الخواص: رأسه إذا ترك في برج حمام هرب الحمام منه ونابه يشهد على الصبي بحسن خلقه ومرارته تجعل منها في أنف المصروع يبرأ ولحمه ينفع من اللقوة والجذام وخصيته تشد على الصبي تنبت أسنانه وفروه أنفع شيء للمربوط ودمه إذا جعل على رأس أقرع نبت شعره إذا كان دون البلوغ، وطحاله يشد على من به وجع الطحال يبرأ.
(ثعبان) :
هو الكبير من الحيات ذكرا كان أو انثى وهو عجيب الشأن في هلاك بني آدم يلتوي على ساق الإنسان فيكسرها وليس له عدو إلا النمس ولولا النموس لأكلت الثعابين أهل مصر.
لطيفة: قيل إن عبد الله بن جدعان كان في ابتداء أمره صعلوكا وكان شريرا يفتك ويقتل وكان أبوه يعقل عنه فضجر من ذلك وأراد قتله فخرج هاربا على وجهه فتوصل لجبل فوجد فيه شقا فدخل فيه فوجد في صدره شيئا كهيئة الثعبان فدنا منه وقال لعله يثب علي فيقتلني وأستريح، قال: فدنا منه فوجده مصنوعا من ذهب وعيناه ياقوتتان ثم وجد من داخله بيتا فيه جثث طوال بالية على أسرة الذهب والفضة وعند رؤسهم لوح مكتوب فيه تاريخهم وإذا بهم رجال من جرهم وفي وسط البيت كوم من الياقوت الأحمر والزمرد والذهب والفضة واللؤلؤ فأخذ منه قدر ما يحمل وعلم الشق وذهب إلى قومه فأغناهم ورجع فلم يدر مكان الشق قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: لقد كنت أستظل بجفنة عند عبد الله بن جدعان من الهجير، قالت عائشة:
يا رسول الله.. هل ينفعه ذلك شيئا؟ قال: لا، لأنه لم يقل رب اغفر لي خطيئتي يوم الدين.
(حرف الجيم) :
(جراد) :
حيوان معروف وليس له جهة مخصوصة وإنما يكون هائما هاربا وإذا أراد أن يبيض ذهب إلى بعض الصخور فضربها بذنبه فتنفرج له فيلقي بيضه فيها وله ستة أرجل وطرفا أرجله كالمنشار وهو ألوان عديدة وفيه خلقة عشرة من الجبابرة وجه فرس وعينا فيل وعنق ثور وقرنا إيّل وصدر أسد وبطن عقرب وجناحا نسر وفخذ جمل ورجلا نعامة وذنب حية وهو من الحيوان الذي ينقاد إلى رئيسه كالعسكري إذا طار أميره تتابع خلفه.
وفي الحديث أن جرادة وقعت بين يدي رسول الله صلى الله عليه وسلم فإذا مكتوب على جناحها بالعبرانية نحن جند الله الأكبر ولنا تسعة وتسعون بيضة ولو تمت لنا المائة لأكلنا الدنيا بما فيها فقال عليه الصلاة والسلام: «اللهم اقتل كبارها وأمت صغارها وأفسد بيضها وسد أفواهها عن مزارع المسلمين وعن معايشهم إنك سميع الدعاء» قال: فجاء جبريل فقال: إنه قد استجيب لك في بعضها.
وفي الحديث أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: إن الله تعالى خلق ألف أمة ستمائة منها في البحر وأربعمائة في البر وإن أول هلاك هذه الأمة الجراد فإذا هلك الجراد تتابعت الأمم مثل الدر إذا قطع سلكه.
قيل: كان طعام يحيى بن زكريا عليهما الصلاة والسلام الجراد وقلوب الشجر وكان يقول: من أنعم منك يا يحيى وقد أجمع المسلمون على أكل لحمه ومن خواصه إن الإنسان إذا تبخر به نفعه من عسر البول.
(جرو) :
بكسر الجيم وفتحها وضمها وهو الصغير من أولاد الكلاب والسباع، وقد كان صلى الله عليه وسلم أمر بقتل الكلاب وسببه أن جبريل عليه السلام وعده ليأتيه فتأخر، قال:
فلقيه النبي صلى الله عليه وسلم بعد ذلك فقال: ما أخرك عن وعدك فقال:
ما تأخرت ولكن لا ندخل بيتا فيه صورة ولا كلب فأمر بقتلها وروى مسلم والطبراني عن خولة بزيادة ولفظها أن جروا دخل تحت سرير في بيته صلى الله عليه وسلم فمات فمكث النبي صلى الله عليه وسلم أياما لا يأتيه الوحي قال: لعله حدث في البيت شيء فخرج للمسجد فنزل عليه الوحي قالت خولة فقمت للبيت فوجدت الكلب تحت السرير.
عجيبة: حكي أن رجلا لم يولد له ولد فكان يأخذ أولاد الناس فيقتلهم فنهته زوجته عن ذلك وقالت: يؤاخذك الله بذلك فقال: لو آخذ لفعل في يوم كذا وصار يعدد أفعاله لها فقالت له: إن صاعك لم يمتلىء ولو امتلأ آخذك قال:
فخرج ذات يوم وإذا بغلامين يلعبان ومعهما جرو فأخذهما الرجل ودخل البيت فقتلهما وطرد الجرو قال: فطلبهما أبوهما فلم يجدهما فانطلق إلى نبي لهم فأخبره بذلك فقال: ألهما لعبة كانا يلعبان بها قال: جرو كلب قال: ائتني به فأتاه به فجعل خاتمه بين عينيه ثم قال له: اذهب خلفه فأي بيت دخله ادخل معه فإن أولادك فيه قال: فجعل الجرو يجوب الدروب والحارات حتى دخل بيت القاتل فدخل الناس خلفه وإذا بالغلامين متعفران بدمهما وهو قائم يحفر لهما مكانا يدفنهما فيه فأمسكوه وأتوا به لنبيهم فأمر بصلبه فلما رأته زوجته على الخشبة قالت: ألم أحذرك من هذا اليوم فتقول ما تقول، الآن امتلأ صاعك. وسيأتي الكلام على الكلب في حرف الكاف إن شاء الله تعالى.
(جعل) :
دويبة معروفة تسمى أبا جعران والزعقوق يعض البهائم في وجهها فتهرب منه وهو أكبر من الخنفساء(1/355)
شديد السواد في بطنه لون حمرة وللذكر قرنان. يوجد كثيرا في مراح البقر والجاموس قيل إنه يتولد من أخثائها ومن شأنه جمع الروث وادخاره ومن عجيب أمره أنه إذا شم الورد مات ويعيش بعوده للروث، وله جناحان لا يكادان يريان إلا إذا طار، وله ستة أرجل وسنام مرتفع جدا وهو يمشي القهقرى ومن طبعه أنه يحرس النيام فإذا قام أحدهم يتغوط تبعه ليأكل من رجيعه وذلك من شدة شهوته للغائط.
(حرف الحاء) :
(حجل) :
طير فوق الحمامة أغبر اللون أحمر المنقار والرجلين يسمى دجاج البر وهو صنفان نجدي وتهامي، النجدي أغبر والتهامي أبيض وله شدة الطيران وإذا تقاتل ذكران تبعت الأنثى الغالب. له شدة شبق وأفراخه تخرج من البيض كاسية ويعمر في الغالب عشرين سنة وإذا قوي على غيره أخذ بيضه فحضنه ومن سر الله تعالى أنه إذا أفرخ ذلك البيض تبع الفرخ أمه التي باضته ومن طبعه أنه يخدع غيره في قرقرته ولذلك يتخذه الصيادون في أشراكهم.
غريبة: قيل أن أبا نضر بن مروان أكل مع بعض مقدمي الأكراد فأتى على سماطه بحجلتين مشويتين فلما رآها ضحك فقال: مم تضحك قال: كنت أقطع الطريق في عنفوان شبابي فمر بي تاجر فأخذته فلما أردت قتله تضرع إلي فلم أقيله، فلما علم أنه لا بد لي من قتله التفت يمينا وشمالا فرأى حجلتين كانتا بقربنا فقال: اشهدا لي أنه قاتلي ظلما فقتلته، فلما رأيت هاتين الحجلتين تذكرت حمقه في استشهاده بهما فقال أبو نصر والله لقد شهدتا عليك عند من أقادك بالرجل ثم أمر به فضربت عنقه.
الخواص: لحمها جيد معتدل الهضم، ومرارتها تنفع الغشاوة في العين، وإذا سعط بها إنسان في كل شهر مرة جاد ذهنه وقل نسيانه وقوي بصره.
(حدأة) :
بكسر الحاء وفتح الدال مع همزة. أخس الطير وتبيض بيضتين وربما باضت ثلاثا وتحضن عشرين يوما ومن ألوانها الأسود والرمادي وهي لا تصيد إلا خطفا وفي طبعها أنها تقف في الطيران وهي أحسن الطير مجاورة لأنها إذا جاعت لا تأكل أفراخ جارها ويقال إنها طرشاء وفي طبعها أنها لا تخطف من الجهة اليمنى لأنها عسراء وهي سنة ذكر وسنة أنثى كالأرنب.
(عجيبة) : روى الحافظ السلفي في فضائل الأعمال أن عاصم بن أبي النجود شيخ القراء في زمانه قال: أصابتني خصاصة فجئت إلى بعض إخواني فأخبرته بأمري فرأيت في وجهه الكراهة فخرجت من منزله إلى الجبانة فصليت ما شاء الله ثم وضعت رأسي على الأرض وقلت: يا سامع الأصوات يا مجيب الدعوات يا قاضي الحاجات اكفني بحلالك عن حرامك واغنني بفضلك عمن سواك، قال:
فو الله ما رفعت رأسي حتى سمعت وقعة بقربي فإذا بحدأة قد طرحت كيسا أحمر فقمت فأخذته فإذا فيه ثمانون دينارا وجوهرة ملفوفة في قطن قال فاتجرت بذلك واشتريت لي عقارا وتزوجت.
الخواص: مرارتها تجفف في الظل وتنقع في إناء زجاج فمن لسع قطر منها في ذلك الموضع واكتحل مخالفا لجهة اللسع ثلاثة أميال أبرأته ودسمها إذا خلط بقليل من المسك وماء الورد وشرب على الريق نفع من ضيق النفس وإذا وضع في بيت لم تدخله حية ولا عقرب.
(حرباء) :
دويبة صغيرة على هيئة السمك ورأسها تشبه رأس العجل إذا رأت الإنسان انتفشت وكبرت ولها أربعة أرجل وسنام كهيئة الجمل ولها كنى كثيرة منها أم قرة ويقال لها جمل اليهود وهي أبدا تطلب الشمس فمن أجل ذلك يقال أنها مجوسية وتستقبلها بوجهها وتدور معها كيفما دارت فإذا غابت الشمس أخذت في كسبها ومعاشها ويقال إن لسانها طويل نحو ذراع وهو مطوي في حلقها فذلك تخطف به ما بعد عنها من الذباب وتبتلعه والأنثى من هذا النوع تسمى أم حبين ويقال أن الصبيان ينادونها أم حبين انشري برديك إن الأمير ناظر إليك وضارب بسوطه جنبيك فإذا ازدادوا عليها نشرت جناحيها وانتصبت على رجليها فإذا ازدادوا عليها أيضا نشرت أجنحة أحسن من تلك ملونة وإذا مشت تطأطىء برأسها وتتلون ألوانا ولذا يقال يتلون كالحرباء.
(حمار أهليّ) :
معروف ليس في الحيوان من ينزو على غير جنسه إلا هو والفرس ونزوه بعد تمام ثلاثين شهرا وكنيته أبو محمود وأبو جحش وغير ذلك وهو أنواع فمنه ما هو لين الأعطاف سريع الحركة ومنه ما هو بضد ذلك ويوصف بالهداية إلى سلوك الطريق.
لطيفة: في الحديث عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه لما فتح خيبر أصاب حمارا أسود فكلمه فقال: ما اسمك فقال: يزيد بن شهاب أخرج الله تعالى من نسل جدي ستين حمارا كلها لا يركبها إلا نبي ولم يبق من الأنبياء غيرك وكنت أتوقعك لتركبني وأنا عند يهودي يجيع بطني ويضرب ظهري وكنت أعثر به عمدا فسماه النبي صلى الله عليه وسلم يعفورا وقال له: أتشتهي(1/356)
الإناث؟ قال: لا. وكان صلى الله عليه وسلم يركبه في حوايجه وإذا أراد حاجة عند إنسان أرسله إليه فيدفع الباب برأسه فيخرج صاحب البيت فيعرفه ويقضي حاجته. فلما مات النبي صلى الله عليه وسلم ذهب إلى بئر كانت لأبي الهيثم فتردى فيها جزعا على النبي صلى الله عليه وسلم فكانت قبره وقيل هذا الحديث منكر وقد ذكره السهيلي في التعريف والإعلام وللناس في ذمه ومدحه أقوال متباينة بحسب الأغراض. فمن مدحه أن أبا صفوان وجد راكبا على حمار فقيل له في ذلك فقال: عير هي من نسل الأكراد يحمل الرحل ويبلغ العقبة ويمنعني أن أكون جبارا في الأرض وقال آخر: وأقل الدواب مؤنة وأكثرها معونة وأخفضها مهوى وأقربها مرتعا وكان حمار أبي يسارة مثلا في الصحة والقوة وهو حمار أسود حمل الناس عليه من منى إلى المزدلفة أربعين سنة وكان خالد بن صفوان والفضل بن عيسى الرقاشي يختاران ركوب الحمار ويجعلان أبا يسارة قدوة لهما وحجة. ومن ذمه ما نقل عن عبد الحميد الكاتب أنه قال: لا تركب الحمار فإنه إن كان فارها أتعب يدك وإن كان بليدا أتعب رجلك وقيل: ما ينبغي لمركب الدجال أن يكون مركبا للرجال. وقال أعرابي: الحمار بئس المطية إن أوقفته أدلى وإن تركته ولى كثير الروث قليل الغوث سريع إلى الفرارة بطيء في الغارة لا توقى به الدماء ولا تمهر به النساء ولا يحلب في الإناء، قال الزمخشري:
إنّ الحمار ومن فوقه ... حماران شرّهما الرّاكب
ومن العرب من لا يركبه أبدا ولو بلغت به الحاجة والجهد.
قيل: كان لرجل بالبادية حمار وكلب وديك فالديك يوقظه للصلاة والكلب يحرسه إذا نام والحمار يحمل أثاثه إذا رحل قال: فجاء الثعلب فأكل الديك فقال: عسى أن يكون خيرا ثم أصيب الكلب بعد ذلك، فقال: لا حول ولا قوة إلا بالله العلي العظيم عسى أن يكون خيرا ثم جاء الذئب فبقر بطن الحمار فقال: عسى أن يكون خيرا، قال:
ثم إن جيرانه من الحي أغير عليهم فأخذوا فأصبح ينظر إلى منازلهم وقد خلت، فقيل له: إنما أخذوا بأصوات دوابهم فقال: إنما كانت الخيرة في هلاك ما عندي فمن عرف لطف الله رضي بفعله.
(حمام) :
هو أنواع كثيرة والكلام في الذي ألف البيوت وهو قسمان أحدهما بري وهو الذي يوجد في القرى والآخر أهلي وهو أنواع وأشكال فمنه الرواعب والمراعيش والشداد والغلاب والمنسوب ومن طبعه أنه يطلب وكره ولو كان في مسافة بعيدة ولأجل ذلك يحمل الأخبار ومنه من يقطع عشرة فراسخ في يوم واحد وربما صيد وغاب عن وطنه عشر سنين وهو على ثبات عقله وقوة حفظه حتى يجد فرصة فيطير ويعود إلى وطنه وسباع الطير تطلبه أشد الطلب وخوفه من الشاهين أشد من غيره وهو أطير منه لكن إذا أبصره يعتريه ما يعتري الحمار إذا رأى الأسد والشاة إذا رأت الذئب والفأر إذا رأى الهر ومن طبعه أنه لا يريد إلا ذكره إلى أن يهلك أو يفقد أحدهما ويحب الملاعبة والتقبيل ويسفد لتمام أربعة أشهر ويحمل أربعة عشر يوما ويبيض بيضتين ويحضن عشرين يوما ويخرج من إحدى البيضتين ذكر والأخرى أنثى واتخاذها في البيوت لا بأس به غير أنه لا يجوز تطييرها والاشتغال بها والارتقاء بها على الأسطحة وعليه حمل أهل العلم قوله عليه الصلاة والسلام: «شيطان يتبع شيطانة حين رأى شخصا يتبع حمامة» ، فإن لم يحصل شيء مما ذكر جاز اتخاذها، قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «اتخذوا الحمام في بيوتكم فإنها تلهي الجن عن صبيانكم واللعب بها من عمل قوم لوط» . وقال النخعي: من لعب بالحمام لم يمت حتى يذوق ألم الفقر ولم يوجد شيء أبله من الحمام، فإنه تؤخذ أفراخه، فتذبح في مكان ثم يعود في ذلك المكان ويبيض فيه ويفرخ.
وقال الجاحظ: وللحمام من الفضيلة والفخر أن الحمامة قد تبتاع بخمسمائة دينار، ولم يبلغ ذلك القدر شيء من الطير وغيره، وهو الهادر الذي جاوز الغاية قالوا: ولو دخلت بغداد والبصرة وجدت ذلك بلا معاناة ولو حدثت أن برذونا أو فرسا بيع بخمسمائة دينار لكان ذلك سمرا، وقد تباع البيضة الواحدة من بيض ذلك الحمام بخمسة دنانير، والفرخ بعشرين، فمن كان له زوج منه قام في الغلة مقام ضيعة وأصحابه يبنون من أثمانه الدور والحوانيت وهو مع ذلك ملهى عجيب ومنظر أنيق.
الخواص: دمه ينفع الجراحات العارضة للعين والغشاوة، ويقطع الرعاف ويبرىء حرق النار إذا خلط بالزيت منه، وزبل الأحمر ينفع للسع العقرب إذا وضع عليه وإذا شرب منه مقدار درهمين مع ثلاثة دراهم دار صيني نفع من الحصاة.
(حرف الخاء) :
(الخطاف) :
أنواع كثيرة، فمنه نوع دون العصفور رمادي اللون يسكن ساحل البحر ومنه ما لونه أخضر(1/357)
وتسميه أهل مصر الخطار، ونوع طويل الأجنحة رقيق يألف الجبال ونوع أصفر يألف المساجد يسميه الناس السنونو، وزعم بعضهم أنه الطير الأبابيل، ويقال: أن آدم عليه الصلاة والسلام لما أهبط إلى الأرض حصل له وحشة، فخلق الله له هذا الطير يؤنسه، فلأجل ذلك لا تجدها تفارق البيوت وهي تبني بيتها في أعلى مكان بالبيت وتحكم بنيانه وتطينه، فإن لم تجد الطين ذهبت إلى البحر فتمرغت في التراب والماء وأتت فطينته وهي لا تزبل داخله بل على حافته أو خارجا عنه وعنده ورع كثير لأنه وإن ألف البيوت لا يشارك أهلها في أقواتهم ولا يلتمس منهم شيئا، ولقد أحسن واصفه حيث يقول:
كن زاهدا فيما حوته يد الورى ... تبقى إلى كلّ الانام حبيبا
وانظر إلى الخطاف حرّم زادهم ... أضحى مقيما في البيوت ربيبا
ومن شأنه أنه لا يفرخ في عش عتيق بل يجدد له عشا وأصحاب اليرقان يلطخون أفراخه بالزعفران، فيذهب، فيأتي بحجر اليرقان، ويلقيه في عشه لتوهمه أن اليرقان حصل لأولاده وهو حجر صغير فيه خطوط يعرفه غالب الناس فعند ذلك يأخذه من به اليرقان ويحكه ويستعمله ومن عجيب أمره أنه يكاد يموت من صوت الرعد وإذا عمي ذهب إلى شجرة يقال لها عين شمس فيتمرغ فيها، فيفيق من غشوته ويفتح عينيه.
لطيفة: قيل: إن خطافا وقف على قبة سليمان وتكلم مع خطافة، وراودها عن نفسها، فامتنعت، فقال لها:
تتمنعين مني ولو شئت قلبت هذه القبة. قال: فسمع سليمان، فدعاه وقال: ما حملك على ما قلت؟ فقال:
يا نبي الله إن العشاق لا يؤاخذون بأقوالهم.
الخواص: مرارته تسود الشعر ولحمه يورث السهر وقلبه يهيج الباه إذا أكل جافا ودمه يسكن الصداع.
(خفاش) :
طير يوجد في الأماكن المظلمة وذلك بعد الغروب وقبل العشاء لأنه لا يبصر نهارا ولا في ضوء القمر وقوته البعوض، وهذا الوقت هو الذي يخرج فيه البعوض أيضا لطلب رزقه، فيأكله الخفاش، فيتسلط طالب رزق على طالب رزق وهو من الحيوان الشديد الطيران. قيل إنه يطير الفرسخين في ساعة وهو يعمر مثل النسر وتعاديه الطيور فتقتله، لأنه قيل إن عيسى عليه الصلاة والسلام لما سأله النصارى في طير لا عظم فيه صنع لهم ذلك بإذن الله تعالى فهي تكرهه لأنه مباين لخلقتها ومن طبعه الحنو على ولده حتى قيل إنه يرضعه وهو طائر.
(خنزير) :
حيوان معروف وله كنى كثيرة منها أبو جهم وأبو زرعة وأبو دلف وهو مشترك بين البهيمة والسبع لأنه ذو ناب ويأكل العشب والعلف وهو كثير الشبق حتى قيل أنه يجامع الأنثى وهي سائرة فيرى في مشيها ستة أرجل، فيتوهم الرائي أنه حيوان بستة أرجل وليس كذلك والذكر مثله، فمن غلب استقل بالنزو على الأنثى وتحرك أذنابها في زمن هيجانها وتطأطىء رأسها وتغير أصواتها وتحمل من نزوة واحدة، وتحمل ستة أشهر وتضع عشرين ولدا وينزو الذكر إذا بلغ ستة أشهر، وقيل: أربعة باختلاف البلاد وقيل: ثمانية، وإذا بلغت الأنثى خمس عشرة سنة لا تحمل، وهذا الجنس أفسد الحيوان والذكر أقوى الفحول وليس لذوات الأربع ما للخنزير في نابه من القوة حتى قيل إنه يضرب به السيف والرمح فينقطع ما لاقاه وإذا التقى ناباه من الطول مات لأنهما حينئذ يمنعانه من الأكل.
ومن عجيب أمره أنه يأكل الحيات ولا يؤثر فيه سمها وإذا عض كلبا سقط شعره، وإذا مرض وأطعم السرطان يفيق، ومن عجيب أمره أنه إذا ربط على ظهره حمار وبال الحمار وهو على ظهره مات ولا يسلخ جلده إلا بالقلع مع شيء من لحمه على ما ذكروا.
(خنفساء) :
دويبة تتولد من عفونات الأرض وبينها وبين العقرب مودة، وكنيتها أم فسو، لأن كل من وضع يده عليها يشم رائحة كريهة.
فائدة: قيل إن رجلا رأى خنفساء، فقال: ما يصنع الله بهذه، فابتلاه الله تعالى بقرحة عجز الأطباء فيها، فبينما هو ذات يوم إذا بطرقي يقول من به وجع كذا إلى أن قال: من به قرحة، فخرج إليه ذلك الرجل فلما رأى ما به. قال:
ائتوني بخنفساء، فضحك منه الحاضرون، فقال: ائتوه بالذي يطلب، فأتوه بها، فأخذها، فأحرقها، وأخذ رمادها، وجعل منه على تلك القرحة فبرئت، فعلم ذلك المقروح أن الله تعالى ما خلق شيئا سدى وأن في أخس المخلوقات أهم الأدوية، فسبحان القادر على كل شيء.
الخواص: إذا قطعت رؤوس الخنافس وجعلت في برج الحمام كثر الحمام في ذلك البرج والاكتحال بما في جوفها من الرطوبة يحد البصر ويجلو الغشاوة والبياض، وإذا بخر المكان بورق الدلب هربت منه الخنافس على ما ذكر.
(خيل) :
جماعة الأفراس وسميت بذلك لأنها تختال في مشيتها، وهي من الحيوان المشرف، ولقد مدحها الله تعالى(1/358)
ووصى بها النبي عليه الصلاة والسلام، فقال: «الخير معقود بنواصي الخيل إلى يوم القيامة» . وقال: «عليكم بإناث الخيل، فإن ظهورها عز وبطونها كنز» ، وروي عن ابن عباس أو علي رضي الله عنهما أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال:
لما أراد الله تعالى خلق الخيل أوحى إلى الريح الجنوب، وقال: إني خالق منك خلقا، فاجتمعي، فاجتمعت، فأتى جبريل، فأخذ منها قبضة، فخلق الله منها فرسا كميتا، وقال: خلقتك عربيا وفضلتك على سائر البهائم، فالرزق بناصيتك، والغنائم تقاد على ظهرك، وبصهيلك أرهب المشركين وأعز المؤمنين، ثم وسمه بغرة وتحجيل، فلما خلق الله تعالى آدم قال: يا آدم اختر أي الدابتين: الفرس أو البراق، فقال: الفرس يا رب، فقال الله تعالى: اخترت عزك وعز أولادك، وفي الحديث: «ما من فرس إلا ويقول في كل يوم: اللهم من جعلتني له فاجعلني أحب أهله إليه» . وقيل: الخيل ثلاثة: فرس للرحمن، وهي المغزو عليها، وفرس لك وهي التي تسابق عليها، وفرس للشيطان وهي التي جعلت للخيلاء. وفي الحديث: «إن الملائكة لا تحضر شيئا من اللهو إلا في مسابقة الخيل وملاعبة الرجل أهله» . ولقد سابق النبي صلى الله عليه وسلم على الخيل، وقيل: إن الذكر من الخيل أقوى من الأنثى، ولا يرد علينا ركوب جبريل في قصة موسى وفرعون الأنثى لأن ذلك من حكمة الله تعالى حتى تبعتها أحصنهم، فأغرقوا لأن الحصان إذا رأى الحجرة تبعها، وقيل: إن الله تعالى أمر نبيه موسى عليه الصلاة والسلام أن يعبر البحر فعبره، وهم خلفه، فأعمى أعينهم عن الماء، فكانوا يرون بلقعا، والخيل تراه ماء، فلولا دخول جبريل البحر بفرسه لما دخلت خيلهم، وهي أصناف منها: الصافنات، وهي التي إذا ربطت في مكان وقفت على إحدى رجليها وقلبت بعض الأخرى في الوقوف، وقيل غير ذلك وكانت الصافنات ألف فرس لسليمان عليه الصلاة والسلام، فعرضها يوما ففاتته الصلاة، قيل صلاة العصر، فأمر بعقرها فعوضه الله عنها الريح، فكانت فرسه وقيل: إنما عقرها على وجه القربى كالهدي وقيل: إن الفرس لا يحب الماء الصافي ولا يضرب فيه بيده كما يضرب بها في الماء الكدر، فرحا به، فإنه يرى شخصه في الماء الصافي فيفزعه، ولا يراه في الماء الكدر، وقد قيل في الحث على حب الخيل:
أحبّوا الخيل واصطبروا عليها ... فإنّ العزّ فيها والجمالا
إذا ما الخيل ضيّعها أناس ... ربطناها فأشركت العيالا
نقاسمها المعيشة كل يوم ... وتكسبنا الأباعر والجمالا «1»
(حرف الدال) :
(دابة) :
اسم لكل ما دب على الأرض وأما التي ذكرها الله تعالى في سورة سبأ، فقيل: الأرضة، وقيل السوسة، وسبب ذلك أن سليمان عليه الصلاة والسلام كان قد أمر الجن ببناء صرح فبنوه، ودخل فيه وأراد أن يصفو له يوم واحد من دهره، فدخل عليه شاب، فقال له: كيف دخلت من غير استئذان؟ فقال: أذن لي رب البيت، فعلم سليمان أن رب البيت هو الله تعالى، وإن الشاب ملك الموت أرسل ليقبض روحه فقال: سبحان الله هذا اليوم طلبت فيه الصفاء فقال: طلبت ما لم يخلق قال: وكان قد بقي من بناء المسجد الأقصى بقية، فقال له: يا أخي يا عزرائيل أمهلني حتى يفرغ قال ليس في أمر ربي مهلة قال: فقبض روحه، وكان من عادته الانقطاع في التعبد شهرين وثلاثة، ثم يأتي، فينظر ما صنعت الجن، فلما قبض كان متوكئا على عصاه، واستمر ذلك مدة، والجن تتوهم أنه مشرف عليها، فتعمل كل يوم بقدر عشرة أيام حتى أراد الله ما أراد، فسلط على العصا الأرضة فأكلتها، فخرّ ميتا، فتفرقت الجن عنه، وقيل إن واحدا منهم مر عليه، فسلم، فلم يجبه فدنا منه، فلم يجد له نفسا، فحركه، فسقطت العصا، فإذا هو ميت. قال: وكان عمره ثلاثا وخمسين سنة، والعصا التي اتكأ عليها من خرنوب قال الله تعالى:
فَلَمَّا خَرَّ تَبَيَّنَتِ الْجِنُّ أَنْ لَوْ كانُوا يَعْلَمُونَ الْغَيْبَ ما لَبِثُوا فِي الْعَذابِ الْمُهِينِ
«2»
. قال: فشكرت الجن الأرضة حتى قيل أنهم كانوا يأتونها بالماء حيث كانت.
وأما الدابة التي من أشراط الساعة، فاختلف في أمرها، فقيل: تخرج من الصفا، وهو الصحيح، وقيل: من الطائف، وقيل من الحجر وطولها ستون ذراعا ذات قوائم، وهي مختلفة الألوان وذلك في ليلة يكون الناس مجتمعين بمنى أو سائرين إلى منى ومعها عصا موسى وخاتم سليمان لا يدركها طالب ولا يفوتها هارب تلحق المؤمن، فتضربه بالعصا فتكتب في وجهه مؤمن وتدرك الكافر، فتسمه بالخاتم وتكتب في وجهه كافر. وروي أنها(1/359)
تخرج إذا انقطع الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر وقل الخير.
(داجن) :
وهو ما يربيه الناس في البيوت من صغار الغنم والحمام والدجاج وغير ذلك، وفي حديث الأفك: ما نعلم لها قضية غير أنها جارية حديثة السن تعجن وتنام فتأتي الداجن، فتأكل العجين.
(دب) :
من السباع وكنيته أبو جهل وأبو جهينة وغير ذلك، ولا يخرج زمن الشتاء حتى يطيب الهواء وإذا جاع يمص يديه ورجليه، فيندفع جوعه، وهو كثير الشبق وينعزل بأنثاه، وتضع جروا واحدا، وتصعد به إلى أعلى شجرة خوفا عليه من النمل لأنها تضعه قطعة لحم، ثم لا تزال تلحسه وترفعه في الهواء حتى تنفرج أعضاؤه وتخشن ويصير له جلد، وفي ولادتها صعوبة وربما ماتت منها وقد تلده ناقص الخلق شوقا منها للسفاد وهي من الحيوان الذي يدعو الإنسان للفعل به، وقيل: إن الدب يقيم أولاده تحت شجرة الجوز، ثم يصعد فيرمي بالجوز إليها إلى أن تشبع، وربما قطع من الشجر الغصن العتل الضخم الذي لا يقطع إلا بالفأس، والجهد، ثم يشد به على الفارس فلا يضرب أحدا إلا قتله.
(دجاجة) :
وكنيتها أم ناصر الدين وأم الوليد وغير ذلك، وإذا هرمت لم يبق لبيضها مح، وتوصف بقلة النوم. قيل أن نومها بقدر ما تتنفس وعندها خوف في الليل، ولأجل ذلك تطلب وقت الغروب مكانا عاليا وتخشى الثعلب.
قيل إنها إذا رأته ألقت نفسها إليه من شدة الخوف ولا تخشى من بقية السباع، وقيل: يعرف الذكر من الأنثى بإمساك منقاره، فإن تحرك فذكر وإلا فأنثى، ومن الدجاج ما يبيض في اليوم مرتين وهو من أسباب موتها ويستكمل خلق البيضة في بطن الدجاجة في عشرة أيام، وفي الحديث أن النبي صلى الله عليه وسلم أمر باتخاذ الغنم للأغنياء وباتخاذ الدجاج للفقراء، ومن العجيب في صنعة الله تعالى أن خلق الفروج من البياض، وجعل الصفار غذاء له كما خلق الطفل من المني وجعل دم الحيض غذاء له، فتبارك الله أحسن الخالقين.
الخواص: لحم الدجاج الفتي يزيد في العقل ويصفي اللون، ويزيد في المني ويقيم الباه والمداومة عليه تورث النقرس والبواسير على ما ذكر.
(دج) :
طير كبير أغبر يكون بساحل البحر كثيرا وبالقرب من الإسكندرية والناس يصطادونه ويأكلونه.
(دود) :
إسم جنس، ومنه دود القز ويقال لها الهندية. ومن عجيب أمرها أنها تكون أولا مثل بزر التين ثم تصير دودا، وذلك في أوائل فصل الربيع ويكون عند خروجه مثل الذر في قدره ولونه، ويخرج في الأماكن الدافئة إذا كان مصرورا في حق، وربما تأخر خروجه فتجعله النساء تحت ثديهن بصرته، فيخرج وغذاؤه ورق التوت الأبيض.
قال: ولا يزال يكبر حتى يصير بقدر أصبع، وينتقل السواد إلى البياض وكل ذلك في مدة ستين يوما. قال: ثم يأخذ في النسج بما يخرجه من فيه إلى أن ينفذ ما في جوفه ثم يخرج شيئا كهيئة الفراش له جناحان لا يسكنان من الاضطراب، وعند خروجه يهيج إلى السفاد ويلصق الذكر مؤخره إلى مؤخر الأنثى ويلتحمان مدة، ثم يفترقان. قال ويكون قد فرش لهما خرقة بيضاء فينشران البزر عليها، ثم يموتان هذا إذا أريد منهما البزر وإن أريد الحرير تركا في الشمس بعد فراغهما من النسج، فيموت وهو سريع العطب حتى إنه ليخشى عليه من صوت الرعد والعطاس ومس المرأة الحائض والرجل الجنب، ورائحة الدخان والحر الشديد والبرد الشديد، ونحو ذلك قال أبو الفتح البستي:
ألم تر أن المرء طول حياته ... معنّى بأمر لا يزال يعالجه
كذلك دود القزّ ينسج دائما ... ويهلك غمّا وسط ما هو ناسجه
وقال آخر:
يفنى الحريص بجمع المال مدّته ... وللحوادث ما يبقى وما يدع
كدودة القزّ ما تبنيه يهلكها ... وغيرها بالذي تبنيه ينتفع
(ديك) :
وكنيته أبو حسان وأبو حماد وغير ذلك، ويسمى الأنيس والمؤانس ومن طبعه لا يألف زوجة واحدة، وهو أبله الطبيعة لأنه إذا سقط من بيت أصحابه لا يهتدي إلى الرجوع إليه، وفيه من الخصال الحميدة ما لا يحصر منها أنه يساوي بين أزواجه في الطعمة، ويذكر الله تعالى في الليل حتى قيل إنه ليوقته ويقسمه، وربما لا يخرم في توقيته، وفي الصحيح: إذا سمعتم صياح الديك، فاذكروا الله تعالى، فإنه يصيح بصياح ديك العرش.
وروى الغزالي عن ميمون بن مهران أن لله ملكا تحت العرش على صورة الديك، فإذا مضى ثلث الليل الأول(1/360)
ضرب بجناحيه، وقال: ليقم المسلمون، فإذا مضى الثلث الثاني ضرب بجناحيه وقال: ليقم الذاكرون، فإذا كان السحر وطلع الفجر ضرب بجناحيه وقال: ليقم الغافلون، وعليهم أوزارهم.
وفي الحديث أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: «إن لله ديكا أبيض له جناحان موشحان بالزبرجد والياقوت واللؤلؤ جناح بالمشرق، وجناح بالمغرب، ورأسه تحت العرش وقوائمه في الهواء، فإذا كان ثلث الليل الأول خفق بجناحيه وقال:
سبحان الملك القدوس، فإذا كان الثلث الثاني خفق بجناحيه وقال: قدوس، فإذا كان الثلث الثالث خفق بجناحيه وقال: ربنا الرحمن الرحيم لا إله إلا هو» .
وروى الثعلبي بإسناده عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال: «ثلاثة أصوات يحبها الله تعالى: صوت الديك، وصوت قارىء القرآن، وصوت المستغفر بالأسحار» .
وفي الحديث: «لا تسبوا الديك، فإنه يؤقت للصلاة» .
وزعم أهل التجربة أن الرجل إذا ذبح الديك الأبيض الأفرق لم يزل ينكب في أهله وماله.
نادرة: قيل كان لإبراهيم بن مزيد ديك، وكان كريما عليه، فجاء العيد وليس عنده شيء يضحي عليه، فأمر امرأته بذبحه واتخاذ طعام منه وخرج إلى المصلّى، فأرادت المرأة أن تمسكه، ففر، فتبعته، فصار يخترق من سطح إلى سطح، وهي تتبعه، فسألها جيرانها وهم هاشميون عن موجب ذبحه، فذكرت لهم حال زوجها، فقالوا: ما نرضى أن يبلغ الاضطرار بأبي إسحاق إلى هذا القدر، فأرسل إليه هذا شاة وهذا شاتين وهذا بقرة وهذا كبشا حتى امتلأت الدار، فلما جاء ورأى ذلك قال: ما هذا؟ فقصت عليه زوجته القصة، فقال: إن هذا الديك لكريم على الله، فإن إسماعيل نبي الله فدي بكبش واحد، وهذا فدي بما أرى.
(حرف الذال) :
(ذباب)
وكنيته أبو جعفر وهو أصناف كثيرة يتولد من العفونة ومن عجيب أمره أنه يلقي رجيعه على الأبيض يسود وعلى الأسود يبيض ولا يقعد على شجرة الدباء، وفي الحديث: «إذا وقع الذباب في إناء أحدكم، فليغمسه، فإن في إحدى جناحيه دواء وفي الأخرى داء» ، وإن من طبعه أن يلقي نفسه بالجناح الذي فيه الداء.
وحكي أن المنصور كان جالسا، فألح عليه الذباب حتى أضجره، فقال: انظروا من بالباب من العلماء، فقالوا:
مقاتل بن سليمان، فدعا به، ثم قال له: هل تعلم لأي حكمة خلق الله الذباب؟ قال: ليذل به الجبابرة. قال:
صدقت، ثم أجازه، ومن خصائص النبي صلى الله عليه وسلم أنه كان لا يقع عليه ذباب قط، وقال المأمون: قالوا أن الذباب إذا دلك به موضع لسعة الزنبور سكن ألمه، فلسعني زنبور، فحككت على موضعه أكثر من عشرين ذبابة، فما سكن له ألم، فقالوا: هذا كان حتفا قاضيا، ولولا هذا العلاج لقتلك. وقال الجاحظ: من منافع الذباب أنها تحرق وتخلط بالكحل، فإذا اكتحلت به المرأة كانت عينها أحسن ما يكون، وقيل: إن المواشط تستعمله ويأمرن به العرائس، وقيل: إن الذباب إذا مات وألقي عليه برادة الحديد عاش، وإذا بخر البيت بورق القرع هرب منه الذباب.
(ذئب) :
حيوان معروف وكنيته أبو جعدة وأبو جاعد، وأبو ثمامة لونه رمادي وهو من الحيوان الذي ينام بإحدى عينيه ويحرس بالأخرى حتى تمل، فيغمضها، ويفتح الأخرى كما قال بعض واصفيه:
ينام بإحدى مقلتيه ويتّقي ... بأخرى المنايا فهو يقظان هاجع «1»
وإذا أراد السفاد اختفى، ويطول في سفاده كالكلب، وإذا جاع عوى، فتجمع الذئاب حوله، فمن هرب منها أكلوه وإذا خاف منه الإنسان طمع فيه، وليس في الأرض أسد يعض على عظم إلّا ويسمع لتكسيره صوت بين لحييه إلا الذئب، فإن لسانه يبري العظم بري السيف ولا يسمع له صوت، وقيل: إذا أدماه الإنسان، فشم الذئب رائحة الدم لا يكاد ينجو منه، وإن كان أشد الناس قلبا وأتمهم سلاحا، كما أن الحية إذا خدشث طلبها الذر فلا تكاد تنجو منه، وكالكلب إذا عض الإنسان يطلبه الفأر فيبول عليه، فيكون في ذلك هلاكه، فيحتال له بكل حيلة، وقيل: لا يعرف الالتحام عند السفاد إلا في الكلب والذئب، وإذا هجم الصياد على الذئب والذئبة وهما يتسافدان قتلهما كيف شاء، والله أعلم.
(حرف الراء) :
(رخ) :
طير عظيم الخلقة يوجد بجزائر الصين، قال أبو حامد الأندلسي: ذكر لي بعض المسافرين في البحر أنهم أرسوا بجزيرة، فلما أصبحوا وجدوا في طرفها لمعانا وبريقا، فتقدموا إليه، وإذا هم بشيء مثل القبة قال:
فجعلوا يضربون فيه بالفؤوس إلى أن كسروه، فوجدوه كهيئة البيضة، وفيه فرخ عظيم قال، فتعلقوا بريشه(1/361)
وجروه، ونصبوا القدور، وخرجوا يحتطبون من تلك الجزيرة حطبا يقال له حطب الشباب فلما أكلوا ذلك الطعام اسودت لحية ولمة كل ذي شيب قال، فلما أصبحوا جاءهم الرخ، فوجدهم قد صنعوا بفرخه ما صنعوا، فذهب، وأتى في رجليه بحجر عظيم وتبعهم بعدما ساروا في البحر وألقاه على سفينتهم، فسبقت السفينة، وكانت مشروعة بتسع قلوع، ووقع الحجر في البحر، فنجاهم الله تعالى منه، وكان ذلك من لطف الله تعالى بهم قال: وقد كان بقي معهم أصل ريشة قيل إنهم كانوا يجعلون فيها الماء فتسع مقدار قربة، فسبحان الخالق الأكرم.
(رخم) :
طير أغبر أصفر المنقار معروف وهو من أشر الطيور ويقال: إنها صماء وسبب ذلك ما قيل في بعض الحكايات: إن موسى عليه الصلاة والسلام لما مات تكلمت بموته، وكانت تعرف مكانه، فأصمها الله تعالى حتى لا ترشد أحدا إلى موضعه.
(حرف الزاي) :
(زرافة) :
حيوان غريب الخلقة، ولما كان مأكولها ورق الشجر خلق الله تعالى يديها أطول من رجليها، وهي ألوان عجيبة يقال: إنها متولدة من ثلاث حيوانات الناقة الوحشية والبقرة الوحشية والضبع فينزو الضبع على الناقة فيأتي بذكر فينزو ذلك الذكر على البقرة فتتولد منه الزرافة، والصحيح أنها خلقة بذاتها ذكر وأنثى كبقية الحيوانات لأن الله تعالى لم يخلق شيئا إلا بحكمة.
(زنبور) :
حيوان فوق النحل له ألوان وقد أودعه الله حكمة في بنيانه بيته وذلك أنه يبنيه مربعا له أربعة أبواب كل باب مستقبل جهة من الرياح الأربع، فإذا جاء الشتاء دخل تحت الأرض ويبقى إلى أيام الربيع، فينفخ الله تعالى فيه الروح فيخرج ويطير وفي طبعه التهافت على الدم واللحم ومن خاصيته أنه إذا وضع في الزيت مات وفي الخل عاش، ولسعته تزال بعصارة الملوخية.
(حرف السين) :
(سعلاة)
نوع من المتشيطنة. قال السهلي: هو حيوان يتراءى للناس بالنهار ويغول بالليل، وأكثر ما يوجد بالغياض، وإذا انفردت السعلاة بإنسان وأمسكته صارت ترقصه وتلعب به كما يلعب القط بالفأر قال: وربما صادها الذئب وأكلها وهي حينئذ ترفع صوتها وتقول: أدركوني فقد أخذني الذئب، وربما قالت: من ينقذني منه وله ألف دينار، وأهل تلك الناحية يعرفون ذلك، فلا يلتفتون إلى كلامها.
(سمندل)
حيوان يوجد بأرض الصين، ومن عجيب أمره أنه يبيض في النار، ويفرخ فيها ويؤخذ وبره، فينسخ ويجعل منه المناشف، وهذه المناشف إذا اتسخت جعلت في النار، فتأكل النار وسخها ولا تحرقها.
حكي أن شخصا بلّ واحدة من هذه المناشف بالزيت وجعلت في النار، وأوقدت ساعة ولم تحترق.
(سنجاب)
حيوان كهيئة الفأر يوجد في بلاد الترك على قدر اليربوع إذا أبصر الإنسان هرب منه، وشعره كشعر الفأر وهو ناعم، فيؤخذ ويسلخ جلده ويجعل فروا يلبس وطبعه موافق لكل طبع وأحسنه الأزرق.
(سنور)
حيوان متواضع ألوف خلقه الله تعالى لدفع الفأر والحشرات كناه وأسماؤه كثيرة.
حكي أن أعرابيا صاد سنورا، فرآه شخص، فقال: ما تصنع بهذا القط، ولقيه آخر، فقال: ما تصنع بهذا الخيدع؟ ولقيه آخر، فقال: ما تصنع بهذا الخيطل؟ ولقيه آخر، فقال: ما تصنع بهذا الهر؟ قال: أبيعه. قال: بكم؟
قال: بمائة درهم، فقال: إنه يساوي نصف درهم قال:
فرمى به، وقال: لعنه الله ما أكثر أسماءه وأقل قيمته.
وهذا الحيوان يهيج في زمان الشتاء في شهرين منه وتراهن يترددن صارخات في طلب السفاد، فكم من حرة خجلت وذي غيرة هاجت حميته، وعزب تحركت شهوته، وطيب فم السنّور كطيب فم الكلب في النكهة، وقيل: أن الهرة تحمل خمسين يوما، وهو يجمع بين العض بالناب والخمش بالمخلاب، وليس كل سبع كذلك، وهو يناسب الإنسان في بعض الأحوال، فيعطس ويتمطى، ويغسل وجهه بلعابه ويلطخ وبر ولده بلعابه حتى يصير كأن الدهن يسري في جلده، وقيل: إذا بال الهر شم بوله ودفنه قيل: لأجل الفأر، فإذا شمه علم أن هناك هرا، فلم يخرج، وأما سنور الزباد، فهو الفهد بالهند ويوجد الزباد تحت إبطيه وفخذيه.
(سوس)
هو دود الحبوب والفاكهة. ومن الفوائد التي تكتب في الحبوب فلا تسوس أسماء الفقهاء السبعة الذين كانوا بالمدينة وقد نظمها بعضهم، فقال:
ألا كلّ من لا يقتدي بأئمة ... فقسمته ضيزى عن الحق خارجه «1»
فخذهم عبيد الله عروة قاسم ... سعيد أبو بكر سليمان خارجه(1/362)
(حرف الشين) :
(شادهوار)
حيوان يوجد بأرض الترك يقال أن له قرنا عليه اثنتان وسبعون شعبة مجوفة، فإذا هبت الريح سمع لها تصويت عجيب يكاد يدهش وربما قيل إن فيه شعبة يورث سماعها البكاء والحزن، وأخرى تورث الفرح والضحك، وأنه أهدي إلى بعض الملوك شيء من شعبها، فرأى فيه ذلك، ويقال إن من الحيوان شيئا يوجد بالغياض في قصبة أنفه إثنا عشر ثقبا إذا تنفس يسمع له صوت كصوت المزمار، فتأتيه الحيوانات لتسمعه، فتدهش، فيغفل بعضها من الطرب، فيثب عليه، فيأخذه، ويأكله، وهي تعلم ذلك منه وتحترز، فإذا لم يمسك منها شيئا ضاق خلقه وصاح بها صيحة، فتهرب وتتركه.
(شاهين)
طير يكون كهيئة الصقر إلا أنه عظيم واسع العينين، ومزاجه أيبس من مزاج الصقر، وحركته من العلو إلى أسفل أقوى، ولذلك ينقض على الطير بشدة، فربما يخطئه فيضرب نفسه بالأرض بشدة، فيموت، وقيل: أول من صاد به قسطنطين، وذلك أنه قد جعل له الحكماء الشواهين تظله من الشمس إذا سار، فاتفق في بعض الأيام أنه ركب فدارت الشواهين عليه، وسار. قال: فطار واحد منها وانقض على صيد، فأخذه، فأعجب الملك ذلك وصار يتصيد به.
(شحرور)
طير أسود فوق العصفور يصوت بأصوات مطربة.
(حرف الصاد) :
(صرد)
حيوان يسمى الصرصار على قدر الخنفساء له جناحان ويقال له الصوام لأنه أول طير صام يوم عاشوراء.
(صعو)
طير من صغار العصافير أحمر الرأس.
(حرف الضاد) :
(ضأن)
نوع من الحيوانات ذوات الأربع، وهو من الحيوانات المباركة تحمل الأنثى منه بواحد واثنين، وفيها البركة، وغيرها تحمل بالسبعة والتسعة، وليس فيها بركة وإذا رعت زرعا نبت عوضه، وذلك لبركتها بخلاف ذوات الشعر، ومن عجيب أمرها أنها إذا رأت الذئب تخور وتخاف منه ولا يخاف من سائر السباع.
قال بعض القصاص: مما أكرم الله تعالى به الكبش أن خلقه مستور العورة من قبل ومن دبر، ومما أهان به التيس أن خلقه مهتوك الستر مكشوف العورة من قبل ومن دبر، ويقال: الضأن من دواب الجنة، وهي صفوة الله من البهائم، ويقال في المدح: هو كبش من الكباش وفي الذم هو تيس من التيوس، وأهدى بعضهم إلى صديقه شاة هزيلة فقال:
تقول لي الأخوان حين طبختها ... أتطبخ شطرنجا عظاما بلا لحم
ومن العجب أنه يأتي غنم من الهند للكبش منها ألية في صدره وأليات في كتفيه، وألية على ذنبه، وربما تكبر ألية الضأن حتى تمنعه من المشي ومن عجيب أمرها أنها إذا تسافدت وقت المطر لا تحمل وعند هبوب الريح إن كانت شمالية حملت ذكرا، وجنوبية حملت أنثى، والله أعلم.
ومن خواصها: أن لحمها ينفع للسوداء، ويزيد في المني والباه، وإذا تحملت المرأة بصوفها قطع حبلها، وإذا غطي إناء العسل بصوف الضأن الأبيض منع وصول النمل إليه، وإذا دفن قرن كبش تحت شجرة كثر حملها على ما ذكر والله أعلم.
(ضب)
حيوان يجعل جحره في الأرض الصلدة وعنده بلم، فربما لا يهتدي لجحره إذا خرج منه، فلذلك لا يحفره إلا بقرب كودية أو أشارة، وهو من الحيوان الذي يعمر. قيل: إنه يعيش سبعمائة سنة، ومن طبعه أنه يصبر على الماء يقال: إنه لا يشرب، فإنه يبول في كل أربعين يوما قطرة، والأنثى تبيض سبعين بيضة وأكثر، وتجعلها في الأرض، وتتعاهدها في كل يوم إلى أربعين يوما، فيخرج، وبيضها قدر بيض الحمام، وهذا الحيوان شديد الخوف من الآدمي، ولذلك يجعل العقارب في جحره حتى يمتنع بها، ويخرج من جحره كليل البصر، فيستقبل الشمس، فيحصل له بذلك حدة في بصره، وإذا عطش نشق النسيم فيروى، وبينه وبين الأفاعي مناسبة، وذلك أنه لا يخرج زمن الشتاء.
فائدة: قيل أن أعرابيا أتى النبي صلى الله عليه وسلم وفي كمه ضب قد صاده، وقال: لولا أن تسميني العرب عجولا لقتلتك، وسررت الناس بقتلك فقال عمر: دعني يا رسول الله أقتله، فقال عليه الصلاة والسلام: مهلا يا عمر أما علمت أن الحليم كاد أن يكون نبيا؟ قال: ثم أقبل الأعرابي على النبي صلى الله عليه وسلم وقال: والله لا آمنت بك إلا أن يؤمن بك هذا الضب، وأخرجه من كمه قال: فعند ذلك قال النبي صلى الله عليه وسلم يا ضب: فأجابه بلسان فصيح لبيك وسعديك يا رسول رب العالمين، فقال: من تعبد؟ قال: الذي في السماء عرشه، وفي الأرض سلطانه، وفي البحر سبيله، وفي(1/363)
الجنة رحمته، وفي النار عذابه، فقال: من أنا يا ضب؟
قال: رسول رب العالمين قد أفلح من صدقك وقد خاب من كذبك، قال، فقال الأعرابي عند ذلك: يا ويلاه ضب اصطدته بيدي من البرية يشهد لك بالرسالة. أنا أولى منه بذلك، هات يدك أشهد أن لا إله إلا الله، وأنك رسول الله حقا، ولقد أتيتك وما على وجه الأرض أحد أكثر بغضا مني إليك، ولقد صرت الآن أذهب من عندك وما على وجه الأرض أحدا أكثر محبة مني إليك، ولأنت الساعة أحب إليّ من أهلي وولدي وما تملك يدي، فقد آمن بك شعري وبشري وداخلي وخارجي وسري وعلانيتي، فقال النبي صلى الله عليه وسلم: الحمد لله الذي هداك لهذا الدين الذي يعلو ولا يعلى عليه، ولكن لا يقبله الله إلا بصلاة، ولا يقبل الصلاة إلا بقراءة. قال: فعلمني يا حبيبي. قال: فعلمه سورة الفاتحة، وسورة الإخلاص، وقال: من قرأها ثلاث مرات، فكأنما قرأ القرآن. قال: لهذا يقبل اليسير ويعفو عن الكثير، ثم سأله: ألك مال؟ فقال: يا حبيبي ليس في بني سليم أفقر مني، فقال لأصحابه: أعطوه، فأعطوه حتى أثقلوه، فقال عبد الرحمن بن عوف يا رسول الله: عندي ناقة عشارية أعطيها له، فقال: إن الله يعطيك ناقة في الجنة من درة قوائمها من الزبرجد الأخضر وعيناها من الياقوت الأحمر، وعليها هودج من السندس تخطفك من الصراط كالبرق. قال: فخرج الأعرابي من عنده، فتلقاه ألف فارس من المشركين كلهم يريدون قتل النبي صلى الله عليه وسلم، فأخبرهم بقصته، فأسلموا عن آخرهم، وأمر النبي صلى الله عليه وسلم خالد بن الوليد عليهم، وهذه القصة ذكرها الدراقطني بتمامها، والبيهقي والحاكم، وابن عدي.
الخواص: قلبه يذهب الحزن والخفقان، وشحمه يطلى به الذكر يزيد في الباه، وكعبه يشد على وجع الضرس يبرأ، وإذا جعل على وجه فرس لا يسبقه شيء، وبعره يذهب البرص والكلف طلاء، ومن أكل لحمه لا يعطش زمانا طويلا.
(ضبع)
حيوان معروف ومن كناه أم عامر ومن طبعه حب لحم الآدمي حتى قيل: إنه ينبش القبور وإذا مر بإنسان نائم حفر تحت رأسه ووثب عليه وبقر بطنه وشرب دمه.
الخواص: من شرب دمه ذهب وسواسه، ومن علّق عليه عينه أحبه الناس، وإذا جعلها في خل سبعة أيام ثم جعلها تحت فص خاتم فكل من كان به سحر، وجعل الخاتم في قليل ماء وشربه زال سحره.
(ضفدع)
حيوان يتولد من المياه الضعيفة الجري، ومن العفونات وعقيب الأمطار وأول ما يظهر مثل الحب الأسود، ثم ينمو، ثم تتشكل له الأعضاء، وإذا نق جعل فكه الأسفل في الماء والأعلى من خارج وفي صوته حدة.
قال سفيان: ليس من الحيوان أكثر ذكرا لله تعالى من الضفدع، وفي الآثار أن داود عليه الصلاة والسلام قال:
لأسبحن الله تعالى بتسبيح ما سبحه أحد قبلي، فنادته ضفدعة يا داود تمنّ على الله تعالى بتسبيحك، وأنا لي تسعون سنة ما جف لساني عن ذكر الله تعالى قال: فما تقولين في تسبيحك قالت أقول: سبحان من هو مسبح بكل لسان، سبحان من هو مذكور بكل مكان، فقال داود:
ما عسى أن أقول. وقال بعضهم: إنها كانت تأخذ الماء بفيها وتجعله على نار إبراهيم الخليل، والله سبحانه وتعالى أعلم.
(حرف الطاء) :
(طاووس)
طير مليح ذو ألوان عجيبة وعنده الزهو في نفسه والعجب، ومن طبعه العفة وهو من الطير كالفرس من الحيوان، والأنثى تبيض حين يمضي لها من العمر ثلاث سنين وفي ذلك الأوان يكمل ريش الذكر ويتم لونه، وتبيض الأنثى مرة واحدة في كل شهر، ففي السنة اثنتا عشرة بيضة أو أقل أو أكثر، ويسفد الذكر في أيام الربيع، ويرمي ريشه في أيام الخريف، كالشجر فإذا بدأ طلوع الورق طلع ريشه، ومدة حضنه ثلاثون يوما.
فائدة: قيل: إن آدم لما غرس الكرمة جاء إبليس لعنه الله، فذبح عليها طاووسا، فشربت دمه، فلما طلعت أوراقها ذبح عليها قردا، فشربت دمه، فلما طلعت ثمرتها ذبح عليها أسدا، فشربت دمه، فلما انتهت ثمرتها ذبح عليها خنزيرا، فشربت دمه، فمن أجل ذلك تجد شارب الخمر أول ما يشربها وتدب فيه يزهو بنفسه، ويميس عجبا كالطاووس، فإذا جاء مبادىء السكر لعب وصفق بيديه كالقرد، فإذا قوي سكره قام وعربد، كهيئة الأسد، فإذا انتهى سكره انقبض كما ينقبض الخنزير، ثم يطلب النوم والناس تتشاءم بإقامته بالدور، قيل: لأنه كان سببا لدخول إبليس الجنة وخروج آدم منها، والله على كل شيء قدير «1» .(1/364)
(حرف الظاء) :
(ظبي)
واحد الغزلان، وهو ثلاثة أصناف الأول الآرام، وهو ظباء الرمل ولونها رمادي وهي سمينة العنق.
والثاني: العفر ولونها أحمر وهي قصيرة العنق.
والثالث: الأدم وهي طويلة العنق وتوصف بحدة البصر وقيل: إن الظبي يقضم الحنظل ويمضغه مضغا وماؤه يسيل من شدقيه ويرد الماء الملح فيشرب الماء الأجاج ويغمس خرطومه فيه كما تغمس الشاة لحييها في العذب، فأي شيء أعجب من حيوان يستعذب ملوحة البحر ويستحلي مرارة الحنظل.
الخواص: لسانه يجفف ويطعم للمرأة السليطة تزول سلاطتها، وبعره وجلده يحرقان ويسحقان ويجعلان في طعام الصبي يزيد ذكاؤه ويصير فصيحا ذلقا حافظا.
(ظربان)
دويبة فوق جرو الكلب منتنة الريح تزعم العرب أن من صادها وفست في ثوبه لا تزول الرائحة منه حتى يبلى الثوب ويحكى من شؤمها أنها تأتي بيت الظبي، فتفسو فيه ثلاث مرات فتقتل ما فيه، وتأكله بعد ذلك.
(حرف العين) :
(عجل) :
حيوان معروف وهو ذكر البقر وسمي بذلك لاستعجال بني اسرائيل بعبادته والسبب في ذلك أن موسى علي الصلاة والسلام وقت الله له ثلاثين ليلة ثم أتمها بعشر وكان فيهم شخص يسمى موسى بن ظفر السامري في قلبه من حب عبادة البقر شيء فابتلى الله به بني اسرائيل فقال:
ائتوني بحلى قال: فأتوه بجميع حليهم فصنع منه عجلا جسدا وألقى عليه قبضة من التراب أخذه من أثر فرس جبريل عليه السلام فصار له خوار كما أخبر الله تعالى، فعكفوا على عبادته من دون الله تعالى، وكانوا يأتون إليه ويرقصون حوله ويتواجدون فيخرج منه تصويت كهيئة الكلام فيتعجبون من ذلك ويظنون أنه تكلم، وإنما فعل ذلك بإغواء إبليس لعنه الله حتى يطغيهم.
فائدة: نقل القرطبي عن سيدي أبو بكر الطرطوشي رحمهما الله أنه سئل عن قوم يجتمعون في مكان فيقرأون من القرآن ثم ينشد لهم الشعر فيرقصون ويطربون، ثم يضرب لهم بعد ذلك بالدف والشبابة هل الحضور معهم حلال أم حرام فقال: مذهب الصوفية أن هذه بطالة وجهالة وضلالة وما الإسلام إلا كتاب الله وسنة رسول الله صلى الله عليه وسلم وأما الرقص والتواجد فأول من أحدثه أصحاب السامري لما اتخذوا العجل فهذه الحالة هي حالة عبّاد العجل وإنما كان النبي صلى الله عليه وسلم مع أصحابه في جلوسهم كأنما على رؤسهم الطير مع الوقار والسكينة فينبغي لولاة الأمر وفقهاء الإسلام أن يمنعوهم من الحضور في المساجد وغيرها ولا يحل لأحد يؤمن بالله واليوم الآخر أن يحضر معهم ولا يعينهم على باطلهم هذا مذهب الشافعي وأبي حنيفة ومالك وأحمد بن حنبل رحمهم الله تعالى.
(عقرب) :
هو من الحشرات. قال الجاحظ: إنها تلد من فيها مرتين «1»
وتحمل أولادها على ظهرها وهم كهيئة القمل كثير العدد وقال غيره إذا حملت تسلط عليها أولادها فأكلوا بطنها وخرجوا «2»
كهيئة الذر ثم يكثرون ويطوفون بالأرض ولها ثمانية أرجل ومن عجيب أمرها أنها لا تضرب النائم إلا إذا تحرك شيء منه والخنافس تأوي إليها وربما لسعت التنين العظيم فقتلته.
(غريبة) : قال ذو النون المصري بينما أنا في بعض سياحتي إذ مررت بشاطىء البحر فرأيت عقربا أسود قد أقبل إلى أن جاء إلى شاطىء البحر، فظننت أنه يشرب فقمت لأنظر فإذا بضفدع قد خرج من الماء وأتاه فحمله على ظهره وذهب به إلى ذلك الجانب، قال ذو النون فاتزرت بمئزري وعمت خلفه حتى إذا صعد من ذلك الجانب صعدت وسرت وراءه فما زال حتى جاء إلى شجرة، فوجدت تحتها غلاما نائما من شدة السكر قد أقبل عليه تنين عظيم، قال: فلصقت العقرب برأس التنين ولسعته فقتلته ثم رجعت إلى ظهر الضفدع فعبر بها إلى الماء وسار بها إلى المكان الذي جاءت منه قال ذو النون فتعجبت من ذلك وأنشدت:
يا راقدا والجليل يحفظه ... من كل سوء يكون في الظلم
كيف تنام العيون عن ملك ... يأتيك منه فوائد النعم
ثم أيقظت الغلام وأخبرته بذلك قال: فلما سمع ذلك قال: أشهدك على إني قد تبت عن هذه الخصلة ثم جرينا ذلك التنين ورميناه في البحر ولبس ذلك الغلام مسحا وساح إلى أن مات رحمة الله تعالى عليه، وما أحسن ما قال بعضهم:
إذا لم يسالمك الزمان فحارب ... وباعد إذا لم تنتفع بالأقارب(1/365)
ولا تحتقر كيد الضعيف فربما ... تموت الأفاعي من سموم العقارب
فقد هدّ قدما عرش بلقيس هدهد ... وخرّب فأر قبل ذا سدّ مأرب
إذا كان رأس المال عمرك فاحترز ... عليه من التضييع في غير واجب
فبين اختلاف الليل والصبح معرك ... يكرّ علينا جيشه بالعجائب «1»
فائدة: إذا لدغ أحد فاقرأ عليه هذه الكلمات وهي:
سلام على نوح في العالمين وصلى الله على سيدنا محمد في المرسلين أعيذك من حاملات السم أجمعين لا دابة بين السماء والأرض إلا ربي آخذ بناصيتها كذلك يجزي عباده المحسنين إن ربي على صراط مستقيم نوح قال لكم من ذكرني لا تلدغوه إن ربي بكل شيء عليهم وصلى الله على سيدنا محمد الكريم.
وقال بعض العلماء: من قال: عقدت زبان العقرب ولسان الحية ويد السارق بقول: أشهد أن لا إله إلا الله وأن محمدا رسول الله؛ أمن من العقرب والحية والسارق.
وفي البخاري أن رجلا جاء إلى النبي صلى الله عليه وسلم وقال:
يا رسول الله ماذا لقيت من عقرب لدغتني البارحة فقال له النبي صلى الله عليه وسلم: أما إنك لو قلت إذا أمسيت أعوذ بكلمات الله التامات من شر ما خلق لم تضرك.
وروى الترمذي أن من قال حين يمسي أعوذ بكلمات الله التامات من شر ما خلق ثلاث مرات ثم قال سلام على نوح في العالمين لم تضره الحية والعقرب والسر في ذكر نوح دون غيره هو أنه لما ركب في السفينة سألّته الحية والعقرب أن يحملها معه فشرط عليهما أنهما لا يضران من ذكر اسمه بعد ذلك فشرطا له ذلك.
الخواص: من بخر البيت بزرنيخ أحمر وشحم بقر هربت منه العقارب، ومن شرب مثقالين من حب الأترج أبرأه من سمها، ومن علق عليه شيء من ورق الزيتون برىء أيضا لوقته.
(عقعق) :
طير ذو لونين طويل الذنب قدر الحمامة على شكل الغراب وجناحاه أكبر من جناحي الحمامة وهو لا يأوي إلا الأماكن العالية وإذا باض جعل حول بيضه ورق الدلب خوفا عليه من الخفاش لا يفسده.
الخواص: دمه إذا جعل على قطن وألصق على موضع النصل والشوكة الغائبة في البدن أخرجه.
(علق) :
دود أحمر وأسود يكون بالماء يعلق بالخيل والآدمي فإذا علقت بك فرش عليها ماء وملحا وإذا علقت بفرس فبخره بوبر الثعلب فإنها تنفصل من رائحة دخانه.
ومن خواصه أن البيت إذا بخر به هرب ما فيه من البق والبعوض وإذا جفف وسحق وقلع الشعر وطلي به مكانه منع نباته.
(عنقاء) :
اختلف فيها فقال بعضهم: هو طائر عظيم الخلقة له وجه إنسان وفيه من كل حيوان لون وقال بعضهم هو طير غريب الشكل يبيض بيضا كالجبال ويبعد في طيرانه وسميت بذلك لأنه كان في عنقها طوق أبيض، قال القزويني: إنها تخطف الفيلة لعظمها وكبر جثتها كما تخطف الحدأة الفأر قال: وكانت في قديم الزمان بين الناس إلى أن خطفت عروسا بحليها فذهب أهلها إلى نبي ذلك الزمان فشكوها إليه فدعا عليها فذهب بها إلى بعض الجزائر التي خلف خط الاستواء وهي جزيرة لا يصل إليها أحد وجعل لها فيها ما تقتات به من السباع كالفيل والكركند وغير ذلك وقال أصحاب التواريخ إن هذا الطير يعمر حتى قيل إنه يعيش ألفي سنة ويتزوج إذا مضى عليه خمسمائة.
وحكى الزمخشري في ربيع الأبرار، أن الله تعالى خلق في زمن موسى عليه الصلاة والسلام طيرا يقال له: العنقاء له وجه كوجه الإنسان، وأربعة أجنحة من كل جانب وخلق له أنثى مثله ثم أوحى الله تعالى إلى موسى إني خلقت خلقا كهيئة الطير وجعلت رزقه الوحوش والطير التي حول بيت المقدس قال: فتناسلا وكثر نسلهما فلما توفي موسى عليه الصلاة والسلام انتقلت إلى نجد والعراق، فلم تزل تأكل الوحوش وتخطف الصبيان إلى أن تنبأ خالد بن سنان العبسي، فشكوها له، فدعا عليها، فانقطعت وانقطع نسلها وانقرضت «2» .
(عنكبوت)
دويبة لها ثمانية أرجل وستة عيون وهي من الحيوان الذي صيده الذباب وولده يخرج قويا على النسج من غير تعليم ولا تلقين ويخرج أولاده دودا صغيرا ثم يتغير وتصير عنكبوتا وتكمل صورته.
فائدة: قيل إن امرأة ولدت جارية، ثم قالت لخادم لها(1/366)
إقتبس لنا نارا، فخرج، فوجد بالباب سائلا، فقال له: ما ولدت سيدتك؟ فقال: بنتا، فقال: لا تموت حتى تبغي بألف رجل ويتزوجها خادمها ويكون موتها بالعنكبوت، فقال الخادم، وأنا أصبر لهذه حتى يحصل منها ما يحصل، فصبر حتى قامت أمها لتقضي بعض شؤونها وعمد إلى البنت. فشق بطنها بسكين، وهرب، قال فجاءت أمها، فوجدتها على تلك الحالة، فدعت بمن يعالجها حتى شفيت، فلما كبرت بغت، قال: ثم إنها سافرت وأتت مدينة على ساحل من سواحل البحر، فأقامت هناك تبغي قال، وأما الرجل فإنه صار من التجار، وقدم لتلك المدينة ومعه مال كثير، فقال لامرأة عجوز هنال أخطبي لي امرأة حسنة أتزوج بها قال، فوصفتها له وقالت ليس هنا أحسن منها، ولكنها تبغي، فقال العجوز ائتني بها قال، فذهبت وأخبرتها بالقصة، فقالت لها: حبا وكرامة، فإني قد تبت عن البغي، فتزوج الرجل بها، وأحبها حبا شديدا وأقام معها أياما، وكان يود أن يراها متجردة، فلم يمكنه ذلك حتى إذا كان في بعض الأيام خرج على عادته لقضاء أشغاله ودخلت هي الحمام، وعرضت له حاجة، فرجع إلى الدار، وصعد إلى قصرها، فلم يرها، فسأل عنها، فقيل له هي في الحمام، فدخل عليها، فرآها متجردة، ورأى في بطنها أثرا كالخياطة، فقال: ما هذا؟ قالت: لا أعلم إلا أن أمي أخبرتني أنه كان لنا خادم وأنه يوم ولادتي غافل أمي وشق بطني بسكين وهرب وأنها حين رأتني كذلك دعت بعض الأطباء، فخاط بطني وعالجني حتى أندمل جرحي، وشفيت، وبقي هذا الأثر، فقال لها: أنا ذلك الخادم، وحكى لها السبب، وأن ذلك السائل أخبره أنها تموت بالعنكبوت، ثم إنه اهتم بأمرها وجمع مهندسي البلدة التي هم فيها وسألهم أن يبنوا له بناء لا ينسج عليه العنكبوت، فقالوا كل بناء ينسج عليه إلا أن يكون البلور لنعومته لا ينسج عليه، فأمرهم أن يصنعوا لها قصرا من البلور، وبذل لهم ما أرادوا، فعملوه وفرشه وأمرها أن تقيم فيه لا تخرج منه خوفا عليها من العنكبوت، قال: فبينما هو ذات يوم إذ رأى عنكبوتا قد نسج في ذلك القصر، فقام إليه، فرماه وقال لها هذا الذي يكون موتك منه قال:
فداسته بإبهامها وقالت كالمستهزئة: أهذا الذي يقتلني، فشدخته، فتعلق بطرف إبهامها من مائه شيء فعمل بها حتى ورمت ساقها، ثم وصل الورم إلى قلبها، فقتلها، فما أفاده قصره ولا صرحه شيئا. قال الله تعالى: أَيْنَما تَكُونُوا يُدْرِكْكُمُ الْمَوْتُ وَلَوْ كُنْتُمْ فِي بُرُوجٍ مُشَيَّدَةٍ
«1»
الآية.
فائدة: نسج العنكبوت على ثلاثة مواضع: على غار النبي صلى الله عليه وسلم، وعلى غار عبد الله بن أنيس لما بعثه النبي صلى الله عليه وسلم لخالد الهذلي، فقتله، وحمل رأسه، ودخل به في غار خوفا من أهله، ونسج على عورة زيد بن الحسين بن علي بن أبي طالب رضي الله عنهم لما صلب عريانا، وقيل إنها نسجت مرتين على داود حين كان جالوت يطلبه.
الخواص: نسجها إن وضع على الجراح الطرية يقطع دمها، ويجلو الفضة إذا دلكت به والذي يوجد من نسجها في بيت الخلاء ينفع المحموم إذا تبخر به.
(ابن عرس)
حيوان معروف وهو بأرض مصر كثير ويسمى العرسة وهو عدو للفأر وعنده الحيل، قيل: إنه عدا خلف فأر، فصعد منه على شجرة، فصعد خلفه، وأمر أنثاه أن تقف تحت الشجرة، ثم قطع الغصن الذي كان عليه الفأر، فسقط، فأخذته أنثاه. ومما يحكى عنه أنه يحب الذهب فيسرقه ويلد عليه.
عجيبة: قيل إن رجلا صاد فرخا من أولاده وحبسه تحت طاسة، فجاء أبوه، فوجده، فذهب وأتى بدينار، فوضعه، فلم يفلته، ثم ذهب وأتى بآخر وما زال كذلك حتى أتى بخمسة دنانير، فلم يفلته، ثم أتى بخرقة، فلم يفلته، فأراد ابن عرس أن يأخذ ما برطله به فلما علم الرجل ذلك فهم أنه لم يبق عنده شيء، فأفلته له.
(حرف الغين) :
(غراب)
وكنيته أبو حاتم وله كنى غير ذلك، وهو أنواع كثيرة منها الأكحل، وغراب الزرع، والأزرق وهذا النوع يحكي جميع ما سمعه، والعرب تتفاءل بصياح الغراب، فتقول: إذا صاح مرتين فشر، وإذا صاح ثلاثة فخير، وهو كالإنسان عند الجماع، وفي طبعه الاستتار عن الناس عند مجامعته، والأنثى تبيض ثلاثا أو أربعا أو خمسا، وتحضن ذلك والأب يسعي في طعمتها إلى أن تفرخ، فإذا فرخت خرجت أفراخها قبيحة المنظر، فتفرق منها وتتركها وتغيب فيرسل الله لها البعوض فتتغذى به ثم لا تزال تتعاهدها حتى ينبت لها الريش فتأتيها ومنه قول الحريري «2»
:(1/367)
يا رازق النعّاب في عشه ... وجابر العظم الكسير المهيض
ومن طبعه أنه لا يتعاطى الصيد بل إن وجد رمة أكل منها ويقم من الأرض ما وجد ويسمى بالفاسق لأنه لما أرسله نوح عليه السلام ليكشف عن الماء، وجد في طريقه رمة فسقط عليها وترك ما أرسل إليه، ويسمى بالبين لأنه إذا رحل العرب من مكان نزل فيه وزعق في أثرهم. ومن الغرائب أن بين الغراب وبين الذئب إلفة وذلك إنه إذا رأى الذئب بقر بطن شاة سقط وأكل منها ومعه الذئب لا يضره.
الخواص: إذا غمس الغراب في الخل ثم جفف وسحق ريشه وطلي به الشعر سوده، وإذا علق منقاره على إنسان زالت عنه العين، وزبل الغراب الأبقع ينفع الخوانيق والخنازير طلاء، وإن صر في خرقة على من به السعال زال.
(غرغر)
دجاج بني إسرائيل يقال إن فرقة من بني إسرائيل كانت بتهامة، فطغت وبغت وتجبرت وكفرت، فعاقبهم الله تعالى بأن جعل رجالهم القردة وكلابهم الأسود وعنبهم الأراك وجوزهم المقل ودجاجهم الغرغر، وهو دجاج الحبشة فلا ينفع لحمه لرائحته الكريهة، وهذا مشاهد في زماننا هذا الآن على ما نقل، والله سبحانه وتعالى أعلم.
(حرف الفاء) :
(فاختة)
طير أغبر من ذوات الأطواق بقدر الحمام لها حسن الصوت يحكى أن الحيات تهرب من صوتها، وفي طبعها الأنس، فمن أجل ذلك تتخذ بيتها في البيوت، وهي من الحيوان الذي يعمر وقد ظهر منها ما عاش خمسا وعشرين سنة.
الخواص: دمها ينفع من الآثار في العين من ضربة أو قرحة إذا قطر فيها.
(فأرة)
وكنيتها أم خراب وغير ذلك وتسمى بالفويسقة، وذلك أن النبي صلى الله عليه وسلم انتبه ليلة، فوجدها قد جذبت الفتيلة، وأحرقت طرف سجادته، فقتلها، وأمر بقتلها، وهي التي قطعت حبل سفينة نوح، وأذاها لا يكاد ينحصر ومنه: أنها تأتي إلى إناء الزيت، فتشرب منه، فإذا نقص صارت تشرب بذنبها، فإذا لم تصل إليه ذهبت وأتت في فيها بماء وأفرغتها فيه حتى يعلو لها الزيت، فتشربه، وربما وضعت فيه حجرا، فكسرته، ويقال إنها بقايا الممسوخين الذين كانوا يهودا ومن أراد أن يعلم ذلك فليضع لها لبن ناقة في إناء، فإن لم تشربه فهي منهم. الخواص: عنيه تشد على الماشي يسهل تعبه، وإذا بخر البيت بزبل الذئب أو الكلب ذهب منه الفأر.
(فرس البحر)
حيوان غليظ أفطس الوجه ناصيته كالفرس ورجلاه كالبقر وذنبه قصير يشبه ذنب الخنزير، وجلده يوجد بالنيل، ووجهه أوسع من وجه الفرس يصعد البر ويرعى الزرع، وربما قتل الإنسان وغيره.
(فهد)
حيوان شرس الأخلاق. قال أرسطو: هو متولد من الأسد والنمر في طبعه مشابهة بطبع الكلب، ونومه ثقيل، وفي طبعه الحنو على أنثاه وقيل: أول من صاد به كليب بن وائل وأول من حمله على الخيل يزيد بن معاوية وأكثر من اشتهر باللعب به أبو مسلم الخراساني.
(فيل)
حيوان يوجد بأرض الهند، وكنيته أبو الحجاج، والأنثى أم سبل وهو ينزو على أنثاه إذا بلغ من العمر خمس سنين، وتحمل أنثاه سنتين ثم تضع ولا يقربها الذكر في مدة حملها، ولا بعده بثلاث سنين ولا يلقح إلا ببلاده وإذا أرادت الوضع دخلت النهر لأن رجليها لا ينثنيان، فتخاف عليه، والذكر يحرسها خوفا على ولده من الحيات، فإنها تأكله، وهو عند شدة غلمته كالجمل، ويهيج في زمن الربيع، وزعم أهل الهند أن لسانه مقلوب، ولولا ذلك لكان يتكلم لشدة ذكائه، وقيل: إن ثدييه في صدره كالإنسان، وهو أضخم الحيوان، وأعظمه جرما، وما ظنك بخلق ربما كان نابه أكثر من ثلاثمائة سن، وهو مع ذلك أملح وأظرف من كل نحيف الجسم رشيق، وربما مر الفيل مع عظم بدنه خلف القاعدة فلا يشعر برجله ولا يحس بمروره لخفة همسه، واحتمال بعض جسده لبعض، وأهل الهند يزعمون أن أنياب الفيل، وقرناه يخرجان مستبطنين حتى يخرقان وخرطوم أنفه يده وبه يتناول الطعام إلى جوفه وبه يقاتل وبه يصيح وصياحه ليس في مقدار جرمه. وقيل: إن الفيل جيد السباحة وإذا سبح رفع خرطومه كما يغيب الجاموس جميع بدنه، إلا منخريه ويقوم خرطومه مقام عنقه والخرق الذي في خرطومه لا ينفذ، وإنما هو وعاء إذا ملأه من طعام أو ماء أولجه في فيه لأنه قصير العنق لا ينال ماء ولا مرعى، وأهل الهند تجعله في القتال وهو أيضا يقاتل مع جنسه، فمن غلب دخلوا تحت أمره. وقيل: جعل الله في طبع الفيل الهرب من السنور.
حكي عن هارون مولى الأزد أنه خبأ معه هرا ومضى بسيف إلى الفيل فلما دنا منه رمى بالهر في وجهه فأدبر(1/368)
هاربا وكبر المسلمون، وظنوا أنه هرب منه. قال أبو الشمقمق:
يا قوم إني رأيت الفيل بعدكم ... تبارك الله لي في رؤية الفيل
رأيت بيتا له شيء يحرّكه ... فكدت أفعل شيئا في السراويل
وقيل: إذا اغتم الفيل لم يكن لسواسه هم إلا الهرب بأنفسهم ويتركونه. ومن عجيب أمره أن سوطه الذي به يحث ويضرب محجن حديد أحد طرفيه في جبهته والآخر في يد راكبه، فإذا أراد شيئا غمزه به في لحمه وأول شيء يؤدبون به الفيل يعلمونه السجود للملك.
قيل: خرج كسرى أبرويز لبعض الأعياد وقد صفوا له ألف فيل وأحدق به ثلاثون ألف فارس، فلما رأته الفيلة سجدت له، فما رفعت رؤوسها حتى جذبت بالمحاجن وراضتها الفيالون، وتزعم أهل الهند أن جبهة الفيل تعرق كل عام عرقا غليظا سائلا أطيب من رائحة المسك، ولا يعرض ذلك العرق إلا في بلادها خاصة، وإن عظام الفيل كلها عاج إلا أن جوهر نابه أكرم وأثمن ولولا شرف العاج وقدره لما فخر الأحنف بن قيس على أهل الكوفة في قوله: نحن أكثر منكم عاجا وساجا وديباجا وخراجا، وقيل أن الفيلة لا تتسافد في غير بلادها.
فائدة: من قرأ سورة الفيل ألف مرة في كل يوم عشرة أيام متوالية، ثم جلس على ماء جار، وقال: اللهم أنت الحاضر المحيط بمكنونات الضمائر، اللهم عز الظالم وقلّ الناصر، وأنت المطلع العالم اللهم إن فلانا ظلمني وأساءني ولا يشهد بذلك غيرك أنت مالكه فأهلكه، اللهم سربله سربال الهوان، وقمصه قميص الردى، اللهم اقصفه ست مرات، اللهم اخفضه مرتين، فأخذهم الله بذنوبهم وما كان لهم من الله من واق، فإن الله يستجيب له ما لم يكن ظالما.
الخواص: جلده إذا بخر به بيت هرب بقه وإذا سقي إنسان من وسخ أذنه نام نومة طويلة، وإذا علق من نابه شيء على شجرة لم تثمر، وإذا عمل من جلده ترس يكون أصلب من كل ترس.
(حرف القاف) :
(قاقم)
دويبة تشبه السنجاب إلا أنه أبرد منه مزاجا، وهو أبيض يقق وجلده أعز قيمة من السنجاب.
(قاوند)
طير يكون بساحل البحر يبيض في الرمل ويحضن بيضه سبعة أيام، ثم تخرج أفراخه بعد ذلك، فيزقها بعد سبعة أيام، ويقال ما يمسك الله البحر في هيجانه عن أن يفيض على الساحل إلا إكراما له لأنه يقال أنه يبر والديه.
خواصه: أنه يقيم المقعد ويحلل البلاغم المزمنة وينفع الأمراض الباردة وأوجاع الأعصاب.
(قرد)
حيوان معروف وكنيته أبو خالد، وغير ذلك، وهو قبيح المنظر، مليح الذكاء، سريع الفهم يتعلم الصنائع. قيل: إنه أهدي للمتوكل قرد خياط، وآخر صائغ، وأهل اليمن يعلمون القرد البيع والجلوس في الدكاكين حتى قيل إنه يخرز النعل ويصر القرطاس، وهو ذو غيرة، وعنده لواط حتى قيل أنه يعدو خلف المليح من شدة المحبة، والتفت ابن الرومي يوما إلى أبي الحسن الأخفش وهو يحاكي القرد فقال:
هنيئا يا أبا الحسن المفدّى ... بلغت من الفضائل كلّ غاية
شركت القرد في قبح وسخف ... وما قصّرت عنه في الحكاية
(قنفذ)
بالذال المعجمعة وكنيته أبو سفيان، ومن عجيب أمره أنه يصعد الكرم، فيرمي العنقود، ثم ينزل، فيأكل منه ما أطاق، فإن كان له أفراخ تمرغ في الباقي فيتعلق بشوكه، فيذهب به إلى أولاده، وهو مولع بأكل الأفاعي، فإذا لدغته لا يؤثر فيه سمها لدفع ذلك بشوكه، وإذا تأذى منها ذهب فأكل السعتر البري، فيزول أذاها، وهو الحيوان الذي يسفد مباطنة كالرجل وله خمسة أرجل.
(حرف الكاف) :
(كركند)
«1»
حيوان يوجد ببلاد الهند والنوبة وهو دون الجاموس وله قرن واحد عظيم لا يستطيع رفع رأسه منه لثقله، وهو مصمت قوي يقاتل به الفيل، فيغلبه، ولا تعمل ناباه شيئا معه وعرض قرنه شبران، وليس بطويل جدا، وهو محدد الرأس شديد الملامسة، وإذا نشر قرنه ظهرت في معاطفه صور عجيبة كالطواويس والغزلان، وأنواع الطير، والشجر وبني آدم، ولذلك يتخذ منه صفائح الأسرة والمناطق للملوك، ويتغالون في ثمنها بحيث تبلغ المنطقة أربعة آلاف أو أكثر، والأنثى تحمل ثلاث سنين ويخرج ولدها نابت الأسنان والقرون، قوي الحافر، ويقال(1/369)
إنها إذا قاربت الوضع أخرج الولد رأسه من بطنها وصار يرعى أطراف الشجر، فإذا شبع أدخل رأسه في بطن أمه، ويزعم أهل الهند أنه إذا كان ببلاد لم يدع فيها من الحيوان شيئا حتى يكون بينها وبينه مائة فرسخ من جميع الجهات هيبة له وهربا منه، ويسمى الحمار الهندي، وهو شديد العداوة للإنسان يتبعه إذا سمع صوته، فيقتله، ولا يأكل منه شيئا.
(كروان)
طير معروف لا ينام غالب الليل خصوصا في القمر، وعنده ذكاء قيل: إنه يتكلم بجميع ما يبصره ولا يحتمل المغابنة.
(كركي)
طير محبوب للملوك وله مشتى ومصيف، فمشتاه بأرض مصر، ومصيفه بأرض العراق، وهو من الحيوان الرئيس، قيل: إذا نزل بمكان اجتمع حلقة ونام، وقام عليه واحد يحرسه وهو يصوت تصويتا لطيفا حتى يفهم أنه يقظان، فإذا تمت نوبته أيقظ غيره لنوبته، قال القزويني: وإذا مشى وطىء الأرض بإحدى رجليه، وبالأخرى قليلا خوفا من أن يحس به، وإذا طار سار سطرا يقدمه واحد كهيئة الدليل، ثم تتبعه البقية.
(كلب)
معروف وهو نوعان «1»
: أهلي وسلوقي، وهذان النوعان سواء إلا أن أنثى السلوقي أسرع في التعلم من ذكره، وهذا الحيوان حليم، وعنده رياضة، وفي طبعه إكرام الأجلاء من الناس.
وحكي أن رجلا عزم جماعة، فتخلف شخص منهم في منزله، ودخل على زوجة صاحب المنزل، فضاجعها، فوثب الكلب عليهما، فقتلهما، فرجع صاحب المنزل، فوجدهما قتيلين، فأنشد يقول:
وما زال يرعى ذمّتي ويحوطني ... ويحفظ عهدي والخليل يخون
فواعجبا للخل يهتك حرمتي ... وواعجبا للكلب كيف يصون «2»
وحكى أبو عبيدة قال: خرج رجل إلى الجبانة ومعه أخوه وجاره لينظروا إلى الناس، فتبعه كلب له، فضربه ورماه بحجر، فلم ينته، ولم يرجع، فلما قعد ربض الكلب بين يديه، فجاء عدو له في طلبه، فلما رآه خاف على نفسه، فإذا بئر هناك قريبة القعر، فنزل فيها وأمر أخاه وجاره أن يهيلا عليه التراب، ثم ذهب أخوه وجاره إلى سبيلهما، وصار الكلب ينبح حوله فلما انصرف العدو أتاه الكلب، فما زال يبحث في التراب إلى أن كشفه عن رأسه، فتنفس الرجل، ومر به أناس، فتناولوه وردوه إلى أهله، فلما مات ذلك الكلب عمل له قبر ودفنه فيه، وجعل عليه قبة وسمى ذلك قبر الكلب وفي ذلك قيل:
تفرّق عنه جاره وشقيقه ... وما حاد عنه كلبه وهو ضاربه
ومن ذلك ما حكي أن رجلا قتل ودفن، وكان معه كلب فصار يأتي كل يوم إلى الموضع الذي دفن فيه، وينبح وينبش ويتعلق برجل هناك، فقال الناس: إن لهذا الكلب شأنا، فكشفوا عن ذلك وحفروا ذلك الموضع، فوجدوا قتيلا، فقبضوا على ذلك الرجل الذي ينبح عليه الكلب وضربوه، فأقر بقتله، فقتل، وهو من الحيوان الذي يعرف الحسنة، وقيل: أن الأنثى تحيض في كل شهر سبعة أيام وأكثر ما تضع إثنا عشر جروا، وذلك في النادر، والغالب خمسة أو ستة، وربما ولدت واحدا، ويعيش الكلب في الغالب عشر سنين، وربما بلغ عشرين سنة، ووصف للمتوكل كلب بأرمينية يفترس الأسد، فأرسل من جاء به إليه، فجوع أسدا وأطلقه عليه، فتهارشا وتواثبا حتى وقعا ميتين، وقيل: كلب الصياد يشبه به الفقير المجاور للغني لأنه يرى من نعمته وبؤس نفسه ما يفتت كبده، وقيل لرجل:
ما بال الكلب يرفع رجله إذا بال؟ قال: يخاف أن يلوث ذراعيه. قيل: أو للكلب ذراعان؟ قال: هو يتوهم ذلك.
فائدة: حكي أن الإمام أحمد بن حنبل رضي الله عنه سمع شخصا من وراء النهر يروي أحاديث مثلثة، فسار إليه، ودخل عليه فوجده يطعم كلبا، وهو مشتغل به. قال الإمام أحمد: فأخذت في نفسي، وأضمرت أن أرجع إذا لم يلتفت الرجل إليّ، ثم قال: حدثني أبو الزناد عن الأعرج، عن أبي هريرة رضي الله عنه أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: «من قطع رجاء من ارتجاه قطع الله رجاءه يوم القيامة، فلم يلج الجنة، وإن أرضنا هذه ليست بأرض كلاب، وقد قصدني هذا الكلب، فخشيت أن أقطع رجاءه» . قال، فقال الإمام أحمد رحمه الله: هذا الحديث يكفيني، ثم رجع قافلا إلى أهله.
فائدة أخرى: قال الترمذي: لما أهبط الله تعالى آدم إلى الأرض سلط عليه إبليس السباع، وكان أشدها الكلب، قال: فنزل عليه جبريل عليه السلام، وأمره أن يضع يده(1/370)
عليه، ففعل، واطمأن إليه، وألفه وصار يحرسه، وبقيت الألفة فيه لأولاده إلى يوم القيامة، وقيل: إن أول من اتخذ الكلب بعد آدم نوح عليهما الصلاة والسلام، وذلك لأن قومه كانوا يعمدون بالليل، فيفسدون ما صنعه في السفينة بالنهار، فأمره الله أن يتخذ كلبا حارسا، ففعل، قال: فكان إذا أتاه مفسد قام عليه، فيستيقظ نوح عليه الصلاة والسلام فيدفعه.
فائدة أخرى: قيل: كان كلب أهل الكهف أسمر، واسمه قطمير، وقيل: أصفر، وقيل: خلنجي اللون وليس في الحيوان ما يدخل الجنة، إلا هو وكبش إسماعيل وناقة صالح وحمار العزير وبراق النبي صلى الله عليه وسلم.
فائدة أخرى: إذا نبح عليك كلب، وخفت منه فاقرأ يا مَعْشَرَ الْجِنِّ وَالْإِنْسِ إِنِ اسْتَطَعْتُمْ أَنْ تَنْفُذُوا مِنْ أَقْطارِ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ فَانْفُذُوا لا تَنْفُذُونَ إِلَّا بِسُلْطانٍ 33
«1»
. وقل بعد ذلك: لا إله إلا الله، فإنك تكفاه.
(حرف اللام) :
(لغلغ)
طير معروف. قيل: إنه من طيور الفواخت ويأتي إلى أرض مصر في أيام الشتاء، فيأكل ما قسم الله له من الرزق، ويأكل منه من له فيه رزق، ثم يرحل إلى بلاده.
(حرف الميم) :
(مالك الحزين)
طير يوجد بالضحضاح غذاؤه السمك وسمي بذلك لأنه قيل: أنه لا يشرب حتى يروى خوفا من أن ينقص الماء، وإذا نشف الضحضاح حزن لأنه لا يستطيع العوم، ونظيره دويبة بأرض فارس معروفة عندهم يقال: إن غذاءها التراب، فإذا أكلت لا تشبع خوفا من أن يفرغ.
(حرف النون) :
(نمل)
قال عليه الصلاة والسلام: ألا تنظرون إلى صغير من خلق الله كيف أحكم خلقه وأتقن تركيبه، وفلق له السمع والبصر، وسوى له العظم والبشر. انظروا إلى النملة في صغر جثتها ولطافة هيئتها لا تكاد تنال بحلظ البصر ولا بمستدرك الفكر كيف دبت على الأرض، وسعت في مناكبها، وطلبت رزقها تنقل الحبة إلى جحرها تجمع في حرها لبردها وفي وردها لصدرها لا يغفل عنها المنان ولا يحرمها الديان، ولو فكرت في مجاري أكلها في علوها وسفلها وما في الجوف من شراسيف بطنها، وما في الرأس من عينها وأذنها لقضيت من خلقها عجبا، وللقيت من وصفها تعبا، فتعالى الذي أقامها على قوائمها، وبناها على دعائمها لم يشركه في فطرتها فاطر، ولم يعنه على خلقها قادر، لا إله إلا هو ولا معبود سواه. وقيل:
إذا خافت على حبها أن يعفن أخرجته إلى ظهر الأرض ليجف، وقيل: إنها تفلق الحبة نصفين خوفا من أن تنبت، فتفسد إلا الكزبرة، فإنها تفلقها أربعا لأنها من دون الحب ينبت نصفها، وليس كل أرباب الفلاحة يعرف هذا، فسبحان من ألهمها ذلك، وقيل: إنها تشم رائحة الشيء من بعيد ولو وضعته على أنفك لم تجد له رائحة، وإذا عجزت عن حمل شيء استعانت برفقتها، فيحملونه جميعا إلى باب جحرها، وقيل: إذا انفتح باب قرية النمل، فجعلت فيه زرنيخا أو كبريتا هجرتها، والله أعلم.
(نحل)
حيوان ليس له نظر في العواقب وله معرفة بفصول السنة، وأوقاتها وأوقات المطر، وفي طبعه الطاعة لأميره والانقياد له، ومن شأنه في تدبير معاشه أنه يبني له بيتا من الشمع شكلا مسدسا لا يوجد فيه اختلاف كالقطعة الواحدة إذا طار ارتفع في الهواء وحط على الأماكن النظيفة، وأكل نوار الزهر، والأشياء الحلوة وشرب من الماء الصافي، وأتى، فأخرج ذلك، فأول ما يخرج الشمع ليكون كالوعاء، ثم العسل وقيل: إنه يقسم الأعمال، فبعضه يعمل البيوت، وبعضه يعمل الشمع، وبعضه يعمل العسل، وفي طبعه النظافة فيجعل رجيعه خارج الخلية، وما مات منه أخرجه ورماه، وعنده الطرب فيحب الأصوات اللذيذة، وله آفات تقطعه كالظلمة والغيم والريح، والمطر والدخان والنار، وكذلك المؤمن له آفات تقطعه منها ظلمة الغفلة، وغيم الشك، وريح الفتنة، ودخان الحرام ونار الهوى.
فائدة: قيل: مرض شخص، فقال: إئتوني بماء وعسل، فأتوه بذلك، فخلط الجميع وشربه فشفي. وروي أن شخصا شكا إلى النبي صلى الله عليه وسلم بطن أخيه، فأمره بشرب العسل، فشربه، ثم جاء ثانيا، فأمره بشربه، ثم جاء في الثالثة، فقال يا رسول الله: إن بطنه لم يزل، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «صدق الله وكذب بطن أخيك اسقه عملا، فسقاه الثالثة فشفي» .
نادرة: قيل إن بعضهم حضر مجلس المنصور، فقال بعض الحاضرين المراد من قوله تعالى: يَخْرُجُ مِنْ بُطُونِها شَرابٌ مُخْتَلِفٌ أَلْوانُهُ فِيهِ شِفاءٌ لِلنَّاسِ
«2»
. أهل البيت فإنهم(1/371)
النحل، والشراب القرآن، فقال له بعض من حضره من اللطفاء: جعل الله طعامك وشرابك ما يخرج من بطون بني هاشم، فضحك الحاضرون عليه، وأبهته.
الخواص: إذا خلط العسل الخالص بمسك خالص، واكتحل به نفع من نزول الماء في العين والتلطخ به يقتل القمل، ولعقه علاج لعضة الكلب، والمطبوخ منه نافع للمسموم «1» .
(نسر)
هو سيد الطيور ويعمر طويلا. قيل أنه يعيش ألف سنة وله قوة على الطيران حتى قيل: أنه يقطع من المشرق إلى المغرب في يوم، وجثته عظيمة حتى قيل: أنه يحمل أولاد الفيلة، وله قوة حاسة الشم، حتى قيل: أنه يشم رائحة الجيفة من مسيرة أربعمائة فرسخ، وإذا سقط على جيفة تباعدت عنها الطيور هيبة له حتى يفرغ من الأكل وعنده شره، قيل: إنه يأكل حتى يضعف عن الحركة بحيث أن أضعف الناس لو أراد إمساكه في تلك الحالة أمسكه، وإذا باض ذهب وأتى بورق الدلب، فجعله في عشه خوفا من الخفاش أن يفسد بيضه، وهو لا يحضن البيض، وإنما يبيض في الأماكن العالية ويبقيه في الشمس، فتكون حرارتها بمنزلة الحضن، ومن طبعه أنه لو شمّ الطيب مات، وعنده الحزن على فراق إلفه حتى قيل:
إنه ليموت كمدا، ويقال للأنثى منه أم قشعم، وفي الحديث: «أتاني جبريل عليه السلام فقال يا محمد: لكل شيء سيد، فسيد البشر آدم، وسيد ولد آدم أنت، وسيد الروم صهيب، وسيد فارس سلمان، وسيد الحبش بلال، وسيد الطيور النسر، وسيد الشهور رمضان، وسيد الأيام الجمعة، وسيد الكلام العربي، وسيد العربي القرآن، وسيد القرآن سورة البقرة» .
الخواص: إذا أخذ قلب النسر وجعل في جلد الذئب وعلق على شخص كان مهابا عند الناس مقضي الحاجة، وإذا عسر على المرأة الوضع جعل تحتها من ريشه يسهل وضعها.
(نعام)
يذكر ويؤنث وتسمى الأنثى بأم البيض والذكر بالظليم، ومن عجيب أمرها أنها تبيض بيضا طوالا متساوية القدر وتجعلها أثلاثا للحضن وثلثا تأكله في حضنها، وثلثا تكسره وتفتحه فيتعفن ويدود فيكون منه غذاء أولادها، وعندها الحمق أنها تخرج من حضنها فتجد بيض غيرها، فتحضنه وتترك بيض نفسها.
فائدة: روى كعب الأحبار رضي الله تعالى عنه أن الله تعالى لما خلق القمح وأنزله على آدم كان على قدر بيض النعام، وقال له: هذا رزقك ورزق أولادك قم فاحرث وازرع، قال: ولم يزل الحب على ذلك مدة ثم نزل إلى بيض الدجاجة، ثم الحمامة، ثم النبق وكان في زمن العزيز على قدر الحمص، وقيل: كل حيوان إذا كسرت رجله مشى بالأخرى إلا النعام، فإنه يبرك إلى أن يموت، وخلق الله تعالى له قوة الشم البليغ حتى قيل: أنه يشم رائحة القناص من مسيرة نصف ميل، وهي لا تشرب الماء كالضب ويقال: إن القناص إذا أدركها أدخلت رأسها في شيء له شعب أو حجر تظن أنها قد استترت منه، ولها معدة قوية تقطع الحديد والصوان والجمر، وفي طبعها الأذى، يقال: أنها تخطف الحلق من أذن الصغير، وقيل أن الذئب لا يتعرض لبيض النعام وأفراخه مادام الأبوان حاضرين لأنهما إذا رأياه ركضه الذكر إلى أن يسلمه إلى الأنثى، فتركضه إلى أن تسلمه إلى الذكر ولا يزالان به حتى يقتلاه أو يعجزهما هربا، وقيل: أشد ما يكون عدوها إذا استقبلت الريح وتقول العرب صنفان من الحيوان أصمان لا يسمعان: النعام والأفاعي، وسأل أبو عمرو الشيباني بعض العرب عن الظليم هل يسمع، فقال: يعرف بعينيه وأنفه ولا يحتاج معهما إلى سمع.
(نمير)
حيوان أغبر وكنيته أبو الصعب، وهو صنفان:
صنف عظيم الجثة صغير الذنب، والآخر بالعكس. قال الجاحظ: وهو يحب الشراب وعنده شراسة في خلقه، ويقال: أن أنثاه لا تدع ولدها إلا مطوقا بحية ولا يضرها نهشها، وذلك لأجل الصياد حتى لا يظفر به، وإذا مرض أكل الفأر فيبرأ، وفي طبعه عداوة الأسد وعنده شرف في نفسه يقال: أنه لا يأكل جيفة ولا يأكل من صيد غيره، ولا يملك نفسه عند الغضب، وأدنى وثبته عشرون ذراعا وأكثرها أربعون.
الخواص: من حمل من جلده شيئا صار مهابا عند الناس، ومن كان به بواسير فجلس على جلده زالت بواسيره.
(حرف الهاء) :
(هدهد)
طير معروف، وهو من رسل سليمان عليه الصلاة والسلام وعنده حدة البصر حتى قيل أنه يرى الماء(1/372)
تحت الأرض وسبب غيابه عن خدمة سليمان عليه الصلاة والسلام حين سأل عنه ولم يجده هو أن هدهدا من سبأ أخبره أن عرش بلقيس صفته كذا وكذا، فذهب لينظره فدخلت الشمس من مكانه، فرآها سليمان عليه الصلاة والسلام، فتفقده وطلبه، فلما حضر قال: يا نبي الله إني رأيت كيت وكيت، وقص عليه القصة، ويقال أنه قال لسليمان عليه الصلاة والسلام لما أراد تعذيبه: يا نبي الله أذكر وقوفك بين يدي الله تعالى، فارتعد سليمان من هذا الكلام وأطلقه.
الخواص: إذا بخر البيت بريشه طرد الهوام عنه وعينه إذا علقت على صاحب النسيان ذكر ما نسيه وريشه إذا حمله إنسان وخاصم غلب خصمه وقضيت حاجته وظفر بما يريد ولحمه إذا أكل مطبوخا نفع من القولنج، وإن بخر بمخه برج حمام لم يقربه شيء يوذيه، ومن علق عليه لحيه الأسفل أحبه الناس، والله سبحانه وتعالى أعلم.
(حرف الواو) :
(ورشان)
طير يتولد بين الحمام والفاختة، وهو حسن شديد الحنو يقال إنه يكاد يقتل نفسه إذا أمسك القناص أولاده من شدة حنوه، وقال بعضهم: أنه يقول في صياحه: لدوا للموت وابنوا للخراب، والهدهد يقول: إذا نزل القضاء عمي البصر، والفاختة تقول: ليت هذا الخلق ما خلقوا وليتهم إذا خلقوا علموا لماذا خلقوا وليتهم عملوا لما علموا، والخطاف يقول: قدموا خيرا تجدوه عند ربكم، والحمامة تقول: سبحان ربي الأعلى، والبازي يقول: سبحان ربي وبحمده، والسرطان يقول: سبحان المذكور بكل لسان، والدراج يقول: الرحمن على العرش استوى، والعقاب يقول: البعد عن الناس رحمة، ومن الطيور من يقرأ الفاتحة كالدرة ويمد صوته في الضالين كالقارىء.
(حرف الياء) :
(يأجوج ومأجوج) :
سموا بذلك لكثرتهم، وقيل: بل هو اسم أعجمي غير مشتق. قال مقاتل: وهم ولد يافث بن نوح عليه الصلاة والسلام، وقول من قال: إن آدم نام، فاحتلم، فالتصق منيه بالتراب، فتولد منه هذا الحيوان مردود بعدم احتلام الأنبياء عليهم الصلاة والسلام، وفي الحديث: «يأجوج ومأجوج أمة عظيمة لا يموت أحدهم حتى يرى من صلبه ألف نسمة» انتهى.
وهم أصناف منهم: ما طوله عشرون ذراعا، وما طوله ذراع وأقل وأكثر. وعن علي بن أبي طالب كرم الله وجهه:
أن لهم مخالب الطير، وأنياب السباع، وتداعي الحمام، وتسافد البهائم، ولهم شعور تقيهم الحر والبرد، وإذا مشوا في الأرض كان أولهم بالشام وآخرهم بخراسان، يشربون مياه المشرق إلى بحيرة طبرية، ويمنعهم الله تعالى من دخول مكة والمدينة وبيت المقدس، ويأكلون كل شيء يمرون به، ومن مات منهم أكلوه، ويقال: أن صنفا منهم له أذنان إحداهما صلدة، والأخرى وبرة، فهو يلتحف بإحداهما ويفترش الأخرى.
وفي الحديث: أنه عليه الصلاة والسلام سئل هل بلغتهم الدعوة؟ فقال عليه الصلاة والسلام: دعوتهم ليلة أسري بي، فلم يجيبوا، فهم خلق النار. وفي الحديث أيضا: إن الله عز وجل إذا كان يوما القيامة قال: يا آدم أرسل بعث النار، فيقول يا رب، وما بعث النار؟ فيقول الله تعالى من كل ألف تسعمائة وتسعون للنار وواحدة للجنة، قال:
فاشتد الأمر على المسلمين، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم:
أبشروا، فإن من يأجوج ومأجوج ألفا ومنكم واحدا. وفي الحديث أن رجلا جاء إلى النبي صلى الله عليه وسلم فأخبره بالردم، فقال:
صفه، فقال يا رسول الله: انطلقت إلى أرض ليس لأهلها إلا الحديد يعملونه، فدخلت في بيت، فلما كان وقت الغروب سمعت ضجة عظيمة أفزعتني، فارتعدت منها قال، فقال صاحب البيت لا بأس عليك إن هذه الضجة أصوات قوم يذهبون هذه الساعة من خلف هذا الردم أتريد أن تنظر إليه فإذا لبنه مثل الصخرة ومساميره مثل جذوع النخل كله من حديد كأنه البرد المخبر، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم من سره أن ينظر إلى من رأى الردم، فلينظر هذا الرجل، قال المفسرون: وهذا هو السد الذي بناه ذو القرنين، وهذه الأمة خلفه تطلب المجيء إلى هذه الجهة تنقبه كل يوم، فيعيده الله كما كان إلى أن يقضي الله أمره ثم يسلط الله عليهم بعد ذلك دودا يطلع في حلاقيمهم، فيهلكهم الله به، والأخبار في ذلك كثيرة.
(يجمور)
دابة وحشية لها قرنان طويلان كأنهما منشاران تنشر بهما الشجر، وقيل: هو كالأيل يلقي قرنيه في كل سنة، وهما صامتان. وقال الجوهري: هو الحمار الوحشي.
نادرة: قيل: ترافق رجلان في طريق، فلما قربا من مدينة من المدن قال أحدهما للآخر: قد صار لي عليك حق، وإني رجل من الجان ولي إليك حاجة، قال: وما هي؟ قال: إذا وصلت إلى المكان الفلاني من هذه(1/373)
المدينة، فهناك عجوز عندها ديك، فاشتره منها واذبحه، فقال له الآخر: وأنا أيضا لي إليك حاجة. قال: وما هي؟
قال: إذا ركب الجني إنسانا ما يعمل له قال: تشد إبهاميه بسير من جلد اليحمور وتقطر في أذنيه من ماء السذاب في اليمنى أربعا وفي اليسرى ثلاثا، فإن الراكب له يموت تفرقا ودخل الأنسي ففعل ما أمره به الجني من شراء الديك، وذبحه، فلم يشعر بعد أيام إلا وقد أحاط به أهل صبية من تلك البلدة وقالوا له: أنت ساحر، ومن حين ذبحت الديك سلبت من صبية عندنا عقلها، فلا نفلتك إلا إلى صاحب المدينة، قال: ائتوني بسير من جلد اليحمور وقليل من ماء السذاب، ودخلت على الصبية، فشددت وقطرت ماء السذاب في أذنيها، فسمعت صوتا يقول: آه علمتك على نفسي، ثم مات من ساعته، وشفى الله تلك الشابة.
فصل في خواص الطير والحيوان على الإجمال
الضب والخنزير لا يلقيان شيئا من أسنانهما أبدا، وكل حيوان يعوم بالطبع. الإنسان والقرد وكل ذي عين، فإن أهداب عينه في الجهة العليا فقط إلا الإنسان من الجهتين، والفرس لا طحال له والبعير لا مرارة له والظليم لا مخ لعظمه، والحيات لا ألسنة لها، والسمكة لارئة لها لأنها تتنفس من كبدها، وكل حيوان لا حافر له فله قرن وما لا قرن له فله حافر.
والحيوان المتهم باللواط: القرد والخنزير والحمار والسنور، والعيون التي تضيء بالليل عين الأسد والنمر والأفعى والسنور. والذي يدخر القوت من الحيوان:
الإنسان والفأر والغراب والنحل والنمل. والذي يحيض من الحيوان: الإنسان والفرس والكلب والأرنب والضبع والخفاش، ويقال أيضا: الرعاد من السمك فتبارك الله أحسن الخالقين، وهذا آخر ما قصدت إيراده في هذه الباب، والله سبحانه وتعالى أعلم بالصواب.
الباب الثالث والستون في ذكر نبذة من عجائب المخلوقات وصفاتهم
ذكر المسعودي في كتابه عن بعض العلماء: أن الله سبحانه وتعالى خلق في الأرض قبل آدم ثمانيا وعشرين أمة على خلق مختلفة، وهي أنواع منها: ذوات أجنحة وكلامهم قرقعة، ومنها ما له أبدان كالأسود ورؤوس كالطير، ولهم شعور وأذناب وكلامهم دوي، ومنها ما له وجهان واحد من قبله والآخر من خلفه، وأرجل كثيرة، ومنها يشبه نصف الإنسان بيد ورجل وكلامهم مثل صياح الغرانيق، ومنها ما وجهه كالآدمي وظهره كالسلحفاة وفي رأسه قرن وكلامهم مثال عوي الكلاب ومنها ما له شعر أبيض وذنب كالبقر، ومنها ما له أنياب بارزة كالخناجر وآذان طوال.
ويقال: إن هذه الأمم تناكحت وتناسلت حتى صارت مائة وعشرين أمة، ولم يخلق الله تعالى أفضل ولا أحسن ولا أجمل من الإنسان.
وقال عمر بن الخطاب رضي الله عنه: خلق الله تعالى ألف أمة وعشرين أمة منها ستمائة في البحر، وأربعمائة وعشرون في البر، وفي الإنسان من كل خلق، فلذلك سخّر الله له جميع الخلق، واستجمعت له جميع اللذات وعمل بيده جميع الآلات، وله النطق والضحك، والبكاء، والفكرة، والفطنة، واختراعات الأشياء، واستنباط جميع العلوم، واستخراج المعادن، وعليه وقع الأمر والنهي والوعد والوعيد والنعيم والعذاب، وإياه خاطب وله قرب، وخلق الله تعالى إسرافيل عليه السلام على صورة الإنسان، وهو أقرب الملائكة إليه، وفي الحديث: «لا تضربوا الوجوه، فإنها على صورة إسرافيل» . وآيات الله تعالى في البشر أكثر من أن تحصر:
فَتَبارَكَ اللَّهُ أَحْسَنُ الْخالِقِينَ
«1» .
وقال الشيخ عبد الله صاحب كتاب تحفة الألباب:
دخلت إلى باشقرد فرأيت قبور عاد، فوجدت سن أحدهم طوله أربعة أشبار وعرضه شبران، وكان عندي في باشقرد نصف ثنية أخرجت لي من فك أحدهم الأسفل، فكان نصف الثنية شبرين ووزنها ألف ومائة مثقال، وكان دور فك ذلك العادي سبعة عشر ذراعا وطول عظم عضد أحدهم ثمانية أذرع، وعرض كل ضلع من أضلاعهم ثلاثة أشبار كلوح الرخام. قال: ولقد رأيت في بلغار سنة ثلاثين وخمسمائة من نسل عاد رجلا طويلا طوله أكثر من سبعة وعشرين ذراعا كان يسمى: دنقي أو ديقي وكان يأخذ الفرس تحت إبطه كما يأخذ الولد الصغير، وكان من قوته يكسر بيده ساق الفرس ويقطع جلده وأعضاءه كما يقطع(1/374)
باقة البقل، وكان صاحب بلغار قد اتخذ له درعا تحمل على عجلة وبيضة عادية لرأسه كأنها قطعة من جبل، وكان يأخذ في يده شجرة من، البلوط كالعصا لو ضرب بها الفيل لقتله، وكان خيرا متواضعا، كان إذا لقيني يسلم عليّ ويرحب بي ويكرمني، وكان رأسي لا يصل إلى ركبتيه رحمة الله تعالى عليه، ولم يكن في بلغار حمام يمكنه دخولها إلا حمام واحدة، وكانت له أخت على طوله ورأيتها مرات في بلغار، وقال لي قاضي بلغار يعقوب بن النعمان: إن هذه المرأة العادية قتلت زوجها وكان اسمه آدم وكان أقوى أهل بلغار قيل: إنها ضمته إليها، فكسرت أضلاعه، فمات من ساعته.
وروي عن وهب بن منبه في عوج بن عناق أنه كان من أحسن الناس وأجملهم إلا أنه كان لا يوصف طوله، قيل:
إنه كان يخوض في الطوفان، فلم يبلغ ركبتيه، ويقال إن الطوفان علا على رؤوس الجبال أربعين ذراعا، وكان يجتاز بالمدينة فيتخطاها كما يتخطى أحدكم الجدول الصغير، وعمره الله دهرا طويلا حتى أدرك موسى عليه السلام، وكان جبارا في أفعاله يسير في الأرض برا وبحرا ويفسد ما شاء، ويقال: إنه لما حصر بنو إسرائيل في التيه ذهب فأتى بقطعة من جبل على قدرهم واحتملها على رأسه ليلقيها عليهم فبعث الله طيرا في منقاره حجر مدور فوضعه على الحجر الذي على رأسه، فانثقب من وسطه وانخرق في عنقه، وأخبر الله عز وجل نبيه موسى عليه الصلاة والسلام بذلك، فخرج إليه وضربه بعصا فقتله، ويقال: إن موسى عليه الصلاة والسلام كان طوله عشرة أذرع وعصاه عشرة أذرع، وقفز في الهواء عشرة أذرع، وضربه فلم يصل إلى عرقوبه، فتبارك الله أحسن الخالقين.
ومن ذلك ما قيل عن أمه عناق بنت آدم عليه الصلاة والسلام، وكانت مفردة بغير أخ، وكانت مشوهة الخلقة لها رأسان، وفي كل يد عشرة أصابع، ولكل أصبع ظفران كالمنجلين. وقال علي بن أبي طالب كرم الله وجهه: هي أول من بغى في الأرض وعمل الفجور، وجاهر بالمعاصي واستخدم الشياطين وصرفهم في وجوه السحر، وكان قد أنزل الله على آدم عليه الصلاة والسلام أسماء عظيمة تطيعه الشياطين بها وأمره أن يدفعها إلى حواء لتحترز بها، فغافلتها عناق وسرقتها واستخدمت بها الشياطين، وتكلمت بشيء من الكهانة، فدعا عليها آدم، وأمنت على ذلك حواء، فأرسل الله عليها أسدا أعظم من الفيل، فهجم عليها وقتلها، وذلك بعد ولادتها عوجا بسنتين. ومن ذلك ما حكي عن بعض فقهاء الموصل: أنه شاهد ببلاد الأكراد المحمدية في جبل من جبال الموصل إنسانا طوله تسعة أذرع وهو صبي لم يبلغ الحلم وكان يأخذ بيده الرجل القوي ويرميه خلف ظهره فأراد صاحب الموصل استخدامه، فقيل له في عقله خبل، فتركه.
وروي عن الإمام الشافعي رضي الله تعالى عنه أنه قال:
دخلت بلدة اليمن، فرأيت بها إنسانا من وسطه إلى أسفله بدن واحد، ومن وسطه إلى أعلاه بدنان مفترقان برأسين ووجهين وأربع أيد، وهما يأكلان ويشربان ويتقاتلان ويتلاطمان ويصطلحان. قال: ثم غبت عنهما قليلا ورجعت، فقيل لي: أحسن الله عزاءك في أحد الشقين، فقلت: وكيف صنع به؟ فقيل: ربط في أسفله حبل وثيق وترك حتى ذبل، ثم قطع ورأيت الجسد الآخر بالسوق ذاهبا وراجعا «1» .
ومنه: ما أرسله بطارقة الأرمن إلى ناصر الدولة، وهو رجلان في جسد واحد، فأحضر الأطباء وسألهم عن انفصال أحدهما عن الآخر فسألوهما هل تجوعان معا وتعطشان معا؟ قال: نعم، فقالوا له: لا يمكن فصلهما، ويقال: إنه أحضر أباهما فسأله عن حالهما، فأخبر أنهما يختصمان في بعض الأحيان وأنه يصلح بينهما «2» .
ومن ذلك: ما ذكر أنه أهدي إلى أبي منصور الساماني فرس له قرنان، وثعلب له جناحان إذا قرب منه إنسان نشرهما، وإذا بعد ألصقهما. وذكر القاضي عياض رحمة الله تعالى عليه أنه ولد له مولود على أحد جنبيه مكتوب لا إله إلا الله محمد رسول الله، وهذا لا يبعد، فإنه يوجد كثيرا في السنور الدبركي وذكر أنه ولد بالقاهرة غلام له أربعة أرجل، ومثلها أيد وذكر أنه كان لبعض ولاة مصر مملوك يدعى طقطو، فولاه فوض من أعمال الصعيد فتزوج بها وولد له ولد، ثم انقلب امرأة فتزوج بها وولدت ولدين، وأما كبش بأربعة قرون ودجاجة بأربعة أرجل، وحيوان برأسين، والمخرج واحد، فكثير، وعجائب الله تعالى في مصنوعاته غير متناهية، فلله الحمد على ما أنعم به علينا لا نحصي ثناء عليه.
ومن ذلك: إنسان الماء وهو حيوان يشبه الآدمي، وفي بعض الأوقات يطلع ببحر الشام شيخ بلحية بيضاء، ويستبشر الناس برؤيته في تلك السنة بالخصب.(1/375)
ومن ذلك: بنات الماء وهم أمة ببحر الروم يشبهن النساء ذوات شعور وثدي وفروج، وهن حسان ولهن كلام لا يفهم، وضحك ولعب، ولهن رجال من جنسهن ويقال: إن الصيادين يصطادونهن ويجامعونهن، فيجدون لذة عظيمة لا توجد في غيرهن من النساء، ثم يعيدوهن في البحور ثانيا، ويقال: إن هذا الصنف يوجد بالبرلس ورشيد على ما ذكر «1» .
وحكي عن الشيخ أبي العباس الحجازي قال: حدثني بعض التجار أنه في سنة من السنين خرجت إليه سمكة عظيمة فنقبوا أذنها وجعلوا فيها الحبال، وأخرجوها، ففتحت أذنها، فخرجت جارية حسناء بيضاء سوداء الشعر حمراء الخدين كحلاء العينين من أحسن ما يكون من النساء ومن صرتها إلى نصف ساقيها شيء كالثوب يستر قبلها ودبرها ودائر عليها كالإزار، فأخذها الرجال إلى البر، فصارت تلطم وجهها وتنتف شعرها، وتعض يدها وتصيح كما تصيح النساء حتى ماتت في أيديهم فألقوها في البحر، فتبارك الله أحسن الخالقين.
وحكى القزويني عن بعض البحريين: أن الريح ألقتهم على جزيرة ذات أشجار، وأنهار، فأقاموا بها مدة وكانوا إذا جاء الليل يسمعون بها همهمة وأصواتا وضحكا ولعبا، فخرج من المركب جماعة وكمنوا في جانب البحر، فلما جاء الليل خرج بنات الماء على عادتهن، فوثبوا عليهن، فأخذوا منهن اثنتين، فتزوج بهما شخصان، فأما أحدهما، فوثق بصاحبته، فأطلقها، فوثبت في البحر، وأما الآخر فبقي مع صاحبته زمانا وهو يحرسها حتى ولدت له ولدا كأنه القمر، فلما طاب الهواء، وركبوا البحر ووثق بها، فأطلقها، فأغفلته وألقت نفسها في البحر، فتأسف عليها تأسفا عظيما، فلما كان بعد أيام ظهرت من البحر ودنت من المراكب وألقت لصاحبها صدفا فيه در وجوهر، فباعه وصار من التجار.
ونظير هذه الحكاية: ما ذكره ابن زولاق في تاريخه أن رجلا من الأندلس من الجزيرة الخضراء صاد جارية منهن حسناء الوجه سوداء الشعر حمراء الخدين نجلاء العينين كأنها البدر ليلة التمام كاملة الأوصاف فأقامت عنده سنين وأحبها حبا شديدا وأولدها ولدا ذكرا، وبلغ من العمر أربع سنين، ثم إنه أراد السفر فاستصحبها معه، ووثق بها، فلما توسطت البحر أخذت ولدها وألقت نفسها في البحر، فكاد أن يلقي نفسه خلفها حسرة عليها، فلم يمكنه أهل المركب من ذلك، فلما كان بعد ثلاثة أيام ظهرت له، ألقت له صدفا كثيرا فيه در، ثم سلمت عليه وتركته، فكان ذلك آخر العهد بها، فتبارك الله ما أكثر عجائب خلقه، وما لم نشاهده ونسمع به أكثر، فسبحان القادر على كل شيء لا إله إلا هو ولا معبود سواه، فالعاقل يعرف الجائز، والمستحيل، ويعلم أن كل مقدور بالإضافة إلى قدرة الله تعالى قليل، وإذا سمع عجبا جائزا استحسنه ولم يكذب قائله، والجاهل إذا سمع ما لم يشاهده قطع بتكذيب قائله، وتزييف ناقله، وذلك لقلة عقله. وقد وصف الله تعالى الجاهل بعدم العقل بقوله تعالى: أَمْ تَحْسَبُ أَنَّ أَكْثَرَهُمْ يَسْمَعُونَ أَوْ يَعْقِلُونَ
«2» وقد أودع الله تعالى من عجائب المصنوعات في الآفاق والسماوات ما يدل عليه قوله تعالى: وَكَأَيِّنْ مِنْ آيَةٍ فِي السَّماواتِ وَالْأَرْضِ يَمُرُّونَ عَلَيْها وَهُمْ عَنْها مُعْرِضُونَ 105
«3» . فلا تكن منكر العجائب، فكل الأشياء من آياته:
فيا عجبا كيف يعصى الال ... هـ أم كيف يجحده الجاحد
وفي كلّ شيء له آية ... تدلّ على أنه الواحد
ومن شاهد حجر المغناطيس وجذبه للحديد، وكذلك حجر الماس الذي يعجز عن كسره الحديد ويكسره الرصاص ويثقب الياقوت والفولاذ ولا يقدر على ثقب الرصاص يعلم أن الذي أودعه هذا السر قادر على كل شيء، فلا تكن مكذبا بما لا تعلم وجه حكمته، فإن الله تعالى قال: بَلْ كَذَّبُوا بِما لَمْ يُحِيطُوا بِعِلْمِهِ وَلَمَّا يَأْتِهِمْ تَأْوِيلُهُ
«4» .
قال صاحب تحفة الألباب: إن في بلاد السودان أمة لا رؤوس لهم، وقد ذكرهم الشعبي في كتاب سير الملوك، وذكر في بلاد المغرب أمة من ولد آدم كلهم نساء، ولا يعيش في أرضهم ذكر، وأن هؤلاء النساء يدخلن في ماء عندهم، فيحبلن من ذلك، وتلد كل إمرأة منهن بنتا ولا يلدن ذكرانا أبدا.(1/376)
وقيل: إن ولد تبع اليماني وصل إليهم لما أراد أن يصل إلى الظلمات التي دخلها ذو القرنين، وإن ولد تبع هذا كان إسمه إفريقش، وهو الذي بنى إفريقية، وسماها باسمه، وأنه وصل إلى وادي السبت، وهو واد يجري فيه الرمل كما يجري فيه السيل لا يمكن أن يدخل فيه حيوان إلا هلك، فلما رآه استعجل الرجوع، وذو القرنين لما وصل إليه أقام إلى يوم السبت، فسكن جريانه فعبره إلى أن وصل إلى الظلمات، فيما يقال والله سبحانه وتعالى أعلم.
وتلك الأمة التي لا رؤوس لهم أعينهم في مناكبهم وأفواههم في صدورهم، وهم كثيرون كالبهائم يتناسلون ولا مضرة على أحد منهم.
وأما الملك العظيم والعدل الكثير والنعم الجزيلة والسياسة الحسنة، والرخاء والأمن الذي لا خوف معه، ففي بلاد الهند وبلاد الصين، وأهل الهند أعلم الناس بعلم الطب وعلم النجوم والهندسة والصناعات العجيبة التي لا يقدر أحد سواهم على أمثالها، وفي بلادهم وجزائرهم ينبت العود وشجر الكافور، وجميع أنواع الطيب كالقرنفل والنسبل والدارصيني «1» ، والكبابة، والبسباسة، وأنواع العقاقير والأدوية، وعندهم حيوان المسك، وهو حيوان كالغزال يجتمع المسك في سرته، وعندهم حيوان الزباد وهو حيوان كالسنور يخرج منه عرق كالقطران أسود ثخين يسيل من جسده وتزيد رائحته بالتغرب بحيث تكون أذكى من المسك الأذفر، ويخرج من بلادهم أنواع اليواقيت، وأكثرها في جزيرة سرنديب، وعلى جبلها نزل آدم عليه الصلاة والسلام من الجنة فيما يقال.
وحكي إنه كان ببابل سبع مدائن كل مدينة فيها أعجوبة كان في إحداها تمثال الأرض، فإذا التوى على الملك بعض أهل مملكته وامتنعوا عن القيام بالخراج خرج أنهارها عليهم في التمثال، فلا يطيق أهل تلك الناحية سد الماء حتى يعتدلوا، وما لم يسد التمثال لا يسد في ذلك البلد.
وفي الثانية حوض إذا أراد الملك أن يجمعهم لطعامه أتى كل واحد بما أحب من الشراب، فصبه ذلك الحوض، فاختلطت الأشربة، فكل من سقي من ذلك الحوض كان شرابه الذي جاء به.
وفي الثالثة طبل إذا أرادوا أن يعلموا حال الغائب عن أهله قرعوه، فإن كان حيا سمع له صوت وإن كان ميتا لم يسمع له صوت.
وفي الرابعة مرآة إذا أرادوا أن يعلموا حال الغائب نظروا فيها، فأبصروه على أي حالة هو عليها، كأنهم يشاهدونه.
وفي الخامسة أوزة من نحاس، فإذا دخل الغريب صوتت الأوزة صوتا يسمعه أهل المدينة.
وفي السادسة قاضيان جالسان على الماء فيأتي الخصمان، فيمشي المحق على الماء حتى يجلس مع القاضيين، ويقع المبطل في الماء.
وفي السابعة شجرة ضخمة لا تظل إلا ساقها، فإن جلس تحتها أحد أظلته إلى ألف شخص، فإذا زادوا على الألف واحدا جلسوا في الشمس كلهم.
ولو بسطت المقال في ذلك لا تسع المجال. وقد اقتصرت في ذلك على ما ذكرت والله سبحانه وتعالى أعلم بالصواب، وإليه المرجع والمآب، وصلى الله على سيدنا محمد النبي الأمي، وعلى آله وصحبه وسلم.
الباب الرابع والستون في خلق الجان وصفاتهم
روي عن الشيخ عبد الله صاحب تحفة الألباب أنه قال:
قرأت في بعض الكتب المتقدمة المأثورة عن العلماء رحمهم الله تعالى أن الله تعالى لما أراد أن يخلق الجان خلق نار السموم وخلق من مارجها خلقا سماه جانا، كما قال الله تعالى: وَالْجَانَّ خَلَقْناهُ مِنْ قَبْلُ مِنْ نارِ السَّمُومِ 27
«2» وقال الله تعالى في موضع آخر: وَخَلَقَ الْجَانَّ مِنْ مارِجٍ مِنْ نارٍ 15
«3» وقيل: إن الله تعالى خلق الملائكة من نور النار، والجان من لهبها والشياطين من دخانها، وقد جاء في بعض الأخبار أن نوعا من الجن في قديم الزمان قبل خلق آدم عليه الصلاة والسلام كانوا سكانا في الأرض قد طبقوها برا وبحرا، سهلا وجبلا، وكان فيهم الملك والنبوة والدين والشريعة، وكانوا يطيرون إلى السماء، ويسلمون على الملائكة، ويستعلمون منهم خبر ما في السماء. وكثرت نعم الله عليهم إلى أن بغوا وطغوا وتركوا(1/377)
وصايا أنبيائهم، فأرسل الله تعالى عليهم جندا من الملائكة فحصل بينهم مقتلة عظيمة، وغلبوا الجن وطردوهم إلى أطراف البحار وأسروا منهم أمما كثيرة.
وذكر المسعودي أن الفرس واليونان قالوا: كان الجن بالأرض قبائل منهم من يسترق السمع، ومنهم من ينط مع لهب النار، ومنهم من يطير، ولكل قبيلة ملك، وكان من جملتهم إبليس لعنه الله، ثم بعد خمسة آلاف سنة افترقوا وملكوا عليهم ملوكا، وأقاموا على ذلك مدة طويلة، ثم تحاسدوا على الملك، وأغار بعضهم على بعض وجرت بينهم وقائع وحروب، وكان إبليس لعنه الله يصعد إلى السماء ويختلط بالملائكة، فبعثه الله تعالى بجيوش من الملائكة، فهزم الجن، وقتلهم، وتملك الأرض مدة طويلة إلى أن خلق آدم عليه الصلاة والسلام واتفق له معه ما اتفق، وأهبط آدم إلى الأرض وعظم شأنه، فعند ذلك انتقل إبليس إلى البحر المحيط وسكن هناك، ثم ألقى عليه قوة شهوة السفاد فهو لا يلد لكنه يلقح كالطير، ويبيض ويفرخ.
قيل: إنه يخرج من كل بيضة ستون ألف شيطان، فيسلطهم على الخلق، وأقربهم إليه وأدناهم منه، ومن مجلسه، أكثرهم إيذاء للخلق.
وفي الحديث: أن إبليس لعنه الله قال يا رب أنزلتني إلى الأرض وطردتني وجعلتني رجيما فاجعل لي مسكنا قال:
مسكنك الأسواق قال: فاجعل لي طعاما. قال: ما لم يذكر اسمي عليه. قال: فاجعل لي شرابا قال: كل مسكر.
قال: فاجعل لي مؤذنا. قال: المزامير. قال: فاجعل لي صيدا، أو قال مصائد قال: النساء.
فصل في مكايده لعنه الله
منها: أنه كان في بني إسرائيل عابد يدعى برصيصا وله جار له بنت فحصل لها مرض، فقال له جيرانه لو حملتها إلى جارك برصيصا ليدعو لها، قال فجاء إبليس إلى العابد، وقال إن لجارك عليك حق الجوار، وإن له بنتا مريضة، فما ضرك لو جعلتها عندك في جانب البيت ودعوت الله لها عقب عبادتك، فعسى أن تشفى من مرضها. قال: فلما أتاه جاره بالبنت قال له العابد: دعها وانصرف. قال: فتركها عنده مدة حتى شفيت، فجاء له إبليس ووسوس له حتى وطئها، فحملت منه، فلما حملت جاء له إبليس لعنه الله فقال له: اقتلها لئلا تفتضح قال: فقتلها، ودفنها. قال: فعند ذلك ذهب الشيطان إلى أهلها وأعلمهم بذلك، فجاءوا إلى العابد وكشفوا عن قضيته، ثم أخذوه ومضوا ليقتلوه، فعارضه إبليس اللعين في الطريق، فقال له: إن سجدت لي خلصتك منهم، فسجد له، فعند ذلك تبرأ منه ومات الرجل كافرا. اللهم اعصمنا من مكائد الشيطان برحمتك يا أرحم الراحمين.
ومن ذلك ما اتفق أن بني إسرائيل اتخذوا شجرة وصاروا يعبدونها فجاء بعض عبادهم بفأس ليقطعها، فعارضه إبليس لعنه الله، وقال له: تركت عبادتك وجئت لشيء لا يعود عليه نفعه، ولم يزل به حتى تقاتل معه، فصرعه العابد، وجلس على صدره، ثم رجع ولم يزل يعمل معه ذلك في كل يوم إلى ثلاثة أيام، فلما رآه لا يرجع قال له:
اترك قطعها، وأنا أجعل لك في كل يوم دينارين تستعين بهما على نفقتك وعبادتك، وعاهده على ذلك، فرجع.
قال: فجعل له تحت وسادته دينارين، ثم دينارين، ثم دينارين، ثم قطع ذلك عنه، فأخذ العابد الفأس وذهب إلى قطع الشجرة، فعارضه إبليس في الطريق، وتحاور معه، وتجاذبا، فصرعه إبليس وجلس على صدره، وقال له: إن لم ترجع عن قطعها، وإلا ذبحتك، فقال له العابد: خل عني، واخبرني كيف غلبتني، فقال له: لما غضبت لله غلبتني، ولما غضبت لنفسك غلبتك.
ومنها أشياء كثيرة ليس هذا محل استيفائها. قال الله تعالى: وَإِذْ قُلْنا لِلْمَلائِكَةِ اسْجُدُوا لِآدَمَ فَسَجَدُوا إِلَّا إِبْلِيسَ كانَ مِنَ الْجِنِّ فَفَسَقَ عَنْ أَمْرِ رَبِّهِ أَفَتَتَّخِذُونَهُ وَذُرِّيَّتَهُ أَوْلِياءَ مِنْ دُونِي وَهُمْ لَكُمْ عَدُوٌّ بِئْسَ لِلظَّالِمِينَ بَدَلًا 50
«1» .
فصل في المتشيطنة وهم أنواع كثيرة
منها: الولهان يوجد في جزائر البحار على صورة الإنسان.
حكى بعض المسافرين أنه عرض لمركب وهو راكب على نعامة يريد أخذ المركب، وصاح بهم صيحة عظيمة خروا منها على وجوههم وأخذ بعض من في المركب.
ومنها السعلاة يحكى أن صنفا منها يتزيا بزي النساء، ويتراءى للرجال.
وحكي أن بعضهم تزوج امرأة منهن وهو لا يعلم، فأقامت معه مدة وولدت منه أولادا ذكورا وأناثا، فلما(1/378)
كانت ذات ليلة صعدت معه السطح، فنظرت، فرأت نارا من بعد عند الجبانة، فاضطربت، وقالت: ألم تر نيران السعالى، وتغير لونها، وقالت: بنوك وبناتك أوصيك بهم خيرا، ثم طارت ولم تعد إليه، ومنها نوع يقال له:
المذهب يخدم العباد ومقصوده بذلك أن يعجبوا بأنفسهم.
وحكي أن بعض العباد نزل صومعة يتعبد فيها، فأتاه شخص بسراج وطعام، فتعجب العابد من ذلك، فقال له شخص بالصومعة: إنه المذهب يريد أن يخيل لك أن ذلك من كرامتي، والله إني لأعلم أنه شيطان.
وقال بعض الصوفية: المذهب أصناف منهم من يحمل الفانوس بين يدي الشيخ، ومنهم من يأتيه بالطعام والشراب وغير ذلك، ومنهم من ينشد الشعر.
وقال بعض المسافرين: أبق لي غلام، فخرجت في أثره، فإذا أنا بأربعة يتناشدون شعر الفرزدق وجرير. قال:
فدنوت منهم، وسلمت عليهم، فقالوا: ألك حاجة؟
فقلت: لا، فقال بعضهم: تريد غلامك؟ قلت: وما أعلمك بغلامي؟ قال: كعلمي بجهلك. قلت: أو جاهل أنا؟ قال: نعم، وأحمق. قال: ثم غاب وأتاني بالغلام مقيدا، فلما رأيته غشي عليّ، فلما أفقت قال: أنفخ في يده، ففعلت، فانفرج القيد عنه وصرت لا أنفخ في شيء من ذلك ولا في وجع من الأوجاع إلا برىء وخلص صاحبه.
ومنها نوع يقال له: العفريت، يخطف النساء. يقال: إن رجلا اختطفت ابنته في زمن عمر بن الخطاب رضي الله تعالى عنه. وقال بعض المسافرين: بينما نحن سائرون ذات ليلة إذ عرض لي قضاء الحاجة، فانفردت عن رفقتي، وضللت عنهم، فبينما أنا سائر في أثرهم إذ رأيت نارا عظيمة وخيمة، فجئت إلى جانبها، وإذا أنا بجارية جميلة جالسة فيها، فسألتها عن حالها، فقالت: أنا من فزارة إختطفني عفريت يقال له ظليم وجعلني ههنا، فهو يغيب عني بالليل، ويأتيني بالنهار، فقلت لها امضي معي، فقالت: أهلك أنا وأنت، فإنه يتبعنا ويأتينا، فيأخذني ويقتلك، فقلت: لا يستطيع أخذك ولا قتلي، وما زلت أرددها الحديث حتى رضيت، فأنخت لها ناقتي، فركبتها، وسرت بها حتى طلع الفجر، فالتفت، فإذا أنا بشخص عظيم مهول قد أقبل ورجلاه تخطان في الأرض، فقالت:
ها هو قد أتانا، فأنخت ناقتي وخططت حولها خطا «1» ، وقرأت آيات من القرآن، وتعوذت بالله العظيم، فتقدم وأنشد يقول:
يا ذا الذي للحين يدعوه القدر «2» خل عن الحسناء «3» ثم سر وإن تكن ذا خبرة فينا اصطبر «4» قال، فأجبته:
يا ذا الذي للحين يدعوه الحمق خل عن الحسناء رسلا وانطلق «5» ما أنت في الجن بأوّل من عشق قال: فتبدى لي في صورة أسد، وجاذبني وجاذبته ساعة، فلم يظفر أحد منا بصاحبه، فلما أيس مني قال:
هل لك في جز ناصيتي، أو إحدى ثلاث خصال؟ قلت:
وما هن؟ قال: مائتان من الإبل، أو أخدمك أيام حياتي، أو ألف دينار الساعة، وخلّ بيني وبين الجارية، فقلت لا أبيع ديني بدنياي، ولا حاجة لي بخدمتك، فاذهب من حيث أتيت. قال: فانطلق، وهو يتكلم بكلام لا أفهمه، وسرت بالجارية إلى أهلها، وتزوجت بها، وجاءني منها أولاد.
وقيل: لما سخر الله تعالى الجن لسليمان عليه الصلاة والسلام نادى جبريل عليه السلام: أيها الجن أجيبوا نبي الله سليمان بن داود بإذن الله تعالى، قال: فخرجت الجن والشياطين من الجبال والكهوف والغيران «6» والأودية والفلوات والآجام وهم يقولون: لبيك لبيك والملائكة تسوقهم سوق الراعي للغنم حتى حشرت بين يدي سليمان عليه الصلاة والسلام طائعة ذليلة، وكانوا إذا ذاك أربعا وعشرين فرقة، فنظر إلى ألوانها، فإذا هي سود وشقر ورقط وبيض وصفر وخضر، وعلى صور جميع الحيوانات، ومنهم من رأسه رأس أسد وبدنه بدن الفيل،(1/379)
ومنهم من له خرطوم وذنب، ومنهم من له قرون وحوافر، وغير ذلك من الأنواع قال: فعند ذلك تعجب نبي الله سليمان عليه الصلاة والسلام من هذه الأشكال، وسجد شكرا لله تعالى، وقال: إلهي ألبسني هيبة من عندك، وجعل يسألهم عن طباعهم، وعن طعامهم وشرابهم، وهم يجيبونه، ثم فرقهم في الصنائع: من قطع الصخور والأحجار والأشجار والغوص في البحار، وأبنية الحصون، وفي استخراج المعادن والجواهر. قال الله تعالى: هذا عَطاؤُنا فَامْنُنْ أَوْ أَمْسِكْ بِغَيْرِ حِسابٍ 39
«1» .
ونكتفي من ذلك بهذا القدر اليسير، والله المسؤول في تيسير كل عسير، وصلى الله على سيدنا محمد، وعلى آله وصحبه وسلم.
الباب الخامس والستون في ذكر البحار وما فيها من العجائب وذكر الأنهار والآبار
وفيه فصول
الفصل الأول في ذكر البحار
روي عن ابن عباس رضي الله تعالى عنهما أنه قال: لما أراد الله تعالى أن يخلق الماء خلق ياقوتة خضراء لا يعلم طولها وعرضها إلا الله سبحانه وتعالى، ثم نظر إليها بعين الهيبة، فذابت وصارت ماء فاضطرب الماء، فخلق الريح ووضع عليها الماء، ثم خلق العرش ووضعه على متن الماء وعليه قوله تعالى: وَكانَ عَرْشُهُ عَلَى الْماءِ
«2» .
واعلم أن بحر الظلمات «3» لا يدخله شمس ولا قمر، وإن بحر الهند خليج منه «4» ، وبحر اللاذقية خليج منه «5» ، وبحر الصين خليج منه، وبحر الروم خليج منه «6» ، وبحر فارس خليج منه «7» ، وكل هذه البحار التي ذكرتها أصلها من البحر الأسود الذي يقال له البحر المحيط «8» ، وأما بحر الخزر «9» وبحر خوارزم «10» ، وبحر أرمينية «11» ، والبحر الذي عند مدينة النحاس، وغير ذلك من البحار الصغار فهي منقطعة عن البحر الأسود «12» ، ولذلك ليس فيها جزر ولا مد.
وقيل سئل النبي صلى الله عليه وسلم عن الجزر والمد، فقال: هو ملك عال قائم بين البحرين إن وضع رجله في البحر حصل له المد، وإذا رفعها حصل له الجزر «13» .
وقيل: إنما سمي البحر الأسود لأن ماءه في رأى العين كالحبر الأسود، فإن أخذ منه الإنسان في يده شيئا رآه أبيضا صافيا إلا أنه أمرّ من الصبر مالح شديد الملوحة، فإذا صار ذلك الماء في بحر الروم تراه أخضر كالزنجار، والله تعالى يعلم لأي شيء ذلك.
وكذلك يرى في بحر الهند خليج أحمر كالدم، وبحر أصفر كالذهب، وخليج أبيض كاللبن تتغير هذه الألوان في هذه المواضع، والماء في نفسه أبيض صاف، وقيل: إن تغيّر الماء بلون الأرض.
وأما ما يخرج من البحر
من السمك وغيره فقد روي عن جابر بن عبد الله رضي الله تعالى عنهما قال: بعثنا رسول الله صلى الله عليه وسلم إلى ساحل البحر، وأمّر علينا أبا عبيدة رضي الله تعالى عنه نتلقىّ عير قريش، وزودنا جرابا من تمر لم يجد لنا غيره، فكان أبو عبيدة يعطينا تمرة تمرة نمصها ثم نشرب عليها الماء، فتكفينا يومنا إلى الليل، فأشرفنا على ساحل البحر، فرأينا شيئا كهيئة الكثيب الضخم، فأتيناه، فإذا هو دابة من دواب البحر تدعى العنبر «14» ، فأقمنا شهرا نأكل منها، ونحن ثلاثمائة حتى سمنّا، ولقد رأيتنا نغترف من الدهن الذي في وقب عينيها بالقلال، ونقطع منه القطعة كالثور، ولقد أخذ منا أبو عبيدة ثلاثة عشر رجلا فأقعدهم في وقب عينها، وأخذ(1/380)
ضلعا من أضلاعها، فأقامها، ثم رحّل أعظم بعير معنا، فمر من تحتها وتزودنا من لحمها، فلما قدمنا المدينة ذكرنا لرسول الله صلى الله عليه وسلم ذلك، فقال: هو رزق أخرجه الله لكم، فهل معكم شيء من لحمها، فتطعمونا، فأرسلنا له منه، فأكله.
وقيل: يخرج من البحر سمكة عظيمة، فتتبعها سمكة أخرى أعظم منها لتأكلها فتهرب منها إلى مجمع البحرين «1» ، فتتبعها، فتضيق عليها مجمع البحرين، لعظمها وكبرها، فترجع إلى البحر الأسود، وعرض مجمع البحرين مائة فرسخ، فتبارك الله رب العالمين.
وقال صاحب تحفة الألباب: ركبت في سفينة مع جماعة، فدخلنا إلى مجمع البحرين، فخرجت سمكة عظيمة مثل الجبل العظيم، فصاحت صيحة عظيمة لم أسمع قط أهول منها ولا أقوى، فكاد قلبي ينخلع، وسقطت على وجهي أنا وغيري، ثم ألقت السمكة نفسها في البحر، فاضطرب البحر اضطرابا شديدا، وعظمت أمواجه، وخفنا الغرق، فنجانا الله تعالى بفضله، وسمعت الملاحين يقولون هذه سمكة تعرف بالبغل قال: ورأيت في البحر سمكة كالجبل العظيم، ومن رأسها إلى ذنبها عظام سود كأسنان المنشار كل عظم أطول من ذراعين وكان بيننا وبينها في البحر أكثر من فرسخ، فسمعت الملاحين يقولون: هذه السمكة تعرف بالمنشار إذا صادفت أسفل السفينة قصمتها نصفين، ولقد سمعت أنا من يقول أن جماعة ركبوا سفينة في البحر، فأرسوا على جزيرة فخرجوا إلى تلك الجزيرة، فغسلوا ثيابهم واستراحوا ثم أوقدوا نارا ليطبخوا، فتحركت الجزيرة، وطلبت البحر، وإذا بها سمكة «2» ، فسبحان القادر على كل شيء لا إله إلا هو، ولا معبود سواه.
وقيل: إن في البحر سمكة تعرف بالمنارة لطولها يقال:
إنها تخرج من البحر إلى جانب السفينة، فتلقي نفسها عليها، فتحطمها، وتهلك من فيها، فإذا أحس بها أهل السفينة صاحوا وكبروا وضجوا وضربوا الطبول ونقروا الطسوت والسطول والأخشاب لأنها إذا سمعت تلك الأصوات ربما صرفها الله تعالى عنهم بفضله ورحمته.
وقال الشيخ عبد الله صاحب تحفة الألباب: كنت يوما في البحر على صخرة، فإذا أنا بذنب حية صفراء منقطة بسواد طولها مقدار باع فطلبت أن تقبض على رجلي، فتباعدت عنها، فأخرجت رأسها كأنها رأس أرنب من تحت تلك الصخرة، فسللت خنجرا كبيرا كان معي فطعنت به رأسها، فغار فيه، فلم أقدر على خلاصه منها، فأمسكت نصابه بيدي جميعا وجعلت أجره حتى ألصقتها بباب الجحر، فتركت الجحر، وخرجت من تحت الصخرة، فإذا هي خمس حيات في رأس واحد، فتعجبت من ذلك، وسألت من كان هناك عن اسم هذه الحية فقال:
هذه تعرف بأم الحيات، وذكروا أنها تقبض على الآدمي في الماء، فتمسكه حتى يموت وتأكله، وأنها تعظم حتى تكون كل حية أكثر من عشرين ذراعا وأنها تقلب الزوارق، وتأكل من قدرت عليه من أصحابها، وأن جلدها أرق من جلد البصل، ولا يؤثر فيها الحديد شيئا «3» .
قال: ورأيت مرة في البحر صخرة عليها شيء كثير من النارنج الأحمر الطري الذي كأنه قطع من شجرة، فقلت في نفسي: هذا قد وقع من بعض السفن، فذهبت إليه، فقبضت منه نارنجة، فإذا هي ملتصقة بالحجر، فجذبتها، فإذا هي حيوان يتحرك ويضرب في يدي، فلففت يدي بكم ثوبي، وقبضت عليه وعصرته، فخرج من فيه مياه كثيرة، وضمر، فلم أقدر أن أقلعه من مكانه، فتركته عجزا عنه، وهو من عجائب خلق الله تعالى، وليس له عين ولا جارحة إلا الفم، والله سبحانه وتعالى أعلم لأي شيء يصلح ذلك.
قال: ولقد رأيت يوما على جانب البحر عنقود عنب أسود كبير الحب أخضر العرجون كأنما قطف من كرمه، فأخذته، وكان ذلك في أيام الشتاء، وليس في تلك الأرض التي كنت فيها عنب، فرمت أن آكل منه، فقبضت على حبة منه، وجذبتها، فلم أقدر أن أقلعها من العنقود حتى كأنها من الحديد قوة وصلابة، فجذبتها جذبة أقوى من الأولى، فانقشرت قشرة من تلك الحبة كقشر العنب وفي داخلها عجم كعجم العنب، فسألت عن ذلك، فقيل لي: هذا من عنب البحر ورائحته كرائحة السمك.
وفي البحر أيضا حيوان رأسه يشبه رأس العجل، وله أنياب كأنياب السباع، وجلده له شعر كشعر العجل، وله عنق وصدر وبطن، وله رجلان كرجل الضفدع، وليس له(1/381)
يدان «1» يعرف بالسمك اليهودي، وذلك أنه إذا غابت الشمس ليلة السبت يخرج من البحر، ويلقي نفسه في البر ولا يتحرك، ولا يأكل، ولو قتل، ولا يدخل البحر حتى تغيب الشمس ليلة الأحد، فيحنئذ يدخل البحر ولا تلحقه السفن لخفته وقوته وجلده يتخذ منه نعل لصاحب النقرس، فلا يجد له ألما ما دام ذلك الجلد عليه، وهو من العجائب.
وقيل: إن في بحر الروم سمكا طويلا طول السمكة مائة ذراع، وأكثر، وله أنياب كأنياب الفيل تؤخذ وتباع في بلاد الروم، وتحمل إلى سائر البلاد، وهي أحسن، وأقوى من أنياب الفيل «2» ، وإذا شق الناب منها يظهر فيه نقوش عجيبة، ويسمونه الجوهر، ويتخذون منه نصبا للسكاكين، وهو مع قوته وحسن لونه ثقيل الوزن كالرصاص.
وفي البحر أيضا سمك يسمى الرعاد إذا دخل في شبكة، فكل من جر تلك الشبكة أو وضع يده عليها أو على حبل من حبالها تأخذه الرعدة حتى لا يملك من نفسه شيئا كما يرعد صاحب الحمى، فإذا رفع يده زالت عنه الرعدة، فإن أعادها عادت إليه الرعدة «3» ، وهذا أيضا من العجائب، فسبحان الله جلت قدرته.
وقال صاحب تحفة الألباب: حدثني الشيخ أبو العباس الحجازي قال: حدثني رجل يعرف بالهاروني من ولد هارون الرشيد أنه ركب سفينة في بحر الهند، فرأى طاووسا قد خرج من البحر أحسن من طاووس البر وأجمل ألوانا. قال: فكبر بالحسنة فجعل يسبح وينظر لنفسه، وينشر أجنحته، وينظر إلى ذنبه ساعة، ثم غاص في البحر «4» .
وفي البحر دابة يقال لها: الدرفين «5» تنجي الغريق لأنها تدنو منه حتى تضع يده على ظهرها، فيستعين بالإتكاء عليها، ويتعلق بها، فتسبح به حتى ينجيه الله بقدرته، فسبحان من دبّر هذا التدبير اللطيف، وأحكم هذه الحكمة البالغة.
وزعموا أن السمك يتجه نحو الغناء والصوت الحسن، ويصبو لسماعه. وربما قيل إن بعض الصيادين يحفرون في البحر حفائر، ثم يجلسون، فيضربون بالمعازف وآلات الطرب، فيجتمع السمك، ويقع في تلك الحفائر.
وقيل: إن الدرفين وأنواع السمك إذا سمعت صوت الرعد هربت إلى قعر البحر، وقيل: إن خيل البحر توجد بنيل مصر، وهي صفة خيل البر.
وقيل: إنها تأكل التماسيح وربما خرجت فرعت الزرع، وإذا رأى أهل مصر أثر حوافرها حكموا أن ماء النيل ينتهي في طلوعه إلى ذلك المكان.
وقيل: إن في البحر المحيط شيئا يتراءى كالحصون، فيرتفع على وجه الماء ويظهر منه صور كثيرة، ويغيب، ومن عجيب ما حكي أن فيه جزيرة فيها ثلاث مدن عامرة، وهي كثيرة الأمطار، وأهلها يحصدون زرعها قبل جفافه لقلة طلوع الشمس عندهم ويجعلونه في بيت ويوقدون حوله النيران حتى يجف. وعجائبه لا تحصى، ولا يمكن حصرها.
ويقال: إن الإسكندر لما سار إلى بحر الظلمات مر بجزيرة بها أمة رؤوسهم مثل رؤوس الكلاب يخرج من أفواههم مثل لهب النار، وخرجوا إلى مراكبه، وحاربوه، ثم تخلص منهم وسار، فرأى صورا متلونة بألوان شتى وسمكا طوله مائة ذراع، وأكثر، وأقل، فسبحان الله تعالى ما أكثر عجائب خلقه.
ويقال أنه مر في بعض الجزائر على قصر مصنوع من البلور على قلعة محكمة البناء وحولها قناديل لا تطفأ، ومن جزائر البحر جزيرة القمر «6» يقال إن بها شجرا طول الشجرة مائتا ذراع، ودور ساقها مائة وعشرون ذراعا، وبها طوائف من السودان عرايا الأبدان يلتحقون بورق الشجر وهو ورق يشبه ورق الموز لكنه أسمك وأعرض وأنعم، ويقال: إن هذه الجزيرة بالقرب من نيل مصر، وإن هذه الأمة التي بها يتمذهبون بمذهب الإمام الشافعي رضي الله تعالى عنه، وهم في غاية اللطافة من الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، وبالقرب منهم معدن الذهب والياقوت وبها الفيلة البيض وحيوانات مختلفة الأشكال من الوحوش وغيرهما، وبها العود القماري والآبنوس والطواويس، وبها مدن كثيرة.(1/382)
ومنها جزيرة الواق «1» خلف جبل يقال له: اصطفيون داخل البحر الجنوبي، ويقال إن هذه الجزيرة كانت ملكتها امرأة، وإن بعض المسافرين وصل إليها ودخلها ورأى هذه الملكة، وهي جالسة على سرير، وعلى رأسها تاج من ذهب وحولها أربعمائة وصيفة كلهن أبكار، وفي هذه الجزيرة من العجائب شجر يشبه شجر الجوز، وخيار الشنبر ويحمل حملا كهيئة الإنسان، فإذا انتهى سمع له تصويت يفهم منه واق واق، ثم يسقط، وهذه الجزيرة كثيرة الذهب حتى قيل إن سلاسل خيمهم ومقاود كلابهم وأطواقها من الذهب.
ومنها جزيرة الصين يقال: إن بها ثلاثمائة مدينة ونيفا سوى القرى والأطراف وأبوابها اثنا عشر بابا، وهي جبال في البحر بين كل جبلين فرجة، وهذه الجبال تمر بها المراكب مسيرة سبعة أيام، وإذا جاوزت السفينة الأبواب سارت في ماء عذب حتى تصل إلى الموضع الذي تريده، وفيها من الأودية والأشجار والأنهار ما لا يمكن وصفه، فتبارك الله رب العالمين.
وقيل: إن الاسكندر لما فرغ من بناء سده حمد الله تعالى وأثنى عليه ثم نام، وإذا بحيوان عظيم صعد من البحر إلى أعلى وسد الأفق، فظن من حول الملك أنه يريد ابتلاعهم، ففزعوا، فانتبه، فقال: ما لكم؟ فقالوا له؟ انظر ما حل بنا، فقال: ما كان الله ليأخذ نفسا قبل انقضاء أجلها، وقد منعني من العدو فلا يسلط عليّ حيوانا من البحر. قال: فإذا بالحيوان قد دنا من الملك، وقال: أيها الملك أنا حيوان من هذا البحر، وقد رأيت هذا السد بني وخرب سبع مرات، ولم يزد على ذلك، ثم غاب في البحر، فتبارك من له هذا الملك العظيم، لا إله إلا هو العزيز الحكيم.
وقيل: إن بجزيرة النسناس باليمن مدينة بين جبلين وليس لها ماء يدخل فيها إلا من المطر، وطولها نحو ستة فراسخ، وهي حصينة ذات كروم ونخيل، وأشجار، وغير ذلك، وإذا أراد إنسان الدخول فيها حثى على وجهه التراب، فإن أبى إلا الدخول خنق أو صرع، وقيل: إنها معمورة بالجان، وقيل: بخلق من النسناس، ويقال: إنهم من بقايا عاد الذين أهلكهم الله بالريح العقيم، وكل واحد منهم شق إنسان، ونقل عن بعض المسافرين أنه قال: بينما نحن سائرون إذ أقبل علينا الليل فبتنا بواد، فلما أصبح الصباح سمعنا قائلا يقول من الشجرة: يا أبا بجير الصبح قد أسفر، والليل قد أدبر، والقناص قد حضر، فالحذر الحذر. قال: فلما ارتفع النهار أرسلنا كلبين كانا معنا نحو الشجرة، فسمعت صوتا يقول: ناشدتك. قال، فقلت لرفيقي: دعهما. قال: فلما وثقا بنا نزلا هاربين، فتبعهما الكلبان وجدّا في الجري، فأمسكا شخصا منهما قال:
فأدركناه وهو يقول:
الويل لي مما به دهاني ... دهري من الهموم والأحزان
قفا قليلا أيها الكلبان ... إلى متى إليّ تجريان
قال: فأخذناه ورجعنا، فذبحه رفيقي وشواه، فعفته ولم آكل منه شيئا، فتبارك الله ما أكثر عجائب خلقه. لا إله إلا هو ولا معبود سواه.
الفصل الثاني في ذكر الأنهار والآبار والعيون
قال الله تعالى: أَلَمْ تَرَ أَنَّ اللَّهَ أَنْزَلَ مِنَ السَّماءِ ماءً فَسَلَكَهُ يَنابِيعَ فِي الْأَرْضِ
«2» . وقال المفسرون: هو المطر، ومعنى سلكه أدخله في الأرض، وجعله عيونا ومسايل ومجاري كالعروق في الجسد، فمن الأنهار ما هو من الأمطار المجتمعة، ولهذا ينقطع عند فراغ مادته، ومنها ما ينبع من الأرض، وأطول ما يكون من الأنهار ألف فرسخ، وأقصره عشرة فراسخ إلى اثنين وثلاثة، وبين ذلك، وكلها تبتدىء من الجبال وتنتهي إلى البحار والبطائح، وفي ممرها تسقي المدن والقرى وما فضل منها ينصب في البحر المالح ويختلط به، ولا يمكن استيفاء عددها لكنا نشير إلى بعضها فنقول.
النيل المبارك: ليس في الأنهار أطول منه لأنه مسيرة شهرين في بلاد الإسلام، وشهرين في بلاد النوبة، وأربعة في الخراب، وقيل: إن مسافته من منبعه إلى أن ينصب في البحر الرومي ألف وسبعمائة فرسخ وثمانية وأربعون فرسخا. قال ذلك صاحب مباهج الفكر ومناهج العبر «3» .(1/383)
واختلف في زيادته، فقيل إن الأنهار والعيون تمده في الوقت الذي يريده الله تعالى. وفي الحديث: «إنه من أنهار الجنة» ، وقال أهل الأثر: إن الأنهار التي من الجنة تخرج من أصل واحد من قبة في أرض الذهب، ثم تمر بالبحر المحيط، وتشق فيه. قالوا ولولا ذلك لكانت أحلى من العسل وأطيب رائحة من الكافور.
نهر الفرات: يوجد بأرض أرمينية. فضائله كثيرة، والنيل أصدق حلاوة منه، وبه من السمك الأبيض ما تكون الواحدة قنطارا بالدمشقي، وطول هذا النهر من حين يخرج من عند ملطية إلى أن يأتي إلى بغداد ستمائة وثلاثون فرسخا، وفي وسطه مدن وجزائر تعد من أعمال الفرات.
جيحون: نهر عظيم تتصل به أنهار كثيرة، ويمر على مدن كثيرة حتى يصل إلى خوارزم، ولا ينتفع به شيء من البلاد سوى خوارزم لأنها منسفلة عنه، ثم يصب في بحيرة بينها وبين خوارزم ستة أيام، وهو يجمد في الشتاء خمسة أشهر، والماء يجري من تحت الجمد، فيحفر أهل خوارزم منه لهم أماكن ليستقوا منها، وإذا اشتد جموده مروا عليه بالقوافل والعجل المحملة، ولا يبقى بينه وبين الأرض فرق ويعلوه التراب ويبقى على ذلك شهرين.
سيحون: نهر عظيم. قيل: إن مبدأه من حدود الترك ويجري حتى يتصل ببلاد الفرغانة، وربما يجتمع مع جيحون في بعض الأماكن.
الدجلة: نهر بغداد. وله أسماء غير ذلك وماؤه أعذب المياه بعد النيل، وأكثرها نفعا. قيل: مقداره ثلاثمائة فرسخ، وفي بعض الأوقات يفيض حتى قيل إنه يخشى على بغداد الغرق منه، وهو نهر مبارك كثيرا ما ينجو غريقه.
حكي إنه وجد به غريق فيه الروح، فلما أفاق سألوه عن حاله، فأخبرهم أنه لما غلب على نفسه رأى كأن أحدا يحمله ويصعد به، وروي في الأثر أن الله تعالى أمر دانيال عليه الصلاة والسلام أن يحفر لعباده ما يستقون منه وينتفعون به، فكان كلما مر بأرض ناشده أهلها أن يحفر ذلك عندهم إلى أن حفر دجلة والفرات.
وأما الأنهار الصغار فكثيرة ولكنا نذكر منها طرفا فنقول:
نهر حصن المهدي: قال صاحب تحفة الألباب: إنه بين البصرة والأهواز، وإنه يرتفع منه في بعض الأوقات شيء يشبه صورة الفيل، ولا يعرف أحد شأنه.
نهر أذربيجان: قيل إن بالقرب منه نهرا يجري فيه الماء سنة، ثم ينقطع ثمان سنين، ثم يعود في التاسعة، وقيل إنه ينعقد حجرا ويستعمل منه اللبن ويبنى به. وقيل إن في تلك الأرض بحيرة تجف فلا يوجد فيها ماء ولا سمك، ولا طين سبع سنين، ثم يعود الماء والسمك والطين، فتبارك الذي بيده الملك وهو على كل شيء قدير.
نهر صقلاب: يجري فيه الماء يوما واحدا في كل أسبوع، ثم ينقطع ستة أيام.
نهر العاصي: بأرض حماة. وقيل: بحمص وهو نهر معروف. وفيه يقول بعضهم:
مدينة حمص كعبة القصف أصبحت ... يطوف بها الداني ويسعى لها القاصي «1»
بها روضة من حسنها سندسية ... تعلق في أكناف أذيالها العاصي «2»
نهر العمود: بأرض الهند عليه شجرة نابتة من حديد، وقيل من نحاس وتحتها عمود من نحاس وقيل: من حديد طوله من فوق الماء نحو عشرة أذرع وعرضه ذراع، وعلى رأسه ثلاث شعب مسنونة محدودة، وعنده رجل يقرأ كتاب الله تعالى، ويقول: يا عظيم البركة طوبى لمن صعد هذه الشجرة وألقى بنفسه على هذا العمود، فيدخل الجنة، وقال أهل تلك الناحية: من يريد ذلك فيصعد على تلك الشجرة ويلقي نفسه، فيتقطع.
نهر باليمن: قال صاحب تحفة الألباب: إنه عند طلوع الشمس يجري من المشرق إلى المغرب، وعند غروبها يجري من المغرب إلى المشرق.
نهر ببلاد الحبشة والسودان: يجري إلى المشرق يشبه النيل في زيادته ونقصانه وأرضه بها الخصب والبركة وبها شجر كالأراك يحمل ثمرا كالبطيخ داخله شيء يشبه القند في الحلاوة، ولكن فيه بعض حموضة وهذا النهر يجري في بلادهم ثمانية أشهر، ثم ينصب في البحر المحيط فسبحان من دبّر هذا التدبير، وأحكم هذه الصنعة. لا إله إلا هو الحكيم الخبير.
الفصل الثالث في ذكر الآبار
قال مجاهد: كنت أحب أن أرى كل شيء غريب، فسمعت أن ببابل بئر هاروت وماروت، فسرت إليها، فلما وصلت إلى ذلك المكان وجدت عنده بيوتا، فدخلت في(1/384)
بعضها، فوجدت شخصا، فسلمت عليه، فرحب بي وسألني عن حاجتي، فذكرت له غرضي فأمر يهوديا يذهب معي، فيوقفني على البئر، ويطلعني على الملكين. قال، فسرنا إلى البئر، ففتح سردابا ونزلنا، فأمرني أن لا أذكر اسم الله تعالى. قال: فلما رأيت الملكين رأيت شيئا كالجبلين العظيمين منكسين على رؤوسهما الحديد من أعناقهما إلى ركبهما. قال مجاهد: فلما رأيت ذلك ذكرت الله تعالى. قال: فاضطربا اضطرابا شديدا حتى كادا يقطعان السلاسل. قال، ففر اليهودي، فتعلقت به، فقال:
أما أمرتك أن لا تذكر اسم الله تعالى كدنا والله نهلك.
بئر برهوت: بقرب حضر موت، وهي التي قال النبي صلى الله عليه وسلم إنها مجمع أرواح الكفار، قال علي كرم الله وجهه: أبغض البقاع إلى الله تعالى بئر برهوت ماؤها أسود منتن تأوي إليها الكفار، والموكل بها ملك يسمى دومة.
بئر عسفان: ماؤها يستشفى به. قيل إن النبي صلى الله عليه وسلم تفل فيها. قالت أسماء بنت أبي بكر الصديق رضي الله تعالى عنهما: كنا نغسل المريض منها، فيعافى. وقيل: إن النبي صلى الله عليه وسلم توضأ منها.
بئر معروفة بأرض حلب: خاصيتها أنها إذا شرب منها المكلوب زال كلبه ما لم يجاوز الأربعين. وبنيسابور آبار كثيرة، وهي معادن الفيروزج، وإنما يمنع الناس عنها كثرة عقاربها.
وبأرض فارس بئر ينبع منها ماء في وقت من السنة، فيرتفع على وجه الأرض لمحة واحدة ويجري، فينتفع به في سقي الزرع، ثم يعود إلى ما كان، وعجائب الله كثيرة لا تكاد تنحصر. لا إله إلا الله ولا معبود سواه.
الباب السادس والستون في ذكر عجائب الأرض وما فيها من الجبال والبلدان وغرائب البنيان
وفيه فصول
الفصل الأول في ذكر الأرض وما فيها من العمران
روى وهب بن منبه رضي الله عنه، عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال: إن لله تعالى ثمانية عشر ألف عالم. الدنيا منها عالم واحد، وما العمران في الخراب إلا كخردلة في كف أحدكم. وقال رواة الأثر: إن لله عز وجل دابة في مرج من مروجه في غامض علمه رزقها في كل يوم بقدر رزق العالم بأسره، وجميع مدائن الدنيا أربعة آلاف مدينة وخمسمائة وست وخمسون مدينة، وقيل غير ذلك.
وأقاليم الأرض سبعة. الأقليم الأول الهند، والثاني الحجاز، والثالث: أقليم مصر. الرابع أقليم بابل.
الخامس أقليم الروم والشام، السادس أقليم الترك، السابع أقليم الصين. وأوسط الأقاليم أقليم بابل، وهو أعمرها، وفيه جزيرة العرب، وفيه العراق الذي هو سرة الدنيا وبغداد في وسط هذا الأقليم فلاعتداله اعتدلت ألوان أهله، فسلموا من شقرة الروم وسواد الحبشة، وغلظ الترك، وجفاء أهل الجبال، ودمامة أهل الصين «1» .
والممالك المشهورة التي ضبطت عدتها في زمن المأمون ثلاثمائة وثلاث وأربعون مملكة. أوسعها ثلاثة أشهر وأضيقها ثلاثة أيام.
وقال أهل الهيئة: إنه يكون عند خط الإستواء ربيعان وصيفان وخريفان وشتاءان في سنة واحدة، وأنه يكون في بعض البلاد ستة أشهر ليل وستة أشهر نهار «2» وبعضها حر وبعضها برد، فسبحان من خلق كل شيء، فأتقنه. لا إله إلا هو ولا معبود سواه.
الفصل الثاني في ذكر الجبال
قيل: إن الله تعالى لما خلق الأرض ماجت واضطربت، فخلق الجبال وأرساها بها، فاستقرت، ومجموع ما عرف بالأقاليم السبعة من الجبال مائة وثمانية وتسعون جبلا، فمنها ما طوله عشرون فرسخا، ومنها ما طوله مائة فرسخ إلى ألف فرسخ. ولنذكر منها ما هو مشهور ومعروف بين الناس.
فمن أعجبها:
جبل سرنديب: وطوله مائتان ونيف وستون ميلا وفيه أثر قدم آدم عليه الصلاة والسلام حين أهبط، وحوله(1/385)
الياقوت وفي أوديته الماس الذي يقطع به الصخور ويثقب به اللؤلؤ، وفيه العود والفلفل ودابة المسك ودابة الزباد.
جبل الروم: الذي فيه السد طوله سبعمائة فرسخ وينتهي إلى بحر الظلمات.
جبل أبي قبيس: سمي بذلك لأن آدم عليه الصلاة والسلام كنّاه بذلك حين اقتبس منه النار التي بين أيدي الناس، وقيل غير ذلك.
جبل القدس: جبل شريف مبارك فيه غار يضيء بالليل من غير سراج، ويزوره الناس.
جبل أروند: بهمذان برأسه عين تخرج من صخرة أياما معدودة في السنة تقصد من كل وجه يستشفى بها.
جبل الشام: لونه أسود كالفحم وترابه أبيض تبيض به الثياب.
جبل الأندلس: فيه غار إذا دهنت فتيلة وأدخلتها فيه أوقدت، وبها جبل به عينان إحداهما باردة والأخرى حارة، والمسافة التي بينهما مقدار شبر، وجبل به معدن الكبريت والزئبق والزنجفر.
جبل سمرقند: يقطر منه ماء في الصيف يصير جليدا وفي الشتاء يحرق من حرارته.
جبل الصور: بكرمان يكسر حجره، فيخرج منه كصور الآدميين قائمين وقاعدين ومضطجعين، وإذا سحق وطرح في الماء يرى كذلك.
جبل الأرجان: بطبرستان يقطر منه ماء كل قطرة تصير حجرا مسدسا أو مثمنا.
جبل هرمز: ينزل منه ماء إلى وهدة، فإن صاح إنسان صيحة وقف فإن ثنّى جرى.
جبل الطير: بإقليم الصعيد يجتمع عنده الطير في كل سنة مرة ويدخل في كوة هناك، فتمسك الكوة على واحدة، وتطير البقية، ويكون ذلك علامة الخصب في تلك السنة. ولنقتصر على ذلك، ومن أراد الوقوف على جميعها فعليه بتاريخ مرآة الزمان.
الفصل الثالث في ذكر المباني العظيمة وغرائبها وعجائبها
قال أهل التواريخ، ونقلة الأخبار: إن أول بناء بني على وجه الأرض الصرح الذي بناه نمرود الأكبر بن كوش بن حام بن نوح عليه الصلاة والسلام وبقعته بكوثى من أرض بابل وبه إلى عصرنا أثر ذلك البناء كأنه جبال شاهقات. قالوا: كان طوله خمسة آلاف ذراع بناه بالحجارة والرصاص والشمع واللبان ليمتنع هو وقومه من طوفان ثان، فأخرب الله تعالى ذلك الصرح في ليلة واحدة بصيحة، فتبللت بها ألسنة الناس، فسميت أرض بابل.
إرم ذات العماد: التي لم يخلق مثلها في البلاد.
حكى الشعبي في كتاب سير الملوك: أن شداد بن عاد ملك جميع الدنيا وكان قومه قوم عاد الأولى زادهم الله بسطة في الأجسام وقوة حتى قالوا من أشد منا قوة. قال الله تعالى: أَوَلَمْ يَرَوْا أَنَّ اللَّهَ الَّذِي خَلَقَهُمْ هُوَ أَشَدُّ مِنْهُمْ قُوَّةً
«1» . وأن الله تعالى بعث إليهم هودا نبيا عليه الصلاة والسلام فدعاهم إلى الله تعالى، فقال له شداد: إن آمنت بإلهك فماذا لي عنده؟ قال: يعطيك في الآخرة جنة مبنية من ذهب ويواقيت ولؤلؤ وجميع أنواع الجواهر. قال شداد: أنا أبني مثل هذه الجنة ولا أحتاج إلى ما تعدني به.
قال: فأمر شداد ألف أمير من جبابرة قوم عاد أن يخرجوا ويطلبوا أرضا واسعة كثيرة الماء طيبة الهواء بعيدة من الجبال ليبني فيها مدينة من ذهب. قال: فخرج أولئك الأمراء، ومع كل أمير ألف رجل من خدمه وحشمه، فساروا في الأرض حتى وصلوا إلى جبل عدن، فرأوا هناك أرضا واسعة طيبة الهواء، فأعجبتهم تلك الأرض، فأمروا المهندسين والبنائين، فخطوا مدينة مربعة الجوانب دورها أربعون فرسخا من كل جهة عشرة فراسخ، فحفروا الأساس إلى الماء وبنوا الجدران بحجارة الجزع اليماني حتى ظهر على وجه الأرض ثم أحاطوا به سورا ارتفاعه خمسمائة ذراع وغشوه بصفائح الفضة المموهة بالذهب فلا يكاد يدركه البصر إذا أشرقت الشمس، وكان شداد قد بعث إلى جميع معادن الدنيا، فاستخرج منها الذهب واتخذه لبنا، ولم يترك في أحد من الناس في جميع الدنيا شيئا من الذهب إلا غصبه، واستخرج الكنوز المدفونة، ثم بنى داخل المدينة مائة ألف قصر بعدد رؤساء مملكته كل قصر على عمد من أنواع الزبرجد واليواقيت معقودة بالذهب طول كل عمود مائة ذراع، وأجرى في وسطها أنهارا، وعمل منها جداول لتلك القصور والمنازل، وجعل حصاها من الذهب والجواهر واليواقيت وحلى قصورها بصفائح الذهب والفضة، وجعل على حافات الأنهار أنواع الأشجار جذوعها من الذهب وأوراقها وثمرها من أنواع الزبرجد واليواقيت واللآلىء. وطلى(1/386)
حيطانها بالمسك والعنبر وجعل فيها جنة مزخرفة له وجعل أشجارها الزمرد واليواقيت وسائر أنواع المعادن، ونصب عليها أنواع الطيور المسموعة الصادح والمغرد، وغير ذلك، ثم بنى حول المدينة مائة ألف منارة برسم الحراس الذين يحرسون المدينة، فلما كمل بناؤها أمر في مشارق الأرض ومغاربها أن يتخذوا في البلاد بسطا وستورا وفرشا من أنواع الحرير لتلك القصور والغرف، وأمر باتخاذ أواني الذهب والفضة، فاتخذوا جميع ما أمر به، فلما فرغوا من ذلك جميعه خرج شداد من حضرموت في أهل مملكته، وقصد مدينة إرم ذات العماد، فلما أشرف عليها ورآها قال: قد وصلت إلى ما كان هود يعدني به بعد الموت، وقد حصلت عليه في الدنيا، فلما أراد دخولها أمر الله تعالى ملكا، فصاح بهم صيحة الغضب، وقبض ملك الموت أرواحهم في طرفة عين، فخروا على وجوههم صرعى. قال الله تعالى: وَأَنَّهُ أَهْلَكَ عاداً الْأُولى 50
«1» .
وذلك قبل هلاك عاد بالريح العقيم، وأخفى الله تعالى تلك المدينة عن أعين الناس، فكانوا يرون بالليل في تلك البرية التي بنيت فيها معادن الذهب والفضة واليواقيت تضيء كالمصابيح، فإذا وصلوا إليها لم يجدوا هناك شيئا «2» .
وقد نقل أن رجلا من أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم يقال له عبد الله بن قلابة الأنصاري دخل إليها وذلك أنه ضلت له إبل، فخرج في طلبها، فوصل إليها فلما رآها دهش وبهت ورأى ما أذهله وحيره، وقال في نفسه: هذه تشبه الجنة التي وعد الله بها عباده المتقين في الآخرة، فقصد بابا من أبوابها، فلما وصل إليه أناخ راحلته، ودخل المدينة، فرأى تلك القصور والأنهار والأشجار، ولم ير في المدينة أحدا. فقال: أرجع إلى معاوية وأخبره بهذه المدينة وما فيها، ثم حمل معه شيئا من تلك الجواهر واليواقيت في وعاء، وجعله على راحلته وعلم على المدينة علامة، وقال قربها من جبل عدن كذا، ومن الجهة الفلانية كذا، ثم انصرف عنها بعدما ظفر بإبله، ثم دخل على معاوية رضي الله تعالى عنه بدمشق، وأخبره بجميع ما رآه، فقال له معاوية: في اليقظة رأيتها أم في المنام؟ قال: بل في اليقظة، وقد حملت من حصبائها وأخرج له شيئا مما حمله من الجواهر واليواقيت فتعجب معاوية من ذلك، ثم أرسل إلى كعب الأحبار رضي الله تعالى عنه، فلما دخل عليه قال له معاوية يا أبا إسحاق: هل بلغك أن في الدنيا مدينة من ذهب؟ قال: نعم يا أمير المؤمنين، وقد ذكرها الله عز وجل في القرآن لنبيه صلى الله عليه وسلم بقوله عز من قائل: أَلَمْ تَرَ كَيْفَ فَعَلَ رَبُّكَ بِعادٍ 6 إِرَمَ ذاتِ الْعِمادِ 7
«3» . وقد أخفاها الله تعالى عن أعين الناس، وسيدخلها رجل من هذه الأمة يقال له عبد الله بن قلابة الأنصاري، ثم التفت، فرأى عبد الله بن قلابة فقال: ها هو يا أمير المؤمنين، وصفه واسمه في التوراة «4» ، ولا يدخلها أحد بعده إلى يوم القيامة. وقيل: إن ذلك كان في خلافة عمر بن الخطاب رضي الله تعالى عنه، وأن الرجل الذي دخلها حكى ذلك لعمر بن الخطاب فلم ينكره ولا من كان حاضرا بل قال إن النبي صلى الله عليه وسلم قال يدخلها بعض أمتي «5» ، والله سبحانه وتعالى أعلم.
ومن المباني العجيبة الخورنق: الذي بناه النعمان بن امرىء القيس وهو النعمان الأكبر بناه في عشرين سنة، فلما انتهى أعجبه، فخشي أن يبنى لغيره مثله، فأمر أن يلقى بانيه من أعلاه، فألقوه فتقطع، واسم بانيه سنمار، فصارت العرب تضرب به المثل. يقولون جزاه جزاء سنمار. قال الشاعر:
جازى بنوه أبا الغيلان عن كبر ... وحسن فعل كما يجزى سنمار
ومن المباني العجيبة حائط العجوز: واسمها دلوك القبطية، وسبب بنائها لذلك أنها ولدت ولدا، فأخذت له الرصد، فقيل لها يخشى عليه من التمساح، فلما شب الغلام خافت عليه، فبنت الحائط وجعلته من العريش إلى إسوان شاملا لكورة مصر من الجانب الشرقي، وقيل: بنته خوفا على مصر وأهلها بعد غرق فرعون أن يطمع الملوك فيها، وقد قيل إنها أرادت أن تخوف ولدها من التمساح حتى لا ينزل البحر، فصورت له صورة التمساح، فرآه شكلا مهولا، فأذهله، وأخذه الفزع والهم فضعف وانسل إلى أن مات. لا مفر من قضاء الله تعالى.
ومن المباني العجيبة الأهرام: وهي بالجانب الغربي من مصر مشاهدة في زماننا هذا. قيل أن دور الهرم الأكبر من(1/387)
الثلاثة ألفا ذراع من كل جهة خمسمائة ذراع وعلوه خمسمائة ذراع، وقد ذهب المأمون إلى مصر حتى شاهدها على ما ذكر، وفتح منها هرما، وتعجب من بنيانها وصفتها قيل: إن كل حجر من حجارتها ثلاثون ذراعا في عرض عشرة أذرع، وقد أحكم إلصاقه ونحته وتسويته ولا يقدر النجار الصانع أن يتخذ من خشب صندوقا صغيرا على إحكامه، وهي من عجائب الدنيا.
قال بعضهم:
أين الذي الهرمان من بنيانه ... ما قومه ما يومه ما المصرع
تتخلّف الآثار عن سكانها ... حينا ويدركها الفناء فتصرع
وزعم قوم أن الأهرام الموجودة بمصر قبور لملوك عظام أرادوا أن يتميزوا بها عن الناس بعد مماتهم كما تميزوا عنهم في حياتهم، ورجوا أن يبقى ذكرهم بسببها على تطاول الدهور وتراخي العصور. ولما وصل المأمون إلى مصر أمر بنقبها، فنقب أحدها بعد جهد شديد وعناء طويل، فوجد داخله مزاليق ومهاوي يهول أمرها ويعسر السلوك فيها، ووجد في أعلاه بيت وفي وسطه حوض من رخام مطبق، فلما كشف غطاؤه لم يوجد فيه إلا رمة بالية، فعند ذلك أمر المأمون بالكف عما سواه.
ويقال: إن الذي بناها اسمه سوريد بن سهراق بن سرياق لرؤيا رآها وهي آفة تنزل من السماء وهي الطوفان، فقالوا: إنه بناها في ستة أشهر وقال: قلّ لمن يأتي بعدنا يهدمها في ستمائة سنة، والهدم أيسر من البنيان، وكسوناها الديباج الملون، فليكسها حصرا، والحصر أهون من الديباج، والأمر فيها عجيب جدا، والله سبحانه وتعالى أعلم.
ومن المباني العجيبة منار الاسكندرية التي بناها ذو القرنين، قيل: إنها كانت مبنية بحجارة منهدمة مغموسة في الرصاص فيها نحو من ثلاثمائة بيت تصعد الدابة بحملها إلى كل بيت، وللبيوت طاقات تطل على البحر ويقال: إن طولها كان ألف ذراع، وفي أعلاها تماثيل من نحاس منها تمثال رجل قد أشار بيده إلى البحر، فإذا صار العدو على نحو ليلة منه سمع له تصويت يعلم به أهل المدينة مجيء العدو، فيستعدون له، ومنها تمثال كلما مضى من الليل ساعة صوّت تصويتا مطربا، ويقال: إنه كان بأعلاها مرآة من الحديد الصيني عرضها سبعة أذرع كانوا يرون فيها المراكب بجزيرة قبرص، وقيل: كانوا يرون فيها من يخرج من البحر من جميع بلاد الروم، فإن كانوا أعداء تركوهم حتى يقربوا من المدينة، فإذا مالت الشمس للغروب أداروا المرآة مقابلة الشمس، واستقبلوا بها السفن، فيقع شعاعها بضوء الشمس على السفن فتحرق في البحر، ويهلك كل من فيها، وكانت الروم تؤدي الخراج ليأمنوا بذلك من إحراق السفن، ولم تزل كذلك إلى زمن الوليد بن عبد الملك.
قال المسعودي: قيل إن ملكا من الروم تحيل على الوليد وأظهر أنه يريد الإسلام، وأرسل إليه تحفا، وهدايا، وأظهر له بواسطة حكماء كانوا عنده أن ببلاده دفائن، وأرسل له بذلك قسيسين من خواصه، وأرسل معهم أموالا قيل إنهم حفروا بقرب المنارة ودفنوا تلك الأموال وقالوا للوليد: إن تحت المنارة كنوزا لا تنفذ وبإزائها خبية بها كذا وكذا ألف دينار، فأمرهم باستخراج ما بالقرب من المنارة، فإن كان ذلك حقا استخرجوا ما تحت المنارة بعد هدمها فحفروا واستخرجوا ما دفنوه بأيديهم، فعند ذلك أمر الوليد بهدم المنارة واستخراج ما تحتها فهدموها، فلم يجدوا تحتها شيئا، وهرب أولئك القسيسون، فعلم الوليد أنها مكيدة عليه، فندم على ذلك غاية الندم، ثم أمر ببنائها بالآجر ولم يقدروا أن يرفعوا إليها تلك الحجارة، فلما أتموها نصبوا عليها المرآة كما كانت، فصدئت، ولم يروا فيها شيئا مثل ما كانوا يرون أولا، وبطل إحراقها، فندموا على ما فعلوا، وفاتهم من جهلهم وطمعهم نفع عظيم، ولا حول ولا قوة إلا بالله العلي العظيم.
وقد عملت الجن لسليمان بن داود عليهما الصلاة والسلام في الإسكندرية مجلسا على أعمدة من الجزع اليماني المصقول كالمرآة إذا نظر الإنسان إليها يرى من يمشي خلفه لصفائها، وفي وسط ذلك المجلس عمود من الرخام طوله مائة وأحد عشر ذراعا، وفي تلك الأعمدة عمود واحد يتحرك شرقا وغربا بطلوع الشمس وغروبها يشاهد الناس ذلك ولا يعلمون ما سببه.
وفي مدينة حمص مدينة أخرى تحت المدينة المسكونة العليا فيها من عجائب البنيان والبيوت والغرف والماء الجاري في كل طريق من طرقها ما لا يعلمه إلا الله تعالى.
وعند حوران مدينة عظيمة يقال لها: اللجأة فيها من البنيان ما يعجز عن وصفه ألسنة العقلاء. كل دار منها مبنية من الصخر المنحوت ليس في الدار «1» خشبة واحدة بل(1/388)
أبوابها وغرفها، وسقوفها وبيوتها من الصخر المنحوت الذي لا يستطيع أحد أن يعمله من الخشب، وفي كل دار بئر وطاحون، وكل دار مفردة لا يلاصقها دار أخرى، وكل دار كالقلعة الحصينة إذا خاف تلك النواحي من العدو دخلوا إلى تلك المدينة، فينزل كل إنسان في دار بجميع عياله وخيله، وغنمه وبقره، ويغلق بابه، ويجعل خلف الباب حصاة فلا يقدر أحد على فتح ذلك الباب لإحكامه، وفي هذه المدينة أكثر من مائتي ألف دار، فيما يقال، ولا يعلم أحد من بناها، وسمتها العرب اللجأة لأنهم يلجأون إليها عند الخوف.
ومن المباني العجيبة إيوان كسرى أنو شروان: بناه سابور ذو الأكتاف في نيف وعشرين سنة، وطوله مائة ذراع في عرض خمسين بناه بالآجر، والجص، وجعل طول كل شرافة من شراريفه خمسة عشر ذراعا، ولما ملك المسلمون المدائن أحرقوا هذا الإيوان، فأخرجوا منه ألف دينار ذهبا.
وحكي أن المنصور لما أراد بناء بغداد عزم على هدمه وأن يجعل آلته في بنائه، فقيل له: إن نقضه يتكلف بقدر العمارة، فلم يسمع وهدم شرافة، وحسب ما أنفق عليه، فوجد الأمر كذلك، وقيل إن بعض رؤساء مملكته قال له لما أراد هدمه: هو آية الإسلام، فلا تهدمه.
وحكي أنه كان بمدينة قيسارية كنيسة بها مرآة إذا اتهم الرجل امرأته بزنا نظر في تلك المرآة، فيرى صورة الزاني، فاتفق أن بعض الناس قتل غريمه، فعمد أهله إليها، فكسروها والله سبحانه وتعالى أعلم، وقد اقتصرت من ذلك على هذا القدر اليسير، وحسبنا الله ونعم الوكيل، وصلى الله على سيدنا محمد، وعلى آله وصحبه وسلم.
الباب السابع والستون في ذكر المعادن والأحجار وخواصها
المعادن لا تكاد تحصى لكن منها ما يعرفه الناس ومنها ما لا يعرفونه وهي مقسومة إلى ما يذوب وإلى ما لا يذوب، والذي اشتهر بين الناس من المعادن سبعة:
وهي الذهب والفضة والنحاس والحديد والقصدير والأسرب والخارصيني.
ولنبدأ أولا بذكر (الذهب) فقيل طبعه حار لطيف لشدة اختلاط أجزائه المائية بالترابية. قيل: إن النار لا تقدر على تفريق أجزائه فلا يحترق ولا يبلى ولا يصدأ، وهو لين براق، حلو الطعم، أصفر اللون، فالصفرة من ناريته، والليونة من دهنيته، والبراقة من صفاء مائه.
خواصه: يقوي القلب ويدفع الصرع تعليقا، ويمنع الفزع والخفقان ويقوي العين كحلا ويجلوها إذا كان ميلا، ويحسن نظرها وإذا ثقبت به الأذن لم تلتحم وإذا كوى به لم ينفط ويبرأ سريعا، وإمساكه في الفم يزيل البخر.
(الفضة) قريبة منه وتصدأ وتحترق وتبلى بالتراب، وإذا أصابتها رائحة الرصاص والزئبق تكسرت أو رائحة الكبريت اسودت.
ومن خواصها: أنها تزيل البخر من الفم إذا وضعت فيه، وإذا أذيبت مع الزئبق وطلي بها البدن نفع ذلك من الحكة والجرب وعسر البول.
(النحاس) قريب منها لكنه أيبس، وأغلظ في الطبع.
ومن خواصه: إذا صدىء وطلي بالحامض زال صدؤه، والأكل في آنيته يولد أمراضا لا دواء لها.
(الحديد) كثير الفائدة إذ ما من صنعة إلا وله فيها مدخل.
ومن خواصه: أنه يمنع غطيط النائم إذا علق عليه وحمله يقوي القلب ويزيل الخوف والأفكار والأحلام الرديئة، ويسر النفس، وصدؤه ينفع أمراض العين كحلا والبواسير تحملا.
(القصدير) صنف من الفضة دخل عليه آفات من الأرض.
ومن خواصه: أنه إذا ألقي في قدر لم ينضج ما فيها.
(الأسرب) هو الرصاص. (ومن خواصه) : أنه يكسر الماس، ومن خواص الماس الدخول في كل شيء، وإذا شد من الرصاص قطعة على الخنازير، والغدد أبرأتها.
(الخارصيني) حجر لونه أسود، لونه يعطي حمرة.
ومن خواصه: إذا عمل منه مرآة ونظر فيها في الظلمات نفعت للقوة وإذا نتف الشعر بملقاط منه لم ينبت.
الأحجار الجوهرية:
أصل الجوهر، وهو الدر على ما قيل أن حيوانا يصعد من البحر على ساحله وقت المطر ويفتح أذنه يلتقط بها المطر، ويضمها ويرجع إلى البحر، فينزل إلى قراره ولا يزال طابقا أذناه على ما فيها خوفا أن يختلط بأجزاء البحر(1/389)
حتى ينضج ما فيها، ويصير درا، فإن كانت القطرة صغيرة كانت الدرة صغيرة، وإن كانت كبيرة فكبيرة، فإن كان في بطن هذا الحيوان شيء من الماء المر كانت الدرة كدرة، وإن لم يكن كانت صافية، وقيل غير ذلك. والدر نوعان:
كبير، وصغير. قيل إنه تصل الواحدة إلى مثقال «1» .
خواصه: أنه يفرح القلب ويبسط النفس ويحسن الوجه، ويصفي دم القلب، وإذا خلط مع الكحل شد عصب العين.
(الياقوت) سيد الأحجار، وأصول ألوانه أربعة: الأحمر والأصفر والأزرق والإسمانجوني ويتولد منها ألوان كثيرة وأعدلها الأحمر الخالص الرماني الشبيه بحب الرمان الأحمر، ودونه الأحمر المشرب ببياض، ثم الوردي، ثم الخمري، ثم العصفري وأردؤه الأزرق، الذي لونه يشبه زهر السوسن وأقله قيمة الأبيض.
خواصه: أنه لا يعمل فيه الفولاذ ولا حجر الماس ولا تدنسه النار ويورث لابسه مهابة ووقارا، ويسهل قضاء الحوائج ويدر الريق في الفم ويقطع العطش ويدفع السم ويقوي القلب، وجميعه ينفع للمصروع تعليقا، والأبيض منه يبسط النفس، ويوجد من الأصفر ما وزنه ثلاثون مثقالا على ما قيل.
(البلخش) هو مقارب الياقوت في القيمة ودونه في الشرف.
ومن خواصه: أنه يورث قبض النفس وسوء الخلق والحزن وهو ألوان أحمر وأخضر وأصفر.
(البنقش) أصناف أحمر مفتوح اللون صاف وأحمر قوي الحمرة، وأسود يعلوه حمرة مطوسة بزرقة خفيفة، ثم أصفر مفتوح اللون.
(عين الهر) حجر يتكون من معدن الياقوت، والغالب عليه البياض الناصع بإشراق مفرط ومائيته رقيقة شفافة وفي مائيته سر إذا حرك يمينا تحركت يسارا وبالعكس.
ومن خواصه: إذا علق على العين أمن عليها من الجدري على ما قيل.
(الماس) يوجد بواد بالهند يقال إنه مشحون بالحيات، فيأتي من يريد إستخراجه من ذلك الوادي فيضع في الوادي مرآة كبيرة، فتأتي الحيات فتنظر إلى خيالها في المرآة، فتفر من ذلك الجانب فينزل، فيأخذ ما له فيه رزق، وقيل إنهم ينحرون الجزر ويلقون لحمها في ذلك الوادي، فيلتصق الماس وغيره باللحم، فتأتي الطير، فتختطف اللحم وتصعد به إلى الجبال فتأكل اللحم وتترك الحجر، فيأخذه صاحب اللحم «2» ، وقيل: إن الحيات لها مشتى ستة أشهر في مكان، ومصيف ستة أشهر في مكان آخر، فإذا ذهبت إلى مشتاها ومصيفها أخذ الحجر في غيبتها، والله أعلم بصحة ذلك. ومن عجيب أمره أنه إذا أريد كسره جعل في أنبونة قصب وضرب فإنه يتفتت وكذا إذا جعل في شمع أو قار، وإذا جعل عليه دم تيس وقرب من النار ذاب.
ومن خواصه: أن الملوك يتخذونه عندهم لشرفه، وهو من السموم القاتلة القطعة الصغيرة منه إذا حصلت في الجوف ولو بقدر السمسمة خرقت الأمعاء.
ومن خواصه الجليلة: أنه يعرق عند وجود السم أو الطعام المسموم.
(الزمرد) ويسمى الزبرجد وهو ألوان أخضر وزنجاري وصابوني، ويكون الحجر منه خمسة مثاقيل وأقل.
ومن خواصه: أنه يدفع العين ويفرح القلب ويقوي البصر، ويصفي الذهن وينشط النفس.
(الفيروزج) نوعان: إسحاقي، وخلنجي، وأجوده الإسحاقي الأزرق الصافي «3» .
خواصه: النظر فيه يجلو البصر، ويقويه، وينشط النفس، ولا يصيب المتختم به آفة من قتل أو غرق، وقال جعفر الصادق رضي الله تعالى عنه: ما افتقرت يد تختمت بفيروزج، وإذا مضى له بعد خروجه من معدنه عشرون سنة نقض لونه، ولا يزال كذلك حتى ينطفىء.
(العقيق) معدن بأرض صنعاء باليمن، وهو ألوان ويوجد عليه غشاوة ويحمى عليه ببعر الإبل، ثم يبرد ويكسر، وقيل: يوجد بالهند ولكن اليمن أجود.
خواصه: التختم به وحمله يورث الحمل والأناة، وتصويب الرأي ويسر النفس، ويكسب حامله وقارا، وحسن خلق، ويسكن الحدة عند الخصومة. قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «من تختم بالعقيق لم يزل في بركة» .
(الجزع) هو حجر أيضا يؤتى به من اليمن والصين،(1/390)
وألوانه كثيرة، والناس يكرهونه لأنه يورث الهم والأحلام الرديئة، وسوء الخلق، وتعسر قضاء الحوائج، ويكثر بكاء الصبي وسيلان لعابه، ويثقل اللسان إذا سحق وشرب ماءه، وإذا وضع بين قوم لا علم لهم به حصلت بينهم العداوة لكنه يسهل الولادة تعليقا.
(البلور) هو صنف من الزجاج يحكى أن ببلاد كيسان جبلين أحدهما بلور، وإذا أريد قطع البلور في ذلك الموضع قطع في الليل لأنه في النهار يكون له شعاع عظيم.
خواصه: النظر فيه يشرح القلب، ويبسط النفس، ويسكن وجع الضرس.
(المرجان) هو واسطة بين النبات والمعدن لأنه بتشجره يشبه النبات، وبتحجره يشبه المعدن، ولا يزال لينا في معدنه، فإذا فارقه تحجر ويبس.
خواصه: النظر فيه يشرح الصدر ويبسط النفس ويفرح القلب، ويذهب بالداء المحتبس في العين، ويسكن الرمد، وسحاقته المخلوطة بالخل تجلو قلح الأسنان، وإذا وضع على الجرح منعه من الانتفاخ، وأنواعه كثيرة أحمر وأزرق وأبيض وأصله من البحر. قيل: إنه شجر ينبت. وقيل: إنه من حيوانه.
(حجر الماطليس) هو حجر هندي لا يعمل فيه الحديد، والبيت الذي يكون فيه لا يدخله السحر ولا الجن ولأجل ذلك كان الإسكندر يجعله في عسكره.
(الحجر الماهاني) من تختم به أمن من الروع والهم والحزن والغم، ولونه أبيض وأصفر، ويوجد بأرض خراسان.
(حجر مراد) يوجد بناحية الجنوب.
وخاصيته: إن الجن تتبع حامله وتعمل له ما أراد.
(الدهنج) خاصيته: أنه إذا سقي إنسان من محكه يفعل فعل السم، وإذا سقي شارب السم منه نفعه، وإذا مسح به موضع اللدغ سكن وينفع من خفقان القلب وإذا طلي بحكاكته بياض البرص أزاله، وإن علق على إنسان غلب عليه الباه.
(السبج) خواصه: أنه يقوي النظر الضعيف من الكبر أو نزول الماء ولبسه ينفع عسر البول وإدمان النظر فيه يحد البصر، وسحاقته تجلو البصر، وإذا علق على من به صداع زال عنه.
(المغناطيس) يوجد في بحر الهند، وهناك لا يتخذ في السفن حديد، ويوجد ببلاد الأندلس أيضا وأجود أنواعه ما كان أسود يضرب إلى حمرة. خواصه: الاكتحال بسحاقته يورث ألفة بين المكتحل وبين من يحبه، ويسهل الولادة تعليقا، ومن تختم به كانت حاجته مقضية، وتعليقه في العنق يزيد في الذهن، وإذا سحق وشرب من سحاقته من به سم بطل سمه، وإذا أصابته رائحة الثوم بطلت خاصيته، وإذا غسل بالخل عاد إلى حالته، وأجوده ما جذب نصف مثقال من الحديد.
(حجر الخطاف) الخطاف يوجد في عشه حجران.
أحدهما أحمر، والآخر أبيض، فالأحمر إذا علق على من يفزع في نومه زال فزعه، والأبيض إذا علق على من به صرع زال عنه.
(حجر الزاج) إذا دخن البيت بسحاقته هرب منه الفأر والذباب.
(حجر الزنجفر) أصله من الزئبق واستحال. وخاصيته:
أنه يدمل الجراحات وينبت اللحم.
(حجر الملح) هو أنواع، وأجوده ما يوجد بأرض سدوم بالقرب من بحر لوط، وقد جعله الله قواما للدنيا.
ومن خاصيته: أنه يحسن الذهب، ويزيد في صفرته، وعن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال: يا علي ابدأ بالملح واختم به، فإن فيه شفاء من سبعين داء.
(حجر النطرون) قال أرسطو: ينفع الأرحام التي غلبت عليها الرطوبة ينشفها ويقويها، وإذا ألقي في العجين طيبه وبيضه ونشفه، وهو نوعان: أبيض وأحمر.
(حجر اللازورد) مشهور. قال أرسطو: من تختم به عظم في أعين الناس، وينفع من السهر. والله أعلم. ومن أراد العتمق في ذلك، فعليه بالكتب الموضوعة له، ولكن قد ذكرنا ما هو معروف، والحمد لله على كل حال، وصلى الله على سيدنا محمد، وعلى آله وصحبه وسلم.
الباب الثامن والستون في الأصوات والألحان وذكر الغناء واختلاف الناس فيه ومن كرهه ومن استحسنه
وما ذكرت ذلك إلا لأني كرهت أن يكون كتابي هذا بعد اشتماله على فنون الأدب والتحف والنوادر والأمثال عاطلا من هذه الصناعة التي هي مراد السمع، ومرتع النفس، وربيع القلب، ومجال الهوى، ومسلاة الكئيب، وأنس(1/391)
الوحيد، وزاد الراكب لعظم موقع الصوت الحسن من القلب، وأخذه بمجامع النفس.
فصل في الصوت الحسن
قال بعض أهل التفسير في قوله تعالى: يَزِيدُ فِي الْخَلْقِ ما يَشاءُ
«1» هو الصوت الحسن، وعن النبي صلى الله عليه وسلم: أنه قال: أتدرون متى كان الحداء؟ قالوا: لا بأبينا أنت وأمنا يا رسول الله. قال: إن أباكم مضر خرج في طلب مال له، فوجد غلاما قد تفرقت إبله، فضربه على يده بالعصا، فعدا الغلام في الوادي وهو يصيح: وايداه، فسمعت الإبل صوته، فعطفت عليه، فقال مضر: لو اشتق من الكلام مثل هذا لكان كلاما تجتمع عليه الإبل، فاشتق الحداء.
وقال النبي صلى الله عليه وسلم لأبي موسى الأشعري رضي الله عنه لما أعجبه حسن صوته: لقد أوتيت مزمارا من مزامير آل داود، وقيل: إن داود عليه الصلاة والسلام كان يخرج إلى صحراء بيت المقدس يوما في الأسبوع، وتجتمع عليه الخلق، فيقرأ الزبور بتلك القراءة الرخيمة، وكان له جاريتان موصوفتان بالقوة والشدة فكانتا تضبطان جسده ضبطا شديدا خيفة أن تنخلع أوصاله مما كان ينتحب، وكانت الوحوش والطير تجتمع لاستماع قراءته.
قال مالك بن دينار رحمه الله تعالى: بلغنا أن الله تعالى يقيم داود عليه الصلاة والسلام يوم القيامة عند ساق العرش، فيقول: يا داود مجدني اليوم بذلك الصوت الحسن الرخيم.
وقال سلام الحادي للمنصور، وكان يضرب المثل بحدائه: مر يا أمير المؤمنين بأن يظمأوا إبلا ثم يورودها الماء فإني آخذ في الحداء فترفع رؤوسها، وتترك الشرب.
وزعم أهل الطب أن الصوت الحسن يجري في الجسم مجرى الدم في العروق، فيصفو له الدم، وتنمو له النفس ويرتاح له القلب، وتهتز له الجوارح، وتخف له الحركات، ولهذا كرهوا للطفل أن ينام على أثر البكاء، حتى يرقص ويطرب، وزعمت الفلاسفة: أن النغم فصل بقي من النطق لم يقدر اللسان على استخراجه، فاستخرجته الطبيعة بالألحان على الترجيع لا على التقطيع، فلما ظهر عشقته النفس وحنت إليه الروح. ألا ترى إلى أهل الصناعات كلها إذا خافوا الملالة والفتور على أبدانهم ترنموا بالألحان، واستراحت إليها أنفسهم، وليس من أحد كائنا من كان إلا وهو يطرب من صوت نفسه، ويعجبه طنين رأسه، ولو لم يكن من فضل الصوت الحسن إلا أنه ليس في الأرض لذة تكتسب من مأكل ولا مشرب ولا ملبس ولا صيد إلا وفيها معاناة على البدن، وتعب على الجوارح ما خلا السماع، فإنه لا معاناة فيه على البدن ولا تعب على الجوارح، وقد يتوصل بالألحان الحسان إلى خيري الدنيا والآخرة، فمن ذلك أنها تبعث على مكارم الأخلاق من اصطناع المعروف، وصلة الأرحام، والذب عن الأعراض والتجاوز عن الذنوب، وقد يبكي الرجل بها على خطيئته، ويتذكر نعيم الملكوت، ويمثله في ضميره، ولأهل الرهبانية نغمات، وألحان شجية يمجدون الله تعالى بها، ويبكون على خطاياهم، ويتذكرون نعيم الآخرة.
وكان أبو يوسف القاضي يحضر مجلس الرشيد، وفيه الغناء، فيجعل مكان السرور به بكاء، كأنه يتذكر نعيم الآخرة، وقد تحن القلوب إلى حسن الصوت حتى الطير والبهائم، وكان صاحب الفلاحات يقول: إن النحل أطرب الحيوان كله على الغناء.
قال الشاعر:
والطير قد يسوقه للموت ... إصغاؤه إلى حنين الصوت
وزعموا أن في البحر دواب ربما زمرت أصواتا مطربة، ولحونا مستلذة يأخذ السامعين الغشي من حلاوتها، فاعتنى بها وضعة الألحان بأن شبهوا بها أغانيهم، فلم يبلغوا، وربما يغشى على سامع الصوت الحسن للطافة وصوله إلى الدماغ وممازجته القلب. ألا ترى إلى الأم كيف تناغي ولدها، فيقبل بسمعه على مناغاتها، ويتلهى عن البكاء، والإبل يزداد نشاطها وقوتها بالحداء، فترفع آذانها وتلتفت يمنة ويسرة، وتتبختر في مشيتها.
وزعموا أن السماكين بنواحي العراق يبنون في جوف الماء حفائر ثم يضربون عندها بأصوات شجية فتجتمع السمك في الحفائر، فيصيدونه وقد نبهت على ذلك في باب ذكر البحار، وما فيها من العجائب.
والراعي إذا رفع صوته، ونفخ في يراعته تلقته الغنم بآذانها، وجدّت في رعيها، والدابة تعاف الماء، فإذا سمعت الصفير بالغت في الشرب وليس شيء مما يستلذ به أخف مؤنة من السماع.(1/392)
قال أفلاطون: من حزن فليسمع الأصوات الحسنة، فإن النفس إذا حزنت خمدت نارها، فإذا سمعت ما يطربها ويسرها اشتعل منها ما خمدت وما زالت ملوك فارس تلهي المحزون بالسماع، وتعلل به المريض، وتشغله عن التفكير، ومنهم أخذت العرب حتى قال ابن غيلة الشيباني:
وسماع مسمعة يعللنا ... حتى ننام تناوم العجم
وحكي أن البعلبكي مؤذن المنصور رجع في أذانه ليلة وجارية تصب الماء على يد المنصور، فارتعدت حتى وقع الأبريق من يدها، فقال له المنصور: خذ هذه الجارية، فهي لك ولا تعد ترجع هذا الترجيع.
وقال عبد الرحمن بن عبد الله بن أبي عمارة في قينة:
ألم ترها لا أبعد الله دارها ... إذا رجّعت في صوتها كيف تصنع
تدير نظام القول ثم تردّه ... إلى صلصل من صوتها يترجّع
وبعد، فهل خلق الله شيئا أوقع بالقلوب، وأشد اختلاسا للعقول من الصوت الحسن لا سيما إذا كان من وجه حسن كما قال الشاعر:
ربّ سماع حسن ... سمعته من حسن
مقرّب من فرح ... مبعّد من حزن
لا فارقاني أبدا ... في صحة من بدن
وهل على الأرض من جبان مستطار الفؤاد يغني بقول جرير:
قل للجبان إذا تأخرّ سرجه ... هل أنت من شرك المنية ناجي
إلا وقد شجعت نفسه، وقوي قلبه.
أم هل على الأرض من بخيل قد انقبضت أطرافه يوما يغني بقول حاتم الطائي:
يرى البخيل سبيل المال واحدة ... إنّ الجواد يرى في ماله سبلا
إلا انبسطت أنامله، ورشحت أطرافه.
واختلف الناس في الغناء، فأجازه عامة أهل الحجاز، وكرهه عامة أهل العراق، فمن حجة من أجازه ما روي أن النبي صلى الله عليه وسلم قال لحسان: «شن الغطاريف على بني عبد مناف، فو الله لشعرك عليهم أشد من وقع السهام في غلس الظلام» .
واحتجوا في أباحة الغناء، واستحسانه بقول النبي صلى الله عليه وسلم لعائشة رضي الله تعالى عنها: «أهديتم الفتاة إلى بعلها؟
قالت: نعم. قال: فبعثتم معها من يغني؟ قالت: لم نفعل. قال: أو ما علمت أن الأنصار قوم يعجبهم القول، ألا بعثتم معها من يقول:
أتيناكم أتيناكم ... فحيّونا نحييكم
ولولا الحبّة السمراء ... لم نحلل بواديكم
ولا بأس بالغناء إذا لم يكن فيه أمر محرم، ولا يكره السماع عند العرس والوليمة والعقيقة وغيرها، فإن فيه تحريكا لزيادة سرور مباح أو مندوب، ويدل عليه ما روي من إنشاء النساء بالدف والألحان عند قدوم النبي صلى الله عليه وسلم حيث قلن:
طلع البدر علينا ... من ثنيّات الوداع «1»
وجب الشكر علينا ... ما دعا لله داع
أيّها المبعوث فينا ... جئت بالأمر المطاع
ويدل عليه ما روي عن عائشة رضي الله تعالى عنها أنها قالت: رأيت النبي صلى الله عليه وسلم يسترني بردائه، وأنا أنظر إلى الحبشة يلعبون في المسجد الحرام حتى أكون أنا التي أسأمه.
ويدل عليه أيضا ما روي في الصحيحين من حديث عقيل، عن الزهري، عن عروة، عن عائشة رضي الله تعالى عنها أن أبا بكر دخل عليها، وعندها جاريتان في أيام منى يدففان ويضربان والنبي صلى الله عليه وسلم متغش بثوبه، فانتهرها أبو بكر، فكشف النبي صلى الله عليه وسلم عن وجهه، وقال: دعهما يا أبا بكر، فإنها أيام عيد.(1/393)
وعن قرة بن خالد بن عبد الله بن يحيى قال: قال عمر بن الخطاب رضي الله تعالى عنه للنابغة الجعدي:
أسمعني بعض ما عفا الله لك عنه من هناتك، فأسمعه كلمة، فقال له، وإنك لقائلها. قال: نعم. قال: طالما غنيت بها خلف جمال الخطاب.
وعن عبد الله بن عوف قال: أتيت باب عمر بن الخطاب رضي الله تعالى عنه، فسمعته يغني بالركابية يقول:
فكيف ثوائي بالمدينة بعدما ... قضى وطرا منها جميل بن معمر
وكان جميل بن معمر من أخصّاء عمر قال، فلما استأذنت عليه قال لي: أسمعت ما قلت؟ قلت: نعم.
قال: إذا خلونا قلنا ما يقول الناس في بيوتهم.
وقد أجازوا تحسين الصوت في القراءة والأذان، فإن كانت الألحان مكروهة، فالقراءة والأذان أحق بالتنزيه عنها، وإن كانت غير مكروهة، فالشعر أحوج إليها لإقامة الوزن، وما جعلت العرب الشعر موزونا إلا لمد الصوت والدندنة، ولولا ذلك لكان الشعر المنظوم كالخبر المنشور.
ومن حجة من كره الغناء أنه قال: أنه ينفر القلوب، ويستفز العقول، ويبعث على اللهو، ويحض على الطرب، وهذا باطل في أصله وتأولوا في ذلك قوله تعالى: وَمِنَ النَّاسِ مَنْ يَشْتَرِي لَهْوَ الْحَدِيثِ لِيُضِلَّ عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ بِغَيْرِ عِلْمٍ وَيَتَّخِذَها هُزُواً
«1» . وأخطأ من أوّل هذا التأويل إنما نزلت هذه الآية في قوم كانوا يشترون الكتب من أخبار السير، والأحاديث القديمة ويضاهون بها القرآن، ويقولون: إنها أفضل منه، وليس من سمع الغناء يتخذ آيات الله هزوا.
وقال رجل للحسن البصري: ما تقول في الغناء يا أبا سعيد؟ فقال: نعم العون على طاعة الله تعالى يصل الرجل به رحمه ويواسي به صديقه. قال: ليس عن هذا أسألك.
قال: وعم سألتني؟ قال: أن يغني الرجل. قال: وكيف يغني؟ فجعل الرجل يلوي شدقيه ويفتح منخريه، فقال الحسن: والله يا ابن أخي ما ظننت أن عاقلا يفعل بنفسه هذا أبدا، فلم ينكر الحسن عليه إلا تشويه وجهه وتعويج فمه.
وسمع ابن المبارك سكران يغني هذا البيت:
أذلّني الهوى فأنا الذليل ... وليس إلى الذي أهوى سبيل
قال: فأخرج دواة وقرطاسا، وكتب البيت، فقيل له:
أتكتب بيت شعر سمعته من رجل سكران، فقال: أما سمعتم المثل: رب جوهرة في مزبلة.
وكان لأبي حنيفة جار من الكيالين مغرم بالشراب، وكان يغني على شرابه بقول العرجي:
أضاعوني وأي فتى أضاعوا ... ليوم كريهة وسداد ثغر
قال: فأخذه العسس ليلة وحبسه، ففقد أبو حنيفة صوته، واستوحش له، فقال لأهله: ما فعل جارنا الكيال؟
قالوا: أخذه العسس، وهو في الحبس، فلما أصبح أبو حنيفة توجه إلى عيسى بن موسى، فاستأذن عليه، فأسرع إذنه، وكان أبو حنيفة قليلا ما يأتي أبواب الملوك، فأقبل عليه عيسى بن موسى، وسأله عما جاء بسببه، فقال:
أصلح الله الأمير: إن لي جارا من الكيالين أخذه عسس الأمير ليلة كذا، فوقع في حبسه، فأمر عيسى بن موسى بإطلاق كل من في الحبس إكراما لأبي حنيفة، فأقبل الكيال على أبي حنيفة يتشكر له، فلما رآه أبو حنيفة قال له: هل أضعناك يا فتى؟ يعرض له بشعره الذي ينشده، قال: لا والله ولكنك بررت وحفظت.
وكان عروة بن أدية ثقة في الحديث روى عنه مالك بن أنس، وكان شاعرا مجيدا لبقا غزلا، وكان يصوغ ألحان الغناء على شعره وينحلها للمغنين. قيل: إنه وقفت عليه إمرأة يوما وحوله التلاميذ، فقالت له: أنت الذي يقال فيك الرجل الصالح، وأنت تقول:
إذا وجدت أوار الحب في كبدي «2» ... عمدت نحو سقاء القوم أبترد
هبي بردت ببرد الماء ظاهره ... فمن لنار على الأحشاء تتّقد
وكان عبد الملك الملقب بالقس عند أهل مكة بمنزلة عطاء بن أبي رباح في العبادة. قيل: إنه مر يوما بسلامة وهي تغني، فأقام يسمع غناءها فرآه مولاها، فقال له: هل(1/394)
لك أن تدخل، وتسمع، فأبى، فلم يزل به حتى دخل فغنته، فأعجبته، ولم يزل يسمعها، ويلاحظ النظر حتى شغف بها، فلما شعرت بلحظه إياها غنته:
رب رسولين لنا بلغّا ... رسالة من قبل أن نبرحا
الطرف للطرف بعثناهما ... فقضيّا حاجة وما صرّحا
قال: فأغمي عليه، وكاد يهلك، فقالت له: إنّي والله أحبك. قال: وأنا والله أحبك، قالت: وأحب أن أضع فمي على فمك. قال: وأنا والله كذلك. قالت: فما يمنعك من ذلك؟ قال: أخشى أن تكون صداقة ما بيني وبينك عداوة يوم القيامة. أما سمعت قوله تعالى: الْأَخِلَّاءُ يَوْمَئِذٍ بَعْضُهُمْ لِبَعْضٍ عَدُوٌّ إِلَّا الْمُتَّقِينَ 67
«1» . ثم نهض وعاد إلى طريقته التي كان عليها، وأنشأ يقول:
قد كنت أعذل في السفاهة أهلها ... فاعجب لما تأتي به الأيام
فاليوم أعذرهم وأعلم إنّما ... سبل الضلالة والهدى أقسام
وقدم عبد الله بن جعفر على معاوية بالشام، فأنزله في دار عياله، وأظهر من إكرامه ما يستحقه، فغاظ ذلك فاختة بنت قرظة زوج معاوية فسمعت ذات ليلة غناء عند عبد الله بن جعفر، فجاءت إلى معاوية، فقالت: هلم، فاسمع ما في منزلك الذي جعلته من لحمك ودمك، وأنزلته بين حرمك، فجاء معاوية، فسمع شيئا حرّكه وأطربه، فقال: والله إني لأسمع شيئا تكاد الجبال أن تخر له، ثم انصرف، فلما كان في آخر الليل سمع معاوية قراءة عبد الله بن جعفر، وهو قائم يصلي، فنبه فاختة، وقال لها: اسمعي مكان ما أسمعتني، هؤلاء قومي ملوك بالنهار رهبان بالليل.
ثم إن معاوية أرق ذات ليلة، فقال لخادمه: اذهب فانظر من عند عبد الله بن جعفر، وأخبره إني قادم عليه، فذهب وأخبره، فأقام عبد الله كل من كان عنده، فلما جاء معاوية لم ير في المجلس غير عبد الله، فقال: مجلس من هذا؟
قال عبد الله: هذا مجلس فلان يا أمير المؤمنين، فقال معاوية: مره، فليرجع إلى مجلسه حتى لم يبق إلا مجلس رجل واحد. قال: مجلس من هذا؟ قال: مجلس رجل يداوي الآذان يا أمير المؤمنين. قال: إن أذني عليلة، فمره أن يرجع إلى مجلسه، وكان مجلس بديح المغنّي، فأمره عبد الله بن جعفر، فرجع إلى موضعه، فقال له معاوية:
داو أذني من علتها، فتناول العود وغنى وقال:
ودّع سعاد فإنّ الرّكب مرتحل ... وهل تطيق وداعا أيها الرجل
قال: فحرك عبد الله بن جعفر رأسه، فقال له معاوية:
لم حركت رأسك يا ابن جعفر؟ قال: أريحية أجدها يا أمير المؤمنين لو لقيت لأبليت، ولو سئلت لأعطيت، وكان معاوية قد خضب. قال، فقال ابن جعفر لبديح: هات غير هذا، وكان عند معاوية جارية أعز جواريه عليه، وكانت تتولى خضابه، فغنى بديح وقال:
أليس عندك شكر للتي جعلت ... ما ابيضّ من قادمات الرأس كالحمم «2»
وجددّت منك ما قد كان أخلقه ... صرف الزمان وطول الدهر والقدم «3»
فطرب معاوية طربا شديدا، وجعل يحرك رجله، فقال له ابن جعفر يا أمير المؤمنين إنك سألتني عن تحريك رأسي، فأجبتك وأخبرتك، وأنا أسألك عن تحريك رجلك، فقال: كل كريم طروب، ثم قام، وقال: لا يبرح أحد منكم حتى يأتي له إذني، ثم ذهب، فبعث إلى ابن جعفر بعشرة آلاف دينار ومائة ثوب من خاصة كسوته، وإلى كل رجل منهم بألف دينار، وعشرة أثواب.
وحدّث ابن الكلبي، والهيثم بن عدي قالا: بينما عبد الله بن جعفر في بعض أزقة المدينة إذا سمع غناء، فأصغى إليه، فإذا صوت رقيق لقينة تغني وتقول:
قل لكرام ببابنا يلجوا ... ما في التّصابي على الفتى حرج «4»
فنزل عبد الله عن دابته، ودخل على القوم بلا إذن، فلما رأوه قاموا إجلالا له، ورفعوا مجلسه، فأقبل عليه صاحب المجلس، وقال يا ابن عم رسول الله صلى الله عليه وسلم: أتدخل مجلسنا بلا إذن، وليس هذا من شأنك؟ فقال عبد الله: لم أدخل إلا بإذن. قال: ومن أذن لك؟ قال: قينتك هذه سمعتها تقول: قل للكرام ببابنا يلجوا. فولجنا، فإن كنا كراما، فقد أذن لنا، وإن كنّا لئاما خرجنا مذمومين، فقبل صاحب المنزل يده، وقال: جعلت فداك، والله ما أنت إلا من أكرم(1/395)
الناس، فبعث عبد الله إلى جارية من جواريه، فحضرت ودعا بثياب وطيب، فكسا القوم، وطيبهم، ووهب الجارية لصاحب المنزل، وقال: هذه أحذق بالغناء من جاريتك.
وسمع سليمان بن عبد الملك مغنيا في عسكره، فقال:
اطلبوه، فجاءوا به، فقال: أعد عليّ ما غنيت به، فغنى وأحفل «1» . وكان سليمان أغير «2» الناس، فقال لأصحابه:
كأنها والله جرجرة الفحل في الشوك، وما أظن أنثى تسمع هذا إلّا صبت «3» إليه، ثم أمر به فخصي.
أصل الغناء ومعدنه:
قال أبو المنذر هشام: الغناء على ثلاثة أوجه: النصب والسناد والهزج، فأما النصب، فغناء الفتيان والركبان، وأما السناد: فالثقيل الترجيع الكثير النغمات، وأما الهزج:
فالخفيف كله وهو الذي يستفز القلوب ويهيج الحليم.
وقيل: كان أصل الغناء ومعدنه في أمهات القرى، فاشيا ظاهرا، وهي المدينة والطائف وخيبر وفدك ووادي القرى، ودومة الجندل، واليمامة، وهذه القرى مجامع أسواق العرب.
ويقال: إن أول من صنع العود لامك بن قاين بن آدم، وبكى به على ولده، ويقال: إن صانعه بطليموس صاحب الموسيقى، وهو كتاب اللحون الثمانية، والله سبحانه وتعالى أعلم بحقيقة ذلك، وحسبنا الله، ونعم الوكيل، وصلى الله على سيدنا محمد وعلى آله وصحبه وسلم.
الباب التاسع والستون في ذكر المغنين والمطربين وأخبارهم ونوادر الجلساء في مجالس الرؤساء
قيل: إن أول من غنى في العرب قينتان للنعمان يقال لهما: الجرادتان ومن غنائهما:
ألا يا قين ويحك قم فهينم «4» ... لعلّ الله يسقينا غماما
وإنما غنتا هذا حين حبس الله عنهم المطر.
وقيل: أول من غنّى في الإسلام الغناء الرقيق طويس وهو الذي علم ابن سريج والدلال نوبة الضحى، وكان يكنى أبا عبد النعيم، ومن غنائه، وهو أول صوت غنى به في الإسلام هذا البيت:
قد براني الشوق حتى ... كدت من وجدي أذوب «5»
ثم نجم بعد طويس ابن طنبور، وأصله من اليمن، وكان أهزج الناس وأخفهم غناء، ومن غنائه:
وفتيان على شرب جميعا ... دلفت لهم بباطية هدور «6»
فلا تشرب بلا طرب فإنّي ... رأيت الخيل تشرب بالصفير
ومنهم حكم الوادي، ومن غنائه:
إمدح الكأس ومن أعملها ... واهج قوما قتلونا بالعطش
إنما الراح ربيع باكر ... فإذا ما وافت المرء انتعش
وكان لهارون الرشيد جماعة من المغنين منهم: إبراهيم الموصلي، وابن جامع السهمي وغيرهما، وكان له زامر يقال له: برصوما، وكان إبراهيم أشدهم تصرفا في الغناء، وابن جامع أحلاهم نغمة، فقال الرشيد يوما لبرصوما: ما تقول في ابن جامع؟ قال يا أمير المؤمنين، وما أقول في العسل الذي من حيثما ما ذقته فهو طيب. قال: فإبراهيم الموصلي؟ قال: بستان فيه جميع الأزهار والرياحين.
وكان ابن محرز يغني كل إنسان بما يشتهيه كأنه خلق من قلب كل إنسان. وغنى رجل بحضرة الرشيد بهذه الأبيات:
وأذكر أيام الحمى ثمّ أنثني ... على كبدي من خشية أن تصدّعا
فليست عشيات الحمى برواجع ... عليك ولكن خل عينيك تدمعا(1/396)
بكت عيني اليسرى فلما نهيتها ... عن الجهل بعد الحلم أسبلتا معا «1»
قال: فاستخف الرشيد الطرب، فأمر له بمائة ألف درهم.
وحدّث ابن الكلبي عن أبيه قال: كان ابن عائشة من أحسن الناس غناء وأنبههم فيه، وكان من أضيق الناس خلقا إذا قيل له غنّ قال: لمثلي يقال غنّ، عليّ عتق رقبة إن غنيت يومي هذا، فلما كان في بعض الأيام سال وادي العقيق، فلم يبق في المدينة مخبأة ولا مخدرة ولا شاب ولا كهل إلا خرج يبصره، وكان فيمن خرج ابن عائشة المغني وهو معتجر «2» بفضل ردائه، فنظر إليه الحسن بن الحسن بن علي بن أبي طالب رضي الله تعالى عنهم، وكان الحسن فيمن خرج إلى العقيق وبين يديه عبدان أسودان كأنهما ساريتان يمشيان أمام دابته، فقال لهما:
أقسم بالله إن لم تفعلا ما آمركما به لأنكلن بكما، فقالا يا مولانا قل ما أمرتنا به، فلو أمرتنا أن نقتحم النار فعلنا.
قال: فاذهبا إلى ذلك الرجل المعتجر بفضل ردائه فأمسكاه، فإن لم يفعل ما آمره به وإلا فاقذفا به في العقيق.
قال: فمضيا والحسن يقفوهما «3» ، فلم يشعر ابن عائشة إلا وهما آخذان بمنكبيه، فقال: من هذا؟ فقال له الحسن: أنا هذا يا ابن عائشة، فقال: لبيك وسعديك بأبي أنت وأمي قال: اسمع مني ما أقول لك، واعلم أنك مأسور في أيديهما، وقد أقسمت إن لم تغن مائة صوت ليطرحانك في العقيق. قال: فصاح ابن عائشة: ووايلاه واعظم مصيبتاه، فقال له الحسن: دعنا من صياحك وخذ فيما ينفعنا. قال: اقترح وأقم من يحصي، ثم أقبل يغني، فترك الناس العقيق، وأقبلوا عليه، فلما تمت أصواته مائة كبّر الناس بلسان واحد تكبيرة ارتجت لها أقطار الأرض، وقالوا للحسن: صلى الله على جدك حيا وميتا، فما اجتمع لأحد من أهل المدينة سرور قط إلا بكم أهل البيت، فقال له الحسن: ما فعلت هذا بك يا ابن عائشة إلا لأخلاقك الشرسة، فقال ابن عائشة: والله ما مرت بي شدة أعظم من هذه لقد بلغت أطراف أعضائي، فكان ابن عائشة بعد ذلك إذا قيل له: ما أشد يوم مر عليك؟ يقول: يوم العقيق.
وحدّث أبو جعفر البغدادي قال: حدثني عبد الله بن محمد كاتب بغداد عن أبي عكرمة قال: خرجت يوما إلى المسجد الجامع، فمررت بباب أبي عيسى بن المتوكل، فإذا على بابه المشدود، وهو أحذق خلق الله تعالى بالغناء، فقال: أين تريد يا أبا عكرمة؟ قلت: المسجد الجامع لعلي أستفيد حكمة أكتبها، فقال: أدخل بنا إلى أبي عيسى. قلت: أمثل أبي عيسى في قدره، وجلالته يدخل عليه بلا إذن؟ فقال للحاجب: أعلم أمير المؤمنين بمكان أبي عكرمة، فما لبث إلا ساعة حتى خرج الغلمان إليّ فحملوني حملا، فدخلت إلى دار ما رأيت أحسن منها بناء، ولا أظرف منها هيئة فلما نظرت إلى أبي عيسى قال لي: ما يعيش من يحتشم اجلس، فجلست، فأتينا بطعام كثير، فلما انقضى أتينا بشراب، وقامت جارية تسقينا شرابا كالشعاع في زجاجة كأنها كوكب دري، فقلت: أصلح الله الأمير وأتم عليه نعمه ولا سلبه ما وهبه. قال: فدعا أبو عيسى بالمغنين وهم المشدود ودبيس ورقيق. ولم يكن في ذلك الزمان أحذق من هؤلاء الثلاثة بالغناء، فابتدأ المشدود وغنى يقول:
لما استقلّ بارداف تجاذبه ... واخضرّ فوق بياض الدرّ شاربه
وأشرق الورد من نسرين وجنته ... واهتزّ أعلاه وارتجّت حقائبه «4»
كلّمته بجفون غير ناطقة ... فكان من ردّه ما قال حاجبه
ثم سكت وغنّى دبيس:
الحبّ حلو أمرّته عواقبه ... وصاحب الحبّ صبّ القلب ذائبه
استودع الله من بالطرف ودّعني ... يوم الفراق ودمع العين ساكبه
ثم انصرفت وداعي الشوق يهتف بي ... إرفق بقلبك قد عزّت مطالبه «5»
ثم سكت وغنّى رقيق:
بدر من الإنس حفّته كواكبه ... قد لاح عارضه واخضرّ شاربه(1/397)
إن يوعد الوعد يوما فهو مخلفه ... أو ينطق القول يوما فهو كاذبه
ثم سكت، وابتدأ المشدود يقول:
يا دير حنّة من ذات الأكيراح ... من يصح عنك فإنّي لست بالصاحي
ثم سكت وغنى دبيس:
دع البساتين من آس وتفّاح ... واعدل هديت إلى شيخ الأكيراح
واعدل إلى فتية ذابت لحومهم ... من العبادة إلّا نضو أشباح
ثم أقبل أبو عيسى على المشدود وقال له غنّ لي شعري فغنّاه:
يا لجّة الدمع هل للغمض مرجوع ... أم للكرى من جفون العين ممنوع
ما حيلتي وفؤادي قائم دنف ... بعقرب الصدغ من مولاي ملسوع
لا والذي تلفت نفسي بفرقته ... فالقلب من فرق الأحزان مصدوع «1»
ما أرّق العين إلّا حبّ مبتدع ... ثوب الجمال على خدّيه مخلوع
قال أبو عكرمة: فو الله لقد حضرت من المجالس ما لا يحصي عدده إلا الله تعالى، فما حضرت مثل ذلك المجلس ولولا أن أبا عيسى قطعهم ما انقطعوا.
وحكي عن الرشيد أنه قال يوما للفضل بن الربيع: من بالباب من الندماء؟ قال: جماعة فيهم هاشم بن سليمان مولى بني أمية، وأمير المؤمنين يشتهي سماعه. قال: فأذن له وحده، فدخل، فقال: هات يا هاشم، فغناه من شعر جميل حيث يقول:
إذا ما تراجعنا الذي كان بيننا ... جرى الدمع من عيني بثينة بالكحل
فيا ويح نفسي حسب نفسي الذي بها ... ويا ويح عقلي ما أصبت به أهلي
خليليّ فيما عشتما هل رأيتما ... قتيلا بكى من حبّ قاتله قبلي
قال: فطرب الرشيد طربا شديدا، وقال: أحسنت لله أبوك، قلّده عقدا نفسيا. فما رآه هاشم ترقرقت عيناه بالدموع، فقال له الرشيد: ما يبكيك يا هاشم؟ فقال:
يا أمير المؤمنين إن لهذا العقد حديثا عجيبا إن أذن لي أمير المؤمنين حدثته به، فقال: قد أذنت لك. قال يا أمير المؤمنين: قدمت يوما على الوليد وهو على بحيرة طبربة، ومعه قينتان «2» لم ير مثلهما جمالا وحسنا، فلما وقعت عينه عليّ قال: هذا إعرابي قد ظهر من البوادي أدعو به لنسخر به، فدعاني، فسرت إليه. ولم يعرفني، فغنت إحدى الجاريتين بصوت هو لي، فأخطأته الجارية، فقلت لها: أخطأت يا جارية، فضحكت، ثم قالت: يا أمير المؤمنين ألم تسمع ما يقول هذا الأعرابي يعيب علينا غناءنا؟ فنظر إليّ كالمنكر، فقلت يا أمير المؤمنين: أنا أبين لك الخطأ، فلتصلح، وتر كذا، ووتر كذا، ففعلت وغنت شيئا ما سمع منها إلا في هذا اليوم، فقامت الجارية مكبة عليّ وقالت: أستاذي هاشم وربّ الكعبة، فقال الوليد: أهاشم بن سليمان أنت؟ قلت: نعم يا أمير المؤمنين، وكشفت عن وجهي، وأقمت معه بقية يومنا، فأمر لي بثلاثين ألف درهم، فقالت الجارية يا أمير المؤمنين أتأذن لي في بر أستاذي؟ فقال الوليد: ذلك إليك، فحلت يا أمير المؤمنين هذا العقد من عنقها ووضعته في عنقي، وقالت: هو لك، ثم قربوا إليه السفينة ليرجع إلى موضعه، فركب في السفينة، وطلعت معه إحدى الجاريتين، وتبعتها صاحبتي، فأرادت أن ترفع رجلها، وتطلع السفينة فسقطت في الماء، فغرقت لوقتها، وطلبت، فلم يقدر عليها، فاشتد جزع الوليد عليها، وبكى بكاء شديدا، وبكيت أنا عليها أيضا بكاء شديدا، فقال لي يا هاشم: ما نرجع عليك مما وهبناه لك، ولكن نحب أن يكون هذا العقد عندنا نذكرها به، فبعني إياه، فعوضني عنه ثلاثين ألف درهم، فلما وهبتني العقد يا أمير المؤمنين تذكرت قضيته، وهذا سبب بكائي، فقال الرشيد:
لا تعجب، فإن الله كما ورثنا مكانهم ورثنا أموالهم.
وقال علي بن سليمان النوفلي: غنى دحمان الأشقر عند الرشيد يوما فأنشده:
إذا نحن أدلجنا وأنت أمامنا «3» ... كفى لمطايانا «4» برؤياك هاديا «5»(1/398)
إذا ما طواك الدّهر يا أمّ مالك ... فشأن المنايا القاضيات وشانيا
قال: فطرب الرشيد طربا شديدا واستعاده منه مرات، ثم قال له: تمنّ عليّ. قال: أتمنى الهنيء والمريء. وهما ضيعتان غلتهما أربعون ألف دينار في كل سنة، فأمر له بهما، فقيل له يا أمير المؤمنين: إن هاتين الضيعتين من جلالتهما يجب أن لا يسمح بمثلهما، فقال الرشيد:
لا سبيل إلى استرداد ما أعطيت، ولكن احتالوا في شرائهما منه، فساوموه فيهما حتى وقفوا معه على مائة ألف دينار، فرضي بذلك، فقال الرشيد: إدفعوها له، فقالوا:
يا أمير المؤمنين في إخراج مائة ألف دينار من بيت المال طعن، ولكن نقطعها له، فكان يوصل بخمسة آلاف وثلاثة آلاف حتى استوفاها.
ومن ذلك ما حكى إسحاق الموصلي قال: كان الواثق بن المعتصم أعلم الناس بالغناء، وكان يضع الألحان العجيبة ويغني بها شعره، وشعر غيره، فقال له يوما: يا أبا محمد لقد فقت أهل العصر في كل شيء، فغنني شعرا أرتاح إليه، وأطرب عليه يومي هذا.
قال إسحاق: فغنيته هذه الأبيات:
ما كنت أعلم ما في البين من حرق ... حتى تنادوا بأن قد جيء بالسفن
قالت تودّعني والدمع يغلبها ... فهمهمت بعض ما قالت ولم تبن «1»
مالت إليّ وضمتّني لترشفني ... كما يميل نسيم الريح بالغصن
وأعرضت ثم قالت وهي باكية ... يا ليت معرفتّي إيّاك لم تكن
قال: فخلع عليّ خلعة كانت عليه وأمر لي بمائة ألف درهم.
وقال وغنيته يوما:
قفي ودّعينا يا سعاد بنظرة ... فقد حان منا يا سعاد رحيل
فيا جنّة الدنيا ويا غاية المنى ... ويا سؤل نفسي هل إليك سبيل
وكنت إذا ما جئت جئت لعلّة ... فأفنيت علّاتي فكيف أقول «2»
فما كل يوم لي بأرضك حاجة ... ولا كل يوم لي إليك وصول
فقال: والله لا سمعت يومي غيره وألقى عليّ خلعة من ثيابه، وأمر لي بصلة ما أمر لي قبلها بمثلها.
ومن حكايات الخلفاء ومكارم أخلاقهم:
ما حكي عن إبراهيم بن المهدي قال: قال جعفر بن يحيى يوما لبعض ندمائه: إني قد استأذنت أمير المؤمنين في الخلوة غدا. فهل من مساعدة؟ فقلت: جعلت فداءك أنا أسعد بمساعدتك وأسر بمشاهدتك. فقال: بكر بكور الغراب.
قال: فأتيته عند الفجر، فوجدت الشموع قد أوقدت بين يديه وهو ينتظرني في الميعاد، فلما زلنا في أطيب عيش إلى وقت الضحى، فقدمت إلينا موائد الأطعمة عليها من أفخر الطعام وأطيبه، فأكلنا وغسلنا أيدينا، ثم خلعت علينا ثياب المنادمة، وضمخنا بالخلوق وانتقلنا إلى مجلس الطرب ومدت الستائر وغنت القينات فظللنا بأنعم يوم ثم إنه داخله الطرب. فدعا بالحاجب وقال له: إذا أتى أحد يطلبنا فأذن له ولو كان عبد الملك بن صالح بنفسه، فاتفق بالأمر المقدر أن عم الرشيد عبد الملك بن صالح قدم علينا في ذلك الوقت وكان صاحب جلالة وهيبة ورفعة، وعنده من الورع والزهد والعبادة ما لا مزيد عليه، وكان الرشيد إذا جلس مجلس لهو لا يطلعه على ذلك لشدة ورعه، فلما قدم دخل به الحاجب علينا فلما رأيناه رمينا ما في أيدينا وقمنا إجلالا له نقبل يده وقد ارتعنا لذلك وخجلنا وزاد بنا الحياء، فقال لا بأس عليكم كونوا على ما أنتم عليه، ثم صاح بغلام، فدفع له ثيابه، ثم أقبل علينا وقال: اصنعوا بنا ما صنعتم بأنفسكم قال: فما كان بأسرع من أن طرحت عليه ثياب خز معلم وقدمت إليه موائد الطعام والشراب، فطعم وشرب الشراب لساعته، ثم قال: خففوا عني فإنه شيء ما فعلته والله قط. قال: فتهلل وجه جعفر ثم التفت إلى عبد الملك، فقال له: جعلت فداءك قد علوت علينا وتفضلت، فهل من حاجة تبلغها مقدرتي وتحيط بها نعمتي فاقضيها لك مكافأة لك على ما صنعت؟
قال: بلى إن في قلب أمير المؤمنين بعض تغير عليّ، فتسأله الرضا عني، فقال جعفر: قد رضي عنك أمير المؤمنين قال: وعليّ عشرة آلاف دينار، فقال جعفر: هي حاضرة لك من مالي ولك من مال أمير المؤمنين مثلها.
قال: أريد أن أشد ظهر ابني إبراهيم بمصاهرة من أمير المؤمنين قال: قد زوجه أمير المؤمنين بابنته الغالية. قال:(1/399)
وأحب أن تخفق الألوية على رأسه. قال: وقد ولّاه أمير المؤمنين مصر. فانصرف عبد الملك بن صالح وبقيت متعجبا من إقدام جعفر على ذلك من غير استئذان وقلت:
عسى أن يجيبه أمير المؤمنين إلى ما سأله من الولاية والمال والرضا إلا المصاهرة قال: فلما كان من الغد بكرت إلى باب الرشيد لأنظر ما يكون من أمرهم، فدخل جعفر فلم يلبث أن دعي بأبي يوسف القاضي ثم بابراهيم بن عبد الملك بن صالح فخرج إبراهيم وقد عقد نكاحه بالغالية بنت الرشيد، وعقد له على مصر الرايات والألوية تخفق على رأسه وخرج كل من في القصر معه إلى بيت عبد الملك بن صالح قال: ثم بعد ذلك خرج إلينا جعفر وقال: أظن أن قلوبكم تعلقت بحديث عبد الملك بن صالح وأحببتم سماع ذلك. قلنا هو كما ظننت.
قال: لما دخلت على أمير المؤمنين ومثلت بين يديه قال: كيف كان يومك يا جعفر بالأمس؟ فقصصت عليه القصة حتى بلغت إلى دخول عبد الملك بن صالح فكان متكئا فاستوى جالسا، وقال: لله أبوك ما سألك؟ قلت:
سألني رضاك عنه يا أمير المؤمنين، قال: بم أجبته؟ قلت:
قد رضي عنك أمير المؤمنين. قال: قد رضيت عنه، ثم ماذا قلت، وذكر أن عليه عشرة آلاف دينار. قال: فبم أجبته؟
قلت قد قضاها عنك أمير المؤمنين. قال: وقد قضيتها عنه، ثم ماذا قلت، ورغب أن يشد أمير المؤمنين ظهر ولده إبراهيم بمصاهرة منه قال: فبم أجبته؟ قلت: قد زوّجه أمير المؤمنين بابنته الغالية. قال: قد أجبته إلى ذلك. ثمّ ماذا قلت؟ قال: وأحب أن تخفق الألوية على رأسه. قال: فبم أجبته؟ قلت: قد ولاه أمير المؤمنين مصر. قال: قد وليته إياها، ثم نجز له جميع ذلك من ساعته.
قال إبراهيم بن المهدي: فو الله ما أدري أي الثلاثة أكرم وأعجب فعلا ما ابتدأه عبد الملك بن صالح من المنادمة ولم يكن فعل ذلك قط أم إقدام جعفر على الرشيد أم إمضاء الرشيد جميع ما حكم به جعفر، فهكذا تكون مكارم الأخلاق.
وحكى أبو العباس عن عمر الرازي قال: أقبلت من مكة أريد المدينة فجعلت أسير في جمد من الأرض، فسمعت غناء لم أسمع مثله، فقلت: والله لأتوصلن إليه، فإذا هو عبد أسود، فقلت له: أعد عليّ ما سمعت فقال: والله لو كان عند قرى أقريكه لفعلت، ولكني أجعله قراك، فإني والله ربما غنيت بهذا الصوت وأنا جائع فأشبع، وربما غنيته وأنا كسلان فأنشط، أو عطشان فأروى، ثم اندفع يغني ويقول:
وكنت إذا ما جئت سعدى أزورها ... أرى الأرض تطوى لي ويدنو بعيدها
من الخفرات البيض ودّ جليسها ... إذا ما انقضت أحدوثة لو تعيدها
قال عمر: فحفظته منه، ثم تغنيت به على الحالات التي وصفها إليّ فإذا هي كما ذكر، والله سبحانه وتعالى أعلم، وصلى الله على سيدنا محمد، وعلى آله وصحبه وسلم.
الباب السبعون في ذكر القينات والأغاني
حكى علي بن الجهم قال: لما أفضت الخلافة إلى أمير المؤمنين المتوكل أهدى إليه عبد الله بن طاهر من خراسان جارية يقال لها محبوبة كانت قد نشأت بالطائف فبرعت في الجمال والأدب وأجادت قول الشعر، وحذاقة الغناء، فشغف بها أمير المؤمنين المتوكل حتى كانت لا تفارق مجلسه ساعة واحدة، ثم أنه حصل منه عليها بعد ذلك جفاء، فهجرها.
قال علي بن الجهم، فبينما أنا نائم عنده ذات ليلة إذ أيقظني، فقال: يا علي، قلت: لبيك يا أمير المؤمنين، قال: قد رأيت الليلة في منامي كأني رضيت على محبوبة وصالحتها، فقلت: خيرا رأيت يا أمير المؤمنين أقرّ الله عينك إنما هي جاريتك والرضا والجفاء بيدك، فوالله إنا لفي حديثها إذ جاءت وصيفة فقالت: يا أمير المؤمنين سمعت صوت عود من حجرة محبوبة، فقال: قم بنا يا علي ننظر ما تصنع، فنهضنا حتى أتينا حجرتها فإذا هي تضرب بالعود وتقول:
أدور في القصر لا أرى أحدا ... أشكو إليه ولا يكلّمني
كأنّني قد أتيت معصية ... ليس لها توبة تخلّصني
فهل شفيع لنا إلى ملك ... قد زارني في الكرى وصالحني
حتى إذا ما الصباح لاح لنا ... عاد إلى هجره وصارمني «1»(1/400)
قال: فصاح أمير المؤمنين، فلما سمعته تلقته، وأكبت على رجليه تقبلهما، فقال: ما هذا؟ قالت: يا مولاي رأيت في منامي هذه اليلة كأنك قد رضيت عني، فأنشدت ما سمعت. قال: وأنا والله رأيت مثل ذلك، ثم قال يا علي: هل رأيت أعجب من هذا الاتفاق، ثم أخذ بيدها ومضى إلى حجرتها وكان من أمرهما ما كان.
ومن ذلك ما حدث الشيباني قال: كان عند رجل بالعراق قينة، وكان أبو نواس يختلف إليها، وكانت تظهر له أنها لا تحب غيره وكان كلما دخل إليها وجد عندها شابا يجالسها ويحادثها فقال فيها هذه الأبيات:
ومظهرة لخلق الله ودّا ... وتلقي بالتحية والسّلام
أتيت لبابها أشكوا إليها ... فلم أخلص إليه من الزّحام
فيا من ليس يكفيها خليل ... ولا ألفا خليل كلّ عام
أراك بقيّة من قوم موسى ... فهم لا يصبرون على طعام
وقال أبو سويد: حدثني أبو زيد الأسدي قال: دخلت على سليمان بن عبد الملك وهو جالس في إيوان مبلط بالرخام مفروش بالديباج الأخضر في وسط بستان ملتف قد أثمر وأينع وعلى رأسه وصائف كل واحدة منهن أحسن من صاحبتها، وقد غابت الشمس وغنت الأطيار فتجاوبت وصفقت الرياح على الأشجار فتمايلت. فقلت: السلام عليك أيها الأمير ورحمة الله وبركاته، وكان مطرقا، فرفع رأسه، وقال: أبا زيد في مثل هذا حين تصاحبنا.
فقلت: أصلح الله الأمير أو قامت القيامة؟ قال: نعم على أهل المحبة، ثم أطرق مليا ورفع رأسه وقال: أبا زيد ما يطيب في يومنا هذا؟ قلت: أصلح الله الأمير قهوة حمراء في زجاجة بيضاء تناولها غادة هيفاء مضمومة لفّاء أشربها من كفها وأمسح فمي بخدها، فلما رأت الوصائف ذلك تنحين عنه، ثم رفع رأسه، فقال: أبا زيد حضرت في يوم فيه انقضاء أجلك ومنتهى مدتك وتصرم عمرك والله لأضربن عنقك أو لتخبرني ما أثار هذه الصفة من قلبك؟.
قلت: نعم أصلح الله الأمير كنت جالسا عند دار أخيك سعيد بن عبد الملك، فإذا أنا بجارية قد خرجت من باب القصر كأنها غزال انفلت من شبكة صياد عليها قميص سكب اسكندراني يبين منه بياض بدنها وتدوير سرتها ونقش تكتها، وفي رجليها نعلان صراران قد أشرق بياض قدميها على حمرة نعليها بذؤابتين تضربان إلى حقويها لها صدغان كأنهما نونان وحاجبان قد قوسا على محاجر عينيها، وعينان مملوءتان سحرا، وأنف كأنه قصبة بلور، وفم كأنه جرح يقطر دما وهي تقول: عباد الله من لي بدواء ما لا يشتكى وعلاج ما لا يسمى، طال الحجاب وأبطأ الجواب، والقلب طائر، والعقل عازب والنفس والهة، والفؤاد مختلس، والنوم محتبس. رحمة الله على قوم عاشوا تجلدا وماتوا كمدا، ولو كان إلى الصبر حيلة أو إلى ترك الغرام سبيل لكان أمرا جميلا، ثم أطرقت طويلا ورفعت رأسها، فقلت لها: أيتها الجارية إنسية أنت أم جنية، سماوية أنت أم أرضية؟ فقد أعجبني ذكاء عقلك واذهلني حسن منطقك، فسترت وجهها بكمها كأنها لم ترني، ثم قالت: أعذر أيها المتكلم فما أوحش الساعد بلا مساعد، والمقاساة لصب معاند، ثم انصرفت، فو الله ما أكلت طعاما طيبا إلا غصصت به لذكرها، ولا رأيت حسنا إلا سمج في عيني لحسنها فقال سليمان: أبا زيد كاد الجهل يستفزني والصبا يعاودني والحلم يعزب عني لشجو ما سمعت. اعلم يا أبا زيد أن تلك التي رأيتها هي الذلفاء التي قيل فيها:
إنّما الذلفاء ياقوتة ... أخرجت من كيس دهقان «1»
شراؤها على أخي ألف ألف درهم، وهي عاشقة لمن باعها والله إن مات ما يموت إلا بحبها ولا يدخل القبر إلا بغصتها، وفي الصبر سلوة وفي توقع الموت نهية. قم أبا زيد في دعة الله تعالى، ثم قال: يا غلام نفله ببدرة، فأخذتها وانصرفت.
وقال: فلما أفضت الخلافة إليه صارت الذلفاء إليه، فأمر بفسطاط «2» ، فأخرج على دهناء الغوطة وضرب في روضة خضراء مونقة زهراء ذات حدائق بهجة تحتها أنواع الزهر ما بين أصفر فاقع وأحمر ساطع وأبيض ناصع.
وكان لسليمان مغن يقال له سنان، به يأنس وإليه يسكن فأمره أن يضرب فسطاطه بالقرب منه، وكانت الذلفاء قد خرجت مع سليمان إلى ذلك المتنزه، فلم يزل سنان يومه ذلك عند سليمان في أكمل سرور، وأتم حبور إلى أن انصرف من الليل إلى فسطاطه، فنزل به جماعة من إخوانه(1/401)
فقالوا له: نريد قرى «1» أصلحك الله. قال: وما قراكم؟
قالوا: أكل وشرب وسماع. قال: أما الأكل والشرب فمباحان لكم، وأما السماع فقد عرفتم شدة غيرة أمير المؤمنين ونهيه عنه إلا ما كان في مجلسه. قالوا: لا حاجة لنا بطعامك وشرابك إن لم تسمعنا. قال: فاختاروا صوتا واحدا أغنيكموه. قالوا: غننا صوت كذا، فرفع صوته يغني بهذه الأبيات:
محجوبة سمعت صوتي فأرّقها ... من آخر الليل لما نبّه السّحر
لم يحجب الصوت أحراس ولا غلق ... فدمعها لطروق الصوت منحدر
لو مكنّت لمشت نحوي على قدم ... تكاد من لينها في المشي تنفطر «2»
قال: فسمعت الذلفاء صوت سنان، فخرجت إلى صحن الفسطاط تسمع، فجعلت لا تسمع شيئا من حسن خلق ولطافة قد إلا رأت ذلك كله في نفسها وهيئتها، فحرك ذلك ساكنا من قلبها، فهملت عيناها، وعلا نحيبها، فانتبه سليمان، فلم يجدها معه، فخرج إلى صحن الفسطاط فرآها على تلك الحال، فقال: ما هذا يا ذلفاء؟
فقالت:
ألا ربّ صوت رائع من مشوّه ... قبيح المحيا واضع الأب والجدّ «3»
يروعك منه صوته ولعله ... إلى أمة يعزى معا وإلى عبد
فقال سليمان: دعيني من هذا، فو الله لقد خامر قلبك منه ما خامر «4» ، ثم قال: يا غلام عليّ بسنان، فدعت الذلفاء خادما لها، فقالت له إن سبقت رسول أمير المؤمنين إلى سنان، فحذرته، فلك عشرة آلاف درهم، وأنت حر لوجه الله تعالى، فخرج الرسولان، فسبق رسول أمير المؤمنين سليمان، فلما أتى به قال يا سنان: ألم أنهك عن مثل هذا؟
قال يا أمير المؤمنين حملني على ذلك حلمك، وأنا عبد أمير المؤمنين، وغرس نعمته فإن رأى أمير المؤمنين أن يعفو عن عبده، فليفعل. قال: قد عفوت عنك ولكن أما علمت أن الفرس إذا صهل ودقت له الحجرة «5» ، وأن الفحل إذا هدر ضبعت «6» له الناقة، وأن الرجل إذا تغنى أصغت له المرأة. إياك إياك والعود إلى ما كان منك، فيطول غمك.
وحكي أن الرشيد فصد يوما فأرسلت إليه بعض حظاياه قدحا فيه شراب مع وصيفة لها حسنة الوجه جميلة الطلعة بديعة المحيا، وغطته بمنديل مكتوب عليه هذه الأبيات:
فصدت عرقا تبتغي صحّة ... ألبسك الله به العافية
فاشرب بهذا الكأس يا سيدي ... واهنأ به من كفّ ذي الجارية
واجعل لمن أنفذه خلوة ... تحظى بها في الليلة الآتية
قال: فنظر الرشيد إلى الوصيفة التي جاءت بالقدح فاستحسنها، فافتضها، ثم أرسلها فعلمت مولاتها بذلك، فكتبت إليه رقعة تقول فيها هذه الأبيات:
بعثت الرسول فأبطا قليلا ... على الرغم منّي فصبرا جميلا
وكنت الخليل وكان الرسول ... فصرت الرسول وصار الخليلا
كذا من يوجّه في حاجة ... إلى من يحبّ رسولا جميلا
قال فاستحسن الرشيد ذلك منها وأرسل إليها: أنا عندك الليلة.
وأهدى داود بن روح المهلبي إلى المهدي جارية، فحظيت عنده، فواعدته المبيت عنده ليلة، فمنعها الحيض، فكتب إليها يقول:
لأهجرنّ حبيبا خان موعده ... وكان منه لصفو العيش تكدير
فأرسلت إليه تجيبه:
لا تهجرنّ حبيبا خان موعده ... ولا تذمنّ وعدا فيه تأخير
ما كان حبسي إلا من حدوث أذى ... لا يستطاع له بالقول تفسير(1/402)
وقال محمد بن مروان يصف جارية له:
أمست تباع ولو تباع بوزنها ... درّا بكى أسفا عليها البائع
وكان للمأمون جويرية «1» من أحسن الناس وأسبقهم إلى كل نادرة فحظيت عنده، فحسدها الجواري وقلن لا حسب لها، فنقشت على خاتمها حسبي حسني، فازداد بها المأمون عجبا، فسمتها الجواري، فماتت، فجزع عليها المأمون جزعا شديدا وقال:
اختلست ريحانتي من يدي ... أبكي عليها آخر الأبد
كانت هي الأنس إذا استوحشت ... نفسي من الأقرب والأبعد
وروضة كان بها مرتعي ... ومنهلا كان بها موردي
كانت يدي كان بها قوتي ... فاختلس الدهر يدي من يدي
وللمتوكل في قينة:
أمازحها فتغضب ثم ترضى ... فكلّ فعالها حسن جميل
فإن غضبت فأحسن ذي دلال ... وإن رضيت فليس لها عديل «2»
وحدّث أبو عبد الله بن عبد البر قال: حدثني إسحاق بن إبراهيم عن الهيثم بن عدي قال: كان في المدينة رجل من بني هاشم وكان له قينتان يقال لإحداهما رشا وللأخرى جؤذر وكان بالمدينة رجل مضحك لا يكاد يغيب عن مجلس المستظرفين، فأرسل الهاشمي إليه ذات يوم ليسخر به، فلما أتاه قال له: أصلحك الله إنك لفي لذتك ولا لذة لي قال: وما لذتك؟ قال: تحضر لي نبيذا، فإنه لا يطيب لي عيش إلا به، فأمر الهاشمي بإحضار نبيذ وأمر أن يطرح فيه سكر العشر «3» ، فلما شربه المضحك تحرك عليه بطنه فتناوم الهاشمي وغمز جاريتيه عليه، فلما ضاق عليه الأمر واضطر إلى التبرز قال في نفسه: ما أظن هاتين المغنيتين إلا يمانيتين وأهل اليمن يسمون الكنف بالمراحيض، فقال لهما: يا حبيبتي أين المرحاض؟ فقالت إحداهما لصاحبتها: ما يقول سيدنا؟ قالت: يقول غنياني
رحضت فؤادي فخلّيتني ... أهيم من الحب في كل وادي «4»
فاندفعتا تغنيانه، فقال في نفسه: والله ما أظنهما فهمتا عني، وما أظنهما إلا مكيتين وأهل مكة يسمونها المخارج، فقال: يا حبيبتي أين المخرج؟ فقالت إحداهما لصاحبتها: ما يقول سيدنا؟ قالت يقول غنياني:
خرجت لها من بطنه مكّة بعدما ... أقام المنادي بالعشي فأعتما
فاندفعتا تغنيانه، فقال في نفسه: لم يفهما عني، وما أظنهما إلا شاميتين وأهل الشام يسمونها المذاهب، فقال:
يا حبيبتي أين المذهب؟ فقالت إحداهما لصاحبتها:
ما يقول حبيبنا؟ قالت: يقول غنياني
ذهبت من الهجران في كل مذهب ... ولم يك حقا كل هذا كل هذا التّجنب
فغنتاه الصوت، فقال: لا حول ولا قوة إلا بالله العلي العظيم لم يفهما عني، وما أظن القحبتين إلا مدنيتين، وأهل المدينة يسمونها بيت الخلاء، فقال: يا حبيبتي أين بيت الخلاء؟ فقالت إحداهما لصاحبتها: ما يقول سيدنا؟
قالت: يقول غنياني
خلا علي بقاع الأرض إذ ظعنوا ... من بطن مكة واسترعاني الحزن
قال فغنتاه، فقال: إنّا لله وإنّا إليه راجعون ما أظن الفاسقتين إلا بصريتين، وأهل البصرة يسمونها الحشوش، فقال: يا حبيبتي أين الحشوش؟ فقالت إحداهما لصاحبتها: ما يقول سيدنا؟ قالت: يقول غنياني
أوحشوني وعزّ صبري فيهم ... ما احتيالي وما يكون فعالي
قال فاندفعتا تغنيانه فقال: ما أراهما إلا كوفيتين، وأهل الكوفة يسمونها الكنف، فقال لهما: يا حبيبتي أين الكنيف؟ فقالت إحداهما لصاحبتها: يعيش سيدنا ما رأيت أكثر اقتراحا من هذا الرجل. قالت: ما يقول؟ قالت:
يسأل أن تغني له
تكنّفني الهوى طفلا ... فشيّبني وما اكتهلا(1/403)
فقال: واويلاه، وأعظم مصيبتاه، هذا والهاشمي يتقطع ضحكا فقال لهما: يا زانيتان إن لم تعلماني به أنا أعلمكما ثم رفع ثيابه وسلح عليهما وعلى الفراش. فانتبه الهاشمي وقد غشي عليه من شدة الضحك، قال: ويلك ما هذا تسلح على وطائي «1» ؟ فقال الرجل: حياة نفسي أعز عليّ من وطائك. وقيل إنه لما قيل له: ويلك ما هذا؟ قال المضحك هذه الأبيات:
تكنّفني الملاح وأضجروني ... على ما بي بنيّات الزواني
فلما قلّ عن ذاك اصطباري ... قذفت به على وجه الغواني
قال، فانبسط الهاشمي ودفع إليه مالا ومضى إلى سبيله.
قال علي بن الجهم قلت لقينة:
هل تعلمين وراء الحبّ منزلة ... تدني إليك فإنّ الحبّ أقصاني
قالت تأتي من باب الذهب وأنشدت:
إجعل شفيعك منقوشا تقدّمه ... فلم يزل مدنيا من ليس بالدّاني
وكان أشعب يختلف إلى قينة بالمدينة «2» ، فجلس عندها يوما يطارحها الغناء فلما أراد الخروج قال لها:
ناوليني خاتمك أذكرك به قالت: إنه من ذهب، وأخاف أن تذهب، ولكن خذ هذا العود، فلعلك أن تعود، وناولته عودا من الأرض.
وكان بعض القينات من الجمال والحسن بجانب ثم أصابتها علة فتغير حالها، فكانت تنشد:
ولي كبد مقروحة من يبيعني ... بها كبدا ليست بذات قروح
أباها عليّ الناس لا يشترونها ... ومن يشتري ذا علة بصحيح
وكان المعتصم يحب قينة من حظاياه فاتفق أنه خرج إلى مصر وتركها فذكرها في بعض الطريق، فاشتاق إليها، فغلبه الوجد، فدعا مغنيا له وقال: ويحك قد ذكرت جاريتي فلانة بنت فلانة، فأقلقني الشوق إليها فعسى أن تغنيني شيئا في معنى ما ذكرته لك، فأطرق مليا ثم غناه:
وددت من الشوق المبرّح أنّني ... أعار جناحي طائر فأطير
فما لنعيم ليس فيه بشاشة ... وما لسرور ليس فيه سرور
وإنّ امرأ في بلد نصف قلبه ... ونصف بأخرى غيرها لصبور
والحكايات في معنى ذلك كثيرة ولو أردت بسطها لاحتجت إلى مجلدات، ولكن ما قل وجل خير من كثير يمل، وفيما ذكرته كفاية، والله المسؤول أن يمدني منه باللطف والعناية ونسأله التوفيق والهداية، وصلى الله على سيدنا محمد وعلى آله وصحبه وسلم.
الباب الحادي والسبعون في ذكر العشق ومن بلي به والافتخار بالعفاف وأخبار من مات بالعشق وما في معنى ذلك
وفيه فصول
الفصل الأول في وصف العشق
قال الجاحظ: العشق اسم لما فضل عن المحبة كما أن السرف اسم لما جاوز الجود. وقال أعرابي: العشق خفي أن يرى وجلي أن يخفى فهو كامن ككمون النار في الحجر إن قدحته أورى وإن تركته تواري، وقيل: أو العشق النظر وأول الحريق الشرر، وكان العشاق فيما مضى يشق الرجل برقع حبيبته، والمرأة تشق رداء حبيبها. ويقولان إنهما إذا لم يفعلا ذلك عرض البغض بينهما. وقال عبد بني الحسحاس:
وكم قد شققنا من رداء محبّر ... ومن برقع عن طفلة غير عانس
إذا شقّ برد شقّ بالبرد برقع ... من الحبّ حتى كلنّا غير لابس(1/404)
وقيل لأعرابي: ما بلغ من حبك لفلانة؟ قال: إني لأذكرها وبيني وبينها عقبة الطائف، فأجد من ذكرها رائحة المسك.
وقيل: رأى شبيب أخو بثينة جميلا عندها، فوثب عليه وآذاه، ثم إن شبيبا أتى مكة وجميل فيها، فقيل لجميل دونك شبيبا، فخذ بثأرك منه فقال:
وقالوا يا جميل أتى أخوها ... فقلت أتى الحبيب أخو الحبيب
وأنشد الأخفش الحداد يقول:
مطارق الشوق منها في الحشى أثر ... يطرقن سندان قلب حشوه الفكر
ونار كور الهوى في الجسم موقدة ... ومبرد الحبّ لا يبقي ولا يذر «1»
وفي الجليس الأنيس لأبي العالية الشامي قال: سأل أمير المؤمنين المأمون يحيى بن أكثم عن العشق ما هو؟
فقال: هو سوانح تسنح للمرء، فيهيم بها قلبه وتؤثرها نفسه، وقال ثمامة: العشق جليس ممتع، وأليف مؤنس وصاحب ملك مسالكه ضيقة ومذاهبه غامضة، وأحكامه جائرة، ملك الأبدان وأرواحها، والقلوب وخواطرها، والعيون ونواظرها، والعقول وآراءها، وأعطي عنان طاعتها وقوة تصريفها، توارى عن الأبصار مدخله، وخفي في القلوب مسلكه.
وكان شيخ بخراسان له أدب وحسن معرفة بالأمور قال لسليمان بن عمرو ومن معه: أنتم أدباء، وقد سمعتم الحكمة ولكم حداء ونغم، فهل فيكم عاشق؟ قال: لا.
قال: اعشقوا، فإن العشق يطلق اللسان، ويفتح جبلة البليد، والبخيل، ويبعث على التلطف وتحسين اللباس وتطييب المطعم، ويدعو إلى الحركة والذكاء، وتشريف الهمة.
وقال المجنون:
قالت جننت على ذكري فقلت لها ... الحبّ أعظم ممّا بالمجانين
الحبّ ليس يفيق الدهر صاحبه ... وإنّما يصرع المجنون في الحين
قال ذو الرياستين: إن بهرام جور كان له ابن وكان قد رشحه للأمر من بعده، فنشأ الفتى ناقص الهمة ساقط المروءة خامل النفس مسيء الأدب، فغمه ذلك، فوكل به من المؤدبين والمنجمين والحكماء من يلازمه ويعلمه وكان يسألهم عنه، فيحكون له ما يغمه من سوء فهمه وقلة أدبه إلى أن سأل بعض مؤدبيه يوما، فقال له المؤدب: قد كنا نخاف سوء أدبه فحدث من أمره ما صيرنا إلى الرجاء في فلاحه، قال: وما ذاك الذي حدث؟ قال: رأى ابنة فلان المرزبان، فعشقها، فغلبت عليه، فهو لا يهدأ إلا بها ولا يتشاغل إلا بها، فقال بهرام: الآن رجوت فلاحه، ثم دعا بأبي الجارية، فقال له: إني مسر إليك سرا، فلا يعدوك، فضمن له ستره، فأعلمه ان ابنه قد عشق ابنته، وانه يريد أن ينكحها أياه، وأمره أن يأمرها بإطماعه في نفسها ومراسلته من غير أن يراها، وتقع عينه عليها، فإذا استحكم طمعه فيها تجتنبه وتهجره، فإن استعلمها أعلمته أنها لا تصلح إلا لملك، ثم لتعلمني خبرها وخبره، ولا تطلعهما على ما أسره إليك، فقبل أبوها ذلك منه، ثم قال للمؤدب، والموكل بأدبه حضه وشجعه على مراسلة المرأة، ففعل ذلك، وفعلت المرأة كما أمرها أبوها فلما انتهت إلى التجني عليه، وعلم الفتى السبب الذي كرهته لأجله أخذ في الأدب وطلب الحكمة والعلم والفروسية والرماية وضرب الصولجان حتى مهر في ذلك.
ثم رفع إلى أبيه أنه محتاج إلى الدواب والآلات والمطاعم والملابس والندماء، وما أشبه ذلك. فسر الملك بذلك، وأمر له بما طلب، ثم دعا مؤدبه، فقال له:
إن الموضع الذي وضع به ابني نفسه من خبر هذه المرأة لا يدري به، فتقدم إليه وأمره أن يرفع أمرها إليّ ويسألني أن أزوجه إياها، ففعل المؤدب ذلك، فرفع الفتى ذلك لأبيه، فدعا بأبيها وزوجه إياها وأمر بتعجيلها إليه، وقال:
إذا اجتمعت أنت وهي فلا تحدث شيئا حتى أصير إليك، فلما اجتمعا صار إليه، فقال: يا بني لا يضعن قدرها عندك مراسلتها إياك، وليست في خبائك، فإني أمرتها بذلك وهي أعظم الناس منة عليك بما دعتك إليه من طلب الحكمة والتخلق بأخلاق الملوك حتى بلغت الحد الذي تصلح معه للملك من بعدي فزدها من التشريف والإكرام بقدر ما تستحق منك، ففعل الفتى وعاش مسرورا بالجارية، وعاش أبوه مسرورا به وأحسن ثواب أبيها، ورفع منزلته لصيانة سره، وأحسن جائزة المؤدب لامتثال ما أمر به.(1/405)
وكان عبد الله بن عبيدة الريحاني يهوى جارية، فزارته يوما، فأقام يحدثها ويشكو إليها ألم الفراق، فحان وقت الظهر، فناداه إنسان الصلاة يا أبا الحسن، فقال له:
رويدك حتى تزول الشمس أي حتى تقوم الجارية.
وقالت ليلى العامرية في قيسها:
لم يكن المجنون في حالة ... إلا وقد كنت كما كانا
لكنه باح بسرّ الهوى ... وإنّني قد ذبت كتمانا
وقال أحمد بن عثمان الكاتب:
وإنّي ليرضيني الممر ببابها ... وأقنع منها بالشتيمة والزجر
وقال الفتح بن خاقان صاحب المتوكل:
أيّها العاشق المعذّب صبرا ... فخطايا أخي الهوى مغفورة
زفرة في الهوى أحط لذنب ... من غزاة وحجّة مبرورة
وقال عمر بن أبي ربيعة: كنت بين امرأتين هذه تساررني وهذه تعضني فما شعرت بعضة هذه من لذة هذه، وأنشد شيبان العذري يقول:
لو حزّ بالسيف رأسي في محبّتها ... لطار يهوي سريعا نحوها رأسي
وقال يحيى بن معاذ الرازي: لو أمرني الله أن أقسم العذاب بين الخلق ما قسمت للعاشقين عذابا.
الفصل الثاني من هذا الباب فيمن عشق وعف والافتخار بالعفاف
روي عن ابن عباس رضي الله تعالى عنهما قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم من عشق فعف، فمات، فهو شهيد، وقال صلى الله عليه وسلم: عفوا تعف نساؤكم.
وقال بعضهم: رأيت امرأة مستقبلة البيت في غاية الضعف والنحافة رافعة يديها تدعو، فقلت لها: هل من حاجة؟ فقالت: حاجتي أن تنادي في الموقف بقولي:
تزوّد كلّ الناس زادا يقيهم ... ومالي زاد والسلام على نفسي
فناديت كما أمرتني، وإذا بفتى نحيل الجسم قد أقبل إليّ، فقال: أنا الزاد، فمضيت به إليها، فما زاد على النظر والبكاء، ثم قالت له: انصرف بسلام، فقلت: ما علمت أن لقاء كما يقتصر على هذا، فقالت: أمسك يا هذا، أما علمت أن ركوب العار ودخول النار شديد؟
قال إبراهيم بن محمد المهلبي:
كم قد ظفرت بمن أهوى فيمنعني ... منه الحياء وخوف الله والحذر
وكم خلوت بمن أهوى فيقنعني ... منه الفكاهة والتأنيس والنظر
أهوى الملاح وأهوى أن أجالسهم ... وليس لي في حرام منهم وطر «1»
كذلك الحبّ لا إتيان معصية ... لا خير في لذّة من بعدها سقر «2»
وقال بعض بني كلب:
إن أكن طامح اللحاظ «3» فإنّي ... والذي يملك الفؤاد عفيف
ونحو ذلك قول القائل:
فقالت بحق الله إلّا أتيتنا ... إذا كان لون الليل شبه الطيالس
فجئت وما في القوم يقظان غيرها ... وقد نام عنها كل واش وحارس
فبتنا بليل طيّب نستلذه ... جميعا ولم أقلب لها كفّ لامس
ونزل رجل على صديق له مستترا خائفا من عدو له، فأنزله في منزله وتركه فيه، وسافر لبعض حوائجه، وقال لامرأته: أوصيك بضيفي هذا خيرا، فلما عاد بعد شهر قال لها: كيف ضيفنا: قالت: ما أشغله بالعمى عن كل شيء، وكان الضيف قد أطبق عينيه، فلم ينظر إلى امرأة صاحبه ولا إلى منزله إلى أن عاد من سفره.
وكان عمر بن أبي ربيعة عفيفا يصف ويعف ويحوم ولا يرد.
ودخلت بثينة على عبد الملك بن مروان، فقال لها يا بثينة: ما أرى فيك شيئا مما كان يقوله جميل، فقالت:
يا أمير المؤمنين، إنه كان يرنو إليّ بعينين ليستا في رأسك،(1/406)
قال: فكيف رأيتيه في عشقه؟ قالت: كان كما قال الشاعر:
لا والذي تسجد الجباه له ... مالي بما تحت ذيلها خبر
ولا بفيها ولا هممت بها ... ما كان إلّا الحديث والنظر
وقد قدمت هذين البيتين في الجزء الأول، فيما جاء في الكتابة على سبيل الرمز وعن أبي سهل الساعدي قال: دخلت على جميل وبوجهه آثار الموت، فقال لي: يا أبا سهل، إن رجلا يلقى الله ولم يسفك دما، ولم يشرب خمرا، ولم يأت فاحشة أفترجو له الجنة؟ قلت: أي والله، فمن هو؟ قال: إني لأرجو أن أكون ذلك، فذكرت له بثينة، فقال: إني لفي آخر يوم من الدنيا وأول يوم من الآخرة لا نالتني شفاعة محمد صلى الله عليه وسلم إن كنت حدثت نفسي بريبة قط.
وعن عبد الله بن عبد المطلب أبي النبي صلى الله عليه وسلم أنه دعته بغي إلى نفسها، وبذلت له مالا، وكانت تتكهن وتسمع بإتيان رسول الله صلى الله عليه وسلم، وكانت جميلة، فأرادت أن تخدع عبد الله رجاء أن يكون النبي صلى الله عليه وسلم منها للنور الذي رأته بين عينيه، فأبى وقال:
أمّا الحرام فالحمام دونه ... والحلّ لا حل فنستبينه «1»
فكيف بالأمر الذي تبغينه ... يحمي الكريم عرضه ودينه
وقال آخر:
وأحور مخضوب البنان محجّب ... دعاني فلم أعرف إلى ما دعا وجها
بخلت بنفسي عن مقام يشينها ... ولست مريدا ذاك طوعا ولا كرها «2»
وراود شاب ليلى الأخيلية عن نفسها فاشمأزت، وقالت:
وذي حاجة قلنا له لا تبح بها ... فليس إليها ما حييت سبيل
لنا صاحب لا ينبغي أن نخونه ... وأنت لأخرى صاحب وخليل
وقال ابن ميادة:
موانع لا يعطين حبّة خردل ... وهنّ دوان في الحديث أوانس «3»
ويكرهن أن يسمعن في اللهو ريبة ... كما كرهت صوت اللجام الشوامس «4»
وقال آخر:
حور حرائر ما هممن بريبة ... كظباء مكّة صيدهنّ حرام
يحسبن من لين الكلام فواسقا ... ويصدّهن عن الخنى الإسلام «5»
وكان الأصمعي يستحسن بيتي العباس بن الأحنف:
أتأذنون لصبّ في زيارتكم ... فعندكم شهوات السمع والبصر
لا يظهر الشوق إن طال الجلوس به ... عفّ الضمير ولكن فاسق النظر
واختفى إبراهيم بن المهدي في هربه من المأمون عند عمته زينب بنت أبي جعفر، فوكلت بخدمته جارية لها اسمها ملك، وكانت واحدة زمانها في الحسن والأدب طلبت منها بخمسمائة ألف درهم، فهويها إبراهيم، وكره أن يراودها عن نفسها، فغنى يوما وهي قائمة على رأسه:
يا غزالا لي إليه ... شافع من مقلتيه
أنا ضيف وجزاء الم ... ضيف إحسان إليه
ففهمت الجارية ما أراد، فحكت ذلك لمولاتها فقالت:
إذهبي إليه، فأعلميه أني وهبتك له، فعادت إليه، فلما رآها أعاد البيتين، فأكبت عليه، فقال لها: كفى، فلست بخائن، فقالت: قد وهبتني لك مولاتي وأنا الرسول، فقال: أما الآن فنعم.
وأنشد المبرد:
ما إن دعاني الهوى لفاحشة ... إلّا نهاني الحياء والكرم
فلا إلى فاحش مددت يدي ... ولا مشت بي لزلة قدم(1/407)
وقال آخر:
يقول لا تنظر فذاك بلية ... بلى كل ذي عينين لا بدّ ناظر
وهل باكتحال العين بالعين ريبة ... إذا عفّ فيما بينهنّ السرائر «1»
وكان بعض الخلفاء قد نذر على نفسه أن لا ينشد شعرا، ومتى أنشد بيت شعر فعليه عتق رقبة. قال: فبينما هو في الطواف يوما إذ نظر إلى شاب يتحدث مع شابة جميلة الوجه، فقال له: يا هذا اتق الله أفي مثل هذا المكان؟ فقال يا أمير المؤمنين: والله ما ذاك لخنى، ولكنها ابنة عمي وأعز الناس عليّ وإن أباها منعني من تزوجها لفقري وفاقتي، وطلب مني مائة ناقة، ومائة أوقية من الذهب، ولم أقدر من ذلك. قال: فطلب الخليفة أباها، ودفع إليه ما اشترطه على ابن أخيه، ولم يقم من مقامه حتى عقد له عليها، ثم دخل الخليفة إلى بيته وهو يترنم ببيت من الشعر، فقالت له جارية من حظاياه: أراك اليوم ما مولاي تنشد الشعر، أفنسيت ما نذرت أم تراك قد هويت، فأنشد هذه الأبيات يقول:
تقول وليدتي لما رأتني ... طربت وكنت قد أسليت حينا
أراك اليوم قد أحدثت عهدا ... وأورثك الهوى داء دفينا
بحقك هل سمعت لها حديثا ... فشاقك أو رأيت لها جبينا
فقلت شكا إليّ أخ محبّ ... كمثل زماننا إذ تعلمينا
وذو الشجو القديم وإن تعزّى ... محبّ حين يلقى العاشقينا
ثم عدّ الأبيات فإذا هي خمسة أبيات، فأعتق خمس رقاب، ثم قال: لله درك من خمسة أعتقت خمسة، وجمعت بين رأسين في الحلال «2» .
وروي عن عثمان الضحاك قال: خرجت أريد الحج فنزلت بخيمة بالأبواء فإذا بجارية جالسة على باب الخيمة، فأعجبني حسنها فتمثلت بقول نصيب.
بزينب ألمم قبل أن يرحل الركب ... وقل لا تملينا فما ملّك القلب
فقالت: يا هذا أتعرف قائل هذا البيت؟ قلت: بلى هو نصيب، فقالت: أتعرف زينبه؟ قلت: لا. قالت: أنا زينبه. قلت: حياك الله وحباك. قالت: أما والله إن اليوم موعده، وعدني العام الأول بالاجتماع في هذا اليوم، فلعلك أن لا تبرح حتى تراه. قال: فبينما هي تكلمني إذا أنا براكب قالت: ترى ذلك الراكب؟ قلت: نعم. قالت:
إني لأحسبه إياه، فأقبل فإذا هو نصيب، فنزل قريبا من الخيمة، ثم أقبل فسلم، ثم جلس قريبا منها، فسألته أن ينشدها، فأنشدها، فقلت في نفسي: محبان قد طال التنائي بينهما، فلا بد أن يكون لأحدهما إلى صاحبه حاجة، فقمت إلى بعيري لأشد عليه، فقال: على رسلك إني معك، فجلست حتى نهض معي فسرنا وتسامرنا، فقال لي: أقلت في نفسك محبان التقيا بعد طول تناء فلا بد أن يكون لأحدهما إلى صاحبه حاجة. قلت: نعم قد كان ذلك. قال: ورب البيت منذ أحببتها ما جلست منها مجلسا هو أقرب من مجلسي هذا، فتعجبت لذلك، وقلت: والله هذه هي العفة في المحبة.
وعن محمد بن يحيى المدني قال: سمعت بعض المدنيين يقول: كان الرجل إذا أحب الفتاة يطوف حول دارها حولا يفرح أن يرى من يراها، فإن ظفر منها بمجلس تشاكيا وتناشدا الأشعار، واليوم هو يشير إليها، وتشير إليه ويعدها وتعده، فإن التقيا لم يتشاكيا حبا ولم يتناشدا شعرا بل يقوم إليها، ويجلس بين شعبتيها كأنه أشهد على نكاحها أبا هريرة.
وقال الأصمعي: قلت لأعرابية: ما تعدون العشق فيكم؟ قالت: الضمة والغمزة والقبلة، ثم أنشأت تقول:
ما الحبّ إلّا قبلة ... وغمز كف وعضد
ما الحبّ إلّا هكذا ... إن نكح الحبّ فسد
ثم قالت: كيف تعدون أنتم العشق؟ قلت: نمسك بقرنيها ونفرق بين رجليها. قالت: لست بعاشق أنت طالب ولد، ثم أنشأت تقول:
قد فسد العشق وهان الهوى ... وصار من يعشق مستعجلا
يريد أن ينكح أحبابه ... من قبل أن يشهد أو ينحلا
وقيل لرجل: وقد زفت عشيقته على ابن عم لها:(1/408)
أيسرك أن تظفر بها الليلة؟ قال: نعم والذي أمتعني بحبها وأشقاني بطلبها. قيل، فما كنت صانعا بها قال: كنت أطيع الحب في لثمها وأعصي الشيطان في إثمها، ولا أفسد عشق عشرين سنة بما يبقى ذميم عاره، وينشر قبيح أخباره، إني إذن للئيم لم يلدني كريم.
ومر سيدنا عمر رضي الله تعالى عنه في ليلة في بعض سكك المدينة، فسمع امرأة تقول:
ألا طال هذا الليل وازوّر جانبه «1» ... وليس إلى جنبي خليل ألا عبه
فو الله لولا الله تخشى عواقبه ... لحرك من هذا السرير جوانبه
مخافة ربّي والحياء يعفّني ... وإكرام بعلي أن تنال مراتبه
قال، فسأل عمر رضي الله تعالى عنه عنها، فقيل له:
إنها امرأة فلان، وله في الغزاة ثمانية أشهر، فأمر عمر رضي الله تعالى عنه أن لا يغيب الرجل عن امرأته أكثر من أربعة أشهر.
ومن ذلك ما ذكره ابن الجوزي في كتاب تلقيح فهوم الأثر عن محمد بن عثمان بن أبي خيثمة السلمي عن أبيه عن جده قال: بينما عمر بن الخطاب رضي الله تعالى عنه يطوف ذات ليلة في سكك المدينة إذ سمع امرأة تقول:
هل من سبيل إلى خمر فأشربها ... أم من سبيل إلى نصر بن حجاج
إلى فتى ماجد الأعراق مقتبل ... سهل المحيا كريم غير ملجاج «2»
تنميه أعراق صدق حين تنسبه ... أخي وفاء عن المكروب فرّاج
فقال عمر رضي الله تعالى عنه: لا أرى معي بالمدينة رجلا تهتف به العواتق «3» في خدورهن «4» . عليّ بنصر بن حجاج، فلما أصبح أتي بنصر بن حجاج، فإذا هو من أحسن الناس وجها وأحسنهم شعرا، فقال عمر: عزيمة من أمير المؤمنين لتأخذن من شعرك، فأخذ من شعره، فخرج من عنده وله وجنتان كأنهما شقتا قمر، فقال له:
اعتم فاعتم، فافتتن الناس بعينيه، فقال له عمر: والله لا تساكنني في بلدة أنا فيها، فقال يا أمير المؤمنين: ما ذنبي؟
قال: هو ما أقول لك، ثم سيره إلى البصرة وخشيت المرأة التي سمع منها عمر ما سمع أن يبدر من عمر إليها شيء فدست إليه المرأة أبياتا وهي:
قل للإمام الذي تخشى بوادره ... مالي وللخمر أو نصر بن حجاج
لا تجعل الظنّ حقّا أن تبيّنه ... إن السبيل سبيل الخائف الراجي
إن الهوى زمّ بالتقوى فتحبسه ... حتى يقرّ بإلجام وإسراج
قال، فبكى عمر رضي الله تعالى عنه وقال: الحمد لله الذي زم الهوى بالتقوى قال: وطال مكث نصر بن حجاج بالبصرة، فخرجت أمه يوما بين الأذان والإقامة متعرضة لعمر فإذا هو قد خرج في إزار ورداء وبيده الدرة، فقالت له: يا أمير المؤمنين والله لأقفن أنا وأنت بين يدي الله تعالى، وليحاسبك الله أيبيتن عبد الله وعاصم إلى جنبيك، وبيني وبين ابني الفيافي، والأودية، فقال لها: إن ابني لم تهتف بهما العواتق في خدورهن، ثم أرسل عمر إلى البصرة بريدا إلى عتبة بن غزوان فأقام أياما ثم نادى عتبة من أراد أن يكتب إلى أمير المؤمنين، فليكتب، فإن البريد خارج، فكتب نصر بن حجاج: بسم الله الرحمن الرحيم سلام عليك يا أمير المؤمنين أما بعد، فاسمع مني هذه الأبيات:
لعمري لئن سيرتني أو حرمتني ... وما نلت من عرضي عليك حرام
فأصبحت منفيّا على غير ريبة ... وقد كان لي بالمكّتين مقام
لئن غنت الذلفاء يوما بمنية ... وبعض أماني النساء غرام
ظننت بي الظن الذي ليس بعده ... بقاء ومالي جرمة فألام
فيمنعني ممّا تقول تكرّمي ... وآباء صدق سالفون كرام
ويمنعها ممّا تقول صلاتها ... وحال لها في قومها وصيام
فهاتان حالانا فهل أنت راجعي ... فقد جبّ مني كاهل وسنام «5»(1/409)
قال، فلما قرأ عمر رضي الله تعالى عنه هذه الأبيات قال: أما ولي السلطان، فلا، وأقطعه دارا بالبصرة في سوقها، فلما مات عمر ركب راحلته وتوجه نحو المدينة، والله سبحانه وتعالى أعلم.
الفصل الثالث من هذا الباب في ذكر من مات بالحب والعشق
حدّث أبو القاسم بن إسماعيل بن عبد الله المأمون قال:
حدثني أبي قال: كان بالمدينة قينة من أحسن الناس وجها وأكملهم عقلا وأكثرهم أدبا قد قرأت القرآن وروت الأشعار وتعلمت العربية فوقعت عند يزيد بن عبد الملك فأخذت بمجامع قلبه فقال لها ذات يوم: ويحك أما لك قرابة أو أحد تحبين أن أضيفه وأسدي إليه معروفا؟ قالت:
يا أمير المؤمنين أما قرابة فلا ولكن بالمدينة ثلاثة نفر كانوا أصدقاء لمولاي وأحب أن ينالهم خير مما صرت إليه.
فكتب إلى عامله بالمدينة في إحضارهم إليه وأن يدفع إلى كل واحد منهم عشرة آلاف درهم، فلما وصلوا إلى باب يزيد استؤذن لهم في الدخول عليه فأذن لهم وأكرمهم غاية الإكرام وسألهم عن حوائجهم فأما اثنان منهم فذكرا حوائجهما فقضاها، وأما الثالث فسأله عن حاجته فقال:
يا أمير المؤمنين ما لي حاجة، قال: ويحك أو لست أقدر على حوائجك؟ قال: بلى يا أمير المؤمنين ولكن حاجتي ما أظنك تقضيها فقال: ويحك فاسألني فإنك لا تسألني حاجة أقدر عليها إلا قضيتها، قال: بلى، فلي الأمان يا أمير المؤمنين؟ قال: نعم، إن رأيت يا أمير المؤمنين أن تأمر جاريتك فلانة التي أكرمتنا بسببها تغني ثلاثة أصوات أشرب عليها ثلاثة أرطال فافعل قال: فتغير وجه يزيد ثم قام من مجلسه فدخل على الجارية فأعلمها فقالت: وما عليك يا أمير المؤمنين فأمر بالفتى فأحضر وأمر بثلاثة كراسي من ذهب فنصبت فقعد يزيد على أحدها والجارية على الآخر والفتى على الثالث ثم دعا بصنوف الرياحين والطيب فوضعت ثم أمر بثلاثة أرطال فملئت ثم قال للفتى: سل حاجتك فقال: تأمرها يا أمير المؤمنين أن تغني بهذا الشعر:
لا أستطيع سلوّا عن مودتها ... أو يصنع الحبّ بي فوق الذي صنعا
أدعو إلى هجرها قلبي فيسعدني ... حتى إذا قلت هذا صادق نزعا «1»
فأمرها فغنت وشرب يزيد وشرب الفتى وشربت الجارية ثم أمر بالأرطال فملئت وقال للفتى سل حاجتك فقال:
مرها يا أمير المؤمنين أن تغني بهذا الشعر:
تخيرت من نعمان عود أراكة ... لهند ولكن من يبلّغه هندا
ألا عرّجا بي بارك الله فيكما ... وإن لم تكن هند لأرضكما قصدا
فأمرها فغنت وشرب يزيد وشرب الفتى وشربت الجارية ثم أمر بالأرطال فملئت ثم قال للفتى سل حاجتك؟ قال:
تأمرها يا أمير المؤمنين أن تغني بهذا الشعر:
منيّ الوصال ومنكم الهجر ... حتى يفرّق بيننا الدّهر
والله لا أسلوكمو أبدا ... ما لاح بدر أو بدا فجر
فأمرها فغنت قال: فلم تتم الأبيات حتى خرّ الفتى مغشيا عليه فقال يزيد للجارية: قومي انظري ما حاله فقامت إليه فحركته فإذا هو ميت، فقال لها يزيد: ابكيه، فقالت: لا أبكيه يا أمير المؤمنين وأنت حي، فقال لها:
ابكيه فوالله لو عاش ما انصرف إلا بك، فبكت الجارية وبكى أمير المؤمنين وأمر بالفتى فجهز ودفن، وأما الجارية فلم تمكث بعده إلا أياما قلائل وماتت.
وحكي عن عبد الله بن جعفر بن أبي طالب رضي الله تعالى عنه أنه قدم على عبد الملك بن مروان فجلس ذات ليلة يسامره فتذاكرا الغناء والجواري المغنيات والعشق فقال عبد الملك لعبد الله: حدثني بأمر ما مر لك في هذه الأغاني وما رأيت من الجواري؟ قال: نعم يا أمير المؤمنين اشتريت جارية مولدة بعشرة آلاف درهم وكانت حاذقة مطبوعة فوصفت ليزيد بن معاوية فكتب إلي في شأنها فكتبت إليه: والله لا تخرج مني ببيع ولا هبة فأمسك عني فكانت عندي على تلك الحالة لا أزداد فيها إلا حبا، فبينما أنا ذات ليلة إذ أتتني عجوز من عجائزنا فذكرت لي أن بعض أعراب المدينة يحبها وتحبه ويراها وتراه وإنه يجيء كل ليلة متنكرا فيقف بالباب فيسمع غناءها ويبكي شغفا وحبا، فراعيت ذلك الوقت الذي قالت عليه العجوز فإذا به قد أقبل مقنعا رأسه وقعد مستخفيا فلم أدع بها في تلك الليلة وجعلت أتأمل موضعها وموضعه فإذا بها تكلمه ويكلمها ولم أر بينهما إلا عتبا ولم يزالا كذلك حتى ابيض الصبح فدعوت بها وقلت لقيّمة الجواري أصلحي فلانة بما يمكنك فأصلحتها وزينتها، فلما جاءت بها قبضت على(1/410)
يديها وفتحت الباب وخرجت فجئت إلى الفتى فحركته فانتبه مذعورا فقلت: لا بأس عليك ولا خوف هي هبة مني إليك، فدهش الفتى ولم يجبني فدنوت إلى أذنه وقلت: قد أظفرك الله تعالى ببغيتك فقم وانصرف بها إلى منزلك فلم يرد جوابا فحركته فإذا هو ميت فلم أر شيئا قط كان أعجب من أمره. قال عبد الملك: لقد حدثتني بعجب فما صنعت الجارية؟ قلت: ماتت والله بعده بأيام بعد نحول عظيم وتعليل وماتت كمدا ووجدا على الغلام.
وقيل أن عبد الله بن عجلان الهندي رأى أثر كف عشيقته في ثوب زوجها فمات.
وذكر محمد بن واسع الهيتي أن عبد الملك بن مروان بعث كتابا إلى الحجاج بن يوسف الثقفي يقول فيه: بسم الله الرحمن الرحيم من عند عبد الملك بن مروان إلى الحجاج بن يوسف، أما بعد ... إذا ورد عليك كتابي هذا وقرأته فسير لي ثلاث جوار مولدات أبكارا يكون إليهن المتنهى في الجمال وأكتب لي بصفة كل جارية منهن ومبلغ ثمنها من المال فلما ورد الكتاب على الحجاج دعا بالنخاسين وأمرهم بما أمره به أمير المؤمنين وأمرهم أن يسيروا إلى أقصى البلاد حتى يقعوا بالغرض وأعطاهم المال وكتب لهم كتبا إلى كل الجهات فساروا يطلبون ما أراد أمير المؤمنين فلم يزالوا من بلد إلى بلد ومن إقليم إلى إقليم حتى وقعوا بالغرض ورجعوا إلى الحجاج بثلاث جوار مولدات ليس لهن مثيل قال: وكان الحجاج فصيحا فجعل ينظر إلى كل واحدة منهن ومبلغ ثمنها فوجدهن لا يقام لهن بقيمة وأن ثمنهن ثمن واحدة منهن ثم كتب كتابا إلى عبد الملك بن مروان يقول فيه بعد الثناء الجميل:
وصلني كتاب أمير المؤمنين أمتعني الله تعالى ببقائه يذكر فيه أني أشتري له ثلاث جوار مولدات أبكارا وأن أكتب له صفة كل واحدة منهن وثمنها فأما الجارية الأولى أطال الله تعالى بقاء أمير المؤمنين فإنها جارية عيطاء السوالف عظيمة الروادف كحلاء العينين حمراء الوجنتين قد أنهدت نهداها والتفت فخذاها كأنها ذهب شيب بفضة وهي كما قيل:
بيضاء فيها إذا استقبلتها دعج ... كأنها فضّة قد شابها ذهب
وثمنها يا أمير المؤمنين ثلاثون ألف درهم، وأما الثانية فأنها جارية فائقة في الجمال معتدلة القدر والكمال تشفي السقيم بكلامها الرخيم وثمنها يا أمير المؤمنين ستون ألف درهم، وأما الثالثة، فإنها جارية فاترة الطرف لطيفة الكف عميمة الردف شاكرة للقليل مساعدة للخليل بديعة الجمال كأنها خشف الغزال وثمنها يا أمير المؤمنين ثمانون ألف درهم ثم أطنب في الشكر والثناء على أمير المؤمنين وطوى الكتاب وختمه ودعا النخاسين فقال لهم: تجهزوا للسفر بهؤلاء الجواري إلى أمير المؤمنين. فقال أحد النخاسين:
أيد الله الأمير إني رجل كبير ضعيف عن السفر ولي ولد ينوب عني أفتأذن لي في ذلك؟ قال: نعم، فتجهزوا وخرجوا ففي بعض مسيرهم نزلوا يوما ليستريحوا في بعض الأماكن فنامت الجواري فهبت الريح فانكشف بطن إحداهن وهي الكوفية فبان نور ساطع وكان اسمها مكتوم فنظر إليها ابن النخاس وكان شابا جميلا ففتن بها لساعته فأتاها على غفلة من أصحابه وجعل يقول:
أمكتوم عيني لا تملّ من البكا ... وقلبي بأسهام الأسى يترشّق
أمكتوم كم من عاشق قتل الهوى ... وقلبي رهين كيف لا أتعشّق
فأجابته تقول:
لو كان حقا ما تقول لزرتنا ... ليلا إذا هجعت عيون الحسّد
قال: فلما جن الليل انتضى الفتى ابن النخاس سيفه وأتى نحو الجارية فوجدها قائمة تنتظر قدومه فأخذها وأراد أن يهرب ففطن به أصحابه فأخذوه وكتفوه وأوثقوه بالحديد ولم يزل مأسورا معهم إلى أن قدموا على عبد الملك بن مروان فلما مثلوا بالجواري بين يديه أخذ الكتاب ففتحه وقرأه فوجد الصفة وافقت اثنتين من الجواري ولم توافق الثالثة ورأى في وجهها صفرة وهي الجارية الكوفية فقال للنخاسين: ما بال هذه الجارية لم توافق حليتها التي ذكرها الحجاج في كتابه وما هذا الاصفرار الذي بها والانتحال فقالوا يا أمير المؤمنين نقول ولنا الأمان، قال: وإن كذبتم هلكتم. فخرج أحد النخاسين وأتى بالفتى وهو مصفّد بالحديد فلما قدموه بين يدي أمير المؤمنين بكى بكاء شديدا وأيقن بالعذاب ثم أنشأ يقول:
أمير المؤمنين أتيت رغما ... وقد شدّت إلى عنقي يديّا
مقرّا بالقبيح وسوء فعلي ... ولست بما رميت به بريّا
فإن تقتل ففوق القتل ذنبي ... وأن تعفو فمن جود عليّا
فقال عبد الملك: يا فتى ما حملك على ما صنعت(1/411)
استخفاف بنا أم هوى الجارية، قال: وحق رأسك يا أمير المؤمنين وعظم قدرك ما هو إلا هوى الجارية فقال: هي لك بما أعددته لها فأخذها الغلام بكل ما أعده لها أمير المؤمنين من الحلي والحلل وسار بها فرحا مسرورا إلى نحو أهله حتى إذا كانا ببعض الطريق نزلا بمرحلة ليلا فتعانقا وناما فلما أصبح الصباح وأراد الناس السير نبهوهما فوجدوهما ميتين فبكوا عليهما ودفنوهما بالطريق ووصل خبرهما إلى عبد الملك فبكى عليهما وتعجب من ذلك.
ومن ذلك ... ما روي عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه أخرج خالد بن الوليد المخزومي رضي الله تعالى عنه إلى مشركي خزاعة قال خالد: فأخرجني إليهم رسول الله صلى الله عليه وسلم في عشرة آلاف فارس من أهل النجدة والبأس قال: فجد بنا المسير إليهم فسبق إليهم الخبر فخرجوا إلينا فقاتلناهم قتالا شديدا حتى تعالى النهار وطار الشرار وهاجت الفرسان وتلاحمت الأقران فلولا الله تعالى أيدنا بنصره لكادت الدائرة أن تكون علينا ولكن تداركنا الله برحمة منه فهزمناهم وقتلناهم قتلا ذريعا ولم ندع لهم فارسا إلا قتلناه. ثم طلبنا البيوت فنهبنا وسبينا. فلما هدأ القتال والنهب أمرت أصحابي بجمع السبايا لنقدم بهن على رسول الله صلى الله عليه وسلم. فلما خرجنا وأحصيناهم، خرج منهم غلام لم يراهق الحلم، ولم يجر عليه القلم، وهو ماسك بشابة جميلة فقلنا له: يا غلام انعزل عن النساء فصاح صيحة مزعجة وهجم علينا فو الله لقد قتل منا في بقية نهارنا مائة رجل، قال خالد: فرأيت أصحابي قد كرهوا قتاله، وتأخروا عنه فملك منهم جوادا وعلا على ظهره ونادى: البراز يا خالد قال: فبرزت إليه بنفسي بعد أن أنشدت شعرا فو الله لم يمهلني حتى أتم شعري بل حمل علي فتطاعنا حتى تكسرت القنا وتضاربنا بالسيوف حتى تفللت فوالله لقد اقتحمت الأهوال ومارست الأبطال فما رأيت أشد من حملاته ولا أسرع من هجماته فبينما نحن نعترك إذ كبا به فرسه فصار بين قوائمه فوثبت عليه وعلوت على صدره وقلت له: إفد نفسك بقول أشهد أن لا إله إلا الله وأن محمدا رسول الله، وأنا أردك من حيث جئت، قال: يا خالد ما أنصفتني أتركني حتى أجد من نفسي القوة، قال خالد: فتركته، وقلت: لعله أن يسلم ثم شددته وثاقا وصفدته بالحديد وأنا أبكي إشفاقا على حسن شبابه ثم أوثقته على بعير لي فلما علم أن لا خلاص له قال: يا خالد سألتك بحق إلهك إلا ما شددت ابنة عمي على ناقة أخرى إلى جانبي؟ قال خالد: فأخذتها وشددتها على ناقة أخرى إلى جانبه ووكلت بهما جماعة من أشد القوم بالقواضب والرماح وسرنا، فلما استقامت مطاياهما جعل الغلام والجارية يتناشدان الأشعار ويبكيان إلى آخر الليل فسمعته يذكر قصيدة يسب فيها الإسلام ويذكر أن لا يسلم أبدا فأخذت السيف وضربته فرميت رأسه فصاحت الجارية وأكبت صارخة فحركتها فوجدتها ميتة فأبركنا الأباعر وحفرنا ودفناهما فلما قدمنا على رسول الله صلى الله عليه وسلم أقبلنا نحدثه بعجيب ما رأينا مع الغلام فقال: لا تحدثوني شيئا أنا أحدثكم به فقلنا: من أعلمك به يا رسول الله؟
قال: أخبرني جبريل عليه السلام وتعجب رسول الله صلى الله عليه وسلم من موافقتهما وموافقة أجلهما.
ومن ذلك، ما حكاه الثوري، قال: حدثني جبلة بن الأسود وما رأيت شيخا أصبح ولا أوضح منه قال:
خرجت في طلب إبل لي ضلت، فما زلت في طلبها إلى أن أظلم الظلام، وخفيت الطريق، فسرت أطوف وأطلب الجادة فلا أجدها فبينما أنا كذلك إذ سمعت صوتا حسنا بعيدا وبكاء شديدا فشجاني حتى كدت أسقط عن فرسي؛ فقلت: لأطلبن الصوت ولو تلفت نفسي فما زلت أقرب إليه إلى أن هبطت واديا فإذا راع قد ضم غنما له إلى شجرة وهو ينشد ويترنم:
وكنت إذا ما جئت سعدى أزورها ... أرى الأرض تطوى لي ويدنو بعيدها
من الخفرات البيض ودّ جليسها ... إذا ما انقضت أحدوثة لو تعيدها
قال فدنوت منه وسلمت عليه فرد السلام وقال: من الرجل؟ فقلت: منقطع به الممالك، أتاك يستجير بك، ويستعينك، قال: مرحبا وأهلا انزل على الرحب والسعة فعندي وطاء وطيء وطعام غير بطيء. فنزلت فنزع شملته وبسطها تحتي ثم أتاني بتمر وزبد ولبن وخبز ثم قال:
اعذرني في هذا الوقت. فقلت: والله ان هذا لخير كثير.
فمال إلى فرسي فربطه وسقاه وعلفه فلما أكلت توضأت وصليت واتكأت فإني لبين النائم واليقظان إذ سمعت حس شيء وإذا بجارية قد أقبلت من كبد الوادي فضحت الشمس حسنا فوثب قائما إليها وما زال يقبل الأرض حتى وصل إليها وجعل يتحادثان. فقلت: هذا رجل عربي ولعلها حرمة له، فتناومت وما بي نوم فما زالا في أحسن حديث ولذة مع شكوى وزفرات إلا أنهما لا يهم أحدهما لصاحبه بقبيح فلما طلع الفجر عانقها وتنفسا الصعداء وبكى وبكت ثم قال لها: يا ابنة العم سألتك بالله لا تبطئي عني كما أبطأت الليلة، قالت: يا ابن العم أما علمت أني(1/412)
أنتظر الواشين والرقباء حتى يناموا. ثم ودعته وسارت وكل واحد منهما يلتفت نحو الآخر ويبكي. فبكيت رحمة لهما وقلت في نفسي: والله لا أنصرف حتى أستضيفه الليلة وأنظر ما يكون من أمرهما فلما أصبحنا قلت له: جعلني الله فداءك، الأعمال بخواتيمها وقد نالني أمس تعب شديد فأحب الراحة عندك اليوم، فقال: على الرحب والسعة لو أقمت عندي بقية عمرك ما وجدتني إلا كما تحب؛ ثم عمد إلى شاة فذبحها وقام إلى نار فأججها وشواها وقدمها إلي فأكلت وأكل معي إلا أنه أكل أكل من لا يريد الأكل فلم أزل معه نهاري ذلك ولم أر أشفق منه على غنمه ولا ألين جانبا ولا أحلى كلاما إلا أنه كالولهان ولم أعلمه بشيء مما رأيت فلما أقبل الليل وطأت وطائي فصليت وأعلمته أني أريد الهجوع لما مر بي من التعب بالأمس، فقال لي: نم هنيئا، فأظهرت النوم ولم أنم فأقام ينتظرها إلى هنيهة من الليل فأبطأت عليه فلما حان وقت مجيئها قلق قلقا شديدا وزاد عليه الأمر فبكى ثم جاء نحوي فحركني فأوهمته أني كنت نائما فقال: يا أخي، هل رأيت الجارية التي كانت تتعهدني وجاءتني البارحة، قلت: قد رأيتها، قال: فتلك ابنة عمي وأعز الناس علي وإني لها محب ولها عاشق وهي أيضا محبة لي أكثر من محبتي لها وقد منعني أبوها من تزويجها لي لفقري وفاقتي وتكبر علي فصرت راعيا بسببها فكانت تزورني في كل ليلة وقد حان وقتها الذي تأتي فيه واشتغل قلبي وتحدثني نفسي أن الأسد قد افترسها، ثم أنشأ يقول:
ما بال ميّة لا تأتي كعادتها ... أعاقها طرب أم صدّها شغل
نفسي فداؤك قد أهللت بي سقما ... تكاد من حرّه الأعضاء تنفصل «1»
قال: ثم انطلق عني ساعة فغاب وأتى بشيء فطرحه بين يدي فإذا هي الجارية قد قتلها الأسد وأكل أعضاءها وشوه خلقتها ثم أخذ السيف وانطلق فأبطأ هنيهة وأتى ومعه رأس الأسد فطرحه ثم أنشأ يقول:
إلا أيها الليث المدلّ بنفسه ... هلكت لقد جرّيت حقا لك الشّرا
وخلفتني فردا وقد كنت آنسا ... وقد عادت الأيام من بعدها غبرا «2»
ثم قال: بالله يا أخي إلا ما قبلت ما أقول لك فإني أعلم أن المنية قد حضرت لا محالة فإذا أنا مت فخذ عباءتي هذه فكفني فيها وضم هذا الجسد الذي بقي منها معي، وادفنا في قبر واحد وخذ شويهاتي «3» هذه وجعل يشير إليها فسوف تأتيك امرأة عجوز هي والدتي فأعطها عصاي هذه وثيابي وشويهاتي وقل لها: مات ولدك كمدا بالحب فإنها تموت عند ذلك فادفنها إلى جانب قبرنا وعلى الدنيا مني السلام.
قال: فو الله ما كان إلا قليل حتى صاح ووضع يده على صدره ومات لساعته، فقلت: والله لأصنعن له ما أوصاني به فغسلته وكفنته في عباءته وصليت عليه ودفنته ودفنت باقي جسدها إلى جانبه وبت تلك الليلة باكيا حزينا فلما كان الصباح أقبلت امرأة عجوز وهي كالولهانة فقالت لي:
هل رأيت شابا يرعى غنما فقلت لها: نعم، وجعلت أتلطف بها ثم حدثتها بحديثه وما كان من خبره فأخذت تصيح وتبكي وأنا ألاطفها إلى أن أقبل الليل وما زالت تبكي بحرقة إلى أن مضى من الليل برهة فقصدت نحوها فإذا هي مكبة على وجهها وليس لها نفس يصعد ولا جارحة تتحرك فحركتها فإذا هي ميتة فغسلتها وصليت عليها ودفنتها إلى جانب قبر ولدها وبت الليلة الرابعة فلما كان الفجر قمت فشددت فرسي وجمعت الغنم وسقتها فإذا أنا بصوت هاتف يقول:
كنّا على ظهرها والدهر يجمعنا ... والشمل مجتمع والدار والوطن
فمزّق الدهر بالتفريق ألفتنا ... وصار يجمعنا في بطنها الكفن
قال: فأخذت الغنم ومضيت إلى الحي لبني عمهم فأعطيتهم الغنم وذكرت لهم القصة فبكى عليهم أهل الحي بكاء شديدا ثم مضيت إلى أهلي وأنا متعجب مما رأيت في طريقي.
ومن ذلك ... ما حكي أن زوج عزة أراد أن يحج بها فسمع كثير الخبر فقال: والله لأحجنّ لعلي أفوز من عزة بنظرة، قال: فبينما الناس في الطواف إذ نظر كثير لعزة وقد مضت إلى جملة فحيته ومسحت بين عينيه وقالت له: يا جمل فبادر ليلحقها ففاتته فوقف على الجمل وقال:
حيتّك عزة بعد الحجّ وانصرفت ... فحيّ ويحك من حيّاك يا جمل(1/413)
لو كنت حيّيتها ما كنت ذا سرف ... عندي ولا مسّك الإدلاج والعمل
قال: فسمعه الفرزدق فتبسم وقال له: من تكون يرحمك الله قال: أنا كثير عزة فمن أنت يرحمك الله؟ قال:
أنا الفرزدق بن غالب التميمي، قال: أنت القائل:
رحلت جمالهم بكلّ أسيلة ... تركت فؤادي هائما مخبولا «1»
لو كنت أملكهم إذا لم يرحلوا ... حتى أودّع قلبي المتبولا «2»
ساروا بقلبي في الحدوج وغادروا ... جسمي يعالج زفرة وعويلا «3»
فقال الفرزدق: نعم، فقال كثير: والله لولا إني بالبيت الحرام لأصيحن صيحة أفزع هشام بن عبد الملك وهو على سرير ملكه، فقال الفرزدق: والله لأعرّفن بذلك هشاما ثم توادعا وافترقا فلما وصل الفرزدق إلى دمشق دخل إلى هشام بن عبد الملك فعرّفه بما اتفق له مع كثير فقال له: اكتب إليه بالحضور عندنا لنطلق عزة من زوجها ونزوجه إياها، فكتب إليه بذلك فخرج كثير يريد دمشق فلما خرج من حيه وسار قليلا رأى غرابا على بانة وهو يفلي نفسه وريشه يتساقط فاصفر لونه وارتاع من ذلك وجدّ في السير ثم إنه مال ليسقي راحلته من حي بني فهد وهم زجرة الطير فبصر به شيخ من الحي فقال: يا ابن أخي أرأيت في طريقك شيئا فراعك؟ قال: نعم رأيت غرابا على بانة يتفلى وينتف ريشه فقال له الشيخ: أما الغراب فإنه اغتراب والبانة بين والتفلي فرقة، فازداد كثير حزنا على حزنه لما سمع من الشيخ هذا الكلام وجدّ في السير إلى أن وصل إلى دمشق ودخل من أحد أبوابها فرأى الناس يصلون على جنازة فنزل وصلى معهم، فلما قضيت الصلاة صاح صائح لا إله إلا الله ما أغفلك يا كثير عن هذا اليوم، فقال: ما هذا اليوم يا سيدي؟ فقال: إن هذه عزة قد ماتت وهذه جنازتها فخر مغشيا عليه، فلما أفاق أنشأ يقول:
فما أعرف الفهدي لا درّ دره ... وأزجره للطير لا عزّ ناصره
رأيت غرابا قد علا فوق بانة ... ينتّف أعلى ريشه ويطايره
فقال غراب واغتراب من النوى ... وبانة بين من حبيب تعاشره
ثم شهق شهقة فارقت روحه الدنيا ومات من ساعته ودفن مع عزة في يوم واحد.
وحكى الأصمعي: قال: بينما أنا أسير في البادية إذ مررت بحجر مكتوب عليه هذا البيت:
أيا معشر العشّاق بالله خبروا ... إذا حل عشق بالفتى كيف يصنع
فكتبت تحته:
يداري هواه ثم يكتم سرّه ... ويخشع في كلّ الأمور ويخضع
ثم عدت في اليوم الثاني فوجدت مكتوبا تحته:
فكيف يداري والهوى قاتل الفتى ... وفي كلّ يوم قلبه يتقطع
فكتبت تحته:
إذا لم يجد صبرا لكتمان سرّه ... فليس له شيء سوى الموت أنفع
ثم عدت في اليوم الثالث فوجدت شابا ملقى تحت ذلك الحجر ميتا لا حول ولا قوة إلا بالله العلي العظيم وقد كتب قبل موته:
سمعنا أطعنا ثم متنا فبلغوا ... سلامي على من كان للوصل يمنع
وحكي أيضا عن الأصمعي رحمه الله تعالى أنه قال:
بينما أنا نائم في بعض مقابر البصرة إذ رأيت جارية على قبر تندب وتقول:
بروحي فتى أوفى البرية كلها ... وأقواهم في الحبّ صبرا على الحب
قال: فقلت لها: يا جارية بم كان أوفى البرية وبم كان أقواها؟ فقالت: يا هذا، إنه ابن عمي هويني فهويته فكان إن أباح عنفوه وإن كتم لاموه فأنشد بيتي شعر وما زال يكررهما إلى أن مات؛ والله لأندبنه حتى أصير مثله في قبر إلى جانبه فقلت لها: يا جارية فما البيتان؟ قالت:
يقولون لي إن بحت قد غرّك الهوى ... وإن لم أبح بالحبّ قالوا تصبّرا(1/414)
فما لامرىء يهوى ويكتم أمره ... من الحبّ إلّا أن يموت فيعذرا
ثم إنها شهقت فارقت روحها الدنيا رحمة الله تعالى عليها والحكايات في ذلك كثيرة، وفي الكتب مشهورة ولولا الإطالة والخوف من الملالة لجمعنا في هذا المعنى أشياء كثيرة، ولكن اقتصرنا على هذه النبذة اليسيرة والله سبحانه وتعالى أعلم، وصلى الله على سيدنا محمد وعلى آله وصحبه وسلم.
الباب الثاني والسبعون في ذكر دقائق الشعر والمواليا والدوبيت وكان وكان والموشحات والزجل والحماق والقومة والالغاز ومدح الأسماء والصفات وما أشبه ذلك
وفيه فصول
الفصل الأول في الشعر
قد قسم الناس الشعر خمسة أقسام:
مرقص كقول أبي جعفر طلحة وزير سلطان الأندلس:
والشمس لا تشرب خمر الندى ... في الروض إلا من كؤوس الشقيق
ومطر كقول زهير:
تراه إذا ما جئته متهلّلا ... كأنّك تعطيه الذي أنت سائله
ومقبول كقول طرفة بن العبد:
ستبدي لك الأيام ما كنت جاهلا ... ويأتيك بالأخبار من لم تزوّد
ومسموع مما يقام به الوزن دون أن يمجه الطبع كقول ابن المعتز:
سقى المطيرة ذات الظلّ والشجر ... ودير عبدون هطّال من المطر
ومتروك وهو ما كان كلّا على السمع والطبع كقول الشاعر:
تقلقلت بالهمّ الذي قلقل الحشى ... قلاقل همّ كلّهنّ قلاقل «1»
وقد قسم الناس فنون الشعر إلى عشرة أبواب حسبما بوب أبو تمام في الحماسة، وقال عبد العزيز بن أبي الأصبع الذي وقع لي أن فنون الشعر ثمانية عشر فنا وهي:
غزل ووصف وفخر ومدح وهجاء وعتاب واعتذار وأدب وزهد وخمريات ومراث وبشارة وتهاني ووعيد وتحذير وتحريض وملح، وباب مفرد للسؤال والجواب. ولنذكر إن شاء الله تعالى من ذلك ما تيسر على سبيل الاختصار.
ولنبدأ من ذلك بذكر الغزل المذكر (ابن نباتة) :
أأغصان بان ما أرى أم شمائل ... وأقمار تم ما تضمّ الغلائل
وبيض رقاق أم جفون فواتر ... وسمر دقاق أم قدود قواتل
وتلك نبال أم لحاظ رواشق ... لها هدف منّي الحشى والمقاتل
بروحي أفدي شادنا قد ألفته ... غدوت وبي شغل من الوجد شاغل
أمير جمال والملاح جنوده ... يجور علينا قدّه وهو عادل
له حاجب عن مقلتي حجب الك ... رى وناظره الفتّان في القلب عامل «2»
رفعت إليه قصّة الدمع شاكيا ... فوقّع يجري فهو في الخد سائل
شكوت فما ألوي وقلت فما صغى ... وجدّ بقلبي حبه وهو عازل
طويل التواني دلّه متواتر ... مديد التجنّي وافر الحسن كامل
أطارحه بالنحو يوما تعلّلا ... فيبدو وللإعراب فيه دلائل
ويرفع وصلي وهو مفعول في الهوى ... وينصب هجري عامدا وهو فاعل
تفقهت في عشقي له مثل ما غدا ... خبيرا بأحكام الخلاف يجادل(1/415)
فيا مالكي ما ضرّ لو كنت شافعي ... بوصلك فافعل بي كما أنت فاعل
فإني حنيفي الهوى متحنبل ... بعشقك لا أصغي وإن قال قائل «1»
كمال الدين بن النبيه:
الله أكبر كلّ الحسن في العرب ... كم تحت لمّة ذا التركي من عجب
صبح الجبين بليل الشعر منعقدّ ... والخد يجمع بين الماء واللهب «2»
تنفّست عن عبير الراح ريقته ... وافترّ مبسمه الشهدي عن حبب
لا في العذيب ولا في بارق غزلي ... بل في جنى فمه أو ريقه الشنب «3»
كأنّه حين يرمي عن حنيته ... بدر رمى عن هلال الأفق بالشهب
يا جاذب القوس تقريبا لوجنته ... والهائم الصبّ منها غير مقترب
أليس من نكد الأيام يحرمها ... فمي ويلثمها سهم من الخشب
من لي بأغيد قاسي القلب مبتسم ... لا عن رضا معرض عني بلا غضب
فكم له في وجود الذنب من سبب ... وليس لي في قيام العذر من سبب
تميل أعطافه تيها بطرّته ... كما تميل رماح الخط بالعذب «4»
أشار نحوي وجنح الليل معتكر ... بمعصم بشعاع الكأس مختضب
بكر جلالها أبوها قبل ما جليت ... في حجر لدن أو في قشرة العنب
البها زهير:
يعاهدني لا خانني ثم ينكث ... وأحلف لا كلمته ثم أحنث
وذلك دأبي لا يزال ودأبه ... فيا معشر العشاق عنّا تحدثوا
أقول له صلني يقول نعم غدا ... ويكسر جفنا هازئا بي ويعبث
وما ضرّ بعض الناس لو كان زارني ... وكنّا خلونا ساعة نتحدث
أمولاي إنّي في هواك معذّب ... وحتّام أبقى في الغرام وأمكث
فخذ مرة روحي ترحني ولا أرى ... أموت مرارا في النهار وأبعث
فإنّي لهذا الضيم منك لحامل ... ومنتظر لطفا من الله يحدث
أعيذك من هذا الجفاء الذي بدا ... خلائقك الحسنى أرقّ وأدمث
تردّد ظن الناس فيّ فأكثروا ... أحاديث فيها ما يطيب ويخبث
وقد كرمت في الحبّ منّي شمائل ... ويسأل عني من أراد ويبحث
النابلسي:
ما كنت أعلم والضمائر تصدق ... أن المسامع كالنواظر تعشق «5»
حتى سمعت بذكركم فهويتكم ... وكذاك أسباب المحبّة تعلق
ولقد قنعت من اللقاء بساعة ... إن لم يكن لي بالدوام تطرّق «6»
قد ينعش العطشان بلّة ريقه ... ويغص بالماء الكثير ويشرق
فعسى عيوني أن ترى لك سيدي ... وجها يكاد الحسن فيه ينطق
أبو الحسين الجزار:
في خده من بقايا اللثم تخميش ... وبي لتشويش ذاك الصدع تشويش(1/416)
ظبي من الترك أغنته لواحظه ... عما حوته من النبل التراكيش
إذا تثنّى فقلب الغصن منكسر ... وإن تبدّى فطرف البدر مدهوش
يا عاذلي إن تكن عن حسن صورته ... أعمى فإني عما قلت أطروش
كم ليلة بات يسقيني المدام على ... روض له بثياب الغيم ترقيش
والغيث كالجيش يرتج الوجود له ... والبرق رايته والرعد جاويش
في مجلس ضحكت أرجاؤه طربا ... لأنه ببديع الزّهر مفروش
سيدي أبو الفضل بن أبي الوفاء:
ترى متى من فتور اللحظ ينتشط ... من قلبه بحبال الشعر مرتبط
قد رقّ لي خصره المضنى فناسبني ... فقلت خير الأمور الأنسب الوسط
وقد خفى الردف عني من تثاقله ... فقلت هذا على ضعفي هو الشطط
وصدره الرحب قد عانقته سحرا ... والقلب منبعث الآمال منبسط
وفيه تلك النهود المشتهاة ترى ... رمانها فيه قلبي أمره فرط
إنّ الصواب لتعجيل السرور فقم ... قبل الفوات فأوقات الهنا غلط «1»
القاضي مجد الدين بن مكانس:
أهدى تحيته وجاد بوعده ... أفديه من قمر بدا في سعده
بدر جرى ماء الحياة بثغره ... وتردّدت فضلاته في خدّه
أسكنته قلبي فأوقد خدّه ... نيران أحشائي عليه ووجده
من لي به حلو الشمائل أهيف ... روت العوالي عن مثقف قدّه «2»
يا عاذلي في حبّه لو أبصرت ... عيناك فوق الردف مسبل جعده «3»
لعذرت كلّ متيم في حبّه ... وعلمت أن ضلاله في رشده
فو حق موتي في هواه صبابة ... وحياة مبسمه الشهي وبرده
ما جاد غيث الدمع إلا عن هوى ... خلع القلوب ببرقه وبرعده
قم يا رسول وأبلغ العشاق ما ... ألقاه من جور الحبيب وبعده
وإذا سألتك أن تؤدّي في الهوى ... خبري فصف فعل الغرام وأبده
عز الدين الموصلي:
والصحيح أن هذه الأبيات لابن نباتة لأنها في ديوانه:
نفس عن الحب ما أغفت وما غفلت ... بأي ذنب وقاك الله قد قتلت
دعها ومدمعها الجاري لقد لقيت ... ما قدّمت من أسى قلبي وما عملت
أفديك من ناشط الأجفان في تلفي ... والسحر يوهم لي أنها كسلت
وأوضح الحسن لو شاءت ذوائبه ... في الأفق وصل دجا الظلماء لاتصلت
معسّل بنعاس في لواحظه ... أما تراها إلى كل القلوب حلت
من لي بألحاظ ظبي يدّعي كسلا ... وكم ثياب ضنى حاكت وكم غزلت
وحمرة فوق خدّيه ومرشفه ... هذي محاسنها تزهو وذي ذبلت
أما كفاني تكحيل الجفون أسى ... حتى المراشف منه باللمى كحلت
أستودع الله أعطافا شوت كبدي ... وكلما رمت تجديد الوصال قلت «4»
ومهجة لي كم ألقت بمسمعها ... إلى الملام ولا والله ما قبلت
غيره للفاضل:(1/417)
شرخ الشباب بحبكم أفنيته ... والعمر في كلف بكم قضّيته «1»
وأنا الذي لو مرّ بي من نحوكم ... داع وكنت بحفرتي لبّيته «2»
كيف التعرّض للسلو وحبّكم ... حبّ بأيام الشباب شريته
لله داء في الفؤاد أجنّه ... يزداد نكسا كلّما دوايته «3»
قالوا حبيبك في التجنّي مسرف ... قاس على العشاق قلت فديته
أأروم من كلفي عليه تخلصّا ... لا والذي بطحاء مكة بيته
ولو استطعت بكل إسم في الورى ... من لذّة الذكرى به سميته
وللشيخ بدر الدين الدماميني:
سلّ سيفا من الجفون صقيلا ... مذ تصدى جلاه رحت قتيلا
صح عن جفنه حديث فتور ... وهو ما زال من قديم عليلا
مرّ أبدى لنا من الخصر ردفا ... فأرانا مع الخفيف ثقيلا «4»
ذو قوام كأنّه الغصن لكن ... بالهوى نحو وصلنا لن يميلا
فكامل الحسن وافر ظل وجدي ... فيه يا عاذلي مديدا طويلا «5»
فاتك الجفن ذو الجمال كثير ... أتلف العاشقين إلّا قليلا
قلت إذ لاح طرفه ولماه ... فاتر اللحظ بكرة وأصيلا
كيف حالي وهل لصب إليه ... من سبيل فقال لي سل سبيلا
وقال آخر:
لو أنّ قلبك لي يرق ويرحم ... ما بتّ من ألم الجوى أتألم
ومن العجائب أنّني لا سهم لي ... من ناظريك وفي فؤادي أسهم «6»
يا جامع الضدين في وجناته ... ماء يرق عليه نار تضرم
عجبي لطرفك وهو ماض لم يزل ... فعلام يكسر عندما تتكلم
ومن المروءة أن تواصل مدنفا ... والدهر سمح والحوادث نوّم «7»
وقال آخر:
تصدّق بوعد إنّ دمعي سائل ... وزوّد فؤادي نظرة فهو راحل
فخدّك موجود به التبر دائما «8» ... وحسنك معدوم لديه المماثل «9»
أيا قمرا من شمس طلعة وجهه ... وظل عذاريه الدّجى والأصائل
تنقّلت من طرف مع القلب والهوى ... وهاتيك للبدر المنير منازل
جعلتك للتمييز نصبا لخاطري ... فهلّا رفعت الهجر والهجر فاعل
وقال ابن صابر:
قبّلت وجنته فألفت جيده ... خجلا ومال بعطفه الميّاس
فانهلّ من خديه فوق عذاره ... عرق يحاكي الطلّ فوق الآس «10»
فكأنّني استقطرت ورد خدوده ... بتصاعد الزفرات من أنفاسي
وقال آخر:
وغزال كل من شبّهه ... بهلال أو ببدر ظلمه(1/418)
قال إذا قبّلت وهما فمه ... قد تعدّيت وأسرفت فمه «1»
وقال آخر:
بأبي غلام لست غير غلامه ... مذ جاد لي بسلامه وكلامه
ذو حاجب ما إن رأيت كنونه ... أبدا وصدغ ما رأيت كلامه «2»
وقال جمال الدين بن مطروح:
ذكر الحمى فصبا وكان قد ارعوى ... صب على عرش الغرام قد استوى
تجري مدامعه ويخفق قلبه ... مهما جرى ذكر العقيق مع اللوى
وإذا تألّق بارق من بارق ... فهناك ينشر من هواه ما انطوى
فخذوا أحاديث الهوى عن صادق ... ما ضلّ في شرع الغرام وما غوى
وبمهجتي رشأ أطالت عذّلي ... فيه الملام وقد حوى ما قد حوى «3»
قالوا أفيه سوى رشاقة قدّه ... وفتور عينيه وهل موتي سوى
ما أبصرته الشمس إلّا واكتست ... خجلا ولا غصن النقا إلّا التوى
يروي الأراك محاسنا عن ثغره ... يا طيب ما نقل الأراك وما روى
وقال آخر:
عبث النسيم بقدّه فتأودا ... وسرى الحياء بخده فتوّردا
رشأ تفرّد فيه قلبي بالهوى ... لما غدا بجماله متفردا
قاسوه بالغصن الرطيب جهالة ... تالله قد ظلم المشبّه واعتدى
حسن الغصون إذا اكتست أوراقها ... وتراه أحسن ما يكون مجردا
وقال غيره:
يا حسنا مالك لم تحسن ... إلى قلوب في الهوى متعبة
رقّمت بالورد وبالسوسن ... صفحة خد بالسنا مذهبّة
وقد أبى خدك أن أجتني ... منه وقد ألسعني عقربه «4»
يا حسنه إذ قال ما أحسني ... ويا لذاك اللفظ ما أعذبه
قلت له كلّك عندي سنا ... وكل ألفاظك مستعذبه
ففوّق السهم ولم يخطني ... ومذ رآني ميّتا أعجبه «5»
وقال كم من عاشق أحبّني ... وحبه إياي قد أتعبه
يرحمه الله على أنني ... قتلي له لم أدر ما أوجبه
وقال آخر:
مليح يغار الغصن عند اهتزازه ... ويخجل بدر التمّ عند شروقه
فما فيه معنى ناقص غير خصره ... وما فيه شيء بارد غير ريقه «6»
وقال يحيى بن أكثم:
دنا هاجري نحوي بمقلته الكحلا ... فلما رأى ذلّي ثنى عطفه دلّا
فتيّمني شوقا وأنحلني أسى ... وأفقدني صبرا وأعدمني عقلا
شكوت فما ألوى وولّى وما لوى ... وأعرض مزورّا فسلّ الحشى سلا
إذا ما دعاه فرط سقمي لزورة ... يناديه فرط العجب من عطفه كلّا(1/419)
وقال أيضا:
بأبي غزالا غازلته مقلتي ... بين العذيب وبين شطي بارق
وسألت منه زورة تشفي الجوى ... فأجابني عنها بوعد صادق «1»
بتنا ونحن من الدجا في خيمة ... ومن النجوم الزهر تحت سرادق
عاطيته والليل يسحب ذيله ... صهباء كالمسك الذكي لناشق
وضممته ضمّ الكميّ لسيفه ... وذؤابتاه حمائل في عاتقي «2»
حتى إذا مالت به سنة الكرى ... زحزحته عني وكان معانقي
أبعدته عن أضلع تشتاقه ... كي لا ينام على فراش خافق «3»
لما رأيت الليل آخر عمره ... قد شاب في لمم له ومفارق
ودّعت من أهوى وقلت تأسّفا ... صعب عليّ بأن أراك مفارقي
وقال ابن نباتة:
بدا ورنت لواحظه دلالا ... فما أبهى الغزالة والغزالا
وأسفر عن سنا قمر منير ... ولكن قد وجدت به الضلالا
صقيل الخد أبصر من رآه ... سواد العين فيه فخال خالا «4»
وممنوع الوصال إذا تبدّى ... وجدت له من الألفاط لالا
عجبت لثغره البسّام أبدى ... لنا درّا وقد سكن الزّلالا
شهدت بشهد ريقته لأنّي ... رأيت على سوالفه نمالا
فيا عجبا لحسن قد حواه ... وقد أهدى إلى قلبي الوبالا
سأشكو الحسن ما بقيت حياتي ... وأشكر من صنائعه الجمالا
القاضي فخر الدين بن مكانس:
يا غصنا في الرياض مالا «5» ... حملتني في هواك مالا
يا رائحا بعد أن سباني ... حسبك ربّ السمّا تعالى
وله أيضا:
أجارك الله قد رثت لي ... ممّا ألاقي عدا وحسد
وعاذلي مذ رأى ضلوعي ... تعدّ سقما بكى وعدّد
ابن رفاعة:
يقولون هل منّ الحبيب بزورة ... ومنّاكم المطلوب قلنا لهم منّا
فقالوا لنا غوصوا على قدّه وما ... يحاكي إذا ما اهتز قلنا لهم غصنا
الشيخ برهان الدين القيراطي:
ووردي خدّ نرجسيّ لواحظ ... مشايخ علم السحر عن لحظه رووا
وواوت صدغيه حكين عقاربا ... من المسك فوق الجلّنار قد التووا
ووجنته الحمرا تلوح كجمرة ... عليها قلوب العاشقين قد اكتووا
ودي له باق ولست بسامع ... لقول حسود والعواذل إذ عووا
ووالله ما أسلو ولو صرت رمّة ... فكيف وأحشائي على حبّه انطووا «6»
وللشيخ برهان الدين القيراطي أيضا:
شبّه السيف والسنان بعيني ... من لقتلي بين الأنام استحلّا(1/420)
فأبى السيف والسّنان وقالا ... حدّنا دون ذاك حاشى وكلّا «1»
وله أيضا:
بأبي أهيف المعاطف لدن ... حسد الأسمر المثقف قدّه
ذو جفون مذ رمت منها كلاما ... كلّمتني سيوفهنّ محدّه
وقال آخر:
تملّك رقّي شادن قد هويته ... من الهند معسول اللمى أهيف القد
أقول لصحبي حين يرنو بطرفه ... خذوا حذركم قد سلّ صارمه الهندي
ومما قيل في الغزل المؤنث
للشيخ شمس الدين بن البديري:
خيال سلمى عن الأجفان لم يغب ... وطيفها عن عياني غير محتجب
وذكرها أنس روحي وهي نائية ... والقلب ما زال عنها غير منقلب
لم أصغ فيها للاح راح يعذلني ... ولا لواش خلي بات يلعب بي
عذابها في الهوى عذب ألذّ به ... ومرّ هجرانها أحلى من الضّرب «2»
فإن نأت أو دنت وجدي كما علمت ... تشيب فيه الليالي وهو لم يشب
دعها فأمر هوى المحبوب متّبع ... وغير طاعته في الحب لم يجب
وقال عفا الله عنه:
سقى طللا حلته سلمى معاهد ... وحيّاه من دمعي مذاب وجامد
فربع به سلمى مصيف ومربع ... وأرض نأت عنها قفار جلامد
وحيث ثوت أرضا فأعذب مورد ... ولو كدّرت منها عليّ الموارد
رعى الله دهرا سالمتني صروفه ... وظلّت لياليه بسلمى تساعد
وقد غفل الواشون عنّي ولم أزل ... ويقظان طرف البين عنّي راقد
وأيامنا بالقرب بيض أزاهر ... وأوقاتنا بالوصل خضر أمالد
وأرواحنا ممزوجة وقلوبنا ... ونحن كأنا في الحقيقة واحد
وكم قد مرجنا في مروج صبابة ... ولم يطّرد فينا من البين طارد
نجرّ ذيول اللهو في قمص الهوى ... تلوح علينا للغرام شواهد
ولم يخطر التفريق منا بخاطر ... ولم نحسب الأيّام فينا تعاند
فهل أنت يا سلمى وقد حكم الهوى ... كما كنت لي أم حاد بالقلب حائد
وهل ردّنا باق وإلّا تغيرت ... على عادة الأيام منك العوائد
وهل محيت آثار رسم حديثنا ... وأنساك حفظ الود هذا التباعد
وهل تذكرين العهد إذ نحن باللوى ... وقولك لا عاش الخؤون المعاهد
وهل أنت غيّرت الذي أنا حافظ ... وهل أنت أحللت الذي أنا عاقد
وهل بدّلت منك المودة بالجفا ... وفيك يقيني بالوفا منك شاهد
وإنّي ما بدّلت عهدك في الهوى ... ولا اختلفت فيما علمت العوائد
ولا بتّ مسرورا وعيشك ليلة ... وكيف سلوّي والحبيب مباعد
فإن كنت حبل الود صرّمت طرفه ... فودي طريف في هواك وتالد «3»
وإن قلت إنّ الحب غيّره النوى ... لعمري وجدي بالحشاشة واقد
وإن أوردوا يوما صبابة عاشق ... فبي يضرب الأمثال من هو وارد(1/421)
فما شئت كوني إنّي بك مدنف ... صبور على البلوى شكور وحامد «1»
ومنك تساوى عندي الوصل والجفا ... وفيك لقد هانت عليّ الشدائد
ولو رمت ألوي عن هواك أعنّتي ... لقاد زمامي نحو حبّك قائد
نصبت شراك الحبّ صدت حشاشتي ... فكيف خلاصي والهوى منك صائد
بعدت وقلت البين يسلي أخا الهوى ... وهل يسلي ذا الأشجان هذا التباعد
وما غيّر التفريق ما تعهدينه ... وسوق سلوي في المحبّين كاسد
وجلّ مناي القرب منك وإنّما ... إذا عظم المطلوب قلّ المساعد
وقال عفا الله عنه:
تهدّدني بتبريح وبين ... وتوعدني بتفريق وصد
وتحلف لي لتلبسني سقاما ... تهي جلدي به وتذيب جلدي «2»
وترميني بنبل من جفون ... فتضنيني وتصميني وتردي «3»
وتحرقني بنار الصدّ حتى ... تذيب حشاشتي كمدا وكبدي
فقلت لها ودمعي في انسكاب ... يفيض دما على صفحات خدّي
ومن لي أن يقال قتيل وجد ... واذكر في هواك ولو بصدّي
وقال عفا الله عنه:
سلوي عنك شيء ليس يروى ... وحبّي فيك سار مع الركّاب
ولم يمرر سواك على ضميري ... ووجدي فيك أيسره عذابي
ومالك عن سواد العين يوما ... وما لسواد قلبي من حجاب
وما اخضرّت دواعي الشوق إلّا ... هززت إليك أجنحة التصابي
وقال عفا الله عنه:
قفا نبك دارا شطّ عنّا مزارها ... وأنحلنا بعد البعاد أدكارها «4»
وعوجا بأطلال محتها يد النوى ... فأظلم بالنأي المشت نهارها
فقدنا بها ريما من الإنس إن رنت ... بمقلتها يصمي القلوب أحورارها
تصيد قلوب العاشقين أنيسة ... ويحسن منها صدّها ونفارها
ويهزأ بالأغصان لين قوامها ... إذا مال فوق الغصن منها خمارها
وليس لبدر التمّ قامة قدها ... وما هو إلّا حجلها وسوارها «5»
منازلها منّي الفؤاد وإن نأى ... عن العين مثواها ففي القلب دارها
يمثّلها بالوهم فكري لناظري ... وأكثر ما يضني النفوس افتكارها
وهيّج دمعي حرّ نار صبابتي ... وما خمدت بالدمع منّي نارها
وساعدني بالأيك ليلا حمائم ... تهاتف شجوا لا يقرّ قرارها
بكين ولم تسفح لهنّ مدامع ... وعينيّ فاضت بالدموع بحارها
ولمؤلفه رحمه الله تعالى، وهو قول ضعيف على قدر حاله لكنه يسأل الواقف عليه من أفضاله ستر ما يراه من عيوبه وإن يدعو له بمغفرة ذنوبه:
نسيم الصبا بلّغ سليمى رسائلي ... بلطف وقل عن حال صبّك سائلي
فقد صار بالأسقام صبّا معذّبا ... قريح جفون من دموع هوامل(1/422)
صبورا على حر الغرام وبرده ... حليف الضنى لم يصغ يوما لعاذل
يبيت على جمر الغضي متقلّبا ... يئن غراما فارحميه وواصلي
ألا يا سليمى قد أضرّ بي الهوى ... وهاجت بتبريح الغرام بلابلي «1»
رميت بسهم من لحاظك قاتل ... فلم يخط قلبي والحشى ومقاتلي
كتمت غرامي في هواك ولم أبح ... بسر فناحت أدمعي برسائلي
سليمى سلي ما قد جرى لي من النوى ... فقد عاد لي حال له رقّ عاذلي
لعلّ تجودي للكئيب وتسمحي ... بوعد وبعد الوعد إن شئت ماطلي
عسى تنطفي بالوعد ناري وأشتفي ... فبالسقم أعضائي وهت ومفاصلي
خفيت عن العوّاد لولا تأوّهي ... وعظم أنيني لا يراني مسائلي
فرقّي فقد رقّت عداي لذلتي ... وفاضت على حالي عيون عواذلي
قطعت زماني في عسى ولعلّها ... وما فزت في الأيام منك بطائل
فما آن أن ترضي عليّ وترحمي ... ضني جسدي فالوجد لا شك قاتلي
توسّلت بالمختار في جمع شملنا ... نبي له فضل على كل فاضل
وله رحمه الله تعالى:
يا ربّة الحسن من بالصد أوصاكي ... حتى قتلت بفرط الهجر مضناك
ويا فتاة بفتّان القوام سبت ... من في الورى يا ترى بالقتل أفتاك
لقد جننت غراما مذ رأى نظري ... في النوم طيف خيال من محياك
ومذ رآه جفا طيب المنام وقد ... أضحى عليلا حزينا لم يزل باك
عذّبتني بالتجنّي وهو يعذب لي ... فهل ترى تسمحي يوما برؤياك
إن كنت لم تذكرينا بعد فرقتنا ... فالله يعلم أنّا ما نسيناك
ما آن أن تعطفي جودا عليّ فقد ... أضحى فؤادي أسيرا لحظ عيناك
ما كنت أحسب أنّ العشق فيه ضنّى ... ولا عذاب نفوس قبل أهواك
حتى تولّع قلبي بالغرام فما ... أمسى أسيرا سوى في حسن معناك
رقّي لعبدك جودا واعطفي وذري ... ولا تطيلي بحقّ الله جفواك
يا هند رفقا بقلب ذاب فيك أسى ... ومهجة تلفت ما هند أقساك
رقّ العذول لحالي في الهوى ورثى ... وأنت يا هند لا ترثي لمضناك
والله لو متّ ما أسلاك يا أملي ... ولو فنيت غراما لست أنساك
وقال آخر:
كأنّ فؤادي يوم سرت دليل ... يسير أمام العيس وهو ذليل «2»
فصرت عقيب الظاعنين لكي أرى ... فؤادي سرى في الركب وهو عجول
وقائلة لي كيف حالك بعدنا ... لتعلم ما هذا إليه يؤول
فقلت لها قد متّ قبل ترحلي ... فمن باب أولى أن يجدّ رحيل
وقلت فليلي طال همّا فأنشدت ... وما زال ليل العاشقين طويل
فقلت وجسمي لم يزل مترجّفا ... فقالت وجسم العاشقين نحيل
فقلت لها لو كنت أدري فراقنا ... بيوم وداع ما إليه سبيل
لقلعت عيني في هواك بأصبعي ... لكيلا أرى يوما عليّ ثقيل(1/423)
وقال الوأواء الدمشقي عفا الله عنه:
يا من نفت عنّي لذيذ رقادي ... مالي ومالك قد أطلت سهادي «1»
فبأي ذنب أم بأيّة حالة ... أبعدتني ولقد سكنت فؤادي
وصددت عنّي حين قد ملك الهوى ... روحي وقلبي والحشا وقيادي
ملكت لحاظك مهجتي حتى غدا ... قلبي أسيرا ما له من فادي
لا غرو إن قتلت عيونك مغرما ... فلكم صرعت بها من الآساد
يا من حوت كلّ المحاسن في الورى ... والحسن منها عاكف في بادي
رفقا بمن أسرت عيونك قلبه ودعي السيوف تقرّ في الأغماد وتعطّفي جودا عليّ بقبلة فبميم مبسمكي شفاء الصّادي «2»
ماتت أطال الله عمرك سلوتي ... ولقد فني صبري وعاش سهادي
ومن المنى لو دام لي فيك الضّنى ... يا حبذا لأراك من عوّادي «3»
وأجيل منك نواظري في ناضر ... من خدّك المترقرق الوقّاد
وأقول ما شئت اصنعي يا منيتي ... مالي سواك ولو حرمت مرادي
إلّا مديح المصطفى هو عمدتي ... وبه سألقى الله يوم ميعادي
وقال البها زهير:
إذا جنّ ليلي هام قلبي بذكركم ... أنوح كما ناح الحمام المطوّق «4»
وفوقي سحاب يمطر الهمّ والأسى ... وتحتي بحار بالجوى تتدفّق
سلوا أمّ عمرو كيف بات أسيرها ... تفكّ الأسارى دونه وهو موثق
فلا أنا مقتول ففي القتل راحة ... ولا أنا ممنون عليه فيعتق
مجنون ليلى:
وقد خبّروني أنّ تيماء منزل ... لليلى إذا ما الليل ألقى المراسيا
فهذي شهور الصيف عنّا ستنقضي ... فما للنوى يرمي بليلى المراميا
أعدّ الليالي ليلة بعد ليلة ... وقد عشت دهرا لا أعدّ اللّياليا
وأخرج من بين البيوت لعلّني ... أحدث عنك النفس بالليل خاليا
ألا أيها الركب اليمانون عرّجوا ... علينا فقد أمسى هوانا يمانيا
يمينا إذا كانت يمينا فإن تكن ... شمالا ينازعني الهوى عن شماليا
أصلّي فما أدري إذا ما ذكرتها ... اثنتين صلّيت الضّحى أم ثمانيا
خليليّ لا والله لا أملك الهوى ... إذا علم من أرض ليلى بداليا «5»
خليليّ لا والله لا أملك الذي ... قضى الله في ليلى ولا ما قضى ليا
قضاها لغيري وابتلاني بحبّها ... فهلّا بشيء غير ليلى ابتلانيا
ولو أنّ واش باليمامة داره ... وداري بأعلى حضرموت اهتدى ليا
وددت على حبّي الحياة لو أنّه ... يزاد لها في عمرها من حياتيا
على أنّني راض بأن أحمل الهوى ... وأخلص منه لا عليّ ولا ليا
إذا ما شكوت الحبّ قالت كذبتني ... فمالي أرى الأعضاء منك كواسيا(1/424)
فلا حبّ حتى يلصق الجلد بالحشى ... وتخرس حتى لا تجيب المناديا
وقال آخر:
قالت لطيف خيال زارني ومضى ... بالله صفه ولا تنقص ولا تزد
فقال خلّفته لو مات من ظمإ ... وقلت قف عن ورود الماء لم يرد
قالت عهدت الوفا والصدق شميته ... يا برد ذاك الذي قالت على كبدي «1»
كمال الدين بن النبيه:
أما وبياض مبسمك النقي ... وسمرة مسكة اللمس الشهي
ورمّان من الكافور تعلو ... عليه طوابع الندّ الندي
وقدّ كالقضيب إذا تثنّى ... خشيت عليه من ثقل الحلي
لقد أسقمت بالهجران جسمي ... وأعطشني وصالك بعد ريّي
إلى كم أكتم البلوى ودمعي ... يبوح بمضمر السر الخفي
وكم أشكو للاهية غرامي ... فويل للشجي من الخلي
صفي الدين الحلي:
أبت الوصال مخافة الرّقباء ... وأتتك تحت مدارع الظلماء «2»
أصفتك من بعد الصدود مودة ... وكذا الدواء يكون بعد الداء
أحيت بزورتها النفوس وطالما ... ضنّت بها فقضت على الأحياء
أمّت بليل والنجوم كأنها ... درّ بباطن خيمة زرقاء
أمست تعاطيني المدام وبيننا ... عتب غنيت به عن الصهباء
آبت إلى جسدي لتنظر ما انتهت ... من بعدها فيه يد البرحاء
ألفت به وقع الصفاح فراعها ... جزعا وما نظرت جراح حشائي «3»
أمصيبة منّا بنبل لحاظها ... ما أخطأته أسنّة الأعداء
أعجبت ممّا قد رأيت وفي الحشا ... أضعاف ما عاينت في الأعضاء
أمسي ولست بسالم من طعنة ... نجلاء أو من مقلة نجلاء
وله رحمه الله تعالى:
قفي ودعينا قبل وشك التّفرّق ... فما أنا من يحيا إلى حين نلتقي
قضيت وما أودى الحمام بمهجتي ... وشبت وما حلّ البياض بمفرقي
قنعت أنا بالذل في مذهب الهوى ... ولم تفرقي بين المنعّم والشّقي
قرنت الرضا بالسخط والقرب بالنوى ... ومزّقت شمل الوصل كلّ ممزّق
قبلت وصايا الهجر من غير ناصح ... وأحببت قول الهجر من غير مشفق
قطعت زماني بالصّدود وزرتني ... عشية زمّت للترحّل أينقي «4»
قضى الدهر بالتفريق فاصطبري له ... ولا تذممي أفعاله وترفّقي
وقال عفا الله عنه:
جاءت لتنظر ما أبقت من النهج ... فعطّرت سائر الأرجاء بالأرج «5»
جلت علينا محيّا لو جلته لنا ... في ظلمة الليل أغنتنا عن السرج «6»
حوريّة الخد تحمي ورد وجنتها ... بحارس من نبال الغنج والدّعج
جزت إساءة أفعالي بمغفرة ... فكان غفرانها يغني عن الحجج(1/425)
جادت لعرفانها أنّي المريض بها ... فما عليّ إذا أذنبت من حرج
جسّت يدي لترى ما بي فقلت لها ... كفّي فذاك جوى لولاك لم يهج «1»
جفوتني فرأيت الصبر أجمل بي ... والصمت في الحب أولى من اللهج
جارت لحاظك فينا غير راحمة ... ولذّة الحب جور الناظر الغنج
وقال ابن نباتة:
رقّت لنا حين همّ السّفر بالسّفر ... وأقبلت في الدّجى تسعى على حذر «2»
راض الهوى قلبها القاسي فجادلنا ... وكان أبخل من تموز بالمطر «3»
رأت غداة النوى نار الكليم وقد ... شبّت فلم تبق من قلبي ولم تذر
رشيقة لو تراها عندما سفرت ... والبدر ساه إليها سهو معتذر
رأيت بدرين من وجه ومن قمر ... في ظل جنحين من ليل ومن شمر
رشفت درّ الحميّا من مقبّلها ... إذ نبّهتني إليها نسمة السّحر
رنت نجوم الدجى نحوي فما نظرت ... من يرشف الراح قبلي من فم القمر
راق العتاب وأبدت لي سرائرها ... في ليلة الوصل بل في غرّة القمر
وقال ابن الساعاتي:
قبّلتها ورشفت خمرة ريقها ... فوجدت نار صبابة في كوثر
ودخلت جنّة وجهها فأباحني ... رضوانها المرجوّ شرب المسكر
وقال آخر:
بكت للفراق وقد راعها ... بكاء المحب لبعد الدّيار
كأنّ الدموع على خدّها ... بقية طل على جلّنار
الوأواء الدمشقي تضمين:
قالت متى الظعن يا هذا فقلت لها ... إمّا غدا زعموا أو لا فبعد غد
فأمطرت لؤلؤا من نرجس وسقت ... وردا وعضّت على العنّاب بالبرد
لابن نباتة:
عذولي لست أسمع منه قولا ... على غيداء مثل البدر تمّا
له طرف ضرير عن سناها ... ولي أذن عن الفحشاء صمّا
وقال آخر:
وربّ ليال في هواها سهرتها ... أراعي نجوم الليل فيها إلى الفجر
حديثي عال في السّهاد لأنني ... رويت أحاديث السهاد عن الزّهر
السّراج الورّاق:
يا لائمي في هواها ... أسرفت في اللوم جهلا
ما يعلم الشوق إلّا ... ولا الصبابة إلّا
وقال آخر:
وعدت أن تزور ليلا فألوت ... وأتت في النهار تسحب ذيلا
قلت هلّا صدقت في الوعد قالت ... كيف صدّقت أن ترى الشمس ليلا
لعز الدين الموصلي:
قد سلونا عن الغزال بخود ... ذات وجه بها الجمال تفنن
ورجعنا عن التهتّك فيه ... ودفعناه بالتي هي أحسن
وقال آخر:
قالت وناولتها سواكا ... ساد بفيها على الأراك
سواي ما ذاق طعم ريقي ... قلت لها ذاقه سواكي(1/426)
وقال آخر:
سألتها أن تعيد لفظا ... قالت محب دعوه يعذر
حديثها سكر شهيّ ... وأحسن السّكر المكرّر
ابن نباتة:
وملولة في الحب لما أن رأت ... أثر السقام بجسمي المنهاض «1»
قالت تغيّرنا فقلت لها نعم ... أنا بالسقام وأنت بالإعراض
وقال أبو الطيب المتنبي:
بأبي الشموس الجانحات غواربا ... اللابسات من الحرير جلاببا
الناهبات عيوننا وقلوبنا ... وجناتهنّ الناهبات الناهبا
الناعمات القاتلات المحييات ... المبديات من الدلال غرائبا
حاولن تفديتي وخفن مراقبا ... فوضعن أيديهنّ فوق ترائبا
وبسمن عن برد خشيت أذيبه ... من حر أنفاسي فكنت الذائبا
يا حبّذا المتجمّلون وحبّذا ... واد لثمت به الغزالة كاعبا
كيف الرجاء من الخطوب تخلّصا ... من بعد أن أنشبن فيّ مخالبا
وله أيضا من جملة قصيدة:
ولما التقينا والنوى ورقيبنا ... غفولان عنّا ظلت أبكي وتبسم
فلم أر بدرا ضاحكا قبل وجهها ... ولم تر قبلي ميّتا يتكلم
الشريف الرضي:
وتميس بين مزعفر ومعصفر «2» ... ومعنبر وممسّك ومصندل «3»
هيفاء إن قال الشباب لها انهضي ... قالت روادفها أقعدي وتمهلي
وإذا سألت الوصل قال جمالها ... جودي وقال دلالها لا تفعلي
ابن اسرائيل:
وعدت بوصل والزمان مسوّف ... حوراء ناظرها حسام مرهف
نشوانة خصباء منهل ثغرها ... ورد وريقتها سلاف قرقف
وتخال بين البدر منها والنقا ... غصنا يميس به النسيم مهفهف
لا تحسبن الخلف شيمة مثلها ... وعدت ولكنّ الزّمان يسوّف
يا بانة قد أطلعت أغصانها ... وردا جنيّا باللواحظ يقطف
وغزالة يحكي الغزالة وجهها ... ويعير ناظرها الحسام الأوطف
ما تأمرين لمغرم تسطو به ... أجفانك المرضى ولا تستعطف
قسما بوجهك وهو صبح مشرق ... وسواد شعرك وهو ليل مسدف «4»
وبهز غصن البان منك على النقا ... مالي إلى أحد سواك تشوّف «5»
ولنذكر إن شاء الله تعالى في هذا الباب نبذة من ملح النظم ورقائق الشعر من غير تبويب ولا ترتيب.
للشيخ شمس الدين بن الريدي:
ولما نأت سلمى وشطّ بها النوى ... وأيقنت أنّي بالغرام أذوب
علقت بأخرى غيرها متلاهيا ... ليطفى ضرام في الحشا ولهيب
وكان هيامي والهوى وصبابتي ... لمن هو في الأولى إليّ حبيب(1/427)
وله في المعنى:
تلاهيت عنها في الغرام بغيرها ... وقلت لقلبي هذه هي زينب
وقبّلت فاها مبردا لصبابتي ... فأضرمت نارا في الحشا تتلهّب
فكنت كمن هو ذا غريقا بلجة ... تمسّك بالموج الذي يتقلّب
وقال أيضا:
سألت القلب هل ميلي لليلى ... وهل عند الفؤاد لها التفات
فقال الآن لا لكن تأنّى ... فقلت الحبّ فيه تقلبّات
فإنّ الحبّ يهجم بعد بأس ... ويعتاد المحبّ تغيّرات
فلا تظهر لها يوما سلوّا ... فتفضحك التصابي الواردات
وترمى بالصدود وبالتجنّي ... وتنحلك الوعود الكاذبات
فكن جلدا ولا تك ذا لجاج ... فما يغنيك إن فات الفوات
وقال البيطار:
يقولون هذي أمّ عمرو قريبة ... دنت بك أرض نحوها وسماء
ألا إنّما قرب الحبيب وبعده ... إذا هو لم يوصل إليه سواء
وقال غيره:
وقالوا بع حبيبك وابغ عنه ... حبيبا آخرا تحيا سعيدا
إذا كان القديم هو المصافي ... وخان فكيف أأتمن الجديدا
وقال آخر:
لم أنس إذ قلت من وجدي لها غلطا ... ووجهها مشرق في حندس الظلم
سلوت عنك فقالت وهي ضاحكة ... لتقرعنّ عليّ السنّ من ندم
وقال آخر:
أمن المروءة أن أبيت مسهّدا ... قلقا أبلّ ملابسي بدموعي
وتبيت ريّان الجفون من الكرى ... وأبيت منك بليلة الملسوع
وقال آخر:
إلى الله أشكو جور أهيف شادن ... وقعت فما لي من يديه خلاص
جرحت بعيني خدّه وهو جارح ... بعينيه قلبي والجروح قصاص
وقال آخر:
قد كنت أسمع بالهوى فأكذّب ... وأرى المحبّ وما يقول فأعجب
حتى رميت بحلوه وبمره ... من كان يتهم الهوى فيجرّب
وقال آخر:
سألتها التقبيل من خدّها ... عشرا وما زاد يكون احتساب
فمذ تلاقينا وقبلتها ... غلطت في العدّ وضاع الحساب
وقال آخر:
يا من سقامي من سقام جفونه ... وسواد حظي من سواد عيونه
قد كنت لا أرضى الوصال وفوقه ... واليوم أقنع بالخيال ودونه
وقال آخر:
صبّحته عند المساء فقال لي ... تهزي بقدري أو تريد مزاحا
فأجبته إشراق وجهك غرّني ... حتّى توهّمت المساء صباحا
أبو عبد الله الغواص:
من عذيري من عذول في رشا ... قامر القلب هواه فقمر
قمر لم يبق مني حسنه ... وهواه غير مقلوب قمر
وقال آخر:
جاذبتها والريح تجذب برقعا ... من فوق خد مثل قلب العقرب(1/428)
وطففت ألثم ثغرها فتحجّبت ... وتسترت عني بقلب العقرب
وقال آخر:
ولو متّ من كثرة الأشواق وانبدلت ... مدامعي بدم من كثرة السهر
ما اخترت عنك سلوا لا ولا نظرت ... عيني لغير محيّا وجهك القمر
إبراهيم بن العباس:
تمر الصبّا صفحا بساكن ذي الغضى ... ويسرع قلبي إذ يهبّ هبوبها
قريبة عهد بالحبيب وإنّما ... هوى كل نفس أين حلّ حبيبها
وقال النوفلي:
إذا اختلجت عيني رأت من تحبّه ... فدام لعيني ما حييت اختلاجها
وما ذقت كأسا مذ علقت بحبها ... فأشربه إلّا ودمعي مزاجها
وقال آخر رحمه الله تعالى:
يا ذا الذي زار وما زارا ... كأنّه مقتبس نارا
قام بباب الدار من تيهه ... ما ضرّه لو دخل الدارا
وقال آخر:
ولقد جعلتك في الفؤاد محدّثي ... وأبحت منّي ظاهري لجليسي
فالكل منّي للجليس مؤانس ... وجبيب قلبي في الفؤاد أنيسي
ابن نباتة:
أناشده الرحمن في جمع شملنا ... فيقسم هذا لا يكون إلى الحشر
إذا ما غدا مثل الحديد فؤاده ... فوالعصر إنّ العاشقين لفي خسر «1»
أمين الدين بن أبي الوفاء:
يا نازلا منّي فؤادا راحلا ... ومن العجائب نازلا في راحل
أضرمت قلب متيّم أهلكته ... وسكنته والنار مثوى القاتل
وقال آخر:
يا عاذلي في هواه ... إذا بدا كيف أسلو
يمرّ بي كلّ وقت ... وكلّما مرّ يحلو
الحاجبي:
ملأت فؤادي من محبة فاتن ... أميل إليه وهو كالظبي رائغ
وقلت لقلبي قم لتعشق شادنا ... سواه فقال القلب ما أنا فارغ
وقال ديك الجن:
ولي كبد حرّى ونفس كأنّها ... بكفّ عدو ما يريد سراحها
كأنّ على قلبي قطاة تذكرت ... على ظمإ وردا فهزّت جناحها
وقال عبد الله بن طاهر:
أقام ببلدة ورحلت عنه ... كلانا بعد صاحبه غريب
أقلّ الناس في الدنيا سرورا ... محبّ قد نأى عنه الحبيب
وقال آخر:
ما اخترت ترك وداعكم يوم النوى ... والله لا مللا ولا لتجنّب
لكن خشيت بأن أموت صبابة ... فيقال أنت قتلته فتقاد بي «2»
وقال ابن المعتز:
هب لعيني رقادها ... وانف عنها سهادها
وارحم المقلة التي ... كنت فيها سوادها(1/429)
كن صلاحا لها كما ... كنت دهرا فسادها
وقال آخر:
وقالوا دع مراقبة الثريّا ... ونم فالليل مسعود الجناح
فقلت وهل أفاق القلب حتى ... أفرق بين ليلي والصّباح
وقال آخر:
ولي فؤاد إذا طال النزاع به ... طار اشتياقا إلى لقيا معذبه
يفديك بالنفس صبّ لو يكون له ... أعزّ من نفسه شيّ فداك به
وقال آخر:
وما هجرتك النفسّ يا ميّ إنها ... قلتك ولا أن قلّ منك نصيبها
ولكنهم يا أحسن الناس أولعوا ... بقول إذا ما جئت هذا حبيبها
وقال المحاربي:
إذا أنت لم توقن بما صنع الهوى ... بأهل الهوى فافقد حبيبا وجرّب
ترى حرقات يلدغ القلب حرّها ... بأنضج من كي الغضى المتلهّب
وقال الأقرع بن معاذ:
أقول لمفت ذات يوم لقيته ... بمكة والأنضاء ملقى رحالها «1»
بحقّك أخبرني أما تأثم التي ... أضرّ بجسمي منذ مرّ خيالها
فقال بلى والله أو سيصيبها ... من الله بلوى في الزمان تنالها
فقلت ولم أملك سوابق عبرة ... سريع على جيب القميص انهمالها
عفا الله عنها كلّ ذنب ولقيّت ... مناها وإن كانت قليلا نوالها
وقال آخر:
بالله ربكما عوجا على سكني ... عاتباه لعلّ العتب يعطفه «2»
وعرّضا بي وقولا في حديثكما ... ما ضرّ لو بوصال منك تسعفه
فإن تبسّم قولا عن ملاطفة ... ما بال عبدك بالهجران تتلفه
وإن بدا لكما من سيدي غضب ... فغالطاه وقولا ليس نعرفه
وقال عبد الله بن أبي الشيص:
ومعرضة تظنّ الهجر فرضا ... تخال لحاظها للضعف مرضى
كأنّي قد قتلت لها قتيلا ... فما منّي بغير الهجر ترضى
وقال الحسين بن الضحاك:
بعضي بنار الهجر مات حريقا ... والبعض أضحى بالدموع غريقا
لم يشك عشقا عاشق فسمعته ... إلّا ظننتك ذلك المعشوقا
وقال آخر:
وأجيل فكري في هوا ... ك بلا لسان ناطق
أدعو عليك بحرقة ... من غير قلب صادق
وقال آخر:
يا ويح من خبل الأحبة قلبه ... حتى إذا ظفروا به قتلوه «3»
عزّوا ومال به الهوى فأذله ... إنّ العزيز على الذليل يتيه
أنظر إلى جسد أضرّ به الهوى ... لولا تقلّب طرفه دفنوه
من كان خلوا من تباريح الهوى ... فأنا الهوى وحليفه وأخوه(1/430)
وقال أحمد بن طاهر:
تقول العاذلات تسلّ عنها ... وداو عليل صبرك بالسلو
فكيف ونظرة منها اختلاسا ... ألذّ من الشماتة بالعدو
وقال إسحاق مولى المهلب:
هبيني يا معذبتي أسأت ... وبالهجران قبلكم بدأت
فأين الفضل منك فدتك نفسي ... عليّ إذا أسأت كما أسأت
وقال أبو العتاهية:
يقول أناس لو نعتّ لنا الهوى ... ووالله ما أدري لهم كيف أنعت «1»
سقام على جسمي كثير موسع ... ونوم على عيني قليل مفوّت
إذا اشتدّ ما بي كان أفضل حيلتي ... له وضع كفي فوق خدي وأسكت
وقال بشار:
يا قرّة العين إني لا أسميك ... أكني بأخرى أسمّيها وأعنيك
أخشى عليك من الجارات حاسد ... أو سهم غيران يرميني ويرميك
لولا الرقيبان إذا ودعت غادية ... قبّلت فاك وقلت النفس تفديك
يا أطيب الناس ريقا غير مختبر ... إلّا شهادة أطراف المساويك
قد زرتنا مرّة في الدهر واحدة ... بالله لا تجعليها بيضة الديك
وقال آخر:
ألم تعلمي يا أحسن الناس أنّني ... أحبّك حبا مستكنّا وباديا
أحبّك ما لو كان بين قبائل ... من الناس أعداء لجرّ التصافيا
وقال آخر:
أقول لشادن في الحسن أضحى ... يصيد بطرفه قلب الكمي
ملكت الحسن أجمع في نصاب ... فأدّ زكاة منظرك البهيّ
وذاك بأن تجود لمستهام ... برشف من مقبّلك الشهيّ
فقال أبو حنيفة لي إمام ... يرى أن لا زكاة على الصبي
وقال آخر:
سقى الله ربعا كنت أخلو بوجهكم ... وثغر الهنا في روضة الحسن ضاحك
أقمنا زمانا والعيون قريرة ... وأصبحت يوما والجفون سوافك
وقال آخر:
ألم تعلمي يا عذبة الماء أننّي ... أظلّ إذا لم أسق ماءك صاديا
ومازلت بي يا بين حتى لو أنني ... من الوجد استبكي الحمام بكى ليا
أبو العباس الشهير بالنفيس:
يا راحلا وجميل الصبر يتبعه ... هل من سبيل إلى لقياك يتفق
ما أنصفتك جفوني وهي دامية ... ولا وفى لك قلبي وهو يحترق
الوزير ظهير الدين الملقب بأبي شجاع:
لأعذّبنّ العين غير مفكّر ... فيها بكت بالدمع أو فاضت دما
ولأهجرنّ من الرقاد لذيذه ... حتى يعود على الجفون محرّما
هي أوقعتني في حبائل فتنة ... لو لم تكن نظرت لكنت مسلّما
سفكت دمي فلأسفحنّ دموعها ... وهي التي بدأت فكانت أظلما
وقال العتبي:
أضحت بخدّي للدموع رسوم ... أسفا عليك وفي الفؤاد كلوم «2»(1/431)
والصبر يحمد في المواطن كلّها ... إلّا عليك فإنه مذموم
الرفاء الأندلسي:
ومهفهف كالغصن إلّا أنه ... تتحير الألباب عند لقائه
أضحى ينام وقد تكلّل خدّه ... عرقا فقلت الورد رشّ بمائه
وقال آخر:
اخضرّ واصفرّ لاعتلال ... فصار كالنرجس المضعّف «1»
كأنّ نسرين وجنتيه ... بشعر أصداغه مغلف
يرشح منه الجبين ماء ... كأنّه لؤلؤ منصّف
وقال آخر:
ما زال ينهل من صرف الطلا قمري ... حتى غدت وجنتاه البيض كالشفق
وقام يخطر والأرداف تقعده ... طورا وحاول أن يسعى فلم يطق
فعائل فعلت فعل الشمول به ... فعل النسيم بغصن البانة الورق
جاذبته لعناقي فانثنى خجلا ... وكلّلت وجنتاه الحمر بالعرق
وقال لي بفتور من لواحظه ... إنّ العناق حرام قلت في عنقي
وقال آخر:
بأركان هذا البيت إنّي لطائف ... وفي الكون أسرار وفيه لطائف
رعى الله أياما وناسا عهدتهم ... جيادا ولكنّ الليالي صيارف
وبي ذهبيّ اللون صيغ لمحنتي ... يريد امتحاناتي وما أنا زائف
يذيب فؤادا وهو لا غشّ عنده ... فيا ذهبيّ اللون إنّك خائف
وقال آخر:
أسنى ليالي الدهر عندي ليلة ... لم أخل فيها الكاس من أعمالي
فرقت فيها بين جفني والكرى ... وجمعت بين القرط والخلخال
ومما قيل في الرقباء:
لو أن لي في الحب أمرا نافذا ... وملكت بسط الأمر في التعذيب
لقطعت ألسنة العواذل كلّها ... ولكنت أقلع عين كلّ رقيب
وقال أعرابي:
بسهم الحبّ كلم في فؤادي ... ولا كالكلم من عين الرقيب
تمكّن ناظراه به وأضحى ... مكان الكاتبين من الذنوب
ومن حذر الرقيب إذا التقينا ... نسلّم كالغريب على الغريب
ولولاه تشاكينا جميعا ... كما يشكو المحبّ إلى الحبيب
وقال آخر:
من عاش في الدنيا بغير حبيب ... فحياته فيها حياة غريب
عين الرقيب غرقت في بحر العمى ... لا أنت لا بل عين كلّ رقيب
وقال أحمد بن أبي سلمة:
يعذلني فيه جميع الورى ... كأنّني جئت بأمر عجيب
أظنّ نفسي لو تعشّقتها ... بليت فيها بملام الرقيب
وأنا الغريب فلا ألام على البكا ... إنّ البكا حسن بكلّ غريب
وقال آخر:
وما فارقت سعدى عن قلاها ... ولكن شقوة بلغت مداها
بكيت نعم بكيت كلّ إلف ... إذا بانت حبيبته بكاها(1/432)
وقال آخر:
وقائلة ما بال دمعك أبيض ... فقلت لها يا علو هذا الذي بقي
ألم تعلمي أنّ البكا طال عمره ... فشابت دموعي عندما شاب مفرقي
وعمّا قليل لا دموع ولا دما ... ولم يبق إلّا لوعتي وتحرّقي
وقال آخر:
ولم أر مثلي غار من طول ليله ... عليه لأنّ الليل يعشقه معي
وما زلت أبكي في دجى الليل صبوة ... من الوجد حتى ابيضّ من فيض أدمعي
وقال أخر:
رجوت طيف خيال ... وكيف لي بهجوع
والذاريات جفوني ... والمرسلات دموعي «1»
وقال آخر:
يا نازح الطيف من نومي يعاودني ... فقد بكيت لفرط النازحين دما
أوجبت غسلا على عيني بأدمعها ... فكيف وهي التي لم تبلغ الحلما
وقال آخر:
ارحم رحمت لوعتي ... وابعث خيالك في الكرى
ودموع عيني لا تسل ... عن حالها يا ما جرى
وقال آخر:
أملت أن تتعطفوا بوصالكم ... فرأيت من هجرانكم ما لا أرى
وعلمت أن فراقكم لا بدّ أن ... يجري به دمعي دما وكذا جرى
وقال آخر:
إنّ عيني مذ غاب شخصك عنها ... يأمر السهد في كراها وينهى
بدموع كأنّهنّ الغوادي ... لا تسل ما جرى على الخد منها
وقال آخر:
يقولون لي والدمع قرّح مقلتي ... بنار أسى من حبّة القلب تقدح
أدمعك جمر قلت لا تتعجبوا ... فكلّ وعاء بالذي فيه ينضح
وقال البدر الذهبي:
قالوا تباكى بالدموع وما بكى ... بدم على عيش تصرّم وانقضى
فأجبتهم هو من دمي لكنّه ... لما تصاعد صار يقطر أبيضا
قال ابن مطروح في الغيرة:
ولو أمسى على تلفي مصرّا ... لقلت معذبي بالله زدني
ولا تسمح بوصلك لي فإني ... أغار عليك منك فكيف منّي
وقال آخر:
أغار عليك من نظري ومنّي ... ومنك ومن مكانك والزمان
ولو أنّي خبأتك في جفوني ... إلى يوم القيامة ما كفاني
المظفر بن عمر الآمدي:
قولي لمن قد جفوني إذ لهجت بهم ... دون الأنام وخير القول أصدقه
أحبّكم وهلاكي في محبّتكم ... كعابد النار يهواها وتحرقه
وقال غيره:
لم أنس أيام الصبا والهوى ... لله أيام النجا والنجاح
ذاك زمان مرّ حلو الجنى ... ظفرت فيه بحبيب وراح
الشريف الرضي:
علّلاني بذكركم واسقياني ... وامزجا لي دمعي بكأس دهاق «2»(1/433)
وخذا النوم من جفوني فإني ... قد خلعت الكرى على العشّاق
وقال آخر:
قالوا أترقد مذ غبنا فقلت لهم ... نعم وأشفق من دمعي على بصري
ما حقّ طرف هداني نحو حسنكم ... أنّي أعذبه بالدمع والسهر
عز الدين الموصلي:
فسدت لطول بعادكم أحلامنا ... وعقولنا وجفا الجفون منام
والطيف قد وعد الجفون بزورة ... يا حبّذا إن صحّت الاحلام
ومما قيل في السهر وطول الليل ونحو ذلك:
قال الشاعر:
وربّ ليل سهرناه وقد طلعت ... بقية البدر في أولى تسايره
كأنّما أدهم الظلماء حين نجا ... من أشهب الصبح ألقى نعل حافره «1»
وقال آخر:
ليل المحبين مطويّ جوانبه ... مشمّر الذيل منسوب إلى القصر
ما ذاك إلّا لأنّ الصبح نمّ بنا ... فأطلع الشمس من غيظ على القمر
وقال غيره:
فلم أر مثل ليل ذوي التّصابي ... وكلّ يشتكيه بكل حال
فيشكو طوله أهل التجافي ... ويشكو قصره أهل الوصال
وقال آخر:
ليلي وليلى سواء في اختلافهما ... قد صيّراني جميعا في الهوى مثلا
يجود بالطول ليلي كلما بخلت ... بالطول ليلى وإن جادت به بخلا
وقال آخر:
إنّ الليالي للأنام مناهل ... تطوى وتنشر بينها الأعمار «2»
فقصارهن مع الهموم طويلة ... وطوالهنّ مع السرور قصار
وقال غيره:
ربّ ليل لم أذق فيه الكرى ... حظّ عيني فيه دمع وسهر «3»
كلّما هيّج ليلى حرقي ... صحت ياليل أما فيك سحر
وقال آخر:
يا ليل طل أو لا تطل ... لا بدّ لي من سهرك
لو بات عندي قمري ... ما بت أرعى قمرك
وقال بشار بن برد:
خليليّ ما بال الدّجى لا يزحزح ... وما بال ضوء الصبح لا يتوضّح
أضلّ إليها المستنير طريقه ... أم الدّهر ليل كله ليس يبرح
وقال آخر:
كأنّ الثريا راحة تشبر الدجى ... ليعلم طال الليل أم قد تعرّضا
فليل تراه بين شرق ومغرب ... يقاس بشبر كيف يرجى له انقضا
وقال ابن منقذ:
لما رأيت النجم ساه طرفه ... والقطب قد ألقى عليه سباتا «4»
وبنات نعش في الحداد سوافر «5» ... أيقنت أنّ صباحهم قد ماتا(1/434)
وقال آخر في ليلة ممطرة:
أقول والليل في امتداد ... وأدمع الغيث في انسفاح
أظن ليل بغير شك ... قد بات يبكي على الصباح
وقال أيضا:
تاب الزمان من الذنوب فوات ... واغنم لذيذ العيش قبل فوات
تمّ السرور فقم يا صاحبي ... نستدرك الماضي بنهب الآتي
صفي الدين الحلي في عود:
وعود به عاد السرور لأنه ... حوى اللهو قدما وهو ريّان ناعم
يغرّب في تغريده فكأنه ... يعيد لنا ما لقنّته الحمائم
وقال آخر في زامرة:
وناطقة بالنفخ عن روح بها ... تعبر عمّا دوننا وتترجم
سكتنا وقالت للقلوب فاطربت ... فنحن سكوت والهوى يتكلم
ومما قيل في فانوس
لابن تميم:
أنظر إلى الفانوس تلق متيّما ... ذرفت على فقد الحبيب دموعه
يبدو تلهّب جسمه لنحو له ... وتعدّ من تحت القميص ضلوعه
وقال لابن قزل:
وكأنما الفانوس في غسق الدجى ... دنف براه شوقه وسهاده
أضلاعه خفيت ورقّ أديمه ... وجرت مدامعه وذاب فؤاده
ولبعضهم في شمعة:
حكتني وقد أودى بي السقم شمعة ... وإن كنت صبّا دونها متوجّعا
ضنى وسهادا واصفرارا ورقّة ... وصبرا وصمتا واحتراقا وأدمعا
ومما قيل في الربيع والرياض والبساتين والمياه والنواعير ونحو ذلك.
قال الشاعر:
هذا الربيع وهذه أزهاره ... متجاوب في أيكه أطياره «1»
وبدا البنفسج والشقائق مونق ... والورد يضحك بينها وبهاره
فاشرب على وجه الحبيب وغنّ لي ... هذا هواك وهذه آثاره
وقال غيره:
غدونا على الروض الذي طلّه الندى ... سحيرا وأوداج الأباريق تسفك «2»
فلم نر شيئا كان أحسن منظرا ... من النّور يجري دمعه وهو يضحك
وقال آخر:
أما ترى الأرض قد أعطتك زهرتها ... بخضرة واكتسى بالنور عاريها «3»
فللسماء بكاء في جوانبها ... وللربيع ابتسام في نواحيها
وقال غيره:
إنّ السماء إذا لم تبك مقلتها ... لم تضحك الأرض عن شيء من الزهر
والأرض لا تنجلي أنوارها أبدا ... إلّا إذا رمدت من شدّة المطر
وقال ابن قرناص:
أيا حسنها من رياض غدا ... جنوني فنونا بأفنانها
مشى الماء فيها على رأسه ... لتقبيل أقدام أغصانها
وقال آخر:
أنظر إلى الأغصان كيف تعانقت ... وتفارقت بعد التعانق رجّعا(1/435)
كالصبّ حاول قبلة من إلفه ... فرأى المراقب فانثنى متوجّعا
وقال ابن تميم:
وحديقة ينساب فيها جدول ... طرفي برونق حسنها مدهوش
يبدو خيال غصونها في مائه ... فكأنّما هو معصم منقوش
وقال أيضا عفا الله عنه:
لم لا أهيم إن الرياض وحسنها ... وأظلّ منها تحت ظل صافي
والزهر حيّاني بثغر باسم ... والماء وافاني بقلب صافي
وقال آخر:
قد سعينا نبغي زيارة دوح ... قد حبانا باللطف والإكرام
ناولتنا أيدي الغصون ثمارا ... أخرجتها لنا من الأكمام
ومما قيل في الأزهار والثمار.
قال بعضهم في الورد:
يا راقدا ونسيم الصبح منتبه ... في روضة القصف والأطيار تنتحب
الورد ضيف فلا تجهل كرامته ... فهاتها قهوة في الكاس تلتهب
سقيا له زائرا تحيا النفوس به ... يجود بالوصل شهرا ثم يحتجب
وقال بعضهم:
ولقد رأيت الورد يلطم خدّه ... ويقول وهو على البنفسج يحنق
لا تقربوه وإن تضوع نشره ... من بينكم فهو العدوّ الأزرق
ومما قيل في البنفسج.
قال ابن المعتز:
ولا زوردية وافت بزورتها ... بين الرياض على زرق اليواقيت
كأنما فوق طاقات صففن بها ... أوائل النار في أطراف كبريت
وقال آخر:
إشرب على زهر البنفسج قهوة ... تهدي السرور لكلّ صب مكمد
فكأنه قرص بخدّ مهفهف ... أو أعين زرق كحلن بأثمد
ولبعضهم في الورد:
للورد فضل على زهر الربيع سوى ... أنّ البنفسج أزكى منه في المهج
كأنه وعيون الناس ترمقه ... آثار قرص يد في خدّ ذي غنج
وقال آخر:
يا مهديا لي بنفسجا أرجا ... يرتاح صدري له وينشرح
بشّرتني عاجلا مصحّفة ... بأنّ ضيق الأمور ينفسح
وقال غيره في النرجس:
وقضب زمرّد تعلو عليها ... عيون لم تذق طعم الغماض
توهّمت الغمام لها رقيبا ... فنكّست الرؤوس إلى الرياض
قال آخر فيه:
أنت يا نرجس روض ... لزهور الأرض ستّ
ودليل القول فيك ... أنّ أوراقك ستّ
وقال آخر:
أقول وطرف النرجس الغصن شاخص ... إليّ وللنّمام حولي إلمام
أيا رب حتى في الحدائق أعين ... علينا وحتى في الرياحين نمّام
وقال أيضا فيه:
لما تمادى الورد في زهوه ... وراح من إعجابه يرأس
تلوّن المنثور مما به ... واصفرّ من غيظ به النرجس
ومما قيل في اللينوفر لابن المعز المصري:
وبركة تزهو بلينوفر ... نسيمه يشبه نشر الحبيب «1»(1/436)
مفتّح الأجفان في نومه ... حتى إذا الشمس دنت للمغيب
أطبق جفنيه على خدّه ... وغاص في البركة خوف الرقيب «1»
وقال تميم بن المعز المصري:
رأيت في البركة لينوفر ... فقلت ما شأنك وسط البرك
فقال لي غرقت في أدمعي ... وصادني ظبي الفلا بالشّرك
فقلت ما بال اصفرار بدا ... فيك وما هذا الذي غيّرك
فقال لي ألوان أهل الهوى ... صفر ولو ذقت الهوى صفّرك
ومما قيل في البان:
قد أقبل الصيف وولّى الشتا ... وعن قليل تسأم الحرّا
أما ترى البان بأغصانه ... قد قلب الفرو إليّ تبرا
وقال آخر فيه:
أو ما ترى البان الذي يزهو على ... كل الغصون بقده الميّاس
وافى يبشّر بالربيع وقربه ... يختال في السنجاب والبرطاس
وقال في الشقيق:
حييته بشقائق في مجلس ... ورأى الرقيب فشقّ ذاك عليه
فاحمرّ من خجل فأنبت خدّه ... أضعاف ما حملت يداي إليه
وقال آخر:
لو لم أعانق من أحبّ بروضة ... أحداق نرجسها إلينا تنظر
ما انشقّ جيب شقيقها حسدا ولا ... بات النسيم بذيله يتعثّر
وقيل أن ابن الرومي زار قبر أخيه يوما فوجد الشقائق قد نبتت على قبره فأنشد يقول:
قالت شقائق قبره ... ولربّ أخرس ناطق
فارقته ولزمته ... فأنا الشقيق الصادق
وممّا قيل في المنثور:
تخال منثورها في الدوح منتثرا ... كأنّما صيغ من در وعقيان
والطير ينشد في أغصانه سحرا ... هذا هو العيش إلّا أنّه فاني
وقال آخر:
قد أقبل المنثور يا سيدي ... كالدرّ والياقوت في نظمه
ثناك لا زال كأنفاسه ... ومخّ من يشناك مثل اسمه «2»
ولبعضهم فيه:
ولقد خلوت مع الأحبّة مرّة ... في روضة للزهر فيها معرك
ما بين منثور أقام ونرجس ... مع أقحوان وصفه لا يدرك
هذا يشير بأصبع وعيون ذا ... ترنو إليه وثغر هذا يضحك
ومما قيل في الياسمين:
والأرض تبسم عن ثغور رياضها ... والأفق يسفر تارة ويقطّب
وكأنّ مخضرّ الرياض ملاءة ... والياسمين لها طراز مذهب
وقال آخر:
رأيت الفال بشّرني بخير ... وقد أهدى إليّ الياسمين
فلا تحزن فإنّ الحزن شين ... ولا تيأس فإن اليأس مين «3»
ومما قيل في السوسن للأخطل الأهوازي:(1/437)
سقيا لأرض إذا ما نمت نبّهني ... بعد الهدوّ بها قرع النواقيس
كأنّ سوسنها في كلّ شارقة ... على الميادين أذناب الطواويس
ومما قيل في الأقحوان لعبد القادر بن مهنا المغربي:
أفدي الذي زارني سرّا فأتحفني ... باقحوان يحاكي ثغر مبتسم
فبتّ من فرحي أفني مقبله ... لثما وأرشف من ريق له شبم «1»
ولبعضهم فيه:
إن فاه ثغر الأقاحي في تشبّهه ... بثغر حبّك واستولى به الطرب
فقل له عندما يحكيه مبتسما ... لقد حكيت ولكن فاتك الشنب
ومما قيل في الجلنار:
وجلّنار مشرق ... على أعالي شجره
كأنه في غصنه ... أحمره وأصفره
قراضة من ذهب ... في خرقة معصفره
ومما قيل في الآس:
أهديت مشبه قدّك المياس ... غصنا نضيرا ناعما من آس
فكأنما يحكيك في حركاته ... وكأنما تحكيه في الأنفاس
ومما قيل في الريحان:
وغصن من الريحان أخضر ناضر ... نما بين غصني نرجس وشقائق
يريك إذا كفّ الصّبا عبثت به ... شمائل معشوق وذلة عاشق
وقال آخر:
قضيب من الريحان شاكل لونه ... إذا ما بدا للعين لون الزّبرجد
فشبّهته لما بدا متجعّدا ... عذار تبدّى في سوالف أغيد
ومما قيل في الفواكه والثمار على اختلافهما:
في الأترج «2» قال ابن الرومي:
كلّ الخلال التي فيكم محاسنكم ... تشابهت منكم الأخلاق والخلق
كأنكم شجر الأترج طاب معا ... حملا ونشرا وطاب العود والورق
ولبعضهم فيه:
حيّاك من تهوى بأترجة ... ناعمة مقدودة غضّة
فجلدها من ذهب أصفر ... وجسمها الناعم من فضّة
وقال آخر:
يا حبذا أترجة ... تحدث للنفس الطرب
كأنّها كافورة ... لها غشاء من ذهب
في الليمون.
قول أبي الحسن رئيس الرؤساء:
يا حسن ليمونة حيّا بها قمر ... حلو المقبّل ألمى بارد الشنب «3»
كأنها أكرة من فضّة خرطت ... واستودعوها غلافا صيغ من ذهب
وفيه أيضا:
أما ترى الليمون في ... غصن من الزّبرجد
كأكرة «4» من فضة ... مملوءة من عسجد
في النارنج.(1/438)
لعبد الله بن المعتز:
نظرت إلى نارنجة في يمينه ... كجمرة نار وهي باردة اللمس
فقرّبها من خدّه فتألفّت ... فشبّهتها المريخ في دارة الشمس
وقال آخر:
ونارنجة بين الرياض نظرتها ... على غصن رطب كقامة أغيد
إذا ميّلتها الريح مالت كأكرة ... بدت ذهبا في صولجان زبرجد
وقال آخر:
ونارنج يلوح على غصون ... ومنه ما نرى كالصولجان
أشبّهها ثديّا ناهدات ... غلائلها صبغن بزعفران
وقال آخر:
وأشجار نارنج كأنّ ثمارها ... حقاق عقيق قد ملئن من الدر «1»
نطالعها بين الغصون كأنّها ... قدود عذارى في ملاحفها الخضر
أتت كلّ مشتاق بريّا حبيبه ... فهاجت له الأشجان من حيث لا يدري
في التفاح.
لبعضهم:
ولما بدا التفاح أحمر مشرقا ... دعوت بكاسي وهي ملأى من الشفق
وقلت لساقيها أدرها فعندنا ... خدود الأغاني قد جمعن على طبق
وقال آخر في تفاحة:
وتفاحة من سندس صيغ نصفها ... ومن جلنّار نصفها وشقائق
كأن الهوى قد ضمّ من بعد فرقة ... بها خدّ معشوق إلى خدّ عاشق
ولبعضهم فيه:
تفاحة كسيت لونين خلتهما ... خدي محب ومحبوب قد التصقا
تعانقا فبدا واش فراعهما ... فاحمرّ ذا خجلا واصفرّ ذا فرقا «2»
وقال آخر:
وتفاحة وردية ذهبية ... تجلي عن المهموم ليل همومه
كأنّ سلاف الخمر روّى أديمها ... بخمر فجاءت باحمرار أديمه
تذكّرني شكل الحبيب وحسنه ... وتوريد خدّيه وطيب نسيمه
وقال آخر:
حمرة التفاح في خضرته ... أشبه الألوان من قوس قزح
فعلى التفاح فاشرب قهوة ... واسقنيها بنشاط وفرح
وفيه أيضا:
أهدى لنا التفاح من كفّه ... من لم يزل يجنيه من خدّه
وخطّ بالمسك على بعضها ... قد عطف المولى على عبده
وقيل في السفرجل:
حاز السفرجل لذات الورى فغدا ... على الفواكه بالتفضيل مشهورا
كالراح طعما وشمّ المسك رائحة ... والتبر لونا وشكل البدر تدويرا
وقال آخر:
سفرجلة صفراء تحكي بلونها ... محيا شجاه للحبيب فراق
إذا شمّها المشتاق شبه ريحها ... بريح حبيب لذّ منه عناق
وطيّبة عند المذاق فطعمها ... كريق حبيب طاب منه مذاق
وقال آخر:(1/439)
سفرجلة جمعت أربعا ... فكان لها كلّ معنى عجيب
صفار النّضار وطعم العقار ... ولون المحبّ وريح الحبيب
وقيل في الكمثرى:
وكمّثرى لذيذ الطعم حلو ... شهي جاء من دوح الجنان
مناقير الطيور إذا اقتتلنا ... مغبرة بلون الزعفران
ابن برغش متغزلا:
وكمثرى سباني منه طعم ... كطعم الشّهد شيب بماء ورد «1»
لذيذ خلقه لما أتانا ... نهود السمر في معنى وقدّ
وما قيل في المشمش:
بدا مشمش الأشجار يذكو شهابه ... على غصن أغصان من الروض ميّد «2»
حكى وحكت أشجاره في اخضراره ... جلاجل تبر في قباب زبرجد «3»
ما قيل في الإجاص:
أنظر إلى شجر الإجاص قد حملت ... أغصانه ثمرا ناهيك من ثمر
تراه في أخضر الأوراق مستترا ... كما اختبى الزنج في خضر من الأزر
ما قيل في الخوخ:
أهدى إليّ الصديق خوخا ... منظره منظر أنيق
من كل مخصوصة بحسن ... معناه في مثلها دقيق
حمراء صفراء مستعير ... بهجتها التبر والعقيق
كوجنة مسّها خلوق «4» ... فزال عن بعضها الخلوق «5»
وما قيل في الفستق:
تفكرت في معنى الثمار فلم أجد ... لها ثمرا يبدو بحسن مجرّد
سوى الفستق الرطب الجني فإنّه ... زها بمعان زيّنت بتجرّد
غلالة مرجان على جسم فضّة ... وأحشاء ياقوت وقلب زبرجد
ومما قيل في البندق:
ولقد شربت مع الحبيب مدامة ... حمراء صافية بغير مزاج
فتفضل الظبي البهيّ ببندق ... شبّهته ببنادق من ساج
فكسرته فوجدت ثوبا أحمرا ... قد لفّ فيه بنادق من عاج
ومما قيل في النبق:
وسدرة كلّ يوم ... من حسنها في فنون
كأنّما النبق فيها ... وقد حلا في العيون
جلاجل من نضار ... قد علقت في الغصون
ومما قيل في اللوز:
ومهد إلينا لوزة قد تضمّنت ... لمبصرها قلبين فيها تلاصقا
كأنّهما حبّان فازا بخلوة ... على رقبة في مجلس فتعانقا
في العنب لبعضهم:
هدية شرّفتنا من أخ ثقة ... نعم الهدية إذا وافتك من يده
نوعان من عنب جاءا على طبق ... كأنّ طيبهما من طيب محتده
فأبيض العين يحكي لون أبيضه ... وأسود العين يحكي لون أسوده
وقال في قصب السكر:
ورماح لغير طعن وضرب ... بل لأكل ومص لب ورشف(1/440)
كملت في استوائها واستقامت ... باعتدال وحسن قدّ ولطف
ومما قيل في البطيخ الأصفر:
أتانا غلام فاق حسنا على الورى ... ببطيخة صفراء في لون عاشق
فشبّهته بدرا يقد أهلة ... من الشمس ما بين النجوم ببارق
وقال آخر:
وبطيخة وافى بها فوق كفّه ... إلينا غلام فاق كلّ غلام
فخيّل لي شمس الأصيل أهلة ... يقطّعها بالبرق بدر تمام
ومما قيل في البطيخ الأخضر:
وظبي أتى في الكف منه بمدية ... وقد لاح في خدّيه شبه شقيق
فمال إلى بطيخة ثم شقّها ... وفرّقها ما بين كل صديق
فشّبهتها لما بدت في أكفّهم ... وقد علمت فيهم كؤوس رحيق
صفائح بلّور بدت في زبرجد ... مرصّعة فيها فصوص عقيق
وقال آخر:
وبطيخة خضراء في كفّ أغيد ... أتانا بها فارتاح ذو الهمّ وابتهج
وأقبل يفريها بمديته وقد فرى ... طرفه الساجي القلوب مع المهج «1»
ومما قيل في القثاء:
أنظر إليها أنابيبا منضّدة ... من الزمرّد خضرا ما لها ورق
إذا قلبت اسمها بانت ملاحتها ... وصار في عكسه أني بكم أثق
ومما قيل في الباذنجان:
وكأنّما الابذنج سود حمائم ... أوكاره خمل الرّبيع المبكر
نقرت مناقره الزمرّد سمسما ... فاستودعته حواصلا من عنبر
ومما قيل في الأنهار والبرك والنوعير:
أما ترى البركة الغرّاء قد كسيت ... نورا من الشمس في حافاتها طلعا
والنهر من فوقه يلهيك منظره ... شهب سماوية فارتجّ والتمعا
كأنّه السيف مصقولا يقلّبه ... كفّ الكمي إلى ضرب الكماة سعى
وقال آخر في البركة:
يا من يرى البركة الحسناء رؤيتها ... والآنسات إذا لاحت مغانيها
فلو تمر بها بلقيس عن عرض ... قالت هي الصرح تمثيلا وتشبيها
كأنّها الفضّة البيضاء سائلة ... من السبائك تجري في مجاريها
إذا علتها الصّبا أبدت لها حبكا ... مثل الجواشن مصقولا حواشيها
فحاجب الشمس أحيانا يضاحكها ... وريّق الغيث أحيانا يباكيها
إذا النجوم تراءت في جوانبها ... ليلا حسبت سماء ركبّت فيها
وقال آخر:
وبركة للعيون تبدو ... في غاية الحسن والصفاء
كأنّها إذا صفت وراقت ... في الأرض جزء من السماء
وقال محمد بن سارة المغربي:
النهر قد رقّت غلالة صبغه ... وعليه من صبغ الأصيل طراز
تترقرق الأمواج فيه كأنّها ... عكن الخصور تهزّها الأعجاز
وقال آخر:
يوم لقا بالنيل مختصرا ... ولكل وقت مسرّة قصر
فكأنّما أمواجه عكن ... وكأنما داراته سرر(1/441)
وقال آخر في نهر يسبح فيه الغلمان:
خليج كالحسام له صقال ... ولكن فيه للرائي مسّرة
رأيت به الملاح تجيد عوما ... كأنّهم نجوم في المجرّه
وقال آخر في النيل:
النيل قال وقوله ... إذ قال ملء مسامعي
في غيظ من طلب العلا ... عمّ البلاد منافعي
وعيونهم بعد الوفا ... قلّعتها بأصابعي
وقال آخر:
كأنّ النيل ذو فهم ولب ... لما يبدو لعين الناس منه
فيأتي عند حاجتهم إليه ... ويمضي حين يستغنون عنه
وقال آخر:
وفّت أصابع نيلنا ... وطغت وطافت في البلاد
وأتت بكل مسرة ... ما ذي أصابع ذي أياد
وقال آخر:
سدّ الخليج بكسره جبر الورى ... طرّا فكلّ قد غدا مسرورا
والماء سلطان فيكف تواترت ... عنه البشائر إذا غدا مكسورا
وقال آخر:
ونهر خالف الأهواء حتّى ... غدت طوعا له في كلّ أمر
إذا عصفت على الأغصان ألقت ... إليه بها فيأخذها ويجري
وقال آخر في ناعورة:
وكريمة سقت الرياض بدرّها ... فغدت تنوب عن الغمام الهامع
بلسان محزون ومدمع عاشق ... ومسير مشتاق وأنّة جازع
وقال آخر:
وناعورة قالت وقد حال لونها ... وأضلعها كادت تعد من السّقم
أدور على قلبي لأنّي فقدته ... وأما دموعي فهي تجري على جسمي
وفيها أيضا:
وحنّانة من غير شوق ولا وجد ... يفيض لها دمع كمنتثر العقد
أحنّ إذا حنّت وأبكي إذا بكت ... فليس لنا من ذلك الفعل من بدّ
ولكنّها تبكي بغير صبابة ... وأبكي بإفراط الصبابة والوجد
وأدمعها من جدول مستعارة ... ودمعي من عيني يفيض على خدّي
وفيها أيضا قال الخطيري:
ربّ ناعورة كأنّ حبيبا ... فارقته فقد غدت لي تحكي
أبدا هكذا تئن بشجو ... وعلى إلفها تدور وتبكي
ابن تميم:
تأمل إلى الدولاب والنهر إذ جرى ... ودمعها بين الرياض غدير
كأنّ نسيم الجوّ قد ضاع منهما ... فأصبح ذا يجري وذاك يدور
فصل في الألغاز
في غزال:
إسم من قد هويته ... ظاهر في صروفه
فإذا زال ربعه ... زال باقي حروفه
في كوز فقاع:
ومحبوس بلا ذنب جناه ... له في السجن ثوب من رصاص
إذا أطلقته وثب ارتفاعا ... يقبّل فاك من فرح الخلاص
في زر موزة:(1/442)
مطية فارسها راجل ... تحمله وهو لها حامل
واقفة بالباب مزبولة ... لا تشرب الدهر ولا تأكل
وقال في طاحون:
ومسرعة في سيرها طول دهرها ... تراها مدى الأيام تمشي ولا تتعب
وفي سيرها ما تقطع الأكل ساعة ... وتأكل مع طول المدى ولا تشرب
وما قطعت في السير خمسة أذرع ... ولا ثلث ثمن من ذراع وأقرب
في دواة:
ومرضعة أولادها بعد ذبحهم ... لها لبن ما لذّ قط لشارب
وفي بطنها السكين والثدي رأسها ... وأولادها مدخورة للنوائب
وفي دواة أيضا:
وما أمّ يجامعها بنوها ... وليس عليهم تجب الحدود
كأنّهم إذا ولجوا حشاها ... أفاعي في أمكانها رقود
في قلم:
وأهيف مذبوح على صدر غيره ... يترجم عن ذي منطق وهو أبكم
تراه قصيرا كلما طال عمره ... ويضحي بليغا وهو لا يتكلم
وفيه أيضا:
بصير بما يوحى إليه وما له ... لسان ولا قلب ولا هو سامع
كأنّ ضمير القلب باح بسره ... إليه إذا ما حرّكته الأصابع
وفيه أيضا:
وأصفر عار أنحل السقم جسمه ... يشتّت شمل الخطب وهو جموع
حمى الجيش مفطوما كما كان تحتمي ... به الأسد في الغابات وهو رضيع
وقال أيضا:
وذي نحول راكع ساجد ... أعمى بصير دمعه جاري
ملازم الخمس لأوقاتها ... مجتهد في طاعة الباري
في مرملة «1» :
معشوقة لذوات العز قد صنعت ... حزينة ما تراها قطّ تبتسم
كأنها من صروف الدهر خائفة ... تبكي دماء على ما سطّر القلم
في كتاب:
وذي أوجه لكنّه غير بائح ... بسرّ وذو الوجهين للسرّ يظهر
تناجيك بالأسرار أسرار وجهه ... فتسمعها بالعين ما دمت تبصر
في سلطان حسن لابن أبي حجلة:
ما اسم محبّب للقلوب لأنّه ... حسن الحروف يجود بالإحسان
تصحيفه أمسى حبيبا كلما ... صحّفت أحرفه بحسن بيان
لو جاد لي يوما برؤية وجهه ... نلت المراد وعشت بالسلطان
في شبّابة:
وما صفراء شاحبة ولكن ... تزيّنها النضارة والشباب
مكتّبة وليس لها بنان ... منقبة وليس لها نقاب
تصبح لها إذا قبّلت فاها ... أحاديث تلذّ وتستطاب
ويحلو المدح والتشبب فيها ... وليست لاسعاد ولا الرباب
وفيها أيضا:
ومقروحة الأجفان مثلي شجيّة ... تناءت عن الأهلين أسقمها البعد(1/443)
تزوّجها عشر وذاك محرّم ... ولا حرج كلّا ولا وجب الحدّ
إذا وطئها قوم تصرّخ صرخة ... يلين إليها كلّ قلب ولو صلد
وفيها أيضا:
منقبة مهما خلت مع محبّها ... يزوّدها لثما وينظرها شزرا
وتصحيفها في كف حاملها فقل ... إذا شئت في اليمنى وإن شئت في اليسرى
في دملج:
إلى النساء يلتجي ... وعندهنّ يوجد
الجسم منه فضّة ... والقلب منه جلمد
في خلخال:
أيا عجبا من صابر صامت ولم ... يفه بكلام قط في ساعة الضرب
أقام ولم يبرح مكانا ثوى به ... على أنّه أضحى يدور على الكعب
في شعر اللحية:
وذي عدد كالرمل سام محلّه ... جميل على كل الملاح له حق
يحاذر من موسى ويرهب باسمه ... وفي القلب هارون له الهلك والمحق
وفي التين:
أيّ شيء لذّ طعمه ... ناعم الملمس ليّن
كيف لا يبدو وضوحا ... وهو في التصحيف بيّن
في الموز:
ما اسم لشيء حسن شكله ... تلقاه عند الناس موزونا
تراه معدودا فإن زدته ... واوا ونونا صار موزونا
في حمزة:
من لي بمعتدل القوام مهفهف ... أروى بغصن البان لينة قده
في فيه تصحيف اسمه وبخدّه ... وبقلب عاشقه لشدّة صدّه
وفيه أيضا:
إسم الذي أنا أهواه وأعشقه ... وطول دهري أخشى من تجنيه
تصحيفه في فؤادي دائما أبدا ... يبدو في خدّه أيضا وفي فيه
في ساقية:
وجارية لولا الحوافر ما جرت ... أشاهدها تجري وليس لها رجل
وترضع أطفالا ولا هي أمّهم ... وليس لها ثدي وليس لها بعل
وفيها أيضا:
وجارية تبكي إذا الليل جنها ... بلا ألم فيها ولا ضرب ضارب
عليها رجال شنّقوا بعد حرقهم ... وما كان شنق القوم إلا بواجب
في زر وعروة:
وما أخت يجامعها أخوها ... وليس عليهما فيه جناح
ترى بجوازه الحكام طرّا ... وفي أعناقهم ذاك النكاح
في راوية:
وسوداء تشرب من رأسها ... وإن شئت تسقيك من فرد يد
ولونها مثل لون أختها ... وثنتاهما واحد في العدد
وتحبل في الوقت هي وأختها ... وفي ساعة يضعان الولد
في شطرنج:
يا ذا النّهى ما اسم له حالة ... يحار فيها الذهن والفكر
له حروف خمسة إنما ... ثلاثة منها له شطر
في فيل:
أيمّا اسم تركيبه من ثلاث ... وهو ذو أربع تعالى الإله(1/444)
حيوان والقلب منه نبات ... لم يكن عند جوعه يرعاه
فيك تصحيفه ولكن إذا ما ... رمت عكسا يكون لي ثلثاه
في بجع:
ما طائر في قلبه ... يلوح للناس عجب
منقاره في بطنه ... والعين منه في الذنب
في نار:
وما اسم ثلاثي به النفع والضرر ... له طلعة تغني عن الشمس والقمر
وليس له وجه وليس له قفا ... وليس له سمع وليس له بصر
يمدّ لسانا يختشي الرمح بأسه ... ويهزأ يوم الضرب بالصارم الذكر
يموت إذا ما قمت تستقيه عامدا ... ويأكل ما يلقى من النبت والشجر
فيا قارىء الأبيات دونك شرحها ... وإلا فنم عنها ونبّه لها عمر
وفيها أيضا:
وآكلة بغير فم وبطن ... لها الأشجار والحيوان قوت
إذا أطعمتها انتعشت وعاشت ... وإن أسقيتها ماء تموت
في يد الهاون:
قل لي فما شيء يرى ناعما ... منتصب القامة طول الزمان
أطول من شبر له حزّة ... مفيشل الرأس قوي الجنان
يسمع في القعر له رنة ... ويظهر الصفق بأعلى مكان
وفيه أيضا:
خبروني أي شيء ... أوسع ما فيه فمه
وابنه في بطنه ... يرفسه ويلكمه
وقد علا صياحه ... ولم يجد من يرحمه
في خشخاش:
وما قبة مبنية فوق شاهق ... لها علم يحكي الملاحة بالظرف
وأولادها في بطنها في جماعة ... يكونون ألفا أو يزيدون عن ألف
ويأخذها الطفل الصغير بجهله ... ويقلبها عسفا على راحة الكف
في كوز زير:
وذي أذن بلا سمع ... له قلب بلا لب
إذا استولى على صب ... فقل ما شئت في الصب
في اسم علي:
اسم الذي أعشقه ... أوله في ناظره
إن فاتني أوله ... فإن لي في آخره
في موسى للصفدي:
وما شيء له حدّ وخدّ ... يكلّم من يلامسه بحلقه
وكلّ حلقه من تحت راس ... وهذا الراس صارت تحت حلقه
في حلب لابن الفارض رحمه الله تعالى:
ما بلدة بالشام قلب اسمها ... تصحيفه أخرى بأرض العجم
وثلثه إن زال من قلبه ... وجدته طيرا شجيّ النغم
وقال في سمرقند:
وما اسم سداسي إذا ما لمحته ... ترى فيه أجزاء تذم وتشكر
له ثلث يأتي به الموت فجأة ... وثلث مع الكتاب يطوى وينشر
وثلث رعاك الله يا صاحبي له ... على مدى الأيام نشر معطر(1/445)
وفي نصفه لما تحرّك بعضه ... حديث شهيّ في الليالي يذكر
وفي نصفه الثاني إذا ما أعدته ... إلى النار للتحليل والعقد سكر
ففسّر لنا ذا اللغز إن كنت ذا حجى ... فليس على ذي العقل لغز معسّر
وقال في كمون:
يا أيها العطار أعرب لنا ... عن اسم شيء قلّ في سومكا
تراه بالعين في يقظة ... كما ترى بالقلب في نومكا
وقال في قالب الطوب:
وما آكل في قعدة ألف لقمة ... ولقمته أضعاف أضعاف وزنه
إذا نزل المأكول جنبيه لم يقم ... سوى لحظة أو لحظتين ببطنه
في العين:
وباسطة بلا عصب جناحا ... وتسبق ما يطير ولا تطير
إذا ألقمتها الحجر اطمأنّت ... وتجزع أن يباشرها الحرير
ويكفي من ذلك ما أشرت إليه وما نبهت من هذا الفن عليه، وقد مضى القول من الفنون السبعة على فن الشعر القريض وما فيه من الفنون المتقدم ذكرها.
ولنذكر إن شاء الله تعالى بقية الفنون السبعة على وجه الاختصار والفنون السبعة المذكورة عند الناس هي الشعر القريض والموشح والدوبيت والزجل والمواليا والكان وكان، والقوما، ومنهم من جعل الحماق من السبعة وفي ذلك اختلاف وعند جمع المحققين أن هذه الفنون السبعة منها ثلاثة معربة أبدالا يغتفر اللحن فيها، وهي الشعر القريض والموشح والدوبيت، ومنها ثلاثة ملحونة أبدا، وهي: الزجل والكان وكان والقوما، ومنها واحد وهو البرزخ بينهما يحتمل الاعراب واللحن وهو المواليا، وقيل: لا يكون البيت منه بعض ألفاظه معربة وبعضها ملحونة، فإن هذا من أقبح العيوب التي لا تجوز وإنما يكون المعرب منه نوعان بمفرده، ويكون الملحون فيه ملحونا لا يدخله الاعراب وقد أوضح قاعدة الجميع وأمثلتها صفي الدين أبو المحاسن الحلي في ديوانه، وسماه: «بالعاطل الحالي، والمرخص الغالي» ولو بسطت المقال لا تسع المجال وكثر المقال، ولكن الاختصار يذهب الأوجال، والحمد لله رب العالمين على كل حال.
فصل في بيان الفن الثاني وهو الموشح
لابن المبارك:
قد أنحل الجسم أسمر أكحل ... وأوجل القلب فيه مذ حلّ
دور:
أميل له فلا يميل ... يحول وعنه لا أحول
أقول إذا زاد بي النحول
أما حل عقد الصدود ينحل ... وترحل عن نجم المزحل
دور:
كم أبعد وكم أبيت مكمد ... ويعمد بهجره لا فقد
وأجهد لارتصاد من قد
تحمل والحاسدون رحل ... تمحل والوعد منه ما حل
دور:
متوج بالحسن هذا الأبلج ... مدبج عذاره البنفسج «1»
مفلج وطرفه ذا الأدعج
مكحل وثغره منحل ... مخلخل بعنبر معجل
دور:
برغمي من يستحل ظلمي ... ويرمي بحربه لسلمي
وجسمي من التزام سقمي
منحل وقد غدا مرحل ... فمن حل دمي وما حل
دور:
قلاني واشتط ذا الفلاني ... غزاني بطرفه اليماني
تراني أنشد لمن يراني
قد أنحل الجسم أسمر أكحل ... وأوحل القلب فيه مذحل
لابن سناء الملك:
كلّلي يا سحب تيجان الربا بالخلي ... واجعلي سوارك منعطف الجدول
دور:(1/446)
يا سما فيك وفي الأرض نجوم وما ... كلما أخفيت نجما أظهرت أنجما
وهي ما تهطل إلا بالطلى والدما ... فاهطلي على قطوف الكرم كي تمتلي
وانقلي للدن طعم الشهد والقرنفل
دور:
تتقد كالكوكب الدريّ للمرتصد ... يعتقد فيها المجوسي بما يعتقد
فاتئد يا ساقي الراح بها واعتمد
وأجل لي حتى تراني عنك في معزل ... قل لي فالراح كالعشق إن يزد يقتل
دور:
لا أليم في شرب صهبا وفي عشق ريم ... فالنعيم عيش جديد ومدام قديم
لا أهيم إلا بهذين فقم يا نديم
واجل لي من أكؤس صيرت من فوفل ... ألذ لي من نكهة العنبر والمندل
دور:
خذ هني واعطني كاسي مثل كاسك هني ... واسقني على رضاب الفطن الملسن
والهني ببعض ما صيغ من الألسن
لو تلى مدح سناه مع رشا أكحل ... لذلي على سنا الصهباء والسلسل
دور:
أزهرت ليلتنا بالوصل مذ أسفرت ... أصدرت بزورة المحبوب إذ بشرت
أخرت فقلت للظلماء مذ قصرت
طولي يا ليلة الوصل ولا تنجلي ... واسبلي سترك فالمحبوب في منزلي
دور:
من ظلم في دولة الحسن إذا ما حكم ... فالألم يجول في باطنه والندم
والقلم يكتب فيه عن لسان الأمم
من ولي في دولة الحسن ولم يعدل ... يعزى لألحاظ الرشا الأكحل
وله أيضا:
ترى هل يشتفي منك الغليل ... ويشفى من صبابته العليل
دور:
لقد أسرفت في هجري وصدي ... بلا سبب سوى كلفي ووجدي
وماذا في سلو عنك يجدي
خضاب الوجد ليس له نصول ... وأسياف الهوى فينا تصول
دور:
لئن شحيت عني بالسلام ... وطيفك قد جفا لجفا المنام
فقد جادت بأربعة سجام
جفون بالبكا كادت تحول ... على خد أسفّ به النحول
دور:
لقد أرسلت في طي النسيم ... حديث هوى عن الوجد القديم
فعادت وهي عاطرة الشميم
تخبّر أن ظعنهم نزول ... بدار لا يلمّ لها نزيل
دور:
تلقته الموالي والموالي ... بألحاظ وزرق من نصال
وأعطاف وسمر من عوالي وله أيضا:
شمس الحيا أم القمر ... أم بارق الثغر بشر
أم البها حفه الخفر ... بطرز خديك مستطر
سلسلة:
قم تباها بما تباها ولا تلاها قفلة:
فكل أحبابنا حضروا ... والعود يشجيك والوتر
والدور:
أفديك بالسمع والبصر ... يا أهيف وصله وطري
بدر بدا في دجى الشعر ... قد لذّ في حبه سهري(1/447)
سلسلة:
إذا تجلى وقد تجلى عليك يجلى قفلة:
تحير في وصفه الفكر ... والعقل والسمع والنظر
الدور:
فهاك حدّث عن الطرب ... وعن سلاف ابنة العنب
إذا سقاها مع الضرب ... بدر بأفق الجمال ربي
سلسلة:
في ظل بان على المثاني من غير ثاني قفلة:
إلا الندامى إذا سكروا ... والروض والماء والشجر
وقال رحمه الله تعالى:
وانسيم السحر هل لك خبر ... عن عريب همو بالمنحنى
فارقوني ولم أقض الوطر ... من لقاهم ولا نلت المنى
قلت يا قلب صبرا ما صبر ... والنبي ما الهوى إلا عنا «1»
ما كتمت الهوى إلّا ظهر ... مع شهود المدامع والضنى
دور:
ليش تمنع وصالك يا حبيب ... عن محبك وهو لا يعشق سواك
راقب الله وارجع من قريب ... قبل يبلى جسمه في هواك
لست ألقى لدائي من طبيب ... غير رشفي يا حبيبي من لماك
لو رأى حالي العاذل عذر ... حينما ينظر جمالك والسنا
دور:
يا قمر فوق غصن من نقا ... أثخنتنا مطالك والصدود
يا رعى الله لويلات اللقا ... ليتها يا خلّ يوما لي تعود
ليلة السعد ما فيها شقا ... كيف تشقى وطالعها سعود
صفرها لا يمازجه كدر ... بالمسرات وأوقات الهنا
غيره:
حملت مذ سارت الحمول ... وجد مضى العمر وهو باقي
دور:
ساروا وسار الفؤاد لكن ... جسمي مقيم على المساكن
وعن الحبّ صار ظاعن
مالي إلى وصله وصول ... لو سرت بالبرق والبراق
دور:
وغادة كالقضيب قدّا ... والورد والياسمين خدّا
كأنها البدر إذ تبدى
وشعرها أسود طويل ... كأنه ليلة الفراق
دور:
هونا أتتنا تميل ميلا ... سحابة كالسحاب ذيلا
فقلت شمس تزور ليلا
وما درى كاشح عذول ... فذاك من أعجب اتفاق
دور:
وسدتها ساعدي لسعدى ... وبتّ أرعى رياض وردي
وخمر ريق كذوب شهد
لو ذاقها مدنف عليل ... لعاش والروح في التراقي(1/448)
فصل في الفن الثالث وهو الدوبيت
لسيدي شرف الدين بنه الفارض رحمه الله تعالى:
أهوى قمرا له المعاني رق ... من صبح جبينه أضاء الشرق
تدري بالله ما يقول البرق ... ما بين ثناياه وبيني فرق
وقال أيضا:
أهوى رشأ كلّ الاسى لي بعثا ... مذ عاينه تصبري ما لبثا
ناديت وقد فكرت في خلقته ... سبحانك ما خلقت هذا عبثا
وقال أيضا:
عرّج بطويلع فلي ثمّ هويّ ... واذكر خبر الغرام واسنده إليّ
واقصص قصصي عليهم وابك عليّ ... قل مات ولم يحظ من الوصول بشيّ
وقال أيضا:
روحي لك يا زائرا في الليل فدا ... يا مؤنس وحدتي إذا الليل هدا
إن كان فراقنا مع الصبح بدا ... لا أسفر بعد ذاك صبح أبدا
وقال آخر:
يا شمس ضحى جبينه وضاح ... ساعات وصولك كلها أفراح
عشاقك لو فعلت ما شئت بهم ... ماتوا كمدا وبالهوى ما باحوا
وقال آخر:
أهواه مهفهفا ثقيل الردف ... كالبدر يجلّ حسنه عن وصف
ما أحسن واو صدغه حين بدت ... يا رب عسى تكون واو العطف
وقال التلعفري:
قلبي ذهبت لبعدكم راحته ... ما الصبر على بعادكم عادته
بنتم فرثى لما به شامته ... لا كان فراقكم ولا ساعته
وقال المنشدي:
أحسانك طول الدهر لا أنساه ... لا أذكر بعد خالقي إلا هو
إن أبعدك الزمان عني حسدا ... مولاي خليفتي عليك الله
وقال آخر:
إن جئت ربا الحمى ولاحت نجد ... فاذكر ولهي وما جناه البعد
قد كنت أقاسي الصدق حتى رحلوا ... يا ليتهم عادوا وعاد الصدّ
فصل في الفن الرابع وهو الزجل
حمل للغباري:
قل لغزلان وادي مصر ... والشام يقصروا ذا النفار
لهم اجعل حشاشتي ... مرعى وفؤادي قفار
دور:
مصر والشام فيها ملاح أقمار ... بالمحاسن تسود
ذا أبيض وذا أحمر وذا مليح اسمر ... لو عيون نجل سود
ذا غزال صار يفوق على الغزلان ... ويصيد الأسود
وذا غصن بان أهيف قوام قد ... وقد الأغصان جهار
وذا بدر الكمال ظهر في الليل ... وذا شمس النهار
دور:
تدر بالله إيش قالت مليح الشام ... بعد ذاك الصدود
قد سمينا بصحة الأبدان ... واعتدال القدود
وتخضب تفاحنا الأحمر ... فوق بياض الخدود
وأنتم يا عشاق لكم قلنا ... والحسود راح بنار
أنتم التفاح وما نقصد ... منكم إلا الخيار
دور:
وملاح مصر قالت إحنا أصحاب ... الوجوه الملاح
والحلاوة وطيبة الأخلاق ... في الخلائق مباح
إحنا أقمار وإحنا بدور الليل ... وشموس الصباح(1/449)
وفي الألفاظ والظرف والمعنى ... ليس لنا حد صار
وورثنا الحسن من يوسف ... واكتسبنا الفخار
دور:
حسن حبي الفرار جي فرحه بدر ... في السعد لاح
فرخ ناجب خرج من القشرة ... فاق ملاح الملاح
كلما أعمل على رضاه يفسد ... بجفاه الصلاح
ومن البيضة قد خرج نافر ... رد جفني بنار
وجفاني وخد بياض جسمي ... خلطوا بالصفار
دور:
وقع الطل خط بالأبيض ... في اخضرار الطروس
قم يا ساقي على بساط زهري ... تحت ظل العروس
هاتها شمس راح شمول قرقف ... بكر عذرا عروس
عروس لها صفو النسيم ... ولطف الما وابتهاج الثمار
قد جلوها في كاس زجاج ... أبيض فاكتسى باحمرار
دور:
فهو عطار عندي وشراب هندي ... وبراني جفاه
كل من مص من لسانو ريقو ... يلتقي فيه شفاه
ورد خد وحبتو سودا ... شبه خال في صفاه
جبل آس عارضو أسر قلبي ... والكبار والصغار
في المحب غاروا على حسنو ... وكل من حب غار
دور:
دروني الملاح على كعبي ... ونصوا نصوص
بلا دعوى التف لف اليسير ... في هواهم خصوص
وعليا صار نقشهم قاعد ... مثل نقش الفصوص
والبساط انطوى وحين ما رأوا خلف ... له همه ولو اصطبار
قمروني في عشق هذا القمر ... والمحبة قمار
دور:
لحبيبي ثغر من جوهر ... والشفيفات عقيق
وعوارض ما ضرهم عارض ... غير نبات الشقيق
وخدود ورد من غير نمش ... ووصفنا عن حقيق
يحرس الورد خال عنبر ... تحت أهداب غزار
في صفا وجهو أنزه طرفي ... عند خلع العذار
دور:
في رياض صفوف من الأزهار ... قابلتها صفوف
كيف لا نرقص والنسيم بها موصول ... وورقها دفوف
واعجب من النهر إذا صفق ... لو من الموج كفوف
والغيوم نقطت وحين النسيم ... طار أعلى مطار
باختلاف الألحان سحر في الروض ... صاح على عود طار
دور:
أشرف الخلق بين الإسلام ... والهدى والضلال
والشرائع والحق والباطل ... والحرام والحلال
نبي من بين أصابعه تحقيق ... نبع الماء الزلال
ولو أن النبات جميعه أقلام ... والمداد البحار
والخلايق تكتب مديحو تاه ... كل كاتب وحار
دور:
خلف أستاذ في الفن ما ينطاق ... ذاق عداه المنون
ما يعيبو في الفن غير ناقص ... عقل زايد جنون
شيخ مصدر لبيب قيم ... في جميع الفنون
باتضاعو مع الصغار مرفوع ... فوق رؤوس الكبار
وأهل الفنون تجري وما تلحق ... للغبارى غبار
غيره لناصر الغيطي:
كنز روضي طالبو بسعد يا خليع قم في دجى الأسحار تلتقي در الندى يرهج فوق فصوص غرائب النوار دور:
كنز روضي نزهة الطالب ... جوهر وبين الندى يرهج
ولجين الما بيتكسر ... يا خليع هيا تعا اتفرج
بين عنابر تلتقي الخلع ... كل حد مع إلفو يدرج
وامش في عرض الرياض وارتع ... بين أغصان وأطيار فوق
بساط زمرد ذو قضبان ... كل وردة حكت لنا دينار
دور:
وترى الياسمين بحال فضه ... ضربت لاهل النزه صلبان
والشحارير لابسين أسود ... وقلانس كنهم رهبان
وكذا الكتان وهو أصفر ... بعمائم زرق للناس بان
وانجلت بين القسوس في ألحان ... وعلينا دارها الخمار
والقطيع الراهبي يحكي ... لشماس لابس الزنار
دور:
الفراق نار والوصال جنّة ... والخلائق بعضهم يعشق
دا حبيب قلبو عليه راضي ... وذا محبوبو عليه يشفق
ولهيب الهجر يتوقد ... والوصال من الملاح يشتق
المليح عندي وأنا مطمن وسط روضا ... زهر لها معطار في نعيم
مع حور ومع ولدان والعذول ... مسكين صح في نار
دور:
وعمل في الروض سماع باكر ... بين الأغصان والزهور انغام
والنسيم شبب والغدير صفق ... والخليع من كتر وجدو هام(1/450)
والنخيل باكمامها ترقص ... اقبل الريحان بحال أعجام
والعصافير شيخهم ريق ... لو طريق بين الأزاهر طار
والبلبل بالغنا يشجي ... فكأنوا ناي أو مزمار
دور ناصر الغيطي:
يا خلايّا صحبت إنسان ... أنكر الصحبة وعاداني
وبغضني حين بقيت مسمى ... والإله بالفضل أسماني
في بلاد قبلي وأرض الشام ... يشكروني ساير أقراني
والشجيع الشاطر المذكور ... في جميع الأرض لو تذكار
والبلط يوقع لو تعلق ... ما يحصل شي مع الشطار
للغباري:
جار حبيبي فقلت ذا الحجاج ... جا يجور أو يزيد
لو عدل عشت بو مسرور ... ويكون الرشيد
دور:
أقلع القلب في هوى العشاق ... والدموع في انحدار
وبحور الهوى إذا هاجت ... ليس لها من قرار
كنت أحسب قلبي معو ... ريس غرتو ذا البحار
صحت لما وحلت يا محبوب ... قلبي بحر عشقك يزيد
خفت فيه الغرق فقال افرح ... من غرق مات شهيد
دور:
أنا يوم في الغبوق باتفرج ... على شط الغدير
إذا رأيت على الشط واحد واقف ... شب صياد صغير
نظرت مقلتي إلى منظر ... ما لحسنو نظير
قلت يا عين إن غرك الصياد ... بالجمال المصيد
يوقعك في فخاخ شباك عشقو ... وكراكي يصيد
دور:
من نحبو جديد حبيب قلبي ... يوم صدفتو صدف
قلت لين يا قاسي لمن دمعو ... سال وحالو وقف
دار وقال لي ما الاسم بالانجيل ... قلت اسمي خلف
قال علينا يكتب ومن يسمع ... دا الكلام يستفيد
في الحقيقة من لا يكون داود ... ما يلين لو الحديد
دور:
لك عوارض في الخد مرقومة ... ليس لها من مثال
وجفاك صار حماق وباب وصلك ... كان وكان يا غزال
وأنت دوبيت موشح القاما ... يا عزيز الدلال
ولك ألفاظ صارت مواليا ... بالزجل والنشيد
وبشعرك متوج القاما ... وأنت بيت القصيد
دور:
عن محرم شرابنا ضمنا ... ونفطر بالثمار
حين وجدنا سفرجل البستان ... يذهب الاصفرار
وغنا الطير به الجماد يطرب ... وكذا الجلنار
في ربيع حين رأى الثمر قاعد فيه ... تعاليق عقيد
حسب الروض النص من شعبان ... صار يقيد فيه وقيد
دور:
من لهيب مدمعي جرى ... الطوفان للهيب ما طفى
وأنا هو الغباري في العشاق ... ما جرى لي كفي
حين عليا بالصد والهجران ... والبعد والجفا
جار حبيبي فقلت ذا الحجاج ... جا يجوز أو يزيد
لو عدل عشت بو مسرور ... ويكون الرشيد
غيره:
فحين سكنت القلب يا عيسى ... أمسى من بعدك الحزين فرحان
وتقدس بك ولكنو ... ما جرت فيه يا ابن عين سلوان
دور:
عارضوا لما عشق خدو ... غرت من وجدي بقيت حاير
جيت إلى طرفو وناديت ... لو أحرسوا وكون عليه ناظر
بعد حين نظرت في خدو ... النقي العارض وهو داير
وعليه قد دب بالسرقة ... جيت لطرفو قلت يا كسلان
هكذا في عادة الحراس ... قال لي اعذرني أنا نعسان
دور:
بدر شعبان منيتي لما ... في بروج السعد لاح نجمو
قلت لو أقضي بفيض دمعي ... أطلقوا واجراه على رسمو
قلت لو دام الله إطلاقك ... فالحزين قلبو المشوم قسمو
ايش قد أذنب حين قطرتو ... دا يملغط قول بالبهتان
قال لي صوم عن الوصال ناديت ... ليش أصوم يا بدر في شعبان
دور:
حين تدبح احمرار خدو ... باخضرار العارض أسباني
ضحك فابيض واتبسم ... واسوداد شعري وأبكاني
وحين أضحيت باصفرار لوني ... أشعث أغبر في هواه عاني
قال لي لونك قد صبح حايل ... وقد أبصر مدمعي طوفان
ذقت تبريح الغرام ناديت ... في هواك ذقت الهوان ألوان
دور:
قلت لو حين عني تخلف ... لله كن لي يا رشيد مهدي
قد تلون دمعي من بعدك ... وتجري اليوم على خدي
دار إلى إنسان مقلتي قال ... لو أنت ما عندك نظر بعدي
ما ترى ما قد جرى منك ... على الخدود قال يا فتان
جرى الماء تحت من بعدك ... راقب الله فيا يا إنسان(1/451)
دور:
ذا الغزال النافر الأنسي ... للغزالة قد أعار النور
كسر قلبي كسير جفنوا ... فاعجبوا للكاسر المكسور
وبخمر الدن قد عربد ... وادعى إني أنا المخمور
وابتسم لي عن نقا ثغرو ... وخطر والبشر فيا بان
صحت يا قلبي صفا وردك ... أنت ما بين النقا والبان
للصفي الحلي:
فأنت يا قبلة الكرام ... زينة المال والبنين
الله يعطيك فوق ذا المقام ... ويعيدك على السنين
دور:
أنت شاما بين الأنام ... الله يحرس شمايلك
ويزيدك بالدوام كي ... نعيش في فواضلك
ما ينطوي ذكر الكرام ... لما تنشر فضايلك
ونهنيك لكل عام ... والخلائق تقول آمين
قد بقينا بك في أمان ... الله يحييك طول السنين
دور:
ما رأينا تحت ذا الفلك ... من ندى كفك أعم
كل من جاء ليسألك ... ليس تقول له سوى نعم
أملك أنت أو ملك ... ضاعف الله لك النعم
أنت في الجود كالغمام ... وسماك فوق ماردين
در غيثك في انسجام ... عم كل السائلين
دور:
لا عد مناكل صوم ذا ... السحور فيك والهنا
كل ليلة وكل يوم ... ينشر الذكر والثنا
الله يحييك من خير قوم ... بالغ يقصد والمنى
دور:
حتى تقضي ذا الصيام ويليه باقي السنين ... وتعيش يا ذا الهمام بين ولدان وعين
غيره:
خال عبد الرحيم حبر من غير قاف ولام، ... واسم ثغر معشوقي الفتان نون وعين وميم
شال السعد فوق راسو عين ولام وميم ... داللي قد هواه قلبي صاد وبا ويا
مليح ما رأيت مثله ظا وبا ويا ... ما أحلاه عند ما يلبس قاف وبا ويا
ذقت من صدود حبي غين وصاد وصاد ... لما رأيت صبري نون وقاف وصاد
النوم من جفون عيني خا ولام وصاد ... وأصبحت وجود فكري عين ودال وميم
قلت يوم لمن كان لي سين ونون ودال ... اعدل في الذي صبرو نون وفا ودال
ولا تهجر العشاق با وعين ودال ... ما أفلح قط يا ناس من ظا ولام وميم
جمل في الالغاز
المطلع في العين
وما طير أكلو الحجر يا كرام ... وجوهر حبابه يفسد أهل الصلاح
ولمس الحرير يؤذيه وريش النعام ... يصول بين جناحين سود كبيض الصفاح
دور في السراج:
وما بجر ما هو ما وفي الليل يزيد ... وينقص ولا هو خوض ولا هو غريق
وفيه شيء صفات حيه بلا وكر استفيد ... لها جوهره في فمها يا رفيق
بلا شك ينظره القريب والبعيد ... ويخفي ويظهر كل يوم عن حقيق
يغيب في النهار لكن إذا جا الظلام ... تشوفو يضيء بين الوجوه الصباح
ويسهر بحال عاشق حليف الغرام ... قتيل الهوى بين الربا والبطاح
دور في جوزة الكنافة:
وما هي التي تركب على ستين ألف ... وما مثل ذاك فسر لنا يا خبير
مليحه وقصيفه وتلبس ترف ... وتحمل وتوضع كل يوم في السعير
لها عشرة أعوان حالهم مختلف ... يشيلو أودها الكبير والصغير
لها فحل يخدمها عليه السلام ... يحادي سراها في المجي والرواح
وأكثر تعبها في ليالي الصيام ... وذا اللغز قلته ومن غير مزاح
دور في الغربال:
وما هو الذي يا سعد كله عيون ... ولا يتعلم ضوء الظلام والضيا
وهو بين خشب مصلوب لتلك الفتون ... وميت وهو يحيي أصول الحيا(1/452)
إذا غاب عن أهله فرد يوم ما يهون ... ولا حد يعوض موضعه لو عيا
وكم من رقيص في صنعته باهتمام ... مكابد عجاجه في المسا والصباح
ويحتاج له الناس كل يوم في الدوام ... على شان فنونه دول فنون ملاح
الفن الخامس في المواليا
وله وزن واحد وأربع قوافي فمن تلك الأربعة واحدة لصفي الدين الحلي:
يا طاعن الخيل والأبطال قد غارت ... والمخصب الربع والأمواه قد غارت
هواطل السحب من كفيك قد غارت ... والشهب مذ شاهدت أضواك قد غارت
وقال أيضا:
سل مقلتيك الكحال عمن سلا سلها ... ومرشفيك من رشف منها سلاسلها
وعارضيك التي مدت سلاسلها ... كم من أسود ضواري في سلاسلها
وقال آخر:
قد أوعدونا الغضابا أننا نخلو ... في ظل بستان حافف بالتمر نخلو
والطل من فوقنا قد بلنا نخلو ... ومن كلام الأعادي قط ما نخلو
وقال آخر:
قسما وبالله مفرقها وجامعها ... ومن أمرنا بمسجدها وجامعها
لو حل مع بغيتي عايد وجامعها ... كان أفتتن في محاسنها وجامعها
ومن اثنين واثنين قال آخر:
قوم اسقني ما تبقى في أباريقو ... أما ترى الصبح قد لاحت أباريقو
مع شادن كلما دارت أباريقه ... سقى المداما وإن عزت سقى ريقو
وقال:
البارحة رأيت بعيني في الدجاجيين ... اثنين مثل البدوره في الدجى جيين
ناديتهم فين كنتم يا خفا جيين ... قالوا لمن قد وعدنا في الخفا جيين
وقال:
قد زدت هجرك فجد بالعفو عن صبك ... ارحم خضوعي وخف في قتلتي ربك
يكفيك بهجر تكدر قلب من حبك ... ما ظن في الناس أقسى قلب من قلبك
غيره خمري عاطل:
كاس الطلا لطلاها طال لما سر ... وصار لما حوى حمرا مكلل در
مدام لو طعم كله حلو ما هو مر ... ما حل مملوك إلا صار مالك حر
غيره حربي:
لك يا إمام الوغا في كل موقع حرب ... سماع يطرب له السامع وينفي الكرب
هذا ولك كلما دارت رحاة الحرب ... سيوف تفني وكفك لا يمل الضرب
الصفي الحلي في المدح:
أغنت وأقنت كفوفك في الندى والحرب ... في القرب والبعد من شرقها والغرب
وفيض جودك وسيقك بالعطا والضرب ... ذا الكرب فرج وهذا قد رمى في الكرب
وقال أيضا:
من قال جودة كفوفك والحيا مثلين ... أخطا القياس وفي قوله جمع ضدين
ما جدت إلا وثغرك مبتسم يا زين ... وذاك ما جاد إلا وهو باكي العين
وقال في التهنئة:
رأيت ذا العيد أول يوم في عصرك ... رأيت ذا اليوم مع ذا الشهر في نصرك
وديت ذا الشهر مع ذا العام طوع أمرك ... والكل بالكل أول مبتدا عمرك
وفي المعاتبة:
عنّا تسليت واسياف الجفا سليت ... ومذ توليت عن طرق الوفا وليت
لما تمليت بالأعمال لي مليت ... إذا تخليت تعرف قدر من خليت
وقال أيضا:(1/453)
يا قلب إن غدروا فاغدر وإن خانوا ... فخن وإن هم قسوا فاقسا وإن لانو
فلن وإن قربوا فاقرب وإن بانوا ... فبن وكن لي معاهم كيفما كانوا
وقال آخر:
حلف عليا جكاره أن يقاطعني ... وصد عني وأقسم ما يطاوعني
كم ذا يصدوكم يرجع يصدعني ... إن كنت أنا هو المطلق لا يراجعني
وقال آخر هجوا:
قطع قفا ابن أخت خالك وابن أخو عمك ... والحق يصفع أبو بنتك أو ابن أمك
وإن تكلمت تصفع بل يسيل دمك ... وإن كنت تسكت يبول الكلب في فمك
وقال آخر:
إن ردت تسلم بطول الدهر ما تبرح ... لا تيأسن ولا تقنط ولا تمرح
واستعمل الصبر لا تحزن ولا تفرح ... وإن ضاق صدرك ففكر في ألم نشرح
وقال آخر:
إن كنت عاقل وربك بالتقى برك ... إدفع أذاك وهات خيرك ودع شرك
وإن تعدى حسودك والحسد ضرك ... ناديه يا أيها الإنسان ما غرك
وقال آخر:
يا قلب إن خانك المحبوب لا تدبر ... عنو وعن قصة السلوان لا تخبر
واستعمل الصبر دائم للعدا تقهر ... فإن والله ما خاب الذي يصبر
الفن السادس كان وكان
وله وزن واحد وقافية واحدة ولكن الشطر الأول من البيت أطول من الثاني فمنه هذه الوعظيات:
يا قاسي القلب مالك تستمع وما عندك خبر ... ومن حرارة وعظي قد لانت الأحجار
أفنيت مالك وحالك في كل ما لا ينفعك ... ليتك على ذي الحاله تقلع عن الأصرار
تحضر ولكن قلبك غايب وذهنك مشتغل ... فكيف يا متخلف تحسب من الحضار
ويحك تنبه يا فتى وافهم مقالي واستمع ... ففي المجالس محاسن تحجب عن الأبصار
يحصي دقائق فعلك وغمز لحظك يعلمه ... وكيف تعزب عنه غوامض الأسرار
تلوت قولي ونصحي لمن تدبر واستمع ... ما في النصيحة فضيحة كلا ولا إنكار
وقال أيضا:
صرح بذكر المحبة ما في المعمى فائده ... وقل نعم أنا عاشق صادق بلا تمويه
ودع حديث العواذل ليس الخبر مثل النظر ... أنا عاشق لحبيب كل المعاني فيه
من أين للبدر حسن يحكيه أو شمس الضحى ... حاشا لذاك المحيا من مشيه يحكيه
إن غبت فهو أنيسي وإن حضرت نديمي ... وإن شربت مدامي فالكأس هو ساقيه
فمنه روحي وراحي إذا سكرت وراحتي ... وفيه عزي وذلي بمهجتي أفديه
قولوا لمن يلحاني في الحب قصر واعتبر ... هذا الذي قد عشقته قد حار وصفي فيه
الصفي الحلي:
شاهدت في الليل طيري وقمت حتى أنصب شرك ... ما كل صيد يحصل يفرح الصياد
طيري الذي كان إلفي لو ردت مثله ما حصل ... وهو عليّ معود وأنا عليه معتاد
قد كان شرطي وخلقي لبرج غيري ما عرف ... كأننا في الصحبة جينا على ميعاد
من قبل ما أبصبص له يجي ويدخل قصوري ... أنا أرصده في مطاره خائف عليه ينصاد
وقال آخر:
ما ذقت عمري جرعة أمر من طعم الهوى ... الله يصبر قلبي على الذي يهواه
الناس تعلم مني حال الجلادة والقوى ... وما أطيق التجلد على أليم جفاه
لي حب مثل الخوخة لو لون وطعم وريحة ... ما أكثر مغابن حبيبي وما أقل وفاه
أنا عرفتو حظي وكل ما أحسن لو يسي ... لو كنت أعشق ظلي ما كنت قط أراه(1/454)
وله في الفراقيات:
يا سادة هجروني وهم نزول بخاطري ... لا أوحش الله منكم في سائر الأوقات
أوحشتم العين مني وأنسكم في خاطري ... والقلب في النور منكم والعين في ظلمات
قد انتهى الصبر مني وما بقي فيا رمق ... هيهات إني أحيا من بعدكم هيهات
لم يبق غير خيالي يلوح كالشبح الخفي ... أعد بين الأحياء وأنا مع الأموات
ودعتموني وسرتم والقلب يتبع ركبكم ... إيش ضر لو كان جسمي من جملة التبعات
ما مر ما ريت ضدي يقول لي من فرحته ... هنا تشق المراير وتكسب العبرات
لو لم أسلي روحي وارض نفسي بالمنى ... لكان قلبي تقطع من بعدكم حسرات
وقفت لما رحلتم حيران بين أظعانكم ... أخفض جناح المذلة وارفع الأصوات
طول الليل أساهر كني أريد الكيميا ... أقطر الدموع مني وأصد الزفرات
ما أطول ليالي جفاكم ساعتها مثل السنة ... وما أقصر أيام وصلي كأنها ساعات
مالي أرى حسناتي بالسيئات تبدلت ... وسيئات الأعادي اتبدلت حسنات
خالفتموني وعمري ما زلت أتبع أمركم ... كذا العبيد تتابع أوامر السادات
أسكت وأصبر عنكمو ويفعل الله ما يشا ... والدهر من عاداته يقلب الحالات
الفن السابع في فن القوما
قيل أول من اخترعه ابن نقطة برسم الخليفة الناصر والصحيح أنه مخترع من قبله. وكان الناصر يطرب له، وكان لابن نقطة ولد صغير ماهر في نظم القوما، فلما مات أبوه أراد أن يعرف الخليفة بموت أبيه ليجريه على مفروضه. فتعذر عليه ذلك، فصبر إلى دخول شهر رمضان ثم أخذ أتباع والده من المسحرين ووقف أول ليلة من الشهر تحت الطيارة وغنى القوما بصوت رقيق، فأصغى الخليفة إليه وطرب له، فكان أول ما قاله قوله:
يا سيد السادات ... لك بالكرم عادات
وأنا بني ابن نقطة ... تعيش أبويا مات
فأعجب الخليفة منه هذا الإختصار، فاستحضره وخلع عليه وفرض له ضعفي ما كان لأبيه.
ومنها للصفي الحلي:
من كان يهوى البدور ... ووصل بيض الخدور
بالبيض والصفر يسخو ... وقد جلس في الصدور
من حب بيض الخدور ... ورام لزوم الصدور
يسمح وإلا فيبقى ... من بينهم مهدور
كم بين سجف الخدور ... من عاشق مصدور
يرعى الكواكب تعلو ... يرى جمال البدور
بين الحلل والخدور ... وجوه مثل البدور
أشراقها في المعاجز ... وغربها في الصدور
قد كنت فوق الصدور ... بين الظبا والبدور
فصرت أحسد من أبصر ... خيامهم والخدور
نوائب المقدور ... مثل الكواكب تدور
من بعد طيب الخواطر ... يقضي بضيق الصدور
غيري يلازم الصدور ... أنا عليكم أدور
واصطلي الصد وأنا ... من بينهم مهدور
وقال أيضا:
حال الهوى مخبور ... يريد جلد صبور
يصون سره وإلّا ... يبقى من أهل القبور
من كان هواه مستور ... يحظى برفع الستور
ومن هتك سر حبو ... يمحى من الدستور
أبذل لبيض النحور ... أموال مثل البحور
إن أردت تملك وتظفر ... ولدانهم والحور
قم فابذل المدخور ... وفي العطا لا تجور
تريد هذي المحبه ... قلوب مثل الصخور
كم حول تلك الخدور ... من عاشق مذعور
مثل الدواليب تجري ... دموعها وتدور
من يركب المحذور ... هو في الهوى معذور
يظفر بحبه ويبلغ ... قصده ويوفي النذور
كن بالهوى مسرور ... ولا تبيت مغرور
واجعل تراب اعتابهم ... لا جفان عينك درور
طرق المحبة وعور ... كم بينها معذور
من فتك بيض السوالف ... على سواد الشعور
كم عاشق مذعور ... في حب بيض الثغور
يغار قلبه ولكن ... مدامعه ما تغور
كم بينهم يعفور ... كالظبي أنس نفور
من أهل بدر فديته ... إيش ما عمل مغفور
ومن ذلك ما نظمه بعضهم ليسحر بعض الخلفاء في رمضان:(1/455)
لا زال سعدك جديد ... دائم وجدك سعيد
ولا برحت مهنى ... بكل صوم وعيد
في الدهر أنت الفريد ... وفي صفاتك وحيد
والخلق شعر منقح ... وأنت بيت القصيد
يا من جنابه شديد ... ولطف رأيه سديد
ومن يلاقي الشدائد ... بقلب مثل الحديد
لا زلت في تأييد ... في الصوم والتعييد
ولا برحت مهنى ... بكل عام جديد
نحن لذكرك نشيد ... بقولنا والنشيد
ونبعث أوصاف مدحك ... على خيول البريد
ظلك علينا مديد ... ما فوق جودك مزيد
وكم غمرت بفضلك ... قريبنا والبعيد
لا زلت في كل عيد ... تحظى بجد سعيد
عمرك طويل وقدرك ... وافر وظلك مديد
لا زال قدرك مجيد ... وظل جودك مديد
ولا برحت موقى ... كما يوقى الوليد
ما زال برك يزيد ... على أقل العبيد
وما برح جود كفك ... منا كحبل الوريد
لا زال برك مزيد ... دائم وبأسك شديد
ولا عدمنا نوالك ... في صوم فطر وعيد
ومما قيل في فن الحماق:
أنا ما عبوري الحمام ... لجسمي لكي ينظف
إلا لدمع جاري ... على الما ولا يوقف
وديك المجاري تجري ... ودمعي يسابقها
تقول الأنام في الحمام ... له أحباب فارقها
وقال آخر:
ترى كل من نعشقو ... علينا يقيم أنفه
فاسلاه واترك هواه ... وسد الطريق خلفه
وإن زاد على عشقوا ... وزاد بي الهوى والذل
تركتو ولو كان يحيي ... لأهل القبور الكل
وقد انتهى الكلام فيما أشرت إليه من الفنون السبعة وذكرت منها ما تبتهج به النفوس وتقرّ به العيون، واختصرت ذلك إلى الغاية، فجاء بتوفيق الله في الحسن نهاية، وأسأل الله التوفيق بمنه وكرمه والمزيد من بره ونعمه، وحسبنا الله ونعم الوكيل، وصلى الله على سيدنا محمد، وعلى آله وصحبه وسلم.
الباب الثالث والسبعون في ذكر النساء وصفاتهن ونكاحهن وطلاقهن وما يحمد ويذم من عشرتهن
وفيه فصول
الفصل الأول في النكاح وفضله والترغيب فيه
قال الله تعالى: فَانْكِحُوا ما طابَ لَكُمْ مِنَ النِّساءِ مَثْنى وَثُلاثَ وَرُباعَ
«1» الآية. وقال تعالى: وَأَنْكِحُوا الْأَيامى مِنْكُمْ وَالصَّالِحِينَ مِنْ عِبادِكُمْ وَإِمائِكُمْ
«2» . وقال تعالى: وَلا جُناحَ عَلَيْكُمْ فِيما عَرَّضْتُمْ بِهِ مِنْ خِطْبَةِ النِّساءِ أَوْ أَكْنَنْتُمْ فِي أَنْفُسِكُمْ
«3» الآية.
وقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «يا معشر الشباب من استطاع منكم الباءة فليتزوج فإنه أغض للبصر وأحصن للفرج ومن لم يستطع فعليه بالصوم فإنه له وجاء» «4» .
وقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «استوصوا بالنساء خيرا فإنهن عوار عندكم» ، وقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «تزوجوا الودود الولود، فإني مكاثر بكم الأمم يوم القيامة» . وقال صلى الله عليه وسلم:
«سوداء ولود خير من حسناء عقيم» .
وقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «أحسن النساء بركة أحسنهن وجها وأرخصهن مهرا فينبغي للرجل إذا أراد أن يتزوج أن يرغب في ذات الدين وأن يختار الشرف والحسب» .
كما حكي أن نوح بن مريم قاضي مرو أراد أن يزوج ابنته، فاستشار جارا له مجوسيا، فقال: سبحان الله يستفتونك وأنت تستفتيني! قال: لا بد أن تشير عليّ.
قال: إن رئيسنا كسرى كان يختار المال، ورئيس الروم قيصر كان يختار الحسب والنسب، ورئيسكم محمد كان(1/456)
يختار الدين، فانظر أنت بأيهم تقدي.
وقال رجل للحسن: إن لي ابنة فمن ترى أن أزوجها له؟
قال: زوجها ممن يتقي الله عز وجل، فطن أحبها أكرمها، وإن أبغضها لم يظلمها.
وقيل لرجل من الحكماء: فلان يخطب فلانة، فقال:
أموسر من عقل ودين؟ فقالوا: نعم. قال: فزوجوه إياها.
ويستحب أن يختار البكر لقوله صلى الله عليه وسلم: «عليكم بالأبكار فإنهن أطيب أفواها وأنتق أرحاما» . وقالوا: أشهى المطي ما لم يركب وأحب اللآلىء ما لم يثقب.
وأنشد بعضهم:
قالوا نكحت صغيرة فأجبتهم ... أشهى المطيّ إليّ ما لم يركب
كم بين حبة لؤلؤ مثقوبة ... نظمت وحبة لؤلؤ لم تثقب
فأجابته إمرأة:
إنّ المطيّة لا يلذّ ركوبها ... حتى تذلّل بالزّمام وتركبا
والدرّ ليس بنافع أربابه ... حتى يؤلّف بالنظام ويثقبا
قال خالد بن صفوان:
عليك إذا ما كنت في الناس ناكحا ... بذات الثنايا الغرّ والأعين النجل
وقيل: استشار رجل داود عليه السلام في التزويج، فقال له: سل سليمان وأخبرني بجوابه، فصادفه ابن سبع سنين وهو يلعب مع الصبيان راكبا قصبة فسأله: فقال:
عليك بالذهب الأحمر أو الفضة البيضاء، واحذر الفرس لا يضربك. فلم يفهم الرجل ذلك، فقال له داود عليه الصلاة والسلام: الذهب الأحمر البكر. والفضة البيضاء الثيب الشابة، ومن وراءهما كالفرس الجموح.
وقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «تخيروا لنطفكم» ، وقال صلى الله عليه وسلم:
«انظر في أي شيء تضع ولدك، فطن العرق دساس» . وقال عليه الصلاة والسلام: «إياكم إياكم وخضراء الدمن «1» .
قالوا: وما خضراء الدمن يا رسول الله صلى الله عليه وسلم؟ قال: المرأة الحسناء في المنبت السوء.
وأنشدوا فيه:
إذا تزوّجت فكن حاذقا ... واسأل عن الغصن وعن منبته
وقال بعضهم:
وأوّل خبث الماء خبث ترابه ... وأول خبث القوم خبث المناكح
وعن علي رضي الله تعالى عنه، عن النبي صلى الله عليه وسلم قال:
«لا تسترضعوا الحمقاء ولا العمشاء فإن اللبن يعدي» .
وقيل: إن جعفر بن سليمان بن علي عاب يوما على أولاده، وأنهم ليسوا كما يحب، فقال له ولده أحمد بن جعفر: إنك عمدت إلى فاسقات مكة والمدينة وإماء الحجاز فأوعيت فيهن نطفك ثم تريد أن ينجبن وإنما نحن كصاحبات الحجاز، هلا فعلت في ولدك ما فعل أبوك فيك حين اختار لك عقيلة قومها، فزوجها منك.
وأنشدوا:
صفات من يستحب الشرع خطبتها ... جلوتها لأولي الألباب مختصرا
صبية ذات دين زانه أدب ... بكر ولود حكت في نفسها القمرا
غريبة لم تكن من أهل خاطبها ... تلك الصفات التي أجلو لمن نظرا
فيها أحاديث جاءت وهي ثابتة ... أحاط علما بها من في العلوم قرا
وقال آخر:
مطيّات السرور فويق عشر ... إلى العشرين ثم قف المطايا
فإن جزت المسير فسر قليلا ... وبنت الأربعين من الرزايا
وقال آخر:
فإيّاك إيّاك العجوز ووطأها ... فما هو إلّا مثل سمّ الأراقم «2»
واعلم أن العيش كله مقصور على الحليلة الصالحة، والبلاء كله موكل بالقرينة السوء التي لا تسكن النفس إلى عشرتها ولا تقر العيون برؤيتها. وفي حكمة سليمان بن داود عليهما السلام: المرأة العاقلة تعمر بيت زوجها، والمرأة السفيهة تهدمه.
وروي أنه لما حضر أبو طالب نكاح رسول الله صلى الله عليه وسلم على خديجة بنت خويلد رضي الله عنها، ومعه بنو هاشم(1/457)
ورؤساء مضر، خطب فقال: الحمد لله الذي جعلنا من ذرية إبراهيم وزرع إسماعيل وعنصر مضر، وجعلنا حضنة بيته وسواس حرمه، وجعل لنا بيتا محجوجا وحرما آمنا، وجعلنا الحكام على الناس، ثم إن محمد بن عبد الله ابن أخي من لا يوزن به رجل من قريش إلا رجح به برا وفضلا وكرما ومجدا ونبلا، فإن كان في المال قلّ، فالمال ظل زائل ورزق حائل، وقد خطب خديجة بنت خويلد وبذل لها من الصداق ما عاجله وآجله من مالي كذا وكذا، وهو والله بعد هذا له نبأ عظيم وخطر جليل.
ولما خطب عمرو بن حجر الكندي إلى عوف بن محلم الشيباني ابنته أم إياس وأجابه إلى ذلك، أقبلت عليها أمها ليلة دخوله بها توصيها، فكان مما أوصتها به أن قالت: أي بنية إنك مفارقة بيتك الذي منه خرجت وعشّك الذي منه درجت إلى رجل لم تعرفيه وقرين لم تألفيه، فكوني له أمة ليكون لك عبدا، واحفظي له خصالا عشرا يكن لك ذخرا، فأما الأولى والثانية، فالرضا بالقناعة وحسن السمع له والطاعة، وأما الثالثة والرابعة: فالتفقد لمواقع عينيه وأنفه، فلا تقع عينه منك على قبيح ولا يشم أنفه منك إلا أطيب الريح، وأما الخامسة والسادسة: فالتفقد لوقت طعامه ومنامه، فإن شدة الجوع ملهبة، وتنغيص النوم مغضبة، وأما السابعة والثامنة: فالإحراز لماله والإرعاء على حشمه وعياله، وأما التاسعة والعاشرة: فلا تعصي له أمرا، ولا تفشي له سرا، فإنك إن خالفت أمره أو غرت صدره، وإن أفشيت سره لم تأمني غدره، وإياك والفرح بين يديه إذا كان مهتما، والكآبة لديه إذا كان فرحا. فقبلت وصية أمها، فأنجبت وولدت له الحارث بن عمرو جد أمرىء القيس الملك الشاعر.
وعن الهيثم بن عدي الطائي عن الشعبي قال: لقيني شريح، فقال لي: يا شعبي عليك بنساء بني تميم، فإني رأيت لهن عقولا، فقلت وما رأيت من عقولهن؟
قال: أقبلت من جنازة ظهرا، فمررت بدورهن وإذا أنا بعجوز على باب دار وإلى جانبها جارية كأحسن ما رأيت من الجواري، فعدلت إليها، واستسقيت وما بي عطش.
فقالت لي: أي الشراب أحب إليك؟
قلت: ما تيسر.
قالت: ويحك يا جارية ائتيه بلبن، فإني أظن الرجل غريبا.
فقلت للعجوز: ومن تكون هذه الجارية منك؟
قالت: هي زينب بنت جرير إحدى نساء بني حنظلة. قلت: هي فارغة أم مشغولة؟
قالت: بل فارغة.
قلت: أتزوجينيها؟
قالت: إن كنت كفأ (ولم تقل كفوا) ، وهي لغة بني تميم، فتركتها ومضيت إلى منزلي لأقيل فيه، فامتنعت مني القائلة، فلما صليت الظهر أخذت بيد إخواني من العرب الأشراف علقمة والأسود والمسيب، ومضيت أريد عمها، فاستقبلنا وقال: ما شأنك أبا أمية؟
قلت: زينب ابنة أخيك.
قال: ما بها عنك رغبة. فزوّجنيها، فلما صارت في حبالي ندمت وقلت أي شيء صنعت بنساء بني تميم، وذكرت غلظ قلوبهن. فقلت أطلقها، ثم قلت: لا، ولكن أدخل بها، فإن رأيت ما أحب وإلا كان ذلك. فلو شهدتني يا شعبي وقد أقبلت نساؤها يهدينها حتى أدخلت علي. فقلت: إن من السنّة إذا دخلت المرأة على زوجها أن يقوم ويصلي ركعتين. ويسأل الله تعالى من خيرها ويتعوذ من شرها، فتوضأت. فإذا هي تتوضأ بوضوئي وصليت فإذا هي تصلي بصلاتي، فلما قضيت صلاتي أتتني جواريها فأخذن ثيابي وألبسنني ملحفة قد صبغت بالزعفران فلما خلا البيت دنوت منها، فمددت يدي إلى ناصيتها، فقالت: على رسلك أبا أمية، ثم قالت: الحمد لله أحمده وأستعينه، وأصلي على محمد وآله، وأما بعد، فإني امرأة غريبة لا علم لي بأخلاقك فبين لي ما تحب فآتيه، وما تكره فأجتنبه. فإنه قد كان لك منكح في قومك ولي في قومي مثل ذلك، ولكن إذا قضى الله أمرا كان مفعولا، وقد ملكت، فاصنع ما أمرك الله تعالى به، إما إمساك بمعروف أو تسريح بإحسان. أقول قولي هذا وأستغفر الله العظيم لي ولك ولجميع المسلمين.
قال: فأحوجتني والله يا شعبي إلى الخطبة في ذلك الموضع، فقلت: الحمد لله أحمده وأستعينه، وأصلي على محمد وآله أما بعد، فإنك قلت كلاما إن ثبتّ عليه يكن ذلك حظا لي، وإن تدعيه يكن حجة عليك، أحب كذا وأكره كذا، وما رأيت من حسنة فابثثيها وما رأيت من سيئة فاستريها.
فقالت: كيف محبتك لزيارة الأهل؟ قلت: ما أحب أن يملّني أصهاري.
قالت: فمن تحب من جيرانك يدخل دارك آذن له، ومن تكرهه أكرهه.(1/458)
قلت: بنو فلان قوم صالحون، وبنو فلان قوم سوء.
قال: فبت معها يا شعبي بأنعم ليلة، ومكثت معي حولا لا أرى منها إلا ما أحب، فلما كان رأس الحول جئت من مجلس القضاء، وإذا أنا بعجوز في الدار تأمر وتنهى، قلت: من هذه؟ قالوا فلانة أم حليلتك، قلت: مرحبا وأهلا وسهلا، فلما جلست أقبلت العجوز، فقالت:
السلام عليك يا أبا أمية.
فقلت: وعليك السلام ومرحبا بك وأهلا قالت: كيف رأيت زوجتك قلت: خير زوجة وأوفق قرينة لقد أدبت فأحسنت الأدب، وريضت فأحسنت الرياضة، فجزاكي الله خيرا.
فقالت: أبا أمية إن المرأة لا يرى أسوأ حالا منها في حالتين، قلت: وما هما؟ قالت: إذا ولدت غلاما أو حظيت عند زوجها، فإن رابك مريب فعليك بالسوط، فو الله ما حاز الرجال في بيوتهم أشر من الروعاء المدللة، فقلت. والله لقد أدبت، فأحسنت الأدب، وريضت فأحسنت الرياضة.
قالت: كيف تحب أن يزورك أصهارك؟ قلت:
ما شاءوا، فكانت تأتيني في رأس كل حول فتوصيني بتلك الوصية، فمكثت معي يا شعبي عشرين سنة لم أعب عليها شيئا، وكان لي جار من كندة يفزع امرأته ويضربها، فقلت في ذلك:
رأيت رجالا يضربون نساءهم ... فشلّت يميني يوم تضرب زينب
أأضربها من غير ذنب أتت به ... فما العدل منّي ضرب من ليس يذنب
فزينب شمس والنساء كواكب ... إذا طلعت لم يبد منهن كوكب
وخطب الحجاج بن يوسف إلى عبد الله بن جعفر ابنته أم كلثوم على ألفي ألف في السر وخمسمائة ألف في العلانية، فأجابه إلى ذلك، وحملها إلى العراق، فأقامت عنده ثمانية أشهر، فلما خرج عبد الله بن جعفر إلى عبد الملك بن مروان وافدا نزل بدمشق. فأتاه الوليد بن عبد الملك على بغلة، ومعه الناس، فاستقبله ابن جعفر بالترحيب فقال له الوليد: لكنك أنت لا مرحبا بك ولا أهلا، قال: مهلا يا ابن أخي، فلست أهلا لهذه المقالة منك، قال: بلى والله، وبشر منها، قال: وفيم ذلك؟
قال: لأنك عمدت إلى عقيلة نساء العرب وسيدة نساء بني عبد مناف فعرضتها عبد ثقيف يتفخذها. قال: وفي هذا عتبت عليّ يا ابن أخي؟ قال: نعم، فقال عبد الله: والله ما أحق الناس أن لا يلومني في هذا إلا أنت وأبوك، لأن من كان قبلكم من الولاة كانوا يصلون رحمي ويعرفون حقي، وإنك وأباك منعتماني رفدكما حتى ركبني الدين أما والله لو أن عبدا حبشيا مجدعا أعطاني بها ما أعطاني عبد ثقيف لزوجتها منه إنما فديت بها رقبتي، فما راجعه كلمة حتى عطف عنانه ومضى حتى دخل على عبد الملك، فقال: ما لك يا أبا عباس؟ قال: إنك سلطت عبد ثقيف وملكته حتى تفخذ نساء بني عبد مناف، فأدركت عبد الملك غيرة، فكتب إلى الحجاج يقسم عليه أن لا يضع كتابه من يده حتى يطلقها ففعل. قال: ولم يكن يقطع الحجاج عنها رزقا ولا كرامة يجريها عليها حتى خرجت من الدنيا وما زال واصلا لعبد الله بن جعفر حتى مات. وما كان يأتي عليه حول إلا وعنده عير مقبلة من عند الحجاج عليها أموال وكسوة وتحف.
وحكي أن المغيرة بن شعبة لما ولي الكوفة سار إلى دير هند بنت النعمان وهي فيه عمياء مترهبة، فاستأذن عليها، فقالت: من أنت؟ قال: المغيرة بن شعبة الثقفي. قالت:
ما حاجتك؟ قال: جئت خاطبا. قالت: إنك لم تكن جئتني لجمال ولا مال، ولكنك أردت أن تتشرف في محافل العرب. فتقول: تزوجت بنت النعمان بن المنذر، وإلا فأي خير في اجتماع عمياء وأعور. وكان عبد الرحمن بن أبي بكر الصديق رضي الله عنهما قد تزوج عاتكة بنت عمرو بن نفيل، وكانت من أجمل نساء قريش، وكان عبد الرحمن من أحسن الناس وجها وأبرّهم بوالديه. فلما دخل بها غلبت على عقله وأحبها حبا شديدا، فثقل ذلك على أبيه، فمر به أبو بكر يوما، وهو في غرفة له، فقال: يا بني إني أرى هذه المرأة قد أذهلت رأيك، وغلبت على عقلك، فطلقها، قال: لست أقدر على ذلك، فقال: أقسمت عليك إلا طلقتها، فلم يقدر على مخالفة أبيه فطلقها، فجزع عليها جزعا شديدا، وامتنع من الطعام والشراب، فقيل لأبي بكر أهلكت عبد الرحمن. فمر به يوما، وعبد الرحمن لا يراه وهو مضطجع في الشمس ويقول هذه الأبيات:
فوالله لا أنساك ما ذرّ شارق ... وما ناح قمريّ الحمام المطوّق «1»(1/459)
فلم أر مثلي طلّق اليوم مثلها ... ولا مثلها في غير شيء يطلّق
لها خلق عفّ ودين ومحتد ... وخلق سويّ في الحياء ومنطق
فسمعه أبوه فرّق له وقال له: راجعها يا بني، فراجعها، وأقامت عنده حتى قتل عنها يوم الطائف مع رسول الله صلى الله عليه وسلم أصابه سهم فقتله. فجزعت عليه جزعا شديدا، وقالت ترثيه:
فآليت لا تنفكّ نفسي حزينة ... عليك ولا ينفكّ جلدي أغبرا
فتى طول عمري ما أرى مثله فتى ... أكرّ وأحمى في الهياج وأصبرا
إذا شرعت فيه الأسنة خاضها ... إلى القرن حتى يترك الرمح أحمرا «1»
ثم تزوجها بعده عمر بن الخطاب رضي الله عنه في خلافته، ودعا الناس إلى وليمته، فأتوه، فلما فرغ من الطعام، وخرج الناس قال له علي بن أبي طالب رضي الله عنه: يا أمير المؤمنين ائذن لي في كلام عاتكة حتى أهنيها، وأدعو لها بالبركة، فذكر عمر ذلك لعاتكة، فقالت: إن أبا الحسن فيه مزاح، فائذن له يا أمير المؤمنين، فأذن له، فرفع جانب الخدر، فنظر إليها فإذا ما بدا من جسدها مضمخ بالخلوق، فقال لها يا عاتكة:
ألست القائلة:
فآليت لا تنفك نفسي حزينة ... عليك ولا ينفك جلدي أغبرا
وقيل: إن عمر لما قتل عنها جزعت عليه جزعا شديدا، وتزوجت بعده الزبير بن العوام، وكان رجلا غيورا، وكانت تخرج إلى المسجد كعادتها مع أزواجها، فشق ذلك عليه، وكان يكره أن ينهاها عن الخروج إلى الصلاة لحديث رسول الله صلى الله عليه وسلم: «لا تمنعوا إماء الله مساجد الله» فعرض لها ليلة في ظهر المسجد وهي لا تعرفه، فضرب بيده عجيزتها ثم انصرف، فقعدت بعد ذلك عن الخروج إلى المسجد، وكان يقول لها: ألا تخرجين يا عاتكة؟ فتقول: كنا نخرج إذ الناس ناس وما بهم من باس، وأما الآن فلا. ثم قتل عنها الزبير قتله عمرو بن جرموز بوادي السباع وهو نائم، ثم تزوجها بعده محمد بن أبي بكر، فقتل عنها بمصر.
فقالت: لا أتزوج بعده أبدا إني لأحسبني أني لو تزوجت جميع أهل الأرض لقتلوا عن آخرهم.
وحكي عن الحارث بن عوف بن أبي حارثة أنه قال لخارجة بن سنان: أترى أخطب إلى أحد فيردني، قال:
نعم. قال: ومن هو؟ قال: أوس بن حارثة بن لام الطائي. قال: اركب بنا إليه، فركبنا إليه حتى أتينا أوس بن حارثة في بلاده، فوجدناه في فناء منزله، فلما رأى الحارث بن عوف قال: مرحبا بك يا حارث. ثم قال:
ما جاء بك؟ قال: جئت خاطبا. قال: لست هناك.
فانصرف ولم يكلمه، فدخل أوس على امرأته مغضبا، فقالت له: من الرجل الذي سلم عليك، فلم تطل معه الوقوف ولم تكلمه؟ فقال: ذلك سيد العرب الحارث بن عوف، فقالت: فما لك لا تستنزله؟ قال: إنه استهجنني.
قالت: وكيف؟ قال: لأنه جاءني خاطبا، قالت: ألست تزعم أنه سيد العرب. قال: نعم. قالت: إذا لم تزوج سيد العرب في زمانه، فمن تزوج؟ قال: قد كان ذلك. قالت:
فتدارك ما كان منك، قال: فبماذا؟ قالت: بأن تلحقه فترده. قال: وكيف، وقد فرط مني إليه ما فرط. قالت:
تقول له إنك لقيتني وأنا مغضب لأمر، فلك المعذرة فيما فرط مني، فارجع ولك عندي كل ما طلبت، قال: فركب في أثرهما. قال خارجة بن سنان: فو الله إنا لنسير إذ حانت مني التفاتة فرأيته، فقلت للحارث وهو ما يكلمني هذا أوس في أثرنا، فقال: ما أصنع به، فلما رآنا لا نقف قال:
يا حارث أربع عليّ. فوقفنا له. وكلمه بذلك الكلام.
فرجع مسرورا. قال خارجة بن سنان: فبلغني أن أوسا لما دخل منزله قال لزوجته: ادعي لي فلانة، أكبر بناته. فأتته.
فقال لها: أي بنية هذا الحارث بن عوف سيد من سادات العرب جاءني خاطبا. وقد أردت أن أزوجك منه، فما تقولين؟ قالت: لا تفعل. قال: ولم؟ قالت: لأن في خلقي رداءة وفي لساني حدة، ولست بابنة عمه، فيراعي رحمي ولا هو بجارك في البلد فيستحي منك، ولا آمن أن يرى مني ما يكره، فيطلقني. فيكون عليّ بذلك مسبة، قال لها: قومي بارك الله فيك، ثم دعا ابنته الأخرى، فقال لها مثل قوله لأختها، فأجابته بمثل جوابها، فقال لها:
قومي بارك الله فيك، ثم دعا بالثالثة، وكانت أصغرهن سنا، فقال لها مثل ما قال لأختيها، فقالت له: أنت وذاك، فقال لها: إني عرضت ذلك على أختيك، فأبتاه، ولم يذكر لها مقالتهما. فقالت: والله إني الجميلة وجها الرفيعة خلقا الحسنة رأيا، فإن طلقني فلا أخلف الله عليه، فقال لها: بارك الله فيك. ثم خرج إليه، فقال: زوجتك يا حارث بابنتّي هئيسة، قال: قد قبلت نكاحها، وأمر أمها(1/460)
أن تهيئها له، وتصلح شأنها، ثم أمر ببيت فضرب له، وأنزله إياه، ثم بعثها إليه، فلما دخلت عليه لبث هنيهة ثم خرج إليّ، فقلت له: أفرغت من شأنك؟ قال: لا والله، قلت له: وكيف ذلك؟ قال: لما مددت يدي إليها قالت:
مه أعند أبي وأخوتي هذا، والله لا يكون. ثم أمر بالرحلة فارتحلنا بها معا وسرنا ما شاء الله. قال لي: تقدم، فتقدمت، فعدل عن الطريق، فما لبث أن لحقني، فقلت:
أفرغت من شأنك؟ قال: لا والله، قلت ولم؟ قال: قالت تفعل بي كما يفعل بالأمة السبية الأخيذة لا والله حتى تنحر الجزر والغنم وتدعو العرب وتعمل ما يعمل مثلك لمثلي، فقلت: والله إني لأرى همة وعقلا، فقال: صدقت. قال:
أرجو الله أن تكون المرأة النجيبة، فوردنا إلى بلادنا، فأحضر الإبل والغنم ونحر وأولم ثم دخل عليها وخرج إليّ، فقلت: أفرغت من شأنك؟ قال: لا والله. قلت:
ولم ذاك؟ قال: دخلت عليها أريدها، فقلت لها: أحضرت من المال ما تريدين. قالت: والله لقد ذكرت من الشرف بما ليس فيك، قلت: ولم ذاك؟ قالت: أتستفرغ لنكاح النساء والعرب يقتل بعضها بعضا، وكان ذلك في أيام حرب قيس وذبيان. قلت: فماذا تقولين؟ قالت: أخرج إلى القوم، فأصلح بينهم، ثم راجع إلى أهلك فلن يفوتك ما تريد، فقلت: والله إني لأرى عقلا ورأيا سديدا، قال:
فاخرج بنا، فخرجنا حتى أتينا القوم، فمشينا بينهم بالصلح، فاصطلحوا على أن يحسبوا القتلى ثم تؤخذ الدية، فحملنا عنهما الديات فكانت ثلاثة الآف بعير، فانصرفنا بأجمل ذكر، ثم دخل عليها، فقالت له: أما الآن، فنعم، فأقامت عنده في ألذ عيش وأطيبه، وولدت له بنين وبنات وكان من أمرهما ما كان، والله أعلم بالصواب.
وحكى الفضل أبو محمد الطيبي قال: حدثنا بعض أصحابنا أن رجلا من بني سعد مرت به جارية لأمية بن خالد بن عبد الله بن أسد ذات ظرف وجمال، وكان شجاعا فارسا، فلما رآها قال: طوبى لمن كان له امرأة مثلك، ثم أتبعها رسولا يسألها ألها زوج ويذكره لها وكان جميلا، فقالت للرسول: وما حرفته، فأبلغه الرسول ذلك، فقال: ارجع إليها وقل لها:
وسائلة ما حرفتي قلت حرفتي ... مقارعة الأبطال في كل شارق «1»
إذا عرضت خيل لخيل رأيتني ... أمام رعيل الخيل أحمي حقائقي
أصبّر نفسي حين لم أر صابرا ... على ألم البيض الرقّاق البوارق «2»
فلحقها الرسول، فأنشدها ما قال، فقالت له: ارجع إليه وقل له أنت أسد، فاطلب لك لبوة، فلست من نسائك، وأنشدته تقول:
ألا إنما أبغي جوادا بماله ... كريما محيّاه كثير الصدائق
فتى همّه مذ كان خود خريدة ... يعانقها في الليل فوق النمارق «3»
وحدث يحيى بن عبد العزيز عن محمد بن عبد الحكم عن الإمام الشافعي رضي الله عنه قال: تزوج رجل امرأة جديدة على امرأة قديمة فكانت الجارية الجديدة تمر على بيت القديمة فتقول:
وما يستوي الرجلان رجل صحيحة ... وأخرى رمى فيها الزمان فشلّت
ثم تعود وتقول:
وما يستوي الثوبان ثوب به البلى ... وثوب بأيدي البائعين جديد
فمرت الجارية القديمة على باب الجديدة يوما وقالت:
نقّل فؤادك ما استطعت من الهوى ... ما الحبّ إلّا للحبيب الأول
كم منزل في الأرض يألفه الفتى ... وحنينه أبدا لأوّل منزل
وقال عمرو بن العلاء، وكان أعلم الناس بالنساء:
فإن تسألوني بالنساء فإنّني ... بصير بأدواء النساء طبيب
إذا شاب رأس المرء أو قلّ ماله ... فليس له في ودّهن نصيب
وسئل المغيرة بن شعبة عن صفة النساء فقال: بنات العم أحسن مؤاساة، والغرائب أنجب. وما ضرب رؤوس الأقران مثل ابن السوداء. وقال عبد الملك بن مروان: من أراد أن يتخذ جارية للمتعة، فليتخذها بربرية، ومن أراد أن(1/461)
يتخذها للولد فليتخذها فارسية، ومن أراد أن يتخذها للخدمة فليتخذها رومية. قال الشاعر:
لا تشتمنّ امرأ ممّن يكون له ... أمّ من الروم أو سوداء عجماء
فإنّما أمهات القوم أوعية ... مستودعات وللأنساب آباء
وقال الأصمعي أتاني رجل من قريش يستشيرني في امرأة يتزوجها، فقلت: يا ابن أخي أقصيرة النسب أم طويلته؟ فلم يفهم عليّ، فقلت: يا ابن أخي: أما القصيرة النسب فالتي إذا ذكرت أباها اكتفت به، والطويلة النسب فهي التي لا تعرف حتى تطيل في نسبها، فإياك أن تقع مع قوم قد أصابوا كثيرا من الدنيا مع دناءة فيهم، فتضيع نسبك فيهم. وخرج رجل من أهل الكوفة في غزاة، فكسب جارية وفرسا وكان مملكا على ابنة عمه، فكتب إليها يعيرها ويقول:
إلا بلّغوا أمّ البنين بأننا ... غنينا وأغنتنا الغطارفة النجد «1»
بعيد مناط المنكبين «2» إذا جرى ... وبيضاء كالتمثال زيّنها العقد
فهذا لأيام العدو وهذه ... لحاجة نفسي حين ينصرف الجند
فلما ورد عليها كتابه وقرأته قالت يا غلام: هات الدواة، وكتبت جوابه تقول:
ألا فاقرء مني السلام وقل له ... غنينا وأغنتنا الغطارفة المرد «3»
إذا شئت أغناني غلام مرجّل ... ونازعته في ماء معتصر الورد
وإن شاء منهم ناشىء مدّ كفه ... إلى عكن ملساء أو كفل نهدي «4»
فما كنتم تقضون حاجة أهلكم ... شهودا فتقضوها على النأي والبعد
فعجّل إلينا بالسّراح «5» فإنّه ... منانا ولا ندعو لك الله بالرد
فلا قفل الجند الذي أنت فيهم ... وزادك رب الناس بعدا على بعد
فلما ورد عليه كتابها لم يزد على أن ركب الفرس وأردف الجارية خلفه ولحق بابنة عمه، فكان أول شيء بدأها به بعد السلام أن قال لها: بالله عليك هل كنت فاعلة ذلك، فقالت له: الله في قلبي أعظم وأجل وأنت في عيني أذل وأحقر من أن أعصي الله فيك، فكيف ذقت طعم الغيرة، فوهب لها الجارية، وانصرف إلى الغزاة، والله تعالى أعلم بالصواب.
الفصل الثاني في صفات النساء المحمودة
كتب الحجاج إلى الحكم بن أيوب أن اخطب لعبد الملك بن مروان امرأة جميلة من بعيد، مليحة من قريب، شريفة في قومها، ذليلة في نفسها، مؤاتية لبعلها. فكتب إليه قد أصبتها لولا عظم ثديها، فكتب إليه لا يكمل حسن المرأة حتى يعظم ثديها، فتدفي الضجيع، وتروي الرضيع.
وقال عبد الملك بن مروان لرجل من غطفان: صف لي أحسن النساء؟ قال: خذها يا أمير المؤمنين ملساء القدمين، ردماء الكعبين، ناعمة الساقين، ضخماء الركبتين، لفاء الفخذين، ضخمة الذراعين. رخصة الكفين، ناهدة الثديين، حمراء الخدين، كحلاء العينين، زجاء الحاجبين لمياء الشفتين بلجاء الجبين، شماء العرنين، شنباء الثغر، محلولكة الشعر، غيداء العنق، مكسرة البطن. فقال: ويحك وأين توجد هذه؟ قال:
تجدها في خالص العرب وفي خالص الفرس.
وقال حكيم: عليكم بمن تربت في النعيم ثم أصابتها فاقة فأثر فيها الغنى وأدبها الفقر: وقال رجل لخاطب: ابغ لي امرأة لا تؤنس جارا ولا توطن دارا، يعني لا تدخل على الجيران ولا تدخل الجيران عليها، وفي مثل هذه قال الشاعر:
هيفاء فيها إذا استقبلتها صلف ... عيطاء غامضة الكعبين معطار
خود من الخفرات البيض لم يرها ... بساحة الدار لا بعل ولا جار
وقال الأعشى:
لم تمش ميلا ولم تركب على جمل ... ولم تر الشمس إلّا دونها الكلل
وكانت امرأة عمران بن حطان من أجمل الناس وجها،(1/462)
وكان هو من أقبح الناس وجها، فقال لها يوما: أنا وإياك في الجنة إن شاء الله تعالى، فقالت له: وكيف ذلك؟ فقال:
لأني أعطيت مثلك فشكرت وأعطيت مثلي فصبرت، والصابر والشاكر في الجنة. وقال بعضهم: رأيت في طريق مكة أعرابية ما رأيت أحسن منها وجها، فقعدت أنظر إليها، وأتعجب من جمالها، فجاء شيخ قصير، فأخذ بردائها وسار بها ومضى فلقيتها مرة أخرى، فقلت لها: من هذا الشيخ؟ قالت: زوجي. قلت: كيف يرضى مثلك بمثله فأنشدت:
أيا عجبا للخود يجري وشاحها ... تزف إلى شيخ بأقبح تمثال
دعاني إليه أنه ذو قرابة ... يعزّ علينا من بني العم والخال
وسمع بعضهم قائلا يقول:
ومن لا يرد مدحي فإن مدائحي ... نوافق عند الأكرمين نوامي «1»
نوافق عند المشتري الحمد بالندى ... نفاق بنات الحارث بن هشام
فقال: يا ابن أخي ما بلغ من نفاق بنات الحارث بن هشام؟ قال: كن من أجمل الناس وجوها وكان أبوهن إذا زوجهن يسوقهن ومهورهن إلى بعولتهن. فقال: يا ابن أخي لو فعل هذا إبليس ببناته لتنافست فيهن الملائكة المقربون.
وقال عبد الملك لابن أبي الرقاع كيف علمك بالنساء؟
قال: أنا والله أعلم الناس بهن، وجعل يقول:
قضاعية الكعبين كندية الحشا ... خزاعية الأطراف طائية الفم
لها حكم لقمان وصورة يوسف ... ومنطق داود وعفة مريم
وقالوا: الوجه الحسن أحمر، وقد تضرب فيه الصفرة مع طول المكث في الكن والتضمخ بالطيب.
وقالوا: أن الوجه الرقيق البشرة الصافي الأديم إذا خجل يحمّر وإذا فرق يصفر. ومنه قولهم: ديباج الوجه، يريدون تلونه من رقته، قال علي بن زيد في وصفه:
حمرة خلط صفرة في بياض ... مثل ما حاك حائك ديباجا «2»
وقال علي بن عبد ربه:
بيضاء يحمر خداها إذا خجلت ... كما جرى ذهب في صفحتي ورق «3»
وقالوا: إن الجارية الحسناء تتلون بتلون الشمس فهي بالضحى بيضاء وبالعشي صفراء فقال ذو الرمة:
بيضاء صفراء قد تنازعها ... لونان من فضّة ومن ذهب
قالوا: ليس المرأة الجميلة التي تأخذ ببصرك جملة على بعد فإذا دنت منك لم تكن كذلك، بل الجميلة التي كلما كررت بصرك فيها زادتك حسنا.
وقالوا: إن أردت أن ينجب ولدك فأغضبها ثم قع عليها قال الشاعر:
ممّن حملن به وهنّ عواقد ... حبك النطاق فعاش غير مهبّل
حملت به في ليلة مزورة ... كرها وعقد نطاقها لم يحلل
الفصل الثالث في صفة المرأة السوء نعوذ بالله تعالى منها
في حكمة داود عليه السلام: «أن المرأة السوء مثل شرك الصياد لا ينجو منها إلا من رضي الله تعالى عنه» .
وقيل: المرأة السوء غل يلقيه الله تعالى في عنق من يشاء من عباده.
وقيل لأعرابي كان ذا تجربة للنساء، صف لنا شر النساء فقال: شرهن النحيفة الجسم القليلة اللحم المحياض الممراض المصفرة الميشومة العسرة المبشومة السلطة البطرة النفرة السريعة الوثبة، كأنها لسان حربة تضحك من غير عجب وتبكي من غير سبب وتدعو على زوجها بالحرب، أنف في السماء وإست في الماء، عرقوبها حديد، منتفخة الوريد كلامها وعيد، وصوتها شديد، وتدفن الحسنات وتفشي السيئات، تعين الزمان على بعلها، ولا تعين بعلها على الزمان، ليس في قلبها عليه رأفة ولا عليها منه مخافة، إن دخل خرجت وإن خرج دخلت، وإن ضحك بكت، وإن بكى ضحكت، كثيرة الدعاء، قليلة الإرعاء تأكل لمّا وتوسع ذما، ضيقة الباع،(1/463)
مهتوكة القناع، صبيها مهزول وبيتها مزبول، إذا حدثت تشير بالأصابع وتبكي في المجامع، بادية من حجابها، نباحة عند بابها، تبكي وهي ظالمة، وتشهد وهي غائبة قد دلّي لسانها بالزور وسال دمعها بالفجور، ابتلاها الله بالويل والثبور وعظائم الأمور. ويقال: إن المرأة إذا كانت مبغضة لزوجها فإن علامة ذلك أن تكون عند قربها منه مرتدة الطرف عنه كأنها تنظر إلى إنسان غيره من ورائه، وإن كانت محبة له لا تقلع عن النظر إليه.
قال بعضهم:
لقد كنت محتاجا إلى موت زوجتي ... ولكن قرين السوء يلقى معمّر
فيا ليتها صارت إلى القبر عاجلا ... وعذّبها فيه نكير ومنكر
وقال زيد بن عمير:
أعاتبها حتى إذا قلت أقلعت «1» ... أبى الله إلا خزيها فتعود «2»
فإن طمثت قادت وإن طهرت زنت ... فهاتيك تزني دائما وتقود
وقال داود عليه الصلاة والسلام: المرأة السوء على بعلها كالحمل الثقيل على الشيخ الكبير، والمرأة الصالحة كالتاج المرصع بالذهب كلما رآها قرت عينه برؤيتها والله أعلم.
الفصل الرابع في مكر النساء وغدرهن وذمهن ومخالفتهن
في حكمة داود عليه الصلاة والسلام: وجدت في الرجال واحدا في ألف ولم أجد واحدة في جميع النساء.
وقيل: إن عيسى عليه الصلاة والسلام لقي إبليس يسوق أربعة أحمرة عليها أحمال فسأله، فقال: أحمل تجارة وأطلب مشترين، فقال: ما أحدها؟ قال: الغرور. قال:
من يشتريه؟ قال: السلاطين. قال: فما الثاني؟ قال:
الحسد. قال: فمن يشتريه؟ قال: العلماء، قال: فما الثالث؟ قال: الخيانة. قال: فمن يشتريه؟ قال: التجار.
قال: فما الرابع؟ قال: الكيد. قال: فمن يشتريه؟ قال:
النساء.
وقال حكيم: النساء شر كلهن وشر ما فيهن قلة الاستغناء عنهن.
وقالت الحكماء: لا تثق بامرأة ولا تغتر بمال، وإن كثر.
وقال: النساء حبائل الشيطان.
قال الشاعر:
تمتّع بها ما ساعفتك ولا تكن ... جزوعا إذا بانت فسوف تبين
وخنها وإن كانت تفي لك إنها ... على قدم الأيام سوف تخون
وإن هي أعطتك الليّان فإنها ... لغيرك من طلّابها ستلين
وإن حلفت أن ليس تنقض عهدها ... فليس لمخضوب البنان يمين
وإن سكبت يوم الفراق دموعها ... فليس لعمر الله ذاك يقين
وقال ابن بشار:
رأيت مواعيد النساء كأنّها ... سراب لمرتاد المناهل حافل
ومنتظر الموعود منهنّ كالذي ... يؤمل يوما أن تلين الجنادل «3»
قال بعض الحكماء: لم تنه عن شيء قط إلا فعلته.
وقال الغنوي:
إنّ النساء متى ينهين عن خلق ... فإنّه واقع لا بدّ مفعول
وقال النخعي: من اقتراب الساعة طاعة النساء، ويقال:
من أطاع عرسه فقد أضاع نفسه. وقال علي رضي الله تعالى عنه: إياك ومشاورة النساء، فإن رأيهن إلى أفن وعزمهن إلى وهن، اكفف أبصارهن بالحجاب، فإن شدة الحجاب خير لهن من الارتياب، وليس خروجهن بأضر من دخول من لا يوثق به عليهن، فإن استطعت أن لا يعرفهن غيرك فافعل.
قال السمعاني:
لا تأمننّ على النساء ولو أخا ... ما في الرجال على النّساء أمين(1/464)
إنّ الأمين وإن تخفّظ جهده ... لا بدّ أنّ بنظرة سيخون
وقال غيره:
لا تركننّ إلى النّساء ... ولا تثق بعهودهنّ
فرضاؤهن جميعهنّ ... معلّق بفروجهنّ
وقال علي رضي الله تعالى عنه: لا تطلعوا النساء على حال ولا تأمنوهن على مال ولا تذروهن إلا لتدبير العيال، إن تركن وما يردن أوردن المهالك، وأفسدن الممالك ينسين الخير ويحفظن الشر يتهافتن في البهتان ويتمادين في الطغيان.
وقال أبو بكر رضي الله تعالى عنه: ذل من أسند أمره إلى امرأة. وقيل: إن صيادا أتى أبرويز بسمكة، فأعجبه حسنها وسمتها، فأمر له بأربعة آلاف درهم، فخطأته سيرين زوجته، فقال لها: ماذا أفعل؟ فقالت له: إذا جاءك فقل له أذكر كانت أم أنثى؟ فإن قال لك ذكر، فاطلب منه الأنثى، وإن قال لك أنثى فاطلب منه الذكر، فلما أتاه سأله، فقال: كانت أنثى، فقال: ائتني بذكرها، فقال عمّر الله الملك كانت بكرا لم تتزوج، فقال زه وأمر له بثمانية آلاف درهم، وقال: اكتبوا في الحكمة: الغدر ومطاوعة النساء يؤديان إلى الغرم الثقيل.
وقال حكيم: اعص النساء وهواك وافعل ما شئت.
وقال عمر رضي الله تعالى عنه: أكثروا لهن من قول لا، فإن نعم تغريهن على المسألة، قال: أستعيذ بالله من شرار النساء، وكونوا من خيارهن على حذر.
ومما قيل في الباءة:
ذكر الجماع عند الإمام مالك بن أنس رضي الله تعالى عنه: قال هو نور وجهك ومخ ساقك منه فقلّل أو أكثر.
وقال معاوية رضي الله تعالى عنه: ما رأيت نهما في النساء إلا عرفت ذلك في وجهه.
وكان لرجل امرأة تخاصمه وكلما خاصمته قام إليها فواقعها، فقالت: ويحك كلما تخاصمني تأتيني بشفيع لا أقدر على رده. وأتى رجل إلى علي بن أبي طالب رضي الله تعالى عنه وقال: إن لي امرأة كلما غشيتها تقول قتلتني، فقال: اقتلها بهذه القتلة وعلي إثمها. وقالوا: من قلّ جماعه فهو أصح بدنا وأنقى جلدا وأطول عمرا، ويعتبر ذلك بذكور الحيوان، وذلك أنه ليس في الحيوان أطول أعمارا من البغال، ولا أقصر أعمارا من العصافير، وهي أكثرها سفادا، والله تعالى أعلم بالصواب.
الفصل الخامس في الطلاق وما جاء فيه
عن عبد الرحمن بن محمد بن أخي الأصمعي قال: قال عمي للرشيد في بعض حديثه: يا أمير المؤمنين بلغني إن رجلا من العرب طلق في يوم واحد خمس نسوة، قال:
وكيف ذلك، وإنما لا يجوز للرجل غير أربعة، قال يا أمير المؤمنين: كان متزوجا بأربعة فدخل عليهن يوما، فوجدهن متنازعات وكان شريرا، فقال: إلى متى هذا النزاع؟ ما أظن هذا إلا من قبلك يا فلانة لامرأة منهن اذهبي، فأنت طالق. فقالت له صاحبتها: عجلت عليها بالطلاق، ولو أدبتها بغير ذلك لكان أصلح، فقال لها:
وأنت أيضا طالق، فقالت له الثالثة: قبحك الله، فو الله لقد كانتا إليك محسنتين، فقال لها: وأنت أيضا أيتها المعددة أياديهما طالق، فقالت الرابعة، وكانت هلالية ضاق صدرك إلا أن تؤدب نساءك بالطلاق، فقال لها، وأنت طالق أيضا. فسمعته جارة له، فأشرفت عليه، وقالت له، والله ما شهدت العرب عليك، ولا على قومك بالضعف إلا لما بلوه منكم ووجدوه فيكم، أبيت إلا طلاق نسائك في ساعة واحدة، فقال لها، وأنت أيتها المتكلمة فيما لا يعنيك طالق إن أجازني بعلك، فأجابه زوجها: قد أجزت لك ذلك. فعجب الرشيد من ذلك.
وطلق رجل امرأته، فلما أرادت الارتحال قال لها:
اسمعي وليسمع من حضر، إني والله اعتمدتك برغبة وعاشرتك بمحبة ولم أجد منك زلة ولم يدخلني عنك ملة، ولكن القضاء كان غالبا. فقالت المرأة: جزيت من صاحب ومصحوب خيرا فما استقللت خيرك ولا شكوت ضيرك ولا تمنيت غيرك ولا أجد لك في الرجال شبيها وليس لقضاء الله مدفع ولا من حكمه علينا ممنع.
وقال رجل لابن عباس رضي الله تعالى عنهما: ما تقول في رجل طلق امرأته عدد نجوم السماء؟ فقال: يكفيه من ذلك عدد نجوم الجوزاء.
ذكر من طلق امرأته فتبعتها نفسه قال الهيثم بن عدي: كانت تحت ابن الغربان بن الأسود بنت عم له، فطلقها فتبعتها نفسه، فكتب إليها يعرض لها بالرجوع، فكتبت إليه تقول:(1/465)
إن كنت ذا حاجة فاطلب لها بذلا ... إنّ الغزال الذي ضيّعت مشغول
فكتب إليها يقول:
إن كان ذا شغل فالله يكلؤه ... فقد لهونا به والحبل موصول
وقد قضينا من استظرافه وطرا ... وفي الليالي وفي أيامها طول
وطلق الوليد بن يزيد زوجته سعدى، فلما تزوجت اشتد ذلك عليه وندم على ما كان منه، فدخل عليه أشعب فقال له: هل لك أن تبلغ سعدى عني رسالة ولك عشرة آلاف درهم، قال: أقبضنيها، فأمر له بها، فلما قبضها قال له:
هات رسالتك، قال ائتها، فأنشدها.
أسعدى هل إليك لنا سبيل ... ولا حتّى القيامة من تلاق
بلى ولعلّ دهرا أن يؤاتي ... بموت من خليلك أو فراق
قال: فأتاها أشعب، فاستأذن عليها، فأذنت له، فدخل، فقالت له: ما بدا لك في زيارتنا يا أشعب؟ فقال:
يا سيدتي أرسلني الوليد إليك برسالة ثم أنشدها الشعر، فقالت لجواريها: عليكن بهذا الخبيث فقال: يا سيدتي إنه دفع إليّ عشرة آلاف درهم، فهي لك، وأعتقيني لوجه الله، فقالت: والله لا أعتقك أو تبلغ إليه ما أقول لك، قال: يا سيدتي فاجعلي لي جعلا «1» قالت: لك بساطي هذا. قال: قومي عنه، فقامت، فأخذه، وألقاه على ظهره، وقال: هاتي رسالتك، فقالت:
أتبكي على سعدى وأنت تركتها ... فقد ذهبت سعدى فما أنت صانع
فلما بلّغه الرسالة ضاقت عليه الأرض بما رحبت، وأخذته كظمة فقال لأشعب: اختر مني إحدى ثلاث إما أن أقتلك، وأما أن أطرحك من هذا القصر. وأما أن ألقيك إلى هذه السباع فتفترسك، فتحير أشعب وأطرق مليا ثم قال: يا سيدي ما كنت لتعذب عينا نظرت إلى سعدى، فتبسم وخلّى سبيله.
وممن طلق امرأته فتبعتها نفسه الفرزدق الشاعر طلق النّوار، ثم ندم على طلاقها. وقال:
ندمت ندامة الكسعي لما ... غدت مني مطلقة نوار «2»
فأصبحت الغداة ألوم نفسي ... بأمر ليس لي فيه اختيار
وكانت جنّتي فخرجت منها ... كآدم حين أخرجه الضّرار
ولو أني ملكت بها يميني ... لكان عليّ للقدر الخيار
وممن طلّق امرأته، فتبعتها نفسه، فندم قيس بن ذريح، وكان أبوه أمره بطلاقها فطلقها، وندم على ذلك فأنشأ يقول:
فنى صبري وعاودني رداعي ... وكان فراق لبنى كالخداع «3»
تكنّفني الوشاة فأزعجوني ... فيا للناس للواشي المطاع
فأصبحت الغداة ألوم نفسي ... على أمر وليس بمستطاع
كمغبون يعضّ على يديه ... تبيّن غبنه عند البياع «4»
وحدّث العتبي قال: جاء رجل بامرأة كأنّها برج من فضة إلى عبد الرحمن بن الحكم وهو على الكوفة، فقال: إن امرأتي هذه شجّتني فسألها عبد الرحمن، فقالت: نعم يا مولاي غير متعمدة لذلك، كنت أعالج طيبا فوقع الفهر «5» من يدي على رأسه وليس عندي علم ولا يقوى بدني على القصاص، فقال للرجل: علام تمسكها، وقد فعلت بك ما أرى؟ فقال يا مولاي: إن صداقها علي أربعة آلاف درهم، ولا تطيب نفسي بفراقها. قال، فإن أعطيتك الأربعة آلاف درهم تفارقها. قال: نعم، قال: هي لك. قال: فهي إذن(1/466)
طالق. فقال لها عبد الرحمن: إحبسي علينا نفسك، وأنشأ يقول:
يا شيخ يا شيخ من دلّاك بالغزل ... قد كنت يا شيخ عن هذا بمعتزل
رضت الصعاب فلم تحسن رياضتها ... فاعمد لنفسك نحو القرّح الذلل
والله سبحانه وتعالى أعلم، وصلى الله على سيدنا محمد، وعلى آله وصحبه وسلم.
الباب الرابع والسبعون في تحريم الخمر وذمها والنهي عنها
وقد أنزل الله تعالى في الخمر ثلاث آيات. الأولى قوله تعالى: يَسْئَلُونَكَ عَنِ الْخَمْرِ وَالْمَيْسِرِ قُلْ فِيهِما إِثْمٌ كَبِيرٌ وَمَنافِعُ لِلنَّاسِ
«1» الآية، فكان من المسلمين من شارب، ومن تارك إلى أن شرب رجل، فدخل في الصلاة فهجر، فنزل قوله تعالى: يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تَقْرَبُوا الصَّلاةَ وَأَنْتُمْ سُكارى حَتَّى تَعْلَمُوا ما تَقُولُونَ
«2» ، فشربها من شربها من المسلمين وتركها من تركها حتى شربها عمر رضي الله تعالى عنه، فأخذ بلحي بعير وشج به رأس عبد الرحمن بن عوف، ثم قعد ينوح على قتلى بدر بشعر الأسود بن يعفر يقول:
وكائن بالقليب قليب بدر ... من الفتيان والعرب الكرام
أيوعدني ابن كبشة أن سنحيا ... وكيف حياة أصداء وهام
أيعجز أن يردّ الموت عنّي ... وينشرني إذا بليت عظامي «3»
ألا من مبلغ الرحمن عنّي ... بأني تارك شهر الصيام
فقل لله يمنعني شرابي ... وقل لله يمنعني طعامي
فبلغ ذلك رسول الله صلى الله عليه وسلم فخرج مغضبا يجر رداءه، فرفع شيئا كان في يده، فضربه به، فقال: أعوذ بالله من غضبه وغضب رسوله، فأنزل الله تعالى: إِنَّما يُرِيدُ الشَّيْطانُ أَنْ يُوقِعَ بَيْنَكُمُ الْعَداوَةَ وَالْبَغْضاءَ فِي الْخَمْرِ وَالْمَيْسِرِ وَيَصُدَّكُمْ عَنْ ذِكْرِ اللَّهِ وَعَنِ الصَّلاةِ فَهَلْ أَنْتُمْ مُنْتَهُونَ 91
«4» فقال عمر رضي الله تعالى عنه: انتهينا انتهينا.
ومن الأخبار المتفق عليها في تحريمها قول سيدنا رسول الله صلى الله عليه وسلم: «لا يدخل الجنة مدمن خمر» «5» . وقوله صلى الله عليه وسلم: «أول ما نهاني ربي بعد عبادة الأوثان عن شرب الخمر وملاحاة الرجال» .
وممن تركها في الجاهلية عبد الله بن جدعان، وكان جوادا من سادات قريش، وذلك أنه شرب مع أمية بن أبي الصلت الثقفي، فضربه على عينه، فأصبحت عين أمية مخضرّة يخاف عليها الذهاب، فقال له عبد الله: ما بال عينك؟ فسكت، فألح عليه، فقال: ألست ضاربها بالأمس، فقال: أو بلغ مني الشراب ما أبلغ معه إلى هذا، لا أشربها بعد اليوم. ثم دفع له عشرة آلاف درهم، وقال:
الخمر عليّ حرام لا أذوقها بعد اليوم أبدا.
وممن حرمها في الجاهلية أيضا: قيس بن عاصم، وذلك أنه سكر ذات ليلة، فقام لابنته أو لأخته، فهربت منه، فلما أصبح سأل عنها فقيل له: أو ما علمت ما صنعت البارحة؟ فأخبر بالقصة، فحرم الخمر على نفسه.
وممن حرمها في الجاهلية أيضا: العباس بن مرداس، وقيس بن عاصم، وذلك أن قيسا شرب ذات ليلة، فجعل يتناول القمر ويقول والله لا أبرح حتى أنزله، ثم يثب الوثبة بعد الوثبة ويقع على وجهه، فلما أصبح وأفاق قال: مالي هكذا؟ فأخبروه بالقصة، فقال: والله لا أشربها أبدا. وقيل للعباس بن مرداس: لم تركت الشراب، وهو يزيد في سماحتك؟ فقال: أكره أن أصبح سيد قومي وأمسي سفيههم.
ودخل نصيب على عبد الملك بن مروان فأنشده، فأعجبه إنشاده وشعره ووصله، ثم دعا بالطعام، فطعم منه، فقال له عبد الملك: يا نصيب هل لك فيما ينادم عليه؟ قال يا أمير المؤمنين جلدي أسود وخلقي مشوه(1/467)
ووجهي قبيح، وتكفيني مجالستك ومؤاكلتك، ولم يوصلني إلى ذلك إلا عقلي وأنا أكره أن يدخل عليه ما ينقصه، فأعجبه كلامه ووصله.
وقال الوليد بن عبد الملك للحجاج في وفدة وفدها عليه: هل لك في الشراب؟ فقال يا أمير المؤمنين: لا خلاف لما أمرت ولكن أنا أمنع أهل عملي منه وأكره أن أمنعهم عن شيء ولا أمتنع منه.
وقال الله تعالى: وَما أُرِيدُ أَنْ أُخالِفَكُمْ إِلى ما أَنْهاكُمْ عَنْهُ
«1» . وقال تعالى: أَتَأْمُرُونَ النَّاسَ بِالْبِرِّ وَتَنْسَوْنَ أَنْفُسَكُمْ
«2» . وقيل لأعرابي: لم لا تشرب النبيذ؟ فقال:
لا أشرب ما يشرب عقلي.
وقال الضحاك بن مزاحم لرجل: ما تصنع بشرب النبيذ؟ قال: يهضم طعامي. قال: أما إنه يهضم من دينك وعقلك أكثر! قال ابن أبي أوفى لقومه حين نهوا عن الخمر:
ألا يا لقومي ليس في الخمر رفعة ... فلا تقربوا منها فلست بفاعل
فإنّي رأيت الخمر شيئا ولم يزل ... أخو الخمر دخّالا لشر المنازل
وقال الحسن: لو كان العقل يشترى لتغالي الناس في ثمنه، فالعجب ممن يشتري بماله ما يفسده، وقال عليه السلام: حب الدنيا رأس كل خطيئة، والنساء حبائل الشيطان، والخمر داعية إلى كل شر.
وقال بعضهم:
بلوت نبيذ الخمر في كل بلدة ... فليس لأخوان النبيذ حفاظ
إذا دارت الأرطال أرضوك بالمنى ... وإن فقدوها فالوجوه غلاظ
وقال الحكيم: إياك وإخوان النبيذ فبينما أنت متوج عندهم مخدوم مكرم معظم إذ زلت بك القدم، فجروك على شوك السلم، فاحفظ قول القائل فيه:
وكلّ أناس يحفظون حريمهم ... وليس لأصحاب النبيذ حريم
فإن قلت هذا لم أقل عن جهالة ... ولكنني بالفاسقين عليم
وللأعرج الطائي:
تركت الشعر واستبدلت منه ... إذا داعي صلاة الصبح قاما
وقال الصفدي:
دع الخمر فالراحات في ترك راحها ... وفي كأسها للمرء كسوة عار
وكم ألبست نفس الفتى بعد نورها ... مدارع قار في مدار عقار
نكتة: اجتمع نصراني ومحدث في سفينة. فصب النصراني خمرا من زق كان معه في شربة وشرب، ثم صب فيها وعرض على المحدث فتناولها من غير فكر ولا مبالاة، فقال النصراني: جعلت فداءك إنما هي خمر.
قال: من أين علمت أنها خمر؟ قال: اشتراها غلامي من يهودي وحلف أنها خمر، فشربها المحدث على عجل، وقال للنصراني: يا أحمق نحن أصحاب الحديث نضعف مثل سفيان بن عيينة، ويزيد بن هارون أفنصدق نصرانيا عن غلامه عن يهودي، والله ما شربتها إلا لضعف الإسناد.
ومن المجون في ذلك ما حكي أن سكرانا استلقى على طريق، فجاء كلب فلحس شفتيه، فقال: خدمك بنوك ولا عدموك، فبال على وجهه، فقال: وماء حارا أيضا بارك الله فيك، وقيل: حالة السكارى ثلاثة: قرد حرك رأسه فرقص، وكلب هارش فنبح، وحية زويت فنامت.
ومر عقال الناسك بمرداس بن خدام الأسدي، فاستسقاه لبنا، فصب له خمرا وعلاه بلبن فشربه، وسكر ولم يتحرك ثلاثة أيام فقال:
سقيت عقالا بالعشية شربة ... فمالت بعقل الكاهليّ عقالي
قرعت بأم الخلّ حبّة قلبه ... فلم ينتعش منها ثلاث ليالي
ويقال: الخمر مصباح السرور ولكنها مفتاح الشرور، اللهم تب علينا وعلى العصاة والمذنبين برحمتك يا أرحم الراحمين آمين.(1/468)
الباب الخامس والسبعون في المزاح والنهي عنه وما جاء في الترخيص فيه والبسط والتنعم
وفيه فصول
الفصل الأول في النهي عن المزاح
قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «المزاح استدراج من الشيطان واختلاع من الهوى» . وعن علي: ما مزح أحد مزحة إلا مجّ الله من عقله مجة وعنه: إياك أن تذكر من الكلام ما يكون مضحكا، وإن حكيت ذلك عن غيرك.
وكتب عمر رضي الله تعالى عنه إلى عماله: إمنعوا الناس من المزاح، فإنه يذهب بالمروءة ويوغر الصدور، وقال بعض الحكماء: تجنب سوء المزاح ونكد الهزل، فإنهما بابان إذا فتحا لم يغلقا إلا بعد غم.
وقال آخر: لكل شيء بذر وبذر العداوة المزاح. وعن محمد بن المنكدر قال: قالت لي أمي: لا تمازح الصبيان تهن عندهم، وخرج أعرابي بالليل، فإذا بجارية جميلة فراودها، فقالت: أما لك زاجر من عقلك إذا لم يكن لك واعظ من دينك، فقال: والله ما يرانا إلا الكواكب، فقالت له: يا هذا. وأين مكوكبها؟ فأخجله كلامها، فقال لها:
إنما كنت مازحا، فقالت:
فإياك إيّاك المزاح فإنّه يجري «1» ... عليك الطفل والرجل النذلا
ويذهب ماء الوجه بعد بهائه ... ويورث بعد العز صاحبه ذلّا
وقال الأحنف: كثرة الضحك تذهب الهيبة، وكثرة المزاح تذهب المروءة، ومن لزم شيئا عرف به. ومما روي عن الصحابة رضوان الله عليهم أنهم كانوا يتحادثون ويتناشدون الأشعار، فإذا جاء ذكر الله انقلبت حماليقهم كأنهم لم يعرفوا أحدا.
الفصل الثاني فيما جاء في الترخيص في المزاح والبسط والتنعم
لا بأس بالمزاح ما لم يكن سفها، والله تعالى وعد في اللمم بالتجاوز والعفو فقال: الَّذِينَ يَجْتَنِبُونَ كَبائِرَ الْإِثْمِ وَالْفَواحِشَ إِلَّا اللَّمَمَ
«2» .
وقيل: إن يحيى بن زكريا لقي عيسى عليه الصلاة والسلام فقال: مالي أراك لاهيا كأنك آمن، فقال له عيسى: مالي أراك عابسا كأنك آيس، فقال: لا تبرح حتى ينزل علينا الوحي، فأوحى الله إليهما أن أحبكما إليّ أحسنكما ظنا بي. ويروى إن أحبكما إلي الطلق البسام.
وقال عمر بن الخطاب رضي الله تعالى عنه لجارية:
خلقني خالق الخير وخلقك خالق الشر، فبكت الجارية.
فقال عمر: لا بأس عليك، فإن الله خالق الخير والشر.
قال الشاعر:
إنّ الصديق يريد بسطك مازحا ... فإذا رأى منك الملالة يقصر
وترى العدو إذا تيقّن أنّه ... يؤذيك بالمزح العنيف يكثّر
وكان رسول الله صلى الله عليه وسلم يمزح ولا يقول إلا حقا، فمن مزحه صلى الله عليه وسلم أنه جاء رجل، فقال: يا رسول الله احملني على جمل، فقال عليه الصلاة والسلام: لا أحملك إلا على ولد الناقة، فقال: يا رسول الله، إنه لا يطيقني. فقال له الناس: ويحك. وهل الجمل إلا ولد الناقة؟
وقال رسول الله صلى الله عليه وسلم لامرأة من الأنصار: إلحقي زوجك ففي عينيه بياض، فسعت إلى زوجها مرعوبة، فقال لها:
ما دهاك؟ قالت إن النبي صلى الله عليه وسلم قال لي إن في عينيك بياضا، فقال: نعم والله وسوادا. وأتته أيضا عجوز أنصارية، فقالت: يا رسول الله، أدع الله لي أن يدخلني الجنة، فقال لها: يا أم فلان إن الجنة لا يدخلها عجوز، فولت المرأة تبكي، فتبسم صلى الله عليه وسلم وقال لها: أما قرأت قوله تعالى: إِنَّا أَنْشَأْناهُنَّ إِنْشاءً 35 فَجَعَلْناهُنَّ أَبْكاراً 36 عُرُباً أَتْراباً 37
«3» .
وقالت عائشة رضي الله تعالى عنها: سابقت رسول الله صلى الله عليه وسلم فسبقته، فلما كثر لحمي سابقته، فسبقني،(1/469)
فضرب بكتفي، وقال: هذه بتلك، وعنها أيضا قالت: كان رسول الله صلى الله عليه وسلم يدخل وأنا ألعب مع صويحباتي ولا يعيب علي.
وسئل النخعي: هل كان أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم يضحكون؟ قال: نعم، والإيمان في قلوبهم مثل الجبال الرواسي، وكان نعيمان الصحابي من أولع الناس بالمزاح والضحك، قيل: إنه يدخل الجنة وهو يضحك، فمن مزحه إن مر يوما بمخرمة بن نوفل الزهري وهو ضرير، فقال له قدني حتى أبول، فأخذه بيده حتى أتى به إلى المسجد، فأجلسه في مؤخره، فصاح به الناس إنك في المسجد، فقال: من قادني؟ قالوا: نعيمان، قال لله عليّ نذر أن أضربه بعصاي هذه إن وجدته، فبلغ ذلك نعيمان، فجاء إليه وقال له: يا أبا المنور هل لك في نعيمان، قال:
نعم. قال: ها هو قائم يصلي وأخذه بيده وجاء به إلى عثمان بن عفان وهو يصلي، وقال: هذا نعيمان، فعلاه بعصاه، فصاح الناس: أمير المؤمنين، فقال: من قادني؟
قالوا: نعيمان، فقال: والله لا تعرضت له بسوء بعدها.
وقال عطاء بن السائب: كان سعيد بن جبير يقص علينا حتى يبكينا، وربما لم يقم حتى يضحكنا. وكان رجل يسمى تاج الوعظ يعظ الناس ويقص عليهم حتى يبكيهم، ثم لم يقم حتى يضحكهم ويبسط آمالهم. فمن لطائفه أنه حكى يوما بعدما فرغ من مواعظه قال: سمعت الناس يتكلمون في التصحيف وكنت لا أعرفه، فوقع في قلبي أن أتعلمه، فدخلت في سوق الكتبية واشتريت كتابا في التصحيف، فأول ما تصحفته وجدت فيه سكباج «1» تصحيفه سك تاج، فرميت الكتاب من يدي وحلفت أني لا أشتغل به أبدا، فضحك الناس حتى غشي عليهم.
ودخل عبد الله بن جعفر على عبد الملك بن مروان، فوجده يتأوه، فقال يا أمير المؤمنين: لو أدخلت عليك من يؤنسك بأحاديث العرب ويباسطك استرحت؟ فقال: لست بصاحب لهو، فقال: ما الذي تشكوه يا أمير المؤمنين؟
قال: هاج بي عرق النسا في ليلتي هذه، فبلغ مني ما ترى، فقال: إن بديحا مولاي أرقى الخلق منه، فأمر بإحضاره، فلما مثل بين يديه قال عبد الملك: يا بديح أرق رجلي، فقال يا مولاي أنا أرقى الناس لها، ثم وضع يده عليها، وجعل يقول ما لا يسمع، فقال عبد الملك:
قد وجدت راحة بهذه الرقية. اين فلانة ائتوني بها تكتبها لئلا يهيج بي الوجع بالليل، فقال له بديح: الطلاق يلزمه ما أكتبها إلا بتعجيل جائزتي، فأمر له بأربعة آلاف درهم، فقال يا أمير المؤمنين: الطلاق يلزمه ما أكتبها حتى تحمل جائزتي إلى بيتي، قال: تحمل، فحملت، فقال: يا أمير المؤمنين الطلاق يلزمه، ما رقيت رجلك إلا مباسطة بقول نصيب حيث قال:
ألا إنّ ليلي العامرية أصبحت ... على البعد منّي ذنب غيري تنقم
فقال: ويلك ما تقول؟ فقال: الطلاق يلزمه ما رقيتك إلا بها، فقال: اكتمها عليّ، فقال: كيف، وقد سارت بها الركبان إلى أخيك بمصر، فضحك حتى فحص برجليه، وأعجبه هذا البسط.
وروي أن ابن سيرين كان ينشد قول الشاعر:
أنبئت أنّ فتاة كنت أخطبها ... عرقوبها مثل شهر الصوم في الطول «2»
ثم يضحك حتى يسيل لعابه.
ومما جاء في الشطرنج واللعب به والنهي عنه والترخيص فيه:
أما النهي عنه، فقد قيل: إن عليا كرم الله وجهه مر بقوم يلعبون الشطرنج، فقال لهم: ما هذِهِ التَّماثِيلُ الَّتِي أَنْتُمْ لَها عاكِفُونَ
«3» ؟. وكان أبو القاسم الكسروي يقول: لا ترى شطرنجيا غنيا إلا بخيلا، ولا فقيرا إلا طفيليا، ولا تسمح نادرة باردة إلا على الشطرنج. واحتضر شطرنجي فصار يقول: شاه مات شاه مات مكان الشهادتين حتى مات.
وأما الترخيص فيه، فقد سئل الشعبي عن اللعب بالشطرنج، فقال: لا بأس به إذا لم يكن هناك تقامر وتبادل، وقال بعضهم: كنا في السجن مع ابن سيرين، فكان يرانا ونحن نلعب بالشطرنج، فيقوم، فيأتي ويقول:
ارفع الفرس ارفع كذا إفعل كذا، ولا يعيب علينا. وعن سعيد بن المسيب قال: كنت ألعب الشطرنج مع صديق في بيته حين خفت الحجّاج. ومما قيل لعلي بن الجهم في الشطرنج، وقيل للمأمون:
أرض مربّعة حمراء من أدم ... ما بين حرّين معروفين بالكرم(1/470)
تذكّرا الحرب فاحتالا لها فطنا ... من غير أن يأثما فيها بسفك دم
هذا يغير على هذا وذاك على ... هذا يغير وعين الحزم لم تنم
فانظر إلى همم جاشت بمعركة ... في عسكرين بلا طبل ولا علم
قالوا: إن سبب وضع الشطرنج أن ملوك الهند ما كانوا يرون بقتال، فإذا تنازع ملكان في كورة أو مملكة تلاعبا بالشطرنج، فيأخذها الغالب من غير قتال. وقيل: إنه كان لبعض ملوك الفرس شطرنج من ياقوت أحمر وأصفر القطعة منه بثلاثة آلاف دينار.
فحكي أن غلمانا من أهل البحرين خرجوا يلعبون بالصوالجة وأسقف البحرين قاعد، فوقعت الأكرة على صدره، فأخذها، فجعلوا يطلبونها منه فأبى، فقال غلام منهم: سألتك بحق محمد صلى الله عليه وسلم إلا رددتها علينا، فأبى لعنه الله وسب رسول الله صلى الله عليه وسلم، فأقبلوا عليه بصوالجهم، فما زالوا يخبطوا حتى مات لعنة الله عليه، فرفع ذلك إلى عمر رضي الله تعالى عنه فو الله ما فرح بفتح ولا غنيمة كفرحته بقتل الغلمان لذلك الأسقف، وقال: الآن عز الإسلام إن أطفالا صغارا شتم نبيهم فغضبوا له وانتصروا وأهدر دم الأسقف، والله سبحانه وتعالى أعلم، وصلى الله على سيدنا محمد، وعلى آله وصحبه وسلم.
الباب السادس والسبعون في النوادر
وفيه فصول
الفصل الأول من هذا الباب في نوادر العرب
خرج المهدي يتصيد، فغار به فرسه حتى وقع في خباء أعرابي، فقال: يا أعرابي هل من قرى، فأخرج له قرص شعير، فأكله، ثم أخرج له فضله من لبن فسقاه، ثم أتاه بنبيذ في ركوة فسقاه «1» ، فلما شرب قال: أتدري من أنا؟ قال: لا، قال: أنا من خدم أمير المؤمنين الخاصة، قال:
بارك الله لك في موضعك، ثم سقاه مرة أخرى، فشرب فقال: يا أعرابي أتدري من أنا؟ قال: زعمت أنك من خدم أمير المؤمنين الخاصة قال: لا. أنا من قواد أمير المؤمنين، قال: رحبت بلادك وطاب مرادك، ثم سقاه الثالثة، فلما فرغ قال: يا أعرابي أتدري من أنا؟ قال:
زعمت أنك من قواد أمير المؤمنين، قال: لا، ولكني أمير المؤمنين. قال: فأخذ الأعرابي الركوة، فوكأها «2» وقال:
إليك عني، فو الله لو شربت الرابعة لادعيت أنك رسول الله، فضحك المهدي حتى غشي عليه، ثم أحاطت به الخيل، ونزلت إليه الملوك والأشراف، فطار قلب الأعرابي فقال له: لا بأس عليك، ولا خوف، ثم أمر له بكسوة ومال جزيل.
ووجد أعرابي يأكل ويتغوط ويفلي ثوبه، فقيل له في ذلك، فقال: أخرج عتيقا وأدخل جديدا، وأقتل عدوا.
وقيل لبعض الأعراب: إن شهر رمضان قدم، فقال:
والله لأبددن شمله بالأسفار. وسمع أعرابي قارئا يقرأ القرآن حتى أتى على قوله تعالى: الْأَعْرابُ أَشَدُّ كُفْراً وَنِفاقاً
«3» . فقال: لقد هجانا، ثم بعد ذلك سمعه يقرأ:
وَمِنَ الْأَعْرابِ مَنْ يُؤْمِنُ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ
«4» .
فقال: لا بأس هجا ومدح. هذا كما قال شاعرنا:
هجوت زهيرا ثم إني مدحته ... وما زالت الأشراف تهجى وتمدح
وحضر أعرابي على مائدة يزيد بن مزيد فقال لأصحابه:
أفرجوا «5» لأخيكم، فقال الأعرابي: لا حاجة لي بإفراجكم إن أطنابي «6» طوال يعني سواعده، فلما مد يده ضرط، فضحك يزيد، فقال يا أخا العرب: أظن أن طنبا من أطنابك قد انقطع.
ورؤي أعرابي يغطس في البحر ومعه خيط، وكلما غطس غطسة عقد عقدة، فقيل له: ما هذا؟ قال: جنابات الشتاء أقضيها في الصيف.
وسرق اعرابي غاشية من على سرج ثم دخل المسجد(1/471)
يصلي فقرأ الامام: هَلْ أَتاكَ حَدِيثُ الْغاشِيَةِ 1
«1» فقال: يا فقيه لا تدخل في الفضول، فلما قرأ: وُجُوهٌ يَوْمَئِذٍ خاشِعَةٌ 2
«2» قال: خذوا غاشيتكم ولا يخشع وجهي لا بارك الله لكم فيها ثم رماها من يده وخرج.
وحضر أعرابي مجلس قوم فتذكروا قيام الليل «3» فقيل له: يا أبا أمامة أتقوم الليل؟ فقال: نعم. قالوا: ما تصنع؟
قال: أبول وأرجع أنام.
وسرق أعرابي صرة فيها دارهم ثم دخل المسجد يصلى، وكان اسمه موسى، فقرأ الإمام، وَما تِلْكَ بِيَمِينِكَ يا مُوسى 17
«4» ، فقال الأعرابي: والله إنك لساحر، ثم رمى الصرة وخرج.
وحكى الأصمعي قال: ضلت لي إبل، فخرجت في طلبها، وكان البرد شديدا، فالتجأت إلى حي من أحياء العرب، وإذا بجماعة يصلون وبقربهم شيخ ملتف بكساء، وهو يرتعد من البرد وينشد:
أيا ربّ إن البرد أصبح كالحا ... وأنت بحالي يا إلهي أعلم
فإن كنت يوما في جهنم مدخلي ... ففي مثل هذا اليوم طابت جهنم
قال الأصمعي: فتعجبت من فصاحته، وقلت: يا شيخ أما تستحي تقطع الصلاة وأنت شيخ كبير، فأنشد يقول:
أيطمع ربّي أن أصلّي عاريا ... ويكسو غيري كسوة البرد والحرّ
فو الله لا صليت ما عشت عاريا ... عشاء ولا وقت المغيب ولا الوتر «5»
ولا الصبح إلّا يوم شمس دفيئة ... وإن عمّمت فالويل للظهر والعصر
وإن يكسني ربي قميصا وجبّة ... أصلي له مهما أعيش من العمر
قال: فأعجبني شعره وفصاحته، فنزعت قميصا وجبّة كانا عليّ ودفعتهما إليه، وقلت له: البسهما وقم، فاستقبل القبلة، وصلّى جالسا وجعل يقول:
إليك اعتذاري من صلاتي جالسا ... على غير طهر موميا نحو قبلتي
فمالي ببرد الماء يا رب طاقة ... ورجلاي لا تقوى على ثني ركبتي
ولكنني استغفر الله شاتيا ... وأقضيكها يا ربّ في وجه صيفتي
وإن أنا لم أفعل فأنت محكم ... بما شئت من صفعي ومن نتف لحيتي
قال: فعجبت من فصاحته، وضحكت عليه وانصرفت.
وصلى أعرابي مع قوم فقرأ الإمام قُلْ أَرَأَيْتُمْ إِنْ أَهْلَكَنِيَ اللَّهُ وَمَنْ مَعِيَ أَوْ رَحِمَنا
«6» ، فقال الأعرابي: أهلكك الله وحدك. إيش كان ذنب الذين معك، فقطع القوم الصلاة من شدة الضحك. وقيل: دخلت أعرابية على قوم يصلون، فقرأ الإمام فَانْكِحُوا ما طابَ لَكُمْ مِنَ النِّساءِ
«7» وجعل يرددها، فجعلت الأعرابية تعدو وهي هاربة حتى جاءت لأختها فقالت: يا أختاه ما زال الإمام يأمرهم أن ينكحونا حتى خشيت أن يقعوا عليّ. وصلى أعرابي خلف إمام، فقرأ الإمام: أَلَمْ نُهْلِكِ الْأَوَّلِينَ 16
«8» وكان في الصف الأول، فتأخر إلى الصف الآخر، فقرأ: ثُمَّ نُتْبِعُهُمُ الْآخِرِينَ 17
«9» فتأخر، فقرأ: كَذلِكَ نَفْعَلُ بِالْمُجْرِمِينَ 18
«10» . وكان اسم البدوي مجرما، فترك الصلاة وخرج هاربا، وهو يقول: والله ما المطلوب غيري، فوجده بعض الأعراب، فقال له: ما لك يا مجرم؟ فقال: إن الامام أهلك الأولين والآخرين وأراد أن يهلكني في الجملة، والله لا رأيته بعد اليوم.
وجلس بعض الأعراب يشرب مع ندائمه فاحتاج إلى بيت الخلاء، فدلوه عليه، فلما دخل جعل يضرط ضراطا شنيعا، فضحكوا عليه، فأنشد يقول:
إذا ما خلا الإنسان في بيت غائط ... تراخت بلا شك مصاريع فقحته(1/472)
فمن كان ذا عقل فيعذر ضارطا ... ومن كان ذا جهل ففي وسط لحيته
وكان لسابور ملك فارس نديم مضحك يسمى مرزبان.
فظهر له من الملك جفوة، فلما زاد ذلك عليه تعلم نبيح الكلاب وعوي الذئاب ونهيق الحمير، وصهيل الخيل، وصوت البغال، ثم احتال حتى دخل موضعا بقرب خلوة الملك وأخفى أمره، فلما خلا الملك بنفسه نبح نبيح الكلاب، فلم يشك الملك في أنه كلب، فقال: انظروا ما هذا، فعوى عوى الذئاب، فنزل الملك عن سريره، فنهق نهيق الحمير، فمضى الملك هاربا، ومضت الغلمان يتبعون الصوت، فلما دنوا منه صهل صهيل الخيل، فاقتحموا عليه وأخرجوه عريانا، فلما وصلوا به إلى الملك، ورآه مرزبان ضحك الملك ضحكا شديدا، وقال له: ما حملك على ما صنعت؟ قال: إن الله عز وجل مسخني كلبا وذئبا وحمارا وفرسا لما غضب عليّ الملك.
قال: فأمر الملك أن يخلع عليه وأن يرد إلى مرتبته الأولى.
وصلى أعرابي خلف إمام، فقرأ إِنَّا أَرْسَلْنا نُوحاً إِلى قَوْمِهِ
«1» ثم وقف وجعل يرددها، فقال الأعرابي أرسل غيره يرحمك الله، وأرحنا وأرح نفسك. وصلى آخر خلف إمام، فقرأ: فَلَنْ أَبْرَحَ الْأَرْضَ حَتَّى يَأْذَنَ لِي أَبِي
«2» ووقف وجعل يرددها، فقال الأعرابي: يا فقيه إذا لم يأذن لك أبوك في هذا الليل نظل نحن وقوفا إلى الصباح، ثم تركه وانصرف.
ولزم أعرابي سفيان بن عيينة مدة يسمع منه الحديث، فلما أن جاء ليسافر قال له سفيان: يا أعرابي ما أعجبك من حديثنا؟ قال: ثلاثة أحاديث، حديث عائشة رضي الله تعالى عنها عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه كان يحب الحلوى والعسل، وحديثه عليه الصلاة والسلام: إذا وضع العشاء وحضرت الصلاة فابدأوا بالعشاء، وحديث عائشة عنه أيضا: ليس من البر الصوم في السفر.
وانفرد الرشيد وعيسى بن جعفر ومعه الفضل بن يحيى، فإذا هو بشيخ من الأعراب على حمار وهو رطب العينين، فقال له الفضل: هل أدلك على دواء لعينيك؟
قال: ما أحوجني إلى ذلك، قال: خذ عيدان الهواء وغبار الماء فصيره في قشر بيض الذر واكتحل به ينفعك، فانحنى الشيخ وضرط ضرطة قوية وقال: خذ هذه في لحيتك أجرة وصفتك، وإن زدت زدناك. فضحك الرشيد حتى استلقى على ظهر دابته.
وخرج معن بن زائدة في جماعة من خواصه للصيد، فاعترضهم قطيع ظباء، فتفرقوا في طلبه، وانفرد معن خلف ظبي حتى انقطع عن أصحابه، فلما ظفر به نزل، فذبحه، فرأى شيخا مقبلا من البرية على حمار. فركب فرسه واستقبله، فسلم عليه فقال: من أين وإلى أين؟ قال:
أتيت من أرض لها عشرون سنة مجدبة، وقد أخصبت في هذه السنة فزرعتها مقثاة، فطرحت في غير وقتها، فجمعت منها ما استحسنته، وقصدت به معن بن زائدة لكرمه المشكور، وفضله المشهور ومعروفه المأثور وإحسانه الموفور، قال: وكم أملت منه؟ قال: ألف دينار.
قال: فإن قال لك كثير، قال: خمسمائة، قال: فإن قال لك كثير. قال: ثلاثمائة. قال: فإن قال لك كثير. قال:
مائة، قال: فإن قال لك كثير. قال: خمسين، قال: فإن قال لك كثير قال، فلا أقل من الثلاثين، قال: فإن قال لك كثير. قال: أدخل قوائم حماري في [قفاه] وأرجع إلى أهلي خائبا. فضحك معن منه، وساق جواده حتى لحق بأصحابه ونزل في منزله، وقال لحاجبه: إذا أتاك شيخ على حمار بقثاء فأدخل به علي، فأتى بعد ساعة، فلما دخل عليه لم يعرفه لهيبته وجلالته، وكثرة حشمه وخدمه وهو متصدر في دسته، والخدم والحفدة قيام عن يمينه وشماله وبين يديه، فلما سلم عليه قال: ما الذي أتى بك يا أخا العرب قال: أملت الأمير، وأتيته بقثاء في غير أوان، فقال: كم أملت فينا؟ قال: ألف دينار. قال: كثير، فقال: والله لقد كان ذلك الرجل ميشوما عليّ، ثم قال خمسمائة دينار، قال: كثير فما زال إلى أن قال خمسين دينار، فقال له كثير، فقال: لا أقل من الثلاثين، فضحك معن، فعلم الأعرابي أنه صاحبه، فقال: يا سيدي إن لم تجب إلى الثلاثين فالحمار مربوط بالباب. وها معن جالس، فضحك معن حتى استلقى على فراشه، ثم دعا بوكيله، فقال: أعطه ألف دينار وخمسمائة دينار وثلاثمائة دينار ومائة دينار وخمسين دينارا وثلاثين دينارا، ودع الحمار مكانه، فتسلم الأعرابي المال وانصرف.
الفصل الثاني في نوادر القراء والفقهاء
عن محمد بن عبد الله قال: كنا في دهليز عثمان بن شيبة، فخرج إلينا فقال: ن والقلم في أي سورة.(1/473)
ومر بعضهم بقارىء يقرأ «الم غلبت الترك في أدنى الأرض» فقال له «الروم» . فقال له: كلهم أعداؤنا قاتلهم الله.
وكان جماعة يجلسون إلى أبي العيناء وفيهم رجل لا يتكلم فقيل له يوما: كيف علمك بكتاب الله؟ قال: أنا عالم به، فقيل له هذه الآية في أي سورة «الحمد لله لا شريك له» فقال له: في سورة الحمد، فضحكوا عليه.
وجاء رجل إلى فقيه، فقال: أفطرت يوما في رمضان، فقال: اقض يوما مكانه، قال: قضيت وأتيت أهلي، وقد عملوت مأمونية «1» ، فسبقتني يدي إليها، فأكلت منها، فقال: اقض يوما آخر مكانه. قال: قضيت، وأتيت أهلي وقد عملوا هريسة «2» ، فسبقتني يدي إليها، فقال: أرى أن لا تصوم إلا ويدك مغلولة إلى عنقك.
وجاء رجل إلى بعض الفقهاء، فقال له: أنا عبد الله على مذهب ابن حنبل وإني توضأت وصليت، فبينما أنا في الصلاة إذ أحسست ببلل في سروايلي يتلزق، فشممته فإذا رائحته كريهة خبيثة، فقال الفقيه: عافاك الله خريت بإجماع المذاهب.
وجاء رجل إلى فقيه قال: أنا رجل أفسو في ثيابي حتى تفوح روائحي، فهل يجوز لي أن أصلي في ثيابي؟ قال:
نعم، لكن لا كثر الله في المسلمين مثلك.
ووقع بين الأعمش وبين امرأته وحشة، فسأل بعض أصحابه من الفقهاء أن يرضيها ويصلح بينهما، فدخل إليها وقال: إن أبا محمد شيخ كبير فلا يزهدنك فيه عمش عينيه، ودقة ساقيه، وضعف ركبتيه ونتن إبطيه، وبخر فيه، وجمود كفيه، فقال له الأعمش: قم قبحك الله فقد أريتها من عيوبي ما لم تكن تعرفه.
وسكن بعض الفقهاء في بيت سقفه يقرقع في كل وقت فجاءه صاحب البيت يطلب الأجرة، فقال له: أصلح السقف، فإنه يقرقع، قال: لا تخف، فإنه يسبح الله تعالى قال: أخشى أن تدركه رقة فيسجد.
الفصل الثالث في نوادر القضاة
كان لبعض القضاة بغلة، فقرأ يوما في المصحف. وَما مِنْ دَابَّةٍ فِي الْأَرْضِ إِلَّا عَلَى اللَّهِ رِزْقُها
«3» ، فقال لغلامه:
أطلق البغلة ورزقها على الله، فصارت البغلة تدور الأسواق والأزقة وتأكل من قشور الباذنجان وقشور الرمان وقشور البطيخ، وقمامات الطريق، فماتت، فأمر الغلام بإحضار المشاعلية ليحملوها لظاهر المدينة فأحضرهم، فطلبوا من القاضي عشرة دراهم أجرة حملها وقالوا ليس لنا شيء نرتزق منه إلا من مثل هذا، وسيدنا رجل غني وله أشياء كثيرة، العدالة والتزويج والعقود والوراقة والسجن والإطلاق وجامكية الحكم، وأجرة اليمين والتدريس والأوقاف، فقال لهم القاضي: ألمثلي يقال هذا، وأنتم لكم اثنا عشر بابا من المنافع، منها: الوسخ، والزفر، والهلع، والولع، وبيت النبذة، وشركة النفوس، وجباية الأسواق، وحرق النار، وسلب الشطار، ولكم الضياح وثمن الإصلاح وما تروحوا من هذه البغلة بلا شيء، جلدها للدباغين وذنبها للغرابلية ومعرفتها للشعار وتطبيقتها للبيطار، قال: فتقدم أحدهم إليه، وقال: بحق من تاب عليك ورد عاقبتك إلى خير وأراحك من هذا المعاش تصدق علينا بشيء ولا تدعنا نروح بلاش.
تفسير هذه الألفاظ. الزفر: النساء الزانيات، والوسخ:
المراحيض، والهلع: جباية الأسواق، والولع: القمار.
وبيت النبذة: محل المزر، وشركة النفوس: كل من حمل ميتا، ولحقوه قبل أن يخرج من باب البلد كانوا شركاءه.
وسلب الشطار: كل من شنقوه لهم سلبه.
وولي يحيى بن أكثم قاضيا على أهل جبلة، فبلغه أن الرشيد انحدر إلى البصرة، فقال لأهل جبلة: إذا اجتاز الرشيد فاذكروني عنده بخير، فوعدوه بذلك، فلما جاء الرشيد تقاعدوا عنه، فسرح القاضي لحيته، وكبر عمته وخرج، فرأى الرشيد في الحراقة ومعه أبو يوسف القاضي، فقال يا أمير المؤمنين: نعم القاضي قاضي جبلة عدل فينا، وفعل كذا وكذا، وجعل يثني على نفسه، فلما رآه أبو يوسف عرفه، فضحك فقال له الرشيد: مم تضحك؟ فقال يا أمير المؤمنين: المثني على القاضي هو القاضي، فضحك الرشيد حتى فحص برجله الأرض، ثم(1/474)
أمر بعزله فعزل «1» .
وأحضر رجل ولده إلى القاضي فقال: يا مولانا إن ولدي هذا يشرب الخمر ولا يصلي، فأنكر ولده ذلك، فقال أبوه: يا سيدي أفتكون صلاة بغير قراءة، فقال الولد إني أقرأ القرآن، فقال له القاضي: اقرأ حتى أسمع فقال:
علق القلب الربابا ... بعدما شابت وشابا
إن دين الله حق ... لا أرى فيه ارتيابا
فقال أبوه: إنه لم يتعلم هذا إلا البارحة، سرق مصحف الجيران وحفظ هذا منه، فقال القاضي، وأنا الآخر أحفظ آية منها وهي:
فارحمي مضنى كئيبا ... قد رأى الهجر عذابا
ثم قال القاضي: قاتلكم الله يعلم أحدكم القرآن ولا يعمل به.
وتقدم اثنان إلى أبي صمصامة القاضي، فادعى أحدهما على الآخر طنبورا، فأنكر، فقال للمدعي: ألك بينة؟
فقال: لي شاهدان فأحضر رجلين شهدا له، فقال المدعى عليه: سلهما يا سيدي عن صناعتهما، فأخبر أحدهما أنه نباذ، وقال الآخر أنه قواد، فالتفت القاضي إلى المدعى عليه، وقال: أتريد على طنبور أعدل من هذين؟ ادفع إليه طنبوره.
وتحاكم الرشيد وزبيدة إلى أبي يوسف القاضي في الفالوذج واللوزينج أيهما أطيب، فقال أبو يوسف: أنا لا أحكم على غائب، فأمر الرشيد بإحضارهما، وقدما بين يدي أبي يوسف، فجعل يأكل من هذا مرة ومن هذا مرة حتى نصف الجامين ثم قال: يا أمير المؤمنين ما رأيت أعدل منهما كلما أردت أن أحكم لأحدهما أتى الآخر بحجته.
وأتى بعض المجان لبعض القضاة فقال: يا سيدي إن امرأتي قحبانا، فقال له القاضي: طلقهانا، فقال: عشقانا.
فقال: قودهانا.
وادعى رجل عند قاض على امرأة حسناء بدين، فجعل القاضي يميل إليها بالحكم، فقال الرجل: أصلح الله القاضي حجتي أوضح من هذا النهار، فقال له القاضي:
اسكت يا عدو الله، فإن الشمس أوضح من النهار. قم لا حق لك عليها، فقالت المرأة: جزاك الله عن ضعفي خيرا فقد قويته، فقال الرجل: لا جزاك الله عن قوتي خيرا فقد أوهيتها.
ورفعت امرأة زوجها إلى القاضي تبغي الفرقة. وزعمت أنه يبول في الفراش كل ليلة. فقال الرجل للقاضي:
يا سيدي لا تعجل علي حتى أقص عليك قصتي، إني أرى في منامي كأني في جزيرة في البحر وفي قصر عالي، وفوق القصر قبة عالية، وفوق القبة جمل وأنا على ظهر الجمل، وإن الجمل يطأطىء برأسه ليشرب من البحر، فإذا رأيت ذلك بلت من شدة الخوف، فلما سمع القاضي ذلك بال في فراشه وثيابه وقال: يا هذه أنا قد أخذني البول من هول حديثه، فكيف بمن يرى الأمر عيانا.
الفصل الرابع في نوادر النحاة
وقف نحوي على بياع يبيع أرزا بعسل وبقلا بخل، فقال: بكم الأرز بالأعسل والأخلل بالأبقل؟ فقال:
بالأصفع في الأرؤس والأضرط في الأذقن.
ووقع نحوي في كنيف، فجاء كناس ليخرجه، فصاح به الكناس ليعلم أهو حي أم لا، فقال له النحوي: أطلب لي حبلا دقيقا وشدني شدا وثيقا واجذبني جذبا رفيقا، فقال الكناس: امرأته طالق إن أخرجتك منه، ثم تركه وانصرف.
وكان لبعضهم ولد نحوي يتقعر في كلامه، فاعتل أبوه علة شديدة أشرف منها على الموت، فاجتمع عليه أولاده، وقالوا له: ندعو لك فلانا أخانا، قال: لا إن جاءني قتلني، فقالوا: نحن نوصيه أن لا يتكلم، فدعوه، فلما دخل عليه قال له يا أبت: قل لا إله إلا الله تدخل بها الجنة وتفوز من النار، يا أبت: والله ما أشغلني عنك إلا فلان، فإنه دعاني بالأمس، فأهرس وأعدس واستبذج وسكبج وطهبج وأفرج ودجج وأبصل وأمضر ولوزج وافلوزج فصاح أبوه غمضوني، فقد سبق ابن الزانية ملك الموت إلى قبض روحي.
وجاء نحوي يعود مريضا، فطرق بابه، فخرج إليه ولده فقال: كيف وجدت أباك؟ قال: يا عم ورمت رجليه، قال: لا تلحن قل رجلاه، ثم ماذا؟ قال: ثم وصل الورم إلى ركبتاه. قال: لا تلحن قل إلى ركبتيه، ثم ماذا؟ قال:
مات وأدخله الله في ... عيالك وعيال سيبويه ونفطويه وجحشويه.(1/475)
وعاد بعضهم نحويا، فقال: ما الذي تشكوه؟ قال:
حمى جاسية نارها حامية منها الأعضاء واهية والعظام بالية، فقال له: لا شفاك الله بعافية يا ليتها كانت القاضية.
الفصل الخامس في نوادر المعلمين
قال الجاحظ: مررت بمعلم صبيان وعنده عصا طويلة وعصا قصيرة وصولجان وكرة وطبل وبوق، فقلت ما هذه؟ فقال: عندي صغار أو باش فأقول لأحدهم اقرأ لوحك فيصفر لي بضرطة، فأضربه بالعصا القصيرة، فيتأخر، فأضربه بالعصا الطويلة، فيفر من بين يدي فأضع الكرة في الصولجان وأضربه فأشجه، فتقوم إلي الصغار كلهم بالألواح فأجعل الطبل في عنقي والبوق في فمي وأضرب الطبل وأنفخ في البوق فيسمع أهل الدرب ذلك، فيسارعون إلي ويخلصوني منهم.
وحكى الجاحظ أيضا قال: مررت على خربة. فإذا بها معلم وهو ينبح نبيح الكلاب، فوقفت أنظر إليه وإذا بصبي قد خرج من دار، فقبض عليه المعلم، وجعل يلطمه ويسبه، فقلت عرفني خبره، فقال: هذا صبي لئيم يكره التعليم ويهرب ويدخل الدار ولا يخرج، وله كلب يلعب به، فإذا سمع صوتي ظن أنه صوت الكلب فيخرج فأمسكه.
وقال الجاحظ: رأيت معلما في الكتّاب وحده فسألته، فقال: الصغار داخل الدرب يتصارعون فقلت: أحب أن أراهم. فقال: لا أشير عليك بذلك. فقلت: لا بد، قال:
فإذا جئت إلى رأس الدرب اكشف رأسك لئلا يعتقدوك المعلم فيصفعونك حتى تعمى.
وقال بعضهم: رأيت معلما وقد جاء صغيران يتماسكان فقال أحدهما: هذا عض أذني، فقال الآخر: لا والله يا سيدنا هو الذي عض أذن نفسه، فقال المعلم: يا ابن الزانية هو كان جمل يعض أذن نفسه.
وقال بعضهم: رأيت معلما وهو يصلي العصر، فلما ركع أدخل رأسه بين رجليه، ونظر إلى الصغار وهم يلعبون، وقال: يا ابن البقال قد رأيت الذي عملت وسوف أكافئك إذا فرغت من الصلاة.
وحكي عن الجاحظ أنه قال: ألفت كتابا في نوادر المعلمين، وما هم عليه من التغفل، ثم رجعت عن ذلك وعزمت على تقطيع ذلك، فدخلت يوما مدينة، فوجدت فيها معلما في هيئة حسنة، فسلمت عليه فرد علي أحسن رد ورحب بي فجلست عنده، وباحثته في القرآن، فإذا هو ماهر فيه، ثم فاتحته في الفقه والنحو وعلم المعقول وأشعار العرب، فإذا هو كامل الآداب، فقلت هذا والله مما يقوي عزمي على تقطيع الكتاب. قال: فكنت أختلف إليه وأزوره، فجئت يوما لزيارته، فإذا بالكتّاب مغلق ولم أجده، فسألت عنه، فقيل: مات له عزيز، فحزن عليه وجلس في بيته للعزاء، فذهبت إلى بيته وطرقت الباب، فخرجت إلي جارية، وقالت: ما تريد؟ قلت: سيدك، فدخلت، وخرجت، وقالت: باسم الله، فدخلت إليه، وإذا به جالس، فقلت: عظم الله أجرك، لقد كان لكم في رسول الله أسوة حسنة، كل نفس ذائقة الموت، فعليك بالصبر، ثم قلت له: هذا الذي توفي ولدك؟ قال لا، قلت: فوالدك، قال: لا، قلت: فأخاك؟ قال: لا، قلت:
فزوجتك؟ قال: لا، فقلت: وما هو منك؟ قال: حبيبتي.
فقلت في نفسي: هذه أول المناحس، فقلت: سبحان الله النساء كثير وستجد غيرها، فقال: أتظن أني رأيتها؟ قلت:
وهذه منحسة ثانية. ثم قلت: وكيف عشقت من لم تر؟
فقال: اعلم إني كنت جالسا في هذا المكان وأنا أنظر من الطاق إذ رأيت رجلا عليه برد وهو يقول:
يا أم عمرو جزاك الله مكرمة ... ردي على فؤادي مثلما كانا
لا تأخذين فؤادي تلعبين به ... فكيف يلعب بالإنسان إنسانا
فقلت في نفسي: لولا أن أم عمرو هذه ما في الدنيا أحسن منها، ما قيل فيها هذا الشعر فعشقتها، فلما كان منذ يومين مر ذلك الرجل بعينه وهو يقول:
لقد ذهب الحمار بأمّ عمرو ... فلا رجعت ولا رجع الحمار
فعلمت أنها ماتت، فحزنت عليها، وأغلقت المكتب وجلست في الدار، فقلت: يا هذا إني كنت ألفت كتابا في نوادركم معشر المعلمين، وكنت حين صاحبتك عزمت على تقطيعه والآن قد قوي عزمي على إبقائه وأول ما أبدأ أبدأ بك إن شاء الله تعالى.
الفصل السادس في نوادر المتنبئين
ادعى رجل النبوة في أيام الرشيد، فلما مثل بين يديه قال له: ما الذي يقال عنك؟ قال: إني نبي كريم. قال: فأي شيء يدل على صدق دعواك؟ قال: سل عما شئت. قال:
أريد أن تجعل هذه المماليك المرد القيام الساعة بلحى،(1/476)
فأطرق ساعة، ثم رفع رأسه، وقال: كيف يحل أن أجعل هؤلاء المرد بلحى وأغير هذه الصورة الحسنة، وإنما أجعل أصحاب هذه اللحى مردا في لحظة واحدة، فضحك منه الرشيد وعفا عنه وأمر له بصلة.
وتنبأ إنسان، فطالبوه بحضرة المأمون بمعجزة، فقال:
أطرح لكم حصاة في الماء فتذوب. قالوا: رضينا فأخرج حصاة معه وطرحها في الماء فذابت، فقالوا: هذه حيلة ولكن نعطيك حصاة من عندنا ودعها تذوب، فقال: لستم أجل من فرعون ولا أنا أعظم حكمة من موسى، ولم يقل فرعون لموسى لم أرض بما تفعله بعصاك حتى أعطيك عصا من عندي تجعلها ثعبانا. فضحك المأمون وأجازه.
وتنبأ رجل في أيام المعتصم، فلما حضر بين يديه قال:
أنت نبي؟ قال: نعم، قال: وإلى من بعثت؟ قال: إليك.
قال: أشهد أنك لسفيه أحمق، قال: إنما يبعث إلى كل قوم مثلهم، فضحك المعتصم وأمر له بشيء.
وتنبأ رجل في أيام المأمون وادعى إنه إبراهيم الخليل، فقال له المأمون: إن إبراهيم كانت له معجزات وبراهين، قال: وما براهينه؟ قال: أضرمت له نار وألقي فيها، فصارت عليه بردا وسلاما، ونحن نوقد لك نارا ونطرحك فيها، فإن كانت عليك كما كانت عليه آمنا بك، قال: أريد واحدة أخف من هذه، قال: فبراهين موسى، قال: وما براهينه؟ قال: ألقى عصاه فإذا هي حية تسعى وضرب بها البحر، فانفلق، وأدخل يده في جيبه فأخرجها بيضاء.
قال: وهذه علي أصعب من الأولى. قال: فبراهين عيسى.
قال: وما هي؟ قال: إحياء الموتى. قال: مكانك قد وصلت. أنا أضرب رقبة القاضي يحيى بن أكثم وأحييه لكم الساعة، فقال يحيى: أنا أول من آمن بك وصدّق.
وتنبأ آخر في زمن المأمون، فقال المأمون: أريد منك بطيخا في هذه الساعة، قال: أمهلني ثلاثة أيام، قال:
ما أريده إلا الساعة، قال: ما أنصفتني يا أمير المؤمنين إذا كان الله تعالى الذي خلق السموات والأرض في ستة أيام ما يخرجه إلا في ثلاثة أشهر، فما تصبر أنت علي ثلاثة أيام، فضحك منه ووصله.
وتنبأ آخر في زمن المأمون، فلما مثل بين يديه. قال له من أنت؟ قال: أنا أحمد النبي قال: لقد ادعيت زورا، فلما رأى الأعوان قد أحاطت به وهو ذاهب معهم قال:
يا أمير المؤمنين أنا أحمد النبي، فهل تذمه أنت، فضحك المأمون منه وخلّى سبيله.
وتنبأ آخر في زمن المتوكل، فلما حضر بين يديه قال له: أنت نبي؟ قال: نعم، قال: فما الدليل على صحة نبوتك؟ قال: القرآن العزيز يشهد بنبوتي في قوله تعالى:
إِذا جاءَ نَصْرُ اللَّهِ وَالْفَتْحُ 1
«1» وأنا إسمي نصر الله، قال: فما معجزتك؟ قال: ائتوني بامرأة عاقر أنكحها تحمل بولد يتكلم في الساعة ويؤمن بي، فقال المتوكل لوزيره الحسن بن عيسى أعطه زوجتك حتى تبصر كرامته، فقال الوزير: أما أنا فأشهد أنه نبي الله، وإنما يعطي زوجته من لا يؤمن به. فضحك المتوكل وأطلقه.
وادعى رجل النبوة زمن خالد بن عبد الله القسري وعارض القرآن فأتي به إلى خالد فقال له: ما تقول؟ قال:
عارضت القرآن. قال: بماذا؟ قال: قال الله تعالى: إِنَّا أَعْطَيْناكَ الْكَوْثَرَ 1
«2» الآية، وقلت إنا أعطيناك الجماهر فصل لربك وجاهر ولا تطع كل ساحر. فأمر به خالد فضرب عنقه وصلب، فمر به خلف بن خليفة الشاعر، فضرب بيده على الخشبة وقال: إنا أعطيناك العود فصل لربك من قعود وأنا ضامن لك أن لا تعود.
وأتي المأمون برجل ادعى النبوة، فقال له: ألك علامة على نبوتك؟ قال: علامتي أني أعلم ما في نفسك، قال:
وما في نفسي؟ قال: في نفسك أني كاذب، قال:
صدقت. ثم أمر به إلى السجن، فأقام فيه أياما، ثم أخرجه، فقال: هل أوحي إليك بشيء؟ قال: لا. قال:
ولم؟ قال: لأن الملائكة لا تدخل الحبوس. فضحك منه وخلى سبيله.
وأتي بامرأة تنبأت في أيام المتوكل، فقال لها: أنت نبية؟ قالت: نعم. قال: أتؤمنين بمحمد؟ قالت: نعم، قال: فإنه صلى الله عليه وسلم قال: لا نبي بعدي، قالت: فهل قال لا نبية بعدي، فضحك المتوكل وأطلقها.
وتنبأ رجل يسمى نوحا، وكان له صديق نهاه، فلم يقبل، فأمر السلطان بقتله، فمر به صديقه، فقال له: يا نوح ما حصلت من السفينة إلا على الصاري.
الفصل السابع في نوادر السؤال
وقف أعرابي بباب يسأل، فقال له صغير من باب الدار:
بورك فيك، فقال: قبح الله هذا الفم لقد تعلمت الشر صغيرا.(1/477)
ووقف سائل على باب فقال: يا أصحاب المنزل، فبادر صاحب الدار قبل أن يتم كلامه وقال: فتح الله عليك، فقال السائل: يا ... كنت تصبر لعلي جئت أدعوك إلى وليمة.
وقال أبو عثمان الجاحظ: وقف سائل بقوم فقال: إني جائع، فقالوا له: كذبت، فقال: جربوني برطلين من الخبز ورطلين من اللحم.
ووقف سائل على باب، فقالوا: يفتح الله عليك، فقال:
كسرة، فقالوا: ما نقدر عليها، قال: فقليل من بر أو فول أو شعير، قالوا: لا نقدر عليه، قال: فقطعة دهن أو قليل زيت أو لبن. قالوا: لا نجده، قال: فشربة ماء. قالوا: وليس عندنا ماء، قال: فما جلوسكم ههنا قوموا فاسألوا، فأنتم أحق مني بالسؤال.
الفصل الثامن في نوادر المؤذنين
قيل لمؤذن: ما نسمع أذانك، فلو رفعت صوتك، فقال: إني أسمع صوتي من مسيرة ميل. وقال بعضهم:
رأيت مؤذنا أذّن ثم غدا يهرول، فقلت له: إلى أين؟ فقال:
أحب أن أسمع أذاني أين بلغ.
واختصم رجلان في جارية فأودعاها عند مؤذن، فلما أصبح وفرغ من الأذان قال: لا إله إلا الله ذهبت الأمانة من الناس، فقالوا له: كيف ذهبت الأمانة من الناس؟ قال:
هذه الجارية التي وضعت عندي قيل إنها بكر، فلما أتيتها وجدتها ثيبا.
وسمع مؤذن حمص يقول في سحور رمضان: تسحروا فقد أمرتكم وعجلوا في أكلكم قبل أن أؤذن، فيسخم الله وجوهكم. وشوهد مؤذن يؤذن من رقعة، فقيل له: ما تحفظ الأذان؟ فقال: سلوا القاضي، فأتوه، فقالوا:
السلام عليكم، فأخرج دفترا وتصحيفة وقال: وعليكم، فعذروا المؤذن.
وسمعت امرأة مؤذنا يؤذن بعد طلوع الشمس ويقول الصلاة خير من النوم، فقالت: النوم خير من هذه الصلاة.
ومر سكران بمؤذن رديء الصوت فجلد به الأرض وجعل يدوس بطنه، فاجتمع إليه الناس فقال: والله ما بي رداءة صوته، ولكن شماتة اليهود والنصارى بالمسلمين.
الفصل التاسع في نوادر النواتية
حكي أن بعض النواتية تولى أحد الكراسي السلطانية لما ساعده الزمان، فبينما هو جالس في داره إذ سمع صوتا وراء الباب فقال لزوجته: إني أسمع غاغة في البر حلي قلوعي واعملي أسفيرتي على جاموري وقدمي إلى إسقالة الرجل، وقيميني بمدرة، فامتثلت كلامه، فنزل وجلس على مصطبته وقد علت مرتبته، واصطفت المقدمون بين يديه ووقفت الحبرتية حوليه، وإذا بشيخ قد أقبل وثيابه مقطعة وعمامته في حلقه والدم نازل من أنفه وهو يصيح بصوت عال: أنا بالله وبالوالي، فقال: تعال يا شيخ مالي أرى أرطمونك في حلقك وشبورتك مكسورة وأنت بتزلع ماء متغير وتقيم الهليلا في الساحل دخل عليك شرد غربي وإلا دخلت على بواجي، فقال الشيخ: والله يا سيدي بعض نواتية البحر عمل بي هذا، فقال: يا أولاد جيبوا غريمو بخنسوا عدته وقشطوا ظهره وجروه على مقدمه، فامتثلوا كلام الأمير وجاءوا بالغريم فلما مثل بين يديه قال له: ويلك هو أنت بغنوس بسفر البحر أنت الذي قطعت القلس وخرجت في الشعث حتى لقيت هذا الرجل نطحت مخطمته وكسرت اسقالته؛ لو انصلح كنت عملتك في بدراوة وعلقتك في الصاري، فلما سمع الرجل كلام الوالي علم أنه من أولاد المعيشة، فقال له بهمترة النواتية:
والله يا خوند هو كار زني في معاشي اجصطن على الوحسة وأنا عايم في الليل إلا وشرد جاني من الشرق كابس هز أطرافي وكسر شابورتي وقطع لباني وها هو يحمد الله على بر السلامة، وإن كان انصلح فيه شيء فأنا بمرسوم الأمير أجيب له القلفاط، أسد فتحه وأعيد له وسقه وأخليه يروح في طريقه، فقال له الوالي: أنت بتقذف في وجهي وتطرح مقاديفك حتى نعبر على الحجر، يا رجالة الصاري سلسلوا أطرافه وعروا مقاديفه، وبلوا شيبنة اللبان وانزلوا عليه وأوسقوه الجنبين والظهر حتى تلعب المية على بطونسته، هيا قوامك خلوا جنب برا وجنب جوا قدام الخن وراء الصاري، فأكل علقة من كعبه إلى أذنه، فقالت النواتية: يا خوند هو خنفست عليه الطمية البحرية؟ قال: مدراتين وقيموه فلما أقاموه باس يد الأمير وقال: يا خوند سألتك بهبوب الرياح وطيب النسيم الرب لا يبليك بجر اللبان في الحلافي وأنت حافي الصيافي ويكفيك شر الأربعينيات قال: فرق عليه قلب الأمير وقال له: وحق من ضرب القلع باللبان الحلفا عند بخنسة الريح وفروغ الزاد بعيد من البلاد وعياط الركاب عند قيام الموجة وبعد البر في أيام النيل، لولا شفاعة الركاب لكنت أهد سقالتك وأقعد في زوايدك حتى أخلي ظهرك جيفة، فقال له: والله يا خوند ما بقي جنبي يحمل هذا الوسق العظيم(1/478)
ولكن إن عدت أعبر لهذا الوجه أخسف من أضلاعي لوح وغرقني بالقايم، فقال له الأمير: أحمد الله على السلامة وأخرج في دي الطيابة وكتب له مرسوم وعلم عليه علامة الرياس البحرية للنواتية الله لك الله لي يا عملات على أبوس.
الفصل العاشر في نوادر جامعة
سمعت امرأة في الحديث أن صوم يوم عاشوراء كفارة سنة، فصامت إلى الظهر ثم أفطرت وقالت: يكفيني كفارة ستة أشهر منها شهر رمضان.
وأسلم مجوسي في شهر رمضان فثقل عليه الصيام، فنزل إلى سرداب وقعد يأكل فسمع ابنه حسه فقال: من هذا؟ فقال: أبوك الشقي يأكل خبز نفسه ويفزع من الناس.
وسئل بعض القصاص عن نصراني قال: لا إله إلا الله، لا غير إذا مات أين يدفن؟ قال: يدفن بين مقابر المسلمين والنصارى ليكون مذبذبا لا إلى هؤلاء ولا إلى هؤلاء.
وأهدي إلى سالم القصاص خاتم بلا فص، فقال: إن صاحب هذا الخاتم يعطى في الجنة غرفة بلا سقف.
وبنى بعض المغفلين نصف دار وبنى رجل آخر النصف الآخر، فقال المغفل يوما: قد عولت على بيع النصف الذي لي، وأشتري به النصف الآخر لتكمل لي الدار كلها.
وسئل جامع الصيدلاني عن عمر ابنته فقال: لا أدري إلا أن أمها ذكرت أنها ولدتها في أيام البراغيث. وقيل لطفيلي:
أي سورة تعجبك من القرآن؟ قال: المائدة. قال: فأي آية؟
قال: ذَرْهُمْ يَأْكُلُوا وَيَتَمَتَّعُوا
«1» قيل: ثم ماذا؟ قال:
آتِنا غَداءَنا
«2» ، قيل: ثم ماذا؟ قال: ادْخُلُوها بِسَلامٍ آمِنِينَ 46
«3» ، قيل: ثم ماذا؟ قال: وَما هُمْ مِنْها بِمُخْرَجِينَ
«4» .
وقيل لعثمان بن دراج الطفيلي يوما: كيف تصنع بدار العرس إذا لم يدخلك أصحابها؟ قال: أنوح على بابهم فيتطيرون من ذلك، فيدخلوني، وقيل له: أتعرف بستان فلان؟ قال: إي والله إنه الجنة الحاضرة في الدنيا، قيل:
لم لا تدخله وتأكل من ثماره وتستظل بأشجاره وتسبح في أنهاره؟ قال: لأن فيه كلبا لا يتمضمض إلا بدماء عراقيب الرجال. وقيل له يوما: ما هذه الصفرة التي في لونك؟
قال: من الفترة بين المضيفين. وقال: مرت بنا جنازة يوما ومعي ابني ومع الجنازة امرأة تبكي وتقول: الآن يذهبون بك إلى بيت لا فراش فيه، ولا غطاء، ولا وطاء ولا خبز ولا ماء، فقال ابني: يا أبت إلى بيتنا والله يذهبون.
وحكي عن هارون الرشيد أنه أرق ذات ليلة أرقا شديدا، فقال لوزيره جعفر بن يحيى البرمكي: إني أرقت هذه الليلة وضاق صدري ولم أعرف ما أصنع، وكان خادمه مسرور واقفا أمامه فضحك، فقال له: ما يضحكك استهزاء بي أم استخفافا؟ فقال: وقرابتك من سيد المرسلين صلى الله عليه وسلم ما فعلت ذلك عمدا ولكن خرجت بالأمس أتمشى بظاهر القصر إلى أن جئت إلى جانب الدجلة فوجدت الناس مجتمعين، فوقفت فرأيت رجلا واقفا يضحك الناس يقال له ابن المغازلي، فتفكرت الآن في شيء من حديثه وكلامه، فضحكت والعفو يا أمير المؤمنين، فقال له الرشيد: ائتني الساعة به، فخرج مسرور مسرعا إلى أن جاء إلى ابن المغازلي فقال له: أجب أمير المؤمنين، فقال: سمعا وطاعة، فقال له: بشرط أنه إذا أنعم عليك بشيء يكون لك منه الربع والبقية لي، فقال له: بل اجعل لي النصف ولك النصف، فأبى، فقال: الثلث لي ولك الثلثان، فأجابه إلى ذلك بعد جهد عظيم. فلما دخل على الرشيد سلم، فأبلغ وترجم فأحسن، ووقف بين يديه، فقال له أمير المؤمنين: إن أنت أضحكتني أعطيتك خمسمائة دينار وإن لم تضحكني أضربك بهذا الجراب ثلاث ضربات، فقال ابن المغازلي في نفسه، وما عسى أن تكون ثلاث ضربات بهذا الجراب؟ وظن في نفسه أن الجراب فارغ، فوقف يتكلم ويتمسخر وفعل أفعالا عجيبة تضحك الجلمود، فلم يضحك الرشيد، ولم يتبسم، فتعجب ابن المغازلي وضجر وخاف، فقال له الرشيد: الآن استحقيت الضرب، ثم أنه أخذ الجراب ولفه وكان فيه أربع زلطات كل واحدة وزنها رطلان، فضربه ضربة، فلما وقعت الضربة في رقبته صرخ صرخة عظيمة وافتكر الشرط الذي شرطه عليه مسرور، فقال: العفو يا أمير المؤمنين اسمع مني كلمتين. قال: قل ما بدالك. قال: إن مسرورا شرط علي شرطا واتفقت أنا وإياه على مصلحة، وهو أن ما حصل لي من الصدقات يكون له فيه الثلثان ولي فيه الثلث وما أجابني إلى ذلك إلا بعد جهد عظيم. وقد شرط علي أمير المؤمنين ثلاث ضربات فنصيبي منها واحدة ونصيبه اثنتان، وقد أخذت نصيبي وبقي نصيبه، قال: فضحك(1/479)
الرشيد ودعا مسرورا، فضربه، فصاح، وقال: يا أمير المؤمنين قد وهبت له ما بقي. فضحك الرشيد وأمر لهما بألف دينار، فأخذ كل واحد منهما خمسمائة دينار، ورجع ابن المغازلي شاكرا والله سبحانه وتعالى أعلم، وصلى الله على سيدنا محمد وعلى آله وصحبه وسلم.
الباب السابع والسبعون في الدعاء وآدابه وشروطه
وفيه فصول
الفصل الأول في الدعاء وآدابه
قال الله تعالى: وَإِذا سَأَلَكَ عِبادِي عَنِّي فَإِنِّي قَرِيبٌ أُجِيبُ دَعْوَةَ الدَّاعِ إِذا دَعانِ
«1» . اختلف في سبب نزولها، فقال مقاتل: إن عمر بن الخطاب رضي الله تعالى عنه واقع امرأته بعدما صلى العشاء في رمضان فندم على ذلك وبكى وجاء إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم فأخبره بذلك ورجع مغتما، وكان ذلك قبل الرخصة، فنزلت هذه الآية: وَإِذا سَأَلَكَ عِبادِي عَنِّي فَإِنِّي قَرِيبٌ
«2» .
وروى الكلبي عن أبي صالح عن ابن عباس قال: قالت اليهود كيف يسمع ربنا دعاءنا وأنت تزعم أن بيننا وبين السماء خمسمائة عام، وغلظ كل سماء مثل ذلك؟ فنزلت هذه الآية.
وقال الحسن: إن قوما قالوا للنبي صلى الله عليه وسلم: أقريب ربنا فنناجيه أم بعيد فنناديه؟ فنزلت هذه الآية. قوله تعالى:
أُجِيبُ دَعْوَةَ الدَّاعِ إِذا دَعانِ
«3» . أي أقبل عبادة من عبدني، فالدعاء بمعنى العبادة والإجابة بمعنى القبول.
وقال قوم: إن الله تعالى يجيب كل الدعاء، فإما أن يعجل الإجابة في الدنيا، وإما أن يكفر عن الداعي وإما أن يدخر له في الآخرة لما رواه أبو سعيد الخدري قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «ما من مسلم يدعو بدعوة ليس فيها إثم ولا قطيعة لاحم إلا أعطاه الله بها إحدى ثلاث: إما أن يعجل له دعوته وإما أن يدخر له ثوابها، وإما أن يكف عنه من السوء بمثلها» . وروي أنه إذا كان يوم القيامة واستقر أهل الجنة في الجنة، فبينما العبد المؤمن في قصره، وإذا ملائكة من عند ربه يأتونه بتحف من عند الله، فيقول ما هذا؟ أليس الله قد أنعم علي وأكرمني، فيقولون ألست كنت تدعو الله في الدنيا؟ هذا دعاؤك الذي كنت تدعوه قد أدخر لك.
واعلم أن إجابة الدعاء لا بد لها من شروط، فشرط الداعي أن يكون عالما بأن لا قادر إلا الله، وأن الوسائط في قبضته، ومسخرة بتسخيره، وأن يدعو بنية صادقة وحضور قلب، فإن الله تعالى لا يستجيب دعاء من قلب لاه، وأن يكون متجنبا لأكل الحرام ولا يمل من الدعاء، ومن شروط المدعو فيه أن يكون من الأمور الجائزة الطلب والفعل شرعا كما قال عليه الصلاة والسلام: ما لم يدع بإثم أو قطيعة رحم، فيدخل في الإثم كل ما يأثم به من الذنوب، ويدخل في الرحم جميع حقوق المسلمين ومظالمهم.
قال ابن عطاء الله: إن للدعاء أركانا وأجنحة وأسبابا وأوقاتا، فإن وافق أركانه قوي وإن وافق أجنحته طار إلى السماء وإن وافق مواقيته فاز وإن وافق أسبابه نجح، فأركانه حضور القلب والخشوع وأجنحته الصدق ومواقيته الأسحار وأسبابه الصلاة على النبي صلى الله عليه وسلم ومن شروط الدعاء أن يكون سليما من اللحن، كما قال بعضهم:
ينادي ربّه باللحن ليث ... كذلك إذ دعاه لا يجاب
وقيل: إن الله تعالى لا يستجيب دعاء عريف ولا شرطي ولا جاب ولا عشار ولا صاحب عرطبة، وهي الطنبور، ولا صاحب كوبة، وهي الطبل الكبير الضيق الوسط. ومن آداب الدعاء أن يدعو الداعي مستقبل القبلة ويرفع يديه.
لما روي عن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: «إن الله ربكم حي كريم ليستحي من عبده إذا رفع يديه إليه أن يردهما صفرا» . أو أن يمسح بهما وجهه بعد الدعاء، لما روي عن عمر قال:
كان رسول الله صلى الله عليه وسلم إذا مد يديه في الدعاء لم يردهما حتى يمسح بهما وجهه وأن لا يرفع بصره إلى السماء لقوله صلى الله عليه وسلم: «لينتهين أقوام عن رفع أبصارهم إلى السماء عند الدعاء، أو ليخطفن الله أبصارهم» وأن يخفض الداعي صوته بالدعاء لقوله تعالى: ادْعُوا رَبَّكُمْ تَضَرُّعاً وَخُفْيَةً
«4» . وعن أبي عبد الرحمن الهمداني قال:
صليت مع أبي إسحاق الغداة فسمع رجلا يجهر في الدعاء(1/480)
فقال: كن كزكريا إذ نادى ربه نداء خفيا، وينبغي للداعي أن لا يتكلف وأن يأتي بالكلام المطبوع غير المسجوع، لقوله صلى الله عليه وسلم: «إياكم والسجع في الدعاء بحسب أحدكم.
يقول: أللهم إني أسألك الجنة وما قرب إليها من قول وعمل وأعوذ بك من النار وما قرب إليها من قول وعمل» .
وقيل: ادعوا بلسان الذلة والاحتقار ولا تدعوا بلسان الفصاحة والانطلاق. وكانوا لا يزيدون في الدعاء على سبع كلمات، فما دونها، كما في آخر سورة البقرة. وعن سفيان بن عيينة: لا يمنعن أحدكم من الدعاء ما يعلم من نفسه، فقد أجاب الله دعاء شر الخلق إبليس، إذ قال:
«رب انظرني إلى يوم يبعثون» وعن النبي صلى الله عليه وسلم: إذا سأل أحدكم مسألة فتعرف الاجابة، فليقل: الحمد لله الذي بنعمته تتم الصالحات، ومن أبطأ عليه من ذلك شيء فليقل: الحمد لله على كل حال. وعن سلمة بن الأكوع قال: ما سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يستفتح الدعاء إلا قال:
«سبحان ربي الأعلى الوهاب» . وعن أبي سليمان الداراني: من أراد أن يسأل الله حاجة، فليبدأ بالصلاة على رسول الله صلى الله عليه وسلم وينبغي للمؤمن أن يجتهد في الدعاء وأن يكون على رجاء من الإجابة، ولا يقنط من رحمة الله لأنه يدعو كريما.
وللدعاء أوقات وأحوال يكون الغالب فيها الإجابة، وذلك وقت السحر ووقت الفطر وما بين الأذان والإقامة، وعند جلسة الخطيب بين الخطبتين إلى أن يسلم من الصلاة، وعند نزول الغيث وعند التقاء الجيش في الجهاد في سبيل الله تعالى، وفي الثلث الأخير من الليل لما جاء في الحديث: «إن في الليل ساعة لا يوافقها عبد مسلم يسأل الله شيئا إلا أعطاه» . وفي حالة السجود لقوله عليه الصلاة والسلام أقرب ما يكون العبد من ربه وهو ساجد، فأكثروا الدعاء، وما بين الظهر والعصر في يوم الأربعاء وأوقات الاضطرار وحالة السفر والمرض. هذا كله جاءت به الآثار. قال جابر بن عبد الله رضي الله تعالى عنه: دعا رسول الله صلى الله عليه وسلم في مسجد الفتح ثلاثة أيام: يوم الاثنين ويوم الثلاثاء، واستجيب له يوم الأربعاء بين الصلاتين، فعرفت السرور في وجهه، قال جابر: ما نزل بي أمر مهم غليظ إلا توخيت تلك الساعة فادعو فيها فأعرف الإجابة.
وفي بعض الكتب المنزلة: يا عبدي إذا سألت فاسألني فإني غني وإذا طلبت النصرة فاطلبها مني فإني قوي، وإذا أفشيت سرك فافشه إلي فإني وفي وإذا أقرضت فأقرضني فإني ملي، وإذا دعوت فادعني فإني حفي» . وعن أبي هريرة رضي الله تعالى عنه أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: «ينزل ربنا كل ليلة إلى سماء الدنيا حين يبقى ثلث الليل الأخير فيقول من يدعوني فأستجيب له من يسألني فأعطيه من يستغفرني فأغفر له» . وقال وهب بن منبه بلغني أن موسى مر برجل قائم يبكي ويتضرع طويلا، فقال موسى: يا رب أما تستجيب لعبدك؟ فأوحى الله تعالى إليه: «يا موسى لو أنه بكي حتى تلفت نفسه ورفع يديه حتى بلغ عنان السماء ما استجبت له» . قال: يا رب لم ذلك؟ قال: لأن في بطنه الحرام. ومر إبراهيم بن أدهم بسوق البصرة فاجتمع الناس إليه وقالوا: يا أبا إسحاق ما لنا ندعوا فلا يستجاب لنا؟ قال: لأن قلوبكم ماتت بعشرة أشياء: الأول أنكم عرفتم الله فلم تؤدوا حقه، الثاني زعمتم أنكم تحبون رسول الله صلى الله عليه وسلم ثم تركتم سنته، الثالث: قرأتم القرآن ولم تعملوا به، الرابع أكلتم نعمة الله ولم تؤدوا شكرها، الخامس قلت إن الشيطان عدوكم ووافقتموه، السادس: قلتم إن الجنة حق فلم تعملوا لها، السابع قلتم إن النار حق ولم تهربوا منها، الثامن: قلتم إن الموت حق فلم تستعدوا له، التاسع: انتبهتم من النوم واشتغلتم بعيوب الناس وتركتم عيوبكم، العاشر: دفنتم موتاكم ولم تعتبروا بهم.
وكان يحيى بن معاذ يقول: من أقر لله باساءته جاد الله عليه بمغفرته، ومن لم يمن على الله بطاعته أوصله إلى جنته، ومن أخلص لله في دعوته منّ الله عليه بإجابته.
وقال علي رضي الله تعالى عنه: ارفعوا أفواج البلايا بالدعاء. وعن أنس رضي الله تعالى عنه (يرفعه) :
«لا تعجزوا عن الدعاء فإنه لن يهلك مع الدعاء أحد» .
الفصل الثاني في الأدعية وما جاء فيها
كان من دعاء شريح رحمه الله تعالى: اللهم إني أسألك الجنة بلا عمل عملته، وأعوذ بك من النار بلا ذنب تركته.
ودعت أعرابية عند البيت فقالت: إلهي لك أذل وعليك أدل.
وكان من دعاء بعض الصالحين اللهم إن كنا عصيناك فقد تركنا من معاصيك أبغضها إليك وهو الإشراك وإن كنا قصرنا عن بعض طاعتك فقد تمسكنا بأحبها إليك وهو شهادة أن لا إله إلا أنت وإن رسلك جاءت بالحق من عندك.
ومن دعاء سلام بن مطيع: «اللهم إن كنت بلغت أحدا(1/481)
من عبادك الصالحين درجة ببلاء فبلغنيها بالعافية» . وقيل لفتح الموصلي: ادع الله لنا، فقال: اللهم هبنا عطاءك ولا تكشف عنا غطاءك. وكان من دعاء بعض السلف: اللهم لا تحرمني خير ما عندك لشر ما عندي فإن لم تقبل تعبي ونصبي فلا تحرمني أجر المصاب على مصيبته، اللهم لا تكلنا إلى أنفسنا ولا إلى الناس فنضيع. وقال الحسن:
من دخل المقابر، فقال: اللهم رب الأرواح الفانية والأجساد البالية والعظام النخرة التي خرجت من الدنيا وهي بك مؤمنة أدخل عليها روحا من عندك وسلاما مني، كتب الله له بعدد من مات من لدن آدم إلى أن تقوم الساعة حسنات.
وحكي عن معروف القاضي أن الحجيج كانوا يجتهدونه في الدعاء وفيهم رجل من التركمان ساكت لا يحسن أن يدعو، فخشع قلبه وبكى فقال بلغته: اللهم إنك تعلم أني لا أحسن شيئا من الدعاء، فاسألك ما يطلبون منك بما دعوا، فرأى بعض الصالحين في منامه أن الله قبل حج الناس بدعوة ذلك التركماني لما نظر إلى نفسه بالفقر والفاقة.
وقال الأصمعي: حسدت عبد الملك على كلمة تكلم بها عند الموت، وهي: اللهم إن ذنوبي وإن كثرت وجلت عن الصفة فإنها صغيرة في جنب عفوك فاعف عني.
وركب إبراهيم بن أدهم في سفينة، فهاجت الريح وبكى الناس وأيقنوا بالهلاك، وكان إبراهيم نائما في كساء، فاستوى جالسا وقال: أريتنا قدرتك فأرنا عفوك، فذهب الريح وسكن البحر.
وقال الثوري: كان من دعاء السلف، اللهم زهدنا في الدنيا ووسع علينا فيها ولا تزوها عنا ولا ترغبنا فيها. وكان بعض الأعراب إذا أوى إلى فراشه قال: اللهم إني أكفر بكل ما كفر به محمد وأؤمن بكل ما آمن به، ثم يضع رأسه.
وسمعت بدوية تقول في دعائها: يا صباح يا مناح يا مطعم يا عريض الجفنة يا أبا المكارم، فزجرها رجل، فقالت: دعني أصف ربي وأمجد إلهي بما تستحسنه العرب.
وقال الزمخشري في كتابه «ربيع الأبرار» : سمعت أنا من يدعو من العرب عند الركن اليماني: يا أبا المكارم يا أبيض الوجه، وهذا ونحوه منهم إنما يقصدون به الثناء على الله تعالى بالكرم والنزاهة عن القبيح على طريق الاستعارة، لأنه لا فرق عندهم بين الكريم وأبي المكارم ولا بين الجواد والعريض الجفنة ولا بين المنزه والأبيض الوجه.
وقيل لأعرابي: أتحسن أن تدعو ربك؟ قال: نعم.
قال: اللهم إنك أعطيتنا الإسلام من غير أن نسألك فلا تحرمنا الجنة ونحن نسألك.
وذكر لعبد السلام بن مطيع أن الرجل تصيبه البلوى، فيدعو فتبطىء عنه الإجابة، فقال: بلغني أن الله تعالى يقول: كيف أحرمه من شيء به أرحمه. وقال طاوس:
بينما أنا في الحجر ذات ليلة إذ دخل على علي بن الحسين، فقلت: رجل صالح من أهل بيت الخير لأسمعن دعاءه، فسمعته يقول: عبدك بفنائك مسكينك بفنائك فقيرك بفنائك، فما دعوت بهما في كرب إلا فرج عني.
ودعا أعرابي فقال: اللهم إنا نبات نعمتك. وقال ابن المسيب: سمعت من يدعو بين القبر والمنبر اللهم إني أسألك عملا بارا ورزقا دارا وعيشا قارا، فدعوت به، فما وجدت إلا خيرا. ودعت أعرابية بالموقف، فقالت:
أسألك سترك الذي لا تزيله الرياح ولا تخرقه الرماح.
وقيل: اتقوا مجانيق الضعفاء أي دعواتهم، ودعا أعرابي فقال: اللهم أمح ما في قلبي من كذب وخيانة واجعل مكانه صدقا وأمانة. وصلّى رجل إلى جنب عبد الله بن المبارك وبادر القيام، فجذب ثوبه وقال: أما لك إلى ربك حاجة؟. وقال سفيان الثوري: سمعت أعرابيا يقول: اللهم إن كان رزقي في السماء، فأنزله، وإن كان في الأرض فأخرجه، وإن كان بعيدا فقربه، وإن كان قريبا فيسره، وإن كان قليلا فكثره، وإن كان كثيرا فبارك لي فيه.
وقال أبو نواس:
أحببت من شعر بشار وكلمته ... بيتا لهجت به من شعر بشار «1»
يا رحمة الله حلّي في منازلنا ... وجاورينا فدتك النفس من جار
وكان بشار يعني بذلك جارية بصرية كان يحبها ويتغزل بها، ونعني بها هنا رحمة الله التي وسعت كل شيء.
وسمع علي بن أبي طالب رضي الله عنه رجلا يقول وهو متعلق بأستار الكعبة: يا من لا يشغله سمع عن سمع، ولا تغلطه المسائل ولا يبرمه إلحاح الملحين، أذقني برد عفوك وحلاوة مغفرتك، فقال علي: والذي(1/482)
نفسي بيده لو قلتها وعليك ملء السماوات والأرض من الذنوب لغفر لك.
ومن دعائه رضي الله عنه: اللهم صن وجهي باليسار ولا تبدل جاهي بالاقتار، فأسترزق طامعا رزقك من غيرك، وأستعطف شرار خلقك وأبتلي بحمد من أعطاني، وأفتتن بذم من منعني، وأنت من وراء ذلك كله، وليّ الاجابة والمنع.
وعن أبي عباس رضي الله عنهما، عن النبي صلى الله عليه وسلم قال:
«ما انتهيت إلى الركن اليماني قط إلا وجدت جبريل قد سبقني إليه يقول: قل يا محمد «اللهم إني أعوذ بك من الكفر والفقر والفاقة وهي من مواقف الخزي» .
وهبط جبريل على يعقوب فقال: يا يعقوب إن الله تعالى يقول لك: قل يا كثير الخير يا دائم المعروف ردّ علي ابني، فقالها فأوحى الله تعالى إليه: وعزتي لو كانا ميتين لنشرتهما لك.
وكان أبو مسلم الخراساني إذا نابه أمر قال: يا مالك يوم الدين إياك نعبد وإياك نستعين. وقال جعفر بن محمد:
ما المبتلي الذي اشتد بلاؤه بأحق بالدعاء من المعافى الذي لا يأمن وقوع البلاء. وكان الزهري يدعو بعد الحديث بدعاء جامع فيقول: اللهم إني أسألك من خير ما أحاط به علمك في الدنيا والآخرة، وأعوذ بك من شر ما أحاط به علمك في الدنيا والآخرة. وعن عقبة بن الغافر دعوة في السر أفضل من سبعين دعوة في العلانية. واعلم أن التوحيد والدعاء عند نوازل الملمات هو سفينة النجاة من الحوادث المهلكات.
وعن أبي الدرداء قال: صلى بنا رسول الله صلى الله عليه وسلم العصر فمر بنا كلب، فما بلغت يده رجله حتى وقع ميتا، فلما انصرف رسول الله صلى الله عليه وسلم من صلاته قال: من الداعي على الكلب آنفا؟ قال رجل من القوم: أنا يا رسول الله. قال:
لقد دعوت الله باسمه الذي إذا دعي به أجاب، وإذا سئل به أعطى. كيف دعوت الله؟ قال: قلت اللهم إني أسألك بأن لك الحمد لا إله إلا أنت المنان بديع السموات والأرض يا ذا الجلال والإكرام.
وقيل: أنه دخلت أذن رجل من أهل البصرة حصاة فعالجها الأطباء فلم يقدروا عليها حتى وصلت إلى صماخه فأتى إلى رجل من أصحاب الحسن، فشكا له ما أصابه من الحصاة فدعا له بدعاء العلاء بن الحضرمي وهو: «يا علي يا عظيم يا حليم يا عليم» . قال الرواي فما برحنا حتى خرجت الحصاة من أذنه، ولها طنين حتى ضربت الحائط.
وعن أنس إذا قال العبد: يا رب يا رب يقول الله عز وجل لبيك عبدي، وعنه قال: مر رسول الله صلى الله عليه وسلم برجل وهو يقول: يا أرحم الراحمين، فقال له الرسول صلى الله عليه وسلم سل حاجتك. فقد نظر الله إليك.
وروي عن رسول الله صلى الله عليه وسلم أنه قال: «إذا فتح الله على عبد الدعاء فليكثر، فإن الله يستجيب له» . وروي عن علي بن أبي زفر عن أخ له وكان فاضلا صالحا فقال: دعوت الله أن يريني الاسم الأعظم الذي إذا دعي به أجاب، فقمت ليلة أصلي فسمعت قعقعة في سقف البيت، ثم هبط نور حتى صار تلقاء وجهي وإذا مكتوب بالنور فقرأته: يا الله يا رحمن يا ذا الجلال والإكرام. ومن دعاء الكرب ما روي عن وهب أن ابن عباس رضي الله عنهما قال له:
هل تجد فيما تقرأ من الكتب دعاء تدعو به عند الكرب؟
قال: نعم. اللهم إني أسألك يا من يملك حوائج السائلين ويعلم ضمير الصامتين، فإن لكل مسألة منك سمعا حاضرا وجوابا عتيدا، ولكل صامت منك علما ناطقا محيطا، أسألك بمواعيدك الصادقة وأياديك الفاضلة ورحمتك الواسعة أن تفعل بي كذا وكذا، فقال ابن عباس هذا دعاء علمته في النوم ما كنت أرى أن أحدا يحسنه. وعن وهب أيضا قال: لما أهبط الله تعالى آدم من الجنة إلى الأرض استوحش لفقد أصوات الملائكة، فهبط إليه جبريل وقال:
يا آدم، هل أعلمك شيئا تنتفع به في الدنيا والآخرة؟ قال:
بلى. قال: قل: اللهم أتمم النعمة حتى تهنيني المعيشة، اللهم اختم لي بخير حتى لا تضرني ذنوبي، اللهم أكفني مؤنة الدنيا وكل هول في القيامة حتى تدخلني الجنة معافى.
وعن معروف الكرخي قال: اجتمعت اليهود أخزاهم الله على قتل عيسى عليه الصلاة والسلام بزعمهم، وأهبط الله تعالى عليه جبريل وفي باطن جناحيه مكتوب: اللهم إني أدعوك باسمك الأجل الأعز، وأدعوك اللهم باسمك الأحد الصمد، وأدعوك باسمك العظيم الوتر وأدعوك اللهم باسمك الكبير المتعالي الذي ملأ الأركان كلها، أن تكشف عني ضر ما أصبحت وأمسيت فيه، فأوحى الله عز وجل إلى جبريل أن أرفع عبدي إلي، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم لأصحابه عليكم بهذا الدعاء، ولا تستبطئوا الإجابة، فإن ما عند الله خير وأبقى للذين آمنوا وعلى ربهم يتوكلون.
إسناد هذا متصل إلى معروف الكرخي، ثم هو منقطع، ولو لم يكن فيه من البركة إلا رواية معروف لكان كافيا في قبوله والعمل به.(1/483)
حدث عبد الله بن أبان الثقفي رضي الله عنه قال:
وجهني الحجاج بن يوسف في طلب أنس بن مالك، فظننت أنه يتوارى عني، فأتيته بخيلي ورجلي، فإذا هو جالس على باب داره مادا رجليه، فقلت له: أجب الأمير، فقال: أي الأمراء؟ فقلت أبو محمد الحجاج، فقال غير مكترث به: قد أذله الله ما أراني أعزه لأن العزيز من عز بطاعة الله، والذليل من ذل بمعصية الله، وصاحبك قد بغى وطغى واعتدى وخالف كتاب الله والسنة، والله لينتقم الله منه، فقلت له: أقصر عن الكلام وأجب الأمير، فقام معنا حتى حضر بين يدي الحجاج، فقال له: أنت أنس بن مالك؟ قال: نعم. قال: أنت الذي تدعو علينا وتسبنا؟
قال: نعم، قال: ومم ذاك؟ قال: لأنك عاص لربك مخالف لسنة نبيك تعز أعداء الله وتذل أوليائه. فقال له:
أتدري ما أريد أن أفعل بك؟ قال: لا، قال: أريد أن أقتلك شر قتلة، قال: أنس لو علمت أن ذلك بيدك لعبدتك من دون الله، قال الحجاج: ولم ذاك؟ قال: لأن رسول الله صلى الله عليه وسلم علمني دعاء، وقال من دعا به في كل صباح لم يكن لأحد عليه سبيل، وقد دعوت به في صباحي هذا.
فقال الحجاج: علمنيه؟ فقال: معاذ الله أن أعلمه لأحد ما دمت أنت في الحياة. فقال الحجاج: خلوا سبيله. فقال الحاجب: أيها الأمير لنا في طلبه كذا وكذا يوما حتى أخذناه، فكيف تخلي سبيله؟ قال: رأيت على عاتقه أسدين عظيمين فاتحين أفواههما. ثم أن أنسا رضي الله عنه لما حضرته الوفاة علم الدعاء لأخوانه وهو: بسم الله الرحمن الرحيم باسم الله خير الأسماء باسم الله الذي لا يضر مع اسمه أذى، باسم الله الكافي، باسم الله المعافي باسم الله الذي لا يضر مع اسمه شيء في الأرض ولا في السماء وهو السميع العليم، باسم الله على نفسي وديني باسم الله على أهلي ومالي باسم الله على كل شيء أعطانيه ربي، الله أكبر الله أكبر الله أكبر، أعوذ بالله مما أخاف وأحذر الله ربي لا أشرك به شيئا، عز جارك وجل ثناؤك وتقدست أسماؤك ولا إله غيرك اللهم إني أعوذ بك من شر كل جبار عنيد وشيطان مريد، ومن شر قضاء السوء ومن شر كل دابة أنت آخذ بناصيتها، إن ربي على صراط مستقيم.
وهذا دعاء مشهور الإجابة وله شرح طويل وتركناه لطوله وهو: اللهم كما لطفت في عظمتك دون اللطفاء وعلوت بعظمتك على العظماء، وعلمت ما تحت أرضك كعلمك بما فوق عرشك، وكانت وساوس الصدور كالعلانية عندك وعلانية القول كالسر في علمك، وانقاد كل شيء لعظمتك وخضع كل ذي سلطان لسلطانك وصار أمر الدنيا والآخرة كله بيدك لا بيد غيرك، اجعل لي من كل هم وغم أصبحت أو أمسيت فيه فرجا ومخرجا، إنك على كل شيء قدير. اللهم إن عفوك عن ذنوبي وتجاوزك عن خطيئتي وسترك عن قبيح عملي أطمعني أن أسألك ما لا أستوجبه منك مما قضيته لي أدعوك آمنا وأسألك مستأنسا لا خائفا ولا وجلا لأنك أنت المحسن إلي وأنا المسيء إلى نفسي، فيما بيني وبينك، تتودد إلي بالنعم مع غناك عني، وأتبغض إليك بالمعاصي مع فقري إليك، فلم أر مولى كريما أعطف منك على عبد لئيم مثلي، لكن الثقة بك حملتني على الجرأة على الذنوب فاسألك بجودك وكرمك وإحسانك مع طولك، وتحبس عني باب الهم بقدرتك ولا تكلني إلى نفسي طرفة عين فأعجز، ولا إلى الناس فأضيع، برحمتك يا أرحم الراحمين.
وروى الحافظ النسفي باسناده عن الزهري، عن أبي مسلمة، عن أبي هريرة قال: مر رسول الله صلى الله عليه وسلم برجل ساجد وهو يقول في سجوده: اللهم إني استغفرك وأتوب إليك من مظالم كثيرة لعبادك قبلي، فأيما عبد من عبادك أو أمة من إمائك كانت له قبلي مظلمة ظلمتها إياه في مال أو بدن أو عرض علمتها أو لم أستطع أن أتحللها، فأسألك أن ترضيه عني بما شئت وكيف شئت، ثم تهبها لي من لدنك إنك واسع المغفرة ولديك الخير كله، يا رب ما تصنع بعذابي ورحمتك وسعت كل شيء، فلتسعني رحمتك، فإني لا شيء، وأسألك يا رب أن تكرمني برحمتك ولا تهني بذنوبي وما عليك أن تعطيني الذي سألتك يا رب يا ألله، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: أرفع رأسك فقد غفر الله لك إن هذا دعاء أخي شعيب عليه السلام. وقال صالح المزني: قال لي قائل في منامي: إذا أحببت أن يستجاب لك، فقل اللهم إني أسألك باسمك المخزون المكنون المبارك الطيب الطاهر المطهر المقدس، فما دعوت بها في شيء إلا تعرفت الاجابة.
وقيل إن هذا الدعاء فيه اسم الله الاعظم وهو: بسم الله الرحمان الرحيم اللهم إني أسألك بالعزة التي لا ترام والملك الذي لا يضام والعين التي لا تنام والنور الذي لا يطفأ، وبالوجه الذي لا يبلى وبالديمومة التي لا تفنى وبالحياة التي لا تموت وبالصمدية التي لا تقهر وبالربوبية التي لا تستذل، أن تجعل لنا في أمورنا فرجا ومخرجا(1/484)
حتى لا نرجو غيرك يا أرحم الراحمين. وقال سعيد بن المسيب: دخلت المسجد في ليلة مقمرة وأظن أني قد أصبحت وإذا الليل على حاله، فقمت أصلي، وجلست أدعو وإذا بهاتف يهتف من خلفي يا عبد الله قل: قلت ما أقول؟ قال: قل اللهم إني أسألك بأنك ملك وأنت على كل شيء قدير، وما تشاء من أمر يكون. قال سعيد: فما دعوت به قط في شيء إلا رأيت نجحه.
وعن الشيخ كمال الدين الدميري قال: روينا عن قاضي القضاة عز الدين ابن جماعة قال: أنبأنا الشيخ شرف الدين أبو العباس أحمد بن ابراهيم بن مناع الفزاري خطيب دمشق، أنبأنا الشيخ زين الدين أبو البقاء خالد بن يوسف النابلسي بقراءتي عليه، قال، أنبأنا الحافظ بهاء الدين ناصر السنة محمد بن الامام أبي محمد بن الحافظ أبي القاسم علي بن الحسين بن هبة الله ابن عساكر قراءة عليه، وأنا أسمع. قال: رويت بالاسناد وذكر إسناده إلى الإمام الحجة التابعي الجليل محمد بن سيرين، قال: نزلنا بنهر تيرا، فأتانا أهل ذلك المنزل فقالوا لنا: ارحلوا فإنه لم ينزل هذا المنزل أحد إلا أخذ متاعه فرحل أصحابي وتخلفت، فلما أمسينا قرأت آيات، فما نمت حتى رأيت أقواما قد أقبلوا وجاءوا إلى جهتي أكثر من ثلاثين نفرا وقد جردوا سيوفهم فلم يصلوا إلي، فلما أصبحت رحلت فلقيني شيخ على فرس ومعه قوس عربية، فقال لي: يا هذا أنسي أنت أم جني؟ فقلت بل أنا من بني آدم، قال، فما بالك لقد أتيناك في هذه الليلة أكثر من سبعين مرة وفي كل ذلك يحال بيننا وبينك بسور من حديد، قلت: حدثني ابن عمر رضي الله عنهما عن رسول الله صلى الله عليه وسلم أنه قال: من قرأ في ليلة ثلاثا وثلاثين آية لم يضره في تلك الليلة لص طار ولا سبع ضار، وعوفي في نفسه وأهله وماله حتى يصبح، فنزل عن فرسه وكسر قوسه وأعطى الله تعالى عهدا أن لا يعود لهذا الأمر، وهذه الآيات وهي أن تقرأ بعد الفاتحة الم 1 ذلِكَ الْكِتابُ
«1» إلى قوله الْمُفْلِحُونَ
«2» ، وآية الكرسي إلى قوله هُمْ فِيها خالِدُونَ
«3» . آمَنَ الرَّسُولُ
«4» إلى آخر السورة، إِنَّ رَبَّكُمُ اللَّهُ الَّذِي
إلى قوله الْمُحْسِنِينَ
«5» . وقُلِ ادْعُوا اللَّهَ أَوِ ادْعُوا
الرَّحْمنَ
«6» إلى آخر السورة، وَالصَّافَّاتِ صَفًّا 1
إلى قوله تعالى لازِبٍ
«7» ، ويا مَعْشَرَ الْجِنِّ وَالْإِنْسِ إِنِ اسْتَطَعْتُمْ
إلى قوله فَلا تَنْتَصِرانِ
«8» . لَوْ أَنْزَلْنا هذَا الْقُرْآنَ عَلى جَبَلٍ لَرَأَيْتَهُ خاشِعاً
«9» إلى آخرها، وَأَنَّهُ تَعالى جَدُّ رَبِّنا
إلى قوله شَطَطاً
«10» زاد البوني إلى قوله شِهاباً رَصَداً
«11» . وَاللَّهُ مِنْ وَرائِهِمْ مُحِيطٌ 20
إلى قوله مَحْفُوظٍ
«12» ، قال محمد بن سيرين، فذكرت هذا الحديث لشعيب بن حرب، فقال: كنا نسميها آيات الحرز ويقال إن فيها شفاء من مائة داء، وعدوا منها الجذام وغير ذلك. قال محمد بن علي: قرأتها على شيخ لنا قد أفلج فأذهب الله تعالى ذلك الفالج، قال البوني: هذه الآيات شرفها مشهور وفضلها مذكور لا ينكرها إلا غبي أو غيور، وقد جربها المشايخ، وعرف سرها من له في العلم قدم راسخ وقدر شامخ، وهي على ما رويناه بل ما رأيناه أولها الفاتحة ثم أول البقرة إلى آخر الآيات.
وقال أبو العباس أحمد القسطلاني سمعت الشيخ أبا عبد الله القرشي يقول سمعت أبا زيد القرطبي يقول في بعض الآثار أن من قال: لا إله إلا الله سبعين ألف مرة كانت فداءه من النار، فعملت ذلك رجاء بركة الوعد، ففعلت منها لأهلي وعملت أعمالا ادخرتها لنفسي وكان إذ ذاك يبيت معنا شاب يكاشف بالجنة والنار، وكانت الجماعة ترى له فضلا على صغر سنه، وكان في قلبي منه شيء، فاتفق أن استدعانا بعض الإخوان إلى منزله، فنحن نتناول الطعام والشاب معنا إذ صاح صيحة منكرة، واجتمع في نفسه وهو يقول: يا عم هذه أمي في النار ويصيح بصياح عظيم لا يشك من سمعه أنه عن أمر، فلما رأيت ما به من الانزعاج قلت: اليوم أجرب صدقه، فألهمني الله تعالى السبعين ألفا، ولم يطلع على ذلك إلا الله تعالى، فقلت في نفسي الأثر حق والذين رووه لنا صادقون: اللهم أن هذه السبعين ألفا فداء أم هذا الشاب من النار، فما استتممت هذا الخاطر في نفسي أن قال: يا عم هذه أمي أخرجت من النار، والحمد لله فحصل عندي فائدتان(1/485)
امتحاني لصدق الأثر وسلامتي من الشاب وعلمي بصدقه.
ومن خاف إنسانا فليصل ركعتين بعد صلاة المغرب ثم يضع جبهته على التراب ويقول: يا شديد المحال يا عزيزا أذللت بعزتك جميع من خلقت. صل على محمد وآله واكفني فلانا بما شئت، كفاه الله تعالى شره.
وروى الثقفي رحمه الله تعالى بإسناده إلى محمد بن علي بن الحسين رضي الله تعالى عنه أنه كان يقول لولده:
يا بني من أصابته مصيبة في الدنيا أو نزلت به نازلة فليتوضأ وليحسن الوضوء وليصل أربع ركعات أو ركعتين، فإذا انصرف من صلاته يقول: يا موضع كل شكوى، ويا سامع كل نجوى ويا شاهد كل بلوى ويا منجي موسى والمصطفى محمد والخليل إبراهيم عليهم السلام، أدعوك دعاء من اشتدت فاقته، وضعفت حركته وقلت حيلته.
دعاء الغريب الغريق الفقير الذي لا يجد لكشف ما هو فيه إلا أنت يا أرحم الراحمين، لا إله إلا أنت سبحانك إني كنت من الظالمين.
قال علي بن الحسين رضي الله عنهما: لا يدعو به مبتلى إلا فرج الله عنه.
وقيل الإسم الأعظم هو بسم الله الرحمن الرحيم اللهم إني أسألك يا مؤنس كل وحيد، يا قريبا غير بعيد يا شاهدا غير غائب يا غالبا غير مغلوب يا حي يا قيوم يا بديع السموات والأرض يا ذا الجلال والأكرام، أسألك باسمك بسم الله الرحمن الرحيم الحي القيوم الذي لا تأخذه سنة ولا نوم، وأسألك باسمك بسم الله الرحمن الرحيم الذي عنت له الوجوه وخشعت له الأصوات ووجلت له القلوب أن تصلي على محمد وعلى آله وأن تعطيني كذا وكذا إنك على كل شيء قدير.
وهذه أبيات الفرج لأحمد بن حمزة البوني قيل إن فيها اسم الله الأعظم وهي هذه:
إنّي لأرجو عطفة الله ولا ... أقول إن قيل متى ذاك متى
لا بدّ أن ينشر ما كان طوى ... جودا وأن يمطر ما كان خوى «1»
وربما ينشر ما كان زوى ... وربّما قدّر ما كان لوى
وكل شيء ينتهي إلى مدى ... والشيء يرجى كشفه إذا انتهى
لطائف الله وإن طال المدى ... كلمحة الطرف إذا الطرف رمى
كم فرج بعد إياس قد أتى ... وكم سرور قد أتى بعد الأسى
من لاذ بالله نجا فيمن نجا ... من كلّ ما يخشى ونال ما رجا
سبحان من نهفو ويعفو دائما ... ولم يزل مهما هفا العبد عفا «2»
يعطي الذي يخطي ولا يمنعه ... جلاله من العطا لذي الخطا
ومن المنظوم أيضا:
يا من يرى ما في الضمير ويسمع ... أنت المعد لكلّ ما يتوقع
يا من يرجّى للشدائد كلّها ... يا من إليه المشتكى والمفزع «3»
يا من خزائن رزقه في قول كن ... أمنن فإن الخير عندك أجمع
مالي سوى فقري إليك وسيلة ... فبالافتقار إليك فقري أدفع
مالي سوى قرعي لبابك حيلة ... فلئن رددت فأي باب أقرع
ومن الذي أدعو وأهتف باسمه ... إن كان فضلك عن فقيرك يمنع
حاشا لجودك أن تقنّط عاصيا ... الفضل أجزل والمواهب أوسع «4»
ثم الصلاة على النبي وآله ... خير الأنام ومن به يتشفّع
وقال آخر:
يا خالق الخلق يا رب العباد ومن ... قد قال في محكم التنزيل أدعوني
إنّي دعوتك مضطرا فخذ بيدي ... يا جاعل الأمر بين الكاف والنون(1/486)
نجّيت أيوب من بلواه حين دعا ... بصبر أيوب يا ذا اللطف نجّيني
واطلق سراحي وامنن بالخلاص كما ... نجّيت من ظلمات البحر ذا النون «1»
ثم يقرأ: وَذَا النُّونِ إِذْ ذَهَبَ مُغاضِباً فَظَنَّ أَنْ لَنْ نَقْدِرَ عَلَيْهِ فَنادى فِي الظُّلُماتِ أَنْ لا إِلهَ إِلَّا أَنْتَ سُبْحانَكَ إِنِّي كُنْتُ مِنَ الظَّالِمِينَ 87
«2» .
قال بعضهم:
يا ربّ ما زال لطف منك يشملني ... وقد تجدّد بي ما أنت تعلمه
فاصرفه عنّي كما عوّدتني كرما ... فمن سواك لهذا العبد يرحمه
وقال آخر:
يا من تحلّ بذكره ... عقد النّوائب والشّدائد
يا من إليه المشتكى ... وإليه أمر الخلق عائد
يا حيّ يا قيوم يا ... صمد تنزه عن مضادد
أنت الرقيب على العب ... اد وأنت في الملكوت واحد
أنت المعز لمن أطا ... عك والمذلّ لكل جاحد
إنّي دعوتك والهمو ... م جيوشها نحوي تطارد
فافرج بحولك كربتي ... يا من له حسن العوائد «3»
فخفيّ لطفك يستعا ... ن به على الزمن المعاند
أنت الميسّر والمسبّ ... ب والمسهّل والمساعد
يسّر لنا فرجا قري ... با يا إلهي لا تباعد
كن راحمي فلقد يئس ... ت من الأقارب والأباعد
ثم الصلاة على النبي ... وآله الغرّ الأماجد
وعلى الصحابة كلّهم ... ما خرّ للرحمن ساجد
دعاء عظيم مأثور:
اللهم إني أشكو إليك ضعف قوتي وقلة حيلتي وهواني على الناس أنت رب المستضعفين، وأنت ربي إلى من تكلني إلى بغيض يتجهمني أو إلى قوي ملكته أمري إن لم يكن بك غضب علي فلا أبالي ولكن عافيتك أوسع لي أعوذ بنور وجهك الذي أشرقت له الظلمات وصلح عليه أمر الدنيا والآخرة من أن يحل بي غضبك أو ينزل بي سخطك فلك العتبى حتى ترضى ولا حول ولا قوة لنا إلا بك يا رب العالمين.
ومما جاء في أدعية الناس بعضهم لبعض:
دعا رجل لآخر فقال: سرك الله بما ساءك ولا ساءك فيما سرك. ودعا رجل لآخر فقال: لا أخلاك الله تعالى من ثناء صادق باق ودعاء صالح واق.
ودعا أعرابي لآخر فقال: رحب واديك وعز ناديك، ولا ألّم بك ألم ولا طاف بك عدم، وسلمك الله ولا أسلمك.
وسمعت بعض العرب يدعو لرجل ويقول: سلمك الله تعالى من الرهق والوهق، وعافاك الله تعالى من الوحل والزجل، وسلمك الله من الشاردات والواردات، وسلمك الله بين الأعنة والأسنة.
ودعا أعرابي لعبد الله بن جعفر رضي الله عنه فقال:
لا ابتلاك الله تعالى ببلاء يعجز عنه صبرك. وأنعم عليك نعمة يعجز عنها شكرك، وأبقاك ما تعاقب الليل والنهار، وتناسخت الظلم والأنوار.
ودعا بعضهم لآخر فقال: زودك الله تعالى الأمن في مسيرك والسعد في مصيرك، ولا أخلاك من شهر تستجده وخير من الله تستمده. وعزى شيب بن شبة يهوديا، فقال:
أعطاك الله على مصيبتك ما أعطى أحدا من أهل ملتك.
ومما جاء في الدعاء على الأعداء والظلمة ونحوهم:
دعا أعرابي على ظالم فقال: لا ترك الله لك شفرا ولا ظفرا، أي عينا ولا يدا. ومن دعاء العرب: «فتّه الله فتا وحتّه حتا وجعل أمره شتى» . وخرج أعرابي إلى سفر(1/487)
وكانت له امرأة تكرهه، فاتبعته نواة وقالت: شط نواك ونأى سفرك، ثم أتبعته روثة وقالت: رثتك أهلك وورث خيرك، ثم أتبعته حصاة، وقالت: حاص رزقك وحص أثرك. ودعا أعرابي على آخر فقال: أطفأ الله ناره وخلع نعليه، أي جعله أعمى مقعدا. ودعا أعرابي على آخر فقال: سقاه الله دم جوفه أي قتل ابنه، وأخذ ديته فشرب لبنها. ودعا أعرابي على آخر فقال: بعث الله عليه سنة فاشورة تحلقه كلما يحلق الشعر بالنورة، ودعا رجل على أمير فقال:
أزال الله دولته سريعا ... فقد ثقلت على عنق الليالي
وقالت امرأة من بني ضبة في زوجها:
وما دعوت عليه حين ألعنه ... إلا وآخر يتلوه بآمين
فليته كان أرض الروم منزله ... وليتني قبله قد صرت للصين
وقال رسول الله صلى الله عليه وسلم في خطبته يوم الأحزاب: «اللهم كلّ سلاحهم واضرب وجوههم ومزقهم في البلاد تمزيق الريح للجراد» . ودعا رجل، فقال: اللهم أكفنا أعداءنا ومن أرادنا بسوء، فلتحط به ذلك السوء إحاطة القلائد بترائب الولائد، ثم أرسخه على هامته كرسوخ السجّيل على هام أصحاب الفيل، وحسبنا الله ونعم الوكيل.
ولنختم هذا الباب بهذا الدعاء المبارك وهو: اللهم إنك عرفتنا بربوبيتك وغرقتنا في بحار نعمتك، ودعوتنا إلى دار قدسك ونعمتنا بذكرك وأنسك، إلهي إن ظلمة ظلمنا لنفوسنا قد عمت، وبحار الغفلة على قلوبنا قد طمت، والعجز شامل والحصر حاصر والتسليم أسلم، وأنت بالحال أعلم، إلهي ما عصيتك جهلا بعقابك ولا تعرضا لعذابك، ولكن سولتها نفوسنا وأعانتنا شقوتنا وغرنا سترك علينا وأطمعنا عفوك وبرك بنا، فالآن من عذابك من ينقذنا؟ وبحبل من نعتصم إن قطعت حبلك عنا؟ واخجلتاه غدا من الوقوف بين يديك، وافضيحتاه إن عرضت فعالنا القبيحة عليك، اللهم اغفر ما علمت ولا تهتك ما سترت.
إلهي إن كنا عصيناك بجهل فقد دعوناك بعقل حيث علمنا أن لنا ربا يغفر لنا ولا يبالي، إلهي لا تحرق بالنار وجها كان لك مصليا ولسانا كان لك ذاكرا وداعيا، بالذي دلنا عليك وأمرنا بالخشوع بين يديك وهو محمد صلى الله عليه وسلم خاتم أنبيائك وسيد أصفيائك، فإن حقه علينا أعظم الحقوق بعد حقك، كما أن منزلته لديك أشرف المنازل، فهو سيد خلقك، ومعدن أسرارك، صل يا رب على محمد وآله وأصحابه وارحم عبادا غرهم طول إمهالك، وأطمعهم كثرة أفضالك، فقد ذلوا لعزك وجلالك ومدوا أكفهم لطلب نوالك، ولولا ذلك لم يصلوا إلى ذلك، اللهم اغفر لنا ولوالدينا ولكل المسلمين أجمعين، وصلى الله على سيدنا محمد وعلى آله وصحبه وسلم.
الباب الثامن والسبعون في القضاء والقدر وأحكامه والتوكل على الله عز وجل
إعلم أن كل ما يجري في العالم من حركة وسكون وخير وشر ونفع وضر وإيمان وكفر وطاعة ومعصية، فكلّ بقضاء الله وقدره، وكذلك فلا طائر يطير بجناحيه ولا حيوان يدب على بطنه ورجليه، ولا تطن بعوضة ولا تسقط ورقة إلا بقضائه وقدره وإرادته ومشيئته، كما لا يجري شيء من ذلك إلا وقد سبق علمه به. واعلم أن كل ما قضاه الله تعالى وقدره، فهو كائن لا محالة كما أن ما في علم الله تعالى يكون فهو كائن قريب، وما قدر الله وصوله إليك بعد الطلب فهو لا يصل إليك إلا بالطلب، والطلب أيضا من القدر فإن تعسر شيء فبتقديره، وإن اتفق شيء فبتيسيره، فمن رام أمرا من الأمور ليس الطريق في تحصيله أنه يغلق بابه عليه ويفوض أمره لربه، وينتظر حصول ذلك الأمر، بل الطريق أن يشرع في طلبه على الوجه الذي شرعه له فيه.
وقد ظاهر النبي صلى الله عليه وسلم بين درعين «1» واتخذ خندقا حول المدينة حين تحزبت عليه الأحزاب يحترس به من العدو وأقام الرماة يوم أحد ليحفظوه من خالد بن الوليد، وكان يلبس لأمة الحرب ويهيىء الجيوش ويأمرهم وينهاهم لما فيه من مصالحهم، واسترقى وأمر بالرقية، وتداوى وأمر بالمداواة، وقال: الذي أنزل الداء أنزل الدواء، فإن قيل:
قد روي أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: من استرقى أو اكتوى فهو بريء من التوكل، قلنا: أليس قد قال: أعقلها وتوكل. فإن قيل:
فما الجمع بين ذلك؟ قلنا: معناه من استرقى أو اكتوى متكلا على الرقية أو الكي، وإن البرء من قبلهما خاصة،(1/488)
فهذا يخرجه عن التوكل، وإنما يفعله كافر يضيف الحوادث إلى غير الله، وقد أمرنا بالكسب والتسبب. ألا ترى أن الله قال لمريم عليها السلام: وَهُزِّي إِلَيْكِ بِجِذْعِ النَّخْلَةِ
«1» فهلا أمرها بالسكون وحمل الرطب إلى فمها وأنشدوا في ذلك:
ألم تر أن الله قال لمريم ... وهزّي إليك الجذع يسّاقط الرطب
ولو شاء أن تجنيه من غير هزّها ... جنته ولكن كلّ شيء له سبب
وقد تقدم هذا الشعر في باب الكسب والتسبب ولهذا قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «لو توكلتم على الله حق توكله لرزقكم كما يرزق الطير تغدو خماصا «2» وتروح بطانا «3» ، فلم يحمل أرزاقها إليها في أوكارها بل ألهمها طلبه بالغدو والرواح» .
وقد جمعوا بين الطلب والقدر فقالوا: إنهما كالعدلين على ظهر الدابة، إن أحمل في واحد منهما أرجح مما في الآخر سقط حمله وتعب ظهره وثقل عليه سفره. وإن عادل بينهما سلم ظهره ونجح سفره وتمت بغيته. وضربوا فيه مثالا عجيبا، فقالوا: إن أعمى ومقعدا كانا في قرية بفقر وضر لا قائد للأعمى ولا حامل للمقعد، وكان في القرية رجل يطعمهما قوتهما في كل يوم احتسابا لله تعالى، فلم يزالا بنعمة إلى أن هلك ذلك الرجل فلبثا أياما واشتد جوعهما وبلغ الضر منهما جهده، فأجمع رأيهما على أن الأعمى يحمل المقعد فيدله المقعد على الطريق ببصره، فاشتغل الأعمى بحمل المقعد ويدور به ويرشده إلى الطريق وأهل القرية يتصدقون عليهما، فنجح أمرهما ولولا ذلك لهلكا. فكذلك القدر سببه الطلب. والطلب سببه القدر وكل واحد منهما معين لصاحبه، ألا ترى أن من طلب الرزق والولد ثم قعد في بيته لم يطأ زوجته ولم يبذر أرضه معتمدا في ذلك على الله واثقا به أن تلد امرأته من غير مواقعة، وأن ينبت الزرع من غير بذر، كان عن المعقول خارجا ولأمر الله كارها.
قال الغزالي: أما المعيل فلا يخرج عن حد التوكل بادخار قوت سنة لعياله جبرا لضعفهم وتسكينا لقلوبهم وقد ادخر رسول الله صلى الله عليه وسلم قوت سنة، ونهى أم أيمن وغيرها أن تدخر شيئا، وقال: أنفق يا بلال ولا تخش من ذي العرش إقلالا.
وقال عبد الله بن الفرج: أطلعت على إبراهيم بن أدهم، وهو في بستان بالشام فوجدته مستلقيا على قفاه، وإذا بحية في فمها باقة نرجس، فما زالت تذب عنه حتى انتبه. فحسبك توكل يؤدي إلى هذا.
وعن عبد الله الهروي قال: كنا مع الفضيل بن عياض على جبل أبي قيس فقال: لو أنّ رجلا صدق في توكله على الله ثم قال لهذا الجبل اهتز لاهتز، فو الله لقد رأيت الجبل اهتز وتحرك. فقال له الفضيل رحمه الله تعالى: لم أعنك رحمك الله فسكن.
وفي الإسرائيليات أن رجلا احتاج إلى أن يقترض ألف دينار، فجاء إلى رجل من المتمولين فسأله في ذلك وقال له: تمهل علي بدينك إلى أن أسافر إلى البلد الفلاني فإن لي مالا آتيك به، وأوفيك منه، وتكون مدة الأجل بيني وبينك كذا وكذا، فقال له: هذا غرر، فأنا ما أعطيك مالي إلا أن تجعل لي كفيلا إن لم تحضر طلبته منه. فقال الرجل: الله كفيل بمالك وشاهد على أن لا أغفل عن وفائك، فإن رضيت فافعل، فداخل الرجل خشية الله تعالى، وحمله التوكل على أن دفع المال للرجل فأخذه ومضى إلى البلد الذي ذكر، فلما قرب الأجل الذي بينه وبين صاحبه جهز المال وقصد السفر في البحر فعسر عليه وجود مركب، ومضت المدة وبعدها أيام وهو لا يجد مركبا، فاغتم لذلك، وأخذ الألف دينار وجعلها في خشبة وسمّر عليها ثم قال: اللهم إني جعلتك كفيلا بإيصال هذه إلى صاحبها، وقد تعذر علي وجود مركب وعزمت على طرحها في البحر وتوكلت عليك في إيصالها إليه، ثم نقش على الخشبة رسالة إلى صاحبها بصورة الحال، وطرحها في البحر بيده وأقام في البلدة مدة بعد ذلك، إلى أن جاءت مركب فسافر فيها إلى صاحب المال، فابتدأه وقال: أنت سيرت الألف دينار في خشبة صفتها كيت وكيت وعليها منقوش كذا وكذا؟ قال: نعم، قال: قد أوصلها الله تعالى إلي، والله نعم الكفيل. فقال: فكيف وصلت إليك؟ قال:
لما مضى الأجل المقدر بيني وبينك بقيت أتردد إلى البحر لأجدك أو أجد من يخبرني عنك، فوقفت ذات يوم إلى الشط وإذا بالخشبة قد استندت إلي ولم أر لها طالبا، فأخذها الغلام ليجعلها حطبا. فلما كسرها وجد ما فيها، فأخبرني بذلك، فقرأت ما عليها، فعلمت أن الله تعالى حقق أملك لما توكلت عليه حق التوكل.(1/489)
وقيل: إن سبب بداية ذي النون المصري رحمه الله تعالى أنه رأى طيرا أعمى بعيدا عن الماء والمرعى، فبينما هو يتفكر في أمر ذلك الطائر، فإذا هو بسكرجتين برزتا من الأرض إحداهما ذهب والأخرى فضة، هذه فيها ماء والأخرى فيها قمح، فلقط القمح وشرب الماء. ثم غابا بعد ذلك فذهل ذو النون، وانقطع إلى الله تعالى من ذلك الوقت.
وحكي أن رجلا من أبناء الناس كانت له يد في صناعة الصياغة، وكان أوحد أهل زمانه، فساء حاله وافتقر بعد غناه، فكره الإقامة في بلده، فانتقل إلى بلد آخر، فسأل عن سوق الصاغة، فوجد دكانا لمعلم السلطنة وتحت يده صناع كثيرة يعملون الأشغال للسلطنة، وله سعادة ظاهرة ما بين مماليك وخدم وقماش وغير ذلك، فتوصل الصائغ الغريب إلى أن بقي من أحد الصناع الذين في دكان هذا المعلم وأقام يعمل عنده مدة، وكلما فرغ النهار دفع له درهمين من فضة، وتكون أجرة عمله تساوي عشرة دراهم، فيكسب عليه ثمانية دراهم في كل يوم، فاتفق أن الملك طلب المعلم وناوله فردة سوار من ذهب مرصعة بفصوص في غاية من الحسن قد عملت في غير بلاده كانت في يد إحدى محاظيه، فانكسرت، فقال له:
إلحمها، فأخذها المعلم وقد اضطرب عليه في عملها، فلما أخذها وأراها للصناع الذين عنده وعند غيره فما قال له أحد أنه يقدر على عملها، فازداد المعلم لذلك غما، ومضت مدة وهي عنده لا يعلم ما يصنع، فاشتد الملك على إحضاره، وقال: هذا المعلم نال من جهتنا هذه النعمة العظيمة ولا يحسن أن يلحم سوارا، فلما رأى الصانع الغريب شدة ما نال المعلم قال في نفسه هذا وقت المروءة أعملها ولا أؤاخذه ببخله علي وعدم إنصافه ولعله يحسن إلي بعد ذلك، فحط يده في درج المعلم وأخذها وفك جواهرها وسبكها ثم صاغها كما كانت، ونظم عليها جواهرها، فعادت أحسن مما كانت، فلما رآها المعلم فرح فرحا شديدا، ثم مضى بها إلى الملك، فلما رآها استحسنها وادعى المعلم أنها صنعته، فأحسن إليه وخلع عليه خلعة سنية، فجاء وجلس مكانه، فبقي الصائغ يرجو مكافأته عما عامله به، فما التفت إليه المعلم، ولما كان آخر النهار ما زاده على الدرهمين شيئا، فما مضت إلا أيام قلائل وإذا الملك اختار أن يعمل زوجين أساور على تلك الصورة، فطلب المعلم ورسم له بكل ما يحتاج إليه وأكد عليه في تحسين الصفة وسرعة العمل، فجاء إلى الصانع وأخبره بما قال الملك، فامتثل مرسومه ولم يزل منتصبا إلى أن عمل الزوجين، وهو لا يزيده شيئا على الدرهمين في كل يوم ولا يشكره ولا يعده بخير ولا يتجمل معه، فرأى المصلحة أن ينقش على زوج الأساور أبياتا يشرح فيها حاله ليقف عليها الملك، فنقش في باطن أحدهما هذه الأبيات نقشا خفيفا يقول:
مصائب الدهر كفّي ... إن لم تكفّي فعفّي
خرجت أطلب رزقي ... وجدت رزقي توفّي
فلا برزقي أحظى ... ولا بصنعة كفّي
كم جاهل في الثريا ... وعالم متخفّي
قال: وعزم الصانع على أنه إن ظهرت الأبيات للمعلم شرح له ما عنده وإن غم عليه ولم يرها كان ذلك سبب توصله إلى الملك، ثم لفهما في قطن وناولهما للمعلم فرأى ظاهرهما ولم ير باطنهما لجهله بالصنعة، ولما سبق له في القضاء، فأخذها المعلم ومضى بهما فرحا إلى الملك، وقدمهما إليه، فلم يشك الملك في أنهما صنعته، فخلع عليه وشكره، ثم جاء فجلس مكانه ولم يلتفت إلى الصانع، وما زاده في آخر النهار شيئا على الدرهمين، فلما كان اليوم الثاني خلا خاطر الملك فاستحضر الحظية التي عمل لها السوارين الذهب فحضرت وهما في يديها، فأخذهما ليعيد نظره فيهما وفي حسن صنعتهما، فقرأ الأبيات، فتعجب وقال: هذا شرح حال صانعهما والمعلم يكذب، فغضب عند ذلك، وأمر باحضار المعلم، فلما حضر قال له: من عمل هذين السوارين؟ قال: أنا أيها الملك، قال: فما سبب نقش هذه الأبيات؟ قال: لم يكن عليهما أبيات. قال: كذبت. ثم أراه النقش. وقال: إن لم تصدقني الحق لأضربن عنقك، فأصدقه الحق، فأمر الملك بإحضار الصانع، فلما حضر سأله عن حاله، فحكى له قصته، وما جرى له مع المعلم. فرسم الملك بعزل المعلم وأن تسلب نعمته وتعطى للصانع، وأن يكون عوضا عنه في الخدمة ثم خلع عليه خلعة سنية، وصار مقدما سعيدا، فلما نال هذه الدرجة. وتمكن عند الملك تلطف به حتى رضي عن المعلم الأول وصارا شريكين ومكثا على ذلك إلى آخر العمر. ورحم الله من قال:(1/490)
إذا كان سعد المرء في الدهر مقبلا ... تدانت له الأشياء من كلّ جانب
وقال آخر:
ما سلّم الله هو السالم ... ليس كما يزعم الزّاعم
تجري المقادير التي قدرت ... وأنف من لا يرتضي راغم
وقال كعب بن زهير «1» :
لو كنت أعجب من شيء لأعجبني ... سعي الفتى وهو مخبوء له القدر
يسعى الفتى لأمور ليس يدركها ... والنفس واحدة والهم منتشر
والمرء ما عاش ممدود له أمل ... لا ينتهي ذاك حتى ينتهي العمر
وروي في الإسرائيليات أن نبيا من الأنبياء عليهم الصلاة السلام مرّ بفخ منصوب وإذا بطائر قريب منه، فقال له الطائر: يا نبي الله: هل رأيت أقل عقلا ممن نصب هذا الفخ ليصيدني به وأنا أنظر إليه؟ قال: فذهب عنه ذلك النبي صلى الله عليه وسلم ثم رجع وإذا بالطائر في الفخ، فقال له: عجبا لك ألست القائل كذا وكذا آنفا؟ فقال: يا نبي الله إذا جاء الحين لم يبق أذن ولا عين. ويروى أن رجلا قال لبزرجمهر: تعال نتناظر في القدر، قال: وما تصنع بالمناظرة؟ قال: رأيت شيئا ظاهرا استدللت به على الباطن، رأيت جاهلا مبرورا وعالما محروما، فعلمت أن التدبير ليس للعباد.
ولما قدم موسى بن نصير بعد فتح الأندلس على سليمان بن عبد الملك قال له يزيد بن المهلب: أنت أدهى الناس وأعلمهم، فكيف طرحت نفسك في يد سليمان؟
فقال: إن الهدهد ينظر إلى الماء في الأرض على ألف قامة، ويبصر القريب منه والبعيد على بعد في التخوم، ثم ينصب له الصبي الفخ بالدودة أو الحبة فلا يبصره حتى يقع فيه وأنشدوا في ذلك:
وإذا خشيت من الأمور مقدّرا ... وفررت منه فنحوه تتوجّه
وقال آخر:
أقام على المسير وقد أنيخت ... مطاياه وغرّد حادياها
وقال أخاف عادية الليالي ... على نفسي وأن ألقى رداها
مشيناها خطا كتبت علينا ... ومن كتبت عليه خطا مشاها
ومن كانت منيّته بأرض ... فليس يموت في أرض سواها
ولما قتل كسرى بزرجمهر وجد في منطقته «2» كتاب فيه: إذا كان القضاء حقا فالحرص باطل. وإذا كان الغدر في الناس طبعا فالثقة بكل أحد عجز، وإذا كان الموت بكل أحد نازلا فالطمأنينة إلى الدنيا حمق.
وقال ابن عباس وجعفر بن محمد رضي الله تعالى عنهما في قوله تعالى: وَكانَ تَحْتَهُ كَنْزٌ لَهُما
«3» . إنما كان الكنز لوحا من ذهب مكتوب فيه: بسم الله الرحمن الرحيم عجبت لمن يوقن بالقدر كيف يحزن. وعجبت لمن يوقن بالرزق كيف ينصب، وعجبت لمن يوقن بالموت كيف يفرح، وعجيبت لمن يوقن بالحساب كيف يغفل، وعجبت لمن يرى الدنيا وتقلبها بأهلها كيف يطمئن إليها. لا إله إلا الله محمد رسول الله.
وحكى الطرطوشي رحمه الله تعالى في كتابه «سراج الملوك» قال: من عجيب ما اتفق بالاسكندرية أن رجلا من خدم نائب الإسكندرية غاب عن خدمته أياما، ففي بعض الأيام قبض عليه صاحب الشرطة وحمله إلى دار النائب فانفلت في بعض الطرق وترامى في بئر والمدينة إذ ذاك مسردبة بسرداب يمشي الماشي فيه قائما، فما زال الرجل يمشي إلى أن لاحت له بئر مضيئة، فطلع منها فإذا البئر في دار النائب، فلما طلع أمسكه النائب وأدبه، فكان فيه المثل السائر: الفار من القضاء الغالب كالمتقلب في يد الطالب. وأنشدو فيه:
قالوا تقيم وقد أحاط ... بك العدوّ ولا تفرّ
لا نلت خيرا إن بقي ... ت ولا عداني الدهر شر(1/491)
إن كنت أعلم أن ... غير الله ينفع أو يضر
الباب التاسع والسبعون في التوبة والاستغفار
قد تظاهرت دلائل الكتاب والسنة وإجماع الأمة على وجوب التوبة، وأمر الله تعالى بالتوبة فقال وَتُوبُوا إِلَى اللَّهِ جَمِيعاً أَيُّهَا الْمُؤْمِنُونَ لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ
«1» ووعد بالقبول فقال تعالى: هُوَ يَقْبَلُ التَّوْبَةَ عَنْ عِبادِهِ
«2» . وفتح باب الرجاء فقال: قُلْ يا عِبادِيَ الَّذِينَ أَسْرَفُوا عَلى أَنْفُسِهِمْ لا تَقْنَطُوا مِنْ رَحْمَةِ اللَّهِ إِنَّ اللَّهَ يَغْفِرُ الذُّنُوبَ جَمِيعاً إِنَّهُ هُوَ الْغَفُورُ الرَّحِيمُ 53
«3» .
وروي في الصحيح عن ابن عمر رضي الله تعالى عنهما أنه سمع رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: أيها الناس توبوا إلى الله تعالى فإني أتوب إلى الله تعالى في اليوم مائة مرة.
وروى أحمد بن عبد الرحمن السلماني قال: اجتمع أربعة من أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال أحدهم: سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: إن الله تعالى يقبل التوبة من عبده قبل أن يموت بيوم، فقال الثاني: أنت سمعت هذا من رسول الله صلى الله عليه وسلم؟ قال: نعم. قال: وأنا سمعته يقول: إن الله تعالى يقبل توبته قبل أن يموت بنصف يوم، فقال الثالث: أنت سمعت هذا من رسول الله صلى الله عليه وسلم؟ قال: نعم.
قال: وأنا سمعته يقول إن الله تعالى يقبل توبة العبد قبل موته بضحوة، أو قال بضجعة، فقال الرابع: أنت سمعت هذا من رسول الله صلى الله عليه وسلم؟ قال: نعم. قال: وأنا سمعته يقول: إن الله يقبل توبة العبد ما لم يغرغر.
وفي الصحيحين من حديث ابن مسعود رضي الله عنه عن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: «الله أفرح بتوبة عبده من رجل نزل بأرض دوية مهلكة معه راحلته، فنام واستيقظ وقد ذهبت راحلته، فطلبها حتى إذا أدركه الموت قال: أرجع إلى المكان الذي أضللتها فيه وأموت، فأتى مكانه فغلبته عينه فاستيقظ وإذا راحلته عند رأسه فيها طعامه وشرابه وزاده وما يصلحه، فالله أشد فرحا بتوبة عبده المؤمن من هذا براحلته وزاده» .
وعن أبي هريرة رضي الله تعالى عنه قال: سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: «والله إني لأستغفر الله وأتوب إليه في اليوم أكثر من سبعين مرة» . (رواه البخاري) .
وعن أبي موسى عبد الله بن قيس الأشعري رضي الله عنه عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: «إن الله تعالى يبسط يده بالليل ليتوب مسيء النهار، ويبسط يده بالنهار ليتوب مسيء الليل، حتى تطلع الشمس من مغربها» . (رواه مسلم) .
وعن أبي سعيد الخدري رضي الله عنه أن نبي الله صلى الله عليه وسلم قال: «كان فيمن قبلكم رجل قتل تسعة وتسعين نفسا، فسأل عن أعبد أهل الأرض فدل على راهب فأتاه فقال: إنه قتل تسعة وتسعين نفسا فهل له من توبة؟ قال: لا، فقتله وكمل به المائة. ثم سأل عن أعلم أهل الأرض فدل على رجل عالم فأتاه وقال له أنه قد قتل مائة نفس فهل له من توبة؟ قال: نعم. ومن يحل بينك وبين التوبة، انطلق إلى أرض كذا وكذا فإن بها أناسا يعبدون الله تعالى فاعبد الله تعالى معهم ولا ترجع إلى أرضك فإنها أرض سوء.
فانطلق حتى كان نصف الطريق أدركه الموت فاختصمت فيه ملائكة الرحمة وملائكة العذاب، فقالت ملائكة الرحمة: جاء تائبا مقبلا بقلبه إلى الله تعالى، وقالت ملائكة العذاب: إنه لم يعمل خيرا قط. فأتاهم ملك في صورة آدمي فحكموه بينهم فقال: قيسوا ما بين الأرضين فإلى أيتهما كان أدنى؟ فهو أقرب لها، فقاسوه فوجدوه أدنى إلى الأرض التي أراد، فقبضته ملائكة الرحمة» . (متفق عليه وفي الصحيحين) : فكان أدنى إلى أرض التوبة الصالحة فجعل من أهلها.
وعن أبي نجيد بضم النون وفتح الجيم عمران بن الحصين الخزاعي رضي الله عنه، أن امرأة من جهينة أتت رسول الله صلى الله عليه وسلم وهي حبلى من الزنا فقالت: يا رسول الله أصبت حدا فأقمه علي، فدعاني رسول الله صلى الله عليه وسلم فشدت عليها ثيابها ثم أمر بها فرجمت ثم صلى عليها فقال عمر:
يا رسول الله تصلي عليها وقد زنت؟ قال: «لقد تابت توبة لو قسمت بين سبعين من أهل المدينة لوسعتهم، وهل وجدت أفضل ممن جادت بنفسها لله عز وجل» . (رواه مسلم) .
وعن أبي نصرة قال: لقيت مولى لأبي بكر رضي الله عنه فقلت له: سمعت من أبي بكر شيئا، قال: نعم، سمعته(1/492)
يقول: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «ما أصر من استغفر ولو عاد إلى الذنب في اليوم سبعين مرة» .
وحكي.. أن نبهان التمار وكنيته أبو مقبل أتته امرأة حسناء تشتري تمرا، فقال لها: هذا التمر ليس بجيد وفي البيت أجود منه، فذهب بها إلى بيته وضمها إلى نفسه وقبلها، فقالت له: اتق الله، فتركها وندم على ذلك، فأتى النبي صلى الله عليه وسلم فذكر له ذلك، فأنزل الله تعالى: وَالَّذِينَ إِذا فَعَلُوا فاحِشَةً
«1» إلى آخر الآية. وعن أسماء بن الحكم الفزاري قال: سمعت عليا يقول: إني كنت رجلا إذا سمعت من رسول الله حديثا ينفعني الله منه بما شاء أن ينفعني، وإذا حدثني أحد من أصحابه استحلفته فإذا حلف لي صدقته، وإنه حدثني أبو بكر وصدق أبو بكر أنه سمع رسول الله يقول: «ما من عبد يذنب ذنبا فيحسن الطهور ويصلي ثم يستغفر الله إلا غفر له» .
وروي في الصحيح عن أبي هريرة رضي الله تعالى عنه قال: سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: إذا أذنب العبد ذنبا فقال يا رب أذنبت ذنبا فاغفره لي، قال الله عز وجل: علم عبدي أن له ربا يغفر الذنب ويأخذ به، فغفر له. ثم إذا مكث ما شاء الله وأصاب ذنبا آخر، فقال: يا رب أذنبت ذنبا فاغفر لي، قال ربه: علم عبدي أن له ربا يغفر الذنب ويأخذ به قد غفرت لعبدي فليفعل ما شاء.
وكان قتادة رضي الله تعالى عنه يقول: القرآن يدلكم على دائكم ودوائكم، أما دواؤكم فالاستغفار، وأما داؤكم فالذنوب.
وكان علي رضي الله تعالى عنه يقول: العجب لمن هلك ومعه كلمة النجاة، قيل: وما هي؟ قال: الاستغفار.
وقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «من قال عشرا حين يصبح وحين يمسي، أستغفر الله العظيم الذي لا إله إلا هو الحي القيوم وأتوب إليه وأسأله التوبة والمغفرة من جميع الذنوب، غفرت ذنوبه ولو كانت مثل رمل عالج. ومن قال سبحانك ظلمت نفسي وعملت سوءا فاغفر لي ذنوبي فإنه لا يغفر الذنوب إلا أنت، غفرت ذنوبه ولو كانت مثل دبيب النمل.
وقال أبو عبد الله الورّاق: لو كان عليك من الذنوب مثل عدد القطر وزبد البحر محيت عنك إذا استغفرت بهذا الاستغفار، وهو هذا: اللهم إني أسألك وأستغفرك من كل ذنب تبت إليك منه ثم عدت فيه، وأستغفرك من كل ما وعدتك من نفسي ثم لم أوف لك به، وأستغفرك من كل عمل أردت به وجهك فخالطه غيرك، وأستغفرك من كل نعمة أنعمت بها علي فاستعنت بها على معصيتك، يقول الله عز وجل لملائكته: ويح ابن آدم يذنب الذنب ثم يستغفرني فأغفر له، ثم يذنب فيستغفرني فأغفر له لا هو يترك الذنب من مخالفتي ولا ييأس من مغفرتي، أشهدكم يا ملائكتي أني قد غفرت له.
وقال بشر الحافي «2» بلغني أن العبد إذا عمل الخطيئة أوحى الله تعالى إلى الملائكة الموكلين ترفقوا عليه سبع ساعات، فإن استغفرني فلا تكتبوها وإن لم يستغفرني فاكتبوها.
نكتة.. قيل: انقطع الغيث عن بني إسرائيل في زمن موسى عليه الصلاة والسلام حتى احترق النبات وهلك الحيوان، فخرج موسى عليه الصلاة والسلام في بني إسرائيل وكانوا سبعين رجلا من نسل الأنبياء مستغيثين إلى الله تعالى، قد بسطوا أيدي صدقهم وخضوعهم وقربوا قربان تذللهم وخشوعهم ودموعهم تجري على خدودهم ثلاثة أيام، فلم يمطر لهم، فقال موسى: اللهم أنت القائل: ادعوني أستجب لكم وقد دعوتك وعبادك على ما ترى من الفاقة والحاجة والذل، فأوحى الله تعالى إليه:
يا موسى إن فيهم من غذاؤه حرام وفيهم من يبسط لسانه بالغيبة والنميمة وهؤلاء استحقوا أن أنزل عليهم غضبي، وأنت تطلب لهم الرحمة كيف يجتمع موضع الرحمة وموضع العذاب؟ فقال موسى: ومن هم يا رب حتى نخرجهم من بيننا؟ فقال الله تعالى: يا موسى لست بهتاك ولا نمام، ولكن يا موسى توبوا كلكم بقلوب خالصة فعساهم يتوبوا معكم فأجود بإنعامي عليكم، فنادى منادي موسى في بني إسرائيل ان اجتمعوا فاجتمعوا فأعلمهم موسى عليه الصلاة والسلام بما أوحي إليه والعصاة يسمعون، فذرفت أعينهم ورفعوا مع بني إسرائيل أيديهم إلى الله عز وجل وقالوا: إلهنا جئناك من أوزارنا هاربين، ورجعنا إلى بابك طالبين فارحمنا يا أرحم الراحمين، فما زالوا كذلك حتى سقوا بتوبتهم إلى الله تعالى.
اللهم تب علينا وعلى سائر العصاة والمذنبين يا رب العالمين.(1/493)
أوحى الله إلى داود عليه الصلاة والسلام: يا داود لو يعلم المدبرون عني كيف انتظاري لهم ورفقي بهم وشوقي إلى ترك معاصيهم، لماتوا شوقا إلي وتقطعت أوصالهم من محبتي، يا داود هذه إرادتي في المدبرين عني فكيف إرادتي بالمقبلين علي.
ولقد أحسن من قال:
أسيء فيجزي بالإساءة إفضالا ... وأعصي فيوليني برّا وإمهالا
فحتى متى أجفوه وهو يبرني ... وأبعد عنه وهو يبذل إيصالا
وكم مرة قد زغت عن نهج طاعة ... ولا حال عن ستر القبيح ولا زالا
وهذا آخر ما يسره الله تعالى في هذا البابا والله أعلم بالصواب.
الباب الثمانون فيما جاء في ذكر الأمراض والعلل والطب والدواء وما جاء في السنة من العبادة وما أشبه ذلك
وفيه فصول
الفصل الأول في الأمراض والعلل وما جاء في ذلك من الاجر والثواب
روي عن عبد الله بن أنيس رضي الله تعالى عنه عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال: أيكم يحب أن يصح جسمه فلا يسقم؟
فقالوا: كلنا يا رسول الله، قال: أتحبون أن تكونوا كالحمير الصوالة، ألا تحبون أن تكونوا أصحاب بلايا وأصحاب كفارات والذي بعثني بالحق نبيا إن الرجل لتكونن له الدرجة في الجنة فلا يبلغها بشيء من عمله فيبتليه الله تعالى ليبلغ درجة لا يبلغها بعمله، وقال صلى الله عليه وسلم:
ما من مسلم يمرض إلا حط الله من خطاياه كما تحط الشجرة ورقها، وكان يقول: لا تزال الأوصاب والمصائب بالعبد حتى تتركه كالفضة البيضاء والنقية المصفاة.
وقيل: إن الناس قد حمّوا في فتح خيبر، فشكوا إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال: أيها الناس إن الحمى رائد الموت وسجن الله في الأرض وقطعة من النار، فإذا وجدتم ذلك فبردوا لها الماء في الشنان ثم صبوا عليكم بين المغرب والعشاء، ففعلوا ذلك فزالت عنهم.
وعن أنس رضي الله تعالى عنه قال: دخل رسول الله صلى الله عليه وسلم على شاب وهو في الموت فقال له: كيف تجدك؟ فقال: أرجو الله وأخاف ذنوبي، فقال عليه الصلاة والسلام: هما لا يجتمعان في قلب عبد في هذا الموطن إلا أعطاه الله ما يرجو وآمنه مما يخاف.
وعن عفيرة بنت الوليد البصرية العابدة الزاهدة رحمها الله تعالى، انها سمعت رجلا يقول: ما أشد العمى على من كان بصيرا، فقالت له: يا عبد الله عمى القلب عن الله أشد من عمى العين عن الدنيا. والله لوددت أن الله وهب لي كنه معرفته ولم يبق مني جارحة إلا أخذها.
وكتب مبارك لأخيه سفيان الثوري يشكو إليه ذهاب بصره، فكتب إليه: أما بعد ... فقد فهمت كتابك فيه شكاية ربك، فاذكر الموت يهن عليك ذهاب بصرك والسلام.
وقيل لعطاء في مرضه ما تشتهي؟ قال: ما ترك خوف جهنم في قلبي موضعا للشهوة. وأصاب ابن أدهم بطن فتوضأ في ليلة سبعين مرة. وقيل لأعرابي في مرضه ما تشتهي؟ قال: الجنة، فقيل: أفلا ندعوا لك طبيبا؟
قال: طبيبي هو الذي أمرضني.
الفصل الثاني من هذا الباب في ذكر العلل كالبخر «1» والعرج والعمى والصمم والرمد والفالج وغير ذلك نسأل الله العفو والعافية والمعافة في الدنيا والآخرة
قيل: تسارر أبخر «2» وأصم، فقال له الأصم: قد فهمت ثم فارقه. فسأله رجل فقال: والله لا أدري غير أنه فسا في أذني.
وقيل: إن عبد الملك بن مروان كان أبخرا فعض يوما على تفاحة ورمى بها إلى زوجته، فدعت بسكين فقال:
ما تصنعين بها؟ قالت: أميط الأذى عنها. فشق عليه ذلك منها فطلقها.
وسارر أبو الأسود الدؤلي سليمان بن عبد الملك وكان(1/494)
أبو الأسود أبخر فستر سليمان أنفه بكمه فعبر أبو الأسود وهو يقول: لا يصلح للخلافة من لا يقدر على مناجاة الشيوخ البخر.
وقيل طول انطباق الفم يورث البخر وكل رطب الفم سائل اللعاب سالم منه. وقيل إن الزنج أطيب الناس أفواها، والسباع موصوفة بالبخر، والمثل مضروب بالأسد والصقر في البخر والكلب من بينهما طيب الفم، وليس في البهائم أطيب أفواها من الظباء.
وحكي ... أن أخبر تزوج بامرأة، فلما ضاجعها عافته وتولت عنه بوجهها، ثم أنشدت تقول:
يا حبّ والرحمن إنّ فاكا ... أهلكني فولني قفاكا
إذا غدوت فاتخذ مسواكا ... من عرفط ان لم تجد أراكا «1»
لا تقربني بالذي سوّاكا ... إني أراك ماضغا خراكا
في ديوان المنثور: كم من ذي عرج في درج المعالي عرج، وكم من صحيح قدم ليس له في الخير قدم. وقيل:
إن من الصم من يسمع السر فإذا رفعت إليه الصوت لم يسمعه. ورأيت من العمش من لا ينظر صورة الإنسان من قريب ولكن يقرأ الخط الرقيق الحواشي. وقيل: إن طريفا الشاعر مدح عمرو بن هداب، وكان أبرص فلما انتهى إلى قوله: أبرص فياض اليدين مهذب. صاح به الناس وقالوا قطع الله لسانك، فقال عمرو: مه، إن البرص مما تتفاخر به العرب أما سمعتم قول سهل حيث قال:
أيشتمني زيد بأن كنت أبرصا ... وكلّ كريم لا أبالك أبرص
كفى حزنا أنّي أعاشر معشرا يخ ... وضون في بعض الحديث وأمسك
وما ذاك من عيّ ولا من جهالة ... ولكنه ما فيّ للصوت مسلك
فإن سد منّي السمع فالله قادر ... على فتحه والله للعبد أملك
ومما جاء في العمى:
ما روي عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال: من عدم إحدى كريمتيه [فاحتسبها] ضمنت له على الله الجنة. وكان أبو عبد الرحمن بن الحارث بن هشام يطعم الطعام، وكان أعور، فجعل أعرابي يطيل النظر إليه حابسا نفسه عن طعامه، فكلمه المغيرة في ذلك فقال: والله إني ليعجبني طعامك وتريبني عينك، قال: فما يريبك من عيني؟ قال:
أعور وأراك تطعم الطعام وهذه صفة الدجال. فقيل له: إن عينه أصيبت في فتح الروم فقال: إن الدجال لا تصاب عينه في سبيل الله.
وعن أنس رضي الله تعالى عنه عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال:
من قاد أعمى أربعين خطوة لم تمسه النار. وقال علي كرم الله وجهه: ربما أخطأ البصير قصده وأصاب الأعمى رشده.
وقال أبو علي البصير:
لئن كان يهديني الغلام لوجهتي ... ويقتادني في السير إذ أنا راكب
لقد يستضيء القوم بي في وجوههم ... ويخبو ضياء العين والقلب ثاقب
وقال:
إذا عدمت طلّابة العلم مالها ... من العلم إلا ما تسطّر في القلب
غدوت بتشمير وجدّ عليهم ... ومحبرتي سمعي وها دفتري قلبي
وقال:
إن يأخذ الله من عيني نورهما ... ففي لساني وسمعي منهما نور
فهمي ذكي وقلبي غير ذي غفل ... وفي فمي صارم كالسيف مشهور
وقال:
عزاءك أيها العين السكوب ... وحقك إنها نوب تنوب «2»
وكنت كريمتي وسراج وجهي ... وكانت لي بك الدنيا تطيب
على الدنيا السلام فما لشيخ ... ضرير العين في الدنيا نصيب
يموت المرء وهو يعدّ حيا ... ويخلف ظنه الأمل الكذوب(1/495)
إذا ما مات بعضك فابك بعضا ... فإنّ البعض من بعض قريب
وحكي ... أن ربيعة رمدت عينه فأرسل إلى امرأة كان يحبها ثم أنشد يقول:
عينا ربيعة رمداوان فاحتسبي ... بنظرة منك تشفيه من الرّمد
إن تكتحل بك عيناه فلا رمد ... على ربيعة يخشى آخر الأمد
وعن عبد الرحمن بن قيس عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال: داء الأنبياء الفالج واللقوة. قال الجاحظ: ومن المفاليج سيدنا إدريس عليه الصلاة السلام، وأكثر ما يعتري المتوسطين من الناس لأن الشاب كثير الحرارة والشيخ كثير اليبس.
وقيل: إن إبان بن عثمان كان أفلج حتى صار مثلا، فكانت الناس تقول: لا رماك الله بفالج ابن عثمان، وكان معاوية ألوق، وعبد الملك بن مروان أبخر، وحسان أعمى، وابن سيرين أصم، وممن فلج ابن أبي دؤاد قاضي قضاة المعتصم كان من الشرف والكرم بمنزلة عظيمة قد ضرب المثل بفالجه، قال الشاعر في رجل ضرب غلامه:
أتضرب مثله بالسّوط عشرا ... ضربت بفالج ابن أبي دؤاد
وشجة عبد الحميد كانت مثلا في الحسن، وهو عبد الحميد بن عبد الله بن عمر بن الخطاب رضي الله تعالى عنهم، وكان بارعا في الحسن والجمال فزادته حسنا إلى حسنه حتى أن النساء كن يخططن في وجوههن شجة عبد الحميد.
وكان يقال لعمر بن عبد العزيز أشج بني أمية، وكان عمر بن الخطاب رضي الله تعالى عنه يقول: إن من ولدي رجلا بوجهه أثر في جبهته، قال أصبغ: الله أكبر هذا أشج بني أمية يملأ الأرض عدلا. وقال أعور لأبي الأسود:
ما الشيء ونصف الشيء ولا شيء فقال: أما الشيء فالبصير كأنا، وأما لا شيء فالأعمى، وأما نصف الشيء فأنت يا أعور. اللهم اكفنا شر العاهات برحمتك ومنك وكرمك آمين.
الفصل الثالث من هذا الباب في التداوي من الأمراض والطب
قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: تداووا فإن الذي أنزل الداء أنزل الدواء. وقال صلى الله عليه وسلم: ما أنزل الله داء إلا وله دواء عرفه من عرفه وجهله من جهله. وسئل رسول الله صلى الله عليه وسلم عن الدواء والرقى هل يردان شيئا من قضاء الله تعالى: قال: هما من قدر الله تعالى.
وقال عبد الله بن عكرمة: عجيب لمن يحتمي من الطعام خوف الداء، ولا يحتمي من الذنوب خوف النار.
وقيل: إن الربيع بن خيثم لما مرض قالوا له: ألا ندعوا لك طبيبا، فقال لهم: إن مرضي من الطبيب وإنه متى أراد عافاني، ولا حاجة لي بطبيبكم، وأنشد:
فأصبحت لا أدعو طبيبا لطبه ... ولكنني أدعوك يا منزل القطر
وعاد الفرزدق مريضا فقال:
يا طالب الطب من داء تخوفه ... إنّ الطبيب الذي أبلاك بالداء
فهو الطبيب الذي يرجى لعافية ... لا من يذيب لك الترياق بالماء
قال: ولما مرض بشر الحافي رحمه الله تعالى قالوا:
أندعوا لك طبيبا؟ فقال: إني بعين الطبيب يفعل بي ما يريد، فألح عليه أهله وقالوا: لا بد أن ندفع ماءك إلى الطبيب، فقال لأخته: ادفعي إليهم الماء في قارورة. وكان بالقرب منهم رجل ذمي وكان حاذقا في الطب، فأتوه بمائه في القارورة فلما رآه قال: حرّكوه فحرّكوه ثم قال: ضعوه ثم قال ارفعوه، فقالوا له: ما بهذا وصفت لنا، قال: بم وصفت لكم؟ قالوا: بالحذق والمعرفة، قال: هو كما تقولون غير أن هذا الماء إن كان ماء نصراني فهو راهب.
قد فتتت كبده العبادة، وإن كان مسلما فهو ماء بشر الحافي فإنه أوحد أهل زمانه في السلوك مع الله تعالى، قالوا: هو ماء بشر الحافي. فأسلم النصراني وقطع زناره فلما رجعوا إلى بشر قال لهم: أسلم الطبيب، فقالوا: ومن أعلمك؟
قال: لما خرجتم من عندي هتف لي هاتف وقال: يا بشر ببركة مائك أسلم الطبيب وصار من أهل الجنة.
وفلج الربيع بن خيثم فقيل له: هلا تداويت؟ فقال: قد عرفت أن الدواء حق، ولكن عاد وثمود وقرون بين ذلك كثير، كانت فيهم الأوجاع كثيرة والأطباء أكثر فلم يبق المداوي ولا المداوى وقد أبادهم الموت. ثم قال هذا المفرد:
هلك المداوي والمدواى والذي ... جلب الدواء وباعه والمشتري
وقيل لجالينوس حين نهكته العلة: أما تتعالج؟ فقال:
إذا كان الداء من السماء بطل الدواء من الأرض، وإذا نزل(1/496)
قضاء الرب بطل حذر المربوب. ومرّ قوم بماء من مياه العرب فوصف لهم ثلاث بنات مطببات وهن من أجل الناس، فأحبوا أن يروهن فحكوا ساق أحدهم حتى أدموها ثم قصدوهن فقالوا: هذا جريح مريض فهل من طبيب؟
فخرجت صغراهن وهي كأنها الشمس الطالعة فلما رأت جرحه قالت: ليس هو بمريض بل خدشه عود بالت عليه حية فإذا طلعت الشمس مات، فكان الأمر كما قالت.
وقيل: دواء كل مريض بعقاقير أرضه فإن الطبيعة تتطلع لهوائها. وقالوا: من قدم إلى أرض غير أرضه وأخذ من ترابها وجعله في مائها وشربه، لم يمرض فيها وعوفي من وبائها. واحتمى أحمد بن المعدل لعلة أصابته فبرىء؛ فقال: الحمية طالع الصحة لأهل الدنيا تبرئهم من المرض، ولأهل الآخرة تبرئهم من النار.
وقيل: إن الأبدان المعتادة بالحمية آفتها التخليط، والمعتادة بالتخليط آفتها الحمية، لأن الحكماء تقول:
عودوا كل جسد بما اعتاد.
وكان كسرى أنو شروان يمسك عما تميل إليه شهوته ولا ينهمك عليه، ويقول: تركنا ما نحبه لنستغني عن العلاج بما نكرهه. وقال لقمان: لا تطيلوا الجلوس على الخلاء فإنه يورث الباسور. وكانت هذه الحكمة مكتوبة على أبواب الحشوش أي الكنف. وقيل: كفى بالمرء عارا أن يكون صريع مأكله وقتيل أنامله.
فكم أكلة أكلت نفس حر ... وكم أكلة جلبت كل ضرّ
وقيل: من غرس الطعام أثمره الأسقام. وعن بعض أهل البيت النبوي عليهم السلام، أنه كان إذا أصابته علة جمع بين ماء زمزم والعسل واستوهب من مهر أهله شيئا، وكان يقول: قال الله تعالى وَنَزَّلْنا مِنَ السَّماءِ ماءً مُبارَكاً
«1» .
وقال تعالى: فِيهِ شِفاءٌ لِلنَّاسِ
«2» . وقال عليه الصلاة والسلام: ماء زمزم لما شرب له. وقال تعالى فَإِنْ طِبْنَ لَكُمْ عَنْ شَيْءٍ مِنْهُ نَفْساً فَكُلُوهُ هَنِيئاً مَرِيئاً
«3» من جمع بين ما بورك فيه وبين ما فيه شفاء وبين الهني المريء يوشك أن يلقى العافية.
وقيل: خمسة من المهلكات: دخول الحمام على الشبع والمجامعة على الشبع وأكل القديد وشرب الماء البارد على الريق ومجامعة المرأة العجوز. وقال: لا تنكح العجوز ولا تخرج الدم وأنت مستغن عن إخراجه. وقال الإمام رضي الله عنه:
توق مدى الأيام إدخال مطعم ... على مطعم من قبل هضم المطاعم
وكلّ طعام يعجز السنّ مضغه ... فلا تقربنه فهو شرّ لطاعم
ووفرّ على الجسم الدماء فإنها ... لقوّة جسم المرء خير الدعائم
وإياك أن تنكح طواعن سنهم ... فإنّ لها سما كسم الأراقم «4»
وفي كلّ أسبوع عليك بقيئة ... تكن آمنا من شرّ كلّ البلاغم
ومما يورث الهزال. النوم على غير وطاء وكثرة الكلام برفع الصوت. وقال النظام رحمه الله تعالى: ثلاثة تخرب العقل: طول النظر في المرآة وكثرة الضحك والنظر إلى النجوم.
وفي الحديث: احتجم رسول الله صلى الله عليه وسلم في أم مغيث وهي وسط الرأس، وكان صلى الله عليه وسلم يحتجم في الأخدعين، ونهى عن الحجامة في نقرة القفا فإنها تورث النسيان، وأمر بالاستنجاء بالماء البارد فإنه أمان من الباسور.
وخطب المأمون بمسجد مروان فوجد غالب أهل المسجد يشكون السعال، فقال في آخر خطبته: من كان يشكو سعالا فليتداو بالخل، ففعلوا فعافاهم الله.
وقال بعض الحكماء: إياك أن تطيل النظر في عين أرمد، وإياك أن تسجد على حصير جديدة قبل أن تمسها بيدك، فرب شظية حقيرة قلعت عينا خطيرة.
وقيل: كانت الأدوية تنبت في محراب سليمان عليه الصلاة والسلام ويقول كل دواء: يا نبي الله أنا دواء لكذا وكذا.
وقال جالينوس: البطنة «5» تقتل الرجال وتورث الفالج والإسهال الذريع والإقعاد وصنفا من الجذام يقال له(1/497)
الفهد، لا يسمع صاحبه ولا يبصر، نسأل الله العفو والعافية.
وقيل: البطنة تورث الصداع والكمنة في العينين والضربان في الأذنين والقولنج في البدن، فعليك أيها الإنسان بالطريقة الوسطى واتق الليل وطعامه جهدك.
وقال جالينوس: الغم المفرط يميت القلب ويجمد الدم في العروق فيهلك صاحبه، والسرور المفرط يلهب حرارة الدم حتى يغلب الحرارة الغريزية فيهلك صاحبه.
وقيل أنه وضع على مائدة المأمون في يوم عيد أكثر من ثلاثين لونا فكان يصف وهو على المائدة منفعة كل لون ومضرته. فقال يحيى بن أكثم: يا أمير المؤمنين إن خضنا في الطب فأنت جالينوس في معرفته، أو في النجوم فأنت هرمس في صناعته. أو في الفقه فأنت علي بن أبي طالب رضي الله عنه في علمه، أو في السخاء فأنت حاتم في كرمه، أو في الحديث فأنت أبو ذر في صدق لهجته، أو في الوفاء فأنت السموءل بن عادياء في وفائه، فسر بكلامه وقال: يا أبا محمد إنما فضل الإنسان على غيره بالعقل، ولولا ذاك لكانت الناس والبهائم سواء. وقال طبيب الهند: إن منفعة الحقنة للجسد كمنفعة الماء للشجر.
وقال سفيان بن عيينة: أجمع أطباء فارس على أن الداء إدخال الطعام على الطعام، وقالوا: إدخال اللحم على اللحم يقتل السباع في البر.
وقيل: الشرب في آنية الرصاص أمان من القولنج.
وعرض رجل على طبيب قارورته فقال له: ما هي قارورتك لأنه ماء ميت وأنت حي تكلمني، فما فرغ من كلامه حتى خر الرجل ميتا.
وقيل: إن ملكا من الملوك حصل عنده صداع في رأسه فأحضر الطبيب فأمره أن يضع قدميه في الماء الحار وكان عنده خصي فقال: أين القدمان من الرأس؟ فقال له الطبيب: وأين وجهك من خصيتيك؟ نزعتا فذهبت لحيتك.
وقيل: إن المأمون حصل له صداع بطرسوس، فأحضر طبيبا كان عنده فلم ينفعه علاجه، فبلغ قيصر فأرسل إليه قلنسوة وكتب له: بلغني صداعك فضعها على رأسك يزل ما بك، فخاف أن تكون مسمومة فوضعها على رأس القاصد فلم يصبه شيء، ثم إنه أحضر رجلا به صداع فوضعها على رأسه فزال ما به فتعجب المأمون ثم إنه فتحها فوجد فيها رقعة مكتوبا فيها: بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ*
كم من نعمة لله تعالى في عرق ساكن وغير ساكن حمعسق لا يصدعون عنها ولا ينزفون من كلام الرحمن خمدت النيران ولا حول ولا قوة إلا بالله العلي العظيم.
وقال علي رضي الله تعالى عنه: ادهنوا بالبنفسج فإنه حار في الشتاء بارد في الصيف. وقال أيضا رضي الله عنه:
عليكم بالزيت فإنه يذهب البلغم ويشد العصب ويحسن الخلق ويطيب النفس ويذهب الغم.
وعنه رضي الله عنه: «إن لم يكن في شيء شفاء ففي شرطة حاجم أو شربة من عسل» .
وقال الحجاج لطبيبه: أخبرنا بجوامع الطب. فقال:
لا تنكح إلا فتاة ولا تأكل من اللحم إلا فتيا. وإذا تغديت فنم وإذا تعشيت فامش ولو على الشوك، ولا تدخلن بطنك طعاما حتى تستمرىء ما فيه ولا تأو إلى فراشك حتى تدخل الخلاء، وكل الفاكهة في إقبالها وذرها في إدبارها.
وأوصى حكيم خليفته وصية ووعده أنه إذا لازمها لا يمرض إلا مرض الموت، فقال: إياك أن تدخل طعاما على طعام ولا تمش حتى تعيا، ولا تجامع عجوزا، ولا تدخل حماما على شبع، وإذا جامعت فكن على حال وسط من الغداء، وعليك في كل اسبوع بقيئة، ولا تأكل الفاكهة إلا في أوان نضجها ولا تأكل القديد من اللحم، وإذا تغديت فنم وإذا تعشيت فامش أربعين خطوة، ونم على يسارك لتقع الكبد على المعدة فينهضم ما فيها، وتستريح الكبد من حرارة المعدة. ولا تنم على يمينك فيبطىء الهضم ولا تأكل بشهوة عينيك بعد الشبع، ولا تنم ليلا حتى تعرض نفسك على الخلاء إن احتجت إلى ذلك أو لم تحتج، واقعد على الطعام وأنت تشتهيه وقم عنه وأنت تشتهيه.
قال بعضهم:
شره النفوس على الجسوم بلية ... فتعوّذوا من كلّ نفس تشره «1»
ما من فتى شرهت له نفس وإن ... نال الغنى إلّا رأى ما يكره
وقال أبو الفيض القضاعي يمدح الفضل وقد فصد:
أرقت دما لو تسكب المزن مثله ... لأصبح وجه الأرض أخضر زاهيا «2»(1/498)
دما طيبا لو يطلق الشرع شربه ... لكان من الأسقام للناس شافيا
الفصل الرابع فيما جاء في العيادة وفضلها
قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: ثلاثة في ظل العرش، عائد المريض ومشيع الموتى وطائع والديه. وفي رواية ومعزي الثكلى. ومن السنة تخفيف الجلوس في العيادة.
مرض بكر بن عبد الله المزني فعاده أصحابه فأطالوا الجلوس عنده فقال: المريض يعاد والصحيح يزار.
قال الشاعر:
يعدن مريضا هن هيّجن داءه ... ألا إنما بعض العوائد دائيا
وقيل: إذا دخل العواد على الملك فحقهم أن لا يسلموا عليه فيحوجوه إلى رد السلام ويتعبوه، فإذا علموا أنه لاحظهم دعوا له وانصرفوا. قيل: مرض إنسان فكتب إليه بعض أصدقائه: كشف الله عنك ما بك من السقم، وطهرك بالعلة من الخطايا ومتعك بأنس العافية وأعقبك دوام الصحة.
ومرض إنسان فكتب إليه صديقه:
بإخوانك الأدنين لا بك كلّ ما ... شكوت إليّ اليوم من ألم الودّ
فكلّ امرىء منهم بقدر احتماله ... وإن عجزوا عنه تحلمته وحدي
وقال آخر:
بي السوء والمكروه لا بك كلّما ... أراداك كانا بي وكان لك الأجر
وقال عبد الله بن مصعب:
مالي مرضت فلم يعدني عائد ... منكم ويمرض كلبكم فأعود
فسمّي بعد ذلك عائد الكلاب.
وعاد مالك بن أنس رضي الله تعالى عنه بعض المرضى فقال:
عادني مالك فلست أبالي ... بعد من عادني ومن لم يعدني
وقال عليّ بن الجهم:
أراقد الليل مسرورا عدمت إذا ... عيشي وأحمد يرعى ليله وصبا «1»
الله يعلم أنّي قد نذرت له ... صيام شهر إذا ما أحمد ركبا «2»
وقال آخر:
إذا مرضتم أتيناكم نعودكمو ... وتذنبون فنأتيكم ونعتذر
وقال آخر:
أعاذك الله من أشياء أربعة ... الموت والعشق والإفلاس والجرب
وقيل: إن حق العيادة يوم ويوم بعد يومين وعلى الأول قول الشاعر:
قالت مرضت فعدتها فتبرّمت ... فهي الصحيحة والعليل العائد
والله لو أن القلوب كقلبها ... ما رق للولد الصغير الوالد
وعلى الثاني قول بعضهم:
حقّ العيادة يوم بعد يومين ... وجلسة مثل خلس اللحظ بالعين
لا تبرمنّ عليلا في مساءلة ... يكفيك من ذاك تسآل بحرفين
وفضل العيادة مشهور وشرفها مذكور وبها تعظم الأجور. وهذا ما انتهى إلينا من هذا الباب والله الموفق للصواب.
الباب الحادي والثمانون في ذكر الموت وما يتصل به من القبر وأحواله
روي عن ابن عباس رضي الله عنهما أنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم إذا مات لأحدكم ميت فحسنوا كفنه وعجلوا إنجاز وصيته وأعمقوا له في قبره وجنبوه جار(1/499)
السوء «1» ، قيل: يا رسول الله وهل ينفع الجار الصالح في الآخرة؟ قال: وهل ينفع في الدنيا؟ قالوا: نعم. قال:
وكذلك في الآخرة.
ومن وصية علي رضي الله عنه لأبي ذر: زر القبور تذكر بها الآخرة، ولا تزرها بالليل واغسل الموتى يتحرك قلبك، وصلّ على الجنائز لعل ذلك يحزنك فإن الحزين في ظل الله تعالى.
ويقال: جزعك في مصيبة صديقك أحسن من صبرك، وصبرك في مصيبتك أحسن من جزعك.
ونظر فيلسوف إلى ميت يحمل إلى قبره فقال: حبيب تحمله أهله إلى حبس الأبد.
ودخل عمرو بن العاص رضي الله عنه على معاوية في مرضة مرضها، فقال له: أعائد أنت أم شامت؟ فقال له عمرو: ولم تقول هذا، والله ما كلفتني رهقا ولا أصدعتني زلقا ولا جرعتني علقا، فلم أستطل حياتك ولم استبطىء وفاتك. فأنشد معاوية يقول:
فهل من خالدين إذا هلكنا ... وهل في الموت بين الناس عار
ولما مرض معاوية رضي الله عنه مرضه الذي مات فيه، وفد إليه الناس يعودونه فقال لأهله: مهدوا لي فراشا وأسندوني وأوسعوا رأسي دهانا ثم اكحلوا عيني بالإثمد ثم ائذنوا للناس يدخلوا ويسلموا علي قياما ولا تجلسوا عندي أحدا، ففعلوا ذلك، فلما خرجوا من عنده أنشد يقول:
وتجلدي للشامتين أريهم ... أني لريب الدهر لا أتضعضع «2»
وإذا المنية أنشبت أظفارها ... ألفيت كلّ تميمة لا تنفع «3»
وقيل لما دنا منه الموت تمثل بهذا البيت:
هو الموت لا منجى من الموت والذي ... نحاذر بعد الموت أدهى وأقطع
ثم قال: رفع يديه وقال: اللهم أقل العثرة واعف عن الزلة وعد بحلمك على من لم يرج غيرك ولا يثق إلا بك، فإنك واسع المغفرة وليس لذي خطيئة منك مهرب. ومات رحمه الله تعالى.
وذكر أبو العباس الشيباني قال: وفد على أبو دلف عشرة من أولاد علي بن أبي طالب رضي الله عنه في العلة التي مات فيها فأقاموا ببابه شهرا لا يؤذن لهم لشدة العلة التي أصيب بها، ثم أفاق فقال لخادمه بشر: إن قلبي يحدثني أن بالباب قوما لهم إلينا حوائج فافتح الباب ولا تمنعن أحدا، قال: فكان أول من دخل آل علي رضي الله عنه فسلموا عليه ثم ابتدأ الكلام رجل منهم من ولد جعفر الطيار فقال: أصلحك الله أنا من أهل بيت رسول الله صلى الله عليه وسلم وفينا من ولده وقد حطمتنا المصائب وأجحفت بنا النوائب، فإن رأيت أن تجبر كسيرا وتغني فقيرا لا يملك قطميرا فافعل. فقال لخادمه خذ بيدي وأجلسني، ثم أقبل معتذرا إليهم ودعا بدواة وقرطاس وقال: ليكتب كل منكم بيده أنه قبض مني ألف دينار، قالوا: فبقينا والله متحيرين فلما أن كتبنا الرقاع ووضعناها بين يديه قال لخادمه: علي بالمال. فوزن لكل واحد منا ألف دينار ثم قال لخادمه:
يا بشر إذا أنا مت فأدرج هذه الرقاع في كفني، فإذا لقيت محمدا صلى الله عليه وسلم في القيامة كانت حجة لي أني قد أغنيت عشرة من ولده ثم قال: يا غلام ادفع لكل واحد منهم ألف درهم ينفقها في طريقه حتى لا ينفق من الألف دينار شيئا حتى يصل إلى موضعه، قال: فأخذناها ودعونا له وانصرفنا ثم مات رحمه الله.
وقيل: لما دفن عمر بن عبد العزيز نزل عند دفنه مطر من السماء، فوجدوا بردة «4» مكتوبا فيها بالنور (بسم الله الرحمن الرحيم أمان لعمر بن عبد العزيز من النار) .
وقيل لأعرابي: إنك تموت، قال: وإلى أين أذهب؟
قالوا: إلى الله تعالى، فقال: لا أكره أن أذهب إلى من لا أرى الخير إلا منه. وبكى الخولاني عند موته فقيل له:
ما يبكيك؟ قال: أبكي لطول السفر وقلة الزاد، وقد سلكت عقبة ولا أدري إلى أين أهبط وإلى أي مكان أسقط.
ودخل ملك الموت على داود عليه السلام فقال له: من أنت؟ قال: أنا الذي لا يهاب الملوك ولا تمنع منه القصور ولا يقبل الرشا، فقال: إذا أنت ملك الموت، وإني لم أستعد بعد، فقال له: يا داود أين فلان جارك أي فلان قريبك؟ قال: ماتا، قال: أما كان لك في موت هؤلاء عبرة لتستعد بها، ثم قبضه عليه السلام.
وفي الخبر من حديث حميد الطويل عن أنس بن مالك عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: إن الملائكة تكتنف العبد وتحتبسه(1/500)
ولولا ذلك لكان يعدو في الصحراء والبراري من شدة سكرات الموت وقد أجمعت الأمة على أن الموت ليس له زمن معلوم فليكن المرء على أهبة من ذلك.
وقيل: بينما حسان جالس وفي حجره صبي يطعمه الزبد بالعسل إذ شرق الصبي فمات. فقال:
إعمل وأنت صحيح مطلق فرح ... ما دمت ويحك يا مغرور في مهل
يرجو الحياة صحيح ربّما كمنت ... له المنية بين الزبد والعسل
وقيل: إن المأمون لما قربت وفاته دخل عليه بعض أصدقائه فوجده قد فرش له جلد دابة وبسط عليه الرماد وهو يتمرغ فيه ويقول: يا من لا يزول ملكه، إرحم من زال ملكه.
ولما احتضر عمرو بن العاص دعا بغل وقيد وقال:
ألبسوني إياهما فإني سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: إن التوبة مقبولة ما لم يغرغر ابن آدم بنفسه، ثم استقبل القبلة، وقال: اللهم إنك أمرتنا فعصينا فارتكبنا، وهذا مقام العائذ بك فإن تعف فأنت أهل العفو، وإن تعاقب فبما قدمت يداي. لا إله إلا أنت سبحانك إني كنت من الظالمين، ثم مات وهو مغلول القيد، فبلغ ذلك الحسن بن علي بن أبي طالب رضي الله تعالى عنهما فقال: استسلم الشيخ ولعلها تنفعه.
ولما احتضر المعتصم جعلوا يهونون عليه فقال: هان على النظارة ما يمر بظهر المجلود. وسمع أبو الدرداء رجلا في جنازة يقول: من هذا؟ فقال: أنت. فإن كرهت فأنا. وقيل: مات عكرمة مولى ابن عباس رضي الله تعالى عنهما وكثير عزة في يوم واحد. فقال: اللهم كما جمعتهما في زيارة القبور فلا تفرق بينهما يوم النشور. فما بقي في المدينة أحد إلا استحسن كلامه.
ولما احتضر إبراهيم الخليل عليه الصلاة والسلام قال:
هل رأيت خليلا يقبض روح خليله؟ فأوحى الله إليه: هل رأيت خليلا يكره لقاء خليله؟ قال: فاقبض روحي الساعة. وقيل: إذا قضى الله لرجل أن يموت بأرض جعل له إليها حاجة فيسيره إليها. وقال بعضهم:
إذا ما حمام المرء كان ببلدة ... دعته إليها حاجة فيطير «1»
حكي أن شابا تقيا من بين إسرائيل كان يجتمع مع سليمان عليه السلام ويحضر مجالسه، فبينما هو عند سليمان في مجلسه إذ دخل ملك الموت عليه، فلما رآه الشاب اصفرّ لونه وارتعدت فرائصه وقال: يا نبي الله إني خفت من هذا الرجل، فمر الريح أن تذهب بي إلى الهند، فأمر سليمان الريح فذهبت به، فما كان إلا قليل حتى دخل ملك الموت على سليمان وهو متعجب، فقال له سليمان:
ممّ تعجب؟ قال: أعجب أني أمرت بقبض روح الشاب الذي كان عندك بأرض الهند ودخلت عليك فوجدته عندك، فصرت متعجبا، ثم توجهت إلى الهند فرأيته هناك وقبضت روحه فهذا عجبي. فقال له سليمان: إنه لما رآك خاف وانزعج وطلب مني أن تحمله الريح إلى الهند فأمرتها فحملته. وفي ذلك المعنى قال محمد بن الحسن:
ومتعب الروح مرتاح إلى بلد ... والموت يطلبه في ذلك البلد
وقيل: إن الانسان يحصل له عند الموت قوة حركة، نحو ما يحصل للسراج عند انطفائه من حركة سريعة وضياء ساطع، وتسميها الأطباء النعشة الأخيرة والله أعلم.
وقيل: إن الرشيد ماتت له جارية وكانت من خواص محاظيه، فجزع عليها جزعا شديدا، فقال لبعض أصدقائه: أما ترى ما بليت به؟ ما أحببت أحدا إلا مات.
فقال يا أمير المؤمنين: أحببني، فقال: ويحك إن الحب ليس هو شيء يصنع إنما هو شيء يقع في القلب تسوقه الأسباب، فقال: قل أنا أحبك، قال: نعم أحبك، فحمّ من وقته ومات.
وفي الحديث المرفوع: «كسر عظم الميت ككسره في حياته» . وقال يزيد بن أسلم: لقد كان يمضي في الزمن الأول أربعمائة سنة ما يسمع فيها بجنازة، وعن ميمون بن مهران قال: شهدت جنازة ابن عباس رضي الله عنه بالطائف، فلما وضع ليصلى عليه جاء طائر أبيض حتى وقف على أكفانه، ثم دخل فيها فالتمسناه فلم نجده، ولما سوينا عليه التراب سمعنا من يسمع صوته ولا نرى شخصه يقول: يا أَيَّتُهَا النَّفْسُ الْمُطْمَئِنَّةُ 27 ارْجِعِي إِلى رَبِّكِ راضِيَةً مَرْضِيَّةً 28
«2» الآية.
قال ابن عباس رضي الله عنهما إن قبر آدم عليه السلام بمسجد الخيف بمنى. وقال عطاء: بلغني أن قبره تحت(1/501)
المنارة التي وسط الخيف. وكان عثمان بن عفان رضي الله عنه إذا وقف على قبر بكى ما لا يبكيه عند ذكر الجنة والنار، فقيل له في ذلك فقال: سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: «القبر أول منازل الآخرة، فإن نجا العبد منه فما بعده أيسر منه» .
وعن معاذ بن رفاعة الزرقي قال: أخبرني رجل من رجال قومي أن جبريل عليه السلام أتى رسول الله صلى الله عليه وسلم في جوف الليل معتجرا بعمامة من استبرق، فقال: يا محمد من هذا الميت الذي فتحت له أبواب السماء واهتز له العرش، فقام رسول الله صلى الله عليه وسلم يجر ثوبه مبادرا إلى سعد بن معاذ رضي الله عنه فوجده قبض.
وقال الحسن رضي الله عنه: ما من يوم إلا وملك الموت يتصفح وجوه الناس خمس مرات، فمن رآه على لهو ولعب أو معصية أو ضاحكا حرك رأسه وقال له:
مسكين هذا العبد غافل عما يراد به، ثم يقول له: اعمل ما شئت، فإن لي فيك غمزة أقطع بها وتينك «1» . وقال عمر بن عبد العزيز رضي الله عنه لرجاء بن حيوه: يا رجاء إذا وضعت في لحدي، فاكشف الثوب عن وجهي فإن رأيت خيرا فاحمد الله وإن غير ذلك فاعلم أن عمر قد هلك. قال رجاء: فلما دفناه كشفت عن وجهه، فرأيت نورا ساطعا، فحمدت الله تعالى أن قد صار إلى خير.
وقال أيضا: دخلت على عمر بن عبد العزيز وهو محتضر فقال: يا رجاء إني أرى وجوها كراما ليست بوجوه إنس ولا جان، وهو يقلب طرفه يمينا وشمالا، ثم رفع يده فقال: اللهم أنت ربي أمرتني فقصرت، ونهيتني فعصيت، فإن غفرت فقد مننت وإن عاقبت فما ظلمت، إلا أني أشهد أن لا إله إلا أنت وحدك لا شريك لك وأن محمدا عبدك ورسولك المصطفى ونبيك المرتضى، بلّغ الرسالة وأدّى الأمانة ونصح الأمة، فعليه السلام والرحمة، ثم قضى نحبه رحمة الله.
وعن أسماء بنت عميس قالت: كنت عند أمير المؤمنين علي بن أبي طالب رضي الله عنه بعدما ضربه ابن ملجم إذ شهق شهقة بعد أن أغمي عليه، ثم أفاق وقال: مرحبا الحمد لله الذي صدقنا وعده وأورثنا الأرض نتبوأ من الجنة حيث نشاء، فقيل له ما ترى؟ قال: هذا رسول الله صلى الله عليه وسلم، وهذا أخي جعفر وعمي حمزة وأبواب السماء مفتحة والملائكة ينزلون علي يبشرونني بالجنة، وهذه فاطمة قد أحاط بها وصائفها من الحور العين، وهذه منازلي، لمثل هذا فليعمل العاملون.
ولما احتضر عبد الملك بن مروان قال لابنه الوليد: إذا أنا متّ إياك أن تجلس وتعصر عينيك كالمرأة الوكعاء، لكن ائترز وشمر والبس جلد النمر وضعني في حفرتي وخلّني وشأني، وعليك شأنك. وادع الناس إلى بيعتك فمن قال برأسه هكذا «2» ، فقل له بسيفك هكذا «3» ، ثم بعث إلى محمد وخالد ابني يزيد بن معاوية، فقال: هل عندكما ندامة في بيعه الوليد؟ فقالوا: لا نعرف أحدا أحق منه بالخلافة، فقال: أما إنكما لو قلتما غير هذا لضربت الذي فيه أعينكما، ثم رفع كنار فراشه فإذا تحته سيف مسلول تحت يمينه، كل هذا وروحه تتردد في حنجرته، وهو يقول: الحمد لله الذي لا يبالي أصغيرا أخذ أم كبيرا.
لا إله إلا الله محمد رسول الله. ثم بعد ساعة نفذت روحه فدخل عليه الوليد ومعه بناته يبكون، فتمثل بقول الشاعر:
ومستخبر عنا يريد بنا الرّدى ... ومستخبرات والعيون سواكن
وقال محمد بن هارون:
كأنّي بإخواني على جنب حفرتي ... يهيلون فوقي «4» والعيون دما تجري
فيا أيها المذري عليّ دموعه ... ستعرض في يومين عني وعن ذكري «5»
عفا الله عنّي أنزل القبر ثاويا ... أزار فلا أدري وأجفى فلا أدري
وكان يزيد الرقاشي يقول: من كان الموت موعده والقبر بيته والثرى مسكنه والدود أنيسه وهو مع هذا ينتظر الفزع الأكبر، كيف تكون حالته، ثم يبكي حتى يغشى عليه.
فيجب على العاقل أن يحاسب نفسه بنفسه على ما فرط من عمره، ويستعد لعاقبة أمره بصالح العمل ولا يغتر بالأمل، فإن من عاش مات ومن مات فات، وكل ما هو آت آت.
نسأل الله أن يلهمنا رشدنا ويوفقنا لاتباع أوامره واجتناب(1/502)
نواهيه، وأن يجعل الموت خير غائب ننتظره وأن يختم لنا بالخير وأن يتغمدنا برحمته إنه على ما يشاء قدير وبالإجابة جدير وصلى الله على سيدنا محمد، وعلى آله وصحبه وسلم.
الباب الثاني والثمانون في الصبر والتأسي والتعازي والمراثي ونحو ذلك
وفيه فصول
الفصل الأول في الصبر
قال الله تعالى: وَلَنَبْلُوَنَّكُمْ بِشَيْءٍ مِنَ الْخَوْفِ وَالْجُوعِ وَنَقْصٍ مِنَ الْأَمْوالِ وَالْأَنْفُسِ وَالثَّمَراتِ وَبَشِّرِ الصَّابِرِينَ 155 الَّذِينَ إِذا أَصابَتْهُمْ مُصِيبَةٌ قالُوا إِنَّا لِلَّهِ وَإِنَّا إِلَيْهِ راجِعُونَ 156
«1» .
وقال صلى الله عليه وسلم: «ما من مسلم يصاب بمصيبة وإن قل عهدها فأحدث استرجاعا إلا أحدث الله له مثله وأعطاه مثل أجره ذلك يوم أصيب بها» .
وعن أنس بن الملك رضي الله تعالى عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «من أصبح حزينا أصبح ساخطا على ربه، ومن أصبح يشكو مصيبة فكأنما يشكو الله، ومن تواضع لغني ليسأله ما في يده أحبط الله ثلثي عمله، ومن أعطي القرآن ولم يعمل به وتهاون به حتى دخل النار، أبعده الله عن رحمته لأنه هو الذي فعل ذلك بنفسه حيث لم يعرف حرمة القرآن» .
وروي عن أبي هريرة رضي الله تعالى عنه عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال: «من مات له ثلاثة من الولد لا يلج النار إلا تحلة القسم، يعني قوله تعالى وَإِنْ مِنْكُمْ إِلَّا وارِدُها
«2» .
وعن أم سلمة رضي الله تعالى عنها أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال:
«من أصيب بمصيبة فقال كما أمر الله إنّا لله وإنّا إليه راجعون، اللهم أجرني في مصيبتي وأعقبني خيرا منها، إلا فعل الله به ذلك» .
وروي أنه لما مات إبراهيم بن رسول الله صلى الله عليه وسلم ذرفت عيناه، فقال له عبد الرحمن بن عوف: يا رسول الله ألم تنه عن البكاء؟ قال: إنما نهيت عن الغناء والصوتين الأحمقين والندب، ولكن هذه رحمة جعلها الله تعالى في قلوبنا، ومن لا يرحم لا يرحم، فإن القلب يخشع والعين تدمع، وإنا بك يا إبراهيم لمحزونون، ولا نقول إلا ما يرضي الله ربنا إنّا لله وإنا إليه راجعون.
وقال ابن عباس رضي الله عنهما: أول شيء كتبه الله في اللوح المحفوظ إنني أنا لا إله إلا أنا محمد عبدي ورسولي، من استسلم لقضائي وصبر على بلائي وشكر نعمائي كتبته صديقا وبعثته مع الصديقين، ومن لم يستسلم لقضائي ولم يصبر على بلائي ولم يشكر نعمائي فليتخذ ربا سواي.
وقال ابن المبارك: إن المصيبة واحدة، فإذا جزع صاحبها فهما اثنتان لأن إحداهما المصيبة بعينها والثانية ذهاب أجره وهو أعظم من المصيبة.
وعن العلاء بن عبد الرحمن أن النبي صلى الله عليه وسلم لما حضرته الوفاة بكت فاطمة فقال: لا تبكي يا بنتاه قولي إذا مت إنا لله وإنا إليه راجعون، فإن لكل إنسان مصيبة معوضة.
قالت: ومنك يا رسول الله؟ قال: ومني.
عن عطاء بن أبي رباح قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «من أصابته مصيبة فليذكر مصيبته بي فإنها من أعظم المصائب» . وعن أبي هريرة رضي الله تعالى عنه أنه قال:
من أخذت حبيبتاه يعني عينيه فصبر واحتسب أدخله الله الجنة.
وقيل: إن امرأة أيوب عليه الصلاة والسلام قالت: لو دعوت الله تعالى أن يشفيك، فقال لها: ويحك كنا في النعماء سبعين عاما، أفلا نصبر على الضراء مثلها، فلم يلبث إلا يسيرا أن عوفي.
وقيل: الصبر مفتاح الظفر، والتوكل على الله تعالى رسول النجاح. وقيل: من لم يلق نوائب الدهر بالصبر طال عتبه عليه. وقيل: إن معاوية رضي الله تعالى عنه خرج يوما ومعه عبد العزيز بن زرارة الكلبي وكان ذا منصب وشرف وعقل وأدب، فقال له معاوية: يا عبد العزيز أتاني نعي سيد شباب العرب، فقال له: ابني أو ابنك قال: لا. ابنك، قال: للموت تلد الوالدة. ومما قيل: اصبر لحكم من لا تجد معولا إلا عليه ولا مفزعا إلا إليه.
وقال سويد السدوسي:(1/503)
فأوصيكما يا ابني سدوس كلاكما ... بتقوى الذي أعطاكما وبراكما
بشكر إذا ما أحدث الله نعمة ... وصبر لأمر الله فيما ابتلاكما
وقال:
أيا صاحبي إن رمت أن تكسب الع ... لا وترقى إلى العلياء غير مزاحم
عليك بحسن الصبر في كلّ حالة ... فما صابر فيما يروم بنادم
وقال آخر:
هو الدهر قد جرّبته وبلوته ... فصبرا على مكروهه وتجلدا
وحدث الزبير قال: قامت عائشة بعدما دفن أبوها أبو بكر الصديق رضي الله تعالى عنه، فقالت: نضّر الله وجهك، وشكر صالح سعيك، فقد كنت للدنيا مذلّا بإدبارك عنها، وللآخرة معزا بإقبالك عليها، ولئن كان رزؤك أعظم المصائب بعد رسول الله صلى الله عليه وسلم وأكبر الأحداث بعده، فإن كتاب الله تعالى قد وعدنا بالثواب على الصبر في المصيبة، وأنا تابعة له في الصبر، فأقول إنا لله وإنا إليه راجعون، ومستعيضة بأكثر الاستغفار لك، فسلام الله عليك، توديع غير قالية لحياتك، ولا رازئة على القضاء فيك.
ولما مات ذر الهمداني جاء أبوه، فوجده ميتا وكان موته فجأة، وعياله يبكون عليه فقال: ما لكم، والله ما ظلمناه ولا قهرناه ولا ذهب لنا بحق ولا أصابنا فيه، ما أخطأ من كان قبلنا في مثله، ولما وضعه في حفرته قال: رحمك الله يا بني وجعل أجري فيك لك، والله ما بكيت عليك وإنما بكيت لك، فو الله لقد كنت بي بارا ولي نافعا وكنت لك محبا وما بي إليك من وحشة وما بي إلى أحد غير الله من فاقة، وما ذهبت لنا بعزة وما أبقيت لنا من ذل، ولقد شغلنا الحزن لك عن الحزن عليك، يا ذر لولا هول المطلع لتمنيت ما صرت إليه، فليت شعري ماذا قلت وماذا قيل لك، ثم رفع رأسه إلى السماء وقال: اللهم إنك وعدت الصابرين على المصيبة ثوابك ورحمتك، اللهم وقد وهبت ما جعلت لي من الأجر إلى ذر صلة مني فلا تحرمني ولا تعرفه قبيحا وتجاوز عنه، فإنك رحيم بي وبه، اللهم قد وهبت لك إساءته لي فهب لي إساءته إليك، فإنك أجود مني وأكرم. اللهم إنك قد جعلت لك عليه حقا وجعلت لي عليه حقا قرنته بحقك، فقلت: اشْكُرْ لِي وَلِوالِدَيْكَ إِلَيَّ الْمَصِيرُ
«1» . اللهم إني قد غفرت له ما قصر فيه من حقي، فاغفر له ما قصر فيه من حقك، فإنك أولى بالجود والكرم. فلما أراد الإنصراف قال: يا ذر قد انصرفنا وتركناك ولو أقمنا عندك ما نفعناك.
وفي الحديث: إذا مات ولد العبد يقول الله تعالى للملائكة: ماذا قال عبدي عند قبض روح ولده وثمرة فؤاده؟ فيقولون: إلهنا حمدك واسترجع، فيقول الله تعالى: أشهدكم يا ملائكتي أني بنيت له بيتا في الجنة وسميته بيت الحمد. وعن عبد الله بن عمر رضي الله تعالى عنهما أنه دفن ابنا له وضحك عند قبره، فقيل له:
أتضحك عند القبر؟ قال: أردت أن أرغم أنف الشيطان، فينبغي للعبد أن يتفكر في ثواب المصيبة فتسهل عليه، فإذا أحسن الصبر استقبله يوم القيامة ثوابها، حتى يود لو أن أولاده وأهله وأقاربه ماتوا قبله لينال ثواب المصيبة. وقد وعد الله تعالى في المصيبة ثوابا عظيما إذا صبر صاحبها، واحتسب وقال تعالى: وَلَنَبْلُوَنَّكُمْ حَتَّى نَعْلَمَ الْمُجاهِدِينَ مِنْكُمْ وَالصَّابِرِينَ
«2» . وقال تعالى: وَلَنَبْلُوَنَّكُمْ بِشَيْءٍ مِنَ الْخَوْفِ وَالْجُوعِ وَنَقْصٍ مِنَ الْأَمْوالِ وَالْأَنْفُسِ وَالثَّمَراتِ وَبَشِّرِ الصَّابِرِينَ 155
«3» الآية. اللهم رضينا بقضائك وصبرنا على بلائك واغفر لنا ولوالدينا ولكل المسلمين يا رب العالمين.
الفصل الثاني من هذا الباب في التعازي والتأسي
روى الترمذي في كتاب السنن للبيهقي عن عبد الله بن مسعود عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: «من عزى مصابا فله مثل أجره» . وروينا في كتاب الترمذي أيضا بسند متصل إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: «من عزى ثكلى كسي برداء في الجنة» . وروينا في سنن ابن ماجة والبيهقي بإسناد حسن، عن عمرو بن حزم عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: «ما من مؤمن يعزي أخاه بمصيبته إلا كساه الله من حلل الكرامة يوم القيامة» .
واعلم أن التعزية هي التصبير وذكر ما يسلي صاحب الميت ويخفف حزنه ويهون مصيبته وهي مستحبة، فإنها مشتملة على الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، وهي(1/504)
أيضا داخلة في قوله تعالى: وَتَعاوَنُوا عَلَى الْبِرِّ وَالتَّقْوى
«1» . وهي من أحسن ما يستدل به في التعزية.
وثبت في الصحيح أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: «والله في عون العبد ما دام العبد في عون أخيه» .
واعلم أن التعزية مستحبة قبل الدفن وبعده، وتكره بعد ثلاثة أيام، لأن التعزية لتسكين قلب المصاب، والغالب سكونه بعد ثلاثة أيام، فلا يجدد الحزن. هكذا قال الجماهير من أصحاب الشافعي رضي الله تعالى عنه.
وقيل: إنها لا تفعل بعد ثلاثة أيام إلا في صورتين، وهما إذا كان المعزّي أو صاحب المصيبة غائبا حال الدفن فاتفق رجوعه بعد الثلاثة، وأما لفظ التعزية فلا حجر فيه فبأي لفظ عزاه حصلت، واستحب أصحاب الشافعي أن يقول في تعزية المسلم بالمسلم: عظم الله أجرك، وأحسن عزاءك وغفر لميتك. وفي المسلم بالكافر: أعظم الله أجرك، وأحسن عزاءك، وفي الكافر بالكافر: أخلف الله عليك ولا نقص لك عددا.
روي أن النبي صلى الله عليه وسلم فقد بعض أصحابه فسأل عنه فقالوا:
يا رسول الله بنيه الذي رأيته هلك، فلقيه النبي صلى الله عليه وسلم، فسأل عن بنيه، فقال: يا رسول الله هلك، فعزاه فيه ثم قال:
يا فلان أيما كان أحب إليك أن تتمتع به عمرك أو لا تأتي غدا بابا من أبواب الجنة إلا وجدته وقد سبقك إليه، فيفتحه لك؟ فقال: يا رسول الله صلى الله عليه وسلم سبقه إلى باب الجنة أحب إلي من التمتع به في دار الدنيا. قال: ذلك لك.
وروى البيهقي بإسناده في مناقب الشافعي رحمهما الله:
أن الشافعي قد بلغه أن عبد الرحمن بن مهدي مات له ابن فجزع عليه جزعا شديدا، فبعث إليه الشافعي رحمه الله يقول: يا أخي عزّ نفسك بما تعزّ به غيرك واستقبح من نفسك ما تستقبحه من غيرك، واعلم أن أمض المصائب «2» فقد سرور وحرمان أجر، فكيف إذا اجتمعا مع اكتساب وزر؟ ألهمك الله عند المصائب صبرا، وأجزل لنا ولك بالصبر أجرا.
وروي عن ابن المبارك قال: مات لي ابن فمرّ بي مجوسي وقال: ينبغي للعاقل أن يفعل اليوم ما يفعله الجاهل بعد خمسة أيام، فقال: اكتبوها منه. عن معاذ بن جبل أنه قال: مات لي ابن، فكتب إلي رسول الله صلى الله عليه وسلم: من محمد رسول الله صلى الله عليه وسلم إلى معاذ بن جبل، سلام عليكم، فإني أحمد الله الملك الذي لا إله إلا هو، أما بعد، فعظم الله لك الأجر، وألهمك الصبر ورزقنا وإياك الشكر، ثم اعلم أن أنفسنا وأموالنا وأهلنا وأولادنا من مواهب الله تعالى الهنية وعواريه المستودعة، يمتعنا بها إلى أجل معدود ويقبضها لوقت معلوم، ثم فرض الله تعالى علينا الشكر إذا أعطى، والصبر إذا ابتلى، وكان ابنك من مواهب الله الهنية وعواريه المستودعة. متعك الله به في غبطة وسرور، وقبضه بأجر كبير إن صبرت واحتسبت، فاصبر واحتسب، واعلم أن الجزع لا يرد ميتا ولا يطرد حزنا.
وروي أن أبا بكر رضي الله تعالى عنه كان إذا عزى مرزأ قال: ليس مع العزاء مصيبة ولا مع الجزع فائدة، والموت أشد مما قبله، وأهون مما بعده، فاذكر مصيبتك برسول الله صلى الله عليه وسلم تهن عليك مصيبتك.
وعزى الإمام الشافعي رضي الله تعالى عنه صديقا له فقال:
إنا نعزيك لا أنا على ثقة ... من الحياة ولكن سنة الدين
فما المعزّى بباق ببعد ميّته ... ولا المعزّي ولو عاشا إلى حين
كتب بعضهم إلى أخ له يعزيه: أنت يا أخي أعزك الله عالم بالدنيا وما خلقت له من الفناء وإنها لم تعط إلا أخذت ولم تسر إلا أحزنت، وإن الموت سبيل محتوم على الأولين والآخرين لا دافع عنه ولا مؤخر لما قضى الله عز وجل منه، وإنا لله وإنا إليه راجعون. وعزّى رجل بعض الخلفاء بابن له، فكتب إليه يقول:
تعزّ أمير المؤمنين فإنه ... لما قد ترى يغدو الصغير ويولد
هل الابن إلا من سلالة آدم ... لكلّ على حوض المنية مورد
وكتب بعضهم إلى صديق له وقد ماتت ابنته فقال:
الموت أخفى سوأة للبنات ... ودفنها يروى من المكرمات
أما رأيت الله سبحانه ... قد وضع النعش بجنب البنات
وكتب بعضهم إلى صديق له يعزيه بأخيه ويسليه:
ما تصنع يا أخي والقضاء نازل والموت حكم شامل، وإن لم تلذ بالصبر فقد اعترضت على مالك الأمر، وأنت تعلم(1/505)
أن نوائب الدهر لا تدفع إلا بعزائم الصبر، فاجعل بين هذه اللوعة الغالبة والدمعة الساكبة حاجبا من فضلك وحاجزا من عقلك ودافعا من دينك ومانعا من يقينك، فإن المحن إذا لم تعالج بالصبر كانت كالمنح إذا لم تقابل بالشر، فصبرا صبرا، ففحول الرجال لا تستفزّها الأيام بخطوبها، كما أن متون الجبال لا تهزها العواصف بهبوبها، فعزيز علي أن أخاطب مولاي معزّيا وأكاتب مسليا عن كبير أو صغير مما يتعلق بخدمته أو ينتهي إلى جملته، فكيف بالصنو الأكرم والذخر الأعظم والركن الأشد والسهم الأسد والشهاب الأسطع والحسام الأقطع، لكن التعزية سيرة سائرة وسنة ماضية غابرة، وقدر الله هو المقدر وأجل الله إذا جاء لا يؤخر، ولولا أن الذكرى تنفع والتعزية يستوي فيها الأشرف والأوضع، لأجللت مولاي أن أفاتحه معزيا وأخاطبه مسليا، ولكن بحمد الله العالم لا يعلم والسابق لا يتقدم فبمولاي يقتدى في الصبر على النوائب وبنوره يهتدى في مشكلات المذاهب، وكل ما كان من الرزء أوجع كان الأجر عليه أوسع. جعل الله مولاي من الصابرين على المصيبة وأعظم أجره وجعل الجنة نصيبه.
وعزّى رجل فتى عن أبيه فلم يجده كما أحب فقال:
يا بني سوء الخلف أضر علينا من فقد السلف. ومات لبعض ملوك كندة ابنة فوضع بين يديه بدرة من المال وقال: من بالغ في تعزيته فهي له، فدخل عليه أعرابي وقال: عظم الله أجر الملك كفيت المؤونة وسترت العورة، ونعم الصهر القبر، فقال: قد أبلغت وأوجزت ثم دفعها له.
وعزّت أعرابية قوما فقالت: جافى الله عن ميتكم الثرى وأعانه على طول البلى وآجركم ورحمه. وكان لعلي بن الحسين جليس مات له ابن فجزع عليه جزعا شديدا، فعزاه علي بن الحسين رحمه الله ووعظه فقال: يا ابن رسول الله إن ابني كان مسرفا على نفسه، فقال:
لا تجزع، فإن من ورائه ثلاث خلال. أولهن: شهادة أن لا إله إلا الله، وأن سيدنا محمدا رسول الله، والثانية:
شفاعة جدي صلى الله عليه وسلم، والثالثة: رحمة الله التي وسعت كل شيء، فأين يخرج ابنك عن واحدة من هذه الخلال.
وقال سليمان بن عبد الملك عند موت ابنه لعمر بن عبد العزيز ورجاء بن حيوة: إنه في كبدي جمرة لا يطفئها إلا عبرة، فقال عمر: اذكر الله يا أمير المؤمنين، وعليك بالصبر، فنظر إلى رجاء كالمستريح بمشورته فقال رجاء:
أفضها يا أمير المؤمنين، فما بذلك من بأس، لقد دمعت عينا رسول الله صلى الله عليه وسلم على ابنه إبراهيم، وقال: «إن العين لتدمع وإن القلب ليخشع ولا نقول ما يسخط الرب، وإنا بك يا إبراهيم لمحزونون» . فأرسل سليمان عينيه حتى قضى أربه ثم أقبل عليهم، قال: لولا نزفت هذه العبرة لا نصدع كبدي «1» ، ثم إنه لم يبك بعدها.
وكتب الإسكندر إلى أمه قبل وفاته بقليل: إذا وصل إليك كتابي هذا فاجمعي أهل بلدك وأعدى لهم طعاما ووكلي بالأبواب من يمنع من أصابته مصيبة في أم أو أب أو أخ أو أخت أو ولد، ففعلت، فلم يدخل إليها أحد، فعلمت أن الإسكندر عزّاها في نفسه.
ولما قتل الفضل بن سهل دخل المأمون على أمه يعزيها فيه فقال: يا أماه لا تحزني على الفضل، فأنا خلف منه، فقالت: كيف لا أحزن على ولد عوضني عنه خليفة مثلك، فعجب المأمون من جوابها، وكان يقول:
ما سمعت قط أحسن منه ولا أجلب للقلوب. فقال لها:
عليك بالصبر، فإن فيه مزيد الأجر.
وممن جزع على ولده جعفر بن علية لما قتله الحارث قام نساء الحي يبكون عليه، وقام أبوه إلى ولد كل شاة وناقة فذبحه وألقاها بين أيديها وقال لها: ابكين معي على جعفر، فما زالت النوق ترغو والشياه تيعر والنساء يصرخن ويبكين وهو يبكي معهن، فلم ير مأتم كان أوجع منه.
وقال يحيى بن خالد: التعزية بعد ثلاثة أيام تجدد الحزن، والتهنئة بعد سنة تجدد الفرح.
ومما قيل في التأسي والتسلي بالخلف عن السلف:
قيل: عزى بعض الشعراء يزيد بن معاوية في والده فقال:
أصبر يزيد فقد فارقت ذا ثقة ... واشكر إلهك من بالملك حاباكا «2»
لا رزء أصبح في الأيام نعرفه ... كما رزئت ولا عقبى كعقباكا «3»
وقال آخر:
لا بدّ من فقد ومن فاقد ... هيهات ما في الناس من خالد
وقال آخر:(1/506)
تبصّر فلو أن البكا رد هالكا ... على أحد فاكثر بكاك على عمر
وكتب بعضهم إلى أولاد صديقه يعزيهم ويسليهم في والدهم فقال:
فلو كان فيض الدمع ينفع باكيا ... لعلّمت غرب الدمع كيف يسيل
فإن غاب بدر فالنجوم طوالع ... ثوابت لا يقضى لهنّ أفول
يغاث بها في ظلمة الليل حائر ... ويسري عليها بالرفاق دليل
ودخل عبد الملك بن صالح على الرشيد وقد مات له ولد، وولد له في تلك الليلة ولد، فقال سرّك الله يا أمير المؤمنين فيما ساءك ولا ساءك فيما سرك وجمع لك بين أجر الصابر وثواب الشاكر. وقال بعضهم:
أليس لهذا صار آخر أمرنا ... فلا كانت الدنيا القليل سرورها
فلا تعجبي يا نفس مما ترينه ... فكل أمور الناس هذا مصيرها
وسئل الأصمعي عن قول الخنساء في نعيها صخر حين مات ونعته فقالت:
يذكرني طلوع الشمس صخرا ... وأندبه لكلّ غروب شمس
فقالوا له: لماذا أنها خصت الشمس دون القمر والكواكب فقال: لكونه كان يركب عند طلوع الشمس يشن الغارات وعند غروبها يجلس مع الضيفان، فذكرته بهذا مدحا لأنه كان يغير على أعدائه ويتقيد بضيفه، وقد رثته بعد البيت الأول بأبيات منها:
ألا يا نفس لا تنسيه حتى ... أفارق عيشتي وأزور رمسي «1»
ولولا كثرة الباكين حولي ... على أمواتهم لقتلت نفسي
وما يبكون مثل أخي ولكن ... أسلّي النفس عنه بالتأسّي «2»
وقال آخر:
ولولا الأسى ما عشت في الناس ساعة ... ولكن إذا ناديت جاوبني مثلي
وقال آخر:
وهوّن وجدي عن خليلي أنني ... إذا شئت لاقيت الذي أنا صاحبه
وقال آخر:
ومما يؤديني إلى الصبر والعزا ... تردّد فكري في عموم المصائب «3»
الفصل الثالث في المراثي
لما توفي رسول الله صلى الله عليه وسلم رثاه جماعة من أصحابه وآله بمراث كثيرة منها ما روي عن أبي بكر الصديق رضي الله تعالى عنه، فإنه كان أقرب الناس إليه، وهو أول من رثاه، فقال:
لما رأيت نبينا متجندلا ... ضاقت علي بعرضهنّ الدّور
فارتاع قلبي عند ذاك لموته ... والعظم منّي ما حييت كسير
أعتيق ويحك إن خلّك قد ثوى ... والصبر عندك ما بقيت يسير «4»
يا ليتني من قبل مهلك صاحبي ... غيبّت في لحد عليه صخور
فلتحدثن بدائع من بعده ... تعيا بهنّ جوانح وصدور
وقال آخر:
فقدت أرضنا هناك نبيا ... كان يغدو به النبات زكيا
خلقا عاليا ودينا كريما ... وصراطا يهدي الأنام سويا
وسراجا يجلو الظلام منيرا ... ونبيّا مؤيدا عربيا
حازما عازما حليما كريما ... عائدا بالنوال برّا تقيّا(1/507)
إن يوما أتى عليك ليوم ... كوّرت شمسه وكان خليا
فعليك السلام منّا جميعا ... دائم الدهر بكرة وعشيّا
ورثاه صلى الله عليه وسلم أبو سفيان بن الحارث فقال:
أرقت فبات ليلي لا يزول ... وليل أخي المصيبة فيه طول
وأسعدني البكاء وذاك فيما ... أصيب المسلمون به قليل
لقد عظمت مصيبتنا وجلت ... عشية قيل قد قبض الرسول
وأضحت أرضنا مما عراها ... تكاد بنا جوانبها تميل «1»
فقدنا الوحي والتنزيل فينا ... يروح به ويغدو جبرائيل
وذاك أحقّ ما سالت عليه ... نفوس الناس أو كادت تسيل
نبيّ كان يجلو الشك عنا ... بما يوحى إليه وما يقول
ويهدينا فلا نخشى ملاما ... علينا والرسول لنا دليل
أفاطم إن جزعت فذاك عذر ... وإن لم تجزعي فهو السبيل
فقبر أبيك سيّد كلّ قبر ... وفيه سيّد الناس الرسول
ولما مات أبو بكر الصديق رضي الله تعالى عنه رثاه عمر بن الخطاب رضي الله تعالى عنه بهذه الأبيات حين رجع من دفنه فقال:
ذهب الذين أحبّهم ... فعليك يا دنيا السّلام
لا تذكرين العيش لي ... فالعيش بعدهم حرام
إنّي رضيع وصالهم ... والطفل يؤلمه الفطام
ورثى بعضهم محمد بن يحيى بعد موته فقال:
سألت الندى والجود مالي أراكما ... تبدّلتما عزّا بذل مؤبد
وما بال ركن المجد أمسى مهدّما ... فقالا أصبنا بابن يحيى محمد
فقلت فهلّا متّما بعد موته ... وقد كنتما عبديه في كلّ مشهد
فقالا أقمنا كي نعزّى بفقده ... مسافة يوم ثم نتلوه في غد
وقال آخر:
ولا أرتجي في الموت بعدك طائلا ... لا أتقي للدهر بعدك من خطب
وفي المعنى لبعضهم:
لقد أمنت نفسي المصائب بعده ... فأصبحت منها آمنا ان أروّعا
فما أتقي للدهر بعدك نكبة ... ولا أرتجي للعيش بعدك مرتعا «2»
ورثى أشجع السلمي عبد الله بن سعيد فقال:
مضى ابن سعيد حيث لم يبق مشرق ... ولا مغرب إلا له فيه مادح
وما كنت أدري ما فواضل كفّه ... على الناس حتى غيبته الصفائح
وأصبح في لحد من الأرض ميتا ... وكان به حيا تضيق الصحاصح
سأبكيك ما فاضت دموعي فإن تغض ... فحسبك منّي ما تكنّ الجوانح «3»
وما أنا من رزء وإن جلّ جازع ... ولا بسرور بعد فقدك فارح
لئن حسنت فيك المراثي بذكرها ... فقد حسنت من قبل فيك المدائح
وقال آخر:
إلى الله أشكو لا إلى الناس إنني ... أرى الأرض تبقى والأخلّاء تذهب
أخلاي لو غير الحمام أصابكم ... عتبت ولكن ما على الدهر معتب(1/508)
وقال العباس بن الأحنف:
إذا ما دعوت الصبر بعدك والبكا ... أجاب البكا طوعا ولم يجب الصبر
فإن ينقطع منك الرجاء فإنه ... سيبقى عليك الحزن ما بقي الدهر
وقال آخر يرثي صديقه:
خليلي ما أزداد إلّا صبابة ... إليك وما تزداد إلا تنائيا
خليلي لو نفس فدت نفس ميّت ... فديتك مسرورا بنفسي وماليا
وقد كنت أرجو أن تعيش وإن أمت ... فحال رجاء الله دون رجائيا
ألا فليمت من شاء بعدك إنما ... عليك من الأقدار كان حذاريا «1»
أخذها بعضهم فقال:
كنت السّواد لمقلتي ... يبكي عليك الناظر
من شاء بعدك فليمت ... فعليك كنت أحاذر
وقال آخر يرثي بعض أولاده:
وقاسمني دهري بني مشاطرا ... فلما تقضّى شطره عاد في شطري
ألا ليت أمّي لم تلدني وليتني ... سبقتك إذ كنا إلى غاية تجري
وقد كنت ذا ناب وظفر على العدا ... فأصبحت لا يخشون نابي ولا ظفري
وقال عمر بن الخطاب رضي الله عنه للخنساء: أخبريني بأفضل بيت قلته في أخيك فقالت:
وكنت أعير الدمع قبلك من بكى ... فأنت على من مات بعدك شاغله
ولأبي المحاسن الشواء في صديق له مات وسقط الثلج عقيب موته:
لم أنسه وبنو الملوك أمامه ... يدمون للأسف الأكفّ عضاضا
والثلج قد غطى الربا فكأنها ... من حزنها لبست عليه بياضا
وقال آخر:
وليس صرير النعش ما تسمعونه ... ولكنه أصلاب قوم تقصّفوا
وليس نسيم المسك ريا حنوطه ... ولكنه ذاك الثناء المخلف
وقال مقاتل بن عطية يرثي الوزير نظام الملك:
كان الوزير نظام الملك لؤلؤة ... يتيمة صاغها الرحمن من شرف
عزّت ولم تعرف الأيام قيمتها ... فردّها عندما عزّت إلى الصدف
وقال آخر:
وقبرت وجهك وانصرفت مودّعا ... بأبي وأمّي وجهك المقبور
وأرى ديارك بعد وجهك قفرة ... والقبر منك مشيّد معمور
فالناس كلهم لفقدك واجد ... في كل بيت رنة وزفير
عجبا لأربع أذرع في خمسة ... في جوفها جبل أشمّ كبير
وكان رجل توفي ولده في يوم عيد فقال:
لبس الرجال جديدهم في عيدهم ... ولبست حزن أبي الحسين جديدا
أيسرّني عيد ولم أر وجهه ... فيه ألا بعدا لذلك عيدا
فارقته وبقيت أخلد بعده ... لا كان ذاك بقا ولا تخليدا
من لم يمت جزعا لفقد حبيبه ... فهو الخؤون مودة وعهودا
مت مع حبيبك إن قدرت ولا تعش ... من بعده ذا لوعة مكمودا
ما أمّ خشف قد ملا أحشاءها ... حذرا عليه وجفنها تسهيدا «2»(1/509)
إن نام لم تهجع وطافت حوله ... فيبيت مكلوما بها مرصودا
منّي بأوجع إذ رأيت نوائحا ... لأبي الحسين وقد لطمن خدودا
ولقد عدمت أبا الحسين جلادتي ... لما رأيت جمالك المفقودا
كنت الجليد على الرزايا كلها ... وعلى فراقك لم أجد تجليدا «1»
ولئن بقيت وما هلكت فإن لي ... أجلا وإن لم أحصه معدودا
لا موت لي إلا إذا الأجل انقضى ... فهناك لا أتجاوز المحدودا
حزني عليك بقدر حبّك لا أرى ... يوما على هذا وذاك مزيدا
ما هدّ ركنّي بالسنين وإنّما ... أصبحت بعدك بالأسى مهدودا
يا ليت إني لم أكن لك والدا ... وكذاك إنك لم تكن مولودا
فلقد شقيت وربما شقي الفتى ... بفراق من يهوى وكان سعيدا
من ذمّ جفنا باخلا بدموعه ... فعليك جفني لم يزل محمودا
فلأنظمنّ مراثيا مشهورة ... تنسي الأنام كثيّرا ولبيدا
وجميع من نظم القريض مفارق ... ولدا له أو صاحبا مفقودا
وقال الفقيه منصور بن إسماعيل المصري:
سألت رسوم القبر عمّن ثوى به ... لأعلم ما لاقى فقالت جوانبه
أتسأل عمّن عاش بعد وفاته ... بإحسانه إخوانه وأقاربه
وقال الإمام السبكي «2» رحمه الله تعالى يرثي فضل الله العالم:
مصاب ليس يشبهه مصاب ... لذي الألباب إذ فقد الشّهاب
إمام قد حوى من كلّ علم ... كنوزا نحوها يسعى الرّكاب «3»
ليبكي كلّ ذي علم عليه ... فكم علم له ضمّ التراب
وكم كلم موانع قد أتته ... ثناها وهي عاصية صعاب
فسلطان البلاغ بغير شك ... شهاب الدين ما فيه ارتياب
سقى الله الكريم ثراه صوبا ... له من كل رضوان رضاب «4»
وقال الصفدي:
يا غائبا في الثرى تبلى محاسنه ... الله يوليك غفرانا وإحسانا
إن كنت جرّعت كأس الموت واحدة ... في كلّ يوم أذوق الموت ألوانا
وقال محمد بن عبد الله العتبي يرثي إبنا له:
أضحت بخدي للدموع رسوم ... أسفا عليك وفي الفؤاد كلوم «5»
والصبر يحمد في المواطن كلّها ... إلا عليك فإنه مذموم
وكتب أحمد بن يوسف إلى عمر بن سعيد يرثي بنتا له فقال:
عجبا للمنون كيف أتتها ... وتخطّت عبد الحميد أخاكا
شملتنا مصيبتان جميعا ... فقدنا هذه ورؤية ذاكا
وله يرثي الأمير يلبغا:
ألا إنّما الدنيا غرور وباطل ... فطوبى لمن كفاه منها تفرّغا «6»
وما عجبي إلا لمن بات واثقا ... بأيام دهر ما وعى حق يلبغا(1/510)
وقال آخر:
إلى الله أشكو أن كلّ قبيلة ... من الناس قد أفنى الحمام خيارها «1»
وقال رجل يرثي صديقا له توفي وكان من الكرماء:
ما درى نعشه ولا حاملوه ... ما على النعش من عفاف وجود
ولبعض الكتاب في ابن مقلة:
استشعر الكتّاب فقدك سالفا ... وقضت بصحّة ذلك الأيام
فلذاك سوّدت الدواة كآبة ... أسفا عليك وشقت الأقلام
وقال الحسن بن مطير الأسدي يرثي معن بن زائدة رحمه الله تعالى:
هلمّا إلى معن وقولا لقبره ... سقتك الغوادي مربعا ثم مربعا
فيا قبر معن كنت أوّل حفرة ... من الأرض خطّت للسماحة مضجعا
ويا قبر معن كيف واريت جوده ... وقد كان منه البرّ والبحر مترعا
بلى قد وسعت الجود والجود ميّت ... ولو كان حيا ضقت حتى تصدّعا
فتى عاش في معروفه بعد موته ... أناس لهم بالبرّ قد كان أوسعا
ولمّا مضى معن مضى الجود كلّه ... وأصبح عرنين المكارم أجدعا «2»
وقال آخر:
عجبت لصبري بعده وهو ميّت ... وقد كنت أبكيه دما وهو غائب
وقال آخر:
فديتك لم أصبر ولي فيك حيلة ... ولكن دعاني اليأس منك إلى الصبر
وقالت ريطة بنت عاصم:
وقفت فأبكتني ديار عشيرتي ... على رزئهن الباكيات الحواسر «3»
غدوا كسيوف الهند ورّاد حومة ... من الموت أعيا وردهنّ المصادر «4»
فوارس حاموا عن حريمي وحافظوا ... بدار المنايا والقنا متشاجر
ولو أن سلمى نالها مثل رزئنا ... لهدّت ولكن محمل الرزء عامر
ولما قتل إبراهيم بن عبد الله بن الحسين وحمل رأسه إلى المنصور، أنفذها المنصور مع الربيع إلى عميه إدريس ومحمد وكانا في حبسه، وكان أبوه قائما يصلي فقال له محمد: أوجز، فأوجز وسلم، فلما أتاه، وضع الرأس في حجره فقال: أهلا وسهلا يا أبا القاسم تالله لقد كنت من الناس الذين قال الله تعالى في حقهم: الَّذِينَ يُوفُونَ بِعَهْدِ اللَّهِ وَلا يَنْقُضُونَ الْمِيثاقَ 20
«5» . ثم قبله بين عينيه وأنشأ يقول:
فتى كان يحميه من العار سيفه ... ويكفيه سوءات الأمور اجتنابها
ثم قال للربيع: قل لصاحبك المنصور قد مضى من بؤسنا أيام ومن نعمتك أيام، والملتقى غدا بين يدي الله تعالى، فكان ذلك فألا «6» على المنصور ولم ير بعد ذلك اليوم راحة. وقيل لحسان: ما بالك لم ترث رسول الله صلى الله عليه وسلم؟ قال: لم أر شيئا إلا رأيته يقصر عنه «7» .
والله أعلم بالصواب وإليه المرجع والمآب وصلى الله على سيدنا محمد وعلى آله وصحبه وسلم.(1/511)
الباب الثالث والثمانون في ذكر الدنيا وأحوالها وتقلبها بأهلها والزهد فيها
قال الله تعالى: قُلْ مَتاعُ الدُّنْيا قَلِيلٌ وَالْآخِرَةُ خَيْرٌ لِمَنِ اتَّقى
«1» فوصف سبحانه وتعالى جميع الدنيا بأنها متاع قليل، وأنت أيها الانسان تعلم أنك ما أوتيت من القليل إلا قليلا ثم إن القليل إن تمتعت به فهو لعب ولهو لقوله تعالى: أَنَّمَا الْحَياةُ الدُّنْيا لَعِبٌ وَلَهْوٌ وَزِينَةٌ
«2» .
وقال تعالى: وَإِنَّ الدَّارَ الْآخِرَةَ لَهِيَ الْحَيَوانُ لَوْ كانُوا يَعْلَمُونَ
«3» . فلا تبع أيها العاقل حياة قليلة تفنى بحياة كثيرة تبقى، كما قال ابن عياض: لو كانت الدنيا ذهبا يفنى، والآخرة خزفا يبقى. لوجب علينا أن نختار ما يبقى على ما يفنى، ثم تأمل بعقلك هل آتاك الله من الدنيا مثل ما أوتي سليمان عليه الصلاة والسلام حيث ملكه الله تعالى جميع الدنيا من إنس وجن وسخر له الريح والطير والوحوش، ثم زاده الله تعالى أحسن منها حيث قال:
هذا عَطاؤُنا فَامْنُنْ أَوْ أَمْسِكْ بِغَيْرِ حِسابٍ
«4» . فوالله ما عدها نعمة مثل ما عددتموها ولا حسبها رفعة مثل ما حسبتموها، بل خاف أن يكون استدراجا من حيث لا يعلم فقال: هذا مِنْ فَضْلِ رَبِّي لِيَبْلُوَنِي أَأَشْكُرُ أَمْ أَكْفُرُ
«5» . وهذا فصل الخطاب لمن تدبر. هذا قد قال لك ولجميع أهل الدنيا: فَوَ رَبِّكَ لَنَسْئَلَنَّهُمْ أَجْمَعِينَ 92 عَمَّا كانُوا يَعْمَلُونَ 93
«6» .
وقال تعالى: وَإِنْ كانَ مِثْقالَ حَبَّةٍ مِنْ خَرْدَلٍ أَتَيْنا بِها وَكَفى بِنا حاسِبِينَ
«7» .
وروي عن رسول الله صلى الله عليه وسلم أنه قال: «لو كانت الدنيا تزن عند الله جناح بعوضة ما سقى كافرا منها شربة ماء» .
وعن أبي هريرة رضي الله عنه قال: قال لي رسول الله صلى الله عليه وسلم: «ألا أريك الدنيا بما فيها؟ قلت: بلى يا رسول الله، فأخذ بيدي وأتى إلى واد من أودية المدينة فإذا مزبلة فيها رؤوس الناس وعذارات وخرق بالية وعظام البهائم، فقال: يا أبا هريرة هذه الرؤوس كانت تحرص حرصكم وتأمل آمالكم وهي اليوم صارت عظاما بلا جلد، ثم هي صائرة عظما رميما، وهذه العذارت ألوان أطعمتهم اكتسبوها من حيث اكتسبتموها في الدنيا فأصبحت والناس يتحامونها، وهذه الخرق البالية رياشهم أصبحت والرياح تصفقها، وهذه العظام عظام دوابهم التي كانوا ينتجعون عليها أطراف البلاد. فمن كان باكيا على الدنيا فليبك قال:
فما برحنا حتى اشتد بكاؤنا» «8» .
وروي أن عمر بن الخطاب رضي الله عنه دخل على النبي صلى الله عليه وسلم وهو على سرير من الليف وقد أثر الشريط في جنبه، فبكى عمر رضي الله تعالى عنه، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: ما يبكيك يا عمر؟ فقال: تذكرت كسرى وقيصر. وما كانا فيه من سعة الدنيا، وأنت رسول الله، وقد أثر الشريط بجنبيك، فقال صلى الله عليه وسلم: هؤلاء قوم عجّلت لهم طيباتهم في حياتهم الدّنيا، ونحن قوم أخرت لنا طيباتنا في الآخرة.
وروي عن الضحاك قال: لما أهبط الله آدم وحواء إلى الأرض ووجدا ريح الدنيا وفقدا ريح الجنة غشي عليهما أربعين يوم من نتن الدنيا.
وعن ابن معاذ قال: الحكمة تهوي من السماء إلى القلوب فلا تسكن في قلب فيه أربع خصال: ركون إلى الدنيا «9» ، وهم عدو وحسد أخ وحب شرف.
وعن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال لعلي: «يا علي أربع خصال من الشقاء؛ جمود العين، وقسوة القلب، وبعد الأمل، وحب الدنيا» .
وروي عن ابن عباس رضي الله عنهما أنه قال: يؤتى بالدنيا يوم القيامة على صورة عجوز شمطاء زرقاء العينين أنيابها بادية، مشوهة الخلق لا يراها أحد إلا هرب منها،(1/512)
فتشرف على الخلائق أجمعين فيقال لهم: أتعرفون هذه؟
فيقولون: لا، نعوذ بالله من معرفة هذه، فيقال: هذه الدنيا التي تفاخرتم بها وتقاتلتم عليها.
وعن الفضيل بن عياض أنه قال: جعل الخير كله في بيت واحد، وجعل مفتاحه الزهد في الدنيا، وجعل الشر كلّه في بيت واحد، وجعل مفتاحه حب الدنيا.
وقيل: إن الدنيا مثل ظل الإنسان إن طلبته فر، وإن تركت تبعك، وفي قال بعضهم:
إنّما الرزق الذي تطلبه ... يشبه الظلّ الذي يمشي معك
أنت لا تدركه متّبعا ... وهو وإن ولّيت عنه تبعك
وقد شبهها بعضهم بخيال الظل فقال:
رأيت خيال الظلّ أعظم عبرة ... لمن كان في علم الحقائق راقي
شخوصا وأصواتا يخالف بعضها ... لبعض وأشكالا بغير وفاق
تجيء وتمضي بابة بعد بابة ... وتفنى جميعا والمحرّك باقي «1»
وما أحسن ما قال سليمان بن الضحاك:
ما أنعم الله على عبده ... بنعمة أوفى من العافيه
وكلّ من عوفي في جسمه ... فإنّه في عيشة راضيه
والمال حلو حسن جيّد ... على الفتى لكنه عاريه «2»
ما أحسن الدّنيا ولكنّها ... مع حسنها غدّارة فانيه
وتوفي رجل من كندة فكتب على قبره هذه الأبيات:
يا واقفين ألم تكونوا تعلموا ... إن الحمام بكم علينا قادم
لو تنزلون بشعبنا لعرفتمو ... أنّ المفرّط في التزوّد نادم
لا تستعزّوا بالحياة فإنّكم ... تبنون والموت المفرّق هادم
سلوى الرّدى ما بيننا في حفرة ... حيث المخدّم واحد والخادم
وقال آخر:
عن قليل أصير كوم تراب ... وتقول الرفاق هذا فلان
صار تحت التراب عظما رميما ... وجفاه الأصحاب والخلّان
وما أحسن ما قال عبد الله بن طاهر:
أليس إلى ذا صار آخر أمرنا ... فلا كانت الدنيا القليل سرورها
فلا تعجبي يا نفس ممّا ترينه ... فكلّ أمور الناس هذا مصيرها
وقال شرف الدين بن أسد:
يا من تملّك ملكا لا بقاء له ... حمّلت نفسك آثاما وأوزارا
هل الحياة بذي الدنيا وإن عذبت ... إلا كطيف خيال في الكرى زارا
وقال بعضهم:
وغاية هذي الدار لذّة ساعة ... ويعقبها الأحزان والهمّ والندم
وهاتيك دار الأمن والعزّ والتّقى ... ورحمة ربّ الناس والجود والكرم
وقال غيره:
حسّنت ظنّك بالأيام إذ حسنت ... ولم تخف سوء ما يأتي به القدر
وسالمتك الليالي فاغتررت بها ... وعند صفو الليالي يحدث الكدر
وقال آخر:
فإن كنت لا تدري متى الموت فاعلمن ... بأنّك لا تبقى إلى آخر الدّهر
يا ابن آدم:
أين الأولون والآخرون، أين نوح شيخ المرسلين، أين إدريس رفيع رب العالمين، أين إبراهيم خليل الرحمن، أي موسى الكليم من بين سائر النبيين، أين عيسى روح الله(1/513)
وكلمته رأس الزاهدين، وإمام السائحين، أين محمد خاتم النبيين، أين أصحابه الأبرار، أين الأمم الماضية، أين الملوك السالفة، أين القرون الخالية، أين الذين نصبت على مفارقهم التيجان، أين الذين قهروا الأبطال والشجعان، أين الذين دانت لهم المشارق والمغارب، أين الذين تمتعوا باللذات والمشارب، أين الذين تاهوا على الخلائق كبرا وعتيا، أين الذين راحوا في الحلل بكرة وعشيا، أين الذين اغتروا بالأجناد، أين أصحاب الوزراء، والقواد، أين أصحاب السطوة والأعوان، أين أصحاب الإمرة والسلطان، أين أصحاب الأعمال والولايات، أين الذين خفقت على رؤوسهم الألوية والرايات، أين الذين قادوا الجيوش والعساكر، أين الذين عمروا القصور والدساكر، أين الذين أعطوا النصر في موطن الحروب، والمواقف، أين الذين آمنوا بسطوتهم كل خائف، أين الذين ملأوا ما بين الخافقين فخرا وعزا، أين الذين فرشوا القصور حريرا وقزا، أين الذين تضعضعت لهم الأرض هيبة وعزا هل تحس منهم من أحد، أو تسمع لهم ذكرا، أفناهم الله مفني الأمم وأبادهم مبيد الرمم وأخرجهم من سعة القصور إلى ضيق القبور تحت الجنادل والصخور فأصبحوا لا ترى إلا مساكنهم لم ينفعهم ما جمعوا ولا أغنى عنهم ما اكتسبوا، أسلمهم الأحباء والأولياء، وهجرهم الإخوان الأصفياء، ونسيهم الأقرباء والبعداء، لو نطقوا لأنشدوا:
مقيم بالحجون رهين رمس ... وأهلي راحلون بكل واد «1»
كأنّي لم أكن لهمو حبيبا ... ولا كانوا الأحبّة في السواد
فعوجوا بالسلام فإن أبيتم ... فأوموا بالسلام على البعاد
وقالوا: لا فخر فيما يزول، ولا غنى فيما لا يبقى، وهل الدنيا إلا كما قال بعض الحكماء المتقدمين: قدر يغلى وكنيف يملى.
وفي هذا المعنى قال الشاعر:
ولقد سألت الدار عن أخبارهم ... فتبسّمت عجبا ولم تبدي
حتى مررت على الكنيف فقال لي ... أموالهم ونوالهم عندي
ولقد أصاب ابن السماك حيث قال للرشيد لما قال له عظني، وكان بيده شربة ماء فقال له: يا أمير المؤمنين لو حبست عنك هذه الشربة أكنت تفديها بملكك، قال:
نعم، قال: يا أمير المؤمنين، لو شربتها وحبست عن الخروج أكنت تفديها بملكك؟ قال: نعم، فقال له:
لا خير في ملك لا يساوي شربة ولا بولة.
وقال ابن شبرمة: إذا كان البدن سقيما لم ينفعه الطعام، وإذا كان القلب مغرما لم تنفعه الموعظة.
وروي أن أبا العتاهية مر بدكّان ورّاق وإذا بكتاب فيه:
لا ترجع الأنفس عن غيّها ... ما لم يكن منها لها زاجر «2»
فقال: لمن هذا البيت؟ فقيل: لأبي نواس قاله للخليفة هارون الرشيد حين نهاه عن حب الجمال وعشق الملاح، فقال: وددت أنه لي بنصف شعري.
وممن استبصر من أبناء الملوك فرأى عيب الدنيا وتقضيها وزوالها، إبراهيم أدهم بن منصور، كان من أبناء ملوك خراسان من كورة بلخ، لما زهد الدنيا زهد في ثمانين سريرا. قال ابن بشار: سألت ابراهيم بن أدهم:
كيف كان بدء أمرك حتى صرت إلى هذا؟ فقال: كان أبي من ملوك خراسان وكان قد حبب إلي الصيد، فبينا أنا راكب فرسي وكلبي معي إذ رأيت ثعلبا أو أرنبا، فحركت فرسي نحوه، فسمعت نداء من ورائي: يا إبراهيم ما لهذا خلقت ولا بهذا أمرت، فوقفت أنظر يمنة ويسرة، فلم أر أحدا، فقلت: لعن الله الشيطان. ثم حركت فرسي، فسمعت نداء أعلى من الأول: يا إبراهيم ما لهذا خلقت ولا بهذا أمرت. فوقفت أنظر يمنة ويسرة، فلم أر شيئا، فقلت: لعن الله الشيطان، ثم حركت فرسي، فسمعت النداء من قربوس سرجي: يا إبراهيم ما لهذا خلقت ولا بهذا أمرت، فوقفت وقلت: هيهات جاءني النذير من رب العالمين، والله لا عصيت ربي ما عصمني بعد يومي هذا.
فتوجهت إلى أهلي وخلفت فرسي وجئت إلى بعض رعاة أبي، فأخذت جبته وكساءه وألقيت إليه ثيابي، فلم أزل أرض تقلني وأرض تضعني حتى صرت إلى العراق فعملت بها أياما فلم يصف لي شيء من الحلال، فسألت بعض المشايخ عن الحلال فقال: عليك بالشام، قال: فانصرفت إلى بلد يقال لها المنصورية «3» ، فعلمت بها أياما، فلم(1/514)
يصف لي شيء من الحلال، فسألت بعض المشايخ فقال:
إن أردت الحلال، فعليك بطرسوس. فإن المباحات بها والعمل فيها كثير، فانصرفت إليها. قال: فبينا أنا قاعد على باب البحر إذ جاءني رجل فاكتراني أنظر له بستانا، فتوجهت معه، فأقمت في البستان أياما كثيرة، فإذا خادم له قد أقبل ومعه أصحاب له ولو علمت أن البستان بخادم ما نظرته، فقعد في مجلسه ثم قال: يا ناظورنا، فأجبته.
قال: اذهب فأتنا بأكبر رمان تقدر عليه وأطيبه. فأتيته برمان، فكسر الخادم واحدة، فوجدها حامضة، فقال:
يا ناظورنا أنت منذ كذا وكذا في بستاننا تأكل من فاكهتنا ورماننا ولا تعرف الحلو من الحامض؟ فقلت: والله ما أكلت من فاكهتكم شيئا، ولا أعرف الحلو من الحامض، قال: فغمز الخادم أصحابه، وقال: ألا تعجبون من هذا، ثم قال لي: لو كنت إبراهيم بن أدهم ما كنت بهذه الصفة، قال: ثم تحدث الناس بذلك، وجاءوا إلى البستان، فلما رأيت كثرة الناس اختفيت والناس داخلون، وأنا هارب منهم. وكان يأكل من كسب يده، وكان يحصد ويحفظ البساتين ويعمل في الطين، فبينما هو يوما يحرس كرما إذ مر به جندي فقال: أعطنا من هذا العنب، فقال له:
إن صاحبه لم يأذن لي، فضربه بالسوط فطأطأ رأسه وقال:
اضرب رأسا طالما عصى الله يا سيدي الجندي، فاستحى الرجل وتركه ومضى.
وروي أن داود عليه الصلاة والسلام بينما هو في الجبال إذ مر على غار فيه رجل عظيم الخلقة من بني آدم ملقى على ظهره وعند رأسه حجر محفور مكتوب فيه: أنا دوسم الملك، تملكت ألف عام وفتحت ألف مدينة. وهزمت ألف جيش، وافتضيت ألف بكر من بنات الملوك ثم صرت إلى ما ترى التراب فراشي والحجر وسادي فمن رآني فلا تغره الدنيا كما غرتني.
وقال وهب بن منبه: خرج عيسى عليه الصلاة والسلام ذات يوم مع أصحابه، فلما ارتفع النهار مروا بزرع قد أفرك. فقالوا: يا نبي الله إنّا جياع فأوحى الله تعالى إليه أن ائذن لهم في قوتهم. فأذن لهم، فتفرقوا في الزرع يفركون ويأكلون، فبينما هم كذلك إذ جاء صاحب الزرع يقول:
زرعي وأرضي ورثتها من أبي وجدي، فبإذن من تأكلون يا هؤلاء؟ قال: فدعا عيسى ربه أن يبعث جميع من ملكها من لدن آدم إلى تلك الساعة، فإذا عند كل سنبلة ما شاء الله من رجل، وامرأة يقولون: أرضنا ورثناها عن آبائنا وأجدادنا، ففر الرجل منهم، وكان قد بلغه أمر عيسى ولكن لا يعرفه، فلما عرفه قال: معذرة إليك يا نبي الله لم أعرفك، زرعي ومالي حلال لك، فبكى عيسى عليه الصلاة والسلام وقال: ويحك هؤلاء كلهم ورثوها وعمروها، ثم ارتحلوا عنها، وأنت مرتحل عنها ولا حق بهم، ليس لك أرض ولا مال «1» .
ولما مات الإسكندر قال أرسطاطاليس: أيها الملك لقد حركتنا بسكوتك، وقال بعض الحكماء من أصحابه: لقد كان الملك أمس أنطق منه اليوم، وهو اليوم أوعظ منه أمس. أخذه أبو العتاهية فقال:
كفى حزنا بدفنك ثم إنّي ... نفضت تراب قبرك من يديّا
وكانت في حياتك لي عظات ... وأنت اليوم أوعظ منك حيّا
وقال عبد الله بن المعتز:
نسير إلى الآجال في كلّ ساعة ... فأيامنا تطوى وهنّ مراحل
ولم أر مثل الموت حتى كأنّه ... إذا ما تخطّته الأماني باطل
وما أقبح التفريط في زمن الصبا ... فكيف به والشيب في الرأس شاعل
ترحلّ من الدنيا بزاد من التقى ... فعمرك أيام تعدّ قلائل
وقال عبد الله بن المعلم: خرجنا من المدينة حجّاجا فإذا أنا برجل من بني هاشم من بني العباس بن عبد المطلب قد رفض الدنيا، وأقبل على الآخرة، فجمعتني وإياه الطريق، فأنست به وقلت له: هل لك أن تعادلني، فإن معي فضلا من راحلتي، فجزاني خيرا وقال:
لو أردت هذا لكان سهلا، ثم أنس إلي فجعل يحدثني فقال: أنا رجل من ولد العباس كنت أسكن البصرة وكنت ذا كبر شديد ونعمة طائلة ومال كثير وبذخ زائد، فأمرت يوما خادما لي أن يحشو لي فراشا من حرير ومخدة بورد نثير ففعل، فإني لنائم إذا بقمع وردة قد نسيه الخادم، فقمت إليه فأوجعته ضربا، ثم عدت إلى مضجعي بعد إخراج القمع من المخدة، فأتاني آت في منامي في صورة فظيعة فهزني وقال: أفق من غشيتك وانتبه من رقدتك، ثم أنشأ يقول:(1/515)
يا خل إنك إن توسّد لينّا ... وسّدت بعد اليوم صمّ الجندل»
فامهد لنفسك صالحا تسعد به ... فلتندمنّ غدا إذا لم تفعل
فانتبهت مرعوبا وخرجت من ساعتي هاربا إلى ربي كما تراني ثم أنشأ يقول:
من كان يعلم أن الموت يدركه ... والقبر مسكنه والبعث يخرجه
وأنّه بين جنات مزخرفة ... يوم القيامة أو نار ستنضجه
فكلّ شيء سوى التقوى به سمج ... ومن أقام عليه منه أسمجه «2»
ترى الذي اتخذ الدنيا له وطنا ... لم يدر أن المنايا سوف تزعجه
قال وهب بن منبه: أصبت على قصر غمدان وهو قصر سيف بن ذي يزن بأرض صنعاء اليمن وكان من الملوك الأجلة مكتوبا بالقلم المسندي فترجم بالعربي فإذا هي أبيات جليلة وموعظة عظيمة جميلة وهي هذه الأبيات:
باتوا على قلل الأجبال تحرسهم ... غلب الرجال فلم تنفعهم القلل «3»
واستنزلوا من أعالي عزّ معقلهم ... فأسكنوا حفرة يا بئس ما نزلوا «4»
فإذا همو صارخ من بعد ما دفنوا ... أين الاسرّة والتيجان والحلل
أين الوجوه التي كانت محجبة ... وكان من دونها الأستار والكلل «5»
فافصح القبر عنهم حين ساءلهم ... تلك الوجوه عليها الدود يقتتل
قد طالما أكلوا دهرا وما شربوا ... فأصبحوا بعد ذاك الأكل قد أكلوا
وروي أن عيسى عليه الصلاة والسلام كان معه صاحب في بعض سياحاته فأصابهما الجوع وقد انتهيا إلى قرية فقال عيسى عليه الصلاة والسلام لصاحبه: انطلق فاطلب لنا طعاما من هذه القرية، وأعطاه ما يشتري به، فذهب الرجل وقام عيسى عليه الصلاة والسلام يصلي، فجاء بثلاثة أرغفة، فقعد ينتظر انصراف عيسى من الصلاة فأبطأ عليه، فأكل رغيفا وكان عيسى عليه الصلاة والسلام رآه حين جاء ورأى الأرغفة ثلاثة، فلما انصرف من صلاته لم يجد إلا رغيفين، فقال له: أين الرغيف الثالث؟ فقال الرجل:
ما كانا إلا رغيفين، فأكلاهما.
ثم مرّا على وجوههما حتى أتيا على ظباء ترعى فدعا عيسى عليه الصلاة والسلام واحدا منها، فجاءه فذكاه «6» وأكلا منه، فقال له عيسى: بالذي أراك هذه الآية من أكل الرغيف الثالث؟ فقال: ما كانا إلا اثنين.
ثم مرّا على وجوههما حتى جاءا قرية فدعا عيسى ربه أن ينطق له من يخبره عن حال هذه القرية، فأنطق الله له لبنة، فسألها عيسى فأخبرته بكل ما أراد. وصاحبه يتعجب مما رأى، فقال له عيسى: بحق من أراك هذه الآية: من صاحب الرغيف الثالث؟ فقال: ما كانا إلا إثنين.
فمرّا على وجوههما حتى انتهيا إلى نهر عجاج، فأخذ عيسى صلوات الله عليه بيد الرجل ومشى به على الماء حتى جاوز النهر، فقال الرجل: سبحان الله. فقال عيسى عليه الصلاة والسلام: بالذي أراك هذه الآية من صاحب الرغيف الثالث؟ فقال: ما كانا إلا اثنين، فمرا على وجوههما حتى أتيا قرية عظيمة خربة، وإذا قريب منها ثلاث لبنات عظام، وقيل ثلاثة أكوام من الرمل، فقال لها:
كوني ذهبا بإذن الله، فكانت، فلما رآها الرجل قال: هذا مال، فقال عيسى: نعم واحدة لي وواحدة لك وواحدة لصاحب الرغيف الثالث، فقال الرجل: أنا صاحب الرغيف الثالث، فقال عيسى عليه الصلاة والسلام: هي لك كلها، ثم فارقه عيسى.
وأقام الرجل ليس معه ما يحملها عليه، فمرّ به ثلاثة نفر فقتلوه، فقال اثنان منهما للثالث: انطلق إلى القرية فأتنا بطعام، فانطلق فلما غاب قال أحدهما للآخر: إذا جاء قتلناه واقتسمناه المال بيننا، قال الآخر: نعم، وأما الذي ذهب ليشتري الطعام فإنه أضمر لصاحبيه السوء، وقال أجعل لهما في الطعام سما فإذا أكلاه ماتا وآخذ المال لنفسي، فوضع السم في الطعام وجاء فقاما إليه فقتلاه(1/516)
وأكلا الطعام، فماتا، فمر بهم عيسى عليه الصلاة والسلام وهم مصروعون حولها فقال: هكذا الدنيا تفعل بأهلها.
وقال الهيثم بن عدي: وجد غار في جبل لبنان زمن الوليد بن عبد الملك وفيه رجل مسجى على سرير من الذهب وعند رأسه لوح من الذهب أيضا مكتوب فيه بالرومية: أنا سبأ بن نواس خدمت عيصو بن اسحاق بن إبراهيم خليل الرب الأكبر، وعشت بعده دهرا طويلا ورأيت عجبا كثيرا ولم أر فيما رأيت أعجب من غافل عن الموت، وهو يرى مصارع آبائه ويقف على قبور أحبابه، ويعلم أنه صائر اليهم، ثم لا يتوب، وقد علمت أن الأجلاف الجفاة يستنزلونني عن سريري ويتولونه وذلك حين يتغير الزمان ويكثر الهذيان ويترأس الصبيان، فمن أدرك هذا الزمان عاش قليلا ومات ذليلا.
وعن عمرو بن ميمون أنه قال: افتتحنا مدينة بفارس فدللنا على مغارة فيها بيت فيه سرير من الذهب عليه رجل عند رأسه لوح مكتوب فيه: أنا بهرام ملك فارس، كنت أغناههم بطشا، وأقساهم قلبا، وأطولهم أملا، وأحرصه على الدنيا، قد ملكت البلاد، وقتلت الملوك، وهزمت الجيوش وأذللت الجبابرة وجمعت من الأموال ما لم يجمعه أحد قبلي، ولم أستطع أن أفتدي به من الموت إذ نزل بي.
ويروى في الإسرائيليات أن عيسى عليه الصلاة والسلام بينا هو في سياحته إذ مرّ بجمجمة نخرة، فسأل الله أن تتكلم فأنطقها الله له فقالت: يا نبي الله: أنا بلوان بن حفص ملك اليمن عشت ألف سنة ورزقت ألف ولد وافتضضت ألف بكر وهزمت ألف جيش وفتحت ألف مدينة، فما كان كل ذلك إلا كحلم النائم، فمن سمع قصتي فلا يغتر بالدنيا. فبكى عيسى عليه الصلاة والسلام بكاء شديدا حتى غشي عليه.
ووجد مكتوب على قصر قد خرّبت أركانه وبادت أهله وأظلمت نواحيه هذه الأبيات:
هذي منازل أقوام عهدتهم ... يوفون بالعهد مذ كانوا وبالذمم
تبكي عليهم ديار كان يطربها ... ترنّم المجد بين الجود والكرم
وقيل في المعنى:
بالله ربّك كم قصر مررت به ... قد كان أعمر باللّذّات والطرب
نادى غراب المنايا في جوانبه ... وصاح من بعده بالويل والحرب
وفيه:
أيها الرّافع البناء رويدا ... لا يردّ المنون عنك البناء
وحكي أن رجلين تنازعا في أرض فأنطق الله تعالى لبنة من جدار تلك الأرض فقالت: إني كنت ملكا من الملوك ملكت الدنيا ألف سنة، ثم صرت رميما ألف سنة، ثم أخذني خزاف وعملني إناء، فاستعملت ألف سنة حتى تكسرت وصرت ترابا، فأخذني طوّاب وعملني لبنا وأنا في هذا الجدار كذا وكذا سنة، فلم تتنازعان في هذه الأرض وأنتم عنها زائلون وإلى غيرها منقلبون والله سبحانه وتعالى أعلم.
وروي أن ملكا بنى قصرا وقال: انظروا إن كان فيه عيب فأصلحوه، فقال رجل: أرى فيه عيبين. فقالوا له: وما هما؟ قال: يموت الملك ويخرب القصر. قال: صدقت ثم أقبل على الله وترك القصر والدنيا.
وقيل: سئل الخضر عليه السلام عن أعجب شيء رآه في الدنيا مع طول سياحته وقطعه للقفار والفلوات، فقال:
أعجب شيء رأيته أني مررت بمدينة لم أر على وجه الأرض أحسن منها، فسألت بعض أهلها متى بنيت هذه المدينة فقالوا سبحان الله لم يذكر آباؤنا ولا أجدادنا متى بنيت، وما زالت كذلك من عهد الطوفان ثم غبت عنها خمسمائة سنة ومررت بها فإذا هي خاوية على عروشها ولم أر أحدا أسأله وإذا رعاة غنم فدنوت منهم فقلت: أين المدينة التي ههنا؟ فقالوا: سبحان الله لم يذكر آباؤنا ولا أجدادنا أنه كان ههنا مدينة، ثم غبت خمسمائة سنة ومررت بها وإذا موضع تلك المدينة بحر وإذا غواصون يخرجون منه شبه الحلية، فقلت للغواصين منذ كم هذا البحر ههنا؟ فقالوا: سبحان الله لم يذكر آباؤنا ولا أجدادنا إلا أن هذا البحر من عهد الطوفان، فغبت خمسمائة سنة وجئت فإذا البحر قد غاض ماؤه وإذا مكانه غيضة وصيادون يصيدون فيها السمك في زوارق صغار فقلت لبعضهم، أين البحر الذي كان ههنا؟ فقالوا: سبحان الله لم يذكر آباؤنا ولا أجدادنا أنه كان ههنا بحر.
فغبت خمسمائة عام ثم جئت إلى ذلك، فإذا هو مدينة على الحالة الأولى، والحصون والقصور والأسواق قائمة، فقلت لبعضهم: أين الغيضة التي كانت ههنا، ومتى بنيت(1/517)
هذه المدينة؟ فقالوا: سبحان الله لم يذكر آباؤنا ولا أجدادنا إلا أن هذه المدينة على حالها من عهد الطوفان. فغبت عنها نحو خمسمائة سنة ثم أتيت إليها، فإذا عاليها سافلها وهي تدخن بدخان شديد، فلم أر أحدا أسأله ثم أتيت راعيا فسألته أين المدينة؟ قال سبحان الله لم يذكر آباؤنا ولا أجدادنا إلا أن هذا المكان هكذا منذ كان.
فهذا أعجب شيء رأيته في سياحتي. فسبحان مبيد العباد ومفني البلاد ووراث الأرض ومن عليها وباعث من خلق منها بعد رده إليها.
ولبعضهم:
قف بالديار فهذه آثارهم ... تبكي الأحبّة حسرة وتشوّقا
كم قد وقفت بها أسائل أهلها ... عن حالها مترحّما أو مشفقا
فأجابني داعي الهوى في رسمها ... فارقت من تهوى وعزّ الملتقى
ولبعضهم:
أيها الربع الذي قد دثرا ... وكان عينا ثم أضحى أثرا «1»
أين سكانك ماذا فعلوا ... خبرن عنهم سقيت المطرا
فلقد نادى منادي دارهم ... رحلوا واستودعوني عبرا «2»
وقال عيسى عليه الصلاة والسلام: أوحى الله إلى الدنيا من خدمني فاخدميه ومن خدمك فاستخدميه، يا دنيا مرّي على أوليائي ولا تحلي لهم فتفتنيهم.
وقال بعض الحكماء: الدنيا كالماء المالح كلما ازداد صاحبها شرابا ازداد عطشا، أو كالكأس من عسل وفي أسفله سم فللذائق منه حلاوة عاجلة وفي أسفله الموت، أو كحلم النائم يفرح في منامه فإذا استيقظ زال فرحه أو كالبرق يضيء قليلا ثم يذهب. ولما بنى المأمون قصره الذي ضرب به المثل نام فيه فسمع قائلا يقول:
أتبني بناء الخالدين وإنّما ... بقاؤك فيها إن عقلت قليل
لقد كان في ظلّ الأراك كفاية ... لمن كلّ يوم يقتضيه رحيل
قال، فلم يلبث بعدها إلا قليلا ومات وقال:
ومن يأمن الدنيا يكن مثل قابض ... على الماء خانته فروج الأصابع «3»
ووجد مكتوب على قصر باد أهله:
هذي منازل أقوام عهدتهم ... في خفض عيش نفيس ماله خطر
صاحت بهم نائبات الدهر فانقلبوا ... إلى القبور فلا عين ولا أثر
ولو قيل للدنيا صفي نفسك ما عدت ما وصفها به أبو نواس بقوله:
وما الناس إلا هالك وابن هالك ... وذو نسب في الهالكين عريق
إذا امتحن الدنيا لبيب تكشفت ... له عن عدو في ثياب صديق
وروي أن علي بن أبي طالب رضي الله عنه لما رجع من صفين ودخل أوائل الكوفة رأى قبرا فقال: قبر من هذا؟
فقالوا: قبر خباب بن الأرت، فوقف عليه وقال: رحم الله خبابا أسلم راغبا وهاجر طائعا وعاش مجاهدا، وابتلي في جسمه آخرا ألا وإن الله لا يضيع أجر من أحسن عملا، ثم مشى فإذا هو بقبور، فجاء حتى وقف عليها، وقال:
السلام عليكم أهل الديار الموحشة والمحال المقفرة أنتم لنا سلف ونحن لكم تبع وبكم عما قليل لاحقون، اللهم اغفر لنا ولهم وتجاوز عنا وعنهم. طوبى لمن ذكر المعاد وعمل ليوم الحساب وقنع بالكفاف، ورضي عن الله تعالى ثم قال: يا أهل القبور أمّا الأزواج فقد نكحت، وأما الديار فقد سكنت وأما الأموال فقد قسمت وهذا ما عندنا، فما عندكم، ثم التفت إلى أصحابه وقال: أما أنهم لو تكلموا لقالوا: وجدنا خير الزاد التقوى، والله سبحانه وتعالى أعلم.(1/518)
الباب الرابع والثمانون فيما جاء في فضل الصلاة على رسول الله صلى الله عليه وسلم وهو آخر الأبواب وبه يختم الكتاب ولنذكر أربعين حديثا في فضل الصلاة على النبي صلى الله عليه وسلم
الحديث الأول: عن أنس بن مالك رضي الله عنه قال:
قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «من صلى علي صلت عليه الملائكة ومن صلت عليه الملائكة صلى الله عليه ومن صلى الله عليه لم يبق شيء في السموات ولا في الأرض إلا صلى عليه» .
الحديث الثاني: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «من صلى علي صلاة واحدة أمر الله حافظيه أن لا يكتبا عليه ذنبا ثلاثة أيام» .
الحديث الثالث: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «من صلّى علي مرة خلق الله من قوله ملكا له جناحان جناح بالمشرق وجناح بالمغرب، رأس وعنقه تحت العرش وهو يقول:
اللهم صلّ على عبدك ما دام يصلي على نبيّك» .
الحديث الرابع: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «من صلى علي مرة صلى الله عليه بها عشرا ومن صلى علي عشرا صلى الله عليه بها مائة ومن صلى علي مائة صلى الله عليه بها ألفا ومن صلى علي ألفا لم يعذبه الله بالنار» .
الحديث الخامس: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «من صلى علي مرة كتب الله له عشر حسنات ومحا عنه عشر سيئات ورفع له عشر درجات» .
الحديث السادس: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «أتاني جبريل يوما وقال: يا محمد جئتك ببشارة لم آت بها أحدا من قبلك وهي أن الله تعالى يقول لك: من صلى عليك من أمتك ثلاث مرات غفر الله له إن كان قائما قبل أن يقعد وإن كان قاعدا غفر له قبل أن يقوم فعند ذلك خر ساجدا لله شاكرا» .
الحديث السابع: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «من صلى علي في الصباح عشرا محيت عنه ذنوب أربعين سنة» . الحديث الثامن: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «من صلى علي ليلة الجمعة أو يوم الجمعة مائة مرة غفر الله له خطيئته ثمانين سنة» .
الحديث التاسع: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «من صلى علي ليلة الجمعة أو يوم الجمعة مائة مرة قضى الله له مائة حاجة ووكل الله به ملكا حين يدفن في قبره يبشره كما يدخل أحدكم على أخيه بالهدية» .
الحديث العاشر: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «من صلى علي في يوم مائة مرة قضيت له في ذلك اليوم مائة حاجة» .
الحديث الحادي عشر: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «أقربكم مني مجلسا أكثرك علي صلاة» .
الحديث الثاني عشر: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «من صلى علي ألف مرة بشر بالجنة قبل موته» .
الحديث الثالث عشر: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «جاءني جبريل عليه السلام وقال لي يا رسول الله لا يصلي عليك أحد إلا ويصلي عليه سبعون ألفا من الملائكة» .
الحديث الرابع عشر: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «الدعاء بعد الصلاة علي لا يرد» .
الحديث الخامس عشر: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «الصلاة علي نور على الصراط» وقال عليه الصلاة والسلام:
«لا يلج النار من يصلي علي» .
الحديث السادس عشر: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «من جعل عبادته الصلاة علي قضى الله له حاجة الدنيا والآخرة» .
الحديث السابع عشر: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «من نسي الصلاة علي أخطأ طريق الجنة» .
الحديث الثامن عشر: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «إن لله ملائكة في الهواء بأيديهم قراطيس من نور لا يكتبون إلا الصلاة علي وعلى أهل بيتي» .
الحديث التاسع عشر: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «لو أن عبدا جاء يوم القيامة بحسنات أهل الدنيا ولم تكن فيها الصلاة علي ردت عليه ولم تقبل منه» .
الحديث العشرون: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «أولى الناس بي أكثرهم علي صلاة» .
الحديث الحادي والعشرون: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «من صلى علي في كتاب ما لم تزل الملائكة تصلي عليه ما لم يندرس اسمي من ذلك الكتاب» .
الحديث الثاني والعشرون: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «إن لله(1/519)
ملائكة سياحين في الأرض يبلغوني الصلاة علي من أمتي فأستغفر لهم» .
الحديث الثالث والعشرون: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «من صلى علي كنت شفيعه يوم القيامة ومن لم يصل علي فأنا بريء منه» .
الحديث الرابع والعشرون: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «يؤمر بقوم إلى الجنة فيخطئون الطريق» قالوا: يا رسول الله ولم ذاك؟ قال: سمعوا اسمي ولم يصلوا علي» .
الحديث الخامس والعشرون: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم:
«يؤمر برجل إلى النار فأقول ردوه إلى الميزان فأضع له شيئا كالأنملة معي في ميزانه وهو الصلاة علي فترجح ميزانه وينادى سعد فلان» .
الحديث السادس والعشرون: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «ما اجتمع قوم في مجلس ولم يصل علي فيه إلا تفرقوا كقوم تفرقوا عن ميت ولم يغسلوه» .
الحديث السابع والعشرون: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «إن الله تعالى وكّل بقبري ملكا أعطاه أسماء الخلائق كلها فلا يصلي علي أحد إلى يوم القيامة إلا بلغني اسمه وقال يا رسول الله صلى الله عليه وسلم إن فلان بن فلانة صلّى عليك» .
الحديث الثامن والعشرون: عن أبي بكر الصديق رضي الله تعالى عنه أنه قال: «الصلاة على النبي صلى الله عليه وسلم أمحى للذنوب من الماء لسواد اللوح» .
الحديث التاسع والعشرون: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «إن الله تعالى أوحى إلى موسى عليه السلام إن أردت أن أكون إليك أقرب من كلامك إلى لسانك ومن روحك لجسدك فأكثر الصلاة على النبي الأمي صلى الله عليه وسلم» .
الحديث الثلاثون: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «إن ملكا أمره الله تعالى باقتلاع مدينة غضب عليها فرحمها ذلك الملك ولم يبادر إلى اقتلاعها، فغضب الله عليه وكسر أجنحته فمر به جبريل عليه السلام فشكا له حاله فسأل الله فيه فأمره أن يصلي على النبي صلى الله عليه وسلم فصلى عليه فغفر الله له ورد عليه أجنحته ببركة الصلاة على النبي صلى الله عليه وسلم» .
الحديث الحادي والثلاثون: عن عائشة رضي الله تعالى عنها قالت من صلى على رسول الله صلى الله عليه وسلم عشر مرات وصلى ركعتين ودعا الله تعالى تقبل صلاته وتقضى حاجته ودعاؤه مقبول غير مردود.
الحديث الثاني والثلاثون: عن زيد بن حارثة قال سألت رسول الله صلى الله عليه وسلم عن الصلاة عليه فقال صلى الله عليه وسلم: «صلوا علي واجتهدوا في الدعاء وقولوا اللهم صل على محمد وعلى آل محمد» .
الحديث الثالث والثلاثون: عن أبي هريرة رضي الله تعالى عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «صلوا علي فإن صلاتكم علي زكاة لكم واسألوا الله لي الوسيلة» .
الحديث الرابع والثلاثون: عن سهل بن سعد الساعدي أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: «لا صلاة لمن لم يصل على نبيه» .
الحديث الخامس والثلاثون: عن أبي هريرة رضي الله تعالى عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «رغم أنف رجل ذكرت عنده فلم يصلي علي» .
الحديث السادس والثلاثون: عن ابن عباس رضي الله تعالى عنهما قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «من قال جزى الله عنا محمدا خيرا وجزى الله نبينا محمدا بما هو أهله، فقد أتعب كاتبيه» .
الحديث السابع والثلاثون: عن أبي هريرة رضي الله تعالى عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «لا تجعلوا بيوتكم قبورا وصلوا علي فإن صلاتكم تبلغني حيثما كنتم» .
الحديث الثامن والثلاثون: عن أبي هريرة رضي الله تعالى عنه قال قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «ما من أحد يصلي علي إلا رد الله علي روحي حتى أرد عليه» .
الحديث التاسع والثلاثون: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم:
«أقربكم مني منزلا يوم القيامة أكثركم علي صلاة» .
الحديث الأربعون: نقل الشيخ كمال الدين الدميري رحمه الله تعالى عن شفاء الصدور لابن سبع أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: «من سره أن يلقى الله وهو عليه راض فليكثر من الصلاة علي فإن من صلى علي في كل يوم خمسمائة مرة لم يفتقر أبدا وهدمت ذنوبه ومحيت خطاياه ودام سروره واستجيب دعاؤه وأعطي أمله وأعين على عدوه وعلى أسباب الخير وكان ممن يرافق نبيه في الجنان» .
اللهم صلّ على سيد المرسلين وخاتم النبيين ورسول رب العالمين الذي أنزل عليه في محكم الكتاب العزيز تعظيما له وتوقيرا: يا أَيُّهَا النَّبِيُّ إِنَّا أَرْسَلْناكَ شاهِداً وَمُبَشِّراً وَنَذِيراً 45 وَداعِياً إِلَى اللَّهِ بِإِذْنِهِ وَسِراجاً مُنِيراً 46 وَبَشِّرِ الْمُؤْمِنِينَ بِأَنَّ لَهُمْ مِنَ اللَّهِ فَضْلًا كَبِيراً 47
«1» . فهذا خطاب خاص الخاص ولم يخاطب الله أحدا من المرسلين ولا من(1/520)
الأنبياء ولا رسولا بالرسالة إلا سيد خلقه محمد صلى الله عليه وسلم فإن الله تعالى نادى أبا البشر: يا آدَمُ اسْكُنْ أَنْتَ وَزَوْجُكَ الْجَنَّةَ
«1» ويا نُوحُ اهْبِطْ بِسَلامٍ مِنَّا
«2» ويا إِبْراهِيمُ أَعْرِضْ عَنْ هذا
«3» ويا داوُدُ إِنَّا جَعَلْناكَ خَلِيفَةً فِي الْأَرْضِ
«4» ويا عِيسَى ابْنَ مَرْيَمَ اذْكُرْ نِعْمَتِي
«5» ، وقال لمحمد صلى الله عليه وسلم: يا أَيُّهَا الرَّسُولُ بَلِّغْ ما أُنْزِلَ إِلَيْكَ مِنْ رَبِّكَ
«6» . يا أَيُّهَا الرَّسُولُ لا يَحْزُنْكَ
«7» يا أَيُّهَا النَّبِيُّ حَسْبُكَ اللَّهُ
«8» يا أَيُّهَا النَّبِيُّ حَرِّضِ الْمُؤْمِنِينَ عَلَى الْقِتالِ
«9» يا أَيُّهَا النَّبِيُّ جاهِدِ الْكُفَّارَ وَالْمُنافِقِينَ
«10» يا أَيُّهَا النَّبِيُّ إِذا طَلَّقْتُمُ النِّساءَ
«11» يا أَيُّهَا النَّبِيُّ لِمَ تُحَرِّمُ
«12» يا أَيُّهَا النَّبِيُّ اتَّقِ اللَّهَ
«13» يا أَيُّهَا النَّبِيُّ إِنَّا أَرْسَلْناكَ شاهِداً وَمُبَشِّراً وَنَذِيراً 45 وَداعِياً إِلَى اللَّهِ بِإِذْنِهِ وَسِراجاً مُنِيراً 46
«14» وما ناداه باسمه يا محمد كغيره إلا في أربع مواضع اقتضت الحكمة أن يذكر هناك باسمه محمد صلى الله عليه وسلم. الأول قوله عز وجل: وَما مُحَمَّدٌ إِلَّا رَسُولٌ قَدْ خَلَتْ مِنْ قَبْلِهِ الرُّسُلُ
«15» . لأن سبب انزالها أن الشيطان صاح يوم احد قد قتل محمد وكان ما كان فأنزل الله تعالى هذه الآية، ولو قال وما رسولي لقال الأعداء ليس هو محمد فذكره باسمه لأنهم كانوا ينكرون ان اسمه محمدا.
الثاني قوله عز وجل: ما كانَ مُحَمَّدٌ أَبا أَحَدٍ مِنْ رِجالِكُمْ وَلكِنْ رَسُولَ اللَّهِ وَخاتَمَ النَّبِيِّينَ
«16» . الثالث قوله عز وجل: الَّذِينَ كَفَرُوا وَصَدُّوا عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ أَضَلَّ أَعْمالَهُمْ 1 وَالَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحاتِ وَآمَنُوا بِما نُزِّلَ عَلى مُحَمَّدٍ
«17» .
فلو قال وآمنوا بما نزل على رسولي لقال الأعداء ليس هو فعرفه باسمه محمد صلى الله عليه وسلم. الرابع قوله عز وجل مُحَمَّدٌ رَسُولُ اللَّهِ
«18» والحكمة في ذكره هنا باسمه أنه سبحانه وتعالى قال قبلها هُوَ الَّذِي أَرْسَلَ رَسُولَهُ بِالْهُدى وَدِينِ الْحَقِّ لِيُظْهِرَهُ عَلَى الدِّينِ كُلِّهِ
«19» ، فكان من الأعداء من يقول من هو رسوله الذي أرسله فعرفه باسمه فقال مُحَمَّدٌ رَسُولُ اللَّهِ
«20» وسماه تعالى باسمه أحمد في موضع واحد وله حكمة وهي أن الله تعالى لما أرسل عيسى بن مريم عليه الصلاة والسلام قال لقومه من بني إسرائيل وَإِذْ قالَ عِيسَى ابْنُ مَرْيَمَ يا بَنِي إِسْرائِيلَ إِنِّي رَسُولُ اللَّهِ إِلَيْكُمْ مُصَدِّقاً لِما بَيْنَ يَدَيَّ مِنَ التَّوْراةِ
«21» التي انزلت على موسى وَمُبَشِّراً بِرَسُولٍ يَأْتِي مِنْ بَعْدِي اسْمُهُ أَحْمَدُ
«22» لأنه كانوا يعرفونه في التوراة أحمد فما ناداه سبحانه وتعالى باسمه محمد ولا أحمد وإنما ذكر ذلك إعلاما به وتعريفا له وما ناداه إلا بالنبوة والرسالة فقال: يا أَيُّهَا النَّبِيُّ إِنَّا أَرْسَلْناكَ شاهِداً وَمُبَشِّراً وَنَذِيراً 45 وَداعِياً إِلَى اللَّهِ بِإِذْنِهِ وَسِراجاً مُنِيراً 46
«23» منيرا أي شاهدا بالإيمان للمؤمنين ومبشرا لأهل التمجيد ونذيرا لأهل التجحيد، وقيل شاهدا لأهل القرآن ومبشرا لهم بالغفران ونذيرا لأهل الكفر والعصيان. وقيل: شاهدا لأمتك ومبشرا بشفاعتك ونذيرا لمن ارتكب مخالفتك. وقيل:
شاهدا بالمنة ومبشرا بالجنة وقوله: وَداعِياً إِلَى اللَّهِ بِإِذْنِهِ
«24» أي تدعو الناس بأمر الله تعالى إلى لا إله إلا الله. قال تعالى، وَأَنَّهُ لَمَّا قامَ عَبْدُ اللَّهِ يَدْعُوهُ
«25» وسمى رسول الله صلى الله عليه وسلم نفسه داعيا فقال: أنا الداعي إلى الله، وقوله تعالى: وَسِراجاً مُنِيراً
«26» أي يهتدى به كما يهتدى بالسراج في ظلمة الليل.
فإن قلت: ما الحكمة في قوله تعالى وَسِراجاً مُنِيراً
«27» ولم يقل قمرا منيرا. فالجواب عن ذلك أن السراج أعم من القمر لأن المراد بالسراج هنا الشمس. قال تعالى: وَجَعَلَ الشَّمْسَ سِراجاً
«28» والشمس أعم نفعا ونورا من القمر، وقيل: المراد بقوله تعالى وَسِراجاً مُنِيراً
«29» السراج الذي يقتبس منه لأن القمر لا تصل إليه(1/521)
الأيدي حتى يقتبسون منه، والسراج إذا كان في بلد يملأ ذلك البلد نورا لأن كل من جاء يقتبس منه، والقمر ليس كذلك ولهذا كانت قبل ولادته صلى الله عليه وسلم ظلاما فلما ولد ظهر سراج دينه بمكة، فكان أول من اقتبس من الرجال أبو بكر. ومن النساء خديجة ومن الشباب علي ومن الموالي زيد ومن العبيد بلال رضي الله تعالى عنهم أجمعين. وجاء سلمان من أرض فارس فاقتبس وصهيب من الروم وبلال من الحبشة، ووفد الوفود واقتبسوا، وأبو لهب إلى جانب البيت ولم يقتبس واقتبس الناس من مشارق الأرض ومغاربها حتى امتلأت الأرض من نور سراجه فهو صلى الله عليه وسلم أعظم الأنبياء وأكرم المرسلين وسيد الخلق أجمعين لم يخلق الله أحسن ولا أجمل ولا أكمل ولا أفضل ولا أفصح ولا أرجح ولا أسمح ولا أصبح ولا أجل ولا أعظم ولا أسخى ولا أكرم ولا أبهى ولا أنصف ولا أعدل منه صلى الله عليه وسلم، فلو أن البحار مداد والنبات أقلام وجميع الخلق تكتب معجزاته صلى الله عليه وسلم لعجزوا عن وصف نزر النزر من معجزاته صلى الله عليه وسلم. اللهم اجعلنا من خالص أمته واحشرنا في زمرته وأمتنا على محبته ولا تخالف بنا عن ملته ولا عما جاء به برحمتك يا أرحم الراحمين آمين، وصلى الله على سيدنا محمد النبي الأمي عدد ما ذكره الذاكرون، وغفل عن ذكره الغافلون. نحمدك يا من هيأت لكسب الآداب جميع المعدات وفتحت للتحلي بأنوار آياتك سبل الخيرات ونصلي ونسلم على من كملت آدابه ورشحت بكمال البيان وإعجاز التبيان جنابه سيدنا محمد القائل: إن من البيان لسحرا، وعلى آله وصحبه ما أطلعت حدائق الأتباع زهرا.(1/522)