وعليك من حالاه واحدة ... في العسر إمّا كنت واليسر
لا تخلطنّهم بغيرهم ... من يخلط العقيان بالصّفر! «1»
وقال سويد بن الصامت «2» : [كامل]
ألا ربّ من تدعو صديقا ولو ترى ... مقالته بالغيب ساءك ما يفري «3»
مقالته كالشّحم ما كان شاهدا ... وبالغيب مأثور على ثغرة النّحر
تبين لك العينان ما هو كاتم ... من الضّغن والشّحناء بالنّظر الشّزر «4»
فرشني بخير طالما قد بريتني ... وخير الموالي من يريش ولا يبري «5»
وقال آخر: [منسرح]
وصاحب كان لي وكنت له ... أشفق من والد على ولد
كنّا كساق تسعى بها قدم ... أو كذراع نيطت إلى عضد «6»
حتى إذا دانت الحوادث من ... خطوي وحلّ الزمان من عقدي «7»
احولّ عنّي وكان ينظر من ... عيني ويرمي بساعدي ويدي
وكان لي مؤنسا وكنت له ... ليست بنا وحشة إلى أحد
حتى إذا استرفدت يدي يده ... كنت كمسترفد يد الأسد
وقال بعض الأعراب: [منسرح](3/93)
إخوان هذا الزّمان كلّهم ... إخوان غدر عليه قد جبلوا
طووا ثياب الوفاء بينهم ... وصار ثوب الرّياء يبتذل «1»
أخوهم المستحقّ وصلهم ... من شربوا عنده ومن أكلوا
وليس فيما علمت بينهم ... وبين من كان معدما عمل
قال رجل لآخر: بلغني عنك أمر قبيح، فقال: يا هذا، إنّ صحبة الأشرار ربما أورثت سوء ظنّ بالأخيار.
وقال دعبل: [طويل]
أبا مسلم كنّا حليفي مودّة ... هوانا وقلبانا جميعا معا معا
أحوطك بالودّ الذي لا تحوطني ... وأرأب منك الشّعب أو يتصدّعا «2»
فلا تلحينّي لم أجد فيك حيلة ... تخرّفت حتى لم أجد فيك مرقعا «3»
فهبك يميني استأكلت فاحتسبتها ... وجشّمت قلبي قطعها فتخشّعا «4»
وقال يزيد بن الحكم الثّقفيّ «5» : [طويل]
تكاشرني كرها كأنّك ناصح ... وعينك تبدي أنّ قلبك لي دوي «6»
لسانك ما ذيّ وقلبك علقم ... وشرك مبسوط وخيرك منطوي «7»(3/94)
عدوّك يخشى صولتي إن لقيته ... وأنت عدوّي ليس ذاك بمستوي «1»
أراك إذا لم أهو أمرا هويته ... وليست لما أهوى من الأمر بالهوي «2»
أراك اجتويت الخير منّي وأجتوي ... أذاك فكلّ يجتوي قرب مجتوي «3»
وكم موطن لولاي طحت كما هوى ... بأجرامه من قلّة النّيق منهوي «4»
ويقال: إيّاك ومن مودّته على قدر حاجته فعند ذهاب الحاجة ذهاب المودّة وقال الحكيم: ثلاثة لا يعرفون إلا في ثلاثة مواطن: لا يعرف الحليم إلّا عند الغضب، ولا الشجاع إلّا في الحرب، ولا الأخ إلّا عند الحاجة إليه.
قال جرير: [طويل]
فأنت أخي ما لم تكن لي حاجة ... فإن عرضت أيقنت أن لا أخاليا
تعرّضت فاستمررت من دون حاجتي ... فحالك إنّي مستمرّ لحاليا
وإنّي لمغرور أعلّل بالمنى ... ليالي أرجو أنّ ما لك ماليا
بأيّ نجاد تحمل السيف بعدما ... نزعت سنانا من قناتك ماضيا «5»
ألا لا تخافا نبوتي في ملمّة ... وخافا المنايا أن تفوتكما بيا «6»
وقال أبو العتاهية: [مجزوء الرّمل]
أنت ما استغنيت عن صا ... حبك الدّهر أخوه(3/95)
فإذا احتجت إليه ... ساعة مجّك فوه «1»
وقال آخر: [وافر]
موالينا إذا افتقروا إلينا ... وإن أثروا فليس لنا موالي
والعرب تقول فيمن شركك في النّعمة وخذلك عند النائبة: يربض حجرة «2» ويرتع وسطا.
قال المدائنيّ: لحن الحجاج يوما، فقال الناس: لحن الأمير، فأخبره بعض من حضر، فتمثّل بشعر قعنب بن أمّ صاحب «3» : [بسيط]
صمّ إذا سمعوا خيرا ذكرت به ... وإن ذكرت بسوء عندهم أذنوا «4»
فطانة فطنوها لو تكون لهم ... مروءة أو تقى لله ما فطنوا «5»
إن يسمعوا سيّئا طاروا به فرحا ... مني وما سمعوا من صالح دفنوا
باب القرابات والولد
حدّثني زيد بن أخزم قال حدّثنا أبو داود قال حدّثنا إسحاق بن سعيد القرشي من ولد سعيد بن العاص قال أخبرني أبي قال: كنت عند ابن عبّاس، فأتاه رجل فمتّ إليه برحم بعيدة، فلان له وقال: قال رسول الله صلّى الله عليه وسلّم: «اعرفوا أنسابكم تصلوا أرحامكم فإنه لا قرب بالرّحم إذا قطعت وإن كانت قريبة ولا بعد بها إذا وصلت وإن كانت بعيدة» .(3/96)
حدّثني شبابة قال حدّثني القاسم بن الحكم عن إسماعيل بن عيّاش عن عبد الله بن دينار قال: احذروا ثلاثا، فإنهنّ معلّقات بالعرش: النعمة تقول يا ربّ كفرت، والأمانة تقول يا ربّ أكلت، والرّحم تقول يا ربّ قطعت.
حدّثني الزّياديّ قال حدّثنا عيسى بن يونس قال قال محارب بن دثار:
إنما سمّوا أبرارا لأنهم برّوا الآباء والأبناء، وكما أنّ لوالدك عليك حقّا، فكذلك لولدك عليك حقّ.
حدّثني أبو سفيان الغنويّ عن عبد الله بن يزيد عن حيوة بن شريح عن الوليد بن أبي الوليد عن عبد الله بن عمر أنّ رسول الله صلّى الله عليه وسلّم قال: «أبرّ البرّ أن يصل الرجل أهل ودّ أبيه» .
حدّثني القومسيّ قال حدّثنا إسماعيل بن أبي أويس قال حدّثنا كثير بن زيد عن أبيه عن جدّه عن النبيّ صلّى الله عليه وسلّم قال: «ابن أخت القوم من أنفسهم ومولى القوم من أنفسهم وحليف القوم من أنفسهم» .
وحدّثني أيضا عن خالد بن مخلد عن سليمان بن بلال عن عبد الله بن دينار عن أبي صالح عن أبي هريرة قال: قال أبو القاسم صلّى الله عليه وسلّم: «الرّحم شجنة «1» من الرحمن قال لها من وصلك وصلته ومن قطعك قطعته» .
حدّثني الزّياديّ قال حدّثنا حمّاد بن زيد عن حبيب عن ابن سيرين قال قال عثمان: كان عمر يمنع أقرباءه ابتغاء وجه الله، وأنا أعطي قراباتي لوجه الله، ولن يرى مثل عمر.
حدّثني أحمد بن الخليل قال حدّثنا إبراهيم بن موسى قال حدّثنا محمد(3/97)
ابن ثور عن معمر «1» عن أبي إسحاق عن عاصم بن ضمرة عن عليّ عليه السلام عن النبيّ صلّى الله عليه وسلّم قال: «من سرّه أن يمدّ له في عمره ويوسّع له في رزقه فليصل رحمه» .
حدّثني أحمد بن الخليل قال حدّثنا أبو نعيم قال حدّثنا سفيان عن عبد الله بن عيسى عن عبيد بن أبي الجعد قال: قال رسول الله صلّى الله عليه وسلّم: «لا يزيد في العمر إلا البرّ ولا يردّ القدر إلّا الدعاء وإنّ الرجل ليحرم الرزق بالذّنب يصيبه» .
حدّثني محمد بن يحيى القطعيّ قال حدّثنا عبد الأعلى قال حدّثنا سعيد عن مطر عن الحكم بن عتيبة عن النّخعي عن ابن عمر «2» قال: أتى رجل النبيّ صلّى الله عليه وسلّم فقال: إنّ والدي يأخذ مني مالي وأنا كاره؛ فقال: «أو ما علمت أنّك وما لك لأبيك» .
حدّثني عبد الرحمن بن عبد الله عن الأصمعيّ قال: أخبرني بعض العرب: أن رجلا كان في زمن عبد الملك بن مروان، وكان له أب كبير، وكان الشابّ عاقّا بأبيه، وكان يقال للشابّ منازل «3» فقال الشيخ «4» : [طويل]
جزت رحم بيني وبين منازل ... جزاء كما يستنجز الدّين طالبه
تربّت حتى صار جعدا شمردلا ... إذا قام ساوى غارب الفحل غاربه «5»
تظلّمني مالي كذا ولوى يدي ... لوى يده الله الذي لا يغالبه(3/98)
وإنّي لداع دعوة لو دعوتها ... على جبل الرّيّان لا نقضّ جانبه «1»
فبلغ ذلك أميرا كان عليهم، فأرسل إلى الفتى ليأخذه، فقال له الشيخ:
اخرج من خلف البيت، فسبق رسل الأمير، ثم ابتلي الفتى بابن عقّه في آخر عمره فقال: [طويل]
تظلّمني مالي خليج وعقّني ... على حين كانت كالحنيّ عظامي «2»
تخيّرته وازددته ليزيدني ... وما بعض ما يزداد غير عرام «3»
وقال يحيى بن سعيد مولى تيم كوفيّ لابنه: [طويل]
غذوتك مولودا وعلتك يافعا ... تعلّ بما أجني عليك وتنهل «4»
إذا ليلة نالتك بالشكو لم أبت ... لشكواك إلّا ساهرا أتململ
كأنّي أنا المطروق دونك بالذي ... طرقت به دوني وعيني تهمل
فلمّا بلغت الوقت في العدّة التي ... إليها جرى ما أبتغيه وآمل
جعلت جزائي منك جبها وغلظة ... كأنك أنت المنعم المتفضّل «5»
فليتك إذ لم ترع حقّ أبوّتي ... كما يفعل الجار المجاور تفعل «6»
قال القاسم بن محمد: قد جعل الله في الصديق البارّ عوضا من الرّحم المدبرة.(3/99)
كتب عمر إلى أبي موسى: مر ذوي القرابات أنّ يتزاوروا ولا يتجاوروا.
وقال أكثم بن ضيفيّ: تباعدوا في الدّيار تقاربوا في المودّة.
قيل لأعرابيّ: ما تقول في ابن عمك؟ قال: عدوّك وعدوّ عدوّك.
وقال قيس بن زهير: [وافر]
شفيت النّفس من حمل بن بدر ... وسيفي من حذيفة قد شفاني
قتلت بإخوتي سادات قومي ... وقد كانوا لنا حلي الزّمان «1»
فإن أك قد بردت بهم غليلي ... فلم أقطع بهم إلّا بناني
قال علي بن أبي طالب كرّم الله وجهه، حين تصفّح القتلى يوم الجمل: شفيت نفسي وجدعت أنفي. وفي مثل ذلك قول القائل «2» : [كامل]
قومي هم قتلوا أميم أخي ... فإذا رميت يصيبني سهمي
ولئن عفوت لأعفون جللا ... ولئن قرعت لأوهنن عظمي «3»
قتل رجل من العرب ابن أخيه فدفع إليه ليقيده «4» ، فلمّا أهوى بالسيف أرعدت يداه، فألقي السيف من يده وعفا عنه وقال: [بسيط]
أقول للنّفس تأساء وتعزية ... إحدى يديّ أصابتني ولم ترد
كلاهما خلف من فقد صاحبه ... هذا أخي حين أدعوه وذا ولدي
وقال بعضهم: [وافر]
بكره سراتنا يا آل عمرو ... نفاديكم بمرهفة النّصال
فنبكي حين نذكركم عليكم ... ونقتلكم كأنّا لا نبالي(3/100)
وقال عديّ بن زيد: [طويل]
وظلم ذوي القربى أشدّ مضاضة ... على المرء من وقع الحسام المهنّد «1»
وقال غيره «2» : [طويل]
سآخذ منكم آل حزن لحوشب ... وإن كان مولاي وكنتم بني أبي
إذا كنت لا أرمى وترمى عشيرتي ... تصب جائحات النّبل كشحي ومنكبي «3»
وقال حدّثنا أبو الخطاب قال حدّثنا الوليد بن مسلم عن محمد بن السائب البكريّ عن سعيد بن عمرو بن العاص قال: قال رسول الله صلّى الله عليه وسلّم: «حقّ كبير الإخوة على صغيرهم كحقّ الوالد على ولده» .
والعرب تقول في العطف على القرابة وإن لم يكن وادّا: أنفك منك وإن ذنّ «4» . ومثله: عيصك «5» منك وإن كان أشبا.
وقال النّمر بن تولب «6» : [طويل]
إذا كنت من سعد وأمّك فيهم ... غريبا فلا يغررك خالك من سعد
فإن ابن أخت القوم مصغى إناؤه ... إذا لم يزاحم خاله بأب جلد «7»(3/101)
وقال أميّة بن أبي عائذ «1» لإياس بن سهم: [طويل]
أبلغ إياسا أنّ عرض ابن اختكم ... رداؤك فاصطن حسنه أو تبدّل «2»
فإن تك ذا طول فإني ابن أختكم ... وكلّ ابن أخت من مدى الخال معتلي «3»
فكن أسدا أو ثعلبا أو شبيهه ... فمهما تكن أنسب إليك وأشكل «4»
وما ثعلب إلا ابن أخت ثعالب ... وإن ابن أخت اللّيث رئبال أشبل «5»
وكتب بشر بن المغيرة بن أبي صفرة إلى عمّه بهذه الأبيات: [طويل]
جفاني الأمير والمغيرة قد جفا ... وأمسى يزيد لي قد أزورّ جانبه «6»
وكلّهم قد نال شبعا لبطنه ... وشبع الفتى لؤم إذا جاع صاحبه
فيا عمّ مهلا واتّخذني لنوبة ... تنوب، فإنّ الدّهر جمّ عجائبه «7»
أنا السيف إلّا أنّ للسيف نبوة ... ومثلي لا تنبوا عليك مضاربه «8»
دخل رجل من أشراف العرب على بعض الملوك، فسأله عن أخيه، فأوقع به يعيبه ويشتمه، وفي المجلس رجل يشنؤه «9» فشرع معه في القول؛ فقال له: مهلا! إنّي لآكل لحمي ولا أدعه لآكل.(3/102)
ويقال: القرابة محتاجة إلى المودّة، والمودّة أقرب الأنساب. والبيت المشهور في هذا:
فإذا القرابة لا تقرّب قاطعا ... وإذا المودّة أقرب الأنساب
وقيل لبزرجمهر: أخوك أحبّ إليك أم صديقك؟ فقال: إنما أحبّ أخي إذا كان صديقا.
وقال خداش بن زهير «1» : [طويل]
رأيت ابن عمّي باديا لي ضغنه ... وواغره في الصدر ليس بذاهب «2»
وأنشدنا الريّاشيّ: [طويل]
حياة أبي السّيار خير لقومه ... لمن كان قد ساس الأمور وجرّبا
ونعتب أحيانا عليه ولو مضى ... لكنّا على الباقي من الناس أعتبا
وقال الشاعر: [طويل]
ولم أر عزّا لامرىء كعشيره ... ولم أر ذلّا مثل نأي عن الأهل «3»
ولم أر مثل الفقر أوضع للفتى ... ولم أر مثل المال أرفع للرّذل
ولم أر من عدم أضرّ على الفتى ... إذا عاش وسط الناس من عدم العقل
كان مهلهل «4» صار إلى قبيلة من اليمن يقال لهم جنب، فخطبوا إليه فزوّجهم وهو كاره لاغترابه عن قومه، ومهروا ابنته أدما «5» ؛ فقال: [منسرح](3/103)
أنكحها فقدها الأراقم في ... جنب وكان الحباء من أدم «1»
لو بأبانين جاء يخطبها ... رمّل ما أنف خاطب بدم «2»
وقال الأعشى: [طويل]
ومن يغترب عن قومع لا يزل يرى ... مصارع مظلوم مجرّا ومسحبا «3»
وتدفن منه الصالحات وإن يسيء ... يكن ما أساء النار في رأس كبكبا»
وربّ يقيع لو هتفت بجوّه ... أتاني كريم ينغض الرأس مغضبا «5»
وقال رجل من غطفان: [طويل]
إذا أنت لم تستبق ودّ صحابة ... على دخن أكثرت بثّ المعاتب «6»
وإنّي لأستبقي امرأ السّوء عدّة ... لعدوة عرّيض من الناس عائب «7»
أخاف كلاب الأبعدين ونبحها ... إذا لم تجاوبها كلاب الأقارب
قال رجل لعبيد الله بن أبي بكرة: ما تقول في موت الوالد؟ قال: ملك حادث؛ قال: فموت الزوج؟ قال: عرس جديد؛ قال: فموت الأخ؟ قال:
قصّ الجناح؛ قال: فموت الولد؟ قال: صدع في الفؤاد لا يجبر.
وكان يقال: العقوق ثكل من لم يثكل.(3/104)
شكا عثمان عليّا إلى العباس رضي الله عنهم؛ فقال: أنا منه كأبي العاق، إن عاش عقّه وإن مات فجعه.
وقال رجل لأبيه: يا أبت، إن عظيم حقّك عليّ لا يذهب صغير حقّي عليك، والذي تمتّ به إليّ أمتّ بمثله إليك، ولست أزعم أنّا على سواء.
وقال زيد بن علي بن الحسن لابنه يحيى: إن الله لم يرضك لي فأوصاك بي، ورضيني لك فلم يوصني بك.
غضب معاوية على يزيد ابنه فهجره؛ فقال له الأحنف: يا أمير المؤمنين، أولادنا ثمار قلوبنا وعماد ظهورنا، ونحن لهم سماء ظليلة، وأرض ذليلة، فإن غضبوا فأرضهم، وإن سألوا فأعطهم، ولا تكن عليهم قفلا «1» فيملّوا حيتك ويتمنّوا موتك.
قيل لأعرابيّ: كيف ابنك؟ - وكان عاقّا- فقال: عذاب رعف «2» به الدّهر، فليتني قد أودعته القبر، فإنه بلاء لا يقاومه الصبر، وفائدة لا يجب فيها الشكر.
قيل لبعضهم: أيّ ولدك أحبّ إليك؟ قال: صغيرهم حتى يكبر، ومريضهم حتى يبرأ، وغائبهم حتى يقدم.
ناول عمر بن الخطاب رجلا شيئا؛ فقال له: خدمك بنوك؛ فقال عمر:
بل أغنانا الله عنهم.
وولد للحسن غلام، فقال له بعض جلسائه: بارك الله لك في هبته، وزادك من أحسن نعمته؛ فقال الحسن: الحمد لله على كلّ حسنة، ونسأل الله(3/105)
الزيادة في كل نعمة، ولا مرحبا بمن إن كنت عائلا أنصبني «1» ، وإن كنت غنيا أذهلني، لا أرضى بسعيي له سعيا، ولا بكدّي له في الحياة كدّا، حتى أشفق له من الفاقة «2» بعد وفاتي، وأنا في حال لا يصل إليّ من غمّه حزن ولا من فرحه سرور.
قال الأصمعيّ: عاتب أعرابيّ ابنه في شرب النبيذ، فلم يعتب «3» وقال:
[طويل]
أمن شربة من ماء كرم شربتها ... غضبت عليّ! الآن طاب لي الخمر
سأشرب فاغضب لا رضيت، كلاهما ... إليّ لذيذ: أن أعقّك والسّكر
وقال الطّرمّاح «4» لابنه صمصامة: [طويل]
أصمصام إن تشفع لأمّك تلقها ... لها شافع في الصدر لم يتبّرح «5»
هل الحبّ إلّا أنّها لو تعرّضت ... لذبحك يا صمصام قلت لها اذبحي
أحاذر يا صمصام إن متّ أن يلي ... تراثي وإيّاك امرؤ غير مصلح
إذا صكّ وسط القوم رأسك صكّة ... يقول له الناهي ملكت فأسجح «6»
وأنشد ابن الأعرابيّ: [وافر]
أحبّ بنيّتي ووددت أني ... دفنت بنيّتي في قعر لحد
وما بي أن تهون عليّ لكن ... مخافة أن تذوق البؤس بعدي(3/106)
ونحوه قول الآخر: [بسيط]
لولا أميمة لم أجزع من العدم ... ولم أجب في الليالي حندس الظّلم «1»
وزادني رغبة في العيش معرفتي ... ذلّ اليتيمة يجفوها ذوو الرّحم
أحاذر الفقر يوما أن يلمّ بها ... فيهتك السّتر من لحم على وضم «2»
تهوى حياتي وأهوى موتها شفقا ... والموت أكرم نزّال على الحرم
وقال أعرابيّ في ابنته: [بسيط]
يا شقّة النفس إنّ النفس والهة ... حرّى عليك ودمع العين منسجم «3»
قد كنت أخشى عليها أن تقدّمني ... إلى الحمام فيبدي وجهها العدم «4»
فالآن نمت فلا همّ يؤرّقني ... تهدا العيون إذا ما أودت الحرم
وقال أعشى سليم «5» : [متقارب]
نفسي فداؤك من وافد ... إذا ما البيوت لبسن الجليدا
كفيت الذي كنت أرجي له ... فصرت أبا لي وصرت الوليدا
وقال أعشى همدان «6» في خالد بن عتّاب بن ورقاء: [طويل]
فإن يك عتّاب مضى لسبيله ... فما مات من يبقى له مثل خالد(3/107)
وفي الحديث المرفوع: «ريح الولد من ريح الجنّة. وقال رسول الله صلّى الله عليه وسلّم لأحد ابني بنته: «إنّكم لتجبّنون وإنكم لتبخّلون وإنكم لمن ريحان الله» .
وقالت أعرابية: [مجزوء الرّجز]
يا حبّذا ريح الولد ... ريح الخزامى بالبلد «1»
حدّثني أبو حاتم عن الأصمعيّ قال: هذا يدلّك على تفضيلهم الخزامى.
وكان يقال: ابنك ريحانك سبعا، وخادمك سبعا، ثم عدوّ أو صديق.
مرّ أعرابيّ ينشد «2» ابنا له بقوم، فقالوا: صفه؛ فقال: دنينير، قالوا: لم نره؛ فلم يلبث القوم أن جاء على عنقه بجعل «3» ؛ فقالوا؛ ما وجدت ابنك يا أعرابيّ؟ قال: نعم هو هذا؛ قالوا: لو سألت عن هذا لأخبرناك، ما زال منذ اليوم بين أيدينا.
قال الشاعر في امرأة: [منسرح]
نعم ضجيع الفتى إذا برد ال ... ليل سحيرا وقرقف الصّرد «4»
زيّنها الله في العيون كما ... زيّن في عين والد ولد
وفي الحديث: «من كان له صبيّ فليستصب له» .
وقال الزبير وهو يرقّص ابنا له: [رجز]
أبيض من آل أبي عتيق ... مبارك من ولد الصدّيق
ألذّه كما ألذّ ريقي(3/108)
وقال أعرابي: [سريع]
لولا بنيّات كزغب القطا ... حططن من بعض إلى بعض «1»
لكان لي مضطرب واسع ... في الأرض ذات الطّول والعرض
وإنّما أولادنا بيننا ... أكبادنا تمشي على الأرض
لو هبّت الريح على بعضهم ... لامتنعت عيني من الغمض
أنزلني الدهر على حكمه ... من مرقب عال إلى خفض «2»
وابتزّني الدهر ثياب الغنى ... فليس لي مال سوى عرضي
قال بعض النّسّابين: إنما قيل: سعد العشيرة، لأنه كان يركب في عشرة من ولده، فكأنهم عشيرة.
وقال ضرار بن عمرو الصّبيّ، وقد رئى له ثلاثة عشر ذكرا قد بلغوا: من سرّه بنو ساءته نفسه.
قال بشر بن أبي حازم «3» : [طويل]
إذا ما علوا قالوا أبونا وأمّنا ... وليس لهم عالين أمّ ولا أب «4»
وقال آخر: [بسيط]
أنا ابن عمّك إن نابتك نائبة ... وليس منك إذا ما كعبك اعتدلا «5»
وأنشدنا الرّياشيّ: [سريع]
الرّحم بلّها بخير البلّان ... فإن فيها للدّيار العمران «6»(3/109)
وأمر المال وبنت الصّغران ... وإنّما اشتقّت من اسم الرحمن «1»
وقال المعلوط: [طويل]
ومن يلق ما ألقى وإن كان سيّدا ... ويخش الذي أخشى يسر سير هارب
مخافة سلطان عليّ أظنّه ... ورهطي، وما عاداك مثل الأقارب «2»
دخل عثمان بن عفّان على ابنته وهي عند عبد الله بن خالد بن أسيد، فقال: يا بنيّة: ما لي أراك مهزولة؟ لعلّ بعلك يغيرك «3» ؛ فقالت: لا، ما يغيرني؛ فقال لزوجها: لعلّك تغيرها! قال: فأفعل، فلغلام يزيده الله في بني أميّة أحبّ إليّ منها.
قال النعمان بن بشير «4» : [طويل]
وإني لأعطي المال من ليس سائلا ... وأدرك للمولى المعاند بالظلم
وإني متى ما يلقني صارما له ... فما بيننا عند الشدائد من صرم «5»
فلا تعدد المولى شريكك في الغنى ... ولكنما شريكك في العدم «6»
إذا متّ ذو القربى إليك برحمه ... وغشّك واستغنى فليس بذي رحم
ولكنّ ذا القربى الذي يستخفّه ... أذاك ومن يرمي العدوّ الذي ترمي
وقال بعض الشعراء: [وافر]
لقد زاد الحياة إليّ حبّا ... بناتي أنّهن من الضّعاف(3/110)
مخافة أن يرين البؤس بعدي ... وأن يشربن رنقا بعد صافي «1»
وأن يعرين إن كسي الجواري ... فتنبو العين عن كرم عجاف «2»
قيل لعليّ بن الحسين: أنت من أبرّ الناس ولا نراك تؤاكل أمّك؛ قال:
أخاف أن تسير يدي إلى ما قد سبقت عينها إليه فأكون قد عققتها.
قيل لعمر بن ذرّ: كيف كان برّ ابنك بك؟ قال: ما مشيت نهارا قط إلا مشى خلفي، ولا ليلا إلا مشى أمامي، ولا رقي سطلحا وأنا تحته.
حدّثني محمد بن عبيد عن معاوية بن عمرو عن زائدة عن عطاء بن السائب عن عثمان بن أبي العاص قال: كنت عند عمر فأتاه رجل فأنشده:
[وافر]
تركت أباك مرعشة يداه ... وأمّك ما تسيغ لها شرابا «3»
إذا غنّت حمامة بطن وجّ ... على بيضاتها ذكرت كلابا «4»
فقال عمر: ممّ ذاك؟ قال: هاجر إلى الشام وترك أبوين له كبيرين، فبكى عمر وكتب إلى يزيد بن أبي سفيان في أن يرحّله، فقدم عليه، فقال: برّ أبويك وكن معهما حتى يموتا. قال أبو اليقظان: مربّعة كلاب بالبصرة إليه تنسب، والعوامّ تقول مربّعة الكلاب.(3/111)
قال أبو عليّ الضّرير «1» : [متقارب]
أتيتك جذلان مستبشرا ... لبشراك لما أتاني الخبر
أتاني البشير بأن قد رزقت ... غلاما فأبهجني ما ذكر
وأنّك، والرشد فيما فعل ... ت، أسميته باسم خير البشر
وطهّرته يوم أسبوعه ... ومن قبل في الذّكر ما قد طهر «2»
فعمّرك الله حتى ترا ... هـ قد قارب الخطو منه الكبر
وحتى ترى حوله من بنيه ... وإخوته وبنيهم زمر «3»
وحتى يروم الأمور الجسام ... ويرجى لنفع ويخشى لضرّ
وأوزعك الله شكر العطاء ... فإن المزيد لعبد شكر «4»
وصلّى على السّلف الصالحي ... ن منكم وبارك فيمن غبر «5»
وهذا قد وقع في باب التهانىء أيضا.
قال المأمون: لم أر أحدا أبرّ من الفضل بن يحيى بأبيه، بلغ من برّه به أن يحيى كان لا يتوضّأ إلا بماء مسخّن وهما في السجن، فمنعهما السجّان من إدخال الحطب في ليلة باردة، فقام الفضل حين أخذ يحيى مضجعه إلى قمقم «6» كان يسخّن فيه الماء، فملأه ثم أدناه من منار المصباح، فلم يزل قائما وهو في يده حتى أصبح.(3/112)
رقّص أعرابيّ ابنه وقال: [رجز]
أحبّه حبّ الشّحيح ما له ... قد كان ذاق الفقر ثم ناله
إذا يريد بذله بدا له
دخل عمرو بن العاص على معاوية وعنده ابنته عائشة، فقال: من هذه يا أمير المؤمنين؟ فقال: هذه تفّاحة القلب؛ فقال: انبذها عنك «1» ؛ قال: ولم؟
قال: لأنهنّ يلدن الأعداء، ويقرّبن البعداء، ويورثن الضغائن؛ فقال: لا تقل ذاك يا عمرو، فو الله ما مرّض المرضى ولا ندب الموتى ولا أعان على الأحزان مثلهن، وإنك لواجد خالا قد نفعه بنو أخته؛ فقال له عمرو: ما أعلمك إلا حبّبتهنّ إليّ.
الاعتذار
كان يقال: الاعتراف يهدم الاقتراف.
كتب بعض الكتّاب إلى بعض العمال: لو قابلت حقّك عليّ بمتقدّم المودّة ومؤكّد الحرمة إلى ما جدّده الله لك بالسلطان والولاية، لم أرض في قضائه بالكتاب دون تجسّم الرّحلة ومعاناة السفر إليك، لا سيما مع قرب الدار منك؛ غير أن الشغل بما ألفيت عليه أموري من الانتشار وعلائق الخراج وغير ذلك مما لا خيار معه، أحلّني في الظاهر محلّ المقصّرين؛ وإن وهب الله فرجة من الشغل وسهّل سبيلا إليك، لم أتخلّف عمّا لي فيه الحظّ من مجاورتك والتنسّم بريحك والتيمّن بالنظر إليك، غاديا ورائحا عليك، إن شاء الله تعالى.
كتب ابن الجهم «2» إلى نجاح من الحبس: [منسرح](3/113)
إن تعف عن عبدك المسيء ففي ... فضلك مأوى للصّفح والمنن
أتيت ما استحقّ من خطأ ... فعد لما تستحقّ من حسن
وكتب الحسن بن وهب «1» : [سريع]
ما أحسن العفو من القادر ... لا سيّما عن غير ذي ناصر
إن كان لي ذنب، ولا ذنب لي، ... فما له غيرك من غافر
أعوذ بالودّ الذي بيننا ... أن يفسد الأوّل بالآخر
كتب رجل إلى جعفر بن يحيى يستبطئه، فوقّع في ظهر كتابه: أحتجّ عليك بغالب القضاء، وأعتذر إليك بصادق النيّة.
قال بعض الشعراء: [متقارب]
وتعذر نفسك إمّا أساءت ... وغيرك بالعذر لا تعذر
وتبصر في العين منه القذى ... وفي عينك الجذع لا تبصر «2»
وقال بعض الشعراء: [كامل]
يا ذا المميّز للإخاء ولل ... إخوان في التفضيل والقدر
لا يقبضنّك عن معاشرتي ... بالأنس أن قصّرت في برّي
إني إذا ضاق امرؤ بجدا ... عنّي استعنت عليه بالعذر «3»
وفي الحديث المرفوع: «من لم يقبل من معتذر صادقا كان أو كاذبا لم يرد عليّ الحوض. وفيه: أقيلوا ذوي الهنات عثراتهم» «4» .(3/114)
اعتذر رجل إلى أبي عبيد الله الكاتب فقال: ما رأيت عذرا أشبه باستئناف ذنب من عذرك.
وكان يقال: أعجل الذنوب عقوبة العذر، واليمين الفاجرة، وردّ التائب وهو يسأل العفو خائبا.
وقال مطرّف «1» : المعاذر مكاذب «2» .
اعتذر رجل إلى إبراهيم «3» فقال له: قد عذرتك غير معتذر، إن المعاذير يشوبها الكذب.
ويقال. ما اعتذر مذنب إلا ازداد ذنبا.
وقال الشاعر: [مجزوء الكامل المرفّل]
لا ترج رجعة مذنب ... خلط احتجاجا باعتذار
اعتذر رجل إلى سلم بن قتيبة «4» ، فقبل منه وقال: لا يدعونّك أمر تخلّصت منه إلى أمر لعلك لا تتخلص منه.
وقال الشاعر: [طويل]
فلا تعذراني في الإساءة إنّه ... شرار الرجال من يسيء فيعذر
وقال ابن الطّثرية: [طويل]
هبيني امرأ إمّا بريئا ظلمته ... وإما مسيئا تاب بعد وأعتبا «5»(3/115)
وكنت كذي داء تبغّى لدائه ... طبيبا فلما لم يجده تطبّبا «1»
كتب بعض الكتّاب معتذرا: توهّمت، أعزك الله، نفرتك عند نظرتك إلى عنوان كتابي هذا باسمي، لما تضمّنته من السّخيمة «2» عليّ، فأخليته منه؛ وانتظرت باستعطافك من طويّتك فيّ عاقبة امتداد العهد، وأمنت اضطغانك لنفي الدّين الحقد، واختصرت من الاحتجاج المنتسب إلى الإصرار، والاعتذار المتعاود بين النّظراء، والإقرار المثبّت للأقدام، الاستسلام لك.
على أنك إن حرمتني رضاك اتّسعت بعفوك، وإن أعدمنيهما توغّر صدرك «3» لم تضق من الرّقة عليّ من مصيبة الحرمان؛ وإن قسوت رجعت بك عواطف من أياديك عندي نازعة «4» بك إلى استتمامها لديّ. ومن حدود فضائل الرؤساء مقابلة سوء من خوّلوا بالإحسان. ولا نعمة على مجرم إليه أجزل من الظفر، ولا عقوبة لمجرم أبلغ من الندم؛ وقد ظفرت وندمت. كتبت وأنا على ما تحبّ بشرا إن تغمّدت زلّتي، وكما تحب ضرّا إن تركت إقالتي «5» ، وبخير في كلتا الحالتين ما بقيت.
وكتبت في كتاب اعتذار واستعطاف: وكم عسى أن يكون تماديك في عتبك؛ لولا أني مضطرّ إلى وصلك وأنت مطبوع على هجري. لقد استحييت واستحييت من ذليّ وعزّك، وخفضي جناحي ونأي بجانبك.
وفي كتاب آخر: قد أودعني الله من نعمك ما بسطني في القول مدلّا به(3/116)
عليك، ووكّد من حرمتي بك ما شفع لي في الذنوب إليك، وأعلقني من أسبابك ما لا أخاف معه نبوات الزمان عليّ فيك، وأمّنتني بحلمك وأناتك بادرة غضبك؛ فأقدمت ثقة بإقالتك إن عثرت، وبتقويمك إن زغت. وبأخذك بالفضل إن زللت.
وفي كتاب اعتذار: أنا عليل منذ فارقتك؛ فإن تجمع عليّ العلّة وعتبك أفدح «1» . على أن ألم الشوق قد بلغ بك في عقوبتي؛ وحضرني هذا البيت على ارتجال فوصلت به قولي: [طويل]
لك الحقّ إن تعتب عليّ لأنّني ... جفوت وإمّا تغتفر فلك الفضل
أنهيت عذري لأنتهي إلى تفضّلك بقبوله «2» وإن قبولك «3» يمح إفراطي في البرّ بك تفريطي فيه، وإلى ذلك ما أسألك تعريفي خيرك لأراح إليه، وأستزيد الله في أجره «4» لك.
وفي فصل آخر:
أنا المقرّ بقصوري عن حقّك، واستحقاقي جفاءك؛ وبفضلك من عذلك أعوذ، فو الله لئن تأخّر كتابي عنك، ما أستزيد نفسي في شكر مودّتك، ولطيف عنايتك. وكيف يسلاك أو ينساك أخ مغرم بك يراك زينة مشهده ومغيبه!: [بسيط](3/117)
وكيف أنساك لا أيديك واحدة ... عندي ولا بالذي أوليت من نعم «1»
وفي آخر الكتاب: [وافر]
إذا اعتذر الصّديق إليك يوما ... من التقصير عذر أخ مقرّ
فصنه عن عتابك واعف عنه ... فإن الصفح شيمة كلّ حرّ
وقال الخليل بن أحمد: [بسيط]
لو كنت تعلم ما أقول عذرتني ... أو كنت أجهل ما تقول عدلتكا
لكن جهلت مقالتي فعذلتني ... وعلمت أنّك جاهل فعذرتكا
قيل لبزرجمهر: ما بالكم لا تعاتبون الجهلة، قال: لأنا لا نريد من العميان أن يبصروا.
وقال ابن الدّمينة «2» : [طويل]
بنفسي وأهلي من إذا عرضوا له ... ببعض الأذى لم يدر كيف يجيب
ولم يعتذر عذر البريء ولم تزل ... به ضعفة حتى يقال مريب «3»
وكتب رجل إلى صديق له يعتذر: أنا من لا يحاجّك عن نفسه، ولا يغالطك عن جرمه، ولا يلتمس رضاك إلّا من جهته، ولا يستعطفك إلّا بالإقرار بالذنب، ولا يستمليك إلّا بالاعتراف بالزّلّة.
وقرأت في كتاب: لست أدري بأيّ استجزت تصديق ظنّك حتى أنفذت عليّ به حكم قطيعتك، فو الله ما صدق عليّ ولا كاد، ولا استجزت ما توهّمته(3/118)
فيمن لا يلزمني حقّه. وأعيذك بالله من بدار «1» إلى حكم يوجب الاعتذار، فإنّ الأناة «2» سبيل أهل التّقى والنّهى؛ والظنّ والإسراع إلى ذوي الإخاء ينتجان الجفاء، ويميلان عن الوفاء إلى اللّفاء «3» .
قال إسماعيل بن عبد الله وهو يعتذر إلى رجل في آخر يوم من شعبان:
والله فإنّي في غبّر «4» يوم عظيم، وتلقاء ليلة تفترّ «5» عن أيام عظام، ما كان ما بلغك.
وقرأت في كتاب معتذر: إنك تحسن مجاورتك للنعمة، واستدامتك لها، واجتلابك ما بعد منها بشكر ما قرب، واستعمالك الصفح لما في عاقبته من جميل عادة الله عندك؛ ستقبل العذر على معرفة منك بشناعة الذنب، وتقيل العثرة «6» وإن لم تكن على يقين من صدق النيّة، وتدفع السيئة بالتي هي أحسن.
اعتذر رجل إلى جعفر بن يحيى البرمكي، فقال له جعفر: قد أغناك الله بالعذر منّا عن الاعتذار، وأغنانا بالمودّة لك عن سوء الظن بك.
وقال بعض الشعراء: [طويل]
إذا ما امرؤ من ذنبه جاء تائبا ... إليك فلم تغفر له فلك الذنب
كان الحسن بن زيد بن الحسن واليا للمنصور على المدينة، فهجاه ورد(3/119)
ابن عاصم المبرسم فقال: [وافر]
له حقّ وليس عليه حقّ ... ومهما قال فالحسن الجميل
وقد كان الرسول يرى حقوقا ... عليه لأهلها وهو الرسول
فطلبه الحسن فهرب منه، ثم لم يشعر إلا وهو ماثل بين يديه يقول:
[وافر]
سيأتي عذري الحسن بن زيد ... وتشهد لي بصفّين القبور
قبور لو بأحمد أو عليّ ... يلوذ مجيرها حفظ المجير
هما أبواك من وضعا تضعه ... وأنت برفع ما رفعا جدير
فاسخفّ الحسن كرمه، فقام إليه فبسط له رداءه وأجلسه عليه.
وفي كتاب لمعتذر: علوّ الرّتبة واتّساع القدرة وانبساط اليد بالسّطوة، ربما أنست ذا الحنق المحفظ «1» من الأحرار فضيلة العفو وعائدة الصّفح وما في إقالة المذنب واستبقائه من حسن السماع وجميل الأحدوثة، فبعثته على شفاء غيظه، وحرّكته، على تبريد غلّته، وأسرعت به إلى مجانبة طباعه وركوب ما ليس من عادته. وهمّتك تجلّ عن دناءة الحقد، وترتفع عن لؤم الظّفر.
وفي فصل: نبت «2» بي عنك غرّة الحداثة «3» فردّتني إليك الحنكة، وباعدتني عنك الثقة بالأيام فأدنتني إليك الضرورة، ثقة بإسراعك إليّ وإن كنت أبطأت منك، وقبولك العذر وإن كانت ذنوبي قد سدّت عليك مسالك الصّفح؛ فأيّ موقف هو أدنى من هذا الموقف لولا أن المخاطبة فيه لك! وأيّ خطّة هي أودى بصاحبها من خطّة أنا راكبها لولا أنها في رضا لك!.
أوقع «4» الحجّاج يوما بخالد بن يزيد يعيبه وينتقصه وعنده عمرو بن عتبة:(3/120)
فقال عمرو: إن خالدا أدرك من قبله وأتعب من بعده بقديم غلب عليه وحديث لم يسبق إليه؛ فقال الحجّاج معتذرا: يا بن عتبة، إنا لنسترضيكم بأن نغضب عليكم، ونستعطفكم بأن ننال منكم، وقد غلبتم على الحلم، فوثقنا لكم به، وعلمنا أنكم تحبون أن تحلموا، فتعرّضنا للذي تحبّون.
قال المنصور لرجل أتاه نائبا معتذرا من ذنب: عهدي بك خطيبا فما هذا السكوت! فقال: يا أمير المؤمنين؛ لسنا وفد مباهاة «1» وإنما نحن وفد توبة، والتوبة تتلقّى بالاستكانة «2» .
وقع بين أبي مسلم وبين قائد له كلام، فأربى «3» عليه القائد إلى أن قال له: يا لقيط! فأطرق أبو مسلم، فلما سكتت عنه فورة الغضب ندم وعلم أنه قد أخطأ واعتذر وقال: أيها الأمير، والله ما انبسطت حتى بسطتني ولا نطقت حتى أنطقتني فاغفر لي؛ قال: قد فعلت؛ فقال: إني أحبّ أن أستوثق لنفسي؛ فقال أبو مسلم: سبحان الله! كنت تسيء وأحسن، فلما أحسنت أسي!.
قال الطّائي: [طويل]
وكم ناكث للعهد قد نكثت به ... أمانيه واستخذى بحقّك باطله «4»
فحاط له الإقرار بالذنب روحه ... وجثمانه إذ لم تحطه قبائله «5»(3/121)
وقال آخر: [منسرح] وقال آخر: [منسرح]
حتى متى لا تزال معتذرا ... من زلّة منك ما تجانبها
لا تتّقي عيبها عليك ولا ... ينهاك عن مثلها عواقبها
لتركك الذنب لا تقارفه ... أيسر من توبة تقاربها «1»
قال أعرابيّ لابن عمّ له: سأتخطى ذنبك إلى عذرك، وإن كنت من أحدهما على يقين ومن الآخر على شك؛ ليتمّ المعروف منّي إليك، ولتقوم الحجّة منّي عليك.
عتب الإخوان والتباغض والعداوة
حدّثني الزّياديّ قال حدّثنا عبد الوارث عن يزيد بن القاسم عن معاذة أنها سمعت هشام بن عامر يقول: سمعت رسول الله صلّى الله عليه وسلم يقول: «لا يحلّ لمسلم أن يصارم «2» مسلما فوق ثلاث، وأيّهما فعل فإنهما ناكثان «3» عن الحقّ ما داما على صرمهما وإن ماتا لم يدخلا الجنة» .
قال بعض الشعراء: [بسيط]
سنّ الضّغائن آباء لنا سلفوا ... فلن تبيد وللآباء أبناء
هذا مثل قول أبي بكر الصّدّيق رضي الله عنه: العداوة تتوارث.
وقرأت في كتاب للهند: إذا كانت الموجدة عن علّة كان الرضا مرجوّا، وإذا كانت عن غير علة كان الرضا معدوما. ومن العجب أن يطلب الرجل رضا أخيه فلا يرضى، وأعجب من ذلك أن يسخطه عليه طلبه رضاه.(3/122)
قال بعض المحدثين: [متقارب]
فلا تله عن كسب ودّ العدوّ ... ولا تجعلنّ صديقا عدوّا
ولا تغترر بهدوّ امرىء ... إذا هيج فارق ذاك الهدوّا
وقال آخر: [من مجزوء الكامل المرفّل]
احذر مودّة ما ذق ... شاب المرارة بالحلاوه «1»
يحصي العيوب عليك أي ... ام الصداقة والعداوه
وقال أبو الأسود الدّؤليّ: [طويل]
إذا المرء ذو القربى وذو الضّغن أجحفت ... به سنة حلّت مصيبته حقدي «2»
وقال محمد بن أبان اللاحقي «3» لأخيه إسماعيل: [وافر]
تلوم على القطيعة من أتاها ... وأنت سننتها في الناس قبلي
وقال آخر: [طويل]
وروّعت حتى ما أراع من النّوى ... وإن بان جيرانّ عليّ كرام
فقد جعلت نفسي على اليأس تنطوي ... وعيني على هجر الصديق تنام
قال أحمد بن يوسف «4» الكاتب: [خفيف]
ما على ذا كنّا افترقنا بسندا ... دولا بيننا عقدنا الإخاء «5»(3/123)
نطعن الناس بالمثقّفة السّم ... ر على غدرهم وننسى الوفاء «1»
قيل لأفلاطون: بماذا ينتقم الإنسان من عدوّه؟ قال: بأن يزداد فضلا في نفسه.
وكان يقال: احذر معاداة الذليل، فربما شرق «2» بالذّباب العزيز.
كتب رجل من الكتّاب إلى صديق له تجنّى عليه: [متقارب]
عتبت عليّ ولا ذنب لي ... بما الذنب فيه ولا شكّ لك
وحاذرت لومي فبادرتني ... إلى اللوم من قبل أن أبدرك
فكنّا كما قيل فيما مضى ... خذ اللّصّ من قبل أن يأخذك
وقال آخر: [طويل]
رأيتك لمّا نلت مالا، ومسّنا ... زمان ترى في حدّ أنيابه شغبا «3»
جعلت لنا ذنبا لتمنع نائلا ... فأمسك ولا تجعل غناك لنا ذنبا
وقال آخر: [طويل]
تريدين أن أرضى وأنت بخيلة ... ومن ذا الذي يرضي الأخلّاء بالبخل
وجدّك لا يرضى إذا كان عاتبا ... خليلك إلّا بالمودّة والبذل
متى تجمعي منّا كثيرا ونائلا ... قليلا يقطّع ذاك باقية الوصل
كتب رجل إلى صديق له: [طويل](3/124)
لئن ساءني أن نلتني بمساءة ... لقد سرّني أنّي خطرت ببالك «1»
وقال آخر: [بسيط]
إذا رأيت ازورارا من أخي ثقة ... ضاقت عليّ برحب الأرض أوطاني
فإن صددت بوجهي كي أكافئه ... فالعين غضبى وقلبي غير غضبان
وقال إبراهيم بن العباس «2» : [بسيط]
وقد غضبت فما باليتم غضبي ... حتى انصرفت بقلب ساخط راضي
وقال زهير «3» : [وافر]
وما يك في عدوّ أو صديق ... تخبّرك العيون عن القلوب
وقال دريد «4» : [وافر]
وما تخفى الضغينة حيث كانت ... ولا النظر الصحيح من السقيم
وقال ابن أبي خازم: [من مجزوء الخفيف]
خذ من الدهر ما كفى ... ومن العيش ما صفا
لا تلحّنّ بالبكاء ... على منزل عفا «5»
خلّ عنك العتاب إن ... خان ذو الودّ أو هفا
عين من لا يحبّ وص ... لك تبدي لك الحفا
وقال أعرابيّ يذكر أعداء: [بسيط](3/125)
يزمّلون جنين الضّغن بينهم ... والضّغن أشوه أو في وجهه كلف «1»
إن كاتمونا القلى نمّت عيونهم ... والعين تظهر ما في القلب أو تصف «2»
وقال ابن أبي أميّة «3» : [سريع]
كم فرحة كانت وكم ترحة ... تخرّصتها لي فيك الظنون «4»
إذا قلوب أظهرت غير ما ... تضمره أنبتك عنها العيون
وقال آخر: [هزج]
أما تبصر في عين ... يّ عنوان الذي أبدي
وقال آخر: [طويل]
ومولى كأنّ الشمس بيني وبينه ... إذا ما التقينا ليس ممّن أعاتبه
يقول: لا أقدر أن أنظر إليه، فكأن الشمس بيني وبينه. ومثله: [وافر]
إذا أبصرتني أعرضت عنّي ... كأنّ الشمس من قبلي تدور
وقال النّمر بن تولب في الإعراض «5» : [طويل]
فصدّت كأنّ الشمس تحت قناعها ... بدا حاجب منها وضنّت بحاجب
أخذه أبو نواس فقال: [سريع]
يا قمرا للنّصف من شهره ... أبدى ضياء لثمان بقين(3/126)
يريد أنه أعرض بوجهه فبدا له نصفه.
وقال آخر في الضغينة: [طويل]
وفينا وإن قيل اصطلحنا تضاغن ... كما طرّ أوبار الجراب على النّشر «1»
وقال آخر في نحوه «2» : [طويل]
وقد ينبت المرعى على دمن الثّرى ... وتبقى حزازات النفوس كما هيا «3»
وقال الأخطل: [بسيط]
إنّ الضغينة تلقاها وإن قدمت ... كالعرّ يكمن حينا ثم ينتشر «4»
شمس العداوة حتى يستفاد لهم ... وأعظم الناس أحلاما إذا قدروا «5»
وقرأت في كتاب للهند: ليس بين عداوة الجوهريّة صلح إلا ريثما ينتكث، كالماء إن أطيل إسخانه فإنه لا يمتنع من إطفاء النار إذا صبّ عليها.
قال سعد بن أبي وقّاص لعمّار بن ياسر: إن كنا لنعدّك من أكابر أصحاب محمد صلّى الله عليه وسلم، حتى إذا لم يبق من عمر إلا ظمء «6» الحمار فعلت(3/127)
وفعلت؛ قال: أيّما أحبّ إليك: مودّة على دخل «1» أو مصارمة جميلة؟ قال:
مصارمة جميلة؛ قال: لله عليّ ألّا أكلّمك أبدا.
وقال بعض الشعراء في صديق له تغيّر: [منسرح]
إحولّ عنّي وكان ينظر من ... عيني ويرمي بساعدي ويدي «2» .
وقال المثتقّب العبدي «3» : [وافر]
ولا تعدي مواعد كاذبات ... تمرّ بها رياح الصيف دوني
فإني لو تعاندني شمالي ... عنادك ما وصلت بها يميني
إذا لقطعتها ولقلت بيني ... كذلك أجتوي من يجتويني «4»
وقال الكميت: [طويل]
ولكنّ صبرا عن أخ عنك صابر ... عزاء إذا ما النفس حنّ طروبها «5»
رأيت عذاب الماء إن حيل دونها ... كفاك لما لا بدّ منه شروبها «6»
وإن لم يكن إلا الأسنّة مركب ... فلا رأي للمجهود إلا ركوبها «7»
وقرأت في كتاب للهند: العدوّ إذا أحدث صداقة لعلة ألجأته إليها فمع ذهاب العلة رجوع العداوة، كالماء يسخن فإذا رفع عاد باردا.
وقال محمد بن يزداد الكاتب: إذا لم تستطع أن تقطع يد عدوّك فقبّلها.
قال الشاعر: [طويل](3/128)
لقد زادني حبّا لنفسي أنني ... بغيضّ إلى كلّ امرىء غير طائل
إذا ما رآني قطّع الطرف دونه ... ودوني فعل العارف المتجاهل
ملأت عليه الأرض حتّى كأنّها ... من الضّيق في عينيه كفّة حابل «1»
قال عمر بن الخطاب رضي الله عنه: اعتزل عدوّك واحذر صديقك إلا الأمين، ولا أمين إلا من خشي الله.
الهيثم عن ابن عيّاش قال: أخبرني رجل من الأزد قال: كنا مع أسد بن عبد الله بخراسان، فبينا نحن نسير معه وقد مدّ نهرفجاء «2» بأمر عظيم لا يوصف، وإذا رجل بضربه الموج وهو ينادي: الغريق الغريق! فوقف أسد وقال: هل من سابح؟ فقلت: نعم، فقال: ويحك! الحق الرجل! فوثبت عن فرسي وألقيت عنّي ثيابي ثم رميت بنفسي في الماء، فما زلت أسبح حتى إذا كنت قريبا منه قلت: ممن الرجل؟ قال: من بني تميم؟ قلت: إمض راشدا، فو الله ما تأخّرت عنه ذراعا حتى غرق: فقال ابن عياش: فقلت له: ويحك! أما اتقيت الله! غرّقت رجلا مسلما! فقال: والله لو كانت معي لبنة لضربت بها رأسه.
طاف رجل من الأزد بالبيت «3» وجعل يدعو لأبيه؛ فقيل له: ألا تدعو لأمّك؟
فقال: إنها تميميّة.
وقرأت في كتاب للهند: جانب الموتور وكن أحذر ما تكون له ألطف ما يكون بك، فإنّ السلامة بين الأعداء توحّش بعضهم من بعض، ومن الأنس والثقة حضور آجالهم.(3/129)
أراد الملك قتل بزرجمهر وأن يتزوّج ابنته بعد قتله؛ فقال: لو كان ملككم حازما ما جعل بينه وبين شعاره موتورة «1» .
قال أبو حازم: لا تناصبنّ رجلا حتى تنظر إلى سريرته؛ فإن تكن له سريرة حسنة فإن الله لم يكن يخذله بعداوتك إياه، وإن كانت سريرته رديئة فقد كفاك مساويه، لو أردت أن تعمل بأكثر من معاصي الله لم تقدر.
قال رجل: إني لأغتنم في عدوّي أن ألقي عليه النملة وهو لا يشعر لتؤذيه.
وقال الأفوه الأوديّ «2» : [وافر]
بلوت الناس قرنا بعد قرن ... فلم أر غير خلّاب وقالي «3»
وذقت مرارة الأشياء جمعا ... فما طعم أمرّ من السؤال
ولم أر في الخطوب أشدّ هولا ... وأصعب من معاداة الرجال
وقال آخر: [وافر]
بلاء ليس يشبهه بلاء ... عداوة غير ذي حسب ودين
يبيحك منه عرضا لم يصنه ... ويرتع منك في عرض مصون
شماتة الأعداء
بلع عمرو بن عتبة شماتة قوم به في مصائب؛ فقال: والله، لئن عظم(3/130)
مصابنا بموت رجالنا لقد عظمت النعمة علينا بما أبقى الله لنا: شبّانا يشبّون «1» الحروب، وسادة يسدون المعروف، وما خلقنا ومن شمت بنا إلا للموت.
قيل لأيوب النبيّ عليه السلام: أيّ شيء كان أشدّ عليك في بلائك؟
قال: شماتة الأعداء.
إشتكى يزيد بن عبد الملك شكاة شديدة وبلغه أنّ هشاما سرّ بذلك، فكتب إلى هشام يعاتبه، وكتب في آخر الكتاب: [طويل]
تمنّى رجال أن أموت، وإن أمت ... فتلك سبيل لست فيها بأوحد
وقد علموا، لو ينفع العلم عندهم، ... متى متّ ما الداعي عليّ بمخلد
منيّته تجري لوقت وحتفه ... يصادفه يوما على غير موعد
فقال للذي يبغي خلاف الذي مضى ... تهيّأ لأخرى مثلها فكأن قد «2»
وقال الفرزدق: [وافر]
إذا ما الدّهر جرّ على أناس ... حوادثه أناخ بآخرينا
فقل للشامتين بنا أفيقوا ... سيلقى الشامتون كما لقينا
أغير على رجل من الأعراب فذهب بإبله فقال: [وافر]
لا والذي أنا عبد في عبادته ... لولا شماتة أعداء ذوي إحن «3»
ما سرّني أنّ إبلي في مباركها ... وأنّ شيئا قضاه الله لم يكن
وقال عديّ بن زيد العباديّ: [خفيف]
أرواح مودّع أم بكور ... لك فانظر لأيّ حال تصير(3/131)
وابيضاض السواد من نذر المو ... ت فهل بعده لإنس نذير
أيّها الشامت المعيّر بالدّه ... ر أأنت المبرّأ الموفور
أم لديك العهد الوثيق من الأي ... ام أم أنت جاهل مغرور
من رأيت المنون خلّدن أم من ... ذا عليه من أن يضام مجير
أين كسرى كسرى الملوك أنو شر ... وان أم أين قبله سابور «1»
وأخو الحضر إذ بناه وإذ دج ... لة تجبى إليه والخابور «2»
شاده مرمرفا وجلّله كل ... سا فللطّير في ذراه وكور
لم يهبه ريب المنون فباد ال ... ملك عنه فبابه مهجور
وتبيّن ربّ الخورنق إذ أش ... رف يوما وللهدى تفكير «3»
سرّه حاله وكثرة ما يم ... لك والبحر معرضا والسّدير «4»
فارعوى قلبه فقال وما غب ... طة حيّ إلى الممات يصير «5»
ثم بعد الفلاح والملك والنّع ... مة وارتهم هناك القبور
ثم أضحوا كأنهم ورق جفّ ... فألوت به الصبّا والدّبور «6»
قال ابن الكلبي «7» : لما قبض النبيّ صلّى الله عليه وسلّم سمع بموته نساء من كندة وحضر موت فخضبن أيديهنّ وضربن بالدفوف، فقال رجل منهم: [كامل](3/132)
أبلغ أبا بكر إذا ما جئته ... أنّ البغايا رمن أيّ مرام
أظهرن من موت النبيّ شماتة ... وخضبن أيديهنّ بالعلّام «1»
فاقطع، هديت، كفّهنّ بصارم ... كالبرق أومض من متون غمام «2»
فكتب أبو بكر إلى المهاجر عامله، فأخذهنّ وقطّع أيديهنّ.
وقرأت في كتاب ذكر فيه عدوّ: فإنه يتربّص بك الدوائر، ويتمنّى لك الغوائل، ولا يؤمّل صلاحا إلا في فسادك، ولا رفعة إلا في سقوط حالك والسلام.
وجد بالأصل في آخر هذا الكتاب ما نصّه:
آخر كتاب الإخوان، وهو الكتاب السابع من عيون الأخبار، تأليف أبي محمد عبد الله بن مسلم بن قتيبة الدّينوريّ رحمة الله عليه. وكتبه الفقير إلى الله تعالى إبراهيم بن عمر بن محمد بن علي الواعظ الجزريّ، وذلك في شهور سنة أربع وتسعين وخمسمائة. وصلّى الله على سيدنا محمد النبيّ وآله الطاهرين.
وفي هذه الصفحة عينها وجد ما يأتي- وهو من زيادة الناسخ-:
قيل قدم المهديّ أمير المؤمنين، وقيل الرشيد «3» ، فتلقّاه الناس، وتلقّاه أبو دلامة «4» في جملة الناس، فأنشده: [كامل](3/133)
إنّي نذرت لئن رأيتك سالما ... بقرى العراق وأنت ذو وفّر
لتصلّينّ على النبيّ محمد ... ولتملأن دراهما حجرى
فقال له أمير المؤمنين: أما الأولى فنعم. اللهم صلّ على محمد وعلى آل محمد، وأما الأخرى فلست أفعل، فقال أبو دلامة: يا أمير المؤمنين ما نذرت إلا الاثنين، فضحك وأمر حتى ملؤا حجره دراهم.
وقال شاعر «1» : [كامل]
ولقد تنسّمت الرياح لحاجتي ... فإذا لها من راحتيك نسيم
ولربّما استيأست ثم أقول لا ... إنّ الذي ضمن النجاح كريم(3/134)
كتاب الحوائج
استنجاح الحوائج
حدّثني أحمد بن الخليل قال حدّثنا محمد بن الخصيب قال حدّثني أوس ابن عبد الله بن بريدة عن أخيه سهل بن عبد الله بن بريدة عن بريدة قال: قال رسول الله صلّى الله عليه وسلّم: «استعينوا على الحوائج بالكتمان فإنّ كلّ ذي نعمة محسود» .
قال خالد بن صفوان: لا تطلبوا الحوائج في غير حينها، ولا تطلبوها إلى غير أهلها، ولا تطلبوا ما لستم له بأهل فتكونوا للمنع خلقاء.
قال شبيب بن شيبة: إني لأعرف أمرا لا يتلاقى به اثنان إلّا وجب النّجح بينهما؛ فقال له خالد بن صفوان: ما هو؟ قال: العقل، فإنّ العاقل لا يسأل ما لا يجوز ولا يردّ عما يمكن، فقال له خالد: نعيت إليّ نفسي! إنّا أهل بيت لا يموت منا أحد حتى يرى خلفه.
أبو اليقظان قال: كان بنو ربيعة- وهم من بين عسل بن عمرو بن يربوع- يوصون أولادهم فيقولون: استعينوا على الناس في حوائجكم بالتثقيل عليهم، فذاك أنجح لكم.
قال الشاعر: [مديد]
هيبة الإخوان مقطعة ... لأخي الحاجات عن طلبه(3/135)
فإذا ما هبن ذا أمل ... مات ما أمّلت من سببه
وقال أبو نواس: [طويل]
وما طالب الحاجات ممّن يرومها ... من الناس إلا المصبحون على رجل
تأنّ مواعيد الكرام فربّما ... أصبت من الإلحاح سمحا على بخل
والبيت المشهور في هذا: [بسيط]
إنّ الأمور إذا انسدّت مسالكها ... فالصبر يفتح منها كلّ ما ارتتجا «1»
أخلق بذي الصبر أن يحظي بحاجته ... ومدمن القرع للأبواب أن يلجا «2»
لا تيأسنّ وإن طالت مطالبة ... إذا استعنن بصبر أن ترى فرجا
وقال آخر: [بسيط]
إنّي رأيت، وللأيّام تجربة ... للصبر عاقبة محمودة الأثر
وقلّ من جدّ في أمر يطالبه ... واستصحب الصبر إلّا فاز بالظّفر
والعرب تقول: «ربّ عجلة تهب ريثا» . يريدون أن الرجل قد يخرق ويعجل في حاجته فتتأخّر أو تبطل بذلك. وتقول: «الرّشف أنقع» . يريدون أن الشراب الذي يترشّف رويدا رويدا أقطع للعطش وإن طال على صاحبه.
وقال عامر بن خالد بن جعفر ليزيد بن الصّعق: [رجز]
إنّك إن كلّفتني ما لم أطق ... ساءك ما سرّك منّي من خلق
وكانوا يستنجحون حوائجهم بركعتين يقولون بعدهما: اللهم إنّي بك أستفتح، وبك أستنجح، وبمحمّد نبيك إليك أتوجّه، اللهم ذلّ لي صعوبته،(3/136)
وسهّل لي حزونته «1» ، وارزقني من الخير أكثر مما أرجو، واصرف عنّي من الشرّ أكثر مما أخاف.
وقال القطاميّ: [بسيط]
قد يدرك المتأنّي بعض جاجته ... وقد يكون مع المستعجل الزّلل «2»
عمرو بن بحر «3» عن إبراهيم بن السّنديّ قال: قلت في أيام ولايتي الكوفة لرجل من وجوهها، كان لا يجفّ لبده ولا يستريح قلمه ولا تسكن حركته في طلب حوائج الرجال وإدخال المرافق على الضعفاء وكان رجلا مفوّها، خبّرني عن الشيء الذي هوّن عليك النّصب وقوّاك على التعب ما هو؟
قال: قد والله سمعت تغريد الطير بالأسحار، في أفنان الأشجار؛ وسمعت خفق أوطار العيدان، وترجيع أصوات القيان الحسان؛ ما طربت من صوت قطّ طربى من ثناء حسن بلسان حسن على رجل قد أحسن، ومن شكر حرّ لمنعم حرّ، ومن شفاعة محتسب لطالب شاكر. قال إبراهيم: فقلت: لله أبوك لقد حشيت كرما فزادك الله كرما، فبأيّ شيء سهلت عليك المعاودة والطلب؟
قال: لأني لا أبلغ المجهود ولا أسأل ما لا يجوز، وليس صدق العذر أكره إليّ من إنجاز الوعد، ولست لإكداء «4» السائل أكره منّي للإجحاف «5» بالمسؤول، ولا أرى الراغب أوجب عليّ حقّا للذي قدمّ من حسن ظنه من المرغوب إليه الذي احتمل من كلّه «6» . قال إبراهيم: ما سمعت كلاما قطّ أشدّ موافقة(3/137)
لموضعه ولا أليق بمكانه من هذا الكلام.
وقال مصعب: [كامل]
في القوم معتصم بقوّة أمره ... ومقصّر أودى به التقصير
لا ترض منزلة الذليل ولا تقم ... في دار معجزة وأنت خبير
وإذا هممت فأمض همّك إنما ... طلب الحوائج كلّه تغرير «1»
وكان يقال: إذا أحببت أن تطاع، فلا تسأل ما لا يستطاع.
ويقال: الحوائج تطلب بالرجاء، وتدرك بالقضاء.
الاستنجاح بالرّشوة والهديّة
حدّثني زيد بن أخزم عن عبد الله بن داود قال: سمعت سفيان الثوريّ يقول: إذا أردت أن تتزوّج فأهد للأمّ. والعرب تقول: «من صانع «2» لم يحتشم من طلب الحاجة» .
قال ميمون بن ميمون: إذا كانت حاجتك إلى كاتب فليكن رسولك الطمع.
وقال عليّ بن أبي طالب رضي الله عنه: نعم الشيء الهديّة أمام الحاجة.
وقال رؤبة «3» : [رجز]
لما رأيت الشّفعاء بلّدوا ... وسألوا أميرهم فأنكدوا «4»(3/138)
نامستهم برشوة فأقردوا ... وسهّل الله بها ما شدّدوا «1»
وقال آخر «2» : [طويل]
وكنت إذا خاصمت خصما كببته ... على الوجه حتى خاصمتني الدراهم
فلما تنازعنا الخصومة غلّبت ... عليّ وقالوا قم فإنك ظالم
والعرب تقول في مثل هذا المعنى: «من يخطب الحسناء يعط مهرا» يريدون من طلب حاجة مهمّة بذل فيها.
وقال بعض المحدثين: [بسيط]
ما من صديق وإن تمّت صداقته ... يوما بأنجح في الحاجات من طبق «3»
إذا تلثّم بالمنديل منطلقا ... لم يخش نبوة بوّاب ولا غلق
لا تكذبنّ فإنّ الناس مذ خلقوا ... لرغبة يكرمون الناس أو فرق «4»
وقال آخر: [سريع]
ما أرسل الأقوام في حاجة ... أمضى ولا أنجح من درهم
يأتيك عفوا بالذي تشتهي ... نعم رسول الرجل المسلم
الاستنجاح بلطيف الكلام
حدّثني سهل بن محمد عن الأصمعيّ «5» : دخل أبو بكر الهجريّ على(3/139)
المنصور فقال: يا أمير المؤمنين نغض فمي «1» وأنتم أهل بيت بركة، فلو أذنت لي فقبّلت رأسك لعل الله يشدّد لي منه! فقال أبو جعفر: اختر منها ومن الجائزة؛ فقال: يا أمير المؤمنين، أهون عليّ من ذهاب درهم من الجائزة ألّا تبقى في فمي حاكّة «2» .
قال أبو حاتم: وحدّثنا الأصمعيّ عن خلف قال: كنت أرى أنّه ليس في الدنيا رقية إلا رقية الحيّات، فإذا رقية الخبز أسهل. يعني ما يتكلّفه الناس من الكلام لطلب الحيلة.
قال رجل للفضل بن سهل يسأله: الأجل آفة الأمل، والمعروف ذخيرة الأبد، والبرّ غنيمة الحازم، والتفريط مصيبة أخي القدرة؛ فأمر وهبا كاتبه أن يكتب الكلمات. ورفع إليه رقعة فيها: يا حافظ من يضيّع نفسه عنده، ويا ذاكر من ينسى نصيبه منه، ليس كتابي إذا كتبت استبطاء، ولا إمساكي إذا أمسكت استغناء؛ لكنّ كتابي إذا كتبت تذكرة لك، وإمساكي إذا أمسكت ثقة بك.
وقال رجل لآخر: ما قصّرت بي همّة صيّرتني إليك، ولا أخّرني ارتياد دلّني عليك، ولا قعد بي رجاء حداني إلى بابك. وبحسب معتصم بك ظفر بفائدة وغنيمة، ولجء إلى موئل وسند.
دخل الهذيل بن زفر «3» على يزيد بن المهلّب «4» في حمالات «5» لزمته،(3/140)
فقال له: قد عظم شأنك عن أن يستعان بك أو يستعان عليك، ولست تصنع شيئا من المعروف إلّا وأنت أكثر منه، وليس العجب أن تفعل، وإنما العجب من ألّا تفعل.
قال الحمدوني «1» في الحسين بن أيوب والي البصرة: [بسيط]
قل لابن أيّوب قد أصبحت مأمولا ... لا زال بابك مغشيّا ومأهولا
إن كنت في عطلة فالعذر متّصل ... وصل إذا كنت بالسلطان موصولا
شرّ الأخلّاء من ولّى قفاه إذا ... كان المولّى وأعطى البشر معزولا
من لم يسمّن جوادا كان يركبه ... في الخصب قام به في الجدب مهزولا
افرغ لحاجاتنا ما دمت مشغولا ... لو قد فرغت لقد ألفيت مبذولا
وقال آخر: [طويل]
ولا تعتذر بالشّغل عنّا فإنما ... تناط بك الآمال ما اتّصل الشّغل
وأتى رجل بعض الولاة، وكان صديقه، فتشاغل عنه، فتراءى له يوما؛ فقال: اعذرني فإنّي مشغول؛ فقال: لولا الشغل ما أتيتك.
وكتب رجل إلى صديق له: قد عرضت قبلك حاجة، فإن نجحت بك فالفاني منها حظّي والباقي حظّك، وإن تعتذر فالخير مظنون بك والعذر مقدّم لك.
وفي فصل آخر: قد عذرك الشّغل في إغفال الحاجة وعذرني في إنكارك.(3/141)
وفي فصل آخر: قد كان يجب ألّا أشكو حالي مع علمك بها، ولا أقتضيك عمارتها بأكثر من قدرتك عليها؛ فلربّما نيل الغنى على يدي من هو دونك بأدنى من حرمتي. وما أستصغر ما كان منك إلا عنك، ولا أستقلّه إلا لك.
وقال آخر: إن رأيت أن تصفّد يدا «1» بصنيعة باق ذكرها جميل في الدهر أثرها، تغتنم غرّة الزمان «2» فيها وتبادر فوت الإمكان بها، فافعل.
قدم على زياد «3» نفر من الأعراب فقام خطيبهم فقال: أصلح الله الأمير! نحن، وإن كانت نزعت بنا أنفسنا إليك وأنضينا «4» ركائبنا نحوك التماسا لفضل عطائك، عالمون بأنه لا مانع لما أعطى الله ولا معطي لما منع؛ وإنما أنت ايّها الأمير خازن ونحن رائدون، فإن أذن لك فأعطيت حمدنا الله وشكرناك، وإن لم يؤذن لك فمنعت حمدنا الله وعذرناك، ثم جلس؛ فقال زياد لجلسائه:
تالله ما رأيت كلاما أبلغ ولا أوجز ولا أنفع عاجلة منه، ثم أمر لهم بما يصلحهم.
دخل العتّابيّ على المأمون، فقال له المأمون: خبّرت بوفاتك فغمّتني، ثم جاءتني وفادتك فسرتني؛ فقال العتابيّ: لو قسمت هذه الكلمات على أهل الأرض لوسعتهم؛ وذلك أنه لا دين إلا بك ولا دنيا إلا معك؛ قال: سلني، قال: يداك بالعطيّة أطلق من لساني.(3/142)
قال نصيب «1» لعمر بن عبد العزيز: يا أمير المؤمنين، كبرت سنّي ورقّ عظمي، وبليت ببنيّات نفضت عليهنّ من لوني فكسدن عليّ؛ فرقّ له عمر ووصله.
سأل رجل أسد بن عبد الله فاعتلّ عليه؛ فقال: إني سألت الأمر من غير حاجة؛ قال: وما حملك على ذلك؟ قال: رأيتك تحبّ من لك عنده حسن بلاء، فأحببت أن أتعلّق منك بحبل مودّة.
لزم بعض الحكماء باب بعض ملوك العجم دهرا فلم يصل إليه، فتلطّف للحاجب في إيصال رقعة ففعل، وكان فيها أربعة أسطر:
السطر الأوّل الأمل والضّرورة أقدماني عليك.
والسطر الثاني والعدم لا يكون معه صبر على المطالبة.
والسطر الثالث الانصراف بلا فائدة شماتة للأعداء.
والسطر الرابع فإمّا نعم مثمرة، وإمّا لا مريحة. فلما قرأها وقّع في كلّ سطر: زه «2» ؛ فأعطي ستّة عشر ألف مثقال فضّة.
دخل محمد بن واسع «3» على قتيبة بن مسلم «4» ، فقال له: أتيتك في حاجة رفعتها إلى الله قبلك، فإن تقضها حمدنا الله وشكرناك، وإن لم تقضها حمدنا الله وعذرناك؛ فأمر له بحاجته. وقال له أيضا في حاجة أخرى: إنّي(3/143)
أتيتك في حاجة، فإن شئت قضيتها وكنّا جميعا كريمين، وإن شئت منعتها وكنّا جميعا لئيمين.
أتى رجل خالد بن عبد الله في حاجة، فقال له: أتكلّم بجرأة اليأس أم بهيبة الأمل؟ قال: بل بهيبة الأمل؛ فسأله حاجته فقضاها.
وقال أبو سمّاك لرجل: لم أصن وجهي عن الطّلب إليك، فصن وجهك عن ردّي، وضعني من كرمك بحيث وضعت نفسي من رجائك.
قال المنصور لرجل: ما بالك؟ قال: ما يكفّ وجهي ويعجز عن برّ الصّديق فقال: لقد تلطّفت للسؤال، ووصله.
وقال المنصور لرجل أحمد منه أمرا: سل حاجتك فقال: يبقيك الله يا أمير المؤمنين؛ قال: سل، فليس يمكنك ذلك في كلّ وقت؛ فقال: ولم يا أمير المؤمنين! فوالله لا أستقصر عمرك ولا أرهب بخلك ولا أغتنم ما لك وإنّ سؤالك لزين، وإنّ عطاءك لشرف، وما على أحد بذل وجهه إليك نقص ولا شين، فأمر حتّى مليء فوه درّا.
قال أبو العبّاس لأبي دلامة: سل حاجتك. قال: كلب؛ قال: لك كلب. قال: ودابّة أتصيد عليها؛ قال: ودابة. قال: وغلام يركب الدابّة ويصيد؛ قا: وغلام. قال: وجارية تصلح لنا الصيد وتطعمنا منه؛ قال:
وجارية. قال: يا أمير المؤمنين، هؤلاء عيال ولا بدّ من دار؛ قال: ودار. قال:
ولا بدّ من ضيعة لهؤلاء؛ قال: قد أقطعتك مائة جريب عامرة ومائة جريب غامرة. قال: وأيّ شيء الغامرة؟ قال: ليس فيها نبات. قال: فأنا أقطعك ألفا وخمسمائة جريب من فيافى بني أسد؛ قال: قد جعلتها كلّها لك عامرة. قال:
أقبلّ يدك؛ قال: أمّا هذه فدعها. قال: ما منعت عيالي شيئا أهون عليهم فقدا منها.(3/144)
قال عبد الملك لرجل: ما لي أراك واجما «1» لا تنطق؟ قال: أشكو إليك ثقل الشّرف؛ قال: أعينوه على حمله.
رأى زياد على مائدته رجلا قبيح الوجه كثير الأكل، فقال له: كم عيالك؟ قال: تسع بنات؛ قال: أين هنّ منك؟ قال: أنا أجمل منهنّ وهنّ آكل منّي؛ قال: ما أحسن ما تلطّفت في السؤال وفرض له وأعطاه.
وقفت عجوز على قيس بن سعد فقال: أشكو إليك قلّة الجرذان؛ قال:
ما أحسن هذه الكناية! املؤا بيتها خبزا ولحما وسمنا وتمرا.
وقال بعض القصّاص في قصصه: اللهم أقلّ صبياننا وأكثر جرذاننا.
كان سليمان بن عبد الملك يأخذ الوليّ بالوليّ والجار بالجار؛ فدخل عليه رجل وعلى رأسه وصيفة روقة «2» ، فنظر إليها: فقال سليمان: أأعجبتك؟
قال: بارك الله لأمير المؤمنين فيها! قال: هات سبعة أمثال في الاست وخذها؛ فقال: «صرّ عليه الغزو استه» «3» . قال: واحد. قال: «است البائن أعلم» «4» ؛ قال اثنان. قال: «است لم تعوّد المجمر تحترق» «5» ؛ قال: ثلاثة.(3/145)
قال: الحرّ يعطي والعبد يبجع باسته» «1» ؛ قال: أربعة. قال: «استي أخبثى» «2» » ! قال: خمسة. قال: «عاد سلاها في استها» «3» ؛ قال: ستة. قال:
«لا ماءك أبقيت ولا حرك أنقيت» «4» ؛ قال: ليس هذا من ذاك؛ قال: أخذت الجار بالجار كما يفعل أمير المؤمنين! قال: خذها.
قال يزيد بن المهلّب لسليمان في حمالة «5» كلّمه فيها: يا أمير المؤمنين، والله لحمدها خير منها، ولذكرها أحسن من جمعها، ويدي مبسوطة بيدك فابسطها لسؤالها.
قطع عبد الملك بن مروان عن آل أبي سفيان أشياء كان يجريها عليهم، لتباعد كان بينه وبين خالد بن يزيد بن معاوية؛ فدخل عليه عمرو بن عتبة فقال: يا أمير المؤمنين، أدنى حقّك متعب وتقصّيه فادح، ولنا مع حقّك علينا حقّ عليك، لقرابتنا منك وإكرام سلفنا لك؛ فانظر إلينا بالعين التي نظروا بها إليك، وضعنا بحيث وضعتنا الرّحم منك، وزدنا بقدر ما زادك الله؛ فقال:
أفعل، وإنما يستحقّ عطيّتي من استعطاها، فأمّا من ظنّ أنه يستغني بنفسه فسنكله إليها «6» ، يعرّض بخالد؛ فبلغ ذلك خالدا، فقال: أمّا عمرو فقد أعطى(3/146)
من نفسه أكثر مما أخذ، أو بالحرمان يتهدّدني! يد الله فوق يده مانعة، وعطاؤه دونه مبذول.
أتى رجل يزيد بن أبي مسلم برقعة يسأله أن يرفعها إلى الحجّاج؛ فنظر فيها يزيد فقال: ليست هذه من الحوائج التي ترفع إلى الأمير؛ فقال له الرجل: فإني أسألك أن ترفعها، فلعلّها توافق قدرا فيقضيها وهو كاره؛ فأدخلها وأخبره بمقالة الرجل؛ فنظر الحجاج في الرّقعة، وقال ليزيد: قل للرجل: إنها وافقت قدرا وقد قضيناها ونحن كارهون.
دخل بعض الشعراء «1» على بشر بن مروان فأنشده: [كامل]
أغفيت عند الصّبح نوم مسهّد ... في ساعة ما كنت قبل أنامها
فرأيت أنك رعتني بوليدة ... مغنوجة حسن عليّ قيامها
وببدرة حملت إليّ وبغلة ... دهماء مشرفة يصلّ لجامها «2»
فدعوت ربي أن يثيبك جنّة ... عوضا يصيبك بردها وسلامها
فقال له بشر: في كل شيء أصبت إلا في البغلة فإني لا أملك إلّا شهباء «3» : فقال: إني والله ما رأيت إلّا شهباء.
قال رجل لمعاوية: أقطعني البحرين، قال: إني لا أصل إلى ذلك.
قال: فاستعملني على البصرة؛ قال: ما أريد عزل عاملها. قال: تأمر لي بألفين؛ قال: ذاك لك. فقيل له: ويحك! أرضيت بعد الأوليين بهذا! قال:
اسكتوا لولا الأوليان ما أعطيت هذه.
جاء أعرابيّ إلى بعض الكتّاب فسأله. فأمر الكاتب غلامه بيمينه أن(3/147)
يعطيه عشرة دراهم وقميصا من قمصه؛ فقال لأعرابيّ: [خفيف]
حوّل العقد بالشمال أبا الأص ... بغ واضمم إلى القميص قميصا
إن عقد اليمين يقصر عنّي ... وأرى في قميصكم تقليصا
يقول: حوّل عقد اليمين وهو عشرة إلى عقد الشمال وهو مائة «1» .
سأل أعرابيّ فقال في مسألته: لقد جعت حتى أكلت النّوى المحرق ولقد مشيت حتى انتعلت الدّم وحتى سقط من رجلي بتخص «2» لحم وحتى تمنّيت أنّ وجهي حذاء لقدمي، فهل من أخ يرحمنا؟.
وسأل آخر قوما فقال: رحم الله امرأ لم تمجج أذناه كلامي، وقدّم لنفسه معاذا من سوء مقامي، فإنّ البلاد مجدبة، والحال مصعبة، والحياء زاجر يمنع من كلامكم، والعدم عاذر يدعو إلى إخباركم، والدعاء أحد الصدقتين فرحم الله امرأ أمر بمير «3» ، ودعا بخير، فقال له رجل من القوم: ممّن الرجل؟
فقال: اللهم غفرا ممن لا تضرّك جهالته، ولا تنفعك معرفته؛ ذلّ الإكتساب، يمنع من عزّ الانتساب.
سأل أعرابيّ رجلا فحرمه؛ فقال: علام تحرمني! فو الله ما زلت قبلة لأملي لا تلقتني عنك المطامع، فإن قلت: قد أحسنت بدءا، فما ينكر لمثلك أن يحسن عودا!.(3/148)
قال ابن أبي عتيق «1» : دخلت على أشعب وعنده متاع حسن وأثاث، فقلت له: ويحك! أما تستحي أن تسأل وعندك ما أرى! فقال: يا فديتك! معي والله من لطيف السؤال ما لا تطيب نفسي بتركه.
قال الصّلتان العبديّ «2» : [متقارب]
نروح ونغدو لحاجاتنا ... وحاجة من عاش لا ننقضي
تموت مع المرء حاجاته ... وتبقى له حاجة ما بقي
إذا ليلة هرّمت يومها ... أتى بعد ذلك يوم فتي
وقال آخر: [بسيط]
وحاجة دون أخرى قد سنحت بها ... جعلتها للّتي أخفيت عنوانا «3»
كتب دعبل إلى بعض الأمراء: [منسرح]
جئتك مستشفعا بلا سبب ... إليك إلّا بحرمة الأدب
فاقض ذمامي فإنّني رجل ... غير ملحّ عليك في الطلب
من يعتمد في الحاجة ويستسعى فيها
روى هشيم عن عبد الحميد بن جعفر عن محمد بن عبد الرحمن عن أبي مصعب قال: قال رسول الله صلّى الله عليه وسلم: اطلبوا الحوائح إلى حسان الوجوه» .(3/149)
وفي حديث آخر: «اعتمد لحوائجك الصّباح الوجوه، فإنّ حسن الصورة أوّل نعمة تتلقّاك من الرجل» .
قالت امرأة من ولد حسّان بن ثابت: [طويل]
سل الخير أهل الخير قدما ولا تسل ... فتى ذاق طعم العيش منذ قريب «1»
ومن المشهور قول بعض المحدثني: [خفيف]
حسن ظنّ إليك أكرمك الل ... هـ دعاني فلا عدمت الصّلاحا
ودعاني إليك قول رسول الل ... هـ إذا قال مفصحا إفصاحا
إن أردتم حوائجا عند قوم ... فتنقّوا لها الوجوه الصّباحا «2»
وقال آخر: [كامل]
إنّا سألنا قومنا فخيارهم ... من كان أفضلهم أبوه الأوّل
أعطى الذي أعطى أبوه قبله ... وتبخّلت أبناء من يتبخّل
وقال خالد بن صفوان: فوت الحاجة خير من طلبها إلى غير أهلها، وأشدّ من المصيبة سوء الخلف «3» منها.
حدّثني أبو حاتم عن الأصمعيّ قال: مسلم بن قتيبة: لا تطلبنّ حاجتك إلى كذّاب فإنه يقرّبها وهي بعيد ويبعّدها وهي قريب»
، ولا إلى أحمق فإنه يريد أن ينفعك فيضرّك، ولا إلى رجل له عند من تسأله الحاجة مأكلة «5» ، فإنه لا يؤثرك على نفسه.(3/150)
أنشدنا الرّياشيّ لأبي عون: [وافر]
ولست بسائل الأعراب شيئا ... حمدت الله إذ لم يأكلوني
وقال ميمون بن ميمون: لا تطلبنّ إلى لئيم حاجة، فإن طلبت فأجّله حتى يروض نفسه.
هارون بن معروف عن ضمرة عن عثمان بن عطاء، قال: عطاء الحوائج عند الشباب أسهل منها عند الشيوخ؛ ثم قرأ قول يوسف: لا تَثْرِيبَ عَلَيْكُمُ الْيَوْمَ يَغْفِرُ اللَّهُ لَكُمْ
«1» وقول يعقوب: سَوْفَ أَسْتَغْفِرُ لَكُمْ رَبِّي إِنَّهُ هُوَ الْغَفُورُ الرَّحِيمُ
«2» .
وقال بشار: [متقارب]
إذا أيقظتك حروب العدا ... فنبّه لها عمرا ثم نم
فتى لا يبيت على دمنة ... ولا يشرب الماء إلا بدم «3»
يلذّ العطاء وسفك الدّماء ... فيغدو على نعم أو نقم
وقال أبو عبّاد الكاتب: لا تنزل مهمّ حوائجك بالجيّد اللسان، ولا المتسرّع إلى الضمان، فإنّ العجز مقصور على المتسرّع؛ ومن وعد ما يعجز عنه فقد ظلم نفسه وأساء إلى غيره؛ ومن وثق بجودة لسانه ظنّ أنّ في فصل بيانه ما ينوب عن عذره وأن وعده يقوم مقام إنجازه. وقال أيضا: عليك بذي الحصر البكيّ «4» ، وبذي الخيم «5» الرضيّ، فإنّ مثقالا من شدّة الحياء والعيّ،(3/151)
أنفع في الحاجة من قنطار من لسان سليط ذكيّ، وعليك بالشّهم النّدب «1» الذي إن عجز أيأسك، وإن قدر أطعمك.
قال بعض الشعراء: [كامل]
لا تطلبنّ إلى لئيم حاجة ... واقعد فإنك قائما كالقاعد
يا خادع البخلاء عن أموالهم ... هيهات! تضرب في حديد بارد
وقال آخر: [طويل]
إذا الشافع استقصى لك الجهد كلّه ... وإن لم تنل نجحا فقد وجب الشّكر
وقال آخر «2» : [كامل]
وإذا امرؤ أسدى إليك صنيعة ... من جاهه فكأنّها من ماله «3»
ذكر أعرابيّ رجلا، فقال: كان والله إذا نزلت به الحوائج قام إليها ثم قام بها، ولم تقعد به علّات النفوس «4» .
قال الشاعر: [بسيط]
ما إن مدحتك إلّا قلت تخدعني ... ولا استنتك إلا قلت مشغول
ابن عائشة «5» قال: كان شبيب بن شيبة رجلا شريفا يفزع إليه أهل البصرة في حوائجهم، فكان إذا أراد الركوب تناول من الطعام شيئا ثم ركب؛ فقيل له. إنك تباكر الغداء! فقال: أجل! أطفىء به فورة جوعي، وأقطع به(3/152)
خلوف «1» فمي، وأبلع به قضاء حوائجي، فخذ من الطعام ما يذهب عنك النّهم؛ ويداوي من الخوى «2» .
قال بعض المحدثين: [طويل]
لعمرك ما أخلقت وجها بذلته ... إليك ولا عرّضته للمعاير «3»
فتى وفرت أيدي المحامد عرضه ... وخلّت لديه ماله غير وافر
وقال آخر: [طويل]
أتيتك لا أدلي بقربى ولا يد ... إليك سوى أنّي بجودك واثق
فإن تولني عرفا أكن لك شاكرا ... وإن قلت لي عذرا أقل أنت صادق «4»
وقال رجل لآخر في كلامه: أيدينا ممدودة إليك بالرغبة، وأعناقنا خاضعة لك بالذّلّة، وأبصارنا شاخصة إليك بالشكر؛ فافعل في أمورنا حسب أملنا فيك، والسلامه.
الإجابة إلى الحاجة والردّ عنها
قال رجل للعبّاس بن محمد: إنّي أتيتك في حاجة صغيرة؛ قال: اطلب لها رجلا صغيرا. وهذا خلاف قول عليّ بن عبد الله بن العبّاس لرجل قال له: إني أتيتك في حاجة صغيرة، فقال له عليّ بن عبد الله: هاتها، إنّ الرجل لا يصغر عن كبير أخيه ولا يكبر عن صغيره.(3/153)
قال رجل للأحنف «1» : أتيتك في حاجة لا تنكيك ولا ترزؤك «2» ، قال:
إذا لا تقضى! أمثلي يؤتى في حاجة لا تنكي ولا ترزأ!.
جاء قوم إلى رجل يكلّمونه في حاجة لهم ومعهم رقبة، فقال لرقبة:
تضمنونها؟ فقال له رقبة: جئناك نطلب منك فضل التوسّع «3» فأدخلت علينا همّ الضّمان.
أتى عمرو بن عبيد حفص بن سالم، فلم يسأله أحد من حشمه شيئا إلا قال: لا؛ فقال عمرو: أقلّ من قول: «لا» فإن لا ليست في الجنة.
كان رسول الله صلّى الله عليه وسلم إذا سئل ما يجد أعطى، وإذا سئل ما لا يجد قال:
«يصنع الله» .
قال عمر بن أبي ربيعة: [خفيف]
إنّ لي حاجة إليك فقالت ... بين أذني وعاتقي ما تريد
أي قد تضمّنته لك فهو في عنقي.
سأل رجل قوما؛ فقال له رجل منهم: اللهمّ هذا سائلنا ونحن سؤّالك، وأنت بالمغفرة أجود منّا بالعطاء: ثم أعطاه.
سأل رجل رجلا حاجة؛ فقال: اذهب بسلام؛ قال السائل: أنصفنا من ردّنا في حوائجنا إلى الله عزّ وجلّ.
قال رجل لثمامة: إن لي إليك حاجة؛ قال ثمامة: ولي إليك حاجة؛(3/154)
قال: وما هي؟ قال: لا أذكرها حتى تتضمّن قضائها؛ قال: قد فعلت؛ قال:
حاجتي ألّا تسألني هذه الحاجة؛ قال: رجعت عما أعطيتك؛ قال ثمامة «1» : لكنّي لا أردّ ما أخذت.
قال الجاحظ: تمشّى قوم إلى الأصمعيّ مع رجل اشترى منه ثمرة نخله، فناله فيها خسران وسألوه حسن النظر له؛ فقال الأصمعيّ: أسمعتم بالقسمة الضّيزى «2» ! هي ما تريدون شيخكم عليه، اشترى منّي على أن يكون الخسران عليّ والربح له! اذهبوا فاشتروا لي طعام السّواد «3» على هذا الوجه والشرط. ثم قال: هاهنا واحدة هي لكن دوني، ولا بدّ من الاحتمال لكن إذا لم تحتملوا لي، هذا ما مشيتم معه إلا وأنتم توجبون حقّه وتحبّون رفده، ولو كنت أوجب له مثل الذي توجبون لقد كنت أغنيته عنكم، ولكن لا أعرفه ولا يضرّنني بحقّ؛ فهلمّ فلنتوزّع هذا الخسران بيننا بالسوء؛ فقاموا ولم يعدوا، وأيس التاجر فخرج له من حقّه.
قال يزيد بن عمير الأسيّدي لبنيه: يا بنيّ، تعلّموا الردّ فإنه أشدّ من الإعطاء، ولأن يعلم بنو تميم أن عند أحدكم مائة ألف درهم أعظم له في أعينهم من أن يقسمها فيهم، ولأن يقال لأحدكم: بخيل وهو غني خير له من أن يقال: سخيّ وهو فقير.(3/155)
وقال إسحاق بن إبراهيم «1» : [كامل]
النصر يقرئك السلام وإنّما ... أهدى السلام تعرّضا للمطمع
فاقطع لبانته بيأس عاجل ... وأرح فؤادك من تقاضي الأضلع «2»
ذكر ثمامة محمد بن الجهم فقال: لم يطمع أحدا قطّ في ماله إلا ليشغله بالطمع فيه عن غيره، ولا شفع لصديق ولا تكلّم في حاجة متحرّم به، إلا ليلقّن المسؤول حجّة منع، وليفتح على السائل باب حرمان.
كتب سهل بن هارون «3» إلى موسى بن عمران: [كامل]
إنّ الضمير إذا سألتك حاجة ... لأبي الهذيل خلاف ما أبدي «4»
فامنعه روح اليأس ثم امدد له ... حبل الرجاء لمخلف الوعد
وألن له كنفا ليحسن ظنه ... في غير منفعة ولا رفد
حتى إذا طالت شقاوة جدّه ... وعناؤه فاجبهه بالردّ «5»
قيل لحبّي المدينيّة: ما الجرج الذي لا يندمل؟ قالت: حاجة الكريم إلى اللئيم ثم يردّه. قيل لها: فما الذلّ؟ قالت: وقوف الشريف بباب الدنيء ثم لا يؤذن له. قيل: فما الشرف؟ قالت: اعتقاذ المنن في رقاب الرجال.
قال معن بن زائدة «6» : ما سألني قطّ أحد حاجة فرددته إلا رأيت الغنى(3/156)
في قفاه.
روى عليّ بن مسهر عن هشام عن أبيه قال: قال عمر بن الخطاب رضي الله عنه: أعلمتم أن الطمع فقر، وأن اليأس غنى، وأن المرء إذا يئس من شيء استغنى عنه.
وقال آخر في كلام له: كلّ ممنوع مستغنى عنه بغيره، وكلّ مانع ما عنده ففي الأرض غنى عنه.
وقد قيل: أرخص ما يكون الشيء عند غلائه.
وقال بشار: والدرّ يترك من غلائه.
قال شريح «1» : من سأل حاجة فقد عرض نفسه على الرقّ، فإن قضاها المسؤول استعبده بها، وإن ردّه عنها رجع حرّا وهما ذليلان: هذا بذلّ البخل، وهذا بذلّ الردّ.
وقال بعضهم: من سألك لم يكرم وجهه عن مسألتك، فأكرم وجهك عن ردّه.
وكان رسول الله صلّى الله عليه وسلّم «لا يردّ ذا حاجة إلا بها أو بميسور من القول» .
وقال أسماء بن خارجة: ما أحبّ أن أردّ أحدا عن حاجة؛ فإنه لا يخلوا من أن يكون كريما فأصونه، أو لئيما فأصون منه نفسي.
وقال أعرابيّ سأل حاجة فردّ عنها: [بسيط]
ما يمنع الناس شيئا كنت أطلبه ... إلّا أرى الله يكفي فقد ما منعوا(3/157)
أتى رجل الحسن بن عليّ رضي الله عنهما يسأله؛ فقال الحسن: إن المسألة لا تصلح إلا في غرم فادح أو فقر مدقع أو حمالة مفظعة؛ فقال الرجل: ما جئت إلا في إحداهنّ، فأمر له بمائة دينار، ثم أتى الرجل الحسين ابن علي رضي الله عنهما فسأله، فقال له مثل مقالة أخيه، فردّ عليه كما ردّ على الحسن؛ فقال: كم أعطاك؟ قال مائة دينار، فنقصه دينارا. كره أن يساوي أخاه. ثم أتى الرجل عبد الله بن عمر رضي الله عنهما فسأله فأعطاه سبعة دنانير ولم يسأله عن شيء؛ فقال الرجل له: إني أتيت الحسن والحسين، واقتصّ كلامهما عليه وفعلهما به؛ فقال عبد الله: ويحك! وأنّي تجعلني مثلهما! إنهما غرّا العلم غرّا المال «1» .
حدّثني أبو حاتم عن الأصمعيّ قال: جاء شيخ من بني عقيل إلى عمر ابن هبيرة، فمتّ بقرابة وسأله فلم يعطه شيئا؛ فعاد إليه بعد أيام فقال: أنا العقيليّ الذي سألك منذ أيام؛ فقال عمر: وأنا الفزاريّ الذي منعك منذ أيام؛ فقال: معذرة إلى الله! إني سألتك وأنا أظنك يزيد بن هبيرة المحاربيّ؛ فقال:
ذاك الأم لك، وأهون بك عليّ، نشأ في قومك مثلي ولم تعلم به، ومات مثل يزيد ولا تعلم به! يا حرسيّ اسفع «2» بيده.
أتى عبد الله بن الزبير أعرابيّ «3» يسأله، فشكا إليه نقب»
ناقته واستحمله «5» ؛ فقال له ابن الزبير: ارقعها بسبت «6» واخصفها بهلب «7» وافعل(3/158)
وافعل ... ؛ فقال الأعرابيّ: إني أتيتك مستوصلا «1» ولم آتك مستوصفا، فلا حملت ناقة حملتني إليك! فقال: إنّ «2» وصاحبها.
والعرب تقول لمن جاء خائبا ولم يظفر بحاجته: «جاء على غيراء الظهر» «3» .
وتقول هي والعوامّ: «جاء بخفّى حنين» و «جاء على حاجبه صوفه» .
وقال أبو عطاء السّنديّ «4» في عمر بن هبيرة: [وافر]
ثلاث حكتهنّ لقرم قيس ... طلبت بها الأخوة والثناء «5»
رجعن على حواجبهن صوف ... فعند الله أحتسب الجزاء
والأصل في قولهم: «جاء بخقّى حنين» أن إسكافا من أهل الحيرة ساومه أعرابيّ بخفّين، فاختلفا حتى أغضبه، فازداد غيظ الأعرابيّ؛ فلما ارتحل أخذ حنين أحد خفّيه فألقاه على طريقه ثم ألقى الآخر في موضع آخر؛ فلما مرّ الأعرابيّ بأحدهما قال: ما أشبه هذا بخفّ حنين! ولو كان معه الآخر لأخذته، ومضى؛ فلما انتهى إلى الآخر ندم على تركه الأوّل، وأناح راحلته فأخذه ورجع إلى الأوّل، وقد كمن له حنين فعمد إلى راحلته وما عليها فذهب به؛ وأقبل الأعرابيّ ليس معه غير الخفّين؛ فقال له قومه: ما الذي أتيت به؟
قال: بخفي حنين.
قالوا: فإن جاء وقد قضيت حاجته قيل: «جاء ثانيا من عنانه» . فإن جاء(3/159)
ولمّا تقض حاجته وقد أصيب ببعض ما معه، قالوا: «ذهب يبتغى قرنا فلم يرجع بأذنين» . يقول بشار: [سريع]
فكنت كالعير غدا يبتغي ... قرنا فلم يرجع بأذنين «1»
سأل أعرابيّ قوما، فقيل له: بورك فيك! فقال: وكلكم الله إلى دعوة لا تحضرها نيّة.
أرسل الوليد خيلا في حلبة، فأرسل أعرابيّ فرسا له فسبقت الخيل؛ فقال له الوليد: احملني عليها؛ فقال: إنّ لها حرمة، ولكني أحمل على مهر لها سبق الخيل عام أوّل وهو ريّض «2» .
وتقول العرب فيمن يشغله شأنه عن الحاجة يسألها: «شغل الحلى أهله أن يعارا» بنحصب الحلى، ويعار: من العارية. فأمّا قولهم: «أحقّ الخيل بالركض المعار» . فإنّ المعار «3» : المنتوف الذّنب وهو المهلوب؛ يريدون أنه أخفّ من الذيّال الذنب «4» ، يقال: أعرت الفرس إذا نتفته.
وتقول العرب لمن سئل وهو لا يقدر فردّ: «بيتي يبخل لا أنا» ؛ يريدون أنه ليس عنده ما يعطي.
ووعد رجل رجلا فلم يقدر على الوفاء بما وعده؛ فقال له: كذبتني؛ قال: لا، ولكن كذبك مالي.
وتقول العرب فيمن اعتذر بالمنع بالعدم وعنده ما سئل: «أبى الحقين(3/160)
العذرة» «1» . قال أبو زيد: وأصله أن رجلا ضاف قوما فاستسقاهم لبنا، وعندهم لبن قد حقنوه في وطب «2» ، فاعتذروا أنه لا لبن عندهم؛ فقال: أبى الحقين العذرة. ويقال: العذرة طرف البخل» .
وقال الطائي يذكر المطل «3» : [وافر]
وكان المطل في بدء وعود ... دخانا للصنيعة وهي نار
نسيب البخل مذ كانا وإن لم ... يكن نسب فبينهما جوار
لذلك قيل بعض المنع أدنى ... إلى جود وبعض الجود عار
قال إسماعيل القراطيسيّ «4» في الفضل بن الربيع: [هزج]
لئن أخطأت في مدح ... ك ما أخطأت في منعي
لقد أحللت حاجاتي ... بواد غير ذي زرع
غزا المنذر بن الزّبير في البحر ومعه ثلاثون رجلا من بني أسد بن عبد العزّى؛ فقال له حكيم بن حزام «5» : يا بن أخي، إني قد جعلت طائفة من مالي لله عزّ وجلّ، وإني قد صنعت أمرا ودعوتكم له، فأقسمت عليك لا يردّه عليّ أحد منكم؛ فقال المنذر: لاها الله إذا «6» ، بل نأخذ ما تعطي، فإن نحتج إليه(3/161)
نستعن به ولا نكره أن يأجرك الله، وإن نستغن عنه نعطه من يأجرنا الله فيه كما أجرك.
سأل أعرابيّ رجلا يقال له: الغمر فأعطاه درهمين، فردّهما وقال:
[طويل]
جعلت لغمر درهميه ولم يكن ... ليغني عنّي فاقتي درهما غمر «1»
وقلت لغمر خذهما فاصطرفهما ... سريعين في نقض المروءة والأجر
أتمنع سؤّال العشيرة بعد ما ... تسمّيت غمرا واكتنيت أبا بحر «2»
اختلف أبو العتاهية إلى الفضل بن الربيع في حاجة له زمانا فلم يقضها له، فكتب: [منسرح]
أكلّ طول الزّمان أنت إذا ... جئتك في حاجة تقول غدا!
لا جعل الله لي إليك ولا ... عندك ما عشت حاجة أبدا!
وقال آخر: [بسيط]
إن كنت لم تنو فيما قلت لي صلة ... فما انتفاعك من حبسي وترديدي
فالمنع أجمله ما كان أعجله ... والمطل من غير عسر آفة الجود
وقال آخر: [طويل]
بسطت لساني ثم أوثقت نصفه ... فنصف لساني في امتداحك مطلق(3/162)
فإن أنت لم تنجز عداتي تركتني ... وباقي لسان الشكر باليأس موثق «1»
وقال آخر: [خفيف]
يا جواد اللسان من غير فعل ... ليت جود اللسان في راحتيكا
المواعيد وتنجّزها
ذكر جبّار بن سلمى عامر بن الطّفيل «2» فقال: كان والله إذا وعد الخير وفى، وإذا أوعد بالشرّ أخلف وعفا.
وأنشد أبو عمرو بن العلاء في مثل هذا المعنى: [طويل]
ولا يرهب ابن العمّ ما عشت صولتي ... ويأمن منّي صولة المتهدّد
وإنّي إن أوعدته أو وعدته ... ليكذب إيعادي ويصدق موعدي «3»
وكان يقال: وعد الكريم نقد، ووعد اللئيم تسويف «4» .
وقال عبد الصّمد بن الفضل الرّقاشي (أبو الفضل والعباس الرّقاشيّين البغداديين) لخالد بن ديسم عامل الرّيّ: [طويل]
أخالد إنّ الرّيّ قد أجحفت بنا ... وضاق علينا رحبها ومعاشها
وقد أطعمتنا منك يوما سحابة ... أضاء لنا برق وكفّ رشاشخا «5»
فلا غيمها يصحو فيؤيس طامع ... ولا ماؤها يأتي فتروى عطاشها(3/163)
وقال رجل في الحجاج: [طويل]
كأنّ فؤادي بين أظفار طائر ... من الخوف في جوّ السماء محلّق
حذار امرىء قد كنت أعلم أنّه ... متى ما يعد من نفسه الشرّ يصدق
قال عمر بن الحارث: كنت متى شئت أجد من يعد وينجز، فقد أعياني من يعد ولا ينجز. قال: وكانوا يفعلون ولا يقولون، فقد صاروا يقولون ويفعلون، ثم صاروا يقولون ولا يفعلون، ثم صاروا لا يقولون ولا يفعلون.
قال بشار: [بسيط]
وعدتني ثم لم توفي بموعدتي ... فكنت كالمزن لم يمطر وقد رعدا
هذا مثل قول العرب لمن يعد ولا يفي: «برق خلّب» «1» .
وقال آخر: [مجزوء الرمل]
قد بلوناك بحمد الل ... هـ إن أغنى البلاء
فإذا جلّ مواعي ... دك والجحد سواء
وقال آخر: [طويل]
لها كلّ عام موعد غير ناجز ... ووقت إذا ما رأس حول تجرّما «2»
فإن أوعدت شرّا أتى دون وقته ... وإن وعدت خيرا أراث وأعتما «3»
وعد عبد الله بن عمر رجلا من قريش أن يزوّجه ابنته؛ فلما كان عند موته أرسل إليه فزوّجه إياها، وقال كرهت أن ألقى الله عز وجلّ بثلث اتّفاق.
وقال الطائيّ: [بسيط](3/164)
تقول قول الذي ليس الوفاء له ... خلقا وتنجز إنجاز الذي حلفا
وأثنى الله تبارك وتعالى على نبيّه إسماعيل صلّى الله عليه وسلّم فقال: إِنَّهُ كانَ صادِقَ الْوَعْدِ وَكانَ رَسُولًا نَبِيًّا
«1» .
وقال بشّار يمدح: [متقارب]
إذا قال تمّ على قوله ... ومات العناء بلا أو نعم
وبعض الرجال بموعوده ... قريب وبالفعل تحت الرّجم «2»
كجاري السّراب ترى لمعه ... ولست بواجده عندكم «3»
وقال العبّاس بن الأحنف: [كامل]
ما ضرّ من قطع الرجاء ببخله ... لو كان علّلني بوعد كاذب
وقال آخر: [طويل]
عسى منك خير من نعم ألف مرّة ... من آخر غال الصّدق منه غوائله
وقال نصيب: [وافر]
يقول فيحسن القول ابن ليلى ... ويفعل فوق أحسن ما يقول
وقال زياد الأعجم»
: [مجزوء الكامل]
لله درّك من فتى ... لو كنت تفعل ما تقول
لا خير في كذب الجوا ... د وحبّذا صدق البخيل(3/165)
والعرب تضرب المثل في الخلف بعرقوب. قال ابن الكلبيّ «1» عن أبيه:
كان عرقوب رجلا من العماليق؛ فأتاه أخ له فسأله شيئا؛ فقال له عرقوب: إذا أطلع نخلي «2» . فلما أطلع أتاه. قال: إذا أبلح. فلما أبلح أتاه، فقال: إذا أزهى «3» . فلما أزهى أتاه، قال: إذا أرطب «4» . فلما أرطب أتاه، قال: إذا صار تمرا. فلما صار تمرا جدّه «5» من الليل ولم يعط أخاه شيئا.
قال كعب بن زهير: [بسيط]
كانت مواعيد عرقوب لها مثلا ... وما مواعيدها إلّا الأباطيل
وقال الأشجعيّ «6» : [طويل]
وعدت وكان الخلف منك سجيّة ... مواعيد عرقوب أخاه بيترب «7»
هكذا قرأته على البصريين في كتاب سيبويه بالتاء وفتح الراء.
وقال الشاعر: [طويل]
متى ما أقل يوما لطالب حاجة ... نعم، أقضها قدما وذلك من شكلي
وإن قلت لا، بيّنتها من مكانها ... ولم أوذه منها بجرّ ولا مطل
وللبخلة الأولى أقلّ ملامة ... من الجود بدءا ثم يتبع بالبخل(3/166)
وقال أبو نواس لامرأة: [بسيط]
أنضيت أحرف لا ممّا لهجت بها ... فحوّلي رحلها عنها إلى نعم «1»
أو حوّليها إلى «لا» فهي تعدلها ... إن كنت حاولت في ذا قلّة الكلم
فستم علينا فعارضنا قياسكم ... يا من تناهى إليه غاية الكرم
وفي هذا معنا لطيف.
كتب رجل إلى صديق له: قد أفردتك برجائي بعد الله، وتعجّلت راحة اليأس ممن يجود بالوعد ويضنّ بالإنجاز، ويحسد أن يفضل، ويزهد أن يفضل، ويعيب الكذب ولا يصدق.
وقال آخر: [وافر]
وذي ثقة تبدّل حين أثرى ... ومن شيمي مراقبة الثّقات
فقلت له عتبت عليّ إثما ... فرارا من مؤونات العدات
فعد لمودّتي وعليّ نذر ... سألتك حاجة حتّى الممات «2»
وقال آخر في أصحاب النبيذ: [طويل]
مواعيدهم ربح لمن يعدونه ... بها قطعوا برد الشتاء وقاطوا «3»
وقال مسلم «4» : [طويل]
لسانك أحلى من جنى النحل موعدا ... وكفّك بالمعروف أضيق من قفل
تمنّي الذي يأتيك حتّى إذا انتهى ... إلى أجل ناولته طرف الحبل
وسأل خلف بن خليفة أبان بن الوليد أن يهب له جارية، فوعده وأبطأ(3/167)
عليه؛ فكتب إليه: [طويل]
أرى حاجتي عند الأمير كأنّما ... تهمّ زمانا عنده بمقام
وأحصر من إذكاره إن لقيته ... وصدق الحياء ملجم بلجام «1»
أراها إذا كان النهار نسيئة ... وبالليل تقضى عند كلّ منام «2»
فيا ربّ أخرجها فإنك مخرج ... من الميت حيّا مفصحا بكلام
فتعلم ما شكري إذا ما قضيتها ... وكيف صلاتي عندها وصيامي
وإن حاجتي من بعد هذا تأخرّت ... خشيت لما بي أن أزور غلامي
والعرب تقول: «أنجز حرّ ما وعد» .
وقال أميّة بن أبي الصّلت لعبد الله بن جدعان: [وافر]
أأذكر حاجتي أم قد كفاني ... حياؤك إنّ شيمتك الحياء
إذا أثنى عليك المرء يوما ... كفاه من تعرّضه الثناء «3»
وقال الطائيّ: [خفيف]
وإذا المجد كان عوني على المر ... ء تقاضيته بترك التّقاضي
وقال الزّهريّ: حقيق على من أورق بوعد، أن يثمر بفعل.
وقال المغيرة: من أخرّ حاجة رجل فقد تضمّن قضاءها.
وقال الشاعر: [وافر]
كفاك مذّكّرا وجهي بأمري ... وحسبي أن أراك وأن تراني
وكيف أحثّ من يعنى بشأني ... ويعرف حاجتي ويرى مكاني(3/168)
وقال الشاعر: [مجزوء الكامل المرفّل]
يا صاح قل في حاجتي ... أذكرتها فيما ذكرتا
إنّ السّراح من النجا ... ح إذا شقيت بما طلبتا «1»
وقال آخر: [خفيف]
في تصدّيك للمطالب إذكا ... ر بوعد جرى به المقدار
وكتب بعض الكتاب إلى صديق له: إن من العجب إذكار معنيّ، وحث متيقّظ، واستبطاء ذاكر، إلّا أن ذا الحاجة لا يدع أن يقول في حاجته، حلّ بذلك منها أو عقل. وكتابي تذكرة والسلام.
وقال الطّرمّاح: [كامل]
ألحسن منزلتي تؤخّر حاجتي ... أم ليس عندك لي بخير مطمع
وقال حمزة بن بيض «2» لمخلد بن يزيد بن المهلّب: [متقارب]
أتيناك في حاجة فاقضها ... وقل مرحبا يجب المرح
ولا تكلنا إلى معشر ... متى يعدوا عدة يكذبوا
وقال بعض المحدثين: [منسرح]
حوائج الناس كلّها قضيت ... وحاجتي لا أراك تقضيها
أناقة الله حاجتي عقرت ... أم نبت الحرف في نواحيها «3»(3/169)
وقال جرير لعمر بن عبد العزيز: [بسيط]
أأذكر الضّرّ والبلوى التي نزلت ... أم تكتفي بالذي بلّغت من خبري
وقال آخر: [طويل]
أروع لتسليم عليك وأغتدي ... وحسبك بالتّسليم منّي تقاضيا
كفى بطلاب المرء ما لا يناله ... عناء وباليأس المصرّح ناهيا «1»
وقال آخر: [كامل]
ما أنت بالسّبب الضّعيف وإنما ... نجح الأمور بقوّة الأسباب
فاليوم حاجتنا إليك وإنّما ... يدعى الطبيب لكثرة الأوصاب «2»
كتب بعض الكتّاب إلى بعض السلطان: أنا أنزّهك عن التجمّل لي بوعد يطول به المدى ويعتزله الوفاء، وأحبّ أن يتقرّر عندك أن أملي فيك أبعد من أن أختلس الأمور منك اختلاس من يرى في عاجلك عوضا من آجلك، وفي الراهن من يومك بدلا من المأمول في غدك، وألّا تكون منزلتي في نفسك منزلة من يصرف الطرف «3» عنه وتستكره النفس عليه ويتكلّف ما فوق العفو له، وأن تختار بين العذر والشكر؛ فالله يعلم أنّ آثر الحظّين عندي أحقّهما عليك، وأصوبهما لحالي عندك.
وفي كتاب: ذو الحرمة ملوم على فرط الدّالّة، كما أنّ المتحرّم به مذموم على التناسي والإزالة. ومن مذهبي الوقوف بنفسي دون الغاية التي يقدّمني إليها حقّي، لأمرين: أحدهما ألّا أرضى بدون الحقّ أزيد في الحقّ.(3/170)
والثاني أن أرى النفيس من الحظّ زهيدا إذا أتى من جهة الإرهاق. ولي ذمام المودّة الصادقة التي كلّ حرمة تبع لها، وحق الشكر الذي جعله الله وفاء بالنعم وإن جلّ قدرها؛ وأنت مراعي المعالي وحافظ بقيّة الكرم؛ فأيّ سبيل للعذر، بل أيّ موضع للإكداء بين حرمتي ورعايتك، وذمامي وكرمك!.
قال أحمد بن يوسف: أوّل المعروف مستخفّ، وآخره مستثقل؛ يكاد أوّله يكون اللهوى دون الرأي، وآخره للرأي دون الهوى. ولذلك قيل: ربّ «1» الصّنيعة أشدّ من ابتدائها.
قال أبو عطاء السّنديّ في يزيد بن عمر بن هبيرة: [وافر]
ثلاث حكتهنّ لقرم قيس ... رجعن إليّ صفرا خائبات «2»
أقام على الفرات يزيد شهرا ... فقال الناس أيّهما الفرات «3»
فيا عجبا لبحر فاض يسقي ... جميع الناس لم يبلل لهاتي «4»
حال المسؤول عند السؤال
قال الشاعر «5» : [وافر]
سألناه الجزيل فما تلكّا ... وأعطى فوق منيتنا وزادا «6»
مرارا ما أعود إليه إلّا ... تبسّم ضاحكا وثنى الوسادا
وقال آخر: [كامل](3/171)
قوم إذا نزل الغريب بدارهم ... تركوه ربّ صواهل وقيان «1»
وإذا دعوتهم ليوم كريهة ... سدّوا شعاع الشمس بالفرسان
لا ينقرون الأرض عند سؤالهم ... لتلمّس العلّات بالعيدان «2»
بل يبسطون وجوههم فترى لها ... عند السؤال كأحسن الألوان «3»
وقال آخر: [مديد]
يجعل المعروف والبرّ ذخرا ... ويعدّ الحمد خير التّجاره
وإذا ما جئته تجتديه ... خلته بشّرته ببشاره «4»
فترى في الطّرف منه حياء ... وترى في الوجه منه استناره
وقال آخر: [سريع]
إذا غدا المهديّ في جنده ... أو راح في آل الرسول الغضاب
بدا لك المعروف في وجهه ... كالضوء يجري في ثنايا الكعاب «5»
وأنشدني العتبيّ: [طويل]
له في ذرى المعروف نعمى كأنها ... مواقع ماء المزن في البلد القفر
إذا ما أتاه السائلون توقّدت ... عليه مصابيح الطلاقة والبشر
والمشهور في هذا قول زهير: [كامل]
تراه إذا ما جئته متهلّلا ... كأنّك تعطيه الذي أنت سائله(3/172)
وسأل رجل من الأعراب»
رجلا فلم يعطه شيئا؛ فقال: [طويل]
كدحت بأظفاري وأعملت معولي ... فصادفت جلمودا من الصّخر أملسا
تشاغل لما جئت في وجه حاجتي ... وأطرق حتى قلت قد مات أو عسى
وأجمعت أن أنعاه حين رأيته ... يفوق فواق الموت ثم تنفّسا
فقلت له لا بأس، لست بعائذ ... فأفرخ تعلوه الكآبة مبلسا «2»
وقال مسلم: [منسرح]
أطرق لما أتيت ممتدحا ... فلم يقل لا فضلا على نعم
فخفت إن مات أن أقاد به ... فقمت أبغى النّجاء من أمم «3»
لو أنّ كنز البلاد في يده ... لم يدع الإعتدلال بالعدم «4»
وقال الحارث الكنديّ: [وافر]
فلما أن أتيناه وقلنا ... بحاجتنا تلوّن لون ورس «5»
وآض بكفّه يحتكّ ضرسا ... يرينا أنّه وجع بضرس «6»
فقلت لصاحبي أبه كزاز ... وقلت أسرّه أتراه يمسي «7»
وقمنا هاربين معا جميعا ... نحاذر أن مزنّ بقتل نفس «8»
قال الأصمعيّ:
دخل أعرابيّ على المساور الضّبّيّ وهو بندار الرّيّ «9» ، فسأله فلم يعطه(3/173)
شيئا، فأنشأ يقول:
أتيت المساور في حاجة ... فما زال يسعل حتى ضرط
وحكّ قفاه بكر سوعه ... ومسّح عثنونه وامتخط «1»
فأمسكت عن حاجتي خيفة ... لأخرى تقطّع شرج السّفط «2»
فأقسم لو عدت في حاجتي ... للطّخ بالسّلح وشي النّمط «3»
وقال غلطنا حساب الخراج ... فقلت من الضّرط جاء الغلط
قال: فكان العامل كلّما ركب صاح به الصّبيان: «من الضرط جاء الغلط فهرب من غير عزل إلى بلاد أصبهان.
وقال نهار بن توسعة «4» في قتيبة بن مسلم: [بسيط]
كانت خراسان أرضا إذ يزيد بها ... وكلّ باب من الخيرات مفتوح
فبدّلت بعده قردا نطيف به ... كأنّما وجهه بالخلّ منضوح «5»
وقال جرير: [طويل]
يزيد يغضّ الطّرف دوني كأنّما ... زوى بين عينيه عليّ المحاجم «6»
فلا ينبسط من بين عينيك ما انزوى ... ولا تلقني إلا وأنفك راغم
وقال آخر: [منسرح]
لا تسأل المرء عن خلائقه ... في وجهه شاهد من الخبر(3/174)
حدّثني أبو حاتم عن الأصمعيّ عن الأبج عن التتّيّ قال قال محمد بن واسع: إنك لتعرف فجور الفاجر في وجهه.
قال أبو العتاهية: [متقارب]
مالي أرى النّاس قد أبرقوا ... بلؤم الفعال وقد أرعدوا «1»
إذا جئت أفضلهم للسلا ... م ردّ وأحشاؤه ترعد
كأنّك، من خشية للسّؤا ... ل، في عينه الحيّة الأسود
وقال آخر: [وافر]
إذا ما الرّزق أحجم عن كريم ... فألجأه الزمان إلى زياد «2»
تلقّاه بوجه مكفهرّ ... كأنّ عليه أرزاق العباد
وقال آخر: [منسرح]
ولي خليل ما مسّني عدم ... مذ نظرت عينه إلى عدمي
بشّرني بالغنى تهلّله ... وقبل هذا تهلّل الخدم
ومحنة الزائرين بيّنة ... تعرف قبل اللقاء في الحشم
العادة من المعروف تقطع
كان يقال: انتزاع العادة ذنب محسوب.
وقال أبو الأسود الدّؤلي: [مديد]
ليت شعري عن أميري ما الذي ... غاله في الودّ حتى ودّعه «3»
لا تهنّي بعد إذ أكرمتني ... وشديد عادة منتزعه(3/175)
اذكر البلوى التي أبليتني ... وكلاما قلته في المجمعه «1»
لا يكن برقك برقا خلّبا ... إنّ خير البرق ما الغيث معه
والمشهور في هذا قول الأعشى: [كامل]
عوّدت كندة عادة فاصبر لها ... واغفر لجاهلها وروّ سجالها «2»
سأل أعرابيّ قوما، فرقّ له رجل منهم فضمّه إليه وأجرى له رزقا أياما ثم قطع عنه؛ فقال الأعرابيّ: [طويل]
تسرّى فلمّا حاسب المرء نفسه ... رأى أنّه لا يستقيم له السّرو «3»
وقدم أبو زياد الكلابيّ مع أعراب سنة القحمة «4» ، فأجرى عليهم رجل رغيفا لكل رجل ثم قطعه؛ فقال أبو زياد: [طويل]
إن يقطع العبّاس عنّا رغيفه ... فما يأتيني من نعمة أكثر «5»
والحكماء تقول: «العادة طبيعة ثانية» .
وفي الحديث: «الخير عادة والشّرّ لجاجة» «6» .
وقال بعض الشعراء لرجل من الأشراف: [كامل]
ولقد ضربنا في البلاد فلم نجد ... أحدا سواك إلى المكارم ينسب
فاصبر لعادتك التي عوّدتنا ... أو لا فأرشدنا إلى من نذهب
وتقول العرب فيمن اصطنع معروفا ثم أفسده بالمنّ أو قطعه حين كاد(3/176)
يتمّ: «شوى أخوك حتى إذا أنضج رمّد» «1» .
قال أبو كعب القاصّ: كان رجل يجري عليّ رغيفا في كلّ يوم، وكان يقول إذا أتاه الرغيف: لعنك الله ولعن من بعث بك، ولعنني إن تركتك حتى أصيب خيرا منك.
والعرب تقول في مثل هذا: «خذ من الرّضفة ما عليها» «2» .
وقال الشاعر: [كامل]
وخذ القليل من اللئيم وذمّه ... إنّ اللئيم بما أتى معذور
ومعذور: موسوم في موضع العذار، وليس هو من العذر.
الشكر والثناء
حدّثني شيخ لنا عن وكيع عن سفيان عن منصور عن هلال بن أساف «3» قال قال صلّى الله عليه وسلّم: «إذا صلّى أحدكم فليدن عليه من ستر بيته فإنّ الله عزّ وجلّ يقسم الثناء كما يقسم الرزق» .
وحدّثني أيضا عن وكيع عن سعيد عن أبي عمران الجوني عن عبد الله ابن الصّامت قال قال أبو ذرّ: قلت للنبي صلّى الله عليه وسلّم: الرجل يعمل العمل ويحبّه الناس؟ قال: «تلك عاجل بشرى المؤمن. وقال النبيّ صلّى الله عليه وسلّم: إذا أردتم أن تعلموا ما للعبد عند الله فانظروا ماذا يتبعه من الثّناء» .(3/177)
حدّثني أبو حاتم عن الأصمعيّ قال: كان يقال: الثناء يضاعف كما تضاعف الحسنات؛ يكون الرجل سخيّا فيزيد الله في سخائه، ويكون شجاعا فيزيد الله في شجاعته.
وحدّثني أبو حاتم عن الأصمعيّ عن العمريّ قال: قال رجل لعمر بن الخطّاب رضي الله عنه: إنّ فلانا رجل صدق؛ قال: سافرت معه؟ قال لا.
قال: فكانت بينك وبينه خصومة؟ قال لا. قال: فهل ائتمنته على شيء؟ قال لا. قال: فأنت الذي لا علم لك به، أراك رأيته يرفع رأسه ويخفضه في المسجد!.
قال بعض الحكماء: إذا قصرت يدك عن المكافأة فليطل لسانك بالشكر.
وقال آخر: حقّ النّعمة أن تحسن لباسها، وتنسبها إلى وليّها، وتذكر ما تناسى عندك منها.
وقال بعض الحارثيين: [بسيط]
عثمان يعلم أنّ الحمد ذو ثمن ... لكنّه يشتهي حمدا بمجّان «1»
والناس أكيس من أن يحمدوا أحدا ... حتى يروا قبله آثار إحسان
وقال حمّاد عجرد: [بسيط]
قد ينقضي كلّ ما أوليت من حسن ... إذا أتى دون ما أوليت يومان
تنأى بودّك ما استغنيت عن أحد ... وإن طمعت فأنت الواصل الدّاني
الشّهد أنت إذا ما حاجة عرضت ... وحنظل كلّما استغنيت خطبان «2»(3/178)
وقال عمران بن حطّان «1» : [طويل]
وقد عرضت لي حاجة وأظنّني ... بأنّي إذا أنزلتها بك منجح
فإن أك في أخذ العطيّة مربحا ... فإنك في بذل العطيّة أربح
لأنّ لك العقبى من الأجر خالصا ... وشكري في الدنيا، فحظّك أرجح
وقال معاوية بن أبي سفيان يعاتب قريشا: [طويل]
إذا أنا أعطيت القليل شكوتم ... وإن أنا أعطيت الكثير فلا شكر
وما لمت نفسي في قضاء حقوقكم ... وقد كان لي فيما اعتذرت به عذر
وأمنحكم ما لي وتكفر نعمتي ... وتشتم عرضي في مجالسها فهر «2»
إذا العذر لم يقبل ولم ينفع الأسى ... وضاقت قلوب منهم حشوها الغمر «3»
فيكف أداوي داءكم ... يزيدكم غيّا! فقد عظم الأمر
سأحرمكم حتى يذلّ صعابكم، ... وأبلغ شيء في صلاحكم الفقر
وقال طريح الثّقفيّ»
: [طويل]
سعيت ابتغاء الشكر فيما صنعت بي ... فقصّرت مغلوبا وإنّي لشاكر
ومثله قول الخريميّ «5» : [طويل]
لأنك تعطيني الجزيل بداهة ... وأنت لما استكثرت من ذاك حاقر(3/179)
ومثله قوله أيضا: [رمل]
زاد معروفك عظما ... أنّه عندك محقور صغير
تتناسه كأن لم تأته ... وهو عند الناس مشهور كبير
قال رجل لبعض السلطان: المواجهة بالشكر ضرب من الملق «1» ، منسوب من عرف بها إلى التخلّق «2» ؛ وأنت تمنعني من ذلك وترفع الحال بيننا عنه، ولذلك تركت لقاءك به. غير أنّي من الاعتراف بمعروفك ونشر ما تطوي منه والإشادة بذكره عند إخوانك والانتساب إلى التقصير مع الإطناب في وصفه، على ما أرجو أن أكون قد بلغت به حال المحتمل للصّنيعة، الناهض بحقّ النعمة.
قال ابن عنقاء الفزاريّ «3» : [طويل]
رآني على ما بي عميلة فاشتكى ... إلى ما له حالي أسرّ كما جهر
دعاني فآساني ولو صدّ لم ألم ... على حين لا بدو يرجّى ولا حضر
فقلت له خيرا وأثنيت فعله ... وأوفاك ما أسديت من ذمّ أو شكر «4»
وقال آخر «5» : [طويل]
سأشكر عمرا إن تراخت منيّتي ... أيادي لم تمنن وإن هي جلّت
فتى غير محجوب الغنى عن صديقه ... ولا مظهر الشكوى إذ النعل زلّت
رأى خلّتي من حيث يخفى مكانها ... فكانت قذى عينيه حتى تجلّت «6»(3/180)
وقرأت في كتاب للهند: أربعة ليست لأعمالهم ثمرة: مسارّ الأصمّ، والباذر في السّبخة «1» ، والمسرج في الشمس، وواضع المعروف عند من لا شكر له.
وقال بعض الشعراء المحدثين، وقيل: إنه للبحتريّ. فبعثت إليه أسأله عنه فأعلمني أنه ليس له: [متقارب]
فلو كان للشكر شخص يبين ... إذا ما تأمّله النّاظر
لبيّنته لك حتّى تراه ... فتعلم أنّي امرؤ شاكر
ولكنه ساكن في الضمير ... يحرّكه الكلم السائر
وقال آخر: [طويل]
فلو كان يستغني عن الشّكر سيّد ... لعزّة ملك أو علوّ مكان
لما أمر الله الجليل بشكره ... فقال اشكروني أيّها الثّقلان «2»
وقال آخر: [طويل]
فأثنوا علينا لا أبا لأبيكم ... بإحساننا إنّ الثناء هو الخلد
وقال رجل من غنيّ «3» : [كامل]
فإذا بلغتم أهلكم فتحدّثوا ... ومن الثناء مهالك وخلود
وكانت عائشة رضي الله عنها تتمثّل بقول الشاعر:
يجزيك أو يثني عليك وإنّ من ... أثنى عليك بما فعلت كمن جرى
وقال الحارث بن شدّاد في عليّ بن الربيع الحارثيّ: [بسيط](3/181)
النّاس تحتك أقدام وأنت لهم ... رأس وكيف يسوّى الرأس والقدم
فحسبنا من ثناء المادحين إذا ... أثنوا عليك بأن يثنوا بما علموا «1»
وقال آخر: [وافر]
بأيّ الخصلتين عليك أثني ... فإنّي عند منصرفي مسول «2»
أبى الحسنى وليس لها ضياء ... عليّ فمن يصدّق ما أقول
أم الأخرى ولست لها بأهل ... وأنت البحر من ذهب يسيل
وقال بشّار: [بسيط]
أثني عليك ولي حال تكذّبني ... فيما أقول فأستحيي من الناس
قد قلت إنّ أبا حفص لأكرم من ... يمشي فخاصمني في ذاك إفلاسي
وكتب بعض الكتّاب إلى وزير: لست تشبه حالنا في الحرمة، ولا نشبه حالك في الجاه والقدرة، ولا ظاهر ما نحن عليه الباطن. وليس بعد حرمتي حرمة، ولا فوق سببي سبب، ولا بعد حالك حال يرتجى، ولا بعد منزلتك منزلة تتمنّى، ولا تنتظر شيئا ولا أنتظره؛ ولا أتوقّع حقّا أزيده في حقوقي، ولا تتوقّع فائدة تزيدها في ذات يدك. وكم تحتال بالألفاظ، وتموّه «3» بالمعاني، والناس يحتجّون بالعمل ويقضون بالعيان.
وقال بعض الشعراء: [طويل]
وزهّدني في كلّ خير صنعته ... إلى الناس ما جرّبت من قلّة الشكر
وقال أبو الهول في أبي المراء عتبة بن عاصم: [طويل](3/182)
إذا فاخرتنا من معدّ عصابة ... فخرنا عليها بابن عتبة عاصم «1»
يجرّ رياط الحمد في دار قومه ... ويختال في عرض من الذمّ سالم «2»
وقال رجل لبعض السلطان: مثلك اوجب حقّا لا يجب عليه، وسمح بحقّ يجب له، وقبل واضح العذر، واستكثر قليل الشكر. لا زالت أياديك فوق شكر أوليائك، ونعمة الله عليك فوق آمالهم فيك.
وكتب آخر:
ما أنتهي إلى غاية من شكرك، إلا وجدت وراءها غاية من معروفك يحسروني «3» بلوغها. وما عجز الناس عنه فالله من ورائه. فلا زالت أيامك ممدودة بين أمل لك تبلغه، وأمل فيك تحقّقه، حتى تتملّى من الأعمار أطولها، وتنال من الهبات أفضلها.
ونحو هذا قول آخر:
كان لي فيك أملان: أحدهما لك، والآخر بك. فأمّا الأمل لك فقد بلغته، وأمّا الأمل بك فأرجو أن يحقّقه الله ويوشكه.
وفي كتاب آخر:
أيّام القدرة وإن طالت قصيرة، والمتعة بها وإن كثرت قليل، والمعروف وإن أسدي إلى من يكفره مشكور بلسان غيره.
وفي كتاب بعض الكتّاب:
وما ذكرت- أعزّك الله- من ذلك قديما ولا جدّدت منه حديثا، إلّا(3/183)
وأصغر أملي فيك فوقه وإن كان استحقاقي دونه. فإن أقض واجب حقّ الله علىّ في شكر نعمك فبتوفقه وعونه، وإن أقصّر عن كنهه فعن غير تقصير في بلوغ الجهد فيه.
وفي هذا الكتاب:
أمّا ما بذل الأمير من ماله، فذلك ما قد سبق الرجاء بل اليقين إليه، معرفة منّي بطوله وكرمه، وليس ينكر أياديه ولا بدع صنائعه. وما يرشدني أملي بعد الله إلّا إليه، ولا أفزع «1» لحادثة إلى غيره، ولا أتضاءل لنائبة معه. ولو عجزت عن النّهضة لما حاولت الإستقلال والانتعاش إلّا به. ومال الأمير الكثير المذخور عند انقطاع الحيل، لا معنّف طالبه، ولا مخوّف على الردّ عنه واهبه، ولا عائق منع دونه، ولا تنغيص من ورائه؛ ولا كنز أولى بالصون وأن يجعل وقفا على النوائب والعواقب من كنز من هذه حاله.
قالت بنو تميم لسلامة بن جندل «2» : مجّدنا بشعرك؛ فقال: افعلوا حتّى أثني. ونحوه قول عمرو بن معد يكرب «3» : [طويل]
فلو أنّ قومي أنطقتني رماحهم ... نطقت ولكنّ الرّماح أجرّت «4»
قال رجل من قريش لأشعب: والله ما شكرت معروفي عندك؛ فقال: إنّ معروفك كان من غير محتسب، فوقع عند غير شاكر.(3/184)
وقال أبو نواس: [كامل]
أنت امرؤ أوليتني نعما ... أوهت قوى شكري فقد ضعفا «1»
فإليك بعد اليوم تقدمة ... والتك بالتصريح منكشفا «2»
لا تحدثنّ إليّ عارفة ... حتّى أقوم بشكر ما سلفا «3»
وقال أبو نخيلة «4» : [طويل]
شكرتك إنّ الشكر حبل من التّقى ... وما كلّ من أقرضته نعمة يقضى
فأحييت من ذكري وما كان ميّتا ... ولكن بعض الذكر أنبه من بعض
آخر: [طويل]
لأشكرنّك معروفا هممت به ... إنّ اهتمامك بالمعروف معروف
ولا ألومك إن لم يمضه قدر ... فالشيء بالقدر المحتوم مصروف
وقال رجل لسعيد بن جبير: المجوسيّ يوليني خيرا فأشكره، ويسلّم عليّ فأردّ عليه؛ فقال سعيد: سألت ابن عبّاس عن نحو هذا، فقال لي: لو قال لي فرعون خيرا لرددت عليه مثله.
أنشد ابن الأعرابيّ: [رمل]
أهلكتني بفلان ثقتي ... وظنون بفلان حسنه
ليس يستوجب شكرا رجل ... نلت خيرا منه من بعد سنه(3/185)
وقال بعضهم: لا تثق بشكر من تعطيه حتى تمنعه؛ فإنّ الصابر هو الشاكر، والجازع هو الكافر «1» .
وقال أوس بن حجر «2» : [طويل]
سأجزيك أو يجزيك عنّي مثوّب ... وقصدك أن يثنى عليك وتحمدي
والعرب تقول: فلان أشكر من البروق وهو نبت ضعيف ينبت بالسحاب إذا نشأ وبأدنى مطر.
وقال الشاعر: [طويل]
لئن طبت نفسا عن ثنائي فإنّني ... لأطيب نفسا عن نذاك على عسري
فلست إلى جدواك أعظم حاجة ... على شدّة الإعسار منك إلى شكري «3»
وقال آخر: [كامل]
حسب امرىء إن فاتني غرض ... من برّه أن فاته شكري
إنّي إذا ضاق امرؤ بجدا ... عنّي اتّسعت عليه بالعذر «4»
وقال الطائيّ لإسحاق بن إبراهيم: [كامل]
ومحجّب حاولته فوجدته ... نجما عن الركب العفاة شسوعا «5»
أعدمته لمّا عدمت نواله ... شكري فرحنا معدمين جميعا(3/186)
وقال: [طويل]
فإن يك أربى عفو شكري على ندى ... أناس فقد أربى نداه على جهدي «1»
وقال:
وكيف يجور عن قصد لساني ... وقلبي رائح برضاك غادي
وممّا كانت العلماء قالت ... لسان المرء من خدم الفؤاد
وقال:
أبا سعيد وما وصفي بمتّهم ... على الثّناء وما شكري بمخترم «2»
لئن جحدتك ما أوليت من نعم ... إنّي لفي الشّكر أحظى منك في النّعم»
أنسى ابتسامك والألوان كاسفة ... تبسّم الصّبح في داج من الظّلم «4»
رددت رونق وجهي في صفيحته ... ردّ الصّقال بهاء الصّارم الخذم «5»
وما أبالي، وخير القول أصدقه، ... حقنت لي ماء وجهي أم حقنت دمي
وقال: [وافر]
فلا تكدر حياضك لي فأني ... أمتّ إليك آمالا طوالا «6»
وفرجاهي عليّ فإنّ جاهي ... إذا ما غبّ يوم كان مالا «7»
وقال: [بسيط]
يا منّة لك لولا أخفّفها ... به من الشكر لم تحمل ولم تطق(3/187)
بالله أدفع عنّي ثقل فادحها ... فإنني خائف منه على عنقي «1»
وقال بشار في عمر بن العلاء: [متقارب]
دعاني إلى عمر جوده ... وقول العشيرة بحر خضمّ
ولولا الذي زعموا لم أكن ... لأمدح ريحانة قبل شمّ
ويقال: الشكر ثلاث منازل: لمن فوقك بالطاعة، ولنظيرك بالمكافأة، ولمن دونك بالإفضال عليه.
قال إبراهيم بن المهديّ «2» يشكر المأمون: [بسيط]
رددت ما لي ولم تمنن عليّ به ... وقبل ردّك ما لي قد حقنت دمي
فأبت منك وقد جلّلتني نعما ... هي الحياتان من موت ومن عدم
فلو بذلت دمي أبغي رضاك به ... والمال حتى أسلّ النعل من قدمي
ما كان ذاك سوى عاريّة رجعت ... إليك لو لم تعرها كنت لم تلم «3»
وقام علمك بي فاحتجّ عندك لي ... مقام شاهد عدل غير متّهم
وقال آخر، وبلغني أنه الخثعميّ «4» : [خفيف]
فاذهبا بي إن لم يكن لكما عق ... ر إلى جنب قبره فاعقراني «5»
وانضحا من دمي عليه فقد كا ... ن دمي من نداه لو تعلمان «6»(3/188)
وفد رجل على سليمان بن عبد الملك في خلافته؛ فقال له: ما أقدمك؟ قال: ما أقدمني عليك رغبة؛ قال: وكيف ذاك؟ قال: أما الرّغبة فقد وصلت إلينا وفاضت في رحالنا وتناولها الأقصى والأدنى منّا، وأما الرّهبة فقد أمنّا بعدل أمير المؤمنين علينا وحسن سيرته فينا من الظلم، فنحن وفد الشكر.
وقال الفرزدق في عمرو بن عتبة: [بسيط]
لولا ابن عتبة عمرو والرّجاء له ... ما كانت البصرة الحمقاء لي وطنا
أعطاني المال حتى قلت يودعني ... أو قلت أودع لي مالا رآه لنا
فجوده متعب شكري ومنّته ... وكلّما زدت شكرا زادني مننا
يرمي بهمّته أقصى مسافتها ... ولا يريد على معروفه ثمنا
هذا مثل قول الأعرابيّ: ما زال فلان يعطيني حتى ظننت أنه يودعني ماله. وما ضاع مال أورث المحامد.
ويقال: خمسة أشياء ضائعة: سراج يوقد في شمس، ومطر جود في سبخة «1» ، وحسناء تزفّ إلى عنّين «2» ، وطعام استجيد وقدّم إلى سكران، ومعروف صنع إلى من لا شكر له.
وكان يقال: الشكر زيادة في النّعم وأمان من الغير.
وقال أسماء بن خارجة «3» : إذا قدمت المصيبة تركت التّعزية، وإذا قدم الإخاء قبح الثناء.
بعث روح بن حاتم «4» إلى كاتب له بثلاثين ألف درهم، وكتب إليه: قد(3/189)
بعثت بها إليك، ولا أقلّلها تكبّرا، ولا أكثّرها تمنّنا، ولا أستثيبك عليها ثناء، ولا أقطع عنك بها رجاء.
وفي كتاب للهند: لا ثناء مع كبر. وفيه: ستّة أشياء لا ثبات لها: ظلّ الغمام، وخلّة الأشرار، وعشق النساء، والمال الكثير، والسّلطان الجائر، والثناء الكاذب.
والعرب تقول: «لا تهرف قبل أن تعرف» أي لا تطنبنّ في الثّناء قبل الاختبار.
وكتب أبو نواس من الحبس إلى الفضل بن الربيع: [كامل]
ما من يد في الناس واحدة ... كيد أبو العباس مولاها
نام الثّقات على مضاجعهم ... وسرى إلى نفسي فأحياها
قد كنت خفتك ثم آمنني ... من أن أخافك خوفك الله
فعفوت عنّي عفو مقتدر ... وجبت له نقم فألغاها
والبيت المشهور في هذا قول النّجاشيّ «1» : [بسيط]
لا تحمدنّ امرأ حتى تجرّبه ... ولا تذمّنّ من لم يبله الخبر «2»
وقال آخر في الاختبار: [كامل]
إنّ الرجال إذا اختبرت طباعهم ... ألفيتهم شتّى على الأخبار
لا تعجلنّ إلى شريعة مورد ... حتى تبيّن خطّة الإصدار «3»
وقال الرّياشيّ: أنشدني أبو العالية «4» : [طويل](3/190)
إذا أنا لم أشكر على الخير أهله ... ولم أذمم الجبس اللئيم المذمّما «1»
ففيم عرفت الخير والشرّ باسمه ... وشقّ لي الله المسامع والفما
قال ابن التّوءم: كلّ من كان، جوده يرجع إليه؛ ولولا رجوعه إليه لما جاد عليك، ولو تهيّأ له ذلك المعنى في سواك لما قصد إليك، فليس يجب له عليك شكر. وإنما يوصف بالجود في الحقيقة ويشكر على النفع في حجّة العقل، الذي إن جاد عليك فلك جاد، ونفعك أراد، من غير أن يرجع إليه جوده بشيء من المنافع على جهة من الجهات، وهو الله وحده لا شريك له.
فإن شكرنا الناس على بعض ما جرى لنا على أيديهم، فلأمرين: أحدهما التعبّد؛ وقد أمر الله تعالى بتعظيم الوالدين وإن كانا شيطانين وتعظيم من هو أسنّ منّا وإن كنّا أفضل منه. والآخر: لأن النفس ما لا تحصّل الأمور وتميّز المعاني، فالسابق إليها حبّ من جرى لها على يديه الخير وإن كان لم يردها ولم يقصد إليها. ألا ترى أنّ عطيّة الرجل صاحبه لا تخلو أن تكون لله أو لغير الله؛ فإن كانت لله فثوابه على الله؛ وكيف يجب في حجّة العقل شكره وهو لو صادف ابن سبيل غيري لما أعطاني؛ وإما أن يكون إعطاؤه إياي للذكر؛ فإن كان كذلك فإنما جعلني سلّما إلى حاجته وسببا إلى بغيته؛ أو يكون إعطاؤه إياي طلبا للمكافأة؛ فإنما ذلك تجارة؛ أو يكون إعطاؤه لخوف يدي أو لساني أو اجترار معونتي ونصرتي، وسبيل هذا معروف؛ أو يكون إعطاؤه للرحمة والرّقة ولما يجد في فؤاده من العصر «2» والألم، فإنّما داوى بتلك العطيّة من دائه ورفّه من خناقه «3» .(3/191)
وكان محمد بن الجهم يقول: نحو هذا قول الشاعر: [متقارب]
لعمرك ما النّاس أثنوا عليك ... ولا عظّموك ولا عظّموا
ولا شايعوك على ما بلغ ... ت من الصالحات ولا قدّموا
ولو وجدوا لهم مطعنا ... إلى أن يعيبوك ما جمجموا «1»
ولكن صبرت لما ألزموك ... وجدت بما لم يكن يلزم
وكان قراك إذا ما لقوك ... لسانا بما سرّهم ينعم «2»
وخفض الجناح ووشك النجاح ... وتصغير ما عظّم المنعم «3»
فأنت بفضلك ألجاتهم ... إلى أن يجلّوا وأن ينعموا
وقال خلف بن خليفة الأقطع «4» : [طويل]
وفي اليأس من أن تسأل الناس راحة ... تميت بها عسرا وتحيي بها يسرا
وليس يد أوليتها بغنيمة ... إذا كنت تبغي أن يعدّ شكرا
غنى النفس يكفي النفس ما سدّ فاقة ... فإن زاد شيئا عاد ذاك الغنى فقرا
قال ابن عائشة: بلغني أنّ عبد الرحمن بن حسّان سأل بعض الولاة حاجة فلم يقضيها له، فسألها آخر فقضاها له؛ فقال: [طويل]
ذممت ولم تحمد وأدركت حاجتي ... تولّى سواكم أجرها واصطناعها(3/192)
أبى لك كسب الحمد رأيّ مقصّر ... ونفس أضاق الله بالخير باعها «1»
إذا هي حثّته على الخير مرّة ... عصاها وإن همّت بشرّ أطاعها
وقال ابن عائشة: قال رجل يوما لابن عيينة: ما شيء تحدثونه يا أبا محمد؟ قال: ما هو؟ قال: يقولون إن الله تعالى يقول: أيّما عبد كانت له إليّ حاجة فشغله الثناء عليّ عن سؤال حاجته، أعطيته فوق أمنيّته؛ فقال له: يابن أخي، وما تنكر من هذا! أما سمعت قول أميّة بن أبي الصّلت في عبد الله بن جدعان: [وافر]
إذا أثنى عليه المرء يوما ... كافه من تعرّضه الثناء
فكيف بأكرم الأكرمين!.
وكان يقال: في طلب الرجل الحاجة إلى أخيه فتنة: إن هو أعطاه حمد غير الذي أعطاه، وإن منعه ذمّ غير الذي منعه.
حدّثنا الرّياشيّ قال: أنشدنا كيسان لدكين الراجز «2» : [طويل]
إذا المرء لم يدنس من اللّؤم عرضه ... فكلّ رداء يرتديه جميل «3»
إذا المرء لم يصرع عن اللؤم نفسه ... فليس إلى حسن الثناء سبيل «4»
وكان يقال: أوّل منازل الحمد السلامة من الذمّ.(3/193)
قال عروة بن أذينة اللّيثيّ «1» : [منسرح]
لا تتركن، إن صنيعة سلفت ... منك وإن كنت لا تصغّرها
إلى امرىء، إن تقول إن ذكرت ... عندك في الجدّ لست أذكرها
فإنّ إحياءها إماتتها ... وإنّ منّا بها يكدّرها
وإن تولّى امرؤ بشكر يد ... فالله يجزي بها ويشكرها
ويقال: أحيوا المعروف بإماتته.
أبو سفيان الحميريّ قال: كان مسعدة الكاتب أبو عمرو بن مسعدة مولى لخالد القسريّ، وكان في ديوان الرسائل بواسط، وكان موجزا في كتبه، فكتب إلى صديق له: أما بعد، فإنه لن يعدمك من معروفك عندنا أمران: أجر من الله وشكر منّا. وخير مواضع المعروف ما جمع الأجر والشكر. والسلام.
وكتب بعض الكتّاب إلى بعض العمّال: وما أتأمّل في وقت من الأوقات ولا يوم من الأيّام آثار أياديك لديّ، ومواقع معروفك عندي، إلّا نبّهني التأمّل على ما يحسر «2» الشكر ويثقل الظهر، لأنك أنعشت من عثرة، وأنهضت من سقطة، وتلافيت نعمة كانت على شفا زوال ودروس»
، وتلقّيت ما ألقيت عليك من الكلّ بوجه طليق وباع رحيب. والسلام.
الترغيب في قضاء الحاجة واصطناع المعروف
حدّثني محمد بن عبيد قال حدّثنا داود بن المحبّر عن محمد بن الحسن الهمداني عن أبي حمزة عن عليّ بن الحسين عن أبيه عن جدّه عليّ بن أبي(3/194)
طالب رضوان الله عليه قال: قال رسول الله صلّى الله عليه وسلّم: «من ترك معونة أخيه المسلم والسّعي معه في حاجته قضيت أو لم تقض كلّف أن يسعى في حاجة من لا يؤجر في حاجته. ومن ترك الحجّ لحاجة عرضت له لم تقض حاجته حتى يرى رءوس المحلّقين» .
حدّثني محمد بن عبيد قال حدّثنا ابن عيينة عن يزيد بن عبد الله بن أبي بردة عن أبيه عن جدّه عن أبي موسى قال: قال رسول الله صلّى الله عليه وسلّم: «اشفعوا «1» إليّ ويقضي الله على لسان نبيّكم ما شاء» .
بلغني عن جعفر بن أبي جعفر المازنيّ عن ابن أبي السّريّ عن إبراهيم بن أدهم عن منصور بن المعتمر قال: قال رسول الله صلّى الله عليه وسلّم: «إن أحببت أن يحبّك الله فازهد في الدنيا وإن أحببت أن يحبّك الناس فلا يقع في يدك من حطامها شيء إلا نبذته إليهم» «2» .
حدّثني محمد بن داود عن محمد بن جابر قال: قال ابن عيينة: ليس أقول لكم إلّا ما سمعت: قيل لابن المنكدر: أيّ الأعمال أفضل؟ قال:
إدخال السرور على المؤمن. وقيل: أيّ الدنيا أحبّ إليك؟ قال: الإفضال على الإخوان.
حدّثني أبو حاتم عن الأصمعيّ قال: حدّثنا زرير العطارديّ قال: صلّى بنا أبو رجاء العطارديّ العتمة ثم أوى إلى فراشه، فأتته امرأة فقالت: أبا(3/195)
رجاء، إنّ لطارق الليل حقّا، وإنّ بني فلان خرجوا إلى سفوان «1» وتركوا كتبهم وشيئا من متاعهم؛ فانتعل أبو رجاء وأخذ الكتب وأدّاها وصلّى بنا الفجر، وهو مسيرة ليلة للإبل، والناس يقولون: إنها أربعة فراسخ.
حدّثني أحمد بن الخليل عن محمد بن سعيد قال حدّثنا ابن المبارك عن حميد عن الحسن قال: لأن أقضي حاجة لأخ أحبّ إليّ من أن أعتكف سنة.
قال ابن عائشة: كان عمرو بن معاوية العقيليّ يقول: اللهم بلّغني عثرات الكرام.
قال المأمون لمحمد بن عبّاد المهلّبيّ: أنت متلاف؛ فقال: يا أمير المؤمنين، منع الموجود سوء ظنّ بالله، يقول الله تعالى: وَما أَنْفَقْتُمْ مِنْ شَيْءٍ فَهُوَ يُخْلِفُهُ وَهُوَ خَيْرُ الرَّازِقِينَ
«2» .
وكان ابن عبّاس يقول: صاحب المعروف لا يقع، فإن وقع وجد متّكأ.
هذا نحو قول النبيّ صلّى الله عليه وسلّم: «المعروف يقي مصارع السّوء» .
وكان ابن عبّاس يقول أيضا: ما رأيت رجلا أوليته معروفا إلّا أضاء ما بيني وبينه، ولا رأيت رجلا أوليته سوءا إلّا أظلم ما بيني وبينه.
قال جعفر بن محمد: إنّ الحاجة تعرض للرجل قبلي فأبادر بقضائها مخافة أن يستغني عنها أو تأتيه وقد استبطأها فلا يكون لها عنده موقع.
وقال الشاعر: [طويل]
وبادر بسلطان إذا كنت قادرا ... زوال اقتدار أو غنى عنك يعقب «3»(3/196)
وقال آخر في مثله: [متقارب]
بدا حين أثرى بإخوانه ... ففكّك عنهم شباة العدم «1»
وذكّره الحزم غبّ الأمور ... فبادر قبل انتقال النّعم «2»
وقرأت في كتاب للهند: من صنع المعروف لعاجل الجزاء، فهو كملقي الحبّ ليصيد به الطير لا لينفعه.
قال ابن عباس: ثلاثة لا أكافئهم: رجل بدأني بالسلام، ورجل وسّع لي في المجلس، ورجل اغبرّت قدماه في المشي إليّ إرادة التسليم عليّ؛ فأما الرابع فلا يكافئه عنّي إلا الله جلّ وعزّ؛ قيل: ومن هو؟ قال: رجل نزل به أمر فبات ليلته يفكّر بمن ينزله، ثم رآني أهلا لحاجته فأنزلها بي.
وقال سلّم بن قتيبة: ربّ المعروف أشدّ من ابتدائه «3» .
ويقال: الابتداء بالمعروف نافلة، وربّه فريضة.
قيل لبزرجمهر: هل يستطيع أحد أن يفعل المعروف من غير أن يرزأ «4» شيئا؟ قال: نعم، من أحببت له الخير وبذلت له الودّ، فقد أصاب نصيبا من معروفك.
قال جعفر بن محمد: ما توسّل إليّ أحد بوسيلة هي أقرب به إلى ما يحبّ من يد سلفت منّي إليه، أتبعتها أختها لأحسن ربّها وحفظها؛ لأن منع الأواخر يقطع شكر الأوائل.(3/197)
قال رجل من مجلس خالد بن عبد الله القسريّ؛ فقال خالد: إني لأبغض هذا الرجل وما له إليّ ذنب، فقال رجل من القوم: أوله أيّها الأمير معروفا ففعل، فما لبث أن خفّ على قلبه وصار أحد جلسائه.
قال ابن عباس: لا يتمّ المعروف إلا بثلاث: تعجيله وتصغيره وستره، فإنه إذا عجّله هنّأه، وإذا صغّره عظّمه وإذا ستره تمّمه.
وقال الخريميّ في نحو هذا: [رمل]
زاد معروفك عندي عظما ... أنّه عندك محقور صغير
تتناساه كأن لم تأته ... وهو عند الناس مشهور كبير
وقال الطائيّ: [كامل]
جود مشيت به الضّراء تواضعا ... وعظمت عن ذكراه وهو عظيم «1»
أخفيته فخفيته وطويته ... فنشرته والشخص منه عميم «2»
وكان يقال: ستر رجل ما أولى، ونشر رجل ما أولي.
وقال رجل لبنيه: إذا اتخذتم عند رجل يدا فانسوها. وقالوا: المنّة تهدم الصنيعة. قال الشاعر: [بسيط]
أفسدت بالمنّ ما أسديت من حسن ... ليس الكريم إذا أسدى بمنّان
قال رجل لابن شبرمة (3) : فعلت بفلان كذا وفعلت به كذا؛ فقال: لا خير في المعروف إذا أحصي.
وفي بعض الحديث: كلّ معروف صدقة وما أنفق الرجل على أهله ونفسه وولده صدقة وما وقى «3» المرء به عرضه فهو صدقة وكلّ نفقة «4» أنفقها فعلى(3/198)
الله خلفها مثلها إلا في معصية أو بنيان. وفي الحديث المرفوع «فضل جاهك تعود به على أخيك صدقة منك عليه ولسانك تعبّر به عن أخيك صدقة منك عليه وإماطتك «1» الأذى عن الطريق صدقة منك على أهله.
وكان يقال: بذل الجاه زكاة الشرف.
وقال بعض الشعراء: [طويل]
وليس فتى الفتيان من راح واغتدى ... لشرب صبوح أو لشرب غبوق «2»
ولكن فتى الفتيان من راح واغتدى ... لضرّ عدوّ أو لنفع صديق
قال ابن عباس: لا يزهّدنّك في المعروف كفر من كفره، فإنه يشكرك عليه من لم تصطنعه إليه.
وقال حمّاد عجرد: [بسيط]
إنّ الكريم ليخفي عنك عسرته ... حتى تراه غنيّا وهو مجهود «3»
إذا تكرّمت أن تعطي القليل ولم ... تقدر على سعة لم يظهر الجود
وللبخيل على أمواله علل ... زرق العيون عليها أوجه سود
أورق بخير ترجي للنوال فما ... ترجى الثّمار إذا لم يورق العود «4»
بثّ النوال ولا تمنعك قلته ... فكلّ ما سدّ فقرا فهو محمود «5»
والعرب تقول: من حقر حرم.
حدّثني عبد الرحمن عن عمه قال: قال سلّم بن قتيبة «6» : أحدهم يحقر(3/199)
الشيء فيأتي ما هو شرّ منه، يعني المنع.
وقال الشاعر: [بسيط]
وما أبالي إذا ضيف تضيّفني ... ما كان عندي إذا أعطيت مجهودي
جهد المقلّ إذا أعطاك مصطبرا ... ومكثر من غنى سيّان في الجود
وفي الحديث المرفوع «أفضل الصّدقة جهد المقلّ» .
وقال البريق الهذليّ «1» : [متقارب]
أبو مالك قاصر فقره ... على نفسه ومشيع غناه
وكان خالد بن عبد الله يقول على المنبر: أيها الناس عليكم بالمعروف، فإنّ فاعل المعروف لا يعدم جوازيه «2» ، وما ضعف الناس عن أدائه قوي الله على جوازيه، والبيت المشهور في هذا قول الحطيئة: [بسيط]
من يفعل الخير لا يعدم جوازيه ... لا يذهب العرف بين الله والناس «3»
ويقال: إنه في بعض كتب الله عزّ وجلّ.
قال وهب بن منبّه: إن أحسن الناس عيشا من حسن عيش الناس في عيشه، وإنّ من ألّذ اللّذّة الإفضال على الإخوان وفي الحديث المرفوع «إنّما لك من مالك ما أكلت فأفنيت أو لبست فأبليت أو أعطيت فأمضيت «4» وما سوى ذلك فهو ملك الوارث» .
وقال بشار: [رمل]
أنفق المال ولا تشق به ... خير ديناريك دينار نفق «5»(3/200)
قال بزرجمهر: إذا أقبلت عليك الدنيا فأنفق فإنها لا تفنى وإذا أدبرت عنك فأنفق فإنها لا تبقى. أخذه بعض المحدثين فقال:
فأنفق إذا أنفقت إن كنت موسرا ... وأنفق على ما خيّلت حين تعسر «1»
فلا الجود يفني المال والجدّ مقبل ... ولا البخل يبقي المال والجدّ مدبر
وفي كتاب كليلة: لا يعدّ عائشا من لا يشارك في غناه.
مرّ الحسن برجل يقلّب درهما؛ فقال له: أتحبّ درهمك هذا؟ قال:
نعم، قال: أما إنه ليس لك حتى يخرج من يدك.
قال الربيع بن خيثم لأخ له: كن وصيّ نفسك ولا تجعل أوصياءك الرجال.
وقال بعض الشعراء: [متقارب]
سأحبس مالي على حاجتي ... وأوثر نفسي على الوارث
أعاذل عاجل ما أشتهي ... أحبّ من المبطيء الرّائث «2»
قال عبيد الله بن عكراش: زمن خؤون «3» ، ووارث شفون «4» ؛ فلا تأمن الخؤون وكن وارث الشّفون.
وقال أبو ذرّ: لك في مالك شريكان إذا جاءا أخذا ولم يؤامراك:
الحدثان «5» والقدر، كلاهما يمرّ على الغثّ والسمين، والورثة ينتظرون متى(3/201)
تموت فيأخذون ما تحت يديك وأنت لم تقدّم لنفسك؛ فإن استطعت ألّا تكون أخسّ الثلاثة نصيبا فافعل.
وقال سعيد بن العاص في خطبة له: من رزقه الله رزقا حسنا فليكن أسعد الناس به فإنه إنما يترك لأحد رجلين: إمّا مصلح فلا يقلّ عليه شيء، وإمّا مفسد فلا يبقي له شيء. فقال معاوية: جمع أبو عثمان طرفي الكلام.
وقال حطائط بن يعفر: [طويل]
ذريني أكن للمال ربّا ولا يكن ... لي المال ربّا تحمدي غبّه غدا «1»
أريني جوادا مات هزلا لعلّتي ... أرى ما ترين أو بخيلا مخلّدا
وقلت ولم أعي الجواب تبيّني ... أكان الهزال حتف زيد وأربدا «2»
قال أعرابيّ: الدراهم ميسم تسم حمدا أو ذمّا؛ فمن حبسها كان لها، ومن أنفقها كانت له، وما كلّ من أعطي مالا أعطي حمدا، ولا كلّ عديم ذميم.
وقال بعض المحدثين: [رمل]
أنت للمال إذا أمسكته ... فإذا أنفقته فالمال لك
حدّثني يزيد بن عمرو عن يزيد بن مروان قال: حدّثنا النعمان بن هلال عن عبد الله بن دينار عن عبد الله بن عمر قال: قال رسول الله صلّى الله عليه وسلّم: «تنزل المعونة على قدر الموونة» .
قال معاوية لوردان مولى عمرو بن العاص: ما بقي من الدنيا تلذّه؟
قال: العريض الطويل؛ قال: وما هو؟ قال: الحديث الحسن أو ألقى أخا قد(3/202)
نكبه الدهر فأجبره»
؛ قال: نحن أحقّ بهما منك؛ قال: إن أحقّ بهما منك من سبقك إليهما.
وقال اعرابيّ: [طويل]
وما هذه الأيام إلّا معارة ... فما استطعت من معروفها فتزوّد «2»
فإنك لا تدري بأيّة بلدة ... تموت ولا ما يحدث الله في غد
يقولون لا تبعد، ومن يك بعده ... ذراعين من قرب الأحبّة يبعد
وقال آخر: [سريع]
إن كنت لا تبذل أو تسأل ... أفسدت ما تعطي بما تفعل
قال بعضهم: مضى لنا سلف أهل تواصل، اعتقدوا مننا، واتّخذوا أيادي ذخيرة لمن بعدهم: كانوا يرون اصطناع المعروف عليهم فرضا، وإظهار البرّ حقّا واجبا، ثم حال الزمان بنشء اتخذوا مننهم صناعة، وبرّهم مرابحة، وأياديهم تجارة واصطناع المعروف مقارضة كنقد السّوق خذ منّي وهات.
قال العتبيّ: وقع ميراث بين ناس من آل أبي سفيان وبني مروان، فتشاحّوا «3» فيه، فلما انصرفوا أقبل عمرو بن عتبة على ولده، فقال لهم: إن لقريش درجا تزلق «4» عنها أقدام الرجال، وأفعالا تخشع لها رقاب الأموال، وألسنا تكل معها الشّفار «5» المشحوذة، وغايات تقصر عنها الجياد المنسوبة؛(3/203)
ولو كانت الدنيا لهم ضاقت عن سعة أحلامهم، ولو احتفلت ما تزيّنت إلا بهم. ثم إنّ ناسا منهم تخلّقوا بأخلاق العوامّ، فصار لهم رفق باللؤم وخرق «1» في الحرص، لو أمكنهم قاسموا الطير أرزاقها، إن خافوا مكروها تعجّلوا له الفقر، وإن عجّلت لهم نعمة أخّروا عليها الشكر، أولئك أنضاء «2» فكر الفقر وعجزة حملة الشكر.
قال بعض الحجازيّين: [متقارب]
فلو كنت تطلب شأو الكرام ... فعلت كفعل أبي البختري «3»
تتّبع إخوانه في البلاد ... فأغنى المقلّ عن المكبثر
القناعة والاستعفاف
حدّثني شيخ لنا عن وكيع عن ابن أبي ذئب عن محمد بن قيس عن عبد الرحمن ابن يزيد عن ثوبان «4» قال: قال رسول الله صلّى الله عليه وسلّم: من يتقبّل لي بواحدة وأتقبّل له بالجنة فقال ثوبان: أنا يا رسول الله، قال: لا تسأل الناس شيئا فكان ثوبان إذا سقط سوطه من يده نزل فأخذه ولم يسأل أحدا أن يناوله إياه.
وحدّثني أيضا عن عبد الرحمن المحاربيّ عن الأعمش عن مجاهد قال:
قال عمر رضي الله عنه: ليس من عبد إلا وبينه وبين رزقه حجاب، فإن اقتصد أتاه رزقه وإن اقتحم هتك الحجاب ولم يزد في رزقه.(3/204)
وحدّثني أيضا عن وكيع عن سفيان عن أسامة بن زيد عن أبي معن الإسكندرانيّ قال: قال رسول الله صلّى الله عليه وسلّم: «إنّ الصّفا الزّلّال «1» الذي لا تثبت عليه أقدام العلماء الطمع» . وقال عليه السلام: «إن روح القدس نفث في روعي «2» أنّ نفسا لن تموت حتى تستكمل رزقها فاتقوا الله وأجملوا «3» في الطلب» .
قال ابن حازم: [بسيط]
للنّاس مال ولي مالان ما لهما ... إذا تحارس أهل المال أحراس
ما لي الرضا بالذي أصبحت أملكه ... وما لي اليأس ممّا يملك الناس
أخذ هذا من قول أبي حازم المدنيّ، وقال له بعض الملوك: ما مالك؟
قال: الرضا عن الله، والغنى عن الناس.
وقال بشّار بن بشر «4» : [طويل]
وإنّي لعفّ عن فكاهة جارتي ... وإني لمشنوء إليّ اغتيابها «5»
إذا غاب عنها بعلها لم أكن لها ... زءورا ولم تأنس إليّ كلابها «6»
ولم أك طلّابا أحاديث سرّها ... ولا عالما من أيّ حوك ثيابها
وإنّ قراب البطن يكفيك ملؤه ... ويكفيك سوءآت الأمور اجتنابها
إذا سدّ باب عنك من دون حاجة ... فذرها لأخرى ليّن لك بابها
وقال ابن أبي حازم: [مخلع البسيط](3/205)
أوجع من وخزة السّنان ... لذي الحجا وخزة اللسان «1»
فاسترزق الله واستعنه ... فإنه خير مستعان
وإن نبا منزل بحرّ ... فمن مكان إلى مكان «2»
لا يثبت الحرّ في مكان ... ينسب فيه إلى الهوان
الحرّ حرّ وإن تعدّت ... عليه يوما يد الزّمان
حدّثني محمد بن داود عن جابر بن عثمان الحنفيّ عن يوسف بن عطية قال حدّثني المعلّى بن زياد القردوسي: أن عامر بن عبد قيس العنبريّ كان يقول: أربع آيات من كتاب الله إذا قرأتهنّ مساء لم أبال على ما أمسي، وإذا تلوتهنّ صباحا لم أبال على ما أصبح: ما يَفْتَحِ اللَّهُ لِلنَّاسِ مِنْ رَحْمَةٍ فَلا مُمْسِكَ لَها وَما يُمْسِكْ فَلا مُرْسِلَ لَهُ مِنْ بَعْدِهِ
«3» . وَإِنْ يُرِدْكَ بِخَيْرٍ فَلا رَادَّ لِفَضْلِهِ يُصِيبُ بِهِ مَنْ يَشاءُ مِنْ عِبادِهِ
«4» . وَما مِنْ دَابَّةٍ فِي الْأَرْضِ إِلَّا عَلَى اللَّهِ رِزْقُها
«5» . سَيَجْعَلُ اللَّهُ بَعْدَ عُسْرٍ يُسْراً
«6» .
حدّثني عبد الرحمن عن بشر بن مصلح قال قال إبراهيم بن أدهم «7» : لا تجعل بينك وبين الله منعما عليك، وعدّ النّعم منه عليك مغرما «8» .
حدّثني الرّياشيّ عن الأصمعيّ قال: أبرع بيت قالته العرب بيت أبى(3/206)
ذؤيب الهذليّ «1» : [كامل]
والنّفس راغبة إذا رغّبتها ... وإذا تردّ إلى قليل تقنع
قال أبو حاتم عن الأصمعيّ قال حدّثنا أبو عمرو الصّفّار عن الحجاج بن الأسود قال: احتاجت عجوز من العجز القدم، قال: فجزعت إلى المسألة، ولو صبرت لكان خيرا لها. ولقد بلغني أن الإنسان يسأل فيمنع، ويسأل فيمنع، والصّبر منتبذ ناحية يقول: لو صرت إليّ لكفيتك.
وكان يقال: أنت أخو العزّ ما التحفت القناعة، ويقال: اليأس حرّ والرّجاء عبد.
وقال بعض المفسّرين في قول الله عزّ وجلّ: فَلَنُحْيِيَنَّهُ حَياةً طَيِّبَةً
«2» قال: بالقناعة.
وقال سعد بن أبي وقّاص لابنه عمر: يا بنيّ إذا طلبت الغنى فاطلبه بالقناعة، فإن لم تكن لك قناعة فليس يغنيك مال.
وقال عروة بن أذينة «3» : [بسيط] لقد علمت- وما الإسراف في طمع-* أنّ الذي هو رزقي سوف يأتيني
أسعى له فيعنّيني تطلّبه ... ولو قعدت أتاني لا يعنّيني «4»
وقال أبو العتاهية: [رجز]
إن كان لا يغنيك ما يكفيكا ... فكلّ ما في الأرض لا يغنيكا(3/207)
وقال بعضهم: الغنى والفقر يجولان في طلب القناعة فإذا وجداها قطناها «1» .
حجّت أعرابية على ناقة لها، فقيل لها: أين زادك؛ قلت: ما معي إلا ما في ضرعها. وقال الشاعر: [كامل]
يا روح من حسمت قناعته ... سبب المطامع من غد وغد
من لم يكن لله متّهما ... لم يمس محتاجا إلى أحد
وقال أردشير: خير الشّيم القناعة، ونماء العقل بالتعلّم.
وقال النّمر بن تولب: [كامل]
ومتى تصبك خصاصة فارج الغنى ... وإلى الذي يهب الرّغائب فارغب
لا تغضبنّ على امرىء في ماله ... وعلى كرائم صلب مالك فاغضب «2»
وقال أبو الأسود: [طويل]
ولا تطمعن في مال جار لقربه ... فكلّ قريب لا ينال بعيد
وقال كعب بن زهير «3» . [بسيط]
قد يعوز الحازم المحمود نيّته ... بعد الثّراء ويثري العاجز الحمق
فلا تخافي علينا الفقر وانتظري ... فضل الذي بالغنى من فضله نثق
وشكا رجل إلى قوم ضيقا فقال له بعضهم: شكوت من يرحمك إلى من لا يرحمك.(3/208)
وقال هشام بن عبد الملك لسالم بن عبد الله ودخلا الكعبة: سلني حاجتك، قال: أكره أن أسأل في بيت الله غير الله. ورأى رجلا يسأل في الموقف فقال: أفي مثل هذا الموضع تسأل غير الله عز وجلّ!.
وقال ابن المعذّل «1» : [طويل]
تكلّفني إذلال نفسي لعزّها ... وهان عليها أن أهان لتكرما
تقول سل المعروف يحيى بن أكثم ... فقلت سليه ربّ يحيى بن أكثما «2»
وقال ابن عباس: المساكين لا يعودون مريضا ولا يشهدون جنازة، وإذا سأل الناس الله سألوا الناس.
وكان الحسن يطرد السّؤّال يوم الجمعة، ولا يرى لهم جمعة.
وقال بعض الشعراء: [بسيط]
حبّ الرياسة داء لا دواء له ... وقلّ ما تجد الراضين بالقسم»
وقال محمود الورّاق: [كامل]
شاد الملوك قصورهم وتحصّنوا ... عن كلّ طالب حاجة أو راغب
غالوا بأبواب الحديد لعزّها ... وتنوّقوا في قبح وجه الحاجب «4»
وإذا تلطّف للدّخول إليهم ... راج تلقّوه بوعد كاذب
فارغب إلى ملك الملوك ولا تكن ... يا ذا الضّراعة طالبا من طالب(3/209)
وجد على ميل «1» في طريق مكّة: [هزج]
ألا يا طالب الدّنيا ... دع الدنيا لشانيكا
إلى كم تطلب الدنيا ... وظلّ الميل يكفيكا «2»
قال مطرّف بن عبد الله لابن أخيه: إذا كانت لك إليّ حاجة فاكتب بها رقعة فإني أضنّ بوجهك عن ذلّ السؤال.
وقال أبو الأسود:
وإنّ أحقّ الناس إن كنت مادحا ... بمدحك من أعطاك والوجه وافر «3»
وكان معاوية يتمثّل بهذين البيتين: [مجزوء الكامل المرفّل]
وفتى خلا من ماله ... ومن المروءة غير خالي
أعطاك قبل سؤاله ... فكفاك مكروه السؤال
وقال آخر: [طويل]
أبا مالك لا تسأل الناس والتمس ... بكفّيك سيب الله فالله أوسع «4»
فلو تسأل الناس التراب لأوشكوا ... إذا قلت هاتوا أن يميلوا فيمنعوا
والمشهور في هذا قول عبيد «5» : [مخلع البسيط]
من يسأل الناس يحرموه ... وسائل الله لا يخيب
قال سليمان لأبي حازم: سل حوائجك؛ فقال: قد رفعتها إلى من لا(3/210)
تخذل الحوائج دونه.
قال بعض المفسّرين في قول الله عزّ وجلّ: وَهُوَ خَيْرُ الرَّازِقِينَ
«1» أي المخلوق يرزق فإذا سخط قطع رزقه، والله عزّ وجل يسخط ولا يقطع.
وقال الشاعر: [بسيط]
لا تضرعنّ لمخلوق على طمع ... فإنّ ذلك وهن منك بالدّين «2»
واسترزق الله رزقا من خزائنه ... فإنّما هو بين الكاف والنون «3»
وقال الخليل بن أحمد «4» : [بسيط]
أبلغ سليمان أنّي عنه في سعة ... وفي غنى غير أنى لست ذا مال «5»
شحّا بنفسي، إنّي لا أرى أحدا ... يموت هزلا ولا يبقى على حال «6»
فالرزق عن قدر لا الضّعف يمنعه ... ولا يزيدك فيه حول محتال «7»
وقال المعلوط: [طويل]
متى ما ير الناس الغنيّ وجاره ... فقير يقولوا عاجز وجليد «8»
وليس الغنى والفقر من حيلة الفتى ... ولكن حظوظ قسّمت وجدود «9»
وقال آخر: [طويل](3/211)
يخيب الفتى من حيث يرزق غيره ... ويعطى الفتى من حيث يحرم صاحبه
وقال أبو الأسود «1» : [منسرح]
ليتك آذنتني بواحدة ... تجعلها منك سائر الأبد
تحلف ألّا تبرّني أبدا ... فإنّ فيها بردا على كبدي
إن كان رزقي إليك فارم به ... في ناظري حيّة على رصد «2»
وقال عمر بن الخطّاب رضي الله عنه: حرفة يقال فيها خير من مسألة الناس.
وقال سعيد بن العاص: موطنان لا أستحيي من العيّ «3» فيهما: عند مخاطبتي جاهلا، وعند مسألتي حاجة لنفسي.
حدّثني محمد بن عبيد عن أبي عبد الله عن محمد بن عبد الله بن واصل قال: جاء رجل إلى شريح يستقرض دراهم؛ فقال له شريح: حاجتك عندنا فأت منزلك فإنّها ستأتيك، إنّي لأكره أن يلحقك ذلّها.
حدّثني الرّياشيّ عن الأصمعيّ عن حكيم بن قيس بن عاصم عن أبيه أنه أوصى بنيه عند موته فقال: إيّاكم والمسألة، فإنها آخر كسب الرجل.
وقال بعض المحدثين: [طويل]
عوّدت نفسي الضّيق حتى ألفته ... وأحرجني حسن العزاء إلى الصّبر
ووسّع قلبي للأذى الأنس بالأذى ... وقد كنت أحيانا يضيق به صدري
وصيّرني يأسي من الناس راجيا ... لسرعة لطف الله من حيث لا أدري(3/212)
وقال آخر: [مجزوء الرجز]
حسبي بعلمي لو نفع ... ما الذّلّ إلّا في الطّمع
من راقب الله نزع ... عن قبح ما كان صنع «1»
ما طار شيء فارتفع ... إلّا كما طار وقع
الحرص والإلحاح
لما قتل كسرى بزرجمهر وجد في منطقته كتابا: إذا كان القدر حقّا فالحرص باطل، وإذا كان الغدر في الناس طباعا فالثّقة بكلّ أحد عجز، وإذا كان الموت لكل أحد راصدا فالطمأنينة إلى الدنيا حمق.
وقال بعض الشعراء: [كامل]
من عفّ خفّ على الصّديق لقاؤه ... وأخو الحوائج وجهه مملول
وفي كتاب للهند: لا يكثر الرجل على أخيه الحوائج؛ فإنّ العجل إذا أفرط في مصّ أمه نطحته ونحّته.
وقال عديّ بن زيد: [سريع]
قد يدرك المبطىء من حظّه ... والرزق قد يسبق جهد الحريص
وقال ابن المقفّع: الحرص محرمة، والجبن مقتلة، فانظر فيما رأيت وسمعت أمن قتل في الحرب مقبلا أكثر أم من قتل مدبرا، وانظر من يطلب إليك بالإجمال والتكرم أحقّ أن تسخو نفسك له بالعطيّة أم من يطلب ذلك(3/213)
بالشّره «1» والحرص.
وقال الشاعر: [بسيط]
كم من حريص على شيء ليدركه ... وعلّ إدراكه يدني إلى عطبه «2»
وقال آخر: [متقارب]
وربّ ملحّ على بغية ... وفيها منيّته لو شعر «3»
والعرب تقول في الرجل الملحّ في الحوائج الذي لا تنقضي له حاجة إلا سأل أخرى: [بسيط]
لا يرسل السّاق إلّا ممسكا ساقا
وأصل المثل في الحرباء، إذا اشتدّ عليه حرّ الشمس لجأ إلى شجرة ثم توقّى في أغصانها، فلا يرسل غصنا حتّى يقبض على آخر.
وقال الشاعر: [بسيط]
أنّى أتيح له حرباء تنضبة ... لا يرسل الساق إلّا ممسكا ساقا «4»
وفي كتاب كليلة: لا فقر ولا بلاء كالحرص والشّره، ولا غنى كالرّضا والقناعة، ولا عقل كالتّدبير، ولا ورع كالكفّ، ولا حسب كحسن الخلق.
قال ابن المقفع: الحرص والحسد بكرا الذنوب «5» وأصل المهالك؛ أمّا الحسد فأهلك إبليس، وأما الحرص فأخرج آدم من الجنّة.(3/214)
وفي كتاب كليلة: خمسة حرصاء، المال أحبّ إليهم من أنفسهم:
المقاتل بالأجرة، وحفّار القنيّ «1» والأسراب، والتّاجر يركب البحر، والحاوي يلسع يده الحيّة، والمخاطر على شرب السمّ.
دخل مالك بن دينار على رجل محبوس قد أخذ بمال عليه وقيّد، فقال له: يا أبا يحيى، أما ترى ما نحن فيه من هذه القيود! فرفع مالك رأسه فرأى سلّة، فقال: لمن هذه؟ قال: لي، قال: فأمر بها أن تنزل، فأنزلت فوضعت بين يديه، فإذا دجاج وأخبصة «2» ، فقال مالك: هذه وضعت القيود في رجلك.
كان أشعب يقول: أنا أطمع وأمّي تيقن «3» فقلّ ما يفوتنا.
وقال النابغة «4» : [كامل]
واليأس عمّا فات يعقب راحة ... ولربّ مطعمة تعود ذباحا «5»
وقال أبو عليّ الضرير: [وافر]
فإنّي قد بلوتكم جميعا ... فما منكم على شكري حريص
وأرخصت الثّناء فعفتموه ... وربّتما غلا الشيء الرّخيص
فعفت نوالكم ورغبت عنه ... وشرّ الزاد ما عاف الخصيص «6»
وقال أعرابيّ: [خفيف]
أيّها الدّائب الحريص المعنّى ... لك رزق وسوف تستوفيه(3/215)
قبح الله نائلا ترتجيه ... من يدي من تريد أن تقتضيه
إنّما الجود والسّماح لمن يع ... طيك عفوا وماء وجهك فيه «1»
لا ينال الحريص شيئا فيكفي ... هـ وإن كان فوق ما يكفيه
فسل الله وحده ودع النا ... س وأسخطهم بما يرضيه
لا ترى معطيا لما منع الل ... هـ ولا مانعا لما يعطيه
وجد بالأصل بآخر هذا الجزء ما يأتي:
آخر كتاب الحوائج، وهو الكتاب الثامن من عيون الأخبار لابن قتيبة رحمة الله عليه. وكتبه الفقير إلى رحمة الله تعالى إبراهيم بن عمر بن محمد ابن عليّ الواعظ الجزريّ وذلك في شهور سنة أربع وتسعين وخمسمائة.
والحمد لله ربّ العالمين، وصلاته وسلامه على سيّدنا محمد النبيّ وآله أجمعين. ويتلوه الكتاب التاسع وهو كتاب الطعام، والله الموفّق للصّواب.
وفيه كذلك- وهو من زيادات النسّاخ-:
في الاستعفاف: [سريع]
عليك باليأس من الناس ... إنّ غنى نفسك في اليأس
كم صاحب قد كان لي وامقا ... إذ كان في حالة إفلاس»
أقول لو قد نال هذا الغنى ... صيّرني منه على الرّاس
حتى إذا ما صار فيما اشتهي ... وعدّه النّاس من النّاس
قطّع بالصدّ حبال الصّفا ... منّي ولمّا يرض بالقاسي «3»
وقال آخر وقد أحسن «4» : [مجزوء الرّمل](3/216)
إنّ للمعروف أهلا ... وقليل فاعلوه
أهنأ المعروف ما لم ... تبتذل فيه الوجوه
أنت ما استغنيت عن صا ... حبك الدّهر أخوه
فإذا احتجت إليه ... ساعة مجّك فوه
إنما يعرف الفض ... ل من الناس ذووه
لو رأى الناس نبيّا ... سائلا ما وصلوه
وكتب أبو العيناء «1» إلى أبي القاسم بن عبيد الله بن سليمان رقعة يقول فيها: أنا- أعزّك الله- وولدي وعيالي زرع من زرعك، إن سقيته راع «2» وزكا، وإن جفوته ذبل وذوى. وقد مسّني منك جفاء بعد برّ وإغفال بعد تعهّد، فشمت عدوّ، وتكلّم حاسد، ولعبت بي ظنون؛ وانتزاع العادة شديد. ثم كتب في آخرها: [رمل]
لا تهنّي بعد إكرامك لي ... فشديد عادة منتزعه
وقال آخر: [بسيط]
ما لي معاش سوى ضدّ المعاش فلا ... أغدو إلى عمل إلّا بلا أمل
وليس لي شغل يجدي عليّ إذا ... فكرت فيه وما أنفكّ من شغل
كلّ امرىء رائح غاد إلى عمل ... وما أروح ولا أغدو إلى عمل
ولست في الناس موجودا كبعضهم ... وإنّما أنا بعض الناس في المثل
وقال آخر: [سريع]
المرء بعد الموت أحدوثة ... يفنى وتبقى منه آثاره(3/217)
يطويه من أيّامه ما طوى ... لكنّه تنشر أسراره
وأحسن الحالات حال امرىء ... تطيب بعد الموت أخباره
يفنى ويبقى ذكره بعده ... إذا خلت من شخصه داره
وقال حبيب الطائي: [بسيط]
وما ابن آدم إلّا ذكر صالحة ... أو ذكر سيّئة يسري بها الكلم
أما سمعت بدهر باد أمّته ... جاءت بأخبارها من بعدها أمم
في البخل: [متقارب]
طرقت أناسا على غرّة ... فذقت من العيش جهد البلاء «1»
فأمّا القديد وأشباهه ... فذاك مفاتيحه في السماء «2»
وأما السّويق ففي عيبة ... يشمّ ويدعى له بالبقاء «3»
ومن حاول الخبز قالوا له ... أتذكر شيئا خبي للدّواء «4»(3/218)
كتاب الطعام
صنوف الأطعمة
قال أبو محمد عبد الله بن مسلم بن قتيبة الدّينوريّ رحمة الله عليه: قال عمر بن الخطاب رضي الله عنه للأحنف: أيّ الطعام أحبّ إليك؟ قال: الزّبد والكماة «1» ؛ فقال عمر: ما هما بأحبّ الأطعمة إليه، ولكنه يحبّ الخصب للمسلمين.
قال الأصمعيّ: قال رجل في مجلس الأحنف: ليس شيء أبغض إليّ من التمر والزّبد: فقال الأحنف: ربّ ملوم لا ذنب له.
عن أبي عمرو بن العلاء قال: قال الحجّاج لجلسائه: ليكتب كلّ رجل في رقعة أحبّ الطعام إليه ويجعلها تحت مصلّاى؛ فإذا في الرّقاع كلّها الزّبد والتمر.
عن الأصمعيّ قال قال مدنيّ: الكبادات «2» أربع: العصيدة «3» والهريسة والحيسة «4» والسّميذة «5» .(3/219)
عن الأصمعيّ عن حزم قال: قال مالك بن حقبة لحسّان بن الفريعة: ما تزوّدت إلينا؟ قال: الحيس؛ قال: ثلاثة أسقية في وعاء.
قال الأصمعيّ: قال بعض الأعراب: أشتهي ثريدة «1» دكناء من الفلفل، رقطاء «2» ، من الحمّص، ذات حفافين «3» من اللحم، لها جناحان من العراق «4» ، أضرب فيها ضرب وليّ السّوء في مال اليتيم.
وقال ابن الأعرابيّ: يقال: أطيب اللحم عوّذه، أي أطيبه ما ولي العظم، كأنه عاذ به.
عن أبي عبيدة قال: مرّ الفرزدق بيحيى بن الحصين بن المنذر الرّقاشيّ، فقال له: هل لك يا أبا فراس في جدي سمين ونبيذ زبيب جيّد؟
فقال الفرزدق: وهل يأبى هذا إلا ابن المراغة «5» ! يعني جريرا.
وقال الأحوص «6» لجرير: ما تحبّ أن يعدّلك؟ قال: شواء وطلاء «7» وغناء؛ قال: قد أعدّت لك.
وقال مدني لصديق له: والله أشتهي كشكيّة «8» ، ومدّ بها صوته فخرجت(3/220)
منه ريح؛ فقال له: ما أسرع ما لفحتك يابن عمّ.
وعن الأصمعيّ قال: قال شيخ من أهل المدينة: أتيت فلانا فأتاني بمرقة كان فيها مسقّى «1» ، فلم أر فيها إلا كبدا طافية، فغمست يدي فوجدت مضغة «2» ، فمددتها فلامتدّت حتى كأني أزمر في ناي.
أدخل أعرابيّ على كسرى ليتعجّب من جفائه وجهله؛ فقال له: أيّ شيء أطيب لحما؟ قال: الجمل. قال: فأيّ شيء أبعد صوتا؟ قال: الجمل.
قال: فأيّ شيء أنهض بالحمل الثقيل؟ قال: الجمل. قال كسرى: كيف يكون لحم الجمل أطيب من البطّ والدّجاج والفراخ والدّرّاج «3» والجداء؟ قال:
يطبخ لحم الجمل بماء وملح، ويطبخ ما ذكرت بماء وملح حتى يعرف فضل ما بين الطعمين. قال: كيف يكون الجمل أبعد صوتا ونحن نسمع الصوت من الكركيّ «4» من كذا وكذا ميلا؟ قال الأعرابيّ: ضع الكركيّ في مكان الجمل وضع الجمل في مكان الكركيّ حتّى تعرف أيّهما أبعد صوتا. قال كسرى: كيف تزعم أنّ الجمل أحمل للحمل الثقيل والفيل يحمل كذا وكذا رطلا؟ قال: ليبرك الفيل ويبرك الجمل وليحمل على الفيل حمل الجمل، فإن نهض به فهو أحمل للأثقال.
عن جعفر بن سليمان قال: شيئان لا يزيدهما كثرة النفقة طيبا: الطّيب والقدر، ولكن تطيّبهما إصابة القدر.
وفيما أجاز لنا عمرو بن بحر الجاحظ من كتبه «5» قال: كان أبو عبد(3/221)
الرحمن الثوريّ يعجب بالرءوس ويصفها ويسمّي الرأس عرسا لما تجمّع فيه من الألوان الطيّبة وكان يسميه مرّة الجامع ومرّة الكامل، ويقول: الرأس شيء واحد وهو ذو ألوان عجيبة وطعوم مختلفة، وكلّ قدر وكلّ شواء فإنما هو شيء واحد، والرأس فيه الدّماغ وطعمه مفرد، والعينان وطعمهما مفرد وفيه الشحمة التي بين أصل الأذن ومؤخر العين وطعمها على حدة، على أنه هذه الشّحمة خاصّة أطيب من المخّ وأنعم من الزّبد وأدسم من السّلاء «1» ، ثم يعدّ أسقاطه «2» كلها. ويقول: الرأس سيّد البدن، وفيه الدّماغ وهو معدن العقل، ومنه يتفرّق العصب الذي فيه الحس، وبه قوام البدن، وإنما القلب باب العقل؛ كما أنّ النفس هي المدركة والعين هي باب الألوان، والنفس هي السامعة الذائقة وإنما الأنف والأذن بابان. ولولا أنّ العقل في الرأس لما ذهب العقل من الضربة تصيبه؛ وفي الرأس الحواسّ الخمس. وكان ينشد:
همو ضربوا رأسي وفي الرأس أكثري ... وغودر عند الملتقى ثمّ سائري «3»
وكان لا يشتري الرأس إلا في زيادة الشهر لمكان زيادة الدماغ، ولا يشتريه إلا يوم السبت لأن الرءوس يوم السبت أكسد، للفضلات التي تبقى في منازل التجار عن يوم الجمعة. وكان إذا فرغ من غدائه يوم الرأس، عمد إلى القحف «4» والى اللّحيين «5» فوضعه قرب بيوت النمل والذرّ، فإذا اجتمعن عليه أخذه ونفضه في طست فيه ماء، ولا يزال يعيد ذلك على تلك المواضع حتى(3/222)
يقلع النمل والذرّ من داره، فإذا فرغ من ذلك ألقاه من الحطب فاستوقده في التّنّور.
الأصمعيّ قال: قال أبو صوّارة أو ابن دقّة: الأرز الأبيض بالسّمن المسليّ بالسكر الطّبرزد»
، ليس من طعام أهل الدنيا.
قال: وقال أبو صوّارة أو ابن دقّة: أطول الليالي ثلاث: ليلة العقرب، وليلة الهريسة، وليلة جدّة إلى مكة.
الأصمعيّ عن جعفر بن سليمان قال: قال أبو كامل مولي عليّ رضي الله عنه: أطعموني حفنة زبد ثم اختموا سراويلي ثلاثا.
وقال رجل للثّوريّ في الحديث: إن الله يبغض البيت اللّحم؛ فقال:
ليس هو الذي يؤكل فيه اللحم، وإنما هو الذي يؤكل فيه لحوم الناس.
عن أبي الصّدّيق «2» الناجي عن النبيّ صلّى الله عليه وسلّم أنه قال: «خير تمراتكم البرني «3» يذهب بالداء ولا داء فيه» .
وعن ابن عمر عن عمر أنه قال: يا غلام أنضج العصيدة تذهب حرارة الزيت.
وعن عائشة قالت: قال رسول الله صلّى الله عليه وسلّم: «بيت ليس فيه تمر جياع أهله» .
شيخ من أهل البادية قال: أضافنا فلان فأتانا بحنطة كأنها مناقير الغربان، وتمر كأنه أعناق الوزّ يوحل «4» فيه الضّرس.(3/223)
الأصمعيّ قال: قال أعرابيّ: تمرنا جرد «1» فطس «2» يغيب فيه الضّرس، كأن نواه ألسن الطير، تضع التمرة في فيك فتجد حلاوتها في كعبيك.
الأصمعيّ عن أبيه قال: أسر رجل رجلين في الجاهلية فخيّرهما بم بعشّيهما، فاختار أحدهما اللحم واختار الآخر التمر، فعشّيا وألقيا في الفناء وذلك في شتاء شديد، فأصبح صاحب اللحم خامدا وأصبح صاحب التمر تزرّ «3» عيناه.
وقال غير الأصمعيّ: قيل لأعرابيّ: ما رأيك في أكل الجرّيّ «4» ؟ قال:
تمرة نرسيانة «5» غرّاء الطّرف صفراء السائر عليها مثلها زبدا أحبّ إليّ منها، ثم أدركه الورع فقال: وما أحرّمهما.
وقال بعض الأعراب: [طويل]
ألا ليت لي خبزا تسربل رائبا ... وخيلا من البرنيّ فرسانها الزّبد «6»
قال: ورأى أعرابيّ دقيقا وتمرا فاشترى التمر؛ قيل له: كيف وسعر الدقيق والتمر واحد! قال: إنّ في التمر أدمه «7» وزيادة حلاوة.
عن زياد النّميريّ قال: قالت عائشة: من أكل التمر وترا «8» لم يضرّه.(3/224)
الأصمعيّ قال: حدّثني شيخ عالم قال: أطيب التمر صيحانيّة «1» مصلّبة.
الأصمعي قال: حدثني رجل من آل حزم قال: كان يقال: من خلا «2» على التمر فالعجوة، ومن أكله على ثقل فالصّيحاني.
الأصمعيّ قال: قال أعرابيّ يفضّل الرّطب على العسل: أتجعل عسلة في أخثاء «3» البقر كعسلة في جوّ السماء لها محارس من جريد «4» وذوائب «5» من زمرّد!.
وقال الأصمعيّ: قيل لابن القدّاح: التمر أطيب؟ فدعا بأنواع التمر، فلمّا أكلوا قال: انظروا أيّ النوى أكثر؟ قالوا: نوى الصيحانيّ، قال: هو أطيب.
وقال الأصمعيّ: العرب تقول للبخيل الأكول: أبرما قرونا «6» أي لا يخرج مع أصحابه شيئا ويأكل تمرتين تمرتين.
وقال النابغة يصف تمرا: [طويل]
صغار النوى مكنوزة ليس قشرها ... إذا طار قشر التمر عنها بطائر
سمع الحسن رجلا يعيب الفالوذج «7» فقال: فتاب البرّ بلعاب النحل(3/225)
بخالص السّمن! ما عاب هذا مسلم. وقال لفرقد السّبخيّ: يا أبا يعقوب، بلغني أنك لا تأكل الفالوذج؛ فقال: يا أبا سعيد، أخاف ألّا أؤدّي شكره؛ فقال: يا لكع «1» ! وهل تؤدّي شكر الماء البارد «2» في الصيف والحارّ في الشتاء! أما سمعت قول الله تعالى: يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا كُلُوا مِنْ طَيِّباتِ ما رَزَقْناكُمْ
«3» .
الأصمعيّ قال: اختصم روميّ وفارسيّ في الطعام، فحكّما بينهما شيخا قد أكل طعام الخلفاء، فقال: أمّا الروميّ فذهب بالحشو والأحشاء، وأما الفارسيّ فذهب بالبارد والحلواء.
وعن الأصمعيّ قال: كنا عند الرشيد فقدّمت إليه فالوذجة، فقال: يا أصمعيّ حدّثنا بحديث مزرّد، فقلت: إنّ مزرّدا أخا الشمّاخ «4» كان غلاما جشعا وكانت أمّه تؤثر عيالها بالطعام عليه وكان ذلك يحفظه «5» ، فخرجت أمّه ذات يوم تزور بعض أهلها، فدخل مزرّد الخيمة وعمد إلى صاعي دقيق وصاع من تمر وصاع من سمن فجمعه ثم جعل يأكله وهو يقول: [طويل]
ولمّا غدت أمّي تمير بناتها ... أغرت على العكم الذي كان يمنع «6»(3/226)
لبكت بصاعي حنطة صاع عجوة ... إلى صاع سمن فوقه يتربّع «1»
ودبّلت أمثال الأثافي كأنها ... رءوس نقاد قطّعت يوم تجمع «2»
وقلت لبطني أبشر اليوم إنّه ... حمى أمّنا ممّا تحوز وترفع
فإن كنت مصفورا فهذا دواؤه ... وإن كنت غرثانا فذا يوم تشبع «3»
فضحك الرشيد حتى استلقى على ظهره، ثم قال: كلوا باسم الله، هذا يوم تشبع (يا أصمعىّ) «4» .
قال: وكتب الحجاج إلى عامله بفارس: ابعث إليّ عسلا من عسل خلّار «5» ، من النّحل الأبكار، من الدّستفشار «6» ، الذي لم تمسّه النار.
وقال الأصمعيّ: كتب بعض الخلفاء إلى عامله بالطائف: أن أرسل إليّ بعسل أخضر في سقاء، أبيض في الإناء، من عسل النّدغ «7» والسّحاء «8» ، من حداب بني شبابة «9» .
والعرب تصف العسل بالبرودة.
وفي حديث ابن عباس أنّ النبيّ صلّى الله عليه وسلّم سئل عن أفضل الشراب قال:
«الحلواء البارد يعني العسل» . وقال الأعشى: [هزج]
كما شيب بماء با ... رد من عسل النحل «10»(3/227)
ويقال: أجود العسل الذهبيّ الذي قطرت منه قطرة على وجه الأرض أستدار كما يستدير الزئبق ولم ينفش ولم يختلط بالأرض والتراب.
والروم تقول: أجوده ما يلطخ على فتيلة ثم تشعل فيه النار فيعلق.
وسئل ديمقراطيس العالم عما يزيد في العمر فقال: من أدام أكل العسل ودهن جسمه به زاد الله بذلك في عمره.
والعسل إن جعل فيه اللحم الطريّ بقي كهيئته حتى لا ينتن. ويقال:
من كان به داء قديم فليأخذ درهما حلالا وليشتر به عسلا ثم يشربه بماء سواء فإنه يبرأ بإذن الله تعالى. وكان الحسن يعجبه إذا استمشى «1» الرجل أن يشرب اللبن والعسل.
ويزعم أصحاب الطبائع أن العسل إذا ديف «2» بالماء وخلط معه زيت أو دهن سمسم نافع لمن شرب السّموم والأدوية القاتلة يتقيّأ به.
ميمون بن مهران عن ابن عبّاس قال- ولا أعلمه إلّا عن النبيّ صلّى الله عليه وسلم- أنه قال: «أكرموا الخبز فإنّ الله سخّر له السموات والأرض» .
الأصمعيّ قال: كانت امرأة من بكر بن وائل تنزل الطّفاوة «3» وكانت قد أدركت بعض أصحاب النبيّ صلّى الله عليه وسلم، وكان العبّاد يغشونها في منزلها؛ فعاب عائب عندها السّويق، فقالت: لا تفعل! إنه طعام المسافر، وطعام العجلان «4» ، وغذاء المبكّر، وبلغة المريض «5» ، ويشدّ فؤاد الحزين، ويردّ من(3/228)
نفس الضّعيف؛ وهو جيّد في التّسمين ونقاوة البلغم، ومسمونه «1» يصفّي الدم، إن شئت كان ثريدا، وإن شئت كان خبيصا، وإن شئت كان خبزا.
وكان غسّان بن عبد الحميد كاتب سليمان بن عليّ يقول لجاريته:
خوّضي «2» لنا سيوقا فأخثريه «3» ، فإنّ الرجل لا يستحي أن يزداد ماء فيرقّقه، ويستحي أن يزداد سويقا فيخثره به.
مرّ عبد الله بن معاوية بن عبد الله بن جعفر بعبد الحميد بن علّي وهو في مزرعته وقد عطش، فاستسقاه فخاض له سويق لوز فسقاه إياه؛ فقال عبد الله: [وافر]
شربت طبرزذا «4» بغريض مزن ... ولكنّ الملاح بكم عذاب
وما هو بالطّبرزذ طاب لكن ... بمسّك إنّه طاب الشراب
وأنت إذا وطئت تراب أرض ... يطيب إذا مشيت به التراب
لأن نداك ينفي المحل عنها ... وتحييها أياديك الرّطاب
وقال الحسن: لا تسقوا نساءكم السّويق، فإن كنتم لا بدّ فاعلين فاحفظوهنّ.
وقال الرّقاشيّ: السّمنة للنّساء غلمة «5» وهي للرجال غفلة.
عن ابن عمر قال: قال رسول الله صلّى الله عليه وسلم: «ثلاثة لا تردّ: اللّبن والسّواك «6» .(3/229)
والدّهن» .
الرّياشيّ قال: سمعت أبا يزيد يقول: رأيت رجلا كأنّ أسنانه الذّهب لشربه اللّبن حارا.
الأصمعيّ عن ذي الرّمّة أنه قال: إذا قلت للرّجل: أيّ اللّبن أطيب؟
فإن قال: قارص «1» ، فقل: عبد من أنت «2» ؟ وإن قال: الحليب، فقل: ابن من أنت؟.
مرّ رجل من قريش بامرأة من العرب في بادية، فقال: هل من لبن يباع؟ فقالت: إنك لئيم أو قريب عهد بقوم لئام وكان يقال: اللبن أحد اللّحمين.
وقال بعض المدنيين: من تصبّح «3» بسبع موزات وبقدح من لبن إبل أوارك «4» تجشّأ «5» بخور الكعبة.
وقف معاوية على امرأة فقال: هل من قرى؟ فقالت: نعم، قال: وما هو؟ قالت: خبز خمير ولبن فطير «6» وماء نمير «7» ، والعرب تقول: إنّ الرّثيئة تفثأ الغضب. والرّثيئة: اللبن الحامض يحلب عليه الحليب، وهو أطيب اللبن.
قال بعض الأعراب:
وإذا خشيت على الفؤاد لجاجة ... فاضرب عليه بجرعة من رائب(3/230)
وعن مطر الورّاق: أنّ نبيّا من الأنبياء شكا إلى الله تعالى الضعف، فأوحى الله إليه: أن اطبخ اللبن باللحم، فإنّ القوّة فيهما.
وصف أعرابيّ خصب البادية فقال: كنت أشرب رثيئة «1» تجرّها الشّفتان جرّا، وقارصا إذا تجشّأت جدع أنفي، ورأيت الكمأة «2» تدوسها الإبل بمناسمها، وخلاصة «3» يشمّها الكلب فيعطس.
وتقول الأطّباء: إنّ اللبن إذا سخّن بالنار وسيط «4» بعدود من عيدان شجر التّين راب من ساعته. وقالوا: وإن أراد صاحبه ألّا يروب وإن كان فيه روبة جعل فيه شيئا من الحبق، وهو الفوذنج «5» النهريّ، فإنه يبقى كهيئته.
أخبار من أخبار العرب في مآكلهم ومشاربهم
المعلّى الرّبعيّ قال: مكثت ثلاثا لا أذوق طعاما ولا أشرب فيهنّ شرابا فدعوت الله تعالى، وإذا دعا العبد الله بقلب صادق كانت معه من الله عين بصيرة، فدفعت إلى ذئبين في جفر «6» ، فرميتهما فقتلتهما، ثم أتيت جفرا فيه ماء فاستقيت، ثم أتيتهما وإذا هما على مهيد يتيهما «7» ، وإذا لهما نخفة- يعني شبه الزّفير- فاشتويت واحتذيت «8» وادّهنت.(3/231)
قال ابن قرفة (شيخ من سليم) : أضافني رجل من الأعراب فجاءني بقدر جماع «1» ضخمة ليس فيها شيء من طعام إلا قطع لحم، فإذا بضعة «2» تنماتّ «3» في فمي، وبضعة كأنّها بضع ساق، وبضعة كأنها شحم زخم «4» ؛ فقلت: ما هذا؟ فقال: إني رجل صيّاد، جمعت بين ذئب وظبي وضبع.
قال مدنيّ لأعرابيّ: ما تأكلون وما تدعون؟ قال: نأكل ما دبّ ودرج إلا أمّ حبين؛ فقال المدنيّ: ليهنىء أمّ حبين «5» العافية.
قعد على مائدة الفضل بن يحيى «6» رجل من بني هلال بن عامر، فذكروا الضّبّ ومن يأكله، فأفرط الفضل في ذمّه وتابعه القوم، فغاظ الهلاليّ ما سمع منهم، ولم يكن على المائدة عربيّ غيره، ثم لم يلبث أن أتي الفضل بصحفة فيها فراخ الزّنابير، فلم يشكّ الأعرابيّ أنها ذبّان البيوت، فقال حين خرج: [طويل]
وعلج يعاف الضبّ لؤما وبطنة ... وبعض إدام العلج هام ذباب «7»
ولو أنّ ملكا في الملا ناك أمّه ... لقالوا لقد أوتيت فصل خطاب
وقال أبو الهندي «8» (رجل من العرب] : [متقارب](3/232)
أكلت الضّباب فما عفتها ... وإنّي لاشهى قديد الغنم «1»
ولحم الخروف حنيذا وقد ... أتيت به فاترا في الشّبم «2»
فأمّا البهطّ وحيتانكم ... فما زلت منها كثير السّقم «3»
وقد نلت منها كما نلتم ... فلم أر فيها كضبّ هرم
ولا في البيوض كبيض الدّجاج ... وبيض الدجاج شفاء القرم «4»
ومكن الضّباب طعام العريب ... ولا تشتهيه نفوس العجم «5»
وقال بعض الأعراب: [سريع]
وأنت لو ذقت الكشى بالأكباد ... لما تركت الضّبّ يعدو بالواد «6»
ونزل رجل من العرب برجل من الأعراب فقدّم إليه جرادا؛ فقال:
لحى الله بيتا ضمّني بعد هجعة ... إليه دجوجيّ من الليل مظلم «7»
فأبصرت شيخا قاعدا بفنائه ... هو العنز إلّا أنه يتكلّم
أتانا ببرقان الدّبى في إنائه ... ولم يك برقان الدّبى لي مطعم «8»
فقلت له غيّب إناءك واعتزل ... فهل ذاق هذا، لا أبالك، مسلم
وقال بعض العباسيين: [خفيف](3/233)
ليت شعري متى تخبّ بي النا ... قة نحو العذيب فالصّنين «1»
محقبا زكرة وخبز رقاق ... وجبينا وقطعة من نون «2»
وقال بعض الأعراب: [طويل]
أقول له يوما وقد راح صحبتي ... ترى أبتغي من صيده وأخاتله «3»
فلما التقت كفّي على فضل ذيله ... وشالت شمالي زايل الضّبّ باطله «4»
فأصبح محنوذا نضيجا وأصبحت ... تمشّى على القيزان حولا حلائله «5»
شديد اصفرار الكشيتين كأنما ... تطلّى بورس بطنه وشواكله «6»
فذلك أشهى عندنا من نتاجكم ... لحى الله شاريه وقبّح آكله «7»
وبنو أسد تعيّر بأكل الكلاب؛ قال الفرزدق: [طويل]
إذا أسديّ جاع يوما ببلدة ... وكان سمينا كلبه فهو آكله
وتعيّر أيضا بأكل لحوم الناس، كما قال الشاعر «8» : [وافر]
إذا ما ضفت ليلا فقعسيّا ... فلا تأكل له أبدا طعاما
فإنّ اللحم إنسان فدعه ... وخير الزاد ما منع الحراما(3/234)
قال رجل: كنت بالبادية، فرأيت ناسا حول نار، فسألت عنهم فقالوا:
صادوا حيّات فهم يشتوونها ويأكلونها، فأتيتهم فرأيت رجلا منهم قد أخرج حيّة من الجمر ليأكلها فامتنعت عليه، فجعل يمدّها كما يمدّ عصيب «1» لم ينضج، فما صرفت بصري عنه حتّى لبج «2» به فمات، فسألت عن شأنه فقيل لي:
عجل عليها قبل أن تنضج وتعمل في سمّها النار.
قال رجل من الأعراب لولده: اشتروا لي لحما، فاشتروه فطبخه حتى تهرّى «3» ، وأكل منه حتى انتهت نفسه، وشرعت إليه عيون ولده فقال: ما أنا بمطعمه أحدا منكم إلا من أحسن وصف أكله: فقال الأكبر منهم: آكله يا أبت حتى لا أدع لذرّة فيه مقيلا؛ قال: لست بصاحبه. فقال الآخر: آكله حتى لا يدرى ألعامه هو أم لعام أوّل؛ قال: لست بصاحبه. فقال الأصغر: أدقّه يا أبت دقا وأجعل إدامه المخّ؛ قال: أنت صاحبه، هو لك.
بينا أعرابيّ يسير وهو يوضع «4» بعيره إذ سقط بعيره فنحره وأكله، فأنشأ يقول: [رجز]
إنّ السّعيد من يموت جمله ... يشبع لحما ويقلّ عمله
ومرّ رجل من سلول بفتيان يشربون فشرب معهم؛ فلما أخذ منه الشراب قام إلى بعيره فنحره، وقال: [رمل]
علّلاني إنّما الدّنيا علل ... ودعاني من ملام وعذل
وانشلا ما اغبرّ من قدريكما ... واسقياني أبعد الله الجمل «5»(3/235)
آداب الأكل والطعام
عن أبي هريرة قال: سمعت رسول الله صلّى الله عليه وسلم يقول: «الأكل في السّوق دناءة» . وعن عبد الرحمن بن عراك قال: بلغني أنه من غسل يده قبل الطعام كان في سبعة من الرّزق حتى يموت.
عن الحسن أنه قال: الوضوء قبل الطعام ينفي الفقر وبعده ينفي اللّمم «1» .
وعنه قال: قيل لسمرة بن جندب: إنّ أباك أكل طعاما كاد يقتله؛ قال:
لو مات ما صلّيت عليه.
وعن شرحبيل بن مسلم قال: قال أبو الدّرداء: بئس العون على الدّين قلب نخيب «2» ، وبطن رغيب «3» ، ونعظ شديد «4» .
أكل الجارود «5» مع عمر طعاما، ثم قال: يا جارية هات الدّستورد «6» ؛ فقال عمر: امسح باستك أو ذر «7» .
قال جعفر: كنّا نأتي فرقدا السّبخيّ ونحن شببة «8» فيعلّمنا: إنّ من(3/236)
ورائكم زمانا شديا، فشدّوا الأزر «1» على أنصاف البطون، وصغّروا اللّقم، وشدّدوا المضغ، ومصّوا الماء مصّا. وإذا أكل أحدكم فلا يحلّنّ إزاره فتتّسع أمعاؤه. وإذا جلس أحدكم ليأكل فليقعد على أليتيه، وليلزق بطنه بفخذيه، وإذا فرغ فلا يقعد وليجىء وليذهب؛ واحتموا «2» فإنّ من ورائكم زمانا شديدا.
وعن عبد الله بن أبي أوفى قال: قال رسول الله صلّى الله عليه وسلم: «ساقي القوم آخرهم شربا» .
وعن الجارود بن أبي سبرة قال: قال لي بلال بن أبي بردة: أتحضر طعام هذا الشيخ- يعني عبد الأعلى بن عبد الله بن عامر-؛ فقلت: إيها «3» والله؛ فقال: حدّثني عنه. فقلت: نأتيه وكان سكّيتا «4» ، إن حدّثنا أحسن الحديث، وإن حدّثناه أحسن الاستماع، فإذا حضر الغداء جاء خبّازه فمثل بين يديه؛ فيقول: ما عندك؟ فيقول: بطّة بكذا، ودجاجة بكذا وكذا. قال: وما يريد بذاك؟ قلت: كي يحبس «5» كلّ إنسان نفسه إلى ما يشتهي، فإذا وضع الخوان «6» خوّى «7» تخوية الظليم «8» فما له إلا موضع متّكئه فيجدّ ويهزل، حتى إذا رآهم قد فتروا وكلّوا «9» أكل معهم أكل الجائع المقرور «10» حتى ينشّطهم بأكله.(3/237)
وكان يقال: إذا اجتمع للطعام أربع كمل: أن يكون حلالا، وأن تكثر عليه الأيدي، وأن يفتتح باسم الله، ويختتم بحمد الله.
وكان يقال: سمّوا إذا أكلتم ودنّوا وسمّتوا «1» .
قال أپرويز لصاحبي طعامه وشرابه: إني سلّطتكما على المعشية، وأشركتكما في الحياة، وجعلتكما أمينين على نفسي، وولّيتكما من طعامي وشرابي ما التوسعة فيه مروءة والتضييق فيه دناءة؛ فاجعلاه في فضله على ما سواه كفضلي على من سواي، وفي كثرته ككثرة من معي على من مع غيري. ولا يشهدنّ طعامي الذي آكل عين تراه ولا نفس تحسّه ولا يد تداوله خلا نفسا واحدة؛ وإنما أفردته بذلك لتستحكم الحجّة فيه على من أضاع، وتنقطع الشبهة فيه عمن غفل، ولأجعل صاحب ذاك رهنا بدم نفسه إن هو قصّر في صنعه أو أوقع بغائلة «2» .
الأصمعيّ قال حدّثني ابراهيم بن صالح: أنه كان له جام «3» من حبّ رمّان مدقوق يسفّ منه بين كل لونين ملعقة حتى يعرف اختلاف الألوان.
وفيما أجاز لنا عمرو بن بحر من كتبه قال: كان أبو عبد الرحمن الثّوريّ يقعد ابنه معه على خوانه يوم الرأس، ثم يقول: إياك ونهم الصبيان وأخلاق النوائح، ودع «4» عنك خبط الملّاحين والفعلة، ونهش الأعراب والمهنة، وكل من بين يديك؛ فإنّ حظّك الذي وقع وصار إليك. واعلم أنه إذا كان في الطعام شيء طريف أو لقمة كريمة أو بضعة شهيّة «5» ، فإنما ذلك للشيخ(3/238)
المعظّم والصبيّ المدلّل، ولست واحدا منهما. وأنت قد تأتي الدعوات، وتجيب الولائم، وتدخل منازل الإخوان، وعهدك باللحم قريب، وإخوانك أشدّ قرما «1» إليه منك، وإنما هو رأس واحد فلا عليك أن تتجافى عن بعض وتصيب بعضا. وأنا بعد أكره لك الموالاة بين اللحم؛ فإن الله يبغض أهل البيت اللّحمين «2» .
وكان يقال: مدمن اللحم كمدمن الخمر.
ورأى رجل رجلا يأكل لحما، فقال: لحم يأكل لحما، أفّ لهذا عملا!.
وكان عمر يقول: إيّاكم وهذه المجازر، فإنّ لها ضرواة كضراوة الخمر «3» .
يا بنيّ عوّد نفسك الأثرة «4» ومجاهدة الهوى والشهوة، ولا تنهش نهش السّباع، ولا تخضم خضم البراذين «5» ، ولا تدمن الأكل إدمان النّعاج، ولا تلقم لقم الجمال؛ فإن الله تعالى جعلك إنسانا وفضّلك، فلا تجعل نفسك بهيمة ولا سبعا. واحذر سرعة الكظّة وسرف البطنة «6» .
قال بعض الحكماء: إذا كنت بطينا فعدّ نفسك من الزّمني «7» . وقال الأعشى: [خفيف](3/239)
والبطنة ممّا تسفّه الأحلاما «1»
واعلم أنّ الشّبع داعية البشم «2» ، وأنّ البشم داعية السّقم، وأنّ السقم داعية الموت، فمن مات بهذه الميتة فقد مات ميتة لئيمة، وهو مع هذا قاتل نفسه، وقاتل نفسه الأم من قاتل غيره.
يا بنيّ، والله ما أدّى حقّ الركوع والسجود ذو كظّة، ولا خشع لله ذو بطنة، والصوم مصحّة، والوجبات «3» عيش الصالحين.
أي بنيّ، لأمر مّا طالت أعمار الهند، وصحّت أبدان الأعراب. فلله درّ الحارث ابن كلدة «4» حيث يزعم أنّ الدواء هو الأزم «5» ، وأنّ الداء إدخال الطعام إثر الطعام.
أي بنيّ، لم صفت أذهان الأعراب، وصحّت أبدان الرّهبان، مع طول الإقامة في الصوامع حتى لم تعرف النّقرس «6» ولا وجع المفاصل ولا الأورام، إلّا لقلّة الرّزء «7» وخفّة الزاد. وكيف لا ترغب في تدبير يجمع لك صحّة البدن، وذكاء الذهن، وصلاح المعي»
وكثرة المال، والقرب من عيش الملائكة!.(3/240)
أي بنيّ، لم صار الضبّ أطول شيء ذماء «1» إلّا لأنّه يتبلّغ بالنسيم؛ ولما قال الرسول صلّى الله عليه وسلم «إنّ الصوم وجاء» «2» إلّا ليجعله حجازا «3» دون الشهوات. افهم تأديب الله، فإنه لم يقصد به إلّا إلى مثلك.
أي بني، قد بلغت تسعين عاما نغض «4» لي سنّ، ولا انتشر «5» لي عصب ولا عرفت ذنين أنف «6» ، ولا سيلان عين، ولا سلس «7» بول؛ ما لذلك علّة إلّا التخفيف من الزاد. فإن كنت تحبّ الحياة فهذه سبيل الحياة، وإن كنت تريد الموت فار يبعد الله إلّا من ظلم نفسه.
وقال أبو نهشل «8» : كانت لي ابنة تجلس معي على المائدة فتبرز كفّا كأنها طلعة «9» ، في ذراع كأنه جمّارة «10» ، فلا تقع عينها على أكلة نفيسة. إلّا خصّصتني بها، فزوّجتها وصرت أجلس معي على المائدة ابنا لي فيبرز كفّا كأنها كرنافة «11» ، في ذراع كأنه كربة «12» ، فو الله ما إن تسبق عيني إلى لقمة طيّبة إلّا سبقت يده إليها.
وقال بعضهم: غلبت بطنتي فطنتي.(3/241)
قال عمرو بن العاص لمعاوية يوم تحكّم الحكمان: أكثروا الطعام، فو الله ما بطن «1» قوم قطّ إلا فقدوا بعض عقولهم، وما مضت عزمة رجل بات بطينا.
وكان يقال: أقلل طعاما تحمد مناما.
الأصمعيّ قال: كان يقال: ليس لشبعة خير من جوعة تحفزها «2» .
دعا عبد الملك بن مروان إلى الغداء رجلا فقال: ما فيّ فضل؛ فقال عبد الملك: ما أقبح بالرجل أن يأكل حتى لا يبقى فيه فضل! فقال: يا أمير المؤمنين، عندي مستزاد، ولكن أكره أن أصير إلى الحال التي استقبحها أمير المؤمنين.
وقال لشيخ: ما أحسن أكلك؟ قال: عملي منذ ستين سنة.
وقال الحسن: إنّ ابن آدم أسير الجوع، صريع الشبع.
وسأل عبد الملك أبا الزعيرة فقال: هل اتّخمت قطّ؟ قال لا؛ قال:
وكيف ذاك؟ قال: لأنا إذا طبخنا أنضجنا، وإذا مضغنا دقّقنا، ولا نكظّ «3» المعدة ولا نخليها.
وقال الأحنف: جنّبوا مجلسنا ذكر النساء والطعام، فإني أبغض الرجل أن يكون وصّافا لبطنه وفرجه، وإنّ من المروءة أن يترك الرجل الطعام وهو يشتهيه.(3/242)
الأصمعيّ قال: بلغني أنّ أقواما لبسوا المطارف «1» العتاق، والعمائم الرّقاق؛ وأوسعوا دورهم، وضيقّوا قبورهم؛ وأسمنوا دوابّهم، وهزّلوا دينهم؛ طعام أحدهم غصب، وخادمه سخرة، يتّكىء على شماله، ويأكل من غير ماله؛ حتى إذا أدركته الكظّة قال: يا جارية هاتي حاطوما «2» ؛ ويلك! وهل تحطم إلا دينك! أين مساكينك! أين يتاماك! أين ما أمرك الله به! أين أين!.
قال بعض الحكماء: مدار صلاح الأمور في أربع: الطعام لا يؤكل إلّا على شهوة، والمرأة لا تنظر إلا إلى زوجها، والملك لا يصلحه إلا الطاعة، والرعيّة لا يصلحها إلا العدل.
وعن أبي هريرة قال: قال رسول صلّى الله عليه وسلّم: «من أكل من سقط المائدة عاش في سعة وعوفي في ولده وولد ولده من الحمق» .
وقيل لأعرابيّ: أتحسن أن تأكل الرأى؟ قال: نعم، أبخص عينيه «3» ، وأسحي «4» ، خدّيه، وأفكّ لحييه، وأرمي بالدماغ إلى من هو أحوج منّي إليه.
وكانوا يكرهون أكل الدماغ؛ ولذلك يقول قائلهم: أنا من قبيلة تبقى المخّ في الجماجم.
دعبل قال: يا بنيّ، لا تأكل ألية الشاة لأنها طبق الاست وقريب من الجواعر «5» .
قال بعض الشعراء: [طويل]
إذا لم أرى إلّا لآكل أكلة ... فلا رفعت يمنى يديّ طعامي
فما أكلة إن نلتها بغنيمة ... ولا جوعة إن جعتها بغرام «6»(3/243)
عبد الملك بن عمير عن عمه عن الأصمعيّ قال: لا تخرج يا بنيّ من منزلك حتى تأخذ حلمك «1» . يعني حتى تتغذّى. وقال هلال بن جشم «2» : [طويل]
وإنّ قراب البطن يكفيك ملؤه ... ويكفيك سوءات الأمور اجتنابها
وقرأت في الآيين «3» : أن رجلا من خدم دار المملكة أوصى ابنه فقال:
إذا أكلت فضمّ شفتيك، ولا تتلفّتنّ يمينا وشمالا. ولا تتّخذنّ خلالك قصبا «4» .
ولا تلقمنّ بسكين أبدا، وإذا كان في يدك سكّين وأردت التقاما فضعها على مائدتك ثم التقم. ولا تجلس فوق من هو أسنّ منك وأرفع منزلة. ولا تتخلّل بعود آس «5» . ولا تمسح بثياب بدنك. ولا ترق ماء وأنت قائم. ولا تحفر أرضا بأظفارك. ولا تجلس على حائط أو باب أو تكتب عليهما فتلعن، ولا تسترح على أسكفّة «6» فتجهّل، ولا تستنج بمدر «7» فيورثك البواسير، ولا تمتخط حيث يسمع امتخاطك، ولا تبصق في الأماكن المنظّفة.
وأجلس معاوية على مائدته رجلا يؤاكله، فأبصر في لقمته شعرة، فقال:
خذ الشعرة من لقمتك؛ فقال له الرجل: وإنك لتراعيني مراعاة من يبصر الشعرة في لقمتي! والله لا أكلت معك أبدا ثم خرج الأعرابيّ وهو يقول:
[طويل](3/244)
وللموت خير من زيارة باخل ... يلاحظ أطراف الأكيل على عمد
وكان سعيد بن جبير إذا فرغ من طعامه قال: اللهمّ أشبعت وأرويت فهنئنا، وأكثرت وأطبت فزدنا.
الجوع والصوم
قيل لبعض الحكماء: أيّ الطعام أطيب؟ قال: الجوع أعلم.
وكان يقال: نعم الإدام الجوع، ما ألقيت إليه قبله.
قال لقمان لابنه: يا بنيّ، كل أطيب الطعام، ونم على أوطأ «1» الفراش.
يقول: أكثر الصيام، وأطل بالليل القيام.
اشتاق أعرابيّ بالبصرة إلى البادية فقال: [بسيط]
أقول بالمصر لمّا ساءني شبعي ... ألا سبيل إلى أرض بها جوع
ألا سبيل إلى أرض بها عرس ... جوع يصدّع منه الرأس برقوع «2»
وقال آخر: [بسيط]
وعادة الجوع فاعلم عصمة وغنى ... وقد يزيدك جوعا عادة الشّبع
العتبيّ قال: قلت لرجل من أهل البادية: يا أخي، إني لأعجب من أن فقهاءكم أظرف من فقهائنا، وعوامّكم أظرف من عوامّنا، ومجانينكم أظرف من مجانيننا، قال: وما تدري لم ذاك؟ قلت لا؛ قال: من الجوع؛ ألا ترى أن العود إنما صفا صوته لخلوّ جوفه!.(3/245)
وقيل لبعض حكماء الرّوم: أيّ وقت الطعام فيه أطيب وأفضل؟ قال:
أمّا لمن قدر فإذا جاع، وأمّا لمن لم يقدر فإذا وجد.
ونظر أعرابيّ إلى قوم يلتمسون هلال شهر رمضان، فقال: أما والله لئن أثرتموه لتمسكنّ منه بذنابي عيش أغبر «1» .
وقيل لآخر: ألا تصوم البيض من شعبان! فقال: بين يديها ثلاثون كأنها القباطيّ» .
وقيل لمدني: بم تتسحّر الليلة؟ فقال: باليأس من فطور القابلة.
الرّياشيّ قال: قيل لأعرابيّ: اشرب، فقال: إنى لا أشرب على ثميلة «3» . وقال: [طويل]
إذا لم يكن قبل النبيذ ثريدة ... مبقّلة صفراء شحم جميعها «4»
فإنّ نبيذ الصّرف إن كان وحده ... على غير شيء أوجع الكبد جوعها «5»
قدم أعرابيّ على ابن عمّ له بالحضر، فأدركه شهر رمضان؛ فقيل له:
أبا عمرو لقد أتاك شهر رمضان؛ قال: وما شهر رمضان؟ قالوا: الإمساك عن الطعام؛ قال: أبالليل أم بالنهار؟ قالوا: لا، بل بالنهار؛ قال: أفيرضون بدلا من الشهر؟ قالوا: لا؛ قال: فإن لم أصم فعلوا ماذا؟ قالوا: تضرب وتحبس؛ فصام أياما فلم يصبر، فارتحل عنهم وجعل يقول: [طويل]
يقول بنو عمّي وقد زرت مصرهم ... تهيّأ أبا عمرو لشهر صيام
فقلت لهم هاتوا جرابي ومزودي ... سلام عليكم فاذهبوا بسلام «6»(3/246)
فبادرت أرضا ليس فيها مسيطر ... عليّ ولا منّاع أكل طعام
وأدرك أعرابيّا شهر رمضان فلم يصم؛ فعذلته «1» امرأته في الصوم، فزجرها وأنشأ يقول: [طويل]
أتأمرني بالصّوم لا درّ درّها ... وفي القبر صوم يا أميم طويل
دعا عبد الله بن الزبير الحسين فحضر وأصحابه، فأكلوا ولم يأكل؛ فقيل له: ألا تأكل! فقال: إنّي صائم، ولكن تحفة الصائم «2» ؛ قيل: وما هي؟ قال:
الدّهن والمجمر «3» .
أخبار من أخبار الأكلة
الأصمعيّ قال: قال رجل: أحبّ أن أرزق ضرسا طحونا، ومعدة هضوما، وسرما نثورا «4» .
عن إسحاق بن عبد الله قال: سمعت أنس بن مالك يقول: رأيت عمر يلقى إليه الصاع من التمر فيأكله حتى حشفه «5» .
وقال بعض الشعراء: [بسيط]
همّ الكريم كريم الفعل يفعله ... وهمّ سعد بما يلقي إلى المعده
وقيل لرجل رئي سمينا: ما أسمنك؟ قال: أكلي الحارّ، وشربي القارّ «6» ، واتكائي على شمالي، وأكلي من غير مالي.(3/247)
وقيل لآخر: ما أسمنك؟ قال: قلّة الفكرة، وطول الدّعة «1» ، والنّوم على الكظّة «2» .
قال الحجّاج للغضبان بن القبعثري في حبسه: ما أسمنك؟ قال: القيد والدّعة «3» ، ومن كان في ضيافة الأمير سمن.
وقال آخر لرجل رآه سمينا: أرى عليك قطيفة «4» من نسج أضراسك.
وقيل لآخر: إنك لحسن الشّحمة ليّن البشرة؛ فقال: آكل لباب البرّ بصغار المعز، وأدّهن بدهن البنفسج، وألبس الكتّان.
قيل لميسرة الأكول وأنا أسمع: كم تأكل في كلّ يوم؟ قال: من مالي أو من مال غيري؟ قالوا: من مالك؛ قال: دونان «5» ؛ قالوا: فمن مال غيرك؟
قال: اخبز واطرح.
والعرب تقول: «العاشية تهيج الآبية» «6» . يريدون أنّ الذي لا يشتهي أن يأكل، إذا نظر إلى من يأكل هاجه ذلك على الأكل.
قال جرير: [كامل]
وبنو الهجيم سخيفة أحلامهم ... ثطّ اللّحى متشابهوا الألوان «7»
لو يسمعون بأكلة أو شربة ... بعمان أصبح جمعهم بعمان(3/248)
متأبّطين بنيهم وبناتهم ... صعر الأنوف لريح كل دخان «1»
قعد رجل على مائدة المغيرة، وكان منهوما، وجعل ينهش ويتعرّق؛ فقال المغيرة: ناولوه سكّينا؛ فقال الرجل: كلّ امرىء سكّينه في رأسه وقيل لأعرابيّ: ما لكم تأكلون اللحم وتدعون الثريد؟ فقال: لأن اللحم ظاعن «2» والثريد باق.
وقيل لآخر: ما تسمّون المرق؟ قال: السّخين؛ قال: فإذا برد؟ قال: لا ندعه يبرد.
قال أبو اليقظان «3» : كان هلال بن أسعر التّميميّ، من بني دارم بن مازن، شديدا أكولا؛ يزعمون أنه أكل جملا إلا ما حمل على ظهره منه. وأكل مرّة فصيلا «4» ، وأكلت امرأته فصيلا، فلما ضاجعها لم يصل إليها؛ فقالت:
كيف تصل إليّ وبيننا بعيران!.
الأصمعيّ قال: دعا عبّاد بن أخضر هلال بن أسعر إلى وليمة، فأكل مع الناس حتى فرغوا، ثم أكل ثلاث جفان تصنع كلّ جفنة لعشرة أنفس؛ فقال له: شبعت؟ قال لا؛ فأتوه بكل خبز في البيت فلم يشبع، فبعثوا إلى الجيران؛ فلمّا اختلفت ألوان الخبز علم أنه قد أضرّ بهم فأمسك؛ فقالوا: هل لك في تمر شهريز «5» بلبن؟ فأتوه به فأكل منه قواصر «6» ؛ فقالوا له: أشبعت؟ قال: لا؛(3/249)
قالوا: فهل لك في السّويق؟ قال: نعم؛ فأتوه بجراب ضخّم مملوء؛ فقال:
هل عندكم نبيذ؟ قالوا: نعم؛ قال: أعندكم تور «1» تغتسلون فيه من الجنابة؟
فأتي به فغسله وصبّ السّويق وصبّ عليه النبيذ، فما زال يفعل ذلك حتى فني.
الشّمردلّ وكيل آل عمرو بن العاص قال: قدم سليمان بن عبد الملك الطائف وقد عرفت شجاعته، فدخل هو وعمر بن عبد العزيز وأيوب ابنه بستانا لعمرو؛ قال: فجال في البستان ساعة ثم قال: ناهيك بمالكم هذا مالا لولا جرار فيه! فقلت: يا أمير المؤمنين، إنها ليست بجرار ولكنها جرب الزّبيب؛ فجاء حتى ألقى صدره على غصن، ثم قال: ويلك يا شمردل! أما عندك شيء تطعمني؟ قلت: بلى والله! إن عندي لجديا تغدو عليه بقرة وتروح أخرى؛ قال: اعجل به؛ فأتيته به كأنه عكّة «2» ، وتشمّر فأكل ولم يدع ابنه ولا عمر حتى أبقى فخذا. فقال: يا أبا حفص هلمّ؛ قال: إنّي صائم؛ ثم قال: ويلك يا شمردل! أما عندك شيء؟ فقلت: بلى والله! دجاجات ست كأنهنّ رئلان «3» النّعام، فأتيته بهنّ، فكان يأخذ رجل الدجاجة حتى يعري عظمها ثم يلقيها بفيه «4» حتى أتى عليهنّ. ثم قال: ويلك! أما عندك شيء؟ فقلت: بلى والله! إن عندي لحريرة كقراضة الذّهب «5» ، فقال: اعجل بها؛ فأتيته بعسّ «6» يغيب فيه الرأس، فجعل يتلقّمها «7» بيده ويشرب، فلما فرغ تجشّأ كأنه صاح في(3/250)
جبّ «1» ؛ ثم قال: يا غلام، أفرغت من غدائنا؟ قال: نعم، قال: وما هو؟ قال:
نيّف وثمانون قدرا؛ قال: فأتني بها قدرا قدرا؛ فأتاه بها وبقناع»
عليه رقاق؛ فأكثر ما أكل من قدر ثلاث لقم وأقلّ ما أكل لقمة، ثم مسح يده واستلقى على فراشه، وأذن للناس ووضعت الخوانات فجعل يأكل مع الناس.
الخطّابيّ عن الدّيرانيّ أنه قال: إني لأعرف الطعام الذي يأكله سليمان؛ قال: لما استخلف سليمان «3» قال لي: تقطع عنّي ألطافك التي كنت تلطفني بها قبل أن أستخلف؛ فأتيته بزنبيلين أحدهما بيض والآخرتين؛ فقال:
لقّمنيه، فجعلت أقشر البيضة وأقرنها بالتينة حتى أكل الزّنبيلين.
العننيّ عن أبيه قال: كان عبيد الله بن زياد يأكل كلّ يوم أربع جرادق أصبهانية «4» وجبنا قبل غدائه.
وعن سلّم بن قتيبة قال: عددت للحجاج أربعا وثمانين لقمة في كلّ لقمة رغيف من خبز «5» الماء فيه ملء كفّه سمك طريّ.
وكان لعبد الرحمن بن أبي بكرة ابن أكول؛ فقال له معاوية «6» : ما فعل ابنك التّلقامة؟ قال «7» : اعتلّ؛ قال: مثله لا يعدم علّة.(3/251)
أكل أبو الأسود الدؤليّ وأقعد معه أعرابيا فرأى له لقما منكرا؛ فقال له.
ما اسمك؟ قال: لقمان؛ قال: صدق أهلك، إنك لقمان.
ولد لابن أبي ليلى غلام فعمل الأخبصة للجيران، فلما أكلوا قام مساور الورّاق «1» فقال: [كامل]
من لا يدسّم بالثريد سبالنا ... بعد الثّريد فلا هناه الفارس «2»
وقال العجيف «3» في أمّه: [بسيط]
يا ليتما أمّنا شالت نعامتها ... إمّا إلى جنّة إمّا إلى نار «4»
ليست بشبعى وإن أسكنتها هجرا ... ولا بريّا ولو حلّت بذي قار «5»
تلهّم الوسق مشدودا أشظّته ... كأنّما وجهها قد طلي بالقار «6»
خرقاء في الخير لا تهدى لوجهته ... وهي صناع الأذى في الأهل والجار «7»
رأى أبو الحارث جمّيز سلّة بين يدي رجل من الملوك، فقال له:
جعلت فداك، أيّ شيء في تلك السّلّة؟ فقال: بظر أمّك، قال: فأعضّني «8» به.(3/252)
قيل للحارثيّ: لم لا تؤاكل الناس؟ فقال: لو لم أترك مؤاكلتهم إلا لنزوعي عن الأسواريّ لتركتها، ما ظنّكم برجل نهش بضعة لحم بقر فانقلع ضرسه وهو لا يدري. وكان إذا أكل ذهب عقله وجحظت «1» عيناه وسكر وسدر «2» وتربّد «3» وجهه وغضب ولم يسمع ولم يبصر، فلما رأيته وما يعتريه ويعتري الطعام منه صرت لا آذن له إلا ونحن نأكل الجوز والتمر والباقلّى «4» ؛ ولم يفجأني قطّ وأنا آكل تمرا إلا استفّه «5» سفّا وزدا «6» به زودا، ولا وجده كنيزا «7» إلا وتناول القطعة منه كجمجمة الثّور كدمها «8» كدما، ونهشها طولا وعرضا، ورفعا وخفضا، حتى يأتي عليها؛ ثم لا يقع عضّه إلا على الأنصاف والأثلاث؛ ولا رمى بنوان قطّ، ولا نزع قمعا «9» ، ولا نفى عنه قشرا، ولا فتّشه مخافة السوس والدود.
وقال بعض الشعراء: [وافر]
تبيت تدهده القرّان حولي ... كأنّك عند رأسي عقربان «10»
فلو أطعمتني حملا سمينا ... شكرتك والطعام له مكان
وقال بعض الأعراب: [طويل]
وإنّ طعاما ضمّ كفّي وكفّها ... لعمرك عندي في الحياة مبارك(3/253)
فمن أجلها أستوعب الزاد كلّه ... ومن أجلها أهوي يدي فأدارك
وقال آخر: [متقارب]
عريض البطان جديد الخوان ... قريب المراث من المرتع «1»
فنصف النهار لكرياسه ... ونصف لمأكله أجمع «2»
الأصمعيّ قال: قيل لأعرابيّ: ما يعجبك من هذا القند «3» ؟ قال: يعجبني خضده وبرده. قال الأصمعيّ: الخضد: المضغ والأكل الشديد.
قال خالد بن صفوان يوما لجاريته: يا جارية، أطعمينا جبنا، فإنه يشهّي الطعام ويهيج المعدة، وهو يعدّ من حمض العرب. قالت: ما عندنا منه شيء. قال: لأعلمك إنه والله، ما علمت، ليقدح في الأسنان ويستولي على البطن، وأنه من طعام أهل الذمّة.
كان يقال: إذا كثرت المقدرة، ذهبت الشهوة.
وقال بعض الظرفاء: [طويل]
زرعنا فلمّا سلّم الله زرعنا ... وأوفى عليه منجل بحصاد
بلينا بكوفيّ حليف مجاعة ... أضرّ علينا من دبى وجراد «4»
عن نافع عن ابن عمر قال: «قال النبيّ صلّى الله عليه وسلم: من دخل على غير دعوة دخل سارقا وخرج مغيرا، ومن لم يجب الدعوة فقد عصى الله ورسوله» .
عن أبي هريرة أن رسول الله صلّى الله عليه وسلم قال: «إذا دعي أحدكم فجاء مع(3/254)
الرسول فإنّ ذلك له إذن» . وعن مجاهد: أن ابن عمر كان إذا دعي إلى طعام وهو صائم يجيب، وكان يهيء اللقمة بيده ثم يقول: كلوا باسم الله فإني صائم. وعن أسماء بنت رفيد قالت: دخلنا على النبيّ صلّى الله عليه وسلم، فأتي بطعام فعرض علينا فقلنا: لا نشتهيه، فقال: «لا تجمعنّ كذبا وجوعا» .
دعا رجل عليّ بن أبي طالب رضوان الله عليه إلى الطعام، فقال: نأتيك على ألّا تتكلّف ما ليس عندك، ولا تدّخر عنا ما عندك.
وكان يقول: شرّ الإخوان من تكلّف له «1» .
دعا رجل رجلا إلى الغداء ثم قال له: هذه بكر زيارة ولم نستعدد، فلعل تقصيرا فيما أحبّ بلوغه؛ فقال الآخر: حرصك على كرامتي يكفيك مؤونة التكلّف.
قال إسحاق بن إبراهيم الموصليّ «2» : أتاني الزبير بن دحمان يوما فسألته أن يقيم عندي، فقال: قد أرسل إليّ الفضل بن الربيع وليس يمكنني التخلّف عنه؛ فقلت له: [طويل]
أقم يا أبا العوّام ويحك نشرب ... ونله مع اللّاهين يوما ونطرب
إذا ما رأيت اليوم قد جاء خيره ... فخذه بشكر واترك الفضل يغضب
وقال بعض المحدثين: [خفيف]
نحن قوم متى دعينا أجبنا ... ومتى ننس يدعنا التطفيل «3»
ونقل علّنا دعينا فغبنا ... وأتانا فلم يجدنا الرسول(3/255)
كان طفيل العرائس الذي ينسب اليه الطّفيليّون يوصي أصحابه فيقول لأحدهم: إذا دخلت عرسا فلا تتلفّت تلفّت المريب، وتخيّر المجالس، وأجد ثيابك، واعمل على أنها العقدة التي تستغل «1» . وإن كان العرس كثير الزحام فمر وانه «2» . ولا تنظر في عيون أهل المرأة ولا عيون أهل الرجل، فيظنّ هؤلاء أنك من هؤلاء وهؤلاء أنك من هؤلاء. وإن كان البوّاب غليظا وقاحا «3» فابدأ به ومره وانهه من غير أن تعنّف عليه، وعليك بكلام بين النصيحة والإدلال.
عرض رجل على رقبة الغداء؛ فقال: إن أقسمت عليّ وإلّا فدعني.
ومن أشعار الطّفيليّين: [سريع]
دعوت نفسي حين لم تدعني ... فالحمد لي لا لك في الدّعوه
وقلت دا أحسن من موعد ... إخلافه يدعو إلى جفوه «4»
وقال آخر: [طويل]
إذا جاء ضيف جاء للضيف ضيفن ... فأودى بما تقرى الضيوف الضّيافن «5»
وقال إسحاق بن إبراهيم الموصلّي: [بسيط]
نعم الصديق صديق لا يكلّفني ... ذبح الدّجاج ولا شيّ الفراريج
يرضى بلونين من كشك ومن عدس ... وإن تشهّى فزيتون بطسّوج «6»
كان سعيد بن أسعد الأنصاري إمام الجامع بالبصرة طفيليّا، فإذا كانت وليمة سبق الناس إليها، فربما بسط معهم البسط وخدم. فقيل له في ذلك(3/256)
فقال: إني أبادر برد الماء، وصفو القدور، ونشاط الخبّاز، وخلاء المكان، وغفلة الذّبّان، وجفاف المنديل.
وقيل لبعض الطفيليّين: كم اثنان في اثنين قال: أربعة أرغفة.
باب الضيافة وأخبار البخلاء على الطعام
عن المقدام «1» أبي كريمة أنه سمع رسول الله صلّى الله عليه وسلم يقول: «أيّما مسلم ضافه قوم فأصبح الضيف محروما كان له على كلّ مسلم نصره حتى يأخذ بقرى ليلته من زرعه وماله» .
روى ابن العجلان عن أبيه قال: قال أبو هريرة: إذا نزلت برجل ولم يقرك فقاتله. عن أنس قال: قال رسول الله صلّى الله عليه وسلم: «الخير أسرع إلى مطعم الطّعام من الشّفرة في سنام «2» البعير» .
داود قال: قلت للحسن: إنك تنفق من هذه الأطعمة وتكثر، قال: ليس في الطعام سرف. وقال الثوريّ: ليس في الطعام ولا في النساء سرف.
عن أبي هريرة عن النبيّ صلّى الله عليه وسلم أنه قال: «إنّ من السّنّة أن يمشي الرجل مع ضيفه إلى باب الدار» .
عن عبد الرحمن بن عباس قال: رأيت ابن عباس في وليمة فأكل وألقى للخبّاز درهما.
الأصمعيّ قال: سئل أقرى أهل اليمامة للضيف: كيف ضبطتم القرى؟
قال: بأنّا لا نتكلّف ما ليس عندنا.(3/257)
عن بعض النّسّاك قال: قد أعياني أن أنزل على رجل يعلم أني لست آكل من رزقه شيئا.
عن عون بن عبد الله قال: ضلّ رجل صائم في عام سنة «1» ، فابتلي برجل عند فطره وقد أتي بقرصين فألقى إليه أحدهما، ثم قال: ما هذا بمشبعه ولا بمشبعي، ولأن يشبع واحد خير من أن يجوع اثنان، وألقى إليه الآخر. فلما أوى إلى فراشه أتاه آت فقال: سل؛ فقال: أسأل المغفرة؛ قال:
قد فعل ذلك بك؛ قال: فإني أسأل أن يغاث الناس.
عن الحسن: أنّ رجلا جهده الجوع، ففطن له رجل من الأعيان، فلمّا أمسى أتى به رحله «2» ، فقال لامرأته: هل لك أن نطوي ليلتنا هذه لضيفنا؟
قالت: نعم قال: فإذا قدّمت الطعام فأدني إلى السراج كأنك تصلحينه فأطفئيه، ففعلت وجاءت بثريدة كأنها قطاة «3» فوضعتها بين أيديهما، ثم دنت إلى السراج كأنّها تصلحه فأطفأته، فجعل الأنصاريّ يضع يده في القصعة ثم يرفعها خالية؛ فأطلع على ذلك رسول الله صلّى الله عليه وسلم؛ فلما أصبح الأنصاريّ صلّى مع الرسول صلّى الله عليه وسلم الفجر، فلما سلّم أقبل على الأنصاريّ وقال: «أنت صاحب الكلام الليلة؛ ففزع الأنصاريّ وقال: أيّ كلام يا رسول الله؟ قال: كذا وكذا:
قوله لامرأته؛ قال كان ذاك يا رسول الله؛ قال: فو الله لقد عجب الله من صنعكما الليلة» .
الأصمعيّ قال: كان عمر بن عبد العزيز إذا قدم عليه بريد قال: هل رأيت في الناس العرسات؟ يعني الخصب للمسلمين.(3/258)
وقيل لأعرابيّ كان في مجلس: فيم كنتم؟ قال: كنا في قدر تفور، وكأس تدور، وغناء يصور «1» ، وحديث لا يخور «2» .
بلغني أن محمد بن خالد بن يزيد بن معاوية كان نازلا بحلب على الهيثم بن يزيد التّنوخيّ، فبعث إلى ضيف له من عذرة فقال: حدّث أبا عبد الله ما رأيت في حاضرة المسلمين من أعاجيب الأعراس؛ قال: نعم، رأيت أمورا معجبة: منها أني رأيت قرية عاصم بن بكر الهلاليّ، فإذا أنا بدور متباينة، وإذا أخصاص «3» منظّم بعضها إلى بعض، وإذا بها ناس كثير مقبلون ومدبرون وعليهم ثياب حكوا بها ألوان الزّهر، فقلت لنفسي: هذا أحد العيدين الأضحى أو الفطر؛ ثم رجع إليّ ما عزب «4» عنّي من عقلي، فقلت: خرجت من أهلي في عقب صفر وقد مضى العيدان قبل ذلك؛ فبينما أنا واقف ومتعجّب أتاني رجل فأخذ بيدي فأدخلني دارا قوراء «5» وأدخلني بيتا قد نجّد «6» في وجهه فرش قد مهّدت وعليها شابّ ينال فروع شعره كتفيه، والناس حوله سماطان «7» ؛ فقلت في نفسي: هذا الأمير الذي يحكى لنا جلوسه وجلوس الناس حوله، فقلت وأنا ماثل بين يديه: السلام عليك أيها الأمير ورحمة الله وبركاته؛ فجذب رجل بيدي وقال: اجلس فإن هذا ليس بالأمير؛ فقلت: ومن هو؟ قال: عروس؛ قلت؛ واثكل أمّاه! ربّ عروس رأيت بالبادية أهون على أصحابه من هن أمّه؛ فلم ألبث إذ دخلت الرجال عليها هنات «8» مدوّرات من(3/259)
خشب وقضبان، أمّا ما خفّ فيحمل حملا، وأمّا ما ثقل فيدحرج، فوضعت أمامنا وتحلّق القوم حلقا حلقا، ثم أتينا بخرق بيض فألقيت بين أيدينا، فظننتها ثيابا وهممت عندها أن أسأل القوم خرقا أقطع منها قميصا، وذلك أني رأيت نسجا متلاحكا «1» لا تبين له سدى «2» ولا لحمة؛ فلما بسط القوم أيديهم إذا هو يتمزّق سريعا وإذا هو فيما زعموا صنف من الخبز لا أعرفه. ثم أتينا بطعام كثير من حلو وحامض وحارّ وبارد، فأكثرت منه وأنا لا أعرف ما في عقبه من التّخم والبشم «3» . ثم أتينا بشراب أحمر في عساس «4» ، فلما نظرت إليه قلت: لا حاجة لي فيه، أخاف أن يقتلني. وكان في جانبي رجل ناصح لي- أحسن الله جزاءه- كان ينصح لي من بين أهل المجلس، فقال: يا أعرابيّ، إنك قد أكثرت من الطّعام، وإن شربت الماء انتفخ بطنك- فلما ذكر البطن تذكرت شيئا كان أوصاني به أبي والأشياخ من أهلي: قالوا: لا تزال حيّا ما دام شديدا (يعني البطن) فإذا اختلف فأوص- فلم أزل أتداوى به ولا أملّ من شربه، فتداخلني- نالك الخير- صلف «5» لا أعرفه من نفسي، وبكاء لا أعرف سببه ولا عهد لي بمثله، واقتدار على أمر أظن معه أني لو أردت نيل السقف لبلغته ولو ساورت «6» الأسد لقتلته، وجعلت ألتفت إلى الرجل الناصح لي فتحدّثني نفسي بهتم أسنانه «7» وهشم أنفه، وأهمّ أحيانا بأن أقول له: يابن(3/260)
الزانية؛ فبينما نحن كذلك إذ هجم علينا شياطين أربعة: أحدهم قد علّق في عنقه جعبة فارسية مشنّجة «1» الطرفين دقيقة الوسط قد شبحت «2» بالخيوط شبحا منكرا، وقد ألبست قطعة فرو كأنهم يخافون عليها القرّ. ثم بدر الثاني فاستخرج من كمّه هنة سوداء كفيشلة الحمار فوضع طرفها في فيه فضرط فيها فاستتمّ بها أمرهم، ثم حسب «3» على حجرة فيها فاستخرج منها صوتا ملائما مشاكلا بعضه بعضا كأنه- علم الله- ينطق. ثم بدر الثالث عليه قميص وسخ وقد غرق شعره بالدّهن ومعه مرآتان فجعل يمري «4» إحداهما على الأخرى مريا. ثم بدر الرابع عليه قميص قصير وسراويل قصير وخفّان أجذمان «5» لا ساقين لهما، فجعل يقفز كأنه يثب على ظهور العقارب، ثم التبط بالأرض، فقلت: معتوه وربّ الكعبة! ثم ما برح مكانه حتى كان أغبط «6» القوم عندي، ورأيت الناس يحذوفونه بالدارهم حذفا منكرا. ثم أرسلت إلينا النساء أن أمتعونا من لهوكم، فبعثوا بهم إليهن. وبقيت الأصوات تدور في آذاننا. وكان معنا في البيت شابّ لا آبه له، فعلت الأصوات له بالدعاء، فخرج فجاء بخشبة عينها في صدرها فيها خويطات أربعة، فاستخرج من جنبها عودا فوضعه على أذنه، ثم زمّ الخيوط الظاهرة، فلما أحكمها وعرك آذانها حرّكها بمجسّة «7» في يده، فنطقت وربّ الكعبة! وإذا هي أحسن قينة «8» رأيتها قطّ وغنّى عليها(3/261)
فاستخفّني «1» في مجلسي حتى قمت فجلست بين يديه، فقلت: بأبي أنت وأمّي! ما هذه الدابّة؟ «2» فلست أعرفها للأعراب وما خلقت إلّا حديثا! فقال: يا أعرابيّ.
هذا البربط «3» الذي سمعت به؛ فقلت: بأبي أنت وأمي! فما هذا الخيط الأسفل؟
قال: زير؛ قلت: فما الذي يليه؟ قال: مثنى؛ قلت: فالثالث؟ قال: المثلث؛ قلت: فالرابع؟ قال البمّ؛ قلت: آمنت بالله أوّلا وبالبمّ ثانيا.
وقال الخريميّ: [طويل]
أضاحك ضيفي قبل إنزال رحله ... ويخصب عندي والمحلّ جديب
وما الخصب للأضياف أن يكثر القرى ... ولكنّما وجه الكريم خصيب
وقال أرطاة بن سهيّة «4» : [طويل]
وإنّي لقوّام إلى الضيف موهنا ... إذا أغدف السّتر البخيل المواكل «5»
دعا فأجابته كلاب كثيرة ... على ثقة منّي بما أنا فاعل
وما دون ضيفي من تلاد تحوزه ... لي النفس إلا أن تصان الحلائل «6»
وقال آخر «7» : [طويل]
إذا نزل الأضياف كان عذوّرا ... على الأهل حتى تستقلّ مراجله «8»(3/262)
يقول: يسوّىء خلقه حتى يطعم أضيافه، لإعجاله إياهم ولخوف تقصير يكون منهم.
وقال دعبل: [طويل]
وإنّي لعبد الضيف من غير ذلّة ... وما فيّ إلّا تلك من شيمة العبد
وقال آخر «1» : [طويل]
لحافي لحاف الضّيف والبيت بيته ... ولم يلهني عنه الغزال المقنّع «2»
أحدّثه، إن الحديث من القرى ... وتعلم نفسي أنّه سوف يهجع «3»
وقال الفرزدق في العذافر: [طويل]
لعمرك ما الأرزاق يوم اكتيالها ... بأكثر خيرا من خوان عذافر «4»
ولو ضافه الدّجّال يلتمس القرى ... وحلّ على خبّازه بالعساكر «5»
بعدّة يأجوج ومأجوج كلّهم ... لأشبعهم يوما غداء العذافر «6»
وقال مسكين الدارميّ «7» : [كامل]
ناري ونار الجار واحدة ... وإليه قبلي تنزل القدر
ما ضرّ جارا لي أجاوره ... ألّا يكون لبابه ستر(3/263)
ضاف رجل من كلب أبا الرّمكاء الكلبيّ، ومع الرجل فضلة من حنطة، فراحت معزى أبي الرّمكاء، فحلب وشرب، ثم حلب وسقى ابنه، ثم حلب وسقى امرأته؛ فقال الرجل: ألا تسقون ضيفكم؟ فقال أبو الرّمكاء: ما فيها فضل؛ فاستخرج الرجل ما في عكمه «1» من طعام وقال: هل من رحى؟
فأسرعوا بها نحوه، فطحن وعجن وأوقد خبزته وأخرجها فنفضها، فإذا رسول أبي الرمكاء يقول: يقول لك أبو الرمكاء: لا عهد لنا بالخبز؛ فقال الرجل: ما فيها فضل، ثم أكل وارتحل، وقال: [طويل]
وبات أبو الرّمكاء لم يسق ضيفه ... من المحض ما يطوي عليه فيرقد «2»
فقمت إلى حنّانة فوق أختها ... ونار وباتت وهي تورى وتوقد
فلما نفضت الخبز بالعود أقبلت ... رسائل تشكي الجوع والحيّ سهّد
وقال أبو الرّمكاء بالخبز عهده ... قديم له حول كريب مطرّد «3»
فقلت ألا لا فضل فيها لباخل ... ولا مطمع حتى يلوح لنا الغد
فبات أبو الرّمكاء من فرط ريحها ... يئنّ كما أنّ السليم المسهّد «4»
ذكر أعرابيّ قوما فقال: ألغوا من الصلاة الأذان، مخافة أن تسمعه الآذان، فيهلّ عليهم الضّيفان.
وقال بعضهم في ذلك: [وافر]
أقاموا الدّيدبان على يفاع ... وقالوا لا تنم للدّيدبان «5»
فإن أبصرت شخصا من بعيد ... فصفّق بالبنان على البنان(3/264)
تراهم خشية الأضياف خرسا ... يصلّون الصلاة بلا أذان
وقال زياد الأعجم: [طويل]
وتكعم كلب الحيّ من حشية القرى ... وقدرك كالعذراء من دونها ستر «1»
وقال آخر: [طويل]
وإنّي لأجفو الضيف من غير عسرة ... مخافة أن يضرى بنا فيعود «2»
وقال آخر: [كامل]
أعددت للضّيفان كلبا ضاريا ... عندي وفضل هراوة من أرزن «3»
ومعاذرا كذبا ووجها باسرا ... متشكيّا عضّ الزمان الألزن «4»
رأى رجل الحطيئة وبيده عصا؛ فقال: ما هذه؟ قال: عجراء «5» من سلم، قال: إنّي ضيف، قال: للضّيفان أعددتها.
وقال آخر: [بسيط]
وأبغض الضيف ما بي جلّ مأكله ... ألّا تنفّخه حولي إذا قعدا
ما زال ينفخ جنبيه وحبوته ... حتى أقول لعلّ الضيف قد ولدا «6»
وقال حميد الأرقط «7» يذكر ضيفا: [طويل]
إذا ما أتانا وراد المصر مرملا ... تأوّب ناري أصفر العقل قافل «8»(3/265)
فقلت لعبديّ اعجلا بعشائه ... وخير عشاء الضيف ما هو عاجل
فقال وقد ألقى المراسي للقرى ... أبن لي ما الحجّاج بالناس فاعل «1»
فقلت لعمري ما لهذا طرقتنا ... فكل ودع الأخبار ما أنت آكل
تجهّز كفّاه فيحدر حلقه ... إلى الزّور ما ضمّت عليه الأنامل «2»
أتانا ولم يعدله سحبان وائل ... بيانا وعلما بالذي هو قائل «3»
فما زال منه اللّقم حتى كأنّه ... من العيّ لمّا أن تكلّم باقل «4»
وقال أيضا في نحو ذلك: [بسيط]
ومرملين على الأقتاب برّهم ... حقائب وعباء فيه بعرين «5»
مقدمين أنوفا في عصائبهم ... هجنا، ألا جدعت تلك العرانين «6»
يسطّرون لنا الأخبار إذ نزلوا ... وكلّ ما سطّروا للّقم تمكين
باتوا وجلّتنا الصهباء بينهم ... كأنّ أظفارهم فيها سكاكين «7»
فأصبحوا والنّوى عالي معرّسهم ... وليس كلّ النوى تلقي المساكين «8»
وقال أيضا في نحو ذلك: [طويل](3/266)
وعاو عوى والليل مستحلس النّدى ... وقد ضجعت للغور تالية النجم «1»
فسلّم تسليم الصّديق ولم يكن ... صديقا لنا إلا ليأنس باللّقم
فقلت له والنار تأخذ صدره ... لقمت لسمت أو سريت على علم «2»
وقال بعض الرّجّاز:
برّح بالعينين خطّاب الكثب «3» ... يقول إنّي خاطب وقد كذب
وإنّما يطلب عسّا من حلب «4»
وقال آخر: [بسيط]
إنّي لمثلكم من سوء فعلكم ... إن زرتكم أبدا إلّا معي زادي
وقال حمّاد عجرد: [متقارب]
حريث أبو الصّلت ذو خبرة ... بما يصلح المعدة الفاسده
تخوّف تخمة أضيافه ... فعوّدهم أكلة واحده
عن قتادة قال: قال زياد لغيلان بن خرشة «5» : أحبّ أن تحدّثني عن العرب وجهدها وضنك عيشها «6» ، لنحمد الله على النّعمة التي أصبحنا بها؛ فقال غيلان: حدّثني عمّي قال: توالت على العبر سنون تسع في الجاهليّة(3/267)
حطمت كلّ شيء «1» ، فخرجت على بكر «2» لي في العرب. فمكثت سبعا لا أطعم شيئا إلا ما ينال منه بعيري أو من حشرات الأرض، حتى دفعت في اليوم السابع إلى حواء عظيم «3» ، فإذا بيت جحش «4» عن الحيّ، فملت إليه فخرجت إليّ امرأة طوالة حسّانة (5) ؛ فقالت: من؟ قلت: طارق ليل يلتمس القرى؛ فقالت: لو كان عندنا شيء لآثرناك به، والدّالّ على الخير كفاعله، حسّ «5» هذه البيوت ثم انظر إلى أعظمها، فإن يك في شيء منها خير ففيه؛ ففعلت حتى دفعت اليه، فرحّب بي صاحبه وقال: من؟ قلت: طارق ليل يلتمس القرى؛ فقال: يا فلان، فأجابه، فقال: هل عندك طعام؟ فقال لا؛ فو الله ما وقر «6» في أذني شيء كان أشدّ منه. قال: فهل عندك شراب؟ قال لا، ثم تأوّه فقال: بلي! قد بقّينا في ضرع الفلانة «7» شيئا لطارق إن طرقك، قال: فأت به، فأتى العطن فابتعثها «8» . فحدّثني عمي أنه شهد فتح أصبهان وتستر ومهرجان وكور الأهواز وفارس وجاهه عند السلطان وكثرة ماله وولده، قال: فما سمعت شيئا قطّ كان أشدّ من شخب «9» تيك الناقة في تلك العلبة؛ حتى إذا ملأها وفاضت من جوانبها وارتفعت عليها شمكرة «10» كجمّة الشيخ «11» ، أقبل بها(3/268)
يهوي نحوي، فعثر بعود أو حجر، فسقطت العلبة من يده، فحدّثني أنه أصيب بأبيه وأمّه وولده وأهل بيته فما أصيب بمصيبة أعظم من ذهاب العلبة. فلما رأى ذلك ربّ البيت خرج شاهرا سيفه فبعث الإبل ثم نظر إلى أعظمها سناما ودفع إليه مدية وقال: يا عبد الله اصطل واحتمل «1» . قال: فجعلت أهوي بالبضعة إلى النار فإذا بلغت إناها «2» أكلتها، ثم مسحت ما في يدي من إهالتها «3» على جلدي وقد كان قحل «4» على عظمي حتى كأنّه شنّ «5» . ثم شربت شربة ماء وخررت مغشيّا عليّ فما أفقت إلى السّحر. وقطع زياد الحديث وقال: لا عليك ألّا تخبرنا بأكثر من هذا، فمن المنزول به؟ قلت: أبو عليّ عامر بن الطّفيل.
قال بعض الشعراء يهجو قوما: [كامل]
وتراهم قبل الغداء لضيفهم ... يتخلّلون صبابة للزّاد «6»
وقال آخر «7» : [مجزوء الكامل المرفّل]
استبق ودّ أبي المقا ... تل حين تأكل من طعامه
سيّان كسر رغيفه ... أو كسر عظم من عظامه
فتراه من خوف النزي ... ل به يروّع في منامه(3/269)
فإذا مررت ببابه ... فاحفظ رغيفك من غلامه
وقال آخر «1» : [بسيط]
صدّق أليّته إن قال مجتهدا ... لا والرغيف، فذاك البرّ من قسمه «2»
قد كان يعجبني لو أنّ غيرته ... على جراذقه كانت على حرمه «3»
إن رمت قتلته فافتك بخبزته ... فإنّ موقعها من لحمه ودمه
قلت لرجل كان يأكل مع أبي دلف: كيف كان طعامه؟ قال: كان على مائدته رغيفان بينهما نقرة جوزة؛ وقال: [وافر]
أبو دلف يضيّع ألف ألف ... ويضرب بالحسام على الرغيف
أبو دلف لمطبخه قتار ... ولكن دونه ضرب السيوف «4»
وقال أبو الشّمقمق «5» : [وافر]
رأيت الخبز عزّ لديك حتّى ... حسبت الخبز في جوّ السحاب
وما روّحتنا لتذبّ عنّا ... ولكن خفت مرزئة الذّباب
وقال دعبل: [خفيف]
إنّ من ضنّ بالكنيف على الضي ... ف بغير الكنيف كيف يجود! «6»
ما رأينا ولا سمعنا بحشّ ... قبل هذا لبابه إقليد «7»(3/270)
إن يكن في الكنيف شيء تخبّا ... هـ فعندي إن شئت فيه مزيد
ولهذا الشعر قصة قد ذكرتها في باب الشعراء «1» .
قال أبو محمد: شوى لجعفر بن سليمان الهاشميّ دجاج ففقد فخذ من دجاجة، فأمر فنودي في داره: من هذا الذي تعاطى فعقر «2» والله لا أخبز في هذا التنّور شهرا أو يردّ! فقال ابنه الأكبر: أتؤاخذنا بما فعل السّفهاء منّا!.
قال بعض الشعراء «3» : [سريع]
يا تارك البيت على الضيف ... وهاربا منه من الخوف
ضيفك قد جاء بخبز له ... فارجع فكن ضيفا على الضيف
وقال أبو نواس «4» : [مجزوء الرّمل]
خبز إسماعيل كلوش ... ي إذا ما شقّ يرفا «5»
عجبا من أثر الصن ... عة فيه كيف يخفى
إن رفّاءك هذا ... أحذق الأمة كفّا
فإذا قابل بالنص ... ف من الجردق نصفا «6»(3/271)
مثل ما جاء من التّن ... ور ما غادر حرفا
أحكم الصنعة حتى ... لا يرى موضع إشفى «1»
وله في الماء أيضا ... عمل أبدع ظرفا
مزجه العذب بماء ال ... بئر كي يزداد ضعفا
فهو لا يشرب منه ... مثل ما يشرب صرفا «2»
عن عبد العزيز بن عمران قال: نزلت ببيت ابن هرمة فقلت: انحروا لنا جزورا؛ فقالت: والله ما هي عندنا؛ فبقرة، قالت لا؛ قلت: فشاة، قالت لا؛ قلت: فدجاجة، قالت لا، فأين قول أبيك: [منسرح]
لأمتع العوذ بالفصال ولا ... أبتاع إلّا قريبة الأجل «3»
قالت: ذاك أفناها. فبلغ ابن هرمة ما قالت، قال: أشهد أنها ابنتي، وأشهد أن داري لها دون الذكور من أولادي.
قال ابن أبي فنن «4» : [منسرح]
لا أشتم الضيف ولكنّني ... أدعو له بالقرب من طوق «5»
بقرب من إن زاره زائر ... مات إلى الخبز من الشوق
دخل على ابن لرجل من الأشراف داخل وبين يديه فراريج، فغطّى الطبق بمنديله وأدخل رأسه في جيبه وقال للداخل عليه: كن في الحجرة الأخرى حتى أفرغ من بخوري.(3/272)
وفيما أجاز لنا عمرو بن بحر من كتبه قال: دخل رجل على رجل قد تغذّى مع قوم ولم ترفع المائدة قال لهم: كلوا وأجهزوا على الجرحى.
يريد: كلوا ما كسر ونيل منه ولا تعرضوا إلى الصحيح.
قال: وقال لقوم يؤاكلونه: يزعمون أن خبزي صغار! أيّ ابن زانية يأكل من هذا رغيفين!. قال: ويقول لزائره إذا أطال عنده المكث: تغدّيت اليوم؟
فإن قال نعم، قال: لولا أنك تغدّيت لغدّيتك بطعام طيّب. وإن قال لا، قال:
لو كنت تغدّيت لسقيتك خمسة أقداح. فلا يكون له على الوجهين لا قليل ولا كثير.
وحكي عن أبي نواس أنه قال: قلت لرجل من أهل خراسان: لم تأكل وحدك؟ قال: ليس عليّ في هذا الموضع سؤال؛ إنما السؤال على من أكل مع الجماعة، لأن ذاك تكلّف وأكلي وحدي هو الأكل الأصليّ.
وكنّا عند داود بن أبي داود بواسط أيام ولايته كسكر «1» ، فأتته من البصرة هدايا، وكان فيها زقاق دو شاب «2» ، فقسمها بيننا، فكلّنا أخذ ما أعطي، غير الحزاميّ، فأنكرنا ذلك وقلنا: إنما يجزع الحزاميّ من الإعطاء وهو عدوّه، فأما الأخذ فهو ضالّته وأمنيّته؛ فإنه لو أعطي أفاعي سجستان، وثعابين مصر، وجرّارات «3» الأهواز لأخذها، إذ كان اسم الأخذ واقعا عليها؛ فسألناه عن سبب ذلك، فتعسّر قليلا ثم باح بسرّه وقال: وضعته «4» أضعاف ربحه، وأخذه من أسباب الإدبار؛ قلت: أوّل وضائعه احتمال ثقل السّكر؛ قال: هذا لم يخطر(3/273)
ببالي قطّ، ولكن أوّل ذاك كراء الحمّال «1» ، فإذا صار إلى المنزل صار سببا لطلب العصيدة والارزّة والستندفود «2» ، فإن بعته فرارا من هذا البلاء صيّرتموني شهرة «3» ، وإن أنا حبسته ذهب في العصائد وأشباهها، وجذب ذلك شراء السّمن، ثم جذب السمن غيره، وصار هذا الدّوشاب علينا أضرّ من العيال؛ وإن أنا جعلته نبيذا احتجت إلى كراء القدور وإلى شراء الحبّ «4» وإلى شراء الماء وإلى كراء من يوقد تحته؛ فإن ولّيت ذلك الخادم اسودّ ثوبها وغرّمتنا ثمن الأشنان «5» والصابون، وازدادت في الطّعم على قدر الزيادة في العمل؛ فإن فسد ذهبت النفقة باطلا ولم نستخلف «6» منها عوضا بوجه من الوجوه، لأن خلّ الدّاديّ «7» يخضب اللّحم ويغيّر الطّعم ويسوّد المرقة ولا يصلح إلا للاصطباغ. وإن سلم- وأعوذ بالله- وجاد وصفا لم نجد بدّا من شربه ولم تطب أنفسنا بتركه؛ فإن قعدت في البيت أشربه لم يمكن ذلك إلا بترك سلاف «8» الفارسيّ المعسّل، والدّجاج المسمّن، وجداء كسكر «9» وفاكهة الجبل والنّقل الهشّ والرّيحان الغضّ، عند من لا يغيض «10» ماله، ولا تنقطع مادّته، وعند من لا يبالي على أي قطريه «11» سقط مع فوت الحديث المؤنس والسّماع الحسن؛ وعلى أنّى إن جلست في البيت أشربه لم يكن بدّ من واحد، وذلك(3/274)
الواحد لا بدّ له من لحم بدرهم، ونقل بطسّوج «1» ، وريحان بقيراط «2» ، ومن أبزار للقدر وحطب للوقود؛ وهذا كله غرم وشؤم وحرمان وحرفة «3» وخروج من العادة الحسنة. فإن كان النديم غير موافق فأهل السجن أحسن حالا مني، وإن كان موافقا فقد فتح الله على ما لي به بابا من التّلف، لأنه حينئذ يسير في مالي كسيري في مال غيري ممّن هو فوقي. فإذا علم الصديق أن عندي داذيّا «4» أو نبيذا دقّ على الباب دقّ المدلّ، فإن حجبناه فبلاء، وإن أدخلناه فشقاء. وإن بدا لي في استحسان حديث الناس كما يستحسنه مني من أكون عنده، فقد شاركت المسرفين، وفارقت إخواني الصالحين، وصرت من إخوان الشياطين؛ والله تقدّست أسماؤه يقول: إِنَّ الْمُبَذِّرِينَ كانُوا إِخْوانَ الشَّياطِينِ
«5» ؛ فإذا صرت كذلك فقد ذهب كسبي من مال غيري، وصار غيري يكتسب منّي؛ وأنا لو ابتليت بأحدهما لم أقم به فكيف إذا ابتليت بأن أعطي ولا آخذ، وبأن أوكّل ولا آكل! أعوذ بالله من الخذلان بعد العصمة، ومن الحور بعد الكور «6» ؛ ولو كان هذا في الحداثة كان أهون. هذا الدّوشاب دسيس من الحرفة، وكيد من الشيطان، وخدعة من الحسود، وهو الحلاوة التي تعقب المرارة. ما أخوفني أن يكون أبو سليمان قد ملّني فهو يحتال لي الحيل!.
وحكي عن الحارثيّ أنه قال: الوحدة خير من جليس السوء، وجليس السوء خير من أكيل السوء؛ لأن كلّ أكيل جليس وليس كل جليس أكيلا؛ فإن(3/275)
كان لا بدّ من المؤاكلة ولا بدّ من المشاركة فمع من لا يستأثر عليّ بالمخ، ولا ينتهز بيضة «1» البقيلة؛ ولا يلتقم كبد الدجاج، ولا يبادر إلى دماغ السّلّاءة «2» ، ولا يختطف كلية الجدي، ولا يزدرد قانصة الكركيّ «3» ، ولا ينتزع شاكلة «4» الحمل، ولا يبتلع سرّة السّمك، ولا يعرض لعيون الرءوس، ولا يستولى على صدور الدّرّاج «5» ، ولا يسابق إلى أسقاط الفراخ، ولا يتناول إلا ما بين يديه، ولا يلاحظ ما بين يدي غيره، ولا يمتحن الإخوان بالأمور الثمينة، ولا ينتهك أستار الناس بأن يشتهي ما عسى ألّا يكون موجودا؛ فكيف تصلح الدنيا ويطيب العيش بمن إذا رأى جزوريّة «6» التقط الأكباد والأسنمة «7» ، وإذا عاين بقريّة استولى على العراق «8» والقطنة «9» ، وإن عاين بطن سمكة اخترق كلّ شيء فيه، وإن أتوا بجنب شواء اكتسح ما عليه، ولا يرحم ذا سنّ لضعفه، ولا يرقّ على حدث لحدّة شهوته، ولا ينظر للعيال، ولا يبالي كيف دارت الحال.
وأشدّ من كل ما وصفنا أنّ الطبّاخ ربّما أتى باللون الظريف الطّريف، والعادة في مثل ذلك اللون أن يكون لطيف الشخص صغير الحجم، فيقدّمه حارّا(3/276)
ممتنعا، وربما كان من جوهر بطيء الفتور، وأصحابنا في سهول ازدراد الحارّ عليهم في طبائع النّعام، وأنا في شدّة الحارّ عليّ في طباع السّباع، فإن نظرت «1» إلى أن يمكن أتوا على آخره، وإن أنا بادرت مخافة الفوت وأردت أن أشاركهم في بعضه لم آمن ضرره؛ والحارّ بما قتل وربما أعقم وربما أبال الدم. قال: وعوتب على تركه إطعام الناس معه وهو يتخذ فيكثر، فقال: أنتم لهذا أترك مني، فإن زعمتم أنني أكثر مالا وأعدّ، عدّة، فليس بين حالي وحالكم من التفاوت أن أطعم أبدا وتأكلوا أبدا، فإذا أتيتم من أموالكم من البذل على قدر احتمالكم، علمت أنكم الخير أردتم، وإلى تزييني ذهبتم، وإلا فإنّكم إنّما تحلبون حلبا لكم شطره «2» .
قال: كان أبو ثمامة أفطر ناسا وفتح بابه فكثر عليه الناس، فقال: إن الله لا يستحي من الحقّ، وكلّكم واجب الحق، ولو استطعنا أن نعمّكم بالبرّ كنتم فيه سواء ولم يكن بعضكم أولى به من بعض؛ كذلك أنتم إذا عجزنا أو بدا لنا، فليس بعضكم أحقّ بالحرمان والاعتذار إليه من بعض، ومتى قرّبت بعضكم وفتحت بابي لهم وباعدت الآخرين، لم يكن في إدخال البعض عذر، ولا في منع الآخرين حجّة؛ فانصرفوا ولم يعودوا.
قال: وكان محمد بن أبي المؤمّل يقول: قاتل الله رجلا كنّا نؤاكلهم، ما رأيت قصعة رفعت من بين أيديهم إلا وفيها فضل، وكانوا يعلمون أن إحضار(3/277)
الجدى إنما هو شيء من آيين «1» الموائد الرّفيعة، وإنما جعل كالقافية وكالخاتمة وكالعلامة لليسر والفراغ، ولم يحضر للتفريق والتخريب، وأن أهله لو أرادوا به سوءا لقدّموه لتقع الحدّة به؛ ولذلك قال أبو الحارث جمّيز «2» حين رآه لا يمسّ: هذا المدفوع عنه.
ولقد كانوا يتحامون بيضة البقيلة «3» ، ويدعها كلّ واحد لصاحبه، وأنت اليوم إذا أردت أن تمتّع عينيك بنظرة واحدة منها ومن بيضة السّلّاءة «4» لم تقدر على ذلك.
وكان يقول: الآدام أعداء الخبز، وأعداها له المالح؛ فلولا أن الله أعان عليها بالماء وطلب آكله له لأتى على الحرث والنّسل.
وكان يقول: ما بال الرجل إذا قال: اسقني ماء أتاه بقلّة على قدر الرّيّ «5» أو أصغر، وإذا قال؛ أطعمني شيئا أو هات لفلان طعاما، أتاه من الخبز بما يفضل عن الجماعة، والطعام والشّراب أخوان. أما إنه لولا رخص الماء وغلاء الخبز لما كلبوا «6» على الخبز وزهدوا في الماء؛ والناس أشدّ شيء تعظيما للمأكول إذا كثر ثمنه وكان قليلا في منبته وعنصره. هذا الجزر الصافي والباقلاء الأخضر أطيب من كمّثرى خراسان والموز البستاني، وهذا(3/278)
الباذنجان أطيب من الكمأة، ولكنهم لقصر هممهم وأذهانهم في التقليد والعادة لا يشتهون إلّا على قدر الثمن.
وكان يقول: لو شرب الناس الماء على طعامهم لما اتّخموا. وذلك أن الرجل لا يعرف مقدار ما أكل حتى ينال من الماء شيئا، لأنه ربما كان شبعان وهو لا يدري. وفي قول الناس: ماء دجلة أمرأ «1» من ماء الفرات، وماء مهران «2» أمرأ من ماء نهر بلخ «3» ؛ وفي قول العرب: هذا ماء نمير يصلح عليه المال دليل على أن الماء يمرىء؛ حتى قالوا: إن الماء الذي يكون عليه النّفاطات «4» أمرأ من الماء الذي تكون عليه القيّارات «5» . فعليكم بشرب الماء على الغداء فإنّ ذلك أمرأ «6» .
قال وكان الثّوريّ يقول لعياله: لا تلقوا نوى التمر والرّطب وتعوّدوا ابتلاعه، فإن النوى يعقد الشحم في البطن، ويدفىء الكليتين بذلك الشّحم؛ واعتبروا ذلك ببطون الصّفايا «7» وجميع ما يعتلف النّوى. والله ما حملتم أنفسكم على قضم الشّعير واعتلاف القتّ «8» لوجدتموها سريعة القبول، وقد يأكل الناس القتّ قدّاحا «9» ، والشّعير فريكا «10» ، ونوى البسر الأخضر1»
، ونوى(3/279)
العجوة «1» ؛ وإنما بقيت عليكم الآن عقبة؛ أنا أقدر أن أبتلع النوى وأعلفه الشّاء، ولكن أقول هذا بالنظر لكم.
وكان يقول لهم: كلوا الباقلاء بقشوره، فإن الباقلاء يقول: من أكلني بقشوري فقد أكلني، ومن لم يأكلني بقشوري فأنا آكله؛ فما حاجتكم إلى أن تصيروا طعاما لطعامكم، وأكلا لما جعل أكلا لكم.
قال: وحمّ هو وعياله فلم يقدروا على أكل الخبز، فربح أقواتهم في تلك الأيام؛ ففرح وقال: لو كان في منزل سوق الأهواز ونطاة «2» خيبر رجوت أن أستفضل في كلّ سنة مائة دينار.
قال: ودعا موسى بن جناح جماعة من جيرانه ليفطروا عنده في [شهر رمضان] «3» ، فلما وضعت المائدة أقبل عليهم ثم قال لهم: لا تعجلوا، فإنّ العجلة من عمل الشيطان. ثم وقف وقفة ثم قال: وكيف لا تعجلون والله تعالى يقول: وَكانَ الْإِنْسانُ عَجُولًا
«4» . اسمعوا ما أقول لكم، فإن فيه حسن المؤاكلة والتبعّد من الأثرة، والعاقبة الرشيدة، والسيرة المحمودة: إذا مدّ أحدكم يده ليستقي ماء فأمسكوا أيديكم حتى يفرغ، فإنكم تجمعون عليه خصالا: منها أنكم تنغّصون عليه في شربه، ومنها أنه إذا أراد اللّحاق بكم فلعلّه يتسرّع إلى لقمة حارّة فيموت، وأدنى ذلك أن تبعثوه على الحرص وعلى عظم اللقم. ولهذا قال بعضهم وقد قيل له: لم تبدأ بأكل اللحم؟ قال: لأن اللّحم ظاعن والثريد مقيم. وأنا وإن كان الطعام طعامي فإني كذلك أفعل؛(3/280)
فإذا رأيتم فعلى يخالف قولي فلا طاعة لي عليكم. وقال بعضهم: فربما نسي بعضنا فمدّ يده وصاحبه يشرب، فيقول له: يدك يا ناسي، ولولا شيء لقلت لك: يا متغافل.
قال: فأتانا بأرزّة «1» أحدنا أن يعدّ حباتها لعدّها، لتفرّقها، وقلّتها، وهي مقدار نصف سكرّجة «2» ؛ فوقعت في فمي قطعة، وكنت إلى جنبه، فسمع صوتا حين مضغتها، فقال: اجرش يا أبا كعب.
قال: وكنا نسمع باللئيم الراضع، وهو الذي يرضع الحلب فلا يحلبه في الإناء لئلّا يسمع صوت الحلب- وقال بعضهم: لئلا يضيع من اللبن شيء- ثم رأيت أبا سعيد المدائني قد صنع أعظم من ذلك: ارتضع من دنّ خلّا حتى فني ولم يخرج منه شيء.
قال: وكان الكنديّ لا يزال يقول للساكن من سكّاننا-[وربما قال] «3» للجار- إنّ في داري امرأة بها حبل، والوحمى «4» ربما أسقطت من ريح القدر الطيّبة، فإذا طبختم فردوا شهوتها بغرفة أو بلعقة فإن النفس يردّها اليسير، وإن لم تفعل ذلك وأسقطت فعليك غرّة «5» : عبد أو أمة.
وقال بعضهم: نزلنا دارا بالكراء للكنديّ على شروط، فكان في شرطه(3/281)
على السكّان أن يكون له روث الدابّة، وبعر الشاة، ونشوار «1» العلوقة؛ وألّا يخرجوا عظما ولا يخرجوا كناسة، وأن يكون له نوى التمر، وقشور الرمّان، والغرفة من كل قدر تطبخ للحبلى في بيته؛ وكان في ذلك يتنزّل «2» عليهم، فكانوا لطيبه وإفراط بخله يحتملون ذلك.
وقال دعبل: أقمنا يوما عند سهل بن هارون، فأطلنا الحديث حتى اضطّره الجوع إلى أن دعا بغدائه، فأتي بصحفة عدمليّة «3» فيها مرق لحم ديل عاس «4» هرم ليس قبلها ولا بعدها غيرها، لا تحزّ «5» فيه السكين، ولا تؤثّر فيه الأضراس، فاطّلع في القصعة وقلّب بصره فيها، فأخذ قطعة خبز يابس فقلب بها جميع ما في الصفحة ففقد الرأس، فبقي مطرقا ساعة، ثم رفع رأسه إلى الغلام وقال: أين الرأس؟ قال: رميت به؛ قال: ولم؟ قال: ما ظننت أنك تأكله ولا تسأل عنه «6» ! قال: ولأيّ شيء ظننت ذلك؟ فو الله إني لأمقت «7» من يرمي برجله فيكف من يرمي برأسه! والرأس رئيس، وفيه الحواسّ الخمس، ومنه يصيح الديك، ولولا صوته ما أريد، وفيه عرفه الذي يتبرّك به، وفيه عينه التي يضرب بها المثل فيقال: شراب كعين الديك «8» ودماغه عجب لوجع الكلية، ولن ترى عظما قطّ أهشّ من عظم رأسه؛ فإن كان من نبل أنك لا تأكله فإنّ عندنا من يأكله. أو ما علمت أنه خير من طرف الجناح ومن الساق(3/282)
ومن العنق!. انظر أين هو. قال: لا والله لا أدري أين هو، رميت به؛ قال:
لكني أدري أنّك رميت به في بطنك، والله حسبك.
وحكي عن رجل أنه قال: مررت ببعض طرقات الكوفة، فإذا رجل يخاصم جارا له فقلت: ما بالكما تختصمان؟ فقال أحدهما «1» : لا والله إلّا أنّ صديقا لي زارني فاشتهى عليّ رأسا، فاشتريته وتغدّينا به وأخذت عظامه فوضعتها على باب داري أتجمّل بها «2» عند جيراني، فجاء هذا فأخذها وتركها على باب داره يوهم أنه اشتراه.
قال: وتناول رجل من بين يدي أمير من الأمراء بيضة وهو معه، فقال:
خذها فإنها بيضة العقر «3» ولم يأذن له بعد ذلك.
قال: وقدّمت مائدة لرجل عليها أرغفة على عدد الرءوس ورغيف زائد يوضع على الصّحاف، فلما أنفد القوم خبزهم التفت إلى رجل إلى جانبه فقال: اكسر هذا الرغيف وفرّقه بينهم، فتغافل، فأعاد عليه، فقال: يبتلى على يد غيري.
قال المدائنيّ: كان للمغيرة بن عبد الله الثّقفيّ وهو على الكوفة جدي يوضع على مائدته بعد الطعام لا يمسّه وهو ولا غيره، فقدم أعرابيّ يوما فأكل لحمه وتعرّق «4» عظامه؛ فقال، يا هذا، أتطالب هذا البائس بذحل «5» ؟! هل نطحتك أمّه! قال: وأبيك إنك لشفيق عليه! هل أرضعتك أمّه!.(3/283)
قال المدائني: كان لزياد بن عبد الله الحارثيّ جدي لا يمسّه أحد، فعشّى في شهر رمضان قوما فيهم أشعب، فعرض أشعب يوما للجدي من بين القوم، فقال زياد حين رفعت المائدة: أما لأهل السجن إمام يصلّي بهم؟
قالوا: لا؛ قال: فليصلّ بهم أشعب؛ قال أشعب: أو غير ذلك أيها الأمير؟
قال: وما هو؟ قال: لا آكل لحم جدي أبدا.
قال: وكان المغيرة بن عبد الله الثّقفيّ يأكل وأصحابه تمرا فانطفأ السراج، وكانوا يلقون النّوى في طست، فسمع صوت نواتين؛ فقال: من ذا يلعب بالكعبتين؟ «1» .
قال الأعشى «2» : [طويل]
تبيتون في المشتى ملاء بطونكم ... وجاراتكم سغب يبتن خمائصا «3»
وقال آخر «4» [بسيط]
وضيف عمرو وعمرو ساهران معا ... فذاك من كظّة والضيف من جوع «5»
وقال آخر [بسيط]
وجيرة لا ترى في الناس مثلهم ... إذا يكون لهم عيد وإفطار
إن يوقدوا يوسعونا من دخانهم ... وليس يبلغنا ما تنضج النار
وقال سماعة بن أشول: [طويل]
نزلنا بسهم والسماء تلفّنا ... لحى الله سهما ما أدقّ وألأما «6»(3/284)
فلما رأينا أنه عاتم القرى ... بخيل ذكرنا ليلة الهضب كردما «1»
فقمنا وحمّلنا على الأين والوجى ... جلالا بأوصال الرّديفين مرجما «2»
يدقّ خراطيم القنان كأنّما ... يدقّ بصوّان الجلاميد ختما «3»
فجئنا وقد باض الكرى في عيوننا ... فتى من عيون المعرقين مسلّما «4»
تناخ إليه هجمة واتكيّة ... رعت بالجواء البقل حولا مجرّما «5»
كأنّ بأحقيها إذا ما تنغّمت ... مزادا سقا فيه المزوّة معصما «6»
فبات رفيقي بعد ما ساء ظنّه ... بمنزلة من آخر الليل مكرما
ولو أنها لم يدفع العيس زمّها ... رأى بعضها من بعض أنسائها دما «7»
وقال حميد الأرقط: [طويل]
ومستنبح بعد الهدوء وقد جرت ... له حرجف نكباء والليل عاتم «8»
رفعت له مخلوطة فاهتدى بها ... يشبّ لها ضوء من النار جاحم «9»
فأطعمته حتى غدا وكأنّما ... تنازعه في أخدعيه المحاجم «10»(3/285)
كزمهان يفطو المشي لو جعلت له ... رعايا الحمى لم يلتفت وهو قائم «1»
حريص على التسليم لو يستطيعه ... فلم يستطع لما غدا وهو عائم «2»
وقال الأعشى «3» : [وافر]
إذا حلّت معاوية بن عمرو ... على الأطواء خنّقت الكلابا «4»
وقال آخر «5» : [طويل]
أيا بنة عبد الله وابنة مالك ... ويابنة ذي البردين والفرس الورد «6»
إذا ما عملت الزاد فالتمسي له ... أكيلا فإني غير آكله وحدي
بعيدا قصيّا أو قريبا فإنني ... أخاف مذمّا الأحاديث من بعدي
وكيف يسيغ المرء زادا وجاره ... خفيف المعى بادي الخصاصة والجهد «7»
وللموت خير من زيارة باخل ... يلاحظ أطراف الأكيل على عمد
وقال مرّة بن محكان السّعدي «8» [بسيط]
فقلت لما غدوا أوصي قعيدتنا ... غدّي بنيك فلن تلفيهم حقبا «9»
أدعى أباهم ولم أقرف بأمّهم ... وقد هجعت ولم أعرف لهم نسبا «10»
وقال حمّاد عجرد: [سريع](3/286)
زرت امرأ في بيته مرّة ... له حياء وله خير «1»
يكره أن يتخم إخوانه ... إنّ أذى التّخمة محذور
ويشتهي أن يؤجروا عنده ... بالصوم والصائم مأجور
وقال بعض المحدثين: [وافر]
أبو نوح نزلت عليه يوما ... فغدّاني برائحة الطعام
وجاء بلحم لا شيء سمين ... فقدّمه على طبق الكلام
فلما أن رفعت يدي سفاني ... مداما بعد ذاك بلا مدام
فكان كمن سقى الظمآن آلا ... وكنت كمن تغدّى في المنام «2»
وقال عروة بن الورد «3» : [كامل]
إنّي امروؤ عافي إنائي شركة ... وأنت امرؤ عافي إنائك واحد «4»
أتهزأ منّي أن سمنت وأن ترى ... بجسمي مسّ الحقّ والحقّ جاهد «5»
أقسّم جسمي في جسوم كثيرة ... وأحسو قراح الماء والماء بارد «6»
باب القدور والجفان
ذكر الفرزدق عقبة بن جبّار المنقري وقدره فقال [بسيط](3/287)
لو أن قدرا بكت من طول محبسها ... على الحفوف بكت قدر ابن جبّا «1»
ما مسّها دسم مذ فضّ معدنها ... ولا رأت بعد نار القين من نار «2»
وقال: [وافر]
كأنّ تطلّع التّرغيب فيها ... عذار يطّلعن إلى عذار «3»
وقال الكميت: [متقارب]
كأنّ الغطامط من غليها ... أراجيز أسلم تهجو غفارا «4»
وقال آخر «5» : [طويل]
وقدر كجوف الليل أحمشت غليها ... ترى الفيل فيها طافيا لم يفصّل «6»
وقال ابن الزّبير «7» يمدح أسماء بن خارجة: [طويل]
ترى البازل البختيّ فوق خوانه ... مقطّعة أعضاؤه ومفاصله «8»
وقال الرّقاشيّ: [طويل](3/288)
لنا من عطاء دهماء جونة ... تناول بعد الأقربين الأقاصيا «1»
جعلت ألالا والرّجام وطخفة ... لها فاستقلّت فوقهنّ الأثافيا «2»
مؤدّية عنّا حقوق محمد ... إذا ما أتانا يابس الجنب طاويا
أتى ابن يسير كي ينفّس كربه ... إذا لم يرح وافى مع الصبح غاديا
فأجابه ابن يسير: [طويل]
وثرماء ثلماء النّواحي ولا يرى ... بها أحد عيبا سوى ذاك باديا «3»
إذا انقاض منها بعضها لم تجد لها ... رءوبا لما قد كان منها مدانيا «4»
وإن حاولوا أن يشعبوها فإنها ... على الشّعب لا تزداد إلّا تداعيا «5»
معوّذة الإرجال لم توف مرقبا ... ولم تمتط الجون الثلاث الأثافيا «6»
ولا اجترعت من نحو مكة شقّة ... إلينا ولا جازت بها العيس واديا «7»
ولكنّها في أصلها موصليّة ... مجاورة فيضا من البحر جاريا
أتتنا تزجّيها المجاذيف نحونا ... وتعقب فيما بين ذاك المزاديا «8»(3/289)
يقول لمن هذي القدور التي أرى ... تهيل عليها الرّيح تربا وسافيا «1»
فقالوا ولن يخفى على كلّ ناظر ... قدور رقاش إن تأمّل دانيا
فقلت متى باللحم عهد قدوركم ... فقالوا إذا ما لم يكنّ عواريا «2»
من اضحى إلى أضحى وإلّا فإنها ... تكون بنسج العنكبوت كما هيا
فلما استبان الجهد لي في وجوههم ... وشكواهم أدخلتهم في عياليا
ينادي ببعض بعضهم عند طلعتي ... ألا أبشروا هذا اليسيريّ جائيا
وقال أبو نواس: [طويل]
ودهماء تثفيها رقاش إذا شتت ... مركّبة الآذان أمّ عيال «3»
يغصّ بحيزوم البعوضة صدرها ... وتنزلها عفوا بغير جعال «4»
لو جئتها ملأى عبيطا مجزّلا ... لأخرجت ما فيها بعود خلال «5»
هي القدر قدر الشيخ بكر بن وائل ... ربيع اليتامى عام كلّ هزال «6»
وقال أيضا: [طويل]
رأيت قدور الناس سودا من الصّلى ... وقدر الرّقاشيّين زهراء كالبدر «7»
ولو جئتها ملأى عبيطا مجزّلا ... لأحرجت ما فيها على طرف الظّفر
يثبّتها للمعتفى بفنائهم ... ثلاث كحظّ الثاء من نقط الحبر «8»(3/290)
تروح على حيّ الرّباب ودارم ... وسعد وتعروها قراضبة الفزر «1»
وللحيّ عمرو نفحة من سجالها ... وتغلب والبيض اللهاميم من بكر «2»
إذا ما بنادى بالرحيل سعى بها ... أمامهم الحوليّ من ولد الذّرّ «3»
وقال أبو عبيدة: كان لعبد الله بن جدعان جفنة يأكل منها القائم والراكب. وذكر غيره أنه وقع فيها صبيّ فغرق.
وقال الأشعر «4» : [متقارب]
وأنت مليخ كلحم الحوار ... فلا أنت حلو ولا أنت مرّ «5»
وقد علم الضيف والطارقون ... بأنّك للضيف جوع وقرّ «6»
سأل يحيى بن خالد أبا الحارث جمّيزا عن طعام رجل، فقال: أما مائدته فمقنة «7» وأما صحافه فمنقورة من حبّ الخشخاش، وبين الرغيف والرغيف نقرة جوزة «8» ، وبين اللون واللون فترة نبيّ «9» . قال: فمن يحضرها؟
قال: الكرام الكاتبون. قال: فيأكل معه أحد؟ قال: نعم، الذّباب. قال:
فلهذا ثوبك مخرّق ولا يكسوك وأنت معه وبفنائه؟! قال أبو الحارث: جعلت فداءك، والله لو ملك بيتا من بغداد إلى الكوفة مملوءا إبرا، في كل إبرة(3/291)
خيط، ثم جاءه جبريل وميكائيل معهما يعقوب يضمنان «1» عنه إبر يخيط بها قميص يوسف الذي قدّ من دبر «2» ، ما أعطاهم.
وقال بعضهم [بسيط]
ولو عليك اتّكالي في الغذاء إذا ... لكنت أوّل مدفون من الجوع
سياسة الأبدان بما يصلحها من الطعام وغيره
قال الحجّاج لتياذوق «3» متطبّبه: صف لي صفة آخذ بها في نفسي ولا أعدوها، قال تياذوق: لا تتزوّج من النساء إلّا شابّة، ولا تأكل من اللحم إلا فتيّا، ولا تأكله حتى ينعم طبخه، ولا تشربنّ دواء إلا من علّة، ولا تأكل من الفاكهة إلا نضيجها، ولا تأكل طعاما إلا أجدت مضغه، وكل ما أحببت من الطعام واشرب عليه، وإذا شربت فلا تأكل عليه شيئا، ولا تحبس الغائط والبول، وإذا أكلت بالنهار فنم، وإذا أكلت بالليل فتمشّ ولو مائة خطوة.
روى عبد العزيز بن عمران عن الحليس بن حيّان الأشجعيّ قال حدّثني أبي عن شيوخ من أشجع قال: سألمنا يهود خيبر: بم صححتم بخيبر؟ قالوا:
بشرب الخمر، وأكل الفوم، وسكون اليفاع «4» ، وتجنّب بطون الأودية، والخروج من خيبر عند طلوع الفجر وسقوطه.
قال الحجّاج للحكم بن المنذر بن الجارود: أخبرني عن صفاء لونك وغلظ قصرتك «5» ، أشرب اللبن فهو منه؟ قال: لا؛ قال: ولم؟ قال: لأنه منتنة(3/292)
منفخة. قال: فما شرابك؟ قال: نبيذ الدّقل «1» في الصيف ونبيذ العسل في الشتاء.
قال عبد الملك لأعرابي: إنك حسن الكدنة «2» : قال: إني أدفىء رجليّ في الشتاء، وأغفل غاشية الغمّ»
، وآكل عند الشهوة.
عن عليّ رضي الله عنه أنه قال: من ابتدأ غذاءه بالملح أذهب الله عنه سبعين نوعا من البلاء. ومن أكل كلّ يوم سبع تمرات عجوة قتلت كلّ داء في بطنه. ومن أكل كلّ يوم إحدى وعشرين زبيبة حمراء لم ير في بدنه شيئا يكرهه. واللحم ينبت اللحم. والثريد طعام العرب. ولحم البقر داء «4» ، ولبنها شفاء، وسمنها دواء. والشّحم يخرج مثليه من داء. ولم يستشف الناس بشيء أفضل من الرّطب. والسّمك يذيب الجسد، وقراءة القرآن «5» والسواك يذهب البلغم. ومن أراد البقاء- ولا بقاء- فليباكر الغداء، وليقلّل غشيان النّساء، ويخفّف الرداء، وليلبس الحذاء. قيل: وما خفّة الرّداء في البقاء؟ قال: قلّة الدّين.
قيل لرجل: إنك لحسن السّخنة «6» ؛ فقال: آكل لباب البرّ بصغار المعز، وأدّهن بحام «7» البنفسج، وألبس الكتّان.(3/293)
ويقال: ثلاثة أشياء تورث الهزال: شرب الماء على الرّيق، والنوم على غير وطاء «1» ، وكثرة الكلام برفع الصوت.
ويقال: أربع خصال يهدمن العمر وربما قتلن: دخول الحمّام على بطنة، والمجامعة على الامتلاء، وأكل القديد «2» الجافّ، وشرب الماء البارد على الرّيق؛ وقيل: ومجامعة العجوز.
وفي الحديث: «ثلاثة أشياء تورث النّسيان أكل التّفّاح الحامض وسؤر الفأرة «3» ونبذ القملة «4» . وفي حديث آخر والحجامة في النّقرة «5» والبول في الماء الراكد» .
ويقال: أربعة أشياء تقصد إلى العقل بالإفساد: الإكثار من البصل، والباقلاء، والجماع، والخمار.
وقال النّظّام: ثلاثة أشياء تخلق «6» العقل وتفسد الذّهن: طول النّظر في المرآة، والاستغراب في الضّحك، ودوام النّظر إلى البحر.
وكان يقال: عشاء الليل يورث العشا «7» .
ويروى في الحديث: «ترك العشاء مهرمة» . والعرب تقول: ترك العشاء يذهب بلحم الأليتين.(3/294)
باب الحمية
قال الحارث بن كلدة طبيب العرب: الدواء هو الأزم. يعني الحمية قال آخر: الحمية إحدى العلّتين.
وقيل لجالينوس: إنك تقلّ من الطّعام؛ قال: غرضي من الطّعام أن آكل لأحيا، وغرض غيري من الطعام أن يحيا ليأكل.
وقال العمّيّ «1» : من احتمى فهو على يقين من المكروه، وفي شكّ مما يأمل من العافية.
وكان يقال: ليس الطبيب من حمى الملك ومنعه الشهوات، إنّما الطبيب من خلّاه وما يريد وساس بدنه «2» .
وقال بعض الشعراء: [طويل]
وربّت حزم كان للسّقم علّة ... وعلّة برء الداء خبط المغفّل «3»
ويقال: الحمية للصحيح ضارّة كما أنها للعليل نافعة.
وفي الحديث: أنّ رسول الله صلّى الله عليه وسلم رأى صهيبا يأكل تمرا وبه رمد، فقال له: «أتأكل التمر وبك رمد؛ فقال: يا رسول الله، إنما أمضغ بهذه» «4» .
إبراهيم بن عبد الرحمن بن عوف عن أبيه عن جدّه قال: قال رسول الله صلّى الله عليه وسلّم «لا تكرهوا مرضاكم على الطّعام والشّراب فإن الله يطعمهم ويسقيهم» .(3/295)
باب شرب الدواء
قال عبد الله بن بكر السّهميّ: حدّثنا بعض أصحابنا يرفعه إلى النبيّ صلّى الله عليه وسلّم قال: «من استقلّ «1» بدائه فلا يتداوينّ، فإنّه ربّ يورث الداء» .
وكانت الحكماء تقول: إياك وشرب الدواء ما حملت صحّتك داءك.
وقالوا: مثل شرب الدواء مثل الصابون للثوب ينقيه، ولكنه يخلقه ويبليه.
عن يزيد بن الأصمّ قال: لقيت طبيب كسرى شيخا كبيرا قد أوثق حاجبيه بخرقة، وسألته عن دواء المشي «2» ؛ قال: سهم يرمى به في جوفك أخطأ أو أصاب.
قال أبقراط: الدواء من فوق، والدواء من تحت، والدواء لا فوق ولا تحت. وفسّره المفسّر فقال: من كان داؤه في بطنه فوق سرّته سقي الدواء، ومن كان داؤه تحت سرّته حقن، ومن لم يكن به داء لا من فوق ولا من تحت لم يسق الدواء، فإن الدواء إذا لم يجد داء يعمل فيه وجد الصحّة فعمل فيها.
قال أبو اليقظان: كان عبد العزّى بن عبد المطّلب «3» يشتكي عينه وهو مطرق أبدا؛ وكان يقول: ما بعيني بأس، ولكن كان أخي الحارث إذا اشتكت عينه يقول: اكحلوا عين عبد العزّى معي فيأمر من يكحلني معه ليرضيه بذلك فأمرض عيني.
قال ابن أحمر «4» حين شفي بطنه: [طويل](3/296)
شربت الشّكاعى والتددت ألدّة ... وأقبلت أفواه العروق المكاويا «1»
شربنا وداوينا وما كان ضارنا ... إذا الله حمّ المرء أن لا تداويا
وفي الحديث: «داووا مرضاكم بالصّدقة وحصّنوا أموالكم بالزّكاة واستقبلوا أنواع البلايا بالدعاء» .
الحدث والحقنة والتّخمة
عن وهب قال قال لقمان لابنه: إن طول الجلوس على الخلاء يرفع الحرارة إلى الرأس، ويورث الباسور وتيجع «2» له الكبد؛ فاجلس هوينى وقم هوينى. فكتبت حكمته على باب الحشّ «3» .
وكان يقال: إذا خرج الطعام قبل ستّ ساعات فهو مكروه، وإذا بقي أكثر من أربع وعشرين ساعة فهو مرض.
وكان أبو ذفافة الباهليّ اشتكى، فأشار عليه الأطبّاء بالحقنة فامتنع؛ فأنشأ أعرابيّ يقول: [طويل] لقد سرّني- والله وقّاك شرّها-* نفارك منها إذ أتاك يقودها
كفى سوءة ألّا تزال مجبّيا ... على شكوة وفراء في استك عودها «4»
وأشاروا على عبيد الله بن زياد بالحقنة فتفحّشها؛ فقالوا: إنما يتولّاها منك الطبيب؛ فقال: أنا بالصاحب آنس.(3/297)
قال المدائنيّ: سأل الحجّاج جلساءه: ما أذهب الأشياء للإعياء؟ فقال بعضهم: أكل التّمر، وقال بعضهم: الحمام، وقال بعضهم: التّمريخ «1» .
وقال فيروز: أذهب الأشياء للإعياء قضاء الحاجة.
وحدّثني بعض الأطبّاء أن رجلا شرب خبث الحديد المعجون فبقي في جوفه، فاشتدّ عليه وجعه؛ فسحقت له قطعة من المغناطيس وسقي إيّاه، فتعلّق بالخبث وخرج مع الغائط.
قال: وقال تياذوق طبيب الحجّاج للحجّاج: إن اللحم على اللحم يقتل السّباع في البرّية. ثم قال لي جعفر: قالت جارية لنا: كان لي ظبيّ فمرّ بعجين قد هيّء للخشكنان «2» ، فأكل منه فحفس- والحفس: الحبط وانتفاخ البطن- فسلخ فوجد قد شرق بالدم. وقال يونس (طبيب لنا) : هكذا يصاب الإنسان إذا بشم «3» .
الأصمعيّ: قال بعض الأعراب: اللهمّ إني أسألك ميتة كميتة أبي خارجة، وأكل بذجا «4» ، وشرب معسّلا «5» ، ونام في الشمس، فلقي الله شبعان ريّان دفآن.
وقال آخر من الأعراب: اللهم اجعل التّخمة دائي وداء عيالي.
قال ابن شبابة مولى بني أسد: من بال ولم يضرط كتبت استه من الكاظمين الغيظ.(3/298)
باب القيء
عن جعفر بن سليمان أنّه قال لإنسان أكول يقيء إذا أكل: لا تفعل، فإن المعدة تضفر «1» إلى القيء كما تضفر الدّابّة إلى العلف، فلا ينضج الطعام.
وأخذ مزبّد شاربا فاستنكه «2» ، فأتي به الوالي فاستنكهوه، فقالوا نكهته لا تنبىء عنه، قال مزبّد: إن لم أقيء نبيذا فمن يضمن لي عشاء.
رئي الجمّال يأكل فقيل له: ما تأكل؟ قال: قيء كلب في قحف «3» خنزير.
النّكهة
سئل تياذوق عن البخر»
فقال: دواؤه الزبيب يعجن بسعتر «5» ثم يؤكل أسبوعين أو ثلاثة. فجرّب فذهب.
وتقول الروم في الكرفس «6» : إنه يطيّب الفم ويذهب البخر؛ ويحتاج إلى أكله من يشاهد السلطان ومحافل الناس وكان أكثر كلامه السّرار «7» .
قالت الأطباء: الجزر المشويّ والخبز المقلوّ بالزيت أو بالسمن إذا مضغ ورمي بثفله «8» قاطع لرائحة البصل من الفم. والفوم إن أكله آكل فأحبّ أن يقطع رائحته مضغ ورق الزيتون الطّريّ وتمضمض «9» بعده بالخلّ.(3/299)
والسّعد «1» قاطع لرائحة النبيذ من الفم. وحبّ الأترجّ «2» مطيّب للنّكهة.
والبخر لا يكاد يكون في الملّاحين لأكلهم الملّاح «3» .
وقرأت في الآيين «4» : أن رئيس الحرم أمر جواري الملك ألّا يأكلن الثّوم والبصل والكرّاث واللّفّاح «5» والحمّص الرّطب والمشمش؛ فإنه يورث البخر.
باب المياه والأشربة
قالت الأطبّاء: معرفة خفّة الماء بأن يكون سريع الغليان ويكون سريع البرد. وأحمد المياه ما كان قبالة المشرق ومجراه مجرى الشمال ومروره على الطين الأحمر وعلى الرمل. قالوا: وممّا يصفّي من الماء الكدر فيصفو سريعا أن يلقى فيه قطع من خشب السّاج «6» أو قطع من آجرّ جديد.
قال بعض المحدثين: [مخلع البسيط]
يمنع امّه بالشّمال ... وماؤها البارد الزّلال
يصيح فيها وقايتونا ... يجري به الثلج في مثال «7»(3/300)
وقال صاحب الفلاحة: من أراد أن يعذب له الماء الزّعاق «1» جعله في قدر جديدة من خزف وغطّى فاها بأسحال «2» ثم أوقد تحتها حتى تغلي ويحصل فيها نصف ذلك الماء ثم صفّاه وتركه، فإنه يجده شروبا «3» .
وقالوا: ماء دجلة يقطع شهوة الرجال ويذهب بصهيل الخيل ونشاطها، ومن لم يأكل الدسم عليه انحلّ عظمه ويبس جلده، وهو مع هذا أهضم للطعام من غيره من المياه وأسرعها بردا.
قال: والنّيل يستقبل الشّمال وينضب في وقت زيادة الأودية ويزيد في وقت نقصانها. وزيادة أوّله وآخره معها؛ ولا تكون التماسيح إلا فيه؛ قال الشاعر [بسيط]
أضمرت للنّيل هجرانا ومقلية ... إذ قيل لي إنّما التمساح في النيل «4»
فمن رأى النيل رأيا العين من كثب ... فما أرى النيل إلا في البواقيل «5»
والسّقنقور «6» أيضا لا يخرج إلا منه.
وروى في الحديث عن الضحّاك بن مزاحم أنه قال قذف الفرات في(3/301)
المدّ رمّانة كأنّها البعير البارك، وتحدّث أهل الكتاب أنها من الجنّة. «1»
وقال ابن ماسويه: ينبغي للماء الغليظ الذي ليس يعذب أن يطبخ حتى يذهب منه نصفه، ثم يطرح فيه السّويق أو الطين الأحمر فإنه يلطّفه ويذهب غائلته «2» ويعذبه ويمنع كدره.
قالت الأطباء: الفقّاع «3» المتّخذ من دقيق الشعير نافع من الجذام «4» .
والجلّاب «5» قاطع لكثرة دم الحيض، والسّكنجبين «6» نافع من الذّبحة إذا كانت من حرارة، يشرب ويتغرغر به.
باب اللّحمان وما شاكلها
قالت الأطباء: لحم الماعز يورث الهمّ، ويحرّك السوداء «7» ، ويورث النسيان، ويخبل الأولاد «8» ، ويفسد الدم؛ وهو ضارّ لمن سكن البلاد الباردة.
وأحمد اللّحمان ما خصي من المعز. والضأن نافع من المرّة السّوداء، إلا أن الممرورين الذين يصرعون، إذا أكلوا لحم الضأن اشتدّ بهم ذلك حتى يصرعوا في غير أوان الصّرع. وأوان الصّرع الأهلّة وأنصاف الشهور.(3/302)
قال الشاعر «1» : [وافر]
كأنّ القوم عشّوا لحم ضأن ... فهم نعجون قد مالت طلاهم «2»
قالوا: واللحم أقلّ الطعام نجوا «3» . ولحم الدّجاج الهرم شرّ اللّحمان وأغلظها.
والبيض إن سلق بالخلّ ثم أكل بالسّمّاق «4» وحبّ الرمّان المفلّق والملح والمرّيّ «5» عقل الطبيعة.
والزبد إن طلي على منابت أسنان الطفل كان معينا على نباتها وطلوعها، والمخّ والدّماغ يفعلان ذلك.
مضارّ الأطعمة ومنافعها
الكمأة»
والفطر «7» - عن أبي هريرة أنّ النبيّ صلّى الله عليه وسلّم خرج عليهم وهم يذكرون الكمأة وبعضهم يقول جدريّ «8» الأرض، فقال: «الكمأة من المنّ «9» وماؤها شفاء للعين والعجوة من الجنّة وهي شفاء من السّقم» .(3/303)
الأصمعيّ عن بعض مشايخه قال: ثلاثة أشياء ربّما صرعت أهل البيت عن آخرهم: الجراد، ولحوم الإبل، والفطر.
وتقول الأطبّاء: إنّ أردأ الفطر ما نبت تحت ظلال الشجر، وأردأ كلّه ما كان في ظلّ شجر الزيتون فإنّه قتّال.
قالوا: والكمّثري إذا طبخ مع الفطر أذهب ضرره.
قالوا: والفطر يورث الذّبحة «1» .
قدم أعرابيّ المصر فأكل فطرا، فأصابته ذبحة، فقيل له: إن الطبيب بعث أن يحلب في فيك، فقال: ما زلت أسمع باللئيم الرّاضع «2» ولا والله لا أكونه؛ قالوا: فتموت إذا؛ قال: وإن متّ.
وتقول الأطباء: إن أكل آكل الفطر فأضرّ به، سقي الكرنب «3» المعصور وسقي من خرء الدّجاج وزن درهمين مع خلّ وعسل مطبوخ وقيّء به.
قالوا: والكمأة تورث وجع القولنج «4» والسّكتة والفالج ووجع المعدة.
قالوا: والذباب لا يقرب قدرا فيه كمأة.
ومن أراد اتخاذ الكمأة اليابسة جعلها في الطين الحرّ يوما وليلة ثم غسلها واستعملها.
بلغني عن فتى من أهل الكتاب أنه قال: كنا في طريق مكّة بالخزيميّة «5» ، فأتانا أعرابيّ بكمأة في كساء قدر ما أطاق، فقلنا: بكم الكمأة؟(3/304)
قال: بدرهمين، فاشتريناها منه ودفعنا الثمن إليه، فلما نهض قال له بعضنا:
«في است المغبون عود» «1» ؛ قال: بل عودان، وضرب الأرض برجله، فإذا نحن على الكمأة.
قال بعض الشعراء: [رجز]
جنيتها تملأ كفّ الجاني ... سوداء ممّا قد سقى السّواني «2»
كأنّها مدهونة بالبان «3»
وهذه صفة أجود الكمأة وأقلّها أذى.
البصل والثّوم
دخل داخل على نصر بن سيّار وحوله بنون له صغار، فقال: هل تدرون ما ولدي هؤلاء؟ هؤلاء بنو البصل؛ وكان يأكله نيئا ومشويّا ومطبوخا.
والأطبّاء تقول في البصل: إنه يشهّي إلى الطعام إن أكل مشويّا أو نيئا، ويشهّي إلى الجماع. وإن دقّ وشمّ عطّس وشهّى الطعام. وإن اكتحل بمائه مع العسل جلا البصر. وإن وضع مع الملح والسّذاب «4» على عضّة الكلب الذي ليس بكلب نفع. والإكثار منه يفسد العقل. والمسلوق منه يدرّ البول والدّمعة.
العصافير إن أكلت بالزّنجبيل والبصل هيّجت شهوة الجماع وأكثرت المنيّ.(3/305)
عن طارق بن شهاب قال: بعث سليمان النبيّ عليه السلام بعض عفاريته وبعث معه رجلا وقال: ردّه إليّ وانظر إلى صنيعه. فمرّ على أهل بيت يبكون فضحك، ودخل إلى السوق ونظر إلى الناس فرفع رأسه إلى السماء وهزّه، ونظر إلى الثّوم وهو يكال كيلا والفلفل وهو يوزن وزنا، فضحك. فلما ردّه إلى سليمان عليه السلام وأخبره بما جرى منه، قال: لم ضحكت من أهل البيت؟ ولم هززت رأسك حين نظرت إلى السوق؟ ولم ضحكت من الثّوم والفلفل؟ قال: أمّا أهل البيت فإنّ الله أدخل ميّتهم الجنّة وهم يبكون عليه؛ ونظرت إلى الناس في السّوق والملائكة من فوق رؤوسهم، والناس يملون والملائكة سراعا يكتبون، فهززت رأسي؛ ونظرت إلى الثّوم وهو شفاء يكال كيلا، وإلى الفلفل وهو داء يوزن وزنا. وعن وهب «1» : أنّ سليمان عليه السّلام قال: مم كنت تضحك؟ قال إنّي مررت برجل يشتري خفّين ويقول لصاحبهما: شرطي عليك أن ألبسهما عشر سنين لا يتخرّقان «2» ؛ فعجبت كيف شرط أمله ونسي أجله. ومررت بعجوز دهريّة «3» تتكهّن وتخبر الناس بما لا يعلمون، والّذي سخّر لك الريح وأذلّ لك الجنّ وعبّد الشياطين إنيّ لأعلم في بيتها تحت فراشها مطمورة «4» فيها قناطير من ذهب وفضّة وهي لا تدري ما تحتها، وقد ماتت هزلا «5» وجوعا وحاجة. ومررت بأخرى دهريّة تتطبّب وكان بها مرّة داء، فأكلت البصل فصادفت منه برءا، فظنّت أنه حسم داءها وشفاها، فهي تصفه للناس من كل داء، وقد كانت في ظهرها ريح حبست منذ زمان(3/306)
فأكلت الثّوم أحدا وعشرين يوما فشفيت منه؛ فعجبت لها كيف تدع أن تصفه.
ومررت برجل على شاطىء نهر يستقي منه في قلّة له ومعه بغلة، فلما سقى البغلة ملأ القلّة وربط البغلة بأذن القلّة وذهب لبعض حاجته، فنفرت البغلة وكسرت القلة؛ فجعل يلعن الشيطان، وبرّأ عقله ونسي فعله. ومررت بقوم يذكرون الله فاجتهدوا ونصبوا «1» وابتهلوا، فلما أظلّت الرحمة ملّة رجل منهم فقام، وجاء آخر لم ينصب معهم فجلس مجلسه، فنزلت الرحمة فدخل فيها معهم وحرمها الأوّل؛ فعجبت من سعادة هذا وشقاوة هذا.
وتقول الأطبّاء: إنّ الثّوم إذا شوي بالنار ووضع على الضّرس المأكول ودلكت به الأسنان التي يعرض فيها الوجع من الرطوبة والريح، أذهب ما فيها بإذن الله من الوجع.
قال: وهو ينفع من العطش الحادث من البلغم، ويقوم مقام التّرياق في لسع الهوامّ، والأمراض الباردة.
وتقول الروم في الثّوم: إنه دواء لمن أصابه وجع السّقي «2» في بطنه.
وإن أكله من ظهر فيه حرّة «3» من شرى «4» أو غيره أبرأه. وإن دقّ الثّوم يابسا فأغلي بسمن ولبن ثم جعله من يشتكي ضرسه في فيه سخنا فأمسكه ساعة، ذهب وجع ضرسه؛ وهو نافع لمن اجتوى «5» .(3/307)
الكرّاث
قالت الأطباء: الكرّاث النّبطيّ إذا أدمن كانت فيه أحلام رديئة، وولّد بخارا في الرأس رديئا. وإن صبّ في مائه خلّ ودقاق كندر «1» واستعط «2» به سكّن الصّداع. وإن سلق أو طحن وأكل أو ضمّد به البواسير العارضة من الرطوبة نفع منها.
وماء الكرّاث إذا خلط بمثله من ألبان النساء ودهن الورد والكندر وكحّل به عين من أصابته غشاوة في عينه فلم يبصر ليلا نفعه. وأكل البصل نافع لذلك أيضا.
الكرنب والقنّبيط
قالوا: الكرنب معين على الإكثار من النبيذ إذا أكل، وهو مدرّ للبول.
وقالت الروم: بين الكرنب والكرم عداوة؛ ولا يكاد يصلح الكرم والكرنب إذا تجاورا. قالت الأطباء: إن احتملت المرأة بزر الكرنب بعد الحيض أسهل المنيّ وأفسده ولم يكن معه حمل، وشرب مائه مع الشّيح الأرمنيّ غير المطبوخ أو ماء التّرمس المنقع «3» مخرج لحبّ القرع «4» من البطن. والقسط «5» أيضا خاصّة بزره يفسد المنيّ إذا احتملته المرأة بعد طهرها؛ ومقدار ما يحتمل وزن درهمين.
وتقول الروم: الكرنب إن طبخ وخلط ماؤه بالحندقوق «6» وسقي المرأة(3/308)
التي تأخّر حيضها حاضت لحينها.
قالوا: وإذا خلط ماء الكرنب بالبنج «1» كان نافعا للسّعال.
قال أبو محمد: سكوت إلى حنين الطبيب علّة كنت أجدها في حلقي لا أكاد أبتلع معها ريقي؛ فقال: هي بيّنة في عينك. فتغرغر بعقيد العنب مع خمير ثلاثة أيام في كل يوم ثلاث مرات؛ ففعلت ذلك يوما واحدا فذهب.
قالوا: وإذا دقّ الكرنب وخلط به شيء من زاج «2» الأساكفة وشيء من خلّ، فأوجف «3» ذلك بالخطميّ»
، ثم طلي به برص أو جرب نفع بإذن الله تعالى.
السّلجم «5» والفجل
تقول الأطباء في الفجل: إنّه مهيّج للجماع زائد في المنيّ، وبزره نافع من السموم قالوا: والفجل هاضم للطعام، فإن أكل بزره بعسل كان دواء من السّعال والفواق «6» ؛ وإذا شدخت «7» قطعة فجل فطرحت على عقرب ماتت؛ وماؤه وبزره للسموم بمنزلة التّرياق «8» . وإذا طلى أحد يده بمائه ثم قبض على(3/309)
حيّة أو غيرها من الهوامّ لم يضارّ ذلك الموضع. قالوا: وإن دقّ بزره مع الكندر «1» وطلي به البهق الأسود «2» في الحمّام أذهبه. وإن شرب ماء ورقه نفع من الأرقان «3» الحادث من الطّحال.
الباذنجان
قالوا: والباذنجان مكلف «4» للوجه يورث داء السّرطان والأورام الصّلبة.
وحدّثني أبي عن أبي الحارث جمّيز أنه سمعه يقول في الباذنجان: لا آكله، لون العقرب وشبه المحجمة. قيل له: فقد رأيناك تأكله على خوان فلان! قال: كان ميتة وأنا مضطرّ.
الخيار والقثّاء
قالوا؛ شمّ الخيار نافع لمن أصابه الغشي «5» من الحرارة. وبزر القثّاء إذا شربه من به حمّى الأسى «6» نفعه. وإن أصابت رضيعا حمّى فألزقت به خيارتين تمسّان جلده إحداهما عن يمينه والأخرى عن شماله، أقلعت الحمّى عنه.
السّلق
قالوا: والسّلق إن دقّ مع أصله وعصر ماؤه وغسل به الرأس ذهب بالأتربة وأطال الشعر.(3/310)
الهليون «1»
قالوا: والهليون مدرّ للبول، نافع من القولنج.
القرع
قالوا: إذا شوي القرع بالنار ثم عصر فجعل من مائه في أذن من اشتكى أذنه نفعه. وإن دهنت منابت شعر اللّحية بدهن القرع المرّ، وقثّاء الحمار «2» مذابا فيه شيح أرمنيّ أسرع فيها نبات الشّعر.
البقول
قالوا: والجرجير زائد في الباه «3» والإنعاظ «4» مدرّ للبول. وتذكر الروم أنّ من أكل الجرجير ثم ضرب بالسياط هوّن عليه بعض ذلك الجلد. قالوا: وهو ينفع من ذفر الإبطين «5» إذا أكل على الريق وطلي الإبطان بمائه. وتزعم الروم أنّ ماءه ينفع من عضّة ابن عرس.
وقال بعض الأطباء: إن ذرّ بزر الجرجير مدقوقا في البيض وحشي كان ذلك زائدا في الباه والإنعاظ زيادة بيّنة. قال أبو حاتم عن القحذميّ قال: أكله أعرابيّ فأنعظ شهرا، فقال الفرزدق يفخر به: [طويل]
ومنّا التميميّ الذي قام أيره ... ثلاثين يوما ثم زادهم عشرا(3/311)
قالوا: والسّذاب «1» قاطع لشهوة الجماع. وقالت الروم: إن أكلت امرأة حامل أربعة مثاقيل كلّ يوم بماء سخن أو نبيذ خمسة عشر يوما أسقطت ولدها.
وقال بعض الشعراء: [مجتث]
كم نعمة للسّذاب ... جليلة في الرّقاب
الناس عنها غفول ... إلّا ذوي الألباب
فالحمد لله شكرا ... لولا مكان السّذاب
لغيّب الأرض نسل ال ... مغنّيات القحاب
قالوا: والبقلة الحمقاء «2» إذا مضغت أذهبت الطّرش، وإذا أكلت أذهبت شهوة الجماع. والروم تقول: إن نظر ناظر عند رؤية الهلال إلى الهندباء فحلف بإله القمر ألّا يأكل هندباء ولا لحم فرس، سلّم في كلّ شهر يحلف فيه من وجع الضرس.
قالت الأطباء: الخسّ إذا أكل على الريق نافع لتغيير الماء ومن يتأذّى باحتلام. وإذا شرب بزره بماء قطع شهوة الجماع.
قالوا: والخردل إن أكثر من أكله أورث ضعفا في البصر، وهو مكثّر للّبن مدرّ للبول، وهو نافع من الصّرع. وإن اكتحل بمائه بعد أن يغلى عليه(3/312)
ويصفّى جلا البصر الضعيف من الرطوبة. وتزعم الروم أن ماءه يصلح للأطفال من الحمّى إذا أصابتهم. وهو يفسد الذهن ويورث النّسيان ويضعف البصر.
قالت الأطباء: النّعناع يسكّن القيء، وينفع من الفواق الحادث من البلغم إذا شرب مع النّمام «1» .
وتقول الروم: الحبق «2» الذي على شطوط الأنهار نافع للرّمد إذا دقّ ونخل واكتحل به، وإن مضغه ماضغ ووضعه على عينه نفعه.
وأما الفوذنج «3» النّهري- فإنه يدرّ الطّمث «4» . وإن أخذ من الفوذنج الجبليّ أوقيّة وطبخ بنصف رطل من ماء حتى يبقى الثلث ويشرب، سهّل السّوداء.
وقالت الأطباء: الحندقوق «5» يورث وجع الحلق، ويذهب بضرره من يأكل بعده الكزبرة الرّطبة والبقلة الحمقاء والهندباء.
والطّرخون «6» يؤكل مع الكرفس.
قالوا: والراسن «7» ينفع من قطار البول إذا كان من برد، ويقوّي المثانة.(3/313)
قالوا: والكشوث «1» يذهب بالأرقان.
قالوا: وعنب الثعلب قاطع لدم الحيض إن شرب أو احتمل.
وقالوا؛ الكرفس «2» إذا طبخ وشرب كان دواء من وجع الكليتين ومن الأسر «3» .
باب الحبوب والبزور
تقول الأطبّاء في حبّ الفلفل: إذا خلط بالسّمسم وعجن بعسل الطّبرزذ «4» يزيد في الجماع.
والعرب تزعم أنّ الحبّة الخضراء وشرب ألبان الإيّل عليها تبعث الشّهوة.
قال جرير: [طويل]
أجعثن «5» قد لاقيت عمران شاربا ... على الحبّة الخضراء ألبان إيّل «6»
والحمّص زائد في الجماع، مكثر للمنيّ، محسّن للّون، زائد في لبن المرضع، يدرّ دم الحيض، وإن خلط بالباقلاء أسمن.
الأصمعيّ قال: قلت لابن أبي عطارد: بلغني أنّ أباك كان ذا منزلة من ابن سيرين، فما حفظت عنه؟ قال قال أبي: قال لي ابن سيرين: يا أبا عطارد، إن سويق العدس بارد وهو يدفع الدّم.(3/314)
قالت الأطبّاء: إنّ الخردل نافع من حمّى الرّبع «1» والحميات المتقادمة ووجع الأرحام ويجفّف من البلغم، وينزل الرطوبة من الرأس، وإن أكل مع السّلق المسلوق نفع من الصّرع، وإن طلي البرص به زال.
وقالت الأطبّاء: الحرف «2» يخرج حبّ القرع من البطن، وينفع من عرق النّسا «3» ووجع الورك. وإن سخّن بالماء الحارّ وشرب منه وزن أربعة دراهم أو خمسة أسهل الطبيعة «4» ونفع من القولنج.
وقال رجل من قدماء الأطبّاء في الباقلاء: إنه إذا أدمن أكلّ «5» البصر، وأحال الأحلام أضغاثا «6» لا ينتفع بها ولا يجد عابر الرؤيا إلى تأويلها سبيلا.
ودهن الشّاهدانج «7» نافع لوجع الأذن العارض من البرد والعلل المتقادمة منها.
باب الفاكهة
عن معمر بن خثم عن جدّته قالت: سمعت عليّ بن أبي طالب رضي الله عنه يقول: إذا أكلتم الرّمّان فكلوه بشحمه فإنه دباغ للمعدة، وذلك يوم الجمعة على المنبر.(3/315)
الأصمعيّ: قيل لأعرابيّ: لم تبغض الرمّان؟ قال: لأنه مبخرة مجفرة مجعرة «1» .
قال: وقال يحيى بن خالد: شيئان يورثان القمل: التّين اليابس إذا أكل، وبخار اللّبان «2» إذا تبخّر به.
وقالت الأطبّاء: ورق الخوخ وأقماعه إن دقّ وعصر وشرب أسهل حبّ القرع والدّيدان والحيّات المتولّدة في البطن، وإن صبّ ماء ورقه في الأذن أمات الدّيدان فيها، وإن تدلّك بورقه بعد النّورة «3» قطع ريحها.
وحمّاض الأترجّ «4» إن لطخ به الكلف والقوب «5» أذهبه. وحبّ الأترجّ نافع من السّموم.
وورق التّفّاح الغضّ إن دقّ بالرّفق أيّاما خمسة أو ستة ثم ضمد به الوشم «6» قلعه من غير أن يقرح موضعه.
عن الزّهريّ قال: حدّثني رجل من أصحاب رسول الله صلّى الله عليه وسلّم قال: «من بات وفي بطنه جزرة أو جزرتان أو ثلاث أمن القولنج والدّبيلة «7» » .
والفستق: إن دقّ وشرب بالمطبوخ الشديد نفع من لسع الهوامّ.(3/316)
واللّفّاح «1» : سمّ، وربما قتل آكله. وتدفع مضرّته بالقيء بالشّراب والعسل والإسهال وشمّ الفلفل والخردل والجندبادستر «2» والسّذاب والتّعطّس.
قال وحدّثني شيخ من الدّهاقين «3» عالم بأيام العجم: أن بزرجمهر قال لأهل الحبس: سلوا الملك أن يرزقكم مكان الأدم الأترجّ، ليكون القشر لطيبكم، ولحمته لفاكهتكم، والحمّاض لصباغكم، والحبّ لدهنكم. فكان ذلك أوّل ما عرفت به حكمته.
باب مصالح الطعام
قال رئيس من رؤساء الطبّاخين: العجين يملك. وفي الحديث المرفوع: «أملكوا «4» العجين فإنه أحد الرّيعين» .
السّويق: يغسل بالماء الحارّ مرّات ثم بالبارد ويشرب.
والملح: يتقبّل به الطبيخ.
والخلّ: ينضج العدس ويصلحه للأكل.
الباقلي: ينقع ثم يطبخ. ولا يؤكل من الفاكهة إلا ما نضج على شجره، ويلقى ثفله وعجمه «5» ، ويؤكل على ريق النّفس.
والعنب: يقطف ويمهل أيّاما ثم يؤكل. ولا يؤكل من القنّب «6» إلا لبّه.(3/317)
ولا يؤكل من الرأس إلا أسنانه «1» وعيونه.
الباذنجان: يشقّ ويحشى بالملح، ويترك ساعة في الماء البارد، ثم يصبّ عنه ويعاد إلى الماء مرارا، ثم يسلق بعد ذلك.
الكبر «2» : يؤكل بالخلّ بعد غسله بالماء من الخلّ.
الزيتون: يؤكل وسط الطعام ويصبّ في الخل.
ويؤكل من الأشترغاز «3» خلّه ولا يعرض لجسمه.
والكمأة: تنصّف ويقشر عنها قشرها، وتسلق بالماء والملح ثم تستعمل بالسّعتر «4» والفلفل، وتقلى بالزّيت الرّكابي «5» ، وكذلك الفطر.
السّلق والكرنب: يسلقان بالماء والملح، ويصبّ ماؤها ثم يستعملان.
والبقول: تمسح ثم تؤكل ولا تغسل بالماء.
وأحمد التّمور الهيرون «6» . وأحمد البسور الجيسران «7» . وما اصفرّ أحمد مما اسودّ.
وخير السّمك الشّبّوط والبنانيّ والميّاح «8» . ولا يؤكل السمك الطّريّ إلا(3/318)
حارّا بالخردل في الشتاء، وفي الصيف بالخلّ وبالأبازير «1» . وأقلّ السّمك أذى الممقور «2» . وشرّ السمك كباره السماريس «3» . وخير السماريس البيض، وأكلها خير من أكل الحمر، وشرّها السّود.
وخير البيض بيض الشّوابّ «4» من الدّجاج، ولا خير في بيض الهرمة.
وأخفّ البيض الرقيق، وأثقله البيض الصلب.
ولا يعرض من الرأس للدّماغ ولا للسان، ولا الغلصمة «5» ولا الخراطيم.
ولحم العنق خفيف سريع الإنهضام. وفي الحديث المرفوع: «العنق هادية «6» الشاة وهي أبعدها من الأذى» .
والفقّاع «7» : يشرب قبل الطّعام ولا يشرب بعده.
واللّبن: لا يؤكل ولا يشرب إلا بعد وضع الشاة بشهر ونحوه.
والباقليّ «8» ؛ يؤكل بعد الفوذنج «9» فإنه يذهب بنفخته.
اللوبياء: يؤكل بعده الخردل الرّطب، ويشرب بعده ماء الرّمّان(3/319)
والسّكنجبين «1» المعمول بالسّكر.
الهريسة «2» : تؤكل بالفلفل الكثير والمرّيّ «3» ولا يجعل فيها السّمن.
والمضيرة «4» : تطبخ بالفوذنج والسّذاب والكرفس.
الزّيت الرّكابيّ: إذا خلط بالخلّ أو أغلي على النار ثم رفعت رغوته عاد كالمغسول. وفي الحديث: أن عمر رضي الله عنه قال: عليكم بالزّيت، فإن خفتم ضرره فأثخنوه بالماء فإنه يصير كالسّمن.
عن عقبة بن عامر قال: قال رسول الله صلّى الله عليه وسلّم: «عليكم بالشّجرة التي نادى الله منها موسى عليه السلام زيت الزّيتون ادّهنوا به فإنه شفاء من الباسور» .
الخردل: يعجن بالخلّ ويغسل بالماء ورماد البلّوط أو رماد الكرم مرارا بعد أن ينعم دقّه ونخله، ثم يغسل بالماء القراح ويرشّ بالماء حتى تخرج رغوته ويكثر خلّه، ويخلط معه اللّوز الحلو أو ماء الرّمان الحامض وماء الزّبيب.
صورة ما جاء بخاتمة الجزء التاسع من النسخة الخطية التي نقل عنها الأصل الفتوغرافي.
تمّ كتاب الطعام وهو الكتاب التاسع من عيون الأخبار لابن قتيبة، ويتلوه في الكتاب العاشر كتاب النساء. والحمد لله ربّ العالمين، وصلاته على خير خلقه محمد وآله أجمعين.
وكتبه الفقير إلى رحمة الله تعالى إبراهيم بن عمر بن محمد بن عليّ(3/320)
الجزريّ الواعظ، في شهور سنة أربع وتسعين وخمسمائة هجرية.
نجز كتاب الطعام ويتلوه في الجزء العاشر كتاب النساء.
جاء بعد خاتمة الجزء التاسع من النسخة الخطية التي نقل عنه الأصل الفتوغرافي ما يأتي:
قال الأصمعيّ: دخلت على هارون الرشيد وبين يديه بدرة «1» ، فقال: يا أصمعيّ، إن حدّثتني بحديث في العجز «2» فأضحكتني وهبتك هذه البدرة؛ فقال: نعم يا أمير المؤمنين؛ بينا أنا في صحارى الأعراب في يوم شديد البرد والرّيح وإذا بأعرابيّ قاعد على أجمة «3» وهو عريان، قد احتملت الرّيح كساءه، فألقته على الأجمة؛ فقلت له: يا أعرابيّ؛ ما أجلسك هاهنا على هذه الحالة؟
فقال: جارية وعدتها يقال لها سلمى، أنا منتظر لها؛ فقلت: وما يمنعك من أخذ كسائك؟ فقال: العجز يوقفني عن أخذه، فقلت له: فهل قلت في سلمى شيئا؟ فقال: نعم؛ فقلت: أسمعني لله أبوك! فقال: لا أسمعك حتى تأخذ كسائي وتلقيه عليّ؛ قال: فأخذته فألقيته عليه، فأنشأ يقول: [وافر]
لعلّ الله أن يأتي بسلمى ... فيبطحها ويلقيني عليها
ويأتي بعد ذاك سحاب مزن ... تطهّرنا ولا نسعى إليها «4»
فضحك الرشيد حتى استلقى على ظهره، وقال: أعطوه البدرة، فأخذها الأصمعيّ وانصرف.
ويروى أن الحسن بن زيد لما ولي المدينة قال لابن هرمة: إني لست(3/321)
كمن باعك دينه رجاء مدحك أو خوف ذمّك، فقد رزقني الله بولادة نبيّه عليه السلام الممادح وجنّبني المقابح، وإنّ من حقّه عليّ ألّا أغضي «1» على تقصير في حقّ ربّه. وأنا أقسم لئن أتيت بك سكران لأضربنّك حدّا للخمر وحدّا للسكر «2» ، ولأزيدنّ لموضع حرمتك بي. فليكن تركك لها لله تعن عليه، ولا تدعها للناس فتوكل إليهم؛ فنهض ابن هرمة «3» وهو يقول: [وافر]
نهاني ابن الرسول عن المدام ... وأدّبني بآداب الكرام «4»
وقال لي اصطبر عنها ودعها ... لخوف الله لا خوف الأنام
وكيف تصبّري عنها وحبّي ... لها حبّ تمكّن في عظامي
أرى طيب الحلال عليّ خبثا ... وطيب النفس في خبث الحرام
ذكر هذا الخبر أبو العباس المبرّد في كتاب الكامل.(3/322)
الجزء الرابع
بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ
كتاب النساء
في أخلاقهن وخلقهن وما يختار منهن وما يكره
عن مجاهد عن يحيى بن جعدة قال قال رسول الله صلّى الله عليه وسلم: «تنكح المرأة لدينها وحسبها وحسنها فعليك بذات الدّين تربت يداك» «1» ثم قال: «ما أفاد رجل بعد الإسلام خيرا من امرأة ذات دين تسرّه إذا نظر إليها وتطيعه إذا أمرها وتحفظه في نفسها وماله إذا غاب عنها» .
وعن عائشة رضي الله عنها قالت: لا تدخل المرأة على زوجها في أقلّ من عشر سنين.
قالت عائشة: وأدخلت على رسول الله صلّى الله عليه وسلّم وأنا بنت تسع سنين.
الأصمعيّ قال: أخبرنا شيخ من بني العنبر قال: كان يقال: النساء ثلاث: فهيّنة ليّنة عفيفة مسلمة تعين أهلها على العيش ولا تعين العيش على أهلها، وأخرى وعاء للولد، وأخرى «غلّ قمل» «2» يضعه الله في عنق من يشاء(4/3)
ويفكّه عمن يشاء. والرجال ثلاثة: فهيّن ليّن عفيف مسلم، يصدر الأمور مصادرها، ويوردها مواردها، وآخر ينتهي إلى رأي ذي الّلبّ والمقدرة فيأخذ بأمره، وينتهي إلى قوله، وآخر حائر بائر «1» ، لا يأتمر لرشد، ولا يطيع مرشدا.
عن جعفر بن محمد عن أبيه عن عليّ بن أبي طالب عليه السلام قال:
خير نسائكم العفيفة في فرجها، الغلمة لزوجها «2» .
وعن عروة بن الزّبير قال: ما رفع أحد نفسه بعد الإيمان بالله بمثل منكح صدق، ولا وضع نفسه بعد الكفر بمثل منكح. سوء. ثم قال: لعن الله فلانة، ألفت «3» بني فلان بيضا طوالا فقلبتهم سودا قصارا.
قال بعض شعراء بني أسد: [طويل]
وأوّل خبث الماء خبث ترابه ... وأوّل خبث القوم خبث المناكح
قال الأصمعيّ قال ابن زبير؛ لا يمنعكم من تزوّج امرأة قصيرة قصرها، فإنّ الطويلة تلد القصير، والقصيرة تلد الطويل؛ وإيّاكم والمذكّرة «4» فإنها لا تنجب.
أبو عمرو بن العلاء قال قال رجل: لا أتزوّج امرأة حتى أنظر إلى ولدي منها، قيل له: كيف ذاك؟ قال: أنظر إلى أبيها وأمّها فإنها تجرّ بأحدهما «5» .
عن ابن أبي مليكة أنّ عمر قال: يا بني السائب، إنكم قد أضويتم «6»(4/4)
فانكحوا في النزائع «1» .
الأصمعيّ قال: قال رجل: بنات العمّ أصبر، والغرائب أنجب «2» ، وما ضرب رؤوس الأبطال كابن أعجميّة «3» .
عن أوفى بن دلهم أنه كان يقول: النساء أربع، فمنهنّ معمع «4» لها شيئها أجمع، ومنهن تبع تضرّ ولا تنفع، ومنهنّ صدع «5» تفرّق ولا تجمع، ومنهن غيث همع «6» إذا وقع ببلد أمرع «7» . قال الأصمعيّ: فذكرت بعض هذا الحديث لأبي عوانة «8» . فقال: كان عبد الله بن عمير يزيد فيه: ومنهن القرثع «9» : وهي التي تلبس درعها مقلوبا، وتكحل إحدى عينيها وتدع الأخرى.
عن عليّ بن زيد قال قال عمر بن الخطّاب رضي الله عنه: ثلاث من الفواقر «10» : جار مقامة، إن رأى حسنة سترها، وإن رأى سيئة أذاعها؛ وامرأة إن دخلت لسنتك «11» ، وإن غبت عنها لم تأمنها؛ وسلطان إن أحسنت لم يحمدك، وإن أسأت قتلك.(4/5)
الأصمعيّ قال: حدّثنا جميع بن أبي غاضرة- وكان شيخا مسنّا من أهل البادية من ولد الزّبرقان بن بدر من قبل النساء- قال: كان الزبرقان يقول:
احبّ كنائني «1» إليّ الذليلة في نفسها، العزيزة في رهطها، البرزة «2» الحيّية التي في بطنها غلام ويتبعها غلام. وأبغض كنائني إليّ الطّلعة الخبأة «3» ، التي تمشي الدّفّقى «4» وتجلس الهبنقعة «5» ، الذليلة في رهطها، العزيزة في نفسها، التي في بطنها جارية وتتبعها جارية.
بلغني عن خالد بن صفوان أنه قال: من تزوّج امرأة فليتزوّجها عزيزة في قومها، ذليلة في نفسها، أدّبها الغنى وأذلّها الفقر. حصانا من جارها «6» ما جنة على زوجها «7» .
وقال الفرزدق يصف نساء: [كامل]
يأنسن عند بعولهنّ إذا خلوا ... وإذا هم خرجوا فهنّ خفار «8»
وقال خالد بن صفوان لدلال «9» : اطلب لي بكرا كثيّب «10» أو ثيبّا كبكر، لا(4/6)
ضرعا «1» صغيرة ولا عجوزا كبيرة لم تقرّ فتحنن ولم تفت فتمحن «2» ، قد عاشت في نعمة وأدركتها حاجة. فخلق النعمة معها وذلّ الحاجة فيها، حسبي من جمالها أن تكون ضخمة من بعيد، مليحة من قريب وحسبي من حسبها أن تكون واسطة في قومها، ترضى مني بالسّنّة، إن عشت أكرمتها وإن متّ ورّثتها.
وقال رجل لصاحب له: ابغني امرأة بيضاء البياض، سوداء السواد، طويلة الطول، قصيرة القصر. يريد: كلّ شيء منها أبيض فهو شديد البياض، وكلّ شيء منها أسود فهو شديد السواد، وكذلك الطول والقصر.
وقال آخر: ابغني امرأة لا تؤهّل دارا (أي لا تجعل دارها آهلة بدخول الناس عليها) ، ولا تؤنس جارا (أي لا تؤنس الجيران بدخولها عليهم) ، ولا تنفث نارا أي لا تنمّ وتغري بين الناس.
قال الأصمعيّ قال أعرابيّ لابن عمّه: اطلب لي امرأة بيضاء، مديدة «3» فرعاء «4» . جعدة «5» ، تقوم فلا يصيب قميصها منها إلا مشاشة «6» منكبيها، وحلمتى ثدييها ورانفتي «7» أليتيها ورضاف «8» ركبتيها، إذا استلقت فرميت تحتها(4/7)
بالأترجّة «1» العظيمة نفذت من الجانب الآخر، فقال له ابن عمه: وأنّى بمثل هذه إلّا في الجنان!.
ونحو قوله في الأترجّة قول أمّ زرع: خرج أبو زرع والأوطاب «2» تمخض، فلقي امرأة معها ولدان لها كالفهدين يلعبان تحت خصرها برمّانتين فطلقّني ونكحها.
وقال آخر: ابغني امرأة شقّاء مقّاء «3» ، طويلة الإلقاء «4» ، منهوسة الفخذين «5» ، نافحة الصّقلين «6» .
أنشد ابن الأعرابيّ: [طويل]
إذا كنت تبغي أيّما بجهالة ... من الناس فانظر من أبوها وخالها «7»
فإنّهما منها كما هي منهما ... كقدّك نعلا إن أريد مثالها
فإنّ الذي ترجو من المال عندها ... سيأتي عليه شؤمها وخبالها «8»
كان يقال: البكر كالذّرة تطحنها وتعجنها وتخبزها، والثّيّب عجالة «9» راكب تمر وسويق.
وقال ابن الأعرابيّ: طلّق زياد امرأته حين وجدها لثغاء «10» ، وقال: أخاف(4/8)
أن يجيء ولدي ألثغ، وقال: [رجز]
لثغاء تأتي بحيفس ألثغ ... تميس في الموشي والمصبّغ»
ويقال: المرأة غلّ فانظر ماذا تضع في عنقك؛ وهو من قول ابن المقفّع: الدّين رقّ، فانظر عند من تضع نفسك. أنشد ابن الأعرابيّ:
[طويل]
أحبّ الخلاويّ النزيه من الهوى ... وأكره أن أسقى على عطش فضلا «2»
يقول: أكره المرأة التي أكثرت الأزواج وإن كنت مضطرّا إليها.
وعن خالد الحذّاء قال: خطبت امرأة من بني أسد فجئت لأنظر إليها وبيني وبينها رواق يشفّ «3» ، فدعت بجفنة «4» مملوءة ثريدا مكلّلة باللحم فأتت على آخرها، وأتت بإناء مملوء لبنا أو نبيذا فشربته حتى كفأته «5» على وجهها، ثم قالت: يا جارية ارفعي السّجف «6» فإذا هي جالسة على جلد أسد وإذا شابة جميلة، فقالت: يا عبد الله: أنا أسدة من بني أسد على جلد أسد وهذا مطعمي ومشربي، فإن أحببت أن تتقدّم فافعل، فقلت: استخير الله وأنظر، فخرجت ولم أعد.
وعن أنس قال قال رسول الله صلّى الله عليه وسلّم وأمّ سليم تنظر إلى امرأة فقال: «شمّي(4/9)
عوارضها «1» وانظري إلى عقبها» .
وقال النابغة: [بسيط]
ليست من السّود أعقابا إذا انصرفت ... ولا تبيع بجنبي نخلة البرما «2»
وقال الأصمعيّ: إذا اسودّ عقب المرأة اسودّ سائرها.
تزوّج عليّ بن الحسين أمّ ولد لبعض الأنصار، فلامه عبد الملك في ذلك، فكتب إليه: إن الله قد رفع بالإسلام الخسيسة وأتمّ النقيصة، وأكرم به من اللؤم فلا عار على مسلم، هذا رسول الله صلّى الله عليه وسلّم قد تزوّج أمته وامرأة عبده، فقال عبد الملك: إن عليّ بن الحسين يتشرّف من حيث يتّضع الناس.
الأصمعيّ قال: كان أهل المدينة يكرهون اتّخاذ أمهات الأولاد حتى نشأ فيهم عليّ بن الحسين والقاسم بن محمد بن أبي بكر وسالم بن عبد الله بن عمر، ففاقوا أهل المدينة فقها وورعا فرغب الناس في السّراري «3» .
وقال مسلمة بن عبد الملك: عجبنا من رجل أحفى «4» شعره ثم أعفاه، أو قصّر شاربه ثم أطاله، أو كان صاحب سراريّ فاتّخذ المهيرات «5» .
قال رجل من أهل المدينة:
لا تشتمنّ امرأ في أن تكون له ... أمّ من الروم أو سوداء عجماء(4/10)
فإنما أمّهات الناس أوعية ... مستودعات وللأحساب آباء
وربّ واضحة ليست بمنجبة ... وربما أنجبت للفحل سوداء «1»
بلغني أن رجلا شاور حكيما في التّزوّج فقال له: افعل، وإيّاك والجمال الفائق، فإنه مرعى أنيق، فقال: ما نهيتني إلّا عما أطلب، فقال: أما سمعت قول القائل: [بسيط]
ولن تصادف مرعى ممرعا أبدا ... إلا وجدت به آثار منتجع «2»
وقال عمر بن الوليد للوليد بن يزيد: إنك لمعجب بالإماء، قال: وكيف لا أعجب بهنّ وهنّ يأتين بمثلك.
ويروى عن أبي الدّرداء أنه قال: خير نسائكم التي تدخل قيسا وتخرج ميسا «3» وتملأ بيتها أقطا «4» وحيسا، وشرّ نسائكم السّلفعة «5» ، التي تسمع لأضراسها قعقعة «6» ، ولا تزال جارتها مفزّعة. وقد فسرت هذا في كتاب غريب الحديث.
وقال معاوية لعقيل بن أبي طالب: أيّ النساء أشهى؟ قال: المؤاتية لما تهوى، قال: فأيّ النساء أسوأ؟ قال: المجانبة لما ترضى؛ قال معاوية: هذا والله النّقد، قال عقيل؛ بالميزان العادل.(4/11)
الأكفاء من الرجال
عن أبي هريرة قال قال النبي صلّى الله عليه وسلّم: «إذا جاءكم من ترضون خلقه وخلقه فزوّجوه إنكم إلّا تفعلوه تكن قتنة في الأرض وفساد عريض» .
وعن الحسن عن سمرة عن النبيّ صلّى الله عليه وسلّم قال: الحسب المال والكرم التقوى.
وعن أنس قال: قالت أمّ حبيبة: يا رسول الله، المرأة منّا يكون لها الزوجان في الدنيا فتموت فلأيّهما تكون في الآخرة؟ قال: «لأحسنهما خلقا يا أمّ حبيبة، ذهب حسن الخلق بخير الدنيا والآخرة» .
عن عطيّة بن قيس قال: خطب معاوية أمّ الدّرداء فقالت: قال أبو الدرداء: قال رسول الله صلّى الله عليه وسلّم: «المرأة لآخر زوجيها» فلست بمتزوّجة بعد أبي الدرداء حت أتزوّجه في الجنة إن شاء الله تعالى. ويقال: إنما حرم أزواج النبيّ صلّى الله عليه وسلّم على من بعده لأنّهنّ أزواجه في الجنّة.
عن هشام بن عروة عن أبيه قال: قال عمر بن الخطاب رضي الله عنه:
لا تكرهوا فتياتكم على الرجل القبيح فإنّهنّ يحببن ما تحبّون.
ابن الأعرابيّ قال: قيل لابنة الخسّ «1» : ألا تتزوّجين؟ فقالت: بلى، لا أريده أخا فلان ولا ابن فلان ولا الظريف المتظرّف ولا السمين الألحم «2» ، ولكن أريده كسوبا إذا غدا، ضحوكا إذا أتى. وكان أبوها قد كفّ بصره فقال:
ما بال ناقتك؟ قالت: عينها «3» هاجّ وملؤها راج «4» وتمشي وتفاج «5» ؛ فقال: يا بنيّة اعقليها، فعقلتها. فقال: ما صنعت حتى اضطرمت «6» .(4/12)
قيل لأعرابيّ: فلان يخطب فلانة، قال: أموسر من عقل ودين؟ قالوا:
نعم، قال: فزوّجوه.
عن عيسى بن عمر قال: قال رجل لأعرابيّ: أمنكحي أنت؟ قال: لا، قال: ولم؟ لأنك أصبح اللّحية «1» .
وكان عقيل بن علّفة غيورا، فخطب إليه عبد الملك بن مروان ابنته على أحد بنيه «2» ، وكانت لعقيل إليه حوائج، فقال له: إن كنت لا بدّ فاعلا فجنّبني هجناءك «3» .
وخطب إليه إبراهيم بن هشام بن إسماعيل- وكان إبراهيم بن هشام والي المدينة وخال هشام بن عبد الملك- فردّه لأنه كان أبيض شديد البياض، فقال: [وافر]
رددت صحيفة القرشيّ لمّا ... أبت أعراقه إلا احمرارا
وقال رجل من الأعراب: [طويل]
يسمّوننا الأعراب والعرب اسمنا ... واسماؤهم فينا رقاب المزاود «4»
يعني العجم يسمّون الحمراء.
ابن الأعرابيّ قال: قال عبد الملك بن مروان لامرأة من قريش تزوّجت(4/13)
رجلا مغموصا عليه «1» : أتنكح الحرّة عبدها؟ فقالت: يا أمير المؤمنين:
[رجز]
إنّ المهور تنكح الأيامى ... النّسوة الأرامل اليتامى
المرء لا تبغي له سلاما
وقال ابن الأعرابيّ: خطب رجل إلى رجل فلم يرضه فأنشأ يقول:
[بسيط]
قل للّذين سعوا يبغون رخصتها ... ما رخّص الجوع عندي أمّ كلثوم
الموت خير لها من بعل منقصة ... ساقت إليه أباها جلّة كوم «2»
وكان عمر الخير نكّاحا فكان في عام سنة يقول: لعل الضّيّقة تحملهم على أن ينكحوا غير الأكفاء.
وقال المساور «3» للمرّار: [بسيط]
ما سرّني أنّ أمي من بني أسد ... وأنّ ربّي ينجيني من النّار
وأنهم زوّجوني من بناتهم ... وأنّ لي كلّ يوم ألف دينار
فأجابه المرّار: [بسيط]
فلست للأمّ من عبس ومن أسد ... وإنما أنت دينار ابن دينار
وإن تكن أنت من عبس وأمّهم ... فإن أمّكم من جارة الجار
دينار ابن دينار: عبد ابن عبد. وجارة الجار: الاست، والجار: الفرج.(4/14)
وقال بعض الأعراب: [طويل]
أقول لها لما أتتني تدلّني ... على امرأة موصوفة بجمال
أصبت لها والله بعلا كما اشتهت ... إن اغتفرت مني ثلاث خصال
فمنهنّ فسق لا يبارى وليده ... ورقّة إسلام وقلّة مال
وقال رجل لابن هبيرة: أنا ابن الذي خطب إلى معاوية؛ فقال ابن هبيرة: أفزوّجه؟ قال: لا؛ فقال: ما صنعت شيئا.
أبو الحسن المدائنيّ قال: خطب رجل من بني كلاب امرأة، فقالت له أمّها: حتى أسأل عنك، فانصرف فسأل عن أكرم الحيّ عليها، فدلّ على شيخ فيهم كان يحسن المحضر في الأمر يسأل عنه، فسأله أن يحسن عليه الثناء وانتسب له فعرفه؛ ثم إنّ العجوز شمّرت «1» فسألته عنه فقال: أنا ربّيته، قالت:
كيف لسانه؟ قال: مدره قومه وخطيبهم «2» . قالت: كيف شجاعته؟ قال: حامي قومه وكهفهم. قالت: فكيف سماحته؟ قال: ثمال «3» قومه وربيعهم «4» . فأقبل الفتى فقال الشيخ: ما أحسن والله ما أقبل! ما انثنى ولا انحنى. فدنا الفتى فقال الشيخ: ما أحسن والله ما سلّم! ما جار ولا خار «5» . ثم جلس، فقال: ما أحسن والله ما جلس! ما دنا ولا ثنى. فذهب الفتى ليتحرّك فضرط، فقال الشيخ: ما أحسن والله ما ضرط! ما أغنّها ولا أطنّها، ولا بربرها ولا فرفرها.
فنهض الفتى خجلا فقال: ما أحسن والله ما نهض! ما انفتل ولا انحزل «6» .(4/15)
فأسرع الفتى، فقال: ما أحسن والله ما خطا! ما ازورّ ولا اقطوطى «1» . قالت العجوز: وجّه إليه من يردّه، لو سلح لزوّجناه.
خطب خالد بن صفوان امرأة فقال: أنا خالد بن صفوان؛ والحسب على ما قد علمته، وكثرة المال على ما قد بلغك، وفيّ خصال سأبيّنها لك فتقدمين عليّ أو تدعين؛ قالت: وما هي؟ قال: إن الحرّة إذا دنت منّي أملّتني، وإذا تباعدت عني أعلّتني، ولا سبيل إلى درهمي وديناري، ويأتي عليّ ساعة من الملال لو أنّ رأسي في يدي نبذته؛ فقالت: قد فهمنا مقالتك ووعينا ما ذكرت، وفيك بحمد الله خصال لا نرضاها لبنات إبليس، فانصرف رحمك الله.
قال بعض الشعراء: [وافر]
ألا يا ليل إن خيّرت فينا ... بعيشك فانظري أين الخيار
فلا تستنكحي فدما غبيّا ... له ثأر وليس عليه ثار «2»
وقال آخر لامرأته «3» : [متقارب]
فإمّا هلكت فلا تنكحي ... ظلوم العشيرة حسّادها
يرى مجده ثلب أعراضها ... لديه ويبغض من سادها «4»
وقال آخر «5» : [طويل]
فلا تنكحي إن فرّق الدهر بيننا ... أغمّ القفا والوجه ليس بأنزعا «6»(4/16)
من القوم ذا لونين وسّع بطنه ... ولكن أذّيا حلمه ما توسّعا «1»
ضروبا بلحييه على عظم زوره ... إذا القوم هشّوا للفعال تقنّعا «2»
زوّج إبراهيم بن النعمان بن بشير يحيى بن أبي حفصة مولى عثمان بن عفّان ابنته على عشرين ألف درهم، فعيّر فقال: [طويل]
فما تركت عشرون ألفا لقائل ... مقالا فلا تحفل مقالة لائم
فإن أك قد زوّجت مولى «3» فقد مضت ... به سنّة قبلي وحبّ الدّراهم
ويحيى هذا جدّ مروان الشاعر، وكان يهوديّا فأسلم على يد عثمان.
وتزوّج أيضا خولة بنت مقاتل بن طلبة بن قيس بن عاصم سيّد أهل الوبر.
فقال القلاخ «4» : [بسيط]
نبّئت خولة قالت حين أنكحها ... لطالما كنت منك العار أنتظر
أنكحت عبدين ترجو فضل مالهما ... في فيك مما رجوت التّرب والحجر
لله درّ جياد أنت سائسها ... برذنتها وبها التّحجيل والغرر «5»
خطب رجل إلى ابن عبّاس يتيمة له؛ فقال ابن عبّاس: لا أرضاها لك؛ قال: ولم، وفي حجرك نشأت؟ قال: لأنها تتشوّف «6» وتنظر. قال: وما هذا!(4/17)
فقال ابن عبّاس: الآن لا أرضاك لها.
كتب زياد إلى سعيد بن العاص يخطب إليه أمّ عثمان بنت سعيد وبعث إليه بمال كثير؛ فلما قرأ الكتاب أمر حاجبه بقبض المال والهدايا، فلما قبضها أمره يقسمها بين جلسائه؛ فقال الحاجب: إنها أكثر من ذلك؛ فقال: أنا أكثر منها، ففعل؛ ثم كتب إلى زياد: بسم الله الرحمن الرحيم. ف إِنَّ الْإِنْسانَ لَيَطْغى أَنْ رَآهُ اسْتَغْنى
«1» .
خطب لقيط بن زرارة «2» إلى قيس بن خالد ذي الحدّين الشّيبانيّ؛ فقال له قيس: ومن أنت؟ قال: لقيط بن زرارة. قال: وما حملك أن تخطب إليّ علانية؟ فقال) لأنّي عرفت أنّي إن عالنتك لم أفصحك وإن ساررتك لم أخدعك؛ فقال: كفء كريم، لا تبيت والله عندي عزبا ولا غريبا. فزوّجه ابنته وساق عنه «3» .
قال رجل للحسن: إن لي بنيّة وإنها تخطب، فممّن أزوّجها؟ فقال:
زوّجها ممن يتقي الله، فإن أحبّها أكرمها، وإن أبغضها لم يظلمها.
قال أبو اليقظان: خطب عمر بن الخطّاب أمّ أبان بنت عتبة بن ربيعة بعد أن مات عنها يزيد بن أبي سفيان، فقالت: لا يدخل إلا عابسا ولا يخرج إلّا عابسا، يغلق أبوابه ويقلّ خيره. ثم خطبها الزّبير، فقالت: يد له على قرونى «4» ويد له في السّوط. وخطبها عليّ، فقالت: ليس للنساء منه حظّ إلا(4/18)
أن يقعد بين شعبهن الأربع لا يصبن منه غيره. وخطبها طلحة فأجابت فتزوّجها؛ فدخل عليها عليّ بن أبي طالب فقال لها: رددت من رددت منّا وتزوّجت ابن بنت الحضرميّ! فقالت: القضاء والقدر؛ فقال: أما إنك تزوّجت أجملنا مرآة وأجودنا كفّا وأكثرنا خيرا من أهله.
الحضّ على النكاح وذمّ التبتّل «1»
عن عكّاف بن وداعة الهلاليّ: أنّ النبيّ صلّى الله عليه وسلم قال له: «يا عكّاف ألك امرأة قال: لا، قال: فأنت إذا من أخوان الشياطين إن كنت من رهبان النصارى فالحق بهم وإن كنت منّا فمن سنّتنا النكاح» .
عن طاوس أنّ رسول الله صلّى الله عليه وسلم قال: لا زمام «2» ولا خزام ولا رهبانيّة في الإسلام ولا تبتّل ولا سياحة في الإسلام.
عن إبراهيم بن ميسرة قال: قال لي طاوس: لتنكحنّ أو لأقولنّ لك ما قال عمر لأبي الزوائد «3» : ما يمنعك عن النكاح إلا عجز أو فجور.
عن إبراهيم قال: قال علقمة لامرأته: خذي أحسن زينتك ثم اجلسي عند رأسي، لعلّ الله أن يرزقك من بعض عوّادي خيرا.
وفي بعض الأخبار: أربع من سنن المرسلين: التّعطر. والنّكاح، والسّواك، والختان.(4/19)
باب الحسن والجمال
عن عائشة رضي الله عنها قالت: خطب رسول الله صلّى الله عليه وسلم امرأة من كلب، فبعثني أنظر إليها؛ فقال لي: كيف رأيت؟ فقلت: ما رأيت طائلا؛ فقال: لقد رأيت خالا بخدّها اقشعرّ كل شعرة منك على حدة؛ فقالت: ما دونك سرّ.
القحذميّ قال: دخل أبو الأسود على عبيد الله بن زياد فقال: أصبحت جميلا، فلو تعلّقت معاذة! «1» فظنّ أنّه يهزأ به فقال: [بسيط]
أفنى الشّباب الذي أبليت جدّته ... مرّ الجديدين من آت ومنطلق «2»
لم يبقيا لي في طول اختلافهما ... شيئا يخاف عليه لذعة الحدق «3»
عن حيّان بن عمير قال: دخلت على قتادة بن ملحان، فمرّ رجل في أقصى الدار فرأيته في وجه قتادة، فقال: إن النبي صلّى الله عليه وسلم مسح وجهه.
عن عون بن عبد الله قال: كان يقال: من كان في صورة حسنة ومنصب لا يشينه ووسّع عليه في الرزق، كان من خالصة الله.
وقال الحكم بن قنبر «4» : [مديد]
ليس فيها ما يقال له ... كملت لو أن ذا كملا
كلّ جزء من ملاحتها ... كائن من حسنها مثلا
لو تمنّت في متاعتها ... لم ترد من نفسها بدلا «5»(4/20)
وقال بعض المحدثين: [طويل]
فلما رأوك العاذلون حججتهم ... بحسنك حتّى كلّهم لي عاذر «1»
وقال أيضا: [متقارب]
تحيّر من حسنه فهمه ... وتاه وحقّ له أن يتيها «2»
رأى غيره ورأى نفسه ... فلم ير فيه لشيء شبيها
وقال الأعشى في وصف امرأة: [متقارب]
فأفضيت منها إلى جنّة ... تدلّت عليّ بأثمارها
عن عائشة رضي الله عنها قالت: يؤمّ القوم أقرؤهم لكتاب الله، فإن كانوا في القراءة سواء فأصبحهم وجها.
وقال جميل بن معمر: ما رأيت مصعبا يختال بالبلاط «3» إلا غرت على بثينة، وبينهما ثلاثة أيّام.
عن الشّعبيّ قال: دخلت المسجد باكرا، وإذا بمصعب بن الزّبير والناس حوله، فلما أردت الانصراف قال لي: ادن، فدنوت منه حتى وضعت يدي على مرفقته «4» ؛ فقال: إذا أنا قمت فاتبعني؛ وجلس قليلا، ثم نهض فتوجّه نحو دار موسى بن طلحة فتتبّعته؛ فلما أمعن في الدار التفت إليّ وقال:
ادخل، فدخلت معه ومضى نحو حجرته وتبعته؛ فالتفت إليّ فقال: ادخل، فدخلت معه فإذا حجلة «5» ، فطرحت لي وسادة فجلست عليها، ورفع سجف(4/21)
القبّة «1» ، فإذا أجمل وجه رأيته قطّ؛ فقال: يا شعبيّ، هل تعرف هذه؟ قلت:
نعم، هذه سيّدة نساء العالمين عائشة بنت طلحة؛ فقال: هذه ليلى، ثم تمثّل: [طويل]
وما زلت من ليلى لدن طرّ شاربي ... إلى اليوم أخفي إحنة وأداجن «2»
وأحمل في ليلى لقوم ضغينة ... وتحمل في ليلى عليّ الضغائن
ثم قال: إذا شئت يا شعبيّ فقم فخرجت؛ فلما كان العشيّ رحت إلى المسجد فإذا مصعب بمكانه؛ فقال لي: ادن، فدنوت؛ فقال لي: هل رأيت مثل ذلك لإنسان قطّ؟ قلت: لا؛ قال: أتدري لم أدخلناك؟ قلت: لا؛ قال:
لتحدّث بما رأيت. ثم التفت إلى عبد الله بن أبي فروة فقال: أعطه عشرة آلاف درهم وثلاثين ثوبا. فما انصرف أحد بمثل ما انصرفت به؛ بعشرة آلاف درهم، وبمثل كارة القصّار «3» ، ونظري إلى عائشة.
أبو الغصن الأعرابيّ قال: خرجت حاجّا، فلمّا مررت بقباء تداعى «4» أهله وقالوا: الصّقيل الصّقيل «5» ! فنظرت وإذا جارية كأنّ وجهها سيف صقيل، فلمّا رميناها بالحدق ألقت البرقع على وجهها، فقلنا: إنّا سفر وفينا أجر،(4/22)
فأمتعينا بوجهك؛ فانصاعت وأنا أعرف الضّحك في وجهها وهي تقول:
[طويل]
وكنت متى أرسلت طرفك رائدا ... لقلبك يوما أتعبتك المناظر «1»
رأيت الذي لا كلّه أنت قادر ... عليه ولا عن بعضه أنت صابر
ومرّ رجل بناحية البادية فإذا فتاة كأحسن ما تكون؛ فوقف ينظر إليها، فقالت له عجوز من ناحية: ما يقيمك على الغزال النّجديّ ولا حظّ لك فيه، فقالت الجارية: يا عمّتاه، يظنّ كما قال ذو الرّمّة: [طويل]
وإن لم يكن إلّا تعلّل ساعة ... قليلا فإنّي نافع لي قليلها «2»
وقال بعض المحدثين: [كامل]
الخال يقبح بالفتى في خدّه ... والخال في خدّ الفتاة مليح
والشّيب يحسن بالفتى في رأسه ... والشيب في رأس الفتاة قبيح
وقال جعفر بن محمد: الجمال مرحوم.
رأى رجل شريحا يجول في بعض الطّرق فقال: ما غدا بك؟ فقال:
عسيت أن أنظر إلى صورة حسنة.
قالت امرأة خالد بن صفوان له يوما: ما أجملك! قال: ما تقولين ذاك وما لي عمود الجمال، ولا عليّ رداؤه ولا برنسه «3» ؛ قالت: ما عمود الجمال وما رداؤه وما برنسه؟ قال: أما عمود الجمال فطول القوام وفيّ قصر؛ وأمّا رداؤه(4/23)
فالبياض ولست بأبيض؛ وأمّا برنسه فسواد الشعر وأنا أصلع، ولكن لو قلت:
ما أحلاك وما أملحك. كان أولى.
أبو اليقظان قال: كان يسمّى جيش ابن الأشعث جيش الطواويس، لكثرة من كان فيه من الفتيان المنعوتين بالجمال.
قال: وقال أبو اليقظان: سمع عمر بن الخطاب قائلا بالمدينة يقول: [طويل]
أعوذ بربّ الناس من شرّ معقل ... إذا معقل راح البقيع مرجّلا «1»
يعني معقل بن سنان الأشجعيّ، وكان قدم المدينة؛ فقال له عمر:
الحق بباديتك.
وسمع امرأة ذات ليلة تقول: [بسيط]
ألا سبيل الى خمر فأشربها ... أم هل سبيل إلى نصر بن حجّاج
وهذا نصر بن حجّاج بن علاط البهزيّ، وكان من أجمل الناس، فدعا به عمر فسيّره إلى البصرة- فأتى مجاشع بن مسعود السّلميّ فدخل عليه يوما وعنده امرأته شميلة «2» وكان مجاشع أمّيّا، فكتب نصر على الأرض: أحبّك حبّا لو كان فوقك لأظلّك، أو تحتك لأقلّك «3» ؛ فكتبت هي: وأنا والله كذلك؛ فكبّ مجاشع على الكتابة إناء ثم أدخل كاتبا فقرأه، فأخرج نصرا وطلّقها- فقال نصر بن حجّاج: [طويل](4/24)
وما لي ذنب غير ظنّ ظننته ... وفي بعض تصديق الظنون أثام
لعمري إن سيّرتني أو حرمتني ... وما نلت ذنبا إنّ ذا لحرام
أإن غنّت الذّلفاء ليلا بمنية ... وبعض أمانيّ النساء غرام «1»
ظننت بي الظنّ الذي ليس بعده ... بقاء ومالي في النّديّ كلام «2»
فأصبحت منفيّا على غير يبة ... وقد كان لي بالمكّتين مقام
ويمنعني ممّا تمنّت تكرّمي ... وآباء صدق سالفون كرام
ويمنعها ممّا تمنّت حياؤها ... وحال لها مع عفّة وصيام
وهاتان حالانا فهل أنت راجعي ... وقد خفّ منّي كاهل وسنام «3»
وأنا أحسب هذا الشعر مصنوعا.
قال لقيط بن زرارة: [طويل]
أضاءت لهم أحسابهم ووجوههم ... دجى الليل حتى نظم الجزع ثاقبه «4»
قال أبو الطّمحان القينيّ «5» : [طويل]
يكاد الغمام الغرّ يرعد إن رأى ... وجوه بني لأم وينهلّ بارقه «6»
وقال آخر «7» : [طويل](4/25)
وجوه لو انّ المعتفين اعتشوا بها ... صدعن الدّجى حتى ترى الليل ينجلي «1»
قال عمر بن الخطاب رضي الله عنه: إنّا إذا سمعنا بكم شعرنا أحسنكم وجوها، وإذا اختبرناكم كانت الخبرة أولى بكم.
قال عليّ بن أبي طالب كرّم الله وجهه: خصصنا بخمس: بصباحة، وفصاحة، وسماحة، ورجاحة، وحظوة (يعني عند النساء) . وسئل عن بني أميّة فقال: هم أغدر وأفجر وأمكر؛ ونحن أفصح وأصبح وأسمح.
رأت امرأة الزبير فقالت: من هذا الذي هو أرقم يتلمّظ؟ «2» ورأت عليّا فقالت: من هذا الذي كأنّه كسر ثم جبر؟ ورأت طلحة فقالت: من هذا الذي كأنّه دينار هرقليّ؟ «3» .
ألبست سكينة بنت الحسين ابنة لها درّا كثيرا وقالت: والله ما ألبستها إيّاه إلّا لتفضحه.
وقال بعض الشعراء يذكر نساء جئن مع جارية: [كامل]
أقبلن في رأد الضّحاء بها ... وسترت وجه الشمس بالشمس «4»
ذكر بعض الأعراب امرأة قال: خلوت بها والقمر يرينيها، فلمّا غاب أرتنيه.(4/26)
وقال بعض الشعراء «1» : [طويل]
غلام رماه الله بالحسن يافعا ... له سيمياء لا تشقّ على البصر «2»
كأنّ الثّريّا «3» علّقت في جبينه ... وفي أنفه الشّعرى وفي وجهه القمر
ولمّا رأى المجد استعيرت ثيابه ... تردّى بثوب واسع الذّيل وأتزر
إذا قيلت العوراء أغضى كأنه ... ذليل بلا ذلّ ولو شاء لانتصر «4»
قال غلام من الأعراب لأمّه: [متقارب]
نشدتك بالله هل تعلمين ... بأنّي طويل وأنّي حسن
قالت: قبّحك الله! فكان ماذا؟ قال: [متقارب]
وأنّي أقمّص بالدّارعين ... غداة الصّباح وأحمي الظّعن «5»
قال عمّه: فهلّا كان ذا قبل!.
قال الشاعر «6» : [كامل]
بيضاء تسحب من قيام شعرها ... وتغيب فيه وهو جثل أسحم «7»
فكأنّها فيه نهار ساطع ... وكأنّه ليل عليها مظلم(4/27)
وقال الطائيّ: [كامل]
بيضاء تبدو في الظلام فيكتسي ... نورا وتبدو في النهار فيظلم
وصف أعرابيّ امرأة فقال: كاد الغزال يكونها، لولا ما تمّ منها ونقص منه.
قال ابن الأعرابيّ: الحلاوة في العينين، والجمال في الأنف، والملاحة في الفم.
قال أعرابيّ يصف امرأة: [طويل]
خزاعيّة الأطراف مرّيّة الحشا ... فزاريّة العينين طائيّة الفم
كان المقنّع الكنديّ «1» من أجمل الناس وكان يتقنّع لأنه كان متى سفر لقع (أي أصيب بعين) ، وهو القائل: [بسيط]
وفي الظّعائن والأحداج أملح من ... حلّ العراق وحلّ الشام واليمنا «2»
جنّيّة من نساء الإنس أحسن من ... شمس النهار وبدر الليل لو قرنا
الحكم بن صخر الثّقفيّ قال: خرجت حاجّا مختفيا، فلمّا كنت ببعض الطريق أتتني جاريتان من بني عقيل لم أر أحسن منهما وجوها، ولا أظرف ألسنة ولا أكثر علما وأدبا، فقصّرت بهما يومي فكسوتهما. ثم حججت من قابل ومعي أهلي، وقد أصابتني علّة فنصل لها خضابي «3» ، فلمّا صرت إلى ذلك الموضع فإذا أنا بإحداهما، فدخلت عليّ، فسألت مسألة منكر فقلت:
فلانة! قالت: فدى لك أبي وأمي! تعرفني وأنكرك؟! قلت: أنا الحكم بن(4/28)
صخر؛ قالت: إني رأيتك عام أوّل شابّا سوقة وأراك العام ملكا شيخا، وفي دون هذا ينكر المرء صاحبه؛ قلت: ما فعلت أختك؟ قالت: تزوجها ابن عمّ لها وخرج بها إلى نجد فذلك حيث يقول: [طويل]
إذا ما قفلنا نحو نجد وأهله ... فحسبي من الدّنيا قفول إلى نجد
فقلت: لو أدركتها لتزوّجتها؛ فقالت: ما يمنعك من شقيقتها في حسبها، ونظيرتها في جمالها؟ - تعني نفسها- قلت: يمنعني من ذلك ما قال كثيّر: [طويل]
إذا وصلتنا خلّة كي تزيلنا ... أبينا وقلنا الحاجبيّة أوّل «1»
فقالت: فكثير بيني وبينك، أليس هو القائل: [بسيط]
هل وصل عزّة إلا وصل غانية ... في وصل غانية من وصلها خلف
فسكت عيّا عن جوابها.
قال أبو حازم المدنيّ «2» : بينا أنا أرمي الجمار رأيت امرأة سافرة من أحسن الناس وجها ترمى الجمار، فقلت: يا أمة الله، أما تتّقين الله! تسفرين في هذا الموضع فتفتنين الناس! قالت: أنا والله يا شيخ من اللواتي قال فيهنّ الشاعر: [طويل]
من اللّاء لم يحججن يبغين حسبة ... ولكن ليقتلن البريء المغفّلا «3»
قلت: فإني أسأل الله ألّا يعذّب هذا الوجه بالنار.(4/29)
قال أعرابيّ: [بسيط]
يا زين من ولدت حوّاء من ولد ... لولاك لم تحسن الدنيا ولم تطب
أنت التي من أراه الله صورتها ... نال الخلود فلم يهرم ولم يشب
وقال أعرابيّ: [طويل]
إذا هنّ أبدين الخدود وحسّرت ... ثغور عن الأفواه كي تتبسما «1»
أجاد القضاة العادلون قضاءهم ... لهنّ بلا وهم وإن كنّ أظلما
وقال عروة بن أذينة (2) : [كامل]
إنّ التي زعمت فؤادك ملّها ... خلقت هواك كما خلقت هوى لها
فإذا وجدت لها وساوس سلوة ... شفع الفؤاد إلى الضمير فسلّها «2»
بيضاء باكرها النعيم فصاغها ... بلباقة فأدقّها وأجلّها «3»
وقال أعرابيّ يرقّص ابنا له: [سريع]
يا ربّ ربّ مالك بارك فيه ... بارك لمن يحبّه ويدنيه
ذكّرني لمّا نظرت في فيه ... أجزع نور غربت أواخيه «4»
والوجه لما أشرقت نواحيه ... دينار عين بيد تبريه
وقال ابن شبرمة: ما رأيت لباسا على رجل أزين من فصاحة، ولا رأيت لباسا على امرأة أزين من شحم.
قيل لأعرابيّ: إنك لحسن الكدنة «5» فقال: ذلك عنوان نعمة الله عندي.(4/30)
قال الحجّاج: لا يحسن نحر المرأة حتى يعظم ثدياها.
وقال المرار العدويّ «1» : [رمل]
صلتة الخدّ طويل جيدها ... ضخمة الثّدي ولمّا ينكسر «2»
وقال عليّ بن أبي طالب عليه السّلام: لا تحسن المرأة حتى تروي الرضيع، وتدفىء الضّجيع.
عن رجل من بني أسد قال: أضللت إبلا لي، فخرجت في طلبهنّ، فهبطت واديا وإذا أنا بفتاة أعشى «3» نور وجها نور بصري؛ فقالت لي: يا فتى، مالي أراك مدلّها؟ «4» فقلت: أضللت إبلا لي فأنا في طلبها؛ قالت: أفأدلّك على من هي عنده وإن شاء أعطاكها؟ قلت: نعم ولك أفضلهنّ؛ قالت: الذي أعطاكهنّ أخذهنّ وإن شاء ردّهنّ، فسله عن طريق اليقين لا من طريق الاختبار؛ فأعجبني ما رأيت من جمالها وحسن كلامها، فقلت: ألك بعل؟
قالت: قد كان، ودعي فأجاب فأعيد إلى ما خلق منه. قلت: فما قولك في بعل تؤمن بوائقه «5» ، ولا تذمّ خلائقه؟ فرفعت رأسها وتنفّست وقالت: [بسيط]
كنّا كغصنين في أصل غذاؤهما ... ماء الجداول في ورضات جنّات
فاجتثّ خيرهما من جنب صاحبه ... دهر يكرّ بترحات وفرحات «6»(4/31)
وكان عاهدني إن خانني زمن ... ألّا يضاجع أنثى بعد مثواتي
وكنت عاهدته إن خانه زمن ... ألّا أبوء ببعل طول محياتي «1»
فلم نزل هكذا والوصل شيمتنا ... حتى توفّي قريبا مذ سنيّات
فاقبض عنانك عمّن ليس يردعه ... عن الوفاء خلاف بالتحيّات
قال أبو اليقظان: دخل متمّم بن نويرة على عمر بن الخطاب رضي الله عنه فقال له عمر: أرى في أصحابك مثلك! قال: يا أمير المؤمنين، أما والله إنّي مع ذلك لأركب الجمل الثّفال «2» ، وأعتقل الرّمح الشّطون «3» ، وألبس الشّملة الفلوت «4» . (ولقد أسرني بنو تغلب في الجاهليّة، فبلغ ذلك مالكا فجاء ليفتديني، فلما رآه القوم أعجبهم جماله، وحدّثهم فأعجبهم حديثه، فأطلقوني له بغير فداء.
كان يقال: المنظر محتاج إلى القبول، والحسب محتاج إلى الأدب، والسّرور محتاج إلى الأمن، والقرابة محتاجة إلى المودّة، والمعرفة محتاجة إلى التّجارب، والشرف محتاج إلى التّواضع، والنجدة محتاجة إلى الجدّ.
قال الحسن بن وهب: [مديد]
ما لمن تمّت محاسنه ... أن يعادي طرف من نظرا
لك أن تبدي لنا حسنا ... ولنا أن نعمل البصر(4/32)
باب القبح والدّمامة
أخبرنا بعض أشياخ البصرة أنّ رجلا وامرأته اختصما إلى أمير من أمراء العراق، وكانت المرأة حسنة المنتقب «1» قبيحة المسفر «2» ، وكان لها لسان، فكأنّ العامل مال معها، فقال: يعمد أحدكم إلى المرأة الكريمة فيتزوّجها ثم يسيء إليها؛ فأهوى الزوج فألقى النّقاب عن وجهها، فقال العامل: عليك اللعنة، كلام مظلوم ووجه ظالم.
قال أبو زياد الكلابيّ «3» : قدم رجل منّا البصرة فتزوّج امرأة، فلمّا دخل بها وأرخيت السّتور وأغلقت الأبواب عليه، ضجر الأعرابيّ وطالت ليلته، حتى إذا أصبح وأراد الخروج منع من ذلك وقيل له: لا ينبغي لك أن تخرج إلا بعد سبعة أيام؛ فقال: [طويل]
أقول وقد شدّوا عليها حجابها ... ألا حبّذا الأرواح والبلد القفر
ألا حبّذا سيفي ورحلي ونمرقى ... ولا حبّذا منها الوشاحان والشّذر «4»
أتوني بها قبل المحاق بليلة ... فكان محاقا كلّه ذلك الشهر «5»(4/33)
وما غرّني إلّا خضاب بكفّها ... وكحل بعينيها وأثوابها الصّفر
تسائلني عن نفسها هل أحبّها ... فقلت ألا لا والذي أمره الأمر
تفوح رياح المسك والعطر عندها ... وأشهد عند الله ما ينفع العطر
وقال آخر: [بسيط]
أعوذ بالله من زلّاء فاحشة ... كأنّما نيط ثوباها على عود «1»
لا يمسك الحبل حقواها إذا انتطقت ... وفي الذّنابى وفي العرقوب تحديد «2»
أعوذ بالله من ساق لها حنب ... كأنّها من حديد القين سفّود «3»
وقال آخر: [طويل]
موتّرة العلباء محفوفة القفا ... لها ندب من حكّها غير دارس «4»
إذا ضحكت غصون كأنها ... غباغب حرباء تحوّز شامس «5»
كأنّ وريديها رشاء محالة ... مغاران من جلد من القدّ يابس «6»
وقال آخر: [رجز]
يا عجبا والدّهر ذو تعاجيب ... هل يصلح الخلخال في رجل الذيب
اليابس الكعب الحديد العرقوب(4/34)
وقال آخر: [طويل]
لها جسم برغوث وساقا بعوضة ... ووجه كوجه القرد بل هو أقبح
وتبرق عيناها إذا ما رأيتها ... وتعبس في وجه الضّجيع وتكلح «1»
وتفتح- لا كانت- فما لو رأيته ... توهّمته بابا من النار يفتح
فما ضحكت في النّاس إلّا ظننتها ... أمامهم كلبا يهرّ وينبح «2»
إذا عاين الشيطان صورة وجهها ... تعوّذ منها حين يمسي ويصبح
وقد أعجبتها نفسها فتملّحت ... بأيّ جمال ليت شعري تملّح
رأى أعرابيّ امرأة في شارة وهيئة، فظنّ بها جمالا، فلما سفرت فإذا هي غول؛ فقال: [طويل]
فأظهرها ربّي بمنّ وقدرة ... عليّ ولولا ذاك متّ من الكرب
فلمّا بدت سبّحت من قبح وجهها ... وقلت لها السّاجور خير من الكلب «3»
كان سعيد بن بيان التّغلبيّ سيّد بني تغلب، وكانت تحته برّة «4» وكانت من أجمل النساء، فقدم الأخطل الكوفة على بشر بن مروان، فدعاه سعيد بن بيان واحتفل ونجّد بيوته واستجاد طعامه وشرابه، فلما شرب الأخطل جعل ينظر إلى وجه برّة وجمالها، وإلى وجه سعيد وقبحه؛ فقال له سعيد: يا أبا مالك، أنت رجل تدخل على الخلفاء والملوك فأين ترى هيئتنا من هيئتهم! فقال الأخطل: ما لبيتك عيب غيرك؛ فقال سعيد: أنا والله أحمق منك يا نصرانيّ حين أدخلك منزلي، وطرده. فخرج الأخطل وهو يقول: [طويل](4/35)
وكيف يداويني الطبيب من الجوى ... وبرّة عند الأعور ابن بيان «1»
فهلّا زجرت الطّير إذ جاء خاطبا ... بضيقة بين النّجم والدّبران «2»
قال عبد بني الحسحاس يذكر قبحه «3» : [طويل]
أتيت نساء الحارثيين غدوة ... بوجه براه الله غير جميل
فشبّهنني كلبا ولست بفوقه ... ولا دونه إن كان غير قليل
قال رجل للأحنف: «تسمع بالمعيديّ لا أن تراه» «4» ؛ فقال: ما ذممت منّي يا بن أخي؟ قال: الدّمامة وقصر القامة؛ قال: لقد عبت عليّ ما لم أؤامر فيه «5» .
قال عبد الملك بن عمير: قدم علينا الأحنف الكوفة مع المصعب بن الزّبير، فما رأيت خصلة تذمّ إلا وقد رأيتها في الأحنف: كان صعل الرأس «6» ، متراكب الأسنان، أشدق «7» ، مائل الذّقن، ناتىء الوجه، غائر العين، خفيف العارض، أحنف الرّجل «8» ، ولكنه إذا تكلّم جلا عن نفسه.
أبو اليقظان قال: كان المحارش قبيحا فقال فيه هبنّقة «9» : [طويل](4/36)
لو كان وجهي مثل وجه محارش ... إذا ما قربت الدّهر باب أمير
قال: وأخذ محارش قذاة عن عبيد الله بن زياد؛ فقال: صرف عنك السّوء؛ فقال جلساؤه: إذا يصرف عنه وجهه.
سئل مدنيّ عن حلية رجل، فقال: حليته محجمه.
قال المأمون لمحمد بن الجهم: أنشدني بيتا حسنا أولّك به كورة «1» ؛ فقال: [كامل]
قبحت مناظرهم فحين خبرتهم ... حسنت مناظرهم لقبح المخبر
فاستزاده، فأنشده: [طويل]
أرادوا ليخفوا قبره عن عدوّه ... فطيب تراب القبر دلّ على القبر «2»
فوّلاه الدّينور «3» وهمذان.
قال أعرابيّ في امرأته: [طويل]
ولا تستطيع الكحل من ضيق عينها ... فإن عالجته صار فوق المحاجر
وفي حاجبيها حزّة لغزارة ... فإن حلقا كانا ثلاث غرائر «4»
وثديان أمّا واحد فكموزة ... وآخر فيه قربة لمسافر
وقال إسحاق الموصليّ: رأت قريبة بن سيابة مولى ابن أسد عندي، فقلت لها: يا أمّ البهلول كيف ترين هذا؟ قالت: ماله قبّحه الله عامّة! لو كان داء ما برىء منه.(4/37)
وقال فاتك في سعيد بن سلم: [سريع]
وإنّ من غاية حرص الفتى ... طلابه المعروف في باهله «1»
كبيرهم وغد ومولودهم ... تلعنه من قبحه القابله
قال الأسعر الجعفيّ «2» يهجو قوما: [متقارب]
زعانف سود كخبث الحدي ... د يكفي الثلاثة شقّ الإزار «3»
وقال أبو نواس يذكر امرأة: [وافر]
وقائلة لها في وجه نصح ... علام قتلت هذا المستهاما
فكان جوابها في حسن سرّ ... أأجمع وجه هذا والحراما
كان المغيرة بن شعبة قبيحا أعور، فخطب امرأة، فأبت أن تتزوّجه، فبعث إليها: إن تزوجتني ملأت بيتك خيرا، ورحمك أيرا؛ فتزوّجت به.
وسئلت عنه امرأة طلّقها فقالت: عسل يمانية في ظرف سوء «4» .
أنشدنا دعبل: [متقارب](4/38)
بليت بزمّردة كالعصا ... ألصّ وأسرق من كندش «1»
لها شعر قرد إذا ازّيّنت ... ووجه كبيض القطا الأبرش «2»
كأنّ الثأليل في وجهها ... إذا سفرت بدد الكشمش «3»
وقال أعرابيّ: [وافر]
جزى الله البراقع من ثياب ... عن الفتيان شرّا ما بقينا
يوارين الملاح فلا نراها ... ويزهين القباح فيزّهينا «4»
وقال آخر: [وافر]
رأوه فازدروه وهو حرّ ... وينفع أهله الرجل القبيح
كان ذو الرّمة يشبّب بميّة، وكانت من أجمل النساء ولم تره قطّ، فجعلت لله عليها بدنة «5» حين تراه، فلما رأته رأته رجلا دميما أسود، فقالت:
وا سوءتاه! وا بؤساه! فقال ذو الرّمة: [طويل]
على وجه ميّ مسحة من ملاحة ... وتحت الثياب الشّين لو كان باديا «6»
ألم تر أن الماء يخبث طعمه ... وإن كان لون الماء أبيض صافيا
إسحاق الموصليّ قال: دخلت أعرابية على حمدونة بنت الرشيد، فلما خرجت سئلت عنها، فقالت: وما حمدونة! والله لقد رأيتها وما رأيت طائلا،(4/39)
كأنّ بطنها قربة، وكأنّ ثديها دبّة «1» ، وكأن استها رقعة، وكأن وجهها وجه ديك قد نفش غفريّته «2» يقاتل ديكا.
ذكر أعرابيّ امرأة حسنة اللفظ قبيحة الوجه، فقال: ترخي ذيلها على عرقوبي نعامة، وتسدل خمارها على وجه كالجعالة (وهي الخرقة التي تنزل بها القدر عن النار) .
وقال دعبل في كاتب: [كامل]
تمّت مقابح وجهه فكأنّه ... طلل «3» تحمّل ساكنوه فأوحشا
لو كان لاستك ضيق صدرك أو لصد ... رك رحب دبرك كنت أكمل من مشى
كان بعض المعلّمين يقعد أبناء المياسير والحسان الوجوه في الظلّ، ويقعد الآخرين في الشّمس، ويقول: يا أهل الجنة، ابزقوا في وجوه أهل النار.
وقال رجل من أبناء المهاجرين: أبناء هذه الأعاجم كأنهم نقبوا الجنّة وخرجوا منها، وأولادنا كأنهم مساجر التّنانير «4» .
أبو المهلهل الحدائيّ «5» قال: ارتحلت إلى الرمل في طلب ميّ صاحبة ذي الرّمّة، فما زلت أطلب موضعها حتى أرشدت إليه، فإذا خيمة كبيرة على بابها عجوز هتماء «6» ، فسلّمت عليها ثم قلت: أين منزل ميّ؟ قالت: أنا ميّ؛(4/40)
فتعجّبت وقلت: عجبا من ذي الرمّة وكثرة قوله فيك! قالت: لا تعجبنّ فإني سأقوم بعذره عنك، ثم قالت: يا فلانة، فخرجت من الخيمة جارية ناهدة عليها برقع فقالت: اسفري، فلما سفرت تحيّرت لما رأيت من جمالها وبراعتها؛ فقالت: علقني ذو الرمّة وأنا في سنّها؛ فقلت: عذره الله ورحمه، فاستنشدتها فجعلت تنشد وأنا أكتب.
وقال أبو نواس في الرّقاشيّ: [سريع]
قل للرّقاشيّ إذا جئته ... لو متّ يا أخرق لم أهجكا»
دونك عرضي فاهجه راشدا ... لا تدنس الأعراض من شعركا
والله لو كنت جريرا لما ... كنت بأهجى لك من وجهكا
باب السّواد
الأصمعيّ قال: قيل لمدنيّ: ما رغبتكم في السّواد؟ قال: لو وجدنا بيضاء لسفدناها «2» .
وكان أبو حازم المدنيّ ينشد: [وافر]
ومن يك معجبا ببنات كسرى ... فإنّي معجب ببنات حام «3»
وقال أبو حنش «4» : [طويل](4/41)
رأيت أبا الحجناء في الناس حائرا ... ولون أبي الحجناء لون البهائم «1»
تراه على ما لاحه من سواده ... وإن كان مظلوما له وجه ظالم «2»
وقال آخر في وصف أسود: [رجز]
كأنّما وجهك ظلّ من حجر «3»
وقال آخر: [رجز]
كأنّما قمّص من ليط جعل «4»
وقال آخر في وصف سوداء: [رجز]
كأنها والكحل في مرودها ... تكحل عينيها ببعض جلدها
نظر رجل إلى سوداء عليها معصفر «5» ، فقال: بعرة عليها رعاف «6» .
الأصمعيّ قال: قيل لرجل: أيّ الرجال أخفّ أرواحا؟ قال: الذين أعرقت «7» فيهم السّودان.
وقال عليّ بن أبي طالب عليه السّلام: من تزوّج سمراء فطلّقها فعليّ مهرها.
يقال: قالت الخنفساء لأمّها: يا أمّاه، ما أمرّ بأحد إلا بزق عليّ؛ فقالت: يا بنيّة تعوّذين «8» .(4/42)
وفد على عبد الملك وفد أهل الكوفة، فلما دخلوا عليه وكلمهم، رأى فيهم أدلم «1» عالي الجسم، فلما كلّمه راقه بيانه، فلما تولّى تمثّل عبد الملك بقول عمرو بن شأش «2» : [طويل]
فإنّ عرارا إن يكن غير واضح ... فإنّي أحبّ الجون ذا المنكب العمم «3»
فالتفت الأدلم إلى عبد الملك وضحك؛ فقال: عليّ به فلما جيء به قال: ما الذي أضحكك؟ فقال: أنا والله عرار من بني أثرى، فقدّمه وسامره حتى خرج.
قال رجل من الشعراء في جارية سوداء: [سريع]
أشبهك المسك وأشبهته ... قائمة في لونه قاعده
لا شكّ إذ لونكما واحد ... أنّكما من طينة واحده
وقال جرير: [وافر]
ترى التّيميّ يزحف كالقرنبى ... إلى تيميّة كعصا المليل «4»
تشين الزعفران عروس تيم ... وتمشي مشية الجعل الدّحول «5»
يقول المجتلون عروس تيم ... شوى أمّ الحبين ورأس فيل «6»(4/43)
وقال آخر: [وافر]
أحبّ لحبّها السّودان حتى ... أحبّ لحبّها سود الكلاب
باب العجز والمشايخ
الأصمعيّ قال: خاصم رجل امرأته إلى زياد، فكأن زيادا شدّد عليه، فقال الرجل: أصلح الله الأمير، إنّ خير نصفي الرجل آخرهما، يذهب جهله ويثوب حلمه ويجتمع رأيه، وإن شرّ نصفي المرأة آخرهما، يسوء خلقها ويحدّ لسانها وتعقم رحمها؛ فقال: اسفع بيدها «1» .
وقال بعض الأعراب: [بسيط]
لا تنكحنّ عجوزا إن دعوك لها ... وإن حبوك على تزويجها الذّهبا
وإن أتوك وقالوا إنها نصف ... فإنّ أطيب نصفيها الذي ذهبا «2»
الأصمعيّ قال: ضجر أعرابيّ بطول حياة امرأته، فقال: [طويل]
ثلاثين حولا لا أرى منك راحة ... لهنّك في الدنيا لباقية العمر «3»
فإن أنفلت من حبل صعبة مرّة ... أكن من نساء الناس في بيضة العقر «4»
وقال أبو الأسود في امرأته أمّ عوف: [طويل]
أبى القلب إلا أمّ عوف وحبّها ... عجوزا ومن يحبب عجوزا يفنّد «5»
كسحق اليماني قد تقادم عهده ... ورقعته ما شئت في العين واليد «6»(4/44)
وقال آخر يشبّب بعجوز: [طويل]
عجوز عليها كرّة وملاحة ... وقاتلتي يا للرّجال عجوز «1»
عجوز لو ان الماء ملك يمينها ... لما تركتنا بالمياه نجوز
كانت لرجل من الأعراب امرأة عجوز، وكانت تشتري العطر بالخبز؛ فقال: [طويل]
عجوز ترجّي أن تكون فتيّة ... وقد غارت العينان واحدودب الظهر
تدسّ إلى العطّار سلعة أهلها ... ولن يصلح العطّار ما أفسد الدّهر
طلّق أبو الجنديّ امرأته؛ فقالت له: بعد صحبة خمسين سنة! فقال:
مالك عندي ذنب غيره.
وقال بعض الأعراب: [بسيط]
لا بارك الله في ليل يقرّبني ... إلى مضاجعة كالدّلك بالمسد «2»
لقد لمست معراها فما وقعت ... فيما لمست يدي إلا على وتد
وكلّ عضو لها قرن تصلّ به ... جسم الضّجيع فيضحي واهي الجسد «3»
وقال الطائي: [كامل]
أحلى الرجال من النساء مواقعا ... من كان أشبههم بهنّ خدودا
وقال امرؤ القيس: [طويل]
أراهنّ لا يحببن من قلّ ماله ... ولا من رأين الشيب فيه وقوّسا «4»(4/45)
وقال علقمة بن عبدة «1» : [طويل]
فإن تسألوني بالنساء فإنّني ... خبير بأدواء النساء طبيب
إذا شاب راس المرء أو قلّ ماله ... فليس له في ودّهنّ نصيب
يردن ثراء الماء حيث علمنه ... وشرخ الشباب عندهنّ عجيب «2»
وقال آخر: [وافر]
أرى شيب الرجال من الغواني ... كموضع شيبهنّ من الرجال
وقال آخر: [طويل]
أيا عجبا للخود يجري وشاحها ... تزفّ إلى شيخ من القوم تنبال «3»
دعاها إليه أنّه ذو قرابة ... فويل الغواني من بني العمّ والخال
وقال ذو الرّمّة بخلاف قول الأوّل: [طويل]
وما الفقر أزرى عندهنّ بوصلنا ... ولكن جرت أخلاقهن على البخل
وقال المرّار في مثله «4» : [طويل]
وليس الغواني للجفاء ولا الذي ... له عن تقاضي دينهنّ هموم
ولكنّما يستنجز الوعد تابع ... مناهنّ حلّاف لهنّ أثيم
وما جعلت ألبابهنّ لذي الغنى ... فييأس من ألبابهنّ عديم»
كان عثمان بن عفّان رضي الله عنه تزوّج نائلة بنت الفرافصة الكلبيّ-(4/46)
والفرافصة يومئذ نصرانيّ- وكان وليّها مسلما وهو أخوها، فحملها الفرافصة.
فلما قدمت على عثمان وضع لها سريرا وله آخر، فقال لها عثمان: إمّا أن تقومي إليّ وإمّا أن أقوم إليك؛ فقالت: ما تجشّمت إليك من عرض السّماوة «1» أبعد ممّا بيننا، بل أقوم أنا، فقامت حتى جلست معه على السرير، فوضع قلنسوته فإذا هو أصلع، فقال: يابنة الفرافصة، لا يهولنّك ما ترين من صلعتي، فإنّ وراء ذلك ما تحبّين؛ قالت: إني لمن نسوة أحبّ بعولتهنّ إليهنّ الكهول الصّلع؛ فقال: اطرحي درعك، ثم قال: اطرحي إزارك؛ قالت: ذاك اليك، ومسح رأسها ودعا لها بالبركة؛ فكانت أحبّ نسائه اليه، وولدت منه جارية يقال لها مريم.
ابن الكلبيّ «2» قال: خطب دريد بن الصّمّة خنساء بنت عمرو، فبعثت جاريتها فقال: انظري إذا بال أيقعي أم يبعثر؟ «3» فقالت لها الجارية: هو يبعثر، فقالت: لا حاجة لي فيه.
الأصمعيّ قال: تزوّج رجل امرأة بالمدينة فقالوا له: إنها شابّة طريّة، من أمرها ومن أمرها، ويدلّسون «4» له عجوزا، فلما دخل بها نزع نعليه، وهم يظنّون أنه يضربها، فقلّدها إياهما وقال: لبّيك اللهمّ لبّيك، هذه بدنة «5» ؛ فأسكتوه وافتدوا منه.(4/47)
عن عبد الله بن محمد بن عمران القاضي عن أبيه قال: شباب المرأة من خمس عشرة سنة إلى ثلاثين سنة، وفيها من الثلاثين إلى الأربعين مستمتع، وإذا اقتحمت العقبة الأخرى حسلت «1» .
تزوّج جهم امرأة من بني فقعس وباع إبلا له ومهرها، فلما دخل بها إذا هي عجوز، فقال: [طويل]
وما لمت نفسي مذ فطمت بليحة ... كما لمت نفسي في عجوز بني شمس «2»
وبنت ولم أغبن غداة اشتريتها ... وبعت تلاد المال بالثمن البخس «3»
فإن مات جهم غيلة فاقتلوا به ... قمامة إنّ النفس تقتل بالنفس
وقال بعض الشعراء: [بسيط]
كفاك بالشّيب ذنبا عند غانية ... وبالشباب شفيعا أيّها الرجل
خطب الحارث بن سليل الأسديّ إلى علّقمة بن خصفة الطائيّ، وكان شيخا، فقال لأمّ الجارية: أريدي ابنتك على نفسها فقالت: أي بنيّة. أيّ الرجال أحبّ إليك: الكهل الجحجاح «4» ، الواصل المنّاح «5» ، أم الفتى الوضّاح، الذّهول الطمّاح؟ قالت: يا أمّتاه [متقارب]
إنّ الفتاة تحبّ الفتى ... كحبّ الرّعاء أنيق الكلا «6»
فقالت: يا بنيّة، إن الشباب شديد الحجاب، كثير العتاب؛ قالت: يا(4/48)
أمّتاه، أخشى من الشيخ أن يدنّس ثيابي، ويبلي شبابي، ويشمت بي أترابي؛ فلم تزل بها حتى غلبتها على رأيها؛ فتزوّج بها الحارث ثم رحل بها إلى قومه؛ فإنه لجالس ذات يوم بفناء مظلّته وهي إلى جانبه، إذ أقبل شباب من بني أسد يعتلجون «1» ، فتنفّست ثم بكت؛ فقال لها: ما يبكيك؟ قالت: مالي وللشيوخ الناهضين كالفروخ!؛ فقال: ثكلتك أمّك «تجوع الحرّة ولا تأكل بثدييها» «2» - فذهبت مثلا-. أما وأبيك لربّ غارة شهدتها، وسبيّة أردفتها، وخمرة شربتها؛ فالحقي بأهلك، لا حاجة لي فيك.
الرّياشيّ قال: خرج رجل إلى الغزو فأصاب جارية وضيئة، وكان يغزو على فرسه ويرجع إليها، فوجد يوما فضلا من القول فقال: [طويل]
ألا لا أبالي اليوم ما فعلت هند ... إذا بقيت عندي الحمامة والورد «3»
شديد مناط المنكبين إذا جرى ... وبيضاء صنهاجيّة زانها العقد «4»
فهذا لأيّام الحروب وهذه ... لحاجة نفسي حين ينصرف الجند
فنمي الشعر اليها فقالت: [طويل]
ألا أقره منّي السلام وقلّ له ... غنينا وأغنتنا غطارفة المرد «5»
بحمد أمير المؤمنين أقرّهم ... شبابا وأغزاكم حواقلة الجند «6»
إذا شئت غنّاني رفلّ مرجّل ... ونازعني في ماء معتصر ورد «7»(4/49)
وإن شاء منهم ناشىء مدّ كفّه ... على كتد ملساء أو كفل نهد «1»
فما كنتم تقضون حاجة أهلكم ... شهودا فتقضوها على النّأي والبعد «2»
فلمّا بلغه الشعر أتاها، وقال: أكنت فاعلة؟ فقالت: الله أجلّ في عيني، وأنت أهون عليّ.
قال أبو عمرو بن العلاء: ما بكت العرب شيئا ما بكت الشباب، وما بلغت ما هو أهله.
كانت لبعض الأعراب امرأة لا تزال تشارّه «3» وقد كان أسنّ وامتنع من النكاح، فقال له رجل: ما يصلح بينكما أبدا؟ فقال: لا، إنه قد مات الذي كان يصلح بيننا (يعني ذكره) .
قال رجل لصديق له: [متقارب]
أعنّست نفسك حتى إذا ... أتيت على الخمس والأربعينا «4»
تزوّجتها شارفا فخمة ... فلا بالرّفاء ولا بالبنينا «5»
فلا ذات مال تزوّجتها ... ولا ولد ترتجي أن يكونا
بها أبدا فالتمس غيرها ... لعلّك تعطى بغثّ سمينا «6»
قال أنو شروان: كنت أخاف إذا أنا شخت لا تريدني النساء، فإذا أنا لا أريدهنّ.(4/50)
قال أعرابيّ: [رجز]
إنّ العجوز فارك ضجيعها ... تسيل من غير بكى دموعها «1»
تمدّد الوجه فلا يطيعها ... كأنّ من يضيفها يضيعها
وقال أبو النجم «2» : [رجز]
قد زعمت أمّ الخيار أنّي ... شبت وحنّى ظهري المحنّي
وأعرضت فعل الشّموس عنّي ... فقلت ما داؤك إلّا سنّي «3»
لن تجمعي ودّي وأن تضنّي
قال يزيد بن الحكم بن أبي العاص: [وافر]
فما منك الشّباب ولست منه ... إذا سألتك لحيتك الخضابا
وما يرجو الكبير من الغواني ... إذا ذهبت شبيبته وشابا
وقال آخر: [وافر]
فالغواني ... نوافر عن ملاحظة القتير «4»
فقلت لها المشيب نذير عمري ... ولست مسوّدا وجه النّذير
كان سعد بن أبى وقّاص يخضب بالسّواد، ويقول: [طويل]
أسوّد أعلاها وتأبى أصولها ... فيا ليت ما يسودّ منها هو الأصل(4/51)
وقال أسود بن دهيم: [كامل]
لمّا رأيت الشّيب عيب بياضه ... تشبّبت وابتعت الشّباب بدرهم «1»
وقال محمود الورّاق: [مجزوء الكامل]
يا خاضب الشيب الذي ... في كلّ ثالثة يعود
إنّ النّصّول إذا بدا ... فكأنّه شيب جديد «2»
وله بديهة روعة ... مكروهها أبدا عتيد «3»
فدع المشيب كما أرا ... د فلن يعود كما تريد
أنشد ابن الأعرابيّ: [كامل]
ولقد أقول لشيبة أبصرتها ... في مفرقي فمنحتها إعراضي»
عنّي إليك فلست من خير ولو ... عمّمت منك مفارقي ببياض
ولقلّما أرتاع منك وإنني ... فيما ألذّ وإن فزعت لماضي
فعليك ما اسطعت الظهور بلمّتي ... وعليّ أن ألقاك بالمقراض «5»
وقال الفرزدق: [طويل]
تفاريق شيب في السّواد لوامع ... وما خير ليل ليس فيه نجوم
وقال غيلان بن سلمة «6» : [كامل]
الشّيب إن يظهر فإن وراءه ... عمرا يكون خلاله متنفّس(4/52)
لم ينتقص منّي المشيب قلامة ... ولنحن حين بدا ألبّ وأكيس «1»
وقال الطائي: [بسيط]
أبدت أسى أن رأتني فخلس القصب ... وآل ما كان من عجب إلى عجب «2»
لا تنكري منه تحديدا تخلّله ... فالسيف لا يزدرى إن كان ذا شطب «3»
ولا يؤرّقك إيماض القتير به ... فإنّ ذاك ابتسام الرأي والأدب «4»
وقال آخر: [طويل]
يقولون هل بعد الثلاثين ملعب ... فلت وهل قبل الثلاثين ملعب
لقد جلّ قدر الشّيب إن كان كلّما ... بدت شيبة يعرى من الهو مركب
باب الخلق
الطول والقصر
عن عمرو بن شعيب: أنّ النبيّ صلّى الله عليه وسلم رأى رجلا قصيرا- أو قال شديد القصر- فسجد.
عن سالم بن عبد الله عن أبيه عن جدّه قال: قال رسول الله صلّى الله عليه وسلم: من رأى منكم مبتلى فقال الحمد لله الذي عافاني مما ابتلاك به وفضّلني على كثير ممن خلقه تفضيلا عافاه الله من ذلك البلاء كائنا ما كان.
وقال بعض الشعراء: [مجزوء الرمل]
من تعاذر من يسامح ... من تطاول بزياد
من تباراني نسيني ... ببعيد من إياد «5»(4/53)
وقال إسحاق الموصليّ في غلامه: [وافر]
ذهبت سماجة وذهبت طولا ... كأنك من فراسخ دير سعد «1»
وقال أبو اليقظان: كان يعلى بن الحكم بن أبي العاص يعيّر أخاه يزيد بالقصر؛ فقال يزيد: [بسيط]
همّ الرّجال العلا أخذا بذروتها ... وإنما همّ يعلى الطول والقصر
وقال أبو حاتم: [طويل]
يكاد خليلي من تقارب شخصه ... يعضّ القراد باسته وهو قائم «2»
وقال آخر وكان قصيرا: [طويل]
فإلّا يكن عظمي طويلا فإنّني ... له بالخصال الصالحات وصول
وقال أوفى بن مولّة في مثل ذلك: [طويل]
فإن أك قصدا في الرجال فإنّني ... إذا حلّ أمر ساحتي لجسيم
وقال آخر: [طويل]
ولمّا التقى الصّفّان واختلف القنا ... نهالا وأسباب المنايا نهالها «3»
تبيّن لي أنّ القماءة ذلّة ... وأنّ أشدّاء الرّجال طوالها «4»(4/54)
وقال الغطمّش الضّبّيّ «1» : [طويل]
ولو وجدوا نعل الغطمّش لاحتذوا ... لأرجلهم منها ثماني أنعل
كان جرير بن عبد الله يثفل «2» إلى ذروة البعير من طوله، وكانت نعله ذراعا.
الأصمعيّ قال: دخل المغيرة بن شعبة على معاوية، فقال معاوية:
[طويل]
إذا راح في قوهيّة متلبّسا ... تقل جعل يستنّ في لبن مخض «3»
وأقسم لو خرّت من استك بيضة ... لما انكسرت من قرب بعضك من بعض «4»
اللحى
قال بعض الحكماء: لا تصافينّ من لا شعر على عارضيه وإن كانت الدنيا خرابا إلّا منه.
كانت عائشة ربّما قالت: والّذي زيّن الرجال باللحى.
وقال بعض المحدثين: [سريع]
يا لحية طالت على نوكها ... كأنّها لحية جبريل «5»
لو كان ما يقطر من دهنها ... ليلا لوفّى ألف قنديل(4/55)
ولو تراها وهي قد سرّحت ... حسبتها بندا على الفيل «1»
قال رجل لبعض مجانين الكوفة: ما هذه اللّحية؟ - وكانت كبيرة- فقال: وَالْبَلَدُ الطَّيِّبُ يَخْرُجُ نَباتُهُ بِإِذْنِ رَبِّهِ وَالَّذِي خَبُثَ لا يَخْرُجُ إِلَّا نَكِداً
«2» .
وقال مروان بن أبي حفصة «3» : [وافر]
لقد كانت مجالسنا فساحا ... فضيّقها بلحيته رباح «4»
مبعثرة الأسافل والأعالي ... لها في كل زاوية جناح
وقال آخر: [وافر]
أنفّش لحية عرضت وطالت ... من الهدبات تملأ عرض صدري
أكاد إذا قعدت أبول فيها ... إذا أنا لم أعقّصها بظفري «5»
وقال أعرابيّ: [مجزوء الكامل]
لا تفخرنّ بلحية ... عظمت جوانبها طويله
تجري بمفرقها الريا ... ح كأنها ذنب الحسيله «6»(4/56)
العيون
قال إبراهيم النّخعيّ لسليمان الأعمش وأراد أن يماشيه: إن الناس إذا رأونا معا قالوا: أعور وأعمش، قال: ما عليك أن يأثموا ونؤجر، قال: ما عليك أن يسلموا ونسلم.
وقال ابن عباس بعد ما كفّ بصره: [بسيط]
أن يأخذ الله من عينيّ نورهما ... ففي فؤادي وسمعي منهما نور
قلبي ذكيّ وعرضي غير ذي دخل ... وفي فمي صارم كالسيف مأثور «1»
فأخذ الخريميّ هذا المعنى فقال: [متقارب]
فإن تك عيني خبا نورها ... فكم قبلها نور عين خبا
فلم يعم قلبي ولكنّما ... أرى نور عيني اليه سرى
فأسرج فيه إلى ضوئه ... سراجا من العلم يشفي العمى
وقال الخريميّ أيضا: [منسرج]
أصغي إلى قائدي ليخبرني ... إذا التقينا عمّن يحيّيني
أريد أن أعدل السّلام وأن ... أفصل بين الشّريف والدّون «2»
أسمع ما لا أرى فأكره أن ... أخطىء والسّمع غير مأمون
لله عيني التي فجعت بها ... لو أنّ دهرا بها يواتيني
لو كنت خيّرت، ما أخذت بها ... تعمير نوح في ملك قارون
وتماشى أعوران، فقال أحدهما: [وافر]
ألم ترني وعمرا حين نمشي ... نريد السّوق ليس لنا نظير(4/57)
أماشيه على يمنى يديه ... وفيما بيننا رجل ضرير «1»
وقال قائل في طاهر بن الحسين «2» : [رجز]
يا ذا اليمينين وعين واحده ... نقصان عين ويمين زائدة «3»
وقال الأصمعيّ: جاءت رجلا أعور نشّابة فأصابت عينه الصحيحة، فقال: يا ربّ وأنا أيضا على محمل.
اشترى أبو الأسود جارية حولاء فأغار امرأته أمّ عوف، وكانت ابنة عمّه وكانت تشارّه «4» في كلّ يوم وتقول: من يشتري حولاء؛ فلمّا أكثرت عليه قال:
[طويل]
يعيبونها عندي ولا عيب عندها ... سوى أنّ في العينين بعض التأخّر
فإن يك في العينين سوء فإنها ... مهفهفة الأعلى رداح المؤخّر «5»
أنشد أبو النجم هشام بن عبد الملك أرجوزته التي أوّلها:
الحمد لله الوهوب المجزل
فلم يزلّ هشام يصفق بيديه استحسانا لها، حتى إذا بلغ قوله في صفة الشمس:
فهي في الأفق كعين الأحول ... صغواء قد كادت ولمّا تفعل «6»(4/58)
أمر بوجء «1» رقبته وإخراجه. وكان هشام أحول.
وقال آخر: [طويل]
يقولون نصرانية أمّ خالد ... فقلت دعوها كلّ نفس ودينها
فإن تك نصرانيّة أمّ خالد ... فقد صوّرت في صورة لا تشينها
أحبّك أن قالوا بعينك زرقة ... كذاك عتاق الطير زرقا عيونها
وقرأت في الآيين «2» أن الرجل إذا اجتمع فيه قصر وسبوطة «3» وحول وعسم «4» وشدق «5» ... «6» كان لا يستعمل في دار الملك، ويحال بينه وبين التصدير للملك، وكذلك المرأة البرشاء والبرصاء «7» .
وقال بعض الشعراء في صحّة البصر مع الهرم: [منسرح]
إنّ معاذ بن مسلم رجل ... ليس يقينا لعمره أمد «8»
قل لمعاذ إذا مررت به ... قد ضجّ من طول عمرك الأبد
قد شاب رأس الزمان واكتهل الدّهر وأثواب عمره جدد
يا نسر لقمان كم تعيش وكم ... تسحب ذيل الحياة يا لبد «9»(4/59)
قد أصبحت دار آدم طللا ... وأنت فيها كأنّك الوتد
تسأل غربانها إذا حجلت ... كيف يكون الصّداع والرّمد «1»
الأنوف
عن أبي زيد قال: رأيت أعرابيّا أنفه كأنه كور «2» من عظمه، فرآنا نضحك فقال: ما يضحككم! والله لقد كنا في قوم ما يسمّوننا إلّا الأفيطس «3» .
عن الوليد بن بشّار أن امرأة عقيل بن أبي طالب، وهي بنت عتبة بن ربيعة، قالت: يا بني هاشم لا يحبّكم قلبي أبدا، إنّ أبي وابن عميّ أبو فلان ابن فلان كأنّ أعناقهم أباريق فضّة، ترد أنوفهم قبل شفاههم؛ فقال لها عقيل:
إذا دخلت النار فخذي على يسارك.
قال بعض الشعراء يذكر الكبر «4» : [متقارب] أرى شعرات على حاجبيّ بيضا نبتن جميعا تؤاما
ظللت أهاهي بهنّ الكلا ... ب أحسبهنّ صيارا قياما «5»(4/60)
وأحسب أنفي إذا ما مشي ... ت شخصا أمامي رآني فقاما
وقال بعض المحدثين: [متقارب]
إذا أنت أقبلت في حاجة ... اليه فكلّمه من خلفه
فإن أنت واجهته في الكلا ... م لم يسمع الصوت من أنفه
وقال آخر: [مجزوء الرمل]
إنّ عيسى أنف أنفه ... أنفه ضعف لضعفه
وهو لو يستنشق الثو ... ر بقرنيه وظلفه
لثوى في منخر يس ... تغرق الخلق بنصفه
لو تراه راكبا والتّ ... يه قد مال بعطفه
لرأيت الأنف في السرّ ... ج وعيسى ردف أنفه «1»
وقال قعنب «2» في الوليد بن عبد الملك: [متقارب]
فقدت الوليد وأنفا له ... كمثل المعين أبي أن يبولا «3»
أتيت الوليد فألفيته ... كما يعلم الناس وخما ثقيلا «4»
البخر والنّتن
قال أبو اليقظان: كان يقال لعبد الملك بن مروان: أبو الذّبّان لشدّة بخره. يريدون أنّ الذّباب يسقط إذا قارب فاه من شدّة رائحته. قال: ونبذ إلى امرأة له تفّاحة قد عضّها، فأخذت سكّينا؛ فقال لها: ما تصنعين؟ قالت: أميط عنها «5» الأذى، فطلّقها.(4/61)
وقال مسلم: [خفيف] أنت تفسو إذا نطقت ومن سبّح من فسو فاك إثما وزورا وقال آخر «1» : [كامل]
لا تدن فاك من الأمير ونحّه ... حتى يداوي ما بأنفك أهرن «2»
إن كان للظّربان جحر منتن ... فلجحر أنفك يا محمد أنتن «3»
وقال شقيق بن السّليك العامريّ لامرأته: [متقارب]
إذا ما نكحت فلا بالرّفاء ... وإمّا أتيت فلا بالبنينا
تزوّجت أصلع في غربة ... تجنّ الحليلة منه جنونا
إذا ما نقلت إلى بيته ... أعدّ لجنبيك سوطا متينا
كأنّ المساوك في شدقه ... إذا هنّ أكرهن يقلعن طينا «4»
كأنّ توالي أضراسه ... وبين ثناياه غسلا لجينا «5»
وقال الحكم بن عبدل لمحمد بن حسّان بن سعد: [وافر]
فما يدنو إلى فمه ذباب ... ولو طليت مشافره بقند «6»
يرين حلاوة ويخفن موتا ... وشيكا إذ هممن له بورد «7»(4/62)
وقال أعرابيّ: [رجز]
كأنّ إبطيّ وقد طال المدى ... نفحة خرء من كواميخ القرى «1»
وقال عبد الرحمن بن أبي عبد الرحمن بن عائشة: [خفيف]
من يكن إبطه كآباط ذي الخل ... ق فإبطاي في عداد الفقاح «2»
لي إبطان يرميان جليسي ... بشبيه السّلاح أو بالسّلاح «3»
فكأنّي من نتن هذا وهذا ... جالس بين مصعب وصباح
يعني مصعب بن عبد الله بن مصعب، وصباح بن خاقان الأهتميّ.
البرص
كان بلعاء بن قيس أبرص؛ فقال له قائل: ما هذا بك يا بلعاء؟ فقال؛ سيف الله جلاه.
وقال ابن حبناء «4» : [بسيط]
«إنّي امرؤ حنظليّ حين تنسبني ... لا ملعتيك ولا أخوالي العوق «5»
لا تحسبنّ بياضا فيّ منقصة ... إن اللهاميم في أقرابها بلق «6»(4/63)
وقال أبو مسهر: [طويل)
أيشتمني زيد بأن كنت أبرصا ... فكلّ كريم لا أبالك أبرص
وقال بعض النّهشليّين: [رمل]
نفرت سودة منّي إذ رأت ... صلع الرأس وفي الجلد وضح»
قلت يا سودة هذا والّذي ... يفرج الكربة عنّا والكلح «2»
هو زين لي في الوجه كما ... زيّن الطّرف تحاسين القزح «3»
وقال آخر: [رجز]
يا كأس لا تستنكري نحولي ... ووضحا أوفى على خصيلي «4»
فإنّ نعت الفرس الرّحيل ... يكمل بالغرّة والتّحجيل «5»
وقال آخر: [رجز]
يا أخت سعد لا تعيبي بالزّرق ... لا يضرر الطرف تواليع البهق «6»
إذا جرى في حلبة الخيل سبق
لما أنشد لبيد «7» النعمان بن المنذر قوله في الرّبيع بن زياد العبسيّ: [رجز](4/64)
مهلا أبيت اللعن لا تأكل معه ... إنّ استه من برص ملمّعه
قال الربيع: أبيت اللعن! والله لقد نكت أمّه! فقال لبيد: إن كنت فعلت لقد كانت بتيمة في حجرك ربّيتها، وإلّا تكن فعلت ما قلت فما أولادك بالكذب! وإن كانت هي الفاعلة فإنها من نسوة فعّل لذلك. يعني أنّ نساء بني عس فواجر.
وقال زياد الأعجم: [بسيط]
ما إن يدبّح منهم خارىء أبدا ... إلا رأيت على باب استه القمرا «1»
يعني أنهم برص الأستاه.
وقال كثيّر في نحو ذلك: [طويل]
ويحشر نور المسلمين أمامهم ... ويحشر في أستاه ضمرة نورها
المدائنيّ «2» قال: كان أيمن بن خريم أبرص وكان أثيرا «3» عند عبد العزيز ابن مروان، فعتب عليه أيمن يوما فقال له: أنت طرف ملولة «4» ؛ فقال له: أنا ملولة وأنا أؤاكلك مذ كذا!. فلحق ببشر بن مروان فأكرمه واختصّه ولم يكن يؤاكله. فدخل عليه يوما وبين يديه لبن قد وضع؛ فقال له: قد حدّثت نفسي البارحة بالصوم، فلما أصبحت أتوني بهذا وهم لا يعلمون، ولا أرى أحدا أحقّ به منك، فدونكه.
عن أبي جعدة قال: أصاب أبا عزّة الجمحيّ وضح، فكان لا يجالس، فأخذ شفرة وطعن في بطنه فمارت الشّفرة «5» وخرج ماء أصفر وبرىء، فقال:(4/65)
[رجز]
لا همّ ربّ وائل ونهد ... وربّ من يرعى بياض لحدي «1»
أصبحت عبدا لك وابن عبد ... أبرأتني من وضح بجلدي
مع ما طعنت اليوم في معدّي «2»
العرج
كان عبد الحميد «3» بن عبد الرحمن بن زيد بن الخطّاب أعرج وولي شرطة الكوفة، والقعقاع بن سويد كان أعرج، فقال بعض الشعراء وكان أعرج: [كامل]
ألق العصا ودع التناوش والتمس ... عملا فهذي دولة العرجان «4»
لأميرنا وأمير شرطتنا معا ... يا قومنا لكليهما رجلان
وقال رجل من العرج: [طويل]
وما بي من عيب الفتى غير أنّني ... ألفت قناتي حين أوجعني ظهري «5»
وقال آخر: [طويل]
وما بي من عيب الفتى غير أنني ... جعلت العصا رجلا أقيم بها رجلي(4/66)
وقال أبو زياد الكلابيّ «1» : [طويل]
ألفت عصا الطّرفاء حتّى كأنّما ... أرى بعصا الطرفاء إحدى النّجائب «2»
وقال أبو الخطاب النّهدليّ «3» : [رجز]
قد صرت أمشي بثلاث أرجل
وقال آخر: [بسيط]
قد كنت أمشي على رجلين معتمدا ... فاليوم أمشي على أخرى من الشّجر
وقال الأعشى: [متقارب]
إذا كان هادي الفتى في البلا ... د صدر القناة أطاع الأميرا «4»
الأدر «5»
قال أبو الخطاب: كان عندنا رجل أحدب، فسقط في بئر فذهبت حدبته فصار آدر، فدخلوا يهنّئونه، فقال: الذي جاء شرّ من الذي ذهب.
وقال طرفة: [طويل]
فما ذنبنا في أن أداءت خصاكم ... وأن كنتم في قومكم معشرا أدرا «6»
إذا جلسوا خيّلت تحت ثيابهم ... خرانق توفي بالضّغيب لها نذرا «7»(4/67)
وقال الجعديّ «1» : [وافر]
كذي داء بإحدى خصيتيه ... وأخرى لم توجّع من سقام
فضمّ ثبابه من غير برء ... على شعراء تنقض بالبهام «2»
الجذام
«3» عن أبي محيريز قال «4» : قال رسول الله صلّى الله عليه وسلم: «فرّوا من المجذوم كالفرار من الأسد» وفي حديث آخر: «لا تديموا النظر إلى المجذومين فإذا كلّمتموهم فليكن بينكم وبينهم حجاب قيد رمح» .
عن قتادة قال: كان رسول الله صلّى الله عليه وسلم إذا ادّهن بدأ بحاجبه الأيمن ثم قال:
باسم الله.
وقال: «نبات الشّعر في الأنف أمان من الجذام» .
وعن قتادة: أنّ مجذوما دخل على عبد الله بن الحارث فقال: أخرجوه، قالوا: ولم؟ قال: بلغني أنه ملعون.
أبو الحسن قال: مرّ سليمان بن عبد الملك بالمجذومين في طريق مكة، فأمر بإحراقهم، وقال: لو كان الله يريد بهؤلاء خيرا ما ابتلاهم بهذا البلاء.
عن إبراهيم قال: اشمأزّ رجل من رجل به بلاء، فما مات حتى ابتلي بمثل ذلك البلاء.(4/68)
باب المهور
إسحاق بن عبد الله بن أبي طلحة قال: خطب جدّي أبو طلحة «1» أمّ سليم «2» ، فأبت أن تتزوّجه حتى يسلم، وكان مشركا، وقالت: إذا أسلم فهو صداقي؛ فأسلم فكان صداقها إسلامه.
عن المطّلب «3» بن أبي وداعة السّهميّ قال: زوّج سعيد ابنته على درهمين.
أخبرنا محمد بن عليّ بن أبي طالب أنّ عليّا أصدق فاطمة بنت النبيّ صلّى الله عليه وسلم «4» بدنا من حديد. قال محمد: وأخبرني ابن أبي نجيح قال: بلغني أن البدن الذي تزوّج عليه فاطمة كان ثمنه ثلاثمائة درهم.
عن ابن أبي عيينة عن ابن أبي نجيح عن أبيه أنّ عليّا عليه السلام قال:
أتيت رسول الله صلّى الله عليه وسلم بالدّرع فباعها بأربعمائة وثمانين درهما وزوّجني عليها.
عن مجاهد عن ابن عبّاس أنّ النبيّ صلّى الله عليه وسلم قال: «أعظم النّكاح بركة أيسره(4/69)
مؤونة. وقال في الحديث الآخر: «اللهم أذهب ملك غسّان وضع «1» مهور كندة» .
أخبرنا بعض أصحاب الأخبار قال: قالت جارية من العرب لبنات عمّ لها: السعيدة التي يتزوجها ابن عمّها فيمهرها بتيسين وكلبين وعيرين «2» ، فينبّ «3» التّيسان وينبح الكلبان وينهق العيران، والشقّية التي يتزوّجها الحضريّ فيطعمها الحمير، ويلبسها الحرير، ويحملها ليلة الزّفاف على عود (تعني إكافا «4» أو سرجا) .
ويقال: جاء خاطب إلى قوم فقال: أنا فلان بن فلان، وأنتم لا تسألون عنّي أعلم بي منكم؛ قالوا: صدقت، فما تبذل؟ فأنشأ يقول: [وافر]
ألا أبلغ لديك بني يزيد ... بأنّي لا أريد إلى النساء
سوى ودّي لهنّ وأنّ عندي ... ثريدا بالغداة وبالعشاء
فقال شيخ منهم: أقم كفيلا بالقصعتين وصل به «5» . فبقي عارا عليهم الى اليوم.
قال بعض نقلة الأخبار: أصدق عمر بن الخطّاب أمّ كلثوم بنت عليّ أربعين ألفا، وأصدق عبد الله بن عمر ابنة أبي عبيد «6» أخت المختار عشرة آلاف درهم وأصدق محمد بن سيرين امرأته السّدوسيّة عشرة آلاف درهم.(4/70)
قال أعرابيّ: [طويل]
يقولون تزويج وأشهد أنه ... هو البيع إلّا أنّ من شاء يكذب
أوقات عقد النكاح
عن ضمرة بن حبيب أنه قال: كان أشياخنا يستحبّون النّكاح يوم الجمعة.
وقال بعض العلماء: سمعت من يخبر عن اختيار الناس آخر النهار على أوّله في النّكاح، قال: ذهبوا الى تأويل القرآن واتّباع السنّة في الفأل، لأن الله سمّى الليل في كتابه سكنا وجعل النهار نشورا؛ وقال رسول الله صلّى الله عليه وسلم في الطّيرة «1» : «أصدقها الفأل؛ فآثر الناس استقبال الليل لعقدة النّكاح تيمنا بما فيه من الهدوء والاجتماع، على صدر النهار لما فيه من التفرّق والانتشار.
قال: وأما كراهية الناس للنّكاح في شوّال، فإن أهل الجاهليّة كانوا يطّيّرون منه ويقولون: إنه يشول بالمرأة «2» ، فعلقه الجهّال منهم، وأبطله الله بالنبيّ صلّى الله عليه وسلم، لأنه نكح عائشة رضي الله عنها في شوّال.
خطب النكاح
قال حدّثني محمد بن داود قال حدّثنا أبو غسّان مالك بن عبد الواحد عن معتمر عن خالد القسريّ «3» قال- وكان قد جمع الخطب فكان يستحسن هذه ويذكرها-:(4/71)
ذكرتم أمرا حسنا جميلا، وعد الله فيه الغنى والسّعة، فلا خلف لموعود الله ولا رادّ لقضاء الله؛ اذا أراد جماع أمر فلا فرقة له؛ واذا أراد فرقة أمر فلا جماع له. عرضت كذا، فإذا قال: نعم، قال: قد نكحت.
وخطب محمد بن الوليد بن عتبة الى عمر بن عبد العزيز أخته؛ فقال:
الحمد لله ذي العزّة والكبرياء، وصلّى الله على محمد خاتم الأنبياء. أما بعد، فقد حسن ظنّ من أودعك حرمته واختارك ولم يختره عليك؛ وقد زوّجناك على ما في كتاب الله: إمساك بِمَعْرُوفٍ أَوْ تَسْرِيحٌ بِإِحْسانٍ
«1» .
خطب بلال على أخيه امرأة من بني حسل من قريش؛ فقال: نحن من قد عرفتم، كنا عبدين فأعتقنا الله، وأنا أخطب على أخي خالد فلانة، فإن تنكحوه فالحمد لله، وإن تردّوه فالله أكبر، فأقبل بعضهم على بعض فقالوا:
هو بلال؛ وليس مثله يدفع، فزوّجوا أخاه. فلما آنصرفا قال خالد لبلال: يغفر الله لك! ألا ذكرت سوابقنا ومشاهدنا مع رسول الله صلّى الله عليه وسلم! قال بلال: مه «2» ! صدقت فأنكحك الصّدق.
كان الحسن البصريّ يقول في خطبة النّكاح بعد حمد الله والثناء عليه:
أما بعد، فإن الله جمع بهذا النّكاح الأرحام المنقطعة، والأسباب المتفرّقة، وجعل ذلك في سنّة من دينه، ومنهاج واضح من أمره؛ وقد خطب إليكم فلان وعليه من الله نعمة، وهو يبذل من الصّداق كذا، فاستخيروا الله وردّوا خيرا يرحمكم الله.
قال الأصمعيّ: كان رجالات قريش من العرب تستحب من الخاطب(4/72)
الإطالة ومن المخطوب إليه الإيجاز.
وأتى رجل عمر بن عبد العزيز يخطب أخته، فتكلّم بكلام جاز الحفظ؛ فقال عمر: الحمد لله ذي الكبرياء وصلّى الله على خاتم الأنبياء؛ أما بعد، فإن الرّغبة منك دعت إلينا، والرغبة فيك أجابت منا؛ وقد زوّجناك على ما في كتاب الله: إمساك بِمَعْرُوفٍ أَوْ تَسْرِيحٌ بِإِحْسانٍ.
العتبيّ قال: لما زوّج شبيب «1» ابنه ابنة سوّار القاضي «2» قلنا: اليوم يعبّ عبابه، فلّما اجتمعوا تكلّم فقال: الحمد لله، وصلّى الله على رسول الله. أما بعد، فإنّ المعرفة منا ومنكم وبنا وبكم تمنعنا من الإكثار، وإنّ فلانا ذكر فلانة.
العتبيّ قال حدّثني رجل قال: حضرت ابن الفقير يخطب على نفسه امرأة من باهلة «3» فقال: [طويل]
فما حسن أن يمدح المرء نفسه ... ولكنّ أخلاقا تذمّ وتمدح
وإن فلانة ذكرت لي.
قال: وحدّثني أبو عثمان قال: مررت بحاضر «4» وقد اجتمع فيه، فسألت بعضهم: ما جمعهم؟ فقالوا: هذا سيّد الحيّ يريد أن يتزوّج منّا فتاة؛ فوقفت أنظر، فتكلّم الشيخ فقال: الحمد لله، وصلّى الله على رسول الله، أما بعد ذلك، ففي غير ملالة من ذكره والصلاة على رسوله؛ فإن الله جعل المناكحة(4/73)
التي رضيها فعلا وأنزلها وحيا سببا للمناسبة. وإن فلانا ذكر فلانة وبذل لها الصّداق كذا، وقد زوّجته إيّاها، وأوصيته بوصيّة الله لها. ثم قال للفتيان على رأسه: هاتوا نثاركم «1» ، فقلبت على رؤوسنا غرائر التّمر.
قال وقال شبّة بن عقّال: ما تمنّيت أنّ لي بقليل من كلامي كثيرا من كلام غيري إلا يوما واحدا، فإنّا خرجنا مع صاحب لنا نريد أن نزوّجه، فمررنا بأعرابيّ فأتبعنا، فتكلّم متكلّم القوم فجاء بخطبة فيها ذكر السموات والأرض والجبال؛ فلما فرغ قلنا: من يجيبه؟ قال الأعرابيّ: أنا، فجثا لركبته ثم أقبل على القوم فقال: والله ما أدري ما تحتاطك وتلصاقك «2» منذ اليوم! ثم قال:
الحمد لله ربّ العالمين وصلّى الله على محمد خير المرسلين. أمّا بعد، فقد توسّلت بحرمة، وذكرت حقّا، وعظّمت عظيما، فحبلك موصول، وفرضك مقبول؛ وقد زوّجناها إيّاك، وسلّمناها لك؛ هاتو خبيصكم «3» .
قال ابن عائشة: زوّج سلم بن قتيبة ابنته من يعقوب بن الفضل، فقال:
الحمد لله، قد ملكت «4» باسم الله.
حضر المأمون إملاكا وهو أمير، فسأله من حضر أن يخطب، فقال:
المحمود الله، والمصطفى رسول الله، وخير ما عمل به كتاب الله؛ قال الله تعالى: وَأَنْكِحُوا الْأَيامى مِنْكُمْ وَالصَّالِحِينَ مِنْ عِبادِكُمْ وَإِمائِكُمْ
«5» . ولم يكن في المناحكة آية منزّلة ولا سنة متّبعة إلا ما جعل الله في ذلك من تآلف(4/74)
البعيد وبرّ القريب، وليسارع اليها الموفّق ويبادر اليها العاقل اللّبيب. وفلان من قد عرفتموه، في نسب لم تجهلوه؛ خطب إليكم فلانة فتاتكم، وقد بذل لها من الصّداق كذا، فشفّعوا شافعنا، وأنكحوا خاطبنا، وقولوا خيرا تحمدوا عليه وتؤجروا؛ أقول قولي هذا، وأستغفر الله لي ولكم.
وصايا الأولياء للنساء عند الهداء «1»
العتبيّ قال: حدّثنا إبراهيم العامريّ: زوّج عامر بن الظّرب «2» ابنته من ابن أخيه، فلما أراد تحويلها قال لأمّها: مري ابنتك ألّا تنزل مفازة «3» إلا ومعها ماء فإنه للأعلى جلاء وللأسفل نقاء؛ ولا تكثر مضاجعته، فإنه إذا ملّ البدن ملّ القلب؛ ولا تمنعه شهوته، فإن الحظوة في الموافقة. فلم تلبث إلا شهرا حتى جاءته مشجوجة «4» ؛ فقال لابن أخيه: يا بنيّ ارفع عصاك عن بكرتك، فإن كانت نفرت من غير أن تنفّر فذلك الداء الذي ليس له دواء، وإن لم يكن بينكما وفاق، ففراق الخلع «5» أحسن من الطلاق؛ ولن تترك مالك وأهلك. فردّ عليه صداقه وخلعها؛ فهو أوّل من خلع من العرب.
قال الفرافصة الكلبيّ لابنته «6» حين جهّزها إلى عثمان رضي الله عنه: يا(4/75)
بنيّة إنك تقدمين على نساء قريش وهنّ أقدر على الطّيب منك، فلا تغلبي على خصلتين: الكحل والماء، تطهّري حتى يكون ريحك ريح شنّ «1» أصابه المطر.
كان الزّبرقان بن بدر «2» إذا زوّج ابنة له دنا من خدرها وقال: أتسمعين؟
لا أعرّفنّ ما طلبت، كوني له أمة يكن لك عبدا.
أبو الحسن: قالت امرأة لابنتها عند هدائها: اقلعي زجّ رمحه، فإن أقرّ «3» فاقلعي سنانه، فإن أقرّ فاكسري العظام بسيفه، فإن أقرّ فاقطعي اللّحم على ترسه، فإن أقرّ فضعي الإكاف «4» على ظهره فإنما هو حمار.
قال أبو الأسود لابنته: إيّاك والغيرة فإنها مفتاح الطّلاق، وعليك بالزينة، وأزين الزينة الكحل؛ وعليك بالطّيب، وأطيب الطّيب إسباغ الوضوء «5» ؛ وكوني كما قلت لأمك في بعض الأحايين: [طويل]
خذي العفو منّي تستديمي مودّتي ... ولا تنطقي في سورتي حين أغضب «6»
فإنّي وجدت الحبّ في الصدر والأذى ... إذا اجتمعا لم يلبث الحبّ يذهب
باب سياسة النّساء ومعاشرتهنّ
عيسى بن يونس قال: حدّثنا شيخ لنا قال: سمعت سمرة بن جندب «7»(4/76)
يقول على منبر البصرة: قال رسول الله صلّى الله عليه وسلم: «إنما المرأة خلقت من ضلع عوجاء فإن تحرص على إقامتها تكسرها فدارها تعش بها» .
وقال بعض الشعراء: [طويل]
هي الضّلع العوجاء لست تقيمها ... ألا إنّ تقويم الضلوع «1» انكسارها
أتجمع ضعفا واقتدارا على الفتى ... أليس عجيبا ضعفها واقتدارها
عن الحسن قال: قال عمر بن الخطّاب رضي الله عنه: النساء عورة فاستروها بالبيوت، وداووا ضعفهنّ بالسكوت.
وفي حديث آخر لعمر: لا تسكنوا نساءكم الغرف، «2» ولا تعلّموهنّ الكتاب، واستعينوا عليهنّ بالعري «3» ، وأكثروا لهنّ من قول لا، فإنّ نعم تغريهنّ على المسألة.
قال الأصمعيّ: قيل لعقيل بن علّفة وكان غيورا: من خلّفت في أهلك؟
فقال: الحافظين، العري والجوع. يعني أنه يجيعهنّ فلا يمزحن، ويعريهنّ فلا يمرحن.
وقال كثيّر: [طويل]
وكنت اذا ما جئت أجللن مجلسي ... وأبدين منّي هيبة لا تجهّما
يحاذرن منّي غيرة قد علمنها ... قديما فما يضحكن إلّا تبسّما
تراهنّ إلّا أن يؤدّين نظرة ... بمؤخر عين أو يقلّبن معصما
كواظم لا ينطقن إلّا محورة ... رجعية قول بعد أن تتفهمّا «4»(4/77)
وكنّ اذا ما قلن شيئا يسرّه ... أسرّ الرّضا في نفسه وتحرّما «1»
وقال ابن المقفّع: إيّاك ومشاورة النساء، فإنّ رأيهنّ إلى أفن «2» ، وعزمهنّ الى وهن «3» . واكفف عليهنّ من أبصارهنّ بحجابك إيّاهنّ، فإنّ شدّة الحجاب، خير لك من الارتياب. وليس خروجهنّ بأشدّ من دخول من لا تثق به عليهنّ، فإن استطعت ألّا يعرفن عليك فافعل. ولا تملّكنّ امرأة من الأمر ما جاوز نفسها، فإن ذلك أنعم لحالها وأرخى لبالها؛ وأدوم لجمالها، وإنما المرأة ريحانة وليست بقهرمانة «4» ، فلا تعد بكرامتها نفسها، ولا تعطها أن تشفع عندك لغيرها. ولا تطل الخلوة مع النساء فيمللنك وتملهنّ؛ واستبق من نفسك بقيّة، فإنّ إمساكك عنهنّ وهنّ يردنك باقتدار، خير من أن يهجمن عليك على انكسار. وإيّاك والتغاير في غير موضع غيرة، فإنّ ذلك يدعو الصحيحة منهنّ الى السّقم.
كان المأمون يقول: الغيرة بهيميّة. وقال أيضا: هي ضرب من البخل.
أنشدني محمد بن عمر للخزيميّ: [السريع]
ما أحسن الغيرة في حينها ... وأقبح الغيرة في غير حين
من لم يزل متّهما عرسه ... متّبعا فيها لقول الظّنون «5»
يوشك أن يغريها بالذي ... يخاف أن يبرزها للعيون
حسبك من تحصينها وضعها ... منك الى عرض صحيح ودين
لا يطلعن منك على ريبة ... فيتبع المقرون حبل القرين(4/78)
وقال الشّنفرى: «1» [وافر]
إذا أصبحت بين جبال قوّ ... وبيضان القرى لم تحذريني «2»
وإمّا أن تؤدّيني وترعى ... أمانتكم وإمّا أن تخوني
إذا ما جئت ما أنهاك عنه ... ولم أنكر عليك فطلّقيني
فأنت البعل يومئذ فقومي ... بسوطك لا أبا لك فاضربني «3»
أنشدني عبد الرحمن عن عمّه للرّخيم العبديّ: [كامل]
كنّا ولا تعصي الحلية بعلها ... فاليوم تضربه إذا هو ما عصى
ويقلن بعدا للشيوخ سفاهة ... والشيخ أجدر أن يهاب ويتّقى
وقال آخر [طويل]
وإنّي لأخلي للفتاة خباءها ... كثيرا فترعى نفسها أو تضيعها «4»
وإنّي لعفّ عن مطاعم جمّة ... إذا زيّن الفحشاء للنفس جوعها
قال جران العود: «5» [طويل]
ولكن سمعن الشيخ قد قال قولة ... عليكم اذا ما ربنكم بالضّرائر «6»(4/79)
ولا تأمنوا مكر النساء وأمسكوا ... عرى المال عن أبنائهن الأصاغر «1»
فإنّك لم ينذرك أمر تخافه ... إذا كنت منه جاهلا مثل خابر «2»
الأصمعيّ عن جعفر بن سليمان قال:
منعني علمي بالنساء كثيرا منهنّ، فقد غشيت ألف امرأة. وإنّ الله لو أحلّ لرجل ابنته لم تنفعه أو تعزبه «3» .
أبو الحسن قال: قيل للحجّاج: أيمازح الأمير أهله؟ قال: ما تروني إلا شيطانا! والله لربّما قبّلت أخمص «4» إحداهنّ.
قيل لرجل من العرب كان يجمع الضّرائر: كيف تقدر على مجمعهنّ؟
قال: كان لنا شباب يصابرهنّ علينا، ثم كان لنا مال يصبّرهنّ لنا، ثم بقي لنا خلق حسن، فنحن نتعاشر به ونتعايش.
عن عقبة بن عامر عن النبيّ صلّى الله عليه وسلم، قال: «كلّ شيء يلهو به الرجل باطل إلا تأديبه فرسه، ورميه عن قوسه، وملاعبته أهله» .
ويقال: العيال سوس المال «5» .
عوتب الكسائيّ «6» في ترك التزوّج، فقال: وجدت مكابدة العزبة أيسر من مكابدة العيال.
عن عمارة بن حمزة قال: يخبز في بيتي كلّ يوم ألف رغيف، كلّهم(4/80)
يأكله حلالا غيري. وكان يأكل رغيفا واحدا. ويقولون: فلان ربّ البيت، وإنما هو كلب البيت.
عن عيسى بن عليّ في مرض مرضه بمدينة السلام «1» للناس: إن في قصري الساعة لألف محمومة «2» .
عن مجاهد عن أبي هريرة عن النبيّ صلّى الله عليه وسلم قال: «دينار أعطيته مسكينا ودينار أعطيته في رقبة ودينار أعطيته في سبيل الله ودينار أنفقته على أهلك هو أعظم أجرا» .
محادثة النساء
قال بشّار: [خفيف]
وحديث كأنّه قطع الرّو ... ض وفيه الصفراء والبيضاء
وأنشد ابن الأعرابيّ: [كامل]
وحديثها كالغيث يسمعه ... راعي سنين تتابعت جدبا «3»
فأصاخ مستمعا لدرّته ... ويقول من فرح هيا ربّا «4»
وقال القطاميّ: «5» [بسيط]
وهنّ ينبذن من قول يصبن به ... مواقع الماء من ذي الغلّة، الصادي «6»(4/81)
وقال الأخطل: [بسيط]
وقد تكون بها سلمى تحدّثني ... تساقط الحلي حاجاتي وأسراري
شبّه كلامها بعقد انقطع فتساقط لؤلؤة.
وقال جران العود: [طويل]
حديث لو انّ اللّحم يصلّى بحرّه ... غريضا أتى أصحابه وهو منضج «1»
وقال بشّار وذكر امرأة: [وافر]
كأن حديثها سكر الشّراب «2» .
وقال أعرابيّ: [طويل]
ونازعتنا خفيا كأنّه ... على المجتنى الريحان أمرع خاضله «3»
بوحي لو ان العصم تسمع رجعه ... تقضّض من أعلى أبان عواقله»
وقال بشّار: [مجزوء الكامل المرفّل](4/82)
وكأنّ تحت لسانها ... هاروت ينفث فيه سحرا «1»
وكأن رجع حديثها ... قطع الّرياض كسين زهرا
وقال بعض الأعراب الحمقى: [طويل]
حديثك أشهى حين آتيك طارقا ... من الماء والدّواب يمتزجان «2»
كأنّ على عينيك تسعين جلّة ... كثيرا من البرنيّ والصّرفان «3»
آخر: [طويل]
كأنّ على فيها وما ذقت طعمه ... لبا نعجة سوّطته بدقيق «4»
رمتني بسهم نصله قرويّة ... وفوقاه سمن والنّضيّ سويق «5»
والحسن في هذا قول ذي الرّمّة: [طويل]
ولما تلاقينا جرت من عيوننا ... دموع كففنا ماءها بالأصابع
ونلنا سقاطا من حديث كأنّه ... جنى النحل ممزوجا بماء الوقائع «6»
وقال آخر [طويل]
أنح فاختبز قرصا اذا اعترك الهوى ... بزيت لكي يكفيك فقد الحبائب(4/83)
اذا اجتمع الجوع المبرّح والهوى ... نسيت وصال الغانيات الكواعب «1»
فدع عنك تطلاب الغواني وحبّها ... وراجع تمر مع لباء ورائب «2»
باب النظر
قال المسيح عليه السلام: لا يزني فرجك ما غضضت بصرك.
وقال رجل لأخيه: احتفظ من العين، فإنها أنمّ عليك من اللسان.
وقال بشار: [متقارب]
على النفس من عينها شاهد ... فكاتم حديثك أو نمّه
وقال الفرزدق: [وافر]
فلا تدخل بيوت بني كليب ... ولا تقرب لهم أبدا رحالا «3»
فإنّ بها لوامع مبرقات ... يكدن ينكن بالحدق الرجالا «4»
نظر أشعب يوما إلى ابنه هو يديم النظر إلى امرأة، فقال: يا بنيّ نظرك هذا يحبل.
وقال بعض الشعراء في هذا المعنى: [طويل]
ولي نظرة لو كان يحبل ناظر ... بنظرته أنثى لقد حبلت منّي(4/84)
وقال ذو الرمّة- وذكر الظبية وخشفها «1» [طويل]
وتهجره إلّا اختلاسا بطرفها ... وكم من محبّ رهبة العين هاجر
مرّت أعرابيّة بقوم من بني نمير، فأداموا النظر إليها، فقالت: يا بني نمير، والله ما أخذتم بواحدة من اثنتين: لا بقول الله قُلْ لِلْمُؤْمِنِينَ يَغُضُّوا مِنْ أَبْصارِهِمْ
«2» .
ولا بقول جرير: [وافر]
فغضّ الطّرف إنك من نمير ... فلا كعبا بلغت ولا كلابا
فاستحيا القوم من كلامها وأطرقوا.
وقال الطائيّ: [من مخلع البسيط]
مربّب الحزن في القلوب ... وناصر العزم في الذنوب
ما شئت من منطق أريب ... فيه ومن منظر عجيب «3»
لمّا رأى رقبة الأعادي ... على معنّى به كئيب «4»
جرّد من هواه طرفا ... صار رقيبا على الرقيب
ويقال: ربّ طرف أفصح من لسان.
وقال الشاعر: [كامل]
ومراقبين يكتّمان هواهما ... جعلا الصدور لما تجنّ قبورا «5»
يتلاحظان تلاحظا فكأنّما ... يتناسخان من الجفون سطورا
وقال أعرابيّ: [بسيط](4/85)
إن كاتمونا القلى نمّت عيونهم ... والعين تظهر ما في القلب أو تصف «1»
وقال آخر في مثله: [سريع]
إذا قلوب أظهرت غير ما ... تضمره أنبتك عنه العيون
وقال آخر: [هزج]
أما تبصر في عين ... يّ عنوان الذي أبدي
وقالت أعرابيّة: [كامل]
ومودّع يوم الفراق بلحظه ... شرق من العبرات ما يتكلّم «2»
وقال أعرابيّ: [طويل]
وما خاطبتها مقلتاي بنظرة ... فتفهم نجوانا العيون النواظر «3»
ولكن جعلت الوهم بيني وبينها ... رسولا فأدّى ما تجنّ الضمائر
ونحوه قول أبي العتاهية: [طويل]
أما والذي لو شاء لم يخلق النوى ... لئن غبت عن عيني لما غبت عن قلبي
يوهّمنيك الشوق حتّى كأنني ... أناجيك عن قرب وما أنت في قربي
وقال أحمد بن صالح بن أبي فنن: [طويل]
دعا طرفه «4» طرفي فأقبل مسرعا ... فأثّر في خدّيه فاقتصّ من قلبي
شكوت اليه ما ألاقي من الهوى ... فقال على رغم فتنت فما ذنبي(4/86)
كان يقال: أربع لا يشبعن من أربع: عين من نظر، وأنثى من ذكر، وأرض من مطر، وأذن من خبر.
حدّثني إسحاق بن أحمد بن أبي نهيك قال: رأيت رجلا في طريق مكة وعديله «1» جارية في المحمل وقد شدّ عينيها وكشف الغطاء؛ فقلت له في ذلك؛ فقال: إنما أخاف عليها عينيها لا عيون الناس.
وكان عند بعض القرشيين امرأة عربية، ودخل عليها خصيّ لزوجها وهي واضعة خمارها، فحلقت رأسها وقالت: ما كان ليصحبني شعر نظر اليه غير ذي محرم.
باب القيان والعيدان والغناء
قال إسحاق بن إبراهيم: كان رجل «2» من آل جعفر بن أبي طالب، يهوى جارية «3» ، فطال ذلك به، فقال للزّبيريّ: قد شغلتني هذه عن ضيعتي وعن كلّ أمري، فاذهب بنا حتى نكاشفها، فقد وجدت بعض السّلوّ، فأتيناها؛ فلما أتيناها قال لها الجعفريّ أتغنّين: [وافر]
وكنت أحبّكم فسلوت عنكم ... عليكم في دياركم السلام
فقالت: لا: ولكنّي أغنّي: [وافر](4/87)
تحمّل أهلها منها فبانوا ... على آثار من ذهب العفاء «1»
فاستحيا وأطرق ساعة وازداد كلفا، ثم قال: أتغنّين: [طويل]
وأخنع للعتبى إذا كنت ظالما ... وإن ظلمت كنت الذي أتنصّل «2»
قالت: نعم، وأغنّي: [طويل]
فإن تقبلوا بالودّ نقبل بمثله ... وإن تدبروا أدبر على حال باليا «3»
فتقاطعا في بيتين، وتواصلا في بيتين، ولم يشعر بهما أحد.
وقال أحمد بن صالح بن أبي فنن: [مخلع البسيط]
أعددت للحرب شرب كأس ... وميل سمع إلى قيان
تظلّ أوتارهنّ تحكي ... فصاحة منطق اللسان
ما بين يمنى وبين يسرى ... وحي بنان إلى بنان
ضمير قلب بقرع كفّ ... أبداه بمّان ناطقان «4»
وقال بعض الكتّاب «5» وذكر العود: [بسيط]
وناطق بلسان لا ضمير له ... كأنه فخذ نيطت إلى قدم
يبدي ضمير سواه في الكلام كما ... يبدي ضمير سواه منطق لفم(4/88)
وقال آخر يذكر مغنّية «1» : [طويل]
ألم ترها لا يبعد الله دارها ... إذا رجّعت في صوتها كيف تصنع «2»
تمدّ نظام القول ثم تردّه ... إلى صلصل في حلقها يترجّع «3»
وقال بعض المحدثين في القيان: [منسرح]
اذا رأين القيان أحمق ذا ... مال يقلّبن نحوه الحدقا
وبالتغنّي وبالتدلّل يس ... لبن فؤادا بحبّه علقا
حتّى اذا ما سلخن جلدته ... سلخا رفيقا وبدّد الورقا «4»
قلن ادخلوا، ذا الطّوير قد طرح الرّي ... ش، وشدّوا من دونه الغلقا»
فبتن يرعين في دراهمه ... وبات يرعى الهموم والأرقا
ذكر عند القاسم بن محمد الغناء والسلوّ عنه، فقال لهم: أخبروني، إذا ميّز أهل الحقّ وأهل الباطل ففي أيّ الفريقين يكون الغناء؟ قالوا: في فريق الباطل؛ قال: فلا حاجة لي فيه.
قدمت سكينة بنة الحسين مكة، فأتاها الغريض «6» ومعبد «7» فغّنياها:
[سريع]
عوجي علينا ربّة الهودج ... إنّك إن لم تفعلي تحرجي «8»(4/89)
فقالت: والله ما لكما مثل: إلا الجديين الحارّ والبارد لا يدري أيّهما أطيب.
قال بعضهم: ليس يخلو أحد في بيته ولا في سفره إلا وهو يشدو، فإن هو أساء في ذلك ستر الله عليه، وإن هو أحسن فضحه الله.
قال الهيثم: خرج شريح الى مكة فشيّعه قوم، فانصرف بعضهم من النّجف «1» بعد السّفرة، ومضى معه قوم، فلما أرادوا أن يودّعوه، قال: أما أصحاب النّجف فقد قضينا حقّهم بالطعام، وأما أنتم فأغنّيكم، ورفع عقيرته «2» وغنّى: [متقارب]
إذا زينب زارها أهلها ... حشدت وأكرمت زوّارها «3»
وإن هي زارتهم زرتها ... وإن لم يكن لي هوى دارها
عن عليّ بن هشام قال: كان عندنا بمرو قاصّ يقصّ فيبكينا، ثم يخرج بعذ ذلك طنبرا صغيرا من كمّه فيضرب به ويغنّي ويقول:
«با إين تيمار بايد أندكي شادي» معناه: ينبغي مع هذا الغمّ قليل فرح.(4/90)
قدم ابن جامع «1» مكة بخير كثير؛ فقال ابن عيينة «2» : علام تعطيه الملوك هذه الأموال ويحبونه هذا الحباء «3» ؟ قالوا: يغنّيهم؛ قال: ما يقول؟ فاندفع رجل يحكيه وقال: [متقارب]
أطوّف بالبيت فيمن يطوف ... وأرفع من مئزري المسبل «4»
قال: أحسنت، هيه! فقال: [متقارب]
وأسجد بالليل حتّى الصّبا ... ح أتلو من المحكم المنزل
فقال: جزاه الله عن نفسه خيرا! هيه! فقال: [متقارب]
عسى كاشف الكرب عن يوسف ... يسخّر لي ربّة المحمل
فقال: آه! أمسك أمسك، قد علمت ما نحا الخبيث «5» ، اللهمّ لا تسخّرها له!.
التقبيل
عن ابن أسد قال: كان النبيّ صلّى الله عليه وسلم اذا اختلى مع نسائه أقعى «6» وقبّل.
قالت أمّ «7» البنين لعزّة صاحبة كثيّر: أخبريني عن قول كثيّر: [طويل]
قضى كلّ ذي دين فوفّى غريمه ... وعزّة ممطول معنّى غريمها «8»(4/91)
أخبريني ما ذلك الدّين؟ قالت: وعدته قبلة فخرجت «1» منها؛ قالت أمّ البنين: أنجزيها وعليّ إثمها.
قال رجل لأعرابيّ: ما الزّنا عندكم؟ قال: القبلة والضّمّة؛ قال: ليس هذا زنا عندنا؛ قال: فما هو؟ قال: أن يجلس بين شعبها الأربع «2» ثم يجهد نفسه؛ فقال الأعرابيّ: ليس هذا زنا، هذا طالب ولد.
وقال آخر «3» : [كامل]
فدخلت مختفيا أصرّ ببيتها ... حتى ولجت على خفيّ المولج «4»
قالها وعيش أخي ونعمة والدي ... لأنبّهنّ الحيّ إن لم تخرج
فخرجت خيفة قولها فتبسّمت ... فعلمت أنّ يمينها لم تحرج «5»
فلثمت فاها قابضا بقرونها ... شرب النزيف ببرد ماء الحشرج «6»
فتناولت رأسي لتعرف مسّه ... بمخضب الأطراف غير مشنّج «7»
وقال بعض الشعراء: [طويل]
وما نلت منها محرما غير أنّني ... أقبّل بسّاما من الثغر أبلجا «8»
وألثم فاها تارة بعد تارة ... وأترك حاجات النفوس تحرّجا(4/92)
وقال آخر: [طويل]
لعمري إنّي ما صبوت وما صبت ... وإنّي اليها من صبا لحليم «1»
سوى قبلة أستغفر الله ذنبها ... وأطعم مسكينا بها وأصوم
وقال أبو نواس: [سريع]
وعاشقين التفّ خدّاهما ... عند التثام الحجر الأسود
فاشتفيا من غير أن يأثما ... كأنّما كانا على موعد
لولا دفاع الناس إيّاهما ... لما استفاقا آخر المسند «2»
قال المتوكّل، أو غيره من الخلفاء، لبختيشوع «3» : ما أخفّ النّقل «4» على النبيذ؟ فقالت له: نقل أبي نواس؛ فقال: ما هو؟ فأنشده: [منسرح]
مالي في الناس كلّهم مثل ... مائي خمر ونقلي القبل
وقال بعض المحدثين: [بسيط]
غضبت من قبلة بالكره جدت بها ... فهاك قد جئت فاقتصّيه أضعافا
لم يأمر الله إلّا بالقصاص فلا ... تستجوري ما رآه الله إنصافا
الدخول بالنساء والجماع
عن سعيد بن جبير قال: قلت لابن عبّاس: ما تقول في متعة النّساء؟ - قال: قد أكثر الناس فيها حتى قال الشاعر: [بسيط]
قد قلت للشيخ لما طال مجلسه ... يا صاح هل لك في فتوى ابن عبّاس(4/93)
هل لك في رخصة الأطراف آنسة ... تكون مثواي حتى رجعة الناس «1»
- قال: فنهاني عنها وكرها.
الأصمعيّ: أن رجلا قعد من امرأة مقعد النّكاح ثم قال: أبكر أنت أم ثيّب؟ قالت: «أنت على المجرّب» «2» .
قال الحجّاج لأكتل بن شمّاخ العكليّ «3» : ما عندك للنساء؟ قال إني لأطيل الظّمأ وأورد فلا أشرب.
وقيل لمدنيّ: ما عندك في النكاح؟ قال: إن منعت غضبت، وإن تركت عجزت.
قال الأحنف: إذا أردتم الحظوة عند النساء فأفحشوا في النّكاح وحسّنوا الأخلاق.
قال معاوية: ما رأيت منهوما بالنساء إلا رأيت ذلك في منّته «4» قال آخر: لذّة المرأة على قدر شهوتها، وغيرتها على قدر محبّتها.
دعا عيسى بن موسى بجارية له، فلم يقدر على غشيانها، فقال:
القلب يطمع والأسباب عاجزة ... والنفس تهلك بين العجز والطّمع
وقال مقاتل بن طلبة بن قيس بن عاصم: [طويل]
رأيت سحيما فاقد الله بينها ... تنيك بأيديها وتعيا أيورها «5»(4/94)
وقال آخر: [طويل]
ويبعث يوم الحشر أما لسانه ... فعيّ وأمّا أيره فخطيب
وقال آخر: [متقارب]
ويعجبني منك عند الجماع ... حياة اللسان وموت النّظر
المدائنيّ قال أسرت عنزة «1» الحارث بن ظالم، فمرّت به امرأة منهم فرأت كمرة «2» سوداء، فقالت: احتفظوا بأسيركم فإنه ملك وخدن «3» ملك.
قالوا: وكيف عرفت ذلك؟ قالت: رأيت حشفة سوداء من فروم النّساء «4» .
والفرم: ما تضيّق المرأة به رحمها من رامك «5» أو عجم زبيب أو غيره.
وكتب عبد الملك بن مروان الى الحجّاج: يابن المستفرمة بعجم «6» الزبيب.
قال الهيثم: كان امرؤ القيس مفرّكا «7» ، فبينما هو يوما مع امرأة قالت له:
قم يا خير الفتيان قد أصبحت؛ فلم يقم، فكرّرت عليه، فقام فوجد اللّيل بحاله، فرجع اليها فقال لها: ما حملك على ما صنعت؟ قالت: حملني عليه أنّك ثقيل الصّدر، خفيف العجز، سريع الإراقة «8» .
قال أبو عبيدة «9» لجارية له: اصدقيني عمّا تكرهه النساء منّي؛ قالت:(4/95)
يكرهن منك أنّك اذا عرقت فحت بريح كلب؛ قال: صدقتيني. إنّ أهلي كانوا أرضعوني بلبن كلبة.
قال الأصمعيّ: غاضبت امرأة زوجها، فجال عليها يجامعها؛ فقالت:
لعنك الله! كلّما وقع بيني وبينك شرّ جئتني بشفيع لا أقدر على ردّه!.
الهيثم عن ابن عيّاش قال: كتب عبيد الله بن زياد إلى أسماء بن خارجة والي البصرة يخطب اليه هند بنت أسماء فزوّجه؛ فلقيه عمرو بن حارثة ومحمد ابن الأشعث بن قيس ومحمد بن عمير، فقالوا: خطب اليك وليس له عليك سلطان فزوّجته وقد عرفته! فقال: قد كان ما كان. فقال عقيبة الأسديّ «1» :
[وافر]
جزاك الله يا أسماء خيرا ... كما أرضيت فيشلة الأمير
بصدع قد يفوح المسك منه ... عظيم مثل كركرة البعير «2»
لقد زوّجتها حسناء بكرا ... تجيد الرّهز من فوق السّرير «3»
فبلغ الخبر عبيد الله بن زياد، فلما استعمل على الكوفة تزوّج عائشة بنت محمد بن الأشعث، وزوّج أخاه سلم بن زياد بنت عمرو بن الحارث بن حريث، وزوّج أخاه عبد الله بن زياد ابنة محمد بن عمير. قال ابن عيّاش:
فاشتركوا والله في اللّوم جميعا.(4/96)
قال ابن المبارك «1» : ألستم تعلمون أنّي قد أرميت «2» على المائة! وينبغي لمن كان كذلك أن يكون في وهن الكرّة وموت الشّهوة وانقطاع ينبوع النّطفة، وأن قد يكون قد مال جبينه الى النساء وبفكره الى الغزل؛ قالوا: صدقت.
قال: وينبغي أن يكون قد عوّد نفسه تركهن، وهذا والتخلي بهنّ دهرا أن تكون العادة وتمرين الطبيعة وتوطين النفس قد حطّ من ثقل منازعة الشهوة ودواعي الباه «3» ، وقد علمت أنّ العادة قد تستحكم ببعض عمن ترك ملابسة النساء؛ قالو: صدقت: وينبغي أن يكون لمن لم يذق طعم الخلوة بهنّ ولم يجالسهنّ متبذّلات ولم يسمع خلابتهن للقلوب واستمالتهن للأهواء، ولم يرهنّ متكشّفات ولا عاريات أن يكون اذا تقدّم له ذلك مع طول الترك ألّا يكون بقي معه من دواعيهنّ شيء؛ قالوا صدقت. قال: وينبغي لمن علم أنّه مجبوب «4» وأن سببه إلى خلاطهن محسوم أن يكون اليأس من أمتن أسبابه إلى الزهد والسّلوة وإلى موت الخاطر؛ قالوا: صدقت. قال: وينبغي لمن دعاه الزّهد في الدنيا الى أن خصى نفسه ولم يكرهه على ذلك أب ولا عدوّ ولا سباه ساب أن يكون مقدار ذلك الزّهد يميت الذّكر وينسي العزم؛ قالوا: صدقت. قال: وينبغي لمن سخت «5» نفسه عن الشكر وعن الولد وعن أن يكون مذكورا بالعاقب الصالح أن يكون قد نسي هذا الباب إن كان مرّة منه على ذكره، وأنتم تعلمون أنّي سملت «6» عيني يوم خصيت نفسي وقد نسيت كيفية الصّور؛ قالوا: صدقت.(4/97)
قال: أو ليس لو لم أكن هرما ولم يكن ها هنا اجتناب وكانت الآلة قائمة- إلا أني لم أذق لحما منذ ثلاثين سنة ولم تمتلى عروقي من الشّراب مخافة الزيادة في الشّهوة- لكان في ذلك ما يقطع الدواعي ويسكّن حركة إن هاجت، قالوا:
صدقت. قال: فإن بعد ما وصفت لكم لا أسمع نغمة لامرأد إلا أظنّ أنّ عقلي قد اختلس، ولربّما تراءى فؤادي عن ضحك إحداهن حتى أظنّ أنه قد خرج من فمي، فكيف ألوم عليهنّ غيري!.
قال رجل لابن سيرين: اذا خلوت بأهلي أتكلّم بكلام أستحي منه؛ قال: أفحشته اللّذة.
إسحاق بن إبراهيم الموصليّ قال: كان شراعة بن الزّندبوذ لا يأتي النّساء وكان يقال: إنه عنّين «1» ؛ فقال: [بسيط]
قالوا شراعة عنّين فقلت لهم ... الله يعلم أنّي غير عنّين
فإن ظننتم بي الظنّ الذي زعموا ... فقرّبوني الى بيت ابن رامين
وكان ابن رامين صاحب قيان «2» ، وكانت الزرقاء جاريته.
قال إسحاق: أنشدني ابن كناسة: [طويل]
لقد كان فيها للأمانة موضع ... وللّسرّ كتمان وللعين منظر
قلت: ما بقي شيء؛ قال: فأين الموافقة!.
الهيثم قال: قال لي صالح بن حسّان: من أفقه الناس؟ قلت: اختلف في ذلك؛ قال: أفقه الناس وضّاح اليمن «3» حيث يقول: [طويل](4/98)
اذا قلت هاتي نوّليني تبسّمت ... وقالت معاذ الله من فعل ما حرم
فما ناولت حتى تضرّعت عندها ... وأنبأتها ما رخّص الله في اللّمم «1»
قال هشام بن عبد الملك للأبرش الكلبيّ «2» : زوّجني امرأة من كلب، فزوّجه؛ فقال له ذات يوم يهزل معه: وتزوّجنا الى كلب فوجدنا في نسائهم سعة؛ فقال الأبرش: يا أمير المؤمنين، إن نساء كلب خلقن لرجال كلب.
قال: وسمع رجل من كندة رجلا يقول: وجدنا في نساء كندة سعة، قال الكنديّ: إن نساء كندة مكاحل فقدت مراودها. «3» .
تزوّج أعرابيّ امرأة، فلما دخل بها عابثها فضرطت فخرجت غضبى إلى أهلها، وقالت: لا أرجع حتى يفعل مثل ما فعلت، فقال لها: عودي لأفعل، فعادت ففعل؛ فبينما هو يداعبها اذ حبقت أخرى «4» ؛ فقال الأعرابيّ:
[سريع]
طالبتني دينا فلم أقضك ... والله حتى زدت في قرضك
فلا تلوميني على مطلة ... إن كان ذا دأبك لم أقضك
تزوّج رجل أعرابيّة فعجز عنها؛ فقيل لها في ذلك، فقالت: نحن لنا صدوع في صفا «5» ، ليس لعاجز فينا حظّ.(4/99)
الهيثم عن ابن عياش قال: كانت صعبة «1» أمّ طلحة بن عبيد الله من بنات فارس، تزوّجها أبو سفيان بن حرب فلم تزل به هند حتى طلّقها، فتزوّج بها عبيد الله؛ وتتبّعتها نفس أبي سفيان فقال: [متقارب]
وإنّا وصعبة فيما ترى ... بعيدان والودّ ودّ قريب
فإلّا يكن نسب ثاقب ... فعند الفتاة جمال وطيب «2»
لها عند سرّي بها نخرة ... يزول بها يذبل أو عسيب «3»
فيا لقصيّ ألا فاعجبوا ... فللو برصار الغزال الربيب «4»
جلس أعرابيّ الى أعرابيّة، وعلمت أنه إنما جلس لينظر ابنتها، فضربت بيدها على جنبها وقالت: [طويل]
ومالك منها غير أنّك ناكح ... بعينيك عينيها فهل ذاك نافع
وقال أيمن بن خريم [متقارب]
لقيت من الغانيات العجابا ... لو ادرك منّي العذارى الشّبابا «5»
ولكنّ جمع العذارى الحسان ... عناء شديد إذا المرء شابا
يرضن بكلّ عصا رائض ... ويصبحن كلّ غداة صعابا «6»
علام يكحّلن حور العيون ... ويحدثن بعد الخضاب الخضابا «7»(4/100)
ويبرزن إلّا لما تعلمون ... فلا تحرموا الغانيات الضّرابا «1»
اذا لم يخالطن كلّ الخلا ... ط أصبحن مخرنطمات غضابا «2»
يميت العباب خلاط النساء ... ويحيي اجتناب الخلاط العتابا
واعد العرجيّ امرأة من الطائف، فجاء على حمار ومعه غلام، وجاءت المرأة على أتان ومعها جارية؛ فوثب العرجيّ على المرأة، والغلام على الجارية، والحمار على الأتان؛ فقال العرجيّ: هذا يوم غاب عذّاله.
باب القيادة
عن ابن الأشوع: أنه سئل عن الواصلة «3» فقال: إنك لمنقّر «4» ، قالت عائشة رضي الله عنها: ليست الواصلة بالتي تعنون، وما بأس اذا كانت المرأة زعراء «5» أن تصل شعرها، ولكن الواصلة أن تكون بغيّا في شبيبتها، فإذا أسنّت وصلته بالقيادة «6» .
قالوا: كانت ظلمة «7» التي يضرب بها المثل في القيادة صبيّة في الكتّاب «8» ، فكانت تضرب دويّ الصّبيان وأقلامهم، فلما شبت زنت، فلما أسنت قادت، فلما قعدت اشترت تيسا تنزّيه «9» على العنز.(4/101)
وذكر المدائنيّ: أنّ رجلا من السلطان كان لا يزال يأخذ قوّادة فيحبسها ثم يأتيه من يشفع فيها فيخرجها؛ فأمر صاحب شرطته فكتب في قصّتها: فلانة القوّادة تجمع بين الرجال والنساء لا يتكلّم فيها إلا زان؛ فكان إذا كلّم فيها قال: أخرجوا قصّتها، فاذا قرئت قام الشفيع مستحييا.
قال جران العود: [طويل]
يبلّغهنّ الحاج كلّ مكاتب ... طويل العصا أو مقعد يتزحّف «1»
ومكمونة رمداء لا يحذرونها ... مكاتبة ترمي الكلاب وتحذف «2»
رأت ورقا بيضا فشدّت حزيمها ... لها فهي أمضى من سليك وألطف «3»
وقال الفرزدق: [وافر]
يبلغهنّ وحي القول مني ... ويدخل رأسه تحت القرام «4»
وقال حميد بن ثور: «5» [طويل]
خليليّ إنّي أشتكي ما أصابني ... لتستيقنا ما قد لقيت وتعلما
فلا تفشيا سرّي ولا تخذلا أخا ... أبثّكما منه الحديث المكتّما
وقولا اذا جاوزتما أرض عامر ... وجاوزتما الحيّين نهدا وخثعما(4/102)
نزيعان من جرم بن ربّان إنهم ... أبوا أن يريقوا في الهزاهز محجما «1»
وخبّا على نضوين مكتفليهما ... ولا تحملا إلّا زنادا وأسهما «2»
وزادا عريضا خفّفاه عليمكا ... ولا تبديا سرا ولا تحملا دما «3»
وإن كان ليل فالويا نسبيكما ... وإن خفتما أن تعرفا فتلثّما «4»
وقولا خرجنا تاجرين فأبطأت ... ركاب تركناها بتثليت قوّما «5»
ولو قد أتانا بزّنا ودقيقنا ... تموّل منكم من رأيناه معدما «6»
ومدّا لهم في السّوم حتى تمكّنا ... ولا تستلجّا صفق بيع فيلزما «7»
فإن أنتما اطمأننتما ... وخلّيتما ما شئتما فتكلّما
وقولا لها ما تأمرين بصاحب ... لنا قد تركت القلب منه متيمّا
أبيني لنا إنّا رحلنا مطيّنا ... إليك وما نرجوك إلا توهّما
وقال المأمون لرسول بعث به: [طويل]
بعثتك مرتادا ففزت بنظرة ... وأخلفتني حتى أسأت بك الظنّا «8»
وناجيت من أهوى وكنت مقرّبا ... فيا ليت شعري عن دنوّك ما أغنى
وردّدت طرفا في محاسن وجهها ... ومتّعت باستمتاع نغمتها أذنا(4/103)
أرى أثرا منها بعينيك لم يكن ... لقد سرقت عيناك من وجهها حسنا
وقال بعض المحدثين [مجزوء الكامل المرفّل]
يا سوء منقلب الرّسو ... ل مخبّرا بخلاف ظنّي
إنّي أعيذك أن تكو ... ن شغلتني وشغلت عنّي
وقال زيد بن عمرو في أمته: [طويل]
اذا طمثت قادت وإن طهرت زنت ... فهي أبدا يزنى بها وتقود «1»
باب الزّنا والفسوق
العتبيّ، قال: قيل لرجل في امرأته وكانت لا تردّ يد لامس: علام تحبسها مع ما تعرف منها؟ فقال: إنها جميلة فلا تفرك «2» ، وأمّ عيال فلا تترك.
وقال بعض الأعراب: [طويل]
ألمّا على دار لواسعة الحبل ... ألوف تسوّي صالح القوم بالرّذل «3»
يبيت بها الحدّاث حتّى كأنّما ... يبيتون فيها من مدافع من نخل «4»
ولو شهدت حجّاج مكة كلّهم ... لراحوا وكلّ القوم منها على وصل
أنشد الفرزدق لسليمان بن عبد الملك القصيدة التي يقول فيها:
[وافر](4/104)
ثلاث واثنتان فهنّ خمس ... وسادسة تميل إلى شمام «1»
فبتن بجانبيّ مصرّعات ... وبتّ أفضّ أغلاق الختام
كأنّ مفلق الرّمان فيها ... وجمر غضى قعدن عليه حامي
فقال سليمان: أحللت نفسك يا فرزدق: أقررت عندي بالزنا وأنا إمام، ولا بدّ لي من إقامة الحدّ عليك؛ فقال: بم أوجبت ذلك عليّ يا أمير المؤمنين؟ فقال: بكتاب الله: قال: فإن كتاب الله يدرأ عنّي «2» ، قال الله جلّ ثناؤه: وَالشُّعَراءُ يَتَّبِعُهُمُ الْغاوُونَ. أَلَمْ تَرَ أَنَّهُمْ فِي كُلِّ وادٍ يَهِيمُونَ. وَأَنَّهُمْ يَقُولُونَ ما لا يَفْعَلُونَ
«3» ، فأنا قلت ما لم أفعل.
قيل لأبي الطّمحان القينيّ: خبّرنا عن أدنى ذنوبك «4» ؛ قال: ليلة الدير؛ قالوا: وما ليلة الدير؟ قال: نزلت على ديرانيّة «5» ، فأكلت طفيشلا «6» لها بلحم خنزير، وشربت من خمرها، وزنيت بها، وسرقت كساءها ومضيت.
وقال عمر بن أبي ربيعة: [خفيف]
يقصد الناس احتسابا ... وذنوبي مجموعة في الطّواف
وقال جرير في الفرزدق: [طويل]
لقد ولدت أمّ الفرزدق فاجرا ... فجاءت بوزواز قصير القوائم «7»
يوصّل حبليه إذا جنّ ليله ... ليرقى إلى جاراته بالسّلالم «8»(4/105)
وما كان جار للفرزدق مسلم ... ليأمن قردا ليله غير نائم «1»
أتيت حدود الله إذ كنت يافعا ... وشبت فما ينهاك شيب اللهازم «2»
تتبّع في الماخور كلّ مريبة ... ولست بأهل المحصنات الكرائم «3»
هو الرجس يا أهل المدينة فاحذروا ... مداخل رجس بالخبيثات عالم «4»
لقد كان إخراج الفرزدق عنكم ... طهورا لما بين المصلّى وواقم «5»
تدلّيت تزني من ثمانين قامة ... وقصّرت عن باع العلا والمكارم «6»
وقال عمرو بن بحر: قرأ قارىء: قالَتِ امْرَأَةُ الْعَزِيزِ الْآنَ حَصْحَصَ الْحَقُ
«7» إلى قوله تعالى: ذلِكَ لِيَعْلَمَ أَنِّي لَمْ أَخُنْهُ بِالْغَيْبِ
«8» ، قال إسماعيل بن غزوان: لا والله ما سمعت بأغزل من هذه الفاسقة. وسمع مراودتها يوسف عنها فقال إسماعيل: أما والله بي تمرست «9» .
بات أعرابيّ ضيفا لبعض الحضر، فرأى امرأة فهمّ أن يخالف «10» إليها في أوّل الليل فمنعه الكلب، ثم أراد ذلك نصف الليل فمنعه ضوء القمر، ثم أراد ذلك في السّحر فإذا عجوز قائمة تصلّي، فقال: [بسيط](4/106)
لم يخلق الله شيئا كنت أكرهه ... غير العجوز وغير الكلب والقمر
هذا نبوح وهذا يستضاء به ... وهذه شيخة قوّامة السّحر
المنصور عن أبيه محمد بن عليّ، قال: حججت فرأيت امرأة من كلب شريفة قد حجّت فرآها عمر بن أبي ربيعة فجعل يكلّمها ويتبعها كلّ يوم، فقالت لزوجها ذات يوم: إني أحبّ أن أتوكأ عليك إذا رحت إلى المسجد، فراحت متوكئة على زوجها: فلما أبصرها عمر ولّى، فقالت: على رسلك «1» يا فتى!: [بسيط]
تعدو الذّئاب على من لا كلاب له ... وتتّقي مربض المستأسد الحامي
الرّياشيّ قال: كان أبو ذؤيب يهوى امرأة من قومه، وكان رسوله إليها رجلا يقال له: خالد بن زهير، فخانه فيها، فقال أبو ذؤيب «2» : [طويل]
تريدين كيما تجمعيني وخالدا ... وهل يجمع السّيفان ويحك في غمد
أخالد ما راعيت منّي قرابة ... فتحفظني بالغيب أو بعض ما تبدي
وكان أبو ذؤيب خان فيها ابن عمّ له يقال له: مالك بن عويمر، فأجابه خالد: [طويل]
ولا تعجبن من سيرة أنت سرنها ... وأوّل راض سنّة من يسيرها
ألم تتنقّذها من ابن عويمر ... وانت صفيّ نفسه ووزيرها «3»
سألت امرأة زوجها الحجّ فإذن لها وبعث معها أخاه، فلما انصرفا عنه(4/107)
سأله عنها، فقال: [بسيط]
وما عملت لها عيبا أخبّره ... إلّا اتهامي فيها صاحب الإبل
كنّا نهارا إذا ما السّير جدّ بنا ... يغيّران وما بالرحل من مثل «1»
ويخلفون كثيرا في منازلنا ... فلا نزال نرى آثار مغتسل
فالله أعلم ما كانت سرائرهم ... والله أعلم بالنيّات والعمل
قال رجل للفرزدق: متى عهدك يا أبا فراس بالزّنا؟ فقال: مذ ماتت العجوز.
رمي ببغداد في سوق يحيى قمطرة «2» فيها صبيّ وتحته مضرّبات «3» حرير، وعند رأسه كيس فيه مائة دينار ورقعة فيها: هذا الشقيّ ابن الشقيّة، ابن السّكباج والقلية «4» ، ابن القدح والرّطليّة «5» ؛ رحم الله من اشترى له بهذا الذهب جارية تربيه؛ وفي آخر الرّقعة: هذا جزاء من عضل ابنته «6» .
ذكر أعرابيّ رجلا ماجنا فقال: لو أبصرت فلانا العيدان لتحرّكت أوتارها، ولو رأته مومسة لسقط خمارها.
قال بعض الأعراب: [كامل](4/108)
ماذا يظنّ بليلى إذا ألمّ بها ... مرجّل الرأس ذو بردين مزّاح «1»
حلو فكاهته خزّ عمامته ... في كفّه من رقى إبليس مفتاح «2»
ذكر أعرابيّ رجلا ماجنا فقال: هو أكثر ذنوبا من الدّهر، تفد إليه مواكب الضّلالة، ويرجع من عنده مدوّن الأيّام.
وذكر آخر قوما فقال: هم أقلّ الناس إلى أعدائهم، وأكثرهم تجرّما «3» على أصدقائهم، يصومون عن المعروف، ويفطرون على الفحشاء.
قال الأصمعيّ: قلت لأمة ظريفة: هل في يديك عمل؟ قالت: لا! ولكن في رجليّ «4» .
قالت جوار من القيان لأبي نواس: ليتنا يا أبا نواس بناتك! فقال أبو نواس «5» :
قال أبو المهند: [متقارب]
وأفجر من راهب يدّعي ... بأنّ النساء عليه حرام «6»
يحرّم بيضاء ممكورة ... ويغنيه في البضع عنها الغلام «7»
إذا ما مشى غضّ من طرفه ... وفي اللّيل بالدّير منه عرام «8»(4/109)
ودير العذارى فضوح له ... وعند اللّصوص حديث الأنام
هؤلاء لصوص نزلوا دير العذارى ليلا، فأخذوا القسّ فشدّوه وثاقا، ثم أخذ كلّ رجل منهم جارية، فوجدوهنّ مفتضّات قد افتضهنّ القسّ كلّهنّ.
قال سهل بن هارون: [وافر]
إذا نزل المخنّث في رباع ... تحرّك كل ذي خنث إليه «1»
وصارت دونهم مأوى الخبايا ... وصار الرّبع مدلولا عليه
وقال آخر: [طويل]
أقول لها لما أتتني تدلّني ... على امرأة موصوفة بجمال
أصبت لها والله زوجا كما اشتهت ... إن اغتفرت فيه ثلاث خصال
فمنهنّ فسق لا ينادى وليده ... ورقّة إسلام وقلّة مال «2»
قال الأصمعيّ: دخلت على ابن روح بن حاتم المهلّبيّ وحضر الإذن وهو عاكف على غلام، فقلت: له عمدت إلى الموضع الذي كان أبوك يضرب فيه الأعناق ويعطي فيه اللهى «3» ، تركب فيه ما تركب! فقال: [وافر]
ورثنا المجد عن آباء صدق ... أسأنا في ديارهم الصّنيعا
إذا الحسب الرفيع تواكلته ... بنات السّوء يوشك أن يضيعا
باب مساوىء النساء
عن وهب بن منبّه قال: عاقب الله المرأة بعشر خصال: شدّة النّفاس،(4/110)
وبالحيض، وبالنجاسة في بطنها وفرجها، وجعل ميراث امرأتين ميراث رجل واحد، وشهادة امرأتين كشهادة رجل، وجعلها ناقصة العقل والدّين لا تصلّي أيّام حيضها، ولا يسلّم على النساء، وليس عليهنّ جمعة ولا جماعة، ولا يكون منهنّ نبيّ، ولا تسافر إلا بوليّ.
وكان يقال: ما نهيت امرأة قطّ عن شيء إلّا أتته. وقال طفيل «1» في هذا المعنى: [بسيط]
إنّ النّساء كأشجار نبتن معا ... منها المرار وبعض المرّ مأكول «2»
إنّ النّساء متى ينهين عن خلق ... فإنّه واقع لا بدّ مفعول
عن رجاء بن حيوة قال: قال معاذ: إنكم ابتليتم بفتنة الضّرّاء فصبرتم، وإني أخاف عليكم فتنة السّرّاء، وإن من أشدّ من ذلكم عندي النشاء، إذا تحلّين الذّهب ولبسن ريط «3» الشام وعصب «4» اليمن، فاتعبن الغنيّ، وكلّفن الفقير ما لا يجد.
قال بعض الشعراء: [طويل]
تمتّع بها ما ساعفتك ولا تكن ... عليك شجا يؤذيك حين تبين «5»
وإن هي أعطتك اللّيان فإنّها ... لغيرك من خلّانها ستلين
وإن حلفت لا ينقض النأي عهدها ... فليس لمخضوب البنان يمين «6»(4/111)
أبو عليّ الأمويّ قال: كانت عاتكة بنت زيد بن عمرو بن نفيل، عند عبد الله بن أبي بكر الصدّيق رضي الله عنه، وكانت قد غلبته في كثير من أمره؛ فقال له أبوه: طلّقها، فطلّقها وأنشأ يقول [طويل]
لها خلق سهل وحسن ومنصب ... وخلق سويّ ما يعاب ومنطق
فرمي يوم الطائف بسهم؛ فلما مات قالت ترثيه: [طويل]
وآليت لا تنفكّ عيني سخينة ... عليك ولا ينفكّ جلدي أغبرا
فلله عين ما رأت مثله فتى ... أعزّ وأحمى في الهياج وأصبرا
إذا شرعت فيه الأسنّة خاضها ... إلى الموت حتى يترك الرّمح أحمرا
ثم خطبها عمر بن الخطّاب، فلمّا أولم قال عبد الرحمن بن أبي بكر:
يا أمير المؤمنين، أتأذن لي أن أدخل رأسي على عاتكة؟ قال: نعم، يا عاتكة استتري؛ فأدخل رأسه فقال: [طويل]
وآليت لا تنفكّ عيني قريرة ... عليك ولا ينفكّ جلدي أصفرا «1»
فنشجت نشجا عاليا «2» ؛ فقال عمر: ما أردت إلى هذا! كلّ النساء يفعلن هذا! غفر الله لك. ثم تزوّجها الزّبير بعد عمر وقد خلا من سنّها «3» ، فكانت تخرج باللّيل إلى المسجد ولها عجيزة ضخمة «4» ؛ فقال لها الزّبير: لا تخرجي؛ فقالت: لا أزال أخرج أو تمنعني، وكان يكره أن يمنعها، لقول النبيّ صلّى الله عليه وسلم: لا تمنعوا إماء الله مساجد الله؛ فقعد لها الزّبير متنكّرا في ظلمة اللّيل، فلما(4/112)
مرّت به قرص عجيزتها؛ فكانت لا تخرج بعد ذلك؛ فقال لها: مالك لا تخرجين؟ فقالت: كنت أخرج والناس ناس، وقد فسد الناس فبيتي أوسع لي.
قال المدائييّ: احتضر رجل من العرب وله ابن يدبّ بين يديه؛ وأم الصّبيّ جالسة عند رأسه؛ واسم الصبيّ معمر فقال: [طويل]
وإنّي لأخشى أن أموت فتنكحي ... ويقذف في أيدي المراضع معمر
وترخى ستور دونه وقلائد ... ويشغلكم عنه خلوق ومجمر «1»
فما لبث أن مات، ثم تزوجت ثم صار معمر إلى ما ذكر.
عن الحسن: أنّ شابّين كانا متآخيين على عهد عمر بن الخطّاب رضي الله عنه، فأغزى «2» أحدهما، فأوصى أخاه بأهله؛ فانطلق في ليلة ذات ريح وظلمة إلى أهل أخيه يتعهّدهم، فإذا سراج في البيت يزهر «3» ، وإذا يهوديّ في البيت مع أهله وهو يقول: [وافر]
وأشعث غرّه الإسلام منّي ... خلوت بعرسه ليل التّمام «4»
أبيت على ترائبها ويضحي ... على جرداء لاحقة الحزام «5»
كأنّ مجامع الرّبلات منها ... فئام ينهضون إلى فئام «6»(4/113)
فرجع الشابّ إلى أهله، فاشتمل «1» السيف حتى دخل على أهل أخيه فقتله، ثم جرّه وألقاه في الطريق؛ فأصبح اليهود وصاحبهم قتيل لا يدرون من قتله، فأتوا عمر بن الخطّاب فدخلوا عليه وذكروا ذلك له، فنادى عمر في النّاس: الصلاة جامعة، فاجتمع الناس فصعد المنبر فحمد الله وأثنى عليه، ثم قال: أنشد الله رجلا علم من هذا القتيل علما إلا أخبرني به؛ فقام الشابّ فأنشده الشعر وأخبره خبره؛ فقال عمر: لا يقطع الله يدك، وهدر دمه.
كان ابن عبّاس يقول: مثل المرأة السّوء: كان قبلكم رجل صالح له امرأة سوء، فعرض له رجل فقال: إني رسول الله إليك بأنّه جعل لك ثلاث دعوات، فسل ما شئت من دنيا أو آخرة ثم نهض، فرجع الرجل إلى منزله؛ فقالت له امرأته: ما لي أراك مفكّرا محزونا؟ فأخبرها؛ فقالت: ألست امرأتك وفي صحبتك وبناتك منّي! فاجعل لي دعوة، فأبى. فأقبل عليه ولده وقلن:
أمّنا، فلم يزلن به حتّى قال: لك دعوة؛ فقالت: اللهم اجعلني أحسن الناس وجها فصارت كذلك، وجعلت توطىء فراشها وهو يعظها فلا تتّعظ، فغضب يوما فقال: اللهمّ اجعلها خنزيرة، فتحوّلت كذلك؛ فلما رأين بناته ما نزل بأمّهن بكين وضربن وجوههن ونتفن شعورهن، فرقّ لهن قلبه فقال: اللهمّ أعدها كما كانت أوّلا؛ فذهبت دعواته الثلاث فيها.
قال عبد الله بن عكرمة: دخلت على عبد الرحمن بن الحارث بن هشام المخزوميّ أعوده، فقلت: كيف تجدك؟ فقال: أجدني والله بالموت، وما موتي بأشدّ عليّ من تمتّع أمّ هشام، أخاف أن تتزوّج- يعني امرأته- فحلفت له وآلت ألّا تتزوّج بعده، فغشي وجهه نور، ثم قال: شأن الموت أن ينزل(4/114)
متى شاء، ثم مات، فتزوّجت بعمر بن عبد العزيز؛ فقلت:
فإن لقيت خيرا فلا يهنئنّها ... وإن تعست فلليدين وللفم «1»
فبلغها، فكتبت إليّ: قد بلغني بيتك الذي تمثّلت به، وما مثلي ومثل أخيك إلّا كما قال الشاعر: [طويل]
وهل كنت إلّا والها ذات ترحة ... قضت نحبها بعد الحنين المرجّع «2»
متى تسل عنه تدّكر بعد طيّة ... من الأرض أو تقنع بإلف فتربع «3»
فدع عنك من قد وارت الأرض شخصه ... وفي غير من قد وارت الأرض فاطمع
فبلغ ذلك منّي كلّ غيظ، واحتسبت حسابها، وإذا هي قد أعجلت عدّتها، وقد بقي عليها أربعة أيّام، فدخلت على عمر فأخبرته بذلك، فنقض النّكاح وعزل عن المدينة.
كان صخر بن الشريد أخو الخنساء خرج في غزوة فقاتل فيها قتالا شديدا، فأصابه جرح رغيب «4» ، فمرض فطال به مرضه وعاده قومه، فقال عائد من عوّاده يوما لامرأته سلمى «5» : كيف أصبح صخر اليوم؟ قالت: لا حيّا فيرجى ولا ميّتا فينسى، فسمع صخر كلامها فشقّ عليه، وقال لها: أنت القائلة كذا وكذا؟ قالت: نعم غير معتذرة إليك. ثم قال عائد آخر. لأمّه: كيف أصبح صخر اليوم؟ فقالت: أصبح بحمد الله صالحا ولا يزال بحمد الله بخير(4/115)
ما رأيناه سواده «1» بيننا. فقال صخر: [طويل]
أرى أمّ صخر ما تملّ عيادتي ... وملّت سليمى مضجعي ومكاني
وما كنت أخشى أن أكون جنازة ... عليك ومن يغتر بالحدثان «2»
فأيّ امرىء ساوى بأمّ حليلة ... فلا عاش إلّا في أذى وهوان
أهمّ بأمر الحزم لو أستطيعه ... وقد حيل بين العير والنّزوان «3»
لعمري لقد أنبهت من كان نائما ... وأسمعت من كانت له أذنان
فلما أفاق عمد إلى سلمى فعلّقها بعمود الفسطاط حتى فاضت نفسها «4» ، ثم نكس «5» من طعنته فمات.
وقرأت في سير العجم أنّ أردشير سار إلى الحضر «6» ، وكان ملك السّواد متحصّنا فيها، وكان من أعظم ملوك الطوائف «7» ، فحاصره فيها زمانا لا يجد إليه سبيلا، حتى رقيت ابنة ملك السّواد يوما، فرأت أردشير فعشقته فنزلت وأخذت نشّابة وكتبت عليها: إن أنت شرطت لي أن تتزوّجني دللتك على موضع تفتتح منه هذه المدينة بأيسر حيلة وأخف مؤونة، ثم رمت بالنّشابة نحو أردشير؛ فكتب الجواب في نشّابة: لك الوفاء بما سألت، ثم ألقاها إليها؛ فكتبت إليه تدلّه على الموضع؛ فأرسل إليه أردشير فافتتحه ودخل هو وجنوده،(4/116)
وأهل المدينة غارّون «1» فقتلوا ملكها وأكثر مقاتلتها وتزوّجها؛ فبينما هي ذات ليلة على فراشه أنكرت مكانها حتى سهرت لذلك عامّة ليلتها، فنظروا في الفراش فوجدوا تحت المحبس»
ورقة من ورق الآس قد أثّرت في جلدها، فسألها أردشير عند ذلك عما كان أبوها يغذوها به؛ فقالت: كان أكثر غذائي الشّهد والزّبد والمخّ؛ فقال أردشير: ما أحد ببالغ لك في الحباء والإكرام مبلغ أبيك، ولئن كان جزاؤه عندك على جهد إحسانه مع لطف قرابته وعظم حقّه جهد إساءتك، ما أنا بآمن لمثله منك؛ ثم أمر بأن تعقد قرونها بذنب فرس شديد المراح «3» جموح ثم يجرى؛ ففعل ذلك حتى تساقطت عضوا عضوا.
العتبي: سمعت أبي يحدّث عن ناس من أهل الشام: أن أخوين كان لأحدهما زوجة، وكان يغيب ويخلفه الآخر في أهله، فهويته امرأة الغائب، فأرادته على نفسها فامتنع؛ فلما قدم أخوه سألها عن حالها، فقالت: ما حال امرأة تراود في كلّ حين! فقال: أخي وابن أمّي! وإني لا أفضحه! ولكن لله عليّ ألّا أكلّمه أبدا؛ ثم حجّ وحجّ أخوه والمرأة؛ فلما كانوا بوادي الدّوم «4» هلك الأخ ودفنوه وقضوا حجّهم ورجعوا؛ فمرّوا بذلك الوادي ليلا، فسمعوا هاتفا يقول: [طويل]
أجدّك تمضي الدّوم ليلا ولا ترى ... عليك لأهل الدّوم أن تتكلّما «5»
وبالدّوم ثاو لو ثويت مكانه ... ومرّ بوادي الدّوم حيّا لسلّما(4/117)
فظنّت المرأة أنّ النّداء من السماء، فقالت لزوجها: هذا مقام العائذ، كان من أخيك ومنّي كيت وكيت؛ فقال: والله لو حلّ قتلك لوجدتني سريعا، ففارقها وضرب خيمة على قبر أخيه، وقال: [طويل]
هجرتك في طول الحياة وأبتغي ... كلامك لما صرت رمسا وأعظما «1»
ذكرت ذنوبا فيك كنت اجترمتها ... أنا منك فيها كنت أسوا وأظلما «2»
ولم يزل مقيما حتى مات ودفن بجنب أخيه، فالقبران معروفان.
وقال الأخطل: [كامل]
المهديات لمن هوين مسبّة ... والمحسنات لمن قلين مقالا «3»
يرعين عهدك ما رأينك شاهدا ... وإذا مذلت يكنّ عنك مذالا «4»
وإذا وعدنك نائلا أخلفنه ... ووجدت دون عداتهنّ مطالا «5»
وإذا دعونك عمّهنّ فإنّه ... نسب يزيدك عندهن خبالا «6»
عن يحيى بن طفيل الجشميّ قال: كان عند رجل من قريش امرأة يحبّها، فسافر عنها، فقالت له: أشيّعك، فشيّعته ثلاث مراحل؛ فلما مضى قالت لخادمها: ناولني بعرة وروثة وحصاة، فناولها. فألقت الرّوثة وقالت:
راث خبرك «7» ، وألقت البعرة وقالت: وعر سفرك، وألقت الحصاة وقالت:
حصّ أثرك «8» ؛ فسمعها رجل على الماء فلحقه، فقال له: ما هذه منك؟ قال:(4/118)
امرأتي وأعزّ الناس إليّ؛ فأخبره بالخبر، فقام على الماء، فلما أمسى أقبل نحو منزله فوجد معها رجلا، فقتلهما جميعا.
باب الولادة والولد
خاصمت أمّ عوف- امرأة أبي الأسود الدؤليّ- أبا الأسود إلى زياد في ولدها منه: قال أبو الأسود: أنا أحقّ بالولد منها، حملته قبل أن تحمله، ووضعته قبل أن تضعه. فقالت أمّ عوف: وضعته شهوة ووضعته كرها، وحملته خفّا وحملته ثقلا؛ فقال زياد: صدقت، أنت أحقّ به، فدفعه إليها.
أنشدنا الرّياشيّ: [خفيف]
غلبت أمّه أباه عليه ... فهو كالكابليّ أشبه خاله «1»
وقال آخر: [رجز]
والله ما أشبهني عصام ... لا خلق منه ولا قوام
نمت وعرق الخال لا ينام
وقال بعض بني أسد- والقيافة «2» فيهم-: لا يخطىء الرجل من أبيه خلّة من ثلاث: رأسه، أو صوته، أو مشيته.
قيل لرجل: ما أشبه ولدك بك!. قال: من ترك وأهله أشبهه ولده.
قال رجل للجمان: ولدت امرأتي لستة أشهر؛ فقال الجمان: كان أبوها ضاربا.(4/119)
عيّرت نوار- امرأة الفرزدق- الفرزدق بأنه لا ولد له؛ فقال الفرزدق: [طويل]
وقالت أراه واحدا لا أخا له ... يورّثه في الوارثين الأباعد
لعلّك يوما أن تريني كأنّما ... بنيّ حواليّ الأسود الحوارد «1»
فإنّ تميما قبل أن يلد الحصى ... أقام زمانا وهو في الناس واحد «2»
فولد بعد ذلك ولده: سبطة ولبطة وحبطة وغيرهم.
بلغني عن الزّياديّ قال: كنت مئناثا «3» ، فقيل لي: استغفر إذا جامعت، فولد لي بضعة عشر ذكرا.
عن ابن عبّاس قال: مرّ عيسى عليه السلام على بقرة قد اعترض ولدها في بطنها؛ فقالت: يا كلمة الله، ادع الله أن يخلّصني؛ فقال: يا خالق النّفس من النفس ويا مخرج النفس من النفس خلّصها؛ فألقت ما في بطنها. فإذا عسر على المرأة ولادتها فليكتب لها: باسم الله، لا إله إلّا هو الكريم، سبحان الله ربّ العرش العظيم، والحمد لله ربّ العالمين، كَأَنَّهُمْ يَوْمَ يَرَوْنَها لَمْ يَلْبَثُوا إِلَّا عَشِيَّةً أَوْ ضُحاها
«4» ، كَأَنَّهُمْ يَوْمَ يَرَوْنَ ما يُوعَدُونَ لَمْ يَلْبَثُوا إِلَّا ساعَةً مِنْ نَهارٍ
«5» الآية.
باب الطّلاق
قال رسول الله صلّى الله عليه وسلم: «إنّ أبغض الحلال إلى لله الطّلاق» .(4/120)
الأصمعيّ قال: كان بالمدينة قاض، يقال له: فلان «1» بن المطّلب بن حنطب المخزوميّ قد أدركته (وأمّ المطّلب: أخت مروان بن الحكم) ، خاصمت إليه امرأة زوجها، وكانت قالت: أجعتني وأسأت إليّ، والله ما تستطيع فئران بيتك أن يمشين من الجهد وما يقمن إلّا على الوطن! «2» فقال:
أنت طالق إن كنّ ما يقمن إلّا على الوطن، فخبّرته بما قالت وقال؛ فقال ابن المطّلب يطلب له المعاذير: وربّك إنّ الإبل لتكون بالمكان الجديب الخسيس المرعى فتقيم به لحبّ الوطن؛ فقال الزوج حين رآه يحتال لئّلا يفرّق بينهما:
كأنما أشكلت عليك، هي طالق عشرين.
طلّق رجل امرأة عدد نجوم السماء؛ فقال ابن عبّاس: يكفيه من ذلك هقعة «3» الجوزاء.
وطلّق رجل من الأعراب امرأة، وكان له منها ابن يقال له حمّاد، وندم فقال: [بسيط]
فديت بالأم حمّادا وقلت له ... أنت ابن ذلفاء منّي فادن يا ولدي «4»
لا يقربنّ ثلاثا منكم أحد ... إني وجدت ثلاثا أشأم العدد «5»(4/121)
وقال عليّ بن منظور (1) : [مجزوء الكامل المرفّل]
ما للطلاق فقدته ... وفقدت عاقبة الطّلاق «1»
طلّقت خير خليلة ... تحت السموات الطّباق «2»
كان الأصمعيّ طلّق امرأة ثم تبعتها نفسه؛ فكتب إليها: [سريع]
وهل رأيتم بعدنا مثلنا ... فما رأينا بعدكم مثلكم
نصيب من يعجبنا خلوة ... منه ولا نجمع ما عندكم
قد اتخذنا بعدكم مبدعا ... لصونكم وليس من شكلكم
إن شئتم لم نتخذه وكا ... ن الصون والبذل جميعا لكم
وقال أعرابيّ لامرأته: [وافر]
تمنّين الطلاق وأنت منّي ... بعيش مثل مشرقة الشّمال «3»
وطلّق أعرابيّ امرأته وقال: [مجزوء الكامل المرفّل]
رحلت أميمة بالطّلاق ... وعتقت من رقّ الوثاق «4»
بانت فلم يألم لها ... قلبي ولم تبك المآقي
لو لم أرح بطلاقها ... لأرحت نفسي بالإباق «5»
ودواء ما لا تشتهي ... هـ النفس تعجيل الفراق
والعيش ليس بطيب بي ... ن اثنين في غير اتفاق
كانت لمحمد بن كناس امرأة يبغضها، فمرّ بمصلوب فقال: [طويل](4/122)
أيا جذع مصلوب أتى دون صلبه ... ثلاثون حولا كاملا هل تبادل
وما أنت بالحمل الذي قد حملته ... بأضجر منّي بالذي أنا حامل
وقال آخر «1» : [منسرح]
بتّ بخسف في شرّ منزلة ... لا أنا في لذّة ولا فرسي «2»
هذا على الخسف لا قضيم له ... وأنا ذا لا يسوغ لي نفسي «3»
تجهّزي للطّلاق وارتحلي ... ذاك دواء الجوامح الشّمس»
لليلتي حين بنت طالقة ... ألذّ عندي من ليلة العرس «5»
عن عيسى بن عمر قال: شكا الفرزدق امرأته، فقال له شيخ من بني مضر كان أسنّ منه: أفلا تكسعها «6» بالمحرجات! (يعني الطلاق) ؛ فقال:
قاتلك الله! ما أعلمك من شيخ!.
قال خالد بن صفوان: ما بتّ ليلة أحبّ إليّ من ليلة طلّقت فيها نسائي، فأرجع والستور قد هتكت، ومتاع البيت قد نقل، فتبعث إليّ إحداهن بسليلة «7» مع بنتي فيها طعامي، وتبعث لي الأخرى بفراش أنام عليه.
قيل لامرأة كانت تطلّق كثيرا: ما بالك تطلّقين؟ قالت: يريدون التّضييق علينا، ضيّق الله عليهم!.(4/123)
طلّق رجل امرأته؛ فقيل له: ما صنعت؟ قال: طلّقتها والأرض من ورائها. أي لا أقرب ناحية هي بها.
وقال أعرابيّ لامرأته: [متقارب]
أنوّهت باسمي في العالمين ... وأفنيت عمري عاما فعاما «1»
فأنت الطلاق وأنت الطلاق ... وأنت الطلاق ثلاثا تماما
الأصمعيّ قال: أتى رجل أبا حازم فقال: إنّ الشيطان قد أولع بي يوسوس لي ويحدّثني أني قد طلّقت امرأتي؛ فقال له: وأنا أحدّثك أنك قد طلّقتها، أو ما فعلت؟ فقال: سبحان الله يا أبا حازم! أفتكذّبني وتصدّق الشيطان!.
وقال أعرابيّ وقد طلّق امرأته: [طويل]
وما أنا إذا فارقت أسماء طائعا ... بخير من السّكران رأيا ولا عقلا
وما زال صرف الدهر حتى رأيتني ... أبيت بها ضيفا كأن لم أكن بعلا
وقال آخر «2» : [طويل]
لئن كان يهدي برد أنيابها العلا ... لأفقر منّي إنّني لفقير
لقد كثر الأخبار أن قد تزوّجت ... فهل يأتينّي بالطّلاق بشير
باب العشّاق سوى عشّاق الشعراء
محمد بن قيس الأسديّ قال: وجّهني عامل المدينة إلى يزيد بن عبد(4/124)
الملك وهو خليفة فخرجت، فلما قربت المدينة بليلتين أو ثلاث وإذا أنا بامرأة قاعدة على قارعة الطريق، وإذا رجل رأسه في حجرها كلّما سقط رأسه أسندته، فسلّمت فردّت ولم يردّ الشاب؛ ثم تأمّلتني فقالت: يا فتى، هل لك في أجر لا مرزئة فيه؟ قلت: سبحان الله! وما أحبّ الأجر إليّ وإن رزئت فيه!. فقالت: هذا ابني، وكان إلفا لابنة عمّ له تربّيا جميعا، ثم حجبت عنه، فكان يأتي الموضع والخباء، ثم خطبها إلى أبيها فأبى عليه أو يزوّجها؛ ونحن نرى عيبا أن تزوّج المرأة من رجل كان بها مغرما، وقد خطبها ابن عمّ لها وقد زوّجت منذ ثلاث، فهو على ما ترى لا يأكل ولا يشرب ولا يعقل، فلو نزلت إليه فوعظته! فنزلت إليه فوعظته؛ فأقبل عليّ وقال: [وافر]
ألا ما للحبيبة لا تعود ... أبخل بالحبية أم صدود «1»
مرضت فعادني قومي جميعا ... فما لك لم تري فيمن يعود
فقدت حبيبتي فبليت وجدا ... وفقد الإلف يا سكني شديد
وما استبطأت غيرك فاعلميه ... وحولي من بني عمّي عديد
فلو كنت السّقيمة جئت أسعى ... إليك ولم ينهنهني الوعيد «2»
قال: ثم سكن عند آخر كلمته؛ فقالت العجوز: فاضت والله نفسه ثلاثا! فدخلني أمر لا يعلمه إلّا الله، فاغتممت وخفت موته لكلامي. فلما رأت العجوز ما بي قالت: هوّن عليك! مات بأجله واستراح ممّا كان فيه، وقدم على ربّ كريم؛ فهل لك في استكمال الأجر؟ هذه أبياتي منك غير بعيدة، تأتيهم فتنهاه إليهم وتسألهم حضورهم؛ فركبت فأتيت أبياتا منها على(4/125)
قدر ميل، فنعيته إليهم وقد حفظت الشعر، فجعل الرجل يسترجع «1» . فبينما أنا أدور إذا امرأة قد خرجت من خبائها تجرّ رداءها ناشرة شعرها، فقالت: أيّها الناعي، بفيك الكثكث «2» ، بفيك الحجر! من تنعى؟ قلت: فلان بن فلان.
فقالت: بالذي أرسل محمدا واصطفاه، هل مات؟ قلت: نعم؛ قالت: فماذا الذي قال قبل موته؟ فأنشدتها الشعر، فو الله ما تنهنهت «3» أن قالت: [وافر]
عداني أن أزورك يا حبيبي ... معاشر كلّهم واش حسود «4»
أشاعوا ما سمعت من الدّواهي ... وعابونا وما فيهم رشيد «5»
وأمّا (5) إذ ثويت اليوم لحدا ... فدور الناس كلّهم لحود
فلا طابت لي الدنيا فواقا ... ولا لهم ولا أثرى العبيد «6»
ثم مضت معي ومع القوم تولول حتى انتهينا إليه، فغسّلناه وكفّنّاه وصلّينا عليه، فأكبّت على قبره؛ وخرجت لطيّتي «7» حتى أتيت يزيد بن عبد الملك، وأوصلت إليه الكتاب؛ فسألني عن أمور الناس، قال: هل رأيت في طريقك شيئا؟ قلت: نعم، رأيت والله عجبا، وحدّثته الحديث؛ فاستوى جالسا، ثم قال: لله أنت يا محمد بن قيس! امض الساعة قبل أن تعرف جواب ما قدمت له، حتّى تمرّ بأهل الفتى وبني عمّه، وتمرّ بهم إلى عامل المدينة، وتأمره أن يثبتهم في شرف العطاء، وإن كان أصابها ما أصابه، فافعل ببني عمّها ما(4/126)
فعلت ببني عمه، ثم ارجع إليّ حتى تخبرني بالخبر، وتأخذ جواب ما قدمت له. فمررت بموضع القبر، فرأيت إلى جانبه قبرا آخر، فسألت عنه فقيل: قبر المرأة، أكبّت على قبره، ولم تذق طعاما ولا شرابا، ولم ترفع عنه إلى ثلاثة أيام إلا ميتة؛ فجمعت بني عمّها وبني عمّه، وأثبتّهم في شرف العطاء جميعا.
عن هاشم بن حسّان عن رجل من بني تميم قال:
خرجت في طلب ناقة لي، حتى وردت على ماء من مياه طيء، فإذا أنا بعسكرين «1» بينهما دعوة «2» ، فإذا أنا بفتى شابّ وجارية في العسكر، وإذا هو قد سمع نبرة من كلامها وهو مريض، فرفع عقيرته «3» وقال: [وافر]
ألا ما للمليحة لا تعود ... أبخل بالمليحة أم صدود
فلو كنت المريضة كنت أسعى ... إليك ولم ينهنهني الوعيد
فسمعت صوته فخرجت تعدو، فأمسكها النساء، وأبصرها فأقبل ينشد، فأمسكه الرجال، فأفلت وأفلتت، فاعتنقا وخرّا ميّتين؛ فخرج شيخ من تلك الأخبية حتى وقف عليهما. فاسترجع لهما، ثم قال: أما والله لئن كنتما لم تجتمعا حيّين لأجمعنّ بينكما ميّتين. قال: فقلت: من هذا؟ قال: هذا ابن أخي، وهذه ابنتي؛ فدفنهما في قبر واحد.(4/127)
عن ابن سيرين قال: قال عبد الله بن عجلان «1» صاحب هند «2» التي عشقها وكانت تحبّه فطلّقها: [طويل]
ألا إنّ هندا أصبحت لك محرما ... وأصبحت من أدنى حموّتها حما
وأصبحت كالمقمور جفن سلاحه ... يقلّب بالكفّين قوسا وأسهما «3»
ومدّ بها صوته ثم مات. قال الأصمعيّ: فيه قال الشاعر: [هزج]
إن متّ من الحبّ ... فقد مات ابن عجلان
قيل لأعرابيّ من العذريّين: ما بال قلوبكم كأنها قلوب طير تنماث «4» كما ينماث الملح في الماء! أما تجلّدون؟ «5» فقال: إننا ننظر إلى محاجر أعين لا تنظرون إليها.
وقيل لأعرابيّ: ممّن أنت؟ فقال: من قوم إذا أحبّوا ماتوا. فقالت جارية سمعته: عذريّ وربّ الكعبة!.
عن عبد الملك بن عمير قال: كان أخوان من بني كنّة «6» من ثقيف، أحدهما ذو أهل، والآخر عزب، وكان ذو الأهل إذا غاب خلفه العزب في أهله؛ فغاب غيبة له، فجاء العزب يوما فطلعت عليه امرأة الأخ، وهي لا تعلم(4/128)
بمكانه، وعليها درع يشفّ «1» ، فسترت وجهها بذراعيها، فوقعت في قلبه، وجعل يذوب حتى صار كأنه خيط؛ فقدم أخوه فقال: يا أخي، مالك؟ قال: لا أدري، واستحيا أن يذكر ما به؛ فانطلق أخوه إلى الحارث بن كلدة طبيب العرب، فوصفه له؛ فقال: احمله إليّ؛ فلما نظر إليه قال: أمّا العينان فصحيحتان، وأما الجسم فذائب، ولا أظن أخاك إلا عاشقا؛ قال: ترى أخي بالموت، وتزعم أنه عاشق! قال: هو ما أقول لك، فاسقه الشراب؛ فسقاه الخمر، فقال الشعر ولم يكن الشعر من شأنه، فقال: [هزج]
ألمّا بي إلى الأبيا ... ت بالخيف أزرهنّه «2»
غزال ما رأيت اليو ... م في دور بني كنّه
غزال أكحل العين ... وفي منطقه غنّه «3»
فقال أخوه: والله ما أراه إلّا كما قال، ولكن لا أدري من عنى؛ فسقاه شربة أخرى، فقال: [مجزوء الخفيف]
أيّها الحيّ اسلموا ... اسلموا ثمّت اسلموا
لا تولّوا وتعرضوا ... وأربعوا «4» كي تكلّموا
خرجت مزنة من ال ... بحر ريّا تحمحم «5»(4/129)
هي ما كنّتي وتز ... عم أنّي لها حم «1»
قال: يا أخي هي طالق ثلاثا، فإن شئت فتزوّجها؛ قال: وهي طالق إن تزوّجتها. قال غيره: فلما أفاق ذهب على وجهه حياء ولم يرجع، فهو فقيد ثقيف.
عن أبي مسكين قال: خرج أناس من بني حنيفة يتنزّهون إلى جبل لهم، فبصر فتى منهم يقال له عباس بجارية فهويها، وقال لأصحابه: والله لا أنصرف حتى أرسل إليها؛ فطلبوا إليه أن يكفّ وأن ينصرف معهم فأبى، وأقبل يراسل الجارية حتى وقع في نفسها، فأقبل في ليلة إضحيانة «2» متنكّبا «3» قوسه وهي بين إخوتها نائمة، فأيقظها؛ فقالت: انصرف وإلا أيقظت إخوتي فقتلوك! فقال: والله للموت أيسر ممّا أنا فيه، ولكن لله عليّ إن أعطيتيني يدك حتى أضعها على فؤادي أن أنصرف؛ فأمكنته من يدها، فوضعها على فؤاده ثم انصرف؛ فلمّا كان من القابلة أتاها وهي في مثل حالها، فقالت له مثل مقالتها، وردّ عليها وقال: إن أمكنتني من شفتيك أرشفهما انصرفت ثم لا أعود إليك، فأمكنته من شفيتها فرشفهما ثم انصرف؛ فوقع في قلبها منه مثل النار؛ ونذر»
به الحيّ، فقالوا: ما لهذا الفاسق في هذا الجبل! انهضوا بنا إليه حتى نخرجه منه؛ فأرسلت إليه: إن القوم يأتونك الليلة فاحذر، فلما أمسى قعد على مرقب «5» ومعه قوسه وأسهمه، وأصاب الحي من آخر النهار(4/130)
مطر وندى فلهوا عنه؛ فلما كان في آخر اللّيل وذهب السحاب وطلع القمر، خرجت وهي تريده وقد أصابها الطلّ، فنشرت شعرها وأعجبتها نفسها ومعها جارية من الحيّ، فقالت: هل لك في عبّاس؟ فخرجنا تمشيان، ونظر إليهما وهو على المرقب، فظنّ أنهما ممن يطلبه، فرمى بسهم فما أخطأ قلب الجارية ففلقه! وصاحت الأخرى، فانحدر من الجبل وإذا هو بالجارية في دمها؛ فقال: [مجزوء الكامل]
نعب الغراب بما كره ... ت ولا إزالة للقدر
تبكي وأنت قتلتها ... فاصبر وإلّا فانتحر
ثم وجأ «1» في أوداجه بمشاقصه «2» ، وجاء الحيّ فوجدوهما مقتولين فدفنوهما!.
قال خلّاد الأرقط: سمعت مشايخنا من أهل مكة يذكرون أن القسّ «3» ، وهو مولى لبني مخزوم، كان عند أهل مكة بمنزلة عطاء بن أبي رباح، وأنه مرّ يوما بسلّامة «4» وهي تغنّي، فوقف يسمع؛ فرآه مولاها فدنا منه فقال: هل لك في أن تدخل وتستمع؟ فأبى، ولم يزل به فقال: أقعدك في موضع لا تراها ولا تراك، ففعل، ثم غنت فأعجبته؛ فقال: هل لك في أن أحوّلها إليك؟ فتأبّى. ثم أجاب، فلم يزل به حتى شغف بها وشغفت به، وعلم ذلك أهل مكة. فقالت له يوما وقد خلوا: أنا والله أحبّك؛ فقال: وأنا(4/131)
والله أحبّك. قالت: فأنا أحبّ أن أضع فمي على فمك؛ قال: وأنا والله.
قالت: وأنا والله أحبّ أن أضع صدري على صدرك؛ قال: وأنا والله. قالت:
فما يمنعك؟ والله إن الموضع لخال! فأطرق ساعة، ثم قال: إني سمعت الله يقول: الْأَخِلَّاءُ يَوْمَئِذٍ بَعْضُهُمْ لِبَعْضٍ عَدُوٌّ إِلَّا الْمُتَّقِينَ
«1» ، وأنا والله أكره أن تكون خلّة ما بيني وبينك عداوة يوم القيامة؛ ونهض وعاد إلى طريقته التي كان عليها. وفيه قيل: [طويل]
لقد فتنت ريّا وسلّامة القسّا ... ولم تتركا للقسّ عقلا ولا نفسا
ومن شعره فيها: [وافر]
أهابك أن أقول بذلت نفسي ... ولو أنّي أطيع القلب قالا
حياء منك حتى شفّ جسمي ... وشقّ عليّ كتماني وطالا «2»
وهو القائل: [كامل]
قد كنت أعذل في السّفاهة أهلها ... فاعجب لما تأتي به الأيّام
فاليوم أرحمهم وأعلم أنّما ... سبل الغواية والهدى أقسام
وهو القائل: [طويل]
ألم ترها لا يبعد الله دارها ... إذا مرحت في صوتها كيف تصنع «3»
تمدّ نظام القول ثم تردّه ... إلى صلصل في حلقها فترجّع «4»
كتبت منية إلى قابوس: من سنّ سنّة فليرض بأن يحكم عليه بها. ومن سأل مسألة فليرض من العطيّة بقدر بذله. لكلّ عمل ثواب، ولكل فعل(4/132)
جزاء. ومن بدأ بالظلم كان أظلم. ومن انتصر فقد أنصف. والعفو أقرب إلى العقل. وغير مسيء من أعتب. وغير مذنب من طوّل «1» مع المخض تبدو الزّبدة. عند تناهي البلاء يكون الفرج. كلّ ذي قرح يشتهي دواء قرحه. كلّ مطمع منتظر. كل آت قريب. مع كل فرحة ترحة. من خبث سنخه «2» غلظ كبده ونام حقده. الموت أروح من الهوى. اليأس أوّل سبب الراحة. السّحر أنفذ من الشعر. دواء كل محبّ حبيبه. مع اليوم غد. كما تدين تدان.
استشف الله لما بك، واسأله المدافعة عنك.
فأجابها:
من الكرام تكون الرحمة، ومن اللئام تكون القسوة. من كرم أصله لان قلبه ورقّ وجهه. ومن عاقب بالذنوب ترك الفضل. ومن ترك الفضل أخطأ الحظّ. ومن لم يغفر لم يغفر له. ومن حقد واضطغن اكتسب الأعداء. أولى الناس بالرحمة من احتاج إليها فحرمها. لكل كرب فرج، ولكل عمر ثواب.
من أحبّ رقّ لكلّ محبّ. لا داء أدوى «3» من الهوى، ولا أوهن منه لذي القوى. لا ملكة «4» أكرم من ملكة كريم، ولا قدرة ألأم من قدرة لئيم. ملكت فأسجحي «5» : قدرت فاعفي. ويل للشّجيّ من الخليّ «6» . من كان في نعمة لم يدر قدر البليّة. من سها عقله فسد عيشه، ومن فسد عيشه كان الموت راحته.
الآمال مبسوطة، والآجال معدودة. والمتوقّع الموت. وحسرة الموت من مات(4/133)
بغصّة. خير الخير أعجله. من أراد معروفا فلا يتطوّل «1» . الحبّ أثقل محمول.
وكتب إليها أيضا:
قلّ من حبيب كتاب، وعظم من محبّ مصاب. لكلّ آخر أوّل، مرقاة «2» إلى مرقاة. قد ينمو القليل فيكثر، ويضمحلّ الكثير فيذهب. من طلب وجد.
ومن أدمن الاستفتاح فتحت له الأغلاق. أولى الأمور بالنجاح المواظبة. قد يتبع الظّفر البصر، ويتبع البصر التغير والاستثقال، ويتبع الاستثقال الاستبدال؛ ولن يدوم شيء على حال. ولكلّ همّ فرج. والعناء مقرون بالرجاء. قد يستخرج بالكلمة الحيّة، وتنشأ من الحبّة الشجرة. وفي اللقاء شفاء الغليل، وتنفّس الهموم. ارتاد امرؤ قبل حلوله، وتثبّت قبل إقدامه. مع العجلة تكون النّدامة، وفي التثبّت تكون السلامة. العاقل من ابتدأ عملا في غير حينه فبلغ في حين وقته. لا ينال بغير دواء شفاء. الصعب يمكن بعد منع. الرّفق سبب القدرة. الخرق «3» مفتاح الحرمان. من أسرّ «4» أسراره دامت له لذّاته. ربّ أكلة تمنع أكلات، ولقية تصدّ عن لقيات.(4/134)
أبيات في الغزل حسان
[طويل]
يقرّ بعيني أن أرى من مكانه ... ذرى عقدات الأبرق المتقاود «1»
وأن أرد الماء الذي شربت به ... سليمى فقد ملّ السّرى كلّ واحد «2»
وألصق أحشائي ببرد ترابه ... وإن كان مخلوطا بسمّ الأساود «3»
قال أبو صخر الهذليّ «4» : [طويل]
أما والّذي أبكى وأضحك والّذي ... أمات وأحيا والّذي أمره الأمر
لقد تركتني أحسد الوحش أن أرى ... أليفين منها لا يروعهما الذّعر
فيا هجر ليلى قد بلغت بي المدى ... وزدت على ما لم يكن بلغ الهجر
ويا حبّها زدني جوى كلّ ليلة ... ويا سلوة الأيّام موعدك الحشر «5»
وصلتك حتى قيل لا يعرف القلى ... وزرتك حتى قلت ليس له صبر «6»
عجبت لسعى الدهر بيني وبينها ... فلما انقضى ما بيننا سكن الدهر «7»
إذا ذكرت يرتاح قلبي لذكرها ... كما انتفض الصعفور بلله القطر «8»(4/135)
هل الوجد إلّا أنّ قلبي لو دنا ... من الجمر قيد الرّمح لاحترق الجمر
وقال آخر «1» : [طويل]
أيا خلّة النّفس التّي ليس دونها ... لنا من أخلّاء الصفاء خليل
ويا من كتمنا حبّه لم يطع به ... عدوّ ولم يؤمن عليه دخيل
أما من مقام أشتكي غربة النّوى ... وجور العدا فيه إليك سبيل
وكنت إذا ما جئت جئت بعلّة ... فأفنيت علّاتي فأيش أقول «2»
وما كلّ يوم لي بأرضك حاجة ... وما كلّ يوم لي إليك رسول
وقال المجنون «3» : [طويل]
وإني لأستغشي وما بي نعسة ... لعلّ خيالا منك يلقى خياليا «4»
وأخرج من بين الجلوس لعلّني ... أحدّث عنك النفس في السّرّ خاليا
وقال أيضا:
فأدنيتني حتى إذا ما ملكتني ... بقول يحلّ العصم سهل الأباطح «5»
تجافيت عنّي حين لا لي حيلة ... وخلّفت ما خلّفت بين الجوانح
ونحوه قول العبّاس بن الأحنف: [بسيط]
أشكو الذي أذاقوني مودّتهم ... حتى إذا أيقظوني في الهوى رقدوا
واستنهضوني فلمّا قمت منتهضا ... من ثقل ما حمّلوني في الهوى قعدوا(4/136)
وقال بعض المحدثين: [مجتث]
من كان يبكي لما بي ... من طول وجد رسيس «1»
فالآن قبل وفاتي ... «لا عطر بعد عروس» «2»
وقال العبّاس بن جرير من ولد خالد بن عبد الله: [مديد]
ظلّت الأحزان تكحلني ... مضضا طالت له سنتي «3»
من هوى ظبي كأنّ له ... أربا بالصدّ في ترتي «4»
قد حمى عني محاسنه ... وحمى تقبيله شفتي
شركت عيناه ظالمة ... في دمي من عظم ما جنت «5»
وقال ابن الطّثريّة: [طويل]
وإن كنتم ترجون أن يذهب الهوى ... يقينا وتروى بالشراب فننقعا «6»
فردوا هبوب الريح أو غيّروا الجوى ... إذا حلّ ألواذ الحشا فتمنّعا «7»
تلفّتّ نحو الحيّ حتى وجدتني ... وجعت من الإصغاء ليتا وأخدعا «8»(4/137)
وقال ابن ميّادة «1» : [طويل]
بنفسي وأهلي من إذا عرضوا له ... ببعض الأذى لم يدر كيف يجيب
ولم يعتذر عذر البريء ولم يزل ... له سكتة حتى يقال مريب
وقال عليّ بن الجهم في رقعة أتته بخطّ جارية: [سريع]
ما رقعة جاءتك مثنيّة ... كأنّها خدّ على خدّ «2»
نبذ سواد في بياض كما ... ذرّ فتيت المسك في الورد «3»
ساهمة الأسطر مصروفة ... عن ملح الهزل إلى الجدّ «4»
يا كاتبا أسلمني عتبه ... إليه حسبي منك ما عندي
وقال جرير: [طويل]
أتجمع قلبا بالعراق فريقه ... ومنه بأظلال الأراك فريق «5»
أوانس أمّا من أردن عناءه ... فعان ومن أطلقن فهو طليق
دعون الهوى ثم ارتمين قلوبنا ... بأسهم أعداء وهنّ صديق
وقال آخر: [بسيط]
لذّان تضنيهما للبين فرقته ... ولا يملّان طول الدّهر ما اجتمعا «6»
مستقبلان بساه من شبابهما ... إذا دعا دعوة الدّاعي الهوى شمعا «7»(4/138)
لا يعجبان لقول النّاس عن عرض ... بل يعجبان لما قالا وما سمعا «1»
وقال أعرابيّ: [طويل]
وقلن لها سرّا وقيناك لا يقم ... صحيحا فإن لم تقتليه فألممي
فأذرت قناعا دونه الشمس واتّقت ... بأحسن موصولين كفّ ومعصم «2»
فراح وما أدري أفي طلعة الضّحى ... يروّح أم داج من الليل مظلم
وقال آخر: [بسيط]
يا أحسن الناس من قرن إلى قدم ... لم ألق مثلك في حلّ ولا حرم «3»
يا من تلبّس حسن الغانيات به ... قد خطّ قبلك فيما خطّ بالقلم
وقال ذو الرّمّة «4» : [طويل]
وقد كنت أبكي والنّوى مطمئنّة ... بنا وبكم من علم ما البين صانع
وأشفق من هجرانك ويشفّني ... مخافة وشك البين والشمل جامع «5»
وأهجركم هجر البغيض وحبّكم ... على كبدي منه شؤون صوادع «6»
وقال أيضا: [طويل]
وقد كنت أخفي حبّ ميّ وذكرها ... رسيس الهوى حتى كأن لا أريدها
فما زال يغلوا حبّ ميّة عندنا ... ويزداد حتى لم نجد ما يزيدها(4/139)
وقال: [طويل]
وما زلت أطوي النفس حتى كأنّها ... بذي الرّمث لم تخطر على بال ذاكر «1»
حياء وإشفاقا من الركب أن يروا ... دليلا على مستودعات الضمائر
وقال آخر: [خفيف]
قل لحادي المطيّ روّح قليلا ... نجعل العيس سيرهنّ ذميلا «2»
لا تقفها على السبيل ودعها ... يهدها شوق من عليها السّبيلا
وقال آخر: [طويل]
فإن يرتحل صحبى بجثمان أعظمي ... يقم قلبي المحزون في منزل الرّكب
ونحوه: [مجزوء الكامل المرفّل]
جسد مقيم في الدّيا ... ر وروحه في الظاعنين
وقال آخر: [طويل]
لعمر أبي المحضير أيّام نلتقي ... بما لا نلاقيها من الدّهر أكثر
يعدّون يوما واحدا إن أتيتها ... وينسون ما كانت من الدهر تهجر
وقال حميد بن ثور: [طويل]
وقلن لها قومي فديناك فاركبي ... فأومت بلالا غير ما أن تكلّما «3»
يهادينها حتى لوت بزمامه ... بنانا كهدّاب الدّمقس ومعصما «4»
من البيض عاشت بين أمّ عزيزة ... وبين أب برّ أطاع وأكرما(4/140)
منعّمة لو يصبح الذرّ ساريا ... على جلدها نضّت مدارجه دما «1»
فما ركبت حتى تطاول يومها ... وكانت لها الأيدي إلى الحدب سلّما «2»
فجرجر لما كان في الخدر نصفها ... ونصف على دأياته ما تحرّما «3»
وما كاد لمّا أن علته يقلّها ... بنهضته حتى اطمأنّ وأعصما «4»
وحتى تداعت بالنّقيض جباله ... وهمّت بواني زوره أن تحطّما «5»
وأثّر في صمّ الصّفا نفثاته ... ورمّت سليمى أمره ثم صمّما «6»
فسبّحن واستهللن لما رأينه ... بها ربذا سهل الأراجيح مرجما «7»
من البيض مكسال إذا ما تلبّست ... بحبل امرىء لم ينج منها مسلّما «8»
رقود الضّحى لا تقرب الجيرة القصى ... ولا الجيرة الأدنين إلّا تجشّما
وليست من اللّاتي يكون حديثها ... أمام بيوت الحيّ إنّ وإنّما
وقال قيس بن ذريح «9» : [طويل]
تعلّق روحي روحها قبل خلقنا ... ومن بعد ما كنّا نطافا وفي المهد «10»(4/141)
فزاد كما زدنا فأصبح ناميا ... فليس وإن متنا بمنفصم العهد «1»
ولكنّه باق على كلّ حادث ... وزائرنا في ظلمة القبر واللّحد
يكاد حباب الماء يخدش جلدها ... إذا اغتسلت بالماء من رقّة الجلد «2»
ولو لبست ثوبا من الورد خالصا ... لخدّش منها جلدها ورق الورد
يثقّلها لبس الحرير للينها ... وتشكو إلى جاراتها ثقل العقد
وأرحم خدّيها إذا ما لحظتها ... حذارا للحظي أن يؤثّر في الخدّ
تمّ كتاب النساء، وهو الكتاب العاشر من عيون الأخبار، لابن قتيبة رحمة الله عليه، وتمّ بتمامه كتاب عيون الأخبار. وكتبه الفقير إلى رحمة الله تعالى إبراهيم بن عمر ابن محمد بن عليّ الواعظ الجزريّ، في شهور سنة أربع وتسعين وخمسمائة.
والحمد لله رب العالمين وصلاته وسلامه على خير خلقه ومظهر حقه محمد وآله أجمعين جاء في أوّل الجزء العاشر على ظهر الصفحة الأولى من النسخة الخطية التي نقل عنها الأصل الفتوغرافي ما يأتي: [خفيف]
قال لي قائل وقد لاح في فو ... ديّ مستشرقا بياض القتير «3»
لم يعاف البياض بيض الغواني ... قلت علمي وأنت عين الخبير
ليس كره النساء للشّيب إلّا ... أنه منذر بنوم الأيور
روي عن عليّ عليه السّلام أنه سئل عن صفة الجماع فقال: عورات تجتمع وحياء يرتفع، إذا ظهر للعيون كان أشبه شيء بالجنون. الإقامة عليه(4/142)
هرم، والإفاقة منه ندم؛ ثمرة حلاله الولد، إن عاش أفتن «1» ، وإن مات أحزن: [طويل]
إذا لم يكن في منزل المرء حرّة ... مدبّرة ضاعت مروءة داره
وقيل: اجتمع جماعة من الشعراء عند عبد الملك بن مروان فتذاكروا بيت نصيب وهو قوله: [طويل]
أهيم بدعد ما حييت فإن أمت ... أوكّل بدعد من يهيم بها بعدي
فما في القوم إلا من عابه وأزرى على نصيب فيه، فقال عبد الملك:
فما كنتم تقولون أنتم؟ فقال واحد منهم: كنت أقول يا أمير المؤمنين:
أهيم بدعد ما حييت وإن أمت ... فيا ليت شعري من يهيم بها بعدي
فقال له عبد الملك: أنت أسوأ رأيا من نصيب. فقالوا: فماذا كنت تقول أنت يا أمير المؤمنين؟ قال: كنت أقول:
أهيم بدعد ما حييت وإن أمت ... فلا صلحت دعد لذي خلّة بعدي
فقالوا: أنت والله أشعر الثلاثة يا أمير المؤمنين.(4/143)