منها وقبل ركابها وقبلت رأسه. وترجل الأمراء وأولاد الملوك وقبلوا جميعاً ركابها وانصرفت مع أخيها. وفي غد ذلك اليوم وصلنا إلى مدينة كبيرة على ساحل البحر لا أثبت الآن اسمها ذات أنهار وأشجار نزلنا بخارجها. ووصل أخو الخاتون ولي العهد في ترتيب عظيم وعسكر ضخم من عشرة آلاف مدرع. وعلى رأسه تاج وعن يمينه نحو عشرين من أبناء الملوك وعن يساره مثلهم. وقد رتب فرساه على ترتيب خيه سواء إلا أن الحفل أعظم والجمع أكثر.(2/255)
وتلاقت معه أخته في مثل زيها الأول وترجلا جميعاً. وأوتي بخباء حرير فدخلا فيه. ونزلنا على عشرة أميال من القسطنطينية.
فلما كان الغد خرج أهلها من رجال ونساء وصبيان ركباناً ومشاة في أحسن زي وأجمل لباس وضربت عند الصبح الأطبال والأبواق والأنفار وركبت العساكر. وخرج السلطان وزوجته أم هذه الخاتون وأرباب الدولة والخواص. وعلى رأس الملك رواق يحمله جملة من الفرسان ورجال بأيديهم عصي طوال في أعلى كل عصا سبه كرة من جلد يرفعون بها الرواق. وفي وسط الرواق مثل القبة يرفعها الفرسان بالعصي. ولما أقبل السلطان اختلطت العساكر وكثر العجاج. ولم أقدر على الدخول فيما بيتهم فلزمت أثقال الخاتون وأصحابها خوفاً على نفسي وذكر لي أنها لمّا قربت من أبويها ترجلت وقبلت الأرض بين أيديهما. ثم قبلت حافري فرسيهما. وفعل كبار أصحابها مثل فعلها في ذلك. وكان دخولنا عند الزوال أو بعده إلى القسطنطينية العظمى. وقد ضربوا نواقيسهم حتى ارتجت الآفاق لاختلاط أصواتها. ولما وصلنا الباب الأول من أبواب قصر الملك وجدنا به نحو مائة رجل معهم قائد لهم فوق دكانه وسمعتهم يقولون: سراكنو سراكنو ومعناه المسلمون. ومنعونا من الدخول. فقال لهم أصحاب الخاتون، إنهم من جهتنا. فقالوا: لا يدخلون إلا الإذن. فأقمنا بالباب وذهب بعض أصحاب(2/256)
الخاتون فبعث من أعلمها بذلك وهي بين يدي والدها. فذكرت له شأننا فأمر بدخولنا وعين لنا داراً بمقربة من دار الخاتون. وكتب لنا أمراً بأن لا نعترض حيث نذهب من المدينة ونودي بذلك في الأسواق. وأقمنا بالدار ثلاثاً تبعث إلينا الضيافة من الغنم والفاكهة والدراهم والفرش وفي اليوم الرابع دخلنا على السلطان.
394 (ذكر سلطان القسطنطينية) واسمه نكفور ابن السلطان جرجيس وأبوه السلطان جرجيس بقيد الحياة لكنه تزهد وترهب وانقطع للعبادة في الكنائس وترك الملك لوده وسنذكره. في اليوم الرابع من وصولنا إلى القسطنطينية بعثت إلى الخاتون الفتة سنبل الهندي وأخذ بيدي وادخلي إلى القصر فجزنا أربعة أبواب في كل باب سقائف بها رجال وأسلحتهم وقائدهم على دكانة مفروشة. فلما وصلنا إلى الباب الخامس تركني الفتى سنبل ودخل ثم أتى ومعه أربعة من الفتيان الروميين ففتشوني لئلا يكون معي سكين وقال لي القائد: تلك عادة لهم لابد من تفتيش كل من يدخل على الملك من خاص أو عام غريب أو بلدي وكذلك الفعل بأرض الهند. ثم لما فتشوني قام الموكل بالباب فأخذ بيدي وفتح الباب وأحاط بي أربعة من الرجال أمسك اثنان بكمي واثنان من وراءي فدخلوا بي إلى مشور كبير. حيطانه بالفسيفساء قد نقش فيها صور المخلوقات من الحيوانات والجماد. وفي وسطه ساقية ماء(2/257)
ومن جهتيها الأشجار. والناي واقفون يميناً ويساراً سكوتاً لا يتكلم أحد منهم. وفي وسط المشور ثلاثة رجال وقوف أسلمني أولئك الأربعة إليهم. فأمسكوا بثيابي كما فعل الآخرون وأشار إليهم رجل فتقدموا بي وكان أحدهم يهودياً. فقال لي بالعربي: لا تخف فهكذا عادتهم أن يفعلوا بالوارد. وأنا الترجمان وأصلي من بلاد الشام. فسألته كيف أسلم. فقال: قل: السلام عليكم. ثم وصلت إلى قبة عظيمة والسلطان على سريره وزوجته أم هذه الخاتون بين يديه. وأسفل السرير الخاتون وإخوتها. وعن يمينه ستة رجال وعن يساره أربعة وعلى رأسه أربعة وكلهم بالسلاح فأشار إلي قبل السلام والوصول إليه بالجلوس هنية ليسكن روعي. ففعلت ذلك ثم وصلت إليه فسلمت عليه وأشار إلي أن أجلس فلم أفعل وسألني عن بيت المقدس وعن الصخرة المقدسة وعن القمامة وعن مهد عيسى وعن بيت لحم وعن مدينة الخليل. ثم عن دمشق ومصر والعراق وبلاد الروم فأجبته عن ذلك كله واليهودي يترجم بيني وبينه فأعجبه كلامي وقال لأولاده: أكرموا هذا الرجل وأمنوه. ثم خلع علي خلعة وأمر لي بفرس مسرج ملجم ومظلة من التي يجعلها الملك فوق رأسه وهي علامة الأمان. وطلبت منه أن يعين من يركب معي بالمدينة في كل يوم حتى أشاهد عجائبها وغرائبها وأذكرها في بلادي. فعين لي ذلك. ومن العوائد عندهم أن الذي(2/258)
يلبس خلعة الملك ويركب فرسه يطاف به بالأبواق والأنفا والأطبال ليراه الناس لئلا يؤذوه. فطافوا بي في الأسواق.
395 (دكر المدينة) . وهي متناهية في الكبر منقسمة بقسمين بينهما نهر عظيم فيه المد والجزر. وكانت عليه فيما تقدم قنطرة مبنية فخربت وهو الآن يعبر في القوارب. واسم هذا النهر أبسمي. وأحد القسمين من المدينة يسمى اصطنبول وهو بالعدوة الشرقية من النهر. وفيه سكنى السلطان وأرباب دولته وسائر الناس. وأسواقه وشوارعه مفروشة بالصفاح متسعة. وأهل كل صناعة على حدة لا يشاركهم سواهم. وعلى كل سوق أبواب تسد عليه بالليل وأكثر الصناع والباعة بها النساء. والمدينة في سفح جبل داخل في البحر نحو تسعة أميال وعرضه مثل ذلك أو أكثر. وفي أعلاه قلعة صغيرة وقصر السلطان. والسور يحيط بهذا الجبل وهو مانع لا سبيل لأحد إليه من جهة البحر. وفيه نحو ثلاث عشرة قرية عامرة. والكنيسة العظمى هي في وسط هذا القسم من المدينة. وأما القسم الثاني منها فيسمى الغلطة وهو بالعدوة الغربية من النهر شبيه برباط الفتح في قرية من النهر. وهذا القسم خاص بنصارى الإفرنج يسكنونه. وهم أصناف فمنهم الجنويون والبنادقة وأهل رومة وأهل إفرنسة وحكمهم إلى ملك القسطنيطينية يقدم عليهم منهم من يرتضونه ويسمونه القمص. وعليهم وظيفة في كل عام لملك القسطنطينية(2/259)
وربما استعصوا عليه فيحاربهم حتى يصلح بينهم البابا. وجميعهم أهل تجارة. ومرساهم من أعظم المراسي رأيت به نحو مائة جفن من القراقر وسواها من السفن الكبار. وأما الصغار فلا تحصى كثرة. وأسواق هذا القسم حسنة يشقها نهر صغير قذر.
396 (ذكر الكنيسة العظمى) وإنما نذكر خارجها وأما داخلها فلم أشاهده. وهي تسمى عندهم أيا صوفيا. وهي من أعظم كنائس الروم وعليها سور يطيف بها فكأنها مدينة. وأبوابها ثلاثة عشر باباً. ولها حرم هو نحو ميل عليه باب كبير ولا يمنع أحد من دخوله وقد دخلته مع والد الملك. وهو شبه مشور مسطح بالرخام وتشقه ساقية تخرج من الكنيسة. لها حائطان مرتفعان نحو ذراع منتظمة عن جهتي الساقية. ومن باب الكنيسة على باب هذا المشور معرش من الخشب مرتفع عليه دوالي العنب وفي أسفله الياسمين والرياحين. وخارج باب هذا المشور قبة خشب كبيرة فيها طبلات خشب يجلس عليها خدام ذلك الباب. وعن يمين القبة مصاطب وحوانيت أكثرها من الخشب يجلس بها قضاتهم وكتاب دواوينهم. وفي وسط تلك الحوانيت قبة خشب يصعد إليها على درج خشب. وفيها كرسي كبير مطبق بالملف يجلس فوقه قاضيهم. وعن يسار القبة التي على باب هذا المشور سوق العطارين. والساقية التي ذكرناها تنقسم(2/260)
قسمين أحدهما يمر بسوق العطارين والآخر يمر بالسوق حيث القضاة والكتاب. وعلى باب الكنيسة سقائف يجلس بها خدامها الذين يقمون طرقها ويوقدون سرجها ويغلقون أبوابها. ولا يدعون أحد يدخلها حتى يسجد للصليب الأعظم عندهم الذي يزعمون أنه بقية من الخشبة التي صلب عليها عيسى. وهو على باب الكنيسة مجعول في جعبة ذهب طولها نحو عشرة أذرع. وقد عرضوا عليها جعبة ذهب مثلها حتى صارت صليبا. وهذا الباب مصفح بصفائح الفضة والذهب وحلقتاه من الذهب الخالص وذكر لي أن عدد من بهذه الكنيسة من الرهبان والقسيسين ينتهي إلى مئات. وأن بعضهم من ذرية الحواريين وأن بداخلها كنيسة مختصة بالنساء. ومن عادة الملك وأرباب دولته أن يأتوا كل يوم صباحاً إلى زيارة هذه الكنيسة.
397 (ذكر المانستارات بقسطنطينية) والمانستار عندهم شبه الزاوية عند المسلمين. وهذه المانستارات بها كثيرة فمنها مانستار عمره الملك جرجيس. ومنها مانستاران خارج الكنيسة العظمى عن يمين الداخل إليها وهما في داخل بستان يشقهما نهر ماء وأحدهما للرجال والآخر للنساء وفي كل واحد منهما كنيسة ويدور بهما البيوت للمتعبدين والمتعبدات وقد حبس على كل واحد منهما أحباس لكسوة المتعبدين ونفقتهم. ومنها مانستاران عن يسار الداخل إلى الكنيسة العظمى على مثل هذين الآخرين ويطيف بهما(2/261)
بيوت. وأحدهما يسكنه العميان والثاني يسكنه الشيوخ الذين لا يستطيعون الخدمة ممن بلغ الستين أو نحوهما. ولكل واحد منهم كسوته ونفقته من أوقاف معينة لذلك. وفي داخل كل مانستار منها دويرة لتعبد الملك الذي بناه وأكثر هؤلاء الملوك إذا بلغ الستين أو السبعين بنى مانستاراً ولبس المسوح وهي ثياب الشعر وقلد ولده الملك واشتغل بالعبادة حتى يموت. وهم يحتفلون في بناء هذه المانستارات ويعملونها بالرخام والفسيفساء وهي كثيرة بهذه المدينة. ودخلت مع الرومي الذي عينه الملك للركوب معي إلى مانستار يشقه نهر وفيه كنيسة فيها كثير من الأبكار عليهن المسوح ورؤوسهن محلوقة فيها قلانيس اللبد وعليهن أثر العبادة. وقال لي الرومي: إن هؤلاء البنات من نبات الملوك وهبن أنفسهم لخدمة هذه الكنيسة. ودخلت معه إلى كنائس فيها الرهبان يكون في الكنيسة منها مائة رجل وأكثر وأقل وكثير من أهل المدينة متعبدون وقسيسون وكنائسها لا تحصى كثرة. وأهل المدينة من جندي وغيره صغير وكبير يجعلون على رؤوسهم المظلات الكبار شتاء وصيفاً. والنساء لهن عمائم كبار.
398 (ذكر الملك المترهب جرجيس) وهذا الملك ولى الملك لابنه وانقطع للعبادة وبنى مانستارا كما ذكرنا خارج المدينة على ساحلها. وكنت يوماً مع الرومي المعين للركوب معي فإذا بهذا الملك ماشياً على قدميه. وعليه المسوح وعلى رأسه قلنسوة لبدٍ وله لحية بيضاء طويلة(2/262)
ووجه حين عليه أثر العبادة وخلفه وأمامه جماعة من الرهبان وبيده عكاز وفي عنقه سبحة. فلما رآه الرومي نزل وقال لي: أنزل فهذا والد الملك فلما سلم عليه الرومي سأله عني. ثم وقف وبعث عني فجئت إليه فأخذ بيدي وقال لذلك الرومي وكان يعرف اللسان العربي: قل لهذا السراكنو يعني المسلم أنا أصافح اليد التي دخلت بين المقدس والرجل التي مشت داخل الصخرة والكنيسة العظمى التي تسمى قمامة وبيت لحم وجعل يده على قدمي ومسح بها وجهه فعجبت من اعتقادهم فيمن دخل تلك المواضيع من غير ملتهم. ثم أخذ بيدي ومشيت معه فسألني عن بيت المقدس ومن فيه من النصارى وأطال السؤال ودخلت معه إلى حرم الكنيسة الذي وصفناه آنفاً. ولما قارب الباب الأعظم خرجت جماعة من القسيسين والرهبان للسلام عليه وهو من كبارهم في الرهبانية. ولما رآهم أرسل يدي فقلت له أريد الدخول معك إلى الكنيسة. فقال للترجمان: قل له لا بد لداخلها من السجود للصليب الأعظم فإن هذا مما سنته الأوائل ولا يمكن خلافه فتركته ودخل وحده ولم أره بعدها ... ولما ظهر لمن كان في صحبة الخاتون من الأتراك أنها راغبة في المقام مع أبيها طلبوا منها الإذن في العودة على بلادهم فأذنت لهم. وأعطتهم عطاء جزيلاً وأجزلت علي العطاء وأوصت بي أحد أمرائها قودعتها وانصرفت. فكان مدة مقامي عندهم شهراً وستة أيام. (تحفة النظار في عجائب الأسفار)(2/263)
الباب الثالث عشر في عجائب المخلوقات
في سكان السماوات وهم الملائكة
399 اعلم أن الملائكة جواهر مقدسة عن ظلمة الشهوة وكدورة الغضب. لا يعصون الله ما أمرهم ويفعلون ما يؤمرون. طعامهم التسبيح وشرابهم التقديس. وأنسهم بذكر الله تعالى. وفرحه بعبادته. وقال بعض الحكماء: إن لم يكن في فضاء الأفلاك وسعة السماوات خلائق فكيف يليق بحكمة الباري تعالى تركها فارغة خاوية مع شرف جوهرها. وإنه لم يترك قعر البحار المالحة المظلمة فارغاً حتى خلق فيه أجناس الحيوانات وغيرها. ولم يترك جو الهواء الرقيق حتى خلق له أنواع الطير تسبح فيه كما تسبح السمك في الماء. ولم يترك البراري اليابسة والآجام الوحلة والجبال الراسية الصلبة حتى خلق فيها أجناس السباع والوحوش. ولم يترك ظلمات التراب حتى خلق فيه أجناس الهوام والحشرات.
الملائكة أصناف منهم الكروبيون وهم العاكفون في حضرة القدس لا التفات لهم إلى نمير الله تعالى لاستغراقهم بجمال الحضرة الربوبية وجلالها يسبحون الليل والنهار لا يفترون. ومنهم ملائكة السماوات السبع مداومون على التسبيح والتهليل في القيام والقعود(2/264)
والركوع والسجود يسبحون الليل والنهار لا يفترون. ومنهم المعقبات. وهم الملائكة الذين ينزلون بالبركات ويصعدون بأرواح بني آدم وأعمالهم بالليل والنهار. ومنهم الملائكة والموكلون بالكائنات هم ملائكة شأنهم إصلاح الكائنات ودفع الفساد عنها. وقد وكل بكل فرد من أفرادها من الملائكة ما شاء الله.
في حقيقة العناصر وطباعها وترتيبها
400 ذهبوا إلى أن العنصر هو الأصل في الموضوعات والمراد منه الأجسام التي دون فلك القمر. وتلك الأجسام أمهات والمولدات المعادن والنبات والحيوان ويقال للأمهات الأركان. والأركان أربعة النار والهواء والماء والأرض. فالنار حارة يابسة موضعها الطبيعي تحت الفلك وفوق الهواء. والماء بارد رطب موضعه الطبيعي تحت الهواء وفوق الأرض. والأرض باردة يابسة موضعها الطبيعي الوسط.
فصل في فوائد الجبال وعجائبها
401 أما فائدتها العظمى فما قال بعضهم: لو لم تكن الجبال لكان وجه الأرض مستديراً أملس. وكانت مياه البحار تغطيها من جميع جهاتها وتحيط بها إحاطة كرة الهواء بالماء فتبطل الحكمة المودعة في المعادن والنبات والحيوان. فاقتضت الحكمة الإلهية وجود الجبال لما ذكرنا من الحكمة. وقال بعضهم: إن الحبال سبب لوجود الماء العذب السائح على وجه الأرض الذي هو مادة حياة(2/265)
النبات والحيوان وذلك لأن سبب هذا الماء إنما هو انعقاد البخار في الجو أعني السحاب. والجبال الشامخة الطوال على بسيط الأرض شرقاً وغرباً وجنوباً وشمالاً تمنع الرياح أن تسوق البخار بل تجعلها منحصرة بينها حتى يلحقها البرد فتصير مطراً وثلجاً. فلو فرضت الجبال مرتفعة عن وجه الأرض لكانت الأرض كرة لا غور فيها ولا نتوء فالبخار المرتفع لا يبقى في الجو منحصراً إلى وقت يضربه البرد بل يتخلل ويستحيل هواء فلا يجري الماء على وجه الأرض إلا قد ما ينزل من المطر ثم تنشفه الأرض. فكان يعرض من ذلك أن يكون النبات والحيوان يعدم الماء في الصيف كما في البوادي البعيدة. فاقتضى التدبير الإلهي وجود الجبال لتحصر البخار المرتفع من الأرض بين أغوارها وتمنعه من السيلان وتمنع الرياح أن تسوقه.
المعدنيات
402 المعادن لا تكاد تحصى لكن منها ما يعرفه الناس ومنها مالا يعرفونه وهي مقسومة إلى ما يذوب وإلى ما لا يذوب. والذي اشتهر بين الناس من المعادن سبعة وهي الذهب والفضة والنحاس والحديد والقصدير والأسرب والخارصيني.
403 (الذهب) . طبعه حار لطيف لا يحترق بالنار لأن النار لا تقدر على تفريق أجزائه. ولا يبلى ولا يصدأ على طل(2/266)
الزمان. وهو لين أصفر براق طيب الرائحة ثقيل رزين. فصفرة لونه من ناريته. ولينه من دهنيته. وبريقه من صفاء مائيته. وثقله من ترابيته. وهو أشرف نعمه الله على عبادة إذ به قوام أمور الدنيا ونظام أحوال الخلق لاضطرارهم إليه في حاجاتهم. فإن كل إنسان محتاج إلى أعيان كثيرة من مطعمه وملبسه ومسكنه وسائر حاجاته. ولعله يملك ما يستغني عنه كمن يملك الثياب وهو محتاج إلى البر. ولعل صاحب البر لا يحتاج إلى الثياب فلابد من متوسط يرغب فيه كل أحد. فخلق الله تعالى الدراهم والدنانير متوسطين بين الأحشاء حتى يبذلا في مقابلة كل شيء ويبذل في مقابلتها كل شيء. وهما كالقاضيين بين جميع الناس يقضيان حوائج كل من لقيهما.
404 (الحديد (. جسم (بسيط) كدر المادة أسود اللهو. وهو أكثر فائدة من سائر الفلزات وإن كان أقل ثمناً. فيه بأس شديد ومنافع للناس. فالبأس في النصول المتخذة منه. والمنافع في الآلات والأدوات حتى قيل: ما من صنعة إلا وللحديد فيها في أدواتها مدخل.
الشجر
405 (الشجر) . هو كل ما له ساق من النبات. والأشجار العظام بمثابة الحيوانات العظام والنجوم بمثابة الحيوانات الصغار. والأشجار(2/267)
العظام لا ثمر لها كالساج والدلب والعرعر لأن المادة كلها صرفت إلى نفس الشجرة. ولا كذلك الأشجار المثمرة فإن مادتها صرفت إلى الشجرة والثمرة. وقد يشارك النبات الحيوان في أمر التغذية. فإن الغذاء كما يسري في بدن الحيوان لا تبقى شعرة إلا أخذت منها قسطها فكذلك الماء الذي صب في أسفل الشجرة فإنه يعلو إلى الأغصان في داخل تجاويف الأشجار شيئاً فشيئاً حتى ينشر في جميع أوراق الأشجار وفي جميع أطراف الأوراق ويغذي كل جزء من كل ورقة ويجري من تجاويف عروق شعرية صغار ترى في أصل الورق وكأن العرق الكبير نهر. وما يتشعب عنه جداول في جميع عرض الورق فيصل الماء إلى سائر أجزاء الورقة. وكذلك إلى سائر أجزاء الفواكه. ومن عجيب صنع الباري تعالى خلق الأوراق على الأشجار زينة لها ووقاية لثمارها من نكاية الشمس والهواء. ثم إنه تعالى خلقها مرتفعة عن الثمار متفرقة بعض التفريق لا متكاثفة عليها بعيدة عنها لتأخذ الثمار من النسيم تارة ومن الشمس تارة أخرى. ولو تكاثفت عليها حتى منعتها إصابة النسيم وشعاع الشمس لبقيت على فجاجتها غليظة الجلد قليلة المائية. وإذا(2/268)
سقط عنها بعض الورق أصابتها الشمس وأحرقتها كما ترى في الرمانة التي احترق منها أحد الجوانب. ثم إذا فرغت الثمرة تناثرت الأوراق حتى لا تجذب مائية الشجرة فتضعف قوتها. (القزويني) 406 (البلسان) . لا يوجد اليوم منه إلا بمصر بعين شمس في موضع محاط عليه محتفظ به مساحته نحو سبعة أفدنة. وارتفاع شجرته نحو ذراع وأكثر من ذلك وعليها قشران الأعلى أحمر خفيف والأسفل أخضر ثخين. وإذا مضغ ظهر في الفم منه دهنية ورائحة عطرة. وورقة شبيه بورق السذاب ويجتنى دهنه عند طلوع الشعري بأن تشدخ السوق بعد ما يحت عنها جميع ورقها. وشدخها يكون بحجرة تتخذ محددة ويفتقر شدخها إلى صناعة بحيث يقطع القشر الأعلى ويشق الأسفل شقاً لا ينفذ إلى الخشب. فإن نفذ إلى الخشب لم يخرج منه شيء. فإذا شدخه كما وصفنا أمله ريثما يسيل لثاه على العود فيجمعه بإصبعه مسحاً إلى قرن. فإذا أمتلأ صبه في قناني زجاج ولا يزال كذلك حتى ينتهي جناه وينقطع لثاه. كلما كثر الندى في الجو كان لثاه أكثر وأغزر. وفي الجدب وقلة الندى يكون اللثى أنزر. ثم تؤخذ القناني فتدفن إلى القيظ وحمارة الحر وتخرج من الدفن وتجعل في الشمس. ثم تتفقد كل يوم فيوجد الدهن وقد طفا فوق رطوبة مائية وأثقال أرضية فيقطف الدهن ثم تعاد إلى الشمس. ولا يزال يشمسها ويقطف دهنها حتى لا يبقى(2/269)
فيها دهن. فيخذ ذلك الدهن ويطبخه قيمه. ثم يرفعه إلى خزانة الملك ومقدار الدهن الخالص من اللثى بالترويق ونحو عشر الجملة.
407 (الجميز) . كأنه تين بري وتخرج ثمرته في الخشب لا تحت الورق. ويخلف في السنة سبعة بطون. ويؤكل أربعة أشهر ويحمل وقراً عظيماً. وقبل أن يجنى بأيام يصعد رجل إلى الشجرة ومعه حديدة يسم بها حبة حبة من الثمرة فيجري منها لبن أبيض. ثم يسود الموضع وتحلو الثمرة بذلك الفعل. وقد يوجد منه شيء شديد الحلاوة أحلى من التين لكنه لا ينفك في آخر مضغة من طعم خشبية ما. وشجرته كبيرة كشجرة الجوز العاتية ويخرج من ثمره وغصنته إذا فصدت لبن أبيض إذا طلي على ثوب أو غيره صبغة وأحمر. وخشبة تعمر به المساكن وتتخذ منه الأبواب وغيرها من الآلات الجافية. وله بقاء على الدهر وصبر على الماء والشمس. وقلما يتأكل هذا مع أنه خشب خفيف قليل اللدونة. ويتخذ من ثمرته خل حاذق ونبيذ حاد. (من كتاب الإفادة الاعتبار من ثمرته) .
408 (العنبة) . وهي شجرة تسبه أشجار النارنج إلا أنها أعظم أجراماً وأكثر أوراقاً. وظلها أكثر الظلال غير أنه قيل فمن نام تحته وعك. وثمرها على قدر الأجاص الكبير. فإذا كان أخضر قبل تمام نضجه أخذوا ما سقط منه وجعلوا عليه الملح وصيروه كما يصير الليم والليمون ببلادنا وكذلك يصيرون أيضاً الزنجبيل الأخضر وعناقيه(2/270)
الفلفل ويأكلون ذلك مع الطعام يأخذون بإثر كل لقمة يسيراً من هذه المملوحات. فإذا نضجت العنبة في أوان الخريف اصفرت حباتها فأكلوها كالتفاح. فبعضهم يقطعها بالسكين وبعضهم يمصها مصاً. وهي حلوة يمازج حلاوتها يسير حموضة ولها نواة كبيرة يزرعونها فتنبت منها الأشجار كما تزرع نوى النارنج وغيرها. (لابن بطوطة) 409 (الموز) . معادنه عمان. وتنبت الموزة نبات البردية لها عنقرة غليظة وورقة طويلة عريضة نحو ثلاث أذرع في ذراعين. ليست بمنخرطة على نبات السعف لكن شبه المربعة. وترتفع الموزة قامة باسطة. ولا تزال فراخها تنبت حولها واحدة أصغر من الأخرى. فإذا أجرت وذلك إدراك موزها قطعت الأم حينئذ كم أصلها ويؤخذ قنوها. ويطلع أكبر فراخها فيصير هو الأم وتبقى البواقي فراخاً لها ولا تزال على هذا أبد الهر. ولذلك قال أشعب لإبنه فيما يروي عنه الأصمعي: يا بني لم لا تكون مثلي. فقال: أنا مثل الموزة لا تصلح حتى تموت أمها. (لأبي حنيفة الدينوري) 410 (الفلفل) . شجرة الفلفل شبيهة بدوالي العنب وأهل الهند يغرسونها إزاء النارجيل. فتصعد فيها كصعود الدوالي إلا أنها ليس لها عسلوج وهو الغزل كما للدوالي. وأوراق شجرة تشبه أوراق الخيل. وبعضها يشبه أوراق العليق. ويثمر عناقيد صغاراً حبها كحب أبي قنينة إذا كانت خضراً. وإذا كان أوان الخريف قطفوه وفرشوه على الحصر(2/271)
في الشمس كما يصنع بالعنب عند تزبيبه. ولا يزالون يقلبونه حتى يستحكم يبسه ويسود. ثم يبيعونه من التجار. ولقد رأيته بمدينة قالقوط يصب للكيل كالذرة ببلادنا. (لابن بطوطة) .
النجوم
411 (النجوم) كل نبت ليس له ساق صلب مرتفع كالزروع والبقول والرياحين والحشائش البرية. وقد أجرى الله عادته في كل سنة أنه يحي الأرض بعد موتها فيجري يابس أنهارها وينشر رفات نباتها حتى ترى من الأوراق مخضرة. ومن الأزهار محمرة ومصفرة. ليستدل به ذو الطبع السليم والفهم المستقيم. على إحياء الأموات. وإعادة العظام الرفات.
ومن الأمور العجيبة القوة التي خلقها الله تعالى في نفس الحب فإنها إذا وقعت في بطن الأرض جذبت بواسطة تلك القوة الرطوبة التي تصلح أن تكون لها غذاء من نفس الأرض مما حواليها. كشعلة نار السراج فإنها تجذب الرطوبة التي في السراج بواسطة قوة خلقها الله تعالى فيها. ثم إن تلك الرطوبة إذا حصلت في نفس الحب صارت غذاء لها وتعمل فيها القوى الطبيعية حتى تبلغ كمالها. والنجوم في جنس النبات كالحيوانات الصغار في جنس الحيوان والأشجار الكبار كالحيوانات فكما أن عند شدة البرد لا يبقى من الحيوانات التي لا عظم لها شيء كذلك لا يبقى من النبات شيء ليس له خشب صلب.(2/272)
وأما الحيوانات الكبار فإنها تصبر على البرد وكذلك الأشجار. ثم إن عقول العقلاء متحيرة في أمر الحشائش وعجائبها. وأفهام الأذكياء قاصرة عن ضبط خواصها وفوائدها. وكيف لامه ما يشاهد من تنوع صور قضبانها واختلاف أشكال أوراقها وعجيب ألوان أزهارها وتنوع كل لون منها ثم عجاب أشكال حبوبها. فإن لكل حب وورق وزهر وعرق شكلاً ولوناً وطعماً ورائحة وخاصية بل خاصيات لا يعرفها إلا الله. والتي عرفها الإنسان بالنسبة إلى ما مل يعرفه قطرة من بحر. (للقزويني) 412 (البامية) . وهي ثمر بقدر إبهام اليد كأنه جراء القثاء شديد الخضرة إلا أن عليه زئبراً مشوكاً وهو مخمس الشكل يحيط به خمسة أضلاع فإذا شق انشق عن خمسة أبيات بينها حواجز. وفي تلك الأبيات حب مصطف مستدير أبيض أصغر من اللوبياء هش يضرب إلى الحلاوة. وفيه اللعابية كثيرة. يطبخ أهل مصر به اللحم بأن يقطع مع قشوره صغاراً ويكون طعاماً لا بأس به. الغالب على طبعه الحرارة والرطوبة ولا يظهر في طبيخه قبض بل لزوجة.
413 (القلقاس) . وهو أصول بقدر الخيار. ومنه صغار كالأصابع(2/273)
يضرب إلى حمرة خفيفة يقشر ثم يشقق على مثل السلجم. وهو كثيف مكتنز يشابه الموز الأخضر الفج في طعمه. وفيه قبض يسير مع حرافة قوية وهذا دليل على حرارته ويبسه. فإذا سلق زالت حرافته جملة وحدث له معما فيه من القبض اليسير لزوجة مغرية كانت فيه بالقوة. إلا أن حرافته كانت تخفيها وتسترها ولذلك صار غذاؤه غليظاً بطيء الهضم ثقيلاً في المعدة. إلا أنه لما فيه من القبض والعفوصة صار قوياً للمعدة. (لعبد اللطيف)
جنس الحيوان
414 الحيوان ما فيه حياة. قال الجاحظ: الحيوان على أربعة أقسام. شيء يمشي وشيء يطير وشيء يعوم وشيء ينساح في الأرض إلا أن كل شيء يطير يمشي وليس كل شيء يمشي يطير. فإما النوع الذي يمشي فهو على ثلاثة أقسام: ناس وبهائم وسباع. والطير كله سبع وبهيمة وهمج. والخشاش ما لطف جرمه وصغر جسمه وكان عديم السلاح. والهمج ليس من الطيور ولكنه يطير. وهو فيما يطير كالحشرات فيما يمشي. والسبع من الطير ما أكل اللحم خالصاً. والبهيمة ما آكل الحب خالصاً. والمشترك كالعصفورة فإنه ليس بذي مخلب ولا منسر وهو يلقط الحب ومع ذلك يصيد النمل ويصيد الجراد ويأكل اللحم ولا يزق فراخه كما يزق الحمام فهو مشترك الطبيعة. وأشباه العصافير من المشترك كثيرة وليس كل ما طار بجناحين من(2/274)
الطير فقد يطير الجعلان والذاب والزنابير والجراد والنمل والفراش والبعوض والأرضة وغير ذلك ولا تسمى طيوراً. (للدميري)
الإنسان
415 (إنسان) . قال القاضي أبو بكر بن العربي المالكي الإمام العلامة: ليس لله تعالى خلق أحس من الإنسان. فإن الله تعالى خلقه حياً عالماً متكلماً سميعاً بصيراً مدبراً حكيماً وهذه صفات الرب جل وعلا. قال تعالى: لقد خلقنا الإنسان في أحسن تقويم وهو اعتداله وتسوية أعضائه لأنه خلق كل شيء منكباً على وجهه وخلقه سوياً. وله لسان ذلق ينطق به ويد وأصابع يقبض بها. مؤدباً بالأمر مهذباً بالتمييز. يتناول مأكوله ومشروبه بيده. وأفتتح ابن بختيشوع الطبيب النصراني كتابه في الحيوان بالإنسان وقال: إنه أعدل الحيوان مزاجاً وأكمله أفعالاً وألطفه حساً وأنفذه رأياً. فهو كالملك المسلط القاهر لسائر الخليقة والآمر لهاز وذلك بما وهب الله تعالى له من العقل الذي به يميز على كل الحيوان البهيمي فهو بالحقيقة ملك العالم. ولذلك سماه قوم من الأقدمين العالم الأصغر.
النعم
416 النعم وهي تشمل الإبل والبقر والغنم هي كثيرة الفائدة سهلة الانقياد. ليس لها شراسة الدواب ولا نفرة السباع. ولشدة حاجة الناس إليها يخلق الله سبحانه وتعالى لها سلاحاً شديداً كأنياب(2/275)
السباع وبراثنها وأنياب الحشرات وإبرها. وجعل من شأنها الثبات والصبر على التعب والجوع والعطش. وخلقها ذلولاً تقاد بالأيدي فمنها كروبهم ومنها يأكلون. وجعل الله قرنها سلاحاً لتأمن به من الأعداء. ولما كان مأكلها الحشيش اقتضت الحكمة الإلهية أن تجعل لها أفواهاً واسعة وأسنانا حداداً وأضراساً صلاباً لتطحن بها الحب والنوى.
417 (ألجاموس) . هو حيوان عنده شجاعة وشدة وبأس. وهو مع ذلك أجزع خلق الله يفرض من عض بعوضة ويهرب منها إلى الماء. والأسد يخافه. وهو مع شدته وغلظه ذكي. ويقال إنه لا ينام أصلاً لكثرة حراسته لنفسه وأولاده. وإذا اجتمعت ضربت دائرة وتجعل رؤسها خارج الدائرة وأذنابها إلى داخلها والرعاة وأولادها من داخل. فتكون الدائرة كأنها مدينة مسورة من صياصيها. والذكر منها يناطح ذكراً آخر. فإذا قوي فيخرج ويطلب ذلك الفحل الذي غلبه فيناطحه حتى يغلبه ويطرده. وهو يتغمس في الماء غالباً إلى خرطومه. والجاموس يقتل التمساح مع عظم بدنه وهول جثته. يمشي إلى الأسد رخي البال ثابت الجنان رابط الجأش. وليس في قرنه حدة كما في قرن البقر فضلاً عن حدة أطراف مخاليب الأسد وأنيابه. (للدميري)
418 (بقر) . حيوان كثير المنفعة شديد القوة خلقه الله ذلولاً منقاداً للناس. وإنما لم يخلق له سلاح شديد مثل
السباع وغيرها لأنه(2/276)
في رعاية الإنسان. فالإنسان يدفع عنه عدوه بخلاف السباع. ولأن حاجة الإنسان إليه ماسة فلو كان له سلاح في رأسه فيستعمل محل القرن كما ترى من العجاجيل قبل نبات القرن تنطح برؤوسها. وذلك لمعنى خلق لطبيعتها فيعمل ذلك بالطبع. ولم يخلق للبقر الثنايا الفوقانية فيقلع الحشيش بالسفلانية. (للقزويني) 419 (ظبي المسك) . وهو كسائر الظباء عندنا في القد واللون ودقة القوائم وافتراق الأظلاف وانتصاب القرون وانعطافها. وله نابان دقيقان أبيضان في الفكين قائمان في وجه الظبي. طول كل واحد منهما مقدار فتر ودونه على هيئة ناب الفيل فهو الفرق بينها وبين سائر الظباء. وأجود المسك كله ما حكه الظبي على أحجار الجبال إذ كان مادة تصير في سرته ويجتمع دماً عبيطاً كاجتماع الدم فيما يعرض من الدمامل. فإذا أدرك حكه وأجره فيفرع إلى الحجارة حتى يخرقه فيسيل ما فيه فإذا خرج عنه جف واندمل وعادت المادة تجتمع فيه كمن ذي قبل. وبالتبت رجال يخرجون في طلب هذا ولهم به معرفة. فإذا وجدوه التقطوه وجمعوه وأودعوه النوافج وحملوه إلى ملوكهم. وهو نهاية المسك إذ كان قد أدرك على حيوانه. وصار له فضل على غيره من المسك كفضل ما يدرك من الثمار في شجرة على سائر ما ينزع منه قبل إدراكه. (للمسعودي)(2/277)
420 (فرس) . من أحسن الحيوانات بعد الإنسان صورة وأشد الدواب عدواً وذكاء. وله خصال حميدة وأخلاق مرضية. من ذلك حسن صورته وتناسب أجزائه وأعضائه وصفاء لونه وسرعة عدوه وحسن طاعته لفارسه كيف صرفه انقاد له. ومنها ما يلعب الفارس على ظهره بالكرة يعدو خلفها. ومن الفرس ما يعرف صاحبه فلا يمكن غيره من ركوبه. ومن الخيل ما يلحق الظبي حتى يضرب راكبه الظبي بالسيف.
السباع
421 (ابن آوى) . جمعه بنات آوى وسمي ابن آوى لأنه يأوي إلى عواء أبناء جنسه ولا يعوي إلا ليلاً. وذلك إذا استوحش وبقي وحده. وصياحه يشبه صياح الصبيان. وهو طويل المخالب والأظفار يعدو على غيره ويأكل مما يصيد من الطيور وغيرها. وخوف الدجاج منه أشد من خوفها من الثعلب لأنه إذا مر تحتها وهي على الشجرة أو الجدار تساقطت وإن كانت عدداً كثيراً. وابن آوى يفسد الكروم والثمار وإذا أراد صيد طير الماء جمع حزمه من الحشيش ويرميها في الماء ويتركها حتى يستأنس الطير بها ويقع عليها. فإذا رأى استئناس الطير بها جعل يمشي خلفها ويصطاد ما قدر عليه.
422 (الخنزير) . حيوان سمج الشكل صعب له نابان كنابي(2/278)
الفيل يضرب بهما. ورأسه كرأس الجاموس. وله ظلف كلما للبقر يلطخ بدنه بالطين والأشياء اللزجة حتى يصير جلده كالجوشن لا تعمل فيه أنياب الخنازير عند الخصومه. وأنثاه أنسل الحيوانات لأنها تضع عشرين خنوصاً. فالخنزير يأكل الحية أكلاً ذريعاً وسم الحية لا يعمل في الخنزير. وهو أروغ من الثعلب. يهرب من الفارس حتى يطمع فيه الفارس ويعدو خلفه ويتعب ثم يكر عليه ويضرب الفرس أو الفارس ضربة شديدة بنابه فيقتله. (للقزويني) 423 (الذئب) . حيوان كثير الخبث ذو غارات وخصومات ومكابرة وختل شديد. وقلما يخطى في وثبته. وعند اجتماعها لا ينفرد أحد منها إذ لا يأمن على نفسه. وإذا أصاب أحدها جرحة أو ضربة علمت أنه ضعيف فاجتمعت وأكلته. وإذا نامت الذئاب واجه بعضها بعضاً ولا ينام خلفه حتى ينظر أحدهما إلى الآخر وقيل إنه ينام بإحدى عينيه ويفتح الأخرى. وقال حميد الهلاي:
ينام بإحدى مقلتيه ويتقي المناسا بأخرى فهو يقظان هاجع
وإذا عجز عن غلبة من يقاومه يعوي حتى يأتي ما يسمع عواءه من الذئاب يعاونه. وإذا مرض انفرد عن الذئاب ويعلم أنها إن أحست بمرضه أكلته. وفيه من قوة حاسة الشم أنه يدرك المشموم من فرسخ. وأكثر ما يتعرض للغنم في الصبح وإنما يتوقع فترة الكلب ونومه وكلاله لأنه يظل طول ليله حارساً متيقظاً. ومن غريب(2/279)
أمره أنه إذا كده الجوع عوى فتجتمع له الذئاب ويقف بعضها إلى بعض فمن ولى وثب إليه الباقون وأكلوه. وإذا عرض للإنسان وخاف العجز عنه عوى عواء استغاثة فتسمعه الذئاب فتقبل على الإنسان إقبالاً واحداً وهم سواء في الحرص على أكله. فإن أدمى الإنسان واحداً منها وثب الباقون على المدمى فمزقوه وتركوا الإنسان. وقال بعض الشعراء يعاتب صديقاً مال عنه:
وكنت كذئب السوء لما رأى دماً ... بصاحبه يوماً أحال على الدم
424 (السنور) . حيوان ألوف متملق خلقه الله تعالى لدفع الفأر. وهو يحب النظافة فيمسح وجهه بلعابه. وإذا تلطخ شيء من بدنه لا يلبث حتى ينظفه. وإذا ألف السنور منزلاً منع غيره من السنانير الدخول إلى ذلك المنزل وحاربه أشد محارة وهو من جنسه علماً منه بأن أربابه ربما استحسنوه وقدموه عليه أو شاركوا بينه وبينه في المطعم وإن أخذ شيئاً مما يخزنه أصحاب المنزل عنه هرب علماً منه بما يناله منهم من الضرب. وإذا طردوه تملقهم وتمسح بهم علماً منه بأنه يخلصه التملق ويحصل له العفو والإحسان. وإذا مرّ الفأر على السقف استلقى يحرك يديه ورجليه ليراه الفأر فيسقط من السقف فزعاً. وإذا صاد شيئاً من الفأر يلعب بها زماناً فربما يخليها حتى تمعن في الهرب وظنت أنها نجت. ثم يثب عليها ويأخذها. فلا يزال يخدعها بالسلامة ويورثها الحسرة والأسف ويلتذ بتعذيبها ثم(2/280)
يأكلها. والسنور ثلاثة أنواع. أهلي ووحشي وسنور الزباد. وكل من الأهلي والوحشي له نفس غضوبة ويفترس ويأكل اللحم الحي. وأما سنور الزباد فهو كالسنور الأهلي لكنه أطول منه ذنباً وأكبر جثة ووبره إلى السواد أميل وربما كان أنمر. ويجلب من بلاد الهند والسند. والزباد فيه شبيه بالوسخ الأسود اللزج وهو ذفر الرائحة يخالطه طيب كطيب المسك. (للدميري) 425 (النمر) . ضرب من السباع فيه شبه من الأسد إلا أنه أصغر منه. وهو ذو قوة وقهر وسطوة صادقة ووثبات شديدة وهو أعدى عدو للحيوانات. وهو ذو وشيء وألوان حسنة لا يردعه سطوة أحد ولا ينصرف عن العسكر الدهم. وخلقه في غاية الضيق لا يستأنس البتة وعنده كبر وعجب بنفسه إذا شبع نام أياماً فإذا انتبه جائعاً خرخر شديداً يعرف ما حوله من الحيوان أنه يريد الصيد. والنمر يتعرض لكل حيوان رآه في جوعه وشبعه بخلاف الأسد فإنه لا يتعرض للحيوان إلا عند جوعه.
الطيور
426 (أبو براقش) . طائر حسن الصورة طويل الرقبة والرجلين أحمر المنقار في حجم اللقلق. يتلون كل شاعة بلون آخر من أحمر وأصفر واخضر يضرب به المثل في التنقل والتحول. قال الشاعر:
كأبي براقش كل يو ... م لونه يتقلب(2/281)
على لون هذا الطائر نسجت ثياب تسمى أبا قلمون تجلب من الروم. وعجب هذا الطائر في لونه وشكله (للقزويني) 427 (الديك) . أكثر الطيور عجباً بنفسه وهو أبله الطبيعة وعلامته حمرة العرف وغلظ الرقبة وضيق العين وسوادها وحدة المخالب ورفع الصوت. وأعظم ما فيه من العجائب معرفة الأوقات الليلية. فيقسط أصواته عليها تقسيطاً لا يكاد يغادر منه شيئاً سواء طال أو قصر. ويوالي صياحه قبل الفجر وبعده فسبحان من هداه لذلك. قال ابن المعتز يصف ديكاً:
بشر بالصبح طائر هتفا ... هاج من الليل بعدما انتصفا
مذكراً بالصباح صاح بنا ... كخاطب فوق منبر وقفا
صفق إما ارتياحة لسنا الفجر وإما على الدجى أسفا
428 (الصقر) . أحد أنواع الجوارح الأربعة وهي الصقر والشاهين والعقاب والبازي وتنعت أيضاً بالسباع. وهو أصبر على الشدة وأحمل لغليظ الغذاء والأذى وأحسن ألفة وأشد إقداماً على جملة الطير من الكركي وغيره. وصده أعجب من جميع الجوارح فإذا أرس صقران على ظبية أو بقر وحش ينزل أحدهما على رأسه ويضرب بجناحه عينه ثم يقوم وينزل الآخر ويفعل مثل ذلك ويشغلانه عن المشي حتى يدركه من يبطش به. ومن العجب أن الصقر مع صغر جثته يثب على الكركي مع ضخامته. (للدميري)(2/282)
429 (القبرة) . الطائر ذو الأصوات المطربة والنغمات اللذيذة على رأسه قنزعة شبيهة بما للطاووس. وهو شديد الاحتياط إذا وقع على شيء ينظر يمينه وشماله ووراءه. ومع كثرة احتياطه كثير الوقوع في الفخ. يتخذ عشاً عجيباً له تأليف معجب. وهو أنه يعمد إلى ثلاثة أعواد من شجرة الكرم أو شجرة مثلها عريضة الأوراق. ويأتي حشيش في غاية اللطافة وينسج بين تلك الأعواد سليلة لطيفة عجيبة التأليف لا يمكن للبشر أن يأتي بمثلها. ويدع البيضة فيها وتكون السليلة مستترة بأوراق الشجر لا يراها شيء من جوارح الطير. حكى بعضهم قال: كان طرفة مع عمه في سفر وهو ابن سبع سنين فنزلوا على ماء فذهب طرفة بفخ له إلى مكان فنصبه للقنابر وبقي عامة يومه لم يصد شيئاً. ثم حمل فخه وعاد إلى عمه فرحلوا من ذلك المكان فرأى القنابر يلقطن ما نثر لهن من الحب فقال:
يا لك من قبرة بمعمر ... خلا لك اجو فبيضي واصفري
قد رفع الفخ فماذا تحذري ... ونقري ما شئت أن تنقري
قد ذهب الصياد عنك فابشري ... لابد من أخذك يوما فاحذري
الهوام والحشرات
430 (حية) إنها من أعظم الحيوانات خلقة وأشدها بأساً وأقلها غذاءً وأطولها عمراً. قالوا ليس في حيوانات البر شيء يقتل نهشه أسرع من الحية ولا شيء يغتذي بالتراب غيرها. ومن عجاب الحية(2/283)
أنها إذا عرفت أنها مقتولة أحرزت رأسها ببدنها وجعلت بدنها وقاية لرأسها ولا تزال تنطوي لئلا تقع الضربة على رأسها ملاك الحياة. وليس شيء في الأرض مثل الحية إلا وحسم الحية أقوى منه. ولذلك إذا أدخلت صدرها في حجر أو صدع لم يستطع أقوى الناس إخراجها منه وربما تقطعت ولا تخرج. وليس لها قوائم ولا أظفار تتشبث بها وإنما قوي على بطنها فتتدافع أجزاؤها وتسعى بذلك الدفع الشديد. ولسانها مشقوق فيظن بعض الناس أن ها لسانين. وتوصف بالنهم والشره لأنها تبتلع الفراخ من غير مضغ. كما يفعل الأسد. ومن شأنها إنها إذا ابتلعت شيئاً له عظم أتت شجرة أو نحوها فتلتوي عليها التواء شديداً حتى يتكسر ذلك في جوفها. والحية من الأمم التي تكثر أصنافها في الصغر والكبر والتعرض للناس والهرب منهم. فمنها ما لا يؤذي إلا إذا وطئه واطئ ومنها ما لا يؤذي إلا إذا آذاه الناس مرة. ومنها الأسود الذي يحقد ويتمكن حتى يدرك طالبه. وشر الحياة الأفاعي ومساكنها الرمال والأفعى حية رقشاء دقيقة العنق عريضة الرأس. والبقر الوحشي يأكلها أكلاً ذريعاً وهي أعدى عدو للإنسان. قال الحاجز: الأفعى تظهر الصيف في أول الليل إذا سكن وهج ظاهر الأرض فتأتي قارعة وتستدير كأنها رحاً ويلصق بدنها بالأرض ويشخص رأسها متعرضة لأن يطأ(2/284)
إنسان أو دابة لتنهشه وسمها موت سريع.
431 (السنجاب) . حيوان على حد اليربوع. أكبر من الفأر وشعره في غاية النعومة يتخذ من جلده الفراء يلبسه المتنعمون. وهو شديد الحيل إذا أبصر الإنسان صعد الشجرة العالية وفيها يأوي ومنها يأكل. وهو كثير ببلاد الصقالبة والترك ومزاجه حار رطب لسرعة حركته عن حركة الإنسان. وأحسن جلوده الأزرق الأملس.
432 (عقرب) . أخبث الحشرات. تلدغ كل شيء تلقاه ولها ثمانية أرجل وعينها على بطنها. وإذا لدغت هربت في الحال. وإذا خرجت من بيتها أول الليل تلدغ كل شيء تلقاه من حيوان أو جماد وربما ضربت الحجر والمدر. ومن أحس ما قيل في ذلك:
رأيت على صخرة عقربا ... وقد جعلت ضربها ديدنا
فقلت لها إنها صخرة ... وطبعك من طبعها ألينا
فقالت صدقت ولكنني ... أريد أعرفها من أنا
ومن عجيب أمرها أنها لا تضرب الميت ولا النائم حتى يتحرك بشيء من بدنه فإنها عند ذلك تضربه. ومن شأنها أنها إذا لسعت الإنسان فرت فرار مسيء يخشى العقاب. (للدميري)
433 (قنفذ) . الحيوان الذي سلاحه على ظهره وهو الشوك الذي عليه ويقبع بحيث لا يتبين من أطرافه شيء. ويستطيب الهواء ويتخذ لمسكنه بابين أحدهما مستقبل الشمال والآخر مستقبل الجنوب(2/285)
ويعادي الحية فإن ظفر بقفاها أكلها بأسهل طريق وإن ظفر بذنبها عض ذنبها وقبع. ويعطي الحية ظهره فالحية تضرب نفسها على شوكه حتى تهلك. ويصعد الكرم ويرمي حباب العناقيد إلى الأرض ثم يتمرغ في الحبات ليدخل شوكة في الحبات ويحملها إلى أولاده. ومنها صنف يقال له الدلدل وهو أكبر جسماً من القنفذ وأطول شوكاً. نسبته إلى القنفذ كنسبة الجاموس إلى البقر. قالوا إذا أراد أن يرمي بشوكة حيواناً أو جماداً أو عدواً يرميه كرمي النشاب ولا يخطى فتمر الشوكة كمر النشاب وتثبت فيه.
434 (نمل) . حيوان حريص على جمع الغذاء وهو عظيم الحيلة في طلب الرزق فإذا وجد شيئاً أنذر الباقين ليأتوا إليه. ويقال إنما يفعل ذلك منها رؤساؤها. ومن طبعه أن يحتكر قوته من زمن الصيف لزمن الشتاء. وله في الاحتكار من الحيل ما إنه إذا احتكر ما يخاف إنباته قسمه نصفين ما خلا الكسبرة فإنه يقسمها أرباعاً لما ألهم من أن كل نصف منها ينبت وإذا خاف العفن على الحب أخرجه إلى ظاهر الأرض ونشره وإذا أحست بالغيم ردته إلى مكانها خوفاً من المطر. فإن ابتل شيء منها تبسطه يوم الصحو في الشمس. ومن عجائبه اتخاذه القرية تحت الأرض وفيها منازل ودهاليز وغرف وطبقات منعطفات يملأها حبوباً وذخائرها للشتاء. وتجعل بعض بيوتها منخفضاً لينصب أليه الماء وبعضها مرتفعاً للحب. ومنها أيضاً أنه مع لطافة(2/286)
شخصية وخفة وزنه له شم ليس لشيء من الحيوان مثل ذلك. فإذا وقع شيء من يد الإنسان في موضع لا ترى فيه شيئاً من النمل فلا يلبث أن يقبل كالخيط الأسود الممدود إلى ذلك الشيء. ويشم رائحة الشيء الذي لو وضعته على أنفك ما وجدت له رائحة. (للقزويني)
السمك
435 السمك من خلق الماء وهو أنواع كثيرة ومنه كبار. وما لا يدركه الطرف لصغره وكله يأوي الماء ويستنشقه كما يستنشق بنو آدم وحيوان البر الهواء إلا أن حيوان البر يستنشق الهواء بالأنف ويصل بذلك إلى قصبة الرئة. والسمك يستنشق الهواء بالأنف ويصل بذلك على قصبة الرئة. والسمك يستنشق بأصداغه فيقوم له الماء في تولد الروح الحيواني في قلبه مقام الهواء. وإنما استغنى عن الهواء في إقامة الحياة ولم نستغن نحن وما أشبهنا من الحيوان عنه لأنه من عالم الماء ونحن من عالم الأرض. وصغار السمك تحترس من كباره ولذلك تطلب ماء الشطوط والماء القليل الذي لا يحمل الكبير. وهو شديد الحركة لأن قوته المحركة للإرادة تجري في مسلك واحد لا ينقسم في عضو خاص. وهذا بعينه موجود في الحياة. ومن جملة أنواعه السقنفور والدلفين والخرشفلي والتمساح. ومن أصنافه ما هو على شكل الحياة وغير ذلك.
436 (الدلفين) . دابة من البحر تنجي الغريق تمكنه من ظهرها ليستعين به على السباحة. وهو كثير بأواخر نيل مصر من جهة البحر(2/287)
الملح لأنه يقذف به البحر إلى النيل. وصفته كصفة الزق المنفوخ وله رأس صغير جداً وليس في دواب البحر ماله رئة سواه فلذلك يسمع منه النفخ والنفس. وهو إذا ظفر بالغريق كان أقوى الأسباب في نجاته لأنه لا يزال يدفعه إلى البر حتى ينجيه. ولا يؤذي أحداً ولا يأكل إلا السمك. وربما ظهر على وجه الماء كأنه ميت وهو يلد ويرضع. وأولاده تتبعه حيث ذهب ولا يلد إلا في الصيف. ومن طبعه الأنس بالناس وإذا صيد جاءت دلافين كثيرة لقتال صائده. وإذا لبث في العمق حيناً حبس نفسه. ثم صعد مسرعاً مثل السهم لطلب النفس فإن كانت بين يديه سفينة وثب وثبة ارتفع بها السفينة. (للدميري)
الباب الرابع عشر في التاريخ
ذكر دولة الكلدانيين (من 1900 إلى 538 قبل المسيح)
437 الكلدانيون أمة قديمة الرئاسة نبيهة الملوك. كان منهم النماردة الجبابرة الذين كان أولهم نمرود من بني حام باني المجدل. وكان من ولد نمرود بخت نصر الذي غزا بني إسرائيل وقتل منهم خلقاً كثيراً وسبى بقيتهم. وغزا مصر وافتتحها ودوخ كثيراً من البلاد (606) . ولم يزل ملك الكلدانيين ببابل إلى أن ظهر عليهم الفرس(2/288)
وغلبوهم على مملكتهم وأبادوا كثيراً منهم فدرست أخبارهم وطمست آثارهم (538) . وكانت لهم عناية بأرصاد الكواكب وتحقق بعلم أسرار الفلك ومعرفة مشهورة بطبائع النجوم وأحكامها. وهم نهجوا لأهل الشق الغربي من معمور الأرض الطريق إلى تدبير الهياكل لإظهار طبائع الكواكب بضروب التدابير المخصوصة بها. ولم يصل إلينا من مذاهب الكلدانيين في حركات النجوم ولا من أرصادهم غير الأرصاد التي نقلها عنهم بطليموس في كتاب المجسطي.
ذكر الفرس ودولهم ومن اشتهر من ملوكهم
348 أما الفرس فأهل الشرق الشامخ والعز الباذخ وأوسط الأمم داراً وأشرفهم إقليماً وأسوسهم ملوكاً تجمعهم وتدفع ظالمهم عن مظلومهم. وتحملهم من الأمور على ما فيه حظهم. على اتصال ودوام. وأحسن التئام وانتظام. وخواص الفرس عناية بالغة بصناعة الطب ومعرفة ثاقبة بأحكام النجوم. وكانت لهم أرصاد قديمة وقال بعض علماء العجم: أول من ملك بعد الطوفان كيومرت من بني سام. وكان ينزل فارس واتخذ الآلات لإصلاح الطرف وحفر الأنهار وذبح ما يؤكل من الحيوان وقتل السباع. ومازال الملك في ولده إلى أن ملك دارا الذي غزاه الإسكندر وقتل في المعركة (333) . ثم ملكت الدولة الأشكانية وأولهم أشك (266 قبل المسيح) وتسمى خلفاؤه بالشاهية. ودام الملك فيهم إلى أن ظهرت المملكة(2/289)
الساسانية (226 للمسيح) أولهم أزدشير بن بابك من بني كشتاساب فأحسن السبرة وبسط العدل. (لأبي الفرج) 439 واشتهر في الدولة الساسانية (سابور بن أزدشير 241-272) وكان جميل الصورة حازماً شخص إلى نصيبين فملكها عنوة. فقتل وسبى وأفتتح من الشام مدناً وأسر والأريانس وحمله إلى جنديسابور ويقال جدع أنفه بل قتله. ويقال في زمانه استخرجت العود وهي الملهاة التي يغنى بها. ومنهم (بهرام بن هرمز 276) وكان حليماً وقوراً وأحسن السيرة واقتدى بآبائه وكان ماني صاحب القول بالنور والظلمة في أيامه فجمع بهرام العلماء لامتحانه فأشاروا بكفره فقتله. ومنهم (سابور بن هرمز 310-380) . وظهر منه نجابة عظيمة من صباه ولما بلغ من العمر ست عشرة سنة أنتخب فرسان عسكره عدة وسار بهم إلى العرب وقتل من وجده منهم. وكان ينزع أكتاف الأسرى فسمي سابور ذا الأكتاف. ولم ينزل بماء للعرب إلا وغوره ولا بئر إلا وطمها ثم عطف على بلاد الروم فقتل منهم وسبى حتى هادئة قسطنطين. واستمر على ذلك حتى توفي قسطنطين وبنوه. ثم ملك على الروم يليانس وارتد إلى عبادة الأصنام وقتل النصارى وأخرب الكنائس وأحرق الإنجيل. وسار إلى قتال سابور فأصابه سهم في بعض حروبه غرب في فؤاده فقتله (363) . وأنتظم الصلح والمودة بين الفرس والروم. ومنهم (أنوشروان 531) هذا(2/290)
قوي بعد ضعفه بإدامة النظر وهجر الملاذ وترك اللهو. وقوى جنده بالأسلحة والكراع وعمر البلاد ورد إلى ملكه كثيراً من الأطراف التي غلبت عليها الأمم بعلل وأسباب شتى منها السند وطخارستان ودورستان وغيرها وبنى المعاقل والحصون. ومنهم (هرمز بن أنوشروان 579) وكان عادلاً يأخذ للأدنى من الشريف وبالغ في ذلك حتى أبغضه خواصه وأقام الحق على بنيه ومحبيه وأفرط في العدل. ثم توارث بنوه الملك إلى أن ملك يزدجرد بن شهريار العادل وهو آخر ملوك الفرس. فلما ملك انتفضت عليه الدولة وتفاقمت أمورها وطلعت أعلام الإسلام بالنصر (641) . (لأبي الفداء)
نظر في دولة اليونانيين وفلاسفتهم (من 884 إلى 146 قبل المسيح)
440 أما اليونانيون فكانوا أمة عظيمة القدر في الأمم. طائرة الذكر في الآفاق فخمة الملوك. منهم الإسكندر بن فيليفوس المقدوني (336) الذي أجمع ملوك الأرض طرا على الطاعة لسلطانه. وكان من بعده من ملوك اليونانيين البطالسة (301-30) دامت لهم الممالك وذلت لهم الرقاب. ولم يزل ملكهم متصلاً إلى أن غلب عليهم الروم. وكانت البلاد اليونانيين في الربع الغربي الشمالي من الأرض ... والقسم الأعظم منها في حيز المشرق والقسم الأصغر منها في حيز المغرب. ولغة اليونانيين أوسع اللغات وأجلها. وكانت عامة اليونانيين صابئة معظمة للكواكب دائنة بعبادة الأصنام. والفلاسفة(2/291)
منهم من أرفع الناس طبقة وأجل أهل العلم منزلة لما ظهر منهم من الاعتناء بفنون الحكمة ومعارف السياسات المنزلية. (لأبي الفرج) 441 وجميع العلوم العقلية مأخوذة عن اليونانيين مثل العلوم المنطقية والطبيعية والإلهية والرياضية. والعلم الرياضي مشتمل على علم الهيئة والهندسة والحساب واللحون والإيقاع وغير ذلك. وكان العالم بهذه العلوم يسمى فيلسوفاً وتفسيره محب الحكمة. ومن فلاسفتهم (ثاليس الملطي 639) . (وفيثاغورس 480) من كبار الحكماء والفلكيين. كان يقول: ما سمعت شيئاً ألذ من حركات الأفلاك ولا رأيت شيئاً ألهى من صورتها. ومنهم بقراط الحكيم الطبيب المشهور. ومنهم (سقراط 470) وكان حكيماً فاضلاً زاهداً اشتغل بالرياضة وأعرض عن ملاذ الدنيا. ونهى الناس عن عبادة الأصنام فثارت عليه العامة وألجأوا ملكهم إلى قتله فحبسه ثم سقاه سماً فمات. ومنهم (أفلاطون الإلهي 430) وكان تلميذاً لسقراط. ولما اغتيل سقراط بالسم قام أفلاطون مقامه وجلس على كرسيه. ومنهم أرسطو الشهير (384) وكان تلميذاً لأفلاطون ولما صار عمر أرسطو المذكور سبع عشرة سنة أسلمه أبوه إلى أفلاطون فمكث عنده نيفاً وعشرين سنة ثم صار حكيماً مبرزاً يشتغل عليه. ومن جملة تلامذة أرسطو الملك إسكندر الذي ملك غالب المعمور من الغرب إلى الشرق وأقام الإسكندر يتعلم على أرسطو خمس سنين وبلغ فيها(2/292)
أحسن المبالغ ونال من الفلسفة ما لم ينل سائر تلاميذ أرسطو. ومنهم إقليدس (320) كتاب الاستقطاب المسمى باسمه وكان في أيام ملوك اليونان البطالسة. فلم يكن بعد أرسطو ببعيد. وأما بطليموس وجالينوس فإن زمانهما متأخر عن زمن بطليموس وبطليموس هو المصنف المجسطي. ومنهم فرفوريوس (260 للمسيح) وكان من أهل مدينة صور على البحر الرومي بالشام وكان بعد زمن جالينوس. وكان عالماً بكلام أرسطو وقد فسر كتبه لما شكا إليه الناس غموضها وعجزهم عن فهم كلامه. (لابن الأثير)
ملك اسكندر ذي القرنين (من 336 إلى 323)
442 ومن جملة ملوك اليونانيين الإسكندر بن فيليفوس المقدوني الذي أجمع ملوك الأرض طرا على الطاعة لسلطانه وملك ست سنين بعد قتله داريوش. وكان قد ملك قبل ذلك ستاً أخرى وفتح بلاداً كثيرة حتى بلغ ملكه إلى أقصى الهند وأوائل حدود الصين وسمي ذا القرنين لبلوغه قرني الشمس وهما المشرق والمغرب. وقتل خمسة وثلاثين ملكاً وبنى اثنتي عشرة مدينة منها اثنتان في بلد خراسان وهما هراة ومرة وواحدة في بلد الصغد وهي سمرقند. وأخرى في بلد القبط وهي الإسكندرية. وفي عودته من الهند ووصوله إلى بابل مات مسموماً ووضع في تابوت ذهب وحمل على أكتاف الملوك(2/293)
والأشراف إلى الإسكندرية القبط ودفن بها. وبد موت الإسكندر تقاسم الممالك أربعة من عبيده وهم بطليموس بن لاغوس وأزيذاوس وأنطيوخوس وسلوقوس. (لأبي الفرج)
ذكر الرومانيين ومبادىء دولتهم إلى زمان المشيخة (من 754 إلى 510 قبل المسيح)
443 هذه الأمة من أشهر أمم العالم ومواطنهم من الناحية الغربية من خليج القسطنيطنية إلى بلاد الإفرنجة فيما بين البحر المحيط والبحر الرومي من شماليه. وكان مقر ملوكهم رومة الكبرى قبل غلبتهم على اليونان. وكان الروم يدينون بدين الصابئين ولهم أصنام على أسماء الكواكب السبعة يعبدونها. وكان مبدأ أمرهم أن برقاش ملك اللطينيين بعد وفاته أجاز الملك إلى حافديه وهما روملس وراماش واشتق روملس أسم رومة من اسمه (754) . وكانت من أحفل مدن العالم لم تزل دار مملكة اللطينيين والقياصرة حتى أصبحهم الإسلام وهي في ملكهم. ثم بعد ابتناء رومة وثب روملس على أخيه فقتله وملك بعد قتله ثمانياً وثلاثين سنة وحده واتخذ روملس برومة معلباً عجيباً. وعدّ بعد روملس خمسة من الملوك (والصحيح ستة) اغتصب ابن آخرهم رجلاً في زوجة فقتلت نفسها، فسئم اللطينيون ولاية الملوك وأجمعوا أن لا يولوا عليهم ملكاً وقدموا شيوخاً ثلاث مائة وعشرين يدبرون ملكهم. وصار هكذا أمرهم شورى بين الوزراء (510) . وكان للروم حروب مع الأمم المجاورة لهم من كل(2/294)
جهة فأجازوا إلى أفريقية فملكوها وخربوا قرطاجنة ثم ملكوا جزيرة صقلية (241) ثم جزيرة الأندلس (202) ثم حاربوا اليونانيين (146) ثم حاربوا الفرس من بعدهم واستولوا على الشام (64) ومصر (30) .
الخبر عن تخريب قرطاجنة (من264 إلى 146 قبل المسيح)
444 كان بناء قرطاجنة قبل بناء رومة بثنتين وسبعين سنة (والصحيح بمائة وثلاث سنين) على يدي ديدن. وكان بها أمير يسمى ملكون وهو الذي بعث إلى الإسكندر بطاعته عند استيلائه على طرسون. ثم صار ملك أفريقية إلى أملقار من ملوكهم فافتتح صقلية وهاجت الحرب بينه وبين الرومانيين بسبب أهل سردانية. ثم وقعت السلم بينهم ثم ولى بقرطاجنة أملقار ابنه أنيبل فأجاز إلى بلاد الإفرنج وغلبهم على بلادهم وزحف إليه قواد رومة فوالى عليهم الهزائم وبعث أخاه أشدربال إلى الأندلس فملكها وخالفه قواد الرومانيين إلى أفريقية بعد أن ملكوا من حصون صقلية أربعين أو نحوها ثم أجازوا إلى أفريقية فملكوها وقتلوا خليفة أنيبل فيها وافتتحوا مدينة جردا. وخرج آخرون من قواد رومة إلى الأندلس فهزموا أشدربال وأتبعوه إلى أن قتلوه (207) . وفرّ أخوه أنيبل عن بلادهم بعد ثلاث عشر سنة من إجازته إليهم وبعد أن حاصر رومة وأثخن في نواحيها. فلحق بأفريقية ولقيه قواد أهل رومة الذين أجازوا إلى أفريقية فهزموه. وحاصروه بقرطاجنة حتى سأل الصلح(2/295)
على أن يغرم لهم ثلاثة آلاف قنطار من الفضة فأجابوه إليه وسكنت الحرب بينهم. ثم ظاهر بعد ذلك أيبل صاحب أفريقية ملوك السريانيين على حرب أهل رومة فهلك في حربهم مسموماً (183) . وبعد أن تخلص أهل رومة من تلك الحروب رجعوا إلى الأندلس فملكوها ثم أجازوا الحر إلى قرطاجنة ففتحوها وقتلوا ملكها وخربوها (146) . (لابن خلدون)
حال اللطينيين إلى وفاة أغسطس (من 146 قبل المسيح إلى 14 بعد المسيح)
445 ولم يزل أمر هؤلاء اللطينيين راجعاً إلى الوزراء منذ سبع مائة سنة من عهد رومة تقترع الوزراء في لك سنة فيخرج قائد منهم إلى كل ناحية كما توجبه القرعة فيحاربون أمم الطوائف يفتحون الممالك. حتى إذا هلك الإسكندر وافترق أمر اليونانيين وفشلت ريحهم وقعت فتنة هؤلاء اللطينيين مع أهل افريقية واستولوا عليها. وملكوا الأندلس وملكوا الشام وأرض الحجاز وقهروا العرب بالحجاز. وافتتحوا بيت المقدس وأسروا ملكها يومئذ من اليهود وهو أرسطابولس ثامن ملوك بني حشمناي وغربوه إلى رومة. إلى أن خرج يولس قيصر ومعناه شق عنه لأن أمه ماتت قبل أن تلده فشقوا بطنها وأخرجوه فلقب قيصر وصار لقباً لملوك الروم. فسار إلى جهة الأندلس وحارب من كان بها من الإفرنج إلى أن ملك برطانية وإشبونة ورجع إلى رومة. واستخلف على الأندلس(2/296)
أكتبيان أغسطس ابن أخيه. وكان للشيوخ نائب بناحية الشرق يقال له فمفيوس. فلما بلغه ذلك زحف بعساكره إليه. فخرج إليه يولس فهزمه (48) ثم رجع إلى رومة وشعر الوزراء أنه يروم الاستبداد عليهم فقتلوه (44) . فزحف أكتبيان أبن أخيه من الأندلس فأخذ بثأره وملك برومة (42) . ثم عصى أنطونيوس على أغسطس وانهزم إلى مصر بسبب عشقه قلاوفطرا. فخرج أغسطس في السنة الثانية عشرة من ملكه من رومة بعساكر عظيمة في البر والبحر وسار إلى الديار المصرية وأسر ولدي قلاوفطرا المسمى أحدهما شمساً والآخر قمراً وقتلهما. ولما سمع أنطونيوس وقلاوفطرا بقتل الولدين وكانا محاصرين في بعض الحصون شربا سماً وماتا (30) . ولما ملك أغسطس ديار مصر والشام دخل بنو إسرائيل تحت طاعته كما كانوا تحت طاعة البطالسة فولى أغسطس ببيت المقدس على اليهود والياً منهم وكان يلقب بهيرودس. وفي أيام أغسطس ولد المسيح لثنتين وأربعين من ملكه (لابن العميد بتصرف)
دولة القياصرة بني أغسطس (14-69) .
446 ثم ولي من بعد أغسطس طباريوش قيصر وكان جائراً واستولى على النواحي. على عهده كان شأن المسيح وبغى اليهود عليه وأقام الحواريون من بعده واليهود يحبسونهم ويضطهدونهم. ثم افترقوا في الآفاق لإقامة الدين وحمل الأمم على عبادة الله. ومات طباريوش(2/297)
لثلاث وعشرين من ملكه (37) ثم ملك غايس قيصر (37-41) وأمر أن تنصب الأصنام في محاريب اليهود ووثب عليه بعض قواده فقتله وملك من بعده قلوديوش (41-54) ووقعت في أيامه شدة على النصارى وقتل يعقوب أخو يوحنا من الحواريين وحبس شمعون الصفا ثم خلص وسار إلى أنطاكية وأقام بها ودعا إلى النصرانية. ثم توجه إلى رومة ودبرها ونصب فيها الأساقفة. وتنصرت امرأة من بيت الملك فعضت النصارى. ولقي الذين بالقدي شدائد من اليهود وكان عليهم يومئذ يعقوب بن حلفا من الحواريين فثار اليهود على من كان المقدس من النصارى وقتلوا أسقفهم وهدموا البيعة. وأخذوا الصليب والخشبتين ودفنوها إلى أن استخرجتها هيلانة أم قسطنطين. وملك من بعد قلوديوش أبنه نيرون وهو خامس القياصرة وكان غشوماً فاسقاً وفي أيامه كان سيمون الساحر بورمة. وبلغه أن كثيراً من أهل رومة أخذوا بدين المسيح فنكر ذلك وقتلهم حيث وجدوا. وقتل بطرس من بعد خمس وعشين سنة مضت لبطرس في كرسيها وهو رأس الحواريين ورسول المسيح على رومة (66) . وقتل مرقس الإنجيلي بالإسكندرية لثنتي عشرة من ملك نيرون وبعث نيرون قائده إسباشيانوس وأمر بقتل اليهود وخراب القدس. ثم إن نيرون قيصر وانتفض عليه أهل مملكه. فرجع أهل أرمينية إلى طاعة الفرس وخرج عن طاعته أهل برطانية(2/298)
من جهة الجوف. فبعث شواطيانس فسار إليهم في العساكر وغلبهم على أمرهم. ثم ثار بنيرون جماعة من قواده فقتلوه (68) وملكوا غلبان فأقام عليهم أشهراً وقتلوه غيلة وقدموا عوضه أتون ثلاثة أشهر ثم خلعوه وملكوا بطالس وكان رديء السيرة. وبلغ إسباشيانوس موت نيرون وهو يحاصر القدس فأشار عليه أصحابه بالانصراف إلى رومة وبشره يوسف بن كربون وكان أسيراً عند بالملك فانطلق إلى رومة وخلف ابنه طيطش على حصار القدسز. وانقطع ملك آل يولش قيصر لمائة وست عشرة سنة من مبدأ دولتهم واستقام ملك إسباشيانوس في جميع ممالك الروم وتسمى قيصر كما كان من قبل (69) . (لابن خلدون بتصرف واختصار)
دولة فلابيوس إسباشيانوس وبنيه الفلابيين (69-96)
447 وملك إسباشيانوس عشر سنين وهو بنى قولس أي منارة الإسكندرية طولها مائة وخمس وعشرون خطوة. وفي السنة الثانية من ملكه أفتتح طيطش ابنه مدينة أورشليم وقتل فيها زهاء ستين ألف نفس وسبى نيفاً ومائة ألف نفس ومات فيها من الجوع خلق كثير والباقون تشتتوا في البلاد ودعثرها وأخرب هيكلها. وتمت نبوءة يعقول حيث قال: لن تفقد هراوة الملك من يهوذا ولا المنذر أي النبي من ذريته حتى يأتي من له الغلبة وإياه تتوقع الشعوب. وتم أيضاً أنذر به المخلص مخاطباً لأورشليم. أنه سيأتي أيام تحيط(2/299)
بك أعداؤك ويكبسونك وبنيك فيك. وكان ذلك بعد أربعين سنة من صلب المسيح (70) .
وذكر يوسيفوس العبري أنه ظهر قبل خراب أورشليم علاقات فظيعة وذلك أنه ظهر فوق المدينة نجم طويل كثيف من نار يلمع. وأبواب النحاس التي كانت على باب الهيكل ولم تكن تغلق وتفتح دون اجتماع عشرين رجلاً وجدت نصف الليل مفتوحة من غير علة. وكانوا عامة السنة يسمعون في الهيكل أصواتاً مختلفة تقول: إنا سننتقل من هنا.
ولما ملك طيطش بيت المقدس رجع النصارى الذين كانوا عبروا إلى الإردن فبنوا كنيسة بالمقدس وسكنوا وكان الأسقف فيهم شمعان بن كلاوفا وهو الثاني من أساقفة المقدس. ثم هلك إسباشيانوس لتسع سنين من ملكه وملك بعده ابنه طيطش قيصر سنتين وكان مفتنناً في العلوم ملتزماً للخير عارفاً باللسان الغريقي واللطينني. وفي السنة الثانية لملكه انشق جبل بالروم وخرج منه شهب نار أحرقت مدناً كثيرة ووقع برومة حريق كثير. ثم ملك دومطيانوس قيصر (81-96) ونفى من رومة المنجمين وأصحاب الزجر والفأل والعيافة والطيرة وأمر أن لا يغرس برومة كرم البتة. ثم اضطهد النصارى اضطهاداً شديداً ومع هذا كان الناس يدخلوا في دين المسيح أفواجاً ويتمسكون به تمسكاً أشد. واستنار(2/300)
فطروفيلس المحصل واختار أتباع النصارى السيرة الحسنة وترك الدنيا وملاذها يفيدهم الأيد بالقول والعمل. وفي هذا الزمان عرف أفولونيس الطلسماطيقي وكان يضاد التلاميذ بأفاعيله المخالفة لأفاعيل المسيح ويقول: الويل لي إن سبقني ابن مريم. ونفى دومطيانوس يوحنا الإنجيلي إلى بعض الجزائر وكتب إليه ديونوسيوس أسقف أثينا كتاباً يقول فيه: لا يعترينك الضجر والملل فإنه لا يطول سجنك فالله يعمل لك الخلاص فألهم نفسك بالصبر. وبعد قليل قتل دومطيانوس قيصر على بساطه في مجلسه. (لابن العبري وابن العميد بتصرف)
دولة الانطونيين (96-193)
448 وملك بعده نرواس وأحسن السيرة وأرم برد من كان منفياً من النصارى وخلاهم ودينهم فرجع يوحنا الإنجيلي على أفسس بعد ست سنين. ولم يكن له ولد فعهد بالملك إلى طريانس من عظماء قواده فولي بعده (98) وتسمى قيصر وقتل شمعان بن كلاوفا أسقف بيت المقدس. وإغناطيوس أسقف أنطاكية رمي للسباع (107) . وتتبع أئمتهم بالقتل واستعبد عامتهم وفيلينوس صاحب الشرط لما عجز من قتل النصارى لكثرتهم طالع قيصر أن أهل هذا المذهب عاملون بجميع سنن الفلاسفة غير أنهم لا يكرمون الأصنام. فأمر قيصر أن لا يجد في أذاهم إلا إذا وجد منهم من يتفوه بسبب الآلهة فليدن.(2/301)
ثم خرج على طريانوس خارجي ببابل فهلك في حروبه.
449 ثم ولي من بعده أدريانوس (117) وفي الرابعة من ملكه بطل الملك من الرها وتداولتها القضاة من الروم. وبنى أدريانوس بمدينة أثينا بيتاً ورتب فيه جماعة من الحكماء المدارسة العلوم. وبلغ أدريانوس أن اليهود يرومون الانتقاض وأنهم ملكوا عليهم رجلاً يقال له ابن الكوكب أضل اليهود مدعياً أنه نزل من السماء كالكواكب ليخلصهم من عبودية الروم. فبعث إليهم العساكر وتتبعهم بالقتل وخرب مدينتهم حتى عادت صحراء. وأمر أن لا يسكنها يهودي وأسكن اليونان بيت المقدس. وكان هذا الخراب لخمس وستين سنة من خراب طيطش الذي هو الجلوة الكبرى. وامتلأ القدس من اليونان. وكانت النصارى يترددون إلى موضع القبر والصليب. فمنعهم اليونان من الصلاة وبنوا هنالك هيكلاً على أسم الزهرة.
وخلف أدريانوس طيطوس أنطنيانس قيصر المسمى باراً وأبا البلد (138) وأزال عن النصارى الاضطهاد وأباح للناس أن يتدينوا بأي دين شاءوا. وفي هذا الزمن نبغ في البيعة من المخالفين شخص أسمه والنطيانوس. وكان يقول إن المسيح أنزل معه جسداً من السماء واجتازه بمريم كاجتياز الماء بالميزاب أي لم يأخذ منها شيئاً. وظهر رجل يسمى مرقيون وقال إن الآلهة ثلاثة عادل وصالح وشرير ولما رأى الصالح العالم قد انجذب إلى جهة الشرير. أرسل ابنه ليدعو(2/302)
الناس إلى عبادة أبيه الصالح فأتى ونسخ التوراة المتضمنة سنة العدل بالإنجيل الذي هو متضمن سنة الفضل. فلما أظهر مرقيون هذه الخزعبلة وعظته الأساقفة زماناً طويلاً فلم يرجع عن خزعبلته وتمادى في أباطيله فنفوه عن الجماعة وصار لعنة. (لهما بتصرف) 450 لما هلك أنطونيوس لثنتين وعشرين من ملكه ملك من بعده مرقوس أورالش (161) . وكانت له حروب مع أهل فارس وبعد غلبوا على أرمينية وسورية من ممالكه فدفعهم عنهما وغلبهم في حروب طويلة. وأصاب الأرض على عهده وباء عظيم وقحط الناس واستسقى لهم النصارى فأمطروا وارتفع الوباء والقحط بعد أن كان اشتد على النصارى (والصحيح أن ذلك وقع في بعض حروب اوريليوس) ومع كل هذا قتل منهم خلقاً كثيراً وهي الشدة الرابعة من بعد نيرون. وولي مكانه قومذوس ابنه ومات مختنقاً (180-192) . وفي هذا الوقت ظهر في بلاد آسيا منطانس القائل عن نفسه إنه الفارقليط الذي وعد المسيح أن يوجهه إلى العالم. (لابن خلدون)
دولة القياصرة السوريين (192-235)
451 ثم ولي من بعده فرطينخوس وملكه باتفاق المؤرخين شهران وقتله بعض قواده. ثم ولي سوريانوس (293-262) واشتد على النصارى الشدة الخامسة وفتك فيهم. واعتسفهم بالسجود للأصنام والأكل من ذبائحهم. ثم قتل بعد غزو الصقالبة وفي أيامه بحثت(2/303)
الاساقفة عن أمر الفصح وأصلحوا رأس الصوم. ثم ملك بعده ابنه أنطونيش (كركلا) فقتل لست سنين لملكه ما بين حران والرها. (218) ثم ملك اليوغالي أربع سنين. ثم مقرين وقتله قواد رومة لسنة من ملكه. وملك من بعده الإسكندروس (222-235) وكانت أمه ماما نصرانية وكانت النصارى معه في سعة من أمرهم. وفي السنة الثالثة من ملك هذا الإسكندروس قيصر ابتدأت مملكة الفرس الأخيرة المعروفة ببيت ساسان. ثم ثار أهل رومة عليه وقتلوه.
الحكم الفوضوي (235-268)
452 وملك من بعده مخشميان (235) ولم يكن من بيت الملك وإنما ولّوه لأجل حرب الإفرنج. واشتد على النصارى الشدة السادسة من بعد نيرون. وقتل الشهيدين سرجيوس في سلمية وباخوس في بالس على الفرات وقوفريانس الأسقف مع جماعة من المؤمنين. ثم هلك مخشميان وملك بعده غرديانوس قيصر (238) وطالت حروبه مع الفرس وكان ظافراً عليهم وقتله أصحابه على نهر الفرات. ثم ملك فيلبوس قيصر ست سنين وآمن بالمسيح وهو أول من تنصر من ملوك الروم فأحسن إلى النصارى ثم رام الاجتماع مع المؤمنين فقال له الأسقف: لا يمكنك الدخول إلى البيعة حتى تنتهي عن المحارم وتقتصر على زوجة واحدة من غير ذوات القربى. فكان يحضر وقت الصلاة ويقف خارج البيعة مع الذين ألفوا الدين ولم يكملوا فيه بعد.(2/304)
وفي السنة الثالثة لملكه ظهر قوم من أصحاب البدع قائلين إن من كفر بلسانه وأضمر الإيمان بقلبه فليس بكافر. وفي هذا الزمان بدأت أعمال الرهبان على يدي أنطونيوس وفولي المصريين. وهما أول من أظهر لبس الصوف والتخلي في البراري. ثم ملك ذوقيوس قيصر (249) ولبغضه فيلبوس قيصر المحسن إلى النصارى عاداهم وشدد عليهم جداً وهي الشدة السابعة. فكفر كثيرون من المؤمنين إلى أن قتل فقدموا التوبة. وكان ناباطيس القسيس لا يقبل توبتهم قائلاً: إنه لا مغفرة لمن أخطأ فزيف الأساقفة تعليمه. وفي زمان ذوقيوس كان الفتية أصحاب الكهف فألقى الله عليهم سباتاً إلى يوم انبعاثهم من رقادهم في أيام تاوداسيوس. وفي أيامه خرج القوط من بلادهم وتغلبوا على بلاد الغريقيين ثم ولي والريانوس وكان يعبد الأصنام ولقي النصارى منه شدة. ثم سار في عساكر الروم لغزو الفرس فانهزم وحمل أسيراً إلى كسرى بهرام فقتله. فولي ابنه غلينوس (260) وأزال الاضطهاد عن النصارى خوفاً مما نزل بأبيه من العقوبة.
دولة القياصرة الإليريين إلى قسطنطين الملك (268-307)
453 قم ملك اقلوذيوس سنة وتسعة أشهر (268) وفي ملكه ظهرت بدعة بولس الصميصاصي. وكان ينكر أن المسيح كلمة الله وأنه قد (ولد) من عذراء. وذكر أوسابيوس المؤرخ عن هذا بولس أنه استعان بامرأة يهودية اسمها زينب رأسها قيصر على الشام. وكانت تستحسن(2/305)
علمه وكلامه وفوضت إليه بطركية أنطاكية. فاجتمع الأساقفة وردوا مقالته وحرموه وأتباعه ثم ملك بعده أوريليانش (270-275) وحارب القوط فظفر بهم وجدد بناء رومة. واشتد على النصارى تاسعة بعد نيرون وهم بالتضييق عليهم. وفي هذا الزمان عرف ماني الثنوي هذا كان يظهر النصرانية ثم مرق من الدين وسمى نفسه مسيحاً. وكان يقول بعلم الثنوية. وهو أن للعالم إلهين أحدهما خير وهو معدن النور والآخر شر وهو معدن الظلمة. فقتله سابور وسلخ جلده وحشاه تبناً وصلبه على سور المدينة لأنه كان يدعي الدعاوي العظيمة وعجز عن إبراء ابنه من مرض عرض له. ثم ملك بعد أورليانش قاروش ثم فروفش وقتل بسرمين ثم قاروش. وفي السنة الثانية لملكه قتل قزما ودمياني الشهيدان ثم أبرق فاستظلمه ومات. ثم استبد ديوقلاسيانوس بالملك (284-305) وأشرك معه في الأمر مخشميان وكان مقيماً رومة. ولثلاث عشرة سنة مضت من ملكه عصى عليه أهل مصر والإسكندرية فسار إليهم من رومة وغلبهم وأنكى فيهم. وانتفض على ديوقلاسيانوس أهل ممالكه وثار الثوار ببلاد الإفرنجة والأندلس وأفريقية. فدفع ديوقلاسيانوس إلى هذه الحروب كلها مخشميان هركوليس وصيره قيصر. ثم استعمل مخشميان صهره قسطنطش فمضى إلى الألمانيين في ناحية بلاد الإفرنج فظفر بهم بعد حروب طويلة. ثم أمر ديوقلاسيانوس بغلق كنائس(2/306)
النصارى بإغراء مخشميان وكان أشد كفراً منه. ولقي النصارى منهما شدة وقتل ماري جرجس وكان من أكابر أبناء البطارقة. وفي عاشرة ملكه قدم ماري بطرس بطركاً بالإسكندرية. ثم قام بعد موته تلميذه إسكندروس وكان كبير تلامذته آريوش كثير المخالفة له. وفي أيام ديوقلاسيانوس رأى قسطنطش هيلانة وكانت تنصرت على يد أسقف الرها فأعجبته وتزوجها. وولدت له قسطنطين فأجمع ديوقلاسيانوس على قتله فهرب إلى الرها. ثم جاء بعد موت ديوقلاسيانوس فوجد أباه قسطنطش قد ملك على الروم فتسلم الملك من يده (لابن العميد)
ملك قسطنطين (306-337)
454 ثم استعد قسطنطينوس لغزو مكسنطيس بن مخشميان لأنه عصى ولم يبايعه على رومة. وكان قسطنطينوس يتفكر إلى أي الآلهة يلجي أمره في هذا الغزو. فبينما هو في هذا الفكر رفع رأسه إلى السماء نصف النهار فرى راية الصليب في السماء مثال النور وكان فيه مكتوب: أن بهذا الكل تغلب. فصاغ له صليباً من ذهب وكان يرفعه في حروبه على رأس الرمح. ثم إنه غزا رومة فخرج إليه مكسنطيس ووقع في نهر فاختنق. فافتتح قسطنطينوس مدينة رومة واعتمد في هذا الوقت برومة من اليهود وعبدة الأصنام زهاء اثني عشر ألف نفس خلا النساء والصبيان (312) . ثم حصل لقسطنطينوس برص. فأشار عليه خدم الأصنام أن يذبح أطفال(2/307)
المدينة ويغتسل بدمائنهم فيبرا من مرضه. فأخذ جماعة من الأطفال ليذبحهم فصارت مناحة عظيمة في المدينة فأحجم عن قتلهم. وفي تلك الليلة رأى في منامه بطرس وبولس يقولان له: وجه إلى سلوسطرس أسقف رومة فجيء به فهو يبرئ مرضك. فلما أصبح وجه في طلبه فأتوه به ووعظ الملك وأوضح له سر النصرانية فتعتمد وذهب مرضه وأمر ببناء كنائس النصارى المهدومة (313) . وفي السنة الثالثة لملكه أمر فبني لبوزنطية سور فزاد في ساحتها أربعة أميال وسماها قسطنطينية ونقل الملك إليها. (لأبي الفرج) ثم شخصت هيلانة أم قسطنطين لزيارة بيت المقدس. فسألت عن موضع الصليب فأخبرها مقاريوس الأسقف أن اليهود أهالوا عليه التراب والزبل. ثم استخرجت ثلاثة من الخشب وسألت أيتها خشبة المسيح. فقال لها الأسقف: علامتها أن الميت يحيا بمسيسها فصدقت ذلك بتجربتها. وأتخذ النصارى ذلك اليوم عيداً لوجود الصليب. وبنت على الموضع كنيسة القمامة وأمرت مقاريوس الأسقف ببناء الكنائس. (رواه ابن خلدون عن ابن الراهب)
مجمع نيقية (325)
455 وفي هذا الزمان كان بالإسكندرية إسكندروس البطرك وكان بعهده آريوش. وكان يذهب إلى حدوث الابن وأنه إنما خلق الخلق بتفويض الآب إليه في ذلك. فمنعه إسكندروس(2/308)
الدخول إلى الكنيسة وأعلم أن إيمانه فاسد. وكتب بذلك إلى سائر الأساقفة والبطاركة في النواحي وفعل ذلك بأسقفين آخرين على مثل رأي آيوش. فرفعوا أمرهم إلى قسطنطين وأحضرهم جميعاً لتسع عشرة من دولته وتناظروا. ولما قال آريوش إن الإبن حادث وإن الآب فوّض إليه بالخلق. وقال الإسكندروس الخلق استحق الألوهية فاستحسن قسطنطين قوله وأذن له أن يشيد بكفر آريوش. وطلب الإسكندروس اجتماع النصرانية لتحرير المعتقد الإيماني. فجمعهم قسطنطين وكانوا ثلاث مائة وثمانية عشرة أسقفاً وذلك في مدينة نيقية فسمي المجتمع مجتمع نيقية. وكان رئيسهم الإسكندروس بطرك إسكندرية ومقاريوس أسقف بيت المقدس. وبعث سلطوس (سلوسطروس) بطرك رومة بقسيس حضر معهم لذلك نيابة عنه. فتفاوضوا وتناظروا واتفقوا على رأس واحد. فصار قسطنطين إلى قولهم وأعطى سيفه وخاتمه وباركوا عليه ووضعوا له قوانين الدين والملك. ونفى آريوش. وكتبوا العقيدة التي اتفق عليها أهل ذلك المجمع. (لابن خلدون)
قسطنطين في مجمع نيقية
456 وكان في المجمع أسقف رأي ناباطيس. فقال له الملك: لم لا توافق الجمهور في قبول من تاب عن معاصيه منيباً إلى الله. فأجابه الأسقف: إنه لا مغفرة لمن فرطت منه كبيرة بعد الإيمان(2/309)
والعماد بدليل قول فولس الرسول حيث يقول: لا يستطيع الذين ذاقوا كلمة الله أن يدنسوا بالخطيئة ليطهروا بالتوبة ثانية. فقال له الملك هازئاً به: إن كان الأمر كما تزعم فانصب لك سلماً لترقى فيه وحدك إلى السماء. ونهض بعض الأساقفة فرفع إلى الملك كتاباً فيه سعاية ببعض الأساقفة. فلما قرأه الملك أمر أن يحرق الكتاب بالنار وقال: لو وجدت أحداً من الكهنة في ريبة لسترته بأرجوانيتي.
موت قسطنطين وتملك بنيه
457 ولم يزل دين النصرانية يظهر ويقوى إلى أن دخل فيه أكثر الأمم المجاورة للروم من الجلالقة والصقالبة والروس واللاّن والأرمن والكرج وجميع أهل مصر من القبط وغيرهم وجمهور أصناف السودان من الحبشة والنوبة وسواهم. وآمن بعد هؤلاء أصناف من الترك أيضاً. وبنى قسطنطينوس بيعة عظيمة بالقسطنطينية وسماها أجيا صوفيا أي حكمة القدوس. وبيعة أخرى على أسم السليحين. وبنى بيعة بمدنة بعلبك. وبنى بأنطاكية هيكلاً ذا ثماني زوايا على اسم السيدة. وفي أيامه غزا سابور بلاد الروم فنهض قسطنطينوس لمحاربته. وعند وصوله إلى نيقومذيا أدركته المنية وفي مرضه قسم الملك على أولاده الثلاثة وملك الكبير المسمى باسمه قسطنطينوس على بلاد إفرنجية. ورتب الآخر المسمى قسطنسيوس على مصر والشام وما بين النهرين وأرمينية. ورتب الصغير المسمى(2/310)
قسطنطس على رومة وإسبانيا وما يليها من ناحية المغرب. ثم إن قسطنسيوس صار إلى نيقوموذيا فأخذ جسد أبيه فحنطه. ووضعه في صندوق ذهب وحمله إلى قسطنطينية ووضعه في هيكل السليحين. وفي هذه السنة صعد سابور ملك الفرس فغزا نصيبين لما بلغه وفاة قسطنطينوس القاهر فحاصرها ثلاثين يوماً ورجع عنها إلى مملكته خائباً وذلك بدعاء ماري يعقوب أسقفها وماري إفرام تلميذه. فإن الله استجاب دعاءه وأرسل على جيش الفرس بقّاً وهمجاً هزم فيلتهم. ثم إن سابور اضطهد النصارى الذين في سلطانه جداً. أما قسطنطينوس وهو الأخ الكبير فقتل في حرب وقع بينه وبين أخيه الصغير قسطنطس صاحب رومة وخلف ابنين غالوس ويوليانوس. ثم بعد قليل قتل قسطنطس صاحب رومة. وأما الأخ الأوسط قسطنسيوس صاحب مصر والشام فنصب غالوس ملكاً على قسطنطينية مكان أبيه. فعصى على عمه فسير عمه عليه جيشاً وقتله غيلة. ثم مات أيضاً قسطنسيوس واستقل يوليانس بالملك. (لأبي الفرج)
458ثم ملك يوليانس قيصر (361) وسمي المارق لأنه خلع ربقة النصرانية من عنقه وعبد الأصنام. ولذلك وثب الوثنيون على النصارى ووقع بينهم بلاء عظيم بالإسكندرية وقتل من المكانين خلق كثير. ثم إن يوليانوس الملك منع النصارى من الاشتغال في شيء من كتب الفلسفة. وسلب آنية الكنائس والديورة واستصفى(2/311)
مال من لم يطعه من النصارى في أكل ذبائح الأصنام وأهلك كثيرين منهم. ثم إنه عزم على غزو الفرس ودخل على أفولون الحبر الخادم للصنم ليستعلم منه هل ينجح في غزوه أم لا. فحكم له أنه يقهر أعداءه على نهر دجلة فاستكبر لذلك يوليانوس وصال جداً. وجمع جيوشه وغزا الفرس. فلما وصل إلى حران وأراد الخروج منها نكس رأسه ساجداً الآلهة الحرانيين فسقط تاجه عن رأسه وصرع فرسه الذي كان تحته فقال له خادم الصنم: إن النصارى الذين معك ألف رجل. وسار حتى وافى المدائن ولما نشب الحرب بينه وبين الفرس على الدجلة صار يسير فأصاب جنبه فسقط عن دابته. وبينما هو يتعذب أخذ ملء حفنتيه دماً من دمه فرشه في الجو نحو السماء وقال: إنك غلبتني يا ابن مريم فرض مع ملك السماء ملك الأرض ?ملك يوفيانس (363) وولنطنيانس ووالنس (364) 459 ملا قتل يوليانوس المارق بقي عسكر الروم بغير ملك وكان مقدم العساكر يوفيانوس فاجتمعوا إليه وبايعوه واشترط عليهم الدخول في النصرانية وجرى الصلح بينهم وبين الفرس. ولما ولي نزل للفرس عن نصيبين ونقل الروم الذين بها إلى آمد. ورجع إلى كرسي مملكتهم فرد الأساقفة على الكنائس ورجع فيمن رجع أثناسيوس(2/312)
بطرك إسكندرية وطلب منه أن يكتب له أمانة أهل مجمع نيقية. فجمع الأساقفة وكتبوها وأشار عليه بلزومها ثم إن يوفيانس (459) هلك بالفالج لسنة واحدة من ملكه. وافترق القوط في أيامه فرقتين على مذهب آريوش وأمانة نيقية. وفي أيامه ولي داماش بطركا برومة. ولنطنيان ملك ثماني عشرة سنة وولى والنش أخاه على المشرق وكان شريكه في الملك. ثم ثار عليه بعضهم بأهل أفريقية فأجاز إليهم البحر وحاربهم فظفر بالثائر وقتله بقرطاجنة ورجع إلى قسطنطينية. فحارب القوط والأمم من ورائهم وهلك في حروبهم فاستقل والنش. وحده بالملك. وكان ولنطنيان يدين بالأمانة ووالنش يدين بمذهب آريوش. فاشتد على أهل الأمانة وقتلهم. وبعد وفاته عقد المجمع الثاني بقسطنطينية (381) . (لابن العميد) ?تتمة تاريخ الروم إلى ظهور الملّة الإسلامية ?ملك اغراتيانوس (375) وتاوداسيوس (379) 460 ثم ملك بعده أغرايتانوس قيصر سنة واحدة وأشرك معه في ملكه رجلاً اسمه تاوداسيوسو واستعمله على المشرق فملك الكثير منها ثم هم خارجي على أغراتيانوس فقتله. فاستقل تاوداسيوس بملك القياصرة سبع عشرة سنة وردَّ جميع ما نفاه والنش قبله من الأساقفة إلى كرسيهم وخلَّى كل واحد مكانه. وفي السنة الخامس لملكه خرج عليه مكسيموس الخارحي فوجه إليه جيوشاً فقتل. وكان لتاوداسيوس ولدان أرقاذيوس وأونوريوس. ولما كبرا وضعهما تحت تدبير أرسانيوس. ثم هرب أرسانيوس إلى مصر وترهب. فرغوه بالمال فأبى وأقام في مغارة بالجبل المقطم حتى مات. فبنى أرقاذيوس على قبره كنيسة. ثم ولى تاوداسيوس قبل وفاته أرقاذيوس علىالقسطنطينية وأونوريوس على رومة (395) . (للمسيحي)(2/313)
ملك أرقاذيوس (395-408) وأنوريوس (395-423)
461 أرقاذيوس قيصر ملك ثلاث عشرة سنة وفي أيامه قام يوحنا فم الذهب بطركاً على قسطنطينية. ووضع تفسير الإنجيل وهو ابن ثماني وعشرين سنة. ومنع الكهنة من أمور كثيرة من الفساد فحسدوه وجعلوا يطلبون عليه عثرة. ونهى الملكة أودكسيا امرأة أرقاذيوس عن اختلاسها كرم امرأة أرملة. ولأنها أبت رشقها في بعض خطبه ذات يوم وشبهها بإيزبل امرأة آحاب ملك إسرائيل التي أخذت كرماً أيضاً من أرملة. فركبت يوماً من الأيام وأخذت معها تسعة وعشرين أسقفاً ممن عادى يوحنا فم الذهب واجتمعوا بمدينة خلقيدونية. وحرموه وأسقطوه من مرتبته بحجة أنه لم يدع النظر في كتب أوريغانيس فاضطرب أهل القسطنطينية لذلك وهموا بإحراق دار الملك فخافهم الملك وبعث إلى فم الذهب وردّه إلى مرتبته. فلما رجع رفع تمثالاً كان للملكة بالقرب من الكنيسة. وخطب ذات يوم وسمّى الملكة هيروذيا أي الملكة التي قتلت يحيى بن ذكريا المعمدان. فغضبت غضباً شديداً ووجّهت إلى بعض الأساقفة فجمعتهم إلى قسطنطينية فحرموه ثانياً ونفوه. وكان ذلك في السنة الثامنة لأرقاذيوس. فنفي على بلدة بعيدة فتوفي هناك لثماني وأربعين سنة من عمره. وثارت الفتن بين الروم والمصريين بسبب عظام يوحنا قم (الذهب حتى أتوا بها بعد ثلاث وثلاثين سنة لموته. فدفنوها بقسطنطينية وأثبتوا اسمه في سفر الحياة مع باقي الآباء القديسين. ثم أن أرقاذيوس مات وهو ابن ثلاثين سنة وخلّف ابنه تاودسيوس ابن ثماني سنين. (لأبي الفرج)
تاودوسيوس الأصغر (408-450) ومرقيان (450-457)
462 وملك من بعده تاودوسيوس الأصغر وفي زمانه كثر النصارى في سلطان الفرس وظهرت النصرانية جداً على يدي مروثا أسقف ميّافارقين الذي أرسل من تاودوسيوس الذي أرسل من تاودوسيوس الصغير على الفرس. وفي السنة العاشرة لتاودوسيوس الصغير عرف شمعون صاحب العمود بأنطاكية وكان يظهر الآيات والعجائب. وكان في هذا الزمان مار إسحاق تلميذ مار إفرام صاحب الميامر المنظومة. وفي هذا الزمان انبعث أصحاب الكهف من رقدتهم التي رقدوا على عهد ديقيانوس الملك. فخرج تاودوسيوس الملك مع أساقفة وقسيسسين وبطارقة فنظر إليهم وكلموهم فلما انصرفوا من عندهم ماتوا في مواضعهم. وانتقض لعهده قومس أفريقية وخالف طاعة القياصرة فحدثت بأفريقية فتنة لذلك. ثم زحف القوط إلى رومة وفرّ عنها أنوريوس فحاربوها ودخلوها عنوة واستباحوا ثلاثاً وتجافوا عن أموال الكنائس. ثم صالحوا الروم على أن يكون لهم الأندلس فانقلبوا إليها وتركوا رومة. وفي السابعة عشرة من ملك تاودوسيوس قدم نسطوريس بطركاً بالقسطنطينية فأقام أربع سنين وظهرت عنه العقيدة التي دان بها. وكان يقول باتحاد المشية دون نفس الكلمة فبلغت مقالته إلى كيرلوس بطرك الإسكندرية فخاطب(2/314)
في ذلك بطرك رومة وأنطاكية وبيت المقدس ثم اجتمعوا بمدينة أفسس في مائتي أسقف وأجمعوا على كفر نسطوريس ونفوه (431) . وأخذ بمقالته نصارى الجزيرة والموصل إلى الفرات ثم العراق وفارس إلى المرق. ثم ملك مرقيان بعده ست سنين وتزوج أخت تاودوسيوس الصغير. وكان في أيامه المجمع الرابع بخلقيدونية. وأنه كان بسبب ديسقرس بطرك الإسكندرية وما أحدث من البدعة في الأمة. فقالوا بالطبيعتين والأقنوم الواحد وأجمعوا على نفيه. وافترقت النصارى إلى ملكية. وهم أهل الأمانة فنسبوا إلى مرقيان قيصر الملك. وإلى يعقوبية وهم أهل مذهب ديسقرس. وإنما دعوا يعاقبة نسبة إلى بعض تلامذة ديسقرس اسمه يعقول كان يطوف البلاد داعياً إلى مقالة ديسقرس. وإلى نسطورية وهم نصارى المشرق. ثم ملك بعد مرقيان لاون الكبير (457) ثم لاونطيوس (475) ثم زينون (476) وكان يعقوبياً
ملك انسطاس (491) ويوسطينوس (518) ويوسطينيانس (527)
463 أنسطاس قيصر ملك سبعاً وعشرين سنة. وفي أول ملكه قتل كثيرين من صبيان المكتب لأنهم هجوه. وأجاز البربر من المغرب إلى رومة وغلبوا عليها. وفي السنة الثالثة له بنيت دار التي فوق نصيبينز ثم إن أنسطاس الملك أراد أن يوضع في البيعة قول المؤمنين في صلواتهم. إنك صلبت من أجلنا. فاضطرب أهل القسطنطينية كلهم وأخذوا الحجارة ليرجموه بها. فهاله أمرهم وجبن عنهم. فوع تاجه عن رأسه قائلاً: إني أنتهي إلى أمركم فيما تريدون. فكف الشعب عنهم. ثم ملك يوسطينوس قيصر تسع سنين وكان أصله من رومة. هذا أصلح جميع البيع وردّ كل من نفاه الملوك قبله. وفي السنة السابعة لملكه اقتتل الروم والفرس على شاطىء الفرات وغرق من الروم خلق كثير. وفي هذه السنة سقط ثلج كثير وجليد وأفسد عامة الأشجار مع الكروم. وبعد سنة قلت الأمطار وعزت الغلات ونقس الماء في الينابيع ثم تبع ذلك حر قوي ووباء شديد ودام ست سنين. وفي السنة التاسعة من ملكه أشرك معه في الملك يوسطينيانس الصغير وكان ابن أخته وبعد ثلاثة أشهر مات وفي هذا الوقت غزا كسرى ملك الفرس مدينة الرها وقتل فيها خلقاً كثيراً. ثم ملك بعده يوسطينيانس قيصر ثماني وثلاثين سنة. وفي ثالثة ملكه غزا الفرس بلاد الروم فوقعت بين الفرس والروم حروب كثيرة. وزحف كسرى في آخرها لثماني من ملك يوسطينيانس ومعه المنذر ملك العرب فبلغ الرها وغلب الروم وغرق من الفريقين في الفرات خلق كثير. وحمل الفرس أسارى الروم وسباياهم ثم وقع الصلح بينهما. وفي خمس وثلاثين من ملك يوسطينيانس عهد بأن يتخذ عيد الميلاد في خامس وعشرين من كانون الأول وعيد الدنح لستة أيام من كانون الأخير. فامتثلوا أمره خلا الأرمن فإنهم داومو على تعييد العيدين في يوم واحد. وكانت كنيسة بيت لحم صغيرة فأمر أن يوسع فيها فبنيت كما هي لهذا العهد. وفي عهده كان المجمع الخامس بقسطنطينية (553)(2/315)
ثم ملك بعده يوسطينوس قيصر (465) ثم طياريوس (578)
موريقي (582) وفوقاس (602) وهرقل (610-641)
464 موريقي قيصر ملك عشرين سنة. وكان حسن السيرة سهل المعاملة كثير الصدقة. وكان في كل سنة يهيء طعاماً للفقراء والمساكين ستين مرة ويقوم هو وزوجته من ملكهما فيتوليان خدمتهم وإطعامهم وإسقاهم. وفي السنة الرابعة لموريقي عرض وباء شديد بقسطنطينية ومات من أهلها زهاء أربع مائة ألف نس. ولعهده انتفض على هرمز كسرى قريبه بهرام وخلعه واستولى علىملكه وقتله. وسار ابنه أبرويز إلى موريقي قيصر صريخاً، فبعث معه العساكر ورد أبرويز إلى ملكه وقتل بهرام الخارج عليه. وبعث إليه بالهدايا والتحف كما فعل أبوه من قبله مع القياصرة وخطب أبرويز من موريقي قيصر ابنته مريم فزوجه إياها وبعث معها من الجهاز والأمتعة والأقمشة ما يضيق عنه الحصر. ثم وثب على موريقي بعض مماليكه بمداخلة قريبه البطريق فوقاس فدسّه عليه فقتله وملك على الروم وتسمى قيصر. وقتل أولاد موريقي. وبلغ أبرويز كسرى ما جرى على موريقي وأولاده. فجمع عساكره وقصد بلاد الروم ليأخذ ثار صهره وبعث عساكره مع مرزبانه خزرويه إلى القدس وعهد إليه بقتل أهلها وخراب البلد. وجاء بنفسه في عساكر الفرس إلى القسطنطينية وحاصرها وضيق عليها. وأما خزرويه المرزبات فسار إلى الشام وخرب البلاد. واجتمع يهود طبرية والخليل وناصرة وصور وأعانوا الفرس على قتل النصارى وخراب الكنائس. فنهبوا الأموال وأخذوا قطعة من الصليب وعادوا إلى كسرى بالسبي وفيهم زخريا بطرك المقدس. ولما انتهى أبرويز في حصار القسطنطينية نهايته وضيق عليها اجتمع البطارقة بعلوقيا وبعثوا السفن مشحونة بالأقوات مع سرقل أحد بطارقة الروم ففرحوا به ومالوا إليه وداخلهم في الملك. وثاروا على قوقاس سبب هذه الفتنة وقتلوه. وملكوا هرقل فارتحل أبرويز عن القسطنطينية راجعاً إلى بلاده. وملك هرقل بعد ذلك إحدى وثلاثين سنة وكان ملكه أول سنة من الهجرة. وفي السابعة للهجرة بعث عساكر الفرس ومقدمهم مرزبانه شهريار فدوّخ بلاد الروم وحاصر القسطنطينية ثم تغير له. فكتب إلى المرازية معه بالقبض عليه واتفق وقوع الكتاب بيد هرقل فبعث به إلى شهريار فانتفض ومن معه وطلبوا هرقل في المدد فخرج معهم بنفسه بنفسه في ثلاث مائة ألف من الروم وأربعين ألفاً من التركمان وسار إلى بلاد الشام والجزيرة وافتتح مدائنهم التي كان ملكها كسرى من قبل وفيما افتتح أرمينية. ثم سار إلى الموصل فلقيه جموع الفرس وقائدهم المرزبان فانهزموا. وقتل وأجفل أبرويز عن المدائن واستولى هرقل على ذخائر ملكهم. وكان شيرويه بن كسرى محبوساً فأخرجه شهريار وأصحابه وملكوه وعقدوا مع هرقل الصلح واسترجع الصليب. (لابن العميد) تمّ بحوله تعالى(2/316)
مجاني الأدب في حدائق العرب
للأب لويس شيخو اليسوعي
الجزء الثالث(3/1)
الباب الأول في التديّن
في كمالاته تعالى
1 إن الله عز وجل لم يزل ولا يزال. هو الكبير المتعال. خالق الأعيان والآثار. ومكور النهار على الليل والليل على النهار. العالم بالخفيات. وما تنطوي عليه الأرضون والسماوات. سواءٌ عنده الجهر والإسرار. ومن هو مستخف بالليل وسارب بالنهار. ألا يعلم من خلق وهو اللطيف الخبير خلق الخلْق بقدرته. وأحكمهم بعلمه وخصهم بمشيئته. ودبّرهم بحكمته. لم يكن له في خلقهم معين. ولا في تدبيرهم مشيرٌ ولا ظهير. وكيف يستعين من لم يزل بمن لم يكن. لا تلزمه لم. ولا يجاوره أين. ولا تلاصقه حيث. ولا تعده كم. ولا تحصره متى. ولا تحيط به كيف. ولا تظهره قبل. ولم تفته بعد. ولم تجمعه كل. وصفه لا صفة له. وكونه لا أمد له. ولا تخالطه الأشكال والصور. ولا تغيّره الآثار والغِيَر. ولا تجوز عليه المماسة والمقاربة. ويستحيل عليه المحاذاة والمقابلة. إن قلتَ: أين هو. فقد سبق المكان وجوده. لم يفتقر وجوده إلى أين. هو بعد خلق المكان غني بنفسه كما كان قبل خلق المكان. وكيف يحل في ما منه بدا. وإن قلتَ: ما هو. فلا ماهية له (ما موضوعة للسؤال عن الجنس. والقديم(3/3)
تعالى لا جنس له) وإن قلتَ كم هو. فهو واحد في ذاته. متفردٌ بصفاته. وإن قلتَ: متى كان فقد سبق الوقت كونه وإن قلت: كيف هو. فمن كيّف الكيفية لا يقال له كيف. ومن جازت عليه الكيفية جاز عليه التغيير وإن قلت هو. فالهاء والواو خلقه. فما تصور في الأوهام. فهو بخلافه. ولا تمثله العيون. ولا تخالطه الظنون. ولا تتصوره الأوهام. ولا يحيط به الأفهام. ولا تقدر قدرة الأيام. ولا يحويه مكان. ولا يقارنه زمان. ولا يحصره أمد. ولا يجمعه عدد. قربه كرامته. وبعده إهانته. علوه من غير توقلٍ. ومجيئه من غير تنقل. هو الأول والآخر. والظاهر والباطن. القريب البعيد. الذي ليس كمثله شيء وهو السميع البصير وأشهد له بالربوبية وبما شهد به لنفسه من الأسماء الحسنى والصفات العلى. (سراج الملوك للطرطوشي)
الدعاء لله
2 دعا أعرابي فقال: يا عماد من لا عماد له. ويا ركن من لا ركن له. ويا مجير الضعفى يا منقذ الهلكى. ويا عظيم الرجاء أنت الذي سبح لك سواد الليل وبياض النهار. وضوء القمر وشعاع الشمس. وحفيف الشجر ودوي الماء. يا محسن يا مجمل. اللهم إنك آنس المؤنسين للمتكلين عليك أنت شاهدهم وغائبهم والمطلع على ضمائرهم وسري لك مكشوف. وأنا إليك ملهوف. إذا أوحشتني الغربة(3/4)
آنسني ذكرك. وإذا أكبت علي الغموم لجأت إلى الاستجارة بك. علماً بأن أزمة الأمور كلها بيدك ومصدرها عن قضائك. فأقلني إليك مغفوراً لي معصوماً بطاعتك باقي عمري يا أرحم الراحمين 3 لما ولي أبو بكر الخلافة صعد المنبر فحمد الله وأثنى عليه ثم قال: يا أيها الناس إني داع فأمنوا. اللهم إني غليظ فليّني لأهل طاعتك بموافقة الحق ابتغاء وجهك والدار الآخرة. وارزقني الغلطة والشدة على أعدائك وأهل الدعارة والنفاق من غير ظلم مني لهم ولا اعتداء عليهم. الله إني شحيح فسنحني في نوائب المعروف قصداً من غير سرف ولا تبذير ولا رئاء ولا سمعة. واجعلني أبتغي بذلك وجهك والدار الآخرة. اللهم ارزقني خفض الجناح ولين الجانب للمؤمنين. اللهم إني كثير الغفلة والنسيان فألهمني ذكرك على كل حال وذكر الموت في كل حين. اللهم إني ضعيف عند العمل بطاعتك فارزقني النشاط فيها والقوة عليها بالنية الحسنة التي لا تكون إلا بعزتك وتوفيقك. اللهم ثبتني باليقين والبر والتقوى وذكر المقام بين يديك والحياء منك. وارزقني الخشوع فيما يرضيك عني والمحاسبة لنفسي وإصلاح الساعات والحذر من الشبهات (العقد الفريد لابن عبد ربه)
4 دعا بعضهم فقال: اللهم إن أسألك يا من احتجب بشعاع نوره عن نواظر خلقه. يا من تسربل بالجلال والكبرياء واشتهر بالتجبر في قدسه. يا من تعالى بالجلال والكبرياء واشتهر بالتجبر في قدسه. يا من تعالى بالجلال والكبرياء في تفرد مجده. يا من انقادت(3/5)
الأمور بأزمّتها طوعاً لأمره. يا من قامت السماوات والأرض من مجيبات لدعوته. يا من زين السماء بالنجوم الطالعة وجعلها هاديةً لخلقه. يا من أنار القمر المنير في سواد الليل المظلم بلطفه. يا من أنار الشمس المنيرة وجعلها معاشاً لخلقه. وجعلها مفرقة بين الليل والنهار لعظمته. يا من استوجب الشكر بنشره سحائب نعمه. أسألك بمعاقد العز من عرشك وبكل اسم هو لك سميت به نفسك واستأثرت به في علم الغيب عندك وبك اسم هو لك أثبته في قلوب الحافين حول عرشك وأسألك بالأسماء التي تجليت بها للكليم موسى على الجبل العظيم. فلما بدا شعاع نور الحجب من بهاء العظمة خرت الجبال متدكدكة لعظمتك وجلالك وهيبتك وخوفاً من سطوتك راهبة منك. أنت الله فلا إله إلا أنت. وأسألك بالاسم الذي فتقت به رتق عظيم جفون العيون للناظرين. الذي به تدبرت حكمتك وشواهد حجج أنبيائك. يعرفونك بنظر القلوب. وأنت في غوامض سوائد القلوب. أسألك أن تصرف عني وأهل حزانتي وجميع المؤمنين والمؤمنات جميع الآفات والعاهات والأعراض والأمراض والخطايا والذنوب. والشك والكفر والنفاق والشقاق والضلالة والجهل والمقت والغضب والعسر والضيق وفساد الضمير وحلول النقمة وشماتة الأعداء وغلبة الرجال إنك سميع الدعاء لطيف (الكشكول لبهاء الدين العاملي)(3/6)
منتخب من قصيدة علي بن أبي طالب في المناداة
5 يا من سمع الدعاء. يا رافع السماء. يا دائم البقاء. يا واسع العطاء. يا عالم الغيوب. يا غافر الذنوب. يا ساتر العيوب. يا كاشف الكروب. يا فائق الصفات. يا مخرج النبات. يا جامع الشتات. يا منشر الرفات. يا فالق الصباح. يا مرسل الرياح. فجراً مع الرواح. يجلن في النواح. يا هادي الرشاد. يا ملهم السداد. يا رازق العباد. يا محيي البلاد. يا مطلق الأسير. يا جائر الكبير. يا مغني الفقير. يا غاذي الصغير. يا مالك النواصي. من طائع وعاص. ما عنه من مناص. للعبد أو خلاص. أجِرْ من الجحيم. من هولها العظيم. من عيشها الذميم. من حرها المقيم. أسكني الجنانا. بلغني الأمانا. في منزل تعالى. بالحق قد توالى. بالنور قد تلالا. تلقى به الجلالا (ديوان علي) 6 قال الأصمعي سمعت غلاماً يمجد ربه بأبياتٍ من الشعر وهي هذه:
يا فاطر الخلق البديع وكافلا ... زرق الجميع سحاب جودك هاطل
يا مسبع البر الجزيل ومسبل الستر الجميل عميم طولك طائل
يا عالم السر الخفي ومنجز الوعد الوفي قضاء حكمك عادل
عظمت صفاتك يا عظيم فجل أن ... يحصي الثناء عليك فيها قائل
الذنب أنت له بمنك غافر ... ولتوبة العاصي بحلمك قابل
رب يربي العالمين ببره ... ونواله أبدا إليهم واصل(3/7)
تقصيه وهو يسوق نحوك دائماً ... ما لا تكون لبعضه تستاهل
متفضل أبدا وأنت لجوده ... بقبائح العصيان منك تقابل
وإذا دجا ليل الخطوب وأظلمت ... سبل الخلاص وخاب فيها الآمل
وأيست من وجه النجاة فما لها ... سبب ولا يدنو له متناول
يأتيك من ألطافه الفرج الذي ... لم تحتسبه وأنت عنه غافل
يا موجد الأشياء من ألقى إلى ... أبواب غيرك فهو غر جاهل
ومن استراح بغير ذكرك أو رجا ... أحداً سواك فذاك ظل زائل
رأي يلم إذا عرته ملمة ... بسوى جنابك فهو رأي مائل
عمل أريد به سواك فإنه ... عمل وإن زعم المرائي باطل
وإذا رضيت فكل شيء هين ... وإذا حصلت فكل شيء حاصل
أنا عبد سوء آبق كل على ... مولاه أوزار الكبائر حامل
قد أثقلت ظهري الذنوب وسوت ... صحفي العيوب وستر عفوك شامل
ها قد أتيت وحسن ظني شافعي ... ووسائلي ندم ودمع سائل
فاغفر لعبدك ما مضى وارزقه تو ... فيقاً لما ترضى ففضلك كامل
وافعل به ما أنت أهل جميلة ... والظن كل الظن أنك فاعل
7 قال الشيخ إسماعيل الزمزمي:
يا من تحل بذكره ... عقد النوائب والشدائد
يا من إليه المشتكى ... وإليه أمر الخلق عائد
يا حي يا قيوم يا ... صمداً تنزه عن مضادد(3/8)
أنت الرقيب على العبا ... د وأنت في الملكوت واحد
أنت العليم بما ابتليت به وأنت علي شاهد
إن الهموم جيوشها ... قد أصبحت قلبي تطارد
فرج بحولك كربتي ... يا من له حسن العوائد
فخفي لطفك يستعا ... ن به على الزمن المعاند
أنت الميسر والمسبب والمسهل والمساعد
سبب لنا فرجاً قريباً يا إلاهي لا تباعد
كن راحمي فلقد يئست من الأقارب والأباعد
وعلى العدى كن ناصري ... لا تشمتن بي الحواسد
يا ذا الجلال وعافني=مما من البلوى أكابد
وعن الورى كن ساتراً ... عيبي بفضل منك وارد
يا رب قد ضاقت بي ال ... أحوال واغتال المعاند
فامنن بنصرك عاجلاً ... فضلاً على كيد الحواسد
هذي يدي وبشدتي ... قد جئت يا رباه قاصد
فلكم إلهي قد شهد ... ت لفيض لطفك من عوائد
محبة الله والثقة به
8 أخبرني يحيى بن بسطام قال: دخلت يوماً مع نفر من أصحابنا على عفيرة العابدة الضرير وكانت قد تعبدت وبكت خوفاً من الله جل شأنه حتى عميت. فقال بعض أصحابنا لرجل إلى جنبه: ما أشد العمى على من(3/9)
كان بصيراً. فسمعت عفيرة قوله فقالت يا عبد الله عمى القلب عن الله أشد من عمى العين عن الدنيا. وإني لوددت أن الله وهب لي كنه محبته وأن لم يبق مني جارحة إلا أخذها: (لليمني) قال بعض الزاهدين متغزلاً في حبه تعالى:
هجرت الخلق طراً في رضاكا ... ويتمت العيال لكي أراكا
فلو قطعتني في الحب إربا ... لما حن الفؤاد إلى سواكا
قال غيره:
إذا أمسى وسادي من تراب ... وبت مجاور الرب الرحيم
فهنوني أصيحابي وقولوا ... لك البشرى قدمت على كريم
قال آخر:
ما زال يحتقر الدنيا بهمته ... حتى ترقت إلى الأخرى به هممه
رث اللباس جديد القلب مستتر ... في الأرض مشتهر فوق السما نسمه
طوبى لعبد بحبل الله معتصم ... على صراط سوي ثابت قدمه
قال ابن الصيفي:
يا طالب الطب من داء أصيب به ... إن الطبيب الذي أبلاك بالداء
هو الطبيب الذي يرجى لعافية ... لا من يذيب لك الترياق في الماء
قال علي بن أبي طالب:
لبيك لبيك أنت مولاه ... فارحم عبيداً فأنت منجاه
يا ذا المعالي إليك معتمدي ... طوبى لمن كنت أنت مولاه(3/10)
طوبى لمن كان نادماً أرقاً ... يشكو إلى ذي الجلال بلواه
وما به علة ولا سقم ... أكثر من حبه لمولاه
إذا خلا في الظلام مبتهلاً ... أجابه الله ثم لباه
سألت عبدي وأنت في كنفي ... وكل ما قلت قد سمعناه
صوتك تشتاقه ملائكة ... فذنبك الآن قد غفرناه
في جنة الخلد ما تمناه ... طوباه طوباه ثم طوباه
سلني بلا خشية ولا رهب ... ولا تخف إنني أنا الله
10 أول مقامات الانتباه هو اليقظة من سنة الغفلة. ثم التوبة وهي الرجوع إلى الله بعد الإباق. ثم الورع والتقوى لكن ورع أهل الشريعة عن المحرمات وورع أهل الطريقة عن الشبهات. ثم المحاسبة وهي تعداد ما صدر عن الإنسان بينه وبين نفسه وبينه وبين بني نوعه. ثم الإرادة وهي الرغبة في نيل المراد مع الكد. ثم الزهد وهو ترك الدنيا وحقيقته التبرؤ عن غير المولى. ثم الفقر وهو تخلية القلب عما خلت عنه اليد. والفقير من عرف أنه لا يقدر على شيء. ثم الصدق وهو استواء الظاهر والباطن. ثم التصبر وهو حمل النفس على المكاره. ثم الصبر وهو ترك الشكوى وقمع النفس. ثم الرضاء وهو التلذذ بالبلوى. ثم الإخلاص وهو إخراج الخلق عن معاملة الحق. ثم التوكل وهو الاعتماد في كل أموره على الله سبحانه وتعالى مع العلم بأن الخير فيما اختاره (لبهاء الدين العاملي)(3/11)
قال بعض الشعراء:
يا رب هيئ لنا من أمرنا رشدا ... واجعل معونتك في عمرنا مددا
ولا تكلنا إلى تدبير أنفسنا ... فالنفس تعجز عن إصلاح ما فسدا
الاستغفار إلى الله
11 قال أبو حاتم: أملى علينا أعرابي يقال له مرشد: اللهم اغفر لي قبل أن لا أقدر على استغفارك حتى يفنى الأجل. وينقطع العمل. أعني على الموت وكربته وعلى القبر وغمته. وعلى الميزان وخفته وعلى الصراط وزلته وعلى يوم القيامة وروعته. اغفر لي مغفرة عز لا تغادر ذنباً ولا تدع كرباً. اغفر لي جميع ما تبت إليك منه. ثم عدت فيه يا رب تظاهرت علي منك النعم. وتداركت عندك مني الذنوب. فلك الحمد على النعم التي تظاهرت وأستغفرك للذنوب التي تداركت. وأمسيت عن عذابي غنياً وأصبحت إلى رحمتك فقيراً. اللهم إني أسألك نجاح الأمل عند انقطاع الأجل. اللهم اجعل خير عملي ما ولي أجلي. اللهم اجعلني من الذين إذا أعطيتهم شكروا. وإذا ابتليتهم صبروا. وإذا أذكرتهم ذكروا. واجعل لي قلباً تواباً أواباً. لا فاجراً ولا مرتاباً. اجعلني من الذين إذا أحسنوا ازدادوا وإذا اساؤوا استغفروا. اللهم لا تحقق علي العذاب. ولا تقطع بي الأسباب واحفظني في كل ما تحيط به شفقتي. وتأتي من ورائه سبحتي. وتعجز عنه قوتي. أدعوك دعاء ضعيف عمله. متظاهرة ذنوبه. ضنين على نفسه. دعاء من بدنه(3/12)
ضعيف ومنته عاجزة. قد انتهت عدته. وخلقت جدته. ومن ثم ظمؤه. اللهم لا تخيبني وأنا أرجوك. ولا تعذبني وأنا أدعوك. الحمد لله على طول النسيئة. وحسن التباعة وتشنج العروق وإساغة الريق وتأخر الشدائد. والحمد لله على حلمه بعد علمه. وعلى عفوه بعد قدرته. اللهم إني لا أعوذ بك من الفقر إلا إليك ومن الذل الذي إلا لك. وأعوذ بك أن أقول زوراً أو أغشى فجوراً. أو أكون بك مغروراً. وأعوذ بك من شماتة الأعداء. وعضال الداء وخيبة الرجاء (لابن عبد ربه) 12 قال أحمد بن الأقليشي مستعطفاً:
أسير الخطايا عند بابك واقف ... له عن طريق الحق قلب مخالف
قديماً عصى عمداً وجهلاً وغرةً ... ولم ينهه قلب من الله خائف
تزيد سنوه وهو يزداد ضلةً ... فها هو في ليل الضلالة عاكف
تطلع صبح الشيب والقلب مظلم ... فما طاف منه من سنى الحق طائف
ثلاثون عاماً قد تولت كأنها ... حلومٌ تقضت أو بروق خواطف
وجاء المشيب المنذر المرء أنه ... إذا رحلت عنه الشبيبة تالف
فيا أحمد الخوان قد أدبر الصبا ... وناداك من سن الكهولة هاتف
فهل أرق الطرف الزمان الذي مضى ... وأبكاه ذنب قد تقدم سالف
فجُد بالدموع الحمر حزناً وحسرةً ... فدمعك ينبئ أن قلبك آسف
قال آخر:
إله الخلق قد عظمت ذنوبي ... فسامح ما لعفوك من مشارك(3/13)
أجر يا سيدي عبداً فقيراً ... أناخ ببابك العالي ودارك
قال غيره:
وإني لأدعو الله أسأل عفوه ... وأعلم أن الله يعفو ويغفر
لئن أعظم الناس الذنوب فإنها=وإن عظمت في رحمة الله تصغر 13 قال أبو القاسم بن الخطيب مستغفراً:
يا من يرى ما في الضمير ويسمع ... أنت المعد لكل ما يتوقع
يا من يرجى للشدائد كلها ... يا من إليه المشتكى والمفزع
يا من خزائن رزقه في قول كن ... أمنن فإن الخير عندك أجمع
ما لي سوى فقري إليك وسيلةٌ ... فبالإفقار إليك فقري أدفع
ما لي سوى قرعي لبابك حيلةٌ ... فلئن رددت فأي باب أقرع
ومن الذي أدعو وأهتف باسمه ... إن كان فضلك عن فقير يمنع
حاشا لجودك أن يقنط عاصياً ... الفضل أجزل والمواهب أوسع
14 قال ابن الفرضي:
أسير الخطايا عند بابك واقف ... على وجل مما به أنت عارف
يخاف ذنوباً لم يغب عنك عيبها ... ويرجوك فيها فهو راجٍ وخائف
فيا سيدي لا تخزني في صحيفتي ... إذا نشرت يوم الحساب الصحائف
فكن مؤنسي في ظلمة القبر عندما ... يصد ذوو القربى ويجفو المؤالف
لئن ضاق عني عفوك الواسع الذي ... أرجي لإسرافي فإني لتالف(3/14)
العالم العقلي
15 من التلويحات عن أفلاطون الإلهي أنه قال: ربما خلوت بنفسي كثيراً عند الرياضيات. وتأملت أحوال الموجودات المجردة عن الماديات. وخلعت بدني جانباً وصرت كأني مجردٌ بلا بدن عارٍ عن الملابس الطبيعية. فأكون داخلاً في ذاتي لا أعقل غيرها ولا أنظر فيما عداها وخارجاً عن سائر الأشياء فحينئذ أرى في نفسي من الحسن والبهاء والسناء والضياء والمحاسن الغريبة العجيبة الأنيقة ما أبقى معه متعجباً حيراناً باهتاً. فأعلم أني جزءٌ من أجزاء العالم الأعلى الروحاني الكريم الشريف. وأني ذو حياة فعالة. ثم ترقيت بذهني من ذلك العالم إلى العوالم الإلهية والحضرة الربوبية. فصرت كأني موضوع فيها معلق بها فوق العوالم العقلية النورية. فأرى كأني واقف في ذلك الموقف الشريف وأرى هناك من البهاء والنور ما لا تقدر الألسن على وصفه ولا الأسماع على قبول نقشه. فإذا استغرقني ذلك الشأن وقلبني ذلك النور والبهاء ولم أقو على احتماله هبطت من هناك إلى عالم الفكرة. فحينئذ حجبت الفكرة عني ذلك النور فأبقى متعجباً أني كيف انحدرت من ذلك العالم. وعجبت كيف رأيت نفسي ممتلئة نوراً وهي مع البدن كهيئتها. فعندما تذكرت قول مطريوس حيث أمرنا بالطلب والبحث عن جوهر النفس الشريف والارتقاء إلى العالم العقلي (لبهاء الدين)(3/15)
الباب الثاني في الزهد
في الخوف
16 قال علي: ألا إن عباد الله المخلصين لمن رأى أهل الجنة في الجنة فاكهين. وأهل النار في النار معذبين شرورهم مأمونة. وقلوبهم محزونة. وأنفسهم عفيفة. وحوائجهم خفيفة. صبروا أياماً قليلةً. لعقبى راحة طويلة. أما بالليل فصفوا أقدامهم في صلاتهم تجري دموعهم على خدودهم يجأرون إلى ربهم: ربنا ربنا. يطلبون فكاك رقابهم. وأما بالنهار فعلماء خلماء بررة أتقياء كأنهم القداح (القداح السهام يريد في ضمرتها) . ينظر إليها الناظر فيقول: مرضى وما بالقوم من مرض. (وقال منصور بن عمار) في مجلس الزهد إن لله عباداً جعلوا ما كتب عليهم من الموت مثالاً بين أعينهم وقطعوا الأسباب المتصلة بقلوبهم من علائق الدنيا. فهم أنضاء عبادته. حلفاء طاعته. قد نضحوا خدودهم بوابل دموعهم وافترشوا جباههم في محاريبهم. يناجون ذا الكبرياء والعظمة في فكاك رقابهم
زهد النعمان بن امرئ القيس
17 إن النعمان بن امرئ القيس الأكبر الذي بنى الخورنق والسدير أشرف على الخورنق يوماً فأعجبه ما أوتي من الملك والسعة ونفوذ(3/16)
الأمر وإقبال الوجوه عليه فقال لأصحابه: هل أوتي أحدٌ مثل ما أوتيت. فقال له حكيم من حكماء أصحابه: هذا الذي أوتيت شيء لم يزل ولا يزول أم شيء كان لمن قبلك زال عنه وصار إليك. قال: بك شيء كان لمن قبلي زال عنه وصار إليّ وسيزول عني. قال: فسررت بشيء تذهب عنك لذته وتبقى تبعته. قال: فأين المهرب. قال: إما أن تقيم وتعمل بطاعة الله أو تلبس أمساحاً وتلحق بجبل تعبد ربك فيه وتفر من الناس حتى يأتيك أجلك. قال: فإذا فعلت ذلك فما لي. قال: حياة لا تموت. وشباب لا يهرم. وصحة لا تسقم. وملك جديد لا يبلى. قال: فأي خير فيما يفنى والله لأطلبن عيشاً لا يزول أبداً. فانخلع من ملكه ولبس الأمساح وساح في الأرض. وتبعه الحكيم وجعلا يسبحان ويعبدان الله تعالى حتى ماتا. وفيه يقول عدي بن زيد:
وتفكر رب الخورنق إذ أشرف يوماً وللهدى تفكير
سره ماله وكثرة ما يملك والبحر معرضاً والسدير
فارعوى قلبه وقال فما غبطة حي إلى الممات يصير
ثم بعد الفلاح والملك والنعمة ... وارتهم هناك القبور
ثم صاروا كأنهم ورق جفّ ... م فألوت به الصبا والدبور
عدي بن زيد والنعمان
18 روي أن النعمان بن المنذر خرج متصيداً ومعه عدي بن زيد(3/17)
فمرا بشجرة. فقال عدي بن زيد: أيها الملك أتدري ما تقول هذه الشجرة. قال: لا. قال فإنها تقول:
من رآنا فليحدث نفسه ... أنه موفٍ على قرب زوال
فصروف الدهر لا تبقى لها ... ولما تأتي به صم الجبال
رب ركبٍ قد أناخوا حولنا ... يشربون الخمر بالماء الزلال
والأباريق عليها فدمٌ ... وجياد الخيل تجري بالجلال
عمروا الدهر بعيش حسن ... أمنى دهرهم غير عجال
عصف الدهر بهم فانقرضوا ... وكذاك الدهر حالاً بعد حال
قال) ثم جاوزوا الشجرة فمرا بمقبرة. فقال له عدي: أتدري ما تقول هذه المقبرة. قال: لا. قال: فإنها تقول:
أيها الركب المخبو ... ن على الأرض المجدونا
كما أنتم كذا كنا ... وكما نحن تكونونا
فقال النعمان: قد علمت أن الشجرة والمقبرة لا تتكلمان. وقد علمت أنك إنما أردت عظتي فجزاك الله عني خيراً فما السبيل الذي تدرك به النجاة. قال: تدع عبادة الأوثان وتعبد الله وحده قال: وفي هذا النجاة. قال: نعم. قال فترك عباة الأوثان وتنصّر حينئذ وأخذ في العبادة والاجتهاد (للطرطوشي)
ذلّة الدنيا وزوالها
19 (من المنهج) أما بعد فإن الدنيا قد أدبرت وآذنت بوداع. وإن(3/18)
الآخرة قد أقبلت وأشرفت باطلاع. ألا وإن اليوم المضمار. وغداً السباق والسبقة الجنة والغاية النار. أفلا تائب من خطيئته. قبل منيته. ألا عامل لنفسه. قبل يوم بؤسه. ألا وإنكم في أيام أمل من ورائه أجل. فمن عمل في أيام أمله. قبل حصول أجله. نفعه عمله. ولم يضره أجله. ومن قصّر في أيام عمله قبل حصول أجله. فقد خسر عمله. وضر أجله. ألا فاعملوا في الرغبة. كما تعملون في الرهبة. ألا وإني لم أر كالجنة نام طالبها. ولا كالنار نام هاربها. ألا وإنه من لا ينفعه الحق يضره الباطل. ومن لا يستقيم به الهدى. يجذبه الضلال إلى الردى. ألا وإنكم قد أمرتم بالظعن ودللتم على الزاد. وإن أخوف ما أخاف عليكم إتباع الهوى وطول الأمل. ترودوا في الدنيا من الدنيا ما تحرزون به أنفسكم غدا 20 (عن نوفٍ البكالي) قال: رأيت أمير المؤمنين علياً كرم الله وجهه ذات ليلةٍ وقد خرج من فراشه فنظر إلى النجوم فقال: يا نوف أراقد أنت أم رامق. قلت: بل رامق يا أمير المؤمنين. قال: يا نوف طوبى للزاهدين في الدنيا الراغبين في الآخرة أولئك قوم اتخذوا الأرض بساطاً وترابها فراشاً وماءها طيباً والدين شعاراً والدعاء دثاراً. ثم قرضوا الدنيا قرضاً على منهاج المسيح (لبهاء الدين)
الراهب الجرجاني مع الشيخ عمر الصيني
21 قال الشيخ عمر: مررت براهب وهو في صومعته فجرى بيني(3/19)
وبينه مؤانسة. فقلت له: يا راهب لمن تعبد. فقال: أعبد الله الذي خلق العالم بقدرته. وألّف نظامه بحكمته. وقد حوت عظمته كل شيء. لا تبلغ الألسن وصف قدرته. ولا العقول لج رحمته. له الشكر على نتقلب فيه من نعمته التي صحت بها الأبصار. ورعت بها الأسماع. ونطقت بها الألسن. وسكنت بها العروق وامتزجت بها الطبائع. فقلت: يا راهب ما أفضل الحكمة. فقال: خوف الله. فقلت: وما أكمل العقل. قال: معرفة الإنسان بقدرته. قلت: ما يعين على التخلص من الدنيا. قال: أن تجعل بقية يومك انقضاء أملك. فقلت: وما حملك على أن عقلت على نفسك في هذه الصومعة. فقال: لأحبس هذا السبع عن الناس (وأومأ بيد إلى لسانه) . قلت: من أين تعيش. قال: من تدبير اللطيف الخبير الذي خلق الرحى وهو يأتيها بالطحين. قلت: لم لا تنزل إلينا وتخالطنا. فقال: لأن الأشياء الموبقة بأسرها بينكم والسلامة من ذلك إنما تكون في الوحدة. قلت: وكيف صبرت على الوحدة. فقال: لو ذقت حلاوة الوحدة لاستوحشت إليها من نفسك. قلت: كيف لبست السواد. فقال: لأن الدنيا دار مأتم وأهلها في حداد. وإذا حزنت لبست السواد. فقلت: كيف تذكر الموت. فقال: ما أطرف طرفة عين إلا ظننت أني مت. قلت: ما لنا نحن نكره الموت. فقال: لأنكم عمرتم دنياكم وأخربتم آخرتكم. فأنتم تكرهون النقلة من العمران(3/20)
إلى الخراب. قلت: يا راهب عظني. فقال: أبلغ العظات النظر إلى محلة الأموات. وفي تغيير الساعات والآجلات. وإن شيعت جنازة فكن كأنك المحمول مثل ذلك. ولا تنس من لا ينساك. وأحسن سريرتك. يحسن الله علانيتك. واعلم أن من خاف الله أخاف منه كل شيء. ومن لم يخف الله خاف من كل شيء. اطلب العلم لتعمل به ولا تطلبه للتباهي أو تماري به السفهاء. وإياك والأهواء فإنها موبقة. والهرب الهرب من الجهل. والهرب الهرب ممن يمدح الحسنات فيتجنبها ويذم السيئات فيرتكبها. ولا تشرب المسكر فإن عاجلته غرامة. وعاقبته ندامة. ولا تجالس من يشغلك بالكلام ويزين لك الخطأ ويوقعك في هذه الغموم. ويتبرأ منك وينقلب عليك. ولا تتشبه في طعامك وشرابك ولباسك بالعظماء ولا في مشيك بالجبابرة. وكن ممن يرجى خيره. ولا تكن ممن يخاف شره. واعلم أن من أحبه الله ابتلاه. ومن صبر رضي الله عنه. وإذا اعتللت فأكثر من ذكر الله وحمده وشكره. وإياك والنميمة فإنه تزرع في القلوب الضغائن وتفرق بين المحبين. وانظر ما استحسنته من غيرك فامتثله لنفسك. وما أنكرته من غيرك فتجنبه. وارض للناس ما ترضاه لنفسك. فإنه كمال الوصال والصلاح في الدين والدنيا. وقال: إني أستودعك الله وأقرأ عليك السلام. ثم إنه نهض إلى صلاته فسمعته يقول: إلهنا تقدس اسمك يأتي ملكوتك. تكون(3/21)
مشيئتك في السماء كذلك على الأرض. ارزقنا الكفاف يوماً بيوم. اغفر لنا خطايانا وآثامنا. ولا تدخلنا في التجارب وخلصنا من إبليس لنسبحك ونقدسك ونمجدك إلى دهر الداهرين. ثم جعل يقول أيضاً: اللهم إن رحمتك كعظمتك. اللهم إن نعمتك أعظم من رجائنا. فصنعك أفضل من آمالنا. اللهم اجعلنا شاكرين لنعمائك حتى تشتغل بذكرك جوارحنا. وتمتلئ قلوبنا. اللهم أعنا على أن نحذر من سخطك ونبتغي طاعتك ورضاك. اللهم وفقنا للعمل بما نفوز به من ملكوتك. من أجل أنه ينبغي لك العز والسلطان والقدرة. قال الشيخ: فاستحسنت ذلك منه. وسألته أن يدعو لنا وانصرفت وأنا متعجب من حسن مقاله.
22 قال قثم الزاهد: رأيت راهباً على باب بيت المقدس. فقلت له: أوصني فقال: نا أناأناأنا كن كرجل احتوشته السباع فهو خائف مذعور يخاف أن يسهو فتفترسه أو يلهو فتنهشه. فليله ليل مخافة إذا أمن فيه المغترون. ونهاره نهار حزن إذا فرح فيه البطالون. ثم إنه ولى وتركني فقلت: زدني. فقال: إن الظمآن يقنع بيسير الماء 23 إن الحاسة الجليدية إذا كانت مؤفة برمد ونحوه فهي محرومة من الأشعة الفائضة من الشمس. كذلك البصيرة إذا كانت مؤفة بالهوى واتباع الشهوات والاختلاط بأبناء الدنيا فهي محرومة من إدراك الأنوار القدسية محجوبة عن ذوق اللذات الإنسية. ولله در من قال:(3/22)
ذا مرتفع ذا منتصب ... ذا منخفض ذا منجزم
لا يفتكرون لما وجدوا ... لا يعتبرون لما عدموا
أهواء نفوسهم عبدوا ... والنفس لعابدها صنم
(لبهاء الدين)
قال محمد بن الحسن الحميري:
عجبت لمبتاع الضلالة بالهدى ... وللمشتري دنياه بالدين أعجب
وأعجب من هذين من باع دينه ... بدنيا سواه فهو من ذين أخيب
24 قال الحسن ابن آدم: أنت أسير الدنيا رضيت من لذاتها بما ينقضي. ومن نعيمها بما يمضي. ومن ملكها بما ينفد. تجمع لنفسك الأوزار ولأهلك الأموال. فإذا مت حملت أوزارك إلى قبرك وتركت أموالك لأهلك. أخذه أبو العتاهية فقال:
أبقيت ما لك ميراثا لوارثه ... يا ليت شعري ما أبقى لك المال
القوم بعدك في حال تسرهم ... فكيف بعدهم دارت بك الحال
ملوا البكاء فما يبكيك من أحد ... واستحكم القيل في الميراث والقال
قال ابن عبد ربه:
ألا إنما الدنيا غضارة أيكة ... إذا اخضر منها جانب جف جانب
هي الدار ما الآمال إلا فجائع ... عليها ولا اللذات إلا مصائب
فكم سخنت بالأمس عيناً قريرة ... وقرت عيوناً دمعها الآن ساكب
فلا تكتحل عيناك فيها بعبرة ... على ذاهب منها فإنك ذاهب(3/23)
وقال ابن عمران:
أف لدنيا قد شغفنا بها ... جهلاً وعقلاً للهوى متبع
فتانةٌ تخدع طلابها ... فلا تكن ممن بها ينخدع
أضغاث أحلام إذا حصلت ... أو كوميض البرق مهما لمع
25 (من خطبة لأمير المؤمنين علي بن أبي طالب) أيها الناس إنما أنتم خلف ماضين وبقية المتقدمين. كانوا أكثر منك بسطة وأعظم سطوة. أزعجوا عنها أسكن ما كانوا إليها فغدرت بهم أوثق ما كانوا بها. فلم تغن عنهم قوة عشيرة ولا قبل منهم بذل فدية. فارحلوا نفوسكم بزاد مبلغ قبل أن تؤخذوا على فجأة. فقد غفلتم عن الاستعداد وجف القلم بما هو كائن. فحاسبوا أنفسكم قبل أن يحاسبوا. ومهدوا لها قبل أن تعذبوا. وتزودوا للرحيل قبل أن تزعجوا. فإنما هو موقف عدل وقضاء حق. ولقد أبلغ في الإعذار. من تقدم في الإنذار.
26 (من كلامه) الدنيا دار بلاء. ومنزل قلعة وعناء. قد نزعت منها نفوس السعداء. وانتزعت بالكره من أيدي الأشقياء. فأسعد الناس فيها أرغبهم عنها. وأشقاهم بها أرغبهم فيها هي الغاشة لمن انتصحها والمغوية لمن أطاعها. والهالك من هوى فيها. طوبى لعبد اتقى فيها ربه ونصح نفسه وقدم توبته وأخر شهوته من قبل أن تلفظه الدنيا إلى الآخرة. فيصبح في دمن غبراء. مدلهمة ظلماء. لا يستطيع أن يزيد في حسنة. ولا أن ينقص من سيئة. ثم ينشر فيحشر إما إلى(3/24)
جنة يدوم نعيمها أو نار لا ينفد عذابها 27 من كلام بعض البلغاء: الدنيا إن أقبلت بلت. وإن أدبرت برت. أو أطنبت نبت. أو أركبت كبت. أو أبهجت هجت. أو أسعفت عفت. أو أينعت عنت. أو أكرمت رمت. أو عاونت ونت. أو ماجنت جنت. أو سامحت محت. أو صالحت لحت. أو وصلت صلت. أو بالغت لغت. أو وفرت فرت. أو زوجت وجت. أو نوهت وهت. أو ولهت لهت. أو بسطت سطت (لبهاء الدين) قال علي بن أبي طالب:
ذهب الذين عليهم وجدي ... وبقيت بعد فراقهم وحدي
من كان بينك في التراب وبينه ... شبران فهو بغاية البعد
لو بعثرت للخلق أطباق الثرى ... لم يعرف المولى من العبد
من كان لا يطأ التراب برجله ... يطأ التراب بناعم الخد
28 وقد روي أن علياً كتب إلى معاوية هذه الأبيات:
أما ولله إن الظلم شوم ... ولا زال المسيء هو المظلوم
إلى الديان يوم الدين نمضي ... وعند الله تجتمع الخصوم
ستعلم في الحساب إذا التقينا ... غداً عند المليك من الظلوم
ستنقطع اللذاذة عن أناس ... من الدنيا وتنقطع الهموم
لأمر ما تصرفت الليالي ... لأمر ما تحركت النجوم
سل الأيام عن أمم تقضت ... ستخبرك المعالم والرسوم(3/25)
تروم الخلد في دار المنايا ... فكم قد رام مثلك ما تروم
تنام ولم تنم عنك المنايا ... تنبه للمنية يا نؤوم
لهوت عن الفناء وأنت تفنى ... فما شيء من الدنيا يدوم
قال بعضهم:
عجبت لمن جد في شأنه ... لحر الرجاء ونار الأمل
يؤمل ما لم يقدر له ... ويضحك منه دنو الأجل
يقول سأفعل هذا غداً=ودون غد للمنايا عمل قال آخر:
عجبت لمفتون يخلف بعده ... لوارثه ما كان يجمع من كسب
حووا ماله ثم استهلوا لقبره ... ببادي بكاء تحت ضحك القلب
قال غيره:
والله لو كانت الدنيا بأجمعها ... تبقى علينا ويأتي رزقها رغدا
ما كان من حق حران أن يذل لها ... فكيف وهي متاع يضمحل غدا
قال آخر:
إنما هذه الحياة متاع ... فالجهول الجهول من يصطفيها
ما مضى فات والمؤمل غيب ... ولك الساعة التي أنت فيها
أورد ابن خلكان للحسن بن علي الخازن:
عنت الدنيا لطالبها ... واستراح الزاهد الفطن
كل ملك نال رخرفها ... حسبه مما حوى كفن(3/26)
يقتني مالاً ويتركه ... في كلا الحالين مفتتن
أملي كوني على ثقة ... من لقاء الله مرتهن
أكره الدنيا وكيف بها ... والذي تنحو به وسن
لم تدم قبلي على أحد ... فلماذا الهم والحزن
وأنشد عدي بن زيد:
أين كسرى كسرى الملوك أنوشر ... وان أم أين قبله سابور
وبنو الأصفر الكرام ملوك الروم لم يبق منهم مذكور
وأخو الحصن إذ بناه وإذ دجلة تجبى إليه في ذراه وكور
شاده مرمراً وجلله كلساً فللطير في ذراه وكور
لم يهبه رب المنون فباد الملك عنه فبابه مهجور
قال غيره:
تأمل في الوجود بعين فكر ... ترى الدنيا الدنية كالخيال
ومن فيها جميعاً سوف يفنى ... ويبقى وجه ربك ذي الجلال
قال آخر:
دنباك شيئان فانظر ... ما ذلك الشيئان
ما فات منها فحلم ... وما بقي فأماني
30 استنشد المتوكل أبا الحسن علي بن محمد. فقال: إني لقليل الرواية في الشعر. فقال: لا بد. فأنشده:
باتوا على قلل الأجبال تحرسهم ... غلب الرجال فلم تنفعهم القلل(3/27)
واستنزلوا بعد عز عن معاقلهم ... وأودعوا حفراً با بئس ما نزلوا
ناداهم صارخ من بعد ما دفنوا ... أين الأسرة والتيجان والحلل
أين الوجوه التي كانت منعمة ... من دونها تضرب الأستار والكلل
فأفصح القبر عنهم حين ساءلهم ... تلك الوجوه عليها الدود يقتتل
قد طللا أكلوا دهراً وما شربوا ... فأصبحوا بعد طول الأكل قد أكلوا
وطالما أكثروا الأموال وادخروا ... فخلفوها على الأعداء وارتحلوا
وطالما شيدوا دوراً لتحصنهم ... ففارقوا الدور والأهلين وانتقلوا
أضحت مساكنهم وحشاً معطلة ... وساكنوها إلى الأجداث قد رحلوا
سل الخليفة إذ وافت منيته ... أين الجنود وأين الخيل والخول
أين الكنوز التي كانت مفاتحها ... تنوء بالعصبة المقوين لو حملوا
أين العبيد الألى أرصدتهم عدداً ... أين العديد وأين البيض والأسل
أين الفوارس والغلمان ما صنعوا ... أين الصوارم والخطية الذبل
أين الكفاة ألم يكفوا خليفتهم ... لما رأوه صريعاً وهو يبتهل
أين الكماة أما حاموا أما غضبوا ... أين الحماة التي يحمى بها الدول
أين الرماة ألم تمنع بأسهمهم ... لما أتتك سهام الموت تنتصل
هيهات ما منعوا ضيماً ولا دفعوا ... عنك المنية إذ وافى بها الأجل
ولا الرشى دفعتها صاح وبذلوا ... ولا الرقى نفعت شيئاً ولا الحيل
ما ساعدوك ولا واساك أقربهم ... بل أسلموك لها بئس ما فعلوا
ما بال قبرك لا ينشى به أحد ... ولا يطور به من بينهم رجل(3/28)
ما بال قصرك وحشاً لا أنيس به ... يغشاك من كنفيه الروع والوهل
ما بال ذكرك منسياً ومطرحاً ... وكلهم باقتسام المال قد شغلوا
لا تنكرن فما دامت على ملك ... ولا أناخ عليه الموت والوجل
وكيف يرجو دوام العيش متصلاً ... وروحه بحبال الموت متصل
وجسمه للبانات الردى غرض ... وملكه زائل عنه ومنتقل
(وتروى هذه القصيدة في ديوان علي بن أبي طالب)
حفظ الحواس
31 قال المعلى الصوفي: شكوت إلى بعض الزهاد فساداً أجده في قلبي. فقال: هل نظرت إلى شيء فتاقت إليه نفسك. قلت: نعم. قال: احفظ عينيك فإنك إن أطلقتهما أوقعتاك في مكروه. وإن ملكتهما ملكت سائر جوارحك. (قال) مسلم الخواص لمحمد بن علي الصوفي: أوصيني. فقال: أوصيك بتقوى الله في أمرك كله. وإيثار ما يجب على محبتك. وإياك والنظر إلى كل ما دعاك إليه طرفك وشوقك إليه قلبك. فإنهم إن ملكاك لم تملك شيئاً من جوارحك حتى تبلغ بهما ما يطالبانك به. وإن ملكتهما كنت الداعي لهما إلى ما أردت. فلم يعصيا لك أمراً ولا يردا لك قولاً. (قال بعض الحكماء) : إن الله عز وجل جعل القلب أمير الجسد وملك الأعضاء. فجميع الجوارح تنقاد له وكل الحواس تطيعه وهو مدبرها ومصرفها وقائدها وسائقها وبإرادته تنبعث وفي طاعته تتقلب. ووزيره العقل. وعاضده(3/29)
الفهم. ورائده العينان. وطليعته الأذنان. وهما في النقل سواء لا يكتمانه أمراً ولا يطويان دونه سراً (يريد العين والأذن)
الدهر وحوادثه
32 لقي رجل حكيماً فقال: كيف ترى الدهر قال يخلق الأبدان ويجدد الآمال ويقرب المنية. ويباعد الأمنية قال: فما حال أهله. قال: من ظفر منهم لغب. ومن فاته نصب. قال: فما يغني عنه. قال: قطع الرجاء منه. قال: فأي الأصحاب أبر وأوقى. قال: العمل الصالح والتقوى. قال أيهم أضر وأردى. قال: النفس والهوى. قال: فأين المخرج. قال: سلوك المنهج. (زهر الآداب للقيرواني) 33 قال بعض الحكماء: أف للدهر ما أكدر صافيه وأخيب راجيه. وأعدى أيامه ولياليه. وقيل: يسار الدهر في الأخذ أسرع من يمينه في البذل. لا يعطى بهذه إلا ارتجع بتلك. وقال آخر: الدهر لا يؤمن يومه. ويخاف غده. يرضع ثديه وتجرح يده. وقيل: الدهر يغر ويمر. ويسوء من حيث يسر. وقال آخر الدهر لا تنتهي فيه المواهب. حتى تتخللها المصائب. ولا تصفو فيه المشارب. حتى تكدرها الشوائب. (وفي فصل ابن المعتز) : هذا زمان متلون الأخلاق متداعي البنيان. موقظ الشر منيم الخبر. مطلق أعنة الظلم. حابس روح العدل. قريب الأخذ من الإعطاء والكآبة من البهج والقطوب من الشر. مر الثمرة بعيد المجتنى. قابض على النفوس(3/30)
بكربته. منيخ على الأجسام بوحشته. لا ينطق إلا البشكوى. ولا يسكت إلى على غصص وبلوى. (ومثله فصل للصاحب) : الزمان حديد الظفر. لئيم الظفر. حلو المورد مر المصدر. أثره عند المرء كأثر السيف في الضريبة والليث في الفريسة. (ولشمس المعالي قابوس) : الدهر شر كله. مفصله ومجمله. إن أضحك ساعة أبكى سنة. وإن أتى بسيئة جعلها سنة. ومن أراد منه غير هذا سيرة. أراد من الأعمى عيناً بصيرة. ومن ابتغى منه الرعاية. ابتغى من الغول الهداية. (طرائف اللطائف للمقدسي) قال بعضهم:
يا طالما طال حرص الناس في حذر ... على الحياة فضاع الحرص والحذر
قد غرهم زخرف الدنيا وبهجتها ... نعم الغصون ولكن بئسما الثمر
قال آخر:
ما أنت إلا كزرع عند خضرته ... بكل شيء من الآفات مقصود
فإن سلمت من الآفات أجمعها ... فأنت عند كمال الأمر محصود
قال بعضهم يذكر فجائع الدهر:
وأصبحت كالبازي المنتف ريشه ... يرى حسرات كلما طار طائر
يرى خرقات الجو يخرقن في الهوا ... فيذكر ريشاً من جناحيه وافر
وقد كان دهرا في الرياض منعما ... على كل ما يهوى من الصيد قادر
إلى أن أصابته من الدهر نكبة ... فأصبح مقصوص الجناحين خاسر(3/31)
قال غيره:
في الدهر تحيرت الأمم ... والحاصل منه لهم ألم
بعجائبه ومصائبه ... أمواج زواخر تلتطم
والعمر يسير مسير الشمس فليس تقر له قدم
قدمان له يسعى بهما ... فضحى ودجى ضوء ظلم
والناس بحلم جهالتهم ... فإذا ذهبوا ذهب الحلم
صم بكم عمى بهم ... نعم قسمت لهم نعم
فرقوا فرقاً فرقوا فرقا ... ومضوا طرقاً لا تلتئم
قال آخر:
وما الدهر إلا سلم فبقدر ما ... يكون صعود المرء فيه هبوطه
وهيهات ما فيه يزول وإنما ... شروط الذي يرقى إليه سقوطه
فمن كان أعلى كان أوفى تهشماً ... وفاء بما قامت عليه شروطه
ذكر الموت
34 قال ابن المعتز:
نسير إلى الآجال في كل ساعة ... وأيامنا تطوى وهن مراحل
ولم أر مثل الموت حقاً فإنه ... إذا ما تخطته الأماني باطل
فما أصبح التفريط في زمن الصبا ... فكيف به والشيب في الرأس شاعل
ترحل من الدنيا بزاد من التقى ... فعمرك أيام تعد قلائل(3/32)
كأن الأرض قد طويت عليا ... وقد أخرجت مما في يديا
كأني صرت منفرداً وحيداً ... ومرتهناً لديك بما عليا
كأن الباكيات علي يوماً ... ولا يغني البكاء علي شيا
ذكرن منيتي فنعيت نفسي ... ألا أسعد أخيك يا أخيا
وقال ابن عبد ربه:
أتلهو بين باطية وزير ... وأنت من الهلاك على شفير
فيا من غره أمل طويل ... يؤديه إلى أجل قصير
أتفرح والمنية كل يوم ... تريك مكان قبرك في القبور
هي الدنيا فإن سرتك يوما ... فإن الحزن عاقبة السرور
ستسلب كل ما جمعت منها ... كعارية ترد إلى المعير
35 وقال بعضهم على لسان ميت:
ضعوا خدي على لحدي ضعوه ... ومن عفر التراب فوسدوه
وشقوا عنه أكفاناً رقاقاً ... وفي الرمس البعيد فغيبوه
فلو أبصرتموه إذا تقضت ... صبيحة ثالث أنكرتموه
ولو سالت نواظر مقلتيه ... على وجناته لرفضتموه
وقد نادى البلى هذا فلان ... هلموا فانظروا هل تعرفوه
خليلكم وجاركم المفدى ... تقادم عهده فنسيتموه
قال بعضهم:
من كان يعلم أن الموت مدركه ... والقبر مسكنه والبعث مخرجه(3/33)
وأنه بين جنات ستبهجه ... يوم القيامة أو نار ستنضجه
فكل شيء سوى التقوى به سمج ... وما أقام عليه منه اسمجه
ترى الذي اتخذ الدنيا له سكنا ... لم يدر أن المنايا سوف تزعجه
وقال آخر متشوقاً إلى الموت:
جزى الله عنا الموت خيراً فإنه ... أبر بنا من كل بر وأرأف
يعجل تخليص النفوس من الأذى ... ويدني من الدار التي هي أشرف
وقال غيره:
من كان يرجو أن يعيش فإنني ... أصبحت أرجو أن أموت فأعتقا
في الموت ألف فضيلة لو أنها ... عرفت لكان سبيله أن يعشقا
وقال بعضهم:
ما لي مررت على القبور مسلماً ... على الرميم فلم يرد جوابي
يا صاح مالك لا تجيب منادياً ... أنكرت بعدي خلة الأصحاب
قال الرميم وكيف لي بجوابكم ... وأنا رهين جنادل وتراب
أكل التراب محاسني فنسيتكم ... وحجبت عن أهلي وعن أحبابي
36 وقال آخر:
استعدي يا نفس للموت واسعي ... لنجاة فالحازم المستعد
قد تبينت أنه ليس للحي خلود وما من الموت بد
إنما أنت مستعيرة ما سو ... ف تردين والعواري ترد
أنت تسهين والحوادث لا تسهو ... وتلهين والمنايا تجد(3/34)
أي ملك في الأرض أو أي حظ ... لامرئ حظه من الأرض لحد
لا ترجي البقاء في معدن المو ... ت ودار حتوفها لك ورد
التوبة إلى الله
37 قال غيره:
سلوت عن الأحبة والمدام ... وملت عن التهتك والهيام
وسلمت الأمور إلى إلهي ... وودعت الغواية بالسلام
وملت إلى اكتساب ثواب ربي ... وقدما طال غرمي بالغرام
وما أنا بعدها معطي عناني ... الهوى لكن ترى بيدي زمامي
أبعد الشيب وهو أخو سكون ... يليق بأن أميل إلى الغرام
فشرب الراح نقص بعد هذا ... ولو من راحتي بدر التمام
فكم أجريت في ميدان لهو ... خيول هوى وكم ضربت خيامي
سأوتي الكأس تعبيساً وصدا ... وإن جاءت تقابل بابتسام
عزمت على الرجوع عن المناهي ... ومثلي من يدوم على اعتزام
38 صعد الوليد بن يزيد المنبر فخطب القوم بالشعر فقال:
الحمد لله ولي الحمد ... أحمده في يسرنا والجهد
من يطع الله فقد أصابا ... أو يعصه أو الضمير خابا
كأنه لما بقي لديكم ... حي صحيح لا يزال فيكم
إنكم من بعد أن تزلوا ... عن قصده أو نهجه تضلوا
لا تتركن نصحي فإني ناصح ... إن الطريق فاعلمن واضح(3/35)
من يتقي الله يجد غب التقى ... يوم الحساب صائراً إلى الهدى
إن التقى أفضل شيء في العمل ... أرى جماع البر فيه قد دخل
خافوا الجحيم إخوتي لعلكم ... يوم اللقاء تعرفوا ما سركم
قد قيل في الأمثال لو علمتم ... فانتفعوا بذاك إن عقلتم
ما يزرع الزارع يوماً يحصده ... وما يقدم من صلاح يحمده
فاستغفروا ربكم وتوبوا ... فالموت منكم فاعلموا قريب
(الأغاني) 39 قال بعضهم:
حتام أنت بما يلهيك مشتغل ... عن نجح قصدك من خمر الهوى ثمل
تمضي من الدهر بالعيش الذميم إلى ... كم ذا التواني وكم يغري بك الأمل
وتدعي بطريق القوم معرفة ... وأنت منقطع والقوم قد وصلوا
فانهض إلى ذروة العلياء مبتدراً ... عزماً لترقى مكاناً دونه زحل
إن ظفرت فقد جاوزت مكرمة ... بقاؤها ببقاء الله متصل
وإن قضيت بهم وجداً فأحسن ما ... يقال عنك قضى من وجده الرجل
40 قال بهاء الدين العاملي في كتاب رياض الأرواح:
ألا يا خائضاً بحر الأماني ... هداك الله ما هذا التواني
أضعت العمر عصياناً وجهلاً ... فمهلاً أيها المغرور مهلا
مضى عصر الشباب وأنت غافل ... وفي ثوب العمى والغي رافل
إلى كم كالبهائم أنت هائم ... وفي وقت الغنائم أنت نائم(3/36)
وطرفك لا يرى إلا طموحاً ... ونفسك لم تزل أبدا جموحا
وقلبك لا يفيق عن المعاصي ... فويلك يوم يؤخذ بالنواصي
بلال الشيب نادى في المفارق ... بحي على الذهاب وأنت غارق
ببحر الإثم لا تصغي لواعظ ... وإن أطرى وأطنب في المواعظ
وقلبك هائم في كل واد ... وجهلك كل يوم في ازدياد
على تحصيل دنياك الدنية ... مجداً في الصباح وفي العشية
وجهد المرء في الدنيا شديد ... وليس ينال منها ما يريد
وكيف ينال في الأخرى مرامه ... ولم يجهد لمطلبها قلامه
41 قال بهاء الدين زهير:
نزل المشيب وإنه ... في مفرقي لأعز نازل
وبكيت إذ رحل الشبا ... ب فآه آه عليه راحل
بالله قل لي يا فلا ... ن ولي أقول ولي سائل
أتريد في السبعين ما ... قد كنت في العشرين فاعل
هيهات لا والله ما ... هذا الحديث حديث عاقل
قد كنت تعذر بالصبا ... واليوم ذات العذر زائل
منيت نفسك باطلا ... وإلى متى ترضى بباطل
قد صار من دون الذي ... ترجوه من مرح مراحل
ضيعت ذا الزمن الطويل ... ولم تفز فيه بطائل(3/37)
الباب الثالث في المراثي
رثاء داود الطائي
42 لما مات داود الطائي تكلم ابن السماك مثنياً عليه فقال: إن داود نظر إلى ما بين يديه من آخرته فأغشى بصر القلب بصر العين فكأنه لم ينظر إلى ما إليه تنظرون. وكأنكم لم تنظروا إلى ما إليه نظر. وأنتم منه تعجبون وهو منكم يعجب. فلما رآكم مفتونين مغرورين قد أذهلت الدنيا عقولكم وأماتت بحبها قلوبكم استوحش منكم. فكنت إذا نظرت إليه حسبته حياً وسط أموات. ويا داود ما أعجب شأنك بين أهل زمانك أهنت نفسك وإنما تريد إكرامها وأتعبتها وإنما تريد راحتها. أخشنت المطعم وإنما تريد طيبه. وخشنت الملبس وإنما تريد لينه. ثم أمت نفسك قبل أن تموت وقبرتها قبل أن تقبر. وعذبتها قبل أن تعذب سجنت نفسك في بيتك ولا محدث لها لولا جليس معها. ولا فراش تحتك ولا ستر على بابك. ولا قلة تبرد فيها ماءك ولا صحفة يكون فيها غداؤك وعشاؤك. يا داود ما تشتهي من الماء بارده ولا من الطعام طيبه ولا من اللباس لينه بلى ولكن زهدت فيه لما بين يديك. فما أصغر ما بذلت وما أحقر ما تركت في جنب ما رغبت وأملت. لم تقبل من الناس عطية ولا من(3/38)
الإخوان هدية فلما شهرك ربك بفضلك وألبسك رداء عملك، فلو رأيت من حضرك علمت أن ربك قد أكرمك (لابن عبد ربه)
رثاء الإسكندر
43 مختار من قول الحكماء عند وفاة الإسكندر لما جعل في تابوت من ذهب تقدم إليه أحدهم فقال: كأن الملك يخبأ الذهب وقد صار الآن ذهب يخبأه. وتقدم إليه آخر فقال: قد طاف الأرضين وتملكها ثم جعل منها في أربعة أذرع. (ووقف عليه آخر) فقال: انظر إلى حلم النائم كيف انقضى إلى ظل الغمام وقد انجلى. (ووقف عليه آخر) فقال: ما لك لا تقل عضواً من أعضائك وقد كنت تستقل ملك العباد. (وقال آخر) : ما لك لا ترغب بنفسك عن ضيق المكان وقد كنت ترغب بها عن رحب البلاد (وقال آخر) : أمات هذا الميت كثيراً من الناس لئلا يموت وقد مات الآن. (وقال آخر:) ما كان أقبح إفراطك في التجبر أمس مع شدة خضوعك اليوم. (قالت بنت دارا) : ما علمت أن غالب أبي يغلب. (وقال رئيس الطباخين) : قد نضدت النضائد وألقيت الوسائد ونصبت الموائد ولست أرى عميد المجلس (للقيرواني) 44 قال ابن عبد ربه يرثي ولده:
وا كبدا قد تقطعت كبدي ... قد حرقتها لواعج الكمد
ما مات حي لميت أسفا ... أعذر من والد على ولد(3/39)
يا رحمة الله جاوري جدثا ... دفنت فيه حشاشتي بيدي
ونوري ظلمة القبور على ... من لم يصل ظلمه إلى أحد
من كان خلوا من كل بائقة ... وطيب الروح طاهر الجسد
يا موت يحيى لقد ذهبت به ... ليس بزميلة ولا نكد
يا موته لو أقلت عثرته ... يا يومه لو تركته لغد
يا موت لو لم تكن تعاجله ... لكان لا شك بيضة البلد
أو كنت راخيت في العنان له ... حاز العلا واحتوى على الأمد
أي حسام سلبت رونقه ... وأي روح سللت من جسد
وأي ساق قطعت من قدم ... وأي كف أزلت من عضد
يا قمرا أحجف الخسوف به ... قبل بلوغ السواء في العدد
أي حشا لم يذب له أسفاً ... وأي عين عليه لم تجد
لا صبر لي بعده ولا جلد ... فجعت يا صبر فيه والجلد
لو لم أمت عند موته كمداً ... لحق لي أن أموت من كمدي
يا لوعة لا يزال لاعجها ... يقدح نار الأسى على كبدي
45 وقال فيه أيضاً:
لا بيت يسكن إلا فارق السكنا ... ولا امتلأ فرحاً إلا امتلأ حزنا
لهفي على ميت مات السرور به ... لو كان حياً لأحيا الدين والسننا
إذا ذكرتك يوماً قلت وا حزناً ... وما يرد عليك القول وا حزنا
يا سيدي ومراح الروح في جسدي ... هلا دنا الموت مني حين منك دنا(3/40)
حتى يمر بنا في قعر مظلمة ... لحد ويلبسنا في واحد كفنا
يا أطيب الناس روحاً ضمه بدن ... أستودع الله ذاك الروح والبدنا
لو كنت أعطى به الدنيا معاوضة ... منه لما كانت الدنيا له ثمنا
46 قال الحسن بن هانئ في الأمين:
طوى الموت ما بيني وبين محمد ... وليس لما تطوي المنية ناشر
وكنت عليه أحذر الموت وحده ... فلم يبق لي شيء عليه أحاذر
لئن عمرت دور بمن لا أحبه ... لقد عمرت ممن أحب المقابر
ومات ابن لأعرابي فاشتد حزنه عليه وكان الأعرابي يكنى به فقيل له لو صبرت لكان أعظم لثوابك. فقال:
بأبي وأمي من عبأت حنوطه ... بيدي وفارقني بماء شبابه
كيف السلو وكيف أنسى ذكره ... وإذا دعيت فإنما أدعى به
وقال آخر يرثي أخاه:
أخ طالما سرني ذكره ... فقد صرت أشجى إلى ذكره
وقد كنت أغدو إلى قصره ... فقد صرت أغدو إلى قبره
47 قالت الخنساء ترثي أخاها:
أعيني جودا ولا تجمدا ... ألا تبكيان لصخر الندى
ألا تبكيان الجري الجوادا ... ألا تبكيان الفتى السيدا
طويل النجاد رفيع العما ... د ساد عشيرته أمردا
يحمله القوم ما غالهم ... وإن كان أصغرهم مولدا(3/41)
جموع الضيوف إلى بابه ... يرى أفضل الكسب أن يحمدا
وقالت أخت الوليد ابن طريف ترثي أخاها المذكور:
أيا شجر الخابور مالك مورقا ... كأنك لم تجزع على ابن طريف
فتى لا يريد العز إلا من التقى ... ولا المال إلا من قناً وسيوف
فقدناه فقدان الربيع فليتنا ... قديناه من ساداتنا بألوف
خفيف على ظهر الجواد إذا عدا ... وليس على أعدائه بخفيف
عليك سلام الله وقفاً فإنني ... أرى الموت وقاعاً بكل شريف
قال ابن معتوق يرثي الحسين بن علي بن أبي طالب:
حزني عليه دائم لا ينقضي ... وتصبري مني علي تعذرا
وا رحمتاه لصارخات حوله ... تبكي له ولوجهها لن تسترا
ملقى على وجه التراب تظنه ... داود في المحراب حين تسورا
لهفي على الهاوي الصريع كأنه ... قمر هوى من أوجه فتكورا
لهفي على تلك البنان تقطعت ... لو أنها اتصلت لكانت أبحرا
لهفي على العباس وهو مجندل ... عرضت منيته له فتعثرا
لحق الغبار جبينه ولطالما ... في شأوه لحق الكرام وغبرا
48 وقال الأصمعي:
لعمرك ما الرزية فقد مال ... ولا فرس يموت ولا بعير
ولكن الرزية فقد حر ... يموت لموته خلق كثير
وقال الصفدي:(3/42)
يا غائباً في الثرى تبلى محاسنه ... الله يوليك غفرانا وإحسانا
إن كنت جرعت كأس الموت واحدة ... في كل يوم أذوق الموت أحيانا
رثى بعض الشعراء القاضي الباقلاني البصري:
انظر إلى جبل تمشي الرجال به ... لقد خفت أن أبقى بغير خليل
ولا بد يوماً أن تجيء منيتي ... ويفرد مني صاحبي ودخيلي
قال آخر يرثي أخاه:
كأني يوم فارقني حبيب ... رزئت ذوي المودة أجمعينا
وكان على الزمان يا أخي حبيب ... يميناً لي وكنت له يمينا
فإن يفرح بمصرعه الأعادي ... فما نلقى لهم متخشعينا
قال إبراهيم الصولي يرثي ابناً له مات يافعاً مترعرعاً:
كنت السواد لمقلتي ... فبكى عليك الناظر
من شاء بعدك فليمت ... فعليك كنت أحاذر
49 كان ابن بسام يرثي علي بن يحيى المنجم:
قد زرت قبرك يا علي مسلماً ... ولك الزيارة من أقل الواجب
ولو استطعت حملت عنك ترابه ... فلطالما عني حملت نوائبي
قال العتيبي في ابن له توفي صغيراً:(3/43)
إن يكن مات صغيراً ... فالأسى غير صغير
كان ريحاني فأمسى ... وهو ريحان القبور
غرسته في بساتين البلى أيدي الدهور
قال متمم بن نويرة يرثي أخاه مالكاً:
لقد لامني عند القبور على البكا ... رفيقي لتذراف الدموع السوافك
فقال أتبكي كل قبر رأيته ... لقبر ثوى بين اللوى فالدكادك
فقلت له إن الشجا يبعث الشجا ... فدعني فهذا كله قبر مالك
قال آخر:
لكل أناس مقبر بفنائهم ... فهم ينقصون والقبور تزيد
وما إن يزال رسم دار قد أخلقت ... وبيت لميت بالفناء جديد
هم جيرة الأحياء أما جوارهم ... فدان وأما الملتقى فبعيد
50 قال الغطمش الضبي:
إلى الله أشكو لا إلى الناس أنني ... أرى الأرض تبقى والأخلاء تذهب
أخلاء لو غير الحمام أصابكم ... عتبت ولكن ما على الموت معتب
قال آخر:
أجاري ما أزداد إلا صبابةً ... إليك وما تزداد إلا تنائيا
أجاري لو نفس فدت نفس ميت ... فديتك مسروراً بنفسي وماليا
وقد كنت أرجو أن أملاك حقبة ... فحال قضاء الله دون رجائيا
ألا فليمت من شاء بعدك إنما ... عليك من الأقدار كان حذاريا(3/44)
51 قال أبو الشغب العبسي في خالد القسري وهو أسير:
ألا إن خير الناس حياً وهالكاً ... أسير ثقيف عندهم في السلاسل
لعمري لئن عمرتم السجن خالدا ... وأوطأتموه وطأة المتثاقل
لقد كان يبني المكرمات لقومه ... ويعطي اللهى في كل حق وباطل
فإن تسجنوا القسري لا تسجنوا اسمه ... ولا تسجنوا معروفه في القبائل
قالت صفية الباهلية:
كنا كغصنين في جرثومة سمقا ... حيناً بأحسن ما يسمو له الشجر
حتى إذا قيل قد طالت فروعهما ... وطاب فيآهما واستنظر الثمر
أخنى على واحدي ريب الزمان وما ... يبقي الزمان على شيء ولا يذر
كنا كأنجم ليل بينها قمر ... يجلو الدجى فهوى من بينها القمر
52 وقال التيمي في منصور:
لهفي عليك من حائف ... يبغي جوارك حين ليس مجير
أما القبور فإنهن أوانس ... بجوار قبرك والديار قبور
عمت فواضله فعم مصابه ... فالناس فيه كلهم مأجور
يثني عليك لسان من لم توله ... خيراً لأنك بالثناء جدير
ردت صنائعه إليه حياته ... فكأنه من نشرها منشور
فالناس مأتمهم عليه واحد ... في كل دار رنة وزفير
عجباً لأربع أذرع في خمسة ... في جوفها جبل أشم كبير
(الحماسة لأبي تمام)(3/45)
الباب الرابع في الحكم
53 قيل: لا تستصغرن أمر عدوك إذا حاربته. لأنك إن ظفرت به لم تحمد وإن ظفر بك لم تعذر. والضعيف المحترس من العدو القوي أقرب إلى السلامة من القوي المغتر بالعدو الضعيف. وقيل: العدو المحتقر ربما اشتد. كالغصن النضر ربما صار شوكاً. وقيل: لا تأمنن العدو الضعيف أن يورطك. فالرمح قد يقتل به وإن عدم السنان والزج. قال الموسوي:
الفيل يضجر وهو أعظم ما رأيت من البعوض
54 يقال إن ابن القرية دخل على الحجاج وقال له: ما الكفر. فقال: البطر بالنعمة واليأس من الرحمة. فقال: ما الرضا. فقال: القنوع بعطاء الله تعالى والصبر على المكاثرة. فقال: ما الصبر. فقال: كظم الغيظ والاحتمال لما لا يراد. فقال: ما الحلم. فقال: إظهار الرحمة عند القدرة والرضاء عند الغضب. فقال: ما الكرم. فقال: حفظ الصديق وقضاء الحقوق. فقال: ما الحمية. فقال: الوقوف على رأس من هو دونك. فقال: ما الشجاعة. فقال: الحملة في وجوه الأعداء والكفار. والثبات في موضع الفرار. وإرضاء الرجال. قال: ما العدل. قال: ترك المراد. وصحة السيرة والاعتقاد. فقال:(3/46)
ما الإنصاف. قال: المساواة عند الدعاوى بين الناس. فقال: ما الذل. قال: المرض عند خلو اليد والانكسار من قلة الرزق. فقال: ما الحرص. قال: حدة الشهوة عند الرجاء. فقال: ما الأمانة. قال: قضاء الواجب. فقال: ما الخيانة. قال: التراخي مع القدرة. فقال: ما الفهم. قال: التفكر وإدراك الأشياء على حقائقها (للغزالي) 55 (فائدة جامعة ولمعة ساطعة ومقالة نافعة عن علي بن أبي طالب) قال: للمؤمن على أخيه المؤمن ثلاثون حقاً لا براءة له منها إلا بالأداء أو العفو. يغفر زلته. ويرحم عبرته. ويستر عورته. ويقيل عثرته. ويقبل معذرته. ويرد غيبته. ويديم نصيحته. ويحفظ خلته. ويرعى ذمته. ويعود مرضته. ويشهد ميتته. ويجيب دعوته. ويقبل هديته. ويكافئ صلته. ويشكر نعمته. ويحسن نصرته. ويحفظ حرمته. ويقضي حاجته. ويقبل شفاعته. ولا يخيب مقصده. ويشمت عطسته. ويرشد ضالته. ويرد سلامه. ويطيب كلامه. ويبر إنعامه. ويصدق أقسامه. وينظر ظالماً يرده عن طلمه ومظلوماً بإعانته على وفاء حقه. ويواليه ولا يعاديه. ولا يخذله ولا يشتمه. ويحب له من الخير ما يحب لنفسه. ويكره له من الشر ما يكره لنفسه فلا يترك واحداً منها إلا طالبه بها يوم القيامة (الترغيب للأصبهاني) 56 قال حكيم: المؤمن شريف طريف لطيف لا لعان ولا نمام. ولا مغتاب ولا قتات. ولا حسود ولا حقود. ولا بخيل ولا مختال. يطلب(3/47)
من الخيرات أعلاها. ومن الأخلاق أسناها. إن سلك مع أهل الآخرة كان أورعهم. غضيض الطرف سخي الكف. لا يرد سائل. ولا يبخل بنائل. متواصل الأحزان مترادف الإحسان. يزن كلامه ويحرس لسانه. ويحسن عمله ويكثر في الحق أمله. متأسف على ما فاته من تضييع أوقاته. كأنه ناظر إلى ربه مراقب لما خلق له. لا يرد الحق على عدوه. ولا يقبل الباطل من صديقه. كثير المعونة قليل المؤنة. يعطف على أخيه عند عشرته لما مضى من قديم صحبته. فهذه صفات المؤمنين الخالصين (للدميري) 57 (من كلام الملوك الجاري مجرى الأمثال) : قال أزدشير إذا رغبت الملوك عن العدل رغبت الرعية عن الطاعة. (أفردون) الأيام صحائف آجالكم فخلدوها أحسن أعمالكم. (أنوشروان الملك) إذا كثر ماله مما يأخذ من رعيته كان كمن يعمر سطح نيته بما يقتلعه من قواعد بنيانه. (أبرويز) أطع من فوقك يطعك من دونك. قال ابن المعتز:
كم فرصة ذهبت فعادت غصة ... تشجي بطول تلهف وتندم
لما عزم المنصور على الفتك بأبي مسلم فزع من ذلك عيسى بن موسى فكتب إليه:
إذا كنت ذا رأي فكن ذا تدبر ... فإن فساد الرأي أن تتعجلا
فأجابه المنصور:(3/48)
إذا كنت ذا رأي فكن ذا عزيمة ... فإن فساد الرأي أن تترددا
ولا تمهل الأعداء يوما بغدوة ... وبادرهم أن يملكوا مثلها غدا
(المعتصم) إذا نصر الهوى بطل الرأي (للقيرواني)
58 (قال أيوب بن القرية) : الناس ثلاثة عاقل وأحمق وفاجر. فالعاقل الدين شريعته والحلم طبيعته والرأي الحسن سجيته. إن سئل أجاب. وإن نطق أصاب. وإن سمع العلم وعى. وإن حدث روى. وأما الأحمق فإن تكلم عجل. وإن حدث وهل. وإن استنزل عن رأيه نزل. فإن حمل على القبيح حمل. وأما الفاجر فإن ائتمنته خانك. وإن حدثته شانك. وإن وثفت به لم يرعك. وإن استكتم لم يكتم. وإن علم لم يعلم. وإن حدث لم يفهم. وإن فقه لم يفقه.
59 دخل رجل على هشام فقال: يا أمير المؤمنين احفظ عني أربع كلمات فيهن صلاح ملكك واستقامة رعيتك. قال: ما هن. قال: لا تعد عدة لا تثق من نفسك بإنجازها. ولا يغرنك المرتقى وإن كان سهلاً إذا كان المنحدر وعراً. واعلم أن للأعمال جزاء فاتق العواقب. وأن للأمور بغتات فكن على حذر. قال عيسى بن دات: فحدثت بهذا الحديث المهدي وفي يده لقمة قد رفعها إلى فيه. فأمسكها وقال: ويحك أعد علي فقلت: يا أمير المؤمنين اسغ لقمتك. فقال: حديثك أعجب إلي (للقزويني) أربعة أشياء سم قاتل وأربعة أشياء درياقها. الدنيا سم قاتل(3/49)
والزهد فيها درياقه. والمال سم قاتل والزكاة درياقه. والكلام سم قاتل وذكر الله درياقه. وملك الدنيا سم قاتل والعدل درياقه.
60 قال بعضهم: الصوم ثلاث درجات. صوم العموم وصوم الخصوص وصوم خصوص الخصوص. فأما صوم العموم فهو كف البطن عن الشهوة. وأما صوم الخصوص فهو كف السماع والبصر واللسان واليد والرجل وسائر الجوارح عن الآثام. وأما صوم خصوص الخصوص فصون القلب عن الهموم الدنية والأفكار الدنيوية وكفه عما سوى الله بالكلية (الكنز المدفون) 61 (فصل) من نوادر بزرجمهر حكيم الفرس (قال) : نصحني النصحاء ووعظني الوعاظ شفقة ونصيحة وتأديباً فلم يعظني أحد مثل شيبي ولا نصحني مثل فكري. ولقد استضأت بنور الشمس وضوء القمر فلم أستضئ بضياء أضوأ من نور قلبي. وملكت الأحرار والعبيد فلم يملكني أحد ولا قهرني غير هواي. وعاداني الأعداء فلم أر أعدى إلي من نفسي إذا جهلت واحتزرت لنفسي بنفس من الخلق كلهم حذراً عليها وشفقة فوجدتها شر الأنفس لنفسها. ورأيت أنه لا يأتيها الفساد إلا من قبلها وزاحمتني المضايق فلم يزحمني مثل الخلق السوء ووقعت من أبعد البعد وأطول الطول فلم أقع في شيء أضر علي من لساني. ومشيت على الجمر ووطئت على الرمضاء فلم أر ناراً أحر علي من غضبي. إذا تمكن مني وطالبتني الطلاب فلم(3/50)
يدركني مدرك مثل إساءتي. ونظرت ما الداء القاتل ومن أين يأتيني فوجدته من معصية ربي سبحانه. والتمست الراحة لنفسي فلم أجد شيئاً أروح لها من تركها ما لا يعنيها. وركبت البحار ورأيت الأهوال فلم أر هولاً مثل الوقوف على باب سلطان جائر. وتوحشت في البرية والجبال فلم أر أوحش من قرين السوء. وعالجت السباع والضباع والذئاب وعاشرتها وعاشرتني وغلبتها فغلبني صاحب الخلق السوء وأكلت الطيب وشربت المسكر فلم أجد شيئاً ألذ من العافية والأمن. وتوسطت الشياطين والجبال فلم أجزع إلا من الإنسان السوء. وأكلت الصبر وشربت المر فلم أر شيئاً أمر من الفقر. وشهدت الحروب ولقيت الجيوش وباشرت السيوف وصارعت الأقران فلم أر قرناً أغلب من المرأة السوء. وعالجت الحديد ونقلت الصخر فمل أر حملاً أثقل من الدين. ونظرت فيما يذل العزيز ويكسر القوي ويضع الشريف فلم أر أذل من ذوي فاقة وحاجة. ورشقت بالنشاب ورجمت بالحجارة فلم أر أنفذ من الكلام السوء يخرج من فم مطالب بحق. عمرت السجن وشددت في الوثاق وضربت بعمد. الحديد فلم يهدمني شيء مثل ما هدمني الغم والهم والحزن. واصطنعت الإخوان وانتخبت الأقوام للعدة والشدة والنائبة فلم أر شيئاً أخير من الكرم عندهم. وطلبت الغنى من وجوهه فلم أر أغنى من القنوع. وتصدقت بالذخائر فلم أر صدقة أنفع من رد ذي(3/51)
ضلالة إلى هدى. ورأيت الوحدة والغربة والمذلة فمل أر أذل من مقاساة الجار السوء. وشيدت البنيان لأعز به وأذكر فلم أر شرفاً أرفع من اصطناع المعروف. ولبست الكسى الفاخرة فلم ألبس شيئاً مثل الصلاح. وطلبت أحسن الأشياء عند الناس فلم أر شيئاً أحسن من حسن الخلق.
62 (فصل) من حكم شاتاق الهندي من كتابه الذي سماه منتحل الجواهر للملك ابن قمابص الهندي: يا أيها الوالي اتق عثرات الزمان واخش تسلط الأيام ولؤم غلبة الدهر. واعلم أن للأعمال جزاء فاتق العواقب وللأيام غدرات فكن على حذر والزمان متقلب متول فاحذر تقلبه. لئيم الكرة فخف سطوته. سريع الغيرة فلا تأمن دولته. والعم أن من لم يداو نفسه من سقام الآثام في أيام حياته فما أبعده من الشفاء في دار لا دواء له فيها. ومن أذل حواسه واستعبدها فيما يقدم من خير نفسه بأن فضله وظهر نبله. ومن لم يضبط نفسه وهي واحدة لم يضبط حواسه وهي خمس. وإذا لم يضبط حواسه مع قلتها وذلتها صعب عليه ضبط الأعوان مع كثرتهم وخشونة جانبهم. فكانت عامة الرعية في نواحي البلاد وأطراف المملكة أبعد من الضبط. فليبدأ الملك بسلطانه على نفسه فليس من عدو أحق من أن يبدأه بالقهر من نفسه. ثم يشرع في قهر حواسه الخمس. لأن قوة الواحدة منهن دون صويحباتها قد تأتي على النفس(3/52)
القوية الحذرة فكيف إذا اجتمعت خمس أنفس على واحدة. وعلم أن لكل واحدة منهم شراً ليس للأخرى فاقهرها تسلم من شرها. وإنما يهلك الحيوان بالشهوات. ألا ترى أن الفراش يكره الشمس فيستكن من حرها ويعجبه ضياء النار فيدنو منها فتحرقه. والظبي على نفار قلبه وشدة حرصه ينصب لسماع الملاهي فيمكن القانص من نفسه. والسمك في البحر تحمله لذة الطعم أن يبتلعه فتحصل السنارة في جوفه فيكون فيه حتفه 63 يحسن بالملك أن يشبه تصاريف تدبيره بطباع ثمانية أشياء: الغيث والشمس والقمر والريح والنار والأرض والماء والموت. فأما شبه (الغيث) فتواتره في أربعة أشهر من السنة ومنفعته لجميع السنة كذلك ينبغي للملك أن يعطي جنده وأعوانه أربعة أشهر تقديراً لتتمة السنة. فيجعل رفيعهم ووضيعهم في الحق الذي يستوجبونه بمنزلة واحدة كما يسري المطر بين كل أكمة وشرف وغائط مستفل. ويغمر كلا من مائه بقدر حاجته. ثم يستجبي الملك في الثمانية أشهراً حقوقه من غلاتهم وخراجهم كما تجبي الشمس بحرها وحدة فعلها نداوة الغيث في أربعة أشهر الإمطار. وأما شبه (الريح) فإن الريح لطيفة المداخل تسرح في جميع المنافذ حتى لا يفوتها مكان كذلك الملك ينبغي أن يتولج في قلوب الناس بجواسيسه وعيونه لا يخفقون عنه شيئاً حتى يعرف ما يأتمرون به في بيوتهم وأسواقهم.(3/53)
(وكالقمر) إذا استهل تمامه فأضاء واعتدل نوره على الخلق وسر الناس بضوئه. ينبغي أن يكون ببهجته وزينته وإشراقه في مجلسه وإيناسه رعيته ببشره فلا يخص شريفاً دون وضيع بعدله. (وكالنار) على أهل الدعارة والفساد. (وكالأرض) على كتمان السر والاحتمال والصبر والأمانة. (وكعاقبة الموت) في الثواب والعقاب يكون ثوابه لا يقتصر عن إقامة حد ولا يتجاوزه. (وكالماء) في لينه لمن لا ينه. وهدمه واقتلاعه عظيم الشجر لمن جاذبه (للطرطوشي)
أشعار حكيمة
64 قال بان عربشاه:
السيل يقلع ما يلقاه من شجر ... بين الجبال ومنه الصخر ينفطر
حتى يوافي عباب البحر تنظره ... قد اضمحل فلا يبقى له أثر
وقال أيضاً:
والشر كالنار تبدو حين تقدحه ... شرارة فإذا بادرته حمدا
وإن توانيت عن إطفائه كسلا ... أورى قبائل تشوي القلب والكبدا
فلو تجمع أهل الأرض كلهم ... لما أفادوك في إخمادها أبدا
وقال أيضاً:
أرى الناس يولون الغني كرامة ... وإن لم يكن أهلاً لرفعة مقدار
ويلوون عن وجه الفقير وجوههم ... وإن كان أهلا أن يلاقي بإكبار
بنو الدهر جاءتهم أحاديث جمة ... فما صححوا إلا حديث ابن دينار(3/54)
65 قال غيره:
لا تعامل ما عشت غيرك إلا ... بالذي أنت ترتضيه لنفسك
ذاك عين الصواب فالزمه فيما ... تبتغيه في كل أبناء جنسك
قال آخر:
لا يعجبنك حسن القصر منزله ... فضيلة الشمس ليست في منازلها
لو زيدت الشمس في أبراجها مئة ... ما زاد ذلك شيئاً في فضائلها
قال غيره:
إن الكبير إذا هوى وأطاعه ... قوم هووا معه فضاع وضيعا
مثل السفينة إن هوت في لجة ... غرقت ويغرق كل من فيها معا
قال آخر:
إزرع جميلاً ولو في غير موضعه ... فلا يضيع جميل أينما زرعا
إن الجميل وإن طال الزمان به ... فليس يحصده إلا الذي زرعا
قال أبو أحمد بن ماهان الخزاعي:
إقض الحوائج ما استطع ... ت وكن لهم أخيك فارج
فلخير أيام الفتى ... يوم قضى فيه الحوائج
66 قال القطامي الشاعر النصراني:
قد يدرك المتأني بعض حاجته ... وقد يكون مع المستعجل الزلل
وقد تفوف على قوم حوائجهم ... مع التراخي وكان الرأي لو عجلوا
وقال آخر:(3/55)
وإياك والأمر الذي إن توسعت ... موارده ضاقت عليك المصادر
فما حسن أن يعذر المرء نفسه ... وليس له من سائر الناس عاذر
وقال محمد بن بشير:
لأن أزجي عند العري بالخلق ... وأجتزي من كثير الزاد بالعلق
خير وأكرم لي من أن أرى مننا=معقودة للئام الناس في عنقي
إني وإن قصرت عن همتي جدتي ... وكان ما لي لا يقوى على خلقي
لتارك كل أمر كان يلزمني ... عاراً ويشرعني في المنهل الرنق
67 وقال أيضاً:
ماذا يكلفك الروحات والدلجا ... ألبر طوراً وطوراً تركب اللججا
كم من فتى قصرت في الرزق خطوته ... ألفيته بسهام الرزق قد فلجا
إن الأمور إذا انسدت مسالكها ... فالصبر يفتق منها كل ما ارتتجا
لا تيأسن وإن طالت مطالبة ... إذا استعنت بصبر أن ترى فرجا
أحلق بذي الصبر أن يحظى بحاجته ... ومدمن القرع للأبواب أن يلجا
قدر لرجلك قبل الخطو موضعها ... فمن علا زلقاً عن غرة زلجا
ولا يغرنك صفو أنت شاربه ... فربما كان بالتكدير ممتزجا
68 قال المتنبي:
على قدر أهل العزم تأتي العزائم ... وتأتي على قدر الكرم المكارم
وتعظم في عين الصغير صغارها ... وتصغر في عين العظيم العظائم
قال آخر:(3/56)
فقر الفتى يذهب أنواره ... كما اصفرار الشمس عند المغيب
إن غاب لا يذكر بين الورى ... وما له في قومه من نصيب
يجول في الأسواق مستخفياً ... وفي الفلا يبكي بدمع صبيب
والله ما الإنسان في أهله ... إذا بلي بالفقر إلا غريب
قال ناهض الكلابي:
ألم تر أن جمع القوم يخشى ... وأن حريم واحدهم مباح
وأن القدح حين يكون فردا ... فيهصر لا يكون له اقتداح
قال آخر:
ما من الحزم أن تقارب أمراً ... تطلب البعد منه بعد قليل
فإذا ما هممت بالشيء فانظر ... كيف منه الخروج بعد الدخول
69 كتب علي إلى ابنه حسين
أحسين إني واعظ ومؤدب ... فافهم فإن العاقل المتأدب
واحفظ وصية والد متحنن ... يغذوك بالآداب كيلا تعطب
أبني إن الرزق مكفول به ... فعليك بالإجمال فيما تطلب
لا تجعلن المال كسبك مفردا ... وتقى إلهك فاجعلن ما تكسب
كفل الإله برزق كل برية=والمال عارية تجيء وتذهب
والرزق أسرع ما تلفت ناظر ... سبباً إلى الإنسان حين يسبب
ومن السيول إلى مقر قرارها ... والطير للأوكار حين تصوب
أبني إن الذكر فيه مواعظ ... فمن الذي بعظاته يتأدب(3/57)
واعبد إلهك ذا المعارج مخلصاً ... وانصت إلى الأمثال فيما تضرب
وإذا مررت بآية مخشية ... تصف العذاب ودمع عينك يسكب
يا من يعذب من يشاء بعدله ... لا تجعلني في الدين تعذب
إني أبوء بعثرتي وخطيئتي ... هذا وهل إلا إليك المهرب
وإذا مررت بآية في ذكرها ... وصف الوسيلة والنعيم المعجب
فاسأل إلهك بالإنابة مخلصاً ... دار الخلود سؤال من يتقرب
واجهد لعلك أن تحل بأرضها ... وتنال ملك كرامة لا تسلب
بادر هواك إذا هممت بصالح ... خوف الغوالب إذ تجيء وتغلب
وإذا هممت بسيئ فاغمض له ... كأب على أولاده يتحدب
والضيف أكرم ما استطعت جواره ... حتى يعدك وارثاً يتنسب
واجعل صديقك من إذا آخيته ... حفظ الإخاء وكان دونك يقرب
واطلبهم طلب المريض شفاءه ... ودع الكذوب فليس ممن يصحب
يعطيك ما فوق المنى بلسانه ... ويروغ عنك كما يروغ الثعلب
واحذر ذوي الملق اللئام فإنهم ... في النائبات عليك ممن يحطب
يسعون حول الماء ما طمعوا به ... وإذا نبا دهر جفوا وتغيبوا
ولقد نصحتك إن قبلت نصيحتي ... والنصح أرخص ما يباع ويوهب
70 وكتب له أيضاً:
عليك ببر الوالدين كليهما ... وبر ذوي القربى وبر الأباعد
فلا تصحبن إلا تقياً مهذبا ... عفيفاً زكياً منجزاً للمواعد(3/58)
وكف الأذى واحفظ لسانك واتقي ... فديتك في ود الخليل المساعد
ونافس ببذل المال في طلب العلى ... بهمة محمود الخلائق ماجد
وكن واثقاً بالله في كل حادث ... يصنك مدى الأيام من عين حاسد
وبالله فاستعصم ولا ترج غيره ... ولا تك في النعماء عنه بجاحد
وغض عن المكروه طرفك واجتنب ... أذى الجار واستمسك بحبل المحامد
ولا تبن في الدنيا بناء مؤمل ... خلودا فما حي عيها بخالد
وكل صديق ليس في الله وده ... فناد عليه هل به من مزايد
71 وقال أيضاً:
قدم نفسك في الحياة تزودا ... فلقد تفارقها وأنت مودع
واهتم للسفر القريب فإنه ... أنأى من السفر البعيد وأشنع
واجعل تزودك المخافة والتقى ... فلعل حتفك في مسائك أسرع
واقنع بقوتك فالقناع هو الغنى ... والفقر مقرون بمن لا يقنع
واحذر مصاحبة اللئام فإنهم ... منعوك صفو ودادهم وتصنعوا
أهل المودة ما أنلتهم الرضا ... وإذا منعت فسمهم لك منقع
لا تفش سراً ما استطعت إلى امرئ ... يفشي إليك سرائرا يستودع
فكما تراه بسر غيرك صانعا ... فكذا بسرك لا محالة يصنع
لا تبدأن بمنطق في مجلس ... قبل السؤال فإن ذلك يشنع
فالصمت يحسن كل ظن بالفتى ... ولعله خرق سفيه أرقع
ودع المزاح فرب لفظة مازح ... جلبت إليك بلابلا لا تدفع(3/59)
الباب الخامس في الأمثال
75 (من حكم أكثم بن صيفي) وهذا رجل كان له عقل وحلم ومعرفة وتجربة. وقد علقوا عنه حكماً لطيفة وألفوا فيها تصانيف. فمن حكمه قال: من فسدت بطانته كان كمن غص بالماء. أفضل من السؤال ركوب الأهوال. من حسد الناس بدأ بمضرة نفسه. العديم من احتاج إلى لئيم. من لم يعتبر فقد خسر. ما كل عثرة تقال. ولا كل فرصة تنال. قد يشهر السلاح. في بعض المزاح. رب عتق. شر من رق. أنت مزر بنفسك إن صبحت من هو دونك. ليس من خادن الجهول. بذي معقول. من جالس الجهال فليستعد قليل وقال. المزاح يورث الضغائن. غثك خير من سمين غيرك. من ج المسير أدرك المقيل. جار الرجل الجواد كمجاور البحر لا يخاف العطش. من طلب من اللئيم حاجة. كان كمن طلب السمك في المفازة. عدة الكريم نقد وعدة اللئيم تسويف. الأنام فرائس الأيام. قد تكس اليواقيت في بعض المواقيت. من أعز نفسه. أذل فلسه. من سلك الجدد أمن العثار (للطرطوشي)(3/62)
نبذ من كلام الزمخشري والبستي
76 من بلغ غاية ما يحب فليتوقع غاية ما يكره. لا تشرب السم اتكالاً على ما عندك من الترياق. لا تكن ممن يلعن إبليس في العلانية ويواليه في السر. عادات السادات سادات العادات. اللطف رشوة من لا رشوة له. من تاجر الله لم يوكس بيعه. ولم يبخس ريعه. أدوية الدنيا تقصر عن سمومها. ونسيمها لا يفي بسمومها. من زرع الإحن. حصد المحن. لا بد للفرس من سوط. وإن كان بعيد الشوط. شعاع الشمس لا يخفى. ونور الحق لا يطفى. أعمالك نية. إن لم نصحبها بنية. لا يجد الأحمق لذة الحكمة. كما لا يلتذ بالورد صاحب الزكمة. طوبى لمن كانت خاتمة عمره كفاتحته. وليست أعماله بفاضحته. أفضل ما ادخرت التقوى. وأجمل ما لبست الورع. وأحسن ما اكتسبت الحسنات. كفى بالظفر شفيعاً بالذنب. أحق الناس بالزياة في النعم أشكرهم لما أوتي منها. ظهر العتاب خير من مكنون الحقد. قال الجدار للوتد: لم تشقني. قال: سل من يدقني. من نصر الحق قهر الخلق. ربما كان حتف امرئ في ما تمنى
ما ضرب به المثل من الحيوان وغيره
77 إنما كانت العرب أكثر أمثالها مضروبة بالبهائم فلا يكادون يذمون ولا يمدحون إلا بذلك لأنهم جعلوا مساكنهم بين السباع والأحناش والحشات فاستعملوا التمثيل بها. قالوا: أشجع من أسد.(3/63)
وأجبن من الصافر. وأمضى من ليث عفرين. وأحذر من غراب. وأبصر من عقاب. وأزهى من ذباب. وأذل من قراد. وأسمع من فرس. وأنوم من فهد. وأعق من ضب. وأجبن من صفرد. وأضرع من سنور. واسرق من زبابة. وأصبر من عود. وأظلم من حية. وأحن من ناب. وأكذب من فاختة. وأعز من بيض الأتوق. وأجوع من كلبة حومل. وأعز من الأبلق العقوق. (الصافر الصغير من الطير. والعود المسن من الجمال. والأنوق طير يقال إنه يبيض في الهواء. والزبابة الفأرة تسرق دود الحرير. وفاختة طير يطير بالرطب في غير أيامه) (ما ضرب به المثل من غير الحيوان) . قالوا: أهدى من النجم. وأجود من الديم. وأصبح من الصبح. وأمنح من البحر. وأنور من النهار. وأمضى من السيل. وأحمق من رجلة. وأحسن من دمية. وأنزه من روضة. وأوسع من الدهناء. وآنس من جدول. وأضيق من قرار حافر. وأوحش من مفازة. وأثقل من جبل. وأبقى من الوحي في صم الصلاب. وأخف من ريش الحزاصل (لابن عبد ربه) 78 أشعار جارية مجرى المثل وهي لشعراء مختلفين:
أخاك أخاك إن من لا أخاله ... كساع إلى الهيجا بغير سلاح
إذا كان غير الله للمرء عدة ... أتته الرزايا من وجوه المكاسب
إذا ما أتيت الأمر من غير بابه ... ضللت وإن تقصد إلى الباب تهتدي(3/64)
إذا لم يكن عندي نوال هجرتني ... وإن كان لي مال فأنت صديقي
إذا أنت لم تعلم طبيبك كل ما ... يسوؤك أبعدت الدواء عن السقم
إن اختفى ما في الزمان الآتي ... فقس على الماضي من الأوقات
إذا لم يعن قول النصيح قبول ... فإن معاريض الكلام فضول
أرى ماء وبي عطش شديد ... ولكن لا سبيل إلى الورود
إذا رمت أن تصفي لنفسك صاحبا ... فمن قبل أن تصفي له الود أغضبه
ألم تر أن السيف يزرى بقدره ... إذا قيل هذا السيف أمضى من العصا
إن الأمور إذا بدت لزوالها ... فعلامة الإدبار فيها تظهر
إذا ساء فعل المرء ساءت ظنونه ... وصدق ما يعتاده من توهم
إن تجد عيباً فسد الخللا ... جل من لا عيب فيه وعلا
تفرقت غنمي يوماً فقلت لها ... يا رب سلط عليها الذئب والضبعا
ترقب جزا الحسنى إذا كنت محسناً ... ولا تخش من سوء إذا أنت لا تسي
الخير لا يأتيك متصلا ... والشر يسبق سيله المطر
ذكر الفتى عمه الثاني وحاجته ... ما قاته وفضول العيش أشغال
ذو الفضل لا يسلم من قدح ... وإن غدا أقوم من قدح
الرأي يصدأ كالحسام لعارض ... يطرا عليه وصقله التذكير
سكناه ونحسبه لجبنا ... فأبدى الكير عن خبث الحديد
عفافك غي إنما عفة الفتى ... إذا عف من لذاته وهو قادر
غلام أتاه اللؤم من شطر نفسه ... ولم يأته من شطر أم ولا أب(3/65)
فقال قم قلت رجلي لا تطاوعني ... فقال خذ قلت كفي لا تؤاتيني
فلا تجعل الحسن الدليل على الفتى ... فما كل مصقول الحديد يماني
فالدر وهو أجل شيء يقتنى ... ما حط قيمته هوان الغائص
قد قيل ذلك إن صدقا وإن كذبا ... فما احتيالك في شيء وقد قيلا
لا يعجبن مضيما حسن بزته ... وهل تروق دفيناً جودة الكفن
لا ترج شيئاً خالصاً نفعه ... فالغيث لا يخلو من الغث
لا تغرنك هذه الأوجه الغر ... م فيا رب حية في رياض
لا تحسب المجد رطباً أنت آكله ... لن تبلغ المجد حتى تلعق الصبرا
لا يسلم الشرف الرفيع من الأذى ... حتى يراق على جوانبه الدم
لا تحقرن شأن العدو وكيده ... ولربما صرع الأسود الثعلب
لعل عتبك محمود عواقبه ... وربما صحت الأجساد بالعلل
ماذا لقيت من الدنيا وأعجبها=أني بما أنا باك منه محسود
ما لقوي عن ضعيف غنى ... لا بد للسهم من الريش
من ليس يخشى أسود الغاب إن زأرت ... فكيف يخشى كلاب الحي إن نبحت
لا يحمل الحقد من تعلو به الرتب ... ولا ينال العلى من طبعه الغضب
المرء يحيا بلا ساق ولا عضد=ولا يعيش بلا قلب ولا أدب
نبني كما كانت أوائلنا ... تبني ونفعل مثلما فعلوا
وقد يكسف المرء من دونه ... كما يكسف الشمس جرم القمر
ولا تقرب الأمر الحرام فإنه ... حلاوته تفنى ويبقى مريرها(3/66)
ولو لبس الحمار ثياب خز ... لقال الناس يا لك من حمار
وإذا افتقرت إلى الذخائر لم تجد ... ذخراً يكون كصالح الأعمال
وإني أرى في عينك الجذع معرضاً ... وتعجب إن أبصرت في عيني القذى
وما أقبح التفريط في زمن الصبا ... فكيف به والشيب للرأس شامل
وتشتت الأعداء في آرائهم ... سبب لجمع خواطر الأحباب
وكل جديد قد يؤول إلى بلى ... وكل امرئ يوماً يصير إلى كانا
وإذا كانت النفوس كباراً ... تعبت في مرادها الأجسام
وماذا أرجي من حياة تكدرت ... ولو قد صفت كانت كأحلام نائم
ولم أر مثل الشكر جنة غارس ... ولا مثل حسن الصبر جبة لابس
وفي السماء نجوم ما لها عدد ... وليس يكسف إلا الشمس والقمر
ونار إن نفخت بها أضاءت ... ولكن أنت تنفخ في رماد
وإني رأيت الحزن للحزن ماحياً ... كما خط في القرطاس سطر على سطر
ويمكن وصل الحبل بعد انقطاعه ... ولكنه يبقى به عقدة الربط
وعين الرضا عن كل عيل كليلة ... كما أن عين السخط تبدي المساويا
وإذا كان منتهى العمر موتاً ... فسواء طويله والقصير
وإذا أراد الله نصرة عبده ... فكانت له أعداؤه أنصارا
ومن يتشبث في العداوة كفة ... بأكبر منه فهو لا شك هالك
يهوى الثناء مبرز ومقصر ... حب الثناء طبيعة الإنسان
يقولون لي أهلاً وسهلاً ومرحباً=ولو ظفروا بي ساعة قتلوني(3/67)
الباب السادس في أمثال عن ألسنة الحيوانات
البازي والديك
79 باز وديك تناظرا. فقال البازي للديك: ما أعرف أقل وفاء منك لأصحابك. قال: وكيف. قال: تؤخذ بيضة وتحضنك أهلك وتخرج على أيديهم فيطعمونك بأيديهم. حتى إذا كبرت صرت لا يدنو منك أحد إلا طردت من هنا إلى هنا وصحت. وعلوت على حائط دار كنت فيها سنين طرت منها على غيرها. وأما أنا فأوخذ من الجبال وقد كبر سني فتخاط عيني. وأطعم الشيء اليسير وأساهر فأمنع من النوم وأنسى اليوم واليومين. ثم أطلق على الصيد وحدي فأطير إليه وآخذه وأجيء به إلى صاحبي. فقال له الديك: ذهبت عنك الحجة أما لو رأيت بازيين في سفود النار ما عدت لهم. وأنا في كل وقت أرى السفافيد مملوءة ديوكاً. فلا تكن حليماً عن غضب غيرك (لبهاء الدين)
برغوث وبعوضة
80 حكي أنه اجتمع برغوث وبعوضة. فقالت البعوضة للبرغوث: إني لأعجب من حالي وحالك. أنا أفصح منك لساناً. وأوضح بياناً. وأرجح ميزاناً. واكبر شأناً. وأكثر طيراناً. ومع هذا فقد أضر بي(3/68)
الجوع. وحرمني الهجوع. ولا أزال عليلة مجهودة. مبعدة عن الطريق مطرودة. وأنت تأكل وتشبع. وفي نواعم الأبدان ترتع. فقال لها البرغوث: أنت بين العالم مطنطنة. وعلى رؤوسهم مدندنة. وأنا قد توصلت إلى قوتي بسبب سكوتي
اللبؤة والغزال والقرد
81 حكي أن لبؤة كانت ساكنة بغابة. وبجوارها غزال وقرد قد ألفت جوارهما واستحسنت عشرتهما. وكان لتلك اللبؤة شبل صغير قد شغفت به حباً وقرت به عيناً. وطابت به قلباً. وكان لجارها الغزال أولاد صغار. وكانت اللبؤة تذهب كل يوم تبتغي قوتاً لشبلها من النبات وصغار الحيوان. وكانت تمر في طريقها على أولاد الغزال. وهن يلعبن بباب حجرهن. فحدثت نفسها يوماً باقتناص واحد فتجعله قوت ذلك اليوم وتستريح فيه من الذهاب. ثم أقلعت عن هذا العزم لحرمة الجوار ثم عاودها الشره ثانياً مع ما تجد من القوة والعظم. وأكد ذلك ضعف الغزال واستلامه لأمر اللبؤة. فأخذت ظبياً منهم ومضت فلما علم الغزال داخله الحزن والقلق ولم يقدر على إظهار ذلك وشكا لجاره القرد. فقال له: هون عليك فلعلها تقلع عن هذا ونحن لا نستطيع مكاشفتها ولعلي أن أذكرها عاقبة العدوان وحرمة الجيران. فلما كان الغد أخذت ظبياً ثانياً فلقيها القرد في طريقها فسلم عليه وحياها وقال لها: إني لا آمن(3/69)
عليك عاقبة البغي وإساءة الجوار. فقالت له: وهل اقتناصي لأولاد الغزال. إلا كاقتناصي من أطراف الجبال. وما أنا تاركة قوتي وقد ساقه القدر إلى باب بيتي. فقال لها القرد: هكذا اغتر الفيل بعظيم جثته. ووفور قوته فبحث عن حتفه بظلفه. وأوبقه البغي رغم أنفه. فقالت اللبؤة: كيف كان ذلك. قال القرد: ذكروا أن قنبرة كان لها عش فباضت وفرخت فيه وكان في نواحي تلك الأرض فيل وكان له مشرب يتردد إليه. وكان يمر في بعض الأيام على عش القنبرة. ففي ذات يوم أراد مشربه فعمد إلى ذلك العش ووطئه وهشم ركنه. وأتلف بيضها وأهلك فراخها. فلما نظرت القنبرة إلى ما حل بعشها ساءها ذلك وعلمت أنه من الفيل. فطارت حتى وقعت على رأسه باكية وقالت له: أيها الملك ما الذي حملك على أن وطئت عشي وهشمت بيضي وقتلت أفراخي وإننا في جوارك. أفعلت ذلك استضعافاً بحالي وقلة مبالاة بأمري. قال الفيل: هو كذلك فانصرفت القنبرة إلى جماعة الطيور فشكت إليهم ما نالها من الفيل فقالت لها الطيور: وما عسانا أن نبلغ من الفيل ونحن طيور. فقالت للعقاعق والغربان: إني أريد منكم أن تسيروا معي إليه فتفقؤوا عينيه. فأنا بعد ذلك أحتال عليه بحيلة أخرى. فأجابوها إلى ذلك ومضوا إلى الفيل. ولم يزالوا به يتجاذبونه بينهم وينقرون عينيه إلى أن فقؤوهما وبقي لا يهتدي إلى طريق مطعمه ولا مشربه. فلما علمت(3/70)
ذلك جاءت إلى نهر فيه ضفادع فشكت ما نالها من الفيل. فقالت الضفادع: ما حيلتنا مع الفيل ولسنا كفأه وأين نبلغ منه. قالت القنبرة: أحب منكن أن تذهبن معي إلى وهدة بالقرب منه فتقفن تضججن بها. فإذا سمع أصواتكن لم يشك أن بها ماء فيكب نفسه فيها. فأجابها الضفادع إلى ذلك فلما سمع الفيل أصواتهن في قعر الحفرة توهم أن بهاء ماء. وكان على جهد من العطش فجاء مكباً على طلب الماء فسقط في الوهدة ولم يجد مخرجاً منها. فجاءت القنبرة ترفرف على رأسه وقالت له: أيها المغتر بقوته الصائل على ضعفي كيف رأيت عظيم حيلتي مع صغر جثتي. وبلادة فهمك مع كبر جسمك. وكيف رأيت عاقبة البغي والعدوان. ومسالمة الزمان. فلم يجد الفيل مسلكاً لجوابها. ولا طريقاً لخطابها. فلما انتهى القرد في غاية ما شربه للبؤة من المثل أوسعته انتهاراً وأعرضت عنه استكباراً. ثم إن الغزال انتقلت بما بقي من أولادها تبتغي لها جحراً آخر. وإن اللبؤة خرجت ذات يوم تطلب صيداً وتركت شبلها. فمر بها فارس فلما رآه حمل عليه فقتله وسلخ جلده وأخذه وترك لحمه وذهب فلما رجعت اللبؤة ورأت شبلها مقتولاً مسلوخاً رأت أمراً فظيعاً. فامتلأت غيظاً وناحت نوحاً عالياً وداخلها هم شديد. فلما سمع القرد صوتها أقبل عليها مسرعاً فقال لها: وما دهاك. فقالت اللبؤة: مر صياد بشبلي ففعل به ما ترى. فقال لها: لا تجزعي ولا تحزني وأنصفي من نفسك واصبري عن غيرك(3/71)
كما صبر غيرك عنك. فكما يدين الفتى يدان. وجزاء الدهر بميزان. ومن بذر حباً في أرض فبقدر بذره يكون الثمر. والجاهل لا يبصر من أين تأتيه سهام الدهر. وإن حقاً عليك أن لا تجزعي من هذا الأمر. وأن تتدرعي له بالرضا والصبر. فقالت اللبؤة: كيف لا أجزع وهو قرة العين وواحد القلب ونزهة الفكر. وأي حياة تطيب لي بعده. فقال لها القرد: أيتها للبؤة ما الذي كان يغديك ويعشيك. قالت: لحوم الوحوش. قال القرد: أما كان لتلك
الوحوش التي كنت تأكليها آباء وأمهات. قالت: بلى. قال القرد: فما بالنا لا نسمع لتلك الآباء ولا الأمهات صياحاً وصراخاً كما سمع منك ولقد أنزل بك هذا الأمر جهلك بالعواقب وعدم تفكرك فيها. وقد نصحتك حين حقرت حق الجوار. وألحقت بنفسك العار. وجاوزت بقوتك حد الإنصاف. وسطوت على الظباء الضعاف. فكيف وجدت طعم مخالفة الصديق الناصح.. قالت اللبؤة: وجدته مر المذاق. ولما علمت اللبؤة أن ذلك بما كسبت يدها من ظلم الوحوش رجعت عن صيدها ورمت نفسها باللوم. وصات تتقنع بأكل النبات وحشيش الفوات (بستان الاذهان للشبراوي)
ساعة
وهو مثل من يمنعه التفكر في مستقبل الأمر عن الانتفاع بالحاضر
82 حكي أن ساعة قديمة كانت مركوزة في مطبخ أحد الدهاقنة(3/72)
مدة خمسين سنة من دون أن يبدو منها أدنى سبب يكدره. غير أنها في صبيحة ذات يوم من أيام الصيف. وقفت عن الحركة قبل أن يستيقظ أصحاب المحل. فتغير منظر وجهها بسبب ذلك ودهش. وبذلك العقارب جهدها وودت لو تبقى على حالة سيرها الأولى. وغدت الدواليب عديمة الحركة لما شملها من التعجب. وأصبح الثقل واقفاً لا يبدي ولا يعيد. ورامت كل آلة أن تحيل الذنب على أختها وطفق الوجه يبحث عن هذا الوقوف. وبينما كانت الدواليب والعقارب تبرئ نفسه باليمين إذا بصوت خفي سمع من الدقاق بأسفل الساعة يقول هكذا: إني أقر على نفسي بأني أنا كنت علة هذا الوقوف. وسأبين لك سبب ذلك لسكوتكم وإقناعكم أجمعين. والحق أقول إني مللت من الدق. فلما سمعت الساعة مقالته كادت تتميز من الغيظ. وقال له الوجه وهو رافع يديه: تباً لك من سلك ذي كسل. فأجابه الدقاق: لا بأس بذلك يا سيدي الوجه: لا جرم أنك ترضيك هذه الحال. إذ قد رفعت على نفسك كما هو معلوم لدى الجميع. وأنه يسهل عليك أن تدعو غيرك كسلاً وتنسبه إلى التواني. فإنك قد قضيت عمرك كله بغير شغل ولم يكن لك فيه من عمل إلا التحديق في وجوه الناس والانشراح برؤية ما يحدث في المطبخ. أرأيتك لو كنت مثلي في موضع ضنك مظلم كهذا. وتجيز حياتك كلها بين مجيء وذهاب يوماً بعد يوم(3/73)
وعاماً بعد عام. وقال له الوجه: أوليس في موضعك طاقة تنظر منها. فقال الدقاق: بلى. ولكنها مظلمة. على أنه وإن تكن لي طاقة فلا أتجاسر على التطلع منها. حيث لا يمكن لي الوقوف ولو طرفة عين. والحاصل أن مللت هذا الحال. وإن استزدتني شرحاً. فإني أخبرك بما سبب لي الضجر من شغلي. وذلك أني حسبت في صباح هذا اليوم كمية المرار التي أغدو وأروح فيها مدة أربع وعشرين ساعة. فعظم ذلك علي. وقد يمكن تحقيق ذلك بمعرفة أحد الجلوس الذين فوق. فبادر عقرب الدقائق إلى العدد وقال بديهاً: إن عدة المرار التي ينبغي لك فيها المجيء والذهاب في هذه المدة الوجيزة. إنما تبلغ ستاً وثمانين ألفاً وأربع مئة مرة. فقال الدقاق: هو هكذا. فهل (والحالة هذه وقصتي قد رفعت لكم) يخال أن مجرد التفكير في هذا العمل لا يوجب عناء وتعباً لمن يعانيه. على أني حين شرعت في ضرب دقائق ذلك اليوم في مستقبل الشهور والأعوام زالت مني قوتي ووهن عظمي وعزمي. وما ذلك بغريب. وبعد تخيلات شتى عمدت إلى الوقوف كما ترونني. فكاد الوجه في أثناء هذه المكالمة أن لا يتمالك عنه. ولكنه كظم غيظه وخاطبه بحلم وقال: يا سيدي الدقاق العزيز إني لفي تعجب عظيم من انقلاب شخص فاضل نظيرك لمثل هذه الوساوس بغتة. نعم إنك وليت عمرك أعمالاً جسيمة كما عملنا نحن كلنا أيضاً. وإن(3/74)
لتفكر في هذه الأشغال وحده يوجب العناء غير أني أظن مباشرتها ليست كذلك. فألتمس منك أن تسدي إلي معروفك بأن تدق الآن ست دقات ليتضح مصداق ما قلت. فرضي الدقاق بهذا ودق ست دقات جرياً على عادته. فقال له الوجه حينئذ: ناشدتك الله هل أبدى لك ما باشرته الآن نصباً وتعباً. فقال الدقاق: كلا فإن مللي وتضجري لم ينشأ عن ست دقات. ولا عن ستين دقة. بل عن ألوف وألوف ألوف. فقال له الوجه: صدقت. ولكنه ينبغي لك أن تعلم هذا الأمر الضروري. وهو أنك حين تفكر في هذه الألوف بلحظة واحدة. فإن الذي يجب عليك منها إنما هو مباشرة دقة واحدة لا غير. ثم مهما لزمك بعده من الدق يفسح الله لك في أجل لإتمامه فقال الدقاق: أشهد أن كلامك هذا حاك في وأمالني. فقال الوجه: عسى بعد ذلك أن نعود بأجمعنا إلى ما كنا عليه من العمل. لأنا إذا بقينا كذلك يظل أهل المنزل مستغرقين في النوم إلى الظهر. ثم إن الأثقال التي لم تكن وصفت قط بالخفة ما برحت تغري الدقاق على الشغل حتى أخذ في مباشرة خدمته كما كان. وحينئذ شرعت الدواليب في الدوران. وطفقت العقارب تسير. حتى إذا ظهر شعاع الشمس في المطبخ المغلق من كوة فيه امتلأ الوجه ضياء وانجلى تعبيسه. كأن لم يكن شيء مما كان. فأما صاحب المنزل فلما نزل إلى المطبخ ليفطر فيه. نظر إلى الساعة المركوزة فقال: إن(3/75)
الساعة التي بجيبي تأخرت في السير ليلاً بنحو ثلاثين دقيقة
قرد وغيلم
83 زعموا أن قرداً يقال له ماهر كان ملك القردة وكان قد كبر وهرم. فوثب عليه قرد شاب من بيت المملكة فتغلب عليه وأخذ مكانه. فخرج هارباً على وجهه حتى انتهى إلى الساحل. فوجد شجرة تين فارتقى إليها واتخذها له مقاماً. فبينما هو ذات يوم يأكل من ثمرها. إذ سقطت من يده تينة في الماء فسمع لها صوتاً وإيقاعاً. فجعل يأكل ويرمي في الماء فأطربه ذلك فأكثر من تطريح التين فيه. وكان ثم غيلم كلما وقعت تينة أكلها. فلما أكثر ذلك ظن أن القرد إنما يفعل ذلك لأجله فرغب في مصادقته وأنس إليه وكلمه. وألف كل واحد منهما صاحبه. وطالت غيبة الغيلم على زوجته. فجزعت عليه وشكت ذلك إلى جارة لها وقالت: قد خفت أن يكون عرض له عارض سوء فاغتاله. فقالت لها: إن زوجك بالساحل قد أبلف قرداً وألفه القرد. فهو مؤاكله ومشاربه ومجالسه. ثم إن الغيلم انطلق بعد مدة إلى منزله. فوجد زوجته سيئة الحال مهمومة. فقال لها: ما لي أراك هكذا فأجابته جارتها: إن قرينتك مريضة مسكينة. وقد وصفت لها الأطباء قلب قرد وليس لها دواء سواه. فقال: هذا أمر عسير من أين لنا قلب قرد ونحن في الماء ولكن سأشاور صديقي. ثم(3/76)
انطلق إلى ساحل البحر فقال له القرد: يا أخي ما حبسك عني. قال له الغيلم: ما ثبطني عنك إلا حيائي. كيف أجازيك على إحسانك إلي وإنما أريد الآن أن تتم هذا الإحسان بزيارتك لي في منزلي. فإني ساكن في جزيرة طيبة الفاكهة كثيرة الأثمار. فاركب ظهري لأسبح بك. فرغب القرد في ذلك ونزل فامتطى مطا الغيلم. حتى إذا سبح به ما سبح عرض له قبح ما أضمر في نفسه من الغدر فنكس رأسه. فقال هل القرد: مالي أراك مهتماً. فقال الغيلم: إنما همي لأني ذكرت أن قرينتي شديدة المرض. وذلك يمنعني عن كثير مما أريد أن أبلغكه من الإكرام والإلطاف. قال القرد: إن الذي أعتقد من حرصك على كرامتي يكفيك مؤونة التكلف. قال الغيلم: أجل. ومضى بالقرد ساعة ثم توقف به ثانية. فساء ظن القرجد وقال في نفسه: ما احتباس الغيلم وبطؤه إلا لأمر. ولست آمناً أن يكون قلبه قد تغير علي وحال عن مودتي فأراد بي سوءاً. فإن لا شيء أخف وأسرع تقلباً من القلب. ويقال: ينبغي للعاقل أن لا يغفل عن التماس ما في نفسه أهله وولده وإخوانه وصديقه عند كل أمر وفي كل لحظة وكلمة. وعند القيام والعقود وعلى كل حال. وإنه إذا دخل قلب الصديق من صديقه ريبة. فليأخذ بالحزم في التحفظ منه ويتفقد ذلك في لحظاته وحالاته. فإن كان ما يظن حقاً ظفر بالسلامة. وإن كان باطلاً ظفر بالحزم ولم يضره. ثم قال للغيلم: ما الذي(3/77)
يحبسك ومالي أراك مهتماً كأنك تحدث نفسك مرة أخرى. قال: يهمني أنك تأتي منزلي فلا تلقى أمري كما أحب لأن زوجتي مريضة. قال القرد: لا تهتم. فإن الهم لا يغني عنك شيئاً. ولكن التمس ما يصلح زوجتك من الأدوية والأغذية. فإنه يقال: يبذل ذو المال ماله في ثلاثة مواضع: في الصدقة. وفي وقت الحاجة. وعلى الزوجة. قال الغيلم: صدقت. وإنما قالت الأطباء: إنه لا دواء لها إلا قلب قرد. فقال القرد في نفسه: وا سوءتاه لقد أدركني الحرص والشره على كبر سني حتى وقعت في شر مورط. ولقد صدق الذي قال: يعيش القانع الراضي مستريحاً مطمئناً. وذو الحرص والشره يعيش ما عاش في تعب ونصب. وإني قد احتجت الآن إلى عقلي في التماس المخرج مما وقعت فيه. ثم قال للغيلم: وما منعك أن تعلمني حتى كنت أحمل قلبي معي. وهذه سنة فينا معاشر القردة إذا خرج أحدنا لزيارة صديق له خلف قلبه عند أهله أو في موضعه. لننظر إذا نظرنا إلى حرم المزور وما قلوبنا معنا. قال الغيلم: وأين قلبك الآن. قال: خلفته في الشجرة فإن شئت فارجع بي إليها حتى آتيك به. ففرح الغيلم بذلك ورجع بالقرد إلى مانه. فلما قارب الساحل وثب القرد عن ظهره فارتقى الشجرة. فلما أبطأ على الغيلم ناداه يا خليلي احمل قلبك وانزل فقد عقتني. فقال القرد. هيهات ولكنك احتلت علي وخدعتني بمثل خديعتك. واستدركت(3/78)
فارط أمري. وقد قيل: الذي يفسده الحلم. لا يصلحه إلا العلم. قال الغيلم: صدقت. إلا أن الرجل الصالح يعترف بزلته. وإذا أذنب ذنباً لم يستحي أن يؤدب. وإن وقع في ورطة أمكنه التخلص منها. كالرجل الذي يعثر على الأرض وعلى الأرض ينهض ويعتمد. فهذا مثل الرجل الذي يطلب الحاجة فإذا ظفر بها أضاعها (كليلة ودمنة)
الضبعة والرجل
84 قال المدائني: خرج فتيان في صيد لهم. فأثاروا ضبعة فنفرت ومرت فاتبعوها. فلجأت إلى بيت رجل فخرج إليه بالسيف مسلولا. فقالوا له: يا عبد الله لم تمنعنا من صيدنا. فقال: إنها استجارت بي فخلوا بينها وبينه. فنظر إليها فإذا هي مهزولة مضرورة. فجعل يسقيها اللبن صبوحاً ومقيلاً وغبوقاً حتى سمنت وحسنت حالها. فبينا هو ذات يوم راقداً عدت عليه فشقت بطنه وشربت دمه. فقال ابن عم له:
ومن يصنع المعروف في غير أهله ... يلاقي الذي لاقى مجير أم عامر
أعد لها لما استجارت بقربه ... مع الأمن ألبان اللقاح الدرائر
فأشبعها حتى إذا ما تمكنت ... فرته بأنياب لها وأظافر
فقل لذوي المعروف هذا جزاء من ... يوجه معروفاً إلى غير شاكر
أسد وذئب وغراب وابن آوى وجمل
وهو مثل من يعاشر من لا يشاركه حتى يهلك نفسه
85 زعموا أن أسداً كان في أجمة مجاوراً لأحد الطرق المسلوكة. وكان(3/79)
له أصحاب ثلاثة: ذئب وغراب وابن آوى. وإن رعاة مروا بذلك الطريق ومعهم جمال. فتخلف منها جمل فدخل تلك الأجمة حتى انتهى إلى الأسد. فقال له أبو فراس: من أين أقبلت. قال: من موضع كذا. قال: فما حاجتك. قال: ما يأمرني به الملك. قال: تقيم عندنا في السعة والأمن والخصب. فلبث عنده زماناً طويلاً ثم إن الأسد مضى في بعض الأيام لطلب الصيد فلقي فيلاً عظيماً. فقالته قتالاً شديداً وأفلت منه مثقلاً مثخناً بالجراح يسيل منه الدم. وقد أنشب الفيل فيه أنيابه. فلم يكد يصل إلى مكانه. حتى رزح لا يستطيع حراكاً وحرم طلب الصيد. فلبث الذئب والغراب وابن آوى أياماً لا يجدون طعاماً. لأنهم كانوا يأكلون من فضلات الأسد وفواضله. فأجهدهم الجوع والهزال. وعرف الأسد ذلك منهم فقال: لقد جهدتم واحتجتم إلى ما تأكلون. فقالوا: إنه لا يهمنا أنفسنا. لكنا نرى الملك على ما نراه فليتنا نجد ما يأكله ويصلح به. قال الأسد: ما أشك في نصيحتكم. ولكن انتشبوا لعلكم تصيبون صيداً فأكسبكم ونفسي منه. فخرج الذئب والغراب وابن آوى من عند الأسد. فتنحوا ناحية وائتمروا فيما بينهم وقالوا: ما لنا ولهذا الآكل العشب الذي ليس شأنه من شأننا. ولا رأيه من رأينا. ألا نزين للأسد فيأكله ويطعمنا من لحمه. قال ابن آوى: هذا مما لا نستطيع ذكره للأسد. لأنه قد أمن الجمل وجعل له من ذمته.(3/80)
قال الغراب: أنا أكفيكم الأسد. ثم انطلق فدخل على الأسد فقال له: هل أصبتم شيئاً. قال الغراب: إنما يصيب من يسعى ويبصر. ونحن فلا سعي لنا ولا بصر لما بنا من الجوع. ولكن قد وفقنا لرأي واجتمعنا عليه. فإن وافقنا الملك فنحن له مجيبون. قال الأسد: وما ذاك. قال الغراب: هذا الجمل آكل العشب المتمرغ بيننا من غير منفعة لنا منه ولا رد عائدة. ولا عمل يعقب مصلحة. فلما سمع الأسد ذلك. غضب وقال: ما أخطأ رأيك. وما أعجز مقالك وأبعدك من الوفاء والرحمة. وما كنت حقيقاً أن تجترئ علي بهذه المقالة وتستقبلني بهذا الخطاب. مما علمت أني قد أمنت الجمل وجعلت له من ذمتي. أو لم يبلغك أنه لم يتصدق متصدق بصدقة هي أعظم أجراً ممن أمن نفساً خائفاً وحقن دماً مهدوراً. وقد أمنته ولست بالغادر به. قال الغراب: إني لأعرف ما يقول الملك. ولكن النفس الواحدة يفتدى بها أهل المصر. وأهل المصر فدى الملك. وقد نزلت بالملك الحاجة. وأنا أجعل له من ذمته مخرجاً على أن لا يتكلف ذلك ولا يليه بنفسه ولا يأمر به أحداً. ولكنا نحتال عليه بحيلة لنا وللملك فيها صلاح وظفر. فسكت الأسد عن جواب الغراب عن هذا الخطاب. فلما عرف الغراب إقرار الأسد أتى أصحابه فقال لهم: قد كلمت الأسد في أكلة الجمل: على أن نجتمع نحن والجمل لدى حضرته.(3/81)
فنذكر ما أصابه ونتوجع له اهتماماً منا بأمره وحرصاً على صلاحه. ويعرض كل واحد منا نفسه عليه. فيرده الآخران ويسفه رأيه ويبين الضرر في أكله. فإذا فعلنا ذلك سلمنا كلنا ورضي الأسد عنا ففعلوا ذلك وتقدموا إلى الأسد فقال: الغراب: قد احتجت أيها الملك إلى ما يقويك. ونحن أحق أن نهب أنفسنا لك فإنا بك نعيش. فإذا هلكت فليس لأحد منا بقاء بعدك. ولا لنا في الحياة من خيرة. فليأكلني الملك فقد طبت بذلك نفساً. فأجابه الذئب وابن آوى أن اسكت. فلا خير للملك في أكلك وليس فيك شبع. قال ابن آوى: لكن أنا أشبع الملك. فليأكلني فقد رضيت بذلك وطبت عنه نفساً. فرد الذئب والغراب بقولهما له: إنك منتن قذر. قال الذئب: أنا لست كذلك. فليأكلني الملك عن طيب نفس مني وإخلاص طوية. فاعترضه الغراب وابن آوى وقالا: قد قالت الأطباء: من أراد قتل نفسه. فليأكل لحم ذئب. فظن الجمل أنه إذا عرض نفسه على الأكل التمسوا له عذراً كما التمس بعضهم لبعض فيسلم ويرضى عنه الأسد. فقال: لكن أنا في للملك شبع وري. ولحمي طيب هني وبطني نظيف. فليأكلني الملك ويطعم أصحابه وحشمه. فقد سمحت بذلك طوعاً ورضا. فقال الذئب والغراب وابن آوى: لقد صدق الجمل وتكرم وقال ما درى. ثم إنهم وثبوا عليه ومزقوه (كليلة ودمنة)(3/82)
الجدي السالم والذئب النادم
86 حكي أنه كان في بعض الغياض لذئب وجار. وأهل وجار. فخرج يوماً لطلب صيد. ونصب لذلك شباك الكيد. وصار يجول ويصول. ولا يقع على محصول. فأثر فيه الجوع واللغوب. وأذنت الشمس للغروب. فصادف بعض الرعيان. يسوق قطيعاً من الضان. وفيها بعض جديان. فهم عليها لشدة الجوع بالهجوم. ثم أدركه من خوف الراعي الوجوم. لأنه كان متيقظاً. ومن الذئب على ماشيته متحفظاً. فجعل يراقبه من بعيد. والحرص والشره يزيد. والراعي سائق. وللذئب عائق. فتخلف جدي غبي. وغفل عنه الراعي الذكي. فأدركه الذيب النشيط. وأقطعه بأمل بسيط. وبشر نفسه بالظفر. وطار بالفرح واستبشر. فلما رأى الجدي الذيب. علم أنه أصيب بيوم عصيب. وظفر قصاب البلاء من قصبه بأوفر نصيب. فتدارك نفسه بنفسه. واستحضر حيلة جاشه وحدسه. وعلم أنه لا ينجيه من تلك الورطة الوبيلة. إلا مغيث الخداع والحيلة. وأذكره مذكر الخاطر. ما قال الشاعر:
ولكن أخو الحزم الذي ليس نازلا ... به الخطب إلا وهو للقصد مبصر
فتقدم بجأش صليب. وقبل الأرض بين يدي الذيب. وقال له محبك الراعي. لجنابك داعي. يسلم عليك. وقد أرسلني إليك. يشكر صداقتك وشفقتك. وحشمتك ومرافقتك. ويقول قد تركت بحسن(3/83)
إبائك عادة أجدادك وآبائك. فلم تتعرض لمواشيه. وحفظت بنظرك ضعاف حواشيه. وقد حصل لضعافها الشبع. وأمنت بجوارك الجوع والفزع. وحصل الأمن من الجزع. فسيجعل جوارك وغياضك أحسن مستنجع. لأن ضعاف ماشيته شبعت ورويت. وانتعشت وقويت. فأراد مكافأتك. وطلب مصادقتك ومصافاتك. فأرسلني إليك لتأكلني. وأوصاني أن أطربك بما أغني. فإني حسن الصوت في الغناء. وصوتي يزيد شهوة الغذاء. فإن اقتضى رأيك الأسعد. غنيتك غناء ينسي أبا إسحاق ومعبد. وهو شيء لم يظفر به آباؤك وأجدادك. وما يناله أعقابك وأولادك. يقوي كزمك. وشهوتك وقرمك. ويطيب مأكلك. ويسني مأملك. وإن صوتي اللذيذ. ألذ للجائع من جدي حنيذ. وخبز سميذ. وللعطشان من قدح نبيذ. فرأيك أعلى. وامتثالك أولى. فقال الذئب: لا بأس والك. فغني ما بدا لك. فرفع الجدي عقيرته. ورأى في الصراخ خيرته. وأنشد:
وعصفور الحشا يهوى جراده ... كما عشق الخروف أبو جعاده
فاهتز الذئب طرباً. وتمايل عجباً وعجبا. وقال: أحسنت يا زين الغنم. ولكن هذا الصوت في اليم. فارفع صوتك في الزير. فقد أخجلت البلابل والزرازير. وزدني يا مغني. وغن لي. ما يلي قولي:
أقر هذا الزمان عيني ... بالجمع بين المنى وبيني(3/84)
وليكن هذا يا سيد الجداء في أوج الحسيني. فاغتنم الجدي الفرصة وأزاح بعياطه الغصة. وصرخ صرخ أخرى. أذكر الطامة الكبرى. ورفع الصوت. كمن عاين الموت. وخرج من دائرة الحجاز إلى العراق. وكاد يحصل له من ذلك الانفتاق. وقال:
قفوا ثم انظروا حالي ... أبو مذقة أكالي
فسمعه الراعي يشدو. فأقبل بالمطرق يعدو. فلم يشعر الذئب الذاهل. وهو بحسن السماع غافل. إلا والراعي بالعصا على قفاه نازل. فرأى الذئب الغنيمة في النجاة. وأخذ في طريق الحياة. وترك الجدي وأفلت. ونجا من سيف الموت المصلت. وصعد إلى تل يتلفت. إذ تفلت. وأقعى يعض يديه ندامة. ويخاطب نفسه بالملامة. ويقول: أيها الغافل الذاهل. الأحمق الجاهل. متى كان على سماط السرحان. القبز والأوزان. وأي جد لك فان. أو أب مفسد جان. كان لا يأكل إلا بالمغاني. وعلى صوت المثالث والمثاني. فلولا أنك عدلت عن طريقة آبائك. ما فاتك لذيذ عشائك. ولا أمسيت جائعاً تتلوى. وبجمرة فوات الفرصة تتكوى. ثم بات يحرق ضرسه ونابه. ويخاطب نفسه لما نابه:
وعاجز الرأي مضياع لفرصته ... حتى إذا فات عاتب القدرا
فأرة وهر
87 كان رجل فقير عنده هر رباه. وأحسن مأواه. وكان القط قد(3/85)
عرف منه الشفقة. وألف منه المودة والمقة. فكان لا يبرح من مبيته. ولا يسعى لطلب قوته. فحصل له الهزال. وتغير حاله من أمر وحال. فلا عند صاحبه ما يغذيه. ولا له قوة على الاصطبار تغنيه. إلى أن عجز عن الصيد. وصار يسخر به من أراذل الفار عمرو وزيد. وكان في ذلك المكان. مأوى لرئيس الجرذان. وبجواره مخزن سمان. فاجترأ الجرذ لضعف أبي غزوان. وتمكن من نقل ما يحتاج إليه. وصار يمر على القط آمناً ويضحك عليه. إلى أن امتلأ وكره من أنواع المطاعم. وحصل له الفراغ من المخاوف والمزاحم. فاستطال على الجيران. واستعان بطوائف الفار على العدوان. وافتكر يوماً في نفسه. فكراً أداه إلى حلول رمسه. وهو أن هذا القط وإن كان عدواً قديماً. ومهلكاً عظيماً. ولكنه قد وقع في الانتحال. وضعف عن الصيد والاغتيال. وقوتي إنما هي لسبب ضعفه. وهذا الفتح إنما هو حاصل بحتفه. ولكن الدهر الغدار. ليس له على حالة استمرار. فربما يعود الدهر إليه. ويعيد صحته وعافيته عليه. فإن الزمان الدوار ينهب ويهب. ويعطي ما سلب. ويرجع فيما وهب. كل ذلك من غير موجب ولا سبب. وإذا عاد القط إلى ما كان عليه. يتذكر من غير شك إساءتي إليه فيثور قلقه. ويفور حنقه. ويأخذه للانتقام مني أرقه. فلا يقر لي معه قرار. فأضطر على التحول عن هذه الدار. والخروج عن الوطن المألوف. ومفارقة(3/86)
السكن المعروف. فلا بد من الاهتمام قبل حلول هذا الغرام. والأخذ في طريقة الخلاص. قبل الوقوع في شرك الاقتناص. ثم إنه ضرب أخماساً لأسداس. في كيفية الخلاص من هذا اللباس. فأداه الفكر إلى إصلاح المعاش. بينه وبين أبي حراش. ليدوم له هذا النشاط. ويستمر بواسطة الصلح بساط الانبساط. فرأى أنه لا يفيده إلا أن يزرع الجميل. من كثير وقليل. خصوصاً في وقت الفاقة. فإنه أجلب للصداقة. وأبقى في الوثاقة. ثم بعد ذلك يترتب عليها العهود. ويتأكد ما يقع عليه الاتفاق من العقود. وهو أن يلتزم كبير الجرذان في كل غداة. ما يكفيه من طيب الغذاء صباحه ومساه. لأن الشيخ قال في الدرس: خير المال ما وقيت به النفس. إلى أن يصح جسده. ويرد عليه من عيشه رغده. ويكون ذلك سبباً لعقود الصداقة وترك العداوة القديمة. فجمع له من الخبز والجبن واللحم القديد. ما قدر على حمله. ونهضت قوته بنقله. وقدم مقام الهر وسلم عليه سلام مكرم مبر. وقدم ما لديه إليه. وترامى بكثرة الاشتياق والتودد عليه. وقال: يعز علي. ويعظم لدي. أن أراك يا خير جار. في هذا الاضطرار. وسيكفيك الله هذا الجهد والضير. ولكن العاقبة إن شاء الله خير. فتناول القط من تلك السرقة. ما سد رمقه. وشكر له تلك الصدقة. ثم قال: إن لي عليك من الحقوق. مثل ما للجار الصدوق. على الجار الشفوق.(3/87)
وأردت أن يتأكد الجوار بالمصادقة. وتثبت المحبة المواثقة. وإن كانت بيننا عداوة قديمة. فنترك من الجانبين تلك الخصلة الذميمة. ونستأنف العهود. على خلاف الخلق المعهود. وها أنا أذكر لك سبباً يحملك على ترك خلقك القديم. ويرشدك في طريق الإخاء إلى الصراط المستقيم. وهو أن أكلي مثلاً. ما يغذي منك بدناً. فضلاً عن أن يظهر فيك صحة وسمناً. فإن أمنتني مكرك ورغبت في صحبتي. وعاهدتني على سلوك طريق مودتي. وأكدت ذلك لي بمغلظات الأيمان حتى أستوثق باستصحابك. وأبيت آمناً في مجيئك وذهابك. ولو كنت بين مخاليبك وأنيابك. فإني ألتزم لك كل يوم. عندما تستيقظ من النوم. بما يسد خلتك. ويبقي مهجتك. صباحاً ومساء وغداء وعشاء. فلما رأى الهر. هذا البر. أعجبته هذه النعم. وأطربه هذا النغم. وأقسم طائعاً مختاراً. لا إكراهاً ولا إجبارا. أنه لا يسلك مع الجرذان. إلا طريق الأمان والإحسان. فرجع الجرذ وهو بهذه الحركة جذلان. وصار يأتي القط واستوى. وسلمت خلوات بدنه من الخواء. وقد كان لهذا القط ديك صاحب قديم. وصديق نديم. كل منهما يأنس صاحبه. ويحفظ خاطره بمراعاة جانبه. فحصل للديك تعويق عن زيارة صديقه. فلم يتفق لهما لقاء. إلا بعد أن زال عن القط ذالك الشقاء. وحاز تمام الشفاء. فسأله(3/88)
الديك: بماذا زال ذلك الهزال. فأخبره بخبر الجرذ وأنه صار عنده من أعز الأصدقاء الخيرين الأمناء. فضحك الديك مستغرباً. وطفق يصفق بجناحيه متعجباً. فقال له: مم تضحك. قال: من سلامة بطنك. وانقيادك لمداهنك. وحسن
صنائعك. على غشاك ومخادعك. ومن يأمن لهذا البرم. الواجب قتله في الحل والحرم. المفسد الفاسق. المؤذي المنافق. الذي خدعك حتى أمن على نفسه. وأوقعك في حبائل كيده ونحسه. مع أنك لست عنده بمشكور. ولا بالخير مذكور. وإنما الذي شاع. وملأ الأسماع. أنك تحل عقده. وتنقض عهده. وتنكث الأيمان. وتجازي بالسيئة الإحسان. فإنه لما لم ير منك ما يسره. أصبح متوقعاً ما يضره. وأعظم من هذا أنه حشر ونادى. وجاهرك بالشر وعادى وقال: إنه أحياك بعد الموت. وردك بعد الفوت. وإنه لولا فضله عليك. وبره الواصل إليك. لمت هزالاً وجوعاً. ولما عشت أسبوعاً. وإنه شفاك وعافاك. وصفا لك وصافاك. وهل سمعت أن جرذاً صادق هرة. أو اتفق بينهما مرافقة. فمناصحة القط والفار. كمصادقة الماء والنار. فلما سمع القط هذا الكلام. تألم خاطره بعض إيلام وقال للديك: جزاك الله عني خيرا. ولكن من أخبرك بهذا الخبر. وصدقك ما أثر. فقال: لقد غرك الجرذ بلقيمات من الحرام. والسحت المنغمس في الآثام. وجعلها لك بمنزلة حبة الفخ. فلا تشعر بها إلا وأنت في المسلخ. حيث لا رفيق يتشفع فيك(3/89)
ولا أخ. وهناك يعرف تحقيق هذا الكلام. وما أطلعنك على ما قلت إلا من فرط الشفقة والسلام. فترجح جانب صدق الديك عند القط فقال في خاطره. بعدما أجال قدح ضمائره: إن هذا الديك من حين انفلقت عنه البيضة. وسرحت معه من الصداقة في روضة. ما وقفت له على كذب. ولا سمعن أنه لشيء من الزور مرتكب. فهو أبعد من أن يخدع. وأجل من أن يغش ويتصنع. ثم قال له: كيف أعرف صدق هذا الخبر. وهل على سوء طويته دلالة تنتظر. قال: نعم. ورب الحرم علامة ذلك أنه إذا دخل عليك. ونظر إليك. يكون منخفض الرأس. مجتمع الأنفاس. متوقعاً حلول نائبة. أو نزول مصيبة صائبة. متلفتاً يميناً وشمالاً. متخوفاً نكالاً ووبالاً. طائفاً يتنقب. خائفاً يترقب. وذلك لأنه خائن. والخائن خائف وهذا أمر بائن. وبينما هما في المحاورة. والمناظرة والمشاورة. دخل أبو جوال. وهو غافل عن هذه الأحوال. فرأى أبا يقظان. يخاطب أبا غزوان. فخنس وقهقر. وتوقف وتفكر. وهو غافل عما قضى الله وقدر. فاشمأز لرؤيته الديك واشمعل. وانتفض وابرأل. فارتعد الجرذ من شيخ الديكة. لما رأى منه هذه الحركة. لما رأى منه هذه الحركة. وانتفش وانروى. وتقبض وذوى. والتفت يميناً وشمالاً. كالطالب للفرار مجالا. والقط يراقب أحواله. ويتميز حركاته وأفعاله. فتحقق ما قيل له فيه ونظر إليه نظر المنتقم. وهم واكفهر. ورقصت شواربه وازبأر.(3/90)
ونسي العهود والأيمان. ونبض فيه عرق العداوة القديمة والعدوان. فوثب عليه وأدخله في خبر كان. وأخلى منه الزمان والمكان
الهدهد الغير المتروي
88 ذكروا أن الله مجري الخير. علم بعض عبيده الصلحاء منطق الطير. فصاحب منها هدهداً. وازداد ما بينهما تودداً. ففي بعض الأيام. مر بالهدهد ذلك الإمام. وهو في مكان عال. ملتفت إلى ناحية الشمال. وهو مشغول بالتسبيح يسبح الله بلسانه الفصيح فناداه: يا صاحب التاج والقباء والديباج لا تقعد في هذا المكان فإنه طريق كل فتان. ومطروق كل صائد شيطان. ومقعد أرباب البنادق ومرصد أصحاب الجلاهق. فقال الهدهد: إني عرفت ذلك وإنه مسلك المهالك قال: فلأي شيء عزمت على القعود فيه. مع علمك بما فيه من دواهيه. قال: أرى صبياً وأظنه غوياً نصب لي فخاً. يروم لي فيه زخاً. وقد وقفت على مكايده. ومناصب مصايده. وعرفت مكيدته أين هي. وإلى ماذا تنتهي. وأنا أتفرج عليه. وأتقدم للضحك إلي. وأتعجب من تضييع أوقاته. وتعطيل ساعاته. فيما لا يعود عليه منه نفع. ولا يفيده في قفاه سوى الصفع. وأسخر من حركاته. وأنبه من يمر على خزعبلاته. فتركه الرجل وذهب. وقضى حاجاته وانقلب. فرأى الهدهد في يد الصبي ولسان حاله يلهج بمقاله:(3/91)
كعصفورة في يد طفل يهينها ... تقاسي عذاب الموت والطفل يلعب
فلا الطفل ذو عقل يرق لحالها ... ولا الطير منفك الجناح فيهرب
فناداه وقال: يا أبا عباد كيف وقعت في شرك الصياد وقلت لي إنك وعيت. ورأيت ما رأيت. فقال: أما سمعت أن الهدهد إذا نقر الأرض يعرف مسافة ما بينه وبين الماء. ولا يبصر شعرة الفخ ولا ماور. وناهيك قضية آدم أبي البشر. كيف خذل لما غوي واغتر وبطر. وكذلك غيره ممن اشتهر أمرهم وانتشر. وأنا لما اغتررت بحدة بصري. ذهلت عما يجول في فكري. فتغطب حدة استبصاري فوقعت في فخ اغتراري
مالك الحزين والسمكة
89 كان في مكان مكين. مأوى لمالك الحزين. وفي ذلك المكان غياض وغدران تضاهي رياض الجنان. وفي مياهه من السماك. ما يفوق سابحات السماك. فكان ذلك الطير. في دعة وخير. يزجي الأوقات. بطيب الأقوات. وكلما تحرك بحركة. كان فيها بركة. حتى لو غاص في تلك البحار والغدران لم يخرج إلا وفي منقاره سمكة. فاتفق أنه في بعض الآناء. تعسر عليه أسباب الغذاء. وارتج لفوت قوته أبواب العشاء. فكان يطير بين عالم الملك والملكوت. يطلب ما يسد الرمق من القوت. فلم يفتح عليه بشيء من أعلى السماك إلى أسفل الحوت. وامتد هذا الحال. عدة أيام(3/92)
وليال. فخاض يوماً في الرقراق. يطلب شيئاً من الأرزاق. فصادف سمكة صغيرة قد عارضت مسيره فاختطفها. ومن بين رجليه التقفها. ثم بعد اقتلاعها. قصد إلى ابتلاعها. فتداركت زاهق نفسها. قبل استقرارها في رمسها. فنادت بعد أن كادت أن تكون بادت: ما البرغوث ودمه. والعصفور ودسمه. اسمع يا جار الرضا. ومن عمرنا في صونه انقضى. لا تعجل في ابتلاعي. ولا تسرع في ضياعي. ففي بقائي فوائد وعوائد. عليك عوائد. وهو أن أبي قد ملك هذا السمك فالكل عبيده ورعيته. وواجب عليهم طاعته ومشيئته. ثم إني واحد أبوي. وأريد منك الإبقاء علي. فإن أبي نذر النذور. حتى حصل له بوجودي السرور. فما في ابتلاعي كبير فائدة. ولا أسد لك رمقاً. ولا أشغل لك معدة فتصير مع أبي كما قيل: فأفقرني فيمن أحب ولا استغنى فالأولى أن أقر عينك. وأعرف ما بين أبي وبينك. فأكون سبباً لعقود المصادقة. وفاتحاً لإغلاق المحبة والمرافقة. ويتحمل لك الجميلة. والمنة التامة والفضيلة. وأما أنا فأعاهدك إن أعتقتني. ومننت علي وأطلقتني. أن أتكفل لك كل يوم بعشر سمكات بيض سمان ودكات. تأتيك مرفوعة. غير ممنوعة ولا مقطوعة يرسلها إليك أبي مكافأة لما فعلت بي من غير نصب منك ولا وصب. ولا كد تتحمله ولا تعب. فلما سمع البلشون. هذا المجون. أغراه الطمع. فما ابتلع. بل سها ولها. ثم قال لها: أعيدي هذه الرمزة(3/93)
فبمجرد ما فتح فاه بالهمزة. انملصت السمكة منه بجمزة. وغاصت في الماء. وتخلصت من بين فكي البلاء. ولم يحصل ذلك الطماع. إلا قطع الأطماع. وإنما أوردت يا ذا الدراية. هذه الحكاية. لتتأمل عقبى أمرك قبل الشروع فيه. وتتدبر منتهى أواخره في مباديه. فقد قيل: أول الفكر. آخر العمل
الديك والثعلب
90 كان في بعض القرى للرئيس ديك. حسن الخلق وديك. مرت به التجارب. وقرأ تواريخ
المشارق والمغارب. ومضى عليه من العمر سنون. واطلع من حوادث الزمان على فنون. وقاسى حلوه ومره. وعانى حره وقره. وقطع للثعالب شباك مصايد. وتخلص لابن آوى من ورطات مكايد. ورأى من الزمان وبينه نوائب وشدائد. وحفظ وقائع لبنات آوى وثعالب. وطالع من كتب حيلها طلائع كتائب. وأحكم من طرائقها عجائب غرائب. فاتفق له في بعض الأحيان. أنه وقف على بعض الجدران. فنظر في عطفيه. وتأمل في نقش برديه. فرأى خيال تاجه العقيقي. ونظر إلى خده الشقيقي. ونفض برائله المنفش. وسراويله المنقش. والثوب الذي رقمه نقاش القدرة من المقطع المبرقش. فأعجبته نفسه. وأذن فأطربه حسه.... فصار يتيه ويتبختر. ويتقصف ويتخطر. فاستهواه التمشي سويعة. حتى أبعد عن الضيعة. فصعد(3/94)
إلى جدار. وكان قد انتصف النهار. فرفع صوته بالآذان. فأنسى صوته الكتاني والدهان. فسمعه ثعلب. فقال: مطلب. وسارع من وكره. وحمل شبكة مكره. وتوجه إليه. فرآه فسلم عليه. فلما حس به أبو اليقظان. طفر إلى أعلى الجدران. ثم حياه تحية الخلان. وترامى لديه ترامي الإخوان. وقال: أنعش الله بدنك وروحك. وروى من كاسات الحياة غبوفك وصبوحك. فإنك أحييت الأرواح والأبدان. بطيب النغم والصياح في الآذان. فإن لي زماناً لم أسمع بمثل هذا الصوت. وقاه الله نوائب الفوت. ومصائب الموت. وقد جئت لأسلم عليك. وأذكرك ما أسدى من النعم إليك. وأبشرك ببشارة. وهي أربح تجارة. وأنجح من الولاية والإمارة. ولم يتفق مثلها في سالف الدهر. ولا يقع نظيرها إلى آخر العصر. وهي أن السلطان أيد الله بدولته أركان الإيمان. أمر منادياً فنادى بالأمان والاطمئنان. وإجراء مياه العدل والإحسان. من حدائق الصحبة والصداقة في كل بستان. وأن تشمل الصداقة كل حيوان. من الطير والوحش والحيتان. ولا يقتصر فيها على جنس الإنسان. فيتشارك فيها الوحوش والسباع. والبهائم والضباع. والأروى والنعام. والصقر والحمام. والضب والنون. والذباب وأبو قلمون. ويتعاملون بالعدل والإنصاف. والإسعاف دون الإعساف. ولا يجري بينهم إلا المصادقة. وحسن(3/95)
المعاشرة والمرافقة. فتمحى من لوح صدورهم نقوش العداوة والمنافقة. فيطير القطا مع العقاب. ويبيت العصفور مع الغراب. ويرعى الذئب مع الأرنب. ويتآخى الديك والثعلب. وفي الجملة لا يتعد أحد على أحد. فتأمن الفأرة من الهرة. والخروف من الأسد. وإذا كان الأمر كذا. فقد ارتفع الشر والأذى. فلا بد أن يمتثل هذا المرسوم. ويترك ما بيننا من العداوة والخلق المذموم. ويجري بيننا بعد اليوم المصادقة. وتنفتح أبواب المحبة والمرافقة. ولا ينفر أحد منا من صاحبه. بل يراعي مودته ويبالغ في حفظ جانبه. وجعل الثعلب يقرر هذا المقال. والديك يتلفت إلى هذا الهذيان والخبال. فقال الثعلب: يا أخي. ما لك عن سماع كلامي مرتخي. أنا أبشرك ببشائر عظيمة. لم تتفق في الأعصر القديمة. وإنما برزت بها مراسيم مولانا السلطان الجسيمة. وأراك لا تلتفت إلى هذا الكلام. ولا تسر بهذا اللطف العام. ولا تلتفت إلي. ولا تعول علي. وتستشرف على بعد شيء. فهلا أخبرتني بما أضمرت ونويت. وتطلعني فيما تتطاول إليه على ما رأيت. حتى أعرف في أي شيء أنت. وهل ركنت إلى أخباري وسكنت. فقال: أرى عجاجاً ثائراً. ونقعاً إلى العنان فائراً. وحيواناً جارياً. كأنه البرق سارياً. وما عرفت ما هو. ولكنه أجرى من الهواء. فقال: أبو الحصين. وقد نسي المكر والمين. بالله يا أبا نبهان. حقق لي(3/96)
هذا الحيوان. فقال: حيوان رشيق. له آذان طوال وخصر دقيق. لا الخيل تلحقه. ولا الريح تسبقه. فرجفت قوائم الثعلب. وطلب المهرب. فقال أبو المنذر: تلبث يا أبا الحصين واصبر حتى أحقق رؤيته. وأتبين ماهيته. فإنه يا أبا الحصين. يسبق طرف العين. ويكاد يا أبا النجم. يخلف النجم في الرجم. فقال: أخذني فؤادي. وما هذا وقت التمادي. ثم ولى وهو يصدح بقوله:
لابس التاج العقيقي ... لا تقف لي في طريقي
إن يكن ذا الوصف حقا ... فهو الله السلوقي
فقال الديك: وإذا كان وقد قلت إن السلطان. رسم بالصلح بين سائر الحيوان. فلا بأس منه عليك. فتلبث حتى يجيء ويقبل يديك. ونعقد بيننا عقود المصادقة. ويصير رفيقنا ونصير رفاقه. فقال: ما لي برؤيته حاجة. فدع عنك المحاجة واللجاجة. فقال: أو ما زعمت يا أبا وثاب. أن السلطان رسم للأعداء والأصحاب. أن يسلكوا طرائق الأصدقاء والأحباب. فلو خالف المرسوم هذا الكلب. لما قابله الملك إلا بالقتل والصلب. قال: لعل هذا المشؤم. لم يبلغه المرسوم. ثم ولى هارباًَ. وقصد للخلاص جانباً.
الجمل والملح
91 كان جمال فقير ذو عيال له جمل يتعيش عليه. ويتقوت هو وعياله بما يصل منه إليه. فرأى صلاحه في نقل ملح من الملاحة.(3/97)
فجد في تثقيل الأحمال. وملازمته بأثقال الأثقال. إلى أن آل حال الجمل إلى الهزال. وزال نشاطه وحال. والجمال لا يرق له بحال. ويجد في كده بالاشتغال. ففي بعض الأيام. أرسله مع السوام. فتوجه إلى المرعى. وهو ساقط القوة عن المسعى. وكان له أرنب صديق. فتوجه إليه في ذلك المضيق. ودعاه وسلم عليه. وبث عظيم اشتياقه. فلما رأى الخزز هزاله. تألم له وسأله أحواله. فأخبره بحاله. وما يقاسيه من غذائه ونكاله. وأن الملح قد قرحه. وجب سنامه وجرحه. وأنه قد أعيته الحيلة. وأضل إلى الخلاص سبيله. فتألم الأرنب وتأمل. وتفكر في كيفية عصر هذا الدمل. ثم قال: يا أبا أيوب. لقد فزت بالمطلوب. وقد ظهر وجه الخلاص. من شرك هذا الاقتناص. والنجاة من الارتهاص والاتصاص. تحت حمل كالرصاص. فهل يعترضك يا ذا الرياضة. في طريق الملاحة مخاضة. فقال: كثير وكم من نهر وغدير. فقال: إذا مررت في خوض ولو أنه روض أو حوض. فابرك فيه وتمرغ. وتنصل من حملك وتفرغ. واستمر فيه يا أبا أيوب. فإن الملح في الماء يذوب. وكرر هذه الحركة. فإنك ترى فيها البركة. فإما أنهم يغيرون حملك أو يخففوه. أو تستريح بذوبه من الذي أضعفوه. فتحمل الجمل للأرنب المنة. وشنف لدر هذه الفائدة أذنه. فلما حمله صاحبه الحمل المعهود. ودخل به في طريقه المورود. ووصل المخاضة(3/98)
برك. فضربوه وما احترك. وتحمل ضربة وعسفه. حتى أذاب من الحمل نصفه. ثم نهض انتهاضة. وخرج من المخاضة. ولازم هذه العادة. إلى أن أفقر صاحبه وأباده. فأدرك الجمال هذه الحيلة. فافتكر له في داهية وبيلة. وعمد إلى عهن منفوش. وغير في مقامرته شكل النقوش. وأوسق للجمل حملاً. وبالغ فيه تعبية وثقلا. وسلط عليه الظماء. ثم دخل به إلى الماء. فلما توسط الماء برك. وتغافل عنه صاحبه وترك. فتشرب الصوف من الماء ما يملأ البرك. ثم أراد النهوض. فناء به الربوض. فقاسى من المشاق. ما لا يطاق. ورجع هذا الفكر الوبيل. على الجمل المسكين بأضعاف الثقيل. فساء مصيره. وكان في تدبيره تدميره. وما استفاد إلا زيادة النصب. وأمثال ما كان يجده في التعب والوصب. وإنما أوردت هذا المثل عن الجمل ليعلم الملك والحضار. أن العدو الغدار. والحسود المكار. يفتكر في أنواع الدواهي. ويفرغ أنواع البلايا والرزايا كما هي. ويبذل في ذلك جده وجهده. ولا يقصر فيما تصل إليه من ذلك يده. فتارة تدرك مكايده. وتعرف مصايده. وتارة يغفل عن دواهيها. فلا يشعر الخصم إلا وقد تورط فيها. وعلى كل حال. لا بد للشخص له وعليه من الاحتيال
البستاني والأربعة العابثون بجبته
92 كان من تكريت رجل مسكين. ينظر البساتين. ففي(3/99)
بعض السنين. قدم قرية منين. وسكن في بستان. كأنه قطعة من الجنان. فيه فاكهة ونخل ورمان. ففي بعض الأعوام. أقبلت الفواكه بالإنعام. ونثرت الثمار ملابس الأشجار من الأذيال والأكمام. فألجأت الضرورة ذلك الإنسان. أن خرج من البستان. ثم رجع في الحال فرأى فيه أربعة رجال. أحدهم جندي والآخر شريف. الثالث فقيه والرابع تاجر ظريف. قد أكلوا وسقوا. وناموا واتفقوا. وتصرفوا في ذاك تصرف الملاك. وأفسدوا فساداً فاحشاً خادشاً. ومارشاً وناوشاً وناكشاً. فأضر ذلك بحاله. ورأى العجز في أفعاله. إذ هو وحيد. وهم أربعة وكل عنيد. فسارع إلى التأخيذ. وعزم على التفخيد. فابتدأ بالترحيب والبشاشة. والإكرام والهشاشة. وأحضر لهم من أطايب الفاكهة. وطايبهم بالمفاكهة. وسامح بالممازحة. ومازح بالمسامحة. إلى أن اطمأنوا واستكانوا واستكنوا. ودخلوا في اللعب. ولاعبوه بما يجب. فقال في أثناء الكلام: أيها السادة الكرام لقد حزتم أطراف المعارف والطرف. فأي شيء تعانون من الحرف. فقال أحدهم: أنا جندي. وقال الآخر: أنا شيخ القضاة جدي. وقال الثالث: أنا فقيه. وقال الرابع: أنا تاجر نبيه. فقال: والله لست نبيه. ولكن تاجر سفيه. وقبيح الشكل كريه. أما الجندي فإنه مالك رقابنا. وحارس حجابنا. يحفظنا بصولته. ويصون أنفسنا وأموالنا وأولادنا بسيف دولته. ويجعل نفسه لنا(3/100)
وقاية. وينكي في أعدائنا أشد نكاية. فلو مد يده إلى كل منا ورزقه. فهو بعض استحقاقه ودون حقه. وأما الشريف فقد تشرف به اليوم مكاني. وحلت به البركة علي وعلى بستاني. وأما سيدنا العالم فهو مرشد العالم. وهو سراج ديننا. الهادي إلى يقيننا. فإذا شرفونا بأقدامهم. ورضوا أن نكون من خدامهم. فلهم الفضل علينا. والمنة الواصلة إلينا. وأما أنت يا رابعهم. وشر جان تابعهم. بأي طريق تدخل إلى بستاني. وتتناول سفرجلي ورماني. هل بايعتني بمسامحة. وتركت لي المرابحة. أو لك علي دين. أو عاملتني نسيئة دون عين. ألك علي جميلة. وهل بيني وبينك وسيلة. تقتضي تناول مالي. والهجوم على ملكي ومنالي. ثم مد يده إليه. فلم يعترض من رفقائه أحد عليه. لأنه أرضاهم بالكلام. واعتذر عما يتطرق إليه من ملام. فأوثقه وثاقاً محكماً. وتركه مغرماً. ثم مكث ساعة. وهو على الخلاعة مع الجماعة. وغامز الجندي والشريف على الفقيه الظريف. فقال: أيها العالم الفقيه. والفاضل النبيه. أنت مفتي المسلمين. وعالم بمنهاج الدين. على فتواك مدار الإسلام. وكلمتك الفارقة بين الحلال والحرام. بفتواك تستباح الدماء فمن أفتاك بالدخول في هذا. أفتني يا عالم الزمان. محمد بن إدريس أفتاك بهذا أم النعمان. أم أحمد بن حنبل أم مالك. فبح لنا بذلك. وإلا فما بالك تعوث وتعبث بما ليس لك. ولا عتب على الأجناد والأشراف. ولا على(3/101)
الجهلاء والأجلاف. إذا ارتكب مثلك هذا المحظور. وتعاطى العلماء والمفتون أقبح الأمور. ثم مد يده إلى جلابيبه. وأوثقه بتلابيبه. فأحكمه وثاقاً. وآلمه ربافاً. فاستنجد بصاحبيه إلى جانبيه فما أنجداه ولا رفداه. ثم جلس يلاهي. الجندي الساهي. وغامزه على الشريف. ذي النسب الظريف. ثم قال: أيها السيد الأصيل النجيب الجيد الحسيب. لا تعتب على كلامي. ولا تستثقل ملامي. أما الأمير فإنه رجل كبير. ذو قدر خطير. له الجميلة التامة. والفضيلة اللامة. وأنت يا ذا النسب الطاهر. والأصل الباهر. والفضل الزاهر سلفك الطيب أذن لك في الدخول إلى ما لا يحل لك. وإذا كنت يا طاهر الأسلاف لا تتبع سنة آبائك الأشراف. من الزهد والعفاف. فلا عتب على الأوباش والأطراف. ثم وثب إليه وكتف يديه. ولم يعطف الجندي عليه. ولم يبق إلا الجندي وهو وحيد. فانتصف منه البستاني كما يريد. وأوثقه رباطاً. وزاد لنفسه احتياطاً. ثم أوجعهم ضرباً وأشبعهم لعناً وسباً. وجمع عليهم الجيران. واستعان بالجلاوزة وأصحاب الديوان. وحملهم برباطهم وعملتهم تحت آباطهم إلى باب الوالي. وأخذ منهم ثمن ما أخذوه من رخيص وغالي. وإنما أوردت ما جرى لتعلموا أيها الوزراء أن التفخيذ. بين الأعداء بالتأخيذ. أمر من السهام في تنفيذ الأحكام وأحكام التنفيذ (فاكهة الخلفاء لابن عربشاه)(3/102)
الباب السابع في الفضائل والرذائل
الصبر
93 يقال أوكد الأسباب للظفر والصبر. وقال بعض العلماء: الصبر جنة المؤمن وعزيمة المتوكل وسبب درك النجح في الحوائج. فمن وطن نفسه على الصبر لم يجد للأذى مسا. ومن استعف بالله عفه. ومن استعان به يعنه ولن تجدوا حظاً خيراً من الصبر. جاء في المبهج: الصبر أحجى بذي الحجج. وقال حكيم: تابع الصبر متبوع النصر (للمقدسي) 94 قال أبو تمام:
إذا اشتملت على اليأس القلوب ... وضاق لما به الصدر الرحيب
وأوطنت المكاره واطمأنت ... وأرست في مكامنها الخطوب
فلم تر لانشكاف الضر وجها ... ولا أغنى بحيلته الأريب
أتاك على قنوط منه غوث ... يمن به اللطيف المستجيب
فكل الحادثات وإن تناهت ... فموصول بها فرج قريب
95 من الديوان والمنسوب إلى أمير المؤمنين علي:
هي حالان شدة ورخاء ... وسجالان نعمة وبلاء
والفتى الحاذق الأديب إذا ما ... خانه الدهر لم يخنه العزاء(3/103)
إن ألمت ملمة بي فإني ... في الملمات صخرة صماء
حائز في البلاد علماً بأن ليس ... يدوم النعيم والبلواء
وأنشد أعرابي:
وإني لأغضي مقلتي على القذى ... وألبس ثوب الصبر أبيض أبلجا
وإني لأدعو الله والأمر ضيق ... علي فما ينفك أن يتفرجا
وكم من فتى ضاقت عليه وجوهه ... أصاب لها في دعوة الله مخرجا
96 قال غيره:
تصبر ولا تبد التضعضع للعدى ... ولو قطعت في الجسم منك البواتر
سرور الأعادي أن تراك بذلة ... ولكنها تغتم إذ أنت صابر
إني وجدت وخير القول أصدقه ... للصبر عاقبة محمودة الأثر
وقل من جد في أمر يحاوله ... فاستصحب الصبر إلا فاز بالظفر
قال آخر:
عليك بالصبر فيما قد منيت به ... فالصبر يذهب ما في الصدر من حرج
كم ليلة من هموم الدهر مظلمة ... قد ضاء من بعدها صبح من الفرج
وما أحسن ما قال الشيخ حسن بن محمد البوريني:
صبراً على نوب الزمان فإنها ... مخلوقة لنكاية الأحرار
لا يكسف النجم الضعيف وإنما ... يسري الكسوف لرفعة الأقمار
97 قال إبراهيم العمادي:
لا تخش من شدة ولا نصب ... وثق بفضل الإله وابتهج(3/104)
وارج إذا اشتد هم نازلة ... فآخر الهم أول الفرج
وقال غيره وأجاد:
تصبر ففي اللأواء قد يحمد الصبر ... ولولا صروف الدهر لم يعرف الحر
وإن الذي أبلى هو العون فانتدب ... جميل الضا يبقى لك الذكر والأجر
وثق بالذي أعطى ولاتك جازعاً ... فليس بحزم أن يروعك الضر
فلا نعم تبقى ولا نقم ولا ... يدوم كلا الحالين عسر ولا يسر
تقلب هذا الأمر ليس بدائم ... لديه مع الأيام حلو ولا مر
قال آخر:
إن الأمور إذا اشتدت مسالكها ... فالصبر يفتح منها كل ما رتجا
لا تيأسن وإن طالت مطالبه ... إذ استعنت بصبر أن ترى فرجا
وقال آخر:
على قدر فضل المرء تأتي خطوبه ... ويعرف عند الصبر فضل نهاه
ومن قل في ما يتقيه اصطباره ... فقد قل في ما يرتجيه مناه
قال المرار بن سعيد:
إذا شئت يوماً أن تسود عشيرة ... فبالحلم سد لا بالتسرع والشتم
وللحلم خير فاعلمن مغبة ... من الجهل إلا أن تشمس من ظلم
القناعة
98 اعلم أن مما يتحققه العاقل ولا يذهل عنه إلا الأبله أن الدنيا دار الأكدار ومحل الهموم والغموم والحسرات. وأن أخف الخلق(3/105)
بلاء وألماً الفقراء. وأعظم الناس تعباً وهماً هم الملوك والأمراء والكبراء. ويقال: لكل شبر قامة من الهم. وقيل:
لقد قنعت همتي بالخمول ... وصدت عن الرتب العاليه
وما جهلت طيب طعم العلى ... ولكنها تؤثر العافيه
وطالما رضيت الملوك والسلاطين. بحال الفقراء والصعفاء والمساكين.
في كل بيت كربة ومصيبة ... ولعل بيتك إن رأيت أقلها
فارض بحال فقرك. واشكر الله الله تعالى على خفة ظهرك. ولا تتعد طورك. وقف عند قدرك. تجد ذلك نعمة خفية ساقها الله تعالى إليك. ورأفة ورحمة أفاضها الله تعالى من خزائن لطفه عليك. فاعتبر بهذه الكلمات. وخذ لنفسك حظاً وافراً من هذه العظات. ومن ذلك أن هارون الرشيد من أعقل الخلفاء العباسيين وأكملهم رأياً وتدبيراً وفطنة وقوة واتساع مملكة وكثرة خزائن بحيث كان يقول للسحابة: أمطري حيث شئت فإن خراج الأرض التي تمطرين فيها يجيء إلي. ومع ذلك كان أتعبهم خاطراً وأشتهم فكراً وأشغلهم قلباً (الأعلام لقطب الدين النهروالي) 99 ولله من قال:
أرى الدنيا لمن هي في يديه ... عذاباً كلما كثرت لديه
إذا استغنيت عني شيء فدعه ... وخذ ما كنت محتاجاً إليه
قال آخر:(3/106)
أفادتني القناعة كل عز ... وهل عز أعز من القناعة
فاجعلها لنفسك رأس مال ... واشتر بعدها التقوى بضاعة
قال أبو العتاهية:
غنى النفس ما يكفيك من سد فاقة ... فإن زاد شيئاً عاد ذاك الغنى فقرا
قال غيره:
يا أحمد اقنع بالذي أوتيته ... إن كنت لا ترضى لنفسك ذلها
واعلم بأن الله جل جلاله ... لم يخلق الدنيا لأجلك كلها
العدل
100 يحكى عن إسماعيل الساماني في كتاب سير الملوك أنه كان إذا احتل مدينة يجلس للناس وكان يرفع الحجاب. ويبعد الحجاب. ويريح الأبواب. ليجيء كل من له ظلامة ويقف على جانب البساط ويخاطبه ويعود مقضي الحاجة. وكان يقضي بين الخصوم مثل الحكام إلى أن يفنى الدعاوي. ثم يقوم من موضعه ويقبض على محاسنه بيده. ويوجه وجهه نحو السماء ويقول: إلهي هذا جهدي وطاقتي قد بذلته وأنت عالم الأسرار وتعلم علانيتي. ولا أعلم على أي عبد من عبيدي أجنفت أو لأي عبد ظلمت وما أنصفت. أنا واحد من أصحابي. فاغفر لي من ذلك ما لا أعلم. فلما كان تقي النية جميل الطوية لا جرم علا أمره وارتفع قدره. وكان عسكره(3/107)
ألف فارس معتدين بالسلاح مقنعين بالحديد وببركة ذلك العدل والإنصاف ظفره الله بأعدائه (للغزالي) قال شاعر:
العدل روح به تحيا البلاد كما ... دمارها أبداً بالجور ينحتم
الجور شين به التعسير ممتنع ... والعدل زين به التمهيد ينتظم
101 لما ظلم أحمد بن طولون قبل أن يعدل. استغاثت الناس من ظلمه وتوجهوا إلى السيدة نفيسة واشتكوه إليها. فقالت لهم: متى يركب. فقالوا: في غد فكتبت رقعة ووقفت في طريقه. وقالت: يا أحمد بن طولون. فلما رآها عرفها وترجل عن فرسه وأخذها منها وقرأها. فإذا فيها مكتوب ملكتم فأسرتم. وقدرتم فقهرتم. وخولتم فعسفتم. ودرت عليكم الأرزاق فقطعتم. هذا وقد علمتم أن سهام الأسحار نافذة لاسيما في قلوب أجعتموها. وأجساد أعريتموها. اعملوا ما شئتم فإنا صابرون. وجوروا فإنا بالله مستجيرون. واظلموا فإنا منكم متظلمون. وسيعلم الذين ظلموا أي منقلب ينقلبون. فعدل من وقته وساعته (لبهاء الدين) 102 أخبر الثعالبي قال: استشهد محمد بن الفرات أيام وزارته علي بن عيسى صاحبه بغير حق فلم يشهد له. فلما عاد إلى بيته كتب إليه: لا تلمني على نكوصي عن نصرتك شهادة زور. فإنه لا إنفاق على نفاق. ولا وفاء لذي مين واختلاق. وأحر بمن تعد الحق في(3/108)
مسرتك إذا رضي أن يتعدى الباطل في مساءتك إذا غضب. وكأن المتنبي أشار إلى هذا المعنى بقوله:
لقد أباحك غشاً في معاملة ... من كنت منه بغير الصدق تنتفع
الكرم
103 كان خالد بن عبد الله القسري يقول تنافسوا في المغانم وسارعوا إلى المكارم. واكتسبوا بالجود حمداً ولا تكتسبوا بالمال ذماً. ولا تعدوا بمعروف ولم تعجلوه. واعلموا أن حوائج الناس نعمة من الله عليكم فلا تملوها فتعود نقماً. وقال الشاعر:
مات الكرام وولوا وانقضوا ومضوا ... ومات في إثرهم تلك الكرامات
وخلفوني في قوم ذوي سفه ... لو عاينوا طيف ضيف في الكرى ماتوا
104 قال آخر:
إني وإن لم ينل مالي مدى خلقي ... فياض ما ملكت كفاي من مال
لا أحبس المال إلا ريث أتلفه ... ولا تغيرني حال إلى حال
وقال سوادة اليربوعي
ألا بكرت مي علي تلومني ... تقول ألا أهلكت من أنت عائله
ذريني فإن البخل لا يخلد الفتى ... ولا يهلك المعروف من هو فاعله
قال آخر:
يفني البخيل بجمع المال مدته ... وللحوادث والأيام ما يدع
كدودة القز ما تبنيه يهديها ... وغيرها بالذي تبنيه ينتفع(3/109)
قال غيره في المعنى:
ألم ترى أن المرء طول حياته ... معنى بأمر لا يزال يعالجه
كذلك دود القز ينسج دائماً ... ويهلك غماً بالذي هو ناسجه
الوفاء
105 يعجبني قول بعضهم: أما بعد فإن شجر وعدك قد أورقت فليكن ثمرها سالماً من جوائح المطل والسلام (للحموي) قال أبو تمام:
إذا قلت في شيء نعم فأتمه ... فإن نعم دين على الحر واجب
وإلا فقل لا تسترح وترح بها ... لئلا يقول الناس إنك كاذب
وقال آخر:
ولقد وعدت وأنت أكرم واعد ... لا خير في وعد بغير تمام
أنعم علي بما وعدت تكرما ... فالمطل يذهب بهجة الإنعام
وقال غيره:
لئن جمع الآفات فالبخل شرها ... وشر من البخل المواعيد والمطل
ولا خير في وعد إذا كان كاذباً ... ولا خير في قول إذا لم يكن فعل
الرأي والمشورة
106 قيل: من بدأ بالاستخارة وثنى بالاستشارة فحقيق أن لا يخيب رأيه. وقيل: الرأي السديد أحمى من البطل الشديد. وقيل: من بذل(3/110)
نصحه واجتهاده لمن لا يشكر فهو كمن بذر في السباخ. قال الشاعر يمدح من له رأي وبصيرة:
بصير بأعقاب الأمور كأنما ... يخاطبه من كل أمر عواقبه
وقال بعضهم: خمير الرأي خير من فطيره. وتقديمه خير من تأخيره (للابشيهي) وما يعرف أحسن من قول ابن الرومي في ذلك:
نار الروية نار جد منضجة ... وللبديهة نار ذات تلويح
وقد يفضلها قوم لعاجلها ... لكنه عاجل يمضي مع الريح
قال أبو الطيب المتنبي:
الرأي قبل شجاعة الشجعان ... هو أول وهي المحل الثاني
فإذا هما اجتمعا لنفس حرة ... بلغت من العلياء كل مكان
ولربما طعن الفتى أقرانه ... بالرأي قبل تطاعن الأقران
لولا العقول لكان أدنى ضيغم ... أدنى إلى شرف من الإنسان
107 قال بعضهم: وشاور الناس في الأمر إذ أن الإنسان لا يستغني عن مشورة نصيح له. كما أن القوادم من ريش الجناح تستعين بالخوافي منه. قال بشار:
إذا بلغ الرأي المشورة فاستعن ... بحزم نصيح أو نصاحة حازم
ولا تجعل الشورى عليك غضاضة ... فريش الخوافي تابع للقوادم
وما خير كف أمسك الغل أختها ... وما خير سيف لم يؤيد بقائم(3/111)
قال الأصمعي: قلت لبشار: رأيت رجال الرأي يتعجبون من أبياتك في المشورة. فقال: أو ما علمت أن المشاور بين إحدى الحسنيين. صواب يفوز بثمرته. أو خطاء يشارك في مكروهه. فقلت له: أنت في هذا الكلام أشعر منك في شعرك. وقال الجاحظ: المشورة لقاح العقول ورائد الصواب والمستشير على طرف النجاح. واستشارة المرء برأي أخيه من عزم الأمور وحزم التدبير. وقال عبد الملك بن مروان: لأن أخطئ وقد استشرت أحب إلي من أن أصيب وقد استبددت برأيي من غير مشورة (لأبي نصر المقدسي) ولقد أحسن من قال:
لا تحقرن الرأي وهو موافق ... حكم الصواب إذا أتى من ناقص
فالدر وهو أجل شيء يقتنى ... ما حط قيمته هوان الغائص
قال الأرجاني وأجاد:
شاور سواك إذا نابتك نائبة ... يوماً وإن كنت من أهل المشورات
فالعين تنظر منها ما دنا ونأى ... ولا ترى نفسها إلا بمرآة
وقال أيضاً:
خصائص من تشاوره ثلاث ... فخذ منها جميعاً بالوثيقة
وداد خالص ووفور عقل=ومعرفة بحالك والحقيقة فمن حصلت له هذي المعاني=فتابع رأيه والزم طريقه(3/112)
ولأبي الأسود الدؤلي:
فما كل ذي نصح بمؤتيك نصحه ... ولا كل مؤت نصحه بلبيب
ولكن إذا ما استجمعا عند واحد ... فحق له من طاعة بنصيب
الحسد
108 قال أحد الحكماء: ما أمحق للإيمان ولا أهتك للستر من الحسد. وذلك أن الحاسد مفنذ لحكم الله. باغ على عباده. عات على ربه. يعتد نعم الله نقماً ومزيده غبراً. وعدل قضائه حيفاً للناس حال وله حال. ليس يهدأ باله. ولا ينام جشعه. ولا ينفعه عيشه. محتقر لنعم الله عليه. متسخط ما جرت به أقداره. ولا يبرد غليله. ولا تؤمن غوائله. إن سالمته وترك. وإن واصلته قطعك. وإن صرمته سبقك. ذكر حاسد عند بعض الحكماء فقال: يا عجباً لرجل أسلكه الشيطان مهاوي الضلالة. وأورده قحم الهلكة. فصار لنعم الله تعالى المرصاد إن أنالها من أحب من عباده. أشعر قلبه الأسف على ما لم يقدر له. وأغاره الكلف بما لم يكن ليناله. قال سليمان التميمي: الحسد يضعف اليقين ويسهر العين ويكثر الهم. ولأبي العتاهية:
أيا رب إن الناس لا ينصفوني ... وكيف ولو أنصفتهم ظلموني
وإن كان لي شيء تصدوا لأخذه ... وإن جئت منهم منعوني
وإن نالهم بذلي فلا شكر عندهم ... وإن أنا لم أبذل لهم شتموني(3/113)
وإن طرقتني نقمة فرحوا بها ... وإن صحبتني نعمة حسدوني
سأمنع قلبي أن يحن إليهم ... وأحجب عنهم ناظري وجفوني
كتب ابن بشر المروزي إلى ابن المبارك هذه الأبيات:
كل العداوة قد ترجى إماتتها ... إلا عداوة من عاداك من حسد
فإن في القلب منها عقدة عقدت ... وليس يفتحها راق إلى الأبد
قال بعضهم:
يا طالب العيش في أمن وفي دعة ... رغداً بلا قتر صواً بلا رتق
خلص فؤادك من غل ومن حسد ... فالغل في القلب مثل الغل في العنق (لابن عبد ربه)
وقال آخر:
إياك والحسد الذي هو آفة ... فتوقه وتوق غرة من حسد
إن الحسود إذا أراك مودة ... بالقول فهو لك العدو المجتهد
ولبعض الأدباء ينصح الحسود:
لا يحزننك فقر إن عراك ولا ... تتبع أخا لك في مال له حسدا
فإنه في رخاء معيشته ... وأنت تلقى بذاك الهم والنكدا
حفظ اللسان
109 اعلم أنه ينبغي للعاقل المكلف أن يحفظ لسانه عن جميع الكلام إلا كلاماً تظهر المصلحة فيه. ومتى استوى الكلام وتركه في المصلحة فالسنة الإمساك عنه. لأنه قد يجر الكلام المباح إلى(3/114)
حرام أو مكروه. بل هذا كثير وغالب في العادة. والسلامة لا يعادلها شيء. قال وهيب بن الورد: بلغنا أن الحكمة عشرة أجزاء تسعة منها في الصمت والعاشرة في عزلة الناس. ومن كلام الحكماء: من نطق من غير خير فقد لغا. ومن نظر في غير اعتبار فقد سها. ومن سكت في غير فكر فقد لها. وقيل: لو قرأت صحيفتك. لأغمدت صفيحتك. ولو رأيت ما في ميزانك. لختمت عن لسانك. وقيل: الكلمة أسيرة في وثاق الرجل. فإذا تكلم بها صار في وثاقها. يقول اللسان كل صباح وكل مساء للجوارح: كيف أنتن. فيقلن بخير إن تركتنا (للابشيهي) قال علي بن أبي طالب:
إن القليل من الكلام بأهله ... حسن وإن كثيره ممقوت
ما زل ذو صمت وما من مكثر ... إلا يزل وما يعاب صموت
إن كان ينطق ناطق من فضله ... فالصمت در زانه ياقوت
110 قال بعض الحكماء: إذا قلت فأوجز. فإذا بلغت حاجتك فلا تتكلف. وقال أيضاً: أنت سالم ما سكت. فإذا تكلمت فلك أو عليك. وقال عمرو بن العاص: الكلام كالدواء إن أقللت منه نفع. وإن أكثرت منه صدع. وقال لقمان لابنه: يا بني إن من الكلام ما هو أشد من الحجر. وأنفذ من وخز الإبر. وأمر من الصبر. وأحر من الجمر. وإن القلوب مزارع فازرع فيها طيب(3/115)
الكلام. فإن لم ينبت فيها كله نبت بعضه. وقال علي: ما حبس الله جارحة في حصن أوثق من اللسان. الأسنان أماه والشفتان من وراء ذلك. واللهاة مطبقة عليه والقلب من وراء ذلك. فاتق الله ولا تطلق هذا المحبوس من حبسه إلا إذا أمنت شره. وقال بعض الأدباء: احبس لسانك قبل أن يطيل حبسك (للشبراوي) قال الشاعر:
واحفظ لسانك واحترز من لفظه ... فالمرء يسلم باللسان ويعطب
وزن الكلام إذا نطقت ولا تكن ... ثرثارة في كل ناد تخطب
قال أبو بكر بن سعدون:
سجن اللسان هو السلامة للفتى ... من كل نازلة لها استئصال
إن اللسان إذا حللت عقاله ... ألقاك في شنعاء ليس تقال
قال أبو عثمان بن لئون التجيبي:
نزه لسانك عن قول تعاب به ... وارغب بسمعك عن قيل وعن قال
لا تبغ غير الذي يعنيك واطرح الفضول ... تحي قرير العين والبال
كتمان السر
111 قال حكيم: كما أنه لا خير في آنية لا تمسك ما فيها. كذلك لا خير في صدر لا يكتم سره. قال آخر: من كتم سره سره. وأمن الناس شره. ومن حكم لسانه شانه. وافسد شانه. وقال بعضهم: من زعم أنه يجد راحة في إفشاء سره إلى غيره فقد اتهم عقله.(3/116)
لأن مشقة الاستبداد بالسر أقل من مشقة إفشائه بسبب المشاركة (للشبراوي) قال القاضي الأسعد أبو المكارم المصري الكاتب:
واكتم السر حتى عن إعادته ... إلى المسر به من غير نسيان
وذاك أن لساني ليس يعلمه ... سمعي بسر الذي قد كان ناجاني
112 (في التاج) : إن بعض ملوك العجم استشار وزيريه. فقال أحدهما: لا ينبغي للملك أن يستشير منا أحداً إلا خالياً. فإنه أموت للسر وأحزم للرأي وأجدر بالسلامة وأعفى لبعضنا من غائلة بعض. فإن إفشاء السر لرجل واحد أوثق من إفشاءه إلى اثنين. وإفشاءه إلى ثلاثة كإفشائه إلى جماعة. فإذا كان السر عند واحد كان أحرى أن لا يظهر رغبة ورهبة. وإن كان عند اثنين دخلت على الملك الشبهة واتسعت على الرجلين المعاريض فإن عاقبهما عاقب اثنين بذنب واحد. وإن اتهمها اتهم بريئاً بخيانة مجرم. وإن عفا عنهما كان العفو عن أحدهما ولا ذنب له وعن الآخر ولا حجة معه
الغيبة
113 عاب رجل رجلاً عند بعض الأشراف فقال له: فد استدللت على كثرة عيوبك بما تكثر من عيوب الناس. لأن طالب العيوب إنما يطلبها بقدر ما فيه منها. أما سمعت قول الشاعر:
لا تهتكن من مساوي الناس ما ستروا ... فيهتك الله ستراً من مساويكا(3/117)
واذكر محاسن ما فيهم إذا ذكروا ... ولا تعب أحداً منهم بما فيكا
(لابن عبد ربه) قال ابن الحاج الدلفقي:
إن الكريم الذي تبقى مودته ... ويحفظ السر إن صافى وإن صرما
ليس الكريم الذي إن غاب صاحبه ... بث الذي كان من أسراره علما
وقال أيضاً:
إذا ما كتمت السر عمن أوده ... توهم أن الود غير حقيق
ولم أخف عنه السر من ضنة به ... ولكنني أخشى صديق صديقي
قال بعض الحكماء: لا تطع كل حلاف مهين هماز غياب مشاء بنميم. وحسبك بالنمام خسة ورذيلة سقوطه وضعته (والهماز المغتاب الذي يأكل لحوم الناس الطاعن فيهم) . قال حكيم: ألا أخبركم بشراركم. قالوا: بلى. قال: شراركم المشاؤن بالنميمات المفسدون بين الأحبة بالعون العيوب. وقيل ملعون ذو الوجهين. ملعون ذو اللسانين. ملعون كل شغاز. ملعون كل قتات. ملعون كل نمام. ملعون كل منان (والشغاز المحرش بين الناس يلقي بينهم العداوة. والقتات النمام. والمنان الذي يعمل الخير ويمن به) . قال آخر: احذروا أعداء العقول ولصوص المودات. وهم السعاة والنمامون. وإذا سرق اللصوص المتاع سرقوا هم المودات. وفي المثل السائر: من أطاع الواشي ضيع الصديق وقد تقطع الشجرة فتنبت(3/118)
ويقطع اللحم السيف فيندمل. واللسان لا يندمل جرحه. قال صالح ابن عبد القدوس:
قل للذي لست أدري من تلونه ... أناصح أم على غش يناجيني
إني لأكثر مما سمتني عجباً ... يد تشج وأخرى منك تأسوني
تغتابني عند أقوام وتمدحني ... في آخرين وكل عنك يأتيني
هذان شيئان قد نافيت بينهما ... فاكفف لسانك عن شتمي وتزييني
114 وقال المأمون: النميمة لا تقرب مودة إلا أفسدتها. ولا عداوة إلا جددتها ولا جماعة إلا بددتها. ثم لا بد لمن عرف بها ونسب إليها أن يجتنب ويخاف من معرفته ولا يوثق بمكانه. وأنشد بعضهم:
من نم في الناس لم تؤمن عقاربه ... على الصديق ولم تؤمن أفاعيه
كالسيل بالليل لا يدري به أحد ... من أين جاء ولا من أين يأتيه
الويل للعهد منه كيف ينقضه ... والويل للود منه كيف يفنيه
(للابشيهي)
الصدق والكذب
115 قال علي بن عبيدة: الكذب شعار الخيانة وتحريف العلم وخواطر الزور وتسوبل أضغاث النفس واعوجاج التركيب واحتلاف البنية. وعن خمول الذكر ما يكون صاحبه قال أعرابي لابنه وسمعه يكذب: يا بني عجبت من الكذاب المشيد بكذبه وإنما يدل على عيبه ويتعرض للعقاب من ربه. فالآثام له عادة. والأخبار عنه(3/119)
متضادة. إن قال لم يصدق. وإن أراد خيراً لم يوفق. فهو الجاني على نفسه بفعاله. والدال على فضيحته بمقاله. فما صح من صدقه نسب إلى غيه وما صح من كذب غيره نسب إليه (لابن عبد ربه) قال بعضهم:
إياك من كذب الكذوب وإفكه ... فلربما مزج اليقين بشكه
ولربما ضحك الكذوب تفكها ... وبكى من الشيء الذي لم يبكه
ولربما صمت الكذوب تخلقا ... وشكا من الشيء الذي لم يشكه
ولربما كذب امرؤ بكلامه ... وبصمته وبكائه وبضحكه
المزاح
116 قال الحجاج بن يوسف لابن القربة: ما زالت الحماء تكره المزاح وتنهى عنه. فقال: المزاح من أدنى منزلته إلى أقصاها عشرة أبواب. المزاح أوله فرح وآخره ترح. المزاح نقائض السفهاء كالشعر نقائض الشعراء. والمزاح يوغر صدر الصديق. وينفر الرفيق. والمزاح يبدي السرائر. لأنه يظهر المعاير. والمزاح يسقط المروءة. ويبدي الخنى. لم يجر المزاح خيراً. وكثيرا ما جر شراً. الغالب بالمزاح واتر. والمغلوب به ثائر. والمزاح يجلب الشتم صغيره. والحرب كبيره. وليس بعد الحرب إلا عفو بعد قدرة. فقال الحجاج: حسبك الموت خير من عفو معه قدرة. وذكر المزاح بحضرة خالد بن صفوان فقال: ينشق أحدكم أخاه مثل الخردل. ويفرغ عليه مثل(3/120)
المرجل. ويرميه مثل الجندل. ثم يقول: إنما كنت أمزح. أخذ هذا المعنى محمود بن الحسن الوراق فقال:
تلقى الفتى يلقى أخاه وخدنه ... في لحن منطقه بما لا يغفر
ويقول كنت مازحاً وملاعباً ... هيهات نارك في الحشى تتسعر
أو ما علمت وكان جهلك غالباً ... أن المزاح هو السباب الأصغر
(للقيرواني)
الصداقة وخلوص المودة
117 (قيل في المبهج) : الصديق الصدوق ثاني النفس وثالث العينين. (ومنه) الصديق الصدوق. كالشقيق الشفوق. (ومنه) الصديق عمدة الصديق وعدته. ونصرته وعقدته. وربيعه وزهرته. ومشتريه وزهرته. ومنه لقاء الخليل شفاء الغليل. وليس للصديق إذا حضر عديل. ولا عنه إذا غاب بديل. ومثل الصديقين كاليد تستعين باليد والعين بالعين. (ومنه) لقاء الصديق روح الحياة. وفراقه سم الممات. (ومنه) لا تساغ مرارة الأوقات. إلا بحلاوة الإخوان الثقات. فاستروح من غمة الزمان بمؤانسة الخلان. (ومنه) الحاجة إلى الأخ المعين. كالحاجة إلى الماء المعين. ولبعضهم في معنى هذا الباب:
ما ضاع من كان له صاحب ... يقدر أن يصلح من شانه
فإنما الدنيا بسكانها ... وإنما المرء بإخوانه(3/121)
118 قال أبو تمام:
ذو الود مني وذو القربى بمنزلة ... وإخوتي أسوة عندي وإخواني
عصابة جاورت آدابهم أدبي ... فهم وإن فرقوا في الأرض جيراني
أرواحنا في مكان واحد وغدت ... أبداننا بشآم أو خراسان
قال غيره:
إن الصداقة أولاها السلام ومن ... بعد السلام طعام ثم ترحيب
وبعد ذاك كلام في ملاطفة ... وضحك ثغر وإحسان وتقريب
وأصل ذلك إن تبغى شمائلها ... بين الأحبة تأييد وتأديب
لم تنس غيباً ولم تملل إذا حضروا ... قد زان ذلك تهذيب وترتيب
إن الكرام إذا ما صادقوا صدقوا ... لم يثنهم عنه ترغيب وترهيب
قال أبو إسحق ظهير الدين الموصلي:
لا تنسبوني يا ثقاتي إلى ... غدر فليس الغدر من شيمي
أقسمت بالذهاب من عيشنا ... وبالمسرات التي ولت
إني على عهدهم لم أحل ... وعقدة الميثاق ما حلت
119 ذكر صاحب كتاب الأغاني في أخبار علوية المجنون أنه دخل يوماً على المأمون وهو يرقص ويصفق بيديه ويغني بهذين البيتين:
عذيري من الإنسان لا إن جفوته ... صفا لي ولا إن صرت طوع يديه
وإني لمشتاق إلى ظل صاحب ... يروق ويصفو إن كدرت عليه
فسمع المأمون وجميع من حضر المجلس من المغنين وغيرهم ما لم يعرفوا(3/122)
واستظرفه المأمون. وقال: ادن يا علوية ورددها. فرددها عليه سبع مرات. فقال المأمون: يا علوية خذ الخلافة وأعطني هذا الصاحب (لبهاء الدين) 120 قال بشار بن برد:
خير إخوانك المشارك في المر وأين الشريك في المر أينا
الذي إن شهدت سرك في الحي وإن غبت كان سمعا وعينا
أنت في معشر إذا غبت عنهم ... بدلوا كل ما يزينك شينا
وإذا ما رأوك قالوا جميعاً ... أن من أكرم البرايا علينا
ما أرى للأنام وداً صحيحاً ... صار كل الوداد زوراً ومينا
قال بشار أيضاً:
إذا كنت في كل الأمور معاتباً ... صديقك لم تلق الذي لا تعاتبه
وإن أنت لم تشرب مراراً على القذى ... ظمئت وأي الناس تصفو مشاربه
فعش واحداً أو صل أخاك فإنه ... مقارف ذنب مرة ومجانبه
121 كان لمحمد بن حازم الباهلي صديق على طول الأيام. فنال مرتبة من السلطان وعلا قدره فجفا محمداً وتغير له. فقال في ذلك محمد بن حازم:
وصل الملوك إلى التعالي ... ووفا الملوك من المحال
ما لي رأيتك لا تدو ... م على المودة للرجال
إن كان ذا أدب وظر ... ف قلت ذاك أخو ضلال(3/123)
أو كان ذا نسك ودين ... قلت ذاك من الثقال
أو كان في وسط من الأمرين قلت يريع مالي
فبمثل ذا ثكلتك أمك تبتغي رتب المعالي
122 قال العنزي وأنشدني بعض أصحابنا لحماد:
كم من أخ لك لست تنكره ... ما دمت من دنياك في يسر
متصنع لك في مودته ... يلقاك بالترحيب والبشر
يطري الوفاء وذا الوفاء ويلحي الغدر مجتهداً وذا الغدر
فإذا عدا والدهر ذو غير ... دهر عليك عدا مع الدهر
فارفض بإجمال مودة من ... يقلي المقل ويعشق المثري
وعليك من حالاه واحدة ... في العسر إما كنت واليسر
لا تخلطنهم بغيرهم ... من يخلط العقيان بالصقر
قال القاضي عبد الجواد المنوفي:
أتزعم أنك الخدن المفدى ... وأنت مصادق أعداي حقا
إلي إلي فاجعلني صديقا ... وصادق من أصادقه محقا
وجانب من أعاديه إذا ما ... أردت تكون لي خدناً وتبقى
قال أوس بن حجر:
وليس أخوك الدائم العهد بالذي ... يذمك إن ولى ويرضيك مقبلا
ولكن أخوك النائي ما دمت آمناً ... وصاحب الأدنى إذا الأمر أعضلا
123 قال العتابي: ألإخوان ثلاثة أصناف. فرع بائن من أصله(3/124)
وأصل متصل بفرعه. وفرع ليس له أصل. فأما الفرع البائن من أصله فإخاء بني على مودة ثم انقطعت على زمام الصحبة. وأما الأصل المتصل بفرعه فإخاء أصله الكرم وأعصابه التقوى. وأما الفرع الذي لا أصل له فالمموه الظاهر الذي ليس له باطن (لابن عبد ربه) 124 قال البكري:
وخليل لم أخنه ساعة ... في دمي كفيه ظلماً قد غمس
كان في سري وجهري ثقتي ... لست عنه في مهم أحترس
ستر البغض بألفاظ الهوى ... وادعى الود بغش ودلس
إن رآني قال لي خيراً وإن ... غبت عنه قال شراً ودحس
ثم لما أمكته فرصة ... حمل السيف على مجرى النفس
وأراد الروح لكن خانه ... قدر أيقظ من كان نعس
وقال ابن أبي حازم:
وصاحب كان لي وكنت له ... أشفق من والد على ولد
كنا كساق تسعى بها قدم ... أو كذراع نيطت إلى عضد
حتى إذا دبت الحوادث في ... عظمي وحل الزمان من عقدي
إحول عني وكان ينظر من ... طرفي ويرمي بساعدي ويدي
125 قال بعض الحكماء: الإخاء جوهرة رقيقة. وهي ما لم ترقها وتحرسها معرضة للآفات فرض الأبي بالجداء له حتى تصل إلى قربه. وبالكظم حتى يعتذر إليك من ظلمك. والرضا حتى لا(3/125)
تستكثر من نفسك بالفضل ولا من أخيك بالتقصير. (ولمحمود الوراق) :
لا بر أعظم من مساعدة ... فاشكر أخاك على مساعدته
وإذا هفا فأقله هفوته ... حتى يعود إليك كعادته
فالصفح عن زلل الصديق وإن ... أعياك خير من معاندته
126 قال ابن طاهر في حسن العشرة:
أواصل من هويت على خلال ... أذود بهن ليآت المقال
وأحفظ سره والغيب منه ... وأرعى عهده في كل حال
وفاء لا يحول به انتكاث ... وود لا تخونه الليالي
وأوثره على عسر ويسر ... وينفذ حكمه في سر مالي
وأغفر نبوة الإدلال منه ... إذا ما لم يكن غير الدلال
وما أنا بالملول ولا بجاف ... ولا الغدر المذمم من فعالي
قال بعضهم يصف خداع الناس ونفاقهم:
وإخوان تخذتهم دروعاً ... فكانوها ولكن للأعادي
وخلتهم سهاماً صائبات ... فكانوها ولكن في فؤادي
وقالوا قد صفت منا قلوب ... لقد صدقوا ولكن عن ودادي
وقالوا قد سعينا كل سعي ... لقد صدقوا ولكن في فساد
127 وأنشد علي بن أبي طالب:
فلا تصحب أخا السوء ... وإياك وإياه(3/126)
فكم من جاهل أودى ... حليماً حين آخاه
يقاس المرء بالمرء ... إذا ما المرء ما شاه
وفي الناس من الناس ... مقاييس وأشباه
وفي العين على العين ... إذا تنطق أفواه
وللقلب على القلب ... دليل حين يلقاه
كتب المعتصم صاحب المرية إلى ابن عمار:
وزهدني في الناس معرفتي بهم ... وطول اختباري صاحباً بعد صاحب
فلم ترني الأيام خلا تسرني ... مباديه إلا ساءني في العواقب
ولا كنت أرجوه لدفع ملمة ... من الدهر إلا كان إحدى المصائب
المطل في الوعد
128 قال عبد الرحمن ابن أم الحكم لعبد الملك بن مروان في مواعد وعدها إياه فمطله بها: نحن إلى الفعل أحوج منا إلى القول. وأنت بالإنجاز أولى منك من المطل. واعلم أنك لا تستحق الشكر إلا بإنجازك الوعد واستتمامك المعروف. قال أبو مسلم الخولاني: إن أوقع المعروف في القلوب وأبرده على الأكباد معروف منتظر بوعد لا يكدره المطل. كتب العتابي إلى بعض أهل السلطان: أما بعد فإن سحاب وعدك قد أبرقت فليكن وبلها سالماً من علل المطل. والسلام (لابن عبد ربه)(3/127)
في التواضع والكبر
129 اعلم أن الكبر والإعجاب يسلبان الفضائل. ويكسبان الرذائل. وحسبك من رذيلة تمنع من سماع النصح وقبول التأديب. وتسلب الرئاسة والسيادة. والكبر يكسب المقت ويمنع من التآلف. ولم تزل الحكماء تتحامى الكبر وتأنف منه. ونظر أفلاطون إلى رجل جاهل معجب بنفسه فقال: وددت أني مثلك في ظنك وأن أعدائي مثلك في الحقيقة. ورأى رجل رجلاً يختال في مشيه فقال: جعلني الله مثلك في نفسك ولا جعلني مثلك في نفسي (للابشيهي) قال بعضهم:
قل للذي تاه في دنياه مفتخراً ... ضاع افتخارك بين الماء والطين
إذا تفقدت في الأجداث معتبراً ... هناك تنظر تيجان السلاطين
وأحسن من هذا القول قول القائل:
يا صاح لا تك بالعلياء مفتخراً ... إن كنت لم تول نفعاً قط بل ضررا
إني أرى شجر الصفصاف مرتفعاً ... إلى العلو ولكن لا أرى ثمرا
قال آخر:
اتضع للناس إن رمت العلا ... واكظم الغيظ ولا تبدي الضجر
واجعل المعروف ذخراً إنه ... للفتى أفضل شيء يدخر
احمل الناس على أخلاقهم ... فبه تملك أعناق البشر(3/128)
الباب الثامن في الذكاء والأدب
في العقل وماهيته
130 قال سهل التستري: العقل أن تستغني به عن كل شيء دونه جل جلاله. أما ذاته فقال بعضهم: العقل ذاته جوهر مضيء ونور مجرد وليس بعرض. خلقه الله وجعل نوره في القلب يدرك به المعقولات بالوسائط والمحسوسات بالمشاهدة. وهو منال إلى الدنيا والآخرة وإلى العلوم الشرعية والعقلية. آلة للمؤمن يعمل به. والعقل ذاته شيء واحد وله وجهان. أحدهما العقل المشترك بين المؤمن والكافر ويعبر عنه بعقل المعاش. والوجه الثاني العقل الخاص بالمؤمن وهو المعبر عنه بعقل الهداية. فمن رزقه الله الهداية فهو المؤمن العاقل (الكنز المدفون) ما أحسن ما قال بعضهم:
إني لآمن من عدو عاقل ... وأخاف خلاً يعتريه جنون
والعقل فن واحد وطريقه ... أدرى وأرصد والجنون فنون
في شرف العقل
131 العقل أحسن حلية. والعلم أفضل قنية. لا سيف كالحق. ولا عدل كالصدق. الجهل مطية سوء من ركبها ذل. ومن صحبها(3/129)
ضل. من الجهل صحبة الجهال. ومن الذل عشرة ذوي الضلال. خير المواهب العقل. وشر المصائب الجهل. من صاحب العلماء وقر. ومن عاشر السفهاء حقر. من لم يتعلم في صغره. لم يتقدم في كبره. وقيل: أصل العلم الرغبة وثمرته العبادة. وأصل الزهد الرهبة وثمرته السعادة. وأصل المروءة الحياة وثمرتها العفة. العقل أقوى أساس. والتقوى أفضل لباس. الجاهل يطلب المال. والعاقل يطلب الكمال. لم يدرك العلم من لا يطيل درسه. ولا يكد نفسه. كم من ذليل أعزه عقله. وعزيز أذله جهله (للشبراوي) 132 حكى الكسائي أنه دخل على الرشيد يوماً فأمر بإحضار الأمين والمأمون لديه. وقال: فلم يلبث قليلاً أن أقبلا ككوكبي أفق يزينهما هداهما ووقارهما. وقد غضا أبصارهما وقاربا خطوهما حتى وقفا في مجلسه. فسلما عليه بالخلافة ودعوا له بأحسن الدعاء. فاستدناهما وأسند محمداً عن يمينه وعبد الله عن يساره. ثم أمرني أن ألقي عليهما أبواباً من النحو. فما سألتهما شيئاً إلا أحسنا الجواب عنه. فسره ذلك سروراً عظيماً وقال: كيف تراهما. فقلت:
أرى قمري أفق وفرعي بشامة ... يزينهما عرق كريم ومحتد
سليلي أمير المؤمنين وحائزي ... مواريث ما أبقى النبيه المؤيد
يسدان أنفاق النفاق بشيمة ... يزينهما حزم وغضب مهند
ثم قلت: ما رأيت أعز الله أمير المؤمنين أحداً من أبناء الخلافة(3/130)
وأغصان هذه الشجرة الزلالية آدب منهما السنا. ولا أحسن ألفاظاً. ولا اشد اقتداراً منهما على تأدية ما حفظا ورويا. أسأل الله تعالى أن يزيد بهما الحق تأييداً وعزا. ويدخل بهما إلى أهل الضلال ذلا وقمعا. فأمن الرشيد على دعائي. ثم ضمهما إليه وجمع عليهما يديه. فلم يبسطهما حتى رأيت الدموع تتحدر على صدره. ثم أمرهما بالخروج (كتاب الدراري للحلبي) قال علي بن أبي طالب:
الناس من جهة التمثال أكفاء ... أبوهم آدم والأم حواء
فإن يكن لهم في أصلهم شرف ... يفاخرون به فالطين والماء
ما الفخر إلا لأهل العلم إنهم ... على الهدى لمن استهدى أدلاء
وقدر كل امرئ ما كان يحسنه ... والجاهلون لأهل العلم أعداء
وإن أتيت بجود في ذوي نسب ... فإن نسبتنا جود وعلياء
ففز بعلم تعش حياً به أبداً ... الناس موتى وأهل العلم أحياء
133 اعلم أن العلم شرف للإنسان. وفخر له في جميع الأزمان. وهو العز الذي لا يبلى جديده. والكنز الذي لا يفنى مزيده. وقدره عظيم. وفضله جسيم. ولقد أحسن من قال:
ما أحسن العقل والمحمود من عقلا ... وأقبح الجهل والمذموم من جهلا
فليس يصلح نطق المرء في جدل ... والجهل يفسده يوماً إذا سئلا
134 ثم اعلم أن الدنيا ربما أقبلت على الجاهل بالاتفاق. وأدبرت(3/131)
عن العالم بالاستحقاق. فإن أتاك منها ملمة مع جهل. أو فاتك منها بغية مع عقل. فلا يحملنك ذلك على الرغبة في الجهل. فدولة الجاهل من الممكنات. ودولة العاقل من الواجبات. وليس من أمكنه شيء في ذاته. كمن استوجبه بآدابه وآلاته. وأيضاً فدولة الجاهل كالغريب الذي يحن إلى النقلة. ودولة العاقل كالنسيب المتمكن الوصلة.
لا تيأسن إذا ما كنت ذا أدب ... على خمولك أن ترقى إلى الفلك
فبينما الذهب الإبريز مختلط ... بالترب إذ صار إكليلاً على الملك
135 وقال حكيم: ينبغي للمرء أن لا يفرح بمرتبة ترقاها بغير عقل. ولا بمنزلة رفيعة حلها بغير فضل. فلا بد أن يزيله الجهل عنها. ويسله منها. فينحط إلى رتبته. ويرجع إلى قيمته. بعد أن تظهر عيوبه. وتكثر ذنوبه. ويصير مادحه هاجياً. وصديقه معادياً
لا تقعدن عن اكتساب فضيلة ... أبداً وإن أدت إلى الإعدام
جهل الفتى عار عليه لذاته ... وخموله عار على الأيام
(للشبراوي) 136 سئل الأحنف بن قيس عن العقل فقال: رأس الأشياء فيه قوامها وبه تمامها لأنه سراج ما بطن. وملاك ما علن. وسائس الحد. وزينة كل أحد. لا تستقيم الحياة إلا به. ولا تدو الأمور إلا عليه(3/132)
قال الخضراوي:
وأفضل قسم الله للمرء عقله ... فليس من الخيرات شيء يقاربه
يزين الفتى في الناس صحة عقله ... وإن كان محظوراً عليه مكاسبه
وشين الفتى في الناس قلة عقله ... وإن كرمت أعراقه ومناسبه
إذا أكمل الرحمان للمرء عقله ... فقد كملت أخلاقه ومآربه
وقال آخر:
العقل حلة فخر من تسربلها ... كانت له نسياً تغني عن النسب
والعقل أفضل ما في الناس كلهم ... بالعقل ينجو الفتى من حومة الطلب
137 قيل: إن العميان أذكى من غيرهم. وقيل لقتادة: ما بال العميان نجدهم أذكى من البصراء. فقال: لأن القوة الباصرة منهم انقلبت إلى باطنهم قال ابن عباس لما كف بصره:
إن يأخذ الله من عيني نورهما ... ففي لساني وقلبي منهما نور
قلبي ذكي وعقلي غير ذي دخل ... وفي فمي صارم كالسيف مشهور
(لابن عبد ربه)
في العلم وشرفه
138 قال بعض الحكماء: العلم خليل والحلم وزيره. والعقل دليله. والعمل قائده والوفق والده. والبر أخوه والصبر أمير جنوده. وقال بعض الحكماء: لمثقال ذرة من العلم أفضل من جهاد الجاهل(3/133)
ألف عام. وقال الإمام الشافعي: ليس بعد الفرائض أفضل من طلب العلم فهو نور يهتدي به الحائر (لأبي المقدسي) قال بعض الأدباء:
والعلم أشرف شيء قاله رجل ... من لم يكن فيه علم لم يكن رجلا
تعلم العلم واعمل يا أخي به ... فالعلم زين لمن بالعلم قد عملا
وفي معناه أنشدوا:
بالعلم تحيا نفوس قط ما عرفت ... من قبل ما الفرق بين الصدق والمين
العلم للنفس نور يستدل به ... على الحقائق مثل النور للعين
139 وقال الزبير بن أبي بكر: كتب إلي أبي من العراق: يا بني عليك بالعلم فإنك إن افتقرت إليه كان مالاً. وإن استغنيت به كان جمالاً. وأنشد في معناه:
العلم مبلغ قوم ذروة الشرف ... وصاحب العلم محفوظ من التلف
يا صاحب العلم مهلا لا تدنسه ... بالموبقات فما للعلم من خلف
العلم يرفع بيتاً لا عماد له ... والجهل يهدم بيت العز والشرف
140 وقال بعض الفضلاء: ينبغي لكل عاقل أن يبالغ في تعظيم العلماء ما أمكن ولا يعد غيرهم من الأحياء. وقد أجاد الحريري بقوله:
ومن الجهالة أن تعظم جاهلا ... لصقال ملبسه ورونق نقشه
واعلم بأن التبر في بطن الثرى ... خاف إلى أن يستبين بنبشه
وفضيلة الدينار يظهر سرها ... من حكه لا من ملاحة نقشه(3/134)
وقيل في معنى ذلك:
عاب التعلم قوم لا عقول لهم ... وما عليه إذا عابوه من ضرر
ما ضر شمس الضحى والشمس طالعة ... أن لا يرى ضوءها من ليس ذا بصر
141 وقال علي: العلم خير من المال. العلم يحرسك وأنت تحرس المال. والعلم حاكم والمال محكوم عليه. والعلم يزيد بالإنفاق والمال ينقص بالنفقة. وعن ابن عباس أنه قال: خير سليمان بن داود بين العلم والملك والمال. فاختار العلم فأعطي الملك والمال معه. وقال الإمام مالك بن أنس: ليس العلم بكثره الرواية إنما العلم نور يجعله في قلب من يشاء. وما أحسن ما قيل:
(مع) فقيه جلاء للقلوب من العمى ... وعون على الدين الذي أمره غنم
فخالط رواة العلم واصحب خيارهم ... فصحبتهم زين وخلطتهم غنم
ولا تعدون عيناك عنهم فإنهم ... نجوم هدى إن غاب نجم بدا نجم
فوالله لولا العلم ما اتضح الهدى ... ولا لاح من غيب الأمور لنا رسم
142 وعن ابن المبارك أنه قال: لا يزال المرء عالماً ما طلب العلم فإذا ظن أنه قد علم فقد جهل. وعن عثمان بن أبي شيبة قال: سمعت وكيعاً يقول: لا يكون الرجل عالماً حتى يسمع ممن هو أسن منه. وممن هو مثله. وممن هو دونه. وعن أبي مسعود أنه قال: منهومان لا يشبعان طالب العلم (طالب الدنيا وهما لا يستويان) أما طالب العلم فيزداد رضا الرحمان. وأما طالب الدنيا فيزداد في الطغيان.(3/135)
وقال بعضهم:
لو كان نور العلم يدرك بالمنى ... ما كان يبقى في البرية جاهل
إجهد ولا تكسل ولا تك غافلا ... فندامة العقبى لمن يتكاسل
قال غيره:
مفتاح رزقك تقوى الله فاتقه ... وليس مفتاحه حرصاً ولا طعما
والعلم أجمل ثوب أنت لابسه ... فاختر له عملين الدين والورعا
قال غيره:
وفي الجهل قبل الموت موت لأهله ... وأجسادهم دون القبور قبور
وإن أمراً لم يحي بالعلم قلبه ... فليس له حتى النشور نشور
قيل أيضاً:
لكل مجد في الورى نفع فاضل ... وليس يفيد العلم من دون عامل
يسابق بعض الناس بعضاً يجهدهم ... وما كل كر بالهوى كر باسل
إذا لم يكن نفع لذي العلم والحجى ... فما هو بين الناس إلا كجاهل
كذاك إذا لم ينفع المرء غيره ... يعد كشوك بين زهر الخمائل
وقيل أيضاً:
المال يفنى مع الأيام إن قلبت ... لكن ذا يصحب الإنسان للترب
اغنم جنى ثمرة تحظ بنيل منى ... وتعل بالقدر فوق السبعة الشهب
143 قال الماهياباذي مغرياً على تأثير العلم:
يا ساعياً وطلاب المال همته ... إني أراك ضعيف العقل والدين(3/136)
عليك بالعلم لا تطلب له بدلاً ... واعلم بأنك فيه غير مغبون
العلم يجدي ويبقى للفتى أبدا ... والمال يفنى وإن أجدى إلى حين
هذاك عز وذاك ذل لصاحبه ... ما زال بالبعد بني العز والهون
قال أبو بكر بن دريد:
لا تحقرن عالماً وإن خلقت ... أثوابه في عيون رامقه
وانظر إليه بعين ذي خطر ... مهذب الرأي في طرائقه
فالمسك مهما تراه ممتهناً ... بفهر عطاره وساحقه
حتى تراه يعارضني ملك ... وموضع التاج من مفارقه
قال أبو الأسود الدؤلي:
العلم زين وتشريف لصاحبه ... فاطلب هديت فنون العلم والأدبا
كم سيد بطل آباؤه نجب ... كانوا الرؤوس فأمسى بعدهم ذنبا
ومقرف خامل الآباء ذي أدب ... نال المعالي بالآداب والرتبا
العلم كنز وذخر لا فناء له ... نعم القرين إذا ما صاحب صحبا
قد يجمع المال شخص ثم يحرمه ... عما قليل فيلقى الذل والحربا
وجامع العلم مغبوط به أبداً ... ولا يحاذر منه الفوت والسلبا
يا جامع العلم نعم الذخر تجمعه ... لا تعدلن به درا ولا ذهبا
144 قال غيره:
بالعلم والعقل لا بالمال والذهب ... يزداد رفع الفتى قدراً بلا طلب
فالعلم طوق النهى يزهو به شرفا ... والجهل قيد له يبليه باللغب(3/137)
كم يرفع العلم أشخاصاً إلى رتب ... ويخفض الجهل أشرافاً بلا أدب
العلم كنز لا تفنى ذخائره ... والمرء ما زاد علماً زاد بالرتب
فالعلم فاطلب لكي يجديك جوهره ... كالقوت للجسم لا تطلب غنى الذهب
قال آخر:
ما حوى العلم جميعاً أحد ... لا ولو مارسه ألف سنه
إنما العلم بعيد غوره ... فخذوا من كل شيء أحسنه
قال بعضهم:
تعلم ما استطعت بحيث تسعى ... فإن العلم زين للرجال
لأن العلم في الدنيا جمال ... وفي العقبى تنال به المعالي
قال آخر:
العلم زين فكن للعلم مكتسبا ... وكن له طالباً ما عشت مقتبسا
اركن إليه وثق بالله واغن به ... وكن حليماً رزين العقل محترسا
وكن فتى ماسكاً محض التقى ورعا ... للدين مغنماً في العلم منغمسا
فمن تخلق بالآداب ظل بها ... رئيس قوم إذا ما فارق الرؤسا
وصف الكتاب
145 الكتاب نعم الأنيس في ساعة الوحدة. ونعم المعرفة في دار الغربة. ونعم القرين والدخيل. ونعم الزائر والنزيل. وعاء مليء علماً وظرفاً. وإناء مليء مزحاً وجداً. وحبذا بستان يحمل في خرج وروض يقلب في حجر. هل سمعت بشجرة تؤتي أكلها كل حين(3/138)
بأوان مختلفة وطعوم متباينة. هل سمعت بشجرة لا تذوي. وزهر لا ينوي. وثمر لا يفنى. ومن لك بجليس يفيد الشيء وخلافه والجنس وضده. ينطق عن الموتى ويترجم عن الأحياء. إن غضبت لم يغضب. وإن عربدت لم يصخب. أكتم من الأرض. وأنم من الريح. وأهوى من الهوى. وأخدع من المنى وأمتع من الضحى. وأنطق من سحبن وائل وأعيا من باقل. هل سمعت بمعلم تحلى بخلال كثيرة وجمع أوصافاً عديدة. عربي فارسي يوناني هندي سندي رومي. إن وعظ أسمع. وإن ألهى أمتع. وإن أبكى أدمع. وإن ضرب أوجع. يفيدك ولا يستفيد منك. ويزيدك ولا يستزيد منك. إن وجد فعبرة. وإن مزح فنزهة. قبر الأسرار ومخزن الودائع قيد العلوم. وينبوع الحكم ومعدن المكارم. ومؤنس لا ينام. يفيدك علم الأولين. ويخبرك عن كثير من أخبار المتأخرين. هل سمعت في الأولين أو بلغك أن أحداً من السالفين جمع هذه الأوصاف مع قلة مؤونته وخفة محمله. لا يرزؤك شيئاً من دنياك. نعم المدخر والعدة. والمشتغل والحرفة. جليس لا يطريك ورفيق لا يملك. يطيعك في الليل طاعته في النهار. ويطيعك في السفر طاعته في الحضر. إن أطلب النظر إليه أطال إمتاعك. وشحذ طباعك. وبسط لسانك. وجود بيانك. وفخم ألفاظك. إن ألفته خلد على الأيام ذكرك. وإن درسته رفع في الخلق قدرك. وإن نعنه نوه عندهم باسمك. يقعد العبيد في مقاعد السادات. ويجلس السوقة في مجالس(3/139)
الملوك فأكرم به من صاحب. وأعزز به من موافق (الكنز المدفون) 146 أرسل بعض الخلفاء في طلب بعض العلماء ليسامره. فلما جاء الخادم إليه وجده جالساً وحواليه كتب وهو يطالع فيها. فقال له: إن أمير المؤمنين يستدعيك. فقال: قل عندي قوم من الحكماء أحادثهم فإذا فرغت منهم حضرت. فلما عاد الخادم إلى الخليفة وأخبره بذلك قال له: ويحك من هؤلاء الحكماء الذين كانوا عنده. قال: والله يا أمير المؤمنين ما كان عنده أحد. قال: فأحضره الساعة كيف كان. فلما حضر ذلك العالم. قال له الخليفة: من هؤلاء الحكماء الذين كانوا عندك. قال: يا أمير المؤمنين
لنا جلساء ما نمل حديثهم ... ألباء مأمونون غيباً ومشهداً
يفيدوننا من علمهم علم ما مضى ... ورأياً وتأديباً ومجداً وسؤددا
فإن قلت أموات فلم تعد أمرهم ... وإن قلت أحياء فلست مفندا
فعلم الخليفة أنه يشير بذلك إلى الكتب ولم ينكر عليه تأخره 147 طلب المكفي من وزيره كتباً يلهو بها ويقطع بمطالعتها زمانه. فتقدم الوزير إلى النواب بتحصيل ذلك وعرضه عليه قبل حمله إلى الخليفة. فحصلوا شيئاً من كتب التاريخ فيه شيء مما جرى في الأيام السالفة من وقائع الملوك وأخبار الوزراء ومعرفة التحيل في استخراج الأموال. فلما رآه الوزير قال لنوابه: إنكم أشد الناس عداوة لي. أنا قلت لكم حصلوا له كتباً يلهو بها ويشتغل بها(3/140)
عني وعن غيري. فقد حصلتم له ما يعرفه مصارع الوزراء ويوجده الطريق إلى استخراج المال ويعرفه خراب البلاد من عمارتها. ردوها وحصلوا له كتباً فيها حكايات تلهيه وأشعار تطربه (لفخري) قال ابن دوست في الحفظ والاستظهار:
عليك بالحفظ دون الجمع في الكتب ... فإن للكتب آفات تفرقها
الماء يغرقها والنار تحرقها ... والفار يخرقها واللص يسرقها
في البيان والبلاغة والفصاحة
148 قال ابن المعتز: البيان ترجمان القلوب وصقيل العقول. وأما حده فقد قال الجاحظ: البيان اسم جامع لكل ما كشف لك عن المعنى. وقال اليوناني: البلاغة وضوح الدلالة وانتهاز الفرصة وحسن الإشارة. وقال الهندي: البلاغة تصحيح الأقسام. واختيار الكلام. وقال الكندي: يجب للبليغ أن يكون قليل اللفظ كثير المعاني وقيل: إن معاوية سأل عمرو بن العاص: من أبلغ الناس. فقال: أقلهم لفظاً وأسهلهم معنى وأحسنهم بديهة. وقال أبو عبد الله وزير المهدي: البلاغة ما فهمته العامة ورضيت به الخاصة. وقال البحتري: خير الكلام ما قل. وجل. ودل. ولم يمل. وقالوا: البلاغة ميدان لا يقطع إلا بسوابق الأذهان. ولا يسلك إلا ببصائر البيان. قال الشاعر:
لك البلاغة ميدان نشأت به ... وكلنا بقصور عنك نعترف(3/141)
مهد لي العذر في نظم بعثت به ... من عنده الدر لا يهدى له الصدف
149 وقال الثعالبي: البليغ ما كان لفظه فحلاً ومعنا بكراً. وقال الإمام فخر الدين الرازي في حد البلاغة: إنها بلوغ الرجل بعبارته كنه ما في قلبه مع الاحتراز عن الإيجاز المخل. والتطويل الممل. وأما الفصاحة فقد قال الإمام فخر الدين الرازي عنها: اعلم أن الفصاحة خلوص الكلام من التعقيد. وأصلها من قولهم أفصح اللبن إذا أخذت عنه الرغوة. وأكثر البلغاء لا يكادون يفرقون بين البلاغة والفصاحة. بل يستعملونها استعمال الشيئين المترادفين على معنى واحد في تسوية الحكم بينهما. ويزعم بعضهم أن البلاغة في المعاني والفصاحة في الألفاظ. ويستدل بقولهم معنى بليغ ولفظ فصيح وقال يحيى بن خالد: ما رأيت رجلاً قط إلا هبته حتى يتكلم. فإن كان فصيحاً عظم في صدري. وإن قصر سقط من عيني (اللابشيهي)
في الشعر
150 كان يقال: الشعر ديوان العرب ومعدن حكمتها وكنز أدبها. ويقال: الشعر لسان الزمان. والشعراء للكلام أمراء. وقال بعض السلف: الشعر جزل من كلام العرب تقام به المجالس وتستنجح به الحوائج وتشفى به السخائم. ويقال: المدح مهره الكرام. وإعطاء الشعراء من بر الوالدين. وقال بعضهم: أنصف الشعراء فإن ظلامتهم تبقى وعقابهم لا يفنى. وهم الحاكمون على الحكام. وقال(3/142)
آخر: الشعر الجيد هو السحر الحلال. والعذب الزلال. إن من الشعر لحكمة وإن من البيان لسحراً. وكان يقال: النثر يتطاير تطاير الشرر. والشعر يبقى بقاء النقش في الحجر. وقيل لحمزة بن بيص: من أشعر الناس. قال: من إذا قال أسرع. وإذا وصف أبدع. وإذا مدح رفع. وإذا هجا وضع. وقال دعبل في كتابه الموضوع في مدح الشعراء: إنه لا يكذب أحد إلا اجترأه الناس فقالوا: كذاب. إلا الشاعر فإن يكذب يستحسن كذبه. ويحتمل ذلك له ولا يكون ذلك عيباً عليه. ثم لا يلبث أن يقال: أحسنت. (وفيه) أن الرجل الملك أو السوقة إذا صير ابنه في الكتاب أمر معلمه أن يعلمه الشعر. لأنه توصل به المجالس. وتضرب فيه الأمثال وتعرف به محاسن الأخلاق ومشاينها فتذم وتحمد وتهجى وتمدح. وأي شرف أبقى من شرف يبقى بالشعر. (وفيه) أن امرئ القيس كان من أبناء الملوك. وكان من أهل بيته وبني أبيه أكثر من ثلاثين ملكاً فبادوا وباد ذكرهم. وبقي ذكره إلى القيامة. وإنما أمسك ذكره شعره. وقال: أحسن ما مدح به الشعر قول أبي تمام حيث يقول:
ولولا خلال سنها الشعر ما درى ... بغاة المعالي كيف تبنى المكارم
وأحسن منه:
أرى الشعر يحيي الجود والبأس بالذي ... تبقيه أرواح له عطرات
وما المجد لولا الشعر إلا معاهد ... وما الناس إلا أعظم نخرات(3/143)
151 (فصل لأبي بكر الخوارزمي جامع لمدح الشعراء) ما ظنك بقوم الاقتصار محمود إلا منهم. والكذب مذموم ومردود إلا فيهم. إذا ذموا ثلموا. وإذا مدحوا سلبوا. وإذا رضوا رفعوا الوضيع. وإذا غضبوا وضعوا الرفيع. وإذا أقروا على أنفسهم بالكبائر. لم يلزم حد. ولم تمتد إليهم بالعقوبة يد. غنيهم لا يصادر. وفقيرهم لا يستحقر. وشيخم يوقر. وشلبهم لا يستصغر. سهامهم تنفذ في الأعراض. وشهادتهم مقبولة وإن لم ينطق بها سجل ولم يشهد بها عدل. بل ما ظنك بقوم صيارفة أخلاق الرجال. وسماسرة النقص والكمال. بل ما ظنك بقوم اسمهم ناطق بالفضل. وباسم صناعتهم مشتق من العقل. بل ما ظنك بقوم هم أمراء الكلام. يقصرون طويله. ويطولون قصيره. يقصرون ممدوده. ويخفقون ثقيله. ولم لا أقول: ما ظنك بقوم يتبعهم الغاوون. وفي كل واد يهيمون (لأبي نصر المقدسي)
في الأدب
152 قال العلاء بن أيوب كان يقال: مثل الأديب ذي القريحة مثل دائرة تدار من خارجها. فهي في كل دارة تدار تتسع وتزداد عظماً. ومثل الأديب غير ذي القريحة مثل دائرة تدار من داخلها فهي عن قليل تبلغ إلى باطنها. أوصى بعض الحكماء بنيه فقال لهم: الأدب أكرم الجواهر طبيعة وأنفسها قيمة. يرفع الأحساب الوضيعة.(3/144)
ويفيد الرغائب الجليلة. ويغني من غير عشيرة. ويكثر الأنصار من غير رزية. فألبسوه حلة. وتزينوا به حلية. يؤانسكم في الوحشة. ويجمع القلوب المختلفة. وأنشد الأصمعي:
إن كان للعقل مولود فلست أرى ... ذا العقل مستوحشاً من حادث الأدب
إني رأيتهما كالماء مختلطاً ... بالترب تظهر عنه زهرة العشب
153 وقال بزرجمهر: ما ورثت الآباء الأبناء خيراً من الأدب. لأنهم به يكسبون المال وبالجهل يتلفونه: وقال: حسن الخلق خير قرين والأدب خير ميراث والتقوى خير زاد. وقال أيضاً: ليت شعري أي شيء أدرك من فاته الأدب. وأي شيء فات من أدرك الأدب. وقال ابن عائشة القرشي: هل الأدب هم الأكثرون وإن قلوا. ومحل الأنس أين حلوا. وقال خالد بن صفوان لابنه: يا بني الأدب بهاء الملوك ورياش السوقة والناس بين هاتين فتعلمه تجده حيث تحب. وقال بعض الظاهرية: لو علم الجاهلون ما الأدب. لأيقنوا أنه الطرب. وقال حكيم لابنه: يا بني عز السلطان يوم لك يوم عليك. وعز المال وشيك ذهابه. جدير انقطاعه وانقلابه. وعز الحسب إلى خمول ودثور وذبول. وعز الأدب راتب واصب. لا يزول بزوال المال ولا يتحول بتحول السلطان. ويقال: من قعد به حسبه. نهض به أدبه. وقال ابن المعتز: حلية الأدب لا تخفى. وحرمته لا تجفى. والأدب صورة العقل فحسن عقلك كيف(3/145)
شئت. قال بزرجمهر: من كثر أدبه. كثر شرفه وإن كان قبل وضيعاً وبعد صيته وإن كان خاملاً. وساد وإن كان غريباً. وكثرت الحاجة إليه وإن كان فقيراً. وقالوا: الأدب أدبان أدب الغريزة وهو الأصل وأدب الرواية وهو الفرع. ولا يتفرع الشيء إلا عن أصله. ولا ينمو الأصل إلا باتصال المادة (للشريشي) 154 وقال حبيب فأحسن:
وما السيف إلا زبرة لو تركته ... على الخلقة الأولى لما كان يقطع
وقال آخر:
ما وهب الله لامرئ هبة ... أفضل من عقله ومن أدبه
هما كمال الفتى فإن فقدا ... ففقده للحياة أحسن به
وقيل: إذا كان الرجل ظاهر الأدب طاهر النبت تأدب بأدبه وصلح بصلاحه أهله وولده. وقال الشاعر:
رأيت صلاح المرء يصلح أهله ... ويعديهم عند الفساد إذا فسد
يعظم في الدنيا لأجل صلاحه ... ويحفظ بعد الموت في الأهل والولد
قال غيره:
لعمرك ما الإنسان إلا ابن يومه ... على ما تجلى يومه لا ابن أمسه
وما الفخر بالعظم الرميم وإنما ... فخار الذي يبغى الفخار بنفسه
155 الأدب مال. واستعماله كمال. بالعقل يصلح كل أمر. وبالحلم ينقطع كل شر (للشبراوي)(3/146)
قال علي بن أبي طالب:
حرص بنيك على الآداب في الصغر ... كيما تقر بهم عيناك في الكبر
وإنما مثل الآداب تجمعها ... في عنفوان الصبا كالنقش في الحجر
هي الكنوز التي تنمو ذخائرها ... ولا يخاف عليها حادث العبر
إن الأديب إذا زلت به قدم ... يهوي على فرش الديباج والسرر
قال غيره:
من لم ير التأديب في صغر الصبا ... شمخ الفلاح عليه في وقت الكبر
الآداب الطاهرة
156 (الآداب في الأكل) . قال بعضهم: إذا أكل أحدكم فليذكر اسم الله في أول أكله وآخره. وعلى من يأكل أن يلحق بالآداب والرسوم المستحسنة. منها أن يأكل بيمينه ويشرب بيمينه. وألا يأكل ويشرب قائماً. وأوصى رجل من خدم الملوك ابنه فقال: إذا أكلت فضم شفتيك ولا تلتفنن يميناً ولا شمالاً وتلقمن بسكين. ولا تجلس فوق من هو أشرف منك وأرفع منزلاً. ولا تبصق في الأماكن النظيفة. ومن حسن الآداب أن يعرض عن البطنة. قال بعضهم: من قل طعامه صح جسمه وصفا قلبه. من كثر طعامه سقم جسمه وقسا قلبه. قال آخر: لا تميتوا القلوب بكثرة الطعام والشراب. فإن القلب كالزرع. إذا كثر عليه الماء مات. قال ابن المقفع: كانت ملوك الأعاجم إذا رأت الرجل نهماً شرهاً(3/147)
أخرجوه من طبقة الجد إلى باب الهزل ومن باب التعظيم إلى باب الاحتقار (للابشيهي) 157 (وأما أدب المضيف) فهو أن يخدم أضيافه ويظهر لهم الغنى وبسط الوجه فقد قيل: البشاشة في الوجه خير من القرى. قالوا: فكيف بمن يأتي بها وهو ضاحك. وقد ضمن الشيخ شمس الدين البديوي هذا الكلام بأبيات فقال:
إذا المرء وافى منزلاً منك قاصدا ... قراك وأرمته لديك المسالك
فكن باسماً في وجهه متهللا ... وقل مرحبا أهلاً ويوم مبارك
وقدم له ما تستطيع من القرى ... عجولاً ولا تبخل بما هو هالك
فقد قيل بيت سالف متقدم ... تداوله زيد وعمر ومالك
بشاشة وجه المرء خير من القرى=فكيف بمن يأتي به وهو ضاحك قال العرب: تمام الضيافة الطلاقة عند أول وهلة وإطالة الحديث عند المؤاكلة. ولله در من قال:
الله يعلم أنه ما سرني ... شيء كطارقة الضيوف النزل
ما زلت بالترحيب حتى خلتني ... ضيفاً له والضيف رب المنزل
وما أحسن ما قال سيف الدولة بن حمدان:
منزلنا رحب لمن زاره ... نحن سواء فيه والطارق
وكل ما فيه حلال له ... إلا الذي حرمه الخالق
قال عاصم بن وائل:(3/148)
وإنا لنقري الضيف قبل نزوله ... ونشبعه بالبشر من وجه ضاحك
158 ومن آداب المضيف أن يحدث أضيافه بما تميل إليه نفوسهم. ولا ينام قبلهم. ولا يشكو الزمان بحضورهم. ويبش عند قدومهم ويتألم عند وداعهم. وأن لا يحدث بما يروعهم به. ويجب على المضيف أن يراعي خواطر أضيافه كيفما أمكن. ولا يغضب على أحد بحضورهم. ولا ينغص عيشهم بما يكرهونه. ولا يعبس بوجهه. ولا يظهر نكداً. ولا ينهر أحداً ولا يشتمه بحضرتهم بل يدخل على قلوبهم السرور بكل ما أمكن. وعليه أن يسهر مع أضيافه ويؤانسهم بلذيذ المحادثة وغريب الحكايات. وأن يستميل قلوبهم بالبذل لهم من غرائب الطرف إن كان من أهل ذلك. وعلى المضيف إذا قدم الطعام إلى أضيافه أن لا ينتظر من يحضر من عشيرته. فقد قيل: ثلاثة تضني سراج لا يضيء ورسول بطيء ومائدة ينتظر لها من يجيء. ومن السنة أن يشيع المضيف الضيف إلى باب الدار.
159 قال بعض السلف: ما استكمل عقل امرئ حتى يكون فيه عشر خصال. الرشد منه مأمولا. والكبر منه مأمونا. نصيبه من الدنيا القوت. والذي أحب إليه من العز. والفقر أحب إليه من الغنى ويستقل كثير المعروف من نفسه. ويستكثر قليل المعروف من غيره. ولا يسأم من طلب العلم طول عمره. ولا يتبرم من طلب الحوائج قلبه. والعاشرة أن يرى الناس كلهم خيراً منه (لابن المعتز)(3/149)
الباب التاسع في اللطائف
الحداد الأمير
16 حكى القاضي أبو عبد الله الآمدي النائب قال: دخلت على الأمير سعيد بن المظفر أيام ولايته فوجدته يقطر دهناًَ على خنصره. فسألته عن سببه فذكر ضيق خاتمة وأنه ورم بسببه. فقلت له: الرأي قطع حلقته قبل أن يتفاقم الأمر. فقال: من يصلح لذلك. فاستدعيت ظافراً الحداد الشاعر فقطع الحلقة وأنشد بديها:
قصر عن أوصافك العالم ... وكثر الناثر والناظم
من يكن البحر له راحة ... يضيق عن خنصره الخاتم
فاستحسنه الأمير ووهب له الحلقة. وكانت من ذهب وكان بين يدي غزال مستأنس وقد ربض وجعل رأسه في حجره. فقال ظافر بديها:
عجبت لجرأة هذا الغزال ... وأمر تخطى له واعتمد
وأعجب به إذ بدا جاثماً ... وكيف اطمأن وأنت أسد
فزاد الأمير والحاضرون في الاستحسان (بدائع البدائة للازري) 161 قال بعض الشعراء يصف الفقير والغني:
من كان يملك درهمين تعلمت ... شفتاه أنواع الكلام فقالا(3/150)
وتقدم الإخوان فاستمعوا له ... ورأيته بين الورى مختالا
لولا دراهمه التي يزهو بها ... لوجدته في الناس أسوأ حالا
إن الغني إذا تكلم بالخطا ... قالوا صدقت وما نطقت محالا
أما الفقير إذا تكلم صادقاً ... قالوا كذبت وأبطلوا ما قالا
إن الدراهم في المواطن كلها ... تكسو الرجال مهابة وجمالا
فهي اللسان لمن أراد فصاحة ... وهي السلاح لمن أراد قتالا
الحجاج والفتية
162 أمر الحجاج صاحب صاحب حرسه أن يطوف بالليل فمن رآه بعد العشاء سكران ضرب عنقه. فطاحت ليلة من الليالي فوجد ثلاثة فتيان يتميلون وعليهم أمارات السكر. فأحاطت بهم الغلمان. وقال لهم صاحب الحرس: من أنتم خالفتم أمر المؤمنين وخرجتم في مثل هذا الوقت. فقال احدهم:
أنا من دانت الرقاب له ... ما بين مخزومها وهاشمها
تأتيه بالرغم وهي صاغرة ... يأخذ من مالها ومن دمها
فأمسك عنه وقال: لعله من أقارب أمير المؤمنين. ثم قال للآخر: وأنت من تكون. فقال:
أنا ابن من لا تنزل الدهر قدره ... وإن نزلت يوماً فسوف تعود
ترى الناس أفواجاً إلى ضوء النار ... فمنهم قيام حولها. وقعود
فأمسك عنه وقال: لعله ابن أشرف العرب. ثم قال للآخر:(3/151)
وأنت من تكون. فأنشد على البديهة:
أنا ابن من خاض الصفوف بعزمه ... وقومها بالسيف حتى استقامت
وركباه لا نفك رجلاه منهما ... إذا الخيل في يوم الكريهة ولت
فأمسك عن الآخر وقال: لعله ابن أشجع العرب واحتفظ عليهم.
فما كان الصباح رفع أمرهم إلى أمير المؤمنين فأحضرهم وكشف عن حالهم. فإذا الأول ابن حجام. والثاني ابن فوال. والثالث ابن حاثك. فتعجب من فصاحتهم وقال لجلسائه: علموا أولادكم الأدب فوا لله لولا فصاحتهم لضربت أعناقهم (للنواجي)
أبو العلاء وكتاب الفصوص
163 ألف أبو العلاء كتباً منها كتاب الفصوص. واتفق لهذا الكتاب من عجائب الاتفاق أن أبا العلاء دفعه حين كمل لغلام له يحمله بين يديه. وعبر النهر قرطبة. فحانت الغلام رجلة فسقط في النهر هو والكتاب. فقال في ذلك بعض الشعراء وهو العريف بيتاً مطبوعاً بحضرة المنصور وهو:
قد غاص في البحر كتاب الفصوص ... وهكذا كل ثقيل يغوص
فضحك المنصور والحاضرون. فلم يرع ذلك صاعدا ولا هال.
وقال مرتجلاً مجيباً لابن العريف:
عاد إلى معدنه إنما ... توجد في قعر الفصوص
(كتاب المعجب لعبد الواحد المراكش)(3/152)
164 قال ابن شرف يصف داراًً ويتشكى بعوضها:
لم منزل كملت ستارته لنا ... للهو لكن تحت ذاك حديث
غنى الذباب وظل يزمر حوله ... فيه البعوض ويرقص البرغوث
قال آخر في هذا المعنى:
ليل البراغيث والبعوض ... ليل طويل بلا غموض
فذاك ينزو بغير رقص ... وذا يغني بلا عروض
فتى فصيح
165 دخل محمد بن عبد الملك بن صالح على المأمون حين قبضت ضياعهم وهو غلام صغير. فقال: السلام عليك يا أمير المؤمنين. محمد بن عبد الملك سليل نعمتك وابن دولتك وغصن من أغصان دوحتك. أفتأذن لي في الكلام. قال: نعم. فحمد اله تعالى وشكره ثم قال: أمتعنا الله بحياطة ديننا ودنيانا. ورعاية أقصانا وأدنانا. ببقائك يا أمير المؤمنين. ونسأله أن يزيد في عمرك من أعمارنا. وفي أثرك من آثارنا. ويقيك الأذى بأسماعنا وأبصارنا. هذا مقام العائد بظلك. الهارب إلى كنفط وفضلك. الفقير إلى رجمتك وعدلك. ثم سأل حوائجه فقضاها (للشربشي)
علي بن الجهم
166 سخط المتوكل على علي بن الجهم فنفاه إلى خراسان. وكتب أن يصلب إذا وردها يوماً إلى الليل. فلما وصل الشاذياخ حبسه(3/153)
طاهر بن عبد الله ثم أخرجه. فصلبه إلى الليل مجرداً. فقال:
لم يصلبوا بالشاذياخ عيشه ال ... اثنين مسبوقاً ولا مجهولا
نصبوا بحمد الله ملء عيونهم ... شرقاً وملء صدورهم تبجيلا
ما ازداد إلا رفعة وسعادة ... وازدادت الأعداء عنه نكولا
هل كان إلا الليث فارق غيله ... فرأيته في محمل محمولا
ما عابه أن قد نزعت لباسه ... كالسيف أفضل ما يرى مسلولا
وقال في الحبس:
قالوا حبست فقلت ليس بضائر ... حبسي وأي مهند لا يغمد
أو ما رأيت الليث يألف غيله ... كبراً وأوباش السباع تصيد
فالشمس لولا أنها محجوبة ... عن ناظريك لما أضاء الفرقد
والنار في أحجارها مخبوءة ... لا نصطلي إن لم نثرها الأزند
والحبس إن لم نغشه لدنيه ... شنعاء نعم المنزل المتورد
درواس بن حبيب وهشام
167 قحطت البادية أيام هشام بن عبد الملك. فوفد عليه رؤوس القبائل. فجلس لهم وفيهم صبي ابن أربع عشرة سنة يسمى درواس ابن حبيب. في رأسه ذؤابة وعليه بردة يمانية فاستصغره هشام وقال لحاجبه: ما يشاء أحد أن يصل إلينا إلا وصل حتى الصبيان.
فقال درواس: يا أمير المؤمنين عن دخولي لم يخل بك ولا انتقصك ولكنه شرفني. وإن هؤلاء قدموا فهابوك دونه. وإن الكلام(3/154)
نشر والسكوت طي لا يعرف إلا بنشره. فأعجبه كلامه وقال: انشر لا أم لك. فقال: إنا أصابتنا سنون ثلاث. فسنه أكلت اللحم. وسنة أذابت الشحم. وسنة أنقت العظم. وفي يديكم فضول أموال فإن أنت لله عز وجل ففرقوها على عباده. وإن كانت لهم فلا تحبسوها عنهم. وإن كانت لكم فتصدقوا بها عليهم فإن الله يجزي المتصدقين لا يضيع أجر المحسنين. وإن الوالي من الرعية كالروح من الجسد لا حياة له إلا به. فقال هشام ما ترك الغلام في واحدة من الثلاث عذراً. وأمر بمائه ألف دينار ففرقت في أهل البادية. وأمر له بمائة ألف درهم فقال: أرددها في جائزة العرب فما لي حاجة في خاصة نفسي دون عامة الناس (للشريشي)
الشاعر المتروي
168 يحكى أن بعض الأعراب امتدح بعض الرؤساء بقصيدة بديعة. فلما قراها عليه استكثرها عليه بعض الحاضرين ونسبه إلى سرقتها. فأراد الممدوح أن يعرف حقيقة الحال. فرسم له بمدٍ من الشعير وقال في نفسه: إن كان له بديهة في النظم فلا بد أن يقول شيئاً في شرح حاله. فأخذ المد الشعير في ردائه وخرج فقال الممدوح للبوابين سراً: لا تمكنوه من الخروج. فوقف الأعرابي في الدهليز حائراً. فبعث إليه الممدوح من سأله وقال له: ما شأنك يا أعرابي. فقال: إني امتدحت الأمير بقصيدة. قال: ما أجازك(3/155)
عليها. قال: هذا المد الشعير. فقال له: هل قلت في ذلك شيئاً. قال نعم. قال: ما هو. فأنشد بديها:
يقولون لي أرخصت شعرك في الورى ... فقلت لهم من عدم أهل المكارم
أجزت على شعري الشعير وإنه ... كثير إذا خلصته من بهائم
فلما بلغ الممدوح هذان البيتان أعجب بهما. وعلم أن القصيدة من نظمه. فرسم له بجائزة سنية
المنصور وابن هبيرة
169 لما حاضر المنصور ابن هبيرة بعث إليه ابن خبيرة وقال: بارزني. فقال: لا أفعل. فقال ابن هبيرة لأشهرن امتناعك ولأعيرنك به. فقال المنصور ما قيل: إن خنزيراً بعث إلى الأسد وقال: قاتلني. فقال الأسد: لست بكفؤي. فإني إن قتلتك لم يكن لي فخر. وإن قتلتني لحقني وصم عظيم. فقال لأخبرن السباع بنكولك. فقال الأسد: احتمال العار في ذلك أيسر من التلطخ بدمك. فخجل ابن هبيرة وكف عنه (للنواجي) 170 ما أرق وأجود ما قال بعضهم في الفراق:
ما الدار في غبتم يا سادتي دار ... كلا ولا الجار مذ غبتم لنا جار
غبتم فأوحشتم الدنيا ببعدكم=وأظلمت بعدكم رحب وأقطار
ليت الغراب الذي نادى بفرقتنا ... يعري من الريش لا تحويه أوكار
ترى تعود ليالينا التي سلفت ... كما عهدنا وتجمع بيننا الدار(3/156)
171 أرسل شاعر هدية إلى ملك وشفعها بهذه الأبيات:
أتت سليمان يوم العرض قنبرة ... تبدى إليه جرداً كان في فيها
وأنشدت في لسان الحال قائلة ... إن الهدية من مقدار مهديها
لو أن يهدى إلى الإنسان قيمته ... لكان تهدى إليك الدنيا وما فيها
فاستحسنها الملك وأجازه (طرائف اللطائف) 172 قال الأصمعي في تغريد البلبل:
أيها البلبل المغرد في النخل ... غريباً من أهله حيرانا
أفراقاً تشكوه أم دمت تدعو ... فوق أفنان نخلة ورشانا
هاج لي صوتك المغرد شجوا ... رب صوت يهيج الأحزانا
173 وقال نصر بن سيار في من لا يتصدى إلى صغائر الشرور:
أرى بين الرماد وميض نار ... ويوشك أن يكون لها ضرام
فإن لم تطفها عقلاء قوم ... يكون وقودها جثث وهام
فإن النار بالعودين تذكى ... وإن الحرب أولها كلام
174 اجتمع يوماً آل الصحابة فقال أبو بكر:
الموت باب وكل الناس تدخله ... يا ليت شعري بعد الباب ما الدار
فقال عمر:
الدار دار نعيم إن عملت بما ... يرضي الإله وغن خالفت فالنار
فأجازه عثمان:
هما محلان ما للناس غيرهما ... فانظر لنفسك أي الدار تختار(3/157)
فأجازه علي بقوله:
ماللعباد سوى الفردوس إن عملوا ... وإن هفوا هفوة فالرب غفار
175: قال أعرابي يتشوق إلى بلده:
ذكرت بلادي فاستهلت مدامعي ... بشوق إلى عهد الصبا المتقادم
حننت إلى ربع به أخضر شاربي ... وقطع عني فيه عقد التمائم
176 قال ابن علاء مودعاً:
لأودعنك ثم تدمع مقلتي ... إن الدموع هي الوداع الثاني
في فرقة الأحباب شغل شاغل ... والموت صدقاً فرقة الإخوان
177 قال شمس المعالي قابوس وكانت أصحابه قد خرجت عن طاعته:
قل للذي بصروف الدهر عيرنا ... هل عاند الدهر إلا من له خطر
ففي السماء نجوم ما لها عدد ... وليس يكسف إلا الشمس والقمر
178 حدث إسحاق الموصلي قال: كنت عند الفضل بن الربيع يوماً فدخل إليه ابن عبد الله بن العباس بن الفضل وهو طفل.
وكان يرق عليه لأن أباه مات في حياته. فأجلسه في حجره وضمه إليه ودمعت عيناه. فأنشأت أقوال:
مد لك الله الحياة مداً ... حتى يكون ابنك هذا جدا
مؤزراً بمجده مرمى ... ثم يفدى مثل ما تفدى
أشبه منك سنه وجدا ... وشيعاً مرضية ومجدا
كأنه أنت إذا تبدى ... شمائلاً محمودةً وقدا(3/158)
قال: فتبسم الفضل وقال: أمتعني الله بك يا أبا محمد. فقد عوضت من الحزن سروراً وتسليت بقولك. وكذلك يكون إن شاء الله 179 أخبر الصولي قال: عتب المأمون على إسحاق في شيء فكتب إليه رقعه وأوصلها إليه من يده. ففتحها المأمون فإذا فيها قوله:
لاشيء أعظم من جرمي سوى أملي ... لحسن عفوك عن ذنبي وعن زللي
فإن يكن ذا وذا في القدر قد عظما ... فأنت أعظم من جرمي ومن أملي
فضحك ثم قال: يا إسحاق عذرك أعلى قدراً من جرمك. وما جال بفكري ولا أحضرته بعد انقضائه على ذكري (الأغاني) 180 تعذر بعضهم للحرب فقال:
قامت تشجعني هند فقلت لها ... إن الشجاعة مقرون بها العطب
لا والذي منع الأبصار رؤيته ... ما يشتهي الموت عندي من له أدب
للحرب قوم أضل الله سعيهم ... إذا دعتهم إلى نيرانها وثبوا
ولست منهم ولا أهوى فعالهم ... لا القتل يعجبني منهم ولا السلب
181 قال محمود الوراق في هذا المعنى:
أيها الفارس المشيح المغير ... عن قلبي من السلاح يطير
ليس لي قوة على رهج الخيل ... إذا ثور الغبار مثير
واستدرت رحى الحروب بقوم ... فقتيل وهارب وأسير
حيث لا ينطق الجبان من الذعر ويعلو الصياح والتكبير
أنا في مثل هذا بليد ... ولبيب في غيره نحرير(3/159)
182 مثل دعبل بين يدي بعض أمراء الرقة فقال أصلح الله الأمير:
ماذا أقول إذا أتيت معاشري ... صفرا يدي من عند أروم مجزل
إن قلت أعطاني كذبت وإن أقل ... ضن الأمير بماله لم يجمل
ولأنت أعلم بالمكارم والعلى ... من أن أقول فعلت ما لم تفعل
فأختر لنفسك ما أقول فإنني ... لا بد مخبرهم وغن لم أسأل
قال له. قاتلك الله: وأمر له بعشرة آلاف درهم (لابن عبد ربه) 183 وصف بعض الشعراء رجلاً يحمي خبيثاً:
رأيت منافقاً يحمي خبيثاً ... وكل منهما بالظلم يسعى
قد اتفقا ولكن في فساد ... كمقرب راكب للشر أفعى
أبو عبادة البحتري عند المتوكل
184 حدث عبادة البحتري الشاعر وكان المتوكل أدخله في ندمائه قال: دخلت على المتوكل يوماً فرأيت في يديه درتين ما رأيت أشرف من نورهما. ولا أنقى بياضاً ولا أكبر. فأدمت النظر إليهما ولم أصرف طرفي عنهما. ورآني المتوكل فرمى إلي التي كانت في يده اليمنى. فقبلت الأرض وجعلت أفكر فيما يضحكه طمعاً في الأخرى. فعن لي أن قلت:
بسر مرا لنا غمام ... تغرف من كفه البحار
خليفة يرتجى ويخشى ... كأنه جنة ونار
الملك فيه وفي بينه ... ما اختلف الليل والنهار(3/160)
يداه في الجود ضرتان ... هذي على هذه تغار
وليس تأتي اليمن شيئاً ... إلا أتت مثلها اليسار
فرمى بالدرة التي كانت في يساره وقال: خذها يا عيار (للازدي) 185 مرض ابن عنين فكتب إلى السلطان هذين البيتين:
أنظر إلي بعين مولى لم يزل ... يولي الندى وتلاف قبل تلاقي
أنا كالذي أحتاج ما يحتاجه ... فاغنم دعائي والثناء الوافي
فحضر السلطان إلى عيادته. واتى إليه بألف دينار وقال له: أنت الذي. وهذه الصلة. وانأ العائد (لبهاء الدين)
186 كان الإمام فخر الدين الرازي في مجلس درسه إذ أقبلت حمامة خلفها صقر يريد صيدها. فألقت نفسها في حجره كالمستجيرة به فأنشد شرف الدين عنين أبياتاً في هذا المعنى. منها:
جاءت سليمان الزمان حمامه ... والموت يلمع من جناحي خاطف
من أنبأ الورقاء أن محلك=حرم وانك ملجأ للخائف (تاريخ الذهبي) 187 ركب طاهر بن الحسين يوماً ببغداد في حراقته فاعترضه مقدس ابن صيفي الخلوقي الشاعر. وقد أدنيت من الشط ليخرج. فقال: أيها الأمير إن رأيت أن تسمع مني أبياتاً فقال: قل. فأنشأ يقول.
عجبت لحراقة ابن الحسين ... لا غرقت كيف لا تغرق
وبحران من فوقها واحد ... وآخر من تحتها مطبق(3/161)
وأعجب من ذاك أعوادها ... وقد مسها كيف لا تورق
فقال طاهر: أعطوه ثلاثة آلاف دينار (لابن خلكان)
جرير والفرزدق والأخطل في مجلس عبد الملك
188 اجتمع جرير والفرزدق والأخطل في مجلس عبد الملك. فأحضر بين يديه كيساً فيه خمس مائه دينار. وقال لهم: ليقل كل منكم بيتاً في مدح نفسه فأيكم غلب فله الكيس. فبدر الفرزدق فقال:
أنا القطران والشعراء جربى ... وفي القطران لجربى شفاء
فقال الأخطل:
فإن تك زق زاملة فإني ... أنا الطاعون ليس له دواء
فقال جرير:
أنا الموت الذي آتي عليكم ... فليس لهارب مني نجاه
فقال: خذ الكيس فلعمري إن الموت يأتي على كل شيء (طبقات الشعراء لابن سلام)
الركاض والرشيد
189 أدخل الركاض وهو ابن أربع سنين إلى الرشيد ليتعجب من فطنته. فقال له: ما تحب أن أهب لك. قال جميل رأيك. فإني أفوز به في الدنيا والآخرة. فأمر بدنانير ودراهم فصبت بين يديه. فال له: اختر الأحب إليك فقال: الأحب إلي أمير المؤمنين. وهذا من هذين وضرب بيده إلى الدنانير. فضحك الرشيد وأمر(3/162)
بضمة إلى ولده والإجراء عليه (لكمال الدين الحلبي) 190 كتب البستي إلى بعض أصحابه وكان معتقلاً:
فديتك يا روح المكارم والعلا ... بأنفس ما عندي من الروح والنفس
حبست فمن بعد الكسوف تبلج ... تضيء به الآفاق كالبدر والشمس
فلا تعتقد للحبس هماً وحشة=فقبلك قدماً كان يوسف في الحبس 191 قال ابن عربشاه يغري على طلب المجد:
لا يؤيسنك من مجد تباعده ... فإن للمجد تدريجاً وترتيبا
غن القناة التي شاهدت رفعتها ... تنمو فتنبت أنبوباً فأنبوبا
192 كان ابن أبي صقر طعن في السن وضعف عن المشي. فصار يتوكأ على عصا فقال في ذلك:
كل مرءٍ إذا تفكرت فيه ... وتأملته رأيت ظريفاً
كنت امشي على اثنتين قوياً ... صرت امشي على ثلاث ضعيفا
193 زلّت بالأتابك صاحب الموصل بغلبته فانشد ابن الأثير:
إن زلت البغلة من تحته ... فإن في زلتها عذرا
حملها من علمه شاهقاً ... ومن ندى راحته بحرا
194 قال ابن السراج الوراق يعتب على نفسه:
يا خجلتي وصحائفي قد سودت ... وصحائف الأبرار في إشراق
وموبخ لي في القيامة قائل ... أكذا تكون صحائف الوراق
195 حضر ابن الحجاج في دعوة رجلٍ فأخر الطعام إلى المساء فقال:(3/163)
يا صاحب البيت الذي ... ضيفانه ماتوا جميعاً
أدعوتنا حتى نمو ... ت بدرانا عطشاً وجوعا
مالي أرى فلك الرغيف ... لديك مشترفاً رفيعاً
كالبدر لا نرجوا إلى ... وقت المساء له طلوعا
196 قال ابن حمديس يتشوق إلى صقلية وهي مكان منشاه:
ذكرت صقلية والأسى ... يجدد للنفس تذكارها
فإن كنت أخرجت من جنة ... فإني أحدث أخبارها
ولولا ملوحة ماء البكا ... حسبت دموعي أنهارها
197 حكي أن جمهور شعراء مصر كان من عادتهم أن يأتوا الوالي كل سنة في العيد فيهنونه بالنشائد وينالون منه الجوائز. فبينما كانوا لديه ذات سنةٍ يعيدونه بالأشعار حديث زلزله شديدة ارتجت منها ديار مصر. فالتفت الوالي إلى الشعراء وقال لهم: هل منكم من يطرفنا بديها ببيت مضمونه هذه الزلزلة فقال بعضهم:
يا حاكم الفضل إن الحق متضح ... لدى الكرام أيا ابن السادة النجبا
مازلت مصر من كيد ألم بها ... لكنها رقصت من عدلكم طربا
الأعمى واعور
198 سمعت مرة قائلاً=يا قوم ما أصعب فقد البصر
أجابه أعور من خلفه ... عندي من ذلك نصف الخبر
199 قال ابن الدهان في غلام لسبته نحلة في شفته:(3/164)
بأبي من لسبتة نحلة ... آلمت أكرم شيء واجل
حسبت أن بقية بيتها ... إذ رأت ريقته مثل العسل
200 انشد صردر الشاعر ابن جهير لنا عاد إلى الوزارة بعد العزل:
قد رجع الحق إلى نصابه ... وأنت من كل الورى أولى به
ما كنت إلا السيف سلته يد ... ثم أعادته إلى قرابه
هزته حتى بصرته صارما ... رونقه يغنيه عن ضرابه
201 قال حمد بن فارس الرازي اللغوي يصيف ما كان عليه:
وقالوا كيف حالك قلت خبر ... تقضى حاجة وتفوت حاج
إذا ازدحمت هموم الصدر قلنا ... عسى يوماً يكون لها انفراج
نديمي هرتي وأنيس نفسي ... دفاتر لي ومعشوقي السراج
202 أرسل البديع الأسطر لأبي هدية لبعض الأمراء فأنشد: أهدي لمجلسه الكريم وإنما=اهدي له ما حزت من نعمائه
كالبحر يمطره السحاب وماله ... فضل عليه لأنه من مائه
203 كان الخليل بن أحمد يقطع العروض. فدخل عليه ولده في تلك الحالة فخرج إلى الناس وقال: إن أبي قد جن. فدخل الناس عليه وهو يقطع العروض. فأخبروه بما قاله ابنه. فقال له:
لو كنت تعلم ما أقول عذرتني ... أو كنت تعلم ما تقول عذلتكا
لكن جهلت مقالتي فعذلتني ... وعلمت أنك جاهل فعذرتكا
(نزهة الألباء في طبقات الأدباء لأبي بركات الأنباري)(3/165)
أولاد نزار عند الأفعى
204 شخص مضر وربيعة وإياد وأنمار أولاد نزار إلى أرض نجران. فبينما هم يسيرون إذ رأى مضر كلأ قد رعي فقال: البعير الذي رعى هذا أعور. فقال ربيعة: وهو أزور. قال إياد: وهو أبتر. وقال أنمار: وهو شرود. فلم يسيروا إلا قليلاً حتى لقيهم رجل على راحلةٍ فسألهم عن البعير. فقال مضر: أهو اعور. قال: نعم قال ربيعة أهو أزور. قال: نعم قال إياد أهو ابتر: قال: نعم. قال أنمار: أهو شرود. قال: نعم. فقال: هذه والله صفات بعيري دلوني عليه. فحلفوا أنهم ما رأوه. فلزمهم وقال: كيف أصدقكم وأنتم تصفون بعيري بصفته. فساروا حتى قربوا نجران فنزلوا بالأفعى الجرهمي. فنادى صاحب البعير: هؤلاء القوم وصفوا لي بعيراً بصفته ثم أنكروه. فقال الجرهمي: كيف وصفتموه ولم تروه. فقال مضر: رأيته يرعى جانباً ويدع جانباً فعلمت انه أعور. وقال ربيعة: رأيت إحدى يديه ثابتة الأثر والأخرى فاسدة الأثر فعلمت أنه أفسدها بشدة وطئه لازوراره. وقال إياد: عرفت بتره بإجماع بعره ولو كان ذالاً لتفرق. وقال أنمار عرفت أنه شرود لكون أنه كان يرعى في المكان الملتف نبته ثم يجوز إلى مكان أرق منه وأخبث.
فقال الأفعى: ليسوا بأصحاب بعيرك. ثم سألهم من هم فأخبروه. فرحب وأضافهم وبالغ في إكرامهم (ثمرات الأوراق للحموي)(3/166)
الباب العاشر في المديح
205 أقبل أعرابي إلى داود بن المهلب فقال له: إني مدحتك فاستمع. قال: على رسلك. ثم دخل بيته وتقلد سيفه وخرج فقال: قل فإن أحسنت حكمناك وإن أسأت قتلناك. فأنشأ يقول:
أمنت بداودٍ وجود يمينه ... من الحدث المخشي واليأس والفقر
فأصبحت لا أخشى بداود نبوة ... من الحدثان إذ شددت به أزري
له حكم لقمان وصورة يوسف ... وحكم سليمان وعدل أبي بكر
فتى تفرق الأموال من وجود كفه ... كما يفرق الشيطان من ليلة القدر
فقال له: قد حكمناك فإن شئت على قدرك وإن شئت على قدري.
فقال: على قدري. فأعطاه خمسين ألفاً. فقال له جلساؤه: هلا احتكمت على قدر الأمير. قال: لم يك في ماله ما يفي بقدره. قال له داود: أنت في هذه أشعر منك في شعرك وأمر بمثل ما أعطاه.
206 قال ابن عبد ربه دخلت على أبي العباس القائد فأنشدته:
الله جرد للندى والباس ... سيفاً فقلده أبا العباس
ملك إذا استقبلت غرة وجهه ... قبض الرجاء إليك روح الياس
وبه عليك من الحياة سكينة ... ومحبة تجري من الأنفاس
وإذا أحب الله يوماً عبده ... ألقى عليه محبة للناس(3/167)
ثم سألته حاجة فيها بعض الغلظ. فتلكأ علي. فوقعت في سحاءة:
ما ضر عندك حاجتي ما هزها ... عذراً إذا أعطيت نفسك قدرها
أنظر إلى عرض البلاد وطولها ... أو لست أكرم أهلها وأبرها
حاشى لجودك أن يوعر حاجتي ... ثقتي بجودك سهلت لي وعرها
لا يجتني حلو المحامد ماجد ... حتى يذوب من المطالب مرها
فقضى الحاجة وسارع إليها (لابن عبد ربه) 207 وصف مروان بن أبي حفصة بني مطر فقال:
بنو مطر يوم اللقاء كأنهم ... أسود لها في غيل خفان أشبل
هم يمنعون الجار حتى كأنما ... لجارهم بين السماكين منزل
هم القوم إن قالوا أصابوا وإن دعوا=أجابوا وإن أعطوا أطابوا وأجزلوا
وما يستطيع الفاعلون فعالهم ... وإن أحسنوا في النائبات واحملوا
208 حدث محمد الرواية قال: دخلت على الرشيد وعنده الفضل ابن الربيع ويزيد بن مزيد. وبين يديه خوان لطيف عليه جرمان ورغيفان سميذاً ودجاجتان. فقال لي: أنشدني. فأنشدته قصيدة النمري العينية فلما بلغت إلى قوله:
إن المكارم والمعروف أودية ... أحلك الله منها حيث يتسع
إذا رفعت أمراً فالله يرفعه=ومن وضعت من الأقوام متضع
نفسي فداؤك والأبطال معلمة ... يوم الوغى والمنايا صلبها فزع
قال فرمى بالخوان بين يديه وصاح وقال: هذا والله أطيب(3/168)
من كل طعام وكل شي. وبعث إليه بسبعة آلاف دينار.
209 حكى المنصور النمري قال: دخلت على الرشيد يوماً ولم أكن أعددت له مدحاً. فوجدته نشيطاً طيب النفس فرمت شيئاً فما جاءني.
ونظر إلي مستنطقاً فقلت:
إذا اعتاص المديح عليك فامدح ... أمير المؤمنين تجد مقالا
وعذ بفنائه واجنح إليه ... تنل عرفاً ولم تذللك سؤالا
فناء لا تزال به ركاب ... وضعن مدائحاً وحملن مالا
فقال: لله درك لئن قصرت القول لقد أطلت المعنى وأمر لي بصلةٍ سنيةٍ 210 لما تولى ابن زياد أعمال الأهواز فقصده عجرد إليها وقال فيه:
يحي امرؤ زينه ربه ... بفعله الأقدام والأحداث
إن قال لم يكذب وإن ود لم ... يقطع وإن عاهد لم ينكث
أصبح في أخلاقه كلها ... موكلاً بالأسهل الأدمث
طبيعة منه عليها جرى ... في خلق ليس بمستحدث
ورثه ذاك أبوه فيا ... طيب ثناء الوارث المورث
فوصله يحي بصلة سنية وحمله وكساه. وأقام عنده مدة ثم انصرف 211 امتدح ربيعة الرقي العباس بن محمد بقصيدة لم يسبق إليها حسناً وهي طويلة يقول فيها:
لو قيل للعباس يا ابن محمد ... قل لا أنت مخلد ما قالها
ما إن أعد من المكارم خصلة ... إلا وجدتك عمها أو خالها(3/169)
وإذا الملوك تسايروا في بلدةٍ ... كانوا كواكبها وكنت هلالها
إن المكارم لم تزل معقولة ... حتى حللت براحتيك عقالها
212 أنشد أبو إسحاق ابن إبراهيم الفضل بن يحي البرمكي:
عند الملوك مضرة ومنافع ... وأرى البرامك لا تضر وتنفع
إن العروق إذا استسر بها الثرى ... أشر النبات بها وطاب المزرع
فإذا نكرن من امرئ أعرفه ... وقديمه فأنظر إلى ما يضع
قال فأعجبه الشعر فقال: يا أبا محمد كأني أسمع هذا القول إلا الساعة. وما له عندي إلا أني لم أكافئه عليه. فقلتك وكيف ذلك أصلحك الله وقد وهبت له ثلاثين ألف درهم فقال: لا ما ثلاثون ألف دينار بمكافئة له فكيف ثلاثون ألف درهم (الأغاني) قال أبو الشيص الخزاعي يمدح بعض الأمراء: تكلمت فيك أوصاف خصصتها=فكلنا بك مسرور ومغتبط ألسن ضاحكة والكف مانحة=والنفس واسعة والوجه منبسط 231 قال القسم بن عبيد: لفضل بن سهل يد تقاصر عنها المثل.
فظاهرها للقبل. وبسطها للغنى. وسطوتها للأجل. أخذه ابن الرومي فقال لإبراهيم بن المدبر:
أصبحت بين ضراعة وتحمل ... والمرء بينهما يموت هزيلا
فامدد إلي يداً تعود بطنها ... بذل النوال وظهرها التقبيلا
214 قال ابن المولى ليزيد بن قبيصة بن المهلب(3/170)
وإذ تباع كريمة أو تشترى ... فسواك بائعها وأنت المتشري
وإذا توعرت المسالك لم بكن ... منها السبيل إلى نداك بأوعر
وإذا صنعت صنيع أتممتها ... بيدين ليس نداهما بمكدر
يا واحد العرب الذي ما إن لهم ... من ذهب عنه ولا من مقصر
215 قال أمية بن أبي الصلت الشاعر النصراني:
أأذكر حاجتي أم قد كفاني ... حياؤك إن شيمتك الحياء
وعلمك بالحقوق وأنت فرع ... لك الحسب والمهذب والسناء
خليل لا يغيره صباح ... عن الخلق الجميل ولا مساء
وأرضك كل مكرمةٍ بنتها ... بنو تيم وأنت لها سماء
إذا أثنى عليك المرء يوماً ... كفاه من تعرضه الثناء
تباري الريح مكرمة ومجدا ... إذا ما الكلب أجحره الشتاء
216 قال آخر يمدح آل المهلب:
آل المهلب قوم خولوا شرفا ... ما ناله عربي لا ولا كادا
لو قيل للمجد حد عنهم وخلهم=بما احتكمت من الدنيا لما حادا
إن المكارم أرواح يون لها ... آل المهلب دون الناس أجسادا
217 قالت امرأة من إياد
ألخيل تعلم يوم الروع إن هزمت ... أن ابن عمر ولدى الهيجاء يحميها
لم يبد فحشاً ولم يهدد لمعظمه ... وكل مكرمة يلقى يساميها
ألمستشار لأمر القوم يحزبهم ... إذا الهنات أهم القوم ما فيها(3/171)
لا يره بالجار منه غدره أبداً ... وإن ألمت أمور فهو كافيها
218 قال ابن الرومي يمدح بعضهم: كل الخلال التي فيكم محاسنكم=تشابهت منكم الأخلاق والخلق
كأنكم شجر الأترج طاب معاً ... حملاً ونشراً وطاب العود والورق
219 قال شاعر يمدح قوماً بالكرم:
نصبوا بقارعة الطريق خيامهم ... يتسابقون على قرى الضيفان
ويكاد موقدهم يجود بنفسه حب القرى حطبا على النيران
220 غنى يوماً احمد بن يحي المكي الأمين:
تعش عمر في سرور وغبطة ... وفي خفض عيش ليس في طوله إثم
تساعدك الأقدار فيه وتثني ... إليك وترعى فضلك العرب والعجم
221 ومن جميل ما جاء في باب المديح قول بعضهم:
يا دهر بع رتب المعالي بعده ... بيع السماح ربحت أم لم تربح
قدم وأخر من تريد فإنه ... مات الذي قد كنت منه تستحي
222 وقال آخر:
كريم يغض الطرف فضل حيائه ... ويدنو وأطراف الرماح دوان
وكالسيف إن لا ينته لان مسه ... واحدة إن خاشنته خشنان
223 مدح بعضهم أميراً فقال:
علم الله كيف أنت فأعطا ... ك المحل الجليل من سلطانه
224 قال آخر:(3/172)
من قاس جدواك بالغمام فماً ... أنصف في الحكم بين شكلين
أنت إذا جدت ضاحك أبداً وهو إذا جاد دامع العين
225 قال غيره:
ما نوال الغمام وقت ربيع ... كنوال الأمير يوم سخاء
فنوال الأمير بدرة مال ... ونوال الغمام قطرة ماء
226 قال يزيد المهلي في المنتصر بعد أن ولي الخلافة:
ليهنك ملك بالسعادة طائرة ... موارده محمودة ومصادرة
فأنت الذي كنا نرجي فلم نخب ... كما يرتجى من واقع الغيث باكره
بمنتصر بالله تمت أمورنا ... ومن ينتصر بالله فالله ناصره
227 دخل النابغة على النعمان بن المنذر فحياه تحية الملوك ثم قال: أيفاخرك ذو فاش وأنت سائس العرب. وغرة الحسب. واللات لأمسك أيمن من يومه. ولعبدك أكرم من قومهز ولقفاك أحسن من وجهه. وليسارك أجود من يمينه. ولظنك أصدق من يقينه. ولوعدك أبلج من رفده. ولخالك أشرف من جده. ولنفسك أمنع من جنده وليومك أزهر من زهره. ولفترك أبسط من شبره وأنشد:
أخلاق مجدك جلت ما لها خطر ... في الباس والجود بين الحلم والحفر
متوج بالمعالي فوق مفرقه ... وفي الوغى ضيغم في صورة القمر
إذا دجا الخطب جلاه بصارمه ... كما يجلى زمان المحل بالمطر
فتهلل وجه النعمان سروراً. ثم أمر أن يملأ فوه دراً ويكسى(3/173)
أثواب الرضا (وهي جباب أطواقها الذهب في قضب الزمرد) . ثم قال: هكذا فلتمدح الملوك= (ألف باء لأبي الحجاج البلوي) 228 دخل ابن الخياط المكي على المهدي وامتدحه فأمر له بخمسين ألف درهم. فسأله أن يأذن له في تقبيل يده فأذن فقبلها وخرج. فما انتهى إلى الباب حتى فرق المال بأسره. فعوتب على ذلك فاعتذر وأنشد يوقل:
لمست بكفي كفه ابتغي الغنى ... ولم أدر أن الجود من كفه يعدي
فلا أنا منه ما أفاد ذوو الغنى ... أفدت واعداني فأتلفت ما عندي
فعجب بهما المهدي وعنى بهما وأمر له بخمسين ألف دينار 229 دخل أعرابي على خالد بن عبد الله القسري فقال:
أخالد إني لم أزرك لحاجة ... سوى أنني عافٍ وأنت جواد
أخالد بين الحمد ولأجر حاجتي ... فأيهما تأتي فأنت عماد
فقال له خالد: سل حاجتك. قال مائة ألف درهم. قال خالد أسرفت فأحططنا منها. قال: حططتك ألفا. فقال خالد: ما أعجب ما سألت وما حططت. فقال: لا يعجب الأمير. سألته على قدره وحططته على قدري. فضحك منه وأمر له بصلةٍ.
230 حبس الحجاج يزيد بن المهلب لباق عليه كان بخراسان. وأقسم ليستأذنه كل يوم مائة ألف درهم. فبينما هو قد جباها له ذات يوم إذ دخل عليه الأخطل فانشده:(3/174)
أبا خالد خراسان بعدكم ... وقال ذوو الحاجات أين يزيد
وما قطرت بالشرق بعدك قطرة ... ولا أخضر بالمرين بعدك عود
وما لسرير بعد بعدك بهجة ... وما لجواد بعد جودك جود
فقال: يا غلام أعطه المائة ألف درهم فإنا نصبر على عذاب الحجاج ولا نخيب الأخطل. فبلغت الحجاج فقال: لله درر يزيد لو كان تاركاً للسخاء يوماً لتركه اليوم وهو يتوقع الموت (لليمني) 231 ومن رقيق شعر أبي العباس الصولي قوله في المديح والشكر: فلو كان
للشكر شخص يبين ... إذا ما تأمله الناظر
لمثلته لك حتى تراه ... فتعلم أني امرؤ شاكر
232 كتب بديع الزمان لأحد الخلفاء:
يا سيد الأمرا فخراً فما ملك ... إلا تمناك ولي واشتهاك أبا
وكاد يحكيك صوب الغيث منسكبا ... لو كان طلق المحيا يمطر الذهبا
والدهر لو لم يخن والشمس لو نطقت ... والليث لو لم يصل والبحر لو عذبا
233 وللبحتري في المديح:
لا تنظرن إلى العباس عن صغر ... في السن وانظر إلى المجد الذي شادا
إن النجوم الجو أحقرها ... في العين أكثرها في الجو إصعادا
234 قال أبو نواس يمدح بني حمدان:
لئن الأنام لحب كاس ... ومزمار وطنبور وعود
فلم يخلق بنو حمدان إلا ... لباس أو لمجد أو لجود(3/175)
الباب الحادي عشر
في الفخر والحماسة والهجو
235 كان أبو سفيان من أشعر قريش وهو القائل عن قبيلته مفتخراً:
لقد علمت قريش غير فخر ... بأنا نحن أجودهم حصانا
وأكثرهم دروعا سابغات ... وأمضاهم إذا طعنوا سنانا
وأدفعهم عن الضراء عنهم ... وأبينهم إذا نطقوا لسانا
236 قال السيد علي بت إسماعيل بن القاسم:
إنا من قوم إذا ما غضبوا ... أطعموا الأرماح حبات القلوب
وهم في السلم كالماء صفا ... لصديق وحميم وقريب
فيهم فخري وفيهم قدوتي ... وبهم نلت من العليا نصيب
وبفضل الله ربي لم أزل ... في مراقي العز والعيش الرطيب
ليس لي إلا المعالي أرب ... فعلى كاهلها صار الركوب
إن دعا داع إلى غير العلا ... لا تراني لدعاه من مجيب
237 مر ابن بشير بأبي عثمان المازني فجلس إليه ساعة فرأى من في مجلسه يتعجبون من نعل كانت في رجله خلقة فأخذ ورقة وكتب:
كم أرى ذا تعجب من نعالي ... ورضائي منها بلبس البوالي
من يغالي من الرجال بنعل ... فسواي إذا بهن يغالي
لو حداهن للجمال فإني ... في سواهن زينتي وجمالي(3/176)
في إخاء وفي وفاء رائي ... ولساني ومنطقي وفعالي
ما وقاني وبلغني الحاجة منها فإني لا أبالي 238 قال الحريش بن هلال القريعي:
نعرض للسيوف إذا التقينا ... وجوها لا تعرض للطام
ولست بخالع عني ثيابي ... إذا هر الكماة ولا أرامي
ولكني يجول المهر تحتي ... إلى الغارات بالعضب الحسام
239 قال أو الحسن المعروف بجحظة البرمكي:
أنا ابن أناس مول الناس جودهم ... فأضحوا حديثاً للنوال المشهر
فلم يخل من إحسانهم لفظ مخبر ... فلم يخل من تقريظهم بطن دفتر
240 قال رجل من الفزاريين:
وإلا يكن عظمي طويلاً فإنني ... له بالخصال الصالحات وصول
ولا خير في حسن الجسوم ونبلها ... إذا لم تزن حسن الجسوم عقول
إذا كنت في القوم الطول علوتهم ... بعارفة حتى يقال طويل
وكم قد رأينا من فروع كثيرة ... تموت إذا لم تحيهن أصول
ولم أر كالمعروف أما مذاقه ... فحلو وأما وجهه فجميل
241 قال امرؤ القيس:
فلو أن ما أسعى لأدنى معيشة ... كفاني ولم اطلب قليلاً من المال
ولكنما أسعى لمجد مؤثل ... وقد يدرك المجد الموثل أمثالي
242 قال حاتم الطائي:(3/177)
أيا ابنة عبد الله وابنة مالك ... ويا ابنة ذي البردين والفرس الورد
إذا ما صنعت الزاد فالتمسي له ... أكيلا فإني لست أكله وحدي
أخا طارقا أو جار بيت فإنني ... أخاف مذمات الأحاديث من بعدي
وإني لعبد الضيف ما دام ثاوياً وما في تلك من شيمة العبد
243 قال حسان بن ثابت:
أصون عرضي بمالي لا أدنسه ... لا بارك الله بعد العرض في المال
أحتال للمال إن أودى فأجمعه ... ولست للعرض إن أودى بمحتال
244 قال أبو دلف العجلي:
أجود بنفسي دون قومي دافعاً ... لما نابهم وأغشى الدواهيا
واقتحم الأمر المخوف اقتحامه ... لأدرك مجداً أو أعاود ثاويا
(الأغاني والحماسة)
الهجو
245 قال أبو نواس في بخيل:
سيان كسر رغيفه ... أو كسر عظم من عظامه
فأرفق بكسر رغيفه ... إن كنت ترغب في كلامه
وتراه من خوف النزو ... ل به يروع في منامه
وقال أيضاً:
خان عهدي عمرو وما خنت عهده ... وجفاني وما تغيرت بعده
ليس لي مذ حييت ذنب إليه ... غير أني يوماً تغديت عنده(3/178)
وله أيضاً:
أبو جعفر رجل عالم ... بما يصلح المعدة الفاسدة
تخوف تخمة ... فعودها أكله واحده
246 قال الخوارزمي في طبيب:
أبو سعيد راحل للكرام ... ومنسف ينسف عمر الأنام
لم أره إلا خشيت الردى ... وقلت يا روحي عليك السلام
يبقى ويفنى الناس من شومه ... قوموا انظروا كيف نجاه اللئام
ثم تراه آمنا سالماً ... يا ملك الموت إلى كم تنام
247 يحكى أن الوزير أبا علي الخاقاني كان ضجوراً كثير التقلب.
فكان يولي العمل الواحد عدة من العمال في الأيام القليلة. حتى إنه ولى الكوفة في عشرين يوماً سبعة من العمال فقيل فيه:
وزير قد تكامل في الرقاعة ... يولي ثم يعزل بعد ساعة
إذا أهل الرشى اجتمعوا عليه ... فخير القوم أوفرهم بضاعة
248 قال بعضهم يهجو بخيلا: رأى الصيف مكتوباً على باب داره=فصحفه ضيفاً فقام إلى السيف
وقلنا له خيراً فظن بأننا ... نقول له خبرا فمات من الخوف
249 هجا آخر طبيبا فقال:
قال حمار الطبيب موسى ... لو أنصفوني لكنت أركب
لأنني جاهل بسيط ... وراكبي جاهل مركب(3/179)
250 قال ابن عبد ربه يهجو رجلاً جباناً:
إذا صوت العصفور طار فؤاده ... وليث حديد الناب عند الثرائد
قال آخر:
لو أن خفة عقله في رجله ... سبق الغزال ولم يفته الأرنب
251 قال بعضهم يهجو المبرد محمد بن يزيد النحوي:
سألنا عن ثماله كل حي ... فقال القائلون ومن ثماله
فقلت محمد بن يزيد منهم ... فقالوا الآن زدت بهم جهالة
252 قال غيره:
يا قبح الله أقواماً إذا ذكروا ... بني عميرة رهط اللؤم والعار
قوم إذا خرجوا من سوءة ولجوا ... في سوءةٍ لم يجنوها بأستار
253 قالت كنزة أم شملة المنقري في مية صاحبة ذي الرمة:
ألا حبذا أهل الملا غير أنه ... إذا ذكرت في فلا حبذا هيا
على وجه في مسحة من ملاحة ... وفي القلب منها الخزي لو كان بادياً
ألم تر أن الماء يخلف طعمه=وإن كان لون الماء أبيض صافيا
إذا ما أتاه وارد من ضرورة ... تولى بأضعاف الذي جاء ظامياً
254 قيل: غنه أفتخر رجل على ابن الدهان الشاعر فأجابه:
لا تحسين أن بالشعر ... مثلنا ستصير
فللدجاجة ريش ... لكنها لا تطير(3/180)
ابن كلده عند كسرى
255 وفقد ابن كلدة الثقفي على كسرى فانتصب بين يديه. فقال له كسرى: من أنت. قال: أنا الحارث بن كلدة. قال: أعربي أنت. قال: نعم ومن صميمها قال: فما صناعتك. قال: طيب. قال: وما تصنع العرب بالطيب مع جهلها وضعف عقولها وقله قبولها وسوء غذلئها. فقال: ذلك أجدر أيها الملك إذا كانت بهذه الصفة أن تحتاج إلى ما يصلح جهلها ويقيم عوجها. ويسوس أبدانها. ويعدل أسنادها. قال الملك: كيف لها بان تعرف ما تعهده عليها. لو عرفت الحق لم تنسب إلى الجهل. قال الحارث: أيها الملك إن الله جل اسمه قسم العقول بين العباد كما قسم الأرزاق وأخذ القوم نصيبهم. ففيهم ما في الناس من جاهل وعالم وعاجز وحازم. قال الملك: فما الذي تجد في أخلاقهم. وتحفظ من مذاهبهم. قال الحارث: لهم أنفس سخية. وقلوب جرية. وعقول صحية مرضية. وأحساب نقية. فيمرق الكلام من أفواههم مروق السهم من الوتر. ألين من الماء. وأعذب من الهواء. يطعمون الطعام. ويضربون الهام. وعزهم لا يرام. وجارهم لا يضام. ولا يروع إذا نام. لا يقرون بفضل أحد من الأقوام. ما خلا الملك الهمام الذي لا يقاس به أحد من الأنام. قال كسرى: لله درك من عربي لقد أصبت علماً وخصصت به من بين الحمق فطنة وفهماً. ثم أمر بإعطائه وصلته وقضى حوائجه (لابن عبد ربه)(3/181)
الباب الثاني عشر في الألغاز
256 قد ألغز بعضهم في القلم:
وأرقش مرهوف الشباة مهفهف ... يشتت شمل الخطب وهو جميع
تدين له الآفاق شرقاً ومغرباً ... وتعنو له ملاكها وتطيع
حمى الملك مفطوماً كما كان تحتمي ... به الأسد في الآجام وهو رضيع
257 وقال آخر فيه:
وذي خضوع راكع ساجد ... ودمعة من جفنه جاري
مواظب الخمس لأوقاتها ... منقطع في خدمة الباري
258 وقال غيره فيه:
فلا هو يمشي لا ولا هو مقعد ... وما إن له رأس ولا كف لامس
ولا هو حي لا ولا هو ميت ... ولكنه شخص يرى في المجالس
يزيد على سم الأفاعي لعابه ... يدب دبيباً في الدجى والحنادس
يفرق أوصالا بصمت يجنبه ... وتفرى به الأوداج تحت القلانس
إذا ما رأته تحقر شانه ... وهيهات يبدو النقس عند الكرادس
256 وقيل أيضاً فيه:
وأهيف مذبوح على صدر غيره ... يترجم عن ذي منطق وهو أبكم
تراه قصيراً كلما طال عمره ... ويضحي بليغاً وهو لا يتكلم(3/182)
وجاء أيضاً فيه:
يصير بما يوحي إليه وما له ... لسان ولا قلب ولا هو سامع
كأن ضمير القلب باح بسره ... إليه إذا ما حركته الأصابع
260 وجاء أيضاً في معناه:
وأخرس ينطق بالمحكات ... وجثمانه صامت أجوف
بمكة ينطق في خفية ... وبالشام منطقه يعرف
261 قال آخر ملغزا في دواة:
ومرضعة أولادها بعد ذبحهم ... لها لبن ما لذ يوماً لشارب
وفي بطنها السكين والثدي رأسها ... وأولادها مذخورة للنوائب
262 وألغز أبو الحسن بن التلميذ الطيب النصراني في الميزان:
ما واحد مختلف الأسماء ... يعدل في الأرض وفي السماء
يحكم بالقسط بلا رياء ... أعمى يري الإرشاد كل راء
اخرس لا من عله وداء ... يغني عن التصريح بالإيماء
يجيب إن ناداه ذو امتراء ... أبا رفع والخفض عن النداء
يفصح إن علق في الهواء 263 قال آخر في البيضة:
ألا قل لأهل الرأي والعلم والأدب ... وكل بصير بالأمور لدى أرب
ألا خبروني أي شيء رأيتم ... من الطير في أرض الأعاجم والعرب
قديم حديث قد بدا وهو حاضر ... يصاد بلا صيد وإن وجد في الطلب(3/183)
ويوكل أحياناً طبيخاً وتارة ... قلياً ومشوياً إذا دس في اللهب
وليس له لحم وليس له دم ... له عظم وليس له عصب
وليس له رجل وليس له يد ... وليس له رأس وليس له ذنب
ولا هو حي لا ولا هو ميت ... ألا خبروني إن هذا هو العجب
264 ألغز أبو محمد بت الخشاب البغدادي في كتاب:
وذي أوجه لكنه غير بائح ... بسر وذو الوجهين للسر مظهر
تناجيك بالأسرار وجهه ... فتسمعها بالعين مادمت تنظر
265 قلع لأسامة بن المنقذ ضرس فقال فيه ملغزاً.
وصاحب لا أمل الدهر صحبته ... يشقى ويسعى سعي مجتهد
لم ألقه مذ تصاحبنا فحين بدا ... لناظري افترفنا فرقة الأبد
266 ألغز ابن زكريا بن سلامة الحصكفي في نعش الموتى:
أتعرف شيئاً في السماء نظيره ... إذا سار صاح الناس حيث يسير
فتلقاه مركوياً وتلقته راكباً ... وكل أمير يعتليه أسير
يحض على التقوى ويكره قربه ... وينفر منه النفس وهو نذير
ولم يستزر عن رغبة في زيارة ... ولكن على رغم المزور يرور
267 وقد أحسن الصاحب بهاء الدين زهير وزير الملك الصالح ملغزاً في قفل:
وأسود عار انحل البرد جسمه ... وما زال من أوصافه الحرص والمنع
وأعجب شيء كونه الدهر حارساً ... وليس له عين وليس له سمع(3/184)
268 لغز في طاحونة:
ومسرعة في سيرها طول دهرها ... تراها مدى الأيام تمشي ولا تعب
وفي سيرها ما تقطع الأكل كل ساعة ... وتأكل مع طول المدى وهي لا تشرب
وما قطعت في السير خمسة اذرع ... ولا ثلث ثمن من ذراع ولا أقرب
269 قال بعضهم في حذاء:
مطية فارسها راجل ... تحمله وهو لها حامل
واقفة في الباب مرذولة ... لا تشرب الدهر ولا تأكل
270 قال غيره في الموز:
ما اسم شيء حسن شكله ... تلقاه عند الناس موزونا
تراه معدوداً فإن زدته ... واواً ونوناً صار موزونا
271 قال آخر في النار:
أي صغير ينمو على عجل ... يعيش بالريح وهي تهلكه
يغلب أقوى جسم ويغلبه ... أضعف جسم بحيث يدركه
272 ألغز آخر في يد الهاون:
خبروني أي شيء ... أوسع ما فيه فمه
وابنه في بطنه ... يرفسه ويلكمه
وقد علا صياحه ... ولم يجد من يرحمه
273 وقال آخر ففي الإبرة:
وذات ذوائب تنجر طولاً ... وراها في المجيء وفي الذهاب(3/185)
بعين لم تذق للنوم طعماً ... ولا ذرفت لدمع ذي انسكاب
وما لبست مدى الأيام ثوباً ... وتكسو الناس أنواع الثياب
274 ألغز الصلاح الصفدي في عيد:
يا كاتباً بفضله ... كل أديب يشهد
ما اسم عليل قلبه ... وفضله لا يجحد
ليس بذي جسم يرى ... وفيه عين ويد
275 قال آخر في غزال:
اسمُ من هاج خاطري ... أربع في صنوفه
فإذا زل ربعه ... زال باقي حروفه
276 قال آخر في الماء:
يميت ويحي وهو ميت بنفسه ... ويمشي بلا رجل إلى كل جانب
يرى في حضيض الأرض طوراً أو تارة ... تراه تسامى فوق طور السحاب
277 قال آخر في مصراع الباب:
عجبت لمحرومين من كل لذة ... يبيتان طول الليل يعتنقان
إذا أمسيا كانا على الناس مرصدا ... وعند طلوع الفجر يفترقان
278 قال غيره في نار:
ما اسم ثلاثي له النفع والضرر ... له طلعة تغني عن الشمس والقمر
وليس له وجه وليس له قفا ... وليس له سمع وليس له بصر(3/186)
الباب الثالث عشر
في الوصف
279 وصف اليوسفي غلاما فقال: يعرف المراد بالحظ. كما يفهمه باللفظ. ويعاين في الناظر. ما يجري في الخاطر. يرى النصح فرضاً يحب أداؤه. والإحسان حتما يلزم قضاءه. إن استفرغ في الخدمة جهده. خيل إليه انه بذل عفوة. أثبت من الجدار إذا استمهل.
وأسرع من البرق إذا استعجل. (للثعالبي) 280 تظلم رجل للمأمون من عامل له فقال له: يا أمير المؤمنين ما ترك لنا فضة إلا فضها. ولا ذهب به. ولا ماشية إلا مشى بها. ولا غلية غلا غلها. ولا ضيعة إلا أضاعها. ولا عقلا إلا عقله ولا عرضاً إلا عرض له. ولا جليلاً إلا أجله. ولا دقيقاً إلا أدقه. فعجب المأمون من فصاحته وقضى حاجته (للشريشي) 381 حدث أبن الأعرابي قال: أجرى هارون الرشيد الخيل فجاء فرس يقال له المشمر سابقا. وكان الرشيد معجباً بذلك الفرس.
فأمر الشعراء أن يقولوا فيه. فبدرهم أبو العتاهية فقال:
جاء المشمر والأفراس يقدمها ... هوناً على رسله منها وما انبهرا
خلف الريح حسري وهي جاهدة ... ومر يختطف الأبصار والنظرا
فأجزل صلته وما جسر أحد أن يجيز أبا العتاهية (الأغاني)(3/187)
282 لقي الحجاج إعرابياً فقال له: ما بيدك فقال: عصاي أركزها لصلاتي. وأعدها لعداتي. وأسوق بها دابتي. وأقوى بها على سفري. واعتمد عليها في مشيتي يتسع خطوي. وأثب بها على النهر، وتؤمنني العثر. وألقي عليها كسائي. فيقيني الحر. ويجنبني القر. وتدني إلي ما بعد عني. وهي محمل سفرتي. وعلاقة أدواتي. أفزع بها الأبواب وألقي بها عقور الكلاب. وتنوب عن الرمح الطعان. وعن السيف عند منازلة الأقران. ورثتها عن أبي وسأورثها ابني من بعدي وأهش بها على غنمي. ولي فيها مآرب أخرى. فبهت الحجاج وأنصرف (لبهاء الدين) 283 ذم أعرابي رجلاً فقال: إن سأل الحف. وإن سئل سوف. وإن حدث حلف. وإذا وعد اخلف. وإذا صنع اتلف. وإذا طبخ أقرف. وإذا سامر نشف. وإذا نام خوف. وإذا هم بالفعل الجميل توقف. ينظر نظر الحسود. ويعرض إعراض الحقود. بينما هو خل ودود. إذا هو خل ودود. فناؤه شاسع. وضيفه جائع. وشره شائع. وسره ذائع ولونه فاقع. وجفنه دامع ودياره بلاقع. رديء المنظر شيء المخبر. يخبل إذا أيس. ويهلع إذا أعسر. ويكذب إذا اخبره ويكفر إذا كبر عن عاهد غدر وإن خاصم فجر. وغن حمل أوقر وإن خوطب نفر.
284 سئل سناقدس عن المركب فكتب: بيت بلا أساس قبلا مؤلف.(3/188)
وسئل عن الله سبحانه فكتب: معقول مجهول. واحد لا نظير له مطلوب غير مدرك سبحانه لا إله إلا هو. وسئل عن الموت فكتب: نوم لا انتباه معه راحة المرضى. نقيض البنية. انفصال الاتصال. الرجوع إلى العنصر. شهوة الفقراء. فزع الأغنياء. سفر البدن. فقدان الإخوان. وسئل عن الهرم فكتب: شر يتمنى. مرض الأصحاء. موت الحياة. صاحبه ميت يتحرك. وسئل عن المال فكتب: خادم الشهوات. هم في كل يوم. شر محبوب. وسئل عن الحسن فكتب: تصويري طبيهي. زهرة تذبل. وسئل عن الشمس فكتب: عين الفلك النهاري. عله العورات. وسبب الثمرات. وعن القمر. فكتب: عقيب الشمس سراج ليلي. وسل عن الإنسان فكتب: ملعبه البخت. مطلوب السنين. أمنية الأرض. وسئل عن الأرض فكتب: قاعدة الفلك. (على زعم الأقدمين) أصل ثابت في الهواء. أم الثمرات. وسئل عن الفلاح فكتب: خادم الغداء وسئل عن العداء فكتب:
إني بليت بأربع لم يخلقوا ... إلا لشدة شقوتي وعنائي
إبليس والدنيا ونفسي والهوى ... كيف الخلاص وكلهم أعدائي
285 وصف الكاتب محمود كاتباً فقال: وهذا فلان آتاه الله الحكمة وفصل الخطاب. ومكنه من أزمة جياد المعاني فهي تجري بأمره رخاء حيث أصاب. ومنحة فضيلتي العلم والعمل. فإذا كتب(3/189)
أخذت الأرض زخرها وازينت (الكنز المدفون) 286 وقد أحسن الشاعر في وصف الطاووس حيث قال:
سبحان من من خلقه الطاووس ... طير على أشكاله رئيس
تشرق في دارته شموس ... في الرأس منه شجر مغروس
كانه بنفسج يميس ... أو هو زهر حرم يبيس
287 قال بعضهم في وصف الفستق:
كأنما الفستق المملوح حين بدا ... مشققاً في لطيفات الطيافير
واللب ما بين قشرته به يلوح لنا ... كألسن الطير ما بين المناقير
288 وقيل في الفستق أيضاً:
تفكرت في معنى الثمار فلم احد ... لها ثمراً يبدو بحسن مجرد
سوى الفستق الرطب الجني فإنه ... زها بمعان زينت بتجرد
غلاله مرجان على جسم فضة ... وأحشاء ياقوت وقلب زبرجد
289 قال ابن الموري يصف الجلنار:
بدا لنا الجلنار في القضب ... والطل يبدو عليه كالحبب
كأنما أكوس العقيق به ... قد ملئت من برادة الذهب
290 ومما جاء في وصف الأزهار والربيع قول بعضهم:
غدونا على الروض الذي طله الندى ... سحيراً وأوداج الأباريق تسفك
فلم نر شيئاً كأن أحسن منظراً ... من النور يجري دمعه وهو يضحك
291 قال بعض الشعراء يصف الربيع:(3/190)
مرحباً بالربيع في آذار ... وبإشراق بهجة الأنوار
من شقيق وأقحوان ورد ... وخزام ونرجس وبهار
292 قال غيره:
أما ترى الأرض قد أعطتك زهرتها ... بخضرة واكتسى بالنور عاريها
فالسماء بكاء في جوانبها ... وللربيع ابتسام في نواحيها
293 قال آخر في الغمام:
إن السماء إذا لم تبك مقلتها ... لن تضحك الأرض عن شيء من الزهر
والأرض لا تنجلي أنوارها أبداً ... إلا إذا رمدت من شدة المطر
294 قال أبو الحزم بن جهور في الورد:
الورد أحسن ما رأت عيني وأذ ... كى ما سقى ماء السحاب الجامد
خضعت نواوير الرياض لحسنه ... فتذللت تنقاد وهي شوارد
وإذا تبدى الغض في أغصانه ... يزهو فذا ميت وهذا حاسد
وإذا أتى وفد الربيع مبشراً ... بطلوع وفدته فنعم الوافد
ليس المبشر كالمبشر باسمه ... خبر عليه من النبوة شاهد
وإذا تعرى الورد من أوراقه ... بقيت عوارفه فهن خوالد
295 قال آخر في الياسمين:
والأرض تبسم عن ثغور رياضها ... والأفق يسفر تارة ويقطب
وكان مخضر الرياض ملاءة ... والياسمين لها طراز مذهب
296 قال الأخطل الأهوازي في السوسن:(3/191)
سقيا الأرض إذا ما نمت نبهني ... بعد الهدوء بها قرع النواقيس
كأن سوسنها في كل شارفةٍ ... على الميادين أذناب الطواويس
297 وقيل في السفرجل:
حاز السفرجل لذات الورى فغدا ... على الفواكه بالتفضيل مشهورا
كالراح طعماً وشم المسك رائحة ... والتبر لوناً وشكل البدر تدويرا
298 قيل في الخوخ:
ورماح بغير طعنٍ وضرب ... بل لأكلٍ ومص لبٍ ورشف
كملت في استوائها واستقامت ... باعتدال وحسن قدٍ ولطف
29 قال آخر يصف ناعورة:
وناعورة قالت وقد حال لونها ... وأضلعها كادت تعد من السقم
أدور على قلبي لأني فقدته ... وأما دموعي فهي تجري على جسمي
300 قال البحتري يصف الشام:
عنيت بشرق الأرض قدما وغربها ... أجوب إلى آفاقها وأسرها
فلم أر مثل الشام دار إقامة ... لراح أغاديها وكأس أديرها
مصحة أبدان ونزهة أعين ... ولهو لنفس دائم لي سرورها
مقدسة جاد الربيع بلادها ... ففي كل ارضٍ روضة وغديرها
301 أحسن ما قيل في وصف الشطرنج قول ابن المعتز:
يا عائب الشطرنج من جهله ... وليس في الشطرنج من باس
في فهمها علم وفي لعبها ... شغل عن الغيبة للناس(3/192)
وتشغل العائم عن جزئه ... وصاحب الكاس عن الكاس
وصاحب الحرب بتدبيرها ... يزداد في الشدة والباس
وأهلها في حسن آدابهم ... من خير أصحاب وجلاس
302 وقد أحسن ابن دقيق العيد في وصف وزير كثير التلون:
مقبل مدبر بعيد قريب ... محسن مذنب عدو حبيب
عجب من عجائب البر والبحر ... ونوع فرد وشكل غريب
303 قال إسحاق بن خلف البهراني في وصف النحو:
ألنحو يصلح من لسان الألكن ... والمرء تعظمه إذا لم يلحن
فإذا طلبت من العلوم أجلها ... فأجلها منها مقيم الألسن
304 وصف ابن شيرويه الحمى قال:
وزائرة تزور بلا رقيب ... وتنزل بالفتى من غير حبه
وما أحد حب القرب منها ... ولا تحلو زيارتها بقلبه
تبيت بباطن الأحشاء منه ... فيطلب بعدها من عظم كربه
وتمنعه لذيذ العيش حتى ... تنغصه بمأكله وشربه
أتت لزيارتي من غير وعدٍ ... وكم من زائر لا مرحبا به
قال بعض الشعراء يصف فراق الخلان:
القلب من فرقة الخلان يحترق ... والدمع كالدر في الخدين يستبق
إن فاض ماء دموعي لم يكن عجباً ... ألعود يقطر ماء وهو محترق(3/193)
الباب الرابع عشر
في الحكايات
ابن الزبيري ومعاوية
305 كان لعبد الله ابن الزبيري أرض وكان له فيها عبيد يعملون فيها. وغلى جانبها أرض لمعاوية وفيها أيضاً عبيد يعملون فيها. فدخل عبيد معاوية في أرض عبد الله بن الزبير فكتب عبد الله كتاباً إلى معاوية يقول له فيه: أما بعد يا معاوية فإن عبيدك قد دخلوا في أرضي. فأنههم عن ذلك وإلا كان لي ولك شان والسلام. فلما وقف معاوية على كتابه وقرأه دفعه إلى ولده يزيد. فلما قرأه قال له معاوية: يا بني ما تراه. قال: أرى أن تبعث إليه جيشاً يكون أوله عنده وآخره عندك يأتونك برأسه. فقال: بل عير ذلك خير منه يا بني. ثم اخذ ورقة وكتب فيها جواب كتاب عبد اله بن الزبير يقول فيه: أما بعد فقد وقفت على كتاب ولد حواري وساءني ما أساءه. والدنيا بأسرها هينة عندي في جنب رضاه. نزلت عن أرضي لك فأضفها إلى أرضك بما فيها من العبيد والأموال والسلام. فلما وقف عبد الله بن الزبير على كتاب معاوية كتب إليه: قد وقفت على كتاب أمير المؤمنين أطال الله بقاءه ولا أعدمه الرأي الذي أحله من قريش هذا المحل والسلام. فلما وقف معاوية على كتاب عبد الله بن(3/194)
الزبير وقرأه تهلل وجهه وأسفر فقال له أبوه: يا بني من عفا ساد. ومن حلم عظم. ومن تجاوز استمال إليه قلوب. فإذا ابتليت بشيء من هذه الأدواء. فداوه بمثل هذا الدواء.
المنصور ومحمد بن جعفر
306 قيل: كان المنصور معجباً بمحادثة محمد بن جعفر ولعظم قدره يفزعون إليه في الشفاعات. فثقل ذلك على المنصور فعجبه مدة. ثم لم يصبر عنه فأمر الربيع أن يكلمه في ذلك فكلمه وقال: أعف أمير المؤمنين لا تثقل عليه في الشفاعات، فقبل ذلك منه. فلما توجه إلى الباب اعترضه قوم من قريش معهم رقاع فسألوه إيصالها إلى المنصور. فقص عليهم القصة فأبوا إلا أن يأخذها. فقال: اقذفوها في كمي. ثم دخل عليه وهو في الخضراء مسرف على مدينة السلام ما حولها من البساتين. فقال له: أما ترى إلى حسنها يا أبا عبد الله.
فقال له: يا أمير المؤمنين بارك الله لك فيما أتاك وهناك بإتمام نعمته عليك فيما أعطاك. فما بنت العرب في دولة الإسلام ولا العجم في سالف الأيام أحصن ولا أحسن من مدينتك ولكن سمجتها في عيني خصلة. قال: ما هي. قال: ليس في فيها ضيعة. فبتسم وقال: قد حسنتها في عينك بثلاث ضياع قد أقطعتكها فقال: لله درك يا أمير المؤمنين إنك شريف الموارد كريم المصادر فجعل الله تعالى(3/195)
باقي عمرك أكثر من ماضيه. ثم قام معه يومه ذلك. فلما نهض ليقوم بدت الرقاع من كمه فجعل يردهن ويقول: أرجعن خائبات خاسرات فضحك المنصور وقال: بحقي عليك إلا أخبرتني وأعلمتني بخبر هذه الرقاع فأعلمه وقال: ما أتيت يا ابن معلم الخير إلا كريما وتمثل بقول عبد الله بن معاوية:
لسنا وإن أحسابنا كرمت ... يوماً على الحساب تتكل
نبني كما كانت أوائلنا ... تبني ونفعل مثل ما فعلوا
ثم تصفح الرقاع وقضى حوائجهم عن آخرها (للابشيهي)
عدل عمر بمن الخطاب بما أداه العجوز من فقراء رعيته
307 ذكر في كتاب المغازي عن عبد الله بن العباس عن أبيه قال: خرجت ليلة حالكة قاصداً دار أمير المؤمنين عمر بن الخطاب رضي الله عنه. فما وصلت إلى نصف الطريق إلا ورأيت شخصاً أعرابياً جذبني بثوبي وقال: ألزمني يا عباس. فتأملت الأعرابي فإذا هو أمير المؤمنين عمر وهو متنكر. فتقدمت إليه وسلمت عليه وقلت له: إلى أين يا أمير المؤمنين. قال: أريد جولة بين أحياء العرب في هذا الليل الدامس. وكانت ليلة قرٍ. فتبعته فسار وأنا وراءه وجعل يجول بين خيام الأعراب وبيوتهم ويتأملها إلى أن أتينا على جميعها وأوشكنا أن نخرج منها. فنظرنا وإذا هناك خيمة وفيها امرأة عجوز وحولها صبية يعولون عليها ويبكون ... وأمامها أثافي عليها قدر وتحتها النار تشتعل.(3/196)
وهي تقول للصبية: رويداً سبني قليلا وينضج الطعام فتأكلون فوقفنا بعيداً من هناك وجعل عمر يتأمل العجوز تارة وينظر إلى الأولاد أخرى. فطال الوقوف. فقلت له: يا أمير المؤمنين ما الذي يوقفك سر بنا. فقال: والله لا أبرح حتى أراها قد صبت للصبية فأكلوا واكتفوا. فوقفنا وقد طال وقوفنا جداً ومللنا المكان خوفاً أن تستريب بنا العيون. والصبية لا يزالون يصرخون ويبكون والعجوز تقول لهم مقالته: رويداً رويداً بني قليلاً وينضج الطعام فتأكلون: فقال لي عمر: ادخل بنا عندها لنسألها. فدخل ودخلت وراءه فقال لها عمر: السلام عليك يا خالة. فدرت عليه السلام أحسن ردٍ فقال لها: ما بال هؤلاء الصبية يتصارخون ويبكون. فقالت له: لما هم في من الجوع. فقال لها: ولم لم تطعميهم مما في القدر فقالت له: وماذا في القدر لأطعمهم ليس هو إلا علالة فقط إلى أن يضجروا من العويل فيغلبهم النوم. وليس لي شيء لأطعمهم. فتقدم عمر إلى القدر ونظرها فإذا فيها حصباء وعليها الماء يغلي. فتعجب من ذلك وقال لها: ما المراد بذلك فقالت: أوهمهم أن فيها شيئاً يطبخ فيؤكل فأعللهم به حتى إذا ضجروا وغلب النوم عيونهم ناموا فقال لها عمر: ولماذا أنت هكذا فقالت له: أنا مقطوعة لا أخ لي ولا أب ولا زوج ولا قرابة فقال لها: لم لم تعرضي أمرك على أمير المؤمنين عمر بن الخطاب فيجعل لك شيئاً من بيت المال فقالت له: لا(3/197)
حيا الله عمر ونكس أعلامه والله إنه ظلمني. فلما سمع عمر مقالتها ارتاح من ذلك وقال لها: يا خالة بماذا ظلمك عمر بن الخطاب. قالت له: نعم والله ظلمنا عن الراعي عليه أن يفتش على حال كل من رعيته. لعله يوجد فيها من هو مثلي ضيق اليد كثير الصبية ولا معين ولا مساعد له فيتولى لوازمه ويسمح له من بيت المال بما يقوته وعياله أو صبيته فقال لها عمر: ومن أين يعلم بحالك وما أنت به من الفاقة مع كثرة الصبية كان يجب عليك أن تتقدمي وتعلميه بأمرك. فقالت: لا والله إن الراعي الحر يجب عليه أن يفتش على احتياجات رعيته خصوصاً وعموماً فلعل ذلك الشخص الفقير الحال الضيق اليد غلبه حياؤه ومنعه من التقدم إلى راعيه ليعلمه بحاله. فعلى عمر السؤال عن حال الفقراء في رعيته أكثر من تقدم الفقير إلى مولاه لإعلامه بحاله. الراعي الحر إذا أهمل ذلك فيكون هذا ظلماً منه وهذه سنة الله ومن تعداها فقد ظلم. فعند ذلك قال لها عمر: صدقت يا خالة ولكن عللي الصبية والساعة آتيك: ثم خرج وخرجت معه وكان قد بقي من الليل ثلثه الأخير. فمشينا والكلاب تنبحنا وأنا أطردها أذبها عني وعنه إلى أن انتهينا إلى بيت الذخيرة ففتحه وحده ودخل وأمرني فدخلت معه. فنظر يميناً وشمالاً فعمد إلى كيس من الدقيق يحتوي على مائة رطل وينيف فقال لي: يا عباس حول على كتفي فحملته إياه ثم قال لي: أحمل أنت هاتيك جرة السمن. وأشار إلى جرة هناك(3/198)
فحملتها وخرجنا وأقفل الباب وسرنا وقد انهار من الدقيق على لحيته وعينيه وجبينه. فمشينا إلى أن أنصفنا وقد أتعبه الحمل لأن المكان كان بعيد المسافة. فعرضت نفسي عليه وقلت له: بأبي وأمي يا أمير المؤمنين حول الكيس عنك ودعني احمله فقال: لا والله أنت لا تحمل عني جرائمي وظلمي يوم الدين. واعلم يا عباس إن حمل جبال الحديد وثقلها خير من حمل ظلامةٍ كبرت أو صغرت. ولاسيما هذه العجوز تعلل أولادها بالحصى. يا له من ذنب عظيم عند الله سر بنا وأسرع يا عباس قبل أن تضجر الصبية من العويل فيناموا كما قالت. فسار وأسرع وأنا معه وهو يلهث لهث الثور من التعب إلى أن وصلنا خيمة العجوز فعند ذلك حول كيس الدقيق عن كتفه ووضعت جرة السمن أمامه فتقدم هو بذاته وأخذ القدر وكب ما فيها ووضع فيها السمن وجعل بجانبه الدقيق ثم نظر فإذا النار قد كادت تطفأ فقال للعجوز: أعندك حطب قالت: نعم يا ابني. وأشارت له إليه فقام وجاء بقليل منه وكان الحطب أخضر فوضع منه في النار ووضع القدر على الأثافي وجعل ينكس رأسه إلى الأرض وينفخ بفمه تحت القدر.
فوالله إني رأيت دخان الحطب يخرج من خلال لحيته وقد كنس بها الأرض إذ كان يطأطئ رأسه ليتمكن من النفخ. ولم يزل هكذا حتى اشتعلت النار وذاب السمن وابتدأ غليانه فجهل يحرك السمن بعود في يده الواحدة ويخلط من الدقيق مع السمن في يده الأخرى(3/199)
إلى أن انضج والصبية حوله يتصارخون فلما طاب الطعام طلب من العجوز إناء فاتته به فجعل يصب الطبيخ في الإناء وينفخه بفمه ليبرده ويلقم الصغار. ولم يزل يفعل هكذا معهم واحداً واحداً بعد واحد حتى أتى جميعهم وشبعوا واكتفوا. وقاموا يلعبون ويضحكون مع بعضهم إلى أن غلب عليهم النوم فناموا فألتفت عمر عند ذلك إلى العجوز وقال لها يا خالة أنا من قرابة أمير المؤمنين عمر وسأذكر له حالك. فائتيني غداً صباحاً في دار الإمارة فتجديني هناك فارجي خيراً. ثم ودعها عمر وخرج وخرجت معه فقال لي: يا عباس والله إني حين رأيت العجوز تعلل صبيتها بحصى حسست أن الجبال قد زلزلت واستقرت على ظهري. حتى إذا جئت بما جئت وأطعمتهم ما طبخته لهم واكتفوا وجلسوا يلعبون ويضحكون فحينئذ شعرت أن تلك الجبال قد سقطت عن ظهري. ثم أتى عمر داره أمرني فدخلت معه وبتنا ليلتنا ولما كان الصباح أتت العجوز فاستغفرها وجعل لها ولصبيتها راتباً من بيت المال تستوفيه شهراً فشهراً (للاتليدي)
معاوية والزرقاء
308 حكي عن معاوية انه لما ولي الخلافة وانتظمت إليه الأمور، وامتلأت منه الصدور. وأذعن لأمره الجمهور. وساعده الله في مراده. استحضر ليلة خواص أصحاب وذا كرهم وقائع أيام صفين ومن كان يتولى كبر الكريهة من المعروفين فانهمكوا في القول الصحيح(3/200)
والمريض. وآل حديثهم إلى من كان يجتهد في إيقاد نار الحرب عليهم بزيادة التحريض فقالوا: امرأة من أهل الكوفة تسمى الزرقاء بنت عدي كانت تعتمد الوقوف بين الصفوف. وترفع صوتها صارخة: يا أصحاب علي. تسمعهم كلاما كالصوارم. مستحثة لهم بقول لو سمعه الجبان لقاتل والمدبر لأقبل. والمسالم لحارب. والفار لكر. والمتزلزل لاستقر. فقال لهم معاوية: أيكم يحفظ كلامها قالوا: كلنا نحفظه. قال: فما تشيرون علي فيها. قالوا: نشير بقتلها فإنها أهل لذلك فاقل لهم معاوية: بئس ما أشرتم به وقبحا لما قلتم. أيحسن أن يشتهر عني أنني بعدما ظفرت وقدرت قتلت امرأة قد وفت لصاحبها. إني إذاً للئيم لا والله لا فعلت ذلك أبداً ثم دعا بكاتبه فكتب كتاباً إلى واليه بالكوفة أن: أنفذ إلى الزرقاء بنت عدي مع نفرٍ من عشيرتها وفرسان من قومها. ومهد لها وطاء ليناً ومركباً ذلولاً. فلما ورد عليه الكتاب ركب إليها وقرأه عليها. فقالت بعد قراءة الكتاب: ما أنا بزائغةٍ عن الطاعة. فحملها في هودج وجعل غشاءه خزا مبطناً. ثم أحسن صحبتها فلما قدمت على معاوية قال لها: مرحباً وأهلاً خير مقدم قدمه وافد. كيف حالك يا خالة وكيف رأيت سيرك. قالت: خير مسير فقال. هل تعلمين لم بعثن إليك. قالت: لا يعلم الغيب إلا الله سبحانه وتعالى. قال: الست راكبة الجمل الحمر يوم صفين. وأنت بين الصفوف توقدين نار الحرب(3/201)
وتحرضين على القتال: قالت نعم. قال: فما حملك على ذلك قالت: يا أمير المؤمنين إنه قد مات الرأس وبتر الذنب. والدهر ذو غير ومن تفكر أبصر. والأمر يحدث بعده الأمر. فقال: صدقت فهل تعرفين كلامك وتحفظين ما قلت. قالت: لا والله قال: لله أبوك فلقد سمعتك تقولين: أيها الناس إن المصباح لا يضيء في الشمس وغن الكواكب لا تضيء مع القمر. وإن البغل لا يسبق الفرس. ولا يقطع الحديد إلا بالحديد. ألا من استرشدنا أرشدناه. ومن سألنا أخبرناه. إن الحق كان يطلب ضالة فأصابها. فصبراً يا معشر المهاجرين والأنصار. فكأنكم وقد التأم شمل الشتات وظهرت كلمة العدل وغلب الحق على باطله. فغنه لا يستوي المحق والمبطل أفمن كان مؤمناً كمن كان فاسقاً لا سيتوون فالنزال والصبر الصبر. ألا وإن خضاب النساء الحناء وخضاب الرجال الدماء. والصبر خير الأمور عاقبة. إئتوا الحرب غير ناكصين فهذا يوم لع ما بعده يا زرقاء أليس هذا قولك وتحريضك. قالت: لقد كان ذلك. قال: لقد شاركت علياً في كل دمٍ سفكه فقالت: أحسن الله بشارتك يا أمير المؤمنين ادام سلامتك. مثلك من يبشر بخير ويسر جليه.
فقال معاوية: أوقد سرك ذلك قالت: نعم والله لد سرني قولك وأنى لي بتصديقه. فقال لها معاوية: والله لوفائكم له بعد موته أعجب إلي من حبكم له في حياته فاذكري حوائجك تقض. فقالت:(3/202)
يا أمير المؤمنين بن إني آليت على نفسي أن لا أسأل أحداً بعد علي حاجة. فقال: قد أشار علي بعض من عرفك بقتلك. فقالت: لؤم من المشير ولو أطعته لشاركته. قال: كلا بل نعفو عنك ونجسن إليك ونرعاك فقالت: يا أمير المؤمنين كرم منك ومثلك من قدر فعفا وتجاوز عمن أساء وأعطى من غير مسألة. فأعطاها كسوة ودراهم وأقطعها ضيعة تغل لها في كل سنة عشرة آلاف درهم. وأعادها إلى وطنها سالمة وكتب إلى والي الكوفة بالوصية بها وبعشيرتها (للابشيهي)
رجلان كريمان حصلا على الإمارة بكرمهما
309 كان في أيام خلافة سليمان بن عبد الملك رجل يقال له حزيمة بن بشر من بني أسدٍ مشهور بالمروءة والكرم والمواساة وكانت نعمته وافرة. فلم يزل على تلك الحالة من الكرم حتى احتاج إلى إخوانه الذين كان يؤاسيهم ويتفضل عليهم. فآسوه حيناً ثم إنهم ملوه. فلما لاح منهم ذلك أتى امرأته وكانت ابنة عمه. فقال لها: يا ابنة العم رأيت من إخواني تغيراً عما عهدت منهم. وقد عزمت على لزوم بيتي إلى أن يأتيني الموت. ثم إنه أغلق بابه وأقام يتقوت بما عنده حتى نفذ جميعه وبقي حائراً في أمره. وكان يومئذ عكرمة القياض والياً على الجزيرة فبينما هو جالس في ديوانه وعنده جماعة من أهل البلد من معارفه إذ جرى ذكر خزيمة بن بشر. فسألهم عكرمة عن حاله(3/203)
فقالوا له: إنه في أشقى حال من الفقر وقد أغلق بابه ولزم بيته. فقال عكرمة الفياض: أفما وجد خزيمة بن بشر مؤاسياً أو مكافيا. فقالوا له: لا. فامسك عكرمة عن ذلك وكان عكرمة في الكرم بالمنزلة العظيمة وقد سمي الفياض لزيادة كرمه وجوده ثم إن عكرمة انتظر إلى أن دخل الليل فعمد إلى أربعة دينار فجعلها في كيس وأمر بإسراج دابته فركبها وخرج سرا من عند أهله وسار ومعه غلام واحد يحمل المال. وكان الليل قد أنصف فلم يزل سائراً حتى وقف على باب خزيمة فنزل عن دابته بعيداً عن الباب وأمسكها لغلامه وأخذ منه الكيس وأتى به وحده إلى الباب وقرعه. فخرج خزيمة فقال له عكرمة وقد نكر صوته: خذ هذا أصلح به شانك. فتناوله خزيمة فرآه ثقيلاً فوضعه وقبض على ذيل عكرمة وقال له: أخبرني من أنت جعلت فداك فقال له عكرمة: ما جئتك في مثل هذا الوقت وأريد أن تعرفني فقال له خزيمة والله لا أقبله ألم تخبرني من أنت. فقال له عكرمة أنا جابر عثرات الكرام. فقال خزيمة: زدني إيضاحاً فقال له عكرمة لا والله وانصرف فدخل خزيمة بالكيس إلى امرأته وقال لها: أبشري فقد أتى الله بالفرج فقومي أسرجي. فقالت: لا سبيل إلى السراج لأنه ليس لنا زيت. فبات خزيمة يلمس الكيس فيجد خشونة الدنانير. ولما رجع عكرمة إلى منزله سألته امرأته فيم خرج بعد هدأة الليل منفرداً فأجابها: ما كنت لأخرج في وقت كذا(3/204)
وأريد أن يعلم احد بما خرجت إليه إلا الله فقط. فقالت له: لا بد لي أن أعلم ذلك وصاحت وناحت وألحت عليه بالطلب. فلما رأى أنه ليس له بد قال لها: أخبرك بالأمر فاكتميه إذاً. قالته: قل ولا تبال بذلك. فاخبرها بالقصة على وجهز أماما كان من خزيمة فإنه لما أصبح صالح غر ماءه وأصلح شأنه وتجهز للسفر يؤيد الخليفة سليمان ابن عبد الملك. فدخل الحاجب وأخبر سليمان بوصول خزيمة بن بشر. وكان سليمان يعرفه جيداً بالمروءة والكرم فإذن له. فما دخل خزيمة وسلم عليه بالخلافة قال له سليمان: يا خزيمة ما أبطأك عنا. قال: سوء الحال يا أمير المؤمنين. قال فما منعك النهضة إلينا. قال خزيمة: ضعفي يا أمير المؤمنين وقلة ما بيدي. قال: فمن أنهضك الآن. الخزيمة: لم أشعر يا أمير المؤمنين بعد هدأة من الليل إلا والباب يطرق فخرجت فرأيت شخصاً وكان منه كيت وكيت. واخبره بقصته من أولها إلى آخرها. فقال له: أما عرفته. فقال خزيمة: ما سمعت منه يا أمير المؤمنين إلا حين سألته عن اسمه قال: أنا جابر عثرات الكرام. قال: فتلهف سليمان بن عبد الملك على معرفته وقال: لو عرفناه لكافيناه على مروءته. ثم قال: علي بالكاتب فحضر إليه. فكتب لخزيمة الولاية على الجزيرة وجميع عمل عكرمة وأجزل له العطاء وأحسن ضيافته وأمره بالتوجه من وقته إلى الولاية فقبل الأرض خزيمة وتوجه من ساعته إلى الجزيرة فلما قرب منها خرج عكرمة وكان قد بلغه عزله وأقبل لملاقاة خزيمة(3/205)
مع جميع أعيان البلد. وسلموا عليه وساروا جميعاً إلى أن دخلوا به البلد.
فنزل خزيمة في دار الإمارة وأمر أن يؤخذ عكرمة ويحاسب. فحوسب ففضل عليه مال كثير فطلبه خزيمة منه. فقال له عكرمة: والله ما إلى درهم منه سبيل ولا عندي منه دينار. فأمر خزيمة بحبسه وأرسل يطالبه بالمال. فأرسل عكرمة يقول له: إني لست ممن يصون ماله بعرضه فأصنع ما شئت. فأمر خزيمة بقيده وضربه فكبل بالحديد وضرب وضيق عليه فأقام كذلك شهراً فأضناه ذلك وأضر به فبلغ امرأته ضره فجزعت عليه واغتنمت لذلك غماً شديدا فدعت جارية لها ذات عقل وقالت لها: امضي الساعة إلى باب خزيمة وقولي للحاجب إن عندي نصيحة للأمير. فإذا طلبها منك فقولي: لا أولها إلا للأمير خزيمة. فإذا دخلت عليه فسليه الخلوة فإذا فعل فقولي له: ما كان هذا جزاء جابر عثرات الكرام منك بمكافأتك له بالضيق والجبس والحديد ثم بالضرب قال: ففعلت جاريتها ذلك فلما سمع خزيمة قولها قال: وا سؤتاه جابر عثرات الكرام غريمي قالت: نعم فأمر لوقته بدابته فسرجها وركب إلى وجوه أهل البلد فجمعهم وسار بهم إلى باب الحبس ففتحه ودخل فرأى عكرمة الفياض في قاع الحبس متغيراً قد أضناه الضر. فلما نظر عكرمة على خزيمة ووجوه أهل البلد معه أحشمه ذلك فنكس رأسه. فأقبل خزيمة واكب على رأسه فقبله. فرفع عكرمة رأسه وقال: ما أعقب هذا منك. قال خزيمة: كريم فعالك(3/206)
وسوء مكافأتي. فقال له عكرمة: يغفر الله لنا ولك. ثم إن خزيمة أمر بقيده أن تفك وان توضع في رجليه نفسه فقال له عكرمة ما مرادك بذلك قال مرادي أن ينالني من الضر ما نالك فقال له عكرمة أقسم عليك بالله أن لا تفعل. وبعد ذلك خرجا جميعاً وجاءا إلى دار خزيمة فودعه عكرمة وأراد الانصراف فلم يمكنه من ذلك. ثم أمر خزيمة بالحمام فأخلى ودخلا جميعاً. وقام خزيمة نفسه وتولى خدمة عكرمة. ثم خرج فخلع عليه وحمل إليه مالا كثيرا وسأله أن يسير معه إلى أمير المؤمنين سليمان بن عبد الملك وكان يومئذ مقيماً في الرملة. فسار معه حتى قدما على سليمان. فدخل الحاجب وأخبره بقدوم خزيمة بن بشر. فراعه ذلك وقال في نفسه: والي الجزيرة يقدم علينا بغير أمنا مع قرب العهد به. ما هذا إلا لحادث عظيم. فلما دخل عليه قال: ما وراءك يا خزيمة قال: خير يا أمير المؤمنين قال: فما أقدمك قال: يا أمير المؤمنين إني ظفرت بجابر عثرات الكرام فأحببت أن أسرك لما رأيت من شوقك إلى رؤيته. قال: ومن هو قال: عكرمة الفياض فإذن له في الدخول فدخل وسلم عليه بالخلافة فرحب به وأدناه من مجلسه وقال له: يا عكرمة قد كان خيرك له وبالا عليك ثم إن الخليفة قال له: اكتب حوائجك وما تختاره في رقعة. فكتبها فقضيت على أتم وجهٍ. ثم أمر له بعشرة آلاف دينار وأضاف له شيئاً كثيراً من التحف والظرف وولاه على الجزيرة وأرمينية(3/207)
وأذربيجان وقال له: أمر خزيمة بيدك إن شئت أبقيه وإن شئت عزلته. قال: بل رده إلى عمله مكرماً يا أمير المؤمنين ثم إنهما انصرفا جميعاً ولم يزالا عاملين لسليمان مدة خلافته (ثمرات الأوراق للحموي) .
يزيد بن المهلب عند سليمان بن عبد الملك
310 قيل أن الحجاج بن يوسف أخذ يزيد بن المهلب بن أبي صفرة وعذبه واستأصله واستأصل موجوده وسجنه. فاحتال يزيد بحسن تلطفه وأرغب السجان واستماله. وهرب هو السجان وقصد الشام إلى سليمان بن عبد الملك. وكان الخليفة في ذلك الوقت الوليد بن عبد الملك. فلما وصل يزيد بن المهلب إلى سليمان بن عبد الملك أكرمه وأحسن إليه وأقام عنده فكتب الحجاج إلى الوليد يعلمه أن يزيد هرب من السجن وأنه عند سليمان بن عبدا لملك أخي أمير المؤمنين وولي عهد المسلمين. وأمير المؤمنين أعلى رأياً فكتب الوليد إلى أخيه سليمان بذلك فكتب سليمان: يا أمير المؤمنين إني أجرت يزيد بن المهلب لأنه هو وأباه وإخوته أحباء لنا من عهد أبينا. ولم اجر عدوا لأمير المؤمنين. وقد كان الحجاج عذبه وغرمه دراهم كثيرة ظلما. ثم طلب منه بعدها مثل ما طلب أولا. فإن رأى أمير المؤمنين أن لا يخزيني في ضيفي فإنه أهل الفضل والكرم فكتب إليه الوليد إنه لا بد من أن ترسل إلي يزيد مقيداً مغلولاً فلما ورد ذلك على سليمان أحضر ولده أيوب فقيده. ثم دعا بيزيد بن المهلب وقيده.(3/208)
ثم شد قيد هذا إلى قيد هذا بسلسة وغلهما جميعاً بغلين رحملهما إلى أخيه الوليد وكتب إليه: أما بعد يا أمير المؤمنين فقد وجهت إليك يزيد وابن أخيك أيوب بن سليمان. وقد هممت أن أكون ثالثهما. فغن هممت يا أمير المؤمنين بقتل يزيد فبالله عليك فأبدأ بقتل أيوب. ثم أجعل يزيد ثانياً. واجعلني إن شئت ثالثاً والسلام. فلما دخل يزيد ابن المهلب وأيوب بن سليمان على الوليد وهما في سلسلة أطراق الوليد استحياء وقال: لقد أسانا إلى أبي أيوب إذ بلغنا به هذا المبلغ. فأخذ يزيد يتكلم ويحتج لنفسه فقال له الوليد: ما نحتاج ما نحتاج إلى الكلام قد قبلنا عذرك وعلمنا ظلم الحجاج. ثم استحضر حداداً فأزال عنهما الحديد وأحسن إليهما ووصل أيوب ابن أخيه بثلاثين ألف درهم ووصل يزيد بن المهل بعشرين ألف درهم وردهما إلى سليمان. وكتب كتاباً للحجاج مضمونه: لا سبيل لك على يزيد بن المهلب فإياك أن تعاودني فيه بعد اليوم. فسار بن المهلب إلى سليمان بن عبد الملك. وأقام عنده في أعلى المراتب وأفضل المنازل (للابشيهي)
هو كريم وإحسانه إلى من قتل أباه
311 حكي أنه لما أفضت الخلافة إلى بني العباس اختفت منهم جميع رجال بني أمية وكان منهم إبراهيم بن سليمان بن عبد الملك. وكان إبراهيم هذا رجلاً عالماً كاملاً أديباً وهو مع ذلك في سن الشبيبة فأخذوا له أماناً من السفاح فأعطاه أبو العباس السفاح أماناً(3/209)
وأكرمه وقال له: الزم مجلسي فذات يوم قال له أبو العباس السفاح: يا إبراهيم حدثني عما مر بك في استخفائك من العدو. فقال سمعاً وطاعة يا أمير المؤمنين. كنت مختفياً في الحيرة بمنزل في شارع على الصحراء فبينما كنت يوماً على ظهر ذلك البيت إذ بصرت بإعلام سود قد خرجت من الكوفة تريد الحيرة. فتخيلت أنها تريدني فخرجت مسرعاً من الدار متنكراً حتى أتيت الكوفة وأنا لا اعرف أحدا اختفى عنده فبقيت في حيرة فنظرت وإذا أنا بباب كبير واسع الرحبة فدخلت فيه فرأيت رجلاً وسيما حسن الهيئة مقبلاً على الرحبة ومعه أتباعه فنزل عن فرسه والتفت فراني فقال لي: من أنت وما حاجتك فقلت رجل خائف على دمه وجاء يستجير في منزلك فأدخلني منزله وصيرني في حجرة تلي حرمة وكنت عنده في كل ما أحبه من طعام وشراب ولباس وهو لا يسألني عن شيء من حالي. إلا أنه كان يركب في كل يوم من الفجر ويمضي ولا يرجع إلا قريب الظهر فقلت له يوماً أراك تدمن الركوب كل يوم ففي م ذلك فقال لي: عن إبراهيم بن سليمان بن عبد الملك كان قد قتل أبي ظلما وقد بلغني أنه مختف في الحيرة فأنا أطلبه يومياً لعلي أجده وأدرك منه ثأري قال: فلما سمعت ذلك يا أمير المؤمنين كثر تعجبي وقلت في نفسي إن القدر ساقني إلى حتفي في منزل من يطلب دمي فوالله يا أمير المؤمنين إني كرهت الحياة: ثم إني سألت الرجل(3/210)
عن أبيه فأخبرني فعلمت في كلامه حق وأني أنا الذي قتل أباه. فقلت له: يا هذا إنه قد وجب على حقك ولمعروفك لي يلزمني أن أدلك على خصمك الذي قتل أباك وأقرب عليك الخطوة. فقال: وما ذاك فقلت له: أنا إبراهيم بن عبد الملك وأنا قاتل أبيك فخذ بثارك. فتبسم مني وقال: هل أضجرك الاختفاء والبعد عن منزلك واهلك فأحببت الموت. فقلت: لا والله ولكني أقول لك الحق وإني قتلته في يوم كذا من اجل كذا. فلما سمع الرجل كلامي هذا وعلم صدقي تغير لونه واحمرت عيناه ثم فكر طويلاً والتفت إلي وقال: أنا أنت فسوف تلقى أبي عند حاكم عادل فيأخذ بثأره منك وأما أنا فلا احفر ذمتي ولكني أريد أن تخرج عني فإني لست آمن عليك من نفسي. ثم إنه أعطاني ألف دينار فأبيت أخذها وانصرفت عنه. فهذا يا أمير المؤمنين أكرم رجل رأيته وسمعت عنه في عمري بعد أمير المؤمنين (للاتليدي)
جودة معن بن زائدة
312 حكي عن معن بن زائدة أن شاعراً من الشعراء قصده فأقام مدة يريد الدخول عليه فلم يتهيأ له ذلك. فلما أعياه الأمر سأل بعض خدمه وقال له: أرجوك إذا دخل الأمير إلى البستان أن تعرفني. فلما دخل معن إلى بستانه ليتنزه جاء الخادم وأخبر الشاعر فكتب الشاعر بيتاً من الشعر على خشبة وألقاها في الماء الجاري إلى داخل(3/211)
البستان فاتفق أن معناً كان جالساً في ذلك الوقت على جانب الماء فمرت عليه الخشبة فنظر فيها كتابة فأخذها وقرأها فوجد فيها
أيا جود معن ناج معناً بحاجتي ... فمالي إلى معن سواك سبيل
فلما قرأها معن قال لخادمه: أحضر الرجل صاحب هذه الكتابة فخرج وجاء به فقال له: ماذا كتبت. فانشده البيت فلما تحققه أمر له بألف درهم. ثم عن معناً وضع تلك الخشبة تحت البساط مكان جلوسه. فلما كان اليوم الثاني جاء فجلس في مجلسه فألمته الخشبة فقام لينظر ما ألمه فرأى الخشبة فأمر خادمه أن يدعو الرجل. فمضى وجاء به فأمر له بألف درهم ثانية. ثم إنه في الثالث خرج إلى مجلسه فألمته الخشبة فدعا الشاعر وأعطاه ألف درهم أيضاً. فلما رأى الشاعر هذه العطاء الزائد لأجل بيت واحد من الشعر خاف أم معناً يراجعه عقله ويأخذ المال منه فهرب. ثم إن معناً خرج إلى مجلسه في اليوم الرابع فخطر الشاعر بباله فأمر خادمه أن يحضره ويعطيه ألف درهم. فمضى الخادم وسأل عنه فقيل له إنه سافر. فرجع وأخبر مولاه. فلما بلغه أنه سافر اغتم جداً وقال: وددت والله لو أنه مكث وأعطيته كل يوم ألفا حتى لا يبقى في بيتي درهم
إبراهيم الموصلي والمهدي
313 حدث إبراهيم الموصلي قال: كان المهدي لا يشرب الخمر فأرادني على ملازمته وترك الشرب فأبيت فحبسني. ثم دعاني(3/212)
يوماً فعاتبني على شربي الخمر في منازل الناس وقال: لا تدخل على موسى وهارون البتة. ولن دخلت عليهما لأفعلن بك ولأصنعن فقلت: نعم ثم بلغه أني دخلت عليهما في نزهة لهما. فسعي بهما وبي إلى المهدي. فدعاني فسألني فأنكرت. فأمر بي فجردت فضربت ثلاثمائة وستين سوطاً. فقلت له وهو يضربني: إن جرمي ليس من الأجرام التي يحل لك بها سفك دمي. فلما قلت له هذا: ضربني بالسيف في جفنه فشجني به وسقطت مغشياً علي ساعة. ثم فتحت عيني فوقعتا على عيني المهدي. فرأيتهما عيني نادم وقال لابن مالك: خذه إليك قال فأخرجني إلى داره وأنا أرى الدنيا في عيني صفراء وخضراء من حر السياط. وأمره أن يتخذ لي شبيهاً بالقبر فيصيرني فيه. فدعا بكبش وسلخه. فألبسني جلده ليسكن الضرب. ودفعني إلى خادمةٍ له فصيرتني في ذلك القبر. فتأذيت بالنز وبالبق في ذلك القبر. وكان فيه خلاء أستريح إليه فقلت للأمة: اطلبي لي أجرةً عليها فحم وكندر يذهب عني هذا البق. فأتتني بذلك. فلما دخنت أظلم القبر علي وكادت تخرج من الفم. فاسترحت من أذاه إلى النز فألصقت به أنفي حتى خف الدخان. فلما ظننت أني قد استرحت مما كنت فيه إذا حيتان مقلبتان نحوي من شق القبر تدوران حولي بخفيف شديدٍ. فهممت أن آخذ واحدة بيدي اليمنى والأخرى بيدي اليسرى فإما علي وإما لي. ثم كفيتهما فدخلتا من الثقب الذي(3/213)
حرجتا منه. فمكثت في ذلك القبر ما شاء الله وقلت في الحبس:
ألا طال ليلي أراعي النجوم ... أعالج في الساق كبلاً ثقيلا
بدار الهوان وشر الديار ... أسام بها الخسف صبراً جميلا
كثير الأخلاء عند الرخاء ... فلما حبست أراهم قليلا
لطول بلائي مل الصديق ... فلا يأمنن خليل خليلا
ثم أخرجني المهدي وأحلفني (بكل يمين لا فسحة لي فيها) أن لا أدخل على موسى وهارون أبداً ولا أغنيهما وخلي سبيلي (الأغاني)
المرأة المتظلمة وابن المأمون
314 حدث الشيباني قال: جلس المأمون يوما للمظالم. فكان آخر من تقدم إليه وقد هم بالقيام امرأة عليها هيئة السفر وعليها ثياب رثة. فوقفت بين يديه فقالت: السلام عليك يا أمير المؤمنين ورحمه الله وبركاته. فنظر المأمون إلى يحي بن اكثم فقال لها يحي: وعليك السلام يا أمة الله تكلمي في حاجتك. فقالت:
يا خير منتصفٍ يهدي له الرشد ... ويا إماماً به قد أشرق البلد
تشكو إليك عميد القوم أرملة ... عدا عليها فلم يترك لها سيد
وابتز مني ضياعي بعد منعتها ... ظلماً وفرق مني الأهل والولد
فأطرق المأمون حيناً ثم رفع رأسه إليها وهو يقول:
في دون ما قلت زال الصبر والجلد ... عني وقرع مني القلب والكبد
هذا أذان الصلاة العصر فانصرفي ... وأحضري الخصم في اليوم الذي اعد(3/214)
والمجلس السبت إن يقض الجلوس لنا ... ننصفك منه وإلا المجلس الأحد
فما كان اليوم الأحد جلس فكان أول من تقدم إليه تلك المرأة فقالت: السلام عليك يا أمير المؤمنين ورحمة الله وبركاته. فقال: وعليك السلام أين الخصم. فقالت: الواقف على رأسك يا أمير المؤمنين. وأومأت إلى العباس ابنه. فقال: يا أحمد بن أبي خالد خذ بيده وأجلسه معها فجلس الخصوم. فجعل كلامها يعلو كلام العباس فقال لها أحمد بن أبي خالد: يا أمة الله إنك بين يدي أمير المؤمنين. وإنك تكلمين الأمير فاخفضي من صوتك. فقال المأمون: دعها يا أحمد فإن الحق أنطقها وأخرسه. ثم قضي لها برد ضيعتها إليها. وظلم العباس بظلمه لها. وأمر بالكتاب لها إلى العامل ببلدها أن يوغر لها ضيعتها ويحسن معاونتها وأمر لها بنفقةٍ (لابن عبد ربه)
المرأة الكريمة
315 حكي أن عبد الله بن عباس كان من أكابر الأجواد الكرام فنزل منزلاً. وكان منصرفاً من الشام إلى الحجاز. فطلب من غلمانه طعاما فلم يجدوا. فقال لوكيله: اذهب في هذه البرية فلعلك تجد راعياً أو حياً فيه لبن أو طعام. فمضى بالغلمان فوقعوا على عجوز في حيٍ. فقالوا لها: عندك طعام ابتاعه قالت: أما طعام البيعة فلا ولكن عندي ما به حاجة لي ولأبنائي. قالوا: فأين بنوك قالت: في رعي لهم وهذا أوان أوبتهم. قالوا: فما أعددت لك ولهم قالت: خبزة تحت(3/215)
ملتها. قالوا: وما غير ذلك. قالت: لاشيء قالوا: فجزدي لنا بشطرها. فقالت: أما الشطر فلا أجود به وأما الكل فخذوه. فقالوا لها: تمنعين النصف وتجودين بالكل. فقالت: نعم لن إعطاء الشطر نقيصة. وإعطاء الكل كمال وفضيلة. فانا امنع ما يضعني وأمنح ما يرفعني. فأخذوها ولم تسألهم من هم ولا من أين جاؤوا. فلما جاءوا إلى عبد الله وأخبروه بخبرها عجب من ذلك. ثم قال لهم: احملوها إلي الساعة فرجعوا إليها. وقالوا لها: انطلقي معنا على صاحبنا فإنه يريدك. فقالت ومن صاحبكم. قالوا: عبد الله بن عباس. قالت: وأبيكم هذا هو الشرف العالي وذروته الرفيهة. وماذا يريد مني قالوا: مكافأتك وبرك. فقالت: أواه والله لو كان ما فعلت معروفاً ما أخذت له بدلاً. فكيف وهو شيء يجب على الخلق أن يشارك فيه بعضهم بعضاً. فلم يزالوا بها إلى أن أخذوها إليه. فلما وصلت إليه سلمت عليه فرد عليها السلام. وقرب مجلسها. ثم قال لها: ممن أنت. قالت: من بني كلبٍ. قال: فكيف حالك. قالت: أسهر اليسير وأهجع أكثر الليل وأرى قرة العين في شي. فلم يك من الدنيا شيء إلا وقد وجدته. قال: فما ادخرت لبنيك إذا احضروا. قالت: أدخر لهم ما قاله حاتم طيء حيث قال:
ولقد أبيت على الطوى وأظله ... حتى أنال به كريم المأكل
فازداد عبد الله منها تعجباً. ثم قال لها: لو جاء بنوك وهم جياع ما(3/216)
كنت تصنعين. فقال: يا هذا لقد عظمت عندك هذه الخبزة حتى أكثرت فيها مقالك. وأشغلت بها بالك. إله عن هذا فإنه يفسد النفس ويؤثر في الخسة. فقال عبد الله: أحضر والي أولادها فأحضروهم فلما دنوا منه رأوا أمهم وسلموا. فأدناهم إليه وقال: إني لم أطلبكم وأمكم لمكروه وإنما أحب أن أصلح من شأنكم وألم شعثكم. فقالوا: إن هذا قل أن يكون إلا عن سؤال أو مكافأة لفعل قديم قال: ليس شيء من ذلك ولكن جاورتكم في هذه الليلة فأحببت أن أضع بعض مالي فيكم. قالوا: يا هذا نحن في خفض عيش وكفاف من الرزق فوجهه نحو من يستحقه. وإن أردت النوال مبتدأ من غير سؤال فتقدم فمعروفك مشكور وبرك مقبول. فقال: نعم هو ذاك. وأم لهم بعشرة آلاف درهم وعشرين ناقة. فقالت العجوز لأولادها: ليقل كل واحد منكم شيئاً من الشعر وأنا أتبعكم في شيء منه. فقال الأكبر:
شهدت عليك بطيب الكلام ... وطيب الفعال وطيب الخبر
وقال الأوسط:
تبرعت بالجود قبل السؤال ... فعال عظيم كريم الخطر
وقال الأصغر:
وحق لمن كان ذا فعله ... بأن يسترق رقاب البشر
وقالت العجوز:(3/217)
فعمرك الله من ماجد ... ووقيت كل الردى والحذر
الأعرابي ومالك بن طوق
316 وفد أعربي على مالك بن طوق وكان زري الحال رث الهيئة فمنع من الدخول إليه. فأقام بالرحبة أياماً. فخرج مالك ذات يوم يريد نزهة حول الرحبة. فعارضة الأعرابي فمنعه الشرطة ازدراء به. فلم ينثن عنه حتى أخذ بعنان فرسه ثم قال: أيها الأمير أنا عائذ بك من شرطك. فنهاهم عنه وأبعدهم منه ثم قال له: هل من حاجةٍ. قال: نعم أصلح الله الأمير. قال: وما هي. قال: أن تصغي إلي بسمعك. وتنظر إلي بطرفك. وتقبل علي بوجهك. ثم أنشد:
ببابك دون الناس أنزلت حاجتي ... وأقبلت أسعى نحوه وأطوف
ويمنعني الحجاب والليل مسبل ... وأنت بعيد والرجال صفوف
يطوفون حولي بالقلوب كأنهم ... ذئاب جياع بينهن خروف
فأما وقد أبصرت وجهك مقبلاً ... واصرف عنه إنني لضعيف
وما لي من الدنيا سواك وما لمن ... تركت ورائي مربع ومصيف
وقد علم الحيان قيس وخندق ... ومن هو فيها مازال وحليف
تخطيت أعناق الملوك ورحلتي ... إليك وقد أخنت علي صروف
فجئتك أبغي الخير منك فهزني ... ببابك من ضرب العبيد صنوف
فلا تجعلن لي نحو بابك عودة ... فقلبي من ضرب العبيد مخوف
فاستضحك مالك حتى كاد يسقط عن فرسه. ثم قال لمن(3/218)
حوله: من يعطيه درهما بدرهمين وثوباً بثوبين. فنثرت الدراهم وقعت الثياب عليه من كل جانب حتى تحير الأعرابي واختلط عقله لكثرة ما أعطي. فقال له مالك: هل بقيت لك حاجة يا أخا العرب. قال: أما إليك فلا. قال: فإلى من. قال: إلى الله أن يبقيك للعرب فإنها لا تزال بخير ما بقيت لها (للقليوبي)
الخارجي والمعتصم
317 أخبر بعضهم قال: ما رأيت لاجً عرض عليه الموت فلم يكترث به إلا تميم بن جميل الخارجي. كان قد خرج على المعتصم ورأيته قد جيء به أسيراً. فدخل عليه في يوم موكب وقد جلس المعتصم للناس مجلسا عاماً ودعا بالسيف والنطع. فلما مثل بين يديه نظر إليه المعتصم فأعجبه شكله وقده ومشيته إلى الموت غير مكترث به. فأطال الفكرة فيه ثم استنطقه في عقله وبلاغته فقال: يا تميم إن كان لك عذر فات به. فقال: أما إذا إذن أمير المؤمنين (جبر الله به صدع الدين. ولم شعث المسلمين. واخمد ثهاب الباطل. وأنار سبل الحق) . فالذنوب يا أمير المؤمنين تخرس الألسنة وتصدع الأفئدة. أيم الله لقد عظمت الجريرة وانقطعت الحجة. وساء الظن ولم يبق إلا العفو أو الانتقام. وأمير المؤمنين أقرب إلى العفو وهو أليق شيمة الظاهرة. ثم أنشد:
أرى الموت بين السيف والنطع كلمنا ... يلاحظني من حيث ما أتلفت(3/219)
وأكبر ظني أنك اليوم قاتلي ... وأي أمريء مما قضى الله يفلت
ومن ذا الذي يأتي بعذر وحجةٍ ... وسيف المنايا بين عينيه مصلت
وما جزعي من أن أموت وإني ... لأعلم أن الموت شيء موقت
ولكن خلفي صبية قد تركتهم ... وأكبادهم من حسرة تتفتت
وكأني أراهم حين أنعي إليهم ... وقد لطموا تلك الخدود وصوتوا
فإن عشت عاشوا سالمين بغبطةٍ ... أذد الردى عنهم وإن مت موتوا
قال فبكي المعتصم وقال: إن من البيان لسحراً. ثم قال: كاد والله يا تميم أن يسبق السيف العذل وقد وهبتك لله ولصبيتك وأعطاه خمسين ألف درهم (ثمرات الأوراق للحموي)
قصة رجل أجار رجلاً استغاث به وكان خائفاً على دمه فجوزي على إحسانه
318 حكى العباس حاجب المنصور قال: لما ملك العباس السفاح البلاد من بني أمية واستولى على الخلافة قطع آثار بني أمية من جميع البلاد. فبعد مدةٍ قليلة تراجع المتعصبون لبني أمية وأثاروا فتنه عظيمة في الشام. وكان ذلك بعد موت أمير المؤمنين العباس السفاح وتوليه الخلافة لأخيه أبي جعفر المنصور. فقال الأمويون على العباسيين وقتلوا جميع من وقع منهم في أيديهم. وبلغني الخبر وأنا ماش في شارع وماض لابتاع شيئاً أنهم طلبوني وأدركوني. فهربت ودخلت داراً وجدت بابها مفتوحاً فلقيت في ساحتها شيخا مهيباً جالساً فقال: من الرجل. فقلت: خائف على دمه وقد أدركه الطلب. فقال:(3/220)
مرحباً لا بأس عليك أدخل هذه المقصورة. وأشار لي إلى باب فدخلته ومضى مسرعاً وأقفل الباب ودخل حرمه وأتاني من ثيابهن وقال لي: قم أشلح ما عليك والبس هذه الثياب لأني رأيت الطلب عليك شديداً. فلبست ثياب النساء ثم أدخلني إلى مقصورة حرمه وجعلني بينهن. فما لبثت قليلاً أن طرق باب الدار وقد حضرت الرجال في طلبي. فدخل الرجل عندي وقال لي: لا تخف بل كن مستقراً في حرمي. ثم نزل وفتح الباب للناس فطلبوني منه فأنكرني وقال: إنه لم يرني. فقالوا له: نفتش بيتك فقال لهم: دونكم ذلك. فدخل القوم وفتشوا جميع دار الرجل إلا مقصورة التي فيها حرمه فلم يجدوا شيئاً. فذهبوا وأقفل الرجل باب داره ودخل علي وقال: الحمد لله على سلامتك وجعل لا يبرح من بأنيسي ومجالستي وإكرامي مدة ثلاثة أيام فقلت له يوماً: يا مولاي لقد طال مقامي وأنا أريد اللحاق بولي نعمتي. فقال: أما إذا شئت فامض معافى. ثم إنه احضر لي زاداً كثيراً وركوبةً وأعطاني صرة فها خمسمائة دينار وقال لي: كل احتياج سفرك معد إلا أنني أخاف عليك أن تمضي وتخرج من المدينة نهاراً فتعرف فأمهل إلى بعد الغروب قبل قفل أبواب المدينة. فقلت له: إن الرأي رأيك. فصبرت إلى أن أظلمت ثم قمت وقام معي وأخرجني من باب الشام وسار معي مسافة طويلة فأقسمت عليه أن لا يزيد على ذلك. فودعني ورجع وسرت شاكراً للرجل(3/221)
ومتعجباً من غزارة إحسانه إلى أن بلغت بغداد ولحقت بأبي جعفر المنصور. فذات يوم لما قمت صباحاً على عادتي الفجر العميق وخرجت من داري قاصداً دار أمير المؤمنين وجدت رسوله في الطريق وهو آت من عنده يدعوني له. فانطلقت مسرعاً إلى أن دخلت عليه فنظر إلي وقال: يا عباس. فقلت لبيك يا أمير المؤمنين. قال خذ هذا الرجل واحتفظ به وغداً أتني به وأعلم أنه إن فقد منك فلن أرضى إلا بعنقك. فقلت سمعاً وطاعة يا أمير المؤمنين. فنظرت فوجدت أمامه في ناحية المكان شيخاً مقيداً في عنقه ويديه ورجليه فأخذته وخرجت به فأكبته وأتيت به إلى بيتي. ولكثرة حرصي عليه من أجل وصية المنصور لي دعوت غلماني وأمرتهم ففرشوا لنا مقصورة وأجلست الرجل فيها وجلست إلى جانبه وضعت طرف قيده في رجلي وطبقت عليها. كل ذلك حرصاً إلى الرجل لئلا يهرب فيروح عنقي. فلما مضى النهار وجاء المغرب أمرت غلماني فجاءوا بالمائدة وعليها الطعام والشراب. فجلست أنا والرجل فأكلنا ثم غسلنا أيدينا وجلسنا وقد ضجرت من السكون لن الرجل مهموم ويفكر في شأنه فسألته من أين هو فقال: من الشام. فقلت أتعرف فلان الفلاني في الشام. فقال: ما أحد أعرف به مني لماذا تسأل عنه. فقلت له: لأني أسير معروفه وعبد إحسانه. وأخبرته بما عمله معي في زمان فتنة الشام. فتبسم الرجل فلما تبسم تفرست فيه فإذا هو هو. فطار عقلي من(3/222)
رأسي فرحاً به فجعلت أسأله إلى أن تحققته فقمت حينئذ وكسرت أقفال قيوده وهو يمتنع من ذلك. ثم أمرت الغلمان فأحضروا له ثياباً فأبى فأقسمت عليه فلبسها. ثم قال لي: ما مرادك أن تعمل بي. قلت: والله أنقذك حتى تصير بعيداً عن بغداد بمراحل وتذهب في حال سبيلك. فقال: اسمع هذا ليس هو الرأي الصائب لأنك إذا مضيت إلى أمير المؤمنين من غيري يغضب عليك فيقتلك وأنا معاذ الله أن اشتري سلامتي بموتك فهذا لا يمكن. فقلت له: وما ذنبك أنت عند أمير المؤمنين. فقال: اتهموني زراً بأني أنا الذي حركت الفتن في الشام وأن لبني أمية عندي ودائع. فقلت: حيث إن هذا فقط جرمك والله إني أهربك وأنالا أبالي من أمير المؤمنين إن قتلني وإن عفا عني. فإن إحسانك السالف علي عظيم جداً. فقال لي: لا تظن أني أطاوعك على ذلك ولكن عندي رأي أصوب وهو: دعني محفوظاً في مكان
وامض قل لأمير المؤمنين ما شئت من هربي. فإن عفا عنك فعد إلي وأطلقني فأهرب وإن أمر بقتلك فعد ذلك أكون أنا في أمرك فتحضرني وتفتدي نفسك. وعدا هذا لا أرتضي معك بشيء (قال) فلما رأيت الرجل أبى إلا هذا وضعته في مقصورة خفية في داري وأصبحت وأبكرت إلى دار الخلافة. فدخلت فوجدت المنصور جالساً ينتظرني. فلما رآني وحدي قام عرق الغضب بين عينيه ورأيت عينيه قد صارتا مثل النار غيظاً علي وقال لي: هيه(3/223)
يا عباس أين الرجل. فقلت له مهلاً يا أمير المؤمنين فإن العفو أقرب للتقوى وهذا رجل حرى لي معه كيت وكيت وفعل معي كذا وكذا من الإحسان العظيم فالتزمت لحق إحسانه أن أطلقه أملا بحلمك واتكالا على كرمك. قال: فرأيت وجه المنصور قد تهلل وقال لي لحاك الله يا عباس. أيفعل هذا الرجل معك هذا للإحسان العظيم في زمن الفتنة وتطلقه من غير أن تخبرنا بإحسانه لنقم بإكرامه ونجزيه عما فعله معك من الخير. وجعل المنصور يتأسف ويفرك يديه تحسراً ويقول: أيذهب منا إنسان له علينا إحسان فلا نوفيه بعض ما استوجب عندنا من عظيم معروفه والله إنها لكبرى. فقلت له: يا أمير المؤمنين بأبي وأمي إن الرجل موجود عندي وقد أبى أن يهرب لخوفه على عنقي منك. فقال لي أن أجعله محفوظاً في مكان وآتيك فأخبرك أنه هرب فإن عفوت وإلا رجعت فأحضرته. فاستبشر وجه المنصور وضرب برجله الأرض وقال: هذا والله يساوي مقدار سالف معروف الرجل إليك. فامض مسرعاً وائتني به مكرماً موقراً. فمضيت وأتيت داري ودخلت على الرجل فقبل الأرض شكراً لله تعالى وقام وجاء معيي حتى دخلنا على أمير المؤمنين المصور فحين رآه رحب به وأجلسه بجانبه وأكرمه وخلع عليه خلعاً نفيسة وقال له: هذا جزاء إحسانك. وسأله إن شاء أن يوليه الشام فأبى وشكره. وأطلقه المنصور موقراً وأرسل معه الكتب لولاته يأمرهم بإكرامه والقيام بحوائجه (للاتليدي)(3/224)
الباب الخامس عشر في الفكاهات
319 أرسل ابن خروف الشاعر إلى ابن شداد بحلب يطلب منه فروةً:
بهاء الدين والدنيا ... ونور المجد والحسب
طلبت مخافة الأنوا ... ء من جدواك جلد أبي
وفضلك عالم أني ... خروف بارع الأدب
حلبت الدهر أشطره ... وفي حلبٍ صفا حلبي
320 دخل أبو دلامة على المنصور فأنشده:
رأيتك في المنام كسوت جلدي ... ثياباً جمة وقضيت ديني
فكان بنفسجي الحز فيها=وسياج ناعم فأتم زيني
فصدق يا فدتك الناس رؤيا ... رأتها في المنام كذاك عيني
فأمر له بذلك وقال: لا تعد فتحلم فأجعل حلمك أضغاثاً (للأزدي)
سيد العرب
321 قال الأصمعي: رأيت بالبادية أعرابية تبكي على قبر وتقول:
فمن لسؤال ومن للنوال ... ومن للمعالي ومن للخطب
ومن للحماة ومن للكماة ... إذا ما الكماة جثوا للركب
إذا قيل مات أبو مالك ... فتى المكرمات فريد العرب
فقلت لها: من هذا الذي مات هؤلاء كلهم بموته. فبكت(3/225)
وقالت: هذا أبو مالك الحجام ختن أبي منصور الحائك. فقلت: لا جازاك الله خيراً. والله ظننت إلا انه سيد من سادات العرب.
ابن المغازلي عند المعتضد
322 كان ابن المغازلي رجلاً يتكلم ببغداد على الطرق بأخبار ونوادر منوعةٍ. وكان نهاية في الحذق لا يستطيع من سمعه أن لا يضحك. قال: وقفت يوماً على باب الخاصة أضحك الناس واتنادر فحضر حلفي بعض خدام المعتضد. فأخذت في نوادر الخدم فأعجب بذلك وانصرف. ثم عاد فأخذ بيدي وقال: دخلت فوقفت بين يدي سيدي فتذكرت حكايتك فضحكت. فانك علي وقال: مالك ويلك. فقلت: على الباب رجل يعرف بابن المغازلي يتكلم بحكايات ونوادر تضحك الثكول. فأمر بإحضارك ولي نصف جائزتك. فطمعت في الجائزة وقلت: يا سيدي أنا ضعيف وعلي عيله فلو أخذت سدسها أو ربعها. فأبى وأخلني. فسلمت فرد السلام وهو ينظر في كتاب. فنظر في أكثره وأنا واقف ثم أطبقه ورفع رأسه إلي وقال: أنت ابن المغازلي. قلتك نعم يا مولاي. قال: بلغني أك تحكي وتضحك بنوادر عجيبة. فقلت: يا أمير المؤمنين الحاجة تفتق الحيلة. اجمع للناس حكايات أتقرب بها إلى قلوبهم فالتمس برهم. فقال: هات ما عندك فإن أضحكتني أجزتك بخمسمائة درهم وإن أنا لم أضحك بذلك الحراب عشر صفعاتٍ. فقلت في(3/226)
نفسيك ملك لا يصف إلا بشيء لين خفيف. والتفت فإذا بجراب من ادم معلق في زاوية البيت. فقلت: ما أخطأ ظني عسى فيه ريح. إن أضحكته ربحت وأخذت الجائزة وإلا فعشر صفعات بجراب منفوخ شيء هين. ثم أخذت في النوادر والحكايات والنفاسة والعبارة. فلم أدع حكاية أعرابي ولا نحوي ولا مخنث ولا قاض ولا نبطي ولا سندي ولا زنجي ولا خادم ولا تركي ولا شاطر ولا عيار ولا نادرة ولا حكاية إلا وأحضرتها حتى نفذ كل ما عندي وتصدع رأسي. وفترت وبردت ولم يبق ورائي خادم ولا غلام إلا وقد ماتوا من الضحك. وهو مقطب لا يبتسم. فقلت: قد نفذ ما عندي ووالله ما رأيت مثلك قط. فقال لي: هيه ما عندك. فقلت مابقي لي سوى نادرة واحدةٍ. قال: هاتها. قلت: وعدتني أن تجعل جائزتي عشر صفعات وأسألك أن تضعفها لي وتضيف إليها عشر صفعات أخرى. فأراد أن يضحك ثم تماسك وقال: نفعل. يا غلام خذ بيده. ثم مددت ظهري فصفعت بالجراب صفعة فكأنما سقطت قطعة من جبل.
وإذا هو مملوء حصا مدوراً فصفعت عشراً فكادت أن تنفصل رقبتي وطنت أذناي وانقدح الشعاع من عيني. فصحت: يا سيدي نصيحة. فرفع الصفع بعد أنعزم على العشرين. فقال: قل نصيحتك. فقلت يا سيدي إنه ليس في الديانة. أحسن من الأمانة وأقبح من الخيانة. وقد ضمنت للخادم الذي أدخلني نصف الجائزة على قلها وكثرها.(3/227)
وأمير المؤمنين بفضله كرمه قد أضعفها. وقد استوفيت نصفي وبقي نصفه. فضحك حتى استلقى واستفزه ما كان سمع. فتحامل له فما زال يضرب بيديه الأرض ويفحص برجليه ويمسك بمراق بطنه حتى إذا سكن قال: علي به فأتى به. وأمر بصفعه وكان طويلاً. فقال: وما جنايتي. فقلت له: هذه جائزتي وأنت شريكي فيها. وقد استوفيت نصيبي منها وبقي نصيبك. فلما أخذه الصفع وطرق قفاه الوقع أقبلت ألومه وأقول له: قلت لك إني ضعيف معيل وشكوت إليك الحاجة والمسكنة وأقول لك: خذ ربعها أو سدسها وأنت تقول لا آخذ إلا نصفها. ولو علمت أن أمير المؤمنين أطال الله بقاءه جائزته الصفع وهبتها لك كلها. فعاد إلى الضحك من عتابي للخادم. فلما استوفى نصيبه اخرج صرة فيها خمسمائة درهم وقال: هذه كنت أعددتها لك فلم يدعك فضولك حتى أحضرت شريكاً لك. فقلت: وأين الأمانة. فقسمها بيننا وانصرفت (للشريشي)
إبراهيم الموصلي وإبراهيم المهدي عند الرشد
323 قال الرشيد لإبراهيم بن المهدي وإبراهيم الموصلي وابن جامع: باكروني غدا وليكن كل واحد قد قال شعراً إن كان يقدر أن يقوله وغنى فيه لحناً. وإن لم يكن شاعراً عنى في شعر غيره. قال إبراهيم بن المهدي: فقمت في السحر وجهدت أن أقدر على شيء أصنعه فلم يتفق لي. فلما خفت طلوع الفجر دعوت بغلماني وقلت لهم:(3/228)
إني أريد أن أمضي إلى موضع لا يشعر بي احد حتى أصير إليه. وكانوا في زبيديات لي يبيتون فيها على باب داري. فقمت فركبت في إحداها وقصدت دار إبراهيم الموصلي. وكان قد حدثني أنه إذا أراد الصنعة لم ينم حتى يدبر ما يحتاج إليه. واعتمد على خشبةٍ له فلم يزل يقرع عليها حتى يفرغ من الصوت ويرسخ في قلبه. فجئت حتى وقفت تحت داره فإذا هو يردد صوتاً أعده. فمازلت واقفاً أستمع منه الصوت حتى أخذته. ثم عدونا إلى الرشيد فلما جلسنا للشرب خرج الخادم إلى فقال: يقول لك أمير المؤمنين يا ابن أم غنني. فاندفعت فغنيت هذا الصوت والموصلي في الموت حتى فرغت منه. فشرب عليه وأمر لي بثلاثمائة ألف درهم. فوثب إبراهيم الموصلي فحلف بالطلاق وحياة الرشيد أن الشعر له قاله البارحة وغنى فيه. ما سبقه إليه أحد. فقال ابن المهدي: ياسيد فمن أين هو لي أنا لولا كذبه وبهته. وإبراهيم يضطرب ويضج. فلما قضيت أرباً من العبث به قلت للرشيد: الحق أحق أن يتبع وصدقته. فقال للموصلي: أما أخي فقد أخذ المال ولا سبيل إلى رده. وقد أمرت لك بمائة ألف درهم عوضاً مما جرى عليه. فأمر له بها فحملت إليه. (الأغاني) 324 ذكر المبرد أن المهلب بن أبي صفرة قال يوماً وقد اشتدت الحرب بينه وبين الخوارج لأبي علقمة اليحمدي: امددنا بخيل اليحمد. وقال لهم: أعيرونا جماجمكم ساعة. فقال: أيها الأمير إن(3/229)
جماجمهم ليست بفخار فتعار. وأعناقهم ليست بكراثٍ فتنبت. وقال:
يقول لي الأمير بغير جرمٍ ... تقدم حين جد بنا المراس
فما لي إن أطعنك من حياة ... مال لي غير هذا الرأس راس
ثقيل وظريف
325 أهدى رجل من الثقلاء إلى رجل من الظرفاء جملاً ثم نزل عليه حتى أبرمه. فقال فيه:
يامبرماً أهدى جمل ... خذ وانصرف ألفي جمل
قال وما أوقارها ... قلت زبيب وعسل
قال ومن يقودها ... قلت له ألفا رجل
قال ومن يسوقها ... قلت له ألفا بطل
قال وما لباسهم ... قلت حلي وحلل
قال وما سلاحهم ... قلت سيوف وأسل
قال عبيد لي إذا ... قلت نعم ثم خول
قال بهذا فاكتبوا ... إذن عليكم لي سجل
قلت له ألفي سجل ... فأضمن لنا أن ترتحل
قال وقد أضجرتكم ... قلت أجل ثم أجل
قال وقد أبرمتكم ... قلت له الأمر جلل
قال وقد أثقلتكم ... قلت له فوق الثقل
قال فإني راحل ... قلت العجل ثم العجل(3/230)
يا كوكب الشؤم ومن ... أربى على تحس زحل
يا جبلاً من جبل ... في جبل فوق جبل
سنان بن ثابت والطبي القروي
326من ظريف ما جرى لسنان بن ثابت في الطب في امتحان الأطباء عند تقدم الخليفة إليه بذلك أنه احضر إليه رجل مليح البشرة والهيئة وقار. فأكرمه سنان على موجب منظره ورفعته. ثم التفت إليه سنان فقال: قد اشتهيت أن أسمع من الشيخ شيئاً أحفظه عنه وان يذكر شيخه في الصناعة. فأخرج الشيخ من كمه قرطاساً فيه دنانير صالحة ووضعها بين يدي سنان وقال: والله ما أحسن أن أكتب ولا أقرأ شيئاً جملة. ولي عيال ومعاشي دار دائره وأسألك أن لا تقطعه عني. فضحك سنان وقال: على شريطة أنك لا تهجم على مريض بما لا تعلم ولا تشير بنفصدٍ ولا بدواء مسهل إلا بما قرب من الأمراض. قال الشيخ: هذا مذهبي مذ كنت ما تعديت السكنجبين والجلاب. وانصرف. ولما كان من الغد حضر إليه غلام شاب حسن البزة مليح الوجه ذكي فنظر إليه سنان فقال له: هلي من قرأت قال: على أبي. قال: ومن يكون أبوك. قال: الشيخ الذي كان عندك بالأمس. قال: نعم الشيخ. وأنت على مذهبه. قال: نعم. قال: لا تتجاوزه. وانصرف مصاحبا (لأبي الفرج)(3/231)
حذاء أبي القاسم الطنبوري
327 حكي أنه كان في بغداد رجل أسمه أبو القاسم الطنبوري وكان له مداس صار له وهو يلبسه سبع سنين. وكان كلما تقطع منه موضع جعل مكانه رقعه إلى أن صار إلى غاية الثقيل وصار الناس يضربون به المثل. فأتفق انه دخل يوماً سوق الزجاج. فقال له سمسار: يا أبا القاسم قد قدم إلينا اليوم تاجر من حلب ومعه حمل زجاج مذهب قد كسد فاشتره منه. وأنا أبيعه لك بعد هذه المدة فتكسب به المثل مثلين. فمضى واشتراه بستين ديناراً. ثم إنه دخل على سوق العطارين فصادفة سمسار آخر وقال له: يا أبا القاسم قد قدم إلينا اليوم من نصيبين ومعه ماء وردٍ في غاية الطيبة ومراده أن يسافر. فلعجلة سفره يمكن أن تشتريه منه رخيصا وأنا أبيعه لك فيما بعد بأقرب مدةٍ فتكسب به المثل مثلين. فمضى أبو القاسم واشتراه أيضاً بستين ديناراً أخرى وملأه في الزجاج المذهب وحمله وجاء به فوضعه على رفٍ من رفوف بيته في الصدر. ثم إن أبا القاسم دخل الحمام يغتسل. فقال له بعض أصدقائه يا أبا القاسم أشتهي أن تغير مداسك فإنه في غاية الشناعة وأنت ذو مال من حمد الله. فقال له أبو القاسم: الحق معك فالسمع والطاعة. ثم لأنه لما خرج من الحمام ولبس ثيابه رأى بجانب مداسه مداساً جديداً فطن أن الرجل من كرمه اشتراه له فلبسه(3/232)
ومضى إلى بيته. وكان ذلك المداس الجديد مداس القاضي جاء في ذلك اليوم إلى الحمام وضع مداسه هناك ودخل استحم. فلما خرج فتش على مداسه فلم يجده فقال: أبا إخوانا أترون أن الذي لبس مداس أبي القاسم الطنبوري فعرفوه لأنه كان يضرب به المثل. فأرسل القاضي خدمه فكبسوا بيته فوجوا مداس القاضي عنده. فاحضره القاضي وأخذ منه المداس وضربه تأديباً وحبسه مدة وغرمه بعض المال وأطلقه. فخرج أبو القاسم من الحبس وأخذ مداسه وهو غضبان عليه ومضى إلى دجلة فألقاه فيها فغاص في الماء. فأتى بعض الصيادين ورمى شبكته فطلع فيها المداس. فلا رآه الصياد عرفه وقال: هذا مداس أبي القاسم الطنبوري فالظاهر انه وقع منه في دجلة. فحمله وأتى به بيت أبي القاسم فلم يجده. فنظر فرأى طاقة نافذةً إلى صدر البيت فرماه منها إلى البيت فسقط على الرف الذي فيه الزجاج وماء الورد. فوقع الزجاج وتكسر وتبدد ماء الورد. فجاء أبو القاسم ونظر ذلك فعرف الأمر فلطم على وجهه وصاح وبكى وقال: وافقره أفقرني هذا المداس الملعون. ثم إنه قام ليحفر له في الليل حفرة ويدفنه فيها ويرتاح منه. فسمع الجيران حس الحفر فظنوا أن أحداً ينقب عليهم. فرفعوا المر إلى الحاكم فأرسل إليه واحضره واعتقله وقال له: كيف نستحل(3/233)
أن تنقب على جيرانك حائطهم وحبسه ولم يطلقه حتى غرم بعض المال. ثم خرج من السجن ومضى وهو حردان من المداس وحملة إلى كنيف الخان ورماه فيه فسد قصبة الكنيف ففاض وضجر الناس من الرائحة الكريهة. ففتشوا على السبب فوجوا مداساً فتأملوه فإذا هو مداس أبي القاسم. فحملوه إلى الوالي واخبروه بما وقع. فاحضر الوالي أبا القاسم ووبخه وحبسه وقال له عليك تصليح الكنيف فغرم جملة مالٍ. وأخذ منه الوالي مقدار ما غرم تأديباً له وأطلقه. فخرج أبو القاسم والمداس معه وقال وهو مغتاظ منه: والله ما عدت أفارق هذا المداس. ثم إنه غسله وجعله على سطح بيته حتى يجف. فرآه كلب فظنه دمة فحملة وعبر به إلى سطح آخر فسقط من الكلب على رأس رجل فألمه وجرحه جرحاً بليغاً. فنظروا وفتشوا لمن المداس فعرفوه أنه مداس أبي القاسم. فرفعوا الأمر إلى الحاكم فألزمه بالعوض والقيام بلوازم المجروح مدة مرضه. فنفد عند ذلك جميع ما كان له ولم يبق عنده شيء. ثم إن أبا القاسم أخذ المداس ومضى به إلى القاضي وقال له: أريد من حضرة مولانا القاضي أن يكتب بيني وبين هذا المداس مبارأة شرعية على أنه ليس مني وأني لست منه. وان كلا منا بريء من صاحبه. وانه مهما يفعله هذا المداس لا أؤخذ به أنا. واخبره بجميع ما جرى عليه منه. فضحك القاضي منه ووصله ومضى (لطائف العرب)(3/234)
الباب السادس عشر
في النوادر
328 حكي أن بعض الحسدة وشى بالوزير الكاتب ابن مقلة الذي انفرد في زمانه بعلو الخط وحسنه: وادعى انه غدر الملك في بعض الأمور فأمر الملك بقطع يده فلما فعل به هذا الأمر لزم بيته وانصرفت عنه الأصدقاء المحبون ولم يأته أحد إلى نصف النهار.
فتبين للملك أن الكلام عليه باطل. فأمر بقتل الذي وشى بابن مقلة ورده إلى ما كان. فلما رأى إخوانه أن نعمته عادت إليه عادوا له يهنونه وأقبلوا إليه يعتذرون. فانشد:
تحال الناس والزمان ... فحيث كان الزمان كانوا
عاداني الدهر نصف يومٍ ... فانكشف الناس لي وبانوا
ومكث يكتب بيده اليسرى بقية عمره. ولم يتغير خطة حتى مات
معجزة ظهرت في حصار مدينة وبذ
329 خرج أمير المؤمنين أبو يعقوب من إشبيلية قاصداً بلاد الأدفنش. فنزل على مدينة له عظيمة تسمى وبذ. وذلك أنه بلغه أن أعيان دولة الأدفنش ووجوه أجناده في تلك المدينة. فأقام محاصراً لها أشهراً إلى أن اشتد الحصار وبرح بهم العطش. فأرسلوا إلى أمير(3/235)
المؤمنين يطلبون الأمان على أنفسهم على أن يخرجوا له من المدينة. فأبى ذلك عليهم وأطعمه فيهم ما نقل إليه من شدة عطشهم وكثرة من يموت منهم. فلما يئسوا مما عنده سمع لهم بعض الليالي لغط عظيم وجلبة أصوات. وذلك أنهم أخرجوا أناجيلهم واجتمع قسيسوهم ورهبانهم يدعون ويؤمن باقيهم. فجاء مطر عظيم كأنه القرب ملأ ما كان عندهم من الصهاريج فشربوا وارتو وتقووا على المسلمين. فانصرف عنهم الخليفة راجعاً إلى اشبيلية بعد أن هادن الأدفنش (المراكشي)
مشهد الحسين
330 ومن عجائب مشاهد مصر المشهد العظيم الشأن الذي بالقاهرة حيث رأس الحسين. وهو في تابوت من فضة مدفون قد بني عليه بنيان يقصر الوصف عنه. مجلل بأنواع الديباج محفوف بأمثال العمد الكبار شمعاً بيضاء أكثرها موضوع في أنار الفضة. وحف أعلاه كله بأمثال التفافيح ذهباً في مصنع شبه الروضة. يبهر الأبصار حسناً وجمالاً. وفيه أنواع الرخام المجزع الغريب الصنعه البديع الترصيع مالا يتخيله المتخيلون. والمدخل إليها من مسجد على مثالها في التأنق. حيطانه كلها رخام. واغرب ما فيه حجر موضوع في الجدار الذي يستقبله الداخل شديد السواد والبصيص يصف الأشخاص كلها كأنه المرآة الهندية. ولتزاحم الناس على القبر وانكبابهم عليه وتمسحهم به وبالكسوة التي عليه مرأى هائل (لشربشي)(3/236)
331 نسخة مبايعة ملك كتبها الشيخ عمر بن الوردي نظماً:
باسم إله الخلق هذا ما اشتره ... محمد بن يونس بن سنقرا
من أحمد بن مالك بن الأزرق ... كلاهما قد عرفا من جلق
فباعه قطعه أرض واقعة ... بكورة الغوطة وهي جامعة
لشجر مختلف الجناس ... والأرض في البيع مع الغراس
وذرع هذي الأرض بالذراع ... عشرون في الطول بلا نزاع
ذرعا في العرض منها عشرة ... وهو ذراع باليد المعتبره
وحدها من قبلهٍ ملك التقي ... وحائز الرومي حد المشرق
ومن الشمال ملك أولاد علي ... والغرب ملك عامر بن حنبل
بيعاً صحيحاً لزماً شرعيا ... ثم شراء قاطعاً مرعياً
لا شرط فيه فاسد فيبطله ... ولا خيار لهما يداخله
ثمن مبلغه من فضة ... درهم جيدة مبيضة
قبضها البائع منه وافيه ... وعادت الذمة منها خالية
وسلم الأرض إلى من اشترى ... فقبض الفضة منه وجرى
بينهما بالبدن التفرق ... وما بقي لأحد تعلق
وأشهدا عليهما بذاك في ... سابه عشر رمضان الأشرف
من عام سبعمائةٍ للهجرة ... من بعد خمسةٍ تلي وعشره
مروءة إسماعيل الهزرجي
332 نازع الخليفة عبد المؤمن في أمرة قوم من قرابة ابن تومرت. وانتهوا(3/237)
في ذلك إلى أن أجمع رأيهم ورأى من وافقهم على سوء صنيعهم على أن يدخلوا على عبد المؤمن خباءه ليلاً فيقتلوه. وظنوا أن ذلك يخفي من أمرهم. وأن عبد المؤمن إذا فقد ولم يعلم من قتله صار الأمر إليهم. لأنهم أحق به إذ كانوا أهل الإمام وقرابته وأولى الناس به. فأعلم بما أرادوه من ذلك رجل من أصحاب ابن تومرت من خيارهم اسمه إسماعيل بن يحي الهزرجي. فأتى عبد المؤمن فقال له: يا أمير المؤمنين لي إليك حاجة. قال: وما هي يا أبا إبراهيم فجميع حوائجك عندنا مقضية. قال: أن تخرج عن هذا الخباء وتدعني أبيت فيه ولم يعلمه بمراد القوم. فظن عبد المؤمن أنه إنما يستوهبه الخباء لأنه أعجبه فخرج عنه وتركه له. فبات فيه إسماعيل المذكور فدخل عليه أولئك القوم فتوله بالحديد حتى برد. فلما أصبحوا ورأوا أنهم لم يصيبوا عبد المؤمن فروا بأنفسهم حتى أتوا مراكش وراموا القيام بها. فاتوا البوابين الذين على القصور فطلبوا منهم المفاتيح فأبوا عليهم. فضربوا عنق احدهم وفر باقيهم وكادوا يغلبون على تلك القصور. ثم إن الناس اجتمعوا عليهم من الجند وخاصة العبيد فقاتلوهم قتالاً شديداً من لدن طلوع الفجر إلى طلوع الشمس. ثم إن العبيد غلبوهم على أمره. ولم يزل الناس يتكاثرون عليهم إلى أن أخذا قبضاً باليد فقيدوا وجعلوا في السجن إلى أن وصل أبو محمدٍ عبد المؤمن إلى مراكش فقتلهم صبرا. وقتل معهم جماعة من أعيان هرغة بلغه أنهم(3/238)
قادحون في ملكه متربصون به. ولما أصبح أبو إبراهيم إسماعيل المتقدم الذكر في الخباء مقتولا على الحال التي ذكرنا أعظم ذلك عبد المؤمن ووجد عليه وجدا مفرطاً أخرجه عن حد التماسك إلى حيز الجزع. فأمر بغسله وتكفينه وصلى عليه بنفسه ودفن (لعبدا لواحد المراكشي)
جود حاتم الطائي
333 قالت نوار امرأة حاتم: أصابتنا سنة اقشعرت لها الأرض واغبر أفق السماء. وراحت الأيل حدباء حدابير. وضعت المراضع إلى أولادها تبض بقطرةٍ وأيقنا بالهلاك. فوالله إنا لفي ليلة ضنبرٍ بعيدة مابين الطرفين إذ تضاعى صبيتنا جوعاً عبد الله وعدي وسفانة. فقام حاتم على الصبيين وقمت أنا إلى الصبية فوالله ما سكتوا إلا بعد هدأةٍ من الليل. وأقبل يعللني بالحديث فعرفت. ما يريد فتناومت. فلما تهورت النجوم إذا شيء قد رفع كسر البيت ثم عاد. فقال: من هذا. قالت: جارتك فلانة أتيتك من عند صبية يتعاوون عواء الذئاب فما وجدت معولاً إلا عليك يا أبا عدي. فقال: أعجليهم فقد أشبعك الله وإياهم. فأقبلت المرأة تحمل اثنين ويمشي جنائبها أربعة كأنها نعامة حولها رئالها. فقام إلى فرسه فوجأ لبته بمديةٍ فخر. ثم كشطه عن جلده ودفع المدية إلى المرأة فقال لها: شأنك. فاجتمعنا على اللحم نشوي ونأكل. ثم جعل يمشي في الحي يأتيهم بيتاً بيتاً فيقول: هبوا أيها القوم عليكم بالنار. فاجتمعوا والتفع في ثوبه(3/239)
ناحية ينظر إلينا. فلا والله إن ذاق منه مزعة وإنه لأحوج إليه منا. فأصبحنا ما على الأرض من الفرس إلا عظم وحافر. فانشأ حاتم يقول:
مهلاً نوار أقلي اللوم والعذلا ... ولا تقولي لشيء فات ما فعلا
ولا تقولي لمال كنت مهلكه ... مهلاً وإن كنت أعطي الإنس والجبلا
يرى البخيل سبيل المال واحدةً ... إن الجواد يرى في ماله سبلا
إيثار ابن مامة الأيادي
334 خرج بن مامة الإيادي في قفل معهم رجل من بني النمر. وكان ذلك في حر الصيف فضلوا وشح ماؤهم فكانوا يتصافنون الماء. وذلك أن يطرح في القعب حصاة ثم يصب فيه من الماء بقدر ما يغمر الحصاة. فيشرب كل واحد قدر ما يشرب الآخر.
ولما نزلوا للشرب ودار القعب بينهم حتى انتهى إلى كعبٍ رأى الرجل النمري يحد نظره إليه. فآثره بمائة وقال للساقي: أسق أخاك النمري فشرب النمري نصيب كعبٍ من الماء ذلك اليوم. ثم نزلوا من الغد منزلهم الآخر فتصافنوا بقية مائهم. فنظر إليه كنظره أمس. وقال كعب كقوله أمس. وارتحل القوم وقالوا: يا كعب ارتحل. فلم يكن له قوة للنهوض وكانوا قد قربوا من الماء. فقالوا له: رد يا كعب إنك وارد. فعجز عن الجواب. ولما أيسوا منه خيموا عليه بثوب يمنعه من السبع أن يأكله. وتركوه مكانه فمات. فذهب ذلك مثلاً يمنعه من السبع أن يأكله. وتركوه مكانه فمات. فذهب ذلك مثلاً في تفضيل الرجل صاحبه على نفسه (أخبار العرب لابن قتيبة)(3/240)
صنم سومناة
335 من عجائب مدينة سومناة هيكل فيه صنم كان واقفاً في وسط البيت. لا بقائمة من أسفله تدعمه ولا بعلاقةٍ من أعلاه تمسكه. وكان أمر هذا الصنم عظيماً عند الهند من رآه واقفاً في الهواء تعجب. وكانت الند يحجون إليه ويحملون إليه من الهدايا كل شيءٍ نفيس وكان له من الوقوف ما يزيد على عشرة آلاف قريةٍ. وكانت سدنته ألف رجل من البراهمة لعبادته وخدمة الوفود. وأما البيت فكان مبنياً على ستٍ وخمسين سارية من الساج المصفح بالرصاص. وكانت قبة الصنم مظلمة وضوءها من قناديل الجوهر الفائق. وعنده سلسلة ذهب كلما مضت طائفة من الليل حركت فتصوت الأجراس فيقوم طائفة من البراهمة للعبادة. حكي أن السلطان يمين الدولة لما غزا بلاد الهند ورأى ذلك الصنم أعجبه أمره وقال لأصحابه: ماذا تقولون في أمر هذا الصنم ووقوفه في الهواء بلا عمادٍ وعلاقةٍ. فقال بعضهم: إنه بعلاقةٍ وأخفيت العلاقة عن النظر. وقال بعض الحاضرين: إني أظن أن القبة من حجر المغناطيس والصنم من الحديد. والصانع بالغ في تدقيق صنعته وراعى تكافؤ قوة المغناطيس من الجوانب. فوافقه قوم وخالفه آخرون. فلما رفع حجرين من رأس القبة مال الصنم إلى أحد الجوانب. فلم يزل يرفع الحجار والصنم ينزل حتى على الأرض (للقزويني) .(3/241)
الباب السابع عشر
في الأسفار
مدح السفر
336 قال أبو قاسم الصاحب: ليس بينك وبين بلد نسب فخير البلاد ما حملك. السفر يسفر عن أخلاق الرجال فأوحش أهلك إذا كان في أبحاثهم أنسك. وأهجر وطنك إذا نبت عنه نفسك. ربما أسفر السفر عن الظفر. وتعذر في الوطن قضاء الوطر (اليواقيت للثعالبي) أنشد شكر العلوي:
قوض خيامك عن أرض تهان بها ... وجانب الذل إن الذل يجتنب
واحل إذا كان في الأوطان منقصة ... فالمندل الرطب في أوطانه حطب
قال آخر:
ارحل بنفسك من أرض تضام بها ... ولا تكن بفراق الأهل في حرق
من ذل بين أهاليه ببلدته فالاغتراب له من أحسن الخلق
ألكحل نوع من الحجار منطرحاً ... في أرضه كالثرى يبدو على الطرق
لما تغرب نال العز أجمعه ... وصار يحمل بين الجفن والحدث
قال غبره:
إذا ما ضاق صدرك من بلاد ... ترحل طالباً أرصاً سواها
عجبت لمن يقيم بدار ذلٍ ... وأرض الله متسع فضاها(3/242)
فذاك من الرجال قليل عقل ... بليد ليس يعلم ما طحاها
فنفسك فر بها إن خفت ضيماً ... وخل الدار تنعى من بناها
فإنك واجد أرضاً بأرض ... ونفسك لم تجد نفساً سواها
337 كتب بعض الكتاب: جزى الله الفراق خيراً فما هو إلا زفرة وعبرة. ثم اعتصام وتوكل. ثم تأميل وتوقع. وقبح الله التلاق. فإنما هو مسرة لحظة ومساءة أيام. وابتهاج ساعةٍ واكتساب زمان. وإني لأكره إسعاف بتأمل الأوبة والرجعى. ومع الاجتماع محاذرة الفراق وقصور السرور. قال بعض الظرفاء: لو قلت إني لم أجد للرحيل ألما وللبين حرقة لقلت حقاً. لأني نلت به من العناق وأنس اللقاء ما كان معدماً أيام الاجتماع وبه مصافحة التسليم. ورجاء الأوبة. وعمارة القلب بالشوق. والأنس بالمكاتبة (للمقدسي) قال أبو تمام:
وليست فرحة الأوبات إلا ... بموقوفٍ على ترح الوداع
قال ابن النطروني:
بات تصدعن عن النوى ... وتقول كم تتغرب
إن الحياة مع القنا ... عة للمقام الأطيب
فأجبتها يا هذه ... غيري بقولك خلب
إن الكريم مفارق ... أوطانه إذ تجاب(3/243)
والبدر حين يشينه ... نقصانه يتغيب
ذم السفر
338 كان يقال: فراق الأحباب. سقام الألباب. حق الفراق أن تطير له القلوب. وتطيش معه العقول. ويطيح عليه النفوس. وفراق الحبيب يشيب الوليد ويذيب الحديد. وهول السياق. أهون من الفراق. وقال النظام: لو كانت للفراق صورة لراعت القلوب وهدت الجبال. ولجمر الغضا أهون توهجاً من ناره. قال بعضهم:
ومن ينأ عن دار العشيرة لم يزل ... عليه رعود جمة وبروق
قال ابن الهبارية:
قالوا أقمت وما رزقت وإنما ... بالسير يكتسب اللبيب ويرزق
فأجبتهم ما كل سيرٍ نافعًا ... ألحظ ينفع لا الرحيل المقلق
كم سفرةٍ نفعت وأخرى مثلها ... ضرت ويكتسب الحريص ويخفق
البدر يكتسب الكمال بسيره ... وبه إذا حرم السعادة يمحق
سفرة ابن جبير إلى جزيرة صقيلية (سنة 581 هجرية و 1187 مسيحية)
ذكر مدينة مسينة من جزيرة صقيلية
339 هذه المدينة موسم التجار. ومقصد جواري البحر من جميع الأقطار. كثيرة الإرفاق برخاء الأسعار. لا يقر فيها لمسلم قرار. مشحونة بعبدة الصلبان تغص بقاطنيها. وتكاد تضيق ذرعاً بساكنيها. أسواقها نافعة حفيلة. وأرزاقها واسعة بإرغاد العيش كفيلة. لا تزال(3/244)
بها ليلك ونهارك في أمانٍ. وإن كنت غريب الوجه واليد واللسان. مستندة إلى جبال قد انتظمت حضيضها وخنادقها. والبحر يعترض أمامها في الجهة الجنوبية منها. ومرساها أعجب مراسي البلاد البحرية لأن المراكب الكبار تدنو من البر حتى تكاد تمسكه وينصب منها إلى البر خشبة ينصرف عليها. والحمال يصعد بحمله إليها ولا يحتاج إلى زواريقٍ في وسقها ولا في تفريغها إلا ما كان مرسياً على البعد منها يسيراً. فتراها مصطفة من البر كاصطفاف الجياد في مرابطها وإصطبلاتها وذلك لإفراط عمق البحر فيها. وهو زقاق معترض بينها وبين الأرض الكبيرة بمقدار ثلاثة أميال. ويقابلها منه بلدة تعرف بريئة وهي عمالة كبيرة. وهذه المدينة مسينة رأس جزيرة صقيلية وهي كثيرة المدن والعمائر والضياع. وطول هذه الجزيرة صقيلية سبعة أيامٍ. وعرضها مسيرة خمسة أيام. وبها جبل البركان. وهو يأتزر بالسحب لإفراط سموه ويعتم بالثلج شتاء وصيفاً دائماً. وخصب هذه الجزيرة أكثر من أن يوصف. وكفى بأنها ابنة الأندلس في سعة العمارة وكصرة الخصب والرفاهة. مشحونة بالأرزاق على اختلافها. مملوءة بأنواع الفواكه وأصنافها. وجبالها كلها بساتين مثمرة بالتفاح والشاة بلوط والبندق والإجاص وغيرها من الفواكه. وليس في مسينة هذه من المسلمين إلا نفر يسير من ذوي المهن ولذلك لا يستوحش بها المسلم الغريب.(3/245)
وأحسن مدنها قاعدة ملكها. والمسلمون يعرفونها بالمدينة والنصارى يعرفونا ببرمة. وفيها سكنى الحضر بين من المسلمين.
وبلرمة هذه مسكين ملكهم غليام. وهي احفل مدن صقيلية وبعدها سينة وشأن ملكهم هذا عجيب في حسن السيرة. وهو كثير الثقة بالمسلمين هم اهل دولته والمرتسمون بخاصته وعليهم يلوح رونق مملكته. لأنهم متسعون في الملابس الفاخرة والمراكب الفارهة ومامنهم إلا من له الحاشية والخول والتباع. ولهذا الملك القصور المشيدة والبساتين الأنيقة ولاسيما بحاضرة ملكة المدينة المذكورة وله بمسينة قصر أبيض كالحمامة مطل على ساحل البحر. وليس في ملوك النصارى أترف في الملك ولا انعم ولا أرفه منه. وهو يتشبه في ترتيب قوانينه ووضع أساليبه وتقسيم مراتب رجاله وتفخيم أبهة الملك وإظهار زينته بملوك المسلمين. ولملكه عظيم جداً وله الأطباء والفقهاء وهو كثير الاعتناء بهم شديد الحرص عليهم. حتى إنه متى ذكر له أن طبيباً أو فقيهاً اجتاز ببلده أمر بإمساكه وأدر له أرزاق معيشته. ومن عجيب شأنه المتحدث به أنه يقرأ أو يكتب بالعربية وعلامته على ما أعلمنا به أحد خدمته المختصين به: ألحمد لله حق حمده وبمدينة مسينة المذكورة دار صنعةٍ تحتوي من الأساطيل على ما لا يحصى عدد مراكبه. فكان نزولنا في أحد الفنادق وأقمنا بها تسعة أيام فلما كان ليلة الثلاثاء الثاني عشر لرمضان ركبنا في زورقٍ(3/246)
متوجهين إلى مدينة بلرمة. وسرنا قريباً من الساحل بحيث يبصره رأي العين. وأرسل الله علينا ريحاً شرقية رخاء طيبة زجت الزورق أهنا تزجيةٍ. وسرنا نسرح اللحظ في عمائر وقرى متصلة وحصون ومعاقل في فتن الجبال مشرقةٍ. وأبصرنا عن يميننا في البحر تسع جزائر قد قامت خيالاً مرتفعة على مقربة من بر الجزيرة اثنان منها تخرج منهما النار دائماً. وأبصرنا الدخان صاعداً منهما ويظهر بالليل ناراً حمراء ذات ألسن تصعد في الجو. وهو البر كان المشهور خبرة. وأعلمنا أن خروجها من منافس في الجبلين المذكورين يصعد منها نفس ناري بقوة شديدة يكون عنه النار. وربما قذف فيها الحجر الكبير فتلقي به إلى الهواء بقوة ذلك النفس وتمنعه من الاستقرار والانتهاء إلى القعر. وهذا من أعجب السموعات الصحيحة. وأما الجبل الشامخ الذي بالجزيرة المعروف بجبل النار فشانه عجيب. وذلك أن ناراً تخرج منه كالسيل العرم. فلا تمر بشيء إلا أحرقته حتى تنتهي إلى البحر. فتركب ثبجه على صفحة حتى تغوص فيه. فسبحان المبدع في عجائب مخلوقاته وحللنا هشي يوم الأربعاء مرسى مدينة شلفودى.
(ومدينة شلفودى) هي مدينة ساحلية كثيرة الخطب واسعة المرافق منتظمة أشجار الأعناب وغيرها. مرتبة الأسواق تسكنها طائفة من المسلمين. وعليها قنة جبل واسعة مستديرة فيها قلعة لم ير أمنع منها اتخذوها عدةً لأسطول يفاجأهم من جهة البحر من جهة(3/247)
المسلمين. وكان لإقلاعنا منها نصف الليل فجئنا مدينة ثرمة صحوة يوم الخميس بسيرٍ رويدٍ. وبين المدينتين خمسة وعشرون ميلاً. فانتقلنا منها من ذلك الزورق إلى زورقٍ ثانٍ اكترينا لكون البحرين صحبونا فيه من أهلها. وثرمة هذه أحسن وضعاً من التي تقدم ذكرها. وهي حصينة تركب البحر وتشرف عليه. وللمسلمين فيها ربض كبير لهم فيه المساجد. ولها قلعة سامية منيعة. وفي أسفل البلدة أجمة قد أغنت أهلها عن اتخاذ حمام. وهذه البلدة من الخصب وسعة الرزق على غايةٍ. والجزيرة بأسرها من أعجب بلاد الله في الخصب وسعة الأرزاق. فأقمنا بها يوم الخميس الرابع عشر للشهر المذكور ونحن قد أرسينا في وادٍ بأسفلها. ويطلع فيه المد من البحر ثمين حسر عنه. وبتنا بها ليلة الجمعة. ثم انقلب الهواء غريباً فلم نجد للإقلاع سبيلاً. وبيننا وبين المدينة المقصودة المعروفة عند النصارى ببلرمة خمسة وعشرون ميلاً فخشينا طول المقام وحمدنا الله تعالى على ما أنعم بع من التسهيل في قطع المسافة في يومين. وقد تلبث الزوارق في قطعها على ما أعلمنا به العشرين يوماً والثلاثين ونيفاً على ذلك. فأصبحنا يوم الجمعة منتصف الشهر المبارك على نيةٍ من المسير في البر على أقدامنا. فتحملنا بعض أسبابنا وخلفنا بعض الأصحاب على الأسباب الباقية في الزورق. وسرنا في طريق كأنها السوق عمارة وكثيرة صادر وواردٍ. وطوائف النصارى يتلقوننا فيبادرون بالسلام علينا(3/248)
ويؤنسوننا. فرأينا من سياسيتهم ولين مقصدهم مع السلمية ما يوقع العجب. حتى انتهينا إلى قصر سعدٍ على فرسخ من المدينة وقد أخذ بنا الإعياء فملنا إليه وبتنا فيه. وهذا القصر على ساحل البحر مشيد البناء عتيقة قديم الوضع من عهد ملكة المسلمين للجزيرة. وبإزائه عين تعرف بعين المجنونة. وله باب وثيق من الحديد. وداخله مساكن وعلالي مشرفة وبيوت منتظمة. وهو كامل مرافق السكنى وفي أعلاه مسجد من أحسن مساجد الدنيا بهاء. مستطيل ذو حنايا مفروشة بحصرٍ تطيفه لم ير أحسن منها صنيعة. وقد علق فيه نحو الأربعين قنديلا من أنواع الصفر والزجاج. وأمامه شارع واسع مستدير بأعلى القصر وفي أسفل القصر بئر عذبة. فبتنا في هذا المسجد أحسن مبيت وأطيبه. وبمقربة من هذا القصر نحو الميل إلى جهة المدينة قصر آخر على صفته يعرف بقصر جعفر. وداخله سقاية تفور بماء عذب. وأبصرنا للنصارى في هذه الطريق كنائس معدة لمرضى النصارى. ولهم في مدنهم مثل ذلك في صفة مارستانات المسلمين. وأبصرنا لهم بعكة وبصور مثل ذلك. فعجبنا من اعتنائهم بهذا القدر. فلما صلينا الصبح توجهنا إلى المدينة فجئنا لندخل فمنعنا وحملنا إلى الباب المتصل بقصور الملك الإفرنجي غليام وأدينا إلى المستخلف ليسألنا عن مقصدنا. وكذلك فعلهم بكل غريب فسرنا في سكك رحاب وأبواب وساحات ملوكية. وأبصرنا من القصور المشرفة(3/249)
والميادين المنتظمة والبساتين والمراتب المتخذة لأهل الخدمة ما راع أبصارنا. وأذهل أفكارنا وأبصرنا فيما أبصرنا مجلسنا في ساحةٍ فسيحة قد أحدق بها بستان وانتظمت بجوانبها بلاطات. والمجلس قد اخذ استطالة تلك الساحة كلها. فعجبنا من طوله وإشراف مناظره. فأعلمنا أنه موضع غذاء الملك مع أصحابه. وتلك البلاطات والمراتب حيث تقعد حكامه وأهل الخدمة والعمالة أمامه. فخرج إلينا ذلك المستخلف يتهادى بين خديمين يحفان به ويرفعان أذياله. فأبصرنا شيخاً طويل السبلة أبيضها ذا أبهة. فسألنا عن مقصدنا وعن بلدنا بكلامٍ عربي لينٍ فأعلمناه. فأظهر الإشفاق علينا وأمر بانصرافنا بعد أن أحفى في السلام والدعاء فعجبنا من شانه. وكان أول سؤاله لنا عن خبر القسطنطينية العظمى وما عندنا منه فلم يكن عندنا ما نعلمه به. وخرجنا إلى احد الفنادق فنزلنا فيه وذلك يوم السبت الثاني والعشرين لدجنبر. وفي خروجنا من القصر المذكور سلكنا بلاطاً متصلاً مشينا فيه مسافة طويلة وهو مسقف حتى انتهينا إلى كنيسة عظيمة البناء. فأعلمنا أن ذلك البلاط ممشى الملك إلى هذه الكنيسة (ذكر بلرمة) هي بهذه الجزائر أم الحضارة والجامعة بين
الحسنين غضارةٍ. فما شئت بها من جمال مخبر ومنظر. ومراد عيش يانعة خضر. عتيقة أنيقة. مشرقة مؤنقة. تتطلع بمرأى فتان. وتتخايل بين ساحات وبسائط كلها بستان. فسيحة السكك والشوارع. تروق(3/250)
الأبصار بحسن منظرها البارع عجيبة الشأن. قرطبية البنيان. مبانيها كلها بمنجوت الحجر المعروف بالكذان. يشقها نهر معين ويطرد في جنباتها أربع عيون قد زخرفت منها لملكها كنياه فاتخذها حاضرة ملكة الإفرنجي. تنتظم بلبتها قصوره انتظام العقود في نحور الكواعب. ويتقلب من بساتينها وميادينها بين نزهةٍ وملاعب. فكم له فيها من مقاصير ومصانع. ومناظر ومطالع. وكم له بجهاتها من ديارات قد زخرف بنيانها. ورفه بالإقطاعيات الواسعة رهبانها. وكنائس قد صيغ من الذهب والفضة صلبانها. للمسلمين في هذه المدينة أرباض قد انفردوا فيها بسكناهم عن النصارى والأسواق معمورة بهم وهم التجار فيها ويصلون الأعياد بخطبةٍ ودعاؤهم فيها للعباسيين. ولهم بها قاص يرتفعون إليه في أحكامهم. ولهذه المدينة شبه بقرطبة أن لها مدينة قديمة تعرف بالقصر القديم هي في وسط المدينة الحديثة وعلى هذا المثال موضع قرطبة. وبهذا القصر ديار كأنها القصور المشيدة. لها مناظر في الجو مظلمة تحار الأبصار في حسنها (كنيسة بلرمة) ومن أعجب ما شاهدناه بها من أمور النصارى كنيسة تعرف بكنيسة الأنطاكي فأبصرناها يوم الميلاد وهو يوم عيد لهم عظيم وقد احتفلوا لها رجالاً ونساءً فأبصرنا من بنيانها مرأى يعجز الوصف عنه ويقع القطع بأنه أعجب مصانع الدنيا المزخرفة. جدرها الداخلة ذهب كلها وفيها من ألواح الرخام الملون ما لم ير(3/251)
مثله قط قد رصعت كلها بفصوص الذهب وكللت بأشجار الفصوص الخضر ونظم أعلاها بالشمسيات المذهبات من الزجاج. فتخطف الأبصار بساطع شعاعها وتحدث في النفوس فتنةٍ. وأعلمنا أن بانيها الذي تنسب إليه انفق فيها قناطير من الذهب وكان ويزر لجد هذا الملك ولهذه الكنيسة صومعة قد قامت على أعمدة سوارٍ من الرخام وعليها قبة على أخرى سوارٍ كلها فتعرف بصومعة السواري وهي من أعجب ما يبصر من البنيان. وزي النصرانيات في هذه المدينة زي نساء المسلمي. فصيحات الألسن متحفات متنقبات. خرجن في هذا العيد المذكور وقد لبسن ثياب الحرير المذهب والتحفن اللحف الرائقة وانتقبن بالنقب الملونة. وانتعلن الأخفاف المذهبة. وبرزن لكنائسه من حاملات جميع زينة نساء المسلمين من التحلي والتخضب والتعطر. وكان مقامنا بهذه المدينة سبعة أيام. ونزلنا بها في أحد فنادقها التي يسكنها المسلمون ... وخرجنا منها صبيحة يوم الجمعة الثاني والعشرين لهذا الشهر المبارك والثامن والعشرين لشهر دجنبر إلى مدينة أطرابنش بسبب مركب بها أحدهما يتوجه إلى الأندلس والثاني إلى سبتة. فسلكنا على قرى متصلةٍ وضياع متجاورة وأبصرنا محارث ومزارع لم نر تربتها طيباً وكرماً واتساعاً. فشبهناها بقنبانية قرطبة أو هذه أطيب وامتن. وبتنا في الطريق ليلة واحدة في بلدةٍ تعرف بعلقمة. وهي كبيرة متسعة فيها السوق والمساجد وسكانها وسكان هذه الضياع التي في هذه الطريق كلها مسلمون وقمنا منها سحر يوم السبت فاجتزنا بمقربة منها على حصن يعرف بحصن الحنة وهو بلد كبير فيه حمامات. وقد فجرها الله ينابيع في الأرض وأسالها عناصر لا يكاد البدن يحتملها لإفراط حرها. فأجزنا منها واحدة على الطريق. فنزلنا إليها عن الدواب وأرحنا الأبدان بالاستحمام فيها. وصلنا إلى اطرابنش عصر ذلك اليوم فنزلنا فيها في دار اكتريناها (مدينة اطرابنش) وهي مدينة صغيرة ساحلية. غير كبيرة المساحة مسورة بيضاء كالحمامة. مرساها من أحسن المراسي وأوفقها للمراكب ولذلك كثيراً ما يقصد الروم إليها ولاسيما المقلعون إلى بر العدوة. فإن بينها وبين تونس مسيرة يوم وليلة. فالسفر منها إليها لا يتعطل شتاء ولا صيفاً إلا ريثما تهب الريح الموافقة. فمجراها في ذلك مجرى المجاز القريب وبهذه المدينة سوق والحمام وجميع ما يحتاج إليه من مرافق المدن. لكنها في لهوات البحر لإحاطته بها من ثلاث جهات واتصال البر بها من جهة واحدة ضيقة والبحر فاغرفاه لها من سائر الجهات فأهلها يرون أنه لا بد له من الاستيلاء عليها وإن تراخى مدى أيامها وهي موافقة لرخاء السعر لكنها على محرث عظيم. وسكانها(3/252)
المسلمون والنصارى ولكلا الفريقين فيها المساجد والكنائس. وبركنها
من جهة الشرق مائلا إلى الشمال على مقربة منها جبل عظيم مفرط السمو متسع في(3/253)
أعلاه قنة تنقطع عنه وفيها معقل للروم. وبينه وبين الجبل قنطرة ويتصل به في الجبل للروم بلد كبير. وبهذا الجبل الكروم والمزارع. وأعلمنا أن به نحو أربعمائة عين متفجرة. وهو يعرف بجبل حامد والصعود إليه هين من إحدى جهاته. وهم يرون أن منه يكون فتح هذه الجزيرة ولا سبيل أن يتركوا مسلماً يصعد إليه. ولذلك اعدوا فيه ذلك المعقل الحصين. فلو أحسوا بحادثة حصنوا حريمهم فيه وقطعوا القنطرة. واعترض بينهم وبين الذي في أعلاه خندق كبير. وشأن هذا البلد عجيب فمن العجب أن يكون فيه من العيون المتفجرة ما تقدم ذكره. وأطرابنش في هذا البسيط ولا ماء إلا من بئر على البعد منها. وفي ديارها آبار قصيرة الأرشية ماؤها كلها شريب لا يساغ. وألقينا المركبين اللذين يرومان الإقلاع إلى المغرب بها. ونحن إن شاء الله تؤمل ركوب أحدهما وهو القاصد إلى بر الندلس. والله بمعهود صنعه الجميل كفيل بمنعه. وفي غربي هذه البلدة اطرابنش ثلاث جزائر في البحر على نحو فرسخين منها. وهي صغار متجاورة. إحداهما تعرف بمليطة والأخرى بيابسة والثالثة تعرف بالراهب نسبن إلى راهب يسكنها في بناء أعلاها كأنه الحصن وهو مكمن للعدو. والجزيرتان لا عمارة فيهما ولا يعمر الثالثة سوى الراهب المذكور. ثم اتفق كراؤنا في المركب المتوجه إلى بر الأندلس ونظرنا في الزاد والله المتكفل بالتيسير والتسهيل. (لابن جبير) .(3/254)
الباب الثامن عشر في عجائب المخلوقات
في شرح عجب الموجودات
340 قال القزويني: العجب حيرة تعرض للإنسان لقصوره عن معرفة سبب الشيء أو عن معرفة كيفية تأثيره فيه. مثاله أن الإنسان إذا رأى خلية النحل ولم يكن شاهده قبل تعتريه حيرة لعدم معرفة فاعله. فلو عرف أنه من عمل النحل لتحير أيضاً. من حيث إن ذلك الحيوان الضعيف كيف أحدث هذه المسدسات المتساوية الأضلاع التي عجز عن مثلها المهندس الحاذق مع الفرجار والطرة. ومن أين لها هذا الشمع الذي اتخذت منه بيوتها المتساوية التي لا يخالف بعضها بعضاً كأنها أفرغت في قالب واحد. ومن أين لها هذا العسل الذي أودعته فيها ذخيرة للشتاء. وكيف عرفت أن الشتاء يأتيها وأنها تفقد فيه الغذاء. وكيف اهتدت إلى تغطية خزانة العسل بغشاء رقيق ليكون الشمع محيطاً بالعسل من جميع جوانبه فلا ينشفه الهواء ولا يصيبه الغبار. وتبقى كالبرنية المضممة الرأس بالكاغد. فهذا معنى العجب. وكل ما في العالم بهذه المثابة إلا أن الإنسان يدركه في صباه عند فقد التجربة. ثم تبدو فيه غريزة العقل قليلا قليلاً وهو مستغرق الهم في قضاء حوائجه وتحصيل شهواته وقد انس بمدركاته(3/255)
ومحسوساته فسقط عن نظره بطول الأنس بها. فإذا رأى بغتة حيواناً غريباً أو نباتاً نادراً أو فعلاً خارقاً للعادات انطلق لسانه بالتسبيح فقال: سبحان الله. وهو يرى طول عمره أشياء تحير فيها عقول العقلاء وتدهش فيها نفوس الأذكياء.
فمن أراد صدق هذا القول فلينتظر بعين البصيرة إلى هذه الأجسام الرفيعة وسعتها وصلابتها وحفظها عن التغير والفساد فإن الأرض والهواء والبحار بالإضافة إليها كحلقة ملقاةٍ في فلاةٍ. ثم ينظر إلى دورانها مختلفاً فإن بعضها يدور بالنسبة إلينا رحوية وبعضها حمائلية وبعضها دولابية. وبعضها يدور سريعاً. وبعضها يدور بطيئاً. ثم إلى دوام حركاتها من غير فتور. ثم إلى إمساكها من غير عمدٍ تتعمد به أو علاقة تتدلى بها. ثم لينظر إلى كواكبها وشمسها وقمرها واختلاف مشارقها ومغاربها لاختلاف الأوقات التي هي سبب نشوء الحيوان والنبات. ثم إلى سير كواكبها وكثرتها واختلاف ألوانها. فإن بعضها يميل إلى الحمرة وبعضها إلى البياض وبعضها إلى لون الرصاص. ثم إلى مسيرة في فلكها مدة سنةٍ وطلوعها وغروبها كل يوم. لاختلاف الليل والنهار ومعرفة الأوقات وتمييز وقت المعاش عن وقت الاستراحة. ثم إلى إمالتها عن وسط السماء إلى الجنوب وإلى الشمال حتى وقع الصيف والشتاء والربيع والخريف. ثم لينظر إلى جرم القمر وكيفية اكتسابه النور من الشمس لينوب(3/256)
عنها بالليل ثم إلى امتلاكه وانمحاقه. ثم إلى كسوف الشمس وخسوف القمر وإلى المجرة وهو البياض الذي يقال له سرج السماء. وهو على فلك يدور بالنسبة إلينا رحوية وعجائب السماوات لا مطمع في إحصاء عشر عشرها وفيما ذكرناه تبصره لكل عبد منيب ثم لينظر إلى ما بين السماء والأرض من انقضاض الشهب والغيوم والرعود والبروق والصواعق والأمطار والثلوج والرياح المختلفة المهاب. وليتأمل الثقيل الكثيف المظلم كيف اجتمع في جو صاف لا كدورة فيه وكيف حمل الماء. وتسخير الرياح فإنها تتلاعب به وتسوقه إلى المواضيع التي أرادها الله سبحانه فترش بالماء وجه الأرض وترسله قطرات متفاصلةً. لا تدرك قطرة منها قطرة ليصيب وجه الأرض برفق. فلو صبه صباً لأفسد الزرع بخدشه وجه الأرض. ويرسلها مقداراً كافياً لا كثيراً زائد عن الحاجة فيعفن النبات. ولا ناقصاً فلا يتم به النمو. ثم إلى اختلاف الرياح فإن منها ما يسوق السحب ومنها ما ينشرها ومنها ما يجمعها ومنها ما يعصرها ومنها ما يلقح الأشجار. ومنها ما يربي الزرع والثمار ومنها ما يجففها ثم لينظر إلى الأرض وجعلها وقوراً لتكون فراشاً ومهاداً ثم إلى سعة أكنافها وبعد أقطارها حتى عجز الآدميون عن بلوغ جميع جوانبها. ثم إلى جعل ظهرها محلاً للأحياء وبطنها مقراً للأموات. فتراها وهي ميتة فإذا أنزل عليها الماء اهتزت وربت وأظهرت(3/257)
أجناس المعادن وأنبتت انواع النبات وأخرجت أصناف الحيوان ثم إلى إحكام أطرافها بالجبال الشامخة كأوتادها لمنعها من أن تميد ثم إلى إيداع المياه في أوشالها كالخزانات لتخرج منها قليلا فتتفجر منها العيون وتجري منها الأنهار. فيحيا بها الحيوان والنبات إلى وقت نزول الأمطار من السنة القابلة. وينصب إلى البحار دائماً ثم لينظر إلى البحار العميقة التي هي خلجان من البحر الأعظم المحيط بجميع الأرض حتى إن جميع المكشوف من البوادي والجبال بالإضافة إلى الماء كجزيرة صغيرة في بحر عظيم وبقية الأرض مستورة بالماء ثم لينظر إلى ما فيها من الحيوان والجوهر ثم لينظر إلى خلق اللؤلؤ في صدفة تحت الماء. ثم إلى إنبات المرجان في صميم الصخر تحت الماء وهو نبات على هيئة شجرة ينبت من الحجر ثم إلى ما عداه من العنبر وأصناف النفائس التي يقذفها البحر وتستخرج منه. ثم إلى السفن كيف سيرت في البحار وسرعة جريها بالرياح وإلى اتخاذ آلاتها ومعرفة النواتي موارد الرياح ومهلبها وموافيتها وعجائب البحار كثيرة لا مطمع في إحصائها.
ثم لينظر إلى أنواع المعادن المودعة تحت الجبال فمنها ما ينطبع كالذهب والفضة والنحاس والرصاص والحديد. ومنها ما لا ينطبع كالفيروزج والياقوت والزبرجد. ثم إلى كيفية استخراجها وتنقيتها واتخاذ الحلي والآلات والأواني منها. ثم إلى معادن الأرض كالنفط(3/258)
والكبريت والقير وغيرها وأجلها الملح فلو خلت منه بلدة لتسارع الفساد إلى أهلها. ثم لينظر إلى أنواع النبات وأصناف الفواكه المختلفة الأشكال والألوان والطعوم والأرايج تسقى بماء واحد ويفضل بعضها على بعض في الأكل مع اتحاد الأرض والهواء والماء. فتخرج من نواةٍ نخلة بعناقيد الرطب ومن حبه سبع سنابل في كل سنبلة مائة حبة. ثم لينظر إلى أرض البوادي وتشابه أجزائها فإنها إذا نزل القطر عليها اهتزت وربت وانبتت من كل زوج بهيج ثم إلى أشكالها وألوانها وطعومها وروائحها واختلاف طبائعها وكثرة منافعها فلم تنبت من الأرض ورقة إلا وفيها منفعة أو منافع يقف فهم البشر دون إدراكها ثم لينظر إلى أصناف الحيوان وانقسامها إلى ما يطير ويسبح ويمشي وإلى أشكالها وصورها وأخلاقها ليرى عجائب تدهش منها العقول بل في البقة أو النمل أو العنكبوت أو النحل فإنها من ضعاف الحيوانات ليرى ما يتحير منه من بنائها البيت وجمعها الغذاء وادخارها لوقت الشتاء وحذقها في هندستها ونصبها الشبكة للصيد وما من حيوان إلا وفيه من العجائب ما لا يحصى وغنما سقط التعجب منها للأنس بها بكثرة المشاهدة.
في جرم الشمس ووضعها
341 وأما الشمس فأعظم الكواكب جرماً وأشدها ضوءاً ومكانها(3/259)
الطبيعي الكرة الرابعة زعم المنجمون أن الشمس بين الكواكب كالملك وسائر الكواكب كالأعوان والجنود. والقمر كالوزير وولي العهد وعطارد كالكاتب والمريخ كصاحب الشرطة والمشتري كالقاضي وزحل كصاحب الخزائن والزهرة كالخدم والجواري والأفلاك كالأقاليم والبروج كالبلدان. والدرجات كالعساكر. والدقائق كالمحال والثواني كالمنازل وهذا تشبيه جيد.
ومن عجائب لطف الله تعالى جعل الشمس في وسط الكواكب السبعة لتبقى الطبائع والمطبوعات في نظم العالم بحركاتها على حدها الاعتدالي إذ لو كانت في فلك الثوابت لفسدت الطبائع بشدة البرد ولو أنها انحدرت إلى فلك القمر لاخترق هذا العالم بالكلية ولطف آخر من الله تعالى أن خلقها سائرة غير مواقفة وإلا لاشتدت السخونة في موضع واشتد البرد في غيره فلا يخفى فسادهما لكن تطلع كل يوم من المشرق ولا تزال تغشى موضعاً بعد موضع حتى تنتهي إلى المغرب فلا يبقى موضع مكشوف مؤاز لها إلا ويأخذ خطاً من شعاعها وتميل في كل سنة مرة إلى الجنوب ومرة إلى الشمال لتعم فائدتها أما إلى الجهة(3/260)
الجنوبية فتميل حتى تنتهي إلى قريب من مطلع قلب العقرب. وهو مطلع أقصر يوم في السنة وأما إلى الجهة الشمالية فتميل حتى تنتهي على قريب من مطلع السماك الرامح وهو مطلع أطول يوم في السنة ثم ترجع تميل إلى الجنوب.
في كسوف الشمس وبعض خواصها
342 وسببه كون القمر حائلاً بين الشمس وبين أبصارنا لأن جرم القمر كمدٍ فيحجب ما وراءه عن الأبصار فإذا قارن الشمس وكان في إحدى نقطتي الرأس والذنب أو قريبا منه فإنه يمر تحت الشمس فيصير حائلاً بينها وبين الأبصار ثم الشمس إذا انكسفت لا يكون لكسوفها مكث لأن قاعدة مخروط الشعاع إذا انطبق على صفحة القمر انحرف عنه في الحال فتبتدئ الشمس بالانجلاء لكن يختلف قدر الكسوف باختلاف أوضاع المساكن بسبب اختلاف المنظر وقد لا ينكسف في بعض البلاد أصلا.
وأما تأثيرات الشمس في العلويات والسفليات فعجيبة أما في العلويات فإخفاؤها جميع الكواكب بكمال شعاعها وإعطاؤها للقمر النور وأما في السفليات فمنها تأثيرها في البحار فإنها إذا بلغ البخار إلى الهواء البارد تكاثف من البرد وانعقد سحاباً ثم تذهب به الرياح إلى الأماكن البعيدة عن البحار فينزل الله قطراً يحيي به الأرض بعد(3/261)
موتها. وتظهر منه الأنهار والعيون فيصير سبباً لبقاء الحيوان وخروج النبات. ومنها أمر النبات فغن الزروع والأشجار والنبات لا تثبت بنمو إلا في المواضيع التي تطلع عليها الشمس. ولذلك لا ينبت تحت الخيل والأشجار العظام التي لها ظلال واسعة شيء من الزروع لأنها تمنع شعاع الشمس عما تحتها وحسبك ما ترى من تأثير الشمس بحسب الحركة اليومية في النيلوفر والآذريون وورق الخزوع فغنها تنمو وتزداد عند أخذ الشمس في الارتفاع ولا صعود. فإذا زالت الشمس أخذت في الذبول حتى إذا غابت الشمس ضعفت وذبلت ثم عادت اليوم الثاني إلى حالها. ومنها تأثيرها في الحيوانات فإنا نرى الحيوان إذا طلع نور الصبح خلق الله تعالى في أبدانها قوة فتظهر فيها فراهة وانتعاش قوةٍ. وكلما كان طلوع نور الشمس أكثر كان ظهور قوة الحيوان في أبدانها أكثر إلى أن وصلت إلى وسط سمائها فإذا مالت عن وسط سمائهم أخذت حركاتهم وقواهم في الضعف ولا تزال تزداد ضعفاً إلى زمان غيوبها. فإذا غابت الشمس رجعت الحيوانات إلى أماكنها ولزمتها كالموتى فإذا طلعت عليها الشمس في اليوم الثاني عاودوا إلى الحالي الأولى (للقزويني)
فصل في القمر وخسوفه وتأثيراته
343 وأما القمر فهو كوكب مكانه الطبيعي الفلك الأسفل وهو جرم كثيف مظلم قابل للضياء إلا القليل منه على ما يرى في ظاهره.(3/262)
فالنصف الذي يواجه الشمس مضيء أبداً فإذا قارنت الشمس كان النصف المظلم مواجهاً للأرض. فإذا بعد عن الشمس إلى المشرق ومال النصف المظلم من الجانب الذي يلي المغرب إلى الأرض فيظهر من النصف المضيء قطعة هي الهلال. ثم يتزايد الانحراف ويزداد بتزايده القطعة من النصف المضيء حتى إذا كان في مقابلة الشمس كان النصف المواجه للشمس هو النصف المواجه لنا. فنراه ثم يقرب من الشمس فينقص الضياء من الجانب الذي بدأته على الترتيب الأول. حتى إذا صار في مقارنة الشمس ينمحق نوره ويعود إلى الموضع الأول وسبب خسوفه توسط الأرض بينه وبين الشمس فإذا كان القمر في إحدى نقطتي الرأس والذنب أو قريباً منه عند الاستقبال توسط الأرض بينه وبين الشمس فيقع في ظل الأرض ويبقى على سواده الأصلي فيرى منخسفاً. وتأثيراته عجيبة زعموا أن تأثيراته كلها بواسطة الرطوبة كما أن تأثيرات الشمس بواسطة الحرارة. ويدل عليها اعتبار أهل التجارب منها أمر البحار فغن القمر إذا صار في أفق من آفاق البحر أخذ ماؤه في المد مقبلا مع القمر ولا يزال كذلك إلى أن يصير القمر في وسط سماء ذلك الموضع فإذا صار هناك انتهى المد منتهاه فإذا انحط القمر من وسط سمائه جزر الماء. ولا يزال الجزر منتهاه. ومن كان في لجة البحر وقت ابتداء المد(3/263)
أحس للماء حركة من أسفلة إلى أعلاه ويرى له انتفاخاً وتهيج فيها رياح عواصف وأمواج. وإذا كان وقت الجزر ينقص جميع ذلك ومن كان في الشطوط والسواحل فإنه يرى للماء زيادة وانتفاخاً وجرياً وعلوا ولا يزال كذلك إلى أن يجزر ويرجع الماء إلى البحر. وابتداء قوة المد في البحار إنما يكون في كل موضع عميق واسع كثير الماء
في مجرة والكواكب الثوابت
344 وهي البياض الذي يرى في السماء يقال له سرج السماء إلى زمانا هذا لم يسمع في حقيقتها قول شافٍ زعموا أنها كواكب صغار متقاربة بعضها من بعض والعرب تسميها أم النجوم لاجتماع النجوم فيها. وزعموا أن النجوم تقاربت من المجرة فطمس بعضها بعضاً وصارت كأنها سحاب. وهي ترى في الشتاء أول الليل في ناحية من السماء. وفي الصيف أول الليل في وسط السماء ممتدة من الشمال إلى الجنوب وبالنسبة إلينا تدور دوراً رحوياً فتراها نصف الليل ممتدة من المشرق إلى المغرب وفي آخر الليل من الجنوب إلى الشمال.. وأما الكواكب الثوابت فإن عددها مما يقصر ذهن الإنسان عن ضبطها لكن الأولين قد ضبطوا منها ألفاً واثنين وعشرين كوكباً. ثم وجدوا من هذا المجموع تسعمائة وسبعة عشر كوكباً ينتظم منها ثمان وأربعون صورة كل صورة منها تشتمل على كوكبها وهي الصورة التي أثبتها بطليموس في كتاب المجسطي بعضها في النصف(3/264)
الشمالي من الكرة وبعضها على منطقة فلك البروج التي هي طريقة السيارات وبعضها في النصف الجنوبي فسمى كل صورة باسم الشيء المشبه بها فوجد بعضها على صورة الإنسان كالجوزاء. وبعضها على صورة الحيوانات البحرية كالسرطان. وبعضها على صورة الحيوانات البرية كالحمل. وبعضها على صورة الطير كالعقاب. وبعضها خارجاً عن شبه الحيوانات كالميزان والسفينة. ووجد من هذه الصور ما لم يكن تام الخلقة مثل الفرس ومنها ما بعضه من صورة حيوان والبعض الآخر من صورة حيوان آخر كالرامي ... وإنما ألفوا هذه الصور وسموها بهذه الأسماء ليكون لكل كوكب اسم يعرف به متى أشاروا إليه وذكروا موقعه من الصورة. وموقعه من فلك البروج وبعده من الشمال أو الجنوب عن الدائرة التي تمر بأوساط البروج لمعرفة أوقات الليل والطالع في كل وقت.
فصل في أرباع السنة
345 من جملة لطف الله بعبادة أن أعطى لكل فصل طبعاً مغايراً لما قبله في كيفية أخرى ليكون ورود الفصول على الأبدان بالتدريج فلو انتقل من إلي صيف إلى الشتاء دفعة لأدى ذلك على تغيير عظيم في الأبدان فحسبك ما ترى من تغيير الهواء في يوم واحد من الحر إلى البرد كيف يظهر مقتضاه في الأبدان فكيف إذا كان مثل هذا التغيير في الفصول. فسبحانه ما أعظم شانه أكثر امتنانه.(3/265)
أما الربيع فهو وقت نزول الشمس أول برج الحمل. فعند ذلك استوى الليل والنهار في الأقاليم واعتدل الزمان وطاب الهواء وهب النسيم وذابت الثلوج وسالت الأودية. ومدت الأنهار ونبعت العيون. ارتفعت الرطوبات إلى أعلى فروع الأشجار ونبت العشب وطال الزرع وتلألأ الزهر. وأورق الشجر وانفتح النور وأخضر وجها لأرض وطاب عيش أهل الزمان. وتكونت الحيوانات ودب الدبيب ونبحت البهائم ودرت الضروع وانتشر الحيوان في البلاد عن أوطانه وصارت الدنيا كأنها جارية شابه تجللت وتزينت للناظرين ولا يزال كذلك دأبها ودأب أهلها إلى أن تبلغ الشمس لآخر الجوزاء فحينئذ انتهى الربيع وأقبل الصيف وأما الصيف فهو وقت نزول الشمس أول السرطان فعند ذلك تناهى طول النهار ثم أخذ الليل في الزيادة ودخل الصيف واشتد الحر وسخن الهواء وتقوى أكثر النبات والحيوان وأدركت الثمار وجفت الحبوب وقلت الأنداء. وأضاءت الدنيا وسمنت البهائم. واشتدت قوة الأبدان وكثر الريف وانتشرت الحيوانات على وجه الأرض لهموم الخير وكثرت الدبيب وطاب عيش أهل الزمان وكثرت السموم ونقصت الأنهار ونضبت المياه ويبست العشب وأدرك الحصاد ودرت الأخلاف واتسع للناس القوت وللطير الحب وللبهائم العلف. وتكامل زخرف الأرض وصارت(3/266)
الدنيا كأنها عروس منعمة بالغة كاملة ذات جمال ورونق فلا يزال الأمر كذلك أن تبلغ الشمس آخر السنبلة فحينئذ أقبل الخريف وأما الخريف فهو وقت نزول الشمس الميزان فعند ذلك استوى الليل والنهار مرة أخرى. ثم ابتدأ الليل بالزيادة وكما ذكرنا أن الربيع زمن نشوء الأشجار وبدء النبات وظهور الأزهار فالخريف زمان ذبول النبات وتغيير الأشجار وسقوط أوراقها فحينئذ برد الماء وهبت الشمال. وتغير الزمان ونقصت المياه. وجفت النهار وغارت العيون ويبست أنواع النبات وفنيت الثمار وأحرز الناس الحب وأثمر وعري وجه الأرض من دبيبها. وماتت الهوام وانجحرت الحشرات وانصرف الطير ويطلب الوحش البلدان الدافئة وأحرز الناس قوت الشتاء ودخلوا البيوت ولبسوا الجلود الغليظة من الثياب وتغير الهواء وصارت الدنيا كأنها كهلة قد ولت أيام شبلها إلى أن تبلغ الشمس آخر القوس وقد انتهى الخريف وأقبل الشتاء وأما الشتاء فهو وقت نزول الشمس أول الجدي فعند ذلك تناهى طول الليل وقصر النهار. ثم أخذ النهار في الزيادة واشتد البرد. وخشن الهواء وتعرى الأشجار عن الأوراق. وفنيت بطونها وفات أكثر النبات وانجحرت الحيوانات في أطراف الأرض وكهوف الجبال من شدة البرد وكثرة الأنداء. ونشأت الغيوم واظلم الجو وكلح وجه الزمان. وهزلت البهائم وضعفت قوى الأبدان. ومنع(3/267)
البرد الناس عن التصرف ومر عيش أكثر الحيوان. وطال الليل الذي جعله الله سكناً ولباساً وبرد الماء الذي هو مادة الحياة. وانقطع الذباب والبعوض وعدم ذوات السموم من الهوام. ويطيب فيه الأكل والشرب. وهو زمان الراحة والاستمتاع كما أن الصيف زمان الكد والتعب حتى قيل: من لم يغل دماغه صائفاً لم تغل قدره شاتياً وصارت الدنيا كأنها عجوز هرمة دنا منها الموت. فلا يزال كذلك إلى أن تبلغ الشمس آخر الحوت وقد انتهى الشتاء وأقبل الربيع مرة أخرى.
فصل في تولد الأنهار
346 إذا وقعت الأمطار والثلوج على الجبل تنصب الأمطار إلى المغارات وتذوب الثلوج وتفيض إلى الأهوية التي في الجبال. فتبقى مخزونة فيها وتمتلئ الأوشال منها في الشتاء فإذا كان في أسافل الجبال منافذ ضيقة تخرج المياه من الأوشال في تلك المنافذ فيحصل منها جداول. ويجتمع بعضها إلى البعض فيحصل منها أودية وأنهار فإن كانت الخزانات في أعالي الجبال يستمر جريانها أدباً لن مياهها تنصب إلى سفح الجبال ولا تنقطع مادتها لوصول مددها من المطار وإن كانت الخزانات في أسافل الجبال فتجري منها النهار عند وصول مددها وتنقطع عند انقطاع المدد وتبقى المياه فيها واقفة كما ترى في الأودية التي تجري في بعض الأيام ثم(3/268)
تنقطع عند انقطاع مادتها وكل هذه النهار تبتدئ من الجبال وتنتهي إلى البحار أو البطائح. وفي ممرها تسقي المدن والقرى وما فضل ينصب إلى البحار. ثم يرق ويلطف ويتصاعد في الهواء بخاراً ويتراكم منه الغيوم وتسوقه الرياح إلى الجبال والبراري ويمطر هناك ويجري في الأودية والأنهار ويسقي البلاد ويرجع فاضله إلى البحر. ولا يزال هذا دأبه ويدور كالرحا في الصيف والشتاء.
جسم الأرض ودورانها وهيئتها
347 الأرض جسم بسيط طباعه أن يكون بارداً يابساً. وإنما خلقت باردة يابسة لأجل الغلظ والتماسك إذ لولاها لما أمكن قرار الحيوان على ظهرها والهواء والماء محيطان بها من جميع جهاتها إلا المقدار البارد الذي جعله الله تعالى مقراً للحيوان. ثم إن الإنسان في أي موضع وقف على سطح الأرض يكون رأسه أبداً مما يلي السماء. ورجله مما يلي الأرض وهو يرى من السماء نصفها وإذا انتقل إلى موضع آخر ظهر له من السماء مقدار ما خفي له من الجانب الآخر. ثم إن البحر المحيط الأعظم أحاط بأكثر وجه الأرض والمكشوف منها قليل ناتئ على الماء على مثال بيضة غائصة في الماء يخرج من الماء محدبها وليست هي مستديرة من الجبال والتلال والودية والأودية والكهوف والمغارات ولها منافذ وخلجان وكلها(3/269)
ممتلئة مياها وبخارات ورطوبات دهنية وما في الأرض موضع شبر إلا وهناك معدن أو نبات أو حيوان باختلاف أجناسها وأنواعها وصورها ومزاجها وألوانها لا يعلم تفصيلها غير الله تعالى وهو صانعها ومديرها ما يسقط من ورقة إلا يعلمها ولا حبة في ظلمات الأرض ولا يابس إلا في كتاب مبين.
وأما هيئة الأرض فقد اختلف آراء القدماء فيها قال بعضهم: إنها مبسوطة في السطيح وقال بعضهم هي على شكل الترس ولولا ذلك لما ثبت عليها بناء ولا مشى عليها حيوان. والذي يعتمد عليه جماهيرهم أن الأرض مدورة كالكرة. ومن القدماء من أصحاب فثاغورس من قال: إن الأرض متحركة دائماً على الاستدارة والذي يرى من دوران الكواكب إنما هو دور الأرض لا دور الكواكب
في السحاب والمطر وما يتعلق بهما
348 زعموا أن الشمس إذا أشرقت على الماء حللت من الماء أجزاء لطيفة مائية تسمى بخاراً ومن الأرض أجزاء لطيفة أرضية تسمى دخاناً. فإذا ارتفع البخار والدخان في الهواء وتدافعهما الهواء إلى الجهات وتكون من قدامهما جبال شامخة مانعة ومن فوقها برد الزمهرير ومن أسفلها مادة البخار متصلة فلا يزال البخار والدخان يكثران ويغلظان في الهواء وتتداخل بعضها في بعض حتى يثخن فيتكون منها سحاب مؤلف متراكم ثم إن السحاب كلما ارتفع انضمت أجزاء البخار(3/270)
ثم تلتئم تلك الأجزاء المائية بعضها إلى بعض فتصير قطرا فثقلت وأخذت راجعة إلى أسفل فإن كان صعود ذلك البخار بالليل والهواء شديد البرد منعه من الصعود وأجمده أولا فصار سحاباً رقيقاً. وإن كان البرد مفرطاً أجمد في الغيم وكان ذلك ثلجاً لأن البرد يجمد الأجزاء المائية وتختلط بالأجزاء الهوائية وينزل بالرفق فلذلك لا يكون له في الأرض وقع شديد كما المطر ولا برد. وإن كان الهواء دافئاً ارتفع البخار في الغيوم وتراكم السحب طبقات بعضها فوق بعض كما ترى في أيام الربيع والخريف كأنها جبال من قطن مندوفٍ. فإذا عرض لا برد الزمهرير من فوق غلظ البخار وصار ماءً من فوق غلظ البخار وصار ماءً وانضمت أجزاؤها قطراً. وعرض لها الثقل فأخذت تهوي من سمك السحاب ومن تراكمها تلك القطرات الصغار بعضها إلى بعض حتى إذا خرجت من أسفلها صار تقطراً كثيراً. فإن عرض لها برد مفر من طريقها جمدت وصارت برداً قبل أن تبلغ الأرض وإن لم تبلغ الأبخرة إلى الهواء البارد فإن كانت كثيرة صارت باباً وإن كانت قليلة وتكاثفت فإن لم يتجمد نزل طلاً وإن أنجمد نزل صقيعاً
في الرعد والبرق وما يتعلق بذلك
349 زعموا أن الشمس إذا أشرقت على الأرض حللت منها أجزاء نارية تخالطها أجزاء أرضية ويسمى ذلك المجموع دخاناً ثم الدخان يمازجه البخار ويرتفعان معاً إلى الطبقة الباردة من الهواء. فينعقد(3/271)
البخار سحاباً ويحتبس الدخان فيه. فإن بقي على حرارته قصد الصعود وإن صار بارداً قصد النزول. وأما ما كان يمزق السحاب تمزيقاً عنيفاً فيحدث منه الرعد وربما يشتعل ناراً لشدة المحاكة فيحدث منه البرق إن كان لطيفاً والصاعقة إن كان غليظاً كثيراً فتحرق كل شيء أصابته فربما تذوب الحديد على الباب ولا تضر الخشبة وربما تذوب الذهب في الخزنة ولا تضر الخرقة وقد تقع على الجبل فتشقه وقد تقع على الماء فيحرق فيه حيوانه. واعلم أن الرعد والبرق كلاهما يحدثان معاً لكن ترى البرق قبل أن تسمع الرعد وذلك لأن الرؤية تحصل لمحاداة النظر وأما السمع فيتوقف على وصل الصوت إلى الصماخ وذلك يتوقف على تموج الهواء. وذهاب النظر أسرع من وصول الصوت. ألا ترى أن القصار إذا ضرب الثوب على الحجر فإن النظر يرى ضرب الثوب على الحجر ثم السمع يسمع صوته بعد ذلك بزمان. والرعد والبرق لا يكونان في الشتاء لقلة البخار الدخاني ولهذا لا يوجدان في البلاد الباردة ولا عند نزول الثلج لأن البرد يطفئ البخار الدخاني والبرق الكثير يقع عنده مطر كثير لتكاثف أجزاء الغمام. فإنها إذا تكاثفت انحصر الماء فإذا نزل بشدة كما إذا احتبس الماء ثم انطلق فإنه يجري جرياً شديداً (كله من عجائب المخلوقات للقزويني)(3/272)
الباب التاسع عشر في المراسلات
فصل في المراسلات بين الملوك والأمراء
كتاب المحق الطوسي إلى صاحب حلب بعد فتح بغداد سنة 655 هـ (1252 م) 350 أما بعد فقد نزلنا بغداد فساء صباح المنذرين فدعونا مالكها إلى طاعتنا فأبى فحق القول عليه فاخناه أخذاً وبيلاً وقد دعوناك إلى طاعتنا فإن أتيت فروح وريحان وجنة نعيم. وإن أبيت فلا سلطن منك عليك. فلا تكن كالباحث عن حتفه بظلهٍ. والجادع مارن أنفه بكفه والسلام
ذكر مراسلة تيمور سلطان عراق العجم أبا الفوارس شاه شجاع
351 عن الله تعالى سلطني عليكم وعلى ظلمة الحكام والجائرين من ملوك الأنام ورفعني على من ناوأني ونصرني لى من خالفني وقد رأيت وسمعت فإن أحببت وأطعت فيها ونعمت. وإلا فاعلم أن قدام قدمي ثلاثة أشياء الخراب والقحط والوباء وإثم كل ذلك عائد عليك ومنسوب إليك (أخبار تيمور لابن عربشاه)
كتاب الحسن بن زكرويه إلى بعض عماله)
352 بسم الله الرحمان الرحيم من عند المهدي المنصور الناصر لدين الله القائم بأمر الله إلى جعفر بن حميد الكردي سلام علك. فإني أحمد إليك الله الذي لا إله إلا هو أما بعد فقد أنهى إلينا ما حدث قبلك من أخبار أعداء الله الكفرة وما فعلوه بناحيتك من(3/273)
الظلم والعبث والفساد في الأرض فأعظمنا ذلك ورأينا أن ننفذ إلى ما هناك من جيوشنا من ينتقم لنا الله به من أعدائنا الظالمين الذين يسعون في الأرض فساداً. فأنقذنا جماعة من المؤمنين إلى مدينة حمص ونحن في إثرهم وقد أوعزنا إليهم في المصير إلى ناحيتك لطلب أعداء الله حيث كانوا. ونحن نرجو أن يجرينا الله فيهم على أحسن عوائده عندنا في أمثالكم. فينبغي أن يكون قلبك وقلوب من اتبعك من أوليائنا وثيقاً بالله وبنصره الذي لم يزل يعودنا في كل من مرق من الطاعة وانحرف عن الإيمان وتبادر إلينا بإخبار الناحية وما يحدث فيها ولا تخف عنا شيئاً من أمرها. سبحانك اللهم والحمد لله رب العالمين (تاريخ حلب لكمال الدين)
كتاب سلطان مراكش إلى سلطان فرنسة لويس الرابع عشر
353 صدر هذا المكتوب العلي الإمامي عن الأمر العلوي الذي دانت لطاعته الكريمة ممالكه الإسلامية وانقادت لدعوته الشريفة الأقطار المغربية وخضعت لأوامره العلية جبابرة الملوك السودانية. وأقطارها القاصية والدانية إلى الملك الذي له بين ملوك النصرانية والملل المسيحية الرتبة العالية والمنزلة الرفيعة السامية. سلطان فرائصة لويز ابن السلاطين الذين لهم المكانة السامية المنار أما بعد حمد الله مولى الحمد ومستحقه فكتابنا هذا إليكم من حضرتنا العلية مدينة مراكش ولا زائد إلا ما سناه لأيالتنا الشريفة من عوائد(3/274)
النصر والإقبال وصنائع الله الجميلة المفعمة السجال المنثالة في البكر والآصال لله المنة والشكر هذا موجبه إليكم التعريف أنه لما ورد خديمكم المرعي الملحوظ الرزيلي على مرسى ثغر أسفي المحروس بالله وأسلم كتابكم المصحوب معه لخدامنا الذين بالثغر بادروا بوصوله إلينا في الفور فوقفنا منه على جميع ما أودعتم فيه من تقرير المحبة وتأسيس الهدنة بين الجانبين. إلى ما أشرتم إليه في شأن الأسارى الفرانصيين الذين رغبت من مقامنا العلي تسريحهم فأخذنا في ذلك أتم الأخذ وأكمله إلى أن استوفى ذلك على أحسن وجه وأجمله وأجبناكم عن فصول كتابكم كلها فوجهنا به وبالنصارى المذكورين صحبة خديمنا الوجيه الأثير النبيل النبيه القائد يحي بن محمد الجناتي قصد أن يلتقي مع خديمكن المذكور إن تأتي له الاجتماع معه في البر وإن تعذر عليه ذلك يبعث لخديمنا من يقوم مقامه ممن هو مثله وبمثابته في أعراضكم ليسلم له النصارى المذورين ويتكلم معه في أغراض الجانبين ثم إن خديمنا المذكور لما بلغ ثغر أسف فقد خديمكم من المرسى فسأل عنه فقيل له. قد اقلع منذ أربعة أيام. فاقتص بعض الخدام أثره في البحر فلم يجد له أثراً هذا وقد كان خديمكم على علم ويقين أن خديمنا المذكور قادم إليه وفي أثناء الطريق فقلق قبل وصوله والخديم الذي يكون بصدد أغراض ضيفه لا يستفزه شيء عن قضائها ولا ينبغي له الانزعاج قبل استيفائها فعرفناكم بالواقع(3/275)
لتوقنوا أننا لم نقصر في أغراضكم المتلقاة لدينا بالقبول وبه وجب الكتب إليكم في 26 من ربيع النبوي سنة 1040 (1630)
كتاب سلطان مراكش إلى لويس السادس عشر سلطان فرنسة
354 بسم اله الرحمان الرحيم لا حول ولا قوة إلا بالله عن أمر السلطان الأعظم سلطان مراكش وفاس وكافة الأقاليم المغربية خلد الله نصره وأعز أمره وأدام سموه وفخره وأشرق في فلك السعادة شمسه وبدره. إلى عظيم جنس الإفرنصيص المتولي أمرهم الري لوزير السادس عشر من أسمه سلام على من اتبع الهدى أما بعد فقد ورد على حضرتنا العلية بالله كتابك الذي تأريخه ثاني عشر من ماية عام أربعة وسبعين وسبعمائة وألف المتضمن الإخبار بموت جدك الري لوزير الخامس عشر على يد نائب قونصوكم برطلمي دبطنير. وبقي في خاطرنا جدك لويز كثيراً حيث كانت له محبة في جانبنا العلي وكان ممن يحسن السياسة في قومه وله حنانة في رعيته وحفظ عهدٍ مع أصحابه وفرحنا حيث كان باق من ذريته من يخلفه في المملكة والجلوس على سرير الملك من بعده وما زالت تسعد بك رعيتك أكثر مما كانت في حياة جدك ونحن معك على المهادنة والصلح ما كان مع جدك ثم فاعلم أن سفناً من سفن الفرنصيص حرثوا بأقصى أيالتنا المباركة في الصحراء وتفرق جميع من سلم من الغرق من النصارى في أيدي العرب. وحيث بلغنا ذلك سيرنا بعض(3/276)
خدامنا للصحراء لنوجههم إليكم بعد الإنعام عليهم رعياً للمهادنة والصلح الذي بينا وبينكم ويصلك ستة من الخيل من عتاق خيلنا صلة منا إليكم وخديمنا المذكور لا تبطؤوه عندكم ووجهوه إلينا عزماً بعد قضاء الغرض الذي وجهناه إليه ونحن معكم على المهادنة والصلح. انتهى صدر الأمر بكتبه من حاضرة مكناسة الزيتون في عاشر جمادي الثانية عام 1188 للهجرة (1775 للمسيح)
في الأشواق وحسن التواصل
فصل لسعيد بن عبد الملك
355 أناصب إليك سامي الطرف نحوك وذكرك ملصق بلساني. وأسمك حلو على لهواتي وشخصك ماثل بين عيني. وأنت أقرب الناس من قلبي وآخذهم بمجامع هواي. صادقت منك جوهر نفسي فانا غير محمود على الانقياد لك بغير زمام لأن النفس يقود يعضها بعضاً وقال أبو العتاهية:
وللقلب على القلب ... دليل حين يلقاه
وللناس من الناس ... مقاييس وأشباه
كتاب الحسين بن سهل إلى صديق له يدعوه إلى مأدبةٍ 356 نحن في مأدبة لنا تشرف على روضةٍ تضاحك الشمس حسناً قد باتت السماء تعلها فهي مشرقة بمائها حالية بنوارها فرأيك فينا لنكون على سواء من استمتاع بعضنا ببعضٍ(3/277)
(فكتب إليه) : هذه صفة لو أنت في أقاصي الأطراف لوجب انتجاعها وحث المطي في ابتغائها. فكيف في موضع أنت تسكنه وتجمع إلى أنيق منظره حسن وجهك وطيب شمائلك وأنا الجواب 357 كتب إبراهيم بن العباس إلى بعض أصحابه: ألمودة تجمعنا محبتها والصناعة تؤلفنا أسبابها وما بين ذلك من تراخٍ في لقاء أو تخلف في مكاتبةٍ بيننا يوجب العذر فيه.
كتاب إسحاق بن إبراهيم الموصلي إلى أحمد بن يوسف
358 ألشوق إليك وإلى عهد أيامنا التي حسنت كأنها أعياد وقصرت كأنها ساعات لفوت الصفاء. ومما يجدده ويكثر دواعيه تصاقب الديار وقرب الجوار. تمم الله لنا النعمة المجددة فيك بالنظر إلى الغرة المباركة التي لا وحشة معها ولا أنس بعدها (لابن عبد ربه) 359 (كتب بعض الكتاب إلى أخ له) : أما بعد فإنه من عانى الظمأ بفرقتك استوجب الري من رؤيتك وإن رأيت أن تجرد لي ميعاداً بزيارتك أتوق به إلى وقت رؤيتك ويؤنسني إلى حين لقائك فعلت. (فأجابه) : أخاف أن أعدك عداً يعترض دون الوفاء به ما لا أقدر على دفعه فتكون الحسرة أعظم من الفرقة 260 (وكتب في بابه) : يومنا طاب أوله وحسن مستقبله واتت السماء بقطارها فحلت الأرض بأنوارها وبك تطيب الشمول ويشفى الغليل فإن تأخرت فرقت شملنا وإن تعجلت إلينا نظمت أمرنا(3/278)
361 كتب بعضهم إلى أمير: ضعني أكرمك الله من نفسك حيث وضعت نفسي من رجائك أصاب الله بمعروفك مواضعه وبسط بكل خير يدك (للقيرواني)
كتاب زبيدة إلى المأمون بعد قتله ابنها الأمين
362 كل ذنبٍ يا أمير المؤمنين وإن عظم صغير في جنب عفوك. وكل زلل وإن جل حقير عند صفحك وذلك الذي عودك الله فأطال مدتك وتمم نعمتك. وأدام بك الخير ودفع بك الشر. هذه رقعة الواله التي ترجوك في الحياة لوائب الدهر. وفي الممات لجميل الذكر فإن رأيت أن ترحم ضعفي واستكانتي وقلة حبلتي وأن تصل رحمي وتحتسب فيما جعلك اله له طالباً وفيه راغباً فأفعل. وتذكر من لو كان حياً لكان شفيعي إليك.
(فلما وقف المأمون عليها بكى على أخيه الأمين ورق لها وكتب إليها الجواب:) 363 وصلت رقعتك يا أماه (حاطك الله وتولاك بالرعاية) ووقفت عليها ساءني شهد الله جميع ما أوضحته فيها لكن الأقدار نافذة والأحكام جارية والأمور متصرفة والمخلوقون في قبضتها لا يقدرون على دفاعها. والدنيا كلها إلى شتات. وكل حي إلى ممات والغدر والبغي حتف الإنسان والمكر راجع على صاحبه. وقد أمرت برد جميع ما أخذ لك. ولم تفقدي ممن مضى على رحمة الله إلا وجهه وأنا بعد ذلك لك على أكثر مما تختارين والسلام.(3/279)
ثم أمر برد ضياعها وجميع ما أخذ منها واقطعها ما كان في يدها وأعادها إلى حالتها الأولى في الكرامة والحشمة (حديقة الأقزاح لليمني)
فصول في الهدايا
كتب رجل إلى المتوكل وقد أهدى إليه قارورة من دهن الأتزج
364 إن الهدية إذا كانت من الصغير إلى الكبير كلما لطفت ودقت كانت أبهى وأحسن. وكلما كانت من الكبير إلى الصغير كلما عظمت وجلت كانت انفع وأوقع. وأرجو أن لا يكون قصرت بي همة أصارتني إليك ولا أحري إرشاد دلني عليك وأقول:
ما قصرت همة بلغت بها ... بابك ياذا النداء والكرم
حسبي بودك أن ظفرت به ... ذخراً وعزاً يا واحد الأمم
365 كتب أحمد أبي طاهر مع هديةٍ:
من سنة الأملاك فيما مضى ... من سالف الدهر وإقباله
هدية العبد إلى ربه ... في جدة الدهر وإجلاله
فقلت ما اهدي إلى سيدي ... حالي وما خولت من حاله
إن أهد نفسي فهي من نفسه ... أو أهد مالي فهو من ماله
فليس إلا الحمد والشكر والمدح ... الذي يبقى لمثاله
أهدت جارية من جواري المأمون تفاحة له وكتبت إليه
366 إني يا أمير المؤمنين لما رأيت تنافس الرعية في الهدايا إليك وتواتر ألطافهم عليك فكرت في هديةٍ تخف مؤونتها وتهون كلفتها ويعظم خطرها ويجل موقعها. فلم أجد ما يجتمع فيه هذا النعت(3/280)
ويكمل فيه هذا الوصف إلا التفاح فأهديت إليك منها واحدةً في العدد كثيرةً في التقرب. وأحببت يا أمير المؤمنين أن أعرب لك عن فضلها واكشف لك عن محاسنها وشرح لك لطيف معانيها. وما قالت الأطباء فيها تفنن الشعراء في أوصافها حتى ترمقها بعين الجلالة وتلحظها بمقلة الصيانة. فقد قال أبوك الرشيد: أحسن الفاكهة التفاح اجتمع فيه بياض الفضة ولون التبر. يلذ بها من الحواس العين ببهجتها والأنف بريحها والفم بطعمها.
فصول في التهنئة
كتب بعض الشعراء إلى بعض أهل السلطان في المهرجان
367 هذه أيام جرت فيها العادة بإلطاف العبيد للسادة. وإن كانت الصناعة تقصر عما تبلغه الهمة فكرهت أن أهدي فلا أبلغ مقدار الواجب فجعلت هديتي هذه الأبيات وهي:
ولما أن رأيت ذوي التصابي ... تباروا في هدايا المهرجان
جعلت هديتي وداً مقيماً ... على مر الحوادث والزمان
وعبداً حين تكرمه ذليلاً ... ولكن لا يعز على الهوان
نريدك حين تعطيه خضوعاً ... ويرضي من نوالك بالأماني
كتب السلطان العزيز إلى ابن مقشر الطبيب النصراني يهنئه ببرئه من مرضه
368 بسم الله الرحمن الرحيم إلى طبيب سلمه الله السلام الله الطيب وأتم النعمة عليه. وصلت إلينا البشارة بما وهبه الله من عافية الطبيب(3/281)
وبرئه والله العظيم لقد عدل عندنا ما رزقناه نحن من الصحة في جسمنا أقاتلك الله العثرة. وأعادك إلى أفضل ما عودك من صحة الجسم وطيبة النفس وخفض العيش بحوله وقوته (لأبي الفرج)
في التوصية
كتاب أبي بكر إلى يزيد ابن أبي سفيان
369 إذا سرت فلا تعنف على أصحابك في السير ولا تغضب قومك وشاورهم في الأمر. واستعمل العدل وباعد عنك الظلم والجور. فإنه ما أفلح قوم ظلموا ولا نصروا على عدوهم. وإذا لقيتم الذين كفرو ازحفا فلا تولوهم الأدبار. ومن ويلهم يومئذ دبره إلا منحرفاً لقتال أو متحيزاً إلى فئة فقد باء بغضب من الله. وإذا نصرتم على عدوكم فلا تقتلوا وليدا ولا شيخاً ولا امرأة ولا طفلاً. ولا تقربوا نخلاً ولا تحرقوا زرعاً ولا تقطعوا شجراً مثمراً. ولا تعقروا بهيمة إلا بهيمة المأكول. ولا تغدروا إذ عاهدتم ولا تنقضوا إذا صالحتم. وستمرون على أقوام في الصوامع رهبان ترهبوا لله فدعوهم وما انفردوا إليه وارتضوه لأنفسهم فلا تهدموا صوامعكم ولا تقتلوهم والسلام (تاريخ الشام للواقدي)
كتاب عمر بن الخطاب لأبنه عبد الله
370 ما بعد فإنه من اتقى الله وقاه. ومن توكل عليه كفاه ومن شكر له زاده ومن أقرضه جزاه. فاجعل التقوى عماد قلبك وجلاء(3/282)
بصرك فإنه لا عمل لمن لا نية له. ولا أجر لمن لا حسنة له. ولا جديد لمن لا خلق له. (للقيرواني)
كتاب عمر بن الخطاب إلى عتبة بن غزوان عاملة على البصرة
371 أما بعد فقد أصبحت أميرا تقول فيسمع لك وتأمر فينفذ أمرك. فيا لها نعمة إن لم ترفعك فوق قدرك وتطغيك على من دونك فاحترس من النعمة أشد من احتراسك من المصيبة. وإياك أن تسقط سقطة لا شوى لها وتعثر عثرة لا لعالها (أي لا إفالة) . والسلام
كتاب عمر إلى سعد بن أبي وقاص ومن معه من الأجناد
372 أما بعد فإني آمرك ومن معك من الأجناد بتقوى الله على كل حال. فإن تقوى الله أفضل العدة على العدو وأقوى المكيدة في الحرب. وآمرك ومن معك أن تكونوا أشد احتراساً من المعاصي منكم من عدوكم. فإن ذنوب الجيش أخوف عليهم من عدوهم. ولولا ذلك لم تكن لنا بهم قوة لن عددنا ليس كعددهم ولا عدتنا كعدتهم. فإن استوينا في المعصية كان لهم الفضل علينا في القوة. وإلا ننصر عليهم بفضلنا لم نغلبهم بقوتنا. فأعلموا أن عليكم في سيركم حفظةٍ من الله يعلمون ما تفعلون فاستحيوا منهم واسألوا اله العون على أنفسكم كما تسألونه النصر على عدوكم أسأل الله ذلك لنا ولكم وترفق بالمسلمين في مسيرهم ولا تجشمهم مسيراً يتعبهم ولا تقصر بهم عن منزل يرفق بهم حتى يبلغوا عدوهم. والسفر لم ينقص(3/283)
قوتهم فإنهم سايرون إلى عدو مقيم حامي النفس والكراع. وأقم بمن معك في كل جمعة يوما وليلة. حتى تكون لهم راحة يحيون فيها أنفسهم ويرمون أسلحتم وأمتعتهم. ونح منازلهم عن قرى أهل الصلح والذمة فلا يدخلها من أصحابك إلا من تثق بدينه. وليكن عندك من العرب أو من أهل الأرض من تطمئن إلى نصحه وصدقه. فإن الكذوب لا ينفعك خبره وإن صدقك في بعضه. وليكن منهك عند دنوك من أرض العدو أن تكثر الطلائع وتبث السرايا بينك وبينهم. ثم أذك أحراسك على عسكرك وتيقظ من البيات جهدك. والله ولي أمرك ومن معك وولي النصر لكم على عدوكم والله المستعان
فصول في الذم
فصل لأحمد بن يوسف
373 أما بعد فإني لا أعرف للمعروف طريقاً أوعر من طريقه ليك. فالمعروف لديك ضائع والشكر عندك مهجور. وإنما غايتك في المعروف أن تحقره وفي وليه أن تكفره.
كتاب أبي العتاهية إلى الفضل بن معن بن زائدة
374 أما بعد فإني توسلت إليك في طلب نائلك بأسباب الأمل وذرائع الحمد فراراً من الفقر ورجاء للغنى وازددت بهما بعداً مما فيه تقربت وقرباً مما فيه تبعدت. وقد قسمت اللائمة بيني وبينك لأني أخطأت في سؤالك وأخطأت في منعي. أمرت باليأس من(3/284)
أهل البخل فسألهم ونهيت عن منع أهل الرعبة فمنعتهم
فصل لإبراهيم بن المهدي
375 إن مودة الأشرار متصلة بالذلة والصغار تميل معهما وتصرف في آثارهما. وقد كنت احل مودتك بالمحل النفيس وأنزلها بالمنزل الرفيع حتى رأيت ذلتك عند الضعة وضرعتك عند الحاجة وتغيرك عند الاستغناء وإطراحك لإخوان الصفاء. فكان ذلك أقوى أسباب عذري في قطيعتك عند من يتصفح أمري وأمرك بعين عدلٍ لا تميل إلى هوى ولا ترى القبيح حسناً.
فصل في العتاب لعبد الله بن معاوية ذي الجناحين
376 أما بعد فقد عاقني اشك في أمرك عن عزيمة الرأي فيك. ابتدأتني بلطف عن غير خبرةٍ وأعقبته جفاء من غير ذنب. فأطمعني أو لك في إخائك وآيسني من وفائك فسبحان من لو شاء لكشف من أمرك عن عزيمة الرأي فيك. فأقمنا على ائتلافٍ. وافترقنا على اختلاف.
وله أيضاً في هذا الباب
377 لو كانت الشكوك تختلجني في صحة مودتك وكريم إخائك ودوام عهدك لطال عتبي عليك في تواتر كتبي واحتباس جواباتها عني ولكن الثقة بما تقدم عندي تعذرك وتحسن ما يقبحه جفاؤك. والله يديم نعمته لك ولنا بك.(3/285)
فصل لأبن المدبر
378 وصل كتابك المفتتح بالعتاب الجميل والتقريع اللطيف فلولا ما غلب علي من السرور بسلامتك لتقطعت غماً بعتابك الذي لطف حتى كاد يخفى عن أهل الرقة والفطنة. وغلظ حتى كاد يفهمه أهل الجهل والبله. فلا أعدمني الله رضاك مجازياً به على ما استحقه عتبك فأنت ظالم فيه وعتابك لي المخرج منه (لابن عبد ربه)
كتاب صاحب البريد بخراسان إلى الرشيد ويحي جالس بين يديه
379 عن الفضل بن يحي متشاغل بالصيد وإدمان اللذات عن النظر في أمور الرعية فلما قراه الرشيد رمى به إلى يحي وقال له: يا أبي اقرأ هذا الكتاب واكتب إليه بما يردعه عن هذا: فكتب يحي على ظهر كتاب صاحب البريد: حفظك الله يا بني وأمتع بك قد انتهى إلى أمير المؤمنين مما أنت عليه من التشاغل بالصيد ومداومة اللذات عن النظر في أمور الرعية ما أنكره فعاود ما هو أزين بك. فإنه من عاد إلى ما يزينه أو يشينه لم يعرفه دهره إلا به والسلام (لابن خلكان)
كتاب طاهر بن الحسين حين أخذ بغداد إلى إبراهيم بن المهدي
380 أما بعد فإنه عزيز عليّ أن اكتب إلى أحدٍ من بيت الخلافة بغير كلام الإمرة وسلامها. غير انه بلغني عنك انك مائل الهوى والرأي للناكث المخلوع. فإن كان كلما بلغني فقليل ما كتبت به لك. وإن يكن غير ذلك فالسلام علك أيها الأمير ورحمة الله(3/286)
وبركاته. وقد كتبت في أسفل كتابي أبياتاً فتدبرها:
ركوبك الهول ما لم تلق فرصته ... جهل رمى بك بالإقحام تعزير
أهون بدنيا يصيب المخطئون بها ... حظ المصيبين والمغرور مغرور
فازرع صوابا وخذ بالحزم حيطته ... فلن يذم لأهل الحزم تدبير
فإن ظفرت مصيباً أو هلكت به ... فأنت عند ذوي الألباب معذور
وإن ظفرت على جهل ففزت به ... فألوا جهول أعانته المقادير
فصول في المدح والشكر
فصل لمحمد بن الجهم
381 إنك لزمت من الوفاء طريقةً محمودةً وعرفت مناقبها وشهرت بمحاسنها. فتنافس الإخوان فيك يبتدرون ودك ويتمسكون بحبلك. فمن أثبت له عندك وداً وضع حلته موضع حرزها
كتاب ابن مكرم إلى احمد بن المدبر
382 إن جميع أكفائك ونظرائك يتنازعون الفضل فإذا انتهوا إليك أقروا لك. ويتنافسون المنازل فإذ بلغوك وقفوا دونك. فزادك الله وزادنا بك وفيك. وجعلنا ممن يقبله رأيك. ويقدمه اختيارك ويقع من الأمور بموقعٍ بموافقتك. ويجري فيها على سبيل طاعتك. (وله) . إن مما يطمعني في بقاء النعمة عندك ويزيدني بصيرة في العلم بدوامها لديك أنك أخذتها بحقها واستوجبتها بما فيك من أسبابها. ومن شان الأجناس أن تتألف. وشأن الأشكال(3/287)
أن تتقاوم. وكل شيء يتفلقل إلى معدنه ويحن إلى عنصره. فإذا صادف منبته ونزل في مغرسه ضرب بعرقه وسبق بفرعه وتمكن تمكن الإقامة وتفتك الطبيعة
فصل له أيضاً
383 ألسيف العتيق إذا أصابه الصدأ استغنى بالقليل من الجلاء حتى تعود جدته ويظهر فرنده للين طبيعته وكرم جوهره. ولم أصف نفسي لك عجباً بل شكراً. (وله) زاد معروفك عندي عظماً أنه عندك مستور حقير. وعند الناس مشهور كبير. (أخذه الشاعر) فقال:
زاد معروفك عندي عظيماً ... انه عندك مستور حقير
تتناساه كأن لم تأته ... وهو عند الناس مشهور كبير
فصل للعتابي
384 أنت أيها الأمير وارث سلقك وبقية أعلام أهل بيتك المسدود به ثلمهم المجدد به قديم شرفهم والمحيا به أيام سعيهم. وإنه لم يخمل من كنت وارثه. ولا درست آثار من كنت سالك سبيله ولا انمحت أعلام من خلفته في رتبته.
فصول في التعازي
فصل لعمرو بن بحر الحاحظ
385 أما بعد فإن الماضي قبلك الباقي لك والباقي بعدك المأجور فيك. وإنما يوفى الصابرين أجرهم بغير حساب (وله) : أما بعد فإن(3/288)
في اله العزاء من كل هالك والخلف من كل مصاب. وإنه من لم يتغز بعزاء الله تنقطع نفسه عن الدنيا حسرةً. (وله) أما بعد فإن الصبر يعقبه الأجر والجزع يعقبه الهلع. فتمسك بحظك من الصبر تنل به الذي تطلب وتدرك به الذي تأمل (لابن عبد ربه)
كتب ابن السماك إلى هارون الرشيد يعزيه بولدٍ
386 أما بعد فإن استطعت أن يكون لله شكرك حيث وهبه لك فافعل. فإنه حيث قبضة منك أحرز لك هبته. ولو بقي لم تسلم من فتنته. أرأيت جزعك على ذهابه وتلهفك على فراقه. أرضيت الدار لنفسك فترضاها لابنك. أما هو فقد خلص من الكدر وبقيت أنت متعلقاً بالخطر ولا سلام (الكنز المدفون للسيوطي)
عزى شبيب بن شبة المنصور على أخيه أبي العباس فقال
387 جعل الله ثواب مارزئت به لك أجراً وأعقبك عليه صبراً. وختم ذلك لك بعافية تامةٍ ونعمة عامةٍ. فثواب الله خير لك منه وما عند اله خير له منك. وأحق ماصبر عليه ما ليس إلى تغييره سبيل
رسائل إلى عليل
388 ليست حالي أكرامك الله في الاغتمام بعلتك حال المشارك فيها بان ينالني نصيب منها وأسلم من أكثرها. بل اجتمع علي منها أني مخصوص بها دونك مؤلم منها بما يؤلمك. فانا عليل مصروف العناية إلى عليل كأني سليم. فانا أسأل الله الذي جعل عافيتي في عافيتك(3/289)
أن يخصني بما فيك فإنها شاملة لي ولك. (وفي هذا الباب) : إن الذي يعلم حاجتي إلى بقائك قادر على المدافعة عن حوابائك. فلو قلت إن الحق قد سقط عني في عيادتك لأني عليل بعلتك لقام بذلك شاهد عدل في ضميرك واثر بار في حالي لغيبتك وأصدق الخبر ما حققه الأثر وأفضل القول ما كان عليه دليل.
فصول في وصاة
كتب الحسن بن وهب إلى مالك بن طوقٍ يوصي بابن أبي الشيص
389 كتابي إليك خططته بيميني وفرغت له ذهني فما ظنك بحاجة هذا موقعها مني. أتراني أقبل العذر فيها أو أقصر في الشكر عليها وابن أبي الشيص قد عرفته ونسبه وصفاته ولو كانت أيدينا تنبسط ببره ما عدانا إلى غيرنا فاكتف بهذا منا (وله) : كتابي إليك كتاب معني بمن كتب له واثقٍ بمن كتب إليه. ولن يضيع بين الثقة والعناية حامله
فصل للحسن بن سهل
390 فلان قد استغنى باصطناعك إياه عن تحريكي إياك في أمره. فغن الصنيعة حرمة للمصنوع إليه وسيلة إلى مصطنعه فبسط الله يدك بالخيرات وجعلك من أهلها ووصل بك أسبابها. (وله) : موصل كتابي إليك أنا فكن له أنا. وتأمله بعين. مشاهدتي وخلتي. فلسانه أشك ما أتيت إليه وأذم ما قصرت فيه (لابن عبد ربه) .(3/290)
الباب العشرون
في تاريخ العرب
نظر في أمة العرب وطباعهم وسكناهم
391 اعلم أن العرب مهم الأمة الراحلة الناجمة. ألخيام لسكناهم والخيل لركوبهم والأنعام لكسبهم. يقومون عليها ويقتاتون من ألبانها ويتخذون الدفء والأثاث من أوبارها وأشعارها ويحملون أثقالهم على ظهورها. يتنازلون حلالا مفترقة ويبتغون الرزق في غالب أحوالهم من القنص وتخطف الناس من السبل. ويتقلبون دائماً في المجالات فراراً من حمارة القيظ تارة وصبارة البرد أخرى. وانتجاعاً لمراعي غنمهم. ارتياداً لمصالح إبلهم الكفيلة بمعاشهم وحمل أثقالهم ودفئهم ومنافعهم فاختصوا لذلك بسكنى الإقليم الثالث. فعمروا اليمن والحجار ونجداً وتهامة وما وراء ذلك لاختصاص هذه البلاد بالرمال والقفار المحيطة بالأرياف الأهلة بمن سواهم من الأمم في فصل الربيع وزخرف الأرض لرعي الكلاْ والعشب في منابتها والتنقل في نواحيها إلى فصل الصيف لمدة الأقوات في سنتهم من حبوبها. وربما يلحق أهل العمران أثناء ذلك ممرات من ضرارهم بإفساد السابلة ورعي الزرع مخضراً أو انتهابه قائماً وحصيداً. لاما حاطته الدولة وذادت عنه الحامية في الممالك التي للسلطان عليهم(3/291)
فيها. ثم ينحدرون في فصل الخريف إلى القفار لرعي شجرها ونتاج إبلهم في رمالها وما أحاط به عملهم من مصالحها. وفرارا بأنفسهم وظعائنهم من أذى البرد إلى دفء مشاتيها. فلا يزالون في كل عام مترددين بين الريف والصحراء ما بين الإقليم الثالث والرابع صاعدين ومنحدرين على ممر الأيام. شعارهم لبس المخيط في الغالب ولبس العمائم تيجاناً على رؤوسهم لقنوا من أمم البربر في حمل السلاح اعتقال الرماح وهجروا تنكب القسي (تاريخ ابن خلدون)
ذكر نسب العرب وتقاسمهم
392 قال المطرزي: اختلف في نسبتهم وقيل إن اسمهم اشتق من الإبانة لقولهم أعرب الرجل عما في ضميره إذا أبان عنه. والأصح أنهم نسبوا إلى عربة فهي من تهامة ودعي جيلهم جيل الجاهلية لما كان عليه العرب من الجهل بالله وشرائع الدين والكبر والتجبر وقد قسم المؤرخون العرب إلى ثلاث أقسام عاربةٍ ومتعربة ومستعربة. أما العاربة فهم العرب الأول الذين ذهبت عنا تفاصيل أخبارهم لتقادم عهدهم وأما العرب المتعربة فهم عرب اليمن من ولد قحطان. وأما العرب المستعربة فهم ولد إسماعيل (نهاية الأرب للنويري)
أخبار العرب العارية أو البائدة وهم القسم الأول
393 هم شعوب كثيرة منم عاد وثمود وطسم وجديس وجرهم الأولى. وقد نسمى هذا الجيل العرب البائدة بمعنى الهالكة لأنه لم(3/292)
يبق على وجه الأرض أحد من نسلهم وقد سمي أهل هذا الجيل العاربة إما بمعنى الرساخة بالعروبية كما يقال ليل أليل وصوم صائم أو بمعنى الفاعلة للعروبية والمبتدعة لها بما كانت أول أجبالها وأما بنو عادٍ فكانت مواطنهم اللوى بأحقاف الرمل بين اليمن وعمان إلى حضرموت والشجر وكان أبوهم عاد أول ملك من العرب. وذكر المسعودي: أن الذي ملك منهم من بعد عادٍ شداد. وهو الذي سار في الممالك واستولى على كثير من بلاد الشام والهند والعراق. ولما اتصل ملك عادٍ وعظم طغيانهم وعنوهم انتحلوا عبادة الأصنام والأوثان أبادهم الله وهلكوا عن أقصاهم وأما ثمود فكانت ديارهم بالحجر ووادي القرى فيما بين الحجاز والشام وكانوا ينحتون بيوتهم في الجبال وكانوا أهل كفرٍ وبغي. فانذرهم بعض الأنبياء فلم يصيخوا إلى دعائه. فهلك جميعهم حيث كانوا من الأرض ودرجوا في الغابرين.
وأما جديس وطسم فكانت ديارهم اليمامة وهي إذ ذاك من أخصب البلاد وأعمرها وأكثرها ثماراً وحدائق وقصورا وكان ملك طسم غشوماً مصاراً لجديس مستذلاً لهم حتى قام الأسود وقتله غيلة وأما جرهم الأولى فكانت ديارهم باليمن وكانوا يتكلمون بالعبرانية فكانوا على عهد عادٍ ولتقادم انقراضهم ذهبت عنا حقائق أخبارهم وانقطعت عنا أسابا العلم بآثارهم وأما جرهم الثانية(3/293)
فليسوا من البائدة بل عن من ولد قحطان وبهم اتصل إسماعيل بن إبراهيم
العرب المتعرية بنو قطحان وهم القسم الثاني
394 وسمي هذا الجيل العرب المتعربه لنزلوهم بالبادية مع العرب العاربة وتخلقهم بأخلاقهم. وهم بنو قحطان بن عابر بن شالح بن أرفخشد بن سام. وقحطان هذا معرب يقطان وكان أول من ملك أرض اليمن ولبس التاج (2030 قبل المسيح) وكان بنو قطحان معاصرين لإخوانهم من العرب العاربة ومظاهرين لهم على أمورهم. ولم يزالوا مجتمعين في مجالات البادية مبعدين عن رتبة الملك وترفهه الذي كان لأولئك فأصبحوا بمنجاةٍ من الهرم الذي يسوق إليه الترف والنضارة فتشعبت في أرض الفضاء فصائلهم وتعدد في جو الفقر أفخاذهم وعشائرهم. ونمى عددهم وكثرت إخوانهم من العمالة في آخر جيلهم. وزاحموا بمناكبهم واستجدوا خلق الدولة بما استأنفوه من عزهم وكانت الدولة لبني قحطان متصلة فيهم (لابن خلدون)
ملك يعرب ويشجب وسبا بني قحطان
395 وكان يعرب بن قحطان من أعاظم ملوك العرب ويسمى يمناً وبه سميت اليمن وهو أول من حياه بالتحية: أبيت اللعن وأنعم صباحاً. وقيل إنه أول من نطق بالعربية. قال حسان بن ثابت الأنصاري:
تعلمتم من منطق الشيخ يعربٍ ... أببنا فصرتم ذوي نفر
وكنتم قديماً ما لكم غير عجمةٍ ... كلام وكنتم كالبهائم في القفر(3/294)
وملك بعد يعرب ابنه يشجب. وكان واهي العزيمة واستبد أعمامه بما في أيديهم من الممالك. وملك من بعده ابنه عبد الشمس وأكثر الغزو في أقطار البلاد قسمي سبأ. وكانت قاعدة ملكة مدينة صنعاء ومن مدنه مأرب على ثلاث مراحل منها (للنوري وابن الأثير)
سد مأرب وتفرع بني سبا
396 فبنى سبأ في مأرب سداً مابين جبلين بالصخر والقار فحقن به ماء العيون والمطار وساق إليه سبعين وادياً وترك فيه خروفاً على قدر ما يحتاجون إليه في سقيهم. وهو الذي يسمى العرم ومات قبل إتمامه فأتمه ملوم حمير من بعده فأقاموا في جناته عن اليمين والشمال. ودولتهم يومئذ أوفر مما كانت وأترف وأبذخ وعلى يداً وأظهر. فلما طغوا أجحفهم السيل وأغرق جناتهم وخرجت أرضهم وتمزق ملكهم وصاروا أحاديث وكان هؤلاء التبابعة ملوكاً عدة في عصور متعاقبة وأحقاب متطاولة لم يضبطهم الحصر ولا تقيدت منهم الشوارد. وربما كانوا يتجاوزن ملك اليمن إلى ما بعد عنهم من العراق والهند والمغرب. فاختلفت أحوالهم ووقع اللبس في نقل أيامهم. فلنأت منها متحرياً جهد الاستطاعة عن طموس من الفكر واقتفاء التقاييد المرجوع إليها والأصول المعتمد على نقلها وعدم الوقوف على أخبارهم مدونة في كتاب واحدٍ. وكان لسبأ من الولد كثير أشهرهم حمير وعمرو وكهلان فيعزى التبايعة إلى حمير والمناذرة إلى عمرٍ وينتمي(3/295)
الغساسنة إلى كهلان. وسنورد بالتلخيص أخبارهم (لابن خلدون)
ملك التبابعة بني حمير في اليمن
(ذكر حمير وشداد وتبع الأول)
397 قال المسعودي: قيل لملوك اليمن تبابعة لأنه يتبع بعضهم بعضاً كلما هلك قام آخر. ولم يكونوا يسمون الملك منهم بتبع حتى يملك اليمن والشحر وحضرموت ومن لم يكن له شيء من هذا قيسمى ملكاً ولا يقال له تبع. وأما حمير فقد يعرف أيضاً بالعرنجج (1430 ق. م) . وقيل هو أول من تتوج بالذهب واخرج ثمود من اليمن إلى الحجاز. ثم ملك بعده ابنه وائل. ولم يزل ملكهم على اليمن حتى مضت قرون وصار الأمر إلى شداد فغزا البلاد إلى أن بلغ أقصى المغرب وبنى المدائن والمصانع وأبقى الآثار العظيمة. ثم اضطربت أحوال حمير وصار ملكهم طوائف إلى أن استقر في الحارث وهو تبع الأول وفي بنية التبابعة. وقد لقب الحارث بالرائش لأنه راش الناس بالعطاء مما كان أصابه في غزواته من السلب والغنائم (لحمزة الأصفهاني)
ملك افريقس وذي الاذعار وشرجبيل
398 ثم ملك أبرهة ذو المنار ثم أفريقس (1098 ق. م) وذهب بقبائل العرب إلى افريقية وبه سميت وساق البرير إليها من أرض كنعان فأنزلهم ويقال إنه الذي سمي البرابرة بهذا الاسم لأنه لما افتتح المغرب وسمع رطانتهم قال: ما أكثر بربرتهم فسموا البرابرة.(3/296)
ثم ملك بعد أفريقس أخوه عمرو ذو الأذعار ولم يحسن السيرة في الرعية ولما يعبأ بوصاة أبيه أبرهة وكان أنشده عند وفاته:
يا عمرو إنك ما جهلت وصيتي ... إياك فاحفظه فإنك ترشد
يا عمر ولا والله ما ساد الورى ... فيما مضى إلا المعين المرفد
يا عمر من يشري العلي بنواله ... كرماً يقال له الجواد السيد
كل امرئٍٍ يا عمر حاصد زرعه ... والزرع شيء لا محالة يحصد
ولما ذعرت حمير من جوره خلعت طاعته وقلدت الملك شرحبيل. فجرى بين شرحبيل وذي الأذعار قتال شديد قتل فيه خلق كثير. واستقل شرحبيل بالملك بعده ابنه الهدهاد. (1065 ق. م)
ملك بلقيس وناشر النعم وشمر مرعش ومزيقيا
399 ثم ملكت بلقيس ابنه الهدهاد وكانت على عهد سليمان ووفدت عليه بنفيس الهدايا وبقيت في ملك اليمن عشرين سنة. ثم قام بعدها بالملك مالك ناشر النعم. لأنه قلد أعناق رعته أطواق الإنعام المنن وسار غازياً إلى المغرب فبلغ وادي الرمل ولم يجد فيه مجازاً كثرة الرمل وعبر بعض أصحابه فلم يرجعوا فأمر بصنم من نحاس نصب على شفير الوادي وكتب في صدره بالخط المسند: هذا الصنم لناشر النعم الحميري ليس وراءه مذهب فلا يتكف أحد ذلك فيعطب. ثم ملك بعد ناشر هذا ابنه شمر مرعش سمي بذلك لارتعاش كان به وهذا هو تبع الآخر. وهو المشهور من ملوك التبابعة ذو المغازي(3/297)
والآثار البعيدة فكان من أشد ملوك العرب نكاية في العداء وأبعدهم مغاراً (850 قبل المسيح) ويقال إنه وطئ أرض العراق وفارس وخراسان افتتح مدائنهم وخرب مدينة الصفد وراء جيحون فقالت العجم شمر كند أي شمر خرب. وبنى مدينة هنالك فسميت باسمه هذا وعربته العرب فصار سمرقند. وشخص من اليمن غازياً بالحيرة فتحير عسكره. ثم رجع إلى اليمن وهابته الملوك وهادنوه وأخذ بدين اليهودية بإغراء بعض أحبار اليهود من بني قريظة ثم عاد إلى غزو بلاد فارس فوطأ الممالك وذللها وعمد إلى الصين قال النويري: وكان لملك الصين في ذلك الزمان وزير شديد البأس سامي اهمة فلما بلغه مسر ملك اليمن جدع انفه ولحق بأبي كرب وسعى إليه بأمره وتشكى من ملك الصين وتظاهر أنه يدل أبا كرب على خلل يمكنه الفرصة لإلقاء بلادهم بالقياد وفتحها فسر به تبع وبالغ في إكرامه وأصاخ لقوله. فنهض الوزير بجيشه وهو يقدمهم حتى انتهى بهم إلى أرض سبخة. فتوغلوا في فلواتٍ سحيقة لا ماء فيها فأجهدهم العطش فهلكوا. ثم قام بعده ابنه أبو مالك وهلك في بعض غزواته ثم انتقل الملك مدة إلى بني كهلان حتى ملك عمرو بن عامر الأزدي وقيل له مزيقيا لأنه كان يلبس كل يوم بدلة فإذا أراد الدخول إلى مجلسه رمى بها فمزقت لئلا يجد أحد فيها ما يلبسة. وقيل إنه على عهده صار سيل العرم (102 ب م) .(3/298)
فانفجرت مياه سد مأرب احتمل السيل أنعامهم وخرب ديارهم فتفرقت القبائل المجاورة له أيدي سبا (لابن الأثير والمسعودي)
ذكر ذي نواس وشهداء النصرانية في نجران
400 ولم تزل تتوالى الملوك على حمير حتى صار الملك إلى ذي نواس (490 ب م) واتفق أهل الأخبار كلهم أن ذا نواس هو ابن تبان أسعد واسمه زرعة. وأنه لما تغلب على ملك آبائه التبابعة تسمى يوسف وتعصب لدين اليهودية وحمل عليه قبائل اليمن. فاستجمعت معه حمير على ذلك وأراد أهل نجران عليها وكانوا من بين العرب يدينون بالنصرانية ولهم فضل في الدين واستقامة على حكم أهل الإنجيل. ولهم رأس يقال له عبد الله بن ثامر. وكان هذا الدين وقع إليهم قديماً من بقية أصحاب الحواريين من رجل سقط لهم من ملك التبعية يقال له فيمون. وكان رجلا صالحاً مجتهداً في العبادة مجاب الدعوة وظهرت على يده الكرامات في شفاء المرضى. وكان يطلب الخفاء عن الناس جهده وكان لا يأكل إلا من كسب يده ويعظم يوم الأحد فلا يعمل فيه شيئاً ففطن لشأنه رجل من أهل الشام اسمه صالح فلزمه وخرجا فارين بأنفسهما حتى طأ بلاد العرب. فاختطفتهما سيارة فباعوهما بنجران. وأهل نجران يومئذ على دين العرب يعبون نخله لهم طويلة ويعلقون عليها في الأعياد من حليهم وثيابهم ويعكفون عليها أياماً وكان قد ابتاع فيمون رجل من أشرافهم وابتاع(3/299)
صالح آخر. فكان فيمون إذا قام في الليل في بيت له أسكنه إياه سيده استسرج له البيت نوراً وهو في غير مصباح حتى يصبح الصباح. فأعجب سيده ما رأى منه فسأله عندينه فأخبره به وقال له: إنما أنتم على باطل وهذه الشجرة لا تضر ولا تنفع. ولو دعوت عليها إلهي الذي أعبده لأهلكها وهو وحده لا ند له. فقال له سيده: افعل فإنك إذا فعلت هذا دخلنا في دينك وتركنا ما نحن عليه. فدعا فيمون فأرسل الله ريحاً فجعفت النخلة من أصلها. وأطبق أهل نجران على أتباع دين عيسى فمن هناك كانت النصرانية بنجران. وأما عبد الله بن ثامر فكان يجلس إلى فيمون كل يوم ويسمع منه شرائع النصرانية حتى فقه فيها وظهرت على يده الخوارق والمعجزات ودان الكل بدينه. فسار إليهم ذو نواسٍ واستدعى رأسهم عبد الله ابن تامر فأحذره وقال له: أفسدت علي أهل بلدي وخالفت ديني ودين آبائي. ثم أمر به فقتل وعرض على أهل نجران القتل فلم يزدهم إلا جماحاً. فخدد لهم الأخاديد وأوقد لهم ناراً ثم أمتحنهم. فجعل يقول للرجل والمرأة: إما أن تترك دينك وإما أن نقذفك في النار فيقول: ما أنا تارك ديني لشيء فيقذف فيها فيحرق. فبقيت امرأة ومعها صبي رضيع عمره سبعة أشهر فجزعت وتهيبت. فقال لها الغلام: يا أماه لا تنافقي فإنك على الحق ولم يكن يتكلم من ذي قبلٍ. فاحترقت وقتل وحرق ذو نواسٍ حتى اهلك منهم فيما قال ابن إسحاق(3/300)
عشرين ألفاً أو يزيدون وأفلت منهم رجل من سبأ يقال له دوس ذو ثعلبان فسلك الرمل على فرسه فأعجزهم. فقدم على قيصر صاحب الروم يستنصره على ذي نواس (معجم البلدان لياقوت)
استيلاء الحبشة على ملك اليمن
401 فبعث قيصر إلى ملك الحبشة يأمره بنصره. فجاءته السفن وأجاز فيها العساكر من الحبشة وأمر عليهم أرياط رجلاً منهم. وعهد إليه بقتلهم وسبيهم وخراب بلادهم. فركبوا البحر ونزلوا ساحل اليمن فلقيهم ذو نواس فيمن معه فانهزم فلما رأى ذو نواس ما نزل به وبقومه وجه بقرسه إلى البحر وخاض ضحضاحة. ثم أفضى به إلى غمرةٍ فأقحمه فيها فكان آخر العهد به وانقرض أمر التبابعة. (529 ب م) ووطئ من ثم أرياط اليمن بالحبشة وأذل رجالات حمير وهدم حصون المك. ثم انتفض على أرياط أبرهة احد رؤساء جيشه وجذب معه رعاع الحبشة وعصى أرياط ودعاة للحرب فانحاز إلى أرياط عظماء الحبشة وغطاريفهم فاقتتلوا. فحمل أرياط على أبرهة وعلا وجهه بالحرية فشرم انفه وبذلك لقب بالأشرم وحمل أبرهة على أرياط بالسيف وعلا به رأسه فأسرع السيف في دماغه وسقط عن جواده. فمالوا حينئذِ جميعاً وصاروا مع أبرهة وأقاموه ملكاً. وكان أبرهة رجلاً قصيراً حادراً لحمياً دحداحاً ذا دين في النصرانية. فبنى بصنعاء إلى جانب غمدان كنيسة محكمة العمل وسماها(3/301)
القليس فانتشر خبر بناء هذا البيت في العرب. ولما هلك أبرهة) 571) ملك مكانة ابنه يكسوم وبه كان يكنى واستفحل ملكه وأذل حمير وقبائل اليمن. فقتل رجالهم واستخدم أبناءهم. ثم هلك يكسوم فملك مكانه أخوه مسروق وساءت سيرته وكثر عسفه (للازرقي)
أخبار سيف بن ذي يزن
402 ولما طال بلاء الحبشة على أهل اليمن خرج سيف بن ذي يزن الحميري من الأذواء بقية ذلك السلف وعقب أولئك الملوك. وديال الدولة الموفض للخمود. وقدم على قيصر (موريقي) يستنجده على الحبشة. فأبى وقال: الحبشة على دين النصارى. فرجع إلى كسرى وقدم الحيرة على النعمان بن المنذر عامل فارس على الحيرة وما يليها من أرض العرب فشكا إليه. واستمهله النعمان إلى حين وفادته على كسرى وأوفد معه وسأله النصر على الحبشة وشاور أهل دولته. فقالوا: في سجونك رجال حبستهم للقتل. ابعثهم معه فإن هلكوا كان(3/302)
الذي أردت بهم وإن ملكوا كان ملكا ازددته إلى ملكك فأحصوا بثمانمائة وقدم عليهم أفضلهم وأعظمهم بيتاً وأكبرهم نسباً وكان وهزر الديلمي. فتواقفوا للحرب وأمر وهزر ابنه أن يناوشهم القتال فقتلوه وأحفظه ذلك. وقال: أروني ملكهم فأروه إياه على فيل عليه تاجه وبين عينية ياقوته حمراء. فرماه بسهم فصك الياقوتة بين عينيه وتغلغل في دماغه وتنكس عن دابته وداروا به فحمل القوم عليهم وانهزم الحبشة في كل وجهٍ. وفني ملكهم في اليمن بعد أن توارثه منهم أربعة في ثنتين وسبعين سنة. (601) وانصرف وهزر إلى كسرى بعد أن خلف سيفاً على اليمن في جماعةٍ من الفرس ضمهم إليه على فريضة يؤديها كل عامٍ. وجعلهم لنظر ابن ذي يزن وانزله بصنعاء. وانفرد ابن ذي يزن بسلطانه ونزل قصر الملك وهو رأس غمدان. يقال إن الضحاك بناه على اسم الزهرة وهو أحد البيوت السبعة الموضوعة على أسماء الكواكب وروحانيتها. خرب في خلافة عثمان. ولما استوثق لذي يزن الملك جعل يعتسف الحبشة ويقتلهم حتى إذا لم يبق إلا القليل جعلهم خولاً واتخذ منهم طوابير يسعون بين يديه بالحراب. فخرج يوماً وهم يسعون بين يديه. فلما افردوا به عن الناس رموه بالحراب فقتلوه. فأرسل كسرى عاملاً على اليمن واستمرت عماله إلى أن كان آخرهم بإذن فأسلم وصارت اليمن للإسلام (لابن خلدون)(3/303)
2 خبر الملوك المناذرة بني كهلان في العراق
تملك ملك بن فهم وجذيمة الأبرش 403 أما أخبار العرب بالعراق في الجيل الأول فلم يصل إلينا تفاصيلها وشرح حالها. إلا لما حدث سيل العرم تمزقت عرب اليمن من مدينة مأرب إلى العراق والشام. فكانت تنوخ وقضاعة وهما حيأن من أحياء الأزد من بني كهلان ممن تمزق إلى العراق. فقال ملك بن فهم الأزدي لمالك بن القضاعي: نقيم بالبحرين ونتحالف على من نوانا فتحالفوا. فسموا تنوخ وذلك في أيام ملوك الطوائف فنظروا إلى العراق وعليها طائفة من ملوكها وهي شاعرغ فخرجوا عن البحرين وسارت الأزد إلى العراق مع ملك بن فهم الأزدي وسارت قضاعة إلى الشام مع مالك القضاعي.
404 وأول من تملك على تنوخ في العراق ملك بن فهم (195 للمسيح) وكان منزلة بالأنبار فبقي بها إلى أن رماه سليمة بن مالك رمية بالليل وهو لا يعرفه فلما علم أن سليمة رامية قال:
جزاني لا جزاه الله خيرا ... سليمة غنه شراً جزاني
أعلمه الرماية كل يومٍ ... فلما اشتد ساعده رماني
فلما قال هذين البيتين فاظ وهرب سليمة ثم ملك من بعد ملك جذيمة الأبرش. (215 ب م) وكان ثاقب الرأي بعيد المغار شديد النكاية ظاهر الحزم. وهو أول من غزا بالجيوش وشن الغارات على(3/304)
قبائل العرب وكان به برص فأكبرته العرب على أن تنعته به إعظاماً فسمته جذيمة الأبرش وجذيمة الوضاح. واستولى على السواد ما بين الحيرة والأنبار وسائر القرى المجاورة لبادية العرب وكان يجبي أموالها. وغزا طسماً وجديساً في منازلها من اليمامة. وفيه قال الشاعر:
أضحى جذيمة في الأنبار منزلة ... قد حاز ما جمعت في عصرها عاد
فطال ملكه إلى أن أدرك ملك سابور بن أشك. وكان جذيمة ملك معدٍ وبعض اليمن وغزا في آخر عمره الشام فقتل عمرو بن حسان ابن أذين والد الزباء ملكة الطوائف فانطوت له الزباء على طلب الثأر حتى قتلته. وكان ملك جذيمة نحو ستين سنة بالتقريب (لحمزة الاصفهاني) .
ملك عمرو بن عدي
405 فورث الملك من بعده ابن أخيه عمر بن عدي (268) وأمه رقاش وهو أول من اتخذ الحيرة منزلاً من ملوك العرب. وأول ملك يعده الحيريون في كتبهم من ملوك عرب العراق وملوك العراق إليه ينتسبون وهم عمرو بطلب الثأر من الزباء بخاله جذيمة. فلما أحست الزباء بنيته تحصنت في معقل فصارت أمنع من عقاب فعمد عمر إلى قصير وزيره فجدع انفه بمواطأةٍ منه على ذلك فلحق بالزباء يشكوها ما أصابه من عمر وانه اتهمه بمداخلة الزباء في أمر خاله جذيمة فقال: وما رأيت بعد ما فعل بي أنكى له من أن يكون معك. فأكرمته وقربته حتى إذا رضي منها من الوثوق بع غرها واسلم حصنها إلى عمرو. فلحمها(3/305)
بالسيف وأصاب ما أصاب من المدينة وانكفأ راجعاً. فبقي مدة عمره منفرداً بملكه مستبداً بأمره يغزو المغازي ويصيب الغنائم وتجبى إليه الموال وتفد عليه الوفود دهره الأطول. لا يدين لملوك الطوائف بالعراق حتى قدم أزدشير بن بابك في أهل فارس أرض العراق. فضبطها وقهر من كان له بها مناوئاً حتى حملهم على ما أراد مما يوافقهم ومما لا يوافقهم. فكره كثير من تنوخ مجاورة العراق على الصغار. فخرج من كان منهم من قبائل قضاعة. فكان أناس من العرب يحدثون أحداثاً في قلومهم أو تضيق معيشتهم فيخرجون إلى ريف العراق وينزلون الحيرة فكان ذلك على أكثرهم هجنةً. فصار أهل الحيرة ثلاثة أثلاث. ألثلث الأول تنوخ وهم من كان يسكن المظال وبيوت الشعر والوبر في غربي الفرات ما بين الحيرة إلى الأنبار فما فوقها. والثلث الثاني العباد وهم الذين سكنوا رقعة الحيرة فابتنوا بها. والثلث الأحلاف وعمرت الحيرة أيام ملك عمر وبن عدي باتخاذه منزلاً إياها. وعظم شأنها إلى أن وضعت الكوفة ونزلها عرب الإسلام. (للنويري وحمزة الأصفهاني)
ملك امرئ القيس البدء والمحرق والنعمان الأعور السائح
406 ثم ملك من بعد عمرو بن عدي امرؤ القيس البدء وهو الأول في كلامهم (288- 338 ب م) وهو أول من تنصر من ملوك آل(3/306)
نصر وعمال الفرس. ثم ولي مكانه ابنه عمرو (338 - 363) ثم عقبة أوس بن قلام العمليقي خمس سنين. ثم ثار به حججبا أحد بني فازان فقتله. (368 ب م) وولي مكانه مدة ثم ولي من بعده امرؤ القيس (الثاني) . (368 - 390 ب م) ويعرف امرؤ القيس هذا بالمنذر والمحرق لأنه أول من عاقب بالنار وهو الذي ذكره الأسود ابن يعفر في قوله: ماذا أؤمل بعد آل محرق. ثم ملك بعده ابنه النعمان الأعور السائح وهو باني الخوانق والسدير وكان النعمان هذا في أيام يزدجرد فدفع إليه ابنه بهرام ليربيه وأمر ببناء الخوانق مسكناً لأبنه فأسكنه إياه. وأحسن تربيته وتأديبه. وجاءه بمن يلقنه الخلال من العلوم والآداب والفروسية حتى اشمل على ذلك بما رضيه. وكان النعمان من أشد ملوك العرب: نكايةً في الأعداء وأبعدهم مغاراً قد أتى الشام مراراً كثيرةً وأكثر المصائب في أهلها وسبى وغنم. وكان ملك فارس ينفذ معه كتيبين الشهباء وأهلها الفرس ودوسر وأهلها تنوخ. فكان يغزو بهما من لا يدين له من العرب. وكان صارماً حازماً ضابطاً لملكه قد اجتمع له من الأموال والخول والرقيق ما لم يملكه أحد من ملوك الحيرة. والحيرة يومئذ ساحل الفرات. ولما أتى على النعمان ثلاثون سنةً تنصر على يد بعض وزرائه ثم زهد وترك الملك ولبس المسوح وذهب فلم يوجد له أثر.(3/307)
ملك المنذر الأول والنعمان الثاني والأسود وامرؤ القيس الثالث
407 ولما تزهد النعمان تولى الأمر ابنه المنذر الأول (420 ب م) وكان أهل فارس ولوا عليهم شخصاً من ولد أزدشير وعدلوا عن بهرام لنشئه بين العرب وخلوه من آداب العجم. واستنجدوا بهرام بالعرب فجز المنذر العساكر لبهرام لطلب ملكه. وحاصر مدينة الملك فأذعن له فارس وأطاعوه. واستوهب المنذر ذنوبهم من بهرام فعفا عنهم واجتمع أمره. ورجع المنذر إلى بلاده وشغل باللهو إلى موته. (462) ب م وملك مكانه النعمان الثاني وكان وزيره عدي بن زيدٍ النصراني فتزهدا (469) . وملك مكانه أخوه الأسود وهو الذي انتصر على عساكر عرب الشام وأسر عدةً من ملوكهم ثم هلك (491) . وملك أخوه منذر الثاني سبع سنين ثم ابن أخيه (498) نعمان الثالث. ثم استخلف أبو يعفر بن علقمة الذميلي (503) وذميل بطن من لخمٍ. ثم ملك امرؤ القيس الثالث (506) هذا هو الذي غزا بكراً يوم أوراة في دارها فكانت قبله تقيم أود ملوك الحيرة وتعضدهم. وهو أيضاً باني العذيب والصنبر وفيهما يقول جبير بن بلوغ:
ليت شعري متى تخب بنا النا ... قة نحو العذيب والضبر
ملك المنذر الثالث والنعمان قابوس
408 ولما هلك امرؤ القيس الثالث ابنه وهو ذو(3/308)
القرنين لضفير تين كانتا له من شعره وأمه ماء السماء. قال الجنابي: وكان هذا القبا لأبي عامر الأزدي لأنه كان يقيم ماله مقام القطر أي عطاءً وجوداً فغلبت على نديه لأنهم خلف منه. وذكر أن مرة بن كلثوم قتله لخمسين سنة من ملكه. (562 ب م) ثم ملك بعده ابنه عمرو بن هندٍ الملقب بالمحرق وهند أمه. وكان شديد السلطان غزا تميماً في دارها فقتل من بني دارم مائة يوم أوارة الثاني بأخيه أسعد بن المنذر وكان ملكه ست عشرة سنة. (578) ثم ولي شقيقه قابوس أربع سنين في زمن أنوشروان. وكان فيه لين وكان ضعيفاً مهيناً قتله رجل من يشكر وسلبه. (582) ثم ملك المنذر الرابع أخوه سنة واحدة ثم النعمان الرابع أبو قابوس (582 - 604) وهو صاحب النابغة الذبياني الذي بنى الغريين وتنصر (للنويري والمسعودي)
خبر تنصر النعمان
409 كان النعمان بن ماء السماء الملقب بأبي قابوس قد نادمه رجلان من بني أسد احدهما خالد بن المضلل والآخر عمرو بن مسعودٍ فأغضباه في بعض المنطق. فأمر بأن يحفر لكل واحد حفيرة بظهر الحيرة ثم يجعلا في تابوتين ويدفنا في الحفرتين. ففعل ذلك بهما حتى إذا أصبح سأل عنهما فأخبر بهلاكهما. فندم على ذلك وغمه وفي عمرو بن مسعود وخالد بن المضلل يقول شاعر بني أسدٍ:
يا قبر بين بيوت آل محرق ... جادت عليك رواعد وبروق(3/309)
أما البكاء فقل عنك كثيره ... ولئن بكيت فللبكاء خليق
ثم ركب النعمان حتى نظر إليهما فأمر ببناء الغريين عليهما. فبنيا وجعل لنفسه يومين في السنة يجلس فيهما عند الغريين يسمى احدهما يوم نعيم والآخر يوم بؤس. فأول من يطلع عليه يوم نعيمه يعطيه مائه من الإبل شوماً أي سوداً. وأول من يطلع عليه يوم بؤسه يعطيه رأس ظربان أسود ثم يأمر به فيذبح ويغرى بدمه الغربان. فلبث بذلك برهة من دهره حتى مر به رجل من طيء يقال له حنظلة بن أبي عفراء. كان آوى النعمان في خبائه يوم خرج إلى الصيد وانفرد عنه أصحاب بسبب المطر. فرجت به حنظله وهو لا يعرفه وذبح له شاةً فأطعمه من لحمها وسقاه لبنا. فلما نظر إليه النعمان وافداً إليه ساءه ذلك وقال له: يا حنظلة هلا أتيت في غير هذا اليوم. فقال: أبيت اللعن لم يكن لي علم بما أنت فيه. فقال له: أبشر بقتلك. فقال له: والله قد أتيتك زائراً ولأهلي من خيرك مائراً فلا تكن ميرتهم قتلي. فقال: لا بد من ذلك فأسأل حاجة أقضيها لك فقال تؤجلني سنةً أرجع فيها إلى أهلي واحكم من أمرهم ما أريد ثم أصير إليك فأنفذ في حكمك. فقال: ومن يكفل بك حتى تعود فنظر في وجوه جلسائه فعرف منهم شريك بن عمرٍٍو فانشد
يا شريك يا ابن عمرٍ ... يا أخا من لا أخا له
يا أخا شيبان فك اليوم ... رهناً قد أناله(3/310)
يا أخا كل مصاب ... وحيا من لا حيا له
إن شيبان قبيل ... أكرم الله رجاله
وأبوك الخير عمرو ... وشراحيل الحمال
رقياك اليوم في المجد ... وفي حسن المقالة
فوثب شريك وقال: أبيت اللعن بيدي بيده ودمي بدمه وأمر للطائي مائة ناقةٍ. وقد جعل الجل عاما كاملا من ذلك اليوم إلى مثله من القابل. فلما حال الحول وقد بقي من الجل يوم واحد قال النعمان لشريك: ما أراك إلا هالكاً غداً فداء الحنظلة. فقال شريك: فإن بك صدر هذا اليوم فإن غداً لناظره قريب. فذهب قوله مثلاُ. ولما أصبح وقف النعمان بين قبري نديميه وأمر بقتل شريك. فقال له وزراؤه: ليس لك أن تقتله حتى تستوفي يومه. فتركه النعمان وكان يشتهي أن يقتله لينحي الطائي. فلما كادت الشمس تغيب قام شريك مجردا في إزاء على النطع والسياف إلى جانبه. وكان النعمان أمر بقتله فلم يشعر إلا براكب قد ظهر فإذا هو حنظلة الطائي قد تكفن وتحنط وجاء بنادبته. فلما رآه النعمان قال: ما الذي جاء بك وقد أفلت من القتل قال: الوفاء. قال وما دعاك إلى الوفاء. قال: إن لي ديناً يمنعني من الغدر قال: وما دينك قال: النصرانية قال: فاعرضها علي. فعرضها فتنصر النعمان. وتركت لك السنة من ذلك اليوم وعفا عن شريك والطائي.(3/311)
وقال: ما أدري أيكما أكرم وأوفى أهذا الذي نجا من السيف فعاد إليه أم هذا الذي ضمنه. وأنا لا أكون ألأم الثلاثة. قال الميداني: وتنصر مع النعمان أهل الحيرة أجمعون وبنى النعمان في حاضره ملكة الكنائس العظيمة. وقتله كسرى بن هرمز أبرويز (604 ب م) وانقطع الملك عن لخمٍ. ولم يلبث أن ظهر الإسلام بعد زمانٍ (الأغاني)
3 الغساسنة ملوك الشام بنو كهلان
410 كان آل جفنة عمال القياصرة على عرب الشام كما كان المناذرة آل نصرٍ في آخر أمرهم عمالاً للأكاسرة على عرب العراق. وأصلهم من اليمن من الأزد بني كهلان لأن الأزد لما أحست بمأرب انتقاض العرم وخشيت السيل تفرقت. فتشاءم قوم فنزلوا على ماءٍ يقال له غسان فصيروه شربهم فسموا غسان. ثم أنزلهم ثعلبه ابن عمروٍ والغساني ببادية الشام والملوك بها من قبل القياصرة. وكانوا يدينون بالنصرانية ولما نزلت غسان في أرض الشام كان بها قوم من سليح فضربوا على الغساسنة الإتاوة وكان الذي يلي جبايتها سبيطاً منهم فاستبطأهم. فقد سبيط ثعلبه رأسهم وقال: لتعجلن لي الإتاوة أو لآخذن اهلك. وكان ثعلبه حليماً فقال هل لك في من يزيح علتك بالإتاوة قال: نعم. قال: عيك بأخي جذع بن عمرٍ وكان جذع فاتكاً فاتاه سبيط وخاطبه بما كان خاطب به ثعلبة فخرج عليه ومعه سيف مذهب وقال فيه عوض من حقك إلى أن أجمع لك الإتاوة قال(3/312)
نعم قال: فخذه فتناول سبيط جفن السيف واستل جذع نصله وضربه به. فقيل: خذ من جذع ما أعطاك فذهبت مثلاً فوقعت الحرب بين سليح وغسان فأخرجت غسان سليحا من الشام وصاروا ملوكاً واستقر ملك الغساسنة 400 سنة ونيف (لحمزة الأصفهاني)(3/313)
ذكر العرب المستعربة بين إسماعيل وهم القسم الثالث
411 وهم بنو عدنان بن إسماعيل ونزلوا الحجاز وتولوا سدانة الكعبة. وغنما الحجاز وتهامة كانا ديار العمالقة. وكان لهم ملك هنالك وكانت جرهم من تلك الطبقة. وكانت ديارهم اليمن مع إخوانهم من حضرموت. وأصاب اليمن قحط ففروا نحو تهامة يطلبون الماء والمرعى عثروا في طريقهم بإسماعيل مع أمه هاجر. فاحتلوا أسفل مكة اقتتلوا مع العمالقة فأبادوهم. ونشأ إسماعيل بين جرهم وتكلم بلغتهم وتزوج منهم ودعاهم إلى التوحيد وتوفي لمائة وثلاثين سنة من عمره. ولم يزل أمر جرهم يعظم بملكة ويستفحل حتى ولوا البيت الحرام. وكانوا ولاته وحجابه وولاة الأحكام بمكة. ولما طالت ولاية جرهم استحلوا من الحرم أمورا عظاماً واستخلفوا بحرمة البيت العتيق قطع الله دابرهم لأنه لما خرب سد مأرب سر عمرو ابن عامر وقومه من بلد إلى بلدٍ لا يطئون بلداً إلا غلبوا عليه. فلما قاربوا مكة أبت جرهم أن تفسح لهم واستكبروا في أنفسهم وقالوا:
ما نحب أن تنزلوا فتضيقوا علينا مراتعنا ومواردنا فارحلوا عنا حيث(3/314)
أحببتن فلا حاجة لنا بجواركم. فاقتتلوا ثلاثة أيام وانهزم جرهم فلم يفلت منهم غلا الشريد فهدد دمه (207 م) . ثم تفرقت قبائل اليمن وانخزعت خزاعة بمكة وفولا أمر مكة وحجابة الكعبة. وسأل بنو إسماعيل السكنى معهم فأذنوا لهم. وتملك عليهم لحي وهو ربيعة ابن حارثة وكان فيهم شريفاً سيداً مطاعاً وبلغ بمكة من الشرف ما لم يبلغ عربي قبله. وكان قد ذهب اسمه في العرب كل مذهب وقوله فيهم دينا متبعاُ. وكان أول من أطعم الحاج بمكة سدائف الإبل ولحملنها على الثريد. وعم في تلك السنة جميع حاج العرب بثلاثة أثواب من برود اليمن وهو الذي بحر البحيرة ووصل الوصيلة وحمى الحسام وسيب السائبة ونصب الأصنام حول الكعبة. فكانت قريش والعرب تستقسم عنده بالأزلام. وهو أول من غير الحنيفية دين إبراهيم. وأقامت خزاعة ثلاث مائة سنة في سدانة البيت حتى قام قصي القرشي من بني إسماعيل. وعظم شرفه فرأى انه أحق بالكعبة وبأمر مكة. وكانت ولاية الكعبة لأبي غبشان الخزاعي فباعها من قصي بزق خمرٍ فقيل فيه أخسر من صفقة أبي غبشان. ثم دعا قصي إليه رجالات قريش واجمع لحرب خزاعة فتناجزوا وكثر القتيل ثم صالحوه على أن يحكموه الكعبة (507 ب م) . فصار لقصي لواء الحرب وحجاجة البيت وتيمنت قريش برأيه وصرفوا مشورتهم إليه في قليل أمورهم وكثيرها. فاتخذوا دار الندوة إزاء(3/315)
الكعبة فكانت مجتمع الملإ من قريش في مشاوراتهم ومعاقدهم. ثم تصدى فطعام الحاج وفرض على قريش خراجاً يؤدونه. ثم هلك قصي وقام بأمره بنوه من بعده بالقيادة في كل موسم حتى جاء الاسم. (ملخص عن كتاب أخبار مكة للأزرقي)
(ملحق بتاريخ العرب)
1 أديان العرب
412 كانت العرب في أول أمرها على دين إبراهيم وإسماعيل حتى قدم عمرو بن لحي بصنم يقال له هبل. وكان من أعظم أصنام قريش عندها فكان الرجل إذا قدم من سفرٍ بدا به على أهله بعد وافه بالبيت وحلق رأسه عنده. وكان هبل من خرز العقيق على صورة إنسان وكانت يده اليمنى مكسورة فأدركته قريش فجعلت له يداً من ذهب. وكانت له خزانة للقربان. وكانت له سبعة قداح يضربون بها إذا مستهم الحاجة ويقولون: إنا اختلفنا فهب السراحا. إن لم تقله فمر القداحا.
وكان بالكعبة على يمينها حجر أسود وما زال هذا الحجر معظماً في الجاهلية والإسلام. تتبرك الناس به وتمر دونه وتقبله. وكان بأسفل مكة قد نصب صنم يعرف بالخلصة فكانوا عليها بيض النعام. وكان لهم أصنام نصبوها على اسم السيارات من الكواكب. وهي المشتري وقيل أن أصل اسمه ذو شراء أي ساطع النور. والزهرة وزحل والمريخ وغيرها من الثوابت. ومن معبوداتهم أيضاً المناة واللات وغزى. وكانت المناة على ساحل البحر مما يلي قديد. وكانت صخرة تراق عليها دماء الذبائح ويلتمسون منها المطر في الجدب. وكانت اللات أيضاً صخرةً صنماً للشمس إذا مر عليها الحاج يلتونها بالسويق. وقيل أصلها من لاه أي علا وعظم ومنه اسم الجلالة. وأما العزى فكانت شجرة يعظمها قريش وبنو كنانة. ويطوفون بها بعد طوافهم بالكعبة ويعكفون عندها يوماً. قال الكلبي: وكانت اللات والعزى ومناة في كل واحدة منهن شيطان يكلمهم وتراءى للسدنة وهم الحجبة وذلك من صنيع إبليس وأمره. وكان بنو حنيفة في الجاهلية اتخذوا إلهاً عبدوه دهراً طويلاً ثم أصابهم مجاعة فأكلوه. فقيل في ذلك
أكلت حنيفة ربها ... زمن التقحم والمجاعة
لم يحذروا من ربهم ... سوء العقوبة والتباعه(3/316)