أبشر فقد قرع الحوادث مروتي ... وافرح بمروتك التي لم تقرع «1»
إن عشت تفجع بالأحبّة كلّهم ... أو يفجعوا بك إن بهم لم تفجع
أيّوب من يشمت بموتك لم يطق ... عن نفسه دفعا وهل من مدفع
أخبار سليمان بن عبد الملك
أبو الحسن المدائني قال: لما بلغ قتيبة بن مسلم أنّ سليمان بن عبد الملك عزله عن خراسان واستعمل يزيد بن المهلب، كتب إليه ثلاث صحف، وقال للرسول: ادفع إليه هذه، فإن دفعها إلى يزيد فادفع إليه هذه، فإن شتمني فادفع هذه. فلما سار الرسول إليه دفع الكتاب إليه، وفيه: يا أمير المؤمنين، إنّ من بلائي في طاعة أبيك وأخيك كيت وكيت. فدفع كتابه إلى يزيد، فأعطاه الرسول الكتاب الثاني، وفيه: يا أمير المؤمنين، كيف تأمن ابن رحمة على أسرارك وأبوه لم يأمنه على أمّهات أولاده؟
فلما قرأ الكتاب شتمه وناوله ليزيد، فأعطاه الثالث، وفيه: من قتيبة بن مسلم إلى سليمان بن عبد الملك، سلام على من اتبع الهدى، أمّا بعد: فو الله لأوثّقن له آخيّة «2» لا ينزعها المهر الأرن «3» ! فلما قرأها قال سليمان: عجلنا على قتيبة! يا غلام، جدّد له عهدا على خراسان.
ودخل يزيد بن أبي مسلم كاتب الحجاج على سليمان، فقال له سليمان: أترى الحجاج استقرّ في قعر جهنم، أم هو يهوي فيها؟ فقال: يا أمير المؤمنين، إنّ الحجاج يأتي يوم القيامة بين أبيك وأخيك، فضعه من النار حيث شئت! قال: فأمر به إلى الحبس، فكان فيه طول ولايته.
قال محمد بن يزيد الأنصاري: فلما ولى عمر بن عبد العزيز، بعثني فأخرجت من السجن من حبس سليمان ما خلا يزيد بن أبي مسلم فقد ردّ ...(5/174)
فلما مات عمر بن عبد العزيز ولاه يزيد بن عبد الملك أفريقية وأنا فيها، فأخذت فأتي به إليه في شهر رمضان عند الليل، فقال: محمد بن يزيد؟ قلت: نعم. قال: الحمد لله الذي مكنني منك بلا عهد ولا عقد، فطالما سألت الله أن يمكنني منك! قلت: وأنا والله طالما استعذت بالله منك! قال: فو الله ما أعاذك الله مني، ولو أنّ ملك الموت سابقني إليك لسبقته! قال: فأقيمت صلاة المغرب، فصلى ركعة فثارت عليه الجند فقتلوه، وقالوا لي: خذ إلى الطريق أيّ طريق شئت.
وأراد سليمان بن عبد الملك أن يحجر على يزيد بن عبد الملك، وذلك أنّه تزوّج سعدى بنت عبد الله بن عمرو بن عثمان فأصدقها عشرين ألف دينار، واشترى جارية بأربعة آلاف دينار؛ فقال سليمان: لقد هممت أن أضرب على يد هذا السفيه، ولكن كيف أصنع بوصية أمير المؤمنين بابني عاتكة: يزيد ومروان؟
وحبس سليمان بن عبد الملك، موسى بن نصير، وأوحى إليه: اغرم «1» ديتك خمسين مرة! فقال موسى: ما عندي ما أغرمه. فقال: والله لتغرمنّها مائة مرة فحملها عنه يزيد بن المهلب، وشكر ما كان من موسى إلى أبيه المهلب أيام بشر بن مروان؛ وذلك أن بشرا هم بالمهلب؛ فكتب إليه موسى يحذّره، فتمارض المهلب ولم يأته حين أرسل إليه.
وكان خالد بن عبد الله القسري واليا على المدينة للوليد ثم أقرّه سليمان؛ وكان قاضي مكة طلحة بن هرم؛ فاختصم إليه رجل من بني شيبة الذين إليهم مفتاح الكعبة يقال له الأعجم، مع ابن أخ له في أرض لهما، فقضى للشيخ على ابن أخيه، وكان متصلا بخالد بن عبد الله، فأقبل إلى خالد فأخبره؛ فحال خالد بين الشيخ وبين ما قضى له القاضي؛ فكتب القاضي كتابا إلى سليمان يشكو له خالدا. ووجّه الكتاب إليه مع محمد بن طلحة؛ فكتب سليمان إلى خالد: لا سبيل لك على الأعجم ولا ولده.
فقدم محمد بن طلحة بالكتاب على خالد وقال لا سبيل لك علينا؛ هذا كتاب أمير(5/175)
المؤمنين. فأمر به خالد فضرب مائة سوط قبل أن يقرأ كتاب سليمان؛ فبعث القاضي ابنه المضروب إلى سليمان؛ وبعث ثيابه التي ضرب فيها بدمائها؛ فأمر سليمان بقطع يد خالد فكلمه يزيد بن المهلب وقال: إن كان ضربه يا أمير المؤمنين بعد ما قرأ الكتاب تقطع يده، وإن كان ضربه قبل ذلك فعفو أمير المؤمنين أولى بذلك. فكتب سليمان إلى داود بن طلحة بن هرم: إن كان ضرب الشيخ بعد ما قرأ الكتاب الذي أرسلته فاقطع يده، وإن كان ضربه قبل أن يقرأ كتابي فاضربه مائة سوط. فأخذ داود بن طلحة- لما قرأ الكتاب- خالدا فضربه مائة سوط؛ فجزع خالد من الضرب فجعل يرفع يديه؛ فقال له الفرزدق: ضم إليك يديك يا بن النصرانية! فقال خالد: ليهنأ الفرزدق، وضمّ يديه. وقال الفرزدق:
لعمري لقد صبّت على متن خالد ... شآبيب لم يصببن من صيّب القطر «1»
فلولا يزيد بن المهلّب حلّقت ... بكفّك فتخاء الجناح إلى الوكر «2»
فردّت أمّ خالد عليه تقول:
لعمري لقد باع الفرزدق عرضه ... بخسف وصلى وجهه حامي الجمر
فكيف يساوي خالدا أو يشينه ... خميص من التّقوى بطين من الخمر «3»
وقال الفرزدق أيضا في خالد القسري:
سلوا خالدا، لا قدّس الله خالدا ... متى ملكت قسر قريشا تدينها؟
أقبل رسول الله أو بعد عهده؟ ... فتلك قريش قد أغثّ سمينها
رجونا هداه؛ لا هدى الله قلبه ... وما أمّه بالأمّ يهدى جنينها
فلم يزل خالد محبوسا بمكة حتى حج سليمان وكلمه فيه المفضّل بن المهلب؛ فقال سليمان: لاطت «4» بك الرحم أبا عثمان؛ إن خالدا جرّعني غيظا! قال: يا أمير(5/176)
المؤمنين، هبني ما كان من ذنبه. قال: قد فعلت، ولا بدّ أن يمشي إلى الشام راجلا! فمشى خالد إلى الشام راجلا.
وقال الفرزدق يمدح سليمان بن عبد الملك:
سليمان غيث الممحلين ومن به ... عن البائس المسكين حلّت سلاسله
وما قام من بعد النبيّ محمد ... وعثمان فوق الأرض راع يماثله
جعلت مكان الجور في الأرض مثله ... من العدل إذ صارت إليك محامله
وقد علموا أن لن يميل بك الهوى ... وما قلت من شيء فإنك فاعله
زياد عن مالك، أن سليمان بن عبد الملك قال يوما لعمر بن عبد العزيز: كذبت! قال: والله ما كذبت منذ شددت عليّ إزاري، وإن في غير هذا المجلس لسعة! وقام مغضبا فتجهز يريد مصر! فأرسل إليه سليمان فدخل عليه؛ فقال له: يا بن عمي، إن المعاتبة تشقّ عليّ، ولكن والله ما أهمني أمر قط من ديني ودنياي إلا كنت أوّل من أذكره لك.
وفاة سليمان بن عبد الملك
قال رجاء بن حيوة: قال لي سليمان: إلى من ترى أن أعهد؟ فقلت: إلى عمر بن عبد العزيز! قال: كيف نصنع بوصية أمير المؤمنين بإبني عاتكة من كان منهما حيا؟
قلت: تجعل الأمر بعده ليزيد. قال: صدقت. قال: فكتب عهده لعمر ثم ليزيد بعده.
ولما ثقل سليمان قال: ائتوني بقمص بني أنظر إليها! فأتى بها فنشرها فرآها قصارا، فقال:
إن بنيّ صبية صغار ... أفلح من كان له كبار
فقال له عمر أَفْلَحَ مَنْ تَزَكَّى وَذَكَرَ اسْمَ رَبِّهِ فَصَلَّى
«1» .(5/177)
وكان سبب موت سليمان بن عبد الملك، أن نصرانيا أتاه وهو بدابق بزنبيل «1» مملوء بيضا وآخر مملوء تينا، فقال: قشّروا. فقشروا، فجعل يأكل بيضة وتينة، حتى أتى على الزنبيلين، ثم أتوه بقعصة مملوءة مخا بسكر، فأكله، فأتخم فمرض فمات.
ولما حج سليمان تأذى بحرّ مكة، فقال له عمر بن عبد العزيز: لو أتيت الطائف! فأتاها، فلما كان بسحق لقيه ابن أبي الزهير، فقال: يا أمير المؤمنين، اجعل منزلك عليّ. قال: كلّ منزلي. فرمى بنفسه على الرمل، فقيل له: يساق إليك الوطاء.
فقال: الرمل أحبّ إليّ. وأعجبه برده، فالزق بالرمل بطنه، قال: فأتى إليه بخمس رمانات فأكلها، فقال: أعندكم غير هذه؟ فجعلوا يأتونه بخمس بعد خمس، حتى أكل سبعين رمانة؛ ثم أتوه بجدي وست دجاجات، فأكلهن؛ وأتوه بزبيب من زبيب الطائف فنثر بين يديه، فأكل عامته «2» ؛ ونعس، فلما انتبه أتوه بالغداء، فأكل كما أكل الناس، فأقام يومه: ومن غد قال لعمر: أرانا قد أضررنا بالقوم. وقال لابن أبي الزهير: اتبعني إلى مكة. فلم يفعل، فقالوا له: لو أتيته! فقال: أقول ماذا؟ أعطني ثمن قراي «3» الذي قربته!؟
العتبي عن أبيه عن الشمردل وكيل آل عمرو بن العاص، قال. لما قدم سليمان بن عبد الملك الطائف، دخل هو وعمر بن عبد العزيز وأيوب ابنه بستانا لعمرو، قال:
فجال في البستان ساعة، ثم قال: ناهيك بمالكم هذا مالا! ثم ألقى صدره على غصن وقال: ويلك يا شمردل! ما عندك شيء تطعمني؟ قلت: بلى والله، عندي جدي كانت تغدو عليه بقرة وتروح أخرى. قال: عجل به ويحك! فأتيته به كأنه عكّة سمن، فأكله وما دعا عمر ولا ابنه، حتى إذا بقي الفخذ قال: هلم أبا حفص. قال:
أنا صائم. فأتى عليه، ثم قال: ويلك يا شمردل! ما عندل شيء تطعمني؟ قلت: بلى والله، دجاجتان هنديتان كأنهما رألا «4» النعام. فأتيته بهما، فكان يأخذ برجل(5/178)
الدجاجة فيلقي عظامها نقية، حتى أتى عليهما؛ ثم رفع رأسه فقال: ويلك يا شمردل! ما عندك شيء تطعمني؟ قلت: بلى، عندي حريرة «1» كأنها قراضة ذهب. قال: عجل بها ويلك! فأتيته بعسّ يغيب فيه الرأس، فجعل يتلقّمها بيده ويشرب، فلما فرغ تجشأ، فكأنما صاح في جب: ثم قال: يا غلام، أفرغت من غذائي؟ قال: نعم. قال:
وما هو؟ قال: ثمانون قدرا! قال: ائتني بها قدرا قدرا. قال: فأكثر ما أكل من كل قدر ثلاث لقم، وأقلّ ما أكل لقمة؛ ثم مسح يده واستلقى على فراشه، ثم أذن للناس؛ ووضعت الخوانات «2» ، وقعد يأكل فما أنكرت شيئا من أكله.
خلافة عمر بن عبد العزيز
المدائني قال: هو عمر بن عبد العزيز بن مروان بن الحكم. وكنيته أبو حفص.
وأمه أم عاصم بنت عاصم بن عمر الخطاب. وولي الخلافة يوم الجمعة لعشر خلون من صفر سنة تسع وتسعين. ومات يوم الجمعة لست بقين من رجب، بدير شمعان من أرض دمشق، سنة إحدى ومائة. وصلى عليه يزيد بن عبد الملك.
علي بن زيد قال. سمعت عمر بن عبد العزيز يقول: تمت حجة الله على ابن الأربعين. ومات لها.
وكان على شرطته يزيد بن بشير الكناني، وعلى حرسه عمرو بن المهاجر، ويقال أبو العباس الهلالي؛ وكان كاتبه على الرسائل ابن أبي رقية، وكاتبه أيضا إسماعيل بن أبي حكيم، وعلى خاتم الخلافة نعيم بن أبي سلامة، وعلى الخراج والجند صالح بن أبي جبير، وعلى إذنه أبو عبيدة الأسود مولاه.
يعقوب بن داود الثقفي عن أشياخ من ثقيف قال: قريء عهد عمر بالخلافة وعمر في ناحية، فقام رجل من ثقيف يقال له سالم من أخوال عمر، فأخذ بضبعيه «3»(5/179)
فأقامه؛ فقال عمر: أما والله ما الله أردت بهذا. ولن تصيب بها مني دنيا.
أبو بشر الخراساني قال: خطب عمر بن عبد العزيز الناس حين استخلف، فقال:
أيها الناس، والله ما سألت الله هذا الأمر قط في سر ولا علانية، فمن كان كارها لشيء مما وليته فالآن.
فقال سعيد بن عبد الملك: ذلك أسرع فيما نكره أتريد أن نختلف ويضرب بعضنا بعضا؟ قال رجل: سبحان الله! وليها أبو بكر وعمر وعثمان وعلي، ولم يقولوا هذا؛ ويقوله عمر.
أخبار عمر بن عبد العزيز
بشر بن عبد الله بن عمر قال: كان عمر يخلو بنفسه ويبكي فنسمع نحيبه بالبكاء وهو يقول: أبعد الثلاثة الذين واريتهم بيدي: عبد الملك، والوليد، وسليمان.
وقدم رجل من خراسان على عمر بن عبد العزيز حين استخلف، فقال: يا أمير المؤمنين، إني رأيت في منامي قائلا يقول: إذا ولي الأشجّ «1» من بني أمية يملأ الأرض عدلا كما ملئت جورا؛ فولي الوليد، فسألت عنه فقيل لي: ليس بأشج؛ ثم ولي سليمان، فسألت عنه فقيل: ليس بأشج؛ ووليت أنت فكنت الأشج. فقال عمر:
تقرأ كتاب الله؟ قال: نعم. قال: فبالذي أنعم عليك به، أحق ما أخبرتني؟ قال:
نعم. فأمره أن يقيم في دار الضيافة، فمكث نحوا من شهرين، ثم أرسل إليه عمر فقال: هل تدري لم احتبسناك؟ قال: لا. قال: أرسلنا إلى بلدك لنسأل عنك فإذا ثناء صديقك وعدوّك عليك سواء؛ فانصرف راشدا.
وكان عمر بن عبد العزيز لا يأخذ من بيت المال شيئا، ولا يجري على نفسه من الفيء درهما: وكان عمر بن الخطاب يجري على نفسه من ذلك درهمين في كل يوم؛(5/180)
فقيل لعمر بن عبد العزيز: لو أخذت ما كان يأخذ عمر بن الخطاب؟ فقال: إن عمر ابن الخطاب لم يكن له مال، وأنا مالي يغنيني!.
ولما ولي عمر بن عبد العزيز قام إليه رجل فقال: يا أمير المؤمنين أعدني على هذا وأشار إلى رجل، قال: فيم؟ قال: أخذ مالي وضرب ظهري. فدعا به عمر فقال ما يقول هذا؟ قال: صدق، إنه كتب إلى الوليد بن عبد الملك: «وطاعتكم فريضة» قال: كذبت! لا طاعة لنا عليكم إلا في طاعة الله. وأمر بالأرض فردّت إلى صاحبها.
عبد الله بن المبارك عن رجل أخبره، قال: كنت مع خالد بن يزيد بن معاوية في صحن بيت المقدس، فلقينا عمر بن عبد العزيز ولا أعرفه، فأخذ بيد خالد وقال: يا خالد، أعلينا عين؟ قلت: عليكما من الله عين بصيرة وأذن سميعة! قال: فاستلّ يده من يد خالد وأرعد «1» ودمعت عيناه ومضى، فقلت لخالد: من هذا؟ قال: هذا عمر ابن عبد العزيز، وإن عاش فيوشك أن يكون إماما عدلا.
وقال رباح بن عبيدة: اشتريت لعمر قبل الخلافة مطرفا بخمسمائة، فاستخشنه وقال: لقد اشتريته خشنا جدا! واشتريت له بعد الخلافة كساء بثمانية دراهم، فاستلانه وقال: لقد اشتريته ليّنا جدا!.
ودخل مسلمة بن عبد الملك على عمر وعليه ريطة «2» من رياط مصر: فقال: بكم أخذت هذا يا أبا سعيد؟ قال: بكذا وكذا. قال: فلو نقصت من ثمنها ما كان ناقصا من شرفك. قال مسلمة: إن أفضل الاقتصاد ما كان بعد الجدة، وأفضل العفو ما كان بعد القدرة، وأفضل اللّين ما كان بعد الولاية.
وكان لعمر غلام يقال له درهم يحتطب له، فقال له يوما: ما يقول الناس يا درهم؟ قال: وما يقولون؟ الناس كلهم بخير، وأنا وأنت بشر! قال: وكيف ذلك؟(5/181)
قال: إني عهدتك قبل الخلافة عطرا، لبّاسا، فاره «1» المركب، طيّب الطعام؛ فلما وليت رجوت أن أستريح وأتخلص، فزاد عملي شدة، وصرت أنت في بلاء! قال فأنت حرّ، فاذهب عني ودعني وما أنا فيه حتى يجعل الله لي منه مخرجا! ميمون بن مهران قال: كنت عند عمر، فكثر بكاؤه ومسألته ربّه الموت، فقلت:
لم تسأل الموت وقد صنع الله على يديك خيرا كثيرا: أحيا بك سننا، وأمات بك بدعا قال: أفلا أكون مثل العبد الصالح أقر الله عينه وجمع له أمره قال: رَبِّ قَدْ آتَيْتَنِي مِنَ الْمُلْكِ وَعَلَّمْتَنِي مِنْ تَأْوِيلِ الْأَحادِيثِ فاطِرَ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ أَنْتَ وَلِيِّي فِي الدُّنْيا وَالْآخِرَةِ تَوَفَّنِي مُسْلِماً وَأَلْحِقْنِي بِالصَّالِحِينَ
«2» ! ولما ولي عمر بن عبد العزيز قال: إن فدك كانت مما أفاه الله على رسوله فسألتها فاطمة رسول الله، فقال لها: ما لك أن تسأليني، ولا لي أن أعطيك! فكان رسول الله صلّى الله عليه وسلم يصنع فيها حيث أمره الله، ثم أبو بكر وعمر وعثمان، كانوا يضعونها المواضع التي وضعها رسول الله صلّى الله عليه وسلم، ثم ولي معاوية فأقطعها مروان، ووهبها مروان لعبد الملك وعبد العزيز، فقسمناها بيننا أثلاثا: أنا والوليد وسليمان؛ فلما ولي الوليد سألته نصيبه فوهبه لي، وما كان لي مال أحبّ إلي منها؛ وأنا أشهدكم أني قد رددتها إلى ما كانت عليه على عهد رسول الله صلّى الله عليه وسلم.
وقال عمر: الأمور ثلاثة: أمر استبان رشده فاتبعه؛ وأمر استبان ضرّه «3» فاجتنبه؛ وأمر أشكل أمره عليك فردّه إلى الله.
وكتب عمر إلى بعض عماله: الموالي ثلاثة: مولى رحم، ومولى عتاقة، ومولى عقد؛ فمولى الرحم يرث ويورث، ومولى العتاقة يورث ولا يرث، ومولى العقد لا يرث ولا يورث وميراثه لعصبته.(5/182)
وكتب عمر إلى عماله: مروا من كان على غير الإسلام أن يضعوا العمائم ويلبسوا الأكسية «1» ولا يتشبّهوا بشيء من الإسلام، ولا تتركوا أحدا من الكفار يستخدم أحدا من المسلمين.
وكتب عمر بن عبد العزيز إلى عدي بن أرطاة عامله على العراق: إذا أمكنتك القدرة على المخلوق فاذكر قدرة الخالق القادر عليك، واعلم أن ما لك عند الله أكثر مما لك عند الناس.
وكتب عمرو بن عبد العزيز إلى عماله:
مروا من كان قبلكم فلا يبقى أحد من أحرارهم ولا مماليكهم صغيرا ولا كبيرا، ذكرا ولا أنثى، إلا أخرج عنه صدقة فطر رمضان: مدّين من قمح، أو صاعا «2» من تمر، أو قيمة ذلك نصف درهم، فأما أهل العطاء فيؤخذ ذلك من أعطياتهم عن أنفسهم وعيالاتهم، واستعملوا على ذلك رجلين من أهل الأمانة يقبضان ما اجتمع من ذلك ثم يقسمانه في مساكين أهل الحاضرة، ولا يقسم على أهل البادية.
وكتب عبد الحميد بن عبد الرحمن إلى عمر: إنّ رجلا شتمك فأردت أن أقتله.
فكتب إليه: لو قتلته لأقدتك به، فإنه لا يقتل أحد بشتم أحد إلا رجل شتم نبيّا.
وكتب رجل من عمال عمر إلى عمر: إنا أتينا بساحرة، فألقيناها في الماء، فطفت على الماء؛ فما ترى فيها؟
فكتب إليه: لسنا من الماء في شيء، إن قامت عليها بينة وإلا فخل سبيلها.
وكان عمر بن عبد العزيز يكتب إلى عبد الحميد بن عبد الرحمن عامله على المدينة في المظالم فيرادّه فيها، فكتب إليه:(5/183)
إنه يخيّل لي أني لو كتبت لك أن تعطي رجلا شاة لكتبت إليّ: أذكر أم أنثى؟
ولو كتبت إليك بأحدهما لكتبت إليّ: أصغيرة أم كبيرة؟ ولو كتبت بأحدهما لكتبت: ضائنة «1» أم معزى؟ فإذا كتبت إليك فنفّذ ولا تردّ عليّ، والسلام.
وخطب عمر فقال:
أيها الناس، لا تستصغروا الذنوب، والتمسوا تمحيص ما سلف منها بالتوبة منها؛ إِنَّ الْحَسَناتِ يُذْهِبْنَ السَّيِّئاتِ، ذلِكَ ذِكْرى لِلذَّاكِرِينَ
»
، وقال عز وجل:
وَالَّذِينَ إِذا فَعَلُوا فاحِشَةً أَوْ ظَلَمُوا أَنْفُسَهُمْ ذَكَرُوا اللَّهَ فَاسْتَغْفَرُوا لِذُنُوبِهِمْ وَمَنْ يَغْفِرُ الذُّنُوبَ إِلَّا اللَّهُ وَلَمْ يُصِرُّوا عَلى ما فَعَلُوا وَهُمْ يَعْلَمُونَ
«3» .
وقال عمر لبني مروان: أدّوا ما في أيديكم من حقوق الناس ولا تلجئوني إلى ما أكره فأحملكم على ما تكرهون! فلم يجبه أحد منهم، فقال: أجيبوني. فقال رجل منهم: والله لا نخرج من أموالنا التي صارت إلينا من آبائنا، فنفقر أبناءنا، ونكفر آباءنا، حتى تزايل رءوسنا فقال عمر: أما والله لولا أن تستعينوا عليّ بمن أطلب هذا الحق له لأضرعت «4» خدودكم عاجلا، ولكنني أخاف الفتنة. ولئن أبقاني الله لأردّنّ إلى كل ذي حق حقه إن شاء الله!.
وكان عمر إذا نظر إلى بعض بني أمية قال: إني أرى رقابا سترد إلى أربابها.
ولما مات عمر بن عبد العزيز قعد مسلمة على قبره فقال: أما والله ما أمنت الرّقّ حتى رأيت هذا القبر.
العتبي قال: لما انصرف عمر بن عبد العزيز من دفن سليمان بن الملك تبعه الأمويون، فلما دخل إلى منزله قال له الحاجب: الأمويون بالباب. قال: وما يريدون؟ قال: ما عوّدتهم الخلفاء قبلك. قال ابنه عبد الملك وهو إذ ذاك ابن أربع(5/184)
عشرة سنة: ائذن لي في إبلاغهم عنك. قال: وما تبلغهم؟ قال: أقول: أبي يقرئكم السلام ويقول لكم إِنِّي أَخافُ إِنْ عَصَيْتُ رَبِّي عَذابَ يَوْمٍ عَظِيمٍ
«1» .
زياد عن مالك قال: قال عبد الملك بن عمر بن عبد العزيز لأبيه: يا أبت، مالك لا تنفذ الأمور؟ فو الله ما أبالي لو أن القدور غلت بي وبك في الحق! قال له عمر:
لا تعجل يا بنيّ؛ فإنّ الله ذمّ الخمر في القرآن مرتين وحرّمها في الثالثة، وأنا أخاف أن أحمل الحق على الناس جملة فيدفعونه جملة ويكون من ذلك فتنة.
ولما نزل بعبد الملك بن عمر بن عبد العزيز الموت قال له عمر: كيف تجدك يا بنيّ؟ قال أجدني في الموت، فاحتسبني، فثواب الله خير لك مني، فقال: يا بني، والله لأن تكون في ميزاني أحبّ إليّ من أن أكون في ميزانك. قال: أما والله لأن يكون ما تحب، أحبّ إليّ من أن يكون ما أحب! ثم مات، فلما فرغ من دفنه وقف على قبره وقال: يرحمك الله يا بنيّ فلقد كنت سارّا مولودا، وبارّا ناشئا، وما أحب أني دعوتك فأجبتني؛ فرحم الله كل عبد، من حر أو عبد، ذكر أو أنثى دعا لك برحمة! فكان الناس يترحمون على عبد الملك ليدخلوا في دعوة عمر؛ ثم انصرف، فدخل الناس يعزونه، فقال: إن الذي نزل بعبد الملك أمر لم نزل نعرفه، فلما وقع لم ننكره! وتوفيت أخت لعمر بن عبد العزيز، فلما فرغ من دفنها دنا إليه رجل فعزاه، فلم يردّ عليه، ثم آخر فلم يردّ عليه؛ فلما رأى الناس ذلك أمسكوا، ومشوا معه فلما دخل الباب أقبل على الناس بوجهه، فقال: أدركت الناس وهم لا يعزّون في المرأة إلا أن تكون أماّ.
وفاة عمر بن عبد العزيز
مرض عمر بن عبد العزيز بأرض حمص، ومات بدير شمعان. فيرى الناس أن يزيد بن عبد الملك سمه. دسّ إلى خادم كان يخدمه، فوضع السم على ظفر إبهامه فلما(5/185)
استسقى عمر غمس إبهامه في الماء ثم سقاه؛ فمرض مرضه الذي مات فيه، فدخل عليه مسلمة بن عبد الملك فوقف عند رأسه فقال: جزاك الله يا أمير المؤمنين عنا خيرا؛ فلقد عطفت علينا قلوبا كانت عنا نافرة، وجعلت لنا في الصالحين ذكرا.
زياد عن مالك قال: دخل مسلمة بن عبد الملك على عمر بن عبد العزيز في المرضة التي مات فيها، فقال له: يا أمير المؤمنين، إنك فطمت أفواه ولدك عن هذا المال، وتركتهم عالة. ولا بدّ لهم من شيء يصلحهم، فلو أوصيت بهم إليّ أو إلى نظرائك من أهل بيتك لكفيتك مئونتهم إن شاء الله. فقال عمر أجلسوني. فأجلسوه، فقال:
الحمد لله، أبالفقر تخوّفني يا مسلمة؟ أما ما ذكرت أني فطمت أفواه ولدي عن هذا المال وتركتهم عالة، فإني لم أمنعهم حقا هو لهم، ولم أعطهم حقا هو لغيرهم؛ وأما ما سألت من الوصاة إليك أو إلى نظرائك من أهل بيتي، فإن وصيتي بهم إلى الله الذي نزّل الكتاب وهو يتولّى الصالحين؛ وإنما بنو عمر أحد رجلين: رجل اتقى الله فجعل الله له من أمره يسرا ورزقه من حيث لا يتحسب، ورجل غيرّ وفجر «1» فلا يكون عمر أول من أعانه على ارتكابه. ادعوا لي بنيّ- فدعوهم، وهم يومئذ اثنا عشر غلاما، فجعل يصعّد بصره فيهم ويصوّبه حتى اغرورقت عيناه بالدمع- ثم قال:
بنفسي فتية تركتهم ولا مال لهم! يا بني، إني قد تركتكم من الله بخير، إنكم لا تمرّون على مسلم ولا معاهد إلا ولكم عليه حق واجب إن شاء الله، يا بنيّ، ميّلت رأيي بين أن تفتقروا في الدنيا وبين أن يدخل أبوكم النار، فكان أن تفتقروا إلى آخر الأبد خيرا من دخول أبيكم يوما واحدا في النار؛ قوموا يا بنيّ عصمكم الله ورزقكم! قال: فما احتاج أحد من أولاد عمر ولا افتقر.
واشترى عمر بن عبد العزيز من صاحب دير شمعان موضع قبره بأربعين درهما ومرض تسعة أيام ومات رضي الله عنه يوم الجمعة لخمس بقين من رجب سنة إحدى(5/186)
ومائة، وصلى عليه يزيد بن عبد الملك.
وقال جرير بن الخطفي يرثي عمر بن عبد العزيز:
ينعى النعاة أمير المؤمنين لنا ... يا خير من حجّ بيت الله واعتمرا
حمّلت أمرا عظيما فاصطبرت له ... وسرت فينا بحكم الله يا عمرا «1»
فالشمس طالعة ليست بكاسفة ... تبكي عليك نجوم الليل والقمرا
أنشد أبو عبيد الأعرابي في عمر بن عبد العزيز:
مقابل الأعراق «2» في الطّيب الطاب ... بين أبي العاص وآل الخطّاب
قال أبو عبيدة: طيّب وطاب، كما يقال: ذيم وذام «3» .
خلافة يزيد بن عبد الملك
ثم ولي يزيد بن عبد الملك بن مروان بن الحكم، وأمه عاتكة بنت يزيد بن معاوية، يوم الجمعة لخمس بقين من رجب سنة إحدى ومائة.
ومات ببلاد البلقاء «4» يوم الجمعة لخمس بقين من شعبان سنة خمس ومائة، وهو ابن أربع وثلاثين سنة، صلى عليه أخوه هشام بن عبد الملك؛ وكانت ولايته أربع سنين وشهرا. وفيه يقول جرير:
سربلت سربال ملك غير مغتصب ... قبل الثلاثين إنّ الملك مؤتشب «5»
وكان على شرطته كعب بن مالك العبسي؛ وعلى الحرس غيلان أبو سعيد مولاه؛ وعلى خاتم الخلافة مطر مولاه، وكان فاسقا؛ وعلى الخاتم الصغير بكير أبو الحجاج؛(5/187)
وعلى الرسائل والجند والخراج صالح بن جبير الهمداني، ثم عزله واستعمل أسامة بن زيد مولى كلب؛ وعلى الخزائن وبيوت الأموال هشام بن مصاد؛ وحاجبه خالد مولاه.
وكان يزيد بن عبد الملك صاحب لهو ولذات، وهو صاحب حبابة وسلّامة «1» ؛ وفي ولايته خرج يزيد بن المهلب.
أسماء ولد يزيد
الوليد، ويحيى، وعبد الله، والغمر، وعبد الجبار، وسليمان، وأبو سفيان، وهاشم، وداود ولا عقب له، والعوّام ولا عقب له «2» .
وكتب يزيد بن عبد الملك إلى عمال عمر بن عبد العزيز:
أما بعد، فإن عمر كان مغرورا، غررتموه أنتم وأصحابكم وقد رأيت كتبكم إليه في انكسار الخراج والضريبة؛ فإذا أتاكم كتابي هذا فدعوا ما كنتم تعرفون من عهده، وأعيدوا الناس إلى طبقتهم الأولى، أخصبوا أم أجدبوا، أحبّوا أم كرهوا، حيوا أم ماتوا! والسلام.
أبو الحسن المدائني قال: لما ولي يزيد بن عبد الملك، وجه الجيوش إلى يزيد بن المهلب، فعقد لمسلمة بن عبد الملك على الجيش وللعباس بن الوليد على أهل دمشق خاصة؛ فقال له العباس: يا أمير المؤمنين، إن العراق قوم إرجاف «3» ، وقد خرجنا إليهم محاربين، والأحداث تحدث؛ فلو عهدت إلى عبد العزيز بن الوليد بن عبد الملك، قال: غدا إن شاء الله.
وبلغ مسلمة الخبر، فأتاه فقال له: يا أمير المؤمنين، أولاد عبد الملك أحب إليك أم أولاد الوليد، قال: ولد عبد الملك، قال: فأخوك أحق بالخلافة أم ابن أخيك؟(5/188)
قال: بل أخي، إذا لم يكن ولدي، أحقّ بها من أبن أخي. قال: يا أمير المؤمنين، فإن ابنك لم يبلغ؛ فبايع لهشام بن عبد الملك ولايتك الوليد من بعده، قال: غدا إن شاء الله. فلما كان من الغد بايع لهشام ولابنه الوليد من بعده. والوليد يومئذ ابن إحدى عشرة سنة، فلما انقضى أمر يزيد بن المهلب وأدرك الوليد ندم يزيد على استخلاف هشام، فكان إذا نظر إلى ابنه الوليد قال: الله بيني وبين من جعل هشاما بيني وبينك! قال: ولمال قتل يزيد بن المهلب، جمع يزيد بن عبد الملك العراق لأخيه مسلمة بن عبد الملك؛ فبعث هلال بن أحوز المازني إلى قندابيل «1» في طلب آل المهلب، فالتقوا، فقتل المفضل بن المهلب وانهزم الناس، وقتل هلال بن أحوز خمسة من ولد المهلب ولم يفتش النساء ولم يعرض لهن، وبعث العيال والأسرى إلى يزيد بن عبد الملك.
قال: حدثني جابر بن مسلم قال: لما دخلوا عليه قام كثيرّ بن أبي جمعة الذي يقال له كثيّر عزة، فقال:
حليم إذا ما نال عاقب مجملا ... أشدّ عقاب أو عفا لم يثرّب «2»
فعفوا أمير المؤمنين وحسبة ... فما تكتسب من صالح لك يكتب
أساءوا فإن تغفر فإنك قادر ... وأعظم حلم حسبة حلم مغضب
نفتهم فريش عن أباطح مكة ... وذو يمن بالمشرفيّ المشطّب «3»
فقال يزيد: لاطت «4» بك الرّحم، لا سبيل إلى ذلك؛ من كان له قبل آل المهلب دم فليقم! فدفعهم إليهم حتى قتل نحو ثمانين.
قال: وبلغ يزيد بن عبد الملك أن هشاما يتنقّصه، فكتب إليه:(5/189)
إن مثلي ومثلك كما قال الأول:
تمنّى رجال أن أموت وإن أمت ... فتلك سبيل لست فيها بأوحد
لعلّ الذي يبغي رداي ويرتجي ... به قبل موتي أن يكون هو الرّدي «1»
فكتب إليه هشام: إن مثلي ومثلك كما قال الأول:
ومن لم يغمّض عينه عن صديقه ... وعن بعض ما فيه يمت وهو عاتب
ومن يتتبّع جاهدا كلّ عثرة ... يجدها، ولا يبقى له الدهر صاحب «2»
فكتب إليه يزيد: نحن مغتفرون ما كان منك، ومكذّبون ما بلغنا عنك، مع حفظ وصية أبينا عبد الملك، وما حضّ عليه من صلاح ذات البين، وإني لأعلم أنك كما قال معن بن أوس:
لعمرك ما أدري وإني لأوجل ... على أيّنا تعدو المنيّة أوّل
وإني على أشياء منك تريبني ... قديما ولا صلح على ذاك يجمل
ستقطع في الدّنيا إذا ما قطعتني ... يمينك فانظر أيّ كف تبدّل
إذا سؤتني يوما صفحت إلى غد ... ليعقب يوما منك آخر مقبل
إذا أنت لم تنصف أخاك وجدته ... على طرف الهجران إن كان يعقل
ويركب حدّ السيف من أن تضيمه ... إذا لم يكن عن شفرة السيف مزحل «3»
وفي الناس إن رثّت حبالك واصل ... وفي الأرض عن دار القلى متحوّل «4»
فلما جاء الكتاب رحل هشام إليه، فلم يزل في جواره إلى أن مات يزيد وهو معه في عسكره مخافة أهل البغي.
محمد بن الغاز قال: حدّثنا أبو سعيد عبد الله بن شيب قال: حدّثني الزبير بن بكار قال: كان يزيد بن عبد الملك كلفا «5» بحبابة كلفا شديدا، فلما توفيت أكبّ عليها(5/190)
يتشمّمها أياما حتى أنتنت، فأخذها في جهازها، وخرج بين يدي نعشها، حتى إذا بلغ القبر نزل فيه فلما فرغ من دفنها لصق به مسلمة أخوه يعزيه ويؤنسه، فقال: قاتل الله ابن أبي جمعة، كأنه كان يرى ما نحن فيه حيث يقول:
فإن تسل عنك النّفس أو تدع الهوى ... فباليأس تسلو عنك لا بالتجلّد
وكلّ خليل زارني فهو قائل ... من اجلك هذا ميّت اليوم أو غد!
قال: وطعن «1» في جنازتها فدفناه إلى سبعة عشر يوما.
خلافة هشام بن عبد الملك بن مروان
ثم بويع هشام بن عبد الملك بن مروان، ويكنى أبا الوليد: وأمّه أم هشام بنت إسماعيل بن هشام المخزومي، يوم الجمعة لخمس ليال بقين من شعبان سنة خمس ومائة.
ومات بالرصافة يوم الأربعاء لثلاث خلون من ربيع الأول سنة خمس وعشرين ومائة، وهو ابن ثلاث وخمسين سنة، وصلى عليه الوليد بن يزيد، وكانت خلافته عشرين سنة.
أسماء ولد هشام بن عبد الملك
معاوية، وخلف، ومسلمة، ومحمد، وسليمان، وسعيد، وعبد الله، ويزيد، وهو الأبكم؛ ومروان، وإبراهيم، ويحيي، ومنذر، وعبد الملك، والوليد، وقريش، وعبد الرحمن.
وكان على شرطته: كعب بن عامر العبسي، وعلى الرسائل: سالم مولاه، وعلى خاتم الخلافة: الربيع: مولى لبني الحربش، وهو الربيع بن سابور؛ وعلى الخاتم الصغير: أبو الزبير مولاه، وعلى ديوان الخراج والجند: أسامة بن زيد، ثم عزله وولّى الحثحاث؛ وعلى إذنه غالب بن مسعود مولاه.(5/191)
أخبار هشام بن عبد الملك
أبو الحسن المدائني قال: كان عبد الملك بن مروان رأى في منامه أن عائشة بنت هشام بن إسماعيل بن هشام بن الوليد بن المغيرة المخزومي فقلت «1» رأسه فقطعته عشرين قطعة، فغمّه ذلك، فأرسل إلى سعيد بن المسيب فقصها عليه، فقال سعيد:
تلد غلاما يملك عشرين سنة.
وكانت عائشة أمّ هشام حمقاء، فطلقها عبد الملك لحمقها، وولدت هشاما وهي طالق، ولم يكن في ولد عبد الملك أكمل من هشام.
قال خالد بن صفوان: دخلت على هشام بن عبد الملك بعد أن سخط «2» على خالد ابن عبد الله القسري وسلط عليه يوسف بن عمر عامله على العراق، فلما دخلت عليه استدناني «3» حتى كنت أقرب الناس إليه فتنفس الصعداء، ثم قال: يا خالد، رب خالد قعد مقعدك هذا أشهى إليّ حديثا منك! فعلمت أنه يريد خالد بن عبد الله القسري، قلت: يا أمير المؤمنين، أفلا تعيده؟ قال: هيهات، إنّ خالدا أدلّ فأملّ، وأوجف «4» فأعجف «5» ، ولم يدع لمراجع مرجعا؛ على أنه ما سألني حاجة قط! فقلت: يا أمير المؤمنين، فلو أدنيته فتفضلت عليه! قال: هيهات، وأنشد:
إذا انصرفت نفسي عن الشيء لم تكن ... عليه بوجه آخر الدّهر تقبل
قال أصبغ بن الفرج: لم يكن في بني مروان من ملوكها أعطر ولا ألبس من هشام؛ خرج حاجّا فحمل ثياب طهره على ستمائة جمل.
ودخل المدينة، فقال لرجل: انظر من في المسجد. فقال: رجل طويل آدم أدلم «6» . قال: هذا سالم بن عبد الله، ادعه. فأتاه فقال: أجب أمير المؤمنين، وإن(5/192)
شئت أرسل فتؤتى بثيابك. فقال: ويحك! أتيت الله زائرا في رداء وقميص ولا أدخل بهما على هشام! فدخل عليه، فوصله بعشرة آلاف، ثم قدم مكة فقضى حجه، فلما رجع إلى المدينة قيل له: إن سالما شديد الوجع. فدخل عليه وسأله عن حاله.
ومات سالم فصلى عليه هشام وقال: ما أدري بأي الأمرين أنا أسرّ: بحجتي أم بصلاتي على سالم.
قال: ووقف هشام يوما قريبا من حائط فيه زيتون له، فسمع نفض الزيتون، فقال لرجل: انطلق إليهم فقل لهم: التقطوه ولا تنفضوه، فتفقئوا عيونه، وتكسروا غصونه.
وخرج هشام هاربا من الطاعون، فانتهى إلى دير فيه راهب، فأدخله الراهب بستانه، فجعل ينتقي له أطايب الفاكهة والبالغ منها، فقال هشام: يا راهب، هبني بستانك هذا! فلم يجبه، فقال: مالك لا تتكلم؟ فقال: وددت أنّ الناس كلّهم ماتوا غيرك! قال: ولم؟ قال: لعلك أن تشبع! فالتفت هشام إلى الأبرش فقال: أتسمع ما يقول؟ قال الأبرش: بلى، والله ما لقيك حرّ غيره.
العتبي قال: إني لقاعد عند قاضي هشام بن عبد الملك إذ أقبل إبراهيم بن محمد بن طلحة، وصاحب حرس هشام، حتى قعدا بين يديه، فقال الحرسيّ «1» : إن أمير المؤمنين جرّاني «2» في خصومة بينه وبين إبراهيم. قال القاضي: شاهديك على الجراية «3» . فقال: أتراني قلت على أمير المؤمنين ما لم يقل وليس بيني وبينه إلا هذه السترة؟ قال: لا، ولكنه لا يثبت الحق لك ولا عليك إلا ببينة. قال: فقام، فلم يلبث حتى قعقعت الأبواب وخرج الحرسي فقال: هذا أمير المؤمنين. قال: فقام القاضي فأشار إليه فقعد، وبسط له مصلى فقعد عليه هو وإبراهيم؛ وكنا حيث نسمع بعض كلامهما ويخفى علينا البعض، قال: فتكلما وأحضرت البينة، فقضى القاضي على(5/193)
هشام، فتكلم إبراهيم بكلمة فيها بعض الخرق، فقال: الحمد لله الذي أبان للناس ظلمك! فقال هشام: لقد هممت أن أضربك ضربة ينثر منها لحمك عن عظمك! قال: أما والله لئن فعلت لتفعلنّه بشيخ كبير السنّ، قريب القرابة، واجب الحق. قال له: استرها عليّ يا إبراهيم! قال: لا ستر الله عليّ ذنبي إذا يوم القيامة. قال: إني معطيك عليها مائة ألف ... قال إبراهيم: فسترتها عليه طول حياته ثمنا لما أخذت منه، وأذعتها عنه بعد موته تزيينا له.
وذكروا عن الهيثم بن عدي قال: كان سعيد بن هشام بن عبد الملك عاملا لأبيه على حمص، وكان يرمى بالنساء والشراب، فقدم حمصيّ لهشام، فلقيه أبو جعد الطائي في طريق، فقال له: هل ترى أن أعطيك هذه الفرس- فإني لا أعلم بمكان مثلها- على أن تبلغ هذا الكتاب أمير المؤمنين، ليس فيه حاجة بمسألة دينار ولا درهم؟ فأخذها وأخذ الكتاب، فلما قدم على هشام سأله: ما قصة هذا الفرس؟
فأخبره؛ فقال: هات الكتاب، فإذا فيه:
أبلغ إليك أمير المؤمنين فقد ... أمددتنا بأمير ليس عنّينا»
طورا يخالف عمرا في حليلته ... وعند ساحته يسقي الطّلا دينا «2»
فلما قرأ الكتاب بعث إلى سعيد فأشخصه؛ فلما قدم عليه علاه بالخيزرانة وقال: يا بن الخبيثة، تزني وأنت ابن أمير المؤمنين! ويلك! أعجزت أن تفجر فجور قريش؟
أو تدري ما فجور قريش لا أم لك؟ قتل هذا، وأخذ مال هذا؛ والله لا تلي لي عملا حتى تموت! قال: قال: فما ولي له عملا حتى مات.
أحمد بن عبيد قال: أخبرني هشام الكلبي عن أبي محمد بن سفيان القرشيّ عن أبيه قال: كنا عند هشام بن عبد الملك وقد وفد عليه وفد أهل الحجاز، وكان شباب الكتاب إذا قدم الوفد حضروا لاستماع بلاغة خطبائهم، فحضرت كلامهم، حتى قام(5/194)
محمد بن أبي الجهم بن حذيفة العدويّ، وكان أعظم القوم قدرا، وأكبرهم سنا؛ فقال:
أصلح الله أمير المؤمنين، إن خطباء قريش قد قالت فيك ما قالت؛ وأكثرت وأطنبت؛ والله ما بلغ قائلهم قدرك، ولا أحصى خطيبهم فضلك، وإن أذنت في القول قلت. قال: قل وأوجز. قال: تولاك الله يا أمير المؤمنين بالحسنى؛ وزيّنك بالتقوى؛ وجمع لك خير الآخرة والأولى؛ إن لي حوائج، أفأذكرها؟. قال: هاتها.
قال: كبرت سنّي، ونال الدهر مني؛ فإن رأى أمير المؤمنين أن يجبر كسري، وينفي فقري، فعل. قال: وما الذي ينفي فقرك ويجبر كسرك؟ قال: ألف دينار، وألف دينار، وألف دينار. قال: فأطرق هشام طويلا ثم قال: يا بن أبي الجهم، بيت المال لا يحتمل ما ذكرت. ثم قال له: هيه! قال: ما هيه؟ أما والله إن الأمر لواحد، ولكنّ الله آثرك لمجلسك؛ فإن تعطنا فحقّنا أديت، وإن تمنعنا نسأل الله الذي بيده ما حويت؛ يا أمير المؤمنين، إن الله جعل العطاء محبة والمنع مبغضة. والله لأن أحبّك أحبّ إليّ من أن أبغضك؛ قال: فألف دينار لماذا؟ قال: أقضي بها دينا قد حمّ قضاؤه! «1» وعناني حمله، وأضرّ بي أهله. قال: فلا بأس، تنفس كربة، وتؤدي أمانة. وألف دينار لماذا؟ قال: أزوّج بها من بلغ من ولدي. قال: نعم المسلك سلكت، أغضضت بصرا، وأعففت ذكرا، وأمّرت «2» نسلا. وألف دينار لماذا؟
قال: أشتري بها أرضا يعيش بها ولدي، وأستعين بفضلها على نوائب «3» دهري، وتكون ذخرا لمن بعدي. قال: فإنا قد أمرنا لك بما سألت. قال: فالمحمود الله على ذلك، وخرج.
فأتبعه هشام بصره، وقال: إذا كان القرشي فليكن مثل هذا، ما رأيت رجلا أوجز في مقال ولا أبلغ في بيان منه، ثم قال: أما والله إنا لنعرف الحق إذا نزل،(5/195)
ونكره الإسراف والبخل، وما نعطي تبذيرا، ولا نمنع تقتيرا، وما نحن إلا خزّان الله في بلاده، وأمناؤه على عباده، فإذا أذن أعطينا، وإذا منع أبينا، ولو كان كل قائل يصدق، وكل سائل يستحق، ما جبهنا «1» قائلا، ولا رددنا سائلا؛ ونسأل الذي بيده ما استحفظنا أن يجريه على أيدينا، فإنه يبسط الرزق لمن يشاء ويقدر، إنه بعباده خبير بصير.
فقالوا يا أمير المؤمنين، لقد تكلمت فأبلغت، وما بلغ كلامه ما قصصت.
قال: إنه مبتديء، وليس المبتديء كالمقتدي.
وذكروا أن العباس بن الوليد وجماعة من بني مروان اجتمعوا عند هشام، فذكروا الوليد بن يزيد وعابوه وذموه، وكان هشام يبغضه، ودخل الوليد، فقال له العباس:
يا وليد، كيف حبّك للروميات، فإن أباك كان مشغوفا بهن؟ قال: كيف لا يكون وهن يلدن مثلك! قال: ألا تسكت يا ابن البظراء؟ قال: حسبك أيها المفتخر علينا بختان أمّك! وقال له هشام: ما شرابك يا وليد؟ قال: شرابك يا أمير المؤمنين ... وقام يخرج، فقال لهم هشام: هذا الذي زعمتموه أحمق.
وقرّب الوليد بن يزيد فرسه فجمع جراميزه «2» ووثب على سرجه، ثم التفت إلى ولد هشام، وقال له: هل يقدر أبوك أن يصنع مثل هذا؟ قال: لأبي مائة عبد يصنعون مثل هذا. فقال الناس: لم ينصفه في الجواب.
العتبي عن أبيه، قال: سمعت معاوية بن عمرو بن عتبة يحدث قال: إني لقاعد بباب هشام بن عبد الملك، وكان الناس يتقرّبون إليه بعيب الوليد بن يزيد، قال فسمعت قوما يعيبونه، فقلت: دعونا من عيب من يلزمنا مدحه، ووضع من يجب علينا رفعه. وكانت للوليد بن يزيد عيون لا يبرحون بباب هشام، فنقلوا إليه(5/196)
كلامي وكلام القوم، فلم ألبث إلا يسيرا حتى راح إليّ مولى للوليد قد التحف على ألف دينار، فقال لي: يقول لك مولاي: أنفق هذه في يومك وغدا أمامك قال:
فملئت رعبا من هشام وخشيت سطوته، ورماه الله بالعلّة، فدفنّاه لثمانية عشر يوما بعد ذلك اليوم.
فلما قام الوليد بعده دخلت عليه، فقال لي: يا ابن عتبة، أتراني ناسيا قعودك بباب الأحول «1» ، يهدمني وتبنيني، ويضعني وترفعني؟ فقلت: يا أمير المؤمنين، شاركت قومك في الإحسان، وتفردت دونهم بإحسانك إلى، فلست أحمد لك نفسي في اجتهاد، ولا أعذرها في تقصير، وتشهد بذلك ألسنة الجائزين بنا، ويصدق قولهم الفعال منا. قال: كذلك أنتم لنا آل أبي سفيان، وقد أقطعتك مالي بالبثنيّة «2» وما أعلم لقرشي مثله.
وقال عبد الله بن عبد الحكم فقيه مصر: سمعت الأشياخ يقولون: سنة خمس وعشرين ومائة، أديل من الشرف، وذهبت المروءة. وذلك عند موت هشام بن عبد الملك.
قال أبو الحسن المدائني: مات هشام بن عبد الملك بالذّبحة يوم الأربعاء بالرصافة في ربيع الآخر لست خلون منه سنة خمس وعشرين ومائة، وصلى عليه سلمة بن هشام أو بعض ولده، واشترى له كفر «3» من السوق.
خلافة الوليد بن يزيد بن عبد الملك
بويع للوليد بن يزيد بن عبد الملك يوم الأربعاء لستّ خلون من ربيع الآخرة سنة خمس وعشرين ومائة؛ وأمه أم الحجاج بنت محمد بن يوسف، أخي الحجاج بن يوسف.(5/197)
وقتل بالبخراء من تدمر على ثلاثة أميال، يوم الخميس لليلتين بقيتا من جمادي الآخرة سنة ست وعشرين ومائة، وهو ابن خميس وثلاثين أو ست وثلاثين. قال حاتم بن مسلم: ابن خمس وأربعين وأشهر.
وكانت ولايته سنة وشهرين واثنين وعشرين يوما.
فأول شيء نظر فيه الوليد أن كتب إلى العباس بن الوليد بن عبد الملك أن يأتي الرصافة يحصي ما فيها من أموال هشام وولده، ويأخذ عماله وحشمه «1» ، إلا مسلمة ابن هشام، فإنه كتب إليه أن لا يعرض له ولا يدخل منزله؛ وكان مسلمة كثيرا ما يكلم أباه في الرفق بالوليد. ففعل العباس ما أمره به.
وكتب الوليد بن يزيد إلى يوسف بن عمر، فقدم عليه من العراق، فدفع إليه خالد بن عبد الله القسري، محمدا وإبراهيم ابني هشام بن إسماعيل المخزومي، وأمر بقتلهم. فحدّث أبو بشر بن السري قال: رأيتهم حين قدم بهم يوسف بن عمر الحيرة، وخالد في عباءة في شق مخمل، فعذبهم حتى قتلهم.
ثم عكف الوليد على البطالة وحب القيان والملاهي والشراب ومعاشقة النساء، فتعشّق سعدى بنت سعيد بن عمرو بن عثمان بن عفان فتزوجها؛ ثم تعشق أختها سلمى فطلق أختها سعدى وتزوج سلمى، فرجعت سعدى إلى المدينة فتزوجت بشر ابن الوليد بن عبد الملك، ثم ندم الوليد على فراقها وكلف بحبها، فدخل عليه أشعب المضحك، فقال له الوليد: هل لك أن تبلغ سعدى عني رسالة ولك عشرون ألف درهم؟ قال: هاتها. فدفعها إليه، فقبضها وقال: ما رسالتك؟ قال: إذا قدمت المدينة فاستأذن عليها وقل لها: يقول لك الوليد:
أسعدى ما إليك لنا سبيل ... ولا حتى القيامة من تلاق
بلى ولعلّ دهرا أن يؤاتي ... بموت من حليلك أو فراق(5/198)
فأتاها أشعب فاستأذن عليها، وكان نساء المدينة لا يحتجبن عنه؛ فقالت له: ما بدا لك في زيارتنا يا أشعب؟ قال: يا سيدتي، أرسلني إليك الوليد برسالة. قالت: هاتها.
فأنشدها البيتين، فقالت لجواريها: خذن هذا الخبيث ... وقالت: ما جرّأك على مثل هذه الرسالة؟ قال: إنها بعشرين ألفا معجلة مقبوضة! قالت والله لأجلدنك أو لتبلغنّه عني كما أبلغتني عنه. قال: فاجعلي لي جعلا «1» . قالت: بساطي هذا. قال:
فقومي عنه. فقامت عنه، وطوى البساط وضمه، ثم قال: هاتي رسالتك. فقالت له: قل له:
أتبكي على سعدى وأنت تركتها ... فقد ذهبت سعدى، فما أنت صانع
فلما بلّغه الرسالة كظم الغيظ على أشعب، وقال: اختر إحدى ثلاث خصال، ولا بد لك من إحداها: إما أن أقتلك، وإما أن أطرحك للسباع فتأكلك، وإما أن ألقيك من هذا القصر! فقال أشعب، يا سيدي، ما كنت لتعذب عينين نظرتا إلى سعدى! فضحك وخلى سبيله.
وأقامت عنده سلمى حتى قتل عنها، وهو القائل في سلمى:
شاع شعري في سليمى وظهر ... ورواه كلّ بدو وحضر
وتهادته الغواني بينها ... وتغنّين به حتى انتشر
لو رأينا من سليمى أثرا ... لسجدنا ألف ألف للأثر
واتخذناها إماما مرتضى ... ولكانت حجّنا والمعتمر
إنما بنت سعيد قمر ... هل حرجنا أن سجدنا للقمر
وفيها يقول قبل تزوجه لها:
حدّثوا أنّ سليمى ... خرجت يوم المصلّى
فإذا طير مليح ... فوق غصن يتفلّى «2»(5/199)
قلت يا طير ادن منّي ... فدنا ثم تدلي
قلت هل تعرف سلمى ... قال لا ثمّ تولى
فنكا في القلب كلما ... باطنا ثمّ تخلى «1»
وقال في سلمى قبل تزوجه لها:
لعلّ الله يجمعني بسلمى ... أليس الله يفعل ما يشاء
ويأتي بي ويطرحني عليها ... فيوقظني وقد قضي القضاء
ويرسل ديمة من بعد هذا ... فتغسلنا وليس بنا عناء «2»
وقال فيها بعد تزوجه لها:
أنا في يمنى يديها ... وهي في يسرى يديّه
إنّ هذا لقضاء ... غير عدل يا أخيّه
ليت من لام محبّا ... في الهوى لاقى منيّه
فاستراح الناس منه ... ميتة غير سويّه
قال: ولهج الوليد بالنساء والشراب والصيد، فأرسل إلى المدينة فحملوا له المغنين، فلما قرّبوا إليه أمر أن يدخلوا العسكر ليلا، وكره أن يراهم الناس، فأقاموا حتى أمسوا غير محمد بن عائشة فإنه دخل نهارا، فأمر الوليد بحبسه، فلم يزل محبوسا حتى شرب الوليد يوما فطرب فكلمه معبد، فأمر الوليد بإخراجه، ودعاه فغناه فقال:
أنت ابن مسلنطح البطاح ولم ... تعطف عليك الحنيّ والولج «3»
فرضي عنه؛ وكان سعيد الأحوص ومعبد، قدما على الوليد ونزلا في الطريق على غدير وجارية تستقي، فزاغت، فانكسرت الجرّة، فجلست تغني:
يا بيت عاتكة الذي أتغزّل ... حذر العدا وبه الفؤاد موكل(5/200)
فقال: يا جارية، لمن أنت؟ فقالت: كنت لآل الوليد بن عقبة بالمدينة، فاشتراني مولاي، وهو من بني عامر بن صعصعة أحد بني الوحيد من بني كلاب، وعنده بنت عم له، فوهبني لها، فأمرتني أن أستقي لها. فقال لها: فلمن الشعر؟ قالت: سمعت بالمدينة أن الشعر للأحوص والغناء لمعبد. فقال معبد للأحوص: قل شيئا أغني عليه.
فقال:
إنّ زين الغدير من كسر الجرّ ... وغنّى غناء فحل مجيد
قلت: من أنت يا مليحة؟ قالت: ... كنت فيما مضى لآل الوليد
ثم قد صرت بعد عزّ قريش ... في بني عامر لآل الوحيد
وغنائي لمعبد ونشيدي ... لفتى الناس الأحوص الصّنديد «1»
فتضاحكتّ ثم قلت أنا الأحوص ... والشيخ معبد فأعيدي
فأعادت وأحسنت ثم ولت ... تتهادى فقلت أمّ سعيد
يقصر المال عن شراك ولكن ... أنت في ذمّة الإمام الوليد
وأم سعيد كانت للأحوص بالمدينة.
فغنى معبد على الشعر، فقال: ما هذا؟ فأخبراه، فاشتراها الوليد.
قال أبو الحسن: وقال ابن أبي الزناد: إني كنت عند هشام وعنده الزهري، فذكرا الوليد فتنقّصاه وعاباه عيبا شديدا، ولم أعرض لشيء مما كان فيه، فاستأذن فأذن له، فدخل وأنا أعرف الغضب في وجهه، فجلس قليلا ثم قام؛ فلما مات هشام كتب فيّ، فحملت إليه، فرحب بي وقال: كيف حالك يا بن ذكوان؟ وألطف المسألة، ثم قال:
أتذكر هشاما الأحول وعنده الفاسق الزهري وهما يعيباني؟ فقلت: أذكر ذلك، ولم أعرض لشيء مما كانا فيه. قال: صدقت، أرأيت الغلام الذي كان على رأس هشام قائما؟ قلت: نعم. قال: فإنه نمّ إليّ بما قالاه، وايم الله لو بقي الفاسق الزهري لقتلته.
قلت: قد عرفت الغضب في وجهك حين دخلت. قال: يا بن ذكوان، ذهب الأحول!(5/201)
قلت: يطيل الله عمرك، ويمتع الأمة ببقائك. ودعا بالعشاء فتعشينا، وجاءت المغرب فصلينا، وجلس فقال: اسقني. فجاءوا بإناء مغطى، وجيء بثلاث جوار، فصففن بيني وبينه حتى شرب، وذهبن فتحدثنا، واستسقى «1» ، فصنعوا مثل ذلك، فما زال كذلك: يستسقي ويتحدث ويصنعون مثل ذلك، حتى طلع الفجر؛ فأحصيت له سبعين قدحا.
علي بن عياش قال: إني عند الوليد بن يزيد في خلافته إذ أتي بشراعة من الكوفة؛ فو الله ما سأله عن نفسه ولا عن مسيره حتى قال له: يا شراعة. أنا والله ما بعثت إليك لأسألك عن كتاب الله وسنة رسوله. قال: والله لو سألتني عنهما لوجدتني فيهما حمارا. قال: إنما أرسلت إليك لأسألك عن القهوة! قال: دهقانها «2» الخبير، ولقمانها الحكيم، وطبيبها العليم! قال: فأخبرني عن الشراب. قال: يسأل أمير المؤمنين عما بدا له. قال: ما تقول في الماء؟ قال: لا بد لي منه، والحمار شريكي فيه! قال: ما تقول في اللبن؟ قال: ما رأيته قط إلا استحييت من أمي لطول ما أرضعتني به! قال: ما تقول في السويق «3» ؟ قال: شراب الحزين والمستعجل والمريض. قال: فنبيذ التمر؟
قال: سريع الملء، سريع الانفشاش. قال: فنبيذ الزبيب؟ قال: تلهّوا به عن الشراب. قال: ما تقول في الخمر؟ قال: أوّه! تلك صديقة روحي. قال: وأنت والله صديق روحي، فأي المجالس أحب؟ قال: ما شرب الكأس قط على وجه أحسن من السماء.
قال أبو الحسن: كان أبو كامل مضحكا غزلا مغنيا، فغنى الوليد يوما فطرب فأعطاه قلنسوة بردا «4» كانت عليه؛ فكان أبو كامل لا يلبسها إلا في عيد، ويقول:
كسانيها أمير المؤمنين، فأنا أصونها؛ وقد أمرت أهلي إذا متّ أن توضع في أكفاني، وله يقول الوليد:(5/202)
من مبلغ عني أبا كامل ... أني إذا ما غاب كالهابل
وزادني شوقا إلى قربة ... ما قد مضى من دهرنا الحائل
إني إذا عاطيته مزّة ... ظلت بيوم الفرح الجاذل «1»
قال: وجلس الوليد يوما وجارية تغنيه؛ فأنشدت الوليد:
قينة في يمينها إبريق
فأنشده حماد الراوية:
ثم نادى ألا اصبحوني فقامت ... قينة في يمينها إبريق
فدّمته على عقار كعين الدّيك ... صفّى سلافه الرّاووق «2»
مزّة قبل مزجها، فإذا ما ... مزجت لذّ طعمها من يذوق
وكتب الوليد إلى المدينة فحمل إليه أشعب، فألبسه سراويل جلد قرد له ذنب؛ وقال له: ارقص وغنّ صوتا يعجبني؛ فإن فعلت أعطيتك ألف درهم. فرقص وغنى فأعجبه؛ فأعطاه ألف درهم:
وأنشد الوليد هذا:
علّلاني واسقياني ... من شراب أصفهاني
من شراب الشيخ كسرى ... أو شراب الهرمزان «3»
إنّ بالكأس لمسكا ... أو بكفّي من سقاني
إنما الكأس ربيع ... يتعاطى بالبنان «4»
وقال أيضا:
وصفراء في الكأس كالزعفران ... سباها الدّهاقين من عسقلان(5/203)
لها حبب كلما صفّقت ... تراها كلمعة برق يماني
وقال أيضا:
ليت حظّي اليوم من كلّ معاش لي وزاد
قهوة أبذل فيها ... طارفي بعد تلادي «1»
فيظلّ القلب منها ... هائما في كلّ وادي
إنّ في ذاك فلاحي ... وصلاحي ورشادي! «2»
وقال:
امدح الكأس ومن أعملها ... واهج قوما قتلونا بالعطش
إنما الكأس ربيع باكر ... فإذا ما لم نذقها لم نعش
وبلغ الوليد أن الناس يعيبونه ويتنقّصونه بالشراب وطلب اللذات؛ فقال في ذلك:
ولقد قضيت ولم يجلّل لمتي ... شيب على رغم العدا لذّاتي «3»
من كاعبات كالدّمى ومناصف ... ومراكب للصيد والنّشوات «4»
في فتية تأبى الهوان وجوههم ... شمّ الأنوف جحاجح سادات «5»
إن يطلبوا بتراتهم يعطوا بها ... أو يطلبوا لا يدركوا بترات
وقال معاوية بن عمرو بن عتبة للوليد بن يزيد حين تغير له الناس وطعنوا «6» عليه: يا أمير المؤمنين، إنه ينطقني الأنس بك، وتسكتني إليك الهيبة لك، وأراك تأمن أشياء أخافها عليك؛ أفأسكت مطيعا أم أقول مشفقا؟ قال كلّ مقبول منك ولله فينا علم غيب نحن صائرون إليه. فقتل بعد ذلك، بأيام.(5/204)
وقال إذ كثر القول فيه:
خذوا ملككم لا ثبّت الله ملككم ... ثباتا يساوي ما حييت عقالا «1»
دعوا لي سليمى مع طلاء وقينة ... وكأس، ألا حسبي بذلك مالا»
أبا لملك أرجو أن أخلّد فيكم ... ألا ربّ ملك قد أزيل فزالا
ألا ربّ دار قد تحمّل أهلها ... فأضحت قفارا والقفار حلالا «3»
قال إسحاق بن محمد الأزرق: دخلت على منصور بن جمهور الكلبي بعد قتل الوليد بن يزيد، وعنده جاريتان من جواري الوليد، فقال لي: اسمع من هاتين الجاريتين ما يقولان: قالتا: قد حدّثناك. قال: بل حدّثاه كما حدثتماني. قالت إحداهما: كنا أعزّ جواريه عنده، فنكح هذه وجاء المؤذنون يؤذنونه بالصلاة، فأخرجها وهي سكرى جنبة متلثّمة، فصلّت بالناس.
مقتل الوليد بن يزيد
إسماعيل بن إبراهيم قال: حدّثني عبد الله بن واقد الجرمي وكان شهد قتل الوليد، قال: لما أجمعوا على قتله، قلدوا أمرهم يزيد بن الوليد بن عبد الملك، فخرج يزيد بن الوليد بن عبد الملك، فأتى أخاه العباس ليلا فشاوره في قتل الوليد، فنهاه عن ذلك، فأقبل يزيد ليلا حتى دخل دمشق في أربعين رجلا، فكسروا باب المقصورة، ودخلوا على واليها فأوثقوه، وحمل يزيد الأموال على العجل إلى باب المضمار، وعقد لعبد العزيز بن الحجاج، ونادى مناديه: من انتدب إلى الوليد فله ألفان، فانتدب معه ألفا رجل وضمّ مع عبد العزيز بن الحجاج يعقوب بن عبد الرحمن، ومنصور بن جمهور، وبلغ الوليد بن يزيد ذلك فتوجه من البلقاء إلى حمص، وكتب إلى العباس بن الوليد أن يأتيه في جند من أهل حمص، وهو منها قريب؛ وخرج الوليد حتى انتهى إلى قصر في برية ورمل من تدمر على أميال، وصبّحت الخيل الوليد بالبخراء؛ وقدم(5/205)
العباس بن الوليد بغير خيل، فحبسه عبد العزيز بن الحجاج خلفه، ونادى منادي عبد العزيز: من أتى العباس بن الوليد فهو آمن وهو بيننا وبينكم، وظن الناس أن العباس مع عبد العزيز، فتفرقوا عن الوليد، وهجم عليه الناس. فكان أول من هجم عليه السرى بن زياد بن أبي كبشة السكسكي، وعبد السلام اللخمي؛ فأهوى إليه السري بالسيف، وضربه عبد السلام على قرنه «1» ، فقتل.
قال إسماعيل: وحدثني عبد الله بن واقد قال: حدثني يزيد بن أبي فروة مولى بني أمية قال: لما أتي يزيد برأس الوليد بن يزيد، قال لي: انصبه للناس. قلت، لا أفعل:
إنما ينصب رأس الخارج. فحلف لينصبن ولا ينصبه غيري؛ فوضع على رمح ونصب على درج مسجد دمشق؛ ثم قال: اذهب فطف به في مدينة دمشق.
خليفة بن خياط قال: حدثني الوليد بن هشام عن أبيه قال: لما أحاطوا بالوليد أخذ المصحف وقال: أقتل كما قتل ابن عمي عثمان.
أبو الحسن المدائني قال: كان الوليد صاحب لهو وصيد وشراب ولذات، فلما ولي الأمر جعل يكره المواضع التي يراه الناس فيها؛ فلم يدخل مدينة من مدائن الشام حتى قتل، ولم يزل ينتقل ويتصيد حتى ثقل على الناس وعلى جنده، واشتد على بني هشام وأضرّ بهم، وضرب سليمان بن هشام مائة سوط وحلق رأسه ولحيته وغرّبه إلى عمان، فلم يزل محبوسا حتى قتل الوليد؛ وحبس يزيد بن هشام وهو الأفقم؛ فرماه بنو هشام وبنو الوليد، وكان أشدّهم قولا فيه يزيد بن الوليد وكان الناس إلى قوله أميل؛ لأنه كان يظهر النسك.
ولما دفع الوليد خالد بن عبد الله القسري إلى يوسف بن عمر فقتله، غضب له اليمانية وغيرهم؛ فأتت يزيد بن الوليد بن عبد الملك، فأرادوه على البيعة وخلع الوليد، فامتنع عليهم وخاف أن لا تبايعه الناس؛ ثم لم يزل الناس به حتى بايعوه سرا.(5/206)
ولما قتل الوليد بن يزيد قام يزيد بن الوليد خطيبا، فحمد الله وأثنى عليه، ثم قال: أيها الناس، إني والله ما خرجت أشرا ولا بطرا «1» ، ولا حرصا على الدنيا ولا رغبة في الملك؛ وما بي إطراء نفسي، ولا تزكية عملي، وإني لظلوم لنفسي إن لم يرحمني ربي؛ ولكني خرجت غضبا لله ودينه، وداعيا إلى كتاب الله وسنة نبيه، حين درست «2» معالم الهدى، وطفيء نور أهل التقوى؛ وظهر الجبان العنيد، المستحل للحرمة، والراكب للبدعة، والمغيّر للسنة؛ فلما رأيت ذلك أشفقت إن غشيتكم ظلمة لا تقلع عنكم، على كثرة من ذنوبكم، وقسوة من قلوبكم؛ وأشفقت أن يدعو كثيرا من الناس إلى ما هو عليه، فيجيبه من أجابه منكم؛ فاستخرت الله في أمري، وسألته أن لا يكلني إلى نفسي، ودعوت إلى ذلك من أجابني من أهلي وأهل ولايتي- وهو ابن عمي في نسبي، وكفئي في حسبي- فأراح الله منه العباد، وطّهر منه البلاد، ولاية من الله وعونا، بلا حول [منا] ولا قوة، ولكن بحول الله وقوته وولايته وعونه.
أيها الناس، إن لكم عليّ إن وليت أموركم، أن لا أضع لبنة على لبنة «3» ، ولا حجرا على حجر، ولا أنقل مالا من بلد إلى بلد حتى أسدّ ثغره، وأقسم بين أهله ما يقوون به؛ فإن فضل رددته إلى أهل البلد الذي يليه ومن هو أحوج إليه؛ حتى تستقيم المعيشة بين المسلمين وتكونوا فيه سواء؛ ولا أجمّركم «4» في بعوثكم فتفتنوا ويفتن أهاليكم؛ فإن أردتم بيعتي على الذي بذلت لكم فأنا لكم به، وإن ملت فلا بيعة لي عليكم، وإن رأيتم أحدا هو أقوى عليها مني فأردتم بيعته فأنا أول من بايع ودخل في طاعته؛ أقول قولي هذا وأستغفر الله لي ولكم.
وقال خلف بن خليفة في قتل الوليد بن يزيد: لقتل خالد بن عبد الله:(5/207)
لقد سكّنت كلب وأسياف مذحج ... صدى كان يزقو ليله غير راقد «1»
تركنا أمير المؤمنين بخالد ... مكبّا على خيشومه غير ساجد «2»
فإن تقطعوا منا مناط قلادة ... قطعنا بها منكم مناط قلائد
وإن تشغلونا عن أذان فإنّنا ... شغلنا الوليد عن غناء الولائد
ولاية يزيد الناقص
ثم بويع يزيد بن الوليد بن عبد الملك في أول رجب سنة ست وعشرين ومائة؛ وأمه ابنة يزدجرد بن كسرى، سباها قتيبة بن مسلم بخراسان وبعث بها إلى الحجاج بن يوسف، فبعث بها الحجاج إلى الوليد بن عبد الملك، فاتخذها، فولدت له يزيد الناقص ولم تلد غيره.
ومات يزيد بن الوليد بدمشق لعشر بقين من ذي الحجة سنة ست وعشرين ومائة، وهو ابن خمس وثلاثين سنة، وصلى عليه أخوه إبراهيم بن الوليد بن عبد الملك.
قال عبد العزيز: بويع وهو ابن تسع وثلاثين سنة، ومات ولم يبلغ الأربعين.
وعلى شرطته بكير بن الشماخ اللّخمي، وكاتب الرسائل أبن سليمان بن سعد؛ وعلى الخراج والجند والخاتم الصغير والحرس النصر بن عمرو من أهل اليمن، وعلى خاتم الخلافة عبد الرحمن بن حميد الكلبي، ويقال: قطن مولاه.
وكتب يزيد بن الوليد إلى مروان بن محمد بالجزيرة وبلغه عنه تلكّؤ «3» في بيعته.
أما بعد: فإني أراك تقدم رجلا وتؤخر أخرى، فإذا أتاك كتابي هذا فاعتمد على أيهما شئت، والسلام.(5/208)
ثم قطع إليه البعوث «1» وأمر لهم بالعطاء: فلم ينقص عطاؤه حتى مات يزيد.
ولما بلغ مروان أن يزيد قطع البعوث إليه كتب ببيعته، وبعث وفدا عليهم سليمان ابن علاثة العقيلي، فخرج، فلما قطعوا الفرات لقيهم بريد بموت يزيد، فانصرفوا إلى مروان. والله أعلم.
ولاية إبراهيم بن الوليد المخلوع
العلاء بن يزيد بن سنان قال: حدّثني أبي قال: حضرت يزيد بن الوليد حين حضرته الوفاة، فأتاه قطن فقال: أنا رسول من وراء بابك، يسألونك بحق الله لو وليت أمرهم أخاك إبراهيم بن الوليد! فغضب وضرب بيده على جبهته وقال: أنا أولّي إبراهيم؟ ثم قال لي: يا أبا العلاء، إلى من ترى أن أعهد؟ قلت أمر نهيتك عن الدخول في أوله، فلا أشير عليك في الدخول في آخره. قال: فأصابته إغماءة حتى ظننت أنه قد مات، ففعل ذلك غير مرة، ثم خرجت من عنده.
فقعد قطن وافتعل عهدا على لسان يزيد بن الوليد لإبراهيم بن الوليد، ودعا ناسا فأشهدهم عليه. قال: والله ما عهد إليه يزيد ولا إلى أحد من الناس.
وقال يزيد في مرضه لو كان سعيد بن عبد الملك قريبا مني لرأيت فيه رأيي.
وفي رواية أبي الحسن المدائني، قال: لما مرض يزيد قيل له: لو بايعت لأخيك إبراهيم ولعبد العزيز بن الحجاج بعده! فقال له قيس بن هانيء العبسي: اتق الله يا أمير المؤمنين وانظر نفسك وأرض الله في عباده، فاجعل وليّ عهدك عبد الملك بن عبد العزيز بن الوليد بن عبد الملك. فقال يزيد: لا يسألني الله عن ذلك، ولو كان سعيد بن عبد الملك مني قريبا لرأيت فيه رأيي! ... وكان يزيد يرى رأى القدرية «2» ويقول بقول غيلان، فألحت القدرية عليه وقالوا: لا يحل لك إهمال أمر الأمّة، فبايع(5/209)
لأخيك إبراهيم بن الوليد وليد العزيز من بعده. فلم يزالوا به حتى بايع لإبراهيم بن الوليد ولعبد العزيز من بعده.
ومات يزيد لعشر بقين من ذي الحجة سنة ست وعشرين ومائة، وكانت ولايته خمسة أشهر واثنى عشر يوما.
فلما قدم مروان نبش يزيد من قبره وصلبه. وكان يقرأ في الكتب القديمة يا مبذر الكنوز، يا سجاد في الأسحار، كانت ولايتك لهم رحمة، وعليهم حجة، نبشوك فصلبوك! وبويع إبراهيم بن الوليد، وأمّه بربرية، فلم يتم له الأمر، وكان يدخل عليه قوم فيسلمون بالخلافة، وقوم يسلمون بالإمرة، وقوم لا يسلمون بخلافة ولا بإمرة، وجماعة تبايع، وجماعة يأبون أن يبايعوا، فمكث أربعة أشهر حتى قدم مروان بن محمد فخلع إبراهيم وقتل عبد العزيز بن الحجاج، وولي الأمر بنفسه.
وفي رواية خليفة بن خياط قال: لما أتى مروان بن محمد وفاة يزيد بن الوليد، دعا قيسا وربيعة، ففرض لستة وعشرين ألفا من قيس، وسبعة آلاف من ربيعة، وأعطاهم أعطياتهم، وولى على قيس إسحاق بن مسلم العقيلي، وعلى ربيعة المساور بن عقبة؛ ثم خرج يريد الشام، واستخلف على الجزيرة أخاه عبد العزيز بن محمد بن مروان، فتلقاه وجوه قيس: الوثيق بن الهذيل بن زفر، ويزيد بن عمر بن هبيرة الفزاري، وأبو الورد بن الهذيل بن زفر، وعاصم بن عبد الله بن يزيد الهلالي، في خمسة آلاف من قيس، فساروا معه حتى قدم حلب، وبها بشر ومسرور ابنا الوليد بن عبد الملك، أرسلهما إبراهيم بن الوليد حين بلغه مسير مروان بن محمد، فالتقوا، فانهزم بشر ومسرور من ابن محمد من غير قتال، فأخذهما مروان فحبسهما عنده، ثم سار مروان حتى أتى حمص، فدعاهم للمسير معه والبيعة وولّى العهد الحكم وعثمان ابنى الوليد. ابن يزيد، وهما محبوسان عند إبراهيم بن الوليد بدمشق؛ فبايعوه، وخرجوا معه حتى أتى عسكر سليمان بن هشام بن عبد الملك [فانهزم جند سليمان وفّر(5/210)
إلى دمشق] بعد قتال شديد؛ وبلغ عبد العزيز بن الحجاج بن عبد الملك ما لقي سليمان، وهو معسكر في ناحية عين الجرّ «1» ؛ فأقبل إلى دمشق، وخرج إبراهيم بن الوليد من دمشق ونزل بباب الجابية، وتهيأ للقتال ومعه الأموال على العجل، ودعا الناس فخذلوه؛ وأقبل عبد العزيز بن الحجاج وسليمان بن الوليد، فدخلا مدينة دمشق يريدان قتل الحكم وعثمان بن الوليد وهما في السجن؛ وجاء يزيد بن خالد بن عبد الله القسري فدخل السجن فقتل يوسف بن عمر، والحكم وعثمان ابني الوليد بن يزيد، وهما الحملان؛ وأتاهم رسول إبراهيم؛ فتوجه عبد العزيز بن الحجاج إلى داره ليخرج عياله، فثار به أهل دمشق فقتلوه، واحتزوا رأسه فأتوا به أبا محمد بن عبد الله بن يزيد بن معاوية، وكان محبوسا مع يوسف بن عمر وأصحابه، فأخرجوه ووضعوه على المنبر في قيوده، ورأس عبد العزيز بين يديه، وحلّوا قيوده وهو على المنبر، فخطبهم وبايع لمروان، وشتم يزيد وإبراهيم ابني الوليد، وأمر بجثة عبد العزيز فصلبت على باب الجابية منكوسا، وبعث برأسه إلى مروان بن محمد؛ واستأمن أبو محمد لأهل دمشق، فأمّنهم مروان ورضي عنهم؛ وبلغ [ذلك] إبراهيم فخرج هاربا حتى أتى مروان، فبايعه وخلع نفسه، فقبل منه وأمنه، فسار إبراهيم فنزل الرّقة على شاطىء الفرات؛ ثم أتاه كتاب سليمان بن هشام يستأمنه فأمّنه، فأتاه فبايعه. واستقامت لمروان بن محمد.
وكانت ولاية إبراهيم بن الوليد المخلوع أشهرا. قال أبو الحسن: شهرين ونصفا.
ولاية مروان بن محمد بن مروان
ثم بويع مروان بن محمد بن مروان بن الحكم. أمّه بنت إبراهيم بن الأشتر. قال بعضهم: بل كانت أمّه لخباز لمصعب بن الزبير، أولا لابن الأشتر، واسم الخباز:
رزبا؛ وقال بعضهم: كان رزبا عبدا لمسلم بن عمرو الباهلي.(5/211)
وقال أبو العباس الهلالي حين دخل على أبي العباس السفاح: الحمد لله الذي أبدلنا بحمار الجزيرة وابن أمة النخع، ابن عم رسول الله صلّى الله عليه وسلم وابن عبد المطلب.
وكان مروان بن محمد أحزم بني مروان وأنجدهم وأبلغهم، ولكنه ولي الخلافة والأمر مدبر عنهم.
ودفع إلى مروان أبيات قالها الحكم بن الوليد وهو محبوس، وهي:
ألا فتيان من مضر فيحموا ... أسارى في الحديد مكبّلينا
أتذهب عامر بدمي وملكي ... فلا غثّا أصبت ولا سمينا
فإن أهلك أنا ووليّ عهدي ... فمروان أمير المؤمنينا
فأدّب لاعدمتك حرب قيس ... فتخرج منهم الداء الدّفينا
ألا من مبلغ مروان عني ... وعمّي الغمر طال بذا حنينا
بأني قد ظلمت وطال حبسي ... لدى البخراء في لحف مهينا
وقتل مروان ببوصير من أرض مصر في ذي الحجة سنة اثنتين وثلاثين ومائة.
الوليد بن هشام عن أبيه، وعبد الله بن المغيرة عن أبيه، وأبو اليقظان، قالوا: ولد مروان بالجزيرة سنة اثنتين وسبعين، وقتل بقرية من قرى مصر يقال لها بوصير يوم الخميس لخمس بقين من ذي الحجة سنة اثنتين وثلاثين ومائة. وكانت ولايته خمس سنين وستة أشهر وعشرة أيام. وأمّ مروان أمة لمصعب بن الزبير، وقتل وهو ابن ستين سنة.
ولد مروان
عبد الملك، ومحمد، وعبد العزيز، وعبيد الله، وعبد الله، وأبان، ويزيد، ومحمد الأصغر، وأبو عثمان.
وكاتبه عبد الحميد بن يحيى بن سعيد مولى بني عامر بن لؤى، وكان معلما.(5/212)
وكان على القضاء سليمان بن عبد الله بن علاثة.
وعلى شرطته الكوثر بن عتبة وأبو الأسود الغنوي.
وكان للحرس نوب، في كل ثلاثة أيام نوبة، يلي ذلك صاحب النوبة.
وعلى حجابته صقلا ومقلاص.
وعلى الخاتم الصغير عبد الأعلى بن ميمون بن مهران.
وعلى ديوان الجند عمران بن صالح مولى بني هذيل.
مقتل مروان بن محمد بن مروان
قال: والتقى مروان وعامر بن إسماعيل ببوصير من أرض مصر، فقاتلوهم ليلا، وعبد الله وعبيد الله ابنا مروان واقفان في ناحية في جمع من أهل الشام، فحمل عليهم أهل خراسان فأزالوهم عن مراكزهم، ثم كرّوا عليهم فهزموهم حتى ردّوهم إلى عسكرهم، ورجعوا إلى موقفهم؛ ثم إنّ أهل الشام بدءوهم فحملوا على أهل خراسان فكشفوا كشفا قبيحا، ثم رجعوا إلى أماكنهم وقد مضى عبيد الله وعبد الله، فلم يروا أحدا من أصحابهم، فمضوا على وجوههم وذلك في السحر.
وقتل مروان وانهزم الناس، وأخذوا عسكر مروان وما كان فيه، وأصبحوا فاتبعوا الفلّ «1» ، وتفرّق الناس؛ فجعلوا يقتلون من قدروا عليه، ورجع أهل خراسان عنهم.
فلما كان الغد لحق الناس بعبد الله وعبيد الله ابني مروان، وجعلوا يأتونهما متقطعين العشرة والعشرين وأكثر وأقل؛ فيقولان: كيف أمير المؤمنين؟ فيقول بعضهم: تركناه يقاتلهم. ويقول بعضهم: انحاز وثاب إليه قوم ولا يتبعونه. حتى أتوا(5/213)
الحرون، فقال، كنت معه أنا ومولى له، فصرع فجررت برجله، فقال: أوجعتني! فقاتلت أنا ومولاه عنه؛ وعلموا أنه مروان فألحوا عليه، فتركته ولحقت بكم. فبكى عبد الله، فقال له أخوه عبيد الله: يا ألأم الناس! فررت عنه وتبكي عليه؟ ومضوا، فقال بعضهم: كانوا أربعة آلاف. وقال بعضهم: كانوا ألفين، فأتوا بلاد النوبة، فأجرى عليهم ملك النوبة ما يصلحهم، ومعهم أم خالد بنت يزيد، وأم الحكم بنت عبيد الله- صبية جاء بها رجل من عسكر مروان حين انهزموا- فدفعها إلى أبيها.
ثم أجمع ابنا مروان على أن يأتيا اليمن، وقالا: نأتيها قبل أن يأتيها المسوّدة «1» فنتحصّن في حصونها وندعو الناس. فقال لهم صاحب النوبة لا تفعلوا إنكم في بلاد السودان وهم في عدد كثير، ولا آمن عليكم؛ فأقيموا. فأبوا، قال: فاكتبوا لي كتابا، فكتبوا له: إنا قدمنا بلادك فأحسنت مثوانا، وأشرت علينا أن لا نخرج من بلادك، فأبينا، وخرجنا من عندك وافرين راضين شاكرين لك بطيب أنفسنا.
وخرجوا فأخذوا في بلاد العدو، فكانوا ربما عرضوا لهم ولا يأخذون منهم إلا السلاح، وأكثر من ذلك لا يعرضون له؛ حتى أتوا بعض بلادهم فتلقاهم عظيمهم فاحتبسهم، فطلبوا الماء فمنعهم، ولم يقاتلهم ولم يخلّهم وعطشهم، وكان يبيعهم القربة بخمسين درهما، حتى أخذ منهم مالا عظيما.
ثم خرجوا فساروا حتى عرض لهم جبل عظيم بين طريقين فسلك عبد الله أحدهما في طائفة، وسلك عبيد الله الآخر في طائفة أخرى، وظنوا أن للجبل غابة يقطعونها ثم يجتمعون عند آخرها، فلم يلتقوا.
وعرض قوم من العدو لعبيد الله وأصحابه فقاتلوهم، فقتل عبيد الله، وأخذت أم الحكم بنته وهي صبية، وقتل رجل من أصحابه، وكفوا عن الباقين وأخذوا سلاحهم.(5/214)
وتقطع الجيش، يتنكبون «1» العمران، فيأتون الماء فيقيمون عليه الأيام، فتمضى طائفة وتقيم الأخرى، حتى بلغ العطش منهم؛ فكانوا يتحرون الدابة فيقطعون أكراشها فيشربونه، حتى وصلوا إلى البحر بحيال المندب؛ ووافاهم عبد الله وعليه مقرمة «2» قد جاء بها، فكانوا جميعا خمسين أو أربعين رجلا، فيهم الحجاج بن قتيبة ابن مسلم الحرون، وعفان مولى بني هاشم، فعبروا إليهم البحر في السفن، فمشوا إلى المندب، فأقاموا بها شهرا فلم تحملهم، فخرجوا إلى مكة. وقال بعضهم: أعلم بهم العامل، فخرجوا مع الحجاج عليهم ثياب غلاظ وجباب الأكرياء «3» ، حتى وافوا جدة وقد تقطعت أرجلهم من المشي، فمرّوا بقوم فرقّوا لهم فحملوهم، وفارق عبد الله الحجاج بجدة، ثم حجوا وخرجوا من مكة إلى تبالة.
وكان على عبد الله فصّ «4» أحمر كان قد غيّبه حين عبر إلى المندب، فلما أمن استخرجه، وكانت قيمته ألف دينار، وكان يقول وهو يمشي: ليت به دابة! حتى صار في مقرمة تكون عليه بالنهار فيلبسها بالليل؛ فقالوا: ما رأينا مثل عبد الله، قاتل فكان أشد الناس، ومشوا فكان أقواهم؛ وجاعوا فكان أصبرهم وعروا فكان أحسنهم عريا! وبعث وهو بالمندب إلى العدو الذين أخذوا أم الحكم بنت أخيه عبيد الله، ففداها وردّها إليه؛ فكانت معه.
ثم أخذ عبد الله فقدم به على المهدي، فجاءت امرأته بنت يزيد بن محمد بن مروان بن الحكم، فكلمت العباس بن يعقوب كاتب عيسى بن علي وأعطته لؤلؤا، ليكلم فيه عيسى: فكلمه وأعلمه بما أعطته؛ فلم يكلم فيه عيسى بن علي المهديّ؛ وأراد المهدي أن يقتله؛ فقال له عيسى: إن له في أعناقنا بيعة؛ وقد أعطى كاتبي قيمة ثلاثين ألف درهم. فحبسه المهدي.(5/215)
وكان عبد الله بن مروان تزوج أم يزيد ابنة يزيد بن محمد بن مروان؛ وكانت في الحبس، فلما أخرجهم العباس خرجت إلى مكة فأقامت بها، وقدم عبد الله بن مروان سرّا فتزوجها.
وقال مولى مروان: كنت مع مروان وهو هارب؛ فقال لي يوما: أين عزبت «1» عنا حلومنا في نسائنا؟ ألا زوّجناهم من أكفائهن من قريش فكفينا مؤنتهن اليوم.
وقال بعض آل مروان: ما كان شيء أنفع لنا في هربنا من الجوهر الخفيف الثمن الذي يساوي خمسة دنانير فما دونها: كان يخرجه الصبي والخادم فيبيعه، وكنا لا نستطيع أن نظهر الجوهر الثمين الذي له قيمة كثيرة.
وقال مصعب بن الربيع الخثعمي كاتب مروان بن محمد: لما انهزم مروان وظهر عبد الله بن علي على أهل الشام، طلبت الإذن؛ فأنا عنده جالس وهو متكيء؛ إذ ذكر مروان وانهزامه فقال: أشهدت القتال؟ قلت: نعم أصلح الله الأمير. قال لي مروان:
احزر «2» القوم. فقلت: إنما أنا صاحب قلم ولست بصاحب حرب. فأخذ يمنة ويسرة فقال لي: هم اثنا عشر ألف رجل.
وقال مصعب: قيل لمروان: قد انتهب بيت المال الصغير! فانصرف يريد بيت المال، فقيل له: قد انتهب بيت المال الأكبر، انتهبه أهل الشام.
وقال أبو الجارود السلمي: حدثني رجل من أهل خراسان قال: لقينا مروان على الزاب، فحمل علينا أهل الشام كأنهم جبال حديد، فجثونا على الرّكب «3» وأشرعنا «4» الرماح، فزالوا عنا كأنهم سحابة، ومنحنا الله أكتافهم وانقطع الجسر مما يليهم حين عبروا، فبقي عليه رجل من أهل الشام، فخرج إليه رجل منا، فقتله الشامي؛ ثم خرج إليه آخر، فقتله؛ حتى والى بين ثلاثة؛ فقال رجل منا: اطلبوا لي(5/216)
سيفا قاطعا وترسا صلبا. فأعطيناه ومشى إليه، فضربه الشامي فاتّقاه بالترس وضرب رجله فقطعها، وقتله ورجع، فحملناه وكبرنا، فإذا هو عبيد الله الكابلي.
سمر المنصور ذات ليلة، فذكر خلفاء بني أمية وسيرهم، وأنهم لم يزالوا على استقامة حتى أفضى أمرهم إلى أبنائهم المترفين، وكانت همتهم مع عظم شأن الملك وجلالة قدره، قصد الشهوات وإيثار اللذات والدخول في معاصي الله ومساخطه جهلا باستدراج الله وأمنا لمكره؛ فسلبهم الله العز ونقل عنهم النعمة. فقال له صالح ابن علي: يا أمير المؤمنين، إن عبد الله بن مروان لما دخل النوبة هاربا فيمن تبعه، سأل ملك النوبة عنهم فأخبر، فركب إلى عبد الله فكلمه بكلام عجيب في هذا النحو لا أحفظه، وأزعجه «1» عن بلده؛ فإن رأى أمير المؤمنين أن يدعو به من الحبس بحضرتنا في هذه الليلة ويسأله عن ذلك! فأمر المنصور بإحضاره وسأله عن القصة، فقال:
يا أمير المؤمنين، قدمنا أرض النوبة وقد خبّر الملك بأمرنا، فدخل عليّ رجل أقنى «2» الأنف طوال حسن الوجه فقعد على الأرض ولم يقرب الثياب، فقلت: ما يمنعك أن تقعد على ثيابنا؟
قال: لأني ملك، ويحق على الملك أن يتواضع لعظمة الله إذ رفعه الله! ثم قال لأي شيء تشربون الخمر وهي محرمة عليكم؟
قلت: اجترأ على ذلك عبيدنا وغلماننا وأتباعنا، لأن الملك قد زال عنا.
قال: فلم تطئون الزروع بدوابكم والفساد محرم عليكم في كتابكم؟
قلت: يفعل ذلك عبيدنا وأتباعنا بجهلهم.
قال: فلم تلبسون الديباج والحرير وتستعملون الذهب والفضة وذلك محرّم عليكم؟(5/217)
قلت: ذهب الملك عنا وقل أنصارنا فانتصرنا بقوم من العجم دخلوا في ديننا فلبسوا ذلك على الكره منا.
قال: فأطرق مليا وجعل يقلب يده وينكت الأرض ويقول عبيدنا وأتباعنا، وقوم دخلوا في ديننا، وزال الملك عنا!! يردده مرارا، ثم قال: ليس ذلك كذلك: بل أنتم قوم قد استحللتم ما حرم الله، وركبتم ما نهاكم عنه وظلمتم من ملكتم، فسلبكم الله العز، وألبسكم الذل بذنوبكم، ولله فيكم نقمة لم تبلغ غايتها؛ وأخاف أن يحل بكم العذاب وأنتم ببلدي فيصيبني معكم، وإنما الضيافة ثلاثة أيام، فتزوّدوا ما احتجتم وارتحلوا عن بلدي.
أخبار الدولة العباسية
الهيثم بن عدي قال: حدثني عيّاش قال: حدثني بكير أبو هاشم مولى مسلمة قال: لم يزل لبني هاشم بيعة سرّ ودعوة باطنة منذ قتل الحسين بن عليّ بن أبي طالب، ولم نزل نسمع بخروج الرايات السود من خراسان وزوال ملك بني أمية، حتى صار ذلك.
وقيل لبعض بني أمية: ما كان سبب زوال ملككم؟ قال: اختلاف فيما بيننا واجتماع المختلفين علينا! الهيثم بن عدي قال: حدثني غير واحد ممن أدركت من المشايخ أن عليّ بن أبي طالب أصار الأمر إلى الحسن، فأصاره الحسن إلى معاوية، وكره ذلك الحسين ومحمد ابن الحنفية. فلما قتل الحسين بن عليّ صار أمر الشيعة إلى محمد بن الحنفية. وقال بعضهم: إلى عليّ بن الحسين، ثم إلى محمد بن علي ثم إلى جعفر بن محمد. والذي عليه الأكثر أن محمد بن الحنفية أوصى إلى أبي هاشم ابنه: عبد الله بن محمد بن الحنفية، ولم يزل قائما بأمر الشيعة يأتونه ويقوم بأمرهم ويؤدّون إليه الخراج حتى استخلف سليمان ابن عبد الملك، فأتاه وافدا ومعه عدة من الشيعة، فلما كلمه سليمان قال: ما كلمت قط قرشيا يشبه هذا؛ وما نظن الذي كنا نحدّث عنه إلا حقا! فأجازه وقضى حوائجه وحوائج من معه. ثم شخص وهو يريد فلسطين، فلما كان ببلاد لخم وجذام، ضربوا(5/218)
له أبنية في الطريق ومعهم اللبن المسموم، فكلما مر بقوم قالوا: هل لكم في الشراب! قالوا: جزيتم خيرا! ثم بآخرين فعرضوا عليه فقال: هاتوا. فلما شرب واستقر بجوفه، قال لأصحابه: إني ميت، فانظروا من القوم! فنظروا فإذا هم قد قوّضوا «1» أبنيتهم وذهبوا، فقال: ميلوا بي إلى ابن عمي وما أحسبني أدركه! فأسرعوا حتى أتوا الحميمة «2» من أرض الشراة، وبها محمد بن علي بن عبد الله بن العباس، فنزل بها، فقال: يا بن عمي، إني ميت؛ وقد صرت إليك؛ وأنت صاحب هذا الأمر، وولدك القائم به، ثم أخوه من بعده، والله ليتمّنّ الله هذا الأمر حتى تخرج الرايات السود من قعر خراسان، ثم ليغلبنّ على ما بين حضرموت وأقصى أفريقية، وما بين الهند وأقصى فرغانة «3» ، فعليك بهؤلاء الشيعة واستوص بهم خيرا، فهم دعاتك وأنصارك، ولتكن دعوتك خراسان لا تعدوها، لا سيما مرو، واستبطن هذا الحيّ من اليمن فإن كان ملك لا يقوم به فمصيره إلى انتقاض «4» ، وانظر هذا الحي من ربيعة فألحقهم بهم، فإنهم معهم في كل أمر؛ وانظر هذا الحيّ من قيس وتميم فأقصهم إلا من عصم الله منهم، وذلك قليل ثم مرهم أن يرجعوا فليجعلوا اثنى عشر نقيبا، وبعدهم سبعين نقيبا؛ فإن الله لم يصلح أمر بني إسرائيل إلا بهم، وقد فعل ذلك النبي صلّى الله عليه وسلم، فإذا مضت سنة الحمار فوجه رسلك من خراسان، منهم من يقتل ومنهم من ينجو، حتى يظهر الله دعوتكم. قال محمد بن علي: يا أبا هاشم، وما سنة الحمار؟ قال: إنه لم تمض مائة سنة من نبوّة قط إلا انتقض أمرها، لقول الله عز وجل: أَوْ كَالَّذِي مَرَّ عَلى قَرْيَةٍ وَهِيَ خاوِيَةٌ عَلى عُرُوشِها قالَ أَنَّى يُحْيِي هذِهِ اللَّهُ بَعْدَ مَوْتِها فَأَماتَهُ اللَّهُ مِائَةَ عامٍ ثُمَّ بَعَثَهُ قالَ كَمْ لَبِثْتَ قالَ لَبِثْتُ يَوْماً أَوْ بَعْضَ يَوْمٍ قالَ بَلْ لَبِثْتَ مِائَةَ عامٍ فَانْظُرْ إِلى طَعامِكَ وَشَرابِكَ لَمْ يَتَسَنَّهْ وَانْظُرْ إِلى حِمارِكَ وَلِنَجْعَلَكَ آيَةً لِلنَّاسِ
«5» .(5/219)
واعلم أن صاحب هذا الأمر من ولدك عبد الله بن الحارثية، ثم عبد الله أخوه.
ولم يكن لمحمد بن علي في ذلك الحين ولد يسمى عبد الله، فولد له من الحارثية ولدان، سمى كل واحد منهما عبد الله، وكنى الأكبر أبا العباس، والأصغر أبا جعفر، فوليا جميعا للخلافة.
ثم مات أبو هاشم وقام محمد بن علي بالأمر بعد، واختلفت الشيعة «1» إليه؛ فلما ولد أبو العباس أخرجه إليهم في خرقة، وقال لهم: هذا صاحبكم. فجلسوا يلحسون أطرافه.
وولد أبو العباس في أيام عمر بن عبد العزيز.
ثم قدم الشيعة على محمد بن علي فأخبروه أنهم حبسوا بخراسان في السجن، وكان يخدمهم فيه غلام من السرّاجين «2» ما رأوا قط مثل عقله وظرفه ومحبته في أهل بيت رسول الله، يقال له أبا مسلم. قال: أحرّ أم عبد؟ قالوا: أما عيسى فيزعم أنه عبد، وأما هو فيزعم أنه حر. قال: فاشتروه وأعتقوه واجعلوه بينكم إذا رضيتموه.
وأعطو محمد بن علي مائتي ألف كانت معهم.
فلما انقضت المائة سنة بعث محمد بن علي رسله إلى خراسان فغرسوا بها غرسا، وأبو مسلم المقدم عليهم؛ وثارت الفتنة في خراسان بين المضرية واليمانية فتمكن أبو مسلم وفرق رسله في كور خراسان يدعو الناس إلى آل الرسول، فأجابوه؛ ونصر بن سيار عامل خراسان لهشام بن عبد الملك، فكان يكتب لهشام بخبرهم، وتمضي كتبه إلى ابن هبيرة صاحب العراق لينفذها إلى أمير المؤمنين، فكان يحبسها ولا ينفذها، لئلا يقوم لنصر بن سيار قائمة عند الخليفة- وكان في ابن هبيرة حسد شديد- فلما طال بنصر بن سيار ذلك ولم يأته جواب من عند هشام، كتب كتابا وأمضاه إلى(5/220)
هشام على غير طريق ابن هبيرة، وفي جوف الكتاب هذه الأبيات مدرجة»
يقول فيها:
أرى خلل الرّماد وميض جمر ... فيوشك أن يكون لها ضرام «2»
فإنّ النار بالعودين تذكى ... وإنّ الحرب أوّلها الكلام «3»
فإن لم تطفئوها تجن حربا ... مشمّرة يشيب لها الغلام
فقلت من التّعجّب: ليت شعري ... أأيقاظ أميّة أم نيام؟
فإن كانوا لحينهم نياما ... فقل قوموا فقد حان القيام
ففرّي عن رحالك ثم قولي ... على الإسلام والعرب السّلام
فكتب إليه هشام أن احسم ذلك الثّؤلول «4» الذي نجم عندكم. قال نصر:
وكيف لنا بحسمه.
وقال نصر بن سيار يخاطب المضرية واليمانية ويحذّرهم هذا العدوّ الداخل عليهم، بقوله:
أبلغ ربيعة في مرو وإخوتهم ... فليغضبوا قبل أن لا ينفع الغضب
ولينصبوا الحرب إنّ القوم قد نصبوا ... حربا يحرّق في حافاتها الحطب
ما بالكم تلقحون الحرب بينكم ... كأنّ أهل الحجا عن رأيهم عزبوا «5»
وتتركون عدوّا قد أظلّكم ... ممّا تأشّب لا دين ولا حسب «6»
قدما يدينون دينا ما سمعت به ... عن الرّسول ولم تنزل به الكتب
فمن يكن سائلا عن أصل دينهم ... فإنّ دينهم أن تقتل العرب(5/221)
ومات محمد بن علي في أيام الوليد بن يزيد، وأوصى إلى ولده إبراهيم بن محمد؛ فقام بأمر الشيعة، وقدّم عليهم أبو مسلم السرّاج وسليمان بن كثيّر؛ وقال لأبي مسلم:
إن استطعت أن لا تدع بخراسان لسانا عربيّا فافعل، ومن شككت في أمره فاقتله.
فلما استعلى أمر أبي مسلم بخراسان وأجابته الكور كلها، كتب نصر بن سيار إلى مروان بن محمد بخبر أبي مسلم وكثرة من تبعه، وأنه قد خاف أن يستولي على خراسان وأن يدعو إلى إبراهيم بن محمد بن علي بن عبد الله بن عباس. فأتى الكتاب مروان وقد أتاه رسول أبي مسلم بجواب إبراهيم إلى أبي مسلم؛ فكتب مروان إلى الوليد بن معاوية بن عبد الملك بن مروان وهو عامله على دمشق، أن اكتب إلى عاملك بالبلقاء ليسير إلى الحميمة فيأخذ إبراهيم بن محمد فيشده وثاقا ثم يبعث به إليك، ثم وجّهه إليّ. فحمل إلى مروان، وتبعه من أهله عبد الله ابن علي، وعيسى بن موسى؛ فأدخل على مروان، فأمر به إلى الحبس.
قال الهيثم: حدثني أبو عبيدة قال: كنت آتيه في السجن، ومعه فيه سعيد بن [هشام بن] عبد الملك، وعبد الله بن عمر بن عبد العزيز؛ فو الله إني ذات ليلة في سقيفة «1» السجن بين النائم واليقظان، إذا بمولى لمروان قد استفتح الباب ومعه عشرون رجلا من موالي مروان الأعاجم، ومعهم صاحب السجن، فأصبحنا وسعيد وعبد الله وإبراهيم قد ماتوا.
قال الهيثم: حدّثني أبو عبيدة قال: حدّثني وصيف عبد الله بن عمر بن عبد العزيز الذي كان يخدمه في الحبس: أنه غمّ «2» عبد الله مولاه بمرفقه «3» ، وإبراهيم بن محمد بجراب نورة «4» ، وسعيد بن عبد الملك أخرجه صاحب السجن، فلقيه بعض حرس مروان في ظلمة الليل، فوطئته الخيل وهم لا يعرفون من هو، فمات.(5/222)
ثم استولى أبو مسلم على خراسان كلها، فأرسل إلى نصر بن سيار، فهرب هو وولده وكاتبه داود، حتى انتهوا إلى الريّ، فمات نصر بن سيار بساوة «1» وتفرّق أصحابه، ولحق داود بالكوفة وولده جميعا.
واستعمل أبو مسلم عماله على خراسان ومرو وسمرقند وأحوازها «2» ؛ ثم أخرج الرايات السود، وقطع البعوث، وجهز الخيل والرجال، عليهم قحطبة بن شبيب، وعامر بن إسماعيل، ومحرز بن إبراهيم في عدّة من القواد، فلقوا من بطوس «3» ، فانهزموا؛ ومن مات في الزحام أكثر ممن قتل، فبلغ القتلى بضعة عشر ألفا.
ثم مضى قحطبة إلى العراق، فبدأ بجرجان وعليها نباته بن حنظلة الكلابي، وكان قحطبة يقول لأصحابه: والله ليقتلن عامر بن ضبارة، وينهزمنّ ابن هبيرة، ولكني أخاف أن أموت قبل أن أبلغ ثأري، وأخاف أن أكون الذي يغرق في الفرات، فإن الإمام محمد بن علي قال لي ذلك قال الهيثم: فقدم قحطبة جرجان فقتل ابن نباتة ودخل جرجان فانتهبها، وقسم- ما أصاب بين أصحابه؛ ثم سار إلى عامر بن ضبارة بأصبهان فلقيه، فقتل ابن ضبارة وقتل أصحابه، ولم ينج منهم إلا الشريد، ولحق فلّهم بابن هبيرة.
وقال قحطبة لما قتل ابن ضبارة: ما شيء رأيته ولا عدوّ قتلته إلا وقد حدّثني به الإمام صلوات الله عليه، إلا أنه حدّثني أني لا أعبر الفرات.
وسار قحطبة حتى نزل بحلوان «4» ووجه أبا عون في نحو من ثلاثين ألفا إلى مروان بن محمد، فأخذ على شهرزور حتى أتى الزّاب، وذلك برأي أبي مسلم.
فحدث أبو عون عبد الملك بن يزيد: قال لي أبو هاشم بكير بن ماهان: أنت والله(5/223)
الذي تسير إلى مروان، ولتبعثنّ إليه غلاما من مذحج يقال له عامر فليقتلنّه فأمضيت والله عامر بن إسماعيل على مقدمتي، فلقي مروان فقتله.
ثم سار قحطبة من حلوان إلى ابن هبيرة بالعراق، فالتقوا بالفرات، فاقتتلوا حتى اختلط الظلام، وقتل قحطبة في المعركة وهو لا يعرف، فقال بعضهم: غرق في الفرات.
ثم انهزم ابن هبيرة حتى لحق بواسط، وأصبح المسوّدة وقد فقدوا أميرهم، فقدّموا الحسن بن قحطبة. ولما بلغ مروان قتل قحطبة وهزيمة ابن هبيرة قال: هذا والله الإدبار، وإلا فمتى رأيتم ميتا هزم حيّا! وأقام ابن هبيرة بواسط وغلبت المسوّدة على العراق، وبايعوا لأبي العباس عبد الله ابن محمد بن علي بن عبد الله بن عباس، لثلاث عشرة ليلة خلت من شهر ربيع الآخر سنة اثنتين وثلاثين ومائة. ووجه عمّه عبد الله بن علي لقتال مروان وأهل الشام، وقدمه على أبي عون وأصحابه؛ ووجه أخاه أبا جعفر إلى واسط لقتال ابن هبيرة، وأقام أبو العباس بالكوفة حتى جاءته هزيمة مروان بالزاب. وأمضى عبد الله بن علي أبا عون في طلبه، وأقام على دمشق ومدائن الشام يأخذ بيعتها لأبي العباس.
وكان أبو سلمة الخلال. واسمه حفص بن سليمان. يدعى وزير آل محمد، وكان أبو مسلم يدعى أمين آل محمد؛ فقتل أبو العباس أبا سلمة الخلال، واتهمه بحب بني فاطمة وأنه كان يحطب «1» في حبالهم؛ وقتل أبو جعفر أبا مسلم.
وكان أبو مسلم يقول لقواده إذا أخرجهم: لا تكلموا الناس إلا رمزا، ولا تلحظوهم إلا شزرا «2» : لتمتلىء صدورهم من هيبتكم.(5/224)
مقتل زيد بن علي أيام هشام بن عبد الملك
كتب يوسف بن عمر إلى هشام بن عبد الملك: إن خالد بن عبد الله أودع زيد بن حسين بن علي بن أبي طالب مالا كثيرا. فبعث هشام إلى زيد فقدم عليه فسأله عن ذلك فأنكر، فاستحلفه فحلف؛ فخلّى سبيله. وأقام عند هشام بعد ذلك سنة، ثم دخل عليه في بعض الأيام، فقال له هشام: بلغني أنك تحدّث نفسك بالخلافة ولا تصلح لها لأنك ابن أمة! قال: أما قولك إني أحدث نفسي بالخلافة، فلا يعلم الغيب إلا الله؛ وأما قولك إني ابن أمة فهذا إسماعيل صلّى الله عليه وسلم ابن أمة، أخرج الله من صلبه خير البشر محمدا صلّى الله عليه وسلم، وإسحاق ابن حرة، أخرج الله من صلبه القردة والخنازير وعبدة الطاغوت «1» . وخرج زيد مغضبا، فقال زيد: ما أحبّ أحد الحياة إلا ذلّ! قال له الحاجب: لا يسمع هذا الكلام منك أحد. وخرج زيد حتى قدم الكوفة، فقال:
شرّده الخوف وأزرى به ... كذاك من يكره حرّ الجلاد «2»
منخرق الخفين يشكو الوجى ... تنكبه أطراف مرو حداد «3»
قد كان في الموت له راحة ... والموت حتم في رقاب العباد
ثم خرج بخراسان، فوجه يوسف بن عمر إليه الخيل وخرج في أثرهم حتى لقيه، فقاتله، فرمي زيد في آخر النهار بنشابة من نحره فمات، فدفنه أصحابه في حمأة كانت قريبة منهم، وتتبّع أصحاب زيد، فانهزم من انهزم وقتل من قتل، ثم أتي يوسف فقيل له: إن زيدا دفن في حمأة. فاستخرجه وبعث برأسه إلى هشام، ثم صلبه في سوق الكناسة «4» ، فقال في ذلك أعور كلب، وكان مع يوسف في جيش أهل الشام:(5/225)
نصبنا لكم زيدا على جذع نخلة ... وما كان مهديّ على الجذع ينصب
الشيباني قال: لما نزل عبد الله بن علي نهر أبي فطرس «1» ، حضر الناس بابه للإذن، وحضر اثنان وثمانون رجلا من بني أمية، فخرج الآذن فقال: يا أهل خراسان، قوموا. فقاموا سماطين «2» في مجلسه، ثم أذن لبني أمية فأخذت سيوفهم ودخلوا عليه. قال أبو محمد العبدي الشاعر: وخرج الحاجب فأدخلني فسلمت عليه فرد عليّ السلام، ثم قال: أنشدني قولك:
وقف المتيّم في رسوم ديار
فأنشدته حتى انتهيت إلى قولي:
أمّا الدّعاة إلى الجنان فهاشم ... وبنو أميّة من دعاة النّار
من كان يفخر بالمكارم والعلا ... فلها يتمّ المجد غير فخار
والغمر بن يزيد بن عبد الملك جالس معه على المصلى، وبنو أمية على الكراسي فألقى إليّ صرة حرير خضراء فيها خمسمائة دينار، وقال: لك عندنا عشرة آلاف درهم وجارية وبرذون «3» وغلام وتخت ثياب، قال: فوفى والله بذلك كله ثم أنشأ عبد الله بن علي يقول:
حسبت أميّة أن سيرضى هاشم ... عنها ويذهب زيدها وحسينها
كلا وربّ محمّد وإلهه ... حتى تباح سهولها وحزونها «4»
ثم أخذ قلنسوته من رأسه فضرب بها الأرض، فأقبل أولئك الجند على بني أمية فخبطوهم بالسيوف والعمد، وقال الكلبي الذي كان بينهم وكان من أتباعهم: أيها الأمير، إني والله ما أنا منهم! فقال عبد الله بن علي:(5/226)
ومدخل رأسه لم يدعه أحد ... بين الفريقين حتى لزّه القرن «1»
اضربوا عنقه! ثم أقبل على الغمر فقال: ما أحسب لك في الحياة بعد هؤلاء خيرا! فقال: أجل. قال: يا غلام، اضرب عنقه، فأقيم من المصلى فضرب عنقه، ثم أمر ببساط فطرح عليهم، ودعا بالطعام فجعل يأكل وأنين بعضهم تحت البساط.
وفي رواية أخرى، قال: لما قدم الغمر بن يزيد بن عبد الملك على أبي العباس السفاح في ثمانين رجلا من بني أمية، وضعت لهم الكراسي، ووضعت لهم نمارق «2» وأجلسوا عليها، وأجلس الغمر مع نفسه في المصلى، ثم أذن لشيعته فدخلوا، ودخل فيهم سديف بن ميمون، وكان متوشحا سيفا، متنكبا قوسا، وكان طويلا آدم «3» ، فقام خطيبا، فحمد الله وأثنى عليه، ثم قال: أيزعم الضّلال بما حبطت أعمالهم أنّ غير آل محمد أولى بالخلافة؟ فلم وبم أيها الناس؟ لكم الفضل بالصحابة، دون حق ذوي القرابة، الشركاء في النسب، الأكفاء في الحسب، الخاصة في الحياة، الوفاة عند الوفاة، مع ضربهم على الأمر جاهلكم، وإطعامهم في اللأواء «4» جائعكم، فكم قصم الله بهم من جبار باغ، وفاسق ظالم، لم يسمع بمثل العباس، لم تخضع له أمّة بواجب حق، أبو رسول الله صلّى الله عليه وسلم بعد أبيه، وجلدة ما بين عينيه، أمينه ليلة العقبة، ورسوله إلى أهل مكة، وحاميه يوم حنين، لا يردّ له رأيا، ولا يخالف له قسما؛ إنكم والله معاشر قريش ما اخترتم لأنفسكم من حيث ما اختاره الله لكم، تيميّ مرة، وعديّ مرة، وكنتم بين ظهراني قوم قد آثروا العاجل على الآجل، والفاني على الباقي، وجعلوا الصدقات في الشهوات، والفيء في اللذات والغناء. والمغانم في المحارم، إذ ذكّروا بالله لم يذكروا، وإذا قدّموا بالحق أدبروا، فذلك زمانهم، وبذلك كان يعمل سلطانهم.(5/227)
فلما كان الغد أذن لهم فدخلوا، ودخل فيهم شبل، فلما جلسوا قام شبل فاستأذن في الإنشاد، فأذن له، فأنشد:
أصبح الملك ثابت الآساس ... بالبهاليل من بني العبّاس «1»
طلبوا وتر هاشم فلقوها ... بعد ميل من الزمان وياس
لا تقيلنّ عبد شمس عثارا ... واقطعن كلّ نخلة وغراس «2»
لقد غاظني وغاظ سوائي ... قربهم من منابر وكراسي
واذكروا مصرع الحسين وزيدا ... وقتيلا بجانب المهراس «3»
وقتيلا بجوف حرّان أضحى ... تحجل الطّير حوله في الكناس «4»
نعم شبل الهراش صولاك شبل ... لو نجا من حبائل الإفلاس
ثم قام وقاموا، ثم أذن لهم بعد، فدخلوا ودخل الشيعة، فلما جلسوا قام. سديف بن ميمون، فأنشد:
قد أتتك الوفود من عبد شمس ... مستعدّين يوجعون المطيّا»
غفوة أيّها الخليفة لا عن ... طاعة بل تخوّفوا المشرفيّا «6»
لا يغرّنك ما ترى من رجال ... إن تحت الضّلوع داء دويّا
فضع السيف وارفع السوط حتى ... لا ترى فوق ظهرها أمويّا
ثم قام خلف بن خليفة الأقطع فأنشد:
إن تجاوز فقد قدرت عليهم ... أو تعاقب فلم تعاقب بريّا
أو تعاتبهم على رقّة الدّين ... فقد كان دينهم سامريّا(5/228)
فالتفت أبو العباس إلى الغمر فقال: كيف ترى هذا الشعر؟ قال: والله إنّ هذا لشاعر، ولقد قال شاعرنا ما هو أشعر من هذا. قال: وما قال؟ فأنشده:
شمس العداوة حتى يستقاد لهم ... وأعظم الناس أحلاما إذا قدروا
فشرق وجه أبي العباس بالدم وقال: كذبت يا بن اللخناء «1» ! إني لأرى الخيلاء في رأسك بعد! ثم قاموا، وأمر بهم فدفعوا إلى الشيعة فاقتسموهم فضربوا أعناقهم، ثم جرّوا بأرجلهم حتى ألقوهم في الصحراء بالأنبار وعليهم سراويلات الوشي، فوقف عليهم سديف مع الشيعة، وقال:
طمعت أميّة أن سيرضى هاشم ... عنها ويذهب زيدها وحسينها
كلا وربّ محمد وإلهه ... حتى يباد كفورها وخئونها
وكان أشدّ الناس على بني أمية عبد الله بن عليّ، وأحنّهم عليهم سليمان بن علي، وهو الذي كان يسميه أبو مسلم: كنف الأمان! وكان يجير كلّ من استجار به.
وكتب إلى أبي العباس:
يا أمير المؤمنين، إنا لم نحارب بني أمية على أرحامهم، وإنما حاربناهم على عقوقهم، وقد دفت إليّ منهم دافّة «2» لم يشهروا سلاحا ولم يكثروا جمعا، فأحب أن تكتب لهم منشور أمان.
فكتب لهم منشور أمان وأنفذه إليهم، فمات سليمان بن عليّ وعنده بضع وثمانون حرمة لبني أمية.
خلفاء بني أمية بالأندلس
عبد الرحمن بن معاوية بن هشام
أوّل خلفاء الأندلس من بني أمية: عبد الرحمن بن معاوية بن هشام بن عبد الملك ولي الملك يوم الجمعة لعشر خلون من ذي الحجة سنة ثمان وثلاثين ومائة، وهو ابن(5/229)
ثمان وعشرين سنة. وتوفي في عشرة من جمادي الأولى سنة اثنتين وسبعين ومائة، فكان ملكه اثنتين وثلاثين سنة وخمسة أشهر، وكان يقال له صقر قريش، وذلك أنّ أبا جعفر المنصور قال لأصحابه: أخبروني عن صقر قريش من هو؟ قالوا: أمير المؤمنين الذي راض الملك، وسكّن الزلازل، وحسم الأدواء، وأباد الأعداء. قال: ما صنعتم شيئا. قالوا: فمعاوية. قال: ولا هذا. قالوا: فعبد الملك بن مروان. قال: ولا هذا. قالوا: فمن يا أمير المؤمنين؟ قال: عبد الرحمن بن معاوية، الذي عبر البحر، وقطع القفر، ودخل بلدا أعجميا مفردا. فمصّر الأمصار، وجند الأجناد، ودوّن الدواوين، وأقام ملكا بعد انقطاعه، بحسن تدبيره، وشدّة شكيمته «1» ، إنّ معاوية نهض بمركب حمله عليه عمر وعثمان وذللا له صعبه، وعبد الملك ببيعة تقدّم له عقدها، وأمير المؤمنين بطلب عشيرته واجتماع شيعته، وعبد الرحمن منفرد بنفسه، مؤيد برأيه، مستصحب لعزمه.
وقالوا لما توطد ملك عبد الرحمن بن معاوية عمل هذه الأبيات وأخرجها إلى وزرائه فاستغربت من قوله إذ صدقها فعله، وهي:
ما حقّ من قام ذا امتعاض ... منتضي الشّفرتين نصلا
فبزّ ملكا وساد عزّا ... ومنبرا للخطاب فصلا «2»
فجاز قفرا وشقّ بحرا ... مساميا لجّة ومحلا «3»
وجنّد الجند حين أودى ... ومصّر المصر حين أجلى «4»
ثم دعا أهله جميعا ... حيث انتأوا أن هلمّ أهلا «5»
فجاء هذا طريد جوع ... شريد سيف أبيد قتلا
فحلّ أمنا ونال شبعا ... وحاز مالا وضمّ شملا
ألم يكن حقّ ذا على ذا ... أوجب من منعم ومولى؟(5/230)
وكتب أمية بن يزيد عنه كتابا إلى بعض عماله يستقصره فيما فرّط فيه من عمله، فأكثر وأطال الكتاب، فلما لحظه عبد الرحمن أمر بقطعه «1» ، وكتب:
أمّا بعد، فإن يكن التقصير لك مقدّما يعدّ الاكتفاء أن يكون لك مؤخرا، وقد علمت بما تقدّمت، فاعتمد على أيهما أحببت.
وكان ثار عليه ثائر بغربيّ بلدة «2» ، فغزاه به وأسره، فبينما هو منصرف وقد حمل الثائر على بغل مكبولا، نظر إليه عبد الرحمن بن معاوية وتحته فرس له، فقنّع «3» رأسه بالقناة، وقال: يا بغل، ماذا تحمل من الشقاق والنفاق! قال الثائر: يا فرس، ماذا تحمل من العفو والرحمة! فقال له عبد الرحمن: والله لا تذوق موتا على يدي أبدا.
هشام بن عبد الرحمن
ثم ولى هشام بن عبد الرحمن لسبع خلون من جمادي الآخرة سنة اثنتين وسبعين ومائة. ومات في صفر سنة ثمانين ومائة. وكانت ولايته سبع سنين وعشرة أشهر.
ومات وهو ابن إحدى وثلاثين سنة.
وهو أحسن الناس وجها، وأشرفهم نفسا، الكامل المروءة، الحاكم بالكتاب والسنة، الذي أخذ الزكاة على حلها، ووضعها في حقها، لم يعرف منه هفوة في حداثته، ولا زلة في أيام صباه، ورآه يوما أبوه وهو مقبل ممتليء شبابا فأعجبه فقال:
يا ليت نساء بني هاشم أبصرنه حتى يعدن فوارك «4» .
وكان هشام يصر الصّرر بالأموال في ليالي المطر والظّلمة، ويبعث بها إلى المساجد فيعطى من وجد فيها؛ يريد بذلك عمارة المساجد.(5/231)
وأوصى رجل في زمن هشام بمال في فك سبيّة من أرض العدو، فطلبت فلم توجد، احتراسا منه للثغر؛ واستنقاذا لأهل السبي.
الحكم بن هشام
ثم ولي الخلافة الحكم بن هشام في صفر سنة ثمانين ومائة؛ وكانت ولايته ستا وعشرين سنة وإحدى عشر شهرا. ومات يوم الخميس لثلاث بقين من ذي الحجة سنة ست ومائتين وهو ابن اثنتين وخمسين سنة.
وكانت فيه بطالة إلا أنه كان شجاع النفس، باسط الكف، عظيم العفة متخيرا لأهل عمله ولأحكام رعيته، أورع من يقدر عليه وأفضلهم، فيسلّطهم على نفسه، فضلا عن ولده وسائر خاصته.
وكان له قاض قد كفاه أمور رعيته، بفضله وعدله وورعه وزهده، فمرض مرضا شديدا، واغتم له الحكم غما شديدا؛ فذكر يزيد فتاه: أنه أرق يوما وليلة وبعد عنه نومه وجعل يتململ على فراشه، فقلت: أصلح الله الأمير، إني أراك متململا وقد زال النوم عنك، فلم أدر ما عرض لك! قال: ويحك، إني سمعت نائحة هذه الليلة، وقاضينا مريض، فما أراه إلا قد قضى نحبه، وأين لنا بمثله؟ ومن يقوم للرعية مقامه؟ ثم إن القاضي مات، واستقضى الحكم بعده سعيد بن بشير؛ فكان أقصد الناس إلى الحق، وآخذهم بعدل، وأبعدهم من هوى، وأنقذهم لحكم:
رفع إليه رجل من أهل كورة جيان أن عاملا للحكم اغتصبه جارية وعمل في تصييرها إلى الحكم، فوقعت من قلبه كل موقع، وأن الرجل أثبت أمره عند القاضي، وأتاه ببينة «1» يشهدون على معرفة ما تظلّم منه، وعلى عين الجارية ومعرفتهم بها، وأوجب البينة أن تحضر الجارية؛ فاستأذن القاضي على الحكم، فأذن له فلما دخل عليه قال: إنه لا يتم عدل في العامة دون إفاضته في الخاصة. وحكى له أمر الجارية،(5/232)
وخيّره في إبرازها إليه، أو عزله عن القضاء! فقال له: ألا أدعوك إلى خير من ذلك؟ تبتاع الجارية من صاحبها بأنفس ثمن وأبلغ ما يسأله فيها. فقال: إن الشهود قد شخصوا من كروة جيان يطلبون الحق في مظانه «1» ، فلما صاروا ببابك تصرفهم دون إنقاذ الحق لأهله! ولعل قائلا أن يقول: باع ما يملك بيع مقتسر على أمره. فلما رأى عزمه أمر بإخراج الجارية من قصره، وشهد الشهود على عينها، وقضى بها لصاحبها.
وكان سعيد بن بشير القاضي إذا خرج إلى المسجد أو جلس في مجلس الحكم، جلس في رداء معصفر «2» وشعر مفرق إلى شحمة أذنيه؛ فإذا طلب ما عنده وجد أورع الناس وأفضلهم.
وكانت للحكم ألف فرس مربوطة بباب قصره على جانب النهر، عليها عشرة عرفاء، تحت يد كل عريف منها مائة فرس لا تندب ولا تبرح، فإذا بلغه عن ثائر في طرف من أطرافه عاجله قبل استحكام أمره، فلا يشعر حتى يحاط به.
وأتاه الخبر: أن جابر بن لبيد يحاصر جيان وهو يلعب بالصولجان في الجسر، فدعا بعريف من أولئك فأشار إليه أن يخرج من تحت يده إلى جابر بن لبيد، ثم فعل مثل ذلك بأصحابه من العرفاء، فلم يشعر ابن لبيد حتى تساقطوا عليه متساوين، فلما رأى ذلك عدوّه سقط في أيديهم وظنوا أن الدنيا قد حشرت لديهم، فولوا مدبرين.
وقال الحكم يوم الهيجاء بعد وقعة الرّبض:
رأيت صدوع الأرض بالسّيف راقعا ... وقدما رأيت الشّعب مذ كنت يافعا
فسائل ثغوري هل بها اليوم ثغرة ... أبادرها مستنضي السيف دارعا
وشافه على أرض القضاء جماجما ... كأقحاف شريان الهبيد لوامعا «3»(5/233)
تنبّئك أني لم أكن عن قراعهم ... بوان وأني كنت بالسيف قارعا «1»
ولما تساقينا سجال حروبنا ... سقيتهم سمّا من الموت ناقعا «2»
وهل زدت أن وفّيتهم صاع قرضهم ... فوافوا منايا قدّرت ومصارعا
قال عثمان بن المثنى المؤدب: قدم علينا عباس بن ناصح من الجزيرة أيام الأمير عبد الرحمن بن الحكم، فاستنشدني شعر الحكم، فأنشدته، فلما انتهيت إلى قوله:
وهل زدت أن وفّيتهم صاع قرضهم
قال: لو جوثي الحكم في حكومة لأهل الربض لقام بعذره هذا البيت.
عبد الرحمن بن الحكم
ثم ولي بعده عبد الرحمن بن الحكم، أندى الناس كفا، وأكرمهم عطفا، وأوسعهم فضلا، في ذي الحجة سنة ست ومائتين: فملك إحدى وثلاثين سنة وخمسة أشهر، ومات ليلة الخميس لثلاث خلون من شهر ربيع الآخر سنة ثمان وثلاثين ومائتين، وهو ابن اثنتين وستين سنة.
وكتب إليه بعض عماله، يسأله عملا رفيعا لم يكن من شاكلته؛ فوقّع في أسفل كتابه:
من لم يصب وجه مطلبه، كان الحرمان أولى به.
محمد بن عبد الرحمن
ثم ولي الملك محمد بن عبد الرحمن، يوم الخميس لثلاث [خلون] من شهر ربيع الآخر سنة ثمان وثلاثين ومائتين، فملك أربعا وثلاثين سنة، وتوفي يوم الجمعة مستهلّ ربيع الأول سنة ثلاث وسبعين ومائتين، وهو ابن سبع وستين سنة.(5/234)
وكتب عبد الرحمن بن الشمر إلى الأمير محمد بن عبد الرحمن في حياة أبيه عبد الرحمن- وكان يتجنب الوقوف ببابه مخافة نصر الفتى- فلما مات نصر كتب ابن الشمر هذه الأبيات إلى محمد يقول فيها:
لئن غاب وجهي عنك إنّ مودّتي ... لشاهدة في كلّ يوم تسلّم
وما عاقني إلا عدوّ مسلّط ... يذلّ ويقصي من يشاء ويرغم
ولم يستطل إلا بكم وبعزّكم ... ولا ينبغي أن يمنح العزّ مجرم
فمكنتموه فاستطال عليكم ... وكادت بنا نيرانه تتضرّم
كذلك كلب السّوء إن يشبع انبرى ... لمشبعه مستشليا يترمرم «1»
فجمّع إخوانا لصوصا أراذلا ... ومنّاهم أن يقتلونا ويغنموا
رأى بأمين الله سقما فغرّه ... ولم يك يدري أنّه يتقدّم
فنحمد رباّ سرّنا بهلاكه ... فما زال بالإحسان والطّول ينعم
أراد يكيد الله نصر فكاده ... ولله كيد يغلب الكيد، مبرم
بكى الكفر والشّيطان نصرا فأعولا ... كما ضحكت شوقا إليه جهنّم
وكانت له في كلّ شهر جباية ... جباية آلاف تعد وتخّتم
فهل حائط الإسلام يوما يسومهم ... بما اجترموا يوما عليه وأقدموا «2»
وينهبنا أموالهم وهو فاعل ... فإني أرى الدّنيا له تتبسم
ألا أيّها النّاس اسمعوا قول ناصح ... حريص عليكم مشفق وتفهّموا
محمّد نور يستضاء بوجهه ... وسيف بكفّ الله ماض مصمّ
فكونوا له مثل البنين يكن لكم ... أبا حدبا في الرحم بل هو أرحم «3»
فيا بن أمين الله لا زلت سالما ... معافّي فإنا ما سلمت سنسلم
ألست المرجّى من أمية والذي ... له المجد منها الأتلد المتقدّم «4»(5/235)
وأنت لأهل الخير روح ورحمة ... نعم، ولأهل الشّرّ صاب وعلقم «1»
وحدث بقي بن مخلد الفقيه قال: ما كلمت أحدا من الملوك أكمل عقلا، ولا أبلغ لفظا من الأمير محمد؛ دخلت عليه يوما في مجلس خلافته فافتتح الكلام فحمد الله وأثنى عليه وصلى على النبي صلّى الله عليه وسلم، ثم ذكر الخلفاء خليفة خليفة؛ فحكى كل واحد منهم بحليته ونعته ووصفه، وذكره مآثره ومناقبه، بأفصح لسان، وأبين بيان، حتى انتهى إلى نفسه فسكت.
وخرج الأمير محمد يوما متنزها إلى الرصافة ومعه هاشم بن عبد العزيز، فكان بها صدر نهاره على لذّاته، فلما أمسى واختلط الظلام رجع منصرفا إلى القصر وبه اختلاط؛ فأخبرني من سمعه وهاشم يقول له: يا سيدي يا بن الخلائف، ما أطيب الدنيا لولا، قال له: لولا ماذا؟ قال: لولا الموت! قال له: يا بن اللخناء لحنت «2» في كلامك؛ وهل ملكنا هذا الملك الذي نحن فيه إلا بالموت، ولولا الموت ما ملكناه أبدا.
وكان الأمير محمد غزّاء لأهل الشرك والخلاف، وربما أوغل في بلاد العدوّ الستة الأشهر أو أكثر، يحرق وينسف، وله في العدوّ وقيعة وادي سليط، وهي من أمهات الوقائع؛ لم يعرف مثلها في الأندلس قبلها، وفيها يقول عباس بن فرناس، وشعره يكفينا من صفتها:
ومختلف الأصوات مؤتلف الزّحف ... لهوم الفلا عبل القبائل ملتفّ «3»
إذا أومضت فيه الصّوارم خلتها ... بروقا تراءى في الجهام وتستخفي «4»
كأنّ ذرّى الأعلام في سيلانه ... فراقد يم قد عجزن عن القذف «5»(5/236)
وإن طحنت أركانه كان قطبها ... حجى ملك نجد شمائله عفّ
سميّ ختام الأنبياء محمد ... إذا وصف الأملاك جلّ عن الوصف
فمن أجله يوم الثلاثاء غدوة ... وقد نقض الإصباح عقد عرى السجف «1»
بكى جبلا وادي سليط فأعولا ... على النفر العبدان والعصبة الغلف «2»
دعاهم صريخ الحين فاجتمعوا له ... كما اجتمع الجعلان للبعر في قفّ «3»
فما كان إلّا أن رماهم ببعضها ... فولّوا على أعقاب مهزومة كشف «4»
كأنّ مساعير الموالي عليهم ... شواهين جادت للغرانيق بالسّيف»
بنفسي تنانير الوغى حين صمّمت ... إلى الجبل المشحون صفاّ على صفّ
يقول ابن بليوس لموسى وقد ونى ... أرى الموت قدّامي وتحتي ومن خلفي
قتلناهم ألفا وألفا ومثلها ... وألفا وألفا بعد ألف إلى ألف
سوى من طواه النهر في مستلجّه ... فأغرق فيه أو تدأدأ من جرف «6»
المنذر بن محمد
ثم ولي المنذر بن محمد، يوم الأحد لثلاث خلون من ربيع الأول سنة ثلاث وسبعين ومائتين. ومات يوم السبت في غزاة له على ببشتر «7» لثلاث عشرة بقيت من صفر سنة خمس وسبعين ومائتين، وهو ابن ست وأربعين سنة.
وكان أشدّ الناس شكيمة، وأمضاهم عزيمة؛ ولما ولي الملك بعث إليه أهل طليطلة بجبايتهم كاملة، فردّها عليهم وقال: استعينوا بها في حربكم، فأنا سائر إليكم إن شاء الله.(5/237)
ثم غزا إلى المارق الموتر عمرو بن حفصون، وهو بحصن قامرة فأحدق به بخيله ورجله، فلم يجد الفاسق منفذا ولا متنفّسا، فأعمل الحيلة، ولاذ بالمكر والخديعة، وأظهر الإنابة والإجابة، وأن يكون من مستوطني قرطبة بأهله وولده، وسأل إلحاق أولاده في الموالي: فأجابه الأمير إلى كل ما سأل، وكتب له الأمانات، وقطعت لأولاده الثياب، وخرزت له الخفاف؛ ثم سأل مائة بغل يحمل عليها ماله ومتاعه إلى قرطبة، فأمر الأمير بها، وطلبت البغال ومضت إلى ببشتر وعليها عشرة من العرفاء، وانحل العسكر عن الحصن بعض الانحلال، وعكف القاضي وجماعة من الفقهاء على تمام الصلح فيما حسبوا فلما رأى الفاسق الفرصة، انتهزها؛ ففسق ليلا وخرج، فلقى العرفاء بالبغال، فقتلهم وأخذ البغال، وعاد إلى سيرته الأولى؛ فعقد المنذر على نفسه عقدا أن لا أعطاه صلحا ولا عهدا إلا أن يلقى بيده، وينزل على عهده وحكمه، ثم غزاه الغزاة التي توفى فيها، فأمر بالبنيان والسكنى عليه. وأن يردّ سوق قرطبة عليه؛ فعاجله أجله عن ذلك.
عبد الله بن محمد
ثم تولى عبد الله بن محمد التقي النقي العابد الزاهد، التالي لكتاب الله، والقائم بحدود الله، يوم السبت لثلاث عشرة بقيت من صفر سنة خمس وسبعين ومائتين فبنى الساباط «1» ، وخرج إلى الجامع والتزم الصلاة إلى جانب المنبر حتى أتاه أجله رحمه الله يوم الثلاثاء لليلة بقيت من صفر سنة ثلاثمائة.
وكانت له غزوات، منها غزاة بلى، التي أنست كل غزاة تقدمتها، وذلك أن المرثد ابن حفصون ألّب عليه كور الأندلس، فنزل حصن بلى «2» ، وخرج إليه الأمير عبد الله بن محمد في أربعة عشر ألفا من أهل قرطبة خاصة، وأربعة آلاف من حشمه ومواليه؛ فبرز إليه الفاسق وقد كردس كراديسه «3» في سفح الجبل، وناهضه الأمير(5/238)
عبد الله بجمهور عسكره، فلم يكن لهم فيه إلا صدمة صادقة، أزالوهم بها عن عسكرهم، فلم يقدروا أن يتراجعوا إليه؛ ونظر الفاسق إلى معسكر عبد الله الأمير، فإذا بمدد مقبل مثل الليل، في انحدار السيل. لا ينقطع؛ فخشعت نفسه، وعطف إلى الحصن يظهر إخراج من بقي فيه، فثلم «1» ثلمة وخرج منها في خمسة معه، وقد طار بهم جناح الفرار؛ فلما انتهى ذلك إلى أهل عسكره، ولّوا مدبرين لا يلوي أحد على أحد، فعملت الرماح على أكتافهم، والسيوف في طلى «2» أعناقهم، حتى أفنوهم أو كادوا، وكان منهم جماعة قد افترقوا في عسكر الأمير عبد الله، فقعد الأمير في المظلة وأمر بالتقاطهم، وأن لا يمر أحد على أحد منهم إلا قتله. فقتل منهم ألف رجل صبرا بين يدي الأمير.
عبد الرحمن بن محمد أمير المؤمنين
ثم ولي الملك القمر الأزهر، الأسد الغضنفر، الميمون النقيبة، «3» المحمود الضريبة، سيد الخلفاء، وأنجب النجباء، عبد الرحمن بن محمد أمير المؤمنين، صبيحة هلال ربيع الأول سنة ثلاثمائة، فقلت فيه:
بدا الهلال جديدا ... والملك غضّ جديد
يا نعمة الله زيدي ... ما كان فيه مزيد
وهي عدة أبيات، فتولى الملك وهي جمرة تحتدم، ونار تضطرم، وشقاق ونفاق، فأخمد نيرانها، وسكن زلزالها، وافتتحها عودا كما افتتحها بدءا سميّه عبد الرحمن بن معاوية رحمه الله.
وقد قلت وقيل في غزواته كلها أشعار قد جالت في الأمصار، وشردت في البلدان، حتى أتهمت وأنجدت وأعرقت، ولولا أن الناس متكتفون بما في أيديهم منها(5/239)
لأعدنا ذكرها أو ذكر بعضها، ولكنا سنذكر ما سبق إلينا من مناقبه التي لم يتقدمه إليها متقدّم ولا أخت لها ولا نظير. فمن ذلك أول غزاة غزاها، وهي الغزاة المعروفة بغزاة المنتلون، افتتح بها سبعين حصنا، كلّ حصن منها قد نكبت عنه الطوائف، وأعيا على الخلائف، وفيها أقول:
قد أوضح الله للإسلام منهاجا ... والناس قد دخلوا في الدّين أفواجا
وقد تزيّنت الدّنيا لساكنها ... كأنما ألبست وشيا وديباجا
يا بن الخلائف إنّ المزن لو علمت ... نداك ما كان منها الماء ثجّاجا «1»
والحرب لو علمت بأسا تصول به ... ما هيّجت من حميّاك الذي اهتاجا «2»
مات النّفاق وأعطى الكفر ذمّته ... وذلّت الخيل إلجاما وإسراجا
وأصبح النصر معقودا بألوية ... تطوي المراحل تهجيرا وإدلاجا «3»
أدخلت في قبّة الإسلام مارقة ... أخرجتها من ديار الشّرك إخراجا «4»
بجحفل تشرق الأرض الفضاء به ... كالبحر يقذف بالأمواج أمواجا
يقوده البدر يسري في كواكبه ... عرمرما كسواد الليل رجراجا «5»
تروق فيه بروق الموت لامعة ... ويسمعون به للرّعد أهزاجا
غادرت في عقوتي جيّان ملحمة ... أبكيت منها بأرض الشّرك أعلاجا «6»
في نصف شهر تركت الأرض ساكنة ... من بعد ما كان فيها الجور قد ماجا
وجدت في الخبر المأثور منصلتا ... من الخلائف خرّاجا وولّاجا «7»
تملا بك الأرض عدلا مثل ما ملئت ... جورا وتوضح للمعروف. منهاجا
يا بدر ظلمتها، يا شمس صبحتها ... يا ليث حومتها إن هائج هاجا «8»(5/240)
إنّ الخلافة لن ترضى ولا رضيت ... حتى عقدت لها في رأسك التّاجا
ولم يكن مثل هذه الغزاة لملك من الملوك في الجاهلية والإسلام.
وله غزاة مارشن «1» التي كانت أخت بدر وحنين، وقد ذكرناها على وجهها في الأرجوزة التي نظمتها في مغازيه كلها من سنة إحدى وثلاثمائة إلى سنة اثنتين وعشرين وثلاثمائة، وأوقفناها.
ومن مناقبه أن الملوك لم تزل تبني على أقدارها، ويقضى عليها بآثارها، وأنه بنى في المدة القليلة ما لم تبن الخلفاء في المدة الطويلة، نعم: لم يبق في القصر الذي فيه مصانع أجداده ومعالم أوليته بنيّة «2» إلا وله فيها أثر محدث، إما تزييد أو تجديد.
ومن مناقبه أنه أول من سمى أمير المؤمنين من خلفاء بني أمية بالأندلس.
ومن مناقبه التي لا أخت لها ولا نظير، ما أعجز فيه من بعده، وفات فيه من قبله، من الجود الذي لم يعرف لأحد من أجواد الجاهلية والإسلام إلا له؛ وقد ذكرت ذلك في شعري الذي أقول فيه:
يا بن الخلائف والعلا للمعتلي ... والجود يعرف فضله للمفضل
نوّهت بالخلفاء بل أخملتهم ... حتى كأنّ نبيلهم لم ينبل
أذكرت بل أنسيت ما ذكر الألى ... من فعلهم فكأنه لم يفعل
وأتيت آخرهمّ وشأوك فائت ... للآخرين ومدرك للأوّل
ألآن سمّيت الخلافة باسمها ... كالبدر يقرن بالسّماك الأعزل «3»
تأبى فعالك أن تقرّ لآخر ... منهم وجودك أن يكون لأوّل
وهذه الأرجوزة التي ذكرت جميع مغازيه وما فتح الله عليه فيها في كل غزاة، وهي:(5/241)
سبحان من لم تحوه أقطار ... ولم تكن تدركه الأبصار
ومن عنت لوجهه الوجوه ... فما له ندّ ولا شبيه
سبحانه من خالق قدير ... وعالم بخلقه بصير
وأوّل ليس له ابتداء ... وآخر ليس له انتهاء
أوسعنا إحسانه وفضله ... وعزّ أن يكون شيء مثله
وجلّ أن تدركه العيون ... أو يحوياه الوهم والظّنون
لكنّه يدرك بالقريحة ... والعقل والأبينة الصّحيحة «1»
وهذه من أثبت المعارف ... في الأوجه الغامضة اللّطائف
معرفة العقل من الإنسان ... أثبت من معرفة العيان
فالحمد لله على نعمائه ... حمدا جزيلا وعلى آلائه «2»
وبعد حمد الله والتّمجيد ... وبعد شكر المبديء المعيد
أقول في أيام خير الناس ... ومن تحلّى بالنّدى والباس
ومن أباد الكفر والنّفاقا ... وشرّد الفتنة والشّقاقا
ونحن في حنادس كالليل ... وفتنة مثل غثاء السّيل «3»
حتى تولّى عابد الرّحمن ... ذاك الأعزّ من بني مروان
مؤيّد حكّم في عداته ... سيفا يسيل الموت من ظباته «4»
وصبّح الملك مع الهلال ... فأصبحا ندّين في الجمال
واحتمل التقوى على جبينه ... والدّين والدنيا على يمينه
قد أشرقت بنوره البلاد ... وأنقطع التشغيب والفساد
هذا على حين طغى النفاق ... واستفحل النكّاث والمرّاق «5»(5/242)
وضاقت الأرض على سكانها ... وأذلت الحرب لظى نيرانها
ونحن في عشواء مدلهمّة ... وظلمة ما مثلها من ظلمه
تأخذنا الصّيحة كلّ يوم ... فما تلذّ مقلة بنوم
وقد نصلي العيد بالنواظر ... مخافة من العدوّ الثائر «1»
حتى أتانا الغوث من ضياء ... طبّق بين الأرض والسماء «2»
خليفة الله الذي أصطفاه ... على جميع الخلق واجتباه
من معدن الوحي وبيت الحكمة ... وخير منسوب إلى الأئمة
تكلّ عن معروفه الجنائب ... وتستحي من جوده السحائب «3»
في وجهه من نوره برهان ... وكفّه تقبيلها قربان
أحيا الذي مات من المكارم ... من عهد كعب وزمان حاتم
مكارم يقصر عنها الوصف ... وغرّة يحسر عنها الطّرف «4»
وشيمة كالصّاب أو كالماء ... وهمّة ترقى إلى السماء «5»
وانظر إلى الرفيع من بنيانه ... يريك بدعا من عظيم شانه
لو خايل البحر ندى يديه ... إذا لجت عفاته إليه «6»
لغاض أو لكاد أن يغيضا ... ولا استحى من بعد أن يفيضا «7»
من أسبغ النّعمى وكانت محقا ... وفتّق الدّنيا وكانت رتقا
هو الذي جمّع شمل الأمه ... وجاب عنها دامسات الظلمة
وجدّد الملك الذي قد أخلقا ... حتى رست أوتاده واستوسقا
وجمّع العدّة والعديدا ... وكثّف الأجناد والحشودا(5/243)
أول غزاة غزاها أمير المؤمنين عبد الرحمن بن محمد
ثم انتحى جيّان في غزاته ... بعسكر يسعر من حماته
فاستنزل الوحش من الهضاب ... كأنما حطّت من السّحاب
فأذعنت مرّاقها سراعا ... وأقبلت حصونها تداعى»
لمّا رماها بسيوف العزم ... مشحوذة على دروع الحزم
كادت لها أنفسهم تجود ... وكادت الأرض بهم تميد «2»
لولا الإله زلزلت زلزالها ... وأخرجت من رهبة أثقالها
فأنزل الناس إلى البسيط ... وقطع البين من الخليط
وافتتح الحصون حصنا حصنا ... وأوسعّ الناس جميعا أمنا
ولم يزل حتى انتحى جيّانا ... فلم يدع بأرضها شيطانا
فأصبح الناس جميعا أمّه ... قد عقد الإلّ لهم والذّمّه «3»
ثم انتحى من فوره إلبيره ... وهي بكلّ آفة مشهورة «4»
فداسها بخيله ورجله ... حتى توطّا خدّها بنعله
ولم يدع من جنّها مريدا ... بها ولا من إنسها عنيدا «5»
إلّا كساه الذّل والصّغارا ... وعمّه وأهله دمارا
فما رأيت مثل ذاك العام ... ومثل صنع الله للإسلام
فانصرف الأمير من غزاته ... وقد شفاه الله من عداته
وقبلها ما خضعت وأذعنت ... إستجّة وطالما قد صنعت «6»
وبعدها مدينة الشّئيل ... ما أذعنت للصّارم الصّقيل «7»(5/244)
لمّا غزاها قائد الأمير ... باليمن في لوائه المنصور
فأسلمت ولم تكن بالمسلمه ... وزال عنها أحمد بن مسلمه
وبعدها في آخر الشهور ... من ذلك العام الزكيّ النّور
أرجفت القلاع والحصون ... كأنما ساورها المنون
وأقبلت رجالها وفودا ... تبغي لدى إمامها السّعودا
وليس من ذي عزة وشدّة ... إلا توافوا عند باب السّده «1»
قلوبهم باخعة بالطاعه ... قد أجمعوا الدخول في الجماعة «2»
سنة إحدى وثلاثمائة
ثم غزا في عقب عام قابل ... فحال في شذونة والسّاحل «3»
ولم يدع مريّة الجزيره ... حتى كوى أكلبها الهريره «4»
حتى أناخ بذرى قرمونه ... بكلكل كمدرة الطاحونه «5»
على الذي خالف فيها وانتزى ... يعزى إلى سوادة إذا اعتزى
فسال أن يمهله شهورا ... ثم يكون عبده المأمورا
فأسعف الأمير منه ما سأل ... وعاد بالفضل عليه وقفل «6»
سنة اثنتين وثلاثمائة
كان بها القفول عند الجيئه ... من غزو إحدى وثلثمائه «7»
فلم يكن يدرك في باقيها ... غزو ولا بعث يكون فيها(5/245)
سنة ثلاث وثلاثمائة
ثمّت أغزى في الثلاث عمّه ... وقد كساه عزمه وحزمه
فسار في جيش شديد الباس ... وقائد الجيش أبو العبّاس
حتى ترقّى بذرى ببشتر ... وجال في ساحتها بالعسكر
فلم يدع زرعا ولا ثمارا ... لهم ولا علفا ولا عقارا
وقطع الكروم منها والشجر ... ولم يبايع علجها ولا ظهر «1»
ثم انثنى من بعد ذاك قافلا ... وقد أباد الزرع والمآكلا
فأيقن الخنزير عند ذاكا ... أن لا بقاء يرتجى هناكا
فكاتب الإمام بالإجابة ... والسّمع والطاعة والإنابة
فأخمد الله شهاب الفتنه ... وأصبح الناس معا في هدنه
وارتعت الشاة معا والذّيب ... إذ وضعت أوزارها الحروب
سنة أربع وثلاثمائة
وبعدها كانت غزاة أربع ... فأيّ صنع ربّنا لم يصنع ...
... فيها، ببسط الملك الأوّاه ... كلتا يديه في سبيل الله
وذاك أن قوّد قائدين ... بالنّصر والتأيبد ظاهرين
هذا إلى الثّغر وما يليه ... على عدوّ الشّرك أو ذويه
وذا إلى شمّ الرّبا من مرسيه ... وما مضى جرى إلى بلنسيه «2»
فكان من وجّهه للساحل ... القرشيّ القائد القنابل «3»
وابن أبي عبدة نحو الشّرك ... في خير ما تعبية وشكّ «4»
فأقبلا بكلّ فتح شامل ... وكلّ ثكل للعدوّ ثاكل
وبعد هذى الغزوة الغرّاء ... كان افتتاح ليلة الحمراء «5»(5/246)
أغزى بجند نحوها مولاه ... في عقب هذا العام لا سواه
بدرا، فضمّ جانبيه ضمّه ... وغمّها حتى أجابت حكمه
وأسلمت صاحبها مقهورا ... حتى أتى بدر به مأسورا
سنة خمس وثلاثمائة
وبعدها كانت غزاة خمس ... إلى السّواديّ عقيد النّحس
لمّا طغى وجاوز الحدودا ... ونقض الميثاق والعهودا
ونابذ السّلطان من شقائه ... ومن تعدّيه وسوء رائه
أغزى إليه القرشيّ القائدا ... إذ صار عن قصد السبيل حائدا
ثمّت شدّ أزره ببدر ... فكان كالشّفع لهذا الوتر «1»
أحدقها بالخيل والرجال ... مشمّرا وجدّ في القتال
فنازل الحصن العظيم الشّان ... بالرّجل والرّماة والفرسان
فلم يزل بدر بها محاصرا ... كذا على قتاله مثابرا
والكلب في تهوّر قد انغمس ... وضيّق الحلق عليه والنّفس
فافترق الأصحاب عن لوائه ... وفتحوا الأبواب دون رائه
واقتحم العسكر في المدينة ... وهو بها كهيئة الظّعينه «2»
مستسلما للذلّ والصّغار ... وملقيا يديه للإسار
فنزع الحاجب تاج ملكه ... وقاده مكتّفا لهلكه «3»
وكان في آخر هذا العام ... نكب أبي العبّاس بالإسلام
غزا فكان أنجد الأنجاد ... وقائدا من أفحل القوّاد
فسار في غير رجال الحرب ... الضاربين عند وقت الضرب
محاربا في غير ما محارب ... والحشم الجمهور عند الحاجب(5/247)
واجتمعت إليه أخلاط الكور ... وغاب ذو التّحصيل عنه والنظر «1»
حتى إذا أوغل في العدوّ ... فكان بين البعد والدّنوّ
أسلمه أهل القلوب القاسيه ... وأفردوه للكلاب العاويه
فاستشهد القائد في أبرار ... قد وهبوا نفوسهم للباري
في غير تأخير ولا فرار ... إلا شديد الضرب للكفار
سنة ست وثلاثمائة
قم أقاد الله من أعدائه ... وأحكم النصر لأوليائه
في مبدأ العام الذي من قابل ... أزهق فيه الحقّ نفس الباطل
فكان من رأي الإمام الماجد ... وخير مولود وخير والد
أن احتمي للواحد القهّار ... وفاض من غيظ على الكفّار
فجمع الأجناد والحشودا ... ونفّر السيّد والمسودا
وحشر الأطراف والثّغورا ... ورفض الّلذّة والحبورا «2»
حتى إذا ما وافت الجنود ... واجتمع الحشّاد والحشود
قوّد بدرا أمر تلك الطائفة ... وكانت النفس عليه خائفه
فسار في كتائب كالسّيل ... وعسكر مثل سواد الليل
حتى إذا حلّ على مطنيّه ... وكان فيها أخبث البرّيه «3»
ناصبهم حربا لها شرار ... كأنما أضرم فيها النار
وجدّ من بينهم القتال ... وأحدقت حولهم الرجال
فحاربوا يومهم وباتوا ... وقد نفت نومهم الرّماة
فهم طوال الليل كالطّلائح ... جراحهم تنغل في الجوارح «4»
ثم مضوا في حربهم أيّاما ... حتى بدا الموت لهم زؤاما(5/248)
لمّا رأوا سحائب المنيّة ... تمطرهم صواعق البليه
تغلغل العجم بأرض العجم ... وانحشدوا من تحت كلّ نجم
فأقبل العلج لهم مغيثا ... يوم الخميس مسرعا حثيثا «1»
بين يديه الرّجل والفوارس ... وحوله الصّلبان والنّواقس
وكان يرجو أن يزيل العسكرا ... عن جانب الحصن الذي قد دمّرا
فاعتاقه بدر بمن لديه ... مستبصرا في زحفه إليه
حتى التقت ميمنة بميسره ... واعتلت الأرواح عند الحنجره
ففاز حزب الله بالعلجان ... وانهزمت بطانة الشيطان
فقتلوا قتلا ذريعا فاشيا ... وأدبر العلج ذميما خازيا
وانصرف الناس إلى القليعة ... فصبّحوا العدوّ يوم الجمعه
ثم التقى العلجان في الطريق ... البنبلونيّ مع الجلّيقي
فأعقدا على انتهاب العسكر ... وأن يموتا قبل ذاك المحضر
وأقسما بالجبت والطاغوت ... لا يهزما دون لقاء الموت «2»
فأقبلوا بأعظم الطّغيان ... قد جلّلوا الجبال بالفرسان
حتى تداعى الناس يوم السبت ... فكان وقتا يا له من وقت
فأشرعت بينهم الرماح ... وقد علا التّكبير والصّياح
وفارقت أغمادها السّيوف ... وفغرت أفواهها الحتوف «3»
والتقت الرجال بالرجال ... وانغمسوا في غمرة القتال
في موقف زاغت به الأبصار ... وقصرت في طوله الأعمار
وهبّ أهل الصبر والبصائر ... فأوعقوا على العدوّ الكافر «4»(5/249)
حتى بدت هزيمة البشكنس ... كأنّه مختضب بالورس «1»
فانقضّت العقبان والسلالقه ... زعقا على مقدّم الجلالقه «2»
عقبان موت تخطف الأرواحا ... وتشبع السّيوف والرماحا
فانهزم الخنزير عند ذاكا ... وانكشفت عورته هناك
فقتلوا في بطن كلّ وادي ... وجاءت الرّءوس في الأعواد
وقدّم القائد ألف راس ... من الجلاليق ذوي العماس»
فتمّ صنع الله للإسلام ... وعمّنا سرور ذاك العام
وخير ما فيه من السّرور ... موت ابن حفصون به الخنزير
فاتّصل الفتح بفتح ثان ... والنّصر بالنّصر من الرّحمن
وهذه الغزاة تدعى القاضيه ... وقد أتتهم بعد ذاك الداهيه
سنة سبع وثلاثمائة
وبعدها كانت غزاة بلده ... وهي التي أودت بأهل الرّدّة «4»
وبدؤها أنّ الإمام المصطفى ... أصدق أهل الأرض عدلا ووفا
لمّا أتته ميتة الخنزير ... وأنه صار إلى السّعير
كاتبه أولاده بالطاعه ... وبالدّخول مدخل الجماعه
وأن يقرّهم على الولاية ... على ورود الخرج والجبايه
فاختار ذلك الإمام المفضل ... ولم يزل من رأيه التّفضّل
ثم لوى الشيطان رأس جعفر ... وصار منه نافخا في المنخر
فنقض العهود والميثاقا ... واستعمل التّشغيب والنفاقا «5»(5/250)
وضمّ أهل النّكث والخلاف ... من غير ما كاف وغير وافي
فاعتاقه الخليفة المؤيّد ... وهو الذي يشقي به ويسعد «1»
ومن عليه من عيون الله ... حوافظ من كلّ أمر داه
فجنّد الجنود والكتائبا ... وقوّد القوّاد والمقانبا «2»
ثم غزا في أكثر العديد ... مستصحبا بالنّصر والتأييد
حتى إذا مرّ بحصن بلده ... خلف فيه قائدا في عدّه
يمنعهم من انتشار خيلهم ... وحارسا في يومهم وليلهم
ثمّ مضى يستنزل الحصونا ... ويبعث الطّلاع والعيونا
حتى أتاه باشر من بلده ... يعدو برأس رأسها في صعده «3»
فقدّم الخيل إليها مسرعا ... واحتلّها من يومه تسرّعا
فحفّها بالخيل والرّماة ... وجملة الحماة والكماة «4»
فأطلع الرجل على أنقابها ... واقتحم الجند على أبوابها «5»
فأذعنت ولم تكن بمذعنة ... واستسلمت كافرة لمؤمنه
فقدّمت كفارها للسيف ... وقتّلوا بالحقّ لا بالحيف «6»
وذاك من يمن الإمام المرتضى ... وخير من بقي وخير من مضى
ثم انتحى من فوره بر بشترا ... فلم يدع بها قضيبا أخضرا
وحطّم النّبات والزّروعا ... وهتك الرباع والرّبوعا
فإذ رأى الكلب الذي رآه ... من عزمه في قطع منتواه «7»(5/251)
ألقى إليه باليدين ضارعا ... وسال أن يبقى عليه وادعا
وأن يكون عاملا في طاعته ... على درور الخرج من جبايته
فوثق الإمام من رهانه ... كيلا يكون في عمى من شانه
وقبل الإمام ذاك منه ... فضلا وإحسانا وسار عنه
سنة ثمان وثلاثمائة
ثم غزا الإمام دار الحرب ... فكان خطبا يا له من خطب
فحشدت إليه أعلام الكور ... ومن له في النار ذكر وخطر «1»
إلى ذوي الديوان والرايات ... وكلّ منسوب إلى الشامات
وكلّ من أخلص للرّحمن ... بطاعة في السر والإعلان
وكلّ من طاوع بالجهاد ... أو ضمه سرج على الجياد
فكان حشدا يا له من حشد ... من كلّ حرّ عندنا وعبد
فتحسب الناس جرادا منتشر ... كما يقول ربّنا فيمن حشر
ثم مضى المظفّر المنصور ... على جبينه الهدى والنّور
أمامه جند من الملائكه ... آخذة لربّها وتاركه
حتى إذا فوّز في العدوّ ... جنّبه الرحمن كل سو «2»
وأنزل الجزية والدواهي ... على الذين أشركوا بالله
فزلزلت أقدامهم بالرّعب ... واستنفروا من خوف نار الحرب
واقتحموا الشّعاب والمكامنا ... وأسلموا الحصون والمدائنا «3»
فما تبقّى من جناب دور ... من بيعة لراهب أو دير
إلا وقد صيّرها هباء ... كالنار إذ وافقت الأباء «4»
وزعزعت كتائب السّلطان ... بكلّ ما فيها من البنيان
فكان من أوّل حصن زعزعوا ... ومن به من العدوّ أوقعوا(5/252)
مدينة معروفة بوخشمه ... فغادروها فحمة مسخّمه «1»
ثم ارتقوا منها إلى حواضر ... فغادروها مثل أمس الدابر
ثم مضوا والعلج يحتذيهم ... بجيشه يمشي ويقتفيهم
حتى انتهوا منه لوادي ديّ ... ففيه عفّى الرّشد سبل الغيّ
لمّا التقوا بمجمع الجوزين ... واجتمعت كتائب العلجين
من أهل اليون وبنبلونه ... وأهل أرنيط وبرشلونه «2»
تضافر الكفر مع الإلحاد ... واجتمعوا من سائر البلاد
فاضطربوا في سفح طود عال ... وصففّوا تعبية القتال «3»
فبادرت إليهم المقدّمه ... سامية في خيلها المسوّمه
وردّها متصل بردّ ... يمدّه بحر عظيم المدّ «4»
فانهزم العلجان في علاج ... ولبسوا ثوبا من العجاج «5»
كلاهما ينظر حينا خلفه ... فهو يرى في كلّ وجه حتفه
والبيض في آثارهم والسّمر ... والقتل ماض فيهم والأسر «6»
فلم يكن للنّاس من براح ... وجاءت الرءوس في الرّماح
فأمر الأمير بالتّقويض ... وأسرع العسكر في النّهوض
فصادفوا الجمهور لمّا هزموا ... وعاينوا قوّادهم تخرّموا «7»
فدخلوا حديقة للموت ... إذ طمعوا في حصنها بالفوت
فيا لها حديقة ويا لها ... وافت بها نفوسهم آجالها(5/253)
تحصّنوا إذ عاينوا الأهوالا ... بمعقل كان لهم عقالا
وصخرة كانت عليهم صيلما ... وانقلبوا منها إلى جهنما «1»
تساقوا يستطعمون الماء ... فأخرجت أرواحهم ظماء
فكم لسيف الله من جزور ... في مأدب الغربان والنّسور «2»
وكم به قتلى من القساوس ... تندب للصّلبان والنّواقس
ثم ثنى عنانه الأمير ... وحوله التّهليل والتّكبير
مصمّما بحرب دار الحرب ... قدّامه كتائب من عرب
فداسها وسامها بالخسف ... والهتك والسّفك لها والنّسف
فحرّقوا ومزّقوا الحصونا ... وأسخنوا من أهلها العيونا
فانظر عن اليمين واليسار ... فما ترى إلا لهيب النار
وأصبحت ديارهم بلاقعا ... فما ترى إلا دخانا ساطعا «3»
ونصر الإمام فيها المصطفى ... وقد شفى من العدوّ واشتفى
غزوة سنة تسع وثلاثمائة
وبعدها كانت غزاة طرّش ... سمت إليها جيشه لم ينهش «4»
وأحدقت بحصنها الأفاعي ... وكلّ صلّ أسود شجاع «5»
ثم بنى حصنا عليها راتبا ... يعتور القوّاد فيه دائبا
حتى أنابت عنوة جنّانها ... وغاب عن يافوخها شيطانها
فأذعنت لسيّد السادات ... وأكرم الأحياء والأموات
خليفة الله على عباده ... وخير من يحكم في بلاده(5/254)
وكان موت بدر ابن أحمد ... بعد قفول الملك المؤيّد
واستحجب الإمام خير حاجب ... وخير مصحوب وخير صاحب
موسى الأغرّ من بني جدير ... عقيد كلّ رأفة وخير
سنة عشر وثلاثمائة
وبعدها غزاة عشر غزوه ... بها افتتاح منتلون عنوه
غزا الإمام في ذوي السّلطان ... يؤمّ أهل النّكث والطّغيان «1»
فاحتلّ حصن منتلون قاطعا ... أسباب من أصبح فيه خالعا
سار إليه وبنى عليه ... حتى أتاه ملقيا يديه
ثم انثنى عنه إلى شذونه ... فعاضها سهلا من الحزونه «2»
وساقها بالأهل والولدان ... إلى لزوم قبّة الإيمان
ولم يدع صعبا ولا منيعا ... إلا وقد أذلهم جميعا
ثم انثنى بأطيب القفول ... كما مضى بأحسن الفصول
سنة إحدى عشر وثلاثمائة
وبعدها غزاة إحدى عشره ... كم نبّهت من نائم في سكره
غزا الإمام ينتحي ببشترا ... في عسكر أعظم بذاك عسكرا
فاحتلّ من ببشتر ذراها ... وجال في شاط وفي سواها «3»
فخرّب العمران من ببشتر ... وأذعنت شاط لربّ العسكر «4»
فأدخل العدّة والعديدا ... فيها ولم يترك بها عنيدا
ثم انتحى بعد حصون العجم ... فداسها بالقضم بعد الخضم «5»
ما كان في سواحل البحور ... منها وفي الغابات والوعور(5/255)
وأدخل الطّاعة في مكان ... لم يدر قطّ طاعة السّلطان
ثم رمى الثّغر بخير قائد ... وذادهم منها بخير ذائد «1»
به قما الله ذوي الإشراك ... وأنقذ الثّغر من الهلاك»
وانتاش من مهواتها تطيله ... وقد ثوت دماؤها مطلوله «3»
وسهّل الثّغر وما يليه ... من شيعة الكفر ومن ذويه
ثم انثنى بالفتح والنجاح ... قد غيّر الفساد بالصلاح
سنة اثنتي عشر وثلاثمائة
وبعدها غزاة ثنتى عشره ... وكم بها من حسرة وعبره
غزا الإمام حوله كتائبه ... كالبدر محفوفا به كواكبه «4»
غزا وسيف النصر في يمينه ... وطالع السعد على جبينه
وصاحب العسكر والتّدبير ... موسى الأغرّ حاجب الأمير «5»
فدمّر الحصون من تدمير ... واستنزل الوحش من الصّخور «6»
فاجتمعت عليه كلّ الأمّه ... وبايعته أمراء الفتنه
حتى إذا أوعب من حصونها ... وحمّل الحقّ على متونها «7»
مضى وسار في ظلال العسكر ... تحت لواء الأسد الغضنفر
رجال تدمير ومن يليهم ... من كلّ صنف يعتزي إليهم
حتى إذا حلّ على تطيله ... بكت على دمائها المطوله
وعظم ما لاقت من العدوّ ... والحرب في الرّواح والغدوّ
فهمّ أن يديخ دار الحرب ... وأن يكون ردأة في الدّرب «8»(5/256)
ثم استشار ذا النّهى والحجر ... من صحبه ومن رجال الثّغر
فكلّهم أشار أن لا يدربا ... ولا يجوز الجبل المؤشّبا
لأنه في عسكر قد انخرم ... بندب كلّ العرفاء والحشم
وشنّعوا أنّ وراء الفجّ ... خمسين ألفا من رجال العلج
فقال لا بدّ من الدّخول ... وما إلى حاشاه من سبيل
وأن أديخ أرض بنبلونه ... وساحة المدينة الملعونه
وكان رأيا لم يكن من صاحب ... ساعده عليه غير الحاجب
واستنصر الله وعبّى ودخل ... فكان فتحا لم يكن له مثل «1»
لمّا مضى وجاز الدّروبا ... وادّرع الهيجاء والحروبا «2»
عبّى له علج من الأعلاج ... كتائبا غطّت على الفجاج «3»
فاستنصر الإمام ربّ الناس ... ثم استعان بالنّدى والباس
وعاذ بالرّغبة والدعاء ... واستنزل النّصر من السّماء
فقدم القوّاد بالحشود ... وأتبع المدود بالمدود
فانهزم العلج وكانت ملحمه ... جاوز فيها السّاقة المقدّمه «4»
فقتلوا مقتلة الفناء ... فارتوت البيض من الدّماء
ثم أمال نحو بنبلونه ... واقتحم العسكر في المدينه
حتى إذا جاسوا خلال دورها ... وأسرع الخراب في معمورها
بكت على ما فاتها النّواظر ... إذ جعلت تدقّها الحوافر
لفقد من قتّل من رجالها ... وذلّ من أيتم من أطفالها
فكم بها وحولها من أغلف ... تهمي عليه الدمع عين الأسقف «5»(5/257)
وكم بها حقّر من كنائس ... بدّلت الأذان بالنّواقس
يبكي لها النّاقوس والصّليب ... كلاهما فرض له النّحيب
وانصرف الإمام بالنّجاح ... والنصر والتأييد والفلاح
ثم ثنى الرّايات في طريقه ... إلى بني ذي النّون من توفيقه
فأصبحوا من بسطهم في قبض ... قد ألصقت خدودهم بالأرض «1»
حتى بدوا إليه بالبرهان ... من أكبر الآباء والولدان
فالحمد لله على تأييده ... حمدا كثيرا وعلى تسديده
سنة ثلاث عشرة وثلاثمائة
ثم غزا بيمنه أشونا ... وقد أشادوا حولها حصونا «2»
وحفّها بالخيل والرّجال ... وقاتلوهم أبلغ القتال
حتى إذا ما عاينوا الهلاكا ... تبادروا بالطّوع حينذاكا
وأسلموا حصنهم المنيعا ... وسمحوا بخرجهم خضوعا
وقبلهم في هذه الغمزاة ... ما هدمت معاقل العصاة
وأحكم الإمام في تدبيره ... على بني هابل في مسيره
ومن سواهم من ذوي العثيرة ... وأمراء الفتنة المغيره
إذ حبسوا مراقبا عليهم ... حتى أتوا بكلّ ما لديهم
من البنين والعيال والحشم ... وكلّ من لاذ بهم من الخدم
فهبطوا من أجمع البلدان ... وأسكنوا مدينة السّلطان
فكان في آخر هذا العام ... بعد خضوع الكفر للإسلام
مشاهد من أعظم المشاهد ... على يدي عبد الحميد القائد
لمّا غزا إلى بني ذي النون ... فكان فتحا لم يكن بالدّون «3»(5/258)
إذ جاوزوا في الظلم والطّغيان ... بقتلهم لعامل السّلطان
وحاولوا الدخول في الأذيّة ... حتى غزاهم أنجد البريّه
فعاقهم عن كلّ ما رجوه ... بنقضه كلّ الذي بنوه
وضبطه الحصن العظيم الشّان ... أشنين بالرّجل والفرسان
ثم مضى الليث إليهم زحفا ... يختطف الأرواح منهم خطفا
فانهزموا هزيمة لن ترقدا ... وأسلموا صنوهم محمّدا «1»
وغيره من أوجه الفرسان ... مغرّب في مأتم الغربان
مقطّع الأوصال بالسّنابك ... من بعد ما مزّق بالنّيازك «2»
ثم لجوا إلى طلاب الأمن ... وبذلهم ودائعا من رهن
فقبضت رهانهم وأمّنوا ... وأنغضوا رؤسهم وأذعنوا
ثم مضى القائد بالتّأييد ... والنصر من ذي العرش والتسديد
حتى أتى حصن بني عماره ... والحرب بالتدبير والإداره
فافتتح الحصن وخلّى صاحبه ... وأمن الناس جميعا جانبه
سنة أربع عشرة وثلاثمائة
لم يغز فيها وغزت قوّاده ... واعتورت ببشترا أجناده
فكلهم أبلى وأغنى واكتفى ... وكلّهم شفى الصّدور واشتفى
ثم تلاهم بعد ليث الغيل ... عبد الحميد من بني بسيل «3»
هو الذي قام مقام الضّيغم ... وجاء في غزاته بالصّيلم «4»
برأس جالوت النّفاق والحسد ... من جمّع الخنزير فيه والأسد
فهاكه من صحبه في عدّه ... مصلّيين عند باب السّدّه(5/259)
قد امتطى مطيّة لا تبرح ... صائمة قائمة لا ترمح «1»
مطية إن يعرها انكسار ... يطلبها النّجّار لا البيطار
كأنه من فوقها أسوار ... عيناه في كلتيهما مسمار «2»
مباشرا للشّمس والرّياح ... على جواد غير ذي جماح
يقول للخاطر بالطّريق ... قول محب ناصح شفيق
هذا مقام خادم الشّيطان ... ومن عصى خليفة الرحمن
فما رأينا واعظا لا ينطق ... أصدق منه في الذي لا يصدق
قفل لمن غرّ بسوء رائه ... يمت إذا شاء بمثل دائه
كم مارق مضى وكم منافق ... قد ارتقى في مثل ذاك الحالق
وعاد وهو في العصى مصلب ... ورأسه في جذعه مركّب
فكيف لا يعتبر المخالف ... لحال من تطلبه الخلائف
أما رآه من هوان يرتع ... معتبرا لمن يرى ويسمع
سنة خمس عشرة وثلاثمائة
فيها غزا معتزما ببشترا ... فجال في ساحتها ودمّرا
ثم غزا طلجيرة عليها ... وهي الشّجى من بين أخدعيها «3»
وامتدّها بابن السّليم راتبا ... مشمّرا عن ساقه محاربا «4»
حتى رأى حفص سبيل رشده ... بعد بلوغ غاية من جهده
فدان للإمام قصدا خاضعا ... وأسلم الحصن إليه طائعا
سنة ست عشرة وثلاثمائة
لم يغز وانتحى ببشترا ... فرمّها بما رأى ودبّرا «5»(5/260)
واحتلّها بالعزّ والتمكين ... ومحو آثار بني حفصون
وعاضها الصّلاح من فسادهم ... وطهّر القبور من أجسادهم
حتى خلا ملحود كلّ قبر ... من كلّ مرتد عظيم الكفر
عصابة من شيعة الشّيطان ... عدوة لله والسّلطان
فخرمت أجسادها تخرّما ... وأصليت أرواحهم جهنّما «1»
ووجّه الإمام في ذا العام ... عبد الحميد وهو كالضّرغام
إلى ابن داود الذي تقلّعا ... في جبلى شذونة تمنّعا
فحطّه منها إلى البسيط ... كطائر آذن بالسّقوط
ثم أتى به إلى الإمام ... إلى وفيّ العهد والذّمام
سنة سبع عشرة وثلاثمائة
وبعد سبع عشرة وفيها ... غزا بطليوس وما يليها «2»
فلم يزل يسومها بالخسف ... وينتحيها بسيوف الحتف
حتى إذا ما ضمّ جانبيها ... محاصرا ثم بنى عليها
خلّى ابن إسحاق عليها راتبا ... مثابرا في حربه مواظبا
ومرّ يستقصي حصون الغرب ... ويبتليها بوبيل الحرب
حتى قضى منهنّ كلّ حاجه ... وافتتحت أكشونيه وباجه «3»
وبعد فتح الغرب واستقصائه ... وحسمه الأدواء من أعدائه
لجّت بطليوس على نفاقها ... وغزها اللّجاج من مرّاقها «4»
حتى إذا شافهت الحتوفا ... وشامت الرّماح والسّيوفا «5»
دعا ابن مروان إلى السّلطان ... وجاءه بالعهد والأمان(5/261)
فصار في توسعة الإمام ... وساكنا في قبّة الإسلام
سنة ثمان عشرة وثلاثمائة
فيها غزا بعزمه طليطله ... وامتنعوا بمعقل لا مثل له
حتى بنى جرنكشه بجنبها ... حصنا منيعا كافلا بحربها
وشدّها بابن سليم قائدا ... مجالدا لأهلها مجاهدا
فجاسها في طول ذاك العام ... بالخسف والنّسف وضرب الهام «1»
سنة تسع عشرة وثلاثمائة
ثم أتى ردفا له درّيّ ... في عسكر قضاؤه مقضيّ «2»
فحاصروها عام تسع عشرة ... بكلّ محبوك القوى ذي مرّه
ثم أتاهم بعد بالرّجال ... فقاتلوها أبلغ القتال
سنة عشرين وثلاثمائة
حتى إذا ما سلفت شهور ... من عام عشرين لها ثبور «3»
ألقت يديها للإمام طائعه ... واستسلمت قسرا إليه باخعه
فأذعنت وقبلها لم تذعن ... ولم تقد من نفسها وتمكن
ولم تدن لربّها بدين ... سبعا وسبعين من السّنين
ومبتدا عشرين مات الحاجب ... موسى الذي كان الشّهاب الثاقب
وبرز الإمام بالتأييد ... في عدّة منه وفي عديد
صمدا إلى المدينة اللعينه ... أتعسها الرحمن من مدينه
مدينة الشّقاق والنّفاق ... وموئل الفسّاق والمرّاق»
حتى إذا ما كان منها بالأمم ... وقد ذكا حرّ الهجير واحتدم(5/262)
أتاه واليها وأشياخ البلد ... مستسلمين للإمام المعتمد
فوافقوا الرّحب من الإمام ... وأنزلوا في البرّ والإكرام
ووجّه الإمام في الظهيره ... خيلا لكي تدخل في الجزيره
جريدة قائدها ذرّيّ ... يلمع في متونها الماذيّ «1»
فاقتحموا في وعرها وسهلها ... وذاك حين غفلة من أهلها
ولم يكن للقوم من دفاع ... بخيل درى ولا امتناع
وفوضى الإمام عند ذلكا ... وقام صنديدا بما هنالكا «2»
حتى إذا ما حل في المدينه ... وأهلها ذليلة مهينه
أقمعها بالخيل والرجال ... من غير ما حرب ولا قتال
وكان من أول شيء نظرا ... فيه وما روى له ودبّرا
تهدّم لبابها والسّور ... وكان ذاك أحسن التدبير
حتى إذا صيّرها براحا ... وعاينوا حريمها مباحا «3»
أقرّ بالتشييد والتأسيس ... في الجبل النامي إلى عمروس «4»
حتى استوى فيها بناء محكم ... فحلّه عامله والحشم
فعند ذاك أسلمت واستسلمت ... مدينة الدماء بعد ما عتت «5»
سنة إحدى وعشرين وثلاثمائة
فيها مضى عبد الحميد ملتئم ... في أهبة وعدّة من الحشم «6»
حتى أتى الحصن الذي تقلّعا ... يحيى بن ذي النون به وامتنعا
فحطّه من هضبات ولب ... من غير تعنيت وغير حرب(5/263)
إلا بترغيب له في الطاعه ... وفي الدخول مدخل الجماعه
حتى أتى به الإمام راغبا ... في الصّفح عن ذنوبه وتائبا
فصفح الإمام عن جنايته ... وقبل المبذول من إنابته
وردّه إلى الحصون ثانيا ... مسجّلا له عليها واليا
سنة اثنتين وعشرين وثلاثمائة
ثم غزا الإمام ذو المجدين ... في مبتدا عشرين واثنتين
في فيلق مجمهر لهام ... مدكدك الرءوس والآكام «1»
جاب الرّبا لزحفه يجيش ... تجيش في حافاته الجيوش
كأنهم جنّ على سعال ... وكلّهم أمضى من الرّئبال «2»
فاقتحموا ملوندة ورومه ... ومن حواليها حصون حيمه «3»
حتى أتاه المارق التّجيبي ... مستجديا كالتائب المنيب
فخصّه الإمام بالترحيب ... والصّفح والغفران للذّنوب
ثم حباه وكساه ووصل ... بشاحج وصاهل لا يمتثل «4»
كلاهما من مركب الخلائف ... في حلية تعجز وصف الواصف «5»
فقال كن منّا وأوطن قرطبه ... نرقيك فيها في أجلّ مرتبه
تكن وزيرا أعظم الناس خطر ... وقائدا تجبي لنا هذا الثّغر
فقال إني ناقه من علّتي ... وقد ترى تغيّري وصفرتي «6»
فإن رأيت سيّدي إمهالي ... حتى أرمّ
من صلاح حالي ... ثم أوافيك على استعجال
بالأهل والأولاد والعيال(5/264)
وأوثق الإمام بالعهود ... وجعل الله من الشهود
فقبل الإمام من أيمانه ... وردّه عفوا إلى مكانه
ثم أتته ربّة البشاقص ... تدلي إليه بالوداد الخالص
وأنها مرسلة من عنده ... وجدّها متّصل بجدّه
واكتفلت بكلّ بنبلوني ... وأطلقت أسرى بني ذي النون
فأوعد الإمام في تأمينها ... ونكب العسكر من حصونها
ثم مضى بالعزّ والتمكين ... وناصرا لأهل هذا الدّين
في جملة الرايات والعساكر ... وفي رجال الصبر والبصائر
إلى عدا الله من الجلالق ... وعابدي المخلوق دون الخالق
فدمّروا السهول والقلاعا ... وهتكوا الزّروع والرّباعا
وخرّبوا الحصون والمدائنا ... وأقفروا من أهلها المساكنا
فليس في الدّيار من ديّار ... ولا بها من نافخ للنار
فغادروا عمرانها خرابا ... وبدّلوا ربوعها يبابا «1»
وبالقلاع أحرقوا الحصونا ... وأسخنوا من أهلها العيونا «2»
ثم ثنى الإمام من عنانه ... وقد شفى الشجيّ من أشجانه
وامّن القفار من أنجاسها ... وظهّر البلاد من أرجاسها
انتهت الأرجوزة وكمل كتاب العسجدة الثانية من أخبار الخلفاء(5/265)
كتاب اليتيمة الثانية في أخبار زياد والحجّاج والطالبين والبرامكة
فرش كتاب أخبار زياد والحجاج والطالبيين والبرامكة.
قال الفقيه أبو عمر أحمد بن محمد بن عبد ربه رضي الله تعالى عنه:
قد مضى قولنا في أخبار الخلفاء وتواريخهم وأيامهم وما تصرفت به دولهم: ونحن قائلون بعون الله في أخبار زياد والحجاج والطالبيين والبرامكة، وماسحون «1» على شيء من أخبار الدولة؛ إذ كان هؤلاء الذين جرّدنا لهم كتابنا هذا، قطب «2» الملك الذي عليه مدار السياسة، ومعادن التدبير، وينابيع البلاغة، وجوامع البيان؛ هم راضوا الصعاب حتى لانت مقاودها، وخزموا «3» الأنوف حتى سكنت شواردها، ومارسوا الأمور، وجرّبوا الدهور، فاحتملوا أعباءها، واستفتحوا مغالقها، حتى استقرّت قواعد الملك، وانتظمت قلائد الحكم، ونفذت عزائم السلطان.
أخبار زياد
كانت سميّة أمّ زياد قد وهبها أبو الخير بن عمرو الكندي للحارث بن كلدة، وكان طبيبا يعالجه، فولدت له على فراشه نافعا، ثم ولدت أبا بكرة، فأنكر لونه.
وقيل: [قيل] له: إنّ جاريتك بغيّ! فانتفى من أبي بكرة ومن نافع، وزوّجها عبيدا: عبدا لابنته، فولدت على فراشه زيادا، فلما كان يوم الطائف نادى منادي رسول الله صلّى الله عليه وسلم: أيّما عبد نزل فهو حرّ وولاؤه لله ورسوله. فنزل أبو بكرة وأسلم(5/266)
ولحق بالنبي صلّى الله عليه وسلم؛ فقال الحارث بن كلدة لنافع: أنت ابني فلا تفعل كما فعل هذا.
يريد أبا بكرة؛ فلحق به، فهو ينتسب إلى الحارث بن كلدة.
وكانت البغايا في الجاهلية لهن رايات يعرفن بها وينتحيها الفتيان، وكان أكثر الناس يكرهون إماءهم على البغاء والخروج إلى تلك الرايات؛ يبتغون بذلك عرض «1» الحياة الدنيا، فنهى الله تعالى في كتابه عن ذلك بقوله جل وعز: وَلا تُكْرِهُوا فَتَياتِكُمْ عَلَى الْبِغاءِ إِنْ أَرَدْنَ تَحَصُّناً لِتَبْتَغُوا عَرَضَ الْحَياةِ الدُّنْيا وَمَنْ يُكْرِهْهُنَ
«2» يريد في الجاهلية فَإِنَّ اللَّهَ مِنْ بَعْدِ إِكْراهِهِنَّ غَفُورٌ رَحِيمٌ
«3» يريد في الإسلام.
فيقال إن أبا سفيان خرج يوما وهو ثمل إلى تلك الرايات، فقال لصاحبة الراية: هل عندك من بغيّ؟ فقالت: ما عندي إلا سمية. قال: هاتيها على نتن «4» إبطيها! فوقع بها، فولدت له زيادا على فراش عبيد.
ووجّه عامل من عمال عمر بن الخطاب زيادا إلى عمر بفتح فتحه الله على المسلمين؛ فأمره عمر أن يخطب الناس به على المنبر، فأحسن في خطبته وجوّد، وعند أصل المنبر أبو سفيان بن حرب وعليّ بن أبي طالب، فقال أبو سفيان لعلي: أيعجبك ما سمعت من هذا الفتى؟ قال: نعم. قال: أما إنه ابن عمك! قال: وكيف ذلك؟
قال: أنا قذفته في رحم أمّه سمية. قال: فما يمنعك أن تدّعيه؟ قال: أخشى هذا القاعد على المنبر- يعني عمر بن الخطاب- أن يفسد عليّ إهابي.
فبهذا الخبر استلحق معاوية زيادا وشهد له الشهود بذلك، وهذا خلاف حكم رسول الله صلّى الله عليه وسلم في قوله: «الولد للفراش وللعاهر الحجر» . «5»
العتبي عن أبيه قال: لما شهد الشهود لزياد، قام في أعقابهم، فحمد الله وأثنى عليه بما هو أهله، ثم قال:(5/267)
هذا أمر لم أشهد أوله، ولا علم لي بآخره؛ وقد قال أمير المؤمنين ما بلغكم، وشهد الشهود بما سمعتم؛ فالحمد لله الذي رفع منا ما وضع الناس وحفظ منا ما ضيّعوا؛ وأما عبيد فإنما هو والد مبرور، أو ربيب «1» مشكور، ثم جلس.
وقال زياد: ما هجيت ببيت قطّ أشدّ عليّ من قول الشاعر:
فكّر ففي ذاك إن فكّرت معتبر ... هل نلت مكرمة إلا بتأمير
عاشت سميّة ما عاشت وما علمت ... أنّ ابنها من قريش في الجماهير
سبحان من ملك عبّاد بقدرته ... لا يدفع الناس أسباب المقادير
وكان زياد عاملا لعليّ بن أبي طالب على فارس، فلما مات علي رضي الله عنه وبايع الحسن معاوية عام الجماعة، بقي زياد بفارس وقد ملكها وضبط قلاعها، فاغتم به معاوية، فأرسل إلى المغيرة بن شعبة، فلما دخل عليه قال: لكل نبأ مستقرّ، ولكل سر مستودع، وأنت موضع سري وغاية ثقتي. فقال المغيرة: يا أمير المؤمنين إن تستودعني سرك تستودعه ناصحا شفيقا، ورعا رفيقا؛ فما ذاك يا أمير المؤمنين؟
قال: ذكرت زيادا واعتصامه بأرض فارس ومقامه بها، وهو داهية العرب، ومعه الأموال، وقد تحصن بأرض فارس وقلاعها يدبر الأمور؛ فما يؤمنني أن يبايع لرجل من أهل هذا البيت، فإذا هو قد أعادها جذعة «2» ! قال له المغيرة: أتأذن لي يا أمير المؤمنين في إتيانه؟ قال: نعم. فخرج إليه، فلما دخل عليه وجده وهو قاعد في بيت له مستقبل الشمس؛ فقام إليه زياد ورحّب به وسرّ بقدومه، وكان له صديقا؛ وذلك أن زيادا كان أحد الشهود الأربعة الذين شهدوا على المغيرة، وهو الذي تلجلج «3» في شهادته عند عمر بن الخطاب رضي الله عنه، فنجا المغيرة وجلد الثلاثة من الشهود، وفيهم أبو بكرة أخو زياد، فحلف [أبو بكرة] أن لا يكلم زيادا أبدا.
فلما تفاوضا في الحديث قال له المغيرة: أعلمت أن معاوية استخفّه الوجل «4» حتى(5/268)
بعثني إليك؟ ولا نعلم أحدا يمدّ يده إلى هذا الأمر غير الحسن، وقد بايع معاوية، فخذ لنفسك قبل التّوطين فيستغني عنك معاوية. قال: أشر عليّ وارم الغرض الأقصى، فإن المستشار مؤتمن. قال: أرى أن تصل حبلك بحبله وتسير إليه، وتعير الناس أذنا صماء وعينا عمياء! قال: يا ابن شعبة، لقد قلت قولا لا يكون غرسه في غير منبته، ولا مدرة «1» تغذيه، ولا ماء يسقيه، كما قال زهير:
وهل ينبت الخطّيّ إلا وشيجه ... وتغرس إلا في منابتها النّخل «2» ؟
ثم قال: أرى ويقضي الله.
وذكر عمر بن عبد العزيز زيادا فقال: سعى لأهل العراق سعى الأمّ البرة، وجمع لهم جمع الذرّة.
وقال غيره: تشبّه زياد بعمر فأفرط، وتشبّه الحجاج بزياد فأهلك الناس.
وقالوا: الدهاة أربعة: معاوية للرويّة، وعمرو بن العاص للبديهة، والمغيرة للمعضلات، وزياد لكل صغيرة وكبيرة.
ولما قدم زياد العراق قال: من على حرسكم؟ قالوا: بلج. قال: إنما يحترس من مثل بلج فكيف يكون حارسا.
أخذه الشاعر فقال:
وحارس من مثله يحترس
العتبي قال: كان في مجلس زياد مكتوبا: الشدّة في غير عنف، واللين في غير ضعف. المحسن يجازي بإحسانه، والمسيء يعاقب بإساءته. الأعطيات في أيامها. لا احتجاب عن طارق ليل، ولا صاحب ثغر.(5/269)
وبعث زياد إلى رجال من بني تميم ورجال من بني بكر، وقال: دلّوني على صلحاء كل ناحية ومن يطاع فيها، فدلوه فضمّنهم الطريق وحدّ لكل رجل منهم حدّا؛ فكان يقول: لو ضاع حبل بيني وبين خراسان عرفت من آخذ به.
وكان زياد يقول: من سقى صبياّ خمرا حددناه، ومن نقب «1» بيتا نقبنا عن قلبه، ومن نبش قبرا دفناه فيه حيا.
وكان يقول: اثنان لا تقاتلوا فيهما العدوّ: الشتاء، وبطون الأودية.
وأول من جمعت له العراق زياد، ثم ابنه عبيد الله بن زياد؛ لم تجتمع لقرشي قط غيرهما.
وعبيد الله بن زياد أول من جمع له العراق وسجستان وخراسان والبحران وعمان، وإنما كان البحران وعمان إلى عمال أهل الحجاز.
وهو أول من عرف العرفاء «2» ، ودعا النقباء، ونكّب «3» المناكب، وحصل الدواوين، ومشي بين يديه بالعمد»
، ووضع الكراسي، وعمل المقصورة، ولبس الزيادي، وربّع الأرباع بالكوفة، وخمّس الأخماس بالبصرة، وأعطى في يوم واحد للمقاتلة والذرية من أهل البصرة والكوفة، وبلغ بالمقاتلة من أهل الكوفة ستين ألفا، ومقاتلة البصرة ثمانين ألفا، والذرية مائة ألف وعشرين ألفا. وضبط زياد وابنه عبيد الله العراق بأهل العراق.
قال عبد الله بن مروان لعباد بن زياد: أين كانت سيرة زياد من سيرة الحجاج؟
قال: يا أمير المؤمنين، إن زيادا قدم العراق وهي جمرة تشتعل فسلّ أحقادهم، وداوى أدواءهم، وضبط أهل العراق بأهل العراق، وقدمها الحجاج؛ فكسر الخراج، وأفسد(5/270)
قلوب الناس ولم يضبطهم بأهل الشام فضلا عن أهل العراق ولو رام منهم ما رامه زياد لم يفجأك إلا على قعود يوجف «1» به.
وقال نافع لزياد: استعملت أولاد أبي بكرة وتركت أولادي؟ قال: اني رأيت أولادك كزما «2» قصارا، ورأيت أولاد أبي بكرة نجباء طوالا.
ودخل عبد الله بن عامر على معاوية، فقال له: حتى متى تذهب بخراج العراق؟
فقال: يا أمير المؤمنين، ما تقول هذا لمن هو أبعد مني رحما! ثم خرج فدخل على يزيد فأخبره وشكا إليه، فقال له: لعلك أغضبت زيادا! قال: قد فعلت. قال: فإنه لا يرضى حتى ترضي زيادا عنك! فانطلق ابن عامر فاستأذن على زياد، فأذن له وألطفه، فقال له ابن عامر: إن شئت فصلح بعتاب، وإن شئت فصلح بغير عتاب، فإنه أسلم للصدر ... ، ثم راح زياد إلى معاوية فأخبره وأصبح ابن عامر غاديا إلى معاوية، فلما دخل عليه، قال: مرحبا بأبي عبد الرحمن. ههنا. وأجلسه إلى جنبه فقال له: يا أبا عبد الرحمن:
لنا سياق ولكم سياق ... وقد علمت ذلك الرفاق
الحسن بن أبي الحسن قال: ثقل أبو بكرة، فأرسل زياد إليه أنس بن مالك ليصالحه ويكلمه، فانطلقت معه، فإذا هو مولّ وجهه إلى الجدار، فلما قعد قال له:
كيف تجدك أبا كبرة؟ فقال صالحا: كيف أنت أبا حمزة؟ فقال له أنس: اتق الله أبا بكرة في زياد أخيك؛ فإن الحياة يكون فيها ما يكون؛ فأما عند فراق الدنيا فليستغفر الله أحدكما لصاحبه، فو الله ما علمت إنه لوصول للرّحم؛ هذا عبد الرحمن ابنك على الأبلّة، وهذا داود على مدينة الرّزق، وهذا عبد الله على فارس كلها؛ والله ما أعلمه إلا مجتهدا. قال: أقعدوني. فأقعدوه، فقال: أخبرني ما قلت في آخر كلامك. فأعاد عليه القول، فقال: يا انس، وأهل حروراء قد اجتهدوا، فأصابوا أو(5/271)
أخطئوا؛ والله لا أكلمه أبدا ولا يصلّي عليّ! فلما رجع أنس إلى زياد أخبره بما قال، وقال له: إنه قبيح أن يموت مثل أبي بكرة بالبصرة، فلا تصلي عليه ولا تقوم على قبره؛ فاركب دوابك والحق بالكوفة. قال: ففعل. ومات أبو بكرة بالغد عند صلاة الظهر، فصلى عليه أنس بن مالك.
وقدم شريح مع زياد من الكوفة لقضاء البصرة، فكان زياد يجلسه إلى جنبه ويقول له: إن حكمت بشيء ترى غيره أقرب إلى الحق منه فأعلمنيه. فكان زياد يحكم فلا يرد شريح عليه، فيقول زياد لشريح: ما ترى؟ فيقول: هذا الحكم، حتى أتاه رجل من الأنصار فقال: إني قدمت البصرة والخطط «1» موجودة، فأردت أن أختط لي، فقال لي بنو عمي وقد اختطوا ونزلوا: أين تخرج عنا؟ أقم معنا واختط عندنا فوّسعوا لي، فاتخذت فيهم دارا وتزوّجت، ثم نزغ «2» الشيطان بيننا، فقالوا لي: اخرج عنا! فقال زياد: ليس ذلك لكم، منعتموه أن يختط والخطط موجودة وفي أيديكم فضل فأعطيتموه، حتى إذا ضاقت الخطط أخرجتموه وأردتم الإضرار به؟ لا يخرج من منزله! فقال شريح: يا مستعير القدر ارددها. فقال زياد: يا مستعير القدر احبسها ولا ترددها! فقال محمد بن سيرين: القضاء بما قال شريح، وقول زياد حسن.
وقال زياد: ما غلبني أمير المؤمنين معاوية إلا في واحدة: طلبت رجلا فلجأ إليه وتحرّم «3» به، فكتب إليه: إن هذا فساد لعملي: إذا طلبت أحدا لجا إليك فتحرم بك، فكتب إليّ: إنه لا ينبغي لنا أن نسوس الناس بسياسة واحدة، فيكون مقامنا مقام رجل واحد؛ ولكن تكون أنت للشدة والغلظة، وأكون أنا للرأفة والرحمة، فيستريح الناس فيما بيننا.
ولما عزل عمر بن الخطاب رضي الله عنه زيادا من كتابة أبي موسى، قال له: أعن(5/272)
عجز أم عن خيانة؟ قال: لا عن واحدة منهما، ولكني كرهت أن أحمل على العامة فضل «1» عقلك.
وكتب الحسن بن عليّ رضي الله عنه إلى زياد في رجل من أهل شيعته قد عرض له زياد وحال بينه وبين جميع ما يملكه، وكان عنوان كتابه: «من الحسن بن عليّ إلى زياد» ؛ فغضب زياد إذ قدّم نفسه عليه ولم ينسبه إلى أبي سفيان، وكتب إليه:
من زياد بن أبي سفيان إلى حسن: أما بعد، فإنك كتبت إليّ في فاسق لا يؤويه إلا الفسّاق، وايم الله لأطلبنه ولو بين جلدك ولحمك، فإنّ أحبّ لحم إليّ أن آكله لحم أنت منه.
فكتب الحسن إلى معاوية يشتكي زيادا، وأدرج كتاب زياد في داخل كتابه. فلما قرأه معاوية أكثر التعجب من زياد، وكتب إليه.
أما بعد، فإن لك رأيين: أحدهما من أبي سفيان، والآخر من سمية؛ فأما الذي من أبي سفيان فحزم وعزم، وأما الذي من سمية فكما يكون رأي مثلها؛ وإن الحسن ابن عليّ كتب إليّ يذكر أنك عرضت لرجل من أصحابه، وقد حجزناه عنك ونظراءه، فليس لك على واحد منهم سبيل ولا عليه حكم؛ وعجبت منك حين كتبت إلى الحسن لا تنسبه إلى أبيه، أفإلى أمه وكلته لا أمّ لك؟ فهو ابن فاطمة الزهراء ابنة رسول الله صلّى الله عليه وسلم؛ فالآن حين اخترت له.
وكتب زياد إلى معاوية: إن عبد الله بن عباس يفسد الناس عليّ، فإن أذنت لي أن أتوعّده فعلت. فكتب إليه: إن أبا الفضل وأبا سفيان كانا في الجاهلية في مسلاخ «2» واحد، وذلك حلف لا يحلّه سوء رأيك! واستأذن زياد معاوية في الحج، فأذن له، وبلغ ذلك أبا بكرة، فأقبل حتى دخل على زياد وقد أجلس له بنيه، فسلم عليهم ولم يسلم على زياد، ثم قال: يا بني أخي، إن(5/273)
أباكم ركب أمرا عظيما في الإسلام بادّعائه إلى أبي سفيان؛ فو الله ما علمت سميّة بغت قط؛ وقد استأذن أمير المؤمنين في الحج، وهو مارّ بالمدينة لا محالة، وبها أمّ حبيبة ابنة أبي سفيان زوج النبي صلّى الله عليه وسلم، ولا بد له من الاستئذان عليها، فإن أذنت له فقعد منها مقعد الأخ من أخته، فقد انتهك من رسول الله صلّى الله عليه وسلم حرمة عظيمة، وإن لم تأذن له فهو عار الأبد. ثم خرج، فقال له زياد: جزاك الله خيرا من أخ فما تدع النصيحة على حال. وكتب إلى معاوية يستقيله، فأقاله.
وكتب زياد إلى معاوية: إني قد أخذت العراق بيميني، وبقيت شمالي فارغة. وهو يعرّض له بالحجاز. فبلغ ذلك عبد الله بن عمر رضي الله عنهما، فقال: اللهم اكفنا شماله! فعرضت له قرحة في شماله فقتلته.
ولما بلغ عبد الله بن عمر موت زياد قال: اذهب إليك ابن سمية، لا يدا رفعت عن حرام ولا دنيا تملّيت «1» .
قال زياد لعجلان حاجبه: كيف تأذن للناس؟ قال: على البيوتات، ثم على الأنساب، ثم على الآداب. قال: فمن تؤخر؟ قال: من لا يعبأ الله بهم. قال: ومن هم؟ قال: الذين يلبسون كسوة الشتاء في الصيف، وكسوة الصيف في الشتاء.
وقال زياد لحاجبه: وليتك حجابتي وعزلتك عن أربع: هذا المنادي إلى الله في الصلاة والفلاح، لا تعوجنّه «2» فلا سلطان لك عليه؛ وطارق الليل لا تحجبه فشر ما جاء به، ولو كان خيرا ما جاء في تلك الساعة؛ ورسول الله صاحب الثغر «3» ، فإنه إن أبطأ ساعة أفسد عمل سنة؛ وصاحب الطعام، فإن الطعام إذا أعيد تسخينه فسد.
وقال عجلان حاجب زياد: صار لي في يوم واحد مائة ألف دينار وألف سيف قيل له: وكيف ذلك؟ قال: أعطى زياد ألف رجل مائتي ألف دينار وسيفا سيفا، فأعطاني كل رجل منهم نصف عطائه وسيفه.(5/274)
أخبار الحجاج
دخل المغيرة بن شعبة على زوجته فارعة، فوجدها تتخلل «1» حين انفتلت «2» من صلاة الغداة، فقال لها: إن كنت تتخللين من طعام البارحة، فإنك قذرة، وإن كان من طعام اليوم إنك لنهمة؛ كنت فبنت «3» ! قالت: والله ما فرحنا إذ كنا، ولا أسفنا إذ بنّا؛ وما هو بشيء مما ظننت، ولكني استكت فأردت أن أتخلل للسواك! فندم المغيرة على ما بدر منه، فخرج أسفا، فلقي يوسف بن أبي عقيل، فقال له: هل لك إلى شيء أدعوك إليه؟ قال: وما ذاك؟ قال: إني نزلت الساعة عن سيدة نساء ثقيف، فتزوّجها، فإنها تنجب لك. فتزوّجها فولدت له الحجاج.
ومما رواه عبد الله بن مسلم بن قتيبة قال: إن الحجاج بن يوسف كان يعلّم الصبيان بالطائف، واسمه كليب؛ وأبوه يوسف معلم أيضا. وفي ذلك يقول مالك بن الرّيب:
فماذا عسى الحجاج يبلغ جهده ... إذا نحن جاوزنا حفير زياد
فلولا بنو مروان كان ابن يوسف ... كما كان عبدا من عبيد إياد
زمان هو العبد المقرّ بذلّه ... يراوح صبيان القرى ويغادي «4»
ثم لحق الحجاج بن يوسف بروح بن زنباع وزير عبد الملك بن مروان، فكان في عديد شرطته، إلى أن شكا عبد الملك بن مروان ما رأى من انحلال العسكر، وأن الناس لا يرحلون برحيله ولا ينزلون بنزوله. فقال روح بن زنباع: يا أمير المؤمنين، إن في شرطتي رجلا لو قلّده أمير المؤمنين أمر عسكره لأرحلهم برحيله وأنزلهم بنزوله. يقال له الحجاج بن يوسف! قال: فإنا قد قلّدناه ذلك. فكان لا يقدر أحد [أن] يتخلف عن الرحيل والنزول، إلا أعوان روح بن زنباع؛ فوقف عليهم يوما(5/275)
وقد رحل الناس وهم على طعام يأكلون، فقال لهم: ما منعكم أن ترحلوا برحيل أمير المؤمنين؟ فقال له: انزل يا ابن اللخناء «1» فكل معنا. فقال: هيهات. ذهب ما هنالك. ثم أمر بهم فجلدوا بالسياط وطوّفهم في العسكر، وأمر بفساطيط «2» روح بن زنباع فأحرقت بالنار؛ فدخل بن زنباع على عبد الملك بن مروان باكيا، فقال له:
مالك؟ فقال يا أمير المؤمنين، الحجاج بن يوسف الذي كان في عديد شرطتي، ضرب عبيدي وأحرق فساطيطي! قال: عليّ به. فلما دخل عليه قال: ما حملك على ما فعلت؟ قال: ما أنا فعلته يا أمير المؤمنين! قال: ومن فعله؟ قال أنت والله فعلته؛ إنما يدي يدك، وسوطي سوطك؛ وما على أمير المؤمنين أن يخلف على روح بن زنباع للفسطاط فسطاطين وللغلام غلامين، ولا يكسرني فيما قدّمني له؟ فأخلف لروح بن زنباع ما ذهب له وتقدم الحجاج في منزلته، وكان ذلك أول ما عرف من كفايته.
قال أبو الحسن المدائني: كانت أم الحجاج الفارعة بنت هبّار. فقال: كان الحجاج ابن يوسف يضع كل يوم ألف خوان «3» في رمضان وفي سائر الأيام خمسمائة خوان، على كل خوان عشرة أنفس، وعشرة ألوان، وسمكة مشوية طرية، وأرزة بسكر، وكان يحمل في محفّة «4» ويدار به على موائده يتفقدها، فإذا رأى أرزة ليس عليها سكر وسعى الخباز ليجيء بسكرها فأبطأ حتى أكلت الأرزة بلا سكر، أمر به فضرب مائتي سوط؛ فكانوا بعد ذلك لا يمشون إلا متأبّطي خرائط السكر.
قال: وكان يوسف بن عمر والي العراق في أيام هشام بن عبد الملك يضع خمسمائة خوان، فكان طعام الحجاج لأهل الشام خاصة، وطعام يوسف بن عمر لمن حضره؛ فكان عند الناس أحمد.
العتبي قال: دخل على الحجاج سليك بن سلكة، فقال: أصلح الله الأمير، أعرني سمعك، واغضض عني بصرك، واكفف عني غربك «5» ؛ فإن سمعت خطأ أو زللا(5/276)
فدونك والعقوبة. فقال: قل. فقال: عصى عاص من عرض العشيرة، فحلّق عليّ اسمي «1» ، وهدمت داري؛ وحرمت عطائي. قال: هيهات، أما سمعت قول الشاعر:
جانيك من يجني عليك وقد ... تعدي الصّحاح مبارك الجرب «2»
ولربّ مأخوذ بذنب عشيره ... ونجا المقارف صاحب الذّنب «3»
قال: أصلح الله الأمير، إني سمعت الله قال غير هذا. قال: وما ذاك؟ قال: قال يا أَيُّهَا الْعَزِيزُ إِنَّ لَهُ أَباً شَيْخاً كَبِيراً فَخُذْ أَحَدَنا مَكانَهُ إِنَّا نَراكَ مِنَ الْمُحْسِنِينَ.
قالَ مَعاذَ اللَّهِ أَنْ نَأْخُذَ إِلَّا مَنْ وَجَدْنا مَتاعَنا عِنْدَهُ إِنَّا إِذاً لَظالِمُونَ
«4» فقال الحجاج: عليّ بيزيد بن أبي مسلم. فأتى به، فمثل بين يديه، فقال: افكك لهذا عن اسمه، واصكك له بعطائه، وابن له منزله، ومر مناديا ينادي في الناس: صدق الله وكذب الشاعر:
أتي الحجاج بامرأة عبد الرحمن بن الأشعث بعد دير الجماجم، فقال لحرسيّ قل لها:
يا عدوّة الله، أين مال الله الذي جعلتيه تحت ذيلك؟ فقال: يا عدوة الله، أين مال الله الذي جعلتيه تحت استك؟ فقال له: كذبت، ما هكذا قلت، أرسلها: فخلّى عنها.
الأصمعي قال: ماتت رققة يا لشّجي- والشّجي ربو من الأرض في بطن فلج «5» فشجى به الوادي فسمى شج- فقال الحجاج: إني أراهم قد تضرعوا إذ نزل بهم الموت، فاحفروا في مكانهم. فحفروا، فأمر الحجاج رجلا يقال له عضيدة يخفر البئر، فلما أنبطها «6» حمل منها قربتين إلى الحجاج بواسط، فلما قدم بهما عليه قال: يا(5/277)
عضيدة لقد تجاوزت مياها عذبا، أخسفت «1» أم أوشلت؟ قال: لا واحد منها، ولكن نبطا بين الماءين. قال: وكيف يكون قدره؟ قال: مرت بنا رفقة فيها خمسة وعشرون جملا، فرويت الإبل وأهلها. قال: أو للإبل حفرتها؟ إنما حفرتها للناس.
إن الإبل ضمر خسف «2» ، ما جشّمت تجشّمت.
بعث عبد الملك بن مروان إلى الحجاج بن يوسف واليا على العراق، وأمره أن يحشر الناس إلى المهلب في حرب الأزارقة، فلما أتى الكوفة صعد المنبر متلثما متنكبا قوسه، فجلس واضعا إبهامه على فيه، فنظر محمد بن عمير بن عطارد التميمي، فقال:
لعن الله هذا ولعن من أرسله إلينا؛ أرسل غلاما لا يستطيع أن ينطق عيّا، وأخذ حصاة بيده ليحصبه «3» بها، فقال له جليسه: لا تعجل حتى ننظر ما يصنع. فقام الحجاج فكشف لثامه عن وجهه وقال:
أنا ابن جلا وطلّاع الثّنايا ... متى أضع العمامة تعرفوني «4»
صليب العود من سلفي نزار ... كنصل السيف وضّاح الجبين
أخو خمسين مجتمع أشدّي ... ونجّذني مداورة الشّئون «5»
أما والله إني لا أحمل الشر بثقله، وأحذوه بنعله، وأجزيه بمثله؛ أما والله إني لأرى رءوسا قد أينعت وحان قطافها، وكأني أرى الدماء بين العمائم واللحى تترقوق:
هذا أوان الشدّ فاشتدّي زيم ... قد لفّها الليل بسوّاق حطم «6»
ليس براعي إبل ولا غنم ... ولا بجزّار على ظهر وضم»(5/278)
ألا وإنّ أمير المؤمنين عبد الملك بن مروان كبّ «1» كنانته فعجم عيدانها، فوجدني أصلبها عودا، فوجّعني إليكم؛ فإنكم طالما سعيتم في الضلالة، وسننتم سنن البغي؛ أما والله لألحونّكم «2» لحو العصا، ولأعصبنكم عصب السّلمة «3» ، ولأقرعنّكم قرع المروة «4» ، ولأضربنّكم ضرب غرائب الإبل؛ والله ما أخلق إلا فريت «5» ، ولا أعد إلا وفيت، ولا أغمز تغماز التين، ولا يقعقع لي بالشّنان «6» .
إياي وهذه الزرافات والجماعات، وقيل وقال وما تقول، وفيم أنتم ونحو هذا؛ ومن وجدته بعد ثالثة من بعث المهلب ضربت عنقه.
ثم قال: يا غلام، اقرأ عليهم كتاب أمير المؤمنين. فقرأ عليهم:
بسم الله الرحمن الرحيم. من عبد الملك بن مروان إلى من بالكوفة من المسلمين، سلام عليكم.
فلم يقل أحد شيئا، فقال الحجاج: اسكت يا غلام، هذا أدب ابن نهية؛ والله لأؤدّبنهم غير هذا الأدب أو ليستقيمنّ؛ اقرأ يا غلام كتاب أمير المؤمنين. فلما بلغ إلى قوله: سلام عليكم، لم يبق أحد في المسجد إلا قال: وعلى أمير المؤمنين السلام.
ثم نزل فأتاه عمير بن ضابيء فقال: أيها الأمير، إني شيخ كبير عليل، وهذا ابني أقوى على الغزو مني. قال: أجيزوا ابنه عنه؛ فإنّ الحدث «7» أحبّ إلينا من الشيخ.
فلما ولي الرجل قال له عنبسة بن سعيد: أيها الأمير، هذا الذي ركض «8» عثمان برجله وهو مقتول. فقال: ردّوا الشيخ. فردّوه، فقال: اضربوا عنقه! فقال فيه الشاعر:(5/279)
تجهّز فإمّا أن تزور ابن ضابيء ... عميرا، وإمّا أن تزور المهلّبا
هما خطّتا خسف نجاؤك منهما ... ركوبك حوليّا من الثلج أشهبا «1»
ثم قال: دلوني على رجل أوليه الشرطة. فقيل له: أيّ الرجال تريد؟ قال: أريد دائم العبوس، طويل الجلوس، سمين الأمانة، أعجف «2» الخيانة، لا يحنق في الحق على حرّ أو حرّة، يهون عليه سبال «3» الأشراف في الشفاعة. فقيل: عليك بعبد الرحمن بن عبيد التميمي فأرسل إليه يستعمله، فقال له: لست أقبلها إلا أن تكفيني عيالك وولدك وحاشيتك. فقال الحجاج: يا غلام، ناد: من طلب إليه منهم حاجة فقد برئت الذمّة منه. قال الشعبي: فو الله ما رأيت قط صاحب شرطة مثله، كان لا يحبس إلا في دين، وكان إذا أتي برجل نقب على قوم، وضع منقبته «4» في بطنه حتى تخرج من ظهره، وكان إذا أتي برجل نباش حفر له قبرا ودفنه فيه حيا، وإذا أتي برجل قاتل بحديدة أو شهر سلاحا قطع يده؛ فربما أقام أربعين يوما لا يؤتي إليه بأحد، فضم الحجاج إليه شرطة البصرة مع شرطة الكوفة.
ولما قدم عبد الملك بن مروان المدينة نزل دار مروان، فمرّ الحجاج بخالد بن يزيد بن معاوية وهو جالس في المسجد، وعلى الحجاج سيف محلى وهو يخطر متبخترا في المسجد، فقال رجل من قريش لخالد: من هذا التختارة «5» ؟ فقال: بخ بخ! هذا عمرو بن العاص! فسمعه الحجاج: فمال إليه فقال: قلت: هذا عمرو بن العاص! والله ما سرّني أنّ العاص ولدني ولا ولدته ولكن إن شئت أخبرتك من أنا: أنا ابن الأشياخ من ثقيف، والعقائل «6» من قريش، والذي ضرب مائة بسيفه هذا كلهم يشهدون على(5/280)
أبيك بالكفر وشرب الخمر حتى أقرّوا أنه خليفة. ثم ولّى وهو يقول: هذا عمرو بن العاص.
الأصمعي قال: بعث الحجاج إلى يحيى بن يعمر، فقال له: أنت الذي تقول: إنّ الحسن بن عليّ، ابن رسول الله صلّى الله عليه وسلم؟ والله لتأتينّي بالمخرج أو لأضربن عنقك! فقال له: فإن أتيت بالمخرج فأنا آمن؟ قال: نعم. قال له: اقرأ وَتِلْكَ حُجَّتُنا آتَيْناها إِبْراهِيمَ عَلى قَوْمِهِ نَرْفَعُ دَرَجاتٍ مَنْ نَشاءُ إِنَّ رَبَّكَ حَكِيمٌ عَلِيمٌ. وَوَهَبْنا لَهُ إِسْحاقَ وَيَعْقُوبَ كُلًّا هَدَيْنا وَنُوحاً هَدَيْنا مِنْ قَبْلُ وَمِنْ ذُرِّيَّتِهِ داوُدَ وَسُلَيْمانَ وَأَيُّوبَ وَيُوسُفَ وَمُوسى وَهارُونَ وَكَذلِكَ نَجْزِي الْمُحْسِنِينَ وَزَكَرِيَّا وَيَحْيى وَعِيسى
«1» فمن أقرب، عيسى إلى إبراهيم، وإنما هو ابن ابنته، أو الحسن إلى محمد؟ قال الحجاج: فو الله لكأني ما قرأت هذه الآية قط! وولاه قضاء بلده، فلم يزل بها قاضيا حتى مات.
قال أبو عثمان عمرو بن بحر الجاحظ: كان عبد الملك بن مروان سنان «2» قريش وسيفها رأيا وحزما، وعابدها قبل أن يستخلف ورعا وزهدا؛ فجلس يوما في خاصّته فقبض على لحيته فشمّها مليّا، ثم اجترّ «3» نفسه، ونفخ نفخة أطالها، ثم نظر في وجوه القوم فقال: ما أقول يوم ذي المسألة عن ابن أمّ الحجاج، وأدحض المحتج على العليم بما طوته الحجب؟ أما إنّ تمليكي له قرن بي لوعة يحشها «4» التذكار! كيف وقد علمت فتعاميت، وسمعت فتصاممت، وحمله الكرام الكاتبون! والله لكأني إلف ذي الضّغن على نفسي، وقد نعت الأيام بتصرّفها أنفسا حقّ لها الوعيد بتصرّم الدّول، وما أبقت الشبهة للباقي متعلّقا، وما هو إلا الغل «5» الكامن من النفس بحوبائها «6» ، والغيظ المندمل؛ اللهم أنت لي أوسع، غير منتصر ولا معتذر. يا كاتب، هات الدواة والقرطاس. فقعد كاتبه بين يديه وأملى عليه:(5/281)
بسم الله الرحمن الرحيم، من عبد الله، عبد الملك بن مروان إلى الحجاج بن يوسف: أمّا بعد، فقد أصبحت بأمرك برما «1» ، يقعدني الإشفاق، ويقيمني الرجاء، وإذا عجزت في دار السعة وتوسّط الملك وحين المهل واجتماع الفكر أن ألتمس العذر في أمرك؛ فأنا لعمر الله في دار الجزاء وعدم السلطان واشتغال الحامّة «2» والركون إلى الذلة من نفسي والتوقع لما طويت عليه الصحف أعجز؛ وقد كنت أشركتك فيما طوّقني الله عز وجل حمله ولاث «3» بحقوى من أمانته في هذا الخلق المرعيّ، فدللت منك على الحزم والجدّ في إماتة بدعة وإنعاش سنة، فقعدت عن تلك ونهضت بما عاندها، حتى صرت حجة الغائب، وعذر اللاعن والشاهد القائم.
فلعن الله أبا عقيل وما نجل «4» ، فألأم والد وأخبث نسل، فلعمري ما ظلمكم الزمان، ولا قعدت بكم المراتب، فقد ألبستكم ملبسكم، وأقعدتكم على روابي خططكم، وأحلّتكم أعلى منعتكم، فمن حافر وناقل وماتح «5» للقلب المقعدة في القيافي المتهفيهقة «6» ، ما تقدّم فيكم الإسلام ولقد تأخرتم، وما الطائف منا ببعيد يجهل أهله؛ ثم قمت بنفسك، وطمحت بهمّتك، وسرّك انتضاء سيفك، فاستخرجك أمير المؤمنين من أعوان روح بن زنباع وشرطته، وأنت على معاونته يومئذ محسود، فهفا «7» أمير المؤمنين والله يصلح بالتوبة والغفران زلّته، وكأني بك وكأن ما لو لم يكن لكان خيرا مما كان؛ كلّ ذلك من تجاسرك وتحاملك على المخالفة لرأي أمير المؤمنين، فصدعت صفاتنا، وهتكت حجبنا، وبسطت يديك تحفن «8» بهما من كرائم ذوي الحقوق اللازمة والأرحام الواشجة، في أوعية ثقيف؛ فاستغفر الله لذنب ماله عذر، فلئن استقال أمير المؤمنين فيك الرأي، فلقد جالت البصيرة في ثقيف بصالح النبيّ صلّى الله عليه وسلم، إذ ائتمنه على الصدقات وكان عبده، فهرب بها عنه، وما هو إلا اختيار(5/282)
للثقة، والمطّلب لمواضع الكفاية: فقعد فيه الرجاء كما قعد بأمير المؤمنين فيما نصبك له، فكأنّ هذا ألبس أمير المؤمنين ثوب العزاء، ونهض بعذره إلى استنشاق نسيم الرّوح؛ فاعتزل عمل أمير المؤمنين واظعن عنه باللعنة اللازمة، والعقوبة الناهكة إن شاء الله، إذ استحكم لأمير المؤمنين ما يحاول من رأيه، والسلام.
ودعا عبد الملك مولى له يقال له نباتة، له لسان وفضل رأي، فناوله الكتاب، ثم قال له: يا نباتة، العجل ثم العجل، حتى تأتي العراق، فضع هذا الكتاب في يد الحجاج، وترقب ما يكون منه، فإذا أجبل «1» عند قراءته واستيعاب ما فيه، فاقلعه عن عمله وانقلع معه حتى تأتي به، وهدّن «2» الناس حتى يأتيهم أمري، بما تصفني به في حين انقلاعك، من حبّي لهم السلامة؛ وإن هش للجواب ولم تكتنفه أربة «3» الحيرة، فخذ منه ما يجيب به وأقرره على عمله، ثم اعجل علي بجوابه.
قال نباتة: فخرجت قاصدا إلى العراق، فضمتني الصحارى والفيافي، واحتواني القرّ، وأخذ مني السفر، حتى وصلت؛ فلما وردته أدخلت عليه في يوم ما يحضره فيه الملأ، وعلى شحوب مضنى، وقد توسط خدمه من نواحيه وتدثر بمطرف خز ادكن»
، ولاث به الناس من بين قائم وقاعد؛ فلما نظر إليّ- وكان لي عارفا- قعد، ثم تبسّم تبسّم الوجل، ثم قال: أهلا بك يا نباتة، أهلا بمولى أمير المؤمنين لقد أثّر فيك سفرك، وأعرف أمير المؤمنين بك ضنينا، فليت شعري ما دهمك أو دهمني عنده؟ قال: فسلّمت وقعدت، فسأل: ما حال أمير المؤمنين وخوله؟ ... فلما هدأ أخرجت له الكتاب فناولته إياه، فأخذه مني مسرعا ويده ترعد، ثم نظر في وجوه الناس فما شعرت إلا وأنا معه ليس معنا ثالث، وصار كل من يطيف به من خدمه يلقاه جانبا، لا يسمعون منا الصوت؛ ففك الكتاب فقرأه، وجعل يتثاءب ويردد تثاؤبه، ويسيل العرق على جبينه وصدغيه- على شدة البرد- من تحت قلنسوته من(5/283)
شدة الفرق «1» ، وعلى رأسه عمامة خزّ خضراء، وجعل يشخص إليّ ببصره ساعة كالمتوهم، ثم يعود إلى قراءة الكتاب ويلاحظني النظر كالمتفهّم، إلا أنه واجم «2» ؛ ثم يعاود الكتاب، وإني لأقول: ما أراه يثبت حروفه؛ من شدة اضطراب يده، حتى استقصى قراءته؛ ثم مالت يده حتى وقع الكتاب على الفراش، ورجع إليه ذهنه، فمسح العرق عن جبينه ثم قال متمثلا:
وإذا المنيّة أنشبت أظفارها ... ألفيت كل تميمة لا تنفع «3»
ثم قال: قبح والله منا الحسن يا نباتة، وتواكلتنا عند أمير المؤمنين الألسن، وما هذا إلا سانح فكرة نمقها مرصد يكلب بقصتنا، مع حسن رأي أمير المؤمنين فينا.
يا غلام! فتبادر الغلمان الصيحة، فملىء علينا منهم المجلس، حتى دفأتني «4» منهم الأنفاس، فقال: الدواة والقرطاس. فأتي بداوة وقرطاس، فكتب بيده، وما رفع القلم مستمدا حتى سطر مثل خد الفرس، فلما فرغ قال لي يا نباتة، هل علمت ما جئت به فنسمعك ما كتبنا؟ قلت: لا. قال: إذا حسبك منا مثله. ثم ناولني الجواب، وأمر لي بجائزة فأجزل، وجرّد لي كساء ودعا لي بطعام فأكلت ثم قال: نكلك «5» إلى ما أمرت به من عجلة أو توان، وإني لأحب مقارنتك والأنس برؤيتك. فقلت: كان معي قفل مفتاحه عندك، ومفتاح قفلك عندي، فأحدثت لك العافية بأمرين: فاقفلت المكروه وفتحت العافية، وما ساءني ذلك وما أحب أن أزيدك بيانا، وحسبك من استعجال القيام.
ثم نهضت وقام مودعا لي، فالتزمني وقال: بأبي أنت وأمي، رب لفظة مسموعة ومحتقر نافع؛ فكن كما أظن.
فخرجت مستقبلا وجهي حتى وردت أمير المؤمنين، فوجدته منصرفا من صلاة(5/284)
العصر، فلما رآني قال: ما احتواك المضجع يا نباتة! فقلت: من خاف من وجه الصباح أدلج «1» . فسلمت وانتبذت عنه فتركني حتى سكن جأشي، ثم قال: مهيم «2» .
فدفعت إليه الكتاب فقرأه متبسما، فلما مضى فيه ضحك حتى بدت له سنّ سوداء ثم استقصاه فانصرف إليّ فقال: كيف رأيت إشفاقه؟ قال: فقصصت عليه ما رأيت منه فقال: صلوات الله على الصادق الأمين: إن من البيان لسحرا. ثم قذف الكتاب إليّ فقال: اقرأ. فقرأته فإذا فيه:
بسم الله الرحمن الرحيم. لعبد الله أمير المؤمنين، وخليفة رب العالمين، المؤيّد بالولاية، المعصوم من خطل القول وزلل الفعل، بكفالة الله الواجبة لذوي أمره؛ من عبد اكتنفته الزّلة «3» ، ومدّ به الصّغار «4» إلى وخيم المرتع، ووبيل المكرع «5» ، من جليل فادح ومعتد قادح؛ والسلام عليك ورحمة الله التي اتسعت فوسعت، وكان بها إلى أهل التقوى عائدا؛ فإني أحمد إليك الله الذي لا إله إلا هو، راجيا لعطفك بعطفه.
أما بعد، كان الله لك بالدّعة في دار الزوال، والأمن في دار الزلزال، فإنه من عنيت به فكرتك يا أمير المؤمنين مخصوصا، فما هو إلا سعيد يؤثر، أو شقي يوتر «6» ؛ وقد حجبني عن نواظر السعد لسان مرصد ونافس حقد، انتهز به الشيطان حين الفكرة، فافتتح به أبواب الوسواس بما تحنق به الصدور؛ فواغوثاه استعاذة بأمير المؤمنين من رجيم إنما سلطانه على الذين يتولونه، واعتصاما بالتوكل على من خصه بما أجزل له من قسم الإيمان وصادق السنة، فقد أراد اللعين أن يفتق لأوليائه فتقا نبا عنه كيده، وكثر عليه تحسره، بلية قرع بها فكر أمير المؤمنين ملبسا(5/285)
وكادحا ومؤرّشا «1» ، ليفلّ من عزمه الذي نصبني، ويصيب تأرا لم يزل به موتورا، وذكر قديم ما منى به الأوائل حتى لحقت بمثله منهم وما كنت أبلوه من خسة أقدار، ومزاولة أعمال، إلى أن وصلت ذلك بالتشرّط لروح بن زنباع. وقد علم أمير المؤمنين بفضل ما اختار الله له تبارك وتعالى من العلم المأثور الماضي، بأن الذي غيّر به القوم من مصانعهم من أشد ما كان يزاوله أهل القدمة «2» الذين اجتبى الله منهم، وقد اعتصموا وامتعضوا من ذكر ما كان، وارتفعوا بما يكون، وما جهل أمير المؤمنين- للبيان موقعه، غير محتج ولا متعدّ- أن متابعة روح بن زنباع طريق الوسيلة لمن أراد من فوقه، وأن روحا لم يلبسني العزم الذي به رفعني أمير المؤمنين عن خوله؛ وقد ألصقتني بروح بن زنباع همة لم تزل نواظرها ترمي بي البعيد، وتطالع الأعلام. وقد أخذت من أمير المؤمنين نصيبا اقتسمه الإشفاق من سخطته والمواظبة على موافقته، فما بقي لنا بعد إلا صبابة إرث، به تجول النفس وتطرف النواظر، ولقد سرت بعين أمير المؤمنين سير المثبّط لمن يتلوه، المتطاول لمن تقدمه، غير مبتّ «3» موجف، ولا متثاقل مجحف؛ ففتّ الطالب، ولحقت الهارب، حتى سادت السنّة، وبادت البدعة، وخشىء الشيطان، وحملت الأديان إلى الجادة العظمى والطريقة المثلى؛ فها أنا ذا يا أمير المؤمنين، نصب المسألة لمن رامني، وقد عقدت الحبوة «4» ، وقرنت الوظيفتين لقائل محتج، أو لائم ملتجّ؛ وأمير المؤمنين ولي المظلوم، ومعقل الخائف؛ وستظهر له المحنة نبأ أمري؛ ولكل نبإ مستقر؛ وما حفنت «5» يا أمير المؤمنين في أوعية ثقيف حتى روي الظمآن، وبطن الغرثان «6» ، وغصّت الأوعية، وانقدّت «7» الأوكية «8» في(5/286)
آل مروان، فأخذت ثقيف فضلا صار لها، لولاهم للقطته السابلة «1» ؛ ولقد كان ما أنكره أمير المؤمنين من تحاملي، وكان ما لو لم يكن لعظم الخطب فوق ما كان؛ وإن أمير المؤمنين لرابع أربعة: أحدهم ابنة شعيب النبي صلّى الله عليه وسلم؛ إذ رمت بالظن غرض اليقين تفرّسا في النجيّ المصطفى بالرسالة، فحقّ لها فيه الرجاء، وزالت شبهة الشك بالاختبار؛ وقبلها العزيز في يوسف؛ ثم الصدّيق في الفاروق، رحمة الله عليهما؛ وأمير المؤمنين في الحجاج. وما حسد الشيطان يا أمير المؤمنين خاملا، ولا شرق «2» بغير شجى؛ فكم غبطة يا أمير المؤمنين للرجيم أدبر منها وله عواء وقد قلت حيلته، ووهن كيده يوم كيت وكيت؛ ولا أظن أذكر لها من أمير المؤمنين. ولقد سمعت لأمير المؤمنين في صالح- صلوات الله عليه- وفي ثقيف مقالا، هجم بي الرجاء لعذله عليه بالحجة في ردّه، بمحكم التنزيل في لسان ابن عمه خاتم النبيين وسيد المرسلين؛ صلّى الله عليه وسلم. فقد أخبر عن الله عز وجل؛ وحكاية غرّ الملأ من قريش عند الاختيار والافتخار، وقد نفخ الشيطان في مناخرهم، فلم يدعوا خلف ما قصدوا إليه مرمى، فقالوا لَوْلا نُزِّلَ هذَا الْقُرْآنُ عَلى رَجُلٍ مِنَ الْقَرْيَتَيْنِ عَظِيمٍ
«3» . فوقع اختيارهم- عند المباهاة بنفخة الكفر، وكبر الجاهلية، على الوليد بن المغيرة المخزومي، وأبي مسعود الثقفي؛ فصارا في الافتخار بهما صنوين، ما أنكر اجتماعهما من الأمة منكر في خبر القرآن ومبلّغ الوحي، وإن كان ليقال للوليد في الأمة يومئذ:
ريحانة قريش؛ وما ردّ ذلك العزيز تعالى إلا بالرحمة الشاملة في القسم السابق، فقال عز وجل: أَهُمْ يَقْسِمُونَ رَحْمَتَ رَبِّكَ؟ نَحْنُ قَسَمْنا بَيْنَهُمْ مَعِيشَتَهُمْ فِي الْحَياةِ الدُّنْيا
«4» . وما قدمتني يا أمير المؤمنين ثقيف في الاحتجاج لها، وإن لها مقالا رحبا، ومعاندة قديمة؛ إلا أن هذا من أيسر ما يحتج به العبد المشفق على سيده المغضب، والأمر إلى أمير المؤمنين، عزل أم أقرّ، وكلاهما عدل متبع، وصواب معتقد. والسلام عليك يا أمير المؤمنين ورحمة الله.(5/287)
قال نباتة: فأتيت على الكتاب بمحضر أمير المؤمنين عبد الملك، فلما استوعبته سارقته النظر على الهيبة منه، فصادف لحظي لحظه، فقال: اقطعه ولا تعلمنّ بما كان أحدا. فلما مات عبد الملك فشا عني الخبر بعد موته.
الحجاج وابن المنتشر في ذمي:
محمد بن المنتشر بن الأجدع الهمداني قال: دفع إلي الحجاج رجلا ذمّيا «1» ، وأمرني بالتشديد عليه والاستخراج منه، فلما انطلقت به قال لي: يا محمد، إن لك لشرفا ودينا. إني لا أعطى على القسر شيئا، فاستأذني وارفق بي. قال: ففعلت فأدّى إليّ في أسبوع خمسمائة ألف، فبلغ ذلك الحجاج فأغضبه، فانتزعه من يدي ودفعه إلى الذي كان يتولى له العذاب، فدق يديه ورجليه ولم يعطه شيئا. قال محمد ابن المنتشر: فإني لسائر يوما في السوق، إذ صائح بي: يا محمد، فالتفتّ، فإذا أنا به معترضا على حمار مدقوق اليدين والرجلين، فخفت الحجاج إن أتيته وتذمّمت «2» منه، فملت إليه، فقال لي: إنك وليت مني ما ولي هؤلاء، فرفقت بي وأحسنت إليّ، وإنهم صنعوا بي ما ترى، ولي خمسمائة ألف عند فلان، فخذها مكافأة لما أحسنت إليّ. فقلت: ما كنت لآخذ منك على معروفي أجرا، ولا لأرزأك «3» على هذه الحالة شيئا! قال: فأما إذ أبيت فاسمع مني حديثا أحدّثك به، حدّثنيه بعض أهل دينك عن نبيك صلّى الله عليه وسلم: إذا رضي الله عن قوم أنزل عليهم المطر في وقته، وجعل المال في سمحائهم، واستعمل عليهم خيارهم؛ وإذا سخط على قوم أنزل عليهم المطر في غير وقته، وجعل المال في بخلائهم، واستعمل عليهم شرارهم.
فانصرفت، فما وضعت ثوبي حتى أتاني رسول الحجاج، فسرت إليه، فألفيته جالسا على فراشه والسيف مصلت بيده، فقال لي: ادن. فدنوت شيئا، ثم قال لي: ادن فدنوت شيئا، ثم قال لي الثالثة: ادن، لا أبالك! فقلت: ما بي إلى الدنوّ من حاجة،(5/288)
وفي يد الأمير ما أرى! فضحك وأغمد سيفه. وقال: اجلس، ما كان من حديث الخبيث؟ فقلت له: أيها الأمير، والله ما غششتك منذ استصحبتني ولا كذبتك منذ استخبرتني، ولا خنتك منذ ائتمنتني؛ ثم حدثته؛ فلما صرت إلى ذكر الرجل الذي المال عنده أعرض عني بوجهه، وأومأ «1» إلي بيده، وقال: لا تسمّه. ثم قال: إن للخبيث نفسا، وقد سمع الأحاديث.
شيء عن الحجاج:
ويقال: إن الحجاج كان إذا استغرب ضحكا والى بين استغفار، وكان إذا صعد المنبر تلفع بمطرفه «2» ، ثم تكلم رويدا فلا يكاد يسمع، حتى يتزايد في الكلام فيخرج يده من مطرفه، ثم يزجر الزجرة فيقرع بها أقصى من في المسجد.
خالد القسري في شأن الحجاج:
صعد خالد بن عبد الله القسري المنبر في يوم الجمعة وهو إذ ذاك على مكة؛ فذكر الحجاج، فحمد طاعته وأثنى عليه خيرا؛ فلما كان في الجمعة الثانية ورد عليه كتاب سليمان بن عبد الملك، يأمره فيه بشتم الحجاج ونشر عيوبه وإظهار البراءة منه:
فصعد المنبر فحمد الله وأثنى عليه، ثم قال:
إن إبليس كان ملكا من الملائكة، وكان يظهر من طاعة الله ما كانت الملائكة ترى له به فضلا، وكان الله قد علم من غشّه وخبثه ما خفي على ملائكته، فلما أراد الله فضيحته أمره بالسجود لآدم، فظهر لهم ما كان يخفيه عنهم، فلعنوه؛ وإن الحجاج كان يظهر من طاعة أمير المؤمنين ما كنا نرى له به فضلا، وكان الله قد أطلع أمير المؤمنين من غشه وخبثه على ما خفي عنا؛ فلما أراد الله فضيحته أجرى ذلك على يدي أمير المؤمنين، فلعنه، فالعنوه لعنه الله! ثم نزل.(5/289)
الحجاج وامرأة ابن الأشعث:
ولما أتي الحجاج بامرأة ابن الأشعث قال للحرسي: قل لها: يا عدوّة الله، أين مال الله الذي جعلته تحت ذيلك؟ فقال لها الحرسي: يا عدوّة الله أين مال الله الذي جعلته تحت استك؟ قال الحجاج: كذبت؛ ما هكذا قلت؛ أرسلها. فخلّي سبيلها.
الحجاج وأبو وائل:
أبو عوانة عن عاصم عن أبي وائل قال: أرسل الحجاج إليّ. فقال لي: ما اسمك؟
قلت: ما أرسل الأمير إليّ حتى عرف اسمي! قال لي: متى هبطت هذه الأرض؟
قلت: حين ساكنت أهلها. قال: كم تقرأ من القرآن؟ قلت: أقرأ منه ما إن اتبعته كفاني. قال: إني أريد أن أستعين بك على بعض عملي؟ قلت: إن تستعين بي تستعن بكبير أخرق «1» ضعيف، يخاف أعوان السوء. وإن تدعني فهو أحب إليّ، وإن تقحمني أتقحّم. قال: إن لم أجد غيرك أقحمتك وإن وجدت غيرك لم أقحمك.
قلت وأخرى أكرم الله الأمير: إني ما علمت الناس هابوا أميرا قط هيبتهم لك؛ والله إني لأتعارّ «2» من الليل فأذكرك فما يأتيني النوم حتى أصبح؛ هذا، ولست لك على عمل! فأعجبه ذلك وقال: هيه! كيف قلت؟ فأعدت عليه الحديث. فقال: إني والله ما أعلم اليوم رجلا على وجه الأرض هو أجرأ على دم مني! قال: فقمت فعدلت عن الطريق عمدا كأني لا أبصر، فقال: اهدوا الشيخ، أرشدوا الشيخ.
الحجاج وابن أبي ليلى:
أبو بكر بن أبي شيبة قال: دخل عبد الرحمن بن أبي ليلى على الحجاج، فقال لجلسائه: إذا أردتم أن تنظروا إلى رجل يسب أمير المؤمنين عثمان فانظروا إلى هذا.
فقال عبد الرحمن: معاذ الله أيها الأمير أن أكون أسبّ عثمان؛ إنه ليحجزني «3» عن(5/290)
ذلك [ثلاث] آيات في كتاب الله تعالى [قال الله تعالى] : لِلْفُقَراءِ الْمُهاجِرِينَ الَّذِينَ أُخْرِجُوا مِنْ دِيارِهِمْ وَأَمْوالِهِمْ يَبْتَغُونَ فَضْلًا مِنَ اللَّهِ وَرِضْواناً وَيَنْصُرُونَ اللَّهَ وَرَسُولَهُ، أُولئِكَ هُمُ الصَّادِقُونَ
»
. فكان عثمان منهم، ثم قال: وَالَّذِينَ تَبَوَّؤُا الدَّارَ وَالْإِيمانَ مِنْ قَبْلِهِمْ يُحِبُّونَ مَنْ هاجَرَ إِلَيْهِمْ وَلا يَجِدُونَ فِي صُدُورِهِمْ حاجَةً مِمَّا أُوتُوا وَيُؤْثِرُونَ عَلى أَنْفُسِهِمْ وَلَوْ كانَ بِهِمْ خَصاصَةٌ
«2» . فكان أبي منهم ثم قال:
وَالَّذِينَ جاؤُ مِنْ بَعْدِهِمْ يَقُولُونَ رَبَّنَا اغْفِرْ لَنا وَلِإِخْوانِنَا الَّذِينَ سَبَقُونا بِالْإِيمانِ
«3» . فكنت أنا منهم. قال: صدقت.
ابن أبي ليلى في لعن على وابن الزبير والمختار:
أبو بكر بن أبي شيبة عن أبي معاوية عن الأعمش قال: رأيت عبد الرحمن بن أبي ليلى ضربه الحجاج وأوقفه على باب المسجد، فجعلوا يقولون له: العن الكاذبين: عليّ ابن أبي طالب، وعبد الله بن الزبير، والمختار بن أبي عبيد. فقال: لعن الله الكاذبين ثم قال: عليّ بن أبي طالب، وعبد الله بن الزبير، والمختار بن أبي عبيد- بالرفع- فعرفت حين سكت ثم ابتدأ فرفع، أنه ليس يريدهم.
الحجاج والشعبي:
قال الشعبي: أتي بي الحجاج موثقا، فلما جئت باب القصر لقيني يزيد بن أبي مسلم كاتبه، فقال: إنا لله يا شعبيّ لما بين دفتيك من العلم، وليس اليوم بيوم شفاعة! قلت له: فما المخرج؟ قال: بؤ «4» للأمير بالشرك والنفاق على نفسك، وبالحرى أن تنجو. ثم لقبني محمد بن الحجاج، فقال لي مثل مقالة يزيد: فلما دخلت على الحجاج قال لي: وأنت يا شعبي فيمن خرج عليا وكفر؟ قلت: أصلح الله الأمير، نبا «5» بنا المنزل، وأجدب بنا الجناب «6» ، واستحلسنا «7» الخوف، واكتحلنا السهر، وضاق(5/291)
المسلك، وخبطتنا فتنة لم نكن فيها بررة أتقياء، ولا فجرة أقوياء! قال: صدق والله، ما برّوا بخروجهم علينا، ولا قووا؛ أطلقوا عنه. فاحتاج إليّ في فريضة بعد ذلك، فأرسل إليّ فقال: ما تقول في أم وأخت وجد؟ فقلت: اختلف فيها خمسة من أصحاب محمد صلّى الله عليه وسلم: عبد الله بن مسعود، وعليّ، وعثمان وزيد، وابن عباس. قال: فما قال فيها ابن عباس، إن كان لمنقبا «1» . قلت: جعل الجد أبا ولم يعط الأخت شيئا، وأعطى الأمّ الثلث. قال: فما قال فيها ابن مسعود؟ قلت جعلها من ستة، فأعطى الجدّ ثلاثة، وأعطى الأمّ اثنين، وأعطى الأخت سهما. قال: فما قال زيد؟ قلت: جعلها من تسعة، فأعطى الأمّ ثلاثة، وأعطى الجدّ أربعة، وأعطى الأخت اثنين؛ فجعل الجد معها أخا. قال: فما قال فيها أمير المؤمنين عثمان؟ قلت: جعلها أثلاثا. قال: فما قال فيها أبو تراب؟ قلت: جعلها من ستة، فأعطى الأخت ثلاثة، وأعطى الأم اثنين وأعطى الجد سهما، قال: مر القاضي فليمضها على ما أمضاها أمير المؤمنين.
... فبينما أنا عنده إذ جاءه الحاجب فقال له: إن بالباب رسلا. فقال: إيذن لهم.
قال: فدخلوا، وعمائمهم على أوساطهم، وسيوفهم على عواتقهم، وكتبهم بأيمانهم، وجاء رجل من بني سليم يقال له شبابة بن عاصم، فقال له: من أين؟ قال: من الشام، قال:
كيف تركت أمير المؤمنين؟ وكيف تركت حشمه؟ فأخبره، قال: هل وراءك من غيث؟ قال: نعم، أصابتني فيما بيني وبين الأمير ثلاث سحائب. قال: فانعت لي، كيف كان وقع المطر وتباشيره؟ قال: أصابتني سحابة بحوّارين «2» ، فوقع قطر صغار وقطر كبار، فكانت الصغار لحمة للكبار؛ ووقع نشيطا ومتداركا، وهو السّيح «3» الذي سمعت به، فواد سائل، وواد نازح؛ وأرض مقبلة، وأرض مدبرة. وأصابتني سحابة بسراء «4» فلبّدت الدّماث «5» ، وأسالت العزاز «6» ، وأدحضت التلاع، وصدعت(5/292)
عن الكمأة أماكنها؛ وأصابتني سحابة بالقريتين. فقاءت الأرض بعد الريّ، وامتلأت الأخاديد «1» ، وأفعمت الأودية، وجئتك في مثل وجار «2» الضبع.
ثم قال: إيذن. فدخل رجل من بني أسد، فقال: هل وراءك من غيث؟ قال: لا، كثر والله الإعصار، وأغبرت البلاد، وأيقنّا أنه عام سنة «3» . قال: بئس المخبر أنت.
قال: أخبرتك الذي كان.
ثم قال: إيذن. فدخل رجل من أهل اليمامة، قال: هل وراءك من غيث؟ قال:
نعم، سمعت الروّاد يدعون إلى الماء، وسمعت قائل يقول: هلم ظعنكم إلى محلة تطفأ فيها النيران، وتشتكي فيها النساء، وتنافش فيها المعزى. قال الشعبي: فلم يدر الحجاج ما قال، فقال له: تبّا لك. إنما تحدّث أهل الشام فأفهمهم. قال: أصلح الله الأمير، أخصب الناس، فكثر التمر والسمن والزبد واللبن، فلا توقد نار يختبز بها؛ وأمّا تشكى النساء، فإنّ المرأة تظل تربق «4» بهمها، وتمخض لبنها، فتبيت: ولها أنين من عضدها وأمّا تنافش «5» المعزى، فإنها ترى من أنواع التّمر وأنواع الشجر ونور النبات، ما يشبع بطونها ولا يشبع عيونها، فتبيت وقد امتلأت أكراشها، ولها من الكظة «6» جرّة، فتبقى الجرّة حتى تستنزل الدرّة.
ثم قال: إيذن. فدخل رجل من الموالي كان من أشدّ الناس في ذلك الزمان، فقال له: هل وراءك من غيث؟ قال: نعم، ولكني لا أحسن أن أقول ما يقول هؤلاء.
قال: فما تحسن؟ قال: أصابتني سحابة بحلوان، فلم أزل أطأ في آثارها حتى دخلت عليك. فقال: لئن كنت أقصرهم في المطر خطبة، إنك لأطولهم بالسيف خطوة.(5/293)
عبد الملك والحجاج وابن عمر:
إبراهيم بن مرزوق عن سعيد بن جويرية قال: لما كان عام الجماعة، كتب عبد الملك بن مروان إلى الحجاج: انظر ابن عمر فاقتد به وخذ عنه. يعني في المناسك، قال: فلما كان عشية عرفة، سار الحجاج بين يدي عبد الله ابن عمر وسالم ابنه، فقال له سالم: إن أردت أن تصيب السّنة «1» اليوم فأوجز الخطبة وعجّل الصلاة. قال:
فقطّب ونظر إلى عبد الله بن عمر، فقال: صدقت. فلما كان عند الزوال مرّ عبد الله بن عمر بسرادقه وقال: الرواح «2» فما لبث أن خرج ورأسه يقطر كأنه قد اغتسل، فلما أفاض «3» الناس رأيت الدم يتحدر من النجيبة «4» التي عليها ابن عمر، فقلت: أبا عبد الرحمن، عقرت النجيبة! قال: أنا عقرت ليس النجيبة. وكان أصابه زج «5» رمح بين أصبعين من قدمه، فلما صرنا بمكة دخل عليه الحجاج عائدا فقال: يا أبا عبد الرحمن، لو علمت من أصابك لفعلت وفعلت، قال له: أنت أصبتني. قال غفر الله لك، لم تقول هذا؟ قال: حملت السلاح في يوم لا يحمل فيه السلاح، وفي بلد لا يحمل فيه السلام.
من أخبار الحجاج:
أبو الحسن المدائني قال: أخبرني من دخل المسجد والحجاج على المنبر وقد ملأ صوته المسجد بأبيات سويد بن أبي كاهل اليشكري حيث يقول:
ربّ من أنضجت غيظا صدره ... قد تمنّى لي موتا لم يطع
ساء ما ظنّوا وقد أبليتهم ... عند غايات المدى كيف أقع «6»(5/294)
كيف يرجون سقاطي بعدما ... شمل الرأس مشيب وصلع
كتب الوليد إلى الحجاج. أن صف لي سيرتك، فكتب إليه: إني أيقظت رأيي، وأنمت هواي، فأدنيت السيد المطاع في قومه، ووليت الحرب الحازم في أمره، وقلدت الخراج الموفّر لأمانته، وصرفت السيف إلى النّطف «1» المسيء، والثواب إلى المحسن البريء؛ فخاف المريب صولة العقاب، وتمسك المحسن بحظه من الثواب.
الحجاج وقارىء
قرأ الحجاج في سورة هود: قالَ يا نُوحُ إِنَّهُ لَيْسَ مِنْ أَهْلِكَ إِنَّهُ عَمَلٌ غَيْرُ صالِحٍ
«2» ؛ فلم يدر كيف يقرأ: عمل بالضم والتنوين، أو عمل بالفتح؛ فبعث حرسيّا فقال: إيتني بقارىء. فأتى به وقد ارتفع الحجاج عن مجلسه، فحبسه ونسيه حتى عرض الحجاج حبسه بعد ستة أشهر؛ فلما انتهى إليه قال له: فيم حبست؟ قال:
في ابن نوح، أصلح الله الأمير! فأمر بإطلاقه.
عبد الملك والحجاج وأنس:
إبراهيم بن مرزوق قال: حدّثني سعيد بن جويرية قال: خرجت خارجة على الحجاج بن يوسف، فأرسل إلى أنس بن مالك يخرج معه، فأبى، فكتب إليه يشتمه، فكتب أنس بن مالك إلى عبد الملك بن مروان يشكوه وأدرج كتاب الحجاج في جوف كتابه.
قال إسماعيل بن عبد الله بن أبي المهاجر: بعث إليّ عبد الملك بن مروان في ساعة لم يكن يبعث إليّ في مثلها، فدخلت عليه وهو أشدّ ما كان حنقا وغيظا، فقال: يا إسماعيل: ما أشدّ عليّ أن تقول الرعية: ضعف أمير المؤمنين، وضاق ذرعه في رجل من أصحاب النبي صلّى الله عليه وسلم! لا يقبل له حسنة، ولا يتجاوز له عن سيئة، فقلت: وما ذاك يا أمير المؤمنين قال أنس بن مالك: خادم رسول الله صلّى الله عليه وسلم، كتب إليّ يذكر أنّ(5/295)
الحجاج قد أضرّ به أو أساء جواره. وقد كتبت في ذلك كتابين، كتابا إلى أنس بن مالك، والآخر إلى الحجاج؛ فاقبضهما ثم اخرج على البريد فإذا وردت العراق فابدأ بأنس بن مالك فادفع له كتابي، وقل له: اشتدّ على أمير المؤمنين ما كان من الحجاج إليك، ولن يأتي إليك أمر تكرهه إن شاء الله، ثم ائت الحجاج فادفع إليه كتابه، وقل له: قد اغتررت بأمير المؤمنين غرّة «1» لا أظنه يخطئك شرّها. ثم افهم ما يتكلم به وما يكون منه، حتى تفمني إياه إذا قدمت عليّ إن شاء الله.
قال إسماعيل: فقبضت الكتابين وخرجت على البريد، حتى قدمت العراق فبدأت بأنس بن مالك في منزله، فدفعت إليه كتاب أمير المؤمنين، وأبلغته رسالته؛ فدعا له وجزاه خيرا؛ فلما فرغ من قراءة الكتاب قلت له: أبا حمزة، إنّ الحجاج عامل، ولو وضع لك في جامعة «2» لقدر أن يضرك وينفعك؛ فأنا أريد أن تصالحه. قال: ذلك إليك، لا أخرج عن رأيك. ثم أتيت الحجاج؛ فلما رآني رحب وقال: والله لقد كنت أحبّ أن أراك في بلدي هذا! قلت: وأنا والله قد كنت أحب أن أراك وأقدم عليك بغير الذي أرسلت به إليك! قال: وما ذاك؟ قلت: فارقت الخليفة وهو أغضب الناس عليك! قال: ولم؟ قال: فدفعت إليه الكتاب، فجعل يقرؤه وجبينه يعرق فيمسحه بيمينه، ثم قال: اركب بنا إلى أنس بن مالك. قلت له: لا تفعل، فإني سأتلطف به حتى يكون هو الذي يأتيك- وذلك للذي أشرت عليه من مصالحته- قال: فألقى كتاب أمير المؤمنين، فإذا فيه:
بسم الله الرحمن الرحيم. من عبد الله عبد الملك بن مروان إلى الحجاج بن يوسف، أمّا بعد فإنك عبد طمت «3» بك الأمور فطغيت، وعلوت فيها حتى جزت قدرك، وعدوت طورك، وايم الله يا بن المستفرمة «4» بعجم زبيب الطائف، لأغمزنّك «5»(5/296)
كبعض غمزات الليوث للثعالب، ولأركضنّك ركضة تدخل منها في وجعاء»
أمك؛ اذكر مكاسب آبائك بالطائف، إذ كانوا ينقلون الحجارة على أكتافهم، ويحفرون الآبار في المناهل بأيديهم؛ فقد نسيت ما كنت عليه أنت وآباؤك من الدناءة واللؤم والضراعة؛ وقد بلغ أمير المؤمنين استطالة منك على أنس بن مالك خادم رسول الله صلّى الله عليه وسلم، جرأة منك على أمير المؤمنين، وغرّة بمعرفة غيره ونقماته وسطواته على من خالف سبيله وعمد إلى غير محبته، ونزل عند سخطته، وأظنك أردت أن تروزه «2» بها لتعلم ما عنده من التغيير والتنكير فيها، فإن سوّغتها مضيت قدما، وإن بغّضتها وليت دبرا. فعليك لعنة الله من عبد أخفس «3» العينين؛ أصلك «4» الرجلين؛ ممسوح الجاعرتين «5» ، وايم الله لو أن أمير المؤمنين علم أنك اجترمت منه جرما وانتهكت له عرضا فيما كتب به إلى أمير المؤمنين، لبعث إليك من يسبحك ظهرا لبطن حتى ينتهي بك إلى أنس بن مالك، فيحكم فيك بما أحب، ولن يخفى على أمير المؤمنين نبؤك «6» ، ولكل نبأ مستقر وسوف تعلمون.
قال إسمعيل: فانطلقت إلى أنس فلم أزل به حتى انطلق معي إلى الحجاج؛ فلما دخلنا عليه قال: يغفر الله لك أبا حمزة: عجلت بالأئمة، وأغضبت علينا أمير المؤمنين. ثم أخذ بيده فأجلسه معه على السرير، فقال: أنس: إنك كنت تزعم أنا الأشرار! والله سمّانا الأناصر، وقلت: إنا من أبخل الناس! ونحن الذين قال الله فيهم: وَيُؤْثِرُونَ عَلى أَنْفُسِهِمْ وَلَوْ كانَ بِهِمْ خَصاصَةٌ
«7» وزعمت أنّا أهل نفاق! والله تعالى يقول فينا: وَالَّذِينَ تَبَوَّؤُا الدَّارَ وَالْإِيمانَ مِنْ قَبْلِهِمْ يُحِبُّونَ مَنْ هاجَرَ إِلَيْهِمْ وَلا يَجِدُونَ فِي صُدُورِهِمْ حاجَةً مِمَّا أُوتُوا
«8» فكان المفزع والمشتكى في ذلك(5/297)
إلى الله وإلى أمير المؤمنين، فتولى من ذلك ما ولاه الله، وعرف من حقنا ما جهلت، وحفظ منا ما ضيّعت؛ وسيحكم في ذلك ربّ هو أرضى للمرضى، وأسخط للمسخط، وأقدر على المغير، في يوم لا يشوب الحقّ عنده الباطل، ولا النور الظلمة، ولا الهدى الضلالة؛ والله لولا أن اليهود أو النصارى رأت من خدم موسى بن عمران أو عيسى ابن مريم يوما واحدا لرأت له ما لم تروا لي في خدمة رسول الله صلّى الله عليه وسلم عشر سنين.
قال: فاعتذر إليه الحجاج وترضاه حتى قبل عذره ورضي عنه، وكتب برضاه وقبوله عذره، ولم يزل الحجاج له معظّما هائبا له حتى هلك، رضي الله عنه.
وكتب الحجاج إلى أمير المؤمنين عبد الملك بن مروان:
بسم الله الرحمن الرحيم. أما بعد: أصلح الله أمير المؤمنين وأبقاه، وسهل حظه وحاطه ولا أعدمناه، فإن إسماعيل بن أبي المهاجر رسول أمير المؤمنين- أعز الله نصره- قدم عليّ بكتاب أمير المؤمنين أطال الله بقاءه، وجعلني من كل مكروه فداءه، يذكر شتيمتي وتوبيخي بآبائي، وتعييري بما كان قبل نزول النعمة بي من عند أمير المؤمنين، أتم الله نعمته عليه، وإحسانه إليه، ويذكر أمير المؤمنين، جعلني الله فداه، استطالة مني على أنس بن مالك خادم رسول الله صلّى الله عليه وسلم، جرأة على أمير المؤمنين، وغرة بمعرفة غيره ونقماته وسطواته على من خالف سبيله وعمد إلى غير محبنه ونزل عند سخطته وأمير المؤمنين- أصلحه الله- في قرابته من محمد رسول الله صلّى الله عليه وسلم، إمام الهدى وخاتم الأنبياء- أحق من أقال عثرتي وعفا عن ذنبي، فأمهلني ولم يعجلني عند هفوتي للذي جبل عليه من كريم طبائعه، وما قلده الله من أمور عباده؛ فرأى أمير المؤمنين- أصلحه الله- في تسكين ورعيّ وإفراح كربتي، فقد ملئت رعبا وفرقا من سطوته، وفجاءة نقمته، وأمير المؤمنين- أقاله «1» الله العثرات،(5/298)
وتجاوز له [عن] السيئات، وضاعف له الحسنات، وأعلى له الدرجات- أحق من صفح وعفا، وتغمد «1» وأبقى، ولم يشمت بي عدوا مكبا «2» ولا حسودا مضبا «3» ، ولم يجرّعني غصصا؛ والذي وصف أمير المؤمنين من صنيعته إلي، وتنويهه لي بما أسند إلي من عمله، وأوطاني من رقاب رعيته، فصادق فيه، مجزى بالشكر عليه، والتوسل مني إليه بالولاية والتقرب له بالكفاية.
وقد عاين إسماعيل بن أبي المهاجر رسول أمير المؤمنين وحامل كتابه نزولي عند مسرة أنس بن مالك، وخضوعي لكتاب أمير المؤمنين، وإقلاقه إياي، ودخوله علي بالمصيبة، على ما سيعلمه أمير المؤمنين وينهيه إليه؛ فإن أرى أمير المؤمنين- طوّقني الله شكره، وأعانني على تأدية حقه، وبلّغني إلى ما فيه موافقة مرضاته ومدّ لي في أجله- أمر لي بكتاب من رضاه وسلامة صدره، يؤمّنني به من سفك دمي، ويردّ ما شرد من نومي، ويطمئن به قلبي، [فعل] ؛ فقد ورد عليّ أمر جليل خطبه، عظيم أمره شديد عليّ كربه، أسأل الله أن لا يسخط أمير المؤمنين [علي] ، وأن يبتليه في حزمه وعزمه، وسياسته وفراسته، ومواليه وحشمه، وعماله وصنائعه، ما يحمد به حسن رأيه، وبعد همته، إنه ولي أمير المؤمنين والذابّ عن سلطانه، والصانع له في أمره، والسلام.
فحدث إسماعيل أنه لما قرأ أمير المؤمنين الكتاب، قال: يا كاتب، أفرخ «4» روع أبي محمد. فكتب إليه بالرضا عنه.
سليمان والحجاج:
كان سليمان بن عبد الملك يكتب إلى الحجاج في أيام أخيه الوليد بن عبد الملك كتبا فلا ينظر له فيها، فكتب:(5/299)
بسم الله الرحمن الرحيم، من سليمان بن عبد الملك إلى الحجاج بن يوسف، سلام على أهل الطاعة من عباد الله، أما بعد؛ فإنك امرؤ مهتوك عنه حجاب الحق، مولع بما عليك لا لك، منصرف عن منافعك، تارك لحظك، مستخف بحق الله وحق أوليائه، لا ما سلف إليك من خير يعطفك، ولا ما عليك لآلك يصرفك في مبهمة من أمرك مغمور منكوس معصوصر «1» عن الحق اعصيصارا، لا تتنكّب «2» عن قبيح، ولا ترعوي «3» عن إساءة، ولا ترجو لله وقارا؛ حتى دعيت فاحشا سبابا، فقس شبرك بفترك، واحذ زمام نعل بحذو مثله فايم الله لئن أمكنني الله منك لأدوسنك دوسة تلين منها فرائصك «4» ، ولأجعلنك شريدا في الجبال. تلوذ بأطراف الشمال، ولأعلقن الرومية الحمراء بثدييها، علم الله ذلك مني وقضى لي به عليّ، فقدما غرّتك العافية. وانتحيت «5» أعراض الرجال؛ فإنك قدرت فبذخت، وظفرت فتعدّيت؛ فرويدك حتى تنظر كيف يكون مصيرك إن كانت بي وبك مدة أتعلق بها.
وإن تكن الأخرى فأرجو أن تئول إلى مذلة ذليلة، وخزية طويلة، ويجعل مصيرك في الآخرة شرّ مصير! والسلام.
فكتب إليه الحجاج: بسم الله الرحمن الرحيم. من الحجاج بن يوسف إلى سليمان بن عبد الملك، سلام على من أتبع الهدى، أما بعد، فإنك كتبت إلي تذكر أني امرؤ مهتوك عني حجاب الحق، مولع بما عليّ لا لي، منصرف عن منافعي، تارك لحظي، مستخف بحق الله وحق وليّ الحق؛ وتذكر أنك ذو مصاولة «6» ؛ ولعمري إنك لصبيّ حديث السن، تعذر بقلة عقلك، وحداثة سنك ويرقب فيك غيرك.(5/300)
فأما كتابك إليّ فلعمري لقد ضعف فيه عقلك، واستخف به حلمك، فلله أبوك! أفلا انتصرت بقضاء الله دون قضائك، ورجاء الله دون رجائك وأمتّ غيظك وأمنت عدوك، وسترت عنه تدبيرك، ولم تنبّهه فيلتمس من مكايدتك ما تلتمس من مكايدته؟ ولكنك لم تستشفّ «1» الأمور علما، ولم ترزق من أمرك حزما، جمعت أمورا دلّاك فيها الشيطان على أسوأ أمرك، فكان الجفاء من خليقتك، والحمّق من طبيعتك، وأقبل الشيطان بك وأدبر، وحدّثك أنك لن تكون كاملا حتى تتعاطى ما يعيبك، فتحذلقت حنجرتك لقوله، واتسع جوانبها لكذبه، وأما قولك لو ملكك الله لعلّقت زينب ابنة يوسف يثدييها؛ فأرجو أن يكرمها الله بهوانك وأن لا يوفق ذلك لك إن كان ذلك من رأيك؛ مع أني أعرف أنك كتبت إلي والشيطان بين كفيك، فشرّ ممل علي شرّ كاتب راض بالخسف «2» ، فأحر بالحق أن لا يدلك على هدى، ولا يردّك إلا إلى ردى؛ وتحلب فوك للخلافة، فأنت شامخ البصر، طامح النظر تظن أنك حين تملكها لا تنقطع عنك مدتها؛ إنها للقطة الله، أسأل الله أن يلهمك فيها الشكر. مع أني أرجو أن ترغب فيما رغب فيه أبوك وأخوك فأكون لك مثلي لهما، وإن نفخ الشيطان في منخريك فهو أمر أراد الله نزعه عنك وإخراجه إلى من هو أكمل به منك؛ ولعمري إنها النصيحة فإن تقبلها فمثلها قبل، وإن تردّها علي اقتطعتها دونك وأنا الحجاج.
الحجاج والوليد وأم البنين:
قدم الحجاج على الوليد بن عبد الملك، فدخل عليه وعليه درع وعمامة سوداء وقوس عربية، وكنانة «3» ؛ فبعثت إليه أمّ البنين بنت عبد العزيز بن مروان: من هذا الأعرابي المستلئم في السلاح عندك وأنت في غلالة «4» ؟ فبعث إليها: هذا الحجاج بن(5/301)
يوسف. فأعادت الرسول إليه تقول: والله لأن يخلو بك ملك الموت أحبّ إليّ من أن يخلو بك الحجاج! فأخبره الوليد بذلك وهو يمازحه؛ فقال: يا أمير المؤمنين، دع عنك مفاكهة النساء بزخرف القول، فإنما المرأة ريحانة، وليست بقهرمانة «1» ؛ فلا تطلعها على سرك ومكايدة عدوك. فلما دخل الوليد عليها أخبرها بمقالة الحجاج؛ فقالت: يا أمير المؤمنين، حاجتي أن تأمره غدا يأتيني مستلئما «2» . ففعل ذلك؛ فأتاها الحجاج فحجبته، فلم يزل قائما؛ ثم قالت له: إيه يا حجاج! أنت الممتنّ على أمير المؤمنين بقتلك عبد الله بن الزبير وابن الأشعث؟ أما والله لولا أن الله علم أنك من شرار خلقه ما ابتلاك برمي الكعبة، وقتل ابن ذات النطاقين، أول مولود ولد في الإسلام؛ وأما نهيك أمير المؤمنين عن مفاكهة النساء وبلوغ أوطاره منهن؛ فإن كن ينفرجن عن مثلك فما أحقه بالأخذ عنك، وإن كن ينفرجن عن مثله فغير قابل لقولك: أما والله لقد نقض نساء أمير المؤمنين الطيب عن غدائرهن فبعنه في أعطية أهل الشام حين كنت في أضيق من الفرق «3» ، قد أظللتك رماحهم، وأثخنك كفاحهم؛ وحين كان أمير المؤمنين أحب إليهم من آبائهم وأبنائهم؛ فما نجّاك الله من عدو أمير المؤمنين إلا بحبهم إياه، ولله در القائل إذ نظر إليك وسنان غزالة «4» بين كتفيك:
أسد عليّ وفي الحروب نعامة ... ربواء تجفل من صفير الصافر «5»
هلا برزت إلى غزالة في الوغى ... بل كان قلبك في مخالب طائر
صدعت غزالة جمعه بعساكر ... تركت كتائبه كأمس الدابر
ثم قالت: أخرج! فخرج مذموما مدحورا.(5/302)
عبد الملك والحجاج وعروة ابن الزبير:
كان عروة بن الزبير عاملا على اليمن لعبد الملك بن مروان، فاتصل به أن الحجاج مجمع على مطالبته بالأموال التي بيده وعزله عن عمله؛ ففر إلى عبد الملك وعاذ به تخوّفا من الحجاج واستدفاعا لضرره وشرّه؛ فلما بلغ ذلك الحجاج كتب إلى عبد الملك بن مروان:
أما بعد فإن لواذ المعترضين بك، وحلول الجانحين إلى المكث بساحتك، واستلانتهم دمث «1» أخلاقك وسعة عفوك، كالعارض المبرق لأعدائه لا يعدم له شائما، رجاء استمالة عفوك؛ وإذا أدني الناس بالصفح عن الجرائم، كان ذلك تمرينا لهم على إضاعة الحقوق مع كل وال والناس عبيد العصا، هم على الشدة أشدّ استباقا منهم على اللين، ولنا قبل عروة بن الزبير مال من مال الله، وفي استخراجه منه قطع لطمع غيره، فليبعث به أمير المؤمنين إن رأى ذلك، والسلام.
فلما قرأ الكتاب، بعث إلى عروة ثم قال له: إن كتاب الحجاج قد ورد فيك، وقد أبى إلا إشخاصك إليه. ثم قال لرسول الحجاج: شأنك به. فالتفت إليه عروة مقبلا عليه، وقال: أما والله ما ذلّ وخزي من مات، ولكن ذل وخزي من ملكتموه؛ والله لئن كان الملك بجواز الأمر ونفاذ النهي، إن الحجاج لسلطان عليك، ينفذ أموره دون أمورك؛ إنك لتريد الأمر يزينك عاجله ويبقى لك أكرومة «2» آجله، فيجذبك عنه ويلقاه دونك، ليتولى من ذلك الحكم فيه، فيحظى بشرف عفو إن كان، أو يجرم عقوبة إن كانت، وما حاربك من حاربك إلا على أمر هذا بعضه.
قال: فنظر في كتاب الحجاج مرة ورفع بصره إلى عروة تارة، ثم دعا بدواة وقرطاس فكتب إليه:
أما بعد، فإن أمير المؤمنين رآك مع ثقته بنصيحتك، خابطا في السياسة خبط(5/303)
عشواء «1» الليل؛ فإنّ رأيك الذي يسولّ لك أن الناس عبيد العصا، هو الذي أخرج رجالات العرب إلى الوثوب عليك، وإذا أحرجت العامة بعنف السياسة، كانوا أوشك وثوبا عليك عند الفرصة، ثم لا يلتفتون إلى ضلال الداعي ولا هداه، إذا رجوا بذلك إدراك الثأر منك؛ وقد وليت العراق قبلك ساسة، وهم يومئذ أحمى أنوفا، وأقرب من عمياء الجاهلية، وكانوا عليهم أصلح منك عليهم، وللشدة واللين أهلون، والإفراط في العفو أفضل من الإفراط في العقوبة، والسلام.
ابن شهاب والحجاج في ضعف بصره:
زكريا بن عيسى عن ابن شهاب قال: خرجنا مع الحجاج حجاجا، فلما انتهينا إلى البيداء وافيا ليلة الهلال هلال ذي الحجة فقال لنا الحجاج: تبصّروا الهلال؟ فأما أنا ففي بصري عاهة. فقال له نوفل بن مساحق: أو تدري لم ذلك أصلح الله الأمير؟
قال: لكثرة نظرك في الدفاتر.
الأصمعي قال: عرضت السجون بعد الحجاج، فوجدوا فيها ثلاثة وثلاثين ألفا لم يجب على واحد منهم قتل ولا صلب ووجد فيهم أعرابي أخذ يبول في أصل مدينة واسط، فكان فيمن أطلق؛ فأنشأ الأعرابي يقول:
إذا نحن جاوزنا مدينة واسط ... خرينا وبلنا لا نخاف عقابا
عدة من قتل الحجاج:
أبو داود المصحفي عن النضر بن شميل، قال: سمعت هشاما يقول: أحصوا من قتل الحجاج صبرا فوجدوهم مائة ألف وعشرين ألفا.
خطبة للحجاج في أهل العراق:
وخطب الحجاج أهل العراق فقال: يا أهل العراق، بلغني أنكم تروون عن نبيكم(5/304)
أنه قال: «من ملك على عشرة رقاب من المسلمين جيء به يوم القيامة مغلولة يداه إلى عنقه، حتى يفكه العدل أو يوبقه «1» الجور» ! وايم الله إني لأحب إليّ أن أحشر مع أبي بكر وعمر مغلولا من أن أحشر معكم مطلقا.
الحجاج يخطب أهل العراق بعد مرضه:
ومرض الحجاج، ففرح أهل العراق وقالوا: مات الحجاج! مات الحجاج! فلما أفاق صعد المنبر وخطب الناس فقال:
يأهل العراق، يأهل الشقاق والنفاق، مرضت فقلتم: مات الحجاج! أما والله لأحب إليّ أن أموت من أن لا أموت، وهل أرجو الخير كله إلا بعد الموت؟ وما رأيت الله رضى بالخلود في الدنيا، لأحد من خلقه إلا لأبغض خلقه إليه وأهونهم عليه: إبليس؛ ولقد رأيت العبد الصالح يسأل ربه فقال: رب هَبْ لِي مُلْكاً لا يَنْبَغِي لِأَحَدٍ مِنْ بَعْدِي
»
ففعل، ثم اضمحل ذلك فكأنه لم يكن.
وله حين أراد الحج واستخلف ولده:
وأراد الحجاج أن يحج، فاستخلف محمدا ولده على أهل العراق، ثم خطب، فقال:
يأهل العراق، يأهل الشقاق والنفاق، إني أردت الحج، وقد استخلفت عليكم محمدا ولدي، وأوصيته فيكم بخلاف ما أوصي به رسول الله صلّى الله عليه وسلم في الأنصار؛ فإنه أوصى فيهم أن يقبل من محسنهم، ويتجاوز عن مسيئهم؛ وإني أوصيته أن يقبل من محسنكم، وأن لا يتجاوز عن مسيئكم! ألا وإنكم قائلون بعدي مقالة لا يمنعكم من إظهارها إلا خوفي: لا أحسن الله له الصحابة! وأنا أعجل لكم الجواب: فلا أحسن الله عليكم الخلافة! ثم نزل.(5/305)
وله في وفاة ابنه:
فلما كان غداة الجمعة مات محمد بن الحجاج، فلما كان بالعشي أتاه بريد من اليمن بوفاة محمد أخيه: ففرح أهل العراق، وقالوا: انقطع ظهر الحجاج وهيض «1» جناحه فخرج فصعد المنبر ثم خطب الناس. فقال:
أيها الناس، محمدان في يوم واحد! أما والله ما كنت أحب أنهما معي في الحياة الدنيا لما أرجو من ثواب الله لهما في الآخرة؛ وايم الله ليوشكن الباقي مني ومنكم أن يفنى. والجديد أن يبلى، والحيّ مني ومنكم أن يموت، وأن تدال «2» الأرض منا كما أدلنا منها فتأكل من لحومنا، وتشرب من دمائنا. كما مشينا على ظهرها، وأكلنا من ثمارها، وشربنا من مائها. ثم نكون كما قال الله تعالى: وَنُفِخَ فِي الصُّورِ فَإِذا هُمْ مِنَ الْأَجْداثِ إِلى رَبِّهِمْ يَنْسِلُونَ
«3» . ثم تمثل بهذين البيتين:
عزائي نبيّ الله من كلّ ميّت ... وحسبي ثواب الله من كلّ هالك
إذا ما لقيت الله عنّي راضيا ... فإنّ سرور النّفس فيما هنالك
ثم نزل، وأذن للناس فدخلوا عليه يعزونه. ودخل فيهم الفرزدق. فلما نظر إليه قال: يا فرزدق، أما رثيت محمدا ومحمدا؟ قال: نعم أيها الأمير وأنشد:
لئن جزع الحجّاج، ما من مصيبة ... تكون لمحزون أمضّ وأوجعا.. «4»
.. من المصطفى والمنتقى من نقاية ... جناحاه لمّا فارقاه وودّعا
جناحا عتيق فارقاه كلاهما ... ولو نزعا من غيره لتضعضعا «5»
ولو أنّ يومي جمعتيه تتابعا ... على شامخ صعب الذّرى لتصدّعا
سميّا رسول الله سمّاهما به ... أب لم يكن عند الحوادث أخضعا(5/306)
قال: أحسنت. وأمر له بصلة. فخرج وهو يقول: والله لو كلّفني الحجاج بيتا سادسا لضرب عنقي قبل أن آتيه به. وذلك أنه دخل ولم يهيء شيئا.
قولهم في الحجاج
للعتبي عن أبيه في الحجاج:
الرياشي عن العتبي عن أبيه، قال: ما رأيت مثل الحجاج. كان زيه زيّ شاطر «1» ، وكلامه كلام خارجيّ، وصولته صولة جبار. فسألته عن زيه فقال: كان يرجّل «2» شعره ويخضب أطرافه.
ولأبن مهران فيه:
كثير بن هشام عن جعفر بن برقان، قال: سألت ميمون بن مهران، فقلت: كيف ترى في الصلاة خلف رجل يذكر أنه خارجي؟ فقال: إنك لا تصلي له، إنما تصلي لله، قد كنا نصلي الحجاج وهو حروري أزرقي! قال: فنظرت إليه، فقال: أتدري ما الحروري الأزرقي؟ هو الذي إن خالفت رأيه سماك كافرا واستحلّ دمك؛ وكان الحجاج كذلك.
ولعمر فيه:
أبو أمية عن أبي مسهر قال: حدثنا هشام بن يحيى عن أبيه قال: قال عمر بن عبد العزيز: لو جاءت كل أمة بمنافقيها، وجئنا بالحجاج لفضلناهم.
الحسن وحانف في شأن الحجاج:
وحلف رجل بطلاق امرأته: أن الحجاج في النار، فأتى امرأته فمنعته نفسها فسأل الحسن بن أبي الحسن البصري، فقال: لا عليك يا بن أخي، فإنه إن لم يكن(5/307)
الحجاج في النار، فما يضرك أن تكون مع امرأتك على زنى.
علي بن زيد في موت الحجاج:
أبو أمية عن إسحاق بن هشام عن عثمان بن عبد الرحمن الجمحي عن علي بن زيد، قال: لما مات الحجاج أتيت الحسن فأخبرته، فخرّ ساجدا.
لإبراهيم في الحجاج:
علي بن عبد العزيز عن إسحاق عن جرير بن عبد الحميد عن منصور بن المعتمر قال: قلت لإبراهيم: ما ترى في لعن الحجاج؟ قال: ألم تسمع لقول الله تعالى: أَلا لَعْنَةُ اللَّهِ عَلَى الظَّالِمِينَ
«1» ؟ فأشهد أن الحجاج كان منهم.
جابر والحجاج:
وكيع عن سفيان عن محمد بن المنكدر عن جابر بن عبد الله، قال: دخلت على الحجاج فما سلمت عليه.
الرقاشي والحسن في الحجاج:
وكيع عن سفيان قال: قال يزيد الرقاشي عند الحسن: إني لأرجو للحجاج. قال الحسن: إني لأرجو أن يخلف «2» الله رجاءك.
أنس وابن سيرين في دراهم الحجاج:
ميمون بن مهران قال: كان أنس وابن سيرين لا يبيعان ولا يشتريان بهذه الدراهم الحجّاجيّة.
قال عبد الملك بن مروان للحجاج: ليس من أحد إلا وهو يعرف عيب نفسه،(5/308)
فصف لي عيوبك. قال: أعفني يا أمير المؤمنين. قال: لابد أن تقول. قال: أنا لجوج «1» حسود حقود. قال: ما في إبليس شر من هذا.
ابن عمر في ولاية الحجاج:
أبو بكر بن أبي شيبة قال: قيل لعبد الله بن عمر: هذا الحجاج قد ولي الحرمين.
قال: إن كان خيرا شكرنا، وإن كان شرا صبرنا.
للحسن في قتال الحجاج:
ابن أبي شيبة قال: قيل للحسن: ما تقول في قتال الحجاج؟ قال: إن الحجاج عقوبة من الله، فلا تستقبلوا عقوبة الله بالسيف.
الحجاج وصلب ماهان:
ابن فضيل قال: حدثنا أبو نعيم قال: أمر الحجاج بماهان أن يصلب على بابه، فرأيته حين رفعت خشبته يسبح ويهلل ويكبر ويعقد بيده، حتى بلغ تسعا وتسعين؛ وطعنه رجل على تلك الحال، فلقد رأينا بعد شهر في يده «2» . قال: وكنا نرى عند خشبته بالليل شبيها بالسراج.
عدة قتلى الحجاج:
أبو داود المصحفي عن النضر بن شميل، قال: سمعت هشاما يقول: أحصوا من قتل الحجاج صبرا فوجدوهم مائة وعشرين ألفا.
من زعم أن الحجاج كان كافرا
ميمون بن مهران عن الأجلح، قال: قلت للشعبي: يزعم الناس أن الحجاج مؤمن.(5/309)
قال مؤمن بالجبت «1» والطاغوت، كافر بالله.
علي بن عبد العزيز عن إسحاق بن يحيى عن الأعمش، قال: اختلفوا في الحجاج فقالوا: بمن ترضون؟ قالوا: بمجاهد. فأتوه فقالوا: إنا قد اختلفنا في الحجاج.
فقال: أجئتم تسألوني عن الشيخ الكافر؟
محمد بن كثير عن الأوزاعي، قال: سمعت القاسم بن محمد يقول: كان الحجاج بن يوسف ينتقض عرى الإسلام عروة عروة.
عطاء بن السائب، قال: كنت جالسا مع أبي البختري والحجاج يخطب، فقال في خطبته:
إن مثل عثمان عند الله كمثل عيسى ابن مريم: قال الله فيه: إِنِّي مُتَوَفِّيكَ وَرافِعُكَ إِلَيَّ وَمُطَهِّرُكَ مِنَ الَّذِينَ كَفَرُوا وَجاعِلُ الَّذِينَ اتَّبَعُوكَ فَوْقَ الَّذِينَ كَفَرُوا إِلى يَوْمِ الْقِيامَةِ
«2» .
فقال أبو البختري: كفر وربّ الكعبة.
ومما كفّرت به العلماء الحجاج، قوله ورأى الناس يطوفون بقبر رسول الله صلّى الله عليه وسلم ومنبره؛ إنما يطوفون بأعواد ورمّة «3» .
الشيباني عن الهيثم عن أبي عياش قال: كنا عند عبد الملك بن مروان إذ أتاه كتاب الحجاج يعظم فيه أمر الخلافة، ويزعم أن ما قامت السموات والأرض إلا بها وأن الخليفة عند الله أفضل من الملائكة المقربين، والأنبياء والمرسلين. وذلك أن الله خلق آدم بيده، وأسجد له الملائكة، وأسكنه جنته، ثم أهبطه إلى الأرض وجعله خليفته، وجعل الملائكة رسلا إليه. فأعجب عبد الملك بذلك، وقال: لوددت أن عندي بعض(5/310)
الخوارج بهذا الكتاب! فانصرف عبد الله بن يزيد إلى منزله، فجلس مع ضيفانه وحدّثهم الحديث، فقال له حوار بن زيد الضبي، وكان هاربا من الحجاج:
توثّق لي منه ثم أعلمني به. فذكر ذلك لعبد الملك بن مروان، فقال: هو آمن على كل ما يخاف. فانصرف عبد الله إلى حوار فأخبره بذلك، فقال: بالغداة إن شاء الله. فلما أصبح اغتسل ولبس ثوبين، ثم تحنّط وحضر باب عبد الملك، فقال: هذا الرجل بالباب. فقال: أدخله يا غلام. فدخل رجل عليه ثياب بيض يوجد عليه ريح الحنوط، ثم قال: السلام عليكم. ثم جلس؛ فقال عبد الملك: إيت بكتاب أبي محمد يا غلام. فأتاه به، فقال: اقرأ. فقرأ حتى أتى على آخره، فقال حوار: أراه قد جعلك في موضع ملكا وفي موضع نبياّ وفي موضع خليفة؛ فإن كنت ملكا فمن أنزلك؟
وإن كنت نبيا فمن أرسلك؟ وإن كنت خليفة فمن استخلفك؟ أعن مشورة من المسلمين، أم ابتززت الناس أمورهم بالسيف؟
فقال عبد الملك: قد أمناك ولا سبيل إليك، والله لا تجاورني في بلد أبدا؛ فارحل حيث شئت. قال: فإني قد اخترت مصر. فلم يزل بها حتى مات عبد الملك.
علي بن عبد العزيز عن إسحاق بن إسماعيل الطالقاني، قال: حدّثنا جرير عن مغيرة عن الربيع قال: قال الحجاج في كلام له: ويحكم! أخليفة أحدكم في أهله أكرم عليه أم رسوله إليهم؟ قال: ففهمت ما أراد، فقلت له: لله عليّ ألّا أصلي خلفك صلاة أبدا، ولئن وجدت قوما يقاتلونك لقاتلتك معهم. فقاتل في الجماجم حتى قتل.
قيل للحجاج: كيف وجدت منزلك بالعراق؟ قال: خير منزل لو أدركت بها أربعة [نفر] فتقرّبت إلى الله بدمائهم، قيل: ومن هم؟ قال: مقاتل بن مسمع، ولي سجستان فأتاه الناس فأعطاهم الأموال، فلما قدم البصرة بسط الناس له أرديتهم.
فقال: لمثل هذا فليعمل العاملون.
وعبيد الله بن ظبيان، قام فخطب خطبة أوجز فيها، فنادى الناس من أعراض(5/311)
المسجد: أكثر الله فينا أمثالك! قال: لقد سألتم الله شططا «1» .
ومعبد بن زرارة، كان ذات يوم جالسا على الطريق، فمرّت به امرأة فقالت: يا عبد الله، أين الطريق إلى مكان كذا؟ فغضب وقال: أمثلي يقال له يا عبد الله؟
وأبو سماك الحنفي، أضلّ ناقته فقال: والله لئن لم يردّها عليّ لا صليت له أبدا فلما وجدها قال: علم أنّ يميني كانت برّة «2» ! قال ناقل الحديث: ونسي الحجاج نفسه وهو خامس الأربعة، بل هو أفسقهم وأطغاهم وأعظمهم إلحادا وأكفرهم في كتابه إلى عبد الملك ابن مروان:
إنّ خليفة الله في أرضه أكرم عليه من رسوله إليهم.
وكتابه إليه وبلغه أنه عطس يوما فحمد الله وشمّته أصحابه فردّ عليه ودعا لهم.
فكتب إليه:
بلغني ما كان من عطاس أمير المؤمنين، ومن تشميت أصحابه له وردّه عليهم؛ فيا ليتني كنت معهم فأفوز غوزا عظيما.
الحجاج وأسرى الجماجم:
وكان عبد الملك كتب إلى الحجاج في أسرى الجماجم أن يعرضهم على السيف، «فمن أقرّ منهم بالكفر بخروجه علينا فخلّ سبيله، ومن زعم أنه مؤمن فاضرب عنقه» ففعل، فلما عرضهم أتي بشيخ وشاب، فقال للشاب: أمؤمن أنت أم كافر؟
قال: بل كافر: فقال الحجاج: لكن الشيخ لا يرضى بالكفر! فقال له الشيخ: أعن نفسي تخادعني يا حجاج؟ والله لو كان شيء أعظم من الكفر لرضيت به! فضحك الحجاج وخلى سبيلهما.(5/312)
ثم قدّم إليه رجل، فقال له: على دين من أنت؟ قال: على دين إبراهيم حنيفا وما كان من المشركين. فقال: اضربوا عنقه.
ثم قدّم آخر، فقال له: على دين من أنت؟ قال: على دين أبيك الشيخ يوسف! فقال: أما والله لقد كان صوّاما قوّاما، خلّ عنه يا غلام! فلما خليّ عنه انصرف إليه فقال له: يا حجاج، سألت صاحبي: على دين من أنت؟ فقال: على دين إبراهيم حنيفا، وما كان من المشركين؛ فأمرت به فقتل؛ وسألني: على دين من أنت؟ فقلت:
على دين أبيك الشيخ يوسف، فقلت: أما والله لقد كان صوّاما قوّاما؛ فأمرت بتخلية سبيلي؛ والله لو لم يكن لأبيك من السيئات إلا أنه ولد مثلك لكفاه! فأمر به فقتل.
ثم أتي بعمران بن عصام العنزي، فقال: عمران! قال: نعم. قال: ألم أوفدك على أمير المؤمنين ولا يوفد مثلك؟ قال: بلى. قال: ألم أزوّجك مارية بنت مسمع سيدة قومها ولم تكن لها أهلا؟ قال: بلى. قال: فما حملك على الخروج علينا؟ قال: أخرجني باذان. قال: فأين كنت من حجة أهلك؟ قال: أخرجني باذان. فأمر رجلا فكشف العمامة عن رأسه، فإذا هو محلوق؛ قال: ومحلوق أيضا؟ لا أقالني الله إن لم أقتلك! فأمر به فضرب عنقه، فسأل عبد الملك بعد ذلك عن عمران بن عصام، فقيل له:
قتله الحجاج. فقال ولم؟ قال: بخروجه مع ابن الأشعث. قال: ما كان ينبغي له أن يقتله بعد قوله [فيه] :
وبعثت من ولد الأغرّ معتّب ... صقرا يلوذ حمامه بالعوسج «1»
فإذا طبخت بناره أنضجتها ... وإذا طبخت بغيرها لم تنضج
وهو الهزبر، إذا أراد فريسة ... لم ينجها منه صريخ الهجهج «2»
ثم أتي بعامر الشعبي ومطرف بن عبد الله الشّخّير، وسعيد بن جبير؛ وكان الشعبي(5/313)
ومطرّف يريان التورية، وكان سعيد بن جبير لا يرى ذلك؛ فلما قدّم له الشعبي قال:
أكافر أنت أم مؤمن؟ قال: أصلح الله الأمير، نبا بنا المنزل، وأجدب بنا الجناب «1» ، واستحلسنا «2» الخوف، واكتحلنا السهر، وخبطتنا فتنة لم نكن فيها بررة أتقياء، ولا فجرة أقوياء. قال الحجاج: صدق والله، ما برّوا بخروجهم علينا ولا قووا، خلّيا عنه.
ثم قدّم إليه مطرّف بن عبد الله، فقال ل: أكافر أنت أم مؤمن؟ قال: أصلح الله الأمير، إن من شق العصا، ونكث البيعة، وفارق الجماعة، وأخاف المسلمين- لجدير بالكفر. فقال: صدق، خليا عنه.
ثم أتي بسعيد بن جبير، فقال له: أنت سعيد بن جبير؟ قال: نعم. قال: لا، بل شقي ابن كسير! قال: أمي أعلم باسمي منك. قال: شقيت وشقيت أمّك. قال:
الشقاء لأهل النار! قال: أكافر أنت أم مؤمن؟ قال: ما كفرت بالله منذ آمنت به.
قال: اضربوا عنقه.
موت الحجاج
مات الحجاج في آخر أيام الوليد بن عبد الملك؛ فتفجّع عليه وولّى مكانه يزيد ابن أبي مسلم كاتب الحجاج، فاكتفى وجاوز؛ فقال الوليد: مات الحجاج ووليت مكانه يزد بن أبي مسلم، فكنت كمن سقط منه درهم فأصاب دينارا.
وكان الوليد بن عبد الملك يقول: ألا إن أمير المؤمنين عبد الملك كان يقول:
الحجاج جلدة ما بين عيني وأنفي؛ وأنا أقول: إنه جلدة وجهي كله.
عمر بن عبد العزيز وموت الحجاج:
ولما بلغ عمر بن عبد العزيز موت الحجاج خرّ ساجدا؛ وكان يدعو الله أن يكون(5/314)
موته على فراشه، ليكون أشدّ لعذابه في الآخرة.
يزيد على قبر الحجاج:
أبو بكر بن عياش قال: سمع صياح الحجاج في قبره؛ فأتوا إلى يزيد بن أبي مسلم فأخبروه؛ فركب في أهل الشام فوقف على قبره، فسمع؛ فقال: يرحمك الله يا أبا محمد: فما تدع القراءة حياّ وميتا.
يزيد ورجل في الحجاج:
الرياشي عن الأصمعي قال: أقبل رجل إلى يزيد بن أبي مسلم فقال له: إني كنت أرى الحجاج في المنام، فكنت أقول له: ما فعل الله بك؟ قال: قتلني بكل قتيل قتلته قتلة، وأنا منتظر ما ينتظره الموحدون. ثم قال: رأيته بعد الحول، فقلت: ما صنع الله بك؟ فقال يا عاضّ بظر أمّه! أما سألتني عن هذا عام أوّل فأخبرتك؟ فقال يزيد ابن أبي مسلم: أشهد أنك رأيت أبا محمد حقا.
وقال الفرزدق: يرثي الحجاج ليرضى بذلك الوليد بن عبد الملك:
ليبك على الحجاج من كان باكيا ... على الدّين من مستوحش الليل خائف
وأرملة لمّا أتاها نعيّه ... فجادت له بالواكفات الذّوارف «1»
وقالت لعبديها أنيخا فعجّلا ... فقد مات راعي ذودنا بالتنائف «2»
فليت الأكفّ الدافنات ابن يوسف ... يقطّعن إذ يحثين فوق السقائف «3»
فما ذرفت عينان بعد محمد ... على مثله إلا نفوس الخلائف «4»(5/315)
قال ابن عياش: فلقيت الفرزدق في الكوفة، فقلت له: أخبرني عن قولك:
فليت الأكفّ الدافنات ابن يوسف ... يقطّعن.....
ما معناك في ذلك؟ فقال: وددت والله أن أرجلهم تقطع مع أيديهم.
للفرزدق في ابن المهلب:
قال ابن عياش: فلما هلك الوليد واستخلف سليمان استعمل يزيد بن المهلب على العراق وأمره بقتل آل أبي عقيل فقتلهم، فأنشأ الفرزدق يقول:
لئن نفر الحجّاج آل معتّب ... لقوا دولة كان العدو يدالها
لقد أصبح الأحياء منهم أذلة ... وموتاهم في النار كلحا سبالها «1»
وكانوا يرون الدائرات بغيرهم ... فصار عليهم بالعذاب انتقالها
وكنّا إذا قلنا اتّق الله شمّرت ... به عزّة لا يستطاع جدالها «2»
ألكني إلى من كان بالصّين أورمت ... به الهند ألواحا عليها جلالها «3»
هلمّ إلى الإسلام والعدل عندنا ... فقد مات من أرض العراق خبالها
ألا تشكرون الله إذ فك عنكم ... أداهم بالمهديّ صما ثقالها
وشيمت به عنكم سيوف عليكم ... صباح مساء بالعذاب استلالها «4»
وإذ أنتم من لم يقل أنا كافر ... تردّى نهارا عثرة لا يقالها
قال ابن عياش: فقلت للفرزدق: ما أدري بأي قوليك نأخذ؛ أبمدحك في الحجاج حياته؛ أم هجوك له بعد موته؟ قال: إنما نكون مع أحدهم ما كان الله معه؛ فإذا تخلى عنه تخلينا عنه.(5/316)
لعمر بن عبد العزيز في الحجاج:
ولما مات الحجاج دخل الناس على الوليد يعزّونه ويثنون على الحجاج خيرا، وعنده عمر بن عبد العزيز: فالتفت إليه ليقول فيه ما يقول الناس، فقال: يا أمير المؤمنين، وهل كان الحجاج إلا رجلا منا؟ فرضيها منه.
أخبار البرامكة
لابن هارون فيهم:
قال أبو عثمان عمرو بن بحر الجاحظ، حدثني سهل بن هرون، قال: والله إن كانوا سجعوا الخطب، وقرضوا القريض لعيال على يحيى بن خالد بن برمك وجعفر ابن يحيى؛ ولو كان كلام يتصور درّا، أو يحيله المنطق السري جوهرا، لكان كلامهما والمنتقى من لفظهما؛ ولقد كانا مع هذا عند كلام الرشيد وبديهته وتوقيعاته في كتبه- فدمين «1» عييّين، وجاهليين أمّيين؛ ولقد عمّرت معهم وأدركت طبقة المتكلمين في أيامهم؛ وهم يرون أن البلاغة لم تستكمل إلا فيهم، ولم تكن مقصورة إلا عليهم، ولا انقادت إلا لهم؛ وأنهم محض الأيام، ولباب «2» الكرام وملح الأنام، عتق «3» منظر وجودة مخبر، وجزالة منطق، وسهولة لفظ، ونزاعة أنفس، واكتمال خصال؛ حتى لو فاخرت الدنيا بقليل أيامهم والمأثور من خصالهم كثير أيام سواهم من لدن آدم أبيهم إلى النفخ في الصور وانبعاث أهل القبور- حاشا أنبياء الله المكرمين، وأهل وحيه المرسلين لما باهت «4» إلا بهم، ولا عوّلت إلا عليهم، ولقد كانوا مع تهذيب أخلاقهم، وكريم أعراقهم، وسعة آفاقهم، ورونق سياقهم، ومعسول مذاقهم، وبهاء إشراقهم، ونقاوة أعراضهم، وتهذيب أغراضهم، واكتمال الخير فيهم- في جنب محاسن الرشيد كالنقطة في البحر، والخردلة في المهمه «5» القفر.(5/317)
قال سهل بن هارون: إني لأحصّل أرزاق العامة بين يدي يحيى بن خالد في بناء خلا به داخل سرادقه، وهو مع الرشيد بالرقة وهو يعقدها جملا بكفه، إذ عشيته سآمة فأخذته سنة «1» فغلبته عيناه، فقال: ويحك يا سهل! طرق النوم شفري «2» ، وحلت السّنة جفنيّ، فما ذلك؟ قلت: ضيف كريم، إن قريته روّحك وإن منعته عنّتك، وإن طردته طلبك، وإن أقصيته أدركك، وإن غالبته غلبك! قال: فنام أقلّ من فواق «3» بكية، أو نزع ركيّة «4» ؛ ثم انتبه مذعورا، فقال: يا سهل لأمر ما كان! والله لقد ذهب ملكنا، وولى عزّنا، وانتقصت أيام دولتنا! قلت: وما ذاك أصلح الله الوزير؟ قال: كأنّ منشدا أنشدني:
كأن لم يكن بين الحجون إلى الصّفا ... أنيس ولم يسمر بمكة سامر «5»
فأجبته من غير روية ولا إجالة فكرة:
بلى نحن كنا أهلها فأبادنا ... صروف الليالي والجدود العواثر
قال: فو الله ما زلت أعرفها منه وأراها ظاهرة فيه إلى الثالث من يومه ذلك فإني لفي مقعدي بين يديه أكتب توقيعات في أسافل كتبه لطلاب الحاجات إليه، قد كلفني إكمال معانيها بإقامة الوزن فيها، إذ وجدت رجلا سعى إليه حتى ارتمى مكبا عليه، فرفع رأسه فقال: مهلا ويحك! ما اكتتم خير ولا استتر شرّ. قال: قتل أمير المؤمنين جعفرا الساعة! قال: أو قد فعل؟ قال: نعم. قال: فما زاد أن رمى القلم من يده، وقال: هكذا تقوم الساعة بغتة.
قال سهل بن هارون: فلو انكفأت «6» السماء على الأرض ما زاد. فتبرأ منهم الحميم واستبعد عن نسبهم القريب، وجحد ولاءهم المولى واستعبرت لفقدهم الدنيا، فلا لسان يخطر بذكرهم، ولا طرف ناظر يشير إليهم.(5/318)
يحيى بعد مقتل جعفر:
وضم يحيى بن خالد وقته ذلك الفضل ومحمدا وخالدا بنيه، وعبد الملك ويحيى وخالدا بني جعفر بن يحيى، والعاصي ومزيدا وخالدا ومعمرا بني الفضل بن يحيى، ويحيى وجعفرا وزيدا بني محمد بن يحيى، وإبراهيم ومالكا وجعفرا وعمر ومعمرا بني خالد بن يحيى، ومن لفّ لفهم أو هجس بصدره أمل فيهم.
الرشيد وسهل بعد مقتل جعفر:
[قال سهل] : وبعث إليّ الرشيد، فو الله لقد أعجلت عن النظر، فلبست ثياب أحزاني، وأعظم رغبتي إلى الله إلا راحة بالسيف وألا تعبث بي عبث جعفر، فلما دخلت عليه عرف الذعر في تجرّض «1» ريقي وشخوصي إلى السيف المشهور ببصري فقال: أيها يا سهل، من غمط «2» نعمتي وتعدّى وصيتي وجانب موافقتي أعجلته عقوبتي قال: فو الله ما وجدت جوابها حتى قال: يفرخ روعك ويسكن جأشك وتطيب نفسك وتطمئن حواسّك؛ فإن الحاجة إليك قربت منك، وأبقت عليك بما يبسط منقبضك؛ ويطلق معقولك، فما اقتصر على الإشارة دون اللسان، فإنه الحاكم الفاصل، والحسام الباتر. وأشار إلى مصرع جعفر فقال:
من لم يؤدّبه الجمي ... ل ففي عقوبته صلاحه
قال سهل: والله ما أعلم أني عييت بجواب أحد قط غير جواب الرشيد يومئذ فما عوّلت في الشكر إلا على تقبيل باطن يديه ورجليه.
ثم قال: اذهب فقد أحللتك محلّ يحيى، ووهبتك ما ضمّنته أفنيته «3» وما حواه سرادقه؛ فاقبض الدواوين، وأحص جباءه وجباء جعفر لنأمرك بقبضه إن شاء الله.(5/319)
قال سهل: فكنت كمن نشر «1» عن كفن وأخرج من حبس؛ وأحصيت حباءهما فوجدته عشرين ألف ألف دينار، ثم قفلت راجعا إلى بغداد.
وفرّق البرد «2» إلى الأمصار بقبض أموالهم وغلاتهم، وأمر بجيفة جعفر وجثته ففصلت على ثلاثة جذوع: رأسه في جذع على رأس الجسر مستقبل الصّراة «3» ، وبعض جسده على جذع بالجزيرة، وسائره في جذع على آخر الجسر الثاني مما يلي باب بغداد.
فلما دنونا من بغداد، طلع الجسر الذي فيه وجه جعفر، واستقبلنا وجهه واستقبلته الشمس؛ فو الله لخلتها تطلع من بين حاجبيه؛ فأنا عن يمينه وعبد الملك بن الفضل الحاجب عن يساره، فلما نظر إليه الرشيد- وكأنما قنأ «4» شعره وطلى بنور بشره- اربدّ «5» وجهه وأغضى بصره؛ فقال عبد الملك بن الفضل: لقد عظم ذنب لم يسعه أمير المؤمنين! قال الرشيد: من يرد غير مائة يصدر بمثل دائه، ومن أراد فهم ذنبه يوشك أن يقوم على مثل راحلته؛ عليّ بالنضاحات «6» . فنضح عليها حتى احترقت عن آخرها وهو يقول: لئن ذهب أثرك لقد بقي خبرك، ولئن حط قدرك لقد علا ذكرك! قال سهل بن هارون: وأمر بضم أموالهم، فوجد من العشرين ألف ألف التي كانت مبلغ جبايتهم، اثنى عشر ألف ألف مكتوبا على بدرها «7» صكوك مختومة تفسيرها رقيما حبوا بها. فما كان منها حباء على غريبة، أو استطراف ملحة؛ تصدق به يحيى وأثبت ذلك في ديوانها على تواريخ أيامها، فكان ديوان إنفاق واكتساب فائدة.(5/320)
وقبض من سائر أموالهم ثلاثين ألف ألف وستمائة ألف وستة وسبعين ألفا، إلى سائر ضياعهم وغلاتهم ودورهم ورياشهم والدقيق والجليل من مواهبهم، فإنه لا يوصف أقلّه، ولا يعرف أيسره إلا من أحصى الأعمال وعرف منتهى الآجال.
وأبرزت حرمه إلى دار البانوقة ابنة المهدي؛ فو الله ما علمته عاش ولا عشن إلا من صدقات من لم يزل متصدقا عليه؛ وما رأوا مثل موجدة الرشيد فيما يعلم من ملك قبله على أحد ملكه.
بين أم جعفر والرشيد:
وكانت أم جعفر بن يحيى، وهي فاطمة ابنة محمد بن الحسين بن قحطبة، أرضعت الرشيد مع جعفر؛ لأنه كان ربّي في حجرها وغذي برسلها «1» ، لأن أمه ماتت عن مهده، فكان الرشيد يشاورها مظهرا لإكرامها والتبرّك برأيها، وكان آلى وهو في كفالتها أن لا يحجبها، ولا استشفعته لأحد إلا شفعها، وآلت عليه أم جعفر أن لا دخلت عليه إلا مأذونا لها، ولا شفعت لأحد لغرض دنيا. قال سهل: فكم أسير فكّت، ومبهم عنده فتحت، ومستغلق منه فرّجت. واحتجب الرشيد بعد قدومه، فطلبت الإذن عليه من دار الباقونة، ومتّت بوسائلها إليه؛ فلم يأذن لها ولا أمر بشيء فيها؛ فلما طال ذلك بها خرجت كاشفة وجهها واضعة لثامها محتفية في مشيها، حتى صارت بباب قصر الرشيد؛ فدخل عبد الملك بن الفضل الحاجب، فقال: ظئر «2» أمير المؤمنين بالباب، في حالة تقلب شماتة الحاسد إلى شفقة أم الواحد! فقال الرشيد:
ويحك يا عبد الملك! أو ساعية؟ قال: نعم يا أمير المؤمنين حافية! قال أدخلها يا عبد الملك، فربّ كبد غذتها، وكربة فرجتها، وعورة سترتها! قال سهل: فما شككت يومئذ في النجاة بطلبتها، وإسعافها بحاجتها. فدخلت، فلما نظر الرشيد إليها داخلة محتفية، قام محتفيا حتى تلقّاها بين عمد المجلس، وأكب على تقبيل رأسها ومواضع(5/321)
ثدييها؛ ثم أجلسها معه، فقالت: يا أمير المؤمنين، أيعدو علينا الزمان ويجفونا خوفا لك الأعوان، ويحردك «1» عنا البهتان وقد ربيتك في حجري، وأخذت برضاعك الأمان من عدوي ودهري؟ فقال لها: وما ذلك يا أم الرشيد؟ قال سهل: فآيسني من رأفته، بتركه كنيتها آخرا ما كان أطمعني من برّه بها أولا، قالت: ظئرك «2» يحيى وأبوك بعد أبيك، ولا أصفه بأكثر مما عرفه به أمير المؤمنين من نصيحته، وإشفاقه عليه، وتعرّضه للحتف في شأن موسى أخيه. قال لها: يا أمّ الرشيد، أمر سبق، وقضاء حمّ، وغضب من الله نفذ! قالت: يا أمير المؤمنين، يمحو الله ما يشاء ويثبت وعنده أمّ الكتاب، قال: صدقت. فهذا مما لم يمحه الله! فقالت: الغيب محجوب عن النبيين، فكيف عنك يا أمير المؤمنين؟ قال سهل بن هارون: فأطرق الرشيد مليا، ثم قال:
وإذا المنيّة أنشبت أظفارها ... ألفيت كلّ تميمة لا تنفع
فقالت بغير روية: ما أنا ليحيى بتميمة يا أمير المؤمنين، وقد قال الأول:
وإذا افتقرت إلى الذخائر لم تجد ... ذخرا يكون كصالح الأعمال
هذا بعد قول الله عز وجل: وَالْكاظِمِينَ الْغَيْظَ وَالْعافِينَ عَنِ النَّاسِ وَاللَّهُ يُحِبُّ الْمُحْسِنِينَ
«3» . فأطرق هرون مليا، ثم قال: يا أمّ الرشيد، أقول،
إذا انصرفت نفسي عن الشيء لم تكد ... إليه بوجه آخر الدّهر تقبل
فقالت: يا أمير المؤمنين، وأقول:
ستقطع في الدّنيا إذا ما قطعتني ... يمينك، فانظر أيّ كف تبدّل
قال هارون: رضيت! قالت: فهبه لي يا أمير المؤمنين؛ فقد قال رسول الله صلّى الله عليه وسلم:
من ترك شيئا لله لم يوجده الله لفقده. فأكب هارون مليا، ثم رفع رأسه يقول: لله(5/322)
الأمر من قبل ومن بعد! قالت: يا أمير المؤمنين، وَيَوْمَئِذٍ يَفْرَحُ الْمُؤْمِنُونَ بِنَصْرِ اللَّهِ يَنْصُرُ مَنْ يَشاءُ وَهُوَ الْعَزِيزُ الرَّحِيمُ
«1» ؛ واذكر يا أمير المؤمنين أليّتك «2» . ما استشفعت إلا شفعتني! قال: واذكري يا أم الرشيد أليّتك لا شفعت لمقترف ذنبا.
قال سهل بن هارون: فلما رأته صرّح بمنعها ولاذ عن مطلبها، أخرجت حقا «3» من زبرجدة خضراء فوضعته بين يديه؛ فقال الرشيد: ما هذا؟ ففتحت عنه قفلا من ذهب فأخرجت منه قميصه وذوائبه «4» وثناياه، قد غمست جميع ذلك في المسك؛ فقالت: يا أمير المؤمنين، أستشفع إليك وأستعين بالله عليك وبما صار معي من كريم جسدك وطيب جوارحك ليحيى عبدك. فأخذ هارون ذلك فلثمه، ثم استعبر وبكى بكاء شديدا، وبكى أهل المجلس، ومر البشير إلى يحيى وهو لا يظن إلا أن البكاء رحمة له ورجوع عنه، فلما أفاق رمى جميع ذلك في الحقّ، وقال لها: لحسنا ما حفظت الوديعة! قالت: وأهل للمكافأة أنت يا أمير المؤمنين! فسكت وأقفل الحق ودفعه إليها، وقال: إِنَّ اللَّهَ يَأْمُرُكُمْ أَنْ تُؤَدُّوا الْأَماناتِ إِلى أَهْلِها
«5» . قالت: والله يقول: وَإِذا حَكَمْتُمْ بَيْنَ النَّاسِ أَنْ تَحْكُمُوا بِالْعَدْلِ
«6» . ويقول: وَأَوْفُوا بِعَهْدِ اللَّهِ إِذا عاهَدْتُمْ
«7» . قال: وما ذلك يا أم الرشيد؟ قالت: ما أقسمت لي به أن لا تحجبني ولا تجبهني قال: أحب يا أم الرشيد أن تشتريه محكّمة فيه. قالت: أنصفت يا أمير المؤمنين، وقد فعلت غير مستقيلة لك، ولا راجعة عنك. قال: بكم؟ قالت: برضاك عمن لم يسخطك! قال: يا أم الرشيد، أمالي عليك من الحق مثل الذي لهم؟ فتحكّمي في تمنية بغيرهم. قالت: بلى قد(5/323)
وهبتكه وجعلتك في حلّ منه؟ وقامت عنه، وبقي مبهوتا ما يحير لفظه. قال سهل:
وخرجت فلم تعد، ولا والله ما رأيت لها عبرة ولا سمعت لها أنّة.
قال سهل: وكان الأمين محمد بن زبيدة رضيع يحيى بن جعفر، فمتّ «1» إليه يحيى ابن خالد بذلك، فوعده استيهاب أمّه إياهم وتكلمها فيهم؛ ثم شغله اللهو عنهم، فكتب إليه يحيى، ويقال: إنها لسليمان الأعمى أخي مسلم بن الوليد، وكان منقطعا إلى البرامكة- يقول:
يا ملاذي وعصمتي وعمادي ... ومجيري من الخطوب الشّداد
بك قام الرّجاء في كلّ قلب ... زاد فيه البلاء كلّ مزاد
إنما أنت نعمة أعقبتها ... نعم نفعها لكلّ العباد
وعد مولاك أتممنه فأبهى الدّ ... رّ ما زيد حسنه بانعقاد
ما أظلّت سحائب اليأس إلّا ... كان في كشفها عليك اعتمادي
إن تراخت يداك عني فواقا ... أكلتني الأيام أكل الجراد «2»
وبعث بها الأمين محمد، فبعث بها الأمين محمد إلى أمه زبيدة، فأعطتها هارون وهو في موضع لذته وعند إقبال أريحيّته، وتهيأت للاستشفاع لهم، وعبّأت جواريها ومغنّياتها وأمرتهن بالقيام معها إذا قامت؛ فلما فرغ الرشيد من قراءتها لم ينقض حبوته حتى وقّع في أسفلها: عظم ذنبك أمات خواطر العفو عنك! ورمى بها إلى زبيدة، فلما رأت توقيعه علمت أنه لا يرجع عنه.
الرشيد وإسحاق بن علي في البرامكة:
وقال بعض الهاشميين: أخبرني إسحاق بن علي بن عبد الله بن العباس، قال: كنت أساير الرشيد يوما والأمين عن يمينه والمأمون عن شماله؛ فاستدناني وقدّمهما أمامه، فسايرته، فجعل يحدثني، ثم بدأ يشاورني في أمر البرامكة، وأخبرني بما أضمر عليه(5/324)
لهم، فإنهم استوحشوه من أنفسهم، وإني عنده بالموضع الذي لا يكتمني شيئا من أمرهم. فقلت: يا أمير المؤمنين، لا تنقلني من السّعة إلى الضيق! فقال الرشيد: إلا أن تقول؛ فإني لا أتهمك في نصيحة ولا أخافك على رأي ولا مشورة! فقلت: يا أمير المؤمنين، إني أرى نفاستك عليهم بما صاروا إليه من النعمة والسّعة، ولك أن تأمر وتنهى، وهم عبيد لك بإنباتك إياهم؛ فهل ذلك كلّه إلا بك؟ - قال: وكنت أحطب في حبال البرامكة- فقال لي: فضياعهم ليس لولدي مثلها وتطيب نفسي بذلك لهم! فقلت: يا أمير المؤمنين، إن الملك لا تحسد، ولا يحقد، ولا ينعم نعمة ثم يفسد نعمته. قال: فرأيته قد كره قولي وزوى «1» وجهه عني.
قال إسحاق: فعلمت أنه سيوقع بهم، ثم انصرفت فكتمت الخبر فلم يسمع به أحد، وتجنبت لقاء يحيى والبرامكة خوفا أن يظن أني أفضي إليهم بسرّه، حتى قتلهم، وكان أشدّ ما كان إكراما لهم؛ وكان قتلهم بعد ست سنين من تاريخ ذلك اليوم.
يحيى ومنكة الهندي:
وكان يحيى بن خالد بن برمك قد اعتلّ قبل النازلة التي نزلت بهم، فبعث إلى منكة الهندي فقال: ماذا ترى في هذه العلة؟ فقال منكة: داء كبير دواؤه يسير، والصبر أيسر؛ وكان متفنّنا. فقال له يحيى: ربما ثقل على السمع «2» خطرة الحق به، وإذا كان ذلك كان الهجر له ألزم من المفاوضة [فيه] . قال منكة: لكنني أرى في الطالع أثرا والأمد فيه قريب، وأنت قسيم في المعرفة، وربما كانت صورة النجم عقيمة لا نتاج لها، ولكن الأخذ بالحزم أوفى لحظّ الطالبين. قال يحيى: الأمور منصرفة إلى العواقب، وما حتم فلا بد أن يقع، والمنعة بمسالمة الأيام نهزة «3» ، فاقصد ما دعوتك له من هذا الأثر الموجود بالمزاج. قال منكة: هي الصفراء مازجتها(5/325)
مائية البلغم، فحدث لذلك ما يحدث من اللهب عند مماسّة رطوبة الماء من الاشتعال؛ فخذ ماء الرمان فدق فيه إهليلجة «1» سوداء تنهضك مجلسا أو مجلسين، ويسكن ذلك التوقد إن شاء الله.
فلما كان من أمرهم ما كان، تلطّف منكة حتى دخل الحبس، فوجد يحيى قاعدا على لبد، والفضل بين يديه يخدمه، فاستعبر منكة باكيا، وقال: كنت ناديت لو أسرعت الإجابة. قال له يحيى: أتراك كنت علمت من ذلك شيئا جهلته؟ قال: كلا كان الرجاء للسلامة بالبراءة من الذنب أغلب من الشّفق «2» ، وكانت مزايلة القدر الخطير عنا أقل ما تنقض تنهض به التّهمة، فقد كانت نقمة أرجو أن يكون أوّلها صبرا، وآخرها أجرا. قال: فما تقول في هذا الداء؟ قال: منكة: ما أرى له دواء أنفع من الصبر، ولو كان يفدى بمال أو بمفارقة عضو كان ذلك مما يجب. لك. قال يحيى: قد شكرت لك ما ذكرت، فإن أمكنك تعاهدنا فافعل. قال منكة: لو أمكنني تخليف الروح عندك ما بخلت به، فإنما كانت الأيام تحسن بسلامتك.
وكتب يحيى بن خالد في الحبس إلى هارون الرشيد:
من يحيى في حبسه إلى الرشيد:
لأمير المؤمنين، وخليفة المهدّيين، وإمام المسلمين، وخليفة رب العالمين، من عبد أسلمته ذنوبه، وأوبقته «3» عيوبه، وخذله شقيقه، ورفضه صديقه، ومال به الزمان، ونزل به الحدثان «4» ، [فحلّ في الضّيق بعد السعة] وعالج البؤس بعد الدّعة «5» وافترش السخط بعد الرضا، واكتحل السهاد بعد الهجود «6» ، ساعته شهر، وليلته(5/326)
دهر، وقد عاين الموت، وشارف الفوت «1» ، جزعا لموجدتك يا أمير المؤمنين، وأسفا على ما فات من قربك، لا على شيء من المواهب؛ لأن الأهل والمال إنما كانا لك، وبك وكانا في يديّ عارية، والعارية مردودة؛ وأما ما أصبت به من ولدي فبذنبه، ولا أخشى عليك الخطأ في أمره، ولا أن تكون تجاوزت به فوق حده.
تفكّر في أمري، جعلني الله فداك، وليمل هواك بالعفو عن ذنب إن كان فمن مثلي الزلل ومن مثلك الإقالة «2» ؛ وإنما أعتذر إليك بإقرار ما يجب به الإقرار حتى ترضي، فإذا رضيت رجوت إن شاء الله أن يتبين لك من أمري وبراءة ساحتي ما لا يتعاظمك بعده ذنب أن تغفره. مدّ الله لي في عمرك وجعل يومي قبل يومك! وكتب إليه بهذه الأبيات:
قل للخليفة ذي الصّنيعة ... والعطايا الفاشيه
وابن الخلائف من قريش ... والملوك العاليه
إنّ البرامكة الذين ... رمو لديك بداهيه
صفر الوجوه عليهم ... خلع المذلة باديه
فكأنهم ممّا بهم ... أعجاز نخل خاويه «3»
عمّتهم لك سخطة ... لم تبق منهم باقيه
بعد الإمارة والوزا ... رة والأمور الساميه
ومنازل كانت لهم ... فوق المنازل عاليه
أضحوا وجلّ مناهم ... منك الرّضا والعافيه
يا من يودّ لي الرّدى ... يكفيك مني ما بيه «4»
يكفيك ما أبصرت من ... ذلّي وذلّ مكانيه(5/327)
وبكاء فاطمة الكئيبة ... والمدامع جاريه
ومقالها بتوجّع ... يا سوأتي وشقائيه
من لي وقد غضب الزّما ... ن على جميع رجاليه
يا لهف نفسي لهفها ... ما للزّمان وماليه
يا عطفة الملك الرّضا ... عودي علينا ثانيه
فلم يكن له جواب من الرشيد.
عهد يحيى إلى الرشيد:
واعتلّ يحيى في الحبس، فلما أشفى «1» دعا برقعة فكتب في عنوانها: ينفذ أمير المؤمنين عهد مولاه يحيى بن خالد. وفيها مكتوب:
بسم الله الرحمن الرحيم. قد تقدّم الخصم إلى موقف الفصل، وأنت على الأثر، والله حكم عدل، وستقدم فتعلم.
فلما ثقل «2» قال للسبحان: هذا عهدي توصّله إلى أمير المؤمنين، فإنه وليّ نعمتي، وأحق من نفّذ وصيتي.
فلما مات يحيى أوصل السجان عهده إلى الرشيد.
جواب الرشيد:
قال سهل بن هارون: وأنا عند الرشيد إذ وصلت الرقعة إليه، فلما قرأها جعل يكتب في أسفلها ولا أدري لمن الرقعة، فقلت له: يا أمير المؤمنين، ألا أكفيك؟
قال: كلا، إني أخاف عادة الراحة أن تقوّي سلطان العجز! فيحكم بالغفلة ويقضي بالبلادة! ووقع فيها: الحكم الذي رضيت به في الآخرة لك هو أعدى الخصوم عليك، وهو من لا ينقض حكمه، ولا يردّ قضاؤه. قال: ثم رمى بالصك إليّ فلما(5/328)
رأيته علمت أنه ليحيى، وأن الرشيد أراد أن يؤثر الجواب عنه.
وقال دعبل يرثي بني برمك:
ولمّا رأيت السيف جلّل جعفرا ... ونادى مناد للخليفة في يحيى «1»
بكيت على الدنيا وأيقنت أنما ... قصارى الفتى يوما مفارقة الدّنيا
وقال سليمان الأعمى يرثي بني برمك:
هدا الخالون عن شجوى وناموا ... وعيني لا يلائمها المنام «2»
وما سهرى بأني مستهام ... إذا سهر المحبّ المستهام
ولكنّ الحوادث أرّقتتى ... فبي أرق إذا هجع النّيام
أصبت بسادة كانوا عيونا ... بهم نسقى إذا انقطع الغمام «3»
فقلت وفي الفؤاد ضريم نار ... وللعبرات من عيني انسجام
على المعروف والدنيا جميعا ... ودولة آل برمك السّلام
جزعت عليك يا فضل بن يحيى ... ومن يجزع عليك فلا يلام
هوت بك أنجم المعروف فينا ... وعزّ بفقدك القوم اللثام
وما ظلم الإله أخاك لكن ... قضاء كان سبّبه اجترام «4»
عقاب خليفة الرّحمن فخر ... لمن بالسيف صبّحه الحمام
عجبت لما دها فضل بن يحيى ... وما عجبي وقد غضب الإمام
جرى في الليل طائرهم بنحس ... وصبّح جعفرا منه اصطلام «5»
ولم أر قبل قتلك يا بن يحيى ... حساما قده السيف الحسام
برين الحادثات له سهاما ... فغالته الحوادث والسّهام «6»(5/329)
ليهن الحاسدين بأنّ يحيى ... أسير لا يضيم ويستضام
وأنّ الفضل بعد رداء عزّ ... غدا ورداؤه ذال ولام «1»
فقل للشّامتين بهم جميعا ... لكم أمثالها عام فعام
أمين الله في الفضل بن يحيى ... رضيعك والرّضيع له ذمام
أبا العبّاس، إنّ لكلّ همّ ... وإن طال انقراض وانصرام
أرى سبب الرّضاء له قبول ... على الله الزّيادة والتّمام
وقد آليت فيه بصوم شهر ... فإن تمّ الرّضا وجب الصّيام
وقد آليت معتزما بنذر ... ولي فيما نذرت به اعتزام
بأن لا ذقت بعدكم مداما ... وموتي أن يفارقني المدام
أألهوا بعدكم وأقرّ عينا؟ ... عليّ اللهو بعدكم حرام
وكيف يطيب لي عيش! وفضل ... أسير دونه البلد الشّآم
وجعفر ثاويا بالجسر أبلت ... محاسنه السمائم والقتام «2»
أمرّ به فيغلبني بكائي ... ولكنّ البكاء له اكتتام
أقول وقمت منتصبا لديه ... إلى أن كاد يفضحني القيام
أما والله لولا خوف واش ... وعين للخليفة لا تنام
لثمنا ركن جذعك واستلمنا ... كما للناس بالحجر استلام
وقال بعض الشعراء يغري هارون ببني برمك:
قل للخليفة باكتفائه ... دون الأنام بحسن رائه
إمّا بدأت بجعفر ... فاسق البرامك من إنائه
ما برمكي بعده ... تقف الظنون على وفائه
إني وقصد البرمكيّ ... إلى انتكاث من شقائه «3»(5/330)
فلقد رفعت لجعفر ... ذكرين قلّا في جزائه
فارفع ليحيى مثله ... ما العود إلا من لحائه
واخضب بصدر مهنّد ... عثنون يحيى من دمائه «1»
ابن المهدي وجعفر وعبد الملك:
إبراهيم بن المهدي قال: قال لي جعفر بن يحيى يوما: إنني استأذنت أمير المؤمنين في الحجامة، وأردت أن أخلو بنفسي وأفرّ من أشغال الناس وأتوحّد، فهل أنت مساعدي؟ قلت: جعلني الله فداك، أنا أسعد بمساعدتك وآنس بمخالاتك. فقال:
بكّر إليّ بكور الغراب. قال: فأتيت عند الفجر الثاني فوجدت الشمعة بين يديه وهو قاعد ينتظرني للميعاد. قال: فصلينا ثم أفضنا في الحديث، حتى أتى وقت الحجامة، فأتى الحجّام، فحجمنا في ساعة واحدة، ثم قدّم إلينا الطعام فطعمنا فلما غسلنا أيدينا خلع علينا ثياب المنادمة وضمخنا بالخلوق «2» ، وظللنا بأسرّ يوم مرّ بنا؛ ثم إنه تذكر حاجة، فدعا الحاجب فقال له: إذا جاء عبد الملك القهرمان «3» فأذن له. فنسي الحاجب وجاء عبد الملك بن صالح الهاشمي على جلالته وسنّه وقدره وأدبه، فأذن له الحاجب، فما راعنا إلا طلعة عبد الملك بن صالح، فتغيّر لذلك وجه جعفر بن يحيى، وتنغّص عليه ما كان فيه؛ فلما نظر إليه عبد الملك على تلك الحالة، دعا غلامه، فدفع إليه سيفه وسواده وعمامته، ثم جاء فوقف على باب المجلس، فقال: اصنعوا بنا ما صنعتم بأنفسكم! قال: فجاء الغلام فطرح عليه ثياب المنادمة؛ ودعا بطعام فطعم؛ ثم دعا بالشراب فشرب ثلاثا، ثم قال: ليخفّف عني، فإنه شيء ما شربته قط! فتهلل وجه جعفر فرحا، وقد كان الرشيد حاور عبد الملك على المنادمة فأبى ذلك وتنزّه عنه؛ ثم قال له جعفر بن يحيى: جعلني الله فداك؛ قد تفضلت وتطوّلت «4» ، فهل من(5/331)
حاجة تبلغها مقدرتي، وتحيط بها نعمتي، فأقضيها لك مكافأة لما صنعت؟ قال: بلى، إن قلب أمير المؤمنين عاتب عليّ، فتسأله الرضا عني. فقال قد رضي عنك أمير المؤمنين! ثم قال [عبد الملك] : وعليّ أربعة آلاف دينار. قال: هي حاضرة، ولكن من مال أمير المؤمنين أحبّ إليّ من مالي. قال: وابني إبراهيم أحبّ أن أشدّ ظهره بمصاهرة أمير المؤمنين. قال: قد زوّجه أمير المؤمنين ابنته عائشة الغالية. قال: وأحب أن تخفق الألوية على رأسه بولاية. قال: وقد ولاه أمير المؤمنين مصر! قال: فانصرف عبد الملك ونحن نعجب من إقدام جعفر على الرشيد من غير استئذان، فلما كان الغد وقفنا على باب أمير المؤمنين، ودخل جعفر فلم يلبث أن دعا بأبي يوسف القاضي، ومحمد بن الحسن، وإبراهيم بن عبد الملك فعقد له النكاح، وحملت البدر إلى عبد الملك، وكتب سجل إبراهيم على مصر؛ وخرج جعفر، فأشار إلينا، فلما صار إلى منزله ونحن خلفه نزل ونزلنا بنزوله، فالتفت إلينا فقال: تعلّقت قلوبكم بأول أمر عبد الملك فأحببتم أن تعرفوا آخره وإني لمّا دخلت على أمير المؤمنين ومثلت بين يديه سألني عن أمسي، فابتدأت أحدثه بالقصة من أوّلها إلى آخرها، فجعل يقول أحسن والله! أحسن والله! ثم قال: فما أجبته؟ فجعلت أخبره، وهو يقول في كل شيء: أحسنت! وخرج إبراهيم واليا على مصر.
من أخبار الطالبيين
حفاوة السفاح:
حدّث عبد العزيز بن عبد الله البصري، عن عثمان بن سعيد بن سعد المدني، قال:
لما ولي الخلافة أبو العباس السفاح قدم عليه بنو الحسن بن علي بن أبي طالب، فأعطاهم الأموال وقطع لهم القطائع «1» ، ثم قال لعبد الله بن الحسن: احتكم عليّ.
قال: يا أمير المؤمنين، بألف ألف درهم، فإني لم أرها قط. فاستقرضها أبو العباس من ابن أبي مقرّن الصيرفي، وأمر له بها.(5/332)
قال عبد العزيز: لم يكن يومئذ بيت مال.
ثم إن أبا العباس أتى بجوهر مروان فجعل يقلبه وعبد الله بن الحسن عنده، فبكى عبد الله، فقال له: ما يبكيك يا أبا محمد؟ قال: هذا عند بنات مروان وما رأت بنات عمك مثله قط؟ قال: فحباه «1» به، ثم أمر ابن مقرّن الصيرفيّ أن يصل إليه ويبتاعه منه، فاشتراه منه بثمانين ألف دينار. ثم حضر خروج بني حسن فأرسل معهم رجلا من ثقاته، ثم قال له: قم بإنزالهم ولا تأل في إلطافهم؛ وكلما خلوت معهم فأظهر الميل إليهم والتحامل علينا وعلى ناحيتنا، وأنهم أحق بالأمر منا، وأحص لي ما يقولون وما يكون منهم في مسيرهم ومقدمهم.
استيحاش السفاح من ابن حسن:
ومما كان خشن قلب أبي العباس حتى أساء بهم الظن، أنه لما بنى مدينة الأنبار دخلها مع أبي جعفر أخيه وعبد الله بن الحسن، وهو يسير بينهما ويريهما بنيانه وما أقام فيها من المصانع والقصور؛ فظهرت من عبد الله بن الحسن فلتة، فجعل يتمثل بهذه الأبيات:
ألم تر جوشنا قد صار يبني ... قصورا نفعها لبني نفيله «2»
يؤمل أن يعمّر عمر نوح ... وأمر الله يحدث كلّ ليله!
قال: فتغير وجه أبي العباس؛ وقال له أبو جعفر: أتراهما ابنيك أبا محمد والأمر إليهما صائر لا محالة؟ قال: لا والله ما ذهبت هذا المذهب ولا أردته، ولا كانت إلا كلمة جرت على لساني لم ألق لها بالا.
فأوحشت تلك الكلمة أبا العباس.(5/333)
فلما قدم المدينة عبد الله بن الحسن، اجتمع إليه الفاطميون وجعل يفرّق فيهم الأموال التي بعث بها أبو العباس، فعظم بها سرورهم؛ فقال لهم عبد الله ابن الحسن:
فرحتم؟ قالوا: وما لنا لا نفرح بما كان محجوبا عنا بأيدي بني مروان حتى أتى الله بقرابتنا وبني عمنا فأصاروه إلينا؟ قال لهم: أفرضيتم أن تنالوا هذا من تحت أيدي قوم آخرين؟
فخرج الرجل الذي كان وكله أبو العباس بأخبارهم، فأخبره بما سمع من قولهم وقوله؛ فأخبر أبو العباس أبا جعفر بذلك، فزادت الأمور شرّا.
أبو جعفر وابن حسن:
ثم مات أبو العباس وقام أبو جعفر بالأمر بعده، فبعث بعطاء أهل المدينة وكتب إلى عامله، أن أعط الناس في أيديهم ولا تبعث إلى أحد بعطائه، وتفقّد بني هاشم ومن تخلّف منهم ممن حضر، وتحفظ بمحمد وإبراهيم ابني عبد الله بن الحسن. ففعل وكتب: إنه لم يتخلف أحد عن العطاء إلا محمد وابراهيم ابنا عبد الله ابن الحسن، فإنهما لم يحضرا. فكتب أبو جعفر إلى عبد الله بن الحسن، وذلك مبدأ سنة تسع وثلاثين ومائة، يسأله عنهما ويأمره بإظهارهما ويخبره أنه غير عاذره. فكتب إليه عبد الله أنه لا يدري أين هما ولا أين توجها. وأن غيبتهما غير معروفة؛ فلم يلبث أبو جعفر- وكان قد أذكى العيون «1» ووضع الأرصاد «2» - حتى جاءه كتاب من بعض ثقاته يخبره أن رسولا لعبد الله ومحمد وإبراهيم خرج بكتب إلى رجال بخراسان يستدعيهم إليهم؛ فأمر أبو جعفر برسولهم فأتى به وبكتبه، فردها إلى عبد الله بن الحسن بطوابعها، لم يفتح منها كتابا، وردّ إليه رسوله وكتب إليه:
إني أتيت برسولك والكتب التي معه فرددتها إليك بطوابعها، كراهية أن أطّلع منهما على ما يغيّر لك قلبي؛ فلا تدع إلى التقاطع بعد التواصل، ولا إلى الفرقة بعد(5/334)
الاجتماع، وأظهر لي ابنيك فإنهما سيصيران بحيث تحب من الولاية والقرابة وتعظيم الشرف.
فكتب إليه عبد الله بن الحسن يعتذر إليه ويتنصل في كتابه، ويعلمه أن ذلك من عدوّ أراد تشتيت ما بينهم بعد التئامه. ثم جاءه كتاب ثقة من ثقاته يذكر أن الرسول بعينه خرج بالكتب بأعيانها على طريق البصرة، وأنه نازل على فلان المهلّبي؛ فإن أراده أمير المؤمنين فليضع عليه رصده. فوضع عليه أبو جعفر رصده، فأتي به إليه ومعه الكتب، فحبس الرسول وأمضى الكتب إلى خراسان مع رسول الله من عنده من أهل ثقاته، فقدمت عليه الجوابات بما كره؛ واستبان له الأمر، فكتب إلى عبد الله بن الحسن يقول:
أريد حياته ويريد قتلي ... عذيرك من خليلك من مراد «1»
أما بعد فقد قرأت كتبك وكتب ابنيك وأنفذتها إلى خراسان، وجاءتني جواباتها بتصديقها، وقد استقرّ عندي أنك مغيّب لابنيك تعرف مكانهما، فأظهرهما لي، فإن لك عليّ أن أعظم صلتهما وجوائزهما وأضعهما بحيث وضعتهما قرابتهما؛ فتدارك الأمور قبل تفاقمها.
فكتب إليه عبد الله بن الحسن:
وكيف أريد ذاك وأنت منّي ... وزندك حين تقدح من زنادي
وكيف أريد ذاك وأنت مني ... بمنزلة النّياط من الفؤاد «2»
وكتب إليه أنه لا يدري أين توجّها من بلاد الله، ولا يدري أين صاروا، وأنه لا يعرف الكتب ولا يشك أنها مفتعلة.
فلما اختلفت الأمور على أبي جعفر، بعث سلم بن قتيبة الباهلي، وبعث معه بمال(5/335)
وأمره بأمره، وقال له: إني إنما أدخلك بين جلدي وعظمي؛ فلا توطئنّي عشواء «1» ، ولا تخف عني أمرا تعلمه. فخرج سلم بن قتيبة حتى قدم المدينة، وكان عبد الله يبسط له في رخام المنبر في الروضة، وكان مجلسه فيه؛ فجلس إليه وأظهر له المحبة والميل إلى ناحيته؛ ثم قال له حين أنس إليه: إن نفرا من أهل خراسان، وهم فلان وفلان- وسمّى له رجالا يعرفهم ممن كان يكاتب، ممن استقرّ عند أبي جعفر أمرهم- قد بعثوا إليك معي مالا، وكتبوا إليك كتابا فقبل الكتاب والمال، وكان المال عشرة آلاف دينار.
ثم أقام معه ما شاء الله حتى ازداد به أنسا وإليه استنامة «2» ، ثم قال له: إني قد بعثت بكتابين إلى أمير المؤمنين محمد، وإلى وليّ عهده إبراهيم؛ وأمرت أن لا أوصل ذلك إلا في أيديهما، فإن أوصلتني إليهما وأدخلتني عليهما؛ أوصلت إليهما الكتابين والمال، ورحلت إلى القوم بما يثلج صدورهم، وتقبله قلوبهم، فأنا عندهم بموضع الصدق والأمانة، وإن كان أمرهما مظلما؛ وإن لم تكن تعرف مكانهما، لم يخاطروا بدينهم وأموالهم ومهجهم. فلما رأى عبد الله أنّ الأمور تفسد عليه من حيث يرجو صلاحها، [وأنه لا سبيل إلى ما معه] إلا بإيصاله إليهما وإظهارهما له، أوصله- فدفع الكتابين مع أربعين ألف درهم- ثم قال: هذا محمد، وهذا إبراهيم. فقال لهم:
إن من ورائي لم يبعثوني ولهم ورائي غاية، وليس مثلي ينصرف إلى قوم إلا بجملة ما يحتاجون إليه، ومحمد إنما صار إلى هذه الخطة، ووجبت له هذه الدعوة، لقرابته من رسول الله صلّى الله عليه وسلم؛ وهاهنا من هو أقرب من رسول الله رحما وأوجب حقا منه قال:
ومن هو؟ قال: أنت! إلا أن يكون عند ابنك محمد أثر ليس عندك في نفسك! قال:
فكذلك الأمر عندي. قال له: فإن القوم يقتدون بك في جميع أمورهم، ولا يريدون أن يبذلوا دينهم وأموالهم وأنفسهم إلا بحجّة يرجون بها لمن قتل منهم الشهادة؛ فإن أنت خلعت أبا جعفر وبايعت محمدا اقتدوا بك، وإن أبيت اقتدوا بك أيضا في(5/336)
تركك ذلك؛ ثقة بك؛ لقرابتك من رسول الله صلّى الله عليه وسلم، وموضعك الذي وضعك الله فيه. قال: فإني أفعل! فبايع محمدا وخلع أبا جعفر، وبايعه سلم من بعده، وأخذ كتبه وكتب إبراهيم ومحمد، فخرج فقدم على أبي جعفر وقد حضر الموسم، فأخبره بحقيقة الأمر ويقينه.
فلما دخل أبو جعفر المدينة، أرسل إلى بني الحسن فجمعهم، وقال لسلم: إذا رأيت عبد الله عندي فقم على رأسي وأشر إليّ بالسلاح، ففعل، فلما رآه عبد الله سقط «1» في يده وتغيّر وجهه، قال له أبو جعفر: مالك أبا محمد؟ أتعرفه؟ قال: نعم يا أمير المؤمنين، فأقلني وصلتك رحم! فقال له أبو جعفر: هل علمت أنك تعرف موضع ولديك، وأنه لا عذر لك؟ وقد باح السر؛ فأظهرهما لي، ولك أن أصل رحمك ورحمهما، وأن أعظم ولا يتهما، وأعطى كلّ واحد منهما ألف ألف درهم، فتراجع عبد الله حتى انكفأ «2» على ظهره، وبنو حسن اثنا عشر رجلا، فأمر بحبسهم جميعا.
وخرج أبو جعفر فعسكر من ليلته على ثلاثة أميال من المدينة، وعبّى «3» على القتال، ولم يشكّ أن أهل المدينة سيقاتلونه في بني حسن، فعبّى ميمنة وميسرة وقلبا، وتهيأ للحرب، وأجلس في مسجد النبي صلّى الله عليه وسلم عشرين معطيا يعطون العطايا، فلم يتحرّك عليه منهم أحد ثم مضى بهم إلى مكة.
كتاب أبي جعفر إلى محمد بن عبد الله:
فلما انصرف أبو جعفر إلى العراق، خرج محمد بن عبد الله بالمدينة، فكتب إليه أبو جعفر:
من عبد الله أمير المؤمنين، إلى محمد بن عبد الله: إِنَّما جَزاءُ الَّذِينَ يُحارِبُونَ اللَّهَ(5/337)
وَرَسُولَهُ وَيَسْعَوْنَ فِي الْأَرْضِ فَساداً أَنْ يُقَتَّلُوا أَوْ يُصَلَّبُوا أَوْ تُقَطَّعَ أَيْدِيهِمْ وَأَرْجُلُهُمْ مِنْ خِلافٍ أَوْ يُنْفَوْا مِنَ الْأَرْضِ، ذلِكَ لَهُمْ خِزْيٌ فِي الدُّنْيا وَلَهُمْ فِي الْآخِرَةِ عَذابٌ عَظِيمٌ، إِلَّا الَّذِينَ تابُوا مِنْ قَبْلِ أَنْ تَقْدِرُوا عَلَيْهِمْ فَاعْلَمُوا أَنَّ اللَّهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ
«1» ولك عهد الله وميثاقه وذمّة الله وذمّة نبيه إن أنتما أتيتما وتبتما ورجعتما من قبل أن أقدر عليكما وأن يقع بيني وبينكما سفك الدماء- أن أؤمّنكما وجميع ولدكما ومن شايعكما وتابعكما على دمائكم وأموالكم، وأسوّغكم «2» ما أصبتم من دم أو مال، وأعطيكما ألف ألف درهم لكل واحد منكما، وما سألتما من الحوائج؛ وأبوّئكما من البلاد حيث شئتما، وأطلق من الحبس جميع ولد أبيكما، ثم لا أتعقب واحدا منكما بذنب سلف منه أبدا؛ فلا تشمت بنا وبك عدوّنا من قريش؛ فإن أحببت أن تتوثّق من نفسك بما عرضت عليك، فوجّه إليّ من أحببت ليأخذ لك من الأمان والعهود والمواثيق. ما تأمن به وتطمئن إليه إن شاء والسلام.
فأجابه محمد بن عبد الله: من محمد بن عبد الله أمير المؤمنين، إلى عبد الله ابن محمد:
طسم، تِلْكَ آياتُ الْكِتابِ الْمُبِينِ، نَتْلُوا عَلَيْكَ مِنْ نَبَإِ مُوسى وَفِرْعَوْنَ بِالْحَقِّ لِقَوْمٍ يُؤْمِنُونَ. إِنَّ فِرْعَوْنَ عَلا فِي الْأَرْضِ وَجَعَلَ أَهْلَها شِيَعاً يَسْتَضْعِفُ طائِفَةً مِنْهُمْ يُذَبِّحُ أَبْناءَهُمْ وَيَسْتَحْيِي نِساءَهُمْ إِنَّهُ كانَ مِنَ الْمُفْسِدِينَ. وَنُرِيدُ أَنْ نَمُنَّ عَلَى الَّذِينَ اسْتُضْعِفُوا فِي الْأَرْضِ وَنَجْعَلَهُمْ أَئِمَّةً وَنَجْعَلَهُمُ الْوارِثِينَ. وَنُمَكِّنَ لَهُمْ فِي الْأَرْضِ وَنُرِيَ فِرْعَوْنَ وَهامانَ وَجُنُودَهُما مِنْهُمْ ما كانُوا يَحْذَرُونَ
«3» . وأنا أعرض عليك من الأمان ما عرضت؛ فإنّ الحق معنا، وإنما ادّعيتم هذا الأمر بنا وخرجتم إليه بشيعتنا، وحظيتم بفضلنا، وإن أبانا عليّا رحمه الله كان الإمام؛ فكيف ورثتم ولاية ولده، وقد علمتم أنه لم يطلب هذا الأمر أحد بمثل نسبنا ولا شرفنا، وأنا لسنا من أبناء الظّئار «4» . ولا من أبناء الطلقاء «5» ؛ وأنه ليس يمتّ أحد بمثل ما نمتّ به من القرابة والسابقة(5/338)
والفضل، وأنّا بنو أمّ أبي رسول الله صلّى الله عليه وسلم فاطمة بنت عمرو في الجاهلية، وبنو فاطمة ابنته في الإسلام دونكم؛ وإن الله اختارنا واختار لنا، فوالدنا من النبيين أفضلهم. ومن السلف أوّلهم إسلاما عليّ بن أبي طالب، ومن النساء أفضلهنّ خديجة بنت خويلد، أول من صلى إلى القبلة منهنّ، ومن البنات فاطمة سيدة نساء أهل الجنة، ولدت الحسن والحسين سيّدي شباب أهل الجنة صلوات الله عليهما؛ وإنّ هاشما ولد عليّا مرتين، وإنّ عبد المطلب ولد حسنا مرتين، وإن النبي صلّى الله عليه وسلم ولدني مرتين، وإني من أوسط «1» بني هاشم نسبا وأشرفهم أبا وأمّا، ولم تعرق «2» فيّ العجم، ولم تنازع فيّ أمّهات الأولاد؛ فما زال الله بمنّه وفضله يختار لي الأمّهات في الجاهلية والإسلام، حتى اختار لي في النار. فأنا ابن أرفع الناس درجة في الجنة، ومن أهونهم عذابا في النار، وأبي خير أهل الجنة، وأبي خير أهل النار؛ فأنا ابن خير الأخيار وابن خير الأشرار؛ فلك الله إن دخلت في طاعتي، وأحببت دعوتي، أن أؤمّنك على نفسك ومالك ودمك وكلّ أمر أحدثته، إلا حدّا من حدود الله، أو حقّ امريء مسلم أو معاهد؛ فقد علمت ما يلزمك في ذلك؛ وأنا أولى بالأمر منك، وأوفى بالعهد؛ لأنك لا تعطي من العهد أكثر مما أعطيت رجالا قبلي؛ فأيّ الأمانات تعطيني؟ أمان ابن هبيرة؟ أو أمان عمك عبد الله بن علي؟ أو أمان أبي مسلم؟ والسلام.
فكتب إليه أبو جعفر المنصور:
من عبد الله أمير المؤمنين إلى محمد بن عبد الله بن حسن: أمّا بعد، فقد بلغني كتابك، وفهمت كلامك؛ فإذا جلّ فخرك بقرابة النساء، لتضلّ به الغوغاء «3» ، ولم يجعل الله النساء كالعمومة والآباء، ولا كالعصبة والأولياء؛ لأن الله جعل العم أبا، وبدأ به في القرآن على الوالد الأدنى.(5/339)
ولو كان اختيار الله لهنّ على قدر قرابتهنّ، لكانت آمنة أقربهنّ رحما، وأعظمهنّ حقا، وأول من يدخل الجنة غدا؛ ولكن اختيار الله لخلقه على قدر علمه الماضي لهنّ؛ فأما ما ذكرت من فاطمة جدّة النبي صلّى الله عليه وسلم وولادتها لك، فإن الله لم يرزق أحدا من ولدها دين الإسلام، ولو أن أحدا من ولدها رزق الإسلام بالقرابة لكان عبد الله ابن عبد المطلب أولاهم بكل خير في الدنيا والآخرة؛ ولكن الأمر لله، يختار لدينه من يشاء، وقد قال جل ثناؤه: إِنَّكَ لا تَهْدِي مَنْ أَحْبَبْتَ وَلكِنَّ اللَّهَ يَهْدِي مَنْ يَشاءُ، وَهُوَ أَعْلَمُ بِالْمُهْتَدِينَ
«1» . وقد بعث الله محمدا صلّى الله عليه وسلم وله عمومة أربعة، فأنزل الله عليه: وَأَنْذِرْ عَشِيرَتَكَ الْأَقْرَبِينَ
«2» ؛ فدعاهم فأنذرهم؛ فأجابه اثنان، أحدهما أبي، وأبى عليه اثنان، أحدهما أبوك؛ فقطع الله ولايتهما منه، ولم يجعل بينهما إلّا «3» ولا ذمّة ولا ميراثا.
وقد زعمت أنك ابن أخف أهل النار عذابا، وابن خير الأشرار؛ وليس في الشر خيار، ولا فخر في النار، وسترد فتعلم وَسَيَعْلَمُ الَّذِينَ ظَلَمُوا أَيَّ مُنْقَلَبٍ يَنْقَلِبُونَ
«4» .
وأمّا ما فخرت به من فاطمة أمّ عليّ، وأنّ هاشما ولد عليّا مرتين، فخير الأوّلين والآخرين رسول الله صلّى الله عليه وسلم لم يلده هاشم إلا مرة واحدة، ولا عبد المطلب إلا مرة.
وزعمت أنك أوسط بني هاشم نسبا، وأكرمهم أبا وأما، وأنك لم تلدك العجم، ولم تعرق فيك أمّهات الأولاد؛ فقد رأيتك فخرت على بني هاشم طرّا «5» ، فانظر أين أنت- ويحك- من الله غدا؟ فإنك قد تعديت طورك، وفخرت على من هو خير منك نفسا وأبا وأولا وآخرا؛ فخرت على إبراهيم ولد النبي صلّى الله عليه وسلم، وهل خيار ولد(5/340)
أبيك خاصة وأهل الفضل منهم إلا بنو أمهات أولاد؟ وما ولد منكم بعد وفاة رسول الله صلّى الله عليه وسلم أفضل من عليّ ابن الحسين وهو لأمّ ولد، وهو خير من جدك حسن بن حسن، وما كان فيكم بعده مثل ابنه محمد بن على وجدّته أمّ ولد، وهو خير من أبيك، ولا مثل ابنه جعفر، وهو خير منك، وجدّته أم ولد.
وأما قولك: إنا بنو رسول الله صلّى الله عليه وسلم؛ فإن الله يقول: ما كانَ مُحَمَّدٌ أَبا أَحَدٍ مِنْ رِجالِكُمْ وَلكِنْ رَسُولَ اللَّهِ وَخاتَمَ النَّبِيِّينَ
«1» ؛ ولكنكم بنو ابنته، وهي امرأة لا تحوز ميراثا، ولا ترث الولاية، ولا يحل لها أن تؤمّ؛ فكيف تورث بها إمامة؟ ولقد ظلمها أبوك بكل وجه؛ فأخرجها نهارا، ومرضها سرا، ودفنها ليلا؛ فأبى الناس إلا الشيخين لتفضيلهما؛ ولقد كانت السّنة التي لا اختلاف فيها أن الجدّ أبا الأم والخال والخالة، لا يرثون.
وأما ما فخرت به من عليّ وسابقته، فقد حضرت النبي صلّى الله عليه وسلم الوفاة، فأمر غيره بالصلاة، ثم أخذ الناس رجلا بعد فما أخذوه؛ وكان في الستة من أصحاب الشورى، فتركوه كلهم؛ رفضه عبد الرحمن بن عوف، وقاتله طلحة والزبير، وأبي سعد بيعته وأغلق بابه دونه وبايع معاوية بعده؛ ثم طلبها بكل وجه، فقاتل عليها، ثم حكم الحكمين ورضي بهما وأعطاهما عهد الله وميثاقه، فاجتمعا على خلعه واختلفا في معاوية؛ ثم قام جدك الحسن فباعها بخرق ودراهم، ولحق بالحجاز وأسلم شيعته بيد معاوية، ودفع الأمور إلى غير أهلها، وأخذ مالا من غير ولائه؛ فإن كان لكم فيها حق فقد بعتموه وأخذتم ثمنه؛ ثم خرج عمك الحسين على بن مرجانة، فكان الناس معه عليه حتى قتلوه وأتوا برأسه إليه؛ ثم خرجتم على بني أمية فقتلوكم وصلبوكم على جذوع النخل وأحرقوكم بالنيران ونفوكم من البلدان، حتى قتل يحيى بن زياد بأرض خراسان، وقتلوا رجالكم وأسروا الصّبية والنساء وحملوهم كالسبي المجلوب إلى الشام.(5/341)
حتى خرجنا عليهم، فطلبنا بثأركم، وأدركنا بدمائكم، وأورثناكم أرضهم وديارهم وأموالهم؛ وأردنا إشراككم في ملكنا، فأبيتم إلا الخروج علينا؛ وظننت ما رأيت ذكرنا أباك وتفضيلنا إياه، لتقدّمه على العباس وحمزة وجعفر، وليس كما ظننت، ولكن هؤلاء سالمون، مسلّم منهم مجتمع بالفضل عليهم، وابتلى بالحرب أبوك، فكانت بنو أمية تلعنه على المنابر كما تلعن أهل الكفر في الصلاة المكتوبة؛ فاحتجينا له، وذكرنا فضله، وعنّفناهم، وظلمناهم فيما نالوا منه.
وقد علمت أن المكرمة في الجاهلية سقاية الحاج الأعظم وولاية بئر زمزم، وكانت للعباس من بين إخوته، وقد نازعنا فيها أبوك فقضى لنا بها رسول الله صلّى الله عليه وسلم، فلم نزل نليها في الجاهلية والإسلام، وقد علمت أنه لم يبق أحد من بعد النبي صلّى الله عليه وسلم من بني عبد المطلب غير العباس وحده، فكان وارثه من بين إخوته، ثم طلب هذا الأمر غير واحد من بني هاشم فلم ينله إلا ولده، فالسقاية سقايتنا، وميراث النبي صلى الله عليه وعلى آله وسلّم ميراثنا، والخلافة بأيدينا، فلم يبق فضل ولا شرف في الجاهلية والإسلام إلا والعباس وارثه ومورّثه، والسلام.
مقتل محمد وإبراهيم:
فلما خرج محمد بن عبد الله بن الحسن بالمدينة، بايعه أهل المدينة وأهل مكة، وخرج أخوه إبراهيم بن عبد الله بن الحسن بالبصرة في شهر رمضان، فاجتمع الناس إليه، فنهض إلى دار الإمارة وبها سفيان بن محمد بن المهلب فسلّم إليه البصرة بغير قتال؛ وأرسل إبراهيم بن عبد الله بن الحسن إلى الأهواز جيشا فأخذها بعد قتال شديد، وأرسل جيشا إلى واسط فأخذها.
ثم إن أبا جعفر المنصور جهز إليهم عيسى بن موسى، فخرج إلى المدينة، فلقيه محمد بن عبد الله، فانهزم بأصحابه وقتل.
ثم مضى عيسى بن موسى إلى البصرة فلقى إبراهيم بن الحسن فقتله وبعث برأسه إلى أبي جعفر.(5/342)
كتاب المنصور إلى ابن عبيدة:
وقال رجل من أهل مكة: كنا جلوسا مع عمر بن عبيد بالمسجد، فأتاه رجل بكتاب المنصور على لسان محمد بن عبد الله بن الحسن يدعوه إلى نفسه، فقرأه ثم وضعه؛ فقال الرسول: الجواب! فقال: ليس له جواب؛ قل لصاحبك يدعنا نجلس في الظل ونشرب من هذا الماء البارد حتى تأتينا آجالنا.
المبيضة وأسر إسماعيل ابن علي وأخيه:
مروان بن شجاع مولى بني أمية قال: كنت مع إسماعيل بن علي بفارس أؤدب ولده، فلما لقيته المبيّضة «1» فظفر بهم، أتى منهم بأربعمائة أسير؛ فقال له أخوه عبد الصمد، وكان على شرطته: اضرب أعناقهم! فقال: ما تقول يا مروان؟ فقلت:
أصلح الله الأمير، أول من سنّ قتال أهل القبلة عليّ بن أبي طالب، فرأى أن لا يقتل أسير، ولا يجهز على جريح، ولا يتبع مولّ. قال: خذ بيعتهم وخلّ سبيلهم.
محمد بن علي في قلة إخوته:
قيل لمحمد بن علي بن الحسين: ما أقلّ ولد أبيك! قال: إني لأعجب كيف ولدت له! قيل له: وكيف ذلك؟ قال: إنه كان يصلي في اليوم والليلة ألف ركعة فمتى كان يتفرّغ للنساء.
وصية المنصور لابن موسى في حرب بني عبد الله:
ولما وجه المنصور عيسى بن موسى في محاربة بني عبد الله بن الحسن قال: يا أبا موسى، إذا صرت إلى المدينة فادع محمد بن عبد الله بن الحسن إلى الطاعة والدخول في الجماعة؛ فإن أجابك فاقبل منه، وإن هرب منك فلا تتبعه؛ وإن أبى إلا الحرب فناجزه «2» واستعن بالله عليه، فإذا ظفرت به فلا تخيفن أهل المدينة وعمّهم بالعفو؛ فإنهم الأصل والعشيرة، وذرية المهاجرين والأنصار، وجيران قبر النبي صلّى الله عليه وسلم؛ فهذه(5/343)
وصيتي إياك، لا كما أوصى بها يزيد بن معاوية مسلم بن عقبة حين وجهه إلى المدينة وأمره أن يقتل من ظهر إلى ثنيّة الوداع، وأن يبيحها ثلاثة أيام، ففعل، فلما بلغ يزيد ما فعله تمثل بقول ابن الزبعرى في يوم أحد، حيث قال.
ليت أشياخي ببدر شهدوا ... جزع الخزرج من وقع الأسل «1»
ثم اكتب إلى أهل مكة بالعفو عنهم والصفح، فإنهم آل الله وجيرانه وسكان حرمه وأمنه، ومنبت القوم والعشيرة، وعظماء البيت والحرم، لا تلحد فيه بظلم؛ فإنه حرم الله الذي بعث منه محمدا نبيه صلّى الله عليه وسلم، وشرف به آباءنا بتشريف الله إيانا؛ فهذه وصيتي، لا كما أوصى به الذي وجّه الحجاج إلى مكة، فأمره أن يضع المجانيق على الكعبة، وأن يلحد في الحرم بظلم، ففعل ذلك، فلما بلغه الخبر تمثل بقول عمرو بن كلثوم:
ألا لا يجهلن أحد علينا ... فنجهل فوق جهل الجاهلينا
لنا الدنيا ومن أضحى عليها ... ونبطش حين نبطش قادرينا
عيسى بن موسى ووصيته المنصور:
الرياشي قال: قال عيسى بن موسى: لما وجّهني المنصور إلى المدينة في حرب بني عبد الله بن الحسن، جعل يوصيني ويكثر، فقلت: يا أمير المؤمنين، إلى كم توصيني؟
إني أنا السيف الحسام الهندي ... أكلت جفني وفريت غمدي «2»
فكلّ ما تطلب مني عندي
تفضيل معاوية للحسن:
وقال معاوية يوما لجلسائه: من أكرم الناس أبا وأمّا، وجدّا وجدة، وعمّا وعمة، وخالا وخالة؟ فقالوا: أمير المؤمنين أعلم. فأخذ بيد الحسن بن علي وقال: هذا؛ أبوه(5/344)
علي بن أبي طالب، وأمه فاطمة ابنة محمد، وجدّه رسول الله صلّى الله عليه وسلم، وجدّته خديجة، وعمه جعفر، وعمته هالة بنت أبي طالب، وخاله القاسم بن محمد، وخالته زينب بنت محمد صلى الله عليه وسلم.
لسديف في قتل المنصور لابني عبد الله:
الرياشي عن الأصمعي قال: لما خرج محمد بن عبد الله بن الحسن بالمدينة، فبايعه أهل المدينة وأهل مكة وخرج إبراهيم أخوه بالبصرة فتغلب على البصرة والأهواز وواسط- قال سديف بن ميمون في ذلك:
إنّ الحمامة يوم الشّعب من حضن ... هاجت فؤاد محبّ دائم الحزن «1»
إنا لنأمل أن ترتدّ ألفتنا ... بعد التباعد والشّحناء والإحن «2»
وتنقضي دولة أحكام قادتها ... فيها كأحكام قوم عابدي وثن
فانهض ببيعتكم ننهض بطاعتنا ... إنّ الخلافة فيكم يا بني حسن
لا عزّ ركن نزار عند نائبة ... إن أسلموك ولا ركن لذي يمن
ألست أكرمهم يوما إذا انتسبوا ... عودا، وأنقاهم ثوبا من الدّرن «3»
وأعظم الناس عند الله منزلة ... وأبعد الناس من عجز ومن أفن «4»
فلما سمع أبو جعفر هذه الأبيات استطير بها، فكتب إلى عبد الصمد بن علي أن يأخذ سديفا فيدفنه حيّا، ففعل.
الرياشي والبغدادي في مقتل سديف:
قال الرياشي: فذكرت هذه الأبيات لأبي جعفر، شيخ من أهل بغداد، فقال:
هذا باطل؛ الأبيات لعبد الله بن مصعب، وإنما كان سبب قتل سديف أنه قال أبياتا(5/345)
مبهمة، وكتب بها إلى أبي جعفر وهي هذه:
أسرفت في قتل الرّعيّة ظالما ... فاكفف يديك أضلّها مهديّها
فلتأتينّك راية حسنيّة ... جرّارة يقتادها حسنيّها
فالتفت أبو جعفر، فقال لحازم بن خزيمة: تهيأ بهيئة السفر متنكرا، حتى إذا لم يبق إلا أن تضع رجلك في الغرز «1» ائتني، ففعل، فقال: إذا أتيت المدينة فادخل مسجد النبي صلّى الله عليه وسلم، فدع سارية؛ وثانية فإنك تنظر عند الثالثة إلى شيخ آدم يكثر التلفت، طويل كبير، فاجلس معه فتوجع لآل أبي طالب، واذكر شدّة الزمان عليهم، ثلاثة أيام؛ ثم قل في الرابع: من يقول هذه الأبيات؟
أسرفت في قتل الرّعيّة ظالما
قال: ففعل، فقال له الشيخ: إن شئت نبأتك من أنت؟ أنت حازم بن خزيمة، بعثك إليّ أمير المؤمنين لتعرف من قال هذا الشعر؛ فقل له: جعلت فداك، والله ما قلته ولا قاله إلا سديف بن ميمون، فإني أنا القائل وقد دعوني إلى الخروج مع محمد بن عبد الله:
دعوني وقد سالت لإبليس راية ... وأوقد للغاوين نار الحباحب «2»
أبالّليث تعترّون يحمي عرينه ... وتلقون جهلا أسده بالثعالب
فلا نفعتني السّنّ إن لم يؤزكم ... ولا أحكمتني صادقات التجارب «3»
قال: وإذا الشيخ إبراهيم بن هرمة. قال: فقدمت على المنصور فأخبرته الخبر، فكتب إلى عبد الصمد بن علي، وكان سديف في حبسه، فأخذه فدفنه حيا.(5/346)
ابن عبد الحميد وابن أبي حفصة:
قال الرياشي: سمعت محمد بن عبد الحميد يقول: قلت لابن أبي حفصة: ما أغراك ببني علي؟ قال: ما أحد أحبّ إليّ منهم، ولكني لم أجد شيئا أنفع عند القوم منه.
هشام وزيد بن علي:
لما دخل زيد بن علي بن أبي طالب على هشام، قال: بلغني أنك تحدّث نفسك بالخلافة، ولا تصلح لها لأنك ابن أمة! قال: أما قولك: إني أحدّث نفسي بالخلافة، فلا يعلم الغيب إلا الله. وأما قولك: إني ابن أمة، فهذا إسماعيل بن أمة، أخرج الله من صلبه محمدا صلّى الله عليه وسلم؛ وإسحاق ابن حرّة، أخرج الله من صلبه القردة والخنازير وعبد الطاغوت! وخرج من عنده فقال: ما أحبّ أحد الحياة إلا ذلّ. فقال له الحاجب: لا يسمع هذا الكلام منك أحد.
وقال زيد بن علي عند خروجه من عند هشام بن عبد الملك:
شرّده الخوف وأزرى به ... كذاك من يكره حرّ الجلاد «1»
محتفي الرّجلين يشكو الوجا ... تقرعه أطراف مرو حداد «2»
قد كان في الموت له راحة ... والموت حتم في رقاب العباد
ثم خرج بخراسان فقتل وصلب.
وفيه يقول سديف لأبي العباس يغريه ببني أمية حيث يقول:
واذكروا مصرع الحسين وزيدا ... وقتيلا بجانب المهراس «3»
يريد إبراهيم الإمام، أخا أبي العباس.(5/347)
باب من فضائل علي بن أبي طالب رضي الله عنه
ابن هشام وشيخ في علي ابن أبي طالب:
عوانة بن الحكم قال: حج محمد بن هشام، ونزلت رفقه، فإذا فيها شيخ كبير قد احتوشه «1» الناس وهو يأمر وينهى؛ فقال محمد بن هشام لمن حوله: تجدون الشيخ عراقيا فاسقا! فقال له بعض أصحابه: نعم، وكوفيا منافقا! فقال محمد، عليّ به. فأتي بالشيخ، فقال له: أعراقيّ أنت؟ قال له: نعم عراقي. قال: وكوفيّ؟ قال: وكوفي.
قال: وترابيّ؟ قال: وترابي، من التراب خلقت، وإليه أصير. قال: أنت ممن يهوى أبا تراب؟ قال: ومن أبو تراب؟ قال: عليّ بن أبي طالب. قال: أتعني ابن عمّ رسول الله صلّى الله عليه وسلم، وزوج فاطمة ابنته، وأبا الحسن والحسين؟ قال: نعم، فما قولك فيه؟ قال:
قد رأيت من يقول خيرا ويحمد، ورأيت من يقول شرا ويذم. قال: فأيهما أفضل عندك: أهو أم عثمان؟ قال: وما أنا وذاك؟ والله لو أن عليا جاء بوزن الجبال حسنات ما نفعني، ولو جاء بوزنها سيئات ما ضرّني؛ وعثمان مثل ذلك. قال: فاشتم أبا تراب! قال: أو ما ترضى مني بما رضي به من هو خير منك ممن هو خير مني فيمن هو شر من عليّ؟ قال: وما ذاك؟ قال: رضيّ الله وهو خير منك، من عيسى وهو خير مني، في النصارى وهم شر من عليّ، إذ قال: إِنْ تُعَذِّبْهُمْ فَإِنَّهُمْ عِبادُكَ وَإِنْ تَغْفِرْ لَهُمْ فَإِنَّكَ أَنْتَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ
«2» .
حمزة وابن له في علي:
الرياشي قال: انتقص ابن لحمزة بن عبد الله بن الزبير عليا، فقال له أبوه: يا بني إنه والله ما بنت الدنيا شيئا إلا هدمه الدّين، وما بنى الدين شيئا فهدمته الدنيا؛ أما ترى عليا وما يظهر بعض الناس من بغضه ولعنه على المنابر فكأنما والله يأخذون(5/348)
بناصيته رفعا إلى السماء، وما ترى بني مروان وما يندبون به موتاهم من المدح بين الناس؛ فكأنما يكشفون عن الجيف!
الوليد وشعر الفضل في علي:
قدم الوليد مكة فجعل يطوف بالبيت والفضل بن العباس بن عتبة بن أبي لهب يستقي من زمزم وهو يقول:
يأيها السائل عن عليّ ... تسأل عن بدر لنا بدريّ
مردّد في المجد أبطحيّ ... سائلة غرّته مضيّ «1»
فلم ينكر عليه أحد.
لمسلمة في جعفر:
العتبي قال: قيل يوما لمسلمة بن هلال العبدي: خطب جعفر بن سليمان الهاشمي خطبة لم يسمع مثلها قط، وما درينا أوجهه كان أحسن أم كلامه! قال: أولئك قوم بنور الخلافة يشرقون «2» ، وبلسان النبوّة ينطقون.
وكتب عوام صاحب أبي نواس إلى بعض عمال ديار ربيعة:
بحقّ النبيّ بحق الوصيّ ... بحق الحسين بحق الحسن
بحق التي ظلمت حقّها ... ووالدها خير ميت دفن
ترفّق بأرزاقنا في الخرا ... ج بترفيهها وبحطّ المؤن
قال: فأسقط عنه الخراج طول ولايته.
احتجاج المأمون على الفقهاء في فضل عليّ
إسحاق بن إبراهيم بن إسماعيل عن حماد بن زيد قال: بعث إليّ يحيى بن أكثم وإلى(5/349)
عدّة من أصحابي، وهو يومئذ قاضي القضاة، فقال: إن أمير المؤمنين أمرني أن أحضر معي غدا مع الفجر أربعين رجلا كلهم فقيه يفقه «1» ما يقال له ويحسن الجواب؛ فسمّوا من تظنّونه يصلح لما يطلب أمير المؤمنين. فسمّينا له عدة، وذكر هو عدة، حتى تم العدد الذي أراد، وكتب تسمية القوم، وأمر بالبكور «2» في السحر، وبعث إلى من لم يحضر، فأمره بذلك؛ فغدونا عليه قبل طلوع الفجر، فوجدناه قد لبس ثيابه وهو جالس ينتظرنا، فركب وركبنا معه حتى صرنا إلى الباب، فإذا بخادم واقف؛ فلما نظر إلينا قال: يا أبا محمد، أمير المؤمنين ينتظرك.
فأدخلنا، فأمرنا بالصلاة فأخذنا فيها، فلم نستتم حتى خرج الرسول فقال: ادخلوا.
فدخلنا فإذا أمير المؤمنين جالس على فراشه، وعليه سواده وطيلسانه «3» والطويلة وعمامته، فوقفنا وسلّمنا، فردّ السلام وأمر لنا بالجلوس، فلما استقرّ بنا المجلس انحدر عن فراشه ونزع عمامته وطيلسانه ووضع قلنسوته «4» ، ثم أقبل علينا فقال: إنما فعلت ما رأيتم لتفعلوا مثل ذلك، وأما الخفّ فمنع من خلعه علة، من قد عرفها منكم فقد عرفها، ومن لم يعرفها فسأعرّفه بها. ومدّ رجله وقال: انزعوا قلانسكم وخفافكم وطيالستكم. قال: فأمسكنا، فقال لنا يحيى: انتهوا إلى ما أمركم به أمير المؤمنين. فتنحينا فنزعنا أخفافنا وطيالستنا وقلانسنا ورجعنا؛ فلما استقر بنا المجلس قال: إنما بعثت إليكم معشر القوم في المناظرة، فمن كان به شيء من الأخبثين «5» لم ينتفع بنفسه ولم يفقه ما يقول؛ فمن أراد منكم الخلاء فهناك. وأشار بيده، فدعونا له. ثم ألقى مسألة من الفقه، فقال: يا محمد، قل، وليقل القوم من بعدك. فأجابه يحيى، ثم الذي يلي يحيى، ثم الذي يليه، حتى أجاب آخرنا، في العلة(5/350)
وعلة العلة؛ وهو مطرق لا يتكلم، حتى إذا انقطع الكلام التفت إلى يحيى فقال: يا أبا محمد، أصبت الجواب وتركت الصواب في العلة. ثم لم يزل يردّ على كل واحد منا مقالته، ويخطّىء بعضنا ويصوّب بعضنا؛ حتى أتى على آخرنا، ثم قال: إني لم أبعث فيكم لهذا، ولكنني أحببت أن أنبئكم أن أمير المؤمنين أراد مناظرتكم في مذهبه الذي هو عليه والذي يدين الله به. قلنا: فليفعل أمير المؤمنين وفقه الله. فقال: إن أمير المؤمنين يدين الله على أنّ عليّ بن أبي طالب خير خلق الله بعد رسوله صلّى الله عليه وسلم وأولى الناس بالخلافة له. قال إسحاق: فقلت يا أمير المؤمنين، إن فينا من لا يعرف ما ذكر أمير المؤمنين في عليّ، وقد دعانا أمير المؤمنين للمناظرة. فقال يا إسحاق، اختر، إن شئت سألتك أسألك، وإن شئت أن تسأل فقل. قال إسحاق: فاغتنمتها منه، فقلت: بل أسألك يا أمير المؤمنين. قال: سل. قلت: من أين قال أمير المؤمنين إن علي بن أبي طالب أفضل الناس بعد رسول الله وأحقهم بالخلافة بعده؟ قال: يا إسحاق، خبّرني عن الناس: بم يتفاضلون حتى يقال فلان أفضل من فلان؟ قلت:
بالأعمال الصالحة: قال: صدقت، قال: فأخبرني عمن فضل صاحبه على عهد رسول الله صلّى الله عليه وسلم، ثم إن المفضول عمل بعد وفاة رسول الله بأفضل من عمل الفاضل على عهد رسول الله- أيلحق به؟ قال: فأطرقت، فقال لي: يا إسحاق، لا تقل نعم؛ فإنك إن قلت نعم أوجدتك في دهرنا هذا من هو أكثر منه جهادا وحجا وصياما وصلاة وصدقة. فقلت أجل يا أمير المؤمنين، لا يلحق المفضول على عهد رسول الله صلّى الله عليه وسلم الفاضل أبدا. قال: يا إسحاق، فانظر ما رواه لك أصحابك ومن أخذت عنهم دينك وجعلتهم قدوتك من فضائل عليّ بن أبي طالب؛ فقس عليها ما أتوك به من فضائل أبي بكر، فإن رأيت فضائل أبي بكر تشاكل فضائل علي، فقل إنه أفضل منه، لا والله، ولكن فقس إلى فضائله ما روي لك من فضائل أبي بكر وعمر، فإن وجدت لهما من الفضائل ما لعلي وحده، فقل إنهما أفضل منه؛ ولا والله، ولكن قس إلى فضائله فضائل أبي بكر وعمر وعثمان، فإن وجدتها مثل فضائل عليّ، فقل إنهم أفضل منه؛ لا والله، ولكن قس بفضائل العشرة الذين شهد لهم رسول الله صلّى الله عليه وسلم(5/351)
بالجنة، فإن وجدتها تشاكل فضائله فقل إنهم أفضل منه.
قال: يا إسحاق، أيّ الأعمال كانت أفضل يوم بعث الله رسوله؟ قلت:
الإخلاص بالشهادة. قال: أليس السبق إلى الإسلام؟ قلت: نعم. قال: اقرأ ذلك في كتاب الله تعالى يقول: وَالسَّابِقُونَ السَّابِقُونَ أُولئِكَ الْمُقَرَّبُونَ
«1» ، إنما عنى من سبق إلى الإسلام، فهل علمت أحدا سبق عليّا إلى الإسلام؟ قلت: يا أمير المؤمنين، إن عليا أسلم وهو حديث السن لا يجوز عليه الحكم، وأبو بكر أسلم وهو مستكمل يجوز عليه الحكم. قال: أخبرني أيهما أسلم قبل، ثم أناظرك من بعده في الحداثة والكمال. قلت: عليّ أسلم قبل أبي بكر على هذه الشريطة. فقال: نعم، فأخبرني عن إسلام عليّ حين أسلم: لا يخلو من أن يكون رسول الله صلّى الله عليه وسلم دعاه إلى الإسلام، أو يكون إلهاما من الله؟ قال: فأطرقت؛ فقال لي: يا إسحاق؛ لا تقل إلهاما فتقدّمه على رسول الله صلّى الله عليه وسلم؛ لأنّ رسول الله لم يعرف الإسلام حتى أتاه جبريل عن الله تعالى.
قلت: أجل، بل دعاه رسول الله إلى الإسلام. قال: يا إسحاق فهل يخلو رسول الله صلّى الله عليه وسلم حين دعاه إلى الإسلام من أن يكون دعاه بأمر الله أو تكلّف ذلك من نفسه؟
قال: فأطرقت، فقال: يا إسحاق، لا تنسب رسول الله إلى التكلف؛ فإن الله يقول:
وَما أَنَا مِنَ الْمُتَكَلِّفِينَ
«2» . قلت: أجل يا أمير المؤمنين، بل دعاه بأمر الله. قال:
فهل من صفة الجبار جل ثناؤه أن يكلّف رسله دعاء من لا يجوز عليه حكم؟ قلت:
أعوذ بالله! فقال: أفتراه في قياس قولك يا إسحاق: «إن عليا أسلم صبيّا لا يجوز عليه الحكم» قد كلف رسول الله صلّى الله عليه وسلم من دعاء الصبيان ما لا يطيقون، فهو يدعوهم الساعة ويرتدّون بعد ساعة، فلا يجب عليهم في ارتدادهم شيء ولا يجوز عليهم حكم الرسول عليه السلام، أترى هذا جائزا عندك أن تنسبه إلى الله عزّ وجلّ؟ قلت: أعوذ بالله! قال: يا إسحاق، فأراك إنما قصدت لفضيلة فضّل بها رسول الله صلّى الله عليه وسلم عليّا على هذا الخلق، أبانه بها منهم ليعرف مكانه وفضله، ولو كان(5/352)
الله تبارك وتعالى أمره بدعاء الصبيان لدعاهم كما دعا عليا؟ قلت: بلى. قال: فهل بلغك أن الرسول صلّى الله عليه وسلم دعا أحدا من الصبيان من أهله وقرابته- لئلا تقول إن عليا ابن عمه-؟ قلت: لا أعلم ولا أدري فعل أو لم يفعل. قال: يا إسحاق، أرأيت ما لم تدره ولم تعلمه هل تسأل عنه؟ قلت: لا. قال: فدع ما قد وضعه الله عنا وعنك.
قال: ثم أيّ الأعمال كانت أفضل بعد السبق إلى الإسلام؟ قلت: الجهاد في سبيل الله. قال: صدقت، فهل تجد لأحد من أصحاب رسول الله صلّى الله عليه وسلم ما تجد لعلي في الجهاد؟ قلت: في أي وقت؟ قال: في أي الأوقات شئت! قلت: بدر؟ قال: لا أريد غيرها؛ فهل تجد لأحد إلا دون ما تجد لعليّ يوم بدر؟ أخبرني: كم قتلى بدر؟ قلت:
نيف وستون رجلا من المشركين. قال: فكم قتل عليّ وحده؟ قلت: لا أدري.
قال: ثلاثة وعشرين، أو اثنين وعشرين؛ والأربعون لسائر الناس. قلت: يا أمير المؤمنين كان أبو بكر مع رسول الله صلّى الله عليه وسلم في عريشه «1» . قال: يصنع ماذا؟ قلت:
يدبّر، قال: ويحك! يدبّر دون رسول الله أو معه شريكا، أو افتقارا من رسول الله صلّى الله عليه وسلم إلى رأيه؟ أي الثلاث أحب إليك؟ قلت: أعوذ بالله أن يدبر أبو بكر دون رسول الله صلّى الله عليه وسلم أو يكون معه شريكا، أو أن يكون برسول الله صلّى الله عليه وسلم افتقار إلى رأيه.
قال: فما الفضيلة بالعريش إذا كان الأمر كذلك؟ أليس من ضرب بسيفه بين يدي رسول الله أفضل ممن هو جالس؟ قلت: يا أمير المؤمنين، كلّ الجيش كان مجاهدا.
قال: صدقت، كل مجاهد؛ ولكن الضارب بالسيف المحامي عن رسول الله صلّى الله عليه وسلم وعن الجالس، أفضل من الجالس؛ أما قرأت كتاب الله: لا يَسْتَوِي الْقاعِدُونَ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ غَيْرُ أُولِي الضَّرَرِ وَالْمُجاهِدُونَ فِي سَبِيلِ اللَّهِ بِأَمْوالِهِمْ وَأَنْفُسِهِمْ فَضَّلَ اللَّهُ الْمُجاهِدِينَ بِأَمْوالِهِمْ وَأَنْفُسِهِمْ عَلَى الْقاعِدِينَ دَرَجَةً وَكُلًّا وَعَدَ اللَّهُ الْحُسْنى، وَفَضَّلَ اللَّهُ الْمُجاهِدِينَ عَلَى الْقاعِدِينَ أَجْراً عَظِيماً
«2» . قلت: وكان أبو بكر وعمر مجاهدين قال:
فهل كان لأبي بكر وعمر فضل على من لم يشهد ذلك المشهد؟ قلت: نعم. قال:(5/353)
فكذلك! سبق الباذل نفسه فضل أبي بكر وعمر، قلت: أجل.
قال: يا إسحاق، هل تقرأ القرآن؟ قلت: نعم، قال: اقرأ عليّ هَلْ أَتى عَلَى الْإِنْسانِ حِينٌ مِنَ الدَّهْرِ لَمْ يَكُنْ شَيْئاً مَذْكُوراً
«1» فقرأت منها حتى بلغت:
يَشْرَبُونَ مِنْ كَأْسٍ كانَ مِزاجُها كافُوراً
«2» إلى قوله: وَيُطْعِمُونَ الطَّعامَ عَلى حُبِّهِ مِسْكِيناً وَيَتِيماً وَأَسِيراً
«3» قال: على رسلك؛ فيمن أنزلت هذه الآيات؟ قلت:
في عليّ. قال: فهل بلغك أن عليا حين أطعم المسكين واليتيم والأسير. قال إنما نطعمكم لوجه الله؟ وهل سمعت الله وصف في كتابه أحدا بمثل ما وصف به عليا؟ قلت: لا. قال: صدقت! لأن الله جل ثناؤه عرف سيرته. يا إسحاق، ألست تشهد أن العشرة في الجنة؟ قلت: بلى يا أمير المؤمنين. قال: أرأيت لو أنّ رجلا قال: والله ما أدري هذا الحديث صحيح أم لا، ولا أدري إن كان رسول الله قاله أم لم يقله: أكان عندك كافرا؟ قلت: أعوذ بالله! قال: أرأيت لو أنه قال: ما أدري هذه السورة من كتاب الله أم لا، كان كافرا؟ قلت: نعم. قال: يا إسحاق، أرى بينهما فرقا. يا إسحاق، أتروي الحديث؟ قلت: نعم. قال: فهل تعرف حديث الطير؟ قلت: نعم. قال: فحدّثني به. قال: فحدّثته الحديث، فقال: يا إسحاق، إني كنت أكلمك وأنا أظنك غير معاند للحق، فأمّا الآن فقد بان لي عنادك؛ إنك توقن أن هذا الحديث صحيح. قلت: نعم؛ رواه من لا يمكنني ردّه. قال: أفرأيت من أيقن أن هذا الحديث صحيح، ثم زعم أن أحدا أفضل من عليّ- لا يخلو من إحدى ثلاثة:
من أن تكون دعوة رسول الله صلّى الله عليه وسلم عنده مردودة عليه، أو أن يقول عرف الفاضل من خلقه وكان المفضول أحب إليه، أو أن يقول إن الله عز وجل لم يعرف الفاضل من المفضول؛ فأي الثلاثة أحب إليك أن تقول؟ فأطرقت ... ثم قال: يا إسحق، لا تقل منها شيئا؛ فإنك إن قلت منها شيئا استنبتك «4» ؛ وإن كان للحديث عندك(5/354)
تأويل غير هذه الثلاثة الأوجه فقله. قلت: لا أعلم، وإن لأبي بكر فضلا. قال:
أجل، لولا أن له فضلا لما قيل إن عليا أفضل منه؛ فما فضله الذي قصدت له الساعة؟ قلت: قول الله عز وجل: ثانِيَ اثْنَيْنِ إِذْ هُما فِي الْغارِ إِذْ يَقُولُ لِصاحِبِهِ لا تَحْزَنْ إِنَّ اللَّهَ مَعَنا
«1» ؛ فنسبه إلى صحبته. قال: يا إسحاق، أما إني لا أحملك على الوعر من طريقك؛ إني وجدت الله تعالى نسب إلى صحبة من رضيه ورضي عنه كافرا، وهو قوله: قالَ لَهُ صاحِبُهُ وَهُوَ يُحاوِرُهُ أَكَفَرْتَ بِالَّذِي خَلَقَكَ مِنْ تُرابٍ ثُمَّ مِنْ نُطْفَةٍ ثُمَّ سَوَّاكَ رَجُلًا، لكِنَّا هُوَ اللَّهُ رَبِّي وَلا أُشْرِكُ بِرَبِّي أَحَداً
«2» . قلت:
إن ذلك صاحب كان كافرا، وأبو بكر مؤمن. قال: فإذا جاز أن ينسب إلى صحبة من رضيه كافرا، جاز أن ينسب إلى صحبة نبيه مؤمنا، وليس بأفضل المؤمنين ولا الثاني ولا الثالث. قلت: يا أمير المؤمنين، إن قدر الآية عظيم، إن الله يقول: ثانِيَ اثْنَيْنِ إِذْ هُما فِي الْغارِ إِذْ يَقُولُ لِصاحِبِهِ لا تَحْزَنْ إِنَّ اللَّهَ مَعَنا
«3» ! قال: يا إسحاق، تأبى الآن إلا أن أخرج إلى الاستقصاء عليك! أخبرني عن حزن أبي بكر: أكان رضا أم سخطا؟ قلت: إن أبا بكر إنما حزن من أجل رسول الله صلّى الله عليه وسلم خوفا عليه وغما، أن يصل إلى رسول الله شيء من المكروه. قال: ليس هذا جوابي، إنما كان جوابي أن تقول: رضا، أم سخط. قلت: بل كان رضا لله. قال: فكأن الله جل ذكره بعث إلينا رسولا ينهى عن رضا الله عز وجل وعن طاعته! قلت: أعوذ بالله! قال: أوليس قد زعمت أن حزن أبي بكر رضا لله؟ قلت: بلى. قال: أولم تجد أن القرآن يشهد أن رسول الله صلّى الله عليه وسلم قال: «لا تحزن» ، نهيا له عن الحزن؟ قلت: أعوذ بالله! قال: يا إسحاق، إن مذهبي الرفق بك، لعل الله يردّك إلى الحق ويعدك بك عن الباطل، لكثرة ما تستعيذ به. وحدّثني عن قول الله: فَأَنْزَلَ اللَّهُ سَكِينَتَهُ عَلَيْهِ
«4» ، من عنى بذلك؛ رسول الله أم أبا بكر؟ قلت: بل رسول الله. قال: صدقت!(5/355)
قال: حدّثني عن قول الله عز وجل: وَيَوْمَ حُنَيْنٍ إِذْ أَعْجَبَتْكُمْ كَثْرَتُكُمْ
«1» إلى قوله: ثُمَّ أَنْزَلَ اللَّهُ سَكِينَتَهُ عَلى رَسُولِهِ وَعَلَى الْمُؤْمِنِينَ
«2» . أتعلم من المؤمنون الذين أراد الله في هذا الموضوع؟ قلت: لا أدري يا أمير المؤمنين؛ قال:
الناس جميعا انهزموا يوم حنين، فلم يبق مع رسول الله صلّى الله عليه وسلم إلا سبعة نفر من بني هاشم: علي يضرب بسيفه بين يدي رسول الله، والعباس آخذ بلجام بغلة رسول الله، والخمسة محدقون به خوفا من أن يناله من جراح القوم شيء، حتى أعطى الله لرسوله الظّفر؛ فالمؤمنون في هذا الموضع عليّ خاصة، ثم من حضره من بني هاشم، قال: فمن أفضل: من كان مع رسول الله صلّى الله عليه وسلم في ذلك الوقت، أم من انهزم عنه ولم يره الله موضعا لينزلها عليه؟ قلت: بل من أنزلت عليه السكينة.
قال: يا إسحاق، من أفضل: من كان معه في الغار، أم من نام على فراشه ووقاه بنفسه، حتى تمّ رسول الله صلّى الله عليه وسلم ما أراد من الهجرة؟ إن الله تبارك وتعالى أمر رسوله أن يأمر عليّا بالنوم على فراشه، وأن يقي «3» رسول الله صلّى الله عليه وسلم بنفسه؛ فأمره رسول الله صلّى الله عليه وسلم بذلك، فبكى عليّ رضي الله عنه؛ فقال له رسول الله صلّى الله عليه وسلم: ما يبكيك يا عليّ، أجزعا من الموت؟ قال: لا، والذي بعثك بالحق يا رسول الله، ولكن خوفا عليك؛ أفتسلم يا رسول الله؟ قال: نعم. قال: سمعا وطاعة وطيبة نفسي بالفداء لك يا رسول الله. ثم أتى مضجعه واضطجع، وتسجّى «4» بثوبه، وجاء المشركون من قريش فحفّوا «5» به، لا يشكّون أنه رسول الله صلّى الله عليه وسلم، وقد أجمعوا أن يضربه من كل بطن من بطون قريش رجل ضربة بالسيف، لئلا يطلب الهاشميون من البطون بطنا بدمه؛ وعليّ يسمع ما القوم فيه من إتلاف نفسه، ولم يدعه ذلك إلى الجزع كما جزع صاحبه في الغار؛ ولم يزل عليّ صابرا محتسبا؛ فبعث الله ملائكته(5/356)
فمنعته من مشركي قريش حتى أصبح، فلما أصبح قام فنظر القوم إليه فقالوا: أين محمد؟ قال: وما علمي بمحمد أين هو؟ قالوا: فلا نراك إلا مغرّرا بنفسك منذ ليلتنا، فلم يزل على أفضل ما بدأ به يزيد، ولا ينقص، حتى قبضه الله إليه.
يا إسحاق، هل تروي حديث الولاية؟ قلت: نعم يا أمير المؤمنين. قال: اروه، ففعلت قال: يا إسحاق، أرأيت هذا الحديث هل أوجب على أبي بكر وعمر ما لم يوجب لهما عليه؟ قلت: إن الناس ذكروا أن الحديث إنما كان بسبب زيد بن حارثة لشيء جرى بينه وبين علي، وأنكر ولاء علي، فقال رسول الله صلّى الله عليه وسلم: «من كنت مولاه فعليّ مولاه؛ اللهم وال من والاه وعاد من عاداه» . قال: في أي موضع قال هذا، أليس بعد منصرفه من حجة الوداع؟ قلت: أجل. قال: فإنّ قتل زيد بن حارثة قبل الغدير؛ كيف رضيت لنفسك بهذا؟ أخبرني: لو رأيت ابنا لك قد أتت عليه خمس عشرة سنة يقول: مولاي مولى ابن عمي، أيها الناس فاعلموا ذلك؛ أكنت منكرا ذلك عليه: تعريفه الناس ما لا ينكرون ولا يجهلون؟ فقلت: اللهم نعم، قال: يا إسحاق، أفتنزّه ابنك عما لا تنزه عنه رسول الله صلّى الله عليه وسلم؟ ويحكم! لا تجعلوا فقهاءكم أربابكم «1» ؛ إن الله جل ذكره قال في كتابه: اتَّخَذُوا أَحْبارَهُمْ وَرُهْبانَهُمْ أَرْباباً مِنْ دُونِ اللَّهِ
«2» . ولم يصلّوا لهم ولا صاموا ولا زعموا أنهم أرباب، ولكن أمروهم فأطاعوا أمرهم؛ يا إسحاق، أتروي حديث: «أنت مني بمنزلة هارون من موسى» ؟ قلت: نعم يا أمير المؤمنين، قد سمعته وسمعت من صحّحه وجحده. قال: فمن أوثق عندك: من سمعت منه فصحّحه، أو من جحده؟
قلت: من صحّحه. قال: فهل يمكن أن يكون الرسول صلّى الله عليه وسلم مزح بهذا القول؟ قلت:
أعوذ بالله! قال: فقال قولا لا معنى له فلا يوقف عليه؟ قلت: أعوذ بالله! قال: أفما تعلم أن هارون كان أخا موسى لأبيه وأمّه؟ قلت: بلى. قال: فعليّ أخو رسول الله لأبيه وأمّه؟ قلت: لا. قال: أو ليس هارون كان نبيّا وعليّ غير نبيّ؟ قلت: بلى.(5/357)
قال: فهذان الحالان معدومان في عليّ وقد كانا في هارون؛ فما معنى قوله: «أنت مني بمنزلة هارون من موسى» ؟ قلت له: إنما أراد أن يطّيب بذلك نفس عليّ لمّا قال المنافقون إنه خلّفه استثقالا له. قال: فأراد أن يطيّب نفسه بقول لا معنى له؟ قال:
فأطرقت، قال: يا إسحاق، له معنى في كتاب الله بيّن. قلت: وما هو يا أمير المؤمنين؟ قال: قوله عز وجل حكاية عن موسى أنه قال لأخيه هارون: اخْلُفْنِي فِي قَوْمِي وَأَصْلِحْ وَلا تَتَّبِعْ سَبِيلَ الْمُفْسِدِينَ
«1» . قلت: يا أمير المؤمنين، إن موسى خلف هارون في قومه وهو حيّ، ومضى إلى ربه، وإن رسول الله صلّى الله عليه وسلم خلّف عليّا كذلك حين خرج إلى غزاته. قال: كلا، ليس كما قلت؛ أخبرني عن موسى حين خلف هارون: هل كان معه حين ذهب إلى ربه أحد من أصحابه أو أحد من بني إسرائيل؟ قلت: لا. قال: أو ليس استخلفه على جماعتهم؟ قلت: نعم. قال: فأخبرني عن رسول الله صلّى الله عليه وسلم حين خرج إلى عزاته: هل خلف إلا الضعفاء والنساء والصبيان؛ فأنّي يكون مثل ذلك؟ وله عندي تأويل آخر من كتاب الله يدل على استخلافه إياه، لا يقدر أحد أن يحتج فيه، ولا أعلم أحدا احتج به وأرجو أن يكون توفيقا من الله.
قلت: وما هو يا أمير المؤمنين؟ قال: قوله عز وجل حين حكى عن موسى قوله:
وَاجْعَلْ لِي وَزِيراً مِنْ أَهْلِي هارُونَ أَخِي اشْدُدْ بِهِ أَزْرِي وَأَشْرِكْهُ فِي أَمْرِي كَيْ نُسَبِّحَكَ كَثِيراً وَنَذْكُرَكَ كَثِيراً إِنَّكَ كُنْتَ بِنا بَصِيراً
«2» «فأنت مني يا عليّ بمنزلة هارون من موسى: وزيري من أهلي، وأخي، شدّ الله به أزري، وأشركه في أمري، كي نسبح الله كثيرا، ونذكره كثيرا» فهل يقدر أحد أن يدخل في هذا شيئا غير هذا ولم يكن ليبطل قول النبي صلّى الله عليه وسلم وأن يكون لا معنى له؟
قال: فطال المجلس وارتفع النهار؛ فقال يحيى بن أكثم القاضي: يا أمير المؤمنين، قد أوضحت الحق لمن أراد الله به الخير، وأثبت ما يقدر أحد أن يدفعه. قال إسحق: فأقبل علينا وقال: ما تقولون؟ فقلنا: كلنا نقول بقول أمير المؤمنين أعزه(5/358)
الله، فقال: والله لولا أن رسول الله صلى الله عليه وعلى آله وسلّم قال اقبلوا القول من الناس، ما كنت لأقبل منكم القول؛ اللهم قد نصحت لهم القول، اللهم إني قد أخرجت الأمر من عنقي، اللهم إني أدينك بالتقرب إليك بحب عليّ وولايته!
المساحقي والدعوة إلى المأمون:
وكتب المأمون إلى عبد الجبار بن سعد المساحقي عامله على المدينة، أن اخطب الناس وادعهم إلى بيعة الرضا عليّ بن موسى، فقام خطيبا فقال:
يا أيها الناس هذا الأمر الذي كنتم فيه ترغبون، والعدل الذي كنتم تنتظرون، والخير الذي كنتم ترجون؛ هذا عليّ بن موسى بن جعفر بن محمد بن علي بن الحسين ابن علي بن أبي طالب، ستة آباءهم ما هم، من خير من يشرب صوب «1» الغمام.
المأمون والرضى:
وقال المأمون لعلي بن موسى: علام تدّعون هذا الأمر؟ قال: بقرابة علي وفاطمة من رسول الله صلى الله عليه وعلى آله وسلّم. فقال له المأمون: إن لم تكن إلا القرابة فقد خلف رسول الله صلى الله عليه وعلى آله وسلّم من أهل بيته من هو أقرب إليه من عليّ، أو من هو في قعدده «2» ، وإن ذهبت إلى قرابة فاطمة من رسول الله صلى الله عليه وعلى آله وسلّم، فإن الأمر بعدها للحسن والحسين، فقد ابتزّهما عليّ حقهما وهما حيّان صحيحان، فاستولى على ما لا حق له فيه.
فلم يجد عليّ بن موسى له جوابا.(5/359)
باب من أخبار الدولة العباسية
علي ومعاوية في مولود لابن عباس:
روي عن علي بن أبي طالب رضي الله عنه أنه افتقد عبد الله بن عباس وقت صلاة الظهر، فقال لأصحابه: ما بال أبي العباس لم يحضر؟ قالوا: ولد له مولود فلما صلى عليّ الظهر قال: انقلبوا بنا إليه. فأتاه فهنّأه فقال له: شكرت الواهب وبورك لك في الموهوب؛ فما سمّيته؟ قال: لا يجوز لي أن أسميه حتى تسمّيه أنت. فأمر به فأخرج إليه، فأخذه فحنّكه «1» ودعا له ورده، وقال: خذه إليك أبا الأملاك، وقد سميته عليّا وكنيته أبا الحسن. قال: فلما قدم معاوية قال لابن عباس: لك اسمه وقد كنّيته أبا محمد. فجرت عليه.
من أخبار علي ابن عبد الله ابن عباس:
وكان عليّ سيدا شريفا عابدا زاهدا، وكان يصلي في كل يوم ألف ركعة، وضرب مرتين، كلتاهما ضربه الوليد، فإحداهما في تزوّجه لبابة بنت عبد الله بن جعفر؛ وكانت عند عبد الملك بن مروان، فعض تفاحة ورمى بها إليها، وكان أبخر «2» ؛ فدعت بسكين، فقال: ما تصنعين به؟ قالت: أميط «3» عنها الأذى! فطلقها، فتزوجها عليّ بن عبد الله بن عباس، فضربه الوليد وقال: إنما تتزوج أمهات أولاد الخلفاء لتضع منهم- لأن مروان بن الحكم إنما تزوج أم خالد بن يزيد ليضع منه- فقال علي بن عبد الله بن عباس: إنما أرادت الخروج من هذه البلدة، وأنا ابن عمها، فتزوجتها لأن أكون لها محرما.
وأما ضربه إياه في المرة الثانية، فإن محمد بن يزيد قال: حدثني من رآه مضروبا يطاف به على بعير ووجهه مما يلي ذنب البعير، وصائح يصيح عليه: هذا علي بن عبد(5/360)
الله الكذاب! قال: فأتيته فقلت: ما هذا الذي نسبوك فيه إلى الكذب؟ قال: بلغهم أني أقول: هذا الأمر سيكون في ولدي وو الله ليكونن فيهم حتى يملكهم عبيدهم، الصغار العيون، العراض الوجوه، الذين كأن وجوههم المجانّ «1» المطرقة.
وفي حديث آخر أن علي بن عبد الله دخل على هشام بن عبد الملك ومعه ابناه:
أبو العباس، وأبو جعفر؛ فشكا إليه دينا لزمه، فقال له: كم دينك؟ قال: ثلاثون ألفا. فأمر له بقضائه، فشكر له عليه، وقال له وصلت رحما، وأنا أريد أن تستوصي بابنيّ هذين خيرا. قال: نعم. فلما تولى قال هشام لأصحابه: إن هذا الشيخ قد هتر «2» وأسنّ وخولط «3» ، فصار يقول إن هذا الأمر سينقل إلى ولده. فسمعه علي بن عبد الله بن العباس، فقال: والله ليكونن ذلك، وليملكنّ ابناي هذان ما تملكه.
زواج علي بن عبد الله:
قال محمد بن يزيد: وحدثني جعفر بن عيسى بن جعفر الهاشمي قال: حضر علي بن عبد الله مجلس عبد الملك بن مروان، وكان مكرما له، وقد أهديت له من خراسان جارية وفص خاتم وسيف، فقال: يا أبا محمد، إن حاضر الهدية شريك فيها، فاختر من الثلاثة واحدا. فاختار الجارية، وكانت تسمى سعدى، وهي من سبى الصغد من رهط عجيف بن عنبسة، فأولدها سليمان بن علي، وصالح بن علي.
وذكر جعفر بن عيسى أنه لما أولدها سليمان اجتنبت فراشه، فمرض سليمان من جدري خرج عليه، فانصرف عليّ من مصلّاه، فإذا بها على فراشه! فقال: مرحبا بك يا أم سليمان: فوقع عليها فأولدها صالحا، فاجتنبت فراشه، فسألها عن ذلك، فقالت:
خفت أن يموت سليمان في مرضه، فينقطع النسب بيني وبين رسول الله صلّى الله عليه وسلم؛ فالآن(5/361)
إذ ولدت صالحا فبالحري إن ذهب أحدهما بقي الآخر، وليس مثلي وطيئة الرجال.
وزعم جعفر أنه كانت في سليمان رتّة «1» ، وفي صالح مثلها، وأنها موجودة في آل سليمان وصالح.
وصية علي لابنيه سليمان وصالح:
وكان علي يقول: أكره أن أوصى إلى محمد ولدي- وكان سيد ولده وكبيرهم- فاشينه بالوصية. فأوصى إلى سليمان، فلما دفن عليّ جاء محمد إلى سعدى ليلا، فقال:
أخرجي لي وصية أبي قالت: إن أباك أجلّ من أن تخرج وصيته ليلا، ولكن تأتي غدوة إن شاء الله. فلما أصبح غدا عليه سليمان بالوصية، فقال: يا أبي ويا أخي، هذه وصية أبيك. فقال: جزاك الله من ابن وأخ خيرا، ما كنت لأثرّب «2» على أبي موته كما لم أثرّب عليه في حياته.
وصاة معاوية في موته:
العتبي عن أبيه عن جده قال: لما اشتكى معاوية شكاته التي هلك فيها، أرسل إلى ناس من جملة بني أمية ولم يحضرها سفيانيّ غيري وغير عثمان بن محمد؛ فقال: يا معشر بني أمية، إني لما خفت أن يسبقكم الموت إليّ سبقته بالموعظة إليكم، لا لأردّ قدرا، ولكن لأبلغ عذرا، إن الذي أخلّف لكم من دنياي أمر ستشاركون فيه وتغلبون عليه، والذي أخلّف لكم من رأي أمر مقصور لكم نفعه إن فعلتموه، مخوف عليكم ضرره إن ضيّعتموه؛ إن قريشا شاركتكم في أنسابكم، وانفردتم دونها بأفعالكم، فقدمكم ما تقدّمتم له، إذ أخر غيركم ما تأخروا عنه؛ ولقد جهل «3» بي فحلمت ونقر «4» لي ففهمت حتى كأني أنظر إلى أبنائكم بعدكم(5/362)
كنظري إلى آبائهم قبلهم؛ إن دولتكم ستطول، وكلّ طويل مملول؛ وكلّ مملول مخذول، فإذا كان ذلك كذلك، كان سببه اختلافكم فيما بينكم، واجتماع المخلفين عليكم، فيدبر الأمر بضدّ ما أقبل له، فلست أذكر جسيما يركب منكم ولا قبيحا ينتهك فيكم، إلا والذي أمسك عن ذكره أكثر وأعظم؛ ولا معوّل عليه عند ذلك أفضل من الصبر واحتساب الأجر، فيمادكم القوم دولتهم امتداد العنانين في عنق الجواد، حتى إذا بلغ الله بالأمر مداه، وجاء الوقت المبلول بريق النبي صلّى الله عليه وسلم، مع الخلقة المطبوعة على ملالة الشيء المحبوب، كانت الدولة كالإناء «1» المكفأ فعندها أوصيكم بتقوى الله الذي لم يتقه غيركم فيكم، فجعل العاقبة لكم، والعاقبة للمتقين.
قال عمرو بن عتبة: فدخلت عليه يوما آخر فقال: يا عمرو، أوعيت كلامي؟
قلت: وعيت. قال: أعد عليّ كلامي، فلقد كلمتكم وما أراني أمسي من يومكم ذلك.
شبيب وعبد الله:
قال شبيب بن شيبة الأهتمي حججت عام هلك هشام وولي الوليد بن يزيد، وذلك سنة خمس وعشرين ومائة، فبينما أنا مريح ناحية من المسجد، إذ طلع من بعض أبواب المسجد فتى أسمر رقيق السّمرة، موفر الّلمّة «2» ، خفيف الّلحية، رحب الجبهة، أقنى «3» بين القنا، أعين كأن عينيه لسانان ينطقان، يخلق أبّهة الأملاك بزي النساك، تقبله القلوب، وتنبعه العيون، يعرف الشرف في تواضعه والعتق في صورته، والّلب في مشيته؛ فما ملكت نفسي أن نهضت في أثره سائلا عن خبره، وسبقني فتحرّم بالطواف، فلما سبّع قصد المقام فركع، وأنا أرعاه ببصري، ثم نهض(5/363)
منصرفا، فكأن عينا أصابته، فكبا «1» كبوة دميت لها أصبعه، فقعد لها القرفصاء، فدنوت منه متوجعا لما ناله، متصلا به، أمسح رجله من عفر التراب، فلا يمتنع علي، ثم شققت حاشية ثوبه فعصبت بها أصبعه وما ينكر ذلك ولا يدفعه، ثم نهض متوكئا عليّ، وانقدت له أماشيه، حتى إذا أتى دارا بأعلى مكة ابتدره رجلان تكاد صدورهما تنفرج من هيبته، ففتحا له الباب فدخل واجتذبني فدخلت بدخوله؛ ثم خلى يدي وأقبل على القبلة، فصلى ركعتين أوجز فيهما في تمام، ثم استوى في صدر مجلسه، فحمد الله وأثنى عليه، وصلى على النبي صلّى الله عليه وسلم أتم صلاة وأطيبها، ثم قال: لم يخف عليّ مكانك منذ اليوم ولا فعلك بي؛ فمن تكون يرحمك الله؟ قلت: شبيب بن شيبة التميمي، قال: الأهتمي؟ قلت: نعم. قال: فرحّب وقرّب، ووصف قومي بأبين بيان وأفصح لسان، فقلت له: أنا أجلك- أصلحك الله- عن المسألة، وأحبّ المعرفة! فتبسم وقال: لطف أهل العراق! أنا عبد الله بن محمد بن علي بن عبد الله بن عباس. فقلت: بأبي أنت وأمي، ما اشبهك بنسبك وأدلّك على منصبك! ولقد سبق إلى قلبي من محبتك ما لا أبلغه بوصفي لك! قال: فاحمد الله يا أخا بني تميم فإنّا قوم إنما يسعد الله بحبّنا من أحبّه؛ ويشقي ببغضنا من أبغضه، ولن يصل الإيمان إلى قلب أحدكم حتى يحب الله ويحب رسوله؛ ومهما ضعفنا عن جزائه قوي الله على أدائه.
فقلت له: أنت توصف بالعلم وأنا من حملته، وأيام الموسم ضيقة، وشغل أهل مكة كثير، وفي نفسي أشياء أحبّ أن أسأل عنها؛ أفتأذن لي فيها جعلت فداك؟ قال:
نحن من أكثر الناس مستوحشون، وأرجو أن تكون للسرّ موضعا، وللأمانة واعيا؛ فإن كنت كما رجوت فافعل. قال: فقدّمت من وثائق القول والأيمان ما سكن إليه، فتلا قول الله: قُلْ أَيُّ شَيْءٍ أَكْبَرُ شَهادَةً؟ قُلِ اللَّهُ شَهِيدٌ بَيْنِي وَبَيْنَكُمْ
«2» .
ثم قال: سل عما بدالك.(5/364)
قلت: ما ترى فيمن على الموسم؟ وكان عليه يوسف بن محمد بن يوسف الثقفي خال الوليد؛ فتنفس الصعداء وقال: عن الصلاة خلفه تسألني، أم كرهت أن يتأمّر على آل الله من ليس منهم؟ قلت: عن كلا الأمرين. قال: إن هذا عند الله لعظيم؛ فأما الصلاة ففرض لله تعبّد به خلقه، فأدّ ما فرض الله تعالى عليك في كل وقت مع كلّ أحد وعلى كل حال؛ فإن الذي ندبك لحجّ بيته وحضور جماعته وأعياده لم يخبرك في كتابه بأنه لا يقبل منك نسكا إلا مع أكمل المؤمنين إيمانا، رحمة منه لك؛ ولو فعل ذلك بك ضاق الأمر عليك؛ فاسمح يسمح «1» لك.
قال: ثم كررت في السؤال عليه، فما احتجت أن أسأل عن أمر دين أحدا بعده.
ثم قلت: يزعم أهل العلم أنها ستكون لكم دولة. فقال: لا شك فيها، تطلع طلوع الشمس وتظهر ظهورها؛ فنسأل الله خيرها، ونعوذ بالله من شرّها؛ فخذ بحظ لسانك ويدك منها إن أدركتها. قلت: أو يتخلف عنها أحد من العرب وأنتم سادتها؟ قال:
نعم، قوم يأبون إلا الوفاء لمن اصطنعهم، ونأبى إلا طلبا بحقنا، فننصر ويخذلون، كما نصر بأوّلنا أوّلهم، ويخذل بمخالفتنا من خالف منهم قال: فاسترجعت، فقال:
سهل عليك الأمر سُنَّةَ اللَّهِ الَّتِي قَدْ خَلَتْ مِنْ قَبْلُ وَلَنْ تَجِدَ لِسُنَّةِ اللَّهِ تَبْدِيلًا
«2» .
وليس ما يكون لهم بحاجز لنا عن صلة أرحامهم وحفظ أعقابهم وتجديد الصّنيعة عندهم. قلت: كيف تسلم لهم قلوبكم وقد قاتلوكم مع عدوّكم؟ قال: نحن قوم حبّب إلينا الوفاء وإن كان علينا؛ وبغّض إلينا الغدر وإن كان لنا، وإنما يشذّ عنا منهم الأقل؛ فأما أنصار دولتنا ونقباء شيعتنا وأمراء جيوشنا فهم مواليهم، وموالي القوم من أنفسهم؛ فإذا وضعت الحرب أوزارها صفحنا بالمحسن عن المسيء، ووهبنا للرجل قومه ومن اتصل بأسبابه؛ فتذهب النّائرة «3» ، وتخبو الفتنة، وتطمئن القلوب.
قلت، ويقال، إنه يبتلي بكم من أخلص لكم المحبة. قال: قد روى: إن البلاء أسرع إلى محبينا من الماء إلى قراره «4» . قلت: لم أرد هذا. قال: فمه؟ قلت: تعقّون(5/365)
الوليّ وتحظون العدوّ! قال: من يسعد بنا من الأولياء أكثر، ومن يسلم لنا من الأعداء أقلّ وأيسر؛ وإنما نحن بشر وأكثرنا أذن «1» ، ولا يعلم الغيب إلا الله، وربما استترت عنا الأمور فنقع بما لا نريد وإن لنا لإحسانا يأسو الله به ما نكلم، ويرمّ به ما نثلم، ونستغفر الله مما لا نعلم، وما أنكرت من أن يكون الأمر على ما بلغك، مع الوليّ التعزز والإدلال، والثقة والاسترسال؛ ومع العدو التحرّز والاحتيال، والتذلل والاغتيال، وربما أملّ المدل، وأخلّ المسترسل، وتجانب المتقرّب؛ ومع المقة «2» تكون الثقة؛ على أن العاقبة لنا على عدوّنا، وهي لولينا؛ وإنك لسئول يا أخا بني تميم. قلت: إني أخاف أن لا أراك بعد اليوم! قال: إني لأرجو أن أراك وتراني كما تحب عن قريب إن شاء الله تعالى! قلت: عجّل الله ذلك. قال: آمين. قلت: ووهب لي السلامة منكم فإني من محبيكم! قال: آمين. وتبسم وقال: لا بأس عليك ما أعاذك الله من ثلاث. قلت: وما هي؟ قال: قدح في الدين، أو هتك للملك، أو تهمة في حرمة، ثم قال: احفظ عني ما أقول لك، أصدق وإن ضرّك الصّدق، وانصح وإن باعدك النّصح، ولا تجالس عدوّنا وإن أحظيناه، فإنه مخذول؛ ولا تخذل ولينا، فإنه منصور؛ واصبحنا بترك المماكرة، وتواضع إذا رفعوك، وصل إذا قطعوك، ولا تسخف فيمقتوك، ولا تنقبض فيتحشموك، ولا تبدأ حتى يبدءوك، ولا تخطب الأعمال، ولا تتعرض للأموال؛ وأنا رائح من عشيّتي هذه؛ فهل من حاجة؟
فنهضت لوداعه فودعته، ثم قلت: أترقّب لظهور الأمر وقتا؟ قال: الله المقدّر الموقّت، فإذا قامت النّوحتان بالشام فهما آخر العلامات. قلت: وما هما؟ قال: موت هشام العام، وموت محمد بن علي مستهلّ ذي القعدة، وعليه أخلفت وما بلغتكم حتى أنضيت، قلت: فهل أوصى؟ قال: نعم، إلى ابنه إبراهيم.
قال: فلما خرجت إذا مولى له يتبعني، حتى عرف منزلي، ثم أتاني بكسوة من(5/366)
كسوته، فقال: يأمرك أبو جعفر أن تصلي في هذه. قال: وافترقنا.
قال: فو الله ما رأيته إلا وحرسيان «1» قابضان عليّ يدنياني منه في جماعة من قومي لأبايعه، فلما نظر إليّ اثبتني، فقال: خليا عمن صحّت مودته، وتقدّمت حرمته، وأخذت قبل اليوم بيعته. قال: فأكبر الناس ذلك من قوله، ووجدته على أول عهده لي؛ ثم قال لي: أين كنت عني في أيام أخي أبي العباس؟ فذهبت أعتذر، قال:
أمسك؛ فإن لكل شيء وقتا لا يعدوه، ولن يفوتك إن شاء الله حظّ مودتك وحق مسابقتك، فاختر بين رزق يسعك، أو عمل يرفعك. قلت: أنا حافظ لوصيتك! قال: وأنا لها أحفظ، إنما نهيتك أن تخطب الأعمال ولم أنهك عن قبولها. قلت: الرزق مع قرب أمير المؤمنين أحبّ إليّ. قال: ذلك لك وهو أجمّ «2» لقلبك وأودع لك، وأعفى إن شاء الله. ثم قال: هل زدت في عيالك بعدي شيئا؟ وكان قد سألني عنهم، فذكرتهم له فعجبت من حفظه.
قلت: الفرس والخادم.
قال: قد ألحقنا عيالك بعيالنا، وخادمك بخادمنا، وفرسك بخيلنا، ولو وسعني لحملت إليك من بيت المال، وقد ضممتك إلى المهدي، وأنا أوصيه بك، فإنه أفرغ لك مني.
الأحوص وأيمن وابن حزم مع الوليد:
قال الأحوص بن محمد الشاعر الأنصاري، من بني عاصم بن ثابت بن أبي الأقلح الذي حمت لحمه الدّبر «3» ، يشبّب بامرأة يقال لها أمّ جعفر، فقال فيها:
أدور ولولا أن أرى أمّ جعفر ... بأبياتكم ما درت حيث أدور(5/367)
وكان لأمّ جعفر أخ يقال له أيمن، فاستعدى عليه ابن حزم الأنصاري وهو والي المدينة للوليد بن عبد الملك- وهو أبو بكر بن محمد بن عمرو بن حزم- فبعث ابن حزم إلى الأحوص فأتاه، وكان ابن حزم يبغضه؛ فقال: ما تقول فيما يقول هذا؟
قال: وما يقول؟ قال: يزعم أنك تشبّب بأخته وقد فضحته وشهرت أخته بالشعر.
فأنكر ذلك، فقال لهما: قد اشتبه عليّ أمركما، ولكني أدفع إلى كل واحد منكما سوطا، ثم اجتلدا! وكان الأحوص قصيرا نحيفا؛ وكان أيمن طويلا ضخما جلدا، فغلب أيمن الأحوص فضربه حتى صرعه «1» وأثخنه؛ فقال أيمن:
لقد منع المعروف من أمّ جعفر ... أشمّ طويل الساعدين غيور
علاك بمتن السّوط حتى اتّقيته ... بأصفر من ماء الصّفاق يفور «2»
قال: فلما رأى الأحوص تحامل ابن حزم عليه، امتدح الوليد ثم شخص إليه إلى الشام، فدخل عليه فأنشده:
لا ترثينّ لحزميّ رأيت به ... ضرّا، ولو ألقي الحزميّ في النار
الناخسين لمروان بذي خشب ... المدخلين على عثمان في الدار «3»
قال له: صدقت والله، لقد كنا غفلنا عن حزم وآل حزم. ثم دعا كاتبه فقال:
اكتب عهد عثمان بن حيان المرّي على المدينة، واعزل ابن حزم، واكتب بقبض أموال حزم وآل حزم وإسقاطهم أجمعين من الديوان، ولا يأخذوا لأموي عطاء أبدا.
ففعل ذلك، فلم يزالوا في الحرمان للعطاء مع ذهاب الأموال والضياع، حتى انقضت دولة بني أمية وجاءت دولة بن العباس؛ فلما قام أبو جعفر المنصور بأمر الدولة، قدم عليه أهل المدينة، فجلس لهم، فأمر حاجبه أن يتقدم إلى كلّ رجل منهم أن ينتسب له إذا قام بين يديه؛ فلم يزالوا على ذلك يفعلون، حتى دخل عليه رجل قصير قبيح(5/368)
الوجه، فلما مثل بين يديه قال له: يا أمير المؤمنين، أنا ابن حزم الأنصاري الذي يقول فينا الأحوص:
لا ترثين لحزميّ رأيت به ... ضرا ولو ألقي الحزميّ في النار
الناخسين لمروان بذي خشب ... والمدخلين على عثمان في الدار
ثم قال: يا أمير المؤمنين، حرمنا العطاء منذ سنين، قبضت أموالنا وضياعنا فقال له المنصور: أعد عليّ البيتين. فأعادهما عليه، فقال: أما والله لئن كان ذلك ضرّكم في ذلك الحين لينفعنّكم اليوم! ثم قال: عليّ بسليمان الكاتب. فأتاه أبو أيوب الخوزي، فقال: اكتب إلى عامل المدينة أن يردّ جميع ما اقتطعه بنو أمية من ضياع بني حزم وأموالهم، ويحسب لهم ما فاتهم من عطائهم، وما استغلّ من غلاتهم من يومئذ إلى اليوم؛ فيخلف لهم جميع ذلك من ضياع بني مروان، ويفرض لكل واحد منهم في شرف العطاء- وكان شرف العطاء يومئذ مائتي ألف دينار في السنة- ثم قال: عليّ الساعة بعشرة آلاف درهم تدفع إلى هذا الفتى لنفقته.
فخرج الفتى من عنده بما لم يخرج به أحد ممن دخل عليه.
ذكر خلفاء بني العباس وصفاتهم ووزرائهم وحجابهم
أبو العباس السفاح
ولد أبو العباس عبد الله بن محمد بن علي بن عبد الله بن العباس بن عبد المطلب مستهلّ رجب سنة أربع ومائة.
وبويع له بالكوفة يوم الجمعة لثلاث عشرة ليلة خلت من ربيع الآخر سنة اثنتين وثلاثين ومائة.
وتوفي بالأنبار لثلاث عشرة ليلة خلت من ذي الحجة سنة ست وثلاثين ومائة، فكانت خلافته أربع سنين وثمانية أشهر.(5/369)
وأمه ريطة بنت عبد الله بن عبد الله بن عبد المدان، وكان أبيض طويلا أقنى «1» الأنف حسن الوجه حسن اللحية جعدها.
نقش خاتمه: الله ثقة عبد الله وبه يؤمن.
وصلى عليه عمّه عيسى بن علي، ورزق من الولد اثنين: محمد، من أم ولد، ومات صغيرا؛ وابنة سماها ريطة، من أم ولد، تزوجها المهدي وأولدها عليا وعبيد الله.
ووزر له أبو سلمة حفص بن سليمان الخلال؛ وهو أول من لقب بالوزارة، فقتله أبو العباس واستوزر بعده بن برمك إلى آخر أيامه، وكان حاجبه أبو غسان صالح ابن الهيثم، وقاضيه يحيى بن سعيد الأنصاري.
المنصور
وبويع أبو جعفر المنصور. واسمه عبد الله بن محمد بن علي بن عبد الله بن العباس، في اليوم الذي توفي فيه أخوه، لثلاث عشرة خلت من ذي الحجة سنة ست وثلاثين ومائة.
وكان مولده بالشّراة «2» لسبع خلون من ذي الحجة سنة خمس وتسعين؛ وتوفي بمكة قبل التّروية «3» بيوم، لسبع خلون من ذي الحجة سنة ثمان وخمسين ومائة، وهو محرم، ودفن بالحجون «4» ، وصلى عليه إبراهيم بن يحيى بن محمد بن علي بن عبد الله بن العباس؛ وكانت مدة خلافته اثنتين وعشرين سنة إلا ثمانية أيام وكانت سنة ثلاثا وستين سنة.
وأمّه أمة اسمها سلامة، وجنسها بربرية؛ وكان أسمر طوالا نحيف الجسم خفيف العارضين يخضب بالسواد، ونقش خاتمه: «الله ثقة عبد الله وبه يؤمن» .(5/370)
وتزوج أروى بنت منصور الحميرية، وولدت له: محمدا وهو المهدي، وجعفرا وكانت شرطت عليه ألا يتزوج ولا يتسرّى «1» إلا عن أمرها، وكان قد ابتاع جاريته أم علي وجعلها قيّما في داره على أم موسى وأولادها، فحظيت عند أم موسى وسألته التسرّي بها لما رأت من فضلها، فواقعها فأولدها عليا، وتوفي قبل استكمال سنة؛ ثم فاطمة بنت محمد من ولد طلحة بن عبيد الله، فولدت له سليمان وعيسى ويعقوب، ورزق من أمهات الأولاد: صالحا والعالية وجعفرا والقاسم والعباس وعبد العزيز.
ووزر له ابن عطية الباهلي، ثم أبو أيوب المورياني، ثم الربيع مولاه؛ وكان حاجبه عيسى بن روضة مولاه، ثم أبو الحصيب مولاه؛ وكان قاضيه عبد الله بن محمد بن صفوان، ثم شريك بن عبد الله، والحسن بن عمار، والحجاج بن أرطأة.
المهدي
ثم بويع ابنه أبو عبد الله محمد المهدي بن عبد الله المنصور بن محمد بن علي بن عبد الله بن عباس، صبيحة اليوم الذي توفي فيه أبوه، لستّ خلون من ذي الحجة سنة ثمان وخمسين ومائة.
وكان مولده بالجميمة يوم الخميس لثلاث عشرة ليلة خلت من جمادي الآخرة سنة ست وعشرين ومائة. وتوفي بماسبذان في المحرّم سنة تسع وستين ومائة، وصلى عليه ابنه الرشيد.
فكانت خلافته عشر سنين وخمسة وأربعين يوما، وكان سنه إحدى وأربعين سنة وثمانية أشهر ويومين.
وكان أسمر طويلا معتدل الخلق جعد الشعر بعينه اليمنى نكتة «2» بياض، نقش خاتمه: «الله ثقة محمد وبه يؤمن» .(5/371)
وتزوّج ريطة بنت السفاح وأولدها عليا وعبيد الله. وأوّل جارية ابتاعها محياة، فرزق منها ولدا مات قبل استكمال سنة، وكان يبتاع الجواري باسمها وتقربهنّ إليه، وأول من حظي منهنّ عنده رحيم ولدت له العباسة ثم الخيزران فولدت له موسى وهارون والبانوقة، ثم حللة وحسنة، فكانتا مغنيتين محسنتين؛ وتزوج سنة تسع وخمسين ومائة أمّ عبد الله بنت صالح بن علي، أخت الفضل وعبد الله؛ وأعتق الخيزران في السنة وتزوجها.
ووزر له أبو عبد الله معاوية بن عبد الله الأشعري، ثم يعقوب بن داود السلمي، ثم الفيض بن أبي صالح.
واستحجب سلامان الأبرش، واستخلف على القضاء محمد بن عبد الله بن علاثة، وعافية بن يزيد؛ كانا يقضيان معا في مسجد الرصافة.
الهادي
ثم بويع ابنه أبو محمد موسى الهادي بن المهدي؛ مستهلّ صفر سنة تسع وستين ومائة.
وتوفي ليلة الجمعة لأربع عشرة ليلة خلت من شهر ربيع الأول سنة سبعين ومائة بعيساباذ «1» ؛ وصلى عليه أخوه الرشيد.
وكانت خلافته سنة وشهرين إلا أياما، وكانت سنة ستا وعشرين سنة.
وكان أبيض طويلا جسيما، بشفته العليا تقلّص. نقش خاتمه: «الله ربي» .
وتزوج أمة العزيز فأولدها عيسى، ثم رحيم، فأولدها جعفرا، ثم سعوف فأولدها العباس، واشترى جاريته حسنة بألف درهم- وكانت شاعرة- فرزق منها عدّة بنات، منهم أم عيسى، تزوجها المأمون، وكان له من أمهات الأولاد: عبد الله، وإسحاق وموسى وكان أعمى.(5/372)
ووزر له الربيع بن يونس، ثم عمر بن بزيع؛ واستحجب الفضل بن الربيع. وولى القضاء: أبا يوسف يعقوب بن إبراهيم، في الجانب الغربي، وسعيد بن عبد الرحمن الجمحي، بالجانب الشرقي.
هارون الرشيد
ثم بويع أخوه أبو محمد هارون الرشيد في اليوم الذي توفي فيه أخوه، يوم الجمعة لأربع عشرة ليلة خلت من شهر ربيع الأول سنة سبعين ومائة. وفي هذه الليلة ولد عبد الله المأمون، ولم يكن في سائر الزمان ليلة ولد فيها خليفة وتوفي فيها خليفة وقام فيها خليفة غيرها.
وكان مولد الرشيد في المحرّم سنة ثمان وأربعين ومائة.
وتوفي في جمادي الأولى سنة ثلاث وتسعين ومائة، ودفن بطوس «1» . وصلى عليه ابنه صالح.
فكانت خلافته ثلاثا وعشرين سنة وشهرا وستة عشر يوما، وكانت سنه ستا وأربعين سنة وخمسة أشهر؛ ولما أفضت إليه الخلافة سلم عليه عمه سليمان بن المنصور، والعباس بن محمد عم أبيه، وعبد الصمد بن علي عم جدّه؛ فعبد الصمد عم العباس، والعباس عم سليمان، وسليمان عم هارون.
وكان الرشيد أبيض جسيما طويلا جميلا، وقد وخطه الشيب، نقش خاتمه: لا إله إلا الله. وخاتم آخر: كن من الله على حذر.
وتزوج زبيدة، واسمها أمة العزيز، وتكنى أمّ الواحد، وزبيدة لقب لها؛ وهي ابنة جعفر بن المنصور، أولدها محمدا الأمين؛ ثم مراجل، فأولدها عبد الله المأمون؛ وماردة، أولدها محمدا المعتصم؛ ونادر ولدت له صالحا؛ وشجا؛ ولدت له خديجة(5/373)
ولبابة؛ وسريرة، ولدت محمدا، وبربرية، ولدت له أبا عيسى ثم القاسم، وهو المؤتمن، وسكينة؛ وحث، فولدت له إسحاق وأبا العباس.
ووزر له جعفر بن يحيى بن خالد البرمكي وقتله، ثم الفضل بن الربيع؛ واستحجب بشر بن ميمون مولاه، ثم محمد بن خالد بن برمك؛ واستخلف على قضاء الجانب الغربي نوح بن دراج، وحفص بن غياث.
الأمين
ثم بويع أبو عبد الله محمد الامين في جمادي الآخرة سنة ثلاث وتسعين ومائة.
وقتل يوم الأحد لخمس بقين من المحرّم سنة ثمان وتسعين ومائة.
وكان مولده بالرصافة سنة احدى وسبعين ومائة في شوّال؛ فكانت خلافته أربع سنين وستة أشهر وأياما، ضفا له الامر من جملتها سنتين وشهرا، وكانت الفتنة بينه وبين أخيه سنتين.
وكان طويلا جسيما جميلا حسن الوجه بعيد ما بين المنكبين اشقر سبطا صغير العينين، به أثر جدري، نقش خاتمة: «محمد واثق بالله» .
ورزق من الولد موسى من أمّ ولد تدعى نظم. ولقبه: الناطق بالحق؛ وضرب اسمه على الدراهم.
وذكر الصولي قال: حدثني من قرأ على درهم:
كلّ عز ومفخر ... فلموسى المظفّر
ملك خطّ ذكره ... في الكتاب المسطّر
وماتت نظم فاشتدّ جزعه عليها، فدخلت زبيدة معزية له، فقالت:
نفسي فداؤك لا يذهب بك التلف ... ففي بقائك ممّن قد مضى خلف
عوّضت موسى فكانت كلّ مرزئة ... ما بعد موسى على مفقودة أسف(5/374)
وبايع لابنه موسى في حياته، ولاخيه عبد الله، وأمّه أمّ ولد، ونقش اسمه أيضا على الدراهم.
وكان لجعفر بن موسى الهادي جارية اسمها بذل، فطلبها الامين منه فأبى عليه، وكان شديد الوجد بها؛ فزاره الامين يوما، فسر به وزاد عليه في الشرب حتى ثمل، فانصرف واخذ الجارية، فلما اصبح جعفر ندم على ما جرى ولم يدر ما يصنع فدخل على الامين، فلما مثل بين يديه، قال له: احسنت والله يا جعفر بدفعك بذل إلينا وما احسنّا. وأقر رزقه على عشرين الف الف درهم.
ووزر للامين الفضل بن الربيع إلى اخر ايامه، وكان حاجبه العباس بن الفضل بن الربيع، ثم علي بن صالح صاحب المصلى، ثم السندي بن شاهك.
المأمون
ثم بويع أبو العباس عبد الله المأمون بن هارون الرشيد بعد قتل أخيه، يوم الخميس لخمس خلون من صفر سنة ثمان وتسعين ومائة، وكان مولده بالياسرية «1» في ليلة الجمعة لأربع عشرة ليلة خلت من شهر ربيع الاول سنة سبعين ومائة.
وتوفي بالبذندون «2» سنة ثماني عشرة ومائتين لثمان خلون من رجب، ودفن بطرسوس «3» ؛ فكانت خلافته عشرين سنة وخمسة اشهر وثلاثة عشر يوما، وكان سنه ثمانيا وأربعين سنة وأربعة اشهر إلا أياما.
وكان أبيض تعلوه شقرة، أجنأ «4» أعين، طويل اللحية رقيقها، ضيق الجبين، بخده خال أسود، وكان قد وخطه «5» الشيب. نقش خاتمة. «سل الله يعطك» .(5/375)
وكان الرشيد حدّ المأمون. وذلك أنه دخل على الرشيد وعنده مغنية تغنيه، فلحنت، فكسر المأمون عينه عند استماعه اللحن، فتغير لون الجارية، وفطن الرشيد لذلك، فقال: اعلمتها بما صنعت؟ قال: لا والله يا مولاي! قال: ولا أو مأت إليها؟
قال: قد كان ذلك، فقال: كن مني بمرأى ومسمع، فإذا خرج إليك امري فانته اليه.
ثم اخذ دواة وقرطاسا وكتب إليه:
يا آخذ اللحن على آل ... قينة عند الطرب
تريد أن تفهمها ... حدّ لغات العرب
أقسم بالله وما ... سطر أهل الكتب
للكلب خير أدبا ... من بعض أهل الادب
إذا قرأت ما كتبت به اليك، فأمر من يضربك عشرين مقرعة «1» جيادا! فدعا المأمون النوابين ثم امرهم ببطحه وضربه، فامتنعوا، فأقسم عليهم؛ فامتثلوا أمره.
ورزق من الولد محمدا الأصغر، وعبيد الله بن أم عيسى بنت موسى الهادي وتزوج بوران بنت الحسن بن سهل، بنى بها سنة عشر ومائتين، ووهب لابيها عشرة آلاف درهم، ولولده الف الف درهم؛ وكان له عدة اولاد من بنين وبنات ووزر له الفضل بن سهل ذو الرياستين ثم الحسن بن سهل، ثم احمد بن ابي خالد الاحول، ثم احمد بن يوسف، ثم ثابت بن يحيى، ثم محمد بن يزداد، واستحجب عبد الحميد بن شبيب، ثم محمدا وعليا ابني صالح مولى المنصور.
المعتصم بالله
ثم بويع اخوه ابو اسحق المعتصم بن الرشيد يوم الجمعة لاثنتي عشرة ليلة خلت من رجب سنة ثماني عشرة ومائتين، وكان مولده في شهر رمضان سنة ثمان وسبعين ومائة.(5/376)
وتوفي بسرّ من رأى يوم الخميس لاثنتي عشرة ليلة بقيت من شهر ربيع الاول سنة سبع وعشرين ومائتين، وصلى عليه ابنه هارون الواثق.
وكانت خلافته ثمان سنين وثمانية أشهر؛ وأمه وأمّ ولد يقال لها ماردة.
وكان ابيض اصهب اللحية طويلها مربوعها مشرب اللون حمرة؛ نقش خاتمة:
«الله ثقة ابي اسحاق بن الرشيد وبه يؤمن» ؛ وكان شديد البأس، حمل بابا من حديد فيه سبعمائة وخمسون رطلا وفوقه عكام «1» فيه مائتان وخمسون رطلا، وخطا خطا كثيرة؛ وكان يسمى ما بين أصبعي المعتصم: المقطرة «2» ، لشدته؛ وانه اعتمد يوما على غلام فدقه، وذكر الصولي أنه كان يسمى المثمّن، وذلك أنه الثامن من خلفائهم.
ومولده سنة ثمان وسبعين ومائة، وولي الامر في سنة ثمان عشرة ومائتين.
ومات وله ثمان وأربعون سنة، وكانت خلافته ثمان سنين وثمانية اشهر؛ ورزق من الولد الذكور ثمانية، ومن الإناث ثمانيا؛ وغزا ثمان غزوات وخلف في بيت ماله ثمانية آلاف دينار، ومن الورق ثمانية آلاف درهم.
ووزر له الفضل بن مروان، ثم أحمد بن عمار، ثم محمد بن عبد الملك الزيات، واستحجب وصيفا مولاه، ثم محمد بن حماد بن دنفش.
الواثق
ثم بويع ابنه أبو جعفر هارون الواثق، صبيحة اليوم الذي توفي فيه ابوه يوم الخميس لاحدى عشرة ليلة بقيت من شهر ربيع الاول سنة سبع وعشرين ومائتين.
وكان مولده يوم الاثنين لعشرة بقين من شعبان سنة ست وتسعين ومائة وتوفي بسرّ من رأى يوم الأربعاء لستّ بقين من ذي الحجة سنة اثنتين وثلاثين(5/377)
ومائتين، وصلى عليه اخوه المتوكل، فكانت خلافته خمس سنين وتسعة اشهر وثلاثة عشر يوما وكانت سنّه ستا وثلاثين سنة وأربعة اشهر وأياما.
وكان ابيض الى الصفرة، حسن الوجه جسيما، في عينه اليمنى نكتة «1» بياض.
نقش خاتمة: «محمد رسول الله» . وخاتم اخر: «الواثق بالله» .
ورزق من الولد محمد المهتدي، وأمه وأم ولد يقال لها قرب؛ وعبد الله، وأبا العباس أحمد، وأبا اسحق محمدا، وابا اسحق ابراهيم.
ووزر له محمد بن عبد الملك الزيات، وحاجبه اتاح، ثم وصيف مولاه، ثم ابن دنفش؛ وقاضيه ابن أبي داود.
المتوكل
ثم بويع اخوه ابو الفضل جعفر المتوكل يوم الاربعاء لست بقين من ذي الحجة اثنتين وثلاثين ومائتين.
وكان مولده يوم الاربعاء لاحدى عشرة ليلة خلت من شوال سنة ست ومائتين.
وقتل ليلة الاربعاء لثلاث خلون من شوال سنة سبع وأربعين ومائتين، ودفن في القصر الجعفري، وصلى عليه ابنه المنتصر ولي عهده؛ فكانت مدة خلافته اربع عشرة سنة وتسعة اشهر وتسعة ايام؛ وكان سنه أربعين سنة الا ثمانية ايام.
وكان أسمر كبير العينين نحيف الجسم خفيف العارضين. نقش خاتمه: «على إلهي اتكالي» . وكان كثير الولد.
وزر له محمد بن عبد الملك الزيات، ثم محمد بن الفضل الجرجاني، ثم عبيد الله بن يحيى بن خاقان، واستحجب وصيفا التركي، ثم محمد بن عاصم، ثم ابراهيم بن سهل؛ وكان خليفته على القضاء يحيى بن أكثم(5/378)
المنتصر
ثم بويع ابنه أبو جعفر محمد المنتصر لاربع خلون من شوال سنة سبع وأربعين ومائتين.
وكان مولده يوم الخميس لست خلون من شهر ربيع الاخر سنة اثنتين وعشرين ومائتين.
ومات ليلة السبت لثلاث خلون من ربيع الاخر سنة. ثمان وأربعين ومائتين.
فكانت خلافته ستة أشهر، وسنه ستة وعشرين سنة إلا ثلاثة أيام.
وكان قصيرا اسمر ضخم الهامة «1» عظيم البطن جسيما، على عينه اليمنى أثر.
نقش خاتمه: «يؤتى الحذر من مأمنه» ، وعلى خاتم آخر: «أنا من آل محمد، الله وليّ ومحمد» .
ورزق من الولد عليا وعبد الوهاب وعبد الله واحمد.
ووزر له احمد بن الخصيب، وحاجبه وصيف، ثم بغا، ثم ابن المرزبان، ثم أوتامش.
المستعين
ثم بويع المستعين أبو العباس احمد بن محمد المعتصم، يوم الاثنين لأربع خلون من شهر ربيع الآخر سنة ثمان وأربعين ومائتين.
وخلع نفسه- بموافقة المعتز بوساطة أبي جعفر المعروف بابن الكردية- يوم الجمعة لاربع خلون من المحرم سنة اثنتين وخمسين ومائتين. وكانت خلافته ثلاث سنين وتسعة اشهر.(5/379)
وكان مولده يوم الثلاثاء لأربع خلون من رجب سنة احدى وعشرين ومائتين.
وقتل بالقادسية بعد خلعه نفسه بتسعة اشهر، وأمه أم ولد يقال لها مخارق.
وكان مربوعا، احمر الوجه، أشقر، مسمنا «1» ، عريض المنكبين، ضخم الكراديس «2» ، خفيف العارضين، بوجهه أثر جدري، ألثغ بالسين، نقش خاتمه: «في الاعتبار غنى عن الاخبار» .
وزر له احمد بن الخصيب فنكبه، وقلد مكانه ابن يزداد، ثم شجاع بن القاسم كاتب أتامش، وأتامش هذا حاجبه، وكانت سنه احدى وثلاثين سنة الا ثمانية ايام.
المعتز
ثم ولى أبو عبد الله بن المتوكل، يوم الجمعة لاربع خلون من المحرم سنة اثنتين وخمسين ومائتين، وكانت الفتنة قبل ذلك بينه وبين المستعين سنة.
وقتل عشية يوم الجمعة لليلة خلت من شعبان سنة خمس وخمسين ومائتين.
وكان مولده يوم الخميس لاحدى عشرة ليلة خلت من ربيع الاخر سنة اثنتين وثلاثين ومائتين.
وكانت خلافته منذ بويع له، واجتمعت الكلمة عليه ثلاث سنين وستة اشهر وثلاثة وعشرين يوما، ومنذ بايعه أهل سرّ من رأى إلى ان قتل، اربع سنين وستة أشهر وخمسة عشر يوما، وقتله صالح بن وصيف.
وكان أبيض شديد البياض، ربعة «3» ، حسن الجسم، على خده الايسر خال اسود الشعر. نقش خاتمه: «الحمد لله رب كل شيء وخالق كل شيء» .(5/380)
وزر لهع جعفر بن محمود الإسكافي، ثم عيسى بن فرخان شاه، ثم احمد بن اسرائيل الانباري.
وحاجبه سماء بن صالح بن وصيف. وكان سنه أربعا وعشرين سنة وشهرين وأياما.
المهتدي
ثم بويع المهتدي أبو عبد الله محمد بن الواثق بسرّ من رأى، يوم الاربعاء لليلة بقيت من رجب سنة خمس وخمسين ومائتين.
كان مولده يوم الاحد لخمس خلون من شهر ربيع الاول سنة تسع عشرة ومائتين. وقتل بسرّ من رأى بسهم لحقه يوم الثلاثاء لأربعة عشرة ليلة بقيت من رجب سنة ست وخمسين ومائتين؛ فكانت خلافته احد عشر شهرا واربعة عشر يوما.
وكانت سنه سبعا وثلاثين سنة وأربعة اشهر وأحد عشر يوما.
وكان أبيض مشربا حمرة، صغير العينين، أقنى الانف، في عارضيه شيب؛ وخضب لما ولي الخلافة. نقش خاتمه: «من تعدّى الحق ضاق مذهبه» .
وزر له ابو ايوب سليمان بن وهب. وحاجبه باك باك.
المعتمد
ثم بويع أبو العباس احمد المعتمد بن المتوكل، يوم الثلاثاء لاربع عشرة ليلة بقيت من رجب سنة ست وخمسين ومائتين.
وكان مولده يوم الثلاثاء لثمان بقين من المحرم سنة تسع وعشرين ومائتين.
وتوفي ببغداد لاربع عشرة ليلة خلت من رجب سنة تسع وسبعين ومائتين؛(5/381)
فكانت خلافته ثلاثا وعشرين سنة؛ وكان سنه خمسين وخمسة اشهر واثنين وعشرين يوما.
ومات أخوه ووليّ عهده طلحة الموفق في أيامه، في صفر سنة ثمان وسبعين ومائتين؛ وكان قد غلب على الامر لميل الناس اليه، وكان المعتمد قد عقد لولده جعفر- ولقبه المفوّض- وبعده لابي احمد طلحة الموفق، فاشتد امر الموفق وقتل صاحب الزنج في سنة سبعين ومائتين ومال الناس اليه واسمه الناصر لدين الله وكان يدعي له على المنبر في ايام المعتمد.
وكان الموفق حبس ابنه أبا العباس المعتضد، فلما حضرته الوفاة أطلقه للقيام بالأمر، وأجرى المعتمد امره على ما كان يجري عليه امر ابيه الموفق، وأفرده بولاية العهد، وامر بكتب الكتب لخلع ابنه المفوّض، وأفرد المعتضد بالعهد وجعله الخليفة بعده.
وكان المعتمد اسمر مربوعا نحيف الجسم حسن العينين مدوّر الوجه، على وجهه أثر جدري. نقش خاتمه: «السعيد من كفي بغيره» .
ووزر له عبيد الله بن يحيى بن خاقان، ثم سليمان بن وهب، ثم الحسن بن مخلد، ثم صاعد بن مخلد، ثم أبو الصقر اسماعيل بن بلبل.
حاجبه موسى بن بغا، ثم جعفر بن بغا، ثم بكتمر
المعتضد
بويع المعتضد ابو العباس احمد بن الموفق في رجب سنة تسع وسبعين ومائتين.
وكان مولده في جمادي الآخرة سنة ثلاث واربعين ومائتين، وتوفي ببغداد ليلة الثلاث لسبع بقين من شهر ربيع الآخر سنة تسع وثمانين ومائتين، وصلى عليه ابو عمر القاضي.(5/382)
فكانت خلافته تسع سنين وتسعة اشهر وأربعة ايام؛ وكان سنه خمسا وأربعين سنة وتسعة أشهر وأياما.
وأمه ضرار، وكان نحيف الجسم معتدل القامة طويل اللحية اسمر. نقش خاتمه:
«الاضطرار يزيل الاختيار» .
ووزر له عبيد الله بن سليمان بن وهب؛ ثم ابنه القاسم بن عبيد الله.
وحاجبه صالح الأمين
المكتفي
ثم بويع ابنه أبو محمد علي بن المعتضد يوم الثلاثاء لسبع بقين من شهر ربيع الآخر سنة تسع وثمانين ومائتين.
وكان مولده في رجب سنة أربع وستين ومائتين.
وتوفي ببغداد فدفن عند قبر ابيه ليلة الاحد لثلاث عشرة ليلة خلت من ذي القعدة سنة خمس وتسعين ومائتين.
وكانت خلافته ست سنين وستة أشهر وعشرين يوما؛ وكان سنه احدى وثلاثين سنة وأربعة اشهر وأياما.
وأمه جيجق، وقيل خاضع.
وكان ربعة حسن الوجه أسود الشعر وافر اللحية عريضها، ولم يشب إلى ان مات.
نقش خاتمه: «بالله علي بن أحمد يثق» .
وخلّف في بيت ماله [من الذهب] ستة عشر ألف ألف دينار، ومن الورق ثلاثين ألف ألف درهم.(5/383)
ووزر له القاسم بن عبيد الله، ثم العباس بن الحسن، ثم الحسن بن أيوب.
وحاجبه خفيف السّمرقندي، ثم سوسن مولاه.
المقتدر
ثم بويع المقتدر وهو أبو الفضل جعفر بن المعتضد في اليوم الذي توفي فيه أخوه يوم الاحد لثلاث عشرة ليلة خلت من ذي القعدة سنة خمس وتسعين ومائتين وخلع في خلافته دفعتين: الاولى بعد جلوسه بأربعة أشهر وأيام، بابن المعتز، وبطل الامر من يومه؛ والدفعة الثانية بعد احدى وعشرين سنة وشهرين ويومين من خلافته، وخلع نفسه وأشهد عليه، وأجلس القاهر يومين وبعض اليوم الثالث، ووقع الخلف بين العسكرين وعاد المقتدر إلى حاله.
وكان مولده لثمان بقين من شهر رمضان سنة اثنتين وثمانين ومائتين.
وقتل بالشماسية «1» يوم الأربعاء لثلاث بقين من شوال سنة عشرين وثلاثمائة.
فكانت خلافته خمسا وعشرين سنة الا خمسة عشر يوما، وكانت سنة ثمانيا وثلاثين سنة وشهرا وعشرين يوما.
وكان أبيض مشربا بحمرة، حسن الخلق، ضخم الجسم، بعيد ما بين المنكبين جعد الشعر، مدوّر الوجه، قد كثر الشيب في وجهه.
نقش خاتمه: «الحمد لله الذي ليس كمثله شيء وهو على كل شيء قدير» .
ووزر له العباس بن الحسن، ثم علي بن محمد بن موسى بن الفرات، ثم عبيد الله بن خاقان، ثم ابو الحسن علي بن عيسى بن داود بن الجراح، ثم حامد بن العباس، ثم احمد بن عبيد الله الخصيبي، ثم محمد بن علي بن مقلة، ثم سليمان بن الحسن بن مخلد بن الجراح، ثم عبيد الله بن محمد الكلوذاني، ثم الحسين بن القاسم بن عبيد الله بن سليمان بن(5/384)
وهب، ثم الفضل بن جعفر بن موسى بن الفرات.
واستحجب سوسنا، مولى المكتفي، ونصرا القشوري، وياقوتا المعتضدي، وإبراهيم ومحمدا، ابني رائق.
القاهر
ثم بويع اخوه ابو منصور محمد القاهر بن المعتضد يوم الخميس لليلتين بقيتا من شوال سنة عشرين وثلاثمائة.
وخلع وسمل «1» يوم الأربعاء لخمس خلون من جمادي الاولى سنة اثنتين وعشرين وثلاثمائة.
وكان مولده لخمس خلون من جمادي الاولى سنة سبع وثمانين ومائتين.
وكانت خلافته سنة وستة أشهر وستة ايام وعاش الى ايام المطيع، وكانت سنة.
............ «2»
وكان ربعة أسمر اللون، معتدل القامة، اصهب «3» الشعر.
ووزر له أبو علي محمد بن مقلة، ثم محمد بن القاسم بن عبيد الله، بن أحمد بن عبيد الله الخصيبي.
واستحجب علي بن يلبق مولى يونس، ثم سلامة الطولوني.
الراضي
ثم بويع الراضي ابو العباس احمد بن المقتدر يوم الاربعاء لست خلون من جمادي الاولى سنة اثنتين وعشرين وثلاثمائة.(5/385)
وكان مولده في رجب سنة سبع وتسعين ومائتين.
ومات في بغداد ليلة السبت لأربع عشرة بقيت من شهر ربيع الاول من سنة تسع وعشرين وثلاثمائة ودفن بالرّصافة.
وكانت خلافته ست سنين وثمانية أشهر وعشرة ايام، وكانت سنة احدى وثلاثين سنة وثمانية أشهر وأياما.
وأمه أم ولد يقال لها ظلوم؛ وكان قصير القامة نحيف الجسم اسود الشعر رقيق السمرة في وجهه طول.
نقش خاتمه: «محمد رسول الله» .
ووزر له ابو علي محمد بن مقلة، ثم ابنه ابو الحسين علي بن محمد، ثم عبد الرحمن ابن عيسى بن داود بن الجراح، ثم محمد بن القاسم الكرخي، ثم سليمان بن الحسن بن محمد بن الجراح، ثم الفضل بن جعفر بن الفرات، ثم ابو عبيد الله احمد بن محمد اليزيديّ.
استحجب محمد بن ياقوت؛ ثم دكيا مولاه.
المتقي
ثم بويع اخوه المتقي ابو اسحاق ابراهيم بن المقتدر، يوم الاربعاء لعشر بقين من شهر ربيع الاول سنة تسع وعشرين وثلاثمائة.
وخلع وسمل يوم السبت لثمان خلون من صفر سنة ثلاث وثلاثين وثلاثمائة.
وكان مولده في شعبان سنة سبع وتسعين ومائتين.
وكانت خلافته ثلاث سنين وأحد عشر شهرا إلا أياما(5/386)
وكان ابيض تعلوه حمرة، اصهب شعر اللحية، كث اللحية، بفكه الادنى عوج نقش خاتمه: «محمد رسول الله» .
ووزر له احمد بن محمد بن ميمون، ثم اليزيدي، ثم سليمان بن الحسن بن مخلد، ثم ابو اسحاق محمد بن احمد القراريطي. ثم محمد بن القاسم الكرخي، ثم احمد بن عبد الله الاصبهاني، ثم علي بن محمد بن مقلة.
واستحجب سلامة مولي خمارويه بن أحمد الطولونيّ، ثم بدرا الخرشني، ثم عبد الرحمن بن أحمد بن خاقان المفلحي.
المستكفي
ثم بويع أبو القاسم عبد الله بن المستكفي في صفر سنة ثلاث وثلاثين وثلاثمائة بالسندية «1» عقيب كسوف القمر.
وخلع في شعبان سنة أربع وثلاثين وثلاثمائة، فكانت خلافته سنة واحدة وستة اشهر واياما.
كان مولده مستهل سنتة اثنتين وتسعين ومائتين. وتوفي سنة تسع وثلاثين وثلاثمائة.
وكانت سنه سبعا وأربعين سنة، وأمّه أم ولد يقال لها غصن، وكان أبيض تعلوه حمرة، ضخم الجسم، تام الطول، خفيف العارضين كبير العينين؛ أشهل «2» ، جهوري الصوت. نقش خاتمه «محمد رسول الله» .
وزر له محمد بن علي السر من رائيّ. واستكتب بعده أبا أحمد الفضل بن عبد الله الشيرازي. واستحجب أحمد بن حاقان.(5/387)
المطيع
ثم بويع المطيع ابو القاسم الفضل بن المقتدر لسبع بقين من شعبان سنة أربع وثلاثين وثلاثمائة.
وخلع نفسه ببغداد لسبع عشرة ليلة خلت من ذي الحجة سنة ثلاث وستين وثلاثمائة.
وكان مولده في النصف من ذي القعدة سنة احدى وثلاثمائة وتوفي في ... «1»
فكانت خلافته تسعا وعشرين سنة وثلاثة اشهر وعشرين يوما.
وأمه أم ولد تدعى مشعلة. وكان سنه.... «2» .
وكان شديد البياض أسود شعر الرأس واللحية.
وزر له على بن محمد بن مقلة، والناظر في الامور ابو جعفر الضيمري كاتب احمد بن بويه، ثم استولى على اسم الوزارة؛ وكتب للمطيع الفضل بن عبد الرحمن الشيرازي، ومات، وقام مقامه ابو محمد الحسن بن محمد المهلبي.
وحاجبه عز الدولة بختيار بن معز الدولة.
تم الجزء الخامس من العقد الفريد لابن عبد ربه ويليه- إن شاء الله- الجزء السادس وأوله: كتاب الدرة الثانية، في ايام العرب ووقائعها(5/388)
الجزء السادس
كتاب الدرّة الثانية في أيام العرب ووقائعهم
قال الفقيه ابو عمر احمد بن محمد بن عبد ربه رضي الله عنه: قد مضى قولنا في أخبار زياد والحجاج والطالبيين والبرامكة، ونحن قائلون بعون الله وتوفيقه في أيام العرب ووقائعهم، فإنها مآثر الجاهلية، ومكارم الاخلاق السنية.
قيل لبعض أصحاب رسول الله صلّى الله عليه وسلم: ما كنتم تتحدثون به اذا خلوتم في مجالسكم؟
قال: كنا نتناشد الشعر ونتحدث بأخبار جاهليتنا.
وقال بعضهم: وددت أن لنا مع إسلامنا كرم أخلاق آبائنا في الجاهلية: الا ترى ان عنترة الفوارس جاهلي لا دين له، والحسن بن هانيء إسلامي له دين، فمنع عنترة كرمه ما لم يمنع الحسن بن هانىء دينه، فقال عنترة في ذلك:
وأغضّ طرفي إن بدت لي جارتي ... حتى يواري جارتي مأواها
وقال الحسن بن هانىء مع اسلامه:
كان الشباب مطيّة الجهل ... ومحسّن الضّحكات والهزل
والباعثي والناس قد رقدوا ... حتى أتيت حليلة البعل «1»(6/3)
حروب قيس في الجاهلية يوم منعج «1» : لغنيّ على عبس
قال أبو عبيدة معمر بن المثنى: يوم منعج يقال له يوم الرّدهة «2» ، وفيه قتل شاس بن زهير بن جذيمة بن رواحة العبسي بمنعج على الردهة، وذلك أنّ شاس ابن زهير أقبل من عند النعمان بن المنذر، وكان قد حباه بحباء جزيل، وكان فيما حباه قطيفة «3» حمراء ذات هدب، وطيلسان وطيب. فورد منعج وهو ماء لغنيّ، فأناخ راحلته الى جانب الردهة وعليها خباء لرياح بن الأسل الغنوى، وجعل يغتسل وامرأة رياح تنظر إليه وهو مثل الثور الابيض، فانتزع «4» له رياح سهما فقتله، ونحر ناقته فأكلها، وضم متاعه، وغيّب أثره. وفقد شاس بن زهير حتى وجدوا القطيفة الحمراء بسوق عكاظ، فقد سامتها امرأة رياح بن الأسل، فعلموا أنّ رياحا صاحب ثأرهم، فغزت بنو عبس غنيّا قبل أن يطلبوا قودا «5» أودية، مع الحصين بن زهير بن جذيمة، والحصين بن أسيد بن جذيمة، فلما بلغ ذلك غنيّا قالوا لرياح: انج لعلنا نصالح القوم على شيء فخرج رياح رديفا لرجل من بني كلاب، لا يريان إلا أنهما قد خالفا وجهة القوم، فمرّ صرد «6» على رؤسهما فصرصر «7» ، فقال: ما هذا؟ فما راعهما إلا خيل بني عبس، فقال الكلابي لرياح: انحدر من خلفي والتمس نفقا في الأرض، فإني شاغل القوم عنك. فانحدر رياح عن عجز الجمل، حتى أتى صعدة «8» فاحتفر تحتها مثل مكان الأرنب وولج فيه، ومضى صاحبه، فسألوه فحدّثهم، وقال: هذه غنيّ جامعة، وقد استمكنتم منهم. فصدّقوه وخلوا سبيله، فلما ولى رأوا مركب الرجل خلفه، فقالوا: من الذي كان خلفك؟ فقال: لا أكذب، رياح بن الأسل، وهو في تلك(6/4)
الصّعدات. فقال الحصينان لمن معهما: قد امكننا الله من ثأرنا، ولا نريد أن يشركنا فيه أحد. فوقفوا عنهما، ومضيا فجعلا يريغان رياح بن الأسل بالصّعدات، فقال لهما رياح: هذا غزالكما الذي تريغانه «1» . فابتدراه، فرمى أحدهما بسهم فأقصده «2» ، وطعنه الآخر قبل أن يرميه فأخطأه، ومرت به الفرس، واستدبره رياح بسهم فقتله، ثم نجا حتى أتى قومه، وانصرفوا خائبين موتورين «3» ، وفي ذلك يقول الكميت بن زيد الأسدي، وكان له أمّان من غنيّ:
أنا ابن غنّى والدي ... لأمين منهم في الفروع وفي الأصل
هم استودعوا زهرا بسيب بن سالم ... وهم عدلوا بين الحصينين بالنّبل
وهم قتلوا شاس الملوك وأرغموا ... أباه زهيرا بالمذلّة والثّكل «4»
يوم النفراوات: لبني عامر على بني عبس
فيه قتل زهير بن جذيمة بن رواحة العبسي، وكانت هوازن تؤدّي إليه إتاوة، وهي الخراج، فأتته يوما عجوز من بني نصر بن معاوية بسمن في نحي «5» واعتذرت إليه وشكت سنين تتابعت على الناس، فذاقه فلم يرض طعمه، فدعسها «6» بقوس في يده عطل في صدرها، فاستلقت على قفاها منكشفة، فتألّى خالد بن جعفر، وقال:
والله لأجعلن ذراعي في عنقه حتى يقتل أو أقتل! وكان زهير عدوسا مقداما لا يبالي ما أقدم عليه، فاستقل- أي انفرد من قومه- بابنيه وبني أخويه أسيد وزنباع، يرعى الغيث في عشراوات «7» له وشول «8» فأتاه الحارث بن الشّريد، وكانت تماضر بنت الشريد تحت زهير، فلما عرف الحارث مكانه أنذر بني عامر بن صعصعة، رهط خالد(6/5)
ابن جعفر، فركب منهم ستة فوارس، فيهم خالد بن جعفر، وصخر بن الشريد، وحندج بن البكّاء، ومعوية بن عبادة بن عقيل، فارس الهزاز، ويقال لمعاوية:
الأخيل، وهو جد ليلى الأخيلية، وثلاثة فوارس من سائر بني عامر، فقال أسيد لزهير: أعلمتني راعية غنمي أنها رأت على رأس الثنية أشباحا، ولا أحسبها إلا خيل بني عامر، فالحق بنا بقومنا. فقال زهير: «كلّ أزبّ «1» نفور» وكان أسيد أشعر القفا. فذهبت مثلا، فتحمل أسيد بمن معه، وبقي زهير وابناه: ورقاء، والحارث، وصبّحتهم الفوارس، فتمرّدت بزهير فرسه القعساء، ولحقه خالد ومعاوية الأخيل، فطعن معوية القعساء، فقلبت زهيرا، وخرّ خالد فوقه فرفع المغفر عن رأس زهير، وقال: يا آل عامر، أقبلوا جميعا! فأقبل معاوية فضرب زهيرا على مفرق رأسه ضربة بلغت الدّماغ، وأقبل ورقاء بن زهير فضرب خالدا وعليه درعان، فلم يغن شيئا، وأجهض «2» ابنا زهير القوم عن زهير، واحتملاه وقد اثخنته الضربة، فمنعوه الماء، فقال: أميت أنا عطشا! اسقوني الماء وإن كان فيه نفسي! فسقوه فمات بعد ثلاثة ايام، فقال في ذلك ورقاء بن زهير:
رأيت زهيرا تحت كلكل خالد ... فأقبلت أسعى كالعجول أبادر «3»
إلى بطلين ينهضان كلاهما ... يريدان نصل السيف والسيف نادر «4»
فشلّت يميني يوم أضرب خالدا ... يمنعه مني الحديد المظاهر
فياليت أني قبل أيام خالد ... ويوم زهير لم تلدني تماضر
لعمري لقد بشرت بي إذ ولدتني ... فماذا الذي ردّت عليك البشائر
وقال خالد بن جعفر في قتله زهيرا:
بل كيف تكفرني هوازن بعدما ... أعتقتهم فتوالدوا أحرارا
وقتلت ربّهم زهيرا بعدما ... جدع الأنوف وأكثر الأوتارا «5»(6/6)
وجعلت مهر بناتهم ... عقل الملوك هجائنا ولكارا «1»
يوم بطن عاقل: لذبيان علي عامر
فيه قتل خالد بن جعفر ببطن عاقل «2» ، وذلك أنّ خالدا قدم الأسود بن المنذر، أخي النعمان بن المنذر، ومع خالد عروة الرّحال بن عتبة بن جعفر، فالتقى خالد بن جعفر والحارث بن ظالم بن غيظ بن مرة بن عوف بن سعد بن ذبيان، عند الأسود بن المنذر، قال: فدعا لهما الأسود بتمر، فجيء به على نطع «3» فجعل بين أيديهم، فجعل خالد يقول للحارث بن ظالم: يا حارث، ألا تشكر يدي عندك أن قتلت عنك سيد قومك زهيرا وتركتك سيدهم؟ قال: سأجزيك شكر ذلك! فلما خرج الحرث قال الأسود لخالد: ما دعاك إلى أن تحترش بهذا الكلب وأنت ضيفي؟ فقال له خالد إنما هو عبد من عبيدي، لو وجدني نائما ما أيقظني! وانصرف خالد إلى قبته، فلامه عروة الرحال، ثم ناما وقد أشرجت «4» عليهما القبة، ومع الحرث تبيع له من بني محارب يقال له خراش، فلما هدأت العيون أخرج الحرث ناقته وقال لخراش: كن لي بمكان كذا، فإن طلع كوكب الصبح ولم آتك فانظر أي البلاد أحبّ إليك فاغمد لها. ثم انطلق الحرث حتى أتى قبة خالد، فهتك شرجها ثم ولجها «5» ، وقال لعروة:
اسكت فلا بأس عليك.
وزعم أبو عبيدة أنه لم يشعر به حتى أتى خالدا وهو نائم فقتله، ونادى عروة عند ذلك: واجوار الملك! فأقبل إليه الناس، وسمع الهتاف الاسود بن المنذر وعنده امرأة من بني عامر، يقال لها المتجردة، فشقت جيبها وصرخت وفي ذلك يقول عبد الله بن جعدة:
شقّت عليك العامريّة جيبها ... أسفا وما تبكي عليك ضلالا(6/7)
يا حار لو نبّهته لوجدته ... لا طائشا رعشا ولا معزالا «1»
واغرورقت عيناي لما أخبرت ... بالجعفريّ وأسبلت إسبالا «2»
فلنقتلنّ عيناي لما أخبرت ... بالجعفريّ وأسبلت إسبالا «3»
فلنقتلنّ بخالد سرواتكم ... ولنجعلن للظالمين نكالا «4»
فإذا رأيتم عارضا متهللا ... منّا فإنا لا نحاول مالا «5»
يوم رحرحان «6» : لعامر على تميم
قال: وهرب الحرث بن ظالم ونبت به البلاد فلجأ إلى معبد بن زرارة- وقد هلك زرارة- فأجاره؟ فقالت بنو تميم لمعبد: مالك آويت هذا المشئوم الأنكد وأغريت بنا الاسود وخذلوه، غير بني دماويّة، وبني عبد الله بن دارم، وفي ذلك يقول لقيط بن زرارة:
فأمّا نهشل وبنو نعيم ... فلم يصبر لنا منهم صبور
فإن تعمد طهية في أمور ... تجدها ثمّ ليس لها نصير «7»
ويربوع بأسفل ذي طلوع ... وعمرو لا تحلّ ولا تسير «8»
أسيد والهجيم لها حصاص ... وأقوام من الجعراء عور «9»
وأسلبنا قبائل من تميم ... لها عدد إذا حسبوا كثير
وأمّا الآثمان بنو عديّ ... وتيم إذ تدبّرت الأمور
فلا تنعم بهم فتيان حرب ... إذا ما الحيّ صبّحهم نذير
إذا ذهبت رماحهم بزيد ... فإنّ رماح تيم لا تضير(6/8)
قال: وبلغ الأحوص بن جعفر بن كلاب، مكان الحارث بن ظالم عند معبد فأغزا معبدا، فالتقوا برحرحان، فانهزمت بنو تميم، وأسر معبد بن زرارة، أسره عامر والطفيل ابنا مالك بن جعفر بن كلاب فوفد لقيط بن زرارة عليهم في فدائه، فقال لهما: لكما عندي مائتا بعير. فقالا: يا أبا نهشل، أنت سيد الناس وأخوك معبد سيد مضر، فلا نقبل فيه إلا دية ملك! فأبى أن يزيدهم، وقال لهم: إن أبانا أوصانا أن لا نزيد أحدا في ديّته على مائتي بعير. فقال معبد للقيط: لا تدعني يا لقيط! فوالله لئن تركتني لا تراني بعدها أبدا! قال: صبرا أبا القعقاع، فأين وصاة أبينا ان لا تؤكلوا العرب أنفسكم ولا تزيدوا بفدائكم على فداء رجل منكم، فتذوب بكم ذؤبان العرب؟ «1» .
ورحل لقيط عن القوم، قال: فمنعوا معبد الماء وضارّه حتى مات هزالا.
وقيل: أبي معبد أن يطعم شيئا أو يشرب حتى مات هزالا، ففي ذلك يقول عامر ابن الطفيل:
قضينا الحزن من عبس وكانت ... منيّة معبد فينا هزالا
وقال جرير:
وليلة وادي رحرحان فررتم ... فرارا ولم تلووا زفيف النّعائم «2»
تركتم أبا القعقاع في الغلّ مصفدا ... وأيّ أخ لم تسلموا في الأداهم «3»
وقال:
وبرحرحان غداة كبّل معبد ... نكحوا بناتكم بغير مهور
يوم شعب جبلة «4» : لعامر وعبس على ذبيان وتميم
قال أبو عبيدة: يوم شعب جبلة أعظم أيام العرب، وذلك أنه لما انقضت وقعة(6/9)
رحرحان، جمع لقيط بن زرارة لبني عامر، وألّب عليهم، وبين أيام رحرحان ويوم جبلة سنة كاملة.
وكان يوم شعب جبلة قبل الإسلام بأربعين سنة، وهو عام ولد النبي صلّى الله عليه وسلّم، وكانت بنو عبس يومئذ في بني عامر حلفاء لهم، فاستعدى لقيط بني ذبيان لعداوتهم لبني عبس من أجل حرب داحس، فأجابته غطفان كلها غير بني بدر، وتجمعت لهم تميم كلها غير بني سعد، وخرجت معه بنو أسد لحلف كان بينهم وبين غطفان، حتى أتى لقيط الجون الكلبي، وهو ملك هجر «1» ، وكان يحيى من بها من العرب، فقال له:
هل لك في قوم عادين قد ملأوا الأرض نعما وشاء فترسل معي ابنيك، فما أصبنا من مال وسبي فلهما، وما أصبنا من دم فلي؟ فأجابه الجون إلى ذلك، وجعل له موعدا رأس، الحول، ثم أتى لقيط النعمان بن المنذر فاستنجده وأطمعه في الغنائم، فأجابه، وكان لقيط وجيها عند الملوك، فلما كان على قرن الحول «2» من يوم رحرحان. انهلّت الجيوش إلى لقيط، وأقبل سنان بن أبي حارثة المرّي في غطفان، وهو والد هرم بن سنان الجواد، وجاءت بنو أسد، وأرسل الجون ابنيه معاوية وعمرا، وأرسل النعمان أخاه لأمه حسان بن وبرة الكلبيّ، فلما توافوا خرجوا إلى بني عامر وقد أنذروا بهم وتأهبوا لهم، فقال الأحوص بن جعفر، وهو يومئذ رحا هوازن «3» ، لقيس بن زهير: ما ترى، فإنك تزعم أنه لم يعرض لك أمران إلا وجدت في أحدهما الفرج؟ فقال قيس بن زهير: الرأي أن نرتجل بالعيال والأموال حتى ندخل شعب جبلة، فنقاتل القوم دونها من وجه واحد، فإنهم داخلون عليك الشعب «4» ، وإن لقيطا رجل فيه طيش، فسيقتحم عليك الجبل، فأرى لك أن تأمر بالإبل فلا ترعى ولا تسقى وتعقل «5» ، ثم تجعل الذراري «6» وراء ظهورنا، وتأمر(6/10)
الرجال فتأخذ بأذناب الإبل، فإذا دخلوا علينا الشعب حلّت الرجالة عقل الإبل ثم لزمت أذنابها، فإنها تنحدر عليهم وتحن إلى مرعاها ووردها ولا يردّ وجوهها شيء، وتخرج الفرسان في أثر الرجالة الذين خلف الإبل، فإنها تحطم ما لقيت، وتقبل عليهم الخيل وقد حطموا من عل! قال الاحوص: نعم ما رأيت! فأخذ برأيه، ومع بني عامر يومئذ بنو عبس وغني في بني كلاب، وباهلة في بني كعب، والأبناء ابناء صعصعة، وكان رهط المعقر البارقي يومئذ في بني نمير بن عامر، وكانت قبائل بجيلة كلها فيهم غير قسر.
قال أبو عبيدة: وأقبل لقيط والملوك ومن معهم، فوجدوا بني عامر قد دخلوا شعب جبلة، فنزلوا على فم الشّعب، فقال لهم رجل من بني أسد: خذوا عليهم فم الشعب حتى يعطشوا ويخرجوا، فوالله ليتساقطنّ عليكم تساقط البعر من أست البعير! فأتوا حتى دخلوا الشعب عليهم وقد عقلوا الإبل وعطشوها ثلاثة اخماس «1» ، وذلك اثنتا عشر ليلة، ولم تطعم شيئا، فلما دخلوا حلوا عقلها، فأقبلت تهوي، فسمع القوم دويّها في الشعب، فظنوا أن الشعب قد هدم عليهم، والرجالة في أثرها آخذين بأذنابها، فدقّت كل ما لقيت، وفيها بعير أعور يتلوه غلام أعسر «2» آخذ بذنبه وهو يرتجز ويقول:
أنا الغلام الاعسر ... الخير فيّ والشرّ والشرّ فيّ أكثر
فانهزموا لا يلوون على أحد، وقتل لقيط بن زرارة، وأسر حاجب بن زرارة أسره ذو الرّقيبة، وأسر سنان بن أبي حارثة المري أسره عروة الرحال، فجز ناصيته «3» وأطلقه فلم تشنه، وأسر عمرو بن عمرو بن عدس، أسره قيس بن المنتفق فجزّ(6/11)
ناصيته وخلاه طمعا في المكافأة، فلم يفعل، وقتل معاوية بن الجون، ومنقذ ابن طريف الأسدي، ومالك بن ربعي بن جندل بن نهشل، فقال جرير:
كأنك لم تشهد لقيطا وحاجبا ... وعمرو بن عمر إذ دعا يالدارم
ويوم الصّفا كنتم عبيدا لعامر ... وبالحزن أصبحتم عبيد اللهازم «1»
يعني بالحزن: يوم الوقيط.
وقال جرير أيضا في بني دارم:
ويوم الشّعب قد تركوا لقيطا ... كأن عليه حلة أرجوان
وكبّل حاجب بشمام حولا ... فحكّم ذا الرّقيبة وهو عان «2»
وقالت دختنوس بنت لقيط ترثي لقيطا:
قزت بنو أسد وخ ... رّ الطير عن أربابها
عن خير خندف كلّها ... من كهلها وشبابها
وأتمّها حسبا إذا ... نصّت إلى أحسابها
وقال المعقر البارقي:
أمن آل شعثاء الحمول البواكر ... مع الصّبح أم زالت قبيل الأباعر
وحلّت سليمى في هضاب وأيكة ... فليس عليها يوم ذلك قادر
وألقت عصاها واستقرت بها النّوى ... كما قرّ عينا إذا بالإياب المسافر «3»
وصبّحها أملاكها بكتيبة ... عليها إذا أمست من الله ناظر
معاوية بن الجون ذبيان حوله ... وحسّان في جمع الرّباب مكاثر
وقد زحفت دودان تبغي لثأرها ... وجاشت تميم كالفحول تخاطر
وقد جمعوا جمعا كأنّ زهاءه ... جراد هفا في هبوة متطاير «4»
فمروا بأطناب البيوت فردّهم ... رجال بأطناب البيوت مساعر «5»(6/12)
فباتوا لنا ضيفا وبتنا بنعمة ... لنا مسمعات بالدفّوف وزامر
فلم نقرهم شيئا ولكن قراهم ... صبوح لدينا مطلع الشّمس حازر «1»
وصبّحهم عند الشروق كتائب ... كأركان سلمى سيرها متواتر
كأنّ نعام الدّوّ باض عليهم ... وأعينهم تحت الحبيك خوازر «2»
من الضاربين الهام يمشون مقدما ... إذا غصّ بالرّيق القليل الحناجر
أظنّ سراة القوم أن لن يقاتلوا ... إذا دعيت بالسفح عبس وعامر
ضربنا حببك البيض في غمر لجّة ... فلم ينج في الناجين منهم مفاخر
هوى زهدم تحت العجاج لعامر ... كما انقضّ باز أقتم الرّيش كاسر «3»
يفرّج عنا كلّ ثغر نخافه ... مسحّ كسرحان الفصيمة ضامر «4»
وكل طموح في العنان كأنها ... إذا اغتمست في الماء فتخاء كاسر «5»
لها ناهض في الوكر قد مهدت له ... كما مهدت للبعل حسناء عاقر «6»
تخاف نساء يبتززن حليلها ... محرّبة قد أحردتها الضّرائر «7»
استعار هذا البيت «فألقت عصاها» من المعقر البارقي. إذ كان مثلا في الناس- راشد بن عبد ربه السّلمى، وكان رسول الله صلّى الله عليه وسلّم قد استعمل أبا سفيان بن حرب على نجران فولاه الصلاة والحرب، ووجه راشد ابن عبد ربه السلمي أميرا على المظالم والقضاء، فقال راشد بن عبد ربه:
صحا القلب عن سلمى وأقصر شأوه ... وردّت عليه تبتغيه تمّاضر «8»(6/13)
وحلمه شيب القذال عن الصّبا ... وللشيب عن بعض الغواية زاجر «1»
فأقصر جهلي اليوم وآرتدّ باطلي ... عن اللهو لمّا آبيضّ مني الغدائر
على أنه قد هاجه بعد صحوة ... بمعرض ذي الآجام عس بواكر «2»
ولما دنت من جانب الغوط أخصبت ... وحلّت فلاقاها سليم وعامر
وخبّرها الركبان أن ليس بينها ... وبين قرى بصرى ونجران كافر
فألقت عصاها واستقرّت بها النّوى ... كما قرّ عينا بالإياب المسافر «3»
فاستعار هذا البيت الأخير من المعقر البارقي، ولا أحسبه استجاز ذلك إلا لاستعمال العامة له وتمثلهم به.
يوم مقتل الحارق بن ظالم بالخربة «4»
قال أبو عبيدة: لما قتل الحارث بن ظالم خالد بن جعفر الكلابي، أتى صديقا له من كندة فالتف عليه، فطلبه الملك فخفى ذكره حتى شخص من عند الكندي، وأضمرته «5» البلاد حتى استجار بزياد أحد بني عجل بن لجيم، فقام بنو ذهل بن ثعلبة وبنو عمرو بن شيبان فقالوا لعجل: أخرجوا هذا الرجل من بين أظهركم، فإنه لا طاقة لنا بالشهباء ودوسر- وهما كتيبتان للأسود بن المنذر- ولا بمحاربة الملك فأبت ذلك عليهم عجل، فلما رأى ذلك الحارث بن ظالم كره أن تقع بينهم فتنة بسببه، فارتحل من بني عجل إلى جبلي طيء، فأجاروه، فقال في ذلك:
لعمري لقد حلّت بي اليوم ناقتي ... على ناصر من طيّىء غير خاذل
فأصبحت جارا للمجرّة فيهم ... على باذخ يعلو يد المتطاول «6»
إذا أجا لفّت عليّ شعابها ... وسلمى فأنّى أنتم من تناولي «7»(6/14)
فمكث عندهم حينا، ثم إن الاسود بن المنذر لما اعجزه أمره أرسل إلى جارات كن للحارث بن ظالم، فاستاقهنّ وأموالهن، فبلغ ذلك الحارث بن ظالم، فخرج من الحين فاندس الحارث بن ظالم في الناس حتى علم مكان جاراته ومرعى إبلهنّ، فأتاهنّ فاستنقذهنّ واستاق إبلهنّ، فألحقهنّ بقومهنّ، واندس في بلاد غطفان، حتى أتى سنان بن أبي حارثة المري- وهو ابو هرم الذي كان يمدحه زهير- وكان الاسود بن المنذر قد استرضع ابنه شرحبيل عند سلمى امرأة سنان وهي من بني غنم بن دودان بن أسد، فكانت لا تأمن على ابن الملك أحدا، فاستعار الحارث بن ظالم سرج سنان وهو في ناحية الشربة «1» ، لا يعلم سنان ما يريد، وأتى بالسرج امرأة سنان وقال لها: يقول لك بعلك ابعثي ابنك مع الحارث، فإني أريد أن استأمن له الملك، وهذا سرجه آية ذلك. قال: فزيّنته سلمى ورفعته إليه فأتى به ناحية من الشربة فقتله، وقال في ذلك:
أخصي حمار بات يكدم نجمة ... أتوكل جاراتي وجارك سالم «2»
علوت بذي الحيّات مفرق رأسه ... ولا يركب المكروه إلا الأكارم «3»
فتكت به كما فتكت بخالد ... وكان سلاحي تجتويه الجماجم «4»
بدأت بذاك وانثنيت بهذه ... وثالثة تبيضّ منها المقادم
قال: وهرب الحارث من فوره ذلك، وهرب سنان بن أبي حارثة، فلما بلغ الاسود قتل ابنه شرحبيل، غزا بني ذبيان، فقتل وسبي وأخذ الأموال، وأغار على بني دودان رهط سلمى التي كان شرحبيل في حجرها، فقتلهم وسباهم فنشط لذلك، قال:
فوجد بعد ذلك نعلي شرحبيل في ناحية الشربة عند بني محارب بن خصفة، فغزاهم الملك، ثم أسرهن، ثم أحمى الصفا «5» ، وقال: إني أحذيكم نعالا فأمشاهم على ذلك الصفا، فتساقطت أقدامهم، ثم إن سيار بن عمرو بن جابر الفزاري، احتمل للاسود(6/15)
دية ابنه ألف بعير، وهي دية الملوك، ورهنه بها قوسه فوفاه بها، فقال في ذلك:
ونحن رهنّا القوس ثمّت فوديت ... بألف على ظهر الفزاري أقرعا «1»
بعشر مئين للملوك وفى بها ... ليحمد سيّار بن عمرو فأسرعا
فكان هذا قبل قوس حاجب، فقال في ذلك أيضا:
هل وجدتم حاملا كحاملي ... إذا رهن القوس بألف كامل
بدية ابن الملك الحلاحل ... فافتكّها من قبل عام قابل
سيّار الموفي بها ذو النائل
وهرب الحارث فلحق بمعبد بن زارة فاستجار به فأجاره، وكان من سيبه وقعة رحرحان التي تقدّم ذكرها، ثم هرب الحارث حتى لحق بمكة وقريش، لأنه يقال إن مرة بن عوف بن سعد بن ذبيان، إنما هو مرة بن عوف بن لؤي بن غالب، فتوسل اليهم بهذه القرابة، وقال في ذلك:
إذا فارقت ثعلبة بن سعد ... وإخوتهم نسبت إلى لؤيّ
إلى نسب كريم غير دغل ... وحيّ من أكارم كلّ حيّ «2»
فإن يك منهم أصلي فمنهم ... قرابين الإله بنو قصيّ
فقالوا: هذه رحم كرشاء «3» إذا استغنيتم عنها لن يتركم «4» . قال: فشخص الحارث عنهم غضبان. وقال في ذلك:
ألا لستم منا ولا نحن منكم ... برئنا إليكم من لؤيّ بن غالب
غدونا على نشز الحجاز وأنتم ... بمنشعب البطحاء بين الاخاشب «5»
وتوجه الحارث بن ظالم إلى الشام، فلحق بيزيد بن عمرو الغساني فأجاره وأكرمه،(6/16)
وكان ليزيد ناقة محماة «1» ، في عنقها مدية وزنادة وصرّة ملح، وإنما كان يمتجن بها رعيته لينظر من يجترىء عليه، فوحمت امرأة الحارث فاشتهت شحما في وحمها، فانطلق الحارث إلى ناقة الملك فانتحرها، وأتاها بشحمها، وفقدت الناقة، فأرسل الملك إلى الحمس التغلبي وكان كاهنا، فسأله عن الناقة، فأخبره أن الحارث صاحبها، فهم الملك به، ثم تذمّم «2» من ذلك، وأوجس الحارث في نفسه شرا فأتى الخمس التغلبي فقتله. فلما فعل ذلك دعا به الملك فأمر بقتله، فقال: أيها الملك إنك قد أجرتني فلا تغدرنّ بي! فقال الملك: لا ضير، إن غدرت بك مرة فقد غدرت بي مرارا! وأمر ابن الخمس فقتله، وأخذ ابن الخمس سيف الحارث فأتى به عكاظ في الاشهر الحرم، فأراه قيس بن زهير العبسي، فضربه قيس فقتله، وقال يرثي الحارث بن ظالم:
وما قصرت من حاضن ستر بيتها ... أبرّ وأوفى منك حار بن ظالم «3»
اعزّ وأحمى عند جار وذمّة ... وأضرب في كاب من النّقع قاتم «4»
حرب داحس والغبراء: وهي من حروب قيس
قال ابو عبيدة: حرب داحس والغبراء بين عبس وذبيان ابني بغيض بن ريث بن غطفان، وكان السبب الذي هاجها أن قيس بن زهير، وحمل بن بدر، تراهنا على داحس والغبراء أيهما يكون له السبق، وكان داحس فحلا لقيس بن زهير، والغبراء حجرا «5» لحمل بن بدر، وتواضعا الرهان على مائة بعير، وجعلا منتهى الغاية مائة غلوة «6» ، والإضمار «7» أربعين ليلة، ثم قادوهما إلى رأس الميدان بعد أن أضمروهما(6/17)
أربعين ليلة، وفي طرف الغاية شعاب كثيرة، فأكمن حمل بن بدر في تلك الشعاب فتيانا على طريق الفرسين، وأمرهم إن جاء داحس سابقا يردّوا وجهه عن الغاية.
قال: فأرسلوهما فأحضرا «1» ، فلما أحضرا خرجت الانثى من الفحل، فقال حمل بن بدر: سبقتك يا قيس! فقال قيس: رويدا يعدوان الجدد «2» إلى الوعث وترشح أعطاف الفحل. قال: فلما أوغلا في الجدد وخرجا إلى الوعث، برز داحس عن الغبراء، فقال قيس: جري المذكيات «3» غلاء «4» . فذهبت مثلا، فلما شارف داحس الغاية ودنا من الفتية، وثبوا في وجه داحس فردّوه عن الغاية، ففي ذلك يقول قيس ابن زهير:
وما لا قيت من حمل بن بدر ... وإخوته على ذات الإصاد «5»
هم فخروا عليّ بغير فخر ... وردوا دون غايته جوادي
وثارت الحرب بين عبس وذبيان ابني بغيض، فبقيت أربعين سنة لم تنتج لهم ناقة ولا فرس، لاشتغالهم بالحرب، فبعث حذيفة بن بدر ابنه مالكا إلى قيس بن زهير يطلب منه حق السبق، فقال قيس: كلا لا مطلتك به. ثم أخذ الرمح فطعنه به فدق صلبه، ورجعت فرسه عارية، فاجتمع الناس فاحتملوا دية مالك مائة عشراء- وزعموا أن الربيع بن زياد العبسي حملها وحده- فقبضها حذيفة، وسكن الناس.
ثم ان مالك بن زهير نزل اللّقاطة «6» من أرض الشربة، فأخبر حذيفة بمكانه، فعدا عليه فقتله. ففي ذلك يقول عنترة الفوارس:
فلله عينا من رأى مثل مالك ... عقيرة قوم أن جرى فرسان «7»(6/18)
فليتهما لم يجريا قيد غلوة ... وليتهما لم يرسلا لرهان
فقالت بنو عبس: مالك بن زهير بمالك بن حذيفة، وردوا علينا مالنا. فأبى حذيفة أن يرد شيئا، وكان الربيع بن زياد مجاورا لبني فزارة، ولم يكن في العرب مثله ومثل إخوته، وكان يقال لهم: الكملة، وكان مشاحنا «1» لقيس بن زهير من سبب درع لقيس غلبه عليها الربيع بين زياد، فاطرد قيس لبونا لبني زياد فأتى بها مكة، فعاوض بها عبد الله بن جدعان بسلاح، وفي ذلك يقول قيس بن زهير:
ألم يبلغك والأنباء تنمي ... بما لاقت لبون بني زياد
ومحبسها على القرشيّ تشرى ... بأدراع وأسياف حداد
وكنت إذا بليت بخصم سوء ... دلفت له بداهية نآد «2»
ولما قتل مالك بن زهير، قامت بنو غزارة يسألون ويقولون: ما فعل حماركم؟
قالوا: صدناه! فقال الربيع: ما هذا الوحي؟ قالوا: قتلنا مالك بن زهير. قال: بئس ما فعلتم بقومكم، قبلتم الدية ثم رضيتم بها وغدرتم! قالوا: لولا أنك جارنا لقتلناك! وكانت خفرة «3» الجار ثلاثا: فقالوا له: بعد ثلاث ليال اخرج عنا. فخرج واتبعوه، فلم يلحقوه حتى لحق بقومه، وأتاه قيس بن زهير فعاقده، وفي ذلك يقول الربيع:
فإن تك حربكم أمست عوانا ... فإني لم أكن ممن جناها «4»
ولكن ولد سودة أرّثوها ... وحشوا نارها لمن اصطلاها «5»
فإني غير خاذلكم ولكن ... سأسعى الآن إذ بلغت مداها
ثم نهضت بنو عبس وحلفاؤهم بنو عبد الله بن غطفان إلى بني فزارة وذبيان، ورئيسهم الربيع بن زياد، ورئيس بن فزارة حذيفة بن بدر.(6/19)
يوم المريقب: لبني عبس على فزارة
فالتقوا بذي المريقب من أرض الشّربّة فاقتتلوا، فكانت الشوكة في بني فزارة، قتل منهم عوف بن زيد بن عمرو بن أبي الحصين، أحد بني عدي بن فزارة، وضمضم أبو الحصين المرّي، قتله عنترة الفوارس، ونفر كثير ممن لا يعرف اسماؤهم، فبلغ عنترة أن حصينا وهرما ابني ضمضم يشتمانه ويوعدانه، فقال في قصيدته التي أوّلها:
هل غادر الشعراء من متردّم ... أم هل عرفت الدار بعد توهّم «1»
يا دار عبلة بالجواء تكلّمي ... وعمي صباحا دار عبلة واسلمي «2»
ولقد خشيت بأن أموت ولم تدر ... للحرب دائرة على ابني ضمضم «3»
الشاتمي عرضي ولم أشتمهما ... والنّاذرين إذا لم القهما دمي
إن يفعلا فلقد تركت أباهما ... جزر السّباع وكلّ نسر قشعم «4»
لمّا رآني قد نزلت أريده ... أبدى نواجذه لغير تبسّم «5»
وفي هذه الوقعة يقول عنترة الفوارس:
فلتعلمنّ إذ التقت فرساننا ... يوم المريقب أنّ ظنّك أحمق
يوم ذي حسى: لذبيان على عبس
ثم إن ذبيان تجمعت لما أصابت منهم يوم المريقب فزارة بن ذبيان ومرة بن عوف بن سعد بن ذبيان وأحلافهم، فنزلوا فتوافوا بذي حسى- وهو وادي الصفا من أرض الشربة وبينها وبين قطن «6» ثلاث ليال، وبينها وبين اليعمريّة «7» ليلة.(6/20)
فهربت بنو عبس، وخافت أن لا تقوم بجماعة بني ذبيان، واتبعوهم حتى لحقوهم، فقالوا: التفاني أو تقيدونا «1» . فأشار قيس بن زهير على الربيع بن زياد أن لا بناجزوهم، وأن يعطوهم رهائن من أبنائهم حتى ينظروا في أمرهم، فتراضوا أن تكون رهنهم عند سبيع بن عمرو، أحد بني ثعلبة بن سعد بن ذبيان، فدفعوا إليه ثمانية من الصبيان وانصرفوا وتكافّ الناس، وكان رأي الربيع مناجزتهم «2» فصرفه قيس عن ذلك، فقال الربيع:
أقول ولم أملك لقيس نصيحة ... فقد حشّ جاني الحرب نارا تضرّم «3»
فمكث رهنهم عند سبيع بن عمرو حتى حضرته الوفاة، فقال لابنه مالك بن سبيع: إن عندك مكرمة لا تبيد إن أنت حفظت هؤلاء الأغيلمة، فكأني بك لو متّ أتاك خالك حذيفة بن بدر فعصر «4» لك عينيه وقال: هلك سيدنا! ثم خدعك عنهم حتى تدفعهم إليه فيقتلهم، فلا تشرف بعدها أبدا، فإن خفت ذلك فاذهب بهم إلى قومهم. فلما هلك سبيع أطاف حذيفة بابنه مالك وخدعه حتى دفعهم إليه، فأتى بهم اليعمرية، فجعل يبرز كل يوم غلاما فينصبه غرضا، ويقول: ناد أباك! فينادي أباه حتى يقتله.
يوم اليعمرية: لعبس على ذبيان
فلما بلغ ذلك من فعل حذيفة بني عبس اتوهم باليعمريّة، فلقوهم بالحرّة- حرة اليعمرية- فقتلوا منهم اثني عشر رجلا، منهم مالك بن سبيع الذي رمى بالغلمة إلى حذيفة، وأخوه يزيد بن سبيع، وعامر بن لوذان، والحرث بن زيد، وهرم بن ضمضم أخو حصين. ويقال ليوم اليعمرية: يوم نفر، لأن بينهما أقل من نصف يوم.(6/21)
يوم الهباءة: لعبس على ذبيان
ثم اجتمعوا فالتقوا في يوم قائظ إلى جنب جفر الهباءة «1» ، واقتتلوا من بكرة حتى انتصف النهار، وحجز الحرّ بينهم، وكان حذيفة بن بدر يحرق فخذيه الركض، فقال قيس بن زهير: يا بني عبس، إن حذيفة غدا إذا احتدمت الوديقة «2» مستنقع في جفر الهباءة فعليكم بها. فخرجوا حتى وقعوا على أثر صارف، فرس حذيفة، والحنفاء، فرس حمل بن بدر، فقال قيس بن زهير: هذا اثر الحنفاء وصارف، فقفوا أثرهما حتى توافوا مع الظهيرة على الهباءة. فبصر بهم حمل بن بدر، فقال لهم: من أبغض الناس إليكم أن يقف على رؤسكم؟ قالوا: قيس بن زهير، والربيع بن زياد، فقال:
هذا قيس بن زهير قد أتاكم فلم ينقض كلامه حتى وقف قيس وأصحابه على جعفر الهباءة، وقيس يقول: لبيكم لبيكم! يعني إجابة الصّبية الذين كانوا ينادونهم إذ يقتلون! وفي حذيفة وحمل ابنا بدر ومالك بن بدر، وورقاء بن خلال من بني ثعلبة ابن سعد، وحنس بن وهب، فوقف عليهم شدّدا بن معاوية العبسي، وهو فارس جروة، وجروة فرسه، ولها يقول:
ومن يك سائلا عني فإني ... وجروة كالشّجا تحت الوريد «3»
أقوّتها بقوتي إن شتونا ... وألحفها ردائي في الجليد
فحال بينهم وبين خيليهم، ثم توافت فرسان بني عبس، فقال حمل: ناشدتك الله والرحم يا قيس! فقال: لبيكم لبيكم! فعرف حذيفة أنه لن يدعهم، فانتهر حملا وقال: إياك والمأثور من الكلام! فذهبت مثلا، وقال لقيس: لئن قتلتني لا تصلح غطفان بعدها! فقال قيس: أبعدها الله ولا أصلحها! وجاءه قراوش بمعبلة «4» فقصم صلبه، وابتدره الحارث بن زهير وعمرو بن الأسلع، فضرباه بسيفهما حتى ذفّفا «5»(6/22)
عليه، وقتل الربيع بن زياد حمل بدر، فقال قيس بن زهير يرثيه:
تعلّم أنّ خير الناس ميت ... على جفر الهباءة ما يريم
ولولا ظلمه ما زلت أبكي ... عليه الدهر ما طلع النّجوم
ولكن الفتّى حمل بن بدر ... بغى والبغي مرتعه وخيم «1»
أظنّ الحلم دلّ عليّ قومي ... وقد يستضعف الرجل الحليم
ومارست الرجال ومارسوني ... فمعوج عليّ ومستقيم
ومثّلوا بحذيفة بن بدر كما مثّل هو بالغلمة، فقطعوا مذاكيره وجعلوها في فيه، وجعلوا لسانه في استه، وفيه يقول قائلهم:
فإن قتيلا بالهباءة في استه ... صحيفته إن عاد للظلم ظالم
متى تقرءوها تهدكم عن ضلالكم ... وتعرف إذا ما فضّ عنها الخواتم
وقال في ذلك عقيل بن علّقة المزي:
ويوقد عوف للعشيرة ناره ... فهلّا على جفر الهباءة أوقدا
فإنّ على جفر الهباءة هامة ... تنادي بني بدر وعارا مخلّدا «2»
وإنّ أبا ورد حذيفة مثفر ... بأير على جفر الهباءة أسودا «3»
وقال الربيع بن قعنب:
خلق المخازي غير أنّ بذي حسى ... لبني فزارة خزية لا تخلق «4»
تبيان ذلك أنّ في است أبيهم ... شنعاء من صحف المخازي تبرق
وقال عمر بن الاسلع:
إن السماء وان الارض شاهدة ... والله يشهد والانسان والبلد(6/23)
أنّي جزيت بني بدر بسعيهم ... على الهباءة قتلا ما له قود «1»
لمّا التقينا على أرجاء جمّتها ... والمشرفيّة في أيماننا تقد «2»
علوته بحسام ثم قلت له ... خذها إليك فأنت السيد الصمد «3»
فلما اصيب أهل الهباءة واستعظمت غطفان قتل حذيفة، تجمعوا، وعرفت بنو عبس أن ليس لهم مقام بأرض غطفان، فخرجوا إلى اليمامة فنزلوا بأخوالهم بني حنيفة، ثم رحلوا عنهم فنزلوا ببني سعد بن زيد بن مناة.
يوم الفروق
ثم ان بني سعد غدروا بجوارهم فأتوا معاوية بن الجون فاستجاشوه «4» وأرادوا أكلهم، فبلغ ذلك بني عبس، ففرّوا ليلا، وقدّموا ظعنهم «5» ، ووقف فرسانهم بموضع يقال له الفروق «6» ، وأغارت بنو سعد ومن معهم من جنود الملك على محلتهم، فلم يجدوا إلا مواقد النيران، فاتبعوهم حتى أتوا الفروق، فإذا بالخيل والفرسان وقد توارت الظعن عنهم، فانصرفوا عنهم، ومضى بنو عبس فنزلوا ببني ضبة فأقاموا فيهم، وكان بنو جذيمة من بني عبس يسمّون بني رواحة، وبني بدر بن فزارة يسمون بني سودة، ثم رجعوا إلى قومهم فصالحوهم.
وكان أوّل من سعى في الحمالة حرملة بن الأشعر بن صرمة بن مرة، فمات، فسعى فيها هاشم بن حرملة ابنه، وله يقول الشاعر:
أحيا أباه هاشم بن حرمله ... يوم الهباتين ويوم اليعمله(6/24)
ترى الملوك حوله مرعبله ... يقتل ذا الذّنب ومن لا ذنب له «1»
يوم قطن
فلما توافوا للصلح، وقفت بنو عبس بقطن، وأقبل حصين بن ضمضم، فلقي تيحان أحد بني مخزوم بن مالك فقتله بأبيه ضمضم، وكان عنترة بن شدّاد قتله بذي المريقب، فأشارت بنو عبس وحلفاؤهم بنو عبد الله بن غطفان، وقالوا: لا نصالحكم ما بلّ البحر صوفة «2» ، وقد غدرتم بنا غير مرة. وتناهض القوم: عبس وذبيان، فالتقوا بقطن «3» ، فقتل يومئذ عمرو بن الأسلع عيينة، ثم سفرت «4» السفراء بينهم، وأتى خارجة بن سنان أبا تيحان بابنه فدفعه إليه، فقال: في هذا وفاء من ابنك! فأخذه فكان عنده أياما، ثم حمل خارجة لأبي تيحان مائة بغير قادها إليه، واصطلحوا وتعاقدوا.
يوم غدير قلهى
قال أبو عبيدة: فاصطلح الحيان، إلا بني ثعلبة بن سعد بن ذبيان، فإنهم أبوا ذلك وقالوا: لا نرضى حتى يودوا قتلانا أو يهدر دم من قتلها فخرجوا من قطن حتى وردوا غدير قلهى، فسبقهم بنو عبس إلى الماء، فمنعوهم حتى كادوا يموتون عطشا ودوابّهم، فأصلح بينهم عوف ومعقل ابنا سبيع من بني ثعلبة، وإياهما يعني زهير بقوله:
تداركتما عبسا وذبيان بعدما ... تفانوا ودقّوا بينهم عطر منشم «5»
فوردوا حربا وأخرجوا عنه سلما.
تم حرب داحس والغبراء.(6/25)
يوم الرقم: لغطفان على بني عامر
غزت بنو عامر فأغاروا على بلاد غطفان بالرّقم «1» - وهو ماء لبني مرة- وعلى بني عامر: عامر بن الطفيل- ويقال يزيد بن الصعق- فركب عيينة بن حصن في بني فزارة، ويزيد بن سنان في بني مرة- ويقال الحارث بن عوف- فانهزمت بنو عامر، وجعل يقاتل عامر بن الطفيل ويقول: يا لقيس لا تقتلي تموتي! فزعمت بنو غطفان أنهم أصابوا من بني عامر يومئذ أربعة وثمانين رجلا، فدفعوهم إلى أهل بيت من أشجع كانت بنو عامر قد أصابوا فيهم، فقتلوهم أجمعين، وانهزم الحكم بن الطفيل في نفر من أصحابه، فيهم جراب بن كعب، حتى انتهوا إلى ماء يقال له المروزات، فقطع العطش اعناقهم فماتوا، وخنق نفسه الحكم بن الطفيل تحت شجرة مخافة المثلة «2» ، وقال في ذلك عروة بن الورد:
عجبت لهم لم يخنقون نفوسهم ... ومقتلهم تحت الوغي كان أجدرا
يوم النتأة: لعبس على بني عامر
خرجت بنو عامر تريد أن تدرك بثأرها يوم الرقم، فجمعوا على بني عبس بالنّتأة وقد أنذروا بهم، فالتقوا وعلى بني عامر: عامر بن الطفيل، وعلى بني عبس:
الربيع بن زياد، فاقتتلوا قتالا شديدا، فانهزمت بنو عامر، وقتل منهم صفوان بن مرة. قتلة الأحنف بن مالك، ونهشل بن عبيدة بن جعفر، قتله أبو زغبة بن حارث، وعبد الله بن أنس بن خالد، وطعن ضبيعة بن الحارث عامر بن الطفيل فلم يضرّه ونجا عامر، وهزمت بنو عامر هزيمة قبيحة، فقال خراشة بن عمرو العبسي:
وساروا على أظمائهم وتواعدوا ... مياها تحامتها تميم وعامر «3»(6/26)
كأن لم يكن بين الذناب وواسط ... إلى المنحنى من ذي الأراكة حاضر «1»
ألا أبلغا عني خليلي عامرا ... أتنسى سعاد اليوم أم أنت ذاكر
وصدّتك أطراف الرماح عن الهوى ... وردت أمورا ليس فيها مصادر
وغادرت هزّان الرئيس ونهشلا ... فلله عينا عامر من يغادر «2»
وأسلت عبد الله لما عرفتهم ... ونجّاك وثّاب الجراميز ضامر «3»
قذفتهم في اليمّ ثم خذلتهم ... فلا وألت نفس عليك تحاذر «4»
وقال أبو عبيدة: إن عامر بن الطفيل هو الذي طعن ضبيعة بن الحارث ثم نجا من طعنته، وقال في ذلك:
فإن تنج منها يا ضبيع فإنني ... وجدّك لم أعقل عليك التمائما «5»
يوم شواحط «6» : لبني محارب على بني عامر
غزت سرية من بني عامر بن صعصعة بلاد غطفان، فأغارت على إبل لبني محارب ابن خصفة، فأدركهم الطلب، فقتلوا من بني كلاب سبعة وارتدوا إبلهم، فلما رجعوا من عندهم وثب بنو كلاب على جسر، وهم من بني محارب كانوا حاربوا إخوتهم فخرجوا عنهم وحالفوا بني عامر بن صعصعة- فقالوا: نقتلهم بقتل بني محارب من قتلوا منا. فقام خداش بن زهير دونهم حتى منعهم من ذلك، وقال:
أيا راكبا إمّا عرضت فبلّغن ... عقيلا وأبلغ إن لقيت أبا بكر
فيا أخوينا من أبينا وأمّنا ... إلكم إليكم لا سبيل إلى حشر
دعوا جانبي إني سأترك جانبا ... لكم واسعا بين اليمامة والقهر «7»(6/27)
أنا فارس الضحياء عمرو بن عامر ... أبى الذّمّ واختار الوفاء على الغدر «1»
يوم حوزة «2» الأول: لسليم على غطفان
قال أبو عبيدة: كان بين معاوية بن عمرو بن الشريد وبين هاشم بن حرملة أحد بني مرة بن غطفان، كلام بعكاظ، فقال معاوية: لوددت والله أني قد سمعت بظعائن «3» يندبنك! فقال هاشم: والله لوددت أني قد ترّبت الرطبة- وهي جمة «4» معاوية، وكانت الدهر تنظف ماء ودهنا وإن لم تدهن- فلما كان بعد [حين] تهيأ معاوية ليغزو هاشما، فنهاه أخوه صخر فقال: كأني بك إن غزوتهم علق بجمتك حسك العرقط «5» . فقال: فأبى معاوية وغزاهم يوم حوزة فرآه هاشم بن حرملة قبل أن يراه معاوية، وكان هاشم ناقها من مرض أصابه، فقال لأخيه دريد بن حرملة:
إن هذا إن رآني لم آمن أن يشدّ عليّ. وأنا حديث عهد بشكيّة «6» ، فاستطرد له دوني حتى تجعله بيني وبينك. ففعل، فحمل عليه معاوية وأردفه هاشم فاختلفا طعنتين، فأردى معاوية هاشما عن فرسه الشماء، وأنفذ هاشم سنانه من عانة معاوية. قال: وكرّ عليه دريد فظنه قد أردى هاشما، فضرب معاوية بالسيف فقتله، وشد خفاف بن عمير على مالك بن حارث الفزاري قال: وعادت الشماء فرس هاشم حتى دخلت في جيش بني سليم فأخذوها وظنوها فرس الفزاري الذي قتله خفاف، ورجع الجيش حتى دنوا من صخر أخي معاوية، فقالوا: أنعم صباحا أبا حسان! قال: حييّتم بذلك، ما صنع معاوية؟ قالوا: قتل! قال: فما هذه الفرس؟ قالوا: قتلنا صاحبها! قال: إذا قد أدركتم ثأركم، هذه فرس هاشم بن حرملة.
قال: فلما دخل رجب، ركب صخر بن عمرو الشماء صبيحة يوم حرام، فأتى بني(6/28)
مرة، فلما رأوه قال لهم هاشم: هذا صخر فحيّوه وقولوا له خيرا. وهاشم مريض من الطعنة التي طعنه معاوية، فقال: من قتل أخي؟ فسكتوا، فقال: لمن هذه الفرس التي تحتي؟ فسكتوا، فقال هاشم: هلمّ أبا حسّان إلى من يخبرك! قال: من قتل أخي؟
فقال هاشم: إذا أصبتني أو دريدا فقد أصبت ثأرك! قال فهل كفنتموه؟ قال: نعم، في بردين: أحدهما بخمس وعشرين بكرة «1» . قال: فأروني قبره. فأروه إياه، فلما رأى القبر جزع عنده، ثم قال: كأنكم قد أنكرتم ما رأيتم من جزعي، فوالله ما بتّ منذ عقلت إلا واترا أو موتورا، أو طالبا أو مطلوبا، حتى قتل معاوية، فما ذقت طعم نوم بعده!
يوم حوزة الثاني
قال: ثم غزاهم صخر، فلما دنا منهم مضى على الشماء، وكانت غراء محجّلة «2» ، فسوّد غرتها وتحجيلها، فرأته بنت لهاشم، فقالت لعمها دريد: أين الشماء؟ قال: هي في بني سليم، قالت: ما أشبهها بهذه الفرس! فاستوى جالسا فقال: هذه فرس بهيم، والشماء غراء محجلة. وعاد فاضطجع، فلم يشعر حتى طعنه صخر. قال: فثاروا وتناذروا، وولى صخر وطلبته غطفان عامة يومها، وعارض دونه أبو شجرة ابو عبد العزى، وكانت أمه خنساء أخت صخر، وصخر خاله، فردّ الخيل عنه حتى أراح فرسه ونجا إلى قومه، فقال خفاف بن ندبة لما قتل معاوية: قتلني الله إن برحت من مكاني حتى أثأر به فشد على مالك سيد بني جمح فقتله، فقال في ذلك:
فإن تك خيلي قد أصيب صميمها ... فعمدا على عين تيمّمت مالكا «3»
نصبت له علوى وقد خان صحبتي ... لأبني مجدا او لأثأر هالكا «4»(6/29)
أقول له والرمح يأطر متنه ... تأمّل خفافا، إنني أنا ذلكا «1»
وقال صخر يرثي معاوية، وكان قال له قومه: اهج بني مرة! فقال: ما بيننا أجلّ من القذع [ولو لم أمسك عن سبّهم إلا صيانة للساني عن الخنا «2» لفعلت! ثم خاف أن يظنّ به عيّ] وأنشأ يقول:
وعاذلة هبّت بليل ... ألا لا تلوميني كفى اللوم ما بيا
تقول ألا تهجو فوارس هاشم ... ومالي أن أهجوهم ثم ماليا
أبى الذّمّ أني قد أصابوا كريمتي ... وأن ليس إهداء الخنا من شماليا
إذا ما امرؤ أهدى لميت تحيّة ... فحياك ربّ الناس عني معاويا
وهوّن وجدي أنني لم أقل له ... كذبت، ولم أبخل عليه بماليا
وذي إخوة قطعت أقران بينهم ... كما تركوني واحدا لا أخاليا «3»
وقال في قتل دريد:
ولقد دفعت إلى دريد طعنة ... نجلاء توغر مثل غطّ المنخر «4»
ولقد قتلتكم ثناء وموحدا ... وتركت مرّة مثل أمس الدابر «5»
قال أبو عبيدة: وأما هاشم بن حرملة فإنه خرج منتجعا فلقيه عمرو بن قيس الجشمي فتبعه وقال: هذا قاتل معاوية، لا وألت نفسي إن وأل «6» ! فلما نزل هاشم كمن له عمرو بن قيس بين الشجر، حتى إذا دنا منه أرسل عليه معبلة «7» ففلق قحفه فقتله، وقال في ذلك:
لقد قتلت هاشم بن حرمله ... إذ الملوك حوله مغربله
يقتل ذا الذّنب ومن لا ذنب له(6/30)
يوم ذات الأثل «1»
قال أبو عبيدة: ثم غزا صخر بن عمرو بن الشريد بن أسد بن خزيمة واكتسح إبلهم، فاتى الصريخ بن اسد، فركبوا حتى تلاحقوا بذات الأثل، فاقتتلوا قتالا شديدا، فطعن ربيعة بن ثور الأسدي صخرا في جنبه، وفات القوم بالغنيمة، وجوى «2» صخر من الطعنة، فكان مريضا قريبا من الحول. حتى مله أهله، فسمع امرأة من جاراته تسأل سلمى امرأته كيف بعلك؟ قالت: لا حيّ فيرجى، ولا ميّت فينسى، لقد لقينا منه الأمرين! وكانت تسأل أمّه: كيف صخر؟ فتقول: أرجو له العافية إن شاء الله! فقال في ذلك:
أرى أمّ صخر لا تملّ عيادتي ... وملّت سليمي مضجعي ومكاني
فأيّ امرىء ساوى بأم حليلة ... فلا عاش إلا في شقا وهوان «3»
وما كنت أخشى أن أكون جنازة ... عليك ومن يغترّ بالحدثان
لعمري لقد نبّهت من كان نائما ... وأسمعت من كانت له أذنان
أهمّ بأمر الحزم لو أستطيعه ... وقد حيل بين العير والنّزوان «4»
فلما طال عليه البلاء وقد نتأت قطعة من جنبه مثل اليد في موضع الطعنة، قالوا له: لو قطعتها لرجونا أن تبرأ. فقال: شأنكم! فقطعوها فمات، فقالت الخنساء أخته ترثيه:
فما بال عيني ما بالها ... لقد أخضل الدمع سر بالها
أمن بعد صخر من ال الشريد ... حلّت به الأرض أثقالها «5»
فآليت أبكي على هالك ... وأسأل نائحة مالها
هممت بنفسي كلّ الهموم ... فأولى لنفسي أولى لها
لأحمل نفسي على آلة ... فإمّا عليها وإمّا لها «6»(6/31)
وقالت ترثيه:
وقائلة والنّفس قد فات خطوها ... لتدركه: يا لهف نفسي على صخر!
ألا ثكلت أمّ الذين غدوا به ... إلى القبر، ماذا يحملون إلى القبر!
يوم عدنية: هو يوم ملحان «1»
قال أبو عبيدة: هذا اليوم قبل ذات الأثل، وذلك أن صخرا غزا بقومه وترك الحيّ خلوا، فأغارت عليهم غطفان، فثارت إليهم غلمانهم ومن كان تخلف منهم، فقتل من غطفان نفر وانهزم الباقون، فقال في ذلك صخر:
جزى الله خيرا قومنا إذ دعاهم ... بعدنيّة الحي الخلوف المصبح «2»
وغلماننا كانوا أسود خفيّة ... وحقّ علينا أن يثابوا ويمدحوا
هم نفّروا أقرانهم بمضرّس ... وسعر وذادوا الجيش حتى تزحزحوا «3»
كأنهم إذ يطردون عشيّة ... بقنّة ملحان نعام مروّح
يوم اللوى «4» : لغطفان على هوازن
قال أبو عبيدة: غزا عبد الله بن الصمة- واسم الصمة: معاوية الأصغر- من بني غزيّة بن جثم بن معاوية بن بكر بن هوازن- وكان لعبد الله ثلاثة اسماء وثلاث كنى، فاسمه: عبد الله، وخالد، ومعبد، وكنيته: أبو فرغان، وأبو دفاقة وأبو وفاء، وهو أخو دريد بن الصمة لأبيه وأمه- فأغار على غطفان، فأصاب منهم إبلا عظيمة فاطّردها، فقال له أخوه دريد: النجباء فقد ظفرت. فأبى عليه وقال: لا أبرح حتى أنتقع نقيعتي- والنقيعة: ناقة ينحرها من وسط الإبل فيصنع منها طعاما لأصحابه، ويقسم ما أصاب على أصحابه فأقام وعصى أخاه، فتبعته فزارة فقاتلوه، وهو بمكان(6/32)
يقال له اللوى، فقتل عبد الله، وارتثّ «1» دريد فبقي في القتلى فلما كان في بعض الليل أتاه فارسان، فقال أحدهما لصاحبه: أني أرى عينيه تبصّ «2» ، فانزل فانظر إلى سبّته «3» . فنزل فكشف ثوبه فإذا هي ترمّز «4» فطعنه، فخرج دم قد كان احتقن.
قال دريد: فأفقت عندها، فلما جاوزوني نهضت. قال: فما شعرت إلا وأنا عند عرقوب «5» جمل امرأة من هوازن، فقالت: من أنت؟ أعوذ بالله من شرك! قلت:
لا، بل من انت؟ ويلك! قالت: امرأة من هوازن سيارة. قلت: وأنا من هوازن، وأنا دريد بن الصمّة. قال: وكانت في قوم مجتازين لا يشعرون بالوقعة، فضمته وعالجته حتى أفاق.
فقال دريد يرثي عبد الله أخاه، ويذكر عصيانه له وعصيان قومه، بقوله:
أعاذل إنّ الرّزء في مثل خالد ... ولا رزء فيما أهلك المرء عن يد «6»
وقلت لعارض وأصحاب عارض ... ورهط بني السّوداء والقوم شهدي «7»
علانية ظنّوا بألفي مدجّج ... سراتهم في الفارسيّ المسرّد «8»
أمرتهم أمري بمنقطع اللّوى ... فلم يستبينوا الرشد إلّا ضحى الغد
فلما عصوني كنت منهم وقد أرى ... غوايتهم أو أنّني غير مهتّد
وما أنا إلا من غزيّة إن غوت ... غويت وإن ترشد غزية أرشد «9»
فإن تعقب الأيام والدهر تعلموا ... بني غالب أنا غضاب لمعبد
تنادوا فقالوا أردت الخيل فارسا ... فقلت أعبد الله ذلكم الرّدي(6/33)
فإن يك عبد الله خلّى مكانه ... فما كان وقّافا ولا طائش اليد
ولا برما إذ ما الرياح تناوحت ... برطب العضاه والضّريع المعضّد «1»
كميش الإزار خارج نصف ساقه ... صبور على الضّرّاء طلّاع أنجد «2»
قليل التّشكي للمصائب حافظ ... من اليوم أعقاب الأحاديث في غد
وهوّن وجدي أنني لم أقل له ... كذبت ولم أبخل بما ملكت يدي
أبو حاتم عن أبي عبيدة قال: خرج دريد بن الصمة في فوارس من بني جشم حتى إذا كانوا في واد لبني كنانة يقال له الأخرم «3» ، وهم يريدون الغارة على بني كنانة إذ رفع له رجل في ناحية الوادي معه طعينة، فلما نظر إليه قال لفارس من أصحابه:
صح به: خلّ عن الظعينة «4» وانج بنفسك، فانتهى إليه الفارس وصاح به وألحّ عليه فألقى زمام الناقة وقال للظعينة:
سيري على رسلك سير الآمن ... سير رداح ذات جأش ساكن «5»
إنّ انثنائي دون قرني شائني ... أبلى بلائي واخبري وعايني
ثم حمل عليه فصرعه وأخذ فرسه فأعطاه للظعينة، فبعث دريد فارسا آخر لينظر ما صنع صاحبه، فلما انتهى إليه ورأى ما صنع، صاح به فتصامم «6» عنه كأن لم يسمع، فظن أنه لم يسمع، فغشيه، فألقى زمام الراحلة إلى الظعينة، ثم خرج وهو يقول:
خلّ سبيل الحرّة المنيعة ... إنك لاق دونها ربيعه
في كفّه خطّيّة مطيعه ... أولا فخذها طعنة سريعه «7»
والطعن مني في الوغى شريعه(6/34)
ثم حمل عليه فصرعه، فلما أبطآ على دريد بعث فارسا لينظر ما صنعا، فلما انتهى اليهما وجدهما صريعين، ونظر إليه يقود ظعينته ويجر رمحه، فقال له الفارس: خلّ عن الظعينة! فقال للظعينة: اقصدي قصد البيوت، ثم أقبل عليه فقال:
ماذا تريد من شتيم عابس ... ألم تر الفارس بعد الفارس «1»
أردهما عامل رمح يابس
ثم حمل عليه فصرعه، وانكسر رمحه.
وارتاب دريد، وظنّ أنهم قد أخذوا الظعينة وقتلوا الرجل، فلحق دريد ربيعة وقد دنا من الحي، ووجد اصحابه قد قتلوا: فقال: أيها الفارس، إنّ مثلك لا يقتل، ولا أرى معك رمحك، والخيل ثائرة بأصحابها [وأراك حديث السنّ] فدونك هذا الرمح، فإني منصرف إلى أصحابي فمثبّطهم عنك.
فانصرف إلى اصحابه فقال: إن فارس الظعينة قد حماها وقتل اصحابكم وانتزع رمحي، ولا مطمع لكم فيه! فانصرف القوم، وقال دريد في ذلك:
ما إن رأيت ولا سمعت بمثله ... حامي الظّعينة فارسا لم يقتل
أردى فوارس لم يكونوا نهزة ... ثم استمرّ كأنه لم يفعل «2»
متهلّلا تبدو أسرّة وجهه ... مثل الحسام جلته كفّ الصّيقل «3»
يزجي ظعينته ويسحب رمحه ... متوجّها يمناه نحو المنزل
وترى الفوارس من مهابة رمحه ... مثل البغاث خشين وقع الأجدل «4»
يا ليت شعري من أبوه وأمّه ... يا صاح من يك مثله لا يجهل
وقال ابن مكدم:(6/35)
إن كان ينفعك اليقين فسائلي ... عن الظّعينة يوم وادي الأخرم «1»
إذ هي لأوّل من أتاها نهزة ... لولا طعان ربيعة بن مكدّم
إذ قال لي أدنى الفوارس منهم ... خلّ الظّعينة طائعا لا تندم
فصرفت راحلة الظعينة نحوه ... عمدا ليعلم بعض ما لم يعلم
وهتكت بالرّمح الطويل إهابه ... فهوى صريعا لليدين وللفم
ومنحت آخر بعده جيّاشة ... نجلاء فاغرة كشدق الأضجم «2»
ولقد شفعتهما بآخر ثالث ... وأبى الفرار عن العداة تكرّمي
ثم لم يلبث بنو كنانة [رهط ربيعة بن مكدّم] أن أغارت على بني جشم [رهطدريد] ، فقتلوا [وأسروا وغنموا] ، وأسروا دريد بن الصّمة، فأخفى نسبه، فبينما هو عندهم محبوس، إذ جاءت نسوة يتهادين «3» إليه، فصاحت إحداهن فقالت:
هلكتم وأهلكتم، ماذا جرّ علينا قومنا؟ هذا والله الذي أعطى ربيعة رمحه يوم الظعينة! ثم ألقت عليه ثوبها، وقالت يا آل فراس أنا جارة له منكم، هذا صاحبنا يوم الوادي! فسألوه: من هو؟ فقال أنا دريد بن الصمة، فمن صاحبي؟ قالوا: ربيعة بن مكدم. قال: فما فعل؟ قالوا: قتلته بنو سليم! قال: فا فعلت الظعينة؟ قالت المرأة: أنا هي، وأنا امرأته! فحبسه القوم وآمروا أنفسهم، فقال بعضهم: لا ينبغي لدريد أن تكفر نعمته على صاحبنا! وقال الآخرون لا والله لا يخرج من أيدينا إلا برضا المخارق الذي أسره، فانبعثت المرأة في الليل- وهي ريطة بنت جزل الطعان- فقالت:
سنجزي دريدا عن ربيعة نعمة ... وكلّ امرىء يجزى بما كان قدّما
فإن كان خيرا كان خيرا جزاؤه ... وإن كان شرّا كان شرّا مذمّما
سنجزه نعمى لم تكن بصغيرة ... بإهدائه الرّمح الطويل المقوّما «4»(6/36)
فلا تكفروه حقّ نعماه فيكم ... ولا تركبوا تلك التي تملأ الفما «1»
فإن كان حيّا لم يضق بثوابه ... ذراعا، غنيّا كان أو كان معدما
ففكّوا دريدا من إسار مخارق ... ولا تجعلوا البؤسى إلى الشرّ سلّما
فلما أصبحوا أطلقوه، فكسته وجهزته ولحق بقومه، فلم يزل كافّا عن حرب بني فراس حتى هلك.
يوم الصلعاء «2» : لهوازن على غطفان
فلما كان في العام المقبل غزاهم دريد بن الصمّة بالصّلعاء، فخرجت إليه غطفان فقال دريد لصاحبه: ما ترى؟ قال أرى خيلا عليها رجال كانهم الصبيان، أسنتها عند آذان خيلها. قال: هذه فزارة. ثم قال: انظر ما ترى؟ قال: أرى قوما كأنّ عليهم ثيابا غمست في الجاديّ «3» . قال: هذه اشجع. ثم قال انظرهما ترى؟ قال:
أرى قوما يهزون رماحهم، سودا، يخدّون «4» الأرض بأقدامهم. قال: هذه عبس، أتاكم الموت الزؤام فاثبتوا! فالتقوا بالصلعاء، فكان الظفر لهوازن على غطفان وقتل دريد ذو أب بن أسماء بن زيد بن قارب.
حرب قيس وكنانة يوم الكديد «5» : لسليم على كنانة
فيه قتل ربيعة بن مكدّم فارس كنانة، وهو من بني فراس بن غنم بن مالك بن كنانة، وهم أنجد العرب، وكان الرجل منهم يعدل بعشرة من غيرهم، وفيهم يقول علي بن أبي طالب لأهل الكوفة: وددت والله أن لي بجميعكم وأنتم مائة ألف ثلاثمائة من بني فراس بن غنم.(6/37)
وكان ربيعة بن مكدم يعقر «1» على قبره في الجاهلية: ولم يعقر على قبر أحد غيره، ومرّ به حسان بن ثابت وقتلته بنو سليم يوم الكديد، ولم يحضر يوم الكديد أحد من بني الشريد.
يوم برزة «2» : لكنانة على سليم
قال ابو عبيدة: لما قتلت بنو سليم ربيعة بن مكدم فارس كنانة ورجعوا، أقاموا ما شاء الله، ثم إن ذا التاج، مالك بن خالد بن صخر بن واسم الشريد عمرو، وكانت بنو سليم قد توّجوا مالكا وأمّروه عليهم- فغزا بني كنانة، فأغار على بني فراس ببرزة، ورئيس بني فراس عبد الله بن جذل، فدعا عبد الله إلى البراز، فبرز اليه هند ابن خالد بن صخر بن الشريد، فقال له عبد الله: من أنت؟ قال: أنا هند بن خالد بن صخر، فقال عبد الله: أخوك أسنّ منك. يريد مالك بن خالد، فرجع فأحضر أخاه، فبرز له، فجعل عبد الله بن جذل يرتجز ويقول:
ادنوا بني قرف ... إذا الموت كنع «3»
لا أستغيث بالجزع
ثم شدّ على مالك بن خالد فقتله، فبرز إليه أخوه كرز بن خالد بن صخر، فشدّ عليه عبد الله بن جذل فقتله أيضا، فشدّ عليه أخوهما عمرو بن خالد بن صخر بن الشريد، فتخالفا طعنتين، فجرح كلّ واحد منهما صاحبه وتحاجزا، وكان عمرو قد نهى أخاه مالكا عن غزو بني فراس، فعصاه وانصرف للغزو عنهم، فقال عبد الله بن جذل:
تجنّبت هندا رغبة عن قتاله ... إلى مالك أعشو إلى ضوء مالك «4»
فأيقنت أني ثائر بابن مكدم ... غداة إذ أو هالك في الهوالك(6/38)
فأنفذته بالرّمح حين طعنته ... معانقة ليست بطعنة باتك «1»
وأثني لكرز في الغبار بطعنة ... علت جلده منها بأحمر عاتك «2»
قتلنا سليما غثّها وسمينها ... فصبرا سليم قد صبرنا لذلك
فإن تك نسواني بكين فقد بكت ... كما قد بكت أمّ لكرز ومالك
وقال عبد الله بن جذل أيضا:
قتلنا مالكا فبكوا عليه ... وهل يغني من الجزع البكاء؟
وكرزا قد تركناه صريعا ... تسيل على ترائبه الدّماء «3»
فإن تجزع لذاك بنو سليم ... فقد- وأبيهم- غلب العزاء
فصبرا يا سليم كما صبرنا ... وما فيكم لواحدنا كفاء «4»
فلا تبعد ربيعة من نديم ... أخو الهلّاك إن ذمّ الشّتاء
وكم من غارة ورعيل خيل ... تداركها وقد حمس اللقاء «5»
يوم الفيفاء «6» : لسليم على كنانة
قال أبو عبيدة: ثم إن بني الشريد حرّموا على أنفسهم النساء والدهن «7» ، حتى يدركوا بثأرهم من بني كنانة، فغزا عمرو بن خالد بن صخر بن الشريد بقومه حتى أغار على بني فراس، فقتل منهم نفرا، منهم عاصم بن المعلي، وفضلة، والمعارك، وعمرو بن مالك، وحصن، وشريح، وسبى سبيا فيهم ابنة مكدم أخت ربيعة بن مكدم، فقال عباس بن مرداس في ذلك يردّ على ابن جذل في كلمته التي قالها يوم برزة:
ألا أبلغا عني ابن جذل ورهطه ... فكيف طلبناكم بكرز ومالك؟ «8»(6/39)
غداة فجعناكم بحصن وبابنه ... وبابن المعلّى عاصم والمعارك
ثمانية منهم ثأرناهم به ... جميعا وما كانوا بواء بمالك «1»
نذيقكم والموت يبني سرداقا ... عليكم، شباحدّ السّيوف البواتك «2»
تلوح بأيدينا كما لاح بارق ... نلألأ في داج من الليل حالك
صبحناكم العوج العناجيج بالضّحى ... تمرّ بنا مرّ الرّياح السّواهك «3»
إذا خرجت من هبوة بعد هبوة ... سمت نحو ملتفّ من الموت شائك
وقال هند بن خالد بن صخر بن الشريد:
قتلت بمالك عمرا وحصنا ... وخلّيت القتام على الخدود «4»
وكرزا قد أبأت به شريحا ... على أثر الفوارس بالكديد «5»
جزيناهم بما انتهكوا وزدنا ... عليه ما وجدنا من مزيد
جلبنا من جنوب العود جردا ... كطير الماء غلّس للورد «6»
قال: فلما ذكر هند بن خالد يوم الكديد وافتخر به، ولم يشهده أحد من بني الشريد، غضب من ذلك نبيشة بن حبيب، فأنشأ يقول:
تبخّل صنعنا في كلّ يوم ... كمخضوب البنان ولا يصيد
وتأكل ما يعاف الكلب منه ... وتزعم أن والدك الشّريد
أبى لي أن أقرّ الضّيم قيس ... وصاحبه المزور به الكديد «7»(6/40)
حرب قيس وتميم يوم السوبان «1» : لبني عامر على بني تميم
قال أبو عبيدة: أغارت بنو عامر على بني تميم وضبة فاقتتلوا، ورئيس ضبة حسان ابن وبرة، وهو أخو النعمان لأمّه، فأسره يزيد بن الصعق، وانهزمت تميم، فلما رأى ذلك عامر بن مالك بن جعفر، حسده، فشدّ على ضرار بن عمرو الضّبي، وهو الرديم، فقال لابنه إذ همّ: أغنه عني. فشدّ عليه فطعنه، فتحوّل عن سرجه إلى جنب أبدائه «2» ، ثم لحقه، فقال لأحد بنيه: أغنه عني. ففعل مثل ذلك، ثم لحقه، فقال لابن له آخر: أغنه عني. ففعل مثل ذلك، فقال: ما هذا إلا ملاعب الأسنّة، فسمّي عامر من يومئذ ملاعب الأسنة، فلما دنا منه قال له ضرار: إني لأعلم ما تريد، أتريد اللبن؟
قال: نعم! قال: إنك لن تصل إليّ ومن هؤلاء عين تطرف، كلهم بنيّ. قال له عامر:
فأحلني عن غيرك. فدلّه على حبيش بن الدلف، وقال: عليك بذلك الفارس. فشدّ عليه فأسره، فلما رأى سواده، وقصره، جعل يتفكر، وخاف ابن الدلف ان يقتله، فقال: ألست تريد اللبن؟ قال: بلى. قال: فأنى لك به. ونادى حسان بن وبرة نفسه من يزيد بن الصعق بألف بعير فداء الملوك، فكثر مال يزيد وبما، ثم أغار بعد ذلك يزيد بن الصعق على عصافير النعمان «3» بذي ليان، وذو ليان: عن يمين القريتين «4» .
يوم أقرن «5» : لبني عبس على بني دارم
غزا عمرو بن عمرو بن عدس من بني دارم وهو فارس بني مالك بن حنظلة، فأغار على بني عبس وأخذ إبلا وشاء ثم أقبل، حتى إذا كان أسفل من ثنية أقرن، نزل فابتنى بجارية من السبي، ولحقه الطلب فاقتتلوا، فقتل أنس الفوارس ابن زياد(6/41)
العبسي عمرا، وانهزمت بنو مالك بن حنظلة، وقتلت بنو عبس أيضا حنظلة بن عمرو- وقال بعضهم: قتل في غير هذا اليوم- وارتدّوا ما كان في أيدي بني مالك، فنعى ذلك جرير على بني دارم، فقال:
هل تذكرون لدى ثنيّة أقرن ... أنس الفوارس حين يهوي الأسلع «1»
وكان عمرو أسلع، أي أبرص. وكان لسماعة بن عمرو، خال من بني عبس، فزاره يوما فقتله بأبيه عمرو.
يوم المرّوت «2» : لبني العنبر على بني قشير
أغار بحير بن سلمة بن قشير على بني العنبر بن عمرو بن تميم، فاتبعوه حتى لحقوه وقد نزل المروت وهو يقسم المرباع «3» ويعطى من معه، فتلاحق القوم واقتتلوا، فطعن قعنب بن عتاب الهيثم بن عامر القشيري فصرعه فأسره، وحمل الكدام- وهو يزيد بن أزهر المازني- على بحير بن سلمة فطعنه فأرداه عن فرسه، ثم نزل إليه فأسره، فأبصره قعنب بن عتاب، فحمل عليه بالسيف فضربه فقتله، فانهزم بنو عامر وقتل رجالهم، فقال يزيد بن الصّعق يرثي بحيرا:
أواردة عليّ بنو رياح ... بفخرهم وقد قتلوا بحيرا؟
فأجابته العوراء من بني سليط بن يربوع:
قعيدك يا يزيد أبا قبيس ... أتنذر كي تلاقينا النّذورا «4»
وتوضع تخبر الرّكبان أنّا ... وجدنا في مراس الحرب خورا «5»
ألم تعلم قعيدك يا يزيد ... بأنا نقمع الشيخ الفخورا
ونفقأ ناظريه ولا نبالي ... ونجعل فوق هامته الدرورا(6/42)
فأبلغ إن عرضت بني كلاب ... فإنّا نحن أقعصنا بحيرا «1»
وضرّجنا عبيدة بالعوالي ... فأصبح موثقا فينا أسيرا
أفخرا في الخلاء بغير فخر ... وعند الحرب خوّارا ضجورا
يوم دارة مأسل «2» : لتميم بني قيس
غزا عتبة بن شتير بن خالد الكلابي بني ضبة، فاستاق نعمهم، وقتل حصين بن ضرار الضبي، أبا زيد الفوارس، فجمع أبوه ضرار قومه وخرج ثائرا بابنه حصين، وزيد الفوارس يومئذ حدث لم يدرك، فأغار على بني عمرو بن كلاب، وأفلت منه عتبة بن شتير وأسر أباه شتير بن خالد، وكان شيخا كبيرا أعور، فأتى به قومه، فقال: يا شتير، اختر واحدة من ثلاث. قال: اعرضها عليّ. قال: إمّا أن تردّ ابني حصينا! قال: فإني لا أنشر «3» الموتى! قال: وإمّا أن تدفع إليّ ابنك عتبة أقتله به! قال: لا ترضى بذلك بنو عامر: أن يدفعوا فارسهم شابا مقتبلا بشيخ اعور، هامة اليوم أو غدا «4» . قال: وإمّا أن أقتلك قال: أما هذه فنعم! قال: فأمر ضرار ابنه أدهم أن يقتله، فلما قدمه ليضرب عنقه، نادى شتير: يا آل عامر، صبرا «5» بصبيّ! كأنه أنف أن يقتل بصبي، فقال في ذلك شمعلة في كلمة له طويلة:
وخيّرنا شتيرا في ثلاث ... وما كان الثلاث له خيارا
جعلت السيف بين اللّيت منه ... وبين قصاص لمّته عذارا «6»
وقال الفرزدق يفخر بأيام ضبة:
ومغبوقة قبل القيان كأنها ... جراد إذا أجلى على القزع الفجر «7»(6/43)
عوابس ما تنفكّ تحت بطونها ... سرابيل أبطال بنائقها حمر «1»
تركن ابن ذي الجدّين ينشج مسندا ... وليس له إلا ألاءته قبر «2»
وهنّ على خدّي شتير بن خالد ... أثير عجاج من سنابكها كدر
إذا سوّمت للبأس يغشى ظهورها ... أسود عليها البيض عادتها الهصر «3»
يهزّون أرماحا طوالا متونها ... بهنّ الغنى يوم الكريهة والفقر
أيام بكر على تميم يوم الوقيط
قال فراس بن خندف: تجمعت اللهازم «4» لتغير على تميم وهم غازون، فرأى ذلك ناشب الأعور بن بشامة العنبري، وهو أسير في بني سعد بن مالك بن ضبيعة بن قيس ابن ثعلبة، فقال لهم: أعطوني رسولا أرسله إلى بني العنبر، أوصيهم بصاحبكم خيرا ليولوه مثل الذي تولّوني من البرّ به والإحسان إليه. وكان حنظلة بن الطفيل المرثدي أسيرا في بني العنبر، فقالوا له: على أن توصيه ونحن حضور. قال: نعم. فأتوه بغلام لهم، فقال: لقد أتيتموني أحمق. وما أراه مبلغا عني! قال الغلام: لا والله ما أنا بأحمق، وقل ما شئت فإني مبلغه. فملأ الأعور كفه من الرمل، فقال: كم هذا الذي في كفي من الرمل؟ قال الغلام: شيء لا يحصى كثرة. ثم أومأ إلى الشمس، وقال: ما تلك؟ قال: هي الشمس! قال: فاذهب إلى قومي فأبلغهم عني التحية، وقل لهم يحسنوا إلي أسيرهم ويكرموه، فإني عند قوم محسنين إليّ مكرمين لي، وقل لهم يقروا جملي الأحمر، ويركبوا ناقتي العيساء «5» ، بآية ما أكلت معهم حيسا «6» ، ويرعوا(6/44)
حاجتي في أبيني مالك، وأخبرهم أن العوسج «1» قد أورق، وأن النساء قد تشكت «2» ، وليعصوا همام بن بشامة، فإنه مشئوم محدود «3» ، ويطيعوا هذيل بن الأخنس، فإنه حازم ميمون.
فأتاهم الرسول فأبلغهم، فقال بنو عمرو بن تميم: ما نعرف هذا الكلام، ولقد جنّ الأعور بعدنا، فوالله ما نعرف له ناقة عيساء، ولا جملا أحمر! فشخص الرسول، ثم ناداهم هذيل: يا بني العنبر، قد بين لكم صاحبكم، أما الرمل الذي قبض عليه، فإنه يخبركم أنه أتاكم عدد لا يحصى وأما الشمس التي أومأ إليها، فإنه يقول إن ذلك أوضح من الشمس وأما جمله الأحمر، فإنه هو الصمّان «4» ، يأمركم أن تعروه «5» ، وأما ناقته العيساء، فهي الدهناء «6» ، يأمركم أن تنذروا بني مالك بن مالك ابن زيد مناة ما حذّركم، وأن تمسكوا الحلف بينكم وبينهم، وأما العوسج الذي أورق، فيخبركم أن القوم قد لبسوا السلاح، وأما تشكّي النساء، فيخبركم بأنهنّ قد عملن شكاء «7» يغزون به. قال: وقوله «بآية ما أكلت معكم حيسا» يريد أخلاطا من الناس قد غزوكم.
قال: فتحرزت عمرو فركبت الدهناء، وأنذروا بني مالك، فقالوا: لسنا ندري ما يقول بنو عمرو، ولسنا متحولين لما قال صاحبكم. قال: فصبّحت اللهازم بني حنظلة، فوجدوا عمرا قد خلت، وإنما أرادوهم على الوقيط، وعلى الجيش أبجر بن جابر العجلي، وشهدها ناس من تيم اللات، وشهدها الغزر بن الأسود بن شريد من بني سنان، فاقتتلوا، فأسر ضرار بن القعقاع بن معبد بن زرارة، وتنازع في أسره(6/45)
بشر بن السوراء من تيم اللات، والغزر بن الأسود فجزا ناصيته «1» وخلّا سربه «2» من تحت الليل، وأسر عمرو بن قيس من بني ربيعة بن عجل، وأسر عثجل بن شيبان بن علقمة من بني زرارة، ومنّ عليه، وأسرت غمامة بنت طوق بن عبيد بن زرارة، واشترك في أسرها الحطيم بن خلال، وظربان بن زياد، وقيس بن خالد، وردّوها إلى أهلها، وعيّر جرير بن الخطفي بني دارم بأسر ضرار وعثجلي وبني غمامة، فقال:
أغمام لو شهد الوقيط فوارسي ... ما فيه يقتل عنجل وضرار
فأسر حنظلة المأمون بن شيبان بن علقمة، أسره طيسلة بن زياد أحد بني ربيعة، وأسر جويرية بن بدر من بني عبد الله بن دارم، فلم يزل في الوثاق حتى قال أبياتا يمدح فيها بني عجل، وأنشأ يتغنى بها رافعا عقيرته «3» :
وقائلة ما غاله أن يزورها ... وقد كنت عن تلك الزّيارة في شغل
وقد أدركتني والحوادث جمة ... مخالب قوم لا ضعاف لا عزل
سراع إلى الداعي، بطاء عن الخنا ... رزان لدى الناديّ من غير ما جهل «4»
لعلهم أن يمطروني بنعمة ... كما طاب ماء المزن في البلد المحل «5»
فقد ينعش الله الفتى بعد عسرة ... وقد يتبدي الحسنى سراة بني عجل
فلما سمعوه أطلقوه، وأسر نعيم بن القعقاع بن معبد بن زرارة، وعمرو ابن ناشب، وأسر سنان بن عمرو أخو بني سلامة بن كندة من بني دارم، وأسر حاضر بن ضمرة، وأسر الهيثم بن صعصعة، وهرب عوف بن القعقاع عن إخوته، وقتل حكيم النهشلي، وذلك أنه لم يزل يقاتل وهو يرتجز ويقول:
كلّ امرىء مصبّح في أهله ... والموت أدنى من شراك نعله(6/46)
وفيه يقول عنترة الفوارس:
وغادرنا حكيما في مجال ... صريعا قد سلبناه الإزارا
يوم النباج وثيتل «1» : لتميم على بكر
الخشني قال: أخبرنا أبو غسان العبدي- واسمه رفيع- عن أبي عبيدة معمر بن المثني، قال: غدا قيس بن قاسم في مقاعس وهو رئيس عليها- ومقاعس هو صريم، وربيع، وعبيد، بنو الحارث بن عمرو بن كعب بن سعد بن زيد مناة بن تميم- ومعه سلامة بن ظرب بن نمر الحماني في الأحازب وهم حمان، وربيعة، ومالك، والأعرج- بنو كعب بن سعد بن زيد مناة بن تميم فغزوا بكر بن وائل فوجدوا بني ذهل بن ثعلبة بن عكابة، واللهازم، وهم: بنو قيس وتميم اللات بن ثعلبة، وعجل بن لجيم، وعنزة بن أسد بن ربيعة- بالنباج وثيتل، وبينهما روحة، فتنازع قيس بن عاصم وسلامة بن ظرب في الإغارة، ثم اتفقا على أن يغير قيس على أهل النّباج، ويغير سلامة على أهل الثيتل. قال. فبعث قيس بن عاصم سنان بن سميّ الأهتم شيّفة له- والشّيفة الطليعة- فأتاه الخبر، فلما أصبح قيس سقى خيله ثم أطلق أفواه الرّوايا، وقال قومه: قاتلوا، فإن الموت بين أيديكم، والفلاة من ورائكم! فلما دنوا من القوم صبحا سمعوا ساقيا من بكر يقول لصاحبه: يا قيس أورد فتفاءلوا به، فأغاروا على النباج قبل الصبح، فقاتلوهم قتالا شديد، ثم إن بكرا انهزمت، فأسر الأهتم حمران بن بشر بن عمرو بن مرثد، وأصابوا غنائم كثيرة، فقال قيس لأصحابه: لا مقام دون الثيتل، فالنجاة. فأتوا ثيتل ولم يغز سلامة ولا أصحابه بعد، فأغار عليهم قيس بن عاصم، فقاتلوه ثم انهزموا، فأصاب إبلا كثيرة، فقال سلامة: إنكم أغرتم على ما كان أمره إليّ! فتلاحوا «2» في ذلك، ثم اتفقوا على أن سلموا إليه غنائم ثيتل، ففي ذلك يقول ربيعة بن ظريف:(6/47)
فلا يبعدنك الله قيس بن عاصم ... فأنت لنا عز عزيز وموئل
وأنت الذي خوّيت بكر بن وائل ... وقد عضّلت منها النباج وثيتل «1»
غداة دعت يا آل شيبان إذ رأت ... كراديس يهديهنّ ورد محجّل «2»
وظلت عقاب الموت تهفوا عليهم ... وشعث النواصي لحمهنّ تصلصل «3»
فما منكم أبناء بكر بن وائل ... لغارتنا إلا ركوب مذلل
وقال جرير يصف ما كان من إطلاق قيس بن عاصم أفواه المزاد «4» بقوله:
وفي يوم الكلاب ويوم قيس ... هراق على مسلّحة المزادا «5»
وقال قرة بن قيس بن عاصم:
أنا ابن الذي شقّ المزاد وقد رأى ... بثيتل أحياء اللهازم حصّرا
وصبّحهم بالجيش قيس بن عاصم ... ولم يجدوا إلا الأسنّة مصدرا
على الجرد يعلكن الشكيم عوابسا ... إذا الماء من أعطافهنّ تحدّرا «6»
فلم يرها الراءون إلا فجاءة ... يثرن عجاجا بالسنابك أكدرا «7»
سقاهم بها الذيفان قيس بن عاصم ... وكان إذا ما أورد الأمر أصدرا «8»
وحمران أدّته إلينا رماحنا ... ينازع غلّا من ذراعيه أسمرا «9»
وجشامة الذهليّ قدناه عنوة ... إلى الحي مصفود اليدين مفكّرا «10»(6/48)
يوم زرود: لبني يربوع على بني تغلب
أغار خزيمة بن طارق التغلبي على بني يربوع وهم بزرود، فنذروا به «1» ، فالتقوا فاقتتلوا قتالا شديدا، ثم انهزمت بنو تغلب وأسر خزيمة بن طارق، أسره أنيف بن جبلة الضبي- وهو فارس الشّيط «2» ، وكان يومئذ معتلا في بني يربوع وأسيد بن حناءة السليطي، فتنازعا فيه، فحكما بينهما الحرث بن قراد- وأمّ الحارث امرأة من بني سعد بن ضبة- فحكم بناصية خزيمة للأنيف بن جبلة، على أن لأسيد على أنيف مائة من الإبل. قال: ففدى خزيمة نفسه بمائتي بعير وفرس. قال أنيف:
أخذتك قسرا يا خزيم بن طارق ... ولا قيت مني الموت يوم زرود
وعانقته والخيل تدمى نحورها ... فأنزلته بالقاع غير حميد
أيام يربوع على بكر
وهذه أيام كلها لبني يربوع على بني بكر: من ذلك يوم ذي طلوح «3» ، وهو يوم أود، ويوم الحائر، ويوم ملهم، ويوم القحقح، وهو يوم مالّة ويوم رأس عين، ويوم طخفة، ويوم الغبيط، ويوم مخطّط، ويوم جدود، ويوم الجبايات ويوم زرود الثاني.
يوم ذي طلوح: لبني يربوع على بكر
كان عميرة بن طارق بن حصينة بن أريم بن عبيد بن ثعلبة، تزوج مريّة بنت جابر، أخت أبجر بن جابر العجلي، فخرج حتى ابتنى بها في بني عجل، فأتى أبجر أخته مزنة امرأة عميرة يزورها فقال لها: إني لأرجو أن آتيك ببنت النطف امرأة عميرة التي في قومها! فقال له عميرة: أترضى أن تحاربني وتسبيني؟ فندم أبجر وقال لعميرة: ما كنت لأغزو قومك! ثم غزا أبجر والحوفزان متساندين، هذا فيمن تبعه(6/49)
من بني شيبان، وهذا فيمن تبعه من بني اللهازم، وساروا بعميرة معهم قد وكل به أبجر أخاه حرفصة بن جابر، فقال له عميرة: لو رجعت إلى أهلي فاحتملتهم! فقال حرفصة: افعل. فكر عميرة على ناقته، ثم نكل «1» عن الجيش، فسار يومين وليلة حتى أتى بني يربوع، وأنذرهم الجيش، فاجتمعوا حتى التقوا بأسفل ذي طلوح، فأوّل ما كان فارس طلع عليهم عميرة، فنادى: يا أبجر هلمّ! فقال: من أنت؟ قال:
أنا عميرة! فكذبه، فسفر عن وجهه، فعرفه، فأقبل إليه، والتقت الخيل بالخيل، فأسر الجيش إلّا أقلهم.
وأسر حنظلة بن بشر بن عمرو بن عدس بن زيد بن عبد الله بن دارم- وكان في بني يربوع- الحوفزان بن شريك، وأخذه معه مكبلا، وأخذ ابن طارق سوادة بن يزيد بن بجير بن عم أبجر، وأخذ ابن عنمة الضبي الشاعر، وكان مع بني شيبان، فافتكه متمّم بن نويرة، فقال ابن عنمة يمدح متمم بن نويرة:
جزى الله ربّ الناس عني متمّما ... بخير جزاء، ما أعف وأمجدا
أجيرت به آباؤنا وبناتنا ... وشارك في إطلاقنا وتفرّدا
أبا نهشل إني لكم غير كافر ... ولا جاعل من دونك المال مرصدا
وأسر سويد بن الحوفزان، وأسر سويد وفلحس، وهما من بني سعد بن همام فقال جرير في ذلك يذكر ذي طلوح:
ولمّا لقينا خيل أبجر يدعي ... بدعوى لجيم غير ميل العواتق
صبرنا وكان الصبر منّا سجيّة ... بأسيافنا تحت الظّلال الخوافق
فلما رأوا لا هوادة عندنا ... دعوا بعد كرب يا عمير بن طارق
يوم الحائر: وهو يوم ملهم «2» . لبني يربوع على بكر
وذلك أن أبا مليل عبد الله بن الحارث بن عاصم بن حميد، وعلقمة أخاه، انطلقا(6/50)
يطلبان إبلا لهما، حتى وردا ملهم من أرض اليمامة، فخرج عليهما نفر من بني يشكر، فقتلوا علقمة وأخذوا أبا مليل، فكان عندهم ما شاء الله، ثم خلّوا سبيله، وأخذوا عليه عهدا وميثاقا أن لا يخبر بأمر اخيه أحدا، فأتى قومه، فسألوه عن أمر أخيه، فلم يخبرهم، فقال وبرة بن حمزة: هذا رجل قد أخذ عليه عهد وميثاق! فخرجوا يقصّون أثره، ورئيسهم شهاب بن عبد القيس، حتى وردوا ملهم، فلما رآهم اهل ملهم تحصنوا، فخرقت بني يربوع بعض زرعهم وقتل عمرو بن صابر صبرا «1» ، ضربوا عنقه، وقتل عيينة بن الحارث بن شهب بن مثلّم بن عبيد بن عمرو، رجلا آخر منهم، وقتل مالك بن نويرة حمران بن عبد الله، وقال:
طلبنا بيوم مثل يومك علقما ... لعمري لمن يسعى بها كان أكرما
قتلنا بجنب العرض عمرو بن صابر ... وحمران أقصدناهما والمثلما «2»
فلله عينا من رأى مثل خيلنا ... وما أدركت من خيلهم يوم ملهما
يوم القحقح: وهو يوم مالة. لبني يربوع على بني بكر
أغارت بنو أبي ربيعة بن ذهل بن شيبان على بني يربوع، ورئيسهم مجبه بن ربيعة ابن ذهل، فأخذوا إبلا لعاصم بن قرط أحد بني عبيد، وانطلقوا: فطلبهم بنو يربوع، فناوشوهم، فكانت الدائرة على بني ربيعة، وقتل المنهال بن عصمة المجبه بن ربيعة، فقال في ذلك نمران الرياحي:
وإذا لقيت القوم فاطعن فيهم ... يوم اللّقاء كطعنة المنهال
ترك المجبّه للضّياع منكّسا ... وللقوم بين سوافل وعوال «3»
يوم رأس العين: لبني يربوع على بكر
أغارت طوائف من بني يربوع على بني أبي ربيعة برأس العين، فاطّردوا النعم(6/51)
فاتبعهم معاوية بن فراس في بني أبي ربيعة، فأدركوهم، فقتل معاوية بن فراس وفاتوا «1» بالإبل، وقال سحيم في ذلك:
أليس الأكرمون بنو رياح ... نموني منهم عمي وخالي
هم قتلوا المجبّه وابن تيم ... تنوح عليهما سود اللّيالي
وهم قتلوا عميد بني فراس ... برأس العين في الحجج الخوالي «2»
وذادوا يوم طخفة عن حماهم ... ذياد غرائب الإبل النّهال «3»
يوم العظالى «4» : لبني يربوع على بكر
قال أبو عبيدة: وهو يوم أعشاش «5» ، ويوم الأفاقة «6» ، ويوم الإياد، ويوم مليحة «7» .
قال وكانت بكر بن وائل تحت يد كسرى وفارس، وكانوا يجيرونهم ويجهزونهم، فأقبلوا من عند عامل عين التمر «8» في ثلاثمائة فارس متساندين، يتوقعون انحدار بني يربوع في الحزن- وكانوا يشتون «9» خفافا «10» ، فإذا انقطع الشتاء انحدروا إلى الحزن- قال: فاحتمل بنو عتيبة، وبنو عبيد، وبنو زبيد من بني سليط، من أول الحي، حتى استهلوا ببطن مليحة، فطلعت بنو زبيد في الحزن حتى حلّوا الحديقة «11» والأفاقة، وحلت بنو عتيبة وبنو عبيد بعين بروضة الثّمد «12» .(6/52)
قال: وأقبل الجيش حتى نزلوا خضبة الخصيّ، ثم بعثوا رئيسهم، فصادفوا غلاما شابا من بني عبيدة يقال له قرط بن أهبط، فعرفه بسطام- وقد كان عرفه عامة غلمان بني ثعلبة حين أسره عتيبة، قال: وقال سليط: بل هو المطوّح بن قرواش- فقال له بسطام: أخبرني، ماذاك السواد الذي بالحديقة؟ قال: هم بنو زبيد، قال:
أفيهم أسيد بن حنّاءة؟ قال: نعم. قال: كم هم؟ قال: خمسون بيتا. قال: فأين بنو عتيبة؟ وأين بنو أزنم؟ قال: نزلوا روضة الثمد. قال: فأين سائر الناس؟ قال: هم محتجزون بخفاف. قال: فمن هناك من بني عاصم؟ قال الاحيمر، وقعنب ومعدان، ابنا عصمة. قال: فمن فيهم من بني الحارث بن عاصم؟ قال: حصين بن عبد الله.
فقال بسطام لقومه: أطيعوني تقبضوا على هذا الحي من زبيد وتصبحوا سالمين غانمين. قالوا: وما يغني عنا بنو زبيد لا يودون رحلتنا. قال: إن السلامة إحدى الغنيمتين. فقال له مفروق: انتفخ تتحول يا أبا الصهباء. وقال له هانىء: أحينا! فقال لهم: ويلكم! إن أسيدا لم يظلّه بيت قط شاتيا ولا قائظا، إنما بيته القفر، فإذا أحس بكم أجال على الشقراء فركض حتى يشرف على مليحة، فينادي: يا آل يربوع! فتركب، فليقاكم طعن ينسيكم الغنيمة، ولا يبصر احدكم مصرع صاحبه، وقد جئتموني وأنا أتابعكم، وقد أخبرتكم ما أنتم لا قون غدا! فقالوا:
نلتقط بني زبيد، ثم نلتقط بني عبيدة وبني عتيبة، كما نلتقط الكمأة «1» ، ونبعث فارسين فيكونان بطريق أسيد، فيحولان بينه وبين يربوع. ففعلوا، فلما أحس بهم أسيد ركب الشقراء، ثم خرج نحو بني يربوع، فابتدره الفارسان، فطعن أحدهما فألقى نفسه في شق فأخطأه. ثم كرّر راجعا حتى أشرف على مليحة، فنادى: يا صباحاه! يا آل يربوع! غشيتم! فتلاحقت الخيل حتى توافوا بالغطفان، فاقتتلوا، فكانت الدائرة على بني بكر، قتل منهم: مفروق بن عمرو، فدفن بثينة «2» يقال لها ثينة مفروق، والمقاعس الشيباني، وزهير بن الحزور الشيباني، وعمرو بن الحزور الشيباني،(6/53)
والهيش بن المقعاس، وعمير بن الودّاك، والضريس، وأما بسطام فألح عليه فارسان من بني يربوع، وكان دارعا «1» على ذات النّسوع «2» ، وكانت إذا أجدّت «3» لم يتعلق بها شيء من خيلهم، وإذا أوعثت «4» كادوا يلحقونها، فلما رأى ثقل درعه وضعها بين يديه على القربوس «5» ، وكره أن يرمي بها، وخاف أن يلحق في الوعث. فلم يزل ديدنه وديدن طالبيه، حتى حميت الشمس وخاف اللحاق، فمر بوجار «6» ضبع، فرمى الدرع فيه. فمد بعضها بعضا حتى غابت في الوجار. فلما خففت عن الفرس نشطت ففاتت الطلب وكان آخر من أتى قومه، وقد كان رجع إلى درعه لما رجع عنه القوم فأخذها. فقال العوام في بسطام وأصحابه:
وإن يك في يوم الغبيط ملامة ... فيوم العظالى كان أخزى وألوما
أناخوا يريدون الصباح فصبحّوا ... وكانوا على الغازين غدوة أشأما
فررتم ولم تلووا على مجحريكم ... لو الحارث الحرّاب يدعى لأقدما «7»
ولو أنّ بسطاما أطيع لأمره ... لأدّى إلى الأحياء بالحنو مغنما
ففرّ أبو الصهباء إذ حمى الوغى ... وألقى بأبدان السلاح وسلّما
وأيقن أن الخيل إن تلتبس به ... يعد غانما أو يملإ البيت مأتما
ولو أنها عصفورة لحسبتها ... مسوّمة تدعو عبيدا وأزنما «8»
أبى لك قيد بالغبيط لقاءهم ... ويوم العظالى إن فخرت مكلّما
فأفلت بسطام حريصا بنفسه ... وغادر في كرشاء لدنا مقوما «9»(6/54)
وقاظ أسيرا هانىء وكأنما ... مفارق مفروق تغشّين عندما «1»
قال: ثم إنّ خانئا فدى نفسه وأسرى قومه، فقال العوام في ذلك:
إنّ الفتى هانئا لاقى بشكّته ... ولم يجم عن قتال القوم إذ نزلا «2»
ثمّت سارع في الأسرى ففكّهم ... حامى الذّمار حقيق بالذي فعلا
يوم الغبيط «3» لبني يربوع على بني بكر
قال أبو عبيدة: يقال لهذا اليوم: يوم الغبيط، ويوم الثعالب- والثعالب أسماء قبائل اجتمعت فيه- ويقال له: يوم صحراء فلج.
وقال أبو عبيدة: حدّثني سليط بن سعد، زبّان الصّبيريّ، وجهم بن حسان السّليطي، قالوا: غزا بسطام بن قيس، ومفروق بن عمرو، والحارث بن شريك- وهو الحوفزان- بلاد بني تميم- وهذا اليوم قبل يوم العظالي- فأغاروا على بني ثعلبة بن يربوع، وثعلبة بن سعد بن ضبة، وثعلبة بن عدي بن فزارة، وثعلبة بن سعد بن ذبيان، فذلك قيل له يوم الثعالب، وكان هؤلاء جميعا متجاورين بصحراء فلج فاقتتلوا، فانهزمت الثعالب فأصابوا فيهم واستاقوا إبلا من نعمهم، ولم يشهد عتيبة ابن الحارث بن شهاب هذه الوقعة، لأنه كان نازلا يومئذ في بني مالك بن حنظلة، ثم امترّوا «4» على بني مالك، وهم بين صحراء فلج وبين الغبيط، فاكتسحوا إبلهم، فركبت عليهم بنو مالك، فيهم عتيبة بن الحارث بن شهاب، ومعه فرسان من بني يربوع يأثفهم- أي صار معهم مثل الأثافي «5» المرماد- وتألّف إليهم الأحيمر بن عبد الله، والأسيد بن حنّاءة، وأبو مرحب، وجرو بن سعد الرياحي وهو رئيس بني(6/55)
يربوع- وربيع، والخليس، وعمارة، وبنو عتيبة بن الحارث، ومعدان وعصمة ابنا قعنب، ومالك بن نويرة، والمنهال بن عصمة أحد بني رياح بن يربوع، وهو الذي يقول فيه متّمم بن نويرة في شعره الذي يرثي فيه مالكا أخاه:
لقد غيّب المنهال تحت لوائه ... فتى غير مبطان العشية أروعا «1»
فأدركهم بغبيط المدرة «2» ، فقاتلوهم حتى هزموهم، وأدركوا ما كانوا استاقوا من أموالهم، وألح عتيبة والأسيد والأحيمر على بسطام، فلحقه عتيبة فقال: استأسر لي يا أبا الصهباء! فقال: ومن أنت؟ قال: أنا عتيبة، وأنا خير لك من الفلاة والعطش! فأسره عتيبة. ونادى القوم بجادا أخا بسطام: كرّ على أخيك! وهم يرجون أن يأسروه، فناداه بسطام: إن كررت فأنا حنيف «3» . وكان بسطام نصرانيا، فلحق نجاد بقومه، فلم يزل بسطام عند عتيبة حتى فادى نفسه.
قال أبو عبيدة: فزعم أبو عمرو بن العلاء أنه فدى نفسه بأربعمائة بعير وثلاثين فرسا، ولم يكن عربي عكاظي أعلى فداء منه، على أن جز ناصيته وعاهده أن لا يغزو بني شهاب أبدا، فقال عتيبة بن الحارث بن شهاب:
أبلغ سراة بني شيبان مألكة ... أني أبأت بعبد الله بسطاما «4»
قاظ الشربّة في قيد وسلسلة ... صوت الحديد يغنّيه إذا قاما «5»
يوم مخطط: لبني يربوع على بكر
قال أبو عبيدة: غزا بسطام بن قيس والحوفزان الحرث متساندين يقودان بكر بن وائل، حتى وردوا على بني يربوع بالفردوس، وهو بطن لإياد، وبينه وبين مخطط(6/56)
ليلة، وقد نذرت بهم بنو يربوع فالتقوا بالمخطط، فاقتتلوا، فانهزمت بكر بن وائل، وهرب الحوفزان وبسطام ففاتا ركضا، وقتل شريك بن الحوفزان، قتله شهاب بن الحارث أخو عتيبة، وأسر الأحيمر بن عبد الله بن الضريس الشيباني، فقال في ذلك مالك بن نويرة ولم يشهد هذا اليوم:
إلّا أكن لاقيت يوم مخطّط ... فقد خبّر الرّكبان ما أتودّد
بأفناء حيّ من قبائل مالك ... وعمرو بن يربوع أقاموا فأخلدوا
فقال الرئيس الحوفزان تبيّنوا ... بني الحصن قد شارفتم ثم حرّدوا «1»
فما فتئوا حتى رأونا كأننا ... مع الصبح اذيّ من البحر مزبد «2»
بملمومة شهباء يبرق خالها ... ترى الشمس فيها حين دارت توقد «3»
فما برحوا حتى علتهم كتائب ... إذا طعنت فرسانها لا تعرد «4»
فأقررت عيني يوم ظلّوا كأنهم ... ببطن غبيط خشب أثل مسنّد «5»
صريع عليه الطير يحجل فوقه ... وآخر مكبول اليدين مقيّد «6»
وكان لهم في أهلهم ونسائهم ... مبيت ولم يدروا بما يحدث الغد
وقد كان لابن الحوفزان لو انتهى ... شريك وبسطام عن الشرّ مقعد
يوم جدود «7»
غزا الحوفزان، وهو الحارث بن شريك، فأغار على من بالقاعة «8» من بني سعد(6/57)
ابن زيد مناة، فأخذ نعما كثيرا، وسبى فيهنّ الزرقاء من بني ربيع بن الحارث، فأعجب بها وأعجبت به، وكانت خرقاء، فلم يتمالك أن وقع بها، فلما انتهى إلى جدود، منعتهم بنو يربوع بن حنظلة أن يردوا الماء، ورئيسهم عتيبة بن الحارث بن شهاب، فقاتلوهم، فلم يكن لبني بكر بهم يد، فصالحوهم على أن يعطوا بني يربوع بعض غنائهم، على أن يخلّوهم [أن] يردوا الماء، فقبلوا ذلك وأجازوهم، فبلغ ذلك بني سعد، فقال قيس بن عاصم في ذلك:
جزى الله يربوعا بأسوأ سعيها ... إذا ذكرت في النائبات أمورها
ويوم جدود قد فضحتم أباكم ... وسالمتم والخيل تدمى نحورها
فأجابه مالك:
سأسأل من لاقى فوارس منقذ ... رقاب إماء كيف كان نكيرها «1»
ولما أتى الصريخ بني سعد، ركب قيس بن عاصم في أثر القوم حتى أدركهم بالأشيمين، فألح قيس على الحوفزان وقد حمل الزرقاء، وكان الحوفزان قد خرج في طليعة، فلقيه قيس بن عاصم فسأله من هو، فقال: لا تكاتم اليوم، أنا الحوفزان، فمن أنت؟ قال: أنا أبو علي. ومضى، ورجع الحوفزان إلى أصحابه، فقال: لقيت رجلا أزرق كأنّ لحيته ضريبة «2» صوف فقال: أنا أبو علي. فقالت عجوز من السبي: بأبي أبو علي! ومن لنا بأبي علي؟ فقال لها: ومن أبو علي؟ قالت: قيس بن عاصم! فقال لأصحابه: النجاء! وأردف الزرقاء خلفه وهو على فرسه الزّبد، وعقد شعرها إلى صدره ونجا بها. وكانت فرس قيس إذا أوعثت «3» قصّرت وتمطر عليها الزّبد، فلما أجدّت «4» لحقت بحيث يكلم الحوفزان، فقال قيس له: يا أبا حمار، أنا خير لك من الفلاة والعطش! قال له الحوفزان: ما شاء الزبد. فلما رأى قيس أن فرسه لا يلحقه، نادى الزرقاء فقال: ميلي به يا جعار! فلما سمعه الحوفزان، دفعها(6/58)
بمرفقه وجزّ قرونها بسيفه، فألقاها عن عجز فرسه، وخاف قيس أن لا يلحقه فنجله «1» بالرمح في خرابة وركه «2» ، فلم يقصده وعرج منها وردّ قيس الزرقاء إلى بني الربيع، فقال سوّار بن حيّان المنقري:
ونحن حفزنا الحوفزان بطعنة ... تمجّ نجيعا من دم الجوف أشكلا «3»
يوم سفوان «4»
قال أبو عبيدة: التقت بنو مازن وبنو شيبان على ماء يقال له سفوان فزعمت بنو شيبان أنه لهم، وأرادوا أن يجلوا تميما عنه، فاقتتلوا قتالا شديدا، فظهرت عليهم بنو تميم، وذادوهم حتى وردوا المحدّث «5» ، وكانوا يتوعّدون بني مازن قبل ذلك، فقال في ذلك وذاك المازني:
رويدا بني شيبان بعض وعيدكم ... تلاقوا غدا خيلي على سفوان
تلاقوا جيادا لا تحيد عن الوغى ... إذا الخيل جالت في القنا المتداني
عليها الكماة الغرّ من آل مازن ... ليوث طعان كلّ يوم طعان «6»
تلاقوهم فتعرفوا كيف صبرهم ... على ما جنت فيهم يد الحدّثان
مقاديم وصّالون في الروع خطوهم ... بكلّ رقيق الشّفرتين يمان «7»
إذا استنجدوا لم يسألوا من دعاهم ... لأيّة حرب أم لإيّ مكان
يوم السلي
قال أبو عبيدة: كان من حديث يوم السلي أن بني مازن أغارت على بني يشكر(6/59)
فأصابوا منهم، وشدّ زاهر بن عبد الله بن مالك على تميم بن ثعلبة اليشكري فقتله، فقال في ذلك:
لله تيم أيّ رمح طراد ... لاقى الحمام وأي نصل جلاد «1»
ومحش حرب مقدم متعرّض ... للموت غير معرّد حيّاد «2»
وقال حاجب بن ذبيان المازني:
سلى يشكرا عني وأبناء وائل ... لهازمها طراّ وجمع الأراقم
ألم تعلمي أنّا إذا الحرب شمرت ... سمام على أعدائنا في الحلاقم
عتاة قراة في الشّتاء مساعر ... حماة كماة كالليوث الضراغم «3»
بأيديهم سمر من الخطّ لدنة ... وبيض تجلى عن فراخ الجماجم «4»
أولئك قوم إن فخرت بعزّهم ... فخرت بعزّ في اللهى والغلاصم «5»
هم أنزلوا يوم السليّ عزيزها ... بسمر العوالي والسّيوف الصّوارم
يوم نقا «6» الحسن: وهو يوم السقيفة لبني ضبة على شيبان
قال أبو عبيدة: غزا بسطام بن قيس بن مسعود بن قيس بن خالد- وقيس بن مسعود هو ذو الجدّين وأخوه، السليل بن قيس بن ضبة بن أد بن طابخة- فأغار على ألف بعير لمالك بن المنتفق فيها فحلها قد فقأ عينه، وفي الإبل مالك بن المنتفق، فركب فرسا له ونجا ركضا، حتى إذا دنا من قومه نادى: يا صباحاه! فركبت بنو ضبة، وتداعت بنو تميم، فتلاحقوا بالنقا، فقال عاصم بن خليفة لرجل من فرسان(6/60)
قومه أيّهم رئيس القوم؟ قال: حاميتهم صاحب الفرس الأدهم يعني بسطاما، فعلا عاصم عليه بالرمح فعارضه، حتى إذا كان بحذائه رمى بالقوس وجمع يديه في رمحه فطعنه، فلم تخطيء صماخ أذنه، حتى خرج الرمح من الناحية الأخرى، وخرّ على الألاءة- والألاءة شجرة- فلما رأى ذلك بنو شيبان خلّوا سبيل النعم وولوا الأدبار، فمن قتيل وأسير، وأسر بنو ثعلبة بجاد بن قيس بن مسعود أخا بسطام في سبعين من بني شيبان، فقال ابن غنمة الضبي، وهو مجاوز يومئذ في بني شيبان يرثي بسطاما وخاف أن يقتلوه، فقال:
لأمّ الأرض ويل ما أجنّت ... بحيث أضرّ بالحسن السبيل «1»
نقسم ماله فينا وندعو ... أبا الصهباء إذ جنح الأصيل «2»
كأنك لم تريه ولم تريه ... تخبّ به عذا فرة ذمول «3»
حقيبة رحّلها بدن وسرج ... تعارضها مربّبة دءول «4»
إلى مسعاد أرعن مكفهر ... تضمّر في جوانبه الخيول «5»
لك المرباع منها والصّفايا ... وحكمك والنشيطة والفضول «6»
لقد ضمنت بنو زيد بن عمرو ... ولا يوفي ببسطام قتيل
فخرّ على الألاءة لم يوسّد ... كأنّ جبينه سيف صقيل «7»
فإن تجزع عليه بنو أبيه ... فقد فجعوا وحلّ بهم جليل
بمطعام إذا الأشوال راحت ... إلى الحجرات ليس لها فصيل «8»(6/61)
وقال شمعلة بن الأخضر بن هبيرة:
ويوم شقائق الحسنين لاقت ... بنو شيبان آجالا قصارا «1»
شككنا بالرماح وهنّ زور ... صماخي كبشهم حتى استدارا «2»
وأوخذناه أسمر ذا كعوب ... يشبّه طوله مسدا مغارا «3»
وقال محرز بن المكعبر الضبي:
أطلقت من شيبان سبعين راكبا ... فآبوا جميعا كلهم ليس بشكر «4»
إذا كنت في أفنان شيبان منعما ... فجزّ اللحى إنّ النواصي تكفر «5»
فلا شكرهم أبغي إذا كنت منعما ... ولا ودّهم في آخر الدهر أضمر
أيام بكر على تميم
يوم الزّويرين
قال أبو عبيدة: كانت بكر بن وائل تنتجع أرض تميم في الجاهلية ترعى بها إذا أجدبوا، فإذا أرادوا الرجوع لم يدعوا عورة يصيبونها ولا شيئا يظفرون به إلا اكتسحوه، فقالت بنو تميم: امنعوا هؤلاء القوم من رعي أرضكم وما يأتون إليكم فحشدت تميم، وحشدت بكر واجتمعت، فلم يتخلف منهم إلا الحوفزان بن شريك في أناس من بني ذهل بن شيبان وكان غازيا، فقدّمت بكر عليهم عمرا الأصم أبا مفروق- قال: وهو عمرو بن قيس بن مسعود أبو عمر بن أبي ربيعة بن ذهل بن شيبان- فحسد سائر ربيعة الأصم على الرياسة، فأتوه فقالوا: يا أبا مفروق، إنا قد زحفنا لتميم وزحفوا لنا أكثر ما كنا وكانوا قط. قال: فما تريدون؟ قالوا: نريد أن نجعل كل حي على حياله، ونجعل عليهم رجلا منهم، فنعرف غناء كل قبيلة، فإنه(6/62)
أشدّ لاجتهاد الناس! قال: والله إني لأبغض الخلاف عليكم، ولكن يأتي مفروق فينظر فيما قلتم. فلما جاء مفروق شاوره أبوه- وذلك أول يوم ذكر فيه مفروق بن عمرو- فقال له مفروق: ليس هذا أرادوا، وإنما أرادوا أن يخدعوك عن رأيك وحسدوك على رياستك، والله لئن لقيت القوم فظفرت لا يزال الفضل لنا بذلك أبدا، ولئن ظفر بك لا تزال لنا رياسة نعرف بها! فقال الأصم: يا قوم، قد استشرت مفروقا فرأيته مخالفا لكم، ولست مخالفا رأيه وما أشار إليه. فأقبلت تميم بجملين مجللين مقرونين مقيدين، وقالوا: لا نولّي حتى يولي هذان الجملان، وهما الزويران. فأخبرت بكر بقولهم الأصمّ، فقال: وأنا زويركم، إن حشّوهما فحشّوني «1» ، وإن عقروهما فاعقروني! قال: والتقى القوم، فاقتتلوا قتالا شديدا.
قال: وأسرت القوم بنو تميم، حرّاث بن مالك أخا مرة بن همام، فركض به رجل منهم وقد أردفه، واتبعه ابنه قتادة بن حراث، حتى لحق الفارس الذي أسر أباه، فطعنه فأراده عن فرسه، واستنقذ أباه، ثم استحرّ بين الفريقين القتال، فانهزمت بنو تميم، فقتل منهم مقتلة عظيمة. فممن قتل منهم: أبو الرئيس النهشلي. وأخذت بكر الزويرين، أخذتهما بنو سدوس بن شيبان بن ذهل بن ثعلبة، فنحروا أحدهما فأكلوه وافتحلوا الآخر، وكان نجيبا، فقال رجل من بني سدوس:
يا سلم إن تسألي عنّا فلا كشف ... عند اللّقاء ولسنا بالمقاريف
نحن الذين هزمنا يوم صبّحنا ... جيش الزّويرين في جمع الأحاليف
ظلّوا وظللنا نكر الخيل وسطهم ... بالشّيب منّا وبالمرد الغطاريف «2»
وقال الأغلب بن جشم العجلي:
جاءوا بزويرهم وجئنا بالأصمّ ... شيخ لنا قد كان من عهد إرم
يكرّ بالّسيف إذا الرمح انحطم ... كهمّة الليث إذا ما الليث همّ(6/63)
كانت تميم معشرا ذوي كرم ... غلصمة من الغلاصيم العظم «1»
قد نفخوا لو ينفخون في فحم ... وصبروا لو صبروا على أمم «2»
إذا ركبت ضبّة أعجاز النّعم ... فلم ندع ساقا لها ولا قدم
يوم الشيطين «3» : لبكر على تميم
قال أبو عبيدة: لما ظهر الإسلام- قبل أن يسلم أهل نجد والعراق- سارت بكر ابن وائل إلى السواد، وقالت: نغير على تميم بالشيّطين، فإن في دين ابن عبد المطلب: من قتل نفسا قتل بها: فنغير هذا العام ثم نسلم عليها! فارتحلوا من لعلع «4» بالذراري والأموال: فأتوا الشيطين في أربع، وبينهما مسيرة ثمانية أميال، فسبقوا كل خير حتى صبحوهم وهم لا يشعرون، ورئيسهم يومئذ بشر بن مسعود بن قيس بن خالد ذي الجدين، فقتلوا بني تميم قتلا ذريعا، وأخذوا أموالهم، واستحرّ «5» القتل في بني العنبر وبني ضبة وبني يربوع، دون بني مالك بن حنظلة.
قال أبو عبيدة: حدثنا أبو الحمناء العنبري، قال قتل من بني تميم يوم الشيّطين ستّمائة رجل. قال: فوفد وفد بني تميم على النبي صلّى الله عليه وسلم، فقالوا: ادع الله على بكر بن وائل! فأبى رسول الله صلّى الله عليه وسلّم، فقال رشيد ابن رميص العنبري:
وما كان بين الشّيطين ولعلع ... لسوقنا إلّا مراجع أربع
فجئنا بجمع لم ير النّاس مثله ... يكاد له ظهر الوريعة يضلع «6»
بأرعن دهم شيّد البلق وسطه ... له عارض فيه الأسنّة تلمع «7»
صبحنا به سعدا وعمرا ومالكا ... فكان لهم يوم من الشّرّ أشنع
فخّلوا لنا صحن العراق وإنّه ... حمى منهم لا يستطاع ممنّع(6/64)
يوم صعفوق «1» : لبكر على تميم
أغارت بنو أبي ربيعة على بني سليط بن يربوع يوم صعفوق، فأصابوا منهم أسرى، فأتى طريف بن تميم العنبري فروة بن مسعود، وهو يومئذ سيد بني أبي ربيعة، ففدى منهم أسرى بني سليط ورهنهم ابنه، فأبطأ عليهم فقتلوا ابنه، فقال:
لا تأمننّ سليمى أن أفارقها ... صرمى الظعائن بعد اليوم صعفوق «2»
أعطيت أعداءه طوعا برمّته ... ثم انصرفت وظني غير موثوق
يوم مبايض: لبكر على تميم
قال أبو عبيدة: كانت الفرسان إذا كانت أيام عكاظ في الشهر الحرام وأمن بعضهم بعضا، تقنّعوا كي لا يعرفوا، وكان طريف بن تميم العنبري لا يتقنّع كما يتقنعون، فوافى عكاظ وقد كشفت بكر بن وائل، وكان طريف قتل شراحيل الشيباني أحد بني عمرو بن أبي ربيعة بن ذهل بن شيبان، فقال حمصيصة: أروني طريفا. فأروه إياه، فجعل كلما مر به تأمله ونظر إليه ففطن طريف، فقال: مالك تنظر إليّ؟ فقال: أترسّمك لأعرفك: فلله عليّ إن لقيتك أن أقتلك أو تقتلني! فقال طريف في ذلك:
أو كلما وردت عكاظ قبيلة ... بعثوا إليّ عريفهم يتوسّم
فتوسّموني إنني أنا ذلكم ... شاكي سلاحي في الحوادث معلم «3»
تحتى الأغرّ وفوق جلدي نثرة ... زغف تردّ السّيف وهو مثلّم «4»
حولي أسيّد والهجيم ومازن ... وإذا حللت فحول بيتي خضّم «5»(6/65)
قال: فمضى لذلك ما شاء الله، ثم إن بني عائدة حلفاء بني أبي ربيعة بن ذهل بن أبي شيبان- وهم يزعمون أنهم من قريش، وأن عائدة بن لؤي بن غالب- خرج منهم رجلان يصيدان، فعرض لهما رجل من بني شيبان، فذعر عليهما صيدهما، فوثبا عليه فقتلاه، فثارت بنو مرة بن ذهل بن شيبان يريدون قتلهما فأبت بنو ربيعة عليهم ذلك، فقال هانيء بن مسعود: يا بني ربيعة، إن إخوتكم قد أرادوا طلبكم فانمازوا «1» عنهم. قال: ففارقوهم وساروا حتى نزلوا بمبايض، ماء لهم- ومبايض علم من وراء الدهناء- فأبق عبد لرجل من بني أبي ربيعة، إن إخوتكم قد أرادوا طلبكم فانمازوا «2» عنهم. قال: ففارقوهم وساروا حتى نزلوا بمبايض، ماء لهم- ومبايض علم من وراء الدهناء- فأبق عبد لرجل من بني أبي ربيعة، فسار إلى بلاد تميم، فأخبرهم أن حياّ جديدا من بني بكر بن وائل نزول على مبايض، وهم بنو أبي ربيعة والحي الجديد المنتقى من قومه، فقال طريف العنبري: هؤلاء ثأري يا آل تميم، إنما هم أكلة رأس «3» . وأقبل في بني عمرو بن تميم، وأقبل معه أبو الجدعاء، أحد بني طهية، وجاءه فدكي بن أعبد المنقري في جمع من بني سعد بن زيد مناة، فنذرت بهم بنو أبي ربيعة، فانحاز بهم هانيء بن مسعود وهو رئيسهم، إلى علم مبايض، فأقاموا عليه وشرقوا «4» بالأموال والسّرح «5» ، وصبّحتهم بنو تميم، فقال لهم طريف: أطيعوني وافرغوا من هؤلاء الأكلب يصف لكم ما وراءهم. فقال له أبو الجدعاء رئيس بني حنظلة، فدكي رئيس بن سعد بن مناة: أنقاتل أكلبا أحرزوا نفوسهم ونترك أموالهم؟ ما هذا يرأى، وأبوا عليه. فقال هانيء لأصحابه: لا يقاتل رجل منكم ولحقت تميم بالنعم والبغال فأغاروا عليها، فلما ملئوا أيديهم من الغنيمة قال هانيء بن مسعود لأصحابة: احملوا عليهم. فهزموهم وقتلوا طريفا العنبري، قتله حمصيصة الشيباني، وقال:
ولقد دعوت طريف دعوة جاهل ... سفها وأنت بمعلم قد تعلم
وأتيت حيا في الحروب محلّهم ... والجيش باسم أبيهم يستقدم(6/66)
فوجدت قوما يمنعون ذمارهم ... بسلا، إذا هاب الفوارس أقدموا «1»
وإذا دعوا أبني ربيعة! شمّروا ... بكتائب دون السماء تلملم «2»
حشدوا عليك وعجّلوا بقراهم ... وحموا ذمار أبيهم أن يشتموا
سلبوك درعك والأغرّ كلاهما ... وبنو أسيد أسلموك وخضّم «3»
يوم فيحان «4» : لبكر على تميم
قال أبو عبيدة: لما بدى بسطام بن قيس من عتيبة بن الحارث إذ أسر يوم الغبيط بأربعمائة بعير، قال: لأدركن عقل إبلي! فأغار بفيحان، فأخذ الربيع بن عتيبة واستاق ماله، فلما سار يومين شغل عن الربيع بالشراب، وقد مال الربيع على قدّه حتى لان، ثم خلعه وانحلّ منه. ثم جال في متن ذات النسوع- فرس بسطام- وهرب، فركبوا في أثره، فلما يئسوا منه ناداه بسطام: يا ربيع، هلم طليقا! فأبى. قال: وأتى نادي قومه يحدثهم، فجعل يقول في أثناء حديثه: إيها يا ربيع! انج ربيع! وكان معه رثي.
قال: وأقبل ربيع حتى انتهى إلى أدنى بني يربوع، فإذا هو براع، فاستسقاه وضربت الفرس برأسها فماتت. فسمي ذلك المكان إلى اليوم: هبير «5» الفرس. قال له أبو عتيبة: أما إذ نجوت بنفسك فإني مخلف لك مالك.
يوم ذي قار الأول: لبكر على تميم
قال أبو عبيدة: فخرج عتيبة في نحو خمسة عشر فارسا من بين يربوع فكمن في(6/67)
حمى ذي قار، حتى مرت به إبل بني الحصين بالفداوية، اسم ماء لهم، فصاحوا بمن بها من الحامية والرّعاء، ثم استاقوها.
فأخلف للربيع ما ذهب له، وقال:
ألم ترني أفأت على ربيع ... جلادا في مباركها وخورا «1»
وأني قد تركت بني حصين ... بذي قار يرمّون الأموار
يوم الحاجز «2» : لبكر على تميم
قال أبو عبيدة: خرج وائل بن صريم اليشكري من اليمامة، فلقيه بنو أسيد بن عمرو بن تميم، فأخذوه أسيرا، فجعلوا يغمسونه في الرّكيّة «3» ويقولون:
يا أيها الماتح دلوي دونكا «4»
حتى قتلوه، فغزاهم أخوه باعث بن صريم يوم حاجز، فأخذ ثمامة بن باعث بن صريم رجلا من بني أسيد كان وجيها فيهم فقتله، وقتل على الظنّة مائة منهم، فقال باعث بن صريم:
سائل أسيدا هل ثأرت بوائل ... أم هل شفيت النّفس من بلبالها «5»
إذ أرسلوني ماتحا لدلاتهم ... فملأتها علقا إلى أسبالها «6»
إني ومن سمك السّماء مكانها ... والبدر ليلة نصفها وهلالها «7»
آليت أثقف منهم ذا لحية ... أبدا فتنظر عينه في مالها(6/68)
وقال: سائل أسيدا هل ثأرت بوائل ... أم هل أتيتهم بأمر مبرم
إذ أرسلوني ماتحا لدلائهم ... فملأتهن إلى العراق بالدّم! «1»
يوم الشقيق «2» : لبكر على تميم
قال أبو عبيدة: أغار أبحر بن جابر العجلي على بني مالك بن حنظلة، فسبي سليمى بنت محصن، فولدت له أبجر. ففي ذلك يقول أبو النجم:
ولقد كررت على طهيّة كرة ... حتى طرقت نساءها بمساء
حرب البسوس وهي حرب بكر وتغلب، ابني وائل
أبو المنذر هشام بن محمد بن السائب قال: لم تجتمع معد كلها الا على ثلاثة رهط من رؤساء العرب، وهم عامر، وربيعة، وكليب.
فالاول: عامر بن الظرب بن عمرو بن بكر بن يشكر بن الحارث، وهو عدوان بن عمرو بن قيس بن عيلان، وهو الناس بن مضر. وعامر بن الظرب هو قائد معدّ يوم البيداء «3» ، حين تمذحجت مذحج وسارت إلى تهامة، وهي أول وقعة كانت بين تهامة واليمن والثاني: ربيعة بن الحارث بن مرة بن زهير بن جشم بن بكر بن حبيب بن كعب، هو قائد معد يوم السّلّان «4» ، وهو يوم كان بين اهل تهامة واليمن.
والثالث: كليب بن ربيعة، وهو الذي يقال فيه: أعز من كليب وائل. وقاد معدّ(6/69)
كلها يوم خزاز «1» ، ففض جموع اليمن وهزمهم، فاجتمعت عليه معد كلها، وجعلوا له قسم الملك وتاجه ونجيبته «2» وطاعته فغبر بذلك حينا من دهره. ثم دخله ز هو شديد، وبغى على قومه لما هو فيه من عزه، وانقياد معدّ له، حتى بلغ من بغيه انه كان يحمي مواقع السحاب فلا يرعى حماه، ويجير على الدهر فلا تخفر ذمّته، ويقول:
وحش ارض كذا في جواري! فلا يهاج، ولا تورد إبل احد مع ابله، ولا توقد نار مع ناره، حتى قالت العرب: اعز من كليب وائل.
وكانت بنو جشم وبنو شيبان في دار واحدة بتهامة، وكان كليب بن وائل قد تزوّج جليلة بنت مرة بن ذهل بن شيبان، وأخوها جساس بن مرة، وكانت البسوس بنت منقذ التميمية خالة جساس بن مرة، وكانت نازلة في بني شيبان مجاورة لجساس، وكان لها ناقة يقال لها سراب، ولها تقول العرب: أشأم من سراب، وأشأم من البسوس! فمرّت إبل لكليب بسراب ناقة البسوس، وهي معقولة بفناء بيتها، جوار جساس بن مرة، فلما رأت سراب الابل نازعت عقالها حتى قطعته، وتبعت الإبل واختلطت بها، حتى انتهت إلى كليب وهو على الحوض، معه قوس وكنانة، فلما رآها أنكرها، فانتزع «3» لها سهما فخرم «4» ضرعها فنفرت الناقة وهي ترغو، فلما رأتها البسوس قذفت خمارها عن رأسها وصاحت: واذلّاه! واجاراه! واخرجت.
مقتل كليب بن وائل
فأحمست جسّاسا، فركب فرسا له مغرورا به، فأخذ آلته، وتبعه عمرو بن الحارث بن ذهل بن شيبان على فرسه، ومعه رمحه، حتى دخلا على كليب الحمى، فقال له: يا أبا الماجدة، عمدت إلى ناقة جارتي، فعقرتها! فقال له: أتراك ما نعي(6/70)
أن أذبّ «1» عن حماي؟ فأحمسه الغضب، فطعنه جساس فقصم صلبه، وطعنه عمرو ابن الحارث من خلفه فقطع قطنه «2» ، فوقع كليب وهو يفحص برجله، قال لجساس:
أغثني بشربة من ماء! فقال: تجاوزت شبيثا والأحصّ «3» : ففي ذلك يقول عمرو بن الاهتم:
وإنّ كليبا كان يظلم قومه ... فأدركه مثل الذي تريان
فلما حشاه الرّمح كفّ ابن عمه ... تذكّر ظلم الأهل أيّ أوان
وقال لجسّاس أغثني بشربة ... وإلا فخبّر من رأيت مكاني
فقال تجاوزت الأحصّ وماءه ... وبطن شبيث وهو غير دفان
وقال نابغة بني جعدة:
أبلغ عقالا أن خطة داحس ... بكفّيك فاستأخر لها أو تقدّم
كليب لعمري كان أكثر ناصرا ... وأيسر ذنبا منك ضرّج بالدّم
رمي ضرع ناب فاستمرّ بطعنة ... كحاشية البرد اليماني المسهّم «4»
وقال لجسّاس اغثني بشربة ... تدارك بها منّا عليّ وأنعم
فقال تجاوزت الأحصّ وماءه ... وبطن شبيث وهو ذو مترسّم «5»
فلما قتل كليب ارتحلت بنو شيبان حتى نزلوا بماء يقال له النّهيّ، وتشمر المهلهل اخو كليب- واسمه عدي بن ربيعة، وانما قيل المهلهل لانه اول من هلهل الشعر، اي ارقّه- واستعد لحرب بكر، وترك النساء والغزل، وحرّم القمار والشراب، وجمع اليه قومه، فأرسل رجلا منهم إلى بني شيبان يعذر إليهم فيما وقع من الامر، فأتوا مرة ابن ذهل بن شيبان وهو في نادي قومه، فقالوا له: إنكم أتيتم عظيما بقتلكم كليبا(6/71)
بناب من الإبل، فقطعتم الرحم، وانتهكتم الحرمة، وإنا كرهنا العجلة عليكم دون الإعذار إليكم، ونحن نعرض عليكم خلالا أربعا، لكم فيها مخرج، ولنا مقنع.
فقال مرة: وما هي؟ قال: تحيي لنا كليبا، او تدفع الينا جساسا قاتله فنقتله به، أو همّاما فإنه كفء له، أو تمكننا من نفسك، فإن فيك وفاء من دمه! فقال: أما إحيائي كليبا فهذا ما لا يكون، وأما جساس فإنه غلام طعن طعنة على عجل ثم ركب فرسه فلا أدري أيّ البلاد احتوى عليه، وأمّا همام فانه ابو عشرة وأخو عشرة وعم عشرة، كلهم فرسان قومهم فلن يسلموه إليّ فادفعه اليكم يقتل بجريرة غيره. واما انا فهل هو إلا ان تجول الخيل جولة غدا فأكون اوّل قتيل فيها، فما أتعجل من الموت؟ ولكن لكم عندي خصلتان: أمّا إحداهما فهؤلاء بنيّ الباقون، فعلقوا في عنق ايهم شئتم نسعة «1» فانطلقوا به إلى رحالكم فاذبحوه ذبح الجزور، وإلا فالف ناقة سوداء المقل أقيم لكم بها كفيلا من بني وائل! فغضب القوم وقالوا: لقد أسأت، ترذل «2» لنا ولدك وتسومنا اللبن من دم كليب.
ووقعت الحرب بينهم.
ولحقت جليلة زوجة كليب بأبيها وقومها، ودعت تغلب النمر بن قاسط «3» فانضمت إلى بني كليب وصاروا يدا معهم على بكر، ولحقت بهم غفيلة بن قاسط، واعتزلت قبائل بكر بن وائل وكرهوا مجامعة بني شيبان ومساعدتهم على قتال إخوته، وأعظموا قتل جساس كليبا بناب من الإبل، فظعنت «4» لجيم عنهم، وكفت يشكر عن نصرتهم، وانقبض الحارث بن عباد في أهل بيته، وهو أبو بجير وفارس النعامة.
وقال المهلهل يرثي كليبا:
بتّ ليلي بالأنعمين طويلا ... أرقب النجم ساهرا أن يزولا «5»(6/72)
كيف أهدأ ولا يزال قتيل ... من بني وائل ينسّي قتيلا
غيّبت دارنا تهامة في الده ... ر وفيها بنو معدّ حلولا
فتساقوا كأسا أمرّت عليهم ... بينهم يقتل العزيز الذليلا
فصبحنا بني لجيم بضرب ... يترك الهام وقعه معلولا
لم يطيقوا ان ينزلوا ونزلنا ... وأخو الحرب من أطاق النزولا
انتضوا معجس القسّبي وأبرق ... نا كما توعد الفحول الفحولا «1»
قتلوا ربّهم كليبا سفاها ... ثم قالوا ما إن نخاف عويلا
كذبوا والحرام والحلّ حتى ... يسلب الخدر بيضه المحجولا «2»
ويموت الجنين في عاطف الرح ... م ونروي رماحنا والخيولا
وقال ايضا يرثيه:
كليب لا خير في الدنيا ومن فيها ... إذ أنت خلّيتها فيمن يخلّيها
كليب أيّ فتى عزّ ومكرمة ... تحت السقائف إذ يعلوك سافيها «3»
نعى النعاة كليبا لي فقلت لهم ... مالت بنا الارض أو زالت رواسيها
الحزم والعزم كانا من صنيعته ... ما كلّ آلائه يا قوم أحصيها
القائد الخيل تردي في أعنتها ... زهوا إذا الخيل لجّت في تعاديها
من خيل تغلب ما تلفى أسنّتها ... إلا وقد خضبوها من أعاديها
يهزهزون من الخطّيّ مدمجة ... كمتا أنابيبها زرقا عواليها «4»
ترى الرماح بأيدينا فنوردها ... بيضا ونصدرها حمرا أعاليها
ليت السماء على من تحتها وقعت ... وانشقّت الارض فانجابت بمن فيها
لا أصلح الله منّا من يصالحكم ... ما لاحت الشمس في أعلى مجاريها(6/73)
يوم النهي
قال أبو المنذر: أخبرني خراش أنّ اول وقعة كانت بينهم يوم النّهي، فالتقوا بماء يقال له النّهي، كانت بنو شيبان نازلة عليه، ورئيس تغلب المهلهل، ورئيس شيبان الحارث بن مرة، فكانت الدائرة لبني تغلب، وكانت الشوكة في شيبان، واستحر القتل فيهم إلا انه لم يقتل في ذلك اليوم احد من بني مرة.
يوم الذنائب «1»
ثم التقوا بالذنائب، وهو اعظم وقعة لهم، فظفرت بنو تغلب، وقتلت بكرا مقتلة عظيمة، وفيها قتل شراحيل بن مرة بن همام بن مرة بن ذهل بن شيبان- وهو جدّ الحوفزان، وهو جد معن بن زائدة، والحوفزان هو الحرث بن شريك بن عمرو بن قيس بن شراحيل- قتله عتاب بن سعد بن زهير بن جشم، وقتل الحرث بن مرة بن ذهل بن شيبان، قتله كعب بن زهير بن جشم، وقتل من بني ذهل بن ثعلبة عمرو بن سدوس بن شيبان بن ذهل بن ثعلبة. وقتل من بني تيم الله: جميل بن مالك بن تيم الله، وعبيد الله بن مالك بن تيم الله وقتل من بني قيس بن ثعلبة: سعد بن ضبيعة بن قيس، وتميم بن قيس بن ثعلبة، وهو احد الخرفين، وكان شيخا كبيرا، فحمل في هودج، فلحقه عمرو بن مالك ابن الفدوكس بن حشم، وهو جد الاخطل، فقتله. هؤلاء من أصيب من رؤساء بكر يوم الذئاب.
يوم واردات «2»
ثم التقوا بواردات، وعلى الناس رؤساؤهم الذين سمينا، فظفرت بنو تغلب واستحرّ القتل في بني بكر، فيومئذ قتل الشعثمان شعثم وعبد شمس ابنا معاوية بن(6/74)
عامر بن ذهل بن ثعلبة، وسيار بن الحرث بن سيار، وفيه قتل همام مرّة بن ذهل بن شيبان، أخو جساس لأمه وأبيه، فمر به مهلهل مقتولا، فقال: والله ما قتل بعد كليب قتيل أعز عليّ فقدا منك! وقتله ناشرة، وكان همام ربّاه وكفله، كما كان ربّى حذيفة بن بدر قرواشا فقتله يوم الهباءة.
يوم عنيزة «1»
ثم التقوا بعنيزة، فظفرت بنو تغلب، ثم كانت بينهم معاودة ووقائع كثيرة، كل ذلك كانت الدائرة فيه لبني تغلب على بني بكر: فمنها يوم الحنو، ويوم عويرضات، ويوم أنيق، ويوم ضريّة، ويوم القصيبات، هذه الايام كلها لتغلب على بكر، أصيبت فيها بكر، حتى ظنوا أن ليس يستقبلون أمرهم.
وقال مهلهل يصف هذه الايام وينعاها على بكر، في قصيدة طويلة أولها:
أليلتنا بذي حسم أنيري ... إذا أنت انقضيت فلا تحوري «2»
فإن يك بالذّنائب طال ليلي ... فقد أبكى من اللّيل القصير «3»
وفيها يقول:
فلو نبش المقابر عن كليب ... لأخبر بالذّنائب أيّ زير
كأنا غدوة وبني أبينا ... بجنب عنيزة رحيا مدير «4»
وإني قد تركت بواردات ... بجيرا في دم مثل العبير
هتكت به بيوت بني عباد ... وبعض القتل أشفى للصّدور
على أن ليس عدلا من كليب ... إذا برزت مخبّأة الخدور
ولولا الريح أسمع من بحجر ... صليل البيض تقرع بالذكور «5»(6/75)
وقال مهلهل لما أسرف في الدماء:
أكثرت قتل بني بكر بربّهم ... حتى بكيت وما يبكي لهم أحد
آليت بالله لا أرضى بقتلهم ... حتى أبهرج بكرا أينما وجدوا
وقال أبو حاتم: أبهرج: أدعهم بهرجا: لا يقتل فيه قتيل، ولا يؤخذ لهم دية.
وقال: البهرج من الدراهم من هذا.
وقال المهلهل:
يا لبكر أنشروا لي كليبا ... يا لبكر أين الفرار؟ «1»
تلك شيبان تقول لبكر ... صرح الشر وبان السّرار
وبنو عجل تقول لقيس ... ولتيم اللات سيروا فساروا
وقال:
قتلوا كليبا ثم قالوا أربعوا ... كذبوا وربّ الحلّ والإحرام «2»
حتى تبيد قبائل وقبيلة ... ويعضّ كل مثقّف بالهام
وتقوم ربّات الحدور حواسرا ... يمسحن عرض ذوائب الأيتام «3»
حتى يعضّ الشيخ بعد حميمه ... مما يرى ندما على الإبهام «4»
يوم قضة «5»
ثم إن مهلهلا أسرف في القتل ولم يبال بأي قبيلة من قبائل بكر أوقع، وكان أكثر بكر قعدت عن نصرة بني شيبان، لقتلهم كليب بن وائل، وكان الحارث بن عباد قد اعتزل تلك الحروب، حتى قتل ابنه بجير بن الحارث، ويقال إنه كان ابن(6/76)
اخيه، فلما بلغ الحرث قتله قال: نعم القتيل قتيل أصلح بين ابني وائل! وظن ان المهلهل قد أدرك به ثأر كليب وجعله كفئا له، فقيل له: إنما قتله بشسع نعل كليب، وذلك أن المهلهل لما قتل بجيرا قال: بؤ بشسع نعل كليب! فغضب الحرث بن عباد، وكان له فرس يقال له النعامة، فركبها وتولى أمر بكر، فقاتل تغلب حتى هرب المهلهل وتفرقت قبائل تغلب فقال في ذلك الحارث ابن عباد:
قرّبا مربط النعامة مني ... لقحت حرب وائل عن حيالي «1»
لم أكن من جناتها علم الله ... وإني بحرّها اليوم صالي
وفيه أسر الحارث بن عباد المهلهل وهو لا يعرفه- واسمه عدي بن ربيعة- فقال له: دلّني على عدي بن ربيعة وأخلي عنك. فقال له عدي: عليك العهود بذلك إن دللتك عليه؟ قال: نعم: قال: فأنا عدي! فجز ناصيته «2» وتركه، وقال فيه:
لهف نفسي على عدي ولم أع ... رف عديّا إذ امكنتني اليدان
وفيه قتل عمرو وعامر التغلبيان، قتلهما جحدر بن ضبيعة، طعن احدهما بسنان رمحه، والآخر بزجه، ثم إن المهلهل فارق قومه ونزل في بني جنب- وجنب في مذحج- فخطبوا إليه ابنته فمنعهم، فأجبروه على تزويجها وساقوا إليه في صداقها جلودا من أدم، فقال في ذلك:
أعزز على تغلب بما لقيت ... أخت بني الأكرمين من جشم
انكحها فقدها الأراقم في ... جنب وكان الحباء من أدم «3»
لو بأبانين جاء يخطبها ... زمّل ما أنف خاطب بدم! «4»(6/77)
الكلاب «1» الأول
قال أبو عبيدة: لما تسافهت بكر بن وائل وغلبها سفهاؤها، وتقاطعت أرحامها، ارتأى رؤساؤهم، فقالوا: إن سفهاءنا قد غلبوا على أمرنا، فأكل القويّ الضعيف، ولا نستطيع تغيير ذلك، فنرى أن نملّك علينا ملكا نعطيه الشاء والبعير، فيأخذ للضعيف من القوي، ويردّ على المظلوم من الظالم، ولا يمكن أن يكون من بعض قبائلنا، فيأباه الآخرون، فتفسد ذات بيننا، ولكنا نأتي تبّعا فنملّكه علينا. فأتوه، فذكروا له أمرهم، فملّك عليهم الحارث بن عمرو آكل المرار الكندي، فقدم فنزل بطن عاقل «2» .
ثم غزا بكر بن وائل، حتى انتزع عامة ما في أيدي ملوك الحيرة اللخميين، وملوك الشام الغسانيين، وردّهم إلى أقاصي أعمالهم. ثم طعن في نيطيه «3» - أي مات، فدفن ببطن عاقل، واختلف ابناه شرحبيل وسلمة في الملك، فتواعدا الكلاب، فأقبل شرحبيل في ضبة والرّباب كلها، وبني يربوع، وبكر بن وائل، وأقبل سلمة في تغلب، والنمر، وبهراء ومن تبعه من بني مالك بن حنظلة، وعليهم سيفان بن مجاشع، وعلى تغلب السفاح، وإنما قيل له السفاح لانه سفح أوعية قومه وقال لهم: انذروا إلى ماء الكلاب. فسبقوا ونزلوا عليه، وإنما خرجت بكر بن وائل مع شرحبيل لعداوتها لبني تغلب، فالتقوا على الكلاب، واستحرّ القتل في بني يربوع، وشد أبو حنش على شرحبيل فقتله، وكان شرحبيل قتل حنشا، فأراد أبو حنش أن يأتي برأسه إلى مسلمة، فخافه، فبعثه مع عسيف «4» له، فلما رآه مسلمة دمعت عيناه وقال هـ: أنت قتلته؟ قال لا، ولكنه قتله أبو حنش. فقال: إنما أدفع الثواب إلى قاتله! وهرب أبو حنش عنه، فقال سلمة:(6/78)
ألا أبلغ أبا حنش رسولا ... فمالك لا تجيء إلى الثّواب
تعلّم أنّ خير الناس ميتا ... قتيل بين أحجار الكلاب
تداعت حوله جشم بن بكر ... وأسلمه جعاسيس الرباب «1»
ومما يدل على أن بكرا كانت مع شرحبيل قول الأخطل:
أبا غسّان إنّك لم تهنّي ... ولكن قد أهنت بني شهاب
ترقّوا في النخيل وأنسئونا ... دماء سراتكم يوم الكلاب «2»
يوم الصفقة: ويوم الكلاب الثاني
قال أبو عبيدة: أخبرنا أبو عمرو بن العلاء قال: كان يوم الكلاب متصلا بيوم الصفقة، وكان من حديث الصفقة أن كسرى الملك كان قد أوقع ببني تميم فأخذ الاموال وسبى الذراري بمدينة هجر. وذلك أنهم أغاروا على لطيمة «3» له فيها مسك وعنبر وجوهر كثير، فسمّيت تلك الوقعة يوم الصفقة، ثم إن بني تميم أداروا أمرهم، فقال ذو الحجى منهم: إنكم قد أغضبتم الملك، وقد أوقع بكم حتى وهنتم، وتسامعت بما لقيتم القبائل، فلا تأمنون دوران العرب! فجمعوا سبعة رؤساء منهم، وشاوروهم في أمرهم، وهم: أكثم بن صيفي الأسيدي، والأعيمر بن يزيد بن مرة المازني، وقيس بن عاصم المنقري، وأبير بن عصمة التيمي، والنعمان بن الحسحاس التيمي، وأبير بن عمرو والسعدي، والزبرقان ابن بدر السعدي، فقالوا لهم: ماذا ترون؟ فقال اكثم بن صيفي، وكان يكني أبا حنش: إن الناس قد بلغهم ما قد لقينا، نحن نخاف أن يطمعوا فينا. ثم مسح بيده على قلبه وقال: إني قد نيّفت على التسعين، وانما قلبي بضعة من جسمي، وقد نحل كل جسمي، وإني أخاف ان لا يدرك ذهني الرأي لكم، وأنتم قوم قد شاع في الناس(6/79)
أمركم، وإنما كان قوامكم أسيفا وعسيفا- يريد العبد والاجير- وصرتم اليوم إنما ترعى لكم بناتكم، فليعرض عليّ كلّ رجل منكم رأيه وما يحضره، فاني متى أسمع الحزم أعرفه. فقال كل رجل منهم ما رأى، وأكثم ساكت لا يتكلم، حتى قام النعمان ابن الحسحاس، فقال: يا قوم، انظروا ماء يجمعكم ولا يعلم الناس بأي ماء أنتم، حتى تنفرج الحلقة عنكم وقد جممتم «1» وصلحت أحوالكم وانجبر كسيركم وقوي ضعيفكم، ولا أعلم ماء يجمعكم إلا قدّة «2» ، فارتحلوا وانزلوا قدّة. وهو موضع يقال له الكلاب، فلما سمع أكثم بن صيفي كلام النعمان، قال: هذا هو الرأي! فارتحلوا حتى نزلوا الكلاب، وبين أدناه وأقصاه مسيرة يوم، وأعلاه مما يلي اليمن، وأسفله مما يلي العراق، فنزلت سعد الرّباب بأعلى الوادي، ونزلت حنظلة بأسفله.
قال أبو عبيدة: وكانوا لا يخافون أن يغزوا في القيظ، ولا يسافر فيه أحد، ولا يستطيع أحد ان يقطع تلك الصحارى، لبعد مسافتها، وليس بها ماء! ولشدة حرها.
فأقاموا بقية القيظ لا يعلم أحد بمكانهم! حتى إذا تهور القيظ- أي ذهب- بعث الله ذا العينين، وهو من أهل مدينة هجر، فمر بقدة وصحرائها، فرأى ما بها من النعم، فانطلق حتى أتى أهل هجر. فقال لهم: هل لكم في جارية عذراء، ومهرة شوهاء «3» ، وبكرة «4» حمراء، ليس دونها نكبة؟ فقالوا: ومن لنا بذلك؟ قال: تلكم تميم ألقاء مطروحون بقدّة. قالوا: إي والله! فمشي بعضهم إلى بعض، وقالوا: اغتنموها من بني تميم! فأخرجوا منهم أربعة أملاك، يقال لهم اليزيديون: يزيد بن هوبر، ويزيد بن عبد المدان، ويزيد بن المأمور، ويزيد بن المخرم، وكلهم حارثيون، ومعهم عبد يغوث الحارثي، فكان كل(6/80)
واحد منهم على ألفين، والجماعة ثمانية الاف، فلا يعلم جيش في الجاهلية كان أكبر منه، ومن جيش يوم كسرى يوم ذي قار، ويوم شعب جبلة- فمضوا، حتى إذا كانوا ببلاد باهلة، قال جزء بن جزء بن جزء الباهلي لابنه: يا بني، هل لك في أكرومة لا يصاب أبدا مثلها؟ قال: وما ذاك؟ قال: هذا الحيّ من تميم قد ولجوا هناك مخافة، وقد قصصت أثر الجيش يريدونهم، فاركب جملي الأرحبيّ «1» ، وسر سيرا رويدا عقبة من الليل- يعني ساعة- ثمل حلّ عنه حبليه وأنخه وتوسّد ذراعه، فإذا سمعته قد أفاض بجرّته وبال فاستنقعت ثفتاته «2» في بوله، فشدّ عليه حبله، ثم ضع السّوط عليه، فإنك لا تسأل جملك شيئا من السير الا اعطاك، حتى تصبّح القوم. ففعل ما أمره به.
قال الباهلي: فحللت بالكلاب قبل الجيش وأنا أنظر إلى ابن ذكاء- يعني الصبح- فناديت: يا صباحاه! فانهم ليثبون إليّ ليسألوني من انت، إذ أقبل رجل منهم من بني شقيق على مهر قد كان في النعم، فنادى: يا صباحاه! قد أتي على النعم! ثم كر راجعا نحو الجيش، فلقيه عبد يغوث الحارثي وهو أول الرعيل، فطعنه في رأس معدته فسبق اللبن الدم، وكان قد اصطبح «3» ، فقال عبد يغوث: اطيعوني وامضوا بالنعم وخلوا العجائز من تميم ساقطة افواهها: قالوا: اما دون ان تنكح بناتهم فلا! وقال ضمرة بن لبيد الحماسي، ثم المذحجي الكاهن: انظروا إذا سقتم النعم «4» ، فإن أتتكم الخيل عصبا [عصبا] ، العصبة تنتظر الاخرى حتى تلحق بها، فإن أمر القوم هيّن، وإن لحق بكم القوم ولم ينتظر بعضهم بعضا حتى يردّوا وجوه النعم، فإنّ أمرهم شديد.(6/81)
وتقدمت سعد والرباب في أوائل الخيل، فالتقوا بالقوم فلم يلتفتوا إليهم، واستقبلوا النّعم ولم ينتظر بعضهم بعضا. ورئيس الرباب النعمان بن الحسحاس، ورئيس بني سعد قيس بن عاثم، وأجمع العلماء أن قيس بن عاصم كان رئيس بني تميم.
فالتقى القوم، فكان أول صريع النعمان بن الحسحاس، واقتتل القوم بقية يومهم، وثبت بعضهم لبعض حتى حجز الليل بينهم، ثم أصبحوا على راياتهم، فنادى قيس بن عاصم: يا آل سعد! ونادى عبد يغوث: يا آل سعد! قيس يدعو سعد بن زيد مناة، وعبد يغوث يدعو سعد العشيرة، فلما سمع ذلك قيس نادى: يا آل كعب! فنادى عبد يغوث: يا آل كعب! قيس يدعو كعب بن سعد، وعبد يغوث يدعو كعب بن مالك، فلما رأى ذلك قيس نادى: يا آل كعب مقاعس فلما سمعه وعلة بن عبد الله الجرمي- وكان صاحب لواء اهل اليمن- نادى: يا لمقاعس! تفاءل به فطرح له اللواء، وكان أول من انهزم، فحملت عليهم بنو سعد الرباب فهزموهم، ونادى قيس بن عاصم: يا آل تميم، لا تقتلوا إلا فارسا فإن الرجّالة لكم! ثم جعل يرتجز ويقول:
لما تولّوا عصبا هواربا ... أقسمت لا أطعن إلا راكبا «1»
إن وجدت الطعن فيهم صائبا
وقال أبو عبيدة: أمر قيس بن عاصم أن يتبعوا المنهزمة ويقطعوا عرقوب من لحقوا ولا يشتغلوا بقتلهم عن اتّباعهم فجزّوا دوابرهم، فذلك قول وعلة:
فدى لكم أهلي وأمي ووالدي ... غداة كلاب إذ تجزّ الدّوابر «2»
وسنكتب هذه القصيدة على وجهها. وحمى عبد يغوث اصحابه فلم يوصل إلى الجانب الذي هو فيه، فألظّ «3» به مصاد بن ربيعة بن الحارث، فلما لحقه مصاد طعنه فألقاه عن الفرس فأسره، وكان مصاد قد أصابته طعنة في مأبضه «4» ، وكان عرقه(6/82)
يهمي- أي يسيل- فعصبه، وكتفه- يعني عبد يغوث- ثم أردفه خلفه، فنزفه الدم، فمال عن فرسه مقلوبا. فلما رأى ذلك عبد يغوث قطع كتافه وأجهز عليه وانطلق على فرسه، وذلك أول النهار، ثم ظفر به بعد في آخره. ونادى مناد قتل اليزيدون.
وشد قبيضة بن ضرار الضبي على ضمرة بن لبيد الحماسي الكاهن فطعنه فخرّ صريعا، فقال له قبيصة: ألا أخبرك تابعك بمصرعك اليوم! وأسر عبد يغوث، وأسره عصمة بن أبير التيمي.
قال أبو عبيدة: انتهى عصمة بن أبير إلى مصاد وقد أمعنوا في الطلب، فوجده صريعا، وقد كان قبل ذلك رأى عبد يغوث أسيرا في يديه، فعرف أنه هو الذي اجهز عليه، فاقتص أثره، فلما لحقه قال له: ويحك! إني رجل أحب اللين، وأنا خير لك من الفلاة والعطش! قال عبد يغوث: ومن أنت؟ قال: عصمة بن أبير. قال عبيد يغوث: أو عندك منعة؟ قال: نعم، فألقى يده في يده، فانطلق به عصمة حتى خبأه عند الاهتم، على ان جعل له من فداه جعلا «1» فوضعه الاهتم عند امرأته العبشمية «2» ، فأعجبها جماله وكمال خلقه، وكان عصمة الذي أسره غلاما نحيفا، فقالت لعبد يغوث: من أنت؟ قال: انا سيّد القوم! فضحكت، وقالت: قبحك الله سيد قوم حين أسرك مثل هذا. ولذلك يقول عبد يغوث:
وتضحك مني شيخة عبشميّة ... كأن لم تر قبلي أسيرا يمانيا
فاجتمعت الرباب الى الاهتم فقالت: ثأرنا عندك، وقد قتل مصاد والنعمان، فأخرجه إلينا! فأبى الاهتم ان يخرجه اليهم، فكاد ان يكون بين الحيين: الرباب وسعد، فتنة، حتى أقبل قيس بن عاصم المنقري، فقال: أيؤتى قطع حلف الربّاب من قبلنا؟ وضرب فمه بقوس فهتمه «3» فسمّي الأهتم، فقال الاهتم: انما دفعه إليّ عصمة ابن أبير، ولا أدفعه إلا لمن دفعه إليّ، فليجىء فيأخذه. فأتوا عصمة فقالوا: يا(6/83)
عصمة، قتل سيدنا النعمان، وفرسنا، مصاد، وثأرنا أسيرك وفي يدك، فما ينبغي لك أن تستحبيه! فقال: إني ممحل «1» ، وقد أصبت الغنى في نفسي، ولا تطيب نفسي عن أسيري! فاشتراه بنو الحسحاس بمائة بعير. وقال رؤبة بن العجاج: بل أرضوه بثلاثين من حواشي النّعم، فدفعه إليهم، فخشوا ان يهجوهم، فشدوا على لسانه نسعة «2» ، فقال إنكم قاتليّ ولا بدّ، فدعوني أذمّ أصحابي وأنوح على نفسي! فقالوا: إنك شاعر ونخاف أن تهجونا! فعقد لهم أن لا يفعل، فأطلقوا لسانه وأمهلوه حتى قال قصيدته التي أولها:
ألالا تلوماني كفى اللّوم ما بيا ... فما لكما في الّوم خير ولا ليا
ألم تعلما أنّ الملامة نفعها ... قليل وما لومي أخي من شماليا «3»
فيا راكبا إمّا عرضت فبلّغن ... نداماي من نجران أن لا تلاقيا «4»
أبا كرب والأيهمين كليهما ... وقيسا بأعلى حضرموت اليمانيا «5»
جزى الله قومي بالكلاب ملامة ... صريحهم والآخرين المواليا «6»
ولو شئت نجّتني من القوم نهدة ... ترى خلفها الجرد الجياد تواليا «7»
ولكنني أحمى ذمار أبيكم ... وكاد الرّماح يختطفن المحاميا «8»
أحقّا عباد الله أن لست سامعا ... نشيد الرّعاء المعزبين المثاليا «9»
أقول وقد شدّوا لساني بنسعة ... أمعشر تيم أطلقوا عن لسانيا(6/84)
وتضحك مني شيخة عبشميّة ... كأن لم تري قبلي أسيرا يمانيا «1»
أمعشر تيم قد ملكتم فأسجحوا ... فإنّ أخاكم لم يكن من بوائيا «2»
وقد علمت عرسي مليكة أنني ... أنا اللّيث معدوّا عليه وعاديا
وقد كنت نحّار الجزور ومعمل الم ... طيّ وأمضي حيث لا حيّ ماضيا
وأعقر للشّرب الكرام مطيّتي ... وأصدع بين القينتين ردائيا «3»
وكنت إذا ما الخيل شمّطها القنا ... لبيقا بتصريف القناة بنانيا «4»
وعادية سوم الجراد وزعتها ... برمحي وقد أنحوا إليّ العواليا «5»
كأنّي لم أركب جوادا ولم أقل ... لخيلي كرّي قاتلي عن رجاليا
ولم أسبإ الزّقّ الّرويّ ولم أقل ... لأيسار صدق أعظموا ضوء ناريا «6»
قال ابو عبيدة: فلما ضربت عنقه قالت ابنة مصاد: بؤ بمصاد! فقال بنو النعمان:
يالكاع! نحن نشتريه بأموالنا ويبوء بمصاد؟ فوقع بينهم في ذلك الشر، ثم اصطلحوا، وكان الغناء كله يوم الكلاب من الرباب لتيم، ومن بني سعد لمقاعس.
وقال وعلة الجرمي وكان أول منهزم انهزم يوم الكلاب، وكان بيده لواء القوم:
ومنّ عليّ الله منّا شكرته ... غداة الكلاب إذ تجز الدّوابر
ولمّا رأيت الخيل تترى أثابجا ... علمت بأنّ اليوم أحمس فاجر «7»
نجوت نجاء ليس فيه وثيرة ... كأني عقاب عند تيمن كاسر «8»
خداريّة سفعاء لبّذ ريشها ... بطخفة يوم ذو أهاضيب ماطر «9»(6/85)
لها ناهض في الوكر قد مهدت له ... كما مهدت للبعل حسناء عاقر
كأنّا وقد حالت حذتّه دوننا ... نعام تلاه فارس متواتر «1»
فمن يك يرجو في تميم هوادة ... فليس لجرم في تميم أواصر
ولمّا سمعت الخيل تدعو مقاعسا ... تنازعني من ثغرة النحر ناحر
فإن أستطيع لا تلتبس بي مقاعس ... ولا ترني بيداؤهم والمحاضر «2»
ولا أك في جرّارة مضريّة ... إذا ما غدت قوت العيال تبادر «3»
وقد قلت للنّهديّ هل أنت مردفي ... وكيف رداف الفلّ أمّك عاثر «4»
يذكّرني بالإلّ بيني وبينه ... وقد كان في جرم ونهد تدابر «5»
وقال محرز بن المعكبر الضبي- ولم يشهدها وكان مجاورا في بكر بن وائل- لما بلغه الخبر:
فدى لقومي ما جمّعت من نشب ... إذ ساقت الحرب أقواما لأقوام «6»
إذ حدّثت مذحج عنا وقد كذبت ... أن لا يذبّب عن أحسابنا حام
دارت رحانا قليلا ثم واجههم ... ضرب تصدّع منه جلدة الهام «7»
ظلّت ضباع مجيرات تجرّرهم ... وألحموهنّ منهم أيّ إلحام «8»
حتى حذنّة لم نترك بها ضبعا ... إلّا لها جزر من شلو مقدام «9»(6/86)
ظلّت تدوس بني كعب بكلكلها ... وهمّ يوم بني نهد بإظلام «1»
قال أبو عبيدة: حدثني المنتجع بن نبهان قال: وقف رؤبة بن العجاج على التيم بمسجد الحرورية، فقال: يا معشر تيم، إني سمرت عند الامير تلك الليلة، فتذاكرنا يوم الكلاب، فقال: يا معشر تيم، إن الكلاب ليس كما ذكرتم فأعفونا من قصيدتي صاحبينا- يعني عبد يغوث ووعلة الجرمي- ومن قصيد ابن المعكبر صاحبكم، وهاتوا غير ذلك، فأنتم اكثر الناس كلاما وهجاء.
قال رؤبة: فأنشدناه في ذلك اليوم شعرا كثيرا، فجعل يقول: هذه إسلامية كلها.
يوم طحفة «2»
كانت الرّدافة «3» ، ردافة الملك، لعتّاب بن هرميّ بن رياح، ثم كانت لقيس بن عتاب، فسأل حاجب بن زرارة النعمان أن يجعلها للحارث بن مرط بن سفيان بن مجاشع، فسألها النعمان بني يربوع، وقال: أعقبوا إخوتكم في الردّافة. قالوا: إنهم لا حاجة لهم فيها، وانما سألها حاجب حسدا لنا. وأتوا عليه. فقال الحارث بن شهاب وهو عند النعمان: إن بني يربوع لا يسلمون ردافتهم إلى غيرهم. وقال حاجب: إن بعث إليهم الملك جيشا لم يمنعوه، ولم يمتنعوا. فبعث إليهم النعمان قابوسا ابنه، وحسان بن المنذر، فكان قابوس على الناس، وكان حسان على المقدمة. وبعث معهم الصنائع والوضائع- فالصنائع من كان يأتيه من العرب، والوضائع المقيمون بالحيرة- فالتقوا بطخفة، فانهزم قابوس ومن معه، وضرب طارق بن عميرة فرس قابوس فعقره، وأخذه ليجز ناصيته «4» ، فقال قابوس: إن الملك لا تجزّ نواصيها! فجهزه(6/87)
وأرسله إلى أبيه، وأما حسان بن المنذر، فأسره بشر بن عمرو الرياحي، ثم منّ عليه وأرسله، فقال مالك بن نويرة:
ونحن عقرنا مهر قابوس بعد ما ... رأى القوم منه الموت والخيل تلحب «1»
عليه دلاص ذات نسج وسيفه ... جراز من الهنديّ أبيض مقضب «2»
طلبنا بها إنا مداريك قبلها ... إذا طلب الشّأ والبعيد المغرّب
يوم فيف الريح «3»
قال أبو عبيدة: تجمعت قبائل مذحج، وأكثرها بنو الحارث بن كعب، وقبائل من مراد وجعفي وزبيد وخثعم، وعليهم أنس بن مدركة، وعلى بني الحارث الحصين، فأغاروا على بني عامر بن صعصعة بفيف الريح، وعلى بني عامر، عامر بن مالك ملاعب الاسنة.
قال: فاقتتل القوم فكثروهم «4» . وارفضت قبائل من بني عامر، وصبرت بنو نمير، فما شبهوا إلا الكلاب المتعاظلة «5» حول اللواء، وأقبل عامر بن الطفيل وخلفه دعيّ بن جعفر، فقال: يا معشر الفتيان، من ضرب ضربة او طعن طعنة فليشهدني فكان الفارس إذا ضرب ضربة او طعن طعنة قال عند ذلك: يا أبا علي! فبينما هو كذلك إذ أتاه مسهر بن يزيد الحارثي، فقال له من ورائه: عندك يا عامر! والرمح عند أذنه، فوهصه- أي طعنه فأصاب عينه- فوثب عامر عن فرسه، ونجا على رجليه، وأخذ مسهر رمح عامر. ففي ذلك يقول عامر بن الطفيل بن مالك بن جعفر:
لعمري وما عمري علي بهيّن ... لقد شان حر الوجه طعنة مسهر(6/88)
أعاذل لو كان البداد لقوتلوا ... ولكن نزونا بالعديد المجمهر «1»
ولو كان جمع مثلنا لم يبزّنا ... ولكن أتتنا أسرة ذات مفخر «2»
أتونا ببهراء ومذحج كلّها ... وأكلب طرّا في جنان السّنور «3»
وقال مسهر، وزعم أنهم أخذوا امرأة عامر بن الطفيل:
وهصت بخرص الرّمح مقلة عامر ... فأضحى نحيفا في الفوارس أعورا «4»
وغادر فينا رمحه وسلاحه ... وأدبر يدعو في الهوالك جعفرا
وكنّا إذا قيسيّة دهيت بنا ... جرى دمعها من عينها فتحدّرا
مخافة ما لاقت حليلة عامر ... من الشّرّ إذ سربالها قد تعفّرا
قال: وامتنّت بنو نمير على بني كلاب بصبرهم يوم فيف الريح، فقال عامر:
تمنّون بالنعما ولولا مكرنا ... بمنعرج الفيفا لكنتم مواليا
ونحن تداركنا فوارس وحوح ... عشيّة لاقينا الحصين اليمانيا
وحوح: من بني نمير، وكان عامر استنقذهم، وأسر حنظلة بن الطفيل يومئذ.
قال أبو عبيدة: كانت وقعة فيف الريح وقد بعث النبي صلّى الله عليه وسلّم بمكة، وأدرك مسهر ابن يزيد الإسلام فأسلم.
يوم تياس «5»
كانت أفناء قبائل من بني سعد بن زيد مناة وأفناء قبائل من بني عمرو بن تميم التقت بتياس، فقطع غيلان بن مالك بن عمرو بن تميم رجل الحارث بن كعب بن سعد بن زيد مناة. فطلبوا القصاص، فأقسم غيلان أن لا يعقلها ولا يقصّ بها حتى تحشى عيناه ترابا! وقال:(6/89)
لا نعقل الرّجل ولا نديها ... حتى تروا داهية تنسيها
فالتقوا فاقتتلوا فجرحوا غيلان حتى ظنوا انهم قد قتلوه، ورئيس عمرو، كعب بن عمرو، ولواؤه مع ابنه ذؤيت وهو القائل لأبيه:
يا كعب إن أخاك منحمق ... إن لم يكن بك مرّة كعب
جانيك من يجني عليك وقد ... تعدي الصّحاح مبارك الجرب «1»
والحرب قد تضطرّ جانبها ... نحو المضيق ودونه الرّحب
يوم زرود «2» الأول
غزا الحوفزان حتى انتهى إلى زورد خلف جبل من جبالها، فأغاروا على نعم كثير صادر عن الماء لبني عبس، فاحتازوه، وأتى الصريخ بني عبس، فركبوا، ولحق عمارة ابن زياد العبسي الحوفزان فعرفه- وكانت أم عمارة قد أرضعت مضر بن شريك، وهو أخو الحوفزان- فقال عمارة: يا بني شريك، قد علمتم ما بيننا وبينكم! قال الحوفزان، وهو الحارث بن شريك: صدقت يا عمارة، فانظر كل شيء هو لك فخذه! فقال عمارة: لقد علمت نساء بني بكر بن وائل أني لم أملأ أيدي أزواجهن وأبنائهن شفقة عليهن من الموت! فحمل عمارة ليعارض النعم «3» ليردّه، وحال الحوفزان بينه وبين النعم، فعثرت بعمارة فرسه فطعنه الحوفزان، ولحق به نعامة بن عبد الله بن شريك فطعنه أيضا، وقال نعامة: ما كرهت الرمح في كفل «4» رجل قط أشدّ من كفل عمارة! وأسر ابنا عمارة: سنان وشداد، وكان بني عبس رجلان من طيء ابنان لأوس بن حارثة، مجاورين لهم، وكان لهما أخ أسير في بني يشكر، فأصابا رجلا من بني مرة يقال له: معدان بن محرب، فذهبا به فدفناه «5» تحت شجرة، فلما(6/90)
فقدته بنو شيبان نادوا: يا ثارات معدان! فعند ذلك قتلوا ابني عمارة، وهرب الطائيان بأسيرهما فلما برىء عمارة من جراحه أتى طيّا فقال: ادفعوا إليّ هذا الكلب الذي قتلنا به! فقال الطائي لأوس: ادفع إلى بني عبس صاحبهم. فقال لهم أوس:
أتأمرونني أن أعطي بني عبس قطرة من دمي، وإن ابني أسير في بني يشكر؟ فوالله ما أرجو فكاكه إلا بهذا! فلما قفل الحوفزان من غزوه بعث إلى بني يشكر في ابن أوس، فبعثوا به إليه، فافتكّ به معدان.
وقال نعامة بن شريك:
استنزلت رماحنا سنانا ... وشيخه بطخفة عيانا
ثم أخوه قد رأى هوانا ... لمّا فقدنا بيننا معدانا
يوم غول «1» الثاني: وهو يوم كنهل «2»
قال أبو عبيدة: أقبل ابنا هجيمة- وهما من بني غسان- في جيش، فنزلا في بني يربوع، فجاورا طارق بن عوف بن عاصم بن ثعلبة بن يربوع، فنزلا معه على ماء يقال له كنهل، فأغار عليهما أناس من ثعلبة بن يربوع، فاستاقوا نعمهما وأسروا من كان في النعم، فركب قيس بن هجيمة بخيله حتى أدرك بني ثعلبة، فكّر عليه عتيبة ابن الحارث، فقال له قيس: هل لك يا عتيبة إلى البراز؟ فقال: ما كنت لأسأله وأدعه! فبارزه، قال عتيبة: فما رأيت فارسا أملأ لعيني منه يوم رأيته، فرماني بقوسه، فما رأيت شيئا أكره إليّ منه، فطعنني فأصاب قربوس «3» سرجي، حتى وجدت مسّ السنان في باطن فخذي، فتجنبت، قال: ثم أرسل الرمح وقبض بيدي وهو يرى أن قد أثبتني وانصرف، فأتبعته الفرس، فلما سمع زجلها رجع جانحا على قربوس سرجه، وبدا لي فرج الدرع ومعي رمح معلّب «4» بالقدّ والعصب كنا نصطاد(6/91)
به الوحش، فرميته بالقوس، وطعنته بالرمح، فقتلته وانصرفت، فلحقت النعم، وأقبل الهرماس بن هجيمة فوقف على أخيه قتيلا، ثم اتبعني، وقال: هل لك في البراز؟ فقلت: لعل الرجعة لك خير! قال: أبعد قيس؟ ثم شدّ عليّ فضربني على البيضة «1» ، فخلص السيف إلى رأسي، وضربته فقتلته، فقال سحيم بن وثيل يعيّر طارقا فقتل جاريه:
لقد كنت جار بني هجيمة قبلها ... فلم تغن شيئا غير قتل المجاور
وقال جرير:
وساق ابني هجيمة يوم غول ... إلى أسيافنا قدر الحمام
يوم الجبات «2»
قال أبو عبيدة: خرج بنو ثعلبة بن يربوع فمرّوا بناس من طوائف بني بكر بن وائل بالجبّات، خرجوا سفّارا، فنزلوا وسرحوا إبلهم ترعى، وفيها نفر منهم يرعونها: منهم سوادة بن يزيد بن بجير العجلي. ورجل من بني شيبان، وكان محموما، فمرّت بنو ثعلبة بن يربوع بالإبل، فاطردوها، وأخذوا الرجلين فسألوهما: من معكما؟ فقالا: معنا شيخ من يزيد بن بجيل العجلي في عصابة من بني بكر بن وائل، خرجوا سفارا يريدون البحرين. فقال الربيع ودعموص ابنا عتيبة بن الحارث بن شهاب: لن نذهب بهذين الرجلين وبهذه الإبل ولم يعلموا من أخذها؟ ارجعوا بنا حتى يعلموا من اخذ إبلهم وصاحبيهم ليعنيهم ذلك. فقال لهما عميرة: ما وراءكما إلا شيخ بن يزيد قد أخذتما أخاه وأطردتما ماله، دعاه، فأبيا ورجعا، فوقفا عليهم وأخبراهم وتسميا لهم، فركب شيخ بن يزيد فاتبعهما وقد ولّيا، فلحق دعموصا فأسره ومضى ربيع حتى أتى عميرة فأخبره أنّ أخاه قد قتل، فرجع عميرة على فرس يقال له الخنساء، حتى لحق القوم، فافتكّ منهم دعموصا على أن يردّ عليهم أخاهم(6/92)
وإبلهم، فردّها عليهم، فكفر ابنا عتيبة ولم يشكرا عميرة، فقال:
ألم تر دعموصا يصدّ بوجهه ... إذا ما رآني مقبلا لم يسلّم
ألم تعلما يا بني عتيبة مقدمي ... على ساقط بين الأسنّة مسلم
فعارضت فيه القوم حتى انتزعته ... جهارا ولم أنظر له بالتّلوّم «1»
يوم إراب «2»
غزا الهذيل بن هبيرة بن حسان التغلبي، فأغار على بني يربوع بإراب فقتل فيهم قتلا ذريعا، فأصاب نعما كثيرة وسبى سبيا كثيرا، فيهم زينب بنت حمير بن الحارث ابن همام بن رباح بن يربوع، وهي يومئذ عقيلة نساء بني تميم وكان الهذيل يسمى مجدعا، وكان بنو تميم يفزعون به أولادهم، وسبى أيضا طابية بنت جزء بن سعد الرياحي، ففداها أبوها، وركب عتيبة بن الحارث في أسراهم ففكهم أجمعين.
يوم الشعب
غزا قيس بن شرفاء التغلبي، فأغار على بني يربوع بالشعب، فاقتتلوا، فانهزمت بنو يربوع، فزعم أبو هدبة أنها كانت اختطافا، فأسر سحيم بن وثيل الرياحي، ففي ذلك يقول سحيم:
أقول لهم بالشّعب إذ يأسرونني ... ألم تعلموا أني ابن فارس زهدم «3»
ففدى نفسه. وأسر يومئذ متمّم بن نويرة، فوفد مالك بن نويرة على قيس بن شرفاء في فدائه فقال:
هل أنت يا قيس بن شرفاء منعم ... أو الجهد إن أعطيته أنت قابله
فلما رأى وسامته «4» وحسن شارته، قال: بل منعم. فأطلقه له.(6/93)
يوم غول «1» الأول
فيه قتل طريف بن شراحيل وعمرو بن مرثد المحلّمي.
غزا طريف بن تميم في بني العنبر وطوائف من بني عمرو بن تميم، فأغار على بني بكر بن وائل بغول، فاقتتلوا، ثم إنّ بكرا انهزمت، فقتل طريف بن شراحيل أحد بني ربيعة، وقتل أيضا عمرو بن مرثد المحلّمي، وقتل المحسّر، فقال في ذلك ربيعة ابن طريف:
يا راكبا بلّغن عني مغلغلة ... بني الخصيب وشرّ المنطق الفند «2»
هلّا شراحيل إذ مال الحزام به ... وسط العجاج فلم يغضب له أحد «3»
أو المحسّر أو عمر تحيّفهم ... منّا فوارس هيجا نصرهم حشد «4»
إذ يلحظون بزرق من أسنتّنا ... يشفى بهنّ الشّنا والعجب والكمد «5»
وقد قتلناكم صبرا ونأسركم ... وقد طردناكم لو ينفع الطرد «6»
حتى استغاث بنا أدنى شريدكم ... من بعد ما مسه الضراء والنكد
وقال نضلة السلمي في يوم غول، وكان حقيرا دميما، وكان ذا نجدة:
ألم تسل الفوارس يوم غول ... بنضلة وهو موتور مشيح؟ -
رأوه فازدروه وهو حرّ ... وينفع أهله الرجل القبيح
فشدّ عليهم بالسيف صلتا ... كما عضّ الشبا الفرس الجموح «7»
فأطلق غلّ صاحبه وأردى ... قتيلا منهم ونجا جريح
ولم يخشوا مصالته عليهم ... وتحت الرّغوة اللبن الصريح «8»(6/94)
يوم الخندمة «1»
كان رجل من مشركي قريش يحدّ حربة يوم فتح مكة، فقالت له امرأته: ما تصنع بهذه؟ قال: أعددتها لمحمد وأصحابه! قالت: والله ما أرى [أنه] يقوم لمحمد وأصحابه شيء! فقال: والله إني لأرجو أن أخدمك بعض نسائهم! وأنشأ يقول:
إن يقبلوا اليوم فما بي علّة ... هذا سلاح كامل وألّه «2»
وذو غرارين سريع السّلّة «3»
فلما لقيهم خالد بن الوليد يوم الخندمة انهزم الرجل لا يلوي على شيء فلامته امرأته، فقال:
إنك لو شهدت يوم الخندمه ... إذ فرّ صفوان وفرّ عكرمه
ولقيتنا بالسيوف المسلمة ... يفلقن كلّ ساعد وجمجمه «4»
ضربا فلا تسمع إلا غمغمه ... لم تنطقي في اللوم أدنى كلمه «5» !
يوم اللهيماء «6»
قال أبو عبيدة: كان سبب الحرب التي كانت بين عمرو بن الحارث بن تميم بن سعد بن هذيل، وبين بني عبد بن عدي بن الدّئل بن بكر بن عبد مناة، أن قيس بن عامر بن غريب أخا بني عمرو بن عدي، وأخاه سالما، خرجا يريدان بني عمرو بن الحارث، على فرسين، يقال لاحدهما اللّعاب، والأخرى عفزر، فباتا عند رجل من بني نفاثة، فقال النفاثي لقيس وأخيه: أطيعاني وأرجعا، لأعرفنّ رماحكما تكسر في قتاد نعمان «7» . قالا: إن رماحنا لا تكسر إلا في صدور الرجال! قال: لا يضركما،(6/95)
وستحمدان أمري. فأصبحا غاديين، فلما شارفا متن اللهيما من نعمان، وبنو عمرو بن الحارث فويق ذلك، بموضع يقال له أديمة «1» ، أغارا على غنم جندب بن أبي عميس، وفيها جندب، فتقدم إليه قيس، فرماه جندب في حلمة ثديه، وبعجه قيس بالسيف فأصابت ظبة «2» السيف وجه جندب، وخرّ قيس، ونفرت الغنم نحو الدار، فتبعها، وحمل سالم على جندب بفرسه عفزر، فضرب جندب خطم «3» عفزر بالسيف فقطعه، وضربه سالم فاتقاه بيده فقطع أحد زنديه، فخر جندب وذفّف «4» عليه سالم، وأدرك العشي سالما، فخرج وترك سيفه في المعركة، وثوبه بحقويه، لم ينج إلا بجفن سيفه ومئزره، فقال في ذلك حماد بن عامر:
لعمرك ما وفي ابن ابي عميس ... وما خان القتال وما أضاعا
سما بقرابه حتى إذا ما ... أتاه قرنه بذل المصاعا «5»
فإن أك نائبا عنه فإني ... سررت بأنه غبن البياعا
وأفلت سالم منها جريضا ... وقد كلم الذّبابة والذّراعا «6»
ولو سلمت له يمنى يديه ... لعمر أبيك اطعمك السّباعا
وقال حذيفة بن أنس:
ألا بلّغا جلّ السواري وجابرا ... وبلغ بني ذي السهم عنا ويعمرا «7»
كشفت غطاء الحرب لما رأيتها ... تميل على صفو من الليل أكدرا «8»
أخو الحرب إن عضّت به الحرب عضها ... وإن شمرت عن ساقها الحرب شمرا «9»(6/96)
ويمشي إذا ما الموت كان أمامه ... كذا الشّبل يحمي الانف أن يتأخّرا «1»
نجا سالم والنفس منه بشدقه ... ولم ينج إلا جفن سيف ومئزرا «2»
وطاب عن اللّعاب نفسا وربّه ... وغادر قيسا في المكرّ وعفزرا
يوم خزاز «3»
قال أبو عبيدة تنازع عامر ومسمع ابنا عبد الملك، وخالد بن جبلة، وإبراهيم بن محمد بن نوح العطاردي، وغسان بن عبد الحميد، وعبد الله بن سلم الباهلي، ونفر من وجوه أهل البصرة كانوا يتجالسون يوم الجمعة ويتفاخرون ويتنازعون في الرياسة يوم خزاز، فقال خالد بن جبلة، كان الأحوص بن جعفر الرئيس. وقال عامر ومسمع: كان الرئيس كليب بن وائل. وقال بن نوح: كان الرئيس زرارة بن عدس.
وهذا في مجلس أبي عمرو بن العلاء، فتحاكموا إلى أبي عمرو، فقال: ما شهدها عامر بن صعصعة، ولا دارم بن مالك، ولا جشم بن بكر، اليوم أقدم من ذلك، ولقد سألت عنه منذ ستين سنة فما وجدت أحدا من القوم يعلم من رئيسهم ومن الملك، غير أن أهل اليمن كان الرجل منهم يأتي ومعه كاتب وطنفسة «4» يقعد عليها، فيأخذ من أموال نزار ما شاء، كعمال صدقاتهم اليوم. وكان أول يوم امتنعت معدّ عن الملوك ملوك حمير، وكانت نزار لم تكثر بعد، فأوقدوا نارا على خزاز ثلاث ليال، ودخنوا ثلاثة أيام ... فقيل له: وما خزاز؟ قال: هو جبل قريب من أمرة على يسار الطريق، خلفه صحراء منعج «5» ، يناوحه كور وكوير «6» ، إذا قطعت بطن عاقل، ففي ذلك اليوم امتنعت نزار من أهل اليمن أن يأكلوهم، ولولا قول عمرو بن كلثوم ما عرف ذلك اليوم، حيث يقول:(6/97)
ونحن غداة أوقد في خزاز ... رفدنا فوق رفد الرافدينا
فكنّا الأيمنين إذا التقينا ... وكان الأيسرين بنو أبينا «1»
فصالوا صولة فيما يليهم ... وصلنا صولة فيمن يلينا
فآبوا بالنهاب وبالسّبابا ... وأبنا بالملوك مصفّدينا «2»
قال أبو عمرو بن العلاء: ولو كان جدّه كليب بن وائل قائدهم ورئيسهم ما ادعى الرّفادة وترك الرياسة، وما رأيت أحدا عرف هذا اليوم ولا ذكره في شعره قبله ولا بعده!
يوم المعا «3»
قال أبو عبيدة: أغار المنبطح الأسدي على بني عبّاد بن ضبيعة، فأخذ نعما لبني لحرب بن عباد، وهي ألف بعير، فمر ببني سعد بن مالك بن ضبيعة، وبني عجل بن لجيم، فتبعوه حتى انتزعوها منه، ورئيس بني سعد حمران بن عبد عمرو، فأسر أفتل ابن حسان العجليّ المنبطح الأسدي، ففداه قومه، ولا أدري كم كان فداؤه، واستنقذوا السبي، فقال حجر بن خالد بن محمود في يوم المعا:
ومنبطح الغواضر قد أذقنا ... بناعجة المعا حرّ الجلاد «4»
تنفّذنا أخاذيذا فردّت ... على سكن وجمع بني عباد
سكن: ابن باعث بن الحرث بن عباد، والأخائذ: من أخذ من النساء. وقال حمران بن عبد عمرو:
إن الفوارس يوم ناعجة المعا ... نعم الفوارس من بني سيار
لم يلههم عقد الأصرّة خلفهم ... وحنين منهلة الضروع عشار «5»(6/98)
لحقوا على قبّ الأياطل كالقنا ... شعث تعدّ لكلّ يوم عوار «1»
حتى حبون أخا الغواضر طعنة ... وفككن منه القدّ بعد إسار
سالت عليه من الشّعاب خوانف ... ورد الغطاط تبلّج الأسحار «2»
يوم النّسار «3»
قال أبو عبيدة: حالفت أسد وطيء وغطفان، ولحقت بهم ضبة وعدي، فغزوا بني عامر فقتلوهم قتلا شديدا، فغضبت بنو تميم لقتل عامر، فتجمعوا حتى لحقوا طيئا وغطفان وحلفاءهم من بني ضبة وعدي يوم الجفار «4» ، فقتلت تميم طيئا أشدّ مما قتلت عامر يوم النّسار. فقال في ذلك بشر بن أبي خازم:
غضبت تميم أن تقتل عامر ... يوم النّسار فأعتبوا بالصّيلم «5»
يوم ذات الشقوق «6»
فحلف ضمرة بن النهشلي. فقال: الخمر عليّ حرام حتى يكون له يوم يكافئه! فأغار عليهم ضمرة يوم ذات الشقوق فقتلهم، وقال في ذلك:
الآن ساغ لي الشراب ولم أكن ... آتي التّجار ولا أشدّ تكلمي
حتى صبحت على الشّقوق بغارة ... كالتمر ينثر في حرير الحرّم
وأبأت يوما بالجفار بمثله ... وأجرت نصفا من حديث الموسم
ومشت نساء كالظباء عواطلا ... من بين عارفة السّباء وأيّم «7»(6/99)
ذهب الرّماح بزوجها فتركنه ... في صدر معتدل القناة مقوّم
يوم خوّ «1»
قال أبو عبيدة: أغارت بنو أسد على بني يربوع فاكتسحوا إبلهم، فأتى الصريخ الحيّ، فلم يتلاحقوا إلا مساء بموضع يقال له خوّ، وكان ذؤاب بن ربيعة الأسدي على فرس أنثى، وكان عتيبة بن الحارث بن شهاب على حصان، فجعل الحصان يستنشق ريح الأنثى في سواد الليل ويتبعها، فلم يعلم عتيبة إلا وقد أقحم فرسه على ذؤاب بن ربيعة الأسدي، وعتيبة غافل لا يبصر ما بين يديه في ظلمة الليل، وكان عتيبة قد لبس درعه وغفل عن جربّانها «2» حتى أتى الصّريخ فلم يشدّه، ورآه ذؤاب فأقبل بالرمح إلى ثغرة نحره فخر صريعا قتيلا، ولحق الربيع بن عتيبة فشد على ذؤاب فأسره وهو لا يعلم أنه قاتل أبيه، فكان عنده أسيرا حتى فاداه أبوه ربيعة بإبل معلومة قاطعه عليها، وتواعدا سوق عكاظ في الأشهر الحرم أن يأتي هذا بالإبل ويأتي هذا بالأسير، وأقبل أبو ذؤاب بالإبل، وشغل الربيع بن عتيبة فلم يحضر سوق عكاظ، فلما رأى ذلك ربيعة أبو ذؤاب لم يشك أن ذؤابا قد قتلوه بأبيهم عتيبة، فرثاه وقال:
أبلغ قبائل جعفر مخصوصة ... ما إن أحاول جعفر بن كلاب
إنّ المودّة والهوادة بيننا ... حلق كسحق الرّيطة المنجاب «3»
ولقد علمت على التّجلّد والأسى ... أنّ الرّزية كان يوم ذؤاب «4»
إن يقتلوك فقد هتكت بيوتهم ... بعتيبة بن الحرث بن شهاب
بأحبّهم فقدا إلى أعدائه ... وأشدّهم فقدا على الأصحاب
فلما بلغهم الشعر قتلوا ذؤاب بن ربيعة.(6/100)
وقالت آمنة بنت عتيبة ترثي أباها:
على مثل ابن مية فانعياه ... بشقّ نواعم البشر الجيوبا
وكان أبي عتيبة شمّريّا ... فلا تلقاه يدّخر النّصيبا
ضروبا للكميّ إذا اشمعلّت ... عوان الحرب لا ورعا هيوبا «1»
أيام الفجار الأول
قال أبو عبيدة: أيام الفجار عدة، وهذا أولها، وهو بين كنانة وهوازن، وكان الذي هاجه أن بدر بن معشر أحد بني غفار بن مليل بن ضمرة بن بكر بن عبد مناة ابن كنانة، جعل له مجلس بسوق عكاظ، وكان حدثا منيعا في نفسه، فقام في المجلس وقام على رأسه قائم، وأنشأ يقول:
نحن بنو مدركة بن خندف ... من يطعنوا في عينه لم يطرف
ومن يكونوا قومه يغطرف ... كأنهم لجّة بحر مسدف «2»
قال: ومدّ رجله وقال: أنا أعز العرب، فمن زعم أنه أعز مني فليضربها! فضربها الأحمير بن مازن أحد بني دهمان بن نصر بن معاوية، فأندرها «3» من الركبة، وقال:
خذها إليك أيها المخندف
قال أبو عبيدة: إنما خرصها «4» خريصة يسيرة وقال في ذلك:
نحن بنو دهمان ذو التّغطرف ... بحر لبحر زاخر لم ينزف
نبني على الأحياء بالمعرّف
قال أبو عبيدة: فتحاور الحيان عند ذلك حتى كاد أن يكون بينهما الدماء، ثم تراجعوا ورأوا أن الخطب يسير.(6/101)
الفجار الثاني
كان الفجار الثاني بين قريش وهوازن، وكان الذي هاجه أن فتية من قريش قعدوا إلى امرأة من بني عامر بن صعصعة وضيئة «1» وحسانة بسوق عكاظ. وقالوا:
بل طاف بها شباب من بني كنانة وعليها برقع وهي في درع «2» فضل، فأعجبهم ما رأوا من هيئتها، فسألوها أن تسفر عن وجهها فأبت عليهم، فأتى أحدهم من خلفها فشد دبر درعها بشوكة إلى ظهرها وهي لا تدري، فلما قامت تقلص الدرع عن دبرها، فضحكوا وقالوا: منعتنا النظر إلى وجهها فقد رأينا دبرها! فنادت المرأة يا آل عامر! فتحاور الناس، وكان بينهم قتال ودماء يسيرة، فحملها حرب بن أمية وأصلح بينهم.
الفجار الثالث
وهو بين كنانة وهوازن: وكان الذي هاجه أن رجلا من بني كنانة كان عليه دين لرجل من بني نصر بن معاوية، فأعدم الكناني، فوافى النصري بسوق عكاظ بقرد فأوقفه في سوق عكاظ، وقال: من يبيعني مثل هذا بمالي على فلان! حتى أكثر من ذلك، وإنما فعل ذلك النصري تعييرا للكناني ولقومه، فمرّ به رجل من بني كنانة فضرب القرد بسيفه فقتله، فهتف النصري: يا آل هوازن! وهتف الكناني: يا آل كنانة! فتهايج الناس حتى كاد أن يكون بينهم قتال، ثم رأوا الخطب يسيرا فتراجعوا ولم يفقم الشر بينهم.
قال أبو عبيدة: فهذه الأيام تسمى فجارا، لأنها كانت في الأشهر الحرم، وهي الشهور التي يحرّمونها ففجروا فيها، فلذلك سميت فجارا وهذه يقال لها الفجار الأول.(6/102)
الفجار الآخر
وهو بين قريش وكنانة كلها وهوازن، وإنما هاجها البرّاض بقتله عروة الرّحال ابن عتبة بن جعفر بن كلاب، فأبت أن تقتل بعروة: البراض، لأن عروة سيد هوازن، والبراض خليع من بني كنانة، أرادوا أن يقتلوا به سيدا من قريش.
وهذه الحروب كانت قبل مبعث النبي صلّى الله عليه وسلّم بست وعشرين سنة وقد شهدها النبي صلّى الله عليه وسلّم وهو ابن أربع عشرة سنة مع أعمامه. وقال النبي عليه الصلاة والسلام: كنت أنبل على أعمامي يوم الفجار وأنا ابن أربع عشرة سنة يعني أنا ولهم النبل.
وكان سبب هذه الحرب أن النعمان بن المنذر ملك الحيرة كان يبعث [إلى] سوق عكاظ في كل عام لطيمة «1» في جوار رجل شريف من أشراف العرب، يجيرها له حتى تباع هناك ويشترى له بثمنها من أدم الطائف ما يحتاج إليه، وكانت سوق عكاظ تقوم في أول يوم من ذي القعدة، فيتسوّقون إلى حضور الحج، ثم يحجون، وكانت الأشهر الحرم أربعة أشهر: ذو القعدة، وذو الحجة، والمحرم، ورجب، وعكاظ بين نخلة والطائف، وبينها وبين الطائف نحو من عشرة أميال، وكانت العرب تجتمع فيها للتجارة والتّهيّؤ للحج، من أول ذي القعدة إلى وقت الحج، ويأمن بعضها بعضا، فجهز النعمان: عير اللطيمة، ثم قال: من يجيرها؟ فقال البراض بن قيس الضّمري: أنا أجيرها على بني كنانة. فقال النعمان ما أريد إلا رجلا يجيرها على أهل نجد وتهامة. فقال عروة الرحّال، وهو يومئذ رجل هوازن: أكلب خليع يجيرها لك؟
أبيت اللعن أنا أجيرها لك على أهل الشيح «2» والقيصوم «3» من أهل نجد وتهامة! فقال البراض: أعلى بني كنانة تجيرها يا عروة؟ قال: وعلى الناس كلهم! فدفعها النعمان إلى عروة، فخرج بها وتبعه البراض، وعروة لا يخشى منه شيئا، لأنه كان بين ظهراني(6/103)
قومه من غطفان إلى جانب فدك «1» ، وإلى أرض يقال لها أوارة «2» ، فنزل بها عروة فشرب من الخمر وغنته قينة، ثم قام فنام، فجاء البراض فدخل عليه، فناشده عروة وقال: كانت مني زلّة، وكان الفعلة مني ضلة! فقتله وخرج يرتجز ويقول:
قد كانت الفعلة مني ضلّه ... هلّا على غيري جعلت الزّلّه
فسوف أعلو بالحسام القله «3»
وقال:
وداهية يهال الناس منها ... شددت لها بني بكر ضلوعي
هتكت بها بيوت بني كلاب ... وأرضعت الموالي بالضّروع
جمعت له يديّ بنصل سيف ... أفلّ فخرّ كالجذع الصّريع «4»
واستاق اللطيمة إلى خيبر، واتبعه المساور بن مالك الغطفاني، وأسد بن خيثم الغنوي، حتى دخل خيبر! فكان البراض أول من لقيهما، فقال لهما: من الرجلان؟
قالا: من غطفان وغنّي. قال البراض: ما شأن غطفان وغنّي بهذه البلدة؟ قالا: ومن أنت؟ قال: من أهل خيبر. قالا: ألك علم بالبراض؟ قال: دخل علينا طريدا خليعا فلم يؤوه أحد بخيبر ولا أدخله بيتا. قالا: فأين يكون؟ قال: وهل لكما به طاقة إن دللتكما عليه؟ قالا: نعم. قال: فانزلا! فنزلا وعقلا راحلتيهما. قال: فأيكما أجرأ عليه وأمضى مقدما وأحدّ سيفا؟ قال الغطفاني: أنا! قال البراض: فانطلق أدلّك عليه، ويحفظ صاحبك راحلتيكما ففعل، فانطلق البراض يمشي بين يدي الغطفاني حتى انتهى إلى خربة في جانب خيبر خارجة عن البيوت. فقال البراض: هو في هذه الخربة وإليها يأوي، فأنظرني حتى أنظر أثمّ هو أم لا. فوقف له ودخل البراض، ثم خرج إليه وقال: هو نائم في البيت الأقصى خلف هذا الجدار، عن يمينك إذا دخلت،(6/104)
فهل عندك سيف فيه صرامة؟ قال: نعم. قال: هات سيفك أنظر إليه أصارم هو؟
فأعطاه إياه، فهزه البراض ثم ضربه به حتى قتله، ووضع السيف خلف الباب، وأقبل على الغنوي، فقال: ما وراءك؟ قال: لم أر أجبن من صاحبك، تركته قائما في الباب الذي فيه الرجل، والرجل نائم، لا يتقدم إليه ولا يتأخر عنه! قال الغنوي: يا لهفاه! لو كان أحد ينظر راحلتينا! قال البراض: هما عليّ إن ذهبتا، فانطلق الغنوي.
والبراض خلفه، حتى إذا جاوز الغنوي باب الخربة أخذ البراض السيف من خلف الباب ثم ضربه به حتى قتله، وأخذ سلاحيهما وراحلتيهما ثم انطلق.
وبلغ قريشا خبر البراض بسوق عكاظ، فخلصوا نجيا، واتبعتهم قيس لمّا بلغهم أن البراض قتل عروة الرّحال، وعلم قيس أبو براء عامر بن مالك، فأدركوهم وقد دخلوا الحرم، ونادوهم: يا معشر قريش، إنا نعاهد الله أن لا نبطل دم عروة الرحال أبدا ونقتل به عظيما منكم، وميعادنا وإياكم هذه الليالي من العام المقبل، فقال حرب بن أمية لأبي سفيان ابنه: قل لهم إن موعدكم قابل في هذا اليوم. فقال خداش بن زهير في هذا اليوم، وهو يوم نخلة:
يا شدّة ما شددنا غير كاذبة ... على سخينة لولا البيت والحرم
لما رأوا خيلنا تزجي أوائلها ... آساد غيل حمى أشبالها الأجم «1»
واستقبلوا بضراب لا كفاء له ... يبدي من الغرل الأكفال ما كتموا «2»
ولّوا شلالا وعظم الخيل لا حقة ... كما تخبّ إلى أوطانها النعم «3»
ولت بهم كل محضار ململمة ... كأنها لقوة بجنبها ضرم «4»
وكانت العرب تسمي قريشا سخينة لأكلها السخن.(6/105)
يوم شمطة «1»
وهي من يوم الفجار الآخر، ويوم نخلة منه أيضا، قال: فجمعت كنانة قريشها وعبد مناتها والأحابيش «2» ومن لحق بهم من بني أسد بن خزيمة، وسلّح يومئذ عبد الله ابن جدعان مائة كميّ «3» بأداة كاملة، سوى من سلح من قومه والأحابيش بنو الحارث بن عبد مناة بن كنانة. قال: وجمعت سليم وهوازن جموعها وأحلافها- غير كلاب وبني كعب، فإنهما لم يشهدا يوما من أيام الفجار غير يوم نخلة- فاجتمعوا بشمطة من عكاظ في الأيام التي تواعدوا فيها على قرن الحول، وعلى كل قبيلة من قريش وكنانة سيدها. وكذلك على قبائل قيس، غير أن أمر كنانة كلها إلى حرب ابن أمية، وعلى إحدى مجنبتيها عبد الله بن جدعان، وعلى الأخرى كريز بن ربيعة.
وحرب بن أمية في القلب، وأمر هوازن كلها إلى مسعود بن معتب الثقفي. فتناهض الناس وزحف بعضهم إلى بعض. فكانت الدائرة في أول النهار لكنانة على هوازن، حتى إذا كان آخر النهار تداعت هوازن وصابرت، وانقشعت كنانة فاستحر القتل فيهم، فقتل منهم تحت رايتهم مائة رجل، وقيل ثمانون، ولم يقتل من قريش يومئذ أحد يذكر، فكان يوم شمطة لهوازن على كنانة.
يوم العبلاء «4»
ثم جمع هؤلاء وأولئك، فالتقوا على قرن الحول في اليوم الثالث من أيام عكاظ، والرؤساء على هؤلاء وأولئك الذين ذكرنا في يوم شمطة، وكذلك على المجنبتين، فكان هذا اليوم أيضا لهوازن على كنانة، وفي ذلك يقول خداش بن زهير:(6/106)
ألم يبلغك ما لقيت قريش ... وحيّ بني كنانة إذ أبيروا «1»
دهمناهم بأرعن مكفهرّ ... فظلّ لنا بعقوتهم زئير «2»
وفي هذا اليوم قتل العوّام بن خويلد، والد الزبير بن العوّام، قتله مرة بن معتب الثقفي، فقال رجل من ثقيف:
منّا الذي ترك العوّام منجدلا ... تنتابه الطير لحما بين أحجار «3»
يوم شرب «4»
ثم جمع هؤلاء وأولئك، فالتقوا على قرن الحول في اليوم الثالث من أيام عكاظ، فالتقوا بشرب، ولم يكن بينهم يوم أعظم منه، والرؤساء على هؤلاء وأولئك الذين ذكرنا، وكذلك على المجنبتين، وحمل ابن جدعان يومئذ مائة رجل على مائة بعير، ممن لم تكن له حمولة، فالتقوا وقد كان لهوازن على كنانة يومان متواليان: يوم شمطة، ويوم العبلاء، فحميت قريش وكنانة، وصابرت بنو مخزوم وبنو بكر فانهزمت هوازن وقتلت قتلا ذريعا، وقال عبد الله بن الزبعري يمدح بني المغيرة:
ألا لله قوم و ... لدت أخت بني سهم
هشام وأبو عبد ... مناف مدره الخصم «5»
فهذان يذودان ... وذا من كثب يرمي «6»
وأبو عبد مناف: قصي، وهشام. ابن المغيرة، وذو الرمحين: أبو ربيعة بن المغيرة، قاتل يوم شرب برمحين، وأمهم ريطة بنت سعد بن سهم.(6/107)
فقال في ذلك جذل الطعان:
جاءت هوازن أرسالا وإخوتها ... بنو سليم، فهابوا الموت وانصرفوا
فاستقبلوا بضراب فضّ جمعهم ... مثل الحريق فما عاجوا ولا عطفوا «1»
يوم الحريرة «2»
قال: ثم جمع هؤلاء وأولئك ثم التقوا على رأس الحول بالحريرة، وهي حرّة إلى جنب عكاظ، والرؤساء على هؤلاء وأولئك هم الذين كانوا في سائر الأيام، وكذلك على المجنبتين، إلا أن أبا مساحق بلعاء بن قيس اليعمري قد كان مات، فكان من بعده على بكر بن عبد مناة بن كنانة، وأخوه جثامة بن قيس، فكان يوم الحريرة لهوازن على كنانة، وكان آخر الأيام الخمسة التي تزاحفوا فيها، قال: فقتل يومئذ أبو سفيان بن أمية أخو حرب بن أمية، وقتل من كنانة ثمانية نفر، قتلهم عثمان بن أسيد بن مالك، من بني عامر بن صعصعة، وقتل أبو كنف وابنا إياس، وعمر بن أيوب، فقال خداش بن زهير:
إني من النّفر المحمرّ أعينهم ... أهل السوام وأهل الصخر والّلوب «3»
الطاعنين نحور الخيل مقبلة ... بكلّ سمراء لم تعلب ومعلوب «4»
وقد بلوتم فأبلوكم بلاءهم ... يوم الحريرة ضربا غير مكذوب «5»
لاقتكم منهم آساد ملحمة ... ليسوا بزارعة عوج العراقيب «6»
فالآن إن تقبلوا نأخذ نحوركم ... وإن تباهوا فإني غير مغلوب «7»
وقال الحارث بن كلّدة الثقفي:(6/108)
تركت الفارس البذاخ منهم ... تمجّ عروقه علقا عبيطا «1»
دعست لبانه بالرّمح حتى ... سمعت لمتنه فيه أطيطا «2»
لقد أرديت قومك يا ابن صخر ... وقد جشّمتهم أمرا سليطا
وكم أسلمت منكم من كميّ ... جريحا قد سمعت له غطيطا «3»
مضت أيام الفجار الآخر، وهي خمسة أيام في أربع سنين، أولها يوم نخلة، ولم يكن لواحد منهما على صاحبه، ثم يوم شمطة لهوازن على كنانة، وهو أعظم أيامهم، ثم يوم العبلاء، ثم يوم شرب، وكان لكنانة على هوازن، ثم يوم الحريرة لهوازن على كنانة.
قال أبو عبيدة: ثم تداعى الناس إلى السلم على أن يذروا الفضل ويتعاهدوا ويتواثقوا.
يوم عين أباغ
وبعده أيام ذي قار قال أبو عبيدة: كان ملك العرب المنذر الأكبر ابن ماء السماء، ثم مات فملك ابنه عمرو بن المنذر، وأمه هند وإليها ينسب، ثم هلك فملك أخوه قابوس، وأمه هند أيضا، فكان ملكه أربع سنين، وذلك في مملكة كسرى بن هرمز، ثم مات فملك بعده أخوه المنذر بن المنذر بن ماء السماء، وذلك في مملكة كسرى بن هرمز، فغزاه الحارث الغساني، وكان بالشام من تحت يد قيصر، فالتقوا بعين أباغ، فقتل المنذر، فطلب كسرى رجلا يجعله مكانه، فأشار إليه عدي بن زيد- وكان من تراجمة كسرى- بالنعمان بن المنذر، وكان صديقا له فأحب أن ينفعه، وهو أصغر بني المنذر بن المنذر بن ماء السماء، فولاه كسرى على ما كان عليه أبوه، وأتاه عدي بن(6/109)
زيد فمكّنه النعمام، ثم سعي بينهما فحبسه حتى أتى على نفسه، وهو القائل:
أبلغ النّعمان عني مألكا ... أنه قد طال حبسي وانتظاري
لو بغير الماء حلقي شرق ... كنت كالغصّان بالماء اعتصاري «1»
وعداتي شمّت أعجبهم ... أنّني غيّبت عنهم في إساري
لامريء لم يبل مني سقطة ... إن أصابته ملمّات العثار «2»
فلئن دهر تولى خيره ... وجرت بالنّحس لي منه الجواري
لبما منه قضينا حاجة ... وحياة المرء كالشّيء المعار
فلما قتل النعمان عديّ بن زيد العبادي- وهو من بني امريء القيس بن سعد بن زيد مناة بن تميم- سار ابنه زيد بن عدي إلى كسرى فكان من تراجمته وكان النعمان عند كسرى، فحمله عليه، فهرب النعمان حتى لحق ببني رواحة من عبس، واستعمل كسرى على العرب إياس بن قبيصة الطائي، ثم إن النعمان تجول حينا في أحياء العرب، ثم أشارت عليه امرأته المتجردة أن يأتي كسرى ويعتذر إليه، ففعل، فحبسه بساباط «3» حتى هلك، ويقال أوطأه الفيلة.
وكان النعمان إذا شخص إلى كسرى أودع حلقته وهي ثمانمائة درع وسلاحا كثيرا، هانيء بن مسعود الشيباني، وجعل عنده ابنته هند التي تسمى حرقة، فلما قتل النعمان قالت فيه الشعراء، فقال فيه زهير بن أبي سلمى المزنيّ:
ألم تر للنّعمان كان بنجوة ... من الشرّ لو أنّ امرءا كان باقيا «4»
فلم أر مخذولا له مثل ملكه ... أقلّ صديقا أو خليلا موافيا
خلا أنّ حيّا من رواحة حافظوا ... وكانوا أناسا يتّقون المخزيا «5»
فقال لهم خيرا وأثنى عليهم ... وودّعهم توديع أن لا تلاقنا(6/110)
يوم ذي قار
قال أبو عبيدة: يوم ذي قار هو يوم ذي الحنو، ويوم قراقر، ويوم الجبايات، ويوم ذات العجرم، ويوم بطحاء ذي قار، وكلهن حول ذي قار، وقد ذكرتهن الشعراء.
قال أبو عبيدة: لم يكن هانيء بن مسعود المستودع حلقة النعمان، وإنما هو ابن ابنه، واسمه هانيء بن قبيصة بن هانيء بن مسعود، لأن وقعة ذي قار كانت وقد بعث النبيّ صلّى الله عليه وسلّم، وخبّر أصحابه بها فقال: اليوم أول يوم انتصفت فيه العرب من العجم، وبي نصروا.
فكتب كسرى إلى إياس بن قبيصة يأمره أن يضم ما كان للنعمان، فأبى هانيء بن قبيصة أن يسلم ذلك إليه، فغضب كسرى وأراد استئصال بكر بن وائل.
وقدم عليه النعمان بن زرعة التغلبي وقد طمع في هلاك بكر بن وائل، فقال: يا خير الملوك، ألا أدلك على غرة «1» بكر؟ قال: بلى. قال: أقرها وأظهر الإضراب عنها حتى يجليها القيظ ويدنيها منك، فإنهم لو قاظوا «2» تساقطوا عليك بمالهم واديا يقال له ذو قار تساقط الفراش في النار، فأقرهم، حتى إذا قاظوا جاءت بكر بن وائل حتى نزلوا الحنو حنو ذي قار، فأرسل إليهم كسرى النعمان بن زرعة يخيّرهم بين ثلاث خصال: إمّا أن يسلموا الحلقة، وإمّا أن يعروا الديار، وإما أن يأذنوا بحرب! فتنازعت بكر بينها، فهمّ هانيء بن قبيصة بركوب الفلاة، وأشار به على بكر، وقال: لا طاقة لكم بمجموع الملك! فلم تر من هانيء سقطة قبلها.
وقال حنظلة بن ثعلبة بن سيار العجلي: لا أرى غير القتال، فإنّا إن ركبنا الفلاة متنا عطشا، وإن أعطينا بأدينا تقتل مقاتلتنا وتسبى ذرارينا «3» . فراسلت بكر بينها(6/111)
وتوافت بذي قار، ولم يشهدها أحد من بني حنيفة، ورؤساء بني بكر يومئذ ثلاثة نفر: هانيء بن قبيصة، ويزيد بن مسهر الشيباني، وحنظلة بن ثعلبة العجلي.
وقال مسمع بن عبد الملك العجلي بن لجيم بن صعب بن علي بن بكر بن وائل: لا والله ما كان لهم رئيس، وإنما غزوا في ديارهم فثار الناس إليهم من بيوتهم.
وقال حنظلة بن ثعلبة لهانيء بن قبيصة: يا أبا أمامة، إنّ ذمّتكم ذمّتنا عامّة، وإنه لن يوصل إليك حتى تفنى أرواحنا، فأخرج هذه الحلقة ففرّقها في قومك، فإن تظفر فستردّ عليك، وإن تهلك فأهون مفقود. فأمر بها فأخرجت وفرّقت بينهم.
وقال للنعمان: لولا أنك رسول ما أبت «1» إلى قومك سالما! قال أبو المنذر: فعقد كسرى للنعمان بن زرعة على تغلب والنمر، وعقد الخالد بن يزيد البهراني على قضاعة وإياد، وعقد لإباس بن قبيصة على جميع العرب، ومعه كتيبتاه الشهباء والدوسر، وعقد للهامرز التستري- وكان على مسلحة كسري بالسواد- على ألف من الأساورة، وكتب إلى قيس بن مسعود بن قيس بن خالد ذي الجدّين- وكان عامله على الطّفّ «2» طفّ سفوان- وأمره أن يوافي إياس بن قبيصة، ففعل.
وسار إياس بمن معه من جنده من طيء، ومعه الهامرز، والنعمان بن زرعة وخالد ابن يزيد، وقيس بن مسعود، كل واحد منهم على قومه، فلما دنا من بكر انسلّ قيس إلى قومه ليلا، فأتى هانئا فأشار عليهم كيف يصنعون، وأمرهم بالصبر ثم رجع.
فلما التقى الزحفان وتقارب القوم، قام حنظلة بن ثعلبة بن سيار العجلي، فقال: يا معشر بكر، إنّ النّشّاب «3» الذي مع هؤلاء الأعاجم تفرّقكم، فعاجلوهم اللقاء وابدءوهم بالشدّة.
وقال هانيء بن مسعود: يا قوم مهلك مقدور، خير من منجى مغرور، إنّ الجزع(6/112)
لا يردّ القدر، وإنّ الصبر من أسباب الظفر. المنيّة خير من الدّنية، واستقبال الموت خير من استدباره، فالجدّ الجدّ، فما من الموت بدّ.
ثم قام حنظلة بن ثعلبة فقطع وضن «1» النساء فسقطن إلى الأرض، وقال: ليقاتل كل رجل منكم عن حليلته «2» . فسمي مقطع الوضن.
قال: وقطع يومئذ سبعمائة رجل من بني شيبان أيدي أقبيتهم من مناكبها لتخف أيديهم لضرب السيوف، وعلى ميمنتهم بكر يزيد بن مسهر الشيباني، وعلى ميسرتهم حنظلة بن ثعلبة العجلي وهانيء بن قبيصة، ويقال ابن مسعود في القلب، فتجالد القوم، وقتل يزيد بن حارثة اليشكري الهامرز مبارزة، ثم قتل يزيد بعد ذلك، ويقال إنّ الحوافزان بن شريك شدّ على الهامرز فقتله، وقال بعضهم: لم يدرك الحوفزان يوم ذي قار، وإنما قتله يزيد بن حارثة.
وضرب الله وجوه الفرس فانهزموا، فاتّبعهم بكر حتى دخلوا السواد في طلبهم يقتلونهم، وأسر النعمان بن زرعة التغلبي.
ونجا إياس بن قبيصة على فرسه الحمامة، فكان أول من انصرف إلى كسرى بالهزيمة إياس بن قبيصة وكان كسرى لا يأتيه أحد بهزيمة جيش إلا نزع كتفيه، فلما أتاه ابن قبيصة، سأله عن الجيش، فقال: هزمنا بكر بن وائل وأتيناك ببناتهم! فعجب بذلك كسرى وأمر له بكسوة، ثم استأذنه إياس فقال: أخي قيس بن قبيصة مريض بعين التمر، فأردت أن آتيه. فأذن له.
ثم أتى كسرى رجل من أهل الحيرة وهو بالخورنق، فسأل: هل دخل على الملك أحد؟ فقالوا: إياس. فظنّ أنه حدّثه الخبر، فدخل عليه وأخبره بهزيمة القوم وقتلهم، فأمر به فنزعت كتفاه.(6/113)
قال أبو عبيدة: لما كان يوم ذي قار، كان في بكر أسرى من تميم قريبا من مائتي أسير، أكثرهم من بني رياح بن يربوع، فقالوا: خلّوا عنا نقاتل معكم، فإنما نذب «1» عن أنفسنا! فقالوا: إنا نخاف أن لا تناصحونا! قالوا: فدعونا نعلم حتى تروا مكاننا وغناءنا.
وفي ذلك قوم جرير:
منّا فوارس ذي بهدى وذي نجب ... والمعلمون صباحا يوم ذي قار «2»
قال أبو عبيدة: سئل عمرو بن العلاء- وتنافر إليه عجلي ويشكري، فزعم العجلي أنه لم يشهد يوم ذي قار غير شيباني وعجلي، وقال اليشكري: بل شهدتها قبائل بكر وحلفاؤهم.
فقال عمرو: قد فصل بينكما التغلبي حيث يقول:
ولقد رأيت أخاك عمرا أمرة ... يقضي وضيعيه بذات العجرم «3»
في غمرة الموت التي لا تشتكي ... غمراتها الأبطال غير تغمغم
وكأنما أقدامهم وأكفهم ... سرب تساقط في خليج مفعم
لمّا سمعت دعاء مرّة قد علا ... وأتى ربيعة في العجاج الأقتم «4»
ومحلّم يمشون تحت لوائهم ... والموت تحت لواء آل محلّم
لا يصدفون عن الوغى بوجوههم ... في كلّ سابغة كلون العظلم «5»
ودعت بنو أمّ الرّقاع فأقبلوا ... عند اللّقاء بكلّ شاك معلم
وسمعت يشكر تدّعي بخبيّب ... تحت العجاجة وهي تقطر بالدم «6»(6/114)
يمشون في حلق الحديد كما مشت ... أسد العرين بيوم نحس مظلم «1»
والجمع من ذهل كأن زهاءهم ... جرب الجمال يقودها ابنا قشعم
والخيل من تحت العجاج عوابسا ... وعلى سنابكها مناسج من دم «2»
وقال العديل بن الفرخ العجلي:
ما أوقد الناس من نار لمكرمة ... إلا اصطلينا وكنا موقدي النار
وما يعدّون من يوم سمعت به ... للناس أفضل من يوم بذي قار
جئنا بأسلابهم والخيل عابسة ... لمّا استلبنا لكسرى كلّ إسوار «3»
قال: وقالت عجل: لنا يوم ذي قار. فقيل لهم: من المستودع، ومن المطلوب، ومن نائب الملك، ومن الرئيس؟ فهو إذا لهم، كانت الرياسة لهانيء وكان حنظلة يشير بالرأي.
وقال شاعرهم:
إن كنت ساقية يوما ذوي كرم ... فاسقي الفوارس من ذهل بن شيبانا
واسقي فوارس حاموا عن ذمارهم ... واعلي مفارقهم مسكا وريحانا
وقال أعشى بكر:
أمّا تميم فقد ذاقت عداوتنا ... وقيس عيلان مسّ الخزي والأسف
وجند كسرى غداة الحنو صبّحهم ... مناغطاريف تزجي الموت وانصرفوا «4»
لقوا ململمة شهباء يقدمها ... للموت لا عاجز فيها ولا خرف «5»
فرع نمته فروع غير ناقصة ... موفّق حازم في أمره أنف
فيها فوارس محمود لقاؤهم ... مثل الأسنّة لا ميل ولا كشف(6/115)
بيض الوجوه غداة الروع تحسبهم ... جنان عبس عليها البيض والزّغف «1»
لمّا التقينا كشفنا عن جماجمنا ... ليعلموا أننا بكر فينصرفوا
قالوا البقيّة والهنديّ يحصدهم ... ولا بقية إلا السيف فانكشفوا
لو أنّ كلّ معدّ كان شاركنا ... في يوم ذي قار ما أخطاهم الشرف
لما أمالوا إلى النشّاب أيديهم ... ملنا ببيض فظلّ الهام يختطف «2»
إذا عطفنا عليهم عطفة صبرت ... حتى تولت وكاد اليوم ينتصف
بطارق وبنو ملك مرازبة ... من الأعاجم في آذانها النّطف «3»
من كلّ مرجانة في البحر أحرزها ... تيّارها ووقاها طينها الصدف
كأنما الآل في حافات جمعهم ... والبيض برق بدا في عارض يكف «4»
ما في الخدود صدود عن سيوفهم ... ولا عن الطّعن في اللبّات منحرف
وقال الأعشى يلوم قيس بن مسعود:
أقيس بن مسعود بن قيس بن خالد ... وأنت امرؤ ترجو شبابك وائل
أطورين في عام غزاة ورحلة ... ألا ليت قيسا غرقته القوابل «5»
لقد كان في شيبان لو كنت عالما ... قباب وحيّ حلة وقنابل
ورجراجة تعشي النواظر فحمة ... وجرد على أكتافهنّ الرّواحل «6»
رحلت ولم تنظر وأنت عميدهم ... فلا يبلغنّي عنك ما أنت فاعل
فعرّيت من أهل ومال جمعته ... كما عريت مما تمرّ المغازل
شفى النفس قتلى لم توسّد خدودها ... وسادا ولم تعضض عليها الأنامل
بعينيك يوم الحنو إذ صبّحتهم ... كتائب موت، لم تعقها العواذل(6/116)
ولما بلغ كسرى خبر قيس بن مسعود إذ انسل إلى قومه، حبسه حتى مات في حبسه، وفيه يقول الأعشى:
وعرّيت من أهل ومال جمعته ... كما عريت مما تمرّ المغازل
وكتب لقيط الإيادي إلى بني شيبان في يوم ذي قار شعرا يقول في بعضه:
قوموا قياما على أمشاط أرجلكم ... ثم افزعوا قد ينال الأمن من فزعا
وقلّدوا أمركم لله درّكم ... رحب الذّراع بأمر الحرب مضطلعا
لا مترفا إن رخاء العيش ساعده ... ولا إذا عضّ مكروه به خشعا
ما زال يحلب هذا الدهر أشطره ... يكون متّبعا طورا ومتبعا
حتى استمرّ على شزر مريرته ... مستحكم الرأي لا قحما ولا ضرعا «1»
وهذه الأبيات نظير قول عبد العزيز بن زرارة:
قد عشت في الدهر أطوارا على طرق ... شتّى فصادفت منه اللين والفظعا
كلّا بلوت فلا النعماء تبطرني ... ولا تخشّعت من لأوائه جزعا «2»
لا يملأ الأمر صدري قبل موقعه ... ولا أضيق به ذرعا إذا وقعا(6/117)
كتاب الزمرّدة في المواعظ والزهد
فرش كتاب الزمردة الثانية في فضائل الشعر
قال الفقيه أبو عمر بن محمد بن عبد ربه رحمه الله:
قد مضى قولنا في أيام العرب ووقائعها وأخبارها، ونحن قائلون بعون الله وتوفيقه في فضائل الشعر ومقاطعه ومخارجه، إذ كان الشعر ديوان خاصة العرب والمنظوم من كلامها، والمقيّد لأيامها، والشاهد على حكامها، حتى لقد بلغ من كلف «1» العرب به، وتفضيلها له، أن عمدت إلى سبع قصائد تخيّرتها من الشعر القديم فكتبتها بماء الذهب في القباطيّ المدرجة، وعلقتها بين أستار الكعبة، فمنه يقال: مذهبة امريء القيس، ومذهبة زهير. والمذهبات سبع، وقد يقال لها المعلقات.
قال بعض المحدثين قصيدة له، ويشبهها ببعض هذه القصائد التي ذكرت.
برزة تذكر في الحس ... ن من الشّعر المعلّق «2»
كلّ حرف نادر م ... نها له وجه معشّق
المعلقات
لامريء القيس: قفانبك من ذكرى حبيب ومنزل.
ولزهير: أمن أمّ أوفى دمنة لم تكلّم.(6/118)
ولطرفة: لخولة أطلال ببرقة ثهمد.
ولعنترة: يا دار عبلة بالجواء تكلّمي.
ولعمرو بن كلثوم: ألا هبى بصحنك فاصبحينا.
وللبيد: عفت الديار محلّها فمقامها.
وللحارث بن حلزة: آذنتنا ببينها أسماء.
اختلاف الناس في أشعر الشعراء
قال النبي صلّى الله عليه وسلّم وذكر عنده امرؤ القيس بن حجر: «هو قائد الشعراء وصاحب لوائهم» .
وقال عمر بن الخطاب للوفد الذين قدموا عليه من غطفان: من الذي يقول:
حلفت فلم أترك لنفسك ريبة ... وليس وراء الله للمرء مذهب «1»
قالوا: نابغة بني ذبيان: قال لهم: فمن الذي يقول هذا الشعر:
أتيتك عاريا خلقا ثيابي ... على وجل تظن بي الظنون «2»
فألفيت الأمانة لم تخنها ... كذلك كان نوح لا يخون
قالوا: هو النابغة. قال هو أشعر شعرائكم. وما أحسب عمر ذهب إلا إلى أنه أشعر شعراء غطفان، ويدل على ذلك قوله: هو أشعر شعرائكم.
وقد قال عمر لابن عباس: أنشدني لأشعر الناس، الذي لا يعاظل «3» بين القوافي ولا يتبع حوشيّ «4» الكلام. قال: من ذلك يا أمير المؤمنين؟ قال: زهير بن أبي سلمى فلم يزل ينشده من شعره حتى أصبح.(6/119)
وكان زهير لا يمدح إلا مستحقا، كمدحه لسنان بن أبي حارثة، وهرم بن سنان وهو القائل:
وإنّ أشعر بيت أنت قائله ... بيت يقال إذا أنشدته: صدقا
وكذلك أحسن القول ما صدّقه الفعل.
قالت بنو تميم لسلامة بن جندل: مجّدنا بشعرك. قال: افعلوا حتى أقول.
وقيل للبيد: من أشعر الشعراء؟ قال: صاحب القروح- يريد امرأ القيس- قيل له: فبعده من؟ قال: ابن العشرين- يعني طرفة- قيل له: فبعده من؟ قال: أنا.
وقيل للحطيئة: من أشعر الناس؟ قال: الذي يقول:
من يسأل الناس يحرموه ... وسائل الله لا يخيب
يريد عبيد بن الأبرص. قيل له: فبعده من؟ فأخرج لسانه وقال: هذا إذا رغب.
وقيل لبعض الشعراء: من أشعر الناس؟ قال: النابغة إذا رهب، وزهير إذا رغب، وجرير إذا غضب.
وقال أبو عمرو بن العلاء: طرفة أشعرهم واحدة. يعني قصيدته:
لخولة أطلال ببرقة ثمهد
وفيها يقول:
ستبدي لك الأيام ما كنت جاهلا ... ويأتيك بالأخبار من لم تزوّد
وأنشد هذا البيت للنبي صلّى الله عليه وعلى آله وسلّم، فقال: هذا من كلام النبوّة! وسمع عبد الله بن عمر رجلا ينشد بيت الحطيئة:
متى تأته تعشو إلى ضوء ناره ... تجد خير نار عندها خير موقد «1»
فقال: ذاك رسول الله! إعجابا بالبيت، يعني أن مثل هذا المدح لا يستحقه إلا رسول الله صلّى الله عليه وسلّم.(6/120)
سئل الأصمعي عن شعر النابغة، فقال: إن قلت ألين من الحرير صدقت وإن قلت أشدّ من الحديد صدقت.
وسئل عن شعر الجعدي: فقال: مطرف بألف وخمار بواف «1» .
وسئل حماد الراوية عن شعر ابن أبي ربيعة، فقال: ذلك الفستق المقشر الذي لا يشبع منه.
وقالوا في عمرو بن الأهتم: كأنّ شعره حلل منشرّة.
وسئل عمرو بن العلاء عن جرير والفرزدق، فقال: هما بازيان، يصيدان ما بين الفيل والعندليب.
وقال جرير: أنا مدينة الشعر والفرزدق نبعته.
وقال بلال بن جرير: قلت لأبي: يا أبت، إنك لم تهج قوما قط إلا وضعتهم إلا بني لجأ. قال: إني لم أجد شرفا فأضعه ولا بناء فأهدمه.
أشعر نصف بيت:
واختلف الناس في أشعر نصف بيت قالته العرب، فقال بعضهم: قول أبي ذؤيب الهذلي:
والدّهر ليس بمسعف من يجزع «2»
وقال بعضهم: قول حميد بن ثور الهلالي:
نوكّل بالأدنى وإن جلّ ما يمضي
وقال بعضهم: قول زميل:
ومن يك رهنا للحوادث يغلق
وهذا ما لا يدرك غايته ولا يوقف على حدّ منه، والشعر لا يفوت به أحد ولا يأتي به بديع إلا أتى ما هو أبدع منه، ولله درّ القائل: أشعر الناس من أبدع في(6/121)
شعره، ألا ترى مروان بن أبي حفصة على موضعه من الشعر وبعد صيته فيه ومعرفته وسمته- أنشدوه لامريء القيس فقال: هذا أشعر الناس.
في شعر حسان:
وقد قالوا: لحسان بن ثابت أفخر بيت قالته العرب وأحكم بيت قالته العرب، فأما أفخر بيت قالته العرب فقوله:
وبيوم بدر إذ يردّ وجوههم ... جبريل تحت لوائنا ومحمد
وأما أحكم بيت قالته العرب فقوله:
فإنّ امرأ أمسى وأصبح سالما ... من الناس إلّا ما جنى لسعيد
في شعر جرير:
وقالوا: أهجي بيت قالته العرب قول جرير:
والتّغلبيّ إذا تنحنح للقرى ... حكّ استه وتمثّل الأمثالا «1»
ولما قال جرير هذا البيت قال: والله لقد هجوت بني تغلب ببيت لو طعنوا في أستاههم بالرماح ما حكّوها! في شعر أبي ذؤيب:
ويقال: إن أبدع بيت قالته العرب: قول أبي ذؤيب الهذلي:
والنّفس راغبة إذا رغّبتها ... وإذا تردّ إلى قليل تقنع
فيقال إنّ أصدق بيت قالته العرب قول لبيد:
ألا كلّ شيء ما خلا الله باطل ... وكلّ نعيم لا محالة زائل
وذكر الشعر عند عبد الملك بن مروان فقال: إذا أردتم الشعر الجيّد فعليكم(6/122)
بالرزق من بني قيس بن ثعلبة- وهم رهط أعشى بكر-، وبأصحاب النخل من يثرب- يريد الأوس والخزرج، وأصحاب الشعف من هذيل. والشعف: رءوس الجبال.
فضائل الشعر
ومن الدليل على عظم قدر الشعر عند العرب وجليل خطبه في قلوبهم: أنه لما بعث النبي صلّى الله عليه وسلّم بالقرآن المعجز نظمه، المحكم تأليفه، وأعجب قريشا ما سمعوا منه، قالوا: ما هذا إلا سحر! وقالوا في النبي صلّى الله عليه وسلّم: شاعر نتربّص به ريب المنون «1» . وكذلك قال النبي صلّى الله عليه وسلّم في عمرو بن الأهتم لما أعجبه كلامه: إنّ من البيان لسحرا.
وقال الراجز:
لقد خشيت أن تكون ساحرا ... راوية مزا ومرا شاعرا «2»
وقال النبي صلّى الله عليه وسلّم: إنّ من الشّعر لحكمة.
وقال كعب الأحبار: إنا نجد قوما في التوراة أناجيلهم في صدورهم، تنطق ألسنتهم بالحكمة، وأظنهم الشعراء.
وقال عمر بن الخطاب رضي الله عنه: أفضل صناعات الرجل الأبيات من الشعر يقدّمها في حاجاته، يستعطف بها قلب الكريم، ويستميل بها قلب اللئيم.
وقال الحجاج للمساور بن هند: مالك تقول الشعر وقد بلغت من العمر ما بلغت؟
قال: أرعى به الكلأ، وأشرب به الماء، وتقضى لي به الحاجة، فإن كفيتني ذلك تركته!(6/123)
وقال عبد الملك بن مروان لمؤدب ولده: روّهم الشعر، روّهم الشعر: يمجدوا وينجدوا! وقالت عائشة: روّوا أولادكم الشعر تعذب ألسنتهم.
وبعث زياد بولده إلى معاوية، فكاشفه عن فنون من العلم فوجده عالما بكل ما سأله عنه، ثم استنشده الشعر، فقال: لم أرو منه شيئا! فكتب معاوية إلى زياد؟ ما منعك أن تروّيه الشعر؟ فوالله إن كان العاق «1» ليرويه فيبرّ، وإن كان البخيل ليرويه فيسخو، وإن كان الجبان ليرويه فيقاتل.
وكان علي رضي الله عنه إذا أراد المبارزة في الحرب أنشأ يقول:
أيّ يوميّ من الموت أفرّ ... يوم لا يقدر أم يوم قدر
يوم لا يقدر لا أرهبه ... ومن المقدور لا ينجو الحذر
وقال المقداد بن الأسود: ما كنت أعلم أحدا من أصحاب رسول الله صلّى الله عليه وسلّم أعلم بشعر ولا فريضة من عائشة رضي الله عنها! وفي رواية الخشني عن أبي عاصم عن عبد الله بن لا حق عن ابن أبي مليكة قال:
قالت عائشة: رحم الله لبيدا كان يقول:
قضّ الّلبانة لا أبا لك واذهب ... والحق بأسرتك الكرام الغيّب «2»
ذهب الذين يعاش في أكنافهم ... وبقيت في خلف كجلد الأجرب «3»
فكيف لو أدرك زماننا هذا! ثم قالت: إني لأروي ألف بيت له، وإنه أقل ما أروي لغيره.
وقال الشعبي: ما أنا لشيء من العلم أقلّ مني رواية للشعر، ولو شئت أن أنشد شعرا شهرا لا أعيد بيتا لفعلت.(6/124)
وسمع النبي صلّى الله عليه وسلّم عائشة وهي تنشد شعر زهير بن جناب.
ارفع ضعيفك لا يحل بك ضعفه ... يوما فتدركه عواقب ما جني
يجزيك أو يثني عليك فإنّ من ... أثنى عليك بما فعلت كمن جزى
فقال النبي صلّى الله عليه وسلّم: صدق يا عائشة، لا شكر الله من لا يشكر الناس.
يزيد بن عمر بن مسلم الخزاعي، عن أبيه عن جده قال: دخلت على النبي صلّى الله عليه وسلّم ومنشد ينشده قول سويد بن عامر المصطلقي:
لا تأمننّ وإن أمسيت في حرم ... إنّ المنايا بجنبي كلّ إنسان
فاسلك طريقك تمشي غير مختشع ... حتى تلاقي الذي منيّ لك الماني
فكلّ ذي صاحب يوما مفارقه ... وكلّ زاد وإن أبقيته فان
والخير والشّرّ مقرونان في قرن ... بكلّ ذلك يأتيك الجديدان «1»
فقال النبي صلّى الله عليه وسلّم: لو أدرك هذا الإسلام لأسلم.
أبو حاتم عن الاصمعي قال: جاء رجل إلى النبي صلّى الله عليه وسلّم فقال: أنشدك يا رسول الله، قال: نعم، فأنشده:
تركت القيان وعزف القيان ... وأدمنت تصلية وابتهلا
وكرّ المشقر في حومة ... وشنى على المشركين القتالا «2»
أيا ربّ لا أغبننّ صفقتي ... فقد بعت مالي وأهلي بدالا
فقال النبي صلّى الله عليه وسلّم: ربح البيع. ربح الببيع.
وقدم أبو ليلى النابغة الجعدي على رسول الله صلّى الله عليه وسلّم، فأنشده شعره الذي يقول فيه:
بلغنا السماء مجدنا وجدودنا ... وإنا لنرجو فوق ذلك مظهرا(6/125)
فقال النبي صلّى الله عليه وسلّم: إلى أين يا أبا ليلى؟ فقال: إلى الجنة يا رسول الله بك! فقال النبي صلّى الله عليه وسلّم: إلى الجنة إن شاء الله! فلما بلغ قوله وانتهى وهو يقول:
ولا خير في حلم إذا لم تكن له ... بوادر تحمي صفوه أن يكدّرا
ولا خير في جهل إذا لم يكن له ... حليم إذا ما أورد الأمر أصدرا «1»
قال النبي صلّى الله عليه وسلّم: لا يفضض «2» الله فاك. فعاش مائة وثلاثين سنة لم تنغضن «3» له ثنية «4» .
سفيان الثوري عن ليث عن طاوس عن ابن عباس قال: إنها لكلمة نبيّ يعني قول الشاعر:
ستبدي لك الأيام ما كنت جاهلا ... ويأتيك وبالاخبار من لم تزوّد
وسمع كعب قول الحطيئة:
من يفعل الخير لا يعدم جوازيه ... لا يذهب العرف بين الله والناس
قال: إنه في التوراة حرف بحرف، يقول الله تعالى: من يفعل الخير يجده عندي، لا يذهب الخير بيني وبين عبدي.
للنبي صلّى الله عليه وسلّم.
ابن عباس قال: أنشدت النبي صلّى الله عليه وسلّم أبياتا لامية بن أبي الصلت يذكر فيها حملة العرش، وهي:
رجل وثور تحت رجل يمينه ... والتّيس للأخرى وليث مرصد «5»
والشمس تطلع كل آخر ليلة ... فجرا ويصبح لونها يتوقّد(6/126)
تبدو فما تبدو لهم في وقتها ... إلا معذّبة وإلا تجلد
فتبسم النبي صلّى الله عليه وسلّم كالمصدّق له.
ومن حديث ابن ابي شيبة: أن النبي صلّى الله عليه وسلّم أردف الشريد، فقال النبي صلّى الله عليه وسلّم: تروي من شعر امية بن ابي الصلت شيئا قلت: نعم. قال: فأنشدني. فأنشدته، فجعل يقول بين كل قافيتين: هيه! حتى أنشدته مائة قافية، فقال: هذا رجل آمن لسانه وكفر قلبه! ولو لم يكن من فضائل الشعر إلا أنه أعظم جند يجنّده رسول الله صلّى الله عليه وسلّم على المشركين ... يدلّ على ذلك قوله لحسان: شن الغطاريف «1» على بني عبد مناف، فوالله لشعرك أشدّ عليهم من وقع السهام في غلس الظلام، وتحفّظ بيتي فيهم. قال:
والذي بعثك بالحق نبيا، لأسلّنّك منهم سلّ الشعرة من العجين! ثم أخرج لسانه فضرب به أرنبة أنفه، وقال: والله يا رسول الله إنه ليخيّل لي أني لو وضعته على حجر لفلقه «2» ، أو على شعر لحلقه! فقال النبي صلّى الله عليه وسلّم: أيّد الله حسانا في هجوه بروح القدس.
إسلام دوس
وقال ابن سيرين: بلغني أن دوسا إنما أسلمت فرقا «3» من كعب بن مالك صاحب النبي صلّى الله عليه وسلّم حيث يقول:
قضينا من تهامة كل نحب ... وخيبر ثمّ أغمدنا السّيوفا «4»
نخيرها ولو نطقت لقالت ... قواضبهنّ: دوسا أو ثقيفا «5»
قال النبي صلّى الله عليه وسلّم لحسان بن ثابت: لقد شكر الله قولك حيث تقول:
زعمت سخينة أن ستغلب ربّها ... وليغلبنّ مغالب الغلّاب(6/127)
ولو لم يكن من فضائل الشعر إلا انه أعظم الوسائل عند رسول الله صلّى الله عليه وسلّم ...
فمن ذلك أنه قال لعبد الله بن رواحة: أخبرني ما الشعر يا عبد الله؟ قال:
شيء يختلج في صدري فينطق به لساني. قال: فأنشدني. فأنشده شعره الذي يقول فيه:
فثبّت الله ما آتاك من حسن ... قفوت عيسى بإذن الله والقدر
فقال النبي صلّى الله عليه وسلّم: وإياك ثبّت الله، وإياك ثبّت الله، وإياك ثبّت الله.
شعر قتيلة بنت الحارث
ومن ذلك ما رواه ابن اسحاق صاحب المغازي وابن هشام: قال ابن اسحاق: لما نزل رسول الله صلّى الله عليه وسلّم الصفراء «1» - قال ابن هشام: الأثيل «2» - أمر عليا فضرب عنق النضر بن الحارث بن كلدة بن علقمة بن عبد مناف صبرا بين يدي رسول الله صلّى الله عليه وسلّم، فقالت أخته قتيلة بنت الحارث ترثيه:
يا راكبا إنّ الأثيل مظنّة ... من صبح خامسة وأنت موفّق
أبلغ بها ميتا بأنّ تحيّة ... ما إن تزال بها النجائب تخفق «3»
منى عليك وعبرة مسفوحة ... جادت بواكفها وأخرى تخنق
هل يسمعنّ النّضر إن ناديته ... أم كيف يسمع ميّت لا ينطق
أمحمّد يا خير ضنء كريمة ... في قومها والفحل فحل معرق «4»
ما كان ضرّك لو مننت وربما ... منّ الفتى وهو المغيظ المحنق
والنضر أقرب من أسرت قرابة ... وأحقّهم إن كان عتقا يعتق(6/128)
ظلّت سيوف بني أبيه تنوشه ... لله أرحام هناك تمزّق «1»
صبرا يقاد إلى المنيّة متعبا ... رسف المقيّد وهو عان موثّق «2»
قال ابن هشام: قال النبي صلّى الله عليه وسلّم لما بلغه هذا الشعر: لو بلغني قبل قتله ما قتلته.
بين النبي وأبي جرول يوم حنين
من حديث زياد بن طارق الجشمي قال: حدّثني أبو جرول الجشمي- وكان رئيس قومه- قال: أسرنا النبي صلّى الله عليه وسلّم يوم حنين، فبينما هو يميز الرجال من النساء، إذ وثبت فوقفت بين يديه وأنشدته:
امنن علينا رسول الله في حرم ... فإنك المرء نرجوه وننتظر
امنن على نسوة قد كنت ترضعها ... يا أرجح الناس حلما حين يختبر
إنا لنشكر للنّعما إذا كفرت ... وعندنا بعد هذا اليوم مدّخر
فذكّرته حين نشأ في هوازن وأرضعوه، فقال عليه الصلاة والسلام: أما ما كان لي ولبني عبد المطلب فهو لله ولكم. فقالت الأنصار: وما كان لنا فهو لله ولرسوله.
فردّت الانصار ما كان في أيديها من الذراري والأموال! فإذا كان هذا مقام الشعر عند النبي صلّى الله عليه وسلّم، فأيّ وسيلة تبلغه أو تعسره؟
فتح مكة
وكان الذي هاج فتح مكة أن عمرو بن مالك الخزاعي، ثم أحد بني كعب خرج من مكة حتى قدم على رسول الله صلّى الله عليه وسلّم المدينة، وكانت خزاعة في حلف النبي صلّى الله عليه وسلّم في عهده وعقده، فلما انتقضت عليهم قريش بمكة وأصابوا منهم ما أصابوا، أقبل عمرو بن سالم الخزاعي بأبيات قالها، فوقف على رسول الله صلّى الله عليه وسلّم وهو جالس في المسجد بين أظهر الناس، فقال:(6/129)
يا ربّ إني ناشد محمّدا ... حلف أبينا وأبيه الأتلدا «1»
قد كنتم ولدا وكنّا ولدا ... وزعموا أن لست أدعو أحدا
إنّ قريشا أخلفوك الموعدا ... ونقضوا ميثاقك المؤكّدا
وجعلوا لي في كداء رصدا ... وزعموا أن لست أدعو أحدا «2»
وهم أذلّ وأقل عددا ... هم بيتونا بالوتير هجّدا «3»
وقتلونا ركّعا وسجّدا ... فانصر هداك الله نصرا أيّدا
وادع عباد الله يأتوا مددا ... فيهم رسول الله قد تجرّدا
إن سيم خسفا وجهه تربّدا ... في فيلق كالبحر يجري مزبدا «4»
قال ابن هشام: فقال رسول الله صلّى الله عليه وسلّم، نصرت يا عمرو بن مالك، ثم عرض عارض من السماء، فقال رسول الله صلّى الله عليه وسلّم! إنّ هذه السحابة تستهلّ بنصر بني كعب.
وقال عمر بن الخطاب: الشعر جذل من كلام العرب، يسكن به الغيظ، وتطفأ به النائرة، ويتبلّغ به القوم في ناديهم، ويعطى به السائل.
فقال ابن عباس. الشعر علم العرب وديوانها، فتعلموه، وعليكم بشعر الحجاز فأحسبه ذهب إلى شعر الحجاز وحض عليه، إذ لغتهم أوسط اللغات.
وقال معاوية لعبد الرحمن بن الحكم: يا اخي، إنك شهرت بالشعر، فإياك والتشبيب «5» بالنساء، فإنك تعرّ الشريفة في قومها، والعفيفة في نفسها-، والهجاء فإنك لا تعدو أن تعادي به كريما او تستثير به لئيما، ولكن افخر بمآثر قومك، وقل من الأمثال ما توفّر به نفسك، وتؤدب به غيرك.(6/130)
وسئل مالك بن أنس: من أين شاطر عمر بن الخطاب عماله؟ فقال: اموال كثيرة ظهرت عليهم، وإن شاعرا كتب إليه يقول:
نحجّ إذا حجّوا ونغزو إذا غزوا ... فأنى لهم وفر ولسنا بذي وفر؟
إذا التاجر الهنديّ جاء بفارة ... من المسك راحت في مفارقهم تجري «1»
فدونك مال الله حيث وجدته ... سيرضون إن شاطرتهم- منك بالشطر
قال: فشاطرهم عمر أموالهم.
وأنشد عمر بن الخطاب قول زهير:
فإنّ الحقّ مقطعه ثلاث ... يمين أو نفار أو جلاء
فجعل يعجب بمعرفته بمقاطع الحقوق وتفصيلها، وإنما أراد: مقطع الحقوق يمين أو حكومة أو بينة.
وأنشد عمر قول عبدة بن الطبيب:
والعيش شح وإشفاق وتأميل
فقال: على هذا بنيت الدنيا.
للنبي صلّى الله عليه وسلّم وأصحابه في وباء المدينة
ولما هاجر النبي صلّى الله عليه وسلّم والى المدينة وهاجر أصحابه، مسهم وباء «2» المدينة، فمرض أبو بكر وبلال. قالت عائشة: فدخلت عليهما. فقلت: يا أبت كيف تجدك؟
ويا بلال، كيف تجدك؟ قالت: فكان أبو بكر إذا أخذته الحمى يقول:
كلّ امرىء مصبّح في أهله ... والموت أدنى من شراك نعله
قالت: وكان بلال إذا أقلعت عنه يرفع عقيرته «3» ويقول:(6/131)
ألا ليت شعري هل أبيتنّ ليلة ... بواد وحولي إذخر وجليل «1»
وهل أردن يوما مياه مجنّة ... وهل يبدون لي شامة وطفيل «2»
قالت عائشة: وكان عامر بن فهيرة يقول:
وقد رأيت الموت قبل ذوقه ... إنّ الجبان حتفه من فوقه
كالثور يحمي جلده بروقه «3»
قالت عائشة: فجئت رسول الله صلّى الله عليه وسلّم فأخبرته، فقال: اللهم حبّب إلينا المدينة كحبّنا مكة وأشدّ، وصححها، وبارك لنا في صاعها ومدّها، وانقل حمّاها فاجعلها بالجحفة «4» .
ومن حديث البراء بن عازب: قال: لما كان يوم حنين رأيت النبي صلّى الله عليه وسلّم، والعباس وأبا سفيان بن الحارث بن عبد المطلب، وهما آخذان بلجام بغلته. وهو يقول:
أنا النبيّ لا كذب أنا ... ابن عبد المطلب
ومن حديث أبي بكر بن أبي شيبة عن سفيان بن عيينة يرفعه إلى النبي صلّى الله عليه وسلّم: أنه لما دخل الغار نكب «5» ، فقال:
«هل أنت إلا أصبع دميت، وفي سبيل الله ما لقيت» .
فهذا من المنثور الذي يوافق المنظوم وإن لم يتعمّد به قائلة المنظوم. ومثل هذا من كلام الناس كثير يأخذه الوزن، مثل قول عبد مملوك لمواليه:
«اذهبوا بي إلى الطبيب ... وقولوا قد اكتوى» .
ومثله كثير مما يأخذه الوزن ولا يراد به الشعر، ولا يسمّى قول النبي صلّى الله عليه وسلّم- وإن(6/132)
كان موزونا- شعرا لانه لا يراد به الشعر.
ومثله في آي الكتاب: وَمِنَ اللَّيْلِ فَسَبِّحْهُ وَإِدْبارَ النُّجُومِ
«1» .
ومنه: وَجِفانٍ كَالْجَوابِ، وَقُدُورٍ راسِياتٍ
«2» .
ومثله: وَيُخْزِهِمْ وَيَنْصُرْكُمْ عَلَيْهِمْ، وَيَشْفِ صُدُورَ قَوْمٍ مُؤْمِنِينَ
«3» .
ومنه: فَذلِكَ الَّذِي يَدُعُّ الْيَتِيمَ
«4» .
ولو تطلبت في رسائل الناس وكلامهم لوجدت فيه ما يحتمل الوزن كثيرا، ولا يسمّى شعرا. من ذلك قول القائل: من يشتري باذنجان. تقطيعه: مستفعلن مفعولات، وهذا كثير.
من قال الشعر من الصحابة والتابعين والعلماء المشهورين
كان شعراء النبي صلّى الله عليه وسلّم: حسان، وكعب بن مالك، وعبد الله بن رواحة.
وقال سعيد بن المسيب: كان أبو بكر شاعرا، وعمر شاعرا، وعليّ أشعر الثلاثة.
ومن قول علي كرم الله وجهه بصفين:
لمن راية يخفق ظلّها ... إذا قيل قدّمها حضين تقدّما
يقدّمها في الصف حتى يذيديها ... حياض تقطر السم والدما «5»
جزى الله عني والجزاء بكفّه ... ربيعة خيرا، ما أعف وأكرما(6/133)
وقال أنس بن مالك خادم النبي صلّى الله عليه وسلّم: قدم علينا رسول الله صلّى الله عليه وسلّم وما في الأنصار بيت إلا وهو يقول الشعر. قيل له: وأنت أبا حمزة؟ قال: وأنا وقال عمرو بن العاص يوم صفّين:
شبّت الحرب فأعددت لها ... مفرّع الحارك محبوك الثّبج «1»
يصل الشّدّ بشدّ فإذا ... ونت الخيل عن الشّ معج «2»
جرشع أعظمه جفرته ... فإذا ابتلّ من الماء خرج «3»
وقال عبد لله بن عمرو بن العاص:
فلو شهدت جمل مقامي ومشهدي ... بصفّين يوما شاب منها الذوائب
عشيّة جا أهل العراق كأنهم ... سحاب ربيع زعزعتها الجنائب «4»
وجئناهم نردي كأنّ صفوفنا ... من البحر مدّ موجه متراكب
إذا قلت قد ولّوا سراعا بدت لنا ... كتائب منهم فارجحنّت كتائب «5»
فدارت رحانا واستدارت رحاهم ... سراة النهار ما توالى المناكب
وقالوا لنا إن نرى ان تبايعوا ... عليّا فقلنا بل نرى أن نضارب
ومن شعراء التابعين
عبيد الله بن عبد الله بن عتبة بن مسعود، وهو ابن أخي عبد الله بن مسعود صاحب رسول الله صلّى الله عليه وسلّم، وهو أحد السبعة من فقهاء المدينة، وله يقول سعيد بن المسيب: أنت الفقيه الشاعر؟ [قال] : لا بدّ للمصدور أن ينفث. يعني أنه من كان في صدره زكام فلا بدّ أن ينفث به زكمة صدره: يريد أن كل من اختلج في صدره شيء من شعر أو غيره ظهر على لسانه.(6/134)
وقال عمر بن عبد العزيز: وددت لو أني لي مجلسا من عبيد الله بن عبد الله بن عتبة بن مسعود بدينار.
قال عبيد الله بن عبد الله بن عتبة بن مسعود: ما أحسن الحسنات في أثر السيئات، وأقبح السيئات في أثر الحسنات! وأحسن من هذا وأقبح من ذلك: الحسنات في أثر الحسنات، والسيئات في أثر السيئات! عروة بن أذينة، وكان من ثقات أصحاب حديث رسول الله صلّى الله عليه وسلم، يروي عنه مالك.
وقال ابن شبرمة: كان عروة بن أذينة يخرج في الثلث الأخير من الليل إلى سكك البصرة فينادي: يا أهل البصرة، أَوَأَمِنَ أَهْلُ الْقُرى أَنْ يَأْتِيَهُمْ بَأْسُنا ضُحًى وَهُمْ يَلْعَبُونَ؟
«1» الصلاة الصلاة!
ومن شعراء الفقهاء المبرزين
عبد الله بن المبارك صاحب الرقائق «2» وقال حبّان: خرجنا مع ابن المبارك مرابطين إلى الشام، فلما نظر إلى ما فيه القوم من التعبد والغزو والسرايا كل يوم، التفت إليّ وقال: إنا لله وإنا إليه راجعون على أعمار أفنيناها، وليال وأيام قطعناها في علم الخلية «3» والبريّة وتركنا هاهنا أبواب الجنة مفتوحة! قال: فبينما هو يمشي وأنا معه في أزقة المصّيصة «4» ، إذ لقي سكرانا قد رفع عقيرته «5» يتغنى ويقول.
أذلّني الهوى فأنا الذليل ... وليس إلى الذي أهوى سبيل(6/135)
قال: فأخرج برنامجا «1» من كمه فكتب البيت، فقلنا له: أتكتب بيت شعر سمعته من سكران؟ قال: أما سمعتم المثل: ربّ جوهرة في مزبلة؟ قالوا: نعم. قال: فهذه جوهرة في مزبلة! وبلغ عبيد الله بن عبد الله بن عتبة بن مسعود عن عمر بن عبد العزيز بعض ما يكره، فكتب إليه:
أتاني عنك هذا اليوم قول ... فضقت به وضاق به جوابي
أبا حفص فلا أدري أرغمي ... تريد بما تحاول أم عتابي
فإن تك عاتبا تعتب وإلا ... فما عودي إذا بيراع غاب
وقد فارقت أعظم منك رزءا ... وواريت الأحبة في التراب «2»
وقد عزّو عليّ إذا اسلموني ... معا فلبست بعدهم ثيابي
وقد ذكر شعر عبيد الله بن عبد الله بن عتبة، وعروة بن أذينة في الباب الذي يتلو هذا، وهو «قولهم في الغزل» .
راشد بن عبد ربه حدّث فرج بن سلام قال: حدّثنا عبد الله بن الحكم الواسطي عن بعض أشياخ الشام قال: استعمل رسول الله صلّى الله عليه وسلم أبا سفيان بن حرب على نجران، فولاه الصلاة والحرب، ووجه راشد بن عبد ربه السّلمي أميرا على القضاء والمظالم، فقال
راشد بن عبد ربه:
صحا القلب عن سلمى وأقصر شأوه ... وردّت عليه ما نعته تماضر
وحكّمه شيب القذال عن الصّبا ... وللشيب عن بعض الغواية زاجر «3»(6/136)
فأقصر جهلي اليوم وارتدّ باطلي ... عن اللهو لما ابيضّ مني الغدائر «1»
على أنه قد هاجه بعد صحوه ... بمعرض ذي الآجام عيس بواكر «2»
ولما دنت من جانب الفرض أخصبت ... وحلت ولاقاها سليم وعامر
وخبّرها الركبان أن ليس بينها ... وبين قرى بصرى ونجران كافر
فألقت عصاها واستقرّ بها النّوى ... كما قرّ عينا بالإياب المسافر «3»
لابن عمر في ولده سالم
وكان عبد الله بن عمر يحب ولده سالما حبّا مفرطا، فلامه الناس في ذلك، فقال:
يلومونني في سالم وألومهم ... وجلدة بين العين والانف سالم
وقال: إن ابني سالما يحب الله حبا لو لم يخفه ما عصاه.
وكان علي بن أبي طالب كرم الله وجهه إذا برز للقتال أنشد:
أي يوميّ من الموت أفرّ ... يوم لا يقدر أم يوم قدر
يوم لا يقدر لا أرهبه ... ومن المقدور لا ينجو الحذر
وكان إذا سار بأرض الكوفة يرتجز ويقول:
يا حبّذا السير بأرض الكوفه ... أرض سواء سهلة معروفة
تعرفها جمالنا المعلوفه وكان ابن عباس في طريقه من البصرة إلى الكوفة يحدو الإبل، ويقول:
أوبي إلى أهلك يا رباب ... أوبي فقد حان لك الإياب «4»
وقال ابن عباس لما كفّ بصره:(6/137)
إن يأخذ الله من عينيّ نورهما ... ففي لساني وقلبي منهما نور
قلبي ذكيّ وعقلي غير ذي دخل ... وفي فمي صارم كالسيف مشهور «1»
قولهم في الغزل
قال رجل لمحمد بن سيرين: ما تقول في الغزل الرقيق ينشده الإنسان في المسجد؟
فسكت عنه حتى أقيمت الصلاة وتقدم إلى المحراب، فالتفت إليه فقال:
وتبرد برد رداء العرو ... س في الصيف رقرقت فيه العبيرا
ونسخن ليلة لا يستطيع ... نباحا بها الكلب إلا هريرا
ثم قال: الله أكبر.
الحجاج وأبو هريرة
وقال الحجاج: دخلت المدينة فقصدت إلى مسجد النبي صلّى الله عليه وسلم: فإذا بأبي هريرة قد أكبّ الناس عليه يسألونه، فقلت: هكذا! افرجوا لي عن وجهه. فأفرج لي عنه، فقلت له: إني إنما أقول هذا:
طاف الخيالان فهاجا سقما ... خيال أروى وخيال تكتّما
تريك وجها ضاحكا ومعصما ... وساعدا عبلا وكفّا أدرما «2»
فما تقول فيه؟ قال: لقد كان رسول الله صلّى الله عليه وسلّم ينشد مثل هذا في المسجد فلا ينكره.
ودخل كعب بن زهير على النبيّ صلّى الله عليه وسلّم قبل صلاة الصبح، فمثل بين يديه وأنشده:
بانت سعاد فقلبي اليوم متبول ... متيم إثرها لم يفد مكبول
وما سعاد غداة البين إذ رحلوا ... إلا أغن غضيض الطرف مكحول «3»(6/138)
هيفاء مقبلة عجراء مدبرة ... لا يشتكى قصر منها ولا طول «1»
ما إن تدوم على حال تكون بها ... كما تلوّن في أبثوابها الغول
ولا تمسّك بالوعد الذي وعدت ... إلا كما يمسك الماء الغرابيل
كانت مواعيد عرقوب لها مثلا ... وما مواعيدها إلا الاباطيل
فلا يغرّنك ما منت وما وعدت ... إنّ الأمانيّ والأحلام تضليل
ثم خرج من هذا إلى مدح النبي صلّى الله عليه وسلّم، فكساه بردا اشتراه منه معاوية بعشرين ألفا.
ومن قول عبيد الله بن عبد الله بن عتبة بن مسعود في الغزل:
كتمت الهوى حتى أضرّ بك الكتم ... ولامك أقوام ولومهم ظلم
ونمّ عليك الكاشحون وقبل ذا ... عليك الهوى قد نمّ لو نفع النّمّ «2»
فيامن لنفس لا تموت فينقضي ... عناها، ولا تحيا حياة لها طعم
تجنّبت إتيان الحبيب تأثّما ... ألا إنّ هجران الحبيب هو الإثم
ومن شعر عروة بن أذينة، وهو من فقهاء المدينة وعبادها، وكان من أرق الناس تشبيبا:
قالت وأبثثتها وجدي وبحت به ... قد كنت عندي تحت السّتر فاستتر «3»
أأنت تبصر من حولي؟ فقلت لها ... غطّى هواك وما ألقي على بصري
وقد وقفت عليه امرأة، فقالت له: أنت الذي يقال فيك الرجل الصالح وأنت القائل:
إذا وجدت أوار الحبّ في كبدي ... غدوت نحو سقاء الماء أبترد
هبني بردت ببرد الماء ظاهره ... فمن لنار على الأحشاء تتّقد!(6/139)
والله ما قال هذا رجل صالح. وكذبت عدوة الله عليها لعنة الله، بل لم يكن مرائيا ولكنه كان مصدورا «1» فنفث! وقدم عروة بن أذينة على هشام بن عبد الملك في رجال من أهل المدينة، فلما دخلوا عليه ذكروا حوائجهم فقضاها ثم التفت إلى عروة، فقال له: ألست القائل:
لقد علمت وخير القول أصدقه ... بأنّ رزقي وإن لم آت يأتيني
أسعى له فيعنّيني تطلّبه ... ولو قعدت أتاني لا يعنّيني «2»
قال: فما أراك إلا قد سعيت له! قال: سأنظر في أمري يا أمير المؤمنين. وخرج عنه فجعل وجهته إلى المدينة، فبعث إليه بألف دينار، وكشف عنه فقيل له: قد توجه إلى المدينة! فبعث إليه بالألف دينار، فلما قدم عليه بها الرسول، قال له: أبلغ امير المؤمنين السلام، وقل له أنا كما قلت: قد سعيت وعييت في طلبه، وقعدت عنه فأتاني لا يعنّيني.
ومن قول عبد الله بن المبارك، وكان فقيها ناسكا شاعرا رقيق النسيب معجب التّشبيب حيث يقول:
زعموها سألت جارتها ... وتعرّت ذات يوم تبترد «3»
أكما ينعتني تبصرنني ... عمركنّ الله أم لا يقتصد
فتضاحكن وقد قلن لها ... حسن في كلّ عين من يودّ
حسدا حمّلنه من شأنها ... وقديما في الحبّ الحسد
وقال شريح القاضي. وكان من جلّة التابعين، والعلماء المتقدمين، استقضاه على رحمه الله ومعاوية. وكان يزوج امرأة من بني تميم تسمى زينب، فنقم عليها فضربها، ثم ندم، فقال
رأيت رجالا يضربون نساءهم ... فشلّت يميني يوم أضرب زينبا(6/140)
أأضربها في غير ذنب أتت به ... فما العدل مني ضرب من ليس أذنبا
فزينب شمس والنساء كواكب ... إذا برزت لم تبد منهنّ كوكبا «1»
الرشيد وشاعر مدحه
قال: حج الرشيد وزميله أبو يوسف القاضي، قال شراحيل بن زائدة: وكان كثيرا ما أسايره، فبينما أنا أسايره إذ عرض له اعرابي من بني أسد فأنشده شعرا مدحه فيه وعرضه، فقال هل الرشيد: ألم أنهك عن مثل هذا في شعرك يا أخا بني أسد؟ إذ أنت قلت فقل كما قال مروان بن أبي حفصة في أبي هذا، وأشار إليّ يقول:
بنو مطر يوم اللقاء كأنهم ... أسود لها في غيل خفان أشبل «2»
هم يمنعون الجار حتى كأنما ... لجارهم بين السّماكين منزل «3»
بها ليل الإسلام سادوا ولم يكن ... كأوّلهم في الجاهليّة أوّل «4»
هم القوم إن قالوا أصابوا، وإن دعوا ... أجابوا، وإن أعطوا أطابوا وأجزلوا
وما يستطيع الفاعلون فعالهم ... وإن أحسنوا في النائبات وأجملوا
ابن شماس يمدح عمر بن عبد العزيز
وقال عتبة بن شماس يمدح عمر بن عبد العزيز رحمه الله تعالى:
إنّ أولى بالحقّ في كلّ حق ... ثم أحرى بأن يكون حقيقا
من أبوه عبد العزيز بن مروا ... ن ومن كان جدّه الفاروقا
ثم داموا لنا علينا وكانوا ... في ذرا شاهق تفوت الانوقا «5»(6/141)
الرسول صلّى الله عليه وسلّم وابن مرداس
مدح عباس بن مرداس رسول الله صلّى الله عليه وسلّم، فكساه حلة، ومدحه كعب بن زهير، فكساه بردا اشتراه منه معاوية بعشرين ألف درهم، وإن ذلك البرد لعند الخلفاء إلى اليوم.
عمر بن الخطاب وابن عباس في شعر زهير
وقال ابن عباس: قال لي عمر بن الخطاب: أنشدني قول زهير. فأنشدته قوله في هرم بن سنان بن حارثة حيث يقول:
قوم أبوهم سنان حين تنسبهم ... طابوا وطاب من الأفلاذ ما ولدوا
لو كان يقعد فوق الشمس من كرم ... قوم بأوّلهم أو مجدهم قعدوا
جنّ إذا فزعوا، إنس إذا أمنوا ... مرزءون بها ليل إذا احتشدوا
محّسدون على ما كان من نعم ... لا ينزع الله منهم ماله حسدوا
فقال له عمر: ما كان أحبّ إليّ لو كان هذا الشعر في أهل بيت رسول الله صلّى الله عليه وسلّم! انظر إلى ضنانة عمر بالشعر، كيف لم ير أحدا يستحق هذا المدح إلا أهل بيت محمد عليه الصلاة والسلام؟
ابن عمرو وبعضهم في بيت للحطيئة
وأسمع رجل عبد الله بن عمر بيت الحطيئة:
متى تأته تعشو إلى ضوء ناره ... تجد خير نار عندها خير موقد «1»
فقال: ذلك رسول الله صلّى الله عليه وسلّم. فلم ير أحدا يستحق هذا المدح غير رسول الله صلّى الله عليه وسلّم.(6/142)
عمر بن عبد العزيز ونصيب وجرير ودكين
واستأذن نصيب بن رباح على عمر بن عبد العزيز فلم يأذن له، فقال: أعلموا أمير المؤمنين أني قلت شعرا أوله الحمد لله. فأعلموه، فأذن له، فأدخل عليه وهو يقول:
الحمد لله، أما بعد يا عمر ... فقد أتتنا بك الحاجات والقدر
فأنت رأس قريش وابن سيّدها ... والرأس فيه يكون السمع والبصر
فأمر له بحليّة سيفه.
ومدحه جرير بشعره الذي يقول فيه:
هذي الأرامل قد قضّيت حاجتها ... فمن لحاجة هذا الأرمل الذكر؟
فأمر له بثلثماية درهم.
ومدحه دكين الراجز، فأمر له بخمس عشرة ناقة.
ابن جعفر ونصيب
ومدح نصيب بن رياح عبد الله بن جعفر، فأمر له بمال كثير وكسوة ورواحل.
فقيل له: تفعل هذا بمثل هذا العبد الاسود؟ فقال: أما والله لئن كان عبدا إن شعره لحرّ، وإن كان أسود إن ثناءه لأبيض. وإنما أخذ مالا يفنى، وثيابا تبلى، ورواحل تنضي «1» ، وأعطي مديحا يروي، وثناء يبقى.
ودخل ابن هرم بن سنان على عمر بن الخطاب، فقال له: من أنت: قال: أنا ابن هرم بن سنان، قال: صاحب زهير؟ قال: نعم. قال: أما إنه كان يقول فيكم فيحسن! قال: كذلك كنا نعطيه فنجزل! قال: ذهب ما أعطيتموه وبقي ما أعطاكم.
ابو جعفر وطريح
وكان طريح الثقفي ناسكا شاعرا، فلما قال في أبي جعفر المنصور قوله:(6/143)
أنت ابن مسلنطح البطاح ولم ... تعطف عليك الحنيّ والولج «1»
لو قلت للسّيل دع طريقك والمو ... ج عليه كالليل يعتلج «2»
لهمّ أو كاد أو لكان له ... في سائر الارض عنك منعرج
طوبي لفرعيك من هنا وهنا ... طوبي لأعراقك التي تشج
قال أبو جعفر: بلغني عن هذا الرجل أنه يتأله، فكيف يقول: دع طريقك؟ فبلغ ذلك، فقال: الله يعلم أني إنما أردت يا رب، لو قلت للسيل: دع طريقك
الحطيئة في سجن عمر
وقال الحطيئة لما حبسه عمر بن الخطاب في هجائه للزبرقان بن بدر- أبياتا يمدح فيها عمر ويستعطفه، فلما قرأها عمر عطف له وأمر بإطلاقه وعفا عما سلف منه، والأبيات:
ماذا تقول لأفراخ بذي مرخ ... زغب الحواصل لا ماء ولا شجر «3»
ألقيت كاسبهم في قعر مظلمة ... فاغفر عليك سلام الله يا عمر
أنت الإمام الذي من بعد صاحبه ... ألقى إليك مقاليد النهى البشر
ما آثروك بها إذا قدّموك لها ... لكن لأنفسهم كانت بها الإثر «4»
ابن دارة وابن حاتم
ودخل ابن دارة على عدي بن حاتم صاحب رسول الله صلّى الله عليه وسلّم، فقال: إني مدحتك! قال: أمسك حتى آتيك بمالي ثم امدحني على حسبه، فإني أكره أن لا أعطيك ثمن ما تقول. لي ألف شاة، وألف درهم، وثلاثة أعبد، وثلاث إماء، وفرسي هذا حبيس في سبيل الله، فامدحني على حسب ما أخبرتك، فقال:
تحن قلوصي في معدّ وإنما ... تلاقي الربيع في ديار بني ثعل «5»(6/144)
وأبقى الليالي من عديّ بن حاتم ... حساما كنصل السيف سلّ من الخلل «1»
أبوك جواد لا يشقّ غباره ... وأنت جواد ليس يعذر بالعلل «2»
فإن تفعلوا شرّا فمثلكم اتّقى ... وإن تفعلوا خيرا فمثلكم فعل
قال عدي: أمسك، لا يبلغ مالي إلى أكثر من هذا.
قولهم في الهجاء
قال الله تبارك وتعالى في هجو المشركين: وَالشُّعَراءُ يَتَّبِعُهُمُ الْغاوُونَ، أَلَمْ تَرَ أَنَّهُمْ فِي كُلِّ وادٍ يَهِيمُونَ، وَأَنَّهُمْ يَقُولُونَ ما لا يَفْعَلُونَ، إِلَّا الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحاتِ وَذَكَرُوا اللَّهَ كَثِيراً وَانْتَصَرُوا مِنْ بَعْدِ ما ظُلِمُوا، وَسَيَعْلَمُ الَّذِينَ ظَلَمُوا أَيَّ مُنْقَلَبٍ يَنْقَلِبُونَ
«3» .
فأرخص الله للشعراء بهذه الآية في هجائهم لمن تعرض لهم.
الرسول صلّى الله عليه وسلّم ورجل في أبي سفيان
يزيد بن عمرو بن تميم الخزاعي عن أبيه عن جده، أن رجلا أتى النبي صلّى الله عليه وسلّم فقال:
يا رسول الله، إن أبا سفيان يهجوك! فقال رسول الله صلّى الله عليه وسلّم: اللهم إنه هجاني وإني لا أقول الشعر، فاهجه عني، فقام إليه عبد الله بن رواحة فقال: يا رسول إيذن لي فيه.
فقال أنت القائل:
فثبّت الله ما آتاك من حسن
قال: نعم. قال: وإياك فثّبت الله. ثم قام إليه كعب بن مالك فقال: إيذن لي فيه.(6/145)
قال: أنت القائل: «همّت» ؟ قال: نعم. قال: لست له. ثم قام حسان بن ثابت، فقال يا رسول الله ائذن لي فيه. وأخرج لسانه فضرب به أرنبة «1» أنفه وقال: والله يا رسول الله إنه ليخيّل لي أني لو وضعته على حجر لفلقه، أو شعر لحلقه! فقال أنت له، اذهب إلى أبي بكر يخبرك بمثالب القوم، ثم اهجهم وجبريل معك. فقال يردّ على أبي سفيان:
ألا أبلغ أبا سفيان عني ... مغلغلة فقد برح الخفاء «2»
هجوت محمدا فأجبت عنه ... وعند الله في ذاك الجزاء
أتهجوه ولست له بندّ ... فشرّكما لخيركما الفداء
فمن يهجو رسول الله منكم ... ويطريه ويمدحه سواء
لنا في كلّ يوم من معدّ ... سباب أو قتال أو هجاء
لساني صارم لا عيب فيه ... وبحري لا تكدّره الدلاء
فإن أبي ووالده وعرضي ... لعرض محمد منكم وقاء
ابن ياسر ويمني
وقال رجل من أهل اليمن: دخلت الكوفة فأتيت المسجد، فإذا بعمار بن ياسر ورجل ينشده هجاء معاوية وعمرو بن العاص، وهو يقول: ألصق بالعجوزين! «3» قلت له: سبحان الله! أتقول هذا وأنتم أصحاب محمد صلّى الله عليه وسلّم؟ قال: إن شئت فاجلس وإن شئت فاذهب! فجلست، فقال: أتدري ما كان يقول لنا رسول الله صلّى الله عليه وسلّم لما هجانا اهل مكة؟ قلت: لا أدري. قال: كان يقول لنا: قولوا لهم مثل ما يقولون لكم.
وقال النبي صلّى الله عليه وسلّم لحسان بن ثابت: لقد شكر الله لك بيتا قلته وهو:
زعمت سخينة ان تغالب ربّها ... وليغلبنّ مغالب الغلّاب(6/146)
هذيل وسؤالها حل الزنا
وسألت هذيل رسول الله صلّى الله عليه وسلّم أن يحلّ لها الزنا، فقال حسان في ذلك:
سألت هذيل رسول الله فاحشة ... ضلّت هذيل بما سالت ولم تصب «1»
وقال عبد الملك بن مروان: ما هجي أحد بأوجع من بيت هجي به ابن الزبير، وهو:
فإن تصبك من الأيام جائحة ... لم تبك منك على دنيا ولا دين! «2»
وقيل لعقيل بن علّفة: ما لك لا تطيل الهجاء؟ قال: يكفيك من القلادة ما أحاط بالعنق.
وقال رجل من ثقيف لمحمد بن مناذر: ما بال هجائك أكثر من مدحك؟ قال:
ذلك مما أغراني به قومك، واضطرني إليه لؤمك.
وقال أبو عمرو بن العلاء: قلت لجرير: إنك لعفيف الفرج كثير الصدقة، فلم تسبّ الناس؟ قال: يبدءوني ثم لا أغفر لهم. وكان جرير يقول: لست بمبتدىء ولكنني معتد. يريد أنه يسرف في القصاص.
ومثله قول الشاعر:
بني عمّنا لا تنطقوا الشّعر بعد ما ... دفنتم بأفناء العذيب القوافيا
فلسنا كمن قد كنتم تظلمونه ... فيقبل ضيما أو يحكّم قاضيا «3»
ولكنّ حكم السيف فيكم مسلّط ... فنرضى إذا ما أصبح السيف راضيا
فإن قلتم إنا ظلمنا فلم نكن ... ظلمنا ولكنّا أسأنا التّقاضيا
وكان عمر بن الخطاب يقول: واحدة بأخرى والبادىء أظلم(6/147)
عبد الملك وجرير والأخطل
وقيل: وفد جرير على عبد الملك بن مروان، فقال عبد الملك للأخطل: أتعرف هذا؟ قال: لا. قال: هذا جرير. قال الأخطل: والذي أعمى رأيك يا جرير ما عرفتك! قال له جرير: والذي أعمى بصيرتك وأدام خزيتك لقد عرفتك: لسيماك سيما أهل النار.
كثير والأخطل عند عبد الملك
ابن الاعرابي قال: دخل كثيّر عزّة على عبد الملك فأنشده وعنده رجل لا يعرفه، فقال لعبد الملك: هذا شعر حجازي، دعني أضغمه لك ضغمة «1» . قال كثيّر: من هذا يا أمير المؤمنين؟ قال: هذا الأخطل. قال: فالتفت إليه فقال له: هل ضغمت.
الذي يقول:
والتّغلبيّ إذا تنحنح للقرى ... حكّ استة وتمثل الأمثالا
تلقاهم حلماء عن أعدائهم ... وعلى الصّديق تراهم جهّالا «2»
حصين وصديق له
حدثنا يحيى بن عبد العزيز قال: حدثنا محمد بن عبد الحكم بمصر: كان رجل له صديق يقال له حصين، فولى موضعا يقال له السابين، فطلب إليه حاجة فاعتل فيها، فكتب إليه:
اذهب إليك فإنّ ودّك طالق ... مني وليس طلاق ذات البين
فإذا ارعويت فإنها تطليقة ... ويقيم ودّك لي على ثنتين «3»
وإذا أبيت شفعتها بمثالها ... فيكون تطليقين في حيضين «4»(6/148)
وإن الثلاث أتتك مني بتّة ... لم تغن عنك ولاية السّابين
ولم ارض أن أهجو حصينا وحده ... حتى أسوّد وجه كلّ حصين
طلب دعبل بن علي حاجة إلى بعض الملوك فصرح بمنعه، فكتب إليه:
أحسبت أرض الله ضيّقة ... عني؟ فأرض الله لم تضق
وحسبتني فقعا بقرقرة ... فوطئتني وطئا على حنق «1»
فإذا سألتك حاجة أبدا ... فاضرب بها قفلا على غلق
وأعدّ لي غلّا وجامعة ... فاجمع يديّ بها إلى عنقي «2»
ثم ارم بي في قعر مظلمة ... إن عدت بعد اليوم في الحمق «3»
ما أطول الدنيا وأوسعها ... وأدلّني بمسالك الطّرق
ومثل هذا قول أبي زبيد:
إن كان رزقي إليك فارم به ... في ناظري حبة على رصد «4»
ليتك أدّبتني بواحدة ... تجعلها منك آخر الأبد
تحلف أن لا تبرّني أبدا ... فإنّ فيها بردا على كبدي
وقال زياد: ما هجيت ببيت قط أشدّ عليّ من قول الشاعر:
فكّرّ ففي ذاك إن فكرت معتبر ... هل نلت مكرمة إلا بتأمير
عاشت سميّة ما عاشت وما علمت ... أنّ ابنها من قريش في الجماهير «5»
سبحان من ملّك عبّاد بقدرته ... لا يدفع الخلق محتوم المقادير
وقال بلال بن جرير: سألت أبي: أيّ شيء هجيت به أشدّ عليك؟ قال: قول العيث:(6/149)
ألست كليبيّا إذا سيم خطّة ... أقرّ كإقرار الحليلة للبعل
كلّ كليبيّ صحيفة وجهه ... أذلّ لأقدام الرجال من النّعل
وكان بلال بن جرير شاعرا ابن شاعر ابن شاعر، لأنّ الخطفي كان شاعرا، وهو يقول:
ما زال عصياننا لله يسلمنا ... حتى دفعنا إلى يحيى ودينار
إلى عليجين لم تقطع ثمارهما ... قد طالما سجدا للشمس والنار «1»
ومن أخبث الهجاء قول جميل:
أبوك حباب سارق الضيف برده ... وجدّي يا شمّاخ فارس شمّرا
بنو الصالحين الصالحون ومن يكن ... لآباء سوء يلقهم حيث سيّرا «2»
فإن تغضبوا من قسمة الله فيكم ... فلله إذ لم يرضكم كان أبصرا
وقال كثيّر في نصيب، وكان أسود، ويكنى ابا الحجناء:
رأيت أبا الحجنإ في الناس حائرا ... ولون أبي الحجناء لون البهائم
تراه على مالاحه من سواده ... وإن كان مظلوما، له وجه ظالم!
وكان يقال لسعد بن أبي وقاص: المستجاب، لقول النبي صلّى الله عليه وسلّم: اتقوا دعوة سعد.
فقال رجل بالقادسية فيه:
ألم تر أن الله أنزل نصره ... وسعد بباب القادسيّة معصم «3»
فأبنا وقد آمت نساء كثيرة ... ونسوة سعد ليس فهنّ أيّم «4»
فقال سعد: اللهم! اكفني يده ولسانه. فخرس لسانه، وضربت يده فقطعت.
وذكر عند المبرّد محمد بن يزيد النحوي رجل من الشعراء، فقال: لقد هجاني(6/150)
ببيتين أنضج بهما كبدي! فاستنشدوه، فأنشدهم هذين البيتين:
سألنا عن ثمالة كل حيّ ... فكلّ قد أجاب ومن ثماله
فقلت محمد بن يزيد منهم ... فقالوا الآن زدتهما جهاله
ولم يقل أحد في القبيح أحسن من قول أبي نواس:
وقائلة لها في وجه نصح ... علام قتلت هذا المستهاما
فكان جوابها في حسن ميس ... أأجمع وجه هذا والحراما «1»
وكان جرير يقول: إذا هجوت فأضحك. وينشد له:
إذا سلمت فتاة بني نمير ... تلقّم باب عصرطها التّرابا «2»
ترى برصا بمجمع إسكتيها ... كعنفقة الفرزدق حين شابا «3»
وقوله أيضا:
وتقول إذ نزعوا الإزار عن استها ... هذي دواة معلّم الكتّاب
وقوله أيضا:
أحين صرت سماما يا بني لجأ ... وخاطرت بي عن أحسابها مضر
هيأتم عمرا يحمي دياركم ... كما يهيّأ لأست الخاري الحجر
وقال عليّ بن الجهم يهجو محمد بن عبد الملك الزيّات وزير المتوكل:
أحسن من سبعين بيتا سدى ... جمعك إياهنّ في بيت
ما أحوج الملك إلى ديمة ... تغسل عنه وضر الزيت «4»
ومن أخبث الهجاء قول زياد الأعجم:(6/151)
قالوا الأشاقر تهجوني فقلت لهم ... ما كنت أحسبهم كانوا ولا خلقوا «1»
وهم من الحسب الذاكي بمنزلة ... كطحلب الماء لا أصل ولا ورق «2»
لا يكثرون وإن طالت حياتهم ... ولو يبول عليهم ثعلب غرقوا
وقوله أيضا:
قضى الله خلق الناس ثم خلقتم ... بقيّة خلق الله آخر آخر
فلم تسمعوا إلا الذي كان قبلكم ... ولم تدركوا إلا مدقّ الحوافر «3»
وقال فيهم:
قبّيلة خيرها شرّها ... وأصدقها الكاذب الآثم
وضيفهم وسط أبياتهم ... وإن لم يكن صائما صائم
ونظير هذا قول الطرمّاح:
وما خلقت تيم وزيد مناتها ... وضبّة إلا بعد خلق القبائل
ومن أخبث الهجاء قول الطرمّاح في بني تميم:
لو حان ورد تميم ثم قيل لهم ... حوض الرسول عليه الأزد لم ترد
أو أنزل الله وحيا أن يعذّبها ... إن لم تعد لقتال الأزد لم تعد
وكلّ لؤم أباد الله سبّته ... ولؤم ضبّة لم ينقص ولم يزد «4»
لو كان يخفى على الرحمن خافية ... من خلقه خفيت عنه بنو أسد
قوم أقام بدار الذلّ أوّلهم ... كما أقامت عليه جذمة الوتد «5»
ومن قول المساور بن هند:
ما سرّني أن قومي من بني أسد ... وأن ربي ينجّيني من النار(6/152)
وأنهم زوّجوني من بناتهم ... وأن لي كل يوم ألف دينار
ومن أخبث الهجاء من غير إقذاع «1» :
بلاد نأى عني الصّديق وسبّني ... بها عنزيّ ثم لم أتكلّم
وقال عبيد:
يا أبا جعفر كتبتك سمحا ... فاستطال المداد فالميم لام
لا تلمني على الهجاء فلم يه ... جك إلا المداد والأقلام «2»
وقال سليمان بن أبي شيخ: كان أبو سعيد الراني يماري اهل الكوفة ويفضل أهل المدينة، فجاءه رجل من أهل الكوفة وسماه شرشيرا، وقال: كلب في جهنم يسمى شرشيرا، فقال:
عندي مسائل لا شرشير يعرفها ... إن سيل عنها ولا أصحاب شرشير
وليس يعرف هذا الدّين معرفة ... إلا حنيفيّة كوفيّة الدّور
لا تسألنّ مدينيّا فتكفره ... إلا عن البمّ والمثنى أو الزّير «3»
فكتب أبو سعيد إلى اهل المدينة: إنكم قد هجيتم فردّوا. فردّ عليه رجل من أهل المدينة يقول:
لقد عجبت لغاو ساقه قدر ... وكل أمر إذا ما حمّ مقدور
قالوا المدينة أرض لا يكون بها ... إلا الغناء وإلا البّم والزّير
لقد كذبت لعمر الله إنّ بها ... قبر النبيّ وخير الناس مقبور
قال: فما انتصر ولا انتصر به، فليته لم يقل شيئا.
وقال مساور الوراق في أهل القياس:
كنّا من الدّين قبل اليوم في سعة ... حتى بلينا بأصحاب المقاييس «4»(6/153)
قاموا من السّوق إذ قلّت مكاسبهم ... فاستعملوا الرأي بعد الجهد والبوس «1»
أمّا الغريب فأمسوا لا عطاء لهم ... وفي الموالي علامات المفاليس
فلقيه ابو حنيفة، فقال له: هجوتنا! نحن نرضيك. فبعث إليه بدراهم، فكف عنه وقال:
إذا ما الناس يوما قايسونا ... بمسألة من الفتيا ظريفه «2»
أتيناهم بمقياس صحيح ... بديع من طراز أبي حنيفه
إذا سمع الفقيه بها وعاها ... وأثبتها بحبر في صحيفه
ومن خبيث الهجاء قول الشاعر:
عجبت لعبدان هجوني سفاهة ... أن اصطبحوا من شائهم وتفيّلوا «3»
بجاد وريسان وفهر وغالب ... وعون وهدم وابن صفوة أخيل «4»
فأمّا الذي يحصيهم فمكثّر ... وأمّا الذي يطريهم فمقلّل
وقال أبو العتاهية في عبد الله بن معن بن زائدة:
قال ابن معن وجلى نفسه ... على القربات من الأهل
هل في جواري الحيّ من وائل ... جارية واحدة مثلي
أكنى أبا الفضل فيامن رأى ... جارية تكنى أبا الفضل
قد نقطت في خدّها نقطة ... مخافة العين من الكحل
مداراة الشعراء وتقيتهم «5»
سليمان والخليل وبعض المادحين
أبو جعفر البغدادي قال: مدح قوم من الشعراء جعفر بن سليمان بن علي بن عبد(6/154)
الله بن عباس، فماطلهم بالجائزة، وكان الخليل بن أحمد صديقه، وكان وقت مدحهم إياه غائبا، فلما قدم الخليل أتوه فأخبروه، فاستعانوا به عليه، فكتب إليه:
لا تقبلنّ الشعر ثمّ تعقّه ... وتنام والشعراء غير نيام «1»
واعلم بأنّهم إذا لم ينصفوا ... حكموا لأنفسهم على الحكّام
وجناية الجاني عليهم تنقضي ... وعقابهم باق على الايام
فأجازهم وأحسن اليهم.
النبي صلّى الله عليه وسلّم وابن مرداس
وقال النبي صلّى الله عليه وسلّم لما مدحه عباس بن مرداس: اقطعوا عني لسانه. قالوا: بماذا يا رسول الله؟ فأمر له بحلة قطع بها لسانه.
ومدح ربيعة الرقّيّ يزيد بن حاتم وهو والي مصر، فتشاغل عنه ببعض الامور واستبطأه ربيعة فشخص من مصر، وقال:
أراني ولا كفران لله راجعا ... بخفّي حنين من نوال ابن حاتم «2»
فبلغ قوله يزيد بن حاتم، فأرسل في طلبه وردّه، فلما دخل عليه قال له: انت القائل:
أراني ولا كفران الله راجعا ... بخفي حنين من نوال ابن حاتم
قال: نعم. قال: هل قلت غير هذا؟ قال: لا. قال: والله لترجعن بخفّي حنين مملؤة مالا! فأمر بخلع خفّيه، وأن تملا له مالا، ثم قال: أصلح ما أفسدت من قولك، فقال فيه لما عزل عن مصر وولي مكانه يزيد بن السلمي:
بكى اهل مصر بالدموع السواجم ... غداة غدا منها الأغرّ ابن حاتم «3»(6/155)
لشتان ما بين اليزيدين في الندى ... يزيد سليم والأغر ابن حاتم «1»
فهمّ الفتى الأزديّ إنفاق ماله ... وهمّ الفتى القيسيّ جمع الدراهم
فلا يحسب التّمتام أني هجوته ... ولكنّني فضلت أهل المكارم
واعلم أن تقية الشعراء من حفظ الأعراض التي أمر الله تعالى بحفظها، وقد وضعنا في هذا الكتاب بابا فيمن وضعه الهجاء، ومن رفعه المدح.
تيم عامل زياد ومادح له
وكان لزياد عامل على الاهواز يقال له تيم، فمدحه رجل من الشعراء، فلم يعطه شيئا، فقال الشاعر: اما اني لا أهجوك، ولكني أقول فيك ما هو شر عليك من الهجاء. فدخل على زياد فأسمعه شعرا مدحه فيه، وقال في بعضه:
وكائن عند تيم من بدور ... إذا ما صفّدت تدعو زيادا «2»
دعته كي يجيب لها وشيكا ... وقد ملئت حناجرها صفادا «3»
فقال زياد: لبّيك يا بدور! ثم أرسل فيه فأغرمه مائة ألف.
باب في رواة الشعر
قال الأصمعي: ما بلغت الحلم «4» حتى رويت اثنى عشر ألف أرجوزة للأعراب.
كان خلف الأحمر أروى الناس للشعر وأعلمهم بجيّده.
قال مروان بن أبي حفصة: لما مدحت المهدي بشعري الذي أوله:
طرقتك زائرة فحيّ خيالها ... بيضاء تخلط بالحياء دلالها
أردت أن أعرضه على قرّاء البصرة، فدخلت المسجد الجامع، فتصفحت الحلق فلم(6/156)
أر حلقة أعظم من حلقة «1» يونس النحوي، فجلست إليه، فقلت له: إني مدحت المهدي بشعر، وأردت ألا أرفعه حتى أعرضه على بصرائكم، وإني تصفحت الحلق فلم أر حلقة أحفل من حلقتك، فإن رأيت أن تسمعه مني فافعل. فقال: يا ابن أخي، إن ههنا خلفا، ولا يمكن أحدنا أن يسمع شعرا حتى يحضر، فإذا حضر فأسمعه.
فجلست حتى أقبل خلف الأحمر، فلما جلس جلست إليه، ثم قلت له ما قلت ليونس، فقال: أنشد يا بن أخي، فأنشدته حتى أتيت على آخره فقال لي: أنت والله كأعشى بكر، بل أنت أشعر منه حيث يقول:
رحلت سميّة غدوة أجمالها ... غضبى عليك فما تقول بدالها
وكان خلف مع روايته وحفظه يقول الشعر فيحسن وينحله «2» الشعراء. ويقال إن الشعر المنسوب إلى ابن أخت تأبط شرّا، وهو:
إنّ بالشعب الذي دون سلع ... لقتيلا دمه ما يطلّ «3»
لخلف الأحمر، وإنما ينحله إياه.
وكذلك كان يفعل حماد الراوية: يخلط الشعر القديم بأبيات له.
قال حماد: ما من شاعر إلا قد زدت في شعره أبياتا فجازت عليه، إلا الأعشى، أعشى بكر، فإني لم أزد في شعره قط غير بيت فأفسدت عليه الشعر. قيل له: وما البيت الذي أدخلته في شعر الأعشى؟ فقال:
وأنكرتني وما كان الذي نكرت ... من الحوادث إلا الشيب والصّلعا
قال حماد الراوية: أرسل إليّ أبو مسلم ليلا، فراعني ذلك، فلبست أكفاني ومضيت، فلما دخلت عليه تركني حتى سكن جأشي «4» ، ثم قال لي: ما شعر فيه(6/157)
أوتاد؟ «1» قلت: من قائله أصلح الله الأمير؟ قال: لا أدري. قلت: فمن شعراء الجاهلية أم شعراء الإسلام؟ قال: لا أدري. قال: فأطرقت حينا أفكّر فيه، حتى بدر إلى وهمي شعر الأفوه الازدي حيث يقول:
لا يصلح الناس فوضى لا سراة لهم ... ولا سراة إذا جهّالهم سادوا «2»
والبيت لا يبتنى إلا له عمد ... ولا عماد إذا لم ترس أوتاد
فإن تجمّع أوتاد وأعمدة ... يوما فقد بلغوا الأمر الذي كادوا
فقلت: هو قول الأفوه الأزدي أصلح الله الأمير، وأنشدته الأبيات، فقال:
صدقت، انصرف إذا شئت! فقمت، فلما خطوت الباب لحقني أعوان له ومعهم بدرة، «3» فصحبوني إلى الباب، فلما أردت أن أقبضها منهم، قالوا: لا بد من إدخالها إلى موضع منامك! فدخلوا معي، فعرضت أن أعطيهم منها شيئا، فقالوا: لا تقدم على الأمير.
الأصمعي قال: أقبل فتيان إلى أبي ضمضم بعد العشاء، فقال: ما جاء بكم؟
قالوا: جئنا نتحدث إليك. قال: كذبتم يا خبثاء! ولكن قلتم: كبر الشيخ فهلم بنا عسى أن نأخذ عليه سقطة «4» ! قال: فأنشدهم لمائة شاعر كلهم اسمه عمرو. قال الأصمعي: تحدثت أنا وخلف الأحمر فلم نزد على أكثر من ثلاثين.
وقال الشعبي: لست لشيء من العلوم أقل رواية من الشعر، ولو شئت لأنشدت شهرا ولا أعيد بيتا! وكان الخليل بن أحمد أروى «5» الناس للشعر ولا يقول بيتا.(6/158)
وكذلك كان الأصمعي. وقيل للأصمعي: ما يمنعك من قول الشعر؟ قال: نظري لجيّده.
وقيل للخليل: ما لك لا تقول الشعر؟ قال: الذي أريده لا أجده، والذي أجده لا أريده.
وقل لآخر: مالك تروي الشعر ولا تقوله؟ قال: لأني كالمسنّ: أشحذ ولا أقطع.
وقال الحسن بن هانيء: رويت أربعة آلاف شعر، وقلت أربعة آلاف شعر، فما رزأت «1» لشاعر شيئا.
الرشيد والأصمعي:
القاسم بن محمد السّلاميّ قال: حدثنا أحمد بن بشر الأطروش قال: حدثني يحيى بن سعيد قال: أخبرني الأصمعي قال: تصرفت بي الأسباب «2» إلى باب الرشيد مؤملا للظفر، بما كان في الهمة دفينا، أترقب به طالع سعد، فاتصل بي ذلك إلى أن صرت للحرس مؤانسا بما استملت به مودّتهم، فكنت كالضيف عند أهل المبرّة، فطرفهم متوجهة بإتحافي، وطاولتني الغايات بما كدت به أن أصير إلى ملالة، غير أني لم أزل محييا للأمل بمذاكرته عند اعتراض الفترة، وقلت في ذلك:
وأيّ فتى أعير ثبات قلب ... وساع ما تضيق به المعاني
تجاذبه المواهب عن إباء ... ألا بل لا تواتيه الأماني
فربّ معرّس لليأس أجلى ... عن الدّرك الحميد لدى الرّهان «3»
وأيّ فتى أناف على سمو ... من الهمّات ملتهب الجنان
بغير توسّع في الصدر ماض ... على العزمات والعضب اليماني «4»
فلم نبعد أن خرج علينا خادم في ليلة نثرت السعادة والتوفيق فيها الأرق بين(6/159)
أجفان الرشيد، فقال: هل بالحضرة أحد يحسن الشعر؟ فقلت: الله أكبر! رب قيد مضيقة قد فكه التيسير للإنعام! أنا صاحبك إن كان صاحبك من طلب فأدمن، وحفظ فأتقن. فأخذ بيدي. ثم قال: ادخل أن يختم الله لك بالإحسان لديه والتصويب، فلعلها أن تكون ليلة تعوّض صاحبتها الغنى. قلت: بشّرك الله بالخير! قال: ودخلت، فواجهت الرشيد في البهو جالسا كأنما ركب البدر فوق أزراره جمالا، والفضل بن يحيى إلى جانبه، والشمع يحدق به على قضب المنابر، والخدم فوق فرشه وقوف، فوقف بي الخادم حيث يسمع تسليمي، ثم قال: سلّم! فسلمت، فردّ، ثم قال: ينحّى قليلا روعه، إن وجد لروعه حسّا. فقعدت حتى سكن جأشي قليلا، ثم أقدمت، فقلت: يا أمير المؤمنين، إضاءة كرمك، وبهاء مجدك، مجيران لمن نظر إليك من اعتراض أذية له، أيسألني أمير المؤمنين فأجيب، أم أبتدىء فأصيب، بيمن أمير المؤمنين وفضله؟ قال: فتبسم الفضل، ثم قال: ما أحسن ما استدعى الاختبار استسهل به المفاتحة، وأجدر به أن يكون محسنا. ثم قال الفضل: والله يا أمير المؤمنين لقد تقدّم مبرّزا محسنا في استشهاده على براءته من الحيرة، وأرجو أن يكون ممتعا. قال:
أرجو. ثم قال: ادن. فدنوت، فقال: أشاعر أم راوية؟ قلت: راوية يا أمير المؤمنين. قال: لمن؟ قلت: لذي جدّ وهزل بعد أن يكون محسنا. قال: والله ما رأيت أدعى لعلم، ولا أخبر بمحاسن بيان فتقته «1» الأذهان منك، ولئن صرت حامدا أثرك لتعرفن الإفضال متوجّها إليك سريعا. قلت: أنا على الميدان يا أمير المؤمنين، فيطلق أمير المؤمنين من عقالي مجيبا فيما أحبه قال:
قد أنصف القارة من راماها
ثم قال: ما معنى المثل في هذه الكلمة بديّا؟ قلت: ذكرت العرب يا أمير المؤمنين أن التبابعة كانت لهم رماة لا تقع سهامهم في غير الحدق، فكانت تكون في الموكب الذي يكون فيه الملك، على الجياد البلق «2» ، بأيديهم الأسورة وفي أعناقهم الأطواق،(6/160)
فخرج من موكب الصّغد فارس معلم «1» بعذبات «2» سود في قلنسوته، قد وضع نشابته في الوتر، ثم صاح: أين رماة الحرب؟ قالوا: قد أنصف القارة من راماها.
والملك أبو حسان إذ ذاك المضاف إليه.
قال الرشيد: أحسنت، أرويت للعجاج ورؤبة شيئا؟ قلت: هما يا أمير المؤمنين يتناشدان لك بالقوافي وإن غابا عنك بالأشخاص. فمد يده فأخرج من تحت فراشه رقعة، ثم قال: أسمعني. فقلت:
أرّقني طارق هم طرقا
فمضيت فيها مضيّ الجواد في سنن ميدانه، تهدر بها أشداقي، حتى إذا صرت إلى مدح بني أمية ثنيت عنان اللسان إلى امتداحه المنصور في قوله:
قلت لزير لم تصله مريمه «3»
قال: أعن حيرة أم عن عمد؟ قلت: عن عمد، تركت كذبه إلى صدقه فيما وصف به المنصور من مجده. قال الفضل: أحسنت بارك الله فيك، مثلك يؤمل لهذا الموقف. قال الرشيد: ارجع إلى أول هذا الشعر. فأخذت من أوله حتى صرت إلى صفة الجمل فأطلت، فقال الفضل: مالك تضيّق علينا كلّ ما اتسع لنا من مساعدة السّهر في ليلتنا هذه بذكر جمل أجرب؟ صره إلى امتداح المنصور حتى تأتي على آخره. فقال الرشيد: اسكت، هي التي أخرجتك من دارك، وأزعجتك من قرارك، وسلبتك تاج ملكك، ثم ماتت، فعمل جلودها سياطا تضرب بها قومك ضرب العبيد! ثم قهقه، ثم قال: لا تدع نفسك والتعرض لما تكره. فقال الفضل: لقد عوقبت على غير ذنب، والحمد لله! قال الرشيد: أخطأت في كلامك يرحمك الله! لو قلت:
وأستغفر الله! قلت صوابا، إنما يحمد الله على النّعم. ثم صرف وجهه إليّ وقال: ما(6/161)
أحسن ما أدّيت في قدر ما سئلت! أسمعني كلمة عدي بن الرقاع في الوليد بن يزيد ابن عبد الملك، قوله:
عرف الديار توهّما فاعتادها
فقال الفضل. يا أمير المؤمنين، ألبستنا ثوب السهر ليلتنا هذه لاستماع الكذب! لم تأمره يسمعك ما قالت الشعراء فيك وفي آبائك؟ قال: ويحك! إنه أدب وقلما يعتاض عن مثله، ولأن أسمع من ثقيف بعبارة تشغله العناية بها عمره، أحبّ إليّ من أن تشافهني به الرسوم، وللممتدح بهذا الشعر حركات سترد عليك، ولا تقدر أن تصدر من غير انتفاع بها، ولا أكون أول مستنّ طريقة ذكر لم تؤدها الرواية. قال الفضل:
قد والله يا أمير المؤمنين شاركتك في الشوق، وأعنتك على التّوق، ثم التفت إليّ الفضل فقال: احدبنا ليلتك منشدا، هذا سيدي أمير المؤمنين قد أصغى إليك مستمعا، فمرّ ويحك في عنان الإنشاد، فهي ليلة دهرك لم تنصرف إلا غانما. قال الرشيد: أما إذ قطعت على فاحلف لتشركني في الجزاء، فما كان لي في هذا شيء لم تقاسمنيه. قال الفضل: قد والله يا أمير المؤمنين وطنت «1» نفسي على ذلك متقدما فلا تجعلنّه وعيدا، قال الرشيد: لا أجعله وعيدا. قال الأصمعي: الآن ألبس رداء التّيه على العرب كلّها، وإني أرى الخليفة والوزير وهما يتناظران في المواهب لي، فمررت في سنن الإنشاد حتى بلغت إلى قوله:
تزجي أغنّ كأنّ إبرة روقه ... قلم أصاب من الدّواة مدادها «2»
فاستوى جالسا، ثم قال: أتحفظ في هذا شيئا؟ قلت: نعم يا أمير المؤمنين، كان الفرزدق لما قال عدي:
تزجى أغنّ كأنّ إبرة روقه(6/162)
قلت لجرير: أيّ شيء تراه يناسب هذا تشبيها؟ فقال جرير:
قلم أصاب من الدّواة مدادها
فما رجع الجواب حتى قال عدي:
قلم أصاب من الدّواة مدادها
فقلت لجرير: ويحك لكأن سمعك مخبوء في فؤاده! فقال جرير: اسكت، شغلني سبّك عن جيّد الكلام! ثم قال الرشيد: مرّ في إنشادك. فمضيت حتى بلغت إلى قوله:
ولقد أراد الله إذ ولّاكها ... من أمّة إصلاحها ورشادها
قال الفضل: كذب وما برّ. قال الرشيد: ماذا صنع إذ سمع هذا البيت؟ قلت:
ذكرت الرواة يا أمير المؤمنين أنه قال: لا حول ولا قوة إلا بالله! قال: مرّ في إنشادك، فمضيت حتى بلغت إلى قوله:
تأتيه أسلاب الأغرّة عنوة ... عصبا ويجمع للحروب عتادها «1»
قال الرشيد: لقد وصفه بحزم وعزم لا يعرض بينهما وكل «2» ولا استذلال: قال:
فماذا صنع؟ قلت: يا أمير المؤمنين، ذكرت الرواة أنه قال: ما شاء الله! قال:
أحسبك واهما. قلت: يا أمير المؤمنين، أنت أولى بالهداية، فليردّني أمير المؤمنين إلى الصواب. قال: إنما هذا عند قوله:
ولقد أراد الله إذ ولّاكها ... من أمّة إصلاحها ورشادها
ثم قال: والله ما قلت هذا عن سمع، ولكنني أعلم أنّ الرجل لم يكن يخطىء في مثل هذا. قال الأصمعي: وهو والله الصواب. ثم قال: مر في إنشادك. فمضيت حتى بلغت إلى قوله:(6/163)
وعلمت حتى لا أسائل واحدا ... عن حرف واحدة لكي أزدادها
قال: وكان من خبرهم ماذا؟ قلت: ذكرت الرواة أنّ جريرا لما أنشد عدي هذا البيت، قال: بلى والله وعشر مئين «1» . قال عدي: وقر «2» في سمعك أثقل من الرصاص، هذا والله يا أمير المؤمنين المديح المنتقى. قال الرشيد: والله إنه لنقيّ الرصاص، هذا والله يا أمير المؤمنين المديح المنتقي. قال الرشيد: والله إنه لنقيّ الكلام في مدحه وتشبيبه. قال الفضل: يا أمير المؤمنين، لا يحسن عدي أن يقول:
شمس العداوة حتى يستقاد لهم ... وأعظم الناس أحلاما إذا قدروا
قال الرشيد: بلى قد أحسن. ثم التفت إليّ فقال: ما حفظت له في هذا الشعر شيئا حين قال:
أطفأت نيران الحروب وأوقدت ... نار قدحت براحتيك زنادها «3»
قلت: ذكرت الرواة أنه يا أمير المؤمنين حك يمينا بشمال مقتدحا بذلك، ثم قال:
الحمد لله على هبة الإنعام. ثم قال الرشيد: رويت لذي الرّمّة شيئا؟ قلت: الأكثر يا أمير المؤمنين. قال: والله لا أسألك سؤال امتحان، ولا كان هذا عليك، ولكنني أجعله سببا للمذاكرة، فإن وقع عن عرفانك، وإلا فلا ضيق عليك بذلك عندي، فماذا أراد بقوله:
ممرّ أمرّت متنه أسديّة ... يمانيّة حلّالة بالمصانع «4»
قلت: وصف يا أمير المؤمنين حمارا وحشيّا أسمنه بقل روضة تشابكت فروعه، ثم تواشجت عروقه، من قطر سحابة كانت في نوء الأسد، ثم في الذراع منه. قال:
أصبت، أفترى القوم علموا هذا من النجوم، بنظرهم، إذ هو شيء قلما يستخرج بغير أسباب للذين رويت لهم أصوله، أو أدّتهم إليه الأوهام والظنون؟ فالله أعلم بذلك.(6/164)
قلت: يا أمير المؤمنين، هذا كثير في كلامهم، ولا أحسبه إلا عن أثر «1» ألقي إليهم. قال: قلما أجد الأشياء لا تثيرها إلا الفكر في القلوب، فإن ذهبت إلى أنه هبة الله. قال: ذهبت إلى ما أدّتهم إليه الأوهام. ثم قال: أرويت للشماخ شيئا؟ قلت: نعم يا أمير المؤمنين. قال: يعجبني منه قوله:
إذا ردّ من ثني الزّمام ثنت له ... جرانا كخوط الخيزران المموّج «2»
قلت: يا أمير المؤمنين، هي عروس كلامه. قال: فأيها الحسن الآن من كلامه؟
قلت: الرائية. وأنشدته أبياتا منها، قال: أمسك، ثم قال: أستغفر الله ثلاثا، أرح قليلا واجلس، فقد أمتعت منشدا، ووجدناك محسنا في أدبك، معبرا عن سرائر حفظك، ثم التفت إلى الفضل، فقال: لكلام هؤلاء ومن نقدّم من الشعراء، ديباج الكلام الخسروانيّ «3» يزيد على القدم جدّة وحسنا، فإذا جاءك الكلام الزيّن بالبديع، جاءك الحرير الصيني المذهب، يبقى على المحادثة في أفواه الرّواة، فإذا كان له رونق صواب، وعته الأسماع، ولذّ في القلوب، ولكن في الأقل منه، ثم قال: يعجبني مثل قول مسلم في أبيك وأخيك الذي افتتحه بمخاطبة حليلته مفتخرا عليها بطول السّرى في اكتساب المغانم حيث قال:
أجدك هل تدرين أن ربّ ليلة ... كأنّ دجاها من قرونك ينشر «4»
صبرت لها حتى تجلّت بغرّة ... كغرّة يحيى حين يذكر جعفر «5»
أفرأيت؟ ما ألطف ما جعلهما معدنا لكمال الصفات ومحاسنها! ثم التفت إليّ فقال:
أجد ملالة، ولعل أبا العباس يكون لذلك أنشط، وهو لنا ضيف في ليلتنا هذه، فأقم معه مسامرا له! ثم نهض، فتبادر الخدم، فأمسكوا بيده حتى نزل عن فرشه، ثم(6/165)
قدمت النعل، فلما وضع قدمه فيها جعل الخادم يسوّي عقب النعل في رجله، فقال:
ارفق ويحك، حسبك قد عقرتني! قال الفضل: لله درّ العجم ما أحكم صنعتهم، لو كانت سنديّة ما احتجت إلى هذه الكلفة! قال: هذه نعلي ونعل آبائي رحمة الله عليهم، وتلك نعلك ونعل آبائك، لا تزال تعارضني في الشيء ولا أدعك بغير جواب يمضّك «1» ثم قال: يا غلام، عليّ بصالح الخادم. فقال: يؤمر له بتعجيل ثلاثين ألف درهم في ليلته هذه.
قال الفضل: لولا أنه مجلس أمير المؤمنين ولا يأمر فيه أحد غيره، لدعوت له بمثل ما أمر به أمير المؤمنين، فدعا له بمثل ما أمر إلا ألف درهم ويصبح من غد فيلقى الخازن إن شاء الله.
قال الأصمعي: فما صليت الظهر إلا وفي منزلي تسعة وخمسون ألف درهم.
وقال دعبل بن علي الخزاعي:
يموت رديء الشّعر من قبل أهله ... وجيّده يبقى وإن مات قائله
وقال أيضا:
إني إذا قلت بيتا مات قائله ... ومن يقال له، والبيت لم يمت
باب من استعدى عليه من الشعراء
عمر بن الخطاب بين الحطيئة والزبرقان:
لما هجا الحطيئة الزبرقان بن بدر بالشعر الذي يقول فيه:
دع المكارم لا ترحل لبغيتها ... واقعد فإنك أنت الطاعم الكاسي
استعدى عليه «2» عمر بن الخطاب، وأنشده البيت، فقال: ما أرى به بأسا! قال(6/166)
الزبرقان: والله يا أمير المؤمنين، ما هجيت ببيت قط أشدّ عليّ منه! فبعث إلى حسان ابن ثابت وقال: انظر إن كان هجاه. فقال: ما هجاه، ولكن سلح عليه! - ولم يكن عمر يجهل موضع الهجاء في هذا البيت، ولكنه كره أن يتعرّض لشأنه، فبعث إلى شاعر مثله- وأمر بالحطيئة إلى الحبس، وقال: يا خبيث، لأشغلنّك عن أعراض المسلمين. فكتب إليه من الحبس يقول:
ماذا تقول لأفراخ بذي مرخ ... زغب الحواصل لا ماء ولا شجر «1»
ألقيت كاسبهم في قعر مظلمة ... فاغفر عليك سلام الله يا عمر
أنت الإمام الذي من بعد صاحبه ... ألقت إليك مقاليد النّهى البشر
ما آثروك بها إذ قدّموك لها ... لكن لأنفسهم قد كانت الإثر «2»
فأمر بإطلاقه وأخذ عليه ألّا يهجو رجلا مسلما.
عمر والنجاشي ورهط ابن مقبل:
ولما هجا النجاشيّ رهط تميم بن مقبل، استعدوا عليه عمر بن الخطاب، وقالوا: يا أمير المؤمنين، إنه هجانا! قال: وما قال فيكم؟ قالوا: قال:
إذا الله عادى أهل لؤم ورقة ... فعادى بني عجلان رهط ابن مقبل
قال عمر: هذا رجل دعا، فإن كان مظلوما استجيب له، وإن لم يكن مظلوما لم يستجب له.
قالوا: فإنه قد قال بعد هذا:
قبيلته لا يخفرون بذمّة ... ولا يظلمون الناس حبّة خردل «3»
قال عمر: ليت آل الخطاب مثل هؤلاء. قالوا: فإنه يقول بعد هذ:(6/167)
ولا يردون الماء إلا عشيّة ... إذا صدر الورّاد عن كل منهل «1»
قال عمر: فإن ذلك أجم «2» لهم وأمكن. قالوا فإنه يقول بعد هذا:
وما سمّى العجلان إلا لقولهم ... خذ القعب واحلب أيّها العبد واعجل «3» .
قال عمر: سيد القوم خادمهم. فما أرى بهذا بأسا.
معاوية وأبو بردة وعقيبة:
ونظير هذا قول معاوية لأبي بردة بن أبي موسى، وكان دخل حماما فزحمه رجل، فرفع الرجل يده فلطم بها أبا بردة فأثر في وجهه، فقال فيه عقيبة الأسدي:
فلا يصرم الله اليمين التي لها ... بوجهك يا بن الأشعرين ندوب «4»
قال: فاستعدى عليه معاوية، وقال: إنه هجاني! قال: وما قال فيك؟ قال. فأنشده البيت، قال معاوية: هذا رجل دعا ولم يقل إلا خيرا. قال: فقد قال غير هذا. قال:
وما قال؟ فأنشده:
وأنت امرؤ في الأشعرين مقابل ... وفي البيت والبطحاء أنت غريب «5»
قال معاوية: وإذا كنت مقابلا في قومك فما عليك أن لا تكون مقابلا في غيرهم؟ قال: فقد قال غير هذا. قال: وما قال؟ قال: قال:
وما أنا من حداث أمّك بالضّحى ... ولا من يزكيها بظهر مغيب
قال: إنما قال: ما أنا من حدّاث أمك. فلو قال إنه من حدّاثها لكان ينبغي لك أن تغضب، والذي قال لي أشدّ من هذا. قال: وما قال لك يا أمير المؤمنين؟ قال:
قال:
معاوي إننا بشر فأسجع ... فلسنا بالجبال ولا الحديد «6»(6/168)
أكلتم أرضنا وجذذتموها ... فهل من قائم أو من حصيد
فهبنا أمة هلكت ضياعا ... يزيد أميرها وأبو يزيد
أتطمع بالخلود إذا هلكنا ... وليس لنا ولا لك من خلود
ذروا جور الخلافة واستقيموا ... وتأمير الأراذل والعبيد «1»
قال: فما منعك يا أمير المؤمنين أن تبعث إليه من يضرب عنقه؟ قال: أفلا خير من ذلك؟ قال: وما هو؟ قال: نجتمع أنا وأنت فنرفع أيدينا إلى السماء وندعو عليه.
فما زاد على أن أزري «2» به.
زياد والفرزدق في قوم هجاهم:
استعدى قوم زيادا على الفرزدق وزعموا أنه هجاهم، فأرسل فيه وعرض له أن يعطيه، فهرب منه وأنشد:
دعاني زياد للعطاء ولم أكن ... لأقربه ما ساق ذو حسب وفرا «3»
وعند زياد لو يريد عطاءهم ... رجال كثير قد يرى بهم فقرا
فلما خشيت أن يكون عطاؤه ... أداهم سودا أو محدرجة سمرا «4»
نهضت إلى عنس تخوّن نيّها ... سرى الليل واستعراضها البلد القفرا «5»
يؤمّ بها الموماة من لا ترى له ... لدى ابن أبي سفيان جاها ولا عذرا
ثم لحق بسعيد بن العاص وهو والي المدينة، فاستجار به وأنشده شعره الذي يقول فيه:
إليك فررت منك ومن زياد ... ولم أحسب دمي لكما حلالا
فإن يكن الهجاء أحلّ قتلي ... فقد قلنا لشاعركم وقالا(6/169)
ترى الغرّ السّوابق من قريش ... إذا ما الأمر بالحدثان عالا «1»
قياما ينظرون إلى سعيد ... كأنهم يرون به هلالا
يزيد والأخطل في هجاء الانصار
ولما وقع التهاجي بين عبد الرحمن بن حسان وعبد الرحمن بن أم الحكم أرسل يزيد ابن معاوية إلى كعب بن جعيل، فقال له: إن عبد الرحمن بن حسان فضح عبد الرحمن ابن الحكم فاهج الانصاري. فقال: أرادّي أنت إلى الإشراك بعد الإيمان؟ لا أهجو قوما نصروا رسول الله صلّى الله عليه وسلّم، ولكن أدلّك على غلام مناصري. فدله على الأخطل فأرسل إليه فهجا الأنصاري، وقال فيه:
ذهبت قريش بالمكارم كلّها ... واللؤم تحت عمائم الانصار
قوم إذا حضر العصير رأيتهم ... حمرا عيونهم من المسطار «2»
وإذا نسبت إلى الفريعة خلته ... كالجحش بين حمارة وحمار
فدعو المكارم لستم من اهلها ... وخذوا مساحيكم بني النجار «3»
وكان مع معاوية النعمان بن بشير الانصار، فلما بلغه الشعر أقبل حتى دخل على معاوية، ثم حسر العمامة عن رأسه وقال: يا معاوية، هل ترى من لؤوم؟ قال: ما أرى إلا كرما. قال: فما الذي يقول فينا عبد الأراقم:
ذهبت قريش بالمكارم كلّها ... واللؤم تحت عمائم الانصار!
قال قد حكمتك فيه. قال: والله لا رضيت إلا بقطع لسانه، ثم قال:
معاوي إلا تعطنا الحقّ تعترف ... لحي الازد مشدودا عليها العمائم
أيشتمنا عبد الاراقم ضلّة ... وما الذي تجدي عليك الاراقم «4»
فمالي ثأر دون قطع لسانه ... فدونك من ترضيه عنك الدّراهم(6/170)
فقال معاوية: قد وهبتك لسانه. وبلغ الاخطل، فلجأ إلى يزيد بن معاوية، فركب يزيد إلى النعمان فاستوهبه إياه، فوهبه له.
ومن قول عبد الرحمن بن حسان في عبد الرحمن بن أم الحكم:
وأمّا قولك الخلفاء منّا ... فهم منعوا وريدك من وداجي «1»
ولولاهم لطحت كحوت بحر ... هوى في مظلم الغمرات داج «2»
وهم دعج وولد أبيك زرق ... كأنّ عيونهم قطع الزجاج «3»
وقال يزيد لابيه: إن عبد الرحمن بن حسان يشبب بابنتك رملة. قال: وما يقول فيها؟ قال: يقول:
هي بيضاء مثل لؤلؤة الغوّا ... ص صيغت من لؤلؤ مكنون
قال صدق! قال: ويقول:
وإذا ما نسبتها لم تجدها ... في ثناء من المكارم دون
قال صدق أيضا! قال: ويقول:
تجعل المسك واليلنجو ... ج صلاء لها على الكانون «4»
قال: صدق قال: فانه يقول:
ثم خاصرتها إلى القبة الخضراء ... تمشي في مرمر مسنون «5»
قال: كذب! قال: ويقول:
قبة من مراجل ضربوها ... عند برد الشتاء في قيطون «6»
قال: ما في هذا شيء. قال: تبعث إليه من يأتيك برأسه. قال: يا بنيّ، لو فعلت(6/171)
ذلك لكان أشدّ عليك، لانه يكون سببا للخوض في ذكره، فيكثر مكثر ويزيد زائد، اضرب عن هذا صفحا، واطو دونه كشحا.
يزيد وابن الرقيات في تشببه بعاتكة
ومن قول عبيد الله بن قيس. المعروف بالرقيات. يشبب بعاتكة بنت يزيد بن معاوية:
أعاتك يا بنت الخلائف عاتكا ... أنيلي فتى امسى بحبّك هالكا
تبدت وأترابا لها فقتلنني ... كذلك يقتلن الرجال كذلك «1»
يقلّبن ألحاظا لهنّ فواترا ... ويحملن ما فوق النّعال السبائكا «2»
إذا غفلت عنّا العيون التي نرى ... سلكن بنا حيث اشتهين المسالكا
وقلن لنا لو نستطيع لزاركم ... طبيبان منا عالمان بدائكا
فهل من طبيب بالعراق لعله ... يداوي سقيما هالكا متهالكا
فلم يعرض له يزيد، للذي تقدم من وصاية ابيه معاوية في رملة.
الحجاج وابن نمير في زينب
تحدثت الرواة ان الحجاج رأى محمد بن عبد الله بن نمير الثقفي، وكان يشبب بزينب بنت يوسف أخت الحجاج، فارتاع من نظر الحجاج إليه، فدعا به، فلما وقف بين يديه قال:
فداك أبي ضاقت بي الارض رحبها ... وإن كنت قد طوّقت كلّ مكان
وإن كنت بالعنقاء أو بتخومها ... ظننتك إلا أن يصدّ تراني «3»
فقال: لا عليك، فوالله إن قلت الا خيرا! إنما قلت هذا الشعر:
يخبّئن أطراف البنان من التقى ... ويخرجن وسط الليل معتجرات «4»(6/172)
ولكن أخبرني عن قولك:
ولمّا رأت ركب النميريّ أعرضت ... وكنّ من ان يلقينه حذرات
في كم كنت؟ قال: والله إن كنت الا على حمار هزيل، ومعي رفيق على أتان مثله! قال: فتبسم الحجاج ولم يعرض له.
وهذه الابيات قالها ابن نمير في زينب بنت يوسف:
ولم تر عيني مثل سرب رأيته ... خرجن من التنعيم معتمرات «1»
مررن بفخ ثم رحن عشية ... يلبّين للرحمن مؤتجرات «2»
تضوّع مسكا بطن نعمان إذ مشت ... به زينب في نسوة خفرات
ولمّا رأت ركب النّميريّ أعرضت ... وكنّ من ان يلقينه حذرات
دعت نسوة شمّ الرانين بدّنا ... نواضر لا شعثا ولا غبرات
فأدنين لمّا قمن يحجبن دونها ... حجابا من القسّيّ والحبرات «3»
أحلّ الذي فوق السموات عرشه ... أوانس بالبطحاء معتمرات
يخبّئن أطراف البنان من التّقى ... ويخرجن وسط الليل معتجرات
هشام والفرزدق
وكان الفرزدق قد عرّض بهشام بن عبد الملك في شعره، والبيت الذي عرّض به فيه قوله:
يقلّب عينا لم تكن لخليفة ... مشوّهة حولاء جمّا عيوبها «4»
فكتب هشام إلى خالد بن عبد الله القسري عامله على العراق يأمره بحبسه، فحبسه، حتى دخل جرير على هشام فقال: يا أمير المؤمنين، انك تريد أن تبسط يدك على بادي مضر وحاضرها، فأطلق لها شاعرها وسيدها الفرزدق. فقال له هشام: أو ما يسرك ما أخزاه الله؟ قال: ما أريد ان يخزيه الله إلا على يدي! فأمر باطلاقه.(6/173)
أي بيت تقوله العرب أشعر
قيل لابي عمرو بن العلاء: اي بيت تقوله العرب أشعر؟ قال: البيت الذي إذا سمعه سامعه سوّلت له نفسه ان يقول مثله، ولأن يخدش أنفه بظفر كلب أهون عليه من أن يقول مثله وقيل للاصمعي: أي بيت تقوله العرب اشعر؟ قال: الذي يسابق لفظه معناه وقيل للخليل: أي بيت تقوله العرب اشعر؟ قال: البيت الذي يكون في أوله دليل على قافيته.
وقيل لغيره: أي بيت تقوله العرب أشعر؟ قال: البيت الذي لا يحجبه عن القلب شيء.
وأحسن من هذا كله قول زهير:
وإنّ أحسن بيت أنت قائله ... بيت يقال إذا أنشدته: صدقا
أحسن ما يجتلب به الشعر
قالت الحكماء: لم يستدع شارد الشعر بأحسن من الماء الجاري، والمكان الخالي، والشرف العالي.
ابو العتاهية وابن هانىء
وتأوّل بعضهم «الحالي» يريد الحالي بالنّوار، يعني الرياض، وهو توجيه حسن ولقي ابو العتاهية الحسن بن هانىء، فقال له: أنت الذي لا تقول الشعر حتى تؤتى بالرياحين والزهور فتوضع بين يديك؟ قال: وكيف ينبغي للشعر أن يقال إلا على هكذا؟ قال: أما إني اقوله على الكنيف «1» ! قال: ولذلك توجد فيه الرائحة.
قال عبد الملك بن مروان لأرطاة بن سهيّة: هل تقول الآن شعرا؟ قال: ما(6/174)
أشرب ولا أطرب ولا أغضب، فلا يقال الشعر الا بواحدة من هذه.
وقيل للحطئة: من أشعر الناس؟ فأخرج لسانا رقيقا كأنه لسان حية وقال: هذا إذا طمع.
وقيل لكثير عزة: لم تركت الشعر؟ قال: ذهب الشباب فما أعجب، وماتت عزة فما أطرب، ومات ابن ابي ليلى فما أرغب، يريد عبد العزيز بن مروان.
وقالوا: أشعر الناس النابغة إذا رهب، وزهير إذا غضب، وجرير إذا رغب.
وقال عمرو بن هند لعبيد بن الأبرص، ولقيه في يوم بؤسه: أنشدني من شعرك.
قال: حال الجريض «1» دون القريض. وقد يمتنع الشعر على قائله ولا يسلس حتى يبعثه خاطر أو صوت حمامة.
وقال الفرزدق: أنا أشعر الناس عند الناس، وقد يأتي عليّ الحين وقلع ضرس عندي أهون من قول بيت شعر.
وقال الراجز:
إنما الشعر بناء ... يبتنيه المبتنونا
فإذا ما نسّقوه ... كان غثا أو سمينا
ربما واتاك حينا ... ثم يستصعب حينا
وأسلس ما يكون الشعر في أول الليل قبل الكرى «2» ، وأول النهار قبل الغذاء وعند مناجاة النفس واجتماع الفكر، وأقوى ما يكون الشعر عندي على قدر قوة أسباب الرغبة والرهبة.
قيل للخريمي: ما بال مدائحك لمحمد بن منصور أحسن من مراثيك قال: كنا حينئذ نعمل على الرجاء، ونحن اليوم نعمل على الوفاء، وبينهما بون «3» بعيد.(6/175)
والدليل على صحة هذا المعنى وصدق هذا القياس، أن كثيّر عزة والكميت بن زيد كانا شيعيّين غاليين، في التشيّع، وكانت مدائحهما في بني امية أشرف وأجود منها في بني هاشم، وما لذلك علة الا قوة أسباب الطمع.
وقيل لكثير عزة: يا أبا صخر، كيف تصنع إذا عسر عليك الشعر؟ قال: أطوف في الرباع «1» المحيلة والرياض المعشبة، فإن نفرت عنك القوافي وأعيت عليك المعاني، فروّح قلبك، وأجمّ ذهنك، وارتصد لقولك فراغ بالك وسعة ذهنك، فإنك تجد في تلك الساعة ما يمتنع عليك يومك الأطول وليلك الأجمع.
من رفعه المدح ووضعه الهجاء
جرير وابنه
قال بلال بن جرير: سألت أبي جريرا فقلت له: إنك لم تهج قوما قط الا وضعتهم غير بني لجأ! قال: يا بني إني لم أجد شرفا فأضعه، ولا بنأ فأهدمه.
وقد يكون الشيء مدحا فيجعله الشعر ذمّا، ويكون ذما فيجعله الشعر مدحا.
قال حبيب الطائي في هذا المعنى:
ولولا خلال سنّها الشّعر مادري ... بغاة العلا من أين تؤتى المكارم
يرى حكمة ما فيه وهو فكاهة ... ويقضى بما يقضي به وهو ظالم
ألا ترى إلى بني عبد المدان الحارثيين كانوا يفخرون بطول أجسامهم وقديم شرفهم حتى قال فيهم حسان بن ثابت:
لا بأس بالقوم من طول ومن غلظ ... جسم البغال وأحلام العصافير «2»
فقالوا له: والله يا أبا الوليد لقد تركتنا ونحن نستحي من ذكر اجسامنا بعد ان كنا نفخر بها! فقال لهم: سأصلح منكم ما أفسدت، فقال فيهم:(6/176)
وقد كنا نقول إذا رأينا ... لذي جسم يعدّ ذي بيان
كأنك أيها المعطى لسانا ... وجسما من بني عبد المدان
وكان بنو حنظلة بن قريع بن عوف بن كعب يقال لهم بنو أنف الناقة يسبّون بهذا الاسم في الجاهلية، وسبب ذلك أن أباهم نحر جزورا وقسم اللحم، فجاء حنظلة وقد فرغ اللحم وبقي الرأس، وكان صبيا، فجعل يجرّه، فقيل له: ما هذا؟ فقال: أنف الناقة. فلقّب به، وكانوا يغضبون منه حتى قال فيهم الحطيئة:
سيري أمام فإنّ الأكثرين حصى ... والأكرمين إذا ما ينسبون أبا
قوم هم الانف والاذناب غيرهم ... ومن يسوّي بأنف الناقة الذنبا
فعاد هذا الاسم فخرا لهم وشرفا فيهم.
جرير وبنو نمير وكان بنو نمير أشراف قيس وذوائبها حتى قال جرير فيهم:
فغضّ الطّرف إنك من نمير ... فلا كعبا بلغت ولا كلابا «1»
فما بقي نميريّ إلا طأطأ رأسه.
وقال حبيب:
فسوف يزيدكم ضعة هجائي ... كما وضع الهجاء بني نمير
الأعشى والمحلق
وقد كان المحلق بن حنتم بن شدّاد خاملا لا يذكر، حتى طرقه الأعشى في فتية وليس عنده إلا ناقة، فأتى أمّه فقال: إنّ فتية طرقونا الليلة. فإن رأيت أن تأذني في نحر الناقة! قالت: نعم يا بني. فنحرها واشترى لهم ببعض لحمها شرابا، وشوى لهم بعض لحمها، فأصبح الاعشى ومن معه غادين، فلم يشعر المحلّق حتى أتته القصيدة التي أوّلها:
أرقت وما هذا السّهاد المؤرّق ... وما بي من سقم وما بي معشق(6/177)
لعمري لقد لاحت عيون كثيرة ... إلى ضوء نار في بقاع تحرّق «1»
تشبّ لمقرورين يصطليانها ... وبات على النار النّدى والمحلق «2»
رضيعي لبان ثدي أم تقاسما ... بأسحم داج عوض لا نتفرّق «3»
ترى الجود يسري سائلا فوق وجهه ... كما زان متن الهندو انّي رونق
فلما أتته القصيدة جعلت الاشراف تخطب اليه، ويقول القائل:
وبات على النار الندى والمحلق
وقوله: «تقاسما بأسحم داج» ، يقول: تحالفا على الرماد، وهذا شيء تفعله الفرس لئلا يفترقوا أبدا. والعوض: الدهر.
ما يعاب من الشعر وليس بعيب
لحماد
قال الاصمعي: سمعت حماد الراوية وأنشد رجل بيتا لحسان:
يغشون حتى ما تهرّ كلابهم ... لا يسألون عن السّواد المقبل «4»
فقال: ما يعرف هذا الا في كلاب الحانات.
وأنشده آخر قول الشاعر:
لمن منزل بين المذانب والجسر «5»
فقال: ما يعرف هذا الا دار الياسيريين «6» .(6/178)
بيت للفرزدق
ومما يعاب من الشعر وليس بعيب قول الفرزدق:
أيابنة عبد الله وابنة مالك ... ويا بنت ذي البردين والفرس الورد
فقال من جهل المعنى ولم يعرف الخبر [لم يدرك] ما في هذا من المدح: ان يمدح رجلا بلباس البردين وركوب فرس ورد، إنما معناه: ما قال ابو عبيدة: إن وفود العرب اجتمعت عند النعمان، فأخرج إليهم بردي محرّق، وقال: ليقم اعز العرب قبيلة فليلبسهما. فقام عامر بن احيمر بن بهدلة فاتّزر بأحدهما وتردّى بالآخر، فقال له النعما: أنت اعز العرب قبيلة؟ قال: العز والعدد من العرب في معدّ، ثم في نزار، ثم في مضر، ثم في خندف، ثم في تميم، ثم في سعد، ثم في كعب، ثم في عوف، ثم في بهدلة، فمن أنكر هذا من العرب فلينافرني «1» ، فسكت الناس، فقال النعمان. هذه [حالك في] عشيرتك فكيف أنت كما تزعم في نفسك وأهل بيتك؟ فقال: أنا ابو عشرة، وعم عشرة، وخال عشرة، وأمّا انا في نفسي فهذا شاهدي. ثم وضع قدمه في الارض، وقال: من أزالها فله مائة من الابل! فلم يتعاط ذلك احد، فذهب بالبردين، فسمى ذا البردين، وفيه يقول الفرزدق:
فما تمّ في سعد ولا آل مالك ... فلام إذا سيل لم يتبهدل
لهم وهب النعمان بردى محرّق ... لمجد معدّ والعديد المحصّل
بيت للأعشى
ومما يعاب من الشعر وليس بعيب، قول الاعشى في فرس النعمان، وكان يسمى اليحموم:
ويأمر لليحموم كل عشية ... بقتّ وتعليق فقد كاد يسنق «2»
فقالوا: ما يمدح به أحد من السوقة فضلا عن الملوك: ان يقوم بفرس ويأمر له(6/179)
بالعلف حتى كاد يسنق. وليس هذا معناه، وإنما المعنى فيه ما قال أبو عبيدة: أن ملوك العرب بلغ من حزمها ونظرها في العواقب ان احدهم لا يبيت الا وفرسه موقوف بسرجه ولجامه بين يديه قريبا منه، مخافة عدو يفجؤه أو حالة تصعب عليه، فكان للنعمان فرس يقال له اليحموم، فيتعاهده كل عشية، وهذا مما يتمادح به العرب من القيام بالخيل وارتباطها بأفنية البيوت.
بيت لزهير
ومما عابوه وليس بعيب، قول زهير:
قف بالدّيار التي لم يعفها القدم ... بلى وغيّرها الأرياح والدّيم «1»
فنفى ثم حقق في معنى واحد، فنقض في عجز هذا البيت ما قال في صدره، لانه زعم ان الديار لم يعفها القدم، ثم انه انتبه من مرقده فقال: بلى، عفاها وغيّرها أيضا الارياح والديم! وليس هذا معناه الذي ذهب اليه، وإنما معناه أن الديار لم تعف في عينه، من طريق محبته لها وشغفه بمن كان فيها.
بيت لبعض الشعراء
وقال غيره في هذا المعنى ما هو أبين من هذا، وهو:
ألا ليت المنازل قد بلينا ... فلا يرمين عن شزر حزينا «2»
فقوله: ألا ليت المنازل قد بلينا. أي. بلى ذكرها، ولكنها تتجدّد على طول البلى بتجدّد ذكرها.
وقال الحسن بن هانىء: في هذا المعنى فلخصه وأوضحه وشنّفه «3» وقرّطه حيث يقول:(6/180)
لمن دمن تزداد طول نسيم ... على طول ما أقوت وحسن رسوم «1»
تجافي البلى عنهم حتى كأنما ... لبسن على الاقواء ثوب نعيم «2»
مروان وابن يزيد
ومما عيب من الشعر بعيب، ما يروى عن مروان بن الحكم أنه قال لخالد بن يزيد ابن معاوية وقد استنشده من شعره فأنشده:
فلو بقيت خلائف آل حرب ... ولم يلّبسهم الدهر المنونا
لأصبح ماء أهل الارض عذبا ... وأصبح لحم دنياهم سمينا
فقال له مروان: «منونا» و «سمينا» والله إنها لقافية ما اضطرّك إليها الا العجز.
وهذا مما لا عجز فيه ولا عابه أحد في قوافي الشعر، وما أرى العيب فيه إلا على ما رآه عيبا، لأن الياء والواو يتعاقبان في أشعار العرب كلّها قديمها وحديثها، قال عبيد ابن الابرص:
وكلّ ذي غيبة ينوب ... وغائب الموت لا يئوب «3»
من يسال الناس يرموه ... وسائل الله لا يخيب
ومثله من المحدثين:
أجارة بيتينا أبوك غيور ... وميسور ما يرجى لديك عسير
بيت لذي الرمة
ومما عيب من الشعر وليس بعيب. قول ذي الرمة:
رأيت الناس ينتجعون غيثا ... فقلت لصيدح: انتجعي بلالا «4»
ولما أنشد هذا الشعر بلال بن ابي بردة قال: يا غلام مر لصيدح بقتّ وعلف،(6/181)
فإنها هي انتجعتنا. وهذا من التعنّت الذي لا انصاف معه، لان قوله: انتجعي بلالا، إنما اراد نفسه، ومثله في كتاب الله تعالى: وَسْئَلِ الْقَرْيَةَ الَّتِي كُنَّا فِيها وَالْعِيرَ الَّتِي أَقْبَلْنا فِيها
«1» ، وإنما أراد أهل القرية وأهل العير.
وكان عمر بن الخطاب يقول في بعض ما يرتجز به من شعره:
إليك يعدو قلعا وضينها ... مخالفا دين النصارى دينها «2»
فجعل الدين للناقة، وإنما اراد صاحب الناقة.
ولم تزل الشعراء في أماديحها تصف النوق وزيارتها لمن تمدحه، ولكن من طلب تعنتا وجده، أو تجنيا على الشاعر أدركه عليه، كما فعل صريع الغواني بالحسن ابن هانىء حين لقيه، فقال له: ما يسلم لك بيت عندي من سقط! قال: فأي بيت أسقطت فيه، قال: أنشدني أي بيت شئت. فأنشده:
ذكر الصّبوح بسحرة فارتاحا ... وأملّه ديك الصّباح صباحا
فقال له: قد ناقضت في قولك، كيف يمله ديك الصباح صياحا، وإنما يبشره بالصبوح الذي ارتاح له! فقال له الحسن: فأنشدني أنت. من قولك. فأنشده:
عاصى العزاء فراح غير مفنّد ... وأقام بين عزيمة وتجلّد
قال له: قد ناقضت في قولك، إنك قلت:
عاصى العزاء فراح غير مفند
ثم قلت:
وأقام بين عزيمة وتجلد
فجعلته رائحا مقيما في مقام واحد، والرائح غير المقيم.
والبيتان جميعا مؤتلفان، ولكن من طلب عيبا وجده.(6/182)
بيت للمرقش
ومما عابه ابن قتيبة وليس بعيب، قول المرقش الاصغر:
صحا قلبه عنها على أنّ ذكرها ... إذا ذكرت دارت به الأرض قائما
فقال له: كيف يصحو من كانت هذه صفته. والمعنى صحيح، وإنما ذهب إلى أن حاله هذه، على ما تقدم من سوء حاله، حال صحو عنده، ومثل هذا في الشعر كثير، لأن بعض الشر أهون من بعض. وقال النبي صلّى الله عليه وسلّم في عمه أبي طالب: إنه أخف الناس عذابا يوم القيامة، يحذى نعلين من نار يغلي منهما دماغه! وهذا من العذاب الشديد، وإنما صار خفيفا عند ما هو أشد منه، فزعم المرقّش أنه عند نفسه صاح.
إذ تبدّل حاله أسهل مما كان فيه.
بيت لابن هانىء
وقد عاب الناس قول الحسن بن هانيء:
وأخفت أهل الشّرك حتى إنه ... لتخافك النّطف التي لم تخلق
فقالوا: كيف تخافه النطف التي لم تخلق؟ ومجاز هذا قريب إذا لحظ أن من خاف شيئا خافه بجوارحه وسمعه وبصره ولحمه وروحه، والنطف داخلة في هذه الجملة، فهو إذا أخاف أهل الشرك أخاف النطف التي في أصلابها.
وقال الشاعر:
ألا ترثي ... يحبّك لحمه ودمه
وقال المكفوف:
أخبّكم حبّا على الله أجره ... تضمّنه الأحشاء واللحم والدم
العتابي ومنصور النميري
ولقى العتابي منصورا النميري، فسأله عن حاله فقال: إني لمدهوش «1» : وذلك أني(6/183)
تركت امرأتي وقد عسر عليها ولادها. فقال له العتابي: ألا أدلك على ما يسهّل عليها! قال: وما هو؟ قال: اكتب على رحمها: «هارون» . قال: وما معناك في هذا؟ قال: ألست القائل فيه:
إن أخلف القطر لم تخلف مواهبه ... أو ضاق أمر ذكرناه فيتسع
فقال: أبا لخلفاء تعرّض وفيهم تقع وإياهم تعيب؟ فيقال إنه دخل على هارون فأعلمه ما كان من قول العتابي، فكتب إلى عبد الصمد عمه يأمره بقتله. فكتب إليه عبد الصمد يشفع له، فوهبه له.
تقبيح الحسن وتحسين القبيح
سئل بعض علماء الشعر: من أشعر الناس؟ قال: الذي يصوّر الباطل في صورة الحق، والحقّ في صورة الباطل، بلطف معناه، ودقة فطنته، فيقبّح الحسن الذي لا أحسن منه، ويحسّن القبيح الذي لا أقبح منه.
فمن تحسين القبيح قول الحارث بن هشام يعتذر من فراره يوم بدر.
الله أعلم ما تركت قتالهم ... حتى رموا مهري بأشقر مزبد
وعلمت أني إن أقاتل واحدا ... أقتل ولا يضرر عدوّي مشهدي
فصدفت عنهم والأحبّة فيهم ... طمعا لهم بعقاب يوم مرصد «1»
وهذا الذي سمعه صاحب رتبيل فقال: يا معشر العرب، حسّنتم كل شيء فحسن حتى الفرار ومن تقبيح الحسن قول بشار العقيلي في سليمان بن علي وكان وصل رجلا فأحسن:
يا سوأة يكثر الشيطان ما ذكرت ... منها التّعجّب جاءت من سليمانا
لا تعجبنّ لخير زلّ عن يده ... فكوكب النحس يسقي الأرض أحيانا «2»
وقال غيره في تقبيح الحسن:(6/184)
يقولون لي إن بخيل بنائلي ... وللبخّل خير من سؤال بخيل
وقال المتلمس في تقبيح الحسن:
وحبس المال خير من بغاه ... وضرب في البلاد بغير زاد
وإصلاح القليل يزيد فيه ... ولا يبقى الكثير مع الفساد
وقال محمود الوراق في تحسين القبيح:
يا عائب الفقر ألا تزدجر ... عيب الغنى أكبر لو تعتبر «1»
من شرف الفقر ومن فضله ... على الغنى إن صحّ منك النظر
أنك تعصي كي تنال الغنى ... ولست تعصي الله كي تفتقر!!
ومن تحسين القبيح أنه قيل لجذيمة الأبرص: ما هذا الوضح «2» الذي بك؟ قال:
سيف الله الذي جلاه.
وقال ابن حسان وكان به برص:
لا تحسبنّ بياضا فيّ منقصة ... إنّ اللهاميم في أقرابها بلق «3»
وقال محمود الورّاق يمدح الشيب:
وعائب عابني بشيبي ... لم يعد لما ألمّ وقته
فقلت للعائبي بشيبي: ... يا عائب الشيب لا بلغته
وقال آخر:
يقولون هل بعد الثلاثين ملعب؟ ... فقلت: وهل قبل الثلاثين ملعب؟
لقد جلّ قدر الشيب إن كان كلّما ... بدت شيبة يعرى من اللهو مركب(6/185)
وقال أعرابي في عجوز:
أبى القلب إلا أمّ عمرو وحبّها ... عجوزا ومن يحبب عجوزا يفنّد «1»
كبرد يمان قد تقادم عهده ... ورقعته ما شيب في العين واليد «2»
وقال بشار العقيلي في سوداء:
أشبهك المسك وأشبهته ... قائمة في لونه قاعده
لا شكّ إذ لونكما واحد ... أنّكما من طينة واحده
الاستعارة
لم تزل الاستعارة قديما تستعمل في المنظوم والمنثور، وأحسن ما تكون أن يستعار المنثور من المنظوم، والمنظوم من المنثور، وهذه الاستعارة خفية لا يؤبه بها لأنك قد نقلت الكلام من حال إلى حال، وأكثر ما يجتلبه الشعراء، ويتصرف فيه البلغاء، إنما يجري فيه الآخر على السنن الأول، وأقل ما يأتي لهم معنى لم يسبق إليه أحدا، إما في منظوم وإما في منثور، لأن الكلام بعضه من بعض، ولذلك قالوا في الأمثال: ما ترك الأول للأخر شيئا. ألا ترى أن كعب بن زهير، وهو في الرعيل الأول والصدر المتقدم، قد قال في شعره:
ما أرانا نقول إلا معارا ... أو معادا من قولنا مكرورا
ولكن قولهم: إن الآخر إذا أخذ من الأول المعنى فزاد فيه ما يحسّنه ويقرّبه ويوضحه فهو أولى به من الأول، وذلك كقول الأعشى:
وكأس شربت على لذّة ... وأخرى تداويت منها بها
فأخذ هذا المعنى الحسن بن هانيء فحسنه وقرّبه إذ قال:
دع عنك لومي فإنّ اللوم إغراء ... وداوني بالتي كانت هي الدّاء(6/186)
وقال القطامي:
والناس من يلق خيرا قائلون له ... ما يشتهي، ولأمّ المخطيء الهبل «1»
أخذه من قول المرقّش:
ومن يلق خيرا يحمد الناس أمره ... ومن يغو لا يعدم على الغيّ لائما
وقال قيس بن الخطيم:
تبدّت لنا كالشمس تحت غمامة ... بدا حاجب منها وضنّت بحاجب «2»
أخذه بعض المحدثين فقال:
فشبهتها بدرا بدا منه شقّه ... وقد سترت خدا فأبدت لنا خدّا
وأذرت على الخدّين دمعا كأنه ... تناثر درّ أو ندى واقع الوردا «3»
وأخذه آخر فقال:
يا قمرا للنّصف من شهره ... أبدى ضياء لثمان بقين
وأخذه بشار فقال:
صدت نجدّ وجلت عن خدّ ... ثمّ انثنت كالنّفس المرتدّ
فلم يفسد الآخر قول الأول، ولم يكن الأول بالمعنى أولى من الآخر.
وقد قلنا في هذا المعنى ما هو أحسن من كل ما تقدم أو مثله، وهو قولي:
كأنّ التي يوم الوداع تعرّضت ... هلال بدا محقا على أنه تمّ «4»
وأما الاستعارة إذا كانت من المنثور في المنظوم، ومن المنظوم في المنثور، فإنها أحسن استعارة.(6/187)
الرشيد وسهل:
دخل سهل بن هارون على الرشيد وهو يضاحك ابنه المأمون، فقال سهل: اللهم زده من الخيرات، وابسط له من البركات، حتى يكون بكل يوم من أيامه موفيا على أمسه، مقصرا عن غده! فقال له الرشيد: يا سهل، من روى من الشعر أفصحه ومن الحديث أوضحه، إذا رام أن يقول لم يعجزه! قال: يا أمير المؤمنين، ما أعلم أحدا سبقني إلى هذا المعنى. قال: بلى سبقك أعشى همدان، حيث يقول:
رأيتك أمس خير بني معدّ ... وأنت اليوم خير منك أمس
وأنت غدا تزيد الضّعف خيرا ... كذاك تزيد سادة عبد شمس
وقد يكون مثل هذا وما أشبهه عن موافقة.
وقد سئل الأصمعي عن الشاعرين يتفقان في المعنى الواحد ولم يسمع أحدهما قول صاحبه فقال: عقول الرجال توافت «1» على ألسنتها.
اختلاف الشعراء في المعنى الواحد
وقد تختلف الشعراء في المعنى الواحد، وكل واحد منهم محسن في مذهبه جار في توجيهه، وإن كان بعضه أحسن من بعض.
ألا ترى أن الشماخ بن ضرار يقول في ناقته:
إذا بلغتني وحملت رحلي ... عرابة فاشرقي بدم الوتين «2»
وقال الحسن بن هانيء في ضد هذا المعنى ما هو أحسن منه في محمد الأمين:
فإذا المطيّ بنا بلغن محمّدا ... فظهورهنّ على الرجال حرام
وقال أيضا:(6/188)
أقول لناقتي إذا أبلغتني ... لقد أصبحت مني باليمين
فلم أجعلك للعربان نحلا ... ولا قلت اشرقي بدم الوتين «1»
فقد عاب بعض الرواة قول الشماخ، واحتجّ في ذلك بقول النبي صلّى الله عليه وسلّم للأنصارية المأسورة التي نجت على ناقة النبي صلّى الله عليه وسلّم [وقالت] : إني نذرت يا رسول الله إن نجاني الله عليها أن أنحرها. قال: «بئسما جزيتيها! ولا نذر لأحد في ملك غيره» .
وقد قالت الشعراء، فلم تزل تمدح حسن الهيئة وطيب الرائحة وإسبال الثوب قال الفرزدق:
بنو دارم قومي، ترى حجزاتهم ... عتاقا حواشيها رقاقا نعالها «2»
يجرّون هدّاب اليمان كأنهم ... سيوف جلا الأطباع عنها صقالها
وأول من سبق إلى هذا المعنى النابغة الذبياني في قوله:
رقاق النّعال طيّب حجزاتهم ... يحيّون بالرّيحان يوم السّباسب «3»
وقال طرفة:
ثم راحوا عبق المسك بهم ... يلحقون الأرض هدّاب الأزر
وقال كثير عزة في إسبال الذيول يمدح بني أمية:
أشم من الغادين في كلّ حلة ... يميسون في صبغ من العصب متقن
لهم أزر حمر الحواشي بطونها ... بأقدامهم في الحضرميّ الملسّن «4»
وقال فيه أيضا:
إذا حلل العصب اليماني أجادها ... أكف أساتيذ على النسج درّب(6/189)
أتاهم بها الجابي فراحوا عليهم ... تمائم من فضفاضهنّ المكعّب «1»
لها طرر تحت البنائق أدنيت ... إلى مرهفات الحضرميّ المعقرب «2»
وقال آخر:
معي كل فضفاض القميص كأنه ... إذا ما سرت فيه المدام فنيق «3»
وخالفهم فيه صريع الغواني فقال:
لا يعبق الطيب خدّيه ومفرقه ... ولا يمسّح عينيه من الكحل
وقال دريد بن الصّمّة يرثي أخاه عبد الله بن الصّمة ويصفه بتشمير الثوب:
كميش الإزار خارج نصف ساقه ... بعيد من السّوءات طلّاع أنجد
مثل قول الحجاج:
أنا ابن جلا وطلّاع الثّنايا ... متى أضع العمامة تعرفوني «4»
وقد يحمل معناهم في تشمير الثوب وسحبه واختلافهم فيه على وجهين: أحدهما أن يستحسن بعضهم ما يستقبح بعض، والوجه الثاني يشبه أن يكون لتشمير الثوب موضع ولسحبه موضع كما قال عمرو بن معديكرب:
فيوما ترانا في الخزور نجرّها ... ويوما ترانا في الحديد عوابسا «5»
ويوما ترانا في الثريد ندوسه ... ويوما ترانا نكسر الكعك يابسا «6»
وقال أعشى بكر لعمرو بن معديكرب:(6/190)
وإذا تجيء كتيبة مكروهة ... ملمومة يخشى الكماة نزالها «1»
كنت المقدّم غير لابس جبّة ... بالسيف تضرب معلما أبطالها
وقال مسلم بن الوليد في يزيد بن مزيد خلاف هذا كلّه، وهو:
تراه في الأمن في درع مضاعفة ... لا يأمن الدهر أن يدعى على عجل
ولما أنشده يزيد بن مزيد قال له: ألا قلت كما قال الأعشى. فأنشده البيتين، فقال: قولي أحسن من قوله، إنه وصفه بالخرق، وأنا وصفتك بالحزم.
وقال عبد الملك بن مروان لأسيلم بن الأحنف الأسدي: ما أحسن شيء مدحت به؟ قال: قول الشاعر:
أسيلم ذاكم لا خفا بمكانه ... لعين ترجّي أو لأذن تسمّع
من النّفر الشيم الذين إذا اعتزوا ... وهاب رجال حلقة الباب قعقعوا «2»
جلا الإذفر الأحوى من المسك فرقه ... وطيّب دهنا رأسه فهو أنزع «3»
إذا النّفر السّود اليمانون حاولوا ... له حول برديه أدقّوا وأوسعوا
فقال عبد الملك: أحسن من هذا قول قبيس بن الأسلت:
قد حصّت البيضة رأسي فما ... أطعم نوما غير تهجاع «4»
أسعى على جل بني مالك ... كل امريء في شأنه ساعي
وقال بعضهم:
سألت المحبّين الذين تحمّلوا ... تباريخ هذا الحبّ في سالف الدهر «5»
فقالوا: شفاء الحبّ حبّ يزيله ... لأخرى، وطول للتمادي على الهجر(6/191)
وقال الحمدوني ما هو أحسن من هذا المعنى في ضدّه، وهو قوله:
زعموا أنّ من تشاغل بالحبّ سلا عن حبيبه وأفاقا
كذبوا، ما كذا بلونا ولكن ... لم يكونوا فيما أرى عشّاقا
كيف أسلو بلذّة عنك والّلذّات يحدثن لي إليك اشتياقا
كلما رمت سلوة تذهب الحر ... قة زادت قلبي عليك احتراقا «1»
وقال كثيّر عزّة:
أريد لأنسى ذكرها فكأنما ... تمثّل لي ليلي بكلّ سبيل!.
وقال بعض الناس: إن كان يحبها فلماذا ينسى ذكرها؟ ألا قال كما قال مجنون بني عامر:
فلا خفّف الرحمن ما بي من الهوى ... ولا قطع الرحمن عن حبّها قلبي
فما سرّني أني خليّ من الهوى ... ولو أنّ لي ما بين شرق إلى غرب
وذهب أكثرهم أن بعد العهد يسلي المحب عن حبيبه، وقالوا فيه:
إذا ما شئت أن تسلو حبيبا ... فأكثر دونه عدد الليالي
وقال العباس بن الأحنف:
إذا كنت لا يسليك عمن تحبّه ... تناء ولا يشفيك طول تلاق «2»
فما أنت إلا مستعير حشاشة ... لمهجة نفس آذنت بفراق
وقال كثير عزة:
فإن تسل عنك النفس أو تدع الهوى ... فباليأس تسلو عنك لا بالتجلّد «3»
ومثله قول بشار:
من حبّها أتمنى أن يلاقيني ... من نحو بلدتها ناع فينعاها!(6/192)
كيما أقول: فراق لا لقاء له ... وتضمر النّفس يأسا ثم تسلاها
وهذه المذاهب كلها خارجة في معناها، جارية في مجراها.
وقال عبد الله بن جندب:
ألا يا عباد الله، هذا أخوكم ... قتيلا فهل منكم له اليوم واتر
خذوا بدمي إن متّ كلّ خريدة ... مريضة جفن العين والطّرف ساهر «1»
وقال صريع الغواني في ضد هذا:
أديرا عليّ الرّاح لا تشربا قبلي ... ولا تطلبا من عند قاتلتي ذحلي «2»
وقول عبد الله بن جندب أحسن في هذا المعنى، لأنه إنما أراد أن يدل على موضع ثأره واسم قاتله، ولم يرد الطلب بالثأر، ولأنه لا ثأر له.
وقد قال عبد الله بن عباس، ونظر إلى رجل مدنف «3» عشقا: هذا قتيل الحب.
لا عقل ولا قود «4» .
وقال الفرزدق وأراد مذهب ابن جندب فلم تؤاته رقة الطبع، فخرج إلى جفاء القول وقبحه فقال:
يا أخت ناجية بن سامة إنني ... أخشى عليك بنيّ إن طلبوا دمي
لن يتركوك وقد قتلت أباهم ... ولو ارتقيت إلى السماء بسلّم
وقال ابن أخت تأبط شرا يرثي خاله وقتلته هذيل:
شامس في القرّ حتى إذا ما ... ذكت الشّعرى فبرد وظلّ «5»
ظاعن بالحزم حتى إذا ما ... حلّ حلّ الحزم حيث يحلّ(6/193)
أخذ معنى البيت الأوّل أعرابي فسهل معناه وحسن ديباجته، فقال:
إذا نزل الشتاء فأنت شمس ... وإن نزل المصيف فأنت ظلّ
وأخذ معنى البيت الثاني الحسن بن هانيء فقال في الخصيب:
فما جازه جود ولا حلّ دونه ... ولكن يصير الجود حيث يصير
وقالوا في الخيال فحيّوه ورحّبوا به. فمن ذلك قول مروان بن أبي حفصة:
طرقتك زائرة فحيّ خيالها
وقال:
طرق الخيال فحيّه بسلام
وعلى هذا بنيت أشعارهم، وخالفهم جرير فطرد الخيال، فقال:
طرقتك صائدة القلوب وليس ذا ... وقت الزيارة فارجعي بسلام
وأوّل من طرد الخيال طرفة فقال:
فقل لخيال الحنظلية ينقلب ... إليها، فإني واصل حبل من وصل
وأعجب من هذا قول الراعي الذي هجا الخيال فقال:
طاف الخيال بأصحابي فقلت لهم ... أأمّ شذرة زارتني أم الغول
لا مرحبا بابنة الأقيال إذ طرقت ... كأن محجرها بالفار مكحول «1»
وقد يختلف معنى الشاعر أيضا في شعر واحد يقوله، ألا ترى أنّ امرأ القيس قال في شعره:
وإن تك قد ساءتك مني خليقة ... فسلّي ثيابي من ثيابك تنسل «2»(6/194)
فوصف نفسه بالصبر والجلد والقوّة على التهالك، ثم أدركته الرقة والاشتياق في البيت الذي بعده:
أغرّك مني أنّ حبّك قاتلي ... وأنك مهما تأمري القلب يفعل
مستدركا قوله في البيت الأول:
فسلّي ثيابي من ثيابك تنسل
ولم يزل من تقدّم من الشعراء وغيرهم مجمعين على ذمّ الغراب والتشاؤم به، وكان اسمه مشتقا من الغربة، فسموه غراب البين، وزعموا أنه إذا صاح في الديار أقوت «1» من أهلها، وخالفهم أبو الشّيص فقال ما هو أحسن من هذا وأصدق من ذلك كله، قوله:
ما فرّق الأحباب بع ... د الله إلا الإبل
والناس يلحون غرا ... ب البين لمّا جهلوا «2»
وما إذا صباح غراب ... ب في الديار احتملوا
وما على ظهر غرا ... ب البين تطوى الرحل
وما غراب البين إلّا ... ناقة أو جمل
وقال آخر في هذا المعنى وذكر الإبل:
لهنّ الوجى إذ كنّ عونا على النّوى ... ولا زال منها ظالع وكسير «3»
وما الشؤم في نعب الغراب ونعقه ... وما الشؤم إلا ناقة وبعير
ومن قولنا في هذا المعنى:
نعب الغراب فقلت أكذب طائر ... إن لم يصدّقه رغاء بعير
ردّ الجمال هو المحقّق للنّوى ... بل شرّ أخلاس لهنّ وكور «4»(6/195)
وقد يأتي من الشعر ما هو خارج عن طبقة الشعراء، منفرد في غرائبه وبديع صنعته ولطيف تشبيهه، كقول جعفر بن جدار كاتب ابن طولون:
كم بين باري وبين بمّا ... وبين بون إلى دمّما «1»
من رشإ أبيض التراقي ... أغيد ذي غنّة أحمّا «2»
وطفلة رخصة المرائي ... ليست تحلّى ولا تسمّى
إلا وسلك من اللآلي ... يعجز من يخرج المعمّى
صغرى وكبرى إلى ثلاث ... مثل التّعاليل أو أتما
وكم ببمّ وأرض بمّ ... وكم برمّ وأرض رمّا «3»
من طفلة بضّة لعوب ... تلقاك بالحسن مستتما
منهنّ ريّا وكيف ريّا ... ريّا إذا لاقت المشما
لو شمّها طائر بدوّ ... لخرّ في الترب أو لهمّا
تسحب ثوبين من خلوق ... قد أفنيا زعفران قمّا «4»
كأنما جلّيا عليها ... من طيب ما باشرا وشمّا
فألفيا زعفران قمّ ... فانغمسا فيه واستحما
فهي نظير اسمها المعلّى ... يفوح لا مرطها المدمّا «5»
هيهات يا أخت أهل بمّ ... غلطت في الاسم والمسمّى
لو كان هذا وقيل سمّ ... مات إذا من يقول سمّا
قد قلت إذ أقبلت تهادى ... كطلعة البدر أو أتما
تومي بأسروعة وتخفي ... بالبرد مثل القداح حمّا «6»(6/196)
لو كنت ممّن لكنت ممّا ... لكني قد كبرت عمّا ...
عاتبني الدهر في عذاري ... بأحرف فارعويت لمّا «1»
قوّس ما كان مستقيما ... وابيضّ ما كان مدلهمّا
وكيف تصبوا الدّمى إلى من ... كان أخا ثم صار عمّا
لي عنك يا أخت أهل بمّ ... شغل بما قد دنا مهما
فلست من وجهك المفدّى ... ولست من قدّك المحمّى
أذهلني عنك خوف يوم ... يحيا له كلّ من ألما
ما كسبته يداي وهنا ... خيرا وشرّا أصبت ثما
تحشر فيه الجنان زقّا ... وتحشر النار فيه زمّا «2»
تقول هذي لطالبيها ... هيت وهذي لهم هلمّا
نفسي أولى بأن أذمّا ... من أمرها كلّ ما استذمّا
يا نفس كم تخدعين عما ... بلبس داج وأكل لما «3»
رعيت من ذي الحطام مرعى ... جمعت أكلا له وذمّا
ويحك فاستيقظي ليوم ... يحيا له كلّ من أرمّا «4»
ألم تري يونس بن عبد الأ ... على غدا صامتا فصما
في حفرة ما يحير حرفا ... قد دكّ من فوقها وطما
والمزنيّ الذي إليه ... نعشو إذا دهرنا ادهما «5»
أخفى فؤادي له عزائي ... لكن زفيري عليه نما
كأنما خوّفا فخافا ... أو حذّرا غاشما فصما
أقبل سهم من الرزايا ... فخصّ أعلامنا وعما(6/197)
دكدك منا ذرا جبال ... شامخة في السماء شما «1»
وخصّنا دون من عليها ... وزاد هما بنا وغما
قد قرب الموت يا بن أمّا ... فبادر الموت يا بن أمّا
واعلم بأن من عصاك جهلا ... من التّقي لم يطعك هما «2»
هو الهدى والرّدى فإمّا ... أتيت آتي الرّدى وإمّا «3»
هأنذا فاعتبر بحالي ... في طبق موصد معمّى
قد أسكنتني الذنوب بيتا ... يخاله الإلف مستحمّا
فهل إلى توبة سبيل ... تكون فيها الهموم هما
فتشكر الله لا سواه ... لعلّ نعماه أن تتمّا
يا نفس جدّي ولا تميلي ... فأفضل البرّ ما استتما
أو ابحثي عن فل ابن فلّ ... تريه تحت التراب رمّا
لبئس عبد يروح بغيا ... مع المساوي تراه دوما
في غمرة العيش لا يبالي ... أحمده الجار أم أدمّا
كم بين هذا وبين عبد ... يغدو خميص الحشى هضما «4»
يقطع آناءه صلاة ... ودهره بالصلاح صوما «5»
إن بهذا الكلام نصحا ... إن لم يواف القلوب صما
يا ربّ لي ألف ألف ذنب ... إن تعف يا ربّ فاعف جما
فابرد بعفو غليل قلب ... كأنّ فيه رسيس حمّى «6»
وقال الغزال:
لعمرى ما ملّكت مقودي الصّبا ... فأمطو للذات في السهل والوعر «7»(6/198)
ولا أنا ممن يؤثر اللهو قلبه ... فأمسي في سكر وأصبح في سكر
ولا قارع باب اليهوديّ موهنا ... وقد هجع النّوام من شهوة الخمر
وأوتغه الشيطان حتى أصاره ... من الغيّ في بحر أضل من البحر «1»
أغذّ السّرى فيها إذا الشّرب أنكروا ... ورهني عند العلج ثوبي من الفجر «2»
كأني لم أسمع كتاب محمد ... وما جاء في التنزيل فيه من الزجر
كفاني من كل الذي اعجبوا به ... قليلة ماء تستقي لي من النهر
ففيها شرابي إن عطشت وكل ما ... يريد عيالي للعجين وللقدر
بخبز وبقل ليس لحما وانني ... عليه كثير الحمد لله والشكر
فيا صاحب اللّحمان والخمر هل ترى ... بوجهي إذا عاينت وجهي من ضرّ «3»
وبالله لو عمّرت تسعين حجة ... إلى مثلها ما اشتقت فيها إلى خمر
ولا طربت نفسي إلى مزهر ولا ... تحنّن قلبي نحو عود ولا زمر
وقد حدّثوني أن فيها مرارة ... وما حاجة الإنسان في الشرب للمرّ
أخي عدّ ما قاسيته وتقلبت ... عليك به الدنيا من الخير والشر
فهل لك في الدنيا سوى الساعة التي ... تكون بها السراء او حاضر الضر
فما ساق منها لا يحس ولا يرى ... وما لم يكن منها عميّ عن الفكر
فطوبى لعبد اخرج الله روحه ... إليه من الدنيا على عمل البر
ولكنني حدّثت أنّ نفوسهم ... هنالك في جاه جليل وفي قدر
وأجسادهم لا يأكل الترب لحمها ... هنالك لا تبلى الى اخر الدهر
وقال أيضا:
كتبت وشوق لا يفارق مهجتي ... ووجدي بكم مستحكم وتذكري «4»(6/199)
بقرطبة قلبي وجسمي ببلدة ... نأيت بها عن أهل ودّي ومعشري «1»
سقى الله من مزن السحائب ثرّة ... دياركم اللاتي حوت كل جؤذر «2»
بحق الهوى أقر السلام على التي ... اهيم بها عشقا إلى يوم محشري
لئن غبت عنها فالهوى غير غائب ... مقيم بقلب الهائم المنفطر
كأن لم أبت في ثوبها طول ليلة ... إلى أن بدا وجه الصباح المنوّر
وعانقت غصنا فيه رمّان فضّة ... وقبلت ثغرا ريقه ريق سكر
أأنسى ولا أنسى عناقك خاليا ... وضمّي ونقلي نظم درّ وجوهر
فواحزني أن فرّق الدهر بيننا ... وكدّر وصلا منك غير مكدّر
لقد غرّرت نفسي بحبك ضلة ... ولو علمت عقبى الهوى لم تغرّر «3»
بكيت فما أغنى البكا عند صحبتي ... وشوقي إلى رئم من الإنس أحور «4»
سلام سلام ألف ألف يكرر ... ويا حاملا عني الرسالة كرّر
ألا يا نسيم الريح بلّغ سلامنا ... وصف كلّ ما يلقى الغريب وخبّر
وقل لشعاع الشمس بلّغ تحيتي ... سميّك واقرأها على آل جعفر
وقال أيضا:
أقر السلام على إلف كلفت به ... قدرمت صبرا وطول الشوق لم يرم
ظبي تباعد عن قربي وعن نظري ... فالنفس والهة من شدة الالم
كنا كروحين في جسم غذاؤهما ... ماء المحبة من هام ومنسجم
إلفين هذا بهذا مغرم كلف ... لا واحد في الهوى منا بمتّهم «5»
لله تلك الليالي والسرور بها ... كأنما أبصرتها العين في الحلم
ففرق الدهر شملا كان ملتئما ... منا وجمّع شملا غير ملتئم(6/200)
ما زلت أرعى نجوم الليل طالعة ... أرجو السلوّ بها إذ غبت عن نجمي
نجم من الحسن ما يجري به فلك ... كأنه الدر والياقوت في النظم
ذاك الذي حاز حسنا لا نظير له ... كالبدر نورا علا في منزل النعم
وقد تناظر والبرجيس في شرف ... وقارن الزّهرة البيضاء في توم «1»
فذاك يشبهه في حسن صورته ... وذا يزيد بخط الشعر والقلم
أشكو إلى الله ما ألقى لفرقته ... شكوى محب سقيم حافظ الذمم
لو كنت أشكو إلى صمّ الهضاب إذا ... تفطرت للذي أبديه من ألم
يا غادرا لم يزل بالغدر مرتديا ... أين الوفاء أبن لي غير محتشم
إن غاب جسمك عن عيني وعن نظري ... فما يغيب عن الأسرار والوهم
إني سأبكيك ما ناحت مطوّقة ... تبكي أليفا على فرع من النّشم «2»
ما يجوز في الشعر مما لا يجوز في الكلام
قال أبو حاتم: أبيح للشاعر ما لم يبح للمتكلم، من قصر الممدود، ومد المقصور، وتحريك الساكن، وتسكين المتحرك، وصرف ما لا ينصرف، وحذف الكلمة ما لم تلتبس بأخرى، كقولهم: فل، من فلان، وحم، من حمام.
قال الشاعر:
وجاءت حوادث من مثلها ... يقال لمثلك: ويها فل
وقال مسلم بن الوليد:
سل الناس إني سائل الله وحده ... وصائن وجهي عن فلان وعن فل
وقال آخر:
دعاء حمامات تجاوبها حم(6/201)
ومن المحذوف أيضا قول الشاعر: «1»
لها أشارير من لحم تتمّره ... من الثّعالي ووخز من أرانيها «2»
يريد «من الثعالب» . ومثله قول الشاعر:
ولضفادي جمّة نقانق
يريد «الضفادع» .
ومن المحذوف قول كعب بن زهير:
ويلمها خلة لو أنها صدقت ... في وعدها أو لو انّ النّصح مقبول
يريد: ويل لأمها. ومنه قولهم: لاه أبوك، يريدون: لله أبوك. وقال الشاعر:
لاه ابن عمّك لا يخا ... ف المبديات من العواقب
وكذلك الزيادة أيضا إذا احتاجوا إليها في الشعر، فمن ذلك قول زهير:
ثم استمرّوا وقالوا إنّ موعدكم ... ماء بشرقيّ سلمى فيد أو ركك «3»
قال الاصمعي: سألت نجيبات فيد عن ركك فقيل: ماء هاهنا يسمى ركّا، فعلمت أن زهيرا احتاج فضعّف.
ومنه قول القطامي:
وقول المرء ينفذ بعد حين ... مواضع ليس ينفذها الإبار «4»
ومثله قولهم: كلكال، من كلل. ونظير هذا كثير في الشعر لمن تتبعه.
وأما قصرهم الممدود فجائز في أشعارهم، ومدّ المقصور عندهم قبيح.(6/202)
وقد يستجاد في الشعر على قبحه، مثل قول حسان بن ثابت:
قفاؤك أحسن من وجهه ... وأمّك خير من المنذر
وأنشد أبو عبيدة:
يا لك من تمر ومن شيشاء ... ينشب في الحلق وفي اللهاء «1»
فمدّ اللها، وهو جمع لهاة. كما قالوا: قطاة وقطا، ونواة ونوى.
وأما تحريك الساكن وتسكين المتحرك، فمن ذلك قول لبيد بين ربيعة:
ترّاك أمكنة إذا لم أرضها ... أو يرتبط بعض النّفوس حمامها
ومثله قول امرىء القيس:
فاليوم أشرب غير مستحقب ... إثما من الله ولا واغل «2»
وقال أمية بن ابي الصلت:
تأبى فما تطلع لهم في وقتها ... إلا معذّبة وإلا تجلد
ومن قولهم في تحريك الساكن:
اضرب عنك الهموم طارقها ... ضربك بالسّوط قونس الفرس «3»
وأما صرف ما لا ينصرف عندهم فكثير، والقبيح عندهم أن لا يصرف المنصرف، وقد يستجاد في الشعر على قبحه، قال عباس بن مرداس:
وما كان بدر ولا حابس ... يفوقان مرداس في المجمع
ومن قولهم في تسكين المتحرّك وقد استشهد به سيبويه في كتابه:
عجب الناس وقالوا ... شعر وضّاح اليماني(6/203)
إنما شعري قند ... قد خلط بجلجلان «1»
ولو حرّك «خلط» اجتمع خمس حركات.
باب ما أدرك على الشعراء
قال أبو محمد عبد الله بن مسلم بن قتيبة: أدركت العلماء بالشعر على امرىء القيس قوله:
أغرك منّي أنّ حبّك قاتلي ... وأنك مهما تأمري القلب يفعل
وقالوا: إذا لم يغرّ هذا فما الذي يغرّ؟ ومعناه في هذا البيت يناقض البيت الذي قبله حيث يقول:
وإن كنت قد ساءتك مني خليقة ... فسلّي ثيابي من ثيابك تنسل
لأنه ادعى في هذا البيت فضلا للتجلد وقوة الصبر بقوله:
فسلّي ثيابي من ثيابك تنسل وزعم في البيت الثاني أنه لا تحمّل فيه للصبر ولا قوة على التمالك بقوله:
وأنك مهما تأمري القلب يفعل
وأقبح من هذا عندي قوله:
فظلّ العذارى يرتمين بلحمها ... وشحم كهداب الدّمقس المفتل «2»
ومما ادرك على زهير قوله في الضفادع:
يخرجن من شربات ماؤها طحل ... على الجذوع يخفن الغمّ والغرقا «3»(6/204)
وقالوا: ليس خروج الضفادع من الماء مخافة الغم والغرق، وإنما ذلك لانهن يبتن في الشطوط.
ومما أدرك على النابغة قوله يصف الثور:
يحيد عن أستن سود أسافله ... مثل الإمإ الغوادي تحمل الحزما «1»
قال الاصمعي: إنما توصف الإماء في مثل هذا الموضع بالرواح لا بالغدوّ، لانهن يجئن بالحطب إذا رحن. قال الأخنس التغلبي:
تظل بها ربد النّعام كأنها ... إماء يرحن بالعشيّ حواطب «2»
وأخذ عليه «3» في وصف السيف قوله:
يقدّ السلوقي المضاعف نسجه ... ويوقد بالصفاح نار الحباحب «4»
فزعم أنه يقدّ الدرع المضاعفة، والفارس، والفرس، ثم يقع في الأرض فيقدح النار من الحجارة، وهذا من الإفراط القبيح. وأقبح عندي من هذا في وصف المرأة قوله:
ليست من السّود أعقابا إذا انصرفت ... ولا تبيع بأعلى مكة البرما «5»
ومما أخذ عليه قوله:
خطا طيف حجن في حبال متينة ... تمدّ بها أيد إليك نوازع
فشبه نفسه بالدّلو، وشبه النعمان بخطاطيف حجن، يريد خطاطيف معوجة تمدّ بها الدلو. وكان الأصمعي يكثر التعجب من قوله:
وغيّرتني بنو ذبيان خشيته ... وهل علي بأن أخشاك من عار(6/205)
ومما أدرك على المتلمّس قوله:
وقد أتناسى الهمّ عند احتضاره ... بناج عليه الصّيعرية مكدم «1»
والصيعرية: سمة النوق، فجعلها صفة للفحل، وسمعه طرفة وهو صبي ينشد هذا البيت، فقال: استنوق الجمل! فضحك الناس، وصارت مثلا.
أخذ عليه أيضا قوله:
أحارث انا لو تساط دماؤنا ... تزايلن حتى لا يمسّ دم دما «2»
وهذا من الكذب المحال.
ومما أدرك على طرفة قوله:
أسد غيل فإذا ما شربوا ... وهبوا كل أمون وطمر
ثم راحوا عبق المسك بهم ... يلحفون الأرض هدّاب الأزر
فذكر أنهم يعطون إذا سكروا، ولم يشترط لهم ذلك إذا صحوا كما قال عنترة:
وإذا شربت فإنني مستهلك ... مالي، وعرضي وافر لم يكلم
وإذا صحوت فما أقصّر عن ندى ... وكما علمت شمائلي وتكرّمي «3»
ومما أدرك على عدي بن زيد قوله في صفة الفرس:
فضاف يفرّي جلّه عن سراته ... يبذّ الجياد فارها متتابعا «4»
ولا يقال للفرس فاره، وإنما يقال له جواد وعتيق، ويقال للبرذون والبغل والحمار: فاره.
ومما أدرك عليه وصفه الخمر بالخضرة، ولا يعلم أحد وصفها بذلك، فقال:(6/206)
والمشرف الهنديّ يسقى به ... أخضر مطموثا بمإ الخريص «1»
ومما أدرك على أعشى بكر قوله:
وقد غدوت إلى الحانوت يتبعني ... شاو مشل شلول شلشل شول «2»
وهذه الالفاظ الاربعة في معنى واحد.
ومما أدرك على لبيد قوله:
ومقام ضيّق فرّجته ... بمقامي ولساني وجدل
لو يقوم الفيل أو فيّاله ... زلّ عن مثل مقامي وزحل
فظن أن الفيّال أقوى الناس، كما أن الفيل أقوى البهائم.
ومما أدرك على عمرو بن أحمر الباهلي قوله يصف المرأة:
لم تدر ما نسج اليرندج قبلها ... ودراس أعوص دارس متجدّد «3»
اليرندج: جلود سود. فظن أنه شيء ينسج، ودراس أعوص: يريد انها لم تدارس الناس عويص الكلام الذي يخفى أحيانا ويتبين احيانا. وقد اتى ابن احمر في شعره بأربعة ألفاظ لم تعرف في كلام العرب: منها أنه سمى النار ماموسة، ولا يعرف ذلك، قال:
كما تطايح عن ماموسة الشّرر
وسمى حوار الناقة بابوسا، ولا يعرف ذلك، فقال:
حنّت قلوصي إلى بابوسها جزعا ... فما حنينك أمّا أنت والذكر «4»(6/207)
وفي بيت آخر يذكر فيه البقرة:
... وبنّس عنها فرقد خصر أي تأخر، ولا يعرف التبنس، وقال:
وتقنّع الحرباء أرنته يريد مالفّ على الرأس، ولا تعرف الأرنة إلا في شعره.
ومما أدرك على نصيب بن رباح قوله:
أهيم بدعد ما حييت فإن امت ... فواكبدي من ذا يهيم بها بعدي
تلهف على من يهيم بها بعده.
ومما أدرك على الراعي قوله في المرأة:
تكسو المفارق واللّبّات ذا أرج ... من قصب معتلف الكافرو درّاج «1»
أراد المسك، فجعله من قصب، والقصب: المعي فجعل المسك من قصب دابة تعتلف الكافور فيتولد عنها المسك.
ومما أدرك على جرير قوله في بني الفدوكس رهط الاخطل:
هذا ابن عمي في دمشق خليفة ... لو شئت ساقكم إليّ قطينا
القطين في هذا الموضع: العبيد الإماء. وقيل له: أبا حزرة، ما وجدت في تميم شيئا تفخر به عليهم حتى فخرت بالخلافة؟ لا والله ما صنعت في هجائهم شيئا.
ومما أدرك على الفرزدق قوله:
وعض زمان يابن مروان لم يدع ... من المال إلا مسحتا او مجلّف «2»(6/208)
وقد أكثر النحويون الاحتيال لهذا البيت ولم يأتوا فيه بشيء يرضي ومثل ذلك قوله:
غداة أحلّت لابن أصرم طعنة ... حصين عبيطات السدائف والخمر «1»
وكان حصين بن أصرم قد حلف ألا يأكل لحما ولا يشرب خمرا حتى يدرك ثأره، فأدركه في هذا اليوم الذي ذكره، فقال: عبيطات السدائف. فنصب «عبيطات السدائف» ورفع «الخمر» . وإنما هي معطوفة عليها وكان وجهها النصب، فكأنه أراد: وأحلّت له الخمر.
ومما أدرك على الأخطل قوله في عبد الملك بن مروان:
وقد جعل الله الخلافة منهم ... لأبيض لا عاري الخوان ولا جدب «2»
وهذا مما لا يمدح به خليفة.
وأخذ عليه قوله في رجل من بني أسد يمدحه، وكان يعرف بالقين ولم يكن قينا، فقال فيه:
نعم المجير سماك من بني أسد ... بالمرج إذا قتلت جيرانها مضر «3»
قد كنت أحسبه قينا وأنبؤه ... فالآن طيّر عن أثوابه الشّرر
وهذا مدح كالهاجاء.
ومما أدرك على ذي الرّمة:
تصغي إذا شدّها بالكور جارحة ... حتى إذا ما استوى في غرزها تثب «4»
وسمعه اعرابي ينشده فقال: صرع والله الرجل! ألا قلت كما قال عمك الراعي:(6/209)
وواضعة خدّها للزّما ... م فالخدّ منها له أصعر «1»
فلا تعجل المرء قبل الرّكو ... ب وهي بركبته أبصر
وهي إذا قام في غرزها ... كمثل السفينة أو أوقر
ومما أدرك عليه أيضا قوله:
حتى إذا دوّمت في الأرض راجعه ... كير ولو شاد نجّى نفسه الهرب
قالوا: التدويم إنما يكون في الجوّ، يقال: دوم الطائر في السماء، إذا حلق واستدار، ودوّى في الأرض، إذا استدار فيها.
ومما أدرك على أبي الطّمحان القيني قوله:
لمّا تحمّلت الحمول حسبتها ... دوما بأيلة ناعما مكموما
الدوم: شجر المقل، وهو لا يكمّ، وإنما يكم النخل «2» .
ومما أخذ على العجاج قوله:
كأنّ عينيه من الغئور ... قلتان أو حوجلتا قارور «3»
صيّرتا بالنّضج والتصيير ... صلاصل الزيت إلى الشّطور
الحوجلتان: القارورتان، جعل الزجاج ينضح ويرشح.
ومما أدرك على رؤبة قوله:
كنتم كمن أدخل في حجر يدا ... فأخطأ الأفعى ولاقى الأسودا
جعل الأفعى دون الأسود، وهي فوقه في المضرّة. وأخذ عليه في قوله في وصف الظليم:
وكلّ زجّاء سخام الخمل ... تبري له في زعلات خطل»(6/210)
فجعل للظليم عدّة إناث، كما يكون للحمار، وليس للظليم إلا أنثى واحدة.
وأخذ عليه قوله يصف الراعي:
لا يلتوي من عاطس ولا نغق «1»
إنما هو النغيق والنّغاق وإنما يصف الرامي، وأدرك عليه قوله:
أقفرت الوعثاء والعثاعث ... من أهلها والبرق البرارث «2»
إنما هي البراث جمع برث، وهي الارض اللينة. وأدرك عليه قوله:
يا ليتنا والدهر جري السّمّة
انما يقال: السّمّهى: أي في الباطل وأخذ عليه قوله:
أو فضة أو ذهب كبريت
قال: فسمع بالكبريت أنه احمر فظنّ انه ذهب.
ومما يستقبح من تشبيهه قوله في النساء:
يلبسن من لين الثّياب نيما
والنيم: الفرو القصير، وأخذ عليه قوله في قوائم الفرس:
يهوين شتّى ويقعن وقفا
وأنشده مسلم بن قتيبة، فقال له: أخطأت يا أبا الجحاف، جعلته مقيّدا. قال له رؤبة: أدنني من ذنب البعير.
ومما أدرك على أبي نخيلة الراجز قوله في وصف المرأة.
مريّة لم تلبس المرقّقا ... ولم تذق من البقول الفستقا «3»(6/211)
فجعل الفستق من البقول، وإنما هو شجر.
تسبح أخراه ويطفو أوّله
قال الاصمعي: إذا كان كذلك فحمار الكسّاح أسرع منه: لأنّ اضطراب مؤخره قبيح، وإنما الوجه فيه ما قال أعرابي في وصف فرس أبي الاعور السلمي:
مرّ كلمع البرق سام ناظره ... تسبح أولاه ويطفو آخره
فما يمسّ الأرض منه حافره
وأخذ عليه أيضا في الورود قوله:
جاءت تساقى في الرعيل الأوّل ... والظّلّ عن أخفافها لم يفضل
فوصف أنها وردت في الهاجرة، وإنما خير الورود غلسا «1» والماء بارد، كما قال الآخر:
فوردت قبل الصباح الفائق «2» وكقول لبيد بن ربيعة العامري:
إنّ من وردي لتغليس النّهل «3»
وقال آخر:
فوردن قبل تبيّن الألوان
وأنشد بشار الأعمى قول كثيّر عزة:
ألا إنما ليلى عصا خيزرانة ... إذا غمزوها بالأكفّ تلين «4»
فقال: لله أبو صخر! جعلها عصا خيزرانة، فوالله لو جعلها عصا زبد لهجّنها، ألا قال كما قلت:(6/212)
وبيضاء المحاجر من معدّ ... كأنّ حديثها قطع الجمان «1»
إذا قامت لحاجتها تثنّت ... كأن عظامها من خيزران
ودخل العتابيّ على الرشيد فأنشده في وصف الفرس:
كأن أذنيه إذا تشوّفا ... قادمة او قلما محرّفا
فعلم الناس أنه لحن، ولم يهتد احد منهم الى اصلاح البيت غير الرشيد، فانه قال:
قل:
تخال أذنيه إذا تشوّفا
والراجز وإن كان لحن فإنه اصاب التشبيه.
كثير وابن أبي عتيق وابن معاذ
حدّث أبو عبد الله بن عرفة بواسط، قال: حدثني احمد بن محمد بن يحيى عن الزبير ابن بكار عن سليمان بن عباس السعدي عن السائب رواية كثّير عزة، قال: قال لي كثير عزة يوما: قم بنا إلى ابن ابي عتيق نتحدّث عنده. قال: فجئناه فوجدناه عند ابن معاذ المعني، فلما رأى كثّيرا قال لابن أبي عتيق: ألا أغنيك شعر كثير عزة؟ قال:
نعم. فغناه:
أبائنة سعدى نعم ستبين ... كما انبتّ من حبل القرين قرين «2»
أأن زمّ أجمال وفارق جيرة ... وصاح غراب البين أنت حزين
كأنك لم تسمع ولم تر قبلها ... تفرّق ألّاف لهن حنين
فأخلفن ميعادي وخنّ أمانتي ... وليس لمن خان الامانة دين
فالتفت ابن ابي عتيق إلى كثّير فقال: وللدين صحبتهم يا بن أبي جمعة! ذلك والله أشبه بهنّ وأدعى للقلوب إليهنّ، وإنما يوصفن بالبخل والامتناع، وليس بالوفاء والأمانة، ذو الرقيّات أشعر منك حيث يقول:(6/213)
حبّذا الإدلال والغنج ... والتي في طرفها دعج «1»
والتي إن حدّثت كذبت ... والتي في ثغرها فلج «2»
خبّروني هل على رجل ... عاشق في قبلة حرج
فقال كثيّر: قم بنا من عند هذا.
عمارة وابن ابي السمط
عمارة بن عقيل بن بلال بن جرير، قال: اني بباب المأمون إذ خرج عبد الله بن السمط، فقال لي: علمت أنّ امير المؤمنين على كماله لا يعرف الشعر! قلت له: وبم علمت ذلك؟ قال: اسمعته الساعة بيتا لو شاطرني ملكه عليه لكان قليلا، فنظر إلى نظرا شزرا كاد يصطلمني «3» . قلت له: وما البيت؟ فأنشد:
أضحى إمام الهدى المأمون مشتغلا ... بالدّين، والناس بالدنيا مشاغيل
قلت له: والله لقد حلم عليك إذ لم يؤدّبك عليه، ويلك! وإذا لم يشتغل هو بالدنيا فمن يدبّر أمرها؟ ألا قلت كما قال جدي في عبد العزيز بن مروان:
فلا هو في الدنيا مضيع نصيبه ... ولا عرض الدنيا عن الدّين شاغله «4»
فقال: الآن علمت أنني أخطأت.
البعيث وجملة من الشعراء والوليد
الهيثم بن عدي قال: دخل رجل من أصحاب الوليد بن عبد الملك عليه فقال: يا أمير المؤمنين، لقد رأيت ببابك جماعة من الشعراء لا احسبهم اجتمعوا بباب احد من الخلفاء، فلو أذنت لهم حتى ينشدوك! فأذن لهم، فأنشدوه، وكان فيهم الفرزدق، وجرير، والاخطل، والاشهب بن رميلة، وترك البعيث فلم يأذن له، فقال الرجل(6/214)
المستأذن لهم: لو أذنت للبعيث! فلم يأذن له، وقال: ليس كهؤلاء، إنما قال من الشعر يسيرا. قال: والله يا أمير المؤمنين إنه لشاعر. فأذن له، فلما مثل بين يديه، قال: يا أمير المؤمنين. إن هؤلاء ومن ببابك قد ظنوا أنك انما أذنت لهم دوني لفضل لهم عليّ. قال: أولست تعلم ذلك؟ قال: لا والله، ولا علمه الله لي، قال: فأنشدني من شعرك. قال: أما والله حتى أنشدك من شعر كل رجل منهم ما يفضحه! فأقبل على الفرزدق، فقال: قال هذا الشيخ الاحمق لعبد بني كليب:
بأيّ رشاء يا جرير وماتح ... تدلّيت في حومات تلك القماقم «1»
فجعله تدلى عليه وعلى قومه من عل وإنما يأتيه من تحته لو كان يعقل.
وقد قال هذا كلب بني كليب:
لقومي أحمى للحقيقة منكم ... وأضرب للجبّار والنقع ساطع «2»
واوثق عند المردفات عشيّة ... لحاقا إذا ما جرد السّيف لامع «3»
فجعل نساءه لا يثقن بلحاقه إلا عشية وقد نكحن وفضحن.
وقال هذا النصرانيّ ومدح رجلا يسمى قينا فهجاه ولم يشعر، فقال:
قد كنت أحسبه قينا وأنبؤه ... فالآن طيّر عن أثوابه الشّرر
وقال ابن رمية ودفع أخاه إلى مالك بن ربيعيّ بن سلمى فقتل، فقال:
مددنا وكانت ضلة من حلومنا ... تبدي إلى أولاد ضمرة أقطعا
فمن يرجو خيره وقد فعل بأخيه ما فعل؟ فجعل الوليد يعجب من حفظه لمثالب القوم وقوة قلبه، وقال له: قد كشفت عن مساوىء القوم، فأنشدني من شعرك.
فأنشده، فاستحسن قوله ووصله وأجزل له.(6/215)
ومما عيب على الحسن بن هانىء قوله في بعض بني العباس:
كيف لا يدنيك من أمل ... من رسول الله من نفره
فقالوا: من حق رسول الله صلّى الله عليه وسلم، ان يضاف إليه ولا يضاف هو إلى غيره، ولو اتسع متسع فأجازه لكان له مجاز حسن، وذلك ان يقول القائل من بني هاشم لغيره من أبناء قريش: منا رسول الله صلّى الله عليه وسلم. يريد أنه من القبيلة التي نحن منها، كما قال حسان بن ثابت:
وما زال في الإسلام من آل هاشم ... دعائم عزّ لا ترام ومفخر
بها ليل منهم جعفر، وابن أمّه ... علي، ومنهم أحمد المتخيّر «1»
فقال: منهم، كما قال هذا: من نفره.
ومما أدرك عليه قوله في البعير:
أخنس في مثل الكظام مخطمه «2»
والاخنس: القصير المشافر، وهو عيب له، وإنما توصف المشافر بالسبوطة.
ومما أدرك على أبي ذؤيب قوله في وصف الدّرّة:
فجاء بها ما شئت من لطميّة ... يدور الفرات فوقها وتموج «3»
قالوا: والدّرة لا تكون في الماء الفرات إنما تكون في الماء المالح.
جرير وابن لجأ
اجتمع جرير بن الخطفي وعمر بن لجأ التيمي عند المهاجر بن عبد الله والي اليمامة، فأنشده عمر بن لجأ أرجوزته التي يقول فيها:(6/216)
تصطك ألحيها على دلائها ... تلاطم الأزد على عطائها «1»
حتى انتهى إلى قوله:
تجرّ بالأهون من إدنائها ... جرّ العجوز الثّني من خفائها «2»
فقال جرير: ألا قلت:
جرّ الفتاة طرفي ردائها
فقال. والله ما أردت إلا ضعف العجوز، وقد قلت أنت أعجب من هذا، وهو قولك:
وأوثق عند المردفات عشيّة ... لحاقا إذا ما جرّد السيف لا مع
والله لئن لم يلحقن إلا عشية، ما لحقن حتى نكحن وأحبلن. ووقع الشر بينهما.
ابن أبي ربيعة والاحوص ونصيب وكثير
وقدم عمر بن أبي ربيعة المدينة، فأقبل إليه الاحوص ونصيب، فجعلوا يتحدثون، ثم سألهما عمر عن كثيّر عزة، فقالوا: هو ههنا قريب. قال: فلو أرسلنا اليه! قالا: هو أشد بأوا «3» من ذلك! قال: فاذهبا بنا إليه. فقاموا نحوه، فألفوه جالسا في خيمة له، فوالله ما قام للقرشي ولا وسع له، فجعلوا يتحدثون ساعة، فالتفت إلى عمر بن أبي ربيعة، فقال له: إنك لشاعر، لولا أنك تشبّب بالمرأة ثم تدعها وتشبّب بنفسك! أخبرني عن قولك:
ثمّ اسبطرّت تشتدّ في أثري ... تسأل أهل الطّواف عن عمر «4»
والله لو وصفت بهذا هرة اهلك لكان كثيرا، ألا قلت كما قال هذا، يعني الأحوص:(6/217)
أدور، ولولا أن أرى أمّ جعفر ... بأبياتكم ما درت حيث أدور
وما كنت زوّارا ولكنّ ذا الهوى ... وإن لم يزر لا بدّ أن سيزور
قال: فانكسرت نخوة عمر بن أبي ربيعة ودخلت الاحوص زهوة، ثم التفت إلى الاحوص فقال: أخبرني عن قولك:
فإن تصلي أصلك وإن تبيني ... بهجرك بعد وصلك ما أبالي «1»
أما والله لو كنت حرا لباليت ولو كسر أنفك: ألا قلت كما قال هذا الاسود وأشار إلى نصيب:
بزينب ألمم قبل أن يرحل الركب ... وقل إن تملّينا فما ملّك القلب
قال: فانكسر الاحوص ودخلت نصيبا زهوة، ثم التفت إلى نصيب فقال له:
أخبرني عن قولك:
أهيم بدعد ما حييت فإن أمت ... فواكبدي من ذا يهيم بها بعدي!
أهمّك ويحك من يفعل بها بعدك؟ فقال القوم: الله أكبر! استوت الفرق قوموا بنا من عند هذا.
كثير وسكينة
ودخل كثيّر عزة على سكينة بنت الحسين، فقالت له: يابن أبي جمعة، أخبرني عن قولك في عزة:
وما روضة بالحزن طيّبة الثرى ... يمجّ النّدى جثجاثها وعرارها «2»
بأطيب من أردان عزّة موهنا ... وقد أوقدت بالمندل الرطب نارها «3»
ويحك! وهل على الارض زنجية منتنة الإبطين، توقد بالمندل الرطب نارها إلا(6/218)
طاب ريحها؟ ألا قلت كما قال عمك امرؤ القيس:
ألم ترياني كلما جئت طارقا ... وجدت بها طيبا وإن لم تطيّب
عبد الملك وكثير
سمر عبد الملك بن مروان ذات ليلة وعنده كثيّر عزة، فقال له: أنشدني بعض ما قلت في عزة. فأنشده إلى هذا البيت:
هممت وهمّت، ثم هابت وهبتها ... حياء، ومثلي بالحياء حقيق
فقال له عبد الملك: أما والله لولا بيت أنشدتنيه قبل هذا لحرمتك جائزتك! قال: ولم يا أمير المؤمنين؟ قال: لأنك شركتها معك في الهيبة، ثم استأثرت بالحياء دونها. قال: فأي بيت عفوت عني به يا امير المؤمنين؟ قال قولك:
دعوني لا أريد بها سواها ... دعوني هائما فيمن يهيم
ومما أدرك على الحسن بن هانىء قوله في وصف الاسد حيث يقول:
كأنما عينه إذا التفتت ... بارزة الجفن عين مخنوق
وإنما يوصف الاسد بغؤور العينين، كما قال العجاج:
كأن عينيه من الغئور ... قلتان حوجلتا قارور «1»
وقال أبو زبيد:
كأن عينيه نقباوان في حجر
ومن قولنا في وصف الاسد ما هو أشبه به من هذا:
ولربّ خافقة الذوائب قد غدت ... معقودة بلوائه المنصور
يرمي بها الآفاق كلّ شر نبث ... كفاه غير مقلم الأظفور «2»
ليث تطير له القلوب مخافة ... من بين همهمة له وزئير(6/219)
وكأنما يومي إليك بطرفه ... عن جمرتين بجملد منقور «1»
باب من أخبار الشعراء
حدث دعبل الشاعر أنه اجتمع هو ومسلم وأبو الشيص وأبو نواس في مجلس، فقال لهم أبو نواس: إن مجلسنا هذا قد شهر باجتماعنا فيه، ولهذا اليوم ما بعده فليأت كلّ واحد منكم بأحسن ما قال فلينشده. فأنشده أبو الشيص فقال:
وقف الهوى بي حيث أنت فليس لي ... متأخّر عنه ولا متقدّم
أجد الملامة في هواك لذيذة ... حبّا لذكرك فليلمني اللّوم
وأهنتني فأهنت نفسي صاغرا ... ما من يهون عليك ممن أكرم
أشبهت أعدائي فصرت أحبّهم ... إذ كان حظّي منك حظّي منهم
قال: فجعل أبو نواس يعجب من حسن الشعر حتى ما كاد ينقضي عجبه، ثم أنشده مسلم أبياتا من شعره الذي يقول فيه:
فأقسم أنسى الدّاعيات إلى الصّبا ... يمينا وقد فاجأت والسّتر واقع
فغطّت بأيديها ثمار نحورها ... كأيدي الأسارى أثقلتها الجوامع «2»
قال دعبل: فقال لي أبو نواس: هات أبا علي، وكأني بك قد جئتنا بأم القلادة.
فقلت: يا سيدي، ومن يباهيك بها غيري فأنشدته:
أين الشّباب وأيّة سلكا ... أم أين يطلب ضلّ أم هلكا
لا تعجبي يا سلم من رجل ... ضحك المشيب برأسه فبكى
يا ليت شعري كيف صبركما ... يا صاحبيّ إذا دمي سفكا
لا تطلبا بظلامتي أحدا ... قلبي وطرفي في دمي اشتركا
ثم سألناه أن ينشد، فأنشد أبو نواس:(6/220)
لا تبك هندا ولا تطرب إلى دعد ... واشرب على الورد من حمراء كالورد
كأسا إذا انحدرت في حلق شاربها ... وجدت حمرتها في العين والخدّ
فالخمر ياقوتة والكأس لؤلؤة ... في كفّ جارية ممشوقة القدّ
تسقيك من عينها خمرا ومن يدها ... خمرا، فمالك من سكرين من بدّ
لي نشوتان وللّندمان واحدة ... شيء خصصت به من بينهم وحدي
فقاموا كلهم فسجدوا له؛ فقال: افعلتموها أعجميّة؟ لا كلمتكم ثلاثا ولا ثلاثا ولا ثلاثا! ثم قال: تسعة أيام في هجر الاخوان كثير، وفي هجر بعض يوم استصلاح للفساد وعقوبة على الهفوة. ثم التفت فقال: أعلمتم أن حكيما عتب على حكيم، فكتب المعتوب عليه إلى العاتب: يا أخي، إن أيام العمر أقلّ من أن تحتمل الهجر.
المعتز والزبير
محمد بن الحسن المديني قال: أخبرني الزبير بن أبي بكر قال: دخلت على المعتز بالله أمير المؤمنين، فسلمت عليه، فقال: يا أبا عبد الله إني قد قلت في ليلتي هذه أبياتا، وقد أعيا عليّ اجازة بعضها. قلت: أنشدني. فأنشدني- وكان محموما- يقول:
إني عرفت علاج القلب من وجع ... وما عرفت علاج الحبّ والخدع
جزعت للحبّ، والحمى صبرت لها ... إني لأعجب من صبري ومن جزعي
من كان يشغله عن حبّه وجع ... فليس يشغلني عن حبّكم وجعي
قال أبو عبد الله: فقلت:
وما أملّ حبيبي ليلة أبدا ... مع الحبيب، ويا ليت الحبيب معي
فأمر لي على البيت بألف دينار.
أبو نواس ومسلم وأبو العتاهية
اجتمع الحسن بن هانىء، وصريع الغواني، وأبو العتاهية، في مجلس بالكوفة فقيل لابي العتاهية: أنشدنا. فأنشد:(6/221)
أسيّدتي هاتي- فديتك- ما جرمي ... فأنزل فيما تشتهين من الحكم
كفاك بحقّ الله ما قد ظلمتني ... فهذا مقام المستجير من الظلم
وقيل لصريغ الغواني: أنشدنا فأنشأ يقول:
قد اطّلعت على سرّي وإعلاني ... فاذهب لشأنك ليس الجهل من شاني
إنّ التي كنت أرجو قصد سيرتها ... أعطت رضا وأطاعت بعد عصيان
ثم قيل للحسن بن هانىء: أنشدنا. فأنشد:
يا ابنة الشيخ اصبحينا ... ما الذي تنتظرينا
قد جرى في عوده الما ... ء فأجري الخمر فينا
قيل: هذا الهزل. فهات الجد. فأنشأ:
لمن طلل عاري المحلّ دفين ... عفا عهده إلا روائم جون «1»
كما افترقت عند المبيت حمائم ... غريبات ممسى ما لهنّ وكون»
ديار التي أمّا جنى رشفاتها ... فخلو وأما مسّها فيلين
وما أنصفت، أمّا الشّحوب فظاهر ... بوجهي، وأما وجهها فمصون
فقام صريغ الغواني يجر ذيله، وخرج وهو يقول: إن هذا مجلس ما جلسته أبدا.
الرشيد والمأمون في الصلاة على موتي
هشام بن عبد الملك الخزاعي قال: كنا بالرّقة مع هارون الرشيد، فكتب إليه صاحب الخبر بموت الكسائي، وإبراهيم الموصلي، والعباس بن الاحنف، في وقت واحد؛ فقال لابنه المأمون: اخرج فصلّ عليهم. فخرج المأمون في وجوه قواده وأهل خاصته، وقد صفّوا له. فقالوا له: من ترى أن يقدم؟ قال: الذي يقول:
يا بعيد الدّار عن وطنه ... هائما يبكي على شجنه «3»(6/222)
كلّما جدّ البكاء به ... زادت الاسقام في بدنه
قيل له: هذا. وأشار إلى العباس بن الاحنف؛ فقال قدّموه! فقدّم عليهم.
ابو عمرو وجرير
أبو عمرو بن العلاء قال: نزل جرير وهو مقبل من عند هشام بن عبد الملك فبات عندي إلى الصبح؛ فلما أصبح شخص وخرجت معه أشيّعه، فلما خرجنا من أطناب البيوت التفت إليّ فقال: أنشدني من قول مجنون بني الملوّح، فأنشدته:
وأدنيتني حتى إذا ما سبيتني ... بقول يحلّ العصم سهل الأباطح
... تجافيت عني حين لا لي حيلة ... وغادرت ما غادرت بين الجوانح «1»
فقال: والله لولا أنه لا يحسن بشيخ مثلي الصراخ، لصرخت صرخة سمعها هشام على سريره.
وهذا من أرق الشعر كله وألطفه، لولا التضمين الذي فيه، والتضمين: أن يكون البيت معلّقا بالبيت الثاني، لا يتم معناه إلا به، وإنما يحمد البيت إذا كان قائما بنفسه.
ابن الاحنف وابن الملوح
وقال العباس بن الاحنف نظير قول المجنون بلا تضمين، وهو قوله:
أشكو الذين أذاقوني مودّتهم ... حتى إذا أيقظوني بالهوى رقدوا
الرشيد والاصمعي
وقال الاصمعي: دخلت على هارون الرشيد، فوجدته منغمسا في الفرش، فقال:
ما أبطأ بك يا أصمعي؟ قلت: احتجمت يا أمير المؤمنين. قال: فما اكلت عليها؟
قلت: سكباجة وطباهجة «2» ، قال: رميتها بحجرها! أتشرب؟ فقلت. نعم؛ وقلت.(6/223)
اسقني حتى تراني مائلا ... وترى عمران ديني قد خرب
قال: يا مسرور، أيّ شيء معك؟ قال: ألف درهم. قال: ادفعها للاصمعي.
ابن داود ويهودي
كان يصحب علي بن داود الهاشمي يهودي ظريف مؤنس أديب شاعر أريب «1» ، فلما أراد الحج أراد ان يستصحبه فكتب إليه اليهودي يقول:
إني أعوذ بداود وحفرته ... من أن أحجّ بكره يابن داود
نبئت أنّ طريق الحجّ مصردة ... عن النّبيذ وما عيشي بتصريد «2»
والله ما فيّ من اجر فتطلبه ... فيما علمت ولا ديني بمحمود
أما أبوك فذاك الجود يعرفه ... وأنت أشبه خلق الله بالجود
كأنّ ديباجتي خدّيه من ذهب ... إذا تعصب في أثوابه السّود
السويقي في ضر ناله
حدث أبو اسحاق يحيى بن محمد الحواري، قال: سمعت شيخا من اهل البصرة يقول: قال ابراهيم السويقي مولي المهالبة: تتابعت عليّ سنون ضيّقة، وألحّ عليّ العسر وكثرة العيال وقلّة ذات اليد؛ وكنت مشتهرا بالشعر أقصد به الإخوان وأهل الاقدار وغيرهم، حتى جفاني كلّ صديق، وملّني من كنت أقصده؛ فأضرّ بي ذلك جدا؛ فبينما أنا ذات يوم جالس مع امرأتي في يوم شديد البرد، إذ قالت: يا هذا، قد طال علينا الفقر، وأضر بنا الجهد؛ وقد بقيت في بيتي كأنك زمن «3» ، هذا مع كثرة الولد؛ فأخرج عني واكفني نفسك، ودعني مع هؤلاء الصبيان أقوم بهم مرة وأقعد بهم أخرى. وألحّت عليّ في الخصومة، وقالت لي: يا مشئوم، تعلمت صناعة لا تجدي(6/224)
عليك شيئا! فضجرت منها ومن قولها، وخرجت على وجهي في ذلك البرد والريح، وليس عليّ إلا فرو خلق «1» ، ليس فوقه دثار، ولا تحته شعار، إلا ازار على عنقي؛ ثم جاءت ريح شديدة، فذهبت به عن يدي، وتفرّقت أجزاؤه عني من بلاه وكثرة رقاعه، وعلى عنقي طيلسان «2» ليس عليّ منه إلا رسمه.
فخرجت والله متحيرا لا ادري أين أقصد ولا حيث أذهب؛ فبينما أنا أجيل الفكرة، إذ أخذتني سماء بفطر متدارك، فدفعت على دار على بابها روشن «3» مطلّ ودكان نظيف وليس عليه أحد؛ فقلت: أستتر بالروشن إلى أن يسكن المطر.
فقصدت قصد الدار، فإذا بجارية قاعدة، قد لزمت باب الدار كالحافظة عليه؛ فقالت لي: إليك يا شيخ عن بابنا. فقلت: أنا- ويحك- لست بسائل، ولا أنا ممن تتخوّف ناحيته! فجلست على الدكان، فلما سكنت نفسي سمعت نغمة رخيمة من وراء الباب، تدلّ على نغمة امرأة: فأصغيت، فإذا بكلام يدل على عتاب؛ ثم سمعت نغمة اخرى مثل تلك، وهي تقول فعلت وفعلت! والاخرى تقول: بل انت فعلت وفعلت! إلى أن قالت إحداهما: أنا- جعلت فداك- إن كنت أسأت فاغفري؛ واحفظي فيّ بيتين لمولانا ابراهيم السويقي! فقالت الاخرى: وما قال؟ فانه يبلغني عنه اشعار ظريفة. فأنشدتها تقول:
هبيني يا معذّبتي أسأت ... وبالهجران قبلكم بدأت
فأين الفضل منك فدتك نفسي ... عليّ إذا أسأت كما أسأت
فقالت: ظرف والله وأحسن! فلما سمعت ذكري وذكر «مولانا» علمت أنهما من بعض نساء المهالبة؛ فلم أتمالك أن دفعت الباب وهجمت عليهما، فصاحتا: وراءك يا شيخ عنّا حتى نستتر! وتوهّمتا أنني من أهل الدار؛ فقلت لهما. جعلت فداكما، لا تحتشما مني؛ فإني أنا ابراهيم السويقي؛ فبالله، وبحق حرمتي منكنّ، إلّا شفّعتني فيها،(6/225)
ووهبت لي ذنبها، واسمعي مني فأنا الذي أقول:
خذي بيدي من الحزن الطويل ... فقد يعفو الخليل عن الخليل
أسأت فأجملي تفديك نفسي ... فما يأتي الجميل سوى الجميل
فقالت: قد فعلت وصفحت عن زلّتها «1» ؛ ثم قالت: يا أبا إسحاق، مالي أراك بهذه الهيئة الرثة والبزّة الخلقة! فقلت: يا مولاتي، تعدّى عليّ الدهر، ولم ينصفني الزمان، وجفاني الاخوان، وكسدت بضاعتي. فقالت: عزّ عليّ ذلك وأومأت «2» إلى الأخرى؛ فضربت بيدها على كمها، فسلّت دملجا «3» من ساعدها، ثم ثنت باليد الاخرى، فسلت منها دملجا آخر؛ فقالت: يا أبا اسحاق، خذ هذا واقعد على الباب مكانك وانتظر الجارية حتى تأتيك. ثم قالت: يا جارية، سكن المطر؟ قالت: نعم. فقامتا، وخرجت وقعدت مكاني؛ فما شعرت إلا والجارية قد وافت بمنديل فيه خمسة أثواب وصرّة فيها ألف درهم؛ وقالت: تقول لك مولاتي:
أنفق هذه، فإذا احتجت فصر إلينا حتى نزيدك إن شاء الله! فأخذت ذلك وقمت وقلت في نفسي: إن ذهبت بالدملجين إلى امرأتي، قالت: هذا لبناتي، وكابرتني عليهما؛ فدخلت السوق فبعتهما بخمسين دينارا وأقبلت؛ فلما فتحت الباب صاحت امرأتي وقالت: قد جئت أيضا بشؤمك! فطرحت الدنانير والدراهم بين يديها والثياب؛ فقالت: من أين هذا؟ قلت: من الذي تشاءمت به وزعمت أنه بضاعتي التي لا تجدي! فقالت: قد كانت عندي في غاية الشؤم، وهي اليوم في غاية البركة!
نوادر من الشعر
المأمون وابن الجهم
قال المأمون لمحمد بن الجهم: أنشدني بيتا أوله ذم وآخره مدح؛ أولّك به كورة.
فأنشده:(6/226)
قبحت مناظرهم فحين خبرتهم ... حسنت منا مناظرهم لحسن المخبر
فقال له: زدني. فأنشده:
أرادوا ليخفوا قبره عن عدوّه ... فطيب تراب القبر دلّ على القبر
فولّاه الدّينور.
الرشيد والضبي
وقال هارون الرشيد للمفضل الضبي: أنشدنا بيتا أوله أعرابي في شملته هبّ من نومته، وآخره مدني رقيق، غذي بماء العقيق. قال: المفضل: هوّلت عليّ يا أمير المؤمنين، فليت شعري بأي مهر نفتضّ عروس هذا الخدر؟ ... قال هارون: هو بيت جميل حيث يقول:
ألا أيها النّوّام ويحكم هبوا ... أسائلكم: هل يقتل الرجل الحبّ
فقال له المفضل: فأخبرني يا أمير المؤمنين عن بيت أوله أكثم بن صيفي في إصابة الرأي، وآخره بقراط الطبيب في معرفته بالداء والدواء. قال له هارون: ما هو؟
قال: هو بيت الحسن بن هانىء حيث يقول:
دع عنك لومي فإنّ اللّوم إغرأ ... وداوني بالتي كانت هي الداء
قال: صدقت.
المنصور في الرضمة
قال الربيع: خرجنا مع المنصور منصرفنا من الحج، فنزلنا الرّضمة «1» ، ثم راح المنصور ورحنا معه في يوم شديد الحرّ، وقد قابلته الشمس، وعليه جبة وشي؛ فالتفت إلينا وقال: إني أقول بيتا من شعر، فمن أجازه منكم فله جبتي هذه! قلنا:
يقول أمير المؤمنين. فقال:(6/227)
وهاجرة نصبت لها جبيني ... يقطّع حرّها ظهر العظايه «1»
فبدر بشار الاعمى فقال:
وقفت بها القلوص ففاض دمعي ... على خدّي وأقصر واعظايه «2»
فخرج له من الجبة، فلقيته بعد ذلك فقلت له: ما فعلت بالجبة؟ قال: بعتها بأربعة آلاف درهم!
عائشة بنت المهدي والشعراء
خرج رسول عائشة بنت المهدي- وكانت شاعرة- إلى الشعراء وفيهم صريع الغواني، فقال: تقرئكم سيدتي السلام وتقول لكم: من أجاز هذا البيت فله مائة دينار. فقالوا: هاته. فأنشدهم:
أنيلي نوالا وجودي لنا ... فقد بلغت نفسي التّرقوه «3»
فقال صريع:
وإني كالدّلو في حبّكم ... هويت إذ انقطعت عرقوه «4»
فأخذ المائة الدينار.
الحسن البصري والفرزدق
وكان الفرزدق يجلس الى الحسن البصري، وجرير يجلس إلى ابن سيري؛ لتباعد ما بين الرجلين- وكان موتهما في عام واحد، وذلك سنة عشر ومائة- فبينما الفرزدق جالس عند الحسن، إذ جاءه رجل فقال: يا أبا سعيد، إنا نكون في هذه البعوث(6/228)
والسرايا، فنصيب المرأة من العدوّ وهي ذات زوج، أفتحل لنا من غير أن يطلقها زوجها؟
قال الفرزدق: قد قلت أنا مثل هذا في شعري. قال الحسن: وما قلت؟ قال:
قلت:
وذات حليل أنكحتها رماحنا ... حلال لمن يبني بها لم تطلّق
قال الحسن: صدقت.
ثم أقبل إليه رجل آخر، فقال: يا ابا سعيد، ما تقول في الرجل يشك في الشخص يبدو له فيقول: والله هذا فلان! ثم لا يكون هو: ما ترى في يمينه؟ فقال الفرزدق:
وقد قلت أنا مثل هذا. قال الحسن: وما قلت؟ قال: قلت:
ولست بمأخوذ بقول تقوله ... إذا لم تعنه عاقدات العزائم
قال الحسن: صدقت.
عباد ورؤبة بين زوجين استعدت امرأة على زوجها عباد بن منصور، وزعمت أنه لا ينفق عليها، فقال لرؤبة: احكم بينهما. فقالت
فطلّق إذا ما كنت لست بمنفق ... فما الناس إلا منفق أو مطلّق
بشار بين شاعرين
كان رجل يدّعي الشعر، ويستبرده قومه؛ فقال لهم: إنما تستبردوني من طريق الحسد. قالوا: فبيننا وبينك بشار العقيلي، فارتفعوا إليه، فقال له: أنشدني. فأنشده؛ فلما فرغ قال له بشار: إني لأظنّك من أهل بيت النبوّة! قال له: وما ذلك؟ قال: إنّ الله تعالى يقول وَما عَلَّمْناهُ الشِّعْرَ وَما يَنْبَغِي لَهُ
«1» فضحك القوم وخرجوا عنه.
وقال أبو دلف(6/229)
أتى أبو دلف المبدي بقافية ... جوابها يهلك الداعي من الغيظ
من زاد فيها له رحلي وراحلتي ... وخاتمي، والمدى فيها إلى القيظ
فأجابه ابن عبد ربه:
قد زدت فيها وإن أضحى أبو دلف ... والنفس قد أشرفت منه على الغيظ!
لبعض الشعراء في حضرة سليمان
سمر الفرزدق والأخطل وجرير عند سليمان بن عبد الملك ليلة، فبينما هم حوله إذ خفق «1» فقالوا: نعس أمير المؤمنين! وهموا بالقيام؛ فقال لهم سليمان: لا تقوموا حتى تقولوا في هذا شعرا. فقال الأخطل:
رماه الكرى في رأسه فكأنه ... صريع تروّى بين أصحابه خمرا
فقال له: ويحك! سكران جعلتني! ثم قال جرير بن الخطفي:
رماه الكرى في رأسه فكأنما ... يرى في سواد الليل قنبرة حمرا «2»
فقال له: ويحك! أجعلتني أعمى! ثم قال الفرزدق بعد هذا:
رماه الكرى في رأسه فكأنما ... أميم جلاميد تركن به وقرا «3»
قال له ويحك! جعلتني مشجوجا، ثم أذن لهم فانقلبوا فحباهم وأعطاهم.
في شعر ابن ابي ربيعة
كان عمر بن ابي ربيعة القرشي غزلا مشبّبا بالنساء الحواجّ، رقيق الغزل؛ وكان الاصمعي يقول في شعره: الفستق المقشر الذي لا يشبع منه! وكان جرير يستبرده ويقول: شعر حجازي، لو اتخذ في تموز لوجد البرد فيه فلما أنشد له:(6/230)
فلما تلاقينا عرفت الذي بها ... كمثل الذي حذوك النّعل بالنّعل
قال: ما زال يهذي حتى قال الشعر! وقالت العلماء: ما عصي الله بشعر ما عصي بشعر عمر بن ابي ربيعة! وولد عمر بن أبي ربيعة يوم مات عمر بن الخطاب، فسمّي باسمه؛ فقالت العلماء:
أي خير رفع، وأيّ شرّ وضع! ثم إنه تاب في اخر ايامه وتنسك، ونذر لله أن يعتق لله رقبة لكل بيت يقوله؛ وانه حج، فبينما هو يطوف بالبيت اذ نظر إلى فتى من نمير يلاحظ جارية في الطّواف؛ فلما رأى ذلك منه مرار، أتاه، فقال له يا فتى، أما رأيت تصنع؟ فقال له الفتى: يا أبا الخطاب لا تعجل عليّ؛ فإن هذه ابنة عمي، وقد سمّيت لي، ولست أقدر على صداقها، ولا اظفر منها بأكثر مما ترى؛ وانا فلان بن فلان، وهذه فلانة ابنة فلان. فعرفهما عمر، فقال له: اقعد يا ابن أخي عند هذه السارية «1» حتى يأتيك رسولي. ثم ركب دابته حتى أتى منزل عمّ الفتى، فقرع الباب فخرج اليه الرجل، فقال: ما جاء بك يا ابا الخطاب في مثل هذه الساعة؟ قال: حاجة عرضت قبلك في هذه الساعة. قال: هي مقضية. قال عمر: كائنة ما كانت؟ قال: نعم! قال:
فإني قد زوّجت ابنتك فلانة من ابن اخيك فلان: قال: فإني قد أجزت ذلك. فنزل عمر عن دابته، ثم أرسل غلاما إلى داره فأتاه بألف درهم فساقها عن الفتى، ثم أرسل إلى الفتى فأتاه، فقال لابي الجارية: أقسمت عليك إلا ما ابتنى بها هذه الليلة! قال له:
نعم فلما أدخلت على الفتى انصرف عمر الى داره مسرورا بما صنع، فرمى بنفسه على فراشه وجعل يتململ «2» ، ووليدة له عند رأسه، فقالت: يا سيدي، أرقت هذه الليلة أرقا لا أدري ما دهمك؟ فأنشأ يقول:
تقول وليدتي لمّا رأتني ... طربت وكنت قد أقصرت حينا(6/231)
أراك اليوم قد أحدثت شوقا ... وهاج لك الهوى داء دفينا
وكنت زعمت أنك ذا عزاء ... إذا ما شئت فارقت القرينا
بعيشك هل رأيت لها رسولا ... فشاقك أم لقيت لها خدينا؟ «1»
فقلت: شكا إليّ أخ محبّ ... كبعض زماننا إذ تعلمينا
فقصّ عليّ ما يلقى بهند ... يذكّر بعض ما كنّا نسينا
وذو القلب المصاب وإن تعزّى ... مشوق حين يلقى العاشقينا
ثم ذكر يمينه، فاستغفر الله، وأعتق رقبة لكل بيت.
الأخطل والأعور بن بنان
دعا الاعور بن بنان التغلبيّ الاخطل الشاعر إلى منزله، فأدخله بيتا قد نجد بالفرش الشريفة والوطاء العجيب، وله امرأة تسمى برّة في غاية الحسن والجمال؛ فقال له: أبا مالك، إنك رجل تدخل على الملوك في مجالسهم؛ فعهل ترى في بيتي عيبا؟
فقال له: ما أرى في بيتك عيبا غيرك! فقال له: إنما اعجب من نفسي إذ كنت أدخل مثلك بيتي! اخرج عليك لعنة الله! فخرج الاخطل وهو يقول:
وكيف يداويني الطّبيب من الجوى ... وبرّة عند الاعور بن بنان
ويلصق بطنا منتن الريح مجرزا ... إلى بطن خود دائم الخفقان «2»
باب من الشعر يخرج معناه في المدح والهجاء
قال الشاعر في خياط أعور يسمى عمرا:
خاط لي عمرو قباء ... ليت عينيه سواء
فاسأل الناس جميعا ... أمديح أم هجاء(6/232)
ومنه قول حبيب في مرثية بني حميد حيث يقول:
لو خرّ سيف من العيّوق منصلتا ... ما كان إلا على هاماتهم يقع «1»
فلو هجوا بهذا رجلا على أنه أنحس خلق الله، لجاز فيه؛ ولو مدح به على مذهب قول الشاعر:
وإنا لتستحلي المنايا نفوسنا ... ونترك أخرى مرّة ما نذوقها
وقول الآخر:
ونحن أناس لا نرى القتل سبّة ... إذا ما رأته عامر وسلول
يقرّب حبّ الموت آجالنا لنا ... وتكرهه آجالهم فتطول
وما مات منّا سيّد في فراشه ... ولا طلّ منّا حيث كان قتيل «2»
تسيل على حدّ السّيوف دماؤنا ... وليس على غير السّيوف تسيل
لجاز ذلك.
ومثله لحبيب:
انظر فحيث ترى السّيوف لوامعا ... أبدا ففوق رؤوسهم تنألق
ما قالوه في تثنية الواحد
قال الفرزدق في تثنية الواحد:
[ألم تعلموا أني ابن صاحب صوأر] ... وعندي حساما سيفه وحمائله «3»
وقال جرير:
لمّا تذكرت بالدّيرين أرّقني ... صوت الدّجاج وقرع بالنواقيس(6/233)
وإنما هو دير الوليد، معروف بالشام؛ وأراد بالدجاج: الديكة.
وقال قيس بن الحطيم في الدرع:
مضاعفة يعيي الأنامل ريعها ... كأنّ قتيريها عيون الجنادب «1»
يريد: قتيرها.
وقال آخر:
وقال لبوّابيه لا تدخلنّه ... وسدّ خصاص الباب عن كلّ منظر «2»
وقال أهل التفسير في قول الله عز وجل: أَلْقِيا فِي جَهَنَّمَ كُلَّ كَفَّارٍ عَنِيدٍ
«3» أنه أراد واحدا فثنّاه:
وكذلك قول معاوية للجلواز الذي كان وكله بروح بن زنباع لما اعتذر إليه روح واستعطفه: خلّيا عنه.
قولهم في جمع الاثنين والواحد
قال الله تبارك وتعالى: فَإِنْ كانَ لَهُ إِخْوَةٌ فَلِأُمِّهِ السُّدُسُ
»
. يريد: أخوين فصاعدا.
وقوله: إِنَّ الَّذِينَ يُنادُونَكَ مِنْ وَراءِ الْحُجُراتِ أَكْثَرُهُمْ لا يَعْقِلُونَ
«5» ، وإنما ناداه رجل من بني تميم.
وقوله: وَأَلْقَى الْأَلْواحَ
«6» ، وإنما هي لوحان.(6/234)
وقال الشاعر:
لولا الرّجاء لأمر ليس يعلمه ... خلق سواك لما ذلّت لكم عنقي
ومثل هذا كثير في الشعر القديم والمحدث.
وقولهم في إفراد الجمع والاثنين
وأما قولهم في إفراد الجمع فهو أقل من هذا الذي ذكرناه. وكذلك في إفراد الاثنين؛ فمن ذلك قول الله تعالى: ثُمَّ يُخْرِجُكُمْ طِفْلًا
«1» .
وقوله: أْتِيا فِرْعَوْنَ فَقُولا إِنَّا رَسُولُ رَبِّ الْعالَمِينَ
«2» .
وقوله: فَما مِنْكُمْ مِنْ أَحَدٍ عَنْهُ حاجِزِينَ
«3» .
وقال جرير:
هذي الأرامل قد قضّيت حاجتها ... فمن لحاجة هذا الأرمل الذّكر!
وقال آخر:
وكأنّ بالعينين حبّ قرنفل ... أو فلفل كحلت به فانهلّت
ولم يقل: فانهلتا.
وقال مسلم بن الوليد:
ألا أنف الكواعب عن وصالي ... غداة بدا لها شيب القذال «4»
وقال جرير:
وقلنا للنّساء به أقيمي(6/235)
قولهم في تذكير المؤنث وتأنيث المذكر
قال مالك بن أسماء بن خارجة الفزاري في شعره الذي أوله:
حبّذا ليلنا بتلّ بونا «1» ... ومررنا بنسوة عطرات
وسماع وقرقف فنزلنا «2» ... ما لهم لا يبارك الله فيهم
حين يسألن منحنا ما فعلنا
وقال آخر، وقد استشهد به سيبويه في كتابه:
فلا ديمة ودقت ودقها ... ولا أرض أبقل إبقالها «3»
فذّكر الأرض.
وقال نصيب:
إنّ السّماحة والمروءة ضمّنا ... قبرا بمرو على الطريق الواضح
وقالت أعرابية:
قامت تبكّيه على قبره ... من لي من بعدك يا عامر «4»
تركتني في الدار وحشية ... قد ذلّ من ليس له ناصر
وقال أبو نواس:
كمن الشّنان فيه لنا ... ككمون النار في حجره «5»
وإنما ذكرت هذا الباب في كتاب الشعر، لاحتياج الشاعر إليه في شعره واتساعه فيه.(6/236)
باب ما غلط فيه على الشعراء
وأكثر ما أدرك على الشعراء له مجاز وتوجيه حسن، ولكن أصحاب اللغة لا ينصفونهم، وربما غلطوا عليهم وتأوّلوا غير معانيهم التي ذهبوا إليها؛ فمن ذلك قول سيبويه واستشهد ببيت في كتابه في إعراب الشيء على المعنى لا على اللفظ وأخطأ فيه:
معاوي إنّنا بشر فأسجح ... فلسنا بالجبال ولا الحديدا «1»
كذا رواه سيبويه على النصب، وزعم أن إعرابه على معنى الخبر الذي في «ليس» ، وإنما قاله الشاعر على الخفض، والشعر كله مخفوض، فما كان يضطره أن ينصب هذا البيت ويحتال على إعرابه بهذه الحيلة الضعيفة، وإنما الشعر:
معاوي إنّنا بشر فأسجح ... فلسنا بالجبال ولا الحديد
أكلتم أرضنا فجردتموها ... فهل من قائم أو من حصيد
أتطمع في الخلود إذا هلكنا ... وليس لنا ولا لك من خلود
فهبنا أمّة هلكت ضياعا ... يزيد أميرها وأبو يزيد
ونظير هذا البيت ما ذكره في كتابه أيضا واحتج به في باب النون الخفيفة:
ثبتّم ثبات الخيزرانيّ في الثّرى ... حديثا متى ما يأتك الخير ينفعا «2»
وهذا البيت للنجاشي، وقد ذكره عمرو بن بحر الجاحظ في فخر قحطان على عدنان في شعر كله مخفوض وهو:
أيا راكبا إمّا عرضت فبلّغن ... بني عامر عنّي يزيد بن صعصع
ثبتّم ثبات الخيزراني في الثّرى ... حديثا متى ما يأتك الخير ينفع(6/237)
ومثله قول محمد بن يزيد النحوي المعروف بالمبرّد في كتاب الروضة وأدرك على الحسن بن هانيء قوله:
وما لبكر بن وائل عصم ... إلا لحمقائها وكاذبها «1»
فزعم أنه أراد بحمقائها هبنّقة القيس، ولا يقال في الرجل حمقاء، وإنما أراد دغة العجلية، وعجل في بكر، وبها يضرب المثل في الحمق.
باب من مقاطع الشعر ومخارجه
اعلم بأنك متى ما نظرت بعين الإنصاف، وقطعت بحجة العقل، علمت أن لكل ذي فضل فضله، ولا ينفع المتقدم تقدّمه، ولا يضرّ المتأخر تأخّره؛ فأما من أساء النظم ولم يحسن التأليف فكثير، كقول القائل:
شرّ يوميها وأغواه لها ... ركبت هند بحدج جملا «2»
شرّ يوميها، نصب على الحال، وإنما معناه: ركبت هند جملا بحدج في شرّ يوميها.
وكقول الفرزدق:
وما مثله في الناس إلا مملّكا ... أبو أمّه حيّ أبوه يقاربه
معناه: ما مثل هذا الممدوح في الناس إلا الخليفة الذي هو خاله، فقال:
أبو أمّه حيّ أبوه يقاربه
فبّعد المعنى القريب، ووعّر الطريق السهل، ولبّس المعنى بتوعّر اللفظ وقبح البنية حتى ما يكاد يفهم.(6/238)
ومثل هذا إلا أنه أقرب منه إلى الفهم قول القائد:
بينما ظلّ ظليل ناعم ... طلعت شمس عليه فاضمحل
يريد: حتى طلعت شمس عليه:
ومثله قول الآخر:
إنّ الكريم وأبيك يعتمل ... إن لم يجد يوما على من يتّكل «1»
يريد: من يتكل عليه.
ولله در الأعشى حيث قال:
لم تمش ميلا ولم تركب على جمل ... ولم تر الشمس إلا دونها الكلل
وأبين منه قول النابغة:
ليست من السّود أعقابا إذا انصرفت ... ولا تبيع بأعلى مكّة البرما «2»
وقد حذا على مثال قول النابغة بعض المبرّزين من أهل العصر، فقال.
ليست من الرّمص أشفارا إذا نظرت ... ولا تبيع بفوق الصّخرة الرّغفا «3»
فقيل له: ما معناك في هذا؟ قال: هو مثل قول النابغة. وأنشد البيت وقال: ما الفرق بين أن تبيع البرم أو تبيع الرغف، وبين أن تكون رمصاء العينين أو سوداء العقبين.
وانظر إلى سهولة معنى الحسن بن هانيء وعذوبة ألفاظه في قوله:
حذر امريء ضربت يداه على العدا ... كالدّهر فيه شراسة وليان «4»
وإلى خشونة ألفاظ حبيب الطائي في هذا المعنى حيث يقول:(6/239)
شرست بل لنت بل قابلت ذاك بذا ... فأنت لا شك فيه السهل والجبل
وقد يأتي من الشعر ما لا فائدة له ولا معنى، كقول القائل:
الليل ليل، والنهار نهار ... والأرض فيها الماء والأشجار!
وقال الأعشى:
إن محلّا وإن مرتحلا ... وإن في السّفّر إذ مضى مثلا «1»
وقال إبراهيم الشيباني الكاتب: قد تكون الكلمة إذا كانت مفردة حوشية بشعة، حتى إذا وضعت في موضعها وقرنت مع إخوتها حسنت؛ كقول الحسن بن هانيء:
ذو حصر أفلت من كرّ القبل
والكرّ كلمة خسيسة، ولا سيما في الرقيق والغزل والنسيب، غير أنها لما وضعت في موضعها حسنت.
وكذلك الكلمة الرقيقة العذبة ربما قبحت ونفرت إذا لم توضع في موضعها، مثل قول الشاعر:
رأت رائحا جونا فقامت غريرة ... بمسحاتها جنح الظّلام تبادره «2»
فأوقع الجافي الجلف هذه اللفظة غير موقعها، وبخسها حقّها حين جعلها في غير مكانها حقا؛ لأن المساحي لا تصلح الغرائر.
واعلم أنه لا يصلح لك شيء من المنثور والمنظوم، إلا أن تجري منه على عرق وأن تتمسك منه بسبب، فأما إن كان غير مناسب لطبيعتك، وغير ملائم لقريحتك، فلا تنض «3» مطيّتك في التماسه، ولا تتعب نفسك إلى انبعاثه، باستعارتك ألفاظ الناس وكلامهم، فإن ذلك غير مثمر لك ولا مجد عليك، ما لم تكن الصناعة ممازجة لذهنك، وملتحمة بطبعك.(6/240)
واعلم أن من كان مرجعه اغتصاب نظم من تقدمه، واستضاءته بكوكب من سبقه، وسحب ذيل حلة غيره، ولم تكن معه أداة تولّد له من بنات ذهنه، ونتائج فكره، الكلام الجزل والمعنى الحفل، لم يكن من الصناعة في عير ولا نفير «1» ، ولا ورد ولا صدر؛ على أن سماع كلام الفصحاء المطبوعين، ودرس رسائل المتقدمين، هو على كل حال مما يفتق اللسان، ويقوي البيان، ويحد الذّهن، ويشحذ الطبع، إن كانت فيه بقية وهناك خبيّة.
واعلم أن العلماء شبهت المعاني بالأرواح والألفاظ بالأجساد واللباب، فإذا كتب الكاتب البليغ المعنى الجزل، وكساه لفظا حسنا، وأعاره مخرجا سهلا، ومنحه دلا مونقا- كان في القلب أحلى، وللصدر أملى؛ ولكنه بقي عليه أن يؤلفه مع شقائقه وقرائنه، ويجمع بينه وبين أشباهه ونظائره، وينظمه في سلكه، كالجوهر المنثور:
الذي إذا تولى نظمه الناظم الحاذق، وتعاطى تأليفه الجوهريّ العالم، ظهر له بأحكام الصنعة ولطيف الحكمة حسنا هو فيه، وكساه ومنحه بهجة هي له، وكذلك كلما احلولى الكلام وعذب وراق وسهلت مخارجه، كان أسهل ولوجا في الأسماع، وأشدّ اتصالا بالقلوب، وأخف على الأفواه؛ لا سيما إذا كان المعنى البديع مترجما بلفظ مونق شريف، لم يسمه التكلف بميسمه، ولم يفسده التعقيد باستهلاكه، كقول ابن أبي كريمة:
قفاه وجه، والذي وجهه ... مثل قفاه يشبه الشّمسا
فهجّن المعنى بتعقد مخارج الألفاظ؛ وأخذه الحسن بن هانيء فأوضحه وسهله قال:
بأبي أنت من غزال غرير ... بزّ حسن الوجوه حسن قفاكا «2»(6/241)
وكلاهما أخذه من حسان بن ثابت حيث يقول:
قفاؤك أحسن من وجهه ... وأمّك خير من المنذر «1»
وقد يأتي من الشعر في طريق المدح ما الذمّ أولى به من المدح، ولكنه يحل ما قبله وما بعده، ومثله قول حبيب:
لو خرّ سيف من العيوق منصلتا ... ما كان إلا على هاماتهم يقع
هذا لا يجوز ظاهره في شيء من المدح، وإنما يجوز في الذم والنحس؛ لو وصفت رجلا بأنه أنحس الخلق، لم تصفه بأكثر من هذا، وليس للشجاعة فيه وجه؛ لأن قولهم «لو خر سيف من السماء لم يقع إلا على رأسه» .
أن تقول: هذا رأس كلّ نحس.
قولهم في رقة التشبيب
ومن الشعر المطبوع الذي يجري مع النفس رقة ويؤدي عن الضمير إبانة، مثل قول العباس بن الأحنف:
وليلة ما مثلها ليلة ... صاحبها بالسّعد مفجوع
ليلة جئناها على موعد ... نسري وداعي الشّوق متبوع
لمّا خبت نيرانها وانكفا السّ ... امر عنها وهو مصروع «2»
قامت تثنّى وهي مرعوبة ... تودّ أنّ الشّمل مجموع
حتى إذا ما حاولت خطوة ... والصّدر بالأرداف مدفوع «3»
بكى وشاحاها على متنها ... وإنما أبكاهما الجوع «4»
فانتبه الهادون من أهلها ... وصار للموعد مرجوع(6/242)
يا ذا الذي نمّ علينا لقد ... قلت ومنك القول مسموع
لا تشغليني أبدا بعدها ... إلا ونمّامك منزوع
ما بال خلخالك ذا خرسة ... لسان خلخالك مقطوع
عاذلتي في حبّها أقصري ... هذا لعمري عنك موضوع
وفي معناه لبشار بن برد:
سيّدي لا تأت في قمر ... لحديث وارقب الدّرعا «1»
وتوقّ الطّيب ليلتنا ... إنه واش إذا سطعا
وله أيضا:
يقولان لو عزّيت قلبك لارعوى ... فقلت وهل للعاشقين قلوب «2»
كثير وشعر لجميل:
الأصمعي قال: سمع كثير عزة منشدا ينشد شعر جميل بن معمر الذي يقول فيه:
ما أنت والوعد الذي تعدينني ... إلا كبرق سحابة لم تمطر
تقضى الدّيون ولست تقضى عاجلا ... هذا الغريم ولست فيه بمعسر
يا ليتني ألقي المنيّة بغتة ... إن كان يوم لقائكم لم يقدر
يهواك ما عشت الفؤاد وإن أمت ... يتبع صداي صداك بين الأقبر «3»
فقال كثيّر: هذا والله الشعر المطبوع؛ ما قال أحد مثل قول جميل، وما كنت إلا راوية لجميل، ولقد أبقى للشعراء مثالا تحتذي عليه.
الفرزدق وشعر لابن أبي ربيعة:
وسمع الفرزدق رجلا ينشد شعر عمر بن أبي ربيعة الذي يقول فيه:(6/243)
فقالت وأرخت جانب السّتر إنما ... معي فتحدّث غير ذي رقبة أهلي
فقلت لها مالي لهم من ترقّب ... ولكنّ سرّي ليس يحمله مثلي
حتى انتهى إلى قوله:
فلما توافقنا عرفت الذي بها ... كمثل الذي بي حذوك النعل بالنعل
فقال الفرزدق: هذا والله الذي أرادت الشعراء أن تقوله فأخطأته وبكت على الطلول. وإنما عارض بهذا الشعر جميلا في شعره الذي يقول فيه:
خليليّ فيما عشتما هل رأيتما ... قتيلا بكى من حبّ قاتله قبلي
فلم يصنع عمر مع جميل شيئا.
لابن عبد ربه:
ومن قولنا في رقة التشبيب والشعر المطبوع الذي ليس بدون ما تقدم ذكره:
صحا القلب إلّا خطرة تبعث الأسى ... لها زفرة موصولة بحنين
بلى ربما حلّت عرى عزماته ... سوالف آرام وأعين عين»
لواقط حبات القلوب إذا رنت ... بسحر عيون وانكسار جفون
وريط متين الوشى أينع تحته ... ثمار صدور لا ثمار غصون «2»
برود كأنوار الرّبيع لبسنها ... ثياب تصاب لا ثياب مجون
فرين أديم الليل عن نور أوجه ... تجنّ بها الألباب أيّ جنون «3»
وجوه جرى فيها النعيم فكلّلت ... بورد خدود يجتنى وعيون
سألبس للأيام درعا من العزا ... وإن لم يكن عند اللّقا بحصين
فكيف ولي قلب إذا هبّت الصّبا ... أهبّ بشوق في الضّلوع دفين «4»(6/244)
ويهتاج منه كلّ ما كان ساكنا ... دعاء حمام لم تبت بوكون «1»
وإنّ ارتياحي من بكاء حمامة ... كذي شجن داويته بشجون
كأنّ حمام الأيك حين تجاوبت ... خزين بكى من رحمة لحزين «2»
ومما عارضت به صريع الغواني في قوله:
أديرا عليّ الرّاح لا تشربا قبلي ... ولا تطلبا من عند قاتانلتي ذحلي «3»
فيا حزنى أني أموت صبابة ... ولكن على من لا يحلّ له قتلي
فديت التي صدّت وقالت لتربها ... دعيه، الثّريّا منه أقرب من وصلي
فقلت على رويّه:
أتقتلني ظلما وتجحدني قتلي ... وقد قام من عينيك لي شاهدا عدل
أطلاب ذحلي ليس بي غير شادن ... بعينيه سحر فاطلبوا عنده ذحلي «4»
أغار على قلبي فلما أتيته ... أطالبه فيه أغار على عقلي
بنفسي التي ضنّت بردّ سلامها ... ولو سألت قتلي وهبت لها قتلي
إذا جئتها صدّت حياء بوجهها ... فتهجرني هجرا ألذّ من الوصل
وإن حكمت جارت عليّ بحكمها ... ولكن ذاك الجور أشهى من العدل
كتمت الهوى جهدي فجدّده الأسى ... بماء البكا هذا يخط وذا يملي
وأحببت فيها العذل حبّا لذكرها ... فلا شيء أشهى في فؤادي من العذل «5»
أقول لقلبي كلّما ضامه الأسى ... إذا ما أبيت العزّ فاصبر على الذلّ
برأيك لا رأيي تعرّضت للهوى ... وأمرك لا أمري وفعلك لا فعلي
وجدت الهوى نصلا من الموت مغمدا ... فجرّدته ثم اتّكأت على النّصل «6»(6/245)
فإن كنت مقتولا على غير ريبة ... فأنت التي عرّضت نفسي للقتل
فمن نظر إلى سهولة هذا الشعر، مع بديع معناه ورقة طبعه، لم يفضل شعر صريع الغواني عنده إلا بفضل التقدم، ولا سيما إذا قرن قوله في هذا الشعر.
كتمت الذي ألقى من الحبّ عذلي ... فلم يدر ما بي فاسترحت من العذل
بقولي في هذا الشعر:
أحببت فيها العذل حبّا لذكرها ... فلا شيء أشهى في فؤادي من العذل
ومن قولنا في رقة التشبيب وحسن التشبيه:
كم سوسن لطف الحياء بلونه ... فأصاره وردا على وجناته
ومثله:
يا لؤلؤا يسبي العقول أنيقا ... ورشا بتقطيع القلوب رفيقا «1»
ما إن رأيت ولا سمعت بمثله ... درّا يعود من الحياء عقيقا
ونظير هذا من قولنا في رقة التشبيب وحسن التشبيه والبديع الذي لا نظير له، والغريب الذي لم يسبق إليه:
حوارء داعبها الهوى في حور ... حكمت لواحظها على المقدور «2»
نظرت إليّ بمقلة أدمانة ... وتلفّتت بسوالف اليعفور «3»
فكأنما غاض الأسى بجفونها ... حتى أتاك بلؤلؤ منثور
ونظير هذا من قولنا:
أدعو إليك فلا دعاء يسمع ... يا من يضرّ بناظريه وينفع
للورد حين ليس يطلع دونه ... والورد عندك كلّ حين يطلع(6/246)
لم تنصدع كبدي عليك لضعفها ... لكنها ذابت فما تتصدّع
من لي بأجرد ما يبين لسانه ... خجلا وسيف جفونه ما يقطع «1»
منع الكلام سوى إشارة مقلة ... فبها يكلّمني وعنها يسمع
ومثله:
جمال يفوت الوهم في غاية الفكر ... وطرف إذا مافاه ينطق بالسّحر
ووجه أعار البدر حلّة حاسد ... فمنه الذي يسود في صفحة البدر
وقال بشار بن برد:
ويح قلبي ما به من حبّها ... ضاق من كتمانه حتى علن
لا تلم فيها وحسّن حبّها ... كل ما مرّت به العين حسن
وله:
كأنها روضة منوّرة ... تنفّست في أواخر السّحر
ولبشار، وهو أشعر بيت قاله المولّدون في الغزل:
أنا والله أشتهي سحر عيني ... ك وأخشى مصارع العشاق
وله:
حوراء إن نظرت إلي ... ك سقتك بالعينين خمرا
وكأنها برد الشرا ... ب صفا ووافق منك فطرا.
ولأبي نواس:
وذات خدّ مورّد ... قوهيّة المتجرّد «2»
تأمّل العين من ... ها محاسنا ليس تنفد
فبعضه في انتهاء ... وبعضه يتولّد(6/247)
وكلما عدت فيه ... يكون في العود أحمد
وله أيضا:
ضعيفة كرّ الطّرف تحسب أنها ... قريبة عهد في الإفاقة من سقم
قولهم في النحول
قال عمر بن أبي ربيعة القرشي يصف نحول جسمه وشحوب لونه في شعره الذي يقول فيه:
رأت رجلا أمّا إذا الشمس عارضت ... فيضحى وأما بالعشيّ فيخصر «1»
أخا سفر جوّاب أرض تقاذفت ... به فلوات فهو أشعث أغبر «2»
قليلا على ظهر المطيّة شخصه ... خلا ما نفى عنه الرداء المحبّر «3»
وفي هذا الشعر يقول:
فلما فقدت الصوت منهم وأطفئت ... مصابيح شبّت بالعشاء وأنؤر
وغاب قمير كنت أرجو غيوبه ... وروّح رعيان ونوّم سمّر «4»
وخفّض عني الصّوت أقبلت مشية ال ... حباب وركني خيفة القوم أزور «5»
فحيّيت إذ فاجأتها فتلهّفت ... وكادت بمكتوم التحيّة تجهر
وقالت وعضّت بالبنان: فضحتني ... وأنت امرؤ ميسور أمرك أعسر
أريتك إذ هنّا عليك ألم تخف ... رقيبا وحولي من عدوّك حضّر
فوالله ما أدري أتعجيل حاجة ... سرت بك أم قد نام من كنت تحذر
فقلت لهابل قادني الشوق والهوى ... إليك وما عين من الناس تنظر(6/248)
فيا لك من ليل تقاصر طوله ... وما كان ليلي قبل ذلك يقصر
ويا لك من ملهى هناك ومجلس ... لنا لم يكدّره علينا مكدّر
يمجّ ذكيّ المسك منها مفلّج ... رقيق الحواشي ذو غروب مؤشّر «1»
وترنو بعينيها إليّ كما رنا ... إلى ربرب وسط الخميلة جؤذر «2»
بروق إذا تفترّ عنه كأنه ... حصى برد أو أقحوان منوّر
فلما تقضي الليل إلا أقلّه ... وكادت توالي نجمه تتغوّر
أشارت بأنّ الحيّ قد حان منهم ... هبوب ولكن موعد لك غزور «3»
فما راعني إلا مناد برحلة ... وقد لاح مفتوق من الصّبح أشقر «4»
فلما رأت من قد تنوّر منهم ... وأيقاظهم قالت أشر كيف تأمر
فقلت: أباديهم فإمّا أفوتهم ... وإمّا ينال السيف ثأرا فيثأر
فقالت: أتحقيقا لما قال كاشح ... علينا وتصديقا لما كان يؤثر
فإن كان ما لا بدّ منه فغيره ... من الأمر أدنى للخفاء وأستر
أقصّ على أختيّ بدء حديثنا ... ومالي من أن يعلما متأخّر
لعلّهما أن يبغيا لك مخرجا ... وأن يرحبا صدرا بما كنت أحصر
فقالت لأختيها أعينا على فتى ... أتى زائرا والأمر للأمر يقدر
فأقبلتا فارتاعتا ثم قالتا ... أقلّي عليك اللوم فالخطب أيسر
يقوم فيمشي بيننا متنكّرا ... فلا سرّنا يفشو ولا هو يبصر
فكان مجنّي دون ما كنت أتقي ... ثلاث شخوص: كاعبان ومعصر «5»
فلما أجزنا ساحة الحيّ قلن لي ... ألم تتّق الأعداء والليل مقمر
وقلن أهذا دأبك الدهر سادرا ... أما تستحي أم ترعوي أم تفكّر(6/249)
ويروى أن يزيد بن معاوية لما أراد توجيه مسلم بن عقبة إلى المدينة، اعترض الناس، فمرّ به رجل من أهل الشام معه ترس قبيح، فقال: يا أخا أهل الشام، مجنّ ابن أبي ربيعة كان أحسن من مجنّك هذا! يريد قول عمر ابن أبي ربيعة:
فكان مجنّي دون ما كنت أتّقي ... ثلاث شخوص: كاعبان ومعصر
وقال أعرابيّ في النحول:
ولو أنّ ما أبقيت مني معلّق ... بعود ثمام ما تأوّد عودها «1»
وقال آخر:
إن تسألوني عن تباريح الهوى ... فأنا الهوى وأبو الهوى وأخوه «2»
فانظر إلى رجل أضرّ به الأسى ... لولا تقلّب طرفه دفنوه
وقال مجنون بني عامر في النحول:
ألا إنما غادرت يا أمّ مالك ... صدى أينما تذهب به الريح يذهب
وللحسن بن هانيء:
كما لا ينقضي الأرب ... كذا لا يفتر الطلب «3»
ولم يبق الهوى إلا ... أقلّي وهو محتسب
سوى أني إلى الحيوا ... ن بالحركات أنتسب
وقال آخر وهو خالد الكاتب:
هذا محبّك نضو لا حراك به ... لم يبق من جسمه إلا توهّمه «4»
ومن قولنا في هذا المعنى:
سبيل الحبّ أوّله اغترار ... وآخره هموم وادّكار «5»(6/250)
وتلقى العاشقين لهم جسوم ... براها الشوق لو نفخوا لطاروا
ومثله من قولنا:
لم يبق من جثمانه ... إلا حشاشة مبتئس
قد رق حتى ما يرى ... بل ذاب حتى ما يحس
وقال الحسن بن هانيء في هذا المعنى، فأربى على الأوّلين والآخرين:
يا من تموت عمدا ... فكان للعين أملى
وفي الشّعوثة أربى ... فكان أشهى وأحلى
أردت أن تزدريك ... العيون هيهات كلّا
يا عاقد القلب مني ... هلّا تذكّرت خلّا
تركت مني قليلا ... من القليل أقلّا
يكاد لا يتجزّا ... أقلّ في اللفظ من لا
ولأبي العتاهية:
تلاعبت بي يا عتب ثم حملتني ... على مركب بين المنية والسّقم
ألا في سبيل الله جسمي وقوّتي ... ألا مسعد حتى أنوح على جسمي
وله:
لم تبق مني إلا القليل وما ... أحسبها تترك الذي بقيا
قولهم في التوديع
ابن حميد وجارية له:
قال سعيد بن حميد الكاتب وكان على الخراج بالرقة: ودعت جارية لي تسمى شفيعا وأنا أضحك وهي تبكي، وأقول لها: إنما هي أيام قلائل! قالت: إن كنت تقدر أن تخلف مثل شفيع فنعم! فلما طال بي السفر واتصلت بي الأيام كتبت إليها كتابا، وفي أسفله:
ودّعتها والدّمع يقطر بيننا ... وكذاك كلّ ملذّع بفراق(6/251)
شغلت بتفييض الدّموع شمالها ... ويمينها مشغولة بعناق
قال: فكتبت إليّ في طومار «1» كبير ليس فيه إلا: بسم الله الرحمن الرحيم، [في أوّله] وفي آخره: يا كذاب، وسائر الكتاب أبيض، قال: فوجهت الكتاب إلى ذي الرياستين الفضل بن سهل. وكتبت إليها كتابا على نحو ما كتبت، ليس فيه إلا: بسم الله الرحمن الرحيم، في أوله، وفي آخره أقول:
فودّعتها يوم التفرّق ضاحكا ... إليها ولم أعلم بأن لا تلاقيا
فلو كنت أدري أنه آخر الّلقا ... بكيت وأبكيت الحبيب المصافيا
قال: فكتبت إليّ كتابا آخر ليس فيه إلا: بسم الله الرحمن الرحيم، في أوله، وفي آخره: أعيذك بالله أن يكون ذلك! فوجهته إلى ذي الرياستين الفضل بن سهل فأشخصني «2» إلى بغداد وصيّرني إلى ديوان الضياع.
ابن يحيى وجاريتان:
محمد بن يزيد الرّبعي عن الزبير عن عبيد الله بن يحيى بن خاقان وزير المتوكل قال:
إنه لما نفاه المتوكل إلى جزيرة أقريطش»
فطال مقامه بها، تمتّع بجارية رائعة الجمال بارعة الكمال، فأنسته ما كان فيه من رونق الخلافة وتدبيرها، وكان قبل ذلك متيّما بجارية خلفها بالعراق، فسلا عنها؛ فبينما هو مع الأقريطشيّة في سرور وحبور، يحلف لها أنه لا يفارق البلد ما عاش، إذ قدم عليه كتاب جاريته من العراق وفيه مكتوب:
كيف بعدي لا ذقتم النوم أنتم ... خبروني مذ بنت عنكم وبنتم «4»
بمراض الجفون من خرّد العين ... وورد الخدود بعدي فتنتم «5»(6/252)
يا أخلّاي إنّ قلبي وإن با ... ن، من الشوق عندكم حيث كنتم
فإذا ما أبى الإله اجتماعا ... فالمنايا عليّ وحدي وعشتم
أخذت هذا المعنى من قول حاتم:
إذا ما أتى يوم يفرّق بيننا ... بموت، فكن أنت الذي تتأخّر
فلم يباشر لذة بعد كتابها، حتى رضي عنه المتوكل وصرفه إلى أحسن حالاته.
المعتز وجارية لابن رجاء:
الزبيري قال: حدثني ابن رجاء الكاتب قال: أخذ مني الخليفة المعتز جارية كنت أحبها وتحبني؛ فشربا معا في بعض الليالي، فسكر قبلها، وبقيت وحدها ولم تبرح من المجلس هيبة له، فذكرت ما كنا فيه من أيامنا، فأخذت العود فغنت عليه صوتا حزينا من قلب قريح وهي تقول:
لا كان يوم الفراق يوما ... لم يبق للمقلتين نوما
شتّت منّي ومنك شملا ... فسرّ قوما وساء قوما
يا قوم من لي بوجد قلب ... يسومني في العذاب سوما
ما لامني الناس فيه إلا ... بكيت كيما أزاد لوما
فلما فرغت من صوتها رفع المعتز رأسه إليها والدموع تجري على خديها كالفرند «1» انقطع سلكه فسألها عن الخبر وحلف لها أن يبلغها أملها، فأعلمته القصة فردها إليّ وأحسن إليها، وألحقني في ندمائه وخاصته.
أبو أحمد وجارية له:
وكان لأبي أحمد صاحب حرب المعتمد جارية، فكتبت إليه وهو مقيم على العلوي بالبصرة تقول:(6/253)
لنا عبرات بعدكم تبعث الأسى ... وأنفاس حزن جمّة وزفير
ألا ليت شعري بعدنا هل بكيتم ... فأمّا بكائي بعدكم فكثير
قال أبو أحمد: فلم يكن لي همّ غيرها حتى قفلت «1» من غزاتي.
مروان وجارية له:
وكتب مروان بن محمد وهو منهزم نحو مصر إلى جارية له خلفها بالرّملة:
وما زال يدعوني إلى الصّدّ ما أرى ... فأنأى ويثنيني الذي لك في صدري «2»
وكان عزيزا أنّ بيني وبينها ... حجابا فقد أمسيت منك على عشر
وأنكاهما والله للقلب فاعلمي ... إذا ازددت مثليها فصرت على شهر
وأعظم من هذين والله أنّني ... أخاف بأن لا نلتقي آخر الدّهر
سأبكيك لا مستبقيا فيض عبرة ... ولا طالبا بالصّبر عاقبة الصّبر
ابن بكار ورجل بالثغر:
الزبير بن بكار قال: رأيت رجلا بالثغر «3» وعليه ذلة واستكانة وخضوع، وكان يكثر التنفس، ويخفي الشكوى، وحركات الحب لا تخفى؛ فسألته وقد خلوت به فقال وقد تحدّر دمعه:
أنا في أمري رشاد ... بين غزو وجهاد
بدني يغزو الأعادي ... والهوى يغزو فؤادي
يا عليما بالعباد ... ردّ إلفي ورقادي «4»
وقال أعرابيّ يصف البين:
أدمت أناملها عضّا على البين ... لمّا انثنت فرأتني دامع العين(6/254)
وودّعتني إيماء وما نطقت ... إلا بسبّابة منها وعينين
وجدي كوجدك بل أضعافه فإذا ... عنّي تواريت قاب الرّمح واحيني «1»
وإن سمعت بموتي فاطلبي بدمي ... هواك والبين واستعدي على البين
وقال آخر:
مالت تودّعني والدّمع يغلبها ... كما يميل نسيم الرّيح بالغصن
ثمّ استمرّت وقالت وهي باكية ... يا ليت معرفتي إيّاك لم تكن
وقال آخر:
أنين فاقد إلف أنّ في الغلس ... حتى تضايق منه مخرج النّفس
فكلّما أنّ من شوق أجال يدا ... على فؤاد له بالبين مختلس
وقال آخر:
أمبتكر للبين أم أنت رائح ... وقلبك ملهوف ودمعك سافح
الآن تبكي والنّوى مطمئنة ... فكيف إذا بارحت من لا تبارح
فإنك لم تبرح ولا شطّت النوى ... ولكنّ صبري عن فؤادي نازح «2»
وقال آخر:
إذا انفتحت قيود البين عنّي ... وقيل أتيح للنّائي سراح
أبت حلقاته إلّا انقفالا ... ويأتي الله والقدر المتاح
ومن لي بالبقاء وكلّ يوم ... لسهم البين في كبدي جراح
وقال محمد بن أبي أمية الكاتب:
يا غريبا يبكي لكلّ غريب ... لم يذق قبلها فراق حبيب
عزّه البين فاستراح إلى الدّم ... ع وفي الدمع راحة للقلوب
ختلته حوادث الدهر حتى ... أقصدته منها بسهم مصيب «3»(6/255)
أيّ يوم أراك فيه كما كن ... ت قريبا فأشتكي من قريب
وقال أبو الطيامير:
أقول له يوم ودّعته ... وكلّ بعبرته مبلس «1»
لئن رجعت عنك أجسامنا ... لقد سافرت معك الأنفس
وقال أبو العتاهية:
أبيت مسهّدا قلقا وسادي ... أروّح بالدموع عن الفؤاد
فراقك كان آخر عهد نومي ... وأوّل عهد عيني بالسّهاد
فلم أر مثل ما سلبته نفسي ... وما رجعت به من سوء زاد
وقال محمد بن يزيد التّستري:
رفعت جانبا إليك من الكلّ ... ة قابلته طرفا كحيلا «2»
نظرت نظرة الصّبابة لا تم ... لك للبين دمعها أن يجولا
ثم ولّت وقد تغير ذاك الصّ ... بح من خدّها فعاد أصيلا
وقال يزيد بن عثمان:
دمعة كالّلؤلؤ الرّط ... ب على الخدّ الأسيل «3»
وجفون تنفث السّح ... ر من الطّرف الكحيل
إنما يفتضح العا ... شق في يوم الرحيل
وقال علي بن الجهم:
يا وحشتا للغريب في البلد الن ... ازح ماذا بنفسه صنعا
فارق أحبابه فما انتفعوا ... بالعيش من بعده وما انتفعا
يقول في نأيه وغربته ... عدل من الله كلّ ما صنعا(6/256)
وقال آخر:
بانوا وأضحى الجسم من بعدهم ... ما تبصر العين له فيّا «1»
يا أسفي منهم ومن قولهم ... ما ضرّك الفقد لنا شيّا
بأيّ وجه أتلقّاهم ... إن وجدوني بعدهم حيّا
وقال آخر:
اترحل عن حبيبك ثم تبكي ... عليه، فمن دعاك إلى الفراق؟
وقال هدبة العذري:
ألا ليت الرياح مسخّرات ... بحاجتنا تباكر أو تئوب
فتخبرنا الشّمال إذا أتتنا ... وتخبر أهلنا عنّا الجنوب «2»
عسى الكرب الذي أمسيت فيه ... يكون وراءه فرج قريب «3»
فيأمن خائف ويفكّ عان ... ويأتي أهله النّائي الغريب
وقال آخر:
لا بارك الله في الفراق ولا ... بارك في الهجر ما أمرّهما
لو ذبح الهجر والفراق كما ... يذبح ظبي لما رحمتهما
شربت كأس الفراق مترعة ... فطار عن مقلتيّ نومهما «4»
يا سيّدي والذي أؤمّله ... ناشدتك الله أن تذوقهما
وقال حبيب الطائي:
الموت عندي والفرا ... ق كلاهما ما لا يطاق
يتعاونان على النفو ... س فذا الحمام وذا السّياق «5»(6/257)
لو لم يكن هذا كذا ... ما قيل موت أو فراق
وقال آخر:
شتان ما قبلة التّلاق ... وقبلة ساعة الفراق
هذي حياة وتلك موت ... بينهما راحة العناق
وقال سعيد بن حميد:
موقف البين مأتم العاشقينا ... لا ترى العين فيه إلّا حزينا
إنّ في البين فرحتين: فأمّا ... فرحتي بالوداع للظّاعنينا ...
فاعتناق لمن أحبّ وتقبيل ... ولمس بحضرة الكاشحينا «1»
ثم لي فرحة إذا قدم النّا ... س لتسليمهم على القادمينا!
وقال أعرابي:
ليل الشّجيّ على الخليّ قصير ... وبلا المحبّ على المحبّ يسير
بان الذين أحبّهم فتحمّلوا ... وفراق من تهوى عليك عسير
فلأبعثنّ نياحة لفراقهم ... فيها تلطّم أوجه وصدور
ولألبسنّ مدارعا مسودة ... لبس الثّواكل إذ دهاك مسير «2»
ولأذكرنّك بعد موتي خاليا ... في القبر عند منكر ونكير «3»
ولأطلبنّك في القيامة جاهدا ... بين الخلائق والعباد نشور «4»
فبجنّة إن صرت صرت بجنة ... ولئن حواك سعيرها فسعير
والمستهام بكلّ ذاك جدير ... والذّنب يغفر والإله شكور
ومن قولنا في البين:(6/258)
هيّج البين دواعي سقمي ... كسا جسمي ثوب الألم
أيها البين أقلني مرة ... فإذا عدت فقد حلّ دمي «1»
يا خليّ الرّوع نم في غبطة ... إنّ من فارقته لم ينم!
ولقد هاج لقلبي سقما ... ذكر من لو شاء داوى سقمي
ومن قولنا في المعنى:
ودّعتني بزفرة واعتناق ... ثم نادت: متى يكون التلاق؟
وتصدّت فأشرق الصّبح منها ... بين تلك الجيوب والأطواق «2»
يا سقيم الجفون من غير سقم ... بين عينيك مصرع العشّاق
إنّ يوم الفراق أفظع يوم ... ليتني متّ قبل يوم الفراق
ومن قولنا فيه:
فررت من الّلقاء إلى الفراق ... فحسبي ما لقيت وما ألاقي
سقاني البين كأس الموت صرفا ... وما ظني أموت بكفّ ساقي
فيا برد اللقاء إلى فؤادي ... أجرني اليوم من حرّ الفراق
وقال مجنون بني عامر.
وإني لمفن دمع عيني من البكا ... حذارا لأمر لم يكن وهو كائن
وقالوا: غدا او بعد ذاك بليلة ... فراق حبيب لم يبن وهو بائن
وما كنت أخشى أن تكون منيّتي ... بكفّيّ إلّا أنّ ما حان حائن
وقال أبو هشام الباهلي
خليلي غدا لا شكّ فيه مودّع ... فوالله ما أدري غدا كيف أصنع
فواحزنا إن لم أودّعه غدوة ... ويا أسفا إن كنت فيمن يودّع «3»(6/259)
فإن لم أودّعه غدا متّ بعده ... سريعا وإن ودّعت فالموت أسرع
أنا اليوم أبكيه فكيف به غدا ... أنا في غد والله أبكي وأجزع
لقد سخنت عيني وجلّت مصيبتي ... غداة غد إن كان ما أتوقّع «1»
فيا يوم لا أدبرت! هل لك محبس؟ ... ويا غد لا أقبلت! هل لك مدفع
وقال بشار بن برد:
نبت عيني عن التغميض حتى ... كأنّ جفونها عنها قصار
أقول وليلتي تزداد طولا ... أما للّيل بعدكم نهار
وقال المعتصم لما دخل مصر وذكر جارية له:
غريب في قرى مصر ... يقاسي الهمّ والسّقما
لليلك كان بالميدا ... ن أقصر منه بالفرما
وقال آخر:
وداعك مثل وداع الربيع ... وفقدك مثل افتقاد الدّيم «2»
عليك سلام فكم من ندى ... فقدناه منك وكم من كرم
قولهم في الحمام
قال أبو الحسن الاخفش: قال جحدر العكلي «3» ، وكان لصّا:
وقدما هاجني فازددت شوقا ... بكاء حمامتين تجاوبان
تجاوبتا بلحن أعجميّ ... على عودين من غرب وبان «4»
فكان البان أن بانت سليمى ... وفي الغرب اغتراب غير دان
وقال آخر:(6/260)
وتفرّقوا بعد الجميع لأنّه ... لا بدّ ان يتفرّق الجيران
لا تصبر الإبل الجياد تفرّقت ... بعد الجميع، ويصبر الإنسان!
وقال آخر:
فهل ريبة في أن تحنّ نجيبة ... إلى إلفها أو أن يحنّ نجيب «1»
وإذا رجعت الإبل الحنين كان ذلك أحسن صوت يهتاج له المفارقون كما يهتاجون لنوح الحمام.
وقال عوف بن محلّم:
ألا يا حمام الأيك إلفك حاضر ... وغصنك ميّاد ففيم تنوح؟ «2»
وكل مطوّقة عند العرب حمامة، كالدّبسي والقمري والورشان وما أشبه ذلك؛ وجمعها حمام، ويقال: حمامة، للذكر والانثى، كما يقال: بطة، للذكر والانثى؛ ولا يقال حمام إلّا في الجمع، والحمامة تبكي وتغني وتنوح وتغرد وتسجع وتقرقر وتترنم؛ وإنما لها أصوات سجيع لا تفهم فيجعله الحزين بكاء، ويجعله المسرور غناء.
قال حميد بن ثور:
وما هاج هذا الشوق الا حمامة ... دعت ساق حرّ ترحة وترنما
مطوّقة خطباء تسجع كلّما ... دنا الصّيف وانزاح الربيع فأنجما»
تغنّت على غصن عشاء فلم تدع ... لنائحة في نوحها متلوّما
فلم أر مثلي شاقه صوت مثلها ... ولا عربيا شاقه صوت أعجما
وقال مجنون بني عامر:
ألا يا حمامات اللّوى عدن غدوة ... فإني الى اصواتكنّ حزين
فعدن، فلما عدن كدن يمتني ... وكدت بأشجاني لهنّ أبين(6/261)
فلم تر عيني مثلهنّ بواكيا ... بكين ولم تذرف لهنّ عيون!
وقال حبيب في المعنى:
هنّ الحمام فإن كسرت عيافة ... من حائهنّ فإنّهنّ حمام «1»
وقال:
كما كاد ينسى عهد ظيماء باللّوى ... ولكن أملّته عليّ الحمائم
بعثن الهوى في قلب من ليس هائما ... فقل في فؤادي رعنه وهو هائم
لها نغم ليست دموعا فإن علت ... مضت حيث لا تمضي الدّموع السواجم «2»
ومن قولنا في الحمام
فكيف، ولي قلب إذا هبّت الصّبا ... أهاب بشوق في الضلوع مكين «3»
ويهتاج منه كلّ ما كان ساكنا ... دعاء حمام لم تبت بوكون
وكان ارتياحي من بكاء حمامة ... كذي شجن داويته بشجون
كأنّ حمام الأيك لما تجاوبت ... حزين بكى من رحمة لحزين
ومن قولنا في المعنى:
ونائح في غصون الأيك أرّقني ... وما عنيت بشيء ظلّ يعنيه
مطوّق بخضاب ما يزايله ... حتى تفارقه إحدى تراقيه
قد بات يشكو بشجو ما دريت به ... وبتّ أشكو بشجو ليس يدريه
ومن قولنا فيه:
أناحت حمامات اللّوى أم تغنّت ... فأبدت دواعي قلبه ما أجنّت
فديت التي كانت ولا شيء غيرها ... منى النفس لو تقضى لها ما تمنت
ومن قولنا:
لقد سجعت في جنح ليل حمامة ... فأيّ أسى هاجت على الهائم الصبّ «4»(6/262)
لك الويل كم هيّجت شجوا بلا جوى ... وشكوى بلا شكوى وكربا بلا كرب «1»
وأسكبت دمعا من جفون مسهّد ... وما رقرقت منك المدامع بالسّكب
وقال ذو الرمة:
رأيت غرابا ناعبا فوق بانة ... من القضب لم ينبت لها ورق نضر «2»
فقلت غراب لاغتراب وبانه ... لبين النّوى هذا العيافة والزّجر
قولهم في طيب الحديث
قال عدي بن زيد:
في سماع يأذن الشيخ له ... وحديث مثل ماذي مشار «3»
وقال القطامي:
فهنّ ينبذن من قول يصبن به ... مواقع الماء من ذي الغلة الصّادي «4»
وقال جران العود:
فنلنا سقاطا من حديث كأنه ... جنى النّحل أو أبكار كرم تقطّف
وقال آخر:
وإنا ليجري بيننا حين نلتقي ... حديث له وشي كوشي المطارف «5»
وقال بشار:
وكأن نشر حديثها ... قطع الرياض كسين زهرا «6»
وله:
لئن عشقت أذني كلاما سمعته ... فقلبي إذا لا شكّ باللحظ أعشق(6/263)
وكيف تناسي من كأنّ كلامه ... بأذني ولو عرّيت قرط معلّق
وقال بشار أيضا:
وبكر كنوّار الربيع حديثها ... يروق بوجه واضح وقوام «1»
وقال آخر:
كأنما عسل رجعان منطقها ... إن كان رجع كلام يشبه العسلا «2»
وقال آخر:
وحديث كأنه زهر الرو ... ض وفيه الصّفراء والحمراء
قولهم في الرياض
أنشد أحمد بن جدار للمعلي الطائي:
كأنّ عيون الرّوض يذرفن بالنّدى ... عيون يراسلن الدموع على غدر
وقال البحتري:
شقائق يحملن النّدى فكأنه ... دموع التّصابي في خدود الخرائد «3»
ومن لؤلؤ كالاقحوان منضّد ... على نكت مصفرّة كالفرائد «4»
وقال أيضا:
وقد نبّه النّيروز في غلس الدّجى ... أوائل ورد كنّ بالامس نوّما
يفتّقه برد النّدى فكأنه ... يبثّ حديثا كان قبل مكتّما «5»
ومن شجر ردّ الرّبيع لباسه ... عليها كما نشّرت وشيا منمنما
وقال أعشى بكر:
ما روضة من رياض الحسن معشبة ... خضراء جاد عليها مسبل هطل «6»(6/264)
يضاحك الشمس فيها كوكب شرق ... مؤزّر بعميم النّبت مكتهل ...
... يوما بأطيب منها نشر رائحة ... ولا بأحسن منها إذ دنا الاصل
وأنشد ابن أبي الطاهر لنفسه:
فتقت جيوب الرّوض منها ديمة ... حلّت عواليها صبا وقبول
ولها عيون كالعيون نواظر ... تبدو فمنها أمرة وكحيل «1»
وقال الاخطل:
خلع الرّبيع على الثّرى من وشيه ... حللا يظلّ بها الثرى يتخيّل
نور إذا مرت الصّبا فيه الندى ... خلت الزّبرجد بالفريد يفصّل «2»
فكأنها طورا عيون كحّل ... وكأنها طورا عيون همّل
وقال أبو نواس:
يوم تقاصر واستتبّ نعيمه ... في ظلّ ملتفّ الحدائق أخضرا
وإذا الرّياح تنسّمت في روضة ... نثرت به مسكا عليك وعنبرا
وأنشد ابن مسهر لابن أبي زرعة الدمشقي يقول:
وقد لبست زهر الرّياض حليّها ... وجللت الأرض الفضا بالزخارف
لجين وعقيان ودر وجوهر ... تؤلّفه أيدي الربيع اللطائف «3»
وأنشد البحتري لنفسه:
قطرات من السحاب وروض ... نثرت وردها عليه الخدود
وكان الحوذان الأقحوان الغضّ ... نظمان: لؤلؤ وفريد «4»
وأنشد ابن جدار للمعلّى:
ترى للندى فيه مجالا كأنما ... نثرت عليه لؤلؤا فتبدّدا
وأنشد ابن الحارثي لنفسه:(6/265)
وما روضة علويّة أسديّة ... منمنمة زهراء ذات ثرى جعد
سقاها الندى في عقب جنح من الدّجى ... فنوّارها يهتزّ بالكوكب السعد «1»
بأحسن من حرّ تضمّن حاجة ... لحرّ فأوفى بالنجاح مع الوعد
وأنشد محمد بن عمار للحسن بن وهب، يقول:
طللع الربيع على الرياض فبشّرت ... نور الرياض بجدّة وشباب
وغدا السّحاب مكللا جوّ الثرى ... أذيال أسحم حالك الجلباب «2»
فترى السماء أحدّ ربابها ... فكأنما التحفت جناح غراب «3»
وترى الغصون إذا الرياح تناوحت ... ملتفّة كتعانق الأحباب
وقال حبيب بن أوس الطائي:
الروض ما بين مغبوق ومصطبح ... من ريق مكنفلات في الثرى دلح «4»
وطف إذا وكفت في روضة طفقت ... عيون نوّارها تبكي من الفرح «5»
وأنشد البحتري في دمشق:
إذا أردت ملأت العين من بلد ... مستحسن وزمان يشبه البلدا
يمسي السحاب على أجبالها فرقا ... ويصبح النّبت في صحرائها بددا
فلست تبصر إلّا واكفا خضلا ... أو يانعا خضرا أو طائرا غرد «6»
كأنما القيظ ولّى بعد جيئته ... أو الربيع دنا من بعد ما بعدا
وأنشد ابن أبي الطاهر لأشجع:
من الكنائس والارواح مطرد ... للعين يلعب فيه الطرف والبصر «7»(6/266)
في رقعة من رقاع الارض يعمرها ... قوم على أبويهم أجمعت مضر
وأنشد على بن الجهم لعلّي بن الخليل:
وروضة في ظلال دسكرة ... جداول الماء في جوانبها «1»
تستنّ في روضة منوّرة ... يغرّد الطير في مشاربها
كأنّ فيها الحليّ والحلل اليمنة ... تهدي إلى مرازبها «2»
وقال ابراهيم بن العباس الكاتب:
تأمّل سماء أظلّت عليك ... فيها مصابيحها تزهر
وأرضا تقابلها بالعرو ... س والمرج بينهما جعفر
ومسحب نور غداة الربيع ... أنفاسه المسك والعنبر
خلال شقائقه أصفر ... وأضعاف أصفره أحمر «3»
وللماء مطرد بينه ... يصفّق باديه المصدر
يشارفه البر من جانب ... ومن جانب بحره الاخضر
مجال وحوش ومرقى سفين ... فيا عرف لهو ويا منظر
ويا حسن دنيا ويا عز ملك ... يسوسهما السائس الاكبر
وقال ابن ابي عيينة في بستانه:
يذكّرني الفردوس طورا فأنثني ... وطورا يواتيني إلى القصف والفتك «4»
بغرس كأبكار العذارى وتربة ... كأنّ ثراها ماء ورد على مسك
كأنّ قصور الارض ينظرن حوله ... إلى ملك أوفى على منبر الملك
يدلّ عليها مستطيلا بحسنه ... ويضحك منها وهي مطرقة تبكي
وقال فيه:
يا جنة فاقت الجنان فما ... تبلغها قيمة ولا ثمن(6/267)
الفتها فاتخذتها وطنا ... لأن قلبي لأهلها وطن
زوّج حيتانها الضباب بها ... فهذه كنّة وذا ختن»
فانظر وفكّر فيما تمرّ به ... إنّ الاريب المفكّر الفطن
من سفن كالنعام مقبلة ... ومن نعام كأنها سفن
وقال الخليل بن أحمد:
يا صاحب القصر نعم القصر والوادي ... بمنزل حاضر إن شئت أو بادي
ترفي به السّفن والظّلمان واقفة ... والنّون والضّبّ والملاح والحادي «2»
وقال اسماعيل بن ابراهيم الحمدوني:
بروضة صبغت أيدي الربيع لها ... برودها وكستها وشيها عدن
عاجت عليها مطايا الغيث مسبلة ... لهنّ في ضحكات أدمع هتن «3»
كأنما البين يبكيها ويضحكها ... وصل حباها به من بعده سكن «4»
فولّدت صفرا أثوابها خضر ... أحشاؤهنّ لاحشإ الندى وطن
من كلّ عسجدة في خدرها اكتتمت ... عذراء في بطنها الياقوت مكتمن
وأنشد عمرو بن بحر الجاحظ:
أين إخواننا على السرّاء ... أين أهل القباب والدّهناء «5»
جاورونا والأرض ملبسة نو ... ر الاقاحي تجاد بالأنواء «6»
كلّ يوم بأقحوان جديد ... تضحك الأرض من بكاء السماء(6/268)
ومن قولنا في هذا المعنى:
وروضة عقدت أيدي الربيع بها ... نورا بنور وتزويجا بتزويج
بملقح من سواريها وملقحة ... وناتج من غواديها ومنتوج «1»
توشحت بملاة غير ملحمة ... من نورها ورداء غير منسوج
فألبست حلل الموشيّ زهرتها ... وجلّلتها بأنماط الديابيج «2»
ومن قولنا:
وموشيّية يهدي إليك نسيمها ... على مفرق الارواح مسكا وعنبرا
سداوتها من ناصع اللون أبيض ... ولحمتها من فاقع اللون أصفرا «3»
يلاحظ لحظا من عيون كأنها ... فصوص من الياقوت كلّمن جوهرا
ومثله قولنا:
وما روضة بالخرف حاك لها الندى ... برودا من الموشّي حمر الشّقائق
يقيم الدّجى أعناقها، ويميلها ... شعاع الضّحى المستنّ في كلّ شارق
إذا ضاحكتها الشمس تبكي بأعين ... مكّالة الاجفان صفر الحمالق «4»
حكت أرضها لون السماء وزانها ... نجوم كأمثال النجوم الخوافق
... بأطيب نشرا من خلائقه التي ... لها خضعت في الحسن زهر الخلائق(6/269)
كتاب الجوهرة الثّانية في أعاريض الشعر وعلل القوافي
قال أبو عمر أحمد بن محمد بن عبد ربه: قد مضى قولنا في فضائل الشعر ومقاطعه ومخارجه.
ونحن قائلون بعون الله وتوفيقه في أعاريضه وعلله، وما يحسن ويقبح من زحافه، وما ينفك من الدوائر الخمس من الشطور التي التي قالت عليها العرب والتي لم تقل، وتلخيص جميع ذلك بمنثور من الكلام يقرّب معناه من الفهم، ومنظوم من الشعر يسهّل حفظه على الرواة، فأكملت جميع هذه العروض في هذه الكتاب- الذي هو جزءان، فجزء للفرش وجزء للمثال- مختصرا مبيّنا مفسّرا؛ فاختصرت للفرش أرجوزة، وجمعت فيها كلّ ما يدخل العروض ويجوز في حشو الشعر من الزحاف، وبيّنت الأسباب والأوتاد، والتعاقب والتراقب، والخروم والزيادة على الأجزاء، وفكّ الدوائر- في هذا الجزء؛ واختصرت المثال في الجزء الثاني في ثلاث وستين قطعة، على ثلاثة وستين ضربا من ضروب العروض، وجعلت المقطّعات رقيقة غزلة، ليسهل حفظها على ألسنة الرواة؛ وضمّنت في آخر كل مقطعة منها بيتا قديما متصلا بها وداخلا في معناها من الأبيات التي استشهد بها الخليل في عروضه، لتقوم به الحجة لمن روى هذه المقطعات واحتج بها.
مختصر الفرش
الساكن والمتحرك:
اعلم أنّ أوّل ما ينبغي لصاحب العروض أن يبتديء به، معرفة الساكن(6/270)
والمتحرّك؛ فإنّ الكلام كله لا يعدو أن يكون ساكنا أو متحرّكا.
واعلم أنّ كل ألف خفيفة، أو ألف ولام خفيفتين لا يظهران على اللسان ويثبتان في الكتابة، فإنهما يسقطان في العروض وفي تقطيع الشعر: نحو ألف «قال ابنك» أو ألف ولام نحو «قال الرجل» وإنما يعدّ في العروض ما ظهر على اللسان.
واعلم أنّ كل حرف مشدّد فإنه يعدّ في العروض حرفين: أولهما ساكن، والثاني متحرّك: نحو ميم محمّد، ولام سلّام.
واعلم أنّ التنوين كله يعدّ في العروض نونا ساكنة ليست من أصل الكلمة.
باب الأسباب والأوتاد
اعلم أنّ مدار الشعر وفواصل العروض على ثمانية أجزاء، وهي:
فاعلن، مفعولن، مفاعيلن، فاعلاتن، مستفعلن، مفاعلتن، متفاعلن، مفعولات.
وإنما ألّفت هذه الأجزاء من الأسباب والأوتاد.
فالسبب سببان: خفيف، وثقيل: فالسبب الخفيف حرفان: متحرّك، وساكن، مثل: من، وعن، وما أشبههما؛ والسبب الثقيل حرفان متحرّكان، مثل: بك ولك، وما أشبههما.
والوتد وتدان: مفروق، ومجموع؛ فالوتد المجموع ثلاثة أحرف: متحرّكان وساكن، مثل: على، وإلى، وما أشبههما؛ والوتد المفروق ثلاثة أحرف: ساكن بين متحرّكين، مثل: أين، وكيف، وما أشبههما؛ وإنما قيل للسبب سبب؛ لأنه يضطرب، فيثبت مرة ويسقط أخرى؛ وإنما قيل للوتد وتد؛ لأنه يثبت فلا يزول.
باب الزحاف
اعلم أنّ الزّحاف زحافان: فزحاف يسقط ثاني السبب الخفيف، وزحاف يسكن ثاني السبب الثقيل، وربما أسقطه.(6/271)
ولا يدخل الزحاف في شيء من الأوتاد، وإنما يدخل في الأسباب خاصة؛ وإنما يدخل في ثاني الجزء، ورابعه، وخامسه، وسابعه؛ فإن أردت أن تعرف موضع الزحاف من الجزء، فانظر إلى جزء من الأجزاء الثمانية التي سمّيت لك؛ فإن رأيت الوتد في أول الجزء، فإنما يزحف خامسه وسابعه؛ وإن كان الوتد في آخر الجزء، فإنما يزحف ثانيه ورابعه؛ وإن كان الوتد في وسط الجزء، فإنما يزحف ثانيه وسابعه.
فللزحاف الذي يدخل في ثاني الجزء ثلاثة أسماء: الخبن، والإضمار، والوقص، فالمخبون: ما ذهب ثانيه، والمضمر: ما سكن ثانيه المتحرّك، والموقوص؛ ما ذهب ثانيه المتحرّك.
وللزحاف الذي يدخل في رابع الجزء اسم واحد: الطيّ فالمطويّ هو ما ذهب رابعه الساكن.
وللزحاف الذي يدخل في الخامس منها ثلاثة أسماء: القبض؛ والعصب، والعقل.
فالمقبوض: ما ذهب خامسه الساكن، والمعصوب: ما سكن خامسه المتحرّك، والمعقول: ما ذهب خامسه المتحرّك.
[وللزحاف الذي يدخل] السابع اسم واحد: الكفّ، فالمكفوف، هو ما ذهب سابعه الساكن.
باب الزحاف المزدوج
المخبول: هو ما ذهب ثانيه ورابعه الساكنان.
والمخزول: هو ما سكن ثانيه وذهب رابعه الساكن.
والمنقوص: هو ما سكن خامسه وذهب سابعه الساكن.
والمشكول: هو ما ذهب ثانيه وسابعه الساكنان.(6/272)
علل الأعاريض والضروب
المحذوف: هو ما ذهب من آخر الجزء سبب خفيف.
والمقطوف: هو ما ذهب من آخر الجزء سبب خفيف وسكن آخر ما بقي.
والمقصور: ما ذهب آخر سواكنه وسكن آخر متحرّكاته من الجزء الذي في آخره سبب.
والمقطوع: ما ذهب أواخر سواكنه وسكن آخر متحرّكاته من الجزء الذي في آخره وتد.
والأبتر: ما حذف ثم قطع، فكان فاعل من فاعلاتن وفع في فعولن والأحذ: ما ذهب من آخر الجزء وتد مجموع.
والأصلم: ما ذهب من آخر الجزء وتد مفروق.
والموقوف: ما سكن سابعه المتحرّك.
والمكشوف: ما ذهب سابعه المتحرّك.
والمجزوء: ما ذهب من آخر الصدر جزء ومن آخر العجز جزء.
والمشطور: ما ذهب شطره.
والمنهوك: ما ذهب منه أربعة أجزاء وبقى جزآن.
الزيادات على الأجزاء
والزيادة على الأجزاء ثلاثة أشياء: المذال، وهو ما زاد على اعتدال جزئه حرف ساكن مما يكون في آخره وتد.
والمسبغ: ما زاد على اعتداله حرف ساكن مما يكون في آخره سبب.
والمرفل: ما زاد على اعتداله حرفان: متحرك وساكن، مما يكون في آخره وتد.
واعلم أن كل جزء من أجزاء العروض يكون مخالفا لأجزاء حشوه بزحاف أو سلامة فهو المعتل؛ وما كان معتلا فإنما هو ثلاثة أشياء: ابتداء، وفصل؛ وغاية؛ وإن(6/273)
الاعتماد ليس علة؛ لأنه غير مخالف لأجزاء الحشو كلها، وإنما خالفها في الحسن والقبح وليس اختلاف الحسن والقبح علة، ونحن نجد الاعتماد في الشعر كثيرا؛ من ذلك البيت الذي جاء به الخليل:
أقيموا بني النّعمان عنا صدوركم ... وإلا تقيموا صاغرين الرءوسا «1»
ومنه قول امريء القيس:
أعنّي على برق- أراه- وميض ... يضيّ حبيّا في شماريخ بيض «2»
ويخرج منه لامعات كأنها ... أكف تلقّى الفوز عند المفيض «3»
وإنما زعم الخليل أن المعتل ما كان مخالفا لأجزاء حشوه بزحاف أو سلامة ولم يقل بحسن أو قبح؛ أر ترى أن القبض في مفاعيلن في الطويل حسن، والكف فيه قبيح؛ والقبض في مفاعيلن في الهزج قبيح، والكف فيه حسن؛ والاعتماد في المتقارب- على ضد ما هو في الطويل السالم- فيه حسن، والقبض فيه قبيح؟
فإذا اعتل أول البيت سمي ابتداء؛ وإذا اعتل وسطه وهو العروض سمي فصلا، وإذا اعتل الطرف- وهو في القافية- سمي غاية؛ وإذا لم يعتل أوله ولا وسطه ولا آخره سمي حشوا كله.
وما كان من الأنصاف مستوفيا لدائرته وآخر جزء منه بمنزلة الحشو من الآخر فهو التام؛ وما كان من الأنصاف لم يذهب به الانتقاص فهو مجزوء، وما كان من الأنصاف مقفّى فهو مصرّع؛ فإن كانت الكلمة كلها كذلك فهو مشطور؛ فإذا لم يبق منه إلا جزآن فهو المنهوك، وإذا اختلفت القوافي واختلطت وكانت حيزا من كلمة واحدة فهو المخمّس؛ وإذا كانت أنصاف على قواف يجمعها قافية واحدة ثم تعاد لمثل ذلك حتى تنقضي القصيدة، فهو المسمّط.(6/274)
باب الخرم
اعلم أن الخرم لا يدخل إلا في كل جزء أوله وتد، وذلك ثلاثة أجزاء: فعولن، مفاعلتن، مفاعيلن؛ وهو سقوط حركة من أول الجزء؛ وإنما منعه أن يدخل في السبب، أنك لو أسقطت من السبب حركة بقي ساكن، ولا يبدأ بساكن أبدا.
ولا يدخل الخرم إلا في أول البيت، فإذا أدخل الخرم «فعولن» قيل له أثلم؛ فإذا دخل القبض مع الخرم قيل له أثرم؛ فإذا دخل الخرم مفاعلتن قيل له أعضب؛ فإذا دخله العصب مع الخرم قيل له أقصم؛ فإذا دخل الخرم مفاعيلن قيل له أخرم؛ فإذا دخله الكف مع الخرم قيل له أخرب؛ فإذا دخله القبض مع الخرم قيل له أشتر؛ وكل ما لم يدخله الخرم فهو الموفور.
باب التعاقب والترقب
اعلم أن التعاقب يدخل بين السببين المتقابلين في حشو الشعر حيثما كانا، ولا يكونان مع جميع العروض إلا في أربعة أشطار: في المديد، والرمل، والخفيف، والمجتث؛ وقد بينا جميع ذلك في موضعه؛ فما عاقبه ما قبله فهو صدر، وما عاقبه ما بعده فهو عجز، وما عاقبه ما قبله وما بعده فهو طرفان، وما لم يعاقبه ما قبله ولا ما بعده فهو بريء.
والتراقب بين السببين المتقابلين من فاصلة واحدة؛ ولا يدخل التراقب من جميع العروض إلا في المضارع، والمقتضب؛ وقد فسّرناه هنالك.
وقد نظمنا جميع ما ذكرناه من هذه الأبواب في أرجوزة، ليسهل حفظها على المتعلم؛ إذ كان حفظ المنظوم أسهل من حفظ المنثور؛ وقد ذكرنا فيها كل الدوائر الخمس وما ينفك من كل دائرة من عدد الشطور التي قالت عليها العرب والتي لم تقل عليها وموضع الزحاف منها.(6/275)
واعلم أن الدائرة الأولى مؤلفة من أربعة أجزاء: سباعيين مع خماسيّين وهي:
فعولن، مفاعيلن، فعولن، مفاعيلن.
والدائرة الثانية من ثلاثة أجزاء سباعية، وهي:
مفاعلتن، مفاعلتن، مفاعلتن.
والدائرة الثالثة مؤلفة من ثلاثة أجزاء سباعية، وهي:
مفاعيلن، مفاعيلن، مفاعيلن.
والدائرة الرابعة مؤلفة من ثلاثة أجزاء سباعية، وهي:
مستفعلن، مفعولات، مستفعلن.
والدائرة الخامسة مؤلفة من أربعة أجزاء خماسية وهي:
فعولن، فعولن، فعولن، فعولن.
واعلم أن كل دائرة من هذه الدوائر ينفك من رأس كل سبب وكلّ وتد فيها شطر؛ وقد بيّنا جميع ذلك في الدوائر، وأسماء الشطور التي تنفكّ عنها.
وهذه أرجوزة العروض:
بالله نبدا وبه التّمام ... وباسمه يفتتح الكلام
يا طالب العلم هو المنهاج ... قد كثرت من دونه الفجاج «1»
وكلّ علم فله فنون ... وكلّ فنّ فله عيون
أولها جوامع البيان ... وأصلها معرفة الّلسان
فإنّ في المجاز والتّأويل ... ضلّت أساطير ذوي العقول
حتى إذا عرفت تلك الأبنية ... واحدها وجمعها والتّثنيه
طلبت ما شئت من العلوم ... ما بين منثور إلى منظوم
فداو بالإعراب والعروض ... داءك في الإملاء والقريض «2»(6/276)
كلاهما طبّ لداء الشّعر ... واللّفظ من لحن به وكسر
ما فلسف البطليس جالينوس ... وصاحب القانون بطليموس
ولا الذي يدعونه بهرمس ... وصاحب الأركند والأقليدس
فلسفة الخليل في العروض ... وفي صحيح الشّعر والمريض
وقد نظرت فيه فاختصرت ... إلى نظام منه قد أحكمت
ملخص مختصر بديع ... والبعض قد يكفي عن الجميع
اختصار الفرش
هذا اختصار الفرش من مقالي ... وبعده أقول في المثال
أوّله والله أستعين ... أن يعرف التحريك والسكون
من كلّ ما يبدو على اللسان ... لا كل ما تخطّه اليدان
ويظهر التضعيف في الثّقيل ... تعدّه حرفين في التفصيل
مسكنا وبعده محرّكا ... كنون كنّا وكراء سرّكا
باب الأسباب والأوتاد
وبعد ذا الأسباب والأوتاد ... فإنها لقولنا عماد
فالسبب الخفيف إذ يعدّ ... محرّك وساكن لا يعدو
والسبب الثقيل في التبيين ... حركتان غير ذي تنوين
والوتد المفروق والمجموع ... كلاهما في حشوه ممنوع
وإنما اعتلّ من الأجزاء ... في الفصل والغائي والابتداء
فالوتد المجموع منها فافهمن ... حركتان قبل حرف قد سكن
والوتد المفروق من هذين ... مسكّن بين محرّكين
فهذه الأوتاد والأسباب ... لها ثبات ولها ذهاب
وإنما عروض كلّ قافيه ... جار على أجزائه الثمانية
وهاكها بينة مصوّرة ... لكلّ من عاينها، مفسّره(6/277)
الفواصل
فاعلن، فعولن، مستفعلن، فاعلاتن، مفاعيلن، مفاعلتن، متفاعلن، مفعولات:
هذي التي بها يقول المنشد ... في كلّ ما يرجوه أو يقصّد
كلّ عروض يعتزي إليها ... وإنما مداره عليها
منها خماسيّان في الهجاء ... ووغيرها مسبّع البناء
يدخلها النّقصان بالزّحاف ... في الحشو والعروض والقوافي
وإنما يدخلّ في الأسباب ... لأنها تعرف باضطراب
باب الزحاف
فكلّ جزء زال منه الثاني ... من كلّ ما يبدو على اللسان
وكان حرفا شأنه السّكون ... فإنه عندي اسمه مخبون
وإن وجدت الثاني المنقوصا ... محرّكا سميته الموقوصا
وإن يكن محرّكا فسكّنا ... فذلك المضمر حقّا بيّنا
والرابع الساكن إذ يزول ... فذلك المطويّ لا يحول
وإن يزل خامسه المسكّن ... فذلك المقبوض فهو يحسن
وإن يكن هذا الذي يزول ... محرّكا فإنه المعقول
وإن يكن محرّكا سكنته ... فسمّه المعصوب إن سمّيته
وإن أزلت سابع الحروف ... سميته إذ ذاك بالمكفوف
باب الزحاف الذي يكون في موضعين من الجزء
كل زحاف كان في حرفين ... حل من الجزء بموضعين
فإنه يجحف بالأجزاء ... وهو يسمّى أقبح الأسماء
فكلّ ما سكّن منه الثاني ... وأسقط الرابع في اللسان(6/278)
فذلك المخزول وهو يقبح ... فحيثما كان فليس يصلح
وإن يزل رابعه والثاني ... وذا وذا في الجزء ساكنان
فإنه عندي اسمه المخبول ... يقصّر الجزء الذي يطول
وكل جزء في الكتاب يدرك ... يسكن منه الخامس المحرّك..
.. وأسقط السابع وهو يسكن ... فذلك المنقوص ليس يحسن
وسابع الجزء وثانيه إذا ... كان يعدّ ساكنا ذاك وذا
فأسقطا بأقبح الزّحاف ... سمّي مشكولا بلا اختلاف
هذا الزحاف لا سواه فاسمع ... يطلق في الأجزاء لم يمتنع
باب العلل
والعلل التي تجوز أجمع ... وليس في الحشو لهنّ موضع..
.. ثلاثة، تدعى بالابتداء ... والفصل والغاية في الأجزاء
والاعتماد خارج عن شكلها ... وفعله مخالف لفعلها
لأنهم قد تركوا التزامه ... وجاز فيه القبض والسّلامه
ومثل ذاك جائز في الحشو ... فنحو هذا غير ذاك النحو
وكلّ معتلّ فغير جائز ... في الحشو والقصيد والأراجز
وإنما أجازه الخليل ... مجازفا إذ خانه الدّليل
وكلّ حيّ من بني حوّاء ... فغير معصوم من الخطاء
فأوّل البيت إذا ما اعتلّا ... سمّيته بالابتداء كلّا
وغاية الضرب تسمّى غايه ... وليس في الحشو لها حكايه
وكل ما يدخل في العروض ... من علة تجوز في القريض
فهي تسمّى الفصل عند ذاكا ... وقلّ من يعرفه هناكا!
باب الخرم
والخرم في أوائل الأبيات ... تعرف بالأسماء والصّفات(6/279)
نقصان حرف من أوائل العدد ... في كلّ ما شطر يفكّ من وتد
خمسة أشطار من الشّطور ... يخرم منها أوّل الصّدور:
منها الطويل أوّل الدّوائر ... وأطول البناء عند الشّاعر
يدخله الخرم فيدعى أثلما ... فإن تلاه القبض سمّي أثرما
والوافر الذي مدار الثانية ... عليه، قد تعيه أذن واعيه
يدخله الخرم في الابتداء ... في أوّل الجزء من الأجزاء
وهو يسمى أعصبا، وكلّ ما ... ضمّ إليه العصب سمّي أقصما
وإن يكن أعصب ثم يعقل ... فذلك الأجمّ ليس يجهل
والهزج الذي هو السّوار ... عليه للثالثة المدار
يدخله الخرم فيدعى أخرما ... وهو قبيح فاعلمن وافهما
حتى إذا ما كفّ بعد الخرم ... سمّيته أخرب إذ تسمّي
والأشتر المهجّن العروضا ... ما كان منه آخر مقبوضا
هذا وفي الرابعة المضارع ... يدخل فيه الخرم لا يدافع
كمثل ما يدخل في شطر الهزج ... وهو يسمّى باسمه بلا حرج
ولا يجوز الخرم فيه وحده ... إلا بقبض أو بكف بعده
لعلّة التراقب المذكور ... خصّ به من أجمع الشّطور
والمتقارب الذي في الآخر ... تحلو به خامسة الدوائر
يدخله ما يدخل الطويلا ... من خرمه وليس مستحيلا
هذا جميع الخرم لا سواه ... وهو قبيح عند من سمّاه
يدخل في أوائل الأشعار ... ما قيل في ذي الخمسة الأشطار
لأن في أوّل كلّ شطر ... حركتين في ابتداء الصّدر
وإنما ينفكّ في أوتاد ... فلم يضرها الخرم في الكماد
لقوّة الأوتاد في أجزائها ... وأنها تبرأ من أدوائها
سالمة من أجمع الزّحاف ... في كلّ مجزوء وكل وافي(6/280)
والجزء ما لم تر فيه خرما ... فإنه الموفور قد يسمّى
باب علل الأعاريض والضروب
والعلل المسمّيات اللاتي ... تعرف بالفصول والغايات
تدخل في الضّرب وفي العروض ... وليس في الحشو من القريض
منها الذي يعرف بالمحذوف ... وهو سقوط السبب الخفيف
في آخر الجزء الذي في الضرب ... أو في العروض غير قول كذب
ومثله المعروف بالمقطوف ... لو بسكون آخر الحروف
وكلّ جزء في الضروب كائن ... أسقط منه آخر السّواكن
وسكّن الآخر من باقيه ... مما يجيزون الزّحاف فيه
فذلك المقصور حين يوصف ... وإن يكن آخره لا يزحف ...
من وتد يكون حين لا سبب ... فذلك المقطوع حين ينتسب
وكلّ ما يحذف ثم يقطع ... فذلك الأبتر وهو أشنع
وإن يزل من آخر الجزء وتد ... إن كان مجموعا فذلك الأحدّ
أو كان مفروقا فذاك الأصلم ... كلاهما للجزء حقّا صيلم
وإن يسكّن سابع الحروف ... فإنه يعرف بالموقوف
وإن يكن محرّكا فأذهبا ... فذلك المكشوف حقّا موجبا
وبعده التشعيث في الخفيف ... في ضربه السالم لا المحذوف
يقطع منه الوتد الموسّط ... وكلّ شيء بعده لا يسقط
باب التعاقب والتراقب
وبعذ ذا تعاقب الجزءين ... في السببين المتقابلين
لا يسقطان جملة في الشعر ... فإنّ ذاك من أشدّ الكسر
ويثبتان أيّما ثبات ... وذاك من سلامة الأبيات
وإن ينل يعضهما إزاله ... عاقبه الآخر لا محاله
فكل ما عاقبه ما قبله ... سمي صدرا فافهمنّ أصله(6/281)
وكلّ ما عاقبه ما بعده ... فهو يسمّى عجزا فعدّه
وإن يكن هذا وذا معاقبا ... فهو يسمّى طرفين واجبا
يدخل في الميديد والخفيف ... والرّمل المجزوء والمحذوف
ويدخل المجتث أيضا أجمعه ... ولا يكون في سوى ذي الأربعه
والجزء إذ يخلو من التعاقب ... فهو بريء غير قول الكاذب
وهكذا إن قسته التعاقب ... وليس مثل ذلك التراقب
لانه لم يأت من جزءين ... في السببين المتجاورين
لكنه جاء بجزء واحد ... في أول الصدر من القصائد
والسببان غير مزحوفين ... في جزئه وغير سالمين
إن زال هذا كان ذا مكانه ... فاسمع مقالي وافهمن بيانه
فهكذا التراقب الموصوف ... وكله في شطره معروف
يدخل أولّ المضارع السبب ... وبعده يدخل صدر المقتضب
الزيادات على الاجزاء
ثم الزيادات على الاجزاء ... موجودة تعرف بالأسماء
وإنما تكون في الغايات ... تزاد في أواخر الابيات
وكلّها في شطره موجود ... منها المرفّل الذي يزيد ...
.. حرفين في الجزء على اعتداله ... محرّكا وساكنا في حاله
وذاك فيما لا يجوز الزحف ... فيه ولا يعزى إليه الضّعف
وفيه أيضا يدخل المذال ... مقيّدا في كلّ ما يقال
وهو الذي يزيد حرفا ساكنا ... على اعتدال جزئه مباينا
ومثله المسبغ من هذي العلل ... حرف تريده على شطر الرمل
باب نقصان الاجزاء
فإن رأيت الجزء لم يذهب معا ... بالانتقاص فهو واف فاسمعا(6/282)
وإن يكن أذهبه النّقصان ... فافهم ففي قولي لك البيان ...
... فذلك المجزوء في النّصفين ... إذا انتقصت منهما جزءين
والبيت إن نقصت منه شطره ... فذلك المشطور فافهم أمره
وإن نقصت منه بعد الشّطر ... جزءا صحيحا من أخير الصدر..
.. وكان ما يبقى على جزءين ... فذلك المنهوك غير مين
صفة الدوائر
فاسمع فهذي صفة الدوائر ... وصف عليم بالعروض خابر «1»
دوائر تعيا على ذهن الحذق ... خمس عليهنّ الخطوط والحلق
فما لها من الخطوط البائنه ... دلائل على الحروف السّاكنه
والحلقات المتجوّفات ... علامة للمتحرّكات
والنقط التي على الخطوط ... علامة تعدّ للسّقوط
والحلق التي عليها تنقط ... تسكن أحيانا وحينا تسقط
والنقط التي بأجواف الحلق ... لمبتدا الشطور منها يخترق
فانظر تجد من تحتها أسماءها ... مكتوبة قد وضعت إزاءها
والنّقطتان موضع التعاقب ... ومثل ذاك موضع التراقب
وهذه صورة كل واحده ... منها ومعنى فسرها على حده
أوّلها دائرة الطويل ... وهي ثمان لذوي التفصيل
مقسّم الشطر على أرباع ... بين خماسيّ إلى سباعي
حروفه عشرون بعد أربعه ... قد بيّنوا الكلّ موضعه
ينقل منها خمسة شطور ... يفصلها التفعيل والتقدير
منها الطويل والمديد بعده ... ثم البسيط يحكمون سرده(6/283)
ثلاثة قالت عليها العرب ... واثنان صدّوا عنهما ونكبوا «1»
وهذه صورتها كما ترى ... وذكرها مبيّنا مفسّرا
الأولى: دائرة المختلف
الطويل: مبني على فعولن مفاعيلن ثماني مرات المديد: مبني على فاعلاتن فاعلن، ست مرات البسيط: مبني على مستفعلن فاعلن، ثماني مرات
وهذه الثانية المخصوصه ... السبب الثقيل والمنقوصة
أجزاؤها مثلثة مسبّعة ... قد كرهوا أن يجعلوها أربعه
لانّها تخرج عن مقدارهم ... في جملة الموزون من أشعارهم
فهي على عشرين بعد واحد ... من الحروف ما بها من زائد
ينفكّ منها وافر وكامل ... وثالث قد حار فيه الجاهل(6/284)
الثانية: دائرة المؤتلف
الوافر: مبني على مفاعلتن، ست مرات «1» ، فقطعوا ضربه وعروضه.
الكامل: مبني على متفاعلن، ست مرات «2» .
والدائرة الثالثة التي حكت ... في قدرها الثانية التي مضت
في عدّة الأجزاء والحروف ... وليس في الثقيل والخفيف
ينفكّ منها مثل ما ينفكّ ... من تلك حقّا ليس فيه شكّ
ترفل من ديباجها في حلل ... من هزج أو رجز أو رمل
وهذه صورتها مبيّنه ... بحليها ووشيها مزيّنه «3»(6/285)
الثالثة: دائرة المجتلب
الهزج: مبني على مفاعيلن، بعد الحذف، أربع مرات «1» .
الرجز: مبني على مستفعلن، ست مرات «2» الرمل: مبني على فاعلاتن، ست مرات «3»
ورابع الدوائر المسروده ... أجزاؤها ثلاثة معدوده
عجيبة قد حار فيها الوصف ... عشرون حرفا عدّها وحرف
مثل التي تقدمت من قبلها ... وشكلها مخالف لشكلها
بديعة أحكم تدبيرها ... بالوتد المفروق في شطورها
ينفكّ منها ستّة مقوله ... من بينها ثلاثة مجهوله
وكلّ هذي السّتّة المشطوره ... معروفة لأهلها مخبوره
أوّلها السريع ثم المنسرح ... ثم الخفيف بعده ثم وضح
وبعده مضارع ومقتضب ... شطران مجزوءان في قول العرب
وبعدها المجتثّ أحلى شطر ... يوجد مجزوءا لأهل الشّعر(6/286)
الرابعة: دائرة المشتبه
السريع: مبني على مستفعلن مفعولات، ست مرات.
المنسرح: مبني على مستفعلن مفعولات مستفعلن، ست مرات.
الخفيف: مبني على فاعلاتن مستفعلن فاعلاتن، ست مرات.
المضارع: مبني على مفاعيلن فاعلاتن ست مرات؛ فحذفوا منه جزأين فصار مربعا.
المقتضب: مبني على مفعولات مستفعلن مستفعلن ست مرات، فربعوه كما تقدم.
المجتث: مبني على فاعلاتن فاعلاتن. ست مرات. فربعوه كما تقدم
وبعدها خامسة الدوائر ... للمتقارب الذي في الآخر
ينفك منها شطره وشطر ... لم يأت في الاشعار منه الذّكر
من أقصر الاجزاء والشطور ... حروفه عشرون في التقدير(6/287)
مؤلّف الشطر على فواصل ... مجسّمات أربع مواثل
هذا الذي جرّبه المجرّب ... من كلّ ما قالت عليه العرب
فكلّ شيء لم تقل عليه ... فإننا لم نلتفت إليه
ولا نقول غير ما قد قالوا ... لانه من قولنا محال
وأنه لو جاز في الابيات ... خلافه لجاز في اللّغات
وقد أجاز في الابيات ... خلافه لجاز في اللّغات
لانه ناقض في معناه ... والسيف قد ينبو وفيه ماه «1»
إذ جعل القول القديم أصله ... ثم أجاز ذا وليس مثله
وقد يزل العالم النّحرير ... والحبر قد يخونه التّحبير «2»
وليس للخليل من نظير ... في كلّ ما يأتي من الامور
لكنّه فيه نسيج وحده ... ما مثله من قبله وبعده
فالحمد لله على نعمائه ... حمدا كثيرا وعلى آلائه «3»
يا ملكا ذلّت له الملوك ... ليس له في ملكه شريك
ثبّت لعبد الله حسن نيّته ... واعطفه بالفضل على رعيّته(6/288)
الخامسة: دائرة المتفق
المتقارب: مبني على فعولن، ثماني مرات «1» .(6/289)
ابتداء الأمثال شطر الطويل
[شطر الطويل]
الطويل له عروض واحد مقبوض، وثلاثة ضروب: ضرب سالم، وضرب مقبوض، وضرب محذوف معتمد.
العروض المقبوض والضرب السالم
وروضة ورد حفّ بالسوسن الغضّ ... تحلّت بلون السّام والذهب المحض «1»
رأيت بها بدرا على الأرض ماشيا ... ولم أر بدرا قطّ يمشي على الأرض
إلى مثله فلتصب إن كنت صابيا ... فقد كاد منه البعض يصبو إلى البعض «2»
وكل ورد خدّيه ورمّان صدره ... بمصّ على مص وعضّ على عضّ
وقل للذي أفنى الفؤاد بحبّه ... على أنه يجزي المحبة بالبغض:
«أبا منذر أفنيت فاستبق بعضنا ... حنانيك بعض الشّرّ أهون من بعض»
تقطيعه:
فعولن، مفاعيلن، فعولن، مفاعلن ... فعولن، مفاعيلن، فعولن، مفاعيلن
الضرب المقبوض
وحاملة راحا على راحة اليد ... مورّدة تسعى بلون مورّد(6/290)
على ياسمين كاللجين ونرجس ... كأقراط درّ في قضيب زبرجد «1»
بتلك وهذي فاله ليلك كلّه ... وعنها فسل لا تسأل الناس عن غد
«ستبدي لك الايام ما كنت جاهلا ... ويأتيك بالاخبار من لم تزوّد»
تقطيعه
فعولن مفاعيلن، فعولن، مفاعلن ... فعولن، مفاعيلن، فعولن، مفاعلن
الضرب المحذوف المعتمد
أيقتلني دائي وأنت طبيبي ... قريب وهل من لا يرى بقريب
لئن خنت عهدي إنني غير خائن ... وأيّ محبّ خان عهد حبيب
وساحبة فضل الذّيول كأنها ... قضيب من الرّيحان فوق كثيب «2»
إذا ما بدت من حدرها قال صاحبي ... أطعني وخذ من وصلها بنصيب
«وما كلّ ذي لبّ بمؤتيك نصحه ... وما كلّ مؤت نصحه بلبيب»
تقطيعه
فعولن، مفاعيلن، فعولن، مفاعلن ... فعولن، مفاعيلن، فعول، فعولن
يجوز في حشو الطويل القبض والكف، فالقبض فيه حسن، والكف فيه قبيح؛ ويدخله الخرم في الابتداء، فيقال له: أثلم؛ فإذا دخله القبض مع الخرم قيل له: أثرم.
والخرم سقوط حركة من أول البيت، ولا يكون إلا في وتد؛ والقبض ما ذهب خامسه الساكن، والكف ما ذهب سابعه الساكن، والاعتماد [في الطويل] سقوط الخامس من فعولن التي قبل القافية، اعتمد به فقبض، ولم تجر فيه السلامة إلا على(6/291)
قبح، ولم يأت في الشعر الا شاذا قليلا؛ والاعتماد في المتقارب: سلامة الجزء الذي قبل القافية؛ والمحذوف ما ذهب من آخره سبب خفيف.
شطر المديد: وهو مجزوء كله
له ثلاثة أعاريض وستة ضروب، فالعروض الاول منها مجزوء وله ضرب مثله؛ والعروض الثاني محذوف لازم الثاني، له ثلاثة ضروب لازمة الثاني: ضرب مقصور لازم الثاني، وضرب محذوف لازم الثاني، وضرب أبتر لازم الثاني؛ والعروض الثالث محذوف مخبون وله ضربان: ضرب مثله، وضرب أبتر لازم الثاني.
العروض المجزوء والضرب المجزوء
يا طويل الهجر لا تنس وصلي ... واشتغالي بك عن كلّ شغل
يا هلالا فوق جيد غزال ... وقضيبا تحته دعص رمل «1»
لا سلت عاذلتي عنه نفسي ... أكثري في حبّه أو أقلّي
شادن يزهي بخدّ وجيد ... مائس فاتن حسن ودلّ»
«ومتى مايع منك كلاما ... يكلّم فيجبك بعقل»
تقطيعه:
فعلاتن، فعلن، فعلاتن، ... فعلاتن، فعلن، فعلاتن
العروض المحذوف اللازم الثاني والضرب المقصور اللازم الثاني
يا وميض الرق بين الغمام ... لا عليها بل عليك السلام
إنّ في الاحداج مقصورة ... وجهها يهتك ستر الظلام(6/292)
تحسب الهجر حلالا لها ... وترى الوصل عليها حرام
ما تأسّيك لدار خلت ... ولشعب شتّ بعد التئام
«إنما ذكرك ما قد مضى ... ضلّة مثل حديث المنام»
تقطيعه:
فاعلاتن، فعلن، فاعلن ... فاعلاتن، فعلن، فاعلان
الضرب المحذوف اللازم الثاني
عتب ظلت له عاتبا ... ربّ مطلوب غدا طالبا
من يتب عن حب معشوقه ... لست عن حبّي له تائبا
فالهوى لي قدر غالب ... كيف أعصي القدر الغالبا
ساكن القصر ومن حلّه ... أصبح القلب بكم ذاهبا
«اعلموا أني لكم حافظ ... شاهدا ما عشت أو غائبا»
تقطيعه:
فاعلاتن، فاعلن، فاعلن ... فاعلاتن، فاعلن، فاعلن
الضرب الابتر
أيّ تفّاح ورمّان ... يجتنى من خوط ريحان «1»
أيّ ورد فوق خدّ بدا ... مستنيرا بين سوسان
وثن يعبد في روضه ... صيغ من درّ ومرجان «2»
من رأى الذّلفاء في خلوة ... لم ير الحدّ على الزّاني! «3»
«إنما الذّلفاء ياقوتة ... أخرجت من كيس دهقان» «4»(6/293)
تقطيعه:
فاعلاتن، فاعلن، فاعلن ... فاعلاتن، فاعلن، فعلن
العروض المجزوء المحذوف والمخبون ضربه
من محب شفّه سقمه ... وتلاشى لحمه ودمه
كاتب حنّت صحيفته ... وبكى من رحمة قلمه
يرفع الشكوى إلى قمر ... ينجلي عن وجهه ظلمه
من لقرن الشمس جبهته ... وللمع البرق مبتسمه
خلّ عقلي يا مسفّهه ... إنّ عقلي لست أتهمه
«للفتى عقل يعيش به ... حيث تهدي ساقه قدمه»
تقطيعه:
فاعلاتن، فاعلن، فعلن ... فاعلاتن، فاعلن، فعلن
الضرب الابتر اللازم الثاني
زادني لومك أضرارا ... إنّ لي في الحب أنصارا
طار قلبي من هوى رشإ ... لو دنا للقلب ما طارا «1»
خذ بكفّي لا أمت غرقا ... إنّ بحر الحبّ قد فارا
أنضجت نار الهوى كبدي ... ودموعي تطفىء النارا
«ربّ نار بتّ أرمقها ... تقضم الهنديّ والغارا» «2»(6/294)
تقطيعه:
فاعلاتن، فاعلن، فعلن ... فاعلاتن، فاعلن، فعلن
يجوز في حشو المديد: الخبن، والكف، والشكل، فالمخبون: ما ذهب ثانيه الساكن، والمكفوف: ما ذهب سابعه الساكن، والمشكول: ما ذهب ثانيه وسابعه الساكنان، وهو اجتماع الخبن والكف في فاعلاتن.
ويدخله التعاقب في السببين المتقابلين بين النون من «فاعلاتن» والالف من «فاعلن» لا يسقطان جميعا، وقد يثبتان، فما عاقبه ما قبله فهو صدر، وما عاقبه ما بعده فهو عجز، وما عاقبه وما قبله وما بعده فهو طرفان، وما لم يعاقبه شيء فهو بريء، والمقصور: ما ذهب آخر سواكنه وسكن آخر متحرّكاته من السبب، والابتر:
ما حذف ثم قطع.
شطر البسيط
البسيط له ثلاثة أعاريض وستة أضرب:
فالعروض الاوّل مخبون تام، وله ضربان: ضرب مثله، وضرب مقطوع لازم الثاني.
والعروض الثاني مجزوء، له ثلاثة أضرب: ضرب مذال وضرب مجزوء، وضرب مقطوع ممنوع من الطيّ.
والعروض الثالث مقطوع ممنوع من الطيّ، له ضرب مثله.
العروض المخبون والضرب المخبون
بين الاهلّة بدر ماله فلك ... قلبي له سلم والوجه مشترك
إذا بدا انتهبت عيني محاسنه ... وذلّ قلبي لعينيه فينتهك
ابتعت بالدين والدنيا مودّته ... فخانني، فعلى من يرجع الدرك(6/295)
كفّوا بني حارث ألحاظ ريمكم ... فكلها لفؤادي كلّه شرك «1»
«يا حار لا أرمين منكم بداهية ... لم يلقها سوقة قبلي ولا ملك»
تقطيعه:
مستفعلن، فاعلن، مستفعلن، فعلن ... مستفعلن، فاعلن، مستفعلن، فعلن
الضرب المقطوع اللازم الثاني
يا ليلة ليس في ظلمائها نور ... إلا وجوها تضاهيها الدنانير
حور سقتني بكأس الموت أعينها ... ماذا سقتنيه تلك الأعين الحور «2»
إذا ابتسمن فدرّ الثغر منتظم ... وإن نطقن فدرّ اللفظ منثور
خلّ الصّبا عنك واختم بالنّهى عملا ... فإنّ خاتمة الاعمال تكفير
«والخير والشرّ مقرونان في قرن ... فالخير متّبع والشر محذور» «3»
تقطيعه:
مستفعلن، فاعلن، مستفعلن فعلن ... مستفعلن، فعلن، مستفعلن، فعلن
العروض المجزوء والضرب المذال
يا طالبا في الهوى ما لا ينال ... وسائلا لم يعف ذلّ السؤال
ولّت ليالي الصّبا محمودة ... لو أنها رجعت تلك الليال
وأعقبتها التي واصلتها ... بالهجر لمّا رأت شيب القذال «4»
لا تلتمس وصلة من مخلف ... ولا تكن طالبا ما لا ينال
«يا صاح قد أخلفت أسماء ما ... كانت تمنّيك من حسن الوصال»(6/296)
تقطيعه:
مستفعلن، فاعلن، مستفعلن ... مستفعلن، فاعلن، مستفعلان
الضرب المجزوء
ظالمتي في الهوى لا تظلمي ... وتصرمي حبل من لم يصرم
أهكذا باطلا عاقبتني ... لا يرحم الله من لم يرحم
قتلت نفسا بلا نفس وما ... ذنب بأعظم من سفك الدم
لمثل هذا بكت عيني ولا ... للمنزل القفر أو للأرسم
«ماذا وقوفي على رسم عفا ... مخلولق دارس مستعجم» «1»
تقطيعه:
مستفعلن، فاعلن، مستفعلن ... مستفعلن، فاعلن، مستفعلن
الضرب المقطوع الممنوع من الطيّ
ما أقرب اليأس من رجائي ... وأبعد الصبر من بكائي
يا مذكي النار في جوانحي ... أنت دوائي وأنت دائي «2»
من لي بمخلفة في وعدها ... تخلط لي اليأس بالرجاء
سألتها حاجة فلم تفه ... فيها بنعمى ولا بلاء
«قلت استجيبي فلما لم تجب ... سالت دموعي على ردائي
تقطيعه:
مستفعلن، فاعلن، مستفعلن ... مستفعلن، فاعلن، فعولن
العروض المقطوع الممنوع من الطيّ
ضربه مثله
كآبة الذّلّ في كتابي ... ونخوة العزّ في جواب(6/297)
قتلت نفسا بغير نفس ... فكيف تنجو من العذاب
خلقت من بهجة وطيب ... إذ خلق الناس من تراب
ولّت حميّا الشباب عني ... فلهف نفسي على الشباب
«اصبحت والشيب قد علاني ... يدعو حثيثا إلى الخضاب» «1»
تقطيعه:
مستفعلن، فاعلن، فعولن ... مستفعلن، فاعلن، فعولن
يجوز في حشو البسيط: الخبن، والطي، والخبل، فالخبن ما ذكرناه في المديد، والطيّ ما ذهب رابعه الساكن، والمخبول ما ذهب ثانيه ورابعه الساكنان، وهو اجتماع الخبن والطيّ في «مستفعلن» .
والخبن فيه حسن، والطيّ فيه صالح، والخبل فيه قبيح.
والمقطوع ما ذهب آخر سواكنه وسكن آخر متحركاته من الوتد، والمذال ما زاد على اعتداله حرف ساكن.
[تمت الدائرة الأولى]
شطر الوافر
له عروضان وثلاثة أضرب: فالعروض الأول مقطوف، له ضرب مثله، والعروض الثاني مجزوء ممنوع من العقل، له ضربان: ضرب سالم، وضرب معصوب.
العروض المقطوف: الضرب المقطوف
تجافى النوم بعدك عن جفوني ... ولكن ليس يجفوها الدّموع
يذكّرني تبسّمك الأقاحي ... ويحكي لي تورّدك الربيع
يطير إليك من شوق فؤادي ... ولكن ليس تتركه الضّلوع(6/298)
كأنّ الشمس لمّا غبت غابت ... فليس لها على الدّنيا طلوع
فمالي عن تذكّرك امتناع ... ودون لقائك الحصن المنيع
«إذا لم تسطع شيئا فدعه ... وجاوزه إلى ما تستطيع»
تقطيعه:
مفاعلتن، مفاعلتن، فعولن ... مفاعلتن، مفاعلتن، فعولن
العروض المجزوء الممنوع من العقل. الضرب السالم
غزال زانه الحور ... وساعد طرفه القدر «1»
يريك إذا بدا وجها ... حكاه الشمس والقمر
براه الله من نور ... فلا جنّ ولا بشر
فذاك الهمّ، لا طلل ... وقفت عليه تعتبر
«أهاجك منزل أقوى ... وغيّر آيه الغير»
تقطيعه:
مفاعلتن، مفاعلتن ... مفاعلتن، مفاعلتن
الضرب المعصوب
وبدر غير ممحوق ... من العقيان مخلوق «2»
إذا أسقيت فضلته ... مزجت بريقه ريقي
فيالك عاشقا يسقى ... بقيّة كأس معشوق
يكيت لنأيه عني ... ولا أبكي بتشهيق
«لمنزلة بها الأفلا ... ك أمثال المهاريق» «3»(6/299)
تقطيعه:
مفاعلتن، مفاعلتن ... مفاعلتن، مفاعلتن
يجوز في حشو الوافر: العصب، والعقل، والنقص، فالعصب فيه حسن، والنقص فيه صالح، والعقل فيه قبيح.
ويدخله الخرم في الابتداء فيسقط حركة من أول البيت فيسمى أعصب، فإذا دخله العصب مع الخرم قيل له: أقصم، فإذا دخله النقص من الخرم قيل له: أعقص، فإذا دخله العقل مع الخرم قيل له: أجمّ.
والمعصوب ما سكن خامسه المتحرك، والمنقوص ما سكن خامسه المتحرك وذهب سابعه الساكن، والمقطوف ما ذهب من آخره سبب خفيف وسكن آخر ما بقي، ولا يدخل القطف إلا في العروض والضرب من تمام الوافر.
شطر الكامل
الكامل له ثلاثة أعاريض وتسعة ضروب، فالعرض الأول تام، له ثلاثة ضروب:
ضرب تام مثله، وضرب مقطوع ممنوع إلا من سلامة الثاني وإضماره، وضرب أحذّ مضمر.
والعروض الثاني أحذّ له ضربان: ضرب مثله وضرب مضمر.
والعروض الثالث مجزوء له أربعة ضروب: ضرب مرفّل، وضرب مذال، وضرب مجزوء، وضرب مقطوع ممنوع إلا من سلامة الثاني وإضماره.
العروض التام: الضرب التام
يا وجه معتذر ومقلة ظالم ... كم من دم ظلما سفكت بلا دم
أوجدت وصلي في الكتاب محرّما ... روجدت قتلي فيه غير محرّم
كم جنة لك قد سكنت ظلالها ... متفكّها في لذّة وتنعّم(6/300)
وشربت من خمر العيون تعلّلا ... فإذا انتشيت أجود جود المرزم «1»
«وإذا ضحوت فما أقصّر عن ندى ... كما علمت شمائلي وتكرّمي»
تقطيعه:
متفاعلن، متفاعلن، متفاعلن ... متفاعلن، متفاعلن، متفاعلن
الضرب المقطوع الممنوع إلا من الإضمار والسلامة
حال الزّمان فبدّل الآمالا ... وكسا المشيب مفارقا وقذالا «2»
غنيت غواني الحيّ عنك وربما ... طلعت إليك أكلّة وحجالا
أضحى عليك حلالهنّ محرّما ... ولقد يكون حرامهنّ حلالا
إنّ الكواعب إن رأينك طاويا ... وصل الشباب طوين عنك وصالا «3»
«وإذا دعونك عمّهنّ فإنه ... نسب يزيدك عندهنّ خبالا»
تقطيعه:
متفاعلن، متفاعلن، متفاعلن ... متفاعلن، متفاعلن، فعلاتن
الضرب الأخذ المضمر
يوم المحبّ لطوله شهر ... والشهر يحسب أنه دهر
بأبي وأمي غادة في خدّها ... سحر وبين جفونها سحر
الشمس تحسب أنها شمس الضّحى ... والبدر يحسب أنها البدر
فسل الهوى عنها يجبك، وإن نأت ... فسل القفار يجيبك القفر «4»
«لمن الديار برامتين فعاقل ... درست وغيّر آيها القطر» «5»
تقطيعه
متفاعلن، متفاعلن، متفاعلن ... متفاعلن، متفاعلن، فعلن(6/301)
العروض الأحذ ضربه مثله
أمّا الخيط فشدّ ما ذهبوا ... بانوا ولم يقضوا الذي يجب
فالدار بعدهم كوشم يد ... يا دار فيك وفيهم العجب
أين التي صيغت محاسنها ... من فضّة شيبت بها ذهب
ولّى الشباب فقلت أندبه ... لا مثل ما قالوا ولا ندبوا
«دمن عفت ومحا معالمها ... هطل أجشّ وبارح ترب»
تقطيعه:
متفاعلن، متفاعلن، فعلن ... متفاعلن، متفاعلن، فعلن
الضرب الأحذ المضمر
عينيّ كيف غررتما قلبي ... وأبحتماه لوعة الحبّ
يا نظرة أذكت على كبدي ... نارا قضيت بحرّها نحبي
خلّوا جوى قلبي أكابده ... حسبي مكابدة الجوي حسبي
عيني جنت من شؤم نظرتها ... ما لا دواء له، على قلبي
جانيك من يجني عليك وقد ... تعدي الصّحاح مبارك الجرب»
تقطيعه:
متفاعلن، متفاعلن، فعلن ... متفاعلن، متفاعلن، فعلن
العروض المجزوء والضرب المجزوء المرفل
هتك الحجاب عن الضمائر ... طرف به تبلى السرائر
يرنو فيمتحن القلو ... ب كأنه في القلب ناظر «1»
يا ساحرا ما كنت أع ... رف قبله في الناس ساحر
أقصيتني من بعد ما ... أدنيتني فالقلب طائر
«وغررتني وزعمت أنّ ... ك لابن بالصيف تامر»(6/302)
تقطيعه:
متفاعلن، متفاعلن ... متفاعلن، متفاعلاتن
الضرب المذال
يا مقلة الرّشإ الغري ... ر وشقّة القمر المنير «1»
ما رنّقت عيناك لي ... بين الأكلّة والسّتور
إلا وضعت يدي على ... قلبي مخافة أن يطير
هبني كبعض حمام مكّ ... ة واستمع قول النذير:
«أبنيّ لا تظلم بمكّ ... ة لا الصغير ولا الكبير»
تقطيعه:
متفاعلن، متفاعلن ... متفاعلن، متفاعلان
الضرب المجزوء
قل ما بدا لك وافعل ... واقطع حبالك أوصل
هذا الربيع فحيّه ... وانزل بأكرم منزل
وصل الذي هو واصل ... فإذا كرهت فبدّل
وإذا نبا بك منزل ... أو مسكن فتحوّل «2»
«وإذا افتقرت فلا تكن ... متخشّعا وتجمّل» «3»
تقطيعه:
متفاعلن، متفاعلن ... متفاعلن، متفاعلن
الضرب المقطوع الممنوع إلا من سلامة الثاني وإضماره
يا دهر مالي أصفي ... وأنت غير مواتي(6/303)
جرعتني غصصا بها ... كدّرت صفو حياتي
أين الذين تسابقوا ... في المجد للغايات
قوم بهم روح الحيا ... ة تردّ في الأموات
«وإذا هموا ذكروا الإسا ... ءة أكثروا الحسنات»
تقطيعه:
متفاعلن، متفاعلن ... متفاعلن، فعلاتن
يجوز في الكامل من الزحاف: الإضمار والوقص والخزل، فالإضمار فيه حسن، والوقص فيه صالح، والخزل فيه قبيح.
فالمضمر ما سكن ثانيه المتحرك.
والموقوص ما ذهب ثانيه المتحرك.
والمخزول ما سكن ثانيه المتحرك وذهب رابعه الساكن.
ويدخله من العلل القطع والحذذ، فالمقطوع ما تقدم ذكره، والأحذ ما ذهب من آخر الجزء وتد مجموع.
[تمت الدائرة الثانية]
شطر الهزج
الهزج له عروض واحد مجزوء ممنوع من القبض، وضربان: ضرب سالم، وضرب محذوف.
العروض المجزوء الممنوع من القبض ضربه مثله
أيا من لام في الحبّ ... ولم يعلم جوى قلبي
ملام الصبّ يغويه ... ولا أغوى من القلب
فأنّى لمت في هند ... محبّا صادق الحبّ(6/304)
وهند مالها شبه ... بشرق لا ولا غرب
«إلى هند صبا قلبي ... وهند مثلها يصبي»
تقطيعه:
مفاعيلن، مفاعيلن ... مفاعيلن، مفاعيلن
الضرب المجزوء المحذوف
متى أشفي غليلي ... بنيل من بخيل
غزال ليس لي منه ... سوى الحزن الطويل
جميل الوجه أخلاني ... من الصبر الجميل
حملت الضّيم فيه من ... حسود أو عذول
«وما ظهري لباغي الضّيم ... بالظهر الذّلول» «1»
تقطيعه:
مفاعيلن، مفاعيلن ... مفاعيلن، فعولن
يجوز في الهزج من الزحاف: القبض، والكف، فالكف فيه حسن، والقبض فيه قبيح، وقد فسرنا المقبوض والمكفوف في الطويل أيضا، ويدخله الخرم في الابتداء، فيكون أخرم، فإذا دخله الكف مع الخرم قيل له: أخرب، فإذا دخله القبض مع الخرم قيل له: أشتر، والخرم كله قبيح.
شطر الرجز
الرجز له أربعة أعاريض وخمسة ضروب:
فالعروض الأول تام، له ضربان: ضرب تام مثل عروضه، وضرب مقطوع ممنوع من الطيّ.(6/305)
والعروض الثاني مجزوء، له ضرب مثله مجزوء.
والعروض الثالث مشطور، له ضرب مثله، والعروض الرابع منهوك، له ضرب مثله.
العروض التام. الضرب التام
لم أدر جنّيّ سباني أم بشر ... أم شمس ظهر أشرقت لي أم قمر
أم ناظر يهدي المنايا طرفه ... حتى كأن الموت منه في النّظر
يحيي قتيلا ما له من قاتل ... إلّا سهام الطّرف ريشت بالحور «1»
ما بال رسم الوصل أضحى داثرا ... حتى لقد أذكرتني مما دثر
«دار لسلمى إذ سليمى جارة ... قفر ترى آيانها مثل الزّبر» «2»
تقطيعه:
مستفعلن، مستفعلن، مستفعلن ... مستفعلن، مستفعلن، مستفعلن
الضرب المقطوع الممنوع من الطي
قلب بلوعات الهوى معمود ... حيّ كميت حاضر مفقود «3»
من ذا يداوي القلب من داء الهوى ... إذ لا دواء للهوى موجود
أم كيف أسلو غادة ما حبّها ... إلا قضاء ماله مردود
«القلب منها مستريح سالم ... والقلب منّي جاهد مجهود
تقطيعه:
مستفعلن، مستفعلن، مستفعلن ... مستفعلن مستفعلن، مستفعل(6/306)
العروض المجزوء. الضرب المجزوء
أعطيته ما سألا ... حكّمته لو عدلا
وهبته روحي فما ... أدري به ما فعلا
أسلمته في يده ... عيّشه أم قتلا
قلبي به في شغل ... لا ملّ ذاك الشّغلا
«قيّده الحبّ كما ... قيد راع جملا»
تقطيعه:
مفتعلن، مفتعلن ... مفتعلن، مفتعلن
العروض المشطور. الضرب المشطور
يأيها المشغوف بالحبّ التّعب ... كم أنت في تقريب ما لا يقترب
دع ودّ من لا يرعوي إذا غضب ... ومن إذا عاتبته يوما عتب
«إنك لا تجني من الشّوك العنب»
تقطيعه:
مفتعلن، مستفعلن، مستفعلن
العروض المنهوك. الضرب المنهوك
بياض شيب قد نصع ... رقعته فما ارتقع
إذا رأى البيض انقمع ... ما بين يأس وطمع
لله أيّام النّخع ... يا ليتني فيها جذع
أخبّ فيها وأضع
تقطيعه:
متفعلن، مفتعلن
ويجوز في حشو الرجز: الخبن، والطي، والخبل، فالخبن فيه حسن، والطيّ فيه(6/307)
صالح، والخبل فيه قبيح، وقد مضى تفسير الطيّ والخبن والخبل في البسيط.
ويدخله من العلل القطع، وقد ذكرناه، ويكون مجزوءا، والمجزوء ما ذهب من آخر الصدر جزء ومن آخر العجز جزء، ويأتي مشطورا، والمشطور ما ذهب شطره، ويأتي منهوكا، والمنهوك ما ذهب من شطره جزآن وبقي على جزء.
شطر الرمل
الرمل له عروضان وستة ضروب، فالعروض الأول محذوف جائز فيه الخبن، له ثلاثة ضروب: ضرب متمّم، وضرب مقصور جائز فيه الخبن، وضرب محذوف مثل عروضه، والعروض الثاني مجزوء له ثلاثة ضروب: ضرب مسبّغ، وضرب مجزوء مثل عروضه الجائز فيه الخبن، وضرب محذوف جائز. فيه الخبن.
العروض المحذوف الجائز فيه الخبن لضرب المتمم
أنا في الّلذات مخلوع العذار ... هائم في حب ظبي ذي احورار «1»
صفرة في حمرة في خدّه ... جمعت روضة ورد وبهار
بأبي طاقة آس أقبلت ... تتثنّى بين حجل وسوار
قادني طرفي وقلبي للهوى ... كيف من طرفي ومن قلبي حذاري
«لو بغير الماء حلقي شرق ... كنت كالغضّبان بالماء اعتصاري»
تقطيعه:
فاعلاتن، فاعلاتن، فعلن ... فاعلاتن، فاعلاتن، فاعلاتن
الضرب المقصور
يا مدير الصّدغ في الخدّ الأسيل ... ومجيل السّحر بالمطّرف الكحيل(6/308)
هل لمحزون كئيب قبلة ... منك يشفي بردها حرّ الغليل
وقليل ذاك إلّا أنه ... ليس من مثلك عندي بالقليل
بأبي أحور غنّى موهنا ... بغناء قصّر الليل الطويل
«يا بني الصّيداء ردّوا فرسي ... إنما يفعل هذا بالذّليل»
تقطيعه:
فاعلاتن، فاعلاتن، فعلن ... فاعلاتن، فعلاتن، فاعلات
الضرب المحذوف
شادن يسحب أذيال الطّرب ... يتثنّى بين لهو ولعب «1»
بجبين مفرغ من فضّة ... فوق خدّ مشرب لون الذهب
كتب الدمع بخدّي عهده ... للهوى والشوق يملي ما كتب
ما لجهلي ما أراه ذاهبا ... وسواد الرأس مني قد ذهب
«قالت الخنساء لمّا جئتها ... شاب بعدي رأس هذا واشتهب» »
تقطيعه:
فاعلاتن، فاعلاتن، فاعلن ... فاعلاتن، فاعلاتن، فاعلن
العروض المجزوء. الضرب المسبع
يا هلالا في تجنّيه ... وقضيبا في تثنّيه
والذي لست أسمّيه ... ولكني أكنّيه
شادن ما تقدر العين ... تراه من تلاليه
كلّما قابله شخص ... رأى صورته فيه
«لان حتى لو مشى الذّ ... رّ عليه كاد يدميه»
تقطيعه:
فاعلاتن، فاعلاتن ... فعلاتن، فاعلاتان(6/309)
الضرب المجزوء
يا هلالا قد تجلّى ... في ثياب من حرير
وأميرا بهواه ... قاهرا كلّ أمير
ما لخدّيك استعارا ... حمرة الورد النضير
ورسوم الوصل قد ... ألبستها ثوب دثور «1»
«مقفرات دارسات ... مثل آيات الزبور»
تقطيعه:
فاعلاتن، فاعلاتن ... فاعلاتن، فاعلاتن
الضرب المجزوء المحذوف الجائز فيه الخبن
يا قتيلا من يده ... ميّتا من كمده «2»
قدحت للشوق نارا ... عينه في كبده
هائم يبكي عليه ... رحمة ذو حسده
كلّ يوم هو فيه ... مستعيد من غده
«قلبه عند الثّريّا ... بائن عن جسده» «3»
تقطيعه:
فاعلاتن، فاعلاتن ... فاعلاتن، فعلن(6/310)
يجوز في الرمل من الزحاف: الخبن، والكف، والشكل، فالخبن فيه حسن والكف فيه صالح، والشكل فيه قبيح، وقد فسرنا المكفوف والمخبون.
فأما المشكول فهو ما ذهب ثانيه وسابعه الساكنان.
ويدخله التعاقب في السببين المتقابلين على حسب ما يدخل في المديد، ويدخله من العلل: الحذف، والقصر، والإسباغ، وقد فسرنا المحذوف والمقصور، وأما المسبغ فهو ما زاد على اعتدال جزئه حرف ساكن مما يكون في آخره سبب خفيف، وذلك «فاعلاتن» يزاد عليها حرف ساكن فيكون «فاعلاتان» .
[تمت الدائرة الثالثة] .
شطر السريع
السريع له أربعة أعاريض وسبعة أضرب.
فالعروض الاول مكشوف مطوي لازم الثاني، له ثلاثة ضروب: ضرب موقوف مطوي لازم الثاني، وضرب مكشوف مطوي لازم الثاني مثل عروضه وضرب أصلم سالم.
والعروض الثاني مخبول مكشوف، له ضربان: ضرب مثل عروضه، وضرب أصلم سالم.
والعروض الثالث مشطور موقوف ممنوع من الطيّ، ضربه مثله.
والعروض الرابع مشطور مكشوف ممنوع من الطيّ ضربه مثله.(6/311)
العروض المكسوف المطوي اللازم الثاني الضرب الموقوف المطوى اللازم الثاني
بكيت حتى لم أدع عبرة ... إذ حملوا الهودج فوق القلوص «1»
بكاء يعقوب على يوسف ... حتى شفى غلته بالقميص
لا تأسف الدهر على ما مضى ... والق الذي ما دونه من محيص «2»
«قد يدرك المبطىء من حظّه ... والخير قد يسبق جهد الحريص»
تقطيعه:
مستفعلن، مفتعلن، فاعلن ... مستفعلن، مفتعلن، فاعلات
الضرب المكشوف المطوى اللازم الثاني
لله درّ البين ما يفعل ... يقتل من شاء ولا يقتل
بانوا بمن أهواه في ليلة ... ردّ على آخرها الأوّل
يا طول ليل المبتلى بالهوى ... وصبحه من ليله أطول
فالدار قد ذكّرني رسمها ... ما كدت من تذكاره أذهل
«هاج الهوى رسم بذات الغضى ... مخلولق مستعجم محول»
تقطيعه:
مستفعلن، مستفعلن، فاعلن ... مستفعلن، مستفعلن، فاعلن
الضرب الاصلم السالم
قلبي رهين بين أضلاعي ... من بين إيئاس وإطماع
من حيثما يدعوه داعي الهوى ... أجابه لبّيك من داعي
من لسقيم ماله عائد ... وميّت ليس له ناعي(6/312)
لما رأت عاذلتي ما رأت ... وكان لي من سمعها واعي
«قالت ولم تقصد لقيل الخنا ... مهلا لقد أبلغت أسماعي» «1»
تقطيعه:
مستفعلن، مستفعلن، فاعلن ... مستفعلن، مستفعلن، فعلن
العروض المخبول المكسوف ضربه مثله
شمس تجلّت تحت ثوب ظلم ... سقيمة الطرف بغير سقم
ضاقت عليّ الارض مذ صرمت ... حبلي فما فيها مكان قدم «2»
شمس واقمار تطوف بها ... طوف النصارى حول بيت صنم
«النّشر مسك والوجوه دنا ... نير وأطراف الاكفّ عنم»
تقطيعه:
مستفعلن، مستفعلن، فعلن ... مستفعلن، مستفعلن، فعلن
الضرب الاصلم السالم
أنت بما في نفسه اعلم ... فاحكم بما أحببت أن تحكم
ألحاظه في الحبّ قد هتكت ... مكتومه والحب لا يكتم
يا مقلة وحشيّة قتلت ... نفسا بلا نفس ولم تظلم
قالت تسلّيت فقلت لها ... ما بال قلبي هائم مغرم
«يا أيها الزاري على عمر ... قد قلت فيه غير ما تعلم» «3»(6/313)
تقطيعه:
مستفعلن، مستفعلن، فعلن ... مستفعلن، مستفعلن، فعلن
العروض المشطور الموقوف الممنوع من الطي ضربه مثله
خلّيت قلبي في يدي ذات الخال ... مصفّدا مقيّدا في الاغلال
قد قلت للباكي رسوم الاطلال ... «يا صاح ما هاجك من ربع خال»
تقطيعه:
مستفعلن، مستفعلن، مفعولان
العروض المشطور المكسوف الممنوع من الطي ضربه مثله
ويحي قتيلا ما له من عقل ... بشادن يهتزّ مثل النّصل «1»
مكحّل ما مسّه من كحل ... لا تعذلاني إنني في شغل
«يا صاحبي رحلي أقلّا عذلي» «2»
تقطيعه:
مستفعلن، مستفعلن، مفعولن
يجوز في السريع من الزحاف: الخبن، والطي، والخبل، فالخبن فيه حسن، والطي صالح، والخبل فيه قبيح.(6/314)
ويدخله من العلل: الكشف، والوقف، والصلم، فالمكشوف ما ذهب سابعه المتحرّك، والموقوف ما سكن سابعه، والاصلم ما ذهب من آخره وتد مفروق، والمشطور ما ذهب شطره.
شطر المنسرح
المنسرح له ثلاثة أعاريض وثلاثة ضروب، فالعروض الاوّل ممنوع من الخبل، له ضرب مطوي، والعروض الثاني منهوك موقوف ممنوع من الطيّ، له ضرب مثله، والعروض الثالث منهوك مكشوف ممنوع من الطيّ، له ضرب مثله.
العروض الممنوع من الخبل الضرب المطوى
بيضاء مضمومة مقرطفة ... ينقدّ عن نهدها قراطقها «1»
كأنما بات ناعما جذلا ... في جنة الخلد من يعانقها
وأي شيء ألذّ من أمل ... نالته معشوقة وعاشقها
دعني أمت من هوى مخدّرة ... تعلق نفسي بها علائقها
«من لم يمت عبطة يمت هرما ... الموت كأس والمرء ذائقها» «2»
تقطيعه:
مستفعلن، مفعلات، مفتعلن ... مستفعلن، مفعولات مفتعلن
العروض المنهوك الموقوف الممنوع من الطي ضربه مثله
أقصرت بعض الإقصار ... عن شادن نائي الدار(6/315)
صبّرني لمّا صار ... ولم أكن بالصّبّار «1»
«وقال لي باستعبار ... صبرا بني عبد الدار»
تقطيعه:
مستفعلن، مفعولات
العروض المنهوك المكسوف الممنوع من الطي ضربه مثله
عاضت بوصل صدّا ... تريد قتلي عمدا «2»
لما رأتني فردا ... أبكى وألقى جهدا
«قالت وأبدت ردّا ... ويلم سعد سعدا»
تقطيعه:
مستفعلن، مفعولن
يجوز في المنسرح من الزحاف: الخبن، والطيّ، والخبل، فالخبن فيه حسن، والطي فيه صالح، والخبل قبيح.
ويدخله من العلل: الوقف، والكشف، وقد فسرناهما في السريع.
والمنهوك ما ذهب شطره ثم ذهب منه جزء بعد الشطر.
شطر الخفيف
الخفيف له ثلاثة اعاريض وخمسة ضروب:(6/316)
فالعروض الاول منه تامّ له ضربان: ضرب يجوز فيه التشعيث، وضرب محذوف يجوز فيه الخبن.
والعروض الثاني جائز فيه الخبن. وله ضرب مثله.
والعروض الثالث مجزوء، له ضربان: ضرب مثله مجزوء، وضرب مجزوء مقصور مخبون.
العروض التامّ. الضرب التامّ الجائز فيه التشعيث
أنت دائي وفي يديك دوائي ... يا شفائي من الجوى وبلائي
إنّ قلبي يحبّ من لا أسمّي ... في عناء أعظم به من عنائي
كيف لا كيف أن ألذّ بعيش ... مات صبري به ومات عزائي
ايها اللائمون ماذا عليكم ... أن تعيشوا وأن أموت بدائي
«ليس من مات فاستراح بميت ... إنما الميت ميّت الأحياء»
تقطيعه:
فاعلاتن، متفعلن، فعلاتن ... فاعلاتن، متعفلن، مفعولن
الضرب المحذوف يجوز فيه الخبن
ذات دلّ وشاحها قلق ... من ضمور وحجلها شرق «1»
بزّت الشمس نورها، وحباها ... لحظ عينيه شادن خرق «2»
ذهب خدّها يذوب حياء ... وسوى ذاك كلّه ورق
إن أمت ميتة المحبّين وجدا ... وفؤادي من الهوى حرق(6/317)
فالمنايا من بين غاد وسار ... كلّ حيّ برهنها غلق
تقطيعه:
فاعلاتن، مستفعلن، فاعلاتن ... فاعلاتن، متفعلن، فعلن
الضرب المحذوف الجائز فيه الخبن ضربه مثله
يا غليلا كالنار في كبدي ... واغتراب الفؤاد عن جسدي
ليت من شفني هواه رأى ... زفرات الهوى على كبدي
غادة نازح محلّتها ... وكلتني بلوعة الكمد «1»
«ربّ خرق من دونها قذف ... ما به غير الجنّ من أحد»
تقطيعه:
فاعلاتن، مستفعلن، فعلن ... فاعلاتن، مستفعلن، فعلن
العروض المجزوء والضرب المجزوء
ما لليلى تبدّلت ... بعدنا ودّ غيرنا
أرهقتنا ملامة ... بعد إيضاح عذرنا
فسلونا عن ذكرها ... وتسلّت عن ذكرنا
لم نقل إذ تحرمت ... واستهلّت بهجرنا
لم نقل إذ تحرمت ... واستهلّت بهجرنا
«ليب شعري ماذا ترى ... أمّ عمرو في أمرنا»(6/318)
تقطيعه:
فاعلاتن، مستفعلن ... فاعلاتن، مستفعلن
الضرب المجزوء المقصور المخبون
أشرقت لي بدور ... في ظلام تنير
طار قلبي بحبّها ... لقلب يطير
يا بدورا أنا بها ... الدهر عان أسير
إن رضيتم بأن أمو ... ت فموتي حقير
«كل خطب إن لم تكو ... نوا غضبتم يسير»
تقطيعه:
فاعلاتن، مستفعلن ... فاعلاتن، فعولن
يجوز في الخفيف من الزحاف: الخبن، والكف، والشكل، فالخبن فيه حسن، والكف فيه صالح، والشكل فيه قبيح.
ويدخله التعاقب بين السببين المتقابلين من مستفعلن وفاعلاتن: لا يسقطان معا، وقد يثبتان، وذلك أن وتد «مس تفع لن» في الخفيف والمجتث، كله مفروق في وسط الجزء، وقد بينا التعاقب في المديد.
ويدخله من العلل، التشعيث، والحذف، والقصر، وقد بينا المحذوف والمقصور، وأما التشعيث فهو دخول القطع في الوتد من «فاعلاتن» التي من الضرب الأول من الخفيف، فيعود «مفعولن» .(6/319)
شطر المضارع
المضارع له عروض واحد مجزوء ممنوع من القبض، وضرب مجزوء ممنوع من القبض مثل عروضه، وهو:
أرى للصّبا وداعا ... ولا يذكر اجتماعا
كأن لم يكن جديرا ... بحفظ الذي أضاعا
ولم يصبنا سرورا ... ولم يلهنا سماعا
فجدّد وصال صبّ ... متى تعصه أطاعا
«وإن تدن منه شبرا ... يقرّبك منه باعا»
تقطيعه:
مفاعيلن فاعلاتن ... مفاعيلن فاعلاتن
يجوز في حشو المضارع من الزحاف: القبض، والكف، في مفاعيلن، ولا يجتمعان فيه لعلة التراقب، ولا يخلو من واحد منهما، وقد فسرنا التراقب مع التعاقب.
ويدخله في فاعلاتن الكف، فأما القبض فهو ممنوع منه وتد فاع لاتن في المضارع، لانه مفروق وهو «فاع» ، والتراقب في المضارع بين السببين في «مفاعيلن» في الياء والنون، لا يثبتان معا ولا يسقطان معا، وهو في المقتضب بين الفاء والواو من «مفعولات» .
شطر المقتضب
المقتضب له عروض واحد مجزوء مطوي. وضرب مثل عروضه، وهو:
يا مليحة الدعج ... هل لديك من فرج «1»(6/320)
أم تراك قاتلتي ... بالدلال والغنج
من لحسن وجهك من ... سوء فعلك السمج
عاذليّ حسبكما ... قد غرقت في لجج «1»
«هل عليّ ويحكما ... إن لهوت من حرج»
تقطيعه:
فاعلات مفتعلن ... فاعلات مفتعلن
يدخل التراقب في أول البيت، في السببين المتقابلين، على حسب ما ذكرناه في المضارع.
شطر المجتث
له عروض واحد مجزوء. ضربه مثله
وشادن ذي دلال ... معصّب بالجمال
يضنّ أن يحتويه ... معي ظلام الليالي
أو يلتقي في منامي ... خياله مع خيالي
غصن نما فوق دعص ... يختال كلّ اختيال
«البطن منها خميص ... والوجه مثل الهلال»
تقطيعه:
مستفعلن، فاعلاتن ... مستفعلن، فاعلاتن
يجوز في المجتث من الزحاف: الخبن، والكف، والشكل، فالخبن فيه حسن، والكف فيه صالح، والشكل فيه قبيح.(6/321)
ويدخله التعاقب بين السببين المتقابلين من مستفعلن، وفاعلاتن، على حسب ما يدخل الخفيف، وذلك لان وتد مستفع لن في المجتث مفروق كما هو في الخفيف مفروق وذلك «تفع» .
[تمت الدائرة الرابعة] .
شطر المتقارب
المتقارب له عروضان وخمسة أضرب.
فالعروض الاول منها تام يجوز في الحذف والقصر، له أربعة ضروب: ضرب تام مثل عروضه، وضرب مقصور، وضرب محذوف معتمد، وضرب أبتر.
والعروض الثاني مجزوء محذوف معتمد، له ضرب مثله معتمد.
العروض التام الجائز فيه الحذف والقصر
الضرب التام
لحال عن العهد لمّا أحالا ... وزال الأحبّة عنه فزالا
محل تحلّ عراها السّحاب ... وتحكي الجنوب عليه الشّمالا «1»
فيا صاح مقام المحبّ ... وريع الحبيب فحطّ الرّحالا
سل الرّبع عن ساكنيه فإنّي ... خرست فما أستطيع السّؤالا
«ولا تجعلنّي هداك المليك ... فإنّ لكلّ مقام مقالا»
تقطيعه:
فعولن، فعولن، فعولن، فعولن ... فعول، فعول، فعولن، فعولن(6/322)
الضرب المقصور
فؤادي رميت وعقلي سبيت ... ودمعي مريت ونومي نفيت
يصدّ اصطباري إذا ما صددت ... وينأى عزائي إذا ما نأيت
عزمت عليك بمجرى الوشاح ... وما تحت ذلك مما كنيت
وتفاح خدّ ورمّان صدر ... ومجناهما خير شيء جنيت
تجدد وصلا عفا رسمه ... فمثلك لمّا بدا لي بنيت
«على رسم دار قفار وقفت ... ومن ذكر عهد الحبيب بكيت»
تقطيعه:
فعولن، فعولن، فعولن، فعول ... فعولن، فعولن، فعول، فعول
الضرب المحذوف المعتمد
أياويح نفسي وويل امّها ... لما لقيت من جوى همّها
فديت التي قتلت مهجتي ... ولم تتّق الله في دمها
أغضّ الجفون إذا ما بدت ... وأكني إذا قيل لي سمّها
أداري العيون وأخشى الرّقيب ... وأرصد غفلة قيّمها
«سبتني بجيد وخدّ ونحر ... غداة رمتني بأسهمها»
تقطيعه:
فعولن، فعولن، فعولن، فعولن ... فعول، فعولن، فعول، فعل
الضرب الأبتر
لا تبك ليلى ولا ميّه ... ولا تندبن راكبا نيه
وابك الصّبا إذا طوى ثوبه ... فلا أحد ناشر طيّه
ولا القلب ناس لما قد مضى ... ولا تارك أبدا غيّه
ودع عنك يأسا على أرسم ... فليس الرّسوم بمبكيّه(6/323)
«خليليّ عوجا على رسم دار ... خلت من سليمى ومن ميّه» «1»
تقطيعه:
فعولن، فعولن، فعولن، فعولن ... فعولن، فعولن، فعولن، فع
ضربه مثله
أأحرم منك الرّضا ... وتذكر ما قد مضى
وتعرض عن هائم ... أبى عنك أن يعرضا
قضى الله بالحبّ لي ... فصبرا على ما قضى
رميت فؤادي فما ... تركت به منهضا
فقوسك شريانه ... ونبلك جمر الغضا «2»
تقطيعه:
فعول، فعولن، فعل ... فعول، فعولن، فعل
يجوز في المتقارب من الزحاف، القبض، وهو فيه حسن، ويدخله الخرم في الابتداء على حسب ما يدخل الطويل.
[تمت الدوائر] .
وقد أكملنا في هذا الجزء مختصر المثال في ثلاث وستين مقطعة، وهي عدد ضروب العروض، والتزمنا فيها ذكر الزحاف والعلل التي يقوم ذكرها في الجزء الاول الذي اختصرنا فيه فرش العروض، ليكون هذا الكتاب مكتفيا بنفسه لمن قد تأدى إليه معرفة الاسباب والاوتاد ومواضعها من الاجزاء الثمانية التي ذكرناها في مختصر الفرش.(6/324)
واحتجنا بعد هذا إلى اختلاف الابيات التي استشهد بها الخليل في كتابه، لتكون حجة لمن نظر في كتابنا هذا، فاجتلبنا جملة الابيات السالمة والمعتلة، وما لكل شطر منها:
أبيات الطويل
العروض المقبوض. الضرب السالم
أبا منذر أفنيت فاستبق بعضنا ... حنانيك بعض الشّر أهون من بعض
ضرب مقبوض
ستبدي لك الأيام ما كنت جاهلا ... ويأتيك بالأخبار من لم تزوّد
أثلم مكفوف
شاقتك أحداج سليمي بعائل ... فعيناك للبين يجودان بالدمع
أثرم
هاجك ربع دارس باللّوى ... لأسماء عفّى المزن والقطر «1»
محذوف معتمد
ما كلّ ذي لبّ بمؤتيك نصحه ... وما كلّ مؤت نصحه بلبيب
أقيموا بني النعمان عنا صدوركم ... وإلا تقيموا صاغرين الرءوسا «2»
أبيات المديد
عروض مجزوء:
ضرب مجزوء
يا لبكر انشروا لي كليبا ... يا لبكر أين أين الفرار «3»(6/325)
ضرب مجزوء: مخبون صدر
ومتى مايع كلاما ... يتكلّم فيجبك بعقل
مكفوف عجز
لن يزال قومنا مخصبين ... صالحين ما اتّقوا واستقاموا
مشكول عجز
لمن الدّيار غيّرهنّ ... كلّ جون المزن داني الرّباب «1»
مشكول طرفاه
ليت شعري هل لنا ذات يوم ... بجنون فارع من تلاق
العروض المحذوف اللازم الثاني
الضرب المقصور، اللازم الثاني
لا يضرنّ امرءا عيشه ... كلّ عيش صائر للزوال
الضرب المحذوف، اللازم الثاني
اعلموا أني لكم حافظ ... شاهدا ما كنت أو غائبا
الضرب الأبتر، اللازم الثاني
إنما الذلفاء ياقوتة ... أخرجت من كيس دهقان «2»(6/326)
العروض المحذوف المخبون
الضرب المحذوف المخبون
للفتى عقل يعيش به ... حيث تهدي ساقه قدمه
الضرب الأبتر
ربّ نار بتّ أرمقها ... تقضم الهنديّ والغارا «1»
أبيات البسيط
العروض المخبون.
الضرب المخبون
يا حار لا أرمين منكم بداهية ... لم يلقها سوقة قبلي ولا ملك
مخبون
لقد خلت ... صروفها عجب ... فأحدثت عبرا وأعقبت دولا
مطوي
ارتحلوا غدوة وانطلقوا بكرا ... في زمر منهم تتبعها زمر
الضرب المقطوع اللازم الثاني
قد أشهد الغارة الشّعواء تحملني ... جرداء معروقة اللّحيين سرحوب «2»
والخير والشر مقرونان في قرن ... فالخير متّبع والشر محذور «3»(6/327)
العروض المجزوء
الضرب المذال
إنّا زممنا على ما خيّلت ... سعد بن زيد وعمرا من تميم
مخبون
قد جاءكم أنكم يوما إذا ... فارقتم الموت سوف تبعثون
مطوي
يا صاح قد أخلفت أسماء ما ... كانت تمنّيك من حسن الوصال
الضرب المجزوء
ماذا وقوفي على ربع خلا ... مخلولق دارس مستعجم «1»
مخبون
إني لمثن عليها استمعوا ... فيها خصال تعدّ أربع
مطوي
تلقى الهوى عن بني صادق ... نفسي فداه وأمي وأبي
الضرب المقطوع الممنوع من الطيّ
سيروا معا إنما ميعادكم ... يوم الثلاثاء بطن الوادي
قلت استجيبي فلما لم تجب ... سالت دموعي على ردائي
العروض المقطوع الممنوع من الطي
ما هيج الشوق من أطلالي ... أضحت قفارا كوحي الواحي(6/328)
أبيات الوافر
العروض المقطوف،
الضرب المقطوف
لنا غنم نسوّقها غزار ... كأنّ قرون جلّتها العصيّ
إذا لم تستطع شيئا فدعه ... وجاوزه إلى ما تستطيع
معقول
منازل لفرتني قفار ... كأنما رسومها شطور
أعصب
إذا نزل الشتاء بدار قوم ... تجنّب جار بيتهم الشتاء
أقصم
ما قالوا لنا سيدا ولكن ... تفاحش قولهم فأتوا بهجر
أجم
وإنك خير من ركب المطايا ... وأكرمهم أبا وأخا ونفسا
العروض المجزوء الممنوع من العقل
: ضربه مثله
لقد علمت ربيعه أنّ ... حبلك واهن خلق»
أهاجك منزل أقوى ... وغيّر آيه الغير
الضرب المعصوب
عجبت لمعشر عدلوا ... بمعتمر أبا عمرو(6/329)
أبيات الكامل
العروض التام:
الضرب التام
وإذا صحوت فما أقصّر عن ندى ... وكما علمت شمائلي وتكرّمي
المضمر
إنّي امرؤ من خير عبس منصبي ... شطري وأحمي سائري بالمنصل «1»
موقوص
يذبّ عن حريمه بنبله ... وسيفه ورمحه ويحتمي
مخزول
منزلة صم صداها وعفا ... رسمها إن سئلت لم تجب
الضرب المقطوع، ممنوع إلا من الإضمار
وإذا دعونك عمهنّ فإنه ... نسب يزيدك عندهنّ خبالا
وإذا افتقرت إلى الذخائر لم تجد ... ذخرا يكون كصالح الأعمال
الضرب الأحذّ المضمر
لمن الديار برامتين فعاتل ... درست وغيّر آيها القطر «2»
العروض الأحذّ السالم:
الضرب الأحذّ المضمر
لمن الديار عفا معالمها ... هطل أجشّ وبايح ترب «3»(6/330)
الضرب الأحذ المضمر
ولانت أشجع من أسامة إذ ... دعيت نزال ولجّ في الذعر
العروض المجزوء:
الضرب المرفّل
ولقد سبقتهم إليّ ... فلم نزعت وأنت آخر
المضمر
وغررتني وزعمت أنك ... لابن في الصيف تامر «1»
موقوص
ذهبوا إلى أجل وكلّ ... مؤجّل حتي كذاهب
الضرب المذال
جدث يكون مقامه ... أبدا بمختلف الرياح
مضمر
وإذا اغتبطت أو ابتأست ... حمدت ربّ العالمين
موقوص
كتب الشقاء عليهما ... فهما له متيسران
مخزول
جاوبت إذا دعاك ... معالنا غير مخاف
الضرب المجزوء
وإذا افتقرت فلا تكن ... متخشّعا وتجمّل «2»(6/331)
مضمر
وإذا الهوى كره الهدى ... وأبي التقى فاعص الهوى
موقوص
ولو أنها وزنت شمام ... بحلمه شالت له
مخزول
خلطت مراراتها ... بحلاوة كالعسل
الضرب المقطوع الممنوع إلا من إضمار
وإذا هم ذكروا الإساء ... ة أكثروا الحسنات
مضمر
وأبو الحليس وربّ مكّة ... فارغ مشغول
أبيات الهزج
العروض المجزوء الممنوع من القبض:
ضربه مثله
إلى هند صبا قلبي ... وهند مثلها يصبي
مكفوف
فهذان يذودان ... وذا من كثب يرمي
مقبوض
فقالت لا تخف شيئا ... فما عندك من باس
أثرم
أعادوا ما استعاروه ... كذاك العيش عاريه(6/332)
أحزب
ولو كان أبو بشر ... أميرا ما رضيناه
أبتر
وفي الذين ماتوا ... وفيما جمعوا عبره
الضرب المحذوف
وما ظهري لباغي الضيم بالظهر الذلول
مثله
قتلنا سيّد الخزر ... ج سعد بن عباده
أبيات الرجز
العروض التام:
الضرب التام
دار لسلمى إذا سليمى جارة ... قفر ترى آياتها مثل الزبر
مخبون
وطالما وطالما سقى ... بكفّ خالد وأطعما
مطوي
فأرسل المهر على آثارهم ... وهيأ الرمح لطعن فطعن
مخبول
ما ولدت والدة من ولد ... أكرم من عبد مناف حسبا
الضرب المقطوع الممنوع من الطي
القلب منها مستريح سالم ... والقلب مني جاهد مجهود(6/333)
لا خير فيمن كفّ عنا شرّه ... إذا كان لا يرجى ليوم خيره
العروض المجزوء:
الضرب المجزوء
قد هاج قلبي منزل ... من أمّ عمرو مقفر
مخبول
مات الفعال كله ... إذ مات عبد ربّه
مطوي
هل يستوي عندك من ... تهوى ومن لا تمقه
مخبول
لامتك بنت مطر ... ما أنت وابنة مطر
العروض المشطور
الضرب المشطور
ما هاج أحزانا وشجوا قد شجا ... إنك لا تجني من الشوك العنب
مخبون
قد تعلمون أنني ابن أختكم
مطوي
ما كان من شيخك إلا عمله(6/334)
مخبول
هلا سألت طللا وخيما
مطوي العروض المنهوك
يا ليتني فيها جذع ... أخبّ فيها وأضع
مخبون
فارقت غير وامق
مخبول
يا صاح فيما غضبوا
أبيات الرمل
العروض المحذوف والجائز فيه الخبن
الضرب المتمم
مثل سحق البرد عفّى بعدك القطر مغناه وتأويب الشّمال
مخبون صدر
وإذا راية مجد رفعت ... نهض الصّلت إليها فحواها
مكفوف عجز
ليس كل من أراد حاجة ... ثم جدّ في طلابها قضاها
مشكول عجز
فدعوا أبا سعيد عامرا ... وعليكم أخاه فاضربوه(6/335)
مشكول طرفان
إنّ سعدا بطل ممارس ... صابر محتسب لما أصابه
الضرب المقصور
يا بني الصيداء ردّوا فرسي ... إنما يفعل هذا بالذليل
أحمدت كسري وأمسي قيصر ... مغلقا من دونه باب الحديد
الضرب المحذوف الجائز فيه الخبن
قالت الخنساء لما جئتها ... شاب بعدي رأس هذا واشتهب «1»
مخبون
كيف ترجون سقوطي بعدما ... لفع الرأس مشيب وصلع
الضرب المشبع
يا خليليّ اربعا فاستخبرا رسما بعسفان
مخبون
واضحات فارسيا ... ت وأدم عربيات
الضرب المجزوء
مقفرات دارسات ... مثل آيات الزبور
الضرب المشبع
لان حتى لو مشى الذّ ... رّ عليه كاد يدميه
الضرب المحذوف الجائز فيه الخبن
ما لما قرّت به العي ... نان من هذا ثمن(6/336)
مخبون
قلبه عند الثريا ... بائن من جسده
أبيات السريع
قد يدرك المبطيء من حظّه ... والخير قد يسبق جهد الحريص
العروض المكفوف: المطوي اللازم الثاني
الضرب الموقوف اللازم الثاني
أزمان سلمى لا يرى مثلها ال ... راءون في شام ولا في عراق
مخبول
قالها وهو بها عارف ... ويحك أمثال طريف قليل
مخبون
أرد من الأمور ما ينبغي ... وما تطيقه وما يستقيم
الضرب المكسوف اللازم الثاني
لا تكسع الشّول بأغبارها ... إنك لا تدري من الناتج «1»
هاج الهوى رسم بذات الغضى ... مخلولق مستعجم محول
الضرب الأصلم السالم
قالت ولم تقصد لقيل الخفا ... مهلا فقد أبلغت أسماعي
الضرب المخبون المكسوف
النشر مسك والوجوه دنا ... نير واطراف الأكف عنم(6/337)
يأيها الزاري على عمرو ... قد قلت فيه غير ما تعلم «1»
العروض المشطور الموقوف الممنوع من الطيّ
يا صاح ما هاجك من ربع خال ... ينضحن في حافاته بالأبوال
مخبون
لا بد منه فاحذرن وإن فتن
مشطور
يا صاحبي رحلي أقلا عذلي
مخبون الضرب المشطور المكسوف الممنوع من الطيّ
يا رب إن أخطأت أو نسيت ... وبلدة بعيدة النياط
أبيات المنسرح
العروض الممنوع من الخبل:
الضرب المطوي
إن ابن زيد ما زال مستعملا ... للخير يهدي في مصره العرفا
من لم يمت عبطة يمت هرما ... والموت كأس والمرء ذائقها «2»
مثله
إن سميرا أرى عشيرته ... قد حدبوا دونه وقد أنفوا «3»(6/338)
المطوي
منازل عفاهن بذي الأراك ... كل وابل مسبل هطل
مخبون
في بلد معروفة سمته ... قطعه عابر على جمل
مخبول
صبرا بني عبد الدار
العروض المنهوك المكسوف الممنوع من الطي:
ضربه مثله
ويل امّ سعد سعدا
أبيات الخفيف
العروض التام:
الضرب التام الجائز فيه التشعيث
حلّ أهلي بطن الغميس فبادوا ... لي وحلت علويّة بالسخال
ليس من مات فاستراح بميت ... إنما الميت ميّت الأحياء
مخبون صدر
وفؤادي كعهده بسليمى ... بهوى لم يزل ولم يتغير
مكفوف عجز
وأقل ما يظهر من هواكا ... ونحن نستكثر حين يبدو
مشكول عجز
إن قومي جحاجحة كرام ... متقادم مجدهم أخيار «1»(6/339)
مشكول طرفان الضرب المحذوف الجائز فيه الخبن
إن قدرنا يوما على عامر ... نمتثل منه أو ندعه لكم
مخبون
رب خرق من دونها قذف ... ما به غير الجنّ من أحد
العروض المجزوء:
الضرب المجزوء
ليت شعري ماذا ترى ... أم عمرو في أمرنا
مثله
اسلمي أمّ خالد ... ربّ ساع لقاعد
الضرب المقصور المخبون
كل خطب إن لم تكونوا غضبتم يسير
أبيات المضارع
العروض المجزوء الممنوع من القبض
وإن تدن سنه شبرا ... يقربك منه باعا
مقبوض
دعاني إلى سعاد ... دواعي هوى سعاد
أحزب
وقد رأيت مثل الرجال ... فما أرى مثل زيد(6/340)
أشتر
قلنا لهم وقالوا ... كل له مقال
أبيات المقتضب
العروض المجزوء المنطوي:
الضرب المجزوء المنطوي
هل عليّ ويحكما ... إن لهوت من حرج
مخبون
أعرضت فلاح لها ... عارضان كالبرد
أبيات المجتث
العروض المجزوء
البطن منها خميص ... والوجه مثل الهلال
الضرب المجزوء
ولو علقت بسلمى ... علمت أن ستموت
أولئك خير قومي ... إذ ذكر الخيار
أنت الذي ولدتك أسماء بنت الحباب
أبيات المتقارب
العروض التام الجائز فيه الحذف والقصر:
الضرب التام
فأما تميم تميم بن مر ... فألقاهم القوم روبى نياما «1»(6/341)
مثله
فلا تعجلنّي هداك المليك ... فإن لكل مقام مقالا
مقبوض
أفاد فجاد وساد وزاد ... وذاد وعاد وقاد وأفضل
أثلم
رمينا قصاصا وكان التقاصّ ... حقّا وعدلا على المسلمينا
المجزوء المعتمد
وروحك في النادي ... وتعلم ما في غد
أثرم
قلت سدادا لمن جاءي ... فأحسنت قولا وأحسنت رأيا
مثل الأوّل
ولولا خداش أخذت دواب سعد ولم أعطه ما عليها
الضرب المقصور
ويأوى إلى نسوة بائسات ... وشعث مراضيع مثل السّعالى «1»
مثله
على رسم دار قفار وقفت ... ومن ذكر عهد الحبيب بكيت
من مقصور الضرب المحذوب المعتمد
وأبني من الشعر شعرا عويصا ... ينسّى الرواة الذي قد رووا(6/342)
سبتني بخدّ وجيد ونحر ... غداة رمتني بأسهمها
الضرب الأبتر: غير معتمد الاعتماد في المتقارب بإثبات النون في «فعولن» التي قبل القافية
خليلىّ عوجا على رسم دار ... خلت من سليمى ومن ميّه
مثله
صفية قومي ولا تعجزي ... وبكّى النساء على حمزه
الضرب المحذوب
أمن دمنة أقفرت ... لسلمى بذات الغضا
علل القوافي
القافية حرف الرويّ الذي يبنى عليه الشعر، ولا بد من تكريره فيكون في كل بيت، والحروف التي تلزم حرف الرويّ أربعة: التأسيس، والردف، والوصل، والخروج.
فأما التأسيس فألف يكون بينها وبين حرف الروى حرف متحرك بأي الحركات كان، وبعض العرب يسميه الدخيل، وذلك نحو قول الشاعر:
«كليني لهمّ يا أميمة ناصب»
فالألف من «ناصب» تأسيس، والصاد دخيل، والباء رويّ، والياء المتولدة من كسرة الباء وصل.
وأما الردف فإنه احد حروف المدّ واللين، وهي: الياء، والواو، والألف، يدخله قبل حرف الرويّ، وحركة ما قبل الردف بالفتح إذا كان الردف ألفا، وبالضم إذا كان واوا، وبالكسر إذا كان ياء مكسورا ما قبلها، وقد تجتمع الياء والواو في شعر واحد. لأن الضمة والكسرة أختان، كما قال الشاعر:(6/343)
أجارة بيتينا أبوك غيور ... وميسور ما يرجى لديك عسير
فجاء بغيور مع عسير، ولا يجوز مع الالف غيرها، كما قال الشاعر:
بان الخليط ولو طوّعت ما بانا «1»
وجنس ثالث من الردف، وهو أن يكون الحرف قبله مفتوحا ويكون الردف ياء أو واوا، نحو قول الشاعر:
كنت إذا ما جئته من غيب ... يشمّ رأسي ويشمّ ثوبي
وأما الوصل فهو إعراب القافية وإطلاقها، ولا تكون القافية مطلقة إلا بأربعة أحرب: ألف ساكنة مفتوح ما قبلها من الروي، وياء ساكنة مكسور ما قبلها من الرويّ، وهاء متحركة أو ساكنة مكنية ولا يكون شيء من حروف المعجم وصلا غير هذه الاربعة الاحرف: الالف، والواو، والياء، والهاء المكنية، وإنما جاز لهذه أن تكون وصلا ولم يجز لغيرها من حروف المعجم، لان الالف والياء والواو حروف إعراب ليست أصليات وإنما تتولد مع الإعراب وتشبّهت الهاء بهن لانها زائدة مثلهن، ووجودها يكون خلفا منهن في قولهم: أرقت الماء، وهرقت الماء، وأيا زيد، وهيا زيد، ونحو قول الشاعر:
قد جمعت من أمكن وأمكنه ... من هاهنا وهاهنا ومن هنه
وهو يريد: هنا، فجعل الهاء خلفا من الألف.
وأما الخروج، فإن هاء الوصل إذا كانت متحركة بالفتح تبعتها ألف ساكنة وإذا كانت متحركة بالكسر تبعتها ياء ساكنة، وإذا كانت متحركة بالضم تبعتها واو ساكنة، فهذه الالف والياء والواو يقال لها الخروج، وإذا كانت هاء الوصل ساكنة لم يكن لها خروج، نحو قول الشاعر:
ثار عجاج مستطير قسطله «2»(6/344)
وأما الحركات اللوازم للقوافي فخمس، وهي: الرس، والحذو، والتوجيه، والمجري، والنفاذ.
فأما الرس ففتحة الحرف الذي قبل التأسيس.
وأما الحذو ففتحة الحرف الذي قبل الردف او ضمته او كسرته.
وأما التوجيه فهو ما وجه الشاعر عليه قافيته من الفتح والضم والكسر، يكون مع الروى المطلق او المقيد إذا لم يكن في القافية ردف ولا تأسيس.
وأما المجري ففتح حرف الروى المطلق او ضمته أو كسرته.
وأما النفاذ فإنه فتحة هاء الوصل أو كسرتها او ضمتها، ولا تجوز الفتحة مع الكسرة، ولا الكسرة مع الضمة، ولكن تنفرد كل حركة منها على حالها.
وقد يجتمع في القافية الواحدة: الرس، والتأسيس، والدخيل، والروي، والمجرى والوصل، والنفاذ، والخروج، كما قال الشاعر:
يوشك من فرّ من منيّته ... في بعض غرّاته يوافقها
فحركة الواو الرس، والالف تأسيس، والفاء دخيل، والقاف رويّ، وحركته المجرى، والهاء هاء الوصل، وحركتها النفاذ، والالف الخروج.
ونحو قول الشاعر:
عفت الدّيار محلّها فمقامها فحركة القاف الحذو، والالف الردف، والميم الرويّ: وحركتها المجرى، والهاء وصل، وحركتها النفاذ، والالف الخروج.
وكل هذه الحروف والحركات لازمة للقافية.(6/345)
باب ما يجوز أن يكون تأسيسا وما لا يجوز
إذا كان حرف الالف، الف التأسيس، في كلمة، وكان حرف الروي في كلمة أخرى منفصلة عنها، فليس بحرف تأسيس، لانفصاله من حرف الرويّ وتبعاعده منه، لأن بين حرف الروي والتأسيس حرفا متحركا، وليس كذلك الردف، لأن الردف قريب من الرويّ ليس بينهما شيء، فهو يجوز ان يكون في كلمة ويكون الروي في كلمة أخرى منفصلة منها، نحو قول الشاعر:
أتته الخلافة منقادة ... إليه تجرّر أذيالها
فلم تك تصلح إلّا له ... ولم يك يصلح إلّا لها
فألف «إلا» ردف واللام حرف الروي، وهي في كلمة منفصلة من الردف فجاز ذلك، لقرب ما بين الردف والروي، ولم يجز في التأسيس لتباعده من الروي، نحو قول الشاعر:
فهنّ يعكفن به إذا حجا ... عكف النّبيط يلعبون الفنزجا «1»
فلم يجعلها تأسيسا لتباعدها عن الروي وانفصالها منه، ومثله:
وطالما وطالما وطالما ... غلبت عادا وغلبت الأعجما
فلم يجعل الألف تأسيسا.
وقد يجوز أن تكون تأسيسا إذا كان حرف الرويّ مضمرا، كما قال زهير:
ألا ليت شعري هل يرى الناس ما أرى ... من الامر أو يبدو لهم ما بدا ليا
فجعل ألف بدا ليا تأسيسا وهي [في] كلمة منفصلة من القافية لما كانت القافية في مضمر، وكذلك قول الشاعر:(6/346)
وقد ينبت المرعى على دمن الثّرى ... وتبقى حزازات النّفوس كما هيا «1»
وأما «غلامك» و «سلامك» في قافية فلا تكون الالف إلا تأسيسا، لان الكاف التي هي حرف، لا تنفصل من «غلام» .
باب ما يجوز أن يكون حرف رويّ وما لا يجوز أن يكونه
أعلم أن حروف الوصل كلها لا يجوز أن تكون رويا، لانها دخلت على القوافي بعد تمامها، فهي زوائد عليها، ولانها تسقط في بعض الكلام، فإذا كان ما قبل حرف الوصل ساكنا فهو حرف الرويّ، لانها لا تكون [وصلا] وقبلها حرف الروي ساكنا، نحو قول الشاعر:
أصبحت الدنيا لأربابها ... ملهى وأصبحت لها ملهى
كأنني أحرم منها على ... قدر الذي نال أبي منها
وإذا حرّكت ياء الوصل أو واو الوصل، جاز لها أن تكون رويا، كما قال زهير:
ألا ليت شعري هل يرى الناس ما أرى ... من الأمر أو يبدو لهم ما بدا ليا
وقال عبد الله بن قيس الرّقيّات:
إنّ الحوادث بالمدينة قد ... شيّبتني وقرعن مروتيه «2»
كذلك الهاء من طلحة وحمزة وما أشبههما، [يجوز أن تكون وصلاو] ان تكون رويا، [الجواز] أن تطلق فتعود تاء، فإذا كان ذلك فأنت فيها بالخيار: إن شئت جعلتها رويا، أو وصلا لما قبلها، وجعلها أبو النجم رويا فقال:
أقول إذ جئن مربّجات ... ما أقرب الموت من الحياة «3»(6/347)
كذلك التاء [من] نحو اقشعرت واستهلّت، والكاف [من] نحو مالكا وفعالكا، فقد يجوز أن تكون رويا، وقد يجوز أن تكون وصلا، وإنما جاز أن تكون رويا، لانها أقوى من حرف الوصل، وجاز أن تكون وصلا، لانها دخلت على القوافي بعد تمامها، وقد جعلت الخنساء التاء وصلا ولزمت ما قبلها، فقالت:
أعينيّ هلّا تبكيان أخاكما ... إذا الخيل من طول الوجيف اقشعرّت «1»
فلزمت الراء في الشعر كله وجعلت التاء صلة. وقال آخر فجعل التاء رويا:
الحمد لله الذي استقلّت ... بإذنه السّماء واطمأنّت
وقال حسان فجعل الكاف رويا:
دعوا فلجات الشام قد حيل بينها ... بطعن كأفواه المخاض الاوارك «2»
بأيدي رجال هاجروا نحو ربّهم ... بأسيافهم حقّا وأيدي الملائك
وقال:
إذا سلكت بالرّمل من بطن عالج ... فقولا لها ليس الطريق هنالك
وهنالك كافها زائدة، تقول للرجل هنالك، وللمرأة هنالك.
وقال غيره:
أيا خالدا يا خير أهل زمانكا ... لقد شغل الافواه حسن فعالكا
فجعل الكاف رويّا، وقد يجوز أن تكون وصلا ويلزم ما قبلها، وكذلك فعالكم وسلامكم: الميم الآخرة حرف الروي، كما قال الشاعر:
بنو أميّة قوم من عجيبهم ... أنّ المنون عليهم والمنون هم
الميم حرف الرويّ، وقد جعلها بعض الشعراء وصلا مع الهاء والكاف التي قبلها،(6/348)
لانهما حرفا إضمار، كالهاء والكاف، ولحقت الاسم بعد تمامه كما لحقت الهاء والكاف في نحو قوله:
زر والديك وقف على قبريهما ... فكأنّني بك قد نقلت إليهما
ومثله لامية بن أبي الصلت:
لبّيكما لبّيكما ... ها أنا ذا لديكما
وأما النسبة، مثل ياء قرشي وثقفي وما أشبه ذلك، إذا كانت خفيفة فأنت فيها بالخيار: إن شئت جعلتها رويا، وإن شئت وصلا، نحو قول الشاعر:
إني لمن أنكرني ابن اليثربي ... قتلت علباء وهند الجملي
فجعل الياء الخفيفة رويا، وإذا كانت النسبة مثقلة، مثل قرشي وثقفّي، لم تكن إلا رويا.
وإذا قال شعرا على «حصاها» و «رماها» ، لم تكن الهاء الا حرف الرويّ، ومن بنى شعرا على «اهتدى» فجعل الدال رويا، جاز له ان يجعل مع ذلك «أحمدا» ، وإن جعل الياء من «اهتدى» حرف الروي، لم يجز معها «أحمدا» وجاز له معها «بشرى، وحبلى، وعصا، وأفعى» ، ومن ذلك قول الشاعر:
داينت أروي والدّيون تقضى ... فمطلت بعضا وأدّت بعضا
فلزم الضاد من «تقضى» وجعل الياء وصلا، فشبهها بحرف المد الذي في القافية، ومثله:
ولأنت تفري ما خلقت وبع ... ض القوم يخلق ثم لا يفري
ومثله:
هجرتك بعد تواصل دعد ... وبدا لدعد بعض ما يبدو
و «يرمي» مع «يقضي» جائز إذا كان الياء حرف الرويّ لانها من أصل الكلمة.
ومما لا يجوز أن يكون رويا، الحروف المضمرة كلها، لدخولها على(6/349)
القوافي بعد تمامها، مثل: اضربا، واضربوا، واضربي، لان الف «اضريا» لحقت اضرب وواو «اضربوا» لحقت اضرب، وياء «اضربي» لحقت اضرب- بعد تمامها، فلذلك كانت وصلا، ولانها زائدة مع هذا في نحو قول الشاعر:
لا يبعد الله جيرانا تركتهم ... لم أدر بعد غداة البين ما صنع
يريد: ما صنعوا. ومثله:
يا دار عبلة بالجواء تكلّمي ... وعمي صباحا دار عبلة واسلم
يريد: واسلمي، فجعل الياء وصلا، وبعضهم جعلها رويا على قبح.
وأما ياء «غلامي» فهي أضعف من ياء «اسلمي» ، لانها قد تحذف في بعض المواضع تقال: هذا غلام، تريد غلامي، وقالوا: يا غلام أقبل، في النداء وواغلاماه، فحذفوا الياء، وبعضهم يجعلها رويا على ضعفها، كما قال:
إني آمرؤ أحمي ذمار إخوتي ... إذا رأوا كريهة يرمون بي
ومثله:
إذا تغدّيت وطابت نفسي ... فليس في الحيّ غلام مثلي
قال الاخفش: وقد كان الخليل يجيز «إخواني» مع «أصحابي» ويأبى عليه العلماء، ويحتج بقول الشاعر:
بازل عامين حديث سنّي ... لمثل هذا ولدتني أمّي «1»
وحرف الإضمار إذا كان ساكنا كان ضعيفا، فإذا تحرّك قوي وجاز أن يكون رويا، كقول الشاعر:
ألا ليت شعري هل يرى الناس ما أرى ... من الأمر أو يبدو لهم ما بدا ليا
وإنما جاز للكاف أن يكون رويا ولم يجز ذلك للهاء وكلاهما حرف إضمار، لان(6/350)
الكاف أقوى عندهم من الهاء وأثبت في الكلام، وإذا خاطبت الذكر والمؤنث لا تبدل صورتها كما تبدل الهاء في غلامه وغلامها، وإذا قلت: مررت بغلامك، ورأيت غلامك، فالكاف في حال واحدة، والهاء مضطربة في قولك: رأيت غلامه، ومررت بغلامه، وإنما جاز فيها ان تكون وصلا أيضا كما تكون الهاء، لانها تشبهت بالهاء، إذ كانت حرف إضمار كالهاء، ودخلت على الاسم كدخول الهاء، وكانت اسما للحرف كما تكون الهاء، وإنما خالفتها بالشيء اليسير، وأما قولك: ارمه، واغزه، فلا تكون الهاء ههنا رويا، لانها لحقت الاسم بعد تمامه، ولانها زوائد فيه وأنها دخلت لتبين حركة [الزاي] من اغزه والميم من ارمه، وقد تكون تدخل للوقف أيضا.
واذا كانت الهاء اصلية لم تكن إلا رويا، مثل قول الشاعر:
قالت أبنّا لي وإلا أسفه ... ما السّوء إلا غفلة المدلّه
ومن بنى شعرا على «حيّ» جاز له فيه «طيّ» و «رمى» ، لأنّ الياء الاولى من حيّ، ليست بردف، لانها من حرف مثقل قد ذهب مدّه ولينه، قال سيبويه: وإذا قال الشعر: تعالى، أو تعالوا، لم تكن الياء والواو إلا رويا، لان ما قبلهما انفتح، فلما صارت الحركة التي قبلهما غير حركتهما ذهبت قوّتهما في المدّ وأكثريتهما، وكذلك:
أخشى واخشوا، وكل ياء أو واو انفتح ما قبلها، وكذلت هذه الياء والواو إذا تحرّكتا لم تكونا إلا حرف روي، لذهاب اللين والمدّ وكذلك قوله: رأيت قاضيا، وراميا، وأريد ان يغزو، وتدعو، في قافيتين من قصيدة.
وأمّا الميم من غلامهم وسلامهم، فقد تكون رويا، وقد تكون وصلا ويلزم ما قبلها، كما قال الشاعر:
يا قاتل الله عصبة شهدوا ... خيف منّي لي ما كان أسرعهم
إن نزلوا لم يكن لهم لبث ... أو رحلوا أعجلوا مودّعهم
لا غفر الله للحجيج إذا ... كان حبيبي إذا نأوا معهم!
فالعين هنا حرف الرويّ، والهاء والميم صلة، كحروف الإضمار كلها التي تقدّم(6/351)
ذكرها، ولا يحسن أن يكون رويا إلا ما كان منها محرّكا، لأنّ المتحرّك أقوى من الساكن، وذلك مثل ياء الإضافة التي ذكرنا، أو ما كان منها حرفا قويا: مثل الكاف والميم والنون، فإنها تكون رويا ساكنة كانت أو متحرّكة، وذلك مثل قول الشاعر:
قفي لا يكن هذا تعلّة وصلنا ... لبين، ولا ذا حظّنا من نوالك
ثم قال:
أبرّ وأوفى ذمّة بعهوده ... إذا وازنت شمّ الذّرى بالحوارك
وقال آخر:
قل لمن يملك الملو ... ك وإن كان قد ملك
قد شريناك مرة ... وبعثنا إليك بك
وقال آخر في الهاء:
رموني وقالوا يا خويلد لا ترع ... فقلت وأنكرت الوجوه هم هم
ولآخر:
نمت في الكرام بني عامر ... فروعي وأصلي قريش العجم
فهم لي فخر إذا عدّدوا ... كما أنا في الناس فخر لهم
وقال آخر في النون:
طرحتم من التّرحال أمرا فعمّنا ... فلو قد رحلتم صبّح الموت بعضنا
وقال آخر:
فهل يمنعني ارتيادي البلا ... دمن حذر الموت أن يأتين
أليس أخو الموت مستوثقا ... عليّ فإن قلت قد أنسأن
وأمّا الهاء فقد أجمعوا ان لا تكون رويا لضعفها، إلا أن يكون ما قبلها ساكنا كما قد ذكرنا.(6/352)
ومن بنى شعرا على «اخشوا» جاز له معها «طغوا، وبغوا، وعصوا» ، فتكون الواو رويا لانفتاح ما قبلها وظهورها، مع القبح، لانها مع الضمة صلة، ولا تكون هذه إلا رويا.
باب عيوب القوافي
السناد، والإيطاء، والإقواء، والإكفاء، والإجازة، والتضمين، والإصراف.
السناد على ثلاثة أوجه: الأوّل منها اختلاف الحرف الذي قبل الردف بالفتح والكسر نحو قول الشاعر:
ألم تر أنّ تغلب أهل عزّ ... جبال معاقل ما يرتقينا
شربنا من دماء بني تميم ... بأطراف القنا حتى روينا
والوجه الثاني اختلاف التوجيه في الروي المقيد، وهو اجتماع الفتحة التي قبل الروي مع الكسرة والضمة كهيئتها في الحذو، وذلك كقوله:
وقاتم الأعماق خاوي المخترق ... ألّف شتّى ليس بالراعي الحمق
ومثله:
تميم بن مرّة وأشياعه ... وكندة حولي جميعا صبر
إذا ركبوا الخيل واستلأموا ... تخرّقت الارض واليوم قر
والوجه الثالث من السناد أن يدخل حرف الردف ثم يدعه، نحو قول الشاعر:
وبالطوف بالاخيار ما اصطحابه ... وما المرء إلا بالتقلّب والطّوف
فراق حبيب وانتهاء عن الهوى ... فلا تعذليني قد بدا لك ما أخفي
وأمّا القافية المطلقة فليس اختلاف التوجه فيها سنادا.
وأمّا الإقواء والإكفاء فهما عند بعض العلماء شيء واحد، وبعضهم يجعل الإقواء في العروض خاصة دون الضرب، ويجعلون الإكفاء والإيطاء في الضروب دون(6/353)
العروض، فالإقواء عندهم ان ينتقص قوّة العروض فيكون «مفعولن» في الكامل، ويكون في الضرب «متفاعلن» فيزيد العجز على الصدر زيادة قبيحة، فيقال: أقوى في العروض، اي أذهب قوته، نحو قول الشاعر:
لمّا رأت ماء السّلى مشروبا ... والفرث يعصر في الإناء أرنّت «1»
ومثله:
أفبعد مقتل مالك بن زهير ... ترجو النساء عواقب الإطهار
والخليل يسمى هذا المقعر، وزعم يونس أنّ الإكفاء عند العراب هو الإقواء، وبعضهم يجعله تبديل القوافي، مثل أن يأتي بالعين مع الغين، لشبههما في الهجاء، وبالدال مع الطاء، لتقارب مخرجيهما، ويحتج بقول الشاعر:
جارية من ضبّة بن أدّ ... كأنها في ذرعها المنغطّ ... «2»
والخليل يسمى هذا: الإجازة، وأبو عمرو يقول: الإقواء: اختلاف إعراب القوافي بالكسر والضم والفتح، وكذلك هو عند يونس وسيبويه، والإجازة عند بعضهم: اجتماع الفتح مع الضم أو الكسر في القافية، ولا تجوز الإجازة إلا فيما كان فيه الصول هاء ساكنة، نحو قول الشاعر:
الحمد لله الذي ... يعفو ويشتدّ انتقامه
وربّنا ربّهم ... لا يستطيعون اهتضامه
ومثله:
فديت من أنصفني في الهوى ... حتى إذا أحكمه ملّه
أبنّ ما كنت ومن ذا الذي ... قبلي صفا العيش له كلّه
والإكفاء: اختلاف القوافي بالكسر والضم عند جميع العلماء بالشعر، إلا ما ذكر يونس.(6/354)
وأمّا المضمّن، فهو أن لا تكون القافية مستغنية عن البيت الذي يليها نحو قول الشاعر:
وهم وردوا الجفار على تميم ... وهم أصحاب يوم عكاظ أني «1»
شهدت لهم مواطن صالحات ... تنبّيهم بودّ الصّدر منّي
وهذا قبيح، لان البيت الاول متعلق بالبيت الثاني لا يستغني عنه، وهو كثير في الشعر.
وأما الإيطاء وهو أحسن ما يعاب به الشعر، فهو تكرير القوافي، وكلما تباعد الإيطاء كان أحسن، وليست المعرفة مع النكرة إيطاء، وكان الخليل يزعم أن كل ما اتفق لفظه من الاسماء والافعال، وإن اختلف معناه، فهو إيطاء، لان الإيطاء عنده إنما هو ترديد اللفظتين المتفقتين من الجنس الواحد، إذا قلت للرجل تخاطبه: أنت تضرب، وفي الحكاية عن المرأة: هي تضرب، فهو إيطاء وكذلك في قافية: أمر جلل، وأنت تريد تعظيمه، وهو في قافية أخرى: جلل، وأنت تريد تهوينه- فهو إيطاء.
... حتى إذا كان اسم مع فعل، وإن اتفقا في الظاهر، فليس بإيطاء، مثل اسم يزيد، وهو اسم ويزيد وهو فعل.
باب ما يجوز في القافية من حروف اللين
اعلم أن القوافي التي يدخلها حروف المد، وهي حروف اللين، فهي كل قافية حذف منها حرف ساكن وحركة، فتقوم المدة مقام ما حذف، وهو من الطويل «فعولن» المحذوف.
ومن المديد «فاعلان» المقصور، و «فعلن» الأبتر.(6/355)
ومن البسيط «فعلن» المقطوع «مفعولن» المقطوع، فأما «مستفعلان» المذال فاختلف فيه، فأجازه قوم بغير حرف مدّ، لانه قد تم وزيد عليه حرف بعد تمامه، وألزمه قول المدّ، لالتقاء الساكنين، وقالوا: المدة بين الساكنين تقوم مقام الحركة، وإجازته بغير حرف مدّ أحسن، لتمامه.
وأما الوافر فلا يلزم شيء منه حرف مدّ.
وأما الكامل فيدخل منه حرف اللين في «فعلاتن» المقطوع، وفي «متفاعلان» المذال.
وأما الهزج فلا يلزمه حرف مدّ.
وأما الرجز فيلزم «مفعولن» منه المقطوع حرف المدّ.
وأما الرمل فيلزم «فاعلان» وحدها، لالتقاء الساكنين.
وأما السريع فيلزم «فاعلان» الموقوف، لالتقاء الساكنين، وكذلك «مفعولات» .
وأما المنسرح فيلزم «مفعولات» كما يلزم السريع.
وأما الخفيف فإنه يلزم «فعولن» المقصور وإن كان قد نقص منه حرفان وليس في المد خلف من حرفين، ولكن لما نقص من أول الجزء حرف، وهو سين «مستفعلن» قام ما أخلف بالمدة مقام ما نقص من آخر الجزء، لانه بعد المدة.
وأما المضارع والمقتضب والمجتث فليس فيها حرف مدّ، لتمام أواخرها وأما المتقارب فألزموا «فعول» المقصور حرف المدّ: لالتقاء الساكنين. قال سيبويه: وكل هذه القوافي قد يجوز أن تكون بغير حرف المد لأنّ رويها تام صحيح على مثل حاله بحرف المد، وقد جاء مثل ذلك في أشعارهم، ولكنه شاذ قليل، وأن تكون بحرف المد احسن، لكثرته ولزوم الشعراء إياه.(6/356)
ومما قيل بغير حرف مدّ:
ولقد رحلت العيس ثم زجرتها ... قدما وقلت عليك خير معدّ
وقال آخر:
إن تمنع النوم النسا يمنعن
مقطعات على حروف الهجاء وضروب العروض
ومن قولنا مقطعات على تأليف حروف الهجاء وضروب العروض:
[الطويل]
الأول من الطويل: سالم
وأزهر كالعيّوق يسعى بزهراء ... لنا منهما داء وبرء من الداء «1»
ألا بأبي صدغ حكى العين عطفه ... وشارب مسك قد حكى عطفة الراء
فما السّحر ما يعزى إلى أرض بابل ... ولكن فتور اللحظ من طرف حوراء «2»
وكفّ أدارت مذهب اللون أصفرا ... بمذهبة في راحة الكفّ صفراء
الضرب الثاني من الطويل: مقبوض
معذّبتي رفقا بقلب معذب ... وإن كان يرضيك العذاب فعذّبي
لعمري لقد باعدت غير مباعد ... كما أنني قرّبت غير مقرّب
بنفسي بدر أخمد البدر نوره ... وشمس متى تبدو إلى الشمس تغرب
لو أنّ امرأ القيس بن حجر بدت له ... لما قال «مرا بي على أمّ جندب»
الضرب الثالث من الطويل المحذوف المعتمد
محبّ طوى كشحا على الزّفرات ... وإنسان عين خاض في غمرات «3»(6/357)
فيامن بعينيه سقامي وصحتي ... ومن في يديه ميتتي وحياتي
بحبّك عاشرت الهموم صبابة ... كأنّي لها ترب وهنّ لداتي
فخدّي أرض للدموع ومقلتي ... سماء لها تنهلّ بالعبرات
[المديد]
الضرب الأول من المديد وهو السالم
طلّق الّلهو فؤادي ثلاثا ... لا ارتجاع لي بعد الثلاث
وبياض في سواد عذاري ... بدّل التّشبيب لي بالمراثي
غير أنّي لا أطيق اصطبارا ... وأراني صابرا لا نتكاثي
بإناث في صفات ذكور ... وذكور في صفات إناث
الضرب الثاني من المديد وهو المقصور اللازم اللين
صدعت قلبي صدع الزّجاج ... ماله من حيلة أو علاج
مزجت روحي ألحاظها ... بالهوى فهو لروحي مزاج
يا قضيبا فوق دعص نقا ... وكثيبا تحت تمثال عاج «1»
أنت نوري في ظلام الدّجى ... وسراجي عند فقد السّراج
الضرب الثالث من المديد وهو المحذوف اللازم اللين
مستهام دمعه سائح ... بين جنبيه هوى فادح
كلما أمّ سبيل الهدى ... عاقه السانح والبارح(6/358)
حلّ فيما بين أعدائه ... وهو عن أحبابه نازح
أيّها القادح نار الهوى ... اصلها يا أيّها القادح
الضرب الرابع من المديد وهو المحذوف المقطوع
عاد منها كلّ مطبوخ ... غير داذيّ ومفضوخ «1»
واعتقد من أهل ودّ الحمى ... كلّ ودّ غير مشدوخ
وانتشق ريّاك من ملتقى ... شارب بالمسك ملطوخ «2»
إنّ في العلم وآثاره ... ناسخا من بعد منسوخ
الضرب الخامس من المديد وهو المحذوف المخبون
يا مجال الرّوح في جسدي ... والذي يفترّ عن برد
وفريد الحسن واحده ... منتهاه منتهى العدد
خذ بكفّي إنني غرق ... في بحار جمّة المدد
ورياح الهجر قد هدمت ... ما أقام الوصل من أودي
الضرب السادس من المديد وهو الأبتر
أذكرتني طير تاناذ ... فقرى الكرخ ببغداذ»(6/359)
قهوة ليست بباذقة ... لا ولا بتع ولا داذي «1»
مرّة يهذي الحليم بها ... بأبي ذلك من هاذي
فهي أستاذ الشراب بنا ... والمعاني دأب أستاذ
[البسيط]
الضرب الأول من البسيط وهو المخبون
نور تولّد من شمس ومن قمر ... في طرفه قدر أمضى من القدر
أصلى فؤادي بلا ذنب جوى حرق ... لم يبق من مهجتي شيئا ولم يذ
لا والرّحيق المصفّى من مراشفه ... وما بخديه من ورد ومن طر
ما أنصف الحبّ قلبي في حكومته ... ولا عفا الشوق عني عفو مقتد
الضرب الثاني من البسيط وهو المقطوع
خرجت أجتاز قفرا غير مجتاز ... فصادني أشهل العينين كالبازي
صقر على كفّه صقر يؤلّفه ... ذا فوق بغل وذاك فوق قفّاز
كم موعد لي من ألحاظ مقلته ... لو أنه موعد يقضى بإنجاز
أبكي ويضحك منّي طرفه هزوا ... نفسي الفداء لذاك الضاحك الهازي
الضرب الثالث من البسيط وهو المجزوء المذال
يا غصنا مائسا بين الرّياط ... مالي بعدك بالعيش اغتباط «2»(6/360)
يا من إذا ما بدا لي ماشيا ... وددت أنّ له خدّي بساط
تترك عيناه من أبصره ... مختلطا عقله كلّ اختلاط
قلت متى نلتقي يا سيّدي ... قال غدا نلتقي عند الصراط
الضرب الرابع من البسيط وهو المجزوء السالم
يا ساحرا طرفه إذ يلحظ ... وفاتنا لفظه إذا يلفظ
يا غصنا ينثني من لينه ... وجهك من كلّ عين يحفظ
أيقظ طرفي إذا ما قد بدا ... من طرفه ناعس مستيقظ «1»
ظبي له وجنة من رقّة ... تجرحها مقلتي إذ تلحظ
الضرب الخامس من البسيط وهو المقطوع
يا من دمي دونه مسفوك ... وكل حرّ له مملوك
كأنه فضّة مسبوكة ... أو ذهب خالص مسبوك
ما أطيب العيش إلّا أنه ... عن عاجل كلّه متروك
والخير مسدودة أبوابه ... ولا طريق له مسلوك
العروض المقطوع: المجزوء ضربه مثله
إليك يا غرّة الهلال ... وبدعة الحسن والجمال(6/361)
مددت كفّا بها انقباض ... فأين كفي من الهلال
شكوت ما بي إليك وجدا ... فلم ترقّي ولم تبالي
أعاضك الله عن قريب ... حالا من السّقم مثل حالي
العروض الأول من الوافر: المقطوف ضربه مثله
بنفسي من مراشفه مدام ... ومن لحظات مقلته سهام
ومن هو إن بدا والبدر تمّ ... خفى من حسنه البدر التّمام
أقول له وقد أبدى صدودا ... فلا لفظ إليّ ولا ابتسام
تكلم ليس يوجعك الكلام ... ولا يمحو محاسنك السلام
العروض الثاني من الوافر مجزوء سالم ضربه مثله
سلبت الرّوح من بدني ... ورعت القلب بالحزن
فلي بدن بلا روح ... ولي روح بلا بدن
قرنت مع الرّدى نفسي ... فنفسي وهو في قرن
فليت السحر من عيني ... ك لم أره ولم يرني
العروض الثالث من الوافر: المجزوء المعصوب
غزال من بني العاص ... أحسّ بصوت قنّاص
فأتلع جيده ذعرا ... وأشخص أيّ إشخاص
أيا من أخلصت نفسي ... هواه كلّ إخلاص
أطاعك من صميم القل ... ب عفوا كلّ معتاص(6/362)
العروض الأول من الكامل: التام ضربه مثله
في الكلّة الصفراء ريم أبيض ... يشفي القلوب بمقلتيه ويمرض «1»
لمّا غدا بين الحمول مقوّضا ... كاد الفؤاد عن الحياة يقوّض
صد الكرى عن جفن عينك معرضا ... لمّا رآه يصدّ عنك ويعرض
أديت من حبي إليك فريضة ... إن كان حبّ الخلق ممّا يفرض
الضرب الثاني: المقطوع
أومت إليك جفونها بوداع ... خود بدت لك من وراء قناع «2»
بيضاء أنماها النعيم بصفرة ... فكأنها شمس بغير شعاع
أما الشباب فودّعت أيامه ... ووداعهنّ موكّل بوداع
لله أيام الصّبا لو أنّها ... كرّت عليّ بلذّة وسماع
الضرب الثالث: الأحذ المضمر
أصغى إليك بكأسه مصغ ... صلت الجبين معقرب الصّدغ
كأس تؤلّف بالمحبّة بيننا ... طورا وتنزغ أيّما نزغ
في روضة درجت بزهرتها الصبا ... والشمس درج من الفرغ «3»
فاشرب بكف أغنّ عقرب صد ... غه للقلب منك منيّه الّلدغ(6/363)
الضرب الرابع: الأحذ الممنوع من الإضمار العروض الثاني
يا دمية نصبت لمعتكف ... بل ظبية أوفت على شرف
بل درّة زهراء ما سكنت ... بحرا ولا اكتنفت ورا صدف
أسرفت في قتلي بلا ترة ... وسمعت قول الله في السّرف
إني أتوب إليك معترفا ... إن كنت تقبل توب معترف
الضرب الخامس: الأحذ المضمر
يا فتنة بعثت على الخلق ... ما بينها والموت من فرق
شمس بدت لك من مغاربها ... يفترّ مبسمها عن البرق
ما كنت أحسب قبل رؤيتها ... للشمس مطلعا سوى الشّرق
يا من يضنّ بفضل نائله ... لو في يديه مفاتح الرّزق
العروض الثالث، له أربعة ضروب الضرب السادس: المجزوء المرفل
طلعت له والليل دامس ... شمس تجلّت في حنادس «1»
تختال في لين المجا ... سد بين حارسة وحارس
يا من لبهجة وجهه ... يستأسر البطل الممارس
لم يبق من قبلي سوى ... رسم تغيّر فهو دارس
الضرب السابع: المجزوء المذال
دع قول واشية وواش ... واجعلهما كلبي هراش(6/364)
واشرب معتّقة تسلسل في العظام وفي المشاش
الضرب الثامن: المجزوء الصحيح
ألحاظ عيني تلتهي ... في روض ورد يزدهي
رتعت بها وتنزّهت ... فيها ألذّ تنزّه
يا أيّها الخنث الجفو ... ن بنخوة وتكرّه
والمكتسي غنجا أما ... ترثي لأشعث أمره
الضرب التاسع: المجزوء المقطوع بسلامة الثاني
أطفت شرارة لهوي ... ولوت بشدة عدوي
شعل علون مفارقي ... ومضت ببهجة سروي
لمّا سلكت عروضها ... ذهب الزّحاف بحزوي
يا أيها الشّادي صه ... ليست بساعة شدو
الهزج له عروض واحد وضربان (الضرب المجزوء الممنوع من القبض)
ألا يا دين قلبي للشّ ... باب الغضّ إذ ولّى
جعلت الغيّ سربالي ... وكان الرّشد بي أولى
بنفسي جائر في الح ... كم يلفى جوره عدلا
وليس الشهد في فيه ... بأحلى عنده من «لا»
الضرب الثاني: المحذوف
هنا تفني قوافي الشّعر في هذا الرّوي
قواف ألبست حليا ... من الحسن البديّ
تعالت عن جرير بل ... زهير بل عديّ(6/365)
ثم الجزء السادس ويليه- إن شاء الله- الجزء السابع وأوله كتاب الياقوتة الثانية، في علم الألحان واختلاف الناس فيه(6/366)
الجزء السابع
كتاب الياقوتة الثانية في علم الألحان واختلاف الناس فيه
لابن عبد ربه قال أبو عمر احمد بن عبد ربه: قد مضى قولنا في أعاريض الشعر وعلل القوافي، وفسرنا جميع ذلك بالمنظوم والمنثور.
ونحن قائلون بعون الله وإذنه في علم الالحان واختلاف الناس فيه، ومن كرهه، ولأي وجه كره؛ ومن استحسنه، ولاي وجه استحسن؛ وكرهنا ان يكون كتابنا هذا بعد اشتماله على فنون الآداب والحكم والنوادر والامثال، عطلا من هذه الصناعة، التي هي مراد السمع، ومرتع النفس وربيع القلب، ومجال الهوى، ومسلاة الكئيب، وأنس الوحيد، وزاد الراكب؛ لعظم موقع الصوت الحسن من القلب، وأخذه بمجامع النفس..
ابن مسلم وابن دأب قال ابو سعيد بن مسلم: قلت لابن دأب: قد أخذت من كل شيء بطرف غير شيء واحد، فلا أدري ما صنعت فيه. فقال: لعلك تريد الغناء؟ قلت: أجل. قال:
أما إنك لو شهدتني وأنا أترنم بشعر كثيّر عزة حيث يقول:
وما مرّ من يوم عليّ كيومها ... وإن عظمت أيام أخرى وجلّت
لاسترخت تكّتك «1» ! قال: قلت: أتقول لي هذا! قال: اي والله: وللمهدي أمير المؤمنين كنت أقوله.(7/3)
فصل في الصوت الحسن
للمفسرين
قال بعض أهل التفسير في قول الله تعالى: يَزِيدُ فِي الْخَلْقِ ما يَشاءُ
«1» : هو الصوت الحسن.
للنبي صلّى الله عليه وسلم
وقال النبي صلّى الله عليه وسلم لابي موسى الاشعري لما أعجبه حسن صوته: لقد أوتيت مزمارا من مزامير آل داود.
لأهل الطب
وزعم أهل الطب أن الصوت الحسن يسري في الجسم، ويجري في العروق، فيصفو له الدم، ويرتاح له القلب، وتنمو له النفس، وتهتز الجوارح، وتخف الحركات؛ ومن ذلك كرهوا للطفل أن ينوّم على أثر البكاء حتى يرقص ويطرب.
ليلى الاخيلية والحجاج
وقالت ليلى الاخيلية للحجاج حين سألها عن ولدها وأعجبه ما رأى من شبابه:
إني والله ما حملته سهوا، ولا وضعته يتنا، ولا أرضعته غيلا، ولا أنمته تئقا. تعني لم أنوّمه مستوحشا باكيا؛ وقولها: ما حملته سهوا، تعني في بقايا الحيض؛ ويقال: حملت المرأة وضعا وتضعا، إذ حملت في استقبال الحيض؛ وقولها: ولا وضعته يتنا، تعني منكسا؛ وقولها: ولا أرضعته غيلا، تعني لبنا فاسدا.(7/4)
للفلاسفة
وزعمت الفلاسفة أن النغم فضلّ بقي من المنطق لم يقدر اللسان على استخراجه فاستخرجته الطبيعة بالالحان على الترجيع لا على التقطيع، فلما ظهر عشقته النفس وحنّ إليه الروح؛ ولذلك قال أفلاطون: لا ينبغي ان تمنع النفس من معاشقة بعضها بعضا؛ ألا ترى ان اهل الصناعات كلّها إذا خافوا الملالة والفتور على أبدانهم، ترنّموا بالالحان، فاستراحت لها أنفسهم.
وليس من احد كائنا من كان إلا وهو يطرب من صوت نفسه، ويعجبه طنين رأسه؛ ولو لم يكن من فضل الصوت إلا أنه ليس في الأرض لذة تكتسب من مأكل أو ملبس أو مشرب أو نكاح أو صيد، إلا وفيه معاناة على البدن، وتعب على الجوارح. غيره، لكفى.
وقد يتوصل بالالحان الحسان إلى خير الدنيا والآخرة؛ ذلك أنها تبعث على مكارم الاخلاق، من اصطناع المعروف، وصلة الرحم، والذبّ عن الاعراض، والتجاوز عن الذنوب؛ وقد يبكي الرجل بها على خطيئته، ويرق القلب من قسوته، ويتذكر نعيم الملكوت ويمثله في ضميره.
وكان أبو يوسف القاضي ربما حضر مجلس الرشيد وفيه الغناء، فيجعل مكان السرور به بكاء، كأنه يتذكر به نعيم الآخرة!.
لابن أبي داود
وقال أحمد بن أبي داود إن كنت لاسمع الغناء من مخارق عند المعتصم، فيقع علي البكاء!.
حتى إن البهائم لتحنّ إلى الصوت الحسن وتعرف فضله؛ وقال العتابي وذكر رجلا، فقال: والله إن جليسه لطيب عشرته لأطرب من الإبل على الحداء، والنحل على الغناء.(7/5)
لصاحب الفلاحات
وكان صاحب الفلاحات يقول بأن النحل أطرب الحيوان كله إلى الغناء، وإن افراخها لتستنزل بمثل الزّجل والصوت الحسن.
قال الراجز:
والطّير قد يسوقه للموت ... إصغاؤه إلى حنين الصّوت
وبعد، فهل خلق الله شيئا اوقع بالقلوب وأشدّ اختلاسا للعقول، من الصوت الحسن، لا سيما إذا كان من وجه حسن، كما قال الشاعر:
ربّ سماع حسن ... سمعته من حسن
مقرّب من فرح ... مبعّد من حزن
لا فارقاني أبدا ... في صحة من بدني
وهل على الارض رعديد «1» مستطار الفؤاد، بتغنّى بقول جرير بن الخطفي:
قل للجبان إذا تأخّر سرجه ... هل أنت من شرك المنية ناجي
إلا ثاب إليه روحه، وقوي قلبه؟ أم على الأرض بخيل قد تقفّعت «2» أطرافه لؤما، ثم غنى بقول حاتم الطائي:
يرى البخيل سبيل المال واحدة ... إنّ الجواد يرى في ماله سبلا
إلا انبسطت أنامله ورشحت أطرافه؟ أم هل على الارض غريب نازح الدار بعيد المحل، يتغنى بشعر علي بن الجهم:
يا وحشتا للغريب في البلد النّا ... زح ماذا بنفسه صنعا
فارق أحبابه فما انتفعوا ... بالعيش من بعده ولا انتفعا
يقول في نأويه وغربته ... عدل من الله كلّ ما صنعا
إلا انقطعت كبده حنينا إلى وطنه، وتشوّقا إلى سكنه؟(7/6)
اختلاف الناس في الغناء
اختلف الناس في الغناء، فاجازه عامة اهل الحجاز، وكرهه عامة أهل العراق.
رأي من اجازه
فمن حجّة من اجازه أن أصله الشعر الذي أمر النبي صلّى الله عليه وسلم به، وحضّ عليه، وندب اصحابه اليه، وتجند به على المشركين؛ فقال لحسان: شنّ الغارة على بني عبد مناف، فو الله لشعرك أشدّ عليهم من وقع السهام في غلس الظلام. و [الشعر] هو ديوان العرب ومقيّد احكامها الشاهد على مكارمها؛ وأكثر شعر حسان بن ثابت يغنى به.
حسان وابنه
قال فرج بن سلام: حدثني الرياشي عن الاصمعي قال: شهد حسان بن ثابت مأدبة لرجل من الأنصار وقد كفّ بصره، ومعه ابنه عبد الرحمن، فكلما قدّم شيء من الطعام قال حسان لابنه عبد الرحمن: أطعام يد أم طعام يدين؟ فيقول له طعام يد.
حتّى قدّم الشّواء، فقال له: هذا طعام يدين. فقبض الشيخ يده؛ فلما رفع الطعام اندفعت قينة تغني لهم بشعر حسان:
انظر خليلي بباب جلّق هل ... تبصر دون البلقاء من أحد «1»
جمال شعثاء إذا هبطن من ال ... منحشّ دون الكثبان فالسّند «2»
قال: فجعل حسان يبكي، وجعل عبد الرحمن يوميء إلى القينة أن ترددّه! قال الاصمعي: فلا أدري ما الذي اعجب عبد الرحمن من بكاء ابيه!.
لعائشة
وقالت عائشة رضي الله عنها: علّموا أولادكم الشعر تعذب ألسنتهم.(7/7)
النبي صلّى الله عليه وسلم والشريد وأردف النبي صلّى الله عليه وسلم الشريد، فاستنشده من شعر امية، فأنشده مائة قافية، وهو يقول: هيه! استحسانا لها.
فلما أعياهم القدح في الشعر والقول فيه، قالوا: الشعر حسن ولا نرى ان يؤخذ بلحن حسن؛ وأجازوا ذلك في القرآن وفي الاذان؛ فإن كانت الالحان مكروهة فالقرآن والاذان أحق بالتنزيه عنها، وإن كانت غير مكروهة، فالشعر احوج إليها لإقامة الوزن واخراجه على حدّ الخبر؛ وما الفرق بين أن ينشد الرجل:
أتعرف رسما كاطّراد المذانب
مرسلا، أو يرفع بها صوته مرتجلا.
وإنما جعلت العرب الشعر موزونا لمدّ الصوت فيه والدندنة؛ ولولا ذلك لكان الشعر المنظوم كالخبر المنثور.
النبي صلّى الله عليه وسلم واحتجوا في اباحة الغناء واستحسانه بقول النبي صلّى الله عليه وسلم لعائشة: اهديتم الفتاة إلى بعلها؟ قالت: نعم. قال: فبعثتم معها من يغني؟ قالت: لا. قال: أو ما علمت ان الانصار قوم يعجبهم الغزل، ألا بعثتم معها من يقول؟
أتيناكم أتيناكم ... فحيّونا نحيّيكم
ولولا الحبّة السمرا ... ءلم نحلل بواديكم
واحتجوا بحديث عبد الله بن أنس ابن عم مالك، وكان من أفضل رجال الزهري، قال: مر النبي صلّى الله عليه وسلم بجارية في ظل فارع «1» وهي تغني:(7/8)
هل عليّ ويحكم ... إن لهوت من حرج!
فقال النبي صلّى الله عليه وسلم: لا حرج إن شاء الله.
والذي لا ينكره اكثر الناس، غناء النصب، وهو غناء الركبان.
عمر بن الخطاب
حدّث عبد الله بن المبارك عن اسامة بن زيد عن زيد بن أسلم عن أبيه عن عبد الله بن عمر عن أبيه، قال: مر بنا عمر بن الخطاب وأنا وعاصم بن عمر نغني غناء النصب، فقال: أعيدا عليّ. فأعدنا عليه، فقال: أنتما كحماري العباديّ، قيل له: أي حماريك شرّ؟ قال: ذا، ثم ذا!.
أنس بن مالك وسمع أنس بن مالك أخاه البراء بن مالك يغني، فقال: ما هذا؟ قال: أبيات عربية أنصبها نصبا.
ابن أبي وقاص
ومن حديث الجماني عن حماد بن زيد عن سليمان بن يسار، قال: رأيت سعد بن أبي وقاص في منزل بين مكة والمدينة قد ألقي له مصلّى فاستلقى عليه ووضع إحدى رجليه على الاخرى وهو يتغنى، فقلت: سبحان الله أبا إسحاق! أتفعل مثل هذا وأنت محرم؟ فقال: يا بن أخي، وهل تسمعني أقول هجرا «1» .
عمرو النابغة الجعدي
ومن حديث المفضل عن قرّة بن خالد بن عبد الله بن يحيى، قال: قال عمر بن الخطاب للنابغة الجعدي: أسمعني بعض ما عفا الله لك عنه من غنائك. فاسمعه كلمة(7/9)
له. قال: وإنك لقائلها؟ قال: نعم. قال: لطالما غنيت بها خلف جمال الخطاب.
ابن جريج وعطاء
عاصم عن جريج، قال: سألت عطاء عن قراءة القرآن على الحان الغناء والحداء، قال: وما بأس ذلك يابن أخي!.
داود عليه السلام
قال، وحدّث عبيد بن عمير الليثي، أنّ داود النبي عليه السلام، كانت له معزفة يضرب بها إذا قرأ الزبور لتجتمع عليه الجنّ والإنس والطير، فيبكي ويبكي من حوله؛ وأهل الكتاب يجدون هذا في كتبهم.
رأي من كرهه
ومن حجة من كره الغناء أن قال: إنه يسعر القلوب، ويستفز العقول، ويستخف الحليم، ويبعث على اللهو، ويحض على الطرب، وهو باطل في أصله. وتأولوا في ذلك قول الله عزّ وجلّ وَمِنَ النَّاسِ مَنْ يَشْتَرِي لَهْوَ الْحَدِيثِ لِيُضِلَّ عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ بِغَيْرِ عِلْمٍ. وَيَتَّخِذَها هُزُواً
«1» ، وأخطئوا في التأويل؛ إنما نزلت هذه الآية في قوم كانوا يشترون الكتب من أخبار السّير والاحاديث القديمة ويضاهون بها القرآن ويقولون إنها أفضل منه؛ وليس من سمع الغناء يتخذ آيات الله هزوا؛ وأعدل الوجوه في هذا أن يكون سبيله سبيل الشعر، فحسنه حسن وقبيحه قبيح.
ابن جامع وسفيان
وقد حدّث ابراهيم بن المنذر الخزاعي أنّ ابن جامع السهمي قدم مكة بمال كثير، ففرّقه في ضعفاء أهلها؛ فقال سفيان بن عيينة: بلغني أنّ هذا السهمي قدم بمال كثير.
قالوا: نعم. قال: فعلام يعطى؟ قالوا: يغني الملوك فيعطونه. قال: وبأي شيء(7/10)
يغنيهم؟ قالوا: بالشعر. قال: فكيف يقول؟ فقال له فتى من تلاميذه: يقول:
أطوّف بالبيت مع من يطوف ... وأرفع من مئزري المسبل
قال: بارك الله عليه، ما أحسن ما قال! قال: ثم ماذا؟ قال:
وأسجد بالليل حتى الصباح ... وأتلوا من المحكم المنزل
قال: وأحسن أيضا، أحسن الله إليه، ثم ماذا؟ قال:
عسى فارج الهمّ عن يوسف ... يسخّر لي ربّة المحمل
قال: أمسك! أمسك! أفسد آخرا ما أصلح أوّلا! ألا ترى سفيان بن عيينة رحمه الله حسّن الحسن من قوله وقبّح القبيح؟.
وكره الغناء قوم على طريق الزهد في الدنيا ولذاتها، كما كره بعضهم الملاذّ ولبس العباءة، وكره الحوّاريّ «1» ، وأكل الكشكار، وترك البرّ وأكل الشعير، لا على طريق التحريم، فإنّ ذلك وجه حسن ومذهب جميل؛ فإنما الحلال ما أحل الله والحرام ما حرّم الله. يقول الله تعالى وَلا تَقُولُوا لِما تَصِفُ أَلْسِنَتُكُمُ الْكَذِبَ هذا حَلالٌ وَهذا حَرامٌ لِتَفْتَرُوا عَلَى اللَّهِ الْكَذِبَ، إِنَّ الَّذِينَ يَفْتَرُونَ عَلَى اللَّهِ الْكَذِبَ لا يُفْلِحُونَ
«2» .
وقد يكون الرجل أيضا جاهلا بالغناء او متجاهلا به، فلا يأمر به ولا ينكره.
للحسن البصري
قال رجل للحسن البصري: ما تقول في الغناء يا أبا سعيد؟ قال: نعم العون الغناء على طاعة الله، يصل الرجل به رحمه، ويواسي به صديقه. قال الرجل: ليس عن هذا أسألك. قال: وعمّ سألتني؟ قال: أن يغني الرجل. قال: وكيف يغني؟ فجعل الرجل يلوي شدقيه وينفخ منخريه؛ قال الحسن: والله يابن أخي ما ظننت أنّ عاقلا يفعل هذا بنفسه أبدا! وإنّما أنكر عليه الحسن تشويه وجهه وتعويج فمه؛ وإن كان أنكر(7/11)
الغناء فإنما هو من طريق أهل العراق، وقد ذكرنا أنهم يكرهونه.
لابن جريج وابن عبيد
قال إسحاق بن عمارة: حدثني ابو المغلس عن أبي الحارث، قال: اختلف في الغناء عند محمد بن ابراهيم والي مكة، فأرسل إلى ابن جريح وإلى عمرو بن عبيد، فأتياه، فسألهما، فقال ابن جريج: لا بأس به، شهدت عطاء بن أبي رباح في ختان ولده وعنده ابن سريج المغني، فكان إذا غنى لم يقل له اسكت، وإذا سكت لم يقل له غنّ، وإذا لحن ردّ عليه. وقال عمرو بن عبيد: أليس الله يقول ما يَلْفِظُ مِنْ قَوْلٍ إِلَّا لَدَيْهِ رَقِيبٌ عَتِيدٌ
«1» ، فأيهما يكتب الغناء، الذي عن اليمين أو الذي عن الشمال؟ فقال ابن جريج: لا يكتبه واحد منهما؛ لانه لغو كحديث الناس فيما بينهم من أخبار جاهليتهم وتناشد أشعارهم.
لابي يوسف
قال اسحاق: وحدثني إبراهيم بن سعد الزمري قال: قال أبو يوسف القاضي: ما أعجب امركم يأهل المدينة في هذه الاغاني! ما منكم شريف ولا دنيء يتحاشى عنها! قال: فغضبت وقلت: قاتلكم الله يأهل العراق! ما أوضح جهلكم وأبعد من السداد رأيكم! متى رأيت أحدا سمع الغناء فظهر منه ما يظهر من سفهائكم هؤلاء الذين يشربون المسكر فيترك أحدهم صلاته، ويطلق امرأته، ويقذف «2» المحصنة من جاراته، ويكفر بربه؛ فأين هذا من هذا؟ من اختار شعرا جيدا ثم اختار جرما حسنا فردّده عليه فأطربه وأبهجه فعفا عن الجرائم، وأعطى الرغائب ... ؟ فقال أبو يوسف: قطعتني! ولم يحر جوابا.
الرشيد والزهري
قال إسحاق: وحدّثني ابراهيم بن سعد الزهري قال: قال لي الرشيد: من بالمدينة(7/12)
ممن يحرّم الغناء؟ قال: قلت: من قنّعه الله بخزيه، قال: بلغني أنّ مالك بن أنس يحرّمه. قلت: يا أمير المؤمنين، أو لمالك أن يحرّم ويحلل؟ والله ما كان ذلك لابن عمّك محمد صلّى الله عليه وسلم إلا بوحي من ربه، فمن جعل هذا لمالك؟ فشهادتي على أبي أنه سمع مالكا في عرس ابن حنظلة الغسيل يتغنى:
سليمى أزمعت بينا ... فأين بوصلها أينا
ولو سمعت مالكا يحرّمه ويدي تناله لا حسنت أدبه! قال: فتبسم الرشيد.
ابن عمر وابن جعفر
وعن أبي شعيب الحراني عن جعفر بن صالح بن كيسان عن أبيه، قال: كان عبد الله بن عمر يحب عبد الله بن جعفر، فغدا عليه يوما وعنده جارية في حجرها عود، فقال ابن عمر: ما ذاك يا أبا محمد؟.
قال: وما تظن به يا أبا عبد الرحمن؟ فإن أصاب ظنّك فلك الجارية.
قال: ما أراني إلا قد أخذتها، هذا ميزان رومي!.
فضحك ابن جعفر وقال: صدقت، هذا ميزان يوزن به الكلام، والجارية لك؛ ثم قال: هات فغنّت:
أيا شوقا إلى البلد الامين ... وحي بين زمزم والحجون
ثم قال: هل ترى بأسا؟ قال: هل غير هذا؟ قال: لا. قال: فما أرى بذا بأسا.
ابن عمر وابن محرز
وسمع عبد الله بن عمر ابن محرز يغني:
لو بدّلت أعلى منازلها ... سفلا وأصبح سفلها يعلو
لعرفت مغناها بما احتملت ... مني الضلوع لأهلها قبل
فقال له عبد الله بن عمر: قل: إن شاء الله! قال: يفسد المعنى. قال: لا خير في معنى يفسده «إن شاء الله» .(7/13)
عمر بن عبد العزيز ومغن
حدث محمد بن زكريا الغلابي بالبصرة قال: حدثني ابن الشرفي عن الاصمعي قال سمع عمر بن عبد العزيز راكبا يغني في سفره:
فلولا ثلاث هنّ من عيشة الفتى ... وجدّك لم أحفل متى قام عوّدي
فمنهنّ سبق العاذلات بشربة ... كميت متى ما تعل بالماء تزبد «1»
وكرّي إذا نادى المضاف محنّبا ... كسيد الغضا في الطخية المتورّد «2»
وتقصير يوم الدّجن والدّجن معجب ... ببهكنة تحت الطّراف الممدّد «3»
فقال عمر بن عبد العزيز: وأنا لولا ثلاث لم أحفل متى قام عوّدي: لولا أن أنفر في السرية، وأقسم بالسوية، وأعدل في القضية!.
جرير والاسلمي العابد
قال جرير المدني: مررت بالأسلمي العابد وهو في مسجد رسول الله صلّى الله عليه وسلم يصلي فسلمت عليه، فأومأ إليّ وأشار بالجلوس، فجلست، فلما سلم أخذ بيدي وأشار إلى حلقي، وقال: كيف هو؟ قلت: أحسن ما كان قط. قال: أما والله لوددت أنه خلا لي وجهك وأنك أسمعتني:
يا لقومي بحبلك المصروم ... يوم شطّوا وأنت غير ملوم
أصبح الرّبع من أمامة قفرا ... غير مغنى معازف ورسوم
قلت: إذا شئت، قال: في غير هذا الوقت إن شاء الله.
ابن المبارك
وحدث ابو عبد الله المروزي بمكة في المسجد الحرام، قال: حدثنا حسان وسويد صاحبا ابن المبارك، قالا: لما خرج ابن المبارك إلى الشام مرابطا خرجنا معه، فلما(7/14)
نظر إلى ما فيه القوم من التعبد والغزو والسرايا في كل يوم، التفت إلينا فقال: إنا لله وإنا إليه راجعون على أعمار أفنيناها، وأيام وليال قد قطعناها في علم الشعر، وتركنا ههنا أبواب الجنة مفتوحة! قال: فبينما هو يمشي ونحن معه في أزقة المصيصة، إذا نحن بسكران قد رفع صوته يغني:
أذلني الهوى فأنا الذّليل ... وليس إلى الذي أهوى سبيل
فأخرج برنامجا من كمه، فكتب البيت؛ فقلنا له: أتكتب بيت شعر سمعته من سكران؟ قال: أما سمعتم المثل: ربّ جوهرة في مزبلة!.
الاوقص المخزومي
قال: وولي الأوقص المخزومي قضاء مكة، فما رؤي مثله في العفاف والنبل، فبينما هو نائم ذات ليلة في علّية له، إذ مر به سكران يتغنى ويلحن في غنائه، فأشرف المخزومي عليه، فقال: يا هذا، شربت حراما، وأيقظت نياما، وغنيت خطأ: خذه عني! فأصلحه عليه!.
وقال الاوقص المخزومي: قالت لي أمي: أي بنيّ، إنّك خلقت في صورة لا تصلح معها لمجامعة الفتيان في بيوت القيان، فعليك بالدين، فإن الله يرفع به الخسيسة ويتمّ به النقيصة، فنفعني الله بقولها.
الشعبي وبشر
وحدث عباس بن المفضل قاضي المدينة، قال: حدثني الزبير بن بكار قاضي مكة عن مصعب بن عبد الله قال: دخل الشعبي على بشر بن مروان وهو والي العراق لاخيه عبد الملك بن مروان، وعنده جارية في حجرها عود؛ فلما دخل الشعبي امرها فوضعت العود، فقال له الشعبي: لا ينبغي للامير ان يستحي من عبده. قال: صدقتم:
ثم قال للجارية: هاتي ما عندك. فأخذت العود وغنت:
ومما شجاني أنها يوم ودّعت ... تولت وماء العين في الجفن حائر(7/15)
فلما أعادت من بعيد بنظرة ... إليّ التفاتا أسلمته المحاجر
فقال الشعبي: الصغير أكيسهما «1» . يريد الزير، ثم قال: يا هذه، أرخي من يمّك، وشدّي من زيرك «2» . فقال له بشر: وما علمك؟ قال: أظن العمل فيهما. قال:
صدقت، ومن لم ينفعه ظنّه لم ينفعه يقينه.
قرشي ورجل يغني في المسجد
وحدث عن أبي عبد الله البصري قال: غنّى رجل في المسجد الحرام وهو مستلق على قفاه صوتا، ورجل من قريش يصلي في جواره؛ فسمعه خدّام المسجد فقالوا: يا عدو الله، تغني في المسجد الحرام! ورفعوه إلى صاحب الشرطة، فتجوز القرشي في صلاته؛ ثم سلم واتبعه، فقال لصاحب الشرطة: كذبوا عليه أصلحك الله، إنّما كان يقرأ! فقال يا فساق، أتأتوني برجل قرأ القرآن تزعمون انه غنّى خلوا سبيله! فلما خلّوه قال له القرشي: والله لولا انك أحسنت وأجدت ما شهدت لك، اذهب راشدا.
أبو حنيفة وجار له
وكان لابي حنيفة جار من الكيالين مغرم بالشراب، وكان أبو حنيفة يحيي الليل بالقيام، ويحييه جاره الكيال بالشراب، ويغني على شرابه:
أضاعوني وأيّ فتى أضاعوا ... ليوم كريهة وسداد ثغر
فأخذه العسس «3» ليلة فوقع في الحبس، وفقد أبو حنيفة صوته واستوحش له؛ فقال لاهله: ما فعل جارنا الكيال؟ قالوا: أخذه العسس فهو في الحبس. فلما اصبح ابو حنيفة وضع الطويلة على رأسه، وخرج حتى أتى باب عيسى بن موسى، فاستأذن عليه، فأسرع في إذنه- وكان أبو حنيفة قليلا ما يأتي الملوك- فأقبل عليه عيسى(7/16)
بوجهه، وقال: أمر ما جاء بك أبا حنيفة! قال: نعم، أصلح الله الامير، جار لي من الكيالين، أخذه عسس الامير ليلة كذا، فوقع في حبسك. فأمر عيسى باطلاق كل من أخذ في تلك الليلة، إكراما لابي حنيفة؛ فأقبل الكيال على أبي حنيفة متشكرا له، فلما رآه أبو حنيفة قال: أضعناك يا فتى؟ يعرّض له بقصيدته؛ قال: لا والله، ولكنك بررت وحفظت.
الدارمي وتاجر عراقي
: الاصمعي قال: قدم عراقي بعدل «1» من خمر العراق الى المدينة، فباعها كلها إلا السود، فشكا ذلك الى الدارمي، وكان قد تنسك وترك الشعر ولزم المسجد فقال: ما تجعل لي على أن أحتال لك بحيلة حتى تبيعها كلّها على حكمك؟ قال: ما شئت!! قال: فعمد الدارمي إلى ثياب نسكه! فألقاها عنه وعاد إلى مثل شأنه الاول، وقال شعرا ورفعه إلى صديق له من المغنين، فغنى به وكان الشعر:
قل للمليحة في الخمار الاسود ... ماذا فعلت بزاهد متعبّد «2»
قد كان شمّر للصلاة ثيابه ... حتى خطرت له بباب المسجد
ردّي عليه صلاته وصيامه ... لا تقتليه بحقّ دين محمد
فشاع هذا الغناء في المدينة: وقالوا: قد رجع الدارمي وتعشق صاحبة الخمار الاسود. فلم تبق مليحة بالمدينة الا اشترت خمارا اسود، وباع التاجر جميع ما كان معه؛ فجعل إخوان الدارمي من النساك يلقون الدارمي فيقولون: ماذا صنعت؟
فيقول: ستعلمون نبأه بعد حين. فلما أنفذ العراقي ما كان معه، رجع الدارمي إلى نسكه ولبس ثيابه.
عروة بن أذينة
: وحدث عبد الله بن مسلم بن قتيبة ببغداد، قال: حدثني سهل عن الأصمعي قال:(7/17)
كان عروة بن أذينة يعدّ ثقة ثبتا في الحديث، روى عنه مالك بن أنس؛ وكان شاعرا لبقا في شعره غزلا، وكان يصوغ الألحان والغناء على شعره في حداثته وينحلها المغنين؛ فمن ذلك قوله، وغنى به الحجازيون:
يا ديار الحيّ بالأجمه ... لم يبيّن رسمها كلمه
وهو موضع صوته، ومنه قوله:
قالت وأبثثتها وجدي وبحت به ... قد كنت عندي تحت السّتر فاستتر
ألست تبصر من حولي فقلت لها ... غطّي هواك وما ألقي على بصري
قال: فوقفت عليه امرأة وحوله التلامذة، فقالت: أنت الذي يقال فيك الرجل الصالح، وأنت القائل:
إذا وجدت أوار الحبّ في كبدي ... عمدت نحو سقاء القوم أبترد
هبني بردت ببرد الماء ظاهره ... فمن لنار على الأحشاء تتقد
لا والله ما قال هذا رجل صالح قط!
القس
: قال: وكان عبد الرحمن الملقب بالقس عند أهل مكة بمنزلة عطاء بن أبي رباح في العبادة، وإنه مر يوما بسلامة وهي تغني، فقام يستمع غناءها، فرآه مولاها فقال له:
هل لك أن تدخل فتسمع؟ فأبى، فلم يزل به حتى دخل، فقال له: أوقفك في موضع بحيث تراها ولا تراك. فغنّته فأعجبته، فقال له مولاها: هل لك في أن أحوّلها إليك؟ فأبى ذلك عليه، فلم يزل به حتى أجابه، فلم يزل يسمعها ويلاحظها النظر حتى شغف بها؛ ولما شعرت لحظه إيّاها غنته:
ربّ رسولين لنا بلّغا ... رسالة من قبل أن يبرحا
لم يعملا خفّا ولا حافرا ... ولا لسانا بالهوى مفصحا
حتى استقلا بجوابيهما ... بالطائر الميمون قد أنجحا(7/18)
الطرف والطّرف بعثناهما ... فقضيا حاجا وما صرّحا
قال: فأغمي عليه وكاد أن يهلك؛ فقالت له يوما: والله إنّي أحبّك! قال لها: وأنا والله أحبّك! قالت: وأحب أن أضع فمي ... قال: وأنا والله ... قالت: فما يمنعك من ذلك؟ قال: أخشى أن تكون صداقة ما بيني وبينك [اليوم] عداوة يوم القيامة؛ أما سمعت الله تعالى يقول: الْأَخِلَّاءُ يَوْمَئِذٍ بَعْضُهُمْ لِبَعْضٍ عَدُوٌّ إِلَّا الْمُتَّقِينَ
«1» ؟
ثم نهض وعاد إلى طريقه التي كان عليها، وأنشأ يقول:
قد كنت أعذل في السفاهة أهلها ... فأعجب لما تأتي به الأيام «2»
فاليوم أعذرهم وأعلم أنما ... سبل الضلالة والهدى أقسام
وله فيه:
إن سلامة التي ... أفقدتني تجلّدي «3»
لو تراها وعودها ... حين يبدو وتبتدي
للجريرين والغري ... ض وللقرم معبد
خلتهم بين عودها ... والدّساتين واليد
أخبار عبد الله بن جعفر
هو ومعاوية
: حدث سعيد بن محمد العجلي بعمان، حدثني نصر بن علي عن الأصمعي، قال: كان معاوية يعيب على عبد الله بن جعفر سماع الغناء؛ فأقبل معاوية عاما من ذلك حاجا، فنزل المدينة، فمر ليلة بدار عبد الله بن جعفر فسمع عنده غناء على أوتار، فوقف ساعة يستمع، ثم مضى وهو يقول: أستغفر الله! أستغفر الله! فلما انصرف من آخر الليل مر بداره أيضا، فإذا عبد الله قائم يصلي، فوقف ليستمع قراءته، فقال الحمد لله!(7/19)
ثم نهض وهو يقول: خَلَطُوا عَمَلًا صالِحاً وَآخَرَ سَيِّئاً عَسَى اللَّهُ أَنْ يَتُوبَ عَلَيْهِمْ
» .
فلما بلغ ابن جعفر ذلك أعدّ له طعاما ودعاه إلى منزله، وأحضر ابن صيّاد المغني، ثم تقدم إليه يقول: إذا رأيت معاوية واضعا يده في الطعام فحرّك أو تارك وغنّ. فلما وضع معاوية يده في الطعام حرّك ابن صياد أوتاره وغنى بشعر عدي بن زيد وكان معاوية يعجب به.
يا لبينى أوقدي النارا ... إنّ من تهوين قد حارا
ربّ نار بتّ أرمقها ... تقضم الهنديّ والغارا
ولها ظبي يؤجّجها ... عاقد في الخصر زنارا «2» .
قال فأعجب معاوية غناؤه، حتى قبض يده عن الطعام، وجعل يضرب برجله الأرض طربا؛ فقال له عبد الله بن جعفر: يا أمير المؤمنين؛ إنما هو مختار الشعر يركّب عليه مختار الألحان، فهل ترى به بأسا؟ قال: لا بأس بحكمة الشعر مع حكمة الألحان.
قال: وقدم عبد الله بن جعفر على معاوية بالشام، فأنزله في دار عياله، وأظهر من إكرامه وبرّه ما كان يستحقه؛ فغاظ ذلك فاختة بنت قرظة زوجة معاوية؛ فسمعت ذات ليلة غناء عند عبد الله بن جعفر، فجاءت إلى معاوية فقالت: هلم فاسمع ما في منزل هذا الذي جعلته بين لحمك ودمك، وأنزلته في حرمك! فجاء معاوية فسمع شيئا حرّكه وأطربه، فقال: والله إنّي لأسمع شيئا تكاد الجبال تخرّ له، وما أظنّه إلا من تلقية الجن! ثم انصرف، فلما كان من آخر الليل سمع معاوية قراءة عبد الله وهو قائم يصلي، فأنبه فاختة، وقال لها: اسمعي مكان ما أسمعتني، هؤلاء قومي: ملوك بالنهار، رهبان بالليل! ثم إن معاوية أرق ذات ليلة، فقال لخادمه حديج: اذهب فانظر من عند عبد الله، وأخبره بخروجي إليه. فذهب فأخبره، فأقام كلّ من كان عنده؛ ثم جاء معاوية، فلم(7/20)
ير في المجلس غير عبد الله، فقال: مجلس من هذا؟ قال: مجلس فلان. قال معاوية:
مره يرجع إلى مجلسه. ثم قال: مجلس من هذا؟ قال: مجلس فلان. قال: مره يرجع إلى مجلسه ... حتى لم يبق إلا مجلس رجل، فقال: مجلس من هذا؟ قال: مجلس رجل يداوي الآذان، يا أمير المؤمنين! قال له معاوية: فإنّ أذني عليلة، فمره فليرجع إلى موضعه. وكان موضع بديح المغني، فأمره ابن جعفر، فرجع إلى موضعه، فقال له معاوية: داو أذني من علّتها! فتناول العود ثم غنى:
أمن أمّ أوفى دمنة لم تكلّم ... بحومانة الدرّاج فالمتثلم «1»
فحرّك عبد الله بن جعفر رأسه، فقال معاوية: لم حرّكت رأسك يا بن جعفر؟
قال: أريحيّة أجدها يا أمير المؤمنين، لو لاقيت عندها لابليت، ولئن سئلت عندها لأعطيت! وكان معاوية قد خضب «2» ، فقال ابن جعفر لبديح: هات غير هذا.
وكانت عند معاوية جارية أعزّ جواريه عنده، كانت متولية خضابه، فغناه بديح:
أليس عندك شكر للتي جعلت ... ما ابيض من قادمات الشعر كالحمم «3»
وجدّدت منك ما قد كان أخلقه ... صرف الزمان وطول الدهر والقدم
فطرب معاوية طربا شديدا وجعل يحرك رجله، فقال ابن جعفر: يا أمير المؤمنين سألتني عن تحريك رأسي فأخبرتك، وأنا أسألك عن تحريك رجلك! فقال معاوية:
كلّ كريم طروب. ثم قام وقال: لا يبرح أحد منكم حتى يأتيه إذني. فبعث إلى ابن جعفر بعشرة آلاف دينار، ومائة ثوب من خاص ثيابه، وإلى كل رجل منهم بألف دينار وعشرة أثواب.
هو ومغنية سمعها
: وعن ابن الكلبي والهيثم بن عدي، قالا: بينا عبد الله بن جعفر في بعض أزقة المدينة، إذ سمع غناء، فأصغى إليه، فإذا بصوت شجيّ رقيق لقينة تغني:(7/21)
قل للكرام ببابنا يلجوا ... ما في التصابي على الفتى حرج «1»
فنزل عبد الله عن دابته، ودخل على القوم بلا إذن؛ فلما رأوه قاموا إليه إجلالا ورفعوا مجلسه؛ ثم أقبل عليه صاحب المنزل، فقال: يا بن عم رسول الله دخلت منزلنا بلا إذن، وما كنت لهذا بخليق! فقال عبد الله: لم أدخل إلا بإذن! قال: ومن أذن لك؟ قال: قينتك هذه؛ سمعتها تقول:
قل للكرام ببابنا يلجوا
فولجنا، فإن كنا كراما فقد أذن لنا، وإن كنا لئاما خرجنا مذمومين! فضحك صاحب المنزل، وقال صدقت جعلت فداك! ما أنت إلا من أكرم الأكرمين. ثم بعث عبد الله إلى جارية من جواريه، فقال لها: غني فغنت، فطرب القوم، وطرب عبد الله؛ فدعا بثياب وطيب فكسا القوم وصاحب المنزل وطيّبهم ووهب له الجارية، وقال له: هذه أحذق بالغناء من جاريتك.
أخبار ابن أبي عتيق
هو وعائشة
: ذكر رجل من أهل المدينة أنّ ابن أبي عتيق- وهو عبد الله بن محد بن عبد الرحمن بن أبي بكر الصديق- دخل على عائشة أم المؤمنين- وهي عمته- فوضع رأسه في حجرها- أو على ركبتها- ثم رفع عقيرته يتغني:
ومقيّر حجل جررت برجله ... بعد الهدؤ له قوائم أربع
فاطرب زمان اللهو من زمن الصّبا ... وانزع إذا قالوا أبي لا ينزع
فليأتينّ عليك يوما مرّة ... يبكي عليك مقنّعا لا تسمع
قالت عائشة: يا بنيّ، فاتق ذلك اليوم.(7/22)
هو وكثير
: حدّث أبو عبد الله محمد بن عرفة بواسط. قال: حدثني أحمد بن [محمد بن] يحيى عن الزبير بن بكار عن سليمان بن عباس السعدي عن السائب راوية كثير قال: قال لي كثير يوما: قم بنا إلى ابن أبي عتيق نتحدث عنده. قال: فجئناه، فوجدناه عنده ابن معاذ المغني، فلما رأى كثيرا، قال لابن أبي عتيق: ألا أغنيك بشعر كثيّر؟ [قال:
بلى] ، فاندفع يغني بشعره حيث يقول:
أبائنة سعدى؟ نعم ستبين! * كما انبتّ من حبل القرين قرين
أإن زمّ أجمال وفارق جيرة ... وصاح غراب البين أنت حزين
كأنت لم تسمع ولم تر قبلها ... تفرّق أحباب لهنّ حنين
فأخلفن ميعادي وخن أمانتي ... وليس لمن خان الأمانة دين
فالتفت ابن أبي عتيق إلى كثيّر فقال: وللدّين صحبتهن يا بن أبي جمعة؟ ذلك والله أشبه بهن وأدعى للقلوب إليهن، وإنما يوصفن بالبخل والامتناع، وليس بالأمانة والوفاء؛ وابن قيس الرقيات أشعر منك حيث يقول:
حبّذا الادلال والغنج ... والتي في طرفها دعج «1»
والتي إن حدّثت كذبت ... والتي في ثغرها فلج «2»
وخبّروني هل على رجل ... عاشق في قلبه حرج
فقال كثيّر: قم بنا من عند هذا! ثم نهض.
هو وابن جعفر
: وقال عبد الله بن جعفر لابن أبي عتيق، لو غنتك فلانة جاريتي صوتا ما أدركت ذكاتك! قال ابن أبي عتيق: قل لها تفعل وليس عليك إن مت ضمان! فأخذ بيده عبد الله بن جعفر وأدخله منزله، ثم أمر الجارية فخرجت، وقال لها: هات. فغنت:(7/23)
بهواك صيّرني العذول نكالا ... وجد السبيل إلى المقال فقالا
ونهيت نومي عن جفوني فانتهى ... وأمرت ليلي أن يطول فطالا
قال: فرمى بنفسه ابن أبي عتيق إلى الأرض وقال: فَإِذا وَجَبَتْ جُنُوبُها فَكُلُوا مِنْها وَأَطْعِمُوا الْقانِعَ وَالْمُعْتَرَّ
«1» .
هو وعبد الملك وابن جعفر
: أبو القاسم جعفر بن محمد قال: لما وصف عبد الله بن جعفر لعبد الملك بن مروان ابن أبي عتيق، وحدّثه عن إقلاله وكثرة عياله. أمره عبد الملك بن مروان أن يبعث به إليه. فأتاه ابن جعفر، فأعلمه بما دار بينه وبين عبد الملك. وبعثه إليه. فدخل ابن أبي عتيق على عبد الملك فوجده جالسا بين جاريتين قائمتين عليه، يميسان «2» كغصني بان بيد كل جارية مروحة تروّح بها عليه، مكتوب بالذهب في المروحة الواحدة:
إنني أجلب الرّيا ... ح وبي يلعب الخجل
وحجاب إذا الحبيب ... ثنى الرأس للقبل
وغياث إذا النّد ... يم تغني أو ارتجل
وفي المروحة الأخرى:
أنا في الكفّ لطيفه ... مسكني قصر الخليفه
أنا لا أصلح إلا ... لظريف أو ظريفه
أو وصيف حسن القدّ ... شبيه بالوصيفه
قال ابن أبي عتيق: فلما نظرت إلى الجاريتين هوّنتا الدنيا عليّ، وأنستاني سوء حالي؛ قلت: إن كانتا من الإنس فما نساؤنا إلا من البهائم! فكلما كررت بصري فيهما تذكرت الجنة، فإذا تذكرت امرأتي- وكنت لها محبا- تذكرت النار! قال: فبدأ عبد الملك يتوجع إليّ بما حكى له ابن جعفر عني، ويخبرني بمالي عنده من جميل(7/24)
الرأي؛ فأكذبت له كلّ ما حكاه له ابن جعفر عني، ووصفت له نفسي بغاية الملاء والجدة؛ فامتلأ عبد الملك سرورا بما ذكرت له، وغما بتكذيب ابن جعفر؛ فلما عاد إليه ابن جعفر، عاتبه عبد الملك على ما حكاه عني وأخبره بما حلّيت به نفسي؛ فقال: كذب والله يا أمير المؤمنين، وإنّه أحوج أهل الحجاز إلى قليل فضلك، فضلا عن كثيره! ثم خرج عبد الله فلقيني، فقال: ما حملك أن كذّبتني عند أمير المؤمنين؟ قلت: أفكنت تراني تجلسني بين شمس وقمر، ثم أتفاقر عنده! لا والله ما رأيت ذلك لنفسي وإن رأيته لي! فلما أعلم بذلك عبد الله بن جعفر عبد الملك بن مروان، قال: فالجاريتان له! قال: فلما صارتا إليّ زرت عبد الله بن جعفر، فوجدته قد امتلأ فرحا، وهو يشرب، وبين يديه عس «1» فيه عسل ممزوج بمسك وكافور، فقال: مهيم! قلت: قد والله قبضت الجاريتين. قال: فاشرب. فتناولت العس فجرعت منه جرعة، فقال لي: زد؛ فأبيت عليه، فقال لجارية له عنده تغنيه: إن هذا قد حاز اليوم غزالتين من عند أمير المؤمنين؛ فخذي في نعتهما؛ فإنهما كما فلّكت «2» صدورهما. فحركت الجارية العود ثم غنت:
عهدي بها في الحيّ قد جردت ... صفراء مثل المهرة الضامر
قد حجم الثّدي على نحرها ... في مشرق ذي بهجة ناضر
لو أسندت ميتا إلى صدرها ... قام ولم ينقل إلى قابر
حتى يقول الناس مما رأوا ... يا عجبا للميّت الناشر
قال: فلما سمعت الأبيات طربت، ثم تناولت العس فشربت عللا بعد نهل، ورفعت عقيرتي أغني:
سقوني وقالوا لا تغنّ ولو سقوا ... جبال حنين ما سقوني لغنّت(7/25)
هو وأبو السائب
: قال: وخرج أبو السائب وابن أبي عتيق يوما يتنزهان في بعض نواحي مكة فمال أبو السائب ليبول وعليه طويلته؛ فانصرف دونها، فقال له ابن أبي عتيق: ما فعلت طويلتك؟ قال: ذكرت قول كثيّر:
أرى الإزار على لبنى فأحسده ... إن الإزار على ما ضمّ محسود
فتصدقت بها على الشيطان الذي أجرى هذا البيت على لسانه! فأخذ ابن أبي عتيق طويلته فرمى بها، وقال: أتسبقني أنت إلى برّ الشيطان!
سليمان ومغن
: سمع سليمان بن عبد الملك مغنيا في عسكره، فقال: اطلبوه. فجاءوا به، فقال:
أعد عليّ ما تغنيت به. فغنى واحتفل- وكان سليمان أغير الناس- فقال لأصحابه:
كأنها والله جرجرة «1» الفحل في الشول، وما أحسب أنثى تسمع هذا إلا صبت! وأمر به فخصي.
الفرزدق والأحوص
: وقالوا: إن الفرزدق قدم المدينة، فنزل على الأحوص بن محمد بن عبد الله بن عاصم بن ثابت بن أبي الأفلح صاحب النبي صلّى الله عليه وسلم وهو الذي حمت لحمه الدبر «2» ، فقال [له] الأحوص: ألا أسمعك غناء؟ قال: تغنّ. فغناه:
أتنسى إذ تودّعنا سليمى ... بعود بشامة سقي البشام
بنفسي من تجنّبه عزيز ... عليّ ومن زيارته لمام
ومن أمسي وأصبح لا أراه ... ويطرقني إذا هجع النّيام «3»
قال الفرزدق: لمن هذا الشعر؟ قال: لجرير. ثم غناه:(7/26)
إنّ الذين غدوا بلبّك غادروا ... وشلا بعينك ما يزال معينا
غيّضن من عبراتهنّ وقلن لي ... ماذا لقيت من الهوى ولقينا
فقال: لمن الشعر؟ فقال لجرير: ثم غناه:
أسري لخالدة الخيال ولا أرى ... شيئا ألذّ من الخيال الطارق
إنّ البليّة من يملّ حديثه ... فانقع فؤادك من حديث الوامق
فقال: لمن هذا الشعر؟ فقال: لجرير. قال: ما أحوجه مع عفافه إلى خنوثة شعري، وما أحوجني مع فسوقي إلى رقة شعره! وقال جرير: والله لولا ما شغلت به من هذه الكلاب، لشببت تشبيبا تحنّ منه العجوز إلى أيام شبابها، حنين الجمل إلى عطنه!
الأحوص ومعبد وعقيلة
: وقال الأحوص يوما لمعبد: امض بنا إلى عقيلة حتى نتحدث إليها ونسمع من غنائها وغناء جواريها. فمضيا، فألفيا على بابها معاذ الأنصاري وابن صياد؛ فاستأذنوا عليها، فأذنت لهم إلا الأحوص، فإنها قالت: نحن على الأحوص غضاب، فانصرف الأحوس وهو يلوم أصحابه على استبدادهم بها، وقال:
ضنّت عقيلة عنك اليوم بالزّاد ... وآثرت حاجة الثّاوي على الغادي «1»
قولا لمنزلهما: حيّيت من طلل ... وللعقيق: ألا حيّيت من واد «2»
إنّي وهبت نصيبي من مودّتها ... لمعبد ومعاذ وابن صيّاد
قرشي ومغن في المسجد
: وجعل رجل يترنم في مسجد المدينة، ورجل من قريش يسمع؛ فأخذه بعض القوم فقالوا: يا عدوّ الله؛ أتغني في المسجد الحرام! وذهبوا به إلى صاحب الحكم، واتبعهم.(7/27)
القرشي فقال لصاحب الحكم: أصلحك الله، إنما كان يقرأ! فأطلق سبيله، فقال له القرشي: والله لولا أنك أحسنت في غنائك وأقمت دارات معبد لكنت عليك أشدّ من الأعوان.
دارات معبد
: والصوت المنسوب إلى دارات معبد، قول أعشى بكر:
هريرة ودّعها وإن لام لائم ... غداة غد أم أنت للبين واجم «1»
ويروى أن معبدا دخل على قتيبة بن مسلم والي خراسان وقد فتح خمس مدائن فجعل يفخر بها عند جلسائه؛ فقال له معبد: والله لقد صغت بعدك خمسة أصوات، إنها لأكثر من الخمس المدائن التي فتحت! والأصوات: الأول:
ودّع هريرة إنّ الرّكب مرتحل ... وهل تطيق وداعا أيها الرجل
والثاني:
هريرة ودّعها وإن لام لائم ... غداة غد أم أنت للبين واجم
والثالث:
ودّع لبابة قبل أن تترحّلا ... واسبل فإنّ سبيله أن تسبلا
والرّابع:
لعمري لئن شطت بغنمة دارها ... لقد كدت من وشك الفراق أبيح «2»
والخامس:
تغذّ بي الشّهباء نحو ابن جعفر ... سواء عليها ليلها ونهارها «3»
أصل الغناء ومعدنه
قال أبو المنذر بن هشام بن الكلبي: الغناء على ثلاثة أوجه: النصب، والسناد،(7/28)
والهزج؛ فأما النصب فغناء الركبان والقينات؛ وأما السناد فالثقيل الترجيع الكثير النغمات، وأما الهزج فالخفيف كله، وهو الذي يثير القلوب ويهيج الحليم.
وإنما كان أصل الغناء ومعدنه في أمهات القرى من بلاد العرب ظاهرا فاشيا وهي: المدينة، والطائف، وخيبر، ووادي القرى، ودومة الجندل، واليمامة؛ وهذه القرى مجامع أسواق العرب.
صانع العود
: وقيل إنّ أوّل من صنع العود: لامك بن قابيل بن آدم، وبكى به على ولده.
ويقال إنّ صانعه بطلميوس صاحب المويسيقي، وهو كتاب اللحون الثمانية.
أول من غنى
: وكان أول من غنى في العرب قينتان لعاد يقال لهما الجرادتان، ومن غنائهما.
ألا يا قيل ويحك قم فهينم ... لعلّ الله يصبحنا غماما «1»
وإنما غنّتا بهذا اللحن حين حبس عنهما المطر؛ وكانت العرب تسمى القينة:
الكرينة، والعود: الكران؛ والمزهر أيضا هو العود، وهو البربط.
وكان أول من غنى في الإسلام الغناء الرقيق: طويس، وهو علّم ابن سريج، والدلال، ونئومة الضحى؛ وكان يكنى أبا عبد النعيم، ومن غنائه وهو أول صوت غنى به في الإسلام:
قد براني الشوق حتى ... كدت من شوقي أذوب
أخبار المغنين
أولهم: طويس، وكان في أيام عثمان رضي الله عنه.(7/29)
طويس وأبان
: حدّثنا جعفر بن محمد قال: لما ولى أبان بن عثمان بن عفان المدينة لمعاوية بن أبي سفيان، قعد في بهو له عظيم، واصطف له الناس، فجاء طويس المغني وقد خضب «1» يديه غمسا، واشتمل على دف له، وعليه ملاءة مصقولة؛ فسلّم ثم قال: بأبي وأمي يا أبان، الحمد لله الذي أرانيك أميرا على المدينة؛ إني نذرت لله فيك نذرا إن رأيتك أن أخضب يدي غمسا وأشتمل على دفي وآتي مجلس إمارتك وأغنيك صوتا! قال:
فقال: يا طويس، ليس هذا موضع ذاك. قال: بأبي أنت وأمي يا بن الطيّب أبحني.
قال: هات يا طويس. فحسر عن ذراعيه وألقى رداءه ومشى بين السماطين «2» وغنى:
ما بال أهلك يا رباب ... خزرا كأنهم غضاب
قال: فصفق أبان بيديه، ثم قام عن مجلسه فاحتضنه وقبّل بين عينيه، وقال:
يلومونني على طويس! ثم قال له: من أسنّ، أنا أو أنت؟ قال: وعيشك لقد شهدت زفاف أمّك المباركة إلى أبيك الطيب! انظر إلى حذقه ورقة أدبه، كيف لم يقل: أمك الطيبة إلى أبيك المبارك.
هو وبكر وسعيد
: وعن الكلبي قال: خرج عمر بن عبد العزيز إلى الحج وهو والي المدينة، وخرج الناس معه؛ وكان فيمن خرج: بكر بن إسماعيل الأنصاري، وسعيد بن عبد الرحمن ابن حسان بن ثابت؛ فلما انصرفا راجعين مرّا بطويس المغني، فدعاهما إلى النزول عنده؛ فقال بكر بن إسماعيل: قد البعير إلى منزلك. فقال له سعيد بن عبد الرحمن:
أتنزل على هذا المخنّث؟ فقال: إنما هو منزل ساعة ثم نذهب. واحتمل طويس الكلام عن سعيد، فأتيا منزله، فإذا هو قد نظفه ونجّده، فأتاهما بفاكهة الشام(7/30)
فوضعها بين أيديهما، فقال له بكر بن إسماعيل، ما بقي منك يا طويس؟ قال: بقي كلّي يا أبا عمرو! قال: أفلا تسمعنا من بقاياك؟ قال: نعم. ثم دخل خيمته؛ فأخرج خريطة، وأخرج منها دبّا، ثم نقر وغنّى:
يا خليلي نابني سهدي ... لم تنم عيني ولم تكد
كيف تلحوني على رجل ... مؤنس تلتذّه كبدي «1»
مثل ضوء البدر صورته ... ليس بالزّمّيلة النكد «2»
من بني آل المغيرة لا ... خامل نكس ولا جحد «3»
نظرت عيني فلا نظرت ... بعده عين إلى أحد
ثم ضرب بالدف الأرض والتفت إلى سعيد بن عبد الرحمن فقال: يا أبا عثمان، أتدري من قائل هذا الشعر؟ قال: لا. قال: قالته خولة ابنة ثابت عمتك، في عمارة ابن الوليد بن المغيرة! ونهض، فقال له بكر: لو لم تقل ما قلته لم يسمعك ما أسمعك.
وبلغت القصة عمر بن عبد العزيز، فأرسل إليهما فسألهما، فأخبراه؛ فقال: واحدة بأخرى والبادي أظلم.
هو والنعمان بن بشير
: الأصمعي قال: حدّثني رجل من أهل المدينة، قال: كان طويس يتغنى في عرس رجل من الأنصار، فدخل النعمان بن بشير العرس، وطويس يتغنى:
أجدّ بعمرة عتبانها ... فتهجر أم شأننا شانها
وعمرة من سروات النسا ... ء تنفح بالمسك أردانها «4»
فقيل له: اسكت! اسكت لأنّ عمرة أمّ النعمان بن بشير؛ فقال النعمان: إنه لم يقل بأسا، إنما قال:(7/31)
وعمرة بن سروات النسا ... ء تنفح بالمسك أردانها
هو وابن شريج والدلال ونومة الضحى
: وكان مع طويس بالمدينة، ابن سريج، والدلال، ونومة الضحى؛ ومنه تعلّموا، ثم نجم بعد هؤلاء: سلم الخاسر، وكان في صحبة عبد الله بن عبد الله بن جعفر، وعنه أخذ معبد الغناء، ثم كان ابن أبي السمح الطائي، وكان يتيما في حجر عبد الله بن جعفر، وأخذ الغناء عن معبد، وكان لا يضرب بعود، وإنما يغني مرتجلا، فإذا غنى لمعبد صوتا حققه، ويقول: قال الشاعر فلان، مططه معبد، وخففته أنا. ومن غنائه.
نام صحبي ولم أنم ... لخيال بنا ألمّ
إنّ في القصر غادة ... كحلت مقلتي بدم
معبد والغريض
: وكان معبد والغريض بمكة، ولمعبد أكثر الصناعة الثقيلة.
ولما قدمت سكينة ابنة الحسين عليهما السلام مكة أتاها الغريض ومعبد فغنياها:
عوجي علينا ربّه الهودج ... إنك إلا تفعلي تحرجي «1»
قالت: والله ما لكما مثل إلّا الجدي الحارّ والبارد، لا ندري أيهما أطيب.
الغريض وختان
: قال إسحاق بن إبراهيم: شهد الغريض ختانا لبعض أهله، فقال له بعض القوم:
غنّ. فقال: هو ابن الزانية إن غنّى! قال له مولاه: فأنت والله ابن الزانية، فغنّ.
قال: أكذلك أنا عندك؟ قال: نعم. قال: أنت أعلم. فغن:
وما أنس م الأشياء لا أنس شادنا ... بمكة مكحولا أسيلا مدامعه(7/32)
تشرّب لون الرازقيّ بياضه ... أو الزعفران خالط المسك رادعه
فلوت الجنّ عنقه فمات. وقال غير إسحاق: بل غنى:
أمن مكتومة الطّلل ... يلوح كأنه خلل
لقد نزلوا قريبا من ... ك لو نفعوك إذ نزلوا
تحاولني لتقتلني ... وليس بعينها حول
ثم نجم ابن طنبورة، وأصله من اليمن، وكان أهزج الناس وأخفهم غناء؛ ومن غنائه:
وفتيان على شرف جميعا ... دلفت لهم بباطية هدور «1»
كأني لم أصد فيهم ببازي ... ولم أطعم بعرصتهم صقوري «2»
فلا تشرب بلا لهو فإنّي ... رأيت الخيل تشرب بالصّفير
ابن طنبورة في مجلس شريف
: ويقال: إنه حضر مجلسا لرجل من الأشراف، إلى أن دخل عليهم صاحب المدينة، فقيل له: غنّ. فغنى:
ويلي من الحييّيه ... ويل ليه! ويل ليه
قد عشّش الحيّة في ... بييتيه بييتيه
فضحك صاحب المنزل ووصله.
ومنهم: حكم الوادي، وكان في صحبة الوليد بن يزيد ويغنى بشعره، ومن غنائه:
خفّ من دار جيرتي ... يا بن داود أنسها
قد دنا الصبح أو بدا ... وهي لم يقض لبسها «3»(7/33)
فمتى تخرج العرو ... س لقد طال حبسها
خرجت بين نسوة ... أكرم الجنس جنسها
الغزيل
وكان بالشام أيام الوليد بن يزيد، مغنّ يقال له الغزيّل ويكنى أبا كامل، وفيه يقول الوليد بن يزيد:
من مبلغ عنّي أبا كامل ... أني إذا ما غاب كالهابل
ومن غنائه:
امدح الكأس ومن أعملها ... واهج قوما قتلونا بالعطش
إنما الكأس ربيع باكر ... فإذا ما لم نذقها لم نعش
مغنو الرشيد وزامره
وكان لهارون الرشيد جماعة من المغنين، ومنهم ابراهيم الموصلي وابن جامع السهمي، ومخارق؛ وطبقة اخرى دونهم، منهم زلزل، وعمرو الغزال، وعلّوية. وكان له زامر يقال له برصوما. وكان ابراهيم أشدّهم تصرفا في الغناء، وابن جامع احلالهم نغمة.
لرشيد وبرصوما
فقال الرشيد يوما لبرصوما: ما تقول في ابن جامع؟ فقال: يا أمير المؤمنين، وما أقول في العسل الذي من حيثما ذقته فهو طيب؟ قال: فإبراهيم الموصلي؟ قال: هو بستان فيه جميع الثمار والرياحين. قال: فعمرو الغزال؟ قال: هو حسن الوجه يا امير المؤمنين.
ليوسف في المغنين
قال إسحاق: قلت ليوسف: من أحسن الناس غناء؟ قال: ابن محرز، قلت:(7/34)
وكيف ذلك؟ قال: إن شئت أجملت وإن فصلت. قلت: أجمل. قال: كان يغني كلّ إنسان بما يشتهي، كأنه خلق من قلب كل إنسان.
وكان إبراهيم اول من وقع الإقاع بالقضيب.
المغنون في بيت ابراهيم
وحدث يحيى بن محمد قال: بينا نحن على باب الرشيد ننتظر الإذن، اذ خرج الآذن فقال لنا: أمير المؤمنين يقرئكم السلام! قال: فانصرفنا، فقال لنا إبراهيم: تصيرون إلى منزلي! قال: فانصرفنا معه، قال: فدخلت دارا لم أر اشرف منها ولا أوسع، وإذا أنا بأفرشة خز مظهرة بالسنجاب، قال: فقعدنا، ثم دعا بقدح كبير فيه نبيذ، وقال:
اسقني بالكبير، إني كبير ... إنما يشرب الصغير صغير
ثم قال:
اسقني قهوة بكوب كبير ... ودع المأكلة للحمير
ثم شرب به، وأمر به فملىء وقال لنا: إن الخيل لا تشرب إلا بالصفير! ثم أمر بجوار فأحطن بالدار، فما شبهت أصواتهن إلا بأصوات طير في أجمة «1» يتجاوبن.
المأمون وإسحاق الموصلي
وقال إسحاق بن ابراهيم الموصلي: لما أفضت الخلافة إلى المأمون، أقام عشرين شهرا لم يسمع حرفا من الغناء، ثم كان أول من تغنى بحضرته أبو عيسى، ثم واظب على السماع، وسأل عني فجرّحني عنده بعض من حسدني فقال: ذلك رجل يتيه على الخلافة! فقال المأمون: ما أبقى هذا من التيه شيئا. وأمسك عن ذكري، وجفاني كلّ من كان يصلني، لما ظهر من سوء رأيه، فأضرّ ذلك بي، حتى جاءني يوما علّوية،(7/35)
فقال لي: أتأذن لى اليوم في ذكرك، فإنّي اليوم عنده؟ فقلت: لا، ولكن غنّه بهذا الشعر، فإنه سيبعثه على أن يسألك من أين هذا؟ فينفتح لك ما تريد، ويكون الجواب أسهل عليك من الابتداء. فمضى علوية؛ فلما استقر به المجلس غناه الشعر الذي أمرته به، وهو:
يا مشرع الماء قد سدّت مسالكه ... أما إليك سبيل غير مسدود»
لحائم حار حتى لا حياة له ... مشرّد عن طريق الماء مطرود
فلما سمعه المأمون قال: ويلك! لمن هذا؟ قال: يا سيدي، لعبد من عبيدك جفوته واطرحته! قال: إسحاق! قلت: نعم. قال: ليحضر الساعة. قال إسحاق: فجاءني الرسول، فسرت إليه؛ فلما دخلت قال: ادن. فدنوت؛ فرفع يديه مادّهما؛ فاتكأت عليه؛ فاحتضنني بيديه؛ وأظهر من اكرامي وبرّي ما لو اظهره صديق لي مواس لسرّني.
الرشيد وعبثر
قال: وحدثني يوسف بن عمر المدني قال: حدثني الحارث بن عبيد الله قال:
سمعت إسحاق الموصلي يقول: حضر مسامرة الرشيد ليلة عبثر المغني، وكان فصيحا متأدبا، وكان مع ذلك يغني الشّعر بصوت حسن، فتذاكروا رقة شعر المدنيين، فأنشد بعض جلسائه أبياتا لابن الدمينة حيث يقول:
وأذكر أيام الحمى ثم أنثني ... على كبدي من خشية أن تصدّعا
وليست عشيات الحمى برواجع ... عليك ولكن خلّ عينيك تدمعا
بكت عيني اليمنى فلما زجرتها ... عن الجهل بعد الحلم أسبلتا معا
فأعجب الرشيد برقة الابيات، فقال له عبثر: يا أمير المؤمنين؛ إن هذا الشعر مدني رقيق، قد غذي بماء العقيق، حتى رق وصفا، فصار أصفى من الهواء، ولكن(7/36)
إن شاء أمير المؤمنين أنشدته ما هو أرق من هذا وأحلى، وأصلب وأقوى، لرجل من أهل البادية. قال: فإني أشاء. قال: وأترنم به يا أمير المؤمنين قال: وذلك لك. فغنى لجرير:
إنّ الذين غدوا بلبّك غادروا ... وشلا بعينك لا يزال معينا
غيّضن من عبراتهنّ وقلن لي ... ماذا لقيت من الهوى ولقينا
راحوا العشيّة روحة مذكورة ... إن حرن حرنا أو هدين هدينا
فرموا بهنّ سواهما عرض الفلا ... إن متن متنا أو حيين حيينا
قال: صدقت يا عبثرة! وخلع عليه واجازه.
زرياب
وكان لابراهيم الموصلي عبد أسود يقال له زرياب، وكان مطبوعا على الغناء علمه ابراهيم؛ وكان ربما حضر به مجلس الرشيد يغني فيه، ثم إنه انتقل إلى القيروان، إلى بني الاغلب، فدخل على زيادة الله بن الاغلب، فغناه بأبيات عنترة الفوارس، حيث يقول:
فان تك أمّي غرابية ... من أبناء حام بها عبتني
فإني لطيف ببيض الظّبا ... وسمر العوالي إذا جئتني
ولولا فرارك يوم الوغى ... لقدتك في الحرب أوقدتني
فغضب زيادة الله، فأمر بصفع قفاه واخراجه، وقال له: إن وجدت في شيء من بلدي بعد ثلاثة ايام ضربت عنقك! فجاز البحر إلى الاندلس، فكان عند الامير عبد الرحمن بن الحكم.
قند
وكان في المدينة في الصدر الاول مغنّ يقال له قند، وهو مولى سعد بن أبي وقاص، وكانت عائشة ام المؤمنين رضي الله عنها تستظرفه، فضربه سعد، فحلفت(7/37)
عائشة لا تكلمه حتى يرضى عنه قند، فدخل عليه سعد وهو وجع من ضربه، فاسترضاه، فرضي عنه، وكلمته عائشة.
هو ومروان بن الحكم
وكان معاوية يعقب بين مروان بن الحكم وسعيد بن العاص على المدينة: يستعمل هذا سنة وهذا سنة؛ وكانت في مروان شدة وغلظة، وفي سعيد لين عريكة وحلم وصفح؛ فلقي مروان بن الحكم قندا المغني، وهو معزول عن المدينة وبيده عكازة؛ فلما رآه قال:
قل لقند يشيّع الاظعانا ... ربّما سرّ عيننا وكفانا
قال له قند: لا إله إلا الله، ما اسمجك واليا ومعزولا.
ابن عائشة والحسن
وروي ابن الكلبي عن أبيه قال: كان ابن عائشة من احسن الناس غناء، وأنبههم فيه، وأضيقهم خلقا، إذا قيل له غنّ، يقول: أو لمثلي يقال هذا؟ عليّ عتق رقبة إن غنيت يومي هذا! فإن غنى وقيل له احسنت، قال: لمثلي يقال أحسنت؟ عليّ عتق رقبة إن غنيت سائر يومي هذا. فلما كان في بعض الايام سال وادي العقيق، فجاء بالعجب، فلم يبق بالمدينة مخبّأة ولا شابة ولا شاب ولا كهل إلا خرج يبصره، وكان فيمن خرج ابن عائشة المغني، وهو معتجر «1» بفضل ردائه؛ فنظر إليه الحسن بن الحسن بن علي بن ابي طالب عليهم السلام- وكان فيمن خرج إلى العقيق- وبين يديه أسودان كأنهما ساريتان «2» يمشيان بين يديه أمام دابته؛ فقال لهما: أنتما حرّان لوجه الله إن تفعلا ما آمركما به ولم أقطعكما إربا إربا؛ اذهبا إلى ذلك الرجل المعتجر بفضل ردائه، فخذا بضبعيه «3» فإن فعل ما آمره به وإلا فاقذفا به في العقيق! قال: فمضيا(7/38)
والحسن يقفوهما، فلم يشعر ابن عائشة إلا وهما آخذان بضبعيه؛ فقال: من هذا؟ فقال له الحسن: أنا هذا يا بن عائشة! قال: لبيك وسعديك، وبأبي أنت وأمي! قال: اسمع مني ما أقول، واعلم انك مأسور في أيديهما وهما حرّان [وقد أقسمت] إن لم تغنّ مائة صوت أن يطرحاك في العقيق وهما حرّان، وإن لم يفعلا ذلك لأقطعنّ أيديهما! فصاح ابن عائشة: واويلاه! وأعظم مصيبتاه! قال دع من صياحك وخذ فيما ينفعنا.
قال: اقترح وأقم من يحصي! وأقبل يغني، فترك الناس العقيق وأقبلوا عليه، فلما تمت أصواته مائة، كبّر الناس بلسان واحد تكبيرة واحدة ارتجت لها أقطار المدينة، وقالوا للحسن: صلّى الله على جدّك حيا وميتا؛ فما اجتمع لاهل المدينة؛ وقالوا للحسن:
صلى الله على جدّك حيا وميتا؛ فما اجتمع لاهل المدينة سرور قط إلا بكم أهل البيت! فقال الحسن إنما فعلت هذا بك يابن عائشة لاخلاقك الشّكسة! قال له ابن عائشة: والله ما مرت عليّ مصيبة أعظم منها، لقد بلغت اطراف أعضائي. فكان بعد ذلك إذا قيل له: ما أشدّ ما مر عليك؟ قال: يوم العقيق.
ابن المهدي
وكان ابراهيم بن المهدي- وهو الذي يقال له ابن شكلة- داهيا عاقلا عالما بأيام الناس شاعرا مفلقا، وكان يصوغ فيجيد.
مخالفته على المأمون
ويروى عن ابراهيم انه قد كان خالف على المأمون ودعا إلى نفسه، فظفر به المأمون فعفا عنه، وقال: لما ظفر به المأمون:
ذهبت من الدّنيا كما ذهبت مني ... هوى الدهر بي عنها وأهوى بها عني
فإن أبك نفسي أبك نفسا عزيزة ... وإن أحتبسها أحتبسها على ضنّ «1»
هو والمأمون
فلما فتحت له أبواب الرضا من المأمون، غنى بهما بين يديه؛ فقال له المأمون:(7/39)
أحسنت والله يا أمير المؤمنين! فقام ابراهيم رهبة من ذلك، وقال: قتلتني والله يا امير المؤمنين! لا والله إن جلست حتى تسمّيني باسمي. قال: اجلس يا ابراهيم. فكان بعد ذلك آثر الناس عند المأمون: ينادمه ويسامره ويغنّيه.
قصة يرويها للمأمون
فحدثه يوما فقال: بينا انا مع أبيك يا أمير المؤمنين بطريقة مكة، إذ تخلفت عن الرفقة وانفردت وحدي، وعطشت وجعلت اطلب الرفقة، فأتيت إلى بئر، فإذا حبشي نائم عندها، فقلت له: يا نائم، قم فاسقني! فقال: إن كنت عطشان فانزل واستق لنفسك. فخطر صوت ببالي، فترنمت به وهو:
كفّناني إن متّ في درع أروى ... واسقياني من بئر عروة ماء «1»
فلما سمع قام نشيطا مسرورا، وقال: والله هذه بئر عروة، وهذا قبره! فعجبت يا امير المؤمنين لما خطر ببالي في ذلك الموضع، ثم قال: أسقيك على أن تغنّيني؟ قلت:
نعم، فلم أزل أغنيه وهو يجبذ «2» الحبل، حتى سقاني وأروى دابّتي، ثم قال: أدلك على موضع العسكر على أن تغنّيني؟ قلت: نعم. فلم يزل يعدو بين يدي وأنا اغنيه حتى أشرفنا على العسكر، فانصرف؛ وأتيت الرشيد فحدثته بذلك، فضحك. ثم رجعنا من حجّنا، فإذا هو قد تلقاني وأنا عديل الرشيد، فلما رآني قال: مغنّ والله! قيل له: أتقول هذا لاخي أمير المؤمنين؟ قال اي لعمر الله، لقد غناني! وأهدى إليّ أقطا «3» وتمرا، فأمرت له بصلة وكسوة، وأمر له الرشيد بكسوة أيضا. فضحك المأمون، وقال: غنّي الصوت. فغنيته فافتتن به، فكان لا يقترح عليّ غيره.
وكان مخارق وعلّوية قد حرّفا القديم كله وصيّرا فيه نغما فارسية؛ فإذا أتاهما الحجازي بالغناء الاول الثقيل، قالا: يحتاج غناؤك إلى فصاده! واسم علوية: يوسف مولى لبني امية.(7/40)
وكان زلزل أضرب الناس للوتر، لم يكن قبله ولا بعده مثله، ولم يكن يغني، وإنما كان يضرب على ابراهيم وابن جامع وبرصوما. ومن غنائه في المأمون:
ألا إنما المأمون للناس عصمة ... مميّزة بين الضلالة والرّشد
رأى الله عبد الله خير عباده ... فملّكه، والله أعلم بالعبد
القيني وبعض المغنين على باب يزيد
حدث سعيد بن محمد العجلي عن الاصمعي قال: كان أبو الطمحان القيني، وهو حنظلة بن الشرقي شاعرا مجيدا، وكان مع ذلك فاسقا، وكان قد انتجع يزيد بن عبد الملك، فطلب الإذن عليه أياما فلم يصل، فقال لبعض المغنين: ألا أعطيك بيتين من شعري تغني بهما أمير المؤمنين، فإن سألك من قائلهما فأخبره أني بالباب، وما رزقني الله منه فهو بيني وبينك! قال: هات. فأعطاه هذين البيتين:
يكاد الغمام الغرّ يرعد إن رأى ... محيّا ابن مروان وينهل بارقه
يظلّ فتيت المسك في رونق الضّحى ... تسيل به أصداغه ومفارقه «1»
قال: فغني بهما في وقت أريحيّته، فطرب لهما طربا شديدا، وقال: لله در قائلهما! من هو؟ قال: ابو الطمحان القيني، وهو بالباب يا أمير المؤمنين. قال: وما قصة الدير؟ قال: قيل لابي الطمحان: ما أيسر ذنوبك؟ قال ليلة الدير! قيل له: وما ليلة الدير؟ قال: نزلت ذات ليلة بدير نصرانية، فأكلت عندها طفيشلا «2» بلحم خنزير، وشربت من خمرها، وزنيت بها، وسرقت كساءها، ومضيت؛ فضحك يزيد وأمر له بألفي درهم، وقال: لا يدخل علينا! فأخذها أبو الطمحان وانسلّ بها، وخيّب المغنّي.(7/41)
المسدود وزنين ودبيس
أبو جعفر البغدادي قال: حدثني عبد الله بن محمد كاتب بغا عن أبي عكرمة قال:
خرجت يوما إلى المسجد الجامع ومعي قرطاس لا كتب فيه بعض ما استفيده من العلماء، فمررت بباب أبي عيسى بن المتوكل فإذا ببابه المسدود، وكان من احذق الناس بالغناء، فقال: أين تريد يا أبا عكرمة؟ قلت إلى المسجد الجامع، لعلي أستفيد فيه حكمة أكتبها. فقال: أدخل بنا على أبي عيسى. قال: فقلت: مثل أبي عيسى في قدره وجلالته يدخل عليه بغير إذن! قال: فقال للحاجب: اعلم الامير بمكان أبي عكرمة. قال: فما لبث إلا ساعة حتى خرج الغلمان يحملوني حملا؛ فدخلت إلى دار لا والله ما رأيت احسن منها بناء، ولا اظرف فرشا، ولا صباحة وجوه؛ فحين دخلنا نظرت إلى أبي عيسى، فلما أبصرني قال لي: ما يعيش من يحتشم! اجلس، فجلست، فقال: ما هذا القرطاس بيدك؟ قلت: يا سيدي حملته لاستفيد فيه شيئا، وأرجو أن أدرك حاجتي في هذا المجلس. فمكثنا حينا، ثم أتينا بطعام ما رأيت أكثر منه ولا احسن، فأكلنا؛ وحانت مني التفاتة، فإذا أنا بزنين ودبيس؛ وهما من أحذق الناس بالغناء، قال: فقلت: هذا مجلس قد جمع الله فيه كلّ شيء مليح. قال: ورفع الطعام وجيء بالشراب؛ وقامت جارية تسقينا شرابا ما رأيت أحسن منه، في كل كأس لا أقدر على وصفها؛ فقلت: أعزك الله، ما أشبه بقول ابراهيم بن المهدي يصف جارية بيدها خمر:
حمراء صافية في جوف صافية ... يسعى بها نحونا خود من الحور «1»
حسناء تحمل حسناوين في يدها ... صاف من الرّاح في صافي القوارير «2»
وقد جلس المسدود وزنين ودبيس، ولم يكن في ذلك الزمان أحذق من هؤلاء الثلاثة بالغناء؛ فابتدأ المسدود فغنّى:
لما استقلّ بأرداف تجاذبه ... واخضرّ فوق حجاب الدرّ شاربه «3»(7/42)
وتمّ في الحسن والتامت محاسنه ... ومازجت بدعا فيها غرائبه
وأشرق الورد في نسرين وجنته ... واهتزّ أعلاه وارتجّت حقائبه «1»
كلمته بجفون غير ناطقه ... فكان من ردّه ما قال حاجبه
ثم سكت، فغنى زنين:
الحبّ حلو أمرّته عواقبه ... وصاحب الحبّ صبّ القلب ذائبه «2»
أستودع الله من بالطّرف ودّعني ... يوم الفراق ودمع العين ساكبه
ثم انصرفت وداعي الشوق يهتف بي ... ارفق بقلبك قد عزّت مطالبه
وقال:
وعاتبته دهرا فلما رأيته ... إذا ازداد ذلا جانبي عز جانبه
عقدت له في الصدر منّي مودّة ... وخلّيت عنه مبهما لا أعاتبه
ثم سكت، فغنى دبيس:
بدر من الإنس حفّته كواكبه ... قد لاح عارضه واخضرّ شاربه
إن يوعد الوعد يوما فهو مخلفه ... أو ينطق القول يوما فهو كاذبه
عاطيته كدم الاوداج صافية ... فقام يشدو وقد مالت جوانبه «3»
قال أبو عكرمة: فعجبت أنهم غنّوا بلحن واحد وقافية واحدة.
قال أبو عيسى: يعجبك من هذا شيء يا أبا عكرمة؟ فقلت: يا سيدي المنى دون هذا. ثم إن القوم غنّوا على هذا إلى انقضاء المجلس: إذا ابتدأ المسدود تبعه الرجلان بمثل ما غنى؛ فكان مما غنى المسدود:
يا دير حنّة من ذات الأكيراح ... من يصح عنك فإني لست بالصّاحي «4»(7/43)
يعتاده كل محفيّ مفارقه ... من الدّهان عليه سحق أمساح
ما يدلفون إلى ماء بآنية ... إلّا اغترافا من الغدران بالرّاح
ثم سكت فغنى زنين:
دع البساتين من آس وتفّاح ... واعدل هديت إلى ذات الأكيراح
واعدل إلى فتية ذابت لحومهم ... من العبادة إلّا نضو أشياح
وخمرة عتّقت في دنّها حقبا ... كأنها دمعة في جفن سيّاح «1»
ثم سكت فغنى دبيس:
لا تحفلنّ بقول اللائم اللّاحي ... واشرب على الورد من مشمولة الراح
كأسا إذا انحدرت في حلق شاربها ... أغناك لألاؤها عن كلّ مصباح
ما زلت أسقي نديمي ثم ألثمه ... والليل ملتحف في ثوب سيّاح
فقام يشدو وقد مالت سوالفه ... يا دير حنّة من ذات الأكيراح
ثم ابتدأ المسدود فغنى:
باحورار العين والدّعج ... واحمرار الخدّ في الضّرج «2»
وبتفّاح الخدود وما ... ضمّ من مسك ومن أرج
كن رقيق القلب إنك من ... قتل من يهواك في حرج
ثم سكت وغنى زنين:
كسرويّ التّيه معتدل ... هاشميّ الدّلّ والغنج
وله صدغان قد عطفا ... ببياض الخدّ كالسّبح «3»
وإذا ما افتر مبتسما ... أطلق الاسرى من المهج
ما لما بي من من فرج ... لا ابتلاني الله بالفرج(7/44)
ثم سكت وغنى دبيس:
تعمل الأجفان بالدّعج ... عمل الصهباء بالمهج
بأبي ظبي كلفت به ... واضح الخدّين والفلج
مرّ بي في زيّ ذي خنث ... بين ذات الضّال من أمج «1»
قلت قلبي قد فتكت به ... قال ما في الدّين من حرج
ثم سكت وغنى المسدود:
ما يبالي اليوم ما صنعا ... من بقلبي يبدع البدعا
كنت ذا نسك وذا ورع ... فتركت النّسك والورعا
كم زجرت القلب عنك فلم ... يضغ لي بوما ولا نزعا
لا تدعني للهوى غرضا ... إنّ ورد الموت قد شرعا
ثم سكت وغنى دبيس:
اسقني كأسا مصرّدة ... إنّ الليل قد طلعا «2»
قد شربت الحبّ شرب فتى ... لم يدع في كأسه جرعا
ثم ابتدأ أيضا دبيس فغنى:
يقولون في البستان للعين لذة ... وفي الخمر والماء الذي غير آسن «3»
إذا شئت أن تلقي المحاسن كلّها ... ففي وجه من تهوى جميع المحاسن
فغضب المسدود لما قطع عليه دبيس، وقال: غن على غير هذه القافية واللحن، ثم نرجع إلى حالنا الاولى: فقال ابو عكرمة: قد أصبت. فابتدأ المسدود فغنى:
أدعوك من قلبي إذا لم أرك ... يا غاية الطرف إذا أبصرك
قضى لك الله فسبحان من ... أحلك القلب ومن قدّرك
لست بناسيك على حالة ... يا ليت ما يذكرني ذكّرك(7/45)
صيّرني الله على ما أرى ... منك من الهجر ما صبّرك
قال: فقال زنين: وأنا فلابد أن أسلك سبيلكما. قال أبو عكرمة: ثم التفت إلي فقال: ما ترى؟ فقلت. أحسنت والله. فابتدأ يغني:
يا هائم القلب عاص من عذلك ... ما نلت ممن هويته أملك
دعاك داعي الهوى بخدعته ... حتى إذا ما أحببته خذلك
فاحتل لداء الهوى وسطوته ... إنك إن لم تداوه قتلك
ثم ابتدأ المسدود يغني:
شققت جيبي عليك شقا ... وما لجيبي أردت شقا
أردت قلبي فصادفته ... يداي بالجيب قد توقى
مالك رقّي أبيت عتقي ... لولاك ما كنت مسترقا
ثم سكت وغنى زنين:
قد ذبت شوقا ومتّ عشقا ... يا زفرات المحبّ رفقا
ثكلت نفسي وزرت رمسي ... إن كنت للهجر مستحقا
ثم سكت وغنى دبيس:
ظمئت شوقا وبحر عشقي ... يفيض عذبا ولست أسقي
أنا الذي صرت من غرامي ... على فراش السّقام ملقى
فمن زفير ومن شهيق ... ومن دموع تجود سبقا
ثم ابتدأ المسدود فغنى:
ماذا على نجل العيون لو أنهم ... أوموا إليك فسلموا أو عرّجوا «1»
أمنوا مقاساة الهموم وأيقنوا ... أنّ المحبّ إلى الاحبّة يدلج(7/46)
ثم سكت وغنى دبيس:
هيّا فقد بدأ الصّباح الأبلج ... والشمس والبدر في خدّيك والضّرج «1»
الدر ثغرك لولا ان ذا برد ... والحبر صدغك لولا ان ذا سبج
انضجت قلبي ولو أن الورى لقيت ... قلوبهم منك ما لاقيت ما لهجوا «2»
ثم سكت وابتدأ المسدود فغنى:
يا صاحب المقل المراض ... انظر إليّ بعين راض
إن تجفني متعمّدا ... لتذيقني جرع الحياض «3»
فلطالما امكنتني ... منك المراشف عن تراض «4»
ثم سكت وغنى زنين:
هائم مدنف من الإعراض ... لا سبيل له إلى الإغماض
موثق النوم مطلق الدمع ما يعر ... ف ملجا من الحتوف القواضي
ما يرى جسمه سوى لحظات ... أمرضته من العيون المراض
كن ساخطا واظهر بأنّك راض ... لا تبدين تكرّه الإعراض
وانظر إليّ بمقلة غضبانة ... إن كنت لم تنظر بمقلة راض
وارحم جفونا ما تجفّ من البكا ... في ليلة مسلوبة الإغماض
واحكم فديتك بين جسمي والهوى ... فالحكم منك على الجوارح ماض
ثم ابتدأ المسدود فغنى:
يا ذا الذي حال عن العهد ... ومن يراني منه بالصدّ «5»
بسمرة الخال وما قد حوى ... من حمرة في سالف الخد(7/47)
إلا تعطفت على عاشق ... منفرد بالبثّ والوجد «1»
ثم سكت وغنى زنين:
أظلّ بكتمان الهوى وكأنما ... ألاقي الذي لاقاه غيري من الوجد
وعيب عليّ الشّوق والوجد والبكا ... ولا أنا بالشكوى أنفّس من جهدي
ثم سكت وغنى دبيس:
تهزّأت بي لما خلوت من الوجد ... ولم ترث لي لا كان عندك ما عندي
وعيب عليّ الشوق والوجد والبكا ... وأنت الذي أجريت دمعي على خدّي
صددت بلا جرم إليك أتيته ... أكان عجيبا لو صددت عن الصدّ «2»
ألا إنّني عبد لطرفك خاضع ... وطرفك مولى لا يرق على عبد
ثم غنى المسدود:
أقمت ببلدة ورحلت عنها ... كلانا عند صاحبه غريب
أقلّ الناس في الدنيا نصيبا ... محبّ قد نأى عنه الحبيب «3»
ثم سكت وغنى زنين:
ويقنعني ممن أحبّ كتابه ... ويمنعنيه، إنه لبخيل
كفى حزنا أن لا أطيق وداعكم ... وقد حان منّي يا ظلوم رحيلي
ثم سكت وغنى دبيس:
يا واحد الحسن الذي لحظاته ... تدعو النّفوس إلى الهوى فتجيب
من وجهه القمر المنير وحسنه ... غصن نضير مشرق وكثيب»
ألناظريك على العيون رقيبة ... أم هل لطرفك في القلوب نصيب
ثم ابتدأ المسدود فغنى:(7/48)
قلق لم يزل وصبر يزول ... ورضا لم يطل وسخط يطول
لم تسل دمعتي عليّ من الرّحمة حتى رأيت نفسي تسيل
جال في جسمي السّقام فجسمي ... مدنف ليس فيه روح تجول «1»
ينقضي للقتيل حول فينسى ... وأنا فيك كلّ يوم قتيل
ثم سكت وغنى زنين:
ليس إلى تركك من حيلة ... ولا إلى الصبر لقلبي سبيل
فكيفما شئت فكن سيدي ... فإنّ وجدي بك وجد طويل
إن كنت أزمعت على هجرنا ... فحسبنا الله ونعم الوكيل
قال أبو عكرمة: فأقبل أبو عيسى على المسدود فقال له غنّ صوتا. فغنى:
يا لجّة الدمع هل للدّمع مرجوع ... أم الكرى من جفون العين ممنوع «2»
ما حيلتي وفؤادي هائم أبدا ... بعقرب الصّدغ من مولاى ملسوع
لا والذي تلفت نفسي بفرقته ... فالقلب من حرّق الهجران مصدوع
ما أرّق العين إلا حبّ مبتدع ... ثوب الجمال على خدّيه مخلوع
قال أبو عكرمة: فو الله الذي لا إله إلا هو، لقد حضرت من المجالس ما لا أحصي، فما رأيت مثل ذلك اليوم. ثم إن أبا عيسى أمر لكل واحد بجائزة وانصرفنا، ولولا أن أبا عيسى قطعهم ما انقطعوا.
من سمع صوتا فوافقه معناه فاستخفه الطرب
حكي عن إسحاق بن إبراهيم الموصلي عن أبيه قال: دخلت على هارون الرشيد فلما رأيته قد أخذ في حديث الجواري وغلبتهنّ على الرجال، غنيته بأبيات التي يقول فيها:(7/49)
ملك الثّلاث الآنسات عناني ... وحللن من قلبي بكلّ مكان
مالي تطاوعني البريّة كلّها ... وأطيعهنّ وهنّ في عصياني
ما ذاك إلا أنّ سلطان الهوى ... وبه قوين أعزّ من سلطاني
فارتاح وطرب، وأمر لي بعشرة آلاف درهم.
الموصلي والأمين
: وغنى إبراهيم الموصلي محمد بن زبيدة الأمين بقول الحسن بن هانيء فيه:
رشأ لولا ملاحته ... خلت الدّنيا من الفتن «1»
كلّ يوم يسترقّ له ... حسنه عبدا بلا ثمن
يا أمين الله عش أبدا ... دم على الأيام والزمن
أنت تبقى والفناء لنا ... فإذا أفنيتنا فكن
سنّ للناس القرى فقروا ... فكأنّ البخل لم يكن
قال: فاستخفه الطرب حتى قام من مجلسه وأكبّ على إبراهيم يقبّل رأسه؛ فقام إبراهيم من مجلسه يقبل أسفل رجليه وما وطئتنا من البساط؛ فأمر له بثلاثة آلاف درهم؛ فقال إبراهيم: يا سيدي، قد أجزتني إلى هذه الغاية بعشرين ألف ألف درهم! فقال الأمين: وهل ذلك إلا خراج بعض الكور؟ «2» .
جرير والشعراء
: الرياشي عن الأصمعي؛ قال: قدم جرير المدينة، فأتاه الشعراء وغيرهم، وأتاه أشعب فيهم، فسلموا عليه وحادثوه ساعة وخرجوا، وبقي أشعب. فقال له جرير:
أراك قبيحا، وأراك لئيم الحسب؛ ففيم قعودك وقد خرج الناس؟ فقال له: أصلحك الله، إنّه لم يدخل عليك اليوم أحد أنفع لك مني! قال: وكيف ذلك؟ قال: لأني آخذ(7/50)
رقيق شعرك فأزيّنه بحسن صوتي. فقال له جرير: فقل. فاندفع يغنيه:
يا أخت ناجية السّلام عليكم ... قبل الرحيل وقبل لوم العذّل «1»
لو كنت أعلم أنّ آخر عهدكم ... يوم الرحيل فعلت ما لم أفعل
قال: فاستخف جرير الطرب لغنائه بشعره، حتى زحف إليه واعتنقه وقبّل بين عينيه، وسأله عن حوائجه فقضاها له.
المسور وامرأ
: الزبير بن بكار قال: كان المسور بن مخرمة ذا مال كثير، فأسرع فيه على إخوانه، فذهب فسأل امرأته- وكانت موسرة- فمنعته وبخلت عليه؛ فخرج يريد بعض خلفاء بني أمية منتجعا، فلما كان ببعض الطريق نزل ماء يقال له بلا كث، فقال له غلامه: كيف يقال لهذا الماء؟ قال: يقال له بلا كث، فقال [مغنّيا] :
بينما نحن من بلا كث بالقا ... ع سراعا والعيس تهوي هويّا
خطرت خطرة على القلب من ذكر ... راك وهنا فما استطعت مضيّا
قلت لبّيك إذ دعاني لك الشّو ... ق، وللحاديين كرّا المطيّا
فقال: هن بدن «2» إن لم تكرها رواجع. قال له: قد أشرفن على أمير المؤمنين قال: هن بدن إن لم تكرها رواجع! فانصرف، ودخل المصلى ليلا، فوجد رجال قريش حلقا يتحدثون، فقالوا له: زاد خير! فقال: زاد خير. حتى انتهى إلى داره، فقالت له امرأته: زاد خير! فأنشدها الأبيات، قالت: كل ما أملك في سبيل الله، إن لم أشاطرك مالي! فشاطرته مالها.
عمر الوادي
: وروى أبو العباس قال: حدثت أن عمر الوادي قال: أقبلت من مكة أريد(7/51)
المدينة، فجعلت أسير في صمد «1» من الأرض، فسمعت غناء من الهواء لم أسمع مثله فقلت: والله لأتوصّلنّ إليه. فإذا هو عبد أسود، فقلت له: أعد ما سمعت. فقال:
والله لو كان عندي قرى أقريك ما فعلت، ولكن أجعله قراك؛ فإني والله ربما غنيت بهذا الصوت وأنا جائع فأشبع، وربما غنيته وأنا كسلان فأنشط وربما غنيته وأنا عطشان فأروى! ثم ابتدأ فغنى:
وكنت متى ما زرت سعدى بأرضها ... أرى الأرض تطوي لي ويدنو بعيدها
من الخفرات البيض ودّ جليسها ... إذا ما انقضت أحدوثة لو يعيدها «2»
قال عمر: فحفظته منه، ثم تغنيت به على الحالات التي وصف، فإذا هو كما ذكره.
خالد صامة
: وتحدث الزبيريون عن خالد صامة بأنه كان من أحسن الناس ضربا بعود. قال:
قدمت على الوليد بن يزيد في مجلس ناهيك به مجلسا، فألفيته على سريره، وبين يديه معبد، ومالك بن أبي السمح، وابن عائشة، وأبو كامل غزيّل الدمشقي وكانوا يغنّون، حتى بلغت النوبة إليّ، فغنيته:
سرى همّي وهمّ المرء يسري ... وغاب النّجم إلا قيد فتر «3»
لهمّ ما أزال له قرينا ... كأنّ القلب أودع حرّ جمر
على بكر أخي، فارقت بكرا ... وأيّ العيش يصلح بعد بكر
فقال: أعد يا صام. ففعلت، فقال لي: من يقول هذا الشعر؟ قلت: يقوله عروة ابن أذينة يرثي أخاه بكرا. قال الوليد:
وأي عيش يصلح بعد بكر! والله لقد حجّر واسعا، هذا والله العيش الذي نحن فيه، يصلح على رغم أنفه.(7/52)
سكينة
: وقد قيل: إن سكينة بنت الحسين غنيت بهذا الشعر، فقالت: ومن بكر هذا! هو ذاك الأشتر الذي كان يأتينا؟ لقد طاب كلّ شيء بعده حتى الخبز والزيت!
الرشيد وإسحاق الموصلي
: وعن عبد الصمد بن المعذّل قال: سمعت إسحاق الموصلي يتحدث، قال: حججت مع الرشيد، فلما نزلت المدينة آخيت رجلا كانت له مروءة ومعرفة وأدب، وكان يغنّي، فإنّي ذات ليلة في منزلي إذا أنا بصوته يستأذن عليّ، فظننت أمرا قد حدث ففزع فيه إليّ، فأسرعت نحو الباب فقلت: ما جاء بك؟ قال: دعاني صديق إلى طعام عتيد، ومجلس شراب قد التقى طرفاه، وشواء رشراش «1» ، وحديث ممتع، وغناء مشبع؛ فأجبته وأقمت معه إلى هذا الوقت، فأخذت مني حميا الكأس مأخذها، ثم غنيت بقول نصيب:
بزينب ألمم قبل أن يرحل الرّكب ... وقل إن تملينا فما ملك القلب
فكدت أطير طربا، ثم وجدت في الطرب تنغيصا إذا لم يكن معي من يفهم هذا كما فهمته؛ ففزعت «2» إليك لأصفت لك هذه الحال ثم أرجع إلى صاحبي! وضرب بغلته مولّيا فقلت: قف أكلمك. فقال: ما بي إلى الوقوف إليك من حاجة.
معاوية وزيد وسائب خاثر
: وحدث أن معاوية بن أبي سفيان استمع على يزيد ذات ليلة، فسمع عنده غناء أعجبه؛ فلما أصبح قال له: من كان ملهيك البارحة؟ قال: سائل خاثر. قال: فأكثر له من العطاء.(7/53)
عثمان بن حيان وابن أبي عتيق في تحريم الغناء
: وكان ابن أبي عتيق من نبلاء قريش وظرفائهم؛ فمن ظريف أخباره:
أن عثمان بن حيان المرّي لما دخل المدينة واليا عليها، اجتمع إليه الأشراف من قريش والأنصار، فقالوا له: إنك لا تعمل عملا أحرى ولا أولى من تحريم الغناء والرثاء. ففعل، وأجّلهم ثلاثا؛ فقدم ابن أبي عتيق في الليلة الثالثة، وكان غائبا، فحط رحله بباب سلّامة الزرقاء، وقال: بدأت بك قبل أن أصير إلى منزلي! قالت:
أو ما تدري ما حدث بعدك؟ وأخبرته الخبر؛ فقال: أقيمي إلى السّحر حتى ألقاه.
فلقيه، فأخبره أنه إنما أقدمه حبّ التسليم عليه، وقال له: إن أفضل ما عملت تحريم الغناء والرثاء. فقال: إن أهلك أشاروا عليّ بذلك. فقال: إنهم وفّقوا ووفّقت، ولكني رسول امرأة إليك تقول: قد كانت هذه صناعتي فتبت إلى الله منها، وأنا أسألك أيها الأمير أن لا تحول بينها وبين محاورة قبر النبي صلّى الله عليه وسلم! فقال عثمان: إذا أدعها. فقال: إذا لا تدعك الناس؛ ولكن تدعو بها فتنظر إليها، فإن كان يجوز تركها تركتها. قال: فادع بها. فأمر ابن أبي عتيق فتنقّبت وأخذت سبحة «1» في يدها، وصارت إليه، فحدّثته عن مآثر آبائه، ففكه بها فقال ابن أبي عتيق: أريد أن أسمع الأمير قراءتها. ففعلت؛ فحركه حداؤها. ثم قال له ابن أبي عتيق: فكيف لو سمعتها في صناعتها التي تركتها! فقال له: قل لها فلتغنّ. فغنت:
شددّت خصاص البيت لما دخلته ... بكلّ بنان واضح وجبين «2»
فنزل عثمان عن سريرة ثم جلس بين يديها، وقال: لا والله ما مثلك يخرج عن المدينة! فقال ابن أبي عتيق: يقول الناس: أذن لسلّامة ومنع غيرها! فقال له: قد أذنت لهم جميعا! وذكر لابن أبي عتيق أن المخنثين خصوا، وأنه خصي فلان فيهم- لواحد منهم(7/54)
كان يعرفه-، فقال ابن أبي عتيق: إنا لله! لئن خصي لقد كان يحسن:
لمن ربع بذات الجي ... ش أمسى دراسا خلقا
ثم استقبل ابن أبي عتيق القبلة، فلما كبّر سلّم، ثم قال لأصحابه: أما إنه كان يحسن خفيفه، فأما ثقيله فلا. ثم كبّر.
سليمان ومغن في عسكره
: وكان سليمان بن عبد الملك مفرط الغيرة، فسمع مغنيا في عسكره، فقال: اطلبوه! فجاءوا به، فقال له: أعد ما تغنّيت به. فأعاد واحتفل، فقال لأصحابه: والله لكأنها جرجرة الفحل في الشول، وما أحسب أنثى تسمع هذا إلا صبت إليه! ثم أمر به فخصي.
ابن هشام ورجل صالح
: وقال أبو العباس محمد بن يزيد النحوي: روي لنا أن رجلا من الصالحين كان عند إبراهيم بن هشام، فانشده إبراهيم قول الشاعر:
... إذا أنت فينا لمن ينهاك عاصية ... وإذ أجرّ إليكم سادرا رسني «1»
فقام الرجل فرمى بشقّ ردائه وأقبل يسحبه حتى خرج من المجلس، ثم رجع إلى موضعه فجلس؛ فقال له إبراهيم: ما بالك؟ قال: إني كنت سمعت هذا الشعر فاستحسنته، فآليت أن لا أسمعه إلا جررت ردائي كما جر هذا الرجل رسنه!
شاعر ومغن
: ووقف رجل من الشعراء على رجل من المغنّين فأنشده:
إني أتيت إليك من أهلي ... في حاجة يسعى لها مثلي
لا أبتغي شيئا لديك سوى ... «حيّ الحمول بجانب الرّمل»(7/55)
قال له: انزل!
دهمان المغني
: مرّ دهمان المغني بقوم وعليه رداء يثربي، فقالوا له: بكم أخذت الرداء؟ فقال:
ب ألا إنّ جيراننا ودّعوا
أشعب وهاشمى
: وحدّثني أبو العباس أحمد بن بكر ببغداد قال: حدثني إسحاق بن ابراهيم الموصلي قال: كان يقال قديما: إذا قسا عليك قلب القرشي من تهامة، فغنّه بشعر عمر بن أبي ربيعة وغناء ابن سريج. وكذا فعل أشعب برجل من أهل مكة من بني هاشم، وكان أشعب قد انتجع أهل مكة من المدينة.
قال أشعب: فلما دخلت عليه غنيته بغناء أهل المدينة وأهل العقيق، فلم ينجع ذلك فيه ولم يحرّك من طربه ولا أريحيّته؛ فلما عيل صبري غنيته بغناء ابن سريج المكي وقول ابن أبي ربيعة القرشي:
نظرت إليها بالمحصّب من منى ... ولي نظر لولا التحرّج عارم
فقلت أشمس أم مصابيح راهب ... بدت لك تحت السجف أم أنت حالم «1»
بعيدة مهوى القرط إما لنوفل ... أبوها وإما عبد شمس وهاشم
قال: فحرّكت والله من طربه، وكان الذي أردت؛ ثم غنيته لابن أبي ربيعة القرشي أيضا.
ولولا أن يقول لنا قريش ... مقال الناصح الأدنى الشفيق
لقلت إذ التقينا قبليني ... وإن كنا بقارعة الطريق
فقال: أحسن والله! هكذا يطيب التلقّي، لا بالخوف والتوقّي! قال: فلما رأيته قد(7/56)
طرب للصوتين ولم يندّ لي بشيء، قلت: هو الثالث وإلا فعليه السلام. قال: فغنيته الثالث من غناء ابن سريج قول عمر بن أبي ربيعة، ويقال إنها لجميل:
ما زلت أمتحن الدّساكر دونها ... حتى ولجت على خفيّ المولج «1»
فوضعت كفّي عند مقطع خصرها ... فتنفّست نفسا ولم تتلهّج
قالت: وحقّ أخي وحرمة والدي ... لأنبّهنّ الحيّ إن لم تخرج
فخرجت خيفة قولها فتبسّمت ... فعلمت أن يمينها لم تحرج
فرشفت فاها آخذا بقرونها ... رشف النزيف ببرد ماء الحشرج
فصاح الهاشمي: أوّه! أحسن والله وأحسنت! وأمر لي بألف درهم وثلاثين حلة وخلعة كانت عليه.
وغنى ابن سريج رجلا من بني هاشم بقول جرير:
بعثن الهوى ثم ارتمين قلوبنا ... بأسهم أعداء وهنّ صديق
وما ذقت طعم العيش منذ نأيتم ... وما ساغ لي بين الجوانح ريق
قال: فخطف من ثوبه ذراعا، وقال: هذا والله العقيان في نحور القيان!
مديني وجارية تغني
: قال: وصحب شيخ من أهل المدينة شابّا في سفينة ومعهم جارية تغني، فقال له:
إن معنا جارية تغني، ونحن نجلّك؛ فإذا أذنت لنا فعلنا. قال: فأنا أعتزل وافعلوا ما شئتم. فتنحّى وغنت الجارية:
حتى إذا الصّبح بدا ضوؤه ... وغابت الجوزاء والمرزم «2»
أقبلت والوطء خفيّ كما ... ينساب من مكمنه الأرقم «3»
فرمى الناسك بنفسه في الفرات وجعل يخبط بيديه ويقول: أنا الأرقم! فأخرجوه(7/57)
وقالوا: ما صنعت؟ فقال: والله إني أعلم من تأويله ما لا تعلمون!
قاضي مكة ومغنية
: وقال أحمد بن جعفر: حضر قاضي مكة مأدبة لرجل من الأشراف، فلما انقضى الطعام اندفعت جارية تغني:
إلى خالد حتى أنخنا بخالد ... فنعم الفتى يرجى ونعم المؤمّل «1»
فلم يدر القاضي ما يصنع من الطرب، حتى أخذ نعليه، ثم جثى على ركبتيه وقال:
اهدوني فإني بدنة.
هاشمي ومغن
: كان رجل من الهاشميين يحب السماع؛ فبعث إلى رجل من المغنين فاقترح عليه صوتا كان كلفا به، فغناه إياه، فطرب الهاشمي وشق ثوبا كان عليه، ثم قال للمغني:
افعل بنفسك مثل ما فعلت بنفسي! قال: أصلحك الله، إنك تجد خلفا من ثوبك، وإني لا أجد خلفا من ثوبي قال: أنا أخلف لك. قال: فأفعل وتفعل؟ قال: أخرجتنا من حد الطرب إلى حد السّوم.
من قرع قلبه صوت فمات منه أو أشرف
يزيد ومغنية
: حدث أبو القاسم إسماعيل بن عبد الله المأمون في طريق الحج من العراق إلى مكة، قال: حدثني أبي، قال: كانت بالمدينة قينة من أحسن الناس وجها وأكملهم عقلا وأفضلهم أدبا، قرأت القرآن وروت الأشعار وتعلمت العربية؛ فوقعت عند يزيد بن عبد الملك، فأخذت بمجامع قلبه، فقال لها ذات يوم: ويحك! أما لك قرابة أو أحد يحسن أن أصطنعه أو أسدي إليه معروفا؟ قالت: يا أمير المؤمنين، أما قرابة فلا،(7/58)
ولكنّ بالمدينة ثلاثة نفر كانوا أصدقاء لمولاتي، كنت أحبّ أن ينالهم من خير ما صرت إليه! فكتب إلى عامله بالمدينة في أشخاصهم، وأن يعطي كل رجل منهم عشرة آلاف درهم، وأن يعجل بسراحهم إليه؛ ففعل عامل المدينة ذلك؛ فلما وصلوا إلى باب يزيد استؤذن لهم، فأذن لهم وأكرمهم وسألهم [عن] حوائجهم؛ فأما الاثنان فذكرا حوائجهما فقضاها لهما وأما الثالث فسأله عن حاجته؛ فقال: يا أمير المؤمنين، مالي حاجة! قال: ويحك! ولم؟ ألست أقدر على حوائجك؟ قال: بلى يا أمير المؤمنين، ولكن حاجتي لا أحسبك تقضيها! قال: ويحك! فسلني، فإنك لا تسألني حاجة أقدر عليها إلا قضيتها. قال: ولي الأمان يا أمير المؤمنين؟ قال: نعم وكرامة، قال: إن رأيت أن تأمر جاريتك فلانة التي أكرمتنا لها أن تغنّيني ثلاثة أصوات أشرب عليها ثلاثة أرطال، فافعل، قال: فتغير وجه يزيد. وقام من مجلسه، فدخل على الجارية فأعلمها؛ قالت: وما عليك يا أمير المؤمنين؟ أفعل ذلك. فلما كان من الغد أمر بالفتى فأحضر، وأمر بثلاثة كراسي من ذهب فألقيت؛ فقعد يزيد على أحدها، وقعدت الجارية على الآخر، وقعد الفتى على الثالث؛ ثم دعا بطعام فتغدّوا جميعا، ثم دعا بصنوف الرياحين والطيب فوضعت ثم أمر بثلاثة أرطال فملئت؛ ثم قال للفتى: قل ما بدا لك وسل حاجتك. قال: تأمرها تغني:
لا أستطيع سلّوا عن مودّتها ... أو يصنع الحبّ بي فوق الذي صنعا
أدعو إلى هجرها قلبي فيسعدني ... حتى إذا قلت هذا صادق نزعا
فامرها فغنّت، فشرب يزيد وشرب الفتى، ثم شربت الجارية؛ ثم أمر بالأرطال فملئت، ثم قال للفتى: سل حاجتك. قال: تأمرها تغني:
تخيّرت من نعمان عود أراكة ... لهند، ولكن من يبلّغه هندا؟
ألا عرّجا بي بارك الله فيكما ... وإن لم تكن هند لأرضكما قصدا
قال: فغنت بهما، وشرب يزيد ثم الفتى ثم الجارية؛ ثم أمر بالأرطال فملئت؛ ثم قال للفتى: سل حاجتك. قال: يا أمير المؤمنين مرها تغني:
منّا الوصال ومنكم الهجر ... حتى يفرّق بيننا الدهر(7/59)
والله ما أسلوكم أبدا ... ما لاح نجم أو بدا فجر
قال: فلم تأت على آخر الأبيات حتى خرّ الفتى مغشيا عليه؛ فقال يزيد للجارية:
انظري ما حاله! فقامت إليه فحرّكته، فإذا هو ميت! فقال لها: ابكيه! قالت لا أبكيه يا أمير المؤمنين وأنت حيّ! قال لها: ابكية، فو الله لو عاش ما انصرف إلا بك! فبكته، وأمر بالفتى فأحسن جهازه ودفنه.
عبد الملك وابن جعفر في الغناء
: قال: وحدّث أبو يوسف بالمدينة قال: حدّثنا إبراهيم بن المنذر الجذامي عن أبيه، أنّ عبد الله بن جعفر وفد على عبد الملك بن مروان، فأقام عنده حينا؛ فبينا هو ذات ليلة في سمره، إذ تذاكروا الغناء؛ فقال عبد الملك: قبح الله الغناء! ما أوضعه للمروءة، وأجرحه للعرض، وأهدمه للشّرف، وأذهبه للبهاء! وعبد الله ساكت، وإنما عرّض بعبد الله، وأعانه عليه من حضر من أصحابه- فقال عبد الملك: مالك أبا جعفر لا تتكلم؟ قال: ما أقول ولحمي يتمزع وعرضي يتمزق؟ قال: أما إني نبّئت أنك تغني! قال: أجل يا أمير المؤمنين، قال: أفّ لك وتفّ! قال: لا أفّ ولا تفّ، فقد تأتي أنت بما هو أعظم من ذلك، قال: وما هو؟ قال: يأتيك الأعرابي الجافي، يقول الزّور؛ ويقذف المحصنات؛ فتأمر له بألف دينار، وأشتري أنا الجارية الحسناء من مالي، فأختار لها من الشعر أجوده، ومن الكلام أحسنه، ثم تردّده عليّ بصوت حسن؛ فهل بذلك بأس؟ قال: لا بأس، ولكن أخبرني عن هذه الأغاني ما تصنع؟
قال: نعم، اشتريت جارية باثني عشر ألف درهم مطبوعة، فكان بديح وطويس يأتيانها فيطرحان عليها أغانيهما، فعلقت منهما حتى غلبت عليهما؛ فوصفت ليزيد بن معاوية، فكتب إليّ: إمّا أهديتها إليّ، وإمّا بعتها بحكمك. فكتبت إليه: إنها لا تخرج عن ملكي ببيع ولا هبة! فبذل لي فيها ما كنت أحسب أنّ نفسه لا تسخو به، فأبيت عليه.
فبينما هي عندي على تلك الحال، إذ ذكرت لي عجوز من عجائزنا أنّ فتى من(7/60)
أهل المدينة سمع غناءها فعلقها وشغف بها، وأنه يجيء في كل ليلة مستترا يقف بالباب حتى يسمع غناءها ثم ينصرف؛ فراعيت مجيئه، فإذا الفتى قد أقبل مقنّع الرأس، فأشرفت عليه وقد قعد مستخفيا، فلم أدع بها تلك الليلة، وجعلت أتأمّل موضعه، فبات مكانه الذي هو فيه؛ فلما انشق الفجر اطلعت عليه، فإذا هو في موضعه، فدعوت قيّمة الجواري فقلت لها: انطلقي الساعة فزيّني هذه الجارية وأعجلي بها إليّ. فلما جاءت بها نزلت وفتحت الباب وحرّكته، فانتبه مذعورا؛ فقلت له: لا بأس عليك! خذ بيد هذه الجارية فهي لك، وإن هممت ببيعها فردّها إليّ! فدهش وأخذه الخبل ولبط به «1» ؛ فدنوت من أذنه! فقلت: ويحك! قد أظفرك ببغيتك، فقم فانطلق بها إلى منزلك! فإذا الفتى قد فارق الدنيا، فلم أر شيئا قط أعجب منه! قال عبد الملك: وأنا والله ما سمعت شيئا قط أعجب من هذا ولولا أنك عاينته ما صدّقت به؛ فما صنعت بالجارية؟ قال: تركتها عندي، وكنت إذا ذكرت الفتى لم أجد لها مكانا من قلبي، وكرهت أن أوجّه بها إلى يزيد فيبلغه حالها فيحقد عليّ، فما زالت تلك حالها حتى ماتت!
طريفة وأيوب المغني
: ووقف رجل يقال له طريفة على أيوب المغني فقال:
إني قصدت إليك من أهلي ... في حاجة يسعى لها مثلي
لا أبتغي شيئا لديك سوى ... «حيّ الحمول بجانب الرّمل»
فقال له: انزل، فلك ما طلبت، فنزل، فأخرج عوده ثم غناه بقول امريء القيس:
حيّ الحمول بجانب الرمل ... إذ لا يلائم شكلها شكلي
فلبط «2» بطريفة، فإذا هو في الأرض منجدل، فلما أفاق قام يمسح التراب عن(7/61)
وجهه؛ فقيل له: ويحك! ما كانت قصتك؟ قال: ارتفع والله من رجلي شيء حارّ، وهبط من رأسي شيء بارد، فالتقيا وتصادما؛ فوقعت لا أدري ما كانت حالي.
أخبار عنان وغيرها من القيان
حدّث محمد بن زكريا الغلابي بالبصرة قال: حدثنا ابراهيم بن عمر قال: كان الرشيد قد استعرض عنان جارية الناطفي ليشتريها، وقال لها: أنا والله أحبّك! ثم أمسك عن شرائها؛ فجلس ليلة مع سمّاره، فغناه بعض من حضر من المغنين بأبيات جرير حيث يقول:
إنّ الذين غدوا بلبّك غادروا ... وشلا بعينك لا يزال معينا «1»
قال: فطرب الرشيد لها طربا شديدا، وأعجب بالابيات، وقال لجلسائه: هل منكم أحد يجيز هذه الابيات بمثلهنّ، وله هذه البدرة؟ - وبين يديه بدرة من دنانير- قال:
فلم يصنعوا شيئا؛ فقال خادم على رأسه: أنا لك بها يا أمير المؤمنين. قال: شأنك.
فاحتمل البدرة؛ ثم أتى الناطفيّ فقال له: استأذن لي على عنان. فأذنت له، فدخل وأخبرها الخبر؛ فقالت: ويحك! وما الابيات؟ فأنشدها إياها، فقالت له: اكتب:
هيّجت بالقول الذي قد قلته ... داء بقلبي ما يزال كمينا
قد أينعت ثمراته في طينها ... وسقين من ماء الهوى فروينا
كذب الذين تقوّلوا يا سيدي ... إنّ القلوب إذا هوين هوينا
فقالت له: دونك الابيات. فدفع إليها البدرة ورجع إلى هارون، فقال: ويحك! من قالها؟ قال: عنان جارية الناطفي. فقال: خلعت الخلافة من عنقي إن باتت إلا عندي! قال: فبعث إلى مولاها فاشتراها منه بثلاثين ألفا، وباتت بقية تلك الليلة عنده! وقال الاصمعي: ما رأيت الرشيد مبتذّلا قط إلا مرة، كتبت إليه عنان جارية الناطفى رقعة فيها:(7/62)
كنت في ظلّ نعمة بهواكا ... آمنا لا أخاف جفاكا
فسعى بيننا الوشاة فأقرر ... ت عيون الوشاة بي فهناكا
ولعمري لغير ذا كان أولى ... بك في الحق يا جعلت فداكا
قال: فأخذ الرقعة بيده وعنده ابو جعفر الشطرنجي، فقال: أيكم يشير إلى المعنى الذي في نفسي فيقول فيه شعرا وله عشرة آلاف درهم؟ فظننت أنه وقع بقلبه أمر عنان، فبدر ابو جعفر:
مجلس ينسب السرور إليه ... لمحبّ ريحانه ذكراكا
فقال: يا غلام، بدرة! قال الاصمعي: وقلت:
لم ينلك الرجاء أن تحضريني ... وتجافت أمنيّتي عن سواكا
قال: أحسنت والله يا أصمعي، لها ولك بهذا البيت عشرون ألفا.
قال جرير:
كلما دارت الزجاجة والكأ ... س أعارته صبوة فبكاكا
فقال: أنا أشعركم حيث أقول:
قد تمنيت ان يغشّين ... الله نعاسا لعلّ عيني تراكا
قلنا له: صدقت والله يا أمير المؤمنين.
الباهلي في امر عنان
وقال بكر بن حماد الباهلي: لما انتهى إليّ خبر عنان، وأنها ذكرت لهارون وقيل إنها من أشعر الناس، خرجت معترضا لها؛ فما راعني إلا الناطفي مولاها قد ضرب على عضدي، فقال لي: هل لك فيما سنح من طعام وشراب ومجالسة عنان؟ فقلت: ما بعد عنان مطلب! ومضينا حتى أتينا منزله، فعقل دابته ثم دخل فقال: هذا بكر شاعر باهلة يريد مجالستك اليوم. فقالت: والله، إني كسلانة! فحمل عليها بالسوط؛ ثم قال(7/63)
لي: ادخل. فدخلت ودمعها يتحدّر كالجمان في خدها، فطمعت بها؛ فقلت:
هذي عنان أسبلت دمعها ... كالدرّ إذ ينسل من خيطه
ثم قلت: أجيزي. فقالت:
فليت من يضربها ظالما ... تجفّ كفّاه على سوطه
فقلت لها: إن لي حاجة. فقالت: هاتها، فمن سببك أوذينا! قلت لها: بيت وجدته على ظهر كتابي، لم أقرضه ولم أقدر على إجازته. قالت: قل: فأنشدتها:
فما زال يشكو الحبّ حتى حسبنه ... تنفّس من أحشائه فتكلما
قال: فأطرقت ساعة ثم أنشدت:
ويبكي فأبكي رحمة لبكائه ... إذا ما بكي دمعا بكيت له دما!
قلت لها: فما عندك في اجازة هذا البيت:
بديع حسن بديع صدّ ... جعلت خدّي له ملاذا
فأطرقت ساعة ثم قالت:
فعاتبوه فعنّفوه ... فأوعدوه، فكان ماذا ... ؟
أبو نواس وعنان
وجلس أبو نواس إلى عنان، فقالت: كيف علمك بالعروض وتقطيع الشعر يا حسن؟ قال: جيد. قالت تقطع هذا البيت:
أكلت الخردل الشا ... ميّ في صفحة خبّاز
فلما ذهب يقطّعه ضحكت به وأضحكت، فأمسك عنها وأخذ في ضروب من الاحاديث؛ ثم عاد سائلا لها، فقال: كيف علمك بالعروض؟ قالت: حسن يا حسن فقال: قطعي هذا البيت:
حوّلوا عنّا كنيستكم ... يا بني حمّالة الحطب(7/64)
فلما ذهبت تقطّعه ضحك أبو نواس، فقالت: قبحك الله! ما برحت حتى أخذت بثأرك!
المأمون وسوسن المغني وجارية
حدّث أبو عبد الله بن عبد البر المدني قال: حدثني إسحاق بن ابراهيم الموصلي قال: كان للمأمون جماعة من المغنين، وفيهم مغنّ يسمى سوسنا، عليه وسم جمال قال:
فبينما هو عنده يغني إذ تطلعت جارية من جواريه فنظرت إليه فعلقته، فكانت إذا حضر سوسن تسوّي عودها وتغني:
ما مررنا بالسّوسن الغضّ إلا ... كان دمعي لمقلتي نديما
حبّذا أنت والمسمّى به أنت وإن كنت منه أذكى نسيما فإذا غاب سوسن أمسكت عن هذا الصوت وأخذت في غيره؛ فلم تزل تفعل ذلك حتى فطن المأمون، فدعا بها ودعا بالسيف والنّطع «1» ؛ ثم قال: اصدقيني أمرك قالت:
يا أمير المؤمنين، ينفعني عندك الصدق؟ قال لها: إن شاء الله! قالت: يا أمير المؤمنين، اطلعت من وراء الستارة فرأيته فعلقته، فأمسك المأمون عن عقوبتها، وأرسل إلى المغني فوهبها له وقال لا يربنا!.
قال أبو الحسن: وكان الواثق إذا شرب وسكر رقد في موضعه الذي سكر فيه، ومن سكر من ندمائه ترك ولم يخرج؛ فشرب يوما فسكر ورقد، وانقلب أصحابه، إلا مغنيا أظهر التراقد، وبقيت معه مغنية للواثق؛ فلما خلا المجلس وقع المغني في سحاءة «2» ودفعها إليها:
إني رأيتك في المنام كأنني ... مترشّف من ريق فيك البارد
وكأنّ كفّك في يدي وكأنما ... بتنا جميعا في فراش واحد
ثم انتبهت ومنكباك كلاهما ... في راحتيّ وتحت خدّك ساعدي «3»(7/65)
فأجابته:
خيرا رأيت وكل ما أبصرته ... ستناله منّي برغم الحاسد
وتبيت بين خلاخلي ودمالجي ... وتجول بين مراسلي ومجاسدي «1»
فنكون أنعم عاشقين تعاطيا ... ملح الحديث بلا مخافة راصد
فلما مدت يدها لترمي إليه بالسحاءة، رفع الواثق رأسه فأخذ السحاءة من يدها، وقال لهما: ما هذه؟ فحلفا له أنه لم يجر بينهما قبل هذا كلام ولا كتاب ولا رسول غير اللحظ، إلا ان العشق قد خامرهما. فأعتقها وزوّجها منه، فلما أشهد له وتم النكاح، أقامها الواثق إلى بيت من بعض البيوت، فوقع بها ثم خرج فقال له: أردت أن تكشّخني «2» فيها وهي خادمتي، فقد كشختك فيها وهي زوجتك!.
يزيد ومسلمة في حبابة
: قال: ولما كلف يزيد بحبابة واشتغل بها وأضاع الرعية، دخل عليه مسلمة أخوه فقال: يا أمير المؤمنين، تركت الظهور للعامّة، والشهود للجمعة، واحتجبت مع هذه الأمّة! فارعوي قليلا وظهر للناس؛ فأوصت حبابة إلى الاحوص أن يقول أبياتا يهوّن فيها على يزيد ما قال مسلمة؛ فقال وغنّت بها حبابة:
ألا لا تلمه اليوم أن يتبلّدا ... فقد منع المحزون أن يتجلدا
إذا أنت لم تعشق ولم تدر ما الهوى ... فكن حجر- من يابس الصخر جلمدا
هل العيش إلا ما تلذ وتشتهي ... وإن لام فيه ذو الشنّان وفنّدا
فلما سمعها ضرب بجربّانه «3» الارض وقال: صدقت صدقت؛ على مسلمة لعنة الله! ثم عاد إلى سيرته الاولى.(7/66)
يزيد بعد موت حبابة
: وحدث ابن الغاز قال: حدثنا أبو سعيد عبد الله بن شبيب قال: حدثنا الهيثم بن أبي بكر قال: كان يزيد بن عبد الملك كلفا بحبابة كلفا شديدا، فلما توفيت أكب عليها أياما يترشفها ويتشممها؛؛ ثم انتنت، فقام عنها وأمر بجهازها؛ ثم خرج بين يدي نعشها؛ حتى إذا بلغ القبر نزل فيه؛ حتى إذا فرغ من دفنها وانصرف لصق إليه مسلمة اخوه يعزيه ويؤنسه؛ فلما أكثر عليه قال: قاتل الله ابن أبي جمعة حيث يقول:
فإن تسل عنك النفس أو تدع الهوى ... فباليأس تسلو عنك لا بالتجلّد
وكلّ خليل زارني فهو قاتل ... من اجلك: هذه هامة اليوم أو غد «1»
قال: وطعن في جنازتها، فدفنّاه إلى سبعة عشر يوما.
المعتصم وجارية
وذكر المعتصم جارية كانت غلبت عليه وهو بمصر، ولم يكن خرج بها معه؛ فدعا مغنيا له فقال له: ويحك! اني ذكرت جارية، فأقلقني الشوق إليها؛ فهات صوتا يشبه ما ذكرت لك. فأطرق مليا ثم غنى:
وددت من الشوق المبرّح أنني ... أعار جناحي طائر فأطير
فما لنعيم لست فيه بشاشة ... وما لسرور لست فيه سرور
وإنّ امرأ في بلدة نصف قلبه ... ونصف بأخرى غيرها لصبور
فقال: واد ما عدوت ما في نفسي! وأمر له بجائزة، ورحل من ساعته، فلما بلغ الفرما قال:
غريب في قرى مصر ... يقاسي الهمّ والسّدما «2»
لليلك كان بالميدا ... ن اقصر منه بالفرما(7/67)
وقال المأمون في قينة له:
لها في لحظها لحظات حتف ... تميت بها وتحيي من تريد
فإن غضبت رأيت الناس قتلي ... وإن ضحكت فأرواح تعود
وتسبي العالمين بمقلتيها ... كأنّ العالمين لها عبيد
وأنشد البحتري في قينة له:
أمازحها فتغضب ثم ترضى ... وفعل جمالها حسن جميل
فإن تغضب فأحسن ذات دلّ ... وإن ترضى فليس لها عديل
وقال المعتز في قينة له:
فأمسيت في ليلين للشّعر والدّجا ... وشمسين من كأس ووجه حبيب
وقال هارون الرشيد في قينة له رحمه الله:
تبدي صدودا وتخفي تحته مقة ... فالنّفس راضية والطرف غضبان «1»
يا من وضعت له خدّي فذلله ... وليس فوقي سوى الرحمن سلطان
وقال ابراهيم الشيباني: القينة لا تخلص محبة لأحد، ولا تؤتى إلا من باب طمع.
وقال علي بن الجهم: قلت لقينة:
هل تعلمين وراء الحبّ منزلة ... تدني إليك فإنّ الحبّ أقصاني»
فقالت: تأتي من باب الذهب، وأنشدت:
اجعل شفيعك منقوشا تقدّمه ... فلم يزل مذنبا من ليس بالدّاني «3»
أشعب وقينة
وكان أشعب يختلف إلى قينة بالمدينة فجلس عندها يوما يطارحها الغناء؛ فلما أراد الخروج قال لها: نوّليني خاتمك أذكرك به. قالت: إنه ذهب، وأخاف ان تذهب؛(7/68)
ولكن هذ خذ العود، لعلك تعود! وناولته عودا من الأرض!.
وكان أشعب يختلف إلى قينة بالمدينة يكلف بها وينقطع إذا نظرها، فطلبت منه أن يسلفها دراهم، فانقطع عنها وتجنب دارها، فعلمت له دواء ولقيته به؛ فقال لها: ما هذا؟ قالت: دواء عملته لك تشربه لهذا الفزع الذي بك! قال: اشربيه أنت للطمع، فان انقطع طمعك انقطع فزعي. وأنشأ يقول:
أنا والله أهواك ... ولكن ليس لي نفقه
فإمّا كنت تهويني ... فقد حلّت لي الصّدقه
أبو الحارث وقينة
وقعد أبو الحارث جمّيز إلى قينة بالمدينة صدر نهاره، فجعلت تحدّثه ولا تذكر الطعام؛ فلما طال ذلك به قال: مالي لا أسمع للطعام ذكرا؟ قالت: سبحان الله! أما تستحي؟ أما في وجهي ما يشغلك عن هذا؟ فقال لها: جعلت فداك، لو أن جميلا وبثينة قعدا ساعة واحدة لا يأكلان، لبصق كل واحد منهما في وجه صاحبه وافترقا!.
أبو نواس وقينة
وقال الشيباني: كانت بالعراق قينة، وكان أبو نواس يختلف إليها، فتظهر له أنها لا تحب غيره؛ وكان كلما جاءها وجد عندها فتى يجلس عندها ويتحدث إليها؛ فقال فيها:
ومظهرة لخلق الله ودّا ... وتلقى بالتّحيّة والسّلام
أتيت فؤادها أشكو إليه ... فلم أخلص إليه من الزّحام
فيامن ليس يكفيها صديق ... ولا خمسون ألفا كلّ عام
أراك بقيّة من قوم موسى ... فهم لا يصبرون على طعام(7/69)
ابو نواس وقيان
وقال الشيباني حضر أبو نواس مجلسا فيه قيان؛ فقلن له: ليتنا بناتك. قال: نعم، ونحن على المجوسية.
وقال العتبي: حضرت قينة مجلسا، فتغنت فأجادت، فقام إليها شيخ من القوم فجلس بين يديها، وقال: كل مملوك لي حرّ، وكل امرأة لي طالق، لو كانت الدنيا لي كلها صررا في كمي لقطعتها لك؛ فأما إذا لم يكن فجعل الله كل حسنة لي لك، وكلّ سيئة عليك عليّ. قالت: جزاك الله خيرا، فو الله ما يقوم الوالد لولده بما قمت به لنا. فقام شيخ آخر وقعد بين يديها وقال لها: كل مملوك لي حر، وكل امرأة لي طالق، إن كان وهب لك شيئا ولا حمل عنك ثقلا؛ لانه ماله حسنة يهبها لك، ولا عليك سيئة يحملها عنك؛ فلأيّ شيء تحمدينه؟.
حدّث احمد بن عمر المكي قال: سمعت إسحاق بن ابراهيم الموصلي يقول: كان بالمدينة رجل جعفري، من ولد جعفر بن أبي طالب، وكان يحب الغناء، وكان بالمدينة قينة يقال لها بصيص، وكان الجعفري يتعشّقها، فقال يوما لإخوانه: قوموا معي إلى هذه الجارية حتى نكاشفها، فقد والله أيتمت ولدي، وأرملت نسائي، وأخربت ضيعتي. فقاموا معه، حتى إذا جاءوا إلى بابها دقّه، فخرجت إليه، فإذا هي أملح الناس دلّا وشكلا، فقال لها: يا جارية، أتغنّين:
وكنت أحبكم فسلوت عنكم ... عليكم في دياركم السلام
فاستحيت وخجلت وبكت وقالت: يا جارية، هاتي عودي؛ والله ما أحسن هذا ولكن أحسن غيره. فغنت:
تحمل اهلها منها فبانوا ... على آثار من ذهب العفاء
قال: فاستحيا والله صاحبنا حتى تصبب عرقا، ثم قال لها: يا سيدتي، أفتحسنين أن تغني:
وأخضع للعتبى إذا كنت ظالما ... وإن ظلموا كنت الذي أتفضل(7/70)
قالت: والله ما اعرف هذا ولكن غيره. فغنت:
فإن تقبلوا بالود أقبل بمثله ... وأنزلكم منا بأكرم منزل
قال: فدفع الباب ودخل، وأرسل غلامه يحمل إليه حوائجه؛ وقال: لعن الله الاهل والولد والضّيعة!.
خبر الذلفاء
قال أبو سويد: حدثني أبو زيد الاسدي قال: دخلت على سليمان بن عبد الملك بن مروان، وهو جالس على دكان مبلط بالرخام الاحمر، مفروش بالديباج «1» الأخضر، في وسط بستان ملتف، قد أثمر وأينع؛ واذا بإزاء كل شقّ من البستان ميدان ينبت الربيع قد ازهر وعلى رأسه وصائف. كلّ واحدة منهن احسن من صاحبتها؛ وقد غابت الشمس، فنضرت الخضرة، وأضعفت في حسنها الزهرة، وغنّت الاطيار فتجاوبت، وسفت الرياح على الاشجار فتمايلت؛ [وقد حلي البستان] بأنهار فيه قد شقّقت، ومياه قد تدفقت: فقلت: السلام عليك أيها الامير ورحمة الله وبركاته.
وكان مطرقا، فرفع رأسه وقال: أبا زيد! في مثل هذا الحين يصاب احد حيا؟
قلت: أصلح الله الامير، أو قد قامت القيامة بعد!.
قال: نعم، على أهل المحبة سرا والمراسلة بينهم خفية.
ثم أطرق مليا، ثم رفع رأسه فقال: أبا زيد، ما يطيب في يومنا هذا؟.
قلت: أعز الله الامير، قهوة صفراء، في زجاجة بيضاء، تناولها مقدودة هيفاء، مضمومة لفّاء [مكحولة] دعجاء، أشربها من كفها، وأمسح فمي بفمها!.
فأطرق سليمان مليا لا يحير جوابا، ينحدر من عينه عبرات بلا شهيق؛ فلما رأت(7/71)
الوصائف ذلك ننحين عنه؛ ثم رفع رأسه فقال: أبا زيد، حللت في يوم فيه انقضاء اجلك ومنتهى مدتك وتصرّم عمرك! والله لاضربن عنقك أو لتخبرني ما أثار هذه الصفة من قلبك.
قلت: نعم أصلح الله الامير؛ كنت جالسا عند باب اخيك سعيد بن عبد الملك، فإذا انا بجارية قد خرجت إلى باب القصر كالغزال انفلت من شبكة الصياد؛ عليها قميص اسكندراني يتبين منه بياض بدنها، وتدوير سرّتها، ونقش تكتها؛ وفي رجليها نعلان حمراوان، وقد أشرق بياض قدمها على حمرة نعليها؛ مضمومة بفرد ذؤابة تضرب الى حقويها وتسيل كالعثاكيل «1» على منكبيها، وطرّة «2» قد أسبلت على مثنى جبينها، وصدغان قد زينا كأنهما نونان على وجنتيها، وحاجبان قد قوّسا على محجري عينيها، وعينان مملوءتان سحرا، وأنف كأنه قصبة درّ، وفم كأنه جرح يقطر دما؛ وهي تقول: عباد الله، من لي بدواء من لا يشتكي، وعلاج من لا ينتمي؟ طال الحجاب، وأيضا الجواب؛ فالفؤاد طائر، والقلب عازب، والنفس والهة، والفؤاد مختلس، والنوم محتبس؛ رحمة الله على قوم عاشوا تجلّدا، وماتوا تبلّدا؛ ولو كان إلى الصبر حيلة وإلى العزاء سبيل لكان أمرا جميلا!.
ثم أطرقت طويلا، ثم رفعت رأسها؛ فقلت: أيتها الجارية، إنسية أنت أم جنيّة؟
سمائية أم أرضية؟ فقد اعجبني ذكاء عقلك؛ وأذهلني حسن منطقك!.
فسترت وجهها بكمها كأنها لم ترني، ثم قالت: اعذر أيها المتكلم الاريب، فما أوحش الساعة بلا مساعد، والمقاساة لصبّ معاند! ثم انصرفت؛ فو الله- أصلح الله الامير- ما أكلت طيبا إلا غصصت به لذكرها، ولا رأيت حسنا إلا سمج في عيني لحسنها!.
قال سليمان: أبا زيد، كاد الجهل أن يستفزني، والصبا ان يعاودني، والحلم أن(7/72)
يعزب عني؛ لحسن ما رأيت، وشجو ما سمعت؛ تلك هي الذلفاء التي يقول فيها الشاعر:
إنما الذّلفاء ياقوتة ... أخرجت من كيس دهقان «1»
شراؤها على أخي ألف ألف درهم، وهي عاشقة لمن باعها، والله إني من لا يموت إلا بحزنها، ولا يدخل القبر إلا بغصّتها، وفي الصبر سلوة، وفي توقّع الموت نهية؛ قم أبا زيد فاكتم المفاوضة؛ يا غلام، ثقّله ببدرة. فأخذتها وانصرفت.
قال أبو زيد: فلما أفضت الخلافة إلى سليمان، صارت الذلفاء إليه، فأمر بفسطاط «2» ، فأخرج على دهناء الغوطة، وضرب في روضة خضراء مونقة زهراء ذات حدائق بهجة، تحتها أنواع الزهر الغض، من بين أصفر فاقع، وأحمر ساطع، وأبيض ناصع؛ فهي كالثوب الحرمي وحواشي البرد الاتحميّ «3» يثير منها مرّ الرياح نسيما يربي على رائحة العنبر، وفتيت المسك الاذفر، وكان له مغن ونديم وسمير، يقال له سنان، به يأنس، وإليه يسكن، فأمره ان يضرب فسطاطه بالقرب منه، وقد كانت الذلفاء خرجت مع سليمان إلى ذلك المتنزّه، فلم يزل سنان يومه ذلك عند سليمان، في اكمل سرور، وأتم حبور، إلى أن انصرف مع الليل الى فسطاطه، فنزل به جماعة من اخوانه، فقالوا له: قرانا أصلحك الله قال: وما قراكم؟ قالوا أكل وشرب وسمع.
قال: أما الأكل والشرب فمباحان لكم، وأما السماع فقد عرفتم شدة غيرة أمير المؤمنين ونهيه إياي عنه، إلا ما كان في مجلسه. قالوا: لا حاجة لنا بطعامك وشرابك وإن لم تسمعنا. قال: فاختاروا صوتا واحدا أغنيكموه. قالوا: غنّنا صوت كذا.
قال: فرفع عقيرته يتغنى بهذه الابيات:
محجوبة سمعت صوتي فأرّقها ... في آخر اليل لمّا ظلّها السحر
تثني على الخدّ منها من معصفرة ... والحلي باد على لبّاتها خضر «4»(7/73)
في ليلة التّمّ لا يدري مضاجعها ... أوجهها عنده أبهى أم القمر
لم يحجب الصّوت أجراس ولا غلق ... فدمعها لطروق الصّوت منحدر
لو خلّيت لمشت نحوي على قدم ... يكاد من لينه للمشي ينفطر
فسمعت الذلفاء صوت سنان، فخرجت إلى وسط الفسطاط تستمع؛ فجعلت لا تسمع شيئا من [حسن] خلق ولطافة قدّ، إلا الذي وافق المعنى؛ ومن نعت الليل واستماع الصوت؛ إلا رأت ذلك كله في نفسها ومهبها، فحرك ذلك ساكنا في قلبها، فهملت «1» عيناها، وعلا نشيجبها «2» ، فانتبه سليمان فلم يجدها معه، فخرج إلى صحن الفسطاط فرآها على تلك الحال، فقال لها: ما هذا يا ذلفاء؟ فقالت:
ألا ربّ صوت رائع من مشوّة ... قبيح المحيّا واضع الأب والجدّ
يروعك منه صوته ولعلّه ... إلى أمة يعزى معا وإلى عبد
فقال سليمان: دعيني من هذا فو الله لقد خامر قلبك منه خامر! يا غلام، عليّ بسنان. فدعت الذلفاء خادما لها فقالت: إن سبقت رسول أمير المؤمنين إلى سنان، فحذّره ولك عشرة آلاف درهم وأنت حر لوجه الله تعالى! فخرج الرسول فسبق رسول سليمان؛ فلما أتي به قال: يا سنان، ألم أنهك عن مثل هذا؟ قال: يا أمير المؤمنين حملني الثمل وأنا عبد أمير المؤمنين وغذيّ نعمته؛ فإن رأى امير المؤمنين أن لا يضيع حظّه من عبده فليفعل. قال: أما حظي منك فلن أضيعه، ولكن ويلك! أما علمت أن الرجل إذا تغنى أصغت المرأة إليه، وأن الحصان إذا صهل ودقت له الفرس، وأن الفحل إذا هدر صغت له الناقة، وأن التيس إذا نبّ «3» استحرمت له الشاة؟ وإياك والعود إلى ما كان منك يطول غمّك.
أبو السمراء وامرأة بالمدينة
قال إسحاق: حدثني أبو السمراء قال: حججت فبدأت بالمدينة، فإني لمنصرف من(7/74)
قبر رسول الله صلّى الله عليه وسلم، وإذا بامرأة بفناء المسجد تبيع من طرائف المدينة، وإذا هي في ناحية وحدها وعليها ثوبان خلقان، وإذا هي ترجّع بصوت خفي شجي، فالتفتّ فرأيتها فوقفت، فقالت: هل من حاجة؟ قلت تزيدين في السماع! قالت: وأنت قائم؟
لو قعدت! فقعدت كالخجل، فقالت: كيف علمك بالغناء؟ فقلت: علم لا أحمده، قالت: فعلام أنفخ بغير نار؟ ما منعك من معرفته؟ فو الله إنه لسحوري وفطوري! قلت: وكيف وضعته بهذا الموضع العالي؟ قالت: يا هذا، وهل له موضع يوضع به وهو في علوه في السماء الشاهقة؟ قلت: فكل هؤلاء النسوة اللاتي أرى على مثل رأيك وفي مثل حالك؟ قالت؟: فيهن وفيهن ... ، ولي بينهن قصة. قلت: ومان هي؟ قالت:
كنت أيام شبابي وأنا في مثل هذه الخلقة التي ترى من القبح والدمامة، وكنت أشتهي الجماع شهوة شديدة وكان زوجي شابا وضيئا، وكان لا ينتشر عليّ حتى أتحفه وأطيّبه وأسكره، فأضرّ ذلك بي؛ وكان قد علقته امرأة قصّار «1» تجاورني، فزاد ذلك في غمي؛ فشكوت إلى جارة لي ما أنا فيه، وغلبة امرأة القصار على زوجي؛ فقالت:
أدلّك على ما ينهضه عليك ويرد قلبه إليك! قلت: وابأبي أنت! إذا تكونين أعظم الخلق منة عليّ. قالت: اختلفي إلى مجمع مولى الزبير، فإنه حسن الغناء، فاعلقي من غنائه أصواتا عشرة، ثم غنيّ بها زوجك، فإنه سيجامعك بجوارحه كلها! قالت:
فالتطت بمجمعه، فلم أفارقه حتى رضيني حذاقة ومعرفة؛ فكنت إذا أقبل زوجي اضطجعت ورفعت عقيرتي «2» ثم تغنيت، فإذا غنيت صوتا بت على نيّف، وإن غنيت صوتين بت على اثنين، وان غنيت ثلاثة فثلاثة.
فكنّا كندماني جذيمة حقبة ... من الدهر حتى قيل لن يتصدّعا
قال: فضحكت والله حتى أمسكت على بطني، وقلت: يا هذه، ما أظن أنه خلق مثلك! قالت: اخفض من صوتك، قلت: ما كان أعظم منّة من المشورة قالت:(7/75)
حسبك بها منة، وحسبك بي شاكرة، قلت: ففي قلبك من تلك الشهوة شيء؟ قالت:
لذع في الفؤاد، وأما تلك الغلمة «1» التي كانت تنسيني الفريضة وتقطعني عن النافلة فقد ذهب تسعة أعشارها! فوقفت عليها وقلت: ألك حاجة إن أزم حالك؟ قالت:
لا، أنا في فائت من العيش! فلما نهضت لاقوم قالت: على رسلك، لا تنصرف خائبا! ثم ترنمت بصوت تخفيه من جارتها:
ولي كبد مقروحة، من يبيعني ... بها كبدا ليست بذات قروح
أبى الناس كلّ الناس لا يشترونها ... ومن يشتري ذا علّة بصحيح
ابن الجهم وقينة
: أبو بكر بن جامع عن الحسين بن موسى، قال: كتب علي بن الجهم إلى قينة كان يتعشقها:
خفي الله فيمن قد تبلت فؤاده ... وتيّمته دهرا كأنّ به سحرا «2»
دعي الهجر لا أسمع به منك إنما ... سألتك أمرا ليس يعري لكم ظهرا
فكتبت إليه: صدقت، جعلت فداك؛ ليس يعرى لنا ظهرا، ولكنه يملأ لنا بطنا!
أبو بكر الكاتب وقينة ابن حماد
: وكان أبو بكر الكاتب مفتتنا بقينة محمد بن حماد، فأهدى إليها ممسكة، فقال فيها بعض الكتاب:
أهدى إليها قميصا ... ينيكها فيه غيره
فللسعادة حرها ... وللشّقاوة أيره(7/76)
هاشمي وقينتان ومضحك
: حدث أبو عبد الله بن عبد البر بمصر قال: حدثني إسحاق بن إبراهيم عن الهيثم بن عدي قال: كان بالمدينة رجل من بني هاشم، وكان له قينتان، يقال لإحداهما رشا، وللأخرى جؤذر؛ وكان يحب الغناء، وكان بالمدينة مضحك لا يكاد يغيب عن مجلس أحد؛ فأرسل الهاشمي إليه ذات يوم ليضحك به، فلما أتاه قال: ما الفائدة فيك وفي لذتك ولا لذة لي؟ قال له: وما لذتك؟ قال: تحضر لي نبيذا، فإنه لا يطيب لي عيش إلا به. فأمر الهاشمي بإحضار نبيذ، وأمر أن يطرح فيه سكّر العشر، فلما شربه المضحك تحرك عليه بطنه؛ وتناوم الهاشمي وغمز جواريه عليه، فلما ضاق عليه الأمر واضطر إلى التبرّز قال في نفسه: ما أظن هاتين المغنيتين إلا يمانيتين. وأهل اليمن يسمون الكنف المراحيض فقال لهما: يا حبيبتي، أين المرحاض؟ قالت: إحداهما لصاحبتها: ما يقول: قالت يقول: غنياني:
رحضت فؤادي فخلّيتني ... أهيم من الحبّ في كلّ واد «1»
فاندفعتا تغنيانه؛ فقال في نفسه: ما أراهما فهمتا عني، أظنهما مكيّتين وأهل مكة يسمونها المخارج. قال: يا حبيبتي، أين المخرج؟ قالت إحداهما للأخرى: ما يقول؟
قالت: يقول غنياني:
خرجت بها من بطن مكّة بعد ما ... أصات المنادي للصلاة فأعلما «2»
فاندفعتا تغنيانه؛ فقال في نفسه: لم يفهما والله عني، أظنهما شاميتين، وأهل الشام يسمونها المذاهب؛ فقال لهما: يا حبيبتي، أين المذهب؟ قالت إحداهما لصاحبتها: ما يقول؟ قالت: يقول: غنياني:
ذهبت من الهجران في غير مذهب ... ولم يك حقا كلّ هذا التّجنّب
فغنتاه الصوت؛ فقال في نفسه: لم يفهما عني، وما أظنهما إلا مدنيتين وأهل المدينة(7/77)
يسمونها بيت الخلاء؛ فقال لهما: يا حبيبتي، أين بيت الخلاء؟ قالت إحداهما لصاحبتها: ما يقول؟ قالت: يسأل أن نغني:
خلّى على جوى الأحزان إذ ظعنا ... من بطن مكّة والتسهيد والحزنا «1»
قال: فغنتاه؛ فقال: إنا لله وإنا إليه راجعون! ما أحسب الفاسقتين إلا بصرتين وأهل البصرة يسمونها الحشوش؛ فقال لهما: أين الحشّ؟ فقالت إحداهما لصاحبتها ما يقول؟ قالت: يسأل أن نغنيه:
فلقد أوحش الجهيدان منها ... فمناها فالمنزل المعمور «2»
فاندفعتا تغنيانه؛ فقال: ما أراهما إلا كوفيتين. وأهل الكوفة يسمونها الكنف.
قال: يا حبيبتي، أين الكنيف؟ قالت إحداهما لصاحبتها: يعيش سيدنا، هل رأيت أكثر اقتراحا من هذا الرجل؟ ما يقول؟ قالت: يسأل أن نغني.
تكنّفني الهوى طفلا ... فشيّبني وما اكتهلا
قال: فغلبه بطنه، وعلم أنهما تولعان به، والهاشمي يتقطع ضحكا؛ فقال لهما:
كذبتما يا زانيتان، ولكني أعلمكما ما هو. فرفع ثيابه فسلح عليهما، وانتبه الهاشمي فقال له: سبحان الله! أتسلح على وطائي؟ قال: الذي خرج من بطني أعزّ عليّ من وطائك؛ إن هاتين الزانيتين إنما حسبتا أني أسأل عن الحش للضراط، فأعلمتهما ما هو.
قولهم في العود
يزيد وعبيد الله في البربط
: قال يزيد بن عبد الملك يوما وذكر عنده البربط «3» ، فقال: ليت شعري ما هو؟
فقال له عبيد الله بن عبد الله بن عتبة بن مسعود: أنا أخبرك ما هو: هو محدوب(7/78)
الظهر، أرسح البطن، له أربعة أوتار إذا حرّكت لم يسمعها أحد إلا حرّك أعطافه وهزّ رأسه! مرّ إسحاق بن إبراهيم الموصلي برجل ينحت عودا. فقال: لمن ترهف هذا السيف؟
ومن قولنا في هذا المعنى:
يا مجلسا أينعت منه أزاهره ... ينسيك أوّله في الحسن آخره
لم يدر هل بات فيه ناعما جذلا ... أو بات في جنة الفردوس سامره «1»
فالعود يخفق مثناه ومثلثه ... والصّبح قد غرّرت فيه عصافره
وللحجارة أهزاج إذا نطقت ... أحيا بها الكبرة المحنيّ ناقره «2»
وحنّ بينهما الكثبان عن نغم ... تبدي عن الصبّ ما تخفي ضمائره «3»
كأنما العود فيما بيننا ملك ... يمشي الهوينا وتتلوه عساكره
كأنه إذ تمطّى وهي تتبعه ... كسرى بن هرمز تقفوه أساوره
ذاك المصون الذي لو كان مبتذلا ... ما كان يكسر بيت الشّعر كاسره
صوت رشيق وضرب لو يراجعه ... سجع القريض إذا ضلّت أساطره «4»
لو كان زرياب حيّا ثم أسمعه ... لمات من حسد إذ لا يناظره
وقال بعض الكتّاب في العود:
وناطق بلسان لا ضمير له ... كأنه فخذ نيطت إلى قدم
يبدي ضمير سواه في الكلام كما ... يبدي ضمير سواه منطق الكلم
وقال الحمدوني فيه:
وسجّعت رجع صوت بين أربعة ... سرّ الضمائر فيما بينها علن(7/79)
فولّدت للنّدامى بين نغمتها ... وكفّها فرحا تفصيله حزن
فما تلعثم عنها لفظ مزهرها ... ولا تحير في ألحانها لحن
تهدي إلى كلّ حرّ من طبائعها ... بنانها نغما أثمارها فتن
وترتعي العين منها روض وجنتها ... طورا وتسرح في ألفاظها الأذن
وقال عكاشة بن الحصين:
من كفّ جارية كأن بنانها ... من فضة قد طرّفت عنّابا «1»
وكأنّ يمناها إذا ضربت بها ... تلقي على يدها الشمال حسابا
ومن قولنا في العود:
يا ربّ صوت يصوغه عصب ... نيطت بساق من فوقها قدم
جوفاء مضمومة أصابعها ... مسكّنات تحريكها نغم
أربعة جزّئت لأربعة ... أجزاؤها بالنّفوس تلتحم
أصغرها في القلوب أكبرها ... يبعث منها الشّفاء والسقم «2»
إذ أرنّت بغمز لافظها ... قلت حمام يجيبهنّ حم
لها لسان بكفّ ضاربها ... يعرب عنها وما لهنّ فم
قولهم في المبرّدين في الغناء
قال أبو نواس:
قل لزهير إذا شدا وحدا ... أقلل أو اكثر فأنت مهذار
سخنت من شدّة البرودة حتى صرت عندي كأنك النار وقال أيضا:
لا يعجب السامعون من صفتي ... كذلك الثلج بارد حار(7/80)
وقال أيضا:
قد نضجنا ونحن في الجيش طرّا ... أنضجتنا كواكب الجوزاء «1»
فأصيبوا لنا حسينا ففيه ... عوض من جليد برد الشتاء
لو يغنّي وفوه ملآن خمرا ... لم يضره من برد ذاك الغناء
وله:
وكان أبو المغلس إذ يغنّي ... يحاكي غاطسا في عين شمس
يميل بشدقه طورا وطورا ... كأنّ بشدقه ضربان ضرس
وقال دعبل:
ومغنّ إن تغنّى ... أورث الندمان همّا
أحسن الأقوام حالا ... فيه من كان أصمّا
وقال الحمدوني:
بينما نحن سالمون جميعا ... إذ أتانا ابن سالم مختالا
فتغنّى صوتا فكان خطاء ... ثم ثنّى أيضا فكان محالا
سالنا حاجة على ما تغنى ... فخلعنا على قفاه النّعالا!
ولعباس الخياط:
رأيت نصرا شاديا يضرب ... فقمت من مجلسنا أهرب
لأنه ينبح من عوده ... عليك من أوتاره أكلب
كأنما تسمع في حلقه ... دجاجة يخنقها ثعلب
ما عجبي منه ولكنني ... من الذي يسمعه أعجب
وقال آخر:
ومغنّ يخرى على جلسائه ... ضرب الله شدقه بغنائه(7/81)
وقال مؤمن في ربيع المغنى، وكان يتغنى وينقر في الدواة:
غناؤك يا ربيع أشدّ بردا ... إذا حمي الهجير من الصّقيع
ونقرك في الدّواة أشدّ منه ... فما يصبو إليك سوى رقيع
أغثنا في المصيف إذا تلظى ... ودعنا في الشّتاء وفي الربيع
باب من الرقائق
وقد جبل أكثر الناس على سوء الاختيار، وقلة التحصيل والنظر مع لؤم الغرائز، وضعف الهمم. وقلّ من يختار من الصنائع أرفعها، ويطلب من العلوم أنفعها. ولذلك كان أثقل الأشياء عليهم وأبغضها إليهم مئونة التحفظ، وأخفها عندهم وأسهلها عليهم إسقاط المروءة.
وقيل لبعضهم: ما أحلى الأشياء كلها؟ قال الارتكاس «1» .
وقيل لعبد الله بن جعفر: ما أطيب العيش؟ قال: هتك الحياء واتباع الهوى.
وقيل لعمرو بن العاص: ما أطيب العيش؟ قال: ليقم من هنا من الأحداث قال:
فلما قاموا، قال: [أطيب] العيش كله إسقاط المروءة.
وأي شيء أثقل على النفس من مجاهدة الهوى ومكابدة الشهوة؟ ومن ذلك كان سوء الاختيار أغلب على طبائع من حسن الاختيار.
المبرد وكتابه الروضة
: ألا ترى أن محمد بن يزيد النحوي- على علمه باللغة ومعرفته باللسان- وضع كتابا سماه بالروضة، وقصد فيه إلى أخبار الشعراء المحدثين، فلم يختر لكل شاعر إلا أبرد ما وجد له، حتى انتهى إلى الحسن بن هانيء- وقلما يأتي له بيت ضعيف، لرقة فطنته، وسبوطة بنيته، وعذوبة ألفاظه- فاستخرج له من البرد أبياتا ما سمعناه ولا رويناها، ولا ندري من أين وقع عليها، وهي:(7/82)
ألا لا يلمني في العقار «1» جليسي ... ولا يلحني في شربها بعنوس
تعشّقها قلبي فبغّض عشقها ... إليّ من الأشياء كلّ نفيس
وأين هذا الاختيار من اختيار عمرو بن بحر الجاحظ، حين اجتلب ذكره في كتاب الموالي، فقال: ومن الموالي الحسن بن هانيء، وهو من أقدر الناس على الشعر، وأطبعهم فيه؛ ومن قوله:
فجاء بها صفراء بكرا يزفّها ... إليّ عروسا ذات دلّ معتّق
فلما جلتها الكأس أبدت لناظري ... محاسن ليث بالجمال مطوّق
ومن قوله:
ساع بكأس إلى ناس على طرب ... كلاهما عجب في منظر عجب
قامت تريك وشمل الليل مجتمع ... صبحا تولّد بين الماء والعنب
كأنّ صغرى وكبرى من فقاقعها ... حصباء درّ على أرض من الذهب
وجلّ أشعاره في الخمريات بديعة لا نظير لها، فخطرفها كلها وتخطاها إلى التي جانسته في برده، فما أحسبه لحقه هذا الاسم «المبرّد» إلا لبرده؛ وقد تخيّر لأبي العتاهية أشعارا تقتل من بردها، وشنّفها «2» وقرّطها «3» بكلامه، فقال: ومن شعر أبي العتاهية المستظرف عند الظرفاء، المتخير عند الخلفاء، قوله:
يا قرّة العين كيف أمسيت ... أعزز علينا بما تشكّيت
وقوله:
آه من وجدي وكربي ... آه من لوعة حبي»
ما أشدّ الحبّ يا سبحانك اللهمّ ربّي!(7/83)
من سوء الاختيار
ونظير هذا من سوء الاختيار، ما تخيّره أهل الحذق بالغناء والصانعون للألحان من الشعر القديم والحديث؛ فإنهم تركوا منه الذي هو أرق من الماء، وأصفى من الهواء؛ وكلّ مدني رقيق، قد غذي بماء العقيق، وغنّوا بقول الشاعر:
فلا أنسى حياتي ما ... عبدت الله لي ربا
وقلت لها أنيليني ... فقالت تعرف الذّنبا! «1»
ولو تعلم ما بي لم ... تر الذنب ولا العتبا
وأقلّ ما كان يجب في هذا الشعر، أن يضرب قائله خمسمائة، وصانعه أربعمائة، والمغنّي به ثلاثمائة، والمصغي إليه مائتين! ومثله:
كأنها الشمس إذا ما بدت ... تلك التي قلبي لها يضرب
تلك سليماي إذا ما بدت ... ومن أنا في ودّها أرغب
كأنّ في النفس لها ساحرا ... ذاك الذي علمه المذهب
يعني المذهب الحبي ومثله:
يا خليلي، أنتما عللاني ... بين كرم مزهر وجنان
خبّراني أين حلت منايا ... يا عباد الله لا تكتماني
إنما حلت بواد خصيب ... ينبت الورس مع الزعفران «2»
حلفا بالله لو وجداني ... غرقا في البحر ما أنقذاني
ومثله:
أبصرت سلمى من منى ... يوما فراجعت الصّبا
يا درّة البحر متى ... تشهد سوقا يشترى
ومثله:
يا معشر الناس هذا ... أمر وربّي شديد
لا تعنفي يا فلانه ... فإنّني لا أريد(7/84)
ومثله:
أرقت فأمسيت لا أرقد ... وقد شفني البيض والخوّد «1»
فصرت لظبي بني هاشم ... كأني مكتحل أرمد
أقلّب أمري لدى فكرتي ... وأهبط طورا فما أصعد
وأصعد طورا ولا علم لي ... على أنني قبلكم أرشد
ومثله:
ما أرجّي من حبيب ... ضنّ عني بالمداد «2»
لو بكفّيه سحاب ... ما ارتوت منه بلادي
أنا في واد ويمسي ... هو لي في غير واد
ليته إذ لم يجد لي ... بالهوى ردّ فؤادي
ومثله:
ما لسلمى تجنّبت ... ما لها اليوم ما لها
إن تكن قد تغضّبت ... أصلح الله حالها
باب من رقائق الغناء
لإسحاق في شعر الراعي
: قال الزبير بن بكار: سألت إسحاق: هل تغني من شعر الراعي شيئا؟ قال: وأين أنت من قوله:
فلم أر مظلوما على حال عزّة ... أقلّ انتصارا باللسان وباليد
سوى ناظر ساج بعين مريضة ... جرت عبرة منها ففاضت بإثمد «3»(7/85)
لابن الدمينة
: ومن شعر ابن الدمينة، وهو عبد الله بن عبيد الله، والدمينة أمّه، وهو من أرق شعراء المدينة بعد كثيّر عزة وقيس بن الخطيم:
بنفسي وأهلي من إذا عرضوا له ... ببعض الأذى لم يدر كيف يجيب
ولم يعتذر عذر البريء ولم تزل ... له بهتة حتى يقال مريب
جرى السّيل فاستبكاني السّيل إذ جرى ... وفاضت له من مقلتيّ غروب
وما ذاك إلّا أن تيقّنت أنه ... يمرّ بواد أنت منه قريب
يكون أجاجا قبلكم فإذا انتهى ... إليكم تلقّى طيبكم فيطيب «1»
أيا ساكني شرقيّ دجلة كلّكم ... إلى القلب من أجل الحبيب حبيب!
ومن قول يزيد بن الطثرية، وغنى به ابن صياد المدني وغيره:
بنفسي من لو مرّ برد بنانه ... على كبدي كانت شفاء أنامله
ومن هابني في كلّ شيء وهبته ... فلا هو يعطيني ولا أنا سائله
ومما يغني به من قول جرير:
أتذكر إذ تودّعنا سليمى ... بعود بشامة؟ سقي الشام!
بنفسي من تجنّبه عزيز ... عليّ ومن زيارته لمام
ومن أمسي وأصبح لا أراه ... ويطرقني إذا هجع النّيام
متى كان الخيام بذي طلوح ... سقيت الغيث أيّتها الخيام
ومما غنى به نومة الضحى:
يا موقد النار قد أعيت قوادحه ... اقبس إذا شئت من قلبي بمقباس «2»
ما أوحش الناس في عيني وأقبحهم ... إذا نظرت فلم أبصرك في الناس
ومما يغنّى به من شعر ذي الرّمة، وهو من أرق شعر يغنى به، قوله:(7/86)
لئن كانت الدنيا عليّ كما أرى ... تباريح من ذكراك فالموت أروح «1»
وأكثر ما كان يغني به معبد بشعر الأحوص، ومن جيد ما غنّى به له قوله:
كأنّي من تذكر أمّ حفص ... وحبل وصالها خلق رمام
صريع مدامة غلبت عليه ... تموت لها المفاصل والعظام
سلام الله يا مطر عليها ... وليس عليك يا مطر السّلام
فإن يكن النكاح أحل شيء ... فإنّ نكاحها مطرا حرام
ومن شعر المتوكل بن عبد الله بن نهشل، وكان كوفيا في عصر معاوية، وهو القائل:
لا تنه عن خلق وتأتي مثله ... قفي قبل التّفرّق يا أماما
وردّي قبل بينكم السّلاما «2» ... ترجّيها وقد شطت نواها
ومنّتك المنى عاما فعاما «3» ... فلا وأبيك لا أنساك حتى
تحاوب هامتي في القبر هاما
ومما يغنّى به من شعر عدي بن الرقاع:
تزجي أغنّ كأنّ إبرة روقه ... قلم أصاب من الدواة مدادها «4»
ولقد أصبت من المعيشة لذّة ... ولقيت من شظف الخطوب شدادها «5»
وعلمت حتى ما أسائل عالما ... عن حرف واحدة لكي أزدادها(7/87)
كتاب المرجانة الثانية في النساء وصفاتهنّ
قال ابو عمر احمد بن محمد بن عبد ربه رحمه الله: قد مضى قولنا في الغناء واختلاف الناس فيه.
ونحن قائلون بعون الله تعالى وتوفيقه في النساء وصفاتهن، وما يحمد ويذم من عشرتهن؛ إذ كان كله مقصورا على الحليلة الصالحة والزوجة الموافقة؛ والبلاء كله موكل بالقرينة السوء، التي لا تسكن النفس إلى كريم عشرتها، ولا تقرّ العين برؤيتها.
لعروة بن الزبير قال الاصمعي: حدثني ابن أبي الزناد عن عروة بن الزبير قال: ما رفع احد نفسه بعد الايمان بالله بمثل منكح صدق، ولا وضع أحد نفسه بعد الكفر بالله بمثل منكح سوء! ثم قال: لعن الله فلانة ألفت بني فلان بيضا طوالا، فقلبتهم سودا قصارا.
وفي حكمة سليمان بن داود عليهما السلام: المرأة العاقلة تبني بيتها، والسفيهة تهدمه.
وقال: الجمال كاذب، والحسن مخلف؛ وإنما تستحق المدح المرأة الموافقة.
الرسول صلّى الله عليه وسلم وعكاف.
مكحول، عن عطية بن بشر، عن عكّاف بن وداعة الهلاليّ، أن رسول الله صلّى الله عليه وسلم قال له؛ يا عكاف، ألك امرأة؟ قال: لا! قال: فأنت إذا من إخوان الشياطين! إن(7/88)
كنت من رهبان النصارى فالحق بهم، وإن كنت منا فانكح، فإن من سنّتنا النكاح.
وقالت عائشة: النكاح رقّ «1» ؛ فلينظر أحدكم عند من يرقّ كريمته «2» .
وقال رسول الله صلّى الله عليه وسلم: أوصيكم بالنساء، فإنّهنّ عندكم عوان. يعني أسيرات.
قولهم في المناكح
صعصعة وابن الظرب
خطب صعصعة بن معاوية إلى عامر بن الظّرب حكيم العرب ابنته عمرة- وهي ام عامر بن صعصعة- فقال: يا صعصعة، إنك أتيتني تشتري من كبدي، فارحم ولدي، قبلتك أو رددتك، والحسيب «3» كفء الحسيب، والزوج الصالح أب بعد أب، وقد أنكحتك خشية أن لا أجد مثلك؛ أفرّ من السرّ إلى العلانية.. يا معشر عدوان، خرجت بين أظهركم كريمتكم، من غير رغبة ولا رهبة، وأقسم لولا قسم الحظوظ على [قدر] الجدود ما ترك الأول للآخر ما يعيش به.
ابن حجر وابن محلم
العباس بن خالد السهمي قال: خطب عمرو بن حجر إلى عوف بن محلم الشيباني ابنته أمّ أياس، فقال: نعم، أزوّجكما، على أن أسمّي بنيها وأزوّج بناتها. فقال عمرو ابن حجر: اما بنونا فنسميهم بأسمائنا وأسماء آبائنا وعمومتنا، واما بناتنا فننكحهن أكفاءهن من الملوك، ولكني أصدقها عقارا في كندة، وامنحها حاجات قومها، لا تردّ لاحد منهم حاجة! فقبل ذلك منه أبوها، وأنكحه إياها؛ فلما كان بناؤه بها خلت بها أمها فقالت:
أي بنية، إنك فارقت بيتك الذي منه خرجت، وعشّك الذي فيه درجت، إلى(7/89)
رجل لم تعرفيه، وقرين لم تألفيه، فكوني له أمة يكن لك عبدا، واحفظي له خصالا عشرا تكن لك ذخرا: أما الاولى والثانية، فالخشوع له بالقناعة، وحسن السمع له والطاعة؛ وأما الثالثة والرابعة، فالتفقد لموضع عينه وأنفه، فلا تقع عينه منك على قبيح، ولا يشم منك إلا أطيب ريح؛ وأما الخامسة والسادسة فالتفقد لوقت منامه وطعامه، فإن حرارة الجوع ملهبة، وتغيص النوم مغضبة؛ وأما السابعة والثامنة، فالاحتفاظ بماله، والإرعاء على حشمه وعياله، وملاك الأمر في المال حسن التقدير، وفي العيال حسن التدبير؛ وأما التاسعة والعاشرة فلا تعصنّ له أمرا، ولا تفشنّ له سرّا؛ فإنك إن خالفت أمره أو غرت صدره، وإن أفشيت سرّه لم تأمني غدره؛ ثم إياك والفرح بين يديه إذا كان مهتما، والكآبة بين يديه إذا كان فرحا.
فولدت له الحارث بن عمرو، جدّ امرىء القيس الشاعر.
زرارة ولقيط وابنة ذي الجدين
الشيباني قال: حدثنا بعض أصحابنا، ان زرارة بن عدس نظر إلى ابنه لقيط فقال: مالي أراك مختالا؟ كأنك جئتني بابنة ذي الجدّين أو مائة من هجائن «1» النعمان! فقال: والله لا يمسّ رأسي دهن حتى آتيك بهما أو أبلي عذرا! فانطلق حتى اتى ذا الجدين- وهو قيس بن مسعود الشيباني- فوجده جالسا في نادي قومه من شيبان، فخطب إليه ابنته علانية؛ فقال له: هلا ناجيتني؟ قال: ومن أنت؟ قال:
لقيط بن زرارة، قال: لا جرم، لا تبيتن فينا عزبا ولا محروما! فزوّجه وساق عنه المهر، وبنى بها من ليلته تلك.
ثم خرج إلى النعمان، فجاء بمائتين من هجائنه؛ وأقبل إلى أبيه وقد وفى نذره فبعث إليه قيس بن مسعود بابنته مع ولده بسطام بن قيس؛ فخرج لقيط يتلقاها في الطريق ومعه ابن عم له يقال له قراد، فقال لقيط:(7/90)
هاجت عليّ ديار الحيّ أشجانا ... واستقبلوا من نوى الجيران قربانا «1»
تامت فؤادك لم تقض التي وعدت ... إحدى نساء بني ذهل بن شيبانا
فانظر قراد وهل في نظرة جزع ... عرض الشقائق؛ هل بيّنت أظعانا
فيهنّ جارية نضح العبير بها ... تكسى ترائبها درّا ومرجانا
كيف اهتديت ولا نجم ولا علم ... وكنت عندي نئوم الليل وسنانا «2»
ولما رحل بها بسطام بن قيس، قالت: مرّوا بي على أبي أودعه! فلما ودعته قال لها:
يا بنية، كوني له امة يكن لك عبدا وليكن أطيب طيبك الماء؛ ثم لا أذكرت ولا أيسرت؛ فإنك تلدين الأعداء، وتقرّبين البعداء! إن زوجك فارس من فرسان مضر، [وإنه يوشك أن يقتل او يموت] ؛ فإذا كان ذلك فلا تخمشي [عليه] وجها، ولا تحلقي شعرا.
فلما قتل لقيط تحملت إلى اهلها، ثم مالت إلى محلّة عبد الله بن دارم فقالت: نعم الأحماء كنتم يا بني دارم، وأنا أوصيكم بالغرائب خيرا، فلم أر مثل لقيط.
ثم لحقت بقومها، فتزوجها ابن عمّ لها، فكانت لا تسلو عن ذكر لقيط، فقال لها زوجها: اي يوم رأيت فيه لقيطا احسن في عينك؟ قالت: خرج يوما يصطاد، فطرد البقر فصرع منها، ثم أتاني مختضبا بالدماء، فضمني ضمة، ولثمني لثمة، فليتني مت ثمة! فخرج زوجها ففعل مثل ذلك، ثم أتاها، فضمها، ولثمها، ثم قال لها: من أحسن، أنا أم لقيط عندك؟ قالت: مرعى ولا كالسعدان.
قيس بن زهير والنمر
أبو الفضل عن بعض رجاله، قال: قدم قيس بن زهير- بعد ما قتل أهل الهباءة- على النمر بن قاسط، فقال:(7/91)
يا معشر النمر، نزعت إليكم غريبا حزينا، فانظروا لي امرأة اتزوّجها. قد أذلها الفقر، وأدّبها الغنى، لها حسب وجمال.
فزوّجوه على هيئة ما طلب، فقال: إني لا أقيم فيكم حتى أعلمكم اخلاقي: إني غيور فخور نفور؛ ولكني لا أغار حتى أرى، ولا أفخر حتى أفعل، ولا آنف حتى أظلم.
فأقام فيهم حتى ولد له غلام سماه خليفة، ثم بدا له ان يرتحل عنهم، فجمعهم ثم قال:
يا معشر النمر، إن لكم عليّ حقا، وأنا أريد أن أوصيكم، فآمركم بخصال، وأنهاكم عن خصال: عليكم بالاناة، فإن بها تنال الفرصة؛ وسوّدوا من لا تعابون بسؤدده؛ وعليكم بالوفاء، فإن به يعيش الناس؛ وباعطاء ما تريدون إعطاءه قبل المسألة؛ ومنع ما تريدون منعه قبل القسم؛ وإجارة الجار على الدهر؛ وتنفيس المنازل؛ [عن بيوت اليتامى، وخلط الضيف بالعيال] وأنهاكم عن الرهان، فإني به ثكلت مالكا. وأنهاكم عن البغي، فإنه صرع زهيرا. وعن السرف في الدماء، فإن يوم الهباءة أورثني الذلّ، ولا تعطوا في الفضول فتعجزوا عن الحقوق ولا تردّوا الأكفاء عن النساء فتحوجوهنّ إلى البلاء؛ فإن لم تجدوا الأكفاء فخير أزواجهن القبور؛ واعلموا اني اصبحت ظالما مظلوما: ظلمني بنو بدر بقتلهم مالكا، وظلمت بقتلي من لا ذنب له.
الفاكه وزوجته هند في ريبة
كان الفاكه بن المغيرة المخزومي أحد فتيان قريش، وكان قد تزوج هند ابنة عتبة، وكان له بيت للضيافة يغشاه الناس فيه بلا اذن، فقال يوما في ذلك البيت وهند معه؛ ثم خرج عنها وتركها نائمة، فجاء بعض من كان يغشى البيت. فلما وجد المرأة نائمة ولّى عنها، فاستقبله الفاكه بن المغيرة، فدخل على هند وأنبهها، وقال: من هذا الخارج من عندك؟ قالت: والله ما انتبهت حتى أنبهتني، وما رأيت أحدا قط.(7/92)
قال: الحقي بأبيك! وخاض الناس في أمرها، فقال لها أبوها: يا بنية العار وإن كان كذبا، أبثيني شأنك، فإن كان الرجل صادقا دسست عليه من يقتله فيقطع عنك العار، وإن كان كاذبا حاكمته إلى بعض كهان اليمن. قالت: والله يا أبت إنه لكاذب! فخرج عتبة فقال: إنك رميت ابنتي بشيء عظيم، فإما أن تبيّن ما قلت، وإلا فحاكمني إلى بعض كهان اليمن. قال: ذلك لك. فخرج الفاكه في جماعة من رجال قريش، ونسوة من بني مخزوم. وخرج عتبة في رجال ونسوة من بني عبد مناف.
فلما شارفوا بلاد الكاهن تغيّر وجه هند، وكسف بالها. فقال لها أبوها: أي بنية، ألا كان هذا قبل ان يشتهر في الناس خروجنا؟ قالت: يا أبت، والله ما ذلك لمكروه قبلي، ولكنكم تأتون بشرا يخطيء ويصيب، ولعله ان يسمني بسمة تبقى على ألسنة العرب. فقال لها أبوها: صدقت. ولكني سأخبره لك فصفّر بفرسه، فلما أدلى «1» عمد إلى حبة بر فأدخلها في إحليله، ثم اوكى عليها وسار. فلما نزلوا على الكاهن أكرمهم ونحر لهم، فقال له عتبة: إنا أتيناك في أمر، وقد خبأنا لك خبيئة، فما هي؟ قال: برّة في كمرة. قال: أريد أبين من هذا. قال: حبة برّ في إحليل مهر.
قال: صدقت. فانظر في أمر هؤلاء النسوة. فجعل يمسح رأس كل واحدة منهن، ويقول: قومي لشأنك! حتى إذا بلغ إلى هند مسح يده على رأسها، وقال: قومي غير رقحاء ولا زانية، وستدلين ملكا يسمى معاوية.
فلما خرجت أخذ الفاكه بيدها، فنترت «2» يده من يدها، وقالت [إليك عني!] والله لأحرصنّ أن يكون ذلك الولد من غيرك! فتزوجها أبو سفيان، فولدت له معاوية.
هند وزواجها من أبي سفيان
وذكروا ان هند بنت عتبة بن ربيعة قالت لابيها: يا أبت: إنك زوّجتني من هذا(7/93)
الرجل ولم تؤامرني في نفسي، فعرض لي معه ما عرض؛ فلا تزوّجني من احد حتى تعرض عليّ امره، وتبيّن لي خصاله، فخطبها سهيل بن عمرو، وأبو سفيان بن حرب. فدخل عليها أبوها وهو يقول:
أتاك سهيل وابن حرب وفيهما ... رضا لك يا هند الهنود ومقنع
وما منهما إلا يعاش بفضله ... وما منهما إلا يضرّ وينفع
وما منهما إلا كريم مرزّأ ... وما منهما إلا أغرّ سميدع «1»
فدونك فاختاري فأنت بصيرة ... ولا تخدعي إن المخادع يخدع
قالت: يا أبت، والله ما أصنع بهذا شيئا، ولكن فسّر لي أمرهما وبيّن لي خصالهما، حتى أختار لنفسي أشدّهما موافقة لي. فبدأ بذكر سهيل بن عمرو، فقال:
أما أحدهما ففي ثروة واسعة من العيش، إن تابعتيه تابعك، وإن ملت عنه حطّ إليك، تحكمن عليه في أهله وماله. واما الآخر فموسّع عليه، منظور إليه، في الحسب الحسيب، والرأي الأريب، مدره أرومته، وعزّ عشيرته. شديد الغيرة، كثير الظّهرة، لا ينام على ضعة، ولا يرفع عصاه عن أهله.
فقالت: يا أبت، الأوّل سيد مضياع للحرّة، فما عست ان تلين بعد إبائها، وتضيع تحت جناحه، إذا تابعها بعلها فأشرت، وخافها أهلها فأمنت، فساء عند ذلك حالها، وقبح عند ذلك دلالها، فإن جاءت بولد أحمقت، وإن أنجبت فعن خطأ ما أنجبت؛ فاطو ذكر هذا عني، ولا تسمّه عليّ بعد. وأما الآخر فبعل الفتاة الخريدة، الحرّة العفيفة، وإني للتي لا أريب له عشيرة فتعيره، ولا تصيّره بذعر فتضيره، وإني لأخلاق مثل هذا لموافقة، فزوّجنيه.
فزوجها من أبي سفيان، فولدت له معاوية، وقبله يزيد؛ فقال في ذلك سهيل بن عمرو:
نبّئت هندا تبّر الله سعيها ... تأبّت وقالت وصف أهوج مائق «2»(7/94)
وما هوجي يا هند إلا سجيّة ... أجرّ لها ذيلي بحسن الخلائق
ولو شئت خادعت الفتى عن قلوصه ... ولاطمت بالبطحاء في كل شارق «1»
ولكنني أكرمت نفسي تكرّما ... ودافعت عنها الذّم عند الخلائق
وإني إذا ما حرّة ساء خلقها ... صبرت عليها صبر آخر عاشق
فإن هي قالت خلّ عني تركتها ... وأقلل بترك من حبيب مفارق
فإن سامحوني قلت أمري إليكم ... وإن أبعدوني كنت في رأس حالق
فلم تنكحي يا هند مثلي وإنّني ... لمن لم يمقني فاعلمي غير وامق «2»
فبلغ أبا سفيان، فقال: والله لو أعلم شيئا يرضي أبا زيد سوى طلاق هند لفعلته! وألح سهيل في تنقيص أبي سفيان، فقال أبو سفيان:
رأيت سهيلا قد تفاوت شأوه ... وفرّط في العلياء كلّ عنان
وأصبح يسمو للمعالي وإنه ... لذو جفنة مغشية وقيان
وشرب كرام من لؤيّ بن غالب ... عراض المساعي عرضة الحدثان
ولكنّه يوما إذا الحرب شمّرت ... وأبرز فيها وجه كلّ حصان «3»
تطأطأ فيها ما استطاع بنفسه ... وقنّع فيها رأسه ودعاني
فأكفيه ما لا يستطاع دفاعه ... وألقيت فيها كلكلي وجراني «4»
سهيل وابن له
قال: وتزوج سهيل بن عمرو امرأة، فولدت له ولدا؛ فبينا هو سائر معه إذ نظر إلى رجل يركب ناقة ويقود شاة، فقال لأبيه: يا أبت، هذه ابنة هذه! يريد الشاة ابنة الناقة! فقال أبوه: يرحم الله هذا! يعني ما كان من فراستها فيه.(7/95)
الرسول صلّى الله عليه وسلّم وأم هانىء
وعن علي بن أبي طالب رضي الله عنه أنه قال: يا رسول الله، لو تزوجت أم هانيء بنت أبي طالب، فقد جعل الله لها قرابة، فتكون صهرا أيضا! فخطبها رسول الله صلّى الله عليه وسلّم فقالت: والله أحبّ إليّ من سمعي وبصري ولكن حقه عظيم، وأنا موتمة «1» ؛ فإن قمت بحقه خفت أن أضيّع أيتامي، وإن قمت بأمرهم قصّرت عن حقه! فقال النبي صلّى الله عليه وسلم: خير نساء ركبن الإبل نساء قريش، أحناها على ولد في صفره وأرعاها على بعل في ذات يده، ولو علمت أن مريم ابنة عمران ركبت جملا لاستثنيتها.
زواج الرسول صلّى الله عليه وسلّم من حفصة
ولما توفيت رقيّة بنت رسول الله صلّى الله عليه وسلّم عن عثمان بن عفان، عرض عليه عمر ابنته حفصة؛ فسكت عنه عثمان- وقد كان بلغه أن رسول الله صلّى الله عليه وسلّم يريد أن يزوّجه ابنته الاخرى- فشكا عمر إلى رسول الله صلّى الله عليه وسلّم سكوت عثمان عنه؛ فقال له: سيزوّج الله ابنتك خيرا من عثمان، ويزوّج عثمان خيرا من ابنتك! فتزوج رسول الله صلّى الله عليه وسلم حفصة، وتزوّج عثمان ابنته.
خطبته صلّى الله عليه وسلّم لخديجة
ولما خطب رسول الله صلّى الله عليه وسلّم خديجة بنت خويلد بن عبد العزى، ذكرت ذلك لورقة بن نوفل- وهو ابن عمها- فقال: هو الفحل لا يقدع «2» أنفه، تزوّجيه.
وخطب عمر بن الخطاب أمّ كلثوم بنت أبي بكر، وهي صغيرة، فأرسل [عمر] إلى عائشة، فقالت: الأمر إليك. فلما ذكرت ذلك عائشة لأم كلثوم، قالت: لا حاجة لي فيه! فقالت عائشة: أترغبين عن أمير المؤمنين؟ قالت: نعم إنه خشن العيش، شديد على النساء! فأرسلت عائشة إلى المغيرة بن شعبة فأخبرته فقال لها: أنا أكفيك! فأتى(7/96)
عمر فقال: يا أمير المؤمنين، بلغني عنك أمر أعيذك بالله منه! قال: ما هو؟ قال:
بلغني أنك خطبت أمّ كلثوم بنت أبي بكر. قال: نعم، أفرغبت بها عني، أم رغبت بي عنها؟ قال: لا واحدة منهما، ولكنها حدثة نشأت تحت كنف خليفة رسول الله في لين ورفق، وفيك غلظة، ونحن نهابك وما نقدر أن نردّك عن خلق من أخلاقك؛ فكيف بها؟ إن خالفتك في شيء فسطوت بها كنت قد خلفت أبا بكر في ولده بغير ما يحق عليك! فقال: كيف لي بعائشة وقد كلمتها؟ قال: أنا لك بها؛ وأدلك على خير لك منها، أمّ كلثوم بنت عليّ من فاطمة بنت رسول الله؛ تتعلق منها بسبب من رسول الله صلّى الله عليه وسلم.
علي وعمر في ام كلثوم
وكان علي قد عزل بناته لولد جعفر بن أبي طالب؛ فلقيه عمر فقال: يا أبا الحسن، أنكحني ابنتك ام كلثوم ابنة فاطمة بنت رسول الله صلّى الله عليه وسلم. قال: قد حبستها لابن جعفر! قال: إنه والله ما على الارض احد يرضيك من حسن صحبتها بما أرضيك به، فأنكحني يا ابا الحسن. قال: قد أنكحتكها يا أمير المؤمنين! فأقبل عمر فجلس في الروضة بين القبر والمنبر، واجتمع إليه المهاجرون والانصار؛ فقال: زفّوني! قالوا: بمن يا أمير المؤمنين؟ قال: بأمّ كلثوم. فإني سمعت رسول الله صلّى الله عليه وسلّم يقول: «كلّ سبب ونسب ينقطع يوم القيام إلا سببي ونسبي» ! وقد تقدمت لي صحبة، فأحببت أن يكون لي معها سبب.
فولدت له أمّ كلثوم زيد بن عمر، ورقية بنت عمر؛ وزيد بن عمر هو الذي لطم سمرة بن جندب عند معاوية إذا تنقّص عليا فيما يقال.
سلمان وعمر في ابنته
وخطب سلمان الفارسي إلى عمر ابنته، فوعده بها؛ فشق ذلك على عبد الله بن عمر، فلقي عمرو بن العاص فشكا ذلك إليه؛ فقال له: فأكفيكه! فلقي سلمان فقال(7/97)
له: هنيئا لك يا أبا عبد الله، أمير المؤمنين يتواضع لله عز وجل في تزويجك ابنته! فغضب سلمان وقال: لا، والله لا تزوجت إليه أبدا.
زواج بلال وأخيه
وخرج بلال بن رباح مؤذن رسول الله صلّى الله عليه وسلّم مع أخيه، إلى قوم من بني ليث، يخطب إليهم لنفسه ولأخيه، فقال: أنا بلال وهذا أخي، كنا ضالّين فهدانا الله، وكنا عبدين فأعتقنا الله، وكنا فقيرين فأغنانا الله؛ فإن تزوّجونا فالحمد لله، وإن تردّونا فالمستعان الله! قالوا: نعم وكرامة! فزوجوهما.
زواج عثمان من نائلة
قالت تماضر امرأة عبد الرحمن بن عوف لعثمان بن عفان: هل لك في ابنة عم لي، بكر جميلة، ممتلئة الخلق، اسيلة الخد «1» ، أصيلة الرأي، تتزوجها؟ قال: نعم.
فذكرت له نائلة بنت الفرافصة الكلبية، فتزوجها وهي نصرانية، فتحنّفت وحملت إليه من بلاد كلب، فلما دخلت عليه قال لها: لعلك تكرهين ما ترين من شيبي؟
قالت: والله يا أمير المؤمنين، إني من نسوة أحب ازواجهن إليهن الكهل! قال: إني قد جزت الكهول، وأنا شيخ! قالت: أذهبت شبابك مع رسول الله صلّى الله عليه وسلم في خير ما ذهبت فيه الاعمار! قال: أتقومين إلينا ام نقوم إليك؟ قالت: ما قطعت إليك أرض السماوة وأريد أن أنثني إلى عرض البيت! وقامت إليه: فقال: لها: انزعي ثيابك.
فنزعتها؛ فقال: حلي مرطك «2» . قالت: أنت وذاك.
قال أبو الحسن: فلم تزل نائلة عند عثمان حتى قتل؛ فلما دخل إليه وقته بيدها، فجذمت «3» أناملها، فأرسل إليها معاوية بعد ذلك يخطبها، فأرسلت إليه: ما ترجو من امرأة جذماء!(7/98)
وقيل: إنها قالت لما قتل عثمان: إني رأيت الحزن يبلى كما يبلى الثوب، وقد خشيت أن يبلى حزن عثمان من قلبي! فدعت بفهر فهتمت فاها، وقالت: والله لاقعد أحد مني مقعد عثمان أبدا!.
فاطمة بنت الحسين بن علي وابن عمرو
وكانت فاطمة بنت الحسين بن علي عند حسن بن حسن بن علي، فلما احتضر قال لبعض اهله: كأني بعبد الله بن عمرو بن عثمان بن عفان إذا سمع بموتي قد جاء يتهادى في ازار له مورد قد أسبله، فيقول: جئت أشهد ابن عمي، وليس يريد إلا النظر إلى فاطمة، فإذا جاء فلا يدخلنّ! قال: فو الله ما هو إلا أن أغمضوه، فجاء عبد الله بن عمرو في تلك الصفة التي وصفها، فمنع ساعة؛ فقال بعض القوم: لا يدخل: وقال بعضهم: افتحوا له، فإن مثله لا يردّ. ففتحوا له، ودخل؛ فلما صرنا إلى القبر قامت عليه فاطمة تبكي، ثم اطلعت إلى القبر فجعلت تصكّ وجهها بيديها حاسرة؛ قال: فدعا عبد الله بن عمرو وصيفا له فقال: انطلق إلى هذه المرأة وقل لها:
يقرئك ابن عمّك السلام، ويقول لك: كفّي عن وجهك؛ فإن لنا به حاجة! فلما بلغها الرسالة أرسلت يديها فأدخلتهما في كميها حتى انصرف الناس.
فتزوجها عبد الله بن عمرو بعد ذلك، فولدت له محمد بن عبد الله؛ وكان يسمى المذهب، لجماله؛ وكانت ولدت من حسن بن حسن، عبد الله بن حسن الذي حارب أبو جعفر ولديه إبراهيم ومحمدا ابني عبد الله بن الحسن بن الحسن حتى قتلهما.
محمد بن عبد الله ابن عمرو
وعن سلمة بن محارب قال: ما رأيت قرشيا قط كان أكمل ولا اجمل من محمد بن عبد الله بن عمرو الذي ولدته فاطمة بنت الحسين.
وكانت له ابنة ولدها رسول الله صلّى الله عليه وسلم، وأبو بكر، وعمر، وعثمان، وعلي، وطلحة، والزبير: كانت امها خديجة بنت عثمان بن عروة بن الزبير وأم عروة أسماء(7/99)
بنت أبي بكر الصديق. وأم محمد فاطمة بنت الحسين بن فاطمة بنت رسول الله صلّى الله عليه وسلم، وأم فاطمة بنت الحسين أمّ إسحق بنت طلحة بن عبيد الله، وأم عبد الله بن عمرو بن عثمان سودة بنت عبد الله بن عمر بن الخطاب.
شريح والشعبي في نساء تميم
: وعن الهيثم بن عدي الطائي قال: حدثنا مجالد عن الشعبي قال: قال لي شريح: يا شعبي، عليك بنساء بني تميم، فإني رأيت لهن عقولا، قال: وما رأيت من عقولهن؟
قال: أقبلت من جنازة طهرا، فمررت بدورهم فإذا أنا بعجوز على باب دار، والى جنبها جارية كأحسن ما رأيت من الجواري، فعدلت فاستسقيت وما بي عطش؛ فقالت: أي الشراب احب اليك؟ فقلت: ما تيسّر. قالت: ويحك يا جارية! ائتيه بلبن؛ فإني أظن الرجل غريبا! قلت: من هذه الجارية؟ قالت: هذه زينب ابنة جرير، إحدى نساء حنظلة. قلت: فارغة هي أم مشغولة؟ قالت: بل فارغة. قلت:
زوّجينيها. قالت: إن كنت لها كفئا- ولم تقل كفوا، وهي لغة تميم- فمضيت إلى المنزل فذهبت لاقيل، فامتنعت مني القائلة؛ فلما صليت الظهر أخذت بأيدي اخواني من القرّاء الاشراف: علقمة، والاسود، والمسيب، وموسى بن عرفطة؛ ومضيت أريد عمها، فاستقبل فقال: يا أبا أمية، حاجتك؟ قلت: زينب بنت أخيك. قال: ما بها رغبة عنك! فأنكحنيها، فلما صارت في حبالي ندمت، وقلت: أي شيء صنعت بنساء بني تميم؟ وذكرت غلظ قلوبهن، فقلت: أطلّقها! ثم قلت: لا، ولكن أضمها إليّ، فإن رأيت ما أحب وإلا كان ذلك. فلو رأيتني يا شعبي وقد أقبل نساؤهم يهدينها حتى أدخلت عليّ، فقلت: إن من السّنة إذا دخلت المرأة على زوجها أن يقوم فيصلي ركعتين فيسأل الله من خيرها ويعوذ به من شرها. فصليت وسلمت، فإذا هي من خلفي تصلي بصلاتي، فلما قضيت صلاتي أتتني جواريها، فأخذن ثيابي وألبسنني ملحفة قد صبغت في عكر العصفر.
فلما خلا البيت دنوت منها فمددت يدي إلى ناحيتها، فقالت: على رسلك أبا أمية! كما أنت! ثم قالت:(7/100)
الحمد لله، أحمده وأستعينه، وأصلي على محمد وآله؛ اني امرأة غريبة لا علم لي بأخلاقك، فبيّن لي ما تحب فآتيه، وما تكره فأزدجر عنه ... وقالت: إنه قد كان لك في قومك منكح، وفي قومي مثل ذلك، ولكن إذا قضى الله امرا كان، وقد ملكت فاصنع ما أمرك الله به: إمساك بِمَعْرُوفٍ أَوْ تَسْرِيحٌ بِإِحْسانٍ
»
أقول قولي هذا وأستغفر الله لي ولك.
قال: فأحوجتني والله يا شعبي إلى الخطبة في ذلك الموضع، فقلت:
الحمد لله، أحمده وأستعينه، وأصلي على النبي وآله وأسلم، وبعد؛ فإنك قد قلت كلاما إن تثبتي عليه يكن ذلك حظّك، وإن تدعيه يكن حجة عليك؛ أحب كذا وأكره كذا، ونحن جميع فلا تفرقّي، وما رأيت من حسنة فانشريها، وما رأيت من سيئة فاستريها.
وقالت شيئا لم أذكره: كيف محبتك لزيارة الاهل؟ قلت: ما احب ان يملّني أصهاري! قالت: فمن تحب من جيرانك أن يدخل دارك آذن لهم، ومن تكرهه أكرهه؟ قلت: بنو فلان قوم صالحون، وبنو فلان قوم سوء.
قال: فبتّ يا شعبي بأنعم ليلة، ومكثت معي حولا لا أرى إلا ما أحب، فلما كان رأس الحول جئت من مجلس القضاء، فإذا بعجوز تأمر وتنهى في الدار! فقلت:
من هذه؟ قالوا: فلانة ختنك «2» . فسري عني ما كنت اجد، فلما جلست أقبلت العجوز فقالت: السلام عليك أبا أمية. قلت: وعليك السلام، من أنت؟ قالت: انا فلانة ختنك. قلت: قربك الله. قالت: كيف رأيت زوجتك؟ قلت خير زوجة.
فقال لي: أبا أمية، إن المرأة لا تكون أسوأ منها في حالتين: إذا ولدت غلاما، أو حظيت عند زوجها؛ فإن رابك ريب فعليك بالسوط؛ فو الله ما جاز الرجال في بيوتهم شرّا من المرأة المدللة. قلت: أما والله لقد أدّبت فأحسنت الادب، ورضت(7/101)
فأحسنت الرياضة. قالت: تحبّ ان يزورك ختانك؟ قلت! متى شاءوا. قال: فكانت تأتيني في رأس كل حول توصيني تلك الوصية.
فمكثت معي عشرين سنة لم أعتب عليها في شيء، الا مرة واحدة، وكنت لها ظالما: أخذ المؤذّن في الإقامة بعد ما صليت ركعتي الفجر، وكنت إمامى الحيّ، فإذا بعقرب تدب: فأخذت الإناء فأكفأته عليها؛ ثم قلت: يا زينب؛ لا تتحركي حتى آتي! فلو شهدتني يا شعبي وقد صليت ورجعت فإذا انا بالعقرب قد ضربتها، فدعوت بالسكت والملح؛ فجعلت امغث «1» أصبعها وأقرأ عليها بالحمد والمعوّذتين.
وكان لي جار من كندة يفزع امرأته ويضربها؛ فقلت في ذلك:
كنتم زعمتم أنها ظلمتكم ... كذبتم وبيت الله بل تظلمونها
فإن لا تعدّوا أمّها من نسائكم ... فإنّ أباها والد لن يشينها
وإنّ لها أعمام صدق وإخوة ... وشيخا إذا شئتم تأيّم دونها
قالت النوار: فإذا لا نشاء.
الفرزدق وأمة له
: وقال الفرزدق في امته الزنجية:
يا رب خود من بنات الزنج ... تنقل تنّورا شديد الوهج
أغير مثل القدح الخلنج ... يزداد طيبا بعد طول الهرج «2»
يعلي الهذلي وطلحة الطلحات
وعن الهيثم بن عدي: عن ابن عياش قال: حدثنا يعلى الهذلي قال: كنت بسجستان مع طلحة الطلحات، فلم أر أحدا كان أسخى منه ولا أشرف نفسا؛ فكتب إليّ عمي من البصرة: إني قد كبرت، ومالي كثير، وأكره أن أوكله غيرك فأقدم أزوّجك ابنتي وأصنع بك ما أنت أهله.(7/102)
قال: فخرجت على بغلة لي تركية، فأتيت البصرة في ثلاثين يوما، ووافيته في صلاة العصر، فوجدته قاعدا على دكانه، فسلمت عليه، فقال لي من أنت؟ قلت له:
ابن اخيك يعلي، قال: وأين ثقلك «1» ؟ قلت: تعجلت إليك حين أتاني كتابك وطربت نحوكم. قال: يابن اخي، أتدري ما قالت العرب؟ قلت: لا. قال: قالت العرب: شر الفتيان المفلس الطروب! قال: فقمت إلى بغلتي فأعددت سرجي عليها، فما قال لي شيئا، ثم قال: إلى أين؟ قلت: إلى سجستان! قال: في كنف الله.
قال: فخرجت فبتّ في الجسر، ثم ذكرت أم طلحة، فانصرفت أسأل عنها حتى أتيت منزلها- وكان طلحة أبرّ الناس بها- فقلت: رسول طلحة، فقالت ائذنوا له.
فدخلت، فقالت: ويحك! كيف ابني؟ قلت: على احسن حال. قالت: فلله الحمد! وإذا بعجوز قد تحدرت، قالت: فما جاء بك؟ قلت: كيت وكيت. قالت: يا جارية.
ائتني بأربعة آلاف درهم! ثم قالت: ائت عمك فابتن بابنته، ولك عندنا ما تحب! قلت: لا والله لا أعود إليه أبدا، قالت: يا جارية ائتني ببغلة رحالتي. ثم قالت، راوح بين هذه وبغلتك حتى تأتي سجستان. قلت: اكتبي بالوصاة بي والحالة التي استقبلتها. فكتبت بوجعها التي كانت فيه، وبعافية الله إياها، وبالوصاة بي؛ فلم تدع شيئا. ثم دفعت حتى أتيت سجستان، فأتيت باب طلحة، وقلت للحاجب: رسول صفية بنت الحرث. وأنا عابس باسر، فدخل؛ فخرج طلحة متوشّحا، وخلفه وصيف يسعى بكرسي، فقمت بين يديه، فقال: ويلك! كيف أمي؟ قلت: بأحسن حالة. قال: انظر كيف تقول؟ قلت: هذا كتابها. قال: فعرف الشواهد والعلامات، قلت: اقرأ كتاب وصيتها. قال: ويحك! ألم تأتني بسلامتها؟ حسبك! فأمر لي بخمسين ألف درهم، وقال لحاجبه: اكتبه في خاصة أهلي، قال: فو الله ما أتى عليّ الحول حتى تم لي مائة ألف.
قال ابن عياش: فقلت له: هل لقيت عمك بعد ذلك؟ قال لا والله ولا ألقاه أبدا.(7/103)
السلاماني وقريب له
وعن الهيثم بن عدي عن ابن عياش قال: اخبرني موسى السلاماني، مولى الحضرمي، وكان أيسر تاجر بالبصرة، قال: بينا أنا جالس إذ دخل عليّ غلام لي فقال: هذا رجل من أهل أمّك يستأذن عليك- وكانت أمه مولاة لعبد الرحمن بن عوف- فقلت: ائذن له. فدخل شاب حلو الوجه، يعرف في هيئته انه قرشي، في طمرين «1» . فقلت: من أنت يرحمك الله؟ قال: أنا عبد الحميد بن سهيل بن عبد الرحمن بن عوف الزهري، خال رسول الله صلّى الله عليه وسلّم. قلت: في الرحب والقرب. ثم قلت: يا غلام، برّه وأكرمه وألطفه، وأدخله الحمام، واكسه قميصا رقيقا، ومبطنا قوهيا، ورداء عمريا. وحذونا له نعلين حضرميين فلما نظر الشاب في عطفيه وأعجبته نفسه قال: يا هذا، ابغني أشرف أيّم بالبصرة أو أشرف بكربها! قلت: يابن أخي، معك مال؟ قال: أنا مال كما أنا! قلت: يابن أخي، كفّ عن هذا. قال: انظر ما أقوله لك! قلت: فإن أشرف ايّم بالبصرة هند ابنة أبي صفرة. أخت عشرة، وعمة عشرة، وحالها في قومها حالها. وأشرف بكر بالبصرة الملاة بنت زرارة بن اوفى الجرشي قاضي البصرة قال اخطبها علي. قلت: يا هذا، إن أباها قاضي البصرة! قال:
انطلق بنا إليه. فانطلقنا إلى المسجد فتقدم، فجلس الى القاضي، فقال له: من أنت يا بن أخي؟ قال له: عبد الحميد بن سهيل بن عبد الرحمن بن عوف خال رسول الله صلّى الله عليه وسلّم. قال مرحبا بك، ما حاجتك؟ قال: جئت خاطبا. قال: ومن ذكرت؟ قال:
الملاة ابنتك. قال: يا بن اخي، ما بها عنك رغبة. ولكنها امرأة يفتات عليها [في] أمرها، فاخطبها إلى نفسها. فقام إليّ، فقلت: ما صنعت؟ قال: قال كذا وكذا.
قلت: ارجع بنا ولا تخطبها. قال: اذهب بنا اليها. فدخلنا دار زرارة، فإذا دار فيها مقاصير، فاستأذنا على أمها، فلقيتنا بمثل كلام الشيخ، ثم قالت: وها هي في تلك الحجرة. قلت له: لا تأتها. قال: أليست بكرا؟ قلت: بلى. قال: ادخل بنا إليها.
فاستأذنا، فأذنت لنا، فوجدناها جالسة وعليها ثوب قوهي رقيق معصفر، تحته(7/104)
سراويل يرى منه بياض جسدها، ومرط قد جمعته على فخذيها، ومصحف على كرسي بين يديها. فأشرجت «1» المصحف ثم نحته، فسلمنا، فردّت، ثم رحبت بنا، ثم قالت: من أنت؟ قال: أنا عبد الحميد بن سهيل بن عبد الرحمن بن عوف الزهري خال رسول الله صلّى الله عليه وسلّم! ومدّ بها صوته، قالت: يا هذا؛ إنما يمدّ هذا الصوت للساسانيين! قال موسى: فدخل بعضي في بعض! ثم قالت: ما حاجتك؟ قال: جئت خاطبا. قالت: ومن ذكرت؟ قال: ذكرتك! قالت: مرحبا بك يا أخا اهل الحجاز، ما الذي بيدك؟ قال: لنا سهمان بخيبر اعطاناهما رسول الله صلّى الله عليه وسلّم- ومدّ بها صوته- وعين بمصر، وعين باليمامة، ومال باليمن. قالت: يا هذا، كل هذا عنا غائب، ولكن ما الذي يحصل بأيدينا منك؟ فإني أظنك تريد أن تجعلني كشاة عكرمة، أتدري من عكرمة؟ قال: لا. قالت: عكرمة بن ربعي. فإنه كان نشأ بالسواد، ثم انتقل الى البصرة وقد تغذي باللبن. فقال لزوجته: اشتري لنا شاة نحتلبها وتصنعين لنا من لبنها شرابا وكامخا. ففعلت وكانت عندهم الشاة إلى ان استحرمت «2» ، فقالت: يا جارية خذي بأذن الشاة وانطلقي بها إلى التيّاس. فانزي عليها! ففعلت فقال التياس: آخذ منك على المنزوة درهما! فانصرفت إلى سيدتها فأعلمتها. فقالت: إنما رأينا من يرحم ويعطي، وأما من يرحم ويأخذ فلم نره! ... ولكن يا أخا أهل المدينة، أردت أن تجعلني كشاة عكرمة. فلما خرجنا قلت له: ما كان أغناك عن هذا! قال: ما كنت أظن أن امرأة تجترىء على مثل هذا الكلام.
ابن علفة وعبد الملك
وعن الاصمعي قال: كان عقيل بن علّفة المري غيورا فخورا، وكان يصهر إليه خلفاء بني أمية، فخطب إليه عبد الملك بن مروان ابنته لبعض ولده، فقال: جنبني هجناء ولدك.(7/105)
ابن علفة وأولاده
وكان إذا خرج يمتار خرج بابنته الجرباء معه. فخرج مرة فنزلوا ديرا من أديرة الشام يقال له دير سعد، فلما ارتحلوا قال عقيل:
قضت وطرا من دير سعد وربّما ... علاء عرض ناطحنه بالجماجم «1»
ثم قال لابنه: أجز يا عميس. فقال:
فأصبحن بالموماة يحملن فتية ... نشاوى من الإدلاج ميل العمائم
ثم قال لابنته: يا جرباء أجيزي، فقالت:
كأنّ الري أسقاهم صرخديّة ... عقارا تمشّت في المطا والقوائم «2»
فقال لها: وما يدريك أنت ما نعت الخمر؟ ثم سل السيف وهض إليها، فاستغاثت بأخيها عميس، فانتزعه بسهم فأصاب فخذه، فبرك. ومضوا وتركوه حتى إذا بلغوا ادنى المياه قالوا لهم: إنا أسقطنا جزورا لنا فأدركوه. وخذوا معكم الماء! ففعلوا.
وإذا عقيل بارك وهو يقول:
إنّ بنيّ زمّلوني بالدّم ... من يلق أبطال الرّجال يكلم «3»
ومن يكن درء به يقوّم ... شنشنة أعرفها من أخزم
الشنشنة: الطبيعة. وأخزم: فحل كريم. وهذا مثل للعرب.
عبد الملك وابنة عبد الرحمن
الشيباني عن عوانة قال: خطب عبد الملك بن مروان ابنة عبد الرحمن بن الحارث ابن هشام، فأبت أن تتزوّجه. وقالت: والله لا تزوّجني أبو الذباب! فتزوجها يحيى بن الحكم. فقال عبد الملك: والله لقد تزوجت أفوه أشوه. فقال يحيى: أما إنها أحبت مني ما كرهت منك. وكان عبد الملك ردىء الفم يدمى فيقع عليه الذباب فسمي ابا الذباب.(7/106)
أخت أبي سفيان
وعن العتبي قال: خطب قريبة ابنة حرب أخت أبي سفيان بن حرب، اربعة عشر رجلا من أهل بدر، فأبتهم وتزوجت عقيل بن أبي طالب. قالت: إن عقيلا كان مع الأحبة يوم قتلوا، وإن هؤلاء كانوا عليهم! ولاحته يوما فقالت: يا عقيل، أين أخوالي؟ أين أعمامي؟ كأن أعناقهم أباريق الفضة! قال لها: إذا دخلت النار فخذي على يسارك.
زياد وسعيد بن العاص في ابنته
وكتب زياد إلى سعيد بن العاص يخطب إليه ابنته، وبعث إليه بمال كثير وهدايا؛ فلما قرأ الكتاب أمر حاجبه بقبض المال والهدايا، وأن يقسمها بين جلسائه؛ فقال الحاجب: إنّها أكثر من ظنك. قال سعيد: أنا أكثر منها! ثم وقّع إلى زياد في أسفل كتابه: كَلَّا إِنَّ الْإِنْسانَ لَيَطْغى أَنْ رَآهُ اسْتَغْنى
«1» .
الحسن ورجل يزوج ابنته
وقال رجل للحسن: إن لي بنية، فمن ترى أن أزوجها؟ قال: زوّجها ممن يتقي الله فإن أحبّها أكرمها، وإن أبغضها لم يظلمها.
عبد الملك وعمر بن عبد العزيز
وقال عبد الملك بن مروان، لعمر بن عبد العزيز: قد زوّجك أمير المؤمنين ابنته فاطمة، فقال عمر: وصلك الله يا أمير المؤمنين، فقد كفيت المسئلة، وأجزلت في العطية.
وقيل للحسن: فلان خطب إلينا فلانة. قال: أهو موسر من عقل ودين؟ قالوا:
نعم. قال: فزوّجوه.(7/107)
لحيوة بن شريح
وقال رجل لحيوة بن شريح: إني أريد أن أتزوج. فماذا ترى؟ قال: كم المهر؟
قال: مائة. قال: فلا تفعل؛ تزوّج بعشرة وأبق تسعين، فإن وافقتك ربحت التسعين، وإن لم توافقك تزوجت عشرا؛ فلا بد في عشرة نسوة من واحدة توافقك.
هبنقة القيسي وراغب في الزواج
وقال رجل: أردت النكاح فقلت: لاستشيرن أول من يطلع عليّ ثم أعمل برأيه؛ فكان أول من طلع هبنقة القيسي، وتحته قصبة؛ فقلت له: أريد النكاح، فما تشير [به] علي؟ قال: البكر لك، والثيب «1» عليك، وذات الولد لا تقربها واحذر جوادي لا ينفحك! «2» .
مكثر ومقل في زواج
وعن الاصمعي قال: أخبرني رجل من بني العنبر عن رجل من اصحابه وكان مقلّا؛ فخطب إليه مكثر من مال مقلّ من عقل، فشاور فيه رجلا يقال له ابو يزيد؛ فقال: لا تفعل، ولا تزوّج إلا عاقلا ديّنا؛ فإنه إن لم يكرمها لم يظلمها. ثم شاور رجلا آخر يقال له ابو العلاء، فقال له: زوّجه، فإن ما له لها وحمقه على نفسه.
فزوّجه، فرأى منه ما يكره في نفسه وابنته؛ وأنشده فقال:
ألهفي إذ عصيت أبا يزيد ... ولهفي إذا أطعت أبا العلاء
وكانت هفوة من غير ريح ... وكانت زلقة من غير ماء
زواج معبد بن خالد
المفضل بن محمد الضبي قال: اخبرني مسعر بن كدام عن معبد بن خالد الجدلي قال: خطبت امرأة من بني أسد في زمن زياد- وكان النساء يجلسن لخطّابهن- قال:(7/108)
فجئت لانظر إليها؛ وكان بيني وبيها رواق: فدعت بجفنة عظيمة من الثريد «1» مكللة باللحم، فأتت على آخرها وألقت العظام نقية، ثم دعت بشنّ عظيم مملوءة لبنا، فشربته حتى أكفأته على وجهه، وقالت: يا جارية ارفعي السجف «2» ، فإذا هي جالسة على جلد أسد، وإذا شابة جميلة؛ فقالت: يا عبد الله، أنا أسدة، من بني أسد، وعليّ جلد أسد، وهذا طعامي وشرابي؛ فعلام ترى؟ فإن أحببت أن تتقدم فتقدم، وإن أحببت أن تتأخر فتأخر! فقلت: أستخير الله في أمري وأنظر! قال: فخرجت ولم أعد!.
جارية لأمية وراغب في زواجها
قال: وحدثنا بعض اصحابنا ان جارية لأمية بن عبد الله بن خالد بن اسيد ذات ظرف وجمال، مرت برجل من بني سعد، وكان شجاعا فارسا، فلما رآها قال: طوبى لمن كانت له امرأة مثلك! ثم إنه أتبعها رسولا يسألها: ألها زوج؟ ويذكره لها؛ فقالت للرسول: ما حرفته؟ فأبلغه الرسول قولها: فقال: ارجع اليها فقل لها:
وسائلة ما حرفتي؟ قلت: حرفتي ... مقارعة الابطال في كلّ شارق
إذا عرضت لي الخيل يوما رأيتني ... أمام رعيل الخيل أحمي حقائقي
وأصبر نفسي حين لا حرّ صابر ... على ألم البيض الرّقاق البوارق
فأنشدها الرسول ما قال، فقالت له: ارجع اليه وقل له: انت أسد فاطلب لنفسك لبوة، فلست من نسائك! وأنشدت هذه الأبيات:
ألا إنما أبغي جوادا بماله ... كريما محيّاه قليل الصدائق
فتى همّه مذ كان خود كريمة ... يعانقها بالليل فوق النمارق «3»
ويشربها صرفا كميتا مدامة ... نداماه فيها كلّ خرق موافق «4»(7/109)
رجل بين زوجتين
يحيى بن عبد العزيز عن محمد بن الحكم عن الشافعي قال: تزوّج رجل امرأة حديثة على امرأة له قديمة، فكانت جارية الحديثة تمرّ على باب القديمة فتقول:
وما يستوي الرّجلان رجل صحيحة ... ورجل رمى فيها الزمان فشلت
ثم تعود فتقول:
وما يستوى الثوبان ثوب به البلى ... وثوب بأيدي البائعين جديد
فمرت جارية القديمة على الحديثة فأنشدت:
نقّل فؤادك حيث شئت من الهوى ... ما القلب إلا للحبيب الأوّل
كم منزل في الارض يألفه الفتى ... وحنينه أبدا لأوّل منزل
المغيرة وغلام حارثي
وعن الشعبي قال: سمعت المغيرة بن شعبة يقول: ما غلبني احد قط إلا غلام من بني الحارث بن كعب، وذلك اني خطبت امرأة من بني الحارث، وعندي شاب منهم، فأصغى إليّ فقال: أيها الامير، لا خير لك فيها! قلت: يا ابن اخي ومالها؟ قال: إني رأيت رجلا يقبّلها! قال: فبرئت منها؛ فبلغني أن الفتى تزوجها قلت: ألم تخبرني انك رأيت رجلا يقبّلها؟ قال: بلى رأيت أباها يقبلها.
أبو سعيد وابن سيرين في الزواج
أبو سعيد قال: صحبت ابن سيرين عشرين سنة، فقال لي يوما: يا أبا سعيد إن تزوجت فلا تتزوج امرأة تنظر في يدها، ولكن تزوج امرأة تنظر في يدك.(7/110)
صفات النساء وأخلاقهن
لعبدة بن الطبيب
قال أبو عمرو بن العلاء: أعلم الناس بالنساء عبدة بن الطبيب حيث يقول:
فإن تسألوني بالنساء فإنني ... عليم بأدواء النساء طبيب
إذا شاب رأس المرء أو قلّ ماله ... فليس له في ودّهنّ نصيب
يردن ثراء المال حيث علمنه ... وشرخ الشباب عندهنّ عجيب
وهذه الابيات لعلقمة بن عبدة المعروف بالفحل وأول القصيدة:
طحا بك قلب في الحسان طروب
لمعاذ بن جبل
وعن رجاء بن حيوة عن معاذ بن جبل قال: إنكم ابتليتم بفتنة الضراء فصبرتم وإني اخاف عليكم فتنة السراء؛ وهي النساء، اذا تحلين بالذهب، ولبسن ريط الشام وعصب اليمن، فأتعبن الغني، وكلّفن الفقير ما لا يطاق.
وقال عبد الملك بن مروان، من أراد ان يتخذ جارية للمتعة فليتخذها بربرية ومن أراد للولد فليتخذها فارسية، ومن أراد للخدمة فليتخذها رومية.
لابن هبيرة
وعن أبي الحسن المدائني قال: قال يزيد بن عمر بن هبيرة: اشتروا لي جارية شقّاء مقّاء رسحاء، بعيدة ما بين المنكبين، ممسوحة الفخذين.
قوله: شقاء: يريد كأنها شقة جبل؛ مقاء: طويلة؛ رسحاء: صغيرة العجيزة، أرادها للولد، لان الارسح أفرس من العظيم العجيزة.
وقال عمر بن هبيرة لرجل: ما أنت بعظيم الرأس فتكون سيدا، ولا بأرسح فتكون فارسا.(7/111)
وقال الاصمعي وذكر النساء: بنات العم اصبر، والغرائب انجب، وما ضرب رؤس الابطال كابن الاعجمية.
يونس ومستشير له في زواج
أبو حاتم عن الاصمعي عن يونس بن مصعب عن عثمان بن ابراهيم بن محمد قال:
أتاني رجل من قريش يستشيرني في امرأة يتزوجا، فقلت: يا ابن أخي، أقصيرة النسب أو طويلته؟ فلم يفهم عني؛ فقلت: يا ابن اخي، إني اعرف في العين إذا عرفت، وأنكر فيها إذا انكرت، واعرف فيها إذا لم تعرف ولم تنكر، أما إذا عرفت فتتحاوص «1» ، واما اذا انكرت فتجحظ «2» ، واما اذا لم تعرف ولم تنكر فتسجو؛ وقد رأيت عينك ساجية؛ فالقصيرة النسب التي إذا ذكرت أباها اكتفت به، والطويلة النسب التي تعرف حتى تطيل في نسبتها؛ فإياك أن تقع في قوم قد أصابوا كثيرا من الدنيا مع دناءة فيهم؛ فتضيع نفسك فيهم.
الوليد وعقائله
وعن العتبي قال كان عند الوليد بن عبد الملك اربع عقائل: لبابة بنت عبد الله بن عباس، وفاطمة بنت يزيد بن معاوية، وزينب بنت سعيد بن العاص، وأمّ جحش بنت عبد الرحمن بن الحرث؛ فكنّ يجتمعن على مائدته ويفترقن فيفخرن فاجتمعن يوما، فقالت لبابة: اما والله إنك لتسويني بهنّ وانك تعرف فضلي عليهن! وقالت بنت سعيد: ما كنت ارى أن للفخر عليّ مجازا، وانا ابنة ذي العمامة إذ لا عمامة غيرها! وقالت بنت عبد الرحمن بن الحارث: ما احبّ بأبي بدلا، ولو شئت لقلت فصدقت وصدّقت! وكانت بنت يزيد بن معاوية جارية حديثة السن، فلم تتكلم؛ فتكلم عنها الوليد فقال نطق من احتاج إلى نفسه، وسكت من اكتفى بغيره؛ اما والله لو(7/112)
شاءت لقالت: أنا ابنة قادتكم في الجاهلية، وخلفائكم في الاسلام! فظهر الحديث حتى تحدّث به في مجلس ابن عباس، فقال: الله اعلم حيث يجعل رسالته.
للحجاج في نسوته
الشيباني عن عوانة قال: ذكر النساء عند الحجاج، فقال عندي أربع نسوة: هند بنت المهلب، وهند بنت اسماء بن خارجة، وأم الجلاس بنت عبد الرحمن بن أسيد، وأمة الرحمن بنت جرير بن عبد الله البجلي. فأما ليلتي عند هند بنت المهلب فليلة فتى بين فتيان، يلعب ويلعبون؛ وأما ليلتي عند هند بنت اسماء فليلة ملك بين الملوك؛ وأما ليلتي عند ام الجلاس فليلة اعرابي مع اعراب في حديثهم وأشعارهم. وأما ليلتي عند امة الرحمن بنت جرير فليلة عالم بين العلماء والفقهاء.
أبو الحر المخنث
وعن العتبي قال: حدثني رجل من أهل المدينة قال: كان بالمدينة مخنث يدلّ على النساء، يقال له أبو الحر، وكان منقطعا إليّ، فدلني على غير ما امرأة أتزوجها، فلم أرض عن واحدة منهن، فاستقصرته يوما، فقال: والله يا مولاي لادلنّك على امرأة لم تر مثلها قط، فإن لم ترها كما وصفت فاحلق لحيتي! فدلني على امرأة، فتزوجتها، فلما زفت إلي وجدتها اكثر مما وصف، فلما كان في السحر إذا انسان يدق الباب، فقلت:
من هذا قال: أبو الحر، وهذا الحجّام «1» معه فقلت: قد وفر الله لحيتك أبا الحر، الأمر كما قلت!.
للرسول صلّى الله عليه وسلّم في مخنث
ابن بكير عن مالك بن هشام بن عروة عن أبيه: ان مخنّثا كان عند أم سلمة زوج النبي صلّى الله عليه وسلّم، فقال لعبد الله بن ابي امية ورسول الله صلّى الله عليه وسلّم يسمع: أبا عبد الله، إن(7/113)
فتح الله لكم الطائف غدا فأنا أدلّك على بنت غيلان فإنها تقبل بأربع، وتدبر بثمان! فقال رسول الله صلّى الله عليه وسلّم: لا يدخل عليكن هؤلاء.
قوله: تقبل بأربع وتدبر بثمان، يريد عكن «1» البطن، أنها إذا أقبلت أربع، وإذا أدبرت ثمان.
وضرب البعث على رجل من اهل الكوفة، فخرج إلى اذربيجان، فاقتاد جارية وفرسا، وكان مملكا بابنة عمه، فكتب إليها ليغيرها:
ألا أبلغوا أمّ البنين بأننا ... غنينا وأغنتنا الغطارفة المرد «2»
بعيد مناط المنكبين إذا جرى ... وبيضاء كالتمثال زيّنها العقد
فهذا لأيام العدوّ، وهذه ... لحاجة نفسي حين ينصرف الجند
فلما ورد كتابه قرأته وقالت: يا غلام، هات الدواة. فكتبت إليه تجيبه:
ألا أقره السلام وقل له ... غنينا- ففيقوا- بالغطارفة المرد
بحمد أمير المؤمنين أقرّهم ... شبابا- وأغزاكم- خوالف في الجند
إذا شئت غنّاني غلام مرجّل ... ونازعته من ماء معتصر الورد
وإن شاء منهم ناشىء مدّ كفّه ... إلى كبد ملساء أو كفل نهد «3»
فما كنتم تقضون من حاج أهلكم ... شهودا، قضيناها على النّأي والبعد «4»
فلما ورد كتابها، لم يزد على أن ركب فرسه وأردف الجارية، والحق بها، فكان اول شيء بدأ لها به السلام أن قال: بالله هل كنت فاعلة؟ قالت: الله اجل في قلبي وأعظم، وأنت في عيني أذلّ وأحقر من أن أعصى الله فيك! فكيف ذقت طعم الغيرة؟ فوهب لها الجارية وانصرف إلى بعثه.(7/114)
معاوية وابن صوحان
وقال معاوية لصعصعة بن صوحان: أي النساء أشهى إليك؟ قال: المواتية لك فيما تهوى. قال: فأيهنّ أبغض؟ قال: أبعدهنّ مما ترضى. قال: هذا النقد العاجل. فقال صعصعة: بالميزان العادل.
وقال صعصعة لمعاوية: يا أمير المؤمنين، كيف ننسبك إلى العقل وقد غلب عليك نصف إنسان! يريد غلبة امرأته فاختة بنت قرظة عليه؛ فقال معاوية: إنهنّ يغلبن الكرام ويغلبهنّ اللئام!.
جرير البجلي وابن الخطاب
وعن سفيان بن عيينة قال: شكا جرير بن عبد الله البجلي الى عمر بن الخطاب ما يلقى من النساء، فقال: لا عليك؛ فإن التي عندي ربما خرجت من عندها فتقول: إنما تريد أن تتصنع لقيان بني عدي.
فسمع كلامهما ابن مسعود، فقال: لا عليكما، فإن ابراهيم الخليل شكا إلى ربه رداءة في خلق سارة، فأوحى الله إليه: أن البسها على لباسها ما لم ترد في دينها وصمة. فقال عمر: إن بين جوانحك لعلما.
الحجاج وابن القرية
وكتب الحجاج إلى أيوب بن القرية: أن اخطب على عبد الملك بن الحجاج امرأة جميلة من بعيد، مليحة من قريب، شريفة في قومها ذليلة في نفسها، مواتية لبعلها.
فكتب إليه: قد أصبتها لولا عظم ثدييها. فكتب إليه: لا يكمل حسن المرأة حتى يعظم ثدياها، فتدفيء الضجيع، وتروي الرضيع.
ابو العباس وابن صفوان
وقال أبو العباس امير المؤمنين لخالد بن صفوان: يا خالد، إن الناس قد أكثروا(7/115)
في النساء؛ فأيهنّ أعجب إليك؟ قال: أعجبهنّ يا أمير المؤمنين التي ليست بالضّرع الصغير، ولا الفانية الكبير، وحسبك من جمالها ان تكون فخمة من بعيد، مليحة من قريب، اعلاها قضيب، وأسفلها كثيب، كانت في نعمة ثم أصابتها فاقة، فأترفها الغنى وأدّبها الفقر.
ابن صفوان وامرأة
ونظر خالد بن صفوان إلى جماعة في المسجد بالبصرة، فقال ما هذه الجماعة؟
قالوا: على امرأة تدلّ على النساء. فأتاها فقال لها: ابغني امرأة. قالت: صفها لي.
قال: أريدها بكرا كثيّب، أو ثيّبا كبكر، حلوة من قريب، فخمة من بعيد؛ كانت في نعمة فأصابتها فاقة، فمعها أدب النعمة وذل الحاجة، فإذا اجتمعنا كنا أهل دنيا، وإذا افترقنا كنا اهل آخرة. قالت: لقد أصبتها لك. قال: وأين هي؟ قالت: في الرفيف الاعلى من الجنة فاعمل لها!.
لأعرابي في النساء
وسئل اعرابي في النساء، وكان ذا تجربة وعلم بهنّ؛ فقال: أفضل النساء أطولهن إذا قامت، واعظمهن إذا قعدت، وأصدقهن إذا قالت؛ التي إذا غضبت حلمت، وإذا ضحكت تبسمت، وإذا صنعت شيئا جوّدت؛ التي تطيع زوجها، وتلزم بيتها؛ العزيزة في قومها، الذليلة في نفسها، الودود الولود، وكل أمرها محمود.
غطفاني وعبد الملك
وقال عبد الملك بن مروان لرجل من غطفان: صف لي أحسن النساء. فقال:
خذها يا أمير المؤمنين ملساء القدمين، ردماء «1» الكعبين، مملوءة الساقين، جماء الركبتين، لفّاء الفخذين، مقرمدة الرفغين «2» ، ناعمة الاليتين، منيفة المأكمتين «3» ،(7/116)
فعمة العضدين، فخمة الذراعين، رخصة الكفين، ناهدة الثديين، حمراء الخدين، كحلاء العينين، زجّاء الحاجبين، لمياء الشفتين، بلجاء الجبين، شمّاء العرنين «1» شنباء الثغر، حالكة الشعر، غيداء العنق، عيناء العينين، مكسّرة البطن، ناتئة الركب.
فقال: ويحك! وأنّى توجد هذه؟ قال: تجدها في خالص العرب، او في خالص الفرس.
وقال رجل لخاطب: ابغني امرأة لا تؤنس جارا، ولا توهن دارا، ولا تثقب نارا.
يريد: لا تدخل على الجيران، ولا يدخل عليها الجيران، ولا تغري بينهم بالشر.
وفي نحو هذا يقول الشاعر:
من الاوانس مثل الشمس لم يرها ... في ساحة الدار لا بعل ولا جار
وقال الاعشى:
لم تمش ميلا ولم تركب على جمل ... ولا ترى الشمس إلا دونها الكلل
وقال آخر:
ابغني امرأة بيضاء مديدة، فرعاء جعدة؛ تقوم فلا يصيب قميصها منها إلا مشاشة منكبيها، وحلمتي ثدييها، ورانفتي أليتيها.
وقال الشاعر:
أبت الروادف والثّديّ لقمصها ... مسّ البطون وأن تمسّ ظهورا
وإذا الرّياح مع العشيّ تناوحت ... نبّهن حاسدة وهجن غيورا
ولآخر:
إذا انبطحت فوق الاثافي رفعنها ... بثديين في نحر عريض وكعثب «2»(7/117)
ونظر عمران بن حطان إلى امرأته، وكانت من أجمل النساء وكان من أقبح الرجال؛ فقال: إني وإياك في الجنّة إن شاء الله! قالت له: كيف ذاك؟ قال: إني أعطيت مثلك فشكرت، وأعطيت مثلي فصبرت.
من أخبار عائشة بنت طلحة
ونظر ابو هريرة إلى عائشة بنت طلحة؛ فقال: سبحان الله! ما احسن ما غذاك اهلك! والله ما رأيت وجها أحسن منك، إلا وجه معاوية على منبر رسول الله صلّى الله عليه وسلم.
وكان معاوية من احسن الناس وجها.
ونظر ابن أبي ذئب إلى عائشة بنت طلحة تطوف بالبيت، فقال لها: من أنت؟
فقالت:
من اللاء لم يحججن يبغين حسبة ... ولكن ليقتلن البريء المغفّلا
فقال لها: صان الله ذلك الوجه عن النار! فقيل له: أفتنتك أبا عبد الله؟ قال: لا، ولكن الحسن مرحوم.
وقال يونس: اخبرني محمد بن إسحاق، قال: دخلت على عائشة بنت طلحة، فوجدتها متكئة ولو ان بختية «1» نوخت خلفها ما ظهرت! السرّي بن إسماعيل عن الشعبي، قال: إني لفي المسجد نصف النهار، إذ سمعت باب القصر يفتح؛ فإذا بمصعب بن الزبير ومعه جماعة، فقال: يا شعبي اتبعني.
فاتبعته؛ فأتى دار موسى بن طلحة، فدخل مقصورة، ثم دخل اخرى، ثم قال: يا شعبي اتبعني؛ فاتبعته؛ فإذا امرأة جالسة، عليها من الحليّ والجواهر ما لم أر مثله، ولهي أحسن من الحلي الذي عليها؛ فقال: يا شعبيّ، هذه ليلى التي يقول فيها الشاعر:
وما زلت من ليلى لدن طرّ شاربي ... إلى اليوم أخفي حبّها وأداجن «2»
وأحمل في ليلى لقوم ضغينة ... وتحمل في ليلى عليّ الضّغائن»(7/118)
هذه عائشة ابنة طلحة، فقالت له: أما إذ جلوتني عليه فأحسن إليه! فقال: يا شعبي، رح العشية [الى المسجد] فرحت، فقال: يا شعبي، ما ينبغي لمن جليت عليه عائشة بنت طلحة أن ينقص عن عشرة آلاف، فأمر لي بها! وبكسوة، وقارورة غالية، فقيل للشعبي في ذلك اليوم: كيف الحال! قال: وكيف حال من صدر عن الامير ببدرة، وكسوة، وقارورة غالية، ورؤية وجه عائشة بنت طلحة.
زواج عمرو بن حجر من بنت عوف
وكان عمرو بن حجر ملك كندة- وهو جد امريء القيس- أراد ان يتزوج ابنة عوف بن محلّم الشيباني، الذي يقال فيه: «لا حرّ بوادي عوف» لإفراط عزه، وهي أم إياس، وكانت ذات جمال وكمال؛ فوجه إليها امرأة يقال لها عصام، لتنظر إليها وتمتحن ما بلغه عنها: فدخلت على امها امامة ابنة الحرث: فأعلمتها ما قدمت له، فأرسلت إلى ابنتها [فقالت] : أي بنية، هذه خالتك أتت إليك لتنظر إلى بعض شأنك؛ فلا تستري عنها شيئا ارادت النظر اليه، من وجه وخلق، وناطقيها فيما استنطقتك فيه. فدخلت عصام عليها، فنظرت إلى ما لم تر عينها مثله قطّ، بهجة وحسنا وجمالا، وإذا هي أكمل الناس عقلا، وأفصحهم لسانا؛ فخرجت من عندها وهي تقول: «ترك الخداع من كشف القناع» . فذهبت مثلا، ثم اقبلت إلى الحرث، فقال لها: «ما وراءك يا عصام» ؟ فأرسلها مثلا. قالت: «صرّح المخض عن الزبد» . فذهبت مثلا. قال: أخبريني: قالت أخبرك صدقا وحقا:
رأيت جبهة كالمرآة الصقيلة، يزينها شعر حالك كأذناب الخيل المضفورة، إن أرسلته خلته السلاسل، وإن مشطته قلت عناقيد كرم جلالها الوابل، ومع ذلك حاجبان كأنهما خطّا بقلم، أو سوّدا بحمم، قد تقوّسا على مثل عين العبهرة «1» التي لم يرعها قانص ولم يذرعها قسورة، بينهما أنف كحد السيف الصمقول، لم يخنس به قصر، ولم يمعن به طول، حفّت به وجنتان كالأرجوان، في بياض محض كالجمان،(7/119)
شق فيه فم كالخاتم، لذيذ المبتسم، فيه ثنايا غرّ، ذوات أشر، وأسنان تبدو كالدر، وريق كالخمر، له نشر الروض بالسحر، يتقلب فيه لسان ذو فصاحة وبيان، يقلّبه به عقل وافر، وجواب حاضر، تلتقي دونه شفتان حمراوان كالورد، يجلبان ريقا كالشهد، تحت ذاك عنق كإبريق الفضة، ركّب في صدر تمثال دمية يتصل به عضدان ممتلئان لحما، مكتنزان شحما، وذراعان ليس فيهما عظم يحس، ولا عرق يجس، ركبت فيهما كفان دقيق قصبهما، ليّن عصبهما، تعقد إن شئت منهما الانامل، وتركّب الفصوص في حفر المفاصل، وقد تربع في صدرها حقان كأنهما رمانتان، [يخرقان عليها نيابها] ، من تحته بطن طوي كطيّ الطباطيّ المدمجة، كسى عكنا كالقراطيس المدرجة، تحيط تلك العكن بسرّة كمدهن العاج المجلوّ، كسى عكنا كالقراطيس المدرجة، تحيط تلك العكن بسرّة كمدهن العاج المجلوّ، خلف ذلك ظهر كالجدول ينتهي الى خصر لولا رحمة الله لا نخزل، تحته كفل يقعدها إذا نهضت، وينهضها إذا قعدت، كأنه دعص «1» رمل، لبّده سقوط الطل، يحمله فخذان لفاوان، كأنهما نضيد الجمان، تحملها ساقان خدلّجتان «2» كالبردى وشّيتا بشعر أسود، كأنه حلق الزرد، ويحمل ذلك قدمان كحذو اللسان، تبارك الله، مع صغرهما كيف تطيقان حمل ما فوقهما، فأما ما سوى ذلك فتركت أن أصفه غير أنه أحسن ما وصفه واصف بنظم أو نثر.
قال: فأرسل إلى أبيها يخطبها، فكان من أمرهما ما تقدّم ذكره في صدر هذا الكتاب.
صفة المرأة السوء
قال النبي صلّى الله عليه وسلم: «إياكم وخضراء الدّمن» . يريد الجارية الحسناء في المنبت السوء.(7/120)
وفي حكمة داود: «المرأة السوء مثل شرك الصياد، لا ينجو منها إلا من رضي الله عنه» .
الأصمعي عن أبي عمرو بن العلاء قال: قال عمر بن الخطاب: النساء ثلاثة: هينة عفيفة مسلمة، تعين أهلها على العيش ولا تعين العيش على اهلها. واخرى وعاء للولد. وثالثة غل قمل يلقيه الله في عنق من يشاء من عباده.
وقيل لاعرابي عالم بالنساء: صف لنا شر النساء. قال شرّهنّ النحيفة الجسم القليلة اللحم، الطويلة السقم، المحياض الممراض الصفراء، المشئومة العسراء، السليطة الذّفراء، السريعة الوثبة، كأن لسانها حربة، تضحك من غير عجب، وتقول الكذب، وتدعو على زوجها بالحرب، أنف في السماء، واست في الماء.
وفي رواية محمد بن عبد السلام الخشني قال: إياك وكل امرأة مذكرة منكرة، حديدة العرقوب «1» ؛ بادية الظّنبوب «2» ، منتفخة الوريد، كلامها وعيد، وصوتها شديد؛ تدفن الحسنات، وتفشي السيئات؛ تعين الزمان على بعلها، ولا تعين بعلها على الزمان؛ ليس في قلبها له رأفة، ولا عليها منه مخافة؛ إن دخل خرجت، وان خرج دخلت، وإن ضحك بكت، وإن بكى ضحكت؛ وإن طلقها كانت حرفته، وإن أمسكها كانت مصيبته؛ سفعاء ورهاء «3» ، كثيرة الدعاء قليلة الإرعاء، تأكل لمّا، وتوسع ذما؛ صخوب غضوب، بذيّة دنية؛ ليس تطفأ نارها، ولا يهدأ إعصارها؛ ضيقة الباع، مهتوكة القناع، صبيها مهزول؛ وبيتها مزبول، إذا حدثت تشير بالاصابع، وتبكي في المجامع، بادية من حجابها، نباحة على بابها، تبكي وهي ظالمة، وتشهد وهي غائبة، قد دلّي لسانها بالزور، وسال دمعها بالفجور.
ابن قتيبة بين امرأة وزوجها
نافرت امرأة فضالة زوجها إلى مسلم بن قتيبة، وهو والي خراسان فقالت: أبغضه(7/121)
والله لخلال فيه. قال: وما هي؟ قالت: قليل الغير، سريع الطيرة، شديد العتاب، كثير الحساب، قد أقبل بخره، وأدبر ذفره، وهجمت عيناه، واضطربت رجلاه، يفيق سريعا، وينطق رجيعا، يصبح حلسا، ويمسي رجسا، إن جاع جزع، وإن شبع جشع.
ومن صفة المرأة السوء يقال: امرأة سمعنّة نظرنّة؛ وهي التي إذا تسمّعت أو تبصّرت فلم تر شيئا تظنّته تظنّيا.
قال أعرابي:
إنّ لنا لكنّه ... سمعنّة نظرنّه
معنّة مفنّه ... كالرّيح حول القنّه
إلّا تره تظنّه
وقال يزيد بن عمر بن هبيرة: لا تنكحنّ برشاء، ولا عمشاء، ولا وقصاء «1» ، ولا لثغاء؛ فيجيئك ولد ألثغ؛ فو الله لولد أعمى أحبّ من ولد ألثغ.
وقال: آخر عمر الرجل خير من أوّله؛ يثوب حلمه، وتثقل حصاته، وتحمد سريرته، وتكمل تجاربه، وآخر عمر المرأة شر من أوله؛ يذهب جمالها، ويذرب لسانها، وتعقم رحمها، ويسوء خلقها.
وعن جعفر بن محمد عليهما السلام: إذا قال لك احد: تزوجت نصفا؛ فاعلم ان شر النصفين ما بقي في يده! وأنشد:
وإن أتوك وقالوا إنها نصف ... فإنّ أطيب نصفيها الذي ذهبا
وقال الحطيئة في امرأته:
أطوّف ما أطوّف ثم آوي ... إلى بيت قعيدته لكاع «2»(7/122)
وقال في أمّه:
تنحّي فاجلسي منّي بعيدا ... أراح الله منك العالمينا
أغربالا إذا استودعت سرّا ... وكانونا على المتحدّثينا
حياتك ما علمت حياة سوء ... وموتك قد يسرّ الصالحينا
وقال زيد بن عمير في أمته:
أعاتبها حتى إذا قلت اقلعت ... أبى الله إلّا خزيها فتعود
فإن طمثت قادت وإن طهرت زنت ... فهي أبدا يزنى بها وتقود
علامة الحب والبغض
ويقال: إن المرأة إذا كانت مبغضة لزوجها، فعلامة ذلك ان تكون عند قربه منها مرتدة الطرف عنه، كأنها تنظر إلى انسان غيره؛ وإذا كانت محبة له، لا تقلع عن النظر إليه.
وقال آخر يصف امرأة لثغاء:
أوّل ما أسمع منها في السّحر ... تذكيرها الأنثى وتأنيث الذكر
والسوءة السوءاء في ذكر القمر
ولآخر في زوجته:
لقد كنت محتاجا إلى موت زوجتي ... ولكن قرين السّوء باق معمّر
فياليتها صارت إلى القبر عاجلا ... وعذّبها فيه نكير ومنكر
عبد الملك وابن زنباع
كان روح بن زنباع أثيرا عند عبد الملك، فقال له يوما: أرأيت امرأتي العبشمية؟
قال: نعم. قال: بماذا شبهتها؟ قال: بمشجب بال قد أسىء صنعه. قال: صدقت، وما صنعت يدي عليها قط إلا كأني وضعتها على الشّكاعي «1» ، وأنا أحب أن تقول ذلك(7/123)
إلى ابنيها الوليد وسليمان! فقام إليه فزعا فقبل يده ورجله، وقال: أنشدك الله يا أمير المؤمنين، أن لا تعرّضني لهما! قال: ما من ذلك بد! وبعث من يدعوهما؛ فاعتزل روح وجلس ناحية من البيت؛ فقال لهما [عبد الملك] : أتدريان لم بعثت إليكما؟ إنما بعثت لتعرفا لهذا الشيخ حقّه وحرمته! ثم سكت.
ابن زنباع وزوجه
أبو الحسن المدائني: كان عند روح بن زنباع، هند بنت النعمان بن بشير، وكان شديدة الغيرة، فأشرفت يوما تنظر إلى وفد جذام [إذ] كانوا عنده، فزجرها؛ فقال: والله إني لابغض الحلال من جذام؛ فكيف تخافي على الحرام فيهم.
وقالت له يوما: عجبا منك! كيف يسودك قومك؛ وفيك ثلاث خلال: أنت من جذام. وأنت جبان. وأنت غيور؟ فقال لها: اما جذام فإني في ارومتها، وحسب الرجل ان يكون في ارومة قومه؛ وأما الجبن فإني مالي إلا نفس واحدة، فأنا احوطها؛ فلو كانت لي نفس اخرى جدت بها؛ واما الغيرة فأمر لا أريد ان أشارك فيه، وحقيق بالغيرة من كانت عنده حمقاء مثلك، مخافة أن تأتيه بولد من غيره فتقذفه في حجره! فقالت:
وهل هند إلّا مهرة عربيّة ... سليلة أفراس تجلّلها بغل
فإن أنجبت مهرا عريقا فبالحرى ... وإن يك إقراف فما أنجب الفحل
رجل وامرأة تخطب له
وعن الاصمعي قال: قال ابو موسى: جاءت امرأة إلى رجل تدله على امرأة يتزوجها، فقال:
أقول لها لمّا أتتني تدلّني ... على امرأة موصوفة بجمال
أصبت لها والله زوجا كما اشتهت ... إن احتملت منه ثلاث خصال
فمنهنّ عجز لا ينادي وليده ... ورقّة إسلام وقلّة مال(7/124)
صفة الحسن
عن ابي الحسن المدائني قال: الحسن أحمر، وقد تضرب فيه الصفرة مع طول المكث في الكن «1» والتضمّخ بالطيب، كما تضرب بيضة الادحيّ واللؤلؤة المكنونة؛ وقد شبه الله عز وجل في كتابه فقال: كَأَنَّهُنَّ بَيْضٌ مَكْنُونٌ
«2» .
وقال الشاعر:
كأنّ بيض نعام في ملاحفها ... إذا اجتلاهنّ قيظ ليله ومد
وقال آخر:
مروزيّ الأديم تغمره الصّف ... رة حينا لا يستحق اصفرار
وجرى من دم الطبيعة فيه ... لون ورد كسا البياض احمرار
وقالت امرأة خالد بن صفوان له: لقد أصبحت جميلا! فقال لها: وما رأيت من جمالي، وما فيّ رداء الحسن ولا عموده ولا برنسه؟ قالت: وكيف ذلك؟ قال: عمود الحسن الشّطاط «3» ، ورداؤه البياض، وبرنسه سواد الشعر.
وقالوا: إن الوجه الرقيق البشرة الصافي الاديم، إذا خجل يحمرّ وإذا فرق يصفر.
ومنه قولهم: ديباج الوجه؛ يريدون تلوّنه.
وقال عديّ بن زيد يصف لون الوجه:
حمرة خلطت صفرة في بياض ... مثل ما حاك حائك ديباجا «4»
وقال: إن الجارية الحسناء تتتلون بلون الشمس، فهي بالضحى بيضاء، وبالعشي صفراء.(7/125)
وقال الشاعر:
بيضاء ضحوتها وصف ... راء العشيّة كالعراره «1»
وقال ذو الرمة:
بيضاء صفراء قد تنازعها ... لونان من فضة ومن ذهب
ومن قولنا:
بيضاء يحمرّ خدّاها إذا خجلت ... كما جرى ذهب في صفحتي ورق
ومن قولنا:
ما إن رأيت ولا سمعت بمثله ... درّا يعود من الحياء عقيقا
ومن قولنا:
كم شادن لطف الحياء بوجهه ... فأصاره وردا على وجناته
ومن قولنا:
عقائل كالآرام أما وجوهها ... فدرّ ولكنّ الخدود عقيق
ومن قولهم في الجارية
جميلة من بعيد، مليحة من قريب؛ فالجميلة التي تأخذ بصرك جملة على بعد، فإذا دنت لم تكن كذلك؛ والمليحة التي كلما كرّرت فيها بصرك زادتك حسنا.
وقال بعضهم: الجميلة السمينة، من الجميل، وهو الشحم، والمليحة أيضا من الملحة، وهو البياض، والصبيحة مثل ذلك، يشبهونا بالصبح في بياضه.(7/126)
المنجبات من النساء
قالوا: أنجب النساء الفروك «1» ، وذلك أن الرجل يغلبها على الشبق، لزهدها في الرجل.
أبو حاتم عن الأصمعي قال: النجيبة التي تنزع بالولد إلى أكرم العرقين.
وقال عمر بن الخطاب: يا بني السائب، إنكم قد أضويتم «2» ، فانكحوا في النزائع «3» .
وقالت العرب: بنات العمّ اصبر، والغرائب أنجب.
والعرب تقول: اغتربوا لا تضووا: أي أنكحوا في الغرائب، فإن القرائب يضوين «4» البنين.
وقالوا: إذا أردت أن يصلب ولد المرأة فأغضبها ثم قع عليها؛ وكذلك الفزعة.
وقال الشاعر:
ممن حملن وهنّ عواقد ... حبك النّطاق فشبّ غير مهبّل
حملت به في ليلة مزءودة ... كرها وعقد نطاقها لم يحلل
قالت أم تأبط شرا: والله ما حملته تضعا ولا وضعا، ولا وضعته يتنا، ولا أرضعته غيلا، ولا أنمته مئقا.
حملته وضعا وتضعا: وهي ان تحمله في مقبل الحيض. ووضعته يتنا: وضعته منكسا، تخرج رجلاه قبل رأسه. وأرضعته غيلا: أرضعته لبنا فاسدا، وذلك ان ترضعه وهي حامل. وأنمته مئقا. اي مغضبا مغتاظا.(7/127)
ومن امثال العرب قولهم: أنا مئق وأنت نئق، فلا نتفق.
المئق: المغضب المغتاظ. والنئق: الذي لا يحتمل شيئا.
من أخبار النساء
لابن أبي ربيعة في مقتل زوجة المختار
: لما قتل مصعب بن الزبير ابنة النعمان بن بشير الأنصارية، زوجة المختار ابن أبي عبيد، أنكر الناس ذلك عليه وأعظموه؛ لأنه أتى بما نهى رسول الله صلّى الله عليه وسلّم عنه في نساء المشركين؛ فقال عمر بن أبي ربيعة:
إنّ من أعظم الكبائر عندي ... قتل حسناء غادة عطبول «1»
قتلت باطلا على غير ذنب ... إنّ لله درّها من قتيل
كتب القتل والقتال علينا ... وعلى الغانيات جرّ الذيول «2»
الخوارج وامرأة أرادوا قتلها
: ولما خرجت الخوارج بالأهواز، أخذوا امرأة فهمّوا بقتلها؛ فقالت لهم: أتقتلون من ينشّأ في الحلية وهو في الخصام غير مبين. فأمسكوا عنها.
باب الطلاق
الرشيد والأصمعي
محمد بن الغار قال: حدثني عبد الرحمن بن محمد ابن أخي الأصمعي قال: سمعت عمي يقول: توصّلت بالملح، وأدركت بالغريب.(7/128)
وقال عمي للرشيد في بعض حديثه: بلغني يا أمير المؤمنين أن رجلا من العرب طلق في يوم خمس نسوة! قال إنما يجوز ملك الرجل على أربع نسوة؛ فكيف طلق خمسا؟ قال: كان لرجل أربع نسوة، فدخل عليهنّ يوما فوجدهنّ متلاحيات متنازعات- وكان شنطيرا «1» ، فقال: إلى متى هذا التنازع؟ ما إخال هذا الأمر إلا من قبلك- يقول ذلك لامرأة منهن- اذهبي فأنت طالق! فقالت له صاحبتها: عجلت عليها بالطلاق، ولو أدّبتها بغير ذلك لكنت حقيقا! فقال لها: وأنت أيضا طالق! فقالت له الثالثة: قبحك الله! فو الله لقد كانتا إليك محسنتين، وعليك مفضلتين! فقال: وأنت أيتها المعدّدة أياديهما طالق أيضا! فقالت له الرابعة، وكانت هلالية وفيها أناة شديدة: ضاق صدرك عن أن تؤدب نساءك إلا بالطلاق! فقال لها: وأنت طالق أيضا! وكان ذلك بمسمع جارة له، فأشرفت عليه وقد سمعت كلامه، فقالت:
والله ما شهدت العرب عليك وعلى قومك بالضعف إلا لما بلوه منكم ووجدوه فيكم، أبيت إلا طلاق نسائك في ساعة واحدة! قال: وأنت أيضا أيتها المؤنّبة المتكلفة طالق، إن أجاز زوجك! فأجابه من داخل بيته: قد أجزت! قد أجزت.
المغيرة وزوجته فارعة
: ودخل المغيرة بن شعبة على زوجته فارعة الثقفية وهي تتخلل حين انفتلت من صلاة الغداة؛ فقال لها: لئن كنت تتخللين من طعامك اليوم إنك لجشعة، وإن كنت تتخللين من طعام البارحة إنك لشبعة، كنت فبنت «2» ، فقالت: والله ما اغتبطنا إذ كنا، ولا أسفنا إذ بنّا، وما هو لشيء مما ذكرت، ولكني استكت «3» فتخللت لسواك؛ فخرج المغيرة نادما على ما كان منه، فلقيه يوسف بن أبي عقيل فقال له:
إني نزلت الآن عن سيدة نساء ثقيف؛ فتزوجها فإنها ستنجب؛ فتزوجها فولدت له الحجاج.(7/129)
الحسن وعائشة بنت طلحة
: وقال الحسن بن علي بن حسين لامرأته عائشة بنت طلحة: أمرك بيدك! فقالت:
قد كان عشرين سنة بيدك فأحسنت حفظه، فلم أضيعه إذ صار بيد ساعة واحدة؛ وقد صرفته إليك! فأعجبه ذلك منها وأمسكها.
لرجل في طلاق امرأته
: وقال أبو عبيدة: طلق رجل امرأته وقال:
لقد طلّقت أخت بني غلاب ... طلاقا ما أظنّ له ارتدادا
ولم أك كالمعدل أو أويس ... إذا ما طلقا ندما فعادا
قال أبو عبيدة: وطلاق المعدّل وأويس يضرب به المثل.
لآخر في مثله
: ونكح رجل امرأة من عديّ، فلما اهتداها رأت ربع داره أحسن ربع، وشمل عياله أجمع شمل؛ فقالت: أما والله لئن بقيت لهم لأشتّتن أمرهم! وقالت في ذلك:
أرى نارا سأجعلها إرينا ... وأترك أهلها شتّى عزينا
فلما انتهى ذلك إلى زوجها طلقها، وقال في ذلك:
ألا قالت هديّ بني عديّ ... أرى نارا سأجعلها إرينا «1»
فبيني قبل أن تلحي عصانا ... ويصبح أهلنا شتى عزينا
وقيل لابن عباس: ما تقول في رجل طلق امرأته عدد نجوم السماء؟ فقال: يكفيه من ذلك عدد كواكب الجوزاء! وقيل لأعرابي: هل لك في النكاح؟ قال: لو قدرت أن أطلق نفسي لطلقتها.(7/130)
وعن الزهري قال: قال أبو الدرداء لامرأته: إذا رأيتني غضبت فترضيّني، وإن رأيتك غضبت ترضّيتك، وإلا لم نصطحب! قال الزهري: وهكذا تكون الإخوان.
قال الأصمعي: كنت أختلف إلى أعرابي أقتبس منه الغريب، فكنت إذا استأذنت عليه يقول: يا أمامة ائذني له. فتقول: ادخل. فاستأذنت عليه مرارا فلم أسمعه يذكر أمامة؛ فقلت: يرحكم الله، ما أسمعك تذكر أمامة؛ قال: فوجم وجمة، فندمت على ما كان مني، ثم أنشأ يقول:
ظعنت أمامة بالطلاق ... ونجوت من غلّ الوثاق «1»
بانت فلم يألم لها ... قلبي ولم تبك المآقي «2»
لو لم يرح بطلاقها ... لأرحت نفسي بالإباق
ودواء ما لا تشتهي ... هـ النفس تعجيل الفراق
والعيش ليس يطيب من ... إلفين من غير اتّفاق
وعن الشيباني قال: طلق أبو موسى امرأته وقال فيها:
تجهّزي للطلاق وارتحلي ... فذا دواء المجانب الشرس
ما أنت بالحنّة الودود ولا ... عندك نفع يرجى لملتمس «3»
لليلتي حين بنت طالقة ... ألذّ عندي من ليلة العرس
بتّ لديها بشرّ منزلة ... لا أنا في لذّة ولا أنس
تلك على الخسف لا نظير لها ... وإنني ما يسوغ لي نفسي
ابن زبان والزبير
: أقبل منظور بن زبّان بن سيار الفزاري إلى الزبير فقال: إنما زوّجناك ولم نزوّج عبد الله! قال: ما له؟ قال: إنها تشكوه. قال: يا عبد الله طلّقها! قال عبد الله: هي طالق! قال ابن منظور: أنا ابن قهدم. قال الزبير: أنا ابن صفية أتريد أن يطلق(7/131)
المنذر أختها؟ قال: لا، تلك راضية بموضعها.
خديجة بين محمد وإبراهيم
: وتزوج محمد بن عبد الله بن عمرو بن عثمان بن عفان خديجة بنت عروة ابن الزبير، فذكر لها جماله- وكان يقال له المذهب من حسنه، وكان رجلا مطلاقا- فقالت:
محمد هو الدنيا لا يدوم نعيمها. فلما طلقها خطبها إبراهيم بن هشام بن إسماعيل المخزومي؛ فكتب إليها:
أعيذك بالرحمن من عيش شقوة ... وأن تطمعي يوما إلى غير مطمع
إذا ما ابن مظعون تحدّر وسقه ... عليك فبوئي بعد ذلك أو دعي «1»
فردّته ولم تتزوجه.
الحجاج وزواجه بابنة جعفر
: وعن العتبي عن أبيه قال: أمهر الحجاج ابنة عبد الله بن جعفر تسعين ألف دينار فبلغ ذلك خالد بن يزيد بن معاوية، فأمهل عبد الملك، حتى إذا أطبق الليل دق عليه الباب؛ فأذن له عبد الملك، ودخل عليه فقال له: ما هذا الطروق أبا يزيد؟ قال: أمر والله لم ينتظر له الصبح، هل علمت أن أحدا كان بينه وبين من عادى ما كان بين آل أبي سفيان وآل الزبير بن العوام؟ فإني تزوجت إليهم، فما في الأرض قبيلة من قريش أحبّ إليّ منهم؛ فكيف تركت الحجاج وهو سهم من سهامك يتزوج إلى بني هاشم، وقد علمت ما يقال فيهم في آخر الزمان؟ قال: وصلتك رحم.
وكتب إلى الحجاج يأمره بطلاقها وألا يراجعه في ذلك. فطلقها. فأتاه الناس يعزونه، وفيهم عمرو بن عتبة؛ فجعل الحجاج يقع بخالد ويتنقّصه، ويقول: إنه صيّر الأمر إلى من هو أولى به منه، وإنه لم يكن لذلك أهلا!(7/132)
فقال له عمرو بن عتبة: إن خالدا أدرك من قبله، وأتعب من بعده، وعلم علما فسلّم الأمر إلى أهله، ولو طلب بقديم لم يغلب عليه، أو بحديث لم يسبق إليه.
فلما سمعه الحجاج استحى، فقال: يا بن عتبة، إنا نسترضيكم بأن نعتب عليكم، ونستعطفكم بأن ننال منكم؛ وقد غلبتم على الحلم فوثقنا لكم به، وعلمنا أنكم تحبون أن تحلموا فتعرّضنا للذي تحبون.
من طلق امرأته ثم تبعتها نفسه
بين العريان وبنت عمران
: الهيثم بن عدي قال: كانت تحت العريان بن الأسود بنت عمّ له، فطلّقها، فتبعتها نفسه؛ فكتب إليها يعرّض لها بالرجوع؛ فكتبت إليه.
إن كنت ذا حاجة فاطلب لها بدلا ... إنّ الغزال الذي ضيّعت مشغول
فكتب إليها:
من كان ذا شغل فالله يكلؤه ... وقد لهونا به والحبل موصول
وقد قضينا من استطرافه طرفا ... وفي الليالي وفي أيّامها طول!
الوليد وزوجته سعدى
: وطلق الوليد بن يزيد امرأته سعدى، فلما تزوجت اشتد ذلك عليه، وندم على ما كان منه؛ فدخل عليه أشعب، فقال له: أبلغ سعدى عني رسالة، ولك مني خمسة آلاف درهم! فقال: عجّلها! فأمر له بها؛ فلما قبضها قال: هات رسالتك. فأنشده:
أسعدى ما إليك لنا سبيل ... ولا حتى القيامة من تلاق؟
بلى، ولعل دهرا أن يؤاتي ... بموت من حليلك أو فراق
فأتاها فاستأذن، فدخل عليها. فقالت له: ما بدا لك في زيارتنا يا أشعب؟ فقال: يا سيدتي، أرسلني إليك الوليد برسالة. وأنشدها الشعر؛ فقالت لجواريها: خذن هذا(7/133)
الخبيث! فقال: يا سيدتي، إنه جعل لي خمسة آلاف درهم! قالت: والله لأعاقبنك أو لتبلغن إليه ما أقول لك. قال: سيدتي، اجعلي لي شيئا، قالت: لك بساطي هذا.
قال: قومي عنه! فقامت عنه وألقاه على ظهره، وقال: هاتي رسالتك. فقالت:
أنشده.
أتبكي على سعدى وأنت تركتها ... فقد ذهبت سعدى فما أنت صانع
فلما بلغه وأنشده الشعر، سقط في يده وأخذته كظمة، ثم سرّي عنه، فقال: اختر واحدة من ثلاث: إما أن نقتلك، وإما أن نطرحك من هذا القصر، وإما أن نلقيك إلى هذه السّباع! فتحير أشعب وأطرق حينا؛ ثم رفع رأسه فقال: يا سيدي، ما كنت لتعذّب عينين نظرتا إلى سعدى! فتبسم وخلى سبيله.
ابن أبي بكر وامرأته
: وممن طلق امرأته فتبعتها نفسه، عبد الرحمن بن أبي بكر: أمره أبوه بطلاقها، ثم دخل عليه فسمعه يتمثل:
فلم أر مثلي طلّق اليوم مثلها ... ولا مثلها في غير شيء تطلّق
فأمره بمراجعتها.
الفرزدق ونوار
: وممن طلق امرأته فتبعتها نفسه، الفرزدق الشاعر: طلق النّوار، ثم ندم في طلاقها وقال:
ندمت ندامة الكسعيّ لمّا ... غدت منّي مطلّقة نوار
وكانت جنّتي فخرجت منها ... كآدم حين أخرجه الضّرار «1»
فأصبحت الغداة ألوم نفسي ... بأمر ليس لي فيه خيار(7/134)
من أخبار النوار
: وكانت النوار بنت عبد الله قد خطبها رجل رضيته، وكان وليّها غائبا، وكان الفرزدق وليّها إلا أنه كان أبعد من الغائب؛ فجعلت أمرها إلى الفرزدق، وأشهدت له بالتفويض إليه؛ فلما توثّق منها بالشهود، أشهدهم أنه قد زوّجها من نفسه! فأبت منه ونافرته إلى عبد الله بن الزبير؛ فنزل الفرزدق على حمزة بن عبد الله [ابن الزبير] ، ونزلت النوار على زوجة عبد الله بن الزبير، وهي بنت منظور ابن زبان،؛ فكان كل ما أصلح حمزة من شأن الفرزدق نهارا أفسدته المرأة ليلا؛ حتى غلبت المرأة وقضي ابن الزبير على الفرزدق؛ فقال:
أمّا البنون فلم تقبل شفاعتهم ... وشفّعت بنت منظور بن زبّانا
ليس الشّفيع الذي يأتيك مؤتزرا ... مثل الشفيع الذي يأتيك عريانا
وقال الفرزدق في مجلس ابن الزبير:
وما خاصم الأقوام من ذي خصومة ... كورهاء مدنو إليها خليلها «1»
فدونكها يا بن الزبير فإنها ... ملعّنة يوهي الحجارة قيلها
فقال ابن الزبير: إن هذا شاعر، وسيهجوني؛ فإن شئت ضربت عنقه وإن كرهت ذلك؛ فاختاري نكاحه وقرّي. فقرّت واختارت نكاحه، ومكثت عنده زمانا، ثم طلقها وندم في طلاقها.
وعن الأصمعي عن المعتمر بن سليمان عن أبي مخروم عن رواية الفرزدق، قال: قال لي الفرزدق يوما: امض بنا إلى حلقة الحسن، فإني أريد أن أطلق النوار! فقلت له:
إني أخاف أن تتبعها نفسك، ويشهد عليك الحسن وأصحابه. قال: انهض بنا. فجئنا حتى وقفنا على الحسن، فقال [الفرزدق] : كيف أصبحت أبا سعيد؟ قال: بخير، كيف أصبحت يا أبا فراس؟ فقال: تعلمنّ أني طلقت النوار ثلاثا! قال الحسن(7/135)
وأصحابه: قد سمعنا فانطلقنا، فقال لي الفرزدق: يا هذا، إن في نفسي من النوار شيئا! فقلت: حذرتك! فقال:
ندمت ندامة الكسعيّ لمّا ... غدت مني مطلّقة نوار
وكانت جنّتي فخرجت منها ... كآدم حين أخرجه الضّرار
ولو أني ملكت بها يميني ... لكان عليّ للقدر الخيار
قيس بن ذريح وطلاق امرأته
: وممن طلق امرأته وتبعتها نفسه، قيس بن الذريح؛ وكان أبوه أمره بطلاقها فطلقها وندم؛ فقال في ذلك:
فواكبدي على تسريح لبنى ... فكان فراق لبنى كالخداع
تكنفّني الوشاة فأزعجوني ... فيا للناس للواشي المطاع
فأصبحت الغداة ألوم نفسي ... على أمر وليس بمستطاع
كمغبون يعضّ على يديه ... تبيّن غبنه بعد البياع
وطلق رجل امرأته، فقالت: أبعد صحبة خمسين سنة؟ فقال: مالك عندنا ذنب غيره!
ابن أم الحكم بين رجل وامرأته
: العتبي قال: جاء رجل بامرأة كأنها برج فضة، إلى عبد الرحمن بن أم الحكم وهو على الكوفة، فقال: إن امرأتي هذه شجّتني! فقال لها: أنت فعلت به؟ قالت: نعم، غير متعمّدة لذلك؛ كنت أعالج طيبا، فوقع الفهر من يدي على رأسه؛ وليس عندي عقل، ولا تقوى يدي على القصاص! فقال عبد الرحمن للرجل: يا هذا، علام تحبسها وقد فعلت بك ما أرى؟ قال: أصدقتها أربعة آلاف درهم، ولا تطيب نفسي بفراقها! قال: فإن أعطيتها لك أتفارقها؟ قال: نعم. قال: فهي لك. قال: هي طالق إذا! فقال عبد الرحمن: احبسي علينا نفسك. ثم أنشأ يقول:(7/136)
يا شيخ ويحك من دلّاك بالعزل ... قد كنت يا شيخ عن هذا بمعتزل
رضت الصّعاب فلم تحسن رياضتها ... فاعمد لنفسك نحو الجلّة الذّلل
في مكر النساء وغدرهنّ
في حكمة داود عليه السلام؛ وجدت من الرجال واحدا في ألف، ولم أجد واحدة في النساء جميعا.
الغنائي والكندي وهند
: وقال الهيثم بن عدي: غزا الغسانيّ الحارث بن عمرو آكل المرار الكندي، فلم يصبه في منزله، فأخذ ما وجد له واستاق امرأته؛ فلما أصابها أعجبت به، فقالت له: انج، فو الله لكأني أنظر إليه يتبعك فاغرا فاه كأنه بعير آكل مرار! وبلغ الحارث، فأقبل يتبعه حتى لحقه فقتله، وأخذ ما كان معه وأخذ امرأته، فقال لها: هل أصابك؟
قالت: نعم والله ما اشتملت النساء على مثله قط! فأمر بها فأوقفت بين فرسين، ثم استحضرهما حتى تقطعت. ثم قال:
كلّ أنثى وإن بدا لك منها ... آية الودّ حبّها خيثعور «1»
إن من غرّه النّساء بودّ ... بعد هند لجاهل مغرور»
وقالت الحكماء: لا تثق بامرأة، ولا تغترّ بمال وإن كثر.
وقالوا: النساء حبائل الشيطان.
وقال الشاعر:
تمتّع بها ما ساعفتك، ولا تكن ... جزوعا إذا بانت، فسوف تبين
وصنها وإن كانت تفي لك، إنها ... على مدد الأيام سوف تخون
وإن هي أعطتك الليان فإنها ... لآخر من طلّابها ستلين(7/137)
وإن حلفت لا ينقض النأي عهدها ... فليس لمخضوب البنان يمين «1»
وإن أسبلت يوم الفراق دموعها ... فليس لعمر الله ذاك يقين
وقالت الحكماء: لم تنه امرأة قط عن شيء إلا فعلته.
وقال طفيل الغنوي:
إنّ النّساء متى ينهين عن خلق ... فإنه واقع لا بدّ مفعول
وعن الهيثم بن عدي عن ابن عياش قال: أرسل عبد الله بن همام السلولي شابّا إلى امرأة ليخطبها عليه. فقالت له: فما يمنعك أنت؟ فقال لها: ولي طمع فيك! قالت: ما عنك رغبة! فتزوجها؛ ثم انصرف إلى ابن همام، فقال له: ما صنعت؟ قال والله ما تزوجتني إلا بعد شرط! قال: أو لهذا بعثتك؟ فقال ابن همام في ذلك:
رأت غلاما على شرط الطّلابة لا ... يعيا بإرقاص برديّ الخلاخيل
مبطّنا بدخيس اللحم تحسبه ... مما يصوّر في تلك التّماثيل «2»
أكفا من الكفء في عقد النّكاح وما ... يعيا به حلّ هميان السّراويل
تركتها والأيامى غير واحدة ... فاحبسه عن بيتها يا حابس الفيل
السلولي وامرأة خطبها
: وعن الهيثم بن عدي عن ابن عياش، قال: كان النساء يجلسن لخطابهن، فكانت امرأة من بني سلول تخطب، وكان عبد الله بن همام السلولي يخطبها؛ فإذا دخل عليها تقول له: فداك أبي وأمي! وتقبل عليه تحدثه، وكان شاب من بني سلول يخطبها، فإذا دخل عليها الشاب وعندها عبد الله بن همام قالت للشاب قم إلى النار! وأقبلت بوجهها وحديثها على عبد الله؛ ثم إن الشاب تزوّجها، فلما بلغ ذلك عبد الله بن همام قال:(7/138)
أودى بحبّ سليمى فاتك لقن ... كحيّة برزت من بين أحجار
إذا رأتني تفدّيني وتجعله ... في النار، يا ليتني المجعول في النار
وله فيها:
ماذا تظنّ سليمى إن ألمّ بها ... مرجّل الرأس ذو بردين مزّاح «1»
حلو فكاهته، خزّ عمامته ... في كفّه من رقى الشيطان مفتاح! «2»
في السراري
إبراهيم عليه السلام وهاجر
: تسرّى الخليل إبراهيم عليه الصلاة والسلام هاجر، فولدت له إسماعيل عليه السلام.
وتسرّى النبي عليه الصلاة والسلام مارية القبطية، فولدت له إبراهيم.
ولما صارت إليه صفية بنت حيّ، كان أزواجه يعيّرنها باليهودية، فشكت ذلك إليه، فقال لها: أما إنك لو شئت لقلت فصدقت وصدّقت: أبي إسحاق، وجدّي إبراهيم، وعمي إسماعيل، وأخي يوسف.
هشام وزيد بن علي
: ودخل زيد بن عليّ على هشام بن عبد الملك، فقال له [هشام] : بلغني أنك تحدّث نفسك بالخلافة، ولا تصلح لها، لأنك ابن أمة! فقال له: أما قولك إني أحدّث نفسي بالخلافة فلا يعلم الغيب إلا الله، وأما قولك إني ابن أمة، فإسماعيل ابن أمة، أخرج الله من صلبه خير البشر محمدا صلّى الله عليه وسلّم، وإسحاق بن حرّة، أخرج الله من صلبه القردة والخنازير.(7/139)
الرغبة في السراري
: قال الأصمعي: وكان أكثر أهل المدينة يكرهون الإماء، حتى نشأ منهم علي بن الحسين، والقاسم بن محمد [بن أبي بكر] ، وسالم بن عبد الله [بن عمر] ؛ ففاقوا أهل المدينة فقها وعلما وورعا؛ فرغب الناس في السراري.
عبد الملك وابن الحسين في جارية تزوجها
: وتزوج علي بن الحسين جارية له وأعتقها، فبلغ ذلك عبد الملك، فكتب إليه يؤنّبه، فكتب إليه عليّ: إن الله رفع بالإسلام الخسيسة، وأتم به النقيصة وأكرم به من اللؤم؛ فلا عار على مسلم؛ وهذا رسول الله صلّى الله عليه وسلّم قد تزوج أمته وامرأة عبده! فقال عبد الملك: إن عليّ بن الحسين يشرف من حيث يتّضع الناس.
وقال الشاعر:
لا تشتمنّ امرءا في أن تكون له ... أمّ من الرّوم أو سوادء عجماء
فإنما أمّهات القوم أوعية ... مستودعات، وللأحساب آباء
وقال بعضهم: عجبت لمن لبس القصير كيف يلبس الطويل؛ ولمن أحفى «1» شعره كيف أعفاه، وعجبا لمن عرف الإماء كيف يقدم على الحرائر.
وقالوا: الأمة تشترى بالعين وتردّ بالعيب؛ والحرّة غل «2» في عنق من صارت إليه.
الهجناء
للعرب والفرس
: العرب تسمي العجميّ إذا أسلم: المسلماني؛ ومنه يقال: مسالمة السواد، والهجين(7/140)
عندهم: الذي أبوه عربي وأمه أعجمية؛ والمذرّع: الذي أمه عربية وأبوه أعجمي وقال الفرزدق:
إذا باهليّ أنجبت حنظليّة ... له ولدا منها؛ فذاك المذرّع
والعجمي: النصراني ونحوه وإن كان فصيحا. والأعجمي: الأخرس اللسان وإن كان مسلما.
ومنه قيل: زياد الأعجم؛ وكان في لسانه لكنة.
والفرس تسمى الهجين: دوشن؛ والعبد: واش ونجاش. ومن تزوّج أمة: نفاش، وهو الذي يكون العهد دونه، وسمي أيضا: بوركان.
والعرب تسمّي العبد الذي لا يخدم إلا ما دامت عليه عين مولاه: عبد العين.
وكان العرب في الجاهلية لا تورث الهجين.
وكانت الفرس تطرح الهجين ولا تعدّه، ولو وجدوا أمّا أمة على رأس ثلاثين أما، ما أفلح [ولدها] عندهم ولا كان آزاد، ولا كان بيدهه مزاد. والآزاد عندهم: الحرّ، والمزاد: الريحان.
وقال ابن الزبير لعبد الرحمن بن أم الحكم:
تبلّغت لمّا أن أتيت بلادهم ... وفي أرضنا أنت الهمام القلمّس «1»
ألست ببغل أمّه عربيّة ... أبوه حمار أدبر الظهر ينخس؟ «2»
وشبه المذرع بالبغل؛ إذ قيل له: من أبوك؟ قال: أمي الفرس! ومما احتجت به الهجناء: أن النبي صلّى الله عليه وسلّم زوّج ضباعة بنت الزبير بن عبد المطلب من المقداد بن الأسود، وزوّج خالدة بنت أبي لهب من عثمان بن أبي العاص الثقفي.
وبذلك احتج عبد الله بن جعفر إذ زوّج ابنته زينب من الحجاج بن يوسف فعيّره(7/141)
الوليد بن عبد الملك، فقال عبد الله بن جعفر: سيف أبيك زوّجه! والله ما فديت بها إلا خيط رقبتي. وأخرى: أن النبي صلّى الله عليه وسلّم قد زوّج ضباعة من المقداد، وخالدة من عثمان بن أبي العاص، ففيه قدوة وأسوة.
وزوّج أبو سفيان ابنته أم الحكم بالطائف في ثقيف.
وقال لهذم الكاتب في عبد الله بن الأهتم وسأله فحرمه:
وما بنو الأهتم إلا كالرّحم ... لا شيء إلا أنهم لحم ودم
جاءت به جذام من أرض العجم ... أهتم سلّاح على ظهر القدم
مقابل في الّلؤم من خال وعمّ
بنو أمية وأولاد الإماء
: وكانت بنو أمية لا تستخلف بني الإماء، وقالوا لا تصلح لهم العرب.
زياد بن يحيى قال: حدّثنا جبلة بن عبد الملك: قالوا: سابق عبد الملك [بين] سليمان ومسلمة؛ فسبق سليمان مسلمة، فقال عبد الملك:
ألم أنهكم أن تحملوا هجناءكم ... على خيلكم يوم الرّهان فتدرك!
وما يستوي المرءان، هذا ابن حرّة ... وهذا ابن أخرى ظهرها متشرّك
وتضعف عضداه ويقصر سوطه ... وتقصر رجلاه فلا يتحرّك
وأدركه خالاته فنزعنه ... ألا إنّ عرق السّوء لا بدّ يدرك
ثم أقبل عبد الملك على مصقلة بن هبيرة الشيباني فقال: أتدري من يقول هذا؟
قال: لا أدري. قال: يقوله أخوك الشّنّيّ.
قال مسلمة: يا أمير المؤمنين، ما هكذا قال حاتم الطائي. قال عبد الملك: وماذا قال حاتم؟ فقال مسلمة: قال حاتم:
وما أنكحونا طائعين بناتهم ... ولكن خطبناها بأسيافنا قسرا
فما زادها فينا السّباء مذلّة ... ولا كلّفت خبزا ولا طبخت قدرا
ولكن خلطناها بخير نسائنا ... فجاءت بهم بيضا وجوههم زهرا(7/142)
وكائن ترى فينا من ابن سبيّة ... إذا لقي الأبطال يطعنهم شزرا
ويأخذ رايات الطّعان بكفّه ... فيوردها بيضا؛ ويصدرها حمرا
أغرّ إذا اغبرّ اللثام رأيته ... إذ ما سرى ليل الدّجى قمرا بدرا
فقال عبد الملك كالمستحي:
وما شرّ الثلاثة أمّ عمرو ... بصاحبك الذي لا تصبحينا
بنو أمية في أولاد الأمهات
: قال الأصمعي: كانت بنو أمية لا تبايع لبني أمهات الأولاد؛ فكان الناس يرون أن ذلك لاستهانة بهم، ولم يكن لذلك، ولكن لما كانوا يرون أن زوال ملكهم على يد ابن أم ولد؛ فلما ولي الناقص ظن الناس أنه الذي يذهب ملك بني أمية على يديه- وكانت أمه بنت يزدجرد بن كسرى- فلم يلبث إلا سبعة أشهر حتى مات؛ ووثب مكانه مروان بن محمد- وأمه كردية- فكانت الرواية عليه. ولم يكن لعبد الملك ابن أسدّ رأيا، ولا أذكى عقلا، ولا أشجع قلبا، ولا أسمح نفسا، ولا أسخى كفّا من مسلمة؛ وإنما تركوه لهذا المعنى.
شيء عن يحيى ابن أبي حفصة
: وكان يحيى بن أبي حفصة أخو مروان بن أبي حفصة يهوديا، أسلم على يد عثمان بن عفان، فكثر ماله، فتزوّج خولة بنت مقاتل بن قيس بن عاصم، ونقدها خمسين ألفا.
وفيه يقول القلاخ:
رأيت مقاتل الطّلبات حلى ... نحور بناته كمر الموالي «1»
فلا تفخر بقيس، إنّ قيسا ... خريتم فوق أعظمه البوالي!
وله فيه:
نبّئت خولة قالت حين أنكحها ... لطالما كنت منك العار أنتظر(7/143)
أنكحت عبدين ترجو فضل مالهما ... في فيك مما رجوت التّراب والحجر
لله درّ جياد أنت سائسها ... برذنتها وبها التّحجيل والغرر «1»
فقال مقاتل يردّ عليه:
وما تركت خمسون ألفا لقائل ... عليك- فلا تحفل- مقالة لائم
فإن قلتم زوّجت مولى؛ فقد مضت ... به سنّة قبلي وحبّ الدراهم
ويقال: إن غيره قال ذلك.
باب في الادعياء
زياد بن عبيد
أول دعيّ كان في الإسلام واشتهر، زياد بن عبيد، دعيّ معاوية؛ وكان من قصته انه وجهه بعض عمال عمر بن الخطاب رضي الله عنه على العراق الى عمر بفتح كان، فلما قدم واخبر عمر بالفتح في احسن بيان وأفصح لسان، قال له عمر: أتقدر على مثل هذا الكلام في جماعة الناس على المنبر؟ قال: نعم، وعلى احسن منه، وانا لك أهيب! فأمر عمر بالصلاة جامعة؛ فاجتمع الناس، ثم قال لزياد: قم فاخطب وقص على الناس ما فتح الله على إخوانهم المسلمين. ففعل وأحسن وجوّد، وعند أصل المنبر علي بن ابي طالب، وأبو سفيان بن حرب فقال أبو سفيان لعليّ: أيعجبك ما سمعت من هذا الفتى؟ قال: نعم. قال: أما إنه ابن عمك؟ قال: فكيف ذلك؟ قال: أنا قذفته في رحم أمّه سمية! قال: فما يمنعك أن تدّعيه؟ قال: أخاف هذا الجالس على المنبر- يعني عمر- أن يفسد عليّ إهابي. فلما ولي معاوية استلحقه بهذا الحديث، واقام له شهودا عليه؛ فلما شهد الشهود قام زياد على اعقابهم خطيبا، فحمد الله واثنى عليه، ثم قال: هذا أمر لم اشهد اوله، ولا علم لي بآخره؛ وقد قال أمير المؤمنين ما بلغكم، وشهد الشهود بما قد سمعتم، والحمد لله الذي رفع منا ما وضع الناس، وحفظ منا ما ضيّعوا؛ فأما عبيد فإنما هو والد مبرور، أو ربيب مشكور. ثم جلس.(7/144)
فقال فيه عبد الرحمن بن حسان بن ثابت:
ألا أبلغ معاوية بن حرب ... فقد ضاقت بما يأتي اليدان
أتغضب ان يقال أبوك عف ... وترضى أن يقال أبوك زان؟
وأشهد أن قربك من زياد ... كقرب الفيل من ولد الاتان
وقال زياد: ما هجيت ببيت قط أشدّ عليّ من قول يزيد بن مفرغ الحميري:
فكّر ففي ذاك إن فكّرت معتبر ... هل نلت مكرمة إلا بتأمير؟
عاشت سميّة ما عاشت وما علمت ... أنّ ابنها من قريش في الجماهير
سبحان من ملك عبّاد بقدرته ... لا يدفع الناس محتوم المقادير
وكان ولد سمية: زيادا: وأبا بكرة، ونافعا؛ فكان زياد ينسب في قريش، وأبو بكرة في العرب، ونافع في الموالي؛ فقال فيهم يزيد بن مفرغ:
إن زيادا ونافعا وأبا ... بكرة عندي من أعجب العجب
إن رجالا ثلاثة خلقوا ... من رحم أنثى مخالفي النّسب ...
ذا قرشي، فيما يقول، وذا ... مولى وهذا ابن أمه عربي!
وقال بعض العراقيين في ابي مسهر الكاتب:
حمار في الكتابة يدّعيها ... كدعوى آل حرب في زياد
فدع عنك الكتابة لست منها ... ولو غرّقت ثوبك بالمداد
وقال آخر في دعيّ:
لعين يورث الابناء لعنا ... ويلطخ كلّ ذي نسب صحيح
عبد الله بن حجاج
ولما طالت خصومة عبد الرحمن بن خالد بن الوليد، ونصر بن حجاج عند معاوية، في عبد الله بن حجاج، مولى خالد بن الوليد- أمر معاوية حاجبه أن يؤخر أمرهما حتى يحتفل مجلسه، فجلس معاوية وقد تلفّع بمطرف خزّ أخضر، وأمر بحجر فأدني(7/145)
منه، وألقى عليه طرف المطرف، ثم اذن لهما وقد احتفل المجلس فقال نصر بن حجاج: أخي وابن ابي، عهد إليّ أنه منه. وقال عبد الرحمن: مولاي وابن عبد أبي وامته، ولد على فراشه. فقال معاوية: يا حرسيّ، خذ هذا الحجر- وكشف عنه- فادفعه إلى نصر بن حجاج. وقال يا نصر، هذا مالك في حكم رسول الله صلّى الله عليه وسلّم، فإنه قال: «الولد للفراش وللعاهر الحجر» . فقال نصر: أفلا أجريت هذا الحكم في زياد يا أمير المؤمنين؟ قال ذاك حكم معاوية وهذا حكم رسول الله صلّى الله عليه وسلّم.
وليس في الارض احمى من الادعياء؛ لتستحق بذلك العربية.
قال الشاعر:
دعيّ واحد أجدى عليهم ... من الفي عالم مثل ابن داب
ككلب السّوء يحرس جانبيه ... وليس عدوّه غير الكلاب
للاصمعي في دعي
وقال الأصمعي: استمشى رجل من الادعياء، فدخل عليه رجل من اصحابه فوجد عنده شيحا «1» وقيصوما «2» ؛ فقال له: ما هذا؟ فقال، ورفع صوته: الطبيعة تتوق إليه! يريد أن طبيعته من طباع العرب؛ فقال فيه الشاعر:
يشمّ الشّيح والقيصو ... م كي يستوجب النّسبا
وليس ضميره في الصّد ... ر إلا التّين والعنبا
ابو سعيد المخزومي
وعن اسماعيل بن احمد قال: أرأيت على أبي سعيد الشاعر المخزومي كردوانيا مصبوغا بتوريد، فقلت: أبا سعيد، هذا خز؟ قال: لا ولكنه دعيّ على دعيّ وكان أبو سعيد دعيّا في بني مخزوم؛ وفيه قال الشاعر:
متى تاه على الناس ... شريف يا أبا سعد(7/146)
فته ما شئت إذ كنت ... بلا أب ولا جدّ
وإذا حظّك في النّسبة بين الحرّ والعبد
وإن قارفك الفحش ... ففي أمن من الحدّ
تزوج ابن عبد العزيز في عبد القيس
وعن احمد بن عبد العزيز قال: نزلت في دار رجل من بني عبد القيس بالبحرين فقال لي: بلغني أنك خاطب؟ قلت نعم. قال: فأنا أزوّجك. قلت له: إني مولى.
قال: اسكت وأنا أفعل! فقال ابو بجير فيهم:
أمن قلة صرتم إلى أن قبلتم ... دعاوة زرّاع وآخر تاجر
وأصهب روميّ وأسود فاحم ... وأبيض جعد من سراة الاحامر
شكولهم شتى وكلّ نسيبكم ... لقد جئتم في الناس إحدى المناكر
متى قال إنّي منكم فمصدّق ... وإن كان زنجيّا غليظ المشافر
أكلّهم وافى النّساء جدوده ... وكلهم أوفى بصدق المعاذر؟
وكلهم قد كان في أوّليّة ... له نسبة معروفة في العشائر؟
على علمكم ان سوف ينكح فيكم ... فجدعا ورغما للأنوف الصّواغر «1»
فهلا أبيتم عفّة وتكرّما ... وهلّا وجلتم من مقالة شاعر؟ «2»
تعيبون أمرا ظاهرا في بناتكم ... وفخركم قد جاز كلّ مفاخر
متى شاء منكم مغرم كان جدّه ... عمارة عبس خير تلك العمائر
وحصن بن بدر أو زرارة دارم ... وزبّان زبّان الرئيس ابن جابر
فقد صرت لا أدري وإن كنت ناسبا ... لعلّ نجارا من هلال بن عامر
وعلّ رجال الترك من آل مذحج ... وعل تميما عصبة من يحابر
وعلّ رجال العجم من آل عالج ... وعل البوادي بدّلت بالحواضر
زعمتم بأنّ الهند أولاد خندف ... وبينكم قربى وبين البرابر(7/147)
وديلم من نسل ابن ضبة باسل ... وبرجان من أولاد عمرو بن عامر
بنو الاصفر الاملاك أكرم منكم ... وأولى بقربانا ملوك الاكاسر
أأطمع في صهري دعيّا مجاهرا ... ولم نر شرا في دعيّ مجاهر «1»
ويشتم لؤما عرضه وعشيره ... ويمدح جهلا طاهرا وابن طاهر
وقال زرارة بن ثروان، أحد بني عامر بن ربيعة بن عامر:
قد اختلط الأسافل بالأعالي ... وباح الناس واختلط النّجار
وصار العبد مثل أبي قبيس ... وسيق مع المعلهجة العشار «2»
وإنك لن يضيرك بعد حول ... أطرف ناك أمّك أم حمار
وقال عقيل بن علّفة:
وكنا بني غيظ رجالا فأصبحت ... بنو مالك غيظا، وصرنا لمالك
لحي الله دهرا ذغذع المال كلّه ... وسوّد أستاه الإمإ الفوارك «3»
جعفر بن سليمان وولده أحمد
وذكر جعفر بن سليمان بن علي يوما ولده، وأنهم ليسوا كما يحب، فقال له ولده أحمد بن جعفر: عمدت إلى فاسقات المدينة ومكة وإماء الحجاز، فأوعيت فيهم نطفك، ثم تريد أن ينجبن! ألا فعلت في ولدك ما فعل ابوك فيك حين اختار لك عقيلة قومها.
الاشعث وعلي
ودخل الاشعث بن قيس على عليّ بن أبي طالب، فوجد بين يديه صبية تدرج؛ فقال: من هذه يا أمير المؤمنين؟ قال هذه زينب بنت أمير المؤمنين. قال زوّجنيها يا أمير المؤمنين! قال: اعزب، بفيك الكثكث «4» ، ولك الاثلب! أغرّك ابن أبي قحافة حين زوّجك أم فروة؟ إنها لم تكن من الفواطم ولا العواتك من سليم. فقال: قد(7/148)
زوّجتم أخمل مني حسبا، وأوضع مني نسبا: المقداد بن عمرو، وإن شئت فالمقداد بن الاسود. قال عليّ: ذلك رسول الله صلّى الله عليه وسلّم فعله، وهو أعلم بما فعل؛ ولئن عدت إلى مثلها لأسوأنك.
وفي هذا المعنى قال الكميت بن زيد:
وما وجدت بنات بني نزار ... حلائل أسودين وأحمرينا
وما حملوا الحمير على عتاق ... مطهّمة فيلفوا مبغلينا
بني الاعمام انكحنا الأيامى ... وبالآباء سمّينا البنينا
أراد تزويج أبرهة الحبشي في كندة.
عن العتبي: قال: أنشدني أبو إسحاق ابراهيم بن خداش لخالد النجار:
اليوم من هاشم بخ، وأنت غدا ... مولى، وبعد غد حلف من العرب
إن صح هذا فأنت الناس كلّهم ... يا هاشميّ، ويا مولى، ويا عربي
قال: وكان الهيثم بن عديّ فيما زعموا دعيا، فقال فيه الشاعر:
الهيثم بن عديّ من تنقله ... في كلّ يوم له رحل على حسب
إذا اجتدى معشرا من فضل نسبتهم ... فلم ينيلوه عدّاهم إلى نسب
فما يزال له حلّ ومرتحل ... إلى النصارى وأحيانا إلى العرب
إذا نسبت عديّا في بني ثعل ... فقدّم الدال قبل العين في النسب!
وقال بشّار العقيلي:
إنّ عمروا، فاعرفوه ... عربيّ من زجاج
مظلم النّسبة لا يع ... رف إلّا بالسّراج!
وقال فيه:
ارفق بنسبة عمرو، حين تسبه ... فإنه عربيّ من قوارير
ما زال في كير حدّاد يردّده ... حتى بدا عربيّا مظلم النّور
وقال أيضا في أدعياء:
هم قعدوا فانتقوا لهم حسبا ... يدخل بعد العشاء في العرب(7/149)
والناس قد أصبحوا صيارفة ... أعلم شيء بزائف الحسب
وقال أبو نواس في أشجع بن عمرو:
قل لمن يدّعي سليمى سفاها ... لست منها ولا قلامة ظفر
إنما أنت من سليمى كواو ... ألحقت في الهجاء ظلما بعمرو
وقال فيه:
أيا متحيّرا فيه ... لمن يتعجب العجب
لأسماء تعلّمهنّ ... أشجع حين ينتسب
ولا حمد بن أبي الحارث الخراز في حبيب الطائي:
لو أنّك إذ جعلت أباك أوسا ... جعلت الجدّ حارثة بن لام
وسمّيت التي ولدتك سعدى ... فكنت مقابلا بين الكرام!
وله فيه:
أنت عندي عربيّ ... ليس في ذاك كلام
شعر فخذيك وساقي ... ك خزامي وثمام «1»
وضلوع الصدر من ... جسمك نبع وبشام
وقذى عينيك صمغ ... ونواصيك ثغام «2»
لو تحرّكت كذا لا ... نجفلت منك نعام
وظباء سانحات ... ويرابيع عظام «3»
وحمام يتغنّى ... حبّذا ذاك الحمام
أنا ما ذنبي إن ك ... ذّبني فيك الكرام
القفا يشهد أدما ... عرفت فيك الانام(7/150)
كذّبوا ما أنت إلّا ... عربيّ والسلام!
وقال في المعلى الطائي:
معلّى لست من طيّ ... فإن قبلتك فارهنها
وإبنك فارم في أجأ ... فلا ترغب به عنها
كأنّ دماملا جمعت ... فصوّر وجهه منها
ولآخر:
تعلّمها وإخوته ... فكلّهم بها درب
لقد ربوا عجوزهم ... ولو زيّنتها غضبوا
فيالك عصبة إن حدّ ... ثوا عن أصلهم كذبوا
لهم في بيتهم نسب ... وفي وسط الملا نسب
كما لم تخف سافرة ... وتخفى حين تنتقب
وقال خلف بن خليفة في الادعياء:
فقل للاكرمين بني نزار ... وعند كرائم العرب الشّفاء
أآخر مرّتين سبيتمونا ... وفي الإسلام ما كره السّباء؟
إذا استحللتم هذا وهذا ... فليس لنا على ذاكم بقاء
فلا تأمن على حال دعيّا ... فليس له على حال وفاء
في الباه وما قيل فيه
ذكر عند مالك بن أنس الباه، فقال: هو نور وجهك، ومخّ ساقك؛ فأقل منه أو أكثر.
وقال معاوية: ما رأيت نهما في النساء إلا عرفت ذلك في وجهه.
وقال الحجاج لابن شماخ العكلي: ما عندك للنساء؟ قال: أطيل الظماء «1» ، وأرد فلا أشرب.(7/151)
وقيل لرؤبة: ما عندك يا أبا الجحّاف؟ قال: يمتد ولا يشتدّ، ويرد ولا يشرب.
وقيل لآخر: ما عندك لهن؟ قال: ما يقطع حجّتها، ويشفي غلمتها «1» .
وقال كسرى: كنت أراني إذا كبرت انهن لا يحببنني، فإذا أنا لا أحبّهن! وأنشد الرياشي لأعرابيّ من بني أسد:
تمنّيت لو عاد شرخ الشباب ... ومن ذا على الدّهر يعطي المنى
وكنت مكينا لدى الغانيات ... فلا شيء عندي لها ممكنا «2»
فأما الحسان فيأبينني ... وأما القباح فآبى أنا
ودخل عيسى بن موسى على جارية، فلم يقدر على شيء، فقال:
النفس تطمع والأسباب عاجزة ... والنفس تهلك بين اليأس والطمع
وخلا ثمامة بن أشرس بجارية له، فعجز؛ فقال: ويحك! ما أوسع حرك! فقالت:
أنت الفداء لمن قد كان يملؤه ... ويستكي الضّيق منه حين يلقاه
وقال آخر لجاريته:
ويعجبني منك عند الجماع ... حياة الكلام وموت النّظر
وقال آخر:
شفاء الحبّ تقبيل ولمس ... وسبح بالبطون على البطون
ورهز تذرف العينان منه ... وأخذ بالذّوائب والقرون
عائشة بنت طلحة
وقالت امرأة كوفية: دخلت على عائشة بنت طلحة، فسألت عنها، فقيل هي مع(7/152)
زوجها في القيطون؛ فسمعت زفيرا ونخيرا لم يسمع قط مثله. ثم خرجت وجبينها يتفصّد «1» عرقا؛ فقلت لها: ما ظننت ان حرّة تفعل مثل هذا! فقالت: إن الخيل العتاق تشرب بالصفير.
وقيل لاعرابيّ: ما عندك للنساء؟ فأشار إلى متاعه وقال:
وتراه بعد ثلاث عشرة قائما ... نظر المؤذّن شكّ يوم سحاب!
وقال الفرزدق:
أنا شيخ ولي امرأة عجوز ... تراودني على ما لا يجوز
وقالت: رقّ أيرك مذ كبرنا ... فقلت لها: بل اتسع القفيز «2»
وقال الراجز:
لا يعقب التّقبيل إلّا زبّي ... ولا يداوي من صميم الحبّ.
إلا احتضان الرّكب الأزبّ ... ينزع منه الاير نزع الضبّ «3»
روى زياد عن مالك عن محمد بن يحيى بن حسان، ان جدته عاتبت جدّه في قلة اتيانه إياها؛ فقال لها: أما وأنت على قضاء عمر بن الخطاب رضي الله عنه؟ قالت:
وما قضاء عمر؟ قال: قضي ان الرجل إذا اتى امرأته عند كلّ طهر فقد أدّى حقها.
قالت: أفترك الناس كلهم قضاء عمر واقمت وأنا وأنت عليه.
وقال اعرابيّ حين كبر وعجز:
عجبت من أيري كيف يصنع ... أدفعه بأصبعي ويرجع
يقوم بعد النّشر ثم يصرع(7/153)
كثير وعزة
ودخلت عزّة صاحبة كثيّر على ام البنين زوج عبد الملك بن مروان، فقالت لها:
أخبريني عن قول كثير:
قضى كلّ ذي دين فوفى غريمه ... وعزّة ممطول معنّ غريمها
ما هذا الدين الذي طلبك به؟ قالت: وعدته بقبلة فتحرّجت منها. قالت: أنجزيها وعليّ إثمها.
عن أبي البيداء
علي بن عبد العزيز قال: كان ابو البيداء رجلا عنّينا، وكان يتجلد ويقول لقومه:
زوّجوني امرأتين. فقالوا له: إن في واحدة كفاية. قال: أمّا لي فلا. فقالوا: نزوّجك واحدة فإن كفتك وإلا نزوّجك أخرى. فزوّجوه اعرابية؛ فلما دخل بها اقام معها اسبوعا، فلما كان في اليوم السابع اتوه فقالوا له: ما كان من امرك في اليوم الاول؟
قال: عظيم جدّا.. فقالوا: ففي اليوم الثالث؟ قال: لا تسلوني فاستجابت امرأته من وراء الستر فقالت:
كان أبو البيداء ينزو في الوهق ... حتى إذا أدخل في بيت أنق «1»
فيه غزال حسن الدّلّ خرق ... مارسه حتى إذا ارفضّ العرق
انكسر المفتاح وانسدّ الغلق
حماد عجرد وجارية
اهديت جارية إلى حماد عجرد، وهو جالس مع أصحابه على لذة، فتركهم وقام بها إلى مجلس له فافتضها، وكتب إليهم:
قد فتحت الحصن بعد امتناع ... بسنان فاتح للقلاع(7/154)
ظفرت كفّي بتفريق جمع ... جاءنا تفرقه باجتماع
وإذا شملي وشمل خليلي ... إنما يلتام بعد انصداع
آخر:
لم توافق طباع هذي طباعي ... فأنا وهي دهرنا في صراع
وتحرّيت أن أنال رضاها ... فأبت غير جفوة وامتناع
فتفكّرت لم بليت بهذا؟ ... فإذا أنّ ذا لضعف المتاع!
وقع بين رجل وامرأته شرّ، فجعل يحيل عليها بالجماع، فقالت: فعل الله بك! كلما وقع بيننا شيء جئتني بشفيع لا أقدر على ردّه.
وأقبل رجل إلى علي بن ابي طالب رضي الله عنه، فقال: إن لي امرأة كلما غشيتها تقول: قتلتني قتلتني، قال: اقتلها وعليّ إثمها.
نساء كلب
وقال هشام بن عبد الملك للابرش الكلبي: زوّجني امرأة من كلب. ففعل وصارت عنده، فقال له هشام ودخل عليه: لقد وجدنا في نساء كلب سعة! فقال له الابرش: إن نساء كلب خلقن لرجال كلب.
وقالوا: من ناك لنفسه لم يضعف أبدا ولم ينقطع، ومن فعل ذلك لغيره فذاك الذي يصفي وينقطع.
يعنون: من فعل ذلك ليبلغ اقصى شهوة المرأة ويطلب الذّكر عندها....
وقال الشاعر.
من ناك للذكر أصفى قبل مدّته ... لا يقطع النّيك إلّا كلّ منهوم
في النكاح
وقالوا: من قل جماعه فهو أصحّ بدنا وأطول عمرا ويعتبرون ذلك بذكر(7/155)
الحيوان، وذلك انه ليس في الحيوان اطول عمرا من البغل، ولا أقصر عمرا من العصافير؛ وهي أكثر سفادا. والله اعلم.(7/156)
كتاب الجمانة الثانية في المتنبئين والممرورين والبخلاء والطفيليين
قال الفقيه أبو عمر أحمد بن محمد بن عبد ربه: قد مضى قولنا في النساء والأدعياء، وما قيل في ذلك من الشعر.
ونحن قائلون بعون الله وتوفيقه في كتابنا هذا ذكر المتنبئين والممرورين والبخلاء والطفيليين؛ فإن أخبارهم حدائق مونقة، ورياض زاهرة، لما فيها من طرفة ونادرة، فكأنها أنوار مزخرفة، أو حلل منشرة، دانية القطوف من جاني ثمرتها، قريبة المسافة لمن طلبها؛ فإذا تأملها الناظر، وأصغى إليها السامع، وجدها ملهى للسمع، ومرتعا للنظر، وسكنا للروح، ولقاحا للعقل، وسميرا في الوحدة وأنيسا في الوحشة، وصاحبا في السفر، وأنيسا في الحضر.
المهدي ومدع للنبوة
: قال أبو الطيب اليزيدي: أخذ رجل ادعى النبوّة أيام المهدي، فأدخل عليه فقال له: أنت نبيّ؟ قال: نعم! قال: وإلى من بعثت؟ قال: أو تركتموني أذهب إلى أحد؟
ساعة بعثت وضعتموني في الحبس! فضحك منه المهدي وخلّى سبيله.
سليمان بن علي وآخر
: ادّعى رجل النبوّة بالبصرة، فأتي به سليمان بن علي مقيّدا، فقال له: أنت نبيّ مرسل؟ قال: أما الساعة فإني مقيد! قال: ويحك! من بعثك؟ قال: أبهذا يخاطب(7/157)
الأنبياء يا ضعيف؟ والله لولا أني مقيد لأمرت جبريل يدمدمها «1» عليكم! قال:
فالمقيّد لا تجاب له دعوة؟ قال: نعم؛ الأنبياء خاصة إذا قيدت لم يرتفع دعاؤها! فضحك سليمان، وقال له أنا أطلقك وأمر جبريل، فإن أطاعك آمنا بك وصدّقناك.
قال: صدق الله: فَلا يُؤْمِنُوا حَتَّى يَرَوُا الْعَذابَ الْأَلِيمَ
«2» ! فضحك سليمان، وسأل عنه فشهد عنده أنه ممرور «3» ، فخلى سبيله.
المأمون وآخر
: قال ثمامة بن أشرس: شهدت المأمون أتي برجل ادّعى النبوّة وأنه إبراهيم الخليل، فقال المأمون: ما سمعت أجرأ على الله من هذا. قلت: أكلّمه. قال: شأنك به.
فقلت له: يا هذا، إنّ إبراهيم كانت له براهين. قال: وما براهينه؟ قلت: أضرمت له نار وألقي فيها فصارت بردا وسلاما؛ فنحن نضرم لك نارا ونطرحك فيها، فإن كانت عليك بردا كما كانت على إبراهيم آمنّا بك وصدقناك. قال: هات ما هو ألين عليّ من هذا. قال: براهين موسى. قال: وما كانت براهين موسى؟ قال: عصاه التي ألقاها فصارت حية تسعى تلقف»
ما يأفكون، وضرب بها البحر فانفلق؛ وبياض يده من غير سوء. قال: هذا أصعب؛ هات ما هو ألين من هذا. قلت: براهين عيسى. قال: وما براهين عيسى؟ قلت: كان يحيي الموتى، ويمشي على الماء، ويبريء الأكمه والأبرص. فقال في براهين عيسى جئت بالطامة الكبرى! قلت: لا بدّ من برهان! فقال: ما معي شيء من هذا؛ قد قلت لجبريل: إنكم توجّهوني إلى شياطين، فأعطوني حجة أذهب بها إليهم، وأحتجّ عليهم؛ فغضب وقال: بدأت أنت بالشر قبل كل شيء، اذهب الآن فانظر ما يقول لك القوم. وقال: هذا من الأنبياء لا يصلح إلا للحمر. فقلت: يا أمير المؤمنين، هذا هاج به مرار، وأعلام ذلك فيه. قال:
صدقت؛ دعه.(7/158)
المهدي وآخر
: ادّعى رجل النبوّة في أيام المهدي، فأدخل عليه؛ فقال له: أنت نبيّ؟ قال: نعم.
قال: ومتى نبئت؟ قال: وما تصنع بالتاريخ؟ قال: ففي أي المواضع جاءتك النبوّة؟
قال: وقعنا والله في شغل! ليس هذا من مسائل الأنبياء؛ إن كان رأيك أن تصدقني في كل ما قلت لك فاعمل بقولي؛ وإن كنت عزمت على تكذيبي فدعني أذهب عنك! فقال المهدي: هذا ما لا يجوز؛ إذ كان فيه فساد الدين. قال: وا عجبا لك! تغضب لدينك لفساده، ولا أغضب أنا لفساد نبؤتي؟ أنت والله ما قويت عليّ إلا بمعن بن زائدة والحسن بن قحطبة وما أشبههما من قوادك. وعلى يمين المهدي شريك القاضي؛ قال: ما تقول في هذا النبي يا شريك؟ قال [المتنبّيء] : شاورت هذا في أمري وتركت أن تشاورني! قال: هات ما عندك؟ قال: أحاكمك فيما جاء به من قبلي من الرسل. قال: رضيت. قال: أكافر أنا عندك أم مؤمن؟ قال: كافر. قال: فإنّ الله يقول: وَلا تُطِعِ الْكافِرِينَ وَالْمُنافِقِينَ وَدَعْ أَذاهُمْ
«1» ؛ فلا تطعني ولا تؤذني؛ ودعني أذهب إلى الضعفاء والمساكين؛ فإنهم أتباع الأنبياء؛ وأدع الملوك والجبابرة؛ فإنهم حطب جهنم! فضحك المهدي وخلى سبيله.
القسري وآخر
: قال خلف بن خليفة: ادّعى رجل النبوّة في زمن خالد بن عبد الله القسري، وعارض القرآن؛ فأتي به خالد؛ فقال له: ما تقول: قال: عارضت في القرآن ما يقول الله تعالى: إِنَّا أَعْطَيْناكَ الْكَوْثَرَ، فَصَلِّ لِرَبِّكَ وَانْحَرْ، إِنَّ شانِئَكَ هُوَ الْأَبْتَرُ
«2» فقلت أنا ما هو أحسن من هذا: إنا أعطيناك الجماهر، فصل لربك وجاهر، ولا تطع كل ساحر وكافر. فأمر به خالد فضربت عنقه وصلب على خشبة؛ فمرّ به خلف بن خليفة الشاعر، وقال: إنا أعطيناك العمود، فصل لربك على عود، وأنا ضامن أن لا تعود!(7/159)
ابن حازم وآخر
: قال: وإني لقاعد على مجلس عبد الله بن خازم وهو على الجسر ببغداد، فإذا بجماعة قد أحاطت برجل ادّعى النبوّة، فقدّم إلى عبد الله؛ فقال له: أنت نبي؟ قال:
نعم. قال: وإلى من بعثت؟ قال: وما عليك؟ بعثت إلى الشيطان! فضحك عبد الله بن حازم وقال: دعوه يذهب إلى الشيطان الرجيم!
ابن أشرس وآخر
: وقال ثمامة بن أشرس: كنت في الحبس، فأدخل علينا رجل ذو هيئة وبزة ومنظر، فقلت له: من أنت جعلت فداك؟ وما ذنبك؟ - وفي يدي كأس دعوت بها لأشربها- قال: جاءوا بي هؤلاء السفهاء لأني جئت بالحق من عند ربي، أنا نبيّ مرسل! قلت: جعلت فداك! معك دليل؟ قال: نعم، معي أكبر الأدلة؛ ادفعوا إليّ امرأة أحبلها لكم، فتأتي بمولود يشهد بصدقي! قال ثمامة: فناولته الكأس وقلت له:
اشرب، صلى الله عليك!
ابن عتاب وآخر
: محمد بن عتاب قال: رأيت بالرقة أيام الرشيد جماعة أحاطت برجل، فأشرفت عليه، فإذا رجل له جهارة «1» وبنية، قلت: ما قصة هذا؟ قالوا: ادّعى النبوّة. قلت:
كذبتم عليه، مثل هذا لا يدّعي الباطل! فرفع رأسه إليّ فقال: وما علمك أنهم قالوا عليّ الباطل؟ قلت له: وأنت نبيّ قال: نعم. قلت له: ما دليلك؟ قال: دليلي أنك ولد زنا! قلت: نبيّ يقذف المحصنات؟ قال: بهذا بعثت! قلت: أنا كافر بما بعثت به! قال: ومن كفر فعليه كفره. فإذا حصاة عائرة «2» جاءت حتى صكت صلعته، قال: ما رماها إلا ابن الزانية، ثم رفع رأسه إلى السماء فقال: ما أردتم بي خيرا حين طرحتموني في يدي هؤلاء الجهال.(7/160)
المأمون وابن أكثم مع آخر
: ادّعى رجل النبوّة في أيام المأمون، فقال ليحيى بن أكثم: امض بنا مستترين حتى ننظر إلى هذا المتنبيء وإلى دعواه. [قال يحيى] : فركبنا متنكرين ومعنا خادم، حتى صرنا إليه، وكان مستترا بمذهبة، فخرج آذنه وقال: من أنتما؟ فقلنا: رجلان يريدان أن يسلما على يديه. فأذن لهما ودخلا، فجلس المأمون عن يمينه، ويحيى عن يساره؛ فالتفت إليه المأمون فقال له: إلى من بعثت؟ قال: إلى الناس كافة. قال: فيوحى إليك، أم ترى في المنام، أم ينفث في قلبك، أم تناجى، أم تكلم؟ قال: بل أناجى وأكلّم. قال: ومن يأتيك بذلك؟ قال: جبريل، قال: فمتى كان عندك؟ قال: قبل أن تأتيني بساعة! قال: فما أوحى إليك؟ قال: أوحى إليّ أنه سيدخل عليّ رجلان، فيجلس أحدهما عن يميني والآخر عن يساري؛ فالذي عن يساري ألوط خلق الله! قال المأمون: أشهد أن لا إله إلا الله، وأنك رسول الله! وخرجا يتضاحكان.
ابن عباس ومتنبيء
: تنبأ رجل بالكوفة وأحل الخمر، ولقي ابن عياش، وكان مغرما بالشراب، فقال له: أشعرت أنه بعث نبي يحلّ الخمر؟ قال: إذا لا يقبل منه حتى يبرىء الأكمه والأبرص. وأتى به عامل الكوفة، فاستتابه فأبى أن يتوب ويرجع، فأتته أمّه تبكي، فقال لها: تنحّي ربط الله على قلبك كما ربط على قلب أمّ موسى! وأتاه أبوه يطلب إليه، فقال: له: تنحّ يا آزّر! فأمر به العامل فقتل وصلب.
بعض الكوفيين مع آخر
: وذكر بعض الكوفيين قال: بينا أنا جالس بالكوفة في منزلي، إذ جاءني صديق لي، فقال لي: إنه ظهر في الكوفة رجل يدّعي النبوّة، فقم بنا إليه نكلّمه ونعرف ما عنده. فقمت معه، فصرنا إلى باب داره، فقرعنا الباب وسألنا الدخول عليه، فأخذ علينا العهود والمواثيق إذا دخلنا عليه وكلمناه وسألناه، إن كان على حق اتبعناه، وإن كان على غير ذلك كتمنا عليه ولم نؤذه؛ فدخلنا فإذا شيخ خراساني أخبث من رأيت(7/161)
على وجه الأرض، وإذا هو أصلع؛ فقال صاحبي وكان أعور: دعني حتى أسائله.
قلت: دونك. قال: جعلت فداك، ما أنت؟ قال: نبي! قال: وما دليلك؟ قال: أنت أعور عينك اليمنى، فأقلع عينك اليسرى تصير أعمى؛ ثم أدعو الله فيردّ عليك بصرك! فقلت لصاحبي: أنصفك الرجل! قال: فاقلع أنت عينيك جميعا! وخرجنا نضحك.
المأمون وآخر
: وأتي المأمون بإنسان متنبيء، فقال له: ألك علامة؟ قال: نعم. علامتي أني أعلم ما في نفسك. قال: قرّبت عليّ؛ ما في نفسي؟ قال له: في نفسك أني كذاب! قال:
صدقت! وأمر به إلى الحبس فأقام به أياما؛ ثم أخرجه فقال: أوحى إليك بشيء؟
قال: لا. قال: ولم؟ قال: لأن الملائكة لا تدخل الحبس! فضحك المأمون وأطلقه.
متنبيء اسمه نوح
: وتنبأ إنسان وسمى نفسه نوحا صاحب الفلك؛ وذكر أنه سيكون طوفان على يديه [يهلك به الناس] إلا من اتبعه، ومعه صاحب له قدر آمن به وصدّقه، فأتي به الوالي فاستتابه فلم يتب، فأمر به فصلب، واستتاب صاحبه فتاب؛ فناداه [المتنبيء] من الخشبة: يا فلان، أتسلمني الآن في مثل هذه الحالة؟ فقال: يا نوح قد علمت أنه لا يصحبك من السفينة إلا الصاري «1» !
المأمون وثمامة مع متنبيء
: قال: وحمل إلى المأمون من أذربيجان رجل قد تنبأ، فقال: يا ثمامة، ناظره.
فقال: ما أكثر الأنبياء في دولتك يا أمير المؤمنين! ثم التفت إلى المتنبيء فقال له: ما شاهدك على النبوّة؟ قال: تحضر لي يا ثمامة امرأتك أنكحها بين يديك، فتلد غلاما ينطق في المهد يخبرك أني نبي! فقال ثمامة: أشهد أن لا إله إلا الله وأنك رسول الله!(7/162)
فقال المأمون: ما أسرع ما آمنت به! قال: وأنت يا أمير المؤمنين ما أهون عليك أن تتناول امرأتي على فراشك! فضحك المأمون وأطلقه.
أخبار الممرورين والمجانين
من أخبار عليان
: قال أبو الحسن: كان بالبصرة ممرور يقال له عليان بن أبي مالك، وكانت العلماء تستنطقه لتسمع جوابه وكلامه، وكان راوية للشعر بصيرا بجيده؛ فذكر عن عبد الله ابن إدريس صاحب الحديث.
قال [ابن إدريس] : أخرجه الصبيان مرة حتى هجم علينا في الدار؛ فقال لي الخادم: هذا عليان قد هجم علينا، والصبيان في طلبه. فقلت: ادفع الباب في وجوه الصبيان، وأخرج إليه طعاما وطبقا عليه رطب مشان «1» وملبقات «2» وأرغفة. فلما وضعه بين يديه حمد الله وأثنى عليه، وقال: هذا رحمة الله- وأشار إلى الطعام- كما أن أولئك من عذاب الله- وأشار إلى الصبيان- ثم جعل يأكل والصبيان يرجمون الباب، وهو يقول: فَضُرِبَ بَيْنَهُمْ بِسُورٍ لَهُ بابٌ باطِنُهُ فِيهِ الرَّحْمَةُ وَظاهِرُهُ مِنْ قِبَلِهِ الْعَذابُ
«3» ! قال: ابن إدريس: فلما انقضى طعامه قلت له يا عليان، مالك تروي الشعر ولا تقوله؟ قال: إني كالمسنّ: أشحذ ولا أقطع! وكان بصيرا بالشعر، فقلت:
أي بيت تقوله العرب أشعر؟ قال: البيت الذي لا يحجب عن القلب. قلت: مثل ماذا؟ قال: مثل قول جميل:
ألا أيّها النّوّام ويحكم هبّوا ... أسائلكم: هل يقتل الرجل الحبّ؟
قال: فأنشد النصف الأول بصوت ضعيف، وأنشد النصف الآخر بصوت رفيع؛(7/163)
ثم قال: ألا ترى النصف الأوّل كيف استأذن على القلب فلم يأذن له، والنصف الثاني استأذن على القلب فأذن له؟ قلت: وماذا؟ قال: مثل قول الشاعر:
ندمت على ما كان منذ فقدتني ... كما ندم المغبون حين يبيع
قال: ألا تستطيب قوله «فقدتني» بالله يا ابن إدريس؟ قلت: بلى. فضرب بيده على فخذي وقال: قم يثبت الله لك قرنك! وابن إدريس يومئذ ابن ثمانين سنة.
وحكي عنه ابن إدريس قال: مررت به في مربعة كندة، وهو جالس على رماد وبيده قطعة من جص وهو يخبط بها في الرماد؛ فقلت له: ما تصنع ههنا يا ابن أبي مالك؟ قال: ما كان يصنع صاحبنا. قلت: ومن صاحبك؟ قال: مجنون بني عامر.
قلت: وما كان يصنع؟ قال: أما سمعته يقول:
عشيّة مالي حيلة غير أنني ... بلقط الحصى والجصّ في الدار مولع
قلت: ما سمعته! فرفع رأسه إليّ متضاحكا، فقال: ما يقول الله عز وجل: أَلَمْ تَرَ إِلى رَبِّكَ كَيْفَ مَدَّ الظِّلَّ وَلَوْ شاءَ لَجَعَلَهُ ساكِناً
«1» فأنت سمعته أو رأيته هذا كلام من كلام العرب ولا علم لك به.
قلت: يا بن أبي مالك، متى تقوم القيامة؟ قال: ما المسئول عنها بأعلم من السائل، غير أنه من مات قامت قيامته.
قلت: فالمصلوب يعذّب عذاب القبر؟ قال: إن حقت عليه كلمة العذاب يعذب، وما يدريك لعل جسده في عذاب من عذاب الله لا تدركه أبصارنا ولا أسماعنا، فإن لله لطفا لا يدرك.
قلت: ما تقول في النبيذ حلال أم حرام؟ قال: حلال. قلت: أتشربه؟ قال إن شربته فقد شربه وكيع، وهو قدوة. قلت: أتقتدي بوكيع في تحليله ولا تقتدي بي(7/164)
في تحريمه، وأنا أسنّ منه؟ قال: إن قول وكيع مع اتفاق أهل البلد عليه أحبّ إليّ من قولك مع اختلاف أهل البلدة عليك.
قلت: فما تقول في الغناء؟ قال: قد غنى البراء ابن عازب، وعبد الله ابن رواحة؛ وسمع الغناء عبد الله بن عمر، وكان عبد الله بن جعفر ... قلت: أيش كان عبد الله ابن جعفر؟ قال: إنما سألتني عن الغناء ولم تسألني عن ضرب العيدان.
مجنون بالبصرة
: وكان بالبصرة مجنون يأوى إلى دكان خياط، وفي يده قصبة قد جعل في رأسها أكرة «1» ولف عليها خرقة، لئلا يؤذي بها الناس؛ فكان إذا أحرده الصبيان، التفت إلى الخياط وقال له: قد حمي الوطيس، وطاب اللقاء! فما ترى؟ فيقول: شأنك بهم.
فيشدّ عليهم ويقول:
أشدّ على الكتيبة لا أبالي ... أحتفي كان فيها أم سواها
فإذا أدرك منهم صبيا رمى بنفسه إلى الأرض وأبدى له عورته، فيتركه وينصرف؛ ويقول: عورة المؤمن حمى، ولولا ذلك لتلفت نفس عمرو بن العاص يوم صفين! ثم يقول وينادي:
أنا الرجل الضّرب الذي يعرفونني ... خشاش «2» كرأس الحيّة المتوقّد!
ثم يرجع إلى دكان الخياط، ويلقي العصا من يده ويقول:
فألقت عصاها واستقرت بها النّوى ... كما قرّ عينا بالإياب المسافر
عليان وتاجر بالبصرة
: وكان بالبصرة رجل من التجار يكنى أبا سعيد، وكانت له جارية تدعى جيرين، وكان بها كلفا، فمر يوما بعليان وقد أحاط به الناس، فقالوا له: هذا أبو سعيد(7/165)
صاحب جيرين. فناداه: أبا سعيد! قال: نعم. قال: أتحب جيرين؟ قال: نعم. قال:
وتحبك؟ قال: نعم فأنشأ يقول:
نبّئتها عشقت حشّا فقلت لهم ... ما يعشق الحشّ إلا كلّ كنّاس «1»
فضحك الناس من أبي سعيد ومضى.
صباح الموسوس
: ومر ابن أبي الزرقاء صاحب شرطة ابن أبي هبيرة بصباح الموسوس، فقال له:
ابن أبي الزرقاء، أسمنت برذونك، وأهزلت دينك! أما والله إن أمامك عقبة لا يجاوزها إلا المخفّ! فوقف ابن أبي الزرقاء، فقيل له: هو صباح الموسوس. قال: ما هذا بموسوس!
بهلول المجنون
: وقال إبراهيم الشيباني: مررت ببهلول المجنون وهو يأكل خبيصا؛ فقلت:
أطعمني. قال: ليس هو لي، إنما هو لعاتكة بنت الخليفة، بعثته إليّ لآكله لها.
وكان البهلول هذا يتشيع، فقيل له: اشتم فاطمة وأعطيك درهما! فقال: بل أشتم عائشة وأعطني نصف درهم!
أمارات الحمق
: وقال ابن عبد الملك: يعرف حمق الرجل في أربع: لحيته، وشناعة كنيته، وإفراط شهوته، ونقش خاتمه. دخل عليه شيخ طويل العثنون؛ فقال، أما هذا فقد أتاكم بواحدة، فانظروا أين هو من الثلاث. فقيل له: ما كنيتك؟ قال: أبو الياقوت.
قيل: فنقش خاتمك؟ قال: وَتَفَقَّدَ الطَّيْرَ فَقالَ ما لِيَ لا أَرَى الْهُدْهُدَ
«2» ، قيل: أي الطعام تشتهي؟ قال: خلنجبين.(7/166)
ابن عبد العزيز ومجنون
: وسمع عمر بن عبد العزيز رجلا ينادي: يا أبا العمرين، فقال: لو كان عاقلا لكفاه أحدهما.
وقيل لداود المصاب في مصيبة نزلت به: لا تتهم الله في قضائه. قال: أقول لك شيئا على الأمانة؟ قال: قل. قال: والله ما بي غيره!
من أخبار أبي عتاب
: ودخل أبو عتاب على عمرو بن هذاب وقد كفّ بصره والناس يعزونه، فقال له:
أبا يزيد، لا يسوءك فقدهما، فإنك لو دريت بثوابهما تمنيت أن الله قطع يديك ورجليك ودق عنقك.
ودخل على قوم يعود مريضا لهم، فبدأ يعزّيهم! قالوا: إنه لم يمت! فخرج وهو يقول: يموت إن شاء الله! يموت إن شاء الله.
ووقع بين أبي عتاب وبين ابنه كلام، فقال: لولا أنك أبي، وأسنّ مني لعرفت.
أبو حاتم عن الأصمعي عن نافع قال: كان الغاضريّ من أحمق الناس. فقيل له:
ما رأيت من حمقه؟ فسكت، فلما أكثر عليه قال: قال لي مرة: البحر من حفره؟
وأين ترابه الذي خرج منه؟ وهل يقدر الأمير أن يحفر مثله في ثلاثة أيام.
الشعبي ورجل من النوكي
: ودخل رجل من النّوكى على الشعبي وهو جالس مع امرأته، فقال: أيكم الشعبي؟
فقال [الشعبي] : هذه [وأشار إلى امرأته] ! فقال: ما تقول أصلحك الله في رجل شتمني أول يوم من رمضان، هل يؤجر؟ قال: إن كان قال لك «يا أحمق» فإني أرجو له.(7/167)
الشعبي ومجنون آخر
: وسأل رجل آخر الشعبيّ فقال: ما تقول في رجل في الصلاة أدخل أصبعه في أنفه فخرج عليها دم، أترى له أن يحتجم؟ فقال الشعبي: الحمد لله الذي نقلنا من الفقه إلى الحجامة.
وقال له آخر: كيف تسمي امرأة إبليس؟ قال: ذاك نكاح ما شهدناه.
صوفي في أيام المهدي
: العتبي قال: سمعت أبا عبد الرحمن بشرا يقول: كان في زمن المهدي رجل صوفي، وكان عاقلا عاملا ورعا، فتحمّق ليجد السبيل إلى الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر؛ وكان يركب قصبة في كل جمعة يومين: الأثنين والخميس، فإذا ركب في هذين اليومين فليس لمعلم على صبيانه حكم ولا طاعة، فيخرج ويخرج معه الرجال والنساء والصبيان، فيصعد تلّا وينادي بأعلى صوته: ما فعل النبيون والمرسلون، أليسوا في أعلى عليين؟ فيقولون: نعم.
قال: هاتوا أبا بكر الصديق. فأخذ غلام فأجلس بين يديه؛ فيقول: جزاك الله خيرا أبا بكر عن الرعية، فقد عدلت وقمت بالقسط، وخلفت محمدا عليه الصلاة والسلام فأحسنت الخلافة، ووصلت حبل الدين بعد حلّ وتنازع، وفرغت منه إلى أوثق عروة وأحسن الخلافة، ووصلت حبل الدين بعد حلّ وتنازع، وفرغت منه إلى أوثق عروة وأحسن ثقة؛ اذهبوا به إلى أعلى عليين.
ثم ينادي: هاتوا عمر. فأجلس بين يديه غلام، فقال: جزاك الله خيرا أبا حفص عن الإسلام، قد فتحت الفتوح، ووسعت الفيء، وسلكت سبيل الصالحين، وعدلت في الرعية؛ اذهبوا به إلى أعلى عليين بحذاء أبي بكر.
ثم يقول: هاتوا عثمان. فأتي بغلام فأجلس بين يديه، فيقول له: خلطت في تلك السنين، ولكن الله تعالى يقول: خَلَطُوا عَمَلًا صالِحاً وَآخَرَ سَيِّئاً عَسَى اللَّهُ أَنْ يَتُوبَ(7/168)
عَلَيْهِمْ
«1» ! ثم يقول: اذهبوا به إلى صاحبيه في أعلى عليين! ثم يقول: هاتوا عليّ بن أبي طالب. فأجلس غلام بين يديه، فيقول: جزاك الله عن الأمة خيرا أبا الحسن، فأنت الوصي ووليّ النبي، بسطت العدل وزهدت في الدنيا، واعتزلت الفيء فلم تخمش فيه بناب ولا ظفر، وأنت أبو الذرية المباركة، وزوج الزكية الطاهرة؛ اذهبوا به إلى أعلى عليين الفردوس.
ثم يقول: هاتوا معاوية. فأجلس بين يديه صبيّ، فقال له: أنت القاتل عمار بن ياسر، وخزيمة بن ثابت ذا الشهادتين، وحجر بن الأدبر الكندي الذي أخلقت وجهه العبادة؛ وأنت الذي جعل الخلافة ملكا، واستأثر بالفيء، وحكم بالهوى، واستنصر بالظلمة؛ وأنت أول من غيّر سنة رسول الله صلّى الله عليه وسلّم، ونقض أحكامه، وقام بالبغي، اذهبوا به فأوقفوه مع الظلمة! ثم قال: هاتوا يزيد. فأجلس بين يديه غلام، فقال له: يا قوّاد! أنت الذي قتلت أهل الحرةّ، وأبحت المدينة ثلاثة أيام، وانتهكت حرم رسول الله صلّى الله عليه وسلّم، وآويت الملحدين، وبؤت باللعنة على لسان رسول الله صلّى الله عليه وسلّم، وتمثلت بشعر الجاهلية.
ليت أشياخي ببدر شهدوا ... جزع الخزرج من وقع الأسل «2»
وقتلت حسينا، وحملت بنات رسول الله صلّى الله عليه وسلّم سبايا على حقائب الإبل؛ اذهبوا به إلى الدرك الأسفل من النار.
ولا يزال يذكر واليا بعد وال، حتى بلغ إلى عمر بن عبد العزيز، فقال: هاتوا عمر. فأتى بغلام فأجلس بين يديه، فقال: جزاك الله خيرا عن الإسلام، فقد أحييت العدل بعد موته، وألفت القلوب القاسية، وقام بك عمود الدين على ساق، بعد شقاق ونفاق؛ اذهبوا به فألحقوه بالصديقين.
ثم ذكر من كان بعده من الخلفاء إلى أن بلغ دولة بني العباس، فسكت فقيل له:(7/169)
هذا أبو العباس أمير المؤمنين. قال: فبلغ أمرنا إلى بني هاشم؟ ارفعوا حساب هؤلاء جملة واقذفوا بهم في النار جميعا.
من أخبار عيناوة
ومن مجانين الكوفة: عيناوة وطاق البصل. قيل لعيناوة: من أحسن، أنت أو طاق البصل؟ قال: أنا شيء وطاق البصل شيء.
من أخبار طاق البصل
وكان طاق البصل يغني بقيراط ويسكت بدانق، وكان عيناوة جيد القفا، فربما مر به من يعبث فيصفعه، فحشا قفاه خراء وقعد على قارعة الطريق، فإذا صفعه احد قال: شمّ يدك يا فتى! فلم يصفعه أحد بعد ذلك.
رجل وأحمق
ووعد رجل رجلا من الحمقى أن يهدي له نعلا حضرمية، فطال عليه انتظارها فبال في قارورة وأتى الطبيب وقال: انظر في هذا الماء إن كان يهدي إليّ بعض إخواني نعلا مضرمية.
من أخبار مجيبة
وكان بالكوفة امرأة حمقاء يقال لها مجيبة فقفد «1» عيناوة فتى كان أرضعته مجيبة، فقال له لما وجده: كيف لا تكون أرعن ومجيبة أرضعتك؟ فو الله لقد زقّت لي فرخا ما زلت أرى الرعونة «2» في طيرانه!.
هبنقة وجر نفش
ومن المجانين: هبنقة القيسي، وجرنفش السدوسي، واسم هبنقة: يزيد بن ثروان، وكنيته: ابو نافع، وكان يحسن من إبله إلى السمان ويسيء إلى المهازيل، فسئل عن(7/170)
ذلك فقال إنما اكرم ما أكرم الله، وأهين ما أهان الله.
وشرد بعير له، فجعل بعيرين لمن دلّ عليه، فقيل له: أتجعل بعيرين في بعير؟
قال: إنكم لا تعرفون فرحة من وجد ضالته! وافترس الذئب له شاة، فقال لرجل: خلّصها من الذئب وخذها، فان فعلت فأنت والذئب واحد.
وساوم رجل هبنقة «1» فقال: اشتريتها بستة، وهي خير من سبعة، وأعطيت فيها ثمانية، وإن أردتها بتسعة، وإلا فزن عشرة! وكان باقل الذي يضرب به المثل في العيّ، اشترى شاة بأحد عشر درهما فسئل:
بكم اشتريت الشاة؟ ففتح يديه جميعا وأشار بأصابعه وأخرج لسانه، ليتّم العدد أحد عشر.
الفرزدق والجرنفش
ولما قرّب الفرزدق رأس بغلته من الماء، قال له الجرنفش: نحّ رأس بغلتك حلق الله شأفتك! قال: لماذا عافاك الله؟ قال لانك كذوب الحنجرة زاني الكمرة، فصاح الفرزدق: يا بني سدود. فاجتمعوا إليه، فقال: سوّدوا الجرنفش عليكم، فما رأيت فيكم أعقل منه.
الجرنفش وهبنقة
قال الأصمعي: سوبق بين الجرنفش وهبنقة، أيهما أجنّ وأحمق، فجاء جرنفش بحجارة خفاف من جص، وجاء هبنقة بحجارة ثقال وترس، فبدأ الجرنفش فقبض على حجر. ثم قال: درّي عقاب، بلبن وأشخاب! ثم رفع صوته وقال: الترس! فرمى الترس فأصابه، فانهزم هبنقة، فقيل له: لم انهزمت؟ فقال: إنه قال: الترس! ورمى الترس فلم يخطئه، فلو أنه قال العين ورماها أما كان يصيب عيني؟(7/171)
ابن المعتمر وامرأة
وتبع داود بن المعتمر امرأة ظنّها من الفواسد، فقال لها: لولا ما رأيت عليك من سيما الخير ما تبعتك. فضحكت المرأة وقالت: إنما يعتصم مثلي من مثلك بسيما الخير.
فأما إذا صارت سيما الخير من سيما الشر فالله المستعان.
بينه وبين اخرى
ووقع داود هذا بجارية، فلما أمعن في الفعل قال لها: أثيّب أم بكر؟ فقالت له:
سل المجرّب.
بين غزوان وأمه
قالت ام غزوان الرقاشي لابنها، وهو يقرأ في المصحف: يا غزوان، لعلك تجد في هذا المصحف حمارا كان أبوك في الجاهلية فقده! فقال: يا أماه، بل اجد فيه وعدا حسنا ووعيدا شديدا.
رجل من النوكى وشيخ في الحمام
ونظر رجل من النوكى إلى شيخ في الحمام وعليه سرّة كأنها مدهن عاج، فقال له:
يا شيخ، دعني اجعل ذكري في سرّتك! فقال له: يابن أخي، وأين يكون استك حينئذ؟
مجانين القصاص
قال ابو دحية القاص: ليس فيّ خير ولا فيكم، فتبلّغوا بي حتى تجدوا خيرا مني.
وقال في قصصه يوما: كان اسم الذئب الذي أكل يوسف كذا! قالوا: إن يوسف لم يأكله الذئب. قال: فهذا اسم الذئب الذي لم يأكل يوسف.(7/172)
وقال ثمامة بن أشرس، سمعت قاصا ببغداد يقول: اللهم ارزقني الشهادة أنا وجميع المسلمين.
ووقع الذباب على وجهه، فقال: ما لكم، كثّر الله بكم القبور.
قال: ورأيت قاصا يحدّث الناس بقتل حمزة، فقال: ولما بقرت هند عن كبد حمزة واستخرجتها فعضتها ولاكتها ولم تزدردها، فقال النبي صلّى الله عليه وسلّم: لو ازدردتها ما مستها النار! ثم رفع القاص يديه إلى السماء وقال: اللهم اطعمنا من كبد حمزة.
باب نوكى الاشراف.
ابن زيد مناة
من النوكى المتقدمين: مالك بن زيد مناة بن تميم، لما دخل على امرأته ناجية مغضبا، فلما رأت ما به من الجهل والجفاء قالت: ضع شملتك. قال جسدي أحفظ لها! قالت: اخلع نعليك. قال: رجلاي أحق بهما! فلما رأت ذلك قامت وجلست إليه، فلما شم رائحة الطيّب وثب عليها.
ابن لجيم
ومن النوكى: عجل بن لجيم، قال أبو عبيدة: أرسل ابن لعجل بن لجيم فرسا في حلبة فجاء سابقا، فقال لابيه: كيف ترى أن أسمّيه يا أبت؟ قال: افقأ إحدى عينيه وسمّه الأعور.
قال الشاعر:
رمتني بنو عجل بداء أبيهم ... وأيّ عباد الله أنوك من عجل؟
أليس أبوهم عار عين جواده ... فأضحت به الامثال تضرب في الجهل؟
ومن بني عجل: دغة التي يضرب بها المثل في الحمق، وقد ذكرنا نسبها وخبرها في كتاب الامثال.(7/173)
عبيد الله بن مروان
ومن نوكى الاشراف: عبيد الله بن مروان عم الوليد بن عبد الملك، بعث إلى الوليد قطيفة حمراء، وكتب إليه: إني قد بعثت إليك قطيفة حمراء. فكتب إليه: قد وصلت القطيفة وأنت والله يا عمّ أحمق أحمق.
معاوية بن مروان
ومنهم معاوية بن مروان، وقف على باب طحان، فرأى حمارا يدور بالرحا وفي عنقه جلجل، فقال للطحان؛ لم جعلت الجلجل في عنق الحمار؟ قال: ربما ادركتني سآمة أو نعاس، فإذا لم أسمع صوت الجلجل علمت أنه وقف فصحت به فانبعث.
قال: أفرأيت إن وقف وحرّك رأسه بالجلجل وقال هكذا وهكذا- وحرك رأسه-[فما علمك أنه واقف] ؟ فقال له: ومن لي بحمار يكون عقله مثل عقل الامير؟
وهو القائل وضاع له باز: أغلقوا أبواب المدينة لا يخرج البازي! وأقبل إليه قوم من جيرانه فقالوا: مات جارك أبو فلان، فمر له بكفن! فقال:
ما عندنا اليوم شيء، ولكن عودوا إلينا إذا نبش.
وأقبل إليه رجل أحمق منه، فقال له: تعيرنا أصلحك الله ثوبا نكفن فيه ميتا؟
قال: أخشى أنه ينجسه، فلا تلبسه إياه حتى يغسل ويطهر!
عيينة بن حصن
ومن النوكى الاشراف: عيينة بن حصن، دخل على عثمان بغير اذن، وكانت عنده ابنته، فقال له عثمان، ألا استأذنت! قال: ما ظننت ان هنا من احتاج ان استأذن عليه؛ قال: ادن فتعشّ. فقال: انا صائم. قال: تصوم الليل وتفطر النهار! وكان النبي صلّى الله عليه وسلّم يسميه السفيه المطاع.
أبان بن عثمان
ومن حمقى قريش: ابان بن عثمان بن عفان، قال الشعبي: قدم أبان على معاوية(7/174)
فقال: يا أمير المؤمنين، زوّجني ابنتك. قال: يا ابن اخي، هما اثنتان: إحداهما عند ابن عامر، والاخرى عند اخيك عمرو. قال: كنت أظن ان لك ثالثة! قال: يا ابن اخي، تخطب إليّ ولا تدري لي بنت ام لا! رحم الله أباك.
معاوية بن مروان أيضا
ومرّ معاوية بن مروان بحقل له فلم ير فيها ما يعجبه؛ فقال: ما كذب من قال: كل حقل لا ترى است صاحبها لا تفلح أبدا، ثم نزل عن دابته وأحدث فيها ثم ركب.
وهو الذي يقول لابي امرأته: ملأتني البارحة ابنتك دما! قال: إنها من نسوة يخبأن ذلك لازواجهن [وقال له أيضا يوما آخر: لقد نكحت ابنتك بعصبة ما رأت مثلها قط! قال] : لو كنت خصيا ما زوجناك، وعلى الذي غرّنا بك لعنة الله!
أبو العاج
وكان ابو العاج واليا بواسط، فأتاه صاحب شرطته بقوّادة، فقال: ما هذه؟
قال: قوادة؛ قال: وما تصنع؟ قال: تجمع بين الرجال والنساء! قال: وإنما جئتني بها لتعرّفها بداري؟ خلّ عنها لعنك الله ولعنها.
الربيع العامري
وكان الربيع العامري واليا باليمامة، فأتى بكلب قد عقر كلبا، فأقاده؛ فقال فيه الشاعر:
شهدت بأنّ الله حقّ لقاؤه ... وأن الربيع العامريّ رقيع
أقاد لنا كلبا بكلب فلم يدع ... دماء كلاب العامريّ تضيع
وقال عوانة: استعمل معاوية رجلا من كلب، فذكر يوما المجوس وعنده النار،(7/175)
فقال: لعن الله المجوس ينكحون أمّاتهم، والله لو أعطيت مائة الف درهم ما نكحت أمي [فبلغ ذلك معاوية، فقال قبحه الله أترونه لو زادوا فعل، وعزله] .
ثلاثة اخوة من بني عتاب
وكان بالبصرة ثلاثة اخوة من بني عتاب بن أسيد، كان أحدهم يحج عن حمزة ويقول: استشهد قبل أن يحج! وكان الآخر يضحّي عن أبي بكر وعمر، ويقول أخطآ السّنة في ترك الأضحية، وكان الثالث يفطر أيام التشريق «1» عن عائشة، ويقول: غلطت رحمها الله صومها أيام التشريق.
الرشيد ورجل من النوكى
ولعب رجل من النوكى بين يدي الرشيد بالشطرنج، فلما رآه قد استجاد لعبه قال له: يا أمير المؤمنين، ولّني نهر بوق. فقال له: ويلك! أولّيك نصفه، اكتبوا عهده على بوق. قال: فولّني أرمينية. قال: إذا يبطىء على أمير المؤمنين خبرك.
أهل العي والجهل المشبهون بالمجانين
ابن أبي سود
خطب وكيع بن أبي سود وهو والي خراسان، فقال في خطبته: إن الله خلق السموات والارض في ستة أشهر! فقالوا له: بل في ستة أيام! فقال: والله لقد قلتها وأنا أستقلها.
عدي بن زياد
وخطب عدي بن زياد الإيادي فقال في خطبته: أقول لكم ما قال العبد الصالح(7/176)
لقومه: ما أُرِيكُمْ إِلَّا ما أَرى وَما أَهْدِيكُمْ إِلَّا سَبِيلَ الرَّشادِ
«1» فقالوا له: إن هذا ليس من قول العبد الصالح، إنما هو من قول فرعون! فقال: من قاله فقد أحسن!
ابن ورقاء
وخطب عتاب بن ورقاء الرياحي فقال: أقول لكم كما قال الله في كتابه:
كتب القتل والقتال علينا ... وعلى الغانيات جرّ الذّيول
والي باليمامة
وخطب وال باليمامة فقال في خطبته: إن الله تبارك وتعالى لا يعاون عباده على المعاصي، وقد اهلك امة عظيمة على ناقة ما كانت تساوي مائتي درهم. فسمي مقوّم الناقة.
ابن سنان
وبكى حول ابن سنان أولاده وأهله حين ودّعوه وهو يريد مكة حاجا؛ فقال: لا تبكوا، فإني أرجو أن أضحّي عندكم!
كردم السدوسي
ودخل قوم دار كردم السدوسي فقالوا له: أين القبلة في دارك هذه؟ فقال: إنما سكنّاها منذ ستة أشهر.
ودخل كردم السدوسي على رجل، فدعاه إلى الغذاء؛ فقال: قد أكلت. قال: وما أكلت؟ قال: قليل أرز فأكثرت منه!
عناق
وقيل لابي عبد الملك عناق: بأي شيء تزعمون أن أبا علي الاسواري أفضل من(7/177)
سلام أبي المنذر؟ قال: لانه لما مات سلام ابو المنذر مشى أبو عليّ في جنازته، فلما مات أبو عليّ لم يمش في جنازته!
كردم
ومرض كردم، فقال له عمه: أيّ شيء تشتهي؟ فقال: رأس كبشين! قال: لا يكون. قال: فرأسي كبش! قال: لا يكون: فقال: لست أشتهي شيئا.
ابن طارق
وقال مسعدة بن طارق الذرّاع: إنا لوقوف على حدود دار نقسمها، إذ أقبل عيص سيد بني تميم والمصلي على جنائزهم، ونحن في خصومة لنصلح بينهم؛ فقال:
خبروني عن هذه الدار هل ضم بعضها إلى بعض أحد؟ ... فأنا منذ ستين سنة أفكّر في كلامه فما أدرك له معنى ولا مجازا.
وأقبل كردوم السدوسي إلى قوم ليكسر لهم دورا، فوجد دارا منها فيها زنقة «1» فقال: ليست هذه الدار لكم. فقالوا: بلى، والله ما نازعنا أحد قط فيها. قال:
فليست الزنقة لكم. قالوا: فكسر ما صح عندك أنه لنا ودع الزنقة. فكسر صحن الدار، فقال: عشرون في عشرين مائتان! قالوا: من هذا المعنى لم تكن الزنقة عندك لنا؛ عشرون في عشرين مائتان.
فرضى
وسئل آخر كان ينظر في الفرائض عن فريضة لم يعرفها، فالتمسها في كتابه فلم يجدها؛ فقال: لم يمت هذا الرجل بعد، ولو مات لوجدت فريضته في كتابي.
وعزى قوما فقال: أجركم الله وأعظم أجوركم وأجركم، فقيل له في ذلك، فقال:
مثل قول مروان بن الحكم: بارك الله فيكم وبارك لكم وبارك عليكم.(7/178)
أبو ادريس السمان
وكان ابو إدريس السمان يكتب: فلا صحبك الله إلا بالعافية، ولا حيا وجهك إلا بالكرامة!
رجل ووكيله
العتبي قال: بعث رجل وكيله إلى رجل من الوجوه يقتضيه ما عليه، فرجع إليه مضروبا؛ فقال: ما لك ويلك؟ قال: سبك فسببته فضربني. قال: وبأي شيء سبني؟
قال: [قال:] : هن الحمار في حر امّ الذي أرسلك! قال له: دعني من افترائه عليّ؛ وأخبرني أنت كيف جعلت لاير الحمار من الحرمة ما لم تجعل لحر امي؟ هلا قلت:
أير الحمار في هن أمّ من ارسلك!
أبو نواس ووراق
وقال أبو نواس: قلت لاحد الوراقين الذين يكتبون بباب البطوني: إيّما أسنّ أنت أم أخوك؟ قال: إذا جاء رمضان استوينا!
المأمون وابن اشرس
قال ثمامة بن أشرس للمأمون: مررت في غبّ مطر والارض ندية والسماء متغيمة والريح شمال، وإذا بشخص أصفر كأنه جرادة، وقد قعد على قارعة الطريق، وحجّام يحجمه على كاهله وأخدعيه بمحاجم كأنها قعاب «1» وقد مص دمه حتى كاد يستفرغه، فقلت: يا شيخ، لم تحتجم في هذا البرد؟ قال: لهذا الصّفار الذي بي.
أبو عتاب وبره بأمه
وقيل لابي عتاب: كيف برّك بأمّك؟ قال: والله ما قرعتها بسوط قط!(7/179)
النوكى من نساء الأشراف
دغة العجلية، وجهيزة، وشولة، وذراعة، وسارية الليل، وريطة بنت كعب، وهي التي نقضت غزلها أنكاثا، وفيها يقال في المثل: خرقاء وجدت صوفا.
وقال عمرو بن عثمان: شيعت القاضي عبد العزيز بن عبد المطّلب المخزومي قاضي مكة إلى منزله، وبباب المسجد حمقاء تصفق بيديها وتقول:
أرّق عينيّ ضراط القاضي فقال لي: يا أبا حفص، أراها تعني قاضي مكة؟
من حكم المجانين
وقد يأتي لهؤلاء المجانين كلام نادر محكم لا يسمع بمثله، كما قالوا: ربّ رمية من غير رام.
قيل لدغة: أي بنيك أحب إليك؟ قالت: الصغير حتى يكبر، والمريض حتى يفيق، والغائب حتى يرجع.
ومن أخبار اهل العي المشبهين بالمجانين
أبو طالب
دخل أبو طالب صاحب الحنطة على هاشمية جارية حمدونة بنت الرشيد، ليشتري طعاما من طعامهم؛ فقال لها: قد رأيت متاعك وقلبته، قالت له: هلا قلت طعامك يا أبا طالب! قال: قد أدخلت يدي فيه فوجدته قد حمي وصار مثل الجيفة، قالت:
يا أبا طالب، الست قد قلّبت الشعير فأعطنا به ما شئت وإن كان فاسدا.(7/180)
رجلان من النوكى وعبد لهما
قال الأصمعي: كان بين رجلين من النّوكى عبد. فقام أحدهما يضربه، فقال له شريكه: ما تصنع؟ قال: أنا أضرب نصيبي منه! قال: وأنا أضرب حصتي فيه! وقام فضربه؛ فكان من رأى العبد أن سلح عليهما وقال: اقسما هذه على قدر الحصص.
باكية على قبر
ومرّ بعضهم بامرأة قاعدة على قبر وهي تبكي، فقال لها: ما هذا الميّت منك؟
قالت: زوجي! قال: وما كان عمله؟ قالت: كان يحفر القبور! قال: أبعده الله، أما علم أنه من حفر حفرة وقع فيها.
ابن أشرس ورجل من النوكى
وطلب رجل من النّوكى من ثمامة بن أشرس أن يسلفه مالا ويؤخّره به؛ قال:
هاتان حاجتان، وأنا أقضي لك إحداهما. قال: رضيت. قال: أنا أؤخرك ما شئت ولا أسلفك.
امرأة ابي رافع وصيرفي
وكان ابو رافع مولى رسول الله صلّى الله عليه وسلّم؛ وآل أبي رافع من فضلاء أهل المدينة وخيارهم، مع بله فيهم وعيّ شديد؛ فمن ذلك: أن امرأة ابي رافع رأته في نومها بعد موته، فقال لها: أتعرفين فلانا الصيرفي؟ قالت له: نعم. قال: فإن لي عليه مائتي دينار.
فلما انتبهت غدت إلى الصيرفي فأخبرته الخبر، وسألته عن المائتي دينار؛ فقال رحم الله أبا رافع، والله ما جرت بيني وبينه معاملة قط! فأقبلت إلى مسجد المدينة، فوجدت مشايخ من آل أبي رافع، كلهم مقبول القول، جائز الشهادة؛ فقصت عليهم الرؤيا، وأخبرتهم خبرها مع الصيرفي وإنكاره لما ادّعاه أبو رافع؛ قالوا: ما كان أبو رافع ليكذب في نوم ولا يقظة! قرّبي صاحبك إلى السلطان، ونحن نشهد لك عليه!(7/181)
فلما علم الصيرفي عزم القوم على الشهادة لها، وعلم أنهم إن شهدوا عليه لم يبرح حتى يؤدّيها: قال لهم: إن رأيتم أن تصلحوا بيني وبين هذه المرأة على ما ترونه فافعلوا.
قالوا: نعم والصلح خير، ونعم الصلح الشطر؛ فأدّ إليها مائة دينار من المائتين! فقال لهم: أفعل، ولكن اكتبوا بيني وبينها كتابا يكون وثيقة لي. قالوا: وكيف تكون هذه الوثيقة؟ قال: تكتبون لي عليها انها قبضت مني مائة دينار صلحا على المائتي دينار التي ادّعاها ابو رافع عليّ في نومها، وأنها قد أبرأتني منها، وشرطت على نفسها ان لا ترى أبا رافع في نومها مرة اخرى، فيدعي عليّ بغير هذه المائتي دينار، فتجيء بفلان وفلان يشهدان عليّ لها! فلما سمعوا الوثيقة انتبه القوم لانفسهم، وقالوا: قبحك الله وقبح ما جئت به.
عامر بن عبد الله
ومنهم عامر بن عبد الله بن الزبير، أتي بعطائه وهو في المسجد، فقام ونسيه في موضعه؛ فلما أتى البيت ذكره، فقال: يا غلام، ائتني بعطائي الذي نسيت في المسجد! قال: وأين يوجد وقد دخل المسجد بعدك جماعة؟ وبقي أحد يأخذ ما ليس له!؟
وسرقت نعله مرة، فلم يلبس نعلا بعدها حتى مات، وقال: أكره أن أتخذ نعلا يجيء من يسرقها فيأثم! وفي هذا الضرب يقول أبو أيوب السختياني: من أصحابي من أرجو بركته ودعاءه ولا أقبل شهادته.
عابد في بني اسرائيل
قال الأصمعي: كان الشعبي يحدّث انه كان في بني إسرائيل عابد جاهل قد ترهّب في صومعته، وله حمار يرعى حول الصومعة؛ فاطّلع عليه من الصومعة فرآه يرعى، فرفع يده إلى السماء فقال: يا رب، لو كان لك حمار كنت أرعاه مع حماري وما كان(7/182)
يشق عليّ! فهمّ به نبي كان فيهم في ذلك الزمان، فأوحى الله إليه: دعه، فإنما أثيب كل إنسان على قدر عقله.
ابن سيرين ومجنون
هشام بن حسان قال: أقبل رجل إلى محمد بن سيرين فقال: ما تقول في رؤيا رأيتها! قال: وما رأيت؟ قال كنت أرى ان لي غنما، فكنت أعطي بها ثمانية دراهم، فأبيت من البيع ففتحت عيني فلم أر شيئا، فأغلقتها ومددت يدي؟ وقلت:
هاتوا أربعة. فلم أعط شيئا فقال له ابن سيرين: لعل القوم اطلعوا على عيب في الغنم فكرهوها! قال: يمكن الذي ذكرت.
شعراء المجانين
منهم أبو ياسين الحاسب، وجعيفران، وجرنفش، وأبو حية النميري، وريسيموس، وصالح بن شرزاد الكاتب.
وكان أبو حية أجنّ الناس وأشعر الناس، وهو القائل:
ألا حيّ أطلال الرسوم البواليا ... لبسن البلى مما لبسن الّلياليا
إذا ما تقاضى المرء يوم وليلة ... تقاضاه أمر لا يملّ التّقاضيا
وهو القائل أيضا:
فلأبعثنّ مع الرّياح قصيدة ... منى مغلغلة إلى القعقاع
ترد المنازل لا تزال غريبة ... في القوم بعد تمتّع وسماع
وهو القائل أيضا:
فأبدت قناعا دونه الشمس واتّقت ... بأحسن موصولين كفّ ومعصم
وأما جعيفران الموسوس الشاعر، وهو من مجانين الكوفة، فإنه لقى رجلا فأعطاه درهما وقال له: قل شعرا على الجيم فقال:(7/183)
عادني الهمّ فاعتلج ... كلّ همّ إلى فرج
سلّ عنك الهموم بال ... كأس والراح تنفرج
وهو القائل:
ما جعفر لأبيه ... ولا له بشبيه
أضحى لقوم كثير ... فكلهم يدّعيه
هذا يقول بنيّ ... وذا يخاصم فيه
والأمّ تضحك منهم ... لعلمها بأبيه
قال أبو الحسن: استأذن جعيفران على بعض الملوك، فأذن له، وحضر غذاؤه، فتغذى معه؛ فلما كان من الغد استأذن فحجبه، ثم أتاه في الثالثة فحجمه، فنادى بأعلى صوته:
عليك إذن فإنا قد تغذينا ... لسنا نعود، وإن عدنا تعدّينا
يا أكلة ذهبت أبقت حرارتها ... داء بقلبك ما صمنا وصلّينا!
أبو وائل
: العتبي قال: قال أبو وائل لأبي: إن فيّ حماقة، ولكن إن طلبت الشّعر وجدت عندي منه علما. قال: وهل تقول منه شيئا؟ قال: نعم، أقول أجود من قولك، وأنا الذي أقول:
لو أنّ جومل كلّمتني بعد ما ... نسيت جوانحي البكاء وأقبر
لحسبت ميّت أعظمي سيجيبها ... أو أنّ باليها الرّحيم سينشر «1»
قال له أبي: أما الشعر فحسن، إلا أن اسم المرةأ قبيح. قال: الآن اسم المرأة جمل، ولكنني ملحته بحومل! فقال له: إن هذا من الحماقة التي بريء إلينا منها.
قال العتبي: قال أبي وأنشدني أبو وائل:(7/184)
ما أوجع البين من غريب ... فكيف إن كان من حبيب «1»
يكاد من شوقه فؤادي ... إذا تذكرته يموت
فقال له أبي: إن هذا باء وهذا تاء. قال: لا تنقط أنت شيئا. قلت: يا هذا إن البيت الأول مخفوض وهذا مرفوع. قال: أنا أقول لا تنقط: وهو يشكل! ولما توفيت أم سليمان بن وهب الكاتب، أخي الحسن بن وهب، دخل عليه رجل من نوكى الكتاب يسمى صالح بن شيرزاد، بشعر يرثيها فيه، فأنشده:
لأمّ سليمان علينا مصيبة ... مغلغلة مثل الحسام البواتر
وكنت سراج البيت يا أمّ سالم ... فأمسى سراج البيت وسط المقابر
فقال سليمان: ما نزل بأحد ما نزل بي: ماتت أمي، ورثيت بمثل هذا الشعر ونقل اسمي من سليمان إلى سالم! ومن قول صالح بن شيرزاد هذا:
لا تعدلنّ دواء بالنساء فإن ... كان الضراك فذاك الآذر يطوس «2»
أبو الواسع ومجنون
: ودخل بعض شعراء المجانين على أبي الواسع وحوله بنوه، فاستأذنه في الإنشاد فاستعفى، فلم يزل به حتى أذن له؛ فأنشده شعرا، فلما انتهى فيه إلى قوله:
وكيف تنفى وأنت اليوم رأسهم ... وحولك الغرّ من أبنائك الصّيد «3»
قال له: ليتك تركتنا رأسا برأس.(7/185)
ابن سيار ومجنون
: وقيل: وفد أعرابي من شعراء المجانين إلى نصر بن سيار بشعر تغزل فيه بمائة بيت، ومدحه ببيتين؛ فقال له: والله ما تركت قافية لطيفة ولا معنى إلا شغلت به نسيبك دون مدحك. قال: سأقول غير هذا. فغدا عليه بشعر يقول فيه:
هل تعرف الدار لأمّ الغمر ... دع ذا وحبّر مدحة في نصر «1»
فقال له نصر: لا ذا ولا ذاك.
وقال بعض العلماء: ما شبّهت تأويل الرافضة في قبح مذهبهم إلا بتأويل رجل من مجانين أهل مكة للشعر؛ فإنه قال: ما سمعت بأكذب من بني تميم؛ زعموا أن قول القائل:
بيت زرارة محتب بفنائه ... ومجاشع وأبو الفوارس نهشل «2»
... زعموا أن هذه أسماء رجال منهم! قال بعض أهل الأدب: قلت له: وما عندك أنت فيه؟ قال: البيت بيت الله، وزرارة الحجر، ومجاشع زمزم جشعت بالماء، وأبو الفوارس هو أبو قبيس جبل مكة! قلت له: فنهشل؟ قال نهشل ... ؟ وفكر فيه ساعة، ثم قال: قد أصبته؛ وهو مصباح الكعبة طويل أسود؛ فذلك النهشل!
من أخبار مجانين دير هزقل
: قال المبرد محمد بن يزيد النحوي: خرجنا من بغداد نريد واسطا، فملنا إلى دير هزقل ننظر إلى المجانين، فإذا المجانين كلهم قد رأونا، ونظرنا إلى فتى منهم قد غسل ثوبه ونظفه وجلس ناحية عنهم؛ فقلنا: إن كان فهذا فوقفنا به، فسلمنا عليه فلم يردّ السلام؛ فقلنا له: ما تجد؟ فقال:
الله يعلم أنني كمد ... لا أستطيع أبثّ ما أجد «3»(7/186)
نفسان لي نفس تضمّنها ... بلد وأخرى حازها بلد
وأرى المقيمة ليس ينفعها ... صبر وليس بفوقها جلد
وأظنّ غائبتي كشاهدتي ... فكأنّها تجد الذي أجد
فقلت له: أحسنت والله! فأومأ إلى شيء ليرمينا به، وقال: أمثلي يقال له أحسنت! قال: فولينا عنه هاربين، فقال: أسألكم بالله ألا ما رجعتم حتى أنشدكم فإن أحسنت قلتم لي أحسنت، وإن أسأت قلتم لي أسأت. قال: فرجعنا ووقفنا، وقلنا له: قل. فأنشأ يقول:
لما أناخوا قبيل الصبح عيسهم ... ورحّلوها وسارت بالدّمى الإبل «1»
وقلّبت من خلال السّجف ناظرها ... ترنو إليّ ودمع العين منهمل «2»
وودّعت ببنان عقده عنم ... ناديت: لا حملت رجلاك يا جمل»
ويلي من البين! ماذا حلّ بي وبها ... من نازل البين؟ حلّ البين وارتحلوا «4»
يا راحل العيس عرج كي أودّعهم ... يا راحل العيس في ترحالك الأجل «5»
إني على العهد لم أنقض مودّتهم ... يا ليت شعري بطول العهد ما فعلوا
قال: فقلنا له: ماتوا! فصاح وقال: وأنا والله أموت: وتربع وتمدد فمات، فما برحنا حتى دفناه.
وقال محمد بن يزيد المبرّد: دخلنا دير هزقل، فإذا بمجنون بيده حجر، وقد تفرّق الناس عنه، وهو يقول: يا معشر إخواني، اسمعوا مني. ثم أنشأ يقول:
وذي نفس صاعد ... يئن بلا عائد
يكرّ على جحفل ... ويضعف عن واحد «6»(7/187)
وأنشد أبو العباس لمان الموسوس:
له وجنات في بياض وحمرة ... فحافاتها بيض وأوساطها حمر
رقاق يحول الماء فيها كأنها ... زجاج أريقت في جوانبها الخمر
وقال محمد بن يزيد: أصابتنا سحابة جود، ثم أقلعت سريعا، فمر بي مان الموسوس فقال:
لا تظنّ الذي جرى ... مطرا كان ممطرا
إنما ذاك كلّه ... دمع عيني تحدّرا «1»
وتوالت غيومها ... من همومي تفكّرا
هكذا حال من يرى ... من حبيب تغيّرا
وقف مان الموسوس على أبي دلف، فأنشده:
كرات عينك في العدا ... تغنيك عن سلّ السّيوف
فقال أبو دلف: والله ما مدحت قط بمثل هذا البيت! وأمر له بعشرة الآف درهم، فأبى أن يقبضها وقال: نقنع من هذا بنصف درهم في هريسة.
ولمان الموسوس:
من الظباء ظباء همّها السّخب ... وحليها الدّرّ والياقوت والذهب
يا حسن ما سرقت عيني وما انتهبت ... والعين تسرق أحيانا وتنهب
إذا يد سرقت فالحدّ يقطعها ... والحدّ في سرقة العينين لا يجب
أبو الجهم ومبرسم
: ومرّ عليّ بن الجهم بمبرسم قد اجتمع الناس عليه، وتحلّقوا حوله؛ فلما رآه المبرسم قصد نحوه، وأخذ بعنانه، ثم أنشأ يقول:
لا تحلفنّ بمعشر ال ... همج الذين أراهم(7/188)
فوحقّ من أبلى بهم ... نفسي ومن عافاهم
لو قيس موتاهم بهم ... كانوا هم موتاهم
ثم نظر حوله فرأى جميل الهيئة حسن الوجه، فشق ثيابه وقال:
هذا السعيد لديهم ... قد صار بي أشقاهم
أبو فحمة
قال أبو البحتري الشاعر: كان يبلغني أن ببغدا مجنونا يكنى أبا فحمة، له بديهة حسنة، فتعرضت له، فأتيح لي لقاؤه في بعض سكت بغداد؛ فقلت له: كيف أصبحت أبا فحمة؟ فأنشأ يقول:
أصبحت منك على شفاجرف ... متعرّض لموارد التّلف «1»
وأراك نحوي غير ملتفت ... متحرّفا عن غير منحرف
يا من أطال بهجره كلفي ... أسفي عليك أشدّ من كلفي
قال أبو البحتري: فأخرجت له قبصة نرجس كانت في كمّي فحيّيته بها، فجعل يشمها مليا، ثم أنشأ يقول:
لمّا تزوجت الجنوب بهاطل ... جون هتون زبرج دلّاح «2»
أضحى يلقّحها بوسمي الصّبا ... فاستثقلت حملا بغير نكاح «3»
حتى إذا حان المخاض تفجّرت ... فأتت بولدان بلا أرواح
حاك الربيع لها ثيابا وشّيت ... بيد النّدى وأنامل الأرواح
من أصفر في أزهر قد زانه ... تبر على ورق من الأوضاح
ركّبن في عمد الزّبرجد فاغتدى ... نحو الغزالة ناظرا بملاح(7/189)
من شعر ماني
: قال الحسن بن هانيء: لقيت مانيا الموسوس، فأنشدني:
شعر حيّ أتاك من لفظ ميت ... صار بين الحياة والموت وقفا
قد برت جسمه الحوادث حتى ... كاد عن أعين البريّة يخفى
لو تأمّلتني لتبصر شخصي ... لم تبيّن من المحاسن حرفا
من شعر جعيفران
: ثم مضيت فأتيت جعيفران الموسوس، وهو شيخ من بني هاشم أرتّ «1» اللسان، وعليه قيد من فضة، وفي عنقه غل من ذهب؛ فقال لي: من أين دببت يا حسن؟
قلت: من بيت مانويه. فقال: في حرام مانويه. فدعا بدواة وقرطاس، وقال لي:
اكتب.
ما غرّد الديك ليلا في دجنّته ... إلا حثثت إليك السير مجهودا «2»
ولا هدت كلّ عين لذّ راقدها ... بنومة في لذيذ العيش ممهودا
إلا امتطيت الدّجا شوقا إليك ولو ... أصبحت في حلق الأقياد مصفودا «3»
أسعى مخاطرة بالنّفس يا أملي ... والليل مدّرع أثوابه السّودا
فلم ترقّ ولم ترث لمكتئب ... زوّدته حركات القلب تزويدا
هيهات لا غدر في جنّ ولا بشر ... من الخلائق إلا فيك موجودا
من شعر عدرد
: ثم قال: خرق رقعة مانويه. فخرقتها ثم مضيت، فلقيت عدرد المصاب وحوله الصبيان، وهو يلطم وجهه ويبكي، وينادي: أيها الناس، الفراق مرّ المذاق! فقلت له: أبا محمد، من أين أقبلت؟ قال: شيعت الحاج. قلت، وما الذي حملك على(7/190)
تشييعهم؟ فقال: لي فيهم سكن «1» . قلت: فهل قلت فيهم شيئا؟ قال: نعم. وأنشدني:
هم رحلوا يوم الخميس عشيّة ... فودّعتهم لمّا استقلوا وودّعوا
فلما تولّوا ولّت النفس معهم ... فقلت ارجعي قالت إلى أين أرجع؟
إلى جسد ما فيه لحم ولا دم ... وما هو إلا أعظم تتقعقع
وعينان قد أعياهما كثرة الكبا ... وأذن عصت عذّالها ليس تسمع
أديب ذاهب العقل
: أبو بكر الوراق قال: حدّثني صديق لي؛ قال: رأيت رجلا من أهل الأدب قد ذهب عقله بالمحبة، وخلفه دابة له تدور معه، فاستوقفته وقلت له: يا فلان، ما حالك؟ وأين النعمة؟ قال: تغير قلبي فتغيرت النعمة! قلت: بم تغيّر؟ قال: بالحب! ثم بكى وأنشأ يقول:
أرى التجمّل شيئا لست أحسنه ... وكيف أخفي الهوى والدّمع يعلنه «2»
أم كيف صبر محبّ قلبه دنف ... الهجر ينحله والشّوق يحزنه؟ «3»
وإنه حين لا وصل يساعفه ... يهوى السّلوّ، ولكن ليس يمكنه
وكيف ينسى الهوى من أنت همّته ... وفترة اللحظ من عينيك تفتنه؟
فقلت: أحسنت والله! فقال: قف قليلا، فو الله لأطرحنّ في أذنيك أثقل من الرصاص وأخف على الفؤاد من ريش الحواصل! وأنشد:
للحبّ نار على عيني مضرمة ... لم تبلغ النار منها عشر معشار
الماء ينبع منها من محاجرها ... يا للرّجال لماء فاض من نار!
ثم وقف وأنشد:
أعاد الصّدود فأحيا العليلا ... وأبدى الجفاء فصبرا جميلا «4»(7/191)
وردّ الكتاب ولم يقره ... لئلّا أردّ إليه الرسولا
وأحسب نفسي على ما ترى ... ستلقى من الهجر همّا طويلا
وأحسب قلبي على ما أرى ... سيذهب سنّي قليلا قليلا!
ثم ترك يدي ومضى:
وحكى أبو العباس المبرد قال: دخل عمرو بن مسعدة على المأمون وبين يديه جام «1» زجاج فيه سكر طبرزد وملح جريش؛ قال: فسلمت، فرد وعرض عليّ الأكل؛ فقلت: ما أريد شيئا، هنّأك الله يا أمير المؤمنين، فلقد باكرت بالغداء فإني بتّ جائعا. ثم أطرق ورفع رأسه وهو يقول:
اعرض طعامك وابذله لمن دخلا ... واحلف على من أبى، واشكر لمن أكلا
فلا تكن سابريّ العرض محتشما ... من القليل، فلست الدهر محتفلا «2»
ودعا برطل؛ ودخل رجل من أجلة الفقهاء، فمد يده إليه، فقال؛ والله يا أمير المؤمنين ما شربتها ناشئا، فلا تسقنيها شيخا! فردّ يده إلى عمرو بن مسعدة فأخذها منه، وقال: يا أمير المؤمنين، الله الله! إني عاهدت الله في الكعبة أن لا أشربها أبدا! ففكر طويلا؛ والكأس في يد عمرو بن مسعدة، حتى لقد ظن أنه سيأمر فيها؛ ثم قال:
ردّا عليّ الكأس إنّكما ... لا تعلمان الكأس ما تجدي
لو ذقتما ما ذقت ما امتزجت ... إلا بدمعكما من الوجد «3»
خوفتماني الله ربّكما ... وكخيفتيه رجاؤه عندي
إن كنتما لا تشربان معي ... خوف العقاب شربتها وحدي!
ابن أوس ومان في غلام
: محمد بن يزيد الأسدي قال: حدّثني حبيب بن أوس قال: كنت في غرفة لي على(7/192)
شاطىء دجلة في وقت الخريف، فإذا بغلام كنت أعرفه بجمال، قد تجرد من ثيابه وألقى نفسه في الدجلة يسبح فيها، وقد احمرّ جلده من برد الماء؛ وإذا مان الموسوس يرمقه ببصره، فلما خرج من الماء قال:
خمش الماء جلده الرطب حتى ... خلته لابسا غلالة خمر «1»
قلت له: لعنك الله يا ماني! أبعد الجهاد والغزو تحبّ غلاما قد بات مؤخرا في الحانات؟ فقال لي: ليس مثلك يخاطب يا أحمق، وإنما يخاطب هذا وأشار إلى السماء، وقال:
بكفّيك تقليب القلوب وإنني ... لفي ترح ممّا ألاقي فما ذنبي؟
خلقت وجوها كالمصابيح فتنة ... وقلت اهجر وها عزّ ذلك من خطب! «2»
فإما أبحت الصبّ ما قد خلقته ... وإما زجرت القلب عن لوعة الحب!
أخذ هذا المعنى يزيد بن عثمان فقال:
أيا ربّ تخلق ما تخلق ... وتنهي عبادك أن يعشقوا؟
إلهي، خلقت حسان الوجوه ... فأيّ عبادك لا يعشق
وقال أبو بكر الموسوس في نصراني:
أبصرت شخصك في نومي يعانقني ... كما تعانق لام الكاتب الألفا
يا من إذا درس الإنجيل ظلّ له ... قلب الحنيف عن الإسلام منصرفا!
وله فيه:
زنّاره في خصره معقود ... كأنه من كبدي مقدود
أخبار البخلاء
بخل أهل مرو، ولأبن أشرس فيهم
: أجمع الناس على بخل أهل مرو، ثم أهل خراسان.(7/193)
قال ثمامة بن أشرس: ما رأيت الديك قط في بلدة إلا وهو يدعو الدجاج ويثير الحب إليها ويلطف بها، إلا في مرو، فإني رأيته يأكل وحده، فعلمت أن لؤمهم في المآكل.
ورأيت في مرو طفلا صغيرا في يده بيضة، فقلت له: أعطني هذه البيضة. فقال:
ليس تسع يدك! فعلمت أن اللؤم والمنع فيهم بالطبع المركب والجبلّة «1» المفطورة.
مروزي اشتكى سمالا
: واشتكى رجل مروزيّ ضررا من سعال؛ فدلّوه على سويق اللوز، فاستثقل النفقة ورأى الصبر على الوجع أخف عليه؛ فلم يزل يماطل الأيام ويدافع الأوقات حتى أتيح له بعض الموفقين، فدله على ماء النخالة، وقال له: إنه يجلو الصدر. فأمر بالنخالة فطبخت له وشرب ماءها، فجلا صدره.
ووجده بعضهم، فلما حضر غداؤه أمر به فرفع إلى العشاء وقال لأم عياله اطبخي لأهل بيتنا النخالة، فإني وجدت ماءها يعصم ويجلي الصدر فقالت له زوجته: قد جمع الله لك في هذا الدواء دواء وغذاء!
لابن صبيح
: وقال خاقان بن صبيح: دخلت على رجل ليلا من أهل خراسان فإذا هو قد أتي بمسرجة فيها فتيل رقيق، وقد ألقى في دهن المسرجة شيئا من ملح، وقد علق فيها عودا بخيط معقود إلى المسرجة، فإذا غشا المصباح أخرج به رأس الفتيل؛ فقلت: ما بال هذا العود مربوطا؟ فقال: هذا عود قد شرب الدهن، فإذا لم نحفظه وضاع احتجنا إلى غيره فلا نجده إلا عطشان، فإذا كان هذا دأبنا ضاع من دهننا في الشهر بقدر كفايتنا ليلة.(7/194)
قال: فبينا أنا أتعجب وأسأل الله العافية، إذ دخل علينا شيخ من أهل مرو ونظر إلى العود فقال: أبا فلان، فررت من شيء ووقعت فيما هو شرّ منه؛ أما علمت أن الشمس والريح تأخذان من سائر الأشياء؟ أو ليس [قد] كان البارحة هذا العود عند إطفاء السراج أروى؛ وهو عند إسراجك الليلة أعطش؟ قد كنت أنا جاهلا مثلك زمانا، حتى وفقني الله إلى ما [هو] أرشد؛ اربط عافاك الله مكان العود إبرة كبيرة أو مسلة صغيرة؛ فإن الحديد أبقى، وهو مع ذلك غير نشاف؛ والعود والقصبة ربما تعلقت بهما العشرة من قطن الفتيلة فتشخص معها؛ وربما كان ذلك سببا لانطفائها! قال الخراساني: ألا وإنك لا تعلم أنك من المسرفين حتى تعمل بأعمال المصلحين.
للجزامي
: قال الأصمعي: قال لي أبو محمد الجزامي، واسمه عبد الله بن كاسب، ونحن في العسكر؛ إن للشيب سهكة «1» وبياض الشعر الأسود هو موته، كما أن سواده حياته، ألا ترى أن موضع دبرة الحمار الأسود لا ينبت فيها إلا شعر أبيض، والناس لا يرضون منا في هذا العسكر إلا بالعناق والمشامّة والطيب غال ممتنع الجانب، فلست أرى شيئا هو أحسن بنا من اتخاذ مشط صندل؛ فإن ريحه طيّبة، والشعر سريع القبول [منه] ؛ وأقل ما تصنع أن ما ينفي سهك الشيب؛ حتى يكون حال لا لنا ولا علينا.
لابن أشرس
: وكان ثمامة بن أشرس يقول: إياكم وأعداء الخبز أن تأتدموا بها، واعلموا أن أعدي عدوّ له المملوك، فلولا أن الله أعان عليه بالماء لأهلك الحرث والنسل! وكان يقول: كلوا الباقلاء بقشره، فإن الباقلاة تقول: من أكلني بقشري فقد أكلني، ومن أكلني بغير قشري فقد أكلته!(7/195)
من بخل هشام بن عبد الملك
: ومن البخلاء هشام بن عبد الملك: قال خالد بن صفوان: دخلت على هشام فأطرفته وحدثته، فقال: سل حاجتك. فقلت: يا أمير المؤمنين، تزيد في عطائي عشرة دنانير. فأطرق حينا وقال: فيم؟ ولم؟ وبم؟ ألعبادة أحدثتها أم لبلاء حسن أبليته في أمير المؤمنين؟ ألا لا يا ابن صفوان، ولو كان لكثر السؤال ولم يحتمله بيت المال! فقلت: وفقك الله يا أمير المؤمنين وسدّد؛ فأنت والله كما قال أخو خزاعة:
إذا المال لم يوجب عليك عطاءه ... صنيعة قربى أو صديق توافقه
منعت وبعض المنع حزم وقوّة ... ولم يستلبك المال إلا حقائقه
قيل لخالد بن صفوان: ما حملك على تزيين البخل له؟ قال: أحببت أن يمنع غيري فيكثر من يلومه.
وخرج هشام بن عبد الملك متنزها ومعه الأبرش الكلبي، فمر براهب في دير، فعدل إليه، فأدخله الراهب بستانا له، وجعل يجتني له أطايب الفاكهة؛ فقال له هشام: يا راهب؛ بعني بستانك! فسكت عنه الراهب، ثم أعاد عليه، فسكت عنه؛ فقال له: مالك لا تجيبني؟ فقال: وددت أن الناس كلهم ماتوا غيرك! قال: لماذا ويحك؟ قال: لعلك أن تشبع! فالتفت هشام إلى الأبرش فقال: أما سمعت ما قال هذا؟ قال: والله إن لقيك حرّ غيره.
من بخل ابن الزبير
: ومن البخلاء عبد الله بن الزبير، وكانت تكفيه أكلة لأيام، ويقول: إنما بطني شبر في شبر، فما عسى أن تكفيه أكلة.
وقال فيه أبو وجرة مولى الزبير:
لو كان بطنك شبرا قد شبعت وقد ... أبقيت فضلا كبيرا للمساكين
فإن تصبك من الأيام جائحة ... لم نبك منك على دنيا ولا دين(7/196)
ما زلت في سورة الأعراف تدرسها ... حتى فؤادي كمثل الخزّ في الّلين
إنّ امرأ كنت مولاه فضيّعني ... يرجو الفلاح لعبد عين مغبون
وابن الزبير هو الذي قال: أكلتم تمري وعصيتم أمري! فقال فيه الشاعر:
رأيت أبا بكر، وربّك غالب ... على أمره، يبغي الخلافة بالتّمر!
وأقبل إليه أعرابيّ فقال: أعطني وأقاتل عنك أهل الشام. فقال له: اذهب فقاتل، فإن أغنيت أعطيناك! قال: أراك تجعل روحي نقدا ودراهمك نسيئة! وأتاه أعرابي يسأله جملا، ويذكر أن ناقته نقبت «1» ؛ فقال؛ انعلها من النعال السبتية، واخصفها بهلب! قال له الأعرابي: إنما أتيتك مستوصلا ولم آتك مستوصفا؛ فلا حملت ناقة حملتني إليك! قال: إنّ وصاحبها.
من بخل ابن الجهم
: ومن رؤساء أهل البخل محمد بن الجهم، وهو الذي قال: وددت أن عشرة من الفقهاء، وعشرة من الشعراء، وعشرة من الخطباء، وعشرة من الأدباء- تواطئوا على ذمّي، واستهلوا بشتمي، حتى ينشر ذلك عنهم في الآفاق، حتى لا يمتدّ إليّ أمل آمل، ولا ينبسط نحوي رجاء راج.
وقال له أصحابه: إنما نخشى أن نقعد عندك فوق مقدار شهوتك، فلو جعلت لنا علامة نعرف بها وقت استحسانك لقيامنا! قال: علامة ذلك أن أقول: يا غلام، هات الغداء.
وذكر ثمامة بن أشرس محمد بن الجهم فقال: لم يطمع أحد قط في ماله إلا شغله عن الطمع في غيره، ولا شفع في صديق، ولا تكلم في حاجة محرم، إلا ليلقن المسئول حجّة المنع، ويفتح على السائل باب الحرمان!(7/197)
من بخل ابن أبي حفصة
: ومن البخلاء اللئام مروان بن أبي حفصة الشاعر؛ قال أبو عبيدة عن ابن الجهم قال: أتيت اليمامة فنزلت على مروان بن أبي حفصة، فقدّم إليّ تمرا، وأرسل غلامه بفلس وسكرّجة يشتري زيتا، فأتى الغلام بالزيت، فقال له: خنتني وسرقتني! قال:
وفيم كنت أخونك وأسرقك في فلس؟ قال: أخذت الفلس لنفسك واستوهبت الزيت.
من بخل الصيرفي
: ومن البخلاء: زبيدة بن حميد الصيرفي؛ استلف من بقال على بابه در همين وقيراطا، فمطله بها ستة أشهر، ثم قضاه در همين وثلاث حبات [شعير] ؛ فاغتاظ البقال وقال: سبحان الله! أنت صاحب مائة ألف دينار، وأنا يقال لا أملك مائة فلس، وإنما أعيش بكدي، واستقضي الحبة في بابك والحبتين؛ صاح على بابك حمال، [والمال لم يحضرك] ولا يحضر تلك الساعة وكيلك، فأعنتك وأسلفتك در همين وأربع شعيرات، فتقضيني بعد ستة أشهر در همين وثلاث شعيرات؟ فقال زبيدة: يا مجنون، أسلفتني في الصيف وقضيتك في الشتاء، وثلاث شعيرات شتوية أوزن من أربع صيفية؛ لأن هذه ندية وتلك يابسة، وما أشك أن معك بعد هذا كله فضلا!
للأصمعي في بخيل
: قال الأصمعي: كنت عند رجل من ألأم الناس وأبخلهم، وكان عنده لبن كثير، فسمع به رجل ظريف، فقال: الموت أو أشرب من لبنه! فأقبل مع صاحب له، حتى إذا كان بباب صاحب اللبن، تغاشى وتماوت، فقعد صاحبه عند رأسه يسترجع، فخرج إليه صاحب اللبن؛ فقال ما باله يا سيدي؟ قال: هذا سيد بني تميم، أتاه أمر الله ههنا. وكان قال لي: اسقني لبنا! قال صاحب اللبن: هذا هين موجود؛ ائتني يا غلام بعلبة من لبن. فأتاه به فأسنده صاحبه إلى صدره وسقاه، حتى أتى عليها، ثم(7/198)
تجشأ، فقال صاحبه لصاحب اللبن: أترى هذه الجشأة راحة الموت؟ قال: أماتك الله وإياه! ومن أمثال العرب في البخل قولهم: ما هو إلا أبنة «1» عصا أو عقدة رشاء «2» ؛ لأن عقدة الرّشاء المبلول لا تكاد تنحل.
قيل لمدنية: ما الجرح الذي لا يندمل؟ قالت: حاجة الكريم إلى اللئيم ثم يردّه! قيل لها: فما الذل؟ قالت: وقوف الشريف بباب الدنيء ثم لا يؤذن له! قيل لها: فما الشرف؟ قالت: اتخاذ المنن في رقاب الرجال.
والعرب تقول لمن لم يظفر بحاجته وجاء خائبا: جاء فلان على غبيراء الظهر وجاء على حاجبه صوفة، وجاء بخفّي حنين.
وقال أبو عطاء السندي، في يزيد بن عمرة بن هبيرة:
ثلاث حكتهنّ لفرم قيس ... طلبت بها الأخوة والسّناء
رجعن على حواجبهنّ صوف ... وعند الله أحتسب الجزاء
طعام البخلاء
لمروزي وزواره
قال الأصمعي: كان المروزيّ يقول لزوّاره إذا أتوه: هل تغدّيتم اليوم؟ فإن قالوا: نعم. قال: والله لولا انكم تغديتم لاطعمتكم لونا ما أكلتم مثله، ولكن ذهب اول الطعام بشهوتكم! وإن قالوا: لا. قال: والله لولا انكم لم تتغدّوا لسقيتكم أقداحا من نبيذ الزبيب ما شربتم مثله! فلا يصير في أيديهم منه شيء
من نجل ثمامة
وكان ثمامة إذا دخل عليه اصحابه وقد تعشّوا عنده قال لهم: كيف كان(7/199)
مبيتكم ومنامكم؟ فإن قال احدهم إنه نام ليلته في هدوء وسكون، قال: النفس إذا اخذت قوتها أطمأنت! وإذا قال احدهم إنه لم ينم ليلته قال: إنه من افراط الكظّة «1» والإسراف في البطنة! ثم يقول: كيف كان شربكم للماء؟ فإن قال أحدهم: كثيرا.
قال: التراب الكثير لا يبله إلا الماء الكثير وإن قال: قليلا. قال: ما تركت للماء مدخلا! وكان إذا اطعم اصحابه استلقى على قفاه ثم يتلو قوله تعالى: إِنَّما نُطْعِمُكُمْ لِوَجْهِ اللَّهِ لا نُرِيدُ مِنْكُمْ جَزاءً وَلا شُكُوراً
«2» .
ودخل عليه رجل وبين يديه طبق فراريج، فغطى الطبق بذيله، وأدخل رأسه في جيبه، وقال للرجل الداخل: ادخل في البيت الآخر حتى أفرغ من بخوري.
أبو جعفر
وشوي لابي جعفر الهاشمي دجاج ففقد فخذا من دجاجة، فأمر فنودي في منزله:
من هذا الذي تعاطى فعقر! والله لا أخبز في التنور شهرا أو تردّ! فقال ابنه الاكبر:
يا أبت، لا تؤاخذنا بما فعل السفهاء منا.
سهل بن هارون
وقال دعبل الشاعر: كنا يوما عند سهل بن هرون، فأطلنا الحديث حتى أضرّ به الجوع، فدعا بغذائه، فإذا بصحفة عدمليّة «3» فيها مرق لحم ديك قد هرم، لا تحز فيه السكين، ولا تؤثر فيه الضرس [فأخذ قطعة خبز فقلب بها جميع ما في الصحفة، ففقد الرأس، فأطرق ساعة، ثم رفع رأسه إلى الغلام، وقال: أين الرأس؟ قال:
رميت به. قال: لم؟ قال: لم أظنك تأكله ولا تسأل عنه. قال: ولأي شيء ظننت ذلك؟ فو الله إني لا بغض من يرمي برجله فضلا عن رأسه، والرأس رئيس الاعضاء،(7/200)
وفيه الحواس الخمس، ومنه يصيح الديك! وفيه العين التي يضرب بها المثل في الصفاء، فيقال: شراب مثل عين الديك؛ ودماغه عجيب لوجع الكلية، ولم ير قط عظم أهش من عظم رأسه، فإن كان بلغ من جهلك أن لا تأكله فعندنا من يأكله، انظر أين هو؟ قال: والله ما أدري أين رميته. قال: لكني والله أدري، رميت به في بطنك!
زياد بن عبد الله
وأهدى رجل من قريش لزياد بن عبيد الله وهو على المدينة طعاما فثقل عليه ذلك، فقال: اجمعوا المساكين وأطعموهم إياه! فجمعوا، وكشف عن الطعام، فإذا طعام له بال، فندم على الإرسال للمساكين، وقال للغلام: انطلق إلى هؤلاء المساكين وقل لهم: إنكم تجتمعون في المسجد فتفسون فيه فتؤذون الناس! لا اعلم انه اجتمع فيه منكم اثنان!
عبد الله بن يحيى
وقال: دخلت على عبد الله بن يحيى بن خالد بن أمية، وقوم يأكلون عنده، فمدّ يده إلى رغيف من الخوان فرفعه، وجعل يرطله «1» بيد ويقول: يزعمون أن خبزي صغير، فمن هذا الزاني ابن الزانية الذي يأكل نصف رغيف منه.
قال: ودخلت عليه يوما والمائدة موضوعة، والقوم يأكلون، وقد رفع بعضهم يده، فممدت يدي لآكل، فقال: اجهز على الجرحى، ولا تتعرض للاصحاء! يقول:
تعرّض للدجاجة التي قد نيل منها، والفرخ المأخوذ منه؛ فأما الصحيح فلا تتعرض له. هذا معناه في الجرحى [والاصحاء] .(7/201)
لجمين في بخيل
وسأل يحيى بن خالد ابا الحارث جمّين عن طعام رجل، فقال: أما مائدته فمقبّبة، وأما صحافه فمخروطة من حب الخردل، وبين الرغيف والرغيف فترة نبي. قال: فمن يحضرها؟ قال: الكرام الكاتبون. قال: فمن يأكل معه؟ قال: الذباب. قال له يحيى:
وأرى ثوبك مخرقا، أفلا يكسوك ثوبا وأنت في صحبته؟ قال: جعلت فداك، والله لو ملك بيتا من بغداد إلى الكوفة مملوءا إبرا، وفي كل ابرة منها خيط، وجاءه يعقوب يسأله إبرة منها يخيط بها قميص يوسف ابنه الذي قدّ من دبر، ومعه جبريل وميكائيل يضمنان عنده، لم يفعل.
لابن مسلمة
أخذ هذا المعنى محمد بن مسلمة، فقال يهجو ابن الاغلب:
لو أنّ قصرك يا ابن أغلب كلّه ... إبر يضيق بهن رب المنزل
وأتاك يوسف يستعيرك إبرة ... ليخيط قدّ قميصه لم تفعل! «1»
وقيل لجمّين: أتغذيت عند فلان! قال: لا، ولكنني مررت به يتغذى! قيل:
فكيف علمت أنه يتغذى؟ قال رأيت غلمانه ببابه في أيديهم قسى البندق يرمون الذباب في الهواء! وقال أبو الحارث جمّين: دخلت على فلان، فوضع بين أيدينا مائدة- كنا أشوق إلى الطعام إذ رفعت منا إليه إذ وضعت-!
اعرابي على مائدة هشام
وحضر اعرابي سفرة هشام بن عبد الملك، فبينا هو يأكل إذ تعلقت شعرة في لقمة الاعرابي، فقال له هشام: عندك شعرة في لقمنك يا اعرابي! قال: وإنك لتلاحظنني(7/202)
ملاحظة من يرى الشعرة في لقمتي! والله لا اكلت عندك أبدا! وخرج وهو يقول:
وللموت خير من زيارة باخل ... يلاحظ أطراف الاكيل على عمد
وقال آخر:
ولو عليك اتّكالي في الغداء إذا ... لكنت أوّل مقتول من الجوع
يقول عند دعاء الضّيف مبتدئا ... صوت ضعيف وداع غير مسموع
المغيرة وبخله
قال المدائني: كان للمغيرة بن عبد الله الثقفي وهو والي الكوفة، جدي يوضع على مائدته بعد الطعام، لا يمسه هو ولا احد ممن يحضر، فحضر مائدته أعرابيّ، فبسط يده، وأسرع في الأكل، فقال: يا اعرابي، إنك لتأكل الجدي بحرد «1» كأنّ أمه نطحتك، فقال له الاعرابي: أصلحك الله، وانت تشفق عليه كأنّ أمّه أرضعتك! ثم بسط الاعرابي يده إلى بيضة بين يده، فقال: خذها فإنها بيضة العقر! فلم يحضر طعامه بعد ذلك.
أشعب ووالي المدينة
ودخل أشعب على والي المدينة، فحضر طعامه، وكان له جدي على مائدته يتحاماه كل من حضر، فبدر إليه أشعب فمزقه، فقال له: يا أشعب، إن اهل السجن ليس لهم إمام يصلى بهم، فإن رأيت ان تكون لهم إماما تصلي بهم، فإن في ذلك أجرا! فقال: والله ما احبّ هذا الأجر، ولكن زوجتي طالق إن أكلت لحم جدي عندك حتى ألقى الله!
الكندي
قال عمرو بن ميمون: تغدّيت يوما عند الكندي، فدخل عليه رجل كان جارا وصديقا له، فلم يعرض عليه الطعام، ونحن نأكل، فاستحيت أنا منه، فقلت: سبحان(7/203)
الله، لو دنوت فأصبت معنا! قال: قد والله فعلت. قال الكندي: ما بعد الله شيء! قال: فكنفه والله كتافا لو بسط يده لأكل بعده لكان كافرا! قال: ومررت ببعض طرق الكوفة، فإذا أنا برجل يخاصم جارا له، فقلت: ما بالكما؟ فقال احدهما: إن صديقا لي زارني واشتهى عليّ رأسا، فاشتريته له وتغدينا.
فأخذت عظمامه فوضعتها عند باب داري اتجمل بها عند جيراني، فجاء هذا وأخذها ووضعها على باب داره، يوهم الناس أنه هو الذي أكل الرأس.
بخيل وولده
قال رجل من البخلاء لولده: اشتروا لي لحما، فاشتروا له، وأمر بطبخه حتى تهرّأ، فأكل منه حتى انتهت نفسه [ولم يبق إلا العظم] ، وشرعت إليه عيون ولده، فقال: ما أنا مطعمه أحدا منكم إلا من أحسن صفة أكله! فقال الاكبر: أتعرّقه «1» يا أبت، حتى لا أدع للذرّة فيه مقيلا! قال: لست بصاحبه! فقال الاوسط: أتعرّقه يا أبت حتى لا يدرى ألعامه هو أم لعام أول! قال: لست بصاحبه! فقال الاصغر:
أتعرّقه يا أبت، ثم أدقه دقا، وأسفه سفا؟ قال: أنت صاحبه، وهو لك دونهم.
الثوري
وقال عمرو بن بحر الجاحظ: كان ابو عبد الرحمن الثوري يعجبه الرءوس ويصفها، وكان يسمّي الرأس عرسا لما فيه من الالوان الطيبة، وربما سماه الكامل والجامع؛ ويقول: الرأس شيء واحد، وهو ذو الوان عجيبة وطعوم مختلفة، والرأس فيه الدماغ، وطعمه مفرد، وفيه العينان، وطمعمهما مفرد، والشحمة التي بين أصل الاذن ومؤخر العين، وطعمها مفرد، على أن هذه الشحمة خاصة أطيب من المخ، وأرطب من الزبد، وأدسم من السلاء؛ وفي الرأس اللسان، وطعمه مفرد، والخيشوم، والغضروف، ولحم الخدين، وكل شيء من هذه طعمه مفرد؛ والرأس سيد البدن،(7/204)
والدماغ هو معدن العقل، وحاسة الحواس وبه قوام البدن، وفيه يقول الشاعر:
إذا نزعوا رأسي، وفي الرأس أكثري ... وغودر عند الملتقى ثمّ سائري ...
لاعرابي في الرأس
وقيل لاعرابي: اتحسن أن تأكل الرأس؟ قال: نعم؛ أعض العينين، وأفك لحييه، وأنقي خديه، وأرمي بالدماع إلى من هو أحق مني، وكانوا يكرهون أكل الدماغ، ولذا يقول قائلهم.
ولا أبتغي المخّ الذي في الجماجم
نصيحة ابي عبد الرحمن لابنه
وكان أبو عبد الرحمن يجلس مع ابنه يوم الرأس ويقول له: إياك ونهم الصبيان وبغر»
السباع، واخلاق النوائح، ونهش الاعراب، وكل ما بين يديك، فإنما حظك منه ما قابلك، واعلم أنه إذا كان في الطعام شيء ظريف، من لقمة كريمة، او مضغة شهية، فانما ذلك للشيخ المعظم، والصبي المدلل، ولست بواحد منهما، وقد قالوا.
مدمن اللحم كمد من الخمر؛ أي بنيّ، لا تخضم خضم البراذين، ولا تدمن الأكل إدمان النعاج، ولا تلقم لقم الجمال، ولا تنهش نهش السباع، وعوّد نفسك الأثرة «2» ، ومجاهدة الهوى والشهوة؛ فإن الله جعلك إنسانا فلا تجعل نفسك بهيمة، واحذر سرعة الكظة وسرف البطنة، فقد قال بعض الحكماء: إذا كنت نهما فعدّ نفسك من الزّمنى؛ واعلم أن الشّبع داعية البشم، والبشم داعية السقم، والسقم داعية الموت. ومن مات هذه الميتة فقد مات ميتة لئيمة؛ لانه قاتل نفسه، وقاتل نفسه الأم من قاتل غيره أي بني، والله ما أدى حق الركوع والسجود ذو كظة ولا خشع لله ذو بطنة، والصوم صحة؛ والوجبات عيش الصالحين أي بني، لأمر ما طالت أعمار الرهبان، وصحت(7/205)
أبدان الاعراب؛ لله درّ الحارث بن كلدة حيث زعم أن الدواء هو الأزم «1» ، وان الداء كله هو من فضول الطعام؛ فكيف لا ترغب في شيء يجمع لك صحة البدن، وذكاء الذهن، وصلاح الدين والدنيا، والقرب من عيش الملائكة؟ أي بنيّ، ما صار الضبّ أطول شيء عمرا إلا أنه يتبلّغ بالنسيم؛ وما زعم الرسول أن الصوم وجاء «2» إلا انه جعله حاجزا دون الشهوات: فافهم تأديب الله وتأديب الرسول؛ أي بني، قد بلغت تسعين عاما ما نغض لي سنّ، ولا انتشر لي عصب، ولا عرفت وكف انف، ولا سيلان عين، ولا سلس بول؛ وما لذلك علة إلا التخفف من الزاد؛ فإن كنت تحب الحياة فهذه سبيل الحياة، وإن كنت تحب الموت فلا أبعد الله غيرك.
ابو الاسود الدؤلي
ومن البخلاء: أبو الأسود الدؤلي: وقفت عليه امرأة وهو في فسطاط وبين يديه طبق تمر، فقالت: السلام عليك! قال ابو الاسود: كلمة مقبولة.
ووقف عليه اعرابي، وهو يأكل فقال الاعرابي: أدخل؟ قال وراءك أوسع لك! قال: الرمضاء احرقت رجلي! قال: بل عليهما تبردان! قال أتأذن لي ان آكل معك؟
قال: سيأتيك ما قدّر لك! قال: تالله ما رأيت رجلا الأم منك. قال: بلى قد رأيت إلا انك نسيت! ثم اقبل ابو الاسود يأكل، حتى [إذا] لم يبق في الطبق الا تميرات يسيرة نبذها له، فوقعت تمرة منها، فأخذها الاعرابي ومسحها بكسائه، فقال ابو الاسود. يا هذا، إن الذي تمسحها به أقذر من الذي تمسحها له. قال: كرهت ان ادعها للشيطان! قال: لا والله، ولا لجبريل وميكائيل ما كنت لتدعها.
الأصمعي قال: مرّ رجل بأبي الاسود الدؤلي وهو يقول: من يعشّي الجائع؟ فقال ابو الاسود: عليّ به، فأتاه بعشاء كثير. وقال: كل حتى تشبع! فلما اكل ذهب ليخرج؛ قال: أين تريد؟ قال: أريد اهلي. قال: لا ادعك تؤذي المسلمين الليلة(7/206)
بسؤالك! اطرحوه في الادهم «1» ! فبات عنده مكبولا حتى اصبح!
ابن ابي حفصة وضيف
قال الهيثم بن عدي: نزل بابن أبي حفصة ضيف باليمامة، فأخلى له المنزل ثم هرب عنه، مخافة ان يلزمه قراه تلك الليلة؛ فخرج الضيف فاشترى ما يحتاجه، ثم رجع وكتب إليه.
يأيّها الخارج من بيته ... وهاربا من شدّة الخوف
ضيفك قد جاء بزاد له ... فارجع تكن ضيفا على الضّيف!
وقال آخر:
بتّ ضيفا لهشام ... في شرابي وطعامي
وسراجي الكوكب الدّ ... رّيّ في داج الظلام «2»
لا حراما أجد الخ ... بز ولا غير الحرام!
وله:
بت ضيفا لهشام ... فشكا الجوع! عدمته!
وبكى- لا صنع الله ... له- حتى رحمته
وكان شيخ من البخلاء يأتي ابن المقفع، فيلحّ عليه أن يتغدّى عنده في منزله، فيمطله ابن المقفع، فيقول: أتراني أتكلف لك شيئا؟ لا والله، لا أقدم لك إلا ما عندي، فلا تتثاقل عليّ! فلم يزل به حتى أجابه، وأتى به إلى منزله، فإذا ليس عنده إلا كسر يابسة وملح جريش، فقدمه له؛ ووقف سائل بالباب، فقال له: بورك فيك! فألح في السؤال، فقال: والله لئن خرجت إليك لأدقّنّ ساقيك! فقال ابن المقفع للسائل: أرح نفسك وانج والله لو علمت من صدق وعيده ما علمت أنا من صدق وعده ما وقفت ساعة ولا راجعته كلمة.(7/207)
وانتقل رجل من البخلاء إلى دار فابتاعها، فلما حلها وقف سائل، فقال له: صنع الله لك! ثم وقف ثان، فقال له مثل ذلك، ثم وقف ثالث، فقال له مثل ذلك؛ فقال لابنته: ما أكثر السؤال في هذا المكان! فقالت له: يا أبت، ما تمسكت لهم بهذا القول فما تبالي كثروا ام قلوا؟
الأصمعي: تقول العرب: ما علمتك إلا برما قرونا. البرم: الذي يأكل مع اصحابه ولا يجعل لهم شيئا، والقرون: الذي يأكل تمرتين تمرتين.
حميد الارقط
وألأم اللئام وأبخل البخلاء حميد الارقط، الذي يقال له هجّاء الاضياف؛ وهو القائل في ضيف نزل به وآكله:
ما بين لقمته الاولى إذا انحدرت ... وبين أخرى تليها قيد أظفور «1»
وله:
تجهّر- كفّاه ويحدر حلقه ... إلى الزّور ما ضمّت عليه الأنامل
أتانا وما سواه سحبان وائل ... بيانا وعلما بالذي هو قائل
فما زال عنه اللّقم حتى كأنه ... من العيّ لما ان تكلم باقل
وله في الاضياف:
لا مرحبا بوجوه القوم إذ دخلوا ... دسم العمائم تحكيها الشياطين
باتوا وجلّة تمر حلّ بينهم ... كأنّ أيديهم فيها السكاكين
فأصبحوا والنوى عالي معرّسهم ... وليس كلّ النّوى تلقى المساكين «2»
ما قالت الشعراء في طعام البخلاء
فمن اهجى ما قيل في طعام البخلاء قول جرير في بني تغلب:(7/208)
والتغلبيّ إذا تنحنح للقرى ... حكّ استه وتمثّل الأمثالا
وقوله فيهم:
قوم إذا أكلوا أخفوا كلامهم ... واستوثقوا من رتاج الباب والدار «1»
قوم إذا استنبح الاضياف كلبهم ... قالوا لأمّهم بولي على النار
وقال الراعي:
اللاقطين النّوى تحت الشياه كما ... نحت كرادم دهم في مخاليها «2»
فأين هؤلاء من قول الآخر:
أبلج بين حاجبيه نوره ... إذا تغدّى رفعت ستوره
ولآخر:
أبو نوح، أتيت إليه يوما ... فغدّاني برائحة الطعام
وجاء بلحم لا شيء سمين ... فقدّمه على طبق الكلام
فلمّا أن رفعت يدي سقاني ... كئوسا حشوها ريح المدام
فكنت كمن سقى ظمآن آلا ... وكنت كمن تغدّى في المنام «3»
ولآخر:
تراهم خشية الاضياف خرسا ... يصلّون الصلاة بلا أذان
ولحماد بن جعفر:
حديث أبي الصلت ذو خبرة ... بما يصلح المعدة الفاسده
تخوّف تخمة إخوانه ... فعوّدهم أكلة واحده
ولآخر:(7/209)
أتانا بخبز له حامض ... كمثل الدراهم في رقّته
إذا ما تنفّس حول الخوان ... تطاير في البيت من خفّته
فنحن كظوم له كلنا ... نردّ التنفس من خشيته
فيكلمه اللّحظ من رقّة ... ويأكله الوهم من قلّته
نزل رجل من العرب ببخيل، فقدّم إليه جرادا، فعافه وأمر برفعه، وقال:
لحا الله بيتا ضمّني بعد هجعة ... إليه دجوجي من الليل مظلم
فأبصرت شيخا قاعدا بفنائه ... هو العير إلا أنه يتكلم
أتانا ببرقان الدّبى في إنائه ... ولم يك برقان الدّبى لي مطعم
فقلت له غيّب إناءك واعتزل ... فهذا وهذا لا أبا لك مسلم
ضاف القطامي الشاعر في ليلة ريح ممطرة عجوزا من محارب، فلم تقره شيئا؛ فرحل عنها وقال:
تضيّفت في برد وريح تلفّني ... وفي طرمساء غير ذات كواكب
إلى حيزبون توقد النار بعدما ... تلفّعت الظّلماء من كلّ جانب
تصلى بها برد العشاء ولم تكن ... تخال وميض النار يبدو لراكب
فما راعها إلا بغام مطيّتي ... تريح بمحسور من الصوت لاغب «1»
فجنّت جنونا من دلاث مناخة ... ومن رجل عاري الأشاجع شاحب «2»
سرى في جليد الليل حتى كأنما ... تخرّم بالأطراف شوك العقارب «3»
تقول وقد قرّبت كوري وناقتي ... إليك فلا تذعر عليّ ركائبي
فسلّمت والتسليم ليس يسرّها ... ولكنه حق على كلّ جانب «4»
فردّت سلاما كارها ثم أعرضت ... كما انحاشت الأفعى مخافة ضارب
فلما تنازعنا الحديث سألتها ... من الحيّ؟ قالت: معشر من محارب(7/210)
من المشتوين القدّ في كلّ شتوة ... وإن كان عام الناس ليس بناصب
فلما بدا حرمانها الضيف لم يكن ... عليّ مبيت السّوء ضربة لازب
وقمت إلى مهريّة قد تعوّدت ... يداها ورجلاها حثيث المواكب
ألا إنها نيران قيس إذا شتوا ... لطارق ليل مثل نار الحباحب
وقال الخليل بن أحمد:
كفّاه لم تخلقا للندى ... ولم يك بخلهما بدعه
فكف عن الخير مقبوضة ... كما نقصت مائة سبعه
وكفّ ثلاثة آلافها ... وتسع مئات لها شرعه
وقال غيره:
وجيرة لا ترى في الناس مثلهم ... إذا يكون لهم عيد وإفطار
إن يوقدوا يوسعونا من دخانهم ... وليس يبلغنا ما تنضج النار
وقال احمد بن نعيم السلمي في بني حسان:
إذا احتفلوا للضيف لهوج قدرهم ... جراديم أشباه النّخاعة تبلع «1»
تبلّ جيار الضيف حتى تردّه ... وتصبح من عين استه تتطلّع
ويقريك من أكرهته من سوادهم ... قرى الحيّ أو أدنى لجوع وأبشع
عظاما وأرواثا وبعرا وإن يكن ... لدى القوم نار يشتوي لك ضفدع
ولآخر:
فبتنا كأنهم بينهم أهل مأتم ... على ميّت مستودع بطن ملحد
يحدّث بعض بعضنا بمصابه ... ويأمر بعض بعضنا بالتجلّد! «2»
ولآخر:
ذهب الكرام فلا كرام ... وبقي الغطاريف اللّئام(7/211)
من لا يقيل ولا يني ... ل، ولا يشمّ له طعام
ولآخر:
صدّق أليّته إن قال مجتهدا ... لا والرغيف، فذاك البرّ من قسمه
فإن هممت به فافتك بخبزته ... فإنّ موقعها من لحمه ودمه
قد كان يعجبني لو أنّ غيرته ... على جرادته كانت على حرمه
ولآخر:
إنّ هذا الفتى يصون رغيفا ... ما إليه لناظر من سبيل
هو في سفرتين من أدم الطّا ... ئف في سلتين في منديل
في جراب في جوف تابوت موسى ... والمفاتيح عند ميكائيل
وقال ابو نواس في فضل الرقاشي:
رأيت قدور الناس سودا من الطّلا ... وقدر الرّقاشييّن زهراء كالبدر
يضيق بحيزوم البعوضة صدرها ... ويخرج ما فيها على قلم الظّفر
إذا ما تنادوا للرّحيل سعى بها ... أمامهم الحوليّ من ولد الذرّ
وقال في إسماعيل الكاتب:
خبز إسماعيل كالوش ... ي إذا ما انشقّ يرفا «1»
عجبا من أثر الصن ... عة فيه كيف يخفى
إن رقاءك هذا ... ألطف الأمّة كفا
فإذا قابل بالنّص ... ف من الجردق نصفا «2»
أحكم الصّنعة حتى ... ما يرى مغرز إشفى
ولآخر:
ارفع يمينك من طعامه ... إن كنت ترغب في كلامه(7/212)
سيان كسر رغيفه ... أو كسر عظم من عطافه
ولآخر:
رأيت الخبز عزّ لديك حتى ... حسبت الخبز في جوف السحاب
وما روّحتنا لتذبّ عنّا ... ولكن خفت مرزئة الذّباب
ولآخر:
يحذر- أن تتخم إخوانه ... إنّ أذى التخمة محذور
ويشتهي أن يؤجروا عنده ... بالصّوم والصائم مأجور
ومن قولنا في نحوه:
لا يفطر الصائم من أكله ... لكنه صوم لمن أفطرا
في وجهه من لؤمه شاهد ... يكفى به الشاهد أن يخبرا
لم يعرف المعروف أفعاله ... قطّ كما لم ينكر المنكرا
وقال آخر:
خليليّ من كعب أعينا أخاكما ... على دهره إن الكريم معين
ولا تبخلا بخل ابن فرعة إنه ... مخافة أن يرجى نداه حزين
كأن عبيد الله لم يلق ماجدا ... ولم يدر أنّ المكرمات تكون
فقل لأبي يحيى متى تدرك العلا ... وفي كل معروف عليك يمين
إذا جئته في حاجة سدّ بابه ... فلم تلقه إلا وأنت كمين
باب من اخبار البخلاء
بين بخيلين
الرياشي قال: صاحب رجل رجلا من البخلاء، فقال له: احملني! فقال: ما كنت لا نزل واحملك! قال. ما انت بحاتم حيث يقول:(7/213)
انخها فأردفها، فإن حملتكما ... فذاك؛ وإن كان العقاب فعاقب «1»
قال: ما فيها محمل، ولابي طاقة على المشي.
وقد قال شاعرهم حاتم:
أماويّ إمّا مانع فمبيّن ... وإما عطاء لا ينهنه الزجر «2»
وقال كثير عزة:
مهين تلاد المال فيما ينوبه ... منوع إذا ما منعه كان أحزما «3»
سأل عبد الرحمن بن حسان بن ثابت من بعض الولاة حاجة، فلم يقضها، فتشفع إليه برجل فقضاها؛ فقال:
ذممت ولم تحمد، وأدركت حاجتي ... تولّى سواكم أجرها واصطناعها
أبى لك كسب المجد رأي مقصّر ... ونفس أضاق الله بالخير باعها
إذا هي حثته على الخير مرّة ... عصاها، وإن همّت بشرّ أطاعها
احتاج ابو الاسود الدؤلي مرة، فبعث إلى جار له موسر يستسلفه، وكان حسن الظن به، فاعتل عليه ورده؛ فقال:
لا تشعرنّ النّفس يأسا فإنما ... يعيش بجدّ حازم وبليد
ولا تطمعن في مال جار لقربه ... فكلّ قريب لا ينال بعيد
وكتب إلى آخر يستسلفه، فكتب إليه: المؤنة كثيرة، والفائدة قليلة، والمال مكذوب عليه. فكتب إليه ابو الاسود: إن كنت كاذبا فجعلك الله صادقا، وإن كنت صادقا فجعلك الله كاذبا! وقال بعض الشعراء في بخيل:(7/214)
ميّت مات وهو في كنف العي ... ش مقيم في مظلّ عيش ظليل
في عداد الموتى، وفي عامر الدّن ... يا أبو جعفر أخي وخليلي
لم يمت ميتة الحياة ولكن ... مات عن كلّ صالح وجميل
ولآخر:
فأمّا قراه كله فلنفسه ... ومال يزيد كلّه ليزيد «1»
ولآخر:
له يومان: يوم ندى، ويوم ... يسلّ السيف فيه من القراب «2»
فأمّا جوده فعلى النّصارى ... وأمّا بأسه فعلى الكلاب
ولآخر:
قدحت بأظفاري، وأعملت معولي ... فصادفت جلمودا من الصّخر أملسا «3»
تجهّم لمّا قمت في وجه حاجتي ... وأطرق حتى قلت: قد مات أو عسى
فأجمعت أن أنعاه لمّا رأيته ... يفوق فواق الموت حتى تنفّسا
وأنشد أبو جعفر البغدادي للجولديّ:
جاء بدينارين لي صالح ... أصلحه الله وأخزاهما
أدناهما تحمله ذرّة ... وتلعب الريح بأقواهما
بل لو وزنّا لك ظلّيهما ... ثم عمدنا فوزّنّاهما
لكان لا كانا ولا أفلحا ... عليهما يرجح ظلّاهما
ولحماد عجرد:
أورق بخيرك تؤمل للجزيل، فما ... ترجى الثّمار إذا لم يروق العود
وللبخيل على أمواله علل ... زرق العيون عليها أوجه سود
إنّ الكريم ترى في الناس عفّته ... حتى يقال غنيّ وهو مجهود «4»(7/215)
وأنشد:
جاد ابن موسى من دنانيره ... لنا بدينارين إسرارا
كلاهما في الكفّ من خفّة ... لو نفخا من فرسخ طارا
قلت، وقلبي لهما منكر: ... أدّهما للخبر قسطارا «1»
فكان هذا عنده بهرجا ... وكان هذا عنده بارا
ثم وزنّا واحدا منهما ... كان له القسطار مختارا
فكان في كفّة ميزانه ... ينقص قيراطا ودينارا
باب ما قيل في البخلاء
سمع رجل أبا العتاهية ينشد:
فارمي بطرفك حيث شئ ... ت فلن ترى إلّا بخيلا
فقال له: بخّلت الناس كلّهم! قال: فأرني واحدا سمحا! وقال ابن أبي حازم:
وقالوا لو مدحت فتى كريما! فقلت وأين لي بفتى كريم؟
بلوت ومرّ بي خمسون عاما ... وحسبك بالمجرّب من عليم
فلا أحد يعدّ ليوم خير ... ولا أحد يعود على عديم
ولآخر:
لمّا رآنا فرّ بوابه ... وارتدّ من غير يد بابه
كلب له من بغضه حاجب ... يحجبه إن غاب حجّابه
ومن قولنا:
جعل الله رزق كلّ عدوّ ... لي بكفّ لبعض من لا أسمّي
كفّ من لا يهزّ عطفيه يوما ... لمديح، ولا ينال بدمّ
يتلقّى الرجاء منه بوجه ... رائح الخدّ والجبين بسمّ(7/216)
جئته زائرا، فما زال يشكو ... لي حتى حسبته سيدمّي
ألف الّلوم فيه من كلّ طرف ... معرقا فيه بين خال وعمّ
قد نهاني النّصيح عنه مرارا ... بأبي أنت من نصيح وأمّي
ومن قولنا:
يراعة غرّني منها وميض سنا ... حتى مددت إليه الكفّ مقتبسا «1»
فصادفت حجرا لو كنت تضربه ... من لؤمه بعصا موسى لما انبجسا «2»
كأنما صيغ من بخل ومن كذب ... فكان ذاك له روحا وذا نفسا
كلب يهرّ إذا ما جاء زائره ... حتى إذا جاء مهدي تحفة نبسا «3»
ومن قولنا:
صحيفة طابعها الّلوم ... عنوانها بالبخل مختوم
أهداكها والخلف في طيّها ... والمطل والتّسويف واللوم
من وجهه نحس، ومن قربه ... رجس، ومن عرفانه شوم
لا تهتضم إن كنت ضيفا له ... فخبزه في الجوف هاضوم «4»
تكلمه الألحاظ من رقّة ... فهو بلحظ العين مكلوم
لا تأتدم شيئا على أكله ... فإنه بالجوع مأدوم «5»
احتجاج البخلاء
الأصمعي قال: قال أبو الأسود الدؤلي: لو أطعمنا المساكين أموالنا لكنا أسوأ حالا منهم!(7/217)
وقال لبنيه: لا تطيعوا المساكين في أموالكم، فإنهم لا يقنعون منكم حتى يروكم مثلهم! وقال لهم أيضا: لا تجاودوا الله، فإنه لو شاء أن يغني الناس كلهم لفعل، ولكنه علم أن قوما لا يصلحهم الغنى ولا يصلح لهم إلا الفقر، وقوما لا يصلحهم الفقر ولا يصلح لهم إلا الغنى! وقال سهل بن هارون: لو قسمت في الناس مائة ألف لكان الأكثر لائمي.
ونحوه قول ابن الجهم: منع الجميع أرضى للجميع.
كندي وتغلبي
: وقال رجل من تغلب: أتيت رجلا من كندة أسأله، فقال: يا أخا بني تغلب إني لن أصلك حتى أحرم من هو أقرب إليّ منك، وإني والله لو مكنت من داري لنقضوها طوبة طوبة، والله يا أخا بني تغلب ما بقي بيدي من مالي وأهلي وعرضي إلا ما منعته من الناس.
وقال آخر: من أعطى من الفضول قصّر عن الحقوق.
ابن هارون وسائل
: وقال رجل لسهل بن هارون: هبني ما لا مرزئة عليك فيه، قال: وما ذاك يا ابن أخي؟ قال: درهم واحد! قال: يا ابن أخي لقد هوّنت الدرهم وهو طائع الله في أرضه الذي لا يعصى، والدرهم ويحك عشر العشرة، والعشرة عشر المائة، والمائة عشر الألف، والألف دية المسلم! ألا ترى يا ابن أخي إلى أين انتهاء الدرهم الذي هوّنته؟ وهل بيوت المال إلا درهم على درهم.
من وصية لقمان لابنه
: وروي عن لقمان الحكيم أنه قال لابنه: يا بنيّ، أوصيك باثنتين ما تزال بخير ما(7/218)
تمسكت بهما: درهمك لمعاشك، ودينك لمعادك.
وقال أبو الأسود: إمساكك ما بيدك، خير من طلبك ما بيد غيرك. وأنشد في المعنى:
يلومونني في البخل جهلا وضلّة ... وللبخل خير من سؤال بخيل
ونظيره قول المتلمس:
وحبس المال خير من نفاد ... وضرب في البلاد بغير زاد
وإصلاح القليل يزيد فيه ... ولا يبقى الكثير مع الفساد
وقيل لخالد بن صفوان: مالك لا تنفق فإن مالك عريض؟ قال: الدهر أعرض منه! قيل له: كأنك تؤمل أن تعيش الدهر كله! قال: لا، ولكن أخاف أن لا أموت في أوله!
الجاحظ والخزامي
: وقال الجاحظ للحزامي: أترضى أن يقال لك بخيل؟ قال: لا أعدمني الله هذا الاسم؛ لأنه لا يقال لي بخيل إلا وأنا ذو مال، فسلّم لي المال وسمّني بأي اسم شئت! فقال: جمع الله لاسم السخاء المال والحمد، وجمع لاسم البخل المال والذم.
قال: بينهما فرق عجيب وبون بعيد: إن في قولهم بخيل، سببا لمكث المال؛ وفي قولهم سخي، سببا لخروج المال عن ملكي؛ واسم البخيل فيه حفظ وذمّ، واسم السخي فيه تضييع وحمد، والمال ناض نافع، ومكرم لأهله، والحمد ريح وسخرية، ومسمعة وطرمذة»
؛ وما أقل غناء الحمد عنه إذا جاع بطنه، وعري ظهره، وضاع عياله، وشمت به عدوه! وقال محمد بن الجهم: من شأن من استغنى عنك أن لا يقيم عليك، ومن احتاج(7/219)
إليك أن لا يزول عنك؛ فمن حبك لصديقك وضنك بمودته أن لا تبذل له ما يغنيه عنك، وأن تتلطف له فيما يحوجه إليك وقد قيل في مثل هذا: أجع كلبك يتبعك، وسمّنه يأكلك؛ فمن أغنى صديقه فقد أعانه على الغدر، وقطع أسبابه من الشكر؛ والمعين على الغدر شريك الغادر، كما أن مزيّن الفجور شريك الفاجر.
من وصية الأسدي لبنيه
: وقال يزيد بن عمر الأسدي لبنيه: يا بنيّ، تعلموا الردّ؛ فإنه أسدّ من العطاء ولأن تعلم بنو تميم أن عند أحدكم مائة ألف درهم، أعظم له في أعينهم من أن يقسمها عليهم؛ ولأن يقال لأحدكم بخيل وهو غني، خير له من أن يقال سخيّ وهو فقير.
وقال الحزامي: يقولون: ثوبك على صاحبك أحسن منه عليك؛ فما ظنك إن كان أقصر مني، أليس يتخيّل في قميصي؟ وإن كان أطول مني، أليس يصير آية للسابلين، فمن أسوأ أثرا على صديقه ممن جعله ضحكة؟ فما ينبغي لي أن أكسوه حتى أعلم أنه فيه مثلي؛ ومتى يتفق هذا؟
أبو نواس وفقيه
: وقال أبو نواس: كان معنا في السفينة ونحن نريد بغداد، رجل من أهل خراسان، وكان من فقهائهم وعقلائهم، وكان يأكل وحده، فقلت له: لم تأكل وحدك؟ فقال:
ليس عليّ في هذا مسألة؛ إنما المسألة على من أكل مع الجماعة لأنه يتكلف، وأكلي وحدي هو الأصل، وأكلي مع الجماعة تكلّف ما ليس عليّ.
ووقع درهم بيد سليمان بن مزاحم، فجعل يقلبه ويقول. في شق: لا إله إلا الله محمد رسول الله؛ وفي شق آخر: قل هو الله أحد؛ ما ينبغي لهذا أن يكون إلا تعويذة ورقية! ورمي به في الصندوق.
وكان أبو عيسى بخيلا، وكان إذا وقع الدرهم بيده طنّه «1» بظفره وقال: يا درهم(7/220)
كم من مدينة دخلتها؟ وأيد دوّختها؟ فالآن استقرّ بك القرار، واطمأنت بك الدار! ثم رمى به في الصندوق.
ابن أشرس وسائل
: وقال رجل لثمامة بن أشرس: إن لي إليك حاجة ... قال: وأنا لي إليك حاجة! قال: وما حاجتك إليّ؟ قال: لا أذكرها حتى تضمن قضاءها! قال: قد فعلت. قال:
فإن حاجتي لك أن لا تسألني حاجة! فانصرف الرجل عنه.
وكان ثمامة يقول: ما بال أحدكم إذا قال له الرجل اسقني، أتى بإناء على قدر اليد أو أصغر، وإذا قال أطعمني، أتاه من الخبز بما يفضل عن الجماعة، والطعام والشراب أخوان! أما إنه لولا رخص الماء وغلاء الخبز ما كلبوا على الخبز وزهدوا في الماء؛ الناس أرغب شيء في المأكول إذا كثر ثمنه، أو كان قليلا في منبته؛ ألا ترى الباقلا الأخضر أطيب من الكمثري، والباذنجان أطيب من الكمأة «1» ؛ ولكن أهل التحصيل والنظر قليل، وإنما يشتهون قدر الثمن! وكان يقول: إياكم وأعداء الخبز أن تأتدموا بها، وأعدى عدو له المالح، فلولا أن الله أعان عليه بالماء لأهلك الحرث والنسل.
وكان يقول: كلوا الباقلا بقشره، فإن الباقلّا يقول: من أكلني بقشري فقد أكلني، ومن أكلني بغير قشري فقد أكلته؛ فما حاجتكم أن تصيروا طعاما لطعامكم؟
ابن هبيرة وعقيلي
: الأصمعي قال قد جاء رجل من بني عقيل إلى عمر بن هبيرة، فمتّ إليه بقرابة وسأله أن يعطيه، فلم يعطه شيئا؛ ثم عاد إليه بعد أيام فقال: أنا العقيلي الذي سألتك(7/221)
منذ أيام! فقال له ابن هبيرة: وأنا الفزاري الذي منعك منذ أيام! فقال معذرة إليك، إني سألتك وأنا أظنك يزيد بن هبيرة المحاربي! قال: ذلك ألأم لك عندي، وأهون بك عليّ؛ نشأ في قومك مثلي فلم تعرفه، ومات مثل يزيد ولم تعلم به! يا حرسيّ، اسفع «1» بيده! ومن أشعار البخلاء التي يتمثلون بها:
وزهّدني في كلّ خير صنعته ... إلى الناس ما جرّبت من قلة الشكر
ولآخر:
ارقع قميصك ما اهتديت لجيبه ... فإذا أضلّك جيبه فاستبدل
ولابن هرمة:
قد يدرك الشّرف الفتى ورداؤه ... خلق وجيب قميصه مرقوع
ومن أمثالهم في البخل وخلف الوعد قولهم: تختلف الأقوال إذا اختلفت الإخوان؛ وقولهم:
كلام الليل يمحوه النهار
وقولهم:
بروق الصيف كاذبة الوعود
رسالة سهل بن هارون في البخل
بسم الله الرحمن الرحيم، أصلح الله أمركم، وجمع شملكم، وعلمكم الخير وجعلكم من أهله؛ قال الأحنف بن قيس: يا معشر بني تميم، لا تسرعوا إلى الفتنة فإن أسرع الناس إلى القتال أقلهم حياء من الفرار. وقد كانوا يقولون: إذا أردت أن ترى العيوب جمة فتأمل عيّابا، فإنه إنما يعيب الناس بفضل ما فيه من العيب، ومن(7/222)
أعيب العيب أن تعيب ما ليس بعيب، وقبيح أن تنهي مرشدا وأن تغري بمشفق.
وما أردنا بما قلنا إلا هدايتكم وتقويمكم، وإصلاح فاسدكم، وإبقاء النعمة عليكم، ولئن أخطأنا سبيل إرشادكم فما أخطأنا سبيل حسن النية فيما بيننا وبينكم؛ وقد تعلمون أنا ما أوصيناكم إلا بما اخترناه لكم، ولأنفسنا قبلكم وشهرنا به في الآفاق دونكم؛ ثم نقول في ذلك ما قال العبد الصالح لقومه: وَما أُرِيدُ أَنْ أُخالِفَكُمْ إِلى ما أَنْهاكُمْ عَنْهُ، إِنْ أُرِيدُ إِلَّا الْإِصْلاحَ مَا اسْتَطَعْتُ وَما تَوْفِيقِي إِلَّا بِاللَّهِ، عَلَيْهِ تَوَكَّلْتُ وَإِلَيْهِ أُنِيبُ
«1» ؛ فما كان أحقنا بكم في حرمتنا بكم أن ترعوا حقّ قصدنا بذلك إليكم على ما رعيناه من واجب حقكم، فلا العذر المبسوط بلغتم ولا بواجب الحرمة قمتم، ولو كان ذكر العيوب برّا وفخرا لرأينا في أنفسنا عن ذلك شغلا.
عبتموني بقولي لخادمي: أجيدي العجين، فهو أطيب لطمعه، وأزيد في ريعه؛ وقد قال عمر بن الخطاب رضي الله عنه: أملكوا «2» العجين، فإنه أحد الريعين.
وعبتموني حين ختمت على سدّ عظيم «3» ، وفيه شيء ثمين من فاكهة رطبة نفيسة؛ ومن رطبة غريبة، على عبد نهم، وصبيّ جشع، وأمة لكعاء، وزوجة مضيعة؛ وليس من أصل الأدب، ولا في ترتيب الحكم، ولا في عادة القادة، ولا في تدبير السادة، أن يستوي في نفيس المأكول، وغريب المشروب، وثمين الملبوس، وخطير المركوب- التابع والمتبوع، والسيد والمسود؛ كما لا تستوي مواضعهم في المجالس، ومواقع أسمائهم في العنوان؛ ومن شاء أطعم كلبه الدجاج السمين، وعلف حماره السمسم المقشّر! فعبتموني بالختم، وقد ختم بعض الأئمة على مزود سويق، وعلى كيس فارغ،(7/223)
وقال: طينة خير من ظنّة، فأمسكتم عمن ختم على لا شيء، وعبتم من ختم على شيء! وعبتموني أن قلت للغلام: إذا زدت في المرق فزد في الإنضاج، ليجتمع مع التأدم باللحم طيب المرق؛ وقد قال رسول الله صلّى الله عليه وسلّم: «إذا طبخ أحدكم لحما فليزد من الماء، فمن لم يصب لحما أصاب مرقا» .
وعبتموني بخصف «1» النعل، وبتصدير القميص، وحين زعمت أن المخصوفة من النعل أبقى وأقوى وأشبه بالنّسك، وأن الترقيع من الحزم، والتفرّق مع التضييع؛ والاجتماع مع الحفظ. وقد كان رسول الله صلّى الله عليه وسلّم يخصف نعله، ويرقع ثوبه؛ ويلعق أصابعه، ويقول: «لو أهدي إليّ ذراع لقبلت، ولو دعيت إلى كراع لأجبت» . وقال عليه الصلاة والسلام: «من لم يستحي من الحلال خفّت مئونته، وقل كبره» ؛ وقالت الحكماء: لا جديد لمن لم يلبس الخلق. وبعث زياد رجلا يرتاد له محدّثا، واشترط عليه أن يكون عاقلا، فأتاه به موافقا، فقال له: أكنت به ذا معرفة؟ قال: لا، ولكنني رأيته في يوم قائظ يلبس خلقا ويلبس الناس جديدا؛ فتفرّست فيه العقل والأدب، وقد علمت أن الخلق في موضعه مثل الجديد في موضعه؛ وقد جعل الله لكل شيء قدرا وسما به موضعا؛ كما جعل لك زمان رجالا، ولكل مقام مقالا؛ وقد أحيا الله بالسم، وأمات بالدواء، وأغصّ بالماء؛ وقد زعموا أن الإصلاح أحد الكسبين، كما زعموا أن قلة العيال أحد اليسارين؛ وقد جبر الأحنف بن قيس يد عنز، وأمر مالك بن أنس بفرسك النعل؛ وقال عمر بن الخطاب: من أكل بيضة فقد أكل دجاجة؛ ولبس سالم بن عبد الله بجلد أضحية «2» ؛ وقال رجل لبعض الحكماء: أريد أن أهدي إليك دجاجة. فقال: إن كان لا بد فاجعلها بيوضا.
وعبتموني حين قلت: من لم يعرف مواضع السرف في الموجود الرخيص لم يعرف مواضع الاقتصاد في الممتنع الغالي؛ فلقد أتيت بماء للوضوء على مبلغ الكفاية وأشفّ(7/224)
من الكفاية؛ فلما صرت إلى تفريق أجزائه على الأعضاء، وإلى التوفير عليها من وظيفة الماء «1» ، وجدت في الأعضاء فضلا على الماء؛ فعلمت أن لو كنت سلكت الاقتصاد في أوائله لخرج آخره على كفاية أوّله، ولكان نصيب [العضو] الأول كنصيب الآخر؛ فعبتموني بذاك وشنعتم عليّ؛ وقد قال الحسن وذكر السّرف: أما إنه ليكون في الماء والكلأ؛ فلم يرض بذكر الماء حتى أردفه بالكلأ.
وعبتموني أن قلت: لا يغترّنّ أحدكم بطول عمره، وتقوّس ظهره، ورقة عظمه، ووهن قوته، وأن يرى نحوه أكثر ذريته؛ فيدعوه ذلك إلى إخراج ماله من يده، وتحويله إلى ملك غيره، وإلى تحكيم السرف فيه، وتسليط الشهوات عليه؛ فلعله أن يكون معمرا؛ وهو لا يدري، وممدودا له في السنّ وهو لا يشعر؛ ولعله أن يرزق الولد على اليأس، أو يحدث عليه من آفات الدهر ما لا يخطر على بال ولا يدركه عقل، فيستردّه ممن لا يردّه، ويظهر الشكوى إلى من لا يرحمه؛ أصعب ما كان عليه الطلب، وأقبح ما كان به أن يطلب؛ فعبتموني بذلك وقد قال عمرو بن العاص:
اعمل لدنياك كأنك تعيش أبدا، واعمل لآخرتك كأنك تموت غدا.
وعبتموني بأن قلت بأن السرف والتبذير إلى مال المواريث وأموال الملوك [أسرع] وأن الحفظ للمال المكتسب، والغنى المجتلب، وإلى ما يعرض فيه لذهاب الدين، واهتضام العرض، ونصب البدن، واهتمام القلب- أسرع؛ ومن لم يحسب نفقته لم يحسب دخله، ومن لم يحسب الدخل فقد أضاع الأصل، ومن لم يعرف للغنى قدره فقد أذن بالفقر، وطاب نفسا بالذل.
وعبتموني بأن قلت: إن كسب الحلال يضمن الإنفاق في الحلال، وأن الخبيث ينزع إلى الخبيث، وأن الطيب يدعو إلى الطيب، وأن الإنفاق في الهوى حجاز دون الحقوق؛ فعبتم عليّ هذا القول؛ وقد قال معاوية: لم أر تبذيرا قط إلا وإلى جنبه تضييع. وقد قال الحسن: إن أردتم أن تعرفوا من أين أصاب الرجل ماله، فانظروا(7/225)
فيما ذا ينفقه، فإن الخبيث إنما ينفق في السرف.
وقلت لكم بالشفقة عليكم وحسن النظر مني لكم: أنتم في دار الآفات، والجوائح غير مأمونات؛ فإن أحاطت بمال أحدكم آفة لم يرجع إلى بقيّة، فاحذروا النقم واختلاف الأمكنة؛ فإن البلية لا تجري في الجميع إلا بموت الجميع؛ و [قد] قال عمر بن الخطاب رضي الله عنه في العبد والأمة والشاة والبعير: فرّقوا بين المنايا واجعلوا الرأس رأسين. وقال ابن سيرين [لبعض البحريّين] : كيف تصنعون بأموالكم؟ قالوا: نفرّقها في السفن، فإن عطب بعض سلم بعض، ولولا أن السلامة أكثر؛ ما حملنا أموالنا في البحر. قال ابن سيرين: تحسبها خرقاء وهي صناع.
وعبتموني بأن قلت لكم عند إشفاقي عليكم: إن للغنى لسكرا، وللمال لنزوة؛ فمن لم يحفظ الغنى من سكره فقد أضاعه، ومن لم يرتبط المال بخوف الفقر فقد أهمله؛ فعبتموني بذلك؛ وقد قال زيد بن جبلة: ليس أحد أقصر عقلا من غنيّ أمن الفقر. وسكر الغنى أكثر من سكر الخمر.
وقال الشاعر في يحيى بن خالد بن برمك:
وهوب تلاد المال فيما ينوبه ... منوع إذا ما منعه كان أحزما «1»
وعبتموني حين زعمت أني أقدّم المال على العلم؛ لأن المال به يفاد العلم، وبه تقوم النفس قبل أن يعرف فضل العلم فهو أصل، والأصل أحق بالتفضيل من الفرع؛ فقلتم: كيف هذا؟ وقد قيل لرئيس الحكماء: آلأغنياء أفضل أم العلماء؟ قال: العلماء، قيل له: فما بال العلماء يأتون أبواب الأغنياء أكثر مما يأتي الأغنياء أبواب العلماء؟
قال: ذلك لمعرفة العلماء بفضل المال، وجهل الأغنياء بحقّ العلم؛ فقلت: حالهما هي القاضية بينهما، وكيف يستوي شيء حاجة العامة إليه، وشيء يغنى فيه بعضهم عن بعض؛ وكان النبي صلّى الله عليه وسلّم يأمر الأغنياء باتخاذ الغنم، والفقراء باتخاذ الدجاج؛ وقال أبو(7/226)
بكر رضي الله عنه: إني لأبغض أهل بيت ينفقون نفقة الأيام في اليوم الواحد، وكان أبو الأسود الدؤلي يقول لولده: إذا بسط الله لك الرزق فابسط، وإذا قبض فاقبض.
وعبتموني حين قلت: [إن] فضل الغني على القوت إنما هو كفضل الآلة تكون في البيت، إن احتيج إليها استعملت، وإن استغنى عنها كانت عدّة، وقد قال الحضين بن المنذر: وددت أن لي مثل أحد ذهبا لا أنتفع منه بشيء! قيل له: فما كنت تصنع به؟ قال: لكثرة من كان يخدمني عليه، لأن المال مخدوم؛ وقد قال بعض الحكماء: عليك بطلب الغنى، فلو لم يكن [لك] فيه إلا أنه عزّ في قلبك، وذلّ في قلب عدوّك، لكان الحظ فيه جسيما، والنفع فيه عظيما.
ولسنا ندع سيرة الأنبياء، وتعليم الخلفاء، وتأديب الحكماء لأصحاب اللهو؛ ولستم عليّ تردّون، ولا رأيي تفنّدون، فقدّموا النظر قبل العزم، وادّكروا ما عليكم قبل أن تدركوا ما لكم، والسلام عليكم.
ومن اللؤم: التطفيل، وهو التعرّض للطعام من غير أن يدعى إليه.
أخبار الطفيليين
طفيل العرائس
: أولهم طفيل العرائس، وإليه نسب الطفيليون. وقال لأصحابه: إذا دخل أحدكم عرسا فلا يتلفّت تلفت المريب، وليتخير المجالس؛ وإن كان العرس كثير الزحام فليمض ولا ينظر في عيون الناس، ليظنّ أهل المرأة أنه من أهل الرجل؛ ويظن أهل الرجل أنه من أهل المرأة؛ فإن كان البواب غليظا وقاحا فتبدأ به وتأمره وتنهاه، من غير أن تعنف عليه، ولكن بين النصيحة والإدلال.
قال: يقول الطفيليون: ليس في الأرض عود أكرم من ثلاثة أعواد: عصا موسى، وخشب منبر الخليفة، وخوان الطعام.(7/227)
أبو العرقين
: وكان أبو العرقين الطفيلي قد نقش في خاتمه: «اللؤم شؤم» ، فقيل له: هذا رأس التطفيل!
طفيلي بالبصرة
: أحمد بن علي الحاسب قال: مرّ طفيليّ بسكة النخع بالبصرة على قوم وعندهم وليمة، فاقتحم عليهم وأخذ مجلسه مع من دعي، فأنكره صاحب المجلس فقالوا له:
لو تأنيت أو وقفت حتى يؤذن لك أو يبعث إليك! قال: إنما اتّخذت البيوت ليدخل فيها، ووضعت الموائد ليؤكل عليها، وما وجهت بهدية فأتوقّع الدعوة، والحشمة قطيعة، وطرحها صلة؛ وقد جاء في الأثر: صل من قطعك، وأعط من حرمك؛ وأنشد:
كلّ يوم أدور في عرصة الدا ... ر أشمّ القتار شمّ الذّباب «1»
فإذا ما رأيت آثار عرس ... أو دخان أو دعوة لصحاب
لم أعرّج دون التقحّم لا أر ... هب طعنا أو لكزة البواب
مستهينا بمن دخلت عليهم ... غير مستأذن ولا هيّاب
فتراني ألفّ بالرغم منهم ... كلّ ما قدموه لفّ العقاب «2»
ومنهم أشعب الطماع؛ قيل له: ما بلغ من طمعك؟ قال: لم أنظر إلى اثنين يتسارّان إلا ظننتهما يأمران لي بشيء! وفيه يقال: «أطمع من أشعب» .
أشعب الطماع
: وقف أشعب إلى رجل يعمل طبقا، فقال له: أسألك بالله ألا ما زدت في سعته طوقا أو طوقين! فقال له: وما معناك في ذلك؟ قال: لعلّ يهدى إليّ فيه شيء!(7/228)
ساوم أشعب رجلا في قوس عربية، فسأله دينارا فقال له: والله لو أنها إذا رمي بها طائر في جوّ السماء وقع مشويا بين رغيفين، ما أعطيتك بها دينارا! وبينا قوم جلوس عند رجل من أهل المدينة يأكلون عنده حيتانا، إذ استأذن عليهم أشعب؛ فقال أحدهم: إن من شأن أشعب البسط إلى أجل الطعام فاجعلوا كبار هذه الحيتان في قصعة بناحية، ويأكل معنا الصغار. ففعلوا وأذن له، فقالوا له:
كيف رأيك في الحيتان؟ فقال: والله إن لي عليها لحردا شديدا وحنقا، لأن أبي مات في البحر وأكلته الحيتان! قالوا له: فدونك خذ بثأر أبيك! فجلس ومد يده إلى حوت منها صغير، ثم وضعه عند أذنه- وقد نظر إلى القصعة التي فيها الحيتان في زاوية المجلس- فقال: أتدرون ما يقول لي هذا الحوت؟ قالوا: لا. قال: إنه يقول:
إنه لم يحضر موت أبي ولم يدركه؛ لأن سنه يصغر عن ذلك، ولكن قال لي: عليك بتلك الكبار التي في زاوية البيت، فهي أدركت أباك وأكلته!
أمير وطفيلي
وكان رجل من لامراء يستظرف طفيليا يحضر طعامه وشرابه، وكان الطفيلي اكولا شروبا، فلما رأى الامير كثرة أكله وشربه اطرحه وجفاه، فكتب إليه الطفيلي:
قد قلّ أكلي وقلّ شربي ... وصرت من بابة الامير «1»
فليدع بي وهو في أمان ... أن أشّرب الراح بالكبير
طفيلي في صنيع
وأقبل طفيلي إلى صنيع «2» ، فوجد بابا قد أرتج ولا سبيل إلى الوصول؛ فسأل عن صاحب الصنيع إن كان له ولد غائب او شريك في سفر؟ فأخبر عنه أن له ولد بلد كذا، فأخذ رقا أبيض وطواه وطبع عليه، ثم أقبل متدلّلا فقعقع الباب قعقعة(7/229)
شديدة واستفتح، وذكر أنه رسول من عند ولد الرجل؛ ففتح له الباب، وتلقاه الرجل فرحا فقال: كيف فارقت ولدي؟ قال: له بأحسن حال، وما أقدر ان اكلمك من الجوع! فأمر بالطعام فقدم إليه، وجعل يأكل؛ ثم قال له الرجل: ما كتب كتابا معك؟ قال: نعم. ودفع إليه الكتاب، فوجد الطين طريا، فقال له: ارى الطين طريا! قال: نعم وأريدك انه من الكدّ ما كتب فيه شيئا! فقال: أطفيلي انت؟ قال: نعم أصلحك الله! قال: كل لا هنأك الله!
اشعب على ثريدة
وقيل لا شعب: ما تقول في ثرده مغمور بالزبد مشققة باللحم؟ قال فأضرب كم؟
قيل له: بل تأكلها من غير ضرب. قال: هذا ما لا يكون، ولكن كم الضرب فأتقدم على بصيرة! وقيل لمزبّد المديني، وقد أكل طعاما كظّه: قيء نقا «1» ولحم جدي! امرأتي طالق لو وجدتهما قيئا لأكلتهما! وقيل لطفيلي: ما أبغض الطعام اليك؟ قال: القريض «2» . قيل له: ولم ذا؟ قال:
لانه يؤخر إلى يوم آخر.
طفيلي وكتبة
ومر طفيلي بقوم من الكتبة في مشربة لهم، فسلم ثم وضع يده يأكل معهم؛ قالوا:
أعرفت فينا احدا؟ قال: نعم، عرفت هذا. وأشار إلى الطعام! فقالوا: قولوا بنا فيه شعرا:
فقال الأول:
لم أر مثل سرطه ومطّه «3»(7/230)
وقال الثاني:
ولفّه دجاجه ببطه
وقال الثالث:
كأنّ جالينوس تحت إبطه
فقال الاثنان للثالث: أما الذي وصفناه من فعله فمفهوم، فما يصنع جالينوس تحت إبطه؟ قال: يلقمه الجوارش كلما خاف عليه التخمة؛ تهضم بها طعامه!
الجماز وطفيلي
ومرّ طفيلي على جماز؛ فقال له ما تأكل؟ قال: [قيء] كلب في قحف خنزير! ودخل طفيلي على قوم يأكلون فقال: ما تأكلون؟ فقالوا من بغضه: سمّا! فأدخل يده وقال: الحياة حرام بعدكم! ومرّ طفيلي على قوم كانوا يأكلون وقد أغلقوا الباب دونه، فتسوّر عليهم من الجدار وقال: منعتموني من الارض فجئتكم من السماء! وقيل لطفيلي: كم اثنان في اثنين؟ قال: أربعة أرغفة.
وقيل لآخر: كم كان اصحاب النبي صلّى الله عليه وسلّم يوم بدر؟ قال: كانوا ثلاثمائة وثلاثة عشر درهما.
طفيلي وزنادقة حملوا للمأمون
قال محمد بن احمد الكوفي: حدثنا الحسين بن عبد الرحمن عن أبيه قال: أمر المأمون أن يحمل إليه عشرة من الزنادقة سمّوا له بالبصرة؛ فجمعوا، وأبصرهم طفيلي، فقال: ما اجتمع هؤلاء إلا لصنيع! فانسلّ فدخل وسطهم، ومضى بهم المتوكلون حتى انتهوا بهم إلى زورق قد أعدّ لهم، فدخلوا الزورق، فقال الطفيلي: هي نزهة! فدخل معهم، فلم يكن بأسرع من أن قيّدوا وقيّد معهم الطفيلي، ثم سير بهم إلى بغداد، فأدخلوا على المأمون، فجعل يدعو بأسمائهم رجلا رجلا، فيأمر بضرب رقابهم، حتى(7/231)
وصل إلى الطفيلي وقد استوفى العدّة، فقال للموكلين: ما هذا؟ قالوا والله ما ندري، غير أنا وجدناه مع القوم، فجئنا به. فقال له المأمون: ما قصتك ويلك؟
قال: يا أمير المؤمنين، امرأته طالق إن كان يعرف من احوالهم شيئا، ولا مما يدينون الله به؛ إنما انا رجل طفيلي رأيتهم مجتمعين فظننتهم ذاهبين لدعوة! فضحك المأمون وقال: يؤدّب! وكان ابراهيم بن المهدي قائما على رأس المأمون، فقال: يا أمير المؤمنين، هب لي ذنبه، واحدّثك عن حديث عجيب عن نفسي. قال: قل يا ابراهيم، قال: خرجت يا أمير المؤمنين من عندك يوما؛ فطفت في سكك بغداد متطرّبا، فانتهيت إلى موضع، فشممت روائح أبازير قدور قد فاح طيبها، فتاقت نفسي إليها وإلى طيب ريحها، فوقفت على خياط فقلت: لمن هذه الدار؟ قال: لرجل من التجار من البزازين. قلت: ما اسمه؟ قال: فلان ابن فلان. فنظرت إلى الدار، فإذا بشباك فيها مطلّ، فنظرت إلى كف قد خرجت من الشباك قابضة على عضد ومعصم، فشغلني يا أمير المؤمنين حسن الكفّ والمعصم عن رائحة القدور، وبقيت باهتا ساعة؛ ثم أدركني ذهني، فقلت للخياط: أهو ممن يشرب؟ قال: نعم، وأحسب ان عنده اليوم دعوة، وليس ينادمه إلا تجار عمل مستورون. فبينا أنا كذلك إذ أقبل رجلان نبيلان راكبان من رأس الدرب، فقال الخياط: هؤلاء منادموه. فقلت: ما اسماهما وما كنا هما؟ قال: فلان وفلان. فحركت دابتي وداخلتهما، وقلت: جعلت فداكما، قد استبطأكما ابو غلان أعزه الله. وسايرتهما حتى بلغا الباب، فأدخلاني وقدّماني، فدخلنا؛ فلما رآني صاحب المنزل لم يشك أني منهما بسبيل، أو قادم قدمت عليهما من موضع؛ فرحّب بي، وأجلست في أفضل المواضع؛ فجيء بالمائدة وعليها خبز نظيف، وأتينا بتلك الالوان، فكان طعمها أطيب من ريحها؛ فقلت في نفسي: هذه الالوان قد أكلتها، وبقي الكف والمعصم، كيف اصل إلى صاحبتهما؟ ثم رفع الطعام، وجاءونا بوضوء، فتوضأنا وصرنا إلى بيت المنادمة، فإذا أشكل بيت يا أمير المؤمنين، وجعل صاحب المنزل يلطف بي ويميل عليّ بالحديث. وجعلوا لا يشكون أن ذلك منه على معرفة متقدمة؛ حتى إذا شربنا أقداحا، خرجت علينا جارية كأنها بان،(7/232)
تنثني كالخيزران فأقبلت فسلمت غير خجلة، وثنيت لها وسادة فجلست، وأتى بالعود فوضع في حجرها فجسته، فاستبنت في جسّها حذقها، ثم اندفعت تغني:
توهّمها طرفي فأصبح خدّها ... وفيه مكان الوهم من نظري أثر
وصافحها كفّي فآلم كفّها ... فمن مسّ كفي في أناملها عقر
فجعلت يا أمير المؤمنين بلابلي تطرب لحسن شعرها، ثم اندفعت تغني:
أشرت إليها: هل عرفت مدّتي؟ ... فردّت بطرف العين: إني على العهد
فحدت عن الإظهار عمدا لسرّها ... وحادت عن الإظهار أيضا على عمد
فصحت: يا سلام! وجاءني من الطرب ما لا املك نفسي معه؛ ثم اندفعت فغنت الثالث:
أليس عجيبا أن بيتا يضمّني ... وإياك لا نخلو ولا نتكلم؟
سوى أعين تشكو الهوى بجفونها ... وتقطيع أنفاس على النار تضرم
إشارة أفواه وغمز حواجب ... وتكسير أجفان وكف يسلّم
فحسدتها يا أمير المؤمنين على حذقها ومعرفتها بالغناء، وإصابتها لمعنى الشعر، وأنها لم تخرج عن الفنّ الذي ابتدأت به؛ فقلت: بقي عليك يا جارية! فضربت بعودها الارض وقالت: متى كنتم تحضرون مجالسكم البغضاء! فندمت على ما كان مني، ورأيت القوم كأنهم تغيروا لي؛ فقلت: أما عندكم عود غير هذا؟
قالوا: بلى.
فأتيت بعود، فأصلحت من شأنه، ثم غنيت:
ما للمنازل لا يجبن حزينا ... أصممن أم قدم المدى فبلينا
راحوا العشيّة روحة منكورة ... إن متن متنا أو حيين حيينا(7/233)
فما أتممته حتى قامت الجارية فأكبّت على رجلي تقبلها، وقالت: معذرة إليك! فو الله ما سمعت أحدا يغني هذا الصوت غناءك! وقام مولاها وأهل المجلس ففعلوا كفعلها، وطرب القوم والله واستحثوا الشراب، فشربوا بالكاسات والطاسات؛ ثم اندفعت أغني:
أبى الله أن تمشي ولا تذكرينني ... وقد سفحت عيناي من ذكرك الدّما
فردّي مصاب القلب أنت قتلته ... ولا تتركيه ذاحل العقل مغرما
إلى الله أشكو بخلها وسماحتي ... لها عسل مني وتبذل علقما «1»
إلى الله أشكو انها مداريّة ... وإني لها بالودّ ما عشت مكرما
فطرب القوم حتى خرجوا من عقولهم، فأمسكت عنهم ساعة حتى تراجعوا ثم اندفعت أغني الثالث:
هذا محبّك مطويّ على كمده ... حرّى مدامعه تجري على جسده «2»
له يد تسأل الرحمن راحته ... مما جنى، ويد أخرى على كبده
فجعلت الجارية تصيح: هذا الغناء والله يا سيدي لا ما كنا فيه! وسكر القوم، وكان صاحب المنزل حسن الشرب صحيح العقل، فأمر غلمانه أن يخرجوهم ويحفظوهم إلى منازلهم، وخلوت معه؛ فلما شربنا اقداحا قال: يا هذا! ذهب ما مضى من أيامي ضياعا إذ كنت لا اعرفك؛ فمن انت يا مولاي؟
ولم يزل يلحّ حتى أخبرته الخبر، فقام وقبّل رأسي وقال: وأنا اعجب يا سيدي أن يكون هذا الادب إلا لمثلك، وأنّى لي أن اجالس الخلفاء ولا اشعر؟
ثم سألني عن قصتي فأخبرته، حتى بلغت خبر الكف والمعصم؛ فقال للجارية:
قومي فقولي لفلانة تنزل ...(7/234)
ثم لم يزل ينزل جواريه واحدة بعد اخرى، وأنظر إلى كفها ومعصمها وأقول:
ليست هي! حتى قال: والله ما بقي غير زوجتي واختي، والله لا نزلنّهما إليك.
فعجبت من كرمه وسعة صدره، فقلت: جعلت فداءك، أبدأ بالاخت قبل الزوجة فعساها هي.
فبرزت، فلما رأيت كفّها ومعصمها قلت: هي هذه! فأمر غلمانه فمضوا إلى عشرة مشايخ من جلة جيرانه، فأقبلوا بهم؛ وأمر ببدرتين فيهما عشرون ألف درهم، فقال للمشايخ: هذه اختي فلانة، أشهدكم اني قد زوجتها من سيدي إبراهيم بن المهدي، وامهرتها عنه عشرين ألفا! فرضيت النكاح، فدفع إليها بالبدرة، وفرق الاخرى على المشايخ، وقال لهم: انصرفوا. ثم قال: يا سيدي امهد لك بعض البيوت فتنام مع اهلك! فاحتشمني «1» ما رأيت من كرمه، فقلت: بل احضر عمارية وأحملها إلى منزلي. قال: ما شئت. فأحضرت عمارية وحملتها إلى منزلي؛ فو الله يا أمير المؤمنين، لقد أتبعها من الجهاز ما ضاق عنه بعض بيوتنا؛ فأولدتها هذا القائم على رأس أمير المؤمنين.
فعجب المأمون من كرم الرجل، وأطلق الطفيليّ وأجازه، وألحق الرجل في أهل خاصته.
طفيلي وقوم يتغدون
ومرّ طفيليّ بقوم يتغدّون، فقال: سلام عليكم معشر اللئام! فقالوا: لا والله، بل كرام. فثنى رجله وجلس، وقال: اللهم اجعلهم من الصادقين واجعلني من الكاذبين!
الفضل بن يحيى وطفيلي
ودخل طفيليّ من اهل المدينة على الفضل بن يحيى وبيده تفاحة، فألقاها إليه وقال:
حيّاك الله يا مدني، أتأكل التحيات؟ قال: أي والله، والزاكيات الطيبات كنت آكلها!(7/235)
ابراهيم الموصلي وطفيلي
وقال ابراهيم الموصلي في طفيلي كان يصحبه:
نعم النّديم نديم لا يكلّفني ... ذبح الدّجاج ولا ذبح الفراريج
يكفيه لونان من كشك ومن عدس ... وإن يشاء فزيتون بطسّوج «1»
وقال طفيليّ في نفسه:
نحن قوم إذا دعينا أجبنا ... ومتى تنس يدعنا التّطفيل
ونقل: علّنا دعينا فغبنا ... وأتانا فلم يجدنا الرسول!
وقال آخر وأتى طعاما لم يدع إليه، فقيل له: من دعاك؟ فأنشأ:
دعوت نفسي حين لم تدعني ... فالحمد لي لا لك في الدعوة
وكان ذا أحسن من موعد ... مخلفه يدعو إلى الجفوه
ودخل طفيليّ في صنيع رجل من القبط، فقال له: من أرسل إليك؟ فأنشأ:
أزوركم لا أكافيكم بجفوتكم ... إنّ المحبّ إذا ما لم يزر زارا
فقال القبطي: زرزارا! ليس ندري من هو؟ اخرج من بيتي!
طفيلي وزنادقة
ونظر رجل من الطفيليين إلى قوم من الزنادقة يسار بهم إلى القتل: فرأى لهم هيئة حسنة وثيابا نقية، فظنهم يدعون إلى وليمة، فتلطف حتى دخل في لفيفهم وصار واحدا منهم، فلما بلغ صاحب الشرطة قال: أصلحك الله، لست والله منهم، وإنما أنا طفيلي ظننتهم يدعون إلى صنيع فدخلت في جملتهم! فقال: ليس هذا ما ينجيك مني، اضربوا عنقه! فقال: أصلحك الله، إن كنت ولا بدّ فاعلا فأمر السياف ان يضرب بطني بالسيف، فإنه هو الذي ورّطني هذه الورطة! فضحك صاحب الشرطة، وكشف عنه، فأخبروه أنه طفيلي معروف، فخلّى سبيله.(7/236)
وقال طفيلي:
ألا ليت خبزا تسربل رائبا ... وخيلا من البرنيّ فرسانها الزّبد
فأطلب فيما بينهنّ شهادة ... بموت كريم لا يشقّ له الحد
وكان أشعب يختلف إلى قينة بالمدينة يطارحها الغناء، فلما أراد الخروج إلى مكة قال لها: ناوليني هذا الخاتم الذي في أصبعك لا ذكرك به! قالت: إنه ذهب، وأخاف ان تذهب؛ ولكن خذ هذا العود، لعلك تعود.
شيخ وحدث
اصطحب شيخ وحدث من الاعراب، فكان لهما قرص في كل يوم، وكان الشيخ متخلع الاضراس بطيء الأكل، فكان الحدث يبطش بالقرص ثم يقعد يشتكي العشق، ويتضور الشيخ جوعا، وكان اسم الحدث جعفرا، فقال الشيخ فيه:
لقد رابني من جعفر أن جعفرا ... يطيش بقرصي ثم يبكي على جمل
فقلت له مسّك الحبّ لم تبت ... سمينا وأنساك الهوى شدّة الأكل
وقال الحدث:
إذا كان في بطني طعام ذكرتها ... وإن جعت يوما لم تكن لي على ذكر
ويزداد حبّي إن شبعت تجدّدا ... وإن جعت غابت عن فؤادي وعن فكري
أشعب وجارية
وكان أشعب يختلف إلى جارية في المدينة، ويظهر لها التعاشق، إلى ان سألته سلفة نصف درهم، فانقطع عنها، وكان إذا لقيها في طريق سلك طريقا أخرى، فصنعت له نشوقا وأقبلت به إليه، فقال لها: ما هذا؟ قالت: نشوق «1» عملته لك لهذا الفزع الذي بك! فقال: اشربيه انت للطمع [الذي بك] ؛ فلو انقطع طمعك انقطع فزعي! وأنشأ يقول:(7/237)
أخلفي ما شئت وعدي ... وامنحيني كلّ صدّ
قد سلا بعدك قلبي ... فاعشقي من شئت بعدي
إنّي آليت لا أع ... شق من يعشق نقد نقدي!
لأشعب في الغناء
وقيل لاشعب: ما احسن الغناء؟ قال: نشيش «1» المقلى! قيل له. فما اطيب الزمان؟
قال: إذا كان عندك ما تنفق! وكان أشعب يغني:
ألا أخبرت أخبارا ... أتت في زمن الشّدة:
وكان الحبّ في القلب ... فصار الحبّ في المعده
وقال آخر في طفيلي من اهل الكوفة:
زرعنا، فلما تمّم الله زرعنا ... وأوفى عليه منجل بحصاد
بلينا بكفيّ حليف مجاعة ... أضرّ بزرع من دبى وجراد
وقال هشام اخو ذي الرّمة لرجل اراد سفرا: إن لكل رفقة كلبا يشركهم في فضلة الزاد، فإن استطعت ان لا تكون كلب الرفاق فافعل.
أبو نواس وشطار
وخرج ابو نواس متنزها مع شطار من اصحابه، فنزلوا روضة ووضعوا شرابا، فمر بهم طفيليّ، فتطارح عليهم؛ فقال له أبو نواس. ما اسمك؟ قال: ابو الخير.
فرحب به وقعد معهم؛ ثم مرت بهم جارية فسلمت، فردّ عليها، وقال لها: ما اسمك؟
قالت: زانة. قال ابو نواس لاصحابه: اسرقوا الياء من ابو الخير، فأعطوها زانة، فتكون زانية، ويكون ابو الخير ابا الخر كما هو ففعلوا.........(7/238)
الجاحظ وغيره من صنيع
: الجاحظ قال: دعا أبو عبيد الله الواسطي إلى صنيع، فدعاني، فدعوت أبا الفلوسكيّ، فلما كان من الغد صبح الفلوسكي الجاحظ فقال له: أما تذهب بنا هناك يا أبا عثمان؟ قال: نعم. قال فذهبنا حتى أتينا دار صاحب الصنيع، ولم يكن علينا كسوة رائعة ولا تحتنا دواب فتدخل تجاهنا، فوجدنا البواب ذا غلظ وجفاء، فمنعنا، فانحدرنا في جانب الإيوان ننتظر احد يعلم أبا عبد الله الواسطي بنا؛ فلما أخبر خرج إلينا يتلقانا، فتقدمني الفلوسكي وتقدمه حتى أتى صدر المجلس؛ فقعد فيه؛ ثم قال لي: ههنا عندنا يا أبا عثمان! فلما خلونا ثلاثتنا قلت للفلوسكي: كيف تسمي العرب من أمالت إلي أنفسها؟ قال الفلوسكي: تسميه ضيفا. فقال له الجاحظ: وكيف تسمي من أماله الضيف؟ قال: تسميه ضيفنا. قال الجاحظ: وكيف تسمي من أماله الضيفن؟
قال: ما لمثل هذا عند العرب تسمية. قال الجاحظ: فقلت: قد رضيت أن تكون في منزلة من التطفيل لم تجد لها العرب اسما، ثم تتحكم تحكّم صاحب البيت.
باب من أخبار المحارفين
منهم أبو الشمقمق الشاعر، وكان أديبا ظريفا ومحارفا «1» ، وكان صعلوكا متبرما بالناس، وقد لزم بيته في أطمار مسحوقة، وكان إذا استفتح عليه أحد بابه، خرج فينظر من فروج الباب، فإن أعجبه الواقف فتح له وإلا سكت عنه؛ فأقبل إليه يوما بعض إخوانه الملطفين له، فدخل عليه فلما رأى سوء حاله قال له: أبشر أبا الشمقمق، فإنا روينا في بعض الحديث: «إن العارين في الدنيا هم الكاسون يوم القيامة» . فقال: إن صح والله هذا الحديث كنت أنا في ذلك اليوم بزّازا «2» ! ثم أنشأ يقول:
أنا في حال تعالى الله ... ربّي أيّ حال
ليس لي شيء إذا قي ... ل لمن ذا قلت ذا لي(7/239)
ولقد أهزلت حتى ... محت الشمس خيالي
ولقد أفلست حتى ... حلّ أكلي لعيالي
وله:
أتراني أرى من الدهر يوما ... لي فيه مطية غير رجلي؟
كلما كنت في جميع فقالوا ... قرّبوا للرّحيل، قرّبت نعلي!
حيثما كنت لا أخلّف رحلا ... من رآني فقد رآني ورحلي!
وقال ابو الشمقمق أيضا:
[لو] قد رأيت سريري كنت ترحمني ... الله يعلم مالي فيه تلبيس
والله يعلم مالي فيه شائبة ... إلا الحصيرة والأطمار والدّيس «1»
وقال أيضا:
برزت من المنازل والقباب ... فلم يعسر على احد حجابي
فمنزلي الفضاء، وسقف بيتي ... سماء الله أو قطع السّحاب
فأنت إذا أردت دخلت بيتي ... عليّ مسلما من غير باب
لأني لم اجد مصراع باب ... يكون من السحاب إلى التراب
ولا انشقّ الثّرى عن عود نحت ... أؤمّل أن أشاريه ببابي
ولا خفت الإباق على عبيدي ... ولا خفت الهلاك على دوابي «2»
ولا حاسبت يوما قهرمانا ... محاسبة فأغلط في حسابي
وفي ذا راحة وفراغ بال ... فدأب الدّهر ذا أبدا ودابي
وقال أيضا:
لو ركبت البحار صارت فجاجا ... لا ترى في متونها أمواجا
فلو أنّي وضعت ياقوتة حمراء ... في راحتي لصارت زجاجا(7/240)
ولو انّي وردت عذبا فراتا ... عاد لا شكّ فيه ملحا أجاجا
فإلى الله أشتكي وإلى الفضل ... فقد أصبحت بزاتي دجاجا
وقال عمر بن الهدير:
وقفت، فلا أدري إلى أين أذهب ... وأيّ أموري بالعزيمة أركب
عجبت لأقدار عليّ تتابعت ... بنحس فأفنى طول دهري التعجّب
ولما التمست الرّزق فانحلّ حبله ... ولم يصف لي من بحره العذب مشرب
خطبت إلى الإعدام إحدى بناته ... لدقع الغنى إيّاي إذ جئت ومشجب «1»
فأولدتها الحزن النّقي، فما له ... على الارض غيري والد حين ينسب
فلو تهت في البيداء والليل مسبل ... عليّ دياجيه لما لاح كوكب
ولو خفت شرا فاستترت بظلمة ... لأقبل ضوء الشمس من حيث تغرب
ولو جاد إنسان عليّ بدرهم ... لرحت إلى رحلي وفي الكف عقرب «2»
ولو يمطر الناس الدنانير لم يكن ... بشيء سوى الحصباء رأسي يحصب
ولو لمست كفّاي عقدا منظّما ... من الدّرّ أضحى وهو ودع مثقّب «3»
وإن يقترف ذنبا ببرقة مذنب ... فإنّ برأسي ذلك الذنب يعصب «4»
وإن أر خيرا في المنام فنازح ... وإن أر شرّا فهو مني مقرّب
ولم أغد في أمر أريد نجاحه ... فقابلني إلا غراب وأرنب
أمامي من الحرمان جيش عرمرم ... ومنه ورائي جحفل حين أركب!
وقال آخر:
ليس إغلاقي لبابي أنّ لي ... فيه ما أخشى عليه السّرقا
إنما اغلقته كي لا يرى ... سوء حالي من يمرّ الطرقا
منزل أوطنه الفقر فلو ... يدخل السارق فيه سرقا!(7/241)
وقال الحسن بن هانىء في هذا المعنى:
الحمد لله ليس لي نشب ... فخفّ ظهري وقلّ زوّاري»
من نظرت عينه إلي فقد ... أحاط علما بما حوت داري
جمري في البيت كامن وعلى ... مدرجة الرائحين أسراري
وقال بعض المحارفين:
لزمتني حرفة ما تنقضي ... أبدا حتى أوارى في الجدث
كلزوم الطوق إلا أنها ... تسجد الدهر والطوق يرث «2»(7/242)
كتاب الزبرجدة الثانية في بيان طبائع الانسان وسائر الحيوان
قال أحمد بن محمد بن عبد ربه رحمه الله: قد مضى قولنا في المتنبئين، والممرورين والبخلاء، والطفيليين.
ونحن قائلون بعون الله وتوفيقه في طبائع الإنسان وسائر الحيوان، وتفاضل البلدان، والنعمة والسرور؛ إذ لم يكن مدار الدنيا إلا عليها، ولا قوام الأبدان إلا بها؛ وإذ هي نمو الفراسة، وتركيب الغريزة، واختلاف الهمم، وطيب الشيم وتفاضل الطعوم.
وقد تكلم الناس في النعمة والسرور، على تباين أحوالهم، واختلاف هممهم وتفاوت عقولهم، وما يجانس كل رجل منهم في طبعه، ويؤلفه في نفسه، ويميل إليه في وهمه؛ وإنما اختلف الناس في هذا المذهب لاختلاف أنفسهم، فمنهم من نفسه غضبية، فإنما همه منافسة الأكفاء، ومغالبة الأقران، ومكاثرة العشيرة ومنهم من نفسه ملكية، فإنما همه اليقين في العلوم، وإدراك الحقائق، والنظر في العواقب؛ ومنهم من نفسه بهيمية، فإنما همه طلب الراحة، وانهماك النفس على الشهوة من الطعام والشراب والنكاح؛ وعلى هذه الطبيعة البهيمية قسمت الفرس دهرها كلّه، فقالوا: يوم المطر للشرب، ويوم الريح للنوم، ويوم الدجن للصيد، ويوم الصحو للجلوس. وهي أغلب الطبائع على الإنسان، لأخذها بمجامع هواه، وإيثار الراحة وقلة العمل، فمنه قولهم: الرأي نائم والهوى يقظان؛ وقولهم: الهوى إله معبود؛ وقولهم: ربيع القلب ما اشتهى، وقولهم: لا عيش كطيب النفس.(7/243)
النفس الملكية
قيل لضرار بن عمرو: ما السرور؟ قال: إقامة الحجة وإدحاض الشبهة.
وقيل لآخر: ما السرور؟ قال: إحياء السنة وإماتة البدعة.
وقيل لآخر: ما السرور؟ قال: إدراك الحقيقة، واستنباط الدقيقة.
وقال الحجاج بن يوسف لخريم الناعم: ما النعمة؟ قال: الأمن، فإني رأيت الخائف لا ينتفع بعيش. قال له زدني. قال: فالصحة فأني رأيت المريض لا ينتفع بعيش. قال له: زدني. قال له: الغنى، فإني رأيت الفقير لا ينتفع [بعيش] . قال له: زدني. قال:
فالشباب، فإني رأيت الشيخ لا ينتفع بعيش. قال له: زدني، قال: ما أجد مزيدا.
وقيل لأعرابي: ما السرور؟ قال: الأمن والعافية.
النفس الغضبية
قيل لحضين بن المنذر: ما السرور؟ قال لواء منشور، والجلوس على السرير، والسلام عليك أيها الأمير.
وقيل للحسن بن سهل: ما السرور؟ قال: توقيع جائز، وأمر نافذ.
وقيل لعبد الله بن الأهتم: ما السرور؟ قال: رفع الأولياء، ووضع الأعداء، وطول البقاء، مع الصحة والنماء.
وقيل لزياد: ما السرور؟ قال: من طال عمره، ورأى في عدوه ما يسرّه.
وقيل لأبي مسلم صاحب الدعوة: ما السرور؟ قال: ركوب الهمالجة «1» ، وقتل الجبابرة. وقيل له: ما اللذة؟ قال إقبال الزمان، وعز السلطان.(7/244)
النفس البهيمية
قيل لامريء القيس: ما السرور؟ قال: بيضاء رعبوبة «1» ، بالطّيب مشبوبة، باللحم مكروبة «2» . وكان مفتونا بالنساء.
وقيل لأعشى بكر: ما السرور؟ قال: صهباء صافية، تمزجها ساقية، من صوب غادية. وكان مغرما بالشراب.
وقيل لطرفة: ما السرور؟ فقال: مطعم هنيّ، ومشرب رويّ، وملبس دفيّ، ومركب وطيّ. وكان يؤثر الخفض والدعة.
وقال طرفة:
فلولا ثلاث هنّ من عيشة الفتى ... وربّك لم أحفل متى قام عوّدي
فمنهنّ سبقي العاذلات بشربة ... كميت متى ما تعل بالماء تزبد «3»
وكرّي إذا نادى المضاف محنّبا ... كسيد الغضا في الطّخية المتورّد «4»
وتقصير يوم الدّجن، والدّجن معجب ... ببهكنة تحت الخباء الممدّد
وسمع هذه الأبيات عمر بن عبد العزيز رضي الله عنه، فقال: وأنا والله لولا ثلاث لم أحفل متى قام عودي، لولا أن أعدل في الرعية، وأقسم بالسوية، وأنفر في السرية.
وقال عبد الله بن نهيك:
فلولا ثلاث هنّ من عيشة الفتى ... وربّك لم أحفل متى قام رامس
فمنهنّ سبق العاذلات بشربة ... كأن أخاها مطلع الشمس ناعس
ومنهنّ تقريط الجواد عنانه ... إذا ابتدر الشخص الكميّ الفوارس(7/245)
ومنهنّ تجريد الكواعب كالدّمى ... إذا ابتزّ عن أكفالهنّ الملابس
وقيل ليزيد بن مزيد: ما السرور؟ قال: قبلة على غفلة. وكان صاحب وصائف.
وقيل لحرقة بنت النعمان: ما كانت لذة أبيك؟ قالت: شرب الجريال «1» ، ومحادثة الرجال.
وقيل لحضين بن المنذر: ما السرور؟ قال: دار قوراء «2» ، وجارية حوراء، وفرس مرتبط بالفناء.
وقيل للحسن بن هانيء: ما السرور؟ قال: مجالسة الفتيان، في بيوت القيان، ومنادمة الإخوان، على قضب الريحان، وأنشأ يقول:
قلت بالعين لموسى ... ونداماي نيام
يا رضيعي ثدي أمّ ... ليس لي عنه فطام
إنما العيش سماع ... ومدام وندام
فإذا فاتك هذا ... فعلى الدنيا السلام
معاوية وابن جعفر
: وقال معاوية لعبد الله بن جعفر: ما أطيب العيش؟ قال: ليس هذا من مسائلك يا أمير المؤمنين! قال: عزمت عليك لتقولنّ. قال: هتك الحيا، واتباع الهوى.
معاوية وابن العاص
: وقال معاوية لعمرو بن العاص: ما العيش؟ قال ليخرج من هنا من الأحداث! فخرجوا، فقال: العيش كله في إسقاط المروءة! وقال هشام بن عبد الملك: ألذّ الأشياء كلها جليس مساعد يسقط عني مئونة التحفظ.
قيل لأعرابي: ما السرور؟ قال لبس البالي في الصيف، والجديد في الشتاء.(7/246)
وقيل لآخر: ما النعيم؟ قال: الماء الحارّ في الشتاء، والبارد في الصيف.
البنيان
قال النبي صلّى الله عليه وسلّم: «من بني بنيانا فليتقنه» .
وقالت الحكماء: لذة الطعام والشراب ساعة، ولذة الثوب يوم، ولذة المرأة شهر، ولذة البنيان دهر، كلما نظرت إليه تجددت لذته في قلبك، وحسنه في عينك.
وقالوا: دار الرجل جنته في الدنيا.
وقالوا: ينبغي للدار أن تكون أول ما يبتاع وآخر ما يباع.
يحيى وابنه جعفر
: وقال يحيى بن خالد لابنه جعفر بن يحيى حين اختط داره ليبنيها: هي قميصك إن شئت فضيق وإن شئت فوسع.
الرشيد وعبد الملك
: وقال هارون الرشيد لعبد الملك بن صالح: كيف منزلك بمنبج؟ قال دون منازل أهلي، وفوق منازل أهلها. قال: وكيف ذلك وقدرك فوق أقدارهم؟ قال: ذلك خلق أمير المؤمنين أحتذي مثاله.
الرشيد وابن صالح
: ولما دخل هارون منبجا قال لعبد الملك بن صالح: هذا منزلك؟ قال: هو لأمير المؤمنين ولي به! قال: كيف ماؤه؟ قال: أطيب ماء. قال: كيف هواؤه؟ قال: أفسح هواء.
وذكر عند جعفر بن يحيى الدار الفسيحة الجوّ الطيبة النسيم، فقال رجل عنده: لقد دخلت الطائف فكأني كنت أبشر، وكان قلبي ينضج بالسرور، ولا أجد لذلك علة إلا طيب نسيمها وانفساح هوائها.(7/247)
وقيل للحسن بن سهل: كيف نزلت الأطراف؟ قال: لأنها منازل الأشراف، ينالون فيها ما أرادوا بالقدرة؛ وينالهم فيها من أرادهم بالحاجة.
قولهم في الدار الضيقة
ما هي إلا قرار حافر؛ وما هي إلا وجار «1» ضبع، وما هي إلا قترة قانص؛ وما هي إلا مفحص «2» قطاة.
وقالوا: ما هي إلا حملة يعسوب «3» برأس سنان.
ومن مات في دار ضيقة قيل فيه: خرج من قبر إلى قبر.
من كره البنيان
كتب سعد بن أبي وقاص إلى عمر بن الخطاب يستأذنه في بناء بيته، فقال: ابن ما يكنك عن الهواجر وأذى المطر.
وكتب عامل لعمر بن عبد العزيز يستأذنه في بناء مدينة، فكتب إليه: ابنها بالعدل، ونقّ طرقها من الظلم.
ومر عمر بن الخطاب ببناء يبنى بآجر وجص؛ فقال: لمن هذا؟ فقيل: لعامل من عمالك. فقال: أبت الدراهم إلا أن تخرج أعناقها! وأرسل إليه من يشاطره ماله.
وقيل ليزيد بن المهلب: مالك لا تبني؟ قال: منزلي دار الإمارة أو الحبس! ومر رجل من الخوارج بدار تبنى فقال: من هذا الذي يقيم كفيلا؟ والخوارج تقول: كل مال لا يخرج بخروجك ويرجع برجوعك فإنما هو كفيل بك.
ولما بنى أبو جعفر داره بالأنبار، دخلها مع عبد الله بن الحسن، فجعل يريه بنيانه فيها وما شيد من المصانع والقصور؛ فتمثل عبد الله بن الحسن بهذه الأبيات:(7/248)
ألم تر حوشبا أضحى يبنّي ... قصورا نفعها لبني بقيله؟
يؤمّل أن يعمر عمر نوح ... وأمر الله يحدث كلّ ليله!
وقالوا في الحجاج بن يوسف إذ بنى مدينة واسط: بناها في غير بلده، وأورثها غير ولده.
اللباس
إسماعيل بن عبد الله بن جعفر عن أبيه، قال: رأيت النبي صلّى الله عليه وسلّم وعليه ثوبان مصبوغان بالزعفران: رداء وعمامة.
علي بن عاصم عن أبي إسحاق الشيباني قال: مررت بمحمد بن الحنفية واقفا بعرفات، على برذون، وعليه مطرف خزّ أصفر.
الشيباني عن ابن جريج أن ابن عباس كان يرتدي رداء بألف.
أبو حاتم عن الأصمعي أن ابن عون اشترى برنسا، فمر على معاذة العدوية فقالت: مثلك يلبس هذا؟ قال: فذكرت ذلك لابن سيرين فقال: ألا أخبرتها أن تميما الداريّ اشترى حلة بألف يصلي فيها.
أيوب السختياني
: وقال معمر: رأيت قميص أيوب السختياني يكاد يمس الأرض، فسألته عن ذلك، فقال: إن الشهرة كانت فيما مضى في تذييل القميص، وإنها اليوم في تشميره.
رسول الله صلّى الله عليه وسلّم ورجل في خلقين
: وفي موطأ مالك بن أنس رضي الله عنه، أن جابر بن عبد الله قال: خرجت مع رسول الله صلّى الله عليه وسلّم في غزوة أنمار، فبينا أنا نازل تحت شجرة إذا رسول الله صلّى الله عليه وسلّم، فقلت: هلمّ يا رسول الله إلى الظل. فنزل رسول الله صلّى الله عليه وسلّم؛ قال جابر: وعندنا صاحب له نجهزه يذهب يرعى ظهرنا، قال: فجهزته، ثم أدبر يذهب إلى الظّهر،(7/249)
وعليه ثوبان، قد أخلقا فنظر إليه رسول الله صلّى الله عليه وسلّم، فقال: ماله ثوبان غير هذين؟
قلت: بلى يا رسول الله، له ثوبان في العيد كسوته إياهما. قال: فادعه فمره فليلبسهما. قال: فدعوته فلبسهما ثم ولى، فقال رسول الله صلّى الله عليه وسلّم: ماله، ضرب الله عنقه! أليس هذا خيرا له؟ فسمعه الرجل، فقال: في سبيل الله يا رسول الله! فقتل الرجل في سبيل الله.
الربيع بن زياد وعلي
: العتبي قال: أصابت الربيع بن زياد الحارثي نشابة «1» على جبينه، فكانت تنتقض عليه في كل يوم، فأتاه عليّ بن أبي طالب عائدا، فقال: كيف تجدك يا أبا عبد الرحمن قال: أجدني لو كان لا يذهب ما بي إلا ذهاب بصري لتمنيت ذهابه! قال له:
وما قيمة بصرك عندك! قال: لو كانت لي الدنيا فديته بها! قال: لا جرم، ليعطينّك الله على قدر ذلك إن شاء الله، إن الله يعطي على قدر الألم والمصيبة، وعنده بعد تضعيف كثير! قال له الربيع: يا أمير المؤمنين، ألا أشكو إليك عاصم بن زياد؟ قال: وماله؟
قال: لبس العباء، وترك الملاء، وغمّ أهله، وأحزن ولده! فقال: عليّ عاصما! فلما أتاه عبس في وجهه، وقال: ويلك يا عاصم، أترى الله أباح لك اللذات وهو يكره أخذك منها؟ لأنت أهون على الله من ذلك؛ أو ما سمعته يقول: مَرَجَ الْبَحْرَيْنِ يَلْتَقِيانِ بَيْنَهُما بَرْزَخٌ لا يَبْغِيانِ
«2» ، ثم قال: يَخْرُجُ مِنْهُمَا اللُّؤْلُؤُ وَالْمَرْجانُ
«3» ؛ وقوله: وَمِنْ كُلٍّ تَأْكُلُونَ لَحْماً طَرِيًّا وَتَسْتَخْرِجُونَ حِلْيَةً تَلْبَسُونَها
«4» ؟ أما والله إن ابتذال نعم الله بالفعال، أحبّ إليه من ابتذالها بالمقال وقد سمعته عز وجل يقول:
وَأَمَّا بِنِعْمَةِ رَبِّكَ فَحَدِّثْ
«5» ، ويقول: قُلْ مَنْ حَرَّمَ زِينَةَ اللَّهِ الَّتِي أَخْرَجَ لِعِبادِهِ(7/250)
وَالطَّيِّباتِ مِنَ الرِّزْقِ
«1» ؛ وإن الله عز وجل خاطب المؤمنين بما خاطب به المرسلين، فقال: يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا كُلُوا مِنْ طَيِّباتِ ما رَزَقْناكُمْ
«2» ، وقال:
يا أَيُّهَا الرُّسُلُ كُلُوا مِنَ الطَّيِّباتِ وَاعْمَلُوا صالِحاً إِنِّي بِما تَعْمَلُونَ عَلِيمٌ
«3» . فقال عاصم: فعلام اقتصرت أنت يا أمير المؤمنين على لبس الخشن وأكل الجشب؟ قال:
إن الله افترض على أئمة العدل أن يقدروا أنفسهم بالعوام لئلا يشنع على الفقير فقره، قال: فما برح حتى لبس الملاء ونبذ العباء.
لباس الصوف
حماد وفرقد
: قدم حماد بن سلمة البصرة فجاء فرقد السبخي وعليه ثياب صوف، فقال له حماد:
ضع عنك نصرانيّتك هذه، فلقد رأيتنا ننتظر إبراهيم، فيخرج علينا وعليه معصفرة، ونحن نرى أن الميتة قد حلت له!
ابن واسع وقتيبة
: قال أبو الحسن المدائني: دخل محمد بن واسع على قتيبة بن مسلم والي خراسان وعليه مدرعة «4» صوف، فقال له قتيبة: [ما يدعوك إلى لبس هذه؟ فسكت؛ فقال له قتيبة] : أكلمك فلا تجيبني! قال: أكره أن أقول زهدا فأزكي نفسي، أو أقول فقرا فأشكو ربي.
وقال ابن السماك لأصحاب الصوف: والله لئن كان لباسكم وفقا لسرائركم لقد أحببتم أن يطلع الناس عليها، ولئن كان مخالفا لها قد هلكتم.(7/251)
وكان القاسم بن محمد يلبس الخز، وسالم بن عبد الله يلبس الصوف، ومقعدهما واحد في مسجد المدينة. فلا ينكر بعضهما على بعض شيئا.
وقال محمود الوراق في أصحاب الصوف:
تصوّف كي يقال له أمين ... وما يعني التصوّف والأمانه؟
ولم يرد الإله به ولكن ... أراد به الطريق إلى الخيانه
التزين والتطيب
دخل رجل على محمد بن المنكدر يسأله عن التزين والطيب فوجده قاعدا على حشايا مصبغة، وجارية تغلفه بالغالية؛ فقال له: يرحمك الله، جئت أسألك عن شيء فوجدتك فيه! قال: على هكذا أدركت الناس.
وفي حديث: أنّ النبي صلّى الله عليه وسلّم قال: «إياكم والشعث، حتى لو لم يجد أحدكم إلا زيتونة فليعصرها وليدّهن بها» .
وقال عليه الصلاة والسلام لعائشة: «ما لي أراك شعثاء، مرهاء «1» ، سلتاء «2» ؟» .
قالت: يا رسول الله، أو لسنا من العرب؟.
قال: «بلى، ربما أنسيت العرب الكلمة فيعلمنيها جبريل» .
الشعثاء: التي لا تدهن. والمرهاء: التي لا تكتحل. والسلتاء: التي لا تختضب.
وقال صلّى الله عليه وسلّم: «ما نلت من دنياكم إلا النساء والطيب» .
وروى مالك عن يحيى بن سعيد، أن أبا قتادة الأنصاري قال: يا رسول الله، إن لي جمّة «3» ، أفأرجّلها يا رسول الله؟.
قال: «نعم، وأكرمها» .(7/252)
قال: فكان أبو قتادة ربما دهنها في اليوم مرتين.
وروى مالك عن زيد بن أسلم، أن عطاء بن يسار أخبره قال: كان رسول الله صلّى الله عليه وسلّم في المسجد، فدخل رجل ثائر الرأس واللحية؛ فأشار إليه رسول الله صلّى الله عليه وسلّم أن اخرج فأصلح رأسك ولحيتك! ففعل، ثم رجع؛ فقال رسول الله صلّى الله عليه وسلّم: أليس هذا خيرا من أن يأتي أحدكم ثائر الرأس كأنه شيطان؟
وقد تمادحت العرب بحسن الهيئة وطيب الرائحة، فقال النابغة:
رقاق النّعال طيّب حجزاتهم ... يحيّون بالرّيحان يوم السّباسب «1»
يحيّيهم بيض الولائد بينهم ... وأكسية الإضريج بين المساحب «2»
يصونون أجسادا قديما نعيمها ... بخالصة الأردان خضر المناكب
وقال الفرزدق:
بنو دارم قومي ترى حجزاتهم ... عتاقا حواشيها رقاقا نعالها
يجرّون هدّاب اليمان كأنهم ... سيوف جلا الأطباع عنها صقالها
وقال طرفة:
أسد غيل فإذا ما شربوا ... وهبوا كلّ أمون وطمر
ثم راحوا عبق المسك بهم ... يلحفون الأرض هدّاب الأزر
وقال كثيّر عزة:
أشمّ من الغادين في كلّ حلّة ... يميسون في صبغ من العصب متقن
لهم أزر حمر الحواشي يطونها ... بأقدامهم في الحضرّميّ الملسّن
وقال آخر:
من النفر السمّ الذين إذا اعتزوا ... وهاب الرجال حلقة الباب قعقعوا(7/253)
جلا الإذفر الأحوى من المسك فرقه ... وطيب الدّهان رأسه فهو أنزع «1»
إذا النّفر السّود اليمانون حاولوا ... له حوك برديه أرقّوا وأوسعوا
وقال آخر:
يشبّهون ملوكا في مجلّتهم ... وطول أنضية الأعناق والّلمم «2»
إذا غدا المسك يجري في مفارقهم ... راحو كأنهم مرضى من الكرم
وقال آخر في عليّ بن داود الهاشمي:
أمّا أبوك فذاك الجود نعرفه ... وأنت أشبه خلق الله بالجود
كأن ديباجتي خدّيه من ذهب ... إذا تعصّب في أثوابه السّود
الرحلة والركوب
عمرو بن العاص ورجل
: سمع عمرو بن العاص رجلا يقول: الرحلة قطعة من العذاب. فقال له: لم تحسن، بل العذاب قطعة من الرحلة.
هارون وزبيدة في طريقها إلى مكة
: ولما مشى هارون إلى مكة ومشت معه زبيدة، كانت تبسط الدرانك «3» أمامهم وتطوى خلفهم؛ فلما أعيا، دعا بخادم له فألقى ذراعه عليه وتأوه، وقال: والله لركوب حمار منهوس خير من المشي على الدرانك.
قال الشاعر:
وما عن رضى صار الحمار مطيّتي ... ولكنّ من يمشي سيرضى بما ركب(7/254)
وقال أعرابي:
يا ليت لي نعلين من جلد الضبع ... كلّ الحذاء يحتذي الحافي الوقع
الخيل
قد مضى من قولنا في وصف الخيل وفضائلها في كتاب الحروب ما كفى من إعادتها هنا.
البغال
قال مسلمة بن عبد الملك: ما ركب الناس مثل بغلة طويلة العنان، قصيرة العذار «1» ، سفواء «2» العرف، حصاء الذنب، سوطها عنانها، وهمها أمامها.
الفضل وهاشمي
: وعاتب الفضل بن الربيع بعض الهاشميين في ركوب بغلة، فقال: هذا مركب تصاغر عن خيلاء الفرس وارتفع عن ذلة الحمار، وخير الأمور أوساطها.
الحمير
قيل للفضل الرقاشي: إنك لتؤثر الحمير على سائر الدواب! قال: لأنها أرفق وأوفق. قلت: ولم ذلك؟ قال: لا يستدل بالمكان على طول الزمان؛ ثم هي أقل داء، وأيسر دواء، وأخفض مهوى، وأسلم صريعا، وأقل جماحا؛ وأشهر فارها، وأقل تطيرا؛ يزهى راكبه وقد تواضع بركوبه، ويعدّ مقتصدا وقد أسرف في ثمنه.
وقال جرير بن عبد الله: لا تركب حمارا؛ إن كان حديدا أتعب يديك، وإن كان بليدا أتعب رجليك.(7/255)
طباع الإنسان وسائر الحيوان
زعم علماء الطب أن في الجسد من الطبائع الأربع اثني عشر رطلا: فللدم منها ستة أرطال، وللمرّة الصفراء والسوداء والبلغم ستة أرطال؛ فإن غلب الدم الثلاث طبائع تغير منه الوجه وورم، ويخرج ذلك إلى الجذام؛ وإن غلب الثلاث طبائع الدم انبث المد، فإذا خاف الإنسان غلبة هذه الطبائع بعضها بعضا فليعدل جسده بالافتصاد، وينقيه بالمشي؛ فإن لم يفعل اعتراه ما وصفنا؛ إمّا جذام «1» وإما مدّ» .
أسأل الله العافية.
ولا بأس بعلاج الجسد في جميع الأزمان، إلا في النصف من تموز إلى النصف من آب؛ فذلك ثلاثون يوما لا يصلح فيها علاج، إلا أن ينزل مرض لا بدّ من مداواته.
جعفر بن محمد بن علي بن أبي طالب رضوان الله عليهم قال: الغلام يشب كل سنة أربع أصابع.
في التوراة
: حدّثني عبد الرحمن بن عبد المنعم عن أبيه عن وهب بن منبه، أنه قرأ في التوراة أن الله عز وجل حين خلق آدم ركب جسده من أربعة أشياء، ثم جعلها وراثة في ولده تنمى في أجسادهم وينمون عليها إلى يوم القيامة: رطب ويابس، وسخن، وبارد؛ قال: وذلك أني خلقته من تراب وماء، وجعلت فيه نفسا [وروحا] ؛ فيبوسة كل جسد من قبل التراب، ورطوبته من قبل الماء، وحراراته من قبل النفس، وبرودته من قبل الروح؛ ثم خلقت للجسد بعد هذا الخلق الأول أربعة أنواع أخر، وهي ملاك الجسد وقوامه بإذني، لا يقوم الجسد إلا بهن، ولا تقوم واحدة إلا بالأخرى: المرّة السوداء، والمرة الصفراء، والدم الرطب الحار، والبلغم البارد؛ ثم(7/256)
أسكنت بعض هذا الخلق في بعض، فجعلت مسكن اليبوسة في المرة السوداء، ومسكن الرطوبة في الدم، ومسكن البرودة في البلغم، ومسكن الحرارة في المرة الصفراء؛ فأيما جسد اعتدلت فيه هذه الفطر الأربع وكانت كل واحدة فيه وفقا لا تزيد ولا تنقص، كملت صحته، واعتدلت بنيته؛ وإن زادت واحدة منهن غلبتهن وقهرتهن ومالت بهن، ودخل على أخواتها السقم من ناحيتها بقدر ما زادت،؛ وإن كانت ناقصة عنهن؛ ملن بها وعلونها وأدخلن عليها السقم من نواحيهن، لقلتها عنهن حتى تضعف عن طاقتهن وتعجز عن مقاومتهن.
قال وهب بن منبه: وجعل عقله في دماغه، وشرهه في كليته، وغضبه في كبده، وصرامته في قلبه، ورعبه في رئته، وضحكه في طحاله، وحزنه وفرحه في وجهه؛ وجعل فيه ثلاثمائة وستين مفصلا.
الأصمعي: من لم يخفّ شعره قبل الثلاثين لم يصلع أبدا ومن لم يحمل اللحم قبل الثلاثين لم يحمله أبدا.
للنبي صلّى الله عليه وسلم
: حدث زيد بن أخزم قال: حدثني بشر بن عمر عن أبي الزناد [عن أبيه] عن الأعرج عن أبي هريرة عن النبي صلّى الله عليه وسلّم، قال: «كل ابن آدم تأكل الأرض إلا عجب الذنب، ومنه خلق ومنه يركّب» .
وقالت الحكماء: الخنث يعتري الأعراب والأكراد والزنج والمجانين وكل صنف، إلا الخصيان؛ فإنه لا يكون خصي مخنّثا.
وقالوا: كل ذي ريح منتنة وذفر كالتيس وما أشبهه، إذا خصى نقص ريحه وذهب صنانه، غير الإنسان، فإنه إذا خصى زاد نتنه واشتد صنانه وخبث عرقه وريحه.
قالوا: وكل شيء من الحيوان يخصى فإن عظمه يرق، وإذا رق عظمه استرخى(7/257)