الحسن وعمر بن عبد العزيز:
وكتب الحسن إلى عمر بن عبد العزيز: أما بعد؛ فكأنك بالدنيا لم تكن، وبالآخرة لم تزل. والسّلام.
وكتب إليه عمر: أما بعد فكأن آخر من كتب عليه الموت قد مات، والسّلام.
بين سلمان وأبي الدرداء:
ابن المبارك قال: كتب سلمان الفارسي إلى أبي الدرداء: أما بعد؛ فإنك لن تنال ما تريد إلا بترك ما تشتهي، ولن تنال ما تأمل إلا بالصبر على ما تكره. فليكن كلامك ذكرا، وصمتك فكرا، ونظرك عبرا؛ فإن الدنيا تتقلب وبهجتها تتغير فلا تغترّ بها، وليكن بيتك المسجد. والسّلام.
فأجابه أبو الدرداء: سلام عليك، أما بعد؛ فإني أوصيك بتقوى الله، وأن تأخذ من صحتك لسقمك، ومن شبابك لهرمك، ومن فراغك لشغلك، ومن حياتك لموتك؛ ومن جفائك لمودّتك، واذكر حياة لا موت فيها في إحدى المنزلتين. إما في الجنة، وإما في النار؛ فإنك لا تدري إلى أيهما تصير.
أبو موسى وعامر ابن عبد القيس:
وكتب أبو موسى الأشعري إلى عامر بن عبد القيس: أما بعد؛ فإني عاهدتك على أمر وبلغني أنك تغيّرت، فإن كنت على ما عهدتك فاتق الله ودم «1» ، وإن كنت على ما بلغني فاتق الله وعد «2» .
ابن النضر وأخ له:
وكتب محمد بن النضر إلى أخ: أما بعد؛ فإنك على منهج وأمامك منزلان لا بد لك من نزول أحدهما، ولم يأتك أمان فتطمئن، ولا براءة فتتكل.(3/94)
بين حكيمين:
وكتب حكيم إلى آخر: اعلم حفظك الله أن النفوس جبلت على أخذ ما أعطيت ومنع ما سئلت؛ فاحملها على مطيّة، لا تبطىء. إذا ركبت. ولا تسبق إذا قدّمت؛ فإنما تحفظ النفوس على قدر الخوف، وتطلب على قدر الطمع، وتطمع على قدر السبب. فإذا استطعت أن يكون معك خوف المشفق وقناعة الراضي فافعل.
من عمر بن عبد العزيز إلى ابن حيوة:
وكتب عمر بن عبد العزيز إلى رجاء بن حيوة: أما بعد، فإنه من أكثر من ذكر الموت اكتفى باليسير، ومن علم أن الكلام عمل قل كلامه إلا فيما ينفعه.
من عمر بن الخطاب إلى ابن غزوان:
وكتب عمر بن الخطاب إلى عتبة بن غزوان عامله على البصرة: أما بعد؛ فقد أصبحت أميرا تقول فيسمع لك، وتأمر فينفذ أمرك؛ فيالها نعمة إن لم ترفعك فوق قدرك، وتطغيك على من دونك «1» ؛ فاحترس من النعمة أشدّ من احتراسك من المصيبة؛ وإياك أن تسقط سقطة لا لعا لها- أي لا إقالة لها- وتعثر عثرة لا تقالها.
والسّلام.
من الحسن إلى عمر:
وكتب الحسن إلى عمر: إنّ فيما أمرك الله به شغلا عما نهاك عنه، والسّلام.
بين عمر بن عبد العزيز والحسن:
وكتب عمر بن عبد العزيز إلى الحسن: اجمع لي أمر الدنيا، وصف لي أمر الآخرة.(3/95)
فكتب إليه: إنما الدنيا حلم، والآخرة يقظة، والموت متوسط؛ ونحن في أضغاث أحلام. من حاسب نفسه ربح، ومن غفل عنها خسر، ومن نظر في العواقب نجا، ومن أطاع هواه ضلّ، ومن حلم غنم، ومن خاف سلم؛ ومن اعتبر أبصر، ومن أبصر فهم، ومن فهم علم، ومن علم عمل، فإذا زللت فارجع، وإذا ندمت فأقلع، وإذا جهلت فاسأل، وإذا غضبت فأمسك. واعلم أنّ أفضل الأعمال ما أكرهت النفوس عليه.
مواعظ الآباء للأبناء
للقمان يوصي ابنه:
قال لقمان لابنه: إذا أتيت مجلس قوم فارمهم بسهم السّلام ثم اجلس، فإن أفاضوا في ذكر الله فأجل «1» سهمك مع سهامهم، وإن أفاضوا في غير ذلك فتخلّ عنهم وانهض.
وقال: يا بنيّ؛ استعذ بالله من شرار الناس، وكن من خيارهم على حذر.
لأكثم:
ومثل هذا قول أكثم بن صيفي: احذر الأمين ولا تأتمن الخائن، فإن القلوب بيد غيرك.
للقمان يعظ ابنه:
وقال لقمان لابنه: لا تركن إلى الدنيا، ولا تشغل قلبك بها، فإنك لم تخلق لها، وما خلق الله خلقا أهون عليه منها، فإنه لم يجعل نعيمها ثوابا للمطيعين، ولا بلاءها عقوبة للعاصين. يا بني، لا تضحك من غير عجب، ولا تمش في غير أرب «2» ، ولا تسأل عما لا يعنيك. يا بني، لا تضيّع مالك وتصلح مال غيرك؛ فإنما لك ما قدمت،(3/96)
ولغيرك ما تركت. يا بني؛ إنه من يرحم يرحم، ومن يصمت يسلم، ومن يقل الخير يغنم، ومن يقل الباطل يأثم، ومن لا يملك لسانه يندم. يا بني، زاحم العلماء بركبتيك، وأنصت إليهم بأذنيك، فإن القلب يحيا بنور العلماء كما تحيا الأرض الميتة بمطر السماء.
ابن صفوان ينصح ابنه:
وقال خالد بن صفوان لابنه: كن أحسن ما تكون في الظاهر حالا، أقلّ ما تكون في الباطن مآلا. ودع من أعمال السر ما لا يصلح لك في العلانية.
لأعرابي يوصي ابنه:
وقال أعرابي لابنه: يا بني، إنه قد أسمعك الداعي، وأعذر إليك الطالب، وانتهى الأمر فيك إلى حدّه؛ ولا أعرف أعظم رزية «1» ممن ضيّع اليقين وأخطأه الأمل.
لعلي بن الحسين يوصي ابنه:
وقال علي بن الحسين لابنه: وكان من أفضل بني هاشم: يا بني، اصبر على النوائب، ولا تعرّض للحتوف، ولا تجب أخاك من الأمر إلى ما مضرّته عليك أكثر من منفعته لك.
لحكيم في مثله:
وقال حكيم لبنيه: يا بنيّ؛ إياكم والجزع عند المصائب؛ فإنه مجلبة للهمّ، وسوء ظنّ بالرب، وشماتة للعدوّ. وإياكم أن تكونوا بالأحداث مغترين، ولها آمين، فإني والله ما سخرت من شيء إلا نزل بي مثله؛ فاحذروها وتوقّعوها. فإنما الإنسان في الدنيا غرض تتعاوره السهام، فمجاوز ومقصّر عنه، وواقع عن يمينه وشماله، حتى يصيبه بعضها. واعلموا أنّ لكل شيء جزاء، ولكل عمل ثوابا. وقد قالوا: كما تدين تدان؛ ومن برّ يوما برّ به.(3/97)
لبعض الشعراء:
وقال الشاعر:
إذا ما الدهر جرّ على أناس ... حوادثه أناخ «1» بآخرينا
فقل للشامتين بنا: أفيقوا ... سيلقى الشامتون كما لقينا
لحكيم يعظ ابنه:
وقال حكيم لابنه: يا بني إني موصيك بوصية؛ فإن لم تحفظ وصيتي عني لم تحفظها عن غيري. اتق الله ما استطعت. وإن قدرت أن تكون اليوم خيرا منك أمس، وغدا خيرا منك اليوم فافعل. وإياك والطمع، فإنه فقر حاضر. وعليك باليأس فإنك لن تيأس من شيء قط إلا أغناك الله عنه. وإياك وما يعتذر منه، فإنك لن تعتذر من خير أبدا، وإذا عثر عاثر «2» فاحمد الله ألّا تكون هو يا بني، خذ الخير من أهله، ودع الشر لأهله، وإذا قمت إلى صلاتك فصلّ صلاة مودّع وأنت ترى ألّا تصلي بعدها.
لعلي بن الحسين في مثله:
وقال علي بن الحسين عليهما السّلام لابنه: يا بني، إن الله لم يرضك لي فأوصاك بي، ورضيني لك فحذّرني منك. واعلم أنّ خير الآباء للأبناء من لم تدعه المودّة إلى التفريط»
فيه، وخير الأبناء للآباء من لم يدعه التقصير إلى العقوق له «4» .
لحكيم في مثله:
وقال حكيم لابنه: يا بني، إن أشدّ الناس حسرة يوم القيامة: رجل كسب مالا من غير حلّه فأدخله النار، وأورثه من عمل فيه بطاعة الله فأدخله الجنة.(3/98)
ابن عتبة وأبوه:
عمرو بن عتبة قال: لما بلغت خمس عشرة سنة قال لي أبي: يا بني؛ قد تقطعت عنك شرائع الصّبا فالزم الحياء تكن من أهله، ولا تزايله «1» فتبين منه؛ ولا يغرّنك من اغتر بالله فيك فمدحك بما تعلم خلافه من نفسك؛ فإنه من قال فيك من الخير ما لم يعلم إذا رضي، قال فيك من الشر مثله إذا سخط. فاستأنس بالوحدة من جلساء السوء تسلم من غبّ عواقبهم.
لعبد الملك يوصي بنيه:
وقال عبد الملك بن مروان لبنيه: كفّوا الأذى، وابذلوا المعروف، واعفوا إذا قدرتم، ولا تبخلوا إذا سئلتم، ولا تلحفوا «2» إذا سألتم؛ فإنه من ضيّق ضيّق عليه، ومن أعطى أحلف الله عليه.
للأشعث في مثله:
وقال الأشعث بن قيس لبنيه: يا بنيّ، لا تذلّوا في أعراضكم، وانخدعوا في أموالكم؛ ولتخفّ بطونكم من أموال الناس، وظهوركم من دمائهم، فإنّ لكل امرىء تبعة «3» ؛ وإياكم وما يعتذر منه أو يستحى؛ فإنما يعتذر من ذنب، ويستحي من عيب؛ واصلحوا المال لجفوة السلطان وتغير الزمان، وكفوا عند الحاجة عن المسألة؛ فإنه كفى بالردّ منعا؛ وأجملوا في الطلب حتى يوافق الرزق قدرا؛ وامنعوا النساء من غير الأكفاء؛ فإنكم أهل بيت يتأسّى «4» بكم الكريم، ويتشرف بكم اللئيم، وكونوا في عوام الناس ما لم يضطرب الحبل «5» ، فإذا اضطرب الحبل فالحقوا بعشائركم.
من عمر بن الخطاب إلى ابنه عبد الله:
وكتب عمر بن الخطاب إلى ابنه عبد الله في غيبة غابها: أما بعد فإن من اتقى الله وقاه، ومن اتكل عليه كفاه، ومن شكر له زاده، ومن اقترضه جزاه. فاجعل التقوى(3/99)
عمارة قلبك، وجلاء بصرك. فإنه لا عمل لمن لا نيّة له، ولا خير لمن لا خشية له، ولا جديد لمن لا خلق له.
من علي إلى ابنه حسن:
وكتب علي بن أبي طالب إلى ولده الحسن عليهما السّلام: من عليّ أمير المؤمنين الوالد الفان، المقرّ للزمان، المستسلم للحدثان «1» ، المدبر العمر، المؤمل ما لا يدرك السالك سبيل من قد هلك، غرض الأسقام «2» ، ورهينة الأيام، وعبد الدنيا، وتاجر الغرور، وأسير المنايا، وقرين الرزايا، وصريع الشهوات، ونصب الآفات، وخليفة الأموات. أما بعد؛ يا بني، فإن فيما تفكرت فيه من إدبار الدنيا عني، وإقبال الآخرة عليّ. وجموح الدهر عليّ ما يرغّبني عن ذكر سوائي، والاهتمام بما ورائي، غير أنه حيث تفرد بي همّ نفسي دون همّ الناس، فصدقني رأيي، وصرفني عن هواي، وصرح بي محض أمري، فأفضى بي إلى جدّ لا يزرى به لعب، وصدق لا يشوبه كذب «3» ، ووجدتك يا بني بعضي، بل وجدتك كلّي، حتى كأن شيئا لو أصابك لأصابني، وحتى كأن الموت لو أتاك أتاني. فعند ذلك عناني من أمرك ما عناني من أمر نفسي. كتبت إليك كتابي هذا يا بني مستظهرا به إن أنا بقيت لك أو فنيت، فإني موصيك بتقوى الله، وعمارة قلبك بذكره، والاعتصام بحبله فإن الله تعالى يقول: وَاعْتَصِمُوا بِحَبْلِ اللَّهِ جَمِيعاً وَلا تَفَرَّقُوا وَاذْكُرُوا نِعْمَتَ اللَّهِ عَلَيْكُمْ إِذْ كُنْتُمْ أَعْداءً فَأَلَّفَ بَيْنَ قُلُوبِكُمْ فَأَصْبَحْتُمْ بِنِعْمَتِهِ إِخْواناً
«4» . وأي سبب يا بني أوثق من سبب بينك وبين الله تعالى إن أنت أخذت به، أحى قلبك بالموعظة، ونوّره بالحكمة وأمته بالزهد، وذلّله بالموت وقوّه بالغنى عن الناس، وحذّره صولة الدهر؛ وتقلّب الأيام والليالي، واعرض عليه أخبار الماضين وسر في ديارهم وآثارهم فانظر ما فعلوا، وأين حلوا، فإنك تجدهم قد انتقلوا من دار الغرور ونزلوا دار الغربة. وكأنك عن(3/100)
قليل يا بني قد صرت كأحدهم، فبع دنياك بآخرتك، ولا تبع آخرتك بدنياك. ودع القول فيما لا تعرف، والأمر فيما لا تكلّف، وأمر بالمعروف بيدك ولسانك، وانه عن المنكر بيدك ولسانك، وباين «1» من فعله، وخض الغمرات إلى الحق، ولا يأخذك في الله لومة لائم، واحفظ وصيّتي ولا تذهب عنك صفحا، فلا خير في علم لا ينفع.
واعلم أنه لا غنى لك عن حسن الارتياد «2» مع بلاغك من الزاد، فإن أصبت من أهل الفاقة من يحمل عنك زادك فيوافيك به في معادك فاغتنمه، فإن أمامك عقبة كئودا «3» لا يجاوزها إلا أخف الناس حملا فأجمل في الطلب، وأحسن المكتسب.
فرب طلب قد جرّ إلى حرب «4» . وإنما المحروب من حرب دينه، والمسلوب من سلب يقينه. واعلم أنه لا غني يعدل الجنة؛ ولا فقر يعدل النار. والسّلام عليك ورحمة الله وبركاته.
منه إلى ولده ابن الحنفية:
وكتب إلى ابنه محمد بن الحنفية: أن تفقّه في الدين، وعوّد نفسك الصبر على المكروه، وكل نفسك في أمورك كلّها إلى الله عز وجل، فإنك تكلها إلى كهف حريز، ومانع عزيز، وأخلص المسألة لربك فإن بيده العطاء والحرمان وأكثر الاستخارة له، واعلم أنّ من كان مطيته الليل والنهار فإنه يسار به وإن كان لا يسير، فإن الله تعالى قد أبى إلا خراب الدنيا وعمارة الآخرة، فإن قدرت أن تزهد فيها زهدك كله فافعل ذلك، وإن كنت غير قابل نصيحتي إياك فاعلم علما يقينا أنك لن تبلغ أملك، ولا تعدو أجلك، فإنك في سبيل من كان قبلك، فأكرم نفسك عن كل دنيّة وإن ساقتك إلى الرغائب، فإنك لن تعتاض بما تبذل من نفسك عوضا، وإياك أن توجف «5» بك مطايا الطمع وتقول: متى ما أخّرت نزعت، فإن هذا أهلك من هلك قبلك، وأمسك عليك لسانك، فإن تلافيك ما فرط من صمتك، أيسر عليك(3/101)
من إدراك ما فات من منطقك، واحفظ ما في الوعاء بشدّ الوكاء، فحسن التدبير مع الاقتصاد أبقى لك من الكثير مع الفساد والحرفة «1» مع العفة خير من الغنى مع الفجور، والمرء أحفظ لسره، ولربما سعى فيما يضره، وإياك والاتكال على الأماني، فإنها بضائع النّوكى «2» ، وتثبّط عن الآخرة والأولى، ومن خير حظ الدنيا القرين الصالح، فقارن أهل الخير تكن منهم، وباين أهل الشر تبن عنهم، ولا يغلبنّ عليك سوء الظن، فإنه لن يدع بينك وبين خليل صلحا. أذك قلبك بالأدب كما تذكى النار بالحطب، واعلم أن كفر النعمة لؤم، وصحبة الأحمق شؤم، ومن الكرم منع الحرم، ومن حلم ساد، ومن تفهم ازداد. امحض أخاك النصيحة «3» ، حسنة كانت أو قبيحة. لا تصرم أخاك على ارتياب، ولا تقطعه دون استعتاب، وليس جزاء من سرك أن تسوءه. الرزق رزقان: رزق تطلبه ورزق يطلبك، فإن لم تأته أتاك، واعلم يا بني أنه مالك من دنياك إلا ما أصلحت به في مثواك، فأنفق من خيرك. ولا تكن خازنا لغيرك، وإن جزعت على ما يفلت من يديك، فاجزع على ما لم يصل إليك ربما أخطأ البصير قصده، وأبصر الأعمى رشده، ولم يهلك امرؤ اقتصد، ولم يفتقر من زهد. من ائتمن الزمان خانه ومن تعظم عليه أهانه. رأس الدين اليقين، وتمام الإخلاص اجتناب المعاصي، وخير المقال ما صدّقه الفعال. سل عن الرفيق قبل الطريق، وعن الجار قبل الدار، واحمل لصديقك عليك، واقبل عذر من اعتذر إليك، وأخرّ الشر ما استطعت، فإنك إذا شئت تعجلته. لا يكن أخوك على قطيعتك أقوى منك على صلته، وعلى الإساءة أقوى منك على الإحسان. لا تملّكنّ المرأة من الأمر ما يجاوز نفسها، فإن المرأة ريحانة، وليست بقهرمانة، فإنّ ذلك أدوم لحالها، وأرخى لبالها، واغضض بصرها بسترك، واكففها بحجابك، وأكرم الذين بهم تصول، فإذا تطاولت «4» تطول. أسأل الله أن يلهمك الشكر والرشد: ويقويّك على العمل بكل خير، ويصرف عنك كل محذور برحمته. والسلام عليك ورحمة الله وبركاته.(3/102)
مقامات العباد عند الخلفاء
مقام صالح بن عبد الجليل
قام صالح بن عبد الجليل بين يدي المهدي فقال له: إنه لما سهل علينا ما توعّر على غيرنا من الوصول إليك، قمنا مقام الأداء عنهم وعن رسول الله صلّى الله عليه وسلم، بإظهار ما في أعناقنا من فريضة الأمر والنهي [عند] انقطاع عذر الكتمان، ولا سيما حين اتسمت بميسم التواضع، ووعدت الله وحملة كتابه إيثار الحقّ على ما سواه، فجمعنا وإياك مشهد من مشاهد التمحيص «1» . وقد جاء في الأثر: من حجب الله عنه العلم عذّبه على الجهل؛ وأشد منه عذابا من أقبل إليه العلم فأدبر عنه. فاقبل يا أمير المؤمنين ما أهدى إليك من ألسنتنا قبول تحقيق وعمل، لا قبول سمعة ورياء؛ فإنما هو تنبيه من غفلة، وتذكير من سهو وقد وطّن الله عز وجل نبيه على نزولهما، فقال تعالى: وَإِمَّا يَنْزَغَنَّكَ مِنَ الشَّيْطانِ نَزْغٌ فَاسْتَعِذْ بِاللَّهِ إِنَّهُ سَمِيعٌ عَلِيمٌ
«2» .
مقام رجل من العبّاد عند المنصور
بينما المنصور في الطواف ليلا إذ سمع قائلا يقول اللهم إني أشكو إليك ظهور البغي والفساد في الأرض، وما يحول بين الحق وأهله من الطمع، فخرج المنصور، فجلس ناحية من المسجد، وأرسل إلى الرجل يدعوه فصلى الرجل ركعتين، واستلم الركن، وأقبل مع الرسول فسلم عليه بالخلافة.
فقال المنصور: ما الذي سمعتك تذكر من ظهور الفساد والبغي في الأرض، وما الذي يحول بين الحق وأهله من الطمع؟ فو الله لقد حشوت مسامعي ما أرمضني «3» .
فقال: إن أمّنتني يا أمير المؤمنين أعلمتك بالأمور من أصولها، وإلا احتجرت منك واقتصرت على نفسي فلي فيها شاغل.(3/103)
قال: فأنت آمن على نفسك فقل. فقال: يا أمير المؤمنين، إن الذي دخله الطمع حتى حال بينه وبين ما ظهر في الأرض من الفساد والبغي لأنت. فقال: فكيف ذلك ويحك! يدخلني الطمع والصفراء والبيضاء في قبضتي، والحلو والحامض عندي؟ قال:
وهل دخل أحد من الطمع ما دخلك؟ إن الله استرعاك أمر عباده وأموالهم، فأغفلت أمورهم، واتممت بجمع أموالهم، وجعلت بينك وبينهم حجابا من الجصّ والآجرّ، وأبوابا من الحديد، وحرّاسا معهم السلاح، ثم سجنت نفسك عنهم فيها، وبعثت عمّالك في جباية الأموال وجمعها وقوّيتهم بالرجال والسلاح والكراع «1» ، وأمرت ألا يدخل عليك أحد من الرجال إلّا فلان وفلان، نفرا سمّيتهم، ولم تأمر بإيصال المظلوم، ولا الملهوف، ولا الجائع العاري، ولا الضعيف الفقير إليك، ولا أحد إلا وله في هذا المال حق، فلما رآك هؤلاء النفر الذين استخلصتهم لنفسك وآثرتهم على رعيتك وأمرت أن لا يحجبوا دونك، تجبي الأموال وتجمعها. قالوا: هذا قد خان الله فما لنا لا نخونه. فائتمروا ألّا يصل إليك من علم أخبار الناس شيء إلا ما أرادوا، ولا يخرج لك عامل فيخالف أمرهم إلا خوّنوه عندك ونفوه، حتى تسقط منزلته، فلما انتشر ذلك عنك وعنهم، أعظمهم الناس وهابوهم وصانعوهم، فكان أول من صانعهم عمالك بالهدايا والأموال، ليقووا بها على ظلم رعيتك، ثم فعل ذلك ذوو المقدرة والثروة من رعيتك، لينالوا ظلم من دونهم، فامتلأت بلاد الله بالطمع ظلما وبغيا وفسادا، وصار هؤلاء القوم شركاءك في سلطانك وأنت غافل، فإن جاء متظلّم حيل بينك وبينه، فإن أراد رفع قصته إليك عند ظهورك وجدك قد نهيت عن ذلك، وأوقفت للناس رجلا ينظر في مظالمهم، فإن جاء ذلك المتظلم فبلغ بطانتك «2» خبره، سألوا صاحب المظالم أن لا يرفع مظلمته إليك، فلا يزال المظلوم يختلف إليه ويلوذ به «3» ، ويشكو ويستغيث، وهو يدفعه، فإذا أجهد وأحرج ثم ظهرت صرخ بين يديك، فيضرب ضربا مبرحا يكون نكالا «4» لغيره، وأنت تنظر فما(3/104)
تنكر! فما بقاء الإسلام على هذا؟ وقد كنت يا أمير المؤمنين أسافر إلى الصين فقدمتها مرة وقد أصيب ملكهم بسمعه، فبكى بكاء شديدا، فحثه جلساؤه على الصبر فقال: أما إني لست أبكي للبلية النازلة، ولكني أبكي لمظلوم يصرخ بالباب فلا أسمع صوته، ثم قال: أما إذ قد ذهب سمعي فإن بصري لم يذهب، نادوا في الناس أن لا يلبس ثوبا أحمر إلّا متظلّم. ثم كان يركب الفيل طرفي النهار وينظر هل يرى مظلوما، فهذا يا أمير المؤمنين مشرك بالله، بلغت رأفته بالمشركين هذا المبلغ، وأنت مؤمن بالله من أهل بيت نبيّه لا تغلبك رأفتك بالمسلمين على شحّ نفسك! فإن كنت إنما تجمع المال لولدك، فقد أراك الله عبرا في الطفل يسقط من بطن أمه ما له على الأرض مال، وما من مال إلا ودونه يد شحيحة تحويه، فما يزال الله يلطف بذلك الطفل، حتى تعظم رغبة الناس إليه. ولست الذي تعطي، بل الله تعالى يعطي من يشاء ما يشاء. فإن قلت إنما تجمع المال لتشديد السلطان، فقد أراك الله عبرا في بني أمية، ما أغنى عنهم جمعهم من الذهب وما أعدوا من الرجال والسلاح والكراع حين أراد الله بهم ما أراد. وإن قلت إنما تجمع المال لطلب غاية هي أجسم من الغاية التي أنت فيها. فو الله ما فوق ما أنت فيه إلا منزلة ما تدرك إلا بخلاف ما أنت عليه يا أمير المؤمنين. هل تعاقب من عصاك بأشد من القتل. فقال المنصور: لا. فقال: فكيف تصنع بالملك الذي خوّلك ملك الدنيا، وهو لا يعاقب من عصاه بالقتل ولكن بالخلود في العذاب الأليم. قد رأى ما عقد «1» عليه قلبك، وعملته جوارحك «2» ، ونظر إليه بصرك، واجترحته يداك، ومشت إليه رجلاك. هل يغني عنك ما شححت عليه من ملك الدنيا إذا انتزعه من يدك ودعاك إلى الحساب؟ قال: فبكى المنصور، ثم قال:
ليتني لم أخلق! ويحك كيف أحتال لنفسي؟ فقال يا أمير المؤمنين، إن للناس أعلاما يفزعون «3» إليهم في دينهم، ويرضون بهم في دنياهم، فاجعلهم بطانتك يرشدوك، وشاورهم في أمرك يسدّدوك. قال: قد بعثت إليهم فهربوا مني. قال: خافوك أن(3/105)
تحملهم على طريقتك، ولكن افتح بابك، وسهّل حجابك، وانصر المظلوم، واقمع الظالم، وخذ الفىء والصدقات على حلها، واقسمها بالحق والعدل على أهلها، وأنا ضامن عنهم أن يأتوك ويساعدوك على صلاح الأمة.
وجاء المؤذّنون فآذنوه بالصلاة، فصلى وعاد إلى مجلسه، وطلب الرجل فلم يوجد.
مقام الأوزاعي بين يدي المنصور
قال الأوزاعي: دخلت عليه فقال لي: ما الذي بطأ بك عني؟
قلت: وما تريد مني يا أمير المؤمنين؟ قال: أريد الاقتباس منك.
فقلت: يا أمير المؤمنين، انظر ما تقول، فإن مكحولا حدّثني عن عطية بن بسر، أن رسول الله صلّى الله عليه وسلم قال «من بلغته عن الله نصيحة في دينه فهي رحمة من الله سيقت إليه، فإن قبلها من الله بشكر وإلا فهي حجة من الله عليه ليزداد إثما ويزداد الله عليه غضبا وإن بلغه شيء من الحق فرضي فله الرضا، وإن سخط فله السخط ومن كرهه فقد كره الله عز وجل لأن الله هو الحق المبين» .
ثم قلت: يا أمير المؤمنين، إنك تحمّلت أمانة هذه الأمة وقد عرضت على السموات والأرض فأبين أن يحملنها وأشفقن منها. وقد جاء عن جدك عبد الله بن عباس في تفسير قول الله عز وجل: لا يُغادِرُ صَغِيرَةً وَلا كَبِيرَةً إِلَّا أَحْصاها
«1» قال: الصغيرة: التبسم، والكبيرة: الضحك. فما ظنك بالقول والعمل؟ فأعيذك بالله يا أمير المؤمنين أن ترى أن قرابتك من رسول الله صلّى الله عليه وسلم تنفعك مع المخالفة لأمره، فقد قال صلّى الله عليه وسلم: «يا صفيّة عمّة محمد، ويا فاطمة بنت محمد، استوهبا أنفسكما من الله، فإني لا أغني عنكما من الله شيئا» . وكذلك جدّك العباس، سأل إمارة من النبي صلّى الله عليه وسلم، فقال: «أي عمّ نفس تحبيها خير لك من إمارة لا تحصيها؛ نظرا لعمه وشفقة عليه من أن يلي فيحيد عن سنّته جناح بعوضة، فلا يستطيع له نفعا ولا عنه دفعا» .(3/106)
وقال صلّى الله عليه وسلم: «ما من راع يبيت غاشّا لرعيته إلا حرّم الله عليه رائحة الجنة. وحقيق على الوالي أن يكون لرعيته ناظرا، ولما استطاع من عوراتهم ساترا، وبالحق فيهم قائما، فلا يتخوّف محسنهم رهقا، ولا مسيئهم عدوانا. فقد كانت بيد رسول الله صلّى الله عليه وسلم جريدة يستاك «1» بها ويردع عنه المشركين بها، فأتاه جبريل فقال: يا محمد، ما هذه الجريدة التي معك! اتركها لا تملأ قلوبهم رعبا! فما ظنك بمن سفك دماءهم، وقطع أستارهم، ونهب أموالهم!» يا أمير المؤمنين، إنّ المغفور له ما تقدّم من ذنبه وما تأخر دعا إلى القصاص من نفسه بخدش خدشه أعرابيا لم يتعمده؛ فقال جبريل: يا محمد، إنّ الله لم يبعثك جبارا تكسر قرون أمتك. واعلم يا أمير المؤمنين أن كل ما في يدك لا يعدل شربة من شراب الجنة، ولا ثمرة من ثمارها؛ ولو أن ثوبا من ثياب أهل الناس علق بين السماء والأرض لأهلك الناس رائحته، فكيف بمن يتقمّصه! ولو أن ذنوبا»
من صديد أهل النار صبّ على ماء الدنيا لأحمّه «3» ، فكيف بمن يتجرّعه! ولو أن حلقة من سلاسل جهنم وضعت على جبل لأذابته؛ فكيف بمن يسلك فيها؛ ويردّ فضلها على عاتقه.
كلام أبي حازم لسليمان بن عبد الملك
حج سليمان بن عبد الملك؛ فلما قدم المدينة للزيارة بعث إلى أبي حازم الأعرج وعنده ابن شهاب. فلما دخل قال: تكلم يا أبا حازم. قال: فيم أتكلم يا أمير المؤمنين؟
قال: في المخرج من هذا الأمر. قال: يسير إن أنت فعلته. قال: وما ذاك؟ قال: لا تأخذ الأشياء إلا من حلّها، ولا تضعها إلا في أهلها. قال: ومن يقوى على ذلك؟(3/107)
قال: من قلّده الله من أمر الرعية ما قلّدك. قال: عظني أبا حازم! قال: اعلم أن هذا الأمر لم يصر إليك إلا بموت من كان قبلك، وهو خارج من يديك بمثل ما صار إليك. قال: يا أبا حازم أشر عليّ. قال: إنما أنت سوق، فما نفق عندك حمل إليك من خير أو شر فاختر أيهما شئت. قال: مالك لا تأتينا؟ قال: وما أصنع بإتيانك يا أمير المؤمنين؟ إن أدنيتني فتنتني، وإن أقصيتني أخزيتني؛ وليس عندك ما أرجوك له، ولا عندي ما أخافك عليه! قال: فارفع إلينا حاجتك. قال: وقد رفعتها إلى من هو أقدر منك عليها، فما أعطاني منها قبلت، وما منعني منها رضيت.
مقام ابن السماك عند الرشيد
دخل عليه، فلما وقف بين يديه قال له: عظني يا ابن السماك وأوجز.
قال: كفى بالقرآن واعظا يا أمير المؤمنين، قال الله تعالى: بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ وَيْلٌ لِلْمُطَفِّفِينَ الَّذِينَ إِذَا اكْتالُوا عَلَى النَّاسِ يَسْتَوْفُونَ وَإِذا كالُوهُمْ أَوْ وَزَنُوهُمْ يُخْسِرُونَ أَلا يَظُنُّ أُولئِكَ أَنَّهُمْ مَبْعُوثُونَ لِيَوْمٍ عَظِيمٍ يَوْمَ يَقُومُ النَّاسُ لِرَبِّ الْعالَمِينَ
«1» . هذا يا أمير المؤمنين وعيد لمن طفف في الكيل، فما ظنك بمن أخذه كله! وقال له مرة: عظني. وأتى بماء ليشربه. فقال: يا أمير المؤمنين، لو حبست عنك هذه الشربة أكنت تفديها بملكك؟ قال: نعم. قال: فلو حبس عنك خروجها أكنت تفديها بملكك؟ قال: نعم! قال: فما خير في ملك لا يساوي شربة ولا بولة! قال: يا ابن السماك، ما أحسن ما بلغني عنك؟ قال: يا أمير المؤمنين، إن لي عيوبا لو اطلع الناس منها على عيب واحد ما ثبتت لي في قلب أحد مودة؛ وإني لخائف في الكلام الفتنة وفي السر الغرة وإني لخائف على نفسي من قلة خوفي عليها.(3/108)
كلام عمرو بن عبيد عند المنصور
دخل عمرو بن عبيد على المنصور وعنده ابنه المهدي، فقال له أبو جعفر: هذا ابن أمير المؤمنين، وولي عهد المسلمين؛ ورجائي أن تدعو له. فقال: يا أمير المؤمنين، أراك قد رضيت له أمورا يصير إليها وأنت عنه مشغول فاستعبر أبو جعفر وقال له عظني أبا عثمان! قال يا أمير المؤمنين! إنّ الله أعطاك الدنيا بأسرها، فاشتر نفسك منه ببعضها. هذا الذي أصبح في يديك لو بقي في يد من كان قبلك لم يصل إليك! قال: أبا عثمان أعنّي بأصحابك، قال: ارفع علم الحق يتبعك أهله؛ ثم خرج، فأتبعه أبو جعفر بصرّة، فلم يقبلها؛ وجعل [المنصور] يقول:
كلكم يمشي رويد ... كلّكم خاتل صيد «1»
غير عمرو بن عبيد
خبر سفيان الثوري مع أبي جعفر
لقي أبو جعفر سفيان الثوري في الطواف، وسفيان لا يعرفه، فضرب بيده على عاتقه وقال: أتعرفني؟ قال: لا، ولكنك قبضت عليّ قبضة جبّار، قال: عظني أبا عبد الله. قال: وما عملت فيم عملت فأعظك فيما جهلت؟ قال: فما يمنعك أن تأتينا؟ قال:
إن الله نهى عنكم فقال تعالى: وَلا تَرْكَنُوا إِلَى الَّذِينَ ظَلَمُوا فَتَمَسَّكُمُ النَّارُ
«2» فمسح أبو جعفر يده به ثم التفت إلى أصحابه فقال: ألقينا الحب إلى العلماء فلقطوا إلا ما كان من سفيان فإنه أعيانا فرارا.(3/109)
كلام شبيب بن شيبة للمهدي
قال العتبي: سألت بعض آل شبيب بن شيبة: أتحفظون شيئا من كلامه؟ قالوا:
نعم، قال للمهدي: يا أمير المؤمنين، إن الله إذا قسم الأقسام في الدنيا جعل لك أسناها وأعلاها، فلا ترض لنفسك في الآخرة إلا مثل ما رضي لك به من الدنيا، فأوصيك بتقوى الله فعليكم نزلت؛ ومنكم أخذت، وإليكم تردّ.
من كره الموعظة لبعض ما فيها من الغلظ أو الخرق
بين الرشيد وواعظ:
قال رجل للرشيد: يا أمير المؤمنين، إني أريد أن أعظك بعظة فيها بعض الغلظة فاحتملها، قال: كلا، إنّ الله أمر من هو خير منك بإلانة القول لمن هو شر مني: قال لنبيّه موسى إذ أرسله إلى فرعون فَقُولا لَهُ قَوْلًا لَيِّناً لَعَلَّهُ يَتَذَكَّرُ أَوْ يَخْشى
«1» .
سليمان بن عبد الملك وأعرابي:
دخل أعرابيّ على سليمان بن عبد الملك، فقال: يا أمير المؤمنين، إني مكلّمك بكلام، فاحتمله إن كرهته، وراءه ما تحب إن قبلته، قال: هام يا أعرابي، قال: إني سأطلق لساني بما خرست عنه الألسن من عظتك. تأديه لحق الله تعالى وحق إمامتك:
إنه قد اكتنفك رجال أساءوا الاختيار لأنفسهم، فابتاعوا دنياك بدينهم، ورضاك بسخط ربهم، خافوك في الله ولم يخافوا الله فيك، فهم حرب الآخرة سلم للدنيا، فلا تأمنهم على ما ائتمنك الله عليه، فإنهم لا يألونك خبالا «2» ، والأمانة تضييعا، والأمة عسفا وخسفا «3» ، وأنت مسئول عما اجترحوا «4» وليسوا مسئولين عما اجترحت، فلا(3/110)
تصلح دنياهم بفساد آخرتك، فإن أخسر الناس صفقة يوم القيامة وأعظمهم غبنا، من باع آخرته بدنيا غيره. قال سليمان: أما أنت يا أعرابي فقد سللت لسانك وهو أحد سيفيك. قال: أجل يا أمير المؤمنين، لك لا عليك.
المأمون وواعظ:
ووعظ رجل المأمون فأصغى إليه منصتا، فلما فرغ قال: قد سمعت موعظتك، فأسأل الله أن ينفعنا بها، وربما عملنا، غير أنا أحوج إلى المعاونة بالفعال منا إلى المعاونة بالمقال، فقد كثر القائلون وقلّ الفاعلون.
العتبي قال: دخل رجل من عبد القيس على أبي فوعظه، فلما فرغ قال أبي له: لو اتعظنا بما علمنا لانتفعنا بما عملنا، ولكنا علمنا علما لزمتنا فيه الحجة، وغفلنا غفلة من وجبت عليه النقمة، فوعظنا في أنفسنا بالتنقل من حال إلى حال، ومن صغر إلى كبر، ومن صحة إلى سقم، فأبينا إلا المقام على الغفلة، إثارا لعاجل لا بقاء لأهله، وإعراضا عن آجل إليه المصير.
عتبان بن أبي سفيان وبعض القراء:
سعد القصير قال: دخل أناس من القراء على عتبة بن أبي سفيان فقالوا: إنك سلطت السيف على الحق ولم تسلط الحق على السيف، وجئت بها عشوة «1» خفيّة. قال:
كذبتم! بل سلطت الحق وبه سلطت، فاعرفوا الحق تعرفوا السيف، فإنكم الحاملون له حيث وضعه أفضل، والواضعون له حيث عمله أعدل، ونحن في أوّل زمان لم يأت آخره، وآخر دهر قد فات أوله. فصار المعروف عندكم منكرا، والمنكر معروفا. وإني أقول لكم مهلا، قبل أن أقول لنفسي هلا! قالوا: فنخرج آمنين؟ قال غير راشدين ولا مهذبين.(3/111)
راهب وضالون في سفرهم:
حاد قوم سفر عن الطريق، فدفعوا إلى راهب منفرد في صومعته، فنادوه، فأشرف عليهم، فسألوه عن الطريق، فقال: ههنا. وأومأ بيده إلى السماء، فعلموا ما أراد، فقالوا: إنا سائلوك. قال: سلوا ولا تكثروا: فإن النهار لا يرجع والعمر لا يعود، والطالب حثيث! قالوا: علام الناس يوم القيامة؟ قال: على نياتهم وأعمالهم.
قالوا: إلى أين الموئل؟ قال: إلى ما قدمتم. قالوا: أوصنا. قال: تزوّدوا على قدر سفركم، فخير الزاد ما بلّغ المحل. ثم أرشدهم الجادّة وانقمع «1» .
وقال بعضهم: أتيت الشام فمررت بدير حرملة، فإذا فيه راهب كأن عينيه مزادتان «2» ، فقلت له: ما أشدّ ما يبكيك! قال: يا مسلم، أبكي على ما فرطت فيه من عمري، وعلى يوم يمضي من أجلي لم يحسن فيه عملي! قال: ثم مررت بعد ذلك، فسألت عنه، فقيل لي إنه أسلم وغزا الروم وقتل!
الحيري وثوبان في لبس الرهبان:
قال أبو زيد الحيري: قلت لثوبان الراهب: ما معنى لبس الرهبان هذا السواد؟
قال: هو أشبه بلباس أهل المصائب! قلت: وكلكم معشر الرهبان قد أصيب بمصيبة؟
قال: يرحمك الله، وهل مصيبة أعظم من مصائب الذنوب على أهلها. قال أبو زيد:
فما أذكر قوله إلا أبكاني.
آزاد مرد:
حبيب العدوى عن موسى الأسواري قال: لما وقعت الفتنة أردت أن أحرز ديني «3» ، فخرجت إلى الأهواز، فبلغ آزاد مرد قدومي، فبعث إليّ متاعا، فلما أردت الانصراف بلغني أنه ثقيل، فدخلت عليه، فإذا هو كالخفّاش، لم يبق منه إلا رأسه،(3/112)
فقلت: ما حالك؟ قال: وما حال من يريد سفرا بعيدا بغير زاد، ويدخل قبرا موحشا بلا مؤنس، وينطلق إلى ملك عدل بلا حجة؟ ثم خرجت نفسه.
بين العتبي وبعض الرهبان:
العتبي قال: مررت براهب باك، فقلت: ما يبكيك؟ قال: أمر عرفته وقصرت عن طلبه، ويوم مضى من عمري نقص له أجلي ولم ينقص له أملي.
باب من كلام الزهاد وأخبار العباد
لبعض العباد:
قيل لقوم من العبّاد: ما أقامكم في الشمس؟ قالوا: طلب الظل.
لعلقمة الأسود:
قيل لعلقمة الأسود بن يزيد: كم تعذّب هذا الجسد الضعيف؟ قال: لا تنال الراحة إلا بالتعب.
لآخر:
وقيل لآخر: لو رفقت بنفسك! قال: الخير كلّه فيما أكرهت النفوس عليه، قال النبي صلّى الله عليه وسلم: «حفّت الجنّة بالمكاره» .
مسروق الأجدع:
وقيل لمسروق بن الأجدع: لقد أضررت ببدنك. قال: كرامته أريد. وقالت له امرأته فيروز لما رأته لا يفطر من صيام ولا يفتر من صلاة «1» : ويلك يا مسروق! أما يعبد الله غيرك، أما خلقت النار إلا لك؟ قال لها: ويحك يا فيروز! إن طالب الجنة(3/113)
لا يسأم، وهارب النار لا ينام.
أبو الدرداء وزوجه:
وشكت أم الدرداء إلى أبي الدرداء الحاجة، فقال لها: تصبّري، فإن أمامنا عقبة كئودا «1» لا يجاوزها إلا أخف الناس حملا.
أبو حازم:
ومر أبو حازم بسوق الفاكهة، فقال: موعدك الجنة.
ومر بالجزارين، فقالوا له: يا أبا حازم، هذا لحم سمين فاشتر. قال: ليس عندي ثمنه. قالوا نؤخرك. قال: أنا أؤخر نفسي.
وكان رجل من العبّاد يأكل الرّمّان بقشره، فقيل له: لم تفعل هذا؟ فقال إنما هو عدوّ فأثخن «2» فيه ما أمكنك.
علي بن الحسين:
وكان عليّ بن الحسين عليهما السّلام إذا قام إلى الصلاة أخذته رعدة، فسئل عن ذلك، فقال: ويحكم! أتدرون إلى من أقوم ومن أريد أن أناجي؟
يونس بن عبيد:
وقال رجل ليونس بن عبيد: هل تعلم أحدا يعمل بعمل الحسن «3» ؟ قال: لا والله ولا أحدا يقول بقوله.
لمحمد بن علي:
وقيل لمحمد بن علي بن الحسين أو لعليّ بن الحسين عليهم السّلام: ما أقلّ ولد(3/114)
أبيك؟ قال: العجب كيف ولدت له وكان يصلي في اليوم والليلة ألف ركعة، فمتى كان يتفرغ للنساء؟ وحج خمسا وعشرين حجة راجلا.
ابن المسيب وامرأة:
ولما ضرب سعيد بن المسيب وأقيم للناس قالت له امرأة: لقد أقمت مقام خزية! فقال: من مقام الخزية فررت.
لابن دينار في قحط:
وشكا الناس إلى مالك بن دينار القحط. فقال: أنتم تستبطئون المطر وأنا أستبطىء الحجارة!
لابن عياض في مثله:
وشكا أهل الكوفة إلى الفضيل بن عياض القحط. فقال: أمدبّرا غير الله تريدون؟
لأبي حنيفة في السختياني:
وذكر أبو حنيفة أيوب السّختياني. فقال: رحمه الله تعالى- ثلاثا- لقد قدم المدينة مرة وأنا بها فقلت: لأقعدن إليه لعلّي أتعلق منه بسقطة. فقام بين يدي القبر مقاما ما ذكرته إلا اقشعرّ له جلدي.
ابن أبي رباح:
وقيل لاهل مكة: كيف كان عطاء بن أبي رباح فيكم؟ قالوا: كان مثل العافية التي لا يعرف فضلها حتى تفقد. وكان عطاء أفطس «1» أسود أشل أعرج ثم عمي وأمه سوداء تسمى بركة.(3/115)
الأوقص المخزومي:
وكان الأوقص المخزومي قاضيا بمكة، فما رؤى مثله في عفافه وزهده؛ فقال يوما لجلسائه: قالت لي أمي: يا بني، إنك خلقت خلقة لا تصلح معها لمجامعة الفتيان عند القيان؛ فعليك بالدين؛ فإن الله يرفع به الخسيسة، ويتم به النقيصة، فنفعني الله تعالى بكلامها وأطعتها فوليت القضاء.
بين ابن واسع وابن دينار:
الفضيل بن عياض قال: اجتمع محمد بن واسع ومالك بن دينار في مجلس بالبصرة، فقال مالك بن دينار: ما هو إلا طاعة الله أو النار. فقال محمد بن واسع ما هو كما تقول، ليس إلا عفو الله أو النار. قال مالك: صدقت. ثم قال مالك: إنه يعجبني أن يكون للرجل معيشة قدر ما يقوته. قال محمد بن واسع: ما هو إلا كما تقول، ولكن يعجبني أن يصبح الرجل وليس له غداء، ويمسي وليس له عشاء، وهو مع ذلك راض عن الله عز وجل. قال مالك: ما أحوجني إلى أن يعلمني مثلك.
لابن مهدي في بعض العباد:
جعفر بن سليمان قال: سمعت عبد الرحمن بن مهدي يقول: ما رأيت أحدا أقشف «1» من شعبة، ولا أعبد من سفيان الثوري، ولا أحفظ من ابن المبارك. وما أحب أن ألقى الله بصحيفة أحد إلا بصحيفة بشر بن منصور، مات ولم يدع قليلا ولا كثيرا.
بشر بن منصور على فراش الموت:
عبد الأعلى بن حماد قال: دخلت على بشر بن منصور وهو في الموت، فإذا به من السرور في أمر عظيم؛ فقلت له: ما هذا السرور؟ قال: سبحان الله! أخرج من بين الظالمين والباغين والحاسدين والمغتابين، وأقدم على أرحم الراحمين ولا أسر.(3/116)
الرشيد وعابد بمكة:
حج هارون الرشيد، فبلغه عن عابد بمكة مجاب الدعوة معتزل في جبال تهامة فأتاه هارون الرشيد فسأله عن حاله ثم قال له: أوصني ومرني بما شئت، فواد لا عصيتك! فسكت عنه ولم يرد عليه جوابا؛ فخرج عنه هارون، فقال له أصحابه ما منعك إذا سألك أن تأمره بما شئت وحلف ألّا يعصيك أن تأمره بتقوى الله والإحسان إلى رعيته؟ فخط لهم في الرمل: إني أعظمت الله أن يكون يأمره فيعصيه، وآمره أنا فيطيعني.
سفيان الثوري:
علي بن حمزة ابن أخت سفيان الثوري قال: لما مرض سفيان مرضه الذي مات فيه ذهبت ببوله إلى ديراني، فأريته إياه فقال: ما هذا ببول حنيفي. قلت: بلى والله من خيارهم. قال: فأنا أذهب معك إليه، قال: فدخل عليه وجس عرقه، فقال: هذا رجل قطع الحزن كبده.
ابن سيرين:
مؤرّق العجلي قال: ما رأيت أحدا أفقه في ورعه ولا أورع في فقهه من محمد بن سيرين، ولقد قال يوما: ما غشيت امرأة قط في نوم ولا يقظة، إلا امرأتي أم عبد الله فإني أرى المرأة في النوم؛ فأعلم أنها لا تحلّ لي فأصرف «1» بصري عنها.
بعض العباد:
الأصمعي عن ابن عون قال: رأيت ثلاثة لم أر مثلهم: محمد بن سيرين بالعراق، والقاسم بن محمد بالحجاز، ورجاء بن حيوة بالشام.
العتبي قال: سمعت أشياخنا يقولون، انتهى الزهد إلى ثمانية من التابعين: عامر بن(3/117)
عبد القيس، والحسن بن أبي الحسن البصري، وهرم بن حبان، وأبي مسلم الخولاني، وأويس القرني، والربيع بن خثيم ومسروق بن الأجدع، والأسود بن يزيد.
كيف يكون الزهد
للنبي صلّى الله عليه وسلم
العتبي يرفعه قال: قيل لرسول الله صلّى الله عليه وسلم: ما الزهد في الدنيا؟ قال: «أما إنه ما هو بتحريم الحلال، ولا إضاعة المال، ولكن الزهد في الدنيا أن تكون بما في يد الله أغنى منك عما في يدك» .
للزهري:
وقيل للزهري: ما الزهد؟ قال: أما إنه ليس تشعيث الّلمّة، «1» ولا قشف الهيئة؛ ولكنه صرف النفس عن الشهوة.
لبعضهم:
وقيل لآخر: ما الزهد في الدنيا؟ قال: أن لا يغلب الحرام صبرك، ولا الحلال شكرك.
للنبي صلّى الله عليه وسلم:
وقيل لرسول الله صلّى الله عليه وسلم: يا رسول الله، من أزهد الناس في الدنيا؟ قال: «من لم ينس المقابر والبلى، وآثر ما يبقى على ما يفنى، وعدّ نفسه مع الموتى» .
وقيل لمحمد بن واسع: من أزهد الناس في الدنيا؟ قال: من لا يبالي بيد من كانت الدنيا.
وقيل للخليل بن أحمد: من أزهد الناس في الدنيا؟ قال من لم يطلب المفقود حتى يفقد الموجود.(3/118)
وقال النبي صلّى الله عليه وسلم: «الزّهد في الدنيا مفتاح الرّغبة في الآخرة، والرغبة في الدنيا مفتاح الزهد في الآخرة» .
قالوا: مثل الدنيا والآخرة كمثل رجل له امرأتان ضرّتان، إن أرضى إحداهما أسخط الأخرى.
وقال النبي صلّى الله عليه وسلم: «من جعل الدنيا أكبر همّه نزع الله خوف الأخرى من قلبه، وجعل الفقر بين عينيه، وشغله فيما عليه لا له» .
وقال ابن السماك: الزاهد الذي إن أصاب الدنيا لم يفرح، وإن أصابته الدنيا لم يحزن، يضحك في الملا «1» ، ويبكي في الخلا.
وقال الفضيل: أصل الزهد في الدنيا الرضا عن الله تعالى.
صفة الدنيا
قال رجل لعلي بن أبي طالب كرم الله وجهه: يا أمير المؤمنين، صف لنا الدنيا.
قال: ما أصف من دار أوّلها عناء، وآخرها فناء، حلالها حساب، وحرامها عقاب، من استغنى فيها فتن، ومن افتقر فيها حزن.
قيل لأرسطا طاليس: صف لنا الدنيا. فقال: ما أصف من دار أولها فوت، وآخرها موت.
وقيل لحكيم: صف لنا الدنيا. قال: أمر بين يديك، وأجل مطل عليك، وشيطان فتان، وأماني جرّارة العنان «2» ، تدعوك فتستجيب؛ وترجوها فتخيب.
وقيل لعامر بن عبد القيس: صف لنا الدنيا. قال: الدنيا والدة للموت، ناقضة للمبرم «3» ، مرتجعة العطية وكل من فيها يجري إلى ما لا يدري.(3/119)
وقيل لبكر بن عبد الله المزني: صف لنا الدنيا. فقال: ما مضى منها فحلم؛ وما بقي فأماني.
وقيل لعبد الله بن ثعلبة: صف لنا الدنيا. قال: أمسك مذموم فيك، ويومك غير محمود لك، وعزّك غير مأمون عليك.
وقال النبي صلّى الله عليه وسلم: «الدنيا سجن المؤمن وجنة الكافر» .
وقال: «الدنيا عرض حاضر يأكل منه البر والفاجر. والآخرة وعد صدق يحكم فيها ملك قادر، يفضل الحق من الباطل» .
وقال: «الدنيا خضرة حلوة، فمن أخذها بحقها بورك له فيها، ومن أخذها بغير حقها كان كالآكل الذي لا يشبع» .
وقال ابن مسعود: ليس من الناس أحد إلا وهو ضيف على الدنيا وماله عارية:
فالضيف مرتحل، والعارية مردودة.
وقال المسيح عليه السّلام: الدنيا لإبليس مزرعة وأهلها حرّاثون.
وقال إبليس: ما أبالي إذا أحب الناس الدنيا أن لا يعبدوا صنما ولا وثنا، الدنيا أفتن لهم من ذلك.
وكان النبي صلّى الله عليه وسلم «يسمي الدنيا أمّ دفر. الدفر: النتن» .
وقال النبي صلّى الله عليه وسلم للضحاك بن سفيان: «ما طعامك؟» قال: اللحم واللبن. قال: «ثم إلى ماذا يصير؟» قال يصير إلى ما قد علمت. قال: «فإن الله عز وجل ضرب ما يخرج من ابن آدم مثلا للدنيا» .
وقال المسيح عليه السّلام لأصحابه: اتخذوا الدنيا قنطرة فاعبروها ولا تعمروها.
من الأثر:
وفي بعض الكتب: أوحى الله إلى الدنيا: من خدمني فاخدميه، ومن خدمك فاستخدميه.
وقيل لنوح عليه السّلام: يا أبا البشر ويا طويل العمر، كيف وجدت الدنيا؟ قال:(3/120)
كبيت له بابان، دخلت من أحدهما وخرجت من الآخر.
وقال لقمان لابنه: إن الدنيا بحر عريض، قد هلك فيه الأولون والآخرون، فإن استطعت أن تجعل سفينتك تقوى الله، وعدّتك التوكل على الله، وزادك العمل الصالح. فإن نجوت فبرحمة الله، وإن هلكت فبذنوبك.
وقال ابن الحنفية: من كرمت عليه نفسه هانت عليه الدنيا.
وقال: إن الملوك خلّوا لكم الحكمة فخلّوا لهم الدنيا.
وقيل لمحمد بن واسع: إنك لترضى بالدّون «1» . قال: إنما رضي بالدون من رضي بالدنيا.
وقال المسيح عليه الصلاة والسّلام للحواريين: أنا الذي كفأت «2» الدنيا على وجهها، فليس لي زوجة تموت، ولا بيت يخرب.
لابن عبيد:
شكا رجل إلى يونس بن عبيد وجعا يجده، فقال له: يا عبد الله، هذه دار لا توافقك فالتمس لك دارا توافقك.
الراهب:
لقي رجل راهبا فقال: يا راهب، صف لنا الدنيا. فقال: الدنيا تخلق الأبدان، وتجدد الآمال، وتباعد الأمنيّة، وتقرّب المنية. قال: فما حال أهلها؟ قال: من ظفر بها تعب، ومن فاتته نصب «3» . قال. فما الغنى عنها؟ قال: قطع الرجاء منها. قال:
فأين المخرج؟ قال: في سلوك المنهج. قال: وما ذاك؟ قال: يذل المجهود، والرضا بالموجود.(3/121)
لبعض الشعراء:
قال الشاعر:
ما الناس إلّا مع الدنيا وصاحبها ... فحيثما انقلبت يوما به انقلبوا
يعظّمون أخا الدنيا وإن وثبت ... يوما عليه بما لا يشتهي وثبوا
وقال آخر:
يا خاطب الدّنيا إلى نفسها ... تنحّ عن خطبتها تسلم
إنّ التي تخطب غرّارة ... قريبة العرس من المأتم «1»
عبد الواحد بن الخطاب:
داود بن المحبّر قال: أخبرنا عبد الواحد بن الخطاب قال: أقبلنا قافلين من بلاد الروم، حتى إذا كنا بين الرّصافة وحمص سمعنا صوتا من تلك الجبال، تسمعه آذاننا ولم تبصره أبصارنا، يقول: يا مستور يا محفوظ، انظر في ستر من أنت؛ إنما الدنيا شوك، فانتظر أين تضع قدميك منها!
وقال أبو العتاهية:
رضيت بذي الدّنيا ككلّ مكاثر ... ملحّ على الدّنيا وكلّ مفاخر
ألم ترها تسقيه حتى إذا صبا ... فرت حلقه منها بشفرة جازر «2»
ولا تعدل الدّنيا جناح بعوضة ... لدى الله أو معشار نغبة طائر «3»
فلم يرض بالدنيا ثوابا لمؤمن ... ولم يرض بالدنيا عقابا لكافر
وقال أيضا:
هي الدنيا؛ إذا كملت ... وتمّ سرورها خذلت
وتفعل في الذين بقوا ... كما فيمن مضى فعلت(3/122)
قال بعض الشعراء يصف الدنيا:
لقد غرّت الدنيا رجالا فأصبحوا ... بمنزلة ما بعدها متحوّل
فساخط أمر لا يبدّل غيره ... وراض بأمر غيره سيبدّل
وبالغ أمر كان يأمل دونه ... ومخترم من دون ما كان يأمل «1»
وقال هارون الرشيد: لو قيل للدنيا صفي لنا نفسك، وكانت ممن ينطق، ما وصفت نفسها بأكثر من قول أبي نواس:
إذا امتحن الدّنيا لبيب تكشّفت ... له عن عدوّ في ثياب صديق
وما الناس إلّا هالك وابن هالك ... وذو نسب في الهالكين عريق
لبعض الشعراء:
وقال آخر في صفة الدنيا:
فرحنا وراح الشّامتون عشيّة ... كأنّ على أكتافنا فلق الصّخر
لحا الله دنيا تدخل السّتر أهلها ... وتهتك ما بين الأقارب من ستر
ولأبي العتاهية:
كلنا نكثر الملامة للدنيا ... وكل بحبّها مفتون
والمقادير لا تناولها الأو ... هام لطفا ولا تراها العيون
ولركب الفناء في كلّ يوم ... حركات كأنهنّ سكون
لابن عبد ربه:
ومن قولنا في وصف الدنيا:
ألا إنما الدّنيا نضارة أيكة ... إذا اخضرّ منها جانب جفّ جانب «2»
هي الدار ما الآمال إلّا فجائع ... عليها ولا الّلذّات إلا مصائب
فكم سخنت بالأمس عين قريرة ... وقرّت عيون دمعها اليوم ساكب(3/123)
فلا تكتحل عيناك فيها بعبرة ... على ذاهب منها فإنك ذاهب
وقال أبو العتاهية:
أصبحت الدنيا لنا فتنة ... والحمد لله على ذلكا
قد أجمع الناس على ذمّها ... ما إن ترى منهم لها تاركا
وقال إبراهيم بن أدهم:
نرقّع دنيانا بتمزيق ديننا ... فلا ديننا يبقى ولا ما نرقع
وما سمعت في صفة الدنيا والسبب الذي يحبها الناس لأجله بأبلغ من قول القائل.
نراع بذكر الموت في حين ذكره ... وتعترض الدّنيا فنلهو ونلعب
ونحن بنو الدّنيا خلقنا لغيرها ... وما كنت منه فهو شيء محبّب
فذكر أن الناس بنو الدنيا وما كان الإنسان منه فهو محبب إليه.
واعلم أن الإنسان لا يحب شيئا إلا أن يجانسه في بعض طبائعه، وأن الدنيا جانست الإنسان في طبائعه كلها فأحبها بكل أطرافه.
ابن شبرمة وولده:
وقال بعض ولد ابن شبرمة: كنت مع أبي جالسا قبل أن يلي القضاء فمرّ به طارق ابن أبي زياد في موكب نبيل، فلما رآه أبي تنفّس الصّعداء، وقال:
أراها وإن كانت تحبّ كأنها ... سحابة صيف عن قليل تقشّع»
ثم قال: اللهم لي ديني ولهم دنياهم. فلما ابتلى بالقضاء، قلت: يا أبت، أتذكر يوم طارق؟ فقال: يا بني إنهم يجدون خلفا من أبيك وإن أباك لا يجد خلفا منهم إن أباك خطب في أهوائهم وأكل من حلوائهم.(3/124)
وقال الشعبي ما رأيت مثلنا ومثل الدنيا إلا كما قال كثّير عزة:
أسيئي بنا أو أحسني لا ملومة ... لدينا ولا مقليّة إن تقلّت «1»
وأحكم بيت قيل في تمثيل الدنيا قول الشاعر:
ومن يأمن الدّنيا يكن مثل قابض ... على الماء خانته فروج الأصابع «2»
الأصعمي في بيت يستحسنه:
وحدّث العبّاس بن الفرج الرياشي، قال: رأيت الأصمعي ينشد هذا البيت ويستحسنه في صفة الدنيا:
ما عذر مرضعة بكا ... س الموت تفطم من غذت
ولقطري بن الفجاءة في وصف الدنيا خطبة مجردة تقع في جملة الخطب في كتاب الواسطة.
قولهم في الخوف
لابن عباس:
سئل ابن عباس عن الخائفين لله، فقال: هم الذين صدّقوا الله في مخافة وعيده، قلوبهم بالخوف قرحة، وأعينهم على أنفسهم باكية، ودموعهم على خدودهم جارية، يقولون كيف نفرح والموت من ورائنا. والقبور من أمامنا، والقيامة موعدنا، وعلى جهنم طريقنا، وبين يدي ربنا موقفنا! وقال عليّ كرم الله وجهه: ألا إن الله عبادا مخلصين، كمن رأى أهل الجنة في الجنة فاكهين، وأهل النار في النار معذبين، شرورهم مأمونة وقلوبهم محزونة. وأنفسهم عفيفة، وحوائجهم خفيفة، صبروا أياما قليلة العقبى راحة طويلة، أما بالليل فصفّوا(3/125)
أقدامهم في صلاتهم؛ تجري دموعهم على خدودهم، يجارون «1» إلى ربهم: ربّنا ربّنا! يطلبون فكاك قلوبهم؛ وأما بالنهار فعلماء حلماء بررة أتقياء؛ كأنهم القداح. القداح:
السهام، يريد في ضمرتها- ينظر إليهم الناظر فيقول مرضى، وما بالقوم من مرض؛ ويقول: خولطوا؛ ولقد خالط القوم أمر عظيم.
لابن عمار في الزهد:
وقال منصور بن عمار في مجلس الزهد: إن لله عبادا جعلوا ما كتب عليهم من الموت مثالا بين أعينهم، وقطعوا الأسباب المتصلة بقلوبهم من علائق الدنيا؛ فهم أنضاء عبادته، حلفاء طاعته، قد نضحوا «2» خدودهم بوابل دموعهم «3» ، وافترشوا جباههم في محاريبهم، يناجون ذا الكبرياء والعظمة في فكاك رقابهم «4» .
عمر بن عبد العزيز في مرضه:
ودخل قوم على عمر بن عبد العزيز يعودونه في مرضه وفيهم شاب ذابل ناحل؛ فقال له عمر: يا فتى، ما بلغ بك ما أرى؟ قال: يا أمير المؤمنين، أمراض وأسقام! قال له عمر: لتصدقنّي. قال: بلى يا أمير المؤمنين، ذقت يوما حلاوة الدنيا فوجدتها مرة عواقبها؛ فاستوى عندي حجرها وذهبها؛ وكأني أنظر إلى عرش ربنا بارزا؛ وإلى الناس يساقون إلى الجنة والنار؛ فأظمأت نهاري وأسهرت ليلي؛ وقليل كلّ ما أنا فيه في جنب ثواب الله وخوف عقابه.
وقال ابن أبي الحواري: قلت لسفيان: بلغني في قول الله تبارك وتعالى: إِلَّا مَنْ أَتَى اللَّهَ بِقَلْبٍ سَلِيمٍ
«5» : الذي يلقي ربه وليس فيه أحد غيره. فبكى وقال: ما سمعت منذ ثلاثين سنة أحسن من هذا التفسير.(3/126)
وقال الحسن: إن خوفك حتى تلقي الأمن خير من أمنك حتى تلقى الخوف.
وقال: ينبغي أن يكون الخوف أغلب على الرجاء. فإن الرجاء إذا غلب الخوف فسد القلب.
وقال: عجبا لمن خاف العقاب ولم يكفّ، ولمن رجا الثواب ولم يعمل.
وقال علي بن أبي طالب كرم الله وجهه لرجل: ما تصنع؟ فقال: أرجو وأخاف.
قال: من رجا شيئا طلبه، ومن خاف شيئا هرب منه.
وقال الفضيل بن عياض: إني لأستحي من الله أن أقول: توكّلت على الله. ولو توكلت عليه حقّ التوكل ما خفت ولا رجوت غيره.
وقالوا: من خاف الله أخاف الله منه كل شيء، ومن لم يخف الله أخافه الله من كل شيء.
وقال: وعد من الله لمن خافه أن يدخله الله الجنة. وتلا قوله عز وجل: وَلِمَنْ خافَ مَقامَ رَبِّهِ جَنَّتانِ
«1» .
وقال عمر بن ذرّ: عباد الله؛ لا تغتروا بطول حلم الله واحذروا أسفه؛ فإنه قال عز وجل: فَلَمَّا آسَفُونا انْتَقَمْنا مِنْهُمْ فَأَغْرَقْناهُمْ أَجْمَعِينَ. فَجَعَلْناهُمْ سَلَفاً وَمَثَلًا لِلْآخِرِينَ
«2» .
وقال محمد بن سلّام: سمعت يونس بن حبيب يقول: لا تأمن من قطع في خمسة دراهم أشرف عضو فيك أن تكون عقوبته في الآخرة أضعاف ذلك.
وقال الربيع بن خثيم: لو أن لي نفسين إذا علقت إحداهما سعت الأخرى في فكاكها، ولكنها نفس واحدة، فإن أنا أوثقتها. من يفكّها؟.
وفي الحديث: «من كانت الدنيا همّه، طال في الآخرة غمّه. ومن خاف الوعيد لها عمّا يريد، ومن خاف ما بين يديه ضاق ذرعا بما في يده» .(3/127)
وقال محمود الوراق:
يا غافلا ترنو بعيني راقد ... ومشاهدا للأمر غير مشاهد «1»
تصل الذّنوب إلى الذّنوب وترتجي ... درك الجنان بها وفوز العابد «2»
ونسيت أنّ الله أخرج آدما ... منها إلى الدّنيا بذنب واحد
وقال نابغة بني شيبان:
إنّ من يركب الفواحش سرّا ... حين يخلو بسرّه غير خال
كيف يخلو وعنده كاتباه ... شاهداه وربّه ذو الجلال
قولهم في الرجاء
قال العلماء: لا تشهد على أحد من أهل القبلة بجنة ولا نار؛ يرجى للمحسن ويخاف عليه، ويخاف على المسيء ويرجى له.
في الأثر:
وفي الحديث المرفوع. «إن الله يغفر ولا يعيّر، والناس يعيّرون ولا يغفرون» .
وفي حديث آخر: «لا تكفّروا أهل الذنوب» .
فتى توفي في عهد الرسول صلّى الله عليه وسلم:
وتوفي رجل في عهد رسول الله صلّى الله عليه وسلم، وكان مسرفا على نفسه فرفع رأسه، وهو يجود بنفسه، فإذا أبواه يبكيان عند رأسه، فقال: ما يبكيكما؟ قال: نبكي لإسرافك على نفسك «3» ! قال: لا تبكيا: فو الله ما يسرني أن الذي بيد الله من أمري بأيديكما.
ثم مات. فأتى جبريل عليه الصلاة والسلام النبي صلّى الله عليه وسلم، فأخبره أن فتى توفى اليوم فاشهده فإنه من أهل الجنة، فسأل رسول الله صلّى الله عليه وسلم أبويه عن عمله، فقالا: ما عملنا(3/128)
عنده شيئا من خير، إلا أنه قال لنا عند الموت كذا وكذا، فقال رسول الله صلّى الله عليه وسلم:
«من هاهنا أوتي؛ إن حسن الظن بالله من أفضل العمل عنده» .
عمر بن ذر ورجل توفي:
وتوفي رجل بجوار ابن ذر، وكان مسرفا على نفسه، فتحامى الناس جنازته وبلغ ذلك عمر بن ذر، فأوصى أهله: إذا جهزتموه فآذنوني. ففعلوا؛ فشهده والناس معه، فلما أدلى وقف على قبره فقال: رحمك الله أبا فلان، فلقد صحبت عمرك بالتوحيد، وعفرت وجهك لله بالسجود، فإن قالوا مذنب وذو خطايا، فمن منا غير مذنب وذي خطايا؟
وتمثل معاوية عند الموت بهذا البيت:
هو الموت لا منجى من الموت والذي ... نحاذر بعد الموت أنكى وأفظع
ثم قال: اللهم فأقل العثرة، واعف عن الزّلّة، وعد بحلمك على جهل من لم يرج غيرك، ولم يثق إلا بك فإنك واسع المغفرة. يا رب أين لذي الخطأ مهرب إلا إليك.
قال داود بن أبي هند: فبلغني أن سعيد بن المسيّب قال حين بلغه ذلك: لقد رغب إلى من لا مرغب إلا إليه كرها، وإني أرجو من الله له الرحمة.
لأعرابي في عائشة:
الأصمعي قال: سمعت أعرابيا يقول في دعائه وابتهاله: إلهي، ما توهمت سعة رحمتك إلا وكأن نعمة عفوك تقرع مسامعي: أن قد غفرت لك؛ فصدّق ظني بك.
وحقق رجائي فيك يا إلهي.
لبعض الشعراء:
ومن أحسن ما قيل في الرجاء هذا البيت:
وإن لأرجو الله حتى كأنّني ... أرى بجميل الظّنّ ما الله صانع(3/129)
قولهم في التوبة
للمسيح عليه السّلام:
مر المسيح بن مريم عليه السّلام بقوم من بني إسرائيل يبكون، فقال لهم: ما يبكيكم؟ قالوا: نبكي لذنوبنا! قال: اتركوها تغفر لكم.
وقال علي بن أبي طالب كرم الله وجهه: عجبا لمن يهلك ومعه النجاة؛ قيل له:
وما هي؟ قال: التوبة والاستغفار.
فتى من بني إسرائيل:
وقالوا: كان شاب من بني إسرائيل قد عبد الله عشرين حجة، ثم عصاه عشرين حجّة؛ فبينما هو في بيته يتراءى في مرآته، نظر إلى الشيب في لحيته، فساءه ذلك؛ فقال: إلهي، أطعتك عشرين سنة وعصيتك عشرين سنة؛ فإن رجعت إليك تقبلني؟
فسمع صوتا من زاوية البيت، ولم ير شخصا: أحببتنا فأحببناك، وتركتنا فتركناك، وعصيتنا فأمهلناك، وإن رجعت إلينا قبلناك.
ابن العلاء في عابد:
عبد الله بن العلاء قال: خرجنا حجّاجا من المدينة، فلما كنا بالحليفة نزلنا، فوقف علينا رجل عليه أثواب رثّة له منظر وهيئة، فقال: من يبغي خادما؟ من يبغي ساقيا؟
من يملأ قربة أو إداوة؟ فقلنا: دونك هذه القرب فاملأها. فأخذها وانطلق، فلم يلبث إلا يسيرا حتى أقبل امتلأت أثوابه طينا، فوضعها وهو كالمسرور الضاحك، ثم قال: لكم غير هذا؟ قلنا: لا. وأطعمناه قارصا حاذرا «1» ، فأخذه وحمد الله وشكره، ثم اعتزل وقعد يأكل أكل جائع، فادركتني عليه الرقة، فقمت إليه بطعام طيب كثير؛ وقلت: قد علمت أنه لم يقع منك القرص موقعا، فدونك هذا الطعام فكله. فنظر في(3/130)
وجهي وتبسم؛ وقال: يا عبد الله، إنما هي فورة، هذه النار قد أطفأتها- وضرب بيده على بطنه- فرجعت وقد انكسف بالي لما رأيت في هيبته؛ فقال إلى رجل كان إلى جانبي: أتعرفه؟ قلت: ما أعرفه. قال: هذا رجل من بني هاشم، من ولد العباس ابن عبد المطلب؛ كان يسكن البصرة؛ فتاب وخرج منها، ففقد وما يعرف له أثر.
فأعجبني قوله؛ ثم لحقت به وناشدته الله؛ وقلت له: هل لك أن تعادلني فإن معي فضلا من راحلتي وأنا رجل من بعض أخوالك؟ فجزاني خيرا، وقال: لو أردت شيئا من هذا لكان لي معدّا. ثم أنس إليّ وجعل يحدثني؛ وقال: أنا رجل من ولد العباس، كنت أسكن البصرة، وكنت ذا كبر شديد وجبروت وبذخ؛ وإني أمرت خادما لي أن تحشو لي فراشا من حرير بورد نثير، ومخدّة؛ ففعلت؛ فإني لنائم إذ أيقظني قمع «1» وردة أغفلته الخادم؛ فقمت إليها فأوجعتها ضربا، ثم عدت إلى مضجعي بعد أن خرج ذلك القمع من المخدّة؛ فأتاني آت من منامي في صورة فظيعة، فنهرني وزبرني «2» ، وقال: أفق من غشيتك وأبصر من حيرتك. ثم أنشأ يقول:
يا خدّ إنك إن توسّد ليّنا ... وسّدت بعد الموت صمّ الجندل «3»
فامهد لنفسك صالحا تنجو به ... فلتندمنّ غدا إذا لم تفعل
فانتبهت فزعا، وخرجت من ساعتي هاربا بديني إلى ربي.
في التوبة:
وقالوا: علامة التوبة الخروج من الجهل، والندم على الذنب، والتجافي عن الشهوة، وترك الكذب، والانتهاء عن الخلق السوء.
وقالوا: التائب من الذنب كمن لا ذنب له. وأول التوبة الندم.
لابن عبد ربه:
ومن قولنا في هذا المعنى:
يا ويلتا من موقف ما به ... أخوف من أن يعدل الحاكم(3/131)
أبارز الله بعصيانه ... وليس لي من دونه راحم
يا ربّ غفرانك عن مذنب ... أسرف إلا أنه نادم
وقال بعض أهل التفسير في قول الله تبارك وتعالى: يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا تُوبُوا إِلَى اللَّهِ تَوْبَةً نَصُوحاً
«1» . إن التوبة النصوح: أن يتوب العبد عن الذنب ولا ينوي العود إليه.
وقال ابن عباس في قول الله عز وجل: إِنَّمَا التَّوْبَةُ عَلَى اللَّهِ لِلَّذِينَ يَعْمَلُونَ السُّوءَ بِجَهالَةٍ ثُمَّ يَتُوبُونَ مِنْ قَرِيبٍ
«2» . إن الرجل لا يركب ذنبا ولا يأتي فاحشة إلا وهو جاهل. وقوله: ثم يتوبون من قريب. قال: كل من كان دون المعاينة فهو قريب، والمعاينة: أن يؤخذ بكظم الإنسان، فذلك قوله: إِذا حَضَرَ أَحَدَهُمُ الْمَوْتُ قالَ إِنِّي تُبْتُ الْآنَ
«3» قال أهل التفسير: هو إذا أخذ بكظمه «4» .
وقال ابن شبرمة: إني لأعجب ممن يحتمي مخافة الضرر، ولا يدع الذنوب مخافة النار.
المبادرة بالعمل الصالح
قال الله عز وجل: وَسارِعُوا إِلى مَغْفِرَةٍ مِنْ رَبِّكُمْ وَجَنَّةٍ
«5» .
وقال تعالى: وَالسَّابِقُونَ السَّابِقُونَ أُولئِكَ الْمُقَرَّبُونَ
«6» .
وقال الحسن: بادروا بالعمل الصالح قبل حلول الأجل، فإن لكم ما أمضيتم، لا ما أبقيتم.
وقالوا: ثلاثة لا أناة فيهنّ. المبادرة بالعمل الصالح، ودفن الميت، وإنكاح الكفء.(3/132)
وقال النبي صلّى الله عليه وسلم: «ابن آدم: اغتنم خمسا قبل خمس: شبابك قبل هرمك، وصحّتك قبل سقمك، وفراغك قبل شغلك، وحياتك قبل موتك، وغناك قبل فقرك» .
وقال الحسن: صم قبل أن لا تقدر على يوم تصومه، كأنك إذا ظمئت لم تكن رويت، وكأنك إذا رويت لم تكن طمئت.
وكان يزيد الرّقاشي يقول: يا يزيد، من يصوم عنك أو يصلّي لك أو يترضى لك ربك إذا مت.
وكان خالد بن معدان يقول:
إذا أنت لم تزرع وأبصرت حاصدا ... ندمت على التّفريط في زمن البذر
وقال ابن المبارك: كنت مع محمد بن النّضر في سفينة، فقلت: بأي شيء استخرج منه الكلام؟ فقلت له: ما تقول في الصوم في السفر؟ فقال: إنما هي المبادرة يابن أخي. فجاءني والله بفتيا غير فتيا إبراهيم والشعبي.
ومن قولنا في هذا المعنى:
بادر إلى التوبة الخلصاء مبتدئا ... والموت ويحك لم يمدد إليك يدا
وارقب من الله وعدا ليس يخلفه ... لا بدّ لله من إنجاز ما وعدا
وقال علي بن أبي طالب رضي الله عنه لأصحابه: فيم أنتم؟ قالوا: نرجو ونخاف.
قال: من رجا شيئا طلبه، ومن خاف شيئا هرب منه.
وقال الشاعر «1» :
ترجو النجاة ولم تسلك مسالكها ... إنّ السفينة لا تجري على اليبس
وقال آخر:
اعمل وأنت من الدنيا على حذر ... واعلم بأنك بعد الموت مبعوث
واعلم بأنك ما قدّمت من عمل ... يحصى عليك، وما خلّفت موروث(3/133)
النبي صلّى الله عليه وسلم وعائشة:
وقدّمت عائشة رضي الله عنها إلى النبي صلّى الله عليه وسلم صحفة «1» فيها خبز شعير وقطعة من كرش، وقالت: يا رسول الله، ذبحنا اليوم شاة فما أمسكنا منها غير هذا. فقال: «بل كلّها أمسكتم غير هذا» .
العجز عن العمل
مؤرق وشاك:
قال رجل لمؤرّق العجلي: أشكو إليك نفسي؛ إنها لا تريد الصلاة، ولا تستطيع الصبر على الصيام. قال: بئس الثناء [ما] أثنيت على نفسك، فإذا ضعفت عن الخير، فاضعف عن الشر؛ فإن الشاعر قال:
احزن على أنك لا تحزن ... ولا تسيء إن كنت لا تحسن
واضعف عن الشرّ كما تدّعي ... ضعفا عن الخير وقد يمكن
وقال بكر بن عبد الله: اجتهدوا في العمل، فإن قصّر بكم ضعف فأمسكوا عن المعاصي.
وقال الحسن رحمه الله: من كان قويا فليعتمد على قوّته في طاعة الله؛ وإن كان ضعيفا فليكّف عن معاصي الله.
وقال عليّ: لا تكن كمن يعجز عن شكر ما أوتي، فيبتغي الزيادة فيما بقي؛ وينهى الناس ولا ينتهي.
وكان الحسن إذا وعظ يقول: يا لها موعظة لو صادفت من القلوب حياة! أسمع حسيسا «2» ولا أرى أنيسا، ما لهم تفاقدوا عقولهم؟ فراش نار وذباب طمع.
وكان ابن السماك إذا فرغ من موعظته يقول: ألسنة تصف، وقلوب تعرف، وأعمال تخالف.(3/134)
وقال: الحسنة نور في القلب، وقوّة في العمل؛ والسيئة ظلمة في القلب، وضعف في العمل.
وقال بعض الحكماء: يا أيها المشيخة الذين لم يتركوا الذنوب حتى تركتهم الذنوب، ثم ظنوا أنّ تركها لهم توبة؛ وليتهم إذا ذهبت عنهم لم يتمنّوا عودها إليهم وكان مالك بن دينار يقول: ما أشدّ فطام الكبير. وينشد:
وتروض عرسك بعد ما هرمت ... ومن العناء رياضة الهرم «1»
ومن حديث محمد بن وضّاح قال: إذا بلغ الرجل أربعين سنة ولم يتب، مسح إبليس بيده على وجهه وقال: بأبي وجه لا أفلح أبدا.
قال الشاعر:
فإذا أي إبليس غرّة وجهه ... حيّا وقال فديت من لا يفلح
وقال رجل للحسن: أبا سعيد، أردت البارحة أن أصلي فلم أستطع، قال: قيّدتك ذنوبك.
قولهم في الموت
بين النبي صلّى الله عليه وسلم وابن الخطاب:
قال النبي صلّى الله عليه وسلم لعمر بن الخطاب رضوان الله عليه: «ما عندك من ذكر الموت أبا حفص؟» قال: أمسي فما أرى أنّي أصبح، وأصبح فما أرى أني أمسي! قال: «الأمر أوشك من ذلك أبا حفص، أما إنه يخرج عني نفسي فما أرى أنه يعود إليّ!» وقال عبد الله بن شدّاد: أرى داعي الموت لا يقلع، ومن مضى لا يرجع، ومن بقي فإليه ينزع «2» .
وقال الحسن: ابن آدم، إنما أنت عدد، فإذا مضى يومك فقد مضى بعضك.(3/135)
وقال أبو العتاهية:
الناس في غفلاتهم ... ورحى المنيّة تطحن
وقال عمر بن عبد العزيز: من أكثر من ذكر الموت اكتفى باليسير، ومن علم أن الكلام عمل: قلّ كلامه إلا فيما ينفع.
وكان أبو الدرداء إذا رأى جنازة قال: اغدي «1» فإنا رائحون، أو روحي «2» فإنا غادون.
وقال رجل للحسن: مات فلان فجأة. فقال: لو لم يمت فجأة لمرض فجأة ثم مات.
وقال يعقوب صلوات الله عليه للبشير الذي أتاه بقميص يوسف: ما أدري ما أثيبك به، ولكن هوّن الله عليك سكرات الموت.
ابن العلاء وجرير:
وقال أبو عمرو بن العلاء: لقد جلست إلى جرير وهو يملي على كاتبه:
ودّع أمامة حان منك رحيل
ثم طلعت جنازة فأمسك وقال: شيّبتني هذه الجنازة. قلت: فلم تساب الناس؟ قال:
يبدءونني ثم لا أعفو، وأعتدي ولا أبتدي. ثم أنشأ يقول:
تروّعنا الجنائز مقبلات ... فنلهو حين تذهب مدبرات
كروعة ثلّة لمغار سبع ... فلما غاب عادت راتعات «3»
وقالوا: من جعل الموت بين عينيه، لها عما في يديه.
وقالوا: اتخذ نوح بيتا من جصّ، فقيل: لو بنيت ما هو أحسن من هذا! قال:
هذا كثير لمن يموت.(3/136)
لأمية:
وأحكم بيت قالته العرب في وصف الموت، بيت أمية بن أبي الصلت حيث يقول:
يوشك من فرّ من منيّته ... في بعض غرّاته يوافقها
من لم يمت عبطة يمت هرما ... للموت كاس والمرء ذائقها «1»
لأصبغ في عابد:
وقال أصبغ بن الفرج، كان بنجران عابد يصيح في كل يوم صيحتين بهذين البيتين:
منع البقاء مطالع الشمس ... وغدوّها من حيث لا تمسي
وطلوعها حمراء قانية ... وغروبها صفراء كالورس»
اليوم يخبر ما يجيء به ... ومضى بفصل قضائه أمس
وقال آخر:
زيّنت بينك جاهلا وعمرته ... ولعلّ صهرك صاحب البيت
من كانت الأيام سائرة به ... فكأنه قد حلّ بالموت!
والمرء مرتهن بسوف وليتني ... وهلاكه في السّوف والّليت
لله درّ فتى تدبّر أمره ... فغدا وراح مبادر الموت
وقال صريع الغواني:
كم رأينا من أناس هلكوا ... قد بكوا أحبابهم ثم بكوا
تركوا الدّنيا لمن بعدهم ... ودّهم لو قدّموا ما تركوا
كم رأينا من ملوك سوقة ... ورأينا سوقة قد ملكوا
وقال الصّلتان العبديّ:(3/137)
أشاب الصّغير وأفنى الكبير ... كرّ الغداة ومرّ العشي «1»
إذا ليلة هزمت يومها ... أتى بعد ذلك يوم فتي
نروح ونغدو لحاجاتنا ... وحاجة من عاش لا تنقضي
تموت مع المرء حاجاته ... وتبقى له حاجة ما بقي
وكان سفيان بن عيينة يستحسن قول عدي بن زيد:
أين أهل الدّيار من قوم نوح ... ثم عاد من بعدها وثمود
بينما هم على الأسرّة والأنماط ... أفضت إلى التراب الخدود
وصحيح أمسى يعود مريضا ... وهو أدنى للموت ممن يعود
ثم لم ينقض الحديث ولكن ... بعد ذا كلّه وذاك الوعيد
وقال أبو العتاهية في وصف الموت:
كأنّ الأرض قد طويت عليّا ... وقد أخرجت مما في يديّا
كأني صرت منفردا وحيدا ... ومرتهنا لديك بما عليّا
كأنّ الباكيات عليّ يوما ... ولا يغنى البكاء عليّ شيّا
ذكرن منيّتي فنعيت نفسي ... ألا أسعد أخيّك يا أخيّا
وقال:
ستخلق جدّة وتحول حال ... وعند الحقّ تختبر الرّجال
وللدّنيا ودائع في قلوب ... بها جرت القطيعة والوصال
تخوّف ما لعلّك لا تراه ... وترجوا ما لعلّك لا تنال
وقد طلع الهلال لهدم عمري ... وأفرح كلما طلع الهلال!
وله أيضا:
من يعش يكبر ومن يكبر يمت ... والمنايا لا تبالي من أتت
نحن في دار بلاء وأذى ... وشقاء وعناء وعنت «2»(3/138)
منزل ما يثبت المرء به ... سالما إلّا قليلا إن ثبت
أيها المغرور ما هذا الصّبا ... لو نهيت النفس عنه لانتهت
رحم الله امرأ أنصف من ... نفسه إذ قال خيرا أو سكت
لابن عبد ربه:
ومن قولنا في ذكرت الموت:
من لي إذا جدت بين الأهل والولد ... وكان منّي نحو الموت قيس يدي «1»
والدّمع يهمل والأنفاس صاعدة ... فالدّمع في صبب والنّفس في صعد
ذاك القضاء الذي لا شيء يصرفه ... حتى يفرّق بين الرّوح والجسد
ومن قولنا فيه:
أتلهو بين باطية «2» وزير ... وأنت من الهلاك على شفير؟
فيامن غرّه أمل طويل ... يؤدّيه إلى أجل قصير
أتفرح والمنيّة كلّ يوم ... تريك مكان قبرك في القبور؟
هي الدّنيا فإن سرّتك يوما ... فإنّ الحزن عاقبة السرور
ستسلب كل ما جمّعت منها ... كعارية تردّ المعير
وتعتاض اليقين من التّظنّي ... ودار الحقّ من دار الغرور
ولأبي العتاهية:
وليس من منزل يأويه مرتحل ... إلّا وللموت سيف فيه مسلول
وله أيضا:
ما أقرب الموت منا ... تجاوز الله عنا
كأنه قد سقانا ... بكاسه حيث كنا
وله أيضا:(3/139)
أؤمّل أن أخلّد والمنايا ... يثبن عليّ من كلّ النواحي
وما أدري أمسيت حيّا ... لعلّي لا أعيش إلى الصباح
وقال الغزّال:
أصبحت والله مجهودا على أمل ... من الحياة قصير غير ممتدّ
وما أفارق يوما من أفارقه ... إلّا حسبت فراقي آخر العهد
انظر إليّ إذا أدرجت في كفني ... وانظر إليّ إذا أدرجت في لحدي
واقعد قليلا وعاين من يقيم معي ... ممن يشيّع نعشي من ذوي ودّي
هيهات! كلّهم في شأنه لعب ... يرمي التراب ويحثوه على خدّي
وقال أبو العتاهية:
نعى لك ظلّ الشّباب المشيب ... ونادتك باسم سواك الخطوب
فكن مستعدّا لريب المنون ... فإنّ الذي هو آت قريب
وقبلك داوى الطّبيب المريض ... فعاش المريض ومات الطّبيب
يخاف على نفسه من يتوب ... فكيف ترى حال من لا يتوب؟
وله أيضا:
أخي ادّخر مهما استطعت ... ليوم بؤسك وافتقارك
فلتنزلنّ بمنزل ... تحتاج فيه إلى ادّخارك
وقال أبو الأسود الدؤلي:
أيها الآمل ما ليس له ... ربما غرّ سفيها أمله
ربّ من مات يمنّي نفسه ... حال من دون مناه أجله
والفتى المختال فيما نابه ... ربما ضاقت عليه حيله
قل لمن مثّل في أشعاره ... يهلك المرء ويبقى مثله «1»
نافس المحسن في إحسانه ... فسيكفيك سناء عمله(3/140)
وقال عدي بن زيد العبادي:
أين كسرى كسرى الملوك أنوشر ... وان أم أين قبله سابور
وبنو الأصفر الكرام ملوك الرّ ... وم لم يبق منهم مذكور
أخو الحضرا إذ بناه وإذا دج ... لة تجبى إليه والخابورو «1»
شاده مرمرا وجلّله كل ... سا فللطّير في ذراه وكور
لم يهبه ريب المنون فباد ال ... ملك عنه فبابه مهجور
وتفكّر ربّ الخورنق إذ أص ... بح يوما وللهدى تفكير «2»
سرّه حاله وكثرة ما يم ... لك والبحر معرضا والسّدير «3»
فارعوى قلبه فقال: وما غب ... طة حيّ إلى الممات يصير؟
ثم بعد الفلاح والملك والنّع ... مة وارتهم هناك القبور
ثم صاروا كأنهم ورق ج ... فّ فألوت به الصّبا والدّبور
وقال حريث بن جبلة العذرى:
يا قلب إنك في الأحياء مغرور ... فاذكر وهل ينفعنك اليوم تذكير
حتى متى أنت فيها مدنف وله ... لا يستفزّنك منها البدر والحور
قد بحت بالجهل لا تخفيه عن أحد ... حتى جرت بك أطلاق محاضير «4»
تريد أمرا فما تدري أعاجله ... خير لنفسك أم ما فيه تأخير
فاستقدر الله خيرا وارضينّ به ... فبينما العسر إذا دارت مياسير
وبينما المرء في الأحياء مغتبطا ... والدهر في الرّمس تعفوه الأعاصير
حتى كأن لم يكن إلّا توهّمه ... والدهر في كلّ حاليه دهارير
يبكي الغريب عليه ليس يعرفه ... وذو قرابته في الحيّ مسرور(3/141)
فذاك آخر عهد من أخيك إذا ... ما ضمّنت شلوه اللحد المحافير
قولهم في الطاعون
عمر بن الخطاب وابن الجراح في الطاعون:
قال أبو عبيدة بن الجرّاح لعمر بن الخطاب رضوان الله عليه لما بلغه أن الطاعون وقع في الشام فانصرف بالناس: أفرارا من قدر الله يا أمير المؤمنين؟ قال: لو غيرك قالها يا أبا عبيدة! نعم نفرّ من قدر الله إلى قدر الله؛ أرأيت لو أن لك إبلا هبطت بها واديا له جهتان إحداهما خصيبة والأخرى جديبة، أليس لو رعيت في الخصيبة رعيتها بقدر الله، ولو رعيت الجديبة رعيتها بقدر الله؟ وكان عبد الرحمن بن عوف غائبا فأقبل، فقال: عندي في هذا علم سمعته من رسول الله صلّى الله عليه وسلم، قال: «إذا سمعتم به في أرض فلا تقدموا عليها، وإذا وقع في أرض وأنتم بها فلا تخرجوا فرارا منه» .
فحمد الله عمر، ثم انصرف بالناس.
للوليد بن عبد الملك في مثله:
وقيل للوليد بن عبد الملك حين فرّ من الطاعون: يا أمير المؤمنين، إن الله تعالى بقول: قُلْ لَنْ يَنْفَعَكُمُ الْفِرارُ إِنْ فَرَرْتُمْ مِنَ الْمَوْتِ أَوِ الْقَتْلِ وَإِذاً لا تُمَتَّعُونَ إِلَّا قَلِيلًا
«1» . قال: ذلك القليل نطلب.
من شريح إلى صديق له فر من الطاعون:
العتبي قال: وقع الطاعون بالكوفة، فخرج صديق لشريح إلى النّجف، فكتب إليه شريح: أما بعد؛ فإن الموضع الذي هربت منه لم يسق إلى أجلك تمامه، ولم يسلبه أيامه؛ وإن الموضع الذي صرت إليه لبعين من لا يعجزه طلب، ولا يفوته هرب؛ وإنا وإياك على بساط ملك، والنجف من ذي قدرة لقريب.(3/142)
الحسين في الطاعون الجارف:
لما وقع الطاعون الجارف أطاف الناس بالحسين، فقال: ما أحسن ما صنع بكم ربّكم؛ أقلع مذنب وأنفق ممسك.
لأعرابي هرب من الطاعون:
وخرج أعرابي هاربا من الطاعون فلدغته أفعى في طريقه فمات. فقال أخوه يرثيه:
طاف يبغي نجوة ... من هلاك فهلك
ليت شعري ضلّة ... أيّ شيء قتلك
أجحاف سائل ... من جبال حملك
والمنايا رصد ... للفتى حيث سلك
كلّ شيء قاتل ... حين تلقى أجلك
ابن وهب وابن الزيات:
حكى أن ماء المطر اتصل في وقت من الأوقات، فقطع الحسن بن وهب عن لقاء محمد بن عبد الملك الزيات، فكتب إليه الحسن:
يوضح العذر في تراخي اللّقاء ... ما توالى من هذه الأنواء
فسلام الإله أهديه منّي ... كلّ يوم لسيد الوزراء
لست أدري ماذا أذمّ وأشكو ... من سماء تعوقني عن سماء
غير أني أدعو لهاتيك بالثّ ... كل وأدعو لهذه بالبقاء
ابن الزيات وابن أبي داود:
اتصل بأحمد بن أبي دواد أن محمد بن عبد الملك هجاه بقصيدة فيها تسعون بيتا، فقال:
أحسن من تسعين بيتا سدى ... جمعك معناهّن في بيت(3/143)
ما أحوج الناس إلى مطرة ... تزيل عنهم وضر الزيت «1»
فبلغ قوله محمدا فقال:
يأيها المأفون رأيا لقد ... عرّضت بي نفسك للموت «2»
قيّرتم الملك فلم ننقه ... حتى غسلنا القار بالزيت «3»
الزيت لا يزري بأحسابنا ... أحسابنا معروفة البيت
وقيل لابن أبي داود: لم لا تسأل حوائجك الخليفة بحضرة محمد بن عبد الملك؟
فقال: لا أحب أن أعلمه شأني.
مقتل زيد ابن حسين:
وقد حدث أبو القاسم جعفر، أن محمد الحسني قال: أخبرنا محمد بن زكريا الغلابيّ، قال: حدثنا محمد بن نجيع النّوبختي، قال: حدثنا يحيى أنّ سليمان قال: حدثني أبي، وكان ممن لحق الصحابة، قال: دخلت الكوفة، فإذا أنا برجل يحدث الناس، فقلت: من هذا؟ قالوا: بكر بن الطرماح؛ فسمعته يقول: سمعت زيد بن حسين يقول: لما قتل أمير المؤمنين علي بن أبي طالب عليه السّلام، أتى بنعيه إلى المدينة كلثوم بن عمرو، فكانت تلك الساعة التي أتى فيها أشبه بالساعة التي قبض فيها رسول الله صلّى الله عليه وسلم، من باك وباكية، وصارخ وصارخة، حتى إذا هدأت عبرة البكاء عن الناس، قال أصحاب رسول الله صلّى الله عليه وسلم: تعالوا حتى نذهب إلى عائشة زوج النبي صلّى الله عليه وسلم، فننظر حزنها على ابن عم رسول الله صلّى الله عليه وسلم، فقام الناس جميعا حتى أتوا منزل عائشة رضي الله عنها، فاستأذنوا عليها، فوجدوا الخبر قد سبق إليها، وإذا هي في غمرة الأحزان وعبرة الأشجان، ما تفتر عن البكاء والنحيب منذ وقت سمعت بخبره، فلما نظر الناس إلى ذلك منها انصرفوا؛ فلما كان من غد قيل إنها غدت إلى قبر رسول الله صلّى الله عليه وسلم، فلم يبق في المسجد أحد من المهاجرين إلا استقبلها يسلم عليها،(3/144)
وهي لا تسلم ولا تردّ ولا تطيق الكلام؛ من غزرة الدمعة، وغمرة العبرة، تختنق بعبرتها، وتتعثر في أثوابها، والناس من خلفها، حتى أتت إلى الحجرة، فأخذت بعضادتي «1» الباب، ثم قالت: السّلام عليك يا نبي الهدى، السّلام عليك يا أبا القاسم، السّلام عليك يا رسول الله وعلى صاحبيك، يا رسول الله؛ أنا ناعية إليك أحظى أحبابك، وذاكرة لك أكرم أودّائك «2» عليك، قتل والله حبيبك المجتبى، وصفيّك المرتضى، قتل والله من زوجته خير النساء، قتل والله من آمن ووفى، وإني لنادبة ثكلى، وعليه باكية حرّى، فلو كشف عنك الثرى لقلت إنه قتل أكرمهم عليك، وأحظاهم لديك؛ ولو أمرت أن يجيب النداء لك مني ما تعرضت له منذ اليوم، والله يجري الأمور على السداد.
قال المبرد: عزى أحمد بن يوسف الكاتب ولد الربيع، فقال: عظّم أجركم، ورحم الله فقيدكم؛ وجعل لكم من وراء مصيبتكم حالا يجمع شملكم، ويلم شعثكم، ولا يفرق ملأكم.
وقيل لأعرابية مات لها بنون عدّة: ما فعل بنوك؟ قالت: أكلهم دهر لا يشبع.
وعزى رجل الرشيد فقال: يا أمير المؤمنين، كان لك الأجر لا بك، وكان العزاء لك لا عنك.
لابن عباس:
ومما روي أنّ عبد الله بن عباس رضي الله عنهما نعي إليه ابنه وهو في السفر، فاسترجع ثم قال: عورة سترها الله، ومؤنة كفاها الله، وأجر ساقه الله.
للنبي صلّى الله عليه وسلم في ابنته:
وقال أسامة بن زيد رضي الله عنهما لما عزّي رسول الله صلّى الله عليه وسلم بابنته رقية. قال:(3/145)
«الحمد لله. دفن البنات من المكرمات» . وفي رواية: «من المكرمات دفن البنات» .
ملك كندة وأعرابي عزاه في ابنته:
وقال الغزّال: ماتت ابنة لبعض ملوك كندة، فوضع بين يديه بدرة «1» من الذهب، وقال: من أبلغ في التعزية فهي له! فدخل عليه أعرابي فقال: أعظم الله أجر الملك! كفيت المؤنة! وسترت العورة! ونعم الصهر القبر! فقال له الملك: أبلغت وأوجزت. وأعطاه البدرة.
من أحب الموت ومن كرهه
في بعض الأحاديث: «لا يتمنى أحدكم الموت؛ فعسى أن يكون محسنا فيزداد في إحسانه، أو يكون مسيئا فينزع عن إساءته» .
وقد جاء في الحديث: «يقول الله تبارك وتعالى: إذا أحبّ عبدي لقائي أحببت لقاءه، وإذا كره لقائي كرهت لقاءه» .
وليس معنى هذا الحديث حبّ الموت وكراهته، ولكن معناه من أحب الله أحبه الله، ومن كره الله كرهه الله.
وقال أبو هريرة: كره الناس ثلاثا وأحببتهنّ: كرهوا المرض وأحببته، وكرهوا الفقر وأحببته، وكرهوا الموت وأحببته!
بشر بن منصور:
عبد الأعلى بن حماد قال: دخلنا على بشر بن منصور وهو في الموت، وإذا هو من السرور في أمر عظيم؛ فقلنا له: ما هذا السرور؟ قال: سبحان الله! أخرج من بين الظالمين والحاسدين والمغتابين والباغين وأقدم على أرحم الراحمين ولا أسرّ.(3/146)
الوليد بن عبد الملك وشيخ:
ودخل الوليد بن عبد الملك المسجد، فخرج كل من كان فيه، إلا شيخا قدحناه الكبر؛ فأرادوا أن يخرجوه، فأشار إليهم [الوليد] أن دعوا الشيخ. ثم مضى حتى وقف عليه، فقال له: يا شيخ، تحب الموت؟ قال: لا يا أمير المؤمنين؛ ذهب الشباب وشره، وأتى الكبر وخيره؛ فإذا قمت حمدت الله، وإذا قعدت ذكرته؛ فأنا أحب أن تدوم لي هاتان الخلتان.
النبي صلّى الله عليه وسلم وعبد الله بن عمر:
قال عبد الله بن عمر: جاء رجل إلى رسول الله صلّى الله عليه وسلم، فقال: يا رسول الله، مالي لا أحب الموت؟ قال: «هل لك مال» ؟ قال: نعم. قال: «فقدّمه بين يديك» . قال: لا أطيق ذلك! فقال النبي عليه السّلام: «المرء مع ماله؛ إن قدّمه أحب أن يلحقه، وإن أخره أحب أن يتخلف معه!» وقال الشاعر في كراهية الموت:
قامت تشجّعني هند فقلت لها ... إنّ الشجاعة مقرون بها العطب
لا والذي منع الأبصار رؤيته ... ما يشتهي الموت عندي من له أرب
وقالت الحكماء: الموت كريه.
وقالوا: أشدّ من الموت ما إذا نزل بك أحببت له الموت؛ وأطيب من العيش ما إذا فارقته أبغضت له العيش.
التهجد «1»
للنبي صلّى الله عليه وسلم:
المغيرة بن شعبة قال: قام النبيّ صلّى الله عليه وسلم حتى ورمت قدماه.
وقيل للحسن: ما بال المتهجدين أحسن الناس وجوها؟ قال: إنهم خلوا بالرحمن(3/147)
فأسفر نورهم من نوره.
وكان بعضهم يصلي الليل حتى إذا نظر إلى الفجر، قال: عند الصباح يحمد القوم السّرى.
وقالوا: الشتاء ربيع المؤمنين؛ يطول ليلهم للقيام، ويقصر نهارهم للصيام.
وقال صلّى الله عليه وسلم: «أطعموا الطعام، وأفشوا السّلام، وصلّوا بالليل والناس نيام.
وقال الله تبارك وتعالى: وَبِالْأَسْحارِ هُمْ يَسْتَغْفِرُونَ
«1» .
وهذا يوافق الحديث الذي رواه أبو هريرة عن النبي صلّى الله عليه وسلم: «إن الله تبارك وتعالى ينزل إلى سماء الدنيا في الثلث الأخير من الليل فيقول: هل من سائل فأعطيه، هل من داع فأستجيب له، هل من مستغفر فأغفر له، هل من مستغيث فأغيثه» .
المغيرة والنخعي:
أبو عوانة عن المغيرة قال: قلت لإبراهيم النّخعي: ما تقول في الرجل يرى الضوء بالليل؟ قال: هو من الشيطان، لو كان خيرا لأريه أهل بدر.
البكاء من خشية الله عز وجل
قال النبي صلّى الله عليه وسلم: «حرّم الله على النّار كلّ عين تبكي من خشية الله، وعين غضت عن محارم الله» .
وكان يريد الرقاشي قد بكى حتى سقطت أشفار «2» عينيه.
وقيل لغالب بن عبد الله: أما تخاف على عينيك من العمى من طول البكاء؟ فقال:
شفاءها أريد.
وقيل ليزيد بن مزيد: ما بال عينك لا تجف؟ قال: أي أخي، إن الله أوعدني إن عصيته أن يحبسني في النار: ولو أوعدني أن يحبسني في الحمّام لكنت حريّا أن لا تجف عيني.(3/148)
قال عمر بن ذرّ لأبيه: مالك إذا تكلمت أبكيت الناس، فإذا تكلم غيرك لم يبكهم؟ قال: يا بني، ليست النائحة الثكلى مثل النائحة المستأجرة.
وقال الله لنبي من أنبيائه: هب لي من قلبك الخشوع، ومن عينيك الدموع؛ ثم ادعني أستجب لك.
ومن قولنا في البكاء:
مدامع قد خدّدت في الخدود ... وأعين مكحولة بالهجود
ومعشر أوعدهم ربّهم ... فبادروا خشية ذاك الوعيد
فهم عكوف في محاريبهم ... يبكون من خوف عقاب المجيد
قد كاد أن يعشب من دمعهم ... ما قابلت أعينهم في السّجود
وقال قيس بن الأصمّ في هذا المعنى:
صلّي الإله على قوم شهدتهم ... كانوا إذا ذكروا أو ذكّروا شهقوا
كانوا إذا ذكروا نار الجحيم بكوا ... وإن تلا بعضهم مخوّفا صعقوا
من غير همز من الشيطان يأخذهم ... عند التّلاوة إلا الخوف والشّفق «1»
صرعى من الحزن قد سجّوا ثيابهم ... بقيّة الرّوح في أوداجهم رمق «2»
حتى تخالهم لو كنت شاهدهم ... من شدّة الخوف والإشفاق قد زهقوا
النهي عن كثرة الضحك
في الحديث المرفوع: «كثرة الضحك تميت القلب وتذهب بهاء المؤمن» .
وفيه: «لو علمتم ما أعلم لبكيتم كثيرا ولضحكتم قليلا» .
وفيه: «إن الله يكره لكم العبث في الصلاة: والرفث «3» في الصيام، والضحك في الجنائز» .(3/149)
الحسن وقوم يضحكون:
ومر الحسن بقوم يضحكون في شهر رمضان، فقال: يا قوم، إنّ الله جعل رمضان مضمارا لخلقه يتسابقون فيه إلى رحمته؛ فسبق أقوام ففازوا، وتخلف أقوام فخابوا؛ فالعجب من الضاحك اللاهي في اليوم الذي فاز فيه السابقون، وخاب فيه المتخلفون! أما والله لو كشف الغطاء لشغل محسنا إحسانه ومسيئا إساءته.
عبد الله وضاحك:
ونظر عبد الله بن ثعلبة إلى رجل يضحك مستغرقا، فقال له: أتضحك ولعل أكفانك قد أخذت من عند القصّار «1» ؟
وقال الشاعر:
وكم من فتى يمسي ويصبح آمنا ... وقد نسجت أكفانه وهو لا يدري
النهي عن خدمة السلطان وإتيان الملوك
قال عمر بن الخطاب رضي الله عنه: من دخل على الملوك خرج وهو ساخط على الله.
أبو جعفر وسفيان:
أرسل أبو جعفر إلى سفيان، فلما دخل عليه قال: سلني حاجتك أبا عبد الله! قال:
وتقضيها يا أمير المؤمنين؟ قال: نعم. قال: فإن حاجتي إليك أن لا ترسل إليّ حتى آتيك، ولا تعطيني شيئا حتى أسألك! ثم خرج؛ فقال أبو جعفر: ألقينا الحبّ إلى العلماء فلقطوا، إلا ما كان من سفيان الثوري، فإنه أعيانا فرارا.
وقال عمر بن الخطاب رضي الله عنه: الدخول على الأغنياء فتنة للفقراء.(3/150)
وقال زياد لأصحابه: من أغبط الناس عيشا؟ قالوا: الأمير وأصحابه. قال: كلا؛ إنّ لأعواد المنبر لهيبة، ولقرع لجام البريد لفزعة. ولكن أغبط الناس عيشا رجل له دار يسكنها، وزوجة صالحة يأوي إليها، في كفاف من عيش، لا يعرفنا ولا نعرفه؛ فإن عرفنا وعرفناه أفسدنا عليه آخرته ودنياه.
وقال الشاعر:
إنّ الملوك بلاء حيثما حلّوا ... فلا يكن لك في أكنافهم ظل
ماذا تريد بقوم إن هم غضبوا ... جاروا عليك وإن أرضيتهم ملّوا
فاستغن بالله عن إتيانهم أبدا ... إنّ الوقوف على أبوابهم ذلّ
وقال آخر:
لا تصحبنّ ذوي السّلطان في عمل ... تصبح على وجل تمسي على وجل «1»
كل التّراب ولا تعمل لهم عملا ... فالشّرّ أجمعه في ذلك العمل
وفي كتاب كليلة ودمنة: صاحب السلطان مثل راكب الأسد: لا يدري متى يهيج به فيقتله.
مالك بن دينار وسجين:
ودخل مالك بن دينار على رجل في السجن يزوره، فنظر إلى رجل جنديّ قد اتكأ في رجليه كبول «2» قد قرنت بين ساقيه، وقد أتي بسفرة كثيرة الألوان؛ فدعا مالك بن دينار إلى طعامه؛ فقال له: أخشى إن أكلت من طعامك هذا أن يطرح في رجلي مثل كبولك هذه.
وفي كتاب الهند: السلطان مثل النار: إن تباعدت عنها احتجت إليها، وإن دنوت منها أحرقتك.(3/151)
أيوب وأبو قلابة في القضاء:
أيوب السختياني قال: طلب أبو قلابة لقضاء البصرة، فهرب منها إلى الشام، فأقام حينا ثم رجع، قال أيوب فقلت له: لو وليت القضاء وعدلت كان لك أجران.
قال: يا أيوب، إذا وقع السابح في البحر فكم عسى أن يسبح!
إبراهيم يعظ بقية:
وقال بقية: قال لي إبراهيم: يا بقية، كن ذنبا ولا تكن رأسا، فإن الرأس يهلك والذنب ينجو.
ومن قولنا في خدمة السلطان وصحبته:
تجنّب لباس الخزّ إن كنت عاقلا ... ولا تختتم «1» يوما بفصّ زبرجد
ولا تتغلّل بالغوالي تعطّرا ... وتسحب أذيال الملاء المعضّد «2»
ولا تتبختر صيّت النّعل زاهيا ... ولا تتصدّر في الفراش الممهّد
وكن هملا في الناس أغبر شاعثا ... تروح وتغدو في إزار وبرجد «3»
ترى جلد كبش تحته كلّ ما استوى ... عليه سرير فوق صرح ممرّد
ولا تطمح العينان منك إلى امرىء ... له سطوات باللّسان وباليد
تراءت له الدّنيا بزبرج عيشها ... وقادت له الأطماع غير مقوّد
فأسمن كشحيه وأهزل دينه ... ولم يرتقب في اليوم عاقبة الغد «4»
فيوما تراه تحت سوط مجرّدا ... ويوما تراه فوق سرج منضّد «5»
فيرحم تارات ويحسد تارة ... فذا شر مرحوم وذا شرّ محسد
القول في الملوك
الأصمعي قال: بلغني أن الحسن قال: يابن آدم، أنت أسير الجوع، صريع الشبع؛(3/152)
إن قوما لبسوا هذه المطارف «1» العتاق. والعمائم الرقاق، ووسعوا دورهم، وضيقوا قبورهم، وأسمنوا دوابهم، وأهزلوا دينهم، يتكىء أحدهم على شماله، ويأكل من غير ماله فإذا أدركته الكظّة قال: يا جارية، هاتي هاضومك! ويلك! وهل تهضم إلا دينك؟
لمالك:
يحيى بن يحيى قال: جلس مالك يوما فأطرق مليّا، ثم رفع رأسه فقال: يا حسرة على الملوك! لا هم تركوا في نعيم دنياهم، وماتوا قبل أن يموتوا حزنا على ما خلّفوا، وجزعا مما استقبلوا! وقال الحسن، وذكر عنده الملوك: أما إنهم وإن هملجت»
لهم البغال، وأطافت بهم الرجال، وتعاقبت لهم الأموال، إن ذل المعصية في قلوبهم؛ أبى الله إلا أن يذلّ من عصاه!
لعبد الله بن الحسن:
الأصمعي قال: خطب عبد الله بن الحسن على منبر البصرة فأنشد على المنبر:
أين الملوك التي عن حظّها غفلت ... حتى سقاها بكأس الموت ساقيها
بلاء المؤمن في الدنيا
قال النبي صلّى الله عليه وسلم: «المؤمن كالخامة من الزرع: تميل بها الريح مرة كذا ومرة كذا؛ والكافر كالأرزة المجدثة على الأرض يكون انجعافها مرة» .
ومعنى هذا الحديث: تردّد الرزايا على المؤمن، وتجافيها عن الكافر ليزداد إثما.
وقال وهب بن منبه: قرأت في بعض الكتب: إني لأذود عبادي المخلصين عن نعيم(3/153)
الدنيا، كما يذود الراعي الشفيق إبله عن موارد الهلكة.
قال الفضيل بن عياض: ألا ترون كيف يزوي الله الدنيا عمن يحب من خلقه:
يمررها عليه مرة بالجوع، ومرة بالعري، ومرة بالحاجة؛ كما تصنع الأم الشفيقة بولدها: تفطمه بالصبر مرة، ومرة بالحضض «1» ؛ وإنما يريد بذلك ما هو خير له.
وفي الحديث: أن النبي صلّى الله عليه وسلم قال: «أخبرني جبريل عن الله تبارك وتعالى أنه قال: ما ابتليت عبدي ببلية في نفسه أو ماله أو ولده فتلقاها بصبر جميل إلا استحييت يوم القيامة أن أرفع له ميزانا أو أنشر له ديوانا» .
كتمان البلاء إذا نزل
قال النبي صلّى الله عليه وسلم: «من ابتلي ببلاء فكتمه ثلاثة أيام صبرا واحتسابا، كان له أجر شهيد» .
وسمع الفضيل بن عياض رجلا يشكو بلاء نزل به، فقال: يا هذا، تشكو من يرحمك إلى من لا يرحمك.
وقال: من شكا مصيبة نزلت به فكأنما شكا ربّه.
وقال دريد بن الصمة يرثي أخاه عبد الله بن الصمة:
قليل التشكّي للمصائب ذاكرا ... من اليوم أعقاب الأحاديث في غد
وقال تأبط شرا:
قليل التشكّي للملمّ يصيبه ... كثير النّوى شتى الهوى والمسالك «2»
لشريح:
الشيباني قال: أخبرني صديق لي قال: سمعني شريح وأنا أشتكي بعض ما غمّني إلى صديق، فأخذ بيدي وقال: يا بن أخي. إياك والشكوى إلى غير الله؛ فإنه لا يخلو(3/154)
من تشكو إليه أن يكون صديقا أو عدوا؛ فأما الصديق فتحزنه ولا ينفعك، وأما العدو فيشمت بك. انظر إلى عيني هذه- وأشار إلى إحدى عينيه- فو الله ما أبصرت بها شخصا ولا طريقا منذ خمس عشرة سنة، وما أخبرت بها أحدا إلى هذه الغاية.
أما سمعت قول العبد الصالح: إنما أشكو بثّي وحزني إلى الله! فاجعله مشكاك ومحزنك عند كل نائبة تنوبك؛ فإنه أكرم مسئول؛ وأقرب مدعو.
بين عقيل بن أبي طالب وأخيه علي:
كتب عقيل إلى أخيه عليّ بن أبي طالب رضوان الله عليهما، يسأله عن حاله؛ فكتب إليه:
فأن تسألنّي كيف أنت فإنني ... جليد على ريب الزمان صليب
عزيز عليّ أن ترى بي كآبة ... فيفرح واش أو يساء حبيب «1»
وكان ابن شبرمة إذا نزلت به نازلة قال: سحابة صيف عن قليل تقشّع.
وكان يقال: أربع من كنوز الجنة: كتمان المصيبة، وكتمان الصدقة، وكتمان الفاقة، وكتمان الوجع.
القناعة
قال النبي صلّى الله عليه وسلم: «من أصبح وأمسى آمنا في سربه معافى في بدنه، عنده قوت يومه؛ كان كمن حيزت له الدنيا بحذافيرها» .
السّرب: المسلك؛ يقال: فلان واسع السرب: يعني المسلك والمذهب.
وقال قيس بن عاصم: يا بني، عليكم بحفظ المال، فإنه منبهة الكريم، ويستغنى به عن اللئيم؛ وإياكم والمسألة فإنها آخر كسب الرجل.
وقال سعد بن أبي وقاص لابنه: يا بني: إذا طلبت الغنى فاطلبه بالقناعة، فإنها مال لا ينفد؛ وإياك والطمع فإنه فقر حاضر؛ وعليك باليأس، فإنك لم تيأس من(3/155)
شيء قط إلا أغناك الله عنه.
وقالوا: الغنيّ من استغنى بالله، والفقير من افتقر إلى الناس.
وقالوا: لا غنى إلا غنى النفس.
وقيل لأبي حازم: ما مالك؟ قال: مالان: الغنى بما في يدي عن الناس، واليأس عما في أيدي الناس! وقيل لآخر: ما مالك؟ فقال: التجمل في الظاهر، والقصد في الباطن.
وقال آخر:
لا بدّ ممّا ليس منه بدّ ... اليأس حرّ والرجاء عبد
وليس يفني الكدّ إلّا الجدّ
وقالوا: ثمرة القناعة الراحة، وثمرة الحرص التعب.
وقال البحتري:
إذا ما كان عندي قوت يوم ... طرحت الهمّ عنّي يا سعيد
ولم تخطر هموم غد ببالي ... لأنّ غدا له رزق جديد
وقال عروة بن أذينة:
لقد علمت وخير القول أصدقه ... بأنّ رزقي وإن لم يأت يأتيني
أسعى له فيعنّيني تطلّبه ... ولو قعدت أتاني لا يعنّيني «1»
وفد عروة بن أذينة على عبد الملك بن مروان في رجال من أهل المدينة، فقال له عبد الملك: ألست القائل يا عروة:
أسعى له فيعنّيني تطلبه
فما أراك إلا قد سعيت له. فخرج عنه عروة وشخص من فوره ذلك إلى المدينة.
فافتقده عبد الملك، فقيل له: توجّه إلى المدينة. فبعث إليه بألف دينار فلما أتاه(3/156)
الرسول قال: قل لأمير المؤمنين: الأمر على ما قلت؛ قد سعيت له فعنّاني تطلّبه، وقعدت عنه فأتاني لا يعنّيني.
قال النبي صلّى الله عليه وسلم: «إن روح القدس نفث في روعي أنّ نفسا لن تموت حتى تستوفي رزقها. فاتقوا الله وأجملوا في الطلب» .
وقال تعالى فيما حكى عن لقمان الحكيم: يا بُنَيَّ إِنَّها إِنْ تَكُ مِثْقالَ حَبَّةٍ مِنْ خَرْدَلٍ فَتَكُنْ فِي صَخْرَةٍ أَوْ فِي السَّماواتِ أَوْ فِي الْأَرْضِ يَأْتِ بِهَا اللَّهُ، إِنَّ اللَّهَ لَطِيفٌ خَبِيرٌ
«1» .
وقال الحسن: ابن آدم، لست بسابق أجلك، ولا ببالغ أملك، ولا مغلوب على رزق، ولا بمرزوق ما ليس لك؛ فعلام تقتل نفسك؟
قال ابن عبد ربّه: قد أخذت هذا المعنى فنظمته في شعري فقلت:
لست بقاض أملي ... ولا بعاد أجلي
ولا بمغلوب على الرّ ... زق الذي قدّر لي
ولا بمعطى رزق غي ... ري بالشّقا والعمل
فليت شعري ما الّذي ... أدخلني في شغلي
وقال آخر:
سيكون الذي قضي ... غضب المرء أم رضى
سيكون الذي قضي ... غضب المرء أم رضى
وقال محمود الوراق:
أما عجب أن يكفل النّاس بعضهم ... ببعض فيرضى بالكفيل المطالب
وقد كفل الله المليّ بنفسه ... فلم يرض والإنسان فيه عجائب
عليم بأن الله موف بوعده ... وفي قلبه شك على القلب دائب
أبى الجهل إلّا أن يصير بعلمه ... فلم يغن عنه علمه والتّجارب(3/157)
وله أيضا:
أتطلب رزق الله من عند غيره ... وتصبح من خوف العواقب آمنا
وترضى بصرّاف وإن كان مشركا ... ضمينا «1» ، ولا ترضى بربّك ضامنا!
وقال أيضا:
غنى النفس يغنيها إذا كنت قانعا ... وليس بمغنيك الكثير من الحرص
وإنّ اعتقاد الهمّ للخير جامعا ... وقلّة همّ المرء يدعو إلى النّقص
وله أيضا:
من كان ذا مال كثير ولم ... يقنع، فذاك الموسر المعسر
وكلّ من كان قنوعا وإن ... كان مقلا، فهو المكثر
الفقر في النفس وفيها الغنى ... وفي غنى النفس الغنى الأكبر
وقال بكر بن حماد:
تبارك من ساس الأمور بعلمه ... وذلّ له أهل السّموات والأرض
ومن قسم الأرزاق بين عباده ... وفضّل بعض الناس فيها على بعض
فمن ظنّ أنّ الحرص فيها يزيده ... فقولوا له يزداد في الطّول والعرض!
وقال ابن أبي حازم:
ومنتظر للموت في كلّ ساعة ... يشيد ويبني دائبا ويحصّن
له حين تبلوه حقيقة موقن ... وأفعاله أفعال من ليس يوقن
عيان كإنكار، وكالجهل علمه ... يشكّ به في كلّ ما يتيقّن
وقال أيضا:
اضرع إلى الله لا تضرع إلى الناس ... واقنع بيأس فإنّ العزّ في الياس
واستغن عن كلّ ذي قربى وذي رحم ... إنّ الغنيّ من استغنى عن النّاس(3/158)
وله أيضا:
فلا تحرصنّ فإنّ الأمور ... بكفّ الإله مقاديرها
فليس بآتيك منهيّها ... ولا قاصر عنك مأمورها
وله أيضا:
كم إلى كم أنت للحر ... ص وللآمال عبد؟
ليس يجدي الحرص والسّ ... عي إذا لم يك جدّ
ما لما قد قدّر الله ... من الأمر مردّ
قد جرى بالشرّ نحس ... وجرى بالخير سعد
وجرى الناس على جر ... يهما قبل وبعد
أمنوا الدّهر وما ... للدهر والأيام عهد
غالهم فاصطلم الجم ... ع وأفنى ما أعدّوا «1»
إنها الدّنيا- فلا تحف ... ل بها- جزر ومدّ
وقال الأضبط بن قريع:
ارض من الدهر ما أتاك به ... من يرض يوما بعيشه نفعه
قد يجمع المال غير آكله ... ويأكل المال غير من جمعه
وقال مسلم بن الوليد:
لن يبطيء الأمر ما أمّلت أوبته ... إذا أعانك فيه رفق متّئد «2»
والدهر آخذ ما أعطى، مكدّر ما ... أصفى، ومفسد ما أهوى له بيد
فلا يغرنك من دهر عطيّته ... فليس يترك ما أعطى على أحد
وقال كلثوم العتابي:
تلوم على ترك الغنى باهليّة ... لوى الدهر عنها كل طرف وتالد «3»(3/159)
رأت حولها النّسوان يرفلن في الكسا ... مقلّدة أجيادها بالقلائد
يسرّك أنّي نلت ما نال جعفر ... وما نال يحيى- في الحياة- بن خالد
وأنّ أمير المؤمنين أعضّني ... معضّهما بالمرهفات الحدائد «1»
ذريني تجئنى منيتي مطمئنّة ... ولم أتجشّم هول تلك الموارد
فإن الذي يسمو إلى الرتب العلى ... سيرمى بألوان الفرى والمكايد «2»
وجدت لذاذات الحياة مشوبة ... بمستودعات في بطون الأساود
وقال:
حتى متى أنا في حلّ وترحال ... وطول شغل بإدبار وإقبال
ونازح الدار ما أنفك مغتربا ... عن الأحبّة ما يدرون ما حالي
بمشرق الأرض طورا ثم مغربها ... لا يخطر الموت من حرص على بالي
ولو قنعت أتاني الرزق في دعة ... إن القنوع الغنى، لا كثرة المال
وقال عبد الله بن عباس: القناعة مال لا نفاد له.
وقال علي بن أبي طالب رضي الله عنه، الرزق رزقان: فرزق تطلبه، ورزق يطلبك فإن لم تأته أتاك.
وقال حبيب:
فالرّزق لا تكمد عليه فإنه ... يأتي ولم تبعث إليه رسولا «3»
وفي كتاب للهند: لا ينبغي للملتمس أن يلتمس من العيش إلا الكفاف الذي به يدفع الحاجة عن نفسه، وما سوى ذلك إنما هو زيادة في تعبه وغمه.
ومن هذا قالت الحكماء: أقل الدنيا يكفي وأكثرها لا يكفي! وقال أبو ذؤيب:(3/160)
والنفس راغبة إذا رغّبتها ... وإذا تردّ إلى قليل تقنع
وقال المسيح عليه السّلام: عجبا منكم! إنكم تعملون للدنيا وأنتم ترزقون فيها بلا عمل، ولا تعملون للآخرة وأنتم لا ترزقون فيها إلا بالعمل.
وقال الحسن: عيّرت اليهود عيسى عليه السّلام بالفقر؛ فقال: من الغنى أتيتم.
أخذ هذا المعنى محمود الورّاق فقال:
يا عائب الفقر ألا تزدجر ... عيب الغنى أكثر لو تعتبر
من شرف الفقر ومن فضله ... على الغنى إن صحّ منك النظر:
... أنّك تعصى كي تنال الغنى ... ولست تعصى الله كي تفتقر
لإبراهيم:
سفيان عن مغيرة عن إبراهيم قال: كانوا يكرهون الطلب في أطارف الأرض.
وقال الأعمش: أعطاني البنانيّ مضاربه «1» أخرج بها إلى ماء، فسألت إبراهيم، فقال لي: ما كانوا يطلبون الدنيا هذا الطلب وبين ماء وبين الكوفة عشرة أيام.
ليونس بن حبيب:
الأصمعي عن يونس بن حبيب قال: ليس دون الإيمان غنى ولا بعده فقر.
قيل لخالد بن صفوان: ما أصبرك على هذا الثوب الخلق! قال: ربّ مملول لا يستطاع فراقه.
بين حكيمين:
وكتب حكيم إلى حكيم يشكو إليه دهره: إنه ليس من أحد أنصفه زمانه فتصرّفت به الحال حسب استحقاقه، وإنك لا ترى الناس إلا أحد رجلين: إما مقدّم أخّره حظّه، أو متأخر قدّمه جدّه؛ فارض بالحال التي أنت عليها. وإن كانت دون أملك واستحقاقك اختيارا، وإلا رضيت بها اضطرارا.(3/161)
وقيل للأحنف بن قيس: ما أصبرك على هذا الثوب؟ فقال: أحق ما صبر عليه ما ليس إلى مفارقته سبيل.
بين الأصمعي وأعرابية:
قال الأصمعي: رأيت أعرابية ذات جمال تسأل بمنى: فقلت لها: يا أمة الله، تسألين ولك هذا الجمال؟ قالت: قدّر الله فما أصنع؟ قلت: فمن أين معاشكم؟
قالت: هذا الحاج، نسقيهم ونغسل ثيابهم. قلت: فإذا ذهب الحاجّ فمن أين؟ فنظرت إليّ وقالت: يا صلت «1» الجبين، لو كنا نعيش من حيث نعلم ما عشنا! وقيل لرجل من أهل المدينة: ما أصبرك على الخبز والتمر! قال: ليتهما صبرا عليّ.
الرضا بقضاء الله
قالت الحكماء: أصل الزهد الرضا عن الله.
وقال الفضيل بن عياض: استخيروا الله ولا تتخيروا عليه؛ فربما اختار العبد أمرا هلاكه فيه.
وقالت الحكماء: رب محسود على رخاء هو شقاؤه، ومرحوم من سقم هو شفاؤه، ومغبوط بنعمة هي بلاؤه.
وقال الشاعر:
قد ينعم الله بالبلوى وإن عظمت ... ويبتلي الله بعض القوم بالنّعم
وقالوا: من طلب فوق الكفاية، رجع من الدهر إلى أبعد غاية.(3/162)
من قتر على نفسه وترك المال لوارثه
لمالك:
زياد عن مالك قال: من لم يكن فيه خير لنفسه لم يكن فيه خير لغيره؛ لأن نفسه أولى الأنفس كلها؛ فإذا ضيّعها فهو لما سواها أضيع؛ ومن أحب نفسه حاطها وأبقى عليها وتجنب كل ما يعيبها أو ينقصها؛ فجنبها السرقة مخافة القطع، والزنا مخافة الحدّ، والقتل خوف القصاص.
الرشيد وبطريق هرقلة:
داود بن علي الكاتب قال: لما افتتح هارون الرشيد هرقلة وأباحها ثلاثة أيام، وكان بطريقها الخارج عليه «فسيل» الرومي؛ فنظر إليه الرشيد مقبلا على جدار فيه كتاب باليونانية وهو يطيل النظر فيه. فدعا به وقال له: لم تركت النظر إلى الانتهاب والغنيمة وأقبلت على هذا الجدار تنظر فيه؟ فقال: يا أمير المؤمنين، قرأت في هذا الجدار كتابا هو أحب إليّ من هرقلة «1» وما فيها. قال له الرشيد: ما هو؟
قال «بسم الله الملك الحق المبين. ابن آدم، غافص «2» الفرصة عند إمكانها، وكل الأمور إلى وليها. ولا تحمل على قلبك همّ يوم ولم يأت بعد؛ إن يكن من أجلك يأتك الله برزقك فيه؛ ولا تجعل سعيك في طلب المال أسوة المغرورين، فربّ جامع لبعل حليلته، واعلم أن تقتير المرء على نفسه هو توفير منه على غيره، فالسعيد من اتعظ بهذه الكلمات ولم يضيعها» قال له الرشيد: أعدها عليّ يا فسيل. فأعادها عليه حتى حفظها.
وقال الحسن: ابن آدم، أنت أسير في الدنيا، رضيت من لذتها بما ينقضي، ومن نعيمها بما يمضي، ومن ملكها بما ينفد، فلا تجمع الأوزار لنفسك، ولأهلك الأموال، فإذا متّ حملت الأوزار إلى قبرك وتركت أموالك لأهلك.(3/163)
أخذ أبو العتاهية هذا المعنى فقال:
أبقيت مالك ميراثا لوارثه ... فليت شعري ما أبقى لك المال؟
القوم بعدك في حال تسوءهم ... فكيف بعدهم دارت بك الحال؟
ملوا البكاء فما يبكيك من أحد ... واستحكم القيل في الميراث والقال!
وفي الحديث المرفوع: «أشدّ الناس حسرة يوم القيامة رجل كسب مالا من غير حلّه فدخل به النار، وورثه من عمل فيه بطاعة الله فدخل به الجنة» .
لابن عمر في وفاة ابن حارثة:
وقيل لعبد الله بن عمر: توفى زيد بن حارثة وترك مائة ألف. قال: لكنها لا تتركه.
الحسن وابن الأهتم في مرضه:
ودخل الحسن على عبد الله بن الأهتم يعوده في مرضه، فرآه يصعّد بصره في صندوق في بيته ويصوّبه، ثم التفت إلى الحسن فقال: أبا سعيد، ما تقول في مائة ألف في هذا الصندوق لم أؤدّ منها زكاة ولم أصل منها رحما؟ فقال له: ثكلتك أمّك! ولمن كنت تجمعها؟ قال: لروعة الزمان، وجفوة السلطان، ومكاثرة العشيرة. ثم مات، فشهد الحسن جنازته، فلما فرغ من دفنه ضرب بيده على القبر ثم قال:
انظروا إلى هذا، أتاه شيطانه فحذره روعة زمانه، وجفوة سلطانه، ومكاثرة عشيرته، عما استودعه الله إياه، وغمره فيه، انظروا إليه يخرج منها مذموما مدحورا «1» .
ثم قال: أيها الوارث، لا تخدعنّ كما خدع صويحبك بالأمس، أتاك هذا المال حلالا فلا يكوننّ عليك وبالا، أتاك عفوا صفوا، ممن كان له جموعا منوعا؛ من باطل جمعه، ومن حق منعه؛ قطع فيه لجج البحار، ومفاوز القفار؛ لم تكدح فيه(3/164)
بيمين، ولم يعرق لك فيه جبين؛ إن يوم القيامة يوم حسرة وندامة، وإن من أعظم الحسرات غدا أن ترى مالك في ميزان غيرك؛ فيالها حسرة لا تقال، وتوبة لا تنال.
هشام بن عبد الملك حين حضرته الوفاة:
لما حضرت هشام بن عبد الملك الوفاة، نظر إلى أهله يبكون عليه، فقال: جاد لكم هشام بالدنيا وجدتم له بالبكاء، وترك لكم ما جمع، وتركتم عليه ما حمل؛ ما أعظم منقلب هشام إن لم يغفر الله له.
نقصان الخير وزيادة الشر
عاصم بن حميد عن معاذ بن جبل قال: إنكم لن تروا من الدنيا إلا بلاء، وفتنة، ولا يزيد الأمر إلا شدّة، ولا الأئمة إلا علظا، وما يأتيكم أمر يهولكم إلا حقّره ما بعده.
قال الشاعر:
الخير والشر مزداد ومنتقص ... فالخير منتقص والشر مزداد
وما أسائل عن قوم عرفتهم ... ذوي فضائل إلا قبل قد بادوا «1»
العزلة عن الناس
قال النبي صلّى الله عليه وسلم: «استأنسوا بالوحدة عن جلساء السوء» .
وقال: إن الإسلام بدأ غريبا ولا تقوم الساعة حتى يعود غريبا كما بدأ.
وقال العتابي: ما رأيت الراحة إلا مع الخلوة، ولا الأنس إلا مع الوحشة.
وقال النبي صلّى الله عليه وسلم: «خيركم الأتقياء الأصفياء الذين إذا حضروا لم يعرفوا وإذا غابوا لم يفتقدوا» .
وقال: «لا تدعوا حظكم من العزلة؛ فإن العزلة لكم عبادة» .(3/165)
للقمان يعظ ابنه:
وقال لقمان لابنه: استعذ بالله من شرار الناس، وكن من خيارهم على حذر.
وقال إبراهيم بن أدهم: فرّ من الناس فرارك من الأسد.
وقيل لإبراهيم بن أدهم: لم تجتنب الناس؟ فأنشأ يقول:
ارض بالله صاحبا ... وذر الناس جانبا
قلّب الناس كيف شئت تجدهم عقاربا
لابن الزيات:
وكان محمد بن عبد الملك الزيات يأنس بأهل البلادة ويستوحش من أهل الذكاء؛ فسئل عن ذلك فقال: مؤنة التحفظ شديدة! وقال ابن محيريز: إن استطعت أن تعرف ولا تعرف، وتسأل ولا تسأل، وتمشي ولا يمشى إليك، فافعل.
وقال أيوب السختياني: ما أحب الله عبدا إلا أحب أن لا يشعر به.
وقيل للعتابي: من تجالس اليوم؟ قال: من أبصق في وجهه ولا يغضب! قيل له:
ومن هو؟ قال: الحائط.
وقيل لدعبل الشاعر: ما الوحشة عندك؟ قال: النظر إلى الناس! ثم أنشأ يقول:
ما أكثر الناس لا بل ما أقلّهم ... الله يعلم أنّي لم أقل فندا «1»
إني لأفتح عيني حين أفتحها ... على كثير ولكن لا أرى أحدا
وقال ابن أبي حازم:
طب عن الإمرة نفسا ... وارض بالوحشة أنسا
ما عليها أحد يسوى ... على الخبرة فلسا
وقال آخر:(3/166)
قد بلوت الناس طرّا ... لم أجد في الناس حرّا
صار أحلى الناس في الع ... ين إذا ما ذيق مرّا
إعجاب الرجل بعمله
قال عمر بن الخطاب: ثلاث مهلكات، شحّ مطاع، وهوى متّبع، وإعجاب المرء بنفسه.
وفي الحديث: «خير من العجب بالطاعة، أن لا تأتي طاعة» .
وقالوا: ضاحك معترف بذنبه، خير من باك مدلّ على ربه.
وقالوا: سيّئة تسيئك، خير من حسنة تعجبك.
وقال الله تبارك وتعالى: أَلَمْ تَرَ إِلَى الَّذِينَ يُزَكُّونَ أَنْفُسَهُمْ بَلِ اللَّهُ يُزَكِّي مَنْ يَشاءُ
«1» .
وقال الحسن: ذمّ الرجل لنفسه في العلانية مدح لها في السريرة.
وقالوا: من أظهر عيب نفسه فقد زكاها.
وقيل: أوحى الله إلى عبده داود: يا داود، خالق «2» الناس بأخلاقهم واحتجز الإيمان بيني وبينك.
وقال ثابت البناني: دخلت على داود، فقال لي: ما جاء بك؟ قلت، أزورك.
قال: ومن أنا حتى تزورني؟ أمن العباد أنا؟ لا والله! أم من الزهاد؟ لا والله! ثم أقبل على نفسه يوبّخها. فقال: كنت في الشبيبة فاسقا، ثم شبت فصرت مرائيا؛ والله إن المرائي شر من الفاسق.
بين عابدين:
لقي عابد عابدا، فقال أحدهما لصاحبه: والله إني أحبك في الله. قال: والله لو اطلعت على سريرتي لأبغضتني في الله.(3/167)
معاوية وبعض الرجال:
وقال معاوية بن أبي سفيان لرجل: من سيد قومك؟ قال: أنا! قال: لو كنت كذلك لم تقله.
وقال محمود الوراق:
تعصي الإله وأنت تظهر حبّه ... هذا محال في القياس بديع
لو كنت تضمر حبّه لأطعته ... إن المحبّ لمن أحبّ مطيع
في كل يوم يبتليك بنعمة ... منه وأنت بشكر ذاك مضيع
تواضع ابن سيرين:
وقال أبو الأشعث: دخلنا على ابن سيرين فوجدناه يصلي، فظن أنّا عجبنا بصلاته، فلما انفتل منها التفت لنا فقال: الرياء أخاف.
للنبي صلّى الله عليه وسلم:
زياد عن مالك قال: قال النبي صلّى الله عليه وسلم: «إياكم والشّرك الأصغر. قالوا: وما الشّرك الأصغر يا رسول الله؟ قال: الرياء» .
وقال عبد الله بن مسعود: سمعت النبي صلّى الله عليه وسلم يقول: «لا رياء ولا سمعة «1» ، من سمّع الله به.
وقال صلّى الله عليه وسلم: «ما أسرّ امرؤ سريرة إلّا ألبسه الله رداءها: إن خيرا فخير، وإن شرّا فشرّ.
للقمان يعظ ابنه:
وقال لقمان الحكيم لابنه: احذر واحدة هي أهل للحذر. قال: وما هي؟ قال:
إياك أن تري الناس أنك تخشى الله وقلبك فاجر.(3/168)
وفي الحديث. «من أصلح سريرته أصلح الله علانيته» .
وقال الشاعر:
وإذا أظهرت شيئا حسنا ... فليكن أحسن منه ما تسرّ
فمسرّ الخير موسوم به ... ومسرّ الشّرّ موسوم بشرّ
للأشعث في تخفيف الصلاة:
صلى أشعث فخفف الصلاة، فقيل له: ما أخف صلاتك! قال: إنه لم يخالطها رياء.
وصلى رجل من المرائين، فقيل له: ما أحسن صلاتك! فقال: ومع ذلك إني صائم!
بين طاهر والمروزي:
وقال طاهر بن الحسين لأبي عبد الله المروزي: كم لك منذ نزلت بالعراق؟ قال:
منذ عشرين سنة، وأنا أصوم الدهر منذ ثلاثين سنة. قال: أبا عبد الله، سألناك عن مسألة فأجبتنا عن مسألتين.
ابن الخطاب:
الأصمعي قال: أخبرني إبراهيم بن القعقاع بن حكيم قال: أمر عمر بن الخطاب لرجل بكيس، فقال الرجل: آخذ الخيط؟ قال عمر: ضع الكيس!
بين الحسن وبعضهم:
قال رجل للحسن وكتب عنك؟؟؟ كتابا: أتجعلني في حلّ من تراب حائطك؟ قال: يا ابن أخي، بلى، ورعك لا ينكر.
وقال محمود الوراق:
أظهروا للناس دينا ... وعلى الدّينار داروا(3/169)
وله صاموا وصلّوا ... وله حجّوا وزاروا
لو بدا فوق الثّريّا ... ولهم ريش لطاروا!
وقال مساور الوراق:
شمّر ثيابك واستعدّ لقائل ... واحكك جبينك للقضاء بثوم
وعليك بالغنوى فاجلس عنده ... حتى تصيب وديعة ليتيم
وإذا دخلت على الرّبيع مسلّما ... فاخصص سبابة منك بالتّسليم
وقال:
تصوّف كي يقال له أمين ... وما معنى التّصوّف والأمانه
ولم يرد الإله به ولكن ... أراد به الطريق إلى الخيانه
وقال الغزال:
يقول لي القاضي معاذ مشاورا ... وولّى امرأ فيما يرى من ذوي العدل
قعيدك ماذا تحسب المرء فاعلا ... فقلت وماذا يفعل الدّبر في النحل «1»
يدقّ خلاياها ويأكل شهدها ... ويترك للذّبّان ما كان من فضل
وقال أبو عثمان المازني لبعض من راءى فهتك الله عز وجل ستره:
بينا أنا في توبتي مستعبرا ... قد شبّهوني بأبي دواد
وقد حملت العلم مستظهرا ... وحدّثوا عني بإسناد
إذ خطر الشيطان لي خطرة ... نكست منها في أبي جاد «2»
أبو العتاهية ومتصوف:
وقال ابن أبي العتاهية: أرسلني أبي إلى صوفيّ قد قيّر «3» إحدى عينيه أسأله عن المعنى في ذلك؛ فقال: النظر إلى الدنيا بكلتا عينيّ إسراف. قال: ثم بدا له في ذلك، فاتصل الخبر بأبي فكتب إليه:(3/170)
مقيّر عينه ورعا ... أردت بذلك البدعا
خلعت وأخبث الثقلين صوفيّ إذا خلعا «1»
فخ الإسرائيلي والعصفورة:
يحيى بن عبد العزيز قال: حدّثني نعيم عن إسماعيل، رجل من ولد أبي بكر الصديق، عن وهب بن منبه، قال: نصب رجل من بني إسرائيل فخّا فجاءت عصفورة فوقعت عليه، فقالت: مالي أراك منحنيا؟ قال: لكثرة صلاتي انحنيت قالت: فمالي أراك بادية عظامك؟ قال: لكثرة صيامي بدت عظامي! قالت: فمالي أرى هذا الصوف عليك؟ قال: لزهادتي في الدنيا لبست الصوف! قالت: فما هذه العصا عندك؟ قال: أتوكأ عليها وأقضي بها حوائجي. قالت: فما هذه الحبة في يديك؟ قال: قربان إن مرّ بي مسكين ناولته إياه! قالت: فإني مسكينة! قال:
فخذيها. فقبضت على الحبة فإذا الفخ في عنقها! فجعلت تقول: قعي قعي! قال:
الخشني: تفسيره: لا غرني ناسك مراء بعدك أبدا.
الدعاء
قال النبي صلّى الله عليه وسلم: «الدعاء سلاح المؤمن» .
وقال: «الدعاء يردّ القدر والبرّ يزيد في العمر» .
وقال: «الدعاء بين الأذان والإقامة لا يردّ» .
وقال النبي صلّى الله عليه وسلم: «استقبلوا البلاء بالدعاء» .
وقال الله تعالى: ادْعُونِي أَسْتَجِبْ لَكُمْ
«2» .
وقال تعالى: فَلَوْلا إِذْ جاءَهُمْ بَأْسُنا تَضَرَّعُوا وَلكِنْ قَسَتْ قُلُوبُهُمْ
«3» .
وقال عبد الله بن عباس: إذا دعوت الله فاجعل في دعائك الصلاة على النبي(3/171)
صلّى الله عليه وسلم؛ فإن الصلاة عليه مقبولة، والله أكرم من أن يقبل بعض دعائك ويردّ بعضا.
وقال سعيد بن المسيب: كنت جالسا بين القبر والمنبر، فسمعت قائلا يقول: اللهم إني أسألك عملا بارّا، ورزقا دارّا، وعيشا قارّا. فالتفتّ فلم أر أحدا.
لعائشة في النبي صلّى الله عليه وسلم:
هشام بن عروة عن أبيه عن عائشة قالت: كنت نائمة مع رسول الله صلّى الله عليه وسلم ليلة النصف من شعبان، فلما لصق جلدي بجلده أغفيت؛ ثم انتبهت، فإذا رسول الله صلّى الله عليه وسلم ليس عندي؛ فأدركني ما يدرك النساء من الغيرة، فلففت مرطي «1» - أما والله ما كان خزّا ولا قزّا، ولا ديباجا، ولا قطنا ولا كتانا، قيل: فما كان يا أمّ المؤمنين؟
قالت: كان سداه من شعر، ولحمته من أوبار الإبل- قالت: فحنوت عليه أطلبه حتى ألفيته كالثوب الساقط على وجهه في الأرض وهو ساجد يقول في سجوده:
«سجد لك خيالي وسوادي، وآمن بك فؤادي؛ هذه يدي وما جنيت بها على نفس. ترجى لكلّ عظيم، فاغفر لي الذنب العظيم» فقلت: بأبي أنت وأمي يا رسول الله، إنك لفي شأن وإني لفي شأن. فرفع رأسه ثم عاد ساجدا فقال: «أعوذ بوجهك الذي أضاءت له السموات السبع والأرضون السبع، من فجأة نقمتك، وتحوّل عافيتك؛ ومن شر كتاب قد سبق؛ وأعوذ برضاك من سخطك، وبغفوك من عقوبتك، وبك منك، لا أحصى ثناء عليك، أنت كما أثنيت على نفسك» .
فلما انصرف من صلاته تقدمت أمامه حتى دخلت البيت ولي نفس عال، فقال:
مالك يا عائشة؟ فأخبرته الخبر، فقال: ويح هاتين الركبتين ما لقيتا في هذه الليلة! ومسح عليهما؛ ثم قال: أتدرين أي ليلة هذه يا عائشة؟ فقلت: الله ورسوله أعلم. فقال صلّى الله عليه وسلم: «هذه الليلة ليلة النّصف من شعبان، فيها تؤقت الآجال وتثبت الأعمال» .(3/172)
ابن ذر ودعاء له:
العتبي عن أبيه قال: خرجت مع عمر بن ذرّ إلى مكة، فكان إذا لبّى لم يلبّ أحد من حسن صوته؛ فلما جاء الحرم قال يا رب، ما زلنا نهبط وهدة ونصعد أكمة، ونعلو نشرا، ويبدو لنا علم، حتى جئناك بها نقبة «1» أخفافها، دبرة «2» ظهورها، ذابلة أسنمتها؛ وليس أعظم المؤنة علينا إتعاب أبداننا، ولكن أعظم المؤنة علينا أن ترجعنا خائبين من رحمتك، يا خير من نزل به النازلون.
وكان آخر يدعو بعرفات: يا ربّ، لم أعصك إذ عصيتك جهلا مني بحقك، ولا استخفافا بعقوبتك؛ ولكن الثقة بعفوك، والاغترار بسترك المرخى عليّ، مع الشّقوة»
الغالبة والقدر السابق؛ فالآن من عذابك من يستنقذني؟ وبحبل من أعتصم إن قطعت حبلك عني؟ فيا أسفي على الوقوف بين يديك، إذا قيل للمخفّين جوزوا، وللمذنبين حطوا.
لعروة بن الزبير في مناجاته:
أبو الحسن قال: كان عروة بن الزبير يقول في مناجاته بعد أن قطعت رجله ومات ابنه: كانوا أربعة- يعني بنيه- فأخذت واحدا وأبقيت ثلاثة؛ وكنّ أربعا- يعني يديه ورجليه- فأخذت واحدة وأبقيت ثلاثا؛ فلئن ابتليت لطالما عافيت، ولئن عاقبت لطالما أنعمت.
وكان داود إذا دعا في جوف الليل يقول: نامت العيون، وغارت النجوم وأنت حيّ قيوم: اغفر لي ذنبي العظيم، فإنه لا يغفر الذنب العظيم إلا العظيم؛ إليك رفعت رأسي، نظر العبد الذليل إلى سيده الجليل.
وكان من دعاء يوسف: يا عدّتي عند كربتي، ويا صاحبي في غربتي، ويا غياثي(3/173)
عند شدتي، ويا رجائي إذا انقطعت حيلتي، اجعل لي فرجا ومخرجا.
وكان عبد الله بن ثعلبة البصري يقول: اللهم أنت من حلمك تعصى فكأنك لا ترى، وأنت من جودك وفضلك تعطى فكأنك لا تعصى، وأيّ زمان لم تعصك فيه سكان أرضك فكنت عليهم بالعفو عوّادا، وبالفضل جوادا.
وكان من دعاء عليّ بن الحسين رضي الله عنهما: اللهم إني أعوذ بك أن تحسن في مرأى العيون علانيتي، وتقبح في خفيّات القلوب سريرتي؛ اللهم كما أسأت فأحسنت إليّ ... فإذا عدت فعد عليّ، وارزقني مواساة من قتّرت عليه ما وسّعت عليّ.
دعاء لبعضهم:
الشيباني قال: أصاب الناس ببغداد ريح مظلمة، فانتهيت إلى رجل في المسجد وهو ساجد يقول في سجوده: اللهم احفظ محمدا في أمته، ولا تشمت بنا أعداءنا من الأمم؛ فإن كنت أخذت العوام بذنبي، فهذه ناصيتي بين يديك! وكان الفضيل بن عياض يقول: إلهي، لو عذبتني بالنار لم يخرج حبّك من قلبي، ولم أنس أياديك عندي في دار الدنيا! وقال عبد الله بن مسعود: اللهم وسع عليّ في الدنيا وزهّدني فيها، ولا تزوها «1» عني وترغّبني فيها.
أبو الدرداء ورجل في سجوده:
مرّ أبو الدرداء برجل يقول في سجوده: اللهم إني سائل فقير فأغنني من سعة فضلك، خائف مستجير فأجرني من عذابك.
الأصمعي قال: كان عطاء بن أبي رباح يقول في دعائه: اللهم ارحم في الدنيا غربتي، وعند الموت صرعتي، وفي القبور وحدتي، ومقامي غدا بين يديك.(3/174)
ابن زياد وأبو بكر بن عبد الله:
العتبي قال: حدّثني عبد الرحمن بن زياد قال: اشتكى أبي فكتب إلى أبي بكر بن عبد الله يسأله أن يدعو له، فكتب إليه: حقّ لمن عمل ذنبا لا عذر له فيه، وخاف موتا لا بد له منه، أن يكون [وجلا] مشفقا؛ سأدعو لك ولست أرجو أن يستجاب لي بقوة في عمل، ولا براءة من ذنب.
من دعاء عبد الملك ابن مروان:
العتبي قال: كان عبد الملك بن مروان يدعو على المنبر: يا رب؛ إن ذنوبي قد كثرت وجلّت عن أن توصف، وهي صغيرة في جنب عفوك، فاعف عني.
كيف يكون الدعاء
لابن عباس:
سفيان بن عيينة عن أبي معبد عن عكرمة عن ابن عباس قال: الإخلاص هكذا- وبسط يده اليسرى وأشار بأصبعه من يده اليمنى- والدعاء هكذا- وأشار براحته إلى السماء- والابتهال هكذا، ورفع يديه فوق رأسه وظهورهما إلى وجهه.
بين جعفر بن محمد وسفيان الثوري:
سفيان الثوري قال: دخلت على جعفر بن محمد رضي الله عنهما فقال لي: يا سفيان، إذا كثرت همومك فأكثر من «لا حول ولا قوة إلا بالله العلي العظيم» وإذا تداركت عليك النعم فأكثر من «الحمد لله» وإذا أبطأ عنك الرزق فأكثر من الاستغفار.
وقال عبد الله بن عباس: لا كبيرة مع استغفار، ولا صغيرة مع إصرار.
وقال علي بن أبي طالب رضي الله عنه: عجبا ممن يهلك والنجاة معه! قيل له: وما هي؟ قال: الاستغفار.(3/175)
دعاء النبي صلّى الله عليه وسلم وأبي بكر، الصديق وعمر رضوان الله عليهما
دعاء النبي صلّى الله عليه وسلم:
أم سلمة قالت: كان أكثر دعاء رسول الله صلّى الله عليه وسلم: «يا مقلب القلوب ثبّت قلبي على دينك» .
المغيرة بن شعبة قال: كان رسول الله صلّى الله عليه وسلم إذا سلم من الصلاة يقول: لا إله إلا الله وحده لا شريك له، له الملك وله الحمد وهو على كل شيء قدير.
دعاء أبي بكر:
وكان آخر دعاء أبي بكر الصديق رضي الله عنه في خطبته: اللهم اجعل خير زماني آخره، وخير عملي خواتمه، وخير أيامي يوم لقائك.
دعاء عمر:
وكان آخر دعاء عمر رضي الله عنه في خطبته اللهم لا تدعني في غمرة، ولا تأخذني في غرة، ولا تجعلني مع الغافلين.
الدعاء عند الكرب
للنبي صلّى الله عليه وسلم:
عبد الله بن مسعود قال: كان رسول الله صلّى الله عليه وسلم يقول: «ما من عبد أصابه هم فقال:
اللهم إني عبدك. وابن عبدك وابن أمتك، ناصيتي بيدك، ماض فيّ حكمك، عدل فيّ قضاؤك؛ أسألك بكل اسم سميت به نفسك، أو ذكرته في كتابك، أو علّمته أحدا من خلقك، أو استأثرت به في علم الغيب عندك؛ أن تجعل القرآن ضياء صدري، وربيع قلبي، وجلاء حزني، وذهاب همي. إلا أذهب الله همه وبدّله مكان حزنه فرحا» .(3/176)
وقالوا: كلمات الفرج من كل كرب «لا إله إلا الله الكريم الحليم، سبحان الله ربّ العرش العظيم، والحمد لله رب العالمين.
الكلمات التي تلقى آدم من ربه
اللهم لا إله إلا أنت سبحانك وبحمدك، عملت سوءا وظلمت نفسي، فتب عليّ إنك أنت التواب الرحيم.
اسم الله الأعظم
عبد الله بن يزيد عن أبيه قال: سمع النبي صلّى الله عليه وسلم رجلا يقول: اللهم إني أسألك بأنك أنت الله الأحد الصمد الذي لم يلد ولم يولد ولم يكن له كفوا أحد. فقال النبي صلّى الله عليه وسلم: لقد سألت الله باسمه الأعظم الذي إذا دعي به أجاب وإذا سئل به أعطى.
أسماء بنت يزيد عن النبي صلّى الله عليه وسلم أنه قال: اسم الله الاعظم فيما بين الآيتين:
وَإِلهُكُمْ إِلهٌ واحِدٌ لا إِلهَ إِلَّا هُوَ الرَّحْمنُ الرَّحِيمُ
«1» ، وفاتحة آل عمران الم. اللَّهُ لا إِلهَ إِلَّا هُوَ الْحَيُّ الْقَيُّومُ
«2» .
الاستغفار
للنبي صلّى الله عليه وسلم:
شدّاد بن أوس عن النبي صلّى الله عليه وسلم قال: سيد الاستغفار أن تقول: اللهم أنت ربي لا إله إلا أنت، خلقتني وأنا عبدك وأنا على عهدك ووعدك ما استطعت، أعوذ بك من شرّ ما صنعت، أبوء «3» لك بنعمتك عليّ، وأبوء بذنبي فاغفر لي، إنه لا يغفر الذنوب إلا أنت.(3/177)
لابن مسعود:
الأسود وعلقمة قالا: قال عبد الله بن مسعود: إن في كتاب الله آيتين ما أصاب عبد ذنبا فقرأهما ثم استغفر الله إلا غفر له: وَالَّذِينَ إِذا فَعَلُوا فاحِشَةً أَوْ ظَلَمُوا أَنْفُسَهُمْ ذَكَرُوا اللَّهَ فَاسْتَغْفَرُوا لِذُنُوبِهِمْ وَمَنْ يَغْفِرُ الذُّنُوبَ إِلَّا اللَّهُ وَلَمْ يُصِرُّوا عَلى ما فَعَلُوا وَهُمْ يَعْلَمُونَ
«1» ، وَمَنْ يَعْمَلْ سُوءاً أَوْ يَظْلِمْ نَفْسَهُ ثُمَّ يَسْتَغْفِرِ اللَّهَ يَجِدِ اللَّهَ غَفُوراً رَحِيماً
«2» .
أبو سعيد الخدري قال: من قال: أستغفر الله الذي لا إله إلا هو الحيّ القيوم وأتوب إليه. خمس مرات- غفر له ولو فرّ من الزحف.
دعاء المسافر
للنبي صلّى الله عليه وسلم:
عكرمة عن ابن عباس قال: كان رسول الله صلّى الله عليه وسلم إذا أراد سفرا قال: «اللهم أنت الصاحب في السفر، والخليفة في الحضر؛ اللهم إني أعوذ بك من وعثاء «3» السفر وكآبة المنقلب والحور بعد الكور، ومن سوء المنظر في الأهل والمال» .
لأم سلمة:
الشعبي عن أم سلمة قالت: كان النبي صلّى الله عليه وسلم إذا خرج في سفر يقول: «اللهم إني أعوذ بك أن أزل أو أزل، أو أضلّ أو أضلّ، أو أظلم أو أظلم أو أجهل أو يجهل عليّ» .
وقالت: من خرج في طاعة الله، فقال: اللهم إني لم أخرج أشرا «4» أو بطرا «5» ، ولا(3/178)
رياء ولا سمعة، ولكني خرجت ابتغاء مرضاتك واتقاء سخطك؛ فأسألك بحقك على جميع خلقك أن ترزقني من الخير أكثر مما أرجو، وتصرف عني من الشر أكثر مما أخاف. استجيب له بإذن الله.
الدعاء عند الدخول على السلطان
لابن عباس:
سعيد بن جبير عن ابن عباس قال: إذا دخلت على السلطان المهيب تخاف أن يسطو عليك فقل: الله أكبر، الله أكبر وأعزّ مما أخاف وأحذر، اللهم ربّ السموات السبع وربّ العرش العظيم، كن لي جارا من عبدك فلان وجنوده وأشياعه وأتباعه، تبارك اسمك، وجل ثناؤك، وعزّ جارك، ولا إله غيرك.
المنصور وجعفر ابن محمد:
أبو الحسن المدائني قال: لما حج أبو جعفر المنصور مرّ بالمدينة، فقال للربيع: عليّ بجعفر بن محمد، قتلني الله إن لم أقتله؛ فمطل «1» به، ثم ألح فيه فحضر؛ فلما كشف الستر بينه وبينه ومثل بين يديه، همس جعفر بشفتيه، ثم تقرب وسلّم، فقال: لا سلّم الله عليك يا عدوّ الله! تعمل على الغوائل في ملكي؟ قتلني الله إن لم أقتلك! فقال له جعفر: يا أمير المؤمنين، إن سليمان صلّى الله عليه وسلم أعطي فشكر، وإن أيوب ابتلي فصبر، وإن يوسف ظلم فغفر؛ وأنت على إرث منهم، وأحقّ من تأسّى بهم. فنكس أبو جعفر رأسه مليا، ثم رفع إليه رأسه فقال له: [إليّ] يا أبا عبد الله فأنت القريب القرابة، وأنت ذو الرحم الواشجة «2» ، السليم الناحية، القليل الغائلة. ثم صافحه بيمينه، وعانقه بيساره، وأجلسه معه على فراشه وانحرف له عن بعضه، وأقبل عليه بوجهه يسائله ويحادثه؛ ثم قال: عجّلوا لأبي عبد الله إذنه وكسوته وجائزته. قال الربيع: فلما خرج(3/179)
وخطرف «1» الستر أمسكت بثوبه. فارتاع وقال: ما أرانا يا ربيع إلا وقد حبسنا! قلت: هذه مني لا منه. قال: فذلك أيسر؛ قل حاجتك. قلت: إني منذ ثلاث أدافع عنك وأداري عليك؛ ورأيتك إذ دخلت همست بشفتيك، ثم رأيت الأمر انجلى عنك؛ وأنا خادم سلطان ولا غنى بي عنه؛ فأحب منك أن تعلمنيه ... قال: نعم، قل: اللهم احرسني بعينك التي لا تنام، واكنفني بكنفك الذي لا يرام، ولا أهلك وأنت رجائي؛ فكم من نعمة أنعمتها عليّ قلّ عندها شكري فلم تحرمني، وكم من بلية ابتليتني بها قلّ عندها صبري فلم تخذلني، اللهم بك أدرأ في نحره، وأعوذ بخيرك من شره.
الدعاء على الطعام
من قال على طعامه: «بسم الله خير الأسماء، في الأرض وفي السماء، ولا يضر مع اسمه داء؛ اللهم اجعل فيه الدواء والشفاء» لم يضرّه ذلك الطعام كائنا ما كان.
وكان النبي صلّى الله عليه وسلم إذا فرغ من طعامه قال: «الحمد لله الذي منّ علينا وهدانا، وأطعمنا وأروانا، وكل بلاء حسن أبلانا» .
الدعاء عند الأذان
من قال إذا سمع الأذان: رضيت بالله ربّا. وبالإسلام دينا، وبمحمد نبيا. غفرت له ذنوبه وقال النبي صلّى الله عليه وسلم: إذا سمعتم الأذان فقولوا مثل ما يقول المؤذن.
الدعاء عند الطيرة
«2» قال النبي صلّى الله عليه وسلم: «من رأى من الطير شيئا يكرهه فقال: اللهم لا طير إلا طيرك، ولا خير إلا خيرك، ولا إله غيرك. لم يضرّه» .(3/180)
الساعة التي يستجاب فيها الدعاء
الفضيل عن أبي حازم عن أبي سلمة بن عبد الرحمن عن ناس أصحاب رسول الله صلّى الله عليه وسلم، أنهم أجمعوا أن الساعة التي يستجاب فيها الدعاء آخر ساعة من يوم الجمعة.
التعويذ
أنس بن مالك قال: كان النبي صلّى الله عليه وسلم يقول: «اللهم إني أعوذ بك من علم لا ينفع، وقلب لا يخشع، وعين لا تدمع، ودعاء لا يسمع، ونفس لا تشبع، اللهم إني أعوذ بك من هذه الأربع» .
وقال صلّى الله عليه وسلم: «من قال إذا أمسى وأصبح: أعوذ بكلمات الله التامّات المباركات التي لا يجاوزهنّ برّ ولا فاجر، من شر ما ينزل من السماء، ومن شر ما يعرج فيها، ومن شر ما ذرأ «1» في الأرض وما يخرج منها. لم يضره شيء من الشياطين والهوامّ» .
ما كان يعوذ به النبي صلّى الله عليه وسلم الحسن والحسين:
مسروق عن عائشة رضي الله عنها قالت: كان رسول الله صلّى الله عليه وسلم يعوّذ الحسن والحسين رضي الله عنهما بهذه الكلمات: أعيذكما بكلمات الله التامة، من كل عين لامّة «2» ، ومن كل شيطان وهامّة.
وكان إبراهيم صلّى الله عليه وسلم يعوّذ بها إسماعيل وإسحق.
وقال أعرابي يصف دعوة:
وسارية لم تسر في الأرض تبتغي ... محلّا ولم يقطع بها البيد قاطع
سرت حيث لم تسر الركاب ولم تنخ ... لورد ولم يقصر لها القيد مانع «3»
تظل وراء الليل والليل ساقط ... بأرواقه فيه سمير وهاجع «4»(3/181)
تفتّح أبواب السماء لوفدها ... إذا قرع الأبواب منهنّ قارع
إذا سألت لم يردد الله سؤلها ... على أهلها والله راء وسامع
وإني لأرجو الله حتى كأنما ... أرى بجميل الظنّ ما الله صانع
ومن قولنا في هذا المعنى:
بنيّ لئن أعيا الطبيب ابن مسلم ... ضناك وأعيا ذا البيان الموشّع «1»
لأبتلهن تحت الظلام بدعوة ... متى يدعها داع إلى الله يسمع
تغلغل من بين الضّلوع نشيجها ... لها شافع من عبرة وتضرّع
إلى فارج الكرب المجيب لمن دعا ... فزعت بكربي، إنه خير مفزع
فيا خير مدعوّ دعوتك فاستمع ... ومالي شفيع غير فضلك فاشفع(3/182)
كتاب السدّرّة في النوادي والتعاذي والمراثي
قال أحمد بن محمد بن عبد ربه: قد مضى قولنا في الزهد ورجاله المشهورين: ونحن قائلون بعون الله في النوادب والمراثي، والتهاني والتعازي، بأبلغ ما وجدناه من الفطن الذكية، والألفاظ الشجية، التي ترق القلوب القاسية، وتذيب الدموع الجامدة، مع اختلاف النوادب عند نزول المصائب؛ فنادبة تثير الحزن من ربضته، وتبعث الوجد من رقدته، بصوت كترجيع الطير، وتقطع أنفاس المآتم «1» ، وتترك صدعا في القلوب الجلامد؛ ونادبة تخفض من نشيجها، وتقصد في نحيبها، وتذهب مذهب الصبر والاستسلام، والثقة بجزيل الثواب.
قال عمر بن ذرّ: سألت أبي: ما بال الناس إذا وعظتهم بكوا، وإذا وعظهم غيرك لم يبكوا؟ قال: يا بنيّ، ليست النائحة الثكلى مثل النائحة المستأجرة.
وقال الأصمعي: قلت لأعرابي: ما بال المراثي أشرف أشعاركم؟ قال: لأنا نقولها وقلوبنا محترقة.
وقال الحكماء: أعظم المصائب كلها انقطاع الرجاء.
وقالوا: كلّ شيء يبدو صغيرا ثم يعظم؛ إلا المصيبة؛ فإنها تبدو عظيمة ثم تصغر.(3/183)
القول عند الموت
الأصمعي عن معتمر عن أبيه؛ قال: لقّنوا موتاكم الشهادة، فإذا قالوها فدعوهم ولا تضجروهم.
وقال الحسن: إذا دخلتم على الرجل في الموت فبشّروه؛ ليلقى ربه وهو حسن الظنّ به؛ وإذا كان حيا فخوفوه.
بين أبي بكر وطلحة:
ولقي أبو بكر طلحة بن عبيد الله، فرآه كاسفا متغيّرا لونه، فقال: مالي أراك متغيرا لونك؟ قال: كلمة سمعتها من رسول الله صلّى الله عليه وسلم ولم أسأله عنها. قال: وما ذاك؟ قال: سمعته يقول: «إني أعلم كلمة من قالها عند الموت محصت ذنوبه، ولو كانت مثل زبد البحر» . فأنسيت أن أسأله عنها. قال أبو بكر: وأعلّمكها؟ هي: لا إله إلا الله.
لمعاذ في احتضاره:
أبو الحباب قال: لما احتضر معاذ قال لخادمته: ويحك! هل أصبحنا؟ قالت: لا.
ثم تركها ساعة، ثم قال لها: انظري. فقالت: نعم. قال أعوذ بالله من صباح إلى النار! ثم قال: مرحبا بالموت! مرحبا بزائر جاء على فاقة! لا أفلح من ندم: اللهم إنك تعلم أني لم [أكن] أحبّ في الدنيا لكري الأنهار، وغرس الأشجار؛ ولكن لمكابدة الليل الطويل، وظمإ الهواجر في الحرّ الشديد، ومزاحمة العلماء بالرّكب في مجالس الذكر.
لعمر بن عتبة في مثله:
ولما حضرت الوفاة عمر بن عتبة قال لرفيقه: نزل بي الموت ولم أتأهب له! اللهم إنك تعلم أنه ما سنح لي أمران لك في أحدهما رضا ولي في الآخر هوى إلا آثرت رضاك على هواي.(3/184)
لابن الخطاب في مثله:
ولما حضرت الوفاة عمر بن الخطاب قال لولده عبد الله بن عمر: ضع خدّي على الأرض علّ ربي أن يتعطف عليّ ويرحمني.
للرقاشى في مثله:
ابن السمّاك قال: دخلت على يزيد الرقاشي وهو في الموت. فقال لي: سبقني العابدون وقطع بي؛ والهفاه.
الأسواري وآزاد مرد في احتضاره:
موسى الأسواري قال: دخلت على آزاد مرد وهو ثقيل، فإذا هو كالخفاش لم يبق إلا رأسه؛ فقلت له: يا هذا ما حالك؟ قال: وما حال من يريد سفرا بعيدا بغير زاد، وينطلق إلى ملك عدل بغير حجة، ويدخل قبرا موحشا بغير مؤنس!.
عمر بن عبد العزيز وأبو قلابة:
قال عمر بن عبد العزيز لأبي قلابة وولي غسل ابنه عبد الملك: إذا غسلته وكفنته فآذّني قبل أن تغطي وجهه. ففعل، فنظر إليه وقال: يرحمك الله با بني ويغفر لك.
الحجاج وموت ابنه محمد:
ولما مات محمد بن الحجاج جزع عليه جزعا شديدا، وقال: إذا غسلتموه وكفنتموه فآذنوني. ففعلوا، فنظر إليه وقال متمثلا:
الآن لما كنت أكمل من مشى ... وافتر نابك عن شباة القارح «1»
وتكاملت فيك المروءة كلّها ... وأعنت ذلك بالفعال الصالح
فقيل له: اتق الله واسترجع. فقال: إنا لله وإنا إليه راجعون.(3/185)
عمر بن عبد العزيز وابنه عبد الملك:
وقال عمر بن عبد العزيز لابنه عبد الملك: كيف تجدك يا بنيّ؟ قال: أجدني في الموت فاحتسبني؛ فإن ثواب الله خير لك مني. قال: والله يا بني لأن تكون في ميزاني أحبّ إليّ من أن أكون في ميزانك قال: وأنا والله، لأن يكون ما تحب أحبّ إليّ من أن يكون ما أحب.
مسلمة بن عبد الملك وعمر بن عبد العزيز في احتضاره:
لما احتضر عمر بن عبد العزيز رحمه الله استأذن عليه مسلمة بن عبد الملك، فأذن له وأمره أن يخفف الوقفة؛ فلما دخل وقف عند رأسه فقال: جزاك الله يا أمير المؤمنين عنا خيرا؛ فلقد ألنت لنا قلوبا كانت علينا قاسية، وجعلت لنا في الصالحين ذكرا.
الرسول صلّى الله عليه وسلم في قبضه:
حماد بن سلمة، عن ثابت عن أنس بن مالك، قال: كانت فاطمة جالسة عند رسول الله صلّى الله عليه وسلم؛ فتواكدت «1» عليه كرب الموت؛ فرفع رأسه وقال، واكرباه! فبكت فاطمة وقالت: واكرباه لكربك يا أبتاه! قال، لا كرب على أبيك بعد اليوم!.
الرياشي عن عثمان بن عمر عن إسرائيل عن ميسرة بن حبيب، عن المنهال بن عمرو، عن عائشة بنت طلحة، عن عائشة أم المؤمنين أنها قالت: ما رأيت أحدا من خلق الله أشبه حديثا وكلاما برسول الله صلّى الله عليه وسلم من فاطمة، وكانت إذا دخلت عليه أخذ بيدها فقبلها ورحّب بها وأجلسها في مجلسه؛ وكان إذا دخل عليها قامت إليه ورحبت به وأخذت بيده فقبلتها. فدخلت عليه في مرضه الذي توفي فيه، فأسّر إليها فبكت، ثم أسّر إليها فضحكت، فقلت: كنت أحسب لهذه المرأة فضلا على النساء، فإذا هي واحدة منهنّ؛ بينما هي تبكي إذ هي تضحك! فلما توفي رسول الله(3/186)
صلّى الله عليه وسلم سألتها؛ فقالت: أسّر إليّ فأخبرني أنه ميت فبكيت؛ ثم أسّر إليّ أني أول أهل بيته لحوقا به فضحكت.
عائشة مع أبيها في احتضاره:
القاسم بن محمد عن عائشة أم المؤمنين رضي الله عنها أنها دخلت على أبيها في مرضه الذي مات فيه، فقالت له: يا أبت، اعهد إلي خاصتك، وأنفذ رأيك في عامتك، وانقل من دار جهازك إلى دار مقامك؛ وإنك محضور ومتصل بقلبي لوعتك، وأرى تخاذل أطرافك، وانتقاع لونك؛ فإلى الله تعزيتي عنك، ولديه ثواب حزني عليك، أرقأ فلا أرقأ وأشكو فلا أشكى.
فرفع رأسه فقال: يا بنية، هذا يوم يحلّ فيه عن غطائي؛ وأعاين جزائي، إن فرحا فدائم، وإن نوحا فمقيم؛ إني اضطلعت بإمامة هؤلاء القوم، حين كان النكوص إضاعة، والحذر تفريطا؛ فشهيدي الله ما كان بقلبي إلا إياه؛ فتبلّغت بصحفتهم، وتعللت بدرّة لقحتهم، وأقمت صلاي «1» معهم، لا مختالا أشرا، ولا مكابرا بطرا، لم أعد سدّا لجوعة، وتورية لعورة، طوى ممغص تهفو له الأحشاء وتجب له الأمعاء؛ واضطررت إلى ذلك اضطرار الجرض «2» إلى المعيف «3» الآجن، فإذا أنا متّ فردّي إليهم صحفتهم ولقحتهم وعبدهم ورحاهم، ودثارة ما فوقي اتّقيت بها أذى البرد، ودثارة ما تحتى اتقيت بها أذى الأرض، كان حشوهما قطع السعف.
عمر مع أبي بكر في احتضاره:
ودخل عليه عمر فقال: يا خليفة رسول الله صلّى الله عليه وسلم، لقد كلفت القوم بعدك تعبا، ووليتهم نصبا. فهيهات من شقّ غبارك! وكيف باللحاق بك.
وقالت عائشة وأبوها يغمّض:(3/187)
وأبيض يستسقى الغمام بوجهه ... ربيع اليتامى عصمة للأرامل
فنظر إليها وقال: ذلك رسول الله صلّى الله عليه وسلم. ثم أغمى عليه فقالت:
لعمرك ما يغني الثراء عن الفتى ... إذا حشرجت يوما وضاق بها الصّدر
قالت: فنظر إليّ كالغضبان وقال لي: وَجاءَتْ سَكْرَةُ الْمَوْتِ بِالْحَقِّ ذلِكَ ما كُنْتَ مِنْهُ تَحِيدُ
«1» . ثم قال: انظروا ملاءتيّ فاغسلوهما وكفّنوني فيهما؛ فإن الحي أحوج إلى الجديد من الميت.
وقال معاوية حين حضرته الوفاة:
ألا ليتني لم أغن في الملك ساعة ... ولم أك في الّلذّات أعشى النّواظر «2»
وكنت كذي طمرين عاش ببلغة ... ليالي حتى زار ضنك المقابر «3»
لما ثقل معاوية ويزيد غائب، أقبل يزيد فوجد عثمان بن محمد بن سفيان جالسا، فأخذ بيده ودخل على معاوية وهو يجود بنفسه، فكلمه يزيد فلم يكلمه، فبكى يزيد، وتضوّر «4» معاوية ساعة، ثم قال: أي بني، إن أعظم ما أخاف الله فيه ما كنت أصنع بك يا بنيّ. إني خرجت مع رسول الله صلّى الله عليه وسلم، فكان إذا مضى لحاجته وتوضأ أصب الماء على يديه، فنظر إلى قميص لي قد انخرق من عاتقي، فقال لي: يا معاوية، ألا أكسوك قميصا؟ قلت: بلى. فكساني قميصا لم ألبسه إلا لبسة واحدة، وهو عندي.
واجتزّ ذات يوم فأخذت جزازة شعره، وقلامة أظفاره، فجعلت ذلك في قارورة، فإذا مت يا بني فاغسلني ثم اجعل ذلك الشعر والأظفار في عيني ومنخري وفمي، ثم اجعل قميص رسول الله صلّى الله عليه وسلم شعارا من تحت كفني. إن نفع شي نفع هذا.
لما احتضر عمرو بن العاص، جمع بنيه فقال: يا بنيّ، ما تغنون عني من أمر الله شيئا! قالوا: يا أبت، إنه الموت، ولو كان غيره لوقيناك بأنفسنا. فقال: أسندوني.(3/188)
فأسندوه، ثم قال: اللهم إنك أمرتني فلم أأتمر، وزجرتني فلم أزدجر، اللهم لا قويّ فأنتصر، ولا بريّ فأعتذر، ولا مستكبر بل مستغفر! أستغفرك وأتوب إليك، لا إله إلا أنت سبحانك إني كنت من الظالمين! فلم يزل يكررها حتى مات.
قال: وأخبرنا رجال من أهل المدينة أن عمرو بن العاص قال لبنيه عند موته: إني لست في الشّرك الذي لومت عليه أدخلت النار، ولا في الإسلام الذي لو متّ عليه أدخلت الجنة؛ فمهما قصرت فيه فإني مستمسك بلا إله إلا الله. وقبض عليها بيده، وقبض لوقته؛ فكانت يده تفتح ثم تترك، فتنقبض.
وقال لبنيه: إن أنا مت فلا تبكوا عليّ، ولا يتبعني مادح ولا نائح، وشنّوا «1» عليّ التراب شنا، فليس جنبي الأيمن أولى بالتراب من الأيسر؛ ولا تجعلوا في قبري خشبة ولا حجرا، وإذا واريتموني فاقعدوا عند قبري قدر نحر جزور «2» . وتفصيلها أستأنس بكم.
الجزع من الموت
الفضيل بن عياض قال: ما جزع أحد من أصحابنا عند الموت ما جزع سفيان الثوري، فقلنا: يا أبا عبد الله، ما هذا الجزع، ألست تذهب إلى من عبدته وفررت ببدنك إليه؟ فقال: ويحكم! إني أسلك طريقا لم أعرفه، وأقدم على ربّ لم أره.
حزن سعيد بن أبي الحسن على أخيه:
ولما توفي سعيد بن أبي الحسن وجد عليه أخوه الحسن وجدا شديدا، فكلّم في ذلك، فقال: ما رأيت الله جعل الحزن عارا على يعقوب!(3/189)
الحسن في احتضاره:
وقال صالح المرّي: دخلت على الحسن وهو في الموت، وهو يكثر الاسترجاع؛ فقال له ابنه: أمثلك يسترجع على الدنيا؟ قال: يا بني، ما أسترجع إلا على نفسي التي لم أصب بمثلها قط.
حجر بن الأدبر في موته:
ولما أمر معاوية بقتل حجر بن الأدبر وأصحابه، بعث إليهم أكفانهم وأمر بأن تفتح قبورهم ويقتلوا عليها. فلما قدّم حجر بن الأدبر إلى السيف جزع جزعا شديدا، فقيل له: أمثلك يجزع من الموت؟ فقال: وكيف لا أجزع وأرى سيفا مشهورا وكفنا منشورا وقبرا محفورا.
البكاء على الميت
لإبراهيم:
الشعبي عن إبراهيم قال: لا يكون البكاء إلا من فضل، فإذا اشتد الحزن ذهب البكاء. وأنشد:
فلئن بكيناه لحقّ لنا ... ولئن تركنا ذاك للصّبر
فلمثله جرت العيون دما ... ولمثله جمدت فلم تجر
الأحنف وباكية:
مر الأحنف بامرأة تبكي ميتا ورجل ينهاها، فقال له: دعها فإنها تندب عهدا قريبا وسفرا بعيدا.
للنبي صلّى الله عليه وسلم في وفاة ابنه إبراهيم:
قالوا: لما توفى إبراهيم بن محمد صلّى الله عليه وسلم بكى عليه؛ فسئل عن ذلك فقال: تدمع العينان ويحزن القلب، ولا نقول ما يسخط الربّ.(3/190)
النبي صلّى الله عليه وسلم وباكيات من الأنصار:
ومر النبي صلّى الله عليه وسلم بنسوة من الأنصار يبكين ميتا فزجرهنّ عمر، فقال له النبي صلّى الله عليه وسلم:
«دعهنّ يا عمر، فإن النفس مصابة، والعين دامعة والعهد قريب» .
النبي صلّى الله عليه وسلم وباكيات قتلى أحد:
ولما بكت نساء أهل المدينة على قتلى أحد قال النبي صلّى الله عليه وسلم: «لكن حمزة لا باكية له ذلك اليوم!» فسمع ذلك أهل المدينة، فلم يقم لهم مأتم إلى اليوم إلا ابتدأن فيه البكاء على حمزة.
وقال النبي صلّى الله عليه وسلم: «لولا أن يشقّ على صفية، ما دفنته حتى يحشر من حواصل الطير وبطون السباع.
ابن الخطاب حين نعى إليه ابن مقرن:
ولما نعى النعمان بن مقرّن إلى عمر بن الخطاب وضع يده على رأسه وصاح: يا أسفا على النعمان.
ابن الخطاب حين نعى إليه زيد:
ولما استشهد زيد بن الخطاب باليمامة، وكان صحبه رجل من بني عدي بن كعب؛ فرجع إلى المدينة، فلما رآه عمر دمعت عيناه وقال:
وخلّفت زيدا ثاويا وأتيتني! «1»
وقال عمر بن الخطاب: ما هبت الصّبا إلا وجدت نسيم زيد.
وكان إذا أصابته مصيبة قال: قد فقدت زيدا فصبرت.(3/191)
عمر ووفاة خالد:
ولما توفي خالد بن الوليد أيام عمر بن الخطاب- وكان بينهما هجرة- امتنع النساء من البكاء عليه، فلما انتهى ذلك إلى عمر، قال: وما على نساء بني المغيرة أن يرقن من دمعهن على أبي سليمان ما لم يكن نقع»
ولا لقلقة «2» .
لمعاوية في النساء:
وقال معاوية وذكر عنده النساء: ما مرّض المرضى ولا ندب الموتى مثلهن
لابن عياش:
وقال أبو بكر بن عياش: نزلت بي مصيبة أوجعتني فذكرت قول ذي الرمة:
لعلّ انحدار الدّمع يعقب راحة ... من الوجد أو يشفي شجيّ البلابل
فخلوت، فبكيت، فسلوت.
وقال الفرزدق في هذا المعنى:
ألم ترياني يوم جوّ سويقة ... بكيت فنادتني هنيدة ماليا
فقلت لها إنّ البكاء لراحة ... به يشتفي من ظنّ أن لا تلاقيا
قعيد كما الله الذي أنتما له ... ألم تسمعا بالبيضتين المناديا «3»
حبيب دعا والرّمل بيني وبينه ... فأسمعني سقيا لذلك داعيا
يقال: قعيدك الله، وقعدك الله، معناه: سألتك الله.
القول عند المقابر
قال بعضهم: خرجنا مع زيد بن علي نريد الحج، فلما بلغنا النّباج وصرنا إلى مقابرها، التفت إلينا فقال:(3/192)
لكلّ أناس مقبر بفنائهم ... فهم ينقصون والقبور تزيد «1»
فما إن تزال دار حيّ قد اخربت ... وقبر بأفناء البيوت جديد
هم جيرة الأحياء أمّا مزارهم ... فدان وأمّا الملتقى فبعيد
للرقاشي:
وقال مررت بيزيد الرقاشي وهو جالس بين المدينة والمقبرة، فقلت له: ما أجلسك ههنا؟ قال: أنظر إلى هذين العسكرين، فعسكر يقذف الأحياء، وعسكر يلتقم الموتي! ثم نادى بأعلى صوته: يا أهل القبور الموحشة التي قد نطق بالخراب فناؤها، ومهّد بالتراب بناؤها، فمحلها مقترب، وساكنها مغترب؛ لا يتواصلون تواصل الإخوان، ولا يتزاورون تزاور الجيران؛ قد طحنهم بكلكله «2» البلى، وأكلهم الجنادل والثرى.
وكان علي بن أبي طالب كرم الله وجهه إذا دخل المقبرة قال: أما المنازل فقد سكنت، وأما الأموال فقد قسمت، وأما الأزواج فقد نكحت؛ فهذا خبر ما عندنا، فليت شعري ما عندكم؟ ثم قال: والذي نفسي بيده، لو أذن لهم في الكلام لقالوا: إن خير الزاد التقوى.
وكان علي بن أبي طالب إذا دخل المقبرة قال: السلام عليكم يأهل الديار الموحشة، والمحال المقفرة، من المؤمنين والمؤمنات؛ اللهم اغفر لنا ولهم، وتجاوز بعفوك عنا وعنهم. ثم يقول: الحمد لله الذي جعل لنا الأرض كفاتا «3» أحياء وأمواتا، والحمد لله الذي منها خلقنا، وإليها معادنا، وعليها محشرنا؛ طوبى لمن ذكر المعاد، وعمل الحسنات، وقنع بالكفاف، ورضي عن الله عز وجل.
وكان النبي صلّى الله عليه وسلم إذا دخل المقبرة قال: «السلام عليك دار قوم مؤمنين، وإنا إن(3/193)
شاء الله بكم لاحقون» .
وكان الحسن البصري إذا دخل المقبرة قال: اللهم ربّ هذه الأجساد البالية، والعظام النّخرة، التي خرجت من الدنيا وهي بك مؤمنة، أدخل عليها روحا منك وسلاما منا.
وكان علي بن الفضل إذا دخل المقبرة يقول: اللهم اجعل وفاتهم نجاة لهم مما يكرهون، واجعل حسابهم زيادة لهم مما يحبون.
الوقوف على القبور وما بين الموتى
لأعرابي على قبر الرسول صلّى الله عليه وسلم:
وقف أعرابي على قبر رسول الله صلّى الله عليه وسلم، فقال: قلت فقبلنا وأمرت فحفظنا، وبلّغت عن ربك فسمعنا: وَلَوْ أَنَّهُمْ إِذْ ظَلَمُوا أَنْفُسَهُمْ جاؤُكَ فَاسْتَغْفَرُوا اللَّهَ وَاسْتَغْفَرَ لَهُمُ الرَّسُولُ لَوَجَدُوا اللَّهَ تَوَّاباً رَحِيماً
«1» ، وقد ظلمنا أنفسنا وجئناك فاستغفر لنا. فما بقيت عين إلا سالت.
لفاطمة على قبر أبيها صلّى الله عليه وسلم:
وقفت فاطمة عليها السلام على قبر أبيها صلّى الله عليه وسلم فقالت:
إنا فقدناك فقد الأرض وابلها ... وغاب مذغبت عنّا الوحي والكتب «2»
فليت قبلك كان الموت صادفنا ... لمّا نعيت وحالت دونك الكثب
حمّاد بن سلمة عن ثابت عن أنس بن مالك قال: لما فرغنا من دفن رسول الله صلّى الله عليه وسلم أقبلت عليّ فاطمة، فقالت: يا أنس، كيف طابت أنفسكم أن تحثوا على وجه رسول الله صلّى الله عليه وسلم التراب؟ ثم بكت ونادت: يا أبتاه! أجاب ربّا دعاه؛ يا أبتاه! من ربّه ما أدناه؛ يا أبتاه! من ربّه ناداه، يا أبتاه! إلى جبريل ننعاه؛ يا أبتاه! جنّة الفردوس(3/194)
مأواه. قال: ثم سكتت فما زادت شيئا.
ابن مسعود على قبر عمر بن الخطاب:
ولما دفن عمر بن الخطاب رضي الله عنه، أقبل عبد الله بن مسعود وقد فاتته الصلاة عليه؛ فوقف على قبره يبكي ويطرح رداءه؛ ثم قال: والله لئن فاتتني الصلاة عليك لا فاتني حسن الثناء؛ أما والله لقد كنت سخيّا بالحق، بخيلا عن الباطل، ترضى حين الرضا، وتسخط حين السّخط، ما كنت عيّابا ولا مدّاحا؛ فجزاك الله عن الإسلام خيرا.
علي بن أبي طالب على قبر خباب:
ووقف عليّ بن أبي طالب رضي الله عنه على قبر خبّاب فقال: رحم الله خبّابا! لقد أسلم راغبا، وجاهد طائعا، وعاش زاهدا، وابتلي في جسمه فصبر؛ ولن يضيع الله أجر من أحسن عملا.
الحسن على قبر علي:
ولما توفى علي بن أبي طالب رضوان الله عليه، قام الحسن بن علي رضي الله عنهما فقال: أيها الناس، إنه قبض فيكم الليلة رجل لم يسبقه الأوّلون ولم يدركه الآخرون، قد كان رسول الله صلّى الله عليه وسلم يبعثه فيكتنفه جبريل عن يمينه وميكائيل عن شماله، لا ينثني حتى يفتح الله له؛ ما ترك صفراء ولا بيضاء إلا سبعمائة درهم أعدّها لخادم له.
ابن السماء في رثاء الطائي:
عبد الرحمن بن الحسين عن محمد بن مصعب قال: لما مات داود الطائي تكلم ابن السمّاك فقال: إن داود نظر إلى ما بين يديه من آخرته، فأغشى بصر القلب بصر العين، فكأن لم ينظر ما إليه تنظرون، وكأنكم لم تنظروا إلى ما إليه ينظر، فأنتم منه تعجبون وهو منكم يعجب، فلما رآكم مفتونين مغرورين، قد أذهلت الدنيا عقولكم،(3/195)
وأماتت بحبها قلوبكم، استوحش منكم، فكنت إذا نظرت إليه حسبته حيا وسط أموات؛ يا داود، ما أعجب شأنك بين أهل زمانك، أهنت نفسك وإنما تريد إكرامها، وأتعبتها وإنما تريد راحتها وأخشنت المطعم وإنما تريد طيبه، وأخشنت الملبس وإنما تريد لينه، ثم أمتّ نفسك قبل أن تموت، وقبرتها قبل أن تقبر، وعذّبتها قبل أن تعذب؛ سجنت نفسك في بيتك فلا محدّث لك، ولا جليس معك، ولا فراش تحتك، ولا ستر على بابك، ولا قلّة يبرّد فيها ماؤك، ولا صحفة يكون فيها غداؤك وعشاؤك؛ يا داود، ما تشتهي من الماء بارده، ولا من الطعام طيّبه، ولا من اللباس لينه؛ بلى، ولكن زهدت فيه لما بين يديك؛ فما أصغر ما بذلت وما أحقر ما تركت في جنب ما رغبت وأمّلت، فلما مت شهرك ربّك بفضلك؛ وألبسك رداء عملك، فلو رأيت من حضرك علمت أن ربك قد أكرمك وشرّفك.
للاحنف على قبر أخيه:
وقف الأحنف بن قيس على قبر أخيه فأنشد:
فو الله لا أنسى قتيلا رزئته ... بجانب قوسى ما مشيت على الأرض «1»
بلى إنها تعفو الكلوم وإنما ... نوكّل بالأدنى وإن جلّ ما يمضي
ووقف محمد بن الحنفية على قبر الحسين بن علي رضي الله عنهما فخنقته العبرة ثم نطق فقال: يرحمك الله أبا محمد، فلئن عزّت حياتك فلقد هدّت وفاتك، ولنعم الروح روح ضمه بدنك، ولنعم البدن بدن ضمه كفنك، وكيف لا يكون كذلك وأنت بقية ولد الأنبياء، وسليل الهدى، وخامس أصحاب الكساء «2» ، غذتك أكف الحق، وربيت في حجر الإسلام، فطبت حيّا وطبت ميتا، وإن كانت أنفسنا غير طيّبة بفراقك، ولا شاكّة في الخيار لك.(3/196)
عائشة على قبر أبي بكر:
ووقفت عائشة على قبر أبي بكر فقالت: نضّر الله وجهك، وشكر لك صالح سعيك، فقد كنت للدنيا مذلّا بإدبارك عنها، وكنت للآخرة معزّا بإقبالك عليها ولئن كان أجلّ الحوادث بعد رسول الله صلّى الله عليه وسلم رزؤك، وأعظم المصائب بعده فقدك- إن كتاب الله ليعد بحسن الصبر فيك، وحسن العوض منك؛ فأنا أتنجز موعود الله بحسن العزاء عليك، وأستعيضه منك بالاستغفار لك؛ فعليك السلام ورحمة الله، توديع غير قالية «1» لحياتك، ولا زارية على القضاء فيك! ثم انصرفت.
رثاء علي لأبي بكر:
لما قبض أبو بكر سجّي بثوب فارتجت المدينة بالبكاء عليه، ودهش القوم كيوم قبض رسول الله صلّى الله عليه وسلم، وجاء علي بن أبي طالب باكيا مسرعا مسترجعا حتى وقف بالباب وهو يقول: رحمك الله أبا بكر، كنت والله أوّل القوم إسلاما، وأخلصهم إيمانا. وأشدّهم يقينا، وأعظمهم غناء، وأحفظهم على رسول الله صلّى الله عليه وسلم، وأحدبهم «2» على الإسلام، وأحناهم على أهله، وأشبههم برسول الله صلّى الله عليه وسلم خلقا وفضلا وهديا وسمتا، فجزاء الله عن الإسلام وعن رسول الله وعن المسلمين خيرا، صدّقت رسول الله حين كذّبه الناس، وواسيته حين بخلوا، وقمت معه حين قعدوا، سماك الله في كتابه صدّيقا، فقال: «والّذي جاء بالصّدق وصدّق به» يريد محمدا ويريدك، كنت والله للإسلام حصنا، وعلى الكافرين عذابا، لم تفلل حجتك، ولم تضعف بصيرتك، ولم تجبن نفسك، كنت الجبل لا تحركه العواصف، ولا تزيله القواصف، كنت كما قال رسول الله ضعيفا في بدنك، قويا في أمر الله، متواضعا في نفسك، عظيما عند الله، جليلا في الأرض، كثيرا عند المؤمنين، لم يكن لأحد عندك مطمع، ولا لأحد عندك هوادة، فالقويّ عندك ضعيف حتى تأخذ الحق منه، والضعيف عندك قوي(3/197)
حتى تأخذ الحق له، فلا حرمنا الله أجرك ولا أضلنا بعدك.
عبد الملك على قبر معاوية:
وقف عبد الملك بن مروان على قبر معاوية فقال: تالله إن كنت ما علمت لينطقك العلم؛ ويسكنك الحلم. ثم أنشأ يقول:
وما الدهر والأيام إلّا كما ترى ... رزيئة مال أو فراق حبيب
للضحاك في زياد:
الهيثم بن عدي قال: لما هلك زياد استعمل معاوية الضحاك على الكوفة؛ فلما دخلها سأل عن قبر زياد فدلّ عليه؛ فأتاه حتى وقف به ثم قال:
أبا المغيرة والدّنيا مفجّعة ... وإنّ من غرّت الدنيا لمغرور
قد كان عندك للمعروف معرفة ... وكان عندك للنكراء تنكير
لو خلّد الخير والإسلام ذا قدم ... إذا لخلّدك الإسلام والخير
والأبيات لحارثة بن بدر يرثي زيادا.
لعلي في فاطمة:
المدائني قال: لما دفن عليّ بن أبي طالب كرّم الله وجهه فاطمة عليها السلام، تمثل عند قبرها فقال:
لكلّ اجتماع من خليلين فرقة ... وكل الذي دون الممات قليل
وإنّ افتقادي واحدا بعد واحد ... دليل على أن لا يدوم خليل
امرأة الحسن على قبره:
لما مات الحسن بن عليّ عليهما السلام ضربت امرأته فسطاطا على قبره وأقامت حولا ثم انصرفت إلى بيتها؛ فسمعت قائلا يقول: أدركوا ما طلبوا، فأجابه مجيب:
بل ملّوا فانصرفوا.(3/198)
نائلة على قبر عثمان:
ابن الكلبي قال: وقفت نائلة بنت الفرافصة الكلبية على قبر عثمان فترحمت عليه ثم قالت:
ومالي لا أبكي وتبكي صحابتي ... وقد ذهبت عنا فضول أبي عمرو
ثم انصرفت إلى منزلها، فقالت: إني رأيت الحزن يبلي كما يبلى الثوب، وقد خفت أن يلى حزن عثمان في قلبي! فدعت بفهر «1» فهمشت فاها وقالت: والله لا قعد مني رجل مقعد عثمان أبدا!
الراثون على قبر الإسكندر:
لما هلك الإسكندر: قامت الخطباء على رأسه، فكان من قولهم: الإسكندر كان أمس، أنطق منه اليوم، وهو اليوم أوعظ منه أمس!
لأبي العتاهية في ابن له:
أخذ هذا المعنى أبو العتاهية. فقال عند دفنه ولدا له:
كفى حزنا بدفنك ثم إني ... نفضت تراب قبرك من يديّا
وكنت وفي حياتك لي عظات ... فأنت اليوم أوعظ منك حيّا
لأبي ذر في مثله:
وقف أبو ذرّ الهمداني على قبر ابنه ذرّ، فقال: يا ذرّ، شغلني الحزن لك عن الحزن عليك، فليت شعري ما قلت وما قيل لك! ثم قال: اللهم إني قد وهبت لك إساءته إليّ، فهب له إساءته إليك! فلما انصرف عنه التفت إلى قبره فقال: يا ذرّ، قد انصرفنا وتركناك، ولو أقمنا ما نفعناك!(3/199)
لابن سليمان في مثله:
وقف محمد بن سليمان على قبر ابنه فقال: اللهم إني أرجوك له وأخافك عليه؛ فحقق رجائي وآمن خوفي.
لأعرابية في أبيها:
وقفت أعرابية على قبر أبيها فقالت: يا أبت، إنّ في الله تبارك وتعالى من فقدك عوضا، وفي رسول الله صلّى الله عليه وسلم من مصيبتك أسوة. ثم قالت: اللهم نزل بك عبدك مقفرا من الزاد، مخشوشن المهاد، غنيا عما في أيدي العباد، فقيرا إلى ما في يديك يا جواد، وأنت أي ربّ خير من نزل به المؤمّلون، واستغنى بفضله المقلّون، وولج في سعة رحمته المذنبون؛ اللهم فليكن قرى عبدك منك رحمتك، ومهاده جنتك. ثم انصرفت.
لأعرابية في رثاء ابنتها:
قال عبد الرحمن بن عمر: دخلت على امرأة من نجد بأعلى الأرض في خباءلها، وبين يديها بنيّ لها قد نزل به الموت، فقامت إليه فأغمضته وعصبته وسجّته، وقالت:
يا بن أخي. قلت: ما تشائين؟ قالت: ما أحق من ألبس النعمة، وأطيلت به النظرة، أن لا يدع التوثق من نفسه قبل حل عقدته، والحلول بعفو ربه، والمحالة بينه وبين نفسه! قال: وما يقطر من عينها دمعة، صبرا واحتسابا. ثم نظرت إليه فقالت: والله ما كان ماله لبطنه، ولا أمره لعرسه. ثم أنشدت.
رحيب الذراع بالتي لا تشينه ... وإن كانت الفحشاء بها ذرعا
عمر بن عبد العزيز على قبر ابنه:
وقف عمر بن عبد العزيز على قبر ابنه عبد الملك فقال: رحمك الله يا بنيّ، فلقد كنت سارّا مولودا، بارّا ناشئا، وما أحب أني دعوتك فأجبتني!(3/200)
ابن ذر جنازة جار له:
توفى رجل كان مسرفا على نفسه بالذنوب، فتجافى الناس جنازته؛ فبلغ عمر بن ذرّ خبره؛ فأوصى إلى أهله أن خذوا في جهازه فإذا فرغتم فآذنوني. ففعلوا، وشهده عمر بن ذرّ وشهده الناس معه، فلما فرغ من دفنه وقف عمر ابن ذرّ على قبره فقال:
يرحمك الله أبا فلان! فلقد صحبت عمرك بالتوحيد، وعفّرت لله وجهك بالسجود، فإن قالوا: مذنب وذو خطايا! فمن منا غير مذنب وغير ذي خطايا!
لجارية على قبر أبيها:
سمع الحسن من جارية واقفة على قبر أبيها وهي تقول: يا أبت مثل يومك لم أره! قال: الذي- والله- لم ير مثل يومه أبوك!
خصي للوليد على قبره:
وسمع عمر بن عبد العزيز خصيّا للوليد بن عبد الملك واقفا على قبر الوليد وهو يقول: يا مولاي، ماذا لقينا بعدك! فقال له عمر: أما والله لو أذن له في الكلام لأخبر أنه لقي بعدكم أكثر مما لقيتم بعده.
معاوية على قبر أخيه:
وقف معاوية على قبر أخيه عتبة فدعا له وترحم عليه، ثم التفت إلى من معه فقال:
لو أن الدنيا بنيت على نسيان الأحبة ما نسيت عتبة أبدا.
المراثي
من رثى نفسه ووصف قبره وما يكتب على القبر
لابن خذاق:
قال ابن قتيبة بلغني أنّ أوّل من بكى على نفسه وذكر الموت في شعره: يزيد بن خذّاق فقال:(3/201)
هل للفتى من بنات الدهر من راقي ... أم هل له من حمام الموت من واقي
قد رجّلوني وما بالشّعر من شعث ... وألبسوني ثيابا غير أخلاق «1»
وطيّبوني وقالوا أيّما رجل! * وأدرجوني كأني طيّ مخراق «2»
وأرسلوا فتية من خيرهم حسبا ... ليسندوا في ضريح القبر أطباقي «3»
وقسّموا المال وارفضّت عوائدهم ... وقال قائلهم مات ابن خذّاق!
هوّن عليك ولا تولع بإشفاق ... فإنما مالنا للوارث الباقي
وقال ابن ذؤيب الهذلي يصفه حفرته:
مطأطأة لم ينبطوها وإنما ... ليرضى بها فرّاطها، أمّ واحد «4»
قضوا ما قضوا من رمّها ثم أقبلوا ... إلي بطاء المشي غبر السّواعد
فكنت ذنوب البئر لمّا تلحّبت ... وأدرجت أكفاني ووسّدت ساعدي
وقال عروة بن حزام لما نزل به الموت:
من كان من أخواتي باكيا أبدا ... فاليوم، إني أراني اليوم مقبوضا
يسمعنيه فإني غير سامعه ... إذا علوت رقاب القوم معروضا
وقال الطرماح بن حكيم:
فيا ربّ لا تجعل وفاتي إن أتت ... على شرجع يعلى بدكن المطارف
ولكن شهيدا ثاويا في عصابة ... يصابون في فجّ من الأرض خائف
إذا فارقوا دنياهم فارقوا الأذى ... وصاروا إلى موعود ما في الصحائف
فأقتل قعصا ثم يرمى بأعظمي ... مفرّقة أوصالها في التّنائف
ويصبح لحمي بطن طير مقيله ... بجوّ السماء في نسور عواكف
وقال مالك بن الرّيب: يرثي نفسه ويصف قبره- وكان خرج مع سعيد بن عثمان بن عفان. لما ولي خراسان، فلما كان ببعض الطريق أراد أن يلبس خفه، فإذا(3/202)
بأفعى في داخلها، فلسعته، فلما أحس بالموت استلقى على قفاه. ثم أنشأ يقول
دعاني الهوى من أهل أود وصحبتي ... بذي الطّبسين فالتفتّ ورائيا «1»
فما راعني إلا سوابق عبرة ... تقنّعت منها أن ألام ردائيا
ألم ترني بعت الضّلالة بالهدى ... وأصبحت في جيش ابن عفّان غازيا
فلله درّي حين أترك طائعا ... بنيّ بأعلى الرّقمتين وماليا
ودرّ الكبيرين اللذين كلاهما ... عليّ شفيق ناصح قد نهانيا
ودرّ الظّباء السّانحات عشيّة ... يخبّرن أني هالك من أماميا
تقول ابنتي لمّا رأت وشك رحلتي ... سفارك هذا تاركي لا أباليا
ألا ليت شعري هل بكت أمّ مالك ... كما كنت لو عالوا نعيّك باكيا
إذا متّ فاعتادي القبور وسلّمي ... عليهنّ أسقين السّحاب الغواديا
تري جدثا قد جرّت الريح فوقه ... ترابا كسحق المرنبانىّ هابيا «2»
فيا صاحبي رحلي دنا الموت فاحفرا ... برابية إني مقيم لياليا
وخطّا بأطراف الأسنّة مضجعي ... وردّا على عينيّ فضل ردائيا
ولا تحسداني بارك الله فيكما ... من الأرض ذات العرض أن توسعاليا
خذاني فجرّاني ببردي إليكما ... فقد كنت قبل اليوم صعبا قياديا
تفقّدت من يبكي عليّ فلم أجد ... سوى السّيف والرّمح الرديني باكيا
وأدهم غربيب يجرّ لجامه ... إلى الماء لم يترك له الموت ساقيا «3»
وبالرّمل لو يعلمن علمي نسوة ... بكين وفدّين الطبيب المداويا
عجوزي وأختاي اللّتان أصيبتا ... بموتي وبنت لي تهيج البواكيا
لعمري لئن غالت خراسان هامتي ... لقد كنت عن بابي خراسان نائيا
تحمّل أصحابي عشاء وغادروا ... أخا ثقة في عرصة الدّار ثاويا «4»(3/203)
يقولون لا تبعدوهم يدفنونني ... وأين مكان البعد إلا مكانيا
لأفنون في بكاء نفسه:
وقال رجل من بني تغلب يقال له أفنون، وهو لقبه، واسمه ضريم بن معشر بن ذهل بن تيم بن عمرو بن مالك بن حبيب بن عمر بن غنم بن تغلب، ولقي كاهنا في الجاهلية، فقال له: إنك تموت بمكان يقال له الاهة. فمكث ما شاء الله، ثم سافر في ركب من قومه إلى الشام فأتوها، ثم انصرفوا فضلوا الطريق، فقالوا لرجل: كيف نأخذ؟ فقال: سيروا حتى إذا كنتم بمكان كذا وكذا ظهر لكم الطريق ورأيتم الإهة- وإلاهة قارة بالسماوة- فلما أتوها نزل أصحابه وأبى أن ينزل؛ فبينما ناقته ترتعي وهو راكبها إذ أخذت بمشفر ناقته حية، فاحتكت الناقة بمشفرها فلدغت ساقه، فقال لأخيه وكان معه، واسمه معاوية: احفر لي فإني ميت ثم تغنّى قبل أن يموت يبكي نفسه:
لست على شيء، فروحن معاويا ... ولا المشفقات إذ تبعن الحوازيا «1»
ولا خير فيما كذّب المرء نفسه ... وتقواله للشيء يا ليت ذا ليا
وإن أعجبتك الدّهر حال من امريء ... فدعه وواكل حاله واللياليا
يرحن عليه أو يغيّرن ما به ... وإن لم يكن في خوفه العيث وانيا
فتطأ معرضا إنّ الحتوف كثيرة ... وإنك لا تبقي بنفسك باقيا
لعمرك ما يدري امرؤ كيف يتّقي ... إذا هو لم يجعل له الله واقيا
كفى حزنا أن يرحل الرّكب غدوة ... وأنزل في أعلى إلاهة ثاويا
قال: فمات فدفنوه بها.
وقال هدبة العذري لما أيقن بالموت:
ألا علّلاني قبل نوح النّوائح ... وقبل اطلاع النفس بين الجوانح
وقبل غد يا لهف نفسي على غد ... إذا راح أصحابي ولست برائح(3/204)
إذا راح أصحابي بفيض دموعهم ... وغودرت في لحد عليّ صفائحي
يقولون هل أصلحتم لأخيكم ... وما الرّمس في الأرض القواء بصالح «1»
وقال محمد بن بشير:
ويل لمن لم يرحم الله ... ومن تكون النار مثواه
والويل لي من كلّ يوم أتى ... يذكرني الموت وأنساه
كأنه قد قيل في مجلس ... قد كنت آتيه وأغشاه:
صار البشيريّ إلى ربّه ... يرحمنا الله وإياه
لأبي العتاهية في أبيات أوصى أن تكتب على قبره:
ولما حضرت أبا العتاهية الوفاة، واسمه إسماعيل بن القاسم، أوصى بأن يكتب على قبره هذه الأبيات الأربعة:
أذن حيّ تسمّعي ... اسمعي ثم عي وعي
أنا رهن بمضجعي ... فاحذري مثل مصرعي
عشت تسعين حجّة ... ثم وافيت مضجعي
ليس شي سوى التّقي ... فخذي منه أودعي
وعارضه بعض الشعراء في هذه الأبيات، وأوصى بأن يكتب على قبره أيضا فكتبت وهي:
أصبح القبر مضجعي ... ومحلّي وموضعي
صرعتني الحتوف في ال ... تّرب يا ذلّ مصرعي «2»
أين إخواني الذي ... ن إليهم تطلّعي
متّ وحدي فلم يمت ... واحد منهم معي(3/205)
أبيات قيل إنها لأبي نواس:
وجد على قبر جارية إلى جنب قبر أبي نواس ثلاثة أبيات؛ فقيل إنها من قول أبي نواس، وهي:
أقول لقبر زرته متلثّما ... سقى الله برد العفو صاحبة القبر «1»
لقد غيّبوا تحت الثرى قمر الدّجى ... وشمس الضحى بين الصّفائح والعفر «2»
عجبت لعين بعدها ملّت البكا ... وقلب عليها يرتجي راحة الصبر
لابن نواس:
الرياشي قال: وجدت تحت الفراش الذي مات عليه أبو نواس رقعة مكتوب فيها هذه الأبيات:
يا ربّ إن عظمت ذنوبي كثرة ... فلقد علمت بأنّ عفوك أعظم
إن كان لا يرجوك إلا محسن ... فبمن يلوذ ويستجير المجرم
أدعوك ربّ كما أمرت تضرّعا ... فإذا رددت يدي فمن ذا يرحم
مالي إليك وسيلة إلا الرجا ... وجميل عفوك ثم أنّي مسلم
أبيات على قبر الإيادي:
الخشني قال: أخبرنا بعض أصحابنا ممن كان يغشى مجلس الرياشي قال: رأيت على قبر أبي هاشم الإيادي بواسط:
الموت أخرجني من دار مملكتي ... والموت أضرعني من بعد تشريفي
لله عبد رأى قبري فأعبره ... وخاف من دهره ريب التّصاريف
الأصمعي قال: أخذ بيدي يحيى بن خالد بن برمك فأوقفني على قبر بالحيرة، فإذا عليه مكتوب:
إن بني المنذر لمّا انقضوا ... بحيث شاد البيعة الراهب(3/206)
تنّفح بالمسك محاريبهم ... وعنبر يقطبة قاطب «1»
والخبز واللحم لهم راهن ... وقهوة راووقها ساكب «2»
والقطن والكتّان أثوابهم ... لم يجلب الصّوف لهم جالب
فأصبحوا قوتا لدود الثّرى ... والدهر لا يقي له صاحب
كأنما حياتهم لعبة ... سرى إلى بين بها راكب
وقال أبو حاتم: بين: موضع من الحيرة على ثلاث ليال.
الشيباني قال: وجد مكتوبا على بعض القبور:
ملّ الأحبّة زورتي فجفيت ... وسكنت في دار البلى فنسيت
الحيّ يكذب لا صديق لّميت ... لو كان يصدق مات حين يموت
يا مؤنسا سكن الثرى وبقيت ... لو كنت أصدق إذ بليت بليت
أو كان يعمى للبكاء مفجّع ... من طول ما أبكى عليك عميت «3»
وقال محمد بن عبد الله:
وعما قليل أن ترى باكيا لنا ... سيضحك من يبكي ويعرض عن ذكري
ترى صاحبي يبكي قليلا لفرقتي ... ويضحك من طول اللّيالي على قبري
ويحدث إخوانا وينسى مودّتي ... وتشغله الأحباب عني وعن ذكري
من رثى ولده
فمن قولي في ولدي:
بليت عظامي والأسى يتجدّد ... والصبر ينفد والبكا لا ينفد
يا غائبا لا يرتجى لإيابه ... ولقائه دون القيامة موعد
ما كان أحسن ملحدا ضمّنته ... لو كان ضمّ أباك ذاك الملحد
باليأس أسلو عنك لا بتجلّدي ... هيهات أين من الحزين تجلد(3/207)
ومن قولي فيه أيضا:
واكبدا قد قطّعت كبدي ... وحرّقتها لواعج الكمد
ما مات حيّ لّمت أسفا ... أعذر من والد على ولد
يا رحمة الله جاوري جدثا ... دفنت فيه حشاشتي بيدي
ونوّرى ظلمة القبور على ... من لم يصل ظلمه إلى أحد
من كان خلوا من كلّ بائقة ... وطيّب الرّوح طاهر الجسد
يا موت، يحيى لقد ذهبت به ... ليس بزمّيلة ولا نكد «1»
يا موته لو أقلت عثرته ... يا يومه لو تركته لغد
يا موت لو لم تكن تعاجله ... لكان لا شكّ بيضة البلد «2»
أو كنت راخيت في العنان له ... حاز العلا واحتوى على الأمد «3»
أيّ حسام سلبت رونقه ... وأيّ روح سللت من جسد
وأيّ ساق قطعت من قدم ... وأيّ كفّ ازلت من عضد
يا قمرا أجحف الخسوف به ... قبل بلوغ السواء في العدد»
أيّ حشى لم يذب له أسفا ... وأيّ عين عليه لم تجد «5»
لا صبر لي بعده ولا جلد ... فجعت بالصبر فيه والجلد
لو لم أمت عند موته كمدا ... لحقّ لي أن أموت من كمدي
يا لوعة لا يزال لاعجها ... يقدح نار الأسى على كبدي «6»
وقلت فيه أيضا:
قصد المنون له فمات فقيدا ... ومضى على صرف الخطوب حميدا
بأبي وأمي هالكا أفردته ... قد كان في كلّ العلوم فريدا
سود المقابر أصبحت بيضا به ... وغدت له بيض الضمائر سودا(3/208)
لم نرزه لمّا رزينا وحده ... وإن استقلّ به المنون وحيدا «1»
لكن رزينا القاسم بن محمد ... في فضله والأسود بن يزيدا
وابن المبارك في الرّقائق مخبرا ... وابن المسيّب في الحديث سعيدا
والأخفشين فصاحة وبلاغة ... والأعشيين رواية ونشيدا
كان الوصيّ إذا أردت وصيّة ... والمستفاد إذا طلبت مفيدا
ولّى حفيظا في الأذمّة حافظا ... ومضى ودودا في الورى مودودا «2»
ما كان مثلي في الرّزيّة والد ... ظفرت يداه بمثله مولودا
حتى إذا بذّ السّوابق في العلا ... والعلم ضمّن شلوه ملحودا
يا من يفنّد في البكاء مولّها ... ما كان يسمع في البكا تفنيدا «3»
تأبى القلوب المستكينة للأسى ... من أن تكون حجارة وحديدا
إنّ الذي باد السّرور بموته ... ما كان حزني بعده ليبيدا
ألآن لما أن حويت مآثرا ... أعيت عدوّا في الورى وحسودا
ورأيت فيك من الصّلاح شمائلا ... ومن السّماح دلائلا وشهودا
أبكي عليك إذا الحمامة طرّبت ... وجه الصّباح وغرّدت تغريدا
لولا الحياء وأن أزنّ ببدعة ... مما يعدّده الورى تعديدا «4»
لجعلت يومك في المنائح مأتما ... وجعلت يومك في الموالد عيدا
وقلت فيه أيضا:
لا بيت يسكن إلّا فارق السّكنا ... ولا امتلا فرحا إلّا امتلا حزنا
لهفي على ميّت مات السرور به ... لو كان حيّا لأحيا الدين والسّننا
واها عليك أبا بكر مردّدة ... لو سكّنت ولها أو فتّرت شجنا
إذا ذكرتك يوما قلت وا حزنا ... وما يردّ عليك القول وا حزنا
يا سيّدي ومراح الروح في جسدي ... هلّا دنا الموت منّي حين منك دنا!(3/209)
حتى يعود بنا في قعر مظلمة ... لحد ويلبسنا في واحد كفنا
يا أطيب الناس روحا ضمّه بدن ... أستودع الله ذاك الروح والبدنا
لو كنت أعطى به الدّنيا معاوضة ... منه لما كانت الدنيا له ثمنا
وقال أبو ذؤيب الهذلي، وكان له أولاد سبعة فماتوا كلهم إلا طفلا، فقال يرثيهم:
أمن المنون وريبه تتوجّع ... والدهر ليس بمعتب من يجزع «1»
قالت أمامة ما لجسمك شاحبا ... منذ ابتذلت ومثل مالك ينفع
أم ما لجسمك لا يلائم مضجعا ... إلّا أقضّ عليك ذاك المضجع «2»
فأجبتها أن ما لجسمي إنه ... أودى بنيّ من البلاد فودّعوا
أودى بنيّ وأعقبوني حسرة ... بعد الرّقاد وعبرة ما تقلع
سبقوا هويّ وأعنقوا لهواهم ... فتخرّموا ولكلّ جنب مصرع «3»
فبقيت بعدهم بعيش ناصب ... وإخال أني لاحق مستتبع
ولقد حرصت بأن أدافع عنهم ... وإذا المنيّة أقبلت لا تدفع
وإذا المنيّة أنشبت أظفارها ... ألفيت كلّ تميمة لا تنفع
فالعين بعدهم كأن حداقها ... سملت بشوك فهي عورا تدمع «4»
حتى كأني للحوادث مروة ... بصفا المشرّق كلّ يوم تقرع «5»
وتجلّدي للشّامتين أريهم ... أني لريب الدهر لا أتضعضع
وقال في الطفل الذي بقي له:
والنفس راغبة إذا رغّبتها ... وإذا تردّ إلى قليل تقنع
وقال الأصمعي: هذا أبدع بيت قالته العرب.
وقال أعرابيّ يرثي بنيه:(3/210)
أسكّان بطن الأرض لو يقبل الفدا ... فدينا وأعطينا بكم ساكني الظّهر «1»
فياليت من فيها عليها وليت من ... عليها ثوى فيها مقيما إلى الحشر
وقاسمني دهري بنيّ بشطره ... فلما تقضّى شطره مال في شطري
فصاروا ديونا للمنايا ولم يكن ... عليهم لها دين قضوه على عسر
كأنهم لم يعرف الموت غيرهم ... فثكل على ثكل وقبر إلى قبر
وقد كنت حيّ الخوف قبل وفاتهم ... فلمّا توفّوا مات خوفي من الدهر
فلله ما أعطى ولله ما حوى ... وليس لأيّام الرّزيّة كالصّبر
وقيل لأعرابية مات ابنها. ما أحسن عزاءك؟ قالت: إن فقدى إياه آمنني كل فقد سواه، وإن مصيبتي به هونت عليّ المصائب بعده! ثم أنشأت تقول:
من شاء بعدك فليمت ... فعليك كنت أحاذر
كنت السّواد لناظري ... فعمي عليك النّاظر
ليت المنازل والدّيا ... رحفائر ومقابر
إني وغيري لا محا ... لة حيث صرت لصائر
أخذ الحسن بن هانيء معنى هذا البيت الأول، فقال في الأمين:
طوى الموت ما بيني وبين محمّد ... وليس لما تطوي المنيّة ناشر
وكنت عليه أحذر الموت وحده ... فلم يبق لي شي عليه أحاذر
لئن عمرت دور بمن لا أحبّه ... لقد عمرت ممن أحبّ المقابر
وقال عبد الله بن الأهتم يرثي ابنا له:
دعوتك يا بنيّ فلم تجبني ... فردّت دعوتي يأسا عليّا
بموتك ماتت الّلذّات مني ... وكانت حيّة ما دمت حيّا
فيا أسفا عليك وطول شوقي ... إليك لو انّ ذلك ردّ شيّا(3/211)
لأبي العتاهية في رثاء ابن له:
وأصيب أبو العتاهية بابن له فلما دفنه وقف على قبره وقال:
كفى حزنا بدفنك ثم إني ... نفضت تراب قبرك من يديا
وكنت في حياتك لي عظات ... فأنت اليوم أوعظ منك حيّا
لأعرابي في رثاء ابن له:
ومات ابن لأعرابيّ فاشتد حزنه عليه، وكان الأعرابيّ يكنى به، فقيل له: لو صبرت لكان أعظم لثوابك! فقال:
بأبي وأمّي من عبأت حنوطه ... بيدي وفارقني بماء شبابه
كيف السّلوّ وكيف أنسى ذكره ... وإذا دعيت فإنما أدعى به
عمر بن الخطاب وأعرابي فقد ابنا له:
خرج عمر بن الخطاب رضي الله عنه يوما إلى بقيع الغرقد «1» ، فإذا أعرابي بين يديه، فقال: يا أعرابي، ما أدخلك دار الحق؟ قال: وديعة لي ها هنا منذ ثلاث سنين. قال: وما وديعتك؟ قال: ابن لي حين ترعرع فقدته فأنا أندبه! قال عمر:
أسمعني ما قلت فيه: فقال:
يا غائبا ما يثوب من سفره ... عاجله موته على صغره
يا قرّة العين كنت لي سكنا ... في طول ليلي نعم وفي قصره
شربت كأسا أبوك شاربها ... لا بدّ يوما له على كبره
أشربها والأنام كلهم ... من كان في بدوه وفي حضره «2»
فالحمد لله لا شريك له ... الموت في حكمه وفي قدره
قد قسم الموت في الأنام فما ... يقدر خلق يزيد في عمره
قال عمر: صدقت يا أعرابي، غير أن الله خير لك منه!(3/212)
المنصور وشعر لمطيع حين مات ولده:
الشيباني قال: لما مات جعفر بن أبي جعفر المنصور، اشتدّ عليه حزنه. فلما فرغ من دفنه التفت إلى الربيع فقال: يا ربيع، كيف قال مطيع بن إياس في يحيى بن زياد؟
فأنشد:
يا هل دواء لقلبي القرح ... وللدّموع الذّوارف السّفح
راحوا بيحيى ولو تطاوعني ال ... أقدار لم تبتكر ولم يرح
يا خير من يحسن البكاء به ال ... يوم ومن كان أمس للمدح
قد ظفر الحزن بالسّرور وقد ... ألّم مكروهه من الفرح
وقالت أعرابية تندب ابنا لها:
أبنيّ غيّبك المحلّ الملحد ... إمّا بعدت فأين من لا يبعد
أنت الذي في كلّ ممسى ليلة ... تبلى وحزنك في الحشا يتجدّد
وقالت فيه:
لئن كنت لي لهوا لعين وقرّة ... لقد صرت سقما للقلوب الصّحائح
وهوّن حزني أنّ يومك مدركي ... وأني غدا من أهل تلك الضّرائح
وقال أبو الخطّار يرثي ابنه الخطار:
ألا خبراني بارك الله فيكما ... متى العهد بالخطار يا فتيان
فتى لا يرى نوم العشاء غنيمة ... ولا ينثني من صولة الحدثان
وقال جرير يرثي ولده سوادة:
قالوا نصيبك من أجر فقلت لهم ... كيف العزاء وقد فارقت أشبالي
ذاكم سوادة يجلو مقلتي لحم ... باز يصرصر فوق المرقب العالي «1»
فارقته حين غضّ الدهر من بصرى ... وحين صرت كعظم الرّمّة البالي «2»(3/213)
وقال أبو الشغب يرثي ابنه شغبا:
قد كان شغب لو انّ الله عمّره ... عزّا تزاد به في عزّها مضر
ليت الجبال تداعت قبل مصرعه ... دكّا فلم يبق من أحجارها حجر
فارقت شغبا وقد قوّست من كبر ... بئس الخليطان طول الحزن والكبر «1»
لابن عبد الأعلى في رثاء أيوب بن سليمان:
ولما توفى أيوب بن سليمان بن عبد الملك في حياة سليمان، وكان وليّ عهده وأكبر ولده؛ رثاه ابن عبد الأعلى وكان من خاصته، فقال فيه:
ولقد أقول لذي الشّماتة إذ رأى ... جزعي ومن يذق الحوادث يجزع
أبشر فقد قرع الحوادث مروتي ... وافرح بمروتك التي لم تقرع «2»
إن عشت تفجع بالأحبّة كلّهم ... أو يفجعوا بك إن بهم لم تفجع
أيوب! من يشمت بموتك لم يطق ... عن نفسه دفعا وهل من مدفع؟
لأب في رثاء ابنه:
الأصمعي عن رجل من الأعراب قال: كنا عشرة إخوة، وكان لنا أخ يقال له حسن. فنعي إلى أبينا، فبقى سنتين يبكي عليه حتى كفّ بصره؛ وقال فيه:
أفلحت إن كان لم يمت حسن ... وكفّ عني البكاء والحزن
بل أكذب الله من نعى حسنا ... ليس لتكذيب قوله ثمن
أجول في الدار لا أراك وفي الدار أناس جوارهم غبن «3»
بدّلتهم منك ليت أنهم ... كانوا وبيني وبينهم مدن
قد علموا عند ما أنافرهم ... ما في قتالي صدع ولا أبن
قد جرّبوني فما ألاومهم ... ما زال بيني وبينهم إحن «4»(3/214)
فقد برى الجسم مذ نعيت لنا ... كما برى فرع نبعة سفن «1»
فإن تعش فالمنى حياتك والخلد وأنت الحديث والوسن «2»
إن تحى تحي بخير عيش وإن ... تمض فتلك السبيل والسّنن
بريدك الحمد والسلام معا ... فكلّ حيّ بالموت مرتهن
يا ويح نفسي إن كنت في جدث ... دونك فيه التراب والكفن
عليّ لله إن لقيتك من ... قبل الممات الصيام والبدن
أسوقها حافيا مجلّلة ... أدما هجانا قد كظّها السّمن «3»
فلا نبالي إذا بقيت لنا ... من مات أو من أودى به الزمن
كنت جليلي وكنت خالصتي ... لكلّ حيّ من أهله سكن
لا خير لي في الحياة بعدك إن ... أصبحت تحت التراب يا حسن
وقال أعرابي يرثي ابنه:
ولما دعوت الصبر بعدك والأسى ... أجاب الأسى طوعا ولم يجب الصبر
فإن ينقطع منك الرجاء فإنه ... سيبقى عليك الحزن ما بقي الدهر
وقال أعرابي يرثي ابنه:
بنيّ لئن ضنّت جفون بمائها ... لقد قرحت مني عليك جفون «4»
دفنت بكفّي بعض نفسي فأصبحت ... وللنفيس منها دافن ودفين
لابن عبد ربه في طفل له:
وهذا نظير قولي في طفل أصبت به:
على مثلها من فجعة خانك الصبر ... فراق حبيب دون أوبته الحشر
ولي كبد مشطورة في يد الأسى ... فتحت الثّرى شطر وفوق الثرى شطر
يقولون لي صبّر فؤادك بعده ... فقلت لهم مالي فؤاد ولا صبر(3/215)
فريخ من الحمر الحواصل ما اكتسى ... من الريش حتى ضمّه الموت والقبر
إذا قلت أسلو عنه هاجت بلابل ... يجدّدها فكر يجدده ذكر
وأنظر حولي لا أرى غير قبره ... كأنّ جميع الأرض عندي له قبر
أفرخ جنان الخلد طرت بمهجتي ... وليس سوى قعر الضريح لها وكر
وقالت أعرابية ترثي ولدها:
يا قرحة القلب والأحشاء والكبد ... يا ليت أمّك لم تحبل ولم تلد
لما رأيتك قد أدرجت في كفن ... مطيّبا للمنايا آخر الأبد
أيقنت بعدك أنّي غير باقية ... وكيف يبقى ذراع زال عن عضد «1»
لأعرابي في ابنين له:
توفى ابن لأعرابي فبكى عليه حينا، فلما همّ أن يسلو عنه توفى له ابن آخر، فقال في ذلك:
إن أفق من حزن هاج حزن ... ففؤادي ماله اليوم سكن
وكما تبلى وجوه في الثّرى ... فكذا يبلى عليهنّ الحزن «2»
وقال في ذلك:
عيون قد بكينك موجعات ... أضرّ بها البكاء وما ينينا «3»
إذا أنفدن دمعا بعد دمع ... يراجعن الشئون فيستقينا
أبو عبيد البجلي قال: وقفت أعرابية على قبر ابن لها يقال له عامر، فقالت:
أقمت أبكيه على قبره ... من لي من بعدك يا عامر
تركتني في الدار لي وحشة ... قد ذلّ من ليس له ناصر
وقالت فيه:
هو الصبر والتسليم لله والرضا ... إذا نزلت بي خطة لا أشاؤها(3/216)
إذا نحن أبنا سالمين بأنفس ... كرام رجعت أمرا فخاب رجاؤها
فأنفسنا خير الغنيمة إنها ... تئوب ويبقى ماؤها وحياؤها
ولا برّ إلا دون ما برّ عامر ... ولكنّ نفسا لا يدوم بقاؤها
هو ابني أمسى أجره لي وعزّني ... على نفسه رب إليه ولاؤها
فإن أحتسب أوجر وإن أبكه أكن ... كباكية لم يحي ميتا بكاؤها «1»
لهذيلية في رثاء إخوة وابن:
الشيباني قال: كانت امرأة من هذيل، وكان لها عشرة إخوة وعشرة أعمام؛ فهلكوا جميعا في الطاعون؛ وكانت بكرا لم تتزوج؛ فخطبها ابن عم له فتزوّجها. فلم تلبث أن اشتملت على غلام فولدته، فنبت نباتا كأنما يمدّ بناصيته وبلغ، فزوّجته وأخذت في جهازه، حتى إذا لم يبق إلا البناء «2» أتاه أجله، فلم تشقّ لها جيبا، ولم تدمع لها عين؛ فلما فرغوا من جهازه دعيت لتوديعه، فأكبّت عليه ساعة، ثم رفعت رأسها ونظرت إليه وقالت:
ألا تلك المسرّة لا تدوم ... ولا يبقى على الدهر النعيم
ولا يبقى على الحدثان غفر ... بشاهقة له أمّ رءوم «3»
ثم أكبت عليه أخرى، فلم تقطع نحيبها حتى فاضت نفسها، فدفنا جميعا.
لشيبانية في حزنها على أهلها:
خليفة بن خيّاط قال: ما رأيت أشدّ كمدا من امرأة من بني شيبان، قتل ابنها وأبوها وزوجها وأمها وعمتها وخالتها مع الضحاك الحروريّ؛ فما رأيتها قطّ ضاحكة ولا متبسمة حتى فارقت الدنيا، وقالت ترثيهم:
من لقلب شفّه الحزن ... ولنفس مالها سكن(3/217)
ظعن الأبرار فانقلبوا ... خيرهم من معشر ظعنوا «1»
معشر قضّوا نحوبهم ... كلّ ما قد قدّموا حسن
صبروا عند السّيوف فلم ... ينكلوا عنها ولا جبنوا
فتية باعوا نفوسهم ... لا، وربّ البيت ما غبنوا
فأصاب القوم ما طلبوا ... منّة ما بعدها منن
وقال عبد الله بن ثعلبة يرثي والدا له:
أأخضب رأسي أم أطيّب مفرقي ... ورأسك مرموس وأنت سليب
نسيبك من أمسى يناجيك طرفه ... وليس لمن تحت التراب نسيب
غريب وأطراف البيوت تكنّه ... ألا كلّ من تحت التراب غريب
قال العتبي محمد بن عبيد الله يرثي ابنا له:
أضحت بخدّي للدموع رسوم ... أسفا عليك وفي الفؤاد كلوم»
والصبر يحمد في المواطن كلّها ... إلا عليك فإنه مذموم
لأب في رثاء ابنه:
خرج أعرابيّ هاربا من الطاعون، فبينما هو سائر إذ لدغته أفعى فمات، فقال أبوه يرثيه:
طاف يبغى نجوة ... من هلاك فهلك
والمنايا رصد ... للفتى حيث سلك
ليت شعري ضلّة ... أيّ شيء قتلك
كلّ شيء قاتل ... حين تلقى أجلك(3/218)
لأبي العتاهية في رثاء الأمين:
لما قتل عبد الله المأمون أخاه محمد بن زبيدة، أرسلت أمه زبيدة ابنة جعفر إلى أبي العتاهية يقول أبياتا على لسانها للمأمون، فقال:
ألا إنّ ريب الدهر يدني ويبعد ... وللدهر أيام تذمّ وتحمد «1»
أقول لريب الدهر إن ذهبت يد ... فقد بقيت والحمد لله لي يد
إذا بقي المأمون لي فالرشيد لي ... ولي جعفر، لم يهلكا، ومحمد
وكتبت إليه من قوله:
لخير إمام قام من خير معشر ... وأكرم بسّام على عود منبر
كتبت وعيني تستهلّ دموعها ... إليك ابن يعلى من دموعي ومحجري «2»
فجعنا بأدنى الناس منك قرابة ... ومن زلّ عن كبدي فقلّ تصبّري
أتى طاهر لا طهّر الله طاهرا ... وما طاهر في فعله بمطهّر
فأبرزني مكشوفة الوجه حاسرا ... وأنهب أموالي وخرّب أدوري
وعزّ على هارون ما قد لقيته ... وما نابني من ناقص الخلق أعور
فلما نظر المأمون إلى كتابها وجه إليها بحباء جزيل، وكتب إليها يسألها القدوم عليه، فلم تأته في ذلك الوقت وقبلت منه ما وجّه به إليها؛ فلما صارت إليه بعد ذلك قال لها: من قائل الأبيات؟ قالت: أبو العتاهية. قال: وكم أمرت له؟ قالت: عشرين ألف درهم. قال المأمون: وقد أمرنا له بمثل ذلك. واعتذر إليها من قتل أخيه محمد، وقال لها: لست صاحبه ولا قاتله. فقالت: يا أمير المؤمنين، إن لكما يوما تجتمعان فيه، وأرجو أن يغفر الله لكما إن شاء الله.
أبو شأس يرثي ابنه شأسا:
وربّيت شأسا لريب الزمان ... فلله تربيتي والنصب
فليتك يا شأس فيمن بقي ... وكنت مكانك فيمن ذهب!(3/219)
من رثى إخوته
لمتمم بن نويرة:
الرياشيّ قال: صلى متمّم بن نويرة الصبح مع أبي بكر الصدّيق رضي الله تعالى عنه، ثم أنشد:
نعم بالله إذا الرّياح تناوحت ... بين البيوت قتلت يابن الأزور
أدعوته بالله ثم قتلته ... لو هو دعاك بذمّة لم يغدر
لا يضمر الفحشاء تحت ردائه ... حلو شمائله عفيف المثزر
قال: ثم بكى حتى سالت عينه العوراء. قال أبو بكر: ما دعوته ولا قتلته. وقال متمم:
ومستضحك مني ادّعى كمصيبتي ... وليس أخو الشجو الحزين بضاحك
يقول أتبكي من قبور رأيتها ... لقبر بأطراف الّلوى فالدّكادك «1»
فقلت له إن الأسى يبعث الأسى ... فدعني فهذي كلّها قبر مالك «2»
وقال متمم يرثي أخاه مالكا، وهي التي تسمّى أمّ المراثي:
لعمري وما دهري بتأبين هالك ... ولا جزع مما ألّم فأوجعا «3»
لقد غيّب المنهال تحت ردائه ... فتى غير مبطان العشيات أروعا «4»
ولا برما تهدي النساء لعرسه ... إذا القشع من برد الشتاء تقعقعا «5»
تراه كنصل السيف يهتزّ للنّدى ... إذا لم تجد عند امريء السّوء مطعما
فعينيّ هلّا تبكيان لمالك ... إذا هزت الرّيح الكنيف المرفّعا
وأرملة تدعو بأشعث محثل ... كفرخ الحبارى ريشه قد تمزّعا «6»(3/220)
وما كان وقّافا إذا الخيل أحجمت ... ولا طالبا من خشية الموت مفزعا
ولا بكهام سيفه عن عدوّه ... إذا هو لاقى حاسرا أو مقنّعا «1»
أبى الصبر آيات أراها وإنني ... أرى كلّ حبل بعد حبلك أقطعا
وإني متى ما أدع باسمك لم تجب ... وكنت حريّا أن تجيب وتسمعا
تحيته مني وإن كان نائيا ... وأمسى ترابا فوقه الأرض بلقعا
فإن تكن الأيام فرّقن بننا ... فقد بان محمودا أخى حين ودّعا
وعشنا بخير في الحياة وقبلنا ... أصاب المنايا رهط كسرى وتبّعا
وكنا كندمانى جذيمة حقبة ... من الدهر حتى قيل لن يتصدّعا
فلما تفرقنا كأنّي ومالكا ... لطول اجتماع لم نبت ليلة معا
فما شارف حنّت حنينا ورجّعت ... أنينا فأبكى شجوها البرك أجمعا «2»
ولا وجد أظآر ثلاث روائم ... وأين مجرّا من حوار ومصرعا «3»
بأوجد مني يوم قام بمالك ... مناد فصيح بالفراق فأسمعا
سقى الله أرضا حلّها قبر مالك ... ذهاب الغوادي المدجنات فأمرعا «4»
قيل لعمرو بن بحر الجاحظ: إن الأصمعي كان يسمي هذا الشعر أم المراثي.
فقال: لم يسمع الأصمعي:
أيّ القلوب عليكم ليس ينصدع ... وأيّ نوم عليكم ليس يمتنع
وقال الأصمعي: لم يبتدىء أحد بمرثية بأحسن من ابتداء أوس بن حجر:
أيتها النفس أجملي جزعا ... إنّ الذي تحذرين قد وقعا
وبعدها قول زميل:
أجارتنا من يجتمع يتفرّق ... ومن يك رهنا للحوادث يغلق(3/221)
رثاء أخت النضر له:
قال ابن إسحاق صاحب المغازي: لما نزل رسول الله صلّى الله عليه وسلم الصفراء- وقال ابن هشام الأثيل- أمر عليّ بن أبي طالب بضرب عنق النضر بن الحارث بن كلدة بن علقمة بن عبد مناف صبرا بين يدي رسول الله صلّى الله عليه وسلم؛ فقالت أخته قتيلة بنت الحارث ترثيه:
يا راكبا إنّ الاثيل مظنة ... من صبح خامسة وأنت موفّق
أبلغ بها ميتا بأنّ تحية ... ما إن تزال بها النجائب تخفق «1»
منّي إليك وعبرة مسفوحة ... جادت بواكفها وأخرى تخنق «2»
هل يسمعنّي النضر إن ناديته ... أم كيف يسمع ميت لا ينطق
أمحمد يا خير ضنء كريمة ... من قومه والفحل فحل مغرق «3»
ما كان ضرّك لو مننت وربما ... منّ الفتى وهو المغيظ المحنق
فالنضر أقرب من أسرت قرابة ... وأحقّهم إن كان عتقا يعتق
ظلّت سيوف بني أبيه تنوشه ... لله أرحام هناك تشقّق «4»
صبرا يقاد إلى المنيّة متعبا ... رسف المقيّد وهو عان موثق «5»
قال ابن هشام: قال النبي صلّى الله عليه وسلم لما بلغه هذا الشعر: لو بلغني قبل قتله ما قتلته.
عمر بن الخطاب والخنساء في أخويها:
الأصمعي قال: نظر عمر بن الخطاب إلى خنساء وبها ندوب في وجهها، فقال: ما هذه الندوب يا خنساء؟ قالت: من طول البكاء على أخويّ! قال لها: أخواك في النار! قالت: ذلك أطول لحزني عليهما؛ إني كنت أشفق عليهما من القتل، وأنا اليوم أبكي لهما من النار، وأنشدت:(3/222)
وقائلة والنعش قد فات خطوها ... لتدركه يا لهف نفسي على صخر
ألا ثكلت أمّ الذين غدوا به ... إلى القبر ماذا يحملون إلى القبر
عائشة والخنساء في صدار كانت تلبسه:
دخلت خنساء على عائشة أم المؤمنين رضي الله تعالى عنها وعليها صدار من شعر قد استشعرته إلى جلدها؛ فقال لها: ما هذا يا خنساء؟ فو الله لقد توفي رسول الله صلّى الله عليه وسلم فما لبسته! قالت: إنّ له معنى دعاني إلى لباسه؛ وذلك أنّ أبي زوّجني سيدّ قومه، وكان رجلا متلافا، فأسرف في ماله حتى أنفده، ثم رجع في مالي فأنفده أيضا، ثم التفت إليّ فقال: إلى أين يا خنساء؟ قلت: إلى أخي صخر. قالت: فأتيناه فقسم ماله شطرين، ثم خيّرنا في أحسن الشطرين، فرجعنا من عنده، فلم يزل زوجي حتى أذهب جميعه، ثم التفت إليّ فقال لي: إلى أين يا خنساء؟ قلت: إلى أخي صخر! قالت: فرحلنا إليه، ثم قسم ماله شطرين وخيّرنا في أفضل الشطرين، فقالت له زوجته: أما ترضى أن تشاطرهم مالك حتى تخيّرهم بين الشطرين؟ فقال:
والله لا أمنحها شرارها ... فلو هلكت قدّدت خمارها
واتخذت من شعر صدارها ... وهي حصان قد كفتني عارها
فآليت ألّا يفارق الصدار جسدي ما بقيت.
الخنساء في أخويها:
قيل للخنساء: صفي لنا أخويك صخرا ومعاوية. فقالت: كان صخر والله جنة الزمان الأغبر، وذعاف الخميس الأحمر. وكان والله معاوية القائل والفاعل. قيل لها:
فأيهما كان أسنى وأفخر، قالت: أما صخر فحرّ الشتاء، وأما معاوية فبرد الهواء. قيل لها: فأيهما أوجع وأفجع. قالت: أما صخر فجمر الكبد، وأما معاوية فسقام الجسد! وأنشأت:
أسدان محمرّا المخالب نجدة ... بحران في الزّمن الغضوب الأنمر(3/223)
قمران في النادي، رفيعا محتد ... في المجد فرعا سودد متخيّر «1»
وقالت الخنساء ترثي أخاها صخر بن الشريد:
أقذى بعينك أم بالعين عوّار ... أم أقفرت إذ خلت من أهلها الدّار
كأنّ دمعي لذكراه إذا خطرت ... فيض يسيل على الخدّين مدرار
فالعين تبكي على صخر وحقّ لها ... ودونه من جديد الأرض أستار
بكاء والهة ضلّت أليفتها ... لها حنينان إصغار وإكبار «2»
ترعى إذا نسيت حتى إذا ادّكرت ... فإنما هي إقبال وإدبار
وإنّ صخرا لتأتمّ الهداة به ... كأنه علم في رأسه نار «3»
حامي الحقيقة، محمود الخليقة، مهديّ الطريقة، نفّاع وضرّار وقالت أيضا:
ألا ما لعيني، ألا مالها ... لقد أخضل الدّمع سربالها
أمن بعد صخر من ال الشريد حلّت به الأرض أثقالها
فآليت آسى على هالك ... وأسأل باكية مالها
وهمّت بنفسي كلّ الهموم ... فأولى لنفسي أولى لها
سأحمل نفسي على خطة ... فإمّا عليها وإمّا لها
وقالت أيضا:
أعينيّ جودا ولا تجمدا ... ألا تبكيان لصخر النّدى؟
ألا تبكيان الجريء الجواد ... ألا تبكيان الفتى السّيّدا؟
طويل النّجاد رفيع العما ... د، ساد عشيرته أمردا
يحمّله القوم ما غالهم ... وإن كان أصغرهم مولدا
جموع الضّيوف إلى بابه ... يرى أفضل الكسب أن يحمدا(3/224)
وقالت أيضا:
فما أدركت كفّ امرىء متناول ... من المجد إلّا والذي نلت أطول
وما بلغ المهدون للمدح غاية ... ولا جهدوا إلّا الذي فيك أفضل
وما الغيث في جعد الثرى دمث الربا ... تبعّق فيها الوابل المتهلّل «1»
فأفضل سيبا من يديك ونعمة ... تجود بها، بل سيب كفّيك أجزل
من القوم مغشيّ الرواق كأنه ... إذا سيم ضيما خادر متبسّل «2»
شرنبث أطراف البنان ضبارم ... له في عرين الغيل عرس وأشبل «3»
لأخت الوليد بن طريف في رثائه:
وقالت أخت الوليد بن طريف ترثي أخاها الوليد بن طريف:
أيا شجر الخابور مالك مورقا ... كأنك لم تجزع على ابن طريف
فتى لا يريد العزّ إلّا من التقى ... ولا المال إلّا من قنا وسيوف «4»
ولا الذّخر إلا كلّ جرداء صلدم ... وكلّ رقيق الشّفرتين حليف «5»
فقدناه فقدان الرّبيع فليتنا ... فديناه من ساداتنا بألوف
خفيف على ظهر الجواد إذا عدا ... وليس على أعدائه بخفيف
عليك سلام الله وقفا فإنني ... أرى الموت وقاعا بكلّ شريف
وقال آخر يرثي آخاه:
أخ طالما سرني ذكره ... فقد صرت أشجى إلى ذكره
وقد كنت أغدو إلى قصره ... فقد صرت أغدو إلى قبره
وكنت أراني غنيّا به ... عن الناس لو مدّ في عمره
وكنت إذا جئته زائرا ... فأمري يجوز على أمره(3/225)
وقالت الخنساء ترثي أخاها صخرا:
بكت عيني وعاودها قذاها ... بعوّار فما تقضى كراها «1»
على صخر وأيّ فتى كصخر ... إذا ما الغاب لم ترأم طلاها «2»
حلفت بربّ صهب معملات ... إلى البيت المحرّم منتهاها
لئن جزعت بنو عمرو عليه ... لقد رزئت بنو عمرو فتاها
له كف يشدّ بها وكف ... تجود فما يجفّ ثرى نداها
ترى الشّمّ الغطارف من سليم ... وقد بلّت مدامعها لحاها
أحاميكم ومطعمكم تركتم ... لدى غبراء منهدم رجاها
فمن للضيف إن هبّت شمال ... مزعزعة تناوئها صباها
وألجأ بردها الأشوال حدبا ... إلى الحجرات بادية كلاها «3»
هنالك لو نزلت بباب صخر ... قرى الأضياف شحما من ذراها
وخيل قد دلفت لها بخيل ... فدارت بين كبشيها رحاها «4»
تكفكف فضل سابغة دلاص ... على خيفانة خفق حشاها «5»
وقال كعب يرثي أخاه أبا المغوار:
تقول سليّمى: ما لجسمك شاحبا ... كأنك يحميك الطعام طبيب
فقلت: شجون من خطوب تتابعت ... عليّ كبار والزمان يريب
لعمري لئن كانت أصابت منيّة ... أخي، فالمنايا للرّجال شعوب «6»
فإني لباكيه، وإني لصادق ... عليه، وبعض القائلين كذوب
أخي ما أخي! لا فاحش عند بيته ... ولا ورع عند اللّقاء هيوب
أخ كان يكفيني وكان يعينني ... على نائبات الدّهر حين تنوب(3/226)
هو العسل الماذيّ لينا وشيمة ... وليث إذا لاقى الرجال قطوب»
هوت أمّه ما يبعث الصبح غاديا ... وماذا يؤدّي الليل حين يؤوب «2»
كعالية الرّمح الرّدينيّ لم يكن ... إذا ابتدر الخير الرجال يخيب
وداع دعا يا من يجيب إلى الندى ... فلم يستجبه عند ذاك مجيب
فقلت ادع أخرى وارفع الصوت ثانيا ... لعلّ أبا المغوار منك قريب
يجبك كما قد كان يفعل إنه ... بأمثاله رحب الذّراع أريب
وحدّثتماني أنما الموت في القرى ... فكيف وهذي هضبة وكثيب
فلو كانت الموتى تباع اشتريته ... بما لم تكن عنه النفوس تطيب
بعينيّ أو يمنى يديّ وخلتني ... أنا الغانم الجذلان حين يؤوب
لقد أفسد الموت الحياة وقد أتى ... على يومه علق إليّ حبيب «3»
أتى دون حلو العيش حتى أمرّه ... خطوب على آثارهنّ نكوب
فو الله لا أنساه ماذرّ شارق ... وما اهتزّ بي فرع الأراك قضيب
فإن تكن الأيام أحسنّ مرة ... إليّ لقد عادت لهنّ ذنوب
وقال امرؤ القيس يرثي إخوته:
ألا يا عين جودي لي شنينا ... وبكّي للملوك الذاهبينا
ملوك من بني صخر بن عمرو ... يقادون العشيّة يقتلونا
فلم تغسل رءوسهم بسدر ... ولكن في الدماء مزمّلينا
فلو في يوم معركة أصيبوا ... ولكن في ديار بني مرينا
وقال الأبيرد بن المعذّر الرّياحي يرثي أخاه بريدا:
تطاول ليلى لم أنمه تقلّبا ... كأن فراشي حال من دونه الجمر
أراقب من ليل التمام نجومه ... لدن غاب قرن الشمس حتى بدا الفجر
تذكّر علق بان منّا بنصره ... ونائله يا حبّذا ذلك الذّكن(3/227)
فإن تكن الأيام فرّقن بيننا ... فقد عذرتنا في صحابته العذر
وكنت أرى هجرا فراقك ساعة ... ألا لا بل الموت التفرق والهجر
أحقا عباد الله أن لست لاقيا ... بريدا طوال الدهر مالألأ العفر «1»
فتى ليس كالفتيان إلا خيارهم ... من القوم جزل لا ذليل ولا غمر «2»
فتى إن هو استغنى تخرّق في الغنى ... وإن كان فقر لم يؤد متنه الفقر «3»
وسامي جسيمات الأمور فنالها ... على العسر حتى يدرك العسرة اليسر
ترى القوم في العزاء ينتظرونه ... إذا شتّ رأي القوم أو حزب الأمر «4»
فليتك كنت الحيّ في الناس باقيا ... وكنت أنا الميت الذي ضمّه القبر
فتى يشتري حسن الثناء بماله ... إذا السّنة الشهباء قلّ بها القطر «5»
كأن لم يصاحبنا بريد بغبطة ... ولم تأتنا يوما بأخباره البشر
لعمري لنعم المرء عالي نعيّه ... لنا ابن عرين بعد ما جنح العصر
تمضّت به الأخبار حتى تغلغلت ... ولم تثنه الأطباع عنا ولا الجدر «6»
فلما نعى الناعي بريدا تغوّلت ... بي الأرض فرط الحزن وانقطع الظهر «7»
عساكر تغشى النفس حتى كأنني ... أخو نشوة دارت بهامته الخمر
إلى الله أشكو في بريد مصيبتي ... وبثّي وأحزانا يجيش بها الصدر
وقد كنت أستعفي الإله إذا اشتكى ... من الأجر لي فيه وإن سرّني الأجر
وما زال في عينيّ بعد غشاوة ... وسمعي عما كنت أسمعه وقر
على أنني أقني الحياء وأتّقي ... شماتة أقدام عيونهم خزر «8»
فحّياك عني الليل والصبح إذ بدا ... وهوج من الأرواح غدوتها شهر
سقى جدثا لو أستطيع سقيته ... بأود فروّاه الرواعد والقطر «9»(3/228)
ولا زال يسقي من بلاد ثوى بها ... ثبات إذا صاب الربيع بها نضر
حلفت برب الرافعين أكفّهم ... وربّ الهدايا حيث حلّ بها النجر «1»
ومجتمع الحجاج حيث تواقفت ... رفاق من الآفاق تكبيرها جأر
يمين امريء آلى وليس بكاذب ... وما في يمين بتّها صادق وزر
لئن كان أمسى ابن المعذّر قد ثوى ... بريد لنعم المرء غيّبه القبر
هو المرء للمعروف والدين والنّدي ... ومسعر حرب لا كهام ولا غمر «2»
أقام ونادى أهله فتحمّلوا ... وصرّمت الأسباب واختلف النّجر
فأيّ امريء غادرتم في بيوتكم ... إذا هي أمست لون آفاقها حمر
إذا الشول أمست وهي حدب ظهورها ... عجافا ولم يسمع لفحل لها هدر
كثير رماد القدر يغشى فناؤه ... إذا نودي الأيسار واحتضر الجزر
فتى كان يغلي اللحم نيئا ولحمه ... رخيص بكفّيه إذا تنزل القدر
يقسّمه حتى يشيع ولم يكن ... كآخر يضحي من غبيبته ذخر «3»
فتى الحيّ والأضياف إن روّحتهم ... بليل وزاد السّفر إن أرمل السّفر «4»
إذا أجهد القوم المطيّ وأدرجت ... من الضّمر حتى يبلغ الحقب الضّفر «5»
وخفت بقايا زادهم وتواكلوا ... وأكسف بال القوم مجهولة قفر
رأيت له فضلا عليهم بقوّة ... وبالعقر لما كان زادهم العقر
إذا القوم أسروا ليلهم ثم أصبحوا ... غدا وهو ما فيه سقاط ولا فتر «6»
وإن خشعت أبصارهم وتضاءلت ... من الأين جلّى مثل ما ينظر الصّقر
وإن جارة حلّت إليه وفى لها ... فباتت ولم يهتك لجارته ستر
عفيف عن السّوءات ما التبست به ... صليب فما يلفى بعود له كسر
سلكت سبيل العالمين فما لهم ... وراء الذي لاقيت معدى ولا قصر(3/229)
وكلّ امرىء يوما ملاق حمامه ... وإن باتت الدّعوى وطال به العمر
وأبليت خيرا في الحياة وإنّما ... ثوابك عندي اليوم أن ينطق الشّعر
ليفدك مولى أو أخ ذو ذمامة ... قليل الغناء لا عطاء ولا نصر «1»
لشبل بن معبد البجلي:
أتى دون حلو العيش حتى أمرّه ... نكوب على آثارهنّ نكوب
تتابعن في الأحباب حتى أبدنهم ... فلم يبق منهم في الدّيار قريب
برتني صروف الدهر من كلّ جانب ... كما ينبري دون اللّحاء عسيب «2»
فأصبحت إلا رحمة الله مفردا ... لدى الناس صبرا والفؤاد كئيب
إذا ذرّ قرن الشمس علّلت بالأسى ... ويأوي إليّ الحزن حين يؤوب
ونام خليّ البال عنّي ولم أنم ... كما لم ينم عاري الفناء غريب
تضرّ به الأيام حتى كأنّه ... بطول الذي أعقبن وهو رقوب
فقلت لأصحابي وقد قذفت بنا ... نوى غربة عمّن نحبّ شطوب «3»
متى العهد بالأهل الذين تركتهم ... لهم في فؤادي بالعراق نصيب
فما ترك الطاعون من ذي قرابة ... إليه إذا حان الإياب نؤوب
فقد أصبحوا لا دارهم منك غربة ... بعيد، ولا هم في الحياة قريب
وكنت ترجّى أن تئوب إليهم ... فعالتهم من دون ذاك شعوب
مقادير لا يغفلن من حان يومه ... لهنّ على كلّ النّفوس رقيب
سقين بكأس الموت من حان حينه ... وفي الحيّ من أنفاسهنّ ذنوب «4»
وإنا وإيّاهم كوارد منهل ... على حوضه بالباليات نهيب
إليه تناهينا ولو حال دونه ... مياه وراء كلّهن شروب
فهوّن عنّي بعض وجدي أنّني ... رأيت المنايا تغتدي وتؤوب
ولسنا بأحيا منهم غير أنّنا ... إلى أجل ندعى له فنجيب(3/230)
وإني إذا ما شئت لاقيت أسوة ... تكاد لها نفس الحزين تطيب
فتى كان ذا أهل ومال فلم يزل ... به الدهر حتى صار وهو حريب «1»
وكيف عزاء المرء عن أهل بيته ... وليس له في الغابرين حبيب
متى يذكروا يفرح فؤادي لذكرهم ... وتسجم دموع بينهنّ نحيب
دموع مراها الشّجو حتى كأنها ... جداول تجري بينهنّ غروب «2»
إذا ما أردت الصبر هاج لي البكا ... فؤاد إلى أهل القبور طروب
بكى شجوه ثم ارعوى بعد عوله ... كما واترت بين الحنين سلوب «3»
دعاها الهوى من سبقها فهي واله ... وردّت إليّ الآن فهي تحوب «4»
فوجدي بأهلي وجدها غير أنهم ... شباب يزينون النّدى ومشيب
من رثت زوجها
قال أسماء بنت أبي بكر ذات النطاقين رضي الله عنها ترثي زوجها الزبير بن العوام، وكان قتله عمرو بن جرموز المجاشعي بوادي السّباع وهو منصرف من وقعة الجمل وتروي هذه الأبيات لزوجته عاتكة التي تزوجها بعد عمر بن الخطاب رضي الله عنه:
غدر ابن جرموز بفارس بهمة ... يوم الهياج وكان غير معرّد «5»
يا عمرو لو نبّهته لوجدته ... لا طائشا رعش الجنان ولا اليد
ثكلتك أمّك إن قتلت لمسلما ... حلّت عليك عقوبة المتعمّد
لبانة زوجة الأمين ترثيه:
الهلالي قال: تزوّج محمد بن هارون الرشيد لبانة بنت عليّ بن ريطة، وكانت من أجمل النساء، فقتل محمد عنها ولم يبن بها، فقالت ترثيه:(3/231)
أبكيك لا للنّعيم والأنس ... بل للمعالي والرّمح والفرس
يا فارسا بالعراء مطّرحا ... خانته قوّاده مع الحرس
أبكي على سيّد فجعت به ... أرملني قبل ليلة العرس
أم من لبرّأم من لعائدة ... أم من لذكر الإله في الغلس «1»
من للحروب التي تكون لها ... إن أضرمت نارها بلا قبس
وقال أعرابية ترثي زوجها:
كنّا كغصنين في جرثومة بسقا ... حينا على خير ما ينمى به الشجر
حتى إذا قيل قد طالت فروعهما ... وطاب قنواهما واستنظر الثّمر «2»
أخنى على واحد ريب الزّمان وما ... يبقي الزّمان على شيء ولا يذر «3»
كنّا كأنجم ليل بينهما قمر ... يجلو الدّجى فهوى من بيننا القمر
الأصمعي وجارية على قبر زوجها:
الأصمعيّ قال: دخلت بعض مقابر الأعراب ومعي صاحب لي، فإذا جارية على قبر كأنها تمثال، وعليها من الحلي والحلل ما لم أر مثله، وهي تبكي بعين غزيرة وصوت شجي؛ فالتفت إلى صاحبي فقلت: هل رأيت أعجب من هذا؟ قال: لا والله ولا أحسبني أراه! ثم قلت لها: يا هذه إني أراك حزينة وما عليك زي الحزن. فأنشأت تقول:
فإن تسألاني فيم حزني فإنني ... رهينة هذا القبر يا فتيان
وإني لأستحييه والتّرب بيننا ... كما كنت أستحييه حين يراني
أهابك إجلالا وإن كنت في الثرى ... مخافة يوم أن يسوءك شاني
ثم اندفعت في البكاء وجعلت تقول:
يا صاحب القبر يا من كان ينعم بي ... بالا ويكثر في الدّنيا مواساتي(3/232)
قد زرت قبرك في حلي وفي حلل ... كأنني لست من أهل المصيبات
أردت آتيك فيما كنت أعرفه ... أن قد تسرّ به من بعض هيآتي
فمن رآني رأى عبرى مولّهة ... عجيبة الزّيّ تبكي بين أموات
وقال: رأيت بصحراء جارية قد ألصقت خدها بقبر وهي تبكي وتقول:
خدّي يقيك خشونة اللّحد ... وقليلة لك سيّدي خدّي
يا ساكن القبر الذي بوفاته ... عميت عليّ مسالك الرّشد
اسمع أبثّك علّتي ولعلّني ... أطفي بذلك حرقة الوجد
من رثى جاريته
كان لمعلى الطائي جارية يقال لها وصف، وكانت أديبة شاعرة، فأخبرني محمد بن وضّاح، قال: أدركت معلّى الطائي بمصر وأعطي بجاريته وصف أربعة آلاف دينار، فباعها؛ فلما دخل عليها قالت له: بعتني يا معلّى! قال: نعم. قالت: والله لو ملكت منك مثل ما تملك مني ما بعتك بالدنيا وما فيها! فردّ الدنانير واستقال صاحبه، فأصيب بها إلى ثمانية أيام؛ فقال يرثيها:
يا موت كيف سلبتني وصفا ... قدّمتها وتركتني خلفا
هلّا ذهبت بنا معا فلقد ... ظفرت يداك فسمتني خسفا
وأخذت شقّ النفس من بدني ... فقبرته وتركت لي النّصفا
فعليك بالباقي بلا أجل ... فالموت بعد وفاتها أعفى
يا موت ما أبقيت لي أحدا ... لمّا رفعت إلي البلى وصفا
هلّا رحمت شباب غانية ... ريّا العظام وشعرها الوحفا «1»
ورحمت عيني ظبية جعلت ... بين الرّياض تناظر الخشفا «2»
تغفي إذا انتصبت فرائصه ... وتظل ترعاه إذا أغفى»(3/233)
فإذا مشى اختلفت قوائمه ... وقت الرضاع فينطوي ضعفّا
متحيرا في المشي مرتعشا ... يخطو فيضرب ظلفه الظّلفا
فكأنها وصف إذا جعلت ... نحوي تحير محاجرا وطفا «1»
يا موت أنت كذا لكلّ أخي ... إلف يصون ببرّه الإلفا
خلّيتني فردا وبنت بها ... ما كنت قبلك حاملا وكفا «2»
فتركتها بالرغم في جدث ... للرّيح تنسف تربه نسفا
دون المقطّم لا ألبّسها ... من زينة قرطا ولا شنفا «3»
أسكنتها في قعر مظلمة ... بيتا يصافح تربه السّقفا
بيتا إذا ما زاره أحد ... عصفت به أيدي البلى عصفا
لا نلتقي أبدا معاينة ... حتى نقوم لربّنا صفّا
لبست ثياب الحتف جارية ... قد كنت ألبس دونها الحتفا
فكأنها والنفس زاهقة ... غصن من الرّيحان قد جفّا
يا قبر أبق على محاسنها ... فلقد حويت البر والظّرفا
مروان بن محمد وجارية له خلفها بالرملة:
لما هزم مروان بن محمد وخرج نحو مصر، كتب إلى جارية له خلفها بالرملة:
وما زال يدعوني إلى الصدّ ما أرى ... فآبي ويثنيني الذي لك في صدري
وكان عزيزا أن تبيني وبيننا ... حجاب فقد أمسيت منك على عشر
وأنكاهما للقلب والله فاعلمي ... إذا ازددت مثليها فصرت على شهر
وأعظم من هذين والله أنني ... أخاف بألّا نلتقي آخر الدهر
سأبكيك لا مستبقيا فيض عبرة ... ولا طالبا بالصبر عاقبة الصبر(3/234)
لأبي نواس يرثي جارية:
وجدوا على قبر جارية إلى جنب قبر أبي نواس أبياتا، ذكروا أن أبا نواس قالها، وهي:
أقول لقبر زرته متلثّما ... سقى الله برد العفو صاحبة القبر
لقد غيّبوا تحت الثرى قمر الدجى ... وشمس الضّحى بين الصّفائح والقفر
عجبت لعين بعدها ملّت البكا ... وقلب عليها يرتجي راحة الصبر
وقال حبيب الطائي يرثي جارية أصيب بها:
جفوف البلى أسرعت في الغصن الرطب ... وخطب الرّدى والموت أبرحت من خطب
لقد شرقت في الشرق بالموت غادة ... تبدّلت منها غربة الدار في القرب
وألبسني ثوبا من الحزن والأسى ... هلال عليه نسج ثوب من التّرب
وكنت أرجّي القرب وهي بعيدة ... فقد نقلت بعدي عن البعد والقرب
أقول وقد قالوا استراحت لموتها ... من الكرب روح الموت شرّ من الكرب
لها منزل تحت الثّرى وعهدتها ... لها منزل بين الجوانح والقلب «1»
وقال يرثيها:
ألم ترني خلّيت نفسي وشانها ... ولم أحفل الدنيا ولا حدثانها
لقد خوّفتني النائبات صروفها ... ولو أمّنتني ما قبلت أمانها
وكيف على نار الليالي معرّس ... إذا كان شيب العارضين دخانها
أصبت بخود سوف أغبر بعدها ... حليف أسى أبكي زمانا زمانها «2»
عنان من الّلذات قد كان في يدي ... فلما قضى الالف استردّت عنانها
منحت المها هجري فلا محسناتها ... أريد ولا يهوى فؤادي حسانها
يقولون هل يبكي الفتى لخريدة ... إذا ما أراد اعتاض عشرا مكانها «3»(3/235)
وهل يستعيض المرء من خمس كفّه ... ولو صاغ من حرّ اللّجين بنانها «1»
وقال أعرابي يرثي امرأته:
فو الله ما أدري إذا الليل جنّني ... وذكرنيها أيّنا هو أوجع
أمنفصل عنه ثرى أم كريمة ... أم العاشق النابي به كلّ مضجع
وقال محمود الورّاق يرثي جاريته نشو:
ومنتصح يردّد ذكر نشو ... على عمد ليبعث لي اكتئابا
أقول- وعدّ- ما كانت تساوي ... سيحسب ذاك من خلق الحسابا
عطيّته إذا أعطى سرور ... وإن أخذ الذي أعطى أثابا
فأيّ النّعمتين أعم نفعا ... وأحسن في عواقبها إيابا
أنعمته التي أهدت سرورا ... أم الأخرى التي أهدت ثوابا
بل الأخرى وإن نزلت بحزن ... أحقّ بشكر من صبر احتسابا
محب وجارية له ماتت:
أبو جعفر البغدادي قال: كان لنا جار، وكانت له جارية جميلة، وكان شديد المحبة لها؛ فماتت، فوجد عليها وجدا شديدا، فبينما هو ذات ليلة نائم، إذ أتته الجارية في نومه فأنشدته هذه الأبيات:
جاءت تزور وسادي بعد ما دفنت ... في النوم ألثم خدا زانه الجيد
فقلت قرّة عيني قد نعيت لنا ... فكيف ذا وطريق القبر مسدود
قالت هناك عظامي فيه ملحدة ... تنهش منها هوام الأرض والدود «2»
وهذه النفس قد جاءتك زائرة ... فاقبل زيارّة من في القبر ملحود
فانتبه وقد حفظها، وكان يحدّث الناس بذلك وينشدهم. فما بقي بعدها إلا أياما يسيرة حتى لحق بها.(3/236)
من رثى ابنة
قال البحتري في ابنة لأحد بني حميد:
ظلم الدهر فيكم وأساء ... فعزاء بني حميد عزاء
أنفس ما تّزال تفقد فقدا ... وصدور ما تبرح البرحاء
أصبح السيف داءكم وهو الدا ... ء الذي ما يزال يعني الدواء
وانتحى القتل فيكم فبكينا ... بدماء الدموع تلك الدّماء
يا أبا القاسم المقسّم في النّج ... دة والجود والنّدي أجزاء
والهزبر الذي دارت الحر ... ب به صرّف الرّدى كيف شاء «1»
الأسى واجب على الحرّ إما ... نية حرّة وإما رياء
وسفاه أن يجزع الحرّ مما ... كان حتما على العباد قضاء
أنبكّي من لا ينازل بالسي ... ف مشيحا ولا يهزّ اللّواء «2»
والفتى من رأى القبور لمن طا ... ف به من بناته الأكفاء
ليس من زينة الحياة كعدّ ... الله منها الأموال والابناء
قد ولدن الأعداء قدما وورّث ... ن التّلاد الأقاصي البعداء
لم يئدتر بهنّ قيس تميم ... علّة بل حمّية وإباء
وتغشّي مهلهل الذلّ في ... هنّ وقد أعطي الأديم حباء
وشقيق بن فاتك حذر العا ... ر عليهنّ فارق الدّهناء
وعلى غيرهنّ أحزن يعقو ... ب وقد جاءه بنوه عشاء
وشعيب من أجلهنّ رأى الوح ... دة ضعفا فاستأجر الأنبياء
وتلفّت إلى القبائل فانظر ... أمّهات ينسبن أم آباء
واستزلّ الشيطان آدم في الج ... نّة لمّا أغرى به حوّاء
ولعمري ما العجز عندي إلا ... أن تبيت الرجال تبكي النساء(3/237)
مراثي الأشراف
لحسان يرثي الرسول صلّى الله عليه وسلم وأبا بكر وعمر وعثمان:
قال حسّان بن ثابت يرثي رسول الله صلّى الله عليه وسلم وأبا بكر وعمر، رضوان الله عليهم:
ثلاثة برزوا بسبقهم ... نضّرهم ربّهم إذا نشروا
عاشوا بلا فرقة حياتهم ... واجتمعوا في الممات إذ قبروا
فليس من مسلم له بصر ... ينكرهم فضلهم إذا ذكروا
وقال حسان يرثي أبا بكر رضي الله عنه:
إذا تذكّرت شجوا من أخي ثقة ... فاذكر أخاك أبا بكر بما فعلا
خير البريّة أتقاها وأعدلها ... بعد النبيّ وأوفاها بما حملا
الثاني اثنين والمحمود مشهده ... وأوّل الناس طراّ صدّق الرّسلا
وكان حبّ رسول الله قد علموا ... من البرية لم يعدل به رجلا
وقال يرثي عمر بن الخطاب رضي الله عنه:
عليك سلام من أمير وباركت ... يد الله في ذاك الأديم الممزّق
فمن يجر أو يركب جناحي نعامة ... ليدرك ما قدّمت بالأمس يسبق
قضيت أمورا ثم غادرت بعدها ... نوافج في أكمامها لم تفتّق
وما كنت أخشى أن تكون وفاته ... بكفّي سبنتي أزرق العين مطرق «1»
وقال يرثي عثمان بن عفان رضي الله عنه:
من سرّه الموت صرفا لا مزاج له ... فليأت ما سرّه في دار عثمانا
إني لمنهم وإن غابوا وإن شهدوا ... ما دمت حيّا وما سمّيت حسّانا
يا ليّت شعري وليت الطير تخبرني ... ما كان شأن عليّ وابن عفّانا
لتسمعن وشيكا في ديارهم ... الله أكبر يا ثارات عثمانا
ضحوا بأشمط عنوان السّجود به ... يقطّع الليل نسبيحا وقرآنا «2»(3/238)
وقال الفرزدق في قتل عثمان رضي الله تعالي عنه:
إنّ الخلافة لمّا أظعنت ظعنت ... من أهل يثرب إذ غير الهدى سلكوا «1»
صارت إلى أهلها منهم ووارثها ... لمّا رأى الله في عثمان ما انتهكوا
السافكي دمه ظلما ومعصية ... أيّ دم لا هدوا من غيّهم سفكوا
وقال السيد الحميري يرثي علي بن أبي طالب كرم الله وجهه ويذكر يوم صفّين:
إني أدين بما دان الوصي به ... وشاركت كفه كفّي بصفّينا
في سفك ما سفكت منها إذا احتضروا ... وأبرز الله للقسط الموازينا
تلك الدّماء معا يا ربّ في عنقي ... ثم اسقني مثلها آمين آمينا
آمين من مثلهم في مثل حالهم ... في فتية هاجروا لله سارينا
ليسوا يريدون غير الله ربّهم ... نعم المراد توخّاه المريدونا
أنشد الرياشي لرجل من أهل الشام يرثي عمر بن عبد العزيز رضي الله تعالى عنه:
قد غيّب الدّافنون اللحد إذ دفنوا ... بدير سمعان قسطاس الموازين «2»
ولم يكن همّه عينا يفجّرها ... ولا النخيل ولا ركض البراذين «3»
أقول لمّا أتاني نعي مهلكه ... لا تبعدنّ قوام الملك والدّين
وقال الفرزدق يرثي عبد العزيز بن مروان:
ظلّوا على قبره يستغفرون له ... وقد يقولون تارات لنا العبر «4»
يقبّلون ترابا فوق أعظمه ... كما يقبل في المحجوجة الحجر «5»
لله أرض أجنّته ضريحتها ... وكيف يدفن في الملحودة القمر «6»
إنّ المنابر لا تعتاض عن ملك ... إليه يشخص فوق المنبر البصر(3/239)
وقال جرير يرثي عمر بن عبد العزيز:
ينعي النّعاة أمير المؤمنين لنا ... يا خير من حجّ بيت الله واعتمرا
حمّلت أمرا عظيما فاصطبرت له ... وسرت فيه بحكم الله يا عمرا
فالشمس طالعة ليست بكاسفة ... تبكي عليك نجوم الليل والقمرا
قال جرير يرثي الوليد بن عبد الملك:
إنّ الخليفة قد وارت شمائله ... غبراء ملحودة في جولها زور «1»
أمسى بنوه وقد جلّت مصيبتهم ... مثل النجوم هوى من بينها القمر
كانوا جميعا فلم يدفع منيته ... عبد العزيز ولا روح ولا عمر
وقال غيره يرثي قيس بن عاصم المنقريّ:
عليك سلام الله قيس بن عاصم ... ورحمته ما شاء أن يترحّما
تحية من ألبسته منك نعمة ... إذا زار عن شحط بلادك سلّما «2»
وما كان قيس هلكه هلك واحد ... ولكنه بنيان قوم تهدّما
وقال أبو عطاء السندي يرثي يزيد بن عمر بن هبيرة لما قتل بواسط:
ألا إنّ عينا لم تجد يوم واسط ... عليك بجاري دمعها لجمود
عشيّة راح الدّافنون وشقّقت ... جيوب بأيدي مأتم وخدود «3»
فإن تك مهجور الفناء فربّما ... أقام به بعد الوفود وفود
وإنك لم تبعد على متعهّد ... بلى إنّ من تحت التراب بعيد
وقال منصور النمري يرثي يزيد بن مزيد:
متى يبرد الحزن الذي في فؤادنا ... أبا خالد من بعد أن لا تلاقيا
أبا خالد ما كان أدهى مصيبة ... أصابت معدا يوم أصبحت ثاويا
لعمري لئن سرّ الأعادي وأظهروا ... شماتا لقد سرّوا بربعك خاليا(3/240)
وأوتار أقوام لديك لويتها ... وزرت بها الأجداث وهي كما هيا
تعزّي أمير المؤمنين ورهطه ... بسيف لهم ما كان في الحرب نابيا
على مثل ما لاقي يزيد بن مزيد ... عليه المنايا فالق إن كنت لافيا
وإن تك أفنته الليالي وأوشكت ... فإنّ له ذكرا سيفني اللياليا
وقال:
سأبكيك ما فاضت دموعي فإن تغض ... فحسبك مني ما تجنّ الجوانح «1»
كأن لم يمت حيّ سواك ولم تقم ... على أحد إلّا عليك النّوائح
لئن حسنت فيك المراثي وذكرها ... لقد حسنت من قبل فيك المدائح
فما أنا من رزء وإن جلّ جازع ... ولا بسرور بعد موتك فارح «2»
وقال زياد الأعجم يرثي المغيرة بن المهلّب:
إنّ الشجاعة والسّماحة ضمّنا ... قبرا بمرو على الطريق الواضح
فإذا مررت بقبره فاعقر به ... كوم الهجان وكلّ طرف سابح «3»
وانضح جوانب قبره بدمائها ... ولقد يكون أخا دم وذبائح
والآن لمّا كنت أكمل من مشى ... وافترّ نابك عن شباة القارح
وتكاملت فيك المروءة كلّها ... وأعنت ذلك بالفعال الصالح
للمهلبي من مرثيته للمتوكل:
لا حزن إلا أراه دون ما أجد ... وهل كمن فقدت عيناي مفتقد
لا يبعدن هالك كانت منيته ... كما هوى من عطاء الزّبية الأسد «4»
لا يدفع الناس ضيما بعد ليلتهم ... إذ لا تمدّ على الجاني عليك يد
لو أنّ سيفي وعقلي حاضران له ... أبليته الجهد إذ لم يبله أحد(3/241)
هلا أتته أعاديه مجاهرة ... والحرب تسعر والأبطال تجتلد
فخرّ فوق سرير الملك منجدلا ... لم يحمه ملكه لمّا انقضى الأمد
قد كان أنصاره يحمون حوزته ... وللرّدى دون أرصاد الفتي رصد
وأصبح الناس فوضى يعجبون له ... ليثا صريعا تنزّى «1» حوله النقد «2»
علتك أسياف من لا دونه أحد ... وليس فوقك إلّا الواحد الضّمد
جاءوا لدنيا عظيم يسعدون بها ... فقد شقوا بالذي جاؤا وما سعدوا
ضجت نساؤك بعد العز حين رأت ... خداّ كريما عليه قارت جسد «3»
أضحى شهيد بني العباس موعظة ... لكلّ ذي عزّة في رأسه صيد «4»
خليفة لم ينل ما ناله أحد ... ولم يصغ مثله روح ولا جسد
كم في أديمك من فوهاء هادرة ... من الجوائف يغلي فوقها الزّبد «5»
إذا بكيت فإنّ الدمع منهمل ... وإن ونيت فإنّ القول مطّرد
قد كنت أسرف في مالي ويخلف لي ... فعلّمتني الليالي كيف أقتصد
لما اعتقدتم أناسا لا حلوم لهم ... ضعتم وضيّعتم من كان يعتقد
فلو جعلتم على الأحرار نعمتكم ... حمتكم السادة المركوزة الحشد
قوم هم الجذم والأنساب تجمعكم ... والمجد والدين والأرحام والبلد
قد وتّر الناس طراّ ثم قد صمتوا ... كأنما كان ما يتلونه رشد
إذا قريش أرادوا شدّ ملكهم ... بغير قحطان لم يبرح به أود
من الألى وهبوا للمجد أنفسهم ... فما ينالون ما نالوا إذا حمدوا
وقال آخر:
وفتى كأنّ جبينه بدر الدّجا ... قامت عليه نوادب وروامس(3/242)
غرس الفسيل مؤمّلا لبقاية ... فنما الفسيل ومات عنه الغارس
وقال الأسود بن يعفر:
ماذا أؤمّل بعد آل محرّق ... تركوا منازلهم وبعد إياد
أهل الخورنق والسدير وبارق ... والقصر ذي الشرفات من سنداد «1»
نزلوا بأنقرة يسيل عليهم ... ماء الفرات يجيء من أطواد
جرت الرياح على محلّ ديارهم ... فكأنما كانوا على ميعاد
ولقد غنوا فيها بأنعم عيشة ... في ظلّ ملك ثابت الأوتاد
فإذا النعيم وكل ما يلهى به ... يوما يصير إلى بلى ونفاد
وقال عبيد بن الأبرص:
يا حار ما راح من قوم ولا ابتكروا ... إلا وللموت في آثارهم حادي
يا حار ما طلعت شمس ولا غربت ... إلا تقرّب آجالا لميعاد
هل نحن إلا كأرواح يمرّ بها ... تحت التراب وأجساد كأجساد
للحجاج في ابن خارجة:
لما مات أسماء بن خارجة الفزّاري قال الحجاج: ذلك رجل عاش ما شاء، ومات حين شاء.
وقال فيه الشاعر:
إذا مات ابن خارجة بن زيد ... فلا مطرت على الأرض السماء
ولا جاء البريد بغنم جيش ... ولا حملت على الطّهر النساء
فيوم منك خير من رجال ... كثير عندهم نعم وشاء
وقال مسلم بن الوليد الأنصاري:
أمسعود هل غاداك يوم بفرحة ... وأمسيت لم تعرض لها التّرحات(3/243)
وهل نحن إلا أنفس مستعارة ... تمرّ بها الرّوحات والغدوات
بكيت وأعطتك البكاء مصيبة ... مضت وهي فرد ما لها أخوات
كأنك فيها لم تكن تعرف العزا ... ولم تتعمد غيرك النّكبات
سقى الضاحك الوسميّ أعظم حفرة ... طواها الردي في اللّحد وهي رفات
أرى بهجة الدنيا رجيع دوائر ... لهنّ اجتماع مرة وشتات»
طوى أيدي المعروف مصرع مالك ... فهنّ عن الآمال منقبضات
وقال أيضا:
أما القبور فإنهن أوانس ... بجوار قبرك والديار قبور
عمّت فواضله وعمّ مصابه ... فالناس فيه كلهم مأجور
ردّت صنائعه إليه حياته ... فكأنه من نشرها منشور
وقال أشجع بن عمرو السّلمي يرثي منصور بن زياد:
يا حفرة الملك المؤمّل رفده ... ما في ثراك من النّدى والخير؟
لا زلت في ظلين ظلّ سحابة ... وطفاء دانية وظلّ حبور «2»
وسقى الوليّ على العهاد عراص ما ... والاك من قبر ومن مقور «3»
يا يوم منصور أبحت حمى النّدى ... وفجعته بوليّه المذكور
يا يومه ماذا صنعت بمرمل ... يرجو الغنى ومكبّل مأسور
يا يومه لو كنت جئت بنصحه ... فجمعت بين الحيّ والمقبور!
لله أوصال تقسّمها البلى ... في الّلحد بين صفائح وصخور
عجبا لخمسة أذرع في خمسة ... غطّت على جبل أشمّ كبير
من كان يملأ عرض كلّ تنوفة ... واراه جولا ملحد محفور «4»
ذلّت بمصرعه المكارم والنّدى ... وذباب كلّ مهنّد مأثور
أفلت نجوم بني زياد بعد ما ... طلعت بنور أهلّة وبدور(3/244)
لولا بقاء محمد لتصدّعت ... أكبادنا أسفا على منصور
أبقى مكارم لا تبيد صفاتها ... ومضى لوقت حمامه المقدور
أصبحت مهجورا بحفرتك التي ... بدّلتها من قصرك المعمور
بليت عظامك والصفاح جديدة ... ليس البلى لفعالك المشهور
إن كنت ساكن حفرة فلقد ترى ... سكنا لعودي منبر وسرير
وقال يرثي محمد بن منصور:
أنعي فتى الجود إلى الجود ... ما مثل من أنعى بموجود
أنعي فتى مصّ الثرى بعده ... بقية الماء من العود
فانثلم المجد به ثلمة ... جانبها ليس بمسدود
أنعي ابن منصور إلى سيّد ... وأيّد ليس برعديد «1»
وأشعث يسعى على صبية ... مثل فراخ الطير مجهود
وطارق أعيا عليه القرى ... ومسلم في القيد مصفود
اليوم تخشى عثرات النّدى ... وعدوة البخل على الجود
أورده حوضا عظيم الشأى ... في المجد يوم غير محمود
كلّ امرىء يجري إلى مدّة ... وأجل قد خطّ معدود
سينطق الشعر بأيامه ... على لسان غير معقود
فكلّ مفقود إلى جنبه ... وإن تعالى غير مفقود
يا وافدي قومهما إنّ من ... طلبتما تحت الجلاميد
طلبتما الجود وقد ضمّه ... محمد في بطن ملحود
فاتكما الموت بمعروفه ... وليس ما فات بمردود
يا عضدا للمجد مفتوقة ... وساعدا ليس بمعضود
أوهن زنديها وأكباهما ... قرع المنايا في العناديد «2»(3/245)
وهدّت الركن الذي كان بال ... أمس عمادا غير مهدود
وقال حبيب الطائي يرثي خالد بن يزيد بن مزيد:
أشيبان لا ذاك الهلال بطالع ... علينا، ولا ذاك الغمام بعائد
أشيبان عمّت نارها من رزيئة ... فما تشتكي وجدا إلى غير واجد
فما جانب الدنيا بسهل ولا الضّحى ... بطلق ولا ماء الحياة ببارد
فيا وحشة الدنيا وكانت أنيسة ... ووحدة من فيها بمصرع واحد
وأنشد أبو محمد التّيميّ في يزيد بن مزيد:
أحقا أنه أودى يزيد ... فبيّن أيها الناعي المشيد «1»
أتدري من نعيت وكيف فاهت ... به شفتاك وارك الصعيد «2»
أحامي الملك والإسلام أودى ... فما للأرض ويحك لا تميد
تأمّل هل ترى الإسلام مالت ... دعائمه وهل شاب الوليد
وهل شيمت سيوف بني نزار ... وهل وضعت عن الخيل اللّبود «3»
وهل تسقي البلاد عشار مزن ... بدرتها وهل يخضرّ عود
أما هدّت لمصرعه نزار ... بلى، وتقوّض المجد المشيد
وحلّ ضريحه إذ حلّ فيه ... طريف المجد والمجد التليد
وهدّ العزّ والإسلام لمّا ... ثوى وخليفة الله الرشيد
لقد أوفى ربيعة كلّ نحس ... لمهلكه وغيّبت السّعود
وأنصلت الأسنّة من قناها ... وأشرعت الرّماح لمن يكيد
نعيّ يزيد إن لم يبق بأس ... غداة مضى وإن لم يبق جود
نعيّ أبي الزّبير لكلّ يوم ... عبوس الوجه زينته الحديد
أأودى عصمة البادي يزيد ... وسيف الله والغيث الحميد «4»
فمن يحمي حمى الإسلام أم من ... يذبّ عن المكاره أو يذود(3/246)
ومن يدعو الأنام لكلّ خطب ... يخاف وكلّ معضلة تؤود «1»
ومن تجلى به الغمرات أم من ... يقوم بها إذا اعوجّ العتود
ومن يحمي الخميس إذا تعايا ... بحيلة نفسه البطل النّجيد «2»
وأين يؤمّ منتجع ولاج ... وأين تحطّ أرحلها الوفود
لقد رزئت نزار يوم أودى ... عميدا ما يقاس به عميد
فلو قبل الفداء فداه منّا ... بمهجته المسوّد والمسود
أبعد يزيد تختزن البواكي ... دموعا أو تصان لها خدود
أما بالله لا تنفكّ عيني ... عليه بدمعها أبدا تجود
وإن تجمد دموع لئيم قوم ... فليس لدمع ذي حسب جمود
وإن يك غاله حسب فأودى ... لقد أودى وليس له نديد
وإن يعثر به دهر لما قد ... يفادي من مخافته الأسود
وإن يهلك يزيد فكلّ حيّ ... فريس للمنيّة أو طريد
فإن يك عن خلود قد دعته ... مآثره فكان لها الخلود
فما أودى امرؤ أودى وأبقى ... لوارثه مكارم لا تبيد
ألم تعلم أخي أنّ المنايا ... غدرن به وهنّ له جنود
قصدن له وكنّ يحدن عنه ... إذا ما الحرب شبّ لها الوقود
فهلا يوم يقدمها يزيد ... إلى الأبطال والخيلان حيد
ولو لاقى الحتوف على سواء ... للاقاها به حتف عنيد
أضرّاب الفوارس كلّ يوم ... ترى فيه الحتوف لها وعيد
فمن يرضي القواطع والعوالي ... إذا ما هزها فرع شديد
لتبكك قبة الإسلام لمّا ... وهت أطنابها ووهى العمود
ليبكك مرهق يتلوه خيل ... إبالة وهو مجدول وحيد «3»(3/247)
ويبكك خامل ناداك لمّا ... تواكله الأقارب والبعيد
ويبكك شاعر لم يبق دهر ... له نشأ وقد كسد القصيد
تركت المشرفية والعوالي ... محلّاة وقد حان الورود «1»
وغادرت الجياد بكلّ لغز ... عواطل بعد زينتها ترود «2»
فإن تصبح مسلّمة فمّما ... تفيد بها الجزيل وتستفيد
ألم تك تكشف الغمرات عنها ... عوابس والوجوه البيض سود
أصيب المجد والإسلام لما ... أصابك بالردى سهم شديد
لقد عزّى ربيعة أنّ يوما ... عليها مثل يومك لا يعود
ومثلك من قصدن له المنايا ... بأسهمها وهنّ له جنود
فيا للدهر ما صنعت يداه ... كأنّ الدهر منها مستفيد
سقى جدثا أقام به يزيد ... من الوسميّ بسّام رعود
فإن أجزع لمهلكه فاني ... على النّكبات إذ أودى جليد
ليذهب من أراد فلست آسى ... على من مات بعدك يا يزيد
وقال مروان بن أبي حفصة يرثي معن بن زائدة:
زار ابن زائدة المقابر بعد ما ... ألقت إليه عرى الأمور نزار
إن القبائل من نزار أصبحت ... وقلوبها أسفا عليه حرار
ودّت ربيعة أنها قسمت له ... منها فعاش بشطرها الأعمار
فلأبكينّ فتى ربيعة ما دجا ... ليل بظلمته ولاح نهار
لا زال قبر أبي الوليد تجوده ... بعهادها وبوبلها الأمطار
قبر يضم مع الشجاعة والنّدى ... حلما يخالطه تقى ووقار
إن الرزيّة من ربيعة هالك ... ترك العيون دموعهنّ غزار
رحب السّرادق والضّياء جبينه ... كالبدر شقّ ضياءه الإسفار(3/248)
لهفا عليك إذا الطّعان بمارق ... ترك القنا وطوالهنّ قصار «1»
خلّى الأعنّة يوم مات مشيّع ... بطل اللقاء مجرّب مغوار «2»
يمسي ويصبح معلما تذكى به ... نار بمعترك وتخمد نار
مهما يمرّ فليس يرجو نقضه ... أحد وليس لنقضه إمرار «3»
لو كان خلفك أو أمامك هائبا ... أحدا سواك لهابك المقدار
وقال يرثيه:
بكى الشام معنا يوم خلّى مكانه ... فكادت له أرض العراقين ترجف
ثوى القائد الميمون والذّائد الذي ... به كان يرمى الجانب المتخوّف
أتى الموت معنا وهو للعرض صائن ... وللمجد مبتاع وللمال متلف
وما مات حتى قلّدته أمورها ... ربيعة والحيّان قيس وخندف
وحتى فشا في كلّ شرق ومغرب ... أياد له بالضّرّ والنفع تعرف
وكم من يد عندي لمعن كريمة ... سأشكرها ما دامت العين تطرف
بكته الجياد الأعوجيّة إذ ثوى ... وحنّ مع النّبع الوشيج المثقّف «4»
وقد غنيت ريح الصّبا في حياته ... قبولا فأمست وهي نكباء حرجف «5»
وقال أبو الشيص يرثي هارون الرشيد ويمدح ابنه محمد بن زبيدة الأمين:
جرت جوار بالسعد والنحس ... فنحن في وحشة وفي أنس
العين تبكي والسّنّ ضاحكة ... فنحن في مأتم وفي عرس
يضحكنا القائم الأمين ويبكينا وفاة الإمام بالأمس بدران بدر أضحى ببغداد في الخلد وبدر بطوس في الرّمس «6» وأنشد العتبي:(3/249)
والمرء يجمع ماله مستهترا ... فرحا وليس بآكل ما يجمع
وليأتينّ عليك يوما مرة ... يبكي عليك مقنّعا لا تسمع
وقال حارثة بن بدر الغداني يرثي زياد بن ظبيان:
صلى الإله على قبر وطهّره ... عند الثّويّة يسفي فوقه المور «1»
زفّت إليه قريش نعش سيدها ... فثمّ كلّ التّقى والبرّ مقبور
أبا المغيرة والدّنيا مغيّرة ... وإنّ من غرّت الدنيا لمغرور
قد كان عندك للمعروف معرفة ... وكان عندك للتنكير تنكير
لو خلّد الخير والإسلام ذا قدم ... إذا لخلّدك الإسلام والخير
قد كنت تخشى وتعطي المال من سعة ... إن كان بيتك أضحى وهو مهجور
وقال نهار بن توسعة يرثي المهلّب:
ألا ذهب الغزو المقرّب للغنى ... ومات الندى والحزم بعد المهلّب
أقام بمرو الرّوذ رهن ضريحه ... وقد غيّبا عن كلّ شرق ومغرب
وقال المهلهل بن ربيعة: يرثي أخاه كليب بن وائل؛ وكان كليب إذا جلس لم يرفع أحد بحضرته صوته:
ذهب الخيار من المعاشر كلهم ... واستبّ بعدك يا كليب المجلس
وتناولوا من كل أمر عظيمة ... لو كنت حاضر أمرهم لم ينبسوا
وقال عبد الصمد بن المعذل يرثي سعيد بن سلم:
كم يتيم جبرته بعد يتم ... وعديم نعشته بعد عدم
كلّ ما عضّ بالحوادث نادى ... رضي الله عن سعيد بن سلم
وقال ابن أخت تأبط شراّ يرثي خاله تأبط شراّ الفهميّ؛ وكانت هذيل قتلته:
إنّ بالشّعب الذي دون سلع ... لقتيلا دمه ما يطلّ «2»(3/250)
قذف العبء عليّ وولّى ... أنا بالعبء له مستقلّ «1»
ووراء الثأر مني ابن أخت ... مصع عقدته ما تحلّ «2»
مطرق يرشح موتا كما أطرق أفعى ينفث السّمّ صلّ «3»
خبر ما نابنا مصمئلّ ... جلّ حتى دقّ فيه الأجلّ «4»
بزّني الدهر وكان غشوما ... بأبيّ جاره ما يذلّ «5»
شامس في القمرّ حتى إذا ما ... ذكت الشّعرى فبرد وظلّ «6»
يابس الجنبين من غير بؤس ... ونديّ الكفين شهم مدلّ «7»
ظاعن بالحزم حتى إذا ما ... حلّ حلّ الحزم حيث يحلّ
وله طعمان أري وشري ... وكلا الطّعمين قد ذاق كلّ «8»
رائح بالمجد غاد عليه ... من ثياب الحمد ثوب رفلّ
أفتح الراحة بالجود جوادا ... عاش في جدوى يديه المقلّ
مسبل في الحيّ أحوى رفل ... وإذا يغزو فسمع أزلّ «9»
يركب الهول وحيدا ولا يص ... حبه إلّا اليماني الأفلّ 1»
فاحتسوا أنفاس يوم فلما ... هوّموا رعتهم فاشمعلّوا «11»
كلّ ماض قد تردّى بماض ... كسنا البرق إذا ما يسلّ
فلئن فلّت هذيل شباه ... لبما كان هذيلا يفل «12»
وبما أبركها في مناخ ... جعجع ينقب منه الأظلّ «13»(3/251)
صليت منه هذيل بخرق ... لا يملّ الشّرّ حتى يملّوا «1»
ينهل الصّعدة حتى إذا ما ... نهلت كان لها منه علّ
تضحك الضّبع لقتلي هذيل ... وترى الذّئب لها يستهلّ
عتاق الطير تهفو بطانا ... تتخطّاهم فما تستقلّ
وفتوّ هجّروا ثم اسروا ... ليلهم حتى إذا انجاب حلّوا «2»
فاسقنيها يا سواد بن عمرو ... إنّ جسمي بعد خالي لخلّ «3»
وقال أمية بن أبي الصلت يرثي قتلى بدر من قريش:
ألّا بكيت على الكرا ... م بني الكرام أولي الممادح
كبكا الحمام على فرو ... ع الأيك في الغصن الجوانح
يبكين حرّى مستكي ... نات يرحن مع الروائح
أمثالهن الباكيا ... ت المعولات من النّوائح
من يبكهم يبك على ... حزن ويصدق كل مادح
من ذا ببدر فالعقن ... قل من مرازبة جحاجح «4»
شمط وشبّان بها ... ليل مغاوير وحاوح «5»
ألا ترون لما أرى ... ولقد أبان لكلّ لامح
أن قد تغيّر بطن مكّ ... ة فهي موحشة الأباطح
من كلّ بطريق لبط ... ريق نقيّ اللون واضح
رعموص أبواب الملو ... ك وجائب للخرق فاتح
ومن السراطمة الحلا ... جمة الملازبة المناجح «6»(3/252)
القائلين الفاعلي ... ن الآمرين بكل صالح
المطعمين الشّحم فو ... ق الخبز شحما كالأنافح «1»
نقل الجفان مع الجفا ... ن إلى جفان كالمناضح «2»
ليست بأصفار لمن ... يعفو ولا رحّ رحارح «3»
للضيف ثم الضيف بع ... د الضيف والبسط السلاطح «4»
وهب المئين من المئ ... ين إلى المئين من اللّواقح
سوق المؤبّل للمؤ ... بّل صادرات عن بلادح «5»
لكرامهم فوق الكرا ... م مزيّة وزن الرّواجح
كتثاقل الأرطال بال ... قسطاس في الأيدي الموائح «6»
لله درّ بني عليّ ... أيّم منهم وناكح
إن لم يغيروا غارة ... شعواء تحجر كلّ نابح
بالمقربات المبعدا ... ت الطّامحات مع الطّوامح «7»
مردا على جرد إلى ... أسد مكالبة كوالح «8»
ويلاق قرن قرنه ... مشي المصافح للمصافح
بزهاء ألف ثم أل ... ف بين ذي بدن ورامح «9»
الضّاربين التّقدمي ... ة بالمهنّدة الصفائح
روى الاخفش لسهل بن هارون:
ما للحوادث عنك منصرف ... إلا بنفس مالها خلف
فكأنها رام على حنق ... وكأنني لسهامها هدف(3/253)
دهر سررت به فأعقبني ... حزنا به ما عشت ألتحف
فابك الذي ولّى لمهلكه ... عنك السّرور خلّف الأسف
إذ لا يردّ عليك ما أخذت ... منك الحوادث دمعة تكف
قبر بمختلف الرّياح به ... من لسن أبلغه بما أصف
أنسى الثّرى بمحلّه وله ... قد أوحش المستأنس الألف «1»
فالصّبر أحسن ما اعتصمت به ... إذ ليس منه لديّ منتصف
لفروة الحروري في رثاء الخوارج:
وقال فروة بن نوفل الحروريّ، وكان بعض أهل الكوفة يقاتلون الخوارج ويقولون: والله لنحرقنّهم ولنفعلن ولنفعلن. فقال في ذلك فروة بن نوفل، وكان من الخوارج:
ما إن نبالي إذا أرواحنا قبضت ... ماذا فعلتم بأجساد وأبشار «2»
تجري المجرّة والنّسران بينهما ... والشّمس والقمر السّاري بمقدار
لقد علمت وخير العلم أنفعه ... أنّ السعيد الذي ينجو من النار
وقال يرثي قومه:
هم نصبوا الأجساد للنّبل والقنا ... فلم يبق منها اليوم إلا رميمها
تظل عتاق الطير تحجل نحوهم ... يعلّلن أجسادا قليلا نعيمها «3»
لطاف براها الصوم حتى كأنها ... سيوف إذا ما الخيل تدمى كلومها
التعازي
لابن أبي بكر يعزي سليمان في ابنه:
قال عبد الرحمن بن أبي بكر لسليمان بن عبد الملك يعزيه في ابنه أيوب، وكان وليّ(3/254)
عهده وأكبر ولده: يا أمير المؤمنين، إنه من طال عمره فقد أحبّته، ومن قصر عمره كانت مصيبته في نفسه؛ فلو لم يكن في ميزانك لكنت في ميزانه! وكتب الحسن بن أبي الحسن إلى عمر بن عبد العزيز يعزّيه في ابنه عبد الملك:
وعوّضت أجرا من فقيد، فلا يكن ... فقيدك لا يأتي وأجرك يذهب
لابن جريح يعزي ابن الأهتم:
العتبي قال: قال عبد الله بن الأهتم: مات لي ابن وأنا بمكة، فجزعت عليه جزعا شديدا؛ فدخل عليّ ابن جريح يعزيني، فقال لي: يا أبا محمد، اسل صبرا واحتسابا، قبل أن تسلو غفلة ونسيانا كما تسلو البهائم.
وهذا الكلام لعليّ بن أبي طالب كرم الله وجهه يعزي الأشعث بن قيس في ابن له، ومنه أخذ ابن جريح؛ وقد ذكره حبيب في شعره فقال:
وقال عليّ في التّعازي لأشعث ... وخاف عليه بعض تلك المآثم
أتصبر للبلوى عزاء وحسبة ... فتؤجر أم تسلو سلوّ البهائم
علي والأشعث في وفاة ابنه:
أتى عليّ بن أبي طالب كرم الله وجهه لأشعث يعزيه عن ابنه، فقال: إن تحزن فقد استحقت ذلك منك الرحم، وإن تصبر فإن في الله خلفا من كل هالك، مع أنك إن صبرت عليك القدر وأنت مأجور، وإن جزعت جرى عليك القدر وأنت آثم.
وعزّى ابن السماك رجلا فقال: عليك بالصبر، فبه يعمل من احتسب، وإليه يصير من جزع، واعلم أنه ليست مصيبة إلا ومعها أعظم منها، من طاعة الله فيها أو معصيته بها.(3/255)
لصالح المري في مثله:
الأصمعي قال: عزى صالح المزى رجلا بابنه، فقال له: إن كانت مصيبتك لم تحدث لك موعظة، فمصيبتك بنفسك أعظم من مصيبتك بابنك؛ واعلم أن التهنئة على آجل الثواب أولى من التعزية على عاجل المصيبة.
لوالد العتبي في مثله:
العتبي قال: عزى أبي رجلا فقال: إنما يستوجب على الله وعده من صبر لحقّه، فلا تجمع إلى ما فجعت به الفجيعة بالأجر، فإنها أعظم المصيبتين عليك، ولكل اجتماع فرقة إلى دار الحلول.
عزّى عبد الله بن عباس عمر بنّ الخطاب رضي الله تعالى عنه في بنيّ له صغير؛ فقال: عوضك الله منه ما عوّضه الله منك.
وكان علي بن أبي طالب رضي الله عنه إذا عزىّ قوما قال: عليكم بالصبر فإن به يأخذ الحازم، وإليه يرجع الجازع.
وكان الحسن يقول في المصيبة: الحمد لله الذي آجرنا على ما لو كلفنا غيره لعجزنا عنه.
كتاب تعزية
أما بعد: فإن أحق من تعزى، وأولي من تأسّي وسلّم لأمر الله، وقبل تأديبه في الصبر على نكبات الدنيا وتجرّع غصص البلوى- من تنجز من الله وعده، وفهم عن كتابه أمره، وأخلص له نفسه، واعترف له بما هو أهله، وفي كتاب الله سلوة من فقد كل حبيب وإن لم تطب النفس عنه، وأنس من كل فقيد وإن عظمت اللوعة به؛ إذ يقول الله عز وجل: كُلُّ شَيْءٍ هالِكٌ إِلَّا وَجْهَهُ لَهُ الْحُكْمُ وَإِلَيْهِ تُرْجَعُونَ
«1» وحيث يقول: الَّذِينَ إِذا أَصابَتْهُمْ مُصِيبَةٌ قالُوا إِنَّا لِلَّهِ وَإِنَّا إِلَيْهِ راجِعُونَ أُولئِكَ(3/256)
عَلَيْهِمْ صَلَواتٌ مِنْ رَبِّهِمْ وَرَحْمَةٌ وَأُولئِكَ هُمُ الْمُهْتَدُونَ
«1» والموت سبيل الماضين والغابرين، «2» ومورد الخلائق أجمعين، وفي أنبياء الله وسالف أوليائه أفضل العبرة، وأحسن الأسوة، فهل أحد منهم إلا وقد أخذ من فجائع الدنيا بأجزل الإعطاء، ومن الصبر عليها باحتساب الأجر فيها بأوفر الأنصباء.
فجع نبيّنا عليه الصلاة والسلام بابنه إبراهيم، وكان ذخر الإيمان، وقرة عين الإسلام، وعقب الطهارة، وسليل الوحي، ونتيج الرحمة، وحضين الملائكة، وبقية آل إبراهيم واسمعيل صلوات الله عليهم أجمعين، وعلى عامة الأنبياء والمرسلين فعمت الثقلين مصيبته، وخصت الملائكة رزيّته. ورضي صلّى الله عليه وسلم من فراقه بثواب الله بدلا، ومن فقدانه بموعوده عوضا؛ فشكر قضاه واتبع رضاه؛ فقال: «يحزن القلب، وتدمع العين، ولا نقول ما يسخط الرب، وإنا بك يا إبراهيم لمحزونون!» .
وإذا تأمل ذو النظر ما هو مشف عليه من غير الدنيا، وانتصح نفسه وفكره في غيرها بتنقل الأحوال، وتقارب الآجال، وانقطاع يسير هذه المدة ذلت الدنيا عنده، وهانت المصائب عليه، وتسهلت الفجائع لديه، فأخذ للأمر أهبته، واستعد للموت عدته؛ ومن صحب الدنيا بحسن الروية، ولاحظها بعين الحقيقة، كان على بصيرة من وشك زوالها.
قال النبي صلّى الله عليه وسلم: «اذكروا الموت فإنه هادم اللذات ومنغّص الشهوات. وليس شيء مما اقتصصت إلا وقد جعلك الله مقدما في العلم به؛ ولعمري إن الخطب فيما أصبت به لعظيم، غير أن معوّضه من الأجر والمثوبة عليه بحسن الصبر، يهوّنان الرزية وإن ثقلت، ويسهلان الخطب وإن عظم؛ فوهب الله لك من عصمة الصبر ما يكمل لك به زلفى «3» الفائزين، وقربة الشاكرين، وجعلك من المرضيين قولا وفعلا، الذين أعطاهم الحسنى، ووفقهم للصبر والتقوى» .(3/257)
في عزاء عقبة بابنه:
محمد بن الفضل عن أبي حازم قال: مات عقبة بن عياض بن غنم الفهري، فعزّى رجل أباه فقال: لا تجزع عليه فقد قتل شهيدا، فقال: وكيف أجزع على من كان في حياته زينة الدنيا، وهو اليوم من الباقيات الصالحات.
عزاء الأصمعي لجعفر بن سليمان في أخيه:
ابن الغار قال: حدّثنا عيسى بن إسمعيل، قال: سمعت الأصمعي يقول: دخلت على جعفر بن سليمان وقد ترك الطعام جزعا على أخيه محمد بن سليمان، فأنشدته بيتين، فما برحت حتى دعا بالمائدة، فقلت للأصمعي: ما هما؟ فسكت، فسألته؛ فقال: أتدري ما قال الأحوص؟ قلت: لا أدري. قال: قال الأحوص:
قد زاده كلفا بالحبّ إذا منعت ... أحبّ شيء إلى الإنسان ما منعا
قال أبو موسى: والأبيات لأراكة الثقفي يرثي بها عمرو بن أراكة ويعزّي نفسه، حيث يقول:
لعمري لئن أتبعت عينك ما مضى ... به الدّهر أو ساق الحمام إلى القبر
لتستنفدن ماء الشئون بأسره ... وإن كنت تمريهنّ من ثبج البحر «1»
تبيّن فإن كان البكا ردّ هالكا ... على أحد فاجهد بكاك على عمرو
فلا تبك ميتا بعد موت أحبّة ... علي وعباس وآل أبي بكر
لمالك بن دينار في أخيه:
أبو عمر بن يزيد قال: لما مات أخو مالك بن دينار، بكى مالك، وقال: يا أخي، لا تقرّ عيني بعدك حتى أعلم أفي الجنة أنت أم في النار؛ ولا أعلم ذلك حتى ألحق بك! وقالت أعرابية ورأت ميتا يدفن: جافى الله عن جنبيه الثّري، وأعانه على طول البلي.(3/258)
وعزى أعرابيّ رجلا فقال: أوصيك بالرضا من الله بقضائه، والتنجّز لما وعد به من ثوابه؛ فإن الدنيا دار زوال ولا بد من لقاء الله.
وعزى أيضا رجلا فقال: إن من كان لك في الآخرة أجرا، خير لك ممن كان لك في الدنيا سرورا.
الحسن وجازع على ابنه:
وجزع رجل على ابن له، فشكا ذلك إلى الحسن، فقال له: هل كان ابنك يغيب عنك؟ قال: نعم؛ كان مغيبه عني أكثر من حضوره. قال: فاتركه غائبا، فإنه لم يغب عنك غيبة الأجر لك فيها أعظم من هذه الغيبة.
وعزّي رجل نصرانيّ مسلما، فقال له: إنّ مثلي لا يعزّي مثلك، ولكن انظر ما زهد فيه الجاهل فارغب فيه.
لعلي بن الحسين في ناعية:
وكان علي بن الحسين رضي الله عنه في مجلسه وعنده جماعة؛ إذ سمع ناعية في بيته؛ فنهض إلى منزله فأسكتهم، ثم رجع إلى مجلسه، فقالوا له: أمن حدث كانت الناعية؟ قال: نعم! فعزوه وعجبوا من صبره، فقال: إنا أهل بيت نطيع الله فيما نحب، ونحمده على ما نكره.
تعزية: التمس ما وعد الله من ثوابه بالتسليم لقضائه، والانتهاء إلى أمره؛ فإن ما فات غير مستدرك.
وعزي موسى المهدي إبراهيم بن سلم على ابن له مات، فجزع عليه جزعا شديدا، فقال له: أيسرّك وهو بليّة وفتنة، ويحزنك وهو صلوات ورحمة.
لابن جبير:
سفيان الثوري، عن سعيد بن جبير قال. ما أعطيت أمة عند المصيبة ما أعطيت(3/259)
هذه الأمة من قولها: إِنَّا لِلَّهِ وَإِنَّا إِلَيْهِ راجِعُونَ
«1» ولو أعطيها أحد لأعطيها يعقوب حيث يقول: يا أَسَفى عَلى يُوسُفَ! وَابْيَضَّتْ عَيْناهُ مِنَ الْحُزْنِ فَهُوَ كَظِيمٌ
«2» .
وعزى رجل رجلا بابن له فقال له: لو ذهب أبوك وهو أصلك، وذهب ابنك وهو فرعك؛ فما بقاء من ذهب أصله وفرعه.
تعازي الملوك
لأكتم يعزي ابن هند:
العتبي قال: عزى أكثم بن صيفي عمرو بن هند ملك العرب على أخيه، فقال له:
أيها الملك، إن أهل هذه الدار سفر لا يحلون عقد الرّحال إلا في غيرها، وقد أتاك ما ليس بمردود عنك، وارتحل عنك ما ليس براجع إليك، وأقام معك من سيظعن عنك ويدعك؛ واعلم أنّ الدنيا ثلاثة أيام: فأمس عظة وشاهد عدل، فجعك بنفسه، وأبقى لك وعليك حكمته. واليوم: غنيمة وصديق، أتاك ولم تأته، طالت عليك غيبته، وستسرع عنك رحلته. وغد: لا تدري من أهله، وسيأتيك إن وجدك! فما أحسن الشكر للمنعم، والتسليم للقادر! وقد مضت لنا أصول نحن فروعها، فما بقاء الفروع بعد أصولها؟ واعلم أن أعظم من المصيبة سوء الخلف منها، وخير من الخير معطيه، وشر من الشر فاعله.
في مهلك المنصور:
لما هلك أمير المؤمنين المنصور، قدمت وفود الأمصار على أمير المؤمنين المهدي، وقدم فيهم أبو العيناء المحدّث؛ فتقدم إلى التعزية فقال: آجر الله أمير المؤمنين على أمير المؤمنين قبله، وبارك لأمير المؤمنين فيما خلفه له؛ فلا مصيبة أعظم من مصيبة إمام والد، ولا عقبى أفضل من خلافة الله على أوليائه؛ فاقبل من الله أفضل العطية،(3/260)
واصبر له على أعظم الرزيّة.
ولما مات معاوية بن أبي سفيان، ويزيد غائب؛ صلى عليه الضحاك بن قيس الفهري، ثم قدم يزيد من يومه ذلك؛ فلم يقدم أحد على تعزيته حتى دخل عليه عبد الله بن همام السلولي، فقال:
اصبر يزيد فقد فارقت ذا مقة ... واشكر حباء الذي بالملك حاباكا
لا رزء أعظم في الأقوام قد علموا ... ممّا رزئت ولا عقبى كعقباكا
أصبحت راعي أهل الأرض كلّهم ... فأنت ترعاهم والله يرعاكا
وفي معاوية الباقي لنا خلف ... إذا نعيت ولا نسمع بمنعاكا
فافتتح الخطباء الكلام.
عزى شبيب بن شبة المنصور على أخيه أبي العباس فقال: جعل الله ثواب ما رزئت به لك أجرا، وأعقبك عليه صبرا، وختم ذلك لك بعافية تامة، ونعمة عامة؛ فثواب الله خير لك منه، وما عند الله خير له منك، وأحق ما صبر عليه ما ليس إلى تغييره سبيل.
وكتب إبراهيم بن إسحاق إلى بعض الخلفاء يعزّيه: إن أحق من عرف حقّ الله فيما أخذ منه، من عرف نعمته فيما أبقى عليه. يا أمير المؤمنين، إن الماضي قبلك هو الباقي لك، والباقي بعدك هو المأجور فيك، وإن النعمة على الصابرين فيما ابتلوا به أعظم منها فيما يعافون منه.
الرشيد وعبد الملك بن صالح:
ودخل عبد الملك بن صالح دار الرشيد، فقال له الحاجب: إن أمير المؤمنين قد أصيب الليلة بابن له وولد له آخر! فلما دخل عليه قال سرك الله يا أمير المؤمنين فيما ساءك، ولا ساءك فيما سرك، وجعل هذه بهذه، مثوبة على الصبر، وجزاء على الشكر.(3/261)
ودخل المأمون على أم الفضل بن سهل يعزيها بابنها الفضل بن سهل فقال: يا أمّه، إنك لم تفقدي إلا رؤيته، وأنا ولدك مكانه! فقالت: يا أمير المؤمنين، إن رجلا أفادني ولدا مثلك لجدير أن أجزع عليه.
من عمر بن عبد العزيز إلى عماله بعد موت ولده:
لما مات عبد الملك بن عمر بن عبد العزيز كتب إلى عماله: إن عبد الملك كان عبدا من عبيد الله، أحسن الله إليه واليّ فيه؛ أعاشه ما شاء وقبضه حين شاء وكان- ما علمت- من صالحي شباب أهل بيته قراءة للقرآن وتحرّيا للخير، وأعوذ بالله أن يكون لي محبة أخالف فيها محبة الله، فإن ذلك لا يحسن في إحسانه إليّ، وتتابع نعمه عليّ، ولأعلمن ما بكت عليه باكية ولا ناحت عليه نائحة؛ قد نهينا أهله الذين هم أحق بالبكاء عليه.
عزاء زياد لسليمان بن عبد الملك في ابنه:
دخل زياد بن عثمان بن زياد على سليمان بن عبد الملك وقد توفي ابنه أيوب فقال:
يا أمير المؤمنين إن عبد الرحمن بن أبي بكر كان يقول: من أحب البقاء- ولا بقاء- فليوطّن نفسه على المصائب.
لعطاء يعزي يزيد في معاوية:
لما مات معاوية دخل عطاء بن أبي صيفيّ على يزيد، فقال: يا أمير المؤمنين أصبحت رزئت خليفة الله، وأعطيت خلافة الله؛ فاحتسب على الله أعظم الرزية واشكره على أحسن العطية.
لابن الوليد يعزي عمر بن عبد العزيز في ابنه:
عزى محمد بن الوليد بن عتبة عمر بن عبد العزيز على ابنه عبد الملك فقال: يا أمير المؤمنين، أعدّ لما ترى عدّة تكن لك جنّة من الحزن وسترا من النار! فقال عمر:(3/262)
هل رأيت حزنا يحتج به، أو غفلة ينبّه عليها؟ قال: يا أمير المؤمنين، لو أن رجلا ترك تعزية رجل لعلمه وانتباهه لكنته، ولكن الله قضى أن الذكرى تنفع المؤمنين.
عمر بن عبد العزيز في وفاة أخته:
وتوفيت أخت لعمر بن عبد العزيز، فلما فرغ من دفنها دنا إليه رجل فعزاه، فلم يردّ عليه شيئا؛ ثم دنا إليه آخر فعزاه فلم يرد عليه شيئا، فلما رأى الناس ذلك أمسكوا عنه ومشوا معه؛ فلما بلغ الباب أقبل على الناس بوجهه وقال: أدركت الناس وهم لا يعزون بامرأة إلا أن تكون أمّا، انقلبوا رحمكم الله.
لبعض الشعراء في التعزية:
وجد في حائط من حيطان تبّع مكتوبا:
اصبر لدهر نال من ... ك فهكذا مضت الدّهور
فرح وحزن مرّة ... لا الحزن دام ولا السّرور
وهذا نظير قول العتابي:
وقائلة لمّا رأتني مسهّدا ... كأنّ الحشا مني تلذعه الجمر
أباطن داء أم جوى بك قاتل ... فقلت الذي بي ما يقوم له صبر
تفرق ألّاف وموت أحبّة ... وفقد ذوي الأفضال قالت كذا الدهر
كتب محمد بن عبد الله بن طاهر إلى المتوكل يعزيه بابن له:
إني أعزّيك لا أني على ثقة ... من الحياة ولكن سنّة الدّين
ليس المعزّى بباق بعد ميّته ... ولا المعزّي وإن عاشا إلى حين
وقال أبو عيينة:
فإن أشك من ليلى بجرجان طوله ... فقد كنت أشكو منه بالبصرة القصر
وقائلة ماذ نأى بك عنهم ... فقلت لها: لا علم لي فسلي القدر(3/263)
لحكيم يعزي سليمان بن عبد الملك في ابنه.
وقال بعض الحكماء لسليمان بن عبد الملك لما أصيب بابنه أيوب: يا أمير المؤمنين إن مثلك لا يوعظ إلا بدون علمه؛ فإن رأيت أن تقدّم ما أخرت العجزة فترضي ربك وتريح بدنك من حسن العزاء والصبر على المصيبة، فافعل.
وكتب الحسن إلى عمر بن عبد العزيز يعزّيه في ابنه عبد الملك ببيت شعر: وهو:
وعوّضت أجرا من فقيد فلم يكن ... فقيدك لا يأتي وأجرك يذهب
للاسكندر يعزي أمه عن فقده.
ولما حضرت الإسكندر الوفاة كتب إلى أمه أن اصنعي طعاما يحضره الناس ثم تقدمي إليهم أن لا يأكل منه محزون. ففعلت: فلم يبسط أحد إليه يده؛ فقالت: ما لكم لا تأكلون؟ فقالوا: إنك تقدمت إلينا أن لا يأكل منه محزون، وليس منا إلا من قد أصيب بحميم أو قريب! فقالت: مات والله ابني! وما أوصى إليّ بهذا إلا ليعزيني به!.
وكان سهل بن هارون يقول في تعزيته: إن أجر التهنئة بآجل الثواب! أوجب من التعزية على عاجل المصيبة.(3/264)
كتاب اليتيمة في النسب وفضائل العرب
قال أحمد بن محمد بن عبد ربه: قد مضى قولنا في النوادب والمراثي، ونحن قائلون بعون الله وتوفيقه في النسب الذي هو سبب التعارف، وسلّم إلى التواصل؛ به تتعاطف الأرحام الواشجة، وعليه تحافظ الأواصر القريبة. قال الله تبارك وتعالى: يا أَيُّهَا النَّاسُ إِنَّا خَلَقْناكُمْ مِنْ ذَكَرٍ وَأُنْثى وَجَعَلْناكُمْ شُعُوباً وَقَبائِلَ لِتَعارَفُوا
. «1» فمن لم يعرف النسب لم يعرف الناس، ومن لم يعرف الناس لم يعدّ من الناس.
وفي الحديث: «تعلموا من النسب ما تعرفون به أحسابكم وتصلون به أرحامكم» .
وقال عمر بن الخطاب: تعلموا النسب ولا تكونوا كنبيط «2» السواد: إذا سئل أحدهم عن أصله قال: من قرية كذا وكذا.
أصل النسب
أولاد نوح
قال معاوية بن صالح، عن يحيى بن سعيد بن المسيّب، قال: ولد نوح ثلاثة أولاد:
سام وحام ويافث؛ فولد سام العرب وفارس والروم، وولد حام السودان والبربر والنّبط، وولد يافث الترك والصقالبة ويأجوج ومأجوج.(3/265)
أصل قريش
كانت قريش تدعى النضر بن كنانة، وكانوا متفرقين في بني كنانة، فجمعهم قصي بن كلاب بن مرة بن كعب بن لؤي بن غالب بن فهر بن مالك، من كل أوب إلى البيت؛ فسمّوا قريشا. والتقريش: التجميع. وسمّي قصيّ بن كلاب مجمّعا، فقال فيه الشاعر:
قصي أبوكم من يسمّى مجمّعا ... به جمع الله القبائل من فهر
وقال حبيب:
غدوا في نواحي نعشه وكأنما ... قريش قريش يوم مات مجمّع
يريد بمجمّع قصيّ بن كلاب، وهو الذي بنى المشعر الحرام، «1» وكان يقوم عليه أيام الحج؛ فسماه الله مشعرا، وأمره بالوقوف عنده. وإنما جمع قصيّ إلى مكة بني فهر ابن مالك، فجدم قريش كلّها فهر بن مالك؛ فما دونه قريش وما فوقه عرب مثل كنانة وأسد وغيرهما من قبائل مضر؛ وأما قبائل قريش فإنها تنتهي إلى فهر بن مالك لا تجاوزه، وكانت قريش تسمّى آل الله، وجيران الله، وسكان الله.
وفي ذلك يقول عبد المطلب بن هاشم:
نحن آل الله في ذمّته ... لم نزل فيها على عهد قدم
إن للبيت لربّا مانعا ... من يرد فيه بإثم يخترم»
لم تزل لله فينا حرمة ... يدفع الله بها عنّا النّقم
وقال الحسن بن هانيء في بعض بني شيبة بن عثمان الذين بأيديهم مفتاح الكعبة:
إذا اشتعب الناس البيوت فأنتم ... أولو الله والبيت العتيق المحرّم(3/266)
نسب قريش
قال أبو المذر هشام بن محمد بن السائب الكلبي: تسمية من انتهى إليه الشرف من قريش في الجاهلية فوصله بالإسلام، عشرة رهط من عشرة أبطن، وهم: هاشم، وأمية، ونوفل، وعبد الدار، وأسد، وتيم، ومخزوم، وعدي، وجمح، وسهم.
فكان من هاشم: العباس بن عبد المطلب، يسقي الحجيج في الجاهلية، وبقي له ذلك في الإسلام.
ومن بني أمية: أبو سفيان بن حرب، كانت عنده العقاب راية قريش، وإذا كانت عند رجل أخرجها إذا حميت الحرب، فإذا اجتمعت قريش على أحد أعطوه العقاب، وإن لم يجتمعوا على أحد رأسوا صاحبها فقدّموه.
ومن بني نوفل: الحرث بن عامر، وكانت إليه الرفادة، وهي ما كانت تخرجه من أموالها وترفد به منقطع الحاج.
ومن بني عبد الدار: عثمان بن طلحة، وكان إليه اللواء والسدانة مع الحجابة، ويقال والندوة أيضا في بني عبد الدار.
ومن بني أسد: يزيد بن زمعة بن الأسود، وكانت إليه المشورة: وذلك أن رؤساء قريش لم يكونوا يجتمعون على أمر حتى يعرضوه عليه، فإن وافقه ولّاهم عليه، وإلا تخير وكانوا له أعوانا؛ واستشهد مع رسول الله صلّى الله عليه وسلم بالطائف.
ومن بني تيم: أبو بكر الصديق، وكانت إليه في الجاهلية الأشناق، وهي الديات والمغرم، فكان إذا احتمل شيئا فسأل فيه قريشا صدقوه وأمضوا حمالة من نهض معه، وإن احتملها غيره خذلوه.
ومن بني مخزوم: خالد بن الوليد، وكانت إليه القبة والأعنة؛ فأما القبة فإنهم كانوا يضربونها ثم يجمعون إليها ما يجهزون به الجيش؛ وأما الأعنة فإنه كان على خيل قريش في الحرب.(3/267)
ومن بني عديّ: عمر بن الخطاب، وكانت إليه السفارة في الجاهلية؛ وذلك أنهم كانوا إذا وقعت بينهم وبين غيرهم حرب، بعثوه سفيرا، وإن نافرهم حيّ لمفاخرة جعلوه منافرا ورضوا به.
ومن بني جمح: صفوان بن أمية، وكانت إليه الأيسار، وهي الأزلام؛ فكان لا يسبّق بأمر عامّ حتى يكون هو الذي يتّسرون على يديه.
ومن بني سهم: الحرث بن قيس، وكانت إليه الحكومة والأموال المحجرة التي سمّوها لآلهتهم.
فهذه مكارم قريش التي كانت في الجاهلية، وهي؛ السقاية، والعمارة، والعقاب، والرفادة، والسّدانة، والحجابة، والندوة، واللواء، والمشورة، والأشناق، والقبة، والأعنة، والسفارة، والأيسار، والحكومة، والأموال المحجرة- إلى هؤلاء العشرة من هذه البطون العشرة على حال ما كانت في أوّليتهم، يتوارثون ذلك كابرا عن كابر؛ وجاء الإسلام فوصل ذلك لهم؛ وكان كل شرف من شرف الجاهلية أدركه الإسلام فوصله، فكانت سقاية الحاج وعمارة المسجد الحرام وحلوان النفر في بني هاشم.
فأما السقاية فمعروفة، وأما العمارة فهو ألّا يتكلم أحد في المسجد الحرام بهجر ولا رفث ولا يرفع فيه صوته، وكان العباس ينهاهم عن ذلك.
وأما حلوان النفر، فإن العرب لم تكن تملّك عليها في الجاهلية أحدا، فإن كان حرب أقرعوا بين أهل الرياسة، فمن خرجت عليه القرعة أحضروه، صغيرا كان أو كبيرا. فلما كان يوم الفجار أقرعوا بين بني هاشم فخرج سهم العبّاس وهو صغير فأجلسوه على المجن.
بين المأمون وأبي الطاهر
أبو الطاهر أحمد بن كثير بن عبد الوهاب قال: حدّثني أبو ذكوان عن أحمد بن يزيد الأنطاكي أنه سمع المأمون يقول لأبي الطاهر الذي كان على البحرين: من أي قريش أنت؟ قال: من بني أسامة بن لؤي، فقال المأمون: ما سمعنا لأسامة ابن لؤي(3/268)
نسبا في بطوننا العشرة، لو علمنا به على بعده منا لكنا به بررة.
فضل بني هاشم وبني أمية
قيل لعلي بن أبي طالب: أخبرنا عنكم وعن بني أمية. فقال: بنو أمية أغدر وأمكر وأفجر، ونحن أصبح وأفصح وأسمح.
وسأل رجل الشعبيّ عن بني هاشم وبني أمية، فقال: إن شئت أخبرتك ما قال عليّ ابن أبي طالب فيهم. قال: أخبرني. قال: أما بنو هاشم فأطعمها للطعام، وأضربها للهام؛ وأما بنو أمية فأبعدها حلما وأطلبها للأمر الذي لا ينال فينالونه.
قيل لمعاوية: أخبرنا عنكم وعن بني هاشم. قال: بنو هاشم أشرف واحدا، ونحن أشرف عددا، فما كان إلا كلا ولا، حتى جاؤا بواحدة بذّت الأولين والآخرين.
يريد النبي صلّى الله عليه وسلم. وبقوله: أشرف واحدا: عبد المطلب بن هاشم.
الرشيد وأموي
الرياشي عن الأصمعي قال: تصدى رجل من بني أمية لهارون الرشيد فأنشده:
يا أمين الله إني قائل ... قول ذي فهم وعلم وأدب
عبد شمس كان يتلو هاشما ... وهما بعد لأمّ ولأب
فاحفظ الأرحام فينا إنما ... عبد شمس عمّ عبد المطلب
لكم الفضل علينا، ولنا ... بكم الفضل على كلّ العرب
فأحسن جائزته ووصله.
للنبي صلّى الله عليه وسلم.
سفيان الثورى يرفعه إلى النبي صلّى الله عليه وسلم قال: «إن الله خلق الخلق فجعلني في خير خلقه، وجعلهم أفراقا فجعلني في خير فرقة، وجعلهم قبائل فجعلني في خير قبيلة، وجعلهم بيوتا فجعلني في خير بيت. فأنا خيركم بيتا وخيركم نسبا» .(3/269)
وقال صلّى الله عليه وسلم: «كلّ سبب ونسب منقطع يوم القيامة إلّا سببي ونسبي» .
جماعة بني هاشم بن عبد مناف وجماعة قريش
عبد المطلب بن هاشم ولده عشرة بنين، منهم: عبد الله أبو محمد صلّى الله عليه وسلم، وأبو طالب، والزبير، أمهم فاطمة بنت عمرو المخزومية. والعباس، وضرار، أمهما نتيلة النمرية. وحمزة، والمقوم، أمهما هالة بنت وهيب. وأبو لهب، أمه لبنى خزاعية.
والحارث، أمه صفية من بني عامر بن صعصعة. والغيداق، أمه خزاعية.
جماعة بني أمية بن عبد شمس بن عبد مناف
وهو أمية الأكبر: حرب بن أمية، وأبو حرب، وسفيان، وأبو سفيان؛ وعمرو، وأبو عمرو، وهؤلاء يقال لهم العنابس، والعاص، وأبو العاص، والعيص، وأبو العيص؛ وهؤلاء يقال لهم الأعياص، ومنهم معاوية بن أبي سفيان، وعثمان بن عفان ابن أبي العاص بن أمية، ومنهم سعيد بن العاص بن أمية، ومروان بن الحكم بن أبي العاص بن أمية.
جماعة بني نوفل
الحارث بن عامر صاحب الرفادة، ومعطعم بن نوفل، ومنهم عدي بن الخيار بن نوفل؛ ومنهم شافع بن ظرب بن عمرو بن نوفل؛ وهو كاتب المصاحف لعمر بن الخطاب؛ ومسلم بن قرطة، قتل يوم الجمل.
جماعة بني عبد الدار
عثمان بن طلحة، صاحب الحجابة؛ وشيبة بن عثمان بن أبي طلحة؛ والحرث بن علقمة بن كلدة، كان رهينة قريش عند أبي يكسوم؛ والنضر بن الحرث بن علقمة(3/270)
ابن كلدة، بن عبد مناف بن عبد الدار، قتله النبي صلّى الله عليه وسلم صبرا، أمر عليّ بن أبي طالب فقتله يوم الأثيل. «1»
جماعة بني أسد بن عبد العزى
منهم الزبير بن العوام بن خويلد بن أسد، وأمه صفية ابنة عبد المطلب، ويزيد ابن زمعة بن الأسود صاحب المشورة؛ وأبو البختري، واسمه العاص بن هاشم ابن الحرث بن أسد؛ وورقة بن نوفل بن أسد، هو الذي أدرك الإيمان بعقله وبشّر خديجة بالنبي صلّى الله عليه وسلم.
جماهير بني تيم بن مرة
منهم أبو بكر الصديق، وطلحة بن عبيد الله، وعمرو بن عبد الله بن معمر، وعبد الله بن جدعان، وعلي بن زيد بن عبد الله بن أبي مليكة، والمهاجر بن فهد بن عمر بن جدعان، ومحمد بن المنكدر بن عبد الله بن الهدير.
جماهير مخزوم بن مرة
منهم المغيرة بن عبد الله بن عمر بن مخزوم، وخالد بن الوليد بن المغيرة، وعبد الرحمن بن الحرث، وعمرو بن حريث، وأبو جهل بن هاشم بن المغيرة، وعياش بن أبي ربيعة، وعمر بن عبد الله بن أبي ربيعة الشاعر، وعبد الله بن المهاجر، وعمارة بن الوليد بن المغيرة، وإسماعيل بن هشام بن المغيرة- ولي المغيرة المدينة وضرب سعيد بن المسيب- ومنهم سعيد بن المسيب بن أبي وهب الفقيه.
جماهير عدي بن كعب
منهم: عمر بن الخطاب، وسعيد بن زيد بن عمرو بن نفيل، وهو من أصحاب(3/271)
حراء، وعبد الحميد بن عبد الرحمن بن زيد بن الخطاب، ولي الكوفة لعمر بن عبد العزيز، وسراقة بن المعتمر، والنحام بن عبد الله بن أسيد، والنعمان بن عدي بن النضلة، استعمله عمر على ميسان «1» وعبد الله بن مطيع، وأبو جهم بن حذيفة، وخارجة بن حذافة، وكان قاضيا لعمرو بن العاص بمصر: فقتله الخارجي وهو يظنه عمرو بن العاص، وقال فيه: أردت عمرا وأراد الله خارجة!.
جماهير جمح
منهم: صفوان بن أمية، من المؤلفة قلوبهم، وأمية بن خلف، قتل يوم بدر؛ وأبيّ ابن خلف؛ ومحمد بن حاطب؛ وجميل بن معمر بن حذافة؛ وأبو عزة وهو عمرو بن عبد الله؛ وأبو محذورة، مؤذن النبي صلّى الله عليه وسلم.
جماهير بني سهم
الحرث بن قيس، صاحب حكومة قريش؛ وعمرو بن العاص؛ وقيس بن عدي؛ وخنيس بن حذافة، ومنبه؛ ونبيه، ابنا الحجاج؛ ومنهم العاص بن منبه، قتل مع أبيه، قتله عليّ وأخذ سيفه ذا الفقار، فصار إلى النبي عليه الصلاة والسلام.
جماهير عامر بن لؤي
منهم: سهيل بن عمرو، من المؤلفة قلوبهم؛ ومنهم ابن أبي ذئب الفقيه، واسمه محمد بن عبد الرحمن؛ وحويطب بن عبد العزى، من المؤلفة قلوبهم؛ وعبد الله بن مخرمة، بدري؛ ونوفل بن مساحق؛ وأبو بكر بن عبد الله بن أبي سبرة، الفقيه؛ وعبد الله بن أبي سرح، بدري؛ ومنهم ابن أم مكتوم، مؤذن النبي عليه الصلاة والسلام.(3/272)
جماهير بني محارب بن فهر بن مالك
منهم: الضحاك بن قيس الفهري، وحبيب بن مسلمة.
جماهير بني الحارث بن فهر بن مالك
منهم: أبو عبيدة بن الجراح، أمين هذه الأمة؛ وسهيل؛ وصفوان، ابنا وهب؛ وعياض بن غنم بن زهير؛ وأبو جهم بن خالد؛ وبنو الحرث. هؤلاء من المطيّبين الذين تحالفوا وغمسوا أيديهم في حفنة فيها طيب.
قريش الظواهر وغيرها من بطون قريش
بنو الحارث وبنو محارب ابنا فهر بن مالك، وهم قريش الظواهر لأنهم نزلوا حول مكة وما والاها.
فمن بني الحارث بن فهر: أبو عبيدة بن الجراح، واسمه عامر بن عبد الله بن الجراح، من المهاجرين الأولين.
ومن بني محارب بن فهر: الضحاك بن قيس الفهري، صاحب مرج راهط.
وما سوى هؤلاء من بطون قريش يقال لهم قريش البطاح؛ لأنهم سكنوا بطحاء مكة، وهم البطون العشرة التي ذكرناها قبل هذا الباب.
ومن بطون قريش
بنو زهرة بن كلاب بن كعب بن لؤيّ. منهم وهب بن عبد مناف بن زهرة، أبو آمنة أم رسول الله صلّى الله عليه وسلم. ومنهم عبد الرحمن بن عوف، خال النبي عليه الصلاة والسلام، ومنهم بنو حبيب بن عبد شمس؛ ومنهم عبد الله بن عامر بن كريز بن حبيب بن عبد شمس، صاحب العراق؛ ومنهم بنو أمية الأصغر ابن عبد شمس بن عبد مناف، وأمه عبلة، فيقال لهم العبلات؛ وبنو عبد العزى بن عبد شمس، منهم(3/273)
أبو العاص بن الربيع، صهر رسول الله صلّى الله عليه وسلم، تزوج ابنته التي قال النبي صلّى الله عليه وسلم فيه:
«ولكنّ أبا العاص لم يذمم صهره» ؛ ومنهم بنو المطلب بن عبد مناف؛ ومنهم محمد بن إدريس الشافعي.
ومن بني نوفل بن عبد مناف: المطعم بن عدي.
ولعبد شمس بن عبد مناف ونوفل بن عبد مناف يقول أبو طالب:
فيا أخوينا عبد شمس ونوفلا ... أعيذكما أن تبعثا بيننا حربا
وولد أمية الأكبر: العاص، وأبا العاص، والعيص، وأبا العيص، فهؤلاء يقال لهم الأعياص، وحربا وأبا حرب، وهذه البطون التي ذكرنا كلها من قريش ليست من البطون العشرة التي ذكرناها أولا وذكرنا جماهيرها.
فضل قريش
قال النبي عليه السّلام: «الأئمّة من قريش» . وقال: «قدموا قريشا ولا تقدموها» :
ولما قتل النضر بن الحارث بن كلدة بن عبد مناف، قال: «لا يقتل قرشيّ صبرا بعد اليوم» ، يريد أنه لا يكفر قرشي فيقتل صبرا بعد هذا اليوم.
معاوية وأصحابه:
الأصمعي قال: قال معاوية: أي الناس أفصح؟ فقال رجل من السماط: يا أمير المؤمنين، قوم ارتفعوا عن رتّة العراق، وتياسروا عن كشكشة «1» بكر، وتيامنوا عن شنشنة «2» تغلب، ليست فيهم غمغمة «3» قضاعة، ولا طمطمانية «4» حمير. قال: من هم؟
قال: قومك يا أمير المؤمنين، [قريش] . قال: صدقت! فمن أنت؟ قال: من جرم.(3/274)
قال الأصمعي: جرم فصحاء العرب.
ابن عتبة وابن عمير:
قدم محمد بن عمير بن عطارد في نيف وسبعين راكبا، فاستزارهم عمرو بن عتبة، قال: فسمعته يقول: يا أبا سفيان، ما بال العرب تطيل كلامها وأنتم تقصرونه معاشر قريش؟ فقال عمرو بن عتبة: بالجندل يرمى الجندل، وإن كلامنا كلام يقل لفظه ويكثر معناه، ويكتفي بأولاه ويستشفى بأخراه، يتحدر تحدر الزلال على الكبد الحرّى، ولقد نقصوا وأطال غيرهم فما أخلّوا، ولله أقوام أدركتهم كأنما خلقوا لتحسين ما قبّحت الدنيا، سهلت ألفاظهم كما سهلت عليهم أنفاسهم، فابتذلوا أموالهم، وصانوا أعراضهم، حتى ما يجد الطاعن فيهم مطعنا، ولا المادح مزيدا، ولقد كان آل أبي سفيان مع قلتهم كثيرا منه نصيبهم، ولله در مولاهم حيث يقول:
وضع الدهر فيهم شفرتيه ... فمضى سالما وأمسوا شعوبا
شفرتان والله أفنتا أبدانهم، وأبقتا أخبارهم، فتركناهم حديثا حسنا في الدنيا، ثوابه في الآخرة أحسن، وحديثا سيئا في الدنيا، ثوابه في الآخرة أسوأ، فيا موعوظا بمن قبله موعوظا به من بعده، اربح نفسك إذا خسرها غيرك.
قال: فظننت أنه إن أراد أن يعلمه أن قريشا إذا شاءت أن تتكلم تكلمت.
ابن عتبة وقرشيون تشاحوا:
العتبي قال: شهدت مجلس عمرو بن عتبة وفيه ناس من القرشيين، فتشاحّوا في مواريث وتجاحدوا، فلما قاموا من عنده أقبل علينا فقال: إنّ لقريش درجا تزلق عنها أقدام الرجال، وأفعالا تخضع لها رقاب الأقوال، وغايات تقصر عنها الجياد المنسوبة، وألسنة تكلّ عنها الشفار المشحوذة؛ ولو احتفلت الدنيا ما تزيّنت إلا بهم، ولو كانت لهم ضاقت عن سعة أخلاقهم؛ وإنّ قوما منهم تخلقوا بأخلاق العوام فصار لهم رفق باللؤم، وخرق في الحرص ولو أمكنهم لقاسموا الطير في أرزاقها؛ إن خافوا مكروها(3/275)
تعجّلوا له الفقر؛ وإن عجّلت لهم النعم أخروا عنها الشكر، أولئك أنضاء فكرة الفقر، وعجزة حملة الشكر.
محمد بن الفضل وقوم:
قال أبو العيناء الهاشمي: جرى بين محمد بن الفضل وبين قوم من أهل الأهواز كلام، فلما أصبح رجع عنه؛ فقالوا له: ألم تقل أمس كذا وكذا؟ قال: تختلف الأقوال إذا اختلفت الأحوال.
بينه وبين والى الأهواز:
ودخل محمد بن الفضل على والي الأهواز فسمعه يقول: إذا كان الحق استوى عندي الهاشمي والنبطي. فقال محمد بن الفضل: لئن استوت حالاتهما عندك فما ذلك بزائد النبطي زينة ليست له، ولا ناقص الهاشمي قدرا هو له، وإنما يلحق النقص المسوي بينهما!.
لابن عتبة ينصح قرشيين:
العتبي قال: قال عمرو بن عتبة: اختصم قوم من قريش عند معاوية فمنعوا الحق، فقال معاوية: يا معشر قريش، ما بال القوم لأمّ يصلون بينهم ما انقطع، وأنتم لعلّات «1» تقطعون بينكم ما وصل الله، وتباعدون ما قرب؟ بل كيف ترجون لغيركم وقد عجزتم عن أنفسكم؟ تقولون كفانا الشرف من قبلنا؛ فعندها لزمتكم الحجة؛ فاكفوه من بعدكم كما كفاكم من قبلكم، أو تعلمون أنكم كنتم رقاعا في جنوب العرب، وقد أخرجتم من حرم ربّكم، ومنعتم ميراث أبيكم وبلدكم، وأخذ لكم ما أخذ منكم؛ وسماكم باجتماعكم اسما به أبانكم من جميع العرب، وردّ به كيدّ العجم، فقال جل ثناؤه: لِإِيلافِ قُرَيْشٍ إِيلافِهِمْ
«2» فارغبوا في الائتلاف أكرمكم الله به، فقد حذرتكم الفرقة نفسها، وكفى بالتجربة واعظا.(3/276)
مكان العرب من قريش
للنبي صلّى الله عليه وسلم:
يحيى بن عبد العزيز، عن أبي الحجاج رياح بن ثابت، عن بكر بن خنيس، عن أبي الأحوص، عن أبي الحصين، عن عبد الله بن مسعود أنّ النبي صلّى الله عليه وسلم قال: قريش الجؤجؤ «1» والعرب الجناحان، والجؤجؤ لا ينهض إلا بالجناحين.
لمعاوية:
قال عمرو بن عتبة: ما استدرّ لعمي كلام قط فقطعه، حتى يذكر العرب بفضل أو يوصى فيهم بخير. ولقد أنشده مروان ذات يوم للنابغة حيث يقول:
فهم درعي التي استلأمت فيها ... إلى يوم النّسار وهم مجنّى «2»
فقال معاوية: ألا إنّ دروع هذا الحي من قريش إخوانهم من العرب، المتشابكة أرحامهم تشابك حلق الدرع، التي إن ذهبت حلقة منه فرقت بين أربع؛ ولا تزال السيوف تكره مذاقة لحوم قريش ما بقيت دروعها معها، وشدت نطقها عليها، ولم تفك حلقها منها؛ فإذا خلعتها من رقابها كانت للسيوف جزرا.
لابن عتبة في معاوية:
العتبي عن أبيه عن عمرو بن عتبة قال: عقمت النساء أن يلدن مثل عمي: شهدته يوما وقد قدمت عليه وفود العرب، فقضى حوائجهم وأحسن جوائزهم؛ فلما دخلوا عليه ليشكروا سبقهم إلى الشكر، فقال لهم: جزاكم الله يا معشر العرب عن قريش أفضل الجزاء؛ بتقدّمكم إياهم في الحرب، وتقديمكم لهم في السلم، وحقنكم دماءهم بسفكها منكم؛ أما والله لا يؤثر عليكم غيركم منهم إلا حازم كريم، ولا يرغب عنكم منهم إلا عاجز لئيم؛ شجرة قامت على ساق، فتفرع أعلاها واجتمع أصلها، عضد الله(3/277)
من عضدها، فيا لها كلمة لو اجتمعت، وأيديا لو ائتلفت! ولكن كيف بإصلاح ما يريد الله إفساده؟
فضل العرب
يحيى بن عبد العزيز قال: حدّثنا أبو الحجاج رياح بن ثابت، قال: حدّثنا بكر بن خنيس، عن أبي الأحوص، عن أبي الحصين، عن عبد الله بن مسعود قال: قال رسول الله صلّى الله عليه وسلم: «إذا سألتم الحوائج فاسألوا العرب؛ فإنها تعطى لثلاث خصال: كرم أحسابها، واستحياء بعضها من بعض، والمواساة لله» .
ثم قال: «من أبغض العرب أبغضه الله» .
ابن الكلبي قال: كانت في العرب خاصة عشر خصال لم تكن في أمة من الأمم:
خمس منها في الرأس، وخمس في الجسد؛ فأما التي في الرأس: فالفرق، والسواك، والمضمضة، والاستنثار، «1» وقص الشارب؛ وأما التي في الجسد: فتقليم الأظفار، ونتف الإبط، وحلق العانة، والختان، والاستنجاء؛ «2» وكان في العرب خاصة، القيافة؛ لم يكن في جميع الأمم أحد ينظر إلى رجلين أحدهما قصير والآخر طويل، أو أحدهما أسود والآخر أبيض، فيقول: هذا القصير ابن هذا الطويل، وهذا الأسود ابن هذا الأبيض، إلا في العرب.
لابن المقفع:
أبو العيناء الهاشمي عن القحذمي عن شبيب بن شيبة قال: كنا وقوفا بالمربد، وكان المربد مألف الأشراف، إذ أقبل ابن المقفع، فبششنا به وبدأناه بالسلام، فردّ علينا السلام، ثم قال: لو ملتم إلى دار نيروز وظلها الظليل، وسورها المديد، ونسيمها العجيب؛ فعودتم أبدانكم تمهيد الأرض، وأرحتم دوابّكم من جهد الثقل؛ فإن الذي تطلبونه لم تفاتوه، ومهما قضى الله لكم من شيء تنالوه! فقبلنا وملنا؛ فلما استقرّ بنا(3/278)
المكان قال لنا: أيّ الأمم أعقل؟ فنظر بعضنا إلى بعض؛ فقلنا: لعله أراد أصله من فارس. فقلنا: فارس. فقال: ليسوا بذلك؛ إنهم ملكوا كثيرا من الأرض، ووجدوا عظيما من الملك، وغلبوا على كثير من الخلق، ولبث فيهم عقد الأمر؛ فما استنبطوا شيئا بعقولهم، ولا ابتدعوا باقي حكم بنفوسهم. قلنا: فالروم. قال: أصحاب صنعة. قلنا:
فالصين. قال: أصحاب طرفة. قلنا: الهند. قال: أصحاب فلسفة. قلنا: السودان.
قال: شر خلق الله. قلنا: الترك. قال: كلاب ضالة. قلنا: الخزر. قال: بقر سائمة.
قلنا: فقل. قال: العرب. قال: فضحكنا.
قال: أما إني ما أردت موافقتكم، ولكن إذا فاتني حظي من النسبة، فلا يفوتني حظي من المعرفة؛ إن العرب حكمت على غير مثال مثل لها، ولا آثار أثرت؛ أصحاب إبل وغنم، وسكان شعر وأدم؛ يجود أحدهم بقوته، ويتفضل بمجهوده، ويشارك في ميسوره ومعسوره، ويصف الشيء بعقله فيكون قدوة، ويفعله فيصير حجة، ويحسّن ما شاء فيحسن، ويقبّح ما شاء فيقبح؛ أدّبتهم أنفسهم، ورفعتهم هممهم، وأعلتهم قلوبهم وألسنتهم؛ فلم يزل حباء الله فيهم وحباؤهم في أنفسهم، حتى رفع لهم الفخر، وبلغ بهم أشرف الذكر، وختم لهم بملكهم الدنيا على الدهر، وافتتح دينه وخلافته بهم إلى الحشر على الخير فيهم ولهم؛ فقال تعالى: إِنَّ الْأَرْضَ لِلَّهِ يُورِثُها مَنْ يَشاءُ مِنْ عِبادِهِ وَالْعاقِبَةُ لِلْمُتَّقِينَ
«1» فمن وضع حقهم خسر، ومن أنكر فضلهم خصم؛ ودفع الحق باللسان أكبت للجنان.
ذو الرمة وعبد أسود:
ذكر الأصمعي عن ذي الرمة قال: رأيت عبدا أسود لبني أسد قدم علينا من شق اليمامة، وكان وحشيا؛ لطول تغرّبه في الإبل، وربما كان لقي الأكرة «2» فلا يفهم عنهم ولا يستطيع إفهامهم، فلما رآني سكن إليّ، ثم قال لي: يا غيلان، لعن الله بلادا ليس فيها عربيّ، وقاتل الله الشاعر حيث يقول:(3/279)
حرّ الثرى مستغرب التراب
وما رأيت هذه العرب في جميع الناس إلا مقدار القرحة في جلد الفرس؛ ولولا أن الله رقّ عليهم فجعلهم في حشاه: لطمست هذه العجمان آثارهم، والله ما أمر الله نبيّه بقتلهم إلا لضنه بهم، ولا ترك قبول الجزية منهم إلا لتركها لهم.
الأكرة: جمع أكار، وهم الحرّاث. وقوله: جعلهم في حشاه، أي: استبطنهم.
يقول الرجل للعربي إذا استبطنه: خبأتك في حشاي وقال الراجز:
وصاحب كالدّمّل الممدّ ... جعلته في رقعة من جلدي
وقال آخر:
لقد كنت في قوم عليك أشحّة ... بحبّك إلا أنّ ما طاح طائح
يودّون لو خاطوا عليك جلودهم ... ولا يدفع الموت النّفوس الشّحائح
علماء النسب
أبو بكر وابن المسيب:
كان أبو بكر رضي الله عنه نسابة، وكان سعيد بن المسيّب نسابة، وقال له رجل:
أريد أن تعلمني النسب، قال: إنما تريد أن تساب الناس.
أبو بكر وبعض القبائل:
عكرمة عن ابن عباس عن علي بن أبي طالب قال: لما أمر رسول الله صلّى الله عليه وسلم أن يعرض نفسه على القبائل، خرج مرة وأنا معه وأبو بكر، حتى رفعنا إلى مجلس من مجالس العرب، فتقدم أبو بكر فسلم. قال عليّ: وكان أبو بكر مقدّما في كل خير، وكان رجلا نسابة. فقال: ممن القوم؟ قالوا: من ربيعة. قال: وأي ربيعة أنتم، أمن هامتها [أم من لهازمها] ؟ قالوا: من هامتها العظمى. قال: وأيّ هامتها العظمى أنتم؟ قالوا: ذهل الأكبر. قال أبو بكر: فمنكم عوف بن محلم الذي يقال فيه: لا حرّ(3/280)
بوادي عوف؟ قالوا: لا؛ قال: فمنكم جساس بن مرة الحامي الذمار، والمانع الجار؟
قالوا: لا. قال: فمنكم أخوال الملوك من كندة؟ قالوا: لا. قال: فمنكم أصهار الملوك من لخم؟ قالوا: لا. قال أبو بكر: فلستم ذهلا الأكبر، أنتم ذهل الأصغر.
فقام إليه غلام من شيبان حين بقل «1» وجهه، يقال له دغفل، فقال:
إنّ على سائلنا أن نسأله ... والعبء لا تعرفه أو تحمله
يا هذا، إنك قد سألتنا فأخبرناك ولم نكتمك شيئا، فممن الرجل؟ قال أبو بكر: من قريش؟ قال: بخ بخ! أهل الشرف والرياسة؛ فمن أي قريش أنت؟ قال:
من ولد تيم بن مرة. قال: أمكنت والله الرامي من سواء الثّغرة. «2» أفمنكم قصّي بن كلاب الذي جمع القبائل فسمي مجمّعا؟ قال: لا. قال: أفمنكم هاشم الذي هشم الثريد لقومه ورجال مكة مسنتون «3» عجاف؟ قال: لا. قال: فمنكم شيبة الحمد، عبد المطلب، مطعم طير السماء، الذي وجهه كالقمر في الليلة الظلماء؟ قال: لا. قال: فمن أهل الإفاضة بالناس أنت؟ قال: لا. قال: فمن أهل السقاية أنت؟ قال: لا.
فاجتذب أبو بكر زمام الناقة، ورجع إلى رسول الله صلّى الله عليه وسلم: فقال الغلام:
صادف درّ السيل درّا يدفعه ... يهيضه حينا وحينا يصدعه
قال: فتبسم النبي عليه السّلام؛ قال عليّ: فقلت له: وقعت يا أبا بكر من الأعرابي على بائقة. «4» قال: أجل: قال: ما من طامة إلا وفوقها أخرى، والبلاء موكل بالمنطق والحديث ذو شجون.
دغفل وقوم من الأنصار:
قال ابن الأعرابي: بلغني أن جماعة من الأنصار وقفوا على دغفل النسابة بعد ما كفّ، فسلموا عليه، فقال: من القوم؟ قالوا: سادة اليمن. فقال: من أهل مجدها(3/281)
القديم، وشرفها العميم، كندة؟ قالوا: لا. قال: فأنتم الطوال قصبا الممحّضون نسبا، بنو عبد المدان؟ قالوا: لا. قال: فأنتم أقودها للزحوف، وأخرقها للصفوف، وأضربها بالسيوف، رهط عمرو بن معد يكرب؟ قالوا: لا. قال: فأنتم أحضرها قراء، وأطيبها فناء، وأشدها لقاء رهط حاتم بن عبد الله [الطائي] ؟ قالوا: لا. قال:
فأنتم الغارسون للنخل، والمطعمون في المحل، والقائلون بالعدل، الأنصار؟ قالوا:
نعم.
ابن شيبان وقوم من العرب:
مسلمة بن شبيب، عن المنقرى، قال: ذكروا أن يزيد بن شيبان بن علقمة بن زرارة بن عدس قال: خرجت حاجا، حتى إذا كنت بالمحصب من منى إذا رجل على راحلة معه عشرة من الشباب، مع كل رجل منهم محجن، ينحّون الناس عنه ويوسّعون له؛ فلما رأيته دنوت منه؛ فقلت: ممّن الرجل؟ قال: رجل من مهرة، ممن يسكن الشّحر. «1»
قال: فكرهته ووليت عنه، فناداني من ورائي: مالك؟ فقلت:
لست من قومي ولست تعرفني ولا أعرفك. قال: إن كنت من كرام العرب فسأعرفك. قال: فكررت عليه راحلتي، فقلت: إني من كرام العرب. قال: فممن أنت؟ قلت: من مضر. قال: فمن الفرسان أنت أم من الأرحاء؟ فعلمت أنه أراد بالفرسان قيسا، وبالأرحاء خندفا؛ فقلت: بل من الأرحاء. قال: أنت امرؤ من خندف؟ قلت: نعم. قال: من الأرنبة أنت أم من الجماجم؟ فعلمت أنه أراد بالأرنبة خزيمة، وبالجمجمة بني أد بن طابخة؛ قلت: بل من الجمجمة. قال: فأنت امرؤ من بني أد بن طابخة؟ قلت: أجل: قال: فمن الدواني أنت أم من الصميم؟ قال: فعلمت أنه أراد بالدواني الرباب ومزينة، وبالصميم بني تميم؛ قلت: من الصميم. قال: فأنت إذا من بني تميم. قلت: أجل. قال: فمن الأكثرين ولد زيد مناة، وبالأقلين ولد الحارث، وبإخوانهم الآخرين بني عمرو بن تميم؛ قلت: من الأكثرين، قال: فأنت إذا(3/282)
من ولد زيد، قلت: أجل؛ قال: فمن البحور أنت أم من الجدود «1» أم من الثماد؟ «2» فعلمت أنه أراد بالبحور بني سعد، وبالجدود بني مالك بن حنظلة، وبالثماد بني امريء القيس بن زيد؛ قلت: بل من الذرى. قال: فأنت من مالك بن حنظلة. قلت:
أجل. قال: فمن اللهاب «3» أنت أم من الشعاب أم من اللصاب؟ «4» فعلمت أنه أراد باللهاب مجاشعا، وبالشعاب نهشلا، وباللصاب بني عبد الله بن دارم؛ فقلت له: من اللصباب. قال: فأنت من بني عبد الله بن دارم؟ قلت: أجل. قال: فمن البيوت أنت أم من الزّوافر؟ فعلمت أنه أراد بالبيوت ولد زرارة، وبالزوافر الأحلاف؛ قلت:
من البيوت. قال: فأنت يزيد بن شيبان بن علقمة بن زرارة بن عدس، وقد كان لأبيك امرأتان، فأيهما أمّك؟.
قول دغفل في قبائل العرب
دغفل وزياد:
الهيثم بن عدي عن عوانة قال: سأل زياد دغفلا عن العرب، فقال: الجاهلية ليمن، والإسلام لمضر، والفينة بينهما لربيعة. قال: أخبرني عن مضر؛ قال: فاخر بكنانة، وكاثر بتميم، وحارب بقيس؛ ففيها الفرسان والأنجاد؛ وأما أسد ففيها دل وكبر.
دغفل ومعاوية:
وسأل معاوية بن أبي سفيان دغفلا فقال له: ما تقول في بني عامر بن صعصعة؟
قال: أعناق ظباء، وأعجاز نساء! قال: فما تقول في بني أسد؟ قال: عافة قافة، «5» فصحاء كافة. قال: فما تقول في بني تميم؟ قال: حجر أخشن، إن صادقته آذاك، وإن(3/283)
تركته أعفاك. قال: فما تقول في خزاعة؟ قال: جوع وأحاديث! قال: فما تقول في اليمن؟ قال: شدة وإباء.
قال نصر بن سيّار:
إنا وهذا الحيّ من يمن لنا ... عند الفخار أعزّة أكفاء
قوم لهم فينا دماء جمّة ... ولنا لديهم أجنة ودماء
وربيعة الأذناب فيما بيننا ... لاهم لنا سلم ولا أعداء
إن ينصرونا لا نعز بنصرهم ... أو يخذلونا فالسماء سماء
مفاخرة يمن ومضر
الأبرش يفاخر ابن صفوان:
قال الأبرش الكلبي لخالد بن صفوان: هل أفاخرك- وهما عند هشام بن عبد الملك- فقال له خالد: قل. فقال الأبرش: لنا ربع البيت- يريد الركن اليماني- ومنا حاتم طيء، ومنا المهلب بن أبي صفرة.
قال خالد بن صفوان: منا النبي المرسل، وفينا الكتاب المنزّل، ولنا الخليفة المؤمّل.
قال الأبرش: لا فاخرت مضريا بعدك!
أبو العباس وقوم من اليمن:
ونزل بأبي العباس قوم من اليمن من أخواله من كعب، ففخروا عنده بقديمهم وحديثهم؛ فقال أبو العباس لخالد بن صفوان: أجب القوم. فقال: أخوال أمير المؤمنين [وأهله] ! قال: لا بد أن تقول. قال: وما [عسى أن] أقول لقوم يا أمير المؤمنين هم بين حائك برد، وسائس قرد، ودابغ جلد؛ دل عليهم هدهد، وملكتهم امرأة، وغرقتهم فأرة؟ فلم يثبت لهم بعدها قائمة.(3/284)
مفاخرة الأوس والخزرج
الخشنى يرفعه إلى أنس، قال: تفاخرت الأوس والخزرج؛ فقالت الأوس: منا غسيل الملائكة حنظلة الراهب، ومنا عاصم بن ثابت بن الأفلح الذي حمت لحمه الدّبر، «1» ومنا ذو الشهادتين جزيمة بن ثابت، ومنا الذي اهتزلموته العرش سعد بن معاذ. قالت الخزرج: منا أربعة قرءوا القرآن على عهد رسول الله صلّى الله عليه وسلم لم يقرأه غيرهم: زيد بن ثابت، وأبو زيد، ومعاذ بن جبل، وأبيّ بن كعب سيد القرّاء؛ ومنا الذي أيده الله بروح القدس في شعره، حسان بن ثابت.
البيوتات
علماء النسب في حضرة عبد الملك:
قال أبو عبيدة في كتاب التاج: اجتمع عند عبد الملك بن مروان في سمره علماء كثيرون من العرب، فذكروا بيوتات العرب، فاتفقوا على خمسة أبيات: بيت بني معاوية الأكرمين في كندة، وبيت بني جشم بن بكر في تغلب، وبيت ابن ذي الجدين في بكر، وبيت زرارة بن عدس في تميم، وبيت بني بدر في قيس- وفيهم الأحرز بن مجاهد التغلبي، وكان أعلم القوم، فجعل لا يخوض معهم فيما يخوضون فيه؛ فقال له عبد الملك: مالك يا أحيرز ساكنا منذ الليلة؟ فو الله ما أنت بدون القوم علما. قال:
وما أقول؟ سبق أهل الفضل في فضلهم أهل النقص في نقصانهم، والله لو أن للناس كلهم فرسا سابقا لكانت غرته بنو شيبان ففيم الإكثار. وقد قال المسيّب بن علس:
تبيت الملوك على عتبها ... وشيبان إن عتبت تعتب
فكالشّهد بالرّاح أخلاقهم ... وأحلامهم منهما أعذب
وكالمسك ترب تقاماتهم ... وترب قبورهم أطيب(3/285)
بيوتات مضر وفضائلها
قال النبي صلّى الله عليه وسلم، وسئل عن مضر. فقال: «كنانة جمجمتها وفيها العينان، وأسد لسانها، وتميم كاهلها» .
وقالوا: بيت تميم، بنو عبد الله بن دارم، ومركزه بنو زرارة، وبيت قيس، فزارة ومركزه بنو بدر؛ وبيت بكر بن وائل شيبان، ومركزه بيت بني ذي الجدين.
معاوية والكلبي:
وقال معاوية للكلبي حين سأله عن أخبار العرب. قال: أخبرني عن أعز العرب فقال: رجل رأيته بباب قبته فقسم الفيء بين الحليفين أسد وغطفان معا. قال: ومن هو؟ قال. حصن بن حذيفة بن بدر. قال: فأخبرني عن أشرف بيت في العرب. قال:
والله إني لأعرفه وإني لأبغضه! قال: ومن هو؟ قال بيت زرارة بن عدس. قال:
فأخبرني عن أفصح العرب. قال: بنو أسد.
والمجتمع عليه عند أهل النسب. وفيما ذكره أبو عبيدة في التاج، أن أشرف بيت في مضر غير مدافع في الجاهلية، بيت بهدلة بن عوف بن كعب بن سعد بن زيد مناة ابن تميم.
النعمان والأحيمر:
وقال النعمان بن المنذر ذات يوم، وعنده وجوه العرب ووفود القبائل، ودعا ببردي محرّق. فقال: ليلبس هذين البردين أكرم العرب وأشرفهم حسبا وأعزّهم قبيلة. فأحجم الناس؛ فقام الأحيمر بن خلف بن بهدلة بن عوف بن كعب بن سعد بن زيد مناة، فقال: أنا لهما! فأتزر بأحدهما وارتدى بالآخر؛ فقال له المنذر: ما حجتك فيما ادعيت؟ قال: الشرف من نزار كلها في مضر. ثم في تميم، ثم في سعد، ثم في كعب، ثم في بهدلة. قال: هذا أنت في اصلك؛ فكيف أنت في عشيرتك؟ قال: أنا أبو عشرة، وعم عشرة، وأخو عشرة، وخال عشرة! قال: فهذا أنت في عشيرتك؛ فكيف أنت في نفسك؟ فقال: شاهد العين شاهدي. ثم قام فوضع قدمه في الأرض.(3/286)
وقال: من أزالها فله من الإبل مائة! فلم يقم إليه أحد ولا تعاطى ذلك. ففيه يقول الفرزدق:
فما تم في سعد ولا آل مالك ... غلام إذا ما سيل لم يتبهدل
لهم وهب النّعمان بردي محرّق ... بمجد معدّ والعديد المحصّل
ومن بيت بهدلة بن عوف كان الزبرقان بن بدر، وكان يسمى سعد بن زيد مناة ابن تميم أسعد الأكرمين. وفيهم كانت الإفاضة في الجاهلية في عطارد بن عوف بن كعب بن سعد، ثم في آل كرب بن صفوان بن عطارد. وكان إذا اجتمع الناس أيام الحج بمنى لم يبرح أحد حتى يجوز آل صفوان ومن ورث ذلك عنهم، ثم يمر الناس أرسالا. وفي ذلك يقول أوس بن مغراء السعدي.
ولا يريمون في التّعريف موقفهم ... حتى يقال أجيزوا آل صفوانا
ما تطلع الشّمس إلّا عند أوّلنا ... ولا تغيّب إلا عند أخرانا
قال الفرزدق:
ترى الناس ما سرنا يسيرون خلفنا ... وإن نحن أومأنا إلى الناس وقّفوا
بيوتات اليمن وفضائلها
قال النبي صلّى الله عليه وسلم: «إني لأجد نفس ربكم من قبل اليمن» ، معناه والله أعلم: أن الله ينفس عن المسلمين بأهل اليمن: يريد الأنصار. ولذلك تقول العرب: نفّسني فلان في حاجتي، إذا روّح بعض ما كان يغمّه من أمر حاجته.
وقال عبد الله بن عباس لبعض اليمانية: لكم من السماء نجمها ومن الكعبة ركنها ومن الشرف صميمها.
وقال عمر بن الخطاب: من أجود العرب؟ قالوا: حاتم طيء، قال: فمن فارسها؟
قالوا: عمرو بن معد يكرب. قال: فمن شاعرها؟ قالوا: امرؤ القيس بن حجر.
قال: فأي سيوفها أقطع؟ قالوا: الصمصامة. قال: كفى بهذا فخرا لليمن.(3/287)
وقال أبو عبيدة: ملوك العرب حمير، ومقاولها غسان ولخم، وعددها وفرسانها الأزد، ولسانها مذحج، وريحانتها كندة، وقريشها الأنصار.
وقال ابن الكلبي: حمير ملوك وأرادف الملوك، والأزد أسد، ومذحج الطعّان وهمدان أحلاس الخيل، وغسان أرباب الملوك.
ومن الأزد الأنصار، وهم الأوس والخزرج ابنا حارثة بن عمرو بن عامر، وهم أعز الناس أنفسا، وأشرفهم همما؛ لم يؤدوا إتاوة قط إلى أحد من الملوك. وكتب إليهم أبو كرب تبّع الآخر يستدعيهم إلى طاعته ويتوعدهم إن لم يفعلوا أن يغزوهم؛ فكتبوا إليه:
العبد تبّعكم يريد قتالنا ... ومكانه بالمنزل المتذلّل
إنا أناس لا تنام بأرضنا ... عضّ الرسول ببظر أمّ المرسل
قال: فغزاهم أبو كرب، فكانوا يحاربونه بالنهار، ويقرونه بالليل، فقال أبو كرب: ما رأيت قوما أكرم من هؤلاء؛ يحاربوننا بالنهار، ويخرجون لنا العشاء بالليل! ارتحلوا عنهم. فارتحلوا.
للنبي صلّى الله عليه وسلم:
ابن لهيعة عن ابن هبيرة عن علقمة بن وعلة عن ابن عباس، أن رسول الله صلّى الله عليه وسلم سئل عن سبإ ما هو: أبلد أم رجل أم امرأة؟ فقال: «بل رجل ولد له عشرة، فسكن اليمن منهم ستة، والشام أربعة. أما اليمانيون، فكندة ومذحج والأزد وأنمار وحمير والأشعريون. وأما الشاميون فلخم وجذام وغسان وعاملة» .
ابن لهيعة قال: كان أبو هريرة إذا جاء الرسول سأله ممن هو؟ فإذا قال من جذام، قال: مرحبا بأصهار موسى وقوم شعيب.
ابن لهيعة عن بكر بن سوادة، قال: أتى رجل من مهرة إلى علي بن أبي طالب، قال: ممن أنت؟ قال: من مهرة. قال: وَاذْكُرْ أَخا عادٍ إِذْ أَنْذَرَ قَوْمَهُ بِالْأَحْقافِ
. «1»(3/288)
وقال ابن لهيعة: قبر هود في مهرة.
تفسير القبائل والعمائر والشعوب
قال ابن الكلبي؛ الشعب أكبر من القبيلة، ثم العمارة، ثم البطن، ثم الفخذ ثم العشيرة، ثم الفصيلة.
وقال غيره: الشعوب العجم، والقبائل العرب، وإنما قيل للقبيلة قبيلة، لتقابلها وتناظرها، وأن بعضها يكافىء بعضا، وقيل للشعب شعب لأنه انشعب منه أكثر مما انشعب من القبيلة؛ وقيل لها عمائر، من الاعتمار والاجتماع، وقيل لها بطون، لأنها دون القبائل، وقيل لها أفخاذ، لأنها دون البطون، ثم العشيرة: وهي رهط الرجل، ثم الفصيلة وهي أهل بيت الرجل خاصة. قال الله تعالى: وَفَصِيلَتِهِ الَّتِي تُؤْوِيهِ
«1» وقال تعالى: وَأَنْذِرْ عَشِيرَتَكَ الْأَقْرَبِينَ
. «2»
تفسير الأرحاء والجماجم
وقال أبو عبيدة في التاج: كانت أرحاء العرب ستا، وجماجمها ثمانيا، فالأرحاء الست، بمضر منها اثنتان، ولربيعة اثنتان، ولليمن اثنتان، واللتان في مضر: تيم بن مرة، وأسد بن خزيمة، واللتان في اليمن: كلب بن وبرة، وطيء بن أدد.
وإنما سميت هذه أرحاء، لأنها أحرزت دورا ومياها لم يكن للعرب مثلها، ولم تبرح من أوطانها، ودارت في دورها كالأرحاء على أقطابها، إلا أن ينتجع بعضها في البرحاء وعام الجدب، وذلك قليل منهم.
وقيل للجماجم جماجم، لأنها يتفرع من كل واحدة منها قبائل اكتفت بأسمائها دون الانتساب إليها، فصارت كأنها جسد قائم وكل عضو منها مكتف باسمه معروف بموضعه.
والجماجم ثمان: فاثنتان منها في اليمن، واثنتان في ربيعة، وأربع في مضر فالأربع(3/289)
التي في مضر: اثنتان في قيس، واثنتان في خندف، ففي قيس: غطفان وهوازن، وفي خندف: كنانة وتميم، والتي في ربيعة: بكر بن وائل وعبد القيس بن أفصى، والتي في اليمن: مذحج- وهو مالك بن أدد بن زيد بن كهلان بن سبأ- وقضاعة بن مالك ابن زيد بن مالك بن حمير بن سبأ.
ألا ترى أن بكرا وتغلب ابني وائل قبيلتان متكافئتان في العد والعدد؟ فلم يكن في تغلب رجال شهرت أسماؤهم حتى انتسب إليهم واجتزىء «1» بهم عن تغلب، فإذا سألت الرجل من بني تغلب لم يجتزىء حتى يقول تغلبي. ولبكر رجال قد اشتهرت أسماؤهم حتى كانت مثل بكر، فمنها شيبان وعجل ويشكر وقيس وحنيفة وذهل.
ومثل ذلك عبد القيس، ألا ترى أن عنزة فوقها في النسب ليس بينها وبين ربيعة إلا أب واحد، عنزة بن أسد بن ربيعة، فلا يجتزىء الرجل منهم إذا سئل أن يقول:
عنزي؟.
والرجل من عبد القيس ينسب شيبانيا وجرميا وبكريا.
ومثل ذلك أن ضبة بن أدعم تميم لا يجتزىء الرجل منهم أن يقول: ضبيّ.
والتميمي قد ينسب فيقول: منقري، وهجيمي، وطهويّ، ويربوعيّ ودارميّ، وكلبيّ.
وكذلك الكناني ينسب فيقول: لبثيّ، ودؤليّ، وضمري، وفراسي، وكل ذلك مشهور معروف.
وكذلك الغطفاني ينسب فيقول: عبسي، وذبياني، وفزاري، ومري، وأشجعي، وبغيضي.
وكذلك هوازن منها: ثقيف، والأعجاز، وعامر بن صعصعة، وقشير، وعقيل، وجعدة.
وكذلك القبائل من يمن التي ذكرنا.
فهذا فرق ما بين الجماجم وغيرها من القبائل، والمعنى الذي به سمّيت جماجم.(3/290)
وجمرات العرب أربعة، وهم: بنو نمير بن عامر بن صعصعة، وبنو الحرث بن كعب، وبنو ضبة، وبنو عبس بن بغيض، وإنما قيل لها الجمرات لاجتماعهم، والجمرة:
الجماعة، والتجمير: التجميع.
أسماء ولد نزار
سطيح وتقسيم ميراث نزار:
قال أبو عبد الله محمد بن عبد السّلام الخشني: لما احتضر نزار بن معد بن عدنان، ترك أربعة بنين: مضر وربيعة، وأنمار، وأياد، وأوصى أن يقسم ميراثهم بينهم سطيح الكاهن؛ فلما مات نزار، صفهم سطيح بين يديه، ثم أعطاهم على الفراسة؛ فأعطى ربيعة الخيل، ويقال له ربيعة الفرس. وأعطى مضر الناقة الحمراء، فيقال له مضر الحمراء. وأعطى أنمارا الحمار. وأعطى إيادا أثاث البيت. قال: فقيل لسطيح:
من أين علمت هذا العلم؟ قال: سمعته من أخي حين سمعه من موسى يوم طور سيناء.
الأصمعي قال: أخبرني شيخ من تغلب، قال أردفني أبي، فلما أصحر رفع عقيرته فقال:
رأت سدرة من سدر حومل فابتنت ... به بيتها أن لا تحاذر راميا «1»
إذا هي قامت فيه قامت ظليلة ... وأدرك روقاها الغصون الدّوانيا
تطلّع منه بالعشيّ وبالضّحى ... تطلّع ذات الخدر تدعو الجواريا
ثم قال: أتدري من قائل هذه الأبيات يا بني؟ قلت: لا أدري. قال: قالها ربيعة ابن نزار. فقلت: وما يصف؟ قال: البقرة الوحشية.
أنساب مضر
ولد مضر بن نزار: اليأس، والناسّ، وهو عيلان. أمهما الرباب بنت حيدة بن(3/291)
معد، فولد الناسّ- الذي هو عيلان بن مضر- قيس بن عيلان بن مضر.
وولد اليأس بن مضر: عمرا. وهو مدركة، وعامرا، وهو طابخة. وعميرا، وهو القمعة، ويقال إن القمعة هو أبو خزاعة.
وأمهم خندف، وهي ليلى بنت حلوان بن عمران بن الحاف بن قضاعة؛ فجميع ولد اليأس بن مضر بن نزار من خندف. ولذلك يقال لهم خندف لأنها أمهم وإليها ينسبون، فجميع ولد مضر بن نزار؛ قيس، وخندف.
ومن بطون خندف: بنو مدركة بن اليأس بن مضر، وهم: هذيل بن مدركة، وكنانة بن خزيمة بن مدركة، وأسد بن خزيمة بن مدركة، والهون بن خزيمة بن مدركة. [ومن أسد بن خزيمة أربع عشائر: بنو كاهل وصعب وعمرو ودودان؛ فمن دودان: بنو عمرو بن دودان، قبيلة] ؛ وهم وجوه بني أسد.
ومن بني طابخة بن اليأس بن مضر: ضبة بن أدّ بن طابخة، ومزينة؛ وهم بنو عمرو بن أد بن طابخة، نسبوا إلى أمهم مزينة ابنة كلب بن وبرة؛ والرباب بنو أدّ بن طابخة، وهم عدىّ، وتميم، وثور، وعكل، وإنما سميت الرباب لأنها اجتمعت وتحالفت فكانت مثل الربابة؛ «1» ويقال إنهم إذا تحالفوا وضعوا أيديهم في جفنة فيها رب، وصوفة؛ وهو الربيط بن الغوث بن أدّ بن طابخة؛ وكانوا أصحاب الإجازة، ثم انتقلت في بني عطارد بن عوف بن كعب بن سعد بن زيد مناة بن تميم؛ وتميم بن مرة بن أدّ بن طابخة.
فجميع قبائل مضر يجمعها قيس وخندف؛ وقد تنسب ربيعة في مضر؛ وإنما هم إخوة مضر؛ لأن ربيعة بن نزار، ومضر بن نزار.
بطون هذيل وجماهيرها
منهم لحيان بن هذيل، بطن؛ وخناعة بن سعد بن هذيل، بطن؛ وحريث بن(3/292)
سعد بن هذيل، بطن؛ وكاهل بن سعد بن هذيل، بطن؛ وصاهلة بن كاهل بن الحارث بن سعد بن هذيل، بطن؛ وصبح بن كاهل، بطن؛ وكعب بن كاهل، بطن.
فمن بني صاهلة: عبد الله بن مسعود، صاحب رسول الله صلّى الله عليه وسلم، شهد بدرا. ومن بني صبح بن كاهل: أبو بكر الهذلي الفقيه، ومنهم صخر بن حبيب الشاعر، الذي يقال فيه صخر الغي، وأبو بكر الشاعر، واسمه ثابت بن عبد شمس. ومنهم: أبو ذؤيب الشاعر، وهو خويلد بن خالد. وبطون هذيل كلها لا ينتسب إلى شيء منها، وإنما ينتسب إلى هذيل؛ لأنها ليست جمجمة.
بطون كنانة وجماهيرها
كنانة بن خزيمة بن مدركة، منهم قريش، وهم بنو النضر بن كنانة؛ ومنهم بكر ابن عبد مناة، بطن؛ وحدج بن ليث بن بكر بن عبد مناة، بطن؛ وغفار بن مليل ابن ضمرة بن بكر، بطن- منهم أبو ذرّ الغفاري صاحب النبي عليه الصلاة والسّلام- ومدلج بن مرة بن عبد مناة، بطن- منهم سراقة بن [مالك بن] جعشم المدلجي الذي تصوّر إبليس في صورته يوم بدر وقال لقريش: إني جار لكم- وبنو مالك بن كنانة، بطن- منهم جذل الطعان، وهو علقمة بن أوس بن عمرو بن ثعلبة بن مالك ابن كنانة. ومن ولد جذل الطعان، وربيعة بن مكدم، وهو أشجع بيت في العرب، وفيهم يقول علي بن أبي طالب لأهل الكوفة: وددت والله لو أنّ لي بمائة الف منكم ثلاثمائة من بني فراس بن غنم بن ثعلبة. ومن بني الحارث بن مالك بن كنانة، منهم العملس، وهو أبو ثمامة الذي كان ينسيء الشهور حتى أنزل الله فيه إِنَّمَا النَّسِيءُ زِيادَةٌ فِي الْكُفْرِ
،»
وبنو مخدج بن عامر بن ثعلبة، بطن؛ وبنو ضمرة في كنانة الأحابيش، منهم البرّاض بن قيس الذي يقال فيه «أفتك من البراض» ومن بني كنانة الأحابيش، منهم مبذول وعوف وأحمر وعون؛ ومن بني الحرث بن عبد مناة: الحليس بن عمرو بن الحارث، وهو رئيس الأحابيش يوم أحد؛ ومن بني سعد ليث: أبو(3/293)
الطفيل عامر بن واثلة، وواثلة بن الأسقع، كانت له صحبة مع النبي عليه الصلاة والسّلام؛ ومن بني حدج بن ليث: نصر بن سيار صاحب خراسان؛ ومن بني ضمرة بن بكر: عمارة بن مخشي- الذي عاقد النبي عليه الصلاة والسّلام على بني ضمرة.
بطون أسد وجماهيرها
أسد بن خزيمة بن مدركة بن اليأس بن مضر؛ منهم دودان الذي يقول فيه امرؤ القيس:
قولا لدودان عبيد العصا ... ما غرّكم بالأسد الباسل!
ومنهم: كاهل بن عمرو بن صعب، وحلمة؛ فأما بنو حلمة فأفناهم امرؤ القيس ابن حجر بأبيه؛ ومنهم غنم بن دودان، وثعلبة بن دودان؛ ومنهم قعيس بن الحارث ابن ثعلبة بن دودان بن أسد؛ ومنهم بنو الصيداء بن عمرو بن قعيس؛ ومنهم فقعس ابن طريف بن عمرو بن قعيس؛ ومنهم جحوان بن فقعس، ودثار، ونوفل، ومنقذ، وهو حذلم، بنو فقعس؛ فمن بني جحوان طليحة بن خويلد الأسدي؛ ومن بني الصيداء شيخ من عميرة القائد، والصامت بن الأفقم الذي قتل ربيعة بن مالك أبا لبيد بن ربيعة الشاعر يوم ذي علق. وفي بني الصيداء يقول الشاعر:
يا بني الصّيداء ردّوا فرسي ... إنما يفعل هذا بالذّليل
ومن بني قعيس: العلاء بن محمد بن منظور، ولي شرطة الكوفة؛ ومنهم ذؤاب بن ربيّعة الذي قتل عتيبة بن الحارث بن شهاب اليربوعي، ومنهم: قبيصة بن برمة، ومنهم بشر بن أبي خازم الشاعر؛ ومن بني سعد بن ثعلبة بن دودان: سويد بن ربيعة، وعبيد بن الأبرص، وعمرو بن شاس أبو عرار، والكميت بن زيد؛ ومنهم:
ضرار بن الأزور صاحب المختار؛ ومنهم بنو غاضرة بن مالك بن ثعلبة بن دودان؛ ومن بني غاضرة زر بن حبيش الفقيه، ومنهم الحسحاس بن هند الذي ينسب إليه عبد بني الحسحاس؛ ومن أسد بنو غنم بن دودان؛ ومنهم زينب بنت جحش زوج(3/294)
النبي صلّى الله عليه وسلم، ومنهم أيمن بن خريم الشاعر، والأقيشر الشاعر؛ ومن بني كاهل بن أسد علباء بن الحرث الذي يقول فيه امرؤ القيس:
وأفلتهنّ علباء جريضا ... ولو أدركنه صفر الوطاب «1»
الهون بن خزيمة بن مدركة
منهم القارة، وهم عائذة وبيثع، بنو الهون بن خزيمة بن مدركة؛ والقارة أرمى حي في العرب، ولهم يقال:
قد أنصف القارة من راماها
فهذه قبائل بني مدركة بن اليأس، وهي: هذيل بن مدركة، وكنانة بن خزيمة بن مدركة، وأسد بن خزيمة بن مدركة، والهون بن خزيمة بن مدركة.
ومن قبائل طابخة بن اليأس
بطون ضبة وجماهيرها
ضبة بن أدّ بن طابخة بن اليأس: ولد ضبة بن أدّ سعدا وسعيدا وباسلا، وله المثل الذي يقال فيه: «أسعد أم سعيد» فقتل سعيد ولم يعقب؛ ولحق باسل بأرض الديلم؛ فتزوج امرأة من أرض العجم، فولدت له الديلم. فيقال إن باسل بن ضبة أبو الديلم.
وفي ذلك يقول أبو بجير يعيب به العرب:
زعمتم بأنّ الهند أولاد خندف ... وبينكم قربى وبين البرابر
وديلم من نسل ابن ضبّة باسل ... وبرجان من أولاد عمرو بن عامر
فقد صار كلّ الناس أولاد واحد ... وصاروا سواء في أصول العناصر
بنو الأصفر الأملاك أكرم منكم ... وأولى بقربانا ملوك الأكاسر
فمن بني سعد بن ضبة: بنو السيد بن مالك بن بكر بن سعد بن ضبة، بطن.(3/295)
وبنو كوز بن كعب بن بجالة بن ذهل بن مالك بن بكر بن سعد بن ضبة، بطن.
وبنو زيد بن كعب بن بجالة بن ذهل بن مالك بن بكر، بطن. وبنو عائذة بن مالك بن بكر بن سعد بن ضبة، بطن.
ومنهم: عبد مناة بن بكر بن سعد بن ضبة، وبنو ثعلبة بن سعد بن ضبة. فمن بني كوز: المسيب بن زهير بن عمرو، ومن بني زهير: عمرو بن مالك بن زيد بن كعب، وكان سيدا مطاعا، وولد له عبد الحارث، وحصين، وعمرو، وأدهم، وذبحة، وعامر، وقبيصة، وحنظلة، وخيار، وحارث، وقيس، وشيبة، ومنذر، كل هؤلاء شريف قد رأس وربع- يعني قد أخذ المرباع- وكان الرئيس إذا غنم الجيش معه أخذ الرّبع.
ومن ولد الحصين بن ضرار: زيد الفوارس، وله يقول الفرزدق:
زيد الفوارس وابن زيد منهم ... وأبو قبيصة والرّئيس الأوّل
الرئيس الأول: محلّم بن سويط ربع ضبة وتميم والرباب.
ومن بني زيد الفوارس: ابن شبرمة القاضي. ومن بني عائذة بن مالك. شرحاف ابن المثلم- الذي قتل عمارة بن زياد العبسي. ومن بني السيد بن مالك: زيد بن حصين، ولي أصبهان. وعبد الله بن علقمة الشاعر الجاهلي. ومنهم عميرة بن اليثربيّ قاضي البصرة، وهو الذي قتل علباء وهند الجملي. وقال في قتلهما يوم الجمل:
إني أنا عميرة بن اليثربيّ ... قتلت علباء وهند الجمليّ
ومن بني ثعلبة بن سعد بن ضبة: عاصم بن خليفة بن يعقل، الذي قتل بسطام بن قيس.
مزينة
مزينة: بنو عمرو بن أدّ بن طابخة بن اليأس، نسبوا إلى أمهم مزينة بنة كلب بن وبرة. منهم: النعمان بن مقرّن، ومنهم معقل بن سنان بن نبيشة صاحب النبي عليه(3/296)
الصلاة والسّلام، وزهير بن أبي سلمى الشاعر، ومعن بن أوس الشاعر. ومنهم إياس ابن معاوية القاضي. وإنما مزينة كلها بنو عثمان وأوس بن عمرو بن أدّ بن طابخة، وفي ذلك يقول كعب بن زهير:
متى أدع في أوس وعثمان تأتني ... مساعير قوم كلّهم سادة دعم «1»
هم الأسد عند البأس والحشد في القرى ... وهم عند عقد الجار يوفون بالذّمم
الرباب
وهم: عديّ، وتميم، وثور، وعكل؛ وإنما سميت هذه القبائل الرباب، لأنهم تحالفوا فوضعوا أيديهم في جفنة فيها رب؛ وقال بعضهم: إنما سموا الرباب لأنهم إذا تحالفوا جمعوا أقداحا، من كل قبيلة منهم قدح، وجعلوها في قطعة أدم، وتسمى تلك القطعة الربة، فسموا بذلك الرباب.
فمن بني عدي بن عبد مناة بن أدّ بن طابخة: ذو الرمّة الشاعر، وهو غيلان بن عقبة. ومن بني تميم بن عبد مناة: عمر بن لجأ الشاعر الذي كان يهاجى جريرا؛ ومن بني عكل بن عبد مناة: النمر بن تولب الشاعر؛ ومن بني ثور بن عبد مناة: سفيان الثوري الفقيه. فهذه الرباب، وهم بنو عبد مناة.
صوفة
هم بنو الغوث بن مر بن أدّ بن طابخة، وفيهم كانت الإجازة في الجاهلية: هم كانوا يدفعون بالناس من عرفات، ثم انتقلت الإجازة في بني عطارد بن عوف بن كعب بن سعد بن زيد مناة بن تميم؛ فمن الغوث شرحبيل بن عبد العزى الذي يقال له شرحبيل بن حسنة.
بطون تميم وجماهيرها
تميم بن مر بن أدّ بن طابخة بن اليأس بن مضر. كان لتميم ثلاثة أولاد: زيد مناة،(3/297)
وعمرو، والحارث بن تميم.
فمن الحارث بن تميم: شقرة، واسمه معاوية بن الحارث بن تميم؛ وإنما قيل له شقرة لبيت قاله، وهو:
وقد أحمل الرّمح الأصمّ كعوبه ... به من دماء القوم كالشّقرات
والشقرات: هي شقائق النعمان، شبه الدماء بها في حمرتها.
ومن بني شقرة: المسيّب بن شريك الفقيه، ونصر بن حرب بن مخرمة.
ومن عمرو بن تميم: أسيّد بن عمرو بن تميم، ومنهم أكثم بن صيفي حكيم العرب، وأبو هالة زوج خديجة زوج النبي صلّى الله عليه وسلم، وأوس بن حجر الأسيدي الشاعر، وحنظلة ابن الربيع صاحب النبي عليه الصلاة والسّلام الذي يقال له حنظلة الكاتب.
بنو العنبر بن عمرو بن تميم
منهم سوّار بن عبد الله القاضي، وعبيد الله بن الحسن القاضي، وعامر بن قيس الزاهر. ومنهم: بنو دغة بنت مغنج التي يقال فيها: «أحمق من دغة» ؛ وهي من إياد ابن نزار تزوجها عمرو بن جندب بن العنبر، فولدت له بني الهجيم بن عمرو بن تميم، ويقال لهم الحبال.
بنو مازن بن عمرو بن تميم، منهم: عباد بن أخضر، وحاجب بن ذبيان الذي يعرف بحاجب الفيل، ومالك بن الرّيب الشاعر؛ ومنهم: قطري بن الفجاءة صاحب الأزارقة، وسلم وأخوه هلال بن أحوز.
الحبطات
وهم بنو الحارث بن عمرو بن تميم، وذلك أنّ أباهم الحارث أكل طعاما فحبط منه، أي ورم بطنه. منهم: عباد بن الحصين من فرسان العرب، كان على شرطة مصعب بن الزبير.(3/298)
غيلان وأسلم وحرماز بنو مالك بن عمرو بن تميم
فمن بني غيلان. أبو الجرباء، شهد يوم الجمل مع عائشة، وقتل يومئذ. ومن بني حرماز: سمرة بن يزيد. كان من رجال البصرة في أول ما نزلها الناس.
بنو سعد بن زيد مناة بن تميم
الأبناء، وهم ستة من ولد سعد بن زيد مناة، يقال لهم: عبد شمس، ومالك وعوف، وعوافة، وجشم، وكعب.
فبنو سعد بن زيد مناة، وأولاد كعب بن سعد، يسمّون مقاعس والأجارب إلا عمرا وعوفا ابني كعب.
فمن بني عبد شمس بن سعد: تميلة بن مرة صاحب شرطة إبراهيم بن عبد الله ابن الحسن. وإياس بن قتادة، حامل الديات في حرب الأزد لتميم- وهو ابن أخت الأحنف بن قيس- وعبدة بن الطبيب الشاعر. وحمّان، وهو عبد العزيء بن كعب ابن سعد.
الأجارب
هم بطنان في سعد، وهم: ربيعة بن كعب بن سعد، وبنو الأعرج كعب بن سعد. وفيهم يقول أحمر بن جندل:
ذودا قليلا تلحق الحلائب ... يلحقنا حمّان والأجارب «1»
فمن بني الأجارب: حارثة بن قدامة، صاحب شرطة علي بن أبي طالب رضي الله عنه؛ وعمرو بن جرموز، قاتل الزبير بن العوام.
مقاعس: هو الحارث بن عمرو بن كعب بن سعد. ومن أفخاذ مقاعس: منقر بن(3/299)
عبيد بن مقاعس؛ منهم قيس بن عاصم سيد الوبر، وعمرو بن الأهتم، وخالد بن صفوان بن عمرو بن الأهتم، وشبيب بن شيبة بن عبد الله بن عمرو بن الأهتم. ومن بني عبيد بن مقاعس، وهم إخوة منقر: الأحنف بن قيس؛ وسلامة بن جندل، والسّليك بن سلكة رجليّ العرب، ويقال له الرئبال، كان يغير وحده. ومنهم عبد الله بن صفّار الذي تنسب إليه الصّفرية. وعبد الله بن إباض الذي تنسب إليه الإباضية.
فهذه مقاعس وجماهيرها.
بنو عطارد بن عوف ابن كعب بن سعد
منهم: كرب بن صفوان بن حباب. صاحب الإفاضة، إفاضة الحاج يدفع بهم من عرفات، وله يقول أوس بن مغراء:
ولا يريمون في التّعريف موقفهم ... حتى يقال أجيزوا آل صفوانا
قريع بن عوف ابن كعب بن سعد
منهم الأضبط بن قريع رئيس تميم يوم ميط، وبنو لأي بن أنف الناقة الذين مدحهم الحطيئة، فقال فيهم.
قوم هم الأنف والأذناب غيرهم ... ومن يسوّي بأنف النّاقة الذّنبا
ومنهم أوس بن مغراء الشاعر. وهذا أشرف بطن في تميم.
بهدلة بن عوف ابن كعب بن سعد
منهم الزبرقان بن بدر، واسمه حصين. ومنهم الأحيمر بن خلف بن بهدلة، صاحب بردي محرّق، والذي يقول فيه الفرزدق:(3/300)
فيا ابنة عبد الله وابنة مالك ... ويا بنت ذي البردين والفرس النهد
جشم بن عوف بن كعب بن سعد
يقال لبنى جشم وعطارد وبهدلة: الجذاع.
حنظلة بن مالك الأحمق بن زيد مناة
البراجم خمسة من بني حنظلة بن مالك بن زيد مناة وهم: غالب، وعمرو، وقيس، وكلفة، وظليم، بنو حنظلة بن مالك الأحمق بن زيد مناة بن تميم. منهم عميرة بن ضابيء الذي قتله الحجاج.
يربوع بن حنظلة ابن مالك بن زيد مناة بن تميم
من ولده رياح بن يربوع بن حنظلة. منهم: عتّاب بن ورقاء الرياحي والى أصبهان وأحد أجواد الإسلام، ومطر بن ناجية الذي غلب على الكوفة أيام ابن الأشعث.
وسحيم بن وثيل الشاعر. والحارث بن يزيد، صاحب الحسن بن علي. وأبو الهنديّ الشاعر، واسمه أزهر بن عبد العزيز؛ ومعقل بن قيس صاحب علي بن أبي طالب رضي الله عنه، والأبيرد بن قرة.
غدانة بن يربوع، منهم: وكيع بن أبي سود، وحارثة بن بدر وكان فارسا شاعرا.
ثعلبة بن يربوع، منهم مالك ومتّمم ابنا نويرة، وعتيبة بن الحارث بن شهاب الذي يقال صيّاد الفوارس.
وبنو سليط بن يربوع، منهم: المساور بن رئاب.
كليب بن يربوع، منهم: جرير بن الخطفي الشاعر.
العنبر بن يربوع، منهم: سجاع بنت أوس التي تنبأت في تميم.(3/301)
زيد بن مالك، وكعب الضرّاء بن مالك، ويربوع بن مالك بن حنظلة بن مالك ابن زيد مناة: أمهم العدوية، وبها يعرفون. يقال لهم بنو العدوية.
طهية، وهم بنو أبي سود بن مالك، وعوف بن مالك. أمهم طهية بها يعرفون، ويقال لبني طهية وبني العدوية: الجمار.
ومن بني طهية بنو شيطان. ومنهم دارم بن مالك بن حنظلة بن مالك بن زيد مناة بن تميم؛ فولد دارم بن مالك: عبد الله، ومجاشع، وسدوس، وخيبري، ونهشل، وجرير وأبان ومناف.
فمن ولد عبد الله بن دارم: حاجب بن زرارة بن عدس بن عبد الله بن دارم.
وهلال بن وكيع بن بشر، وهو بيت بني تميم وصاحب القوس. ومحمد بن جبير بن عطارد.
مجاشع بن دارم. منهم: الفرزدق الشاعر، والأقرع بن حابس، وأعين بن ضبيعة ابن عقال، والحتات بن يزيد، والحارث بن شريح بن زيد صاحب خراسان، والبعيث الشاعر- واسمه خداش بن بشر- والأصبغ بن نباتة، صاحب علي.
نهشل بن دارم. منهم: خازم بن خزيمة قائد الرشيد، وعباس بن مسعود الذي مدحه الحطيئة، وكثيّر عزة الشاعر، والأسود بن يعفر الشاعر.
أبان بن دارم. منهم: سورة بن بحر- كان فارسا- صاحب خراسان، وذو الحزق بن شريح الشاعر.
سدوس بن دارم، وهؤلاء قد بادوا.
وربيعة بن مالك بن زيد مناة، وربيعة بن حنظلة بن مالك بن زيد مناة، وربيعة ابن مالك بن حنظلة: يقال لهم: الربائع.
فمن ربيعة بن حنظلة: أبو بلال الخارجي، واسمه مرداس بن جدير.
ومن ربيعة بن مالك بن زيد مناة: علقمة بن عبدة الشاعر، وأخوه شأس.(3/302)
ومن ربيعة بن مالك بن حنظلة: الحنيف بن السّجف.
جشيش بن مالك- وأمه حطّى، على مثال حبلى، وبها يعرفون- منهم: حصين ابن تميم الذي كان على شرطة عبيد الله بن زياد. ويقال لجشيش وربيعة ودارم وكعب بني مالك بن حنظلة بن مالك: الخشاب. انقضى نسب الرباب وضبة ومزينة وتميم.
بطون قيس وجماهيرها
نسب قيس بن عيلان بن مضر، قيس بن الناس، وهو عيلان بن مضر.
فمن بطون قيس: عدوان وفهم ابنا عمرو بن قيس بن عيلان، وأمهما جديلة.
بنت مدركة بن اليأس بن مضر، نسبوا إليها.
فمن عدوان: عامر بن الظرب حكم العرب بعكاظ، ومنهم أبو سيارة، وهو عميلة بن الأعزل. ومنهم تأبط شراّ، وهو ثابت بن عميثل.
غطفان بن قيس عيلان- وأعصر بن سعد بن قيس بن عيلان.
فمن بطون غطفان: أشجع بن ريث بن غطفان، وأشجع بن ريث بن غطفان؛ منهم: نصر بن دهمان. وكان من المعمّرين، عاش مائتي سنة، ومنهم فروة بن نوفل.
عبس بن بغيض بن ريث بن غطفان، وهي إحدى جمرات العرب، منهم: زهير ابن جذيمة، كان سيد عبس كلها حتى قتله خالد بن جعفر الكلابي؛ وابنه قيس بن زهير فارس داحس؛ وعنترة الفوارس؛ والحطيئة؛ وعروة بن الورد؛ والربيع بن زياد، وإخوته الذين يقال لهم الكملة؛ ومروان بن زنباع الذي يقال له مروان القرظ، وخالد بن سنان الذي ضيّعه قومه.
ذبيان بن بغيض بن ريث بن غطفان. منهم: فزارة بن ذبيان بن بغيض، وفيهم الشرف؛ ومنهم حذيفة بن بدر؛ ومنهم منظور بن زيّان بن سيار، وعمر ابن هبيرة، وعديّ بن أرطاة.
مرة بن عوف بن سعد بن ذبيان؛ منهم هرم بن سنان المرّي الجواد الذي كان(3/303)
يمدحه زهير؛ ومنهم زياد النابغة الشاعر؛ ومنهم الحارث بن ظالم الذي يقال فيه «أمنع من الحارث» ؛ ومنهم: شبيب بن البرصاء، وأرطاة بن سهيّة، وعقيل بن علّفة المرّي، وابن ميّادة الشاعر، ومسلم بن عقبة صاحب الحرة، وعثمان بن حيان، وهاشم بن حرملة. الذي يقول فيه الشاعر:
أحيا أباه هاشم بن حرمله ... يقتل ذا الذّنب ومن لا ذنب له
والشماخ الشاعر، وأخوه مزرّد. ابنا ضرار.
ومن بطون أعصر: غني بن أعصر بن سعد بن قيس بن الناس بن مضر.
منهم طفيل الخيل. وقد ربع غنيّا ومنهم: مرثد بن أبي مرثد، شهد بدرا.
باهلة
هم بنو معن بن أعصر، نسبوا إلى أمهم باهلة، وهم: قتيبة ووائل وأود وجأوة، أمهم باهلة، وبها يعرفون، منهم: حاتم بن النعمان. وقتيبة بن مسلم، وأبو أمامة صاحب رسول الله صلّى الله عليه وسلم، وسلمان بن ربيعة، ولّاه أبو بكر الصديق، وزيد بن الحباب.
بنو الطفاوة بن أعصر
وهم: ثعلبة وعامر ومعاوية: أمهم الطفاوة وإليها ينسبون، وهم إخوة غنىّ ابن أعصر: فهذه غطفان.
بنو خصفة بن قيس بن عيلان
محارب بن زياد بن خصفة بن قيس بن عيلان، منهم الحكم بن منيع الشاعر، وبقيع بن صفّار الشاعر الذي كان يهاجي الأخطل. وولد محارب: ذهل وغنم؛ وهم الأبناء؛ والخضر، وهم بنو مالك بن محارب.
سليم بن منصور بن عكرمة بن خصفة. منهم: العباس بن مرداس، كان فارسا(3/304)
شاعرا، وهو من المؤلّفة قلوبهم؛ والفجاءة الذي أحرقه أبو بكر في الردة. ومنهم:
صخر ومعاوية. ابنا عمرو بن الحارث بن الشّريد، وهما أخوا خنساء؛ وخفاف بن عمير الشاعر، ونبيشة بن حبيب قاتل ربيعة بن مكدم، ومجاشع بن مسعود من أهل البصرة، وعبد الله بن خازم صاحب خراسان.
بنو ذكوان وبهز وبهثة بنو سليم
منهم: أبو الأعور السّلمي صاحب معاوية، وعمير بن الحباب قائد قيس، والجحّاف بن حكيم. فهذه بطون سليم ومحارب.
قبائل هوازن
هم هوازن بن منصور بن عكرمة بن خصفة بن قيس عيلان.
منهم سعد بن بكر بن هوازن، وفيهم استرضع النبي صلّى الله عليه وسلم ومنهم نصر بن معاوية ابن بكر بن هوازن- منهم مالك بن عوف النّصري قائد المشركين يوم حنين.
جشم بن معاوية بن بكر، منهم: دريد بن الصّمّة فارس العرب.
ثقيف، وهو قسيّ بن منبّه بن بكر بن هوازن. منهم: مسعود بن معتب، والمختار ابن أبي عبيد. ومنهم: عروة بن مسعود عظيم القريتين، والمغيرة بن شعبة، وعبد الرحمن بن أم الحكم.
عامر بن صعصعة بن معاوية بن بكر بن هوازن
فمن بطون عامر: بنو هلال بن عامر بن صعصعة، منهم: ميمونة زوج النبي عليه الصلاة والسّلام، ومنهم عاصم بن عبد الله صاحب خراسان، وحميد بن ثور الشاعر، وعمرو بن عامر بن ربيعة بن عامر فارس الضّحياء؛ ومن ولده خالد وحرملة ابنا هوذة، صحبا النبي صلّى الله عليه وسلم؛ وخداش بن زهير.
نمير بن عامر بن صعصعة. منهم: الراعي الشاعر، وهو عبيد بن حصين، وهمام بن(3/305)
قبيصة، وشريك بن خباشة الذي دخل الجنة في الدنيا في أيام عمر بن الخطاب.
بنو كعب بن ربيعة بن عامر بن صعصعة
وهم ستة بطون، منهم عقيل بن كعب، رهط توبة بن الحمير صاحب ليلى الأخيلية. منهم: بنو المنتفق.
بنو الحريش بن كعب، رهط سعيد بن عمر، ولي خراسان، وهو صاحب رأس خاقان.
بنو العجلان بن كعب
رهط تميم بن مقبل الشاعر.
ومنهم بنو قشير بن كعب، رهط مالك بن سلمة الذي أسر حاجب بن زرارة.
ومنهم: بنو جعدة بن كعب، رهط النابغة الجعدي، وهو أبو ليلى؛ فهذه بطون كعب بن ربيعة بن عامر بن صعصعة.
ومن أفخاذ ربيعة بن عامر بن صعصعة: كلاب بن ربيعة بن عامر بن صعصعة؛ منهم المحلّق بن حنتم بن شدّاد. ومنهم زفر بن الحارث الكلابي، ويزيد بن الصّعق، ووكيع بن الجرّاح الفقيه.
جعفر بن كلاب بن ربيعة بن عامر بن صعصعة، منهم الطّفيل. فارس قرزل، وعامر بن الطّفيل، وعلقمة بن علاثة، وأبو براء عامر بن مالك ملاعب الأسنّة.
الضّباب بن كلاب، منهم: شمر بن ذي الجوشن.
هؤلاء بنو عامر بن صعصعة.
بنو سلول
هم بنو مرة بن صعصعة، نسبوا إلى أمهم سلول.
غاضرة، وهم غالب بن صعصعة، ومالك، وربيعة، وغويضرة، وحارث،(3/306)
وعبد الله،- وهما عادية- وعوف، وقيس، ومساور، وسيّار، وهو غزيّة.
لوذان، وجحوش، وجحّاش، وعوف؛ وهم الوقعة، بنو معاوية بن بكر بن هوازن.
بنو صعصعة بن معاوية بن بكر بن هوازن، يقال لهم: الأبناء.
هذا آخر نسب مضر بن نزار.
نسب ربيعة بن نزار
ولد ربيعة بن نزار: أسد، وضبيعة، وعائشة، وهم باليمن في مراد، وعمرو، وعامر، وأكلب؛ وهم رهط أنس بن مدرك.
فمن قبائل ربيعة: نزار.
ضبيعة بن ربيعة بن نزار- وفيهم كان بيت ربيعة وشرفها. ومنهم الحارث الأضجم، حكم ربيعة في زهرة، وفيه يقول الشاعر:
قلوص الظلامة من وائل ... تردّ إلى الحارث الأضجم «1»
فمهما يشأ يأت منه السّداد ... ومهما يشأ منهم يهضم «2»
ومنهم المتلمّس، وهو جرير بن عبد المسيح الشاعر، صاحب طرفة بن العبد.
الذي يقول فيه:
أودى الذي علق الصحيفة منهما ... ونجا حذار حمامه المتلّمس «3»
ومنهم المسيّب بن علس الشاعر. ومنهم المرقّش الأكبر والمرقّش الأصغر. وكان المرقش الأكبر عمّ المرقش الأصغر، والمرقش الأصغر عم طرفة بن العبد بن سفيان ابن سعد بن مالك بن ضبيعة.(3/307)
فمن يذكر: بنو جلّان بن عتيك بن أسلم بن يذكر، وبنو هزّان بن صباح بن عتيك ابن أسلم بن يذكر، وبنو الدول بن صباح بن عتيك بن أسلم بن يذكر، وهم الذين أسروا حاتم طيء وكعب بن مامة والحارث بن ظالم؛ وفي ذلك يقول الحارث بن ظالم:
أبلغ سراة بني غيظ مغلغلة ... أني أقسم في هزّان أرباعا «1»
ومنهم كدام بن حيان من بني هميم، وكان من خيار التابعين، وكان من خيار أصحاب عليّ، ولهما يقول عبد الله بن خليقة:
يا أخويّ من هميم هديتما ... ويسّرتما للصالحات فأبشرا
ومن بني يقدم عنزة، سيد بني بغيض الشاعر، وعمران بن عصان الذي قتله الحجاج بدير الجماجم.
عبد القيس بن أفصى بن دغمي بن جديلة بن أسد بن ربيعة. ولد لعبد القيس:
أفصى والّلبؤ. وولد لأفصى: عبد القيس وشن ولكيز.
الّلبؤ بن عبد القيس: منهم رئاب بن زيد بن عمرو بن جابر بن ضبيب، كان ممن وحّد الله في الجاهلية، وسأل عنه النبي صلّى الله عليه وسلم وفد عبد القيس، وكان يسقي قبر كل من مات من ولده. وفي ذلك يقول الحجين بن عبد الله:
ومنّا الذي بالبعث يعرف نسله ... إذا مات منهم ميّت جيد بالقطر
رئاب وأنى للبريّة كلّها ... بمثل رئاب حين يخطر بالسّمر «2»
لكيز بن عبد القيس، منهم بنو نكرة بن لكيز بن عبد القيس. منهم الممزّق الشاعر، وهو شأس بن نهار بن أسرج الذي يقول:
فإن كنت مأكولا فكن خير آكل ... وإلّا فأدركني ولمّا أمزّق
وصباح بن لكيز. منهم: كعب بن عامر بن مالك، وكان ممن وفد على النبي عليه الصلاة والسّلام.(3/308)
وبنو غنم بن وديعة بن لكيز، منهم حكيم بن جبلة صاحب عليّ بن أبي طالب كرم الله وجهه. وفيه يقول:
دعا حكيم دعوة سميعه ... نال بها المنزلة الرّفيعه
وبنو جذيمة بن عوف بن بكر بن أنمار بن وديعة بن لكيز، منهم الجارود العبدي، وهو بشر بن عمرو.
وعصر بن عوف بن بكر بن عوف بن أنمار بن وديعة بن لكيز، منهم: عمرو بن مرجوم الذي يمدحه المتلمّس.
وبنو حطمة بن محارب بن عمرو بن أنمار بن وديعة بن لكيز، إليهم تنسب الدروع الحطمية.
وعامر بن الحارث بن أنمار بن عمرو بن أنمار بن وديعة بن لكيز، منهم مهزم بن الفزر، الذي يقول فيه الحرمازي:
يحملن بالموماة بحرا يجري ... العامر بن المهزم بن الفزر «1»
العمور من عبد قيس: الدّيل وعجل ومحارب، بنو عمرو بن وديعة بن لكيز.
فمن بني الدّيل: سحيم بن عبد الله بن الحارث، كان أحد السبعة الذين عبروا الدجلة مع سعد بن أبي وقاص.
ومن بني محارب: عبد الله بن همّام بن امريء القيس بن ربيعة، وفد على النبي صلّى الله عليه وسلم.
ومن بني عجل: صعصعة بن صوحان، وزيد بن صوحان؛ من أصحاب علي بن أبي طالب رضي الله عنه. فهذه عبد القيس وبطونها وجماهيرها.
النمر بن قاسط
النمر بن قاسط بن هنّب بن أفصى بن دعمي بن جديلة بن أسد بن ربيعة بن(3/309)
نزار. فمن ولد النمر بن قاسط: تيم الله، وأوس مناة، وعبد مناة، وقاسط، ومنبّه، بنو النمر بن قاسط.
أوس مناة بن النمر، منهم صهيب بن سنان بن مالك، صاحب النبي عليه الصلاة والسّلام. كان أصابه سباء في الروم ثم وافوا به الموسم فاشتراه عبد الله بن جدعان فأعتقه؛ وقد كان النعمان بن المنذر استعمل أباه سنانا على الأبلّة. ومنهم: حمران بن أبان، الذي يقال له مولى عثمان بن عفان.
ومن تيم الله: الضّحيان بن النمر، وهو رئيس ربيعة قبل بني شيبان، وإنما سمي الضّحيان لأنه كان يجلس لهم وقت الضحى فيقضي بينهم، وقد ربع ربيعة أربعين سنة. وأخوه عوف بن سعد، ومن ولده ابن القريّة البليغ، واسمه أيوب بن زيد، وكان خرج مع ابن الأشعث فقتله الحجّاج. ومنهم ابن الكيّس النّسابة، وهو عبيد بن مالك بن شراحيل بن الكيّس. فهذا النمر بن القاسط.
تغلب بن وائل
تغلب بن وائل بن قاسط بن هنب بن أفصى بن دعمي بن جديلة بن أسد بن ربيعة بن نزار. فمن بطون تغلب: الأراقم، وهم: جشم، وعمرو، وثعلبة ومعاوية، والحارث، بنو بكر بن حبيب بن غنم بن تغلب؛ وإنما سموا الأراقم لأن عيونهم كعيون الأراقم.
ومن بطون تغلب: كليب وائل الذي يقال فيه: «أعز من كليب وائل» وهو كليب بن ربيعة بن الحارث بن زهير بن جشم؛ وأخوه مهلهل بن ربيعة.
ومن بني كنانة بن تيم بن أسامة: إياس بن عينان بن عمرو بن معاوية، قاتل عمير ابن الحباب، وله يقول زفر بن الحارث:
ألا يا كلب غيرك أرجفوني ... وقد ألصقت خدّك بالتّراب «1»(3/310)
ألا يا كلب فانتشري وسحّي ... فقد أودى عمير بن الحباب «1»
رماح بني كنانة أقصدتني ... رماح في أعاليها اضطراب «2»
ومن بني حارثة بن ثعلبة بن بكر بن حبيب: الهذيل بن هبيرة، وهو الذي تقول فيه نهيشة بنت الجراح البهراني تعيّر قضاعة:
إذا ما معشر شربوا مداما ... فلا شربت قضاعة غير بول
فإمّا أن تقودوا الخيل شعثا ... وإمّا أن تدينوا للهذيل «3»
وتتّخذوه كالنّعمان ربا ... وتعطوه خراج بني الدّميل
الدّميل: ابن لخم.
ومن عدي بن معاوية بن غنم بن تغلب: فارس العصا، وهو الأخنس ابن شهاب.
ومن بني الفدوكس بن عمرو بن الحارث بن جشم: الأخطل الشاعر النصراني ومنهم: قبيصة بن والق، له هجرة، قتله شبيب الحروريّ، وكان جوادا كريما، فقال شبيب حين قتله: هذا أعظم أهل الكوفة جفنة! قال له أصحابه: أتطري المنافقين؟
فقال: إن كان منافقا في دينه فقد كان شريفا في دنياه.
ومن الأوس بن تغلب: كعب بن جعيل. الذي يقول فيه جرير:
وسمّيت كعبا بشرّ العظام ... وكان أبوك يسمّى الجعل «4»
وكان محلّك من وائل ... محلّ القراد من است الجمل «5»
فهذه تغلب، ليس لها بطون ينسب إليها كما ينسب إلى بطون بكر بن وائل، لأن بكرا جمجمة، وتغلب غير جمجمة.(3/311)
بكر بن وائل
القبائل من بكر بن وائل: يشكر بن بكر بن وائل، وعجل، وحنيفة- ابنا لجيم ابن صعب بن عليّ بن بكر بن وائل-، وشيبان وذهل وقيس بن ثعلبة بن عكابة بن صعب بن عليّ بن بكر بن وائل وأمهم البرشاء من تغلب.
يشكر بن بكر
منهم الحارث بن حلّزة الشاعر، ومنهم شهاب بن مذعور بن حلّزة، وكان من علماء الأنساب؛ ومنهم سويد بن أبي كاهل الشاعر.
عجل بن لجيم
منهم حنظلة بن ثعلبة بن سيّار، كان سيّد بني عجل يوم ذي قار؛ ومنهم الفرات ابن حيّان، له صحبة مع النبي صلّى الله عليه وسلم؛ ومنهم إدريس بن معقل جدّ أبي دلف؛ ومنهم شبابة بن المعتمر بن لقيط، صاحب الدّيوان؛ ومنهم الأغلب الراجز؛ ومنهم أبجر بن جابر بن شريك، وفد على عمر بن الخطاب رضي الله عنه.
حنيفة بن لجيم
ولد له الدّيل، وعدي وعامر. فمن بني الدّيل بن حنيفة: قتادة بن مسلمة، كان سيدا شريفا؛ ومنهم ثمامة بن أثال بن النعمان بن مسلمة، ومنهم: هوذة بن علي بن ثمامة، الذي يقول فيه أعشى بكر:
من ير هوذة يسجد غير متّئد «1» ... إذا تعصّب فوق التاج أو وضعا «2»
ومن بني الديل بن حنيفة: شمر بن عمرو، الذي قتل المنذر بن ماء السماء يوم عين أباغ؛ ومنهم بنو هفّان بن الحارث بن ذهل بن الديل، وبنو عبيد بن ثعلبة، ويربوع(3/312)
ابن ثعلبة بن الديل. وبنو أبي ربيعة في شيبان، سيدهم هانيء بن قبيصة.
شيبان بن ثعلبة بن عكابة
منهم جسّاس بن مرة بن ذهل بن شيبان، قاتل كليب بن وائل: وهمام بن مرة بن ذهل بن شيبان؛ وقيس بن مسعود بن قيس بن خالد، وهو ذو الجدّين، وابنه بسطام ابن قيس، فارس بني شيبان في الجاهلية، وقد ربع الذّهلين واللهازم اثني عشر مرباعا ومنهم: هانيء بن قبيصة بن هانيء بن مسعود بن المزدلف عمرو بن أبي ربيعة بن ذهل ابن شيبان، الذي أجار عيال النعمان بن المنذر وماله عن كسرى، وبسببه كانت وقعة ذي قار، ومنهم مصقلة بن هبيرة، كان سيدا شريفا، وفيه يقول الفرزدق:
وبيت أبي قابوس مصقلة الذي ... بنى بيت مجد اسمه غير زائل
وفيه يقول الأخطل:
دع المغمّر لا تقتل بمصرعه ... وسل بمصقلة البكريّ ما فعلا
بمتلف ومفيد لا يمنّ ولا ... يعنّف النفس فيما فاته عذلا
إنّ ربيعة لا تنفكّ صالحة ... ما دافع الله عن حوبائك الأجلا «1»
ومن ذهل بن شيبان: عوف بن محلّم الذي يقال فيه: «لا حرّ بوادي عوف» والضحاك بن قيس الخارجي، والمثنّى بن حارثة، ويزيد بن رزيم؛ ومنهم الغضبان بن القبعثري، ويزيد بن مسهر أبو ثابت، الذي ذكره الأعشى؛ والحوفزان، وهو الحارث بن شريك، ومطر بن شريك؛ ومن ولده: معن بن زائدة؛ وشبيب الحروري.
ذهل بن ثعلبة بن عكابة
منهم: الحارث بن وعلة، وكان سيدا شريفا، ومن ولده: الحضين بن المنذر بن الحارث بن وعلة صاحب راية ربيعة بصفّين مع علي بن أبي طالب رضي الله تعالى(3/313)
عنه، وله يقول علي:
لمن راية سوداء يخفق ظلّها ... إذا قيل قدّمها حضين تقدّما
ومنهم القعقاع بن شور بن النعمان، كان شريفا؛ ومنهم دغفل بن حنظلة العلّامة، كان أعلم أهل زمانه. وهؤلاء من بني ذهل بن ثعلبة بن عكابة، أمهم رقاش، وإليها ينسبون، ومنها يقال: الحضين بن المنذر بن الحارث بن وعلة الرّقاشي.
قيس بن ثعلبة بن عكابة
منهم الحارث بن عباد بن ضبيعة بن ثعلبة بن حارثة؛ كان على جماعة بكر ابن وائل يوم قضّة، فأسر مهلهل بن ربيعة وهو لا يعرفه فخلّى سبيله. ومنهم: مالك بن مسمع بن شيبان بن ثعلبة، يكنى أبا غسان. ومنهم الأعشى، أعشى بكر، وهو من بني تيم اللّات من قيس بن ثعلبة بن عكابة؛ ومن بني تيم اللات أيضا: مطر بن فضّه، وهو الجعد بن قيس، كان شريفا سيدا، وهو الذي أسر خاقان الفارسي بالقادسية، ومن ولده عبيد الله بن زياد بن ظبيان.
سدوس
من شيبان بن ذهل بن ثعلبة بن عكابة، منهم: خالد بن المعمّر ومجزأة بن ثور، وأخوه شقيق بن ثور، وابن أخيه سويد بن منجوف بن ثور، وعمران بن حطّان.
اللهازم
وهم: عنزة بن أسد بن ربيعة؛ وعجل بن لجيم. وتيم الله. وقيس بنا ثعلبة بن عكابة بن صعب بن بكر بن وائل، وهم حلفاء.
والذهلان: شيبان وذهل، ابنا ثعلبة بن عكابة. وأم عجل بن لجيم يقال لها حذام، وفيها يقول لجيم:(3/314)
ألا أبلغ بني الطّمّاح عنا ... ودعمياّ فكيف وجدتمونا
وولد زهر بن إياد حذافة، رهط أبي دواد الشاعر.
وأما أنمار بن نزار بن معد، فلا عقب له إلا ما يقال في بجيلة وخثعم، فإنه يقال إنهما ابنا أنمار بن نزار، وتأبى ذلك بجيلة وخثعم ويقولون: إنما تزوّج إراش بن عمرو بن الغوث ابن أخي الأزد بن الغوث، سلامة بنت أنمار، فولدت له أنمار بن إراش، فنحن ولده. وقال حسان بن ثابت؛
ولدنا بني العنقاء وابن محرّق
أراد بالعنقاء: ثعلبة بن عمرو مزيقياء، سمّي بالعنقاء لطول عنقه؛ ومحرّق هو الحارث بن عمرو مزيقياء، وكان أول الملوك أحرق الناس بالنار؛ والولادة التي ذكرها حسان، أن هندا بنت الخزرج بن حارثة كانت عند العنقاء، فولدت له ولده كلهم؛ وكانت أختها عند الحارث بن عمرو. فولدت له أيضا.
انقضى نسب بني نزار بن معد.
القبائل المشتبهة
الدّئل في كنانة؛ والدئل بن حنيفة في بكر بن وائل، منهم: قتادة بن سلمة، وهوذة بن علي، صاحب التاج الذي يمدحه أعشى بكر بن وائل.
سدوس؛ في ربيعة، وهو سدوس بن شيبان بن بكر بن وائل، منهم: سويد بن منجوف؛ وسدوس، مرفوعة السين، في تميم، وهو سدوس بن دارم.
محارب بن فهر بن مالك في قريش؛ ومحارب بن خفصة في قيس؛ ومحارب بن عمرو بن وديعة في عبد القيس.
غاضرة في بني صعصعة بن معاوية؛ وغاضرة في ثقيف.
تيم بن مرة في قريش رهط أبي بكر، تيم بن غالب بن فهر في قريش أيضا، وهم(3/315)
بنو الأدرم؛ وتيم بن عبد مناة بن أد بن طابخة في مضر؛ وتيم بن ذهل في ضبة؛ وتيم في قيس بن ثعلبة؛ وتيم في شيبان.
تيم الله بن ثعلبة بن عكابة؛ وفي النمر بن قاسط، وتيم الله في ضبة.
كلاب بن مرة في قريش، وكلاب بن ربيعة بن عامر بن صعصعة في قيس.
عدي بن كعب من قريش، رهط عمر بن الخطاب؛ وعدي بن عبد مناة من الرّباب، رهط ذي الرّمة؛ وعدي في فزارة؛ وعدي في بني حنيفة.
ذهل بن ثعلبة بن عكابة؛ وذهل بن شيبان؛ وذهل بن مالك في ضبّة.
ضبيعة في ضبة؛ وضبيعة في عجل؛ وضبيعة في قيس بن ثعلبة، وهم رهط الأعشى.
مازن في تيم؛ ومازن في قيس عيلان، وهم رهط عتبة بن غزوان؛ ومازن في صعصعة بن معاوية؛ ومازن في شيبان.
سهم في قريش؛ وسهم في باهلة.
سعد بن ذبيان؛ وسعد في بكر في هوازن، أظآر «1» رسول الله صلّى الله عليه وسلم؛ وسعد في عجل؛ وسعد بن زيد مناة في تميم.
جشم في معاوية بن بكر، وجشم في ثقيف، وجشم في الأراقم.
بنو ضمرة في كنانة، وبنو ضمرة في قشير.
دودان في بني أسد، ودودان في بني كلاب.
سليم في قيس عيلان، وسليم في جذام من اليمن.
جديلة في ربيعة، وجديلة في طيء، وجديلة في قيس عيلان.
الخزرج في الأنصار، والخزرج في النمر بن قاسط.
وأسد بن خزيمة بن مدركة، وأسد بن ربيعة بن نزار.
شقرة في ضبة، وشقرة في تميم.(3/316)
ربيعة: ربيعة الكبرى، وهو ربيعة بن مالك بن زيد مناة، ويلقب ربيعة الجوع، وربيعة الوسطى، وهو ربيعة بن حنظلة بن مالك بن زيد مناة؛ وربيعة الصغرى، وهو ربيعة بن مالك بن حنظلة. وكل واحد منهم عم الآخر.
مفاخرة ربيعة
قال عبد الملك بن مروان يوما لجلسائه؛ خبّروني عن حيّ من أحياء العرب فيهم أشد الناس، وأسخى الناس، وأخطب الناس، وأطوع الناس في قومه، وأحلم الناس، وأحضرهم جوابا. قالوا: يا أمير المؤمنين، ما نعرف هذه القبيلة، ولكن ينبغي لها أن تكون في قريش. قال: لا. قالوا: ففي حمير وملوكها. قال: لا. قالوا: ففي مضر.
قال: لا. قال مصقلة بن رقيّة العبدي: فهي إذا في ربيعة ونحن هم. قال: نعم. قال جلساؤه: ما نعرف هذا في عبد القيس إلا أن تخبرنا به يا أمير المؤمنين. قال: نعم؛ أما أشد الناس فحكيم بن جبل، كان مع علي بن أبي طالب رضي الله عنه، فقطعت ساقه فضمّها إليه حتى مر به الذي قطعها فرماه بها فجدله عن دابته، ثم جثا إليه فقتله واتكأ عليه، فمر به الناس فقالوا له: يا حكيم، من قطع ساقك؟ قال: وسادي هذا. وأنشأ يقول:
يا ساق لا تراعي إن معي ذراعي أحمي بها كراعي «1» وأما أسخى الناس، فعبد الله بن سوّار، استعمله معاوية على السند، فسار إليها في أربعة آلاف من الجند، وكانت توقد معه نار حيثما سار، فيطعم الناس؛ فبينما هو ذات يوم إذ أبصر نارا، فقال: ما هذه؟ قالوا: أصلح الله الأمير، اعتل بعض أصحابنا فاشتهى خبيصا فعملنا له. فأمر خبازه أن لا يطعم الناس إلا الخبيص، حتى صاحوا وقالوا: أصلح الله الأمير، ردّنا إلى الخبز واللحم! فسمي مطعم الخبيص.
وأما أطوع الناس في قومه، فالجارود بشر بن العلاء؛ إنه لما قبض رسول الله صلّى الله عليه وسلم وارتدت العرب، خطب قومه فقال: أيها الناس، إن كان محمد قد مات فإن الله حيّ(3/317)
لا يموت؛ فاستمسكوا بدينكم، فمن ذهب له في هذه الرّدّة دينار أو درهم أو بعير أو شاة فله عليّ مثلاه! فما خالفه منهم رجل.
أما أحضر الناس جوابا فصعصعة بن صوحان، دخل على معاوية في وفد أهل العراق، فقال معاوية: مرحبا بكم يأهل العراق! قدمتم أرض الله المقدسة؛ منها المنشر وإليها المحشر، قدمتم على خير أمير، يبرّ كبيركم ويرحم صغيركم؛ ولو أن الناس كلها ولد أبي سفيان لكانوا حلماء عقلاء! فأشار الناس إلى صعصعة، فقام فحمد الله وصلى على النبي صلّى الله عليه وسلم، ثم قال: أما قولك يا معاوية إنا قدمنا الأرض المقدّسة: فلعمري ما الأرض تقدس الناس، ولا يقدّس الناس إلا أعمالهم؛ وأما قولك منها المنشر وإليها لمحشر، فلعمري ما ينفع قربها ولا يضر بعدها مؤمنا؛ وأما قولك لو أن الناس كلهم ولد أبي سفيان لكانوا حلماء عقلاء، فقد ولدهم خير من أبي سفيان: آدم صلوات الله عليه؛ فمنهم الحليم والسفيه، والجاهل والعالم.
وأما أحلم الناس [فالأشجّ العبديّ] ، فإن وفد عبد القيس قدموا على النبي صلّى الله عليه وسلم بصدقاتهم وفيهم الأشج، ففرّقه رسول الله صلّى الله عليه وسلم، وهو أول عطاء فرقه في أصحابه؛ ثم قال: يا أشج، ادن مني. فدنا منه، فقال: إن فيك خلتين يحبهما الله: الأناة، والحلم! وكفى برسول الله صلّى الله عليه وسلم شاهدا؛ ويقال: إنّ الأشج لم يغضب قط.
جمرات العرب
وهم بنو نمير بن عامر بن صعصعة؛ وبنو الحارث بن كعب بن علة بن جلد؛ وبنو ضبة بن أدّ بن طابخة؛ وبنو عبس بن بغيض. وإنما قيل لهذه القبائل جمرات لأنها تجمعت في أنفسها ولم يدخلوا معهم غيرهم. والتجمير: التجميع؛ ومنه قيل:
جمرة العقبة، لاجتماع الحصى فيها؛ ومنه قيل: لا تجمّروا المسلمين فتفتنوهم وتفتنوا نساءهم. يعني: لا تجمعوهم في المغازي.
وأبو عبيدة قال في كتاب التاج أطفئت جمرتان من جمرات العرب: بنو ضبة لأنها(3/318)
صارت إلى الرّباب فحالفتها؛ وبنو الحارث؛ لأنها صارت إلى مذحج فحالفتها؛ وبقيت بنو نمير إلى الساعة لم تحالف ولم يدخل بينها أحد.
وقال شاعرهم يرد على جرير:
نمير جمرة العرب التي لم ... تزل في الحرب تلتهب التهابا
وإني إذ أسبّ بها كليبا ... فتحت عليهم للخسف بابا
فلولا أن يقال هجا نميرا ... ولم نسمع لشاعرها جوابا
رغبنا عن هجاء بني كليب ... وكيف يشاتم الناس الكلابا
أنساب اليمن
قحطان بن عابر- وعابر. هو هود النبي صلّى الله عليه وسلم- ابن شالخ بن أرفخشذ بن سام ابن نوح عليه السّلام بن لمك بن متّوشلخ بن أخنوخ- وهو إدريس النبي عليه السّلام- ابن يرد بن مهلاييل بن قينان بن أنوش بن شيث- وهو هبة الله- ابن آدم أبي البشر صلّى الله عليه وسلم.
فولد قحطان: يعرب- وهو المرعف- وسبأ، والمسلف، والمرداد، وودقلي، وتكلا، وأبيمال، وعوبال، وأزال، وهدورام، وهو جرهم، وأوفير، وهويلا، وروح، وإرم، ونوبت؛ فهؤلاء ولد قحطان فيما ذكر عبد الله بن ملاذ.
وقال الكلبي محمد بن السائب: ولد قحطان: المرعف- وهو يعرب-، ولأي، وجابر، والمتلمّس، والعاصي، والمتغشم، وعاصب، ومعوذ، وشيم، والقطامي، وظالم، والحارث، ونباتة. فهلك هؤلاء إلا ظالما، فإنه كان يغزو بالجيوش.
وقال الكلبي: ولد قحطان أيضا: جرهما، وحضرموت. فمن أشراف حضر موت بن قحطان: الأسود بن كبير، وله يقول الأعشى قصيدته التي أولها؛ ما بكاء الكبير بالأطلال(3/319)
ومنهم مسروق بن وائل، وفيه يقول الأعشى:
قالت قتيلة: من مدحت فقلت: مسروق بن وائل فولد يعرب بن قحطان يشجب؛ وولد يشجب سبأ. وولد سبأ حميرا، وكهلان، وصيفيّا، وبشرا، ونصرا، وأفلح، وزيدان، والعود، ورهما، وعبد الله، ونعمان، ويشجب، وشدّادا، وربيعة، ومالكا، وزيدا. فيقال لبني سبإ كلهم: السّبئيون، إلا حميرا وكهلان. فإن القبائل قد تفرّقت منهما. فإذا سألت الرجل: ممن أنت؟ فقال:
سبئي. فليس بحميري ولا كهلاني.
حمير
حمير بن سبأ بن يشجب بن يعرب بن قحطان. فولد حمير بن سبأ: مالكا والهميسع، وزيدا، وأوسا، وعريبا، ووائلا، ودرميّا، وكهلان، وعميكرب، ومسروحا، ومرة. رهط معد يكرب بن النعمان القيل الذي كان بحضرموت.
فمن بطون حمير: معدان بن جشم بن عبد شمس بن وائل بن الغوث بن قطن بن عريب. وملحان بن عمرو بن قيس بن معاوية بن جشم بن عبد شمس بن وائل، رهط عامر الشعبي الفقيه. وعداد بن ملحان: وشيبان في همدان. فمن كان منهم باليمن فهو حميري، ويقال له شيباني.
ومن بطون حمير: شرعب بن قيس بن معاوية بن جشم بن عبد شمس. وإليه تنسب الرماح الشرعبية.
ومن بطون حمير: الدرون، وقد يقال لهم الأذواء. وأيضا. رمدد، فمنهم: بنو فهد، وعبد كلال، وذو كلاع- وهو يزيد بن النعمان، وهو ذو كلاع الأكبر. يقال:
تكلّع الشيء. إذا تجمّع- وذو رعين، وهو شراحيل بن عمرو القائل:
فإن تك حمير غدرت وخانت ... فمعذرة الإله لذي رعين
ذو أصبح: واسمه الحارث بن مالك بن زيد بن الغوث. وهو أول من عملت له(3/320)
السياط الأصبحية. ومن ولده: أبرهة بن الصبّاح كان ملك تهامة، وأمه ريحانة بنت أبرهة الأشرم ملك الحبشة. وابنه أبو شمر، قتل مع عليّ بن أبي طالب يوم صفّين.
وأبو رشد بن كرب بن أبرهة، كان سيد حمير بالشام زمن معاوية. ومنهم يزيد بن مفرّغ الشاعر.
ذو يزن، واسمه عامر بن أسلم بن زيد بن الغوث بن قطن بن عريب ومنهم:
النعمان بن قيس بن سيف بن ذي يزن الذي نفى الحبشة عن اليمن- وجاء في الحديث عن النبي صلّى الله عليه وسلم أنه اشترى حلّة ببضع وعشرين قلوصا فأعطاها إلى ذي يزن- وإلى ذي يزن تنسب الرماح اليزنية.
ذو جدن: وهو علس بن الحارث بن زيد بن الغوث، ومن ولده علقمة بن شراحيل. ذو قيفان الذي كانت له صمصامة عمرو بن معد يكرب، وقد ذكره عمرو في شعره حيث يقول:
وسيف لابن ذي قيفان عندي ... تخيّر نصله من عهد عاد
حضور بن عدي بن مالك بن زيد بن سهل بن عمرو بن قيس بن معاوية. وهم في همدان.
فمن حضور: شعيب بن ذي مهزم، النبيّ الذي قتله قومه. فسلّط الله عليهم بختنصر فقتلهم، فلم يبق منهم أحد فاصطلت حضور؛ ويقال: فيهم نزلت: فَلَمَّا أَحَسُّوا بَأْسَنا إِذا هُمْ مِنْها يَرْكُضُونَ. لا تَرْكُضُوا وَارْجِعُوا إِلى ما أُتْرِفْتُمْ فِيهِ وَمَساكِنِكُمْ لَعَلَّكُمْ تُسْئَلُونَ. قالُوا يا وَيْلَنا إِنَّا كُنَّا ظالِمِينَ، فَما زالَتْ تِلْكَ دَعْواهُمْ حَتَّى جَعَلْناهُمْ حَصِيداً خامِدِينَ
«1» فيقال إن قبر شعيب هذا النبي في جبل باليمن في حضور يقال له ضين، ليس باليمن جبل فيه ملح غيره، وفيه فاكهة الشام، ولا تمرّ به هامّة من الهام.(3/321)
الأوزاع
وهم: مرثد بن زيد بن زرعة بن سبأ بن كعب، وهم في همدان إلّا جرش بن أسلم بن زيد بن الغوث، الأصغر بن أسعد بن عوف.
شجيج بن عديّ بن مالك بن زيد بن سهل بن عمرو.
وصيفي بن سبأ، الأصغر بن كعب بن زيد بن سهل بن تبّع، وهو أسعد أبو كرب.
التبابعة
تبّع الأصغر أسعد أبو كرب، واسمه تبان بن ملكيكرب، وهو تبع الأكبر ابن قيس بن زيد بن عمرو، ذي الأذعار بن أبرهة ذي المنار.
وتبع بن الرائش بن قيس بن صيفي. وملكيكرب تبع الأكبر، يكنى أبا مالك، وله يقول الاعشي:
وخان الزمان أبا مالك ... وأيّ امرىء لم يخنه الزّمن
ومن بني صيفي بن سبأ: بلقيس، وهي بلقمة بنت آل شرخ بن ذي جدن بن الحارث بن قيس بن سبأ الأصغر.
ومنهم: حمير التبابعة. وهم تسعة، منهم تبع الأصغر، وتبع الأكبر؛ ومنهم المثامنة، وهم ثمانية رهط ولاة العهود بعد الملوك؛ وهم الثمامنة، أربعة آلاف؛ والقيل الذي يكلم الملك فيسمع كلامه ولا يكلم غيره؛ ومنهم أبو فريقيش بن قيس بن صيفي الذي افتتح إفريقية فسميت به، ويومئذ سميت البرابرة؛ وذلك أنهم قالوا إنه قال لهم: ما أكثر بربرتكم.
قضاعة
هو قضاعة بن مالك بن عمرو بن مرة بن زيد بن مالك بن حمير، واسم قضاعة:
عمرو.(3/322)
فمن قبائل قضاعة وبطونها وجماهيرها: كلب بن وبرة بن تغلب بن حلوان بن عمران بن الحاف بن قضاعة؛ وذلك أن وبرة ولد له: كلب، وأسد، ونمر، وذئب، وثعلب، وفهد، وضبع، ودب، وسيد، وسرحان. فمن أشراف كلب: الفرافصة بن الأحوص بن عمرو بن ثعلبة، وهو الذي تزوّج عثمان بن عفان ابنته نائلة بنت الفرافصة؛ ومنهم زهير بن جناب بن هبل بن عبد الله بن كنانة.
ومن أسلافهم في الإسلام دحية بن خليفة الكلبي، وهو الذي كان جبريل عليه السلام ينزل في صورته.
ومنهم حسان بن مالك بن جذيمة.
ومن قضاعة: القين بن جسر بن شبع اللات بن أسد بن وبرة؛ فمن أشراف القين: دعج بن كثيف، وهو الذي أسر سنان بن حارثة المرّي؛ ومنهم نديما جذيمة، وهما مالك وعقيل ابنا فارج، ولهما يقول المنخّل:
ألم تعلمي أن قد تفرّق قبلنا ... خليلا صفاء مالك وعقيل
ومنهم سعد بن أبي عمر وكان سيد بني القين ورئيسهم.
ومن قضاعة: تنوخ، وهم ثلاثة أبطن: منهم بنو تيم الله بن أسد بن وبرة، ومنهم مالك بن زهير بن عمرو بن فهم بن تيم الله بن ثعلبة بن مالك بن فهم، ومنهم أذينة الذي يقول فيه الأعشي:
أزال أذينة عن ملكه ... وأخرج من قصره ذا يزن
ومن بني قضاعة: جرم وهو عمرو بن علّاف بن حلوان بن عمران بن الحاف بن قضاعة، وإلى علاف تنسب الرحال العلافية، وقال الشاعر:
مجوف علافيّ ونطع ونمرق «1»
ومن جرم: الرّعل بن عروة وكان شريفا، ومنهم عصام بن شهبر بن الحارث(3/323)
وكان شاعرا شجاعا، وله يقول النابغة:
فإنّي لا ألومك في دخول ... ولكن ما وراءك يا عصام
وله قيل:
نفس عصام سوّدت عصاما ... وعلّمته الكرّ والإقداما
وجعلته ملكا هماما
ولجرم أربعة من الولد: قدامة، وجدة، وملكان، وناجية؛ فمن بني قدامة: كنانة ابن صريم الذي كان يهاجي عمرو بن معد يكرب، ووعلة بن عبد الله بن الحارث الذي قتل الحارث بن عبد المدان.
ومنهم بنو شنّ، وهم باليمامة مع بني هزّان بن عنزة؛ ومنهم أبو قلابة الفقيه عبد الله بن زيد؛ والمساور بن سوار، ولي شرطة الكوفة لمحمد بن سليمان.
ومن بني جدة بن جرم: بنو راسب، وهم بنو الخزرج بن جدة بن جرم.
ومن قضاعة: سليح، وهو عمرو بن حلوان، بن عمران.
ومن بني سعد بن سليح: الضّجاعمة الذين كانوا ملوك الشام قبل غسّان.
ومن بني النمر بن وبرة خشين، منهم أبو ثعلبة الخشني صاحب النبي صلّى الله عليه وسلم ومن بني النمر بن وبرة: غاضرة وعاتية ابنا سليم بن منصور.
ومن بني أكثم بن النمر: مشجعة بن الغوث: منهم معاوية بن حجار، الذي يقال له ابن قارب، وهو الذي قتل داود بن هبولة السّليحي، وكان ملكا.
بهراء بن عمرو بن الحاف بن قضاعة؛ فولد بهراء: أهود، وقاسطا، وعبدة وقسرا، وعديّا، بطون كلها.
ومنهم قيس وشبيب، بطنان عظيمان، ومنهم المقداد بن عمرو صاحب النبي صلّى الله عليه وسلم، وهو الذي يقال له المقداد بن الأسود؛ لأن الأسود بن عبد يغوث كان تبنّاه، وقد انتسب المقداد إلى كندة؛ وذلك أن كندة سبته في الجاهلية فأقام فيهم وانتسب إليهم.(3/324)
ومن قضاعة: بليّ بن عمرو بن الحاف بن قضاعة؛ منهم المجدّر بن ذياد قاتل أبي البختري العاص بن هشام بن الحارث بن أسد بن عبد العزى في يوم بدر وهو يقول:
بشّر بيتم من أبيه البختري ... أو بشّرن بمثلها منّي أبي
أنا الّذي أزعم أصلي من بلي ... أضرب بالهنديّ حتى ينثني
وفيهم بنو إراشة بن عامر؛ منهم كعب بن عجرة الأنصاري صاحب النبي عليه الصلاة والسلام، وسهل بن رافع صاحب الصاع.
وفيهم بنو العجلان بن الحارث: منهم ثابت بن أرقم شهد بدرا وهو الذي قتل طليحة في الردّة.
ومنهم بنو واثلة بن حارثة أخي بني عجلان: منهم النعمان بن أعصر، شهد بدرا.
ومن قضاعة: مهرة بن حيدان بن عمرو بن الحاف بن قضاعة، وهو الذي تنسب إليه الإبل المهرية.
ومنهم: كرز بن روعان، من بني المنسم الذي صار إلى معد يكرب بن جبلة الكندي، وهو الذي يقول:
تقول بنيّتي لما رأتني ... أكرّ عليهم وأذبّ وحدي «1»
لعمرك إن ونيت اليوم عنهم ... لتنقلبنّ مصروعا بخدّ «2»
ومنهم ذهبن بن قرضم بن العجيل، وهو الذي كان وفد إلى النبي صلّى الله عليه وسلم وكتب له كتابا وردّه إلى قومه.
جهينة بن ليث بن سود بن أسلم بن الحاف بن قضاعة. منهم: سويد بن عمرو بن جذيمة بن سبرة بن خديج بن مالك بن عمرو بن ثعلبة بن رفاعة بن مضر بن مالك ابن غطفان بن قيس بن جهينة، وكان شريفا.
ومن قضاعة: نهد بن زيد بن سود بن أسلم بن الحاف بن قضاعة. منهم الصّعق،(3/325)
وهو جشم بن عمرو بن سعد، وكان سيد نهد في زمانه، وكان قصيرا أسود دميما، وكان النعمان قد سمع شرفه فأتاه؛ فلما نظر إليه نبت عنه عينه، فقال: «تسمع بالمعيدي خير من أن تراه!» فقال: أبيت اللعن! إن الرجال ليست بمسوك يستقي فيها الماء، وإنما المرء بأصغريه: قلبه ولسانه، إذا نطق نطق ببيان، وإن صال صال بجنان. قال: صدقت! ثم قال له: كيف علمك بالأمور؟ قال: أبغض منها المقبول، وأبرم المسحول، «1» وأحيلها حتى تحول، وليس لها بصاحب، من لم ينظر في العواقب.
ومنهم: ودعة بن عمرو صاحب بسبس، طليعة رسول الله صلّى الله عليه وسلم.
عذرة بن سعد هذيم بن زيد بن ليث: منهم خالد بن عرفطة، ولاه سعد بن أبي وقاص ميمنة الناس يوم القادسية. ومنهم عروة بن حزام صاحب عفراء ومنهم رزاح ابن ربيعة أخو قصيّ لأمه، وهو الذي أعان قصيّا حتى غلب على البيت. ومنهم جميل ابن عبد الله بن معمر بن نهيك صاحب بثينة.
وبنو الحارث بن سعد. إخوة عذرة.
فهؤلاء بطون قضاعة بن مالك بن عمرو بن مرة. وهؤلاء أولاد حمير بن سبأ.
كهلان بن سبأ
الأزد بن الغوث بن نبت بن مالك بن زيد بن كهلان.
فمن قبائل الأزد: الأنصار، والأوس، والخزرج: ابنا حارثة بن ثعلبة بن عمرو ابن عامر، وأمهما قيلة.
هؤلاء الأوس والخزرج ابنا حارثة بن ثعلبة- وهو العنقاء- ابن عمرو بن ثعلبة- وهو المزيقيا- ابن عامر، وهو ماء السماء.
فمن بطون الأوس والخزرج وجماهيرها: عمرو بن عوف بن مالك بن الأوس وهم بنو السّميعة، بها يعرفون- وهم عوف [وحبيب] وثعلبة ولوذان، بنو عمرو ابن عوف بن مالك بن الأوس.(3/326)
ضبيعة بن زيد بن عمرو بن عوف بن مالك بن الأوس. منهم: سويد بن الصامت قتله المجذّر بن ذياد في الجاهلية، فوثب ابنه علي المجذّر فقتله في الإسلام، فقتله النبي عليه الصلاة والسلام.
عبد الأشهل بن جشم بن الحارث بن الخزرج بن عمرو بن مالك بن الأوس.
منهم: سعد بن معاذ الذي اهتزلموته العرش، بدري، حكم في بني قريظة والنضير، وعمرو أخو سعد بن معاذ، شهد بدرا وقتل يوم أحد. والحارث بن أنس، شهد بدرا وقتل يوم أحد، وعمار بن زياد قتل يوم بدر، وأسيد بن الحضير بن سماك، شهد العقبة وبدرا؛ وربيعة بن زيد شهد العقبة وبدرا.
ربيعة بن عبد الأشهل بن جشم بن الحارث بن خزرج بن عمرو بن مالك بن الأوس. منهم: رفاعة بن قيس، قتل يوم أحد. وسلمة بن سلامة بن وقش، شهد بدرا وقتل يوم أحد. وأخوه عمرو بن سلامة، قتل يوم أحد، ورافع بن يزيد، بدري.
زعورا بن جشم بن الحارث بن خزرج بن عمرو بن مالك بن الأوس. منهم:
مالك بن التّيّهان أبو الهيثم، نقيب بدري عقبي؛ وأخوه عتبة بن التيهان، بدري قتل يوم أحد.
خطمة هو عبد الله بن جشم بن مالك بن الأوس. منهم: عدي بن خرشة، وعمرو بن خرشة، وأوس بن خالد، وخزيمة بن ثابت ذو الشهادتين، وعبد الله بن يزيد الأنصاري، ولي الكوفة لابن الزبير.
واقف: هو مالك بن امريء القيس بن مالك بن الأوس. منهم: هلال بن أمية، وعائشة بن نمير الذي ينسب إليه بئر عائشة بالمدينة، وهرم بن عبد الله السلمي بن امريء القيس بن مالك بن الأوس. ومنهم: سعد بن خيثمة بن الحرث، بدري عقبي نقيب، قتل يوم أحد.(3/327)
عامرة: هم أهل رابخ بن مرة بن مالك بن الأوس. منهم: وائل بن زيد بن قيس بن عمارة، وأبو القيس بن الأسلت.
الخزرج
فمن بطون الخزرج: النجار بن ثعلبة بن عمرو بن خزرج: غنم بن مالك بن النجار بن ثعلبة بن عمرو بن الخزرج. منهم: أبو أيوب خالد بن زيد، بدري. وثابت ابن النعمان؛ وسراقة بن كعب؛ وعمارة بن حزم؛ وعمرو بن حزم؛ بدري عقبي؛ وزيد بن ثابت صاحب القرآن والفرائض؛ بدري؛ ومعاذ ومعوّذ وعوف بنو الحارث ابن رفاعة. وأمهم عفراء، بها يعرفون، شهدوا بدرا؛ وأبو أمامة أسعد بن زرارة؛ نقيب عقبي بدري؛ وحارثة بن النعمان، بدري.
مبذول: اسمه عامر بن مالك بن النجار بن ثعلبة بن عمرو بن خزرج. منهم:
حبيب بن عمرو، قتل يوم اليمامة، وأبو عمرة، وهو بشير بن عمرو، قتل مع علي بن أبي طالب بصفين. والحرث بن الصمة، بدري. وسهل بن عتيك، بدري.
حديلة: هو معاوية بن عمرو بن مالك بن النجار بن ثعلبة بن عمرو بن الخزرج.
أمه حديلة وبها يعرفون. منهم: أبي بن كعب بن قيس بن عبيد بن معاوية. وأبو حبيب بن زيد، بدري.
مغالة: هو عدي بن عمرو بن مالك بن النجار. منهم: حسان بن ثابت بن المنذر ابن حرام شاعر النبي عليه الصلاة والسّلام، وأبو طلحة وهو زيد بن سهل بن الأسود ابن حرام.
ملحان بن عدي بن النجار بن ثعلبة بن عمرو بن خزرج. منهم: سليم بن ملحان، وحرام بن ملحان، بدريان، قتلا يوم بئر معونة.
غنم بن عدي بن النجار. منهم: صرمة بن أنس بن صرمة صاحب النبي صلّى الله عليه وسلم.
ومحرز بن عامر، بدري. وعامر بن أمية، بدري، قتل يوم أحد. وأبو حكيم وهو(3/328)
عمرو بن ثعلبة، بدري. وأبو خارجة وهو عمرو بن قيس، بدري. وابنه سبرة أبو سليط، بدري. وثابت بن خنساء، بدري. قتل يوم أحد، وأبو الأعور وهو كعب بن الحرث، بدري. وأبو زيد أحد الستة الذين جمعوا القرآن على عهد رسول الله صلّى الله عليه وسلم؛ وبنو الحسحاس الذين ذكرهم حسان في قوله:
ديار من بني الحسحاس قفر
مازن بن النجار بن ثعلبة بن عمرو بن خزرج. منهم: حبيب بن زيد، قطع مسليمة جسده، وكان رسول الله صلّى الله عليه وسلم بعثه إليه؛ وعبد الرحمن بن كعب من الذين تولّوا وأعينهم تفيض من الدمع، بدري، وقيس بن أبي صعصعة، بدري، وغزيّة بن عمرو، عقبي.
بنو الحارث بن الخزرج. منهم: عبد الله بن رواحة الشاعر، بدري عقبي نقيب.
وخلاد بن سويد، بدري، قتل يوم قريظة. وسعد بن الربيع، بدري عقبي نقيب، قتل يوم أحد. وخارجة بن زيد، بدري عقبي نقيب قتل يوم أحد. وابنه زيد بن خارجة الذي تكلم بعد موته. وثابت بن قيس بن شماس، خطيب النبي صلّى الله عليه وسلم، قتل يوم اليمامة وهو على الأنصار؛ وبشير بن سعد، بدري عقبي. وأبو النعمان بن بشير. وزيد بن أرقم. وابن الأطنابة الشعر. ويزيد بن الحارث الشاعر، بدري. وأبو الدرداء وهو عويمر بن زيد. وعبد الله بن زيد الذي أري الأذان. وسبيع بن قيس، بدري. وعامر بن كعب الشاعر.
بنو خدرة بن عوف بن الحارث بن الخزرج. منهم: أبو مسعود عقبة بن عمرو، بدري عقبي، وعبد الله بن الربيع، بدري. وأبو سعيد الخدري وهو سعد بن مالك.
بنو ساعدة بن كعب بن الخزرج. منهم سعد بن عبادة بن دليم، كان من النقباء، وهو الذي دعا إلى نفسه يوم سقيفة بني ساعدة. والمنذر بن عمرو، بدري عقبي نقيب، قتل يوم بئر معونة. وأبو دجانة وهو سماك بن أوس بن خرشة. وقيس بن سعد. وأبو أسيد وهو مالك بن ربيعة قتل يوم اليمامة. ومسلمة بن مخلد.(3/329)
سالم بن عوف بن الخزرج. منهم: الرّمق بن زيد الشاعر، جاهلي. ومالك بن العجلان بن زيد بن سالم سيد الأنصار الذي قتل الفطيون.
القوقل: هو غنم بن عمرو بن عوف بن الخزرج. منهم: عبادة بن الصامت، بدري نقيب. ومالك بن الدّخشم، بدري. والحارث بن خزيمة، بدري.
بنو بياضة بن عامر بن زريق. منهم: زياد بن لبيد، بدري. وفروة بن عمرو، بدري عقبي. وخالد بن قيس، بدري. وعمرو بن النعمان رأس الخزرج يوم بعاث.
وابنه النعمان صاحب راية المسلمين بأحد.
العجلان بن زيد بن سالم بن عوف بن عمرو بن عوف بن الخزرج؛ ومن بني العجلان: عبد الله بن نضلة بن مالك بن العجلان البدري، قتل يوم أحد. وعياش بن عبادة بن نضلة. ومليل بن وبرة، بدري. وعصمة بن الحصين بن وبرة بدري. وأبو خيثمة، وهو مالك بن قيس.
الحبلي: وهو سالم بن غنم بن عوف بن عمرو بن عوف بن الخزرج؛ سمي الحبلي لعظم بطنه. منهم عبد الله بن أبيّ بن سلول رأس المنافقين؛ وابنه عبد الله بن عبد الله، شهد بدرا وقتل يوم اليمامة. وأوس بن خولي، بدري.
بنو زريق بن عامر بن زريق بن حارثة بن مالك بن عضب بن جشم بن الخزرج.
منهم: ذكوان بن عبد قيس، بدري عقبي قتل يوم أحد. وأبو عبادة سعد بن عثمان، بدري. وعتبة بن عثمان بدري. والحرث بن قيس، بدري. وأبو عياش بن معاوية فارس جلوة، بدري. ومسعود بن خلدة، بدري. ورفاعة بن رافع، بدري. وأبو رافع بن مالك، أول من أسلم من الأنصار.
بنو سلمة بن سعد بن علي بن أسد بن شاردة بن جشم بن الخزرج. منهم: جابر ابن عبد الله صاحب النبي عليه الصلاة والسّلام. ومعاذ بن الصّمّة، بدري. وخراش بن الصمة، شهد بدرا بفرسين. وعتبة بن أبي عامر، بدري. ومعاذ بن عمرو بن(3/330)
الجموح، بدري، وهو الذي قطع رجل أبي لهب. وأخوه معوذ بن عمرو، قتلا يوم بدر. وأبو قتادة واسمه النعمان بن ربعي. وكعب بن مالك الشاعر وأبو مالك بن أبي كعب الذي يقول:
لعمر أبيها ما تقول حليلتي ... إذا فرّ عنها مالك بن أبي كعب
وبشر بن عبد الرحمن؛ والزبير بن حارثة؛ وأبو الخطاب وهو عبد الرحمن بن عبد الله؛ ومعن بن وهب- هؤلاء الخمسة شعراء- وعبد الله بن عتيك، قاتل ابن أبي الحقيق. هذا نسب الأنصار.
خزاعة
هو عمرو بن ربيعة بن حارثة بن عمرو بن عامر؛ وإنما قيل لهم خزاعة؛ لأنهم انخزعوا «1» من ولد عمرو بن عامر في إقبالهم من اليمن؛ وذلك أن بني مازن من الأزد لما تفرّقت الأزد من اليمن في البلاد- نزل بنو مازن على ماء بين زبيد ورمع يقال له غسان؛ فمن شرب منه فهو غساني؛ وأقبل بنو عمرو فانخزعوا من قومهم فنزلوا مكة؛ ثم أقبل أسلم ومالك وملكان بنو أفصى بن حارثة فانخزعوا، فسموا خزاعة، وافترق سائر الأزد، فالأنصار وخزاعة وبارق والهجن وغسان: كلها من الأزد، فجميعهم من عمرو بن عامر، وذلك أن عمرو بن عامر ولد له حفنة والحارث وهو محرّق، لأنه أول من عذّب بالنار، وثعلبة العنقاء، وهو أبو الأنصار، وحارثة، وهو أبو خزاعة، وأبو حارثة، ومالك، وكعب، ووداعة، وهو في همدان، وعوف، وذهل، وهو وائل، وعمران. فلم يشرب أبو حارثة ولا عمران ولا وائل من ماء غسان، فليس يقال لهم غسان.
بطون من خزاعة
حليل بن حبشيّة بن سلول بن كعب بن ربيعة بن خزاعة. وهو كان صاحب البيت قبل قريش، منهم المحترش بن حليل بن حبشية- الذي باع مفتاح الكعبة من(3/331)
قصي بن كلاب-، وهلال بن حليل، وكرز بن علقمة- الذي قفا أثر النبي صلّى الله عليه وسلم حتى دخل الغار، وهو الذي أعاد معالم الحرم في زمن معاوية فهي إلى اليوم-، وطارق ابن باهية الشاعر.
قمير بن حبشية بن سلول بن كعب بن ربيعة بن خزاعة. فمن بني قمير: بسر بن سفيان الذي كتب إليه النبي صلّى الله عليه وسلم، وجلجلة بن عمرو الذي ذكره أبو الكنود في شعره، ومن ولده قبيصة بن ذؤيب بن جلجلة، ومالك بن الهيثم بن عوف.
كليب بن حبشية بن سلول بن كعب بن ربيعة بن خزاعة؛ منهم: السفّاح ابن عبد مناة الشاعر، وخراش بن أبي أمية حليف بني مخزوم، وهو الذي حجم النبي عليه الصلاة والسّلام.
ضاطر بن حبشية بن سلول بن كعب بن ربيعة بن خزاعة. منهم: حفص بن هاجر الشاعر، وقرة بن إياس الشاعر. وكان ابنه يحيى بن قرة سيد قومه- وطلحة بن عبيد الله بن كريز بن الحدادية الشاعر، واسمه قيس بن عمرو.
حرام بن عمر بن حبشية بن سلول بن كعب بن ربيعة بن خزاعة. منهم أكثم ابن أبي الجون، وسلمان بن صرد بن الجون، ومعتب بن الأكوع الشاعر. وأم معبد: وهي عاتكة بنت خليف التي نزل بها النبي صلّى الله عليه وسلم في مهاجرته إلى المدينة.
غاضرة بن عمرو بن حبشية بن سلول بن كعب بن ربيعة بن خزاعة. منهم:
عمران بن حصين صاحب النبي عليه الصلاة والسّلام؛ وسعيد بن سارية، ولي شرطة علي بن أبي طالب. وأبو جمعة جدّ كثيّر عزة. وجعدة وأبو الكنود ابنا عبد العزى.
مليح بن خزاعة، منهم: عبد الله بن خلف، قتل مع عائشة يوم الجمل. وأخوه سليمان بن خلف، كان مع عليّ يوم الجمل، وابنه طلحة بن عبد الله بن خلف يقال له طلحة الطلحات، وهو أجود العرب في الإسلام، وعمرو بن سالم الذي يقول:
لا همّ إنّي ناشد محمدا ... حلف أبينا وأبيه الأتلدا «1»(3/332)
ومنهم كثيّر عزة الشاعر، كنيته أبو عبد الرحمن.
عدي بن خزاعة. منهم: بديل بن ورقاء الذي كتب إليه النبي صلّى الله عليه وسلم يدعوه إلى الإسلام، وابنه عبد الله بن بديل، ونافع بن بديل، قتل يوم بئر معونة، ومحمد بن ضمرة كان شريفا، والحيسمان بن عمرو الذي جاء بقتلى أهل بدر إلى مكة وأسلم بعد ذلك.
سعد بن كعب بن خزاعة؛ منهم: مطرود بن كعب الذي رثى بني عبد مناف، وعمرو بن الحمق صاحب النبي عليه الصلاة والسّلام؛ وأبو مالك القائد وهو أسد بن عبد الله؛ والحصين بن نضلة، كان سيد أهل تهامة، مات قبل الإسلام؛ والحرث بن أسد، صاحب النبي صلّى الله عليه وسلم.
المصطلق بن سعد بن خزاعة؛ منهم جويرية بنت الخزرج زوج النبي عليه الصلاة والسّلام.
وإخوة خزاعة وهم ينسبون في خزاعة: أسلم بن أفصي بن حارثة بن عمرو بن عامر؛ منهم: بريدة بن الحصيب صاحب النبيّ عليه الصلاة والسّلام. وسلمة بن الأكوع صاحب النبي عليه الصلاة والسّلام.
وملكان بن أفصى بن حارثة بن عمرو بن عامر. ومنهم ذو الشمالين، وهو عمير ابن عبد عمرو، شهد بدرا مع النبي صلّى الله عليه وسلم؛ ومالك بن الطّلاطلة، كان من المستهزئين من النبي صلّى الله عليه وسلم؛ ونافع بن الحارث ولي مكة لعمر بن الخطاب.
مالك بن أفصى بن عمرو بن عامر؛ منهم: عويمر بن حارثة؛ وسليمان بن كثير، من نقباء بني العباس، قتله أبو مسلم بخراسان.
سلامان بن أسلم بن أفصي بن حارثة بن عمرو بن عامر، منهم: جرهد بن رزاح كان شريفا، وأبو بردة صاحب النبي عليه الصلاة والسّلام.
فرغت خزاعة(3/333)
بارق والهجن
ولد عدي بن حارثة بن عامر: سعدا- وهو بارق-، وعمرا- وهم الهجن- فخزاعة وبارق والهجن: من بني حارثة بن عمرو بن عامر.
فمن بارق: سراقة بن مرداس الشاعر وجعفر بن أوس الشاعر، ومنهم النعمان بن خميصة، جاهلي شريف. وبارق والهجن لا يقال لهما غسان؛ وغسان ماء بالمشلّل، فمن شرب منه من الأزد فهو غساني، ومن لم يشرب منه فليس بغساني؛ وقال حسان:
إما سألت فإنّا معشر نجب ... الأزد نسبتنا والماء غسّان
ومن الهجن: عرفجة بن هرثمة الذي جنّد الموصل، وعداده في بارق؛ ومنهم ربعة وملادس وثعلبة وشبيب وألمع، بنو الهجن.
حجر بن عمرو بن عامر بن حارثة بن ثعلبة بن امريء القيس بن مازن بن الأزد؛ ومنهم: أبو شجرة بن حجنة، هاجر مع النبي صلّى الله عليه وسلم؛ ومنهم: صيفي بن خالد ابن سلمة بن هريم.
والعتيك: هو ابن الأزد بن عمران بن عمرو؛ منهم: المهلّب بن أبي صفرة، واسم أبي صفرة ظالم بن سراقة: وجديع بن سعيد بن قبيصة. ومن العتيك: عمرو بن الأشرف، قتل مع عائشة يوم الجمل؛ وابنه زياد بن عمرو، وكان شريفا؛ وثابت قطنة الشاعر. ويقال إن العتيك: ابن عمران بن عمرو بن أسد بن خزيمة. فهؤلاء بنو عمران بن عمرو بن عامر؛ وهم: الحجر، والأزد، والعتيك.
ومن بطون الأزد:
بنو ماسخة بن عبد الله بن مالك بن النصر بن الأزد، إليهم تنسب القسي الماسخية، كان أول من رمي بها بنو زهران بن كعب بن الحارث بن كعب بن عبد الله بن مالك بن نصر من الأزد. ومنهم: حممة بن رافع: وفيهم: بنو النمر بن عثمان بن النصر بن هوازن؛ ومنهم: أبو الكنود صاحب ابن مسعود، قتل يوم(3/334)
الفجار؛ وأبو الجهم بن حبيب، كان واليا لأبي جعفر: وأبو مريم، وهو حذيفة بن عبد الله، صاحب رايتهم يوم رستم، والحارث بن حصيرة الذي يحدّث عنه، ومخلد بن الحسن، كان فارسا بخراسان.
وفهم بن زهران بطن وحدّان بطن، وزيادة بطن. ومعولة، بنو شمس بن عمرو ابن غنم بن غالب بن عثمان بن نصر بن هوازن.
فمن بني حدّان: صبرة بن شيبان، كان رأس الأزد يوم الجمل، وقتل يومئذ.
ومن بني معولة بن شمس: الجلندي بن المستكين صاحب عثمان، وابنه جيفر.
وكتب النبي عليه الصلاة والسّلام إلى جيفر وعبيد ابني الجلندي، ومنهم الغطريف الأصغر والغطريف الأكبر من بني دهمان بن نصر بن زهران، ومنهم سبالة، وحدروج، ورسن بنو عمرو بن كعب بن الغطريف، بطون كلهم، وبنو جعثمة بن يشكر بن ميسر بن صعب بن دهمان.
بنو راسب بن مالك بن ميدعان بن مالك بن نصر بن الأزد، منهم: عبد الله بن وهب ذو الثفنات، رئيس الخوارج، قتله علي بن أبي طالب يوم النّهروان. ومن الناس من ينسب بني راسب في قضاعة.
ثمالة، وهو عوف بن أسلم بن أبجر بن كعب بن الحارث بن كعب بن عبد الله بن مالك بن نضر بن الأزد. وثمالة منزلهم قريب من الطائف، وهم أهل رويّة وعقول، ومنهم: محمد بن يزيد النّحوي المعروف بالمبّرد صاحب الروضة، وقال فيه بعض الشعراء:
سألنا عن ثمالة كلّ حي ... فقال القائلون ومن ثماله
فقلت: محمد بن يزيد منهم ... فقالوا الآن زدت بهم جهاله
بنو لهب بن أبجر بن كعب بن الحارث بن كعب، وهم أعيف كل حيّ في العرب- العائف: الذي يزجر الطير- ولهم يقول كثيّر عزة:
تيّممت لهبا أبتغي العلم عندهم ... وقد ردّ علم العائفين إلى لهب(3/335)
دوس بن عدثان بن عبد الله بن زهران، ومنهم حممة بن الحارث بن رافع، كان سيد دوس في الجاهلية، وكان أسخى العرب، وهو مطعم الحاج بمكة، ومنهم أبو هريرة صاحب النبيّ عليه الصلاة والسلام، واسمه عمير بن عامر. ومنهم جذيمة الأبرش بن مالك بن فهم بن غنم بن دوس، وجهضم بن عوف بن مالك بن فهم بن غنم بن دوس، ومنهم الجراميز، جمع جرموز، والقراديس، جمع قردوس، والقسامل، جمع قسملة، والأشاقر، جمع أشقر، وهم بنو عائذ بن دوس، وفيهم يقول الأعجم:
قالوا الأشاقر تهجوكم فقلت لهم ... ما كنت أحسبهم كانوا ولا خلقوا
وهم من الحسب الزاكي بمنزلة ... كطحلب الماء لا أصل ولا ورق
لا يكبرون وإن طالت حياتهم ... ولو يبول عليهم ثعلب غرقوا
عكّ بن عدثان بن عبد الله بن زهران. وعكّ أخو دوس بن عدثان بن عبد الله ابن زهران عند من نسبهم إلى الأزد، ومن قال غير ذلك، فهو عكّ بن عدثان أخو معد بن عدثان. وفي عكّ: قرن، وهو بطن كبير، منهم مقاتل بن حكيم، كان من نقباء بني هاشم بخراسان.
غسان، وهم بنو عمرو بن مازن، وفيهم: صريم، وبنو نفيل، وهم الصّبر، سموا بذلك لصبرهم في الحرب، وفي بني صريم شقران ونمران ابنا عمرو بن صريم، وهما بطنان في غسان.
وبنو عنزة بن عمرو بن عوف بن عمرو بن عدي بن عمرو بن مازن بن الأزد.
منهم: الحارث بن أبي شمر الأعرج، ملك غسان الذي يقال فيه الجفني، وليس بجفني ولكن أمّه من بني جفنة. ومن بني عمرو بن مازن: عبد المسيح بن عمرو بن ثعلبة صاحب خالد بن الوليد، ومنهم عبد المسيح الجهبذ، ومنهم سطيح الكاهن، وهو ربيعة بن ربيعة.
ومن بني غسّان: بنو جفنة بن حارثة بن عمرو بن عامر بن حارثة بن ثعلبة بن امريء القيس بن مازن بن الأزد؛ ومنهم: ملوك غسان بالشام، وهم سبعة وثلاثون(3/336)
ملكا، ملكوا ستمائة سنة وست عشرة سنة إلى أن جاء الإسلام.
بجيلة، وهم عبقر والغوث وصهيب، ووداعة وأشهل؛ نسبوا إلى أمّهم بجيلة بنت صعب بن سعد العشيرة؛ وهم بنو أنمار بن إراس بن عمرو بن الغوث، أخو الازد بن الغوث. منهم: جرير بن عبد الله صاحب النبي عليه الصلاة والسّلام، وكان يقال لجرير: يوسف هذه الأمّة؛ لحسنه. وفيهم يقول الشاعر:
لولا جرير هلكت بجيله ... نعم الفتى وبئست القبيله
ومنهم: الضّبين بن مضر الذي وقع ببني كنانة، ومنهم القاسم بن عقيل أحد بني عائذة بن عامر بن قداد. كان شريفا. وهو الذي ابتدأ منافرة بجيلة وقضاعة.
وفي بجيلة قسر بن عبقر منهم: خالد بن عبد الله القسري صاحب العراق.
ومنهم بنو أحمس، وهم بنو علقة بن عبقر بن أنمار بن إراش بن عمرو بن الغوث؛ وبنو زيد بن الغوث بن أنمار؛ وبنو دهن بن معاوية بن أسلم بن أحمس رهط عمار الدّهني.
ومن قبائل بجلة: هدم، وهديم، وأحمس، وعادية، وعديّة، وقينان، وعرينة بن زيد.
خثعم- هو: خثعم بن أنمار بن إراش بن عمرو بن الغوث، أخي الأزد بن الغوث. ففي خثعم: عفرس، وناهس، وشهران، فيها الشرف والعدد.
فمن بني شهران: بنو قحافة بني عامر بن ربيعة؛ منهم: أسماء بنت عميس، ومالك بن عبد الله الذي قاد خيل خثعم إلى النبي صلّى الله عليه وسلم.
ومن ربيعة بن عفرس: نفيل بن حبيب دليل الحبشة على الكعبة، وهو القائل:
وكلهم يسائل عن نفيل ... كأنّ عليّ للحبشان دينا
وما كانت دلالتهم بزين ... ولكن كان ذاك عليّ شينا «1»
فإنّك لو رأيت ولم تريه ... لدى جنب المحصّب ما رأينا(3/337)
إذا لم تفرحي أبدا بشيء ... ولم تأسي على ما فات عينا «1»
حمدت الله إذ أبصرت طيرا ... وحصب حجارة ترمى علينا
ومن خثعم: عثعث بن قحامة، وهو الذي هزم همدان ومذحج. وله يقول الشاعر:
وجرثومة لم يدخل الذلّ وسطها ... قريبة أنساب كثير عديدها «2»
ململمة فيها فوارس عثعث ... بنوه وأبناء الأقيصر جيدها
ومنهم حمران الذي يقول:
أقسمت لا أموت إلّا حرّا ... وإن وجدت الموت طعما مرا
أخاف أن أخدع أو أغرّا
ويقال إن خثعم اسمه أفتل، وإنما خثعم جمل كان لهم نسبوا إليه.
همدان
وهو همدان بن مالك بن زيد بن أوسلة بن ربيعة بن الخبار بن مالك بن زيد بن كهلان؛ فولدت همدان: حاشدا وبكيلا؛ ومنهما تفرقت همدان.
فمن بطون همدان شبام، وهو عبد الله بن أسعد بن حاشد.
ومنهم ناعط وهو ربيعة بن مرثد بن حاشد بن جشم بن حاشد. ومنهم وداعة بن عمرو بن عامر، رهط مسروق بن الأجدع؛ ومن الناس من يزعم أنه وداعة بن عمرو بن عامر بن الأزد، ولكنهم انتسبوا إلى همدان ومن همدان: بنو السّبيع بن الصعب بن معاوية بن كبير بن مالك بن جشم بن حاشد؛ منهم: سعيد بن قيس بن زيد بن حرب بن معد يكرب بن سيف بن عمرو السبيعيّ؛ ومن بني ناعط: الحارث بن عميرة الذي يمدحه أعشى همدان بقوله:(3/338)
إلى ابن عميرة تخدي بنا ... على أنها القلص الضّمّر «1»
ومن بني بكيل بن جشم بن خوان بن نوف بن همدان: بنو جوب- وهم الجوبيون- ابن شهاب بن مالك بن معاوية بن صعب بن دومان بن بكيل. وبنو أرحب بن دعام بن مالك بن معاوية بن صعب. وبنو شاكر، وهم أبو ربيعة بن مالك بن معاوية بن صعب، وهم الذين قال فيهم علي بن أبي طالب رضي الله عنه يوم الجمل: لو تمت عدّتهم ألفا لعبد الله حق عبادته. وكان إذا رآهم تمثل بقول الشاعر:
ناديت همدان والأبواب مغلقة ... ومثل همدان سنّي فتحة الباب»
كالهندوانيّ لم تفلل مضاربه ... وجه جميل وقلب غير وجّاب «3»
وقال فيهم علي بن أبي طالب كرم الله وجهه:
لهمدان أخلاق ودين يزينهم ... وبأس إذا لاقوا وحسن كلام
فلو كنت بوّابا على باب جنّة ... لقلت لهمدان ادخلوا بسلام
ومن أشراف همدان: مالك بن حريم الدّلانيّ، وكان فارسا شاعرا؛ ومنهم محمد بن مالك الخيواني، وكان يجير قريشا في الجاهلية على اليمن؛ وفي همدان: جشم، وهم رهط أعشى همدان؛ وفيهم خيوان، وهو مالك بن زيد بن جشم بن حاشد؛ وفيهم دألان بن سابقة بن ناشج بن دافع؛ منهم مالك بن حريم الذي يقول:
وكنت إذا قوم غزوني غزوتهم ... فهل أنا في ذا يا لهمدان ظالم
متى تجمع القلب الذّكيّ وصارما ... وأنفا حميّا تجتنبك المظالم
ومنهم: أرحب بن دعام بن مالك بن معاوية بن صعب بن دومان بن بكيل.
منهم: أبو رهم بن مطعم الشاعر، هاجر إلى النبي صلّى الله عليه وسلم وهو ابن خمسين ومائة سنة.
وفي همدان: إلهان بن مالك، وهو أخو همدان بن مالك، ومنهم: حوشب. قتل بصفين مع معاوية.(3/339)
كندة
كندة بن عفير بن عديّ بن الحارث بن مرة بن أدد بن زيد بن يشجب بن عريب بن زيد بن كهلان.
فمن بطون كندة: الرائش بن الحارث بن معاوية بن كندة؛ منهم: شريح بن الحارث القاضي؛ ومنهم معاوية الأكرمين الذي مدحهم الأعشى؛ ومنهم الأشعث بن قيس بن معد يكرب؛ والصبّاح بن قيس وشرحبيل بن السّمط، ولي حمص؛ وحجر ابن عديّ الأدبر صاحب علي، وهو الذي قتله معاوية صبرا.
ومنهم: بنو مرة بن حجر، لهم مسجد بالكوفة؛ ومنهم: الأسود بن الأرقم؛ ويزيد بن فروة الذي أجار خالد بن الوليد يوم قطع نخل بني وليعة؛ وفي كندة معاوية الولّادة. سمي بذلك لكثرة ولده؛ ومنهم حجر الفرد، سمي بذلك لجوده، وأهل اليمن يسمون الجواد: الفرد، ومنهم معاوية مقطّع النّجد، كان لا يتقلد أحد معه سيفا إلا قطع نجاده.
فمن بني حجر الفرد الملوك الأربعة: مخوس، ومشرح، وجمد، وأبضعة؛ وأختهم العمرّدة، بنو معد يكرب بن وليعة بن شرحبيل بن حجر الفرد؛ وهم الذي يقول فيهم الشاعر:
نحن قتلنا بالنّجير أربعه ... مخوس مشرحا وجمدا أبضعه
ومن بني امريء القيس بن معاوية: رجاء بن حيوة الفقيه، وامرؤ القيس بن السّمط. ومن أشراف بني الحرث بن معاوية بن ثور: امرؤ القيس الشاعر ابن حجر ابن عمرو بن حجر آكل المرار بن عمرو بن معاوية بن الحارث بن ثور؛ وهم ملوك كندة؛ ومنهم: حجر بن الحارث بن عمرو، وهو ابن أم قطام بنت عوف ابن محلم الشيباني.
ومن بطون كندة: السّكاسك والسكون. ابنا أشرس بن كندة؛ ومنهم معاوية(3/340)
ابن حديج؛ قاتل محمد بن أبي بكر؛ ومنهم الجون بن يزيد، وهو أول من عقد الحلف بين كندة وبين بكر بن وائل؛ ومنهم حصين بن نمير السّكوني، صاحب الجيش بعد مسلم بن عقبة صاحب الحرّة.
ومن السّكون: تجيب؛ وهما عدي وسعد ابنا أشرس بن شبيب بن السكون وأمهما تجيب بنت ثوبان بن مذحج، إليها ينسبون.
فمن أشراف تجيب: ابن غزالة الشاعر، جاهلي، وهو ربيعة بن عبد الله؛ وحارثة بن سلمة، كان على السكون يوم محيّاة، وهو يوم اقتتلت معاوية بن كندة وكنانة بن بشر الذي ضرب عثمان يوم الدار.
والسّكاسك بن أشرس بن كندة، منهم الضّحاك بن رمل بن عبد الرحمن؛ وحويّ بن مانع الذي زعم أهل الشام أنه قتل عمّار بن ياسر؛ ويزيد بن أبي كبشة صاحب الحجاج. انقضى نسب كندة.
مذحج
ومن بني أدد بن زيد بن يشجب بن عريب بن زيد بن كهلان بن سبأ بن يشجب بن يعرب بن قحطان: مالك بن أدد، وهو مذحج وطّيء بن أدد والأشعر ابن أدد.
وقال ابن الكلبي: إن مذحج بن أدد هو ذو الأنعام، وله ثلاثة نفر: مالك بن مذحج وطيء بن مذحج والأشعر بن مذحج.
فمن قبائل مذحج: سعد العشيرة بن مالك بن أدد؛ وولده الحكم بن سعد العشيرة، وهو قبيل كبير؛ منهم الجراح بن عبد الله الحكمي، قتله الترك أيام عمر ابن عبد العزيز، وهم موالي أبي نواس. وفي بعضهم يقول:
يا شقيق النّفس من حكم ... نمت عن ليلى ولم أنّم(3/341)
وإنما سمي سعد العشيرة؛ لأنه لم يمت حتى ركب معه من ولده وولد ولده ثلاثمائة رجل؛ ومنهم عمير بن بشر، ومنهم بندقة بن مظة.
ومن بطون سعد العشيرة: جعف بن سعد العشيرة بن مالك بن أدد؛ وصعب ابن سعد العشيرة، دخل في جعف وجزء بن سعد العشيرة فمن ولد جزء بن سعد العدل، والجمد؛ وكان العدل على شرطة تبع، وكان إذا أراد قتل رجل قال:
يجعل على يدي عدل. وهو قول الناس: فلان على يدي عدل، إذا كان مشرفا على الهلاك.
ومن أشراف جعف: أبو سبرة، وهو يزيد بن مالك: كان وفد إلى النبي صلّى الله عليه وسلم فدعا له: ومنهم شراحيل بن الأصهب، كان أبعد العرب غارة كان يغزو من حضرموت إلى البلقاء في مائة فارس من بني أبيه؛ فقتله بنو جعدة ففيه يقول نابغة بني جعدة.
أرحنا معداّ من شراحيل بعد ما ... أراها مع الصّبح الكواكب مظهرا
وعلقمة الحرّاب أدرك ركضنا ... بذي الرّمث إذ صام النّهار وهجّرا «1»
وعلقمة الحزاب كان رأس بني جعف بعد شراحيل. ومن بني جعف: زحر ابن قيس صاحب علي بن أبي طالب رضي الله عنه، ومنهم الأشعر بن أبي حمران الذي يقول فيه:
أريد دعاء بني مازن ... وراق المعلّى بياض اللّبن «2»
خليلان مختلف بيننا ... أريد العلاء ويبغي السّمن
ومنهم: عبيد الله بن مالك الفاتك الجعفي.
ومن بني سعد العشيرة: أود؛ وزبيد، واسمه منبّه؛ وهما ابنا صعب بن سعد العشيرة وزبيد الأصغر، وهو منبه الأصغر بن ربيعة بن سلمة بن مازن بن ربيعة بن زبيد بن صعب بن سعد العشيرة. ومنهم: أبو المغراء الشاعر، ومنهم الزعافر وهو(3/342)
عامر بن حرب بن سعد بن منبه بن أود: ومنهم عبد الله بن إدريس الفقيه، ومنهم الأفوه الشاعر، واسمه صلاءة بن عمرو، ومنهم: بنو رمّان بن كعب بن أود، من ولده عافية بن يزيد القاضي، وبنو قرن لهم مسجد بالكوفة.
زبيد بن صعب بن سعد العشيرة. واسمه منبّه وهو زبيد الأكبر. من ولده زبيد الأصغر، وهو زبيد بن ربيعة بن سلمة بن مازن بن ربيعة بن زبيد بن صعب.
ومن بني زبيد الأصغر: عمرو بن معد يكرب، وعاصر ابن الأصقع الشاعر، ومعاوية بن قيس بن سلمة، وهو الأفكل، وكان شريفا، وإنما سمي الأفكل لأنه كان إذا غضب أرعد؛ ويقال: الافكل من بني زبيد الأكبر. ومنهم: الحارث بن عمرو بن عبد الله بن قيس بن أبي عمرو بن ربيعة بن عاصم بن عمرو بن زبيد الأصغر. فهذه سعد العشيرة.
ومن مذحج: جنب، وصداء، ورهاء؛ فمن بني جنب: منبه، والحارث، والغليّ وشيحان، وشمران، وهفّان. فهؤلاء الستة- وهم جنب- بنو يزيد بن حرب بن علة ابن خالد بن مالك بن أدد؛ وإنما قيل لهم جنب؛ لأنهم جانبوا أخاهم صداء وحالفوا سعد العشيرة؛ وحالفت صداء بني الحارث بن كعب. فمن جنب أبو طبيان الجنبيّ الفقيه. ومنهم: معاوية الخير بن عمرو بن معاوية صاحب لواء مذحج. وهو الذي أجار مهلهل بن ربيعة التغلبي على بكر بن وائل، فتزوج ابنة مهلهل. وفي ذلك يقول مهلهل بن ربيعة أخو كليب وائل:
هان على تغلب بما لقيت ... أخت بني الأكرمين من جشم
أنكحها فقدها الأراقم في ... جنب وكان الحباء من أدم «1»
لو بأبانين جاء يخطبها ... رمّل ما أنف خاطب بدم «2»
وقوله: وكان الحباء من أدم، أي انه ساق إليها في مهرها قبة من أدم.(3/343)
صداء بن يزيد بن حرب بن علة بن جلد بن مالك بن أدد، وهم حلفاء بني الحارث بن كعب بن مذحج.
رهاء بن منبّه بن علة بن جلد بن مالك. ومنهم: هزّان بن سعد بن قيس بن سرمح، كان من أشراف أهل الشام.
بنو الحارث بن كعب بن حرب بن علة بن جلد بن مالك بن أدد، وهو بيت مذحج. منهم: زعبل، بطن في بني الحارث، وهو الذي يقال فيه: لا يكلم زعبل.
وكان شريفا. ومنهم المحجّل بن حزن. ومنهم بنو حماس بن ربيعة. منهم النجاشي واسمه قيس بن عمرو. وفيهم بنو المعقل بن كعب بن ربيعة. ومنهم مرثد ومريثد ابنا سلمة بن المعقل، قيل لهم المراثد. ومنهم المأمون بن معاوية اجتمعت عليه مذحج ومزاحم بن كعب. ومنهم اللجلاج، وأخوه مسهر الذي فقأ عين عامر بن الطّفيل يوم فيف فيف الريح، وعبد يغوث بن الحارث الشاعر قتيل التّيم يوم الكلاب، وهو القائل:
أقول وقد شدّوا لساني بنسعة ... ألا يال تيم أطلقوا من لسانيا «1»
وتضحك مني شيخة عبشميّة ... كأن لم تر قبلي أسيرا يمانيا «2»
ومنهم بنو قنان بن سلمة. منهم: الحصين ذو الغصّة بن مرثد بن شدّاد بن قنان، وهو رأس بني الحارث، عاش مائة سنة، وكان يقال لبنيه: فوارس الأرباع، قتلته همدان؛ من ولده: كثير بن شهاب بن الحصين.
ومنهم: محمد بن زهرة بن الحارث.
وفي بني الحارث بن كعب: الضّباب؛ منهم هند بن أسماء الذي قتل المنتشر البلهلي.
وفيهم: بنو الدّيّان. فيهم زياد بن النضر صاحب علي. والربيع بن زياد، ولي(3/344)
خراسان أيام معاوية. والنابغة الشاعر، واسمه يزيد بن أبان. هؤلاء بنو الحارث بن كعب.
الضّباب في بني الحارث بن كعب: مفتوحة الضاد، وفي عامر بن صعصعة:
مكسورة الضاد.
ومن بطون مذحج: مسلية بن عامر بن عمرو بن علة بن جلد بن مالك. فولد مسلية، كنانة وأسدا: منهما تفرقت مسلية.
كنانة وأسد ابنا مسلية. فمن بني كنانة بن مسلية: بنو صبح وثعلبة ابنا ناشرة، وأمهما حبابة بها يعرفون. منهم أبيّ بن ربيعة بن صبح الذي يقول له عمرو بن معد يكرب:
تمنّاني ليقتلني أبيّ ... وددت وأينما مني ودادي
ومن بني حبابة: عامر بن إسماعيل القائد، وابن الحبابة الشاعر، جاهلي ومن مذحج النّخع بن عمرو بن علة بن جلد بن مالك بن أدد.
فمن بطون النخع: عمرو، بطن؛ وصهبان، بطن؛ ووهبيل، بطن؛ وعامر، بطن؛ وجذيمة، بطن؛ وحارثة، بطن؛ وكعب، بطن.
فمن بني جذيمة سعد بن مالك بن جلد بن النخع: الأشتر، واسمه مالك بن الحارث؛ وثابت بن قيس بن أبي المنقّع.
ومن بني حارثة بن سعد بن مالك بن النخع: إبراهيم بن يزيد الفقيه، والحجاج ابن أرطاة.
ومن بني وهبيل بن سعد بن مالك بن النخع: سنان بن أنس الذي قتل الحسين ابن علي؛ وشريك بن عبد الله القاضي.
ومن بني صهبان بن سعد بن مالك بن النخع: كميل بن زياد صاحب علي بن أبي طالب، قتله الحجاج.
وفي النخع: جشم، وبكر. فمن بني جشم: العريان بن الهيثم بن الأسود.(3/345)
ومن بني بكر بن عوف بن النّخع: يزيد بن المكفف. وعلقمة بن قيس. وأخوه أبيّ بن قيس، قتل مع عليّ بصفين. وأخوهما يزيد بن قيس. وابنه الأسود بن يزيد العابد.
ومن مذحج: عنس بن مالك بن أدد. فولد عنس: سعدا الأكبر، وسعدا الأصغر، ومالكا، وعمرا، ومخامرا، ومعاوية، وعريبا، وعتيكا، وشهابا، والقرّية، وياما.
فمن بني مالك بن عنس: الأسود بن كعب الذي تنبأ باليمن.
ومن بني يام بن عنس: عمّار بن ياسر صاحب النبي عليه الصلاة والسّلام.
ومن بني سعد الأكبر: الأسود بن كعب: تبناه سعد الأكبر، وكان كاهنا.
ومن أشراف عنس: عامر بن ربيعة، شهد بدرا مع النبي صلّى الله عليه وسلم وهو حليف لقريش.
ومن بطون مذحج: مراد بن مالك بن مذحج بن أدد، ويسمى يحابر.
فمن بطون مراد: ناجية وزاهر وأنعم. فمن بني ناجية بن مراد: فروة بن مسيك، كان واليا لرسول الله صلّى الله عليه وسلم على نجران.
ومن بني زاهر بن مراد: قيس بن هبيرة بن عبد يغوث. ومنهم أويس الفرني بن عمرو بن مالك بن عمرو بن سعد بن عمرو بن عصوان بن قرن بن ردمان بن ناجية بن مراد، وهو الذي يقال أن النبي صلّى الله عليه وسلم قال فيه: يدخل بشفاعته الجنة مثل ربيعة ومضر. وكان من التابعين، وقد أتى عمر بن الخطاب رضي الله عنه.
وفي ناجية بن مراد: بنو غطيف بن عبد الله بن ناجية، ويقال إنهم من الأزد.
وهانيء بن عروة المقتول مع مسلم بن عقيل.
وفي ناجية بن مراد: بنو جمل بن كنانة بن ناجية، منهم: هند بن عمرو، قتله عمرو بن اليثربيّ يوم الجمل، وقال فيّ ذلك:
لمن يجهلني ابن اليثربي ... قتلت علباء وهند الجمليّ
وابنا لصوحان على دين علي(3/346)
ومن بني زاهر بن مراد: قيس بن هبيرة بن عبد يغوث، وهو قيس بن مكشوح.
طيء
هو طيء بن أدد بن زيد بن يشجب بن عريب بن زيد بن كهلان أخو مذحج، ويقال ابن مذحج في رواية ابن الكلبي؛ فولد طيء الغوث وفطرة والحارث.
فمن بطون طيء: جديلة وهم بنو جندب وبنو حور، وأمهما جديلة وبها يعرفون، وهي جديلة طيء. فأما بنو حور بن جديلة فسهليون وليسوا من الجبليين، وأما بنو جندب بن جديلة فهم من الجبليين، وفيهم الشّرف والعدد، وفيهم الثعالب، وهم بنو ثعلبة بن جدعاء بن ذهل بن رومان بن جندب.
فمن بني ثعلبة بن جدعاء: المعلي بن تيم بن ثعلبة بن جدعاء، عليه نزل امرؤ القيس بن حجر الشاعر؛ إذ قتل أبوه حجر بن الحارث، وقال في المعلى:
كأنّي إذ نزلت على المعلىّ ... نزلت على البواذخ من شمام «1»
فما ملك العراق على المعلى ... بمقتدر ولا ملك الشّآم
أقرّحشا امريء القيس بن حجر ... بنو تيم مصابيح الظّلام
فسمّي بنو تيم بن ثعلبة: مصابيح الظلام.
فمن ثعلبة بن جدعاء: الحر بن مشجعة بن النعمان، كان رئيس جديلة يوم مسيلمة الكذاب؛ ومنهم أوس بن حارثة بن لأم سيد طيء؛ ومنهم حاتم بن عبد الله الجواد؛ وابنه عدي بن حاتم، وفد على النبي صلّى الله عليه وسلم فألقى له وسادة وأجلسه عليها وجلس هو على الأرض. قال عدي: فما رمت حتى هداني الله للإسلام، وسرّني ما رأيت من إكرام رسول الله صلّى الله عليه وسلم.
وفي بني عمرو بن الغوث بن طيء: ثعل، بطن؛ ونبهان، بطن؛ وبولان، بطن؛(3/347)
وسلامان، بطن؛ وهنيّ، بطن.
فمن هنيّ: إياس بن قبيصة: وأبو زبيد الشاعر، واسمه حرملة بن المنذر. ومن بني سلامان: بنو بحتر، بطن طيء، ومن بني بحتر معترض بن صالح، اجتمعت عليه جديلة والغوث.
ومن بني ثعل: عمرو بن عبد المسبّح. كان أرمى العرب، وإياه يعني امرؤ القيس بقوله:
ربّ رام من بني ثعل ... مخرج كفّيه من قتره «1»
وأدرك النبي عليه الصلاة والسّلام وهو ابن خمس ومائة سنة، فأسلم.
ومن بني ثعل: أبو حنبل الذي يعد في الأوفياء نزل به امرؤ القيس ومدحه ومنهم زيد الخيل، وفد على النبي صلّى الله عليه وسلم فسماه زيد الخير، وقال: «ما بلغني عن أحد إلا رأيته دون ما بلغني، إلا زيد الخيل» .
وفي طيء: سدوس. وهي مضمومة السين، والتي في ربيعة مفتوحة السين.
الأشعر
هو الأشعر بن أدد أخو مذحج- ويقال: ابن مذحج، في رواية ابن الكلبي- فولد الأشعر: الجماهر، والأرغم، والأدغم، والأنعم، وجدّة، وعبد شمس، وعبد الثّريا.
فمن بطون الأشعريين: مراطة، وصنامة، وأسد، وسهلة، وعكابة، والشراعبة، وعسامة، والدعالج.
ومن أشراف الأشعريين: أبو موسى الأشعري عبد الله بن قيس، صاحب النبي عليه الصلاة والسّلام، ومنهم مالك بن عامر بن هانيء بن خفاف، وفد على النبي صلّى الله عليه وسلم وشهد القادسية، وهو أول من عبر دجلة يوم المدائن، وقال في ذلك:(3/348)
امضوا فإنّ البحر بحر مأمور ... والأوّل القاطع منكم مأجور
قد خاب كسرى وأبوه سابور ... ما تصنعون والحديث مأثور
وابنه سعد بن مالك، كان من أشراف أهل العراق، ومنهم: السائب بن مالك، كان على شرطة المختار وهو الذي قوي أمره؛ ومنهم: أبو مالك الأشعري، زوّجه النبي عليه الصلاة والسّلام إحدى نساء بني هاشم وقال لها: «ما رضيت أن زوجتك رجلا هو وقومه خير مما طلعت عليه الشمس!» وقال النبي عليه الصلاة والسّلام: «يا بني هاشم، زوّجوا الأشعريين وتزوجوا إليهم؛ فإنهم في الناس كصرة المسك وكالأترج الذي إن شممته ظاهرا وجدته طيبا، وإن اختبرت باطنه وجدته طيبا» .
فهؤلاء بنو أدد، وهم مذحج وطيء والأشعر، بنو أدد بن زيد بن يشجب بن يعرب بن قحطان.
لخم
هو مالك بن عدى بن الحارث بن مرة بن أدد. فولدت لخم: جزيلة، ونمارة؛ ومنهما تفرقت بطون لخم.
فمن بني نمارة: بنو الداري، وهو هانيء بن حبيب بن نمارة. منهم تميم الداري صاحب النبي عليه الصلاة والسّلام.
وفي نمارة الأجود، وهم بنو مازن بن عمرو بن زياد بن نمارة رهط الطرمّاح بن حكيم الشاعر؛ ويقال إن الطرماح من طيء- ومنهم: قصير بن سعد صاحب جذيمة الأبرش.
ومن بني نمارة: ملوك الحيرة اللّخميون. رهط النعمان بن المنذر بن امريء القيس ابن النعمان.
وفي جزيلة بن لخم بطون كثيرة، منهم: إراش، وحجر، ويشكر وأدب، وخالفة- وهو راشدة- وغنم، وجديس، بطن عظيم.(3/349)
وفي جزيلة بن لخم أيضا العمرّط، وفيهم عباد الحيري منهم رهط عدي بن زيد العبادي. وفيهم بنو منارة، وفيهم جدس بن إدريس بن جزيلة بن لخم منهم مالك بن ذعر بن حجر بن جزيلة بن لخم؛ يقال إنه الذي استخرج يوسف بن يعقوب- صلوات الله وسلامه عليه- من الجب.
جذام
هو جذام بن عدي بن الحارث بن مرة بن أدد. فولد جذام حراما وحشم؛ ومنهما تفرقت جذام.
فمن بني حشم بن جذام: بنو عتيب بن أسلم بن خالد بن شنوءة بن تديل ابن حشم بن جذام، وهم الذين ينسبون في بني شيبان.
وفي حرام بن جذام بنو غطفان، وأفصى، ابنا سعد بن إياس بن حرام؛ وفيهما عدد جذام وشرفها؛ ويقال إن غطفان بن سعد بن قيس بن عيلان هو هذا.
فمن بني أفصى بن سعد: روح بن زنباع، وزير عبد الملك بن مروان؛ وقيس بن زيد، وفد علي النبي صلّى الله عليه وسلم.
ومن بني غطفان بن سعد: عنبس، ونضرة، وأبامة، وعبدة، وحرب، وريث، وعبد الله، بطون كلهم؛ فانتسب ريث وعبد الله في غطفان بن قيس، وغيرهم في جذام.
عاملة
هم بنو الحارث بن عدي بن الحارث بن مرة بن أدد بن زيد بن يشجب بن عريب بن زيد بن كهلان بن سبأ، ولد الحارث الزهد ومعاوية وأمهما عاملة بنت مالك بن ربيعة بن قضاعة، فنسبا إلى أمهما؛ ويقال عاملة هو الحارث نفسه.
فمن بني معاوية بن عاملة: شعل، وسلبة، وعجل، بطون كلهم.
فمن أشراف عاملة قوّال بن عمر؛ وشهاب بن برهم، وكان سيدا؛ وهمام بن(3/350)
معقل، وكان شريفا مع مسلمة بن عبد الملك؛ ومنهم عدي بن الرقاع الشاعر؛ ومنهم قعيسيس الذي أسر عدي بن حاتم الطائي فأخذه منه شعيب بن الربيع الكلبي فأطلقه بغير فداء.
فهؤلاء بنو عدي بن الحارث بن مرة بن أدد بن زيد بن يشجب بن عريب بن زيد بن كهلان بن سبأ؛ وهم لخم وجذام وعاملة، بنو عدي بن الحارث؛ وكندة بن عفير بن عدي بن الحارث.
خولان
هو خولان بن عمرو بن يعفر بن مالك بن الحارث بن مرة بن أدد. فولد خولان، حبيبا، وعمرا، والأصهب، وقيسا، ونبتا، وبكرا، وسعدا؛ منهم أبو مسلم عبد الرحمن بن مشكم الفقيه.
جرهم
هو من القبائل القديمة، وهو جرهم بن يقطن بن عابر. وعند عابر تجتمع يمن ومضر؛ لأن مضر كلها بنو فالغ بن عابر، واليمن كلها بنو قحطان بن عابر.
حضرموت
هو ابن عمرو بن قيس بن معاوية بن جشم بن عبد شمس بن وائل بن الغوث بن حيدان بن قصيّ بن عريب بن زهير بن أيمن بن الهميسع بن حمير.
منهم: ذو مرحب، وذو نحو؛ ومنهم الأعدل؛ ومنهم: بنو مرثد، وبنو ضجع، وبنو حجر، وبنو رحب، وبنو أقرن، وبنو قليان.
قول الشعوبية وهم أهل التسوية
ومن حجة الشعوبية على العرب أن قالت: إنا ذهبنا إلى العدل والتسوية، وأن الناس كلهم من طينة واحدة وسلالة رجل واحد.(3/351)
واحتججنا بقول النبي عليه الصلاة والسلام: المؤمنون إخوة، تتكافأ دماؤهم ويسعى بذمتهم أدناهم وهم يد على من سواهم. وقوله في حجة الوداع، وهي خطبته التي ودع فيها أمّته وختم نبوّته: «أيها الناس، إنّ الله أذهب عنكم نخوة الجاهلية وفخرها بالآباء. كلّكم لآدم وآدم من تراب، ليس لعربي على عجميّ فضل إلا بالتقوى» .
وهذا القول من النبي عليه الصلاة والسلام موافق لقول الله تعالى: إِنَّ أَكْرَمَكُمْ عِنْدَ اللَّهِ أَتْقاكُمْ
«1» فأبيتم إلا فخرا وقلتم لا تساوينا العجم وإن تقدّمتنا إلى الإسلام، ثم صلت حتى تصير كالحنى، وصامت حتى تصير كأوتار، ونحن نسامحكم ونجيبكم إلى الفخر بالآباء الذي نهاكم عنه نبيكم صلّى الله عليه وسلم، إذ أبيتم إلا خلافه، وإنما نجيبكم إلى ذلك لاتباع حديثه وما أمر به صلّى الله عليه وسلم، فنرد عليكم حجتكم في المفاخرة، ونقول: أخبرونا إن قالت لكم العجم هل تعدون الفخر كله أن يكون ملكا أو نبوّة؟ فإن زعمتم أنه ملك قالت لكم: وإن لنا ملوك الأرض كلها من الفراعنة والنماردة والعمالقة والأكاسرة والقياصرة، وهل ينبغي لأحد أن يكون له مثل ملك سليمان الذي سخّرت له الإنس والجن والطير والريح، وإنما هو رجل منا؟ أم هل كان لأحد مثل ملك الإسكندر الذي ملك الأرض كلها وبلغ مطلع الشمس ومغربها وبنى ردما من حديد ساوى به بين الصّدفين، «2» وسجن وراءه خلقا من الناس تربى على خلق الأرض كلها كثرة؛ يقول الله عز وجل: حَتَّى إِذا فُتِحَتْ يَأْجُوجُ وَمَأْجُوجُ وَهُمْ مِنْ كُلِّ حَدَبٍ يَنْسِلُونَ
«3» فليس شيء أدل على كثرة عددهم من هذا، وليس لأحد من ولد آدم مثل آثاره في الأرض؛ ولو لم يكن له إلا منارة الإسكندرية الذي أسسها في قعر البحر وجعل في رأسها مرآة يظهر البحر كله في زجاجتها. وكيف ومنا ملوك الهند الذين كتب أحدهم إلى عمر بن عبد العزيز: من ملك الأملاك الذي هو ابن ألف(3/352)
ملك، والذي تحته بنت ألف ملك، والذي في مربطه ألف فيل، والذي له نهران ينبتان العود والفوه «1» والجوز والكافور، الذي يوجد ريحه على اثني عشر ميلا- إلى ملك العرب الذي لا يشرك بالله شيئا. أما بعد، فإني أردت أن تبعث إليّ رجلا يعلمني الإسلام ويوقفني على حدوده والسّلام.
وإن زعمتم أنه لا يكون الفخر إلا بنبوّة فإن منا الأنبياء والمرسلين قاطبة من لدن آدم ما خلا أربعة: هودا وصالحا وإسماعيل وحمدا؛ ومنا المصطفون من العالمين: آدم ونوح، وهما العنصران اللذان تفرع منهما البشر: فنحن الأصل وأنتم الفرع، وإنما أنتم غصن من أغصاننا، فقولوا بعد هذا ما شئتم وادّعوا. ولم تزل الأمم كلها من الأعاجم في كل شق من الأرض [لها] ملوك تجمعها، ومدائن تضمها، وأحكام تدين بها، وفلسفة تنتجها، وبدائع تفتقها في الأدوات والصناعات: مثل صنعة الديباج، وهي أبدع صنعة؛ ولعب الشطرنج، وهي أشرف لعبة، ورمانة القبان التي يوزن بها رطل واحد ومائة رطل؛ ومثل فلسفة الروم في ذات الخلق والقانون، والأسطرلاب الذي يعدل به النجوم ويدرك به علم الأبعاد ودوران الأفلاك، وعلم الكسوف [وغير ذلك من الآثار المتقنة] ولم يكن للعرب ملك يجمع سوادها، ويضم قواصيها، ويقمع ظالمها، وينهى سفيهها؛ ولا كان لها قط نتيجة في صناعة، ولا أثر في فلسفة، إلا ما كان من الشعر وقد شاركتها فيه العجم، وذلك أن للروم أشعارا عجيبة قائمة الوزن والعروض؛ فما الذي تفخر به العرب على العجم؟ فإنما هي كالذئاب العادية، والوحوش النافرة، يأكل بعضها بعضا، ويغير بعضها على بعض، فرجالها موثقون في حلق الأسر، ونساؤها سبايا مردفات على حقائب الإبل، فإذا أدركهن الصريخ استنقذن بالعشي وقد وطئن كما توطأ الطريق المهيع، فخر بذلك شاعر فقال:
والحق ركب المردفات عشيّة
فقيل له: ويحك! وأي فخر لك أن تلحق بالعشي وقد نكحن وامتهنّ؟(3/353)
وقال جرير يعيّر بني دارم بغلبة قيس عليهم يوم رحرحان:
وبرحرحان غداة كبّل معبد ... نكحت نساؤكم بغيّر مهور
وقال عنترة لامرأته:
إنّ الرّجال لهم إليك وسيلة ... إن يأخذوك تكحّلي وتخضّبي
وأنا امرؤ إن يأخذوني عنوة ... أقرن إلى سير الرّكاب وأجنب
ويكون مركبك القعود ورحله ... وابن النّعامة عند ذلك مركبي «1»
أراد بابن النعامة: باطن القدم.
وسبي ابن هبولة الغسّاني امرأة الحارث بن عمرو الكندي. فلحقه الحارث فقتله وارتجع المرأة وقد كان نال منها، فقال لها: هل كان أصابك؟ قالت: نعم والله، فما اشتملت النساء على مثله! فأوثقها بين فرسين ثم استحضرهما «2» حتى قطعاها؛ وقال في ذلك:
كلّ أنثى وإن بدا لك منها ... آية الودّ عهدها خيتعور «3»
إنّ من غرّه النساء بودّ ... بعد هند لجاهل مغرور
وسبت بنو سليم ريحانة أخت عمرو بن معد يكرب فارس العرب، فقال فيها عمرو:
أمن ريحانة الداعي السميع ... يؤرّقني وأصحابي هجوع
وفيها يقول:
إذا لم تستطع أمرا فدعه ... وجاوزه إلى ما تستطيع
وأغار الحوفزان على بني سعد بن زيد مناة، فاحتمل الزرقاء من بني ربيع بن الحارث، فأعجبته وأعجبها؛ فوقع بها، ثم لحقه قيس بن عاصم، فاستنقذها وردّها إلى أهلها بعد أن وقع بها.(3/354)
فهذا كان شأن العرب والعجم في جاهليتها. فلما أتى الله بالإسلام كان للعجم شطر الإسلام؛ وذلك أن النبي صلّى الله عليه وسلم بعث إلى الأحمر والأسود من بني آدم، وكان أوّل من تبعه حرّ وعبد واختلف الناس فيهما، فقال قوم: أبو بكر وبلال، وقال قوم:
عليّ وصهيب.
ولما طعن عمر بن الخطاب رضي الله عنه قدم صهيبا على المهاجرين والأنصار فصلى بالناس وقيل له: استخلف. فقال: ما أجد من أستخلف. فذكر له الستة من أهل حراء، فكلهم طعن «1» عليه، ثم قال: لو أدرك سالما مولى أبي حذيفة حيا لما شككت فيه. فقال في ذلك شاعر العرب:
هذا صهيب أمّ كلّ مهاجر ... وعلا جميع قبائل الأنصار
لم يرض منهم واحد لصلاتنا ... وهم الهداة وقادة الأخيار
هذا ولو كان المثرّم سالم ... حياّ لنال خلافة الأمصار
ما بال هذي العجم تحيا دوننا ... إن الغويّ لفي عمى وخسار «2»
وقال بجير يعيّر العرب باختلافها في النسب واستلحاقها للأدعياء:
زعمتم بأن الهند أولاد خندف ... وبينكم قربى وبين البرابر
وديلم من نسّل ابن ضبّة باسل ... وبرجان من أولاد عمرو بن عامر
فقد صار كلّ الناس أولاد واحد ... وصاروا سواء في أصول العناصر
بنو الأصفر الأملاك أكرم منكم ... وأولى بقربانا ملوك الأكاسر «3»
أتطمع في صهري دعياّ مجاهرا ... ولم تر سترا من دعيّ مجاهر
وتشتم لؤما رهطه وقبيله ... وتمدح جهلا طاهرا وابن طاهر
وقد ذكرت هذا الشعر تامّا في كتاب النساء والأدعياء والنجباء.
وقال الحسن بن هانيء على مذهب الشعوبية:(3/355)
وجاورت قوما ليس بيني وبينهم ... أواصر إلا دعوة وبطون «1»
إذا ما دعا باسمي العريف أجبته ... إلى دعوة ممّا عليّ يهون
لأزدعمان بالمهلّب نزوة ... إذا افتخر الأقوام ثم تلين «2»
وبكر يرى أن النّبوة أنزلت ... على مسمع في البطن وهو جنين
وقالت تميم لا نرى أنّ واحدا ... كأحنفنا حتّى الممات يكون
فلا لمت قيسا بعدها في قتيبة ... إذا افتخروا إنّ الفخار فنون
ردّ ابن قتيبة على الشعوبية
قال ابن قتيبة في كتاب تفضيل العرب:
وأمّا أهل التسوية فإن منهم قوما أخذوا ظاهر بعض الكتاب والحديث، فقضوا به ولم يفتشوا عن معناه، فذهبوا إلى قوله عز وجل: يا أَيُّهَا النَّاسُ إِنَّا خَلَقْناكُمْ مِنْ ذَكَرٍ وَأُنْثى وَجَعَلْناكُمْ شُعُوباً وَقَبائِلَ لِتَعارَفُوا إِنَّ أَكْرَمَكُمْ عِنْدَ اللَّهِ أَتْقاكُمْ
«3» وقوله: إِنَّمَا الْمُؤْمِنُونَ إِخْوَةٌ فَأَصْلِحُوا بَيْنَ أَخَوَيْكُمْ
«4» وإلى قول النبي عليه الصلاة والسّلام في خطبته في حجة الوداع: أيها الناس، إن الله قد أذهب عنكم نخوة الجاهلية وتفاخرها بالآباء. ليس لعربي على عجمي فخر إلا بالتقوى، كلكم لآدم وآدم من تراب.
وقوله: المؤمنون تتكافأ دماؤهم، ويسعى بذمتهم أدناهم، وهم يد على من سواهم.
وإنما المعنى في هذا أن الناس كلهم من المؤمنين سواء في طريق الأحكام والمنزلة عند الله عز وجل والدار الآخرة.
لو كان الناس كلهم سواء في أمور الدنيا ليس لأحد فضل إلا بأمر الآخرة، لم يكن في الدنيا شريف ولا مشروف ولا فاضل ولا مفضول؛ فما معنى قوله صلّى الله عليه وسلم «إذا أتاكم كريم قوم فأكرموه» . وقوله صلّى الله عليه وسلم: «اقيلوا ذوي الهيئات عثراتهم» . وقوله صلّى الله عليه وسلم في قيس بن عاصم: «هذا سيد الوبر» . «5» وكانت العرب تقول: لا يزال الناس بخير ما(3/356)
تباينوا فإذا تساووا هلكوا. تقول: لا يزالون بخير ما كان فيهم أشراف وأخيار، فإذا جملوا كلهم جملة واحدة هلكوا.
وإذا ذمّت العرب قوما قالوا: سواسية كأسنان الحمار. وكيف يستوي الناس في فضائلهم والرجل الواحد لا تستوي في نفسه أعضاؤه ولا تتكافأ مفاصله، ولكن لبعضها الفضل على بعض، وللرأس الفضل على جميع البدن بالعقل والحواس الخمس.
وقالوا: القلب أمير الجسد. ومن الأعضاء خادمة، ومنها مخدومة.
قال ابن قتيبة: ومن أعظم ما ادعت الشعوبية فخرهم على العرب بآدم عليه السّلام وبقول النبي عليه الصلاة والسّلام: «لا تفضّلوني عليه، فإنما أنا حسنة من حسناته» . ثم فخرهم بالأنبياء أجمعين وأنهم من العجم غير أربعة: هود وصالح وإسماعيل ومحمد عليهم الصلاة والسّلام؛ واحتجوا بقول الله عز وجل: إِنَّ اللَّهَ اصْطَفى آدَمَ وَنُوحاً وَآلَ إِبْراهِيمَ وَآلَ عِمْرانَ عَلَى الْعالَمِينَ ذُرِّيَّةً بَعْضُها مِنْ بَعْضٍ وَاللَّهُ سَمِيعٌ عَلِيمٌ
«1» ثم فخروا بإسحاق بن إبراهيم، وأنه لسارة، وأنّ إسماعيل لأمة تسمى هاجر. وقال شاعرهم:
في بلدة لم تصل عكل بها طنبا ... ولا خباء، ولا عك وهمدان «2»
ولا لجرم ولا بهراء من وطن ... لكنها لبني الأحرار أوطان
أرض يبنّي بها كسرى مساكنه ... فما بها من بني اللّخناء إنسان
فبنو الأحرار عندهم: العجم؛ وبنو اللخناء عندهم: العرب؛ لأنهم من ولد هاجر وهي أمة، وقد غلطوا في هذا التأويل، وليس كل أمة يقال لها اللخناء إنما اللخناء من الإماء الممتهنة في رعي الإبل وسقيها وجمع الحطب، وإنما أخذ من اللخن، وهو نتن الريح؛ يقال: لخن السقاء، إذا تغير ريحه؛ فأما مثل هاجر التي طهرها الله من كل دنس وارتضاها للخليل فراشا، وللطّيّبين إسماعيل ومحمد أمّا، وجعلهما سلالة- فهل يجوز لملحد فضلا عن مسلم أن يسميها لخناء!(3/357)
رد الشعوبية على ابن قتيبة
قال بعض من يرى رأي الشعوبية فيما يردّ به على ابن قتيبة في تباين الناس وتفاضلهم، والسيد منهم والمسّود.
إننا نحن لا ننكر تباين الناس ولا تفاضلهم، ولا السيد منهم والمسود، والشريف والمشروف؛ ولكنا نزعم أنّ تفاضل الناس فيما بينهم ليس بآبائهم ولا بأحسابهم، ولكنه بأفعالهم وأخلاقهم وشرف أنفسهم وبعد هممهم؛ ألا ترى أنه من كان دنيء الهمة، ساقط المروءة، لم يشرف وإن كان من بني هاشم في ذؤابتها، ومن أمية في أرومتها، ومن قيس في أشرف بطن منها؛ إنما الكريم من كرمت أفعاله، والشريف من شرفت همته؛ وهو معنى حديث النبي عليه الصلاة والسّلام: «إذا أتاكم كريم قوم فأكرموه» . وقوله في قيس بن عاصم: «هذا سيد أهل الوبر» . إنما قال فيه لسؤدده في قومه بالذب عن حريمهم، وبذله رفده لهم: ألا ترى أن عامر بن الطفيل كان في أشرف بطن في قيس يقول:
وإني وإن كنت ابن سيّد عامر ... وفارسها المشهور في كلّ موكب
فما سوّدتني عامر عن وراثة ... أبى الله أن أسمو بأمّ ولا أب
ولكنّني أحمي حماها وأتّقي ... أذاها وأرمي من رماها بمنكب «1»
وقال آخر:
إنّا وإن كرمت أوائلنا ... لسنا على الأحساب نتّكل
نبني كما كانت أوائلنا ... تبنى ونفعل مثل ما فعلوا
وقال قس بن ساعدة: لأقضينّ بين العرب بقضية لم يقض بها أحد قبلي ولا يردّها أحد بعدي: أيما رجل رمى رجلا بملامة دونها كرم، فلا لؤم عليه، وأيما رجل ادّعى كرما دونه لؤم فلا كرم له.
ومثله قول عائشة أم المؤمنين: كل كرم دونه لؤم فاللؤم أولى به، وكل لؤم دونه(3/358)
كرم فالكرم أولى به. تعني بقولها، أن أولى الأشياء بالإنسان طبائع نفسه وخصالها، فإذا كرمت فلا يضره لؤم أوّليته، وإن لؤمت فلا ينفعه كرم أوّليته.
وقال الشاعر:
نفس عصام سوّدت عصاما ... وعلّمته الكر والإقداما
وصيّرته ملكا هماما
وقال آخر:
مالي عقلي وهمّتي حسبي ... ما أنا مولى ولا أنا عربي
إن انتمى منتم إلى أحد ... فإنّني منتم إلى أدبي «1»
وتكلم رجل عند عبد الملك بن مروان بكلام ذهب فيه كل مذهب، فأعجب عبد الملك ما سمع منه، فقال: ابن من أنت يا غلام؟ قال: ابن نفسي يا أمير المؤمنين التي نلت بها هذا المقعد منك! قال: صدقت!.
وقال النبي عليه الصلاة والسّلام: «حسب الرجل ماله، وكرمه دينه» .
وقال عمر بن الخطاب: إن كان لك مال فلك حسب، وإن كان لك دين فلك كرم.
وما رأيت أعجب من ابن قتيبة في كتاب تفضيل العرب؛ إنه ذهب فيه كل مذهب من فضائل العرب، ثم ختم كتابه بمذهب الشعوبية، فنقض في آخره كل ما بنى في أوله؛ فقال في آخر كلامه؛ وأعدل القول عندي أن الناس كلهم لأب وأمّ، خلقوا من تراب، وأعيدوا إلى التراب، وجروا في مجرى البول، وطرأ عليهم الأقذار؛ فهذا نسبهم الأعلى الذي يرتدع به أهل العقول عن التّعظّم والكبرياء، والفخر بالآباء، ثم إلى الله مرجعهم فتنقطع الأنساب، وتبطل الأحساب، إلا من كان حسبه التقوى، أو كانت ماتّته «2» طاعة الله.(3/359)
قول الشعوبية في مناكح العرب
قالت الشعوبية: إنما كانت العرب في الجاهلية ينكح بعضهم نساء بعض في غاراتهم بلا عقد نكاح ولا استبراء من طمث، فكيف يدري أحدهم من أبوه.
وقد فخر الفرزدق ببني ضبة حين يبتزّون العيال في حروبهم في سبيّة سبوها من بني عامر بن صعصعة فقال:
فظلّت وظلّوا يركبون هبيرها ... وليس لهم إلا عواليهم ستر
والهيبر: المطمئن من الأرض؛ وإنما أراد هاهنا فرجها.
وهو القائل في بعض ما يفخر به:
ومنا التّميمي الذي قام أيره ... ثلاثين يوما ثم قد زادها عشرا
باب المتعصبين للعرب
قال أصحاب العصبية من العرب: لو لم يكن منا على المولى عتاقة ولا إحسان إلا استنقاذنا له من الكفر وإخراجنا له من دار الشرك إلى دار الإيمان كما في الأثر: إن قوما يقادون إلى حظوظهم بالسواجير. «1» كما قال: عجب ربنا من قوم يقادون إلى الجنة في السلاسل.
على أنّا تعرّضنا للقتل فيهم: فمن أعظم عليك نعمة ممن قتل نفسه لحياتك؟ فالله أمرنا بقتالكم، وفرض علينا جهادكم ورغبنا في مكاتبتكم.
وقدّم نافع بن جبير بن مطعم رجلا من أهل الموالي يصلي به، فقالوا: له في ذلك؛ فقال: إنما أردت أن أتواضع لله بالصلاة خلفه.
وكان نافع بن جبير هذا إذا مرّت به جنازة قال: من هذا؟ فإذا قالوا قرشي؛ قال: واقوماه! وإذا قالوا: عربي؛ قال: وابلدتاه! وإذا قالوا: مولى؛ قال: هو مال(3/360)
الله، يأخذ ما شاء ويدع ما شاء.
قال: وكانوا يقولون لا يقطع الصلاة إلا ثلاثة: حمار، أو كلب أو مولى.
وكانوا لا يكنونهم بالكنى، ولا يدعونهم إلا بالأسماء والألقاب، ولا يمشون في الصف معهم، ولا يتقدمونهم في الموكب، وإن حضروا طعاما قاموا على رؤسهم، وإن أطمعوا المولى لسنّه وفضله وعلمه أجلسوه في طرف الخوان؛ لئلا يخفى على الناظر أنه ليس من العرب، ولا يدعونهم يصلون على الجنائز إذا حضر أحد من العرب، وإن كان الذي يحضر غريرا؛ وكان الخاطب لا يخطب المرأة منهم إلى أبيها ولا إلى أخيها، وإنما يخطبها إلى مواليها؛ فإن رضي زوّج وإلا ردّ، فإن زوّج الأب والأخ بغير رأي مواليه فسخ النكاح، وإن كان قد دخل بها كان سفاح غير نكاح.
وقال زياد: دعا معاوية الأحنف بن قيس وسمرة بن جندب فقال إني رأيت هذه الحمراء قد كثرت، وأراها قد طعنت على السلف، وكأني أنظر إلى وثبة منهم على العرب والسلطان؛ فقد رأيت أن أقتل شطرا وأدع شطرا لإقامة السوق وعمارة الطريق؛ فما ترون؟
فقال الأحنف: أرى أن نفسي لا تطيب؛ أخي لأمي وخالي ومولاي، وقد شاركناهم وشاركونا في النسب. فظننت أني قد قتلت عنهم؛ وأطرق.
فقال سمرة بن جندب: اجعلها إلىّ أيها الأمير، فأنا أتولى ذلك منهم وأبلغ منه.
فقال: قوموا حتى أنظر في هذا الأمر.
قال الأحنف: فقمنا عنه وأنا خائف، وأتيت أهلي حزينا؛ فلما كان بالغداة أرسل إليّ، فعلمت أنه أخذ برأيي وترك رأي سمرة.
وروي أن عامر بن عبد القيس في نسكه وزهده وتقشفه وإخباته وعبادته كلّمه حمران مولى عثمان بن عفان عند عبد الله بن عامر صاحب العراق في تشنيع عامر على عثمان وطعنه عليه، فأنكر ذلك، فقال له حمران: لا كثّر الله فينا مثلك! فقال له عامر: بل كثّر الله فينا مثلك! فقيل له: أيدعو وتدعو له؟ قال: نعم، يكسحون(3/361)
طرقنا، ويخرزون خفافنا، ويحركون ثيابنا. فاستوى ابن عامر جالسا، وكان متكئا، فقال: ما كنت أظنك تعرف هذا الباب، لفضلك وزهادتك. فقال: ليس كل ما ظننت أني لا أعرفه، لا أعرفه.
وقالوا: إن خالد بن عبد الله بن خالد بن أسيد لما وجّه أخاه عبد العزيز إلى قتال الأزارقة، هزموه وقتلوا صاحبه مقاتل بن مسمع، وسبوا امرأته أم حفص بنت المنذر ابن الجارود العبدي، فأقاموها في السوق حاسرة بادية المحاسن، وغالوا فيها وكانت من أكمل الناس كمالا وحسنا، فتزايدت فيها العرب والموالي وكانت العرب تزيد فيها على العصبية، والموالي تزيد فيها على الولاء، حتى بلّغتها العرب عشرين ألفا، ثم تزايدوا فيها حتى بلّغوها تسعين ألف، فأقبل رجل من الخوارج من عبد القيس من خلفها بالسيف فضرب عنقها، فأخذوه ورفعوه إلى قطري بن الفجاءة، فقالوا: يا أمير المؤمنين، إن هذا استهلك تسعين ألفا من بيت المال وقتل أمة من إماء المؤمنين.
فقال له: ما تقول؟ قال: يا أمير المؤمنين، إني رأيت هؤلاء الإسماعيلية والإسحاقية قد تنازعوا عليها حتى ارتفعت الأصوات واحمرت الحدق، فلم يبق إلا الخبط بالسيوف، فرأيت أن تسعين ألفا في جنب ما خشيت من الفتنة بين المسلمين هينة. فقال قطري:
خلّوا عنه، عين من عيون الله أصابتها. قالوا: فأقد منه. قال: لا أقيد من وزعه «1» الله. ثم قدم هذا العبدي بعد ذلك البصرة، فإذا النعمان بن الجارود يستجديه بذلك السبب، فوصله وأحسن إليه.
قال: أبو عبيدة: مر عبد الله بن الأهتم بقوم من الموالي وهم يتذاكرون النحو، فقال: لئن أصلحتموه إنكم لأول من أفسده. قال أبو عبيدة: ليته سمع لحن صفوان وخاقان ومؤمل بن خاقان.
الأصمعي قال: قدم أبو مهدية الأعرابي من البادية فقال له رجل: أبا مهدية أتتوضئون بالبادية؟ قال: والله يا ابن أخي لقد كنا نتوضأ فتكفينا التوضئة الواحدة(3/362)
ثلاثة الأيام والأربعة، حتى دخلت علينا هذه الحمراء- يعني الموالي- فجعلت تليق استاهها بالماء كما تلاق»
الدواة.
ونظر رجل من الأعراب إلى رجل من الموالي يستنجي بماء كثير، فقال له: إلى كم تغسلها ويلك! أتريد أن تشرب بها سويقا! وكان عقيل بن علقمة المرّي أشدّ الناس حميّة في العرب، وكان ساكنا في البادية، وكان يصهر إليه الخلفاء؛ وقال لعبد الملك بن مروان وخطب إليه ابنته الجرباء: جنّبني هجناء ولدك. وهو القائل:
كنّا بنو غيظ رجالا فأصبحت ... بنو مالك غيظا وصرنا لمالك
لحى الله دهرا ذعذع المال كلّه ... وسوّد أشباه الإماء العوارك «2»
وقال ابن أبي ليلى: قال لي عيسى بن موسى وكان جائرا شديد العصبية: من كان فقيه البصرة؟ قلت: الحسن بن أبي الحسن. قال: ثم من؟ قلت: محمد بن سيرين. قال:
فما هما؟ قلت: موليان.
قال: فمن كان فقيه مكة؟ قلت: عطاء بن أبي رباح، ومجاهد بن جبر، وسعيد ابن جبير، وسليمان بن يسار. قال: فما هؤلاء؟ قلت موالي.
فتغير لونه، ثم قال: فمن أفقه أهل قباء؟ قلت ربيعة الرأي، وابن أبي الزناد، قال: فما كانا؟ قلت من الموالي.
فاربدّ وجهه، ثم قال: فمن كان فقيه اليمن؟ قلت: طاوس، وابنه وهمام بن منبه.
قال: فما هؤلاء؟ قلت: من الموالي.
فانتفخت أوداجه فانتصب قاعدا، [ثم] قال: فمن كان فقيه خراسان؟ قلت:
عطاء بن عبد الله الخراساني. قال: فما كان عطاء هذا؟ قلت: مولى.(3/363)
فازداد وجهه تربّدا واسودّ اسوادادا حتى خفته، ثم قال: فمن كان فقيه الشام؟
قلت: مكحول. قال: فما كان مكحول هذا؟ قلت: مولى.
فازداد تغيّظا وحنقا؛ ثم قال: فمن كان فقيه الجزيرة؟ قلت: ميمون بن مهران.
قال: فما كان؟ قلت: مولى.
قال: فتنفس الصعداء، ثم قال: فمن كان فقيه الكوفة؟ قلت: فو الله لولا خوفه لقلت: الحكم بن عيينة، وعمار بن أبي سليمان، ولكن رأيت فيه الشر، فقلت:
إبراهيم، والشعبي. قال: فما كانا؟ قلت: عربيان. قال: الله أكبر! وسكن جأشه.
وذكر عمرو بن بحر الجاحظ، في كتاب الموالي والعرب: أن الحجاج لما خرج عليه ابن الأشعث وعبد الله بن الجارود، ولقي ما لقي من قراء أهل العراق وكان أكثر من قاتله وخلعه وخرج عليه، الفقهاء والمقاتلة والموالي من أهل البصرة؛ فلما علم أنهم الجمهور الأكبر والسواد الأعظم، أحب أن يسقط ديوانهم ويفرق جماعتهم حتى لا يتألفوا ولا يتعاقدوا، فأقبل على الموالي وقال: أنتم علوج «1» وعجم، وقراكم أولى بكم.
ففرقهم وفض جمعهم كيف أحب وصيّرهم كيف شاء، ونقش على يد كل رجل منهم اسم البلدة التي وجّهه إليها؛ وكان الذي تولى ذلك منهم رجل من بني سعد بن عجل ابن لجيم، يقال له خراش بن جابر؛ وقال شاعرهم:
وأنت من نقش العجليّ راحته ... وفرّ شيخك حتى عاذ بالحكم
يريد: الحكم بن أيوب الثقفي عامل الحجاج على البصرة.
وقال آخر، وهو يعني أهل الكوفة، وقد كان قاضيهم رجلا من الموالي يقال له:
نوح بن درّاج:
إنّ القيامة فيما أحسب اقتربت ... إذ كان قاضيكم نوح بن درّاج(3/364)
لو كان حيا له الحجّاج ما بقيت ... صحيحة كفّه من نقش حجّاج
وقال آخر:
جارية لم تدر ما سوق الإبل ... أخرجها الحجاج من كنّ وظلّ «1»
لو كان عمرو شاهدا وابن جبل ... ما نقشت كفاك من غير جدل
ويروى أن أعرابيا من بني العنبر دخل على سوّار القاضي فقال: إن أبي مات وتركني وأخا لي- وخط خطّين- ثم قال: وهجينا- ثم خط خطا ناحية- فكيف يقسم المال؟ فقال له سوار: هاهنا وارث غيركم؟ قال: لا. قال: فالمال بينكم أثلاثا. قال:
ما أحسبك فهمت عني، إنه تركني وأخي وهجينا، فكيف يأخذ الهجين كما آخذ أنا وكما يأخذ أخي؟ قال: أجل. فغضب الأعرابي ثم أقبل على سوّار فقال: ما علمت والله، إنك قليل الخالات بالدهناء. «2» قال سوار: لا يضرّني ذلك عند الله تعالى شيئا.
تم الجزء الثالث من كتاب العقد الفريد لابن عبد ربه؛ ويليه- إن شاء الله تعالى الجزء الرابع. وأوله: كتاب العسجدة: في كلام الأعراب.(3/365)
الجزء الرابع
كتاب العسجدة في كلام الأعراب
فرش كتاب العسجدة
قال أحمد بن محمد بن عبد ربه: قد مضى قولنا في النسب الذي هو سبب التعارف، وسلم إلى التواصل، وفي تفضيل العرب، وفي كلام بعض الشعوبية، ونحن قائلون بعون الله وتوفيقه في كلام الأعراب خاصة؛ إذ كان أشرف الكلام حسبا، وأكثره رونقا، وأحسنه ديباجا، وأقله كلفة، وأوضحه طريقة؛ وإذ كان مدار الكلام كله عليه، ومنتسبه إليه.
خالد بن صفوان وأعرابي:
قال رجل من منقر: تكلم خالد بن صفوان بكلام في صلح لم يسمع الناس كلاما قبله مثله، وإذا بأعرابيّ في بت «1» ، ما في رجليه حذاء، فأجابه بكلام وددت أني متّ قبل أن أسمعه، فلما رأى خالد ما نزل بي قال لي: ويحك! كيف نجاريهم وإنما نحاكيهم؟ أم كيف نسابقهم وإنما نجري بما سبق إلينا من أعراقهم؟ قلت له: أبا صفوان، والله ما ألومك في الأولى، ولا أدع حمدك على الأخرى.
بين أعرابي وربيعة في مثله:
وتكلم ربيعة الرأي يوما بكلام في العلم فأكثر، فكأن العجب داخله، فالتفت إلى أعرابي إلى جنبه فقال: ما تعدّون البلاغة يا أعرابيّ؟ قال: قلة الكلام وإيجاز الصواب. قال: فما تعدّون العيّ؟ قال: ما كنت فيه منذ اليوم. فكأنما ألقمه حجرا «2» .(4/3)
قول الأعراب في الدعاء
قال عمر بن عبد العزيز رضي الله عنه: ما قوم أشبه بالسلف من الأعراب، لولا جفا فيهم.
وقال غيلان: إذا أردت أن تسمع الدعاء فاسمع دعاء الأعراب.
قال أبو حاتم: أملى علينا أعرابي يقال له مرثد: اللهم اغفر لي والجلد بارد، والنفس رطبة، واللسان منطلق، والصحف منشورة، والأقلام جارية، والتوبة مقبولة، والأنفس مريحة، والتضرع مرجوّ، قبل أزّ «1» العروق، وحشك «2» النفس، وعلز «3» الصدر، وتزيّل الأوصال، ونصول الشعر، وتحيّف «4» التراب؛ وقبل أن لا أقدر على استغفارك حتى يفنى الأجل، وينقطع العمل. أعنّي على الموت وكربته، وعلى القبر وغمّته، وعلى الميزان وخفّته، وعلى الصراط وزلّته، وعلى يوم القيامة وروعته؛ اغفر لي مغفرة واسعة لا تغادر ذنبا، ولا تدع كربا؛ اغفر لي جميع ما افترضت عليّ ولم أؤدّه إليك؛ اغفر لي جميع ما تبت إليك منه ثم عدت فيه يا رب تظاهرت عليّ منك النعم، وتداركت عندك مني الذنوب؛ فلك الحمد على النعم التي تظاهرت، وأستغفرك الذنوب التي تداركت. أمسيت عن عذابي غنيا، وأصبحت إلى رحمتك فقيرا؛ اللهم إني أسألك نجاح الأمل عند انقطاع الأجل، اللهم أجعل خير عملي ما وليّ أجلي؛ اللهم اجعلني من الذين إذا أعطيتهم شكروا، وإذا ابتليتهم صبروا، وإذا أذكرتهم ذكروا، واجعل لي قلبا توّابا أوّابا، لا فاجرا ولا مرتابا. اجعلني من الذين إذا أحسنوا ازدادوا، وإذا أساءوا استغفروا، اللهم لا تحقق عليّ العذاب، ولا تقطع بي الأسباب، واحفظني في كل ما تحيط به شفقتي، ويأتي من ورائه سبحتي «5» ، وتعجز عنه قوّتي، أدعوك دعاء ضعيف عمله، متظاهرة ذنوبه، ضنين على نفسه- دعاء من(4/4)
بدنه ضعيف، ومنّته عاجزة؛ قد انتهت عدّته، وخلقت جدته، وتم ظمؤه؛ لا تخيبني وأنا أرجوك، ولا تعذبني وأنا أدعوك، والحمد لله على طول النسيئة، وحسن التباعة، وتشنج العروق، وإساغة الريق، وتأخر الشدائد؛ والحمد لله على حلمه بعد علمه، وعلى عفوه بعد قدرته؛ والحمد لله الذي لا يودى قتيله، ولا يخيب سوله، ولا يردّ رسوله. اللهم إني أعوذ بك من الفقر إلا إليك، ومن الذل إلا لك؛ وأعوذ بك أن أقول زورا، أو أغشى فجورا، أو أكون بك مغرورا؛ وأعوذ بك من شماتة الأعداء، وعضال «1» الداء، وخيبة الرجاء، وزوال النعمة، وفجاءة النقمة.
دعا أعرابي وهو يطوف بالكعبة فقال: إلهي، من أولى بالتقصير والزلل مني وأنت خلقتني، ومن أولى بالعفو منك عني وعلمك بي ماض، وقضاؤك بي محيط؛ أطعتك بقوتك والمنة لك، وعصيتك بعلمك، فأسألك يا إلهي بوجوب رحمتك، وانقطاع حجّتي، وافتقاري إليك، وغناك عني- أن تغفر لي وترحمني، إلهي لم أحسن حتى أعطيتني. فتجاوز عن الذنوب التي كتبت عليّ، اللهم إنا أطعناك في أحب الأشياء إليك: شهادة أن لا إله إلا أنت وحدك لا شريك لك، ولم نعصك في أبغض الأشياء إليك: الشرك بك؛ فاغفر لي ما بين ذلك؛ اللهم إنك آنس المؤنسين لأوليائك، وأحضرهم للمتوكلين عليك. إلهي أنت شاهدهم وغائبهم، والمطلع على ضمائرهم، وسرّي لك مكشوف، وأنا إليك ملهوف؛ إذا أوحشتني الغربة، آنسني ذكرك؛ وإذا أكبت عليّ الغموم، لجأت إلى الاستجارة بك؛ علما بأن أزمة «2» الأمور كلها بيدك، ومصدرها عن قضائك، فأقللني إليك مغفورا لي، معصوما بطاعتك باقي عمري، يا أرحم الراحمين.
الأصمعي قال: حججت فرأيت أعرابيا يطوف بالكعبة ويقول: يا خير موفود سعى إليه الوفد، قد ضعفت قوّتي، وذهبت منتي، وأتيت إليك بذنوب لا تغسلها الأنهار ولا تحملها البحار؛ أستجير برضاك من سخطك، وبعفوك من عقوبتك، ثم(4/5)
التفت فقال: أيها المشفقون، ارحموا من شملته الخطايا، وغمرته البلايا، ارحموا من قطع البلاد، وخلف ما ملك من التلاد «1» ؛ ارحموا من وبخته الذنوب، وظهرت منه العيوب؛ ارحموا أسير ضرّ، وطريد فقر. أسألكم بالذي أعملتكم الرغبة إليه، إلا ما سألتم الله أن يهب لي عظيم جرمي. ثم وضع في حلقة الباب خدّه وقال: ضرع خدّي لك، وذل مقامي بين يديك، ثم أنشأ يقول:
عظيم الذنب مكروب ... من الخيرات مسلوب
وقد أصبحت ذا فقر ... وما عندك مطلوب
العتبي قال: سمعت أعرابيا بعرفات عشية عرفة وهو يقول: اللهم إن هذه عشية من عشايا محبتك، وأحد أيام زلفتك، يأمل فيها من لجأ إليك من خلقك، أن لا يشرك بك شيئا بكل لسان فيها يدعى، ولكل خير فيها يرجى؛ أتتك العصاة من البلد السحيق، ودعتك العناة من شعب المضيق؛ رجاء ما لا خلف له من وعدك، ولا انقطاع له من جزيل عطائك؛ أبدت لك وجوهها المصونة، صابرة على وهج السمائم «2» ، وبرد الليالي، ترجو بذلك رضوانك؛ يا غفار، يا مستزادا من نعمه، ومستعاذا من نقمه، ارحم صوت حزين دعاك بزفير وشهيق. ثم بسط كلتا يديه إلى السماء، وقال: اللهم إن كنت بسطت يدي إليك راغبا، فطالما كفيتنيه؛ ساهيا بنعمتك التي تظاهرت عليّ عند الغفلة، فلا أيأس منها عند التوبة: ولا تقطع رجائي منك لما قدمت من افتراف، وهب لي الإصلاح في الولد، والأمن في البلد، والعافية في الجسد، إنك سميع مجيب.
ودعا أعرابي فقال: يا عماد من لا عماد له، ويا ركن من لا ركن له، ويا مجير الضعفاء، ويا منقذ الهلكى، ويا عظيم الرجاء، أنت الذي سبح لك سواد الليل وبياض النهار، وضوء القمر وشعاع الشمس، وحفيف الشجر ودوي الماء؛ يا محسن، يا مجمل، يا مفضل، لا أسألك الخير بخير هو عندك، ولكني أسألك برحمتك، فاجعل العافية لي(4/6)
شعارا ودثارا «1» ، وجنّة دون كل بلاء.
الأصمعي قال: خرجت أعرابية إلى منى فقطع بها الطريق، فقالت: يا رب، أخذت وأعطيت وأنعمت وسلبت، وكل ذلك منك عدل وفضل، والذي عظّم على الخلائق أمرك؛ لا بسطت لساني بمسألة أحد غيرك، ولا بذلت رغبتي إلا إليك يا قرة أعين السائلين، أغنني بجود منك أتبحبح في فراديس نعمته، وأتقلب في رواق نضرته، احملني من الرجلة «2» ، وأغنني من العيلة، وأسدل عليّ سترك الذي لا تخرقه الرماح، ولا تزيله الرياح، إنك سميع الدعاء.
قال: وسمعت أعرابيا في فلاة من الأرض وهو يقول في دعائه: اللهم إن استغاري إياك مع كثرة ذنوبي للؤم، وإن تركي الاستغفار مع معرفتي بسعة رحمتك لعجز! إلهي كم تحببت إليّ بنعمتك وأنت غنيّ عني، وكم أتبغّض إليك بذنوبي وأنا فقير إليك! سبحان من إذا توعد عفا، وإذا وعد وفى.
قال: وسمعت أعرابيا يقول في دعائه: اللهم إن ذنوبي إليك لا تضرّك، وإن رحمتك إياي لا تنقصك؛ فاغفر لي مالا يضرك، وهب لي مالا ينقصك.
قال: وسمعت أعرابيا وهو يقول في دعائه: اللهم إني أسألك عمل الخائفين، وخوف العاملين، حتى أتنعم بترك النعم طمعا فيما وعدت، وخوفا مما أوعدت اللهم أعذني من سطواتك؛ وأجرني من نقماتك؛ سبقت لي ذنوب وأنت تغفر لمن يتوب؛ إليك بك أتوسل، ومنك إليك أفرّ.
قال: وسمعت أعرابيا يقول: اللهم إن أقواما آمنوا بك بألسنتهم ليحقنوا دماءهم فأدركوا ما أمّلوا، وقد آمنا بك بقلوبنا لتجيرنا من عذابك فأدرك منا ما أمّلناه.
قال: ورأيت أعرابيا متعلقا بأستار الكعبة رافعا يديه إلى السماء وهو يقول رب،(4/7)
أتراك معذبنا وتوحيدك في قلوبنا، وما إخالك تفعل! ولئن فعلت لتجمعنّا مع قوم طالما أبغضناهم لك.
الأصمعي قال: سمعت أعرابيا يقول في صلاته: الحمد لله حمدا لا يبلى جديده ولا يحصى عديده، ولا يبلغ حدوده؛ اللهم اجعل الموت خير غائب ننتظره، واجعل القبر خير بيت نعمره، واجعل ما بعده خيرا لنا منه؛ اللهم إن عينيّ قد اغرورقتا دموعا من خشيتك؛ فاغفر الزلة، وعد بحلمك على جهل من لم يرج غيرك.
الأصمعي قال: وقف أعرابي في بعض المواسم فقال: اللهم إن لك عليّ حقوقا فتصدّق بها عليّ، وللناس قبلي تباعات فتحملها عني؛ وقد وجب لكل ضيف قرى «1» ، وأنا ضيفك الليلة، فاجعل قراي فيها الجنة.
قال: ورأيت أعرابيا أخذ بحلقتي باب الكعبة وهو يقول: سائلك عبد بابك ذهبت أيامه، وبقيت آثامه، وانقطعت شهوته، وبقيت تباعته فارض عنه، وإن لم ترض عنه فاعف عنه غير راض.
قال: ودعا أعرابي عند الكعبة، فقال: اللهم إنه لا شرف إلا بفعال، ولا فعال إلا بمال؛ فأعطني ما أستعين به على شرف الدنيا والآخرة.
قال زيد بن عمر: سمعت طاوسا يقول: بينا أنا بمكة إذا دفعت إلى الحجاج بن يوسف، فثني لي وسادا فجلست، فبينا نحن نتحدث إذ سمعت صوت أعرابي في الوادي رافعا صوته بالتلبية، فقال الحجاج: عليّ بالملبّي. فأتي به، فقال: من الرجل؟
قال: من أفناء «2» الناس. قال: ليس عن هذا سألتك. قال: فعمّ سألتني؟ قال: من أي البلدان أنت؟ قال: من أهل اليمن. قال له الحجاج: فكيف خلفت محمد بن يوسف؟
يعني أخاه، وكان عامله على اليمن؛ قال: خلفته عظيما جسيما خرّاجا ولّاجا. قال:
ليس عن هذا سألتك. قال: فعمّ سألتني؟ قال: كيف خلّفت سيرته في الناس؟ قال:(4/8)
خلفته ظلوما غشوما عاصيا للخالق مطيعا للمخلوق! فازورّ «1» من ذلك الحجاج، وقال: ما أقدمك على هذا وقد تعلم مكانته مني؟ فقال له الأعرابي أفتراه بمكانته منك أعزّ مني بمكانتي من الله تبارك وتعالى، وأنا وافد بيته، وقاضي دينه، ومصدّق نبيه صلّى الله عليه وسلم! قال: فوجم لها الحجاج ولم يجر له جوابا، حتى خرج الرجل بلا إذن. قال طاوس: فتبعته حتى أتى الملتزم فتعلق بأستار الكعبة، فقال: بك أعوذ، وإليك ألوذ، فاجعل لي في اللهف إلى جوارك والرضا بضمانك مندوحة عن منع الباخلين، وغنى عما في أيد المستأثرين؛ اللهم عد بفرجك القريب، ومعروفك القديم، وعادتك الحسنة.
قال طاوس: ثم اختفى في الناس فألفيته بعرفات قائما على قدميه وهو يقول: اللهم إن كنت لم تقبل حجّي ونصبي وتعبي فلا تحرمني أجر المصاب على مصيبته فلا أعلم مصيبة أعظم ممن ورد حوضك وانصرف محروما من وجه رحمتك.
الأصمعي قال: رأيت أعرابيا يطوف بالكعبة وهو يقول: إلهي عجّت «2» إليك الأصوات بضروب من اللغات يسألونك الحاجات، وحاجتي إليك إلهي أن تذكرني على طول البلاء إذا نسيني أهل الدنيا. اللهم هب لي حقك، وأرض عني خلقك، اللهم لا تعيني بطلب ما لم تقدّره لي، وما قدرته لي فيسّره لي.
قال: ودعت أعرابية لابن لها وجهته إلى حاجة، فقالت: كان الله صاحبك في أمرك، وخليفتك في أهلك، ووليّ نجح «3» طلبتك. امض مصاحبا مكلوءا، لا أشمت الله بك عدوّا، ولا أرى محبيك فيك سوءا.
قال: ومات ابن لأعرابي فقال: اللهم إني وهبت له ما قصر فيه من بري، فهب له ما قصّر فيه من طاعتك، فانك فإنك أجود وأكرم.(4/9)
قولهم في الرقائق
العتبي قال: ذكر أعرابي مصيبة فقال: والله تركت سود الرءوس بيضا، وبيض الوجوه سودا، وهوّنت المصائب بعدها.
أخذ هذا المعنى بعض الشعراء فقال يرثي آل أبي سفيان:
رمى الحدثان نسوة آل حرب ... بمقدار سمدن له سمودا «1»
فردّ شعورهن السود بيضا ... وردّ وجوههن البيض سودا
فإنك إذ سمعت بكاء هند ... ورملة إذ يلطمن الخدودا
بكيت بكاء موجعة بحزن ... أصاب الدهر واحدها الفريدا
قال: قيل لأعرابية أصيبت بابنها: ما أحسن عزاءك قالت: إنّ فقدي إياه أمّنني كل فقد سواه، وإن مصيبتي به هوّنت علي المصائب بعده؛ ثم أنشأت تقول:
من شاء بعدك فليمت ... فعليك كنت أحاذر
كنت السواد لمقلتي ... فعليك يبكي الناظر
ليت المنازل والدّيا ... ر حفائر ومقابر
وقيل لأعرابي: كيف حزنك على ولدك؟ قال: ما ترك همّ الغداء والعشاء لي حزنا! وقيل لأعرابي: ما أذهب شبابك؟ قال: من طال أمده، وكثر ولده، وكثر ولده، وذهب جلده: ذهب شبابه.
وقيل لأعرابي: ما أنحل جسمك؟ قال: سوء الغذاء، وجدوبة المرعى، واختلاج الهموم في صدري. ثم أنشأ يقول:
الهمّ مالم تمضه لسبيله ... داء تضمّنه الضّلوع عظيم
ولرّبما استيأست ثم أقول لا ... إنّ الذي ضمن النجاح كريم(4/10)
وقيل لأعرابي قد أخذته السن: كيف أصبحت؟ قال: أصبحت تقيّدني الشعرة، وأعثر في البعرة «1» ؛ قد أقام الدهر صعري بعد أن أقمت صعره.
وقال أعرابي: لقد كنت أنكر البيضاء فصرت أنكر السوداء، فيا خير مبدول ويا شرّ بدل! وقال أعرابي:
إذا الرجال ولدت أولادها ... وجعلت أسقامها تعتادها
واضطربت من كبر أعضادها ... فهي زروع قد دنا حصادها
وذكر أعرابي قطيعة بعض إخوانه، فقال: صفرت «2» عياب الودّ بعد امتلائها واكفهرت وجوه كانت بمائها؛ فأدبر ما كان مقبلا، وأقبل ما كان مدبرا.
وذكر أعرابي منزلا باد أهله، فقال: منزل والله رحلت عنه ربات الخدور وأقامت فيه أثافيّ «3» القدور، وقد اكتسى بالنبات كأنما ألبس الحلل؛ وكان أهله يعفّون فيه آثار الرياح، وأصبحت الريح تعفّي آثارهم فالعهد قريب والملتقى بعيد.
ذكر أعرابي قوما تغيرت أحوالهم، فقال: أعين والله كحلت بالعبرة بعد الحبرة «4» ، وأ نفس لبست الحزن بعد السرور.
وذكر أعرابي قوما تغيرت حالهم، فقال: كانوا والله في عيش رقيق الحواشي فطواه الدهر بعد سعة، حتى يبست أبدانهم من القر، ولم أر صاحبا أغرّ من الدنيا، ولا ظالما أغشم من الموت؛ ومن عصف به الليل والنهار أردياه، ومن وكل به الموت أفناه.
وقف أعرابي على دار قد باد أهلها، فقال: دار والله معتصرة للدموع، حطت بها(4/11)
السحاب أثقالها، وجرّت بها الرياح أذيالها.
وذكر أعرابي رجلا تغيرت حاله، فقال: طويت صحيفته وذهب رزقه، فالبلاء مسرع إليه، والعيش عنه قابض كفّيه.
وذكر أعرابي رجلا ضاق عيشه بعد سعة، فقال: كان والله في ظل عيش ممدود، فقدحت عليه من الدهر زند عين كابية الزند.
الأصمعي قال: أنشدني العقيل لأعرابية ترثي ابنها:
ختلته المنون بعد اختيال ... بين صفّين من قنا ونصال
في رداء من الصفيح صقيل ... وقميص من الحديد مذال «1»
كنت أخباك لاعتداء يد الدهر ولم تخطر المنون ببالي وقال أعرابي يرثي ابنه:
دفنت بكفي بعض نفسي فأصبحت ... وللنّفس منها دافن ودفين
وقال أعرابي: إن الدنيا تنطق بغير لسان فتخبر عما يكون بما قد كان.
خرج أعرابي: هاربا من الطاعون؛ فبينا هو سائر إذ لدغته أفعى فمات، فقال فيه أبوه:
طاف يبغي نجوة ... من هلاك فهلك
ليت شعري ضلّة ... أيّ شيء قتلك
والمنايا رصد ... للفتى حيث سلك
كلّ شيء قاتل ... حين تلقى أجلك
وذكر أعرابي بلدا فقال: بلد كالتّرس «2» ، ما تمشي فيه الرياح إلا عابرات سبيل، ولا يمر فيها السّفر إلا بأدلّ دليل.(4/12)
قولهم في الاستطعام
معن بن زائدة وأعرابي:
قدم أعرابي من بني كنانة على معن بن زائدة وهو باليمن، فقال: إني والله ما أعرف سببا بعد الإسلام والرحم أقوى من رحلة مثلي من أهل السن والحسب إليك من بلاده، بلا سبب ولا وسيلة إلا دعاءك إلى المكارم، ورغبتك في المعروف؛ فإن رأيت أن تضعني من نفسك بحيث وضعت نفسي من رجائك فافعل. فوصله وأحسن إليه.
لأعرابي
: الربيع بن سليمان قال: سمعت الشافعي رضي الله عنه يقول: وقف أعرابي على قوم فقال: إنا- رحمكم الله- أبناء سبيل، وأنضاء طريق وفلّال «1» سنة؛ رحم الله امرأ أعطى عن سعة، وواسى من كفاف. فأعطاه رجل درهما، فقال: آجرك الله من غير أن يبتليك.
لآخر
: ووقف أعرابي بقوم فقال: يا قوم، تتابعت علينا سنون جماد شداد، لم يكن للسماء فيها رجع، ولا للأرض فيها صدع، فنضب العدّ، ونشف الوشل، وأمحل الخصب، وكلح الجدب، وشف المال، وكسف البال، وشظف المعاش، وذهب الرياش؛ وطرحتني الأيام إليكم غريب الدار، نائي المحل، ليس لي مال أرجع إليه، ولا عشيرة ألحق بها؛ فرحم الله امرأ رحم اغترابي، وجعل المعروف جوابي.
المهدي في الطواف:
خرج المهدي يطوف بعد هدأة من الليل، فسمع أعرابية من جانب المسجد وهي تقول: قوم معوزون، نبت عنهم العيون، وفدحتهم الديون، وعضتهم السنون؛ باد(4/13)
رخالهم «1» ، وذهبت أموالهم، أبناء سبيل، وأنضاء طريق، وصية الله ووصية رسوله صلّى الله عليه وسلم، فهل من آمر بخير، كلأه الله في سفره، وخلفه في أهله؟ فأمر نصيرا الخادم، فدفع إليها خمسمائة درهم.
خزيمة في إبل أغير عليها:
الأصمعي قال: أغير على إبل خزيمة، فركب بحيرة»
، فقيل له: أتركب حراما؟ قال: يركب الحرام من لا حلال له.
وقال أعرابي:
بين عتبة بن أبي سفيان وأعرابي:
يا ليت لي نعلين من جلد الضّبع ... كلّ الحذاء يحتذي الحافي الوقع «3»
أبو الحسن قال: اعترض أعرابي لعتبة بن أبي سفيان وهو على مكة فقال: أيها الخليفة. قال: لست به ولم تبعد. قال: فيا أخاه! قال: اسمعت فقل. قال: شيخ من بني عامر يتقرب إليك بالعمومة ويختص بالخئولة، ويشكو إليك كثرة العيال، ووطأة الزمان، وشدة فقر، وترادف ضر، وعندك ما يسعه ويصرف عنه بؤسه فقال عتبة أستغفر الله منك، وأستعينه عليك، قد أمرت لك بغناك، فليت إسراعنا إليك يقوم بإبطائنا عنك.
وسأل أعرابي فقال: رحم الله مسلما لم تمجّ أذناه كلامي، وقدم لنفسه معاذا من مقامي، فإن البلاد مجدية، والدار مضيعة، والحياء زاجر يمنع من كلامكم، والعدم عاذر يدعو إلى إخباركم؛ والدعاء إحدى الصدقتين، فرحم الله امرأ يمير وداعيا يجير.
فقال له بعض القوم: ممن الرجل؟ فقال: ممن لا تنفعكم معرفته، ولا تضركم جهالته.
ذلّ الاكتساب، يمنع من عز الانتساب.(4/14)
أعرابي أغير على إبله:
العتبي قال: قدم علينا أعرابي في فشّاش «1» ، قد أطردت «2» الّلصاص إبله، فجمعت له شيئا من أهل المسجد، فلما دفعت إليه الدراهم أنشأ يقول:
لا والذي أنا عبد في عبادته ... لولا شماتة أعداء ذوي إحن
ما سرّني أنّ إبلي في مباركها ... وأنّ أمرا قضاه الله لم يكن
أخذ هذا المعنى بعض المحدثين فقال:
لولا شماتة أعداء ذوي حسد ... وأن أنال بنفعي من يرجّيني
لما خطبت إلى الدّنيا مطالبها ... ولا بذلت لها عرضي ولا ديني
لكن منافسة الأكفاء تحملني ... على أمور أراها سوف ترديني
وقد خشيت بأن أبقى بمنزلة ... لا دين عندي ولا دنيا تواتيني
بين خالد القسري وأعرابي:
العتبي قال: دخل أعرابي على خالد بن عبد الله القسري، فلما مثل بين يديه أنشأ يقول:
أصلحك الله قلّ ما بيدي ... فما أطيق العيال إذ كثروا
أناخ دهر ألقى بكلكله ... فأرسلوني إليك وانتظروا
قال: أرسلوك وانتظروا؟ والله لا تجلس حتى تعود إليهم بما يسرهم! فأمر له بأربعة أبعرة موقورة «3» برّا وتمرا وخلع عليه.
ابن طوق وأعرابي:
الشيباني قال: أقبل أعرابي إلى مالك بن طوق، فأقام بالرحبة حينا، وكان الأعرابي من بني أسد صعلوكا في عباءة صوف وشملة شعر، فكلما أراد الدخول(4/15)
منعه الحجاب، وشتمه العبيد، وضربه الأشراط؛ فلما كان في بعض الأيام خرج مالك بن طوق يريد التنزه حول الرحبة، فعارضه الأعرابي، فضربوه ومنعوه، فلم يثنه ذلك حتى أخذ بعنان فرسه، ثم قال: أيها الأمير، إني عائذ بالله من أشراطك هؤلاء! فقال مالك: دعوا الأعرابي؛ هل من حاجة يا أعرابي؟ قال: نعم أصلح الله الأمير؛ أن تصغى إليّ بسمعك، وتنظر إليّ بطرفك، وتقبل إليّ بوجهك. قال: نعم. فأنشأ الأعرابي يقول:
ببابك دون الناس أنزلت حاجتي ... وأقبلت أسعى حوله وأطوف
ويمنعني الحجّاب والسّتر مسبل ... وأنت بعيد والشروط صفوف «1»
يدورون حولي في الجلوس كأنهم ... ذئاب جياع بينهنّ خروف
فأمّا وقد أبصرت وجهك مقبلا ... فأصرف عنه إنني لضعيف
ومالي من الدّنيا سواك ولا لمن ... تركت ورائي مربع ومصيف
وقد علم الحيّان قيس وخندف ... ومن هو فيها نازل وحليف
تخطّيت أعناق الملوك ورحلتي ... إليك وقد حنّت إليك صروف
فجئتك أبغي اليسر منك فمرّ بي ... ببابك من ضرب العبيد صنوف
فلا تجعلن لي نحو بابك عودة ... فقلبي من ضرب الشّروط مخوف
فاستضحك مالك حتى كاد أن يسقط عن فرسه؛ ثم قال لمن حوله: من يعطيه درهما بدرهمين وثوبا بثوبين؟ فوقعت عليه الثياب والدراهم من كل جانب حتى تحير الأعرابي؛ ثم قال له: هل بقيت لك حاجة يا أعرابي؟ قال: أما إليك فلا! قال: فإلى من؟ قال: إلى الله أن يبقيك للعرب؛ فإنها لا تزال بخير ما بقيت لها.
دخل أعرابي إلى هشام بن عبد الملك، فقال: يا أمير المؤمنين، أتت علينا ثلاثة أعوام: فعام أذاب الشحم، وعام أكل اللحم، وعام انتقى العظم «2» ؛ وعندكم أموال، فإن تكن لله فبثوها في عباد الله، وإن تكن للناس فلم تحجب عنهم، وإن تكن لكم(4/16)
فتصدقوا؛ إن الله يجزي المتصدقين! قال هشام: هل من حاجة غير هذه يا أعرابي؟
قال: ما ضربت إليك أكباد الإبل أدّرع الهجير، وأخوض الدجا لخاصّ دون عام، ولا خير في خير لا يعم. فأمر له هشام بأموال فرّقت في الناس؛ وأمر للأعرابي بمال فرّقه في قومه.
لبعض الأعراب:
طلب أعرابي من رجل حاجة فوعده قضاءها؛ فقال الأعرابي: إن من وعد قضى الحاجة وإن كثرت؛ والمطل من غير عسر آفة الجود.
وقال أعرابي، وأتى رجلا لم تكن بينهما حرمة في حاجة له، فقال: إني امتطيت إليك الرجاء، وسرت على الأمل، ووفدت بالشكر، وتوسلت بحسن الظن: فحقق الأمل، وأحسن المثوبة، وأكرم القصد، وأتم الود، وعجل المراد.
وقف أعرابي على حلقة يونس النحوي، فقال: الحمد لله، وأعوذ بالله أن أذكر به وأنساه، إنا أناس قدمنا هذه المدينة ثلاثون رجلا؛ لا ندفن ميتا؛ ولا نتحول من منزل وإن كرهناه؛ فرحم الله عبدا تصدّق على ابن سبيل، ونضو «1» طريق، ورسل سنة؛ فإنه لا قليل من الأجر؛ ولا غني عن الله، ولا عمل بعد الموت؛ يقول الله عز وجل: مَنْ ذَا الَّذِي يُقْرِضُ اللَّهَ قَرْضاً حَسَناً
«2» إن الله لا يستقرض من عوز؛ ولكن ليبلو خيار عباده.
وقف أعرابي في شهر رمضان على قوم؛ فقال: يا قوم لقد ختمت هذه الفريضة على أفواهنا من صبح أمس، ومعي بنتان لي، والله ما علمتهما تخلالا بخلال؛ فهل رجل كريم يرحم اليوم مقامنا، ويرد حشاشتنا؛ منعه الله أن يقوم مقامي فإنه مقام ذل وعار وصغار! فافترق القوم ولم يعطوه شيئا! فالتفت إليهم حتى تأملهم جميعا، ثم(4/17)
قال: أشدّ والله عليّ من سوء حالي وفاقتي، توهّمي فيكم المواساة! انتعلوا الطريق لاصحبكم الله.
الأصمعي قال: وقف أعرابيّ علينا فقال: يا قوم، تتابعت علينا سنون بتغير وانتفاص، فما تركت لنا هبعا ولا ربعا «1» ، ولا عافطة ولا نافطة «2» ، ولا ثاغية ولا راغية «3» ؛ فأماتت الزرع، وقتلت الضرع، وعندكم من مال الله فضل نعمة؛ فأعينوني من فضل ما آتاكم الله، وارحموا أبا أيتام، ونضو زمان «4» ؛ فلقد خلفت أقواما يمرضون مريضهم ولا يكفنون ميتهم، ولا ينتقلون من منزل إلى منزل وإن كرهوه؛ ولقد مشيت حتى انتعلت الدماء، وجعت حتى أكلت النوى.
لأعرابية مع عبد الرحمن ابن أبي بكر:
الأصمعي قال: وقفت أعرابية من هوازن على عبد الرحمن بن أبي بكر الصديق فقالت: إني أتيت من أرض شاسعة، تهيضني هائضة «5» وترفعني رافعة في بواد برين لحمي، وهضن عظمي: وتركنني والهة، قد ضاق بي البلد، بعد الأهل والولد، وكثرة من العدد؛ لا قرابة تؤويني، ولا عشيرة تحميني، فسألت أحياء العرب: من المرتجى سيبه، المأمون عيبه، الكثير نائله، المكفيّ سائله؟ فدللت عليك؛ وأنا امرأة من هوازن، فقدت الولد والوالد، فاصنع في أمري واحدة من ثلاث: إما أن تحسن صفدي، وإما أن تقيم أودي، وإما أن تردّني إلى بلدي. قال: بل أجمعين لك! ففعل ذلك بها أجمع.
وقال أعرابي:
يا عامل الخير رزقت الجنّة ... أكس بنيّاتي وأمّهنّه
وكن لنا من الزمان جنّه ... واردد علينا إنّ إنّ إنّه
أقسمت بالله لتفعلنّه(4/18)
لبعض الأعراب:
الأصمعي قال: وقفت أعرابية فقالت: يا قوم، سنة جردت وأيد جمدت، وحال أجهدت؛ فهل من فاعل لخير، وآمر بمير؟ رحم الله من رحم، وأقرض من يقرض.
الأصمعي قال: أصابت الأعراب أعوام جدبة وشدة وجهد، فدخلت طائفة منهم البصرة وبين أيديهم أعرابي وهو يقول: أيها الناس، إخوانكم في الدين، وشركاؤكم في الإسلام، عابر وسبيل، وفلال «1» بؤس، وصرعى جدب، تتابعت علينا سنون ثلاثة، غيرت النّعم وأهلكت النّعم، فأكلنا ما بقي من جلودها فوق عظامها فلم نزل نعلل بذلك أنفسنا، ونمنّي بالغيث قلوبنا، حتى عاد محنا عظاما، وعاد إشراقنا ظلاما، وأقبلنا إليك يصرعنا الوعر، ويكننا السهل، وهذه آثار مصائبنا، لائحة في سماتنا، فرحم الله متصدقا من كثير، ومواسيا من قليل، فلقد عظمت الحاجة، وكسف البال وبلغ المجهود، والله يجزي المتصدقين.
الأصمعي قال: كنت في حلقة بالبصرة إذ وقف علينا أعرابي سائلا، فقال: أيها الناس، إن الفقر يهتك الحجاب، ويبرز الكعاب؛ وقد حملتنا سنو المصائب، ونكبات الدهور، على مركبها الوعر، فواسوا أبا أيتام، ونضو زمان، وطريد فاقة، وطريح هلكة، رحمكم الله.
أتى أعرابي عمر بن عبد العزيز فقال: رجل من أهل البادية، ساقته إليك الحاجة، وبلغت به الغاية، والله سائلك عن مقامي هذا. فقال عمر. ما سمعت أبلغ من قائل ولا أوعظ لمقول له من كلامك هذا.
سمع عدي بن حاتم رجلا من الأعراب وهو يقول: يا قوم، تصدقوا على شيخ معيل، وعابر سبيل، شهد له ظاهره، وسمع شكواه خالقه، بدنه مطلوب وثوبه(4/19)
مسلوب! فقال له: من أنت؟ قال: رجل من بني سعد في دية لزمتني، قال: فكم هي؟ قال: مائة بعير. قال: دونكها في بطن الوادي! سأل أعرابي رجلا فأعطاه، فقال: جعل الله للمعروف إليك سبيلا، وللخير عليك دليلا، ولا جعل حظّ السائل منك عذرة صادقة.
وقف أعرابي بقوم فقال: أشكو إليكم أيها الملأ زمانا كلح «1» فيّ وجهه، وأناخ عليّ كلكله، بعد نعمة من البال، وثروة من المال، وغبطة من الحال؛ اعتورتني شدائده، بنبل مصائبه، عن قسيّ نوائبه، فما ترك لي ثاغية أجتدي ضرعها، ولا راغية أرتجي نفعها، فهل فيكم من معين على صرفه، أو معد على حتفه؟ فردّ القوم عليه ولم ينيلوه شيئا؛ فأنشأ يقول:
قد ضاع من يأمل من أمثالكم ... جودا وليس الجود من فعالكم
لا بارك الله لكم في مالكم ... ولا أزاح السوء عن عيالكم
فالفقر خير من صلاح حالكم
الأصمعي قال: سأل أعرابي فلم يعط شيئا، فرفع يديه إلى السماء وقال:
يا ربّ ثقتي وذخري ... لصبية مثل صغار الذّرّ
جاءهم البردوهم بشرّ ... بغير لحف وبغير أزر
كأنهم خنافس في جحر ... تراهم بعد صلاة العصر
وكلّهم ملتصق بصدري ... فاسمع دعائي وتولّ أمري
سأل أعرابي ومعه ابنتان له، فلم يعط شيئا؛ فأنشأ يقول:
أيا ابنتيّ صابرا أباكما ... إنكما بعين من يراكما
الله مولاي وهو مولاكما ... فأخلصا لله في نجواكما
تضرّعا لا تذخرا بكاكما ... لعله يرحم من آواكما
إن تبكيا فالدهر قد أبكاكما(4/20)
هشام وأعرابي:
العتبي قال: كانت الأعراب تنتجع هشام بن عبد الملك بالخطب كل عام، فتقدّم إليهم الحاجب يأمرهم بالإيجاز، فقام أعرابي فحمد الله وأثنى عليه، ثم قال: يا أمير المؤمنين، إنّ الله تبارك وتعالى جعل العطاء محبة؛ والمنه مبغضة؛ فلأن نحبك خير من أن نبغضك! فأعطاه وأجزل له.
الأصمعي قال: وقف أعرابي غنويّ على قوم؛ فقال بعد التسليم: أيها الناس، ذهب النّيل؛ وعجف الخيل «1» ؛ وبخس الكيل؛ فمن يرحم نضو سفر، وقل سنة، ويقرض الله قرضا حسنا. لا يستقرض الله من عدم، ولكن ليبلوكم فيما آتاكم. ثم أنشأ يقول:
هل من فتى مقتدر معين ... على فقير بائس مسكين
أبي بنات وأبي بنين ... جزاه ربّي بالذي يعطيني
أفضل ما يجزى به ذو الدّين
لبعض الأعراب:
الأصمعي قال: سمعت أعرابيا يقول لرجل: أطعمك الله الذي أطعمتني له؛ فقد أحييتني بقتل جوعي، ودفعت عني سوء ظني بيومي؛ فحفظك الله على كل جنب، وفرج عنك كل كرب، وغفر لك كل ذنب.
وسأل أعرابيّ رجلا فاعتلّ عليه، فقال: إن كنت كاذبا فجعلك الله صادقا! وقال أعرابي للمأمون:
قل للإمام الذي ترجى فضائله ... رأس الأنام وما الأذناب كالراس
إني أعوذ بهرون وخفرته ... وبابن عمّ رسول الله عبّاس: «2»
من أن تشدّ رحال العيس راجعة ... إلى اليمامة بالحرمان والياس «3»(4/21)
أعرابي وزوجه في مجاعة:
الأصمعي قال: أصابت الأعراب مجاعة، فمررت برجل منهم قاعد مع زوجته بقارعة الطريق وهو يقول:
يا ربّ إني قاعد كما ترى ... وزوجتي قاعدة كما ترى
والبطن منّي جائع كما ترى ... فما ترى يا ربّنا فيما ترى!
أعرابي في مجاعة:
الأصمعي قال: حدّثني بعض الأعراب قال: أصابتنا سنة وعندنا رجل غني وله كلب، فجعل كلبه يعوي جوعا، فأنشأ يقول:
تشكّى إليّ الكلب شدّة جوعه ... وبي مثل ما بالكلب أو بي أكثر
فقلت: لعلّ الله يأتي بغيثه ... فيضحي كلانا قاعدا يتكبّر
كأني أمير المؤمنين من الغنى ... وأنت من النعمى كأنك جعفر
أعرابي اسمه عمرو:
الأصمعي قال: سأل أعرابيّ رجلا يقال له عمرو، فأعطاه درهمين؛ فردهما عليه وقال:
تركت لعمرو درهميه ولم يكن ... ليغني عنّي فاقتي درهما عمرو
وقلت لعمرو خذهما فاصطرفهما ... سريعين في نقض المودة والأجر
لبعض الأعراب:
أبو الحسن قال: وقف علينا أعرابي، فقال: أخ في كتاب الله، وجار في بلاد الله، وطالب خير من رزق الله؛ فهل فيكم من مواس في الله؟.
الأصمعي قال: ضجر أعرابي بكثرة العيال والولد، وبلغه أنّ الوباء بخيبر شديد؛ فخرج إليها يعرّضهم للموت، وأنشأ يقول:(4/22)
قلت لحمّى خيبر استعدّي ... هاك عيالي فاجهدي وجدّي
وباكري بصالب وورد ... أعانك الله على ذي الجند «1»
فأخذته الحمى، فمات هو وبقي عياله.
مروان وأعرابي:
سأل أعرابيّ شيخا من بني مروان وحوله قوم جلوس، فقال: أصابتنا سنة. ولي بضع عشرة بنتا، فقال الشيخ: أمّا السنة فوددت والله أن بينكم وبين السماء صفائح من حديد، ويكون مسيلها مما يليني فلا تقطر عليكم قطرة؛ وأمّا البنات فليت الله أضعفهنّ لك أضعافا كثيرة، وجعلك بينهنّ مقطوع اليدين والرجلين ليس لهنّ كاسب غيرك! قال: فنظر إليه الأعرابي ثم قال: والله ما أدري ما أقول لك، ولكن أراك قبيح المنظر، سيء الخلق، فأعضّك الله ببظر أمّهات هؤلاء الجلوس حولك!
طائفي وأعرابي:
وقف أعرابيّ على رجل شيخ من أهل الطائف، فذكر له سنة وسأله. فقالت:
وددت والله أنّ الأرض خطة لا تنبت شيئا! قال: ذلك أيبس لجفير أمّك في استها.
قولهم في المواعظ والزهد
هشام وأعرابي:
أبو حاتم عن الأصمعي قال: دخل أعرابي على هشام بن عبد الملك فقال له: عظني يا أعرابي. فقال: كفى بالقرآن واعظا، أعوذ بالله السميع العليم من الشيطان الرجيم، بسم الله الرحمن الرحيم وَيْلٌ لِلْمُطَفِّفِينَ الَّذِينَ إِذَا اكْتالُوا عَلَى النَّاسِ يَسْتَوْفُونَ وَإِذا كالُوهُمْ أَوْ وَزَنُوهُمْ يُخْسِرُونَ أَلا يَظُنُّ أُولئِكَ أَنَّهُمْ مَبْعُوثُونَ لِيَوْمٍ عَظِيمٍ يَوْمَ يَقُومُ(4/23)
النَّاسُ لِرَبِّ الْعالَمِينَ
«1» ثم قال: يا أمير المؤمنين، هذا جزاء من يطفّف في الكيل والميزان، فما ظنّك بمن أخذه كله؟!
لأعرابي يعظ أخاه:
وقال أعرابي لأخيه: يا أخي، أنت طالب ومطلوب، يطلبك مالا تفوته، وتطلب ما قد كفيته، فكأنّ ما غاب عنك قد كشف لك، وما أنت فيه قد نقلت عنه، فامهد لنفسك، وأعدّ لغدك، وخذ في جهازك.
ووعظ أعرابي أخا له أفسد ماله في الشراب، فقال: لا الدهر يعظك، ولا الأيام تنذرك، ولا الشيب يزجرك، والساعات تحصى عليك، والأنفاس تعدّ منك، والمنايا تقاد إليك؛ أحب الأمور إليك أعودها بالمضرة عليك.
لبعض الأعراب:
وقيل لأعرابي: مالك لا تشرب النبيذ؟ قال: لثلاث خلال فيه: لأنه متلف للمال، مذهب للعقل، مسقط للمروءة.
وقال أعرابي لرجل: أي أخي، إن يسار النفس أفضل من يسار المال، فإن لم ترزق غنى» فلا تحرم تقوى، فرب شبعان من النعم، غرثان «2» من الكرم؛ واعلم أن المؤمن على خير، ترحّب به الأرض، وتستبشر به السماء؛ ولن يساء إليه في بطنها، وقد أحسن على ظهرها.
وقال أعرابي: الدراهم مياسم «3» تسم حمدا وذمّا؛ فمن حبسها كان لها، ومن أنفقها كانت له؛ وما كلّ من أعطي مالا أعطي حمدا ولا كلّ عديم ذميم.
أخذ هذا المعنى الشاعر فقال:
أنت للمال إذا أمسكته ... فإذا أنفقته فالمال لك(4/24)
لابن عباس:
وهذا نظير قول ابن عباس- ونظر إلى درهم في يد رجل- فقال: إنه ليس لك حتى يخرج من يدك.
لبعض الأعراب:
وقال أعرابي لأخ له: يا أخي، إن مالك إن لم يكن لك، كنت له؛ وإن لم تفنه أفناك، فكله قبل أن يأكلك.
وقال أعرابي: مضى لنا سلف أهل تواصل اعتقدوا مننا، واتخذوا الأيادي ذخيرة لمن بعدهم، يرون اصطناع المعروف عليهم فرضا لازما، وإظهار البرّ واجبا ثم جاء الزمان ببنين اتخذوا مننهم بصناعة، وبرّهم مرابحة، وأياديهم تجارة، واصطناع المعروف مقارضة «1» كنقد [السوق] : خذ مني وهات.
وقال أعرابي لولده: يا بني، لا تكن رأسا ولا ذنبا، فإن كنت رأسا فتهبأ للنطاح، وإن كنت ذنبا فتهيأ للنكاح.
قال: وسمعت أعرابيا يقول لابن عمه: سأتخطى ذنبك إلى عذرك، وإن كنت من أحدهما على شك ومن الآخر على يقين؛ ولكن ليتمّ المعروف مني إليك، ولتقوم الحجة لي عليك.
قال: وسمعت أعرابيا يقول: إن الموفّق من ترك أرفق الحالات به لأصلحها لدينه، نظرا لنفسه إذا لم تنظر نفسه لها.
قال: وسمعت أعرابيا يقول: الله مخلف ما أتلف الناس، والدهر متلف ما أخلفوا، وكم من ميتة عليها طلب الحياة، وكم من حياة سببها التعرض للموت.
وقال أعرابي: إن الآمال قطعت أعناق الرجال، كالسراب: غرّ من رآه، وأخلف من رجاه.(4/25)
وقال أعرابي لصاحب له: اصحب من يتناسى معروفه عندك، ويتذكر حقوقك عليه.
وقال أعرابي: لا تسأل عمن يفرّ من أن تسأله، ولكن سل من أمرك أن تسأله، وهو الله تعالى.
وقيل لأعرابي في مرضه: ما تشتكي؟ قال: تمام العدّة، وانقضاء المدّة.
ونظر أعرابي إلى رجل يشكو ما هو فيه من الضيق والضر، فقال: يا هذا، أتشكو من يرحمك إلى من لا يرحمك.
وقالت أعرابية لابنها: يا بنيّ، إن سؤالك الناس ما في أيديهم أشد من الافتقار إليهم، ومن افتقرت إليه هنت عليه، ولا تزال تحفظ وتكرم حتى تسأل وترغب فإذا ألحت عليك الحاجة ولزمك سوء الحال، فاجعل سؤالك إلى من إليه حاجة السائل والمسئول، فإنه يعطي السائل.
وقالت أعرابية توصي ابنا لها أراد سفرا: يا بنيّ، عليك بتقوى الله فإنه أجدى عليك من كثير غيرك؛ وإياك والنمائم، فإنها تورث الضغائن وتفرق بين المحبين، ومثّل لنفسك مثالا تستحسنه من غيرك فاحذر عليه واتخذه إماما، واعلم أنه من جمع بين السخاء والحياء، فقد أجاد الحلة إزارها ورداءها.
قال الأصمعي: لا تكون الحلة إلا ثوبين: ازارا ورداء.
أنشد الحسن لأعرابي كان يطوف بأمه على عانقه حول الكعبة:
إن تركبي على قذالي «1» فاركبي ... فطالما حملتني وسرت بي
في بطنك المطهّر المطيّب ... كم بين هذاك وهذا المركب
وأنشد لآخر كان يطوف بأمه:
ما حجّ عبد حجّة بأمّه ... فكان فيها منفقا من كدّه(4/26)
لا استتمّ الأجر عند ربّه
قال وسمعت أعرابيا يقول: ما بقاء عمر تقطعه الساعات، وسلامة بدن معرّض للآفات! ولقد عجبت من المؤمن كيف يكره الموت وهو ينقله إلى الثواب الذي أحيا له ليله وأظمأ له نهاره.
وذكر أهل السلطان عند أعرابي فقال: أما والله لئن عزّوا في الدنيا بالجور لقد ذلّوا في الآخرة بالعدل، ولقد رضوا بقليل فان عوضا عن كثير باق، وإنما تزل القدم حيث لا ينفع الندم.
ووصف أعرابي الدنيا فقال: هي رنقة «1» المشارب، جمة المصائب لا تمتعك الدهر بصاحب.
وقال أعرابي: من كان مطيته الليل والنهار سارا به وإن لم يسر، وبلغا به وإن لم يبلغ.
قال: وسمعت أعرابيا يقول: الزهادة في الدنيا مفتاح الرغبة في الآخرة والزهادة في الآخرة مفتاح الرغبة في الدنيا.
وقيل لأعرابي وقد مرض: إنك تموت! قال: وإذا متّ فإلى أين يذهب بي؟
قالوا: إلى الله! قال: فما كراهتي أن يذهب بي إلى من لم أر الخير إلا منه؟
وقال أعرابي: من خاف الموت بادره الموت، ومن لم ينحّ النفس عن الشهوات أسرعت به إلى الهلكات، والجنة والنار أمامك.
وقال أعرابي لصاحب له: والله لئن هملجت «2» إلى الباطل إنك لعطوف عن الحق، وإن أبطأت ليسرعنّ إليك، وقد خسر أقوام وهم يظنون أنهم رابحون؛ فلا تعرّنّك الدنيا، فإن الآخرة من ورائك.
وقال أعرابي: خير لك من الحياة ما إذا فقدته أبغضت له الحياة، وشر من الموت(4/27)
ما إذا نزل بك أحببت له الموت.
وقال أعرابيّ: حسبك من فساد الدنيا أنك ترى أسنمة توضع؛ وأخفافا ترقع.
والخير يطلب عند غير أهله، والفقير قد حل غير محله.
وقدم أعرابي إلى السلطان فقال له: قل الحقّ وإلا أوجعتك ضربا! قال له: وأنت فاعمل به، فو الله ما أوعدك الله على تركه أعظم مما توعّدني به.
وقيل لأعرابي: من أحقّ الناس بالرحمة؟ قال الكريم يسلّط عليه اللئيم، والعاقل يسلط عليه الجاهل.
وقيل له: أي الداعين أحق بالإجابة؟ قال المظلوم.
وقيل له: فأي الناس أغنى عن الناس؟ قال: من أفرد الله بحاجته.
ونظر عثمان إلى أعرابي في شملة غائر العينين مشرف الحاجبين ناتىء الجبهة، فقال له: يا أعرابي، أين ربّك؟ قال: بالمرصاد.
الأصمعي قال: سمعت أعرابيا يقول: إذا أشكل عليك أمران فانظر أيهما أقرب من هواك فخالفه، فإن أكثر ما يكون الخطأ مع متابعة الهوى.
قال: وسمعت أعرابيا يقول: من نتج الخير أنتج له فراخا تطير بأجنحة السرور؛ ومن غرس الشر أنبت له نباتا مرّا مذاقه، وقضبانه الغيظ، وثمرته الندم.
وقال أعرابي: الهوى عاجله لذيذ، وآجله وخيم.
وقيل لأعرابي: إنك لحسن الشارة. قال: ذلك عنوان نعمة الله عندي.
قال الأصمعي: ورأيت أعرابيا أمامه شاء فقلت له: لمن هذه الشاء؟ قال: هي لله عندي.
وقيل لأعرابي: كيف أنت في دينك؟ قال: أخرقه بالمعاصي وأرقعه بالاستغفار.
وقال أعرابي: من كساه الحياء ثوبه خفى على الناس عيبه.
وقال: بئس الزاد التعدي على العباد.
وقال: التلطف بالحيلة أنفع من الوسيلة.
وقال: من ثقل على صديقه خفّ على عدوّه، ومن أسرع إلى الناس بما يكرهون قالوا فيه ما لا يعلمون.(4/28)
قال وسمعت أعرابيا يقول لابنه وهو يعاتبه: لا تتوهمن- على من يستدل على غائب الأمور بشاهدها- الغفلة عن أمور يعاينها، فتكون بنفسك أخطأت، وحظّك أخطأت.
ونظر أعرابي إلى رجل حسن الوجه بضّه «1» فقال. إني أرى وجها ما علقه برد وضوء السّحر، ولا هو بالذي قال فيه الشاعر:
من كلّ مجتهد برى أوصاله ... صوم النهار وسجدة الأسحار
الأصمعي قال: سمعت أعرابيا ينشد:
وإذا أظهرت أمرا حسنا ... فليكن أحسن منه ما تسرّ
فمسرّ الخير موسوم به ... ومسرّ الشرّ موسوم بشرّ
وقول الأعرابي هذا على ما جاء في حديث رسول الله صلّى الله عليه وسلم: «ما اسر امرؤ سريرة إلا ألبسه الله رداءها، إن خيرا فخير وإن شرّا فشر» .
قال: وأنشدني أعرابي:
وما هذه الأيام إلّا معارة ... فما اسطعت من معروفها فتزوّد
فإنك لا تدري بأيّة بلدة ... تموت ولا ما يحدث الله في غد
يقولون لا تبعد ومن يك مسدلا ... على وجهه ستر من الأرض يبعد
وقال أعرابي: أعجز الناس من قصّر في طلب الإخوان، وأعجز منه من ضيّع من ظفر به منهم.
وقال أعرابي لابنه: لا يسرك أن تغلب بالشر؛ فإن الغالب بالشر هو المغلوب.
وقال أعرابي لأخ له: قد نهيتك أن تريق ماء وجهك عند من لا ماء في وجهه.
فإن حظك من عطيته السؤال.
قال: وسمعت أعرابيا يقول: إن حب الخير خير وإن عجزت عنه المقدرة،(4/29)
وبغض الشر خير وإن فعلت أكثره.
وشهد أعرابي عند سوار القاضي بشهادة، فقال له: يا أعرابي، إن ميداننا لا يجري من العتاق فيه إلا الجياد. قال: لئن كشفت لتجدنّي عثورا! فسأل عنه سوار فأخبر بفضل وصلاح، فقال له: يا أعرابي، أنت ممن يجري في ميداننا. قال: ذلك بستر الله.
وقال أعرابي: والله لولا أن المروءة ثقيل محملها، شديدة مؤنتها «1» ، ما ترك اللئام للكرام شيئا.
احتضر أعرابي، فقال له بنوه: عظنا يا أبت. فقال: عاشروا الناس معاشرة إن غبتم حنوا إليكم، وإن متم بكوا عليكم.
ودخل أعرابي على بعض الملوك في شملة شعر، فلما رآه أعرض عنه، فقال له:
إن الشملة لا تكلمك وإنما يكلمك من هو فيها.
مرّ أعرابي بقوم يدفنون جارية، فقال نعم الصهر ما صهرتم! وأنشد:
وفي الأعياص أكفاء ليلى ... وفي لحد لها كفء كريم
وقال أعرابي: رب رجل سره منشور على لسانه، وآخر قد التحف عليه قلبه التحاف الجناح على الخوافي.
ومرّ أعرابيان برجل صلبه بعض الخلفاء، فقال أحدهما: أنبتته الطاعة وحصدته المعصية! وقال الآخر: من طلق الدنيا فالآخرة صاحبته، ومن فارق الحق فالجذع راحلته.
العتبي عن زيد بن عمارة، قال: سمعت أعرابيا يقول لأخيه وهو يبني منزلا: يا أخي:
أنت في دار شتات ... فتأهّب لشتاتك(4/30)
واجعل الدّنيا كيوم ... صمته عن شهواتك
واجعل الفطر إذا ما ... نلته يوم مماتك
واطلب الفوز بعيش الز ... هد من طول حياتك
ثم أطرق حينا ورفع رأسه وهو يقول:
قائد الغفلة الأمل ... والهوى قائد الزّلل
قتل الجهل أهله ... ونجا كلّ من عقل
فاغتنم دولة السّلا ... مة واستأنف العمل
أيها المبتني القصو ... ر وقد شاب واكتهل
أخبر الشّيب عنك أنك في آخر الأجل
فعلام الوقوف في ... عرصة العجو والكسل
أنت في منزل إذا ... حلّه نازل رحل
منزل لم يزل يضيق وينبو بمن نزل
فتأهب لرحلة ... ليس يسعى بها جمل
رحلة لم تزل على الدهر ... مكروهة القفل
وقيل لأعرابي: كيف كتمانك للسر؟ قال: ما جوفي له إلا قبر.
لآخر في الوفاء:
وقال أعرابي: إذا أردت أن تعرف وفاء الرجل. ودوام عهده، فانظر إلى حنينه إلى أوطانه، وشوقه إلى إخوانه، وبكائه على ما مضى من زمانه.
لآخر فيما يضيع الأمور:
وقال أعرابي: إذا كان الرأي عند من لا يقبل منه، والسلاح عند من لا يستعمله، والمال عند من لا ينفقه- ضاعت الأمور.(4/31)
لآخر في القدر:
وسئل أعرابي عن القدر فقال: الناظر في قدر الله كالناظر في عين الشمس:
يعرف ضوءها ولا يقف على حدودها.
وسئل آخر عن القدر فقال: علم اختصمت فيه العقول، وتقاول فيه المختلفون، وحق علينا أن نرد ما التبس علينا من حكمه إلى ما سبق من علمه.
وقال أعرابي تكوير «1» الليل والنهار، لا يبقي على الأعمار، ولا لأحد فيه الخيار.
الحجاج وأعرابي:
أبو حاتم عن الأصمعي قال: خرج الحجاج ذات يوم فأصحر «2» ، وحضر غداؤه فقال: اطلبوا من يتغدّى معنا. فطلبوا، فلم يجدوا إلا أعرابيا في شملة، فأتوه به، قال له: هلم. قال له: قد دعاني من هو أكرم منك فأجبته! قال: ومن هو؟ قال: الله تبارك وتعالى، دعاني إلى الصيام، فأنا صائم. قال: صوم في مثل هذا اليوم على حر؟
قال صمت ليوم هو أحرّ منه! قال فأفطر اليوم وتصوم غدا. قال: ويضمن لي الأمير أن أعيش إلى غدّ! قال: ليس ذلك إلي قال: فكيف تسألني عاجلا بآجل ليس إليه سبيل! قال: إنه طعام طيب. قال: والله ما طيّبه خبازك ولا طباخك، ولكن طيبته العافية! قال الحجاج: تا لله ما رأيت كاليوم، أخرجوه عني.
لأعرابي:
أبو الفضل الرياشي قال: أنشدنا أعرابي:
أباكية رزينة إن أتاها ... نعيّ أم يكون لها اصطبار
إذا ما أهل ودّي ودّعوني ... وراحوا والأكف بها غبار
وغودر أعظمي في لحد قبر ... تعاوره الجنائب والقطار «3»(4/32)
تظلّ الرّيح عاصفة عليه ... ويرعى حوله الّلهق النّوار»
فذاك النّأي لا الهجران حولا ... وحولا ثم تجمعنا الدّيار
وهذا نظير قول ليلى الأخيلية:
لعمرك ما الهجران أن تشحط النّوى ... ولكنما الهجران ما غيّب القبر «2»
ونظيره قول خنساء:
نأي الخليلين كون الأرض بينهما ... هذا عليها وهذا تحتها رمما «3»
وأنشد الآخر:
إذا ما المنايا أخطأتك وصادفت ... حبيبك فاعلم أنها ستعود
عمر وأعرابي بالجبانة:
الرياشي قال: مرّ عمر بن الخطاب بالجبّانة فإذا هو بأعرابيّ، فقال: ما تصنع هنا يا أعرابي في هذه الديار الموحشة؟ قال: وديعة لي هاهنا يا أمير المؤمنين. قال: وما وديعتك؟ قال: بنيّ لي دفنته، فأنا أخرج إليه كل يوم أندبه. قال: فاندبه حتى أسمع. فأنشأ يقول:
يا غائبا ما يؤوب من سفره ... عاجله موته على صغره
يا قرّة العين كنت لي سكنا ... في طول ليلي نعم وفي قصره
شربت كأسا أبوك شاربها ... لا بدّ يوما له على كبره
يشربها والأنام كلّهم ... من كان في بدوه وفي حضره
فالحمد لله لا شريك له ... الموت في حكمه وفي قدره
قد قسّم العمر في العباد فما ... يقدر خلق يزيد في عمره(4/33)
قولهم في المدح
لبعضهم في المدح:
ذكر أعرابي قوما عبادا، فقال: تركوا والله النعيم ليتنعموا؛ لهم عبرات متدافعة، وزفرات متتابعة، لا تراهم إلا في وجه وجيه عند الله.
وذكر أعرابيّ قوما فقال: أدّبتهم الحكمة وأحكمتهم التجارب؛ فلم تغرّهم السلامة المنطوية على الهلكة، ورحل عنهم التسويف الذي به قطع الناس مسافة آجالهم: فدلّت ألسنتهم بالوعد، وانبسطت أيديهم بالوجد «1» فأحسنوا المقال، وشفعوه بالفعال.
وسئل أعرابي عن قوم فقال: كانوا إذا اصطفوا سفرت «2» بينهم السهام؛ وإذا تصافحوا بالسيوف فغرت المنايا أفواهها؛ فرب يوم عارم «3» قد أحسنوا أدبه، وحرب عبوس قد ضاحكتها أسنتهم؛ إنما قومي البحر. ما ألقمته التقم.
وذكر أعرابي قوما فقال: ما رأيت أسرع [منهم] إلى داع بليل على فرس حسيب «4» وجمل نجيب. ثم لا ينتظر الأول السابق الآخر اللاحن.
وذكر أعرابي قوما فقال: جعلوا أموالهم مناديل أعراضهم. فالخير بهم زائد، والمعروف لهم شاهد؛ فيعطونها بطيبة أنفسهم إذا طلبت إليهم. ويباشرون المعروف بإشراق الوجوه إذا بغي لديهم.
وذكر أعرابي قوما فقال: والله ما أنالوا شيئا بأطراف أناملهم إلا وطئناه بأخماص أقدامنا؛ وإن أقصى هممهم لأدنى فعالنا.
وذكر أعرابي أميرا فقال: إذا ولى يطابق بين جفونه، وأرسل العيون على عيونه؛ فهو غائب عنهم شاهد معهم، فالمحسن راج والمسيء خائف.(4/34)
ودخل أعرابي على رجل من الولاة فقال: أصلح الله الأمير، اجعلني زماما من أزمتك تجرّبه الأعداء، فإني مسعر حرب، وركّاب نجب، شديد على الأعداء لين على الأصدقاء؛ منطوي الحصيلة، قليل الثميلة «1» ، نومي غرار «2» ، قد غذتني الحرب بأفاويقها، وحلبت الدهر أشطره؛ ولا تمنعك مني الدمامة؛ فإن من تحتها شهامة.
وذكر أعرابي رجلا ببراعة المنطق فقال: كان والله بارع المنطق، جزل الألفاظ، عربيّ اللسان، فصيح البيان، رقيق حواشي الكلام، بليل الريق، قليل الحركات، ساكن الإشارات.
وذكر أعرابي رجلا فقال: رأيت له حلما وأناة، يحدثك الحديث على مقاطعه، ينشدك الشعر على مدارجه، فلا تسمع له لحنا ولا إحالة «3» .
العتبي قال: ذكر أعرابي قوما، فقال: آلت سيوفهم ألّا تقضي دينا عليهم، ولا تضيّع حقا لهم، فما أخذ منهم مردود إليهم، وما أخذوا متروك لهم.
ومدح أعرابي رجلا، فقال: ما رأيت عينا قط أخرق لظلمة الليل من عينه ولحظة أشبه بلهيب النار من لحظته؛ له هزة كهزة السيف إذا طرب، وجرأة كجرأة الليث إذا غضب.
ومدح أعرابي رجلا، فقال: كان الفهم منه ذا أذنين، والجواب ذا لسانين؛ لم أر أحدا أرتق لخلل الرأي منه، بعيد مسافة العقل ومراد الطرف، إنما يرمي بهمته حيث أشار الكرم.
ومدح أعرابيّ رجلا فقال: ذاك والله فسيح النسب، مستحكم الأدب، من أي أقطاره أتيته انتهى إليك بكرم فعال، وحسن مقال.
ومدح أعرابي رجلا فقال: كانت ظلمة ليله كضوء نهاره، آمرا بإرشاد، وناهيا(4/35)
عن فساد، لحديث السوء غير منقاد.
وقال أعرابي: إن فلانا «نعم» للسانه قبل أن يخلق لسانه لها: فما تراه الدهر إلا وكأنه لا غنى له عنك وإن كنت إليه أحوج؛ إذا أذنبت إليه غفر وكأنه المذنب، وإذا أسأت إليه أحسن وكأنه المسيء.
وذكر أعرابي رجلا فقال: اشترى والله عرضه من الذي؛ فلو كانت الدنيا له فأنفقها لرأى بعدها عليه حقوقا، وكان منهاجا للأمور المشكلة إذا تناجز الناس باللائمة.
ومدح أعرابيّ رجلا فقال: كان والله يغسل من العار وجوها مسودة، ويفتح من الرأي عيونا منسدة.
وذكر أعرابي رجلا فقال: ذاك والله ينفع سلمه ولا يستمر ظلمه؛ إن قال فعل، وإن ولى عدل.
ومدح أعرابي رجلا فقال: ذاك والله يعني في طلب المكارم، غير ضال في مسالك طرقها، ولا مشتغل عنها بغيرها.
وذكر أعرابي رجلا فقال: يفوّق الكلمة على المعنى فتمرق مروق السهم من الرميّة، فما أصاب قتل، وما أخطأ أشوى «1» ، وما عظعظ «2» له سهم منذ تحرك لسانه في فيه.
وذكر أعرابي أخاه فقال: كان والله ركوبا للأهوال، غير ألوف لربّات الحجال؛ إذا أرعد القوم من غير كرّ، يهين نفسا كريمة على قومها، غير مبقية لغد ما في يومها.
ومدح رجل رجلا فقال: كأن الألسن ريضت «3» فما تنعقد إلا على ودّه، ولا تنطق إلا بثنائه.(4/36)
ومدح أعرابي رجلا فقال: كان والله للإخاء وصولا، وللمال بذولا، وكان الوفاء بهما عليه كفيلا، فمن فاضله كان مفضولا.
وقيل لأعرابي: ما البلاغة؟ قال: التباعد من حشو الكلام، والدلالة بالقليل على الكثير.
ومدح أعرابي: رجلا فقال: كان والله من شجر لا يخلف ثمره، ومن بحر لا يخاف كدره.
وذكر أعرابي رجلا فقال: ذاك والله فتى زانه الله بالخير ناشئا، فأحسن لبسه، وزين به نفسه.
ومدح أعرابي رجلا فقال: يصم أذنيه عن استماع الخنا «1» ، ويخرس لسانه عن التكلم به؛ فهو الماء الشّريب «2» ، والمصقع الخطيب.
وذكر أعرابي رجلا فقال: ذاك رجل سبق إليّ معروفه قبل طلبي إليه، فالعرض وافر، والوجه بمائه، وما أستقل بنعمة إلا أثقلني بأخرى.
وذكر أعرابي رجلا فقال: ذاك رضيع الجود والمفطوم به، عيّ عن الفحشاء، معتصم بالتقوى؛ إذا خرست الألسن عن الرأي حذف «3» بالصواب كما يحذف الأرنب، فإن طالت الغاية ولم يكن من دونها نهاية تمهل أمام القوم سابقا.
وذكر أعرابي رجلا فقال: إن جليسه لطيب عشرته أطرب من الإبل على الحداء، والثمل على الغناء.
وذكر أعرابي رجلا فقال: كان له علم لا يخالطه جهل، وصدق لا يشوبه كذب، كأنه الوبل عند المحل.
وذكر أعرابي رجلا فقال: ما رأيت أعشق للمعروف منه، وما رأيت المنكر أبغض لأحد منه.(4/37)
وقدم أعرابي البادية وقد نال من بني برمك، فقيل له: كيف رأيتهم؟ قال: رأيتهم قد أنست بهم النعمة كأنها من بناتهم.
قال: وذكر أعرابي رجلا فقال: ما زال يبني المجد، ويشتري الحمد، حتى بلغ منه الجهد.
ودخل أعرابي على بعض الملوك فقال: إن جهلا أن يقول المادح بخلاف ما يعرف من الممدوح، وإني والله ما رأيت أعشق للمكارم في زمان اللؤم منك. ثم أنشد:
مالي أرى أبوابهم مهجورة ... وكأن بابك مجمع الأسواق
حابوك أم هابوك أم شاموا النّدى ... بيديك فاجتمعوا من الآفاق
إني رأيتك للمكارم عاشقا ... والمكرمات قليلة العشّاق
وأنشد أعرابي في مثل هذا المعنى:
بنت المكارم وسط بيتك بيتها ... فتلادها بك للصديق مباح
وإذا المكارم أغلقت أبوابها ... يوما فأنت لقفلها مفتاح
وأنشد أعرابي في بني المهلّب:
قدمت على آل المهلّب شاتيا «1» ... قصيّا بعيد الدار في زمن المحل
فما زال بي إلطافهم وافتقادهم ... وبرهم حتى حسبتهم أهلي
وأنشد أعرابي:
كأنك في الكتاب وجدت لاء ... محرمة عليك فما تحلّ
وما تدري إذا أعطيت مالا ... أتكثر من سماحك أم تقل
إذا دخل الشتاء فأنت شمس ... وإن دخل المصيف فأنت ظل
وقال أعرابي في مدح عمر بن عبد العزيز:
مقابل الأعراق في الطاب الطاب ... بين أبي العاص وآل الخطاب «2»(4/38)
وأنشد أعرابي:
لنا جواد أعار النّيل نائله ... والنّيل يشكر منه كثرة النيل
ان بارز الشمس ألقى الشمس مظلمة ... أو زاحم الصّم ألجاها إلى الميل
أهدى من النّجم إن تأتيه مشكلة ... وعند إمضائه أمضى من السيل
والموت يرهب أن يلقى منيّته ... في شدّه عند لفّ الخيل بالخيل
قولهم في الذمّ
الأصمعي قال: ذكر أعرابي قوما فقال: أولئك سلخت أقفاؤهم بالهجاء، ودبغت وجوههم باللؤم؛ لباسهم في الدنيا الملامة، وزادهم إلى الآخرة الندامة.
قال: وذكر أعرابي قوما فقال: لهم بيوت تدخل حبوا إلى غير نمارق «1» ولا وسائد، فصح الألسن بردّ السائل؛ جعد الأكف عن النائل.
قال: وسمعت أعرابيا يقول: لقد صغّر فلانا في عيني عظم الدنيا في عينه، وكأنما يرى السائل إذا أتاه، ملك الموت إذا رآه.
وسئل أعرابي عن رجل، فقال: ما ظنكم بسكّير لا يفيق، يتهم الصديق، ويعصى الشفيق، لا يكون في موضع إلا حرمت فيه الصلاة، ولو أفلتت كلمة سوء لم تصر إلا إليه، ولو نزلت لعنة من السماء لم تقع إلا عليه.
وذكر أعرابي قوما فقال: أقل الناس ذنوبا إلى أعدائهم، وأكثرهم تجرّما على أصدقائهم؛ يصومون عن المعروف، ويفطرون على الفحشاء.
وذكر أعرابي رجلا فقال: إن فلانا ليعدي بإثمه من تسمّى باسمه، ولئن خيبني فلرب باقية قد ضاعت في طلب رجل كريم.
وذكر أعرابي رجلا فقال: تغدو إليه مراكب الضلالة فترجع من عنده ببدور «2»(4/39)
الآثام، معدم ما تحب، مثر مما تكره. وصاحب السوء قطعة من النار.
وقال أعرابي لرجل: أنت والله ممن إذا سأل ألحف، وإذا سئل سوّف، وإذا حدّث حلف، وإذا وعد أخلف؛ تنظر نظر حسود، وتعرض إعراض حقود.
وسافر أعرابي إلى رجل فحرّمه، فقال لما سئل عن سفره: ما ربحنا في سفرنا إلا ما قصرنا من صلاتنا؛ فأمّا الذي لقينا من الهواجر، ولقيت منا الأباعر، فعقوبة لنا فيما أفسدنا من حسن ظننا. ثم أنشأ يقول:
رجعنا سالمين كما خرجنا ... وما خابت سريّة سالمينا
لشاعر في الهجاء:
وقال أعرابي:
لمّا رأيتك لا فاجرا ... قويّا ولا أنت بالزاهد
ولا أنت بالرجل المتّقي ... ولا أنت بالرجل العابد
عرضتك في السّوق سوق الرقيق ... وناديت هل فيك من زائد
على رجل خان ودّ الصديق ... كفور بأنعمه جاحد
فما جاءني رجل واحد ... يزيد على درهم واحد
سوى رجل زادني دانقا ... ولم يك في ذاك بالجاهد «1»
فبعتك منه بلا شاهد ... مخافة ردّك بالشاهد
وأبت إلي منزلي غانما ... وحلّ البلاء على الناقد
لبعض الأعراب:
قال: وذكر أعرابي رجلا، قال: كان إذا رآني قرّب من حاجب حاجبا، فأقول له: لا تقبّح وجهك إلى قبحه، فوالله ما أتيتك لطمع راغبا، ولا لخوف راهبا.(4/40)
وذم أعرابي رجلا فقال: عبد الفعال، حر المقال؛ عظيم الرواق، دنيء الأخلاق؛ الدهر يرفعه، ونفسه تضعه.
وذمّ أعرابي رجلا فقال: ضيق الصدر، صغير القدر، عظيم الكبر، قصير الشبر، لئيم النّجر «1» ، كثير الفخر.
وقال أعرابي: دخلت البصرة فرأيت ثياب أحرار على أجساد عبيد؛ إقبال حظهم إدبار حظ الكرام، شجر أصوله عند فروعه، شغلهم عن المعروف رغبتهم في المنكر.
وذكر أعرابي رجلا فقال: ذاك يتيم، أعيا ما يكون عند جلسائه أبلغ ما يكون عند نفسه.
وذكر أعرابي رجلا فقال: ذلك إلى من يداوي عقله من الجهل، أحوج منه إلى من يداوي بدنه من المرض؛ إنه لا مرض أوجع من قلة عقل.
وذكر أعرابي رجلا لم يدرك بثأره، فقال: كيف يدرك بثأره من في صدره من اللؤم حشو مرفقته؛ ولو دقّت بوجهه الحجارة لرضّها «2» ، ولو خلا بالكعبة لسرقها.
وذكر أعرابي رجلا فقال: تسهر والله زوجته جوعا إذا سهر الناس شبعا؛ ثم لا يخاف مع ذلك عاجل عار، ولا آجل نار؛ كالبهيمة أكلت ما جمعت، ونكحت ما وجدت.
وسمع أعرابي رجلا يزعق، فقال: ويحك! إنما يستجاب لمؤمن أو مظلوم، ولست بواحد منهما؛ وأراك يخف عليك ثقل الذنوب فيحسّن عندك مقابح العيوب.
وذكر أعرابي رجلا بضعف فقال: سيء الروية، قليل التقية «3» ، كثير السعاية، ضعيف النكاية.
وذكر أعرابي رجلا فقال: عليه كل يوم من فعله شاهد بفسقه؛ وشهادات الأفعال أعدل من شهادات الرجال.(4/41)
وذكر أعرابي رجلا بذلة فقال: عاش خاملا ومات موتورا.
وذكر قوما فقال: ألبسوا نعمة ثم عرّوا منها فقال: ما كانت النعمة إلا طيفا لما انتبهوا لها ذهبت عنهم.
وذم أعرابي رجلا فقال: هو كعبد القنّ «1» يسرك شاهدا ويسوءك غائبا.
ودعت أعرابية على رجل فقالت: أمكن الله منك عدوّا حسودا، وفجع بك صديقا ودودا؛ وسلط عليك همّا يضنيك، وجارا يؤذيك.
وقال أعرابي لرجل شريف البيت دنيء الهمة: ما أحوجك أن يكون عرضك لمن يصونه، فتكون فوق ما أنت دونه.
وذكر أعرابي رجلا فقال: إن حدّثته يسابقك إلى ذلك الحديث، وإن سكتّ عنه أخذ في الترّهات.
وذكر أعرابي أميرا فقال: يصل النشوة، ويقضي بالعشوة «2» ، ويقبل الرشوة.
وذكر أعرابي رجلا راكبا هواه، فقال: والله لهو أسرع إلى ما يهواه، من الأسن «3» إلى راكد المياه، أفقره ذلك أو أغناه.
وقال أعرابي: ليت فلانا أقالني من حسن ظني به، فأختم بصواب إذ بدأت بخطأ؛ ولكن من لم تحكمه التجارب أسرع بالمدح إلى من يستوجب الذم، وبالذم إلى من يستوجب المدح.
وقال أعرابي لرجل: هل أنت إلا أنت لم تغير! ولو كنت من كنت حديد وضعت على أتون محمىّ لم تذب.
وسمعت أعرابيا يقول لأخيه: قد كنت نهيتك أن تدنس عرضك بعرض فلان، وأعلمتك أنه سمين المال، مهزول المعروف، من المرزوقين فجأة، قصير عمر الغنى، طويل عمر الفقر.(4/42)
أقبل أعرابي إلى سوّار فلم يصادف عنده ما أحب، فقال فيه:
رأيت لي رؤيا وعبّرتها ... وكنت للأحلام عبّارا
بأنني أخبط في ليلتي ... كلبا فكان الكلب سوّارا
وقال أعرابي في ابن عم له يسمى زيادا:
من يبادلني قريبا ... ببعيد من أياد؟
من يقادر، من يطافس ... من يناذل بزياد «1»
في هجاء ابن سلم:
وقال سعيد بن سلم الباهلي: مدحني أعرابيّ، فاستبطأ الثواب فقال:
لكلّ أخي مدح ثواب يعدّه ... وليس لمدح الباهليّ ثواب
مدحت سعيدا والمديح مهزّة ... فكان كصفوان، عليه تراب «2»
وقال أيضا:
وإنّ من غاية حرص الفتى ... طلابه المعروف في باهله
كبيرهم وغد ومولودهم ... تلعنه في قبحه القابله
وقال أيضا:
سبكناه ونحسبه لجينا ... فأبدى الكير عن خبث الحديد
وقال فيه:
لمّا رآنا فرّ بوّابه ... وانسدّ في غير يد بابه
وعنده من مقته حاجب ... يحجبه إن غاب حجّابه(4/43)
في هجاء مساور:
دخل أعرابي على المساور بن هند وهو على الريّ، فلم يعطه شيئا؛ فخرج وهو يقول:
أتيت المساور في حاجة ... فما زال يسعل حتى ضرط
وحكّ قفاه بكرسوعه ... ومسّح عثنونه وامتخط «1»
فأمسكت عن حاجتي خيفة ... لأخرى تقطّع شرج السّفط «2»
فأقسم لو عدت في حاجتي ... للطّخ بالسلح وجه النّمط «3»
وقال غلطنا حساب الخراج ... فقلت من الضّرط جاء الغلط
وكان كلما ركب صاح الصبيان: من الضرط جاء الغلط. حتى هرب من غير عزل إلى بلاد أصبهان.
في رجل قصير:
أبو حاتم عن أبي زيد، قال: أنشدنا أعرابي في رجل قصير:
يكاد خليلي من تقارب شخصه ... يعضّ القراد استه وهو قائم
في امرأة قبيحة:
وذكر أعرابي امرأة قبيحة، فقال: ترخي ذيلها على عرقوبي نعامة، وتسدل خمارها على وجه كالجعالة» .(4/44)
لبعض الأعراب:
العتبي قال: سمعت أعرابيا يقول: لا ترك الله مخّا في سلامى «1» ناقة حملتني إليك وللدّاعي عليها أحق بالدعاء عليه؛ إذ كلفها المسير إليك.
وقال أعرابي لابن الزبير لا بوركت ناقة حملتني إليك. قال: إنّ وصاحبها. قوله:
إنّ، يريد «نعم» . قال قيس الرقيات:
وتقول شيب قد علا ... ك وقد كبرت فقلت إنّه
يريد: نعم.
وذكر أعرابي، رجلا، فقال: لا يؤنس جارا، ولا يؤهل دارا، ولا يثقب «2» نارا.
وسأل أعرابي رجلا فحرمه، فقال له أخوه؛ نزلت والله بواد غير ممطور، وبرجل غير مبرور؛ فارتحل بندم، أو أقم بعدم.
ودخلت أعرابية على حمدونة بنت المهدي؛ فلما خرجت سئلت عنها، فقالت: والله لقد رأيتها فما رأيت طائلا؛ كأن بطنها قربة، وكأن ثديها دبّة «3» ، وكأن استها رقعة، وكأن وجهها وجه ديك قد نفش عفريته «4» يقاتل ديكا.
وصاحب أعرابي امرأة فقال لها: والله إنك لمشرفة الأذنين، جاحظة العينين، ذات خلق متضائل، يعجبك الباطل، إن شبعت بطرت، وإن جعت صخبت، وإن رأيت حسنا دفنتيه، وإن رأيت سيئا أذعتيه؛ تكرمين من حقرك، وتحقرين من أكرمك.
وهجا أعرابي امرأته فقال:
يا بكر حوّاء من الأولاد ... وأمّ آلاف من العباد
عمرك ممدود إلى التّنادي ... فحدّثينا بحديث عاد(4/45)
والعهد من فرعون ذي الأوتاد ... يا أقدم العالم في الميلاد
إني من شخصك في جهاد
في عجوز:
وقال أعرابي في امرأة تزوجها، وقد خطبها شابة طرية ودسّوا إليه عجوزا:
عجوز ترجّي أن تكون فتيّة ... وقد نحل الجنبان واحدودب الظّهر
تدسّ إلى العطّار سلعة أهلها ... وهل يصلح العطار ما أفسد الدهر «1»
تزوجتها قبل المحاق بليلة ... فكان محاقا كله ذلك الشهر
وما غرّني إلا خضاب بكفّها ... وكحل بعينيها وأثوابها الصّفر
وقال فيها:
ولا تستطيع الكحل من ضيق عينها ... فإن عالجته صار فوق المحاجر
وفي حاجبيها حزّة كغرارة ... فإن حلقا كانا ثلاث غرائر «2»
وثديان أمّا واحد فهو مزود ... وآخر فيه قربة للمسافر «3»
وقال فيها:
لها جسم برغوث وساقا بعوضة ... ووجه كوجه القرد بل هو أقبح
وتبرق عيناها إذا ما رأيتها ... وتعبس في وجه الضّجيع وتكلح
لها مضحك كالحشّ تحسب أنها ... إذا ضحكت في أوجه القوم تسلح «4»
وتفتح- لا كانت- فما لو رأيته ... توهّمته بابا من النار يفتح
إذا عاين الشيطان صورة وجهها ... تعوّذ منها حين يمسي ويصبح
وقال أعرابي في سوداء:
كأنها والكحل في مرودها ... تكحل عينيها ببعض جلدها(4/46)
وقال فيها:
أشبهك المسك وأشبهته ... قائمة في لونه قاعده
لا شكّ إذ لونكما واحد ... أنكما من طينة واحده
وقال كثيّر في نصيب بن رباح، وكان أسود:
رأيت أبا الحجناء في الناس حائرا ... ولون أبي الحجناء لون البهائم
تراه على مالاحه من سواده ... وإن كان مظلوما له وجه ظالم «1»
أعرابي وعامل:
وقال رجل من العمال لأعرابي: ما أحسبك تعرف كم تصلي في كل يوم وليلة! فقال له: فإن عرفت أتجعل لي على نفسك مسألة؟ قال: نعم. قال:
إنّ الصلاة أربع وأربع ... ثم ثلاث بعدهنّ أربع
ثم صلاة الفجر لا تضيّع
قال: صدقت، هات مسألتك؟ قاله له: كم فقار ظهرك؟ قال: لا أدري. قال:
فتحكم بين الناس وتجهل هذا من نفسك؟
قولهم في الغزل لبعض الأعراب:
ذكر أعرابي امرأة فقال: لها جلد من لؤلؤ مع رائحة المسك، وفي كل عضو منها شمس طالعة.
وذكر أعرابي امرأة، فقال: كاد الغزال أن يكونها لولا ما تم منها وما نقص منه.
وقال أعرابي في امرأة ودّعها للمسير: والله ما رأيت دمعة ترقرق من عين بإثمد «2» على ديباجة خدّ، أحسن من عبرة أمطرتها عينها فأعشب لها قلبي.(4/47)
قال: سمعت أعرابيا يقول: إن لي قلبا مروعا، وعينا دموعا؛ فماذا يصنع كل واحد منهما بصاحبه، مع أن داءهما، دواؤهما، وسقمهما شفاؤهما؟
وقال أعرابي: دخلت البصرة، فرأيت أعينا دعجا، وحواجب زجّا «1» ، يسحبن الثياب، ويسلبن الألباب.
وذكر أعرابي امرأة فقال: خلوت بها ليلة يزينها القمر، فلما غاب أرتنيه قلت له:
فما جرى بينكما؟ فقال: أقرب ما أحل الله مما حرّم الإشارة بغير باس، والتقرب من غير مساس.
وذكر أعرابي امرأة فقال: هي أحسن من السماء، وأطيب من الماء.
قال: وسمعت أعرابيا يقول: ما أشد جولة الرأي عند الهوى، وفطام النفس عن الصبا؛ ولقد تقطعت كبدي للعاشقين. لوم العاذلين قرطة «2» في آذانهم، ولوعات الحب جبرات على أبدانهم، مع دموع على المغاني، كغروب السواني «3» .
وذكر أعرابي امرأة فقال: لقد نعمت عين نظرت إليها، وشفي قلب تفجع عليها؛ ولقد كنت أزورها عند أهلها؛ فيرحب بي طرفها، ويتجهّمني لسانها. قيل له: فما بلغ من حبك لها؟ قال: إني ذاكر لها وبيني وبينها عدوة الطائر، فأجد لذكرها ريح المسك.
وذكر أعرابي نسوة خرجن متنزهات، فقال: وجوه كالدنانير، وأعناق كأعناق اليعافير «4» ، وأوساط كأوساط الزناببر، أقبلن إلينا بحجول تخفق، وأوشحة تعلق، وكم أسير لهنّ وكم مطلق.
قال: وسمعت أعرابيا يقول اتبعت فلانة إلى طرابلس الشام؛ والحريص جاحد،(4/48)
والمضل ناشد؛ ولو خضت إليها النار ما ألمتها.
قال: وسمعت أعرابيا يقول: الهوى هوان ولكن غلط باسمه، وإنما يعرف من يقول، من أبكته المنازل والطول.
وقال أعرابي: كنت في شباب أعضّ على الملام، عضّ الجواد على اللجام، حتى أخذ الشيب بعنان شبابي.
وذكر أعرابي امرأة فقال: إن لساني لذكرها لذلول، وإن حبّها لقلبي لقتول، وإن قصير الليل بها ليطول.
وصف أعرابي نساء ببلاغة وجمال، فقال: كلامهنّ أقتل من النبل، وأوقع بالقلب من الوبل بالمحل؛ فروعهنّ أحسن من فروع النخل.
ونظر أعرابي إلى امرأة حسناء جميلة تسمى ذلفاء، ومعها صبي يبكي، فكلما بكى قبلته؛ فأنشأ يقول:
يا ليتني كنت صبيّا مرضعا ... تحملني الذّلفاء حولا أكتعا «1»
إذا بكيت قبّلتني أربعا ... فلا أزال الدهر أبكى أجمعا
وأنشد أبو الحسن علي بن عبد العزيز بمكة لأعرابي:
جارية في سفوان دارها ... تمشي الهوينا مائلا خمارها «2»
قد أعصرت أو قد دنا إعصارها ... يطير من غلمتها إزارها «3»
العتبي قال: وصف أعرابي امرأة حسناء، فقال: تبسم عن خمش اللثات «4» ، كأفاحي النبات، فالسعيد من ذاقه، والشقي من راقه.
وقال العتبي: خرجت ليلة حين انحدرت النجوم وشالت أرجلها؛ فما زلت أصدع الليل حتى انصدع الفجر، فإذا بجارية كأنها علم، فجعلت أغازلها، فقالت: يا هذا، أمالك ناه من كرم، إن لم يكن لك زاجر من عقل! قلت: والله ما يراني إلا(4/49)
الكواكب. قالت: فأين مكوكبها.
ذكر أعرابي امرأة فقال: هي السقيم الذي لا برء معه، والبرء الذي لا سقم معه؛ وهي أقرب من الحشا، وأبعد من السما.
وقال أعرابي وقد نظر إلى جارية بالبصرة في مأتم:
بصريّة لم تبصر العين مثلها ... غدت ببياض في ثياب سواد
غدوت إلى الصحراء تبكين هالكا ... فأهلكت حيا، كنت أشأم عاد!
فيا ربّ خذ لي رحمة من فؤادها ... وحل بين عينيها وبين فؤادي
وقال في جارية ودّعها:
مالت تودّعني والدمع يغلبها ... كما يميل نسيم الريح بالغصن
ثم استمرّت وقالت وهي باكية ... ياليت معرفتي إيّاك لم تكن
العتبي قال: أنشد أعرابي:
يا زين من ولدت حواء من ولد ... لولاك لم تحسن الدنيا ولم تطب
أنت التي من أراه الله صورتها ... نال الخلود فلم يهرم ولم يشب
وأنشد الرياشي لأعرابي:
من دمنة خلقت عيناك في هتن ... فما يردّ البكا جهلا من الدّمن «1»
ما كنت للقلب إلا فتنة عرضت ... يا حبّذا أنت من معروضة الفتن
تسيء سلمى وأجزيها به حسنا ... فمن سواي يجازي السّوء بالحسن
قال وسمعت أعرابيا يصف امرأة؛ فقال: بيضاء جعدة «2» ، لا يمس الثوب منها إلا مشاشة «3» كتفيها، وحلمتي ثدييها، ورضفتي «4» ركبتيها، ورانفتي «5» أليتيها:
وأنشد:(4/50)
أبت الرّوادف والثّديّ لقمصها ... مسّ البطون وأن تمسّ ظهورا
وإذا الرّياح مع العشيّ تناوحت ... نبّهن حاسدة وهجن غيورا
وقال أعرابي: ليت فلانة حظي من أملي، ولرب يوم سرته إليها حتى قبض الليل بصري دونها؛ وإن من كلام النساء فقال: تلك شمس باهت الأرض شمس سمائها، وليس لي شفيع في اقتضائها، وإن نفسي لكتوم لدائها، ولكنها تفيض عند امتلائها.
أخذ هذا المعنى حبيب فقال:
ويا شمس أرضيها التي تم نورها ... فباهت بها الأرضون شمس سمائها
شكوت وما الشّكوى لمثلي عادة ... ولكن تفيض النّفس عند امتلائها.
وقيل لأعرابي: ما بال الحب اليوم على غير ما كان عليه قبل اليوم؟ قال: نعم، كان الحب في القلب فانتقل إلى المعدة؛ إن أطعمته شيئا أحبها، وإلا فلا: كان الرجل يحب المرأة، يطيف بدارها حولا، ويفرح إن رأى من رآها، وإن ظفر منها بمجلس تشاكيا وتناشدا الأشعار؛ وإنه اليوم يشير إليها وتشير إليه، ويعدها وتعده فإذا اجتمعا لم يشكوا حبا، ولم ينشدا شعرا، ولكن يرفع رجليها ويطلب الولد.
وقال أعرابي:
شكوت! فقالت: كلّ هذا تبرّما ... بحبي! أراح الله قلبك من حبّي
فلمّا كتمت الحبّ قالت: لشدّ ما ... صبرت! وما هذا بفعل شجي القلب!
وأدنو فتقصيني، فأبعد طالبا ... رضاها، فتعتدّ التّباعد من ذنبي
فشكواي تؤذيها، وصبري يسوءها ... وتجزع من بعدي، وتنفر من قربي
فيا قوم هل من حيلة تعلمونها ... أشيروا بها واستوجبوا الشّكر من ربي(4/51)
قولهم في الخيل
الأصمعي قال: سمعت أعرابيا يقول: خرجت علينا خيل مستطيرة النقع «1» ، كأنّ هواديها «2» أعلام. وآذانها أطراف أقلام؛ وفرسانها أسود آجام.
أخذ هذا المعنى عدي بن الرقاع فقال:
يخرجن من فرجات النقع دامية ... كأنّ آذانها أطراف أقلام
وقال أعرابي: خرجنا حفاة حين انتعل كلّ شيء بظلّه، وما زادنا إلا التوكل ولا مطايانا إلا الأرجل؛ حتى لحقنا القوم.
وذكر أعرابي فرسا وسرعته؛ فقال: لما خرجت الخيل أقبل شيطانا في أشطان، فلما أرسلت لمع لمع البرق؛ فكان أقربها «3» إليه الذي تقع عينه [من بعد] عليه.
وقال أعرابي في فرس الأعور السلمي:
مرّ كلمع البرق سام ناظره ... يسبح أولاه ويطفو آخره
فما يمسّ الأرض منه حافره
سئل أعرابي عن سوابق الخيل، فقال: الذي إذا مشى ردى «4» ، وإذا عدا دحا «5» ؛ وإذا استقبل أقعى، وإذا استدبر جبّى «6» ، وإذا اعترض استوى.
وذكر أعرابي خيلا؛ فقال: والله ما انحدرت في واد إلا ملأت بطنه، ولا ركبت بطن جبل إلا أسهلت حزنه.
وقال أعرابي: خرجت على فرس يختال اختيال النّشوان، نسوف للحزام؛ مهارش للجام؛ فما متع «7» النهار حتى أمتعنا برف ورفاهة.(4/52)
قولهم في الغيث
لامرىء القيس وعبيد بن الأبرص:
الأصمعي قال: قلت لأعرابي: أي الناس أوصف للغيث؟ قال: الذي يقول- يعني امرأ القيس-:
ديمة هطلاء فيها وطف ... طبق الأرض تحرّي وتدرّ «1»
قلت: فبعده من؟ قال: الذي يقول- يعني عبيد بن الأبرص-:
يا من لبرق أبيت الليل أرقبه ... في عارض مكفهرّ المزن دلّاح»
دان مسفّ فويقّ الأرض هيدبه ... يكاد يدفعه من قام بالراح
سليمان وأعرابي:
ودخل أعرابي على سليمان بن عبد الملك، فقال: أصابتك سماء في وجهك يا أعرابي؟ قال: نعم يا أمير المؤمنين، غير أنها سحاء طخياء «3» وطفاء؛ كأن هواديها الدّلاء، مرجحنّة النواحي، موصولة بالآكام، تكاد تمس هام الرجال؛ كثير زجلها، قاصف رعدها، خاطف برقها، حثيث ودقها، بطيء سيرها؛ مثعنجر قطرها، مظلم نوؤها؛ قد لجأت الوحش إلى أوطانها، تبحث عن أصوله بأظلافها، متجمعة بعد شتاتها؛ فلولا اعتصامنا يا أمير المؤمنين بعضاة الشجر، وتعلقنا بقنن الجبال، لكنا جفاء «4» في بعض الأودية ولقم «5» الطريق، فأطال الله للأمة بقاءك، ونسألها في أجلك، فهذا ببركتك وعادة الله بك على رعيتك، وصلى الله على سيدنا محمد. فقال سليمان: لعمر أبيك، لئن كانت بديهة لقد أحسنت وإن كانت محبرة لقد أجدت.
قال: بل محبرة مزوّرة يا أمير المؤمنين. قال: يا غلام أعطه؛ فو الله لصدقه أعجب إلينا من صفنه.(4/53)
قيل لأعرابي: أي الألوان أحسن؟ قال: قصور بيض في حدائق خضر.
وقيل لآخر: أي الألوان أحسن؟ قال: بيضة «1» في روضة غبّ سارية والشمس مكبّدة «2» .
وقال أعرابي: لقد رأيت بالبصرة برودا كأنها صبغت بأنوار الربيع، فهي تروع واللابس لها أروع.
العتبي قال: سمعت أعرابيا يقول: مررت ببلد ألقى بها الصيّف «3» بعاعه، فأظهر غديرا يقصر الطرف عن أرجائه، وقد نفت الريح القذى عن مائه؛ فكأنه سلاسل درع ذات فضول.
وأنشد أبو عثمان الجاحظ لأعرابي:
أين إخواننا على السّرّاء ... أين أهل القباب والدهناء «4»
جاورنا والأرض ملبسة نو ... ر إقاح يجاد بالأنواء
كلّ يوم بأقحوان جديد ... تضحك الأرض من بكاء السماء
لابن مطير:
ابن عمران المخزومي قال: أتيت مع أبي واليا على المدينة من قريش، وعنده أعرابي يقال له ابن مطير، وإذا مطر جود؛ فقال له الوالي: صفه؛ فقال: دعني أشرف وأنظر. فأشرف ونظر، ثم قال:
كثرت لكثرة ودقه أطباؤه ... فإذا تحلّب فاضت الأطباء «5»
وله رباب هيدب لرقيقه ... قبل التّبعّق ديمة وطفاء «6»
وكأنّ بارقه حريق تلتقي ... ريح عليه وعرفج وألاء «7»(4/54)
وكأنّ ريّقه ولمّا يحتفل ... ودق السماء عجاجة طخياء «1»
مستضحك بلوامع مستعبر ... بمدامع لم تمرها الأقذاء
فله بلا حزن ولا بمسرّة ... ضحك يؤلّف بينه وبكاء
حيران متّبع صباه تقوده ... وجنوبه كف له ورهاء «2»
ثقلت كلاه فبهّرت أصلابه ... وتبعّجت عن مائه الأحشاء «3»
غدق تبعّج بالأباطح مزّقت ... تلك السّيول ومالها أشلاء
غرّ محجّلة دوالج ضمّنت ... حمل الّلقاح وكلّها عذراء «4»
سحم فهنّ إذا عبسن فواحم ... سود، وهنّ إذا ضحكن وضاء
لو كان من لجج السواحل ماؤه ... لم يبق في لجج السواحل ماء
هشام وأعرابي يصف له السحاب:
قال هشام بن عبد الملك لأعرابي: اخرج فانظر كيف ترى السحاب. فخرج فنظر، ثم انصرف فقال: سفائن، وإن اجتمعت فعين.
قولهم في البلاغة والإيجاز
قيل لأعرابي: من أبلغ الناس؟ قال: أحسنهم لفظا وأسرعهم بديهة.
الأصمعي قال: خطب رجل في نكاح فأكثر وطوّل، فقيل: من يجيبه؟ قال أعرابي: أنا. قيل له: أنت وذاك؟ فالتفت إلى الخاطب فقال: إني والله ما أنا من تخطيطك وتمطيطك «5» في شيء، قد متتّ بحرمة، وذكرت حقا، وعظّمت مرجوّا، فحبلك موصول، وفرضك مقبول، وأنت لها كفء كريم، وقد أنكحناك وسلّمنا.(4/55)
ربيعة الرأي وأعرابي:
وتكلم ربيعة الرأي يوما فأكثر، فكأن العجب داخله، وأعرابي إلى جنبه، فأقبل على الأعرابي فقال: ما تعدّون البلاغة يا أعرابي؟ قال: قلة الكلام وإيجاز الصواب.
قال: فما تعدون العيّ؟ قال: ما كنت فيه منذ اليوم! فكأنما ألقمه حجرا.
شبيب وأعرابي:
شبيب بن شيبة قال: لقيت أعرابيا في طريق مكة، فقال لي: تكتب؟ قلت: نعم.
قال: ومعك دواة؟ قلت: نعم. فأخرج قطعة جراب من كمه، ثم قال: اكتب ولا تزد حرفا ولا تنقص: هذا كتاب كتبه عبد الله بن عقيل الطائي لأمته لؤلؤة: إني أعتقتك لوجه الله واقتحام العقبة، فلا سبيل لي ولا لأحد عليك إلا سبيل الولاء، والمنة عليّ وعليك من الله وحده، ونحن في الحق سواء ثم قال: اكتب شهادتك.
روي أن أعرابيا حضر مجلس ابن عباس، فسمع عنده قارئا يقرأ: وَكُنْتُمْ عَلى شَفا حُفْرَةٍ مِنَ النَّارِ فَأَنْقَذَكُمْ مِنْها
«1» ؛ فقال الأعرابي: والله ما أنقذكم منها وهو يرجعكم إليها. فقال ابن عباس: خذوها من غير فقيه.
قولهم في حسن التوقيع وحسن التشبيه
قيل لأعرابي: ما لك لا تطيل الهجاء؟ قال: يكفيك من القلادة ما أحاط بالعنق.
وقيل لأعرابي: كم بين كذا وبلد كذا؟ قال: عمر ليلة وأديم يوم.
وقال آخر: سواد ليلة وبياض يوم.
وقيل لأعرابي: كيف كتمانك للسر؟ قال: ما صدري له إلا قبر.
معاوية وأعرابية:
قال معاوية لأعرابية: هل من قرى؟ قالت: نعم. قال: وما هو؟ قالت: خبز خمير، ولبن فطير، وماء نمير.(4/56)
وقيل لأعرابي: فيم كنتم؟ قال: كنا بين قدر تفور، وكأس تدور، وحديث لا يحور «1» .
وقيل لأعرابي: ما أعددت للبرد؟ قال: شدة الرعدة، وقرفصاء القعدة، وذرب المعدة «2» .
وقيل لأعرابي: ما لك من الولد؟ قال: قليل خبيث. قيل له: ما معناه؟ قال: إنه لا أقل من واحد، ولا أخبث من أنثى! وقال: أضل أعرابي الطريق ليلا، فلما طلع القمر اهتدى؛ فرفع رأسه إليه متشكرا فقال: ما أدري ما أقول لك وما أقول فيك؛ أأقول رفعك الله! فقد رفعك:
أم أقول: نوّرك الله! فقد نوّرك! أم أقول: حسّنك الله! فقد حسّنك؛ أم أقول:
عمرك الله! فقد عمرك؛ ولكني أقول: جعلني الله فداك! وقيل لأعرابي: ما تقول في ابن العم؟ قال: عدوّك وعدوّ عدوّك.
وقيل لأعرابي وقد أدخل ناقته في السوق ليبيعها: صف لنا ناقتك. قال: ما طلبت عليها قط إلا أدركت، وما طلبت إلا فتّ. قيل له: فلم تبيعها؟ قال: لقول الشاعر:
وقد تخرج الحاجات يا أمّ عامر ... كرائم من ربّ بهنّ ضنين
وقيل لأعرابي: كيف ابنك؟ وكان به عاقا؛ قال: عذاب لا يقاومه الصبر، وفائدة لا يجب فيها الشكر، فليتني قد استودعته القبر.
قيل لشريح القاضي: هل كلمك أحد قط فلم تطق له جوابا؟ قال ما أعلمه إلا أن يكون أعرابيا خاصم عندي ويشير بيديه، فقلت له: أمسك، فإن لسانك أطول من يدك! قال:
أسامريّ أنت لا تمس(4/57)
وقيل لأعرابي: ما عندكم في البادية طبيب؟ قال: حمر الوحش لا تحتاج إلى بيطار.
وقال أعرابي يصف خاتما- فقال: سيّف «1» تدوير حلقته، ودوّر كرسيّ قضته «2» ، وأحكم تركيبه، وأتقن تدبيره، فبه يتمّ الملك، وينفذ الأمر، ويكرم الكتاب ويشرف المكتوب إليه.
وقال آخر يصف خاتما:
وأبيض أمّا جسمه فمنوّر ... نقيّ وأمّا رأسه فمعار
ولم يكتسب إلا لتسكن وسطه ... بزيعة رأس ما عليه خمار «3»
لها أخوات أربع هنّ مثلها ... ولكنها الصّغرى وهنّ كبار «4»
قولهم في المناكح
بين جاريتين:
يحيى بن عبد العزيز عن محمد بن الحكم عن الشافعي قال: تزوج رجل من الأعراب امرأة جديدة على امرأة قديمة، وكانت جارية الجديدة تمر على باب القديمة فتقول:
وما يستوي الرّجلان رجل صحيحة ... ورجل رمى فيها الزمان فشلّت
ثم مرت بعد أيام فقالت:
.. وما يستوي الثوبان ثوب به البلى ... وثوب بأيدي البائعين جديد
فخرجت إليها جارية القديمة فقالت:
نقّل فؤادك حيث شئت من الهوى ... ما القلب إلّا للحبيب الأوّل(4/58)
كم منزل في الأرض يألفه الفتى ... وحنينه أبدا لأوّل منزل
أعرابي وولي امرأة:
الأصمعي قال: أخبرني أعرابي قال: خطب منا رجل مغموز امرأة مغموزة «1» فزوّجوه؛ فقال رجل لوليّ المرأة: تعمّم لكم فلان فزوجتموه! فقالوا: ما تعمم لنا حتى تبرقعنا له.
لأعرابية تنصح بنات عمها:
أبو حاتم عن الأصمعي قال: قالت أعرابية لبنات عم لها: السعيدة منكم من يتزوجها ابن عمها، فيمهرها بتيسين وكلبين وعيرين ورحيين، فينبّ «2» التيسان، وينهق العيران، وينبح الكلبان، وتدور الرحيان، فيعج الوادي؛ والشقية منكن من يتزوجها الحضري، فيكسوها الحرير، ويطعمها الخمير، ويحملها ليلة الزفاف على عود- تعني: سرجا.
الأصمعي قال: سمعت أعرابيا يشارّ امرأته، فقالت لها أخته. أما والله أيام شرخه «3» إذ كان ينكتك كما ينكت العظم عن مخه، لقد كنت له تبوعا، ومنه سموعا؛ فلما لان منه ما كان شديدا، وأخلق منه ما كان جديدا، تغيرت له! وايم الله لئن كان تغير منه البعض لقد تغير منك الكل.
لأعرابي في زوجته:
وقيل لأعرابي: كيف حبك لزوجتك؟ قال: ربما كنت معها على الفراش فمدّت يدها إلى صدري، فوددت والله أن آجرّة خرّت من السقف فقدّت يدها وضلعين من أضلاع صدري! ثم أنشأ يقول:
لقد كنت محتاجا إلى موت زوجتي ... ولكن قرين السّوء باق معمّر(4/59)
فياليتها صارت إلى القبر عاجلا ... وعذّبها فيه نكير ومنكر
لآخر في مثله:
وتزوّج أعرابي امرأة، فطالت صحبتها له، فتغير لها وقد طعنت في السنّ، فقالت له: ألم تكن ترضي إذا غضبت، وتعتب إذا عتبت، وتشفق إذا أبيت؛ فما بالك الآن؟ قال: ذهب الذي كان يصلح بيننا.
الأصمعي وأعرابي طلق زوجته:
الأصمعي قال: كنت أختلف إلى أعرابي أقتبس منه الغريب، فكنت إذا استأذنت عليه يقول: يا أمامة، إيذني له. فتقول: ادخل. فاستأذنت عليه مرارا فلم أسمعه يذكر أمامة؛ فقلت له: يرحمك الله، ما أسمعك تذكر أمامة منذ حين! قال: فوجم وجمة ندمت على ما كان مني؛ ثم قال:
ظعنت أمامة بالطلاق ... ونجوت من غلّ الوثاق
بانت فلم يألم لها ... قلبي ولم تدمع مآقي
ودواء ما لا تشتهيه ... النفس تعجيل الفراق
والعيش ليس يطيب بي ... ن اثنين في غير اتّفاق
لو لم أرح بفراقها ... لأرحت نفسي بالإباق «1»
لأعرابي طلق امرأته:
الأصمعي قال: تزوج أعرابي امرأة فآذته وافتدى منها بحمار وجبة، فقدم عليه ابن عمّ لها من البادية فسأله عنها؛ فقال:
خطت إلى الشيطان للحين بنته ... فأدخلها من شقوتي في حباليا
فأنقذني منها حماري وجبّتي ... جزى الله خيرا جبتي وحماريا(4/60)
لأعرابي بين يدي زياد:
الأصمعي قال: خاصم أعرابي امرأته إلى زياد، فشدّد على الأعرابي؛ فقال: أصلح الله الأمير؛ إن خير عمر الرجل آخره؛ يذهب جهله ويثوب حلمه، ويجتمع رأيه؛ وإن شر عمر المرأة آخره؛ يسوء خلقها، ويحدّ لسانها، وتعقم رحمها! قال له:
صدقت، اسفع «1» بيدها.
لبعض الأعراب في مثله:
قال: وذكرت أعرابية زوجها وكان شيخا! فقالت: ذهب ذفره «2» ، وبقى بخره، وفتر ذكره.
الأصمعي قال: كان أعرابي قبيح طويل خطب امرأة؛ فقيل له: أيّ ضرب تريدها؟ قال: أريدها قصيرة جميلة، فيأتي ولدها في جمالها وطولي. فتزوجها على تلك الصفة، فجاء ولدها في قصرها وقبحه! قدم أعرابي من طيء فاحتلب لبنا ثم قعد مع زوجته ينتجعان، فقالت له: من أنعم عيشا، أنحن أم بنو مروان؟ قال لها: بنو مروان أطيب منا طعاما، إلا أنّا أردأ منهم كسوة؛ وهم أظهر منا نهارا إلا أنا نحن أظهر منهم ليلا.
الأصمعي قال: خاصم أعرابي امرأته إلى السلطان، فقيل له: ما صنعت؟ قال:
خيرا، كبها الله لوجهها ولو أمر بي إلى السجن! الأصمعي قال: استشارت أعرابية في رجل تتزوجه، فقيل لها: لا تفعلي فإنه وكلة تكلة، يأكل خلله أي يأكل ما يخرج من بين أسنانه إذا تخلل. قال أبو حاتم:
هو الخلالة. ووكلة تكلة: إذا كان يكل أمره إلى الناس ويتكل عليهم.
العتبي قال: خطب إلى أعرابي رجل موسر إحدى ابنتيه. وكان للخاطب امرأة،(4/61)
فقالت الكبرى: لا أريده! قال أبوها: ولم؟ قالت: يوم عتاب، ويوم اكتئاب، يبلى فيما بين ذلك الشباب! قالت الصغرى: زوّجنيه! قال لها: على ما سمعت من أختك؟
قالت: نعم، يوم تزيّن، ويوم تسمّن، وقد تقر فيما بين ذلك الأعين.
لأعرابية ترقص طفلا:
الأصمعي قال: رأيت امرأة ترقّص طفلا لها، وتقول:
أحبّه حبّ الشحيح ماله ... قد كان ذاق الفقر ثمّ ناله
إذا أراد بذله بدا له
أعرابية فقدت زوجها:
الأصمعي قال: هلك أعرابي، فأدمنت امرأته البكاء عليه. فقال بعض بنيها:
أتفقدين من أبينا غيره ... أتفقدين نفعه وخيره
أراك ما تبكين إلا أيره
فأمسكت عن البكاء.
أعرابية وأعرابي ينظر إلى ابنتها:
جلس أعرابي إلى أعرابية، فعلمت أنه ما جلس إلا لينظر إلى ابنتها، فأنشأت تقول:
وما نلت منها غير أنك نائك ... بعينيك عينيها وأيرك خائب
الرياشي قال: أنشدني العتبي لأعرابي:
ماذا تظن بسلمى إن ألّم بها ... مرجّل الرأس ذو بردين مزّاح
حلو فكاهته خزّ عمامته ... في كفّه من رقى إبليس مفتاح!
أعرابي وامرأة خطبها:
أبو حاتم عن الأصمعي قال: خطب أعرابي امرأة، فقالت: سل عني بني فلان(4/62)
وبني فلان. قال لها: وما علمهم بذلك؟ قالت: في كلهم نكحت وكنت، قال: أراك جلنفعة «1» قد خزمتك الخزائم، قالت: لا، ولكن جوّالة بالرجل عنتريس «2» .
تزوج رجل من الأعراب امرأة منهم عجوزا ذات مال، فكان يصبر عليها لمالها، ثم ملّها وتركها، وكتبت إليه تستردّه، فكتب إليها يقول:
ليس بيني وبين قيس عتاب ... غير طعن الكلا وضرب الرّقاب
فكتبت إليه: إنه والله ما يريد قيس غير طعن الكلا!
أعرابي خاطب:
المفضل الضبي قال: خطب أعرابي امرأة، فجعل يخطبها وينعظ، فضرب ذكره بيده وقال: مه! إليك يساق الحديث. فأرسلها مثلا.
أبو البيداء:
علي بن عبد العزيز قال: كان أبو البيداء عنّينا، وكان يتجلد ويقول لقومه:
زوّجوني امرأتين! فيقال له: إن في واحدة كفاية. فيقول: أمّا لي فلا! فقالوا:
نزوّجك واحدة، فإن كفتك وإلا زوّجناك أخرى. فزوّجوه أعرابية، فلما دخل بها أقام معها أسبوعا، فلما كان في اليوم السابع أتوه، فقالوا له: يا أبا البيداء، ما كان أمرك في اليوم الأول؟ قال: عظيم جدا! قالوا: ففي الثاني؟ قال: أجلّ وأعظم! قالوا: ففي الثالث؟ قال: لا تسألوا! فأجابت المرأة من وراء الستر، فقالت:
كان أبو البيداء ينزو في الوهق ... حتى إذا أدخل في بيت أبق «3»
فيه غزال حسن الدّلّ خرق ... مارسه حتى إذا ارفضّ العرق»
انكسر المفتاح وانسدّ الغلق(4/63)
لأعرابي في امرأته:
كانت لأعرابي امرأة لا تردّ يد لامس؛ فقيل له؛ مالك لا تفارقها؟ قال: إنها حسناء فلا تفرك، وأم بنين فلا تترك.
قال الشيخ من الأعراب:
أنا شيخ ولي امرأة عجوز ... تراودني على ما لا يجوز
تريد أنيكها في كلّ يوم ... وذلك عند أمثالي عزيز
وقالت دقّ أيرك مذ كبرنا ... فقلت لها بل اتّسع القفيز
الأصمعي قال: قال أعرابي في امرأة تزوّجها، وقد تزوّجت قبله خمسة، وتزوّج هو قبلها أربعا، فلاحته يوما، فقال فيها:
لو لابس الشيطان ما ألابس ... أو مارس الغول التي أمارس
لأصبح الشيطان وهو عابس ... زوّجها أربعة عمارس «1»
فانفلتوا منها ومات الخامس ... وساقني الحين فهانا السادس
وقال فيها:
بويزل أعوام أذاعت بخمسة ... وتعتدّني- إن لم يق الله- ساديا «2»
ومن قبلها غيّبت في الترب أربعا ... وأعتدّها مذ جئتها في رجائيا
كلانا مطلّ مشرف لغنيمة ... يراها ويقضي الله ما كان قاضيا
وقال أعرابي:
أشكو إلى الله عيالا دردقا ... مقرقمين وعجوزا شملقا «3»
الدردق: الصغار. والمقرقم: البطيء الشباب. والشملق السيئة الخلق.(4/64)
قولهم في الإعراب
لبعض الأعراب في معنى هذا العنوان:
الأصمعي قال: قلت لأعرابي: أتهمز إسرائيل؟ قال: إني إذا لرجل سوء! قلت له: أفتجرّ فلسطين؟ قال: إني إذا لقوي.
وسمع أعرابي إماما يقرأ: ولا تنكحوا المشركين حتى يؤمنوا، قال. ولا إن آمنوا أيضا، لا ننكحهم. فقيل له: إنه يلحن، وليس هذا يقرأ. فقال: أخّروه قبحه الله! ولا تجعلوه إماما؛ فإنه يحلّ ما حرّم الله.
وسمع أعرابي أبا المكنون النحوي وهو يقول في دعائه يستسقي: اللهم ربّنا وإلهنا وسيدنا ومولانا، صلّ على محمد نبينا؛ [اللهم] ومن أراد بنا سوءا فأحط ذلك السوء به كإحاطة القلائد بأعناق الولائد، ثم أرسخه على هامسته كرسوخ السّجّيل «1» على هام أصحاب الفيل، اللهم اسقنا غيثا مريئا مريعا «2» مجلجلا «3» مسحنفرا «4» هزجا «5» سحّا سفوحا طبقا «6» غدقا مثعنجرا «7» صخبا نافعا لعامّتنا وغير ضارّ بخاصّتنا. فقال الأعرابي: يا خليفة نوح، [هذا] الطوفان وربّ الكعبة، دعني حتى آوي إلى جبل يعصمني من الماء.
الأصمعي قال: أصابت الأرض مجاعة؛ فلقيت رجلا منهم خارجا من الصحراء كأنه جذع محترق فقلت: أتقرأ في كتاب الله شيئا؟ قال: لا. قلت: فأعلمك؟ قال:
ما شئت. قلت: اقرأ قُلْ يا أَيُّهَا الْكافِرُونَ
«8» . قال: كل يا أيها الكافرون.
قلت: [قل] قُلْ يا أَيُّهَا الْكافِرُونَ
كما أقول لك. قال: ما أجد لساني ينطق بذلك.(4/65)
قال: ورأيت أعرابيا ومعه بنيّ له صغير ممسك بفم قربة، وقد خاف أن تغلبه القربة؛ فصاح: يا أبت، أدرك فاها، غلبني فوها، لا طاقة لي بفيها!
قولهم في الدين
قال أعرابي: الدّين ذل بالنهار وهمّ بالليل.
وقال أعرابي في غرماء له يطلبونه بدين:
جاءوا إليّ غضابا يلغطون معا ... فقلت موعدكم دار ابن هبّار
وما أواعدهم إلّا لأدرأهم ... عني فيحرجني نقضي وإمراري «1»
وما جلبت إليهم غير راحلة ... تخدي برحلي وسيف جفنه عاري «2»
إنّ القضاء سيأتي دونه زمن ... فاطو الصحيفة واحفظها من النار
الأصمعي قال: كان لرجل من يحصب على رجل من باهلة دين؛ فلما حل دينه هرب الأعرابي وأنشأ يقول:
إذا حلّ دين اليحصبيّ فقل له ... تزوّد بزاد واستعن بدليل
سيصبح فوقي أقتم الريش واقعا ... بقالي قلا أو من وراء دبيل «3»
قال الأصمعي: اختصم أعرابيان إلى بعض الولاة في دين لأحدهما على صاحبه؛ فجعل المدّعى عليه يحلف بالطلاق والعتاق، فقال له المدعي: دعني من هذه الأيمان واحلف بما أقوله لك: لا ترك الله لك خفا يتبع خفا ولا ظلفا يتبع ظلفا؛ وحتّك من أهلك ومالك حتّ «4» الورق من الشجر، إن لم يكن لي هذا الحق قبلك! فأعطاه حقه ولم يحلف له.
الهيثم بن عدي قال: يمين لا يحلف بها أعرابي أبدا: لا أورد الله لك صادرة، ولا أصدر لك واردة، ولا حططت رحلك، ولا خلعت نعلك.(4/66)
قولهم في النوادر والملح
أبو العباس وأعرابي:
الشيباني قال: خرج أبو العباس أمير المؤمنين متنزها بالأنبار، فأمعن في نزهته وانتبذ من أصحابه؛ فوافى خباء لأعرابي، فقال له الأعرابي: ممن الرجل؟ قال: من كنانة. قال: من أي كنانة؟ قال: من أبغض كنانة إلى كنانة. قال: فأنت إذا من قريش! قال: نعم. قال: فمن أي قريش! قال: من أبغض قريش إلى قريش، قال:
فأنت إذا من ولد عبد المطلب! قال: نعم. قال: فمن أي ولد عبد المطلب؟ قال: من أبغض ولد عبد المطلب إلى ولد عبد المطلب. قال: فأنت إذا أمير المؤمنين، السلام عليك يا أمير المؤمنين! ووثب إليه، فاستحسن ما رأى منه وأمر له بجائزة.
الشيباني قال: خرج الحجاج متصيدا بالمدينة، فوقف على أعرابي يرعى إبلا له، فقال له: يا أعرابي، كيف رأيت سيرة أميركم الحجاج؟ قال له الأعرابي: غشوم ظلوم! لا حيّاه الله! فقال: فلم لا شكوتموه إلى أمير المؤمنين عبد الملك؟ قال: فأظلم وأغشم! فبينا هو كذلك إذ أحاطت به الخيل، فأومأ الحجاج إلى الأعرابي، فأخذ وحمل؛ فلما صار معه قال: من هذا؟ قالوا له: الحجاج! فحرك دابته حتى صار بالقرب منه، ثم ناداه: يا حجاج! قال: ما تشاء يا أعرابي؟ قال: السر الذي بيني وبينك أحب أن يكون مكتوما! قال: فضحك الحجاج وأمر بتخلية سبيله.
يوسف بن عمر ووال:
الأصمعي قال: ولّى يوسف بن عمر صاحب العراق أعرابيّا على عمل له؛ فأصاب عليه خيانة فعزله، فلما قدم عليه قال له: يا عدوّ الله! أكلت مال الله! قال الأعرابي: فمال من آكل إذا لم آكل مال الله؟ لقد راودت إبليس أن يعطيني فلسا واحدا فما فعل. فضحك منه وخلى سبيله.(4/67)
ابن جعفر وأعرابية:
الشيباني قال: نزل عبد الله بن جعفر إلى خيمة أعرابية ولها دجاجة وقد دجنت عندها، فذبحتها وجاءت بها إليه فقالت: يا أبا جعفر، هذه دجاجة لي كنت أدجنها وأعلفها من قوتي! وألمسها في آناء الليل فكأنما ألمس بنتي زلّت عن كبدي، فنذرت لله أن أدفنها في أكرم بقعة تكون، فلم أجد تلك البقعة المباركة إلا بطنك، فأردت أن أدفنها فيه. فضحك عبد الله بن جعفر وأمر لها بخمسمائة درهم.
بين أعرابي وقوم في الهلال:
ونظر أعرابي إلى قوم يلتمسون هلال شهر رمضان، فقال: والله لئن أريتموه لتمسكنّ منه بذناب «1» عيش أغبر.
بين الأصمعي وأعرابي في ماء:
الأصمعي قال: رأيت أعرابيا واقفا على ركيّة «2» ملحة، فقلت: كيف هذا الماء يا أعرابي؟ قال: يخطىء القلب ويصيب الاست.
بينه وبين أعرابي سمين:
ونظر أعرابي إلى رجل سمين فقال: أرى عليك قطيفة «3» من نسج أضراسك. «4»
قال: وسمعت أعرابيا يقول: اللهم إني أسألك ميتة كميتة أبي خارجة أكل بذجا، وشرب معسّلا، ونام في الشمس، فمات دفآن شبعان ريان.
النبي صلّى الله عليه وسلم وبعض الأعراب:
محمد بن وضاح يرفعه إلى أبي هريرة رضي الله عنه قال: دخل أعرابي المسجد والنبيّ صلّى الله عليه وسلم جالس، فقام يصلي؛ فلما فرغ قال: اللهم ارحمني ومحمدا ولا ترحم معنا(4/68)
أحدا. فقال النبي عليه الصلاة والسلام: «لقد حجّرت واسعا يا أعرابي» .
لبعض الأعراب:
قال: وسمعت أعرابيا وهو يقول في الطواف: اللهم اغفر لأمي. فقلت له: مالك لا تذكر أباك؟ فقال: أبي رجل يحتال لنفسه، وأما أمي فبائسة ضعيفة.
أبو حاتم عن أبي زيد قال: رأيت أعرابيا كأنّ أنفه كوز «1» من عظمه؛ فرآنا نضحك منه؛ فقال: ما يضحككم؟ فوالله لقد كنت في قوم ما كنت فيهم إلا أفطس.
قال: وجيء بأعرابي إلى السلطان ومعه كتاب قد كتب فيه قصته وهو يقول:
هاؤم اقرءوا كتابيه. فقيل له: يقال هذا يوم القيامة. قال: هذا والله شر من يوم القيامة؛ إن يوم القيامة يؤتى بحسناتي وسيئاتي، وأنتم جئتم بسيئاتي وتركتم حسناتي.
وقيل لأبي المخش الأعرابي: أيسرك أنك خليفة وأن أمتك حرّة؟ قال: لا والله ما يسرني! قيل له: ولم؟ قال: لأنها كانت تذهب الأمة وتضيع الأمّة.
اشترى أعرابي غلاما، فقيل للبائع: هل فيه من عيب؟ قال: لا، إلا أنه يبول في الفراش. قال: هذا ليس بعيب، إن وجد فراشا فليبل فيه.
الحجاج وأعرابي لص:
أخذ الحجّاج أعرابيا لصا بالمدينة فأمر بضربه؛ فلما قرعه بسوط قال: يا رب شكرا! حتى ضربه سبعمائة سوط، فلقيه أشعب، فقال له: أتدري لم ضربك الحجاج سبعمائة سوط؟ قال: لماذا؟ قال: لكثرة شكرك؛ إن الله تعالى يقول: لَئِنْ شَكَرْتُمْ لَأَزِيدَنَّكُمْ
«2» قال: وهذا في القرآن؟ قال: نعم. فقال الأعرابي:
يا ربّ لا شكر فلا تزدني ... أسأت في شكري فاعف عني(4/69)
باعد ثواب الشاكرين مني
أعرابي ينشد غلاما:
مرّ أعرابي بقوم وهو ينشد ابنا له، فقالوا له: صفه. قال: كأنه دنينير! قالوا: لم نره. ثم لم يلبث القوم أن أقبل الأعرابي وعلى عنقه جعل، فقالوا: هذا الذي قلت فيه كأنه دنينير؟ فقال: القرنبي في عين أمّها حسناء.
والقرنبى: دويبة من خشاش الأرض إذا مسّها أحد تقبّضت فصارت مثل الكرة.
لبعض الأعراب في الغزو:
قيل لأعرابي: ما يمنعك أن تغزو؟ قال: والله إني لأبغض الموت على فراشي، فكيف أن أمضي إليه ركضا.
وغزا أعرابي مع النبي صلّى الله عليه وسلم، فقيل له: ما رأيت مع رسول الله في غزاتك هذه؟
قال: وضع عنا نصف الصلاة، وأرجو في الغزاة الأخرى أن يضع النصف الباقي!
السختياني وبعض الأعراب:
جلس أعرابي إلى مجلس أيوب السّختياني، فقيل له: يا أعرابي، لعلك قدريّ؟
قال: وما القدري؟ فذكر له محاسن قولهم؛ قال: أنا ذاك. ثم ذكر له ما يعيب الناس من قولهم؛ فقال: لست بذاك. قال: فلعلك مثبت؟ قال: وما المثبت؟ فذكر محاسنهم؛ فقال: أنا ذاك. ثم ذكر له ما يعيب الناس منهم؛ فقال: لست بذاك. قال أيوب: هكذا يفعل العاقل؛ يأخذ من كل شيء أحسنه.
جرير وأعرابي:
الأصمعي قال: سمع أعرابي جريرا ينشد:
كاد الهوى يوم سلمانين يقتلني ... وكاد يقتلني يوما بنعمان «1»(4/70)
وكاد يقتلني يوما بذي خشب ... وكاد يقتلني يوما بسلمان
فقال: هذا رجل أفلت من الموت أربع مرات! لا يموت هذا أبدا.
الشيباني قال: بلغني أن أعرابيين ظريفين من شياطين العرب حطمتهما سنة، فانحدار إلى العراق؛ فبينما هما يتماشيان في السوق- واسم أحدهما خندان- إذا فارس قد أوطأ دابته رجل خندان، فقطع إصبعا من أصابعه، فتعلقا به حتى أخذا أرش «1» الإصبع، وكانا جائعين مقرورين، فلما صار المال بأيديهما قصدا إلى بعض الكرايج «2» ، فابتاعا من الطعام ما اشتهيا، فلما شبع صاحب خندان أنشأ يقول:
فلا غرثة ما دام في الناس كربج ... وما بقيت في رجل خندان إصبع «3»
أعرابية وابنها:
وهذا شبيه قول أعرابية في ابنها، وكان لها ابن شديد العرام «4» ، كثير القتال للناس، مع ضعف أسر ورقة عظم، فواثب مرة فتى من الأعراب، فقطع الفتى أنفه، فأخذت أمّه دية أنفه؛ فحسن حالها بعد فقر مدقع؛ ثم واثب آخر، فقطع أذنه؛ ثم أخذت دية أذنه فزادت في المال وحسن الحال؛ ثم واثب آخر فقطع شفته؛ ثم أخذت دية شفته؛ فلما رأت ما صار عندها من الإبل والبقر والغنم والمتاع بجوارح ابنها، ذكرته في أرجوزة لها تقول فيها:
أحلف بالمروة حقّا والصّفا ... أنك خير من تفاريق العصا
فقلت لأعرابي: ما تفاريق العصا؟ قال: العصا تقطع ساجورا، ثم يقطع الساجور أوتادا، ثم تقطع الأوتاد أشظّة.
لبعض الأعراب في الحج:
الأصمعي قال: خرج أعرابي إلى الحج مع أصحاب له، فلما كان ببعض الطريق(4/71)
راجعا يريد أهله، لقيه ابن عم له، فسأله عن أهله ومنزله، فقال: اعلم أنك لما خرجت وكانت لك ثلاثة أيام، وقع في بيتك الحريق. فرفع الأعرابي يديه إلى السماء، وقال: ما أحسن هذا يا رب! تأمرنا بعمارة بيتك أنت وتخرب بيوتنا.
وخرجت أعرابية إلى الحج، فلما كانت ببعض الطريق عطبت راحلتها، فرفعت يديها إلى السماء وقالت: يا رب، أخرجتني من بيتي إلى بيتك، فلا بيتي ولا بيتك! الأصمعي قال: عرضت السجون بعد هلاك الحجاج، فوجدوا فيها ثلاثة وثلاثين ألفا لم يجب على واحد منهم قتل ولا صلب؛ وفيهم أعرابي أخذ يبول في أصل سور مدينة واسط؛ فكان فيمن أطلق؛ فأنشأ يقول:
إذا ما خرجنا من مدينة واسط ... خرينا وبلنا لا نخاف عقابا
لأعرابي في الأولاد:
ذكر عند أعرابي الأولاد والانتفاع بهم؛ فقال: زوّجوني امرأة أولدها ولدا أعلمه الفروسية حتى يجري الرهان؛ والنزع عن القوس حتى يصيب الحدق، ورواية الشعر حتى يفحم الفحول. فزوّجوه امرأة فولدت له ابنة، فقال فيها:
قد كنت أرجو أن تكون ذكرا ... فشقّها الرّحمن شقّا منكرا
شقّا أبى الله له أن يجبرا ... مثل الذي لأمّها أو أكبرا
ثم حملت حملا آخر، فدخل عليها وهي في الطلق- وكانت تسمى ربابا- فقال:
أيا ربابي طرّقي بخير ... وطرّقي بخصية وأير «1»
ولا ترينا طرف البظير
ثم ولدت له أخرى، فهجر فراشها وكان يأتي جارة لها، فقالت فيه- وكان يكنى أبا حمزة-؛
ما لأبي حمزة لا يأتينا ... يظلّ في البيت الذي يلينا(4/72)
غضبان أن لا نلد البنينا ... وإنما نأخذ ما أعطينا!
فألانه قولها ورجع إليها.
لأعرابي يدعو:
وقال سعيد بن أبي الفرج: سمعت أعرابيا يطوف بالبيت وهو يقول:
لا همّ ربّ الناس حين لبّبوا ... وحين راحوا من منى وحصّبوا «1»
لا سقيت عثبثب وغلب ... والمستزار لا سقاه الكوكب
فقلت: يا أعرابي، ما لهذه المواضع تدعو عليها في هذا الموضع؟ فنظر إليّ كالغضبان فقال:
من أجل حماهن ماتت زينب
قولهم في التلصص
أبو حاتم قال: أنشدنا أبو زيد الأعرابي، وكان لصا:
ثلاث خلال لست عنهنّ تائبا ... وإن لا منى فيهن كلّ خليل
فمنهن أني لا أزال معانقا ... حمائل ماضي الشّفرتين صقيل
به كنت أستعدي وأعدي صحابتي ... إذا صرخ الزحفان باسم قتيل
ومنهنّ سوق النهب في ليلة الدّجى ... يحار بها في الليل كل دليل
ومنهن تجريد الكعاب ثيابها ... وقد مال جنح الليل كلّ مميل
وهذا المعنى سبقه إليه الأول:
فلولا ثلاث هنّ من عيشة الفتى ... وجدّك لم أحفل متى قام رامس «2»
فمنهن سبق العاذلات بشربة ... كأنّ أخاها مطلع الشمس ناعس(4/73)
ومنهن تقريط الجواد عنانه ... إذا ابتدر الشخص الصفي الفوارس «1»
ومنهنّ تجريد الكواعب كالدّمى ... إذا ابتزّ عن أكفالهنّ الملابس «2»
وأول من قال هذا المعنى طرفة حيث يقول:
فلولا ثلاث هنّ من عيشة الفتى ... وجدّك لم أحفل متى قام عوّدي
فمنهن سبقي العاذلات بشربة ... كميت متى ما تعل بالماء تزبد
وكرّي إذا نادى المضاف محنّبا ... كسيد الغضا نبّهته المتورد»
وتقصير يوم الدجن والدّجن معجب ... ببهكنة تحت الخباء المعمّد «4»
قولهم في الطعام
شيخ وحدث:
الأصمعي قال: اصطحب شيخ وحدث في سفر، وكان لهما قرص في كل يوم، وكان الشيخ منخلع الأضراس بطيء الأكل، وكان الحدث يطيش «5» بالقرص ثم يجلس يشتكي العشق، ويتضوّر الشيخ جوعا، وكان يسمى الحدث جعفرا، فقال الشيخ:
لقد رابني من جعفر أن جعفرا ... يطيش بقرصي ثم يبكي على جمل
فقلت له لو مسّك الحبّ لم نبت ... بطينا ونسّاك الهوى شره الأكل
الأصمعي قال: أنشدني أعرابي لنفسه:
ألا ليت لي خبزا تسربل رائبا ... وخيلا من البرنيّ فرسانها الزّبد «6»
فأطلب فيما بينهنّ شهادة ... بموت كريم لا يعدّ له لحد(4/74)
لأعرابي في ثريدة:
الشيباني عن أبيه قال: قال أعرابي: كنت أشتهي ثريدة دكناء من الفلفل، رقطاء من الحمص، ذات حفافين من اللحم، لها جناحان من العراق «1» ، أضرب فيها كما يضرب وليّ السوء في مال اليتيم!
بين أعرابيين:
وقال رجل لأعرابي: ما يسرني لو بتّ ضيفا لك! فقال له الأعرابي: لو بتّ ضيفا لي لأصبحت أبطن من أمك قبل أن تلدك بساعة.
أعرابي على مائدة سليمان:
حضر أعرابي سفرة سليمان بن عبد الملك، فجعل يمرّ إلى ما بين يديه، فقال له الحاجب: مما يليك فكل يا أعرابي. فقال: من أجدب انتجع. فشق ذلك على سليمان، وقال للحاجب: إذا خرج عنا فلا يعد إلينا. وشهد بعد هذا سفرته أعرابي آخر، فمر إلى ما بين يديه أيضا، فقال له الحاجب: مما يليك فكل يا أعرابي. قال: من أخصب تخيّر. فأعجب ذلك سليمان، فقرّبه وأكرمه وقضى حوائجه.
أعرابي وقوم من الكتبة:
مر أعرابي بقوم من الكتبة في متنزه لهم وهم يأكلون، فسلم ثم وضع يده يأكل معهم، فقالوا: أعرفت فينا أحدا؟ قال: بلى، عرفت هذا! وأشار إلى الطعام، فقال بعض الكتاب يصف أكله:
لم أر مثل ثرطه ومطّه «2»
قال الثاني:
وأكله دجاجه ببطّه
قال الثالث:
ولفّه رقاقه بإقطه «3»(4/75)
قال الرابع:
كأنّ جالينوس تحت إبطه
فقالوا للرابع: أما الذي وصفنا من فعله فمفهوم؛ فما يصنع جالينوس من تحت إبطه؟ قال: يلقمه الجوارش كلما خاف عليه التخمة، يهضم بها طعامه!
مديني وأعرابي:
وقال رجل من أهل المدينة لأعرابي: ما تأكلون وما تعافون؟ قال له الأعرابي:
نأكل كل ما دب وهب، إلا أم حبين «1» . قال المدني: ليهنيء أمّ حبين العافية.
أعرابي وولده:
قال رجل من الأعراب لولده: اشتروا لي لحما. فاشتروا وطبخوا له حتى تهرّأ، فأكل منه حتى انتهى، ولم يبق إلا عظمه؛ وشرعت إليه عيون ولده، فقال: ما أنا مطعمه أحدا منكم إلا من أحسن أكله. فقال له الأكبر: ألوكه يا أبت حتى لا أدع فيه للذرّة مقيلا. قال: لست بصاحبه. قال الآخر: ألوكه حتى لا يدري ألعامه هو أو لعام أوّل؟ قال: لست بصاحبه. قال له الأصغر: أدقّه يا أبت وأجعل إدامه المخ.
قال: أنت صاحبه، هو لك.
لعذري في حضر المسلمين:
بلغني عن محمد بن يزيد بن معاوية، أنه كان نازلا بحلب على الهيثم بن عدي، فبعث إلى ضيف له من عذرة أعرابيّ، فقال له: حدّث أبا عبد الله بما رأيت في حضر المسلمين من الأعاجيب. قال: نعم، رأيت أمورا معجبة. منها أنني دخلت قرية بكر بن عاصم الهلالي، وإذا أنا بدور متباينة، وإذا خصاص «2» بيض بعضها إلى بعض، وإذا بها ناس كثير مقبلون ومدبرون، وعليهم ثياب حكوا بها أنواع الزهر؛(4/76)
فقلت لنفسي: هذا أحد العيدين: الفطر أو الأضحى. ثم رجع إليّ ما عزب من عقلي، فقلت: خرجت من أهلي في عقب صفر وقد مضى العيدان قبل ذلك! فبينا أنا واقف أتعجب إذا أتاني رجل فأخذ بيدي فأدخلني بيتا قد نجّد، وفي وجهه فرش ممهدة، وعليها شاب ينال فرع شعره كتفيه، والناس حوله سماطين «1» ، فقلت في نفسي: هذا الأمير الذي يحكي لنا جلوسه وجلوس الناس حوله. فقلت وأنا ماثل بين يديه: السلام عليك أيها الأمير ورحمة الله! قال: فجذب رجل بيدي وقال: ليس بالأمير، آجلس. قلت فمن هو؟ قال: عروس. قلت: وا ثكل أمّاه! لربّ عروس بالبادية قد رأيته أهون على أصحابه من هن أمه! فلم ألبث أن أدخلت الرجال عليها هنات مدوّرات من خشب، أما ما خف منها فيحمل حملا، وأما ما ثقل فيد حرج؛ فوضعت أما منا وتحلّق القوم عليها حلقا، ثم أتينا بخرق بيض فألقيت عليها؛ فهممت والله أن أسأل القوم خرقة منها أرقع بها قميصي، وذلك أني رأيت لها نسجا متلاحما لا يتبين له سدى ولا لحمة؛ فلما بسط القوم أيديهم، إذا هو يتمزق سريعا، وإذا صنف من الخبز لا أعرفه؛ ثم أتينا بطعام كثير من حلو وحامض، وحارّ وبارد، فأكثرت منه وأنا لا أعلم ما في عقبه من التخم والبشم «2» ؛ ثم أتينا بشراب أحمر في عساس «3» بيض؛ فلما نظرت إليه قلت: لا حاجة لي به؛ لأني أخاف أن يقتلني! وكان إلى جانبي رجل ناصح لي- أحسن الله عني جزاءه! - كان ينصحني بين أهل المجلس؛ فقال لي: يا أعرابي، إنك قد أكثرت من الطعام فإن شربت الماء همى «4» بطنك. فلما ذكر البطن، ذكرت شيئا أوصاني به الأشياخ، قالوا: لا تزال حيا ما دام بطنك شديدا، فإذا اختلفت فأوص. فلم أزل أتداوى بذلك الشراب ولا أملّه، حتى داخلني به صلف لا أعرفه من نفسي ولا عهد لي به، واقتدار على أمري؛ وكان إلى جانبي الرجل الناصح لي؛ فجعلت نفسي تحدثني بهتم أسنانه مرة، وهشم أنفه أخرى؛ وأهم أحيانا أن أقول له: يا ابن الزانية! فبينا نحن كذلك، إذ هجم علينا شياطين أربعة:(4/77)
أحدهم قد علق جعبة فارسية منتفخة الطرفين قد شبكت بالخيوط، وقد ألبست قطعة فرو، كأنهم يخافون عليها القر؛ ثم بدا الثاني فاستخرج من كمه هنة كفيشلة الحمار، فوضع طرفها في فيه فضرط فيها، ثم حسب على جحرة فاستخرج منها صوتا مشاكلا بعضه بعضا؛ ثم بدا الثالث وعليه قميص وسخ، وقد غرق رأسه بالدهن معه مرآتان، فجعل يمري إحداهما على الأخرى؛ ثم بدأ الرابع عليه قميص قصير وسراويل قصيرة، فجعل يقفز صلبه، ويهز كتفيه، ثم التبط بالأرض، فقلت: معتوه وربّ الكعبة. ثم ما برح مكانه حتى كان أغبط القوم عندي. ثم أرسلت إلينا النساء أن أمتعونا من لهوكم. فبعثوا بهم إليهن، وبقيت الأصوات تدور في آذاننا؛ وكان معنا في البيت شاب لا آبه له، فعلت الأصوات له بالدعاء، فخرج فجاء بخشبة في يده، عينها في صدرها، فيها خيوط أربعة، فاستخرج من جوانبها عودا فوضعه على أذنه، ثم زمّ الخيوط الظاهرة، فلما أحكمها عرك أذنها فنطق فوها، فإذا هي أحسن قينة رأيتها قط [وغنّى عليها] فاستخفّني حتى قمت من مجلسي فجلست إليه فقلت:
بأبي أنت وأمي، ما هذه الدابة؟ قال: يا أعرابي، هذا البربط «1» . قلت: فما هذه الخيوط؟ قال: أما الأسفل فزير، والذي يليه مثنى، والذي يليه مثلث. والذي يليه بمّ. فقلت: آمنت بالله.
لأعرابي في تمر:
وقال أعرابي. تمرنا خنس فطس، يغيب فيهن الضرس، كأن فاها ألسن الطير، تقع التمرة منها في فيك، فتجد حلاوتها في كعبك.
أعرابي على سفرة سليمان:
وحضر أعرابي سفرة سليمان بن عبد الملك، فلما أتي بالفالوذج «2» جعل يسرع فيه، فقال سليمان: أتدري ما تأكل يا أعرابي؟ فقال: بلى يا أمير المؤمنين، إني لأجد ريقا(4/78)
هنيئا، ومزدردا لينا، وأظنه الصراط المستقيم الذي ذكره الله في كتابه! قال: فضحك سليمان وقال: أزيدك منه يا أعرابي، فإنهم يذكرون أنه يزيد في الدماغ، قال: كذبوك يا أمير المؤمنين لو كان كذلك لكان رأسك مثل رأس البغل.
لأعرابي غير صائم:
قال: ومررت بأعرابي يأكل في رمضان، فقلت له: ألا تصوم يا أعرابي؟ فقال:
وصائم هبّ يلحاني فقلت له ... اعمد لصومك واتركني وإفطاري
واظما فإني سأروى ثم سوف ترى ... من ذا يصير إذا متنا إلى النّار
لأعرابي على سفرة سليمان أيضا:
وحضر سفرة سليمان أعرابي، فنظر إلى شعرة في لقمة الأعرابي؛ فقال: أرى شعرة في لقمتك يا أعرابي! قال: وإنك لتراعيني مراعاة من يبصر الشعرة في لقمتي؟
والله لا واكلتك أبدا! فقال: استرها يا أعرابي، فإنها زلة ولا أعود إلى مثلها.
أخبار أبي مهدية الأعرابي
أبو عثمان المازني قال: قال أبو مهدية: بلغني أن الأعراب والأعزاب هجاهما واحد. قلت: نعم. قال: فاقرأ: «الأعزاب أشدّ كفرا ونفاقا» ولا تقرأ: الأعراب.
ولا يغرّك العزب وإن صام وصلى.
وتوفي بنيّ لأبي مهدية صغير، فقيل له: أبشر أبا مهدية؛ فإنا نرجو أن يكون شفيع صدق يوم القيامة! قال: لا وكلنا الله إلى شفاعته، إذا والله يكون أعيانا لسانا وأضعفنا حجة؛ ليته المسكين كفانا نفسه! وقيل لأبي مهدية: أكنتم تتوضؤن بالبادية؟ قال: نعم والله؛ لقد كنا نتوضأ فتكفي التوضئة الواحدة الرجل منا الثلاثة الأيام والأربعة، حتى دخلت علينا هذه(4/79)
الحمر- يعني الموالي- فجعلت تليق أستاهها كما تلاق الدواة «1» .
وقيل لأبي مهدية: أتقرأ من كتاب الله شيئا؟ قال: نعم. ثم افتتح يقرأ:
وَالضُّحى وَاللَّيْلِ إِذا سَجى
«2» حتى انتهى إلى وَوَجَدَكَ ضَالًّا فَهَدى
«3» فالتفت إلى صاحب له فقال: إن هؤلاء العلوج «4» يقولون: ووجدك ضالا فهدى.
والله لا أقولها أبدا.
ولما سن أبو مهدية ولي جانبا من اليمامة، وكان به قوم من اليهود أهل عطاء وجدة، فأرسل إليهم فقال: ما عندكم من المسيح؟ قالوا: قتلناه وصلبناه! قال: فهل غرمتم ديته؟ قالوا: لا. قال: إذا والله لا تبرحوا حتى تغرموا ديته! فأرضوه حتى كف عنهم.
وقيل لأبي مهدية: ما أصبركم معشر الأعراب على البدو؛ قال: كيف لا يصبر على البدو من طعامه الشمس وشرابه الريح!؟
ونظر أبو مهدية إلى رجل يستنجي ويكثر من الماء، فقال له: إلى كم تغسلها ويحك! أتريد أن تشرب فيها سويقا! ومات طفل لأبي مهدية، فقيل له: اصبر يا أبا مهدية؛ فإنه فرط افترطته «5» ، وخير قدمته، وذخر أحرزته. فقال: بل ولد دفنته، وثكل تعجلته؛ والله لئن لم أجزع للنقص، لا أفرح للمزيد.
قال أبو عبيدة: سمع أبو مهدية رجلا يقول بالفارسية: زود زود. فقال: ما يقول هذا؟ فقيل له يقول: عجل عجل. فقال: أفلا يقول: حيهلا.(4/80)
خبر أبي الزهراء
المعلي بن المثني الشيباني قال: حدثنا سويد بن منجوف قال: أقبل أعرابي من بني تميم حتى دخل الكوفة من ناحية جبانة السبيع، تحته أتان «1» له تخب، وعليها ذلاذل «2» وأطمار من سحق صوف، قد اعتم بما يشبه ذلك؛ من أشوه الناس منظرا وأقبحهم شكلا؛ وهو يهدر كما يهدر البعير وهو يقول ألاسبد، ألا لبد «3» ألا مؤو ألا مقر، ألا سعديّ ألا يربوعيّ، ألا دارميّ! هيهات هيهات! وما يغني أصل حوض الماء صاديا معنى! قال سويد: فدخل علينا في درب الكناسة فلم يجد منفذا وقد تبعه صبيان كثير وسواد من سواد الحي، قال: فسمعت سواديا يقول له: يا عماه، يا إبليس! متى أذن لك بالظهور؟ فالتفت إليهم، فقال منذ سروا آباءكم وفشّوا أمهاتكم! قال: وكان معنا أبو حماد الخياط، وكان من أطلب الناس لكلام الأعراب وأصبرهم على الإنفاق على أعرابي، فدخل علينا وكان مع ذلك مولى بني تميم، فأتيته فأخبرته؛ فخرج مبادرا كأني قد أفدته فائدة عظيمة؛ وقد نزل الأعرابي عن الأتان واستند إلى بعض الحيطان وأخذ قوسه بيده؛ فتارة يشير بها إلى الصبيان، وتارة يذبّ الشذا عن الأتان- وهو يقول لأتانه:
قد كنت بالأمعز في خصب خصب ... ما شئت من حمض وماء منسكب «4»
فربّك اليوم ذليل قد نصب ... يرى وجوها حوله ما ترتقب
ولا عليها نور إشراف الحسب ... كأنها الزّنج وعبدان العرب
إلى عجيل كالرعيل والسرب ... ولو أمنت اليوم من هذا اللّجب «5»
رميت أفواقا قويمات النّصب ... الرّيش أولاها وأخراها العقب
قال: فلم يزل أبو حماد يلطفه ويتلطف به ويبجله، إلى أن أدخله منزله؛ فمهد له(4/81)
وحطه عن أتانه، ودعا بالعلف؛ فجعل الأعرابي يقول: أين الليف والنّئيف «1» والوساد والنجاد؟ يعني بالليبف: الحصير؛ وبالنئيف عشبة عندهم يقال لها البهمى «2» والوساد:
جلد عنز يسلخ ولا يشق ويحشى وبرا وشعرا ويتّكأ عليه؛ والنجاد: مسح شعر يستظل تحته. قال: فلما نزع القتب عن الأتان إذا ظهرها قد دبر حتى أضرّت بنا رائحته:
فجعل الأعرابي يتنهد ويقول:
إن تنحضي أو تدبري أو تزجري ... فذاك من دءوب ليل مسهر «3»
أنا أبو الزهراء من آل السّري ... مشمّخ الأنف كريم العنصر
إذا أتيت خطّة لم أقسر «4»
وكان يسمى الأعرابي صلتان بن عوسجة من بني سعد بن دارم، ويكنى بأبي الزهراء، وما رأيت أعرابيا أعجب منه؛ كان أكثر كلامه شعرا؛ وأمثل أعرابي سمعته كلاما؛ إلا أنه ربما جاء باللفظة بعد الأخرى لانفهمها؛ وكان من أضجر الناس وأسوئهم خلقا، وإذا نحن سألناه عن الشيء قال: ردّوا عليّ القوس والأتان! يظن أنا نتلاعب به، وكنا نجتمع معه في مجلس أبي حماد، وما منا إلا من يأتيه بما يشتهيه، فلا يعجبه ذلك؛ حتى أتيناه يوما بخربز «5» ، وكانت أمامه، فلما أبصرها تأملها طويلا وجعل يقول:
بدّلت والدهر قديما بدّلا ... من قيض بيض القفر فقعا حنظلا «6»
أخبث ما تنبت أرض مأكلا
فكنا نقول له: يا أبا الزهراء، إنه ليس بحنظل، ولكنه طعام هنيء مريء، ونحن نبدؤك فيه إن شئت. قال: فخذوا منه حتى أرى! فبدأنا نأكل وهو ينظر لا(4/82)
يطرف، فلما رأى ذلك بسط يده فأخذ واحدة، فنزع أعلاها وقوّر أسفلها، فقلنا له:
ما تريد أن تصنع يا أبا الزهراء؟ فقال: إن كان السم يا ابن أخي ففيما ترون! فلما طعمه استخفّه واستعذبه واستحلاه، فلم يكن يؤثر عليه شيئا، وما كنا نأتيه بعد بغيره، وجعل في خلال ذلك يقول:
هذا طعام طيّب يلين ... في الجوف والحلق له سكون
الشّهد والزبد به معجون
فلما كان إلى أيام، قلت له: يا أبا الزهراء، هل لك في الحمام؟ قال: وما الحمام يا ابن أخي؟ قلنا له: دار فيها أبيات: حارّ، وفاتر، وبارد؛ تكون في أيها شئت يذهب عنك قشف السفر ويسقط عنك هذا الشعر. قال: فلم نزل به حتى أجابنا، فأتينا به الحمام، وأمرنا صاحب الحمام أن لا يدخل علينا أحدا، فدخل وهو خائف مترقب، لا ينزع يده من يد أحدنا، حتى صار في داخل الحمام، فأمرنا من طلاه بالنّورة «1» ، وكان جلده أشعر كجلد عنز، فقلق ونازع للخروج، وبدأ شعره يسقط؛ فقلنا أحين طاب الحمام وبدأ شعرك يسقط تخرج؟ قال: يا بن أخي، وهل بقي إلا أن أنسلخ كما ينسلخ الأديم في احتدام القيظ! وجعل يقول:
وهل يطيب الموت يا إخواني ... هل لكم في القوس والأتان
خذوهما منّي بلا أثمان ... وخلّصوا المهجة يا صبيان
فاليوم لو أبصرني جيراني ... عريان بل أعرى من العريان
قد سقط الشّعر من الجثمان ... حسبت في المنظر كالشّيطان!
قال: ثم خرج مبادرا، واتبعه أحداث لنا، لولاهم لخرج بحاله تلك ما يستره شيء؛ ولحقناه في وسط البيوت، فأتيناه بماء بارد، فشرب وصب على رأسه، فارتاح واستراح، وأنشأ يقول:
الحمد للمستحمد القهّار ... أنقذني من حرّ بيت النار(4/83)
إلى ظليل ساكن الأوار» ... من بعد ما أيقنت بالدّمار
قال: فدعونا له بكسوة غير كسوته فألبسناه، وأتينا به مجلس أبي حماد؛ وكان أبو حماد يبيع الحنطة والتمر وجميع الحبوب؛ وكان يجاوره قوم يبيعون أنبذة التمر وكان أبو الحسن التّمّار ماهرا؛ فإذا خضنا في النحو وذكرنا الرؤاسي والكسائي وأبا زيد، جعل ينظر، يفقه الكلام ولا يفهم التأويل؛ فقلنا له: ما تقول يا أبا الزهراء؟ فقال:
يا ابن أخي، إن كلامكم هذا لا يسد عوزا مما تتعلمونه له. فقال أبو الحسن: إن بهذا تعرف العرب صوابها من خطئها. فقال له: ثكلت وأثكلت! وهل تخطيء العرب؟ قال: بلى. قال: على أولئك لعنة الله وعلى الذين أعتقوا مثلك! قال سويد:
وكنت أحدثهم سنا (قال) فقلت: جعلت فداك، وأنا رجل من بني شيبان وربيعة؛ ما تعلم أنّا على مثل الذي أنت عليه من الإنكار عليهم؛ فقال فيهم:
يسائلني بيّاع تمر وجردق ... ومازج أبوال له في إنائه «2»
عن الرّفع بعد الخفض، لا زال خافضا ... ونصب وجزم صيغ من سوء رائه
فقلت له هذا كلام جهلته ... وذو الجهل يروي الجهل عن نظرائه
فقال بهذا يعرف النحو كلّه ... يرى أنني في العجم من نظرائه
فأمّا تميم أو سليم وعامر ... ومن حلّ غمر الضّالّ أو في إزائه
ففيهم وعنهم يؤثر العلم كلّه ... ودع عنك من لا يهتدي لخطائه
فمن ذا الرّؤاسي الذي تذكرونه ... ومن ذا الكسائي سالح في كسائه
ومن ثالث لم أسمع الدهر باسمه ... يسمّونه من لؤمه سيبوائه
فكيف يخلّ القول من كان أهله ... ويهدى له من ليس من أوليائه
فلست لبيّاع التّميرات مغضيا ... على الضّيم إن واقفت بعد عشائه
ولقد قلنا له: يا أبا الزهراء، هل قرأت من كتاب الله شيئا؟ قال: أي وأبيك، آيات مفصلات أردّدهن في الصلوات، آباء وأمهات، وعمات وخالات ثم أنشأ يقول:(4/84)
قرأت قول الله في الكتاب ... ما أنزل الرّحمن في الأحزاب
لعظم ما فيها من الثّواب ... الكفر والغلظة في الأعراب
وأنا فاعلم من ذوي الألباب ... أومن بالله بلا ارتياب
في عرشه المستور بالحجاب ... والموت والبعث وبالحساب
وجنّة فيها من الثياب ... ما ليس بالبصرة في حساب
وجاحم يلفح بالتهاب ... أوجه أهل الكفر والسّباب «1»
ودفع رحل الطارق المنتاب ... في ليلة ساكتة الكلاب
ولما أحضرناه ذات يوم جنازة، فقلنا له: يا أبا الزهراء، كيف رأيت الكوفة؟
قال: يا ابن أخي، حضرا حاضرا؛ ومحلا آهلا؛ أنكرت من أفعالكم الأكيال والأوزان، وشكل النسوان. ثم نظر إلى الجبانة فقال: ما هذا التلال يا ابن أخي؟
قلت له: أجداث الموتي، فقال: أماتوا أم قتلوا؟ فقلت: قد ماتوا بآجالهم ميتات مختلفات. قال: فماذا ننتظر نحن يا ابن أخي؟ قلت: مثل الذي صاروا إليه: فاستعبر وبكى؛ وجعل يقول:
يا لهف نفسي أن أموت في بلد ... قد غاب عني الاهل فيه والولد
وكلّ ذي رحم شفيق معتقد ... يكون ما كنت سقيما كالرمد
يا ربّ يا ذا العرش وفّق للرّشد ... ويسّر الخير لشيخ مختضد «2»
ثم لم يلبث إلا يسيرا حتى أخذته الحمى والبرسام «3» ؛ فكنا لا نبارحه عائدين متفقدين؛ فبينا نحن عنده ذات يوم وقد اشتد كربه وأيقن بالموت، جعل يقول:
أبلغ بناتي اليوم بالصّوى ... قد كنّ يأملن إيابي بالغنى «4»
وقد تمنّين وما يغني المنى ... بأنّ نفسي وردت حوض الرّدى
يا ربّ يا ذا العرش في أعلا السّما ... إليك قدّمت صيامي في الظّما(4/85)
ومن صلاتي في صباح ومسا ... فعد على شيخ كبير ذي انحنا
يكفيه ما لاقاه في الدّنيا كفى
قلنا له: يا أبا الزهراء، ما تأمرنا في القوس والأتان، وفيما قسم الله لك عندنا من رزق؟ فقال: يا ابن أخي، أما ما قسم الله لي عندكم فمردود إليكم، وأما القوس والأتان فبيعوهما وتصدقوا بثمنهما في فقراء صلبة «1» بني تميم، وما بقي في مواليهم. ثم جعل يقول: اللهم اسمع دعاء عبدك إليك، وتضرعه بين يديك، واعرف له حق إيمانه بك، وتصديقه برسلك، صليت عليهم وسلمت؛ اللهم إني جان مقترف وهائب معترف، لا أدعي براءة، ولا أرجو نجاة إلا برحمتك إياي، وتجاوزك عني؛ اللهم إنك كتبت على الدنيا التعب والنصب، وكان في قضائك، وسابق علمك قبض روحي في غير أهلي وولدي، اللهم فبدل لي التعب والنصب روحا وريحانا وجنة نعيم؛ إنك مفضل كريم. ثم صار يتكلم بما لا نفقهه ولا نفهمه حتى مات، رحمه الله؛ فما سمعت دعاء أبلغ من دعائه، ولا شهدت جنازة أكثر باكيا وداعيا من جنازته؛ رحمه الله.
وقال أعرابي يصف كساء:
من كان ذا بتّ فهذا بتّي ... مقيّظ مصيّف مشتي «2»
نسجته من نعجات ست
وقال أعرابي:
قالت سليمى: ليت لي بعلا بمن ... يغسل رأسي ويسلّيني الحزن «3»
وحاجة ليس لها عندي ثمن ... مشهورة قضاؤها منه وهن «4»
قلن جواري الحيّ: يا سلمى وإن ... كان فقيرا معدما؟ قالت وإن!
وقال أعرابي:
جاريتان حلفت أمّاهما ... أن ليس مغبونا من اشتراهما(4/86)
والله لا أخبركم إسماهما ... إلا بقولي هكذا هما هما
هما اللتان صادني سهماهما ... حيّا وحيّا الله من حيّاهما
أمات ربّي عاجلا أباهما ... حتى تلاقي منيتي مناهما
إنّ لنا لكنّه ... معنّة مفنّه «1»
سمعنّة نظرنّه ... إلا تره تظنّه
السمعنة النظرنة: المرأة التي إذا سمعت أو نظرت فلم تر شيئا تظنّت تظنيا. وأنشد أبو عبد الله بن لبانة الأعرابي:
كريمة يحبها أبوها ... مليحة العينين عذبا فوها
لا تحسن السّبّ وإن سبّوها
الرشيد والأصمعي:
الأصمعي قال: دخلت على هارون الرشيد وبين يديه بدرة، فقال: يا أصمعي، إن حدثتني بحديث في العجز فأضحكتني وهبتك هذه البدرة. قلت: نعم يا أمير المؤمنين بينا أنا في صحارى الأعراب، إذ أنا بأعرابي قاعد على أجمة، «2» قد احتملت الريح كساءه فألقته على الأجمة، وهو عريان؛ فقلت له: يا أعرابي، ما أجلسك ههنا على هذه الحالة؟ فقال: جارية واعدتها يقال لها سلمى، أنا منتظر لها. فقلت: وما يمنعك من أخذ كسائك؟ قال: العجز يوقفني عن أخذه. فقلت له: فهل قلت في سلمى شيئا؟ قال: نعم. قلت له: أسمعني لله أبوك! قال لا أسمعك حتى تأخذ كسائي تلقيه عليّ! قال: فأخذته فألقيته عليه، فأنشأ يقول:
لعلّ الله أن يأتي بسلمى ... فيبطحها ويلقيني عليها
ويأتي بعد ذاك سحاب مزن ... تطهّرنا ولا نسعى إليها «3»(4/87)
فاستضحك هارون حتى استلقى على ظهره، وقال. خذ البدرة لا بورك لك فيها.
ذكروا أن أعرابيا أتى عينا من ماء صاف في شهر رمضان، فشرب حتى روى، ثم أومأ بيده إلى السماء فقال.
إن كنت قدّرت الصيا ... م فأعفنا من شهر آب
أو لا فإنّا مفطرو ... ن وصابرون على العذاب
خلا أعرابي بامرأة ليفسق بها فلم ينتشر له؛ فقالت له. قم خائبا! فقال. الخائب من فتح فم الجراب ولم يكل له دقيق. فخجلت ولم تردّ جوابا.(4/88)
كتاب المجنبة في الأجوبة
فرش الكتاب
قال أحمد بن محمد بن عبد ربه: قد مضى قولنا في كلام الأعراب خاصة، ونحن قائلون بعون الله وتوفيقه في الجوابات التي هي أصعب الكلام كلّه مركبا، وأعزه مطلبا، وأغمضه مذهبا، وأضيقه مسلكا؛ لأن صاحبه يعجل مناجاة الفكرة، واستعمال القريحة، يروم في بديهته نقض ما أبرم القائل في رويته، فهو كمن أخذت عليه الفجاج، وسدّت عليه المخارج، قد اعترض الأسنة، واستهدف للمرامي، لا يدري ما يقرع له فيتأهب له، ولا ما يفجأه من خصمه فيقرعه بمثله، ولا سيما إذا كان القائل قد أخذ بمجامع الكلام فقاده بذمامه بعد أن روّى فيه واحتفل، وجمع خواطره واجتهد، وترك الرأي يغبّ حتى يختمر؛ فقد كرهوا الرأي الفطير «1» ، كما كرهوا الجواب الدّبريّ «2» ، فلا يزال في نسج الكلام واستئناسه، حتى إذا اطمأن شارده، وسكن نافره، صك به خصمه جملة واحدة ثم إذا قيل له: أجب ولا تخطيء، وأسرع ولا تبطيء، تراه يجاوب من غير أناة ولا استعداد، يطبّق المفاصل، وينفذ إلى المقاتل، كما يرمي الجندل بالجندل، ويقرع الحديد بالحديد، فيحل به عراه، وينقض به مرائره، ويكون جوابه على كلامه كسحابة لبّدت عجاجة «3» ؛ فلا شيء أعضل من الجواب الحاضر، ولا أعز من الخصم الألد الذي يقرع صاحبه، ويصرع منازعه بقول كمثل النار في الحطب الجزل.(4/89)
قال أبو الحسن: أسرع الناس جوابا عند البديهة قريش، ثم بقية العرب.
وأحسن الجواب كله ما كان حاضرا، مع إصابة معنى وإيجاز لفظ.
وكان يقال: اتقوا جواب عثمان بن عفان.
للنبي صلّى الله عليه وسلم في الزّبرقان
: وقال النبي عليه الصلاة والسلام لعمرو بن الأهتم: «أخبرني عن الزّبرقان» ، قال:
مطاع في أدانيه، شديد العارضة، مانع لما وراء ظهره، قال الزبرقان: والله يا رسول الله، لقد علم مني أكثر من هذا، ولكن حسدني. قال عمرو ابن الأهتم: أما والله يا رسول الله، إنه لزمر المروءة، «1» ضيق العطن، «2» أحمق الوالد، لئيم الخال؛ والله يا رسول الله، ما كذبت في الأولى، ولقد صدقت في الأخرى؛ رضيت عن ابن عمي فقلت فيه أحسن ما فيه ولم أكذب، وسخطت عليه فقلت أقبح ما فيه ولم أكذب! فقال النبي عليه الصلاة والسلام: «إنّ من البيان لسحرا» .
جواب عقيل بن أبي طالب لمعاوية وأصحابه
لما قدم عقيل بن أبي طالب على معاوية، أكرمه وقرّبه وقضى حوائجه وقضى عنه دينه، ثم قال له في بعض الأيام، والله إن عليا غير حافظ لك، قطع قرابتك وما وصلك ولا اصطنعك، قال له عقيل: والله لقد أجزل العطية وأعظمها، ووصل القرابة وحفظها، وحسن ظنّه بالله، إذ ساء به ظنّك، وحفظ أمانته، وأصلح رعيته، إذ خنتم وأفسدتم وجرتم، فاكفف لا أبالك، فإنه عما تقول بمعزل.
وقال له معاوية يوما: أبا يزيد، أنا لك خير من أخيك علي. قال: صدقت، إن أخي آثر دينه على دنياه، وأنت آثرت دنياك على دينك؛ فأنت خير لي من أخي، وأخي خير لنفسه منك.(4/90)
وقال له ليلة الهدير: أبا يزيد، أنت الليلة معنا، قال: نعم؛ ويوم بدر كنت معكم.
وقال رجل لعقيل: إنك لخائن حيث تركت أخاك وترغب إلى معاوية، قال:
أخون مني والله من سفك دمه بين أخي وابن عمي، أن يكون أحدهما أميرا! ودخل عقيل على معاوية وقد كف بصره، فأجلسه معاوية على سريره ثم قال له:
أنتم معشر بني هاشم تصابون في أبصاركم! قال: وأنتم معشر بني أمية تصابون في بصائركم! ودخل عتبة بن أبي سفيان، فوسع له معاوية بينه وبين عقيل فجلس بينهما، فقال عقيل: من هذا الذي أجلس أمير المؤمنين بيني وبينه؟ قال: أخوك وابن عمك عتبة.
قال: أما إنه إن كان أقرب إليك مني، إني لأقرب لرسول الله صلّى الله عليه وسلم منك ومنه، وأنتما مع رسول الله صلّى الله عليه وسلم أرض ونحن سماء. قال عتبة: أبا يزيد، أنت كما وصفت، ورسول الله صلّى الله عليه وسلم فوق ما ذكرت، وأمير المؤمنين عالم بحقك، ولك عندنا مما تحب أكثر مما لنا عندك مما تكره.
ودخل عقيل على معاوية، فقال لأصحابه: هذا عقيل عمه أبو لهب! قال له عقيل، وهذا معاوية عمته حمّالة الحطب! ثم قال: يا معاوية، إذا دخلت النار فاعدل ذات اليسار، فإنك ستجد عمي أبا لهب مفترشا عمتك حمالة الحطب؛ فانظر أيهما خير، الفاعل أو المفعول به.
وقال له يوما: ما أبين الشّبق «1» في رجالكم يا بني هاشم! قال: لكنه في نسائكم أبين يا بني أمية! وقال له معاوية يوما: والله إنّ فيكم لخصلة ما تعجبني يا بني هاشم. قال: وما هي؟ قال: لين فيكم. قال: لين ماذا؟ قال: هو ذاك «2» . قال: إيانا تعيّر يا معاوية؟(4/91)
أجل، والله إن فينا للينا من غير ضعف، وعزا من غير جبروت؛ وأما أنتم يا بني أمية فإن لينكم غدر، وعزكم كفر، قال معاوية: ما كلّ هذا أردنا يا أبا يزيد. قال عقيل:
لذي اللّبّ «1» قبل اليوم ما تقرع العصا ... وما علّم الإنسان إلا ليعلما
قال معاوية:
وإنّ سفاه الشيخ لا حلم بعده ... وإن الفتى بعد السّفاهة يحلم
وقال معاوية لعقيل بن أبي طالب: لم جفوتنا يا أبا يزيد؟ فأنشأ يقول:
إني آمرؤ مني التكرّم شيمة ... إذا صاحبي يوما على الهون أضمرا
ثم قال: وآيم الله يا معاوية، لئن كانت الدنيا مهّدتك مهادها، وأظلتك بحذافيرها «2» ومدت عليك أطناب سلطانها- ما ذاك بالذي يزيدك مني رغبة، ولا تخشّعا لرهبة. قال معاوية نعتّها أبا يزيد نعتا هشّ لها قلبي؛ وإني لأرجو أن يكون الله تبارك وتعالى ما ردّاني برداء ملكها، وحباني بفضيلة عيشها، إلا لكرامة ادّخرها لي؛ وقد كان داود خليفة، وسليمان ملكا؛ وإنما هو المثال يحتذى عليه، والأمور أشباه؛ وايم الله يا أبا يزيد، لقد أصبحت علينا كريما، وإلينا حبيبا، وما أصبحت أضمر لك إساءة.
بين عقيل وامرأة
: ويقال إن امرأة عقيل وهي بنت عتبة بن ربيعة خالة معاوية قالت لعقيل: يا بني هاشم، لا يحبكم قلبي أبدا؛ أين أبي؟ أين أخي؟ أين عمي؟ كأن أعناقهم أباريق فضة. قال عقيل: إذا دخلت جهنم فخذي على شمالك.
جواب ابن عباس رضي الله عنهما لمعاوية وأصحابه
اجتمعت قريش الشام والحجاز عند معاوية وفيهم عبد الله بن عباس؛ وكان جريئا(4/92)
على معاوية حقّارا له، فبلغه عنه بعض ما غمّه؛ فقال معاوية: رحم الله أبا سفيان والعباس، كانا صفيّين دون الناس، فحفظت الميت في الحي والحيّ في الميّت؛ استعملك عليّ يا ابن عباس على البصرة، واستعمل أخاك عبيد الله على اليمن، واستعمل أخاك تمّاما على المدينة؛ فلما كان من الأمر ما كان، هنأتكم ما في أيديكم، ولم أكشفكم عما وعت غرائركم، وقلت: آخذ اليوم وأعطي غدا مثله.
وعلمت أن بدء اللؤم يضر بعاقبة الكرم، ولو شئت لأخذت بحلاقيمكم وقيّأتكم ما أكلتم. ولا يزال يبلغني عنكم ما تبرك له الإبل، وذنوبكم إلينا أكثر من ذنوبنا إليكم: خذلتم عثمان بالمدينة، وقتلتم أنصاره يوم الجمل، وحاربتموني بصفين، ولعمري لبنو تيم وعدي أعظم ذنوبا منا إليكم؛ إذ صرفوا عنكم هذا الأمر، وسنوا فيكم هذه السنة؛ فحتى متى أغضي الجفون على القذى، وأسحب الذيول على الأذى، وأقول: لعل الله وعسى ... ما تقول يا ابن عباس؟!.
قال: فتكلم ابن عباس فقال: رحم الله أبانا وأباك، كانا صفيين متفاوضين «1» ؛ لم يكن لأبي من مال إلا ما فضل أباك، وكان أبوك كذلك لأبي؛ ولكن من هنّأ أباك بإخاء أبي أكثر ممن هنأ أبي بإخاء أبيك؛ نصر أبي أباك في الجاهلية، وحقن دمه في الإسلام، وأما استعمال عليّ إيانا فلنفسه دون هواه وقد استعملت أنت رجالا لهواك لا لنفسك، منهم ابن الحضرميّ على البصرة فقتل، وابن بشر بن أرطاة على اليمن فخان، وحبيب بن مرة على الحجاز فردّ، والضحاك بن قيس الفهري على الكوفة فحصب؛ ولو طلبت ما عندنا وقينا أعراضنا، وليس الذي يبلغك عنا بأعظم من الذي يبلغنا عنك، ولو وضع أصغر ذنوبكم إلينا على مائة حسنة لمحقها، ولو وضع أدنى عذرنا إليكم على مائة سيئة لحسّنها. وأما خذلنا عثمان فلو لزمنا نصره لنصرناه، وأما قتلنا أنصاره يوم الجمل فعلى خروجهم مما دخلوا فيه وأما حربنا إياك بصفين فعلى تركك الحقّ وادعائك الباطل، وأما إغراؤك إيانا بتيم وعدي فلو أردناها ما غلبونا عليها.(4/93)
وسكت، فقال في ذلك ابن أبي لهب:
كان ابن حرب عظيم القدر في الناس ... حتى رماه بما فيه ابن عباس
ما زال يهبطه طورا ويصعده ... حتى استقاد وما بالحقّ من باس
لم يتركن خطة مما يذلله ... إلا كواه بها في فروة الراس
لابن أبي مليكة في ابن عباس
: وقال ابن أبي مليكة: ما رأيت مثل ابن عباس، إذا رأيته رأيت أفصح الناس، وإذا تكلم فأعرب الناس «1» ، وإذا أفتى فأفقه الناس ما رأيت أكثر صوابا ولا أحضر جوابا من ابن عباس.
بين ابن عباس ومعاوية
: ابن الكلبي قال: أقبل معاوية يوما على ابن عباس فقال: لو وليتمونا ما أتيتم إلينا ما أتينا إليكم، من الترحيب والتقريب، وإعطائكم الجزيل، وإكرامكم على القليل، وصبري على ما صبرت عليه منكم، إني لا أرد أمرا إلا أظمأتم صدره «2» ولا آتي معروفا إلا صغّرتم خطره وأعطيكم العطية فيها قضاء حقوقكم فتأخذونها متكارهين عليها؛ تقولون: قد نقص الحق دون الأمل! فأي أمل بعد ألف ألف أعطيها الرجل منكم، ثم أكون أسرّ بإعطائها منه بأخذها؟ والله لئن انخدعت لكم في مالي وذللت لكم في عرضي، أرى انخداعي كرما وذلي حلما. ولو وليتمونا رضينا منكم بالانتصاف، ولا نسألكم أموالكم، لعلمنا بحالكم وحالنا؛ ويكون أبغضها إلينا أحبها إليكم أن نعفيكم.
فقال ابن عباس: لو ولينا أحسنّا المواساة، وما ابتلينا بالاثرة؛ «3» ثم لم نغشم الحي، ولم نشتم الميت؛ فلستم بأجود منا أكفا، ولا أكرم أنفسا، ولا أصون لأعراض(4/94)
المروءة؛ ونحن والله أعطى للآخرة منكم للدنيا، وأعطى في الحق منكم في الباطل، وأعطى على التقوى منكم على الهوى؛ والقسم بالسوية والعدل في الرعية يأتيان على المنى والأمل، ما أرضاكم منا بالكفاف، فلو رضيتم منا لم ترض أنفسنا به لكم؛ والكفاف رضا من لا حق له؛ فلا تبخلونا حتى تسألونا، ولا تلفظونا حتى تذوقونا.
أبو عثمان الحزامي قال: اجتمعت بنو هاشم عند معاوية، فأقبل عليهم فقال: يا بني هاشم، والله إن خيري لكم لممنوح، وإن بابي لكم لمفتوح؛ فلا يقطع خيري عنكم علة ولا يوصد بابي دونكم مسألة؛ ولما نظرت في أمري وأمركم رأيت أمرا مختلفا: إنكم لترون أنكم أحق بما في يدي مني، وإذا أعطيتكم عطية فيها قضاء حقكم قلتم أعطانا دون حقنا، وقصّر بنا عن قدرنا؛ فصرت كالمسلوب، والمسلوب لا حمد له؛ وهذا مع إنصاف قائلكم، وإسعاف سائلكم.
قال: فأقبل عليه ابن عباس فقال: والله ما منحتنا شيئا حتى سألناه، ولا فتحت لنا بابا حتى قرعناه؛ ولئن قطعت عنا خيرك لله أوسع منك ولئن أغلقت دوننا بابك لنكفّنّ أنفسنا عنك، وأما هذا المال فليس لك منه إلا ما لرجل من المسلمين، ولنا في كتاب الله حقان: حق في الغنيمة، «1» وحق في الفيء؛ «2» فالغنيمة ما غلبنا عليه، والفيء ما اجتبيناه، ولولا حقنا في هذا المال لم يأتك منا زائر يحمله خف ولا حافر.
كفاك أم أزيدك؟ قال: كفاني، فإنك تهرّ ولا تنبح.
وقال معاوية يوما وعنده ابن عباس: إذا جاءت بنو هاشم بقديمها وحديثها، وجاءت بنو أمية بأحلامها وسياستها، وبنو أسد بن عبد العزى برفادتها ودياتها، وبنو عبد الدار بحجابتها ولوائها، وبنو مخزوم بأموالها وأفعالها، وبنو تيم بصدّيقها «3» وجوادها، وبنو عدي بفاروقها «4» ومتفكّرها، وبنو سهم بآرائها ودهائها، وبنو جمح(4/95)
بشرفها وأنوفها، وبنو عامر بن لؤي بفارسها وقريعها، «1» فمن ذا يجلى في مضمارها ويجري إلى غايتها؟ ما تقول يابن عباس؟
قال: أقول: ليس حي يفخرون بأمر إلا وإلى جنبهم من يشركهم، إلا قريشا فإنهم يفخرون بالنبوّة التي لا يشاركون فيها ولا يساوون بها ولا يدفعون عنها، وأشهد أن الله لم يجعل محمدا من قريش إلا وقريش خير البرية، ولم يجعله في بني عبد المطلب إلا وهم خير بني هاشم، يريد أن يفخر عليكم إلّا بما تفخرون به؛ إن بنا فتح الأمر وبنا يختم، ولك ملك معجّل ولنا ملك مؤجل، فإن يكن ملككم قبل ملكنا فليس بعد ملكنا ملك، لأنا أهل العاقبة، والعاقبة للمتقين.
ابن عباس وابن العاص
: أبو محنف قال: حج عمرو بن العاص فمرّ بعبد الله بن عباس، فحسده مكانه وما رأى من هيبة الناس له وموقعه من قلوبهم، فقال له: يا ابن عباس، مالك إذا رأيتني ولّيتني القصرة، «2» وكان بين عينيك دبرة، وإذا كنت في ملأ من الناس كنت الهوهاة»
الهمزة.
فقال ابن عباس: لأنك من اللئام الفجرة! وقريش الكرام البررة لا ينطقون بباطل جهلوه، ولا يكتمون حقا علموه، وهم أعظم الناس أحلاما، وأرفع الناس أعلاما، دخلت في قريش ولست منها، فأنت الساقط بين فراشين، لا في بني هاشم رحلك، ولا في بني عبد شمس راحلتك، فأنت الأثيم الزنيم، «4» الضال المضلّ، حملك معاوية على رقاب الناس، فأنت تسطو بحلمه، وتسمو بكرمه.
فقال عمرو: أما والله إني لمسرور بك، فهل ينفعني عندك؟
قال ابن عباس: حيث مال الحق ملنا، وحيث سلك قصدنا.(4/96)
المدائني قال: قام عمرو بن العاص في موسم من مواسم العرب، فأطرى معاوية بن أبي سفيان وبني أميّة، وتناول بني هاشم، وذكر مشاهده بصفّين، واجتمعت قريش، فأقبل عبد الله بن عباس على عمرو، فقال.
يا عمرو، إنك بعت دينك من معاوية، وأعطيته ما بيدك، ومنّاك ما بيد غيره فكان الذي أخذ منك أكثر من الذي أعطاك، والذي أخذت منه دون الذي أعطيته، وكلّ راض بما أخذ وأعطى، فلما صارت مصر في يدك كدّرها عليك بالعدل والتنقص، وذكرت مشاهدك بصفّين، فوالله ما ثقلت علينا يومئذ وطأتك ولقد كشفت فيها عورتك، وإن كنت فيها لطويل اللسان، قصير السنان آخر الخيل إذا أقبلت، وأولها إذا أدبرت، لك يدان، يد لا تبسطها إلى خير، وأخرى لا تقبضها عن شر، ولسان غادر ذو وجهين، ووجهان وجه موحش ووجه مؤنس، ولعمري إن من باع دينه بدنيا غيره لحريّ أن يطول عليها ندمه، لك بيان وفيك خطل، «1» ولك رأي وفيك نكد، ولك قدر وفيك حسد، وأصغر عيب فيك أعظم عيب في غيرك.
فأجابه عمرو بن العاص: والله ما في قريش أثقل عليّ مسألة، ولا أمّر جوابا منك، ولو استطعت أن لا أجيبك لفعلت، غير أني لم أبع ديني من معاوية، ولكن بعت الله نفسي ولم أنس نصيبي من الدنيا، وأما ما أخذت من معاوية وأعطيته، فإنه لا تعلّم العوان «2» الخمرة، وأما ما اتى إلى معاوية في مصر فإن ذلك لم يغيّرني له، وأما خفة وطأتي عليكم بصفين فلما استثقلتم حياتي، واستبطأتم وفاتي، وأما الجبن، فقد علمت فريش أني أول من يبارز، وآخر من ينازل وأما طول لساني فإني كما قال هشام بن الوليد لعثمان بن عفان رضي الله عنه:
لساني طويل فاحترس من شذاته ... عليك وسيفي من لساني أطول «3»(4/97)
وأما وجهاي ولساناي، فإني ألقي كلّ ذي قدر بقدره، وأرمي كلّ نابح بحجره، فمن عرف قدره كفاني نفسه، ومن جهل قدره كفيته نفسي، ولعمري ما لأحد من قريش مثل قدرك ما خلا معاوية، فما ينفعني ذلك عندك. وأنشأ عمرو يقول:
بني هاشم مالي أراكم كأنكم ... بي اليوم جهال وليس بكم جهل
ألم تعلموا أني جسور على الوغى ... سريع إلى الدّاعي إذا كثر القتل
وأوّل من يدعو نزال طبيعة ... جبلت عليها والطّباع هو الجبل «1»
وأني فصلت الأمر بعد اشتباهه ... بدومة إذ أعيا على الحكم الفصل «2»
وأني لا أعيا بأمر أريده ... وأني إذا عجّت بكاركم فحل
محمد بن سعيد عن إبراهيم بن حويطب قال: قال عمرو بن العاص لعبد الله بن عباس بعد قتل علي بن أبي طالب رضي الله عنه: إن هذا الأمر الذي نحن فيه وأنتم، ليس بأول أمر قاده البلاء، وقد بلغ الأمر بنا وبكم إلى ما ترى، أبقت لنا هذه الحرب حياء ولا صبرا، ولسنا نقول: ليت الحرب عادت! ولكنّا نقول: ليتها لم تكن كانت! فانظر فيما بقي بعين ما مضى؛ فإنك رأس هذا الأمر بعد عليّ، فإنك أمير مطاع، ومأمور مطيع، ومشاور مأمون، وأنت هو.
مجاوبة بني هاشم وبني عبد شمس لابن الزبير
الشعبي قال: قال ابن الزبير لعبد الله بن عباس: قاتلت أمّ المؤمنين، وحواريّ رسول الله صلّى الله عليه وسلم؛ وأفتيت بتزويج المتعة.
فقال: أمّا أم المؤمنين فأنت أخرجتها وأبوك وخالك، وبنا سمّيت أم المؤمنين وكنا لها خير بنين؛ فتجاوز الله عنها؛ وقاتلت أنت أبوك عليا، فإن كان عليا مؤمنا فقد ضللتم بقتالكم المؤمنين، وإن كان عليّ كافرا فقد بؤتم بسخط من الله بفراركم من الزحف؛ وأما المتعة فإن عليا رضي الله عنه قال: سمعت رسول الله صلّى الله عليه وسلم رخّص(4/98)
فيها، فأفتيت بها: ثم سمعته ينهى [عنها] فنهيت عنها؛ وأول مجمر «1» سطع في المتعة مجمر آل الزبير.
مناظرة في مجلس معاوية
: دخل الحسن بن عليّ على معاوية وعنده ابن الزبير وأبي سعيد بن عقيل بن أبي طالب؛ فلما جلس الحسن قال معاوية: يا أبا محمد، أيهما كان أكبر، عليّ أم الزبير؟
قال: فقال: ما أقرب ما بينهما، عليّ كان أسنّ من الزبير؛ رحم الله عليا فقال ابن الزبير: رحم الله الزبير، فتبسم الحسن؛ فقال أبو سعيد بن عقيل بن أبي طالب: دع عنك عليا والزبير؛ إن عليا دعا إلى أمر فاتّبع وكان فيه رأسا، ودعا الزبير إلى أمر كان فيه الرأس امرأة، فلما تراءت الفئتان والتقى الجمعان نكص الزبير على عقبيه وأدبر منهزما قبل أن يظهر الحق فيأخذه، أو يدحض الباطل فيتركه، فأدركه رجل لو قيس ببعض أعضائه لكان أصغر، فضرب عنقه وأخذ سلبه وجاء برأسه، ومضى عليّ قدما كعادته مع ابن عمه ونبيه صلّى الله عليه وسلم؛ فرحم الله عليا ولا رحم الزبير! فقال ابن الزبير: أما والله لو أنّ غيرك تكلم بهذا يا أبا سعيد لعلم ... قال: إنّ الذي تعرّض به يرغب عنك. وأخبرت عائشة بمقالتهما، فالتفت أبو سعيد فلم ير شيئا؛ فقال: إن الشيطان ليراك من حيث لا تراه! فضحكت عائشة وقالت: لله أبوك! ما أخبث لسانك.
الحسين ومعاوية
: الشعبي قال: دخل الحسين بن عليّ يوما على معاوية ومعه مولى له يقال له ذكوان، وعند معاوية جماعة من قريش فيهم ابن الزبير، فرحب معاوية بالحسين وأجلسه على سريره، وقال: ترى هذا القاعد- يعني ابن الزبير- فإنه ليدركه الحسد لبني عبد مناف.(4/99)
فقال ابن الزبير لمعاوية: قد عرفنا فضل الحسين وقرابته من رسول الله صلّى الله عليه وسلم؛ لكن إن شئت أعلمك فضل الزبير على أبيك أبي سفيان فعلت، فتكلم ذكوان مولى الحسين بن علي فقال:
يا ابن الزبير، إن مولاي ما يمنعه من الكلام أن لا يكون طلق اللسان رابط الجنان؛ فإن نطق نطق بعلم؛ وإن صمت صمت بحلم؛ غير أنه كفّ «1» الكلام، وسبق إلى السنان، فأقرت بفضله الكرام؛ وأنا الذي أقول:
فيم الكلام لسابق في غاية ... والناس بين مقصّر ومبلّد «2»
إنّ الذي يجري ليدرك شأوه ... ينمي بغير مسوّد ومسدّد
بل كيف يدرك نور بدر ساطع ... خير الأنام وفرع آل محمد
فقال معاوية: صدق قولك يا ذكوان؛ أكثر الله في موالي الكرام مثلك.
فقال ابن الزبير: إن أبا عبد الله سكت وتكلم مولاه، ولو تكلم لأجبناه، أو لكففنا عن جوابه إجلالا له؛ ولا جواب لهذا العبد.
قال ذكوان: هذا العبد خير منك؛ قال رسول الله صلّى الله عليه وسلم: «مولى القوم منهم» ؛ فأنا مولى رسول الله صلّى الله عليه وسلم، وأنت ابن العوام ابن خويلد؛ فنحن أكرم ولاء وأحسن فعلا.
قال ابن الزبير: إني لست أجيب هذا! فهات ما عندك.
فقال معاوية: قاتلك الله يابن الزبير. ما أعياك وأبغاك. أتفخر بين يدي أمير المؤمنين وأبي عبد الله؟ إنك أنت المتعدي لطورك «3» ، الذي لا تعرف قدرك؛ فقس شبرك بفترك؛ ثم تعرّف كيف تقع بين عرانين «4» بني عبد مناف؛ وأما والله لئن دفعت في بحور بني هاشم وبني عبد شمس لقطّعتك بأمواجها، ثم لترميّن بك في(4/100)
لججها؛ فما بقاءك في البحور إذا غمرتك، وفي الأمواج إذا بهزتك «1» ؟ هنالك تعرف نفسك؛ وتندم على ما كان من جرأتك، وتمسّي ما أصبحت فيه من أمان وقد حيل بين العير والنّزوان.
فأطرق ابن الزبير مليا ثم رفع رأسه فالتفت إلى من حوله، ثم قال أسألكم بالله:
أتعلمون أن أبي حواريّ رسول الله صلّى الله عليه وسلم، وأن أباه أبا سفيان حارب رسول الله صلّى الله عليه وسلم؟ وأن أمي أسماء بنت أبي بكر الصديق، وأمه هند آكلة الأكباد؟ وجدي الصدّيق، وجده المشدوخ ببدر ورأس الكفر؟ وعمتي خديجة ذات الخطر والحسب، وعمته أم جميل حمالة الحطب؟ وجدتي صفية، وجدته حمامة؟ وزوج عمتي خير ولد آدم محمد صلّى الله عليه وسلم، وزوج عمته شر ولد آدم أبو لهب سيصلي نارا ذات لهب؟ وخالتي عائشة أم المؤمنين، وخالته أشقى الأشقين؟ وأنا عبد الله، وهو معاوية؟
وقال له معاوية: ويحك يابن الزبير كيف تصف نفسك بما وصفتها؟ والله مالك في القديم من رياسة، ولا في الحديث سياسة، ولقد قدناك وسدناك قديما وحديثا، لا تستطيع لذلك إنكارا، ولا عنه فرارا، وإن هؤلاء الحضور ليعلمون أن قريشا قد اجتمعت يوم الفخار على رياسة حرب بن أمية وأن أباك وأسرتك تحت رايته راضون بإمارته غير منكرين لفضله ولا طامعين في عزله، إن أمر أطاعوا، وإن قال أنصتوا، فلم تزل فينا القيادة وعزّ الولاية؛ حتى بعث الله عز وجل محمدا صلّى الله عليه وسلم، فانتخبه من خير خلقه، من أسرتي لا أسرتك، وبني أبي لابني أبيك، فجحدته قريش أشدّ الجحود؛ وأنكرته أشدّ الإنكار وجاهدته أشدّ الجهاد، إلا من عصم الله من قريش؛ فما ساد قريشا وقادهم إلا أبو سفيان بن حرب، فكانت الفئتان تلتقيان ورئيس الهدى منا ورئيس الضلالة منا؛ فمهديّكم تحت راية مهدّينا، وضالّكم تحت راية ضالّنا؛ فنحن الأرباب، وأنتم الأذناب؛ حتى خلّص الله أبا سفيان بن حرب بفضله من عظيم شركه؛ وعصمه بالإسلام من عبادة الأصنام؛ فكان ما لم يعط في(4/101)
الجاهلية عظيما شأنه، وفي الإسلام معروفا مكانه؛ ولقد أعطي يوم الفتح ما لم يعط أحد من آبائك، وإن منادي رسول الله صلّى الله عليه وسلم نادى: من دخل المسجد فهو آمن، ومن دخل دار أبي سفيان فهو آمن؛ وكانت داره حرما، لا دارك ولا دار أبيك؛ وأما هند فكانت امرأة من قريش في الجاهلية عظيمة الخطر؛ وفي الإسلام كريمة الخبر، وأما جدك الصّديق فبتصديق عبد مناف سمى صديقا لا بتصديق عبد العزّى، وأما ما ذكرت من جدي المشدوخ ببدر، فلعمري لقد دعا إلى البراز هو وأخوه وابنه فلو برزت إليه أنت وأبوك ما بارزوكم ولا رأوكم لهم أكفاء، كما قد طلب ذلك غيركم فلم يقبلوهم، حتى برز إليهم أكفاؤهم من بني أبيهم، فقضى الله مناياهم بأيديهم فنحن قتلنا ونحن قتلنا. وما أنت وذاك؟ وأما عمتك أم المؤمنين فبنا شرفت وسميت أمّ المؤمنين، وخالتك عائشة مثل ذلك، وأما صفية فهي أدنتك من الظل، ولولا هي لكنت ضاحيا؛ وأمّا ما ذكرت من عمك وخال أبيك سيد الشهداء، فكذلك كانوا رحمهم الله، وفخرهم وإرثهم لي دونك، ولا فخر لك فيهم ولا إرث بينك وبينهم؛ وأمّا قولك: أنا عبد الله وهو معاوية، فقد علمت قريش أيّنا أجود في الإزم «1» ، وأحزم في القدم، وأمنع للحرم؛ لا والله ما أراك منتهيا حتى تروم من بني عبد مناف ما رام أبوك، فقد طالبهم بالذّحول «2» وقدّم إليهم الخيول، وخدعتم أمّ المؤمنين ولم تراقبوا رسول الله صلّى الله عليه وسلم إذ مددتم على نسائكم السّجوف «3» وأبرزتم زوجته للحتوف ومقارعة السيوف، فلما التقى الجمعان نكص أبوك هاربا فلم ينجه ذلك أن طحنه أبو الحسين بكلكله طحن الحصيد بأيدي العبيد، وأمّا أنت فأفلتّ بعد أن خمشتك براثينه ونالتك مخاليبه، وايم الله ليقوّمنّك بنو عبد مناف بثقافها، أو لتصبحنّ منها صباح أبيك بوادي السّباع، وما كان أبوك المرهوب جانبه، ولكنه كما قال الشاعر:
أكيلة سرحان فريسة ضيغم ... فقضقضه بالكفّ منه وحطّما «4»(4/102)
ابن الزبير ومعاوية:
نازع مروان بن الحكيم يوما ابن الزبير عند معاوية، فكان هوى معاوية مع مروان؛ فقال ابن الزبير: يا معاوية، إنّ لك حقا وطاعة، وإن لك صلة وحرمة؛ فأطع الله نطعك؛ فإنه لا طاعة لك علينا إن لم تطع الله؛ ولا تطرق إطراق الأفعوان في أصول السّخبر «1» .
وقال معاوية يوما وعنده ابن الزبير وذكر له مروان- فقال: إن يطلب هذا الأمر فقد يطمع فيه من هو دونه، وإن يتركه يتركه لمن هو فوقه؛ وما أراكم بمنتهين حتى يبعث الله عليكم من لا تعطفه قرابة، ولا ترده مودّة، يسومكم خسفا ويوردكم تلفا.
قال ابن الزبير: إذا والله نطلق عقال الحرب بكتائب تمور كرجل «2» الجراد، حافاتها الأسل، «3» لها دويّ كدوي الريح، تتبع غطريفا من قريش لم تكن أمّه براعية ثلّة «4» .
قال معاوية: أنا ابن هند، أطلقت عقال الحرب، وأكلت ذروة السنام، وشربت عنفوان المكرع «5» ، وليس للآكل بعدي إلا الفلذة، ولا للشارب إلا الرّنق «6» .
مجاوبة الحسن بن علي لمعاوية وأصحابه
ابن العاص والحسن:
وفد الحسن بن عليّ على معاوية، فقال عمرو لمعاوية، يا أمير المؤمنين، إن الحسن لفهّ «7» ، فلو حملته على المنبر فتكلم وسمع الناس كلامه عابوه وسقط من عيونهم.
ففعل، فصعد المنبر وتكلم وأحسن؛ ثم قال: أيها الناس، لو طلبتم ابنا لنبيّكم ما بين لابتيها لم تجدوه غيري وغير أخي. وإن أدري لعله فتنة لكم ومتاع إلى حين. فساء ذلك(4/103)
عمرا وأراد أن يقطع كلامه، فقال له: أبا محمد، أتصف الرّطب؟ فقال: أجل، تلقحه الشمال وتخرّجه الجنوب، وتنضجه الشمس، ويصبغه القمر. قال: أبا محمد، هل تنعت الخراءة؟ قال: نعم، تبعد المشي في الأرض الصّحصح «1» حتى تتوارى من القوم، ولا تستقبل القبلة ولا تستدبرها، ولا تستنج بالقمّة والرّمة- يريد الروث والعظم- ولا تبل في الماء الراكد.
مروان والحسن:
بينما معاوية بن أبي سفيان جالس في أصحابه إذ قيل له: الحسن بالباب. فقال معاوية: إن دخل أفسد علينا ما نحن فيه! فقال له مروان بن الحكم: ائذن له؛ فإني أسأله ما ليس عنده فيه جواب. قال معاوية: لا تفعل فإنهم قوم قد ألهموا الكلام وأذن له؛ فلما دخل وجلس قال له مروان: أسرع الشيب إلى شاربك يا حسن، ويقال إنّ ذلك من الخرق! فقال الحسن: ليس كما بلغك، ولكنا معشر بني هاشم أفواهنا عذبة شفاهها فنساؤنا يقبلن علينا بأنفاسهنّ وقبلهنّ؛ وأنتم معشر بني أمية فيكم بخر شديد، فنساؤكم يصرفن أفواههنّ وأنفاسهنّ عنكم إلى أصداغكم؛ فإنما يشيب منكم موضع العذار من أجل ذلك. قال مروان: إن فيكم يا بني هاشم خصلة سوء. قال: وما هي؟
قال: الغلمة «2» . قال: أجل، نزعت الغلمة من نسائنا ووضعت في رجالنا، ونزعت الغلمة من رجالكم ووضعت في نسائكم، فما قام لأموية إلا هاشمي! فغضب معاوية وقال: قد كنت أخبرتكم فأبيتم حتى سمعتم ما أظلم عليكم بيتكم وأفسد عليكم مجلسكم.
فخرج الحسن وهو يقول:
ومارست هذا الدهر خمسين حجّة ... وخمسا أزجّي قائلا بعد قائل «3»(4/104)
فلا أنا في الدنيا بلغت جسيمها ... ولا في الذي أهوى كدحت بطائل
وقد أشرعت فيّ المنايا أكفّها ... وأيقنت أني رهن موت بعاجل
الحسن وحبيب الفهري:
قال الحسن بن علي لحبيب بن مسلمة الفهري: ربّ مسير لك في غير طاعة الله! قال: أما مسيري إلى أبيك فلا! قال: بلى، ولكنك أطعت معاوية على دنيا قليلة، فلئن كان قام بك في دنياك لقد قعد بك في آخرتك، ولو كنت إذ فعلت شرا قلت خيرا كنت كما قال الله عز وجل: خَلَطُوا عَمَلًا صالِحاً وَآخَرَ سَيِّئاً
«1» ، ولكنك كما قال الله: بَلْ رانَ عَلى قُلُوبِهِمْ ما كانُوا يَكْسِبُونَ
«2» .
ابن جعفر وابن الحكم في مجلس عبد الملك:
قدم عبد الله بن جعفر على عبد الله بن مروان، فقال له يحيى بن الحكم: ما فعلت خبيثة؟ فقال: سبحان الله! يسميها رسول الله صلّى الله عليه وسلم طيبة وتسميها خبيثة؟ لقد اختلفتما في الدنيا وستختلفان في الآخرة! قال يحيى: لأن أموت بالشام أحب إليّ من أن أموت بها! قال: اخترت جوار النصارى على جوار رسول الله صلّى الله عليه وسلم! قال يحيى:
ما تقول في عليّ وعثمان؟ قال: أقول ما قاله من هو خير مني فيمن هو شر منهما:
إِنْ تُعَذِّبْهُمْ فَإِنَّهُمْ عِبادُكَ وَإِنْ تَغْفِرْ لَهُمْ فَإِنَّكَ أَنْتَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ
«3» .
مجاوبة بين معاوية وأصحابه
معاوية والضحاك وابن العاص:
قال معاوية يوما وعنده الضحاك بن قيس، وسعيد بن العاص، وعمرو بن العاص: ما أعجب الأشياء؟(4/105)
قال الضحاك بن قيس: إكداء العاقل وإجداء الجاهل. وقال سعيد بن العاص:
أعجب الأشياء ما لم ير مثله. وقال عمرو بن العاص: أعجب الأشياء غلبة من لا حقّ له ذا الحقّ على حقه. وقال معاوية: أعجب من هذا أن تعطي من لا حق له ما ليس له بحق من غير غلبة.
معاوية وقوم من قريش:
حضر قوم من قريش مجلس معاوية، فيهم عمرو بن العاص، وعبد الله بن صفوان بن أمية، وعبد الرحمن بن الحرث بن هشام؛ فقال عمرو: أحمد الله يا معشر قريش إذ جعل أمركم إلى من يغضي على القذى، ويتصام عن العوراء، ويجرّ ذيله على الخدائع. قال عبد الله: لو لم يكن كذلك لمسّنا إليه الضر أو دببنا إليه الخمر، ورجونا أن يقوم بأمرنا من لا يطعمك مال مصر. قال معاوية: يا معشر قريش، حتى متى لا تنصفون من أنفسكم؟ قال عبد الرحمن بن الحارث: إن عمرا أفسدك علينا وأفسدنا عليك. لو أغضبت عن هذه. قال: إن عمرا لي ناصح. قال عبد الرحمن:
فأطعمنا مثل ما أطعمته، وخذنا بمثل نصيحته؛ إنا رأيناك يا معاوية تضرب عوامّ قريش بأيديك في خواصها، كأنك ترى أن بكرامها جاروك دون لئامها، وإنا والله لنفرغ من إناء فعم في إناء ضخم، وكأنك بالحرب قد حل عقالها عليك من لا ينظر لك. قال معاوية: يا بن أخي، ما أحوج أهلك إليك! فلا تفجعهم بنفسك! ثم أنشد:
أعزّ رجالا من قريش تتابعوا ... على سفه، مني الحيا والتكرم «1»
معاوية وابن الزبير:
وقال معاوية لابن الزبير: تنازعني هذا الأمر كأنك أحق به مني! قال: لم لا أكون أحق به منك يا معاوية، وقد اتبع أبي رسول الله صلّى الله عليه وسلم على الإيمان واتبع الناس أباك على الكفر؟ قال له معاوية: غلطت يا ابن الزبير بعث الله ابن عمي نبيا فدعا أباك فأجابه؛ فما أنت إلا تابع لي، ضالا كنت أو مهديّا.(4/106)
معاوية ومروان وابن العاص في الحسين:
العتبي قال: دعا معاوية مروان بن الحكم فقال له: أشر عليّ في الحسين. قال:
تخرجه معك إلى الشام، فتقطعه عن أهل العراق وتقطعهم عنه. قال: أردت والله أن تستريح منه وتبتليني به، فإن صبرت عليه صبرت على ما أكره، وإن أسأت إليه كنت قد قطعت رحمه! فأقامه وبعث إلى سعيد بن العاص، فقال له: يا أبا عثمان، أشر عليّ في الحسين. فقال: والله إنك ما تخاف الحسين إلا على من بعدك، وإنك لتخلف له قرنا إن صارعه ليصرعنه، وإن سابقه ليسبقنّه؛ فذر الحسين منبت النخلة، يشرب من الماء، ويصعد في الهواء، ولا يبلغ إلى السماء! قال: فما غيّبك عني يوم صفّين؟ قال:
تحملت الحرم، وكفيت الحزم، وكنت قريبا لو دعوتنا لأجبناك، ولو ثلمت لرقعناك! قال معاوية: يا أهل الشام؛ هؤلاء قومي وهذا كلامهم.
مجاوبة بين بني أمية
ابن سعيد وابن عتبة في حضرة معاوية:
قال: لما أخرج أهل المدينة عمرو بن سعيد الأشدق، وكان وليهم بعد الوليد بن عتبة بن أبي سفيان، قال عمر بن سعيد لمعاوية: إن الوليد بن عتبة هو الذي أمر أهل المدينة باخراجي؛ فأرسل إليه وتوثّقه. فأرسل إليه معاوية، فلما دخل عليه قال له عمرو: أوليد، أنت أمرت بإخراجي؟ قال لا ورحمك أبا أمية، ولا أمرت أهل الكوفة بإخراج أبيك؛ بل كيف أطاعني أهل المدينة فيك، إلا أن تكون عصيت الله فيهم؟ إنك لتحل عرى ملك شديدة عقدتها، وتمتري «1» أخلاف فيقة»
سريعة درتها؛ وما جعل الله صالحا مصلحا كفاسد مفسد!
معاوية وخالد بن عبد الله في أموال العراق:
جلس يوما عبد الملك بن مروان وعند رأسه عبد الله بن خالد بن أسيد، وعند(4/107)
رجليه أمية بن عبد الله بن خالد بن أسيد، وأدخلت عليه الأموال التي جاءت من قبل الحجاج حتى وضعت بين يديه، فقال: هذا والله التوفير، وهذه الأمانة؛ لا ما فعل هذا- وأشار إلى خالد- استعملته على العراق فاستعمل كل ملطّ «1» فاسق فأدّوا إليه العشرة واحدا، وأدّى إليّ من العشرة واحدا! واستعملت هذا على خراسان- وأشار إلى أمية- فأهدى إليّ برذونين حطمين «2» ، فإن استعملتكم ضيعتم وإن عزلتكم قلتم استخف بنا وقطع أرحامنا! فقال خالد بن عبد الله: استعملتني على العراق وأهله رجلان: سامع مطيع مناصح، وعدو مبغض مكاشح؛ فأما السامع المطيع المناصح فإنا جزيناه ليزداد ودّا إلى ودّه، وأما المبغض المكاشح، فإنا داريناه ضغنه وسللنا حقده، وكثرنا لك المودة في صدور رعيتك؛ وإن هذا جبى الأموال وزرع لك البغضاء في قلوب الرجال؛ فيوشك أن تنبت البغضاء فلا أموال ولا رجال! فلما خرج ابن الأشعث قال عبد الملك: هو والله ما قال خالد.
خالد بن يزيد ومحمد بن عمرو:
قدم محمد بن عمرو بن سعيد بن العاص الشام، فأتى عمته آمنة بنت سعيد بن العاص، وكانت عند خالد بن يزيد بن معاوية، فدخل عليه فرآه فقال له: ما يقدم علينا أحد من أهل الحجاز إلا اختار المقام عندنا على المدينة. فظن محمد أنه يعرّض به، فقال: وما يمنعهم وقد قدم من المدينة قوم على النواضح «3» ، فنكحوا أمّك، وسلبوك ملكك، وفرّغوك لطلب الحديث وقراءة الكتب ومعالجة ما لا تقدر عليه.
يعني الكيميا، وكان يعملها.
عثمان وابن العاص بعد عزله عن مصر:
لما عزل عثمان بن العاص عن مصر وولاها عبد الله بن أبي سرح، دخل عليه عمرو وعليه جبة، فقال له: ما حشو جبّتك يا عمرو؟ قال: أنا! قال: قد علمت أنك فيها.
ثم قال: أشعرت يا عمرو أن الّلقاح درّت بعدك ألبانها بمصر؟ قال: لأنكم أعجفتم «4» أولادها.(4/108)
ابن لعمر بن عبد العزيز وابن لسليمان:
وقع بين ابن لعمر بن عبد العزيز وابن لسليمان بن عبد الملك كلام. فجعل ابن عمر يذكر فضل أبيه، قال له ابن سليمان؛ إن شئت فأقلل وإن شئت فأكثر؛ ما كان أبوك إلا حسنة من حسنات أبي! لأن سليمان هو ولي عمر ابن عبد العزيز.
العباس بن الوليد والوليد بن يزيد:
ذكروا أن العباس بن الوليد وجماعة من بني مروان كانوا عند هشام، فذكروا الوليد بن يزيد، فحمّقوه وعابوه، وكان هشام يبغضه؛ ودخل الوليد، فقال له العباس بن الوليد: كيف حبّك للروميات؟ قال: إن أباك كان مشغوفا بهنّ. قال: إني لا أحبهن. [قال] : وكيف لا يحببن وهن يلدن مثلك؟ قال: اسكت، فلست بالفحل يأتي عسبه «1» بمثلي. قال له هشام: يا وليد، ما شرابك؟ قال: شرابك يا أمير المؤمنين. وقام فخرج، فقال هشام: هذا الذي تزعمون أنه أحمق.
الوليد بن يزيد وولد لهشام:
وقرّب إلى الوليد بن يزيد فرسه، فجمع جراميزه «2» ووثب على سرجه، ثم التفت إلى ولد لهشام بن عبد الملك، فقال: يحسن أبوك أن يصنع مثل هذا؟ قال: لأبي مائة عبد يصنعون مثل هذا! فقال الناس: لم ينصفه في الجواب.
عبد الملك ويحيى بن الحكم وبنت لعبد الرحمن بن هشام:
خطب عبد الملك بن مروان بنت عبد الرحمن بن الحرث بن هشام، فقالت: والله لا تزوجني أبو الذباب! فتزوجها يحيى بن الحكم؛ فقال عبد الله ليحيى: أما والله لقد تزوجت أسود أفوه «3» ! قال يحيى: أما إنها أحبّت مني ما كرهت منك! وكان عبد الملك رديء الفم، يدمي فيقع عليه الذباب، فسمي أبا الذباب.(4/109)
الجواب القاطع
ثابت بن عبد الله وسعيد بن عثمان:
نظر ثابت بن عبد الله بن الزبير إلى أهل الشام، فقال: إني لأبغض هذه الوجوه.
قال له سعيد بن عثمان: تبغضهم لأنهم قتلوا أباك! قال: صدقت، ولكن الأنصار والمهاجرون قتلوا أباك!
الحجاج وخارجي:
وقال الحجاج لرجل من الخوارج: والله إنك من قوم أبغضهم! قال له: أدخل الله أشدّنا بغضا لصاحبه الجنة.
عمرو بن معديكرب وباهلي:
وقال ابن الباهلي لعمرو بن معديكرب: إن مهرك لمقرف «1» . قال: هجين عرف هجينا «2» مثله.
الحجاج وخارجية:
وقال الحجاج لامرأة من الخوارج: والله لأعدّنكم عدّا ولأحصدنّكم حصدا! قالت له: الله يزرع وأنت تحصد، فأين قدرة المخلوق من الخالق.
وأتي الحجاج بامرأة من الخوارج، فقال لأصحابها: ما تقولون فيها؟ قالوا:
عاجلها القتل أيها الأمير، قالت الخارجية: لقد كان وزراء صاحبك خيرا من وزرائك يا حجاج! قال لها: ومن صاحبي؟ قالت: فرعون؛ استشارهم في موسى فقالوا: أرجه «3» وأخاه!(4/110)
زياد وخارجي:
وأتي زياد برجل من الخوارج، فقال له: ما تقول فيّ وفي أمير المؤمنين؟ قال أما الذي تسميه أمير المؤمنين فهو أمير المشركين، وأما أنت فما أقول في رجل أوله لزنية وآخره لدعوة! فأمر به فقتل وصلب.
الأشعث وشريح:
قال الأشعث بن قيس لشريح القاضي: لشدّ ما ارتفعت! قال: فهل رأيت ذلك ضرك؟ قال: لا. قال: فأراك تعرف نعمة الله عليك وتجهلها على غيرك.
ابن الفضل وبعض قرابته:
نازع محمد بن الفضل بعض قرابته في ميراث، فقال له: يا بن الزنديق! قال له: إن كان أبي كما تقول وأنا مثله، فلا يحل لك أن تنازعني في هذا الميراث؛ إذ كان لا يرث دين دينا.
الحجاج وخارجية:
وأتي الحجاج بامرأة من الخوارج، فجعل يكلمها وهي لا تنظر إليه، فقيل لها الأمير يكلمك وأنت لا تنظرين إليه! قالت: إني لأستحي أن أنظر من لا ينظر الله إليه! فأمر بها فقتلت.
عثمان وعلي:
لقي عثمان بن عفان عليّ بن أبي طالب، فعاتبه في شيء بلغه عنه، فسكت عنه علي؛ فقال له عثمان: مالك لا تقول؟ قال: له علي: ليس لك عندي إلا ما تحب وليس جوابك إلا ما تكره.
وتكلم الناس عند معاوية في يزيد ابنه إذ أخذ له البيعة، وسكت الأحنف؛ فقال له: مالك لا تقول أبا بحر؟ قال: أخافك إن صدقت وأخاف الله إن كذبت!(4/111)
قال معاوية يوما: أيها الناس، إن الله فضّل قريشا بثلاث: فقال لنبيه عليه الصلاة والسلام: وَأَنْذِرْ عَشِيرَتَكَ الْأَقْرَبِينَ
«1» ، فنحن عشيرته؛ وقال: وَإِنَّهُ لَذِكْرٌ لَكَ وَلِقَوْمِكَ
«2» ، فنحن قومه؛ وقال: لِإِيلافِ قُرَيْشٍ إِيلافِهِمْ رِحْلَةَ الشِّتاءِ وَالصَّيْفِ فَلْيَعْبُدُوا رَبَّ هذَا الْبَيْتِ الَّذِي أَطْعَمَهُمْ مِنْ جُوعٍ وَآمَنَهُمْ مِنْ خَوْفٍ
«3» ، ونحن قريش! فأجابه رجل من الأنصار فقال: على رسلك يا معاوية، فإن الله يقول:
وَكَذَّبَ بِهِ قَوْمُكَ
«4» ، وأنتم قومه؛ وقال: وَلَمَّا ضُرِبَ ابْنُ مَرْيَمَ مَثَلًا إِذا قَوْمُكَ مِنْهُ يَصِدُّونَ
«5» ، وأنتم قومه، وقال الرسول عليه الصلاة والسلام: يا رَبِّ إِنَّ قَوْمِي اتَّخَذُوا هذَا الْقُرْآنَ مَهْجُوراً
«6» ، وأنتم قومه؛ ثلاثة بثلاثة، ولو زدتنا لزدناك! فأفحمه.
وقال معاوية لرجل من اليمن: ما كان أجهل قومك حين ملّكوا عليهم امرأة! فقال: أجهل من قومي قومك الذين قالوا حين دعاهم رسول الله صلّى الله عليه وسلم: اللَّهُمَّ إِنْ كانَ هذا هُوَ الْحَقَّ مِنْ عِنْدِكَ فَأَمْطِرْ عَلَيْنا حِجارَةً مِنَ السَّماءِ أَوِ ائْتِنا بِعَذابٍ أَلِيمٍ
«7» ، ولم يقولوا: اللهم إن كان هذا هو الحق من عندك فاهدنا إليه.
مجاوبة الأمراء والردّ عليهم
قال معاوية لجارية بن قدامة: ما كان أهونك على أهلك إذ سموك جارية. قال:
ما كان أهونك على أهلك إذ سموك معاوية، وهي الأنثى من الكلاب. قال: لا أمّ لك! قال: أمي ولدتني للسيوف التي لقيناك بها في أيدينا. قال: إنك لتهدّدني! قال:
إنك لم تفتتحنا قسرا ولم تملكنا عنوة، ولكنك أعطيتنا عهدا وميثاقا وأعطيناك سمعا وطاعة، فإن وفيت لنا وفينا لك، وإن فزعت إلى غير ذلك، فإنا تركنا وراءنا رجالا شدادا وألسنة حدادا.(4/112)
قال له معاوية: لا كثّر الله في الناس أمثالك. قال جارية: قل معروفا وراعنا؛ فإن شر الدعاء المحتطب.
معاوية والأحنف:
عدّد معاوية بن أبي سفيان على الأحنف ذنوبا، فقال: يا أمير المؤمنين، لم تردّ الأمور على أعقابها؛ أما والله إن القلوب التي أبغضناك بها لبين جوانحنا، والسيوف التي قاتلناك بها على عواتقنا؛ ولئن مددت فترا من غدر لنمدّن باعا من ختر؛ «1» ولئن شئت لنستصفين كدر قلوبنا بصفو حلمك. قال: فإني أفعل!.
معاوية وعدي:
قال معاوية لعدي بن حاتم: ما فعلت الطرفات يا أبا طريف؟ يعني أولاده؛ قال:
قتلوا! قال: ما أنصفك ابن أبي طالب إذ قتل بنوك معه وبقي له بنوه! قال: لئن كان ذلك لقد قتل هو وبقيت أنا بعده! قال له معاوية: ألم تزعم أنه لا يخنق في قتل عثمان عنز؟ قال: قد والله خنق فيه التيس الأكبر. قال معاوية: أما إنه قد بقيت من دمه قطرة ولا بد أن أتبعها! قال عدي: لا أبا لك! شم «2» السيف، فإنّ سلّ السيف يسلّ السيف. فالتفت معاوية إلى حبيب بن مسلمة فقال: أجعلها في كتابك فإنها حكمة.
الأحنف وشامي لعن عليا:
الشيباني عن أبي الجناب الكندي عن أبيه، أن معاوية بن أبي سفيان بينا هو جالس وعنده وجوه الناس، إذ دخل رجل من أهل الشام فقام خطيبا، فكان آخر كلامه أن لعن عليا؛ فأطرق الناس وتكلم الأحنف فقال: يا أمير المؤمنين، إن هذا القائل ما قال آنفا لو يعلم أن رضاك في لعن المرسلين لعنهم، فاتق الله ودع عنك عليا، فقد لقي(4/113)
ربّه، وأفرد في قبره، وخلا بعمله؛ وكان والله- ما علمنا- المبرّز بسبقه، الطاهر خلقه، الميمون نقيبته «1» ، العظيم مصيبته فقال له معاوية: يا أحنف، لقد أغضيت العين على القذى، وقلت ما ترى! وايم الله لتصعدنّ المنبر فتلعننّه طوعا أو كرها، فقال له الأحنف يا أمير المؤمنين، إن تعفني فهو خير لك، وإن تجبرني على ذلك فوالله لا تجري فيه شفتاي أبدا! قال: قم فاصعد المنبر. قال الأحنف: أما والله مع ذلك لأنصفنك في القول والفعل. قال: وما أنت قائل يا أحنف إن أنصفتني؟ قال: أصعد المنبر فأحمد الله بما هو أهله، وأصلّ على نبيه صلّى الله عليه وسلم، ثم أقول: أيها الناس، إن أمير المؤمنين معاوية أمرني أن ألعن عليا، وإن عليا ومعاوية اختلفا فاقتتلا، وادّعى كلّ واحد منهما أنه بغي عليه وعلى فئته؛ فإذا دعوت فأمّنوا رحمكم الله. ثم أقول: اللهم العن أنت وملائكتك وأنبياؤك وجميع خلقك الباغيّ منهما على صاحبه؛ والعن الفئة الباغية؛ اللهم العنهم لعنا كبيرا! أمّنوا رحمكم الله. يا معاوية، لا أزيد على هذا ولا أنقص منه حرفا ولو كان فيه ذهاب نفسي؛ فقال معاوية: إذا نعفيك يا أبا بحر.
معاوية وعقيل في أمر علي:
وقال معاوية لعقيل بن أبي طالب: إن عليا قد قطعك ووصلتك؛ ولا يرضيني منك إلا أن تلعنه على المنبر! قال: أفعل، فأصعد، فصعد، ثم قال بعد أن حمد الله وأثنى عليه: أيها الناس، إن أمير المؤمنين معاوية أمرني أن ألعن عليّ بن أبي طالب فالعنوه فعليه لعنة الله والملائكة والناس أجمعين ثم نزل، فقال له معاوية إنك لم تبين أبا يزيد من لعنت بيني وبينه. قال: والله لازدت حرفا ولا نقصت آخر، والكلام إلى نية المتكلم.
الهيثم بن عدي قال: قال معاوية لأبي الطفيل: كيف وجدك على عليّ؟ قال: وجد ثمانين مثكلا! قال: فكيف حبّك له؟ قال: حب أم موسى، وإلى الله أشكو التقصير!(4/114)
وقال مرة أخرى: أبا الطفيل! قال: نعم. قال: أنت من قتلة عثمان؟ قال: لا، ولكني ممن حضره ولم ينصره. قال: وما منعك من نصره؟ قال: لم ينصره المهاجرون والأنصار، فلم أنصره. قال: لقد كان حقّه واجبا وكان عليهم أن ينصروه. قال: فما منعك من نصرته يا أمير المؤمنين وأنت ابن عمه؟ قال: أو ما طلبي بدمه نصرة له؟
فضحك أبو الطفيل وقال: مثلك ومثل عثمان كما قال الشاعر:
لأعرفنّك بعد الموت تندبني ... وفي حياتي ما زوّدتني زادا
معاوية وابن الخطل:
العتبي قال: صعد معاوية المنبر فوجد من نفسه رقة، فقال بعد أن حمد الله وأثنى عليه: أيها الناس، إن عمر ولاني أمرا من أمره، فوالله ما غششته ولا خنته ثم ولاني الأمر من بعده ولم يجعل بيني وبينه أحدا؛ فأحسنت والله وأسأت، وأصبت وأخطأت؛ فمن كان يجهلني فإني أعرّفه بنفسي. فقام إليه سلمة بن الخطل العرجيّ؛ فقال: أنصفت يا معاوية وما كنت منصفا. قال فغضب معاوية وقال: ما أنت وذاك يا أحدب؟ والله لكأني أنظر إلى بيتك بمهيعة، «1» وبطنب «2» تيس، وبطنب بهمة، بفنائه أعنز عشر، يحتلبن في مثل قوارة حافر العير، «3» تهفو الريح منه بجانب، كأنه جناح نسر. قال: رأيت والله ذاك في شر زماننا إلينا، وو الله إن حشوه يومئذ لحسب غير دنس؛ فهل رأيتني يا معاوية أكلت مالا حراما أو قتلت امرأ مسلما؟ قال: وأين كنت أراك وأنت لا تدبّ إلا في خمر؟ وأي مسلم يعجز عنك فتقتله؟ أم أي مال تقوى عليه فتأكله؟ اجلس لا جلست. قال: بل أذهب حتى لا تراني. قال إلى أبعد الأرض لا إلى أقربها فمضى، ثم قال معاوية: ردّوه عليّ، فقال الناس: يعاقبه! فقال له: أستغفر الله منك يا أحدب، والله لقد بررت في قرابتك، وأسلمت فحسن إسلامك، وإن أباك لسيّد قومه؛ ولا أبرح أقول بما تحب فاقعد.(4/115)
معاوية وخريم الناعم:
الأوزاعي قال: دخل خريم الناعم على معاوية، فنظر إلى ساقيه فقال: أيّ ساقين.
لو أنهما على جارية. قال في مثل عجيزتك يا أمير المؤمنين. قال معاوية: واحد بأخرى والبادي أظلم.
عبد الملك وعطاء:
دخل عطاء المضحك على عبد الملك بن مروان، فقال له: أما وجدت لك أمك اسما إلا عطاء؟ قال: لقد استكثرت من ذلك ما استكثرته يا أمير المؤمنين، ألا سمتني باسم المباركة، صلوات الله عليها، مريم.
معاوية وصحار:
قال معاوية لصحار بن العباس العبدي: يا أزرق. قال: البازي أزرق. قال: يا أحمر. قال: الذهب أحمر. قال: ما هذه البلاغة فيكم عبد القيس؟ قال: شيء يختلج في صدورنا فتقذفه ألسنتنا كما يقذف البحر الزّبد. قال: فما البلاغة عندكم؟ قال: أن نقول فلا نخطىء، ونجيب فلا نبطىء.
ابن عامر وابن حازم:
وقال عبد الله بن عامر بن كريز لعبد الله بن حازم يا بن عجلى. قال: ذاك اسمها. قال: يا بن السوداء. قال: ذاك لونها. قال: يا بن الأمة. قال: كل أنثى أمة فاقصد بذرعك لا يرجع سهمك عليك؛ إن الإماء قد ولدنك.
عبد الملك وابن ظبيان:
دخل عبيد الله بن زياد بن ظبيان على عبد الملك بن مروان، فقال له عبد الملك:
ما هذا الذي يقول الناس؟ قال: وما يقولون؟ قال: يقولون إنك لا تشبه أباك قال:
والله لأنا أشبه به من الماء بالماء، والغراب بالغراب؛ ولكن أدلك على من لم يشبه أباه.(4/116)
قال: من هو؟ قال: من لم تنضجه الأرحام، ولم يولد لتمام، ولم يشبه الأخوال والأعمام. قال: ومن هو؟ قال: ابن عمي سويد بن منجوف. وإنما أراد عبد الملك ابن مروان، وذلك لأنه ولد لستة أشهر.
هشام وزيد ابن علي:
دخل زيد بن عليّ على هشام بن عبد الملك، فلم يجد موضعا يقعد فيه: فعلم أن ذلك فعل به على عمد؛ فقال: يا أمير المؤمنين، اتق الله. قال: أو مثلك يا زيد يأمر مثلي بتقوى الله؟ قال زيد: إنه لا يكبر أحد فوق تقوى الله، ولا يصغر دون تقوى الله. قال له هشام: بلغني أنك تحدّث نفسك بالخلافة ولا تصلح لها؛ إنك ابن أمة.
قال: زيد: أما قولك إني أحدّث نفسي بالخلافة، فلا يعلم الغيب إلا الله؛ وأما قولك إني ابن أمة، فهذا إسماعيل بن إبراهيم خليل الرحمن ابن أمة من صلبه خير البشر محمد صلّى الله عليه وسلم، وإسحاق ابن حرة. أخرج من صلبه القردة والخنازير وعبدة الطاغوّت. قال له: قم. قال: إذن لا تراني إلا حيث تكره. فلما خرج من عنده قال: ما أحب أحد قط الحياة إلا ذل. قال له حاجبه: لا يسمع هذا الكلام منك أحد.
وقال زيد بن علي:
سرّده الخوف وازرى به ... كذاك من يكره حرّ الجلاد «1»
محتفي الرّجلين يشكو الوجا ... تقرعه أطراف مرو حداد «2»
قد كان في الموت له راحة ... والموت حتم في رقاب العباد
ثم خرج بخراسان، فقتل وصلب في كناسة. وفيه يقول سديف بن ميمون في دولة بني العباس:
واذكروا مقل الحسين وزيدا ... وقتيلا بجانب المهراس «3»(4/117)
يريد حمزة بن عبد المطلب المقتول بأحد.
عبد الملك ورجل من قيس:
دخل رجل من قيس على عبد الملك بن مروان؛ فقال: زبيري. والله لا يحبك قلبي أبدا. قال: يا أمير المؤمنين، إنما يجزع من الحب النساء، ولكن عدل وإنصاف.
عمر بن الخطاب وأبو مريم:
وقال عمر بن الخطاب لأبي مريم الحنفي قاتل زيد بن الخطاب: والله لا يحبك قلبي أبدا حتى تحب الأرض الدم. قال: يا أمير المؤمنين، فهل تمنعني لذلك حقا؟ قال:
لا. قال: فحسبي.
سليمان ويزيد ابن أبي مسلم:
دخل يزيد بن أبي مسلم على سليمان بن عبد الملك، فقال: على امريء أوطأك رسنه وسلّطك على الأمة لعنة الله. فقال: يا أمير المؤمنين، إنك رأيتني والأمر مدبر عني ولو رأيتني والأمر مقبل عليّ لعظم في عينك ما استصغرت مني. قال: أتظن الحجاج استقر في قعر جهنم أم هو يهوي فيها؟ قال: يا أمير المؤمنين، إن الحجاج يأتي يوم القيامة بين أبيك، وأخيك فضعه من النار حيث شئت.
مروان وزفر:
وقال مروان بن الحكم لزفر بن الحارث: بلغني أن كندة تدّعيك. قال: لا خير فيمن لا يتّقي رهبة ولا يدّعي رغبة.
مروان وابن ولجة:
قال مروان بن الحكم للحسن بن دلجة: إني أظنك أحمق. قال: [أحمق] ما يكون الشيخ إذا عمل بظنّه.(4/118)
مروان وحويطب:
وقال مروان لحويطب بن عبد العزّى، وكان كبيرا مسنا. أيها الشيخ، تأخر إسلامك حتى سبقك الأحداث. فقال: الله المستعان، والله لقد هممت بالإسلام غير مرة، وكل ذلك يعوقني عنه أبوك وينهاني، ويقول: يضع من قدرك أن تترك دين آبائك لدين محدث، وتصير تابعا فسكت مروان.
عبد الملك وثابت بن عبد الله:
قال عبد الملك بن مروان لثابت بن عبد الله بن الزبير: أبوك ما كان أعلم بك حيث كان يشتمك. قال: يا أمير المؤمنين، إنما كان يشتمني أني كنت أنهاه أن يقاتل بأهل المدينة وأهل مكة؛ فإن الله لا ينصر بهما؛ أما أهل مكة فأخرجوا النبي صلّى الله عليه وسلم وأخافوه، ثم جاءوا إلى المدينة فآذوه حتى سيرهم- يعرّض بالحكم بن أبي العاص طريد النبي صلّى الله عليه وسلم-؛ وأما أهل المدينة فخذلوا عثمان حتى قتل بين أظهرهم ولم يدفعوا عنه. قال له: عليك لعنة الله.
معاوية والبراءة من علي:
جلس معاوية يبايع الناس على البراءة من عليّ؛ فقال له رجل من بني تميم: يا أمير المؤمنين، نطيع أحياءكم ولا نبرأ من موتاكم. فالتفت معاوية إلى زياد فقال: هذا رجل فاستوص به.
معاوية والأنصار:
قال معاوية يوما: يا معشر الأنصار، بم تطلبون ما عندي؟ فوالله لقد كنتم قليلا معي كثيرا معي عليّ، ولقد فللتم حدّي يوم صفين حتى رأيت المنايا تتلظى من أسنتكم، ولقد هجوتموني [في أسلافي] بأشدّ من وخز الأسل، «1» حتى إذا أقام الله(4/119)
منّا ما حاولتم ميله، قلتم ارع فينا وصية رسول الله صلّى الله عليه وسلم. هيهات. يأبى الحقين العذرة. «1»
فأجابه قيس بن سعد، قال أما قولك جئناك نطلب ما عندك، فبالإسلام الكافي به الله ما سواه، لا بما نمتّ إليك به من الأحزاب؛ وأما استقامة الأمر، فعلى كره منا كان؛ وأما فلّنا حدّك يوم صفين، فأمر لا نعتذر منه؛ وأما عداوتنا لك، فلو شئت كففتها عنك؛ وأما هجاؤنا إياك، فقول يثبت حقّه ويزول باطله؛ وأما وصية رسول الله صلّى الله عليه وسلم، فمن يؤمن بها يحفظها من بعده؛ وأما قولك يأبى الحقين العذرة، فليس دون الله يد تحجزك منا؛ فدونك أمرك يا معاوية؛ فإنما مثلك كما قال الشاعر:
يا لك من قبّرة بمعمر ... خلالك الجوّ فبيضي واصفري «2»
سليمان وابن المهلب:
وقال سليمان بن عبد الملك ليزيد بن المهلب: فيمن العزّ بالبصرة؟ قال: فينا وفي حلفائنا من ربيعة. قال سليمان: الذي تحالفتما عليه أعزّ منكما.
عمر بن الخطاب وعبد الله بن الزبير:
مرّ عمر بن الخطاب بالصبيان يلعبون وفيهم عبد الله بن الزبير، ففرّوا وثبت ابن الزبير؛ قال له عمر: كيف لم تفرّ مع أصحابك؟ قال: لم أجترم «3» فأخافك، ولم يكن بالطريق من ضيق فأوسّع لك!
عبد الله بن الزبير وعدي بن حاتم:
وقال عبد الله بن الزبير لعدي بن حاتم: متى فقئت عينك؟ قال: يوم قتل أبوك، وهربت عن خالتك، وأنا للحقّ ناصر، وأنت له خاذل. وكان فقئت عينه يوم الجمل.(4/120)
الرشيد وابن مزيد:
وقال هارون الرشيد ليزيد بن مزيد: ما أكثر الخلفاء في ربيعة؟ قال: نعم، ولكن منابرهم الجذوع.
يزيد بن معاوية والمسود:
كان المسور بن مخرمة جليلا نبيلا، وكان يقول في يزيد بن معاوية إنه يشرب الخمر؛ فبلغه ذلك؛ فكتب إلى عامله بالمدينة أن يجلده الحدّ، ففعل، فقال المسور في ذلك:
أيشربها صرفا يفضّ ختامها ... أبو خالد ويجلد الحد مسور
المأمون وابن أكثم:
قال المأمون ليحيى بن أكثم القاضي: أخبرني من الذي يقول:
قاض يرى الحدّ في الزّناء ولا ... يرى على من يلوط من باس
قال: يقوله يا أمير المؤمنين الذي يقول:
لا أحسب الجور ينقضي وعلى ال ... أمّة وال من آل عبّاس
قال: ومن يقوله؟ قال: أحمد بن نعيم. قال: ينفى إلى السند. وإنما مزحنا معك.
سليمان وابن الرقاع:
قال سليمان بن عبد الملك لعدي بن الرقاع: أنشدني قولك في الخمر:
كميت إذا شجّت، وفي الكأس وردة ... لها في عظام الشاربين دبيب
تريك القذى من دونها وهي دونه ... لوجه أخيها في الإناء قطوب «1»
فأنشده؛ فقال له سليمان: شربتها ورب الكعبة! قال عدي: والله يا أمير المؤمنين، لئن رابك وصفي لها قد رابني معرفتك بها! فتضاحكا وأخذا في الحديث.(4/121)
بلال وخالد بن صفوان:
الأصمعي قال: لما ولي بلال بن أبي بردة البصرة بلغ ذلك خالد بن صفوان، فقال:
سحابة صيف عن قليل تقشّع
فبلغ ذلك بلالا فدعا به، فقال؛ أنت القائل؟
سحابة صيف عن قليل تقشع؟
أما والله لا تقشع حتى يصيبك منها شؤبوب»
برد! فضربه مائة سوط.
وكان خالد يأتي بلالا في ولايته، ويغشاه في سلطانه، ويغتابه إذا غاب عنه.
ويقول ما في قلب بلال من الإيمان إلا ما في بيت أبي الزرد الحنفي من الجوهر. وأبو الزرد رجل مفلس.
عتبة وخالد القسري:
دخل عتبة بن عبد الرحمن بن الحارث بن هشام على خالد بن عبد الله القسري بعد حجاب شديد، وكان عتبة رجلا سخيا، فقال له خالد يعرّض به: إن هاهنا رجالا يداينون في أموالهم، فإذا فنبت يداينون في أعراضهم! فعلم القرشي أنه يعرّض به؛ فقال: أصلح الله الأمير، إن رجالا تكون أموالهم أكثر من مروءاتهم، فأولئك تبقى أموالهم؛ ورجالا تكون مروءاتهم أكثر من أموالهم، فإذا نفدت ادانوا على سعة ما عند الله! فخجل خالد وقال: أما إنك منهم ما علمت.
شريك والربيع:
كان شريك القاضي يشاحن الربيع صاحب شرطة المهدي فحمل الربيع المهديّ عليه، فدخل شريك يوما على المهدي، فقال له المهدي: بلغني أنك ولدت في(4/122)
قوصرة. «1» فقال: ولدت يا أمير المؤمنين بخراسان، والقواصر هناك عزيزة، قال:
إني لأراك فاطميا خبيثا! قال: والله لإني لأحب فاطمة وأبا فاطمة. صلّى الله عليه وسلم؛ قال: وأنا والله أحبهما؛ ولكني رأيتك في منامي مصروفا وجهك عني، وما ذاك إلا لبغضك لنا؛ وما أراني إلا قاتلك لأنك زنديق! قال: يا أمير المؤمنين؛ إن الدماء لا تسفك بالأحلام؛ وليست رؤياك رؤيا يوسف النبي صلّى الله عليه وسلم؛ وأمّا قولك بأني زنديق، فإنّ للزنادقة علامة يعرفون بها. قال: وما هي؟ قال: بشرب الخمر والضرب بالطنبور، قال: صدقت أبا عبد الله، وأنت خير من الذي حملني عليك.
عمر بن الخطاب وابن العاص:
قال عمر بن الخطاب لعمرو بن العاص لما قدم عليه من مصر: لقد سرت سيرة عاشق. قال: والله ما تأبطتني الإماء ولا حملتني البغايا في غبرات المآلي! «2» قال عمر:
والله ما هذا جواب كلامي الذي سألتك عنه، وإن الدجاجة لتفحص في الرماد فتضع لغير الفحل، والبيضة منسوبة إلى طرقها. «3» وقام عمر فدخل، فقال عمرو: لقد فحش علينا أمير المؤمنين!
بين عبد الله بن مسلم والحضين بن المنذر:
وتزعم الرواة أنّ قتيبة بن مسلم لما افتتح سمرقند أفضى إلى أثاث لم ير مثله، وإلى آلات لم ير مثلها، وأراد أن يري الناس عظيم ما فتح الله عليهم، ويعرّفهم أقدار القوم الذين ظهروا عليهم، فأمر بدار ففرشت وفي صحنها قدور أشتات ترتقى بالسلالم؛ فإذا الحصين بن المنذر بن الحارث بن وعلة الرقاشي قد أقبل والناس جلوس على مراتبهم، والحضين شيخ كبير؛ فلما رآه عبد الله بن مسلم قال لقتيبة: ائذن لي في كلامه. فقال: لا تردّه فإنه خبيث الجواب. فأبي عبد الله إلا أن يأذن له. وكان(4/123)
عبد الله يضعّف، «1» وكان قد تسوّر حائطا إلى امرأة قبل ذلك؛ فأقبل على الحضين فقال: أمن الباب دخلت يا أبا ساسان؟ قال: أجل، ضعف عمّك عن تسوّر الحيطان! قال: أرأيت هذه القدور؟ قال: هي أعظم من أن لا ترى. قال: ما أحسب بكر بن وائل رأى مثلها. قال: أجل، ولا عيلان؛ ولو كان رآها سمّي شعبان، ولم يسمّ عيلان! قال له عبد الله: أتعرف الذي يقول:
عزلنا وأمّرنا، وبكر بن وائل ... تجرّ خصاها تبتغي من تحالف
قال: أعرفه وأعرف الذي يقول:
وخيبة من يخيب على غنيّ ... وباهلة بن يعصر والرّباب
يريد: يا خيبة من يخيب.
قال: أتعرف الذي يقول:
كأنّ فقاح الأزد حول ابن مسمع ... إذا عرقت أفواه بكر بن وائل «2»
قال: نعم، وأعرف الذي يقول:
قوم قتيبة أمّهم وأبوهم ... لولا قتيبة أصبحوا في مجهل
قال: أمّا الشعر فأراك ترويه، فهل تقرأ من القرآن شيئا؟ قال: نعم، أقرأ منه الأكثر: هَلْ أَتى عَلَى الْإِنْسانِ حِينٌ مِنَ الدَّهْرِ لَمْ يَكُنْ شَيْئاً مَذْكُوراً
. «3» قال:
فأغضبه، فقال: والله لقد بلغني أنّ امرأة الحضين حملت إليه وهي حبلى من غيره! قال: فما تحرّك الشيخ عن هيئته الأولى؛ ثم قال على رسله: وما يكون؟ تلد غلاما على فراشي فيقال فلان بن الحضين، كما يقال عبد الله بن مسلم! فأقبل قتيبة على عبد الله فقال: لا يبعد الله غيرك! والحضين هذا هو الحضين بن منذر الرقاشي، ورقاش أمّهم، وهو من بني شيبان(4/124)
ابن بكر بن وائل، وهو صاحب لواء علي بن أبي طالب رضي الله تعالى عنه بصفين على ربيعة كلها. وله يقول علي بن أبي طالب:
لمن راية سوداء يخفق ظلّها ... إذا قيل قدّمها حضين تقدّما
يقدّمها في الصفّ حتى يزيرها ... حياض المنايا تقطر السّمّ والدّما
جزى الله عني والجزاء بفضله ... ربيعة خيرا ما أعف وأكرما
ابن الجارود وابن العاص:
وقال المنذر بن الجارود العبدي لعمرو بن العاص: أيّ رجل أنت لو لم تكن أمّك! ممن هي؟ قال: أحمد الله إليك؛ لقد فكرت فيها البارحة، فجعلت أنقلها في قبائل العرب فما خطرت لي عبد القيس ببال.
ابن صفوان وداري:
قال خالد بن صفوان لرجل من بني عبد الدار وسمعه يفخر بموضعه من قريش- فقال له خالد: لقد هشمتك هاشم، وأمّتك «1» أميّة، وخزمتك مخزوم، وجمحتك جمح، وسهمتك «2» سهم؛ فأنت ابن عبد دارها، تفتح الأبواب إذا أغلقت، وتغلقها إذا فتحت.
جواب في هزل
المغيرة وأعرابي يؤكله:
كان للمغيرة بن عبد الله الثقفي وهو والي الكوفة، جدي يوضع على مائدته، فحضره أعرابي، فمد يده إلى الجدي وجعل يسرع فيه؛ فقال له المغيرة: إنك لتأكله بحرد «3» كأن أمه نطحتك! قال: وإنك لمشفق عليه كأنّ أمه أرضعتك.(4/125)
ابن عنبسة وإبراهيم في حضرة هشام:
كان إبراهيم بن عبد الله بن مطيع جالسا عند هشام، إذ أقبل عبد الرحمن بن عنبسة بن سعيد بن العاص، أحمر الجبة والمطرف والعمامة؛ فقال إبراهيم؛ هذا ابن عنبسة قد أقبل في زينة قارون! قال: فضحك هشام؛ قال له عبد الرحمن: ما أضحكك يا أمير المؤمنين؟ فأخبره بقول إبراهيم؛ قال له عبد الرحمن: لولا ما أخاف من غضبه عليك وعليّ وعلى المسلمين لأجبته! قال: وما تخاف من غضبه؟ قال:
بلغني أن الدجال يخرج من غضبة يغضبها. وكان إبرهيم أعور! قال إبراهيم لولا أن له عندي يدا عظيمة لأجبته! قال: وما يده عندك؟ قال: ضربه غلام له بمدية فأصابه، فلما رأى الدم فزع، فجعل لا يدخل عليه مملوك إلا قال له: أنت حر! فدخلت عليه عائدا له، فقلت له: كيف تجدك؟ قال لي: أنت حر! قلت له: أنا إبراهيم! قال لي:
أنت حر، فضحك هشام حتى استلقى.
ابن حسان وعطاء:
قال عبد الرحمن بن حسان لعطاء بن أبي صيفي بن ثابت: لو أصبت ركوة مملوءة خمرا بالبقيع ما كنت صانعا؟ قال: كنت أعرّفها بين التجار، فإن لم تكن لهم فهي لك! لكن أخبرني عن الفريعة أهي أكبر أم ثابت، وقد تزوجها قبله أربعة، كلهم يلقاها بمثل ذراع البكر ثم يطلقها عن قلي، «1» فقيل لها: يا فريعة، لم تطلقين وأنت جميلة حلوة؟ قالت: يريدون الضيق ضيّق الله عليهم ... !
جارية وقرشي:
ولقي رجل من قريش كان به وضح «2» جارية من بدر وكان مغرما بالشراب؛ فقال لها: أشعرت أنه بعث نبيّ لهذه الأمة يحل الخمر للناس؟ قالت: إذا لا نصدّق به حتى يبرىء الأكمه والأبرص!.(4/126)
الزبرقان وزياد:
ودخل الزبرقان بن بدر على زياد، فسلّم تسليما جافيا، فأدناه زياد وأجلسه معه؛ ثم قال له: يا أبا عباس الناس يضحكون من جفائك! قال: ولم ضحكوا؟ فو الله إن منهم رجل إلا ودّ أنّي أبوه دون أبيه، لغيّة كان أو لرشدة! دخل الفرزدق على بلال بن أبي بردة وعنده ناس من اليمامة يضحكون، فقال: يا أبا فراس، أتدري ممّ يضحكون؟ قال: لا أدري. قال: من جفائك. قال: أصلح الله الأمير. حججت فإذا رجل على عاتقه الأيمن صبي، وامرأة اخذة بمئزره وهو يقول:
أنت وهبت زائدا ومزيدا ... وكهلة أولج فيها الأجردا!
وهي تقول: إذا شئت. فسألت: ممن الرجل؟ قال: من الأشعريين. فأنا أجفي من ذلك الرجل؟ قال: لا حياك الله! فقد علمت أنا لا نفلت منك.
كوسج ومسبل:
اجتمع كوسج «1» مع رجل مسبل، فقال المسبل «2» : وَالْبَلَدُ الطَّيِّبُ يَخْرُجُ نَباتُهُ بِإِذْنِ رَبِّهِ، وَالَّذِي خَبُثَ لا يَخْرُجُ إِلَّا نَكِداً
«3» ! قال الكوسج: قُلْ لا يَسْتَوِي الْخَبِيثُ وَالطَّيِّبُ وَلَوْ أَعْجَبَكَ كَثْرَةُ الْخَبِيثِ
«4» .
مسلمة وموسوس:
مر مسلمة بن عبد الملك، وكان من أجمل الناس، بموسوس على مزبلة؛ فقال الموسوس: لو رآك أبوك آدم لقرّت عينه بك. قال له مسلمة: لو رآك أبوك آدم لأذهب سخنة عينه بك قرة عينه بي. وكان مسلمة من أحضر الناس جوابا.(4/127)
النخعي والأعمش:
خرج إبراهيم النخعي، وقام سليمان الأعمش يمشي معه؛ فقال إبراهيم: إن الناس إذا رأونا قالوا: أعور وأعمش! قال: وما غلبك أن يأثموا ونؤجر؟ قال: وما عليك أن يسلموا ونسلم؟
شداد وأسود:
وقال شداد الحارثي: لقيت أسود بالبادية فقلت: لمن أنت يا أسود؟ قال: لسيد الحي يا أصلع! قلت: ما أغضبك من الحق؟ قال لي: الحق أغضبك. قلت: أولست بأسود؟ قال: أولست بأصلع.
ابن أسماء في سجن الكوفة:
أدخل مالك بن أسماء السجن، سجن الكوفة؛ فجلس إليه رجل من بني مرة فاتكأ عليه المري يحدثه؛ ثم قال: أندري كم قتلنا منكم في الجاهلية؟ قال: أما في الجاهلية فلا، ولكن أعرف من قتلتم منا في الإسلام! قال: ومن قتلنا منكم في الإسلام! قال:
أنا، قد قتلتني بنتن إبطيك!
نميرية في يوم ريح:
مرت امرأة من بني نمير على مجلس لهم في يوم ريح، فقال رجل منهم: إنها لرسحاء «1» ! قالت: والله يا بني نمير ما أطعتم الله ولا أطعتم الشاعر؛ قال الله تبارك وتعالى: قُلْ لِلْمُؤْمِنِينَ يَغُضُّوا مِنْ أَبْصارِهِمْ
«2» . وقال الشاعر:
فغضّ الطّرف إنّك من نمير(4/128)
لشريح:
قيل لشريح: أيهما أطيب: الجوزنيق أم اللّوزنيق «1» ؟ قال: لست أحكم على غائب.
هشام والفرزدق:
هشام بن القاسم قال: جمعني والفرزدق مجلس، فتجاهلت عليه فقلت: من الكهل؟
قال: وما تعرفني؟ قلت: لا! قال: أبو فراس. قلت: ومن أبو فراس قال: الفرزدق.
قلت: ومن الفرزدق؟ قال: وما تعرف الفرزدق؟ قلت: لا أعرف الفرزدق إلا شيئا يفعله النساء عندنا يتشهّون به كهيئة السويق. قال: الحمد لله الذي جعلني في بطون نسائكم يتشهون بي!
هشام والأبرش الكلبي:
قال هشام بن عبد الملك للأبرش الكلبي: زوّجني امرأة من كلب. فزوّجه؛ فقال له ذات يوم: لقد وجدنا في نساء كلب سعة! قال: يا أمير المؤمنين، نساء كلب خلقن لرجال كلب.
وقال له يوما وهو يتغذى معه: يا أبرش، إن أكلك أكل معدّي قال: هيهات، تأبى ذلك قضاعة.
عمارة وشيطان الطاق:
عمارة عن محمد بن أبي بكر البصري قال: لما مات جعفر بن محمد قال أبو حنيفة لشيطان الطاق: مات إمامك. وذلك عند المهدي؛ فقال شيطان الطاق: لكن إمامك من المنظرين إلى يوم الوقت المعلوم! فضحك المهدي من قوله، وأمر له بعشرة آلاف درهم.(4/129)
نساء كندة
: العتبي قال: حدثني أبي لما افتتح النجير، وهي مدينة باليمن: سمع رجل من كندة رجلا وهو يقول: وجدنا في نساء كندة سعة! فقال له: إن نساء كندة مكاحل فقدت مراودها «1» .
بن صفوان والفرزدق
: لقي خالد بن صفوان الفرزدق، وكان كثيرا ما يداعبه، وكان الفرزدق دميما؛ فقال له. يا أبا فراس، ما أنت بالذي لما رَأَيْنَهُ أَكْبَرْنَهُ وَقَطَّعْنَ أَيْدِيَهُنَ
«2» قال له: ولا أنت أبا صفوان بالذي قالت فيه الفتاة لأبيها: يا أَبَتِ اسْتَأْجِرْهُ إِنَّ خَيْرَ مَنِ اسْتَأْجَرْتَ الْقَوِيُّ الْأَمِينُ
«3» .
بين رجلين
: باع رجل ضيعة من رجل، فلما انتقد المال قال للمشتري: أما والله لقد أخذتها كثيرة المئونة قليلة المعونة. قال له المشتري: وأنت والله أخذتها بطيئة الاجتماع سريعة الافتراق! واشترى رجل من رجل دارا، فقال لصاحبها: لو صبرت لاشتريت منك الذراع بعشرة دنانير! قال له البائع: وأنت لو صبرت لاشتريت منك الذراع بدرهم!
بقرة بني إسرائيل
: وكان بالرقة رجل يحدّث بأخبار بني إسرائيل، فقال له الحجاج بن حنتمة: كيف كان اسم بقرة بني إسرائيل؟ قال حنتمة! فقال له رجل من ولد أبي موسى الأشعري:
أين وجدت هذا؟ قال: في كتاب عمرو بن العاص.(4/130)
للشعبي
: وقال رجل للشعبي: ما كان اسم امرأة إبليس؟ قال: إن ذلك نكاح ما شهدناه! ودخل رجل على الشعبي، فوجده قاعدا مع امرأة؛ فقال: أيكما الشعبي؟ قال الشعبي: هذه! وأشار إلى المرأة.
معن بن زائدة
: كان معن بن زائدة ظنينا في دينه، فبعث إلى ابن عياش المنتوف بألف دينار وكتب إليه: قد بعثنا إليك بألف دينار، اشتريت بها منك دينك؛ فاقبض المال واكتب إليّ بالتسليم. فكتب إليه: قد قبضت المال وبعتك به ديني خلا التوحيد لما علمت من زهدك فيه!
ابن أبي بردة والممرور
: بعث بلال بن أبي بردة إلى ابن أبي علقمة الممرور، فلما أتى قال: أتدري لم بعثت إليك؟ قال لا أدري. قال: بعثت إليك لأضحك بك! قيل: لقد ضحك أحد الحكمين من صاحبه- يعرّض له بجده أبي موسى- فغضب بلال وأمر به إلى الحبس، فكلّمه الناس وقالوا: إن المجنون لا يعاقب ولا يحاسب. فأمر بإطلاقه وأن يؤتى به إليه، فأتي به في يوم سبت وفي كمه طرائف أتحف بها في الحبس؛ فقال له بلال: ما هذا الذي في كمك؟ قال: من طرائف الحبس. قال: ناولني منها. قال: هو يوم سبت، ليس يعطى فيه ولا يؤخذ! يعرّض بعمة كانت له من اليهود.
حسان وعائشة
: دخل حسان بن ثابت على عائشة رضي الله عنها فأنشدها:
حصان رزان ما تزنّ بريبة ... وتصبح غرثى من لحوم الغوافل «1»(4/131)
قالت له: لكنك لست كذلك! وكان حسان من الذين جاءوا بالإفك.
ابن الأحوز وأزدي:
نظر رجل من الأزد إلى هلال بن الأحوز حين قدم من قندابيل وقد أطافت به بنو تميم، فقال: انظروا إليهم وقد أطافوا به إطافة الحواريين بعيسى. فقال له محمد بن عبد الملك المازني: هذا ضدّ: عيسى كان يحيى الموتى، وذا يميت الأحياء.
ربيعة وبعض النساء:
لما حلقت لحية ربيعة بن أبي عبد الرحمن كانت امرأة من المسجد تقف عليه كل يوم في حلقته، وتقول: الله لك يا أبا عبد الرحمن! من حلق لحيتك؟ فلما أبرمته قال لها: يا هذه، إن ذلك حلقها في جزّة واحدة، وأنت تحلقينها في كل يوم.
سعيد بن هشام وبعض الرجال:
خرج سعيد بن هشام بن عبد الملك يوما بحمص في يوم مطر، عليه طيلسان وقد كاد يمس الأرض، فقال له رجل وهو لا يعرفه: أفسدت ثوبك أبا عبد الله! قال:
وما يضرك؟ قال: وددت أنك وهو في النار! قال: وما ينفعك؟
الحجاج وابن ظبيان:
قال: لما قدم الحجاج العراق واليا عليها خرج عبيد الله بن زياد بن ظبيان متوكئا على مولى له وقد ضربه الفالج، فقال قدم العراق رجل على ديني. فقال له حصين بن المنذر الرقاشي: فهو إذا منافق! قال عبيد الله: إنه يقتل المنافقين! قال له حصين: إذا يقتلك.
خالد بن يزيد والحجاج:
ولما قدم عبد الملك بن مروان المدينة نزل دار مروان، فمر الحجاج بخالد بن يزيد بن معاوية وهو جالس في المسجد، وعلى الحجاج سيف محلى وهو يخطر متبخترا(4/132)
في المسجد، فقال له رجل من قريش: من هذا التّخطارة؟ فقال خالد: بخ بخ! هذا عمرو بن العاص! فسمعه الحجاج، فمال إليه فقال: قلت: هذا عمرو بن العاص، والله ما سرني أن العاص ولدني ولا ولدته، ولكن إن شئت أخبرتك من أنا! أنا ابن الأشياخ من ثقيف، والعقائل من قريش، والذي ضرب مائة ألف بسيفه هذا كلهم يشهد على أبيك بالكفر وشرب الخمر، حتى أقروا أنه خليفة! ثم ولى وهو يقول:
هذا عمرو بن العاص.
وهب بن منبه ولهبي:
قال رجل من بني أبي لهب لوهب بن منبّه: ممن الرجل؟ قال: رجل من اليمن.
قال: فما فعلت أمكم بلقيس؟ قال: هاجرت مع سليمان لله رب العالمين، وأمكم حمالة الحطب في جيدها حبل من مسد «1» ! وقال رجل لابن شبرمة: من عندنا خرج العلم إليكم. قال: نعم، ثم لم يرجع إليكم.
يزيد بن منصور وابن مزيد:
نظر يزيد بن منصور خال المهدي إلى يزيد بن مزيد وعليه رداء يمان وهو يسحبه، فقال: ليس عليك عزله، فاسحب وجرّ! قال له: على آبائك عزله وعليّ سحبه! فشكاه إلى المهدي، فقال: لم تجد أحدا تتعرض له إلا يزيد بن مزيد!
أبو يقظان وابن حاتم:
دخل أبو يقظان القيسي على يزيد بن حاتم وهو والي مصر وعنده هاشم بن حديج، فقال له يزيد: حرّكه! وعلي أبي اليقظان حلّة وشي وكساء خز، فقال له هشام: الحمد لله أبا اليقظان، لبستم الوشى بعد العباء! قال: أجل، تحوكون ونلبس، فلا عدمتم هذا منا، ولا عدمنا هذا منكم.(4/133)
الفرزدق وعبد الجبار:
كتب الفرزدق إلى عبد الجبار بن سلمى المجاشعي يستهديه جارية وهو بعمان فكتب إليه:
كتبت إليّ تستهدي الجواري ... لقد أنعظت من بلد بعيد «1» !
وقال رجل من العرب: رأيت البارحة الجنة في منامي، فرأيت جميع ما فيها من القصور، فقلت: لمن هذه؟ فقيل لي: للعرب! قال له رجل من الموالي: أصعدت الغرف؟ قال: لا. قال: تلك لنا.
ابن صفوان وابن جعفر:
قال عبد الله بن صفوان- وكان أمّيا- لعبد الله بن جعفر بن أبي طالب أبا جعفر، لقد صرت حجة لفتياننا علينا؛ إذا نهيناهم عن الملاهي قالوا: هذا ابن جعفر سيد بني هاشم يحضرها ويتخذها! قال له: وأنت أبا صفوان صرت حجة لصبياننا علينا؛ إذا لمناهم في ترك المكتب قالوا: هذا أبو صفوان سيد بني جمح لا يقرأ آية ولا يخطّها.
معاوية وابن عامر:
قال معاوية لعبد الله بن عامر. إن لي إليك حاجة! قال بحاجة أقضيها يا أمير المؤمنين؛ فسل حاجتك. قال: أريد أن تهب لي دورك وضياعك بالطائف. قال: قد فعلت! قال: وصلتك رحم! فسل حاجتك. قال: حاجتي إليك أن تردّها عليّ يا أمير المؤمنين! قال: قد فعلت!
ثمامة وبعض الرجال:
وقال رجل لثمامة بن أشرس: إن لي إليك حاجة! قال: وأنا لي إليك حاجة. قال:(4/134)
وما حاجتك؟ قال: فتقضيها؟ قال: نعم. فلما توثق منه قال: فإن حاجتي إليك أن لا تسألني حاجة.
جواب في فخر
عمرو بن سعيد وخالد بن يزيد في حضرة عبد الملك:
سعيد بن أبي عروبة عن قتادة قال: تفاخر عمرو بن سعيد بن العاص وخالد بن يزيد بن معاوية، عند عبد الملك بن مروان؛ فقال عبد الملك لشيخ من موالي قريش:
اقض بينهما. فقال الشيخ: كان سعيد بن العاص لا يعتمّ أحد في البلد الحرام بلون عمامته؛ وكان حرب بن أمية لا يبكى على أحد من بني أمية ما كان في البلد شاهدا؛ فلما مات سعيد وحرب شاهد لم يبك عليه.
الأبرش وخالد ابن صفوان:
قال الأبرش الكلبي لخالد بن صفوان: هلم أفاخرك- وهما عند هشام بن عبد الملك- قال له خالد: قل. فقال له الأبرش: لنا ربع البيت- يريد الركن اليماني- ومنا حاتم طيء، ومنا المهلب بن أبي صفرة! فقال خالد بن صفوان: منا النبي المرسل، وفينا الكتاب المنزل، ولنا الخليفة المؤمّل! قال الأبرش: لا فاخرت مضريّا بعدك.
هشام وقوم من اليمن:
ونزل بأبي العباس قوم من اليمن من أخواله من كعب، ففخروا عنده بقديمهم وحديثهم؛ فقال أبو العباس لخالد بن صفوان: أجب القوم. فقال: أخوال أمير المؤمنين. قال لا بد أن تقول. قال: وما أقول يا أمير المؤمنين، وما أقول لقوم هم بين حائك برد، ودابغ جلد، وسائس قرد؛ ملكتهم امرأة، ودل عليهم هدهد، وغرقتهم فأرة؟
فلم يقم بعدها ليمانيّ قائمة.(4/135)
الحجاج وعبد الملك:
قال عبد الملك بن الحجاج: لو كان رجل من ذهب لكنته. قال له رجل من قريش وكيف ذلك؟ قال: لم تلدني أمة بيني وبين آدم ما خلا هاجر. فقال له: لولا هاجر لكنت كلبا من الكلاب.
دخل عمر بن عبيد الله بن معمر على عبد الملك بن مروان، وعليه حبرة «1» صدآء عليها أثر الحمائل، فقال له أمية بن عبد الله بن خالد بن أسيد: يا أبا حفص، أيّ رجل أنت لو كنت من غير من أنت منه من قريش! قال: ما أحب أني من غير من أنا منه! إن منا لسيد الناس في الجاهلية، عبد الله بن جدعان؛ وسيد الناس في الإسلام، أبا بكر الصديق؛ وما كانت هذه يدي عندك. إني استنقذت أمهات أولادك من عدوك ابن فديك بالبحرين وهن حبالى، فولدن في حجابك.
عبد الرحمن بن خالد ومعاوية:
قال عبد الرحمن بن خالد بن الوليد بن المغيرة لمعاوية: أما والله لو كنا بمكة على السواء لعلمت. قال معاوية: إذا كنت أكون معاوية بن أبي سفيان، منزلي الأبطح «2» ينشق عني سيله؛ وكنت عبد الرحمن بن خالد، منزلك أجياد «3» أعلاه مدرة «4» ، وأسفله عذرة.
لزبير وعثمان:
تنازع الزّبير بن العوام وعثمان بن عفان في بعض الأمر؛ فقال الزبير: أنا ابن صفية. قال عثمان: هي أدنتك من الظل، ولولا ذاك لكنت ضاحيا.
حمد بن يوسف وابن الفضل:
قال أحمد بن يوسف الكاتب لمحمد بن الفضل: يا هذا، إنك تتطاول بهاشم كأنك(4/136)
جمعتها، وهي تعتدّ في أكثر من خمسة آلاف. قال له: محمد بن الفضل: إن كثرة عددها ليس يخرج من عنقك فضل واحدها.
زياد ومعاوية:
فخر مولى زياد بزياد عند معاوية؛ فقال له معاوية: اسكت، فوالله ما أدرك صاحبك شيئا بسيفه إلا أدركت أكثر منه بلساني.
الأحوص ومخزومي:
وقال رجل من مخزوم للأحوص بن عبد الله الأنصاري: أتعرف الذي يقول:
ذهبت قريش بالمكارم كلّها ... والذلّ تحت عمائم الأنصار؟
قال: لا، ولكني أعرف الذي يقول:
الناس كنّوه أبا حكم ... والله كنّاه أبا جهل
أبقت رياسته لأسرته ... لؤم الفروع ورقّة الأصل
قريش وقيس:
سأل رجل من قريش رجلا من بني قيس بن ثعلبة: ممن أنت؟ قال: من ربيعة.
قال له القرشي: لا أثر لكم ببطحاء مكة. قال القيسي: آثارنا في أكناف الجزيرة مشهورة، ومواقفنا في يوم ذي قار معروفة؛ فأما مكة فسواء العاكف فيه والباد كما قال الله تبارك وتعالى. فأفحمه.
الأشعث وشريح:
قال الأشعث بن قيس لشريح القاضي: لشدّ ما ارتفعت. قال: فهل ضرّك؟ قال:
لا. قال: فأراك تعرف نعمة الله على غيرك وتجهلها على نفسك.
سليمان ويزيد ابن المهلب:
قال سليمان بن عبد الملك ليزيد بن المهلب: فيمن العزّ بالبصرة؟ قال: فينا وفي(4/137)
أحلافنا من ربيعة. قال له سليمان بن عبد الملك: الذي تحالفتما عليه أعز منكما.
عتبة وأعرابي:
قدم أعرابي البصرة فدخل المسجد الجامع وعليه خلقان وعمامة قد كوّرها على رأسه، فرمي بطرفه يمنة ويسرة، فلم ير فتية أحسن وجوها ولا أظهر زيا من فتية حضروا حلقة عتبة المخزومي فدنا منهم وفي الحلقة فرجة فطبقها «1» ؛ فقال له عتبة: ممن أنت يا أعرابي؟ قال: من مذحج. قال: من زيدها الأكرمين، أو من مرادها الأطيبين؟
قال لست من زيدها ولا من مرادها. قال: فمن أيها؟ قال: فإني من حماة أعراضها، وزهرة رياضها، بني زبيد. قال: فأفحم عتبة حتى وضع قلنسوته عن رأسه، وكان أصلع؛ فقال له الأعرابي: فأنت يا أصلع، ممن أنت؟ قال: أنا رجل من قريش.
قال: فمن بيت نبوّتها، أو من بيت مملكتها؟ قال: إني من ريحانتها بني مخزوم. قال:
والله لو تدري لم سمّيت بنو مخزوم ريحانة قريش، ما فخرت بها أبدا؛ إنما سميت ريحانة قريش لخور «2» رجالها ولين نسائها! قال عتبة: والله لا نازعت أعرابيّا بعدك أبدا.
فيروز ونميلة:
وضع فيروز بن حصين يده على رأس نميلة بن مالك بن أبي عكابة عند زياد، فقال: من هذا العبد؟ قال: أنت والله العبد؛ ضربناك فما انتصرت، ومننّا عليك فما شكرت.
مالك بن مسمع وابن ظبيان:
اجتمعت بكر بن وائل إلى مالك بن مسمع لأمر أراده مالك؛ فأرسل إلى بكر بن وائل، وأرسل إلى عبيد الله زياد بن ظبيان؛ فأتى عبيد الله فقال: يا أبا مسمع، ما(4/138)
منعك أن ترسل إليّ؟ قال: يا أبا مطر، ما في كنانتي سهم أنا أوثق به مني بك. قال:
وإني لفي كنانتك؟ أما والله لئن كنت فيها قائما لأطولنّها، ولئن كنت فيها قاعدا لأخرقنّها.
ابن مسمع وشقيق:
نازع مالك بن مسمع شقيق بن ثور، فقال له مالك: إنما شرّفك قبر بتستر. قال شقيق: لكن وضعك قبر بالمشقر. وذلك أن مسمعا أبا مالك جاء إلى قوم بالمشقر، فنبحه كلبهم، فقتله، فقتلوه به؛ فكان يقال له: قتيل الكلاب، وأراد مالك قبر مجزءة بن ثور أخي شقيق، وكان استشهد بتستر مع أبي موسى الأشعري.
قتيبة بن مسلم وهبيرة:
قال قتيبة بن مسلم لهبيرة بن مسروح: أيّ رجل أنت لو كانت أخوالك من غير سلول. فبادل بهم. قال: أصلح الله الأمير، بادل بهم من شئت وجنّبني باهلة. وكان قتيبة من باهلة.
جواب ابن أبي دؤاد
ابن أبي دؤاد وابن الزيات:
قال أحمد بن أبي دؤاد لمحمد بن عبد الملك الزيات عند الواثق: أضوى، أي اسكت، بالنبطية؛ فقال له: لماذا؟ والله ما أنا بنبطي، ولا بدعي. قال له: ليس فوقك أحد يفضلك، ولا دونك أحد تنزل إليه؛ فأنت مطّرح في الحالتين جميعا.
هو وأشناس:
دخل أحمد بن أبي دواد على أشناس، فقال له: بلغني أنك فاسدت هذا الرجل يعني محمد بن عبد الملك، وهو لنا صديق؛ فأحب أن لا يأتينا. قال له ابن أبي داود أنت رجل صنعتك هذه الدولة، فإن أتيناك فلها، وإن تركناك فلنفسك.(4/139)
هو والواثق:
قال أحمد بن أبي داود: دخلت على الواثق؛ فقال: ما زال قوم اليوم في ثلبك ونقصك. فقلت: يا أمير المؤمنين لِكُلِّ امْرِئٍ مِنْهُمْ مَا اكْتَسَبَ مِنَ الْإِثْمِ وَالَّذِي تَوَلَّى كِبْرَهُ مِنْهُمْ لَهُ عَذابٌ عَظِيمٌ
«1» ؛ فالله ولي جزائه، وعقاب أمير المؤمنين من ورائه؛ وما ضاع امرؤ أنت حائطه، ولا ذلّ من كنت ناصره؛ فماذا قلت لهم يا أمير المؤمنين؟ قال أبا عبد الله:
وسعى إليّ بعيب عزّة نسوة ... جعل المليك خدودهنّ نعالها
هو وأبو العيناء:
وقال أبو العيناء الهاشمي: قلت لابن أبي داود: إن قوما تضافروا عليّ. قال: يَدُ اللَّهِ فَوْقَ أَيْدِيهِمْ
»
قلت إنهم جماعة. قال: كَمْ مِنْ فِئَةٍ قَلِيلَةٍ غَلَبَتْ فِئَةً كَثِيرَةً بِإِذْنِ اللَّهِ، وَاللَّهُ مَعَ الصَّابِرِينَ
«3» قلت: إن لهم مكرا. قال: وَلا يَحِيقُ الْمَكْرُ السَّيِّئُ إِلَّا بِأَهْلِهِ
«4» قال أبو العيناء: فحدثت به أحمد بن يوسف الكاتب، فقال: ما يرى ابن أبي دواد إلا أن القرآن إنما أنزل عليه.
جواب في تفحش
خالد القسري وبدوي:
خطب خالد بن عبد الله القسري فقال: يا أهل البادية، ما أخشن بلدكم، وأغلظ معاشكم، وأجفى أخلاقكم؛ لا تشهدون جمعة، ولا تجالسون عالما. فقام إليه رجل منهم دميم، فقال: أمّا ما ذكرت من خشونة بلدنا وغلظ طعامنا فهو كذلك، ولكنكم معشر أهل الحضر فيكم ثلاث خصال هي شر من كل ما ذكرت. قال له خالد: وما هي؟ قال: تنقبون الدّور، وتنبشون القبور، وتنكحون الذّكور! قال: قبحك الله(4/140)
وقبح ما جئت به!
موسى بن مصعب وامرأة:
أبو الحسن قال: أتى موسى بن مصعب منزل امرأة مدنية لها قينة تعرضها؛ فإذا امرأة جميلة لها هيئة؛ فنظر إلى رجل دميم يجيء ويذهب ويأمر وينهى في الدار؛ فقال لها: من هذا الرجل؟ قالت: هو زوجي! قال: إِنَّا لِلَّهِ وَإِنَّا إِلَيْهِ راجِعُونَ
«1» أما وجدت من الرجال غير هذا وبك من الجمال ما أرى؟ قالت: والله يا أبا عبد الله، لو استدبرك بمثل ما يستقبلني به لعظم في عينك.
بنت الملاءة ورائض خيل:
أبو الحسن قال: قالت عاتكة بنت الملاءة لرائض دواب زوجها في طريق مكة: ما وجدت عملا شرّا من عملك؛ إنما كسبك باستك! فقال لها! جعلت فداك! ما بين ما أكتسب به وما تكتسبين به أنت إلا إصبعان! قالت: ويلي عليك! خذوا الخبيث.
فطلبه حشمها؛ ففاتهم ركضا.
يونس النحوي وأزدي:
أبو الحسن قال: قال رجل من الأزد في مجلس يونس النحوي؛ وددت والله أن بني تميم جميعا في جوفي؛ على أن يضرب وسطي بالسيف! قال له شيخ في ناحية المجلس، حرمازيّ «2» من بني تميم: ما هذا، يكفيك من ذاك كمرة «3» حماريّة تملأ بها استك إلى لهاتك!
بين أعرابيين:
وسأل أعرابي شيخا من بني مروان وحوله قوم جلوس فقال: أصابتنا سنة ولي(4/141)
بضع عشرة بنتا! فقال الشيخ: أما السنة فوددت والله أن بينكم وبين السماء صفيحة من حديد؛ وأما البنات فليت الله أضعفهن لك أضعافا كثيرة، وجعلك بينهن مقطوع اليدين والرجلين ليس لهن كاسب غيرك! قال: فنظر الأعرابي مليا ثم قال: ما أدرى ما أقول لك، ولكني أراك قبيح المنظر، لئيم المخبر؛ فأعضّك الله ببظور أمهات هؤلاء الجلوس حولك.
وسأل أعرابيّ شيخا من الطائف وشكا إليه سنة أصابته، فقال: وددت والله أن الأرض حصّاء لا تنبت شيئا! قال: ذلك أيبس لجعر أمك في استها.
قال: عبيد الله بن زياد بن ظبيان لزرعة بن ضمرة الضمري: إني لو أدركتك يوم الأهواز لقطعت منك طابقا «1» شحيما، قال: أفلا أدلك على طابق شحيم هو أولى بالقطع؟ قال: بلى! قال: البظر الذي بين إسكتي أمك! قال عبد الله بن الزبير لعدي بن حاتم: متى فقئت عينك؟ قال يوم طعنتك في استك وأنت مولّ.
وقال الفرزدق: ما عييت بجواب أحد قطّ ما عييت بجواب امرأة وصبي ونبطي؛ فأما المرأة فإني ذهبت ببغلتي أسقيها في النهر، فإذا معشر نسوة، فلما همزت البغلة حبقت «2» ؛ فاستضحك النسوة، فقلت لهن: ما أضحككن؟ فوالله ما حملتني أنثى قط إلا فعلت مثلها! فقالت امرأة منهن: فكيف كان ضراط أمك مقبرة، فقد حملتك في بطنها تسعة أشهر! فما وجدت لها جوابا. وأما الصبي، فإني كنت أنشد بجامع البصرة، وفي حلقتي الكميت بن زيد وهو صبي، فأعجبني حسن استماعه، فقلت له:
كيف سمعت يا بنيّ؟ قال لي: حسن! قلت: فسرّك أني أبوك؟ قال: أما أبي فلا أريد به بديلا، ولكن وددت أن تكون أمي! قلت: استرها عليّ يا ابن أخي، فما لقيت مثلها وأما النبطي، فإني لقيت نبطيا بيثرب، فقال لي: أنت الفرزدق؟ قلت:(4/142)
نعم. قال أنت الذي يخاف الناس لسانك؟ قلت: نعم. قال: فأنت الذي إذا هجوتني يموت قرسي هذا؟ قلت: لا. قال: فيموت ولدي؟ قلت: لا. قال: فأموت أنا؟
قلت: لا. قال: فأدخلني الله في حرام الفرزدق، من رجلي إلى عنقي! قلت: ويلك! ولم تركت رأسك؟ قال: حتى أرى ما تصنع الزانية!
بين جرير والفرزدق:
ولقي جرير الفرزدق بالكوفة، فقال أبا فراس: تحتمل عني مسألة؟ قال: أحتملها بمسألة. قال: نعم. قال: فسل عما بدا لك. قال: أي شيء أحب إليك يتقدمك الخير أو تتقدمه؟ قال: لا يتقدمني ولا أتقدمه، ولكن أكون معه في قران. قال: هات مسألتك. قال له الفرزدق: أي شيء أحبّ إليك إذا دخلت على امرأتك: أن تجد يدها على أير رجل أو يد رجل على حرها قال: قاتلك الله! ما أقبح كلامك وأرذل لسانك.
الفرزدق ومسجد الأحامرة:
أبو الحسن قال: مر الفرزدق يوما بمسجد الأحامرة وفيه جماعة فيهم أبو المزرد الحنفي، فقال له الفرزدق: يا أخا بني حنيفة، ما شيء لم يكن، ولا يكون ولو كان لا يستقيم؟ قال: لا أدري! قال: يا أبا المزرد، إنه سفيه؛ فإن لم تغضب أخبرتك. قال:
فإني لا أغضب. فقال: حرامك: لم تكن له أسنان، ولا تكون، ولو كان لم يستقم!
الفرزدق وابن عفراء:
أبو الحسن قال: لقي الفرزدق عمرو بن عفراء، فعاتبه في شيء بلغه عنه؛ فقال له ابن عفراء وهو بالمربد: ما شيء أحبّ إليّ من أن آتي كلّ شيء تكرهه! قال له الفرزدق: بالله إنك تأتي كل شيء أكرهه؟ قال: نعم! قال: فإني أكره أن تأتي أمك فأتها.(4/143)
بين الجماز وضيف:
ضاف «1» رجل قبيح الوجه دنيّ الحسب، أبا عبد الله الجمّاز: فجعل يفخر ببيته؛ فقال له الجماز: اسكت، فقباحة وجهك، ودناءة لفظك، يمنعاننا من سبّك! فأبى إلا التمادي في اللجاج؛ فقال له الجماز:
لو كنت ذا عرض هجوناكا ... أو حسن الوجه لنكناكا
جمعت مع قبحك لؤما فلل ... قبح أو اللؤم تركناك!(4/144)
كتاب الواسطة في الخطب
فرش الكتاب
قال أبو عمر أحمد بن محمد بن عبد ربه: قد مضى قولنا في الأجوبة وتباين الناس فيها بقدر عقولهم، ومبلغ فطنهم، وحضور أذهانهم؛ ونحن قائلون بعون الله وتوفيقه في الخطب التي يتخير لها الكلام، وتفاخرت بها العرب في مشاهدهم، ونطقت بها الأئمة على منابرهم، وشهرت بها في مواسمهم، وقامت بها على رءوس خلفائهم؛ وتباهت بها في أعيادهم ومساجدهم. ووصلتها بصلواتهم، وخوطب بها العوام، واستجزلت لها الألفاظ، وتخيرت لها المعاني.
اعلم أن جميع الخطب على ضربين: منها الطوال، ومنها القصار؛ ولكل ذلك موضع يليق به، ومكان يحسن فيه؛ فأول ما نبدأ به من ذلك خطب النبي صلّى الله عليه وسلم، ثم السلف المتقدمين، ثم الجلة من التابعين والجلة من الخلفاء الماضين والفصحاء المتكلمين، على ما سقط إلينا ووقع عليه اختيارنا؛ ثم نذكر بعض خطب الخوارج؛ لجزالة ألفاظهم، وبلاغة منطقهم، كخطبة قطري بن الفجاءة في ذم الدنيا؛ فإنها معدومة النظير، منقطعة القرين؛ وخطبة أبي حمزة التي سمعها مالك بن أنس فقال: خطبنا أبو حمزة بالمدينة خطبة شكك فيها المستبصر، وردّد فيها المرتاب، ثم نسمح بصدر من خطب البادية وقول الأعراب خاصة؛ لمعرفتهم بداء الكلام ودوائه، وموارده ومصادره.
عبد الملك وابن سلمة:
قال عبد الملك بن مروان لخالد بن سلمة القرشي المخزومي: من أخطب الناس؟(4/145)
قال: أنا! قال: ثم من؟ قال: شيخ جذام. يعني روح بن زنباع، قال: ثم من؟ قال:
أخيّفش ثقيف. يعني الحجاج، قال: ثم من؟ قال: أمير المؤمنين!
لمعاوية في زياد:
وقال معاوية لما خطب الناس عنده فأكثروا: والله لأرمينّكم بالخطيب المصقع. قم يا زياد!
لأبي دواد:
وقال محمد كاتب المهدي- وكان شاعرا راوية، وطالبا للنحو علامة- قال:
سمعت أبا دواد يقول- وجرى شيء من ذكر الخطب وتحبير الكلام- فقال: تلخيص المعاني رفق، والاستعانة بالغريب عجز، والتشادق في غير أهل البادية نقص، والنظر في عيوب الناس عيّ، ومسح اللحية هلك، والخروج عما بني عليه الكلام إسهاب.
قال: وسمعته يقول: رأس الخطابة الطبع، وعمودها الدربة، وحليها الإعراب.
وبهاؤها تخيّر اللفظ. والمحبة مقرونة بقلة الاستكراه.
وأنشدني بيتا له في خطباء إياد.
يرمون بالخطب الطوال وتارة ... وحي الملاحظ خيفة الرّقباء
وأنشدني في عيّ الخطيب واستعانته بمسح العثنون وفتل الأصابع:
مليء ببهر والتفات وسعلة ... ومسحة عثنون وفتل الأصابع «1»
بشر بن المعتمر وابن جبلة:
مرّ بشر بن المعتمر بإبراهيم بن جبلة بن مخرمة السكوني الخطيب، وهو يعلم فتيانهم الخطابة؛ فوقف بشر يستمع، فظنّ إبراهيم أنه إنما وقف ليستفيد، أو يكون رجلا من النظارة؛ فقال بشر: اضربوا عما قال صفحا، واطووا عنه كشحا. ثم دفع إليهم صحيفة من تنميقه وتحبيره، فيها:(4/146)
خذ من نفسك ساعة نشاطك وفراغ بالك وإجابتها إياك، فإنّ قليل تلك الساعة أكرم جوهرا، وأشرف حسبا، وأحسن في الاستماع، وأحلى في الصدور، وأسلم من فاحش الخطأ، وأجلب لكل عين من لفظ شريف، ومعنى بديع؛ واعلم أنّ ذلك أجدى عليك مما يعطيك يومك الأطول بالكدّ والمطاولة والمجاهدة، وبالتكلف والمعاودة، ومهما أخطأك لم يخطئك أن يكون مقبولا قصدا، وخفيفا على اللسان سهلا، وكما خرج من ينبوعه ونجم من معدنه؛ وإياك والتوعّر، فإنّ التوعر يسلمك إلى التعقيد، والتعقيد هو الذي يستهلك معانيك، ويشين ألفاظك. ومن أراغ معنى كريما فليلتمس له لفظا كريما، فإنّ حق المعنى الشريف اللفظ الشريف، ومن حقهما أن تصونهما عما يفسدهما ويهجنهما، وعما تعود من أجله إلى أن تكون أسوأ حالا منك قبل أن تلتمس إظهارهما، وترهن نفسك بملابستهما وقضاء حقهما؛ فكن في ثلاثة منازل: فأوّل ذلك أن يكون لفظك رشيقا عذبا، أو فخما سهلا؛ ويكون معناك ظاهرا مكشوفا، وقريبا معروفا، إمّا عند الخاصة إن كنت للخاصة قصدت، وإمّا عند العامّة إن كنت للعامّة أردت؛ والمعنى ليس يشرف بأن يكون من معاني الخاصة، وكذلك ليس يتّضع بأن يكون من معاني العامّة؛ وإنما مدار الشرف على الصواب، وإحراز المنفعة مع موافقة الحال وما يجب لكل مقام من المقال؛ وكذلك اللفظ العامي والخاصي؛ فإن أمكنك أن تبلغ من بيان لسانك، وبلاغة لفظك، ولطف مداخلك، وقدرتك في نفسك- أن تفهم العامّة معاني الخاصة، وتكسوها الألفاظ المتوسطة التي لا تلطف عن الدهماء، ولا تجفو عن الأكفاء، فأنت البليغ التام.
فقال له إبراهيم بن جبلة: جعلت فداك، أنا أحوج إلى تعلمي هذا الكلام من هؤلاء الغلمة.
خطبة رسول الله صلّى الله عليه وسلم في حجة الوداع
إنّ الحمد لله، نحمده ونستعينه ونستغفره ونتوب إليه، ونعوذ بالله من شرور أنفسنا، ومن سيئات أعمالنا. من يهد الله فلا مضلّ له، ومن يضللّ فلا هادي له،(4/147)
وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، و [أشهد] أن محمدا عبده ورسوله.
أوصيكم عباد الله، بتقوى الله، وأحثكم على طاعة الله، وأستفتح بالذي هو خير.
أمّا بعد: أيها الناس، اسمعوا مني أبّين لكم، فإني لا أدري لعلي لا ألقاكم بعد عامي هذا في موقفي هذا! أيها الناس: إن دماءكم وأموالكم عليكم حرام، إلى أن تلقوا ربكم، كحرمة يومكم هذا في شهركم هذا في بلدكم هذا. ألا هل بلغت، اللهم اشهد! فمن كانت عنده أمانة فيلؤدّها إلى الذي ائتمنه عليها؛ وإن ربا الجاهلية موضوع «1» ، وإنّ أوّل ربا أبدأ به ربا عمي العباس بن عبد المطلب؛ وإن دماء الجاهلية موضوعة، وإن أول دم أبدأ به دم عامر بن ربيعة بن الحارث بن عبد المطلب، وإن مآثر الجاهلية موضوعة غير السّدانة والسّقاية، والعمد قود «2» ، وشبه العمد ما قتل بالعصا والحجر، وفيه مائة بعير، فمن زاد فهو من أهل الجاهلية.
أيها الناس، إنّ الشيطان قد يئس أن يعبد في أرضكم هذه، ولكنه رضي أن يطاع فيما سوى ذلك ما تحقرون من أعمالكم.
أيها الناس، إنما النّسيء «3» زيادة في الكفر يضلّ به الذين كفروا يحلّونه عاما ويحرّمونه عاما ليواطئوا عدّة ما حرّم الله. وإنّ الزمان قد استدار كهيئته يوم خلق الله السموات والأرض، وإنّ عدّة الشهور عند الله اثنا عشر شهرا في كتاب الله يوم خلق السموات والأرض، منها أربعة حرم، ثلاثة متواليات، وواحد فرد: ذو القعدة، وذو الحجة، والمحرّم، ورجب الذي بين جمادي وشعبان. ألا هل بلغت، اللهم اشهد!(4/148)
أيها الناس، إنّ لنسائكم عليكم حقا، وإنّ لكم عليهنّ حقا: لكم عليهنّ أن لا يوطئن فرشكم غيركم، ولا يدخلن أحدا تكرهونه بيوتكم إلا بإذنكم، ولا يأتين بفاحشة؛ فإن فعلن فإنّ الله قد أذن لكم أن تعضلوهن «1» وتهجروهنّ في المضاجع وتضربوهنّ ضربا غير مبرّح؛ فإن انتهين وأطعنكم فعليكم رزقهنّ وكسوتهن بالمعروف؛ وإنما النساء عندكم عوان لا يملكن لأنفسهنّ شيئا، أخذتموهنّ بأمانة الله، واستحللتم فروجهنّ بكلمة الله؛ فاتقوا الله في النساء واستوصوا بهنّ خيرا [ألا هل بلّغت، اللهم اشهد!] .
أيها الناس؛ إنما المؤمنون إخوة، ولا يحل لآمريء مال أخيه إلا عن طيب نفسه.
ألا هل بلغت، اللهم اشهد! فلا ترجعوا بعدي كفارا يضرب بعضكم أعناق بعض؛ فإني قد تركت فيكم ما إن أخذتم به لم تضلّوا [بعده] كتاب الله وأهل بيتي، ألا هل بلغت اللهم اشهد.
أيها الناس، إنّ ربّكم واحد، وإنّ أباكم واحد؛ كلكم لآدم وآدم من تراب، أكرمكم عند الله أتقاكم؛ ليس لعربيّ على عجمي فضل إلا بالتقوى. ألا هل بلغت؟
قالوا: نعم. قال: فليبلغ الشاهد منكم الغائب.
أيها الناس، إنّ الله قسم لكل وارث نصيبه من الميراث؛ ولا يجوز لوارث وصية في أكثر من الثّلث؛ والولد للفراش وللعاهر الحجر «2» ؛ من دعي إلى غير أبيه، أو تولّى غير مواليه، فعليه لعنة الله والملائكة والناس أجمعين، لا يقبل الله منه صرفا ولا عدلا، والسلام عليكم ورحمة الله وبركاته.
خطب أبي بكر
وخطب أبو بكر يوم السقيفة: أراد عمر الكلام، فقال له أبو بكر: على رسلك.(4/149)
ثم حمد الله وأثنى عليه، ثم قال:
أيها الناس، نحن المهاجرون، أول الناس إسلاما، وأكرمهم أحسابا، وأوسطهم دارا، وأحسنهم وجوها، وأكثر الناس ولادة في العرب، وأمسّهم رحما برسول الله صلّى الله عليه وسلم؛ أسلمنا قبلكم، وقدّمنا في القرآن عليكم، فقال تبارك وتعالى: وَالسَّابِقُونَ الْأَوَّلُونَ مِنَ الْمُهاجِرِينَ وَالْأَنْصارِ وَالَّذِينَ اتَّبَعُوهُمْ بِإِحْسانٍ
«1» ؛ فنحن المهاجرون وأنتم الأنصار، إخواننا في الدين، وشركاؤنا في الفيء، وأنصارنا على العدوّ؛ آويتم وواسيتم، فجزاكم الله خيرا، فنحن الأمراء، وأنتم الوزراء، لا تدين العرب إلا لهذا الحي من قريش، فلا تنفسوا على إخوانكم المهاجرين ما منحهم الله من فضله.
وخطب أيضا. حمد الله وأثنى عليه، ثم قال:
أيها الناس، إني قد ولّيت عليكم ولست بخيركم، فإن رأيتموني على حقّ فأعينوني، وإن رأيتموني على باطل فسدّدوني؛ أطيعوني ما أطعت الله فيكم، فإذا عصيته فلا طاعة لي عليكم. ألا إنّ أقواكم عندي الضعيف حتى آخذ الحق له، وأضعفكم عندي القويّ حتى آخذ الحق منه! أقول قولي هذا وأستغفر الله لي ولكم.
وخطب أخرى. فلما حمد الله بما هو أهله، وصلى على نبيه عليه الصلاة والسلام، قال:
إن أشقى الناس في الدنيا والآخرة الملوك! فرفع الناس رءوسهم، فقال:
ما لكم أيها الناس؟ إنكم لطعانون عجلون، إن من الملوك من إذا ملك زهّده الله فيما بيده، ورغّبه فيما بيد غيره، وانتقصه شطر أجله، وأشرب قلبه الإشفاق، فهو يحسد على القليل، ويسخط على الكثير، ويسأم الرخاء وتنقطع عنده لذة البهاء، لا(4/150)
يستعمل العبرة، ولا يسكن إلى الثقة، فهو كالدرهم القسيّ «1» والسراب الخادع، جذل الظاهر، حزين الباطن، فإذا وجبت نفسه، ونصب عمره، وضحا ظله، حاسبه الله، فأشدّ حسابه، وأقلّ عفوه. ألا وإن الفقراء هم المرحومون! ألا إن من آمن بالله حكم بكتابه وسنّة نبيه صلّى الله عليه وسلم وإنكم اليوم على خلافة نبوة، ومفرق محجة، وسترون بعدي ملكا عضوضا، «2» وملكا عنودا، وأمة شعاعا، ودما مباحا؛ فإن كانت للباطل نزوة، ولأهل الحق جولة، يعفو لها الأثر، ويموت لها الخبر، فالزموا المساجد، واستشيروا القرآن واعتصموا بالطاعة، وليكن الإبرام بعد التشاور، والصفقة بعد طول التناظر، أي بلاد خرشنة «3» إن الله سيفتح لكم أقصاها كما فتح عليكم أدناها.
وخطب أيضا فقال:
الحمد لله، أحمده وأستعينه، وأستغفره وأومن به، وأتوكل عليه وأستهدي الله بالهدى، وأعوذ به من الضلالة والردى، ومن الشك والعمى؛ من يهد الله فهو المهتدي، ومن يضلل فلن تجد له وليا مرشدا؛ وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، له الملك وله الحمد، يحيى ويميت، وهو حي لا يموت، يعزّ من يشاء ويذلّ من يشاء، بيده الخير وهو على كل شيء قدير؛ وأشهد أن محمدا عبده ورسوله أرسله بالهدى ودين الحق ليظهره على الدين كله ولو كره المشركون- إلى الناس كافة، رحمة لهم وحجة عليهم، والناس حينئذ على شر حال في ظلمات الجاهلية، دينهم بدعة، ودعوتهم فرية، فأعز الله الدين بمحمد صلّى الله عليه وسلم، وألف بين قلوبكم أيها المؤمنون، فأصبحتم بنعمته إخوانا، وكنتم عى شفا حفرة من النار فأنقذكم منها، كذلك يبين الله لكم آياته لعلكم تهتدون؛ فأطيعوا الله ورسوله، فإنه قال عز وجل: مَنْ يُطِعِ الرَّسُولَ فَقَدْ أَطاعَ اللَّهَ، وَمَنْ تَوَلَّى فَما أَرْسَلْناكَ عَلَيْهِمْ حَفِيظاً
«4» .
أما بعد أيها الناس: إني أوصيكم بتقوى الله العظيم في كل أمر وعلى كل حال(4/151)
ولزوم الحق فيما أحببتم وكرهتم؛ فإنه ليس فيما دون الصدق من الحديث خير، من يكذب يفجر، ومن يفجر يهلك، وإياكم والفخر؛ وما فخر من خلق من تراب وإلى التراب يعود، هو اليوم حي وغدا ميّت! فاعلموا وعدوّا أنفسكم في الموتى، وما أشكل عليكم فردّوا علمه إلى الله، وقدّموا لأنفسكم خيرا تجدوه محضرا، فإنه قال عز وجل: يَوْمَ تَجِدُ كُلُّ نَفْسٍ ما عَمِلَتْ مِنْ خَيْرٍ مُحْضَراً وَما عَمِلَتْ مِنْ سُوءٍ تَوَدُّ لَوْ أَنَّ بَيْنَها وَبَيْنَهُ أَمَداً بَعِيداً، وَيُحَذِّرُكُمُ اللَّهُ نَفْسَهُ، وَاللَّهُ رَؤُفٌ بِالْعِبادِ
«1» فاتقوا الله عباد الله وراقبوه، واعتبروا بمن مضى قبلكم، واعلموا أنه لا بدّ من لقاء ربكم والجزاء بأعمالكم، صغيرها وكبيرها، إلا ما غفر الله، إنه غفور رحيم، فأنفسكم أنفسكم والمستعان الله، ولا حول ولا قوة إلا بالله إِنَّ اللَّهَ وَمَلائِكَتَهُ يُصَلُّونَ عَلَى النَّبِيِّ، يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا صَلُّوا عَلَيْهِ وَسَلِّمُوا تَسْلِيماً
«2» اللهم صل على محمد عبدك ورسولك، أفضل ما صليت على أحد من خلقك؛ وزكّنا بالصلاة عليه، وألحقنا به، واحشرنا في زمرته، وأوردنا حوضه اللهم أعنّا على طاعتك، وانصرنا على عدوّك.
وخطب أيضا، فحمد الله وأثنى عليه، ثم قال:
أوصيكم بتقوى الله، وأن تثنوا عليه بما هو أهله، وأن تخلطوا الرغبة بالرهبة، وتجمعوا الإلحاف بالمسألة؛ فإن الله أثنى على زكريا وعلى أهل بيته، فقال: إِنَّهُمْ كانُوا يُسارِعُونَ فِي الْخَيْراتِ وَيَدْعُونَنا رَغَباً وَرَهَباً وَكانُوا لَنا خاشِعِينَ
«3» ثم اعلموا عباد الله أن الله قد ارتهن بحقه أنفسكم، وأخذ على ذلك مواثيقكم، وعوّضكم بالقليل الفاني الكثير الباقي، وهذا كتاب الله فيكم لا تفنى عجائبه، ولا يطفأ نوره، فثقوا بقوله، وانتصحوا كتابه واستبصروا فيه ليوم الظلمة، فإنه خلقكم لعبادته، ووكل بكم الكرام الكاتبين يعلمون ما تفعلون. ثم اعلموا عباد الله أنكم(4/152)
تغدون وتروحون في أجل قد غيّب عنكم علمه، فإن استطعتم أن [لا] تنقضي الآجال [إلا] وأنتم في عمل لله [فافعلوا] ولن تستطيعوا ذلك إلا بالله- فسابقوا في مهل بأعمالكم، قبل أن تنقضي آجالكم فتردّكم إلى سوء أعمالكم، فإن أقواما جعلوا آجالهم لغيرهم [ونسوا أنفسهم] ، فأنهاكم أن تكونوا أمثالهم؛ فالوحي الوحي والنجاء النجاء «1» ، فإن وراءكم طالبا حثيثا مرّه، سريعا سيره.
خطب عمر بن الخطاب رضي الله عنه
وخطب عمر؛ فحمد الله وأثنى عليه ثم قال:
أيها الناس، من أراد أن يسأل عن القرآن فليأت أبيّ بن كعب، ومن أراد أن يسأل عن الفرائض فليأت زيد بن ثابت، ومن أراد أن يسأل عن الفقه فليأت معاذ بن جبل، ومن أراد أن يسأل عن المال فليأتني؛ فإن الله جعلني له خازنا وقاسما: إني باديء بأزواج رسول الله صلّى الله عليه وسلم فمعطيهن، ثم المهاجرين الأولين الذين أخرجوا من ديارهم وأموالهم، أنا وأصحابي ثم بالأنصار الذين تبوءوا الدار والإيمان من قبلهم، ثم من أسرع إلى الهجرة أسرع إليه العطاء، ومن أبطأ عن الهجرة أبطأ عن الهجرة أبطأ عنه العطاء، فلا يلومن رجل إلا مناخ راحلته. إني قد بقيت فيكم بعد صاحبي، فابتليت بكم وابتليتم بي، وإني لن يحضرني من أموركم شيء فأكله إلى غير أهل الجزاء والأمانة، فلئن أحسنوا لأحسننّ إليهم، ولئن أساءوا لأنكلنّ بهم.
وخطب أيضا فقال:
الحمد لله الذي أعزنا بالإسلام، وأكرمنا بالإيمان، ورحمنا بنبيه صلّى الله عليه وسلم، فهدانا به من الضلالة، وجمعنا به من الشتات، وألف بين قلوبنا، ونصرنا على عدونا، ومكن لنا في البلاد، وجعلنا به إخوانا متحابين؛ فاحمدوا الله على هذه النعمة، واسألوه المزيد(4/153)
فيها والشكر عليها، فإن الله قد صدقكم الوعد بالنصر على من خالفكم؛ وإياكم والعمل بالمعاصي وكفر النعمة، فقلما كفر قوم بنعمة ولم ينزعوا إلى التوبة إلا سلبوا عزّهم وسلّط عليهم عدوّهم.
أيها الناس: إن الله قد أعز دعوة هذه الأمة وجمع كلمتها وأظهر فلحها ونصرها وشرفها، فاحمدوه عباد الله على نعمه، واشكروه على آلائه؛ جعلنا الله وإياكم من الشاكرين.
وخطب فقال بعد أن حمد الله وأثنى عليه:
أيها الناس: تعلموا القرآن [تعرفوا به] ، واعملوا به تكونوا من أهله؛ واعلموا أنه لم يبلغ من حق مخلوق أن يطاع في معصية الخالق [ألا وإني أنزلت نفسي من مال الله بمنزلة والي اليتيم، وإن استغنيت عففت، وإن افتقرت أكلت بالمعروف، تقرّم «1» البهمة الأعرابية] ، القضم «2» دون الخضم «3» .
وخطبة له أيضا:
أيها الناس: إنه قد أتى عليّ زمان وأنا أرى أن قراءة القرآن [إنما] تريدون به الله عز وجل وما عنده: [ألا وإنه قد] خيّل إليّ أن قوما قرءوه إذ يتنزل الوحي وإذ رسول الله بين أظهرنا ينبئنا من أخباركم؛ فقد انقطع الوحي وذهب النبي، فإنما نعرفكم بما أقول لكم؛ ألا من رأينا منه خيرا ظننا به خيرا وأحببناه عليه، ومن رأينا منه شرا ظننا به شرا وأبغضناه عليه؛ سرائركم بينكم وبين ربكم؛ ألا وإني إنما أبعث عمالي ليعلّموكم دينكم وسنّتكم، ولا أبعثهم ليضربوا ظهوركم ويأخذوا أموالكم؛ ألا من رابه شيء من ذلك فليرفعه اليّ، فوالذي نفسي بيده لأقصّنّكم منه.
فقام عمرو بن العاص فقال: يا أمير المؤمنين، أرأيت أن بعثت عاملا من عمالك(4/154)
فأدب رجلا من رعيتك فضربه، أتقّصه منه؟
قال: نعم، والذي نفس عمر بيده لأقصنه منه؛ فقد رأيت رسول الله صلّى الله عليه وسلم يقصّ من نفسه.
وخطب أيضا فقال: أيها الناس اتقوا الله في سريرتكم وعلانيتكم، وأمروا بالمعروف وانهوا عن المنكر، ولا تكونوا مثل قوم كانوا في سفينة فأقبل أحدهم على موضعه يخرقه، فنظر إليه أصحابه فمنعوه، فقال: هو موضعي ولي أن أحكم فيه، فإن أخذوا على يده سلم وسلموا، وإن تركوه هلك وهلكوا معه! وهذا مثل ضربته لكم. رحمنا الله وإياكم.
وخطب عام الرّمادة بالعباس رحمه الله:
حمد الله وأثنى عليه وصلى على نبيه، ثم قال:
أيها الناس، استغفروا ربكم إنه كان غفارا، اللهم إني أستغفرك وأتوب إليك اللهم إنا نتقرب إليك بعمّ نبيك وبقية آبائه وكبار رجال، فإنك تقول وقولك الحق وَأَمَّا الْجِدارُ فَكانَ لِغُلامَيْنِ يَتِيمَيْنِ فِي الْمَدِينَةِ وَكانَ تَحْتَهُ كَنْزٌ لَهُما وَكانَ أَبُوهُما صالِحاً
«1» ؛ فحفظتهما لصلاح أبيهما؛ فاحفظ اللهم نبيّك في عمه؛ اللهم اغفر لنا إنك كنت غفارا، اللهم أنت الراعي لا تهمل الضالّة، ولا تدع الكسيرة بمضيعة، اللهم قد ضرع الصغير ورق الكبير وارتفعت الشكوى، وأنت تعلم السرّ وأخفى؛ اللهم أغثهم بغياثك قبل أن يقنطوا فيهلكوا، فإنه لا ييأس من روح الله إلا القوم الكافرون.
فما برحوا حتى علّقوا الحذاء، وقلصوا المآزر، وطفق الناس بالعباس يقولون:
هنيئا لك يا ساقي الحرمين.
وخطب إذ ولي الخلافة:(4/155)
صعد المنبر فحمد الله وأثنى عليه، ثم قال:
يا أيها الناس، إني داع فأمّنوا: اللهم إني غليظ فليّنّي لأهل طاعتك بموافقة الحق ابتغاء وجهك والدار الآخرة، وارزقني الغلظة والشدة على أعدائك وأهل الدعارة والنفاق، من غير ظلم مني لهم، ولا اعتداء عليهم؛ اللهم إني شحيح فسخّني في نوائب المعروف، قصدا من غير سرف ولا تبذير، ولا رياء ولا سمعة، واجعلني أبتغي بذلك وجهك والدار الآخرة؛ اللهم ارزقني خفض الجناح ولين الجانب للمؤمنين، اللهم إني كثير الغفلة والنسيان، فألهمني ذكرك على كل حال، وذكر الموت في كل حين؛ اللهم إني ضعيف عن العمل بطاعتك، فارزقني النشاط فيها والقوة عليها بالنية الحسنة التي لا تكون إلا بعونك وتوفيقك؛ اللهم ثبّتني باليقين والبرّ والتقوى، وذكر المقام بين يديك والحياء منك، وارزقني الخشوع فيما يرضيك عني؟ والمحاسبة لنفسي، وإصلاح الساعات، والحذر من الشبهات؛ اللهم ارزقني التفكر والتدبر لما يتلوه لساني من كتابك، والفهم له، والمعرفة بمعانيه، والنظر في عجائبه، والعمل بذلك ما بقيت؛ إنك على كل شيء قدير.
وكان آخر كلام أبي بكر الذي إذا تكلم به عرف أنه قد فرغ من خطبته:
اللهم اجعل خير زماني آخره، وخير عملي خواتمه، وخير أيامي يوم ألقاك.
وكان آخر كلام عمر الذي إذا تكلم به عرف أنه فرغ من خطبته:
اللهم لا تدعني في غمرة، ولا تأخذني على غرّة، ولا تجعلني من الغافلين.
خطبة عثمان بن عفان رضي الله عنه
ولما ولي عثمان بن عفان قام خطيبا، فحمد الله وأثنى عليه، وتشهد، ثم أرتج عليه «1» ؛ فقال:(4/156)
أيها الناس، إن أول كل مركب صعب، وإن أعش فستأتيكم الخطب على وجهها، وسيجعل الله بعد عسر يسرا.
خطب علي بن أبي طالب كرم الله وجهه
خطب أمير المؤمنين علي بن أبي طالب رضوان الله عليه أول خطبة خطبها بالمدينة، فحمد الله وأثنى عليه وصلى على نبيه عليه الصلاة والسلام ثم قال:
أيها الناس: كتاب الله وسنّة نبيكم صلّى الله عليه وسلم، أما بعد: فلا يدّعين مدّع إلا على نفسه، شغل من الجنة والنار أمامه. ساع نجا، وطالب يرجو، ومقصّر في النار:
[ثلاثة؛ واثنان] : ملك طار بجناحيه، ونبي أخذ الله بيده، لا سادس. هلك من ادّعى، وردي من اقتحم. اليمين والشمال مضلة، والوسطى والجادّة: منهج عليه أم الكتاب والسنة وآثار النبوة؛ إن الله داوى هذه الأمة بدواءين: السوط والسيف، فلا هوادة عند الإمام فيهما، استتروا ببيوتكم، وأصلحوا ذات بينكم؛ فالموت من ورائكم. من أبدى صفحته للحق هلك. قد كانت أمور لم تكونوا فيها محمودين. أما اني لو أشاء أن أقول لقلت. عفا الله عما سلف. سبق الرجلان وقام الثالث كالغراب، همته بطنه، ويله! لو قص جناحاه وقطع رأسه لكان خيرا له! انظروا، فإن أنكرتم فأنكروا، وإن عرفتم فارووا. حق وباطل، ولكلّ أهل؛ ولئن أمر الباطل لقديما فعل، ولئن قل الحق لربما ولعل؛ ولقلما أدبر شيء فأقبل، ولئن رجعت إليكم أموركم إنكم لسعداء، وإني لأخشى أن تكونوا في فترة، وما علينا إلا الاجتهاد.
وروى فيها جعفر بن محمد رضوان الله عليه:
ألا إن الأبرار عترتي، وأطايب أرومتي، أحلم الناس صغارا، وأعلم الناس كبارا؛ ألا وإنا أهل البيت من علم الله علمنا وبحكم الله حكمنا، ومن قول صادق سمعنا؛ فإن تتبعوا آثارنا تهتدوا ببصائرنا، (وإن لم تفعلوا يهلككم الله بأيدينا) معنا راية الحق، من تبعها لحق، ومن تأخر عنها غرق. ألا وبنا تدرك ترة كل مؤمن وبنا تخلع(4/157)
ربقة الذل من أعناقكم، وبنا فتح وبنا فتح وبنا يختم.
وخطبة له أيضا:
حمد الله وأثنى عليه، ثم قال:
أوصيكم عباد الله ونفسي بتقوى الله ولزوم طاعته وتقديم العمل، وترك الأمل؛ فإنه من فرّط في عمله لم ينتفع بشيء من أمله، أين التّعب بالليل والنهار، المقتحم للجج البحار ومفاوز القفار، يسير من وراء الجبال وعالج الرمال «1» ، يصل الغدو بالرواح، والمساء بالصباح، في طلب محقرات الأرباح؛ هجمت عليه منيته، فعظمت بنفسه رزيته؛ فصار ما جمع بورا، وما اكتسب غرورا، ووافى القيامة محسورا:
أيها اللاهي الغارّ بنفسه، كأني بك وقد أتاك رسول ربك، لا يقرع لك بابا، ولا يهاب لك حجابا، ولا يقبل منك بديلا، ولا يأخذ منك كفيلا، ولا يرجم لك صغيرا، ولا يوقر فيك كبيرا، حتى يؤديك إلى قعر مظلمة، أرجاؤها موحشة، كفعله بالأمم الخالية والقرون الماضية! أين من سعى واجتهد؛ وجمع وعدّد، وبنى وشيّد؛ وزخرف ونجّد، وبالقليل لم يقنع، وبالكثير لم يمتع؟ أين من قاد الجنود، ونشر البنود؟ أضحوا رفاتا! تحت الثرى أمواتا، وأنتم بكأسهم شاربون، ولسبيلهم سالكون.
عباد الله! فاتقوا الله وراقبوه، واعملوا لليوم الذي تسير فيه الجبال، وتشقّق السماء بالغمام، وتطاير الكتب عن الأيمان والشمائل؛ فأي رجل يومئذ تراك؟ أقائل هاؤم اقرءوا كتابيه! أم: يا ليتني لم أوت كتابيه! نسأل من وعدنا بإقامة الشرائع جنته أن يقينا سخطه؛ إنّ أحسن الحديث وأبلغ الموعظة كتاب الله الذي لا يأتيه الباطل من بين يديه ولا من خلفه تنزيل من حكيم حميد.
وخطبة له أيضا:(4/158)
الحمد لله الذي استخلص الحمد لنفسه، واستوجبه على جميع خلقه، الذي ناصية كلّ شيء بيده، ومصير كل شيء إليه، القويّ في سلطانه، اللطيف في جبروته، لا مانع لما أعطى، ولا معطى لما منع، خالق الخلائق بقدرته، ومسخّرهم بمشيئته، وفيّ العهد، صادق الوعد، شديد العقاب، جزيل الثواب؛ أحمده وأستعينه على ما أنعم به مما لا يعرف كنهه غيره؛ وأتوكل عليه توكّل المتسلم لقدرته، المتبري من الحول والقوّة إليه؛ وأشهد شهادة لا يشوبها شك أنه لا إله إلا هو وحده لا شريك له، إلها واحدا صمدا، لم يتخذ صاحبة ولا ولدا، ولم يكن له شريك في الملك، ولم يكن له وليّ من الذل وكبّره تكبيرا، وهو على كل شيء قدير، قطع ادعاء المدّعي بقوله عز وجل: وَما خَلَقْتُ الْجِنَّ وَالْإِنْسَ إِلَّا لِيَعْبُدُونِ
«1» . وأشهد أنّ محمدا صلّى الله عليه وسلم صفوته من خلقه، وأمينه على وحيه، أرسله بالمعروف آمرا. وعن المنكر ناهيا، وإلى الحق داعيا؛ على حين فترة من الرسل، وضلالة من الناس، واختلاف من الأمور، وتنازع من الألسن، حتى تمم به الوحي، وأنذر به أهل الأرض.
أوصيكم عباد الله بتقوى الله؛ فإنها العصمة من كل ضلالة، والسبيل إلى كل نجاة؛ فكأنكم بالجثث قد زايلتها أرواحها، وتضمنها أجداثها، فلن يستقبل معمّر منكم يوما من عمره إلا بانتقاص آخر من أجله، وإنما دنياكم كفيء الظل أو زاد الراكب؛ وأحذركم دعاء العزيز الجبار عبده، يوم تعفي آثاره، وتوحش منه دياره، وييتم صغاره، ثم يصير إلى حفير من الأرض، متعفرا على خدّه، غير موسد ولا ممهد: أسأل الذي وعدنا على طاعته جنته، أن يقينا سخطه، ويجنّبنا نقمته، ويهب لنا رحمته. إنّ أبلغ الحديث كتاب الله.
وخطبة له رضي الله عنه:
أمّا بعد؛ فإنّ الدنيا قد أدبرت وآذنت بوداع، وإنّ الآخرة قد أقبلت وأشرفت باطّلاع، وإنّ المضمار اليوم والسباق غدا، ألا وإنكم في أيام أمل من ورائه أجل؛(4/159)
فمن أخلص في أيام أمله حضور أجله، نفعه عمله ولم يضره أمله؛ ومن قصر في أيام أمله قبل حضور أجله، فقد خسر عمله وضره أمله؛ ألا فاعملوا لله في الرغبة كما تعملون له في الرهبة، ألا وإني لم أر كالجنة نام طالبها، ولم أر كالنار نام هاربها؛ [ألا وإنه من لا ينفعه الحقّ يضرره الباطل، ومن لم يستقم به الهدى يجرّ به الضلال إلى الردى] ؛ ألا وإنكم قد أمرتم بالظعن، ودللتم على الزاد، وإن أخوف ما أخاف عليكم اتباع الهوى وطول الأمل.
وخطبة له: قالوا ولما أغار سفيان بن عوف الأزدي على الأنبار في خلافة علي رضي الله عنه، وعليها [ابن] حسان البكري، فقتله وأزال تلك الخيل عن مسالحها «1» ، فخرج علي رضي الله عنه حتى جلس على باب السّدّة، فحمد الله وأثنى عليه ثم قال:
أمّا بعد؛ فإن الجهاد باب من أبواب الجنة، فمن تركه ألبسه الله ثوب الذل وشملة البلاء، وألزمه الصغار، وسامه الخسف، ومنعه النّصف»
؛ ألا وإني دعوتكم إلى قتال هؤلاء القوم ليلا ونهارا، وسرا وإعلانا، وقلت لكم: اغزوهم قبل أن يغزوكم، فوالله ما غزي قوم قط في عقر دارهم إلا ذلّوا. فتواكلتم وتخاذلتم، وثقل عليك قولي فاتخذتموه وراءكم ظهريا؛ حتى شنّت عليكم الغارات؛ وهذا أخو غامد قد بلغت خيله الأنبار، وقتل ابن حسان البكري؛ وأزال خيلكم عن مسالحها؛ وقتل منكم رجالا صالحين، وقد بلغني أنّ الرجل منهم كان يدخل على المرأة المسلمة والأخرى المعاهدة، فينزع حجلها وقلبها «3» ورعاثها «4» ، ثم انصرفوا وافرين ما كلم رجل منهم؛ فلو أنّ رجلا مسلما مات من بعد هذا أسفا ما كان عندي ملوما، بل كان به عندي جديرا؛ فواعجبا من جدّ هؤلاء في باطلهم وفشلكم عن حقكم؛ فقبحا لكم وترحا حين صرتم غرضا يرمى؛ يغار عليكم ولا تغيرون، وتغزون ولا تغزون، ويعصى الله وترضون؛ فإذا أمرتكم بالمسير إليهم في أيام الحرّ، قلتم: حمارّة(4/160)
القيظ؛ أملهنا حتى ينسلخ عنا الحرّ! وإذا أمرتكم بالمسير إليهم ضحى في الشتاء، قلتم:
[صبارّة القرّ] «1» أمهلنا حتى ينسلخ عنا هذا القرّ! كل هذا فرارا من الحرّ والقرّ؛ فأنتم والله من السيف أفرّ! يا أشباه الرجال ولا رجال! ويا أحلام «2» أطفال وعقول ربات الحجال! وددت أنّ الله أخرجني من بين أظهركم، وقبضني إلى رحمته من بينكم، وأني لم أركم ولم أعرفكم! معرفة والله جرّت وهنا! [لقد ملأتم قلبي قيحا] ووريتم والله صدري غيظا، وجرعتموني الموت أنفاسا، وأفسدتم عليّ رأيي بالعصيان والخذلان، حتى قالت قريش: إنّ ابن أبي طالب شجاع ولكن لا علم له بالحرب! لله أبوهم! وهل منهم أحد أشدّ لها مراسا وأطول تجربة مني؟ لقد مارستها وأنا ابن عشرين، فها أنا ذا الآن قد نيّفت على الستين، ولكن لا رأي لمن لا يطاع! وخطبة له رضي الله عنه، قام فيهم فقال:
أيها الناس المجتمعة أبدانهم، المختلفة أهواؤهم! كلامكم يوهي الصم الصّلاب وفعلكم يطمع فيكم عدوّكم؛ تقولون في المجالس كيت وكيت؛ فإذا جاء القتال قلتم:
[حيدي] «3» حياد ما عزت دعوة من دعاكم؛ ولا استراح قلب من قاساكم؛ أعاليل بأباطيل؛ وسألتموني التأخير؛ دفاع ذي الدّين الممطول؛ ألا [لا] يدفع الضيم الذليل، ولا يدرك الحقّ إلا بالجدّ. أيّ دار بعد داركم تمنعون؟ أم مع أي إمام بعدي تقاتلون؟ المغرور والله من غررتموه؛ ومن فاز بكم فاز بالسهم الأخيب! أصبحت والله لا أصدّق قولكم؛ ولا أطمع في نصرتكم؛ فرّق الله بيني وبينكم، وأعقبني بكم من هو خير لي منكم! وددت والله أن لي بكل عشرة منكم رجلا من بني فراس بن غنم، صرف الدينار بالدرهم! وخطب إذا استنفر أهل الكوفة لحرب الجمل، فأقبلوا إليه مع ابنه الحسن رضي الله عنهم، فقام فيهم خطيبا فقال:(4/161)
الحمد لله رب العالمين، وصلى الله على سيدنا محمد خاتم النبيين وآخر المرسلين، أمّا بعد؛ فإنّ الله بعث محمدا عليه الصلاة والسلام إلى الثقلين كافة، والناس في اختلاف، والعرب بشرّ المنازل، مستضيئون للثاءات «1» بعضهم على بعض، فرأب الله به الثّأي، ولأم به الصدع، ورتق به الفتق، وأمّن به السبل، وحقن به الدماء، وقطع به العداوة الواغرة للقلوب، والضغائن المخشنة للصدور؛ ثم قبضه الله عز وجل مشكورا سعيه، مرضيّا عمله، مغفورا ذنبه، كريما عند ربه نزله؛ فيا لها مصيبة عمّت المسلمين، وخصّت الأقربين؛ وولى أبو بكر، فسار بسيرة رضيها المسلمون؛ ثم ولى عمر، فسار بسيرة أبي بكر رضي الله عنهما؛ ثم ولي عثمان، فنال منكم ونلتم منه، حتى إذا كان من أمره ما كان أتيتموه فقتلتموه، ثم أتيتموني فقلتم لي: بايعنا! فقلت لكم:
لا أفعل! وقبضت يدي فبسطتموها، ونازعتم كفي فجذبتموها، وقلتم: لا نرضى إلا بك، ولا نجتمع إلا عليك! وتداككتم «2» عليّ تداكك الإبل الهيم «3» على حياضها يوم ورودها، حتى ظننت أنكم قاتلي، وأن بعضكم قاتل بعض؛ فبايعتموني، وبايعني طلحة والزبير، ثم ما لبثا أن استأذناني للعمرة فسارا إلى البصرة فقتلا بها المسلمين وفعلا الأفاعيل، وهما يعلمان والله أني لست بدون واحد ممن مضى، ولو أشاء أن أقول لقلت؛ اللهم إنهما قطعا قرابتي، ونكثا بيعتي، وألبا عليّ عدوّي؛ اللهم فلا تحكم لهما ما أبرما، وأرهما المساءة فيما عملا وأملا! ومما حفظ عنه بالكوفة على المنبر: قال نافع بن كليب: دخلت الكوفة للتسليم على أمير المؤمنين علي رضي الله عنه، فإني لجالس تحت منبره، وعليه عمامة سوداء، وهو يقول: انظروا هذه الحكومة، فمن دعا إليها فاقتلوه وإن كان تحت عمامتي هذه! فقال له عدي بن حاتم: قلت لنا أمس: من أبى عنها فاقتلوه. وتقول لنا اليوم: من دعا إليها فاقتلوه! والله ما ندري ما نصع بك؟ وقام إليه رجل أحدب من أهل العراق فقال: أمرت بها أمس وتنهى عنها اليوم، فأنت كما قال الأول: آكلك وأنا أعلم ما أنت. فقال علي: إلي يقال هذا.(4/162)
أصبحت أذكر أرحاما وآصرة ... بدلت منها هويّ الرّيح بالقصب «1»
أما والله لو أني حين أمرتكم بما أمرتكم به، ونهيتكم عما نهيتكم عنه، حملتكم على المكروه الذي جعل الله عاقبته خيرا إذا كان فيه، لكانت الوثقى التي لا تقلع، ولكن بمن؟ وإلى من؟ [أريد أن] أداوي بكم [وأنتم دائي] ؛ إني والله بكم كناقش «2» الشّوكة بالشوكة، يا ليت لي بعض قومي وليت لي من بعد خير قومي، اللهم إن دجلة والفرات نهران أعجمان أصمان أبكمان، اللهم سلط عليهما بحرك، وانزع منهما بصرك؛ ويل للنّزعة «3» يا أشطان الرّكيّ «4» ! [أين الذين] دعوا إلى الإسلام فقبلوه، وقرءوا القرآن فأحسنوه، ونطقوا بالشعر فأحكموه وهيجوا إلى الجهاد فولهوا [وله] اللقاح [إلى] أولادها، وسلبوا السيوف أغمادها ضربا ضربا، [وأخذوا بأطراف الأرض] زحفا زحفا، لا يتباشرون بالأحياء، ولا يعزّون على القتلى ولا يغيرون على العلي.
أولئك إخواني الذاهبون ... فحقّ البكاء لهم أن يطيبا
رزقت حبيبا على فاقة ... وفارقت بعد حبيب حبيبا!
ثم نزل تدمع عيناه؛ فقلت إنا لله وإنا إليه راجعون على ما صرت إليه! فقال:
نعم، إنا لله وإنا إليه راجعون! أقوّمهم والله غدوة ويرجعون إلى عشية مثل ظهر الحية، حتى متي؟ وإلى متى؟ حسبي الله ونعم الوكيل! وهذه خطبته الغراء، رضي الله عنه:
الحمد لله الأحد الصمد، الواحد المنفرد، الذي لا من شيء كان ولا من شيء خلق إلا وهو خاضع له؛ قدرة بان بها من الأشياء وبانت الأشياء منه، فليست له صفة تنال، ولا حدّ يضرب له فيه الأمثال، كلّ دون صفته تحبير اللغات، وضلت هناك تصاريف الصفات وحارت دون ملكوته مذاهب التفكير، وانقطعت دون علمه(4/163)
جوامع التفسير، وحالت دون غيبه حجب تاهت في أدنى دنوّها طامحات العقول؛ فتبارك الله الذي لا يبلغه بعد الهمم، ولا يناله غوص الفطن؛ وتعالى الذي ليس له نعت موجود، ولا وقت محدود، وسبحان الذي ليس له أول مبتدأ، ولا غاية منتهى، ولا آخر يفنى؛ وهو سبحانه كما وصف نفسه، والواصفون لا يبلغون نعته؛ أحاط بالأشياء كلها علمه وأتقنها صنعه، وذللها أمره، وأحصاها حفظه؛ فلا يعزب عنه غيوب الهوى، ولا مكنون صلم الدجى، ولا ما في السموات العلى إلى الأرض السابعة السفلى؛ فهو لكل شيء منها حافظ ورقيب، أحاط بها الأحد الصمد الذي لم تغيّره صروف الأزمان، ولا يتكاءده «1» صنع شيء منها كان؛ قال لما شاء أن يكون: كن! فكان؛ ابتدع ما خلق بلا مثال سبق، ولا تعب ولا نصب؛ وكل عالم من بعد جهل يعلم، والله لم يجهل ولم يتعلم؛ أحاط بالأشياء كلها علما، ولم يزدد بتجربتها خبرا؛ علمه بها قبل كونها كعمله بها بعد تكوينها؛ لم يكوّنها لتسديد سلطان، ولا خوف زوال ولا نقصان، ولا استعانة على ضد مناويء، ولا ند مكاثر، ولكن خلائق مربوبون، وعباد آخرون، فسبحان الذي لا يئوده «2» خلق ما ابتدأ، ولا تدبير ما برأ، خلق ما علم، وعلم ما أراد، ولا يتفكر على حادث أصاب، ولا شبهة دخلت عليه فيما أراد، لكن قضاء متقن، وعلم محكم، وأمر مبرم، توحّد بالربوبية، وخص نفسه بالوحدانية، فلبس العز والكبرياء، واستخلص المجد والسناء، واستكمل الحمد والثناء؛ فانفرد بالتوحيد، وتوحد بالتمجيد؛ فجل سبحانه وتعالى عن الأبناء وتطهر وتقدس عن ملامسة النساء؛ فليس له فيما خلق ندّ، ولا فيما ملك ضدّ، هو الله الواحد الصمد، الوارث للأبد الذي لا يبيد ولا ينفد، ملك السموات العلى، والأرضين السفلى، ثم دنا فعلا. وعلا فدنا، له المثل الأعلى، والأسماء الحسنى، والحمد لله رب العالمين؛ ثم إن الله تبارك وتعالى- سبحانه وبحمده- خلق الخلق بعلمه ثم اختار منهم صفوته، واختار من كل خيار صفوته أمناء على وحيه، وخزنة له على أمره، إليهم ينتهي رسله، وعليهم ينزل وحيه، جعلهم أصفياء، مصطفين(4/164)
أنبياء، مهديين نجباء؛ استودعهم وأقرهم في خير مستقر، تناسختهم أكارم الأصلاب، إلى مطهّرات الأمهات، كلما مضى منهم سلف انبعث لأمره منهم خلف، حتى انتهت نبوّة الله وأفضت كرامته إلى محمد صلّى الله عليه وسلم؛ فأخرجه من أفضل المعادن محتدا، وأكرم المغارس منبتا، وأمنعها ذروة، وأعزها أرومة، وأوصلها مكرمة من الشجرة التي صاغ منها أمناء، وانتخب منها أنبياء، شجرة طيبة العود، معتدلة العمود، باسقة الفروع، مخضرة الأصول والغصون، يانعة الثمار، كريمة المجتنى، في كرم نبتت، وفيه بسقت وأثمرت، وعزت فامتنعت، حتى أكرمه الله بالروح الأمين، والنور المبين، فختم به النبيين، وأتم به عدة المرسلين، [وجعله] خليفته على عباده، وأمينه في بلاده؛ زينه بالتقوى وآثار الذكرى؛ وهو إمام من اتقى، ونصر من اهتدى، سراج لمع ضوءه، وزند برق لمعه، وشهاب سطع نوره؛ فاستضاءت به العباد، واستنارت به البلاد؛ وطوى به الأحساب فأزجى به السحاب، وسخر له البراق حتى صافحته الملائكة، وأذعنت له الألسنة، وهدم به أصنام الآلهة، سيرته القصد، وسنته الرشد؛ وكلامه فصل، وحكمه عدل؛ فصدع صلّى الله عليه وسلم بما أمره به، حتى أفصح بالتوحيد دعوته؛ وأظهر في خلقه لا إله إلا الله، حتى أذعن له [الخلق] بالربوبية، وأقرّ له بالعبودية والواحدانية؛ اللهم فخصّ محمدا بالذكر المحمود. والحوض المورود. اللهم آت محمدا الوسيلة والرفعة والفضيلة، واجعل في المصطفين محلته، وفي الأعلين درجته، وشرّف بنيانه وعظّم برهانه، واسقنا بكأسه، وأوردنا حوضه، واحشرنا في زمرته، غير حزايا ولا ناكثين ولا شاكين ولا مرتابين ولا ضالين ولا مفتونين ولا مبدلين ولا حائدين ولا مضلين؛ اللهم أعط محمدا من كل كرامة أفضلها، ومن كل نعيم أكمله، ومن كل عطاء أجزله، ومن كل قسم أتمه؛ حتى لا يكون أحد من خلقك أقرب منك مكانا، ولا أحظى عندك منزلة ولا أقرب إليك وسيلة، ولا أعظم عليك حقا- ولا شفاعة، من محمد؛ واجمع بيننا وبينه في ظل العيش، وبرد الرّوح «1» ، وقرة الأعين، ونضرة السرور، وبهجة النعيم؛ فإنا نشهد أنه قد بلغ(4/165)
الرسالة، وأدى الأمانة والنصيحة، واجتهد للأمة. وجاهد في سبيلك. وأوذي في جنبك ولم يخف لومة لائم في دينك. وعبدك حتى أتاه اليقين، إمام المتقين، وسيد المرسلين، وتمام النبين، وخاتم المرسلين ورسول رب العالمين، اللهم رب البيت الحرام، ورب البلد الحرام، ورب الركن والمقام، ورب المشعر الحرام؛ بلّغ محمدا منا السلام؛ اللهم صل على ملائكتك المقربين، وعلى أنبيائك المرسلين، وعلى الحفظة الكرام الكاتبين، وصلى الله على أهل السموات وأهل الأرضين من المؤمنين.
وخطبته الزهراء:
الحمد لله الذي هو أول كل شيء ووليه، وكل شيء خاشع له، وكل شيء قائم به، وكل شيء ضارع إليه، وكل شيء مستكين له؛ خشعت له الأصوات، وكلّت دونه الصفات، وضلت دونه الأوهام، وحارت دونه الأحلام، وانحسرت دونه الأبصار لا يقضي في الأمور غيره، ولا يتم شيء دونه، سبحانه ما أجل شأنه، وأعظم سلطانه! تسبح له السموات العلى، ومن في الأرض السفلى، له التسبيح والعظمة والملك والقدرة، والحول والقوة، يقضي بعلم ويعفو بحلم؛ قوة كلّ ضعيف، ومفزع كل ملهوف وعزّ كلّ ذليل، ووليّ كل نعمة، وصاحب كلّ حسنة، وكاشف كل كربة المطّلع على كل خفيّة، المحصي كلّ سريرة، يعلم ما تكنّ الصدور، وما ترخى عليه الستور؛ الرحيم بخلقه، الرؤوف بعباده؛ من تكلم منهم سمع كلامه، ومن سكت منهم علم ما في نفسه، ومن عاش منهم فعليه رزقه، ومن مات منهم فإليه مصيره؛ أحاط بكل شيء علمه وأحصى كل شيء حفظه، اللهم لك الحمد عدد ما تحيي وتميت، وعدد أنفاس خلقك ولفظهم ولحظ أبصارهم، وعدد ما تجري به الريح وتحمله السحاب، ويختلف به الليل والنهار، ويسير به الشمس والقمر والنجوم- حمدا لا ينقضي عدده، ولا يفنى أمده: اللهم أنت قبل كل شيء، وإليك مصير كل شيء، وتكون بعد هلاك كل شيء وتبقى ويفنى كلّ شيء، وأنت وارث كلّ شيء، أحاط علمك بكلّ شيء، وليس يعجزك شيء، ولا يتوارى عنك شيء، ولا يقدر أحد قدرتك، ولا يشكرك أحد حقّ شكرك، ولا تهتدي العقول لصفتك، ولا تبلغ(4/166)
الأوهام حدّك؛ حارت الأبصار دون النظر إليك، فلم ترك عين فتخبر عنك كيف أنت وكيف كنت. لا نعلم اللهم كيف عظمتك، غير أنا نعلم أنك حي قيوم، لا تأخذك سنة ولا نوم، لم ينته إليك نظر، ولم يدركك بصر، ولا يقدر قدرتك ملك ولا بشر؛ أدركت الأبصار، وكتمت الآجال، وأحصيت الأعمال، وأخذت بالنواصي والأقدام، لم تخلق الخلق لحاجة ولا لوحشة ملأت كلّ شيء عظمة، فلا يردّ ما أردت، ولا يعطى ما منعت، ولا ينقص سلطانك من عصاك، ولا يزيد في ملكك من أطاعك؛ كلّ سرّ عندك علمه، وكل غيب عندك شاهده؛ فلم يستتر عنك شيء، ولم يشغلك شيء عن شيء، وقدرتك على ما تقضي، كقدرتك على ما قضيت، وقدرتك على القوي كقدرتك على الضعيف وقدرتك على الأحياء كقدرتك على الأموات؛ فإليك المنتهى وأنت الموعد، لا منجى إلا إليك؛ بيدك ناصية كل دابة، وبإذنك تسقط كلّ ورقة؛ لا يعزب «1» عنك مثقال ذرة؛ أنت الحيّ القيوم؛ سبحانك! ما أعظم ما يرى من خلقك! وما أعظم ما يرى من ملكوتك! وما أقلهما فيما غاب عنا منه! وما أسبغ نعمتك في الدنيا وأحقرها في نعيم الآخرة! وما أشدّ عقوبتك في الدنيا وما أيسرها في عقوبة الآخرة! وما الذي نرى من خلقك، ونعتبر من قدرتك.
ونصف من سلطانك فيما يغيب عنا منه مما قصرت أبصارنا عنه وكانت عقولنا دونه، وحالت الغيوب بيننا وبينه، فمن قرع سنه وأعمل فكره كيف أقمت عرشك، وكيف ذرأت خلقك، وكيف علقت في الهواء سمواتك، وكيف مددت أرضك- يرجع طرفه حاسرا، وعقله مبهورا، وسمعه والها، وفكره متحيرا؛ فكيف يطلب علم ما قبل ذلك من شأنك إذ أنت وحدك في الغيوب التي لم يكن فيها غيرك، ولم يكن لها سواك؟ لا أحد شهدك حين فطرت «2» الخلق، ولا أحد حضرك حين ذرأت «3» النفوس، فكيف لا يعظم شأنك عند من عرفك، وهو يرى من خلقك ما ترتاع به عقولهم، ويملأ قلوبهم، من رعد تفزع له القلوب، وبرق يخطف الأبصار، وملائكة خلقتهم وأسكنتهم سمواتك، وليست فيهم فترة، ولا عندهم غفلة، ولا بهم معصية؛(4/167)
هم أعلم خلقك بك، وأخوفهم لك، وأقومهم بطاعتك، ليس يغشاهم نوم العيون، ولا سهو العقول؛ لم يسكنوا الأصلاب، ولم تضمّهم الأرحام؛ أنشأتهم إنشاء، وأسكنتهم سمواتك، وأكرمتهم بجوارك، وائتمنتهم على وحيك، وجنبتهم الآفات، ووقيتهم السيئات، وطهرتهم من الذنوب؛ فلولا تقويتك لم يقووا، ولولا تثبيتك لم يثبتوا، ولولا رهبتك لم يطيعوا، ولولاك لم يكونوا؛ أما إنهم على مكانتهم منك، ومنزلتهم عندك، وطول طاعتهم إياك- لو يعانون ما يخفي عليهم لاحتقروا أعمالهم، ولعلموا أنهم لم يعبدوك حقّ عبادتك؛ فسبحانك خالقا ومعبودا ومحمودا، بحسن بلائك عند خلقك! أنت خلقت ما دبرته مطعما ومشربا، ثم أرسلت داعيا إلينا، فلا الداعي أجبنا، ولا فيما رغّبتنا فيه رغبنا، ولا إلى ما شوّقتنا إليه اشتقنا؛ أقبلنا كلنا على جيفة نأكل منها ولا نشبع وقد زاد بعضنا على بعض حرصا لما يرى بعضنا من بعض، فافتضحنا بأكلها واصطلحنا على حبها، فأعمت أبصار صالحينا وفقهائنا، فهم ينظرون بأعين غير صحيحة، ويسمعون بآذان غير سميعة، فحيثما زالت زالوا معها، وحيثما مالت أقبلوا إليها، وقد عاينوا المأخوذين على الغرّة كيف فجأتهم الأمور، ونزل بهم المحذور، وجاءهم من فراق الأحبة ما كانوا يتوقعون، وقدموا من الآخرة ما كانوا يوعدون: فارقوا الدنيا وصاروا إلى القبور، وعرفوا ما كانوا فيه من الغرور، فاجتمعت عليهم حسرتان: حسرة الفوت «1» وحسرة الموت، فاغبرت لها وجوههم وتغيرت بها ألوانهم، وعرقت بها جباههم، وشحصت أبصارهم، وبردت أطرافهم، وحيل بينهم وبين المنطق، وإن أحدهم لبين أهله، ينظر ببصره، ويسمع بأذنه؛ ثم زاد الموت في جده حتى خالط بصره، فذهبت من الدنيا معرفته، وهلكت عند ذلك حجته، وعاين هول أمر كان مغطى عليه فأحدّ لذلك بصره؛ ثم زاد الموت في جده حتى بلغت نفسه الحلقوم، ثم خرج من جسده فصار جسدا ملقى لا يجيب داعيا، ولا يسمع باكيا؛ فنزعوا ثيابه وخاتمه، ثم وضّئوه وضوء الصلاة، ثم غسلوه وكفنوه إدراجا في أكفانه وحنطوه، ثم حملوه إلى قبره، فدلوه في حفرته، وتركوه(4/168)
مخلى بمفظعات من الأمور، وتحت مسألة منكر ونكير، مع ظلمة وضيق ووحشة قبر، فذاك مثواه حتى يبلى جسده ويصير ترابا؛ حتى إذا بلغ الأمر إلى مقداره، وألحق آخر الخلق بأوله، وجاءه أمر من خالقه، أراد به تجديد خلقه- أمر بصوت من سمواته فمارت السموات مورا «1» ، وفزع من فيها، وبقي ملائكتها على أرجائها، ثم وصل الأمر إلى الأرض، والخلق رفات لا يشعرون فأرج أرضهم وأرجفها وزلزلها، وقلع جبالها ونسفها وسيّرها، ودكّ بعضها بعضا من هيبته وجلاله، وأخرج من فيها فجدّدهم بعد بلائهم، وجمعهم بعد تفرّقهم، يريد أن يحصيهم ويميزهم، فريقا في ثوابه، وفريقا في عقابه، فخلد الأمر لأبده، دائما خيره وشره، ثم لم ينس الطاعة من المطيعين، ولا المعصية من العاصين، فأراد عز وجل أن يجازي هؤلاء، وينتقم من هؤلاء، فأثاب أهل الطاعة بجواره، وحلول داره، وعيش رغد، وخلود أبد، ومجاورة للرب، وموافقة محمد صلّى الله عليه وسلم، حيث لا ظعن ولا تغيّر؛ وحيث لا تصيبهم الأحزان، ولا تعترضهم الأخطار؛ ولا تشخصهم «2» الأسفار؛ وأما أهل المعصية فخلدهم في النار، وأوثق منهم الأقدام وغلّ منهم الأيدي إلى الأعناق؛ في لهب قد اشتد حره، ونار مطبقة على أهلها لا يدخل عليها بها روح، همّهم شديد، وعذابهم يزيد، ولا مدة للدار تنقضي، ولا أجل للقوم ينتهي.
اللهم إني أسألك بأن لك الفضل والرحمة بيدك، فأنت وليهما لا يليهما أحد غيرك، وأسألك باسمك لمخزون المكنون، الذي قام به عرشك وكرسيّك وسمواتك وأرضك، وبه ابتدعت خلقك- الصلاة على محمد، والنجاة من النار برحمتك، آمين؛ إنك وليّ كريم.
وخطب أيضا فقال: أيها الناس احفظوا عني خمسا فلو شددتم إليها المطايا حتى تنضوها لم تظفروا بمثلها: ألا لا يرجونّ أحدكم إلا ربّه، ولا يخافنّ إلا ذنبه ولا يستحي أحدكم إذا لم يعلم أن يتعلم، وإذا سئل عما لا يعلم أن يقول لا أعلم، ألا وإن(4/169)
الخامسة الصبر، فإن الصبر من الإيمان بمنزلة الرأس من الجسد؛ من لا صبر له لا إيمان له، ومن لا رأس له لا جسد له: ولا خير في قراءة إلا بتدبّر ولا في عبادة إلا بتفكّر، ولا في حلم إلا بعلم؛ ألا أنبئكم بالعالم كل العالم؟ من لم يزين لعباد الله معاصي الله، ولم يؤمّنهم مكره، ولم يؤيسهم من روحه. لا تنزلوا المطيعين الجنة ولا المذنبين الموحدين النار حتى يضي الله فيهم بأمره؛ ولا تأمنوا على خير هذه الأمة عذاب الله؛ فإنه يقول: فَلا يَأْمَنُ مَكْرَ اللَّهِ إِلَّا الْقَوْمُ الْخاسِرُونَ
«1» ولا تقنطوا شر هذه الأمة من رحمة الله، ف إِنَّهُ لا يَيْأَسُ مِنْ رَوْحِ اللَّهِ إِلَّا الْقَوْمُ الْكافِرُونَ
«2» .
ومن كلامه رضوان الله عليه: قال ابن عبّاس: لما فرغ عليّ بن أبي طالب رضي الله عنه من وقعة الجمل، دعا بآجرّتين فعلاهما، ثم حمد الله وأثنى عليه، ثم قال:
يا أنصار المرأة وأصحاب البهيمة! رغا فأجبتم وعقر فهربتم؛ دخلت شرّ بلاد [أقربها من الماء، و] أبعدها من السماء. بها يغيض كل ماء، ولها شرّ أسماء: هي البصرة، والبصيرة، والمؤتفكة، وتدمر. أين ابن عبّاس؟ فدعيت. فقال لي: مر هذه المرأة فلترجع إلى بيتها الذي أمرت أن تقرّ فيه.
وتمثل علي بن أبي طالب رضي الله عنه بعد الحكمين:
زللت فيكم زلّة فأعتذر ... سوف أكيس بعدها وأشتمر «3»
وأجمع الأمر الشّتيت المنتشر
خطب معاوية
قال القحذمي: لما قدم معاوية المدينة عام الجماعة تلقّاه رجال قريش فقالوا: الحمد لله الذي أعز نصرك، وأعلى كعبك. قال: فوالله ما ردّ عليهم شيئا حتى صعد المنبر؛ فحمد الله وأثنى عليه، ثم قال:(4/170)
أما بعد فإني والله ما وليتها بمحبة علمتها منكم ولا مسرّة بولايتي، ولكني جالدتكم بسيفي هذا مجالدة، ولقد رضت لكم نفسي على عمل ابن أبي قحافة، وأردتها على عمل عمر، فنفرت من ذلك نفارا شديدا؛ وأردتها مثل ثنيّات «1» عثمان، فأبت عليّ؛ فسلكت بها طريق لي ولكم فيه منفعة: مؤاكلة حسنة، ومشاربة جميلة؛ فإن لم تجدوني خيركم فإني خير لكم ولاية؛ والله لا أحمل السيف على من لا سيف له، وإن لم يكن منكم إلا ما يستشفى به القائل بلسانه، فقد جعلت ذلك له دبر أذني وتحت قدمي؛ وإن لم تجدوني أقوم بحقكم كله فاقبلوا مني بعضه، فإن أتاكم مني خير فاقبلوه، فإن السيل إذا زاد عنّى، وإذا قلّ أغنى «2» ؛ وإياكم والفتنة، فإنها تفسد المعيشة، وتكدّر النعمة. ثم نزل.
خطبة أيضا لمعاوية
حمد الله وأثنى عليه، ثم صلى على النبي صلّى الله عليه وسلم، ثم قال:
أما بعد، أيها الناس، إنا قدمنا عليكم، وإنما قدمنا على صديق مستبشر، أو على عدو مستتر، وناس بين ذلك ينظرون وينتظرون فَإِنْ أُعْطُوا مِنْها رَضُوا وَإِنْ لَمْ يُعْطَوْا مِنْها إِذا هُمْ يَسْخَطُونَ
«3» ولست واسعا كلّ الناس؛ فإن كانت محمدة فلا بدّ من مذمة، فلونا هونا إذا ذكر غفر؛ وإياكم والتي إن أخفيت أو بقت، وإن ذكرت أوثقت. ثم نزل.
وخطبة أيضا لمعاوية
صعد منبر المدينة، فحمد الله وأثنى، ثم قال:
يا أهل المدينة، إني لست أحب أن تكونوا خلقا كخلق العراق؛ يعيبون الشيء وهم فيه، كل امرىء منهم شيعة نفسه، فاقبلونا بما فينا فإن ما وراءنا شرّ لكم، وإن(4/171)
معروف زماننا هذا منكر زمان قد مضى، ومنكر زماننا معروف زمان لم يأت، ولو قد أتى فالرّتق خير من الفتق، وفي كلّ بلاغ، ولا مقام على الرزية.
وخطبة لمعاوية أيضا
قال العتبي: خطب معاوية الجمعة في يوم صائف شديد الحر، فحمد الله وأثنى عليه، وصلى على رسوله صلّى الله عليه وسلم، ثم قال:
إن الله عز وجل خلقكم فلم ينسكم، ووعظكم فلم يهملكم، فقال: يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ حَقَّ تُقاتِهِ وَلا تَمُوتُنَّ إِلَّا وَأَنْتُمْ مُسْلِمُونَ
«1» . قوموا إلى صلاتكم.
ومما ذكر لعبيد الله بن زياد عند معاوية
قال ابن دأب: لما قدم عبيد الله بن زياد على معاوية بعد هلاك زياد فوجده لاهيا عنه أنكره، فجعل يتصدّى له بخلوة ليسبر من رأيه ما كره أن يشرك به عمله، فاستأذن عليه بعد انصداع الطّلاب وإشغال «2» الخاصة وافتراق العامة، وهو يوم معاوية الذي كان يخلو فيه بنفسه، ففطن معاوية لما أراد، فبعث إلى ابنه يزيد، وإلى مروان بن الحكم، وإلى سعيد بن العاص، وعبد الرحمن بن الحكم، وعمرو بن العاص، فلما أخذوا مجالسهم أذن له، فسلم ووقف واجما يتصفح وجوه القوم، ثم قال:
صريح العقوق مكاتمة الأدنين، لا خير في اختصاص وإن وفر «3» ، أحمد الله إليكم على الآلاء «4» ، وأستعينه على اللأواء»
، وأستهديه من عمى مجهد، وأستعينه على عدو مرصد، وأشهد أن لا إله إلا الله المنقذ بالأمين الصادق من شقاء هاو، ومن غواية غاو، وصلوات الله على الزكي، نبيّ الرحمة، ونذير الأمّة، وقائد الهدى؛ أمّا بعد يا أمير المؤمنين، فقد عسف بنا ظنّ فرّع «6» ، وفزع صدّع، حتى طمع السحيق،(4/172)
وبئس الرفيق، ودب الوشاة بموت زياد، فكلهم متحفّز للعداوة، وقد قلّص الإزرة «1» ، وشمّر عن عطافه «2» ، ليقول؛ مضى زياد بما استلحق به، وولّى على الدنية من مستلحقه. فليت أمير المؤمنين سلم في دعته، وأسلم زيادا في ضعته، فكان ترب عامّته، وواحد رعيّته، فلا تشخص إليه عين ناظر ولا أصبع مشير، ولا تذلق «3» عليه ألسن كلمته حيا ونبشته ميتا، فإن تكن يا أمير المؤمنين حاببت زيادا بولاء رفات، ودعوة أموات، فقد حاباك زياد بجدّ هصور وعزم جسور، حتى لانت شكائم الشّرس، وذلت صعبة الأشوس، وبذل لك يا أمير المؤمنين يمينه ويساره، تأخذ بهما المنيع، وتقهر بهما البزيع «4» ، حتى مضى والله يغفر له؛ فإن يكن زياد أخذ بحق فأنزلنا منازل الأقربين يا أمير المؤمنين نمشي الضّرّاء «5» وندبّ الخفاء «6» ، ولنا من خيرك أكمله، وعليك من حوبنا «7» أثقله، وقد شهد القوم، وما ساءني قربهم ليقرّوا حقا، ويردّوا باطلا؛ فإنّ للحقّ منارا واضحا، وسبيلا قصدا؛ فقل يا أمير المؤمنين بأي أمريك شئت، فما نأرز «8» إلى غير جحرنا، ولا نستكثر بغير حقنا، وأستغفر الله لي ولكم.
قال: فنظر معاوية في وجوه القوم كالمتعجب، فتصفّحهم بلحظه رجلا رجلا وهو متبسم، ثم اتجه تلقاءه وعقد حبوته وحسر عن يده وجعل يوميء بها نحوه، ثم قال معاوية:
الحمد لله على ما نحن فيه؛ فكل خير منه، وأشهد أن لا إله إلا الله؛ فكل شيء خاضع له، وأنّ محمدا عبده ورسوله، دلّ على نفسه بما بان عن عجز الخلق أن يأتوا بمثله، فهو خاتم النبيين، ومصدّق المرسلين، وحجة رب العالمين، صلوات الله عليه وسلامه وبركاته، أمّا بعد، فرب خير مستور، وشر مذكور، وما هو إلا السهم الأخيب لمن طار به، والحظ المرغب لمن فاز به، فيهما التفاضل، وفيهما التغابن، وقد(4/173)
صفقت يداي في أبيك صفقة «1» ذي الخلة من ضوارع «2» الفصلان، عامل اصطناعي له بالكفر لما أوليته، فما رميت به إلا انتصل «3» ، ولا انتضيته إلا غلّق جفنه، وزلّت شفرته، ولا قلت إلا عاند، ولا قمت إلا قعد، حتى اخترمه الموت، وقد أوقع بختره «4» ، ودل على حقده، وقد كنت رأيت في أبيك رأيا حضره الخطل، والتبس به الزلل، فأخذ مني بحظ الغفلة، وما أبريء نفسي، إنّ النفس لأمّارة بالسوء؛ فما برحت هناة أبيك تحطب في جبل القطيعة حتى انتكث المبرم. وانحل عقد الوداد. فيا لها توبة تؤتنف من حوبة «5» أورثت ندما أسمع بها الهاتف وشاعت للشامت؛ فليهنأ الواصم «6» ما به احتقر؛ وأراك تحمد من أبيك جدا وجسورا: هما أوفيا به على شرف التقحم. وغمط النعمة؛ فدعهما فقد أذكرتنا منه ما زهّدنا فيك من بعده، وبهما مشيت الضرّاء ودببت الخفاء؛ فاذهب إليك، فأنت نجل الدّغل «7» ، وعترة النّغل؛ والأخر شرّ.
فقال يزيد: يا أمير المؤمنين، إنّ للشاهد غير حكم الغائب، وقد حضرك زياد، وله مواطن معدودة بخير، لا يفسدها التظنّي ولا تغّيرها التهم، وأهلوه أهلوك التحقوا بك، وتوسطوا شأنك، فسافرت به الرّكبان، وسمعت به أهل البلدان، حتى اعتقده الجاهل، وشك فيه العالم، فلا يتحجّر يا أمير المؤمنين ما قد اتسع، وكثرت فيه الشهادات، وأعانك عليه قوم آخرون.
فانحرف معاوية إلى من معه فقال: هذا، وقد نفس عليه «8» ببيعته، وطعن في إمرته، يعلم ذلك كما أعلمه؛ يا للرجال من آل أبي سفيان! لقد حكموا وبذّهم يزيد وحده.
ثم نظر إلى عبيد الله فقال: يا ابن أخي، إني لأعرف بك من أبيك، وكأني بك(4/174)
في غمرة لا يخطوها السابح؛ فالزم ابن عمك، فإنّ لما قال حقا.
فخرجوا، ولزم عبيد الله يزيد يرد مجلسه ويطأ عقبه أياما، حتى رمى به معاوية إلى البصرة واليا عليها. ثم لم تزل توكسه أفعاله حتى قتله الله بالخازر «1» .
وخطبة لمعاوية أيضا
قال الهيثم بن عدي: لما حضرت معاوية الوفاة ويزيد غائب، دعا بمسلم بن عقبة المرّي، والضحاك بن قيس الفهري، وقال لهما: أبلغا عني يزيد وقولا له: انظر أهل الحجاز فهم عصابتك وعترتك فمن أتاك منهم فأكرمه ومن قعد عنك فتعاهده؛ وانظر أهل العراق، فإن سألوك عزل عامل في كل يوم فاعزله عنهم، فإن عزل عامل واحد أهون عليك من سلّ مائة ألف سيف، ثم لا ندري علام أنت عليه منهم؛ ثم انظر أهل الشام، فاجعلهم الشعار دون الدّثار، فإن رابك من عدوّ ريب فارمه بهم فإن أظفرك الله فاردد أهل الشام إلى بلادهم، لا يقيموا في غير بلادهم فيتأدبوا بغير آدابهم؛ ولست أخاف عليك غير عبد لله بن عمر، وعبد الله بن الزبير. والحسين بن علي؛ فأما عبد الله بن عمر فرجل قد وقذه «2» الورع، وأما الحسين فأرجو أن يكفيكه الله بمن قتل أباه وخذل أخاه وأما ابن الزبير فإنه خب ضب «3» ، فإن ظفرت به فقطعه إربا إربا.
ومات معاوية؛ فقام الضحاك بن قيس خطيبا فقال:
إن أمير المؤمنين كان أنف العرب، وهذه أكفانه ونحن مدرجوه فيها ومخلّون بينه وبين ربه: فمن أراد حضوره بعد الظهر فليحضر.
وصلى عليه الضحاك. ثم قدم يزيد؛ فلم يقدم أحد على تعزيته حتى دخل عليه عبد الله بن همام فأنشأ يقول:(4/175)
اصبر يزيد فقد فارقت ذا مقة ... واشكر حباء الذي بالملك حاباكا
لارزء أعظم في الأقوام قد علموا ... ممّا رزئت ولا عقبى كعقباكا
أصبحت راعي أهل الدين كلّهم ... فأنت ترعاهم والله يرعاكا
وفي معاوية الباقي لنا خلف ... أمّا نعيت فلا يسمع بمنعاكا
قال فانفتح الخطباء بالكلام.
وخطبة أيضا لمعاوية
ولما مرض معاوية مرض وفاته قال لمولى له: من بالباب؟ قال: نفر من قريش يتباشرون بموتك! قال: ويحك! لم؟ فوالله ما لهم بعدي إلا الذي يسوءهم وأذن للناس فدخلوا، فحمد الله وأثنى عليه وأوجز، ثم قال:
أيها الناس، إنا قد أصبحنا في دهر عنود، وزمن شديد، يعد فيه المحسن مسيئا، ويزداد الظالم فيه عتوا، لا ننتفع بما علمنا، ولا نسأل عما جهلنا، ولا نتخوّف قارعة حتى تحل بنا، فالناس على أربعة أصناف: منهم من لا يمنعه من الفساد في الأرض إلا مهانة نفسه، وكلال حده، ونضيض وفره؛ ومنهم المصلت لسيفه، المجلب برجله، المعلن بشرّه؛ قد أشرط «1» نفسه، وأوبق دينه «2» : لحطام ينتهزه، أو مقنب «3» يقوده، أو منبر يفرعه «4» ؛ ولبئس المتجر أن تراهما لنفسك ثمنا، ومما لك عند الله عوضا- ومنهم من يطلب الدنيا بعمل الآخرة، ولا يطلب الآخرة بعمل الدنيا؛ قد طامن من شخصه، وقارب من خطوه، وشمر عن ثوبه، وزخرف نفسه للأمانة، واتخذ ستر الله ذريعة إلى المعصية؛ ومنهم من أقعده عن طلب الملك ضئولة نفسه، وانقطاع سببه، فقصرت به الحال عن أمله؛ فتحلى باسم القناعة، وتزيّا بلباس الزهادة؛ وليس من ذلك في مراح ولا مغدى؛ وبقي رجال غض أبصارهم ذكر المرجع، وأراق دموعهم(4/176)
خوف المضج؛ فهم بين شريد باد، وبين خائف منقمع وساكت مكعوم «1» ، وداع مخلص، وموجع ثكلان؛ قد أخملتهم التّقيّة، وشملتهم الذلة؛ فهم في بحر أجاج؛ أفواههم ضامرة، وقلوبهم قرحة؛ قد وعظوا حتى ملوا، وقهروا حتى ذلوا؛ وقتلوا حتى قلّوا؛ فلتكن الدنيا في أعينكم أصغر من حثالة القرظ «2» ، وقراضة الجلمين؛ واتعظوا بمن كان قبلكم قبل أن يتعظ بكم من بعدكم، وارفضوها ذميمة، فقد رفضت من كان أشغف بها منكم.
وليزيد بن معاوية بعد موت أبيه
الحمد لله الذي ما شاء صنع، من شاء أعطى ومن شاء منع، ومن شاء خفض ومن شاء رفع. إن أمير المؤمنين كان حبلا من حبال الله، مدّه ما شاء أن يمده، ثم قطعه حين أراد أن يقطعه؛ وكان دون من قبله، وخيرا مما يأتي بعد، ولا أزكّيه عند ربه وقد صار إليه؛ فإن يعف عنه فبرحمته، وإن يعاقبه فبذنبه؛ وقد وليت بعده الأمر، ولست أعتذر من جهل، ولا أني على طلب علم؛ وعلى رسلكم «3» إذا كره الله شيئا غيره؛ وإذا أحب شيئا يسّره.
وخطبة ليزيد أيضا
الحمد لله أحمده وأستعينه، وأومن به وأتوكل عليه، ونعوذ بالله من شرور أنفسنا، ومن سيئات أعمالنا؛ من يهد الله فلا مضلّ له، ومن يضلل فلا هادي له؛ وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأن محمدا عبده ورسوله، اصطفاه لوحيه، واختاره لرسالته، بكتاب فصّله وفضّله، وأعزّه وأكرمه، ونصره وحفظه؛ ضرب فيه الأمثال، وحلّل فيه الحلال وحرّم فيه الحرام وشرع فيه الدين إعذارا وإنذارا: لئلا يكون للناس على الله حجّة بعد الرسل، ويكون بلاغا لقوم عابدين.
أوصيكم عباد الله بتقوى الله العظيم الذي ابتدأ الأمور بعلمه وإليه يصير معادها،(4/177)
وانقطاع مدتها، وتصرم دارها. ثم إني أحذّركم الدنيا. فإنها حلوة خضرة، حفّت بالشهوات، وراقت بالقليل، وأينعت بالفاني، وتحببت بالعاجل. لا يدوم نعيمها، ولا تؤمن فجيعتها، أكّالة عوّالة غرّارة. لا تبقي على حال. ولا يبقى لها حال. لن تعدو الدنيا- إذا تناهت إلى أمنّية أهل الرغبة فيها. والرضا بها- أن تكون كما قال الله عز وجل: وَاضْرِبْ لَهُمْ مَثَلَ الْحَياةِ الدُّنْيا كَماءٍ أَنْزَلْناهُ مِنَ السَّماءِ فَاخْتَلَطَ بِهِ نَباتُ الْأَرْضِ فَأَصْبَحَ هَشِيماً تَذْرُوهُ الرِّياحُ وَكانَ اللَّهُ عَلى كُلِّ شَيْءٍ مُقْتَدِراً
«1» . نسأل الله ربّنا وإلهنا وخالقنا ومولانا أن يجعلنا وإياكم من فزع يومئذ آمنين.
إن أحسن الحديث وأبلغ الموعظة كتاب الله، يقول الله: وَإِذا قُرِئَ الْقُرْآنُ فَاسْتَمِعُوا لَهُ وَأَنْصِتُوا لَعَلَّكُمْ تُرْحَمُونَ
«2» . أعوذ بالله من الشيطان الرجيم بسم الله الرحمن الرحيم: لَقَدْ جاءَكُمْ رَسُولٌ مِنْ أَنْفُسِكُمْ عَزِيزٌ عَلَيْهِ ما عَنِتُّمْ حَرِيصٌ عَلَيْكُمْ بِالْمُؤْمِنِينَ رَؤُفٌ رَحِيمٌ فَإِنْ تَوَلَّوْا فَقُلْ حَسْبِيَ اللَّهُ لا إِلهَ إِلَّا هُوَ عَلَيْهِ تَوَكَّلْتُ وَهُوَ رَبُّ الْعَرْشِ الْعَظِيمِ
«3» .
خطب بني مروان
خطبة عبد الملك بن مروان
وكان عبد الملك بن مروان يقول في آخر خطبته: اللهم إن ذنوبي قد عظمت وجلّت أن تحصى، وهي صغيرة في جنب عفوك فاعف عني.
وخطب بمكة شرفها الله تعالى فقال في خطبته:
إني والله ما أنا بالخليفة المستضعف- يعني عثمان- ولا بالخليفة المداهن يعني معاوية- ولا بالخليفة المأفون- يعني يزيد.
قال أبو إسحاق النظام: أما والله لولا نسبك من هذا المستضعف، وسببك من(4/178)
هذا المداهن؛ لكنت منها أبعد من العيّوق «1» . والله ما أخذتها بوراثة، ولا سابقة ولا قرابة، ولا بدعوى شورى، ولا بوصية.
خطبة الوليد بن عبد الملك
لما مات عبد الملك بن مروان، رجع الوليد من دفن عبد الملك لم يدخل منزله حتى دخل المسجد، ونادى في الناس: الصلاة جامعة! فصعد المنبر، فحمد الله وأثنى عليه، ثم قال: أيها الناس، لا مؤخّر لما قدّم الله، ولا مقدّم لما أخّر الله، وقد كان من قضاء الله وسابق علمه وما كتب على أنبيائه وحملة عرشه من الموت، موت وليّ هذه الأمة، ونحن نرجو أن يصير إلى منازل الأبرار، للذي كان عليه من الشدة على المريب، واللين على أهل الفضل والدين، مع ما أقام من منار الإسلام وأعلامه، وحجّ هذا البيت، وغزو هذه الثغور، وشنّ الغارات على أعداء الله؛ فلم يكن فيها عاجزا، ولا وانيا، ولا مفرطا؛ فعليكم أيها الناس بالطاعة ولزوم الجماعة؛ فإن الشيطان مع الفذ»
، وهو من الجماعة أبعد واعلموا أنه من أبدى لنا ذات نفسه ضربنا الذي فيه عيناه، ومن سكت مات بدائه. ثم نزل.
وخطب سليمان بن عبد الملك
فقال: الحمد لله، ألا إنّ الدنيا دار غرور، ومنزل باطل، تضحك باكيا، وتبكي ضاحكا، وتخيف آمنا، وتؤمّن خائفا، وتفقر مثريا، وتثري مقترا ميّالة، غرارة، لعّابة بأهلها. عباد الله، فاتخذوا كتاب الله إماما، وارتضوا به حكما. واجعلوه لكم قائدا. فإنه ناسخ لما كان قبله، ولم ينسخه كتاب [بعده] واعلموا عباد الله أن هذا القرآن يجلو كيد الشيطان كما يجلو ضوء الصبح إذا تنفس ظلام الليل إذا عسعس «3» .
وخطب عمر بن عبد العزيز رحمه الله ورضي عنه
قال العتبي: أول خطبة خطبها عمر بن عبد العزيز رحمه الله قوله: أيها الناس(4/179)
أصلحوا سرائركم تصلح لكم علانيتكم، وأصلحوا آخرتكم تصلح دنياكم، وإن امرأ ليس بينه وبين آدم أب حي لمعرق في الموت.
وخطبة له رحمه الله
وإن لكل سفر زادا لا محالة. فتزودوا [لسفركم] من دنياكم لآخرتكم التقوى، وكونوا كمن عاين ما أعد الله له من ثوابه وعقابه، فرهبوا ورغبوا. ولا يطولن عليكم الأمد، فتقسو قلوبكم وتنقادوا لعدوّكم. فإنه ما بسط أمل من لا يدري لعله لا بصبح بعد إمسائه أو يمسي بعد إصباحه. وربما كانت بين ذلك خطرات المنايا، وإنما يطمئن إلى الدنيا من أمن عواقبها. فإنّ من يداوي من الدنيا كلما أصابته جراحة من ناحية أخرى، فكيف يطمئن إليها؟ أعوذ بالله أن آمركم بما أنهى عنه نفسي؛ فنخسر صفقتي، وتظهر عيلتي، وتبدو مسكنتي، في يوم لا ينفع فيه إلا الحق والصدق.
ثم بكى وبكى الناس معه.
خطبة لعمر بن عبد العزيز أيضا
شبيب بن شيبة عن أبي عبد الملك قال كنت من حرس الخلفاء قبل عمر، فكنا نقوم لهم ونبدؤهم بالسلام؛ فخرج علينا عمر رضي الله عنه في يوم عيد وعليه قميص كتان وعمامة على قلنسوة لاطئة «1» ، فمثلنا بين يديه وسلمنا عليه، فقال: مه! أنتم جماعة وأنا واحد؛ السلام عليّ والردّ عليكم، وسلم، فرددنا، وقرّبت له دابته، فأعرض عنها، ومشى ومشينا حتى صعد المنبر، فحمد الله وأثنى عليه، وصلى على النبي صلّى الله عليه وسلم، ثم قال: وددت أنّ أغنياء الناس اجتمعوا فردّوا على فقرائهم، حتى نستوي نحن بهم، وأكون أنا أولهم. ثم قال: مالي وللدنيا؟ أم مالي ولها وتكلم فأرقّ حتى بكى الناس جميعا يمينا وشمالا، ثم قطع كلامه ونزل؛ فدنا منه رجاء بن حيوة(4/180)
فقال له: يا أمير المؤمنين، كلمت الناس بما أرقّ قلوبهم وأبكاهم، ثم قطعته أحوج ما كانوا إليه؛ فقال: يا رجاء، اني أكره المباهاة.
خطبة عبد الله بن الأهتم بين يدي عمر بن عبد العزيز
ودخل عبد الله بن الأهتم على عمر بن عبد العزيز مع العامة، فلم يفجأ إلا وهو قائم بين يديه يتكلم؛ فحمد الله وأثنى عليه وقال:
أما بعد، فإن الله خلق الخلق غنيا عن طاعتهم، آمنا من معصيتهم؛ والناس يومئذ في المنازل والرأي مختلفون، والعرب بشر تلك المنازل؛ أهل الوبر وأهل المدر، تحتاز دونهم طيبات الدنيا ورفاهة عيشها؛ ميّتهم في النار وحيهم أعمى، مع ما لا يحصى من المرغوب عنه والمزهود فيه؛ فلما أراد الله أن ينشر فيهم رحمته، بعث إليهم رسولا منهم عزيزا عليه ما عنتوا حريصا عليهم، بالمؤمنين رؤوف رحيم؛ فلم يمنعهم ذلك أن جرحوه في جسمه، ولقبوه في اسمه، ومعه كتاب من الله ناطق، لا يرحل إلا بأمره، ولا ينزل إلا بإذنه، واضطروه إلى بطن غار؛ فلما أمر بالعزيمة أسفر لأمر الله لونه، فأفلج الله حجته، وأعلى كلمته، وأظهر دعوته. وفارق الدنيا تقيا صلّى الله عليه وسلم.
ثم قام من بعده أبو بكر رضي الله عنه، فسلك سنّته وأخذ سبيله؛ وارتدّت العرب فلم يقبل منهم إلا الذي كان رسول الله صلّى الله عليه وسلم يقبله؛ فانتضى السيوف من أغمادها، وأوقد النيران في شعلها، ثم ركب بأهل الحق أهل الباطل، فلم يبرح يفصل أوصالهم ويسقي الأرض دماءهم، حتى أدخلهم في الباب الذي خرجوا منه، وقرّرهم بالأمر الذي نفروا منه؛ وقد كان أصاب من مال الله بكرا «1» يرتوي عليه. وحبشية ترضع ولدا له؛ فرأى ذلك غصّة في حلقه عند موته، وثقلا على كاهله، فأدّاه إلى الخليفة من بعده وبريء إليهم منه، وفارق الدنيا تقيا نقيا على منهاج صاحبه.
ثم قام من بعده عمر بن الخطاب رضي الله عنه؛ فمصر الأمصار، وخلط الشدة(4/181)
باللين، وحسر عن ذراعيه، وشمر عن ساقيه، واعد للأمور أقرانها وللحرب آلتها، فلما أصابه قنّ «1» المغيرة بن شعبة، أمر ابن العباس أن يسأل الناس هل يثبتون قاتله؟
فلما قيل له قنّ المغيرة استهل «2» بحمد الله أن لا يكون أصابه من له حق في الفيء، فيستحل دمه بما استحل من حقه؛ وقد كان أصاب من مال الله بضعة وثمانين ألفا فكسر بها رباعه «3» ، وكره بها كفالة أهله وولده، فأدّى ذلك إلى الخليفة من بعده، وفارق الدنيا تقيا نقيا على منهاج صاحبه.
ثم إنّا والله ما اجتمعنا بعدهما إلا على ضلع أعوج، ثم إنك يا عمر ابن الدنيا ولدتك ملوكها، وألقمتك ثديها، فلما وليتها ألقيتها وأحببت لقاء الله وما عنده؛ فالحمد لله الذي جلا بك حوبتنا، وكشف بك كربتنا. امض ولا تلتفت، فإنه لا يغني عن الحق شيء، أقول قولي هذا وأستغفر الله لي ولكم وللمؤمنين وللمؤمنات.
ولما قال: ثم إنا والله ما اجتمعنا بعدهما إلا على ضلع أعوع. سكت الناس كلهم غير هشام، فإنه قال: كذبت!
وخطبة أيضا لعمر بن عبد العزيز
قال أبو الحسن: خطب عمر بن عبد العزيز بخناصرة «4» خطبة لم يخطب بعدها حتى مات، رحمه الله. حمد الله وأثني عليه، ثم قال:
أيها الناس، إنكم لم تخلقوا عبثا، ولم تتركوا سدى؛ وإن لكم معادا يحكم الله بينكم فيه، فخاب وخسر من خرج من رحمة الله التي وسعت كل شيء، وحرم جنة عرضها السموات والأرض، واعلموا أن الأمان غدا لمن خاف اليوم وباع قليلا بكثير، وفانيا بباق، ألا ترون أنكم في أسلاب الهالكين، وسيخلّفها من بعدكم الباقون [كذلك] حتى تردوا إلى خير الوارثين؛ ثم إنكم في كل يوم تشيّعون غاديا ورائحا(4/182)
إلى الله، قد قضى نحبه، وبلغ أجله، ثم تغيّبونه في صدع من الأرض، ثم تدعونه غير موسّد ولا ممهّد، قد خلع الأسباب، وفارق الأحباب وواجه الحساب، [مرتهنا بعمله] ، غنيا عما ترك، فقيرا إلى ما قدّم؛ وايم الله إني لا أقول لكم هذه المقالة وما أعلم عند أحد منكم [من الذنوب] أكثر مما عندي، فأستغر الله لي ولكم، وما تبلغنا [عن أحد منكم] حاجة يتسع لها ما عندنا إلا سددناها، ولا أحد منكم إلا ووددت أن يده مع يدي ولحمتي الذين يلونني، حتى يستوي عيشنا وعيشكم؛ وايم الله إني لو أردت غير هذا من عيش أو غضارة لكان اللسان به ناطقا ذلولا، عالما بأسبابه؛ ولكنه مضى من الله كتاب ناطق وسنة عادلة، دل فيها على طاعته، ونهى عن معصيته.
ثم بكى، فتلقى دموع عينيه بردائه؛ فلم ير بعدها على تلك الأعواد حتى قبضه الله تعالى.
خطبة يزيد بن الوليد حين قتل الوليد بن يزيد
بقيّ بن مخلد قال: حدّثني خليفة بن خياط، قال: حدّثنا إسماعيل بن إبراهيم قال:
حدّثني إبراهيم بن إسحق أن يزيد بن الوليد لما قتل الوليد بن يزيد قام خطيبا، فحمد الله وأثنى عليه، ثم قال: أما بعد، أيها الناس، إني ما خرجت أشرا ولا بطرا، ولا حرصا على الدنيا، ولا رغبة في الملك؛ وما بي إطراء نفسي ولا تزكية عملي، وإني لظلوم لنفسي إن لم يرحمني ربي، ولكني خرجت غضبا لله ودينه، وداعيا إلى كتابه وسنة نبيه، حين درست «1» معالم الهدى، وطفيء نور أهل التقوى، وظهر الجبار العنيد المستحيل الحرمة، والراكب البدعة والمغيّر السنة، فلما رأيت ذلك أشفقت إذ غشيتكم ظلمة لا تقتلع، على كثير من ذنوبكم وقسوة من قلوبكم. وأشفقت أن يدعو كثيرا من الناس إلى ما هو عليه، فيجيبه من أجابه منكم؛ فاستخرت الله في(4/183)
أمري، وسألته أن لا يكلني إلى نفسي؛ وهو ابن عمي في نسبي، وكفئي في حسبي؛ فأراح الله منه العباد، وطهر منه البلاد، ولاية من الله وعونا بلا حول منا ولا قوة، ولكن بحول الله وقوته وولايته وعونه.
أيها الناس. إن لكم عليّ إن وليت أموركم أن لا أضع لبنة على لبنة ولا حجرا على حجر، ولا أنقل مالا من بلد إلى بلد حتى أسد فقره [وخصاصة أهله] ، وأقيم مصالحه، بما يحتاجون إليه ويقوون به؛ فإن فضل شيء رددته إلى البلد الذي يليه وهو من أحوج البلدان إليه، حتى تستقيم المعيشة بين المسلمين وتكونوا فيه سواء، ولا أجمّركم «1» في بعوثكم فتفتقدوا وتفتتن أهاليكم؛ فإن أردتم بيعتي على الذي بذلت لكم فأنا لكم به، وإن ملت فلا بيعة لي عليكم؛ وإن رأيتم أحدا أقوى عليها مني فأردتم بيعته، فأنا أول من يبايعه ويدخل في طاعته؛ أقول قولي هذا وأستغفر الله لي ولكم.
خطب بني العباس
العتبي قال: قيل لمسلمة بن هلال العبدي: خطبنا جعفر بن سليمان الهاشمي خطبة لم يسمع أحسن منها، وما درينا أوجهه كان أحسن أم كلامه! قال: أولئك قوم بنور الخلافة يشرقون، وبلسان النّبوة ينطقون.
خطبة أبي العباس السفاح بالشام
خطب أبو العباس عبد الله بن محمد بن علي، لما قتل مروان بن محمد قال: أَلَمْ تَرَ إِلَى الَّذِينَ بَدَّلُوا نِعْمَتَ اللَّهِ كُفْراً وَأَحَلُّوا قَوْمَهُمْ دارَ الْبَوارِ، جَهَنَّمَ يَصْلَوْنَها وَبِئْسَ الْقَرارُ
«2» نكص بكم يا أهل الشام آل حرب وآل مروان، يتسكعون بكم الظلم، ويتهوّرون بكم مداحض الزلق، يطئون بكم حرم الله وحرم رسوله. ماذا يقول(4/184)
زعماؤكم غدا؟ يقولون: رَبَّنا هؤُلاءِ أَضَلُّونا فَآتِهِمْ عَذاباً ضِعْفاً مِنَ النَّارِ
«1» إذا يقول الله عز وجل: لِكُلٍّ ضِعْفٌ وَلكِنْ لا تَعْلَمُونَ
«2» أما أمير المؤمنين فقد ائتنف «3» بكم التوبة، واغتفر لكم الزّلة، وبسط لكم الإقامة، وعاد بفضله على نقصكم وبحلمه على جهلكم، فلتفرخ روعكم ولتطمئن به داركم، وليقطع مصارع أوائلكم فتلك بيوتهم خاوية بما ظلموا.
خطب المنصور
خطب أبو جعفر المنصور، واسمه عبد الله بن محمد بن علي. لما قتل الأمويين، فقال:
أحرز لسان رأسه. انتبه امرؤ لحظه. نظر امرؤ في يومه لغده؛ فمشى القصد وقال الفصل، وجانب الهجر.
ثم أخذ بقائم سيفه، فقال: أيها الناس، إن بكم داء هذا دواؤه، وأنا زعيم لكم بشفائه؛ فليعتبر عبد قبل أن يعتبر به: فإنما بعد الوعيد الإيقاع وإنما يفتري الكذب الذين لا يؤمنون بآيات الله.
خطبة المنصور حين خروجه إلى الشام
شنشنة «4» أعرفها من أخزم ... من يلق أبطال الرجال يكلم
مهلا مهلا زوايا الإرجاف «5» وكهوف النفاق عن الخوض فيما كفيتم، والتخطي إلى ما حذّرتم، قبل أن تتلف نفوس، ويقلّ عدد، ويدول عز؛ وما أنتم وذاك؟ ألم تجدوا ما وعد ربّكم من إيراث المستضعفين من مشارق الأرض ومغاربها حقا؟ والجحد «6»(4/185)
الجحد، ولكن خب كامن، وحسد مكمد، فبعدا للقوم الظالمين.
وخطب أيضا
قال يعقوب بن السكيت: خطب أبو جعفر المنصور يوم جمعة، فحمد الله وأثنى عليه وقال: أيها الناس اتقوا الله ...
فقام إليه رجل فقال: أذكّرك من ذكرتنا به يا أمير المؤمنين.
قال أبو جعفر: سمعا سمعا لمن فهم عن الله وذكّر به، وأعوذ بالله أن أذكر به وأنساه فتأخذني العزة بالإثم؛ لقد ضللت إذا وما أنا من المهتدين. وأما أنت- والتفت إلى الرجل فقال- والله ما الله أردت بها، ولكن ليقال: قام فقال فعوقب فصبر! وأهون بها! [ويلك] لو كانت العقوبة [فاهتبلها إذ عفرت] ؛ وأنا أنذركم أيها الناس أختها؛ فإن الموعظة علينا نزلت، وفينا انبثت.
ثم رجع إلى موضعه من الخطبة.
وخطبة أيضا للمنصور بمكة
وخطب بمكة فقال أيها الناس، إنما أنا سلطان الله في أرضه، أسوسكم بتوفيقه وتسديده وتأييده؛ وحارسه على ماله، أعمل فيه بمشيئته وإرادته، وأعطيه بإذنه؛ فقد جعلني الله عليه قفلا، إن شاء أن يفتحني فتحني لإعطائكم وقسم أرزاقكم؛ فإن شاء أن يقفلني عليها أقفلني؛ فارغبوا إلى الله وسلوه في هذا اليوم الشريف الذي وهب لكم من فضله ما أعلمكم به في كتابه إذ يقول: الْيَوْمَ أَكْمَلْتُ لَكُمْ دِينَكُمْ وَأَتْمَمْتُ عَلَيْكُمْ نِعْمَتِي وَرَضِيتُ لَكُمُ الْإِسْلامَ دِيناً
«1» أن يوفقني للرساد وللصواب، وأن يلهمني الرأفة بكم والإحسان إليكم؛ أقول قولي هذا وأستغفر الله لي ولكم.(4/186)
وخطبة لسليمان بن علي
وَلَقَدْ كَتَبْنا فِي الزَّبُورِ مِنْ بَعْدِ الذِّكْرِ أَنَّ الْأَرْضَ يَرِثُها عِبادِيَ الصَّالِحُونَ. إِنَّ فِي هذا لَبَلاغاً لِقَوْمٍ عابِدِينَ
«1» قضاء مبرم، وقول فصل، ما هو بالهزل؛ الحمد لله الذي صدق عبده، وأنجز وعده، وبعدا للقوم الظالمين، الذين اتخذوا الكعبة غرضا، والفيء إرثا، والدين هزوا، وجعلوا القرآن عضين، لقد حاق بهم ما كانوا به يستهزئون، فكائن ترى من بئر معطّلة وقصر مشيد؛ ذلك بما قدمت أيديهم وأن الله ليس بظلام للعبيد؛ أمهلوا والله حتى نبذوا الكتاب، واضطهدوا العترة، ونبذوا السّنة، [وعندوا] واعتدوا، واستكبروا، وخاب كل جبار عنيد ثم أخذهم، فهل تحسّ منهم من أحد أو تسمع لهم ركزا؟
خطبة عبد الملك بن صالح بن علي
أعوذ بالله السميع العليم من الشيطان الرجيم: أَفَلا يَتَدَبَّرُونَ الْقُرْآنَ أَمْ عَلى قُلُوبٍ أَقْفالُها
«2» يا أهل الشام: إن الله وصف إخوانكم في الدين وأشباهكم في الأجسام، فحذرهم نبيه محمدا صلّى الله عليه وسلم فقال: وَإِذا رَأَيْتَهُمْ تُعْجِبُكَ أَجْسامُهُمْ وَإِنْ يَقُولُوا تَسْمَعْ لِقَوْلِهِمْ كَأَنَّهُمْ خُشُبٌ مُسَنَّدَةٌ يَحْسَبُونَ كُلَّ صَيْحَةٍ عَلَيْهِمْ، هُمُ الْعَدُوُّ فَاحْذَرْهُمْ، قاتَلَهُمُ اللَّهُ أَنَّى يُؤْفَكُونَ
«3» . فقاتلكم الله أني تصرفون! جثث مائلة، وقلوب طائرة، تشبّون الفتن وتولون الدّبر إلا عن حرم الله فإنه دريئتكم، وحرم رسوله فإنه مغزاكم؛ أما وحرمة النبوة والخلافة، لتنفرن خفافا وثقالا، أو لأوسعنّكم إرغاما ونكالا.
وخطب صالح بن علي
يا أعضاد النفاق وعبد الضلالة، أغركم لين إبساسي وطول إيناسي «4» ؛ حتى ظن جاهلكم أن ذلك لفلول حدّ، وفتور جدّ، وخور قناة! كذبت الظنون؛ إنها العترة(4/187)
بعضها من بعض، فإذا قد استوليتم العافية فعندي فصال وفطام وسيف يقدّ الهام، وإني أقول:
أغرّكم أنّي بأكرم شيمة ... رفيق وأنّي بالفواحش أخرق
ومثلي إذا لم يجز أحسن سعيه ... تكلم نعماه بديها فتنطق
لعمري! لقد فاحشتني فغلبتني ... هنيئا مريئا أنت بالفحش أرفق
وخطب داود بن علي بالمدينة
فقال: أيها الناس. حتّام يهتف بكم صريخكم؟ أما آن لراقدكم أن يهب من نومه؟
كَلَّا بَلْ رانَ عَلى قُلُوبِهِمْ ما كانُوا يَكْسِبُونَ
«1» ! أغركم الإمهال حتى حسبتموه الإهمال؟ هيهات منكم وكيف بكم والسوط في كفي والسيف مشهر:
حتى يبيد قبيلة فقبيلة ... ويعضّ كلّ مثقف بالهام «2»
ويقمن ربات الخدور حواسرا ... يمسحن عرض ذوائب الأيتام «3»
خطبة داود بن علي بمكة
وخطب داود بن علي بمكة: شكرا شكرا! والله ما خرجنا لنحفر فيكم نهرا ولا لنبتني فيكم قصرا، أظنّ عدوّ الله أن لن يظفر به، إذ مدّ له في عنانه، حتى عثر في فضل زمامه! فالآن عاد الأمر في نصابه، وطلعت الشمس من مشرقها، والآن تولّى القوس باريها، وعادت النبل إلى النّزعة، ورجع الأمر إلى مستقرّه، في أهل بيت نبيكم أهل الرأفة والرحمة، فاتقوا الله واسمعوا وأطيعوا، ولا تجعلوا النّعم التي أنعم الله عليكم سببا إلى أن تتيح هلكتكم، وتزيل النّعم عنكم.
خطبة المهدي
الحمد لله الذي ارتضى الحمد لنفسه، ورضي به من خلقه، أحمده على آلائه،(4/188)
وأمجّده لبلائه، وأستعينه وأومن به، وأتوكل عليه توكّل راض بقضائه، وصابر لبلائه؛ وأشهد أن لا إله إلا الله، وحده لا شريك له، وأن محمدا عبده المصطفى، ونبيه المجتبى، ورسوله إلى خلقه، وأمينه على وحيه؛ أرسله بعد انقطاع الرجاء، وطموس العلم، واقتراب من الساعة، إلى أمّة جاهلية، مختلفة أمية، أهل عداوة وتضاغن، وفرقة وتباين، قد استهوتهم شياطينهم، وغلب عليهم قرناؤهم، فاستشعروا الرّدى، وسلكوا العمى، يبشّر من أطاعه بالجنة وكريم ثوابها، وينذر من عصاه بالنار وأليم عقابها لِيَهْلِكَ مَنْ هَلَكَ عَنْ بَيِّنَةٍ وَيَحْيى مَنْ حَيَّ عَنْ بَيِّنَةٍ وَإِنَّ اللَّهَ لَسَمِيعٌ عَلِيمٌ
«1» .
أوصيكم عباد الله بتقوى الله، فإن الاقتصار عليها سلامة، والترك لها ندامة؛ وأحثّكم على إجلال عظمته، وتوقير كبريائه وقدرته، والانتهاء إلى ما يقرّب من رحمته وينجي من سخطه، وينال به ما لديه من كريم الثواب؛ وجزيل المآب؛ فاجتنبوا ما خوّفكم الله من شديد العقاب، وأليم العذاب، ووعيد الحساب؛ يوم توقفون بين يدي الجبار، وتعرضون فيه على النار يوم لا تَكَلَّمُ نَفْسٌ إِلَّا بِإِذْنِهِ.
فَمِنْهُمْ شَقِيٌّ وَسَعِيدٌ
«2» ؛ يَوْمَ يَفِرُّ الْمَرْءُ مِنْ أَخِيهِ، وَأُمِّهِ وَأَبِيهِ، وَصاحِبَتِهِ وَبَنِيهِ.
لِكُلِّ امْرِئٍ مِنْهُمْ يَوْمَئِذٍ شَأْنٌ يُغْنِيهِ
«3» ؛ يوم لا تَجْزِي نَفْسٌ عَنْ نَفْسٍ شَيْئاً وَلا يُقْبَلُ مِنْها عَدْلٌ وَلا تَنْفَعُها شَفاعَةٌ وَلا هُمْ يُنْصَرُونَ
«4» ؛ يوم لا يَجْزِي والِدٌ عَنْ وَلَدِهِ وَلا مَوْلُودٌ هُوَ جازٍ عَنْ والِدِهِ شَيْئاً؛ إِنَّ وَعْدَ اللَّهِ حَقٌّ فَلا تَغُرَّنَّكُمُ الْحَياةُ الدُّنْيا وَلا يَغُرَّنَّكُمْ بِاللَّهِ الْغَرُورُ
«5» ؛ فإن الدنيا دار غرور، وبلاء وشرور، واضمحلال وزوال، وتقلّب وانتقال؛ قد أفنت من كان قبلكم، وهي عائدة عليكم وعلى من بعدكم؛ من ركض إليها صرعته، ومن وثق بها خانته؛ ومن أملها كذبته، ومن رجاها خذتله؛ عزّها وغناها فقر؛ والسعيد من تركها، والشقيّ فيها من آثرها،(4/189)
والمغبون فيها من باع حظّه من دار آخرته بها؛ فالله عباد الله والتوبة مقبولة، والرحمة مبسوطة؛ وبادروا بالأعمال الزكية في هذه الأيام الخالية قبل أن يؤخذ بالكظم «1» ، وتندموا فلا تقالون بالندم، في يوم حسرة وتأسّف وكآبة وتلهّف؛ يوم ليس كالأيام، وموقف ضنك المقام، إن أحسن الحديث وأبلغ الموعظة كتاب الله؛ يقول الله تبارك وتعالى: وَإِذا قُرِئَ الْقُرْآنُ فَاسْتَمِعُوا لَهُ وَأَنْصِتُوا لَعَلَّكُمْ تُرْحَمُونَ
«2» .
أعوذ بالله العظيم من الشيطان الرجيم! بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ أَلْهاكُمُ التَّكاثُرُ حَتَّى زُرْتُمُ الْمَقابِرَ. كَلَّا سَوْفَ تَعْلَمُونَ. ثُمَّ كَلَّا سَوْفَ تَعْلَمُونَ. كَلَّا لَوْ تَعْلَمُونَ عِلْمَ الْيَقِينِ لَتَرَوُنَّ الْجَحِيمَ. ثُمَّ لَتَرَوُنَّها عَيْنَ الْيَقِينِ. ثُمَّ لَتُسْئَلُنَّ يَوْمَئِذٍ عَنِ النَّعِيمِ
» .
أوصيكم عباد الله بما أوصاكم الله به، وأنهاكم عما نهاكم الله عنه، وأرضى لكم طاعة الله، وأستغفر الله لي ولكم.
خطبة هارون الرشيد
الحمد لله؛ نحمده على نعمه، ونستعينه على طاعته، ونستنصره على أعدائه، ونؤمن به حقا، ونتوكل عليه مفوّضين إليه؛ وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له؛ وأشهد أن محمدا عبده ورسوله. بعثه الله على فترة من الرسل، ودروس من العلم، وإدبار من الدنيا، وإقبال من الآخرة؛ بشيرا بالنعيم المقيم؛ ونذيرا بين يدي عذاب أليم، فبلّغ الرسالة، ونصح الأمّة، وجاهد في الله، فأدّى عن الله وعده ووعيده حتى أتاه اليقين؛ فعلى النّبي من الله صلاة ورحمة وسلام.
أوصيكم عباد الله بتقوى الله؛ فإن في التقوى تكفير السيئات، وتضعيف الحسنات، وفوزا بالجنة، ونجاة من النار؛ وأحذركم يوما تشخص فيه الأبصار، وتبلى فيه الأسرار، يوم البعث ويوم التغابن، ويوم التلاقي ويوم التنادي، يوم لا يستعتب من سيئة ولا يزداد من حسنة؛ يَوْمَ الْآزِفَةِ، إِذِ الْقُلُوبُ لَدَى الْحَناجِرِ كاظِمِينَ ما(4/190)
لِلظَّالِمِينَ مِنْ حَمِيمٍ وَلا شَفِيعٍ يُطاعُ، يَعْلَمُ خائِنَةَ الْأَعْيُنِ وَما تُخْفِي الصُّدُورُ
؛ ... وَاتَّقُوا يَوْماً تُرْجَعُونَ فِيهِ إِلَى اللَّهِ، ثُمَّ تُوَفَّى كُلُّ نَفْسٍ ما كَسَبَتْ وَهُمْ لا يُظْلَمُونَ
«1» .
عباد الله؛ إنكم لم تخلقوا عبثا، ولن تتركوا سدى؛ حصّنوا إيمانكم بالأمانة، ودينكم بالورع، وصلاتكم بالزكاة؛ فقد جاء في الخبر أن النبي صلّى الله عليه وسلم قال: «لا إيمان لمن لا أمانة له، ولا دين لمن لا عهد له، ولا صلاة لمن لا زكاة له» . إنكم سفر مجتازون وأنتم عن قريب تنتقلون من دار فناء إلى دار بقاء؛ فسارعوا إلى المغفرة بالتوبة، وإلى الرحمة بالتقوى، وإلى الهدى بالأمانة، فإن الله تعالى ذكره أوجب رحمته للمتقين، ومغفرته للتائبين، وهداه للمنيبين؛ قال الله عز وجل وقوله الحق:
وَرَحْمَتِي وَسِعَتْ كُلَّ شَيْءٍ، فَسَأَكْتُبُها لِلَّذِينَ يَتَّقُونَ وَيُؤْتُونَ الزَّكاةَ
«2» . وقال:
وَإِنِّي لَغَفَّارٌ لِمَنْ تابَ وَآمَنَ وَعَمِلَ صالِحاً ثُمَّ اهْتَدى
. وإياكم والأماني، فقد غرّت وأوردت وأبقت كثيرا حتى أكذبتهم مناياهم، فتناوشوا «3» التوبة من مكان بعيد، وحيل بينهم وبين ما يشتهون؛ فأخبركم ربّكم عن المثلات فيهم، وصرّف الآيات، وضرب الأمثال، فرغّب بالوعد وقدّم إليكم الوعيد، وقد رأيتم وقائعه بالقرون الخوالي جيلا فجيلا، وعهدتم الآباء والأبناء والأحبة والعشائر باختطاف الموت إياهم من بيوتكم، ومن بين أظهركم، لا تدفعون عنهم، ولا تحولون دونهم، فزالت عنهم الدنيا، وانقطعت بهم الأسباب، فأسلمتهم إلى أعمالهم عند الموقف والحساب والعقاب لِيَجْزِيَ الَّذِينَ أَساؤُا بِما عَمِلُوا وَيَجْزِيَ الَّذِينَ أَحْسَنُوا بِالْحُسْنَى
«4» .
إنّ أحسن الحديث وأبلغ الموعظة كتاب الله؛ يقول الله عز وجل: وَإِذا قُرِئَ الْقُرْآنُ فَاسْتَمِعُوا لَهُ وَأَنْصِتُوا لَعَلَّكُمْ تُرْحَمُونَ
«5» . أعوذ بالله العظيم من الشيطان الرجيم إنه هو السميع العليم، بسم الله الرحمن الرحيم قُلْ هُوَ اللَّهُ أَحَدٌ، اللَّهُ الصَّمَدُ، لَمْ يَلِدْ وَلَمْ يُولَدْ وَلَمْ يَكُنْ لَهُ كُفُواً أَحَدٌ
«6» . آمركم بما أمركم الله به، وأنهاكم عما نهاكم(4/191)
الله عنه، وأستغفر الله لي ولكم.
[خطب المأمون]
خطبة المأمون في يوم الجمعة
الحمد لله مستخلص الحمد لنفسه، ومستوجبه على خلقه؛ أحمده وأستعينه؛ وأومن به وأتوكل عليه؛ وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن محمدا عبده ورسوله؛ أرسله بالهدى ودين الحق ليظهره على الدين كله ولو كره المشركون. أوصيكم عباد الله ونفسي بتقوى الله وحده، والعمل لما عنده، والتنجّز لوعده، والخوف لوعيده؛ فإنه لا يسلم إلا من اتقاه ورجاه، وعمل له وأرضاه.
فاتقوا الله عباد الله وبادروا آجالكم بأعمالكم؛ وابتاعوا ما يبقى بما يزول عنكم ويفنى، وترحلوا عن الدنيا، فقد جدّ بكم، واستعدّوا للموت فقد أظلّكم، وكونوا كقوم صيح بهم فانتبهوا، وعلموا أن الدنيا ليست لهم بدار فاستبدلوا؛ فإن الله عز وجل لم يخلقكم عبثا، ولم يترككم سدى، وما بين أحدكم وبين الجنة والنار إلا الموت أن ينزل به، وإن غاية تنقصها اللحظة وتهدمها الساعة الواحدة لجديرة بقصر المدّة، وإن غائبا يحدوه الجديدان الليل والنهار لجدير بسرعة الأوبة، وإن قادما يحل بالفوز أو الشقوة لمستحق لأفضل العدّة، فاتقى عبد ربه ونصح نفسه وقدّم توبته وغلب شهوته، فإن أجله مستور عنه، وأمله خادع له، والشيطان موكّل به يزيّن له المعصية ليركبها، ويمنّيه التوبة ليسوّفها، حتى تهجم عليه منيته أغفل ما يكون عنها، فيا لها حسرة على كل ذي غفلة أن يكون عمره عليه حجة، أو تؤدّيه أيامه إلى شقوة؛ نسأل الله أن يجعلنا وإياكم ممن لا تبطره نعمة، ولا تقصّر به عن طاعة ربه غفلة، ولا يحل به بعد الموت فزعة، إنه سميع الدعاء، بيده الخير وهو على كل شيء قدير، فعّال لما يريد.
خطبة المأمون يوم الأضحى
قال بعد التكبير والتحميد: إن يومكم هذا يوم أبان الله فضله، وأوجب تشريفه، وعظّم حرمته، ووفّق له من خلقه صفوته، وابتلى فيه خليله، وفدى فيه من الذبح(4/192)
العظيم نبيّه، وجعله خاتم الأيام المعلومات من العشر، ومقدّم الأيام المعدودات من النفر «1» ، يوم حرام من أيام عظام في شهر حرام، يوم الحج الأكبر، يوم دعا الله إلى مشهده، ونزل القرآن العظيم بتعظيمه، قال الله عز وجل: وَأَذِّنْ فِي النَّاسِ بِالْحَجِّ يَأْتُوكَ رِجالًا وَعَلى كُلِّ ضامِرٍ يَأْتِينَ مِنْ كُلِّ فَجٍّ عَمِيقٍ
«2» فتقرّبوا إلى الله في هذا اليوم بذبائحكم، وعظّموا شعائر الله، واجعلوها من طيّب أموالكم، وبصحة التقوى من قلوبكم، فإنه يقول: لَنْ يَنالَ اللَّهَ لُحُومُها وَلا دِماؤُها وَلكِنْ يَنالُهُ التَّقْوى مِنْكُمْ
«3» .
ثم التكبير والتحميد، والصلاة على النبي صلّى الله عليه وسلم والوصية بالتقوى ثم ذكر الموت، ثم قال:
وما من بعده إلا الجنة أو النار، عظم قدر الدارين، وارتفع جزاء العملين وطالت مدة الفريقين؛ الله الله، فوالله إنه الجدّ لا الّلعب، والحقّ لا الكذب. وما هو إلا الموت والبعث والميزان والحساب والصراط والقصاص والثواب والعقاب. فمن نجا يومئذ فقد فاز، ومن هوى يومئذ فقد خاب، الخير كلّه في الجنة، والشرّ كله في النار.
وخطبة المأمون في الفطر
قال بعد التكبير ولتحميد: ألا وإن يومكم هذا يوم عيد وسنّة، وابتهال ورغبة، يوم ختم الله به صيام شهر رمضان، وافتتح به حج بيته الحرام، فجعله [خاتمة الشهر، و] أول أيام شهور الحج، وجعله معقّبا لمفروض صيامكم، ومتنفّل قيامكم، أحلّ الله لكم في الطعام، وحرم عليكم فيه الصيام، فاطلبوا إلى الله حوائجكم، واستغفروه بتفريطكم. فإنه يقال: لا كبير مع ندم واستغفار، ولا صغير مع تماد وإصرار.(4/193)
ثم كبّر وحمد وذكر النبي صلّى الله عليه وسلم، وأوصى بالبر والتقوى، ثم قال:
اتقوا الله عباد الله، وبادروا الأمر الذي اعتدل فيه يقينكم ولم يحضر الشك فيه أحدا منكم، وهو الموت المكتوب عليكم، فإنه لا تستقال بعده عثرة، ولا تحظر قبله توبة؛ واعلموا أنه لا شيء [قبله إلا دونه، ولا شيء] بعده إلا فوقه: ولا يعين على جزعه وعلزه «1» وكربة، وعلى القبر وظلمته ووحشته وضيقه وهول مطلعه ومسألة ملكيه- إلا العمل الصالح الذي أمر الله به، فمن زلت عند الموت قدمه، فقد ظهرت ندامته، وفاتته استقالته، ودعا من الرجعة إلى ما لا يجاب إليه، وبذل من الفدية ما لا يقبل منه؛ فالله الله عباد الله، كونوا قوما سألوا الرجعة فأعطوها إذ منعها الذين طلبوها، فإنه ليس يتمنى المتقدمون قبلكم، إلا هذا الأجل المبسوط لكم؛ فاحذروا ما حذركم الله فيه، واتقوا اليوم الذي يجمعكم الله فيه لوضع موازينكم، ونشر صحفكم الحافظة لأعمالكم، فلينظر عبد ما يضع في ميزانه مما يثقل به وما يملي في صحيفته الحافظة لما عليه وله؛ فقد حكى الله لكم ما قال المفرّطون عندما طال إعراضهم عنها؛ قال جل ذكره: وَوُضِعَ الْكِتابُ فَتَرَى الْمُجْرِمِينَ مُشْفِقِينَ مِمَّا فِيهِ وَيَقُولُونَ: يا وَيْلَتَنا مالِ هذَا الْكِتابِ لا يُغادِرُ صَغِيرَةً وَلا كَبِيرَةً إِلَّا أَحْصاها؟ وَوَجَدُوا ما عَمِلُوا حاضِراً وَلا يَظْلِمُ رَبُّكَ أَحَداً
«2» . وقال: وَنَضَعُ الْمَوازِينَ الْقِسْطَ لِيَوْمِ الْقِيامَةِ فَلا تُظْلَمُ نَفْسٌ شَيْئاً وَإِنْ كانَ مِثْقالَ حَبَّةٍ مِنْ خَرْدَلٍ أَتَيْنا بِها وَكَفى بِنا حاسِبِينَ
«3» ! ولست أنهاكم عن الدنيا بأكثر مما نهتكم به الدنيا عن نفسها، فإن كل ما بها يحذّر منها وينهى عنها، وكل ما فيها يدعو إلى غيرها، وأعظم مما رأته أعينكم من فجائعها وزوالها، ذمّ كتاب الله لها والنهي عنها؛ فإنه يقول تبارك وتعالى: فَلا تَغُرَّنَّكُمُ الْحَياةُ الدُّنْيا وَلا يَغُرَّنَّكُمْ بِاللَّهِ الْغَرُورُ
«4» . وقال: أَنَّمَا الْحَياةُ الدُّنْيا لَعِبٌ وَلَهْوٌ وَزِينَةٌ وَتَفاخُرٌ بَيْنَكُمْ وَتَكاثُرٌ فِي الْأَمْوالِ وَالْأَوْلادِ
«5» . فانتفعوا(4/194)
بمعرفتكم بها وبإخبار الله عنها، واعلموا أن قوما من عباد الله أدركتهم عصمة الله فحذروا مصارعها وجانبوا خدائعها، وآثروا طاعة الله فيها وأدركوا الجنة بما يتركون منها.
خطبة عبد الله بن الزبير حين قدم بفتح أفريقية
قدم عبد الله بن الزبير على عثمان بن عفان بفتح إفريقية، فأخبره مشافهة وقص عليه كيف كانت الوقعة، فأعجب عثمان ما سمع منه، فقال له: يا بنيّ، أتقوم بمثل هذا الكلام على الناس؟ فقال: يا أمير المؤمنين، أنا أهيب لك مني لهم! فقام عثمان في الناس خطيبا، فحمد الله وأثنى عليه، ثم قال: أيها الناس، إن الله قد فتح عليكم إفريقية، وهذا عبد الله بن الزبير يخبركم خبرها إن شاء الله، وكان عبد الله بن الزبير إلى جانب المنبر، فقام خطيبا، وكان أول من خطب إلى جانب المنبر، فقال:
الحمد لله الذي ألفّ بين قلوبنا وجعلنا متحابين بعد البغضة، الذي لا تجحد نعماؤه، ولا يزول ملكه؛ له الحمد كما حمد نفسه، وكما هو أهله، انتخب محمدا صلّى الله عليه وسلم فاختاره بعلمه، وائتمنه على وحيه، واختار له من الناس أعوانا قذف في قلوبهم تصديقه ومحبّته، فآمنوا به وعزّزوه ووقّروه وجاهدوا في الله حق جهاده، فاستشهد في الله منهم من استشهد على المنهاج الواضح، والبيع الرابح، وبقي منهم من بقي، لا تأخذهم في الله لومة لائم.
أيها الناس، رحمكم الله! إنا خرجنا للوجه الذي علمتم، فكنا مع وال حافظ، حفظ وصية أمير المؤمنين، كان يسير بنا الأبردين «1» ، ويخفض «2» بنا في الظهائر، ويتخذ الليل جملا، يعجل الرّحلة من المنزل الجدب، ويطيل اللبث في المنزل الخصب، فلم نزل على أحسن حالة نعرفها من ربنا، حتى انتهينا إلى إفريقية، فنزلنا منها حيث يسمعون صهيل الخيل، ورغاء الإبل، وقعقعة السلاح فأقمنا أياما نجمّ كراعنا «3» !(4/195)
ونصلح سلاحنا؛ ثم دعوناهم إلى الإسلام والدخول فيه، فأبعدوا منه، فسألناهم الجزية عن صغار أو الصلح، فكانت هذه أبعد؛ فأقمنا عليهم ثلاث عشرة ليلة، نتأنّاهم وتختلف رسلنا إليهم، فلما يئس منهم، قام خطيبا فحمد الله وأثنى عليه، وذكر فضل الجهاد وما لصاحبه إذا صبر واحتسب، ثم نهضنا إلى عدونا وقاتلناهم أشدّ القتال يومنا ذلك، وصبر فيه الفريقان، فكانت بيننا وبينهم قتلى كثيرة، واستشهد الله فيهم رجالا من المسلمين، فبتنا وباتوا وللمسلمين دويّ بالقرآن كدويّ النحل، وبات المشركون في خمورهم وملاعبهم؛ فلما أصبحنا أخذنا مصافنا التي كنا عليها بالأمس، فزحف بعضنا على بعض، فأفرغ الله علينا صبره وأنزل علينا نصره، ففتحناها من آخر النهار، فأصبنا غنائم كثيرة، وفيئا واسعا، بلغ فيه الخمس خمسمائة ألف؛ فصفق «1» عليها مروان بن الحكم، فتركت المسلمين قد قرت أعينهم وأغناهم النفل، وأنا رسولهم إلى أمير المؤمنين أبشّره وإياكم بما فتح الله من البلاد، وأذلّ من الشّرك؛ فاحمدوا الله عباد الله على آلائه وما أحل بأعدائه من بأسه الذي يردّ عن القوم المجرمين.
ثم سكت فنهض إليه أبوه الزبير فقبل بين عينيه وقال: ذرية بعضها من بعض والله سميع عليم. يا بنّي: ما زلت تنطق بلسان أبي بكر حتى صمتّ.
خطبة للامام علي كرم الله وجهه
جاء رجل إلى عليّ كرم الله وجهه فقال: يا أمير المؤمنين، صف لنا ربنا، لنزداد له محبة، وبه معرفة. فغضب عليّ كرّم الله وجهه، ثم نادى: الصلاة جامعة.
فاجتمع الناس إليه حتى غص المسجد بأهله؛ ثم صعد المنبر وهو مغضب متغير اللون، فحمد الله وأثنى عليه بما هو أهله، ثم صلى على النبي محمد صلّى الله عليه وسلم، ثم قال:
والحمد لله الذي لا يفره المنع، ولا يكديه الإعطاء، بل كل معط ينقص سواه؛(4/196)
هو المنان بفرائد النعم، وعوائد المزيد؛ وبجوده ضمنت عياله «1» الخلق، ونهج سبيل الطلب للراغبين إليه، وليس بما يسأل أجود منه بما لا يسأل، وما اختلف عليه دهر فتختلف فيه حال، ولو وهب ما انشقت عنه معادن الجبال، وضحكت عنه أصداف البحار، من فلزّ اللجين «2» ، وسبائك العقيان، وشذر الدر «3» ، وحصيد المرجان- لبعض عباده- ما أثر ذلك في ملكه ولا في جوده ولا أنفذ ذلك سعة ما عنده، فعنده من الأفضال ما لا ينفده مطلب وسؤال، ولا يخطر لكم على بال؛ لأنه الجواد الذي لا ينقصه المواهب، ولا يبرمه إلحاح الملحين بالحوائج وإنما أمره إذا أراد شيئا أن يقول له: كن فيكون، فما ظنّكم بمن هو كذا ولا هكذا غيره، سبحانه وبحمده.
أيها السائل، أعقل ما سألتني عنه «4» ، ولا تسأل أحدا بعدي؛ فإني أكفيك مئونة الطلب، وشدة التعمق في المذهب؛ وكيف يوصف الذي سألتني عنه، وهو الذي عجزت الملائكة على قربهم من كرسي كرامته، وطول ولهم إليه، وتعظيمهم جلال عزته، وقربهم من غيب ملكوته- أن يعلموا من علمه إلّا ما علمهم، وهو من ملكوت العرش بحيث هم من معرفته على ما فطرهم عليه، فقالوا: سبحانك لا علم لنا إلا ما علمتنا إنك أنت العليم الحكيم. فمدح الله اعترافهم بالعجز عما لم يحيطوا به علما، وسمّي تركهم التعمق فيما لم يكلفهم البحث عنه رسوخا؛ فاقتصر على هذا ولا تقدّر عظمة الله على قدر عقلك فتكون من الهالكين؛ واعلم أن الله الذي لم يحدث فيمكن فيه التغير والانتقال، ولم يتغير في ذاته بمرور الأحوال. ولم يختلف على تعاقب الأيام والليالي- هو الذي خلق الخلق على غير مثال امتثله ولا مقدار احتذى عليه من خالق كان قبله. بل أرانا من ملكوت قدرته، وعجائب ربوبيته مما نطقت به آثار حكمته، واضطرار الحاجة من الخلق إلى أن يفهمهم مبلغ قوّته- ما دلنا بقيام الحجة له بذلك علينا على معرفته.(4/197)
ولم تحط به الصفات بإدراكها إياه بالحدود متناهيا، وما زال إذ هو الله الذي ليس كمثله شيء عن صفة المخلوقين متعاليا، انحسرت العيون عن أن تناله فيكون بالعيان موصوفا، وبالذات التي لا يعلمها إلا هو عند خلقه معروفا؛ وفات لعوّه عن الأشياء مواقع وهم المتوهمين؛ وليس له مثل فيكون بالخلق مشبها، وما زال عند أهل المعرفة به عن الأشباه والأنداد منزّها، وكيف يكون من لا يقدر قدره مقدرا في رويّات الأوهام، وقد ضل في إدراك كيفيته حواسّ الأنام: لأنه أجل من أن تحدّه ألباب البشر بنظير، فسبحانه وتعالى عن جهل المخلوقين وسبحانه وتعالى عن إفك الجاهلين «1» .
ألا وإن لله ملائكة صلّى الله عليه وسلم. لو أن ملكا هبط منهم إلى الأرض لما وسعته لعظم خلقه وكثرة أجنحته؛ ومن ملائكته من سد الآفاق بجناح من أجنحته دون سائر بدنه؛ ومن ملائكته من السموات إلى حجزته «2» وسائر بدنه في جرم الهوام الأسفل، والأرضون إلى ركبته ومن ملائكته من لو اجتمعت الإنس والجنّ على أن يصفوه ما وصفوه، لبعد ما بين مفاصله، ولحسن تركيب صورته؛ وكيف يوصف من سبعمائة عام مقدار ما بين منكبيه إلى شحمة أذنيه؟ ومن ملائكته من لو ألقيت السّفن في دموع عينيه لجرت دهر الداهرين؛ فأين أين بأحدكم؟ وأين أين أن يدرك ما لا يدرك؟
خطبة عبد الله بن الزبير لما بلغه قتل المصعب
صعد المنبر فحمد الله وأثنى عليه ثم سكت؛ فجعل لونه يحمرّ مرة ويصفر مرة؛ فقال رجل من قريش لرجل إلى جانبه: ماله لا يتكلم؟ فوالله إنه للبيب الخطباء! قال:
لعله يريد أن يذكر مقتل سيد العرب، فيشتد ذلك عليه، وغير ملوم! ثم تكلم فقال:
الحمد لله، له الخلق والأمر والدنيا والآخرة؛ يؤتي الملك من يشاء، وينزع الملك(4/198)
ممّن يشاء، ويعز من يشاء، ويذلّ من يشاء. أما بعد: فإنه لم يعزّ الله من كان الباطل معه، وإن كان معه الأنام طرّا؛ ولم يذل من كان الحقّ معه، وإن كان فردا. ألا وإن خبرا من العراق أتانا فأحزننا وأفرحنا، فأما الذي أحزننا فإن لفراق الحميم لوعة يجدها حميمه، ثم يرعوي ذوو الألباب إلى الصبر وكريم العزاء؛ وأما الذي أفرحنا فإن قتل المصعب له شهادة ولنا ذخيرة، أسلمه النّعام المصلم «1» الآذان؛ ألا وإنّ أهل العراق باعوه بأقل من الثمن الذي الذي كانوا يأخذون منه؛ فإن يقتل فقد قتل أخوه وأبوه وابن عمه، وكانوا الخيار الصالحين. وإنا والله لا نموت حتفا، ولكن قعصا «2» بالرماح، وموتا تحت ظلال السيوف؛ ليس كما يموت بنو مروان! ألا إنما الدنيا عارية من الملك الأعلى الذي لا يبيد ذكره. ولا يزول سلطانه؛ فإن تقبل الدنيا علي لم آخذها أخذ الأشر البطر؛ وإن تدبر عني لم أبك عليها بكاء الخرق المهين ثم نزل.
[خطب زياد]
خطبة زياد البتراء
قال أبو الحسن المدائني عن مسلمة بن محارب عن أبي بكر الهذلي قال: قدم زياد البصرة واليا لمعاوية بن أبي سفيان وضم إليه خراسان وسجستان؛ والفسق بالبصرة ظاهر فاش. فخطب خطبة بتراء، لم يحمد الله فيها؛ وقال غيره بل قال: الحمد لله على إفضاله وإحسانه، ونسأله المزيد من نعمه وإكرامه. اللهم كما زدتنا نعما فألهمنا شكرا.
أما بعد، فإن الجهالة الجهلاء، والضلالة العمياء، والعمى الموفي بأهله على النار، ما فيه سفهاؤكم، ويشتمل عليه حلماؤكم من الأمور العظام، ينبت فيها الصغير ولا يتحاشى عنها الكبير؛ كأنكم لم تقرءوا كتاب الله، ولم تسمعوا بما أعد الله من الثواب الكريم لأهل طاعته، والعذاب العظيم لأهل معصيته، في الزمن السرمدي الذي لا يزول.(4/199)
أتكونون كمن طرفت «1» عينيه الدنيا، وسدّت مسامعه الشهوات، واختار الفانية على الباقية، ولا تذكرون أنكم أحدثتم في الإسلام الحدث الذي لم تسبقوا إليه، من تركتكم هذه المواخير «2» المنصوبة، والضعيفة المسلوبة في النهار المبصر، والعدد غير قليل. ألم يكن منكم نهاة تمنع الغواة عن دلج «3» الليل وغارة النهار؟ قرّبتم القرابة، وباعدتم الدّين؛ تعتذرون بغير العذر؛ وتغضون على المختلس؛ كلّ امريء منكم يذبّ عن سفيهه، صنيع من لا يخاف عاقبة ولا يرجو معادا؛ ما أنتم بالحلماء، ولقد اتبعتم السفهاء، فلم يزل بكم ما ترون من قيامكم دونهم، حتى انتهكوا حرم الإسلام، ثم أطرقوا «4» وراءكم، كنوسا في مكانس «5» الرّيب؛ حرام عليّ الطعام والشراب حتى أسويها بالأرض هدما وإحراقا.
إني رأيت آخر هذا الأمر لا يصلح إلا بما صلح به أوله،: لين في غير ضعف، وشدة في غير عنف، وإني أقسم بالله لآخذنّ الوليّ بالمولى، والمقيم بالظاعن، والمقبل بالمدبر، والصحيح بالسقيم؛ حتى يلقى الرجل منكم أخاه فيقول انج سعد فقد هلك سعيد! أو تستقيم لي قناتكم. إنّ كذبة الأمير بلقاء مشهورة فإذا تعلقتم عليّ بكذبة فقد حلت لكم معصيتي. من نقب منكم عليه فأنا ضامن لما ذهب له؛ فإياي ودلج الليل، فإني لا أوتي بمدلج إلا سفكت دمه، وقد أجّلتكم في ذلك بقدر ما يأتي الخبر الكوفة ويرجع إليكم؛ وإياي ودعوى الجاهلية، فإني لا أجد أحدا دعا بها إلا قطعت لسانه. وقد أحدثتم أحداثا لم تكم وقد أحدثنا لكل ذنب عقوبة، فمن غرّق قوما غرّقناه، ومن أحرق قوما أحرقناه، ومن نقب بيتا نقبنا عن قلبه، ومن نبش قبرا دفنّاه فيه حيا. فكفوا عني ألسنتكم وأيديكم، أكفّ يدي ولساني؛ ولا يظهرنّ من أحد منكم ريبة بخلاف ما عليه عامّتكم إلا ضربت عنقه. وقد كانت بيني وبين قوم إحن»
فجعلت ذلك دبر أذني وتحت قدمي؛ فمن كان محسنا فليزدد في(4/200)
إحسانه، ومن كان مسيئا فلينزع عن إساءته؛ إني لو علمت أن أحدكم قد قتله السلّ من بغضي لم أكشف له قناعا ولم أهتك له سترا حتى يبدي لي صفحته. فإن فعل ذلك لم أنظره؛ فاستأنفوا أموركم، واستعينوا على أنفسكم؛ فرب مبتئس بقدومنا سيسرّ؛ ومسرور بقدومنا سيبتئس.
أيها الناس: إنا أصبحنا لكم ساسة، وعنكم ذادة؛ نسوسكم بسلطان الله الذي أعطانا، ونذود عنكم بقيء الله الذي خوّلنا؛ فلنا عليكم السمع والطاعة فيما أحببنا؛ ولكم علينا العدل فيما ولينا؛ فاستوجبوا عدلنا وفيئنا بمناصحتكم لنا؛ واعلموا أني مهما أقصّر عنه فلن أقصر عن ثلاث: لست محتجبا عن طالب حاجة ولو أتاني طارقا بلبل، ولا حابسا عطاء ولا رزقا عن إبّانه، ولا مجمّرا لكم بعثا؛ فادعوا الله بالصلاح لأئمتكم؛ فإنهم ساستكم المؤدّبون لكم، وكهفكم الذي إليه تأوون؛ ومتى يصلحوا تصلحوا؛ ولا تشربوا قلوبكم بغضهم؛ فيشتد لذلك أسفكم، ويطول له حزنكم، ولا تدركوا له حاجتكم؛ مع أنه لو استجيب لكم فيهم لكان شرا لكم.
أسأل الله أن يعين كلا على كل. وإذا رأيتموني أنفذ فيكم أمرا فأنفذوه على أذلاله «1» ، وايم الله إن لي فيكم لصرعى كثيرة، فليحذر كل امريء منكم أن يكون من صرعاي. ثم نزل.
فقام إليه عبد الله بن الأهتم، فقال: أشهد أيها الأمير، لقد أوتيت الحكمة وفصل الخطاب! قال له: كذبت! ذاك داود صلّى الله عليه وسلم.
فقام الأحنف بن قيس فقال: إنما الثناء بعد البلاء، والحمد بعد العطاء، وإنا لن نثني حتى نبتلي. قال له زياد: صدقت! فقام أبو بلال [مرداس بن أديّة] وهو يهمس ويقول: أنبأنا الله تعالى بخلاف ما قلت؛ قال الله تعالى: وَإِبْراهِيمَ الَّذِي وَفَّى، أَلَّا تَزِرُ وازِرَةٌ وِزْرَ أُخْرى، وَأَنْ لَيْسَ لِلْإِنْسانِ إِلَّا ما سَعى
«2» . فسمعها زياد، فقال: إنا لا نبلغ من أصحابك ما(4/201)
تريد حتى نخوض إليهم الباطل خوضا.
وخطبة لزياد
استوصوا بثلاث منكم خيرا: الشريف، والعالم، والشيخ، فوالله لا يأتيني شيخ بحدث استخفّ به إلا أوجعته، ولا يأتيني عالم بجاهل استخفّ به إلا أثكلت به ولا يأتيني شريف بوضيع استخفّ به إلا ضربته.
وخطبة لزياد
خطب زياد على المنبر فقال:
أيها الناس لا يمنعكم سوء ما تعلمون منا أن تنتفعوا بأحسن ما تستمعون منا، فإن الشاعر يقول:
اعمل بقولي وإن قصّرت في عملي ... ينفعك قولي ولا يضررك تقصيري
وخطبة لزياد
العتبي قال: لما شهدت الشهود لزياد قام في أعقابهم فحمد الله وأثنى عليه ثم قال:
هذا أمر لم أشهد أوله، ولا علم لي بآخره، وقد قال أمير المؤمنين ما بلغكم، وشهدت الشهود بما سمعتم، فالحمد لله الذي رفع منا ما وضع الناس، وحفظ منا ما ضيّعوا، فأما عبيد فإنما هو والد مبرور، أو كافل مشكور.
خطبة لجامع المحاربي
وكان شيخا صالحا خطيبا لسنا، وهو الذي قال للحجاج حين بنى مدينة واسط:
بنيتها في غير بلدك، وأورثتها غير ولدك! وشكا الحجاج سوء طاعة أهل العراق ونقم «1» مذهبهم وتسخّط طريقتهم، فقال له(4/202)
جامع: أما إنهم لو أحبّوك لأطاعوك، على أنهم ما شنئوك «1» لنسبك، ولا لبلدك ولا لذات نفسك، فدع عنك ما يبعدهم منك إلى ما يقرّبهم إليك، والتمس العافية ممن دونك، تعطها ممن فوقك، وليكن إيقاعك بعد وعيدك، ووعيدك بعد وعدك.
قال الحجاج: إني والله ما أرى أن أرد بني اللكيعة إلى طاعتي إلا بالسيف! قال له:
أيها الأمير، إن السيف إذا لاقى السيف ذهب الخيار قال الحجاج: الخيار يومئذ لله.
قال: أجل، ولكن لا تدري لمن يجعله الله. وغضب الحجاج فقال: يا هناه، إنك من محارب. فقال جامع:
وللحرب سمّينا وكنّا محاربا ... إذا ما القنا أمسى من الطّعن أحمرا
والبيت للخضري. قال الحجاج: والله لقد هممت أن أقطع لسانك فأضرب به وجهك! قال جامع: إن صدقناك أغضبناك، وإن غششناك أغضبنا الله، فغضب الأمير أهون علينا من غضب الله! قال: أجل.
وشغل الحجاج ببعض الأمر، فانسل جامع «2» ، فمر بين صفوف خيل الشام حتى جاوز إلى خيل أهل العراق- وكان الحجاج لا يخلطهم- فأبصر كبكبة فيها جماعة من بكر العراق، وقيس العراق، وتميم العراق، وأزد العراق؛ فلما رأوه اشرأبّوا «3» إليه وبلغهم خروجه، فقالوا له: ما عندك؟ دافع الله لنا عن نفسك! فقال: ويحكم! عمّوه بالخلع كما يعمكم بالعداوة، ودعوا التّعادي ما عداكم، فإذا ظفرتم [به] تراجعتم وتعاقبتم. أيها التميمي، هو أعدى لك من الأزدي؛ وأيها القيسي، هو أعدى لك من التّغلبيّ؛ وليس يظفر بمن ناوأه منك إلا بمن بقي معه.
وهرب جامع من فوره ذلك إلى الشام، فاستجار بزفر بن الحارث.(4/203)
[خطب الحجاج]
خطبة للحجاج بن يوسف
خطب الحجاج فقال: اللهم أرني الغيّ غياّ فأجتنبه، وأرني الهدى هدى فأتبعه، ولا تكلني إلى نفسي فاضلّ ضلالا بعيدا! والله ما أحب أن ما مضى من الدنيا لي بعمامتي هذه، ولما بقي منها أشبه بما مضى من الماء بالماء.
وخطبة للحجاج
قال الهيثم بن عدي: خرج الحجاج بن يوسف يوما من القصر بالكوفة، فسمع تكبيرا في السوق، فراعه ذلك، فصعد المنبر فحمد الله وأثنى عليه، ثم قال:
يأهل العراق، يأهل الشقاق والنفاق ومساويء الأخلاق، وبني اللكيعة «1» ، وعبيد العصا، وأولاد الإماء، والفقه «2» بالقرقر «3» إني سمعت تكبيرا لا يراد به الله وإنما يراد به الشيطان؛ وإنما مثلي ومثلكم ما قال ابن براقة الهمداني:
وكنت إذا قوم غزوني غزوتهم ... فهل أنا في ذا يا لهمدان ظالم؟
متى تجمع القلب الذّكيّ وصارما ... وأنفا حميا تجتنبك المظالم! «4»
أما والله لا تقرع عصا بعصا إلا جعلتها كأمس الدابر. «5»
خطبة الحجاج بعد دير الجماجم
خطب أهل العراق فقال:
يأهل العراق، إن الشيطان استبطنكم فخالط اللحم والدم والعصب والمسامع والأطراف والأعضاء والشغاف «6» : ثم أفضى إلى المخانخ «7» والصمائخ «8» ، ثم ارتفع فعشش؛ ثم باض وفرخ، فحشاكم شقاقا ونفاقا، أشعركم خلافا اتخذتموه دليلا تتبعونه، وقائدا تطيعونه،(4/204)
ومؤامرا تستشيرونه، فكيف تنفعكم تجربة، أو تعظكم وقعة، أو يحجزكم إسلام، أو يردكم إيمان؟ ألستم أصحابي بالأهواز حيث رمتم المكر؛ وسعيتم بالغدر، واستجمعتم للكفر، وظننتم أن الله تعالى يخذل دينه وخلافته، وأنا أرميكم بطرفي وأنتم تتسللون لواذا؛ وتنهزمون سراعا؛ ثم يوم الزاوية «1» ؛ وما يوم الزاوية؟ بها كان فشلكم وتنازعكم وتخاذلكم وبراءة الله منكم ونكوص وليّكم عنكم؛ إذ ولّيتم كالإبل الشوارد إلى أوطانها، النوازع إلى أعطانها؛ لا يسأل المرء منكم عن أخيه، ولا يلوي الشيخ على بنيه، حتى عضكم السلاح، وقصمتكم الرماح، ثم يوم دير الجماجم: وما دير الجماجم؟ بها كانت المعارك والملاحم، بضرب يزيل الهام عن مقيله «2» ، ويذهل الخليل عن خليله.
يأهل العراق والكفرات بعد الفجرات؛ والغدرات بعد الخترات، والنّزوة بعد النزوات، إن بعثتكم إلى ثغوركم غللتم وخنتم، وإن أمنتم أرجفتم، وإن خفتم نافقتم؛ لا تذكرون حسنة، ولا تشكرون نعمة! يأهل العراق: هل استخفّكم ناكث، أو استغواكم غاو، أو استفزكم عاص أو استنصركم ظالم، أو استعضدكم خالع- إلا وثقتموه وآويتموه وعزّرتموه ونصرتموه ورضيتموه.
يأهل العراق؛ هل شغب شاغب، أو نعب ناعب، أو نعق ناعق، أو زفر زافر، إلا كنتم أتباعه وأنصاره. يأهل العراق، ألم تنهكم المواعظ؟ ألم تزجركم الوقائع؟
ثم التفت إلى أهل الشام فقال: يأهل الشام، إنما أنا لكم كالظليم «3» الذابّ عن فراخه؛ ينفي عنها المدر، ويباعد عنها الحجر ويكنّها من المطر، ويحميها من الضباب؛ ويحرسها من الذئاب؛ يأهل الشام، أنتم الجنّة والرداء، وأنتم العدة والحذاء.(4/205)
وخطبة للحجاج
قال مالك بن دينار: غدوت للجمعة، فجلست قريبا من المنبر، فصعد الحجاج ثم قال:
امرؤ حاسب نفسه؛ امرؤ راقب ربه؛ امرؤ زوّر «1» عمله امرؤ فكر فيما يقرؤه غدا في صحيفته ويراه في ميزانه: امرؤ كان عند همه آمرا، وعند هواه زاجرا؛ امرؤ أخذ بعنان قلبه كما يأخذ الرجل بخطام «2» جمله، فإن قاده إلى حق تبعه، وإن قاده إلى معصية الله كفّه. إننا والله ما خلقنا للفناء، وإنما خلقنا للبقاء، وإنما ننتقل من دار إلى دار.
خطبة الحجاج بالبصرة
اتقوا الله ما استطعتم. فهذه لله وفيها مثوبة. ثم قال: «واسمعوا وأطيعوا» . فهذه لعبد الله وخليفة الله وحبيب الله عبد الملك بن مروان، والله لو أمرت الناس أن يأخذوا في باب واحد وأخذوا في باب غيره، لكانت دماؤهم لي حلالا من الله، ولو قتل ربيعة ومضر لكان لي حلالا. عذيري «3» من هذه الحمراء «4» ، يرمي أحدهم بالحجر إلى السماء ويقول: يكون إلى أن يقع هذا خير. والله لأجعلنّهم كأمس الدابر؛ عذيري من عبد هذيل، إنه زعم أنه آمن عند الله، يقرأ القرآن كأنه رجز الأعراب؛ والله لو أدركته لقتلته.
خطبة للحجاج بالبصرة
حمد الله وأثنى عليه ثم قال: إن الله كفانا مئونة الدنيا وأمرنا بطلب الآخرة فليته كفانا مئونة الآخرة وأمرنا بطلب الدنيا. مالي أرى علماءكم يذهبون، وجهّالكم لا يتعلمون، وشراركم لا يتوبون؟ مالي أراكم تحرصون على ما كفيتم، وتضيّعون ما به(4/206)
أمرتم، إن العلم يوشك أن يرفع، ورفعه ذهاب العلماء. ألا وإني أعلم بشراركم من البيطار بالفرس: الذين لا يقرؤن القرآن إلا هجرا «1» ، ولا يأتون الصلاة إلا دبرا «2»
؛ ألا وإن الدنيا عرض حاضر يأكل منها البرّ والفاجر؛ ألا وإن الآخرة أجل مستأخر يحكم فيه ملك قادر؛ ألا فاعملوا وأنتم من الله على حذر، واعلموا أنكم ملاقوه لِيَجْزِيَ الَّذِينَ أَساؤُا بِما عَمِلُوا وَيَجْزِيَ الَّذِينَ أَحْسَنُوا بِالْحُسْنَى
«3» ألا وإن الخير كلّه بحذافيره في الجنة؛ ألا وإن الشرّ كلّه بحذافيره في النار؛ ألا وإنّ من يعمل مثقال ذرّة خيرا يره، ومن يعمل مثقال ذرّة شرا يره وأستغفر الله لي ولكم.
وخطبة للحجاج
خطب الحجاج أهل العراق فقال: يأهل العراق إني لم أجد لكم دواء أدوى «4» لدائكم من هذه المغازي والبعوث، لولا طيب ليلة الإياب وفرحة القفل، فإنها تعقب راحة وإني لا أريد أن أرى الفرح عندكم ولا الرّاحة بكم؛ وما أراكم إلا كارهين لمقالتي، أنا والله لرؤيتكم أكره، ولولا ما أريد من تنفيذ طاعة أمير المؤمنين فيكم ما حمّلت نفسي مقاساتكم والصبر على النظر إليكم؛ والله أسأل حسن العون عليكم! ثم نزل.
خطبة الحجاج حين أراد الحج
يأهل العراق، إني أردت الحج، وقد استخلفت عليك ابني محمدا، وما كنتم له بأهل. وأوصيته فيكم بخلاف ما أوصى به رسول الله صلّى الله عليه وسلم في الأنصار؛ فإنه أوصى أن يقبل من محسنهم ويتجاوز عن مسيئهم، وأنا. أوصيته أن لا يقبل من محسنكم ولا يتجاوز عن مسيئكم! ألا وإنكم قائلون بعدي مقالة لا يمنعكم. من إظهارها إلا خوفي، تقولون: لا أحسن الله له الصحابة! وإني أعجّل لكم الجواب: فلا أحسن الله عليكم الخلافة! ثم نزل.(4/207)
خطبة للحجاج
خرج الحجاج يريد العراق واليا عليها في اثنى عشر راكبا على النجائب «1» ، حتى دخل الكوفة [فجأة] حين انتشر النهار، وقد كان بشر بن مروان بعث المهلب إلى الحرورية، فبدأ الحجاج بالمسجد فدخله، ثم صعد المنبر وهو ملثّم بعمامة خزّ، فقال:
عليّ بالناس، فحسبوه وأصحابه خوارج، فهمّوا به، حتى إذا اجتمع الناس في المسجد، قام، ثم كشف عن وجهه، ثم قال:
أنا ابن جلا وطلاع الثّايا ... متى أضع العمامة تعرفوني «2»
صليب العود من سلفي رياح ... كنصل السيف وضّاح الجبين
وماذا يبتغي الشّعراء مني ... وقد جاوزت حدّ الأربعين
أخو خمسين مجتمع أشدّي ... ونجّذني مداورة الشّئون «3»
وإني لا يعود إليّ قرني ... غداة العبء إلا في قرين
أما والله إني لأحمل الشر بحمله، وأحذوه بنعله، وأجزيه بمثله؛ وإني لأرى رءوسا قد أينعت وحان قطافها، وإني لصاحبها؛ وإني لأنظر الدّماء بين العمائم والّلحى تترقرق.
قد شمّرت عن ساقها فشمّر «4»
ثم قال:
هذا أوان الشدّ فاشتدّي زيم ... قد لفّها الليل بسوّاق حطم «5»
ليس براعي إبل ولا غنم ... ولا بجزّار على ظهر وضم «6»
ثم قال:(4/208)
قد لفها الليل بعصلبيّ ... أروع خرّاج من الدويّ»
مهاجر ليس بأعرابيّ
ثم قال:
قد شمّرت عن ساقها فشدّوا ... ما علّتي وأنا شيخ إد «2»
والقوس فيها وتر عردّ ... مثل ذراع البكر أو أشدّ «3»
إني والله يأهل العراق، ومعدن الشقاق والنفاق، ومساوى الأخلاق، لا يغمز جانبي كتغماز التّين، ولا يقعقع «4» لي بالشنان «5» ؛ ولقد فررت عن ذكاء. وفتّشت عن تجربة، وأجريت إلى الغاية القصوى؛ وإنّ أمير المؤمنين نثر كنانته بين يديه ثم عجم عيدانها، فوجدني أمرّها عودا وأشدّها مكسرا، فوجهني إليكم، ورماكم بي، فإنكم قد طالما أوضعتم «6» في الفتن وسننتم سنن الغيّ؛ وايم الله لألحونّكم لحو العصا، ولأقرعنكم قرع المروة «7» ، ولأعصبنكم عصب السّلمة «8» ، ولأضربنكم ضرب غرائب الإبل، أما والله لا أعد إلا وفيت؛ ولا أخلق إلا فريت «9» ؛ فإياي وهذه الشفعاء، والزرافات والجماعات، وقالا وقيلا. وما يقولون؛ وفيم أنتم وذاك؟ والله لتستقيمنّ على طريق الحق، أو لأدعنّ لكلّ رجل منكم شغلا في جسده! من وجدته بعد ثالثة من بعث المهلب سفكت دمه وانتهبت ماله وهدمت منزله.
فشمّر الناس بالخروج إلى المهلب؛ فلما رأى المهلب ذلك قال: لقد ولي العراق خير ذكر.
خطبة الحجاج لما مات عبد الملك
قا خطيبا فحمد الله وأثنى عليه ثم قال:(4/209)
أيها الناس، إن الله تبارك وتعالى نعى نبيّكم صلّى الله عليه وسلم إلى نفسه فقال: إِنَّكَ مَيِّتٌ وَإِنَّهُمْ مَيِّتُونَ
«1» ؛ وقال: وَما مُحَمَّدٌ إِلَّا رَسُولٌ قَدْ خَلَتْ مِنْ قَبْلِهِ الرُّسُلُ أَفَإِنْ ماتَ أَوْ قُتِلَ انْقَلَبْتُمْ عَلى أَعْقابِكُمْ
«2» ؟ فمات رسول الله صلّى الله عليه وسلم، ومات الخلفاء الراشدون المهتدون المهديون، منهم أبو بكر، ثم عمر، ثم عثمان الشهيد المظلوم، ثم تبعهم معاوية؛ ثم وليكم البازل الذكر الذي جرّبته الأمور، وأحكمته التجارب مع الفقه وقراءة القرآن، والمروءة الظاهرة، واللين لأهل الحق، والوطء لأهل الزيغ؛ فكان رابعا من الولاة المهديين الراشدين؛ فاختار الله له ما عنده، وألحقه بهم، وعهد إلى شبهه في العقل والمروءة والحزم والجلد والقيام بأمر الله وخلافته؛ فاسمعوا له وأطيعوه.
أيها الناس؛ إياكم والزّيغ «3» ؛ فإن الزيغ لا يحيق إلا بأهله، ورأيتم سيرتي فيكم، وعرفت خلافكم، وقبلتكم على معرفتي بكم؛ ولو علمت أنّ أحدا أقوى عليكم مني، أو أعرف بكم، ما وليتكم؛ فإياي وإياكم؛ من تكلم قتلناه؛ ومن سكت مات بدائه غما! ثم نزل.
خطبة الحجاج
لما أصيب بولده محمد وأخيه محمد:
أيها الناس، محمّدان في يوم واحد! أما والله لقد كنت أحبّ أنهما معي في الدنيا مع ما أرجو لهما من ثواب الله في الآخرة؛ وايم الله ليوشكن الباقي مني ومنكم أن يفنى، والجديد مني ومنكم أن يلي، والحيّ مني ومنكم أن يموت؛ وأن تدال الأرض منا كما أدلنا منها؛ فتأكل من لحومنا؛ وتشرب من دمائنا؛ كما مشينا على ظهرها، وأكلنا من ثمارها، وشربنا من مائها؛ ثم يكون كما قال الله: وَنُفِخَ فِي الصُّورِ فَإِذا هُمْ مِنَ الْأَجْداثِ إِلى رَبِّهِمْ يَنْسِلُونَ
«4» . ثم تمثل بهذين البيتين:(4/210)
عزائي نبيّ الله من كلّ ميّت ... وحسبي ثواب الله من كلّ هالك
إذا ما لقيت الله عني راضيا ... فإنّ سرور النفس فيما هنالك
خطب الحجاج في يوم جمعة فأطال الخطبة؛ فقام إليه رجل فقال: إن الوقت لا ينتظرك، والرب لا يعذرك! فأمر به إلى الحبس! فأتاه آل الرجل وقالوا: إنه مجنون! فقال: إن أقرّ على نفسه بما ذكرتم خليت سبيله. فقال الرجل: لا والله لا أزعم أنه ابتلاني وقد عافاني.
خطبة للحجاج
ذكروا أن الحجاج مرض ففرح أهل العراق؛ وقالوا: مات الحجاج! فلما بلغه تحامل حتى صعد المنبر فقال:
يا أهل الشقاق والنفاق! نفخ إبليس في مناخركم فقلتم: مات الحجاج، ومات الحجاج فمه؟ والله ما أحب أن لا أموت! وما أرجو الخير كلّه إلا بعد الموت، وما رأيت الله عز وجل رضي الخلود لأحد من خلقه، إلا لأهونهم عليه: إبليس؛ ولقد رأيت العبد الصالح سأل ربّه فقال: رَبِّ اغْفِرْ لِي وَهَبْ لِي مُلْكاً لا يَنْبَغِي لِأَحَدٍ مِنْ بَعْدِي إِنَّكَ أَنْتَ الْوَهَّابُ
«1» . ففعل؛ ثم اضمحل كأن لم يكن.
خطبة للحجاج
خطب فقال في خطبته:
سوطي سيفي، ونجاده في عنقي، وقائمه في يدي؛ وذبابه «2» قلادة لمن اغترني! فقال الحسن: بؤسا لهذا! ما أغرّه بالله.
وحلف رجل بالطلاق أن الحجاج في النار، ثم أتى زوجته، فمنعته نفسها فأتى ابن شبرمة يستفتيه؛ فقال: يا بن أخي امض فكن مع أهلك، فإن الحجاج إن لم يكن من(4/211)
أهل النار، فلا يضرّك أن تزني.
هذا ما ذكرناه في كتابنا من الخطب للحجاج، وما بقي منها فهي مستقصاة في كتاب اليتيمة الثانية، حيث ذكرت أخبار زياد والحجاج، وإنما مذهبنا في كتابنا هذا أن نأخذ من كل شيء أحسنه ونحذف الكثير الذي يجتزأ منه بالقليل.
خطبة طاهر بن الحسين
لما افتتح مدينة السلام صعد المنبر وأحضر جماعة من بني هاشم والقواد وغيرهم فقال:
الحمد لله مالك الملك، يؤتي الملك من يشاء، وينزع الملك ممن يشاء، ويعز من يشاء، ويذلّ من يشاء؛ ولا يصلح عمل المفسدين، ولا يهدي كيد الخائنين؛ إنّ ظهور غلبتنا لم يكن من أيدنا ولا كيدنا، بل اختار الله لخلافته- إذ جعلها عمودا لدينه، وقواما لعباده- من يستقل بأعبائها، ويضطلع بحملها.
خطبة عبد الله بن طاهر
خطب الناس وقد تيسر لقتال الخوارج؛ فقال: إنكم فئة الله المجاهدون عن حقه، الذابّون عن دينه، الذائدون عن محارمه، الداعون إلى ما أمر به من الاعتصام بحبله، والطاعة لولاة أمره، الذين جعلهم رعاة الدين، ونظام المسلمين فاستنجزوا موعود الله ونصره بمجاهدة عدوّه وأهل معصيته، الذين أشروا «1» وتمردوا وشقوا العصا، وفارقوا الجماعة، ومرقوا من الدين، وسعوا في الأرض فسادا، فإنه يقول تبارك وتعالى: إِنْ تَنْصُرُوا اللَّهَ يَنْصُرْكُمْ وَيُثَبِّتْ أَقْدامَكُمْ
«2» فليكن الصبر معقلكم الذي إليه تلجئون، وعدتكم التي تستظهرون؛ فإنه الوزر المنيع الذي دلكم الله عليه، والجنة الحصينة التي أمركم الله بلباسها؛ غضوا أبصاركم، وأخفتوا أصواتكم في مصافّكم، وامضوا قدما على بصائركم، فارغين إلى ذكر الله والاستعانة به كما أمركم الله؛ فإنه(4/212)
يقول: إِذا لَقِيتُمْ فِئَةً فَاثْبُتُوا وَاذْكُرُوا اللَّهَ كَثِيراً لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ
«1» . أيدكم الله بعز الصبر، ووليكم بالحياطة والنصر.
[خطب لقتيبة بن مسلم]
خطبة قتيبة بن مسلم
قام بخراسان حين خلع سليمان بن عبد الملك، فصعد المنبر، فحمد الله وأثنى عليه، ثم قال:
أتدرون من تبايعون؟ إنما تبايعون يزيد بن ثروان- يعني هبنّقة القيسي- كأني بأمير مزجاء وحكم قد أتاكم يحكم في أموالكم ودمائكم وفروجكم وأبشاركم.
ثم قال: الأعراب! وما الأعراب؟ لعن الله الأعراب! جمعتهم كما يجمع فرخ الخريق «2» من منابت الشيخ والقيصوم «3» ومنابت الفلفل، يركبون البقر؛ ويأكلون الهبيد «4» ، فحملتهم على الخيل، وألبستهم السلاح حتى منع الله بهم البلاد، وجبى بهم الفيء. قالوا: مرنا بأمرك. قال: غرّوا غيري.
وخطبة لقتيبة بن مسلم
يأهل العراق، ألست أعلم الناس بكم؟ أما هذا الحي من أهل العالية فنعم الصدقة، وأما هذا الحي من بكر بن وائل فعلجة «5» بظراء لا تمنع رجليها، وأما هذا الحيّ من عبد القيس فما ضرب العير «6» بذنبه، وأما هذا الحي من الأزد فعلوج خلق الله وأنباطه؛ وايم الله لو ملكت أمر الناس لنقشت أيديهم، وأما هذا الحي من تميم فإنهم كانوا يسمون الغدر في الجاهلية كيسان.
وقال الشاعر:
إذا كنت من سعد وخالك منهم ... بعيدا فلا يغرك خالك من سعد(4/213)
إذا ما دعوا كيسان كانت كهولهم ... إلى الغدر أدنى من شبابهم المرد
وخطبة لقتيبة بن مسلم
يأهل خراسان، قد جرّبتم الولاة قبلي؛ أتاكم أمية فكان كاسمه أمية الرأي، وأمية الدين فكتب إلى خليفته: إن خراج خراسان لو كان في مطبخه لم يكفه؛ ثم أتاكم بعده أبو سعيد ثلاثا، لا تدرون أفي طاعة الله أنتم أم في معصيته؟ ثم لم يجب فيئا، ولم يبل عدوا؛ ثم أتاكم بنوه بعده مثل أطباء «1» الكلبة؛ منهم ابن رحمة، حصان يضرب في عانة؛ لقد كان أبوه يخافه على أمهات أولاده! ثم أصبحتم وقد فتح الله عليكم البلاد [وأمّن لكم السّبل] حتى إنّ الظعينة لتخرج من مرو إلى سمرقند في غير جوار.
قوله أبو سعيد، يريد المهلب بن أبي صفرة. وقوله: ابن رحمة: يريد يزيد بن المهلب.
خطبة ليزيد بن المهلب
حمد الله وأثنى عليه، وصلى على النبي صلّى الله عليه وسلم، ثم قال:
أيها الناس، إني أسمع قول الرعاع، قد جاء العباس، قد جاء مسلمة، قد جاء أهل الشام. وما أهل الشام إلا تسعة أسياف: منها سبعة معي، واثنان عليّ، وما مسلمة إلا جرادة صفراء وأما العباس فبسطوس بن بسطوس، أتاكم في برابرة وصقالبة وجرامقة وأقباط وأنباط وأخلاط؛ أقبل إليكم الفلاحون والأوباش كأشلاء اللحم، والله ما لقوا قط حدّا كحدكم، ولا حديدا كحديدكم، أعيروني سواعدكم ساعة تصفقوا «2» بها خراطيمهم «3» ؛ فإنما هي غدوة أو روحة حتى يحكم الله بيننا وهو خير الحاكمين.
خطبة قس بن ساعدة الإيادي
ابن عباس قال: قدم وفد إياد على رسول الله صلّى الله عليه وسلم، فقال: أيكم يعرف قسّ بن(4/214)
ساعدة الإيادي؟ قالوا: كلنا يعرفه قال: فما فعل؟ قالوا: هلك! قال: ما أنساه بسوق عكاظ في الشهر الحرام على جمل له أحمر وهو يخطب الناس ويقول:
اسمعوا وعوا: من عاش مات، ومن مات فات، وكلّ ما هو آت آت؛ إنّ في السماء لخبرا، وإنّ في الأرض لعبرا، سحائب تمور، ونجوم تغور، في فلك يدور.
يقسم قسّ قسما: إن لله دينا هو أرضى من دينكم هذا.
ثم قال: مالي أرى الناس يذهبون ولا يرجعون؟ أرضوا بالإقامة فأقاموا؟ أم تركوا فناموا.
أيكم يروي من شعره؟ فأنشد بعضهم:
في الذّاهبين الأوّلين ... من القرون لنا بصائر
لما رأيت مواردا ... للموت ليس لها مصادر
ورأيت قومي نحوها ... تمضي: الأكابر والأصاغر
لا يرجع الماضي ولا ... يبقى من الباقين غابر
أيقنت أني لا محا ... لة حيث صار القوم صائر
خطبة عائشة أم المؤمنين رحمها الله يوم الجمل
قالت: أيها الناس صه صه؛ إنّ لي عليكم حق الأمومة، وحقّ الموعظة؛ لا يتهمني إلا من عصى ربّه؛ مات رسول الله صلّى الله عليه وسلم بين سحري «1» ونحري؛ فأنا إحدى نسائه في الجنة، له ادّخرني ربي وخلّصني من كلّ بضع «2» ؛ وبي ميّز مؤمنكم من منافقكم، وبي أرخص الله لكم في صعيد الأبواء «3» ؛ ثم أبي ثاني اثنين الله ثالثهما؛ وأول من سمّي صدّيقا، مضى رسول الله صلّى الله عليه وسلم راضيا عنه؛ وطوّقه أعباء الإمامة، ثم اضطرب حبل الدين بعده؛ فمسك أبي بطرفيه، ورتق لكم فتق النفاق، وأغاض «4» نبع الردة،(4/215)
وأطفأ ما حشّت «1» يهود؛ وأنتم يومئذ جحظ العيون، تنظرون العدوة «2» ، وتسمعون الصيحة؛ فرأب الثّأي، وأوّد»
من الغلظة، وامتاح «4» من الهوّة؛ حتى اجتحى دفين الداء؛ وحتى أعطن الوارد، وأورد الصادر، وعلى الناهل؛ فقبضه الله إليه واطئا على هامات النفاق، مذكيا نار الحرب للمشركين؛ فانتظمت طاعتكم بحبله؛ فولى أمركم رجلا مرعيا إذا ركن إليه، بعيدا ما بين اللابتين إذا ضلّ، عركة للأذاة بجنبه صفوحا عن أذاة الجاهلين، يقظان الليل في نصرة الإسلام؛ فسلك مسلك السابقيه؛ ففرق شمل الفتنة، وجمّع أعضاد ما جمّع القرآن، وأنا نصب المسألة عن مسيري هذا؛ لم ألتمس إثما، ولم أورّث فتنة أوطئكموها: أقول قولي هذا صدقا وعدلا، وإعذارا وإنذارا؛ وأسأل الله أن يصلي على محمد، وأن يخلفه فيكم بأفضل خلافة المرسلين.
خطبة عبد الله بن مسعود
أصدق الحديث كتاب الله. وأوثق العرى كلمة التقوى، خير زاد؛ وأكرم الملل ملة إبراهيم صلّى الله عليه وسلم، وخير السنن سنّة محمد صلّى الله عليه وسلم، وشرّ الأمور محدثاتها، وخير الأمور أوساطها، وما قل وكفى خير مما كثر وألهى، لنفس تحييها خير من إمارة لا تحصيها. خير الغنى غنى النفس. خير ما ألقي في القلب اليقين. الخمر جماع الآثام.
النساء حبائل الشيطان. الشباب شعبة من الجنون. حبّ الكفاية مفتاح المعجزة. شرّ من الناس من لا يأتي الجماعة إلا دبرا «5» ، ولا يذكر الله إلا هجرا «6» . سباب المؤمن فسوق، وقتاله كفر، وأكل لحمه معصية؛ من يتألّ «7» على الله يكذبه، ومن يغفر يغفر له. مكتوب في ديوان المحسنين: من عفا عفي عنه. الشقيّ شقي في بطن أمه. السعيد من وعظ بغيره. الأمور بعواقبها. ملاك الأمر خواتيمه. أحسن الهدي هدي الأنبياء. أقبح الضلالة الضلالة بعد الهدى. أشرف الموت الشهادة. من يعرف البلاء يصبر عليه، ومن لا يعرف البلاء ينكره.(4/216)
خطبة لعتبة بن مروان بعد فتح الأبلة
حمد الله وأثنى عليه، ثم صلى على النبي صلّى الله عليه وسلم؛ وقال:
إن الدنيا قد تولّت [حذّاء مدبرة] ، وقد آذنت أهلها منها بصرم، وإنما بقي منها صبابة كصبابة الإناء يصطبّها صاحبها؛ ألا وإنكم مفارقوها لا محالة، ففارقوها بأحسن ما يحضركم؛ ألا إنّ من العجب أني سمعت رسول الله صلّى الله عليه وسلم يقول:
«إن الحجر الضخم يرمى به في شفير جهنم فيهوي في النار سبعين خريفا، ولجهنّم سبعة أبواب، بين كل بابين منها مسيرة خمسمائة عام، وليأتين عليها ساعة وهي كظيظ «1» بالزحام» ؛ ولقد كنت مع رسول الله صلّى الله عليه وسلم سابع سبعة ما لنا طعام إلا ورق البشام، حتى قرحت أشداقنا؛ فوجدت أنا وسعد بن مالك تمرة فشققتها بيني وبينه نصفين، وما منا أحد اليوم إلا وهو أمير على مصر وإنه لم يكن نبوة قطّ إلا تناسخت «2» ؛ وأنا أعوذ بالله أن أكون في نفسي عظيما وفي أعين الناس صغيرا.
خطب عمرو بن سعيد الأشدق
لما عقد معاوية ليزيد البيعة، قام الناس يخطبون؛ فقال [معاوية] لعمرو بن سعيد: قم يا أبا أمية. فقام فحمد الله وأثنى عليه، ثم قال:
أما بعد فإن يزيد بن معاوية أمل تأملونه، وأجل تأمنونه؛ إن استضفتم إلى حلمه وسعكم، وإن احتجتم إلى رأيه أرشدكم، وإن افتقرتم إلى ذات يده أغناكم؛ جذع «3» قارح «4» ، سوبق فسبق، وموجد فمجد، وقورع فقرع؛ فهو خلف أمير المؤمنين ولا خلف منه.
فقال له معاوية: أوسعت أبا أمية فاجلس.(4/217)
وخطبة لعمرو بن سعيد بالمدينة
قال أبو العباس بن الفرج الرياشي: حدّثنا ابن عائشة قال: قدم عمرو بن سعيد ابن العاص الأشدق المدينة أميرا، فخرج إلى منبر رسول الله صلّى الله عليه وسلم، فقعد عليه وغمض عينيه وعليه جبة خزّ قرمز، ومطرف خز قرمز، وعمامة خز قرمز؛ فجعل أهل المدينة ينظرون إلى ثيابه إعجابا بها، ففتح عينيه فإذا الناس ينظرون إليه؛ فقال:
ما بالكم يا أهل المدينة ترفعون إليّ أبصاركم، كأنكم تريدون أن تضربونا بسيوفكم؟ أغرّكم أنكم فعلتم ما فعلتم فعفونا عنكم؟ أما إنه لو أثبتم بالأولى ما كانت الثانية؛ أغرّكم أنكم قتلتم عثمان فوافقتم «1» ثائرنا منا رفيقا، قد فنى غضبه وبقي حلمه؟ اغتنموا أنفسكم، فقد والله ملكناكم بالشباب المقتبل، البعيد الأمل الطويل الأجل، حين فرغ من الصغر، ودخل في الكبر، حليم حديد، ليّن شديد رقيق كثيف، رفيق عنيف، حين اشتد عظمه. واعتدل جسمه، ورمى الدهر ببصره، واستقبله بأشره، فهو إن عض نهس «2» ، وإن سطا فرس «3» ، لا يقلقل له الحصى، ولا تقرع له العصا، ولا يمشي السّهّمى «4» .
قال: فما بقي بعد ذلك إلا ثلاث سنين وثمانية أشهر، حتى قصمه الله.
خطبة لعمرو بمكة
العتبي قال: استعمل سعيد بن العاص وهو وال على المدينة ابنه عمرو بن سعيد واليا على مكة، فلما قدم لم يلقه قرشي ولا أموي إلا أن يكون الحرث بن نوفل، فلما لقيه قال له: يا حار، ما الذي منع قومك أن يلقوني كما لقيتني؟ قال: ما منعهم من ذلك إلا ما استقبلتني به؛ والله ما كنيتني، ولا أتممت اسمي، وإنما أنهاك عن التكبّر على أكفائك، فإن ذلك لا يرفعك عليهم ولا يضعهم لك. قال: والله ما أسأت الموعظة، ولا أتهمك على النصيحة، وإن الذي رأيت مني لخلق. فلما دخل مكة قام على المنبر، فحمد الله وأثنى عليه، ثم قال:(4/218)
أما بعد، معشر أهل مكة، فإنا سكناها حقبة، وخرجنا عنها رغبة، ولذلك كنا إذا رفعت لنا لهوة بعد لهوة «1» أخذنا أسناها، ونزلنا أعلاها؛ ثم شدخ «2» أمر بين أمرين، فقتلنا وقتلنا؛ فو الله ما نزعنا ولا نزع عنا، حتى شرب الدم دما، وأكل اللحم لحما، وقرع العظم عظما؛ فولي رسول الله صلّى الله عليه وسلم برسالة الله إياه، واختياره له؛ ثم ولي أبو بكر لسابقته وفضله؛ ثم ولي عمر؛ ثم أجيلت قداح نزعن من شعب «3» حول نبعة، ففاز بحظّها أصلبها وأعتقها، فكنا بعض قداحها؛ ثم شدخ أمر بين أمرين، فقتلنا وقتلنا، فوالله ما نزعنا ولا نزع عنا حتى شرب الدم دما، وأكل اللحم لحما، وقرع العظم عظما، وعاد الحرام حلالا، وأسكت كل ذي حسن عن ضرب مهنّد، عركا عركا، وعسفا عسفا، وخزا ونهسا، حتى طابوا عن حقنا نفسا، والله ما أعطوه عن هوادة، ولا رضوا فيه بالقضاء؛ أصبحوا يقولون: حقّنا غلبنا عليه، فجزيناه هذا بهذا، وهذا في هذا.
يا أهل مكة، أنفسكم أنفسكم! وسفهاءكم سفهاءكم! فإن معي سوطا نكالا، وسيفا وبالا، وكلّ منصوب على أهله. ثم نزل.
خطبة للأحنف بن قيس
قال بعد حمد الله والثناء عليه: يا معشر الأزد وربيعة، أنتم إخواننا في الدين وشركاؤنا في الصّهر «4» ، وأشقّاؤنا في النسب، وجيراننا في الدار، ويدنا على العدو، والله لأزد البصرة أحبّ إلينا من تميم الكوفة، ولأزد الكوفة أحب إلينا من تميم الشام؛ فإن استشرف شنآنكم وأبي حسد صدوركم، ففي أحلامنا وأموالنا سعة لنا ولكم.
خطبة ليوسف بن عمر
قام خطيبا فقال: اتقوا الله عباد الله: فكم مؤمّل أملا لا يبلغه، وجامع مالا لا(4/219)
يأكله، ومانع عما سوف يتركه؛ ولعله من باطل جمعه، ومن حقّ منعه أصابه حراما، وأورثه عدوّا حلالا، فاحتمل إصره «1» ، وباء بوزره، وورد على ربه أسفا لهفا، خسر الدنيا والآخرة، ذلك هو الخسران المبين.
خطبة لشداد بن أوس الطائي
حمد الله وأثنى عليه وقال: ألا إن الدنيا عرض حاضر، يأكل منها البرّ والفاجر؛ ألا إن الآخرة وعد صادق، يحكم فيها ملك قادر؛ ألا إن الخير كلّه بحذافيره في الجنة؛ ألا إن الشرّ كله بحذافيره في النار، فاعملوا ما عملتم وأنتم في يقين من الله، واعلموا أنكم معروضة أعمالكم على الله، فَمَنْ يَعْمَلْ مِثْقالَ ذَرَّةٍ خَيْراً يَرَهُ، وَمَنْ يَعْمَلْ مِثْقالَ ذَرَّةٍ شَرًّا يَرَهُ
«2» وغفر الله لنا ولكم.
خطبة لخالد بن عبد الله القسري
صعد المنبر يوم جمعة وهو والي مكة، فذكر الحجاج فأحمد طاعته وأثنى عليه خيرا؛ فلما كان في الجمعة الثانية ورد عليه كتاب سليمان بن عبد الملك يأمره فيه بشتم الحجاج وذكر عيوبه وإظهار البراءة منه: فصعد المنبر فحمد الله وأثنى عليه، ثم قال:
إن إبليس كان ملكا من الملائكة، وكان يظهر من طاعة الله ما كانت الملائكة ترى له به فضلا، وكان قد علم الله من غشه وخبثه ما خفى على ملائكته فلما أراد فضيحته ابتلاه بالسجود لآدم، فظهر لهم ما كان يخفيه عنهم، فلعنوه؛ وإن الحجاج كان يظهر من طاعة أمير المؤمنين ما كنا نرى له به فضلا، وكان الله قد أطلع أمير المؤمنين من غشه وخبثه على ما خفي عنا؛ فلما أراد [الله] فضيحته أجرى ذلك على يد أمير المؤمنين، [فلعنه] ، فالعنوه لعنه الله!
خطبة لمصعب بن الزبير
قدم العراق فصعد المنبر ثم قال:(4/220)
بسم الله الرحمن الرحيم. طسم تِلْكَ آياتُ الْكِتابِ الْمُبِينِ، نَتْلُوا عَلَيْكَ مِنْ نَبَإِ مُوسى وَفِرْعَوْنَ بِالْحَقِّ لِقَوْمٍ يُؤْمِنُونَ، إِنَّ فِرْعَوْنَ عَلا فِي الْأَرْضِ وَجَعَلَ أَهْلَها شِيَعاً يَسْتَضْعِفُ طائِفَةً مِنْهُمْ يُذَبِّحُ أَبْناءَهُمْ وَيَسْتَحْيِي نِساءَهُمْ، إِنَّهُ كانَ مِنَ الْمُفْسِدِينَ
«1» وأشار بيده نحو الشام وَنُرِيدُ أَنْ نَمُنَّ عَلَى الَّذِينَ اسْتُضْعِفُوا فِي الْأَرْضِ وَنَجْعَلَهُمْ أَئِمَّةً وَنَجْعَلَهُمُ الْوارِثِينَ
«2» وأشار بيده نحو الحجاز وَنُمَكِّنَ لَهُمْ فِي الْأَرْضِ وَنُرِيَ فِرْعَوْنَ وَهامانَ وَجُنُودَهُما مِنْهُمْ ما كانُوا يَحْذَرُونَ
«3» وأشار بيده نحو العراق.
خطبة للنعمان بن بشير بالكوفة
قال: إني والله ما وجدت مثلي ومثلكم إلا الضبع والثعلب: أتيا الضبّ في جحره فقالا: أبا حسل. قال: أجبتكما. قالا: جئناك نختصم. قال: في بيته يؤتى الحكم. قالت الضبع: فتحت عيني. قال: فعل النساء فعلت. قالت: فلقطت تمرة. قال: حلوا اجتنيت. قالت: فاختطفها ثعالة! قال: لنفسه بغى [الخير] . قالت. فلطمته لطمة! قال: حقّا قضيت. قالت: فلطمني أخرى. قال: كان حرّا فانتصر. قالت: فاقض الآن بيننا. قال: حدث امرأة حديثين، فإن أبت فاربع، أي: اسكت.
خطبة شبيب بن شيبة
قيل لبعض الخلفاء: إن شبيب بن شيبة يستعمل الكلام ويستعد له، فلو أمرته أن يصعد المنبر لرجوت أن يفتضح، قال: فأمر رسولا فأخذ بيده إلى المسجد، فلم يفارقه حتى صعد المنبر، فحمد الله وأثنى عليه، وصلّى على النبي صلّى الله عليه وسلم حق الصلاة عليه؛ ثم قال: ألا إن لأمير المؤمنين أشباها أربعة: الأسد الخادر، والبحر الزاخر، والقمر الباهر، والربيع الناضر؛ فأما الأسد الخادر فأشبه منه صولته ومضاءه، وأما البحر الزاخر فأشبه منه جوده وعطاءه، وأما القمر الباهر فأشبه منه نوره وضياءه، وأما الربيع الناضر فأشبه منه حسنه وبهاءه. ثم نزل عن المنبر وأنشأ يقول:(4/221)
وموقف مثل حدّ السّيف قمت به ... أحمي الذّمار وترميني به الحدق «1»
فما زلقت وما ألقيت كاذبة ... إذا الرّجال على أمثاله زلقوا «2»
خطب لعتبة بن أبي سفيان
بلغه عن أهل مصر شي فأغضبه، فقام فيهم، فقال بعد أن حمد الله وأثنى عليه:
يا أهل مصر، إياكم أن تكونوا للسيف حصيدا، فإن لله فيكم ذبيحا لعثمان أرجو أن يوليني نسكه «3» ؛ إن الله جمعكم بأمير المؤمنين بعد الفرقة، فأعطى كلّ ذي حقّ حقه وكان الله فيكم، ومنّة منه عليكم؛ وقد بلغنا عنكم نجم قول، أظهره تقدّم عفو منا، فلا تصيروا إلى وحشة الباطل بعد أنس الحق، بإحياء الفتنة وإماتة السّنن؛ فأطأكم وطأة لا رمق معها؛ حتى تنكروا مني ما كنتم تعرفون، وتستخشنوا ما كنتم تستلينون؛ وأنا أشهد عليكم الذي يعلم خائنة الأعين وما تخفي الصدور.
وخطبة لعتبة بن أبي سفيان
يا حاملي الأم أنوف ركبت بين أعين، إنما قلّمت أظفاري عنكم ليلين مسّي إياكم، وسألتكم صلاحكم؛ إذ كان فسادكم راجعا عليكم، فأما إذ أبيتم إلا الطعن على الولاة، والتنقّص للسلف، فوالله لأقطعن على ظهوركم بطون السّياط، فإن حسمت داءكم وإلا فالسيف من ورائكم؛ ولست أبخل عليكم بالعقوبة إذا جدتم لنا بالمعصية، ولا أؤيسكم من مراجعة الحسنى إن صرتم إلى التي هي أبرّ وأتقى.
وخطبة لعتبة بن أبي سفيان
لما اشتكى شكاته التي مات فيها، تحامل إلى المنبر فقال:
يا أهل مصر، لا غنى عن الرب، ولا مهرب من ذنب؛ إنه قد تقدّمت مني(4/222)
إليكم عقوبات كنت ارجو يومئذ الأجر فيها، وأنا أخاف اليوم الوزر منها، فليتني لا أكون اخترت دنياي على معادي، فأصلحتكم بفسادي؛ وأنا أستغفر الله منكم، وأتوب إليه فيكم؛ فقد خفت ما كنت أرجو نفعا عليه، ورجوت ما كنت أخاف اغتيالا به، وقد شقي من هلك بين رحمة الله وعفوه؛ والسلام عليكم، سلام من لا ترونه عائدا إليكم. قال: فلم يعد.
وخطبة لعتبة
العتبي: قال سعد القصر: احتبست عنا كتب معاوية بن أبي سفيان حين أرجف أهل مصر بموته، ثم قدم علينا كتابه بسلامته؛ فصعد عتبة المنبر والكتاب في يده، فحمد الله وأثنى عليه، ثم قال:
يا أهل مصر، قد طالت معاتبتنا إياكم بأطراف الرماح وظبات «1» السيوف، حتى صرنا شجى في لهواتكم ما تسيغه حلوقكم، وأقذاء في أعينكم ما تطرف عليها جفونكم، أفحين اشتدّت عرى الحق عليكم عقدا واسترخت عقد الباطل منكم حلا، أرجفتم بالخليفة، وأردتم تهوين الخلافة، وخضتم الحق إلى الباطل، وأقدم عهدكم به حديث، فاربحوا أنفسكم إذا خسرتم دينكم؛ فهذا كتاب أمير المؤمنين بالخبر السارّ عنه والعهد القريب منه؛ واعلموا أن سلطاننا على أبدانكم دون قلوبكم؛ فأصلحوا لنا ما ظهر، نكلكم إلى الله فيما بطن؛ وأظهروا خيرا وإن أضمرتم شرا، فإنكم حاصدون ما أنتم زارعون؛ وعلى الله أتوكل وبه أستعين. ثم نزل.
خطبة عتبة في الموسم
سعد القصر قال: قال مولى عتبة بن أبي سفيان: دفع عتبة بن أبي سفيان بالموسم سنة إحدى وأربعين، والناس حديث عهدهم بالفتنة، فقال بعد أن حمد الله وأثنى عليه:(4/223)
إنا قد ولينا هذا المقام الذي يضعف الله فيه للمحسنين الأجر، وللمسيئين الوزر، ونحن على طريق ما قصدنا له، فلا تمدوا الأعناق إلى غيرنا، فإنها تنقطع من دوننا؛ ورب متمنّ حتفه في أمنيته، اقبلونا ما قبلنا العافية فيكم وقبلناها منكم، وإياكم ولوّا «1» فإن لوّا قد أتعبت من قبلكم، ولن تريح من بعدكم؛ فأسأل الله أن يعين كلّا على كل.
فناداه أعرابي من ناحية المسجد: أيها الخليفة. قال: لست به ولم تبعد فقال: يا أخاه! فقال: أسمعت فقل.
فقال: والله لأن تحسنوا وقد أسأنا خير لكم من أن تسيئوا وقد أحسنّا فإن كان الإحسان لكم فما أحقّكم باستتمامه، وإن كان لنا فما أحقكم بمكافأتنا. رجل من بني عامر بن صعصعة يلقاكم بالعمومة، ويختص إليكم بالخئولة، وقد كثر عياله، ووطئه زمانه، وبه فقر، وفيه أجر، وعنده شكر.
فقال عتبة: أستغفر الله منكم؛ وأسأله العون عليكم، وقد أمرت لك بغناك؛ فليت إسراعنا إليك يقوم بإبطائنا عنك.
خطبة لعتبة بن أبي سفيان
سعد القصر قال:
وجّه عتبة بن أبي سفيان ابن أخي أبي الأعور السلمي إلى مصر فمنعوه الخراج، فقدم عليهم عتبة فقام خطيبا فقال:
يأهل مصر، قد كنتم تعتذرون لبعض المنع منكم ببعض الجور عليكم؛ فقد وليكم من يقول ويفعل، ويقول؛ فإن رددتم ردّكم بيده، وإن استعصيتم ردّكم بسيفه، ثم رجا في الآخر ما أمّل في الأوّل؛ إن البيعة مشايعة «2» ، فلنا عليكم السمع والطاعة،(4/224)
ولكم علينا العدل؛ فأيّنا غدر فلا ذمّة له عند صاحبه، والله ما انطلقت بها ألسنتنا حتى عقدت عليها قولبنا، ولا طلبناها منكم حتى بذلناها لكم، ناجزا بناجز، ومن حذّر كمن بشّر. قال فنادوه: سمعا سمعا، فناداهم: عدلا عدلا عدلا.
وخطبة لعتبة
قدم كتاب معاوية إلى عتبة بمصر: إنّ قبلك قوما يطعنون على الولاة ويعيبون السلف. فخطبهم فقال:
يأهل مصر، خفّ على ألسنتكم مدح الحق ولا تفعلونه، وذمّ الباطل وأنتم تأتونه، كالحمار يحمل أسفارا أثقله حملها ولم ينفعه ثقلها، وايم الله لا أداويكم بالسيف ما صلحتم على السوط، ولا أبلغ السوط ما كفتني الدّرة، ولا أبطيء عن الأولى ما لم تسرعوا إلى الأخرى؛ فالزموا ما أمركم الله به، تستوجبوا ما فرض الله لكم علينا؛ وإياكم وقال ويقول، قبل أن يقال فعل ويفعل؛ وكونوا خير قوس سهما. فهذا اليوم الذي ليس قبله عقاب، ولا بعده عتاب.
خطب الخوارج
خطبة لقطري بن الفجاءة في ذمّ الدنيا
صعد قطري بن الفجاءة منبر الأزارقة- وهو أحد بني مازن بن عمرو بن تميم- فحمد الله وأثنى عليه، ثم قال:
أمّا بعد، فإني أحذركم الدنيا، فإنها حلوة خضرة، حفّت بالشهوات، وراقت بالقليل، وتحببت بالعاجلة، وغمرت بالآمال، وتحلّت بالأماني وزيّنت بالغرور؛ لا تدوم حسرتها، ولا تؤمن فجعتها؛ غدّارة ضرارة، وحائلة زائلة، ونافدة بائدة؛ لا تعدو- إذا [هي] تناهت إلى أمنيّة أهل الرغبة فيها والرضا عنها- أن تكون كما قال الله عز وجل: كَماءٍ أَنْزَلْناهُ مِنَ السَّماءِ فَاخْتَلَطَ بِهِ نَباتُ الْأَرْضِ فَأَصْبَحَ هَشِيماً(4/225)
تَذْرُوهُ الرِّياحُ وَكانَ اللَّهُ عَلى كُلِّ شَيْءٍ مُقْتَدِراً
«1» . مع أن امرءا لم يكن منها في حيرة، إلا أعقبته بعدها عبرة؛ ولم يلق من سرائها بطنا، إلا منحته من ضرائها ظهرا؛ ولم تطلّه منها ديمة رخاء، إلا هطلت عليه مزنة «2» بلاء؛ وحريّ إذا أصبحت له منتصرة أن تمسي له خاذلة متنكرة؛ وإن جانب منها اعذوذب واحلولى، أمر عليه منها جانب فأوبا؛ وإن لبس امرؤ من غضارتها ورفاهيتها نعما، أرهقته من نوائبها غمّا؛ ولم يمس امرؤ منها في جناح أمن، إلا أصبح منها في قوادم خوف؛ غرّارة، غرور ما فيها؛ باقية، فان ما عليها؛ لا خير في شيء من زادها إلا التقوى، من أقلّ منها استكثر مما يؤمّنه، ومن استكثر منها استكثر مما يوبقه «3» ، وزال عما قليل عنه، استكثر مما يوبقه؛ كم واثق بها قد فجعته، وذي طمأنينة إليها قد صرعته، وكم من ذي اختيال فيها قد خدعته؛ وكم من ذي أبّهة فيها قد صيّرته حقيرا وذي نخوة فيها قد ردّته ذليلا، وذي تاج قد كبّته «4» لليدين والفم؛ سلطانها دول»
، وعيشها رنق، وعذبها أجاج، وحلوها مرّ، وغذاؤها سمام، وأسبابها رمام «6» وقطافها سلع «7» ؛ حيها بعرض موت، وصحيحها بعرض سقم، ومنيعها بعرض اهتضام؛ مليكها مسلوب، وعزيزها مغلوب، وصحيحها وسليمها منكوب؛ وحائزها وجامعها محروب؛ مع أنّ من وراء ذلك سكرات الموت وزفراته، وهول المطّلع، والوقوف بين يدي الحكم العدل؛ ليجزي الذين أساءوا بما عملوا ويجزي الذين أحسنوا بالحسنى.
ألستم في مساكن من كان أطول أعمارا، وأوضح آثارا، وأعدّ عديدا، وأكثف جنودا، وأعتد عتادا، وأطول عمادا؟ تعبّدوا للدنيا أيّ تعبد، وآثروها أي إيثار، وظعنوا عنها بالكرّة والصّغار؛ فهل بلغكم أنّ الدنيا سمحت لهم نفسا بفدية، وأغنت عنهم فيما أمّلتهم به بخطب! بل أثقلتهم بالفوادح، وضعضعتهم بالنوائب، وعفّرتهم(4/226)
للمناخر، وأعانت عليهم ريب المنون، وعقرتهم بالمصائب؛ وقد رأيتم تنكّرها لمن دان لها وآثرها وأخلد إليها، حتى ظعنوا عنها لفراق الأبد إلى آخر الأمد. هل زوّدتهم إلا الشقاء، وأحلّتهم إلا الضنك، أو نوّرت لهم إلا الظلمة، وأعقبتهم إلا الندامة؟
أفهذه تؤثرون، أم عليها تحرصون، أم إليها تطمئنون؟ يقول الله تبارك وتعالى:
مَنْ كانَ يُرِيدُ الْحَياةَ الدُّنْيا وَزِينَتَها نُوَفِّ إِلَيْهِمْ أَعْمالَهُمْ فِيها وَهُمْ فِيها لا يُبْخَسُونَ أُولئِكَ الَّذِينَ لَيْسَ لَهُمْ فِي الْآخِرَةِ إِلَّا النَّارُ وَحَبِطَ ما صَنَعُوا فِيها وَباطِلٌ ما كانُوا يَعْمَلُونَ
«1» ؛ فبئست الدار لمن لم يتّهمها، ولم يكن فيها على وجل منها؛ اعملوا وأنتم تعلمون أنكم تاركوها لا بدّ؛ فإنما هي كما نعت الله عز وجل: لَعِبٌ وَلَهْوٌ وَزِينَةٌ وَتَفاخُرٌ بَيْنَكُمْ وَتَكاثُرٌ فِي الْأَمْوالِ وَالْأَوْلادِ
«2» . فاتّعظوا فيها بالذين يبنون بكل ريع آية يعبثون، ويتخذون مصانع لعلهم يخلدون، وبالذين قالوا: مَنْ أَشَدُّ مِنَّا قُوَّةً
«3» ؛ واتعظوا بمن رأيتم من إخوانكم كيف حملوا إلى قبورهم فلا يدعون ركبانا، وأنزلوا [الأجداث] فلا يدعون ضيفانا، وجعل لهم من الضريح أكنان، ومن التراب أكفان، ومن الرّفات جيران؛ فهم جيرة لا يجيبون داعيا، ولا يمنعون ضيما، إن أخصبوا لم يفرحوا، وإن قحطوا لم يقنطوا، جمع وهم آحاد، جيرة وهم أبعاد، متناءون وهم يزارون ولا يزورون، حلماء قد ذهبت أضغانهم، وجهلاء قد ماتت أحقادهم، لا يخشى فجعهم، ولا يرجى دفعهم، وهم كمن لم يكن، قال الله تعالى: فَتِلْكَ مَساكِنُهُمْ لَمْ تُسْكَنْ مِنْ بَعْدِهِمْ إِلَّا قَلِيلًا وَكُنَّا نَحْنُ الْوارِثِينَ
«4» استبدلوا بظهر الأرض بطنا، وبالسعة ضيقا، وبالآل غربة، وبالنور ظلمة، فجاءوها حفاة عراة فرادى، غير أن ظعنوا بأعمالهم إلى الحياة الدائمة إلى خلود الأبد يقول الله تبارك وتعالى: كَما بَدَأْنا أَوَّلَ خَلْقٍ نُعِيدُهُ، وَعْداً عَلَيْنا إِنَّا كُنَّا فاعِلِينَ
«5» ، فاحذروا ما حذركم الله، وانتفعوا بمواعظه، واعتصموا بحبله، عصمنا الله وإياكم(4/227)
بطاعته، ورزقنا وإياكم أداء حقه. ثم نزل.
خطب لأبي حمزة بمكة
خطبهم أبو حمزة الشاري بمكة، فصعد المنبر متوكئا على قوس عربية، فخطب خطبة طويلة، ثم قال:
يأهل مكة، تعيّرونني بأصحابي، تزعمون أنهم شباب، وهل كان أصحاب رسول الله صلّى الله عليه وسلم إلا شبابا؟ نعم الشباب مكتهلين، عمية عن الشر أعينهم، بطيئة عن الباطل أرجلهم، قد نظر الله إليهم في آناء الليل منثنية أصلابهم بمثاني القرآن، إذا مرّ أحدهم بآية فيها ذكر الجنة بكى شوقا إليها، وإذا مر بآية فيها ذكر النار شهق شهقة كأن زفير جهنم في أذنيه، قد وصلوا كلال ليلهم بكلال نهارهم، أنضاء عبادة، قد أكلت الأرض جباههم وأيديهم وركبهم، مصفرة ألوانهم، ناحلة أجسامهم من كثرة الصيام وطول القيام، مستقلون لذلك في جنب الله، موفون بعهد الله، منجزون لوعد الله، [حتى] إذا رأوا سهام العدوّ قد فوّقت «1» ، ورماحهم قد أشرعت، وسيوفهم قد انتضيت، وبرقت الكتيبة ورعدت بصواعق الموت- استهانوا بوعيد الكتيبة لوعيد الله، فمضى لشاب منهم قدما حتى تختلف رجلاه على عنق فرسه، قد رمّلت «2» محاسن وجهه الدماء، وعفّر جبينه بالثرى، وأسرع إليه سباع الأرض، وانحطت عليه طير سماء؛ فكم من مقلة في منقار طائر، طالما بكى صاحبها من خشية الله، وكم من كف بانت رقيق، قد فلق بعمد الحديد! رحمة الله على تلك الأبدان، وأدخل أرواحها الجنان.
ثم قال: الناس منا ونحن منهم، إلا عابد وثن، أو كفرة أهل الكتاب، وإماما جائرا، أو شادّا على عضده.
وخطبة أبي حمزة بالمدينة
قال مالك بن أنس رحمه الله: خطبنا أبو حمزة خطبة شك فيها المستبصر وردّت المرتاب، قال:(4/228)
أوصيكم بتقوى الله وطاعته، والعمل بكتابه وسنة نبيه صلّى الله عليه وسلم، وصلة الرحم، وتعظيم ما صغرت الجبابرة من حق الله، وتصغير ما عظّمت من الباطل، وإماتة ما أحيوا من الجور، وإحياء ما أماتوا من الحقوق، وأن يطاع الله ويعصى العباد في طاعته؛ فالطاعة لله ولأهل طاعة الله، ولا طاعة لمخلوق في معصية الخالق؛ ندعو إلى كتاب الله وسنة نبيه، والقسم بالسوية، والعدل في الرعية، ووضع الأخماس في مواضعها التي أمر الله بها؛ إنا والله ما خرجنا أشرا «1» ولا بطرا «2» ولا لهوا ولا لعبا؛ ولا لدولة ملك نريد أن نخوض فيها ولا لثأر قد نيل منّا؛ ولكنا لمّا رأينا الأرض قد أظلمت، ومعالم الجور قد ظهرت، وكثر الادّعاء في الدين، وعمل بالهوى، وعطّلت الأحكام، وقتل القائم بالقسط «3» ، وعنّف القائل بالحق- سمعنا مناديا ينادي إلى الحق وإلى طريق مستقيم، فأجبنا داعي الله، فأقبلنا من قبائل شتى، قليلين مستضعفين في الأرض، فآوانا الله وأيدنا بنصره، فأصبحنا بنعمته إخوانا، وعلى الدين أعوانا.
يأهل المدينة، أوّلكم خير أوّل، وآخركم شرّ آخر؛ إنكم أطعتم قراءكم وفقهاءكم فاختانوكم عن كتاب غير ذي عوج، بتأويل الجاهلين، وانتحال المبطلين؛ فأصبحتم عن الحق ناكبين «4» ، أمواتا غير أحياء وما تشعرون.
يأهل المدينة، يا أبناء المهاجرين والأنصار والذين اتبعوهم بإحسان، ما أصح أصلكم، وأسقم فرعكم! كان آباؤكم أهل اليقين، وأهل المعرفة بالدين، والبصائر النافذة، والقلوب الواعية؛ وأنتم أهل الضلالة والجهالة؛ استعبدتكم الدنيا فأذلتكم والأمانيّ فأضلتكم؛ فتح الله لكم باب الدّين فسددتموه، وأغلق عنكم باب الدنيا ففتحتموه؛ سراع إلى الفتنة، بطاء عن السّنّة «5» ؛ عمي عن البرهان، صمّ عن العرفان؛(4/229)
عبيد الطمع، حلفاء الجزع؛ نعم ما ورّثكم آباؤكم لو حفظتموه، وبئس ما تورّثون أبناءكم إن تمسكوا به! نصر الله آباءكم على الحق، وخذلكم على الباطل؛ كان عدد آبائكم قليلا طيّبا وعددكم كثير خبيث؛ اتبعتم الهوى فأرداكم واللهو فأسهاكم، ومواعظ القرآن تزجركم فلا تزدجرون، وتعبّركم فلا تعتبرون، سألناكم عن ولاتكم هؤلاء فقلتم: والله ما فيهم الذي يعدل؛ أخذوا المال من غير حلّه، فوضعوه في غير حقه؛ وجاروا في الحكم، فحكموا بغير ما أنزل الله؛ واستأثروا بفيئنا؛ فجعلوه دولة بين الأغنياء منهم، وجعلوا مقاسمنا وحقوقنا في مهور النساء وفروج الإماء. وقلنا لكم:
تعالوا إلى هؤلاء الذين ظلمونا وظلموكم، وجاروا في الحكم فحكموا بغير ما أنزل الله. فقلتم: لا نقوى على ذلك، ووددنا أنا أصبنا من يكفينا، فقلنا: نحن نكفيكم. ثم الله راع علينا وعليكم، إن ظفرنا لنعطينّ كلّ ذي حق حقه؛ فجئنا فاتقينا الرماح بصدورنا، والسيوف بوجوهنا، فعرضتم لنا دونهم، فقاتلتمونا، فأبعدكم الله؛ فوالله لو فلتم لا نعرف الذي تقول ولا نعلمه لكان أعذر؛ مع أنه لا عذر للجاهل، ولكن أبى الله إلا أن ينطق بالحق على ألسنتكم ويأخذكم به في الآخرة.
ثم قال: الناس منا ونحن منهم، إلا ثلاثة: حاكما جاء بغير ما أنزل الله، أو متبعا له، أو راضيا بعمله.
أسقطنا في هذه الخطبة ما كان من طعنه على الخلفاء، فإنه طعن فيها على عثمان وعلي بن أبي طالب رضوان الله عليهما، وعمر بن عبد العزيز، ولم يترك من جميع الخلفاء إلا أبا بكر وعمر، وكفّر من بعدهما، فلعنة الله عليه؛ إلا أنه ذكر من الخلفاء رجلا أصغى إلى الملاهي والمعازف وأضاع أمر الرعية فقال: كان فلان ابن فلان من عدد الخلفاء عندكم، وهو مضيّع للدين والدنيا، اشتري له بردان بألف دينار ائتزر بأحدهما والتحف بالآخر، وأقعد حبّابة عن يمينه، وسلامة عن يساره، فقال: يا حبابة غنيني، ويا سلامة استقيني؛ فإذا امتلأ سكرا وازدهى طربا شق ثوبيه وقال: ألا أطير؟
فطر إلى النار وبئس المصير! فهذه صفة خلفاء الله تعالى.(4/230)
وخطبة لأبي حمزة
أما بعد، فإنك في ناشيء فتنة، وقائم ضلالة قد طال جثومها، واشتدّ عليك غمومها، وتلوّت مصايد عدوّ الله، وما نصب من الشرك لأهل الغفلة عما في عواقبها، فلن يهدّ عمودها، ولن ينزع أوتادها، إلا الذي بيده ملك الأشياء وهو الله الرحمن الرحيم: ألا وإن لله بقايا من عباده لم يتحيروا في ظلمها، ولم يشايعوا أهلها على شبهها؛ مصابيح النور في أفواههم تزهو، وألسنتهم بحجج الكتاب تنطق؛ ركبوا منهج السبيل، وقاموا على العلم الأعظم، هم خصماء الشيطان الرجيم، بهم يصلح الله البلاد، ويدفع عن العباد؛ طوبى لهم وللمستصبحين بنورهم، وأسأل الله أن يجعلنا منهم.
من أرتج «1» عليه في خطبته
أول خطبة خطبها عثمان بن عفان أرتج عليه؛ فقال: أيها الناس، إن أول كلّ مركب صعب؛ وإن أعش تأتكم الخطب على وجهها؛ وسيجعل الله بعد عسر يسرا إن شاء الله.
ولما قدم يزيد بن أبي سفيان الشام واليا عليها لأبي بكر، خطب الناس فأرتج عليه؛ فعاد إلى الحمد لله، ثم أرتج عليه فعاد إلى الحمد ثم أرتج عليه فقال: يأهل الشام عسى الله أن يجعل بعد عسر يسرا، وبعد عيّ بيانا؛ وأنتم إلى إمام فاعل أحوج منكم إلى إمام قائل. ثم نزل، فبلغ ذلك عمرو بن العاص فاستحسنه.
صعد ثابت قطنة منبر سجستان، فقال: الحمد لله. ثم أرتج عليه؛ فنزل وهو يقول:
فإن لا أكن فيهم خطيبا فإنني ... بسيفي إذا جدّ الوغى لخطيب
فقيل له: لو قلتها فوق المنبر لكنت أخطب الناس.(4/231)
وخطب معاوية بن أبي سفيان لما ولي، فحصر «1» ، فقال: أيها الناس، إني كنت أعددت مقالا أقوم به فيكم فحجبت عنه؛ فإن الله يحول بين المرء وقلبه؛ كما قال في كتابه؛ وأنتم إلى إمام عدل، أحوج منكم إلى إمام خطيب؛ وإني آمركم بما أمر الله به ورسوله، وأنهاكم عما نهاكم الله عنه ورسوله، وأستغفر الله لي ولكم.
وصعد خالد بن عبد الله القسري المنبر فأرتج عليه، فمكث مليا لا يتكلم؛ ثم تهيأ له الكلام فتكلم، فقال: أما بعد، فإن هذا الكلام يجيء أحيانا ويعزب «2» أحيانا، فيسح عند مجيئه سيبه «3» ، ويعزّ عند عزوبه طلبه؛ ولربما كوبر فأبى، وعولج فنأى؛ فالتأني لمجيّه، خير من التعاطي لأبيّه، وتركه عند تنكره، أفضل من طلبه عند تعذره؛ وقد يرتج على البليغ لسانه، ويخلج من الجريّ جنانه؛ وسأعود فأقول إن شاء الله.
وصعد أبو العنبس منبرا من منابر الطائف، فحمد الله وأثنى عليه، ثم قال: أما بعد ... فأرتج عليه، فقال: أتدرون ما أريد أن أقول لكم؟ قالوا: لا. قال: فما ينفعني ما أريد أن أقول لكم؟ ثم نزل.
فلما كان في الجمعة الثانية صعد المنبر وقال: أما بعد؛ فأرتج عليه؛ فقال: أتدرون ما أريد أن أقول لكم؟ قالوا: نعم. قال: فما حاجتكم إلى أن أقول لكم ما علمتم؟ ثم نزل.
فلما كانت الجمعة الثالثة قال: أما بعد؛ فأرتج عليه، قال: أتدرون ما أريد أن أقول لكم؟ قالوا: بعضنا يدري، وبعضنا لا يدري. قال: فليخبر الذي يدري منكم الذي لا يدري! ثم نزل.
وأتى رجل من بني هاشم اليمامة، فلم اصعد المنبر أرتج عليه؛ فقال: حيّا الله هذه الوجوه وجعلني فداءها: قد أمرت طائفي بالليل ألا يرى أحدا إلا أتاني به؛ وإن(4/232)
كنت أنا هو! ثم نزل.
وكان خالد بن عبد الله إذ تكلم يظنّ الناس أنه يصنع الكلام، لعذوبة لفظه وبلاغة منطقه؛ فبينا هو يخطب يوما إذ وقعت جرادة على ثوبه، فقال: سبحان من الجرادة من خلقه، أدمج قوائمها وطرفها وجناحيها، وسلطها على ما هو أعظم منها.
خطب عبد الله بن عامر بالبصرة في يوم أضحى، فأرتج عليه، فمكث ساعة ثم قال: والله لا أجمع عليكم عيّا ولؤما. من أخذ شاة من السوق فهي له وثمنها عليّ.
قيل لعبد الملك بن مروان: عجل عليك المشيب يا أمير المؤمنين. فقال: كيف لا يعجل وأنا أعرض عقلي على الناس في كل جمعة مرة أو مرتين.
خطب النكاح
خطب عثمان بن عنبسة بن أبي سفيان إلى عتبة بن أبي سفيان ابنته، فأقعده على فخذه، وكان حدثا، فقال:
أقرب قريب، خطب أحبّ حبيب، لا أستطيع له ردّا، ولا أجد من إسعافه بدّا؛ وقد زوّجتكها وأنت أعز عليّ منها، وهي ألصق بقلبي منك؛ فأكرمها يعذب على لساني ذكرك، ولا تهنها فيصغر عندي قدرك؛ وقد قرّبتك مع قربك. فلا تبعد قلبي من قلبك.
وخطبة نكاح
سوار القاضي:
العتبي قال: زوّج شبيب بن شيبة ابنه بنت سوار القاضي، فقلنا: اليوم يعبّ عبابه! فلما اجتمعوا تكلم فقال:
الحمد لله، وصلى الله على رسول الله، أمّا بعد، فإن المعرفة منا ومنكم بنا وبكم، تمنعنا من الإكثار، وإن فلانا ذكر فلانة.(4/233)
وخطبة نكاح
العتبي قال: كان الحسن البصري يقول في خطبة النكاح، بعد الحمد لله والثناء عليه:
أمّا بعد، فإن الله جمع بهذا النكاح الأرحام المنقطعة، والأنساب المتفرقة، وجعل ذلك في سنّة من دينه ومنهاج [واضح] من أمره؛ وقد خطب إليكم فلان، وعليه من الله نعمة، وهو يبذل من الصداق كذا فاستخيروا الله وردّوا خيرا يرحمكم الله.
وخطبة نكاح
العتبي قال: حضرت ابن الفقير خطب على نفسه امرأة من باهلة، فقال:
وما حسن أن يمدح المرء نفسه ... ولكن أخلاقا تذمّ وتمدح
وإن فلانة ذكرت لي.
وخطبة نكاح
عمر بن عبد العزيز:
العتبي قال: يستحب للخطاب إطالة الكلام، وللمخطوب إليه تقصيره؛ فخطب محمد بن الوليد [بن عتبة بن أبي سفيان] إلى عمر بن عبد العزيز أخته، فتكلم محمد بكلام طويل، فأجابه عمر:
الحمد لله ذي الكبرياء، وصلى الله على محمد خاتم الأنبياء، أمّا بعد، فإن الرغبة منك دعتك إلينا، والرغبة فيك أجابتك منا، وقد أحسن بك ظنّا من أودعك كريمته، واختارك ولم يختر عليك، وقد زوّجتها على كتاب الله: إمساك بمعروف أو تسريح بإحسان.
وخطبة نكاح
خطب بلال إلى قوم من خثعم لنفسه ولأخيه، فحمد الله وأثنى عليه، ثم قال:(4/234)
أنا بلال وهذا أخي، كنا ضالّين فهدانا الله، عبدين فأعتقنا الله، فقيرين فأغنانا الله؛ فإن تزوّجونا فالحمد لله، وإن تردّونا فالمستعان الله.
وقال عبد الملك بن مروان لعمر بن عبد العزيز:
قد زوّجك أمير المؤمنين ابنته فاطمة. قال: جزاك الله يا أمير المؤمنين خيرا، فقد أجزلت العطية، وكفيت المسألة.
نكاح العبد
الأصمعي قال: زوّج خالد بن صفوان عبده من أمته، فقال له العبد: لو دعوت الناس وخطبت! قال: ادعهم أنت. فدعاهم العبد، فلما اجتمعوا تكلم خالد بن صفوان فقال:
إن الله أعظم وأجلّ من أن يذكر في نكاح هذين الكلبين! وأنا أشهدكم أني زوّجت هذه الزانية، من هذا ابن الزانية.
خطب الأعراب
الأصمعي قال: خطب أعرابي فقال: أمّا بعد، فإن الدنيا دار ممرّ، والآخرة دار مقرّ؛ فخذوا من ممرّكم لمقرّكم، ولا تهتكوا أستاركم عند من لا تخفى عليه أسراركم، وأخرجوا الدنيا من قلوبكم قبل أن تخرج منها أبدانكم، ففيها حييتم، ولغيرها خلقتم، اليوم عمل بلا حساب، وغدا حساب بلا عمل، إنّ الرجل إذا هلك قال الناس: ما ترك؟ وقالت الملائكة: ما قدّم؟ فقدّموا بعضا يكون لكم قرضا، ولا تتركوا كلا فيكون عليكم كلّا، أقول قولي هذا والمحمود الله والمصلّى عليه محمد والمدعوّ له الخليفة، ثم إمامكم جعفر. قوموا إلى صلاتكم.
وخطبة لأعرابي
الحمد لله الحميد المستحمد، وصلى الله على النبي محمد، أمّا بعد، فإنّ التعمق في(4/235)
ارتجال الخطب لممكن، والكلام لا يثني حتى ينثنى عنه، والله تبارك وتعالى لا يدرك واصف كنه صفته، ولا يبلغ خطيب منتهى مدحته، له الحمد كما مدح نفسه، فانهضوا إلى صلاتكم. ثم نزل فصلى.
خطبة أعرابي لقومه
الحمد لله، وصلى الله على النبي المصطفى، وعلى جميع الأنبياء، ما أقبح بمثلي أن ينهى عن أمر ويرتكبه، ويأمر بشيء ويجتنبه، وقد قال الأوّل:
ودع ما لمت صاحبه عليه ... فذمّ أن يلومك من تلوم
ألهمنا الله وإياكم تقواه، والعمل برضاه.(4/236)
كتاب المجنّبة الثانية في التوقيعات والفصول والصدور واخبار الكتبة
فرش الكتاب
قال أبو عمر أحمد بن محمد بن عبد ربه: قد مضى قولنا في الخطب وفضائلها وذكر طوالها وقصارها، ومقامات أهلها؛ ونحن قائلون بعون الله وتوفيقه في التوقيعات، والفصول، والصدور، وأدوات الكتابة، وأخبار الكتاب، وفضل الإيجاز؛ إذ كان أشرف الكلام كلّه حسنا وأرفعه قدرا، وأعظمه من القلوب موقعا، وأقلّه على اللسان عملا: ما دل بعضه على كله، وكفى قليله عن كثيره، وشهد ظاهره على باطنه، وذلك أن تقلّ حروفه وتكثر معانيه؛ ومنه قولهم: ربّ إشارة أبلغ من لفظ.
أليس أن الإشارة تبين ما لا يبينه الكلام، وتبلغ ما يقصر عنه اللسان؟ ولكنها إذا قامت مقام اللفظ وسدت مسدّ الكلام، كانت أبلغ؛ لخفة مؤنتها، وقلة محملها.
قال ابرويز لكاتبه: اجمع الكثير مما تريد من المعنى، في القليل مما تقول. يحضّه على الإيجاز. وينهاه عن الإكثار في كتبه، ألا تراهم كيف طعنوا على الإسهاب والإكثار، حتى كان بعض الصحابة يقول: أعوذ بالله من الإسهاب؛ قيل له: وما الإسهاب؟ قال: المسهب الذي يتخلل بلسانه تخلّل الباقر «1» ، ويشول به شولان الروق «2» .
وقال النبي صلّى الله عليه وسلم: «أبغضكم إليّ الثرثارون المتشدقون» يريد: أهل الإكثار والتقعير في الكلام.(4/237)
العرب والإيجاز:
ولم أجد أحدا من السلف يذمّ الإيجاز ويقدح فيه، ولا يعيبه ويطعن عليه وتحب العرب التخفيف والحذف، ولهربها من التثقيل والتطويل، كان قصر الممدود أحب إليها من مدّ المقصور، وتسكين المتحرك أخفّ عليها من تحريك الساكن لأن الحركة عمل والسكون راحة.
ومن كلام العرب الاختصار والإطناب، والاختصار عندهم أحمد في الجملة، وإن كان للإطناب موضع لا يصلح إلا له، وقد توميء إلى الشيء فتستغني عن التفسير بالإيماء، كما قالوا: لمحة دالّة.
جعفر وكتابه لابن مسعدة:
كتب عمرو بن مسعدة إلى ضمرة الحروري كتابا، فنظر فيه جعفر بن يحيى فوقع في ظهره؛ إذا كان الإكثار أبلغ كان الإيجاز تقصيرا، وإذا كان الإيجاز كافيا كان الإكثار عيّا.
مروان وكتاب لقائد:
وبعث إلى مروان بن محمد قائد من قواده بغلام أسود، فأمر عبد الحميد الكاتب أن يكتب إليه يلحاه «1» ويعنفه، فكتب وأكثر، فاستثقل ذلك مروان، وأخذ الكتاب فوقع في أسفله: أما إنك لو علمت عددا أقل من واحد، ولونا شرّا من أسود، لبعثت به.
ربيعة الرأي وأعرابي:
وتكلم ربيعة الرأي فأكثر، وأعجبه إكثاره، فالتفت إلى أعرابيّ إلى جنبه فقال له:
ما تعدون البلاغة عندكم يا أعرابي؟ قال له: حذف الكلام، وإيجاز الصواب. قال: فما(4/238)
تعدّون العيّ؟ قال: ما كنت فيه منذ اليوم! فكأنما القمه حجرا
أول من وضع الكتابة
آدم عليه السلام:
أول من وضع الخط العربي والسرياني وسائر الكتب، آدم صلّى الله عليه وسلم، قبل موته بثلاثمائة سنة؛ كتبه في الطين ثم طبخه؛ فلما انقضى ما كان أصاب الأرض من الغرق، وجد كلّ قوم كتابهم فكتبوا به، فكان إسماعيل عليه الصلاة والسلام وجد كتاب العرب.
وروي عن أبي ذر عن النبي صلّى الله عليه وسلم أن إدريس أول من خط بالقلم بعد ادم صلّى الله عليه وسلم.
إسماعيل عليه السلام:
وعن ابن عباس أن أول من وضع الكتابة العربية إسماعيل بن إبراهيم عليهما السلام وكان أول من نطق بها، فوضعت على لفظه ومنطقه.
قوم من القدماء:
وعن عمرو بن شبة بأسانيده، أن أول من وضع الخط العربي، أبجد وهوز وحطي وكلمن وسعفص وقرشت؛ وهم قوم من الجبلّة «1» الآخرة، وكانوا نزولا مع عدنان ابن أدد، وهم من طسم وجديس.
وحكى أنهم وضعوا الكتب على أسمائهم، فلما وجدوا حروفا في الألفاظ ليست في أسمائهم ألحقوها بهم وسموها الروادف، وهي: الثاء والخاء والذال والضاد والظاء والغين، على حسب ما يلحن في حروف الجمّل.(4/239)
بنو إسماعيل:
وعنه أن أول من وضع الخط: نفيس، ونصر، وأتيما، وبنو إسماعيل بن إبراهيم، ووضعوه متصل الحروف بعضها ببعض حتى فرقه نبت وهميسع وقيذر.
طيء:
وحكوا أيضا أن ثلاثة نفر من طيء اجتمعوا ببقعة، وهم مرامر بن مرة، وأسلم ابن سدرة، وعامر بن جدرة؛ فوضعوا الخط وقاسوا هجاء العربية على هجاء السريانية، فتعلمه قوم من الأنبار.
في الإسلام:
وجاء الإسلام وليس أحد يكتب بالعربية غير سبعة عشر إنسانا، وهم: علي بن أبي طالب كرم الله وجهه، وعمر بن الخطاب، وطلحة بن عبيد الله، وعثمان، وأبو عبيدة بن الجراح، وأبان بن سعيد بن العاص، وخالد بن سعيد أخوه، وأبو حذيفة ابن عتبة، ويزيد بن أبي سفيان، وحاطب بن عمرو بن عبد شمس، والعلاء بن الحضرمي وأبو سلمة بن عبد الأسد، وعبد الله بن سعد بن أبي سرح وحويطب بن عبد العزى، وأبو سفيان بن حرب، ومعاوية ولده، وجهيم بن الصلت بن مخرمة.
استفتاح الكتب
إبراهيم بن محمد الشيباني قال: لم تزل الكتب تستفتح: باسمك اللهم، حتى أنزلت سورة هود وفيها: بِسْمِ اللَّهِ مَجْراها وَمُرْساها
«1» فكتب بسم الله؛ ثم نزلت بسورة بني إسرائيل: قُلِ ادْعُوا اللَّهَ أَوِ ادْعُوا الرَّحْمنَ
«2» ، فكتب بسم الله الرحمن؛ ثم نزلت بسورة النمل: إِنَّهُ مِنْ سُلَيْمانَ وَإِنَّهُ بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ
«3» فاستفتح بها رسول الله صلّى الله عليه وسلم وصارت سنّة.(4/240)
وكان رسول الله صلّى الله عليه وسلم يكتب إلى أصحابه وأمراء جنوده: من محمد رسول الله إلى فلان.
وكذلك كانوا يكتبون إليه: يبدءون بأنفسهم، فممن كتب إليه وبدأ بنفسه أبو بكر، والعلاء بن الحضرمي، وغيرهما؛ وكذلك كتب الصحابة والتابعين؛ ثم لم تزل حتى ولى الوليد بن عبد الملك، فعظم الكتاب وأمر أن لا يكاتبه الناس بمثل ما يكاتب به بعضهم بعضا، فجرت به سنة الوليد إلى يومنا هذا، إلا ما كان من عمر بن عبد العزيز ويزيد الكامل، فإنهما عملا بسنة رسول الله صلّى الله عليه وسلم، ثم رجع الأمر إلى رأي الوليد، والقوم عليه إلى اليوم.
ختم الكتاب وعنوانه
سبب ذلك:
وأما ختم الكتاب وعنوانه فإن الكتب لم تزل مشهورة غير معنونة ولا مختومة حتى كتبت صحيفة المتلمس، فلما قرأها ختمت الكتب وعنونت؛ وكانت يؤتى بالكتاب فيقال: من عني به؟ فسمى عنوانا.
وقال حسان بن ثابت في قتل عثمان:
ضحّوا بأشمط عنوان السّجود به ... يقطّع الليل تسبيحا وقرآنا «1»
وقال آخر:
وحاجة دون أخرى قد سمحت بها ... جعلتها للذي أحببت عنوانا
وقال أهل التفسير في قول الله تعالى: إِنِّي أُلْقِيَ إِلَيَّ كِتابٌ كَرِيمٌ
«2» : أي مختوم؛ إذ كانت كرامة الكتاب ختمه.(4/241)
تأريخ الكتاب
سبب ذلك:
لا بد من تأريخ الكتاب؛ لأنه لا يدل على تحقيق الأخبار وقرب عهد الكتاب وبعده إلا بالتأريخ، فإذا أردت أن تؤرّخ كتابك فانظر إلى ما مضى من الشهر وما بقي منه، فإن كان ما بقي أكثر من نصف الشهر، كتبت: لكذا وكذا ليلة مضت من شهر كذا؛ وإن كان الباقي أقل من النصف جعلت مكان مضت: بقيت.
وقد قال بعض الكتاب: لا تكتب إذا أرّخت إلا بما مضى من الشهر؛ لأنه معروف وما بقي منه مجهول؛ لأنك لا تدري أيتم الشهر أم لا.
سحاءة الكتاب وطريقة لابن طاهر:
ولا تجعل سحاءة «1» كتابك غليظة، إلا في كتب العهود والسجلات التي يحتاج إلى بقاء خواتمها وطوابعها؛ فإن عبد الله بن طاهر كتب إليه بعض عمّاله على العراق كتابا، وجعل سحاءته غليظة، فأمر بإشخاص الكاتب إليه، فلما ورد عليه قال له عبد الله بن طاهر: إن كانت معك فأس فاقطع ختم كتابك ثم ارجع إلى عملك، وإن عدت إلى مثلها عدنا إلى إشخاصك لقطعها؛ ولا تعظم الطينة «2» جدا، وطن كتبك بعد كتبك عناوينها، فإن ذلك من أدب الكاتب، فإن طينت قبل العنوان فأدب منتحل.
تفسير الأمي
فأما الأمّيّ فمجازه على ثلاثة وجوه: قولهم أمي؛ منسوب إلى أمة رسول الله صلّى الله عليه وسلم ويقال: رجل أمّي؛ إذا كان من أمّ القرى، قال الله تعالى: لِتُنْذِرَ أُمَّ الْقُرى وَمَنْ(4/242)
حَوْلَها
«1» ، وأما قوله تعالى: النَّبِيَّ الْأُمِّيَ
«2» ، فإنما أراد به الذي لا يقرأ ولا يكتب، والأمّيّة في النبي صلّى الله عليه وسلم فضيلة: لأنها أدلّ على صدق ما جاء به أنه من عند الله لا من عنده، وكيف يكون من عنده وهو لا يكتب ولا يقرأ ولا يقول الشعر ولا ينشده؟
المأمون والمنقرى:
قال المأمون لأبي العلاء المنقرى: بلغني أنك أمّيّ، وأنك لا تقيم الشعر. وأنك تلحن في كلامك! فقال: يا أمير المؤمنين، أما اللحن فربما سبقني لساني بالشيء منه، وأما الأمّيّة وكسر الشعر فقد كان النبي صلّى الله عليه وسلم أمّيّا، وكان لا ينشد الشعر. فقال المأمون: سألتك عن ثلاثة عيوب فيك فزدتني رابعا، وهو الجهل، أما علمت يا جاهل أن ذلك في النبي صلّى الله عليه وسلم فضيلة وفيك وفي أمثالك نقيصة.
شرف الكتاب وفضلهم
فمن فضلهم قول الله تعالى على لسان نبيه صلّى الله عليه وسلم: عَلَّمَ بِالْقَلَمِ، عَلَّمَ الْإِنْسانَ ما لَمْ يَعْلَمْ
»
، وقوله تعالى: كِراماً كاتِبِينَ
«4» ، وقوله: بِأَيْدِي سَفَرَةٍ كِرامٍ بَرَرَةٍ
«5» .
وللكتّاب أحكام بيّنة كأحكام القضاة يعرفون بها وينسبون إليها ويتقلدون التدبير وسياسة الملك دون غيرهم، وبهم يقام أود الدين وأمور العالمين.
كتاب النبي صلّى الله عليه وسلم:
فمن أهل هذه الصناعة: علي بن أبي طالب كرم الله وجهه، وكان مع شرفه ونبله وقرابته من رسول الله صلّى الله عليه وسلم يكتب الوحي، ثم أفضت عليه الخلافة بعد الكتابة،(4/243)
وعثمان بن عفان- كانا يكتبان الوحي، فإن غابا كتب أبيّ بن كعب وزيد بن ثابت، فإن لم يشهد واحد منهما، كتب غيرهما.
وكان خالد بن سعيد بن العاص، ومعاوية بن أبي سفيان، يكتبان بين يديه في حوائجه.
وكان المغيرة بن شعبة، والحصين بن نمير، يكتبان ما بين الناس، وكانا ينوبان عن خالد ومعاوية إذا لم يحضرا.
وكان عبد الله بن الأرقم بن عبد يغوث، والعلاء بن عقبة، يكتبان بين القوم في قبائلهم ومياههم، وفي دور الأنصار بين الرجال والنساء.
وكان ربما كتب عبد الله بن الأرقم إلى الملوك عن النبي صلّى الله عليه وسلم وعلى آله.
وكان حذيفة بن اليمان يكتب خرص «1» ثمار الحجاز.
وكان زيد بن ثابت يكتب إلى الملوك مع ما كان يكتبه من الوحي؛ وقيل إنه تعلم بالفارسية من رسول كسرى، وبالرومية من حاجب النبي صلّى الله عليه وسلم، وبالحبشية من خادم النبي صلّى الله عليه وسلم، وبالقبطية من خادمه عليه الصلاة والسلام.
وروي عن زيد بن ثابت قال: كنت أكتب بين يدي رسول الله صلّى الله عليه وسلم يوما، فقام لحاجة، فقال لي: ضع القلم على أذنك، فإنه أذكر للمملي وأفضى للحاجة.
وكان معيقيب بن أبي فاطمة يكتب مغانم النبي صلّى الله عليه وسلم.
وكان حنظلة بن الربيع بن المرقع بن صيفي، ابن أخي أكثم بن صيفي الأسيّدي، خليفة كل كاتب من كتاب النبي صلّى الله عليه وسلم إذا غاب عن عمله؛ فغلب عليه اسم الكاتب، وكان يضع عنده خاتمه، فقال له: الزمني وأذكرني بكل شيء أنا فيه؛ وكان لا يأتي على مال ولا طعام ثلاثة أيام إلا أذكره؛ فلا يبيت صلّى الله عليه وسلم وعنده منه شيء.(4/244)
ومرّ رسول الله صلّى الله عليه وسلم يوما بامرأة مقتولة يوم فتح مكة، فقال لحنظلة: الحق خالدا وقل له، لا تقتلنّ ذرية ولا عسيفا «1» . ومات حنظلة بمدينة الرّها، فقالت فيه امرأة؛ وحكي أنه من قول الجن وهذا محال:
يا عجب الدهر لمحزونة ... تبكي على ذي شيبة شاحب
إن تسأليني اليوم ما شفّني ... أخبرك قيلا ليس بالكاذب
إن سواد العين أودى به ... وجدي على حنظلة الكاتب
لما وجّه عمر بن الخطاب رضي الله عنه سعدا إلى العراق وكتب إليه أن يسبّع القبائل أسباعا، ويجعل على كل سبع رجلا، فعل سعد ذلك، وجعل السّبع الثالث تميما وأسدا وغطفان وهوازن، وأميرهم حنظلة بن الربيع الكاتب. وكان أحد من سيّر إلى يزدجرد يدعوه إلى الإسلام.
وكان الحصين بن نمير من بني عبد مناة شهد بيعة الرضوان، ودعاه رسول الله صلّى الله عليه وسلم ليكتب صلح الحديبية فأبى ذلك سهيل بن عمرو، وقال: لا يكتب إلا رجل منا. فكتب علي بن أبي طالب.
وروي عنه عليه السلام أنه قال: لما جاء سهيل بن عمرو ونحن مع رسول الله صلّى الله عليه وسلم بالحديبية، حين صالح قريشا، كان عبد الله بن سعد بن أبي سرح يكتب له، ثم ارتد ولحق بالمشركين، وقال: إن محمدا يكتب بما شئت! فسمع ذلك رجل من الأنصار، فحلف بالله إن أمكنه الله منه ليضربنّه ضربا بالسيف؛ فلما كان يوم فتح مكة جاء به عثمان- وكان بينهما رضاع- فقال: يا رسول الله هذا عبد الله قد أقبل تائبا. فأعرض عنه، والأنصاري مطيف به ومعه سيفه، فمدّ رسول الله صلّى الله عليه وسلم يده وبايعه، وقال للأنصاري: لقد تلوّمتك «2» أن توفي بنذرك! فقال: هلا أو مضت إليّ! فقال صلّى الله عليه وسلم:
لا ينبغي لي أن أومض «3» .(4/245)
أيام أبي بكر رضي الله عنه
كان يكتب لأبي بكر عثمان بن عفان، وزيد بن ثابت.
وروي أن عبد الله بن الأرقم كتب له، وأن حنظلة بن الربيع كتب له أيضا.
ولما تقلد الخلافة دعا يزيد بن ثابت، وقال له: أنت شاب عاقل لا نتهمك على رسول الله صلّى الله عليه وسلم، وكنت تكتب الوحي: فتتبع القرآن فاجمعه وفيه يقول حسان بن ثابت:
فمن للقوافي بعد حسّان وابنه ... ومن للمثاني بعد زيد بن ثابت
أيام عمر بن الخطاب رضي الله عنه
كتب لعمر بن الخطاب: زيد بن ثابت، وعبد الله بن أرقم، وعبد الله بن خلف الخزاعي- أبو طلحة الطلحات- على ديوان البصرة.
وكتب له على ديوان الكوفة أبو جبيرة بن الضحاك، فلم يزل عليه إلى أن ولى عبيد الله بن زياد، فعزله وولى مكانه حبيب بن سعد القيسي.
أيام عثمان بن عفان رضي الله عنه
كان يكتب لعثمان مروان بن الحكم، وكان عبد الملك بن مروان يكتب له على ديوان المدينة، وأبو حبترة على ديوان الكوفة، وعبد الله بن الأرقم على بيت المال، وكان أبو غطفان بن عوف بن سعد بن دينار من بني همدان، من قيس بن عيلان- يكتب له أيضا، وكان يكتب له أهيب مولاه، وحمران مولاه.
أيام علي بن أبي طالب كرم الله وجهه
كان يكتب له سعيد بن نمران الهمداني، ثم ولي قضاء الكوفة لابن الزبير؛ وكان عبد الله بن جعفر يكتب له؛ وروي أن عبد الله بن حسن كتب له؛ وكان عبد الله ابن أبي رافع يكتب له، وسماك بن حرب.(4/246)
[أيام بني أمية]
كتاب بني أمية:
وكان يكتب لمعاوية بن أبي سفيان: سعيد بن أنس الغساني.
وكاتب يزيد بن معاوية: سرجون بن منصور.
وكاتب مروان بن الحكم: حميد بن عبد الرحمن بن عوف.
وكانت عبد الملك بن مروان: سالم مولاه، ثم كتب له عبد الحميد بن يحيى. وهو عبد الحميد الأكبر.
وكاتب الوليد بن عبد الملك: جناح مولاه.
وكاتب سليمان بن عبد الملك: عبد الحميد الأصغر.
وكاتب عمر بن عبد العزيز: الليث بن أبي رقية مولى أم الحكم؛ وكتب له رجاء ابن حيوة وخص به؛ وإسماعيل بن أبي حكم مولى الزبير؛ وسليمان بن سعد الحسني على ديوان الخراج. وكان عمر يكتب كثيرا بيده.
وكاتب يزيد بن عبد الملك: عبد الحميد أيضا، ثم لم يزل كاتبا لبني أمية إلى أيام مروان بن محمد وانقضاء دولة بني أمية؛ وكان عبد الحميد أول من فتق أكمام البلاغة، وسهّل طرقها، وفكّ رقاب الشعر.
ثم جاءت الدولة العباسية
كتاب بني العباس:
فكان كاتب أبي العباس وأبي جعفر: أبا أيوب المورياني الأهوازي.
وكاتب محمد المهدي بن المنصور: معاوية بن عبيد الله، ثم يعقوب بن داود.
وكاتب موسى الهادي بن محمد المهدي: إبراهيم بن ذكوان الحراني.
وكاتب هارون الرشيد محمد المهدي: يحيى بن خالد البرمكي، ثم الفضل بن الربيع، ثم إبراهيم بن صبيح.(4/247)
وكاتب محمد- بن زبيدة- الأمين: الفضل بن الربيع.
وكاتب عبد الله المأمون بن هارون الرشيد: الفضل بن سهل، ثم الحسن بن سهل، ثم عمرو بن مسعدة، ثم أحمد بن يوسف.
وكاتب أبي إسحاق محمد المعتصم بن هارون الرشيد، وهو المعروف بابن ماردة:
الفضل بن مروان، ومحمد بن عبد الملك الزيات.
وكاتب الواثق هارون بن محمد المعتصم: محمد بن الملك الزيات أيضا.
وكاتب المتوكل جعفر بن محمد المعتصم: إبراهيم بن العباس بن صول، مولى لبني العباس.
وكاتب المنتصر محمد، ويكنى أبا جعفر، ابن المتوكل: أحمد بن الخصيب.
ثم كتب للمستعين: أحمد بن محمد المعتصم، فظهر من عجزه وعيّه ما أسخطه عليه، ثم جعل وزارته إلى أوتامش، وقام بخدمته شجاع بن القاسم كاتبه، ثم سخط عليهما فقتلهما واستوزر أبا صالح عبد الله بن محمد بن يزداد، ثم صرفه وقلد وزارته محمد بن الفضل الجرجاني، ثم كانت الفتنة بين المستعين والمعتز، وزارته جعفر بن عفر بن محمود الجرجاني، فلما استقام الأمر رد وزارته إلى أحمد بن إسرائيل.
وكاتب المهتدي محمد بن الواثق: جعفر بن محمود الجرجاني، ثم استوزر بعده أيا أيوب سليمان بن وهب.
واستوزر المعتمد أحمد بن المتوكل: عبيد الله بن يحيى بن خافان، فلما توفى استوزر بعده الحسن بن مخلد؛ وكان سبب موته أنه صدمه غلام له في الميدان يقال له رشيق، فحمل إلى منزله فمات بعد ثلاث ساعات.
وتقلد الوزارة للمعتضد: أحمد بن طلحة.
وللموفق بن جعفر المتوكل: عبيد الله بن سليمان بن وهب.
وتقلد الوزارة للمكتفي بالله أبي محمد علي بن المعتضد بالله: القاسم بن عبيد الله ابن سليمان.(4/248)
وتقلد الوزارة لجعفر المقتدر بالله بن المعتضد بالله: علي بن محمد بن الفرات، ثم محمد بن عبيد الله بن يحيى بن خاقان، ثم علي بن عيسى ثم حامد بن العباس، ثم محمد ابن علي بن مقلة، الذي يوصف خطه بالجودة؛ ثم سليمان بن الحسن بن مخلد، ثم عبد الله بن أحمد الكلوذاني، ثم الحسين بن القاسم بن عبيد الله بن سليمان بن وهب، ولقّب بعميد الدولة، وكان يكتب على كتبه: «من عميد الدولة أبي علي بن ولي الدولة» وذكر لقبه على الدنانير والدراهم؛ ثم الفضل بن جعفر بن محمد بن الفرات.
وتقلد الوزارة للقاهر بالله منصور محمد بن المعتضد: محمد بن علي بن مقلة ثم محمد ابن القاسم بن عبيد الله، ثم القاسم بن عبيد الله الحصيني.
وتقلد الوزارة للراضي بالله أبي العباس محمد بن جعفر المقتدر: محمد بن علي بن مقلة، ثم عبد الرحمن بن عيسى، أخو الوزير علي بن عيسى، ثم محمد بن القاسم الكرخي؛ ثم الفضل بن جعفر بن الفرات، ثم محمد بن يحيى بن شيرزاد.
وتقلد الوزارة للمتّقي بالله إبراهيم بن جعفر بن المقتدر؛ كاتبه أحمد بن محمد بن الأفطس، ثم أبو إسحق القراريطي، ثم علي بن محمد بن مقلة.
وتقلد الوزارة للمستكفي بالله أبي القاسم عبد الله بن علي المكتفي بالله: الحسين بن محمد بن أبي سليمان، ثم محمد بن علي السامري المكنى أبا الفرج؛ ثم ولي للمطيع بالله الفضل بن المقتدر، فوزر له الحسن بن هارون.
أسماء من كتب لغير الخليفة
كان المغيرة بن شعبة كاتبا لأبي موسى الأشعري.
وكان سعيد بن جبير كاتبا لعبد الله بن عتبة بن مسعود، وكان قاضيا بعد ذلك.
وكان الحسن بن أبي الحسن البصري- مع نبله وفقهه وورعه وزهده- كاتبا للربيع بن زياد الحارثي بخراسان، ثم ولي قضاء البصرة لعمر بن عبد العزيز فقيل له:
من ولّيت القضاء بالبصرة؟ فقال: وليت سيد التابعين الحسن بن أبي الحسن البصري.(4/249)
وكان محمد بن سيرين- مع علمه وورعه- كاتبا لأنس بن مالك بفارس.
وكان زياد بن أبيه- مع رأيه ودهائه، وما كان من معاوية في ادعائه- يكتب للمغيرة بن شعبة، ثم لعبد الله بن عامر بن كريز، ثم لعبد الله بن عباس، ثم لأبي موسى الأشعري؛ فوجّهه أبو موسى من البصرة لعمر بن الخطاب ليرفع إليه حسابه، فأمر له عمر بألف درهم، لما رأى فيه من الذكاء، وقال له: لا ترجع لأبي موسى.
فقال: يا أمير المؤمنين، أعن خيانة صرفتني أم عن تقصير؟ قال: لا عن واحدة منهما، ولكني أكره أن أحمل فضل عقلك على الرعية! قم ولي بعد الكتابة العراق.
وكان عامر الشعبي- مع فقهه وعلمه ونبله- كاتبا لعبد الله بن مطيع، ثم لعبد الله ابن يزيد عامل عبد الله بن الزبير على الكوفة، ثم ولي قضاء الكوفة بعد الكتابة.
وكان قبيصة بن ذؤيب كاتبا لعبد الملك على ديوان الخاتم.
وكان عبد الرحمن كاتب نافع بن الحارث، وهو عامل أبي بكر وعمر على مكة.
وكان عبد الله بن خلف الخزاعي، أبو طلحة الطلحات، كاتبا على ديوان البصرة لعمرو بن عثمان، ثم قتل يوم الجمل مع عائشة رضي الله عنهما.
وكان خارجة بن زيد بن ثابت على ديوان المدينة، ثم طلب الخلافة فقتل دونها.
وكان يزيد بن عبد الله بن زمعة بن الأسود بن المطلب بن أسد بن عبد العزى كاتبا على ديوان المدينة زمن يزيد بن معاوية، وكان بعده حميد بن عبد الرحمن بن عوف الزهري.
أشراف الكتاب كتاب النبي صلّى الله عليه وسلم
كتاب النبي صلّى الله عليه وسلم:
كتب له عشرة كتّاب: علي بن أبي طالب، وعمر بن الخطاب، وعثمان بن عفان، وخالد بن سعيد بن العاص، وأبان بن سعيد بن العاص، ولدا سعيد بن العاص؛(4/250)
وعمرو بن العاص، وشرحبيل بن حسنة، وزيد بن ثابت، والعلاء بن الحضرمي، ومعاوية بن أبي سفيان: ولم يزل يكتب له حتى مات عليه الصلاة والسلام.
من أشراف الكتاب:
وكان عثمان بن عفان كاتبا لأبي بكر، ثم صار خليفة.
وكان مروان بن الحكم كاتبا لعثمان بن عفان، ثم صار خليفة.
وكان عمرو بن سعيد بن العاص كاتبا على ديوان المدينة، ثم طلب الخلافة فقتل دونها.
وكان المغيرة بن شعبة كاتبا لأبي موسى الأشعري.
وكان الحسن بن أبي الحسن البصري كاتبا للربيع بن زياد الحارثي بخراسان.
وكان سعيد بن جبير كاتبا لعبد الله بن عتبة بن مسعود، وكان فاضلا.
وكان زياد كاتبا للمغيرة بن شعبة، ثم لأبي موسى الأشعري، ثم لعبد الله بن عامر ابن كريز، ثم لعبد الله بن عباس.
وكان عامر الشعبي كاتبا لعبد الله بن مطيع، وهو والي الكوفة لعبد الله ابن الزبير.
وكان محمد بن سيرين كاتبا لأنس بن مالك بفارس.
وكان قبيصة بن ذؤيب كاتبا لعبد الملك على ديوان الخاتم.
وكان عبد الرحمن بن أبزي كاتب نافع بن الحارث الخزاعي، وهو عامل أبي بكر وعمر على مكة.
وكان عبيد الله بن أوس الغساني سيد أهل الشام كاتب معاوية.
وكان سعيد بن نمران الهمداني سيد همدان كاتب علي بن أبي طالب، ثم ولي بعد ذلك قضاء الكوفة لابن الزبير.
وكان عبد الله بن خلف الخزاعي أبو طلحة الطلحات كاتبا على ديوان البصرة لعمر وعثمان، وقتل يوم الجمل مع عائشة.(4/251)
وكان خارجة بن زيد بن ثابت على ديوان المدينة من قبل عبد الملك.
وكان يزيد بن عبد الله بن زمعة بن الأسود بن المطلب بن أسد بن عبد العزى على ديوان المدينة زمان يزيد بن معاوية؛ وكان بعد حميد بن عبد الرحمن بن عوف الزهري صاحب النبي صلّى الله عليه وسلم.
من نبل بالكتابة وكان قبل خاملا
سرجون بن منصور الرومي: كتب لمعاوية، ويزيد ابنه، ومروان بن الحكم، وعبد الملك بن مروان؛ إلى أن أمره عبد الملك بأمر فتوانى فيه، ورأى منه عبد الملك بعض التفريط، فقال لسليمان بن سعد كاتبه على الرسائل: إن سرجون يدلّ علينا بصناعته، وأظن أنه رأى ضرورتنا إليه في حسابه، فما عندك فيه حيلة؟ فقال: بلى، لو شئت لحوّلت الحساب من الرومية إلى العربية. قال: افعل، قال: أنظرني أعاني ذلك. قال:
لك نظرة ما شئت. فحوّل الديوان، فولاه عبد الملك جميع ذلك.
وحسان النّبطي كاتب الحجاج، وسالم مولى هشام بن عبد الملك، وعبد الحميد الأكبر، وعبد الصمد، وجبلة بن عبد الرحمن، وقحذم، جدّ الوليد بن هشام القحذمي؛ وهو الذي قلب الدواوين من الفارسية إلى العربية.
ومنهم الفراء، كاتب خالد بن عبد الله القسري.
ومنهم: الربيع، والفضل بن الربيع، ويعقوب بن داود، ويحيى بن خالد، وجعفر ابن يحيى، وأبو محمد عبد الله بن المقفع، والفضل بن سهل، والحسن بن سهل، وجعفر ابن محمد بن الأشعث، وأحمد بن يوسف، وأبو عبد السلام الجند يسابوري، وأبو جعفر محمد بن عبد الملك الزيات، والحسن بن وهب، وإبراهيم بن العباس الصولي، ونجاح بن سلمة، وأحمد بن محمد بن المدبر؛ فهؤلاء نبلوا بالكتابة واستحقوا اسمها.
من أدخل نفسه في الكتابة ولم يستحقها
صالح بن شيرزاد، وجعفر بن سابور كاتب الأفشين، والفضل بن مروان، وداود(4/252)
ابن الجراح، وأبو صالح عبد الله بن محمد بن يزداد، وأحمد بن الخصيب؛ فهؤلاء لطخوا أنفسهم بالكتابة وما دانوها.
وقال بعض الشعراء في صالح بن شيرزاد:
حمار في الكتابة يدّعيها ... كدعوى آل حرب في زياد
فدع عنك الكتابة لست منها ... ولو غرّقت ثوبك في المداد
ومنهم أبو أيوب ابن أخت أبي الوزير. وهو القائل يرثي أمّ سليمان بن وهب الكاتب:
لأمّ سليمان علينا مصيبة ... مفلّقة مثل الحسام البواتر
وكنت سراج البيت يا أمّ سالم ... فأضحى سراج البيت وسط المقابر
فقال سليمان بن وهب: ما نزل بأحد من خلق الله ما نزل بي: ماتت أمي فرثيت بمثل هذا الشعر، ونقل اسمي من سليمان إلى سالم.
صفة الكتاب
قال إبراهيم بن محمد الشّيباني: من صفة الكاتب: اعتدال القامة، وصغر الهامة، وخفّة اللهازم «1» ، وكثاثة اللحية، صدق الحسّ، ولطف المذهب، وحلاوة الشمائل، وحسن الإشارة، وملاحة الزّيّ؛ حتى قال بعض المهالبة لولده: تزيّوا بزيّ الكتّاب؛ فإنّ فيهم أدب الملوك وتواضع السّوقة.
وقال إبراهيم بن محمد الكاتب: من كمال آل الكتابة، أن يكون الكاتب نقيّ الملبس، نظيف المجلس، ظاهر المروءة، عطر الرائحة، دقيق الذهن، صادق الحس، حسن البيان، رقيق حواشي اللسان، حلو الإشارة، مليح الاستعارة، لطيف المسالك،(4/253)
مستقرّ التركيب، ولا يكون مع ذلك فضفاض الجثّة، متفاوت الأجزاء، طويل اللحية، عظيم الهامة؛ فإنهم زعموا أنّ هذه الصورة لا يليق بصاحبها الذكاء والفطنة.
وأنشد سعيد بن حميد في إبراهيم بن العباس.
رأيت لهازم الكتّاب خفت ... ولهزمتاك شانهما الفدامه «1»
وكتّاب الملوك لهم بيان ... كمثل الدّرّ قد رصفوا نظامه
وأنت إذا نطقت كأنّ عيرا ... يلوك بما يفوه به لجامه
وقال آخر:
عليك بكاتب لبق رشيق ... زكيّ في شمائله جداره
تناجيه بطرفك من بعيد ... فيفهم رجع لحظك بالإشاره
ونظر أحمد بن الخصيب إلى رجل من الكتاب فدم المنظر «2» ، مضطرب الخلق، طويل العثنون؛ فقال: لأن يكون هذا فنطاس «3» مركب، أشبه من أن يكون كاتبا.
فإذا اجتمعت للكاتب هذه الخلال، وانتظمت فيه هذه الخصال، فهو الكاتب البليغ، والأديب النّحرير؛ وإن قصرت به آلة من هذه الآلات، وقعدت به أداة من هذه الأدوات، فهو منقوص الجمال، منكسف الحس، منحوس النصيب.
ما ينبغي للكاتب أن يأخذ به نفسه
قال إبراهيم الشيباني: أوّل ذلك حسن الخط، الذي هو لسان اليد، وبهجة الضمير، وسفير العقول، ووحي الفكرة، وسلاح المعرفة، وأنس الإخوان عند الفرقة، ومحادثتهم على بعد المسافة، ومستودع السر، وديوان الأمور.(4/254)
ولست أجد لحسن الخط حدّا أقف عليه، أكثر من قول علي بن ربن النصراني الكاتب في الكاتب، فإني سألته واستوصفته الخط، فقال. أعلمك الخط في كلمة واحدة؟ فقلت له: تفضل بذلك. فقال: لا تكتب حرفا حتى تستفرغ مجهودك في كتابة الحرف، وتجعل في نفسك أنك لا تكتب غيره حتى تعجز عنه ثم تنتقل إلى ما بعده.
وإياك والنقط والشكل في كتابك، إلا أن تمرّ بالحرف المعضل الذي تعلم أن المكتوب إليه يعجز عن استخراجه؛ فإني سمعت سعيد بن حميد بن عبد الحميد الكاتب يقول: لأن يشكل الحرف على القارىء أحب إليّ من أن يعاب الكتاب بالشكل.
وكان المأمون يقول: إياكم والشّونيز «1» في كتبكم. يعني النقط والإعجام.
ومن ذلك: أن يصلح الكاتب آلته التي لابدّ منها، وأداته التي لا تتم صناعته إلا بها، مثل دواته، فلينعم ربّها «2» وإصلاحها، وليتخيّر من أنابيب القصب أقله عقدا، وأكثفه لحما، وأصلبه قشرا، وأعدله استواء؛ ويجعل لقرطاسه سكينا حادّا؛ لتكون عونا له على بري أقلامه، ويبريها من ناحية نبات القصبة؛ واعلم أنّ محل القلم من الكاتب كمحل الرمح من الفارس.
قال العتابي: سألني الأصمعي يوما في دار الرشيد: أي الأنابيب للكتابة أصلح، وعليها أصبر؟ فقلت له: ما نشف بالهجير ماؤه، وستره عن تلويحه غشاؤه، من التّبريّة القشور، الدّرّيّة الظهور؛ الفضّيّة الكسور. قال: فأيّ نوع من البري أصوب وأكتب؟ فقلت: البرية المستوية القطة، التي عن يمين سنها قرنة «3» تؤمن معها المجة عند المذة والمطة، للهواء في شقها فتيق، والريح في جوفها خريق «4» ، والمداد في(4/255)
خرطومها رقيق. قال العتابي: فبقي الأصمعي باهتا إليّ ضاحكا لا يحير مسألة ولا جوابا.
من صفات الكاتب:
ولا يكون الكاتب كاتبا حتى لا يستطيع أحد تأخير أوّل كتابه وتقديم آخره.
وأفضل الكتاب ما كان في أول كتابه دليل على حاجته، كما أن أفضل الأبيات ما دل أول البيت على قافيته؛ فلا تطيلنّ صدر كتابك إطالة تخرجه عن حدّه، ولا تقصر به دون حدّه؛ فإنهم قد كرهوا في الجملة أن تزيد صدور كتب الملوك على سطرين أو ثلاثة أو ما قارب ذلك.
وقيل للشعبي: أي شيء تعرف به عقل الرجل؟ قال: إذا كتب فأجاد.
وقال الحسن بن وهب: الكاتب نفس واحدة، تجزأت في أبدان متفرقة.
فأمّا الكاتب المستحقّ اسم الكتابة، والبليغ المحكوم له بالبلاغة، من إذا حاول صيغة كتاب، سالت عن قلمه عيون الكلام من ينابيعها، وظهرت معادنها وندرت من مواطنها من غير استكراه ولا اغتصاب.
بين العتابي وصديق له:
بلغني أن صديقا لكلثوم العتابي أتاه يوما فقال له: اصنع لي رسالة. فاستمد مدة ثم علق القلم؛ فقال له صاحبه: ما أرى بلاغتك إلا شاردة عنك. فقال له العتابي: إني لما تناولت القلم تداعت عليّ المعاني من كل جهة، فأحببت أن أترك كل معنى حتى يرجع إلى موضعه؛ ثم أجتني لك أحسنّها.
بين يزيد وكاتب له:
قال أحمد بن محمد: كنت عند يزيد بن عبد الله أخي ذبيان، وهو يملي على كاتب له؛ فأعجل الكاتب ودارك في الإملاء عليه، فتلجلج لسان قلم الكاتب عن تقييد(4/256)
إملائه؛ فقال له: اكتب يا حمار! فقال له الكاتب: أصلح الله الأمير، إنه لما هطلت شآبيب الكلام، وتدافعت سيوله على حرف القلم، كلّ القلم عن إدراك ما وجب عليه تقييده. فكان حضور جواب الكاتب أبلغ من بلاغة يزيد.
وقال له يوما وقد مط حرفا في غير موضعه: ما هذا؟ قال: طغيان في القلم.
ما يحتاج إليه الكاتب:
فإن كان لابد لك من طلب أدوات الكتابة، فتصفح من رسائل المتقدمين ما يعتمد عليه، ومن رسائل المتأخرين ما يرجع إليه، ومن نوادر الكلام ما تستعين به، ومن الأشعار والأخبار والسير والأسمار ما يتسع به منطقك، ويطول به قلمك؛ وانظر في كتب المقامات والخطب، ومجاوبة العرب، ومعالى العجم، وحدود المنطق وأمثال الفرس ورسائلهم وعهودهم، وسيرهم، ووقائعهم، ومكايدهم في حروبهم بعد أن تكون متوسطا علم النحو والغريب، والوثائق والسور، وكتب السجلات والأمانات؛ لتكون ماهرا، تنتزع آي القرآن في مواضعها؛ واختلاف الأمثال في أماكنها؛ وقرض الشعر الجيد وعلم العروض؛ فإن تضمين المثل السائر، والبيت الغابر البارع، مما يزين كتابك، ما لم تخاطب خليفة أو ملكا جليل القدر فإن اجتلاب الشعر في كتب الخلفاء عيب، إلا أن يكون الكاتب هو القارض للشعر والصانع له، فإن ذلك يزيد في أبّهته.
خبر حائك الكلام
أبو جعفر البغدادي قال: حدثنا عثمان بن سعيد قال: لما رجع المعتصم من الثغر وصار بناحية الرقة، قال لعمرو بن مسعدة: ما زلت تسألني في الرّخّجي «1» حتى وليته(4/257)
الأهواز، فقعد في سرة الدنيا يأكلها خضما وقضما، ولم يوجه إلينا بدرهم واحد؛ اخرج إليه من ساعتك. فقلت في نفسي: أبعد الوزارة أصبر مستحثا على عامل خراج؟ ولكن لم أجد بدّا من طاعة أمير المؤمنين، فقلت: أخرج إليه يا أمير المؤمنين. فقال: احلف لي أنك لا تقيم ببغداد إلا يوما واحدا. فحلفت له، ثم انحدرت إلى بغداد، فأمرت ففرش لي زورق بالطبري وغشّي بالسّلخ «1» ، وطرح عليه الكز «2» ، ثم خرجت، فلما صرت بين دير هزقل ودير العاقول، إذا رجل يصيح: يا ملاح، رجل منقطع! فقلت للملاح: قرّب إلى الشطّ. فقال: يا سيدي، هذا شحاذ، فإن قعد معك آذاك. فلم ألتفت إلى قوله، وأمرت الغلمان فأدخلوه، فقعد في كوثل «3» الزورق، فلما حضر وقت الغذاء عزمت أن أدعوه إلى طعامي، فدعوته، فجعل يأكل أكل جائع بنهامة، إلا أنه نظيف الأكل؛ فلما رفع الطعام، أردت أن يستعمل معي ما يستعمل العوام مع الخواص: أن يقوم فيغسل يده في ناحية؛ فلم يفعل، فغمزه الغلمان، فلم يقم فتشاغلت عنه ثم قلت: يا هذا ما صناعتك؟ قال:
حائك! فقلت في نفسي: هذه شر من الأولى. فقال لي: جعلت فداك، قد سألتني عن صناعتي فأخبرتك، فما صناعتك أنت؟ قال: فقلت في نفسي: هذه أعظم من الأولى، وكرهت أن أذكر له الوزارة فقلت: أقتصر له على الكتابة؛ فقلت: كاتب.
قال: جعلت فداك، الكتّاب على خمسة أصناف: فكاتب رسائل يحتاج إلى أن يعرف الفصل من الوصل والصدور والتهاني والتعازي والترغيب والترهيب والمقصور والممدود وجملا من العربية؛ وكاتب خراج، يحتاج أن يعرف الزرع والمساحة والأشوال والطّسوق «4» والتقسيط والحساب؛ وكاتب جند، يحتاج أن يعرف مع الحساب الأطماع «5» وشيات الدواب وحلي الناس؛ وكاتب قاض، يحتاج أن يكون عالما بالشروط والأحكام والفروع والناسخ والمنسوخ والحلال والحرام والمواريث؛ وكاتب(4/258)
شرطة، يحتاج أن يكون عالما بالجروح والقصاص والعقول «1» والديات؛ فأيهم أنت أعزك الله؟
قال: قلت: كاتب رسائل. قال: فأخبرني، إذا كان لك صديق تكتب إليه في المحبوب والمكروه وجميع الأسباب، فتزوّجت أمّه، فكيف تكتب له: أتهنيه أم تعزيه؟
قلت: والله ما أقف على ما تقول.
قال: فلست بكاتب رسائل، فأيّهم أنت؟ قلت: كاتب خراج.
قال: فما تقول- أصلحك الله- وقد ولاك السلطان عملا فبثثت عمالك فيه فجاءك قوم يتظلمون من بعض عمالك؛ فأردت أن تنظر في أمورهم وتنصفهم؛ إذ كنت تحب العدل والبر، وتؤثر حسن الأحدوثة وطيب الذكر، وكان لأحدهم قراح «2» كيف كنت تمسحه؟ قال: كنت أضرب العطوف في العمود وأنظركم مقدار ذلك.
قال: إذا تظلم الرجل. قلت: فأمسح العمود على حدة.
قال: إذا تظلم السلطان. قلت: والله ما أدري. قال: فلست بكاتب خراج، فأيهم أنت؟
قلت: كاتب جند. قال: فما تقول في رجلين، اسم كل واحد منهما أحمد، أحدهما مقطوع الشفة العليا، والآخر مقطوع الشفة السفلى، كيف كنت تكتب حليتهما؟
قال: كنت أكتب: أحمد الأعلم، وأحمد الأعلم. قال: كيف يكون هذا ورزق هذا مائتا درهم ورزق هذا ألف درهم، فيقبض هذا على دعوة هذا، فتظلم صاحب الألف. قلت: والله ما أدري. قال: فلست بكاتب جند؛ فأيهم أنت؟(4/259)
قلت: كاتب قاض. فقال: فما تقول- أصلحك الله- في رجل توفي وخلف زوجة وسريّة «1» . وكان للزوجة بنت وللسرية ابن، فلما كان في تلك الليلة أخذت الحرة ابن السّرية فادّعته وجعلت ابنتها مكانه، فتنازعتا فيه، فقالت هذه: هذا ابني.
وقالت هذه: هذا ابني. كيف تحكم بينهما وأنت خليفة القاضي؟
قلت: والله لست أدري! قال: فلست بكاتب قاض، فأيهم أنت؟
قلت: كاتب شرطة. قال فما تقول- أصلحك الله- في رجل وثب على رجل فشجه شجة موضحة «2» ، فوثب عليه المشجوج فشجّه شجة مأمومة «3» ؟ قلت ما أعلم. ثم قلت: أصلحك الله، ففسّر لي ما ذكرت. قال: أما الذي تزوجت أمه، فتكتب إليه:
أما بعد، فإن أحكام الله تجري بغير محابّ المخلوقين، والله يختار للعباد، فخار الله لك في قبضها إليه، فإن القبر أكرم لها! والسلام.
وأما القراح، فتضرب واحدا في مساحة العطوف، فمن ثمّ بابه.
وأما أحمد وأحمد، فتكتب حلية المقطوع الشفة العليا: أحمد الأعلم؛ والمقطوع الشفة السفلى: أحمد الأشرم.
وأما المرأتان، فيوزن لبن هذه ولبن هذه، فأيهما كان [لبنها] أخفّ فهي صاحبة البنت.
وأما الشجة، فإن في الموضحة خمسا من الإبل، وفي المأمومة ثلاثا وثلاثين وثلثا، فيرد صاحب المأمومة ثمانية وعشرين وثلثا.
قلت: أصلحك الله، فما نزع بك إلى هنا؟ قال: ابن عم لي كان عاملا على ناحية، فخرجت إليه فألفيته معزولا، فقطع بي، فأنا خارج أضطرب في المعاش. قلت:
ألست ذكرت أنك حائك؟ قال: أنا أحوك الكلام، ولست بحائك الثياب.(4/260)
قال: فدعوت المزين فأخذ من شعره. وأدخل الحمام فطرحت عليه شيئا من ثيابي، فلما صرت إلى الأهواز، كلمت الرّخّجيّ، فأعطاه خمسة آلاف درهم. ورجع معي، فلما صرت إلى أمير المؤمنين، قال: ما كان من خبرك في طريقك؟ فأخبرته خبري، حتى حدثته حديث الرجل، فقال لي: هذا لا يستغنى عنه، فلأي شيء يصلح؟ قلت:
هذا أعلم الناس بالمساحة والهندسة. قال: فولاه أمير المؤمنين البناء والمرمّة «1» : فكنت والله ألقاه في الموكب النبيل، فينحطّ عن دابته، فأحلف عليه فيقول: سبحان الله! إنما هذه نعمتك وبك أفنيتها.
فضائل الكتابة
قال أبو عثمان الجاحظ: ما رأيت قوما أنفذ طريقة في الأدب من هؤلاء الكتاب؛ فإنهم التمسوا من الألفاظ ما لم يكن متوعرا وحشيا، ولا ساقطا سوقيا.
وقال بعض المهالبة لبنيه، تزيّوا بزي الكتاب فإنهم جمعوا أدب الملوك وتواضع السّوقة.
المنصور وقوم من الكتاب:
وعتب أبو جعفر المنصور على قوم من الكتاب فأمر بحبسهم؛ فرفعوا إليه رقعة ليس فيها إلا هذا البيت:
ونحن الكاتبون وقد أسأنا ... فهبنا للكرام الكاتبينا
فعفا عنهم وأمر بتخلية سبيلهم.
وقال المؤيد: كتّاب الملوك عيونهم الناظرة، وآذانهم الواعية، وألسنتهم الناطقة؛(4/261)
والكتابة أشرف مراتب الدنيا بعد الخلافة، وهي صناعة جليلة تحتاج إلى آلات كثيرة.
وقال سهل بن هارون: الكتابة أول زينة الدنيا، التي إليها يتناهى الفضل، وعندها تقف الرغبة.
ما يجوز في الكتابة وما لا يجوز فيها
قال إبراهيم بن محمد الشيباني: إذا احتجت إلى مخاطبة الملوك، والوزراء، والعلماء، والكتّاب. والخطباء، والأدباء، والشعراء، وأوساط الناس وسوقتهم؛ فخاطب كلا على قدر أبّهته وجلالته، وعلوّه وارتفاعه، وفطنته؛ واجعل طبقات الكلام على ثمانية أقسام: منها الطبقات العلية أربع، والطبقات الأخر وهي دونها أربع. ولكل طبقة منها درجة، ولكلّ قسمة لا ينبغي للكاتب البليغ أن يقصر بأهلها عنها ويقلب معناها إلى غيرها.
فالحدّ الأول الطبقات العليا، وغايتها القصوى الخلافة، التي أجلّ الله قدرها، وأعلى شأنها عن مساواتها بأحد من أبناء الدنيا في التعظيم والتوقير.
والطبقة الثانية لوزرائها وكتابها، الذين يخاطبون الخلفاء بعقولهم وألسنتهم، ويرتقون الفتوق بآرائهم.
الطبقة الثالثة أمراء ثغورهم وقواد جنودهم؛ فإنه يجب مخاطبة كل أحد منهم على قدره وموضعه وحظه، وغنائه وجزائه، واضطلاعه بما حمل من أعباء أمورهم، وجلائل أعمالهم.
والرابعة القضاة؛ فإنهم وإن كان لهم تواضع العلماء، وجلية الفضلاء، فمعهم أبهة السلطنة وهيبة الأمراء.(4/262)
وأما الطبقات الأربع الأخر، فهم الملوك الذين أوجبت نعمهم تعظيمهم في الكتب إليهم، وأفضالهم تفضيلهم فيها.
والثانية وزراؤهم وكتّابهم وأتباعهم، الذين تقرع أبوابهم، وبعناياتهم تستباح أموالهم.
والثالثة هم العلماء، الذين يجب توقيرهم في الكتب بشرف العلم وعلوّ درجة أهله.
والطبقة الرابعة لأهل القدر والجلالة، والحلاوة والطلاوة، والظرف والأدب، فإنهم يضطرونك بحدة أذهانهم، وشدّة تمييزهم وانتقادهم، وأدبهم وتصفحهم، إلى الاستقصاء على نفسك في مكاتبتهم.
واستغنينا عن الترتيب للسوقة والعوام والتجار، باستغنائهم بمهناتهم عن هذه الآلات، واشتغالهم بمهنتهم عن هذه الأدوات.
ولكل طبقة من هذه الطبقات معان ومذاهب يجب عليك أن تراعاها في مراسلتك إياهم في كتبك، وتزن كلامك في مخاطبتهم بميزانه، وتعطيه قسمته، وتوفيه نصيبه؛ فإنك متى أهملت ذلك وأضعته، لم آمن عليك أن تعدل بهم عن طريقهم، وتسلك بهم غير مسلكهم، وتجري شعاع بلاغتك في غير مجراه، وتنظم جوهر كلامك في غير سلكه؛ فلا تعتدّ بالمعنى الجزل ما لم تلبسه لفظا لائقا بمن كاتبته، وملامسا لمن راسلته، فإن إلباسك المعنى- وإن صحّ وشرف- لفظا متخلفا عن قدر المكتوب إليه، لم تجر به عادته، تهجين للمعنى وإخلال بقدره. وظلم بحق المكتوب إليه، ونقص ما يجب له؛ كما أن في اتباع تعارفهم، وما انتشرت به عاداتهم، وجرت به سنّتهم، قطعا لعذرهم، وخروجا من حقوقهم، وبلوغا إلى غاية مرادهم، وإسقاطا لحجة أدبهم.(4/263)
فمن الألفاظ المرغوب عنها، والصدور المستوحش منها في كتب السادات والملوك والأمراء، على اتفاق المعاني، مثل: أبقاك الله طويلا، وعمّرك مليا. وإن كنا نعلم أنه لا فرق بين قولهم: أطال الله بقاك، وبين قولهم: أبقاك الله طويلا؛ ولكنهم جعلوا هذا أرجح وزنا، وأنبه قدرا في المخاطبة؛ كما أنهم جعلوا: أكرمك الله وأبقاك، أحسن منزلا في كتب الفضلاء والأدباء، من: جعلت فداك، على اشتراك معناه واحتمال أن يكون فداه من الخير، كما يحتمل أن يكون فداه من الشر؛ ولولا أن رسول الله صلّى الله عليه وسلم قال لسعد بن أبي وقاص: ارم فداك أبي وأمي، لكرهنا أن يكتب بها أحد؛ على أن كتّاب العسكر وعوامهم قد ولعوا بهذه اللفظة، حتى استعملوها في جميع محاوراتهم، وجعلوها هجّيراهم «1» في مخاطبة الشريف والوضيع، والكبير والصغير. ولذلك قام محمود الوراق:
كلّ من حلّ سرّ من رامن الناس ... ومن قد يداخل الأملاكا
لو رأى الكلب مائلا بطريق ... قال للكلب: يا جعلت فداكا!
وكذلك لم يجيزوا أن يكتبوا بمثل: أبقاك الله، وأمتع بك؛ إلا في الابن والخادم المنقطع إليك، وأما في كتب الإخوان فغير جائز، بل مذموم مرغوب عنه؛ ولذلك كتب عبد الله بن طاهر إلى محمد بن عبد الملك الزيات:
أحلت عما عهدت من أدبك ... أم نلت ملكا فتهت في كتبك
أم قد ترى أنّ في ملاطفة الإخوان ... نقصا عليك في أدبك
أكان حقّا كتاب ذي مقة ... يكون في صدره: وأمتع بك!؟
أتعبت كفّيك في مكاتبتي ... حسبك ممّا لقيت في تعبك
فكتب إليه محمد بن عبد الملك الزيات:
كيف أخون الإخاء يا أملي ... وكل شيء أنال من سببك(4/264)
أنكرت شيئا فلست فاعله ... ولن تراه يخطّ في كتبك
إن يك جهل أتاك من قبلي ... فعد بفضل علىّ من حسبك
فاعف فدتك النّفوس عن رجل ... يعيش حتى الممات في أدبك
ولكل مكتوب إليه قدر ووزن، ينبغي للكاتب أن لا يجاوزه عنه ولا يقصر به دونه، وقد رأيتهم عابوا الأحوص حين خاطب الملوك خطاب العوام في قوله:
وأراك تفعل ما تقول وبعضهم ... مذق «1» الحديث يقول ما لا يفعل
وهذا معنى صحيح في المدح، ولكنهم أجلّوا قدر الملوك أن يمدحو بما تمدح به العوام؛ لأنّ صدق الحديث وإنجاز الوعد وإن كان من المدح، فهو واجب على العامة، والملوك لا يمدحون بالفرائض الواجبة، إنما يحسن مدحهم بالنوافل لأن المادح لو قال لبعض الملوك: إنك لا تزني بحليلة جارك، وإنك لا تخون ما استودعت، وإنك لتصدق في وعدك وتفي بعهدك؛ فكأنه قد أثنى بما يجب؛ ولو قصد بثنائه إلى مقصده كان أشبه في الملوك.
ونحن نعلم أن كل أمير يتولى من أمير المؤمنين شيئا فهو أمير المؤمنين؛ غير أنهم لم يطلقوا هذه اللفظة إلا في الخلفاء خاصة.
ونحن نعلم أن الكيس هو العقل، ولكن لو وصفت رجلا فقلت: إنه لعاقل كنت مدحته عند الناس، وإن قلت: إنه لكيّس كنت قد قصّرت به عن وصفه، وصغّرت من قدره، إلا عند أهل العلم باللغة؛ لأن العامة لا تلتفت إلى معنى الكلمة. ولكن إلى ما جرت به العادة من استعمالها في الظاهر؛ إذ كان استعمال العامة لهذه الكلمة مع الحداثة والغرة وخساسة القدر وصغر السن.
وقد روينا عن علي كرم الله وجهه أنه تسمى بالكيّس حين بنى سجن الكوفة، فقال في ذلك:(4/265)
أما تراني كيّسا مكيّسا ... بنيت بعد نافع مخيّسا «1»
حصنا حصينا وأميرا كيّسا
وقال الشاعر:
ما يصنع الأحمق المرزوق بالكيس
وكذلك تعلم أن الصلاة رحمة، غير أنهم كرهوا الصلاة إلا على الأنبياء.
كذلك روينا عن ابن عباس.
وسمع سعد بن أبي وقاص ابن أخ له يلبّي ويقول في تلبيته: لبّيك ياذا المعارج.
فقال: نحن نعلم أنه ذو المعارج، ولكن ليس كذا كنا نلبي على عهد رسول الله صلّى الله عليه وسلم، إنما كنا نقول: لبّيك اللهم لبيك.
وكان أبو إبراهيم المزني يقول في بعض ما خطب به داود بن خلف الأصبهاني:
«فإن قال كذا فقد خرج عن الملة والحمد لله» فنقض ذلك عليه داود، وقال فيما ردّ عليه: نحمد الله على أن يخرج امرأ مسلما من الإسلام؟ وهذا موضع استرجاع، وللحمد مكان يليق به، وإنما يقال في المصيبة: إِنَّا لِلَّهِ وَإِنَّا إِلَيْهِ راجِعُونَ
«2» .
فامتثل هذه المذاهب، واجر على هذه القواعد، وتحفظ في صدور كتبك وفصولها [وافتتاحها] وخواتمها وضع كلّ معنى في موضع يليق به، وتخيّر لكل لفظة معنى يشاكلها، وليكن ما تختم به فصولك في موضع ذكر البلوى بمثل: نسأل الله دفع المحذور، وصرف المكروه؛ وأشباه هذا؛ وفي موضع ذكر المصيبة: إنا لله وإنا إليه راجعون وفي موضع ذكر النعمة: الحمد لله خالصا، والشكر لله واجبا، [وما يشاكل ذلك] ؛ فإن هذه المواضع يجب على الكاتب أن يتفقدها ويتحفظّ فيها؛ فإنّ الكاتب إنما يصير كاتبا بأن يضع كل معنى في موضعه، ويعلّق كل لفظة على طبقتها من المعنى.(4/266)
واعلم أنه لا يجوز في الرسائل استعمال ما أتت به آي القرآن من الاختصار والحذف، ومخاطبة الخاص بالعام والعام بالخاص؛ لأن الله جل ثناؤه [إنما] خاطب بالقرآن قوما فصحاء فهموا عنه- جل ثناؤه- أمره ونهيه ومراده؛ والرسائل إنما يخاطب بها أقوام دخلاء على اللغة، لا علم لهم بلسان العرب.
وكذلك ينبغي للكاتب أن يجتنب اللفظ المشترك، والمعنى الملتبس؛ فإنه إن ذهب يكاتب على مثل معنى قول الله تعالى: وَسْئَلِ الْقَرْيَةَ الَّتِي كُنَّا فِيها وَالْعِيرَ الَّتِي أَقْبَلْنا فِيها
«1» ، وكقوله تعالى: بَلْ مَكْرُ اللَّيْلِ وَالنَّهارِ
»
، احتاج الكاتب أن يبيّن معناه: اسأل أهل القرية وأهل العير، وبل مكركم بالليل والنهار، ومثل هذا كثير لا يتسع الكتاب لذكره.
وكذلك لا يجوز أيضا في الرسائل والبلاغات المنثورة ما يجوز في الأشعار الموزونة؛ لأن الشاعر مضطر، والشعر مقصور مقيّد بالوزن والقوافي؛ فلذلك أجازوا لهم صرف ما لا ينصرف من الأسماء، وحذف ما لا يحذف منها؛ واغتفروا فيه سوء النظم، وأجازوا فيه التقديم والتأخير، والإضمار في موضع الإظهار؛ وذلك كله غير سائغ في الرسائل، ولا جائز في الملاغات، فمّما أجيز في الشعر من الحذف مثل قول الشاعر:
قواطنا مكّة من ورق الحما
يعني الحمام؛ وقول الآخر:
صفر الوشاحين صموت الخلخل
يريد الخلخال؛ وكقول الآخر:
دار لسلمى إذه من هواكا(4/267)
يريد إذ هي؛ وكقول الحطيئة:
فبها الرّماح وفيها كلّ سابغة ... جدلاء مسرودة من نسج سلّام
يريد سليمان؛ وقول الآخر:
وسائلة بثعلبة بن سير ... وقد علقت بثعلبة العلوق «1»
وأراد ثعلبة بن سيّار؛ وكما قال الآخر:
ولست بآتيه ولا أستطيعه ... ولاك اسقني إن كان ماؤك ذا فضل
أراد ولكن.
وكذلك لا ينبغي في الرسائل أن يصغر الاسم في موضع التعظيم، وإن كان ذلك جائزا، مثل قولهم: «دويهية» تصغير داهية، «وجذيل» تصغير جذل، «وعذيق» تصغير عذق. وقال الشاعر، وهو لبيد:
وكلّ أناس سوف تدخل بينهم ... دويهية تصفرّ منها الأنامل
وقال الحباب بن المنذر يوم سقيفة بني ساعدة: أنا عذيقها «2» المرجّب، وجذيلها «3» المحكّك، وقد شرحه أبو عبيد.
ومما لا يجوز في الرسائل وكرهوه في الكلام أيضا، مثل قولهم: كلمت إياك، وأعني إياك، وهو جائز في الشعر:
وأحسن وأجمل في أسيرك إنّه ... ضعيف ولم يأسر كإيّاك اسر
وقال الراجز:
إيّاك حتى بلغت إيّاك(4/268)
فتخيّر من الألفاظ أرجحها لفظا وأجزلها معنى، وأشرفها جوهرا وأكرمها حسبا، وأليقها في مكانها، وأشكلها في موضعها؛ فإن حاولت صنعة رسالة فزن اللفظة قبل أن تخرجها بميزان التصريف إذا عرضت، وعاير الكلمة بمعيارها إذا سنحت؛ فإنه ربما مر بك موضع يكون مخرج الكلام إذا كتبت: أنا فاعل، أحسن من أن تكتب: أنا أفعل، وموضع آخر، يكون فيه: استفعلت، أحلى من: فعلت؛ فأدر الكلام على أماكنه، وقلّبه على جميع وجوهه؛ فأيّ لفظة رأيتها أخفّ في المكان الذي ندبتها إليه، وأنزع إلى الموضع الذي راودتها عليه فأوقعها فيه؛ ولا تجعل اللفظة قلقة في موضعها، نافرة عن مكانها؛ فإنك متى فعلت [ذلك] هجّنت الموضع الذي حاولت تحسينه، وأفسدت المكان الذي أردت إصلاحه؛ فإن وضع الألفاظ في غير أماكنها، وقصدك بها إلى غير مصابها، إنما هو كترقيع الثوب الذي لم تتشابه رقاعه، ولم تتقارب أجزاؤه، خرج عن حد الجدّة وتغيّر حسنه، كما قال الشاعر:
إن الجديد إذا ما زيد في خلق ... تبيّن الناس أنّ الثّوب مرقوع «1»
كذلك كلما احلولى الكلام وعذب وراق وسهلت مخارجه، كان أسهل ولوجا في الأسماع، وأشدّ اتصالا بالقلوب، وأخفّ على الأفواه؛ لا سيما إن كان المعنى البديع مترجما بلفظ مونق شريف ومعايرا بكلام عذب لم يسمه التكلف بميسمه ولم يفسده التعقيد باستغلافه.
وكتب عيسى بن لهيعة إلى أخيه أبي الحسن، وزوّر كلامه وجاوز المقدار في التنطع «2» ؛ فوقّع في أسفل كتابه:
أنّى يكون بليغا ... من اسمه كان عيّا
وثالث الحرف منه ... أذ كفيت مسيّا
قال: وبلغني أن بعض الكتاب عاد بعض الملوك فوجده يئن من علة، فخرج عنه بباب الطاق، فإذا بطير يدعى الشفانين، فاشتراه وبعث به إليه، وكتب كتابا يتنطع(4/269)
في بلاغته، وذكر: إنه يقال له شفانين، أرجو أن يكون شفاء من أنين! فوقع في أسفل الكتاب: والله لو عطست ضبّا ما كنت عندنا إلا نبطيا، فأقصر عن تنطّعك وسهّل كلامك.
قوله: لو عطست ضبّا، يريد: أن الضّباب من طعام الأعراب وفي بلدهم يقال:
لو عطست فنثرت صبّا من عطاسك، لم يلحق بالأعراب ولم تكن إلا نبطيا.. وقد جاء في بعض الحديث: أن القط من نثرة عطسة الأسد، وأن الفأر من نثرة عطسة الخنزير، فقال هذا: لو أن الضب من نثرتك لم تكن إلا نبطيا.
وفي هذا المعنى قال مخلد الموصلي يهجو حبيبا:
أنت عندي عربي ... ليس في ذاك كلام
شعر ساقيك وفخ ... ذيك خزامى وثمام «1»
وقذى عينيك صمغ ... ونواصيك ثغام «2»
وضلوع الصّدر من شل ... وك نبع وبشام «3»
لو تحرّكت كذا لا ... ن جفلت منك نعام
وظباء راتعات ... ويرابيع عظام «4»
وحمام يتغنى ... حبّذا ذاك الحمام
أنا ما ذنبي لأن ... كذبني فيك الأنام؟
وفتى يحلف ما إن ... عرّقت فيه الكرام «5»
ثم قالوا جاسمي ... من بني الأنّباط حام
كذبوا ما أنت إلا ... عربيّ والسّلام!(4/270)
وقد رأيتهم شبهوا المعنى الخفّي بالروح الخفي، واللفظ الظاهر بالجثمان الظاهر؛ وإذا لم ينهض بالمعنى الشريف الجزل لفظ شريف جزل، لم تكن العبارة واضحة، ولا النظام متسقا، وتضاءل المعنى الحسن تحت المعنى القبيح، كتضاءل الحسناء في الأطمار الرثة.
وإنما يدل على المعنى أربعة أصناف: لفظ، وإشارة، وعقد، وخط؛ وقد ذكر له أرسطاطاليس صنفا خامسا في كتاب المنطق، وهو الذي يسمى النّصيبة «1» ، والنّصيبة الحال الدالة التي تقوم مقام تلك الأصناف الأربعة، وهي الناطقة بغير لفظ، والمشيرة إليك بغير يد؛ وذلك ظاهر في خلق السموات والأرض وكل صامت وناطق. وجميع هذه الأصناف الخمسة كاشفة عن أعيان المعاني وسافرة عن وجوهها.
وأوضح هذه الدلائل وأفصح هذه الأصناف صنفان: هما القلم واللسان، وكلاهما للقلب ترجمان! فأمّا اللسان فهو الآلة التي يخرج الإنسان بها عن حدّ الاستبهام، إلى حدّ الإنسانية بالكلام؛ ولذلك قال صاحب المنطق: حدّ الإنسان، الحيّ الناطق.
وقال هشام بن عبد الملك: إن الله رفع درجة اللسان فأنطقه بين الجوارح.
وقال علي بن عبيدة: إنما يبين عن الإنسان، اللسان وعن المودّة العينان.
وقال آخر: الرجل مخبوء تحت لسانه.
وقالوا: المرء بأصغريه: قلبه ولسانه.
وقال الشاعر:
وما المرء إلا الأصغران: لسانه ... ومعقوله، والجسم خلق مصوّر «2»
فإن طرّة راقتك يوما فربّما ... يمرّ مذاق العود والعود أخضر
وللخط صورة معروفة، وحلية موصوفة، وفضيلة بارعة. ليست لهذه الأصناف؛ لأنه يقوم مقامه في الإيضاح عند المشهد ويفضله عند المغيب؛ لأنّ الكتب تقرأ في(4/271)
الأماكن المتباينة، والبلدان المتفرّقة، وتدرس في كل عصر وزمان، وبكلّ لسان؛ واللسان وإن كان ذلقا فصيحا لا يعدو سامعه ولا يجاوزه إلى غيره.
البلاغة
قال سهل بن هارون: سياسة البلاغة أشدّ من البلاغة.
وقيل لجعفر بن يحيى بن خالد: ما البلاغة؟ قال: التقرّب من المعنى البعيد، والدلالة بالقليل على الكثير.
وقيل لابن المقفع: ما البلاغة؟ قال: قلة الحصر، والجراءة على البشر. قيل له: فما العيّ؟ قال: الإطراق من غير فكرة، والتنحنح من غير علة.
وقيل لآخر: ما البلاغة؟ قال: تطويل القصير، وتقصير الطويل.
وقيل لأعرابي: ما البلاغة؟ فقال: حذف الفضول، وتقريب البعيد.
وقيل لأرسطاطاليس: ما البلاغة؟ فقال: حسن الاستعارة.
وقيل لجالينوس: ما البلاغة؟ فقال: إيضاح المعضل، وفك المشكل.
وقيل للخليل بن أحمد: ما البلاغة؟ فقال: ما قرب طرفاه، وبعد منتهاه.
وقيل لخالد بن صفوان: ما البلاغة؟ قال: إصابة المعنى، والقصد للحجة.
وقيل لآخر: ما البلاغة؟ قال: تصوير الحق في صورة الباطل، وتصوير الباطل في صورة الحق.
وقيل لإبراهيم الإمام: ما البلاغة؟ فقال: الجزالة والإصابة.
تضمين الأسرار في الكتب
وأمّا تضمين الأسرار في الكتب حتى لا يقرؤها غير المكتوب إليه، ففيه أدب يجب معرفته، وقد تعلقت العامّة بكتاب القمّيّ والأصبهانيّ.
الأصبهاني: وكان أبو حاتم سهل بن محمد قد وصف لي منه أشياء جليلة من تبديل(4/272)
الحروف، وذلك ممكن لكل إنسان، غير أنّ اللطيف من ذلك أن تأخذ لبنا حليبا فتكتب به في القرطاس، فيذرّ المكتوب له عليه رمادا سخنا من رماد القراطيس، فيظهر ما كتبت به إن شاء الله؛ وإن شئت كتبت بماء الزاج الأبيض، فإذا وصل إلى المكتوب إليه أمرّ عليه شيئا من غبار الزاج. وإن أحببت أن لا يقرأ الكتاب بالنهار ويقرأ بالليل، فاكتبه بمرارة السّلحفاة.
قولهم في الأقلام
قالوا: القلم أحد اللسانين، وهو المخاطب للعيون بسرائر القلوب على لغات مختلفة، من معان معقودة بحروف معلومة مؤلّفة، متباينات الصور، مختلفات الجهات، لقاحها التفكر، ونتاجها التدبر، تخرس منفردات، وتنطق مزدوجات، بلا أصوات مسموعة، ولا ألسن محدودة، ولا حركات ظاهرة، خلا قلم حرّف باريه قطّته ليتعلق المداد به، وأرهف جانبيه ليردّ ما انتشر عنه إليه، وشق رأسه ليحتبس المداد عليه، فهنالك استمدّ القلم بشقه، ونثر في القرطاس بخطه حروفا أحكمها التفكر، وجرى على أسلته الكلام الذي سداه العقل، وألحمه اللسان، ونهسته اللهوات، وقطعته الأسنان، ولفظته الشفاه، ووعته الأسماع، عن أنحاء شتى من صفات وأسماء.
وقال الشاعر وهو أبو الحسن محمد بن عبد الملك بن صالح الهاشمي:
وأسمر طاوي الكشح أخرس ناطق ... له ذملان في بطون المهارق «1»
إذا استعجلته الكفّ أمطر وبله ... بلا صوت إرعاد ولا ضوء بارق
إذا ما حدا غرّ القوافي رأيتها ... مجلّلة تمضي أمام السّوابق
كأنّ عليه من دجى الليل حلّة ... إذا ما استهلّت مزنه بالصّواعق
كأن الّلآلي والزبرجد نطقه ... ونوم الخزامى في عيون الحدائق «2»(4/273)
وقال العلوي في صفة القلم:
وعريان من خلعة مكتس ... يميس من الوشي في يلمق «1»
تحدّر من رأسه ريقة ... تسيل على ذروة المفرق
فكم من أسير له مطلق ... وكم من طليق له موثق
يقيم ويوطن غرب البلاد ... وينهى ويأمر بالمشرق
قليل كثير ضروب الخطو ... ط وأخرس مستمع المنطق
يسير بركب تلال عجال ... إذا ما حدا الفكر في مهرق
وقال آخر في القلم:
لك القلم المطيعك غير أنّا ... وجدنا وسمه غير المطاع
له ذوقان من أري هني ... ومن شري وبيّ ذي امتناع «2»
أحدّ اللفظ ينطق عن سواه ... فيسمع وهو ليس بذي استماع
إذا استسقى بلاغتك استهلّت ... عليه سماء فكرك باندفاع
وقال:
وبيت بعلياء الفلاة بنيته ... بأسمر مشقوق الخياشيم يرعف
كأنّ عليه ملبسا جلد حية ... مقيم فما يمضي ولا يتخلّف
جليل شئون الخطب، ما كان راكبا ... يسير، وإن أرجلته فمضعّف
وقال حبيب بن أوس، وهو من أحسن ما قيل فيه:
لك القلم الأعلى الذي بشباته ... يصاب من الأمر الكلى والمفاصل
لعاب الأفاعي القاتلات لعابه ... وأري الجني اشتارته أيد عواسل
له ريقة طلّ ولكنّ وقعها ... بآثاره في الشرق والغرب وابل «3»
فصيح إذا استنطقته وهو راكب ... وأعجم إن خاطبته وهو راجل(4/274)
إذا ما امتطى الخمس الّلطاف وأفرغت ... عليه شعاب الفكر وهي حوافل
أطاعته أطراف القنا وتقوّضت ... لنجواه تقويض الخيام الجحافل
إذا استغزر الذّهن الجليّ وأقبلت ... أعاليه في القرطاس وهي أسافل
وقد رفدته الخنصران وسدّدت ... ثلاث نواحيه الثلاث الأنامل
رأيت جليلا شأنه وهو مرهف ... ضنى، وسمينا خطبه وهو ناحل
ولما قال حبيب هذا الشعر حسده الخثعمي، فقال لابن الزيات:
ما خطبة القلم التي أنبيتها ... وردت عليك لشاعر مجدود
وأنشد البحتري لنفسه يصف قلم الحسن بن وهب:
وإذا تألق في النّديّ كلامه ال ... مصقول خلت لسانه من عضبه
وإذا دجت أقلامه ثم انتحت ... برقت مصابيح الدّجى في كتبه
باللفظ يقرب فهمه في بعده ... منّا، ويبعد نيله في قربه
حكم فسائحها خلال بنانه ... متدفّق وقليبها في قلبه
وكأنها والسمع معقود بها ... شخص الحبيب بدا لعين محبّه
وأنشد أحمد بن أبي طاهر في بعض الكتّاب ويصف القلم:
قلم الكتابة في يمينك آمن ... مما يعود عليه فيما يكتب
قلم به ظفر العدوّ مقلّم ... وهو الأمان لما يخاف ويرهب
يبدي السرائر وهو عنها محجب ... ولسان حجّته بصمت يعرب
ومن قولنا في القلم:
بكفّه ساحر البيان إذا ... أداره في صحيفة سحرا
ينطق في عجمة بلفظته ... نصمّ عنه ويسمع البصرا
نوادر تقرع القلوب بها ... إن تستبنها وجدتها صورا
نظام درّ الكلام ضمّنه ... سلكا لخطّ الكتاب مستطرا «1»(4/275)
إذا امتطى الخنصران أذكر من ... سحبان فيما أطال واختصرا
يخاطب الغائب البعيد بما ... يخاطب الشاهد الذي حضرا
ترى المقادير تستدفّ له ... وتنفذ الحادثات ما أمرا «1»
شخب ضئيل لفعله خطر ... أعظم به في ملمّة خطرا
تمجّ فكاه ريقة صغرت ... وخطبها في القلوب قد كبرا
يواقع النفس منه ما حذرت ... وربما جنّبت به الحذرا
مهفهف تزدهي به صحف ... كأنما حلّيت به دررا «2»
كأنها ترفع العيون بها ... خلال روض مكلل زهرا
إن قرّبت مرّطت طوابعها ... ما فضّ طين لها ولا كسرا
يكاد عنوانها لروعته ... ينبيك عن سرّها الذي استترا
ومن أحسن ما شبهت به الأقلام وشبه بها، قول ذي الرّمّة:
كأنّ أنوف الطير في عرصاتها ... خراطيم أقلام تخط وتعجم
ومثله قول عدي بن الرقاع:
يخرجن من فرجات النقع دامية ... كأنّ آذانها أطراف أقلام
ومن قوله في ولد البقرة:
تزجي أغنّ كأنّ إبرة روقه ... قلم أصاب من الدواة مدادها
ومنه قول المأمون:
كأنما قابل القرطاس إذ مشقت ... منها ثلاثة أقلام على قلم «3»
ومثله قولنا فيه:
إذا أدارت بنانه قلما ... لم تدر للشّبه أيّها القلم
ومن قولنا في الأقلام:(4/276)
ومعشر تنطق أقلامهم ... بحكمة تلقنها الأعين
تلفظها في الصكّ أقلامهم ... كأنما أقلامهم ألسن
ومن قولنا في الأقلام:
يا كاتبا نقشت أنامل كفّه ... سحر البيان بلا لسان ينطق
إلا صقيل المتن ملموم القوى ... حزّت لهازمه وشق المفرق
فإذا تكلم رغبة أو رهبة ... في مغرب أصغى إليه المشرق
يدلي بريقة أريه أو شريه ... يبكي ويضحك من نداه المهرق «1»
ولعبد الله بن المعتز كلام يصف القلم. القلم يخدم الإرادة؛ ولا يمل الاستزادة؛ يسكت واقفا، وينطق ساكتا؛ على أرض بياضها مظلم، وسوادها مضيء.
وقال سليمان بن وهب وزير المهدي: كل قلم تطيل جلفته؛ فإن الخط يخرج به أوقص «2» .
وكتب جعفر بن يحيى إلى محمد بن الليث يستوصفه الخط، فكتب إليه:
أما بعد، فليكن قلمك بحريا لا سمينا ولا رقيقا، ما بين الرقة والغلظ، ضيق النقب، فأبره بريا مستويا كمنقار الحمامة: أعطف قطته، ورقق شفرته؛ وليكن مدادك صافيا خفيفا، إذا استمددت منه ليلة ثم صفه في الدواة؛ وليكن قرطاسك رقيقا مستوي النسج، تخرج السحاة مستوية من أحد الطرفين إلى آخره؛ فليست تستقيم السطور إلا فيما كان كذلك، وليكن أكثر تمطيطك في طرف القرطاس الذي في يسارك، وأقله في الوسط ولا تمطّ في الطرف الآخر، ولا تمط كلمة ثلاثة أحرف ولا أربعة، ولا تترك الأخرى بغير مط، فإنك إذا فرّقت القليل كان قبيحا، وإذا جمعت الكثير كان سمجا؛ ثم ابتدىء الألف برأس القلم كله، واخططه بعرضه، واختمه بأسفله؛ واكتب الباء والتاء والسين والشين، والمطة العليا من الصاد والضاد(4/277)
والطاء والظاء والكاف والعين والغين، ورأس كل مرسل برأس القلم؛ واكتب الجيم والحاء والخاء والدال والذال والراء، والمطة السفلى من الصاد والضاد والطاء والظاء والكاف والعين والغين، بالسن السفلى من القلم وامطط بعرض القلم، والمط نصف الخط، ولا يقوى عليه إلا العاقل، ولا أحسب العاقل يقوى عليه أيضا إلا بالنظر إلى اليد في استعمالها الحركة. والسلام.
وقال ابن طاهر لكاتبه: ألق دواتك، وأطل سنّ قلمك، وفرّج بين السطور، وقرمط «1» بين الحروف.
وقال إبراهيم بن جبلة: مر بي عبد الحميد وأنا أخط خطاّ رديئا، فقال لي: أ [لا] تحب أن يجود خطّك؟ قلت: بلى. قال: أطل جلفة القلم وأسمنها؛ وحرّف قطّتك وأيمنها. ففعلت فجاد خطي.
وقال العتابي: ببكاء القلم تبتسم الكتب.
وقال بعض الحكماء: أمر الدين والدنيا تحت سنان السيف والقلم.
وقال حبيب الطائي:
لولا مناشدة القربى لغادركم ... حصائد المرهفين: السيف والقلم
وقال أرسطا طاليس: عقول الرجال تحت سنّ أقلامهم.
وقال أبو حكيمة: كنت أكتب المصاحف، فمر بي عليّ بن أبي طالب كرم الله وجهه، فقال: أجلل قلمك. فقصمت من قلمي قصمة، فقال: هكذا نوره كما نوره الله.
وكان ابن سيرين يكره أن يكتب القرآن مشقا «2» ، وقال: أجود الخط أبينه.
وقال سليمان بن وهب: زيّنوا خطوطكم بإسبال ذوائبها.(4/278)
وقال عمرو بن مسعدة: الخط صورة ضئيلة، لها معان جليلة، وربما ضاق عن العيون، وقد ملأ أقطار الظنون.
وذكر علي بن عبيدة القلم فقال: أصمّ يسمع النّجوى؛ أعيا من باقل، وأبلغ من سحبان وائل؛ يجهل الشاهد، ويخبر الغائب؛ ويجعل الكتب بين الإخوان ألسنا ناطقة، وأعينا لاحظة، وربما ضمنها من ودائع القلوب ما لا تبوح به الألسن عند المشاهدة.
وقال أحمد بن يوسف الكاتب: ما عبرات الغواني في خدودهن بأحسن من عبرات الأقلام في خدود الكتب.
وقال العتابي: الأقلام مطايا الفطن.
وتخاير «1» غلامان في بعض الدواوين، فقاما إلى أستاذهما يعرضان عليه خطوطهما، فكره أن يفضّل أحدهما على الآخر؛ فقال لأحدهما: أما خطّك أنت فوشي محوك.
وقال للآخر: وأما خطك أنت فذهب مسبوك؛ تكافأتما في غاية، وتوافيتما في نهاية.
وقال آخر: دخلت الديوان، فنظرت إلى غلام بيده فلم كأنه قضيب عقيان، وعليه مكتوب:
وا بأبي! وا بأبي ... من كفّ من يكتب بي
وقال أبو هفان يصف القلم:
وإذا أمرّ على المهارق كفّه ... بأنامل يحملن شختا مرهفا «2»
ومقصّرا ومطوّلا ومقطّعا ... وموصّلا ومشتّتا ومؤلّفا
كالحية الرّقشاء إلا أنه ... يستنزل الأروى إليه تلطّفا «3»
يهفو به قلم يمجّ لعابه ... فيعود سيفا صارما ومثقّفا
وقال آخر في وصف الدواة:(4/279)
ومسودّة الأرجاء قد خضت جالها ... وروّيت من قعر لها غير منبط
خميص الحشا يروى على كلّ مشرب ... أمينا على سرّ الأمين المسلّط
وقال بعض الكتّاب:
وما روض الربيع وقد زهاه ... ندى الأسحار يأرج بالغداة
بأضوع أو بأسطع من نسيم ... تؤدّيه الألاقة من دواة
وقال آخر في وصف محبرة:
ولجّة بحر أجمّ العباب ... باد وأمواجه تزخر
إذا غاص فيه أخو غوصة ... سريع السّباحة ما يفتر
فأنفس بذلك من غائص ... بديع الكلام له جوهر
وأكرم ببحر له لجّة ... جواهرها حكم تنثر
وقال ثمامة بن أشرس: ما أثرته الأقلام، لم تطمع في درسه الأيام. ونظر المأمون إلى جارية من جواريه تخطّ خطاّ حسنا، فقال فيها:
وزادت لدينا حظوة حين أطرقت ... وفي إصبعيها أسمر اللون أهيف
أصمّ سميع، ساكن متحرّك ... ينال جسيمات المنى وهو أعجف «1»
وقال بعض الكتاب:
إذا ما التقينا وانتضينا صوارما ... يكاد يصم السامعين صريرها
تساقط في القرطاس منها بدائع ... كمثل اللآلي نظمها ونثيرها
قال بشر بن المعتمر: القلب معدن، والحلم «2» جوهر، واللسان مستنبط، والقلم صائغ، والخط صيغة.
وقال سهل بن هارون: القلم لسان الضمير، إذا رعف «3» أعلن أسراره وأبان آثاره.(4/280)
وقالوا: حسن الخط يناضل عن صاحبه، ويوضح الحجة، ويمكّن له درك البغية.
وقال آخر: الخط الرديء زمانة»
الأديب.
وقال الحسن بن وهب: يحتاج الكاتب إلى خلال: منها جودة بري القلم، وإطالة جلفته، وتحريف قطّته، وحسن التأني لامتطاء الأنامل، وإرسال المدّة بقدر اتساع الحروف، والتحرز عند فراغها من الكسوف، وترك الشكل على الخطأ والإعجام على التصحيف، واستواء الرسوم، وحلاوة المقاطع.
وقال سعيد بن حميد: من أدب الكاتب أن يأخذ قلمه في أحسن أجزائه، وأبعد ما يتمكن المداد فيه، ويعطيه من القرطاس حقه.
وقال عبد الله بن عباس: كلّ كتاب غير مختوم فهو غفل.
وفي تفسير قول الله تعالى: إِنِّي أُلْقِيَ إِلَيَّ كِتابٌ كَرِيمٌ
«2» قال: مختوم.
ورفع إلى عبد الله بن طاهر قصة قد أكثر صاحبها إعجامها، فقال: ما أحسن ما كتبت إلا أنك أكثرت شونيزها «3» .
وقال أبو عبيدة: لا يقال كأس إلا إذا كان فيها شراب، وإلا فهي زجاجة، ولا مائدة إلا إذا كان عليها طعام، وإلا فهي خوان؛ ولا قلم إلا إذا بري، وإلا فهي قصبة.
وقال آخر: جلوس الأدباء عند الوراقين، وجلوس المخّمنين عند النخاسين، وجلوس الطفيليين عند الطباخين.
وكتب علي بن الأزهر إلى صديق له يسأله أقلاما يبعث بها إليه:
أما بعد، فإنا على طول الممارسة لهذه الكتابة التي غلبت على الاسم، ولزمت لزوم(4/281)
الوسم؛ فحلت محل الأنساب، وجرت مجرى الألقاب، وجدنا الأقلام الصّحريّة أسرع في الكواغد، وأمرّ في الجلود، كما أن البحرية منها أساس في القراطيس، وألين في المعاطف، وأشدّ لتصريف الخط فيها؛ ونحن في بلد قليل القصب رديئه، وقد أحببت أن تتقدم في اختيار أقلام بحرية، وتتأنق في انتقائها قبلك، وتطلبها في مظانّها ومنابتها، من شطوط الأنهار، وأرجاء الكروم، وأن تتيمم في اختيارك منها الشديد المحص «1» ، الصلبة المقصّ، النقية الجلود، القليلة الشحوم، المكتنزة اللحوم، الضيقة الأجواف، الرزينة المحمل؛ فإنها أبقى على الكتابة، وأبعد من الجفاء، وأن تقصد بانتقائك الرّقاق القضبان، المقومات المتون، الملس المعاقد، الصافية القشور، الطويلة الأنابيب، البعيدة ما بين الكعوب، الكريمة الجواهر، المعتدلة القوام، المستحكمة يبسا وهي قائمة على أصولها، لم تعجل عن إبّان ينعها، ولم يؤخّر إلى الأوقات المخوفة عليها من خصر الشتاء «2» ؛ وعفن الأنداء؛ فإذا استجمعت عندك أمرت بقطعها ذراعا ذراعا، قطعا رقيقا؛ ثم عبأت منها حزما فيما يصونها من الأوعية، ووجهتها مع من يؤدي الأمانة في حراستها وحفظها وإيصالها، وكتبت معه رقعة بعدّتها وأصنافها بغير تأخير ولا توان، إن شاء الله تعالى.
قولهم في الحبر
قال بعض الكتّاب: عطّروا دفاتر آدابكم بجيّد الحبر، فإن الأدب غواني والحبر غوالي.
ونظر جعفر بن محمد إلى فتى على ثيابه أثر المداد وهو يستره، فقال له:
لا تجزعنّ من المداد فإنه ... عطر الرجال وحلية الكتّاب(4/282)
وكيع وقريب له:
وأتى وكيع بن الجراح رجل يمت إليه بحرمة، فقال له: وما حرمتك؟ قال له:
كنت تكتب من محبرتي عند الأعمش. فوثب وكيع ودخل منزله، ثم أخرج له بضعة دنانير، وقال له: اعذر فما أملك غيرها.
وفي الأقلام
أهدى ابن الحرون إلى رجل من إخوانه من الكتّاب أقلاما؛ فكتب إليه:
إنه لما كانت الكتابة- أبقاك الله- أعظم الأمور، وقوام الخلافة، وعمود المملكة؛ خصصتك من آلتها بما يخفّ محمله، وتثقل قيمته، ويعظم نفعه ويجلّ خطره؛ وهي أقلام من القصب النابت في الصّحر «1» الذي نشف في حر الهجير ماؤه، وستره من تلويحه غشاؤه؛ فهي كاللآليء المكنونة في الصّدف، والأنوار المحجوبة في السّدف: تبرية القشور دريّة الظهور، فضية الكسور؛ قد كستها الطبيعة جوهرا كالوشي المحبر، وفرند «2» الديباج المنيّر.
قولهم في الصحف
نعم الأنيس إذا خلوت كتاب ... تلهو به إن ملّك الأحباب
لا مفشيا سراّ إذا استودعته ... وتفاد منه حكمة وصواب
وقال آخر:
ولكلّ صاحب لذّة متنزّه ... أبدا، ونزهة عالم كتبه
وقال حبيب:
مداد مثل خافية الغراب ... وقرطاس كرقراق السّراب(4/283)
وألفاظ كألفاظ المثاني ... وخطّ مثل وشم يد الكعاب
كتبت ولو قدرت هوى وشوقا ... إليك لكنت سطرا في الكتاب
وقال في صحيفة جاءته من عند الحسن بن وهب:
لقد جلّى كتابك كل بثّ ... جو وأصاب شاكلة الرّميّ «1»
فضضت ختامه فتبلّجت لي ... غرائبه عن الخبر الجليّ
وكان أغضّ في عيني وأندى ... على كبدي من الزهر الجنيّ
وأحسن موقعا عندي ومنّى ... من البشرى أتت بعد النّعيّ
وضمّن صدره ما لم تضمّن ... صدور الغانيات من الحليّ
فكائن فيه من معنى خطير ... وكائن فيه من لفظ بهيّ
فيا ثلج الفؤاد وكان رضفا ... ويا شبعي برونقه وريّي
فكم أفصحت عن بر جليل ... به ووأيت من وأي سنيّ
كتبت به بلا لفظ كريه ... على أذن ولا خّط قميّ «2»
رسالة من تمتّع منذ حين ... ومتّعنا من الأدب الرّضيّ
لئن غربتها في أرض بكر ... لقد زفّت إلى قلب وفيّ
وإن يك من هداياك الصّفايا ... فربّ هديّة لك كالهديّ «3»
وقال ابن أبي طاهر في ابن ثوابة:
في كلّ يوم صدور الكتب صادرة ... من رأيه وندى كفّيه عن منل
من خطّ أقلامه خطّ القضاء على ال ... أعداء والموت بين البيض والأسل
لعابها علل في الصدر تنفثه ... وربما كان فيه النّقع للغلل
كأنّ أسطارها في بطن مهرقها ... نور يضاحك دمع الواكف الخضل «4»
وقال البحتري في محمد بن عبد الملك الزيات:(4/284)
قد تصرفت في الكتابة حتى ... عطّل الناس فنّ عبد الحميد
في نظام من البلاغة ما ش ... كّ امرؤ أنّه نظام فريد
وبديع كأنه الزهر الضّا ... حك في رونق الربيع الجديد
ما اغتدت منه في بطون القراطي ... س وما حمّلت ظهور البريد
حجج تخرس الألدّ بألفا ... ظ فرادى كالجوهر المعدود
حزن مستعمل الكلام اختيارا ... وتجنّبن ظلمة التّعقيد
كالعذارى غدون في الحلل البي ... ض إذا رحن في الخطوب السّود
وقال عليّ بن الجهم في رقعة جاءته بخط جيّد:
ما رقعة جاءتك مثنية ... كأنها خدّ على خدّ
ساهمة الأسطر مصروفة ... عن جهة الهزل إلى الجدّ
يا كاتبا أسلمني عتبه ... إليك، حسبي منك ما عندي!
وقال محمد بن إبراهيم بن محمد الشيباني: رفع أبان بن عبد الحميد اللاحقي إلى الفضل بن يحيى بن خالد، رقعة بأبيات له يصف فيها قامته، وكثافة لحيته، وحلاوة شمائله، وبراعة أدبه، وبلاغة قلمه؛ فقال:
أنا من بغية الأمير وكنز ... من كنوز الأمير ذو أرباح
كاتب حاسب أديب لبيب ... ناصح زائد على النّصّاح
شاعر مفلق أخف من الرّي ... شة ممّا يكون تحت الجناح
لي في النّحو قطنة ونفاذ ... أنا فيه قلادة بوشاح «1»
لو رمى بي الأمير أصلحه الله ... رماحا صدمت حدّ الرّماح
ثم أروى من ابن سيرين في الفق ... هـ بقول منوّر الإفصاح
لست بالضّخم في روائي ولا الفد ... م ولا بالمجعّد الدّحداح «2»
لحية كثّة وأنف طويل ... واتّقاد كشعلة المصباح(4/285)
وكثير الحديث من ملح النا ... س بصير بخافيات ملاح
كم وكم قد خبأت عندي حديثا ... هو عند الأمير كالتّفاح
أيمن الناس طائرا يوم صيد ... في غدوّ أو بكرة أو رواح
أعلم الناس بالجوارح والصّي ... د وبالخرد الحسان الملاح
كلّ هذا جمعت والحمد ... لله على أنني ظريف المزاح
لست بالنّاسك المشمّر ثوبي ... هـ ولا الفاتك الخليع الوقاح
لو دعاني الأمير عاين منّي ... شمّرياّ كالبلبل الصدّاح «1»
قال: فدعاه فلما دخل عليه أتاه كتاب من أرمينية، فرمى به إليه، وقال له:
أجب. فأجاب بما في غرضه وأحسن، فأمر له بألف ألف درهم؛ وكنا نراه أول داخل وآخر خارج؛ وكان إذا ركب فركابه مع ركابه.
قال محمد بن يزيد: فبلغ هذا الشعر أبا نواس، فقال:
أنت أولى بقلّة الحظّ منّي ... يا مسمّى بالبلبل الصدّاح
قد رأوا منه حين غنّى لديهم ... أخرس القول غير ذي إفصاح
ثم بالرّيش شبّه النّفس في الخ ... فّة ممّا يكون تحت الجناح
فإذا الشّم من شماريخ رضوى ... خفّة عنده نوى المسباح «2»
لم يكن فيك غير شيئين ممّا ... قلت في نعت خلقك الدّحداح
لحية جعدة وأنف طويل ... وسوى ذاك ذاهب في الرياح
فيك ما يحمل الملوك على السّخ ... ف ويزري بالماجد الجحجاح «3»
بارد الطرف، مظلم الّلبّ، تيا ... هـ، معيد الحديث، سمج المزاح
قال: فبعث إليه أبان بأن لا تذيعها وخذ الألف ألف درهم! فبعث إليه أبو نواس: لو أعطيتني مائة ألف ألف درهم لم أجد بداّ من إذاعتها. فيقال: إن الفضل(4/286)
ابن يحيى لما سمع شعر أبي نواس قال: لا حاجة لي في أبان، لقد رمي بخمس في بيت لا يقبله على واحدة منهن إلا جاهل. فقيل له: كذب عليه. فقال: قد قيل ذاك.
فأقصاه؛ وإنما أغرى أبا نواس بهذا الكاتب: أبان بن عبد الحميد اللاحقي، أن الفضل بن يحيى أعطاه مالا يفرّقه في الشعراء، ويعطي كل واحد على قدره؛ فبعث إلى أبي نواس بدرهم زائف ناقص، وقال: إني أعطيت كل شاعر على مقدار شعره، وكان هذا أوفر نصيبك عندي. فهجاه لذلك.
توقيعات الخلفاء
عمر بن الخطاب رضي الله عنه
كتب إليه سعد بن أبي وقاص في بنيان يبنيه، فوقّع في أسفل كتابه: ابن ما يكنّك «1» من الهواجر وأذى المطر.
ووقع إلى عمرو بن العاص: كن لرعيتك كما تحبّ أن يكون لك أميرك.
عثمان بن عفان رضي عنه
وقع في قصة قوم تظلموا من مروان بن الحكم وذكروا أنه أمر بوجء «2» أعناقهم:
فَإِنْ عَصَوْكَ فَقُلْ إِنِّي بَرِيءٌ مِمَّا تَعْمَلُونَ
«3» .
ووقع في قصة رجل شكا علية عليه: قد أمرنا لك بما يقيمك، وليس في مال الله فضل للمسرف.
علي بن أبي طالب كرم الله وجهه
وقع إلى طلحة بن عبيد الله: في بيته يؤتى الحكم.(4/287)
ووقع في كتاب جاءه من الحسن بن علي رضي الله عنه: رأي الشيخ خير من مشهد الغلام.
ووقع في كتاب سلمان الفارسي- وسأله كيف يحاسب الناس يوم القيامة؟ -:
يحاسبون كما يرزقون..
ووقع في كتاب الحصين بن المنذر إليه يذكر أنّ السيف قد أكثر في ربيعة: بقية السيف أنمى عددا.
وفي كتاب جاءه من الأشتر النخعي فيه بعض ما يكره: من لك بأخيك كلّه؟
وفي كتاب صعصعة بن صوحان يسأله في شيء: قيمة كلّ امرىء ما يحسن.
معاوية بن أبي سفيان
كتب إليه عبد الله بن عامر في أمر عاتبه فيه، فوقع في أسفل كتابه: بيت أمية في الجاهلية أشرف من بين حبيب في الإسلام، فأنت تراه.
وفي كتاب عبد الله بن عامر يسأله أن يقطعه مالا بالطائف: عش رجبا «1» تر عجبا.
وفي كتاب زياد يخبره بطعن عبد الله بن عباس في خلافته: إن أبا سفيان وأبا الفضل كانا في الجاهلية في مسلاخ «2» واحد، وذلك حلف لا يحله سوء أدبك.
وكتب إليه ربيعة بن عسل اليربوعي يسأله أن يعينه في بناء داره بالبصرة باثنى عشر ألف جذع: أدارك في البصرة، أم البصرة في دارك؟
يزيد بن معاوية
وقع في كتاب عبد الله بن جعفر إليه يستميحه لرجال من خاصته: احكم لهم(4/288)
بآمالهم إلى منتهى آجالهم. فحكم [لهم] بتسعمائة ألف؛ فأجازها.
وكتب إليه مسلم بن عقبة المري بالذي صنع أهل الحرّة، فوقع في أسفل كتابه:
فَلا تَأْسَ عَلَى الْقَوْمِ الْفاسِقِينَ
«1» .
وفي كتاب مسلم بن زياد عامله على خراسان وقد استبطأه في الخراج: قليل العتاب يحكم مرائر الأسباب، وكثيره يقطع أواخي الانتساب.
ووقع إلى عبد الرحمن بن زياد وهو عامله على خراسان: القرابة واشجة، والأفعال متباينة؛ فخذ لرحمك من فعلك.
وإلى عبيد الله بن زياد: أنت أحد أعضاء ابن عمك، فاحرص أن تكون كلّها.
عبد الملك بن مروان
وقع في كتاب أتاه من الحجاج [يشكو إليه نفرا من بني هاشم ويغريه بهم] جنّبني دماء بني عبد المطلب، فليس فيها شفاء من الطلب.
وكتب إليه الحجاج يخبره بسوء طاعة أهل العراق وما يقاسي منهم، ويستأذنه في قتل أشرافهم، فوقع له: إنّ من يمن السائس أن يأتلف به المختلفون، ومن شؤمه أن يختلف به المؤتلفون.
وفي كتاب الحجاج يخبره بقوّة ابن الأشعث: بضعفك قوي، وبخرقك طلع.
ووقع في كتاب ابن الأشعث:
فما بال من أسعى لأجبر عظمه ... حفاظا، وينوي من سفاهته كسرى؟
ووقع أيضا في كتاب:
كيف يرجون سفاطي بعدما ... شمل الرأس مشيب وصلع(4/289)
الوليد بن عبد الملك
كتب إليه الحجاج لما بلغه أنه خرق فيما خلّف له عبد الملك، ينكر ذلك عليه ويعرّفه أنه على غير صواب، فوقع في كتابه: لأجمعنّ المال جمع من يعيش. أبدا، ولا فرّقنّه تفريق من يموت غدا.
ووقع إلى عمر بن عبد العزيز، قد رأب الله بك الداء، وأوذم «1» بك السّقاء.
سليمان بن عبد الملك
كتب قتيبة بن مسلم إلى سليمان يتهدّده بالخلع، فوقع في كتابه:
زعم الفرزدق أن سيقتل مربعا ... أبشر بطول سلامة يا مربع
ووقع في كتابه أيضا: العاقبة للمتقين.
وإلى قتيبة أيضا جواب وعيده: وَإِنْ تَصْبِرُوا وَتَتَّقُوا لا يَضُرُّكُمْ كَيْدُهُمْ شَيْئاً
«2» .
عمر بن عبد العزيز
كتب بعض العمال إليه يستأذنه في مرمّة مدينته، فوقع أسفل كتابه: ابنها بالعدل، ونقّ طرقها من الظلم.
وإلى بعض عماله في مثل ذلك: حصّنها ونفسك بتقوى الله.
وإلى رجل ولاه الصدقات، وكان دميما فعدل وأحسن: وَلا أَقُولُ لِلَّذِينَ تَزْدَرِي أَعْيُنُكُمْ لَنْ يُؤْتِيَهُمُ اللَّهُ خَيْراً
«3» .
وكتب إليه صاحب العراق يخبره عن سوء طاعة أهلها، فوقع له: ارض لهم ما ترضى لنفسك، وخذ بجرائهم بعد ذلك.
وإلى عدي بن أرطاة في أمر عاتبه عليه: إنّ آخر آية أنزلت وَاتَّقُوا يَوْماً تُرْجَعُونَ فِيهِ إِلَى اللَّهِ
«4» .(4/290)
وإلى عامله على الكوفة- وكتب إليه أنه فعل في أمر كما فعل عمر بن الخطاب-: أُولئِكَ الَّذِينَ هَدَى اللَّهُ فَبِهُداهُمُ اقْتَدِهْ
«1» .
وإلى الوليد بن عبد الملك- وعمر عامله على المدينة- فوقع في كتابه: الله أعلم أنك لست أوّل خليفة تموت.
وأتاه كتاب عديّ يخبره بسوء طاعة أهل الكوفة، فوقع في كتابه: لا تطلب طاعة من خذل عليّا، وكان إماما مرضيا.
وإلى عامله بالمدينة وسأله أن يعطيه موضعا يبنيه، فوقع: كن من الموت على حذر.
وفي قصة متظلم: العدل أمامك.
وفي رقعة محبوس: تب تطلق.
وفي رقعة رجل قتل: كتاب الله بيني وبينك.
وفي رقعة متنصّح: لو ذكرت الموت شغلك عن نصيحتك.
وفي رقعة رجل شكا أهل بيته: أنتما في الحق سيّان.
وفي رقعة امرأة حبس زوجها: الحقّ حبسه.
وفي رقعة رجل تظلم من ابنه: إن لم أنصفك منه فأنا ظلمتك.
يزيد بن عبد الملك
وقع إلى صاحب خراسان: لا يغرنّك حسن رأي، فإنما تفسده عثرة. وإلى صاحب المدينة: عثرت فاستقل.
وفي قصة متظلم: سَيَعْلَمُ الَّذِينَ ظَلَمُوا أَيَّ مُنْقَلَبٍ يَنْقَلِبُونَ
«2» .
وفي قصة متظلم شكا بعض أهل بيته: ما كان عليك لو صفحت عنه واستوصلتني.(4/291)
هشام بن عبد الملك
في قصة متظلم: أتاك الغوث إن كنت صادقا، وحلّ بك النكال إن كنت كاذبا؛ فتقدّم أو تأخر.
وفي قصة قوم شكوا أميرهم: إن صح ما ادّعيتم عليه عزلناه وعاقبناه.
وإلى صاحب خراسان حين أمره بمحاربة الترك: احذر ليالي البيات «1» .
وإلى صاحب المدينة وكتب يخبره بوثوب أبناء الأنصار: احفظ فيهم رسول الله صلّى الله عليه وسلم، وهبهم له.
وقع في رقعة محبوس لزمه الحدّ: نزل بحدّك الكتاب.
ووقع في قصة رجل شكا إليه الحاجة وكثرة العيال، وذكر أن له حرمة: لعيالك في بيت مال المسلمين سهم، ولك بحرمتك منّا مثلاه.
وإلى عامله على العراق في أمر الخوارج: ضع سيفك في كلاب النار، وتقرب إلى الله بقتل الكفار.
وإلى جماعة يشكون تعدي عاملهم عليهم: لنفوّضنّكم في خصمكم دونكم.
وفي كتاب عامله يخبره فيه بقلة الأمطار في بلده: مرهم بالاستغفار.
وإلى سهل بن سيار: خف الله وإمامك، فإنه يأخذك عند أول زلة.
يزيد بن الوليد بن عبد الملك بن مروان
وقع إلى مروان [بن محمد] : أراك تقدّم رجلا وتؤخّر أخرى، فإذا أتاك كتابي هذا فاعتمد على أيّهما شئت.
وإلى صاحب خراسان في المسوّدة: نجم أمر أنت عنه نائم، وما أراك منه أو منّي بسالم.
مروان بن محمد
كتب إلى نصر بن سيار في أمر أبي مسلم: تحوّل الظاهر يدل على ضعف الباطن، والله المستعان.(4/292)
ووقع إلى ابن هبيرة أمير خراسان: الأمر مضطرب، وأنت نائم، وأنا ساهر.
وإلى حوثرة بن سهيل حين وجهه إلى قحطبة: كن من بيات المارقة على حذر.
ووقع حين أتاه غرق قحطبة وانهزام ابن هبيرة: هذا والله الإدبار، وإلا فمن رأى ميّتا هزم حيّا؟
وفي جواب أبيات نصر بن سيار إذ كتب إليه.
أرى خلل الرّماد وميض جمر ... ويوشك أن يكون له ضرام «1»
الحاضر يرى ما لا يرى الغائب، فاحسم الثؤلول «2» .
فكتب نصر: الثّؤلول قد امتدت أغصانه، وعظمت نكايته.
فوقع إليه: يداك أوكتا وفوك نفخ.
توقيعات بني العباس
السفاح
كتب إليه جماعة من أهل الأنبار يذكرون أن منازلهم أخذت منهم وأدخلت في البناء الذي أمر به ولم يعطوا أثمانها، فوقع: هذا بناء أسّس على غير تقوى ثم أمر بدفع قيم منازلهم إليهم.
ووقع في كتاب أبي جعفر وهو يحارب ابن هبيرة بواسط: إن حلمك أفسد علمك، وتراخيك أثر في طاعتك، فخذلي منك، ولك من نفسك.
ووقع إليه في ابن هبيرة بعد أن راجعه فيه غير مرة: لست منك ولست منّي إن لم تقتله.
وجاءه كتاب من أبي مسلم يستأذنه في الحجّ وفي زيارته، فوقع إليه: لا أحول بينك وبين زيارة بيت الله الحرام أو خليفته، وإذنك لك.
ووقع في كتاب جماعة من بطانته يشكون احتباس أرزاقهم: من صبر في الشدة شارك في النعمة. ثم أمر بأرزاقهم.(4/293)
وإلى عامل تظلّم منه: وَما كُنْتُ مُتَّخِذَ الْمُضِلِّينَ عَضُداً
«1» .
وفي قوم شكوا غرق ضياعهم في ناحية الكوفة: وَقِيلَ بُعْداً لِلْقَوْمِ الظَّالِمِينَ
» .
أبو جعفر
وقع في كتابه إلى عبد الله بن علي عمه: لا تجعل للأيام فيّ وفيك نصيبا من حوادثها.
ووقع إليه أيضا: ادْفَعْ بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ فَإِذَا الَّذِي بَيْنَكَ وَبَيْنَهُ عَداوَةٌ كَأَنَّهُ وَلِيٌّ حَمِيمٌ، وَما يُلَقَّاها إِلَّا الَّذِينَ صَبَرُوا وَما يُلَقَّاها إِلَّا ذُو حَظٍّ عَظِيمٍ
«3» فاجعل الحظ لك دوني يكن لك.
ووقع إلى عبد الحميد صاحب خراسان: شكوت فأشكيناك، وعتبت فأعتبناك، ثم خرجت عن العامّة فتأهب لفراق السلامة.
وإلى أهل الكوفة وشكوا عاملهم: كما تكونون يؤمّر عليكم.
وإلى قوم تظلموا من عاملهم: لا يَنالُ عَهْدِي الظَّالِمِينَ
«4» .
وفي قصة رجل شكا علية: سل الله من رزقه.
وفي قصة رجل سأله أن يبني بقربه مسجدا فإن مصلاه على بعد: ذلك أعظم لثوابك.
وفي قصة رجل قطعت عنه أرزاقه: وما يَفْتَحِ اللَّهُ لِلنَّاسِ مِنْ رَحْمَةٍ فَلا مُمْسِكَ لَها وَما يُمْسِكْ فَلا مُرْسِلَ لَهُ مِنْ بَعْدِهِ وَهُوَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ
«5» وفي قصة رجل شكا الدين: إن كان دينك في مرضاة الله قضاه.
وإلى صارورة سأله أن يحج: وَلِلَّهِ عَلَى النَّاسِ حِجُّ الْبَيْتِ مَنِ اسْتَطاعَ إِلَيْهِ سَبِيلًا
«6» .(4/294)
وإلى صاحب مصر حين كتب يذكر نقصان النيل: طهّر عسكرك من الفساد يعطك النيل القياد.
وإلى عامله على حمص، وجاء منه كتاب فيه خطأ: استبدل بكاتبك وإلا استبدل بك.
وإلى صاحب أرمينية: إن لي في قفاك عينا، وبين عينيك عينا؛ ولهما أربع آذان.
وإلى رجل استوصله: لا مانع لما أعطاه الله.
وفي كتاب أتاه من صاحب الهند يخبره أن جندا شغبوا عليه، وكسروا أقفال بيت المال فأخذوا أرزاقهم منه: لو عدلت لم يشغبوا ولو وفيت لم ينتهبوا.
المهدي
وقّع في قصة متظلمين شكوا بعض عماله: لو كان عيسى عاملكم قدناه إلى الحق كما يقاد الجمل المخشوش. يريد عيسى ولده.
ووقع إلى صاحب أرمينية وكتب إليه يشكو سوء طاعة رعاياه: خُذِ الْعَفْوَ وَأْمُرْ بِالْعُرْفِ وَأَعْرِضْ عَنِ الْجاهِلِينَ
«1» .
وإلى صاحب خراسان في أمر جاءه: أنا ساهر وأنت نائم.
وفي قصة قوم أصابهم قحط: يقدّر لهم قوت سنة القحط، والسنة التي تليها.
وإلى شاعر- أظنه مروان بن أبي حفصة-: أسرفت في مديحك فقصّرنا في حبائك.
وفي قصة رجل من الغارمين، خذ من بيت مال المسلمين ما تقضي به دينك وتقر به عينك.
وفي قصة رجل شكا الحاجة: أتاك الغوث.
وإلى رجل من بطانته استوصل: ليت إسراعنا إليك يقوم بإبطائنا عنك.(4/295)
وفي قصة قوم تظلموا من عاملهم وسألوا إشخاصه إلى بابه: قد أنصف القارة «1» من راماها.
وفي قصة رجل حبس في دم: وَلَكُمْ فِي الْقِصاصِ حَياةٌ يا أُولِي الْأَلْبابِ
«2» .
وإلى صاحب خراسان وكتب إليه يخبره بغلاء الأسعار: خذهم بالعدل في المكيال والميزان.
وإلى يوسف البرم حين خرج بخراسان: لك أماني ومؤكّد أيماني.
موسى الهادي
كتب إلى الحسن بن قحطبة في أمر راجعه فيه: قد أنكرناك منذ لزمت أبا حنيفة؛ كفاناه الله.
وإلى صاحب أفريقية في أمر فرط منه: يا بن اللخناء أني تتمرس «3» .
هارون الرشيد
وقع إلى صاحب خراسان: داو جرحك لا يتسع.
وإلى عامله على مصر: احذر أن تخرب خزانتي وخزانة أخي يوسف فيأتيك مني ما لا قبل لك به، ومن الله أكثر منه.
ووقع في قصة رجل من البرامكة: أنبتته الطاعة وحصدته المعصية.
وإلى عامله على فارس: كن مني على مثل ليلة البيات.
وإلى عامل خراسان: إن الملوك يؤثر عنهم الحزم.
وإلى خزيمة بن خازم إذ كتب إليه أنه وضع السيف حين دخل أرض أرمينية: لا أمّ لك! تقتل بالذنب من لا ذنب له؟
وفي قصة محبوس: من لجأ إلى الله نجا.
وفي قصة متظلم: لا يجاوز بك العدل، ولا يقصر بك دون الإنصاف.(4/296)
وإلى صاحب السّند إذ ظهرت العصبية: كل من دعا إلى الجاهلية تعجّل إلى المنية.
وإلى عامله على خراسان: كل من رفع رأسه فأزله عن بدنه.
وفي رقعة متظلم من عامله على الأهواز، وكان بالمتظلم عارفا: قد ولّيناك موضعه، فتنكب سيرته.
وفي كتاب بكار الزّبيري إليه؛ يخيره بسرّ من أسرار الطالبيّين: جزى الله الفضل خير الجزاء في اختياره إياك وقد أثابك أمير المؤمنين مائة ألف بحسن نيتك.
وإلى محفوظ صاحب خراج مصر: يا محفوظ، اجعل خرج مصر خرجا واحدا، وأنت أنت.
وإلى صاحب المدينة: ضع رجليك على رقاب أهل هذا البطن فإنهم قد أطالوا ليلي بالسهاد، ونفوا عن عيني لذيذ الرقاد.
ووقع إلى السندي بن شاهك: خف الله وإمامك، فهما نجاتك.
وإلى سليمان بن أبي جعفر في كتاب ورد عليه منه يذكر فيه وثوب أهل دمشق استحيت بشيخ ولده المنصور، أن يهرب عمن ولده كندة وطيء؛ فهلا قابلتهم بوجهك، وأبديت لهم صفحتك، وبذلت لهم نصيحتك، وكنت كمروان ابن عمك أذ خرج مصلتا سيفه متمثلا ببيت الجحاف بن حكيم:
متقلّدين صفائحا هنديّة ... يتركن من ضربوا كمن لم يولد
فجالد به حتى قتل؛ لله أمّ ولدته؛ وأب أنهضه.
وكتب متملك الروم إلى هارون الرشيد: إني متوجه نحوك بكل صليب في مملكتي، وكلّ بطل في جندي. فوقع في كتابه: وَسَيَعْلَمُ (الْكُفَّارُ) لِمَنْ عُقْبَى الدَّارِ
«1» .
وكتب إليه يحيى بن خالد من الحبس حين أحبس بالموت: قد تقدم الخصم إلى موقف الفصل، وأنت بالأثر، والله الحكم العدل، وستقدم فتعلم. فوقع فيه الرشيد:(4/297)
الحكم الذي رضيته في الآخرة لك، هو أعدى الخصم في الدنيا عليك، وهو من لا يردّ حكمه، ولا يصرف قضاؤه.
المأمون
وقع إلى علي بن هشام في أمر تظلم: من علامة الشريف أن يظلم من فوقه، ويظلمه من دونه؛ فأي الرجلين أنت؟
وإلى هشام: لا أدنيك ولك ببابي خصم.
وإلى الرستمي في قصة من تظلم منه: ليس من المروءة أن تكون آنيتك من ذهب وفضة، وغريمك خاو وجارك طاو «1» .
وفي قصة متظلم من عمرو بن مسعدة: يا عمرو، عمّر نعمتك بالعدل؛ فإن الجور يهدمها.
وفي قصة متظلم من أبي عباد: يا ثابت، ليس بين الحق والباطل قرابة.
وفي قصة متظلم من أبي عيسى أخيه: فَإِذا نُفِخَ فِي الصُّورِ فَلا أَنْسابَ بَيْنَهُمْ يَوْمَئِذٍ وَلا يَتَساءَلُونَ
«2» .
وفي قصة لمتظلم من حميد الطوسي: يا أبا غانم، لا تغتّر بموضعك من إمامك، فإنك وأخسّ عبيده في الحق سيّان.
وإلى طاهر صاحب خراسان: احمد أبا الطيب، إذ أحلك الخليفة محل نفسه فمالك موضع تسمو إليه نفسك إلا وأنت فوقه عنده.
وفي كتاب بشر بن داود: هذا أمان عاقدت الله في مناجاتي إياه.
وفي كتاب إبراهيم بن جعفر في فدك «3» حين أمره بردّها؛ قد أرضيت خليفة الله في فدك، كما أرضى الله رسوله فيها.
وفي قصة متظلم من محمد بن الفضل الطوسي: قد احتملنا بذاءك وشكاسة خلقك، فأما ظلمك للرعية فإنا لا نحتمله.(4/298)
ووقع إلى بعض عماله: طالع كلّ ناحية من نواحيك وقاصية من أقاصيك بما فيه استصلاحها.
وكتب إليه إبراهيم بن المهدي في كلام له: إن غفرت فبفضلك، وإن أخذت فبحقك. فوقع في كتابه: القدرة تذهب الحفيظة، والندم جزء من التوبة وبينهما عفو الله.
ووقع في رقعة مولى طلب كسوة: لو أردت الكسوة للزمت الخدمة، ولكنك آثرت الرّقاد فحظّك الرؤيا.
ووقع في يوم عاشوراء لبعض أصحابه وقد وافته الأموال: يؤمر له بخمسمائة ألف لطول همته، ولثمامة بن أشرس بثلاثمائة ألف لتركه ما لا يعنيه، ولأبي محمد اليزيدي يؤمر له بخمسمائة ألف لكبره، وللمعلي بخمسمائة ألف لصحيح سنته، ولإسحاق بن إبراهيم بخمسمائة ألف لصدق لهجته، وللعباس بخمسمائة ألف لفصاحة منطقه، ولأحمد ابن أبي خالد بألف ألف لمخالفة شهوته، ولإبراهيم بن بويه كذلك لسرعة دمعته، وللمريسي بثلاثمائة ألف لإسباغ وضوئه، ولعبد الله بن بشر بمثلها لحسن وجهه.
توقيعات الأمراء والكبراء
زياد
وقّع إلى بعض عماله: قد كنت على الذّعّار وإخالك ذاعرا.
وكتبت إليه عائشة في وصاة برجل، فوقع في كتابها: هو بين أبويه.
وإلى صاحب خراسان في أمر خالفه فيه: استر بعض دينك ببعض، وإلا ذهب كله.
وإلى عامله بالكوفة أمط الحدود عن ذوي المروءات.
وفي قصة متظلم: أنا معك.
وفي قصة قوم رفعوا على عامل رفيعة «1» : من أماله الباطل قوّمه الحق.(4/299)
وفي قصة مستمنح: لك المواساة.
وإلى عامله في خوارج خرجوا بالبصرة: النساء تحاربهم دونك.
وفي قصة سارق: القطع جزاؤك.
وفي قصة امرأة حبس زوجها: حكمه إلى الله.
وفي قصة قوم نقبوا: تنقب ظهورهم.
وفي قصة نبّاش: يدفن حيّا في قبره.
وفي قصة متظلم: الحقّ يسعك.
وفي قصة متنصح: مهلا فقد أبلغت إسماعي.
وفي قصة متظلم: كفيت.
وفي قصة رجل شكا إليع عقوق ابنه: ربما كان عقوق الولد من سوء تأديب الوالد! وفي قصة رجل شكا الحاجة: لك في مال الله نصيب أنت آخذه.
وفي قصة رجل جارح: الجروح قصاص.
وفي قصة محبوس: التائب من الذّنب كمن لا ذنب له.
وفي قصة قوم شكوا غرق ضياعهم: لا تعرّض فيما تفرّد الله به.
وفي قصة قوم اشتكوا اجتياح الجراد لزروعهم: لا حكم فيما استأثر الله به.
الحجاج بن يوسف
وقع في كتاب أتاه من قتيبة بن مسلم يشكو كثرة الجراد، وذهاب الغلات، وما حل بالناس من القحط: إذا أزف خراجك فانظر لرعيتك في مصالحها، فبيت المال أشدّ اطلاعا لذلك من الأرملة واليتيم وذي العيلة.
وفي كتاب قتيبة إليه أنه على عبور النهر ومحاربة الترك: لا تخاطر بالمسلمين حتى تعرف موضع قدمك، ومرمى سهامك.
وفي كتاب صاحب الكوفة يخبره بسوء طاعتهم وما يقاسي من مداراتهم: ما ظنّك(4/300)
بقوم قتلوا من كانوا يعبدونه؟
وفي قصة محبوس ذكروا أنه تاب: ما عَلَى الْمُحْسِنِينَ مِنْ سَبِيلٍ
«1» .
وإلى قتيبة: خذ عسكرك بتلاوة القرآن، فإنه أمنع من حصونك.
وفي كتابه إلى بعض عماله: إياك والملاهي حتى تستنظف «2» خراجك.
وفي كتاب إلى ابن أخيه: ما ركب يهوديّ قبلك منبرا.
وفي كتابه إلى يزيد بن أبي مسلم: أنت أبو عبيدة هذا القرن.
أبو مسلم
وقع في كتاب سليمان بن كثير الخزاعي: لِكُلِّ نَبَإٍ مُسْتَقَرٌّ وَسَوْفَ تَعْلَمُونَ
«3» .
وإلى أبي العباس في يزيد بن عمر بن هبيرة: قلّ طريق سهل تلقى فيه الحجارة إلا عاد وعرا؛ والله لا يصلح طريق فيه ابن هبيرة أبدا.
وإلى ابن قحطبة: لا تنس نصيبك من الدنيا.
وإليه: ادْعُ إِلى سَبِيلِ رَبِّكَ بِالْحِكْمَةِ وَالْمَوْعِظَةِ الْحَسَنَةِ
«4» .
وإليه: وَلا تَرْكَنُوا إِلَى الَّذِينَ ظَلَمُوا فَتَمَسَّكُمُ النَّارُ
«5» .
وإلى محمد بن صول وكتب إليه بسلامة أطرافه: وَأَمَّا بِنِعْمَةِ رَبِّكَ فَحَدِّثْ
«6» .
وكتب إليه قحطبة: إن بعض قوّاده خرج إلى عسكر بن ضبارة راغبا فوقّع في كتابه: أَلَمْ تَرَ إِلَى الَّذِينَ بَدَّلُوا نِعْمَتَ اللَّهِ كُفْراً وَأَحَلُّوا قَوْمَهُمْ دارَ الْبَوارِ جَهَنَّمَ يَصْلَوْنَها وَبِئْسَ الْقَرارُ
«7» .
وإلى عامله ببلخ: لا تؤخر عمل اليوم لغد.
وإلى أبي سلمة الخلال حين أنكر نيته: وَإِذا لَقُوا الَّذِينَ آمَنُوا قالُوا آمَنَّا وَإِذا خَلَوْا إِلى شَياطِينِهِمْ قالُوا إِنَّا مَعَكُمْ
«8» .(4/301)
جعفر بن يحيى
وقع في قصة محبوس: لِكُلِّ أَجَلٍ كِتابٌ
«1» .
وفي مثله: العدل يوبقه، والتوبة تطلقه.
وفي قصة متنصح: بعض الصدق قبيح.
وفي رجل شكا بعض عمّاله: قد كثر شاكوك، وقل شاكروك؛ فإما عدلت، وما اعتزلت.
وفي قصة رجل شكا بعض خدمه: خذ بأذنه ورأسه فهو مالك.
وإلى عامل فارس في رجل كتب إليه بالوصاة: كن له كأبيه لو كان مكانك.
وإلى عامل مصر في رجل من بطانته يوصيه: إنه رغب إلى شعبك فارغب في اصطناعه.
وفي قصة متظلم من بعض عماله: إني ظلمتك دونه.
وفي قصة محبوس: الجناية حبسته والتوبة تطلقه.
وإلى قوم: عين الخليفة تكلؤكم ونظره يعمّكم.
وفي رقعة صرورة استأذنه في الحج: من سافر إلى الله أنجح.
وفي قصة رجل شكا عزوبة: الصوم لك وجاء «2» .
وفي رقعة رجل سأل ولاية: لا أولي بعض الظالمين بعضا.
وفي قصة رجل سأل أن يقفل ابنه فقد طالت غيبته عنه: غيبة يوسف صلّى الله عليه وسلم كانت أطول.
وفي قصة رجل تظلم من عماله: إنّا لمثله حتى ننصفك.
وفي قصة مستمنح قد كان وصله مرارا: دع الضرع يدرّ لغيرك كما در لك.
وإلى الفضل بن الربيع وجاءه منه كتاب غمّه وكربه: كثرة ملاحاة الأودّاء، ربما أراقت الدماء.
وإلى منصور بن زياد في أمر عاتبه فيه: لم نزرعك لنحصدك.(4/302)
وإلى بعض عماله: اجعل وسيلتك إلينا ما يزيدك عندنا.
وإلى بعض ندمائه: لا تبعد من ضمّك.
ووقع إلى متنصل من ذنب: حكم الفلتات خلاف حكم الاصرار.
الفضل بن سهل
كتب إلى أخيه الحسن: احمد الله يا أخي، فما يبيت خليفة الله إلا على ذكرك وإلى طاهر: لخير ما اتضعت.
وإليه: لشرّما سموت.
وإلى هرثمة وأشار عليه برأي: لا يحلّ ما عقدت.
وفي قصة متظلم: كفى بالله للمظلوم: ناصرا.
وفي قصة نقب بيت المال: يدرأ عنه الحد إن كان له فيه سهم.
ووقع إلى حاجبه: تمهّل وتسهّل.
وإلى صاحب الشرطة: ترفّق توفّق.
وإلى رجل شكا غلبة الدّين: قد أمرنا لك بثلاثين ألفا وسنشفعها بمثلها، ليرغب المستمنحون.
وفي قصة متظلم: طب نفسا فإنّ الله مع المظلوم.
وإلى رجل شكا إليه الدّين: الدّين سوء يهيض الأعناق، وقد أمرنا بقضائه.
وفي قصة قوم قطعوا الطريق: إِنَّما جَزاءُ الَّذِينَ يُحارِبُونَ اللَّهَ وَرَسُولَهُ وَيَسْعَوْنَ فِي الْأَرْضِ فَساداً أَنْ يُقَتَّلُوا أَوْ يُصَلَّبُوا أَوْ تُقَطَّعَ أَيْدِيهِمْ وَأَرْجُلُهُمْ مِنْ خِلافٍ أَوْ يُنْفَوْا مِنَ الْأَرْضِ، ذلِكَ لَهُمْ خِزْيٌ فِي الدُّنْيا وَلَهُمْ فِي الْآخِرَةِ عَذابٌ عَظِيمٌ
«1» .(4/303)
وفي امريء قاتل شهد عليه العدول فشفع فيه: كتاب الله أحقّ أن يتبع.
وفي قصة رجل شهد عليه أنه شتم أبا بكر وعمر: يضرب دون الحدّ ويشهر ضربه.
الحسن بن سهل ذو الرياستين
وقّع في قصة متظلم: ينظر فيما رفع، وإنّ الحق منيع، وإلّا فشفاء السقيم دواء السقم.
وفي قصة قوم تظلموا من واليهم: الحقّ أولى بنا، والعدل بغيتنا، وإن صح ما ادّعيتم عليه صرفناه وعاقبناه.
وفي قصة امرأة حبس زوجها: الحق يحبسه والإنصاف يطلقه.
وفي رقعة رائد: قد أمرنا لك بشيء هو دون قدرك في الاستحقاق، وفوق الكفاية مع الاقتصاد.
وكتب إليه رجل من الشعراء يقول له:
رأيت في النوم أني راكب فرسا ... ولي وصيف وفي كفّي دنانير
فقال قوم لهم فهم ومعرفة ... رأيت خيرا وللأحلام تعبير
رؤياك فسّر غدا عند الأمير تجد ... تعبير ذاك وفي النوم التّباشير
فوقع في أسفل كتابه أَضْغاثُ أَحْلامٍ وَما نَحْنُ بِتَأْوِيلِ الْأَحْلامِ بِعالِمِينَ
«1» وأطلق له ما التمسه.
ودخل بعض الشعراء على عبد الملك بن بشر بن مروان فأنشده:
أغفيت عند الصبح نوم مسهّد ... في ساعة ما كنت قبل أنامها
فرأيت أنك رعتني بوليدة ... رعبوبة حسن عليّ قيامها «2»(4/304)
وببدرة حملت إليّ وبغلة ... دهماء مشرفة يصلّ لجامها
فدعوت ربي أن يثيبك جنة ... عوضا يصيبك بردها وسلامها
تلك المنابر يا بن مروان النّدى ... أضحت وأنت خطيبها وإمامها
فقال له: أبشر في كل شيء أصبت إلا البغلة، فإني لا أملك إلا شهبا، فقال له:
امرأتي طالق إن كنت رأيتها إلا شهبا، إلا أني غلطت.
طاهر بن الحسين
وقّع في كتاب رجل تظلم من أصحاب نصر بن شبيب: طلب الحق في دار الباطل.
وفي قصة رجل طلب قبالة «1» بعض أعماله: القبالة مفتاح الفساد، ولو كانت صلاحا ما كنت لها موضعا.
وإلى السّندي بن شاهك وجاءه منه كتاب يستعطفه فيه: عش ما لم أراك.
وإلى خزيمة بن خازم: الأعمال بخواتيمها، والصنيعة باستدامتها وإلى الغاية ما جرى الجواد، فحمد السابق وذم الساقط.
وإلى العباس بن موسى الهادي واستبطأه في خراج ناحيته:
وليس أخو الحاجات من بات نائما ... ولكن أخوها من يبيت على رحل
وفي رقعة متنصح سَنَنْظُرُ أَصَدَقْتَ أَمْ كُنْتَ مِنَ الْكاذِبِينَ
«2» .
وفي قصة محبوس: يطلق ويعتق.
وفي رقعة مستوصل: يقام أوده.
وكتب أبو جعفر إلى عمرو بن عبيد: أبا عثمان، أعنّي بأصحابك، فإنهم أهل(4/305)
العدل وأصحاب الصدق والمؤثرون له. فوقع في كتابه: ارفع علم الحق يتبعك أهله.
توقيعات العجم
وقّع أردشير في أزمة عمت المملكة: من العدل أن لا يفرح الملك ورعيّته محزونون. ثم أمر ففرّق في الكور جميع ما في بيوت الأموال.
ورفع رجل إلى كسرى بن قباذ رقعة يخبره فيها أنّ جماعة من بطانته قد فسدت نيّاتهم وخبثت ضمائرهم، منهم فلان وفلان؛ فوقع في أسفل كتابه: إنما أملك ظاهر الأجسام لا النيات، وأحكم بالعدل لا بالهوى، وأفحص عن الأعمال لا عن السرائر.
ووقع كسرى في رقعة مدح: طوبي للممدوح إذا كان للمدح مستحقا، وللداعي إذا كان للإجابة أهلا.
وكتب إليه متنصح أنّ قوما من بطانته اجتمعوا للمنادمة، فعابوه وثلموه، فوقّع:
لئن كانوا نطقوا بألسنة شتى لقد اجتمعت مساويها على لسانك فجرحك أرغب «1» ، ولسانك أكذب.
ورفع إليه جماعة من بطانته رقعة يشكون فيها سوء حالهم، فوقع: ما أنصفكم من إلى الشّكيّة أحوجكم. ثم فرّق بينهم ما وسعهم وأغناهم.
ووقع أنو شروان إلى صاحب خراجه: ما استغزر الخراج بمثل العدل، ولا استنزر بمثل الجور.
ووقع في قصة رجل تظلم منه: لا ينبغي للملك الظّلم ومن عنده يلتمس العدل، ولا يبخل ومن عنده يتوقع الجود. ثم أمر بإحضار الرجل وقعد معه بين يدي الموبذ «2» .
ووقع في قصة محبوس: من ركب ما نهي عنه حيل بينه وبين ما يشتهي.(4/306)
ودفع إليه بعض خدمه رقعة يخبره فيها بكثرة عياله، وسوء حاله، فعرف كذبه، فوقع: إن الله خفف ظهرك فثقّلته، وأحسن إليك فكفرته فتب إلى الله يتب عليك.
ووقع في قصة رجل سعى إليه بباطل: باللسان احفظ رأسك.
ووقّع في قصة رجل ذكر أن بعض قرابة الملك ظلمه وأخذ ماله: لا تصلح العامة إلا ببعض الحيف على الخاصة؛ فإن كنت صادقا أبحتك جميع ما يملكه. فلم يتظلم بعدها أحد من قرابته.
فصول في المودّة
كتب عبد الرحمن بن أحمد الحراني إلى محمد بن سهل:
أعزك الله، إن كل مجازاة قاصرة عن حق السابق إلى افتتاح الود، وقد علمت أني استقبلتك من الإقبال عليك بما لم تستدعه، واعتمدتك من الرغبة فيك بما لم توله.
وفصل لأبي علي البصير: قد أكد الله بيننا من الودّ ما نأمن الدهر على حل عقده ونقض مراره، وما يستوي منه ثقتنا بأنفسنا لك وثقتنا بما عندك.
وفصل له: الحال فيما بيننا يحتمل الدالة، ويوجب الأنس والثقة، وبسط اللسان بالاستزادة؛ وأنا أمت إليك بالحرمة المتقدمة، والأسباب المؤكدة، التي تحل صاحبها محل خاصة الأهل والقرابة.
وفصل لإبراهيم بن العباس: المودّة يجمعنا حبلها، والصناعة تؤلفنا أسبابها، وما بين ذلك من تراخ في لقاء، أو تخلف في مكاتبة، موضوع بيننا، يوجب العذر فيه.
وفصل لسعيد بن عبد الملك: أنا صبّ «1» إليك، سامي الطرف نحوك، وذكرك ملصق بلساني، واسمك حلو على لهواتي، وشخصك ماثل بين عينيّ، وأنت أقرب الناس من قلبي، وآخذهم بمجامع هواي.(4/307)
وفصل له: لنحن أحقّ بابتدائك بما ابتدأتنا به من الصلة، إلا أنك أحق بالفضل الذي سبقت إليه.
وفصل لسعيد بن حميد: إني أهديت مودّتي رغبة إليك، ورضيت بالقبول منك مثوبة، فصرت بقبولها قاضيا لحق، ومالكا لرق، وصرت بالتسرع إلى الهدية، والتنظّر للمثوبة، مرتهن اللسان بالجزاء، واليدين بالوفاء.
وفصل له: إني صادفت منك جوهر نفسي، فأنا غير محمود على الانقياد لك بغير زمام، لأن النفس يقودها بعضها بعضا.
وقال أبو العتاهية:
وللقلب على القلب ... دليل حين يلقاه
وللناس من الناس ... مقاييس وأشباه
وفصل له: لساني رطب بذكرك، و [مكانك من قلبي] معمور بمحبتك، حضرت أو غبت، سرت أو أقمت. كقول أخي أبي دلف:
لعمري لئن قرّت بقربك أعين ... لقد سخنت بالبين منك عيون
فسر أو فقف، وقف عليك مودّتي ... مكانك من قلبي عليك مصون
وفصل لإبراهيم بن المهدي: كتابي إليك كتاب مخبر وسائل، فأما الإخبار فعن تصرّف الخطوب بما يوجب العذر عند صديقي العزيز علي في إبطائي بالتعد له، وأما السؤال فعن إمساك هذا الأخ الودود المودود عن مثل ذلك وإن العذر كاشف ما سلف، مصلح لما استأنف.
فصول في الزيارة
كتب الحسين بن الحسن بن سهل إلى صديق له:
نحن في مأدبة لما تشرف على روضة تضاحك الشمس حسنا، قد باتت السماء(4/308)
تكلّها، فهي شرقة بمائها، حالية بنوّارها»
، فبادر إلينا لنكون على سواء من استمتاع بعضنا ببعض؛ فكتب إليه:
هذه صفة لو كانت في أقاصي الأطراف لوجب انتجاعها «2» ، وحثّ المطيّ في ابتغائها؛ فكيف في موضع أنت تسكنه، وتجمع إلى أنيق منظره، حسن وجهك وطيب شمائلك! وأنا الجواب! وفصل: كتب إسحاق بن إبراهيم الموصلي إلى أحمد بن يوسف في المصير إليه وعند أحمد بن يوسف إبراهيم بن المهدي؛ فكتب:
عندي من أنا عنده، وحجّتنا عليك إعلامنا إياك.
وفصل: إنه من ظميء شوقه من رؤيتك، استوجب الرّيّ من زيارتك. ثم كتب تحت هذا:
سر إلينا تفديك نفسي من السّو ... ء فقد طال عهدنا بالتلاقي
واجعلن ذاك- إن رأيت- جوابي ... فلقد خفت سطوة الإشتياق
وفصل: إلى الله أشكو شدة الوحشة لغيبتك، وفرط الحزن من فراقك، وظلم الأيام بعدك؛ وأقول كما قال بعض المحدثين:
غضارة دنيا أظلم العيش بعدها ... وعند غروب الشمس يعرف فقدها
وفصل: الشوق إليك وإلى عهد أيامنا التي حسنت بك كأنها أعياد، وقصرت كأنها ساعات- يفوّت الصفاء؛ ومما يجدّده ويكثر دواعيه، تصاقب الديار، وقرب الجوار، تمم الله لنا النعمة المجددة فيك، بالنظر إلى الغرة المباركة التي لا وحشة معها، ولا أنس بعدها.
وفصل: مثلنا أعزك الله في قرب تجاورنا وبعد تزاورنا، ما قيل في أهل القبور:
هم جيرة الأحياء، أما مرارهم ... فدان، وأمّا الملتقى فبعيد!(4/309)
وكل علة معك محتملة، وكل جفوة مغفورة، للشغف بك، والثقة بحسن نيتك؛ وسنأخذ بقول أبي قيس بن الأسلت:
ويكرمها جاراتها فيزرنها ... وتعتلّ عن إتيانهنّ فتعذر
وفصل: كتب حكيم إلى حكيم: يا أخي، إن أيام العمر أقلّ من أن تحتمل الهجر! والسلام.
فصل: كتب أحمد بن يوسف: لا تجوز قطيعة الصديق؛ لأنها لا تخلو من أحد وجهين إما ضعف في نفس الاختيار، وإما ملل؛ وكلاهما حجة فيه.
وفصل: طال العهد بالاجتماع حتى كدنا نتناكر عند الالتقاء؛ وقد جعلك الله للسرور نظاما، وللأنس تماما، وجعل المشاهد موحشة إذا خلت منك.
وكتب الحسن بن وهب إلى محمد بن عبد الملك الزيات:
أوجب العذر في تراخي اللقاء ... ما توالي من هذه الأنواء «1»
فسلام الإله أهديه منيّ ... كلّ يوم لسيّد الوزراء
لست أدري ماذا أقول وأشكو ... من سماء تعوقني عن سماء
غير أني أدعو على تلك بالثّكل ... وأدعو لهذه بالبقاء
وقال آخر:
أزور محمّدا فإذا التقينا ... تكلمت الضمائر في الصدور
فأرجع لم ألمه ولم يلمني ... وقد رضي الضمير عن الضّمير
فصول في وصاة
كتب الحسن بن وهب إلى مالك بن طوق في ابن أبي الشيص:
كتابي إليك خططته بيميني، وفرّغت له ذهني، فما ظنك بحاجة هذا موقعها مني،(4/310)
أتراني أقبل العذر فيها، وأقصّر في الشكر عليها؟ وابن أبي الشيص قد عرفته ونسبه وصفاته، ولو كانت أيدينا تنبسط ببرّه ما عدانا إلى غيرنا، فاكتف بهذا منا.
وفصل: كتابي إليك كتاب معنيّ بمن كتب له، واثق بمن كتب إليه، ولن يضيع بين الثقة والعناية حامله.
وفصل: كتب العتابي فكاد أن يختل بالمعنى من شدة الاختصار، فكتب:
حامل كتابي إليك أنا، فكن له أنا! والسلام.
وفصل للحسن بن سهل: فلان قد استغنى باصطناعك إياه عن تحريكي إياك في أمره، فإن الصنيعة حرمة للمصنوع إليه ووسيلة إلى مصطنعه، فبسط الله يدك بالخيرات، وجعلك من أهلها، ووصل بك أسبابها.
وفصل له: موصّل كتابي إليك أنا، فكن له أنا، وتأمله بعين مشاهدتي وخلّتي، فبلسانه أشكر ما أتيت إليه، وأذم ما قصرت فيه.
فصول في عتاب
كتب أحمد بن يوسف:
لولا حسن الظن بك- أعزّك الله- لكان في إغضائك عني ما يقبضني عن الطّلبة إليك، ولكن أمسك برمق من الرجاء علمي برأيك في رعاية الحق، وبسط يدك إلى الذي لو قبضتها عنه، لم يكن له إلا كرمك مذكّرا، وسوددك شافعا فصل: أما بعد البرء من مريض داؤه في دوائه، وعلّته في حميته! أنا منك كالغاصّ بالماء لا مساغ له.
وكما قال الشاعر:
كنت من كربتي أفرّ إليهم ... وهم كربتي، فأين الفرار؟
فصل: أنا منتظر واحدة من اثنتين: عتبي تكون منك، أو عقبي تغني عنك!(4/311)
فصل: أما بعد، فقد كنت لنا كلّك، فاجعل لنا بعضك، ولا نرضى إلا بالكل لك منا.
فصل: أنا أبقي على ودّك من عارض يغيّره، أو عتاب يقدح فيه، وآمل عائدا من حسن رأيك، يغني عن اقتضائك.
فصل: ألهمك الله من الرشد بحسب ما منحك من الفضل. لو أن كل من نازع إلى الصرم قلّدناه عنان الهجر، لكنّا أولى بالذنب منه ولكن نردّ عليك من نفسك ونأخذ لها منك.
فصل: لعبد الله بن معاوية بن عبد الله بن جعفر ذي الجناحين.
أما بعد، فقد عاقني الشك في أمرك عن عزيمة الرأي فيك؛ ابتدأتني بلطف عن غير خبرة، وأعقبته جفاء من غير ذنب؛ فأطمعني أوّلك في إخائك، وآيسني آخرك من وفائك؛ فسبحان من لو شاء لكشف من أمرك عن عزيمة الرأي فيك؛ فأقمنا على ائتلاف أو افترقنا على اختلاف! فصل: إذا جعلت الظنّ شاهدا تعدل شهادته بعد أن جعلته حكما يحيف في حكومته، فأين الموئل من جورك؟ ولست أسلك طريقا من العتب عليك إلا شدّة ما أنطوى عليه من مودتك، ولا سبيل إلى شكايتك إلا إليك، ولا استعانة إلا بك، وما أحقّ من جعلك على أمر عونا أن تكون له إلى النجاح سببا! وقال الشاعر:
عجبت لقلبك كيف انقلب ... ومن طول ودّك، أنى ذهب
وأعجب من ذا وذا أنني ... أراك بعين الرّضا في الغضب!
وفصل: إن مسألتي إليك حوائجي مع عتبك عليّ من اللؤم وإن إمساكي! عنها في حال ضرورة إليها مع علمي بكرمك في السخط والرضا، لعجز؛ غير أني أعلم أن أقرب الوسائل في طلب رضاك، مساءلتك ما سنح من الحاجة؛ إذ كنت لا تجعل(4/312)
عتبك سببا لمنع معروفك.
وفصل: لو كانت الشكوك تختلجني في صحة مودّتك وكريم إخائك ودوام عهدك، لطال عتبي عليك، في تواتر كتبي واحتباس جواباتها عني؛ ولكن الثقة بما تقدم عندي، تعذرك وتحسن ما يقبّحه جفاؤك، والله يديم نعمته لك ولنا بك.
وفصل لابن المدبر: وصل كتابك المفتتح بالعتاب الجميل، والتقريع اللطيف؛ فلولا ما غلب عليّ من السرور بسلامتك، لتقطعت غماّ بعتابك، الذي لطف حتى كاد يخفى عن أهل الرقة والفطنة، وغلظ حتى كاد يفهمه أهل الجهل والبله؛ فلا أعدمني الله رضاك مجازيا به على ما استحقّه عتبك، فأنت ظالم فيه، فهو وليّ المخرج منه.
وقال أبو الدرداء: إعتاب الأخ خير من فقده.
وقال الشاعر:
إذا ذهب العتاب فليس ودّ ... ويبقى الودّ ما بقي العتاب
وقال آخر في غير هذا المعنى:
إذا كنت تغضب من غير ذنب ... وتعتب في كلّ يوم عليّا
طلبت رضاك، فإن عزّني ... عددتك ميتا وإن كنت حيّا
ولا تعجبنّ بما في يديك ... فأكثر منه الذي في يديّا!
وفصل في عتاب: العتاب قبل العقاب؛ فليكن إيقاعك بعد وعيدك، ووعيدك بعد وعدك.
وفصل: قد حميت جانب الأمل فيك، وقطعت أسباب الرجاء منك وقد أسلمني اليأس منك إلى العزاء عنك؛ فإن ترغب من الآن فصفح لا تثريب معه، وإن تماديت فهجر لا وصل بعده.(4/313)
فصول في التنصل
كتب ابن مكرم: لاو عظيم أملي فيك ما أتيت فيما بيني وبينك ذنبا مخطئا ولا متعمّدا، ولعل فلتة لم ألق بالا، فأوطيء لها اعتذارا، وإلا تكن فنفثة حاسد زخرفها على لسان واش، نبذها إليك في بعض غرّاتك، أصابت مني مقتلا وشفت منه غليلا.
وفصل: ليس يزيلني عن حسن الظنّ بك فعل حملك الأعداء عليه، ولا يقطعني عن رجائك عتب حدث عليّ منك؛ بل أرجو أن تتقاضى كرمك إنجاز وعدك، إذ كان أبلغ الشفعاء إليك، وأوجب الوسائل لديك.
وفصل: أنت- أعزك الله- أعلم بالعفو والعقوبة من أن تجازيني بالسوء على ذنب لم أجنه بيد ولا لسان، بل جناه علي لسان واش، فأما قولك: إنك لا تسهّل سبيل العذر؛ فأنت أعلم بالكرم وأرعى لحقوقه وأعرف بالشرف وأحفظ لذماماته «1» من أن تردّ يد مؤمّلك صفرا من عفوك إذا التمسه، ومن عذرك إذا جعل فضلك شافعا فيه وذريعة له.
وفصل لإبراهيم بن العباس: الكريم أوسع ما تكون مغفرته إذا ضاقت بالمذنب معذرته.
وفصل: يا أخي، أشكو إلى الله وإليك تحامل الأيام عليّ، وسوء أثر الدهر عندي، وأني معلق في حبائل من لا يعرف موضعي، ولا يحلو عنده موقعي، أطلب منه الخلاص فيزيدني كلفا، وأرتجي منه الحق فيزداد به ضنا، فالثواء ثواء مقيم، والنية نية ظاعن والزّماع «2» زماع مرتحل؛ ما أذهب إلى ناحية من الحيلة إلا وجدت من دونها مانعا من العوائق؛ فأحمل الذنب على الدهر وأرجع إلى الله بالشكوى، وأسأله جميل العقبى وحسن الصبر.(4/314)
فصول في حسن التواصل
للمفضّل أن يخص بفضله من شاء، وله الحمد فيما أعطى، ولا حجة عليه فيما منع، وكن كيف شئت، فإني قد أوليتك خالصة سريرتي، أرى ببقائك بقاء سروري، وبدوام النعمة عندك دوامها عندي.
وفصل: قد أغنى الله بكرمك عن الذريعة إليك والاستعانة عليك؛ لأن حسن الظن بالله فيك، وتأميل نجح الرغبة إليك فوق الشفعاء عندك.
وفصل: قد أفردتك برجائي بعد الله، وتعجلت راحة اليأس ممن يجود بالوعد ويضن بالإنجاز، ويحب أن يفضّل ويزهد في أن يفضل، ويعيب الكذب ولا يصدق.
وفصل: ضعني- أكرمك الله- من نفسك حيث وضعت نفسي من رجائك.
أصاب الله بمعروفك مواضعه، وبسط بكل خير يدك.
وفصل: لا أزال- أبقاك الله- أسأل الكتاب إليك، فمرة أتوقف توقف المخفف عنك من المئونة، ومرة أكتب كتاب الراجع منك إلى الثقة والمعتمد منك على المقة «1» ؛ لا أعدمنا الله دوام عزّك، ولا سلب الدنيا بهجتها بك ولا أخلانا من الصنع لك؛ فإنا لا نعرف إلا نعمتك، ولا نجد للحياة طعما إلا في ظلك؛ ولئن كانت الرغبة إلى بشر من الناس خساسة وذلا، لقد جعل الله الرغبة إليك كرامة وعزّا؛ لأنك لا تعرف حرّا قعد به دهره، إلا سبقت مسألته بالعطية وصنت وجهه عن الطلب والذّلة.
وفصل: لي عليك حق التأميل والشكر، بما ابتدأت من المعروف، ولك عليّ حق الاصطناع والفضل، والتنويه بالاسم والشكر؛ وليس يمنعني علمك بزيادة حقك على ما أبلغه من شكرك، من مساءلتك المزيد؛ إذ كنت قد انتهيت إلى ما بلغه المجهود، وخرجت من منزلة الإضاعة والتقصير، وإذ كنت تسمح بالحق عليك، وتطيب نفسا(4/315)
عن حقك اليسير، ولا تكلف أحدا شكرك على الكثير.
فصل: لك- أصلحك الله- عندي أياد تشفع لي إلى محبتك، ومعروف يوجب عليك الرّبّ «1» والإتمام.
فصل: أنا أسأل الله أن ينجز لي ما لم تزل الفراسة «2» تعدنيه فيك.
فصل: قد أجلّ الله قدرك عن الاعتذار، وأغناك في القول عن الاعتلال، وأوجب علينا أن نقنع بما فعلت، ونرضى بما أتيت، وصلت أو قطعت.
فصول في الشكر
كتب محمد بن عبد الملك الزيات كتابا عن المعتصم إلى عبد الله بن طاهر الخراساني، فكان في فصل منه.
لو لم يكن من فضل الشكر إلا أنك لا تراه إلا بين نعمة مقصورة عليك، أو زيادة منتظرة له، لكفى.
ثم قال لمحمد بن إبراهيم بن زياد: كيف ترى؟ قال: كأنهما قرطان بينهما وجه حسن.
وفصل للحسن بن وهب: من شكرك على درجة رفعته إليها أو ثروة أقدرته إياها؛ فإن شكري لك على مهجة أحييتها، وحشاشة أبقيتها، ورمق أمسكت به وقمت بين التلف وبينه؛ فلكل نعمة من نعم الدنيا حد ينتهى إليه، ومدى يوقف عنده، وغاية من الشكر يسمو إليها الطّرف، خلا هذه النعمة التي قد فاقت الوصف، وطالت الشكر وتجاوزت قدر. وأنت من وراء كل غاية، رددت عنا كيد العدو، وأرغمت أن الحسود؛ فنحن نلجأ منك إلى ظل ظليل، وكنف كريم؛ فكيف يشكر الشاكر، وأين يبلغ جهد المجتد؟(4/316)
وقال إبراهيم بن المهدي يشكر المأمون:
رددت مالي ولم تمنن عليّ به ... وقبل ردّك مالي قد حقنت دمي
فأين منك وقد جلّلتني نعما ... هي الحياتان من موت ومن عدم
فلو بذلت دمي أبغي رضاك به ... والمال حتى أسلّ النّعل من قدمي
ما كان ذاك سوى عاريّة رجعت ... إليك لو لم تعرها كنت لم تلم «1»
البرّ بي منك وطّي العذر عندك لي ... فيما أتيت فلم تعتب ولم تلم
وقام علمك بي يحتجّ عندك لي ... مقام شاهد عدل غير متّهم
فصول في البلاغة
كتب الحسن بن وهب إلى إبراهيم بن العباس: وصل كتابك، فما رأيت كتابا أسهل فنونا، ولا أملس متونا، ولا أكثر عيونا، ولا أحسن مقاطع ومطالع منه:
أنجزت فيه عدة الرأي، وبشرى الفراسة، وعاد الظنّ يقينا، والأمل مبلوغا، والحمد لله الذي بنعمته تتمّ الصالحات.
فصل: الكلام كثيرة فنونه، قليلة عيونه؛ فمنه ما يفكّه الأسماع، ويؤنس القلوب، ومنه ما يحمّل الآذان ثقلا، ويملأ الأذهان وحشة.
فصول من المدح
كتب ابن مكرم إلى أحمد بن المدبر:
إنّ جميع أكفائك ونظرائك يتنازعون الفضل، فإذا انتهوا إليك أقروا لك ويتنافسون في المنازل، فإذا بلغوك وقفوا دونك؛ فزادك الله وزادنا بك وفيك وجعلنا ممن يقبله رأيك ويقدّمه اختيارك، ويقع من الأمور بموقع موافقتك، ويجري فيها على سبيل طاعتك.(4/317)
وفصل له: إن من النعمة على المثني عليك، أن لا يخاف الإفراط، ولا يأمن التقصير، ويأمن أن تلحقه نقيصة الكذب، ولا ينتهي به المدح إلى غاية إلا وجد فضلك تجاوزها، ومن سعادة جدّك أن الداعي لا يعدم كثرة المشايعين «1» له والمؤمّنين معه.
وفصل: إن مما يطمعني في بقاء النعمة عندك، ويزيدني بصيرة في العلم بدوامها لديك، أنك أخذتها بحقها، واستوجبتها بما فيك من أسبابها؛ ومن شأن الأجناس أن تتآلف وشأن الأشكال أن تتعارف، وكل شيء يتقلقل «2» إلى معدنه، ويحنّ إلى عنصره، فإذا صادف منبته ونزل في مغرسه، ضرب بعرقه، وسمّق بفرعه، وتمكن تمكن الإقامة. وتفتّك تفتّك الطبيعة.
وفصل: إني فيما أتعاطى من مدحك، كالمخبر عن ضوء النهار الزاهر، والقمر الباهر، الذي لا يخفى على كل ناظر؛ وأيقنت أني حيث انتهى بي القول، منسوب إلى العجز، مقصر عن الغاية، فانصرفت من الثناء عليك إلى الدعاء لك؛ ووكلت الإخبار عنك إلى علم الناس بك.
وفصل لمحمد بن الجهم: إنك لزمت من الوفاء طريقة محمودة، وعرفت مناقبها وشهرت بمحاسنها؛ فتنافس الإخوان فيك، يبتدرون ودك، ويتمسكون بحبلك؛ فمن أثبت الله له عندك ودّا فقد وضعت خلته موضع حرزها.
وفصل لابن مكرم: السيف العتيق إذا أصابه الصدأ استغنى بالقليل من الجلاء، حتى تعود جدّته ويظهر فرنده «3» ، للين طبيعته، وكرم جوهره؛ ولم أضف نفسي لك عجبا، بل شكرا.
وفصل له: زاد معروفك عندي عظما أنه عندك مستور حقير، وعند الناس مشهور كبير.(4/318)
أخذه الشاعر فقال:
زاد معروفك عندي عظما ... أنّه عندك مستور حقير
تتناساه كأن لم تأته ... وهو عند الناس مشهور كبير
وفصل للعتابي: أنت أيها الأمير وارث سلفك، وبقية أعلام أهل بيتك، المسدود به ثلمهم «1» ، المجدد به قديم شرفهم، والمحيا به أيام سعيهم. وإنه لم يخمل «2» من كنت وراثه، ولا درست آثار من كنت سالك سبيله، ولا امّحت أعلام من خلفته في رتبته.
فصول في الذمّ
كتب أحمد بن يوسف:
أما بعد، فإني لا أعرف للمعروف طريقا أوعر من طريقه إليك، فالمعروف لديك ضائع، والشكر عندك مهجور، وإنما غايتك في المعروف أن تحقره، وفي وليّه أن تكفره.
وكتب أبو العتاهية إلى الفضل بن معن بن زائدة:
أما بعد، فإني توسلت إليك في طلب نائلك بأسباب الأمل، وذرائع الحمد، فرارا من الفقر، ورجاء للغنى، فازددت بهما بعدا مما فيك تقرّبت، وقربا مما فيه تبعّدت، وقد قسمت اللائمة بيني وبينك؛ لأني أخطأت في سؤالك، وأخطأت في منعي؛ أمرت باليأس من أهل البخل فسألتهم، ونهيت عن منع أهل الرغبة فمنعتهم؛ وفي ذلك أقول:
فررت من الفقر الذي هو مدركي ... إلى بخل محظور النّوال منوع
فأعطبني الحرمان غبّ مطامعي ... كذلك من يلقاه غير قنوع(4/319)
وغير بديع منع ذي البخل ماله ... كما بذل أهل الفضل غير بديع
إذا أنت كشفت الرّجال وجدتهم ... لأعراضهم من حافظ ومضيع
وفصل لإبراهيم بن المهدي: أما بعد، فإنك لو عرفت فضل الحسن لتجنبت شين القبيح، ورأيتك آثر القول عندك ما يضرك فكنت فيما كان منك ومنا، كما قال زهير بن أبي سلمى:
وذي خطل في القول يحسب أنّه ... مصيب فما يلمم به فهو قائله «1»
عبأت له حلما وأكرمت غيره ... وأعرضت عنه وهو باد مقاتله
فصل: إن مودة الأشرار متصلة بالذلة والصغار، تميل معهما وتصرّف في آثارهما؛ وقد كنت أحلّ مودّتك بالمحل النفيس، وأنزلها بالمنزل الرفيع، حتى رأيت ذلتك عند القلّة، وضرعتك عند الحاجة، وتغيّرك عند الاستغناء، واطّراحك لإخوان الصفاء؛ فكان ذلك أقوى أسباب عذري في قطيعتك، عند من يتصفح أمري وأمرك بعين عدل لا تميل إلى هوى، ولا ترى القبيح حسنا.
فصل للعتابي: تأتّينا إفاقتك من سكرتك، وترقّبنا انتباهك من رقدتك، وصبرنا على تجوّع الغيظ فيك، حتى بان لنا الياس من خيرك، وكشف لنا الصبر عن وجه الغلط فيك؛ فها أنا قد عرفتك حق معرفتك في تعدّيك لطورك، واطراحك حقّ من غلط في اختيارك.
فصول في الأدب
كتب سعيد بن حميد:
إنّ من أمارات الحزم صحة الرأي في الرجل: يترك التماس ما لا سبيل إليه، إذا كان ذلك داعية لغنى لا عزة له، وشقاء لا درك فيه؛ وقد سمحت في أمر تخبرك(4/320)
أوائله عن أواخره، وينبيك بدؤه عن عواقبه، لو كان لهذا المخبر الصادق مستمع حازم. ورأيت رائد الهوى قد مال بك إلى هذا الأمر ميلا أيأس من رغب فيك، ودل عدوّك على معايبك، وكشف له عن مقاتلك، ولولا علمي بأنّ غلظ الناصح يؤدّي إلى نفع في اعتقاد صواب الرأي، لكان غير هذا القول أولى بك، والله يوفقك لما يحب، ويوفق لك ما تحب.
وفصل: أنت رجل لسانك فوق عقلك، وذكاؤك فوق عزمك؛ فقدّم على نفسك من قدّمك على نفسه.
وفصل: من أخطأ في ظاهر دنياه وفيما يؤخذ بالعين، كان أحرى أن يخطىء في أمر دينه وفيما يؤخذ بالعقل.
وفصل: قد حسدك من لا ينام دون الشفاء، وطلبك من لا ينام دون الظفر، فاشدد حيازيمك «1» وكن على حذر.
وفصل: قد آن أن تدع ما تسمع لما تعلم، ولا يكن غيرك فيما يبلّغه أوثق من نفسك فيما تعرفه.
وفصل: لست بحال يرضى بها حرّ، أو يقيم عليها كريم وليس يرضى لك بهذا إلا من لا ينبغي لك أن ترضى به.
وفصل: أنت طالب مغنم، وأنا دافع مغرم «2» ، فإن كنت شاكرا لما مضى، فاعذر فيما بقى.
وفصل للعتابي: أما بعد، فإن قريبك من قرب منك خيره، وابن عمك من عمّك نفعه، وعشيرك من أحسن عشرتك، وأهدى الناس إلى مودّتك من أهدى برّه إليك.
فصول إلى عليل
ليست حالي- أكرمك الله- في الاغتمام بعلتك حال المشارك فيها بأن ينالني(4/321)
نصيب منها وأسلم من أكثرها، بل اجتمع على منها أني مخصوص بها دونك، مؤلم منها بما يؤلمك؛ فأنا عليل مصروف العناية إلى عليل كأني سليم؛ فأنا أسأل الله الذي جعل عافيتي في عافيتك، أن يخصّني بما فيك، فإنها شاملة لي ولك.
وفصل: إنّ الذي يعلم حاجتي إلى بقائك، قادر على الدافعة عن حوبائك «1» ؛ فلو قلت إنّ الحق قد سقط عني في عيادتك لأني عليل بعلتك، لقام بذلك شاهد عدل في ضميرك، وأثر باد في حالي لغيبتك؛ وأصدق الخبر ما حققه الأثر، وأفضل القول ما كان عليه دليل من العقل.
وفصل: لئن تخلفت عن عيادتك بالعذر الواضح من العلة، لما أغفل قلبي ذكرك، ولا لساني فحصا عن خبرك فحص من تقسّم جوارحه وصبك «2» ، وزاد في ألمها ألمك؛ ومن تتصل به أحوالك في السراء والضراء، ولما بلغتني إقامتك كتبت مهنئا بالعافية، معفيا من الجواب إلا بخبر السلامة إن شاء الله.
ولأحمد بن يوسف: قد أذهب الله وصب العلة ونصبها، ووفّر أجرها وثوابها، وجعل فيها من إرغام العدوّ بعقباها، أضعاف ما كان عنده من السرور يقبح أولاها.
فصول إلى خليفة وأمير
منها: كتب الحجاج بن يوسف إلى عبد الملك بن مروان:
يا أمير المؤمنين، إن كل من عنّيت به فكرتك فما هو إلا سعيد يوثر أو شقي يوتر.
كتب الحسن بن سهل يصف عقل المأمون: وقد أصبح أمير المؤمنين محمود السيرة، عفيف الطعمة، كريم الشيمة، مبارك الضريبة «3» ، محمود النقيبة، موفّيا بما أخذ الله عليه، مضطلعا بما حمّله منه، مؤدّيا إلى الله حقّه، مقرّا له بنعمته، شاكرا لآلائه، لا(4/322)
يأمر إلا عدلا؛ ولا ينطق إلا فصلا عبئا لدينه وأمانته؛ كافّا ليده ولسانه.
وكتب محمد بن عبد الملك الزيات: إنّ حقّ الأولياء على السلطان: تنفيذ أمورهم، وتقويم أودهم «1» ، ورياضة أخلاقهم، وأن يميز بينهم، فيقدّم محسنهم، ويؤخر مسيئهم؛ ليزداد هؤلاء في إحسانهم، ويزدجر هؤلاء عن إساءتهم.
وفصل له: إن من أعظم الحقّ حقّ الدين، وأوجب الحرمة حرمة المسلمين؛ فحقيق لمن راعى ذلك الحق وحفظ تلك الحرمة، أن يراعى له حسب ما راعاه الله، ويحفظ له حسب ما حفظ الله على يديه.
وفصل له: إن الله أوجب لخلفائه على عباده حقّ الطاعة والنصيحة، ولعبيده على خلفائه بسط العدل والرأفة، وإحياء السّنن الصالحة؛ فإذا أدّى كلّ إلى كلّ حقّه، كان ذلك سببا لتمام النعمة، واتصال الزيادة، واتساق الكلمة، ودوام الألفة.
وفصل: ليس من نعمة يجدّدها الله لأمير المؤمنين في نفسه خاصة، إلا اتصلت برعيته عامّة، وشملت المسلمين كافة، وعظم بلاء الله عندهم فيها، ووجب عليهم شكره عليها: لأن الله جعل بنعمته تمام نعمتهم، وبتدبيره وذبّه «2» عن دينه حفظ حريمهم، وبحياطته حقن دمائهم وأمن سبيلهم؛ فأطال الله بقاء أمير المؤمنين، مؤيّدا بالنصر، معزّزا بالتمكين، موصول البقاء للنعيم المقيم.
فصل: الحمد لله الذي جعل أمير المؤمنين معقود النية بطاعته، منطوي القلب على مناصحتهم، مشحوذ السيف على عدوّه؛ ثم وهب له الظفر، ودوّخ له البلاد، وشرّد به العدو، وخصه بشرف الفتوح شرقا وغربا، وبرا وبحرا.
وفصل: أفعال الأمير عندنا معسولة «3» كالأماني، متصلة كالأيام؛ ونحن نواتر الشكر لكريم فعله، ونواصل الدعاء له مواصلة بره؛ إنه الناهض بكلنا، والحامل(4/323)
لأعبائنا، والقائم بما ناب من حقوقنا.
وفصل: أما بعد، فقد انتهى إلى أمير المؤمنين كذا فأنكره، ولا يخلو من إحدى منزلتين، ليس في واحدة منهما عذر يوجب حجة ولا يزيل لائمة: إما تقصير في عملك دعاك للإخلال بالحزم والتفريط في الواجب، وإما مظاهرة لأهل الفساد ومداهنة لأهل الريب؛ وأية هاتين كانت منك لمحلة النكر «1» بك، وموجبة العقوبة عليك، لولا ما يلقاك به أمير المؤمنين من الأناة والنظرة، والأخذ بالحجة، والتقدم في الإعذار والإنذار؛ وفي حسن ما أقلت من عظيم العثرة، ما يوجب اجتهادك في تلافي التقصير والإضاعة، والسلام.
وكتب طاهر بن الحسين حين أخذ بغداد إلى إبراهيم بن المهدي:
أما بعد، فإنه عزيز عليّ أن أكتب إلى أحد من بيت الخلافة بغير كلام الإمرة وسلامها؛ غير أنه بلغني عنك أنك مائل الهوى والرأي للناكث المخلوع، فإن كان كما بلغني فقليل ما كتبت به كثير لك، وإن يكن غير ذلك فالسلام عليك أيها الأمير ورحمة الله وبركاته؛ وقد كتبت في أسفل كتابي أبياتا فتدبرها:
ركوبك الهول مالم تلق فرصته ... جهل رمى بك بالإقحام تغرير «2»
أهون بدنيا يصيب المخطئون بها ... حظّ المصيبين، والمغرور مغرور
فازرع صوابا وخذ بالحزم حيطته ... فلن يذمّ لأهل الحزم تدبير
فإن ظفرت مصيبا أو هلكت به ... فأنت عند ذوي الألباب معذور
وإن ظفرت على جهل ففزت به ... قالوا جهول أعانته المقادير!
فصل للحسن بن وهب: أما بعد، فالحمد لله متمم النّعم برحمته، الهادي إلى شكره بفضله؛ وصلى الله على سيدنا محمد عبده ورسوله، الذي جمع له من الفضائل ما فرّقه في الرّسل قبله، وجعل تراثه راجعا إلى من خصه بخلافته، وسلم تسليما.(4/324)
فصول لعمرو بن بحر الجاحظ
منها فصول في عتاب.
أما بعد، فإن المكافأة بالإحسان فريضة، والتفضل على غير ذوي الإحسان نافلة.
أما بعد فليكن السكوت على لسانك إن كانت العافية من شأنك.
أما بعد، فلا تزهد فيما رغب إليك، فتكون لحظّك معاندا، وللنعمة جاحدا.
أما بعد، فإن العقل والهوى ضدان، فقرين العقل التوفيق، وقرين الهوى الخذلان، والنفس طالبة، فبأيهما ظفرت كانت في حزبه.
أما بعد، فإن الأشخاص كالأشجار، والحركات كالأغصان، والألفاظ كالثمار.
أما بعد، فإن القلوب أوعية والعقول معادن، فما في الوعاء ينفد إذا لم يمدّه المعدن.
أما بعد، فكفى بالتجارب تأديبا، وبتقلب الأيام عظة، وبأخلاق من عاشرت معرفة، وبذكرك الموت زاجرا.
أما بعد، فإن احتمال الصبر على لذع الغضب، أهون من إطفائه بالشتم والقذع.
أما بعد، فإن أهل النظر في العواقب أولو الاستعداد للنوائب؛ وما عظمت نعمة امريء إلا استغرقت الدنيا همّته، ومن فرّغ لطلب الآخرة شغله جعل الأيام مطايا عمله والآخرة مقيل مرتحله.
أما بعد، فإن الاهتمام بالدنيا غير زائد في الرزق والأجل، والاستغناء غير ناقص للمقادير.
أما بعد، فإنه ليس كل من حلم أمسك، وقد يستجهل «1» الحليم حتى يستخفه الهجر.
أما بعد، فإن أحببت أن تتم لك المقة «2» في قلوب إخوانك فاستقل كثيرا مما توليهم.(4/325)
أما بعد، فإن أنظر الناس في العاقبة، من لطف حتى كف حرب عدوه بالصفح والتجاوز، واستلّ حقده بالرفق والتحبب.
وكتب إلى أبي حاتم السجستاني وبلغه عنه أنه نال منه:
أما بعد، فلو كففت عنا من غربك لكنا أهلا لذلك منك، والسلام.
فلم يعد أبو حاتم إلى ذكره بقبيح.
وله فصول في وصاة:
أما بعد، فإن أحق من أسعفته في حاجته، وأجبته إلى طلبته، من توسل إليك بالأمل، ونزع نحوك بالرجاء.
أما بعد، فما أقبح الأحدوثة من مستمنح حرمته، وطالب حاجة رددته، ومثابر حجبته، ومنبسط إليك قبضته، ومقبل إليك بعنانه لويت عنه، فتثّبت في ذلك ولا تطع كل حلاف مهين، همّاز «1» مشاء بنميم.
أما بعد، فإن فلانا أسبابه متصلة بنا، يلزمنا ذمامه وبلوغ موافقته من أياديك عندنا، وأنت لنا موضع الثقة من مكافأته، فأولنا فيه ما نعرف موقعنا من حسن رأيك، ويكون مكافأة لحقّه علينا.
أما بعد، فقد أتانا كتابك في فلان، وله لدينا من الذمام ما يلزمنا مكافأته ورعاية حقه، ونحن من العناية بأمره على ما يكافىء حرمته ويؤدّي شكره.
وله فصول في استنجاز وعد:
أما بعد، فقد رسفنا «2» في قيود مواعيدك، وطال مقامنا في سجون مطلك «3» ، فأطلقنا- أبقاك الله- من ضيقها وشديد غمّها بنعم منك مثمرة أو [لا] مريحة.
أما بعد، فإن شجر مواعيدك قد أورقت، فليكن ثمرها سالما من جوائح المطل.(4/326)
أما بعد، فإن سحائب وعدك قد برقت، فليكن وبلها «1» سالما من صواعق المطل والاعتدال.
وله فصول في الاعتذار.
أما بعد، فنعم البديل من الزّلة الاعتذار، وبئس العوض من التوبة الإصرار.
أما بعد، فإن أحق ما عطفت عليه بحلمك من لم يتشفّع إليك بغيرك.
أما بعد، فإنه لا عوض من إخائك، ولا خلف من حسن رأيك، وقد انتقمت مني في زلتي بجفائك، فأطلق أسير تشوقي إلى لقائك.
أما بعد، فإنني بمعرفتي بمبلغ حلمك وغاية عفوك، ضمنت لنفسي العفو من زلتها عندك.
أما بعد، فإن من جحد إحسانك بسوء مقالته فيك، مكذّب نفسه بما يبدو للناس منه.
أما بعد، فقد مسني من الألم ما لم يشفه غير مواصلتك، مع حبسك الاعتذار من هفوتك؛ ولكن ذنبك تغتفره مودّتك، فامنن علينا بصلتك، تكن بدلا من مساءتك، وعوضا من هفوتك.
أما بعد، فلا خير فيمن استغرقت موجدته «2» عليك قدرك عنده ولم يتسع لهنات»
الإخوان.
أما بعد، فإن أولى الناس عندي بالصفح، من أسلمه إلى ملكك التماس رضاك من غير مقدرة منك عليه.
أما بعد، فإن كنت ذممتني على الإساءة، فلم رضيت لنفسك المكافأة! وله فصول التعازي:
أما بعد، فإن الماضي قبلك الباقي لك، والباقي بعدك المأجور فيك: وإِنَّما يُوَفَّى الصَّابِرُونَ أَجْرَهُمْ بِغَيْرِ حِسابٍ
«4» .(4/327)
أما بعد، فإن في الله العزاء من كل هالك، والخلف من كل مصاب، وإنه من لم يتعز بعزاء الله تنقطع نفسه من الدنيا حسرة.
أما بعد، فإن الصبر يعقبه الأجر، والجزع يعقبه الهلع؛ فتمسك بحظك من الصبر، تنل به الذي تطلب، وتدرك به الذي تأمل.
أما بعد، فقد كفى بكتاب الله واعظا، ولذوي الألباب زاجرا؛ فعليك بالتلاوة تنج مما أوعد الله به أهل المعصية.
صدور إلى خليفة
وفق الله أمير المؤمنين بالظفر فيما قلّده، وأيده وأصلح به، وعلى يديه.
أكرم الله أمير المؤمنين بالظفر، وأيده بالنصر في دوام نعمته، وحاط الرعية بطول مدّته.
صدور إلى ولي عهد
متّع الله أمير المؤمنين بطول مدّة الأمير، وأجرى على يديه فعل الجميل، وانس بولايته المؤمنين.
مدّ الله للأمير النعمة، وأسعد بطول عمره الأمّة، وجعله غياثا ورحمة.
أكمل الله له الكرامة، وحاطه بالنعمة والسلامة، ومتّع به الخاصة والعامة.
متع الله بسلامتك أهل الحرمة، وجمع لك شمل الأمّة، واستعملك بالرأفة والرحمة.
صدور إلى والي شرطة
أنصف الله بك المظلوم، وأغاث بك الملهوف، وأيّدك بالتثبت، ووفّقك للصواب.(4/328)
أرشدك الله بالتوفيق، وأنطقك بالصواب، وجعلك عصمة للدين، وحصنا للمسلمين.
أعانك الله على ما قلدك، وحفظك لما استعملك بما يرضى من فعلك.
سدّدك الله وأرشدك، وأدام لك فضل ما عوّدك.
رادك الله شرفا في المنزلة، وقدرا في قلوب الأمّة، وزلفة «1» عند الخليفة.
نصر الله بعدلك المظلوم، وكشف بك كربة الملهوف، وأعانك على أداء الحقوق.
صدور إلى قاض
ألهمك الله الحجة، وأيّدك بالتثبت وردّ بك الحقوق.
ألهمك الله الاعتصام بحبله بالعلم، والتثبت في الحكم.
ألهمك الله الحكمة وفصل الخطاب، وجعلك إماما لذوي الألباب.
زيّن الله بفضلك الزمان، وأنطق بشكرك اللسان، وبسط يدك في اصطناع المعروف.
أدام الله لك الإفضال، وحقق فيك الآمال.
صدور إلى عالم
جعل الله لك العلم نورا في الطاعة، وسببا إلى النجاة، وزلفة عند الله.
نفع الله بعلمك المستفيدين، وقضى بك حوائج المتحرّمين «2» ، وأوضح بك سنن الدين، وشرائع المسلمين.
أدام الله لك التطول بإسعاف الراغب، وأنجح بك حاجة الطالب، وأمّنك مكروه العواقب.(4/329)
صدور إلى إخوان
متّع الله أبصارنا برؤيتك، وقلوبنا بدوام ألفتك، ولا أخلانا من جميل عشرتك، ووهب لك من كريم نفسك، بحسب ما تنطوي عليه مودتك، وأبهج الله إخوانك بقربك وجمع ألفتهم بالأنس بك، وصرف الله عن ألفتنا عواقب القدر، وأعاذ صفو إخائنا من المكدر، وجعلنا ممن أنعم الله عليه فشكر.
منّ الله علينا بطول مدّتك، وآنس أيامنا بمواصلتك، وهنأنا النعمة بسلامتك.
قرّب الله منا ما كنا نأمل منك، وجمع شمل السرور بك.
نزّه الله بقربك القلوب، وبرؤيتك الأبصار، وبحديثك الأسماع.
أقبل الله بك على أودّائك. ولا ابتلاهم بطول جفائك.
أزال الله حردنا من فتورك عنا، ورغبتنا عنك من تقصيرك في أمورنا.
حفظ الله لنا منك ما أوحشنا فقده، وردّ إلينا ما كنا نألفه ونعهده.
رحم الله فاقة الحنين إليك، وما بي من تباريح الحزن عليك، وجعل حرمتنا منك الشفيع لديك.
يسّر الله لنا من صفحك ما يسع تقصيرنا، ومن حلمك ما يردّ سخطك عنا.
زين الله ألفتنا بمعاودة صلتك، واجتماعنا بزيارتك.
أعاد الله علينا من إخائك وجميل رأيك ما يكون معهودا منك بالوفاء لك.
صدور في عتاب
أنصف الله شوقنا إليك من جفائك لنا، وأخذ لبرّنا بك من تقصيرك عنا.
وكتب معاوية إلى عمرو بن العاص وبلغه عنه أمر: وفّقك الله لرشدك؛ بلغني كلامك، فإذا أوّله بطر «1» ، وآخره خور «2» ؛ ومن أبطره الغنى أذلّه الفقر، وهما(4/330)
ضدان مخادعان للمرء من عقله، وأولى الناس بمعرفة الدواء من يبين له الداء، والسلام.
فأجابه: طاولتك النعم وطاولت بك؛ علو إنصافك يؤمن سطوة جورك؛ ذكرت أني نطقت بما تكره وأنا مخدوع، وقد علمت أني ملت إلى محبتك ولم أخدع، ومثلك شكر مسعى معتذر، وعفا زلّة معترف.
تم الجزء الرابع من كتاب العقد الفريد لابن عبد ربه، ويليه إن شاء الله الجزء الخامس وأوله:
كتاب العسجدة الثانية في الخلفاء وتواريخهم وأيامهم.(4/331)
الجزء الخامس
كتاب العسجدة الثانية في الخلفاء وتواريخهم وأيامهم
قال الفقيه أبو عمر أحمد بن محمد بن عبد ربه رحمه الله: قد مضى قولنا في التوقيعات والفصول والصدور والكتابة؛ وهذا كتاب ألفناه في أخبار الخلفاء وتواريخهم وأيامهم وأسماء كتّابهم وحجّابهم.
[المصطفى صلّى الله عليه وسلم]
نسب المصطفى صلّى الله عليه وسلم
روى أبو الحسن علي بن محمد بن عبد الله بن أبي سيف عن أشياخه: هو محمد رسول الله صلّى الله عليه وسلم ابن عبد الله بن عبد المطلب بن هاشم بن عبد مناف بن قصيّ بن كلاب بن مرة بن كعب بن لؤي بن غالب بن فهر ابن مالك بن النضر بن كنانة بن خزيمة بن مدركة بن الياس بن مضر بن نزار بن معد بن عدنان.
وأمّه آمنة بنت وهب بن عبد مناف بن زهرة بن كلاب بن مرة بن كعب.
مولد النبي صلّى الله عليه وسلم
قالوا: ولد رسول الله صلّى الله عليه وسلم عام الفيل لاثنتي عشرة ليلة خلت من ربيع الأول؛ وقال بعضهم: لليلتين خلتا منه؛ وقال بعضهم: بعد الفيل بثلاثين يوما؛ فهذا جمع ما اختلفوا في مولده.
وأوحى الله إليه وهو ابن أربعين عاما، وأقام بمكة عشرا وبالمدينة عشرا؛ وقال ابن عباس: أقام بمكة خمس عشرة، وبالمدينة عشرا؛ والمجمع عليه أنه أقام بمكة ثلاث عشرة وبالمدينة عشرا.(5/3)
اليوم والشهر الذي هاجر فيه صلّى الله عليه وسلم
هاجر إلى المدينة يوم الاثنين لثلاث عشرة خلت من ربيع الأول.
مات يوم الاثنين لثلاث عشرة خلت من ربيع الأول، اليوم والشهر الذي هاجر فيه، صلّى الله عليه وسلم، وجعلنا ممن يرد حوضه، وينال مرافقته في أعلى عليين من درجات الفردوس، وأسأل الله الذي جعلنا من أمّته ولم نره أن يتوفانا على ملته، ولا يحرمنا رؤيته في الدنيا والآخرة.
صفة النبي صلّى الله عليه وسلم
ربيعة بن أبي عبد الرحمن عن أنس بن مالك قال: كان رسول الله صلّى الله عليه وسلم أبيض مشربا حمرة، ضخم الرأس، أزج «1» الحاجبين، عظيم العينين، أدعج «2» ، أهدب، شثن «3» الكفين والقدمين، إذا مشى تكفأ كأنما ينحطّ في صبب ويمشي في صعد كأنما يتقلّع من صخر، إذا التفت التفت جميعا، ليس بالجعد «4» القطط ولا السّبط؛ ذا وفرة إلى شحمة أذنيه، ليس بالطويل البائن ولا بالقصير المتطامن، عرفه أطيب من ريح المسك الأذفر، لم تلد النساء قبله ولا بعده مثله، بين كتفيه خاتم النّبوّة كبيض الحمام، لا يضحك إلا تبسّما، في عنفقته شعرات بيض لا تكاد تبين.
وقال أنس بن مالك: لم يبلغ الشيب الذي كان برسول الله صلّى الله عليه وسلم عشرين شعرة؛ وقيل له: يا رسول الله، عجل عليك الشيب! قال: «شيبتي هود وأخواتها» .
هيئة النبي صلّى الله عليه وسلم
كان صلّى الله عليه وسلم يأكل على الأرض، ويجلس على الأرض، ويمشي في الأسواق، ويلبس(5/4)
العباءة، ويجالس المساكين، ويقعد القرفصاء ويتوسّد يده، ويلعق أصابعه ويقضي من نفسه، ولا يأكل متكئا، ولم ير قط ضاحكا ملء فيه وكان يقول: «إنما أنا عبد، آكل كما يأكل العبد، وأشرب كما يشرب العبد، ولو دعيت إلى ذراع «1» لأجبت، ولو أهدي إليّ كراع «2» لقبلت» .
شرف بيت النبي صلّى الله عليه وسلم
قال النبي صلّى الله عليه وسلم: «أنا سيّد البشر ولا فخر، وأنا أفصح العرب، وأنا أوّل من يقرع باب الجنة، وأنا أوّل من ينشقّ عنه التراب؛ دعا لي إبراهيم، وبشّر بي عيسى، ورأت أمّي حين وضعتني نورا أضاء لها ما بين المشرق والمغرب» .
وقال صلّى الله عليه وسلم: «إن الله خلق الخلق فجعلني في خير خلقه، وجعلهم أفراقا فجعلني في خيرهم فرقة، وجعلهم قبائل فجعلني في خير قبيلة، وجعلهم بيوتا فجعلني في خير بيت؛ فأنا خيركم بيتا وخيركم نسبا» .
وقال صلّى الله عليه وسلم: «أنا ابن الفواطم والعواتك من سليم، واسترضعت في بني سعد بن بكر» .
وقال: «نزل القرآن بأعرب اللغات، فلكل العرب فيه لغة ولبني سعد بن بكر سبع لغات» .
وبنو سعد بن بكر بن هوازن أفصح العرب، فهم من الأعجاز، وهي قبائل من مضر متفرّقة، وكانت ظئر «3» النبي صلّى الله عليه وسلم التي أرضعته حليمة بنت أبي ذؤيب من بني ناصرة بن سعد بن بكر بن هوازن.
وإخوته من الرضاعة: عبد الله بن الحارث، وأنيسة بنت الحارث، وخذامة بنت(5/5)
الحارث، وهي التي أتي بها النبيّ صلّى الله عليه وسلم في أسرى حنين فبسط لها رداءه ووهب لها أسرى قومها.
والعواتك من سليم ثلاث: عاتكة بنت مرة بن هلال ولدت هاشما وعبد شمس ونفلا؛ وعاتكة بنت الأوقص بن هلال، ولدت وهب بن عبد مناف بن زهرة؛ وعاتكة بنت هلال بن فالج.
وقال عليّ للأشعث إذ خطب إليه: أغرك ابن أبي قحافة إذ زوّجك أمّ فروة؟
وإنها لم تكن من الفواطم من قريش ولا العواتك من سليم.
أبو النبي صلّى الله عليه وسلم
عبد الله بن عبد المطلب، ولم يكن له ولد غيره صلّى الله عليه وسلم، وتوفى وهو في بطن أمه، فلما ولد كفله جدّه عبد المطلب إلى أن توفى فكفله عمّه أبو طالب، وكان أخا عبد الله لأمه وأبيه، فمن ذلك كان أشفق أعمام النبيّ صلّى الله عليه وسلم وأولاهم به.
أعمامه وعماته
وأما أعمام النبي صلّى الله عليه وسلم وعماته، فإن عبد المطلب بن هاشم كان له من الولد لصلبه عشرة من الذكور وستّ من الإناث، وأسماء بنيه: عبد الله، والد النبي عليه الصلاة والسلام؛ والزبير؛ وأبو طالب، واسمه عبد مناف؛ والعباس؛ وضرار؛ وحمزة؛ والمقوّم؛ وأبو لهب، واسمه عبد العزى؛ والحارث والغيداق، واسمه حجل، ويقال نوفل.
أسماء بناته عمات النبي صلّى الله عليه وسلم: عاتكة، والبيضاء، وهي أم حكيم وبرّة؛ وأميمة؛ وأروى؛ وصفية.(5/6)
ولد النبي صلّى الله عليه وسلم
ولد له من خديجة: القاسم، والطيب، وفاطمة، وزينب، ورقية، وأم كلثوم.
وولد له من مارية القبطية: إبراهيم، فجميع ولده من خديجة، غير إبراهيم.
أزواجه صلّى الله عليه وسلم
وأزواجه صلّى الله عليه وسلم: أوّلهن خديجة بنت خويلد بن أسد بن عبد العزى، ولم يتزوج عليها حتى ماتت؛ ثم تزوّج سودة بنت زمعة، وكانت تحت السكران بن عمرو، وهو من مهاجرة الحبشة، فمات ولم يعقب فتزوّجها النبي صلّى الله عليه وسلم بعده، ثم تزوج عائشة بنت أبي بكر بكرا، ولم يتزوج بكرا غيرها، وهي ابنة ست، وابتنى عليها وهي ابنة تسع، وتوفى عنها وهي ابنة ثمان عشرة سنة، وعاشت بعده إلى أيام معاوية، وماتت سنة ثمان وخمسين وقد قاربت السبعين، ودفنت ليلا بالبقيع وأوصت إلى عبد الله بن الزبير، وتزوج حفصة بنت عمر بن الخطاب، وكانت تحت خنيس بن حذافة السهمي وكان رسول الله صلّى الله عليه وسلم أرسله إلى كسرى، ولا عقب له، ثم تزوج زينب بنت خزيمة، من بني عامر بن صعصعة، وكانت تحت عبيدة بن الحارث بن عبد المطلب، أول شهيد كان ببدر، ثم تزوّج زينب بنت جحش الأسدية، وهي بنت عمة النبي صلّى الله عليه وسلم، وهي أول من مات من أزواجه في خلافة عمر، ثم تزوّج أم حبيبة- واسمها رملة- ابنة أبي سفيان، وهي أخت معاوية وكانت تحت عبيد الله بن جحش الأسدي، فتنصر ومات بأرض الحبشة، وتزوّج أم سلمة بنت أبي أمية بن المغيرة المخزومي، وكانت تحت أبي سلمة، فتوفى عنها وله منها أولاد، وبقيت إلى سنة تسع وخمسين وتزوّج ميمونة بنت الحارث من بني عامر بن صعصعة، وكانت تحت أبي سبرة بن أبي رهم العامري، وتزوّج صفيّة بنت حييّ بن أخطب النّضرية، وكانت تحت رجل من يهود خيبر، يقال له كنانة فضرب رسول الله صلّى الله عليه وسلم عنقه وسبى أهله، وتزوّج جويرية بنت الحارث، وكانت من سبى بني المصطلق، وتزوّج خولة بنت حكيم، وهي التي وهبت نفسها للنبي صلّى الله عليه وسلم، وتزوّج امرأة يقال لها عمرة، فطلقها ولم يبن بها، وذلك(5/7)
أن أباها قال له: وأزيدك أنها لم تمرض قط! فقال: ما لهذه عند الله من خير! فطلقها، وتزوّج امرأة يقال لها: أميمة بنت النعمان، فطلقها قبل أن يطأها، وخطب امرأة من بني مرة بن عوف، فرده أبوها وقال: إن بها برصا! فلما رجع إليها وجدها برصاء!
كتاب النبي صلّى الله عليه وسلم وخدّامه
كتاب الوحي لرسول الله صلّى الله عليه وسلم: زيد بن ثابت، ومعاوية بن أبي سفيان، وحنظلة بن ربيعة الأسدي، وعبد الله بن سعد بن أبي سرح، ارتد ولحق بمكة مشركا.
وحاجبه: أبو أنسة مولاه.
وخادمه: أنس بن مالك الأنصاري، ويكنى أبا حمزة.
وخازنه على خاتمه: معيقيب بن أبي فاطمة.
ومؤذّناه: بلال، وابن أم مكتوم.
وحراسه: سعد بن زيد الأنصاري، والزبير بن العوام، وسعد بن أبي وقاص.
وخاتمة فضة، وفصه حبشي، مكتوب عليه: محمد رسول الله، في ثلاثة أسطر:
محمد، سطر؛ ورسول؛ سطر؛ والله، سطر.
وفي حديث أنس بن مالك خادم النبي صلّى الله عليه وسلم: وبه تختّم أبو بكر وعمر، وتختم به عثمان ستة أشهر، ثم سقط منه في بئر ذي أروان «1» ، فطلب فلم يوجد.
وفاة النبي صلّى الله عليه وسلم وسنه
توفي صلّى الله عليه وسلم يوم الاثنين لثلاث عشرة ليلة خلت من ربيع الأول، وحفر له تحت فراشه في بيت عائشة، وصلّى عليه المسلمون جميعا بلا إمام الرجال ثم النساء ثم الصبيان، ودفن ليلة الأربعاء في جوف الليل، ودخل القبر عليّ، والفضل وقثم ابنا(5/8)
العباس، وشقران مولاه، ويقال: أسامة بن زيد: وهم تولوا غسله وتكفينه وأمره كلّه، وكفّن في ثلاثة أثواب بيض سحولية «1» ليس فيها قميص ولا عمامة؛ واختلف في سنّه. فقال عبد الله بن عباس وعائشة، وجرير بن عبد الله، ومعاوية: توفي وهو ابن ستين سنة. وقال عروة ابن الزبير وقتادة: اثنتين وستين سنة.
[أبي بكر الصدّيق رضي الله عنه]
نسب أبي بكر الصدّيق وصفته رضي الله عنه
هو عبد الله بن أبي قحافة، واسم أبي قحافة: عثمان بن عمرو بن كعب بن سعد ابن تيم بن مرة.
وأمّه أمّ الخير ابنة صخر بن عمرو بن كعب بن سعد بن تيم بن مرة.
وكاتبه عثمان بن عفان؛ وحاجبه: رشيد مولاه، وقيل كتب له زيد بن ثابت أيضا؛ وعلى أمره كله وعلى القضاء عمر بن الخطاب، وعلى بيت المال أبو عبيدة بن الجراح ثم وجهه إلى الشام؛ ومؤذنه سعد القرظ مولى عمار بن ياسر.
قيل لعائشة: صفي لنا أباك. قالت: كان أبيض، نحيف الجسم، خفيف العارصين، أجنأ «2» ، لا يستمسك إزاره، معروق الوجه، غائر العينين، ناتيء الجبهة، عاري الأشاجع، أفرع.
وكان عمر بن الخطاب أصلع، وكان أبو بكر يخضب بالحناء والكتم.
وقال أبو جعفر الأنصاري: رأيت أبا بكر كأن لحيته ورأسه جمر الغضى.
وقال أنس بن مالك: قدم رسول الله صلّى الله عليه وسلم المدينة وليس في أصحابه أشمط «3» غير أبي بكر، فغلفها بالحناء والكتم «4» .(5/9)
وتوفي مساء ليلة الثلاثاء لثمان ليال بقين من جمادي الآخرة سنة ثلاث عشرة من التاريخ، فكانت خلافته سنتين وثلاثة أشهر وعشر ليال، وكان نقش خاتم أبي بكر:
نعم القادر الله.
خلافة أبي بكر رضي الله عنه
شعبة بن سعد بن إبراهيم عن عروة عن عائشة، أن النبي صلّى الله عليه وسلم قال في مرضه:
«مروا أبا بكر فليصل بالناس فقلت: يا رسول الله، إن أبا بكر إذا قام في مقامك لم يسمع الناس من البكاء، فمر عمر فليصل بالناس. قال: مروا أبا بكر فليصل بالناس، قالت عائشة: فقلت لحفصة: قولي له إن أبا بكر إذا قام في مقامك لم يسمع الناس من البكاء، فمر عمر. ففعلت حفصة، فقال رسول الله صلّى الله عليه وسلم: مه! إنكن صواحب يوسف، مروا أبا بكر فليصل بالناس» .
أبو جعدة عن الزبير قال: قالت حفصة يا رسول الله، إنك مرضت فقدمت أبا بكر. قال: لست الذي قدّمه، ولكن الله قدمه.
أبو سلمة عن إسماعيل بن مسلم عن أنس قال: صلّى أبو بكر بالناس ورسول الله صلّى الله عليه وسلم مريض ستة أيام.
النضر بن إسحاق عن الحسن قال: قيل لعلي: علام بايعت أبا بكر؟ فقال: إن رسول الله صلّى الله عليه وسلم لم يمت فجأة، كان يأتيه بلال في كل يوم في مرضه يؤذنه بالصلاة، فيأمر أبا بكر فيصلي الناس، وقد تركني وهو يرى مكاني؛ فلما قبض رسول الله صلّى الله عليه وسلم رضي المسلمون لدنياهم من رضيه رسول الله صلّى الله عليه وسلم لدينهم، فبايعوه وبايعته.
ومن حديث الشعبي قال: أوّل من قدم مكة بوفاة رسول الله صلّى الله عليه وسلم وخلافة أبي بكر: عبد ربّه بن قيس بن السائب المخزومي؛ فقال له أبو قحافة: من ولي الأمر بعده؟ قال: أبو بكر ابنك. قال: فرضي بذلك بنو عبد مناف؟ قال: نعم. قال: لا مانع لما أعطى الله، ولا معطي لما منع الله!(5/10)
جعفر بن سليمان عن مالك بن دينار قال: توفي رسول الله صلّى الله عليه وسلم وأبو سفيان غائب في مسعاة أخرجه فيها رسول الله صلّى الله عليه وسلم، فلما انصرف لقي رجلا في بعض طريقه مقبلا من المدينة، فقال له: مات محمد؟ قال: نعم، قال: فمن قام مقامه؟ قال: أبو بكر. قال أبو سفيان: فما فعل المستضعفان: عليّ والعباس؟ قال: جالسين. قال: أما والله لئن بقيت لهما لأرفعنّ من أعقابهما؛ ثم قال إني أرى غبرة لا يطفئها إلا دم! فلما قدم المدينة جعل يطوف في أزقّتها ويقول:
بني هاشم لا تطمع الناس فيكم ... ولا سيّما تيم بن مرّة أو عديّ
فما الأمر إلا فيكم وإليكم ... وليس لها إلا أبو حسن عليّ
فقال عمر لأبي بكر: إن هذا قد قدم، وهو فاعل شرا، وقد كان النبي صلّى الله عليه وسلم يتألّفه على الإسلام، فدع له ما بيده من الصدقة! ففعل، فرضي أبو سفيان وبايعه.
سقيفة بني ساعدة
أحمد بن الحارث عن أبي الحسن عن أبي معشر عن المقبري: أن المهاجرين بينما هم في حجرة رسول الله صلّى الله عليه وسلم وقد قبضه الله إليه، إذ جاء معن بن عديّ وعويم بن ساعدة، فقالا لأبي بكر: باب فتنة إن يغلقه الله بك؛ هذا سعد بن عبادة والأنصار يريدون أن يبايعوه. فمضى أبو بكر وعمر وأبو عبيدة، حتى جاءوا سقيفة بني ساعدة، وسعد على طنفسة «1» متكئا على وسادة، وبه الحمّى، فقال له أبو بكر: ماذا ترى أبا ثابت؟ قال: أنا رجل منكم. فقال حباب بن المنذر: منا أمير ومنكم أمير، فإن عمل المهاجريّ في الأنصاري شيئا رد عليه، وإن عمل الأنصاري في المهاجري شيئا ردّ عليه، وإن لم تفعلوا، فأنا جذيلها «2» المحكّك وعذيقها «3» المرجّب، لنعيدنّها جذعة «4» ! قال عمر: فأردت أن أتكلم، وكنت زوّرت كلاما في(5/11)
نفسي، فقال أبو بكر: على رسلك يا عمر. فما ترك كلمة كنت زوّرتها في نفسي إلا تكلم بها، وقال:
نحن المهاجرون؛ أوّل الناس إسلاما، وأكرمهم أحسابا، وأوسطهم دارا، وأحسنهم وجوها، وأمسّهم رسول الله صلّى الله عليه وسلم رحما؛ وأنتم إخواننا في الإسلام، وشركاؤنا في الدين، نصرتم وواسيتم، فجزاكم الله خيرا؛ فنحن الأمراء وأنتم الوزراء، لا تدين العرب إلا لهذا الحيّ من قريش، فلا تنفسوا على إخوانكم المهاجرين ما فضّلهم الله به؛ فقد قال رسول الله صلّى الله عليه وسلم: الأئمة من قريش. وقد رضيت لكم أحد هذين الرجلين. يعني عمر بن الخطاب، وأبا عبيدة بن الجراح.
فقال عمر: يكون هذا وأنت حي؟ ما كان أحد ليؤخّرك عن مقامك الذي أقامك فيه رسول الله صلّى الله عليه وسلم.
ثم ضرب على يده فبايعه، وبايعه الناس وازدحموا على أبي بكر، فقال الأنصار:
قتلتم سعدا! فقال عمر: اقتلوه قتله الله فإنه صاحب فتنة! فبايع الناس أبا بكر، وأتوا به المسجد يبايعونه، فسمع العباس وعلى التكبير في المسجد ولم يفرغوا من غسل رسول الله صلّى الله عليه وسلم، فقال علي: ما هذا؟ قال العباس: ما رؤي مثل هذا قط ما قلت لك.
ومن حديث النعمان بن بشير الأنصاري: لما ثقل رسول الله صلّى الله عليه وسلم تكلم الناس فيمن يقوم بالأمر بعده، فقال قوم: أبو بكر، وقال قوم: أبي بن كعب. قال النعمان بن بشير: فأتيت أبيا فقلت: يا أبيّ، الناس قد ذكروا أن رسول الله صلّى الله عليه وسلم يستخلف أبا بكر أو إياك، فانطلق حتى تنظر في هذا الأمر، فقال: إن عندي في هذا أمر من رسول الله صلّى الله عليه وسلم شيئا ما أنا بذاكره حتى يقبضه الله إليه. ثم انطلق وخرجت معه حتى دخلنا على النبي صلّى الله عليه وسلم بعد الصبح، وهو يحسو حسوا في قطعة مشعوبة «1» ، فلما فرغ(5/12)
أقبل على أبيّ فقال: هذا ما قلت لك قال: فأوص بنا. فخرج يخط برجليه حتى صار على المنبر ثم قال:
يا معشر المهاجرين إنكم أصبحتم تزيدون، وأصبحت الأنصار كما هي لا تزيد، ألا وإن الناس يكثرون وتقل الأنصار حتى يكونوا كالملح في الطعام فمن ولي من أمرهم شيئا فليقبل من محسنهم ويعف عن مسيئهم.
ثم دخل، فلما توفي، قيل لي: هاتيك الأنصار مع سعد بن عبادة يقولون: نحن أولى بالأمر. والمهاجرون يقولون: لنا الأمر دونكم! فأتيت أبيا فقرعت بابه، فخرج إليّ ملتحفا، فقلت: ألا أراك قاعدا ببيتك مغلقا عليك بابك، وهؤلاء قومك في بني ساعدة ينازعون المهاجرين، فأخرج إلى قومك فخرج، فقال:
إنكم والله ما أنتم من هذا الأمر في شيء، وإنه لهم دونكم؛ يليها من المهاجرين رجلان، ثم يقتل الثالث، وينزع الأمر فيكون ههنا- وأشار إلى الشام- وإن هذا الكلام لمبلول بريق رسول الله صلّى الله عليه وسلم. ثم أغلق بابه ودخل.
ومن حديث حذيفة قال: كنا جلوسا عند رسول الله صلّى الله عليه وسلم، فقال: «إنّي لا أدري ما بقائي فيكم؛ فاقتدوا باللذين من بعدي- وأشار إلى أبي بكر وعمر- واهتدوا بهدى عمّار، وما حدثكم ابن مسعود فصدّقوه.
الذين تخلفوا عن بيعة أبي بكر
عليّ، والعباس، والزبير، وسعد بن عبادة، فأما علي والعباس والزبير فقعدوا في بيت فاطمة حتى بعث إليهم أبو بكر عمر بن الخطاب ليخرجوا من بيت فاطمة، وقال له: إن أبوا فقاتلهم. فأقبل بقبس من نار على أن يضرم عليهم الدار، فلقيته فاطمة فقالت: يا ابن الخطاب، أجئت لتحرق دارنا؟ قال: نعم، أو تدخلوا فيما دخلت فيه الأمة! فخرج علي حتى دخل على أبي بكر فبايعه، فقال له أبو بكر:
أكرهت إمارتي؟ فقال: لا، ولكني آليت أن لا أرتدي بعد موت رسول الله صلّى الله عليه وسلم(5/13)
حتى أحفظ القرآن، فعليه حبست نفسي.
ومن حديث الزهري عن عروة عن عائشة قالت: لم يبايع عليّ أبا بكر حتى ماتت فاطمة، وذلك لستة أشهر من موت أبيها صلّى الله عليه وسلم، فأرسل علي إلى أبي بكر، فأتاه في منزله فبايعه، وقال: والله ما نفسنا عليك ما ساق الله إليك من فضل وخير، ولكنا كنا نرى أن لنا في هذا الأمر شيئا فاستبددت به دوننا، وما ننكر فضلك.
وأما سعد بن عبادة فإنه رحل إلى الشام.
أبو المنذر هشام بن محمد الكلبي قال: «بعث عمر رجلا إلى الشام، فقال: ادعه إلى البيعه واحمل له بكل ما قدرت عليه، فإن أبى فاستعن الله عليه، فقدم الرجل الشام، فلقيه بحوران في حائط، فدعاه إلى البيعة، فقال: لا أبايع قرشيا أبدا! قال فإني أقاتلك! قال وإن قاتلتني! قال: أفخارج أنت مما دخلت فيه الأمة؟ قال: أما من البيعة فأنا خارج. فرماه بسهم فقتله.
ميمون بن مهران عن أبيه قال: رمي سعد بن عبادة في حمّام بالشام فقتل. سعيد ابن أبي عروبة عن ابن سيرين قال: رمي سعد بن عبادة بسهم فوجد دفينا في جسده فمات، فبكته الجن، فقالت:
وقتلنا سيّد الخزرج ... سعد بن عبادة
ورميناه بسهمين ... فلم نخطيء فؤاده
فضائل أبي بكر رضي الله عنه
محمد بن المنكدر قال: نازع عمر أبا بكر، فقال رسول الله صلّى الله عليه وسلم: «هل أنتم تاركون لي صاحبي؟ إن الله بعثني بالهدى ودين الحقّ إلى الناس كافة فقالوا: جميعا كذبت. وقال أبو بكر صدقت!» .
وهو صاحب رسول الله صلّى الله عليه وسلم، وجليسه في الغار، وأول من صلّى معه وآمن به واتّبعه.(5/14)
وقال عمر بن الخطاب: أبو بكر سيدنا. وأعتق سيدنا، يريد بلالا، وكان بلال عبدا لأمية بن خلف، فاشتراه أبو بكر وأعتقه، وكان من مولدي مكة، أبوه رباح، وأمه حمامة.
وقيل للنبي صلّى الله عليه وسلم. من أول من قام معك في هذا الأمر؟ قال: حرّ وعبد؛ يريد بالحرّ أبا بكر، وبالعبد بلالا. وقال بعضهم: عليّ وخبّاب.
أبو الحسن المدائني قال: دخل هارون الرشيد مسجد رسول الله صلّى الله عليه وسلم، فبعث إلى مالك بن أنس فقيه المدينة، فأتاه وهو واقف بين قبر رسول الله صلّى الله عليه وسلم والمنبر؛ فلما قام بين يديه وسلم عليه بالخلافة، قال: يا مالك، صف لي مكان أبي بكر وعمر من رسول الله صلّى الله عليه وسلم في الحياة الدنيا. فقال: مكانهما منه يا أمير المؤمنين كمكان قبريهما من قبره. فقال: شفيتني يا مالك.
الشعبي عن محمد أبي سلمة، أن عليا سئل عن أبي بكر وعمر، فقال: على الخبير سقطت. كانا والله إمامين صالحين مصلحين، خرجا من الدنيا خميصين «1» .
وقال علي بن أبي طالب: سبق رسول الله صلّى الله عليه وسلم، وثنّى أبو بكر وثلّث عمر؛ ثم خبطتنا فتنة عمياء [يعفو الله فيها] عمن يشاء.
وقالت عائشة. توفّي رسول الله صلّى الله عليه وسلم بين سحري ونحري، فلو نزل بالجبال الراسيات ما نزل بأبي لهدّها، أشرأبّ النفاق، وارتدت العرب؛ فو الله ما طاروا في نقطة إلا طار أبي بحظها وغنائها في الإسلام.
عمرو بن عثمان عن أبيه عن عائشة أنه بلغها أن أناسا ينالون من أبيها. فأرسلت إليهم، فلما حضروا قالت:
إن أبي والله لا تعطوه الأيدي، ذاك طود منيف وظل ممدود، أنجح «2» إذ(5/15)
أكديتم «1» ، وسبق إذ ونيتم، سبق الجواد إذا استولى على الأمد، فتى قريش ناشئا، وكهفها «2» كهلا، يفك عانيها، ويريش مملقها، ويرأب صدعها ويلمّ شعثها، فما برحت شكيمته في ذات الله تشتد، حتى اتخذ بفنائه مسجدا يحيي فيه ما أمات المبطلون، وكان وقيد الجوانح غزير الدمعة، شجيّ النشيج، وأصفقت «3» إليه نسوان مكة وولدانها يسخرون منه ويستهزؤن به، والله يستهزيء بهم ويمدهم في طغيانهم يعمهون، فأكبرت ذلك رجالات قريش فما فلوا له صفاة، ولا قصفوا قناة؛ حتى ضرب الحقّ بجرانه، وألقى بركه «4» ، ورست أوتاده. فلما قبض الله نبيّه ضرب الشيطان رواقه، ومدّ طنبه؛ ونصب حبائله، وأجلب بخيله ورجله؛ فقام الصّديق حاسرا مشمّرا، فردّ نشر الإسلام على غرّه وأقام أوده بثقافه، فابذعرّ «5» النفاق بوطئه، وانتاش «6» الناس بعدله، حتى أراح الحقّ على أهله، وحقن الدماء في أهبها؛ ثم أتته منيته؛ فسدّ ثلمته نظيره في المرحمة، وشقيقه في المعدلة؛ ذلك ابن الخطاب، لله درّ أم حفلت له ودرّت عليه! ففتح الفتوح، وشرّد الشرك، وبعج «7» الأرض فقاءت أكلها، ولفظت جناها، ترأمه ويأباها، وتريده ويصدف عنها، ثم تركها كما صحبها؛ فأروني ما ترتابون؟ وأي يومي أبي تنقمون؟ أيوم إقامته إذ عدل فيكم، أم يوم ظعنه إذ نظر لكم، أقول قولي هذا وأستغفر الله لي ولكم.
وفاة أبي بكر الصديق رضي الله عنه
الليث بن سعد عن الزهري قال: أهدي لأبي بكر طعام وعنده الحرث بن كلدة، فأكلا منه؛ فقال الحرث: أكلنا سمّ سنة، وإني وإياك لميتان عند رأس الحول! فماتا جميعا في يوم واحد عند انقضاء السنة، وإنما سمّته يهود كما سمت النبي صلّى الله عليه وسلم بخيبر في ذراع الشاة؛ فلما حضرت النبي صلّى الله عليه وسلم الوفاة قال: «ما زالت أكلة خيبر تعاودني حتى(5/16)
قطعت أبهري» ! وهذا مثل ما قال الله تعالى: ... ثُمَّ لَقَطَعْنا مِنْهُ الْوَتِينَ
»
والأبهر والوتين: عرقان في القلب إذا انقطع أحدهما مات صاحبه.
الزهري عن عروة عن عائشة قالت: اغتسل أبو بكر يوم الاثنين لسبع خلون من جمادي الآخرة، وكان يوما باردا، فحمّ خمسة عشر يوما لا يخرج إلى صلاة، وكان يأمر عمر أن يصلي بالناس؛ وتوفي ليلة الثلاثاء لثمان بقين من جمادي الآخرة سنة ثلاث عشرة من التاريخ؛ وغسلته امرأته أسماء بنت عميس وصلى عليه عمر بن الخطاب بين القبر والمنبر، وكبّر أربعا.
الزهري عن سعيد بن المسيب قال: لما توفي أبو بكر أقامت عليه عائشة النوح فبلغ ذلك عمر فنهاهنّ، فأبين فقال لهشام بن الوليد: أخرج إليّ بنت أبي قحافة.
فأخرج إليه أمّ فروة؛ فعلاها بالدّرّة «2» ضربا، فتفرّق النوائح.
وقالت عائشة وأبوها يغمض، رضي الله عنه:
وأبيض يستسقى الغمام بوجهه ... ربيع اليتامى عصمة للأرامل
قالت عائشة: فنظر إليّ وقال: ذاك رسول الله صلّى الله عليه وسلم. ثم أغمي عليه، فقالت:
لعمرك ما يغني الثراء عن الفتى ... إذا حشرجت يوما وضاق بها الصّدر
فنظر إليّ كالغضبان وقال: قولي: وَجاءَتْ سَكْرَةُ الْمَوْتِ بِالْحَقِّ ذلِكَ ما كُنْتَ مِنْهُ تَحِيدُ
«3» . ثم قال: انظروا ملاءتين خلقين فاغسلوهما وكفّنوني فيهما؛ فإن الحي أحوج إلى الجديد من الميت.
عروة بن الزبير والقاسم بن محمد، قالا: أوصى أبو بكر عائشة أن يدفن إلى جنب رسول الله صلّى الله عليه وسلم؛ فلما توفى حفر له وجعل رأسه بين كتفي رسول الله صلّى الله عليه وسلم، ورأس عمر عند حقوي أبي بكر، وبقي في البيت موضع قبر؛ فلما حضرت الوفاة الحسن بن(5/17)
علي، أوصى بأن يدفن مع جده في ذلك الموضع؛ فلما أراد بنو هاشم أن يحفروا له منعهم مروان- وهو والي المدينة في أيام معاوية- فقال أبو هريرة: علام تمنعه أن يدفن مع جده؟ فأشهد لقد سمعت رسول الله صلّى الله عليه وسلم يقول: «الحسن والحسين سيدا شباب أهل الجنة» قال له مروان: لقد ضيّع الله حديث رسول الله صلّى الله عليه وسلم إذا لم يروه غيرك. قال: أنا والله لقد قلت ذلك؛ لقد صحبته حتى عرفت من أحبّ ومن أبغض، ومن نفى ومن أقرّ، ومن دعا له ومن دعا عليه.
قال: وسطح قبر أبي بكر كما سطّح قبر النبي صلّى الله عليه وسلم، ورشّ بالماء.
هشام بن عروة عن أبيه: أن أبا بكر صلّي عليه ليلا ودفن ليلا.
ومات وهو ابن ثلاث وستين سنة، ولها مات النبيّ صلّى الله عليه وسلم.
وعاش أبو قحافة بعد أبي بكر أشهرا وأياما، ووهب نصيبه في ميراثه لولد أبي بكر وكان نقش خاتم أبي بكر: نعم القادر الله.
ولما قبض أبو بكر سجّي بثوب، فارتجّت المدينة من البكاء، ودهش القوم كيوم قبض رسول الله صلّى الله عليه وسلم. وجاء علي بن أبي طالب باكيا مسرعا مسترجعا حتى وقف بالباب وهو يقول:
«رحمك الله أبا بكر! كنت والله أول القوم إسلاما، وأصدقهم إيمانا، وأشدهم يقينا وأعظمهم غنى، وأحفظهم على رسول الله صلّى الله عليه وسلم، وأحدبهم على الإسلام، وأحماهم عن أهله، وأنسبهم برسول الله خلقا وفضلا وهديا وسمتا؛ فجزاك الله عن الإسلام وعن رسول الله وعن المسلمين خيرا؛ صدّقت رسول الله حين كذّبه الناس وواسيته حين بخلوا، وقمت معه حين قعدوا وسمّاك الله في كتابه صدّيقا فقال:
وَالَّذِي جاءَ بِالصِّدْقِ وَصَدَّقَ بِهِ
«1» ، يريد محمدا ويريدك؛ كنت والله للإسلام حصنا، وللكافرين ناكبا، لم تفلل «2» حجتك، ولم تضعف بصيرتك، ولم تجبن(5/18)
نفسك؛ كنت كالجبل لا تحرّكه العواصف، ولا تزيله القواصف؛ كنت كما قال رسول الله صلّى الله عليه وسلم: ضعيفا في بدنك؛ قويّا في دينك، متواضعا في نفسك، عظيما عند الله، جليلا في الأرض، كبيرا عند المؤمنين، لم يكن لأحد عندك مطمع ولا هوى، فالضعيف عندك قوي، والقويّ عندك ضعيف، حتى تأخذ الحق من القوي وتردّه للضعيف، فلا حرمك الله أجرك، ولا أضلّنا بعدك.
القاسم بن محمد عن عائشة أم المؤمنين أنها دخلت على أبيها في مرضه الذي توفي فيه، فقالت:
يا أبت، اعهد إليّ خاصّتك، وأنفذ رأيك في عامتك، وانقل من دار جهازك إلى دار مقامك؛ إنك محضور ومنصل بي لوعتك، وأرى تخاذل أطرافك، وانتقاع لونك؛ فإلى الله تعزيتي عنك، ولديه ثواب حزني عليك؛ أرقأ فلا أرقأ «1» وأشكو فلا أشكى.
قال: فرفع رأسه وقال:
يا أمه، هذا يوم يخلّى لي عن غطائي، وأشاهد جزائي، إن فرحا فدائم، وإن ترحا فمقيم، إني اضطلعت بإمامة هؤلاء القوم، حين كان النكوص إضاعة، والخزل «2» تفريطا، فشهيدي الله ما كان بقلبي إلا إياه؛ فتعلقت بصحفتهم وتعللت بدرّة لقحتهم، وأقمت صلاي معهم، لا مختالا أشرا، ولا مكاثرا بطرا، ولم أعد سدّ الجوعة، ووري العورة «3» ، وقواته القوام؛ من طوى ممعض «4» تهفو منه الأحشاء، وتجف له الأمعاء، واضطررت إلى ذلك اضطرار الجرض «5» إلى الماء المعيف الآجن؛ فإذا أنا متّ فردّي إليهم صحفتهم وعبدهم ولقحتهم ورحاهم، ودثارة ما فوقي اتقيت بها البرد، ودثارة ما تحتي اتقيت بها أذى الأرض، كان حشوها قطع السعف.(5/19)
قال: ودخل عليه عمر فقال: يا خليفة رسول الله لقد كلفت القوم بعدك تعبا، ووليتهم نصبا، فهيهات من شق غبارك فكيف اللحاق بك.
استخلاف أبي بكر لعمر
عبد الله بن محمد التيمي عن محمد بن العزيز، أن أبا بكر الصديق حين حضرته الوفاة كتب عهده وبعث به مع عثمان بن عفان ورجل من الأنصار ليقرآه على الناس فلما اجتمع الناس قاما فقالا: «هذا عهد أبي بكر فإن تقرّوا به نقرأه، وإن تنكروه نرجعه» فقال:
بسم الله الرحمن الرحيم: هذا عهد أبي بكر بن أبي قحافة عند آخر عهده بالدنيا خارجا منها، وأول عهده بالآخرة داخلا فيها، حيث يؤمن الكافر، ويتقي الفاجر، ويصدق الكاذب، أمّرت عليكم عمر بن الخطاب، فإن عدل واتقى فذاك ظني به ورجائي فيه، وإن بدّل وغيّر، فالخير أردت، ولا يعلم الغيب إلا الله.
قال أبو صالح: أخبر محمد بن وضاح، قال: حدثني محمد بن رمح بن مهاجر التّجيبي، قال: حدثني الليث بن سعد عن علوان عن صالح بن كيسان عن حميد بن عبد الرحمن بن عوف عن أبيه، أنه دخل على أبي بكر رضي الله عنه في مرضه الذي توفي فيه، فأصابه مفيقا، فقال: أصبحت بحمد الله بارئا.
قال أبو بكر: أتراه؟
قال: نعم.
قال: أما إني على ذلك لشديد الوجع، ولمّا لقيت منكم يا معشر المهاجرين أشدّ عليّ من وجعي؛ إني ولّيت أمركم خيركم في نفسي، فكلكم ورم من ذلك أنفه، يريد أن يكون له الأمر من دونه، ورأيتم الدنيا مقبلة ولن تقبل، وهي مقبلة حتى تتخذوا ستور الحرير ونضائد الديباج، وتألمنّ الاضطجاع على الصوف الأذربيّ «1» ،(5/20)
كما يألم أحدكم الاضطجاع على شوك السعدان، والله لأن يقدّم أحدكم فيضرب عنقه في غير حدّ، خير له من أن يخوض في غمرة الدنيا، ألا وإنكم أول ضال بالناس غدا فتصدونهم عن الطريق يمينا وشمالا، يا هادي الطريق جرت، إنما هو الفجر أو البحر.
قال: فقلت له: خفّض عليك يرحمك الله، فإن هذا يهيضك «1» على ما بك؛ إنما الناس في أمرك بين رجلين: إما رجل رأى ما رأيت فهو معك، وإما رجل خالفك فهو يشير عليك برأيه، وصاحبك كما تحب، ولا نعلمك أردت إلا الخير، ولم تزل صالحا مصلحا، مع أنك لا تأسى على شيء من الدنيا.
فقال: أجل، إني لا آسي على شيء من الدنيا إلا على ثلاث فعلتهن، وودت أني تركتهن، وثلاث تركتهن وودت أني فعلتهن، وثلاث وددت أني سألت رسول الله صلّى الله عليه وسلم عنهن:
فأما الثلاث التي فعلتهن ووددت أني تركتهن: فوددت أني لم أكشف بيت فاطمة عن شيء؛ وإن كانوا أغلقوه على الحرب، ووددت أني لم أكن حرّقت الفجاءة السلمى، وأني قتلته سريحا أو خليته نجيحا «2» ، ووددت أني يوم سقيفة بني ساعدة قدفت الأمر في عنق أحد الرجلين، فكان أحدهما أميرا وكنت له وزيرا. يعني بالرجلين: عمر بن الخطاب، وأبا عبيدة بن الجراح.
وأما الثلاث التي تركتهن ووددت أني فعلتهن: فوددت أني يوم أتيت بالأشعث بن قيس أسيرا ضربت عنقه، فإنه يخيل إليّ أنه لا يرى شرا إلا أعان عليه؛ ووددت أني يوم سيّرت خالد بن الوليد إلى أهل الردة أقمت بذي القصّة «3» ؛ فإن ظفر المسلمون ظفروا، وإن انهزموا كنت بصدد لقاء أو مدد؛ ووددت أني وجهت خالد بن الوليد(5/21)
إلى الشام، ووجّهت عمر بن الخطاب إلى العراق، فأكون قد بسطت يديّ كلتيهما في سبيل الله.
وأما الثلاث التي وددت أني سألت رسول الله صلّى الله عليه وسلم عنهن: فإني وددت أني سألته:
لمن هذا الأمر من بعده؟ فلا ينازعه أحد؛ وأني سألته: هل للأنصار في هذا الأمر نصيب؟ فلا يظلموا نصيبهم منه؛ ووددت أني سألته عن بنت الأخ والعمة، فإن في نفسي منهما شيئا.
[عمر بن الخطاب]
نسب عمر بن الخطاب وصفته
أبو الحسن علي بن محمد قال: هو عمر بن الخطاب بن نفيل بن عبد العزى ابن رياح بن عبد الله بن قرط بن رزاح بن عدي بن كعب بن لؤي بن غالب بن فهر بن مالك، وأمه حنتمة بنت هاشم بن المغيرة بن عبد الله بن عمر بن مخزوم، وهاشم هو ذو الرمحين.
قال أبو الحسن: كان عمر رجلا آدم مشربا حمرة طويلا أصلع، له حفافان حسن الخدين والأنف والعينين، غليظ القدمين والكفين، مجدول اللحم، حسن الخلق، ضخم الكراديس «1» ، أعسر يسر «2» ، إذا مشى كأنه راكب.
ولي الخلافة يوم الثلاثاء لثمان بقين من جمادي الآخرة سنة ثلاث عشرة من التاريخ.
وطعن لثلاث بقين من ذي الحجة سنة ثلاث وعشرين من التاريخ، فعاش ثلاثة أيام، ويقال سبعة أيام.
معدان بن أبي حفصة، قال: قتل عمر يوم الأربعاء لأربع بقين من ذي الحجة سنة ثلاث وعشرين، وهو ابن ثلاث وستين سنة في رواية الشعبي؛ ولها مات أبو بكر، ولها مات النبي صلّى الله عليه وسلم.(5/22)
فضائل عمر بن الخطاب
أبو الأشهب عن الحسن، قال: عاتب عيينة عثمان، فقال له: كان عمر خيرا لنا منك، أعطانا فأغنانا وأخشانا فأتقانا.
وقيل لعثمان: مالك لا تكون مثل عمر؟ قال: لا أستطيع أن أكون مثل لقمان الحكيم.
القاسم بن عمر قال: كان إسلام عمر فتحا، وهجرته نصرا، وإمارته رحمة.
وقيل إن عمر خطب امرأة من ثقيف، وخطبها المغيرة؛ فزوجوها المغيرة، فقال النبي صلّى الله عليه وسلم: «ألا زوّجتم عمر، فإنه خير قريش أوّلها وآخرها، إلا ما جعل الله لرسوله؟» .
الحسن بن دينار عن الحسن، قال: ما فضل عمر أصحاب رسول الله صلّى الله عليه وسلم أنه كان أطولهم صلاة وأكثرهم صياما، ولكنه كان أزهدهم في الدنيا وأشدّهم في أمر الله.
وتظلم رجل من بعض عمال عمر وادعى أنه ضربه وتعدّى عليه، فقال: اللهم إني لا أحل لهم أشعارهم ولا أبشارهم «1» ؛ كل من ظلمه أميره فلا أمير عليه دوني. ثم أقاده «2» منه.
عوانة عن الشعبي قال: كان عمر يطوف في الأسواق، ويقرأ القرآن، ويقضي بين الناس حيث أدركه الخصوم.
وقال المغيرة بن شعبة وذكر عمر، فقال: كان والله له فضل يمنعه من أن يخدع، وعقل يمنعه من أن ينخدع.
وقال عمر: لست بخبّ ولا الخب «3» يخدعني.(5/23)
عكرمة عن ابن عباس، قال: بينما أنا أمشي مع عمر بن الخطاب في خلافته وهو عامد لحاجة له وفي يده الدّرّة «1» وأنا أمشي خلفه وهو يحدث نفسه ويضرب وحشي «2» قدميه بدرّته، إذ التفت إليّ فقال: يا ابن عباس، أتدري ما حملني على مقالتي التي قلت يوم توفى رسول الله صلّى الله عليه وسلم؟ قلت: لا. قال: الذي حملني على ذلك أني كنت أقرأ هذه الآية: وَكَذلِكَ جَعَلْناكُمْ أُمَّةً وَسَطاً لِتَكُونُوا شُهَداءَ عَلَى النَّاسِ وَيَكُونَ الرَّسُولُ عَلَيْكُمْ شَهِيداً
«3» ؛ فو الله إن كنت لأظن أن رسول الله صلّى الله عليه وسلم سيبقى في أمته حتى يشهد علينا بأحنف أعمالنا؛ فهو الذي دعاني إلى ما قلت.
ابن دأب قال: قال ابن عباس: خرجت أريد عمر في خلافته، فألفيته راكبا على حمار قد أرسنه بحبل أسود، وفي رجليه نعلان مخصوفتان. وعليه إزار قصير، وقميص قصير قد انكشفت منه ساقاه؛ فمشيت إلى جنبه وجعلت أجبذ الإزار عليه، فجعل يضحك ويقول: إنه لا يطيعك. حتى أتى العالية، فصنع له قوم طعاما من خبز ولحم فدعوه إليه، وكان عمر طائما، فجعل ينبذ «4» إليّ الطعام ويقول: كل لي ولك! ومن حديث ابن وهب عن الليث بن سعد، أن أبا بكر لم يكن يأخذ من بيت المال شيئا ولا يجري عليه من الفيء درهما، إلا أنه استلف منه مالا، فلما حضرته الوفاة أمر عائشة بردّه. وأما عمر بن الخطاب فكان يجري على نفسه درهمين كل يوم. فلما ولي عمر بن عبد العزيز قيل له: لو أخذت ما كان يأخذ عمر بن الخطاب! قال:
كان عمر لا مال له، وأنا مالي يغنيني. فلم يأخذ منه شيئا.
أبو حاتم عن الأصمعي قال: قال عمر وقام على الرّدم «5» : أين حقّك يا أبا سفيان مما هنا؟ قال: ما تحت قدميك إليّ. قال: طالما كنت قديم الظلم! ليس لأحد فيما وراء قدمي حق، وإنما هي منازل الحاج(5/24)
قال الأصمعي: وكان رجل من قريش قد تقدم صدر من داره عن قدمي عمر، فهدمه وأراد أن يغوّر البئر، فقيل له: البئر للناس منفعة. فتركها.
قال الأصمعي: إذا ودع الحاج ثم بات خلف قدمي عمر، لم أر عليه أن يرجع يقول: قد خرج من مكة.
مقتل عمر
أبو الحسن: كان للمغيرة بن شعبة غلام نصراني يقال له فيروز أبو لؤلؤة، وكان نجارا لطيفا، وكان خراجه ثقيلا، فشكا إلى عمر ثقل الخراج وسأله أن يكلم مولاه أن يخفف عنه من خراجه، فقال له: وكم خراجك؟ قال: ثلاثة دراهم في كل شهر. قال: وما صناعتك؟ قال نجار. قال: ما أرى هذا ثقيلا في مثل صناعتك.
فخرج مغضبا فاستلّ خنجرا محدود الطرفين، وكان عمر قد رأى في المنام ديكا أحمر ينقره ثلاث نقرات؛ فتأوّله رجل من العجم يطعنه ثلاث طعنات، فطعنه أبو لؤلؤة بخنجره ذلك في صلاة الصبح ثلاث طعنات، إحداها بين سرته وعانته، فخرقت الصفاق «1» ، وهي التي قتلته؛ وطعن في المسجد معه ثلاثة عشر رجلا مات منهم سبعة، فأقبل رجل من بني تميم يقال له حطان، فألقى كساء عليه ثم احتضنه فلما علم العلج «2» أنه مأخوذ طعن نفسه وقدّم عمر صهيبا يصلي بالناس، فقرأ بهم في صلاة الصبح: قل هو الله أحد، في الركعة الأولى؛ وقل يا أيها الكافرون، في الركعة الثانية؛ واحتمل عمر إلى بيته، فعاش ثلاثة أيام ثم مات، وقد كان استأذن عائشة أن يدفن في بيتها مع صاحبيه، فأجابته وقالت: والله لقد كنت أردت ذلك المضجع لنفسي، ولأوثرنّ به اليوم على نفسي! فكانت ولاية عمر عشر سنين.
صلى عليه صهيب بين القبر والمنبر، ودفن عند غروب الشمس.(5/25)
كاتبه: زيد بن ثابت وكتب له معيقيب أيضا.
وحاجبه: يرفأ مولاه.
وخازنه: يسار.
وعلى بيت ماله: عبد الله بن أرقم.
وقال الليث بن سعد: كان عمر أوّل من جنّد الأجناد، ودوّن الدواوين، وجعل الخلافة شورى بين ستّة من المسلمين، وهم: علي، وعثمان، وطلحة، والزبير، وسعد ابن أبي وقاص، وعبد الرحمن بن عوف؛ ليختاروا منهم رجلا يولونه أمر المسلمين، وأوصى أن يحضر عبد الله بن عمر معهم، وليس له من أمر الشورى شيء.
أمر الشورى في خلافة عثمان بن عفان
صالح بن كيسان قال: قال ابن عباس: دخلت على عمر في أيام طعنته وهو مضطجع على وسادة من أدم «1» ، وعنده جماعة من أصحاب النبي صلّى الله عليه وسلم؛ فقال له رجل؛ ليس عليك بأس! قال:
لئن لم يكن عليّ اليوم ليكونن بعد اليوم. وإن للحياة لنصيبا من القلب، وإن للموت لكربة، وقد كنت أحبّ أن أنجّي نفسي وأنجو منكم، وما كنت من أمركم إلا كالغريق يرى الحياة فيرجوها ويخشى أن يموت دونها، فهو يركض بيديه ورجليه، وأشدّ من الغريق الذي يرى الجنة والنار وهو مشغول. ولقد تركت زهرتكم كما هي ما لبستها فأخلقتها، وثمرتكم يانعة في أكمامها ما أكلتها، وما جنيت ما جنيت إلا لكم، وما تركت ورائي درهما ما عدا ثلاثين أو أربعين درهما.
ثم بكى وبكى الناس معه، فقلت: يا أمير المؤمنين، أبشر، فو الله لقد مات رسول الله صلّى الله عليه وسلم وهو عنك راض، ومات أبو بكر وهو عنك راض، وإن المسلمين رضوان عنك.(5/26)
قال: المغرور والله من غررتموه؛ أما والله لو أن لي ما بين المشرق والمغرب لافتديت به من هول المطّلع.
داود بن أبي هند عن قتادة قال: لما ثقل عمر قال لولده عبد الله: ضع خدّي على الأرض. فكره أن يفعل ذلك، فوضع عمر خدّه على الأرض وقال: ويل لعمر، ولأمّ عمر، إن لم يعف الله عنه! أبو أمية بن يعلى عن نافع قال: قيل لعبد الله بن عمر: تغسّل الشهداء؟ قال: كان عمر أفضل الشهداء، فغسّل وكفن وصلّي عليه.
يونس عن الحسن وهشام بن عروة عن أبيه قالا: لما طعن عمر بن الخطاب قيل له:
يا أمير المؤمنين، لو استخلفت! قال:
إن تركتكم فقد ترككم من هو خير مني، وإن استخلفت فقد استخلف عليكم من هو خير مني؛ ولو كان أبو عبيدة بن الجراح حيا لاستخلفته، فإن سألني ربي قلت: سمعت نبيك يقول: إنه أمين هذه الأمة. ولو كان سالم مولى أبي حذيفة حيّا لاستخلفته، فإن سألني ربي قلت: سمعت نبيّك يقول: إن سالما ليحبّ الله حبّا لو لم يخفه ما عصاه.
قيل له: فلو أنك عهدت إلى عبد الله، فإنه لها أهل في دينه وفضله وقديم إسلامه؟
قال: بحسب آل الخطاب أن يحاسب منهم رجل واحد عن أمّة محمد-[ولوددت أني نجوت من هذا الأمر كفافا لا لي ولا عليّ.
ثم راحوا فقالوا: يا أمير المؤمنين، لو عهدت! فقال: قد كنت أجمعت بعد مقالتي لكم أن أولّي رجلا أمركم أرجو أن يحملكم على الحق- وأشار إلى عليّ- ثم رأيت أن لا أتحمّلها حيّا وميّتا؛ فعليكم بهؤلاء الرهط الذين قال فيهم النبي صلّى الله عليه وسلم: إنهم من أهل الجنة. منهم: سعيد بن زيد بن(5/27)
عمرو بن نفيل، ولست مدخله فيهم؛ ولكن الستة: علي، وعثمان ابنا عبد مناف؛ وسعد، وعبد الرحمن بن عوف خال رسول الله صلّى الله عليه وسلم؛ والزبير حواريّ رسول الله صلّى الله عليه وسلم وابن عمته، وطلحة الخير؛ فليختاروا منهم رجلا، فإذا ولوكم واليا فأحسنوا مؤازرته.
فقال العباس لعليّ: لا تدخل معهم. قال: أكره الخلاف. قال: إذن ترى ما تكره! فلما أصبح عمر دعا عليا وعثمان وسعدا والزبير وعبد الرحمن، ثم قال: إني نظرت فوجدتكم رؤساء الناس وقادتهم، ولا يكون هذا الأمر إلا فيكم، وإني لا أخاف الناس عليكم، ولكني أخافكم على الناس؛ وقد قبض رسول الله صلّى الله عليه وسلم وهو عنكم راض، فاجتمعوا إلى حجرة عائشة بإذنها، فتشاوروا واختاروا منكم رجلا، وليصلّ بالناس صهيب ثلاثة أيام، ولا يأت اليوم الرابع إلا وعليكم أمير منكم، ويحضركم عبد الله مشيرا ولا شيء له من الأمر، وطلحة شريككم في الأمر فإن قدم في الأيام الثلاثة فأحضروه أمركم، وإن مضت الأيام الثلاثة قبل قدومه فأمضوا أمركم. ومن لي بطلحة؟ فقال سعد: أنا لك به إن شاء الله.
ثم قال لأبي طلحة الأنصاري: يا أبا طلحة، إن الله قد أعزّ بكم الإسلام، فاختر خمسين رجلا من الأنصار وكونوا مع هؤلاء الرهط حتى يختاروا رجلا منهم.
وقال للمقداد بن الأسود الكندي: إذا وضعتموني في حفرتي فاجمع هؤلاء الرهط حتى يختاروا رجلا منهم.
وقال لصهيب: صلّ بالناس ثلاثة أيام، وأدخل عليا وعثمان والزبير وسعدا وعبد الرحمن وطلحة إن حضر، بيت عائشة، واحضر عبد الله بن عمر وليس له من الأمر شيء، وقم على رءوسهم؛ فإن اجتمع خمسة على رأي واحد وأبي واحد فاشدخ «1»(5/28)
رأسه بالسيف، وإن اجتمع أربعة فرضوا وأبي اثنان فاضرب رأسيهما، فإن رضي ثلاثة رجلا وثلاثة رجلا فحكّموا عبد الله بن عمر؛ فإن لم يرضوا بعبد الله فكونوا مع الذين فيهم عبد الرحمن بن عوف واقتلوا الباقين، إن رغبوا عما اجتمع عليه الناس. وخرجوا.
فقال عليّ لقوم معه من بني هاشم: إن أطيع فيكم قومكم فلن يؤمّركم أبدا.
وتلقاه العباس فقال له: عدلت عنا؟ قال له وما أعلمك؟ قال: قرن بي عثمان ثم قال ثلاثة رجلا وثلاثة رجلا إن رضي فكونوا مع الذين فيهم عبد الرحمن بن عوف؛ فسعد لا يخالف ابن عمه عبد الرحمن وعبد الرحمن صهر عثمان، لا يختلفون فلو كان الآخران معي ما نفعاني.
فقال العباس: لم أدفعك في شيء إلا رجعت إلي مستاخرا بما أكره: أشرت عليك عند وفاة رسول الله صلّى الله عليه وسلم أن تسأله: فيمن هذا الأمر؟ فأبيت؛ وأشرت عليك بعد وفاة رسول الله صلّى الله عليه وسلم أن تعاجل الأمر، فأبيت، وأشرت عليك حين سماك عمر في الشورى أن لا تدخل معهم، فأبيت؛ فاحفظ عني واحدة: كل ما عرض عليك القوم فأمسك، إلى أن يولوك؛ واحذر هذا الرهط؛ فإنهم لا يبرحون يدفعوننا عن الأمر حتى يقوم لنا به غيرنا.
فلما مات عمر واخرجت جنازته، تصدى علي وعثمان، أيهما يصلي عليه؛ فقال عبد الرحمن: كلا كما يحب الإمرة!، لستما من هذا في شيء؛ هذا صهيب استخلفه عمر يصلي بالناس ثلاثا حتى يجتمع الناس على إمام. فصلى عليه صهيب.
فلما دفن عمر جمع المقداد بن الأسود أهل الشورى في بيت عائشة بإذنها، وهم خمسة معهم ابن عمر، وطلحة غائب، وأمروا أبا طلحة فحجبهم؛ وجاء عمرو بن العاص والمغيرة بن شعبة فجلسا بالباب، فحصبهما «1» سعد وأقامهما، وقال: تريدان أن تقولا: حضرنا وكنا من أهل الشورى!(5/29)
فتنافس القوم في الأمر، وكثر بينهم الكلام، كل يرى أنه أحق بالأمر؛ فقال أبو طلحة: أنا كنت لأن تدفعوها أخوف مني لأن تنافسوها! لا والذي ذهب بنفس عمر، لا أزيدكم على الأيام الثلاثة التي أمر بها عمرو أو أجلس في بيتي.
فقال عبد الرحمن: أيكم يخرج منها نفسه، ويتقلدها على أن يوليها أفضلكم فلم يجبه أحد؛ فقال. فأنا أنخلع منها. قال عثمان. أنا أول من رضي؟ فإني سمعت رسول الله صلّى الله عليه وسلم يقول. عبد الرحمن أمين في الأرض، أمين في السماء. فقال القوم:
رضينا. وعليّ ساكت، فقال: ما تقول يا أبا الحسن: قال. أعطني موثقا لتؤثرنّ الحق، ولا تتبع الهوى، ولا تخص ذا رحم، ولا تألو الأمة نصحا. قال: أعطوني مواثيقكم على أن تكونوا معي على من نكل، وأن ترضوا بما أخذت لكم فتوثق بعضهم من بعض وجعلوها إلى عبد الرحمن، فخلا بعلي فقال: إنك أحقّ بالأمر لقرابتك وسابقتك وحسن أثرك، ولم تبعد؛ فمن أحق بها بعدك من هؤلاء؟ قال:
عثمان. ثم خلا بعثمان فسأله عن مثل ذلك؛ فقال: علي. ثم خلا بسعد فقال: عثمان. ثم خلا بالزبير فقال: عثمان، فقال عمار بن ياسر لعبد الرحمن: إن أردت.
أبو الحسن قال: لما خاف عليّ بن أبي طالب عبد الرحمن بن عوف والزبير وسعدا أن يكونوا مع عثمان، لقي سعدا ومعه الحسن والحسين، فقال له: أسألك برحم ابنيّ هذين من رسول الله صلّى الله عليه وسلم، وبرحم عمي حمزة منك ألّا تكون مع عبد الرحمن ظهيرا عليّ لعثمان؛ فإني أولي إليك بما لا يدلي به عثمان.
ثم دار عبد الرحمن لياليه تلك على مشايخ قريش يشارهم، فكلهم يشير بعثمان؛ حتى إذا كان في الليلة التي استكمل في صبيحتها الأجل، أتى منزل المسور بن مخرمة بعد هجعة من الليل، فأيقظه فقال: ألا أراك إلا نائما ولم أذق في هذه الليالي نوما! فانطلق فادع لي الزبير وسعدا. فدعا بهما؛ فبدأ بالزبير في مؤخرة المسجد، فقال له: خلّ ابني عبد مناف لهذا الأمر. فقال: نصيبي لعليّ. فقال لسعد: أنا وأنت كلالة «1» ، فاجعل نصيبك لي فأختار. قال: أما إن اخترت نفسك فنعم، وأما إن(5/30)
اخترت عثمان فعليّ أحبّ إليّ منه. قال: يا أبا إسحق، إني قد خلعت نفسي منها على أن أختار، ولو لم أفعل وجعل إليّ الخيار ما أردتها؛ إني رأيت كأني في روضة خضراء كثيرة العشب؛ فدخل فحل لم أر قطّ فحلا أكرم منه، فمرّ كأنه سهم لا يلتفت إلى شيء مما في الروضة حتى قطعها؛ ودخل بعير يتلوه فاتبع أثره حتى خرج من الروضة، ثم دخل فحل عبقري يجر خطامه «1» يلتفت يمينا وشمالا ويمضي قصد الأولين، حتى خرج من الروضة؛ ثم دخل بعير رابع فرتع في الروضة؛ ولا والله لا أكون البعير الرابع؛ ولا يقوم بعد أبي بكر وعمر أحد فيرضى الناس عنه! ثم أرسل المسوّر إلى عليّ فناجاه طويلا، وهو لا يشك أنه صاحب الأمر، ثم أرسل المسور إلى عثمان فناجاه طويلا حتى فرق بينهما أذان الصبح.
فلما صلوا الصبح جمع إليه الرهط وبعث إلى من حضره من المهاجرين والأنصار، وإلى أمراء الأجناد، حتى ارتج المسجد بأهله؛ فقال: أيها الناس إن الناس قد أحبوا أن تلحق أهل الأمصار بأمصارهم وقد علموا من أميرهم. فقال عمار بن ياسر: إن أردت أن لا يختلف المسلمون فبايع عليا. فقال المقداد بن الأسود: صدق عمار، إن بايعت عليا، قلنا: سمعنا وأطعنا! قال ابن أبي سرح إن أردت أن لا تختلف قريش فبايع عثمان. فقال عبد الله بن أبي ربيعة صدق؛ إن بايعت عثمان سمعنا وأطعنا! فشتم عمار ابن أبي سرح، وقال: متى كنت تنصح المسلمين! فتكلم بنو هاشم وبنو أمية.
فقال عمار: أيها الناس، إن الله أكرمنا بنبيه، وأعزنا بدينه فأنّى تصرفون هذا الأمر عن بيت نبيكم؟
فقال له رجل من بني مخزوم: لقد عدوت طورك يا بن سمية، وما أنت وتأمير قريش لأنفسها! فقال سعد بن أبي وقاص: يا عبد الرحمن، افرغ قبل أن يفتتن الناس.(5/31)
فقال عبد الرحمن: إني قد نظرت وشاورت؛ فلا تجعلن أيها الرهط على أنفسكم سبيلا.
ودعا عليا فقال: عليك عهد الله وميثاقه لتعملن بكتاب الله وسنة نبيه وسيرة الخليفتين من بعده؟ قال أعمل بمبلغ علمي وطاقتي.
ثم دعا عثمان فقال: عليك عهد الله وميثاقه لتعملن بكتاب الله وسنة نبيه، وسيرة الخليفتين من بعده؟ فقال: نعم! فبايعه؛ فقال علي: حبوته محاباة، ليس ذا بأول يوم تظاهرتم فيه علينا؛ أما والله ما ولّيت عثمان إلا ليردّ الأمر إليك، والله كلّ يوم هو في شأن.
فقال عبد الرحمن: يا عليّ لا تجعل على نفسك سبيلا، فإني قد نظرت وشاورت الناس، فإذا هم لا يعدلون بعثمان أحدا. فخرج علي وهو يقول: سيبلغ الكتاب أجله.
فقال المقداد: أما والله لقد تركته من الذين يقضون بالحق وبه يعدلون! فقال: يا مقداد، والله لقد اجتهدت للمسلمين. قال: لئن كنت أردت بذلك الله فأثابك الله ثواب المحسنين.
ثم قال المقداد: ما رأيت مثل ما أوتي أهل هذا البيت بعد نبيهم؛ إني لأعجب من قريش أنهم تركوا رجلا ما أقول إن أحدا أعلم منه، ولا أقضى بالعدل، ولا أعرف بالحق؛ أما والله لو أجد أعوانا! فقال له عبد الرحمن: يا مقداد، اتق الله فإني أخشى عليك الفتنة! قال: وقدم طلحة في اليوم الذي بويع فيه عثمان، فقيل له: إن الناس قد بايعوا عثمان. فقال: أكل قريش رضوا به؟ قالوا: نعم. فأتى عثمان فقال له عثمان: أنت عن رأس أمرك. قال طلحة: فإن أبيت أتردّها؟ قال: نعم. قال: أكل الناس بايعوك؟
قال: نعم. قال: قد رضيت، لا أرغب عما اجتمعت الناس عليه. وبايعه.
وقال المغيرة بن شعبة لعبد الرحمن: يا أبا محمد، قد أصبت إذا بايعت عثمان، ولو(5/32)
بايعت غيره ما رضيناه. قال: كذبت يا أعور! لو بايعت غيره لبايعته وقلت هذه المقالة.
وقال عبد الله بن عباس: ما شيت عمر بن الخطاب يوما، فقال لي: يا بن عباس، ما يمنع قومكم منكم وأنتم أهل البيت خاصة؟ قلت: لا أدري! قال: لكني أدري؛ إنكم فضلتموهم بالنبوة، فقالوا: إن فضلوا بالخلافة مع النبوة لم يبقوا لنا شيئا، وإنّ أفضل النصيبين بأيدكم، بل ما إخالها إلا مجتمعة لكم وإن نزلت على رغم قريش.
فلما أحدث عثمان ما أحدث من تأمير الأحداث من أهل بيته على الجلة «1» من أصحاب محمد، قيل لعبد الرحمن: هذا عملك! قال: ما ظننت هذا! ثم مضى، ودخل عليه وعاتبه، وقال: إنما قدّمتك على أن تسير فينا بسيرة أبي بكر وعمر، فخلفتهما وحابيت أهل بيتك وأوطأتهم رقاب المسلمين. فقال: إن عمر كان يقطع قرابته في الله، وأنا أصل قرابتي في الله. قال عبد الرحمن: لله عليّ ألا أكلّمك أبدا! فلم يكلمه أبدا حتى مات. ودخل عليه عثمان عائدا»
له في مرضه، فتحوّل عنه إلى الحائط ولم يكلمه.
ذكروا أن زيادا أوفد ابن حصين على معاوية، فأقام عنده ما أقام، ثم إن معاوية بعث إليه ليلا فخلا به، فقال له: يا ابن حصين، قد بلغني أن عندك ذهنا وعقلا؛ فأخبرني عن شيء أسألك عنه قال: سلني عما بدا لك. أخبرني ما الذي شتّت أمر المسلمين وفرّق أهواءهم وخالف بينهم؟ قال: نعم، قتل النّاس عثمان قال: ما صنعت شيئا. قال: فمسير عليّ إليك وقتاله إياك. قال: ما صنعت شيئا قال: فمسير طلحة والزبير وعائشة وقتال عليّ إياهم قال ما صنعت شيئا. قال: ما عندي غير هذا يا أمير المؤمنين. قال: فأنا أخبرك، إنه لم يشتت بين المسلمين ولا فرّق أهواءهم ولا خالف بينهم إلا الشورى التي جعلها عمر إلى ستة نفر؛ وذلك أن الله بعث محمدا بالهدى ودين الحق ليظهره على الدين كله ولو كره المشركون، فعمل بما أمره الله به ثم قبضه(5/33)
الله إليه، وقدّم أبا بكر للصلاة فرضوه لأمر دنياهم إذ رضيه رسول الله صلّى الله عليه وسلم لأمر دينهم، فعمل بسنة رسول الله صلّى الله عليه وسلم، وسار بسيره حتى قبضه الله، واستخلف عمر فعمل بمثل سيرته، ثم جعلها شورى بين ستة نفر، فلم يكن رجل منهم إلا رجاها لنفسه، ورجاها له قومه، وتطلعت إلى ذلك نفسه: ولو أن عمر استخلف عليهم كما استخلف أبو بكر ما كان في ذلك اختلاف. وقال المغيرة بن شعبة: إني لعند عمر بن الخطاب ليس عنده أحد غيري، إذ أتاه آت فقال: هل لك يا أمير المؤمنين في نفر من أصحاب رسول الله صلّى الله عليه وسلم يزعمون أن الذي فعل أبو بكر في نفسه وفيك لم يكن له، وأنه كان بغير مشورة ولا مؤامرة؟ وقالوا تعالوا نتعاهد ألا نعود إلى مثلها. قال عمر: وأين هم؟ قال: في دار طلحة. فخرج نحوهم وخرجت معه وما أعلمه يبصرني من شدّة الغضب، فلما رأوه كرهوه وظنوا الذي جاء له، فوقف عليهم وقال: أنتم القائلون ما قلتم؟ والله لن تتحابوا حتى يتحابّ الأربعة: الإنسان والشيطان، يغويه وهو يلعنه؛ والنار والماء يطفئها وهي تحرقه؛ ولم يأن لكم بعد وقد آن ميعادكم ميعاد المسيح متى هو خارج. قال: فتفرقوا فسلك كل واحد منهم طريقا؛ قال المغيرة:
ثم قال لي: أدرك ابن أبي طالب فاحبسه عليّ. فقلت: لا يفعل أمير المؤمنين وهو مغدّ «1» ، فقال: أدركه وإلا قلت لك يا بن الدباغة. قال: فأدركته فقلت له: قف مكانك لإمامك واحلم، فإنه سلطان وسيندم وتندم. قال: فأقبل عمر فقال: والله ما خرج هذا الامر إلا من تحت يدك. قال عليّ: اتق أن لا تكون الذي نعطيك فنفتنك. قال: وتحب أن تكون هو؟ قال: لا، ولكننا نذكرك الذي نسيت. فالتفت إليّ عمر فقال: انصرف فقد سمعت منا عند الغضب ما كفاك. فتنحيت قريبا، وما وقفت إلا خشية أن يكون بينهما شيء فأكون قريبا، فتكلما كلاما غير غضبانين ولا راضين ثم رأيتهما يضحكان وتفرّقا؛ وجاءني عمر، فمشيت معه وقلت: يغفر الله لك، أغضبت؟ قال: فأشار إلى عليّ وقال: أما والله لولا دعابة فيه ما شككت في ولايته وإن نزلت على رغم أنف قريش.(5/34)
العتبي عن أبيه: أن عتبة بن أبي سفيان قال: كنت مع معاوية في دار كندة، إذ أقبل الحسن والحسين ومحمد، بنو علي بن أبي طالب، فقلت: يا أمير المؤمنين إن لهؤلاء القوم أشعارا وأبشارا، وليس مثلهم كذب، وهم يزعمون أن أباهم كان يعلم. فقال:
إليك من صوتك فقد قرب القوم، فإذا قاموا فذكرني بالحديث، فلما قاموا قلت: يا أمير المؤمنين ما سألتك عنه من الحديث؟ قال: كل القوم كان يعلم وكان أبوهم من أعلمهم. ثم قال: قدمت على عمر بن الخطاب، فإني عنده إذ جاءه عليّ وعثمان وطلحة والزبير وسعد وعبد الرحمن بن عوف فاستأذنوا، فأذن لهم، فدخلوا وهم يتدافعون ويضحكون، فلما رآهم عمر نكس «1» ، فعلموا أنه على حاجة، فقاموا كما دخلوا؛ فلما قاموا أتبعهم بصره فقال: فتنة أعوذ بالله من شرّهم، وقد كفاني الله شرهم! قال: ولم يكن عمر بالرجل يسأل عما لا يفسّر؛ فلما خرجت جعلت طريقي على عثمان؛ فحدثته الحديث وسألته الستر، قال: نعم، على شريطة. قلت: هي لك. قال:
تسمع ما أخبرك به وتسكت إذا سكتّ. قلت: نعم. قال: ستة يقدح بينهم زناد الفتنة، يجري الدم منهم على أربعة. قال: ثم سكت، وخرجت إلى الشام، فلما قدمت على عمر فحدث من أمره ما حدث- فلما مضت الشورى- ذكرت الحديث؛ فأتيت بيت عثمان وهو جالس وبيده قضيب فقلت: يا أبا عبد الله، تذكر الحديث الذي حدثتني؟ قال: فأزم «2» على القضيب عضّا؛ ثم أقلع عنه وقد أثر فيه، فقال: ويحك يا معاوية! أي شيء ذكرتني! لولا أن يقول الناس: خاف أن يؤخذ عليه، لخرجت إلى الناس منها! قال: فأبى قضاء الله إلا ما ترى.
ومما نقم الناس على عثمان: أنه آوى طريد رسول الله صلّى الله عليه وسلم الحكم بن أبي العاص- ولم يؤوه أبو بكر ولا عمر- وأعطاه مائة ألف؛ وسيّر أبا ذرّ إلى الرّبذة، وسيّر عامر ابن عبد قيس من البصرة إلى الشام؛ وطلب منه عبد الله بن خالد بن أسيد صلة فأعطاه أربعمائة ألف؛ وتصدّق رسول الله صلّى الله عليه وسلم بمهزون- موضع سوق المدينة- على(5/35)
المسلمين، فأقطعها الحرث بن الحكم أخا مروان؛ وأقطع فدك مروان، وهي صدقة لرسول الله صلّى الله عليه وسلم؛ وافتتح أفريقية؛ فأخذ خمس الفيء فوهبه لمروان؛ فقال عبد الرحمن بن حسل الجمحي:
فأحلف بالله ربّ الأنا ... م ما ترك الله شيئا سدى
ولكن خلقت لنا فتنة ... لكي نبتلى بك أو تبتلى
فإنّ الأمينين قد بيّنا ... منارا لحقّ عليه الهدى
فما أخذا درهما غيلة ... وما تركا درهما في هوى
وأعطيت مروان خمس العبا ... د هيهات شأوك ممّن شأى
[عثمان]
نسب عثمان وصفته
هو عثمان بن عفان بن أبي العاص بن أمية بن عبد شمس بن عبد مناف، وأمه أروى بنت كريز بن ربيعة بن حبيب بن عبد شمس: وأمها [أمّ حكيم] البيضاء ابنة عبد المطلب بن هاشم عمة النبي صلّى الله عليه وسلم.
وكان عثمان أبيض مشربا صفرة، كأنه فضة وذهب؛ حسن القامة، حسن الساعدين، سبط «1» الشعر، أصلع الرأس، أجمل الناس إذا اعتمّ، مشرف الأنف، عظيم الأرنبة، كثير شعر الساقين والذراعين، ضخم الكراديس، بعيد ما بين المنكبين.
ولما أسنّ شدّ أسنانه بالذهب، وسلسل بوله فكان يتوضأ لكل صلاة.
ولي الخلافة منسلخ ذي الحجة سنة ثلاث وعشرين.
وقتل يوم الجمعة صبيحة عيد الأضحى سنة خمس وثلاثين.
وفي ذلك يقول حسان:
ضحّوا بأشمط عنوان السّجود به ... يقطّع الليل تسبيحا وقرآنا «2»
لتسمعنّ وشيكا في ديارهم ... الله أكبر يا ثارات عثمانا(5/36)
فكانت ولايته اثنتي عشرة سنة وستة عشر يوما، [ومات] وهو ابن أربع وثمانين سنة.
وكان على شرطته- وهو أول من اتخذ صاحب شرطة- عبيد الله بن قنفذ، وعلى بيت المال، عبد الله بن أرقم، ثم استعفاه؛ وكاتبه مروان، وحاجبه حمران مولاه.
فضائل عثمان
سالم بن عبد الله بن عبد الله بن عمر قال: أصاب الناس مجاعة في غزوة تبوك، فاشترى عثمان طعاما على ما يصلح العسكر، وجهز به عيرا «1» ؛ فنظر النبي صلّى الله عليه وسلم إلى سواد مقبل. فقال: هذا جمل أشقر قد جاءكم بميرة. فأنيخت الركائب «2» ، فرفع رسول الله صلّى الله عليه وسلم يديه إلى السماء وقال: اللهم إني قد رضيت عن عثمان فارض عنه! وكان عثمان حليما سخيا محبّبا إلى قريش، حتى كان يقال:
أحبّك والرحمن ... حبّ قريش لعثمان
وزوّجه النبي صلّى الله عليه وسلم رقية ابنته، فماتت عنده؛ فزوّجه أم كلثوم ابنته أيضا.
الزهري عن سعيد بن المسيّب، قال: لما ماتت رقية جزع عثمان عليها، وقال: يا رسول الله، انقطع صهري منك! قال: إن صهرك مني لا ينقطع، وقد أمرني جبريل أن أزوّجك أختها بأمر الله.
عبد الله بن عباس قال: سمعت عثمان بن عفان يقول: دخل عليّ رسول الله صلّى الله عليه وسلم في هذا البيت، فرآني ضجيعا لأم كلثوم، فاستعبر، فقلت: والذي بعثك بالحق ما أضجعت عليه أنثى بعدها! فقال: ليس لهذا استعبرت؛ فإن الثياب للحي وللميت الحجر؛ ولو كن يا عثمان عشرا لزوّجتكهن واحدة بعد واحدة.(5/37)
وعرض عمر بن الخطاب ابنته حفصة على عثمان، فأبى منها؛ فشكاه عمر إلى النبي صلّى الله عليه وسلم، فقال: «سيزوّج الله ابنتك خيرا من عثمان، ويزوّج عثمان خيرا من ابنتك» ! فتزوج رسول الله صلّى الله عليه وسلم حفصة، وزوّج ابنته عثمان بن عفان.
ومن حديث الشعبي أن النبي عليه السلام دخل عليه عثمان فسوّى ثوبه عليه، وقال:
«كيف لا أستحي ممن تستحي منه الملائكة» .
مقتل عثمان بن عفان
الرياشي عن الأصمعي قال: كان القواد الذين ساروا إلى المدينة في أمر عثمان أربعة: عبد الرحمن بن عديس البلويّ، وحكيم بن جبلة العبدي، والأشتر النخعي، وعبد الله بن بديل الخزاعي، فقدموا المدينة فحاصروه، وحاصره معهم قوم من المهاجرين والأنصار حتى دخلوا عليه فقتلوه والمصحف بين يديه، وهو يقرأ يوم الجمعة صبيحة النحر، وأرادوا أن يقطعوا رأسه ويذهبوا به، فرمت نفسها عليه امرأتاه: نائلة بنت الفرافصة، و [رملة] ابنة شيبة بن ربيعة، فتركوه وخرجوا.
فلما كان ليلة السبت انتدب لدفنه رجال، منهم جبير بن مطعم، وحكيم بن حزام، وأبو الجهم بن حذيفة، وعبد الله بن الزبير، فوضعوه على باب صغير، وخرجوا به إلى البقيع، ومعهم نائلة بنت الفرافصة بيدها السراج، فلما بلغوا به البقيع منعهم من دفنه فيه رجال من بني ساعدة، فردّوه إلى حشّ كوكب، فدفنوه فيه. وصلى عليه جبير بن مطعم؛ ويقال: حكيم بن حزام؛ ودخلت القبر نائلة بنت الفرافصة، وأم البنين بنت عيينة، زوجتاه، وهما دلّتاه في القبر.
والحش: البستان. وكان حش كوكب اشتراه عثمان، فجعله أولاده مقبرة للمسلمين.
يعقوب بن عبد الرحمن، عن محمد بن عيسى الدمشقي، عن محمد بن عبد الرحمن ابن أبي ذئب، عن محمد بن شهاب الزهري، قال: قلت لسعيد بن المسيب: هل(5/38)
أنت مخبري كيف قتل عثمان: ما كان شأن الناس وشأنه، ولم خذله أصحاب محمد صلّى الله عليه وسلم؟
فقال: قتل عثمان مظلوما، ومن قتله كان ظالما، ومن خذله كان معذورا.
قلت: وكيف ذاك؟
قال: إن عثمان لما ولي كره ولايته نفر من أصحاب رسول الله صلّى الله عليه وسلم؛ لأن عثمان كان يحب قومه، فولي الناس اثنتي عشرة سنة، وكان كثيرا ما يولّي بني أمية، ممن لم يكن له من رسول الله صلّى الله عليه وسلم صحبة، وكان يجيء من أمرائه ما ينكره أصحاب محمد، فكان يستعتب فيهم فلا يعزلهم؛ فلما كان في الحجج الآخرة استأمر بني عمه فخرجوا، فولاهم وأمرهم بتقوى الله وولى عبد الله بن أبي سرح مصر، فمكث عليها سنين، فجاء أهل مصر يشكونه ويتظلمون منه. ومن قبل ذلك كانت من عثمان هناة إلى عبد الله بن مسعود، وأبي ذر، وعمار بن ياسر، فكانت هذيل وبنو زهرة في قلوبهم ما فيها لابن مسعود، وكانت بنو غفار وأحلافها ومن غضب لأبي ذر في قلوبهم ما فيها، وكانت بنو مخزوم قد حنقت على عثمان بما نال عمار بن ياسر، وجاء أهل مصر يشكون من ابن سرح، فكتب إليه عثمان كتابا يتهدد، فأبى ابن سرح أن يقبل ما نهاه عثمان عنه، وضرب رجلا ممن أتى عثمان فقتله، فخرج من أهل مصر سبعمائة رجل إلى المدينة، فنزلوا المسجد، وشكوا إلى أصحاب رسول الله صلّى الله عليه وسلم في مواقيت الصلاة ما صنع ابن أبي سرح؛ فقام طلحة بن عبيد الله فكلم عثمان بكلام شديد، وأرسلت إليه عائشة: قد تقدم إليك أصحاب رسول الله صلّى الله عليه وسلم وسألوك عزل هذا الرجل فأبيت أن تعزله، فهذا قد قتل منهم رجلا؛ فأنصفهم من عاملك. ودخل عليه عليّ وكان متكلّم القوم. فقال: إنما سألوك رجلا مكان رجل، وقد ادّعوا قبله دما؛ فاعزله عنهم، واقض بينهم، وإن وجب عليه حق فأنصفهم منه. فقال لهم:
اختاروا رجلا أولّه عليكم مكانه. فأشار الناس عليه بمحمد بن أبي بكر فقالوا:
استعمل علينا محمد بن أبي بكر. فكتب عهده وولّاه، وأخرج معهم عدة من المهاجرين والأنصار ينظرون فيما بين أهل مصر وابن أبي سرح، فخرج محمد ومن معه؛ فلما كان(5/39)
على مسيرة ثلاثة أيام من المدينة، إذا هم بغلام أسود على بعير يخبط الأرض خبطا كأنه رجل يطلب أو يطلب، فقال له أصحاب محمد: ما قصتك وما شأنك؟ كأنك هارب أو طالب! فقال: أنا غلام أمير المؤمنين، وجّهني إلى عامل مصر. فقالوا: هذا عامل مصر معنا. قال: ليس هذا أريد. وأخبر بأمره محمد بن أبي بكر، فبعث في طلبه فأتي به؛ فقال له: غلام من أنت؟ قال: فأقبل مرة يقول: غلام أمير المؤمنين، ومرة: غلام مروان؛ حتى عرفه رجل منهم أنه لعثمان، فقال له محمد: إلى من أرسلت؟ قال: إلى عامل مصر. قال: بماذا؟ قال: برسالة. قال: معك كتاب؟ قال:
لا. ففتشوه فلم يوجد مع شيء إلا إداوة «1» قد يبست فيها شيء يتقلقل، فحركوه ليخرج فلم يخرج، فشقّوا الإداوة، فإذا فيها كتاب من عثمان إلى ابن أبي سرح، فجمع محمد من كان معه من المهاجرين والأنصار وغيرهم، ثم فك الكتاب بمحضر منهم، فإذا فيه:
إذا جاءك محمد وفلان فاحتل لقتلهم، وأبطل كتابهم، وقرّ على عملك حتى يأتيك رأيي، واحتبس من جاء يتظلم منك، ليأتيك في ذلك رأيي إن شاء الله.
فلما قرءوا الكتاب فزعوا وعزموا على الرجوع إلى المدينة، وختم محمد الكتاب بخواتم القوم الذين أرسلوا معه، ودفعوا الكتاب إلى رجل منهم، وقدموا المدينة، فجمعوا عليا وطلحة والزبير وسعدا ومن كان من أصحاب رسول الله صلّى الله عليه وسلم؛ ثم فكوا الكتاب بمحضر منهم وأخبروهم بقصة الغلام، وأقرءوهم الكتاب فلم يبق أحد في المدينة إلا حنق على عثمان، وازداد من كان منهم غاضبا لابن مسعود وأبي ذر وعمار بن ياسر، غضبا وحنقا؛ وقام أصحاب النبي عليه السلام فلحقوا منازلهم، ما منهم أحد إلا وهو مغتمّ بما قرءوا في الكتاب، وحاصر الناس عثمان، وأجلب عليه محمّد بن أبي بكر بني تيم وغيرهم وأعانه طلحة بن عبيد الله على ذلك، وكانت عائشة تحرّضه كثيرا، فلما رأى ذلك عليّ بعث إلى طلحة والزبير وسعد وعمار، ونفر من(5/40)
أصحاب رسول الله صلّى الله عليه وسلم، كلّهم بدريّ؛ ثم دخل على عثمان ومعه الكتاب والغلام والبعير، وقال له عليّ: هذا الغلام غلامك؟ قال: نعم. والبعير بعيرك؟ قال: نعم والخاتم خاتمك؟ قال: نعم. قال: فأنت كتبت الكتاب؟ قال: لا! وحلف بالله: ما كتبت الكتاب، ولا أمرت به، ولا وجهت الغلام إلى مصر قطّ. وأما الخط فعرفوا أنه خط مروان، فشكّوا في أمر عثمان، وسألوه أن يدفع إليهم مروان؛ فأبى؛ وكان مروان عنده في الدار؛ فخرج أصحاب محمد من عنده غضابا، وشكوا في أمر عثمان وعلموا أنه لا يحلف باطلا، إلا أن قوما قالوا: لا نبريء عثمان، إلا أن يدفع إلينا مروان، حتى نمتحنه ونعرف أمر هذا الكتاب، وكيف يأمر بقتل رجال من أصحاب محمد صلّى الله عليه وسلم بغير حق! فإن يك عثمان كتبه عزلناه، وإن يك مروان كتبه على لسانه نظرنا في أمره. ولزموا بيوتهم، وأبي عثمان أن يخرج إليهم مروان وخشي عليه القتل، وحاصر الناس عثمان ومنعوه الماء؛ فأشرف عليهم؛ فقال: أفيكم عليّ؟ قالوا: لا.
قال: فيكم سعد؟ قالوا: لا. فسكت ثم قال: ألا أحد يبلغ عليا فيسقينا ماء؟ فبلغ ذلك عليا، فبعث إليه ثلاث قرب مملوءة ماء، فما كادت تصل إليه، وجرح من سببها عدة من موالي بن هاشم وبني أمية حتى وصل إليه الماء؛ فبلغ عليا أن عثمان يراد قتله، فقال: إنما أردنا منه مروان، فأما قتل عثمان فلا. وقال للحسن والحسين: اذهبا بسيفيكما حتى تقوما على باب عثمان، فلا تدعا أحدا يصل إليه بمكروه. وبعث الزبير ولده، وبعث طلحة ولده على كره منه، وبعث عدة من أصحاب رسول الله صلّى الله عليه وسلم أبناءهم ليمنعوا الناس أن يدخلوا على عثمان، وسألوه إخراج مروان. ورمى الناس عثمان بالسهام حتى خضب الحسن بن علي بالدماء على بابه، وأصاب مروان سهم في الدار، وخضب محمد بن طلحة، وشجّ قنبر مولى عليّ، وخشي محمد بن أبي بكر أن تغضب بنو هاشم لحال الحسن والحسين فيثيرونها فأخذ بيدي رجلين فقال لهما: إذا جاءت بنو هاشم فرأوا الدماء على وجه الحسن والحسين كشف الناس عن عثمان وبطل ما نريد، ولكن مروا بنا حتى نتسوّر «1» عليه الدار فنقتله من غير أن يعلم أحد.(5/41)
فتسوّر محمد بن أبي بكر وصاحباه من دار رجل من الأنصار. ويقال: من دار عمرو ابن حزم الأنصاري، ومما يدل على ذلك قول الأحوص:
لا ترثينّ لحزميّ ظفرت به ... طرّا ولو طرح الحزمي في النار
الباخسين «1» بمروان بذي خشب ... والمدخلين على عثمان في الدار
فدخلوا عليه وليس معه إلا امرأته نائلة بنت الفرافصة؛ والمصحف في حجره، ولا يعلم أحد ممن كان معه، لأنهم كانوا على البيوت، فتقدّم إليه محمد [ابن أبي بكر] وأخذ بلحيته. فقال له عثمان: أرسل لحيتي يا بن أخي، فلو رآك أبوك لساءه مكانك! فتراخت يده عن لحيته، وغمز الرجلين فوجآه بمشاقص «2» معهما حتى قتلاه، وخرجوا هاربين من حيث دخلوا؛ وخرجت امرأته فقالت: إن أمير المؤمنين قد قتل! فدخل الحسن والحسين ومن كان معهما فوجدوا عثمان مذبوحا؛ فأكبّوا عليه يبكون.
وبلغ الخبر عليا وطلحة والزبير وسعدا ومن كان بالمدينة: فخرجوا وقد ذهبت عقولهم حتى دخلوا على عثمان فوجدوه مقتولا؛ فاسترجعوا؛ وقال علي لابنيه: كيف قتل أمير المؤمنين وأنتما على الباب؟ ورفع يده فلطم الحسين وضرب صدر الحسن، وشتم محمد ابن طلحة، ولعن عبد الله بن الزبير؛ ثم خرج عليّ وهو غضبان، يرى أن طلحة أعان عليه، فلقيه طلحة فقال: مالك يا أبا الحسن ضربت الحسن والحسين؟ فقال عليك وعليهما لعنة الله! يقتل أمير المؤمنين ورجل من أصحاب النبي صلّى الله عليه وسلم بدريّ ولم تقم بينة ولا حجة؟ فقال طلحة: لو دفع مروان لم يقتل. فقال: لو دفع مروان قتل قبل أن تثبت عليه حجة! وخرج عليّ فأتى منزله؛ وجاءه القوم كلهم يهرعون إليه:
أصحاب محمد وغيرهم، يقولون أمير المؤمنين علي بن أبي طالب. فقال: ليس ذلك إلا لأهل بدر، فمن رضي به أهل بدر فهو خليفة. فلم يبق أحد من أهل بدر إلا أتى عليا، فقالوا: ما نرى أحدا أولى بها منك، فمدّ يدك نبايعك. فقال: أين طلحة والزبير؟ فكانا. أول من بايعه، طلحة بلسانه، وسعد بيده.(5/42)
فلما رأى ذلك عليّ خرج إلى المسجد فصعد المنبر؛ فكان أول من صعد طلحة فبايعه بيده، وكانت أصبعه شلّاء، فتطير منها عليّ، وقال: ما أخلقه أن ينكث! ثم بايعه الزبير وسعد وأصحاب النبي جميعا؛ ثم نزل، ودعا الناس، وطلب مروان فهرب منه.
وخرجت عائشة باكية تقول: قتل عثمان مظلوما! فقال لها عمار: أنت بالأمس تحرضين عليه، واليوم تبكين عليه! وجاء عليّ إلى امرأة عثمان فقال لها: من قتل عثمان؟ قالت: لا أدري، دخل رجلان لا أعرفهما إلا أن أرى وجوههما، وكان معهما محمد بن أبي بكر. وأخبرته بما صنع محمد بن أبي بكر؛ فدعا عليّ بمحمد، فسأله عما ذكرت امرأة عثمان، فقال محمد: لم تكذب؛ وقد والله دخلت عليه وأنا أريد قتله، فذكر لي أبي، فقمت وأنا تائب، والله ما قتلته ولا أمسكته! فقالت امرأة عثمان:
صدق، ولكنه أدخلهما.
المعتمر عن أبيه عن الحسن، أن محمد بن أبي بكر أخذ بلحية عثمان، فقال له: يا ابن أخي؛ لقد قعدت مني مقعدا ما كان أبوك ليقعده! وفي حديث آخر أنه قال: يابن أخي، لو رآك أبوك لساءه مكانك! فاسترخت يده. وخرج محمد فدخل عليه رجل والمصحف في حجره، فقال له: بيني وبينك كتاب الله! فخرج وتركه، ثم دخل عليه آخر، فقال: بيني وبينك كتاب الله! فأهوى إليه بالسيف، فاتقاه بيده، فقطعها؛ فقال: أما إنها أول يد خطّت المفصّل «1» .
القوّاد الذين أقبلوا إلى عثمان
الأصمعي عن أبي عوانة قال: كان القواد الذين أقبلوا إلى عثمان: علقمة بن عثمان، وكنانة بن بشر، وحكيم بن جبلة، والأشتر النخعي، وعبد الله بن بديل.
وقال أبو الحسن: لما قدم القواد قالوا لعليّ: قم معنا إلى هذا الرجل. قال: لا(5/43)
والله لا أقوم معكم. قالوا: فلم كتبت إلينا؟ قال: والله ما كتبت إليكم كتابا قط. قال: فنظر القوم بعضهم إلى بعض، وخرج عليّ من المدينة.
الأعمش عن عيينة عن مسروق قال: قالت عائشة: مصتموه موص «1» الإناء حتى تركتموه كالثوب الرخيض «2» ، نقيّا من الدنس؛ ثم عدوتم فقتلتموه! قال مروان:
فقلت لها: هذا عملك، كتبت إلى الناس تأمرينهم بالخروج عليه! فقالت: والذي آمن به المؤمنون وكفر به الكافرون، ما كتبت إليهم بسواد في بياض، حتى جلست في مجلسي هذا.
فكانوا يرون أنه كتب على لسان عليّ، وعلى لسانها، كما كتب أيضا على لسان عثمان مع الأسود إلى عامل مصر؛ فكان اختلاق هذه الكتاب كلها سببا للفتنة.
وقال أبو الحسن: أقبل أهل مصر عليهم عبد الرحمن بن عديس البلوى، وأهل البصرة عليهم حكيم بن جبلة العبدي، وأهل الكوفة عليهم الأشتر- واسمه مالك بن الحارث النخعي- في أمر عثمان، حتى قدموا المدينة.
قال أبو الحسن: لما قدم وفد أهل مصر، دخلوا على عثمان فقالوا: كتبت فينا بكذا وكذا؟ قال: إنما هما اثنتان: أن تقيموا رجلين من المسلمين، أو يميني بالله الذي لا إله إلا هو ما كتبت ولا أمليت ولا علمت؛ وقد يكتب الكتاب على لسان الرجل، وينقش الخاتم على الخاتم. قالوا: قد أحل الله دمك! وحصروه في الدار، فأرسل عثمان إلى الأشتر فقال: ما يريد الناس مني؟ قال: واحدة من ثلاث ليس عنها بدّ.
قال: ما هي؟ قال: يخيّرونك بين أن تخلع لهم أمرهم، فتقول: هذا أمركم فقلّدوه من شئتم؛ وإما أن تقتص من نفسك؛ فإن أبيت [هاتين] فالقوم قاتلوك. قال: أما أن أخلع لهم أمرهم فما كنت لأخلع سربالا سر بلنيه الله فتكون سنة من بعدي، كلما كره القوم إمامهم خلعوه: وأما أن أقتص من نفسي فو الله لقد علمت أن صاحبي بين(5/44)
يدي قد كانا يعاقبان، وما يقوى بدني على القصاص؛ وأما أن تقتلوني، فلئن قتلتموني لا تتحابون بعدي أبدا، ولا تصلون بعدي جميعا أبدا.
وقال أبو الحسن: فو الله لن يزالوا على النوى «1» جميعا وإن قلوبهم مختلفة.
وقال أبو الحسن: أشرف عليهم عثمان وقال: إنه لا يحل سفك دم امريء مسلم إلا في إحدى ثلاث: كفر بعد إيمان، أو زنا بعد إحصان، أو قتل نفس بغير نفس؛ فهل أنا في واحدة منهن؟ فما وجد القوم له جوابا. ثم قال: أنشدكم الله، هل تعلمون أن رسول الله صلّى الله عليه وسلم كان على أحد ومعه تسعة من أصحابه أنا أحدهم فتزلزل الجبل حتى همت أحجاره أن تتساقط، فقال: اسكن أحد فما عليك إلا نبي أو صديق أو شهيد؟ قالوا: اللهم نعم. قال: شهدوا لي ورب الكعبة.
قال أبو الحسن: أشرف عليهم عثمان فقال: السلام عليكم. فما ردّ أحد عليه السلام، فقال: أيها الناس، إن وجدتم في الحق أن تضعوا رجلي في القبر فضعوها فما وجد القوم له جوابا؛ ثم قال: أستغفر الله إن كنت ظلمت وقد غفرت إن كنت ظلمت! يحيى بن سعيد عن عبد الله بن عامر بن ربيعة قال: كنت مع عثمان في الدار، فقال: أعزم على كل من رأى أن لي عليه سمعا وطاعة أن يكفّ يده ويلقي سلاحه.
فألقى القوم أسلحتهم.
ابن أبي عروبة عن قتادة، أن زيد بن ثابت دخل على عثمان يوم الدار، فقال: إن هذه الأنصار بالباب وتقول: إن شئت كنا أنصار الله مرتين! قال: لا حاجة لي في ذلك؛ كفوا.
ابن أبي عروبة عن يعلى بن حكيم عن نافع، أن عبد الله بن عمر لبس درعه وتقلد سيفه يوم الدار، فعزم عليه عثمان أن يخرج ويضع سلاحه ويكف يده، ففعل.(5/45)
محمد بن سيرين قال: قال سليط: نهانا عثمان عنهم، ولو أذن لنا عثمان فيهم لضربناهم حتى نخرجهم من أقطارنا.
ما قالوا في قتلة عثمان
العتبي: قال رجل من بني ليث: لقيت الزبير قادما، فقلت: أبا عبد الله، ما بالك؟
قال: مطلوب مغلوب، يغلبني ابني ويطلبني ذنبي! قال: فقدمت المدينة فلقيت سعد بن أبي وقاص، فقلت: أبا إسحق، من قتل عثمان؟ قال: قتله سيف سلّته عائشة، وشحذه طلحة، وسمّه علي! قلت: فما حال الزبير؟ قال: أشار بيده، وصمت بلسانه.
وقالت عائشة: قتل الله مذمّما بسعيه على عثمان- تريد محمدا أخاها- وأهرق دم ابن بديل على ضلالته، وساق إلى أعين بني تميم هوانا في بيته، ورمى الأشتر بسهم من سهامه لا يشوى: قال: ما منهم أحد إلا أدركته دعوة عائشة.
سفيان الثوري قال: لقي الأشتر مسروقا فقال له: أبا عائشة، مالي أراك عضبان على ربك من يوم قتل عثمان بن عفان؟ لو رأيتنا يوم الدار ونحن كأصحاب عجل بني إسرائيل.
وقال سعد بن أبي وقاص لعمار بن ياسر: لقد كنت عندنا من أفاضل أصحاب محمد، حتى [إذا] لم يبق من عمرك إلا ظمء «1» الحمار فعلت وفعلت! يعرض له بقتل عثمان، قال عمار: أي شيء أحب إليك: مودة على دخل أو هجر جميل قال: هجر جميل! قال: فلله عليّ أن لا أكلّمك أبدا! دخل المغيرة بن شعبة على عائشة فقالت: يا أبا عبد الله لو رأيتني يوم الجمل قد نفذت النصال هودجي حتى وصل بعضها إلى جلدي! قال لها المغيرة: وددت والله أن بعضها كان قتلك! قالت يرحمك الله! ولم تقول هذا؟ قال: لعلها تكون كفّارة في سعيك على عثمان! قالت: أما والله لئن قلت ذلك لما علم الله أني أردت قتله، ولكن(5/46)
علم الله أني أردت أن يقاتل فقوتلت، وأردت أن يرمى فرميت، وأردت أن يعصى فعصيت؛ ولو علم مني أني أردت قتله لقتلت.
وقال حسان بن ثابت لعلي: إنك تقول: ما قتلت عثمان ولكن خذلته، ولم آمر به ولكن لم أنه عنه. فالخاذل شريك القاتل، والساكت شريك القائل.
أخذ هذا المعنى كعب بن جعيل التغلبي وكان مع معاوية يوم صفين، فقال في علي بن أبي طالب:
وما في عليّ لمستحدث ... مقال سوى عصمة المحدثينا
وإثاره لأهالي الذنوب ... ورفع القصاص عن القاتلينا
إذا سيل عنه زوى وجهه ... وعمّى الجواب على السائلينا «1»
فليس براض ولا ساخط ... ولا في النهاة ولا الآمرينا
ولا هو ساه ولا سرّه ... ولا آمن بعض ذا أن يكونا
وقال رجل من أهل الشام في قتلة عثمان رضي الله تعالى عنه:
خذلته الأنصار إذ حضر المو ... ت وكانت ثقاته الأنصار
ضربوا بالبلاء فيه مع النّا ... س وفي ذاك للبرية عار
حرمة بالبلاء من حرمة الله ... ووال من الولاة وجار
أين أهل الحياء إذ منع الما ... ء فدته الأسماع والأبصار
من عذيري من الزبير ومن طلحة ... هاجا أمرا له إعصار «2»
تركوا الناس دونهم عبرة العجل ... فشبت وسط المدينة نار
هكذا زاغت اليهود عن الحقّ ... بما زخرفت لها الأحبار
ثم وافى محمد بن أبي بكر ... جهارا وخلفه عمّار
وعليّ في بيته يسأل النا ... س ابتداء وعنده الأخبار!(5/47)
باسطا للتي يريد يديه ... وعليه سكنة ووقار
يرقب الأمر أن يزفّ إليه ... بالذي سبّبت له الأقدار
قد أرى كثرة الكلام قبيحا ... كل قول يشينه إكثار
وقال حسان يرثي عثمان بن عفان رضي الله تعالى عنه:
من سره الموت صرفا لا مزاح له ... فليأت مأسدة في دار عثمانا «1»
صبرا فدى لكم أمّي وما ولدت ... قد ينفع الصبر في المكروه أحيانا
لعلكم أن تروا يوما بمغيظة ... خليفة الله فيكم كالذي كانا
إني لمنهم وإن غلبوا وإن شهدوا ... ما دمت حيّا وما سمّيت حسّانا «2»
يا ليت شعري وليت الطّير تخبرني ... ما كان شأن عليّ وابن عفّانا
لتسمعنّ وشيكا في ديارهم ... الله أكبر يا ثارات عثمانا
ضحّوا بأشمط عنوان السّجود به ... يقطّع الليل تسبيحا وقرآنا
في مقتل عثمان بن عفان
أبو الحسن عن مسلمة عن ابن عون قال: كان ممن نصر عثمان سبعمائة، فيهم الحسن بن علي، وعبد الله بن الزبير؛ ولو تركهم عثمان لضربوهم حتى يخرجوهم من أقطارها.
أبو الحسن عن جبير بن سيرين قال: دخل ابن بديل على عثمان وبيده سيف، وكانت بينهما شحناء «3» ، فضربه بالسيف، فاتقاه بيده، فقطعها، فقال: أما إنها أول كف خطّت المفصّل.
أبو الحسن قال: يوم قتل عثمان يقال له يوم الدار. وأغلق على ثلاث من القتل:
غلام أسود كان لعثمان، وكنانة بن بشر، وعثمان.(5/48)
أبو الحسن قال: قال سلامة بن روح الخزاعي لعمرو بن العاص: كان بينكم وبين الفتنة باب فكسرتموه، فما حملكم على ذلك؟ قال: أردنا أن نخرج الحق من حفيرة الباطل، وأن يكون الناس في الحق سواء.
مجالد عن الشعبي قال: كتب عثمان إلى معاوية: أن امددني. فأمدّه بأربعة آلاف مع يزيد بن أسد بن كرز البجلي. فتلقاه الناس بقتل عثمان، فانصرف، فقال: لو دخلت المدينة وعثمان حي ما تركت بها مختلفا إلا قتلته؛ لأن الخاذل والقاتل سواء.
قيس بن رافع قال: قال زيد بن ثابت: رأيت عليّا مضطجعا في المسجد، فقلت.
أبا الحسن، إن الناس يرون أنك لو شئت رددت الناس عن عثمان. فجلس ثم قال:
والله ما أمرتهم بشيء ولا دخلت في شيء من شأنهم. قال: فأتيت عثمان فأخبرته، فقال:
وحرّق قيس عليّ البلا ... د حتى إذا اضطرمت أجذما «1»
الفضل عن كثير عن سعيد المقبري قال. لما حصروا عثمان ومنعوه الماء، قال الزبير: وَحِيلَ بَيْنَهُمْ وَبَيْنَ ما يَشْتَهُونَ كَما فُعِلَ بِأَشْياعِهِمْ مِنْ قَبْلُ
«2» ! ومن حديث الزهري قال: لما قتل مسلم بن عقبة أهل المدينة يوم الحرّة، قال عبد الله بن عمر: بفعلهم في عثمان وربّ الكعبة! ابن سيرين عن ابن عباس قال: لو أمطرت السماء دما لقتل عثمان لكان قليلا له! أبو سعيد مولى أبي حذيفة قال: بعث عثمان إلى أهل الكوفة: من كان يطالبني بدينار أو درهم أو لطمة فيأت يأخذ حقه أو يتصدق، فإن الله يجزي المتصدقين.
قال: فبكى بعض القوم، وقالوا: تصدّقنا! ابن عون عن ابن سيرين قال: لم يكن أحد من أصحاب النبي صلّى الله عليه وسلم أشدّ على عثمان من طلحة!(5/49)
أبو الحسن قال: كان عبد الله بن عباس يقول: ليغلبنّ معاوية وأصحابه عليا وأصحابه؛ لأن الله تعالى يقول: وَمَنْ قُتِلَ مَظْلُوماً فَقَدْ جَعَلْنا لِوَلِيِّهِ سُلْطاناً
«1» .
أبو الحسن قال: كان ثمامة الأنصاري عاملا لعثمان، فلما أتاه قتله بكى وقال:
اليوم انتزعت خلافة النّبوّة من أمّة محمد، وصار الملك بالسيف، فمن غلب على شيء أكله.
أبو الحسن: عن أبي مخنف عن نمير بن وعلة عن الشعبي، أن نائلة بنت الفرافصة امرأة عثمان بن عفان كتبت إلى معاوية كتابا مع النعمان بن بشير، وبعثت إليه بقميص عثمان مخضوبا بالدماء، وكان في كتابها:
«من نائلة بنت الفرافصة إلى معاوية بن أبي سفيان؛ أما بعد، فإني أدعوكم إلى الله الذي أنعم عليكم، وعلمكم الإسلام، وهداكم من الضلالة، وأنقذكم من الكفر ونصركم على العدوّ، وأسبغ عليكم نعمه ظاهرة وباطنة؛ وأنشدكم الله، وأذكّركم حقّه وحق خليفته أن تنصروه بعزم الله عليكم؛ فإنه قال: وَإِنْ طائِفَتانِ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ اقْتَتَلُوا فَأَصْلِحُوا بَيْنَهُما فَإِنْ بَغَتْ إِحْداهُما عَلَى الْأُخْرى فَقاتِلُوا الَّتِي تَبْغِي حَتَّى تَفِيءَ إِلى أَمْرِ اللَّهِ
«2» . وإن أمير المؤمنين بغي عليه، ولو لم يكن لعثمان عليكم إلا حقّ الولاة، [ثم أتي إليه ما أتي] لحقّ على كل مسلم يرجو إمامته أن ينصره فكيف وقد علمتم قدمه في الإسلام، وحسن بلائه، وأنه أجاب [داعي] الله وصدّق كتابه واتّبع رسوله، والله علم به إذ انتخبه فأعطاه شرف الدنيا وشرف الآخرة.
وإني أقص عليكم خبره؛ إني شاهدة أمره كلّه. إن أهل المدينة حصروه في داره، ويحرسونه ليلهم ونهارهم قياما على أبوابه بالسلاح، يمنعونه كل شيء قدروا عليه، حتى منعوه الماء؛ فمكث هو ومن معه خمسين ليلة، وأهل مصر قد أسندوا(5/50)
أمرهم إلى علي، ومحمد بن أبي بكر، وعمار بن ياسر، وطلحة والزبير، فأمروهم بقتله؛ وكان معهم من القبائل: خزاعة، وسعد بن بكر، وهذيل، وطوائف من جهينة ومزينة وأنباط يثرب؛ فهؤلاء كانوا أشدّ الناس عليه.
ثم إنه حصر فرشق بالنّبل والحجارة، فجرح ممن كان في الدار ثلاثة نفر معه، فأتاه الناس يصرخون إليه ليأذن لهم في القتال، فنهاهم وأمرهم أن يردوا إليهم نبلهم، فردّوها عليهم، فما زادهم ذلك في القتل إلا جرأة، وفي الأمر إلا إغراقا؛ فحرّقوا باب الدار؛ ثم جاء [ثلاثة] نفر من أصحابه فقالوا: إن [في المسجد] ناسا يريدون أن يأخذوا أمر الناس بالعدل، فاخرج إلى المسجد يأتوك. فانطلق فجلس فيه ساعة وأسلحة القوم مظلة عليه من كل ناحية، فقال: ما أرى اليوم أحدا يعدل! فدخل الدار، وكان معه نفر ليس على عامتهم سلاح فلبس درعه وقال لأصحابه: لولا أنتم ما لبست اليوم درعي. فوثب عليه القوم فكلمهم ابن الزبير، وأخذ عليهم ميثاقا في صحيفة وبعث بها إلى عثمان: عليكم عهد الله وميثاقه أن لا تقربوه بسوء حتى تكلموه وتخرجوا. فوضع السلاح، ولم يكن إلا وضعه ودخل عليه القوم يقدمهم محمد ابن أبي بكر، فأخذوا بلحيته ودعوه باللقب؛ فقال: أبا عبد الله وخليفته عثمان.
فضربوه على رأسه ثلاث ضربات، وطعنوه في صدره ثلاث طعنات، وضربوه على مقدم الجبين فوق الأنف ضربة أسرعت في العظم؛ فسقطت عليه وقد أثخنوه وبه حياة، وهم يريدون أن يقطعوا رأسه فيذهبوا به، فأتتني ابنة شيبة بن ربيعة فألقت بنفسها معي [عليه] ، فوطئنا وطأ شديدا، وعرّينا من حلينا، وحرمة أمير المؤمنين أعظم؛ فقتلوا أمير المؤمنين في بيته مقهورا على فراشه، وقد أرسلت إليكم بثوبه عليه دمه، وإنه والله إن كان أثم من قتله لما سلم من خذله، فانظروا أين أنتم من الله، وأنا أشتكي على ما مسنا إلى الله عز وجل، وأستصرخ بصالحي عباده؛ فرحم الله عثمان ولعن قتلته وصرعهم في الدنيا مصارع الخزي والمذلة، وشفى منهم الصدور» .
فحلف رجال من أهل الشام ألا يمسوا غسلا حتى يقتلوا عليا أو تفنى أرواحهم(5/51)
وقال الفرزدق في قتل عثمان:
إنّ الخلافة لمّا أظعنت ظعنت ... عن أهل يثرب إذ غير الهدى سلكوا «1»
صارت إلى أهلها منهم ووارثها ... لما رأى الله في عثمان ما انتهكوا
السّافكي دمه ظلما ومعصية ... أيّ دم لا هدوا من غيّهم سفكوا
وقال حسان:
إن تمس دار بني عثمان خاوية ... باب صريع وبيت محرق خرب «2»
فقد يصادف باغي الخير حاجته ... فيها ويأوي إليها المجد والحسب
يا معشر الناس أبدوا ذات أنفسكم ... لا يستوي الحقّ عند الله والكذب
تبرؤ عليّ من دم عثمان
قال علي بن أبي طالب على المنبر: والله لئن لم يدخل الجنة إلا من قتل عثمان لا دخلتها أبدا، ولئن لم يدخل النار إلا من قتل عثمان لا دخلتها أبدا.
وأشرف عليّ من قصر له بالكوفة، فنظر إلى سفينة في دجلة فقال: والذي أرسلها في بحره مسخرة بأمره، ما بدأت في أمر عثمان بشيء، ولئن شاءت بنو أمية لأباهلنّهم «3» عند الكعبة خمسين يمينا ما بدأت في حق عثمان بشيء. فبلغ هذا الحديث عبد الملك بن مروان، فقال: إني لأحسبه صادقا.
وقال معبد الخزاعي: لقيت عليا بعد الجمل، فقلت له إني سائلك عن مسألة كانت منك ومن عثمان، فإن نجوت اليوم نجوت غدا إن شاء الله. قال: سل عما بدا لك. قلت: أخبرني، أي منزلة وسعتك إذ قتل عثمان ولم تنصره؟ قال: إنّ عثمان كان إماما، وإنه نهى عن القتال وقال: من سلّ سيفه فليس مني! فلو قاتلنا دونه عصينا.
قال: فأي منزلة وسعت عثمان إذ استسلم حتى قتل؟ قال: المنزلة التي وسعت ابن آدم،(5/52)
إذ قال لأخيه: لَئِنْ بَسَطْتَ إِلَيَّ يَدَكَ لِتَقْتُلَنِي ما أَنَا بِباسِطٍ يَدِيَ إِلَيْكَ لِأَقْتُلَكَ إِنِّي أَخافُ اللَّهَ رَبَّ الْعالَمِينَ
«1» . قلت: فهلا وسعتك هذه المنزلة يوم الجمل؟ قال: إنا قاتلنا يوم الجمل من ظلمنا، قال الله: وَلَمَنِ انْتَصَرَ بَعْدَ ظُلْمِهِ فَأُولئِكَ ما عَلَيْهِمْ مِنْ سَبِيلٍ إِنَّمَا السَّبِيلُ عَلَى الَّذِينَ يَظْلِمُونَ النَّاسَ وَيَبْغُونَ فِي الْأَرْضِ بِغَيْرِ الْحَقِّ أُولئِكَ لَهُمْ عَذابٌ أَلِيمٌ وَلَمَنْ صَبَرَ وَغَفَرَ إِنَّ ذلِكَ لَمِنْ عَزْمِ الْأُمُورِ
«2» . فقاتلنا نحن من ظلمنا، وصبر عثمان؛ وذلك من عزم الأمور.
ومن حديث بكر بن حماد: أنّ عبد الله بن الكواء سأل عليّ بن أبي طالب يوم صفين، فقال له: أخبرني عن مخرجك هذا تضرب الناس بعضهم ببعض، أعهد عهده إليك رسول الله صلّى الله عليه وسلم، أم رأي ارتأيته؟
قال عليّ: اللهم إني كنت أول من آمن به، فلا أكون أول من كذب عليه؛ لم يكن عندي فيه عهد من رسول الله صلّى الله عليه وسلم، ولو كان عندي فيه عهد من رسول الله صلّى الله عليه وسلم لما تركت أخا تيم وعديّ على منابرها، ولكن نبينا صلّى الله عليه وسلم كان نبيّ رحمة، مرض أياما وليالي، فقدّم أبا بكر على الصلاة، وهو يراني ويرى مكاني، فلما توفي رسول الله صلّى الله عليه وسلم، رضيناه لأمر دنيانا إذ رضيه رسول الله لأمر ديننا، فسلمت له وبايعت، وسمعت وأطعت؛ فكنت آخذ إذا أعطاني، وأغزو إذا أغزاني، وأقيم الحدود بين يديه؛ ثم أتنه منيته، فرأى أن عمر أطوق «3» لهذا الأمر من غيره، وو الله ما أراد به المحاباة ولو أرادها لجعلها في أحد ولديه، فسلمت له وبايعت، وأطعت وسمعت؛ فكنت آخذ إذا أعطاني، وأغزو إذا أغزاني، وأقيم الحدود بين يديه: ثم أتته منيته، فرأى أنه من استخلف رجلا فعمل بغير طاعة الله عذبه الله به في قبره، فجعلها شورى بين ستة نفر من أصحاب رسول الله صلّى الله عليه وسلم، وكنت أحدهم، فأخذ عبد الرحمن مواثيقنا وعهودنا على أن يخلع نفسه وينظر لعامّة المسلمين؛ فبسط يده إلى(5/53)
عثمان فبايعه؛ اللهم إن قلت إني لم أجد في نفسي فقد كذبت، ولكنني نظرت في أمري فوجدت طاعتي قد تقدمت معصيتي، ووجدت الأمر الذي كان بيدي قد صار بيد غيري، فسلمت وبايعت، وأطعت وسمعت: فكنت آخذ إذا أعطاني، وأغزوا إذا أغزاني، وأقيم الحدود بين يديه، ثم نقم الناس عليه أمورا فقتلوه، ثم بقيت اليوم أنا ومعاوية، فأرى نفسي أحقّ بها من معاوية؛ لأني مهاجري وهو أعرابي، وأنا ابن عمّ رسول الله وصهره، وهو طليق ابن طليق» .
قال له عبد الله بن الكواء: صدقت، ولكن طلحة والزبير، أما كان لهما في هذا الأمر مثل الذي لك؟
قال: إن طلحة والزبير بايعاني في المدينة، ونكثا بيعتي بالعراق؛ فقاتلتهما على نكثهما ولو نكثا بيعة أبي بكر وعمر لقاتلاهما على نكثهما كما قاتلتهما. قال: صدقت.
ورجع إليه.
واستعمل عبد الملك بن مروان نافع بن علقمة بن صفوان على مكة، فخطب ذات يوم وأبان بن عثمان قاعد عند أصل المنبر، فنال من طلحة والزبير، فلما نزل قال لأبان: أرضيتك من المدهنين «2» في أمر أمير المؤمنين؟ قال: لا، ولكنك سؤتني، حسبي أن يكونا بريئين من أمره.
وعلى هذا المعنى قال إسحاق بن عيسى: أعيذ عليّا بالله أن يكون قتل عثمان وأعيذ عثمان أن يكون قلته عليّ! وهذا الكلام على مذهب قول النبي صلّى الله عليه وسلم: إن أشد الناس عذابا يوم القيامة رجل قتل نبيّا أو قتله نبيّ.
سعيد بن جبير عن أبي الصهباء، أن رجالا ذكروا عثمان، فقال رجل من القوم:(5/54)
إني أعرف لكم رأي عليّ فيه فدخل الرجل على عليّ فنال من عثمان، فقال على: دع عنك عثمان، فو الله ما كان بأشرّنا، ولكنه ولي فاستأثر، فحرمنا فأساء الحرمان.
وقال عثمان بن حنيف: إني شهدت مشهدا اجتمع فيه علي وعمار ومالك الأشتر وصعصعة، فذكروا عثمان، فوقع فيه عمار، ثم أخذ مالك فحذا حذوه، ووجه عليّ يتمعّر «1» ، ثم تكلم صعصعة. فقال: ما على رجل يقول: كان والله أول من وليّ فاستأثر، وأول من تفرقت عنه هذه الأمة! فقال علي: إليّ أبا اليقظان. لقد سبقت عثمان سوابق لا يعذّبه الله بها أبدا.
محمد بن حاطب قال: قال لي عليّ يوم الجمل، انطلق إلى قومك فأبلغهم كتبي وقولي. فقلت إن قومي إذا أتيتهم يقولون: ما قول صاحبك في عثمان؟ فقال:
أخبرهم أن قولي في عثمان أحسن القول؛ إن عثمان كان من الذين آمنوا وعملوا الصالحات، ثم اتقوا وآمنوا، ثم اتّقوا وأحسنوا، والله يحبّ المحسنين.
جرير بن حازم عن محمد بن سيرين قال: ما علمت أنّ عليا اتّهم في دم عثمان حتى بويع، فلما بويع اتهمه الناس.
محمد بن الحنفية قال: إني عن يمين علي يوم الجمل، وابن عباس عن يساره، إذ سمع صوتا، فقال: ما هذا؟ قالوا: عائشة تلعن قتلة عثمان. فقال عليّ: لعن الله قتلة عثمان في السهل والجبل والبحر والبر.
ما نقم الناس على عثمان
ابن دأب قال: لما أنكر الناس على عثمان ما أنكروا، من تأمير الأحداث من أهل بيته على الجلّة الأكابر من أصحاب محمد صلّى الله عليه وسلم، قالوا لعبد الرحمن بن عوف: هذا عملك واختيارك لأمة محمد! قال: لم أظن هذا به! ودخل على عثمان فقال له: إني إنما قدّمتك على أن تسير فينا بسيرة أبي بكر وعمر، وقد خالفتهما. فقال: عمر كان(5/55)
يقطع قرابته في الله، وأنا أصل قرابتي في الله، فقال له: لله عليّ أن لا أكلّمك أبدا! فمات عبد الرحمن وهو لا يكلّم عثمان.
ولما رد عثمان الحكم بن أبي العاص طريد النبي صلّى الله عليه وسلم وطريد أبي بكر وعمر إلى المدينة، تكلم الناس في ذلك، فقال عثمان: ما ينقم الناس مني؟ إني وصلت رحما وقرّبت قرابة.
حصين بن زيد بن وهب قال: مررنا بأبي ذرّ بالرّبذة، فسألناه عن منزله، فقال:
كنت بالشام، فقرأت هذه الآية وَالَّذِينَ يَكْنِزُونَ الذَّهَبَ وَالْفِضَّةَ وَلا يُنْفِقُونَها فِي سَبِيلِ اللَّهِ فَبَشِّرْهُمْ بِعَذابٍ أَلِيمٍ
«1» فقال معاوية: إنما هي في أهل الكتاب. فقلت:
إنها لفينا وفيهم فكتب إليّ عثمان: أقبل. فلما قدمت ركبتني الناس كأنهم لم يروني قط، فشكوت ذلك إلى عثمان، فقال: لو اعتزلت فكنت قريبا! فنزلت هذا المنزل، فلا أدع قولي، ولو أمّروا عليّ عبدا حبشيا لأطعت.
الحسن بن أبي الحسن عن الزبير بن العوام في هذه الآية: وَاتَّقُوا فِتْنَةً لا تُصِيبَنَّ الَّذِينَ ظَلَمُوا مِنْكُمْ خَاصَّةً
«2» . قال: لقد نزلت وما ندري من يختلف لها. فقال بعضهم: يا أبا عبد الله، فلم جئت إلى البصرة؟ قال: ويحك إننا ننظر ولا نبصر! أبو نضرة عن أبي سعيد الخدري قال: إن ناسا كانوا عند فسطاط «3» عائشة وأنا معهم بمكة، فمرّ بنا عثمان، فما بقي أحد من القوم إلا لعنه غيري؛ فكان فيهم رجل من أهل الكوفة، فكان عثمان على الكوفي أجرأ منه على غيره، فقال: يا كوفي، أتشتمني؟ فلما قدم المدينة كان يتهدده؛ قال: فقيل له: عليك بطلحة. قال: فانطلق معه حتى دخل على عثمان، فقال عثمان: والله لأجلدنه مائة سوط! قال طلحة: والله لا تجلده مائة إلا أن يكون زانيا. قال: والله لأحرمنّه عطاءه! قال: الله يرزقه.
ومن حديث ابن أبي قتيبة عن الأعمش عن عبد الله بن سنان قال: خرج علينا ابن(5/56)
مسعود ونحن في المسجد وكان على بيت مال الكوفة، و [أمير] الكوفة الوليد بن عقبة ابن أبي معيط، فقال: يا أهل الكوفة، فقدت من بيت مالكم الليلة مائة ألف لم يأتني بها كتاب من أمير المؤمنين ولم يكتب لي بها براءة. قال: فكتب الوليد بن عقبة إلى عثمان في ذلك، فنزعه عن بيت المال.
ومن حديث الأعمش يرويه أبو بكر بن أبي شيبة قال: كتب أصحاب عثمان عيبه وما ينقم الناس عليه في صحيفة، فقالوا: من يذهب بها إليه؟ قال عمار: أنا. فذهب بها إليه، فلما قرأها قال: أرغم الله أنفك، قال: وبأنف أبي بكر وعمر. قال: فقام إليه فوطئه حتى عشي عليه، ثم ندم عثمان، وبعث إليه طلحة والزبير يقولان له: اختر إحدى ثلاث: إما أن تعفو، وإما أن تأخذ الأرش «1» ، وإما أن تقتص. فقال: والله لا قبلت واحدة منها حتى ألقى الله! قال أبو بكر: فذكرت هذا الحديث للحسن بن صالح، فقال: ما كان على عثمان أكثر مما صنع.
ومن حديث الليث بن سعد قال: مرّ عبد الله بن عمر بحذيفة، فقال: لقد اختلف الناس بعد نبيهم، فما منهم أحد إلا أعطى من دينه، ما عدا هذا الرجل.
وسئل سعد بن أبي وقاص عن عثمان، فقال: أما والله لقد كان أحسننا وضوءا وأطولنا صلاة، وأتلانا لكتاب الله، وأعظمنا نفقة في سبيل الله ثم ولي فأنكروا عليه شيئا، فأتوا إليه أعظم مما أنكروا.
وكتب عثمان إلى أهل الكوفة حين ولاهم سعيد بن العاص: أما بعد، فإني كنت وليتكم الوليد بن عقبة غلاما حين ذهب شرهه وثاب حلمه، وأوصيته بكم ولم أوصكم به، فلما أعيتكم علانيته طعنتم في سريرته؛ وقد وليتكم سعيد بن العاص وهو خير عشيرته، وأوصيكم به خيرا، فاستوصوا به خيرا.
وكان الوليد بن عقبة أخا عثمان لأمه، وكان عامله على الكوفة، فصلى بهم الصبح(5/57)
ثلاث ركعات وهو سكران، ثم التفت إليهم فقال: وان شئتم زدتكم! فقامت عليه البينة بذلك عند عثمان، فقال لطلحة: قم فاجلده. قال لم أكن من الجالدين. فقام إليه عليّ فجلده.
وفيه يقول الحطيئة:
شهد الحطيئة يوم يلقى ربّه ... أنّ الوليد أحقّ بالعذر
ليزيدهم خيرا ولو قبلوا ... لجمعت بين الشّفع والوتر «1»
مسكوا عنانك إذ جريت ولو ... تركوا عنانك لم تزل تجري
ابن دأب قال: لما أنكر الناس على عثمان ما أنكروا، اجتمعوا إلى علي وسألوه أن يلقى لهم عثمان، فأقبل حتى دخل عليه فقال: إن الناس ورائي قد كلموني أن أكلمك؛ والله ما أدري ما أقول لك؛ ما أعرف شيئا تنكره، ولا أعلمك شيئا تجهله، وما ابن أبي قحافة بأولى بعمل الحق منك، ولا ابن الخطاب بأولى بشيء من الخير منك؛ وما نبصّرك من عمى، وما نعلّمك من جهل، وإن الطريق لبيّن واضح، تعلم يا عثمان أن أفضل الناس عند الله إمام عدل هدي وهدى، فأحيا سنة معلومة، وأمات بدعة مجهولة؛ وأن شر الناس عند الله إمام ضلالة ضلّ وأضلّ، فأحيا بدعة مجهولة، وأمات سنة معلومة؛ وإني سمعت رسول الله صلّى الله عليه وسلم يقول: يؤتى بالإمام الجائر يوم القيامة ليس معه ناصر ولا له عاذر، فيلقى في جهنم فيدور دور الرحى «2» ، يرتطم في غمرة النار إلى آخر الأبد. وأنا أحذرك أن تكون إمام هذه الأمّة المقتول، [فإنه يقال: يقتل في هذه الأمة إمام] يفتح به باب القتل والقتال إلى يوم القيامة يمرج بهم أمرهم ويمرجون. فخرج عثمان، ثم خطب خطبته التي أظهر فيها التوبة.
وكان عليّ كلما اشتكى الناس إليه أمر عثمان، أرسل ابنه الحسن إليه، فلما أكثر(5/58)
عليه قال له: إن أباك يرى أن أحدا لا يعلم ما يعلم، ونحن أعلم بما نفعل، فكف عنا! فلم يبعث عليّ ابنه في شيء بعد ذلك.
وذكروا أن عثمان صلى العصر ثم خرج إلى عليّ يعوده في مرضه ومروان معه، فرآه ثقيلا؛ فقال: أما والله لولا ما أرى منك ما كنت أتكلم بما أريد أن أتكلم به، والله ما أدري أي يوميك أحبّ إليّ أو أبغض، أيوم حياتك أو يوم موتك! أما والله لئن بقيت لا أعدم شامتا يعدّك كنفا «1» ، ويتخذك عضدا «2» ؛ ولئن مت لأفجعن بك؛ فحظي منك حظ الوالد المشفق من الولد العاق: إن عاش عقه، وإن مات فجعه! فليتك جعلت لنا من أمرك علما نقف عليه ونعرفه، إمّا صديق مسالم، وإمّا عدوّ معان، ولم تجعلني كالمختنق بين السماء والأرض، لا يرقى بيد، ولا يهبط برجل! أما والله لئن قتلتك لا أصيب منك خلفا، ولئن قتلتني لا تصيب مني خلفا: وما أحب أن أبقى بعدك!. قال مروان: إي والله، وأخرى، إنه لا ينال ما وراء ظهورنا حتى تكسر رماحنا وتقطع سيوفنا؛ فما خير العيش بعد هذا؟ فضرب عثمان في صدره وقال: ما يدخلك في كلامنا؟ فقال عليّ: إني والله في شغل عن جوابكما، ولكني أقول كما قال أبو يوسف فَصَبْرٌ جَمِيلٌ وَاللَّهُ الْمُسْتَعانُ عَلى ما تَصِفُونَ
«3» .
وقال عبد الله بن العباس: أرسل إليّ عثمان فقال لي: اكفني ابن عمّك! فقلت: إن ابن عمي ليس بالرجل يرى له ولكنه يرى لنفسه، فأرسلني إليه بما أحببت. قال: قل له فليخرج إلى ماله بينبع، فلا أغتم به ولا يغتم بي فأتيت عليا فأخبرته، فقال: ما اتّخذني عثمان إلا ناصحا. ثم أنشد يقول:
فكيف به أنّي أداوي جراحه ... فيدوى فلا مل الدواء ولا الداء
أما والله إنه ليختبر القوم، فأتيت عثمان، فحدّثته الحديث كله إلا البيت الذي أنشده وقوله إنه ليختبر القوم؛ فأنشد عثمان:(5/59)
فكيف به أنّي أداوي جراحه ... فيدوى فلا ملّ الدواء ولا الداء
وجعل يقول: يا رحيم انصرني! يا رحيم انصرني! يا رحيم انصرني! قال: فخرج عليّ إلى ينبع، فكتب إليه عثمان حين اشتدّ الأمر:
أمّا بعد، فقد بلغ السيل الزّبى «1» وجاوز الحزام الطّبيين، وطمع فيّ من كان يضعف عن نفسه:
وإنك لم يفخر عليك كفاخر ... ضعيف ولم يغلبك مثل مغلّب
فأقبل إليّ على أيّ أمريك أحببت، وكن لي أو عليّ، صديقا كنت أو عدوّا.
فإن كنت مأكولا فكن خير آكل ... وإلا فأدركني ولمّا أمزّق
[علي بن أبي طالب رضي الله عنه]
خلافة علي بن أبي طالب رضي الله عنه
قال: لما قتل عثمان بن عفان، أقبل الناس يهرعون إلى علي بن أبي طالب، فتراكمت عليه الجماعة في البيعة، فقال: ليس ذلك إليكم، إنما ذلك لأهل بدر ليبايعوا. فقال: أين طلحة والزبير وسعد؟ فأقبلوا فبايعوا، ثم بايعه المهاجرون والأنصار، ثم بايعه الناس، وذلك يوم الجمعة لثلاث عشرة خلت من ذي الحجة سنة خمس وثلاثين، وكان أول من بايعه طلحة، وكانت أصبعه شلّاء «2» ، فتطير منها عليّ وقال: ما أخلقه أن ينكث! فكان كما قال عليّ رضي الله عنه.
نسب علي بن أبي طالب
هو علي بن أبي طالب بن عبد المطلب بن هاشم بن عبد مناف؛ وأمه فاطمة بنت أسد بن هاشم بن عبد مناف.(5/60)
صفته
كان أصلع بطينا حمش الساقين «1» .
صاحب شرطته: معقل بن قيس الرياحي، ومالك بن حبيب اليربوعي.
وكاتبه سعيد بن نمران، وحاجبه: قنبر مولاه.
وقتل يوم الجمعة بالكوفة، وهو خارج إلى المسجد لصلاة الصبح، لسبع بقين من شهر رمضان، فكانت خلافته أربع سنين وتسعة أشهر، وصلى عليه ولده الحسن، ودفن برحبة الكوفة، ويقال: في لحف «2» الحيرة، وعمى قبره.
واختلف في سنه، وقال الشعبي: قتل عليّ رحمه الله وهو ابن ثمان وخمسين سنة.
وولد عليّ بمكة في شعب بني هاشم.
فضائل علي بن أبي طالب كرّم الله وجهه
أبو الحسن قال: أسلم عليّ وهو ابن خمس عشرة سنة، وهو أول من شهد أن لا إله إلا الله وأنّ محمدا رسول الله.
وقال النبي عليه الصلاة والسلام: من كنت مولاه فعليّ مولاه، اللهم وال من والاه، وعاد من عاداه. وقال له النبي صلّى الله عليه وسلم: أما ترضى أن تكون مني بمنزلة هارون من موسى؟ غير أنه لا نبيّ بعدي.
وبهذا الحديث سمت الشيعة علي بن أبي طالب الوصيّ؛ وتأولوا فيه أنه استخلفه على أمته؛ إذ جعله منه بمنزلة هارون من موسى؛ لأنّ هارون كان خليفة موسى على قومه إذا غاب عنهم.
وقال السيد الحميري رحمه الله تعالى:(5/61)
إني أدين بما دان الوصيّ به ... وشاركت كفّه كفّي بصفّينا
وجمع النبي صلّى الله عليه وسلم فاطمة وعليا والحسن والحسين، فألقى عليهم كساءه وضمهم إلى نفسه؛ ثم تلا هذه الآية إِنَّما يُرِيدُ اللَّهُ لِيُذْهِبَ عَنْكُمُ الرِّجْسَ أَهْلَ الْبَيْتِ وَيُطَهِّرَكُمْ تَطْهِيراً
«1» . فتأولت الشيعة الرجس هنا بالخوض في غمرة الدنيا وكدورتها.
وقال النبي صلّى الله عليه وسلم يوم خيبر: لأعطينّ الراية غدا رجلا يحبّ الله ورسوله؛ ويحبه الله ورسوله، لا يمسي حتى يفتح الله له. فدعا عليا، وكان أرمد، فتفل «2» في عينيه وقال: اللهم قه داء الحرّ والبرد. فكان يلبس كسوة الصيف في الشتاء، وكسوة الشتاء في الصيف، ولا يضرّه.
أبو الحسن قال: ذكر عليّ عند عائشة فقالت: ما رأيت رجلا أحبّ إلى رسول الله صلّى الله عليه وسلم منه، ولا رأيت امرأة كانت أحبّ إليه من امرأته.
وقال عليّ بن أبي طالب: أنا أخو رسول الله صلّى الله عليه وسلم وابن عمّه، لا يقولها بعدي إلا كذاب.
الشعبي قال: كان عليّ بن أبي طالب في هذه الأمة مثل المسيح بن مريم في بني إسرائيل: أحبّه قوم فكفروا في حبه، وأبغضه قوم فكفروا في بغضه! وقال النبي صلّى الله عليه وسلم: الحسن والحسين سيّدا شباب أهل الجنة، وأبوهما خير منهما.
أبو الحسن قال: كان علي بن أبي طالب رضي الله عنه يقسم بيت المال في كل جمعة حتى لا يبقى منه شيئا؛ ثم يفرش له ويقيل «3» فيه، ويتمثل بهذا البيت:
هذا جناي وخياره فيه ... إذ كلّ جان يده إلى فيه(5/62)
كان علي بن أبي طالب إذا دخل بيت المال ونظر إلى ما فيه من الذهب والفضة قال:
ابيضّي واصفرّي وغرّي غيري ... إني من الله بكلّ خير
ودخل رجل على الحسن بن أبي الحسن البصري فقال: يا أبا سعيد، أنهم يزعمون أنك تبغض عليّا؟ قال: فبكى الحسن حتى اخضلّت لحيته، ثم قال: كان علي بن أبي طالب سهما صائبا من مرامي الله على عدوه، وربانيّ هذه الأمة وذا فضلها وسابقتها، وذا قرابة قريبة من رسول الله صلّى الله عليه وسلم، لم يكن النّومة «1» عن رسول الله، ولا الملولة في ذات الله، ولا السّروقة «2» لمال الله؛ أعطى القرآن عزائمه ففاز منه برياض مونقة، وأعلام بينة، ذلك عليّ بن أبي طالب يا لكع.
يوم الجمل
أبو اليقظان قال: قدم طلحة بن عبيد الله، والزبير بن العوام، وعائشة أم المؤمنين البصرة؛ فتلقاهم الناس بأعلى المربد، حتى لو رموا بحجر ما وقع إلا على رأس إنسان؛ فتكلم طلحة، وتكلمت عائشة، وكثر اللغط؛ فجعل طلحة يقول: أيها الناس، أنصتوا! وجعلوا يرهجون ولا ينصتون، فقال: أف! أف! فراش نار وذباب طمع! وكان عثمان بن حنيف الأنصاري عامل عليّ بن أبي طالب على البصرة، فخرج إليهم في رجاله ومن معه؛ فتواقفوا حتى زالت الشمس، ثم اصطلحوا وكتبوا بينهم كتابا: أن يكفوا عن القتال حتى يقدم عليّ بن أبي طالب، ولعثمان بن حنيف دار الإمارة، والمسجد الجامع، وبيت المال؛ فكفّوا.
ووجه علي بن أبي طالب الحسن ابنه، وعمار بن ياسر، إلى أهل الكوفة يستنفرانهم، فنفر معهما سبعة آلاف من أهل الكوفة؛ فقال عمار: أما والله إني لأعلم أنها زوجته في الدنيا والآخرة، ولكن الله ابتلاكم بها لتتبعوه أو تتبعوها.(5/63)
وخرج علي في أربعة آلاف من أهل المدينة، فيهم ثمانمائة من الأنصار، وأربعمائة ممن شهد بيعة الرضوان مع النبي صلّى الله عليه وسلم. وراية عليّ مع ابنه محمد بن الحنفية، وعلى ميمنته الحسن، وعلى ميسرته الحسين، وعلى الخيل عمار بن ياسر، وعلى الرّجالة محمد ابن أبي بكر، وعلى المقدمة عبد الله بن عباس؛ ولواء طلحة والزبير مع عبد الله بن حكيم بن حزام، وعلى الخيل طلحة بن عبيد الله وعلى الرجالة عبد الله بن الزبير؛ فالتقوا بموضع قصر عبيد الله بن زياد في النصف من جمادي الآخرة يوم الخميس، وكانت الوقعة يوم الجمعة.
وقالوا: لمّا قدم علي بن أبي طالب البصرة، قال لابن عباس: ائت الزبير ولا تأت طلحة؛ فإن الزبير ألين، وأنت تجد طلحة كالثور عاقصا «1» بقرنه يركب الصعوبة «2» ويقول هي أسهل؛ فأقرئه السلام وقل له: يقول لك ابن خالك: عرفتني بالحجاز، وأنكرتني بالعراق! فما عدا ما بدا؟.
قال ابن عباس: فأتيته فأبلغته، فقال: قل له: بيننا وبينك عهد خليفة ودم خليفة، واجتماع ثلاثة وانفراد واحد، وأمّ مبرورة، ومشاورة العشيرة، ونشر المصاحف، نحلّ ما أحلّت، ونحرّم ما حرّمت.
وقال علي بن أبي طالب: ما زال الزبير رجلا منا أهل البيت حتى أدركه ابنه عبد الله فلفته عنا.
وقال طلحة لأهل البصرة وسألوه عن بيعة علي، فقال: أدخلوني في حشّ ثم وضعوا اللجّ على قفيّ فقالوا بايع وإلا قتلناك. قوله اللج: يريد السيف، وقوله قفي:
لغة طي، وكانت أمه طائية.
وخطبت عائشة أهل البصرة يوم الجمل فقالت: أيها الناس، صه صه!(5/64)
الموعظة؛ لا يتّهمني إلا من عصى ربّه؛ ومات رسول الله صلّى الله عليه وسلم بين سحري ونحري؛ فأنا إحدى نسائه في الجنة، [له] ادّخرني ربي وسلّمني من كل بضع «1» ، وبي ميز بين منافقكم ومؤمنكم، وبي أرخص لكم في صعيد الأبواء؛ ثم أبي ثالث ثلاثة من المؤمنين، وثاني اثنين في الغار، وأول من سمّي صدّيقا؛ مضى رسول الله صلّى الله عليه وسلم راضيا عنه، وطوّقه طوق الإمامة؛ ثم اضطرب حبل الدين فمسك أبي بطرفيه، ورتق «2» لكم أثناءه، فوقم «3» النفاق، وأغاض نبع الردة، وأطفأ ما حشّت «4» يهود؛ وأنتم يومئذ جحظ العيون، تنظرون، وتسمعون الصيحة، فرأب الثّأي «5» ، وأوذم «6» العطلة، وانتاش «7» من الهوّة، واجتحى «8» دفين الداء، حتى أعطن «9» الوارد، وأورد الصادر، وعلّ الناهل، فقبضه الله واطئا على هامات النفاق مذكيا نار الحرب للمشركين، فانتظمت طاعتكم بحبله؛ ثم ولّى أمركم رجلا مرعيا إذا ركن إليه، بعيد ما بين اللابتين 1»
، عركة «11» للأذاة بجنبه، يقظان الليل في نصرة الإسلام؛ فسلك مسلك السابقة، ففرق شمل الفتنة وجمع أعضاد ما جمع القرآن، وأنا نصب المسئلة عن مسيري هذا، لم ألتمس إثما، ولم أؤرّث «12» فتنة أوطئكموها. أقول قولي هذا صدقا وعدلا وإعذارا وإنذارا، وأسأل الله أن يصلي على محمد، وأنه يخلفه فيكم بأفضل خلافة المرسلين.
وكتبت أمّ سلمة زوج النبيّ صلّى الله عليه وسلم إلى عائشة أم المؤمنين إذ عزمت على الخروج إلى الجمل:(5/65)
من أم سلمة زوج النبي صلّى الله عليه وسلم، إلى عائشة أم المؤمنين: فإني أحمد إليك الله الذي لا إله إلا هو؛ أما بعد، إنك سدّة بين رسول الله صلّى الله عليه وسلم وأمته، وحجاب مضروب على حرمته، قد جمع القرآن ذيلك فلا تندحيه «1» وسكّر خفارتك فلا تبتذليها. فالله من وراء هذه الأمة، ولو علم رسول الله صلّى الله عليه وسلم أن النساء يحتملن الجهاد عهد إليك، أما علمت أنه قد نهاك عن الفراطة «2» في البلاد فإن عمود الدين لا يثبت بالنساء إن مال، ولا يرأب بهن إن انصدع؟ جهاد النساء؛ غضن الأطراف، وضم الذيول، وقصر الوهازة. ما كنت قائلة لرسول الله صلّى الله عليه وسلم لو عارضك ببعض هذه الفلوات ناصّة «3» قعودا من منهل إلى منهل؟ وغدا تردين على رسول الله صلّى الله عليه وسلم؛ وأقسم لو قيل لي: يا أمّ سلمة ادخلي الجنة لاستحييت أن ألقى رسول الله صلّى الله عليه وسلم هاتكة حجابا ضربه عليّ فاجعليه سترك، ووقاعة البيت حصنك؛ فإنك أنصح ما تكونين لهذه الأمة ما قعدت عن نصرتهم؛ ولو أني حدثتك بحديث سمعته من رسول الله صلّى الله عليه وسلم لنهشتني نهش الرقشاء «4» المطرقة والسلام.
فأجابتها عائشة:
من عائشة أم المؤمنين إلى أم سلمة، سلام عليك، فإني أحمد إليك الله الذي لا إله إلا هو؛ أما بعد، فما أقبلني لوعظك، وأعرفني لحق نصيحتك، وما أنا بمعتمرة «5» بعد تعريج، ولنعم المطلع مطلع فرقت فيه بين فئتين متشاجرتين من المسلمين، فإن أقعد ففي غير حرج، وإن أمض فإلى ما لا غنى بي عن الازدياد منه، والسلام.
وكتبت عائشة إلى زيد بن صوحان إذا قدمت البصرة:
من عائشة أم المؤمنين إلى ابنها الخالص زيد بن صوحان: سلام عليك؛ أما بعد، فإن أباك كان رأسا في الجاهلية، وسيدا في الإسلام وإنك من أبيك بمنزلة المصلّي(5/66)
من السابق، يقال: كاد أو لحق؛ وقد بلغك الذي كان في الإسلام من مصاب عثمان ابن عفان؛ ونحن قادمون عليك، والعيان أشفى لك من الخبر. فإذا أتاك كتابي هذا فثبّط «1» الناس عن علي بن أبي طالب، وكن مكانك حتى يأتيك أمري، والسلام.
فكتب إليها:
من زيد بن صوحان إلى عائشة أم المؤمنين، سلام عليك؛ أما بعد، فإنك أمرت بأمر وأمرنا بغيره: أمرت أن تقرّي في بيتك، وأمرنا أن نقاتل الناس حتى لا تكون فتنة؛ فتركت ما أمرت به؛ وكتبت تنهيننا عما أمرنا به، والسلام.
وخطب علي رضي الله عنه بأهل الكوفة يوم الجمل إذا أقبلوا إليه مع الحسن بن علي، فقام فيهم خطيبا فقال:
الحمد لله رب العالمين، وصلى الله على محمد خاتم النبيين وآخر المرسلين؛ أما بعد؛ فإن الله بعث محمدا صلّى الله عليه وسلم إلى الثقلين كافة، والناس في اختلاف؛ والعرب بشرّ المنازل، مستضعفون لما بهم، فرأب الله به الثأي، ولأم به الصدع، ورتق به الفتق، وأمّن به السبيل، وحقن به الدماء، وقطع به العداوة الموغرة للقلوب، والضغائن المشحنة «2» للصدور؛ ثم قبضه الله تعالى مشكورا سعيه. مرضيا عمله، مغفورا ذنبه، كريما عند الله نزله؛ فيا لها مصيبة عمت المسلمين، وخصت الأقربين، وولي أبو بكر، فسار فينا بسيرة رضا، رضي بها المسلمون؛ ثم ولي عمر، فسار بسيرة أبي بكر رضي الله عنهما؛ ثم ولي عثمان، فنال منكم ونلتم منه؛ ثم كان من أمره ما كان، فأتيتموه فقتلتموه، ثم أتيتموني فقلتم: لو بايعتنا! فقلت: لا أفعل، وقبضت يدي فبسطتموها، ونازعتكم كفي فجذبتموها، وقلتم: لا نرضى إلا بك، ولا نجتمع إلا عليك، وتداككتم عليّ تداكك «3» الإبل الهيم «4» على حياضها يوم ورودها، حتى(5/67)
ظننت أنكم قاتليّ وأن بعضكم قاتل بعضا فبايعتموني، وبايعني طلحة والزبير، ثم ما لبثا أن استأذناني إلى العمرة، فسارا إلى البصرة فقاتلا بها المسلمين، وفعلا بها الأفاعيل وهما يعلمان والله أني لست بدون من مضى، ولو أشاء أن أقول لقلت؛ اللهم إنهما قطعا قرابتي، ونكثا بيعتي وألّبا عليّ عدوّي؛ اللهم فلا تحكم لهما ما أبرما، وأرهما المساءة فيما عملا وأمّلا! وأملى علي بن محمد عن مسلمة بن محارب، عن داود بن أبي هند، عن أبي حرب، عن أبي الأسود عن أبيه، قال: خرجت مع عمران بن حصين وعثمان بن حنيف إلى عائشة فقلنا: يا أمّ المؤمنين، أخبرينا عن مسيرك هذا: عهد عهده إليك رسول الله صلّى الله عليه وسلم، أم رأى رأيتيه؟ قالت: بل رأي رأيته حين قتل عثمان بن عفان، إنا نقمنا عليه ضربه بالسوط، ومواضع من الحمى حماها، وإمرة سعيد الوليد، فعدوتم عليه فاستحللتم منه الثلاث الحرم: حرمة البلد، وحرمة الخلافة، وحرمة الشهر الحرام؛ بعد أن مصتموه كما يماص «1» الإناء فغضبنا لكم من سوط عثمان؛ ولا نغضب لعثمان من سيفكم؟! قلنا: ما أنت وسيفنا وسوط عثمان، وأنت حبيس رسول الله صلّى الله عليه وسلم؟
أمرك أن تقرّي في بيتك، فجئت تضربين الناس بعضهم ببعض! قالت: وهل أحد يقاتلني أو يقول غير هذا؟ قلنا: نعم. قالت: ومن يفعل ذلك؟ هل أنت مبلغ عني يا عمران؟ قال: لست مبلغا عنك حرفا واحدا. قلت: لكني مبلّغ عنك، فهات ما شئت قالت: اللهم اقتل مذمّما قصاصا بعثمان، وارم الأشتر بسهم من سهامك لا يشوى، وأدرك عمارا بخفره «2» بعثمان.
أبو بكر بن أبي شيبة قال: حدثنا عبد الله بن إدريس عن حصين عن الأحنف بن قيس، قال: قدمنا المدينة ونحن نريد الحج، فانطلقت فأتيت طلحة والزبير، فقلت:
إني لا أرى هذا إلا مقتولا، فمن تأمراني به كما ترضيانه لي؟ قالا: نأمرك بعليّ.
قلت: فتأمراني به وترضيانه لي؟ قالا: نعم. قال: ثم انطلقت حتى أتيت مكة، فبينما(5/68)
نحن بها إذ أتانا قتل عثمان، وبها عائشة أم المؤمنين فانطلقت إليها فقلت: من تأمريني أن أبايع، قالت: علي بن أبي طالب. قلت: أتأمريني به وترضينه لي؟ قالت: نعم.
قال: فمررت على عليّ بالمدينة فبايعته، ثم رجعت إلى البصرة وأنا أرى أن الأمر قد استقام، فما راعنا إلا قدوم عائشة أمّ المؤمنين، وطلحة والزبير، قد نزلوا جانب الخريبة «1» ، قال: فقلت: ما جاء بهم؟ [قالوا] : قد أرسلوا إليك يستنصرونك على دم عثمان؛ إنه قتل مظلوما. قال: فأتاني أفظع أمر لم يأتني قط؛ قلت: إن خذلان هؤلاء ومعهم أم المؤمنين وحواريّ رسول الله صلّى الله عليه وسلم لشديد! وإن قتال ابن عم رسول الله صلّى الله عليه وسلم بعد أن أمروني ببيعته لشديد، قال: فلما أتيتهم قالوا: جئناك نستصرخك على دم عثمان، قتل مظلوما! قال: فقلت: يا أم المؤمنين، أنشدك الله أقلت لك: من تأمريني به وترضينه لي؟ فقلت: عليّ! قالت بلى، ولكنه بدل. قلت: يا زبير، يا حواريّ رسول الله، ويا طلحة، نشدتكما بالله، أقلت لكما من تأمراني به وترضيانه لي؟ فقلتما: عليّ! قالا: بلى، ولكنه بدّل. قال: والله لا أقاتلكم ومعكم أمّ المؤمنين، ولا أقاتل عليّا ابن عم رسول الله صلّى الله عليه وسلم ولكن اختاروا مني إحدى ثلاث خصال: إما أن تفتحوا لي باب الجسر فألحق بأرض الأعاجم حتى يقضي الله من أمره ما يقضي، وإما أن ألحق بمكة فأكون بها، أو أعتزل فأكون قريبا. قالوا: نأتمر ثم نرسل إليك قال: فائتمروا. وقالوا: نفتح له باب الجسر فيلحق به المفارق والخاذل! أو يلحق بمكة فيفحشكم في قريش ويخبرهم بأخباركم! اجعلوه ههنا قريبا حيث تنظرون إليه. فاعتزل بالجلحاء من البصرة على فرسخين، واعتزل معه زهاء ستة آلاف من بني تميم.
مقتل طلحة
أبو الحسن قال: كانت وقعة الجمل يوم الجمعة في النصف من جمادي الآخرة، التقوا فكان أول مصروع فينا طلحة بن عبيد الله، أتاه سهم غرب «2» فأصاب ركبته(5/69)
فكان إذا أمسكوه فتر الدم، وإذا تركوه انفجر؛ فقال لهم: اتركوه، فإنما هو سهم أرسله الله! حماد بن زيد عن يحيى بن سعيد قال: قال طلحة يوم الجمل:
ندمت ندامة الكسعيّ لمّا ... طلبت رضا بني حزم برغمي «1»
اللهم خذ مني لعثمان حتى يرضى! ومن حديث أبي بكر بن أبي شيبة قال: لما رأى مروان بن الحكم يوم الجمل طلحة بن عبيد الله، قال: لا أنتظر بعد اليوم بثأري في عثمان! فانتزع «2» له سهما فقتله.
ومن حديث سفيان الثوري قال: لما انقضى يوم الجمل خرج عليّ بن أبي طالب في ليلة ذلك اليوم ومعه مولاه وبيده شمعة يتصفح وجوه القتلى، حتى وقف على طلحة ابن عبيد الله في بطن واد متعفرا، فجعل يمسح الغبار عن وجهه ويقول: أعزز عليّ يا أبا محمد أن أراك متعفرا تحت نجوم السماء وفي بطون الأودية، إنا لله وإنا إليه راجعون! أشقيت نفسي، وقتلت معشري! إلى الله أشكو عجري وبجري «3» ! ثم قال: والله إني لأرجو أن أكون أنا وعثمان وطلحة والزبير من الذين قال الله فيهم:
وَنَزَعْنا ما فِي صُدُورِهِمْ مِنْ غِلٍّ إِخْواناً عَلى سُرُرٍ مُتَقابِلِينَ
«4» . وإذا لم نكن نحن فمن هم؟
أبو إدريس عن ليث بن طلحة عن مطرف أن علي بن أبي طالب أجلس طلحة يوم الجمل ومسح الغبار عن وجهه وبكى عليه! ومن حديث سفيان، أن عائشة ابنة طلحة كانت ترى في نومها طلحة، وذلك بعد موته بعشرين يوما؛ فكان يقول لها: يا بنيّة، أخرجيني من هذا الماء الذي يؤذيني! فلما(5/70)
انتبهت من نومها جمعت أعوانها ثم نهضت فنبشته، فوجدته صحيحا كما دفن لم تنحسر له شعرة، وقد اخضر جنبه كالسلق من الماء الذي كان يسيل عليه، فلفته في الملاحف واشترت له عرصة بالبصرة فدفنته فيها وبنت حوله مسجدا. قال: فلقد رأيت المرأة من أهل البصرة تقبل بالقارورة من البان فتصبها على قبره حتى تفرغها، فلم يزلن يفعلن ذلك حتى صار تراب قبره مسكا أذفر.
ومن حديث الخشنى قال: لما قتل طلحة بن عبيد الله يوم الجمل، وجدوا في تركته ثلاثمائة بهار «1» من ذهب وفضة- والبهار مزود من جلد عجل.
وقع قوم في طلحة عند عليّ بن أبي طالب، فقال: أما والله لئن قلتم فيه إنه لكما قال الشاعر:
فتى كان يدنيه الغنى من صديقه ... إذا ما هو استغنى، ويبعده الفقر
كأنّ الثّريّا علّقت في يمينه ... وفي خدّه الشّعري وفي الآخر البدر «2»
مقتل الزبير بن العوّام
شريك عن الأسود بن قيس قال: حدثني من رأى الزبير يوم الجمل يقعص الخيل بالرمح قعصا، فنوّه به عليّ: أبا عبد الله، أتذكر يوما أتانا النبي صلّى الله عليه وسلم وأنا أناجيك فقال: أتناجيه، والله ليقاتلنّك وهو ظالم لك! قال: فصرف الزبير وجه دابته وانصرف.
قال أبو الحسين: لما انحاز الزبير يوم الجمل، مرّ بماء لبني تميم؛ فقيل للأحنف بن قيس: هذا الزبير قد أقبل. قال: وما أصنع به أن جمع بين هذين الغزيين «3» وترك الناس وأقبل؟ - يريد بالغزيّين: المعسكرين-، وفي مجلسه عمرو بن جرموز المجاشعي؛ فلما سمع كلامه قام من مجلسه واتبعه حتى وجده بوادي السباع نائما(5/71)
فقتله، وأقبل برأسه إلى علي بن طالب، فقال عليّ: أبشر بالنار! سمعت رسول الله صلّى الله عليه وسلم يقول: بشروا قاتل الزبير بالنار! فخرج عمرو بن جرموز وهو يقول:
أتيت عليّا برأس الزّبير ... وكنت أحسبها زلفه
فبشّر بالنّار قبل العيان ... فبئس بشارة ذي التحفه
ومن حديث ابن أبي شيبة قال: أقبل رجل بسيف الزبير إلى الحسن بن علي فقال:
لا حاجة لي به، أدخله إلى أمير المؤمنين. فدخل به إلى عليّ فناوله إياه وقال: هذا سيف الزبير. فأخذه عليّ، فنظر إليه مليا، ثم قال: رحم الله الزبير! لطالما فرّج الله به الكرب عن وجه رسول الله صلّى الله عليه وسلم.
وقالت امرأة الزبير ترثيه:
غدر ابن جرموز بفارس بهمة ... يوم الهياج وكان غير معرّد «1»
يا عمرو لو نبّهته لوجدته ... لا طائشا رعش الجنان ولا اليد
ثكلتك أمّك إن قتلت لمسلما ... حلّت عليك عقوبة المعتمّد
وقال جرير ينعي علي بن مجاشع قتل الزبير رضي الله تعالى عنه:
إني تذكّرني الزبير حمامة ... تدعو ببطن الواديين هديلا «2»
قالت قريش ما أذلّ مجاشعا ... جارا وأكرم ذا القتيل قتيلا
لو كنت حرّا يا ابن قين مجاشع ... شيّعت ضيفك فرسخا أو ميلا
أفبعد قتلكم خليل محمّد ... ترجو القيون مع الرسول سبيلا «3»
هشام بن عروة عن أبيه عن عبد الله بن الزبير قال: دعاني أبي يوم الجمل فقمت عن يمينه، فقال: إنه لا يقتل اليوم إلا ظالم أو مظلوم، وما أراني إلا سأقتل مظلوما، وإن أكبر همي ديني، فبع مالي ثم اقض ديني؛ فإن فضل شيء فثلثه لولدك، وإن(5/72)
عجزت عن شيء يا بني فاستعن مولاي. قلت: ومن مولاك يا أبت؟ قال: الله! قال عبد الله بن الزبير: فو الله ما بقيت بعد ذلك في كربة من دينه أو عسرة إلا قلت: يا مولى الزبير، اقض عنه دينه! فيقضيه، قال: فقتل الزبير ونظرت في دينه، فإذا هو ألف ألف ومائة ألف. قال: فبعث ضيعة له بالغابة «1» بألف ألف وستمائة ألف، ثم ناديت: من كان له قبل الزبير شيء فليأتنا نقضه. فلما قضيت دينه أتاني إخوتي فقالوا: اقسم بيننا ميراثنا. قلت: والله لا أقسم حتى أنادي أربع سنين بالمواسم: من كان له على الزبير شيء فليأتنا نقضه. فلما مضت الأربع سنين أخذت الثلث لولدي؛ ثم قسمت الباقي، فصار لكل امرأة من نسائه- وكان له أربع نسوة- في ربع الثمن ألف ألف ومائة ألف، فجميع ما ترك مائة ألف ألف وسبعمائة ألف ألف.
ومن حديث ابن أبي شيبة قال: كان عليّ يخرج مناديه يوم الجمل يقول: لا يسلبنّ قتيل، ولا يتّبع مدّبر، ولا يجهز على جريح.
قال: وخرج كعب بن ثور من البصرة قد تقلد المصحف في عنقه؛ فجعل ينشره بين الصفين ويناشد الناس في دمائهم، إذ أتاه سهم فقتله وهو في تلك الحال، لا يدري من قتله.
وقال علي بن أبي طالب يوم الجمل للأشتر- وهو مالك بن الحرث- وكان على الميمنة: احمل. فحمل فكشف من بإزائه، وقال لهاشم بن عقبة أحد بني زهرة بن كلاب، وكان على الميسرة، أحمل. فحمل فكشف من بإزائه؛ فقال علي لأصحابه:
كيف رأيتم ميسرتي وميمنتي.
ومن حديث الجمل
الخشني عن أبي خاتم السجستاني قال: أنشدني الأصمعي عن رجل شهد الجمل يقول:(5/73)
شهدت الحروب وشيبنني ... فلم تر عيني كيوم الجمل
أضرّ على مؤمن فتنة ... وأفتك منه لخرق بطل «1»
فليت الظعينة في بيتها ... وليتك عسكر لم ترتحل
وكان جملها يدعى عسكرا، حملها عليه يعلى بن منية، وهبة لعائشة وجعل له هودجا من حديد، وجهز من ماله خمسمائة فارس بأسلحتهم وأزودتهم وكان أكثر أهل البصرة مالا. وكان بن أبي طالب يقول: بليت بأنضّ «2» الناس، وأنطق الناس وأطوع الناس في الناس، يريد بأنضّ الناس: يعلى بن منية، وكان أكثر الناس ناضا، ويريد بأنطق الناس: طلحة بن عبيد الله، وأطوع الناس في الناس: عائشة أم المؤمنين.
أبو بكر بن أبي شيبة عن مخلد بن عبيد عن التميمي قال: كانت راية عليّ يوم الجمل سوداء، وراية أهل البصرة كالجمل.
الأعمش عن رجل سماه قال: كنت أرى عليا يوم الجمل يحمل فيضرب بسيفه حتى ينثني، ثم يرجع فيقول: لا تلوموني ولوموا هذا! ثم يعود ويقوّمه.
ومن حديث أبي بكر بن أبي شيبة قال: قال عبد الله بن الزبير، التقيت مع الأشتر يوم الجمل، فما ضربته ضربة حتى ضربني خمسة أو ستة، ثم جر برجلي فألقاني في الخندق، وقال: والله لولا قربك من رسول الله صلّى الله عليه وسلم ما اجتمع فيك عضو إلى آخر.
أبو بكر بن أبي شيبة قال: أعطت عائشة الذي بشرّها بحياة ابن الزبير إذ التقى مع الأشتر يوم الجمل، أربعة آلاف.
سعيد عن قتادة قال: قتل يوم الجمل مع عائشة عشرون ألفا، منهم ثمانمائة من بني ضبة.
وقالت عائشة: ما أنكرت رأس جملي حتى فقدت أصوات بني عديّ.(5/74)
وقتل من أصحاب عليّ خمسمائة رجل، لم يرعف منهم إلا علباء بن الهيثم وهند الجملي، قتلهما ابن اليثربي، وأنشأ يقول:
إني لمن يجهلني ابن اليثربيّ ... قتلت علباء وهند الجملي
عبد الله بن عون عن أبي رجاء قال: لقد رأيت الجمل حينئذ وهو كظهر القنفذ من النبل، ورجل من بني ضبة آخذ بخطامه «1» وهو يقول:
نحن بنو ضبّة أصحاب الجمل ... الموت أحلى عندنا من العسل
ننعي ابن عفّان بأطراف الأسل
غندر قال: حدثنا شعبة بن عمرو بن مرة قال: سمعت عبد الله بن سلمة- وكان مع علي بن أبي طالب يوم الجمل- والحارث بن سويد- وكان مع طلحة والزبير- وتذاكرا وقعة الجمل؛ فقال الحارث بن سويد: والله ما رأيت مثل يوم الجمل لقد أشرعوا رماحهم في صدورنا، وأشرعنا رماحنا في صدورهم، ولو شاءت الرجال أن تمشي عليها لمشت؛ يقول هؤلاء: لا إله إلا الله والله أكبر ويقول هؤلاء: لا إله إلا الله والله أكبر، فو الله لوددت أني لم أشهد ذلك اليوم وأني أعمى مقطوع اليدين والرجلين.
وقال عبد الله بن سملة: والله ما يسرني أني غبت عن ذلك اليوم، ولا عن مشهد شهده عليّ بن أبي طالب، بحمر النّعم.
علي بن عاصم عن حصين قال: حدثني أبو جميلة البكاء قال: إني في الصف مع عليّ بن أبي طالب. إذ عقر بأم المؤمنين جملها؛ فرأيت محمد بن أبي بكر وعمار بن ياسر يشتدان بين الصفين أيهما يسبق إليها، فقطعا عارضة الرحل واحتملاها في هودجها.
ومن حديث الشعبي قال: من زعم أنه شهد الجمل من أهل بدر إلا أربعة فكذّبه:(5/75)
كان عليّ وعمار في ناحية، وطلحة والزبير في ناحية.
أبو بكر بن أبي شيبة قال: حدثني خالد بن مخلد عن يعقوب عن جعفر بن أبي المغيرة عن ابن أبزى قال: انتهى عبد الله بن بديل إلى عائشة وهي في الهودج، فقال؛ يا أم المؤمنين، أنشدك بالله، أتعلمين أني أتيتك يوم قتل عثمان، فقلت لك: إن عثمان قد قتل فما تأمرينني؟ فقلت لي الزم عليا! فو الله ما غير ولا بدل، فسكتت، ثم أعاد عليها فسكتت، ثلاث مرات؛ فقال: اعقروا الجمل! فعقروه، فنزلت أنا وأخوها محمد بن أبي بكر فاحتملنا الهودج حتى وضعناه بين يدي عليّ فسرّ به، فأدخل في منزل عبد الله بن بديل.
وقالوا: لما كان يوم الجمل ما كان وظفر علي بن أبي طالب حتى دنا من هودج عائشة، كلمها بكلام، فأجابته: ملكت فأسجح «1» ! فجهزها عليّ بأحسن الجهاز، وبعث معها أربعين امرأة؛ وقال بعضهم: سبعين امرأة، حتى قدمت المدينة.
عكرمة عن ابن عباس قال: لما انقضى أمر الجمل، دعا علي بن أبي طالب بآجرّتين فعلاهما، فحمد الله وأثنى عليه ثم قال:
يا أنصار المرأة، وأصحاب البهيمة، رغا فجئتم، وعقر فهربتم، نزلتم شرّ بلاد، [أقربها من الماء] وأبعدها من السماء، بها مغيض «2» كل ماء، ولها شر أسماء، هي البصرة، والبصيرة، والمؤتفكة، وتدمر. أين ابن عباس؟ قال: فدعيت له من كل ناحية، فأقبلت إليه، فقال: إيت هذه المرأة فلترجع إلى بيتها التي أمرها الله أن تقرّ فيه. قال: فجئت فاستأذنت عليها، فلم تأذن لي، فدخلت بلا إذن، ومددت يدي إلى وسادة في البيت فجلست عليها، فقالت: تالله يا بن عباس ما رأيت مثلك، تدخل بيتنا بلا إذننا، وتجلس على وسادتنا بغير أمرنا! فقلت: والله ما هو بيتك، وما بيتك إلا الذي أمرك الله أن تقرّي فيه فلم تفعلي! إنّ أمير المؤمنين يأمرك أن ترجعي إلى(5/76)
بلدك الذي خرجت منه. قالت: رحم الله أمير المؤمنين ذاك: عمر بن الخطاب! قلت: نعم، وهذا أمير المؤمنين علي بن أبي طالب. قالت: أبيت أبيت! قلت: ما كان إباؤك إلا فواق»
ناقة بكيئة «2» ، ثم صرت ما تحلين ولا تمرّين، ولا تأمرين ولا تنهين! قال: فبكت حتى علا نشيجها، ثم قالت: نعم أرجع، فإنّ أبغض البلدان إليّ بلد أنتم فيه! فقلت: أما والله ما كان ذلك جزاؤنا منك إذ جعلناك للمؤمنين أماّ، وجعلنا أباك لهم صدّيقا. قالت: أتمنّ علي برسول الله يا بن عباس؟ قلت: نعم نمنّ عليك بمن لو كان منك بمنزلته منا لمننت به علينا! قال ابن عباس: فأتيت عليا فأخبرته، فقبّل بين عيني وقال: بأبي ذرّيّة بعضها من بعض والله سميع عليم.
ومن حديث ابن أبي شيبة عن ابن فضيل عن عطاء بن السائب: أنّ قاضيا من قضاة أهل الشام أتى عمر بن الخطاب فقال: يا أمير المؤمنين، رأيت رؤيا أفظعتني. قال:
وما رأيت؟ قال: رأيت الشمس والقمر يقتتلان والنجوم معهما نصفين. قال: فمع أيهما كنت؟ قال: مع القمر على الشمس. قال عمر بن الخطاب وَجَعَلْنَا اللَّيْلَ وَالنَّهارَ آيَتَيْنِ فَمَحَوْنا آيَةَ اللَّيْلِ وَجَعَلْنا آيَةَ النَّهارِ مُبْصِرَةً
«3» . فانطلق، فو الله لا تعمل لي عملا أبدا. قال: فبلغني أنه قتل مع معاوية بصفّين.
أبو بكر بن أبي شيبة قال: أقبل سليمان بن صرد، وكانت له صحبة مع النبي صلّى الله عليه وسلم، إلى عليّ بن أبي طالب بعد وقعة الجمل؛ فقال له: تنأنأت «4» وتزحزت وتربصت، فكيف رأيت الله صنع؟ قال: يا أمير المؤمنين، إنّ الشّوط بطين «5» ، وقد بقي من الأمور ما تعرف به عدوّك من صديقك.(5/77)
وكتب عليّ بن أبي طالب إلى الأشعث بن قيس بعد الجمل، وكان واليا لعثمان على أذربيجان:
سلام عليك؛ أما بعد، فلولا هنات كنّ منك لكنت أنت المقدّم في هذا الأمر قبل الناس، ولعل أمرك يحمل بعضه بعضا إن اتقيت الله، وقد كان من بيعة الناس إياي ما قد بلغك، وقد كان طلحة والزبير أول من بايعني ثم نكثا بيعتي من غير حدث ولا سبب، وأخرجا أمّ المؤمنين فساروا إلى البصرة وسرت إليهم فيمن بايعني من المهاجرين والأنصار، فالتقينا فدعوتهم إلى أن يرجعوا إلى ما خرجوا منه فأبوا، فأبلغت في الدعاء وأحسنت في البقيا، وأمرت أن لا يذفّ «1» على جريح، ولا يتّبع منهزم، ولا يسلب قتيل، ومن ألقى سلاحه وأغلق بابه فهو آمن، واعلم أنّ عملك ليس لك بطعمة، إنما هو أمانة في عنقك، وهو مال من مال الله وأنت من خزّاني عليه حتى تؤدّيه إليّ إن شاء الله، ولا قوّة إلا بالله.
فلما بلغ الأشعث كتاب عليّ قام فقال:
أيها الناس؛ إنّ عثمان بن عفان ولأني أذربيجان، فهلك وقد بقيت في يدي؛ وقد بايع الناس عليّا، وطاعتنا له واجبة، وقد كان من أمره وأمر عدوه ما كان، وهو المأمون على ما غاب عن ذلك المجلس، ثم جلس.
قولهم في أصحاب الجمل
أبو بكر بن أبي شيبة قال: سئل عليّ عن أصحاب الجمل: أمشركون هم؟ قال:
من الشرك فرّوا. قال: فمنافقون هم؟ قال: إنّ المنافقين لا يذكرون الله إلا قليلا.
قال: فما هم؟ قال: إخواننا بغوا علينا! ومرّ علي بقتلي الجمل فقال: اللهم اغفر لنا ولهم. ومعه محمد بن أبي بكر وعمار بن ياسر؛ فقال أحدهما لصاحبه: أما تسمع ما يقول؟ قال: أسكت لا يزيدك.(5/78)
وكيع عن مسعد عن عبد الله بن رباح عن عمار قال: لا تقولوا: كفر أهل الشام؛ ولكن قولوا: فسقوا وظلموا.
وسئل عمار بن ياسر عن عائشة يوم الجمل، فقال: أما والله إنا لنعلم أنها زوجته في الدنيا والآخرة، ولكن الله ابتلاكم بها ليعلم أتتبعونه أم تتبعونها!.
وقال عليّ بن أبي طالب يوم الجمل: إن قوما زعموا أن البغي كان منا عليهم، وزعمنا أنه منهم علينا؛ وإنما اقتتلنا على البغي ولم نقتتل على التكفير.
أبو بكر بن أبي شيبة قال: أول ما تكلمت به الخوارج يوم الجمل قالوا: ما أحلّ لنا دماءهم وحرّم علينا أموالهم! فقال عليّ: هي السّنة في أهل القبلة. قالوا: ما ندري ما هذا؟ قال: فهذه عائشة رأس القوم، أتتساهمون عليها؟ قالوا: سبحان الله! أمنا.
قال: فهي حرام؟ قالوا: نعم. قال: فإنه يحرم من أبنائها ما يحرم منها.
قال: ودخلت أمّ أوفى العبادية على عائشة بعد وقعة الجمل فقالت لها: يا أم المؤمنين، ما تقولين في امرأة قتلت ابنا لها صغيرا؟ قالت: وجبت لها النار! قالت:
فما تقولين في امرأة قتلت من أولادها الاكابر عشرين ألفا في صعيد واحد؟ قالت:
خذوا بيد عدوّة الله! وماتت عائشة في أيام معاوية وقد قاربت السبعين؛ وقيل لها: تدفنين مع رسول الله صلّى الله عليه وسلم؟ قالت: لا، إني أحدثت بعده حدثا، فادفنوني مع إخوتي بالبقيع.
وقد كان النبي صلّى الله عليه وسلم قال لها: يا حميراء، كأني بك ينبحك كلاب الحوأب، تقاتلين عليا وأنت له ظالمة.
والحوأب: قرية في طريق المدينة إلى البصرة، وبعض الناس يسمونها الحوّب، بضم الحاء وتثقيل الواو؛ وقد زعموا أنّ الحوأب: ماء في طريق البصرة، قال في ذلك بعض الشيعة:
إني بحبّ آل محمد ... وبني الوصيّ شهودهم والغيّب
وأنا البريء من الزبير وطلحة ... ومن التي نبحت كلاب الحوأب(5/79)
أخبار عليّ ومعاوية
كتب علي بن أبي طالب إلى جرير بن عبد الله، وكان وجّهه إلى معاوية في أخذ بيعته؛ فأقام عنده ثلاثة أشهر يماطله بالبيعة، فكتب إليه عليّ:
سلام عليك؛ فإذا أتاك كتابي هذا فاحمل معاوية على الفصل، وخيّره بين حرب مجلية أو سلم مخزية، فإن اختار الحرب فانبذ إليهم على سواء إنّ الله لا يحبّ الخائنين، وإن اختار السّلم فخذ بيعته وأقبل إليّ.
وكتب عليّ إلى معاوية بعد وقعة الجمل:
سلام عليك؛ أمّا بعد، فإنّ بيعتي بالمدينة لزمتك وأنت بالشام؛ لأنه بايعني [القوم] الذين بايعوا أبا بكر، وعمر، وعثمان، على ما بويعوا عليه؛ فلم يكن للشاهد أن يختار ولا للغائب أن يردّ، وإنما الشورى للمهاجرين والأنصار، فإذا اجتمعوا على رجل وسمّوه إماما كان ذلك لله رضا، وإن خرج عن أمرهم خارج ردّوه إلى ما خرج عنه، فإن أبي قاتلوه على اتّباعه غير سبيل المؤمنين، وولاه الله ما تولّى، وأصلاه جهنّم وساءت مصيرا.
وإن طلحة والزبير بايعاني ثم نقضا بيعتهما، وكان نقضهما كردّتهما فجاهدتهما بعد ما أعذرت إليهما، حتى جاء الحقّ وظهر أمر الله وهم كارهون؛ فادخل فيما دخل فيه المسلمون؛ فإن أحب الأمور إليّ قبولك العافية. وقد أكثرت في قتلة عثمان، فإن أنت رجعت عن رأيك وخلافك ودخلت فيما دخل فيه المسلمون، ثم حاكمت القوم إليّ، حملتك وإياهم على كتاب الله؛ وأما تلك التي تريدها فهي خدعة الصبي عن اللبن. ولعمري لئن نظرت بعقلك دون هواك، لتجدنّني أبرأ قريش من دم عثمان.
واعلم أنك من الطلقاء «1» الذين لا تحل لهم الخلافة، ولا يدخلون في الشورى؛ وقد بعثت إليك والي من قبلك جرير بن عبد الله، وهو من أهل الإيمان والهجرة؛ فبايعه، ولا قوة إلا بالله.(5/80)
فكتب إليه معاوية:
سلام عليك: أما بعد، فلعمري لو بايعك الذين ذكرت وأنت بريء من دم عثمان، لكنت كأبي بكر وعمر وعثمان، ولكنك أغريت بدم عثمان [المهاجرين] وخذّلت [عنه] الأنصار، فأطاعك الجاهل وقوي بك الضعيف، وقد أبي أهل الشام إلا قتالك حتى تدفع إليهم قتلة عثمان، فإن فعلت كانت شورى بين المسلمين، وإنما كان الحجازيون هم الحكام على الناس والحقّ فيهم، فلما فارقوه كان الحكام على الناس أهل الشام، ولعمري ما حجتك على أهل الشام كحجتك على أهل البصرة، [لأن أهل البصرة أطاعوك ولم يطعك أهل الشام] ؛ ولا حجتك عليّ كحجتك على طلحة والزبير، لأنهما بايعاك ولم أبايعك أنا، فأما فضلك في الإسلام، وقرابتك من رسول الله صلّى الله عليه وسلم، فلست أدفعه! فكتب إليه عليّ:
أما بعد، فقد أتانا كتابك، كتاب امريء ليس له بصر يهديه، ولا قائد يرشده، دعاه الهوى فأجابه، وقاده فاتبعه؛ زعمت أنك إنما أفسد عليك بيعتي خفوري «1» لعثمان ولعمري ما كنت إلا رجلا من المهاجرين، أوردت كما أوردوا وأصدرت كما أصدروا؛ وما كان الله ليجمعهم على ضلالة، ولا ليضربهم بالعمى وما أمرت فلزمتني خطيئة الأمر، ولا قتلت فأخاف على نفسي قصاص القاتل.
وأما قولك إن أهل الشام هم حكام أهل الحجاز، فهات رجلا من أهل الشام يقبل في الشورى أو تحل له الخلافة، فإن سمّيت كذّبك المهاجرون والأنصار، ونحن نأتيك به من قريش الحجاز.
وأما قولك ادفع إليّ قتلة عثمان، فما أنت وذاك؟ وههنا بنو عثمان، وهم أولى بذلك منك، فإن زعمت أنك أقوى على طلب دم عثمان منهم فارجع إلى البيعة التي لزمتك وحاكم القوم إليّ.(5/81)
وأما تمييزك بين أهل الشام والبصرة، وبينك وبين طلحة والزبير، فلعمري فما الأمر هناك إلا واحد، لأنها بيعة عامة، لا يتأنى فيها النظر، ولا يستأنف فيها الخيار. وأما قرابتي من رسول الله صلّى الله عليه وسلم وقدمي في الإسلام؛ فلو استطعت دفعه لدفعته! وكتب معاوية إلى علي:
أما بعد: فإنك قتلت ناصرك، واستنصرت واترك «1» ، وايم الله لأرمينّك بشهاب تذكيه الريح ولا يطفئه الماء؛ فإذا وقع وقب «2» ، وإذا مسّ ثقب، فلا تحسبنّي كسحيم، أو عبد القيس، أو حلوان الكاهن.
فأجابه علي:
أما بعد، فو الله ما قتل ابن عمك غيرك، وإني أرجو أن ألحقك به على مثل ذنبه وأعظم من خطيئته؛ وإن السيف الذي ضربت به أهلك لمعي دائم؛ والله ما استحدثت دينا، ولا استبدلت نبيا، وإني على المنهاج الذي تركتموه طائعين، وأدخلتم فيه كارهين.
وكتب معاوية [مع أبي مسلم الخولاني] إلى علي بن أبي طالب [قبل مسيره إلى صفين] .
أما بعد، فإن الله اصطفى محمدا وجعله الأمين على وحيه، والرسول إلى خلقه، واختار له من المسلمين أعوانا أيده بهم وكانوا في منازلهم عنده على قدر فضائلهم في الإسلام، فكان أفضلهم في الإسلام وأنصحهم لله ولرسوله، الخليفة، وخليفة الخليفة، والخليفة الثالث؛ فكلّهم حسدت، وعلى كلهم بغيت؛ عرفنا ذلك في نظرك الشّزر، وتنفسك الصعداء، وإبطائك عن الخلفاء؛ وأنت في كل ذلك تقاد كما يقاد(5/82)
البعير المخشوش «1» حتى تبايع وأنت كاره؛ ولم تكن لأحد منهم أشدّ حسدا منك لابن عمك عثمان، وكان أحقهم أن لا تفعل ذلك به، في قرابته؛ وصهره فقطعت رحمه وقبّحت محاسنه، وألّبت عليه الناس، حتى ضربت إليه آباط «2» الإبل، وشهر عليه السلام في حرم الرسول، فقتيل معك في المحلة وأنت تسمع في داره الهائعة «3» ؛ لا تؤدّي عن نفسك في أمره بقول، ولا فعل برّ، وأقسم قسما صادقا: لو قمت في أمره مقاما واحدا تنهنه الناس عنه، ما عدل بك من قبلنا من الناس أحدا، ولمحا ذلك عنك ما كانوا يعرفونك به، من المجانبة لعثمان والبغي عليه؛ وأخرى أنت بها عند أولياء ابن عفان ظنين: إيواؤك قتلة عثمان، فهم بطانتك وعضدك وأنصارك؛ وقد بلغني أنك تنتفي من دمه، فإن كنت صادقا فادفع إلينا قتلته نقتلهم به، ثم نحن أسرع الناس إليك، وإلا فليس لك ولا لأصحابك عندنا إلا السيف، والذي نفس معاوية بيده، لأطلبنّ قتلة عثمان في الجبال والرمال والبر والبحر، حتى تقتلهم أو تلحق أرواحنا بالله!.
فأجابه علي:
أما بعد، فإن أخا خولان قدم عليّ بكتاب منك تذكر فيه محمدا صلّى الله عليه وسلم، وما أنعم الله به عليه من الهدى والوحى؛ فالحمد لله الذي صدقه الوعد وتمم له النصر، ومكنه في البلاد، وأظهره على الأعادي من قومه الذين أظهروا له التكذيب، ونابذوه بالعداوة، وظاهروا على إخراجه وإخراج أصحابه، وألّبوا عليه العرب، وحزّبوا الأحزاب، حتى جاء الحق وظهر أمر الله وهم كارهون.
وذكرت أن الله اختار [له] من المسلمين أعوانا أيده بهم، فكانوا في منازلهم عنده على قدر فضائلهم في الإسلام، فكان أفضلهم في الإسلام، وأنصحهم لله ولرسوله، الخليفة، وخليفة الخليفة من بعده.(5/83)
ولعمري إن كان مكانهما في الإسلام لعظيما، وإن كان المصاب بهما لجرحا في الإسلام شديدا، فرحمهما الله وغفر لهما. وذكرت أن عثمان كان في الفضل تاليا؛ فإن كان محسنا فسيلقي ربا شكورا يضاعف له الحسنات، ويجزيه الثواب العظيم؛ وإن يك مسيئا فسيلقى ربا غفورا لا يتعاظمه ذنب [أن] يغفره.
ولعمري إني لأرجو إذا الله أعطى [الناس على قدر فضائلهم في] الإسلام [ونصيحتهم لله ولرسوله] أن يكون سهمنا أهل البيت أوفر نصيب: وايم الله ما رأيت ولا سمعت بأحد كان أنصح لله في طاعة الله ورسوله، ولا أنصح لرسول الله في طاعة الله، ولا أصبر على البلاء والأذى في مواطن الخوف- من هؤلاء النفر من أهل بيته؛ الذين قتلوا في طاعة الله: عبيدة بن الحرث يوم بدر، وحمزة بن عبد المطلب يوم أحد، وجعفر وزيد يوم مؤتة؛ وفي المهاجرين خير كثير، جزاهم الله بأحسن أعمالهم.
وذكرت إبطائي عن الخلفاء وحسدي إياهم والبغي عليهم؛ فأما البغي فمعاذ الله أن يكون، وأما الكراهة لهم فو الله ما أعتذر للناس من ذلك؛ وذكرت بغيي على عثمان وقطعي رحمه، فقد عمل عثمان بما قد علمت وعمل به الناس ما قد بلغك، وقد علمت أني كنت من أمره في عزلة إلا أن تجنّي فتجنّ ما شئت؛ وأما ذكرك قتلة عثمان وما سألت من دفعهم إليك، فإني نظرت في هذا الأمر وضربت أنفه وعينه، فلم يسعني دفعهم إليك ولا إلى غيرك.
وإن لم تنزع عن غيّك لتعرفنّهم عما قليل يطلبونك ولا يكلّفونك أن تطلبهم في سهل ولا جبل، ولا برّ ولا بحر؛ وقد كان أبوك أبو سفيان أتاني حين قبض رسول الله صلّى الله عليه وسلم، فقال: ابسط يدك أبايعك، فأنت أحقّ الناس بهذا الأمر. فكنت أنا الذي أبيت عليه، مخافة الفرقة بين المسلمين لقرب عهد الناس بالكفر؛ فأبوك كان أعلم بحقّي منك؛ فإن تعرف من حقي ما كان أبوك يعرفه تصب رشدك وإلا فنستعين الله عليك.(5/84)
وكتب عبد الرحمن بن الحكم إلى معاوية:
ألا أبلغ معاوية بن حرب ... كتابا من أخي ثقة يلوم
فإنك والكتاب إلى عليّ ... كدابغة وقد حلم الأديم «1»
يوم صفين
أبو بكر بن أبي شيبة قال: خرج عليّ بن أبي طالب من الكوفة إلى معاوية في خمسة وتسعين ألفا، وخرج معاوية من الشام في بضعة وثمانين ألفا، فالتقوا بصفين؛ وكان عسكر علي يسمى الزحزحة، لشدّة حركته؛ وعسكر معاوية يسمى الخضرية، لاسوداده بالسلاح والدروع.
أبو الحسن قال: كانت أيام صفين كلها موافقة ولم تكن هزيمة بين الفريقين إلا على حامية ثم يكرّون.
أبو الحسن قال: كان منادي عليّ يخرج كل يوم وينادي: أيها الناس، لا تجهزنّ علي جريح، ولا تتّبعنّ مولّيا «2» ، ولا تسلبنّ قتيلا، ومن ألقى سلاحه فهو آمن.
أبو الحسن قال: خرج معاوية إلى عليّ يوم صفين، ولم يبايعه أهل الشام بالخلافة، وإنما بايعوه على نصرة عثمان والطلب بدمه؛ فلما كان من أمر الحكمين ما كان، بايعوه بالخلافة؛ فكتب معاوية إلى سعد بن أبي وقاص يدعوه إلى القيام معه في دم عثمان:
سلام عليك؛ أما بعد، فإن أحق الناس بنصرة عثمان أهل الشورى من قريش الذين أثبتوا حقه، واختاروه على غيره؛ و [قد] نصره طلحة والزبير، وهما شريكاك في الأمر [والشورى] ، ونظيراك في الإسلام؛ وخفّت لذلك أمّ المؤمنين، فلا تكره ما رضوا، ولا تردّ ما قبلوا، وإنما نريد أن نردها شورى بين المسلمين والسلام.(5/85)
فأجابه سعد:
أما بعد، فإن عمر رضي الله عنه لم يدخل في الشورى إلا من تحل له الخلافة، فلم يكن أحد أولى بها من صاحبه إلا باجتماعنا عليه، غير أن عليا كان فيه ما فينا، ولم يكن فينا ما فيه، ولو لم يطلبها ولزم بيته لطلبته العرب ولو بأقصى اليمن؛ وهذا الأمر قد كرهنا أوله، وكرهنا آخره؛ وأما طلحة والزبير فلو لزما بيوتهما لكان خيرا لهما، والله يغفر لأم المؤمنين ما أتت.
وكتب معاوية إلى قيس بن سعد بن عبادة:
أما بعد، فإنما أنت يهودي بن يهودي، إن ظفر أحبّ الفريقين إليك عزلك واستبدل بك؛ وإن ظفر أبغض الفريقين إليك قتلك ونكّل بك؛ وقد كان أبوك أوتر «1» قوسه ورمى غرضه، فأكثر الحز وأخطأ المفصل، فخذله قومه، وأدركه يومه، ثم مات طريدا بحوران.
فأجابه قيس:
أما بعد، فأنت وثني، ابن وثني دخلت في الإسلام كرها، وخرجت منه طوعا، لم يقدم إيمانك، ولم تحذر نفاقك؛ ونحن أنصار الدين الذي خرجت منه وأعداء الدين الذي دخلت فيه! والسلام.
وخطب عليّ بن أبي طالب أصحابه يوم صفين، فقال:
أيها الناس، إن الموت طالب لا يعجزه هارب، ولا يفوته مقيم؛ اقدموا ولا تنكلوا «2» ، فليس عن الموت محيص «3» ، والذي نفس ابن أبي طالب بيده: إن ضربة سيف أهون من موت الفراش.(5/86)
أيها الناس، اتقوا السيوف بوجوهكم، والرماح بصدوركم، وموعدي وإياكم الراية الحمراء «1» .
فقال رجل من أهل العراق: ما رأيت كاليوم خطيبا يخطبنا، يأمرنا أن نتقي السيوف بوجوهنا، والرماح بصدورنا، ويعدنا راية بيننا وبينها مائة ألف سيف.
قال أبو عبيدة في التاج: جمع علي بن أبي طالب رياسة بكر كلها يوم صفين لحضين بن المنذر بن الحارث بن وعلة، وجعل ألويتها تحت لوائه، وكانت له راية سوداء يخفق ظلّها إذا أقبل، فلم يغن أحد في صفين غناءه؛ فقال فيه علي بن أبي طالب رضي الله عنه:
لمن راية سوداء يخفق ظلّها ... إذا قيل قدّمها حضين تقدّما
يقدّمها في الصفّ حتى يزيرها ... حياض المنايا تقطر السّمّ والدّما
جزى الله عني والجزاء بكفه ... ربيعة خيرا، ما أعفّ وأكرما
وكان من همدان في صفين [بلاء] حسن، فقال فيهم علي بن أبي طالب رضي الله عنه:
لهمدان أخلاق ودين يزينهم ... وبأس إذا لاقوا وحسن كلام
فلو كنت بوّابا على باب جنّة ... لقلت لهمدان ادخلوا بسلام
أبو الحسن قال: كان عليّ بن أبي طالب يخرج كل غداة لصفين في سرعان الخيل «2» ، فيقف بين الصفين ثم ينادي: يا معاوية، علام يقتتل الناس؟ ابرز اليّ أو أبرز إليك، فيكون الأمر لمن غلب. فقال له عمرو بن العاص: أنصفك الرجل! فقال له معاوية: أردتها يا عمرو! والله لا رضيت عنك حتى تبارز عليّا. فبرز إليه متنكرا؛ فلما غشيه عليّ بالسيف رمى بنفسه إلى الأرض وأبدى له سوءته فضرب عليّ وجه فرسه وانصرف عنه؛ فجلس معه معاوية يوما فنظر إليه يضحك؛ فقال عمرو:(5/87)
أضحك الله سنك؛ ما الذي أضحكك؟ قال: من حضور ذهنك يوم بارزت علياّ إذ اتّقيته بعورتك؛ أما والله لقد صادفت منّانا كريما؛ ولولا ذلك لخرم رفغيك «1» بالرمح. قال عمرو بن العاص: أما والله إني عن يمينك إذ دعاك إلى البراز، فاحولّت عيناك، وربا سحرك «2» وبدا منك ما أكره ذكره لك.
وذكر عمرو بن العاص عند علي بن أبي طالب؛ فقال فيه علي: عجبا لابن النابغة يزعم أني بلقائه أعافس «3» وأمارس، أما وشرّ القول أكذبه، إنه يسأل فيلحف ويسأل فيبخل؛ فإذا احمر البأس وحمى الوطيس وأخذت السيوف مأخذها من هام الرجال، لم يكن له هم إلا نزعه ثيابه ويمنح الناس استّه أغصه الله وترّحه.
مقتل عمار بن ياسر
العتبي قال: لما التقى الناس بصفين، نظر معاوية إلى هاشم بن عتبة، الذي يقال له المرقال لقول النبي صلّى الله عليه وسلم أرقل ليمون، وكان أعور، والراية بيده وهو يقول:
أعور يبغي نفسه محلّا ... قد عالج الحياة حتى ملّا
لا بدّ أن يفلّ أو يفلّا
فقال معاوية لعمرو بن العاص: يا عمرو، هذا المرقال؛ والله لئن زحف بالراية زحفا إنه ليوم أهل الشام الأطول، ولكني أرى ابن السوداء إلى جنبه- يعني عمّارا- وفيه عجلة في الحرب، وأرجو أن تقدمه إلى الهلكة.
وجعل عمار يقول: أبا عتبة تقدّم، فيقول: يا أبا اليقظان، أنا أعلم بالحرب منك، دعني أزحف بالراية زحفا. فلما أضجره وتقدم، أرسل معاوية خيلا فاختطفوا عمارا، فكان يسمى أهل الشام قتل عمار فتح الفتوح.(5/88)
أبو بكر بن أبي شيبة عن يزيد بن هارون عن العوّام بن حوشب عن أسود بن مسعود عن حنظلة بن خويلد قال: إني لجالس عند معاوية إذ أتاه رجلان يختصمان في رأس عمار، كل واحد منهما يقول: أنا قتلته! فقال لهما عبد الله بن عمرو بن العاص:
ليطب به أحدكما نفسا لصاحبه، فإني سمعت رسول الله صلّى الله عليه وسلم يقول له: «تقتلك الفئة الباغية» !.
أبو بكر بن أبي شيبة عن ابن علية عن ابن عون عن الحسن عن أم سلمة قالت:
سمعت رسول الله صلّى الله عليه وسلم يقول: «تقتل عمّارا الفئة الباغية» .
أبو بكر قال: حدثنا علي بن حفص عن أبي معشر عن محمد بن عمارة قال: ما زال جدّي خزيمة بن ثابت كافّا سلاحه يوم صفين، حتى قتل عمار، فلما قتل سلّ سيفه وقال: سمعت رسول الله صلّى الله عليه وسلم يقول: «تقتل عمّارا الفئة الباغية» . فما زال يقاتل حتى قتل.
أبو بكر عن غندر عن شعبة عن عمرو بن مرة عن عبد الله بن سلمة قال: رأيت عمارا يوم صفين شيخا آدم «1» طوالا، أخذ الحربة بيده ويده ترعد، وهو يقول:
والذي نفسي بيده، لقد قاتلت بهذه الحربة مع رسول الله صلّى الله عليه وسلم ثلاث مرات، وهذه الرابعة؛ والذي نفسي بيده لو ضربونا حتى يبلغوا بنا سعفات «2» هجر، لعرفت أنّا على حق وأنهم على باطل. ثم جعل يقول: صبرا عباد الله، الجنة تحت ظلال السيوف.
أبو بكر بن أبي شيبة عن وكيع عن سفيان عن حبيب عن أبي البختريّ قال: لما كان يوم صفين واشتدّت الحرب، دعا عمار بشربة لبن وشربها، وقال: إن رسول الله صلّى الله عليه وسلم قال لي: إن آخر شربة تشربها من الدنيا شربة لبن.
أبو ذرّ عن محمد بن يحيى عن محمد بن عبد الرحمن عن أبيه عن جدته أم سلمة زوج النبي صلّى الله عليه وسلم قالت: لما بني رسول الله صلّى الله عليه وسلم مسجده بالمدينة أمر باللبن يضرب وما(5/89)
يحتاج إليه؛ ثم قام رسول الله صلّى الله عليه وسلم، فوضع رداءه؛ فلما رأى ذلك المهاجرون والأنصار وضعوا أرديتهم وأكسيتهم يعملون ويرتجزون ويقولون:
لئن قعدنا والنّبيّ يعمل ... ذاك إذا لعمل مضلّل
قالت: وكان عثمان بن عفان رجلا نظيفا متنظفا، فكان يحمل اللبنة ويجافي بها عن ثوبه، فإذا وضعها نفض كفيه ونظر إلى ثوبه، فإذا أصابه شيء من التراب نفضه؛ فنظر إليه عليّ رضي الله عنه فأنشده:
لا يستوي من يعمر المساجدا ... يدأب فيها راكعا وساجدا «1»
وقائما طورا وطورا قاعدا ... ومن يرى عن التراب حائدا
فسمعها عمار بن ياسر، فجعل يرتجزها وهو لا يدري من يعني؛ فسمعه عثمان فقال: يا بن سمية، ما أعرفني بمن تعرّض. ومعه جريدة، فقال: لتكفّنّ أو لأعترضنّ بها وجهك! فسمعه النبي صلّى الله عليه وسلم وهو جالس في ظل حائط، فقال: عمّار جلدة ما بين عينيّ وأنفي، فمن بلغ ذلك منه؟ وأشار بيده فوضعها بين عينيه، فكف الناس عن ذلك، وقالوا لعمار: إن رسول الله صلّى الله عليه وسلم قد غضب فيك، ونخاف أن ينزل فينا قرآن. فقال أنا أرضيه كما غضب. فأقبل عليه فقال يا رسول الله، مالي ولأصحابك؟ قال: ومالك ولهم؟ قال: يريدون قتلي،. يحملون لبنة [لبنة] ويحملون عليّ لبنتين. فأخذ به وطاف به في المسجد وجعل يمسح وجهه من التراب ويقول: يا ابن سمية، لا يقتلك أصحابي؛ ولكن تقتلك الفئة الباغية.
فلما قتل بصفين وروى هذا الحديث عبد الله بن عمرو بن العاص، قال معاوية:
هم قتلوه؛ لأنهم أخرجوه إلى القتل! فلما بلغ ذلك عليا قال: ونحن قتلنا أيضا حمزة، لأنّا أخرجناه.
من حرب صفين
أبو الحسن قال: كانت أيام صفين كلها موافقة، ولم تكن هزيمة في أحد الفريقين إلا على حامية ثم يكرّون.(5/90)
أبو بكر بن أبي شيبة قال: انقضت وقعة صفين عن سبعين ألف قتيل: خمسين ألفا من أهل الشام، وعشرين ألفا من أهل العراق.
ولما انصرف الناس من صفين قال عمرو بن العاص:
شبّت الحرب فأعددت لها ... مشرّف الحارك محبوك الثّبج «1»
يصل الشرّ بشّر فإذا ... وثب الخيل من الشرّ معج «2»
جرشع أعظمه جفرته ... فإذا ابتلّ من الماء خرج «3»
وقال عبد الله بن عمرو بن العاص:
فإن شهدت جمل مقامي ومشهدي ... بصفّين يوما شاب منها الذّوائب
عشيّة جا أهل العراق كأنهم ... سحاب خريف صفّعته الجنائب «4»
وجئناهم تترى كأن صفوفنا ... من البحر مدّ موجه متراكب
إذا قلت قد ولّوا سراعا بدت لنا ... كتائب منهم فارجحنّت كتائب
فدارت رحانا واستدارت رحاهم ... سراة النهار ما تولّى المناكب
وقالوا لنا: إنا نرى أن تبايعوا ... علياّ فقلنا: بل نرى أن نضارب
وقال السيد الحميري وهو رأس الشيعة، وكانت الشيعة من تعظيمها له تلقى له وسادا بمسجد الكوفة:
إني أدين بما دان الوصيّ به ... وشاركت كفّه كفّي بصفّينا
في سفك ما سفكت منها إذا احتضروا ... وأبرز الله للقسط الموازينا
تلك الدّماء معا يا ربّ في عنقي ... ثم اسقني مثلها آمين آمينا
آمين! من مثلهم في مثل حالهم ... في فتية هاجروا في الله شارينا
ليسوا يريدون غير الله ربّهم ... نعم المراد توخّاه المريدونا(5/91)
وقال النجاشي يوم صفين، وكتب بها إلى معاوية:
يأيها الملك المبدي عداوته ... انظر لنفسك أيّ الأمر تأتمر
فإن نفست على الأقوام مجدهم ... فابسط يديك فإنّ الخير مبتدر
واعلم بأنّ عليّ الخير من نفر ... شمّ العرانين لا يعلوهم بشر «1»
نعم الفتى أنت إلّا أن بينكما ... كما تفاضل ضوء الشمس والقمر
وما إخالك إلّا لست منتهيا ... حتى ينالك من أظفاره ظفر
خبر عمرو بن العاص
سفيان بن عيينة قال: أخبرني أبو موسى الأشعري قال: أخبرني الحسن قال: علم معاوية والله، إن لم يبايعه عمرو لم يتم له أمر، فقال له يا عمرو، اتبعني. قال لماذا؟
للآخرة؟ فو الله ما معك آخرة؛ أم للدنيا؟ فو الله لا كان حتى أكون شريكك فيها! قال: فأنت شريكي فيها. قال: فاكتب لي مصر وكورها «2» . فكتب له مصر وكورها وكتب في آخر الكتاب: وعلى عمرو السمع والطاعة. قال عمرو: واكتب:
إن السمع والطاعة لا ينقصان من شرطه شيئا. قال معاوية: لا ينظر الناس إلى هذا.
قال عمرو: حتى تكتب. قال: فكتب، والله ما يجد بدا من كتابتها! ودخل عتبة بن أبي سفيان على معاوية وهو يكلم عمرا في مصر، وعمرو يقول له:
إنما أبايعك بها ديني! فقال عتبة: ائتمن الرجل بدينه، فإنه صاحب من أصحاب محمد صلى الله عليه وسلم.
وكتب عمرو إلى معاوية:
معاوي لا أعطيك ديني ولم أنل ... به منك دنيا، فانظرن كيف تصنع؟
وما الدين والدّنيا سواء وإنّني ... لآخذ ما تعطى ورأسي مقنّع
فإن تعطني مصرا فأربح صفقة ... أخذت بها شيخا يضرّ وينفع(5/92)
وقالوا: لما قدم عمرو بن العاص على معاوية وقام معه في شأن علي بعد أن جعل له مصر طعمة. قال له: إن بأرضك رجلا له شرف واسم، والله إن قام معك استهويت به قلوب الرجال؛ وهو عبادة بن الصامت. فأرسل إليه معاوية، فلما أتاه وسّع له بينه وبين عمرو بن العاص، فجلس بينهما، فحمد الله معاوية وأثنى عليه، وذكر فضل عبادة وسابقته، وذكر فضل عثمان وما ناله، وحضّه على القيام معه؛ فقال عبادة: قد سمعت ما قلت، أتدريان لم جلست بينكما في مكانكما؟ قالا: نعم، لفضلك وسابقتك وشرفك. قال: لا والله، ما جلست بينكما لذلك، وما كنت لأجلس بينكما في مكانكما؛ ولكن بينا نحن نسير مع رسول الله صلّى الله عليه وسلم في غزاة تبوك، إذ نظر إليكما تسيران وأنتما تتحدّثان، فالتفت إلينا فقال: إذا رأيتموهما اجتمعا ففرّقوا بينهما؛ فإنما لا يجتمعان على خير أبدا! وأنا أنهاكما عن اجتماعكما؛ فأمّا ما دعوتماني إليه من القيام معكما، فإنّ لكما عدوّا هو أغلظ أعدائكما عليكما، وأنا كامن من ورائكم في ذلك العدو، إن اجتمعتم على شيء دخلت فيه.
أمر الحكمين
أبو الحسن قال: لما كان يوم الهرير، وهو أعظم يوم بصفين، زحف أهل العراق على أهل الشام فأزالوهم عن مراكزهم، حتى انتهوا إلى سرادق»
معاوية، فدعا بالفرس وهمّ بالهزيمة، ثم التفت إلى عمرو بن العاص وقال له: ما عندك؟ قال: تأمر بالمصاحف فترفع في أطراف الرماح، ويقال: هذا كتاب الله يحكم بيننا وبينكم ...
فلما نظر أهل العراق إلى المصاحف، ارتدعوا واختلفوا: قال بعضهم: نحاكمهم إلى كتاب الله، وقال بعضهم: لا نحاكمهم، لأنا على يقين من أمرنا ولسنا على شك.
ثم أجمع رأيهم على التحكيم، فهمّ عليّ أن يقدّم أبا الأسود الدؤني، فأبى الناس عليه؛ فقال له ابن عباس: اجعلني أحد الحكمين، فو الله لأفتلنّ لك حبلا لا ينقطع(5/93)
وسطه، ولا ينشر طرفاه، فقال علي: لست من كيدك ولا من كيد معاوية في شيء؛ لا أعطيه إلا السيف حتى يغلبه الحق. قال: وهو والله لا يعطيك إلا السيف حتى يغلبك الباطل. قال: وكيف ذلك؟ قال: لأنك تطاع اليوم وتعصي غدا، وإنه يطاع ولا يعصى!.
فلما انتشر عن علي أصحابه قال: لله بلاء ابن عباس، إنه لينظر إلى الغيب بستر رقيق.
قال: ثم اجتمع أصحاب البرانس «1» - وهم وجوه أصحاب علي- على أن يقدّموا أبا موسى الأشعري- وكان مبرنسا- وقالوا: لا نرضى بغيره. فقدّمه عليّ، وقدّم معاوية عمرو بن العاص، فقال معاوية لعمرو: إنك قد رميت برجل طويل اللسان قصير الرأي، فلا ترمه بعقلك كله.
فأخلي لهما مكان يجتمعان فيه. فأمهله عمرو بن العاص ثلاثة أيام، ثم أقبل إليه بأنواع من الطعام يشهّيه بها، حتى إذا استبطن أبو موسى ناجاه عمرو فقال له: يا أبا موسى، إنك شيخ أصحاب محمد صلّى الله عليه وسلم، وذو فضلها وذو سابقتها؛ وقد ترى ما وقعت فيه هذه الأمّة من الفتنة العمياء التي لا بقاء معها؛ فهل لك أن تكون ميمون هذه الأمّة فيحقن الله بك دماءها، فإنه يقول في نفس واحدة وَمَنْ أَحْياها فَكَأَنَّما أَحْيَا النَّاسَ جَمِيعاً
«2» . فكيف بمن أحيا أنفس هذا الخلق كله؟
قال له: وكيف ذلك؟
قال: تخلع أنت عليّ بن أبي طالب، وأخلع أنا معاوية بن أبي سفيان؛ ونختار لهذه الأمّة رجلا لم يحضر في شيء من الفتنة ولم يغمس يده فيها.
قال له: ومن يكون ذلك؟(5/94)
وكان عمرو بن العاص قد فهم رأي أبي موسى في عبد الله بن عمر؛ فقال له:
عبد الله بن عمر.
فقال: إنه لكما ذكرت، ولكن كيف لي بالوثيقة منك؟
فقال له: يا أبا موسى، أَلا بِذِكْرِ اللَّهِ تَطْمَئِنُّ الْقُلُوبُ
«1» ؛ خذ من العهود والمواثيق حتى ترضى.
ثم لم يبق عمرو بن العاص عهدا ولا موثقا ولا يمينا مؤكدة حتى حلف بها، حتى بقي الشيخ مبهوتا، وقال له: قد أجبت! فنودى في الناس بالاجتماع إليهما فاجتمعوا.
فقال له عمرو: قم فأخطب الناس يا أبا موسى، فقال: قم أنت اخطبهم. فقال:
سبحان الله! أنا أتقدّمك وأنت شيخ أصحاب محمد! والله لا فعلت أبدا. قال: أو عسى في نفسك امر! - فزاده أيمانا وتوكيدا، حتى قام الشيخ فخطب الناس، فحمد الله وأثنى عليه، ثم قال:
أيها الناس، إني قد اجتمعت أنا وصاحبي على أن أخلع أنا عليّ بن أبي طالب، ويعزل هو معاوية بن أبي سفيان؛ ونجعل هذا الأمر لعبد الله بن عمر؛ فإنه لم يحضر في فتنة، ولم يغمس يده في دم امريء مسلم. ألا وإني قد خلعت عليّ بن أبي طالب كما أختلع سيفي هذا! ثم خلع سيفه من عاتقه وجلس، وقال لعمرو: قم. فقام عمرو بن العاص، فحمد الله وأثنى عليه، وقال:
أيها الناس، إنه قد كان من رأي صاحبي ما قد سمعتم، وإنه قد أشهدكم أنه خلع عليّ بن أبي طالب كما يخلع سيفه؛ وأنا أشهدكم أني قد أثبتّ معاوية بن أبي سفيان كما أثبت سيفي هذا!(5/95)
وكان قد خلع سيفه قبل أن يقوم إلى الخطبة، فأعاده على نفسه؛ فاضطرب الناس وخرجت الخوارج.
وقال أبو موسى لعمرو: لعنك الله! فإنّ مثلك كمثل الكلب: إن تحمل عليه يلهث وإن تتركه يلهث! فقال عمرو: لعنك الله! فإن مثلك كمثل الحمار يحمل أسفارا.
وخرج أبو موسى من فوره ذلك إلى مكة مستعيذا بها من عليّ، وحلف أن لا يكلمه أبدا؛ فأقام بمكة حينا حتى كتب إليه معاوية:
سلام عليك؛ أما بعد، فلو كانت النية تدفع الخطأ، لنجا المجتهد وأعذر الطالب؛ والحق لمن نصب «1» له فأصابه، وليس لمن عرض له فأخطأه؛ وقد كان الحكمان إذا حكما على عليّ لم يكن له الخيار عليهما، وقد اختاره القوم عليك، فاكره منهم ما كرهوا منك، وأقبل إلى الشام، فإني خير لك من على؛ ولا قوّة إلا بالله.
فكتب إليه أبو موسى:
سلام عليك؛ أما بعد، فإني لم يكن مني في علي، إلا ما كان من عمرو فيك، غير أني أردت بما صنعت ما عند الله، وأراد به عمرو ما عندك، وقد كان بيني وبينه شروط وشورى عن تراض، فلما رجع عمرو رجعت؛ أما قولك إن الحكمين إذا حكما على رجل لم يكن له الخيار عليهما؛ فإنما ذلك في الشاة والبعير والدينار والدرهم، فأما أمر هذه الأمة فليس لأحد فيما تكره حكم، ولن يذهب الحقّ عجز عاجز ولا خدعة فاجر، وأما دعاؤك إياي إلى الشام فليس لي رغبة عن حرم إبراهيم.
فبلغ عليا كتاب معاوية إلى أبي موسى الأشعري، فكتب إليه:
سلام عليك؛ أما بعد، فإنك امرؤ ضلّلك الهوى، واستدرجك الغرور، [فإنه من استقال الله أقاله] ، حقق بك حسن الظنّ لزومك بيت الله الحرام غير حاج ولا(5/96)
قاطن، فاستل الله يقلك [عثرتك] فإن الله يغفر ولا يغفل، وأحب عباده إليه التوابون. وكتبه سماك بن حرب.
فكتب إليه أبو موسى:
سلام عليك؛ فإنه والله لولا أني خشيت أن يرفعك مني منع الجواب إلى أعظم مما في نفسك، لم أجبك؛ لأنه ليس لي عندك عذر ينفعني ولا قوّة تمنعني، وأما قولك ولزومي بيت الله الحرام غير حاج ولا قاطن، فإني اعتزلت أهل الشام وانقطعت عن أهل العراق، وأصبت أقواما صغّروا من ذنبي ما عظّمتم، وعظّموا من حقي ما صغّرتم؛ إذ لم يكن لي منكم وليّ ولا نصير.
وكان عليّ بن أبي طالب إذ وجه الحكمين قال لهما: إنما حكمنا كما بكتاب الله فتحييا ما أحيا القرآن، وتميتا ما أمات. فلما كاد عمرو بن العاص على أبي موسى، اضطرب الناس على عليّ واختلفوا، وخرجت الخوارج، وقالوا لا حكم إلا لله! فجعل علي يتمثل بهذه الأبيات:
لي زلة إليكم فأعتذر ... سوف أكيس بعدها وأنشمر «1»
وأجمع الأمر الشتيت المنتشر
أبو الحسن قال: لما قدم أبو الأسود الدؤلي على معاوية عام الجماعة، قال له معاوية: بلغني يا أبا الأسود أن علي بن أبي طالب أراد أن يجعلك أحد الحكمين؛ فما كنت تحكم به؟ قال: لو جعلني أحدهما لجمعت ألفا من المهاجرين وأبناء المهاجرين وألف من الأنصار وأبناء الأنصار ثم ناشدتهم الله: آلمهاجرون وأبناء المهاجرين أولى بهذا الأمر أو الطلقاء؟ قال له معاوية: لله أبوك! أيّ حكم كنت تكون لو حكّمت!(5/97)
احتجاج علي وأهل بيته في الحكمين
أبو الحسن قال: لما انقضى أمر الحكمين واختلف أصحاب علي، قال بعض الناس: ما منع أمير المؤمنين أن يأمر بعض أهل بيته فيتكلم؟ فإنه لم يبق أحد من رؤساء العرب إلا وقد تكلم. قال: فبينما عليّ يوما على المنبر إذ التفت إلى الحسن ابنه فقال: قم يا حسن فقل في هذين الرجلين: عبد الله بن قيس وعمرو ابن العاص. فقام الحسن، فقال:
«أيها الناس، إنكم قد أكثرتم في هذين الرجلين، وإنما بعثا ليحكما بالكتاب دون الهوى، فحكما بالهوى دون الكتاب؛ ومن كان هكذا لم يسم حكما، ولكنه محكوم عليه؛ وقد أخطأ عبد الله بن قيس إذ جعلها لعبد الله بن عمر، فأخطأ في ثلاث خصال: واحدة، أنه خالف أباه، إذ لم يرضه لها ولا جعله من أهل الشورى؛ وأخرى، أنه لم يستأمر في نفسه؛ وثالثة، أنه لم يجتمع عليه المهاجرون والأنصار الدين يعقدون الإمارة ويحكمون بها على الناس. وأما الحكومة فقد حكّم النبي عليه الصلاة والسلام سعد بن معاذ في بني قريظة، فحكم بما يرضي الله به ولا شك، ولو خالف لم يرضه رسول الله صلّى الله عليه وسلم.
ثم جلس، فقال لعبد الله بن عباس: قم. فقام عبد الله بن عباس، فقال بعد أن حمد الله وأثنى عليه:
أيها الناس، إن للحق أهلا أصابوه بالتوفيق، والناس بين راض به وراغب عنه، فإنه بعث عبد الله بن قيس يهدي إلى ضلالة، وبعث عمرو بضلالة إلى هدى فلما التقيا رجع عبد الله بن قيس عن هداه، وثبت عمرو على ضلالة؛ وايم الله لئن كانا حكما بما سارا به لقد سار عبد الله وعلي إمامه، وسار عمرو ومعاوية إمامه، فما بعد هذا من غيب ينتظر.
فقال عليّ لعبد الله بن جعفر بن أبي طالب: قم. فقام فحمد الله وأثنى عليه، وقال:(5/98)
أيها الناس، إن هذا الأمر كان النظر فيه إلى علي والرضا إلى غيره، فجئتم إلى عبد الله بن قيس مبرنسا فقلتم، لا نرضى إلا به. وايم الله ما استفدنا به علما، ولا انتظرنا منه غائبا، وما نعرفه صاحبا، وما أفسدا بما فعلا أهل العراق، وما أصلحا أهل الشام، ولا رفعا حقّ علي، ولا وضعا باطل معاوية، ولا يذهب الحقّ رقية «1» راق، ولا نفخة شيطان، ونحن اليوم على ما كنا عليه أمس.
احتجاج عليّ على أهل النهروان
قالوا: إن عليا لما اختلف عليه أهل النهروان والقرى وأصحاب البرانس، ونزلوا قرية يقال لها حروراء، وذلك بعد وقعة الجمل، فرجع إليهم علي بن أبي طالب فقال لهم: يا هؤلاء، من زعيمكم؟ قالوا: ابن الكواء. قال: فليبرز إلي. فخرج إليه ابن الكواء، فقال له عليّ: يا بن الكواء، ما أخرجكم علينا بعد رضاكم بالحكمين، ومقامكم بالكوفة؟ قال: قاتلت بنا عدواّ لا نشك في جهاده، فزعمت أن قتلانا في الجنة وقتلاهم في النار، فبينما نحن كذلك، إذ أرسلت منافقا، وحكّمت كافرا، وكان مما شكك في أمر الله أن قلت للقوم حين دعوتهم: كتاب الله بيني وبينكم، فإن قضى عليّ بايعتكم، وإن قضى عليكم بايعتموني. فلولا شكّك لم تفعل هذا والحقّ في يدك. فقال عليّ: يا بن الكواء، إنما الجواب بعد الفراغ؛ أفرغت فأجيبك؟ قال: نعم. قال علي: أما قتالك معي عدّوا لا تشك في جهاده فصدقت، ولو شككت فيهم لم أقاتلهم؛ وأما قتلانا وقتلاهم، فقد قال الله في ذلك ما يستغنى به عن قولي؛ وأما إرسالي المنافق وتحكيمي الكافر، فأنت أرسلت أبا موسى مبرنسا، ومعاوية حكّم عمرا، أتيت بأبي موسى مبرنسا، فقلت: لا نرضى إلا أبا موسى! فهلا قام إلى رجل منكم فقال: يا علي، لا تعط هذه الدنية فإنها ضلالة؟ وأما قولي لمعاوية: إن جرّني إليك كتاب الله تبعتك، وإن جرك إليّ تبعتني؛ زعمت أني لم أعط ذلك إلا من شك، فقد علمت أن أوثق ما في يديك هذا الأمر، فحدّثني ويحك عن(5/99)
اليهودي والنصراني ومشركي العرب، أهم أقرب إلى كتاب الله أم معاوية وأهل الشام؟
قال: بل معاوية وأهل الشام أقرب.
قال علي: أفرسول الله صلّى الله عليه وسلم كان أوثق بما في يديه من كتاب الله أو أنا؟
قال: بل رسول الله.
قال: أفرأيت الله تبارك وتعالى حين يقول: قُلْ فَأْتُوا بِكِتابٍ مِنْ عِنْدِ اللَّهِ هُوَ أَهْدى مِنْهُما أَتَّبِعْهُ إِنْ كُنْتُمْ صادِقِينَ
«1» ؛ أما كان رسول الله يعلم أنه لا يؤتي بكتاب هو أهدى مما في يديه؟ قال: بلى. قال: فلم أعطى رسول الله القوم ما أعطاهم؟ قال: إنصافا وحجة. قال: فإني أعطيت القوم ما أعطاهم رسول الله. قال ابن الكواء: فإني أخطأت، هذه واحدة، زدني.
قال علي: فما أعظم ما نقمتم عليّ؟ قال تحكيم الحكمين؛ نظرنا في أمرنا فوجدنا تحكيمهما شكا وتبذيرا.
قال علي: فمتى سمّي أبو موسى حكما: حين أرسل، أو حين حكم؟ قال: حين أرسل قال: أليس قد سار وهو مسلم، وأنت ترجو أن يحكم بما أنزل الله؟ قال: نعم.
قال عليّ: فلا أرى الضلال في إرساله. فقال ابن الكواء: سمّي حكما حين حكم قال: نعم، إذا فإرساله كان عدلا، أرأيت يابن الكواء لو أن رسول الله بعث مؤمنا إلى قوم مشركين يدعوهم إلى كتاب الله فارتدّ على عقبه كافرا، كان يضرّ نبيّ الله شيئا؟ قال: لا. قال علي: فما كان ذنبي إن كان أبو موسى ضلّ، هل رضيت حكومته حين حكم، أو قولّه إذ قال؟
قال ابن الكواء: لا، ولكنك جعلت مسلما وكافرا يحكمان في كتاب الله.(5/100)
قال عليّ: ويلك يا ابن الكوّاء! هل بعث عمرا غير معاوية؟ وكيف أحكمّه وحكمه على ضرب عنقي؟ إنما رضي به صاحبه كما رضيت أنت بصاحبك، وقد يجتمع المؤمن والكافر يحكمان في أمر الله؛ أرأيت لو أن رجلا مؤمنا تزوج يهودية أو نصرانية فخافا شقاق بينهما، ففزع الناس إلى كتاب الله وفي كتابه: فَابْعَثُوا حَكَماً مِنْ أَهْلِهِ وَحَكَماً مِنْ أَهْلِها
«1» ، فجاء رجل من اليهود ورجل من النصارى ورجل من المسلمين الذين يجوز لهما أن يحكما في كتاب الله، فحكما.
قال ابن الكواء: وهذه أيضا، أمهلنا حتى ننظر. فانصرف عنهم علي، فقال له صعصعة بن صوحان: يا أمير المؤمنين، ائذن لي في كلام القوم. قال: نعم ما لم تبسط يدا. قال: فنادى صعصعة ابن الكواء؛ فخرج إليه فقال: أنشدكم بالله يا معشر الخارجين، أن لا تكونوا عارا على من يغزو لغيره، وأن لا تخرجوا بأرض تسمّوا بها بعد اليوم، ولا تستعجلوا ضلال العام خشية ضلال عام قابل. فقال ابن الكواء: إنّ صاحبك لقينا بأمر قولك فيه صغير، فأمسك.
قالوا: إن عليا خرج بعد ذلك إليهم فخرج إليه ابن الكواء، فقال له علي: يا ابن الكواء إنه من أذنب في هذا الدين ذنبا يكون في الإسلام حدثا استتبناه من ذلك الذنب بعينه، وإن توبتك أن تعرف هدى ما خرجت منه، وضلال ما دخلت فيه.
قال ابن الكواء: إننا لا ننكر أنا قد فتنّا. فقال له عبد الله بن عمرو بن جرموز:
أدركنا والله هذه الآية الم أَحَسِبَ النَّاسُ أَنْ يُتْرَكُوا أَنْ يَقُولُوا آمَنَّا وَهُمْ لا يُفْتَنُونَ
«2» . وكان عبد الله من قراء أهل حروراء، فرجعوا فصلوا خلف عليّ الظهر، وانصرفوا معه إلى الكوفة، ثم اختلفوا بعد ذلك في رجعتهم ولام بعضهم بعضا، فقال زيد بن عبد الله الراسي، وكان من أهل حروراء، يشككهم:
شككتم ومن أرسى ثبيرا مكانه ... ولو لم تشكّوا ما انثنيتم عن الحرب
وتحكيمكم عمرا على غير توبة ... وكان لعبد الله خطب من الخطب(5/101)
فأنكصّه للعقب لمّا خلا به ... فأصبح يهوي من ذرى حالق صعب «1»
وقال الرياحي:
ألم تر أنّ الله أنزل حكمه ... وعمرو وعبد الله مختلفان
وقال مسلم بن يزيد الثقفي، وكان من عباد حروراء:
وإن كان ما عبناه عيبا فحسبنا ... خطايا بأخذ النّصح من غير ناصح
وإن كان عيبا فاعظمنّ بتركنا ... عليّا على أمر من الحقّ واضح
ونحن أناس بين بين وعلنا ... سررنا بأمر غبّه غير صالح
ثم خرجوا على عليّ فقتلهم بالنهروان.
خروج عبد الله بن عباس على عليّ
قال أبو بكر بن أبي شيبة: كان عبد الله بن عباس من أحبّ الناس إلى عمر بن الخطاب، وكان يقدّمه على الأكابر من أصحاب محمد صلّى الله عليه وسلم، ولم يستعمله قط، فقال له يوما: كدت أستعملك، ولكن أخشى أن تستحل الفيء «2» على التأويل! فلما صار الأمر إلى عليّ استعمله على البصرة، فاستحل الفيء على تأويل قول الله تعالى: وَاعْلَمُوا أَنَّما غَنِمْتُمْ مِنْ شَيْءٍ فَأَنَّ لِلَّهِ خُمُسَهُ وَلِلرَّسُولِ وَلِذِي الْقُرْبى
واستحله من قرابته من رسول الله صلّى الله عليه وسلم.
وروى أبو مخنف عن سليمان بن أبي راشد عن عبد الرحمن بن عبيد قال: مرّ ابن عباس على أبي الأسود الدؤلي، فقال له: لو كنت من البهائم لكنت جملا ولو كنت راعيا ما بلغت المرعى فكتب أبو الأسود الدؤلي إلى عليّ:
أما بعد، فإنّ الله جعلك واليا مؤتمنا، وراعيا مسئولا، وقد بلوناك رحمك الله(5/102)
فوجدناك عظيم الأمانة، ناصحّا للأمة؛ توفّر لهم فيئهم، وتكف نفسك عن دنياهم فلا تأكل أموالهم، ولا ترتشي بشيء في أحكامهم. وابن عمك قد أكل ما تحت يديه من غير علمك، فلم يسعني كتمانك ذلك، فانظر رحمك الله فيما هنالك، واكتب إليّ برأيك، فما أحببت أتّبعه إن شاء الله، والسلام.
فكتب إليه عليّ:
أما بعد، فمثلك نصح الإمام والأمة، [وادّى الأمانة] ووالي على الحق، وفارق الجور؛ وقد كتبت لصاحبك بما كتبت إليّ فيه [من أمره] ، ولم أعلمه بكتابك إليّ، فلا تدع إعلامي ما يكون بحضرتك، مما النظر فيه للأمة صلاح، فإنك بذلك جدير، وهو حق واجب لله عليك، والسلام.
وكتب عليّ إلى ابن عباس:
أما بعد، فإنه قد بلغني عنك أمر، إن كنت فعلته فقد أسخطت الله، وأخزيت أمانتك، وعصيت إمامك، وخنت المسلمين. بلغني أنك جردت «1» الأرض وأكلت ما تحت يدك، فارفع إليّ حسابك، واعلم أن حساب الله أعظم من حساب الناس والسلام.
فكتب إليه ابن عباس: أما بعد، فإن كل الذي بلغك باطل، وأنا لما تحت يدي ضابط، وعليه حافظ، فلا تصدق عليّ الظنين، والسلام.
فكتب إليه عليّ: أما بعد، فإنه لا يسعني تركك حتى تعلمني ما أخذت من الجزية: من أين أخذته؟ وما وضعت منها: أين وضعته؟ فاتق الله فيما ائتمنتك عليه واسترعيتك إياه، فإن المتاع بما أنت رازمه «2» قليل، وتباعته وبيلة لا تبيد، والسلام.
فلما رأى أن عليا غير مقلع عنه كتب إليه: أما بعد، فإنه بلغني تعظيمك عليّ(5/103)
مرزئة مال بلغك أني رزأته «1» أهل هذه البلاد، وأيم الله لأن ألقى الله بما في بطن هذه الأرض من عقيانها «2» ومخبئها، وبما على ظهرها من طلاعها «3» ذهبا، أحبّ إليّ من أن ألقى الله وقد سفكت دماء هذه الأمة لأنال بذلك الملك والإمرة. ابعث إلى عملك من أحببت، فإني ظاعن، والسلام.
فلما أراد عبد الله المسير من البصرة دعا أخواله بني هلال بن عامر بن صعصعة ليمنعوه، فجاء الضحاك بن عبد الله الهلالي فأجاره، ومعه رجل منهم يقال له عبد الله بن رزين، وكان شجاعا بئيسا «4» ؛ فقالت بنو هلال: لا غنى بنا عن هوازن فقالت هوازن: لا غنى بنا عن سليم. ثم أتتهم قيس، فلما رأى اجتماعهم له حمل ما كان في بيت مال البصرة، وكان فيما زعموا ستة آلاف ألف، فجعله في الغرائر.
قال: فحدثني الأزرق اليشكري، قال: سمعت أشياخنا من أهل البصرة قالوا: لما وضع المال في الغرائر ثم مضى به، تبعته الأخماس كلها بالطفّ «5» ، على أربعة فراسخ من البصرة، فواقفوه، فقالت لهم قيس: والله لا تصلون إليه ومنا عين تطرف. فقال صبرة [بن شيمان] ، وكان رأس الأزد: والله إن قيسا لإخوتنا في الإسلام، وجيراننا في الدار، وأعواننا على العدوّ وإن الذي تذهبون به من المال لو ردّ عليكم لكان نصيبكم منه الأقلّ، وهو [غدا] خير لكم من المال. قالوا: فما ترى؟ قال:
انصرفوا عنهم.
فقال بكر بن وائل وعبد القيس: نعم الرأي رأي صبرة واعتزلوهم.
فقالت بنو تميم: والله لا نفارقهم حتى نقاتلهم عليه. فقال الأحنف بن قيس: أنتم والله أحق أن لا تقاتلوهم عليه، وقد ترك قتالهم من هو أبعد منكم رحما! قالوا:
والله لنقاتلنهم! فقال: والله لا أساعدكم على قتالهم. وانصرف عنهم.(5/104)
فقدموا عليهم ابن مجاعة فقاتلهم، فحمل عليه الضحاك بن عبد الله فطعنه في كتفه فصرعه، فسقط إلى الأرض بغير قتل. وحمل سلمة بن ذؤيب السعدي على الضحاك فصرعه أيضا، وكثرت بينهم الجراح من غير قتل.
فقال الأخماس الذين اعتزلوا: والله ما صنعتم شيئا، اعتزلتم قتالهم وتركتموهم يتشاجرون. فجاؤا حتى صرفوا وجوه بعضهم عن بعض، وقالوا لبني تميم: والله إن هذا للؤم قبيح، لنحن أسخى أنفسا منكم حين تركنا أموالنا لبني عمكم وأنتم تقاتلونهم عليها، خلوا عنهم وأرواحهم، فإن القوم فدحوا «1» . فانصرفوا عنهم.
ومضى معه ناس من قيس، فيهم الضحاك بن عبد الله، وعبد الله بن رزين، حتى قدموا الحجاز فنزل مكة، فجعل راجز لعبد الله بن عباس يسوق له في الطريق ويقول:
صبّحت من كاظمة القصر الخرب ... مع ابن عباس بن عبد المطلب «2»
وجعل ابن عباس يرتجز ويقول:
آوي إلى أهلك يا رباب ... آوي فقد حان لك الإياب
وجعل أيضا يرتجز ويقول:
وهنّ يمشين بنا هميسا ... إن يصدق الطير ننك لميسا «3»
فقال له: يا أبا العباس، أمثلك يرفث «4» في هذا الموضع؟ قال: إنما الرفث ما يقال عند النساء.
قال أبو محمد: فلما نزل مكة اشترى من عطاء بن جبير مولى بني كعب من جواريه ثلاث مولدات حجازيات يقال لهن: شادن، وحوراء، وفتون، بثلاثة آلاف دينار.(5/105)
وقال سليمان بن أبي راشد عن عبد الله بن عبيد عن أبي الكنود، قال: كنت من أعوان عبد الله بالبصرة، فلما كان من أمره ما كان أتيت عليا فأخبرته فقال: وَاتْلُ عَلَيْهِمْ نَبَأَ الَّذِي آتَيْناهُ آياتِنا فَانْسَلَخَ مِنْها فَأَتْبَعَهُ الشَّيْطانُ فَكانَ مِنَ الْغاوِينَ
«1» .
ثم كتب علي إليه:
أما بعد، فإني كنت أشركتك في أمانتي، [وجعلتك شعاري وبطانتي] ، ولم يكن من أهل بيتي رجل أوثق عندي منك، لمواساتي وموازرتي، وأداء الأمانة [إليّ] ؛ فلما رأيت الزمان قد كلب على ابن عمك، والعدوّ قد حرب، وأمانة الناس قد خزيت، وهذه الأمة قد فنكت [وشغرت] ، قلبت لابن عمّك ظهر المجن «2» ، ففارقته مع القوم المفارقين، وخذلته أسوأ خذلان وخنته مع من خان، فلا ابن عمك آسيت، ولا الأمانة إليه أدّيت؛ كأنك لم تكن على بينة من ربّك، و [كأنك] إنما كنت [تكيد] أمة محمد عن دنياهم، و [تنوي] غرّتهم عن فيتهم، فلما أمكنتك الفرصة في خيانة الأمة، أسرعت الغدرة، وعاجلت الوثبة، فاختطفت ما قدرت عليه من أموالهم، وانقلبت بها إلى الحجاز، كأنك إنما حزت على أهلك ميراثك من أبيك وأمك؛ سبحان الله! أما تؤمن بالمعاد؟ أما تخاف الحساب؟ أما تعلم أنك تأكل حراما، وتشرب حراما، وتشتري الإماء وتنكحهم بأموال اليتامى والأرامل والمجاهدين في سبيل الله التي أفاء الله عليهم؟
فاتق الله وأدّ إلى القوم أموالهم: فإنك والله لئن لم تفعل وأمكنني الله منك لأعذرن إلى الله فيك: فو الله لو أن الحسن والحسين فعلا مثل الذي فعلت، ما كانت لهما عندي هوادة، ولما تركتهما حتى آخذ الحق منهما، والسلام.
فكتب إليه ابن عباس:
أما بعد، فقد بلغني كتابك تعظّم عليّ أمانة المال الذي أصبت من بيت مال(5/106)
البصرة، ولعمري إنّ حقي في بيت مال الله أكثر من الذي أخذت! والسلام.
فكتب إليه عليّ:
أما بعد، فإن العجب كل العجب منك إذ ترى لنفسك في بيت مال الله أكثر مما لرجل من المسلمين؛ قد أفلحت إن كان تمنّيك الباطل وادعاءك ما لا يكون، ينجيك من الإثم ويحلّ لك ما حرم الله عليك؛ عمرك الله! إنك لأنت البعيد، وقد بلغني أنك اتخذت مكة وطنا، وضربت بها عطنا «1» ، تشتري المولدات من المدينة والطائف، وتختارهن على عينك، وتعطي بهن مال غيرك؛ وإني أقسم بالله وربك ربّ العزة ما أحب أن ما أخذت من أموالهم حلال لي أدعه ميراثا لعقبى، فما بال اغتباطك به تأكله حراما. ضحّ رويدا، فكأنك قد بلغت المدى، وعرضت عليك أعمالك بالمحل الذي ينادي فيه المغتر بالحسرة، ويتمنى المضيّع التوبة والظالم الرجعة! فكتب إليه ابن عباس:
والله لئن لم تدعني من أساطيرك لأحملّته إلى معاوية يقاتلك به.
فكفّ عنه عليّ.
مقتل علي بن أبي طالب رضي الله عنه
سفيان بن عيينة قال: كان علي بن أبي طالب رضي الله عنه يخرج بالليل إلى المسجد، فقال أناس من أصحابه: نخشى أن يصيبه بعض عدوّه، ولكن تعالوا نحرسه.
فخرج ذات ليلة فإذا هو بنا، فقال: ما شأنكم؟ فكتمناه، فعزم علينا، فأخبرناه، فقال: تحرسوني من أهل السماء أو من أهل الأرض؟ قلنا: من أهل الأرض. قال: إنه ليس يقضى في الأرض حتى يقضى في السماء! التميمي بإسناد له قال: لما تواعد ابن ملجم وصاحباه بقتل عليّ ومعاوية وعمرو(5/107)
ابن العاص، دخل ابن ملجم المسجد في بزوغ الفجر الأول، فدخل في الصلاة تطوّعا، ثم افتتح في القراءة وجعل يكرر هذه الآية: وَمِنَ النَّاسِ مَنْ يَشْرِي نَفْسَهُ ابْتِغاءَ مَرْضاتِ اللَّهِ
«1» فأقبل ابن أبي طالب بيده مخفقة «2» وهو يوقظ الناس للصلاة ويقول: أيها الناس، الصلاة الصلاة. فمرّ بابن ملجم وهو يردّد هذه الآية، فظن عليّ أنه ينسى فيها، ففتح عليه فقال.. وَاللَّهُ رَؤُفٌ بِالْعِبادِ
«3» ثم انصرف علي وهو يريد أن يدخل الدار، فاتبعه فضربه على قرنه «4» ، ووقع السيف في الجدار فأطار فدرة «5» من آخره، فابتدره الناس فأخذوه، ووقع السيف منه، فجعل يقول: أيها الناس، احذروا السيف فإنه مسموم! قال: فأتي به علي، فقال: احبسوه ثلاثا وأطعموه واسقوه، فإن أعش أر فيه رأيي، وإن أمت فاقتلوه ولا تمثّلوا به، فمات من تلك الضربة، فأخذه عبد الله بن جعفر فقطع يديه ورجليه، فلم يفزع، ثم أراد قطع لسانه ففزع؛ فقيل له: لم لم تفزع لقطع يديك ورجليك وفزعت لقطع لسانك؟ قال: إني أكره أن تمرّ بي ساعة لا أذكر الله فيها! ثم قطعوا لسانه وضربوا عنقه.
وتوجه الخارجي الآخر إلى معاوية فلم يجد إليه سبيلا.
وتوجه الثالث إلى عمرو فوجده قد أغفل تلك الليلة فلم يخرج إلى الصلاة، وقدّم مكانه رجلا يقال له خارجة فضربه الخارجي بالسيف وهو يظنه عمرو بن العاص، فقتله؛ فأخذه الناس فقالوا: قتلت خارجة! قال: أو ليس عمرا؟ قالوا له: لا! قال:
أردت عمرا وأراد الله خارجة! وفي الحديث أن النبي صلّى الله عليه وسلم قال لعلي: ألا أخبرك بأشد الناس عذابا يوم القيامة؟
قال: أخبرني يا رسول الله. قال: فإن أشد الناس عذابا يوم القيامة: عاقر ناقة ثمود، وخاضب لحيتك بدم رأسك!(5/108)
وقال كثيّر عزة.
ألا إنّ الأئمة من قريش ... ولاة العهد أربعة سواء
عليّ والثلاثة من بنيه ... هم الأسباط ليس بهم خفاء «1»
فسبط سبط إيمان وبرّ ... وسبط غيّبته كربلاء
وسبط لا يذوق الموت حتى ... يقود الخيل يقدمها اللواء
تغيّب لا يرى عنهم زمانا ... برضوى عنده عسل وماء
قال الحسن بن علي صبيحة الليلة التي قتل فيها علي بن أبي طالب رضي الله عنه:
حدثني أبي البارحة في هذا المسجد، فقال: يا بني، إني صليت البارحة ما رزق الله، ثم نمت نومة فرأيت رسول الله صلّى الله عليه وسلم، فشكوت إليه ما أنا فيه من مخالفة أصحابي وقلة رغبتهم في الجهاد، فقال لي: ادع الله أن يريحك منهم. فدعوت الله! قال الحسن صبيحة تلك الليلة: أيها الناس، إنه قتل فيكم الليلة رجل كان رسول الله صلّى الله عليه وسلم يبعثه فيكتنفه جبريل عن يمينه وميكائيل عن يساره، فلا ينثني حتى يفتح الله له، ما ترك إلا ثلاثمائة درهم.
خلافة الحسن بن علي
ثم بويع للحسن بن علي- أمه فاطمة بنت رسول الله صلّى الله عليه وسلم- في شهر رمضان سنة أربعين من التاريخ، فكتب إليه ابن عباس:
إن الناس قد ولّوك أمرهم بعد علي؛ فاشدد عن يمينك وجاهد عدوك، واستر من الظّنين ذنبه بما لا يثلم دينك، واستعمل أهل البيوتات، تستصلح بهم عشائرهم ...
ثم اجتمع الحسن بن علي ومعاوية بمسكن من أرض السواد من ناحية الأنبار، واصطلحا، وسلم الحسن الأمر إلى معاوية، وذلك في شهر جمادي الأولى سنة إحدى وأربعين، ويسمى عام الجماعة.(5/109)
فكانت ولاية الحسن سبعة أشهر وسبعة أيام.
ومات الحسن في المدينة سنة تسع وأربعين، وهو ابن ست وأربعين سنة؛ وصلى عليه سعيد بن العاص وهو والي المدينة، وأوصى أن يدفن مع جده في بيت عائشة، فمنعه مروان بن الحكم، فردوه إلى البقيع.
وقال هريرة لمروان: علام تمنع أن يدفن مع جده؟ فلقد أشهد أني سمعت رسول الله صلّى الله عليه وسلم يقول: «الحسن والحسين سيّدا شباب أهل الجنة» فقال له مروان: لقد ضيّع حديث نبيه إذ لم يروه غيرك. قال: أما إنك إذ قلت ذلك: لقد صحبته حتى عرفت من أحبّ ومن أبغض، ومن نفى ومن أقرّ، ومن دعا له ومن دعا عليه! ولما بلغ معاوية موت الحسن بن عليّ خرّ ساجدا لله، ثم أرسل إلى ابن عباس وكان معه في الشام، فعزاه وهو مستبشر، وقال له. ابن كم سنة مات أبو محمد؟ فقال له:
سنه كان يسمع في قريش، فالعجب من أن يجهله مثلك.
قال: بلغني أنه ترك أطفالا صغارا.
قال: كل ما كان صغيرا يكبر، وإن طفلنا لكهل، وإنّ صغيرنا لكبير! ثم قال:
ما لي أراك يا معاوية مستبشرا بموت الحسن بن علي؟ فو الله لا ينسأ في أجلك، ولا يسدّ حفرتك؛ وما أقلّ بقاءنا بعده! ثم خرج ابن عباس؛ فبعث إليه معاوية ابنه يزيد، فقعد بين يديه فعزّاه واستعبر لموت الحسن، فلما ذهب أتبعه ابن عباس بصره وقال: إذا ذهب آل حرب ذهب الحلم من الناس.
[معاوية]
خلافة معاوية
ثم اجتمع الناس على معاوية سنة إحدى وأربعين، وهو عام الجماعة؛ فبايعه أهل الأمصار كلها، وكتب بينه وبين الحسن كتابا وشروطا، ووصله بأربعين ألفا.(5/110)
وفي رواية أبي بكر بن أبي شيبة، أنه قال له: والله لأجيزنّك بجائزة ما أجزت بها أحدا قبلك، ولا أجيز بها أحدا بعدك! فأمر له بأربعمائة ألف.
هو: معاوية بن أبي سفيان بن حرب بن أمية بن عبد شمس بن عبد مناف.
وكنيته أبو عبد الرحمن.
وأمه هند ابنة عتبة بن ربيعة بن عبد شمس بن عبد مناف.
ومات معاوية بدمشق يوم الخميس لثمان بقين من رجب سنة ستين- وصلّى عليه الضحاك بن قيس- وهو ابن ثلاث وسبعين سنة، ويقال: ابن ثمانين سنة.
كانت ولايته تسع عشرة سنة وتسعة أشهر وسبعة وعشرين يوما.
صاحب شرطته: يزيد بن الحارث العبسي، وعلى حرسه- وهو أوّل من اتخذ حرسا- رجل من الموالي يقال له المختار، وحاجبه سعد مولاه، وعلى القضاء أبو إدريس الخولاني.
وولد له عبد الرحمن وعبد الله، من فاختة بنت قرظة؛ أما عبد الرحمن فمات صغيرا، وأما عبد الله فمات كبيرا، وكان ضعيفا، ولا عقب له من الذكور؛ وكان له بنت يقال لها عاتكة، تزوّجها يزيد بن عبد الملك، وفيها يقول الشاعر:
يا بيت عاتكة الذي أتغزّل ... حذر العدا وبه الفؤاد موكّل
ويزيد بن معاوية، وأمّه ابنة بحدل، كلبية.
فضائل معاوية
ذكر عمرو بن العاص معاوية، فقال: احذروا قرم قريش وابن كريمها من يضحك عند الغضب، ولا ينام إلا على الرضا، ويتناول ما فوقه من تحته.
سئل عبد الله بن عباس عن معاوية، فقال: سما بشيء أسرّه، واستظهر بشيء أعلنه، فحاول ما أسر بما أعلن فناله، وكان حلمه قاهرا لغضبه، وجوده غالبا على منعه، يصل ولا يقطع، ويجمع ولا يفرّق، فاستقام له أمره وجرى إلى مدته.(5/111)
قيل: فأخبرنا عن ابنه. قال: كان في خير سبيله، وكان أبوه قد أحكمه؛ وأمره ونهاه، فتعلق بذلك وسلك طريقا مطلّلا له.
وقال معاوية: لم يكن في الشباب شيء إلا كان مني فيه مستمتع، غير أني لم أكن صرعة»
ولا نكحة «2» ولا سبّا.
قال الأصمعي: السّب: كثير السباب.
ميمون بن مهران قال: كان أول من جلس بين الخطبتين معاوية، وأول من وضع شرف العطاء ألفين معاوية.
وقال معاوية: لا زلت أطمع في الخلافة منذ قال لي رسول الله صلّى الله عليه وسلم: يا معاوية، إذا ملكت فأحسن.
العتبي عن أبيه قال: قال معاوية لقريش: ألا أخبركم عني وعنكم؟ قالوا: بلى.
قال: فأنا أطير إذا وقعتم، وأقع إذا طرتم، ولو وافق طيراني طيرانكم سقطنا جميعا.
وقال معاوية: لو أنّ بيني وبين الناس عشرة ما انقطعت أبدا. قيل له: وكيف ذلك؟ قال: كنت إذا مدّوها أرخيتها، وإذا أرخوها مددتها.
وقال زياد: ما غلبني أمير المؤمنين معاوية قطّ إلا في أمر واحد: طلبت رجلا من عمالي كسر عليّ الخراج فلجأ إليه، فكتبت إليه: إنّ هذا فساد عملي وعملك.
فكتب إليّ:
إنه لا ينبغي لنا أن نسوس الناس سياسة واحدة؛ لا نلين جميعا فيمرح الناس في المعصية، ولا نشتدّ جميعا فنحمل الناس على المهالك، ولكن تكون أنت للشدّة والفظاظة والغلظة، وأكون أنا للرأفة والرحمة.(5/112)
أخبار معاوية
قدم معاوية المدينة بعد عام الجماعة، فدخل دار عثمان بن عفان، فصاحت عائشة ابنة عثمان وبكت ونادت أباها؛ فقال معاوية: يا ابنة أخي، إن الناس أعطونا طاعة وأعطيناهم أمانا، وأظهرنا لهم حلما تحته غضب، وأظهروا لنا ذلّا تحته حقد، ومع كل إنسان سيفه ويرى موضع أصحابه، فإن نكثناهم نكثوا بنا، ولا ندري أعلينا تكون أم لنا، ولأن تكوني ابنة عمّ أمير المؤمنين، خير من أن تكوني امرأة من عرض الناس! القحذمي قال: لما قدم معاوية المدينة قال:
أيها الناس، إنّ أبا بكر رضي الله عنه لم يرد الدنيا ولم ترده، وأما عمر فأرادته الدنيا ولم يردها، وأما عثمان فنال منها ونالت منها، وأما أنا فمالت بي وملت بها، وأنا ألينها فهي أمّي وأنا ابنها، فإن لم تجدوني خيركم فأنا خير لكم. ثم نزل.
قال جويرية بن أسماء: نال بسر بن أرطأة من علي بن أبي طالب عند معاوية، وزيد بن عمر بن الخطاب جالس، فعلا بسرا ضربا حتى شجه؛ فقال معاوية: يا زيد، عمدت إلى شيخ [من] فريش سيد أهل الشام فضربته! وأقبل على بسر وقال:
تشتم عليا وهو جدّه، وأبوه الفاروق، على رءوس الناس! أفكنت تراه يصبر على شتم عليّ؟
وكانت أمّ زيد: أمّ كلثوم بنت عليّ بن أبي طالب.
ولما قدم معاوية مكة، وكان عمر قد استعمله عليها دخل على أمه هند، فقالت له: يا بني إنه قلّما ولدت حرّة مثلك، وقد استعملك هذا الرجل فاعمل بما وافقه، أحببت ذلك أم كرهته؟
ثم دخل على أبيه أبي سفيان، فقال له: يا بني، إن هؤلاء الرهط من المهاجرين سبقونا وتأخّرنا، فرفعهم سبقهم، وقصّر بنا تأخّرنا، فصرنا أتباعا وصاروا قادة؛(5/113)
وقد قلدوك جسيما من أمرهم، فلا تخالفنّ رأيهم، فإنك تجري إلى أمد لم تبلغه، ولو قد بلغته لتنفست فيه! قال معاية: فعجبت من اتفاقهما في المعنى على اختلافهما في اللفظ.
العتبى عن أبيه، أن عمر بن الخطاب قدم الشام على حمار ومعه عبد الرحمن بن عوف على حمار، فتلقاهما معاوية في موكب نبيل، فجاوز عمر حتى أخبر، فرجع إليه، فلما قرب منه نزل [إليه] فأعرض عنه عمر، فجعل يمشي إلى جنبه راجلا، فقال له عبد الرحمن بن عوف: أتعبت الرجل! فأقبل عليه عمر، فقال: يا معاوية، أنت صاحب الموكب آنفا مع ما بلغني من وقوف ذوي الحاجات ببابك؟ قال: نعم يا أمير المؤمنين. قال: ولم ذلك؟
قال: لأنا في بلاد لا نمتنع فيها من جواسيس العدو، فلا بد لهم مما يرهبهم من هيبهة السلطان، فإن أمرتني بذلك أقمت عليه، وإن نهيتني عنه انتهيت.
قال: لئن كان الذي قلت حقا فإنه رأي أريب «1» ، ولئن كان باطلا فإنها خدعة أديب، وما آمرك به ولا أنهاك عنه.
فقال عبد الرحمن بن عوف: لحسن ما صدر هذا الفتى عما أوردته فيه.
قال: لحسن مصادره وموارده جشّمناه ما جشمناه.
وقال معاوية لابن الكواء. يا ابن الكواء، أنشدك الله ما علمك فيّ؟ قال: أنشدني الله، ما أعلمك إلا واسع الدنيا ضيّق الآخرة! ولما مات الحسن بن علي، حج معاوية فدخل المدينة وأراد أن يلعن عليا على منبر رسول الله صلّى الله عليه وسلم، فقيل له: إن ههنا سعد بن أبي وقاص ولا نراه يرضى بهذا، فابعث إليه وخذ رأيه. فأرسل إليه وذكر له ذلك، فقال: إن فعلت لأخرجنّ من المسجد ثم لا أعود إليه! فأمسك معاوية عن لعنه حتى مات سعد، فلما مات لعنه على المنبر(5/114)
وكتب إلى عماله أن يلعنوه على المنابر، ففعلوا. فكتبت أم سلمة زوج النبي صلّى الله عليه وسلم إلى معاوية:
إنكم تلعنون الله ورسوله على منابركم، وذلك أنكم تلعنون عليّ بن أبي طالب ومن أحبّه، وأنا أشهد أنّ الله أحبّه ورسوله.
فلم يلتفت إلى كلامها.
وقال بعض العلماء لولده: يا بنيّ، إن الدنيا لم تبن شيئا إلا هدمه الدين، وإن الدّين لم يبن شيئا فهدمته الدنيا، ألا ترى أن قوما لعنوا عليا ليخفضوا منه فكأنما أخذوا بناصيته جرّا إلى السماء! ودخل صعصعة بن صوحان على معاوية ومعه عمرو بن العاص جالس على سريره، فقال: وسّع له على ترابيّة فيه! فقال صعصعة: إني والله لترابي، منه خلقت، وإليه أعود، ومنه أبعث؛ وإنك لمارج «1» من مارج من نار! العتبي عن أبيه: قال معاوية يوما لعمرو بن العاص: ما أعجب الأشياء؟ قال: غلبة من لا حقّ له ذا الحق على حقه. قال معاوية: أعجب من ذلك أن يعطى من لا حقّ له ما ليس له بحقّ من غير غلبة! وقال معاوية: أعنت على عليّ بأربعة، كنت أكتم سرّي، وكان رجلا يظهره؛ وكنت في أصلح جند وأطوعه، وكان في أخبث جند وأعصاه؛ وتركته وأصحاب الجمل وقلت: إن ظفروا به كانوا أهون عليّ منه، وإن ظفر بهم اغتر بها في دينه! وكنت أحبّ إلى قريش منه؛ فيالك من جامع إليّ ومفرّق عنه! العتبي قال: أراد معاوية أن يقدم ابنه يزيد على الصائفة «2» ، فكره ذلك يزيد، فأبى معاوية إلا أن يفعل، فكتب إليه يزيد يقول:(5/115)
نجيّ لا يزال يعد ذنبا ... لتقطع وصل حبلك من حبالي «1»
فيوشك أن يريحك من أذاتي ... نزولي في المهالك وارتحالي
وتجهز للخروج، فلم يتخلف عنه أحد، حتى كان فيمن خرج أبو أيوب الأنصاري صاحب النبي صلّى الله عليه وسلم.
قال العتبي: وحدثني أبو إبراهيم قال: أرسل معاوية إلى ابن عباس، قال: يا أبا العباس، إن أحببت خرجت مع ابن أخيك فيأنس بك ويقرّبك، وتشير عليه برأيك؛ ولا يدخل الناس بينك وبينه فيشغلوا كل واحد منكما عن صاحبه؛ وأقلّ من ذكر حقك، فإنه إن كان لك فقد تركته لمن هو أبعد منا حبا، وإن لم يكن لك فلا حاجة بك إلى ذكره، مع أنه صائر إليك، وكل آت قريب، ولتجدنّا إذا كان ذلك خيرا لكم منا.
فقال ابن عباس: والله لئن عظمت عليك النعمة في نفسك لقد عظمت عليك في يزيد، وأما ما سألتني من الكف عن ذكر حقي، فإني لم أغمد سيفي وأنا أريد أن أنتصر بلساني. ولئن صار هذا الأمر إلينا ثم وليكم من قومي مثلي كما ولينا من قومك مثلك، لا يرى أهلك إلا ما يحبون.
قال: فخرج يزيد، فلما صار على الخليج «2» ثقل أبو أيوب الأنصاري فأتاه يزيد عائدا، فقال: ما حاجتك أبا أيوب؟ فقال: أما دنياكم فلا حاجة لي فيها، ولكن قدّمني ما استطعت في بلاد العدو، فإني سمعت رسول الله صلّى الله عليه وسلم يقول: «يدفن عند سور القسطنطينية رجل صالح؛ أرجو أن أكون هو! ... » .
فلما مات أمر يزيد بتكفينه، وحمل على سريره، ثم أخزج الكتائب، فجعل قيصر يرى سريرا يحمل والناس يقتتلون فأرسل إلى يزيد: ما هذا الذي أرى؟(5/116)
قال: صاحب نبينا، وقد سألنا أن نقدمه في بلادك، ونحن منفذون وصيته أو تلحق أرواحنا بالله.
فأرسل إليه: العجب كل العجب! كيف يدهّي «1» الناس أباك وهو يرسلك فتعمد إلى صاحب نبيك فتدفنه في بلادنا، فإذا ولّيت أخرجناه إلى الكلاب؟
فقال يزيد: إني والله ما أردت أن أودعه بلادكم حتى أودع كلامي آذانكم، فإنك كافر بالذي أكرمت هذا له، ولئن بلغني أنه نبش من قبره أو مثّل به لا تركت بأرض العرب نصرانيا إلا قتلته، ولا كنيسة إلا هدمتها! فبعث إليه قيصر: أبوك كان أعلم بك، فوحقّ المسيح لأحفظنّه بيدي سنة فلقد بلغني أنه بنى على قبره قبّة يسرج فيها إلى اليوم.
طلب معاوية البيعة ليزيد
أبو الحسن المدائني قال: لما مات زياد، وذلك سنة ثلاث وخمسين، أظهر معاوية عهدا مفتعلا فقرأه على الناس فيه عقد الولاية ليزيد بعده، وإنما أراد أن يسهل بذلك بيعة يزيد، فلم يزل يروض الناس لبيعته سبع سنين، ويشاور، ويعطي الأقارب ويداني الأباعد، حتى استوثق له من أكثر الناس فقال؛ لعبد الله بن الزبير: ما ترى في بيعة يزيد؟
قال: يا أمير المؤمنين إني أناديك ولا أناجيك، إن أخاك من صدقك، فانظر قبل أن تتقدم، وتفكّر قبل أن تندّم، فإن النظر قبل التقدّم، والتفكر قبل التندم.
فضحك معاوية وقال: ثعلب رواغ! تعلمت السجع عن الكبر، في دون ما سجعت به على ابن أخيك ما يكفيك.
ثم التفت إلى الأحنف فقال: ما ترى في بيعة يزيد؟(5/117)
قال: نخافكم إن صدّقناكم، ونخاف الله إن كذبنا.
فلما كانت سنة خمس وخمسين كتب معاوية إلى سائر الأمصار أن يفدوا عليه، فوفد عليه من كل مصر قوم، وكان فيمن وقد عليه من المدينة محمد بن عمرو بن حزم، فخلا به معاوية وقال له: ما ترى في بيعة يزيد؟
فقال: يا أمير المؤمنين، ما أصبح اليوم على الأرض أحد هو أحب إليّ رشدا من نفسك سوى نفسي، وإن يزيد أصبح غنيا في المال، وسطا في الحسب، وإن الله سائل كلّ راع عن رعيته، فاتق الله وانظر من تولّي أمة محمد.
فأخذ معاوية بهر «1» حتى تنفس الصعداء وذلك في يوم شات، ثم قال: يا محمد، إنك امرؤ ناصح قلت برأيك، ولم يكن عليك إلا ذاك. قال معاوية: إنه لم يبق إلا ابني وأبناؤهم، فابني أحبّ إليّ من أبنائهم؛ اخرج عني! ثم جلس معاوية في أصحابه وأذن للوفود فدخلوا عليه وقد تقدّم إلى أصحابه أن يقولوا في يزيد، فكان أول من تكلم الضحاك بن قيس فقال: يا أمير المؤمنين، إنه لا بد للناس من وال بعدك، والأنفس يغدى عليها ويراح، وإن الله قال: كُلَّ يَوْمٍ هُوَ فِي شَأْنٍ
«2» ، ولا ندري ما يختلف به العصران؛ ويزيد ابن أمير المؤمنين في حسن معدنه وقصد «3» سيرته، من أفضلنا حلما وأحكمنا علما، فولّه عهدك، واجعله لنا علما بعدك، فإنا قد بلونا الجماعة والألفة، فوجدناها أحقن للدماء، وآمن للسبل، وخيرا في العاقبة والآجلة.
ثم تكلم عمرو بن سعيد فقال:
أيها الناس، إن يزيد أمل تأملونه، وأجل تأمنونه، طويل الباع، رحب الذراع إذا صرتم إلى عدله وسعكم، وإن طلبتم رفده أغناكم؛ جدع قارح «4» ، سوبق فسبق، وموجد فمجد، وقورع فقرع، فهو خلف أمير المؤمنين ولا خلف منه.
فقال: اجلس أبا أمية، فلقد أوسعت وأحسنت.(5/118)
ثم قام يزيد بن المقنّع فقال:
أمير المؤمنين هذا- وأشار إلى معاوية- فإن هلك فهذا- وأشار إلى يزيد- فمن أبي فهذا- وأشار إلى سيفه:
فقال معاوية: اجلس فإنك سيد الخطباء.
ثم تكلم الأحنف بن قيس فقال:
يا أمير المؤمنين، أنت أعلم بيزيد في ليله ونهاره، وسرّه وعلانيته، ومدخله ومخرجه، فإن كنت تعلمه لله رضا، ولهذه الأمة، فلا تشاور الناس فيه؛ وإن كنت تعلم منه غير ذلك فلا تزوّده الدنيا وأنت تذهب إلى الآخرة.
قال: فتفرق الناس ولم يذكروا إلا كلام الأحنف.
قال: ثم بايع الناس ليزيد بن معاوية، فقال رجل وقد دعي إلى البيعة: اللهم إني أعوذ بك من شرّ معاوية.
فقال له معاوية: تعوّذ من شرّ نفسك، فإنه أشدّ عليك، وبايع.
قال: إني أبايع وأنا كاره للبيعة.
قال له معاوية: بايع أيها الرجل، فإن الله يقول: فَعَسى أَنْ تَكْرَهُوا شَيْئاً وَيَجْعَلَ اللَّهُ فِيهِ خَيْراً كَثِيراً
«1» .
ثم كتب إلى مروان بن الحكم عامله على المدينة أن ادع أهل المدينة إلى بيعة يزيد؛ فإن أهل الشام والعراق قد بايعوا.
فخطبهم مروان فحضّهم على الطاعة وحذّرهم الفتنة، ودعاهم إلى بيعة يزيد، وقال: سنة أبي بكر الهادية المهدية.
فقال له عبد الرحمن بن أبي بكر: كذبت، إن أبا بكر ترك الأهل والعشيرة وبايع لرجل من بني عدي رضي دينه وأمانته، واختاره لأمة محمد صلّى الله عليه وسلم.
فقال مروان: أيها الناس، إن هذا المتكلم هو الذي أنزل الله فيه: وَالَّذِي قالَ(5/119)
لِوالِدَيْهِ أُفٍّ لَكُما أَتَعِدانِنِي أَنْ أُخْرَجَ وَقَدْ خَلَتِ الْقُرُونُ مِنْ قَبْلِي
«1» .
فقال له عبد الرحمن: يا بن الزرقاء، أفينا تتأوّل القرآن؟
وتكلم الحسين بن علي، وعبد الله بن الزبير، وعبد الله بن عمر وأنكروا بيعة يزيد، وتفرق الناس.
فكتب مروان إلى معاوية بذلك، فخرج معاوية إلى المدينة في ألف، فلما قرب منها تلقاه الناس، فلما نظر إلى الحسين قال: مرحبا بسيد شباب المسلمين، قرّبوا دابة لأبي عبد الله.
وقال لعبد الرحمن بن أبي بكر: مرحبا بشيخ قريش وسيّدها وابن الصدّيق.
وقال لابن عمر: مرحبا بصاحب رسول الله وابن الفاروق.
وقال لابن الزبير: مرحبا بابن جواريّ رسول الله صلّى الله عليه وسلم وابن عمته، ودعا لهم بدوابّ فحملهم عليها، وخرج حتى أتى مكة فقضى حجّه.
ولما أراد الشخوص أمر بأثقاله «2» فقدّمت، وأمر بالمنبر فقرّب من الكعبة، وأرسل إلى الحسين وعبد الرحمن بن أبي بكر وابن عمر وابن الزبير، فاجتمعوا وقالوا لابن الزبير: اكفنا كلامه. فقال: علي أن لا تخالفوني. قالوا: لك ذلك. ثم أتوا معاوية، فرحب بهم وقال لهم قد علمتم نظري لكم، وتعطفي عليكم، وصلتي أرحامكم؛ ويزيد أخوكم وابن عمّكم، وإنما أردت أن أقدّمه باسم الخلافة وتكونوا أنتم تأمرون وتنهون: فسكتوا، وتكلم ابن الزبير، فقال:
نخيّرك بين إحدى ثلاث، أيّها أخذت فهي لك رغبة وفيها خيار: إن شئت فاصنع فينا ما صنعه رسول الله صلّى الله عليه وسلم، قبضه الله ولم يستخلف [أحدا، فرأى المسلمون أن يستخلفوا أبا بكر] ؛ فدع هذا الأمر حتى يختار الناس لأنفسهم؛ وإن شئت فما صنع أبو بكر، عهد إلى رجل من قاصية قريش وترك من ولده ومن رهطه(5/120)
الأذنين، من كان لها أهلا؛ وإن شئت فما صنع عمر، صيّرها إلى ستة نفر من قريش يختارون رجلا منهم، وترك ولده وأهل بيته، وفيهم من لو وليها لكان لها أهلا.
قال معاوية: هل غير هذا؟
قال: لا.
ثم قال للآخرين: ما عندكم؟
قالوا: نحن على ما قال ابن الزبير.
فقال معاوية: إني أتقدم إليكم وقد أعذر من أنذر إني قائل مقالة، فأقسم بالله لئن ردّ عليّ رجل منكم كلمة في مقامي هذا لا ترجع إليه كلمته حتى يضرب رأسه، فلا ينظر امرؤ منكم إلا إلى نفسه، ولا يبقي إلا عليها.
وأمر أن يقوم على رأس كل رجل منهم رجلان بسيفيهما، فإن تكلم بكلمة يرد بها عليه قوله قتلاه، وخرج وأخرجهم معه حتى رقي المنبر، وحف به أهل الشام واجتمع الناس، فقال بعد حمد الله والثناء عليه:
إنا وجدنا أحاديث الناس ذات عوار، قالوا: إن حسينا وابن أبي بكر وابن عمر وابن الزبير لم يبايعوا ليزيد، وهؤلاء الرهط سادة المسلمين وخيارهم: لا نبرم أمرا دونهم، ولا نقضي أمرا إلا عن مشورتهم؛ وإني دعوتهم فوجدتهم سامعين مطيعين، فبايعوا وسلّموا وأطاعوا. فقال أهل الشام: وما يعظم من أمر هؤلاء؟ ائذن لنا فنضرب أعناقهم، لا نرضى حتى يبايعوا علانية: فقال معاوية: سبحان الله ما أسرع الناس إلى قريش بالشرّ، وأحلى دماءهم عندهم! أنصتوا، فلا أسمع هذه المقالة من أحد. ودعا الناس إلى البيعة فبايعوا، ثم قرّبت رواحله فركب ومضى.
فقال الناس للحسين وأصحابه: قلتم لا نبايع، فلما دعيتم وأرضيتم بايعتم! قالوا: لم نفعل.
قالوا: بلى، قد فعلتم وبايعتم، أفلا أنكرتم؟(5/121)
قالوا: خفنا القتل، وكادكم بنا وكادنا بكم «1» .
وفاة معاوية
عن الهيثم بن عدي قال: لما حضرت معاوية الوفاة ويزيد غائب، دعا الضحاك بن قيس الفهري، ومسلم بن عقبة المري، فقال:
أبلغا عني يزيد وقولا له: انظر إلى أهل الحجاز، فهم أصلك وعترتك؛ فمن أتاك منهم فأكرمه، ومن قعد عنك فتعاهده، وانظر أهل العراق، فإن سألوك عزل عامل في كل يوم فاعزله، فإنّ عزل عامل واحد أهون من سلّ مائة ألف سيف، [ثم] لا تدري على من تكون الدائرة؛ ثم انظر إلى أهل الشام، فاجعلهم الشعار دون الدثار «2» ؛ فإن رابك من عدوّك ريب فارمه بهم، ثم اردد أهل الشام إلى بلدهم ولا يقيموا في غيره فيتأدّبوا بغير أدبهم؛ لست أخاف عليك إلا ثلاثة: الحسين بن علي، وعبد الله بن الزبير، وعبد الله بن عمر. فأما الحسين ابن علي فأرجو أن يكفيكه الله بمن قتل أباه وخذل أخاه؛ وأما ابن الزبير فإنه خبّ ضب «3» ، فإن ظفرت به فقطّعه إربا إربا؛ وأما ابن عمر فإنه رجل قد وقذه «4» الورع، فخلّ بينه وبين آخرته يخلّ بينك وبين دنياك.
ثم أخرج إلى يزيد بريدا بكتاب يستقدمه ويستحثه، فخرج مسرعا، فتلقاه يزيد فأخبره بموت معاوية، فقال يزيد:
جاء البريد بقرطاس يخبّ به ... فأوجس القلب من قرطاسه فزعا
قلنا لك الويل ماذا في صحيفتكم ... قالوا الخليفة أمسى مثبتا وجعا
فمادت الأرض أو كادت تميد بنا ... كأنّ أغبر من أركانها انقلعا
ثمّ انبعثنا إلى خوص مزمّمة ... نرمي الفجاج بها ما نأتلي سرعا «5»(5/122)
فما نبالي إذا بلّغن أرحلنا ... ما مات منهنّ بالموماة أو ظلعا
أودى ابن هند وأودى المجد يتبعه ... كذاك كنّا جميعا قاطنين معا
أغرّ أبلج يستسقى الغمام به ... لو قارع الناس عن أحلامهم قرعا
لا يرقع الناس ما أوهى ولو جهدوا ... أن يرقعوه، ولا يوهون ما رقعا
قال محمد بن عبد الحكم: قال الشافعي: سرق هذين البيتين من الأعشى.
ابن دأب قال: لما هلك معاوية خرج الضحاك بن قيس الفهري وعلى عاتقه ثياب حتى وقف إلى جانب المنبر، ثم قال:
أيها الناس، إن معاوية كان إلف العرب وملكها؛ فأطفأ الله به الفتنة وأحيا به السنة، وهذه أكفانه، ونحن مدرجوه فيها ومخلّون بينه وبين ربه؛ فمن أراد حضوره صلاة الظهر فليحضره.
وصلّى عليه الضحاك بن قيس الفهري، ثم قدم يزيد من يومه ذلك، فلم يقدم أحد على تعزيته حتى دخل عليه عبد الله بن همام السلولي فقال:
اصبر يزيد فقد فارقت ذا مقة ... واشكر حباء الذي بالملك حاباكا «1»
لارزء أعظم في الأقوام قد علموا ... ممّا رزئت ولا عقبي كعقباكا «2»
أصبحت راعي أهل الأرض كلّهم ... فأنت ترعاهم والله يرعاكا
وفي معاوية الباقي لنا خلف ... إذا نعيت ولا نسمع بمنعاكا
فافتتح الخطباء الكلام.
ثم دخل يزيد فأقام ثلاثة أيام لا يخرج للناس، ثم خرج وعليه أثر الحزن، فصعد المنبر، وأقبل الضحاك فجلس إلى جانب المنبر، وخاف عليه الحصر، فقال له يزيد:
يا ضحاك، أجئت تعلّم بني عبد شمس الكلام؟ ثم قام خطيبا فقال:(5/123)
الحمد لله الذي ما شاء صنع، من شاء أعطى ومن شاء منع، ومن شاء خفض ومن شاء رفع. إن معاوية بن أبي سفيان كان حبلا من حبال الله، مدّه ما شاء أن يمدّه، ثم قطعه حين شاء أن يقطعه، وكان دون من قبله، وخيرا ممن يأتي بعده، ولا أزكّيه وقد صار إلى ربه، فإن يعف عنه فبرحمته، وإن يعذبه فبذنبه؛ وقد وليت بعده الأمر، ولست أعتذر من جهل، ولا أني عن طلب؛ وعلى رسلكم، إذا كره الله شيئا غيّره وإذا أراد شيئا يسّره.
[يزيد بن معاوية]
خلافة يزيد بن معاوية وسنه وصفته
هو يزيد بن معاوية بن أبي سفيان بن حرب بن أمية بن عبد شمس بن عبد مناف؛ وأمّه ميسون بنت بحدل بن أنيف بن دلجة بن قنافة أحد بني حارثة بن جناب، وكنيته أبو خالد.
وكان آدم جعدا مهضوما، أحور العين، بوجهه آثار جدري، حسن اللحية خفيفها. ولي الخلافة في رجب سنة ستين. ومات في النصف من شهر ربيع الأوّل سنة أربع وستين، ودفن بحوّارين خارجا من المدينة. وكانت ولايته أربع سنين وأياما.
وكان على شرطته: حميد بن حريث بن بحدل. وكاتبه وصاحب أمره: سرجون بن منصور. وعلى القضاء: أبو إدريس الخولاني. وعلى الخراج: مسلمة بن حديدة الأزدي.
أولاد يزيد «1»
معاوية، وخالد، وأبو سفيان، أمّهم فاختة بنت أبي هاشم بن عتبة بن ربيعة؛ وعبد الله، وعمر، وأمهما أمّ كلثوم ابنة عبد الله بن عباس.
وكان عبد الله ولده ناسكا، وولده خالد عالما، لم يكن في بني أمية أزهد من هذا ولا أعلم من هذا.(5/124)
الأصمعي عن أبي عمرو قال: أعرق الناس في الخلافة عاتكة بنت يزيد بن معاوية بن أبي سفيان: أبوها خليفة، وجدّها معاوية خليفة، وأخوها معاوية بن يزيد خليفة، وزوجها عبد الملك بن مروان خليفة، وأربّاؤها: الوليد وسليمان وهشام، خلفاء.
مقتل الحسين بن علي
عليّ بن عبد العزيز قال: قرأ عليّ أبو عبيد القاسم بن سلام وأنا أسمع، فسألته:
نروي عنك كما قريء عليك؟ قال: نعم، قال أبو عبيد: لما مات معاوية بن أبي سفيان وجاءت وفاته إلى المدينة، وعليهما يومئذ الوليد بن عتبة، فأرسل إلى الحسين بن علي وعبد الله بن الزبير، فدعاهما إلى البيعة ليزيد، فقالا: بالغد إن شاء الله على رءوس الناس. وخرجا من عنده، فدعا الحسين برواحله فركبها وتوجه نحو مكة على المنهج الأكبر، وركب ابن الزبير برذونا «1» له وأخذ طريق العرج حتى قدم مكة؛ ومر حسين حتى أتى على عبد الله بن مطيع وهو على بئر له، فنزل عليه، فقال للحسين: يا أبا عبد الله، لا سقانا الله بعدك ماء طيبا، أين تريد؟ قال: العراق! قال:
سبحان الله! لم؟ قال: مات معاوية، وجاءني أكثر من حمل صحف. قال لا تفعل أبا عبد الله، فو الله ما حفظوا أباك وكان خيرا منك، فكيف يحفظونك؟ وو الله لئن قتلت لا بقيت حرمة بعدك إلا استحلّت! فخرج حسين حتى قدم مكة، فأقام بها هو وابن الزبير.
قال: فقدم عمرو بن سعيد في رمضان أميرا على المدينة والموسم، وعزل الوليد بن عتبة؛ فلما استوى على المنبر رعف «2» ، فقال أعرابيّ: مه! جاءنا والله بالدم! قال:
فتلقاه رجل بعمامته، فقال: مه! عم الناس والله! ثم قام فخطب، فناولوه عصا لها شعبتان، فقال: تشعب الناس والله! ثم خرج إلى مكة، فقدمها قبل التروية «3» بيوم.(5/125)
ووفدت الناس للحسين يقولون: يا أبا عبد الله، لو تقدّمت فصليت بالناس فأنزلتهم بدارك! إذ جاء المؤذن فأقام الصلاة، فتقدّم عمرو بن سعيد فكبر، فقيل للحسين: اخرج أبا عبد الله إذ أبيت أن تتقدّم. فقال: الصلاة في الجماعة أفضل. قال:
فصلى، ثم خرج، فلما انصرف عمرو بن سعيد بلغه أنّ حسينا قد خرج، فقال:
اطلبوه، اركبوا كل بعير بين السماء والأرض فاطلبوه! قال: فعجب الناس من قوله هذا، فطلبوه، فلم يدركوه.
وأرسل عبد الله بن جعفر ابنيه عونا ومحمدا ليردّا حسينا، فأبى حسين أن يرجع وخرج بابني عبد الله بن جعفر معه.
ورجع عمرو بن سعد إلى المدينة، وأرسل إلى ابن الزبير ليأتيه، فأبى أن يأتيه، وامتنع ابن الزبير برجال من قريش وغيرهم من أهل مكة، قال: فأرسل عمرو بن سعد لهم جيشا من المدينة، وامّر عليهم عمرو بن الزبير أخا عبد الله بن الزبير، وضرب على أهل الديوان البعث الى أهل مكة وهم كارهون للخروج، فقال: إما أن تأتوني بأدلّاء وإما أن تخرجوا. قال: فبعثهم إلى مكة، فقاتلوا ابن الزبير، فانهزم عمرو بن الزبير وأسره أخوه عبد الله فحبسه في السجن.
وقد كان بعث الحسين بن علي مسلم بن عقيل بن أبي طالب إلى أهل الكوفة ليأخذ بيعتهم، وكان على الكوفة حين مات معاوية، فقال:
يأهل الكوفة، ابن بنت رسول الله صلّى الله عليه وسلم أحبّ إلينا من ابن بنت بحدل.
قال: فبلغ ذلك يزيد؛ فقال: يأهل الشام، أشيروا عليّ، من أستعمل على الكوفة؟ فقالوا: ترضى من رضي به معاوية؟ قال: نعم. قيل له: فإنّ الصك بإمارة عبيد الله بن زياد على العراقين قد كتب في الديوان. فاستعمله على الكوفة، فقدمها قبل أن يقدم حسين.
وبايع مسلم بن عقيل أكثر من ثلاثين ألفا من أهل الكوفة، وخرجوا معه يريدون(5/126)
عبيد الله بن زياد، فجعلوا كلما انتهوا إلى زقاق انسل منهم ناس، حتى بقي في شرذمة قليلة. قال: فجعل الناس يرمونه بالآجرّ من فوق البيوت؛ فلما رأى ذلك دخل دار هانيء بن عروة المرادي، وكان له شرف ورأي؛ فقال له هانيء: إن لي من ابن زياد مكانا، وإني سوف أتمارض، فإذا جاء يعودني فاضرب عنقه. قال: فبلغ ابن زياد أنّ هانيء بن عروة مريض يقيء الدم، وكان شرب المغرة «1» فجعل يقيئها، فجاء ابن زياد يعوده وقال هانيء: إذا قلت لكم اسقوني، فاخرج إليه فاضرب عنقه- يقولها لمسلم بن عقيل- فلما دخل ابن زياد وجلس، قال هانيء: اسقوني! فتثبّطوا عليه، فقال: ويحكم! اسقوني ولو كان فيه نفسي! قال: فخرج ابن زياد ولم يصنع الآخر شيئا. قال: وكان أشجع الناس ولكن أخذ بقلبه.
وقيل لابن زياد ما أراده هانيء، فأرسل إليه، فقال: إني شاك لا أستطيع. فقال:
ائتوني به وإن كا شاكيا. فأسرجت له دابة فركب ومعه عصا. وكان أعرج، فجعل يسير قليلا قليلا، ثم يقف ويقول: ما أذهب إلى ابن زياد، حتى دخل على ابن زياد فقال له: يا هانيء، أما كانت يد زياد عندك بيضاء؟ قال بلى: قال: ويدي؟ قال:
بلى. ثم قال له هانيء: قد كانت له عندي ولأبيك وقد آمنتك في نفسك ومالك.
قال: اخرج. فخرج، فتناول العصا من يده وضرب بها وجهه حتى كسرها، ثم قدّمه فضرب عنقه.
وأرسل إلى مسلم بن عقيل، فخرج إليهم بسيفه؛ فما زال يقاتلهم حتى أثخنوه بالجراح، فأسروه.
وأتي به ابن زياد فقدمه ليضرب عنقه. فقال له: دعني حتى أوصي. فقال له:
أوص. فنظر في وجوه الناس، فقال لعمر بن سعد: ما أرى قريشا هنا غيرك فادن مني حتى أكلمك. فدنا منه، فقال له هل لك أن تكون سيد قريش ما كانت قريش؟ إن حسينا ومن معه- وهم تسعون إنسانا ما بين رجل وامرأة- في الطريق؛(5/127)
فارددهم واكتب لهم بما أصابني. ثم ضرب عنفه، فقال عمر لابن زياد: أتدري ما قال لي؟ قال اكتم على ابن عمك! قال: هو أعظم من ذلك قال: وما هو؟ قال: قال لي: إن حسينا أقبل [ومن معه] وهم تسعون إنسانا ما بين رجل وامرأة؛ فارددهم واكتب إليه بما أصابني.
فقال له ابن زياد: أما والله- إذ دللت عليه- لا يقاتله أحد غيرك! قال: فبعث معه جيشا وقد جاء حسينا الخبر وهم بشراف «1» ، فهمّ بأن يرجع ومعه خمسة من بني عقيل، فقالوا: ترجع وقد قتل أخونا وقد جاءك من الكتب ما تثق به؟ فقال الحسين لبعض أصحابه: والله مالي على هؤلاء من صبر.
قال: فلقيه الجيش على خيولهم وقد نزلوا بكربلاء؛ فقال حسين: أي أرض هذه؟ قالوا: كربلاء. قال: أرض كرب وبلاء!.
وأحاطت بهم الخيل، فقال الحسين لعمر بن سعد: يا عمر، اختر مني إحدى ثلاث خصال: إما أن تتركني أرجع كما جئت، وإما أن تسيّرني إلى يزيد فأضع يدي في يده، وإما أن تسيّرني إلى الترك أقاتلهم حتى أموت!.
فأرسل إلى ابن زياد بذلك، فهمّ أن يسيّره إلى يزيد، فقال له شمر بن ذي الجوشن: أمكنك الله من عدوّك فتسيّره! لا، إلا أن ينزل على حكمك فأرسل إليه بذلك؛ فقال الحسين: أنا أنزل على حكم ابن مرجانة؟ والله لا أفعل ذلك أبدا! قال: وأبطأ عمر عن قتاله، فأرسل ابن زياد إلى شمر بن ذي الجوشن، وقال له:
إن تقدم عمر وقاتل، وإلا فاتركه وكن مكانه.
قال: وكان مع عمر بن سعد ثلاثون رجلا من أهل الكوفة؛ فقالوا: يعرض عليكم ابن بنت رسول الله صلّى الله عليه وسلم ثلاث خصال، فلا تقبلوا منها شيئا؟ فتحولوا مع الحسين فقاتلوا [معه] .(5/128)
ورأى رجل من أهل الشام عبد الله بن حسن بن علي وكان من أجمل الناس فقال:
لأقتلن هذا الفتى! فقال له رجل: ويحك! ما تصنع به؟ دعه. فأبى، وحمل عليه فضربه بالسيف فقتله، فلما أصابته الضربة قال: يا عماه! قال: لبيك صوتا قل ناصره، وكثر واتره «1» ! وحمل الحسين على قاتله فقطع يده، ثم ضربه ضربه أخرى فقتله، ثم اقتتلوا.
علي بن عبد العزيز قال: حدثني الزبير قال: حدثني محمد بن الحسن قال: لما نزل عمر بن سعد بالحسين وأيقن أنهم قاتلوه، قام في أصحابه خطيبا فحمد الله وأثنى عليه، ثم قال: قد نزل بي ما ترون من الأمر، وإن الدنيا قد تغيرت وتنكرت وأدبر معروفها واشمعلّت «2» ، فلم يبق منها إلا صبابة كصبابة الإناء الأخنس «3» عيش كالمرعى الوبيل، ألا ترون الحق لا يعمل به، والباطل لا ينهى عنه؟ ليرغب المؤمن في لقاء الله فإني لا أرى الموت إلا سعادة، و [لا] الحياة مع الظالمين إلا ذلا وبرما «4» ! وقتل الحسين رضي الله عنه يوم الجمعة يوم عاشوراء سنة إحدى وستين بالطّف من شاطيء الفرات بموضع يدعى كربلاء.
وولد لخمس ليال من شعبان سنة أربع من الهجرة.
وقتل وهو ابن ست وخمسين سنة، وهو صابغ بالسواد، قتله سنان بن أبي أنس، وأجهز عليه خولة بن يزيد الأصبحي من حمير، وحزّ رأسه وأتى به عبيد الله وهو يقول:
أوقر ركابي فضّة وذهبا ... أنا قتلت الملك المحجّبا
خير عباد الله أمّا وأبا(5/129)
فقال له عبيد الله بن زياد: إذا كان خير الناس أما وأبا وخير عباد الله، فلم قتلته؟ قدّموه فاضربوا عنقه! فضربت عنقه.
روح بن زنباع عن أبيه عن الغاز بن ربيعة الجرشي قال: إني لعند يزيد بن معاوية إذ أقبل زحر بن قيس الجعفي حتى وقف بين يدي يزيد، فقال: ما وراءك يا زحر؟
فقال:
أبشرك يا أمير المؤمنين بفتح الله ونصره، قدم علينا الحسين في سبعة عشر رجلا من أهل بيته، وستين رجلا من شيعته، فبرزنا إليهم وسألناهم أن يستسلموا وينزلوا على حكم الأمير أو القتال، فأبوا إلا القتال، فغدونا عليهم مع شروق الشمس، فأحطناهم من كل ناحية، حتى أخذت السيوف مأخذها من هام الرجال فجعلوا يلوذون منا بالآكام والحفر كما يلوذ الحمام من الصقر، فلم يكن إلا نحر جزور أو قوم»
قائم، حتى أتينا على آخرهم: فهاتيك أجسامهم مجزّرة «2» ، وهامهم مرمّلة «3» ، وخدودهم معفّرة، تصهرهم الشمس، وتسفي عليهم الريح بقاع سبسب، زوّارهم العقبان والرخم «4» ! قال: فدمعت عينا يزيد، وقال: لقد كنت أقنع من طاعتكم بدون قتل الحسين.
لعن الله ابن سمية! أما والله لو كنت صاحبه لتركته، رحم الله أبا عبد الله وغفر له.
علي بن عبد العزيز عن محمد بن الضحاك بن عثمان الخزاعي عن أبيه، قال: خرج الحسين إلى الكوفة ساخطا لولاية يزيد بن معاوية، فكتب يزيد إلى عبيد الله ابن زياد وهو واليه بالعراق:
إنه بلغني أن حسينا سار إلى الكوفة، وقد ابتلي به زمانك بين الأزمان، وبلدك بين البلدان، وابتليت به من بين العمال، وعنده تعتق أو تعود عبدا.(5/130)
فقتله عبيد الله وبعث برأسه وثقله «1» إلى يزيد، فلما وضع الرأس بين يديه تمثل بقول حصين بن الحمام المري:
يفلّقن هاما من رجال أعزة ... علينا وهم كانوا أعقّ وأظلما
فقال له علي بن الحسين، وكان في السبي: كتاب الله أولى بك من الشعر، يقول الله: ما أَصابَ مِنْ مُصِيبَةٍ فِي الْأَرْضِ وَلا فِي أَنْفُسِكُمْ إِلَّا فِي كِتابٍ مِنْ قَبْلِ أَنْ نَبْرَأَها إِنَّ ذلِكَ عَلَى اللَّهِ يَسِيرٌ، لِكَيْلا تَأْسَوْا عَلى ما فاتَكُمْ وَلا تَفْرَحُوا بِما آتاكُمْ وَاللَّهُ لا يُحِبُّ كُلَّ مُخْتالٍ فَخُورٍ
«2» .
فغضب يزيد وجعل يعبث بلحيته، ثم قال: غير هذا من كتاب الله أولى بك وبأبيك، قال الله. وَما أَصابَكُمْ مِنْ مُصِيبَةٍ فَبِما كَسَبَتْ أَيْدِيكُمْ وَيَعْفُوا عَنْ كَثِيرٍ
«3» ما ترون يا أهل الشام في هؤلاء.
فقال له رجل: لا تتخذ من كلب سوء جروا.
قال النعمان بن بشير الأنصاري: انظر ما كان يصنعه رسول الله صلّى الله عليه وسلم بهم لو رآهم في هذه الحالة فاصنعه بهم.
قال: صدقت، خلوا عنهم واضربوا عليهم القباب وأمال عليهم المطبخ وكساهم وأخرج إليهم جوائز كثيرة، وقال: لو كان بين ابن مرجانة وبينهم نسب ما قتلهم: ثم ردّهم إلى المدينة.
الرياشي قال: أخبرني محمد بن أبي رجاء قال: أخبرني أبو معشر عن يزيد بن زياد عن محمد بن الحسين بن علي بن أبي طالب، قال: أتي بنا يزيد بن معاوية بعد ما قتل الحسين ونحن اثنا عشر غلاما. وكان أكبرنا يومئذ علي بن الحسين، فأدخلنا عليه، وكان كل واحد منا مغلولة يده إلى عنقه، فقال لنا: أحرزت «4» أنفسكم عبيد أهل(5/131)
العراق، وما علمت بخروج أبي عبد الله ولا بقتله.
أبو الحسن المدائني عن إسحاق عن إسماعيل بن سفيان عن أبي موسى عن الحسن البصري، قال: قتل مع الحسين ستة عشر من أهل بيته، والله ما كان على الأرض يومئذ أهل بيت يشبّهون بهم. وحمل أهل الشام بنات رسول الله صلّى الله عليه وسلم سبايا على أحقاب «1» الإبل. فلما أدخلن على يزيد، قالت فاطمة ابنة الحسين: يا يزيد، أبنات رسول الله صلّى الله عليه وسلم سبايا؟ قال: بل حرائر كرام، ادخلي على بنات عمك تجديهن قد فعلن ما فعلن، قالت فاطمة: فدخلت إليهن، فما وجدت فيهن سفيانية إلا متلدّمة «2» تبكي، وقالت بنت عقيل بن أبي طالب ترثي الحسين ومن أصيب معه:
عيني أبكي بعبرة وعويل ... واندبي إن ندبت آل الرسول
ستة كلهم لصلب عليّ ... قد أصيبوا وخمسة لعقيل
ومن حديث أم سلمة زوج النبي صلّى الله عليه وسلم، قالت: كان عندي النبي صلّى الله عليه وسلم ومعي الحسين، فدنا من النبي صلّى الله عليه وسلم، فأخذته، فبكى فتركته، فدنا منه، فأخذته، فبكى فتركته؛ فقال له جبريل: أتحبه يا محمد؟ قال: نعم! قال: أما إنّ أمتك ستقتله، وإن شئت أريتك من تربة الأرض التي يقتل بها! فبسط جناحه، فأراه منها، فبكى النبي صلى الله عليه وسلم.
محمد بن خالد قال: قال إبراهيم النخعي: لو كنت فيمن قتل الحسين ودخلت الجنة لاستحييت أن أنظر إلى وجه رسول الله صلى الله عليه وسلم.
ابن لهيعة عن أبي الأسود قال: لقيت رأس الجالوت «3» ، فقال: إن بيني وبين داود سبعين أبا، وإن اليهود إذا رأوني عظموني وعرفوا حقي وأوجبوا حفظي؛ وإنه ليس بينكم وبين نبيكم إلا أب واحد قتلتم ابنه!(5/132)
ابن عبد الوهاب عن يسار بن عبد الحكم قال: انتهب عسكر الحسين فوجد فيه طيب، فما تطيبت به امرأة إلا برصت «1» .
جعفر بن محمد عن أبيه قال: بايع رسول الله صلّى الله عليه وسلم الحسن والحسين وعبد الله بن جعفر وهم صغار، ولم يبايع قطّ صغير إلّا هم.
عليّ بن عبد العزيز عن الزبير عن مصعب بن عبد الله قال: حجّ الحسين خمسة وعشرين حجة ملبيا ماشيا.
وقيل لعليّ بن الحسين: ما كان أقلّ ولد أبيك، قال العجب كيف ولدت له! كان يصلي في اليوم والليلة ألف ركعة، فمتى كان يتفرغ للنساء؟
يحيى بن إسماعيل عن الشعبي أن سالما قال: قيل لأبي عبد الله بن عمر: إن الحسين توجه إلى العراق. فلحقه على ثلاث مراحل من المدينة- وكان غائبا عند خروجه- فقال: أين تريد؟ فقال: أريد العراق. وأخرج إليه كتب القوم، ثم قال: هذه بيعتهم وكتبهم. فناشده الله أن يرجع، فأبى، فقال: أحدّثك بحديث ما حدّثت به أحدا قبلك: إن جبريل أتى النبي صلّى الله عليه وسلم يخيره بين الدنيا والآخرة، فاختار الآخرة، وإنكم بضعة «2» منه، فو الله لا يليها أحد من أهل بيته أبدا؛ وما صرفها الله عنكم إلا لما هو خير لكم؛ فارجع، فأنت تعرف غدر أهل العراق وما كان يلقي أبوك منهم. فأبى، فاعتنقه وقال: استودعتك الله من قتيل.
وقال الفرزدق: خرجت أريد مكة، فإذا بقباب مضروبة وفساطيط، فقلت: لمن هذه؟ قالوا: للحسين. فعدلت إليه فسلمت عليه، فقال: من أين أقبلت؟ قلت: من العراق. قال كيف تركت الناس؟ قلت: القلوب معك، والسيوف عليك، والنصر من السماء!(5/133)
تسمية من قتل مع الحسين بن عليّ رضي الله عنهما من أهل بيته ومن أسر منهم
قال أبو عبيد: حدثنا حجاج عن أبي معشر قال: قتل الحسين بن علي، وقتل معه عثمان بن علي، وأبو بكر بن علي، وجعفر بن علي، والعباس بن علي. وكانت أمهم أم البنين بنت حرام الكلابية، وإبراهيم بن علي، لأم ولد له، وعبد الله بن حسن، وخمسة من بني عقيل بن أبي طالب، وعون ومحمد ابنا عبد الله بن جعفر ابن أبي طالب، وثلاثة من بني هاشم، فجميعهم سبعة عشر رجلا.
وأسر اثنا عشر غلاما من بني هاشم: فيهم محمد بن الحسين، وعلي بن الحسين وفاطمة بنت الحسين؛ فلم تقم لبنى حرب قائمة حتى سلبهم الله ملكهم.
وكتب عبد الملك بن مروان إلى الحجاج بن يوسف: جنّبني دماء أهل هذا البيت، فإني رأيت بني حرب سلبوا ملكهم لما قتلوا الحسين.
حديث الزهريّ في قتل الحسين رضي الله عنه
حدثنا أبو محمد عبد الله بن ميسرة قال: حدثنا محمد بن موسى الحرشي قال: حدثنا حماد بن عيسى الجهني عن عمر بن قيس، قال: سمعت ابن شهاب الزهري يحدث عن سعيد بن المسيب عن أبي هريرة عن النبي صلى الله عليه وسلم ...
قال حماد بن عيسى: وحدثني به عباد بن بشر عن عقيل عن الزهري عن سعيد بن المسيب عن أبي هريرة عن النبي صلّى الله عليه وسلم، قال: «لا يلدغ المؤمن من جحر مرتين» .
وقالا: قال الزهري: خرجت مع قتيبة أريد المصيصة «1» ، فقدمنا على أمير المؤمنين عبد الملك بن مروان، وإذا هو قاعد في إيوان له، وإذا سماطان «2» من الناس على(5/134)
باب الإيوان فإذا أراد حاجة قالها للذي يليه، حتى تبلغ المسألة باب الإيوان، ولا يمشي أحد بين السماطين؛ قال الزهري: فجئنا فقمنا على باب الإيوان؛ فقال عبد الملك للذي عن يمينه: هل بلغكم أي شيء أصبح في بيت المقدس ليلة قتل الحسين بن علي؟ قال: فسأل كلّ واحد منهما صاحبه حتى بلغت المسألة الباب، فلم يرد أحد فيها شيئا. قال الزهري: فقلت: عندي في هذا علم. قال: فرجعت المسألة رجلا عن رجل حتى انتهت إلى عبد الملك. قال: فدعيت، فمشيت بين السماطين، فلما انتهيت إلى عبد الملك سلمت عليه: فقال لي: من أنت؟ قلت: أنا محمد بن مسلم بن عبيد الله بن شهاب الزهري، قال: فعرفني بالنسب، وكان عبد الملك طلّابة للحديث، فعرّفته، فقال: ما أصبح ببيت المقدس يوم قتل الحسين بن علي بن أبي طالب؟ - وفي رواية علي بن عبد العزيز عن إبراهيم بن عبد الله عن أبي معشر عن محمد بن عبد الله بن سعيد بن العاص عن الزهري، أنه قال: الليلة التي قتل في صبيحتها الحسين بن علي؟ - قال الزهري: نعم، حدّثني فلان- لم يسمّه لنا- أنه لم يرفع تلك الليلة التي صبيحتها قتل الحسين بن علي بن أبي طالب، حجر في بيت المقدس إلا وجد تحته دم عبيط «1» .
قال عبد الملك: صدقت، حدّثني الذي حدّثك، وإني وإياك في هذا الحديث لغريبان. ثم قال لي: ما جاء بك؟ قلت: جئت مرابطا. قال: الزم الباب. فأقمت عنده، فأعطاني مالا كثيرا. قال: فاستأذنته في الخروج إلى المدينة، فأذن لي ومعي غلام لي، ومعي مال كثير في عيبة «2» ، ففقدت العيبة، فاتهمت الغلام، فوعدته وتوعّدته، فلم يقرّ لي بشيء. قال: فصرعته وقعدت على صدره، ووضعت مرفقي على صدره، وغمزته «3» غمزة وأنا لا أريد قتله، فمات تحتي.
وسقط في يدي، فقدمت المدينة فسألت سعيد بن المسيب، وأبا عبد الرحمن، وعروة بن الزبير، والقاسم بن محمد، وسالم بن عبد الله، فكلهم قال: لا نعلم لك توبة!(5/135)
فبلغ ذلك عليّ بن الحسين، فقال: عليّ به. فأتيته فقصصت عليه القصة، فقال: إنّ لذنبك توبة: ضم شهرين متتابعين، وأعتق رقبة مؤمنة، وأطعم ستين مسكينا. ففعلت.
ثم خرجت أريد عبد الملك وقد بلغه أني أتلفت المال، فأقمت ببابه أياما لا يؤذن لي بالدخول، فجلست إلى معلم لولده، وقد حذق ابن لعبد الملك عنده، وهو يعلّمه ما يتكلم به بين يدي أمير المؤمنين إذا دخل عليه، فقلت لمؤدّبه: ما تأمل من أمير المؤمنين أن يصلك به؛ فلك عندي ذلك على أن تكلّم الصبيّ إذا دخل على أمير المؤمنين، فإذا قال له: سل حاجتك، يقول له: حاجتي أن ترضى عن الزهري. ففعل، فضحك عبد الملك وقال: أين هو؟ قال: بالباب. فأذن لي فدخلت، حتى إذا صرت بين يديه، قلت: يا أمير المؤمنين، حدّثني سعيد بن المسيب عن أبي هريرة عن النبي صلّى الله عليه وسلم أنه قال: «لا يلدغ المؤمن من جحر مرتين» .
وقعة الحرّة
أبو اليقظان قال: لما حضرت معاوية الوفاة دعا يزيد، فقال: إن لك من أهل المدينة يوما، فإذا فعلوا فارمهم بمسلم بن عقبة، فإنه رجل قد عرفنا نصيحته.
فلما كان سنة ثلاث وستين، قدم عثمان بن محمد بن أبي سفيان المدينة عاملا عليها ليزيد بن معاوية، وأوفد على يزيد وفدا من رجال المدينة، فيهم عبد الله بن حنظلة غسيل الملائكة، ومعه ثمانية بنين، فأعطاه مائة ألف، وأعطى بنيه كلّ رجل منهم عشرة آلاف، سوى كسوتهم وحملانهم «1» ؛ فلما قدم عبد الله بن حنظلة المدينة، أتاه الناس فقالوا: ما وراءك؟
قال: أتيتكم من عند رجل والله لو لم أجد إلا بنيّ هؤلاء لجاهدته بهم! قالوا: فإنه قد بلغنا أنه أكرمك وأجازك وأعطاك!(5/136)
قال: قد فعل، وما قبلت ذلك منه إلا أن أتقوى به عليه. أي على قتال يزيد.
وحضّ الناس على يزيد، فأجابوه، فكتب عثمان بن محمد إلى يزيد بما أجمع عليه أهل المدينة من الخلاف، فكتب إليهم يزيد بن معاوية.
بسم الله الرحمن الرحيم، أما بعد؛ ف إِنَّ اللَّهَ لا يُغَيِّرُ ما بِقَوْمٍ حَتَّى يُغَيِّرُوا ما بِأَنْفُسِهِمْ، وَإِذا أَرادَ اللَّهُ بِقَوْمٍ سُوْءاً فَلا مَرَدَّ لَهُ وَما لَهُمْ مِنْ دُونِهِ مِنْ والٍ
«1» وإني قد لبستكم فأخلقتكم ورفعتكم على رأسي، ثم على عيني، ثم على فمي، ثم علي بطني؛ والله لئن وضعتكم تحت قدمي لأطأنكم وطأة أقلّ بها عددكم، وأترككم بها أحاديث؛ تنتسخ أخباركم مع أخبار عاد وثمود! فلما أتاهم كتابه حمي القوم، فقدّمت الأنصار عبد الله بن حنظلة على أنفسهم وقدّمت قريش عبد الله بن مطيع؛ ثم أخرجوا عثمان بن محمد بن أبي سفيان من المدينة، ومروان بن الحكم، وكلّ من كان بها من بني أمية؛ وكان عبد الله بن عباس بالطائف، فسأل عنهم فقيل له: استعملوا عبد الله بن مطيع على قريش، وعبد الله بن حنظلة على الأنصار. فقال: أميران! هلك القوم! ولما بلغ يزيد ما فعلوا، أمر بقبة فضربت له خارجا عن قصره، وقطع «2» البعوث على أهل الشام، فلم تمض ثالثة حتى توافت «3» الحشود، فقدّم عليهم مسلم بن عقبة المري، فتوجه إليهم- وقد عمد أهل المدينة فأخرجوا إلى كل ماء لهم بينهم وبين الشام فصبّوا فيه زقاّ من قطران وغوّروه «4» ؛ فأرسل الله عليهم المطر، فلم يستقوا شيئا حتى وردوا المدينة.
قال أبو اليقظان وغيره: إن يزيد بن معاوية ولى مسلم بن عقبة وهو قد اشتكى، فقال له: إن حدث بك حدث فاستعمل حصين بن نمير.(5/137)
فخرج حتى قدم المدينة، فخرج إليه أهلها في عدة وهيئة وجموع كثيرة لم ير مثلها؛ فلما رآهم أهل الشام هابوهم وكرهوا قتالهم؛ فأمر مسلم بن عقبة بسريره فوضع بين الصفين وهو عليه مريض وأمر مناديا ينادي: قاتلوا عن أميركم أو دعوه فجدّ الناس في القتال، فسمعوا التكبير من خلفهم في جوف المدينة، فإذا قد اقتحم عليهم بنو حارثة أهل الشام وهم على الجدّ، فانهزم الناس، وعبد الله بن حنظلة متساند إلى بعض بنيه يغط نوما، فلما فتح عينيه فرأى ما صنعوا أمر أكبر بنيه! فتقدم حتى قتل، فلم يزل يقدم واحدا واحدا حتى أتي على آخرهم، ثم كسر غمد سيفه، وقاتل حتى قتل! ودخل مسلم بن عقبة المدينة، وتغلب على أهلها، ثم دعاهم إلى البيعة على أنهم خول «1» ليزيد بن معاوية يحكم في دمائهم وأموالهم وأهليهم؛ فبايعوا حتى أتي بعبد الله بن زمعة، فقال له: بايع على أنك خول لأمير المؤمنين يحكم في مالك ودمك وأهلك! قال: لن أبايع على أني بزعم أمير المؤمنين يحكم في دمي ومالي وأهلي. فقال مسلم بن عقبة: اضربوا عنقه. فوثب مروان بن الحكم فضمّه إليه وقال: نبايعك على ما أحببت. فقال: لا والله لا أقيلها إياه أبدا؛ إن تنّحي وإلّا فاقتلوهما جميعا، فتركه مروان، وضرب عنقه.
وهرب عبد الله بن مطيع حتى لحق بمكة، فكان بها حتى قتل مع عبد الله بن الزبير في أيام عبد الملك بن مروان، وجعل يقاتل أهل الشام وهو يقول:
أنا الذي فررت يوم الحرّه ... والشّيخ لا يفرّ إلّا مرّة
فاليوم أجزي كرّة بفرّه ... لا بأس بالكرّة بعد الفرّه
أبو عقيل الدّورقي قال: سمعت أبا نضرة يحدث، قال: دخل أبو سعيد الخدري يوم الحرّة في غار، فدخل عليه رجل من أهل الشام، وفي عنق أبي سعيد السيف،(5/138)
فوضع أبو سعيد السيف وقال: بؤ «1» بإثمي وإثمك فتكون من أصحاب النار، وذلك جزاء الظالمين! فقال: أبو سعيد الخدريّ أنت؟ قال: نعم. قال: فاستغفر لي! قال:
غفر الله لك.
وأمر مسلم بن عقبة بقتل معقل بن سنان الأشجعي صبرا، ومحمد بن أبي الجهم العدويّ صبرا.
وكان جميع من قتل يوم الحرة من قريش والأنصار ثلاثمائة رجل وستة رجال، ومن الموالي وغيرهم أضعاف هؤلاء.
وبعث مسلم بن عقبة برءوس أهل المدينة إلى يزيد، فلما ألقيت بين يديه جعل يتمثل بقول ابن الزبعرى يوم أحد:
ليت أشياخي ببدر شهدوا ... جزع الخزرج من وقع الأسل
لأهلّوا واستهلّوا فرحا ... ولقالوا ليزيد لا فشل
فقال له رجل من أصحاب رسول الله صلّى الله عليه وسلم: ارتددت عن الإسلام يا أمير المؤمنين! قال: بلى نستغفر الله. قال: والله لا ساكنتك أرضا أبدا. وخرج عنه.
ولما انقضى أمر الحرّة توجه مسلم بن عقبة بمن معه من أهل الشام إلى مكة يريد ابن الزبير وهو ثقيل، فلما كان بالأبواء «2» حضره أجله. فدعا حصين بن نمير، فقال له: إني أرسلت إليك، فلا أدري أقدّمك على هذا الجيش، أو أقدمك فأضرب عنقك! قال: أصلحك الله، أنا سهمك، فارم بي حيث شئت. قال: إنك اعرابي جلف «3» جاف، وإنّ هذا الحي من قريش لم يمكنهم أحد قط من أذنه إلا غلبوه على رأيه، فسر بهذا الجيش، فإذا لقيت القوم، فإياك أن تمكنهم من أذنك، لا يكن إلا على الوقاف «4» ، ثم الثقاف «5» ، ثم الانصراف.(5/139)
ومات مسلم بن عقبة لا رحمه الله، ومضى حصين بن نمير بجيشه ذلك، فلم يزل محاصرا لأهل مكة حتى مات يزيد، لا رحمه الله؛ وذلك خمسون يوما ونصب المجانيق على الكعبة وأحرقها يوم الثلاثاء لخمس خلون من ربيع الأوّل سنة أربع وستين، وفيها مات يزيد بن معاوية بحوّارين.
وفاة يزيد بن معاوية
مات يزيد بن معاوية بحوّارين من بلاد حمص، وصلى عليه ابنه معاوية بن يزيد ابن معاوية ليلة البدر في شهر ربيع الأول. وأم يزيد: ميسون بنت بحدل الكلبي.
ومات وهو ابن ثمان وثلاثين سنة. وكانت ولايته ثلاث سنين وتسعة أشهر واثنين وعشرين يوما.
خلافة معاوية بن يزيد بن معاوية
واستخلف معاوية بن يزيد بن معاوية في شهر ربيع الأول سنة أربع وستين، وهو ابن إحدى وعشرين سنة، ومات بعد أبيه بأربعين يوما، ولم يزل مريضا طول ولايته، لا يخرج من بيته، فلما حضرته الوفاة قيل له: لو عهدت إلى رجل من أهل بيتك واستخلفت خليفة! قال: لم أنتفع بها حيّا فلا أقلّدها ميتا؛ لا يذهب بنو أمية بحلاوتها وأتجرّع مرارتها؛ ولكن إذا متّ فليصلّ عليّ الوليد بن عتبة، وليصل بالناس الضحاك بن قيس، حتى يختار الناس لأنفسهم. فلما مات صلى عليه الوليد بن عتبة، وصلى بالناس الضحاك بن قيس بدمشق، حتى قامت دولة بني مروان.
فتنة ابن الزبير
قال عليّ بن عبد العزيز: حدّثنا أبو عبيد عن حجاج عن أبي معشر، قال: لما مات مسلم بن عقبة سار حصين بن نمير، حتى أتى مكة وابن الزبير بها، فدعاهم إلى الطاعة فلم يجيبوه، فقاتلهم، وقاتله ابن الزبير؛ فقتل المنذر بن الزبير يومئذ ورجلان من(5/140)
إخوته، ومصعب بن عبد الرحمن بن عوف، والمسور بن مخرمة؛ وكان حصين بن نمير قد نصب المجانيق «1» على أبي قبيس وعلى قعيقعان «2» ، فلم يكن أحد يقدر أن يطوف بالبيت؛ فأسند ابن الزبير ألواحا من ساج على البيت، وألقى عليها الفرش والقطائف «3» ، فكان إذا وقع عليها الحجر»
نبا عن البيت، فكانوا يطوفون تحت تلك الألواح، فإذا سمعوا أصوات الحجر حين يقع على الفرش والقطائف كبّروا؛ وكان ابن الزبير قد ضرب فسطاطا «5» في ناحية، فكلما جرح رجل من أصحابه أدخله ذلك الفسطاط، فجاء رجل من أهل الشام بنار في طرف سنانه، فأشعلها في الفسطاط، وكان يوما شديد الحرّ، فتمزق الفسطاط، فوقعت النار على الكعبة فاحترق الخشب والسقف، وانصدع الركن واحترقت الأستار وتساقطت إلى الأرض.
قال: ثم اقتتلوا مع أهل الشام أياما بعد حريق الكعبة.
قال أبو عبيد: احترقت الكعبة يوم السبت لست خلون من ربيع الأول سنة أربع وستين، فجلس أهل مكة في جانب الحجر ومعهم ابن الزبير، وأهل الشام يرمونهم بالنبل والحجارة، فوقعت نبلة بين يدي ابن الزبير، فقال: في هذه خير! فأخذها فوجد فيها مكتوبا: مات يزيد بن معاوية يوم الخميس لأربع عشرة خلت من ربيع الأول. فلما قرأ ذلك قال: يا أهل الشام، يا أعداء الله، ومحرقي بيت الله، علام تقاتلون وقد مات طاغيتكم! فقال حصين بن نمير: موعدك البطحاء «6» الليلة أبا بكر.
فلما كان الليل، خرج ابن الزبير بأصحابه، وخرج حصين بأصحابه إلى البطحاء،(5/141)
ثم ترك كلّ واحد منهما أصحابه، وانفردا فنزلا؛ فقال حصين: يا أبا بكر، أنا سيد أهل الشام لا أدافع، وأرى أهل الحجاز قد رضوا بك؛ فتعال أبايعك الساعة ويهدر كل شيء أصبناه يوم الحرّة، وتخرج معي إلى الشام، فإني لا أحب أن يكون الملك بالحجاز. فقال: لا والله لا أفعل، ولا آمن من أخاف الناس وأحرق بيت الله وانتهك حرمته! قال: بل فافعل على أن لا يختلف عليك اثنان. فأبى ابن الزبير؛ فقال له حصين: لعنك الله ولعن من زعم أنك سيد، والله لا تفلح أبدا! اركبوا يا أهل الشام. فركبوا وانصرفوا.
أبو عبيد عن الحجّاج عن أبي معشر قال: حدّثنا بعض المشيخة الذين حضروا قتال ابن الزبير، قال: غلب حصين بن نمير على مكة كلها إلا الحجر، قال: فو الله إني لجالس عنده ومعه نفر من القرشيين: عبد الله بن مطيع، والمختار بن أبي عبيد، والمسور بن مخرمة، والمنذر بن الزبير، إذ هبّت رويحة «1» ؛ فقال المختار: والله إني لأرى في هذه الرويحة النصر، فاحملوا عليهم. فحملوا عليهم حتى أخرجوهم من مكة، وقتل المختار رجلا، وقتل ابن مطيع رجلا. ثم جاءنا على أثر ذلك موت يزيد بعد حريق الكعبة بإحدى عشرة ليلة.
وانصرف حصين بن نمير وأصحابه إلى الشام، فوجدوا معاوية بن يزيد قد مات ولم يتسخلف، وقال: لا أتحملها حيا وميتا.
فلما مات معاوية بن يزيد، بايع أهل الشام كلهم ابن الزبير، إلا أهل الأردن؛ وبايع أهل مصر أيضا ابن الزبير، واستخلف ابن الزبير الضحاك بن قيس الفهري على أهل الشام. فلما رأى ذلك رجال بني أمية وناس من أشراف أهل الشام ووجوههم، منهم روح بن زنباع وغيره، قال بعضهم لبعض: إنّ الملك كان فينا أهل الشام، فانتقل عنا إلى الحجاز؛ لا نرضى بذلك؛ هل لكم أن تأخذوا رجلا منا فينظر في هذا الأمر. فقال [روح بن زنباع] : استخيروا الله. قال: فرأى القوم أنه غلام(5/142)
حدث السنّ فخرجوا من عنده وقالوا: هذا حدث. فأتوا عمرو بن سعيد بن العاص، فقالوا له: ارفع رأسك لهذا الأمر. فرأوه حدثا، فجاءوا إلى خالد بن يزيد ابن معاوية، فقالوا له: ارفع رأسك لهذا الأمر. فرأوه حدثا حريصا على هذا الأمر؛ فلما خرجوا من عنده قالوا: هذا حدث. فأتوا مروان بن الحكم، فإذا عنده مصباح، وإذا هم يسمعون صوته بالقرآن، فاستأذنوا ودخلوا عليه، فقالوا: يا أبا عبد الملك، ارفع رأسك لهذا الأمر. فقال: استخيروا الله، واسألوا أن يختار لأمّة محمد صلّى الله عليه وسلم خيرها وأعدلها. فقال له روح بن زنباع: إن معي أربعمائة من جذام، فأنا آمرهم أن يتقدّموا في المسجد غدا، ومر أنت ابنك عبد العزيز أن يخطب الناس ويدعوهم إليه؛ فإذ فعل ذلك تنادوا من جانب المسجد: صدقت، صدقت! فيظنّ الناس أنّ أمرهم واحد ...
فلما اجتمع الناس، قام عبد العزيز فحمد الله وأثنى عليه، ثم قال: ما أحد أولى بهذا الأمر من مروان كبير قريش وسيدها، والذي نفسي بيده، لقد شابت ذراعاه من الكبر. فقال الجذاميون: صدقت صدقت! فقال خالد بن يزيد: أمر دبّر بليل.
فبايعوا مروان بن الحكم، ثم كان من أمره مع الضحاك بن قيس بمرج راهط ما سيأتي ذكره بعد هذا في دولة بني مروان.
دولة بني مروان ووقعة مرج راهط
أبو الحسن قال: لما مات معاوية بن يزيد، اختلف الناس بالشام، فكان أول من خالف من أمراء الأجناد النعمان بن بشير الأنصاري، وكان على حمص فدعا لابن الزبير، فبلغ خبره زفر بن الحرث الكلابي وهو بقنّسرين، فدعا إلى ابن الزبير أيضا بدمشق سرا، ولم يظهر ذلك لمن بها من بني أمية وكلب؛ وبلغ ذلك حسان بن مالك ابن بحدل الكلبي وهو بفلسطين؛ فقال لروح بن زنباع: إني أرى أمراء الأجناد يبايعون(5/143)
لابن الزبير، وأبناء قيس بالأردن كثير، وهم قومي، فأنا خارج إليها وأقم أنت بفلسطين، فإنّ جل أهلها قومك من لخم وجذام، فإن خالفك أحد فقاتله بهم.
فأقام روح بفلسطين، وخرج حسان إلى الأردن، فقام ناتل بن قيس الجذامي فدعا إلى ابن الزبير، وأخرج روح بن زنباع من فلسطين، ولحق بحسان بالأردن فقال حسان: يا أهل الأردن، قد علمتم أن ابن الزبير في شقاق ونفاق وعصيان لخلفاء الله.
ومفارقة لجماعة المسلمين؛ فانظروا رجلا من بني حرب فبايعوه فقالوا: اختر لنا من شئت من بني حرب، وجنّبنا هذين الرجلين الغلامين: عبد الله وخالدا ابني يزيد بن معاوية؛ فإنا نكره أن يدعو الناس إلى شيخ، ونحن ندعو إلى صبيّ. وكان هوى حسان في خالد بن يزيد، وكان ابن أخته؛ فلما رموه بهذا الكلام أمسك، وكتب إلى الضحاك بن قيس كتابا يعظم فيه بني أمية وبلاءهم عنده، ويذم ابن الزبير ويذكر خلافه للجماعة، وقال لرسوله: اقرأ الكتاب على الضحاك بمحضر بني أمية وجماعة الناس. فلما قرأ كتاب حسان، تكلم الناس فصاروا فرقتين، فصارت اليمانية مع بني أيمة، والقيسية زبيرية، ثم اجتلدوا «1» بالنعال، ومشى بعضهم إلى بعض بالسيوف، حتى حجر بينهم خالد بن يزيد، ودخل الضحاك دار الإمارة فلم يخرج ثلاثة أيام.
وقدم عبيد الله بن زياد فكان مع بني أمية بدمشق، فخرج الضحاك بن قيس إلى المرج- مرج راهط- فسعكر فيه، وأرسل إلى أمراء الأجناد فأتوه، إلا ما كان من كلب؛ ودعا مروان إلى نفسه، فبايعته بنو أمية، وكلب، وغسان، والسكاسك وطيّ؛ فعسكر في خمسة آلاف، وأقبل عباد بن يزيد من حوران في ألفين من مواليه وغيرهم من بني كلب، فلحق بمروان وغلب يزيد بن أبي نمس على دمشق فأخرج منها عامل الضحاك، وأمر مروان برجال وسلاح كثير.
وكتب الضحاك إلى أمراء الأجناد، فقدم عليه زفر بن الحرث من قنسرين وأمده النعمان بن بشير بشرحبيل بن ذي الكلاع في أهل حمص، فتوافوا عند الضحاك بمرج(5/144)
راهط، فكان الضحاك في ستين ألفا، ومروان في ثلاثة عشر ألفا، أكثرهم رجالة، وأكثر أصحاب الضحاك ركبان؛ فاقتتلوا بالمرج عشرين يوما، وصبر الفريقان، وكان على ميمنة الضحاك زياد بن عمرو بن معاوية العقيلي، وعلى ميسرته بكر بن أبي بشير الهلالي: فقال عبيد الله بن زياد لمروان: إنك على حق، وابن الزبير ومن دعا إليه على الباطل، وهم أكثر منا عددا وعددا، ومع الضحاك فرسان قيس؛ واعلم أنك لا تنال منهم ما تريد إلا بمكيدة، وإنما الحرب خدعة، فادعهم إلى الموادعة، فإذا أمنوا وكفّوا عن القتال فكرّ عليهم. فأرسل مروان السّفراء إلى الضحاك يدعوه إلى الموادعة ووضع الحرب حتى ننظر. فأصبح الضحاك والقيسية قد أمسكوا عن القتال، وهم يطمعون أن يبايع مروان لابن الزبير، وقد أعد مروان أصحابه، فلم يشعر الضحاك وأصحابه إلا والخيل قد شدت عليهم، ففزع الناس إلى راياتهم من غير استعداد وقد غشيتهم الخيل، فنادى الناس: أبا أنيس، أعجز بعد كيس «1» ، وكنية الضحاك: أبو أنيس، فاقتتل الناس، ولزم الناس راياتهم، فترجّل مروان وقال: قبح الله من ولاهم اليوم ظهره حتى يكون الأمر لإحدى الطائفتين. فقتل الضحاك بن قيس، وصبرت قيس عند راياتها يقاتلون، فنظر رجل من بني عقيل إلى ما تلقى قيس عند راياتها من القتل، فقال: اللهم العنها من رايات! واعترضها بسيفه، فجعل يقطعها، فإذا سقطت الراية تفرق أهلها، ثم انهزم الناس فنادى منادي مروان: لا تتبعوا من ولّاكم اليوم ظهره.
فزعموا أن رجالا من قيس لم يضحكوا بعد يوم المرج، حتى ماتوا جزعا على من أصيب من فرسان قيس يومئذ، فقتل من قيس يومئذ ممن كان يأخذ شرف العطاء، ثمانون رجلا، وقتل من بني سليم ستمائة، وقتل لمروان ابن يقال له عبد العزيز، وشهد مع الضحاك يوم مرج راهط عبد الله بن معاوية بن أبي سفيان، فلما انهزم الناس، قال له عبيد الله بن زياد: ارتدف «2» خلفي. فارتدف، فأراد عمرو بن سعيد أن يقتله،(5/145)
فقال له عبيد الله بن زياد: ألا تكف يا لطيم الشيطان؟
وقال زفر بن الحارث وقد قتل ابناه يوم المرج:
لعمري لقد أبقت وقيعة راهط ... لمروان صدعا بيّنا متنائيا «1»
فلم تر مني زلة قبل هذه ... فراري وتركي صاحبيّ ورائيا
أيذهب يوم واحد إن أسأته ... بصالح أيامي وحسن بلائيا
أنترك كلبا لم تنلها رماحنا ... وتذهب قتلى راهط وهي ماهيا
وقد تنبت الخضراء في دمن الثّرى ... وتبقى حزازات النّفوس كما هيا
فلا صلح حتى تدعس الخيل بالقنا ... وتثأر من أبناء كلب نسائيا «2»
فلما قتل الضحاك وانهزم الناس: نادى مروان أن لا يتّبع أحد، ثم أقبل إلى دمشق فدخلها، ونزل دار معاوية بن أبي سفيان دار الإمارة؛ ثم جاءته بيعة الأجناد فقال له أصحابه: إنا لا نتخوف عليك إلا خالد بن يزيد، فتزوّج أمّه؛ فإنك تكسره بذلك- وأمه ابنة أبي هاشم بن عتبة بن ربيعة- فتزوجها مروان، فلما أراد الخروج إلى مصر قال لخالد: أعرني سلاحا إن كان عندك. فأعاره سلاحا.
وخرج إلى مصر، فقاتل أهلها وسبى بها ناسا كثيرا، فافتدوا منه ثم قدم الشام.
فقال له خالد بن يزيد: ردّ عليّ سلاحي. فأبى عليه، فألح عليه خالد، فقال له مروان، وكان فحاشا: يا بن رطبة الاست! قال: فدخل إلى أمه فبكى عندها وشكا إليها ما قاله مروان على رءوس أهل الشام، فقالت له: لا عليك، فإنه لا يعود إليك بمثلها.
فلبث مروان بعد ما قال لخالد ما قال أياما، ثم جاء إلى أم خالد فرقد عندها فأمرت جواريها فطرحن عليه الوسائد ثم غطته حتى قتلته، ثم خرجن فصحن وشققن ثيابهن: يا أمير المؤمنين! يا أمير المؤمنين!(5/146)
ثم قام عبد الملك بالأمر بعده، فقال لفاخته أم خالد: والله لولا أن يقول الناس إني قتلت بأبي امرأة لقتلتك بأمير المؤمنين.
وولد مروان بن الحكم بن العاص بن أمية بن عبد شمس بن عبد مناف بمكة.
ومات بالشام لثلاث خلون من رمضان سنة خمس وستين، وهو ابن ثلاث وستين سنة، وصلى عليه ابنه عبد الملك بن مروان. وكانت ولايته تسعة أشهر وثمانية عشر يوما. وكان على شرطته يحيى بن قيس الشيباني. وكاتبه سرجون بن منصور الرومي.
وحاجبه أبو سهل الأسود مولاه.
ولاية عبد الملك بن مروان
هو عبد الملك بن مروان بن الحكم بن العاص بن أمية، ويكنى؛ أبا الوليد ويقال له أبو الأملاك؛ وذلك أنه ولي الخلافة أربع من ولده: الوليد، وسليمان، ويزيد، وهشام. وكان تدمى لثته فيقع عليها الذباب، فكان يلقب: أبا الذباب.
أمه عائشة بنت معاوية بن المغيرة بن أبي العاص بن أمية.
وله يقول ابن قيس الرقيات:
أنت ابن عائشة التي ... فضلت أروم نسائها «1»
لم نلتفت للداتها ... ومضت على غلوائها
ولدت أغرّ مباركا ... كالشمس وسط سمائها
وبويع عبد الملك بدمشق لثلاث خلون من رمضان سنة خمس وستين.
ومات بدمشق للنصف من شوال سنة ست وثمانين؛ وهو ابن ثلاث وستين سنة، فصلى عليه الوليد بن عبد الملك.(5/147)
وولد عبد الملك بالمدينة سنة ثلاث وعشرين، ويقال سنة ست وعشرين، ويقال ولد لسبعة أشهر.
وكان على شرطته: ابن أبي كبيشة السكسكي، ثم أبو نائل بن رباح بن عبيدة الغساني ثم عبد يزيد الحكمي، وعلى حرسه: الريان.
وكاتبه على الخراج والجند: سرجون بن منصور الرومي، وكاتبه على الرسائل:
أبو زرعة مولاه، وعلى الخاتم: قبيصة بن ذؤيب، وعلى بيوت الأموال والخزائن:
رجاء بن حيوة.
وحاجبه أبو يوسف مولاه.
ومات عبد الملك سنة ست وثمانين، وهو ابن ثلاث وستين سنة، وصلى عليه الوليد ابنه.
وكانت ولايته منذ اجتمع عليه ثلاث عشرة سنة وثلاثة أشهر.
ودفن خارج باب المدينة.
وفي أيام عبد الملك حوّلت الدواوين إلى العربية عن الرومية والفارسية حوّلها من الرومية سليمان بن عسد مولى خشين، وحوّلها عن الفارسية صالح بن عبد الرحمن مولى عتبة، امرأة من بني مرة، ويقال حوّلت في زمن الوليد.
ابن وهب عن ابن لهيعة قال: كان معاوية فرض للموالي خمسة عشر، فبلغهم عبد الملك عشرين، ثم بلغهم خمسة وعشرين، ثم قام هشام فأتم للأبناء منهم ثلاثين.
وكتب عبد الله بن عمر إلى عبد الملك بن مروان ببيعته لما قتل ابن الزبير، وكان كتابه إليه يقول:
لعبد الملك بن مروان من عبد الله بن عمر، سلام عليك؛ فاني أقررت لك بالسمع والطاعة على سنة الله وسنة رسوله صلّى الله عليه وسلم. وبيعة نافع مولاي على مثل ما بايعتك عليه.(5/148)
وكتب محمد بن الحنفية ببيعته لما قتل ابن الزبير، وكان في كتابه:
إني اعتزلت الأمة عند اختلافها، فقعدت في البلد الحرام الذي من دخله كان آمنا، لأحرز ديني، وأمنع دمي، وتركت الناس قُلْ كُلٌّ يَعْمَلُ عَلى شاكِلَتِهِ فَرَبُّكُمْ أَعْلَمُ بِمَنْ هُوَ أَهْدى سَبِيلًا
«1» . وقد رأيت الناس قد اجتمعوا عليك، ونحن عصابة من أمتنا لا نفارق الجماعة؛ وقد بعثت إليك منا رسولا ليأخذ لنا منك ميثاقا، ونحن أحق بذلك منك، فإن أبيت فأرض الله واسعة، والعاقبة للمتقين.
فكتب إليه عبد الملك: قد بلغني كتابك بما سألته من الميثاق لك وللعصابة التي معك، فلك عهد الله وميثاقه أن لا تهاج في سلطاننا، غائبا ولا شاهدا ولا أحد من أصحابك ما وفوا ببيعتهم، فإن أحببت المقام بالحجاز فأقم، فلن ندع صلتك وبرّك؛ وإن أحببت المقام عندنا فاشخص إلينا، فلن ندع مواساتك؛ ولعمري لئن ألجأناك إلى الذهاب في الأرض خائفا لقد ظلمناك وقطعنا رحمك؛ فاخرج إلى الحجاج فبايع، فإنك أنت المحمود عندنا دينا ورأيا، وخير من ابن الزبير وأرضي وأتقى.
وكتب إلى الحجاج بن يوسف:
لا تعرض لمحمد ولا لأحد من أصحابه.
وكان في كتابه:
جنّبني دماء بني عبد المطلب؛ فليس فيها شفاء من الحرب «2» ؛ وإني رأيت بني حرب سلبوا ملكهم لما قتلوا الحسين بن علي.
فلم يتعرض الحجاج لأحد من الطالبيين في أيامه.
أبو الحسن المدائني قال: كان يقال: معاوية أحلم، وعبد الملك أحزم.(5/149)
وخطب الناس عبد الملك فقال: أيها الناس إني والله ما أنا بالخليفة المستضعف- يريد عثمان بن عفان- ولا بالخليفة المداهن- يريد معاوية بن أبي سفيان- ولا بالخليفة المأفون «1» - يريد يزيد بن معاوية- فمن قال برأسه كذا، قلنا بسيفنا كذا! ثم نزل.
وخطب عبد الملك على المنبر فقال: أيها الناس، إن الله حد حدودا، وفرض فروضا؛ فما زلتم تزدادون في الذنب ونزداد في العقوبة، حتى اجتمعنا نحن وأنتم عند السيف! أبو الحسن المدائني قال: قدم عمر بن أبي طالب على عبد الملك، فسأله أن يصيّر إليه صدقة علي، فقال عبد الملك متمثلا بأبيات ابن أبي الحقيق:
إني إذا مالت دواعي الهوى ... وأنصت السّامع للقائل
واعتلج الناس بآرائهم ... نقضي بحكم عادل فاصل «2»
لا نجعل الباطل حقاّ ولا ... نرضى بدون الحقّ للباطل
لا، لعمري لا نخرجها من ولد الحسين إليك. وأمر له بصلة، ورجع.
وقال عبد الملك بن مروان لأيمن بن خريم: إن أباك وعمك كانت لهما صحبة؛ فخذ هذا المال فقاتل ابن الزبير. فأبى، فشتمه عبد الملك، فخرج وهو يقول:
فلست بقاتل رجلا يصلّي ... على سلطان آخر من قريش
له سلطانه وعليّ إثمي ... معاذ الله عن سفه وطيش
وقال أيمن بن خريم أيضا:
إنّ للفتنة هيطا بيّنا ... فرويد الميل منها يعتدل «3»
فإذا كان عطاء فانتهز ... وإذا كان قتال فاعتزل
إنما يوقدها فرسانها ... حطب النار فدعها تشتعل(5/150)
وقال زفر بن الحارث لعبد الملك بن مروان: الحمد لله الذي نصرك على كرّه من المؤمنين. فقال أبو زعيزعة: ما كره ذلك إلا كافر. فقال زفر: كذبت، قال الله لنبيه: كَما أَخْرَجَكَ رَبُّكَ مِنْ بَيْتِكَ بِالْحَقِّ وَإِنَّ فَرِيقاً مِنَ الْمُؤْمِنِينَ لَكارِهُونَ
«1» .
وبعث عبد الملك بن مروان إلى المدينة حبيش بن دلجة القيني في سبعة آلاف فدخل المدينة وجلس على منبر رسول الله صلّى الله عليه وسلم، فدعا بخبز ولحم فأكل، ثم دعا بماء فتوضأ على المنبر، ثم دعا جابر بن عبد الله صاحب النبي صلّى الله عليه وسلم، فقال: تبايع لعبد الملك بن مروان أمير المؤمنين بعهد الله عليك وميثاقه، وأعظم ما أخذ الله على أحد من خلقه في الوفاء، فإن خنتنا فهراق «2» الله دمك على ضلاله. قال: أنت أطوق لذلك مني، ولكن أبايعه على ما بايعت عليه رسول الله صلّى الله عليه وسلم يوم الحديبية، على السمع والطاعة.
ثم خرج ابن دلجة من يومه ذلك إلى الربذة، وقدم على أثره من الشام رجلان مع كل واحد منهما جيش، ثم اجتمعوا جميعا في الرّبذة، وذلك في رمضان سنة خمس وستين وأميرهم ابن دلجة.
وكتب ابن الزبير إلى العباس بن سهل الساعدي بالمدينة أن يسير إلى حبيش بن دلجة، فصار حتى لقيه بالربذة.
وبعث الحراث بن عبد الله بن أبي ربيعة، وهو عامل ابن الزبير على البصرة، مددا إلى العباس بن سهل: حنيف بن السّجف في تسعمائة من أهل البصرة، فساروا حتى انتهوا إلى الربذة.
فبات أهل البصرة وأهل المدينة يقرءون القرآن ويصلّون، وبات أهل الشام في المعازف والخمور؛ فلما أصبحوا غدوا على القتال، فقتل حبيش بن دلجة ومن معه، فتحصن منهم خمسمائة رجل من أهل الشام على عمود الربذة، وهو الجبل الذي عليها،(5/151)
وفيهم يوسف أبو الحجاج، فأحاط بهم عياش بن سهل، فطلبوا الأمان، فقال [لهم عياش] انزلوا على حكمي. فنزلوا على حكمه، فضرب أعناقهم أجمعين. ثم رجع عياش بن سهل إلى المدينة.
وبعث عبد الله بن الزبير ابنه حمزة عاملا على البصرة، فاستضعفه القوم فبعث أخاه مصعب بن الزبير، فقدم عليهم فقال: يا أهل البصرة، بلغني أنه لا يقدم عليكم أمير إلا لقّبتموه، وإني ألقب لكم نفسي: أنا القصاب.
خبر المختار بن أبي عبيد
ثم أرسل عبد الله بن الزبير إبراهيم بن محمد بن طلحة أميرا على الكوفة؛ ثم عزله وأرسل المختار بن أبي عبيد؛ وأرسل عبد الملك عبيد الله بن زياد إلى الكوفة؛ فبلغ المختار إقبال عبيد الله بن زياد، فوجه إليهم إبراهيم بن الاشتر في جيش، فالتقوا بالجازر، وقتل عبيد الله بن زياد، وحصين بن نمير، وذو الكلاع، وعامة من كان معهم، وبعث برءوسهم إلى عبد الله بن الزبير.
أبو بكر بن أبي شيبة قال حدّثنا شريك بن عبد الله عن أبي الجويرية الحرمي قال:
كنت فيمن سار إلى أهل الشام يوم الجازر مع إبراهيم بن الأشتر فلقيناهم بالزاب، فهبت الريح لنا عليهم فأدبروا، فقتلناهم عشيتنا وليلتنا حتى أصبحوا؛ فقال إبراهيم إني قتلت البارحة رجلا فوجدت عليه ريح طيب، فالتمسوه، فما أراه إلا ابن مرجانة. فانطلقنا، فإذا هو والله معكوس في بطن الوادي.
ولما التقى عبيد الله بن زياد وإبراهيم بن الأشتر بالزاب، قال: من هذا الذي يقاتلني؟ قيل له: إبراهيم بن الأشتر. قال: لقد تركته أمس صبيا يلعب بالحمام! قال: ولما قتل ابن زياد بعث المختار برأسه إلى علي بن الحسين بالمدينة، قال الرسول: فقدمت به عليه انتصاف النهار وهو يتغدّى، قال: فلما رآه قال: سبحان الله! ما اغتر بالدنيا إلا من ليس لله في عنقه نعمة؛ لقد أدخل رأس أبي عبد الله على(5/152)
ابن زياد وهو يتغدى، وقال يزيد بن مفرّغ:
إنّ الذي عاش ختّارا بذمّته ... ومات عبدا: قتيل الله بالزّاب «1»
ثم إن المختار كتب كتابا إلى ابن الزبير، وقال لرسوله: إذا جئت مكة فدفعت كتابي إلى ابن الزبير، فأت المهدي- يعني محمد بن الحنفية- فاقرأ عليه السلام، وقل له: يقول لك أبو إسحق: إني أحبك وأحب أهل بيتك! قال: فأتاه، فقال له ذلك، فقال: كذبت وكذب أبو إسحق، وكيف يحبني ويحب أهل بيتي، وهو يجلس عمر ابن سعد على وسائده وقد قتل الحسين؟ فلما قدم عليه رسوله وأخبره، قال المختار لأبي عمرو صاحب حرسه: استأجر لي نوائح يبكين الحسين على باب عمر بن سعد.
ففعل، فلما بكين قال عمر لابنه حفص: يا بني، ائت الأمير فقل له: ما بال النوائح يبكين الحسين على بابي؟ فأتاه فقال له ذلك، فقال: إنه أهل أن يبكى عليه! فقال:
أصلحك الله، انهنّ عن ذلك! قال: نعم. ثم دعا أبا عمرو صاحب حرسه، فقال له:
اذهب إلى عمر بن سعد فأتني برأسه! فأتاه فقال له: قم إليّ أبا حفص. فقام إليه وهو ملتحف بملحفة، فجلله بالسيف فقتله، وجاء برأسه إلى المختار ثم قال: ائتوني بابن عمر. فلما حضره قال: أتعرف هذا؟ قال: نعم، رحمه الله! قال: أتحب أن نلحقك به؟ قال: لا خير في العيش بعده! فأمر به فضرب عنقه.
ثم إن المختار لما قتل ابن مرجانة وعمر بن سعد، جعل يتبع قتلة الحسين بن علي ومن خذله فقتلهم أجمعين، وأمر الحسينية وهم الشيعة أن يطوفوا في أزقة المدينة بالليل ويقولوا: يا ثارات الحسين! فلما أفناهم ودانت له العراق- ولم يكن صادق النية ولا صحيح المذهب، وإنما أراد أن يستأصل الناس- فلما أدرك بغيته أظهر للناس قبح نيته، فادّعى أن جبريل ينزل عليه ويأتيه بالوحي من الله؛ وكتب إلى أهل البصرة:(5/153)
بلغني أنكم تكذبونني وتكذبون رسلي، وقد كذبت الأنبياء من قبلي ولست بخير من كثير منهم! فلما انتشر ذلك عنه، كتب أهل الكوفة إلى ابن الزبير وهو بالبصرة فخرج إليه، وبرز إليه المختار، فأسلمه إبراهيم بن الأشتر ووجوه أهل الكوفة، فقتله مصعب وقتل أصحابه.
أبو بكر بن أبي شيبة قال: قيل لعبد الله بن عمر: إن المختار ليزعم أنه يوحى إليه! قال: صدق، الشياطين يوحون إلى أوليائهم!.
وقتل مصعب من أصحاب المختار ثلاثة آلاف، ثم حج في سنة إحدى وسبعين فقدم على أخيه عبد الله بن الزبير ومعه وجوه أهل العراق، فقال: يا أمير المؤمنين قد جئتك بوجوه أهل العراق، ولم أدع لهم نظيرا؛ فأعطهم من المال. قال: جئتني بعبيد أهل العراق لأعطيهم من مال الله! وددت أن لي بكل عشرة منهم رجلا من أهل الشام صرف الدينار بالدرهم! فلما انصرف مصعب ومعه الوفد من أهل العراق، وقد حرمهم عبد الله بن الزبير ما عنده، فسدت قلوبهم؛ فراسلوا عبد الملك بن مروان حتى خرج إلى مصعب فقتله.
علي بن عبد العزيز عن حجّاج عن أبي معشر، قال: لما بعث مصعب برأس المختار إلى عبد الله بن الزبير فوضع بين يديه، قال: ما من شيء حدّثنيه كعب الأحبار إلا قد رأيته، غير هذا؛ فإنه قال لي: يقتلك شابّ من ثقيف. فأراني قد قتلته! وقال محمد بن سيرين لما بلغه هذا الحديث: لم يعلم ابن الزبير أن أبا محمد قد خبيء له.
ولما قتل مصعب المختار بن أبي عبيد ودانت له العراق كلها، والكوفة والبصرة، قال فيه عبد الله بن قيس برقيات:(5/154)
كيف نومي على الفراش ولمّا ... تشمل الشام غارة شعواء «1»
تذهل الشيخ عن بنيه وتبدي ... عن خدام العقيلة العذراء «2»
إنما مصعب شهاب من الله ... تجلّت عن وجهه الظّلماء
وتزوّج مصعب لما ملك العراق، عائشة بنت طلحة، وسكينة بنت الحسين؛ ولم يكن لهما نظير في زمانهما.
وقتل مصعب امرأة المختار، وهي ابنة النعمان بن بشير الأنصاري، فقال فيها عمر بن أبي ربيعة المخزومي:
إنّ من أعظم المصائب عندي ... قتل حوراء غادة عيطبول «3»
قتلت باطلا على غير ذنب ... إنّ لله درّها من قتيل
كتب القتل والقتال علينا ... وعلى الغانيات جرّ الذّيول
مقتل عمرو بن سعيد الأشدق
أبو عبيد عن حجاج عن أبي معشر، قال: لما قدم مصعب بوجوه أهل العراق على أخيه عبد الله بن الزبير فلم يعطهم شيئا، أبغضوا ابن الزبير، وكاتبوا عبد الملك بن مروان، فخرج يريد مصعب بن الزبير فلما أخذ في جهازه وأراد الخروج، أقبلت عاتكة ابنة يزيد بن معاوية في جواريها وقد تزينت بالحلى، فقالت: يا أمير المؤمنين، لو قعدت في ظلال ملكك ووجهت إليه كلبا من كلابك لكفاك أمره! فقال:
هيهات، أما سمعت قول الأول:
قوم إذا ما غزوا شدّوا مآزرهم ... دون النساء ولو باتت بأطهار
فلما أبى عليها وعزم بكت وبكى معها جواريها، فقال عبد الملك: قاتل الله ابن أبي ربيعة، كأنه ينظر إلينا حيث يقول:(5/155)
إذا ما أراد الغزو لم يثن همّه ... حصان عليها نظم در يزينها «1»
نهته فلما لم تر النّهي عاقه ... بكت فبكى مما دهاها قطينها «2»
ثم خرج يريد مصعب، فلما كان من دمشق على ثلاث مراحل أغلق عمرو بن سعيد دمشق وخالف عليه، قيل له: ما تصنع؟ أتريد العراق وتدع دمشق؟ أهل الشام أشدّ عليك من أهل العراق! فرجع مكانه فحاصر أهل دمشق حتى صالح عمرو بن سعيد على أنه الخليفة بعده وأن له مع كل عامل عاملا، ففتح له دمشق، وكان بيت المال بيد عمرو بن سعيد، فأرسل إليه عبد الملك أن أخرج للحرس أرزاقهم فقال:
إذا كان لك حرس فإن لنا حرسا أيضا! فقال عبد الملك: أخرج لحرسك أيضا أرزاقهم! فلما كان يوم من الأيام أرسل عبد الملك إلى عمرو بن سعيد نصف النهار أن ائتني أبا أمية حتى أدبر معك أمورا. فقالت له امرأته. يا أبا أمية، لا تذهب إليه؛ فإنني أتخوّف عليك منه! فقال: أبو الذباب! والله لو كنت نائما ما أيقظني! قالت: والله ما آمنه عليك، وإني لأجد ريح دم مسفوح. فما زالت به حتى ضربها بقائم سيفه فشجها، فخرج وخرج معه أربعة آلاف من أبطال أهل الشام الذين لا يقدر على مثلهم مسلّحين، فأحدقوا بخضراء دمشق وفيها عبد الملك، فقالوا: يا أبا امية، إن رابك ريب فأسمعنا صوتك، قال: فدخل فجعلوا يصيحون: أبا أمية أسمعنا صوتك، وكان معه غلام أسحم شجاع، فقال له: اذهب إلى الناس فقل لهم:
ليس عليه بأس. فقال له عبد الملك: أمكرا عند الموت أبا أمية؟ خذوه. فأخذوه.
فقال له عبد الملك: إني أقسمت إن أمكنتني منك يد أن أجعل في عنقك جامعة «3» ، وهذه جامعة من فضة أريد أن أبرّ بها قسمي! قال: فطرح في رقبته الجامعة، ثم طرحه إلى الأرض بيده فانكسرت ثنيته «4» ؛ فجعل عبد الملك ينظر إليه، فقال عمرو: لا عليك يا أمير المؤمنين، عظم انكسر! قال: وجاء المؤذنون فقالوا: الصلاة(5/156)
يا أمير المؤمنين. لصلاة الظهر، فقال لعبد العزيز بن مروان: اقتله حتى أرجع إليك من الصلاة. فلما أراد عبد العزيز أن يضرب عنقه، قال له عمرو، أنشدتك بالرحم يا عبد العزيز أن لا تقتلني من بينهم! فجاء عبد الملك فرآه جالسا، فقال: مالك لم تقتله؟ لعنك الله ولعن أماّ ولدتك! ثم قال: قدّموه إليّ. فأخذ الحربة بيده فقال:
فعلتها يا بن الزرقاء، فقال له عبد الملك: إني لو علمت أنك تبقى ويصلح لي ملكي لفديتك بدم الناظر «1» ، ولكن قلّما اجتمع فحلان في ذود «2» إلا عدا أحدهما على الآخر. ثم رفع إليه الحربة فقتله، وقعد عبد الملك يرعد، ثم أمر به فأدرج في بساط وأدخل تحت السرير. وأرسل إلى قبيصة بن ذؤيب الخزاعي فدخل عليه، فقال: كيف رأيك في عمرو بن سعيد الأشدق؟ قال- وأبصر قبيصة رجل عمرو تحت السرير، فقال: اضرب عنقه يا أمير المؤمنين! قال: جزاك الله خيرا، ما علمت إنك لموفّق، قال قبيصة: اطرح رأسه وانثر على الناس الدنانير يتشاغلون بها. ففعل.
وافترق الناس، وهرب يحيى بن سعيد بن العاص حتى لحق بعبد الله بن الزبير بمكة فكان معه.
وأرسل عبد الملك بن مروان بعد قتله عمرو بن سعيد إلى رجل كان يستشيره ويصدر عن رأيه إذا ضاق عليه الأمر، فقال له: ما ترى ما كان من فعلي بعمرو بن سعيد؟ قال: أمر قد فات دركه «3» . قال: لتقولنّ. قال: حزم لو قتلته وحييت أنت! قال: أو لست بحيّ؟ قال: هيهات، ليس بحيّ من أوقف نفسه موقفا لا يوثق منه بعهد ولا عقد. قال: كلام لو تقدّم سماعه فعلي لأمسكت! ولما بلغ عبد الله بن الزبير قتل عمرو بن سعيد، صعد المنبر فحمد الله وأثنى عليه، ثم قال:(5/157)
أيها الناس، إنّ عبد الملك بن مروان قتل لطيم الشيطان كَذلِكَ نُوَلِّي بَعْضَ الظَّالِمِينَ بَعْضاً بِما كانُوا يَكْسِبُونَ
«1» .
مقتل مصعب بن الزبير
فلما استقرّت البيعة لعبد الملك بن مروان أراد الخروج إلى مصعب بن الزبير، فجعل يستنفر أهل الشام فيبطئون عليه، فقال له الحجاج بن يوسف: سلّطني عليهم، فو الله لأخرجنّهم معك! قال له: قد سلطتك عليهم. فكان الحجاج لا يمرّ على باب رجل من أهل الشام قد تخلف عن الخروج إلا أحرق عليه داره. فلما رأى ذلك أهل الشام خرجوا.
وسار عبد الملك حتى دنا من العراق، وخرج مصعب بأهل البصرة والكوفة، فالتقوا بين الشام والعراق؛ وقد كان عبد الملك كتب كتبا إلى رجال من وجوه أهل العراق يدعوهم فيها إلى نفسه ويجعل لهم الأموال، وكتب إلى إبراهيم بن الأشتر بمثل ذلك، على أن يخذلوا مصعبا إذا التقوا؛ فقال إبراهيم بن الأشتر لمصعب: إنّ عبد الملك قد كتب إليّ هذا الكتاب، وقد كتب إلى أصحابي بمثل ذلك، فادعهم الساعة فاضرب أعناقهم. قال: ما كنت لأفعل ذلك حتى يستبين لي أمرهم. قال:
فأخرى ... قال: ما هي؟ قال: احبسهم حتى يستبين لك ذلك. قال: ما كنت لأفعل. قال: فعليك السلام، والله لا تراني بعد في مجلسك هذا أبدا. وقد كان قال له: دعني أدعو أهل الكوفة بما شرطه الله. فقال: لا والله، قتلتهم أمس وأستنصر بهم اليوم. قال: فما هو إلا أن التقوا فحوّلوا وجوههم وصاروا إلى عبد الملك؛ وبقي مصعب في شرذمة قليلة، فجاءه عبيد الله بن زياد بن ظبيان- وكان مع مصعب- فقال: أين الناس أيها الأمير؟ فقال: قد غدرتم يا أهل العراق. فرفع عبيد الله السيف ليضرب مصعبا، فبدره مصعب فضربه بالسيف على البيضة «2» ، فنشب السيف في(5/158)
البيضة؛ فجاء غلام لعبيد الله بن ظبيان فضرب مصعبا بالسيف فقتله، ثم جاء عبيد الله برأسه إلى عبد الملك بن مروان وهو يقول:
نطيع ملوك الأرض ما أقسطوا لنا ... وليس علينا قتلهم بمحرّم
قال: فلما نظر عبد الملك إلى رأس مصعب خرّ ساجدا، فقال عبد الله بن ظبيان؛ وكان من فتّاك العرب: ما ندمت على شيء قطّ ندمي على عبد الملك بن مروان إذ أتيته برأس مصعب فخرّ ساجدا أن لا أكون ضربت عنقه، فأكون قد قتلت ملكي العرب في يوم واحد! وقال في ذلك عبيد الله بن زياد بن ظبيان.
هممت ولم أفعل وكدت وليتني ... فعلت فأدمنت البكا لأقاربه
فأوردتها في النار بكر بن وائل ... والحقت من قد خرّ شكرا بصاحبه
الرياشي عن الأصمعي قال: لما أتي عبد الملك برأس مصعب بن الزبير، نظر إليه مليا. ثم قال: متى تلد قريش مثلك! وقال: هذا سيد شباب قريش.
وقيل لعبد الملك: أكان مصعب يشرب الطلاء «1» ؟ فقال: لو علم مصعب أنّ الماء يفسد مروءته لما شربه! ولما قتل مصعب دخل الناس على عبد الملك يهنئونه، ودخل معهم شاعر فأنشده:
الله أعطاك التي لا فوقها ... وقد أراد الملحدون عوقها..
عنك، ويأبى الله إلا سوقها ... إليك، حتى قلّدوك طوقها
فأمر له بعشرة آلاف درهم.
وقالوا: كان مصعب أجلّ الناس، وأسخى الناس، وأشجع الناس؛ وكان تحته عقيلتا قريش: عائشة بنت طلحة، وسكينة بنت الحسين.(5/159)
ولما قتل مصعب خرجت سكينة بنت الحسين تريد المدينة، فأطاف بها أهل العراق، وقالوا: أحسن الله صحابتك يا أبنة رسول الله! فقالت: لا جزاكم الله عني خيرا، ولا أخلف عليكم بخير من أهل بلد! قتلتم أبي وجدّي وعمي وزوجي! أيتمتموني صغيرة، وأرملتموني كبيرة! ولما بلغ عبد الله بن الزبير قتل مصعب، صعد المنبر فجلس عليه، ثم سكت فجعل لونه يحمّر مرة ويصفرّ مرة؛ فقال رجل من قريش لرجل إلى جنبه: ماله لا يتكلم، فو الله إنه للخطيب اللبيب. فقال له الرجل: لعله يريد أن يذكر مقتل سيّد العرب فيشتدّ ذلك عليه، وغير ملوم! ثم تكلم فقال:
الحمد لله الذي له الخلق والأمر، و [ملك] الدنيا والآخرة يؤتي الملك من يشاء، وينزع الملك ممن يشاء، ويعز من يشاء، ويذل من يشاء «1» .
أمّا بعد: فإنه لم يعزّ من كان الباطل معه ولو كان معه الأنام طراّ، ولم يذلّ من كان الحقّ معه ولو كان فردا؛ ألا وإنّ خبرا من العراق أتانا فأحزننا وأفرحنا؛ فأمّا الذي أحزننا؛ فإن لفراق الحميم لوعة يجدها حميمه، ثم يرعوي ذوو الألباب إلى الصبر وكريم الأجر، وأمّا الذي أفرحنا فإن قتل مصعب له شهادة ولنا ذخيرة.
أسلمه الطّغام»
، الصم الآذان، أهل العراق، وباعوه بأقل من الثمن الذي كانوا يأخذون منه، فإن يقتل فقد قتل أخوه وأبوه وابن عمه، وكانوا الخيار الصالحين؛ إنّا والله لا نموت حتف «3» أنوفنا كما يموت بنو مروان، ولكن قعصا «4» بالرماح وموتا تحت ظلال السيوف، فإن تقبل الدنيا عليّ لم آخذها مأخذ الأشر «5» البطر «6» ، وإن تدبر عني لم أبك عليها بكاء الخرف الزائل العقل.(5/160)
ولما توطد لابن الزبير أمره وملك الحرمين والعراقين، أظهر بعض بني هاشم الطعن عليه؛ وذلك بعد موت الحسن والحسين؛ فدعا عبد الله بن عباس ومحمد بن الحنفية وجماعة من بني هاشم إلى بيعته، فأبوا عليه، فجعل يشتمهم ويتناولهم على المنبر، وأسقط ذكر النبي صلّى الله عليه وسلم من خطبته، فعوتب في ذلك، فقال: والله ما يمنعني من ذكره علانية أني لأذكره سرا وأصلي عليه، ولكن رأيت هذا الحي من بني هاشم إذا سمعوا ذكره سرا وأصلي عليه، ولكن رأيت هذا الحي من بني هاشم إذا سمعوا ذكره اشرأبت أعناقهم، وأبغض الأشياء إليّ ما يسرّهم، ثم قال لتبايعنّ أو لأحرقنّكم بالنار! فأبوا عليه، فحبس محمد بن الحنفية في خمسة عشر من بني هاشم في السجن، وكان السجن الذي حبسهم فيه يقال له سجن عارم «1» ؛ فقال في ذلك كثيّر عزة- وكان ابن الزبير يدعى العائذ، لأنه عاذ بالبيت-:
تخبّر من لاقيت أنك عائذ ... بل العائذ المظلوم في سجن عارم «2»
سميّ النّبيّ المصطفى وابن عمّه ... وفكّاك أغلال وقاضي مغارم
وكان أيضا يدعى المحل، لإحلاله القتال في الحرم، وفي ذلك يقول رجل من الشعراء في رملة بنت الزبير:
ألا من لقلب معنى غزل ... بذكر المحلة أخت المحلّ
ثم إن المختار بن أبي عبيد وجّه رجالا يثق بهم من الشيعة يكمنون النهار ويسيرون الليل، حتى كسروا سجن عارم واستخرجوا منه بني هاشم؛ ثم ساروا بهم إلى مأمنهم.
وخطب عبد الله بن الزبير بعد موت الحسن والحسين، فقال:
أيها الناس، إن فيكم رجلا قد أعمى الله قلبه كما أعمى بصره، قاتل أمّ المؤمنين وحواريّ رسول الله صلّى الله عليه وسلم، وأفتى بتزويج المتعة.(5/161)
وعبد الله بن عباس في المسجد؛ فقام وقال لعكرمة: أقم وجهي نحوه يا عكرمة.
ثم قال هذا البيت:
إن يأخذ الله من عينيّ نورهما ... ففي فؤادي وعقلي منهما نور
وأما قولك يا ابن الزبير: إني قاتلت أم المؤمنين، فأنت أخرجتها وأبوك وخالك، وبنا سمّيت أمّ المؤمنين، فكنّا لها خير بنين، فتجاوز الله عنها، وقاتلت أنت وأبوك عليا؛ فإن كان عليّ مؤمنا فقد ضللتم بقتالكم المؤمنين، وإن كان كافرا فقد بؤتم بسخط من الله بفراركم من الزّحف؛ وأما المتعة فإني سمعت علي بن أبي طالب يقول:
سمعت رسول الله صلّى الله عليه وسلم رخّص فيها فأفتيت بها، ثم سمعته ينهى عنها [فنهيت عنها] وأول مجمر «1» سطع في المتعة مجمر آل الزبير.
مقتل عبد الله بن الزبير
أبو عبيد عن حجاج عن أبي معشر قال: لما بايع الناس عبد الملك بن مروان بعد قتل مصعب بن الزبير ودخل الكوفة، قال له الحجاج: إني رأيت في المنام كأني أسلخ ابن الزبير من رأسه إلى قدميه. فقال له عبد الملك: أنت له فاخرج إليه. فخرج إليه الحجاج في ألف وخمسمائة حتى نزل الطائف، وجعل عبد الملك يرسل إليه الجيوش رسلا «2» بعد رسل، حتى توافى إليه الناس قدر ما يظن أنه يقوى على قتال ابن الزبير، وكان ذلك في ذي القعدة سنة اثنتين وسبعين؛ فسار الحجاج من الطائف حتى نزل مني، فحج بالناس وابن الزبير محصور، ثم نصب الحجاج المجانيق على أبي قبيس وعلى قعيقعان ونواحي مكة كلها يرمي أهل مكة بالحجارة. فلما كانت الليلة التي قتل في صبيحتها ابن الزبير، جمع ابن الزبير من كان معه من القرشيين؛ فقال: ما ترون؟
فقال رجل من بني مخزوم من آل بني ربيعة: والله لقد قاتلنا معك حتى لا نجد مقيلا، ولئن صبرنا معك ما نزيد على أن نموت وإنما هي إحدى خصلتين: إما أن تأذن لنا(5/162)
فنأخذ الأمان لأنفسنا، وإما أن تأذن لنا فنخرج. فقال ابن الزبير: لقد كنت عاهدت الله لا يبايعني أحد فأقبله بيعته إلا ابن صفوان، فقال له ابن صفوان: أمّا أنا فإني أقاتك معك حتى أموت بموتك، وإنها لتأخذني الحفيظة أن أسلمت في مثل هذه الحالة! قال له رجل آخر: اكتب إلى عبد الملك بن مروان. فقال له: كيف أكتب:
من عبد الله أمير المؤمنين إلى عبد الملك بن مروان؟ فو الله لا يقبل هذا أبدا؛ أم أكتب: لعبد الملك بن مروان أمير المؤمنين من عبد الله بن الزبير؟ فو الله لأن تقع الخضراء «1» على الغبراء «2» أحبّ إليّ من ذلك! فقال عروة بن الزبير وهو جالس معه على السرير: يا أمير المؤمنين قد جعل الله لك أسوة. قال: من هو؟ قال: حسن بن عليّ، خلع نفسه وبايع معاوية. فرفع ابن الزبير رجله فضرب بها عروة حتى ألقاه عن السرير، وقال: يا عروة، قلبي إذا مثل قلبك، والله لو قبلت ما يقولون ما عشت إلا قليلا وقد أخذت الدنيّة، وإن ضربة بسيف في عزّ خير من لطمة في ذل.
فلما أصبح دخل عليه بعض نسائه- وهي أم هاشم بنت منصور بن زياد الفزارية- فقال لها: اصنعي لنا طعاما. فصنعت له كبدا وسناما، فأخذ منهما لقمة فلاكها ثم لفظها «3» ؛ ثم قال: اسقوني لبنا. فأتي بلبن، فشرب منه، ثم قال: هيئوا لي غسلا! فاغتسل ثم تحنط وتطيّب، ثم نام نومة وخرج.
ودخل على أمه أسماء ابنة أبي بكر ذات النطاقين «4» ، وهي عمياء وقد بلغت مائة سنة، فقال: يا أماه، ما ترين؟ قد خذلني الناس وخذلني أهل بيتي! فقالت: لا يلعبنّ بك صبيان بني أمية: عش كريما ومت كريما! فخرج فأسند ظهره إلى الكعبة ومعه نفر يسير فجعل يقاتلهم ويهزمهم وهو يقول:
ويلمّه! يا له فتحا لو كان له رجال! فناداه الحجاج: قد كان لك رجال فضيّعتهم!(5/163)
وجعل ينظر إلى أبواب المسجد والناس يهجمون عليه، فيقول: من هؤلاء؟ فيقال له: أهل مصر. قال: قتلة عثمان! فحمل عليهم، وكان فيهم رجل من أهل الشام، يقال له خلبوب، فقال لأهل الشام. أما تستطيعون إذا ولى «1» ابن الزبير أن تأخذوه بأيديكم؟ قالوا: ويمكنك أنت أن تأخذه بيدك؟ قال: نعم. قالوا: فشأنك. فأقبل وهو يريد أن يحتضنه، وابن الزبير يرتجز ويقول:
لو كان قرني واحدا كفيته
فضربه ابن الزبير بالسيف فقطع يده، فقال خلبوب: حس! قال ابن الزبير: اصبر خلبوب.
قال: وجاءه حجر من حجارة المنجنيق، فأصاب قفاه، فسقط؛ فاقتحم أهل الشام عليه، فما همّوا بقتله حتى سمعوا جارية تبكي وتقول: وا أمير المؤمنيناه! فحزّوا رأسه وذهبوا به إلى الحجاج.
وقتل معه: عبد الله بن صفوان، وعمارة بن حزم، وعبد الله بن مطيع.
قال أبو معشر: وبعت الحجاج برءوسهم إلى المدينة، فنصبوها للناس، فجعلوا يقرّبون رأس ابن صفوان إلى رأس ابن الزبير كأنه يسارّه ويلعبون بذلك؛ ثم بعث برؤسهم إلى عبد الملك بن مروان.
فخرجت أسماء إلى الحجاج فقالت له: أتأذن لي أن أدفنه، فقد قضيت أربك منه؟ قال: لا! ثم قال لها: ما ظنّك برجل قتل عبد الله بن الزبير؟ قالت: حسيبه «2» الله! فلما منعها أن تدفنه قالت. أما إني سمعت رسول الله صلّى الله عليه وسلم يقول: يخرج من ثقيف رجلان: الكذاب والمبير! فأما الكذاب فالمختار، وأما المبير «3» فأنت. فقال الحجاج: اللهم مبير لا كذاب.(5/164)
ومن غير رواية أبي عبيد قال: لما نصب الحجاج المجانيق لقتال عبد الله بن الزبير، أظلتهم سحابة فأرعدت وأبرقت وأرسلت الصواعق؛ ففزع الناس وأمسكوا عن القتال، فقام فيهم الحجاج فقال: أيها الناس، لا يهولنّكم هذا؛ فإني أنا الحجاج ابن يوسف وقد أصحرت «1» لربي، فلو ركبنا عظيما لحال بيننا وبينه ولكنها جبال تهامة لم تزل الصواعق تنزل بها. ثم أمر بكرسي فطرح له، ثم قال: يا أهل الشام، قاتلوا على أعطيات أمير المؤمنين. فكان أهل الشام إذا رموا الكعبة يرتجزون ويقولون هذا:
خطّارة مثل الفنيق المزبد ... يرمى بها عواذ أهل المسجد «2»
ويقولون أيضا: درّي عقاب «3» ، بلبن وأشخاب «4» . فلما رأى ذلك ابن الزبير خرج إليهم بسيفه فقاتلهم حينا، فناداه الحجاج: ويلك يا بن ذات النطاقين! اقبل الأمان وادخل في طاعة أمير المؤمنين، فدخل على أمه أسماء، فقال لها: سمعت رحمك الله ما يقول القوم، وما يدعونني إليه من الأمان؟ قالت: سمعتهم لعنهم الله، فما أجهلهم واعجب منهم إذ يعيّرونك بذات النطاقين؛ ولو علموا ذلك لكان ذلك أعظم فخرك عندهم. قال: وما ذاك يا أماه؟
قالت: خرج رسول الله صلّى الله عليه وسلم في بعض أسفاره مع أبي بكر فهيأت لهما سفرة، فطلبا شيئا يربطانها بها فما وجداه، فقطعت من مئزري لذلك ما احتاجا إليه، فقال رسول الله صلّى الله عليه وسلم: أما إن لك به نطاقين في الجنة! فقال عبد الله: الحمد لله حمدا كثيرا، فما تأمريني به، فإنهم قد أعطوني الأمان؟
قالت: أرى أن تموت كريما ولا تتبع فاسقا لئيما، وأن يكون آخر نهارك أكرم من أوّله.(5/165)
فقبّل رأسها وودعها، وضمته إلى نفسها، ثم خرج من عندها فصعد المنبر، فحمد الله وأثنى عليه ثم قال:
أيها الناس، إن الموت قد تغشّاكم سحابه، وأحدق بكم ربابه «1» ، واجتمع بعد تفرّق، وارجحنّ بعد تمشّق، ورجس «2» نحوكم رعده، وهو مفرغ عليكم ودقه «3» ، وقائد إليكم البلايا تتبعها المنايا، فاجعلوا السيوف لها غرضا، واستعينوا عليها بالصبر. وتمثل بأبيات، ثم اقتحم يقاتل وهو يقول:
قد جدّ أصحابك ضرب الأعناق ... وقامت الحرب لها على ساق
ثم جعل يقاتل وحده ولا يهدّه شيء، كلما اجتمع عليه القوم فرّقهم وذادهم، حتى أثخن بالجراحات ولم يستطع النهوض، فدخل عليه الحجاج فدعا بالنطع فحز رأسه هو بنفسه في داخل مسجد الكعبة، لا رحم الله الحجاج! ثم بعث برأسه إلى عبد الملك بن مروان، وقتل من أصحابه من ظفر به؛ ثم أقبل فاستأذن على أمه أسماء بنت أبي بكر ليعزيها، فأذنت له، فقالت له: يا حجاج، قتلت عبد الله؟ قال: يا بنة أبي بكر، إني قاتل الملحدين. قالت: بل قاتل المؤمنين الموحدين. قال لها: كيف رأيت ما صنعت بابنك؟ قالت: رأيتك أفسدت عليه دنياه وأفسد عليك آخرتك، ولا ضير أن أكرمه الله على يديك، فقد أهدي رأس يحيى بن زكريا إلى بغيّ من بغايا بني إسرائيل! هشام بن عروة عن أبيه قال: كان عثمان استخلف عبد الله بن الزبير على الدار يوم الدار، فبذلك ادّعى ابن الزبير الخلافة.
محمد بن سعيد قال: لما نصب الحجاج راية الأمان وتصرّم الناس عن ابن الزبير، قال لعبد الله بن صفوان: قد أقلتك بيعتي وجعلتك في سعة «4» ، فخذ لنفسك أمانا.(5/166)
فقال: مه! والله ما أعطيتك إياها حتى رأيتك أهلا لها، وما رأيت أحدا أولى بها منك، فلا تضرب هذه الصلعة فتيان بني أمية أبدا. وأشار إلى رأسه. قال: فحدثت سليمان بن عبد الملك حديثه فقال: إن كنت لأراه أعرج جبانا!.
فلما كانت الليلة التي قتل في صباحها ابن الزبير، أقبل عبد الله بن صفوان وقد دنا أهل الشام من المسجد فاستأذن، فقالت الجارية: هو نائم! فقال أو ليلة نوم هذه؟
أيقظيه! فلم تفعل، فأقام ثم استأذن، فقالت: هو نائم! فانصرف، ثم رجع آخر الليل وقد هجم القوم على المسجد؛ فخرج إليه فقال: والله ما نمت منذ عقلت الصلاة نومي هذه الليلة وليلة الجمل! ثم دعا بالسواك «1» فاستاك متمكنا، ثم توضأ متمكنا، ولبس ثيابه؛ ثم قال: أنظرني حتى أودع أمّ عبد الله فلم يبق شيء! وكان يكره أن يأتيها فتعزم عليه أن يأخذ الأمان؛ فدخل عليها وقد كفّ بصرها فسلم، فقالت: من هذا؟
فقال: عبد الله! فتشمّمته ثم قالت: يا بنيّ، مت كريما! فقال لها: إن هذا قد أمّنني.
يعني الحجاج. قالت: يا بنيّ لا ترض الدنية، فإن الموت لا بدّ منه! قال: إني أخاف أن يمثّل بي. قالت: إن الكبش إذا ذبح لم يأ [لم] من السلخ! قال: فخرج فقاتل قتالا شديدا، فجعل يهزمهم ثم يرجع ويقول: يا له فتحا لو كان له رجال. لو كان المصعب أخي حيا.
فلما حضرت الصلاة صلى صلاته، ثم قال: أين باب أهل مصر؟ حنقا لعثمان فقاتل حتى قتل، وقتل معه عبد الله بن صفوان.
وأتي برأسه الحجاج وهو فاتح عينيه وفاه، فقال: هذا رجل لم يكن يعرف القتل ولا ما يصير إليه؛ فلذلك فتح عينيه وفاه.
هشام بن عروة عن أبيه، أن عبد الله بن الزبير كان أول مولود ولد في الإسلام، فلما ولد كبّر النبي صلّى الله عليه وسلم وأصحابه، ولما قتل كبّر الحجاج بن يوسف، وأهل الشام معه؛ فقال ابن عمرو: ما هذا؟ قالوا: كبّر أهل الشام لقتل عبد الله بن الزبير! قال:(5/167)
الذين كبّروا لمولده خير من الذين كبروا لقتله.
أيوب عن أبي قلابة قال: شهدت ابنة أبي بكر غسّلت ابنها ابن الزبير بعد شهر، وقد تقطعت أوصاله وذهب برأسه، وكفّنته، وصلت عليه.
هشام بن عروة قال: قال عبد الله بن عباس للجائز به: جنّبني خشبة ابن الزبير.
فلم يشعر ليلة حتى عثر فيها، فقال: ما هذا؟ فقال: خشبة ابن الزبير. فوقف ودعا له، وقال: لئن علتك رجلاك لطالما وقفت عليهما في صلاتك! ثم قال لأصحابه: أما والله ما عرفته إلا صوّاما قوّاما، ولكنني ما زلت أخاف عليه منذ رأيته تعجّبه بغلات معاوية الشّهب «1» . قال: وكان معاوية قد حج فدخل المدينة وخلفه خمس عشرة بغلة شهباء عليها رحائل «2» الأرجوان، فيها الجواري عليهن الجلابيب والمعصفرات «3» ، ففتن الناس.
أولاد عبد الملك بن مروان
الوليد، وسليمان بن العبسية، ويزيد، وهشام، وأبو بكر، ومسلمة، وسعد الخير وعبد الله، وعنبسة، والحجاج، والمنذر، ومروان الأكبر، ومروان الأصغر- ولم يعقب مروان الأكبر- ويزيد، ومعاوية، درج «4» .
وفاة عبد الملك بن مروان
توفي عبد الملك بن مروان بدمشق للنصف من شوال سنة ست وثمانين وهو ابن ثلاث وستين، وصلى عليه الوليد بن عبد الملك؛ وولد عبد الملك في المدينة في دار مروان سنة ثلاث وعشرين.(5/168)
وكتب عبد الملك إلى هشام بن إسماعيل المخزومي، وكان عامله على المدينة أن يدعو الناس إلى البيعة لابنيه الوليد وسليمان؛ فبايع الناس غير سعيد بن المسيب، فإنه أبى وقال: لا أبايع وعبد الملك حيّ، فضربه هشام ضربا مبرّحا وألبسه المسوح «1» ، وأرسله إلى ثنية «2» بالمدينة يقتلونه عندها ويصلبونه؛ فلما انتهوا به إلى الموضع ردوه، فقال سعيد: لو علمت أنهم لا يصلبونني ما لبست لهم التّبّان «3» . وبلغ عبد الملك خبره فقال: قبح الله هشاما؛ مثل سعيد بن المسيب يضرب بالسياط! إنما كان ينبغي له أن يدعوه إلى البيعة، فإن أبى يضرب عنقه.
وقال للوليد: إذا أنا متّ فضعني في قبري ولا تعصر عليّ عينيك عصر الأمة، ولكن شمّر وائتزر، والبس جلد النمر؛ فمن قال برأسه كذا، فقل بسيفك كذا!
ولاية الوليد بن عبد الملك
ثم بويع للوليد بن عبد الملك في النصف من شوال سنة ست وثمانين. وأم الوليد ولادة بنت العباس بن جزء بن الحارث بن زهير بن جذيمة العبسي.
وكان على شرطته كعب بن حماد، ثم عزله وولى أبا نائل بن رباح بن عبدة الغساني.
ومات الوليد يوم السبت في النصف من شهر ربيع الأول سنة ست وتسعين وهو ابن أربع وأربعين، وصلى عليه سليمان. وكانت ولايته عشر سنين غير شهور.
ولد الوليد
عبد العزيز، ومحمد، وعنبسة، ولم يعقبوا؛ وأمهم أم البنين بنت عبد العزيز بن مروان؛ والعباس، وبه كان يكنى، ويقال إنه كان أكبرهم؛ وعمر، وبشر، وروح،(5/169)
وتمام، ومبشر، وحزم، وخالد، ويزيد، ويحيى، وإبراهيم، وأبو عبيدة، ومسرور، ومنصور، ومروان، ومحمد، وصدقة، لأمهات أولاد. وأم أبي عبيدة فرارية، وكان أبو عبيدة ضعيفا.
وولي الخلافة من ولد الوليد: إبراهيم، شهرين ثم خلع وولي يزيد الكامل شهرا ثم مات. وكان تمام ضعيفا، هجاه رجل فقال:
بنو الوليد كرام في أرومتهم ... نالوا المكارم طرّا غير تمّام»
ومسرور بن الوليد كان ناسكا، وكانت عنده بنت الحجاج. وكان بشر من فتيانهم، وروح من غلمانهم، والعباس من فرسانهم؛ وفيه يقول الفرزدق:
إنّ أبا الحارث العباس نائله ... مثل السّماك الذي لا يخلف المطرا «2»
وكان تحته بنت قطريّ بن الفجاءة، سباها وتزوجها، وله منها المؤمل، والحارث؛ وكان عمرو من رجالهم، كان له تسعون ولدا، ستون منهم كانوا يركبون معه إذا ركب.
وقال رجل من أهل الشام: ليس من ولد الوليد أحد إلا ومن رآه يحسب أنه من أفضل أهل بيته.
ولو وزن بهم أجمعين عبد العزيز لرجحهم، وفيه يقول جرير:
وبنو الوليد من الوليد بمنزل ... كالبدر حفّ بواضحات الأنجم
وعبد العزيز بن الوليد، أراد أبوه أن يبايع له سليمان، فأبى عليه سليمان.
وحدث الهيثم بن عدي عن ابن عباس، قال: لما أراد الوليد أن يبايع لابنه عبد العزيز بعد سليمان، أبى ذلك سليمان وشنع عليه؛ وقيل للوليد: لو أمرت الشعراء أن يقولوا في ذلك، لعله كان يسكت فيشهد عليه بذلك. فدعا الأقبيل القيني فقال له:(5/170)
ارتجز بذلك وهو يسمع. فدعا سليمان فسايره، والأقبيل خلفه، فرفع صوته وقال:
إنّ وليّ العهد لابن أمّه ... ثم ابنه وليّ عهد عمّه
قد رضي الناس به فسمّه ... فهو يضمّ الملك في مضمّه
يا ليتها قد خرجت من فمّه
فالتفت إليه سليمان، وقال: ابن الخبيثة! من رضي بهذا؟
أخبار الوليد
أبو الحسن المدائني قال: كان الوليد أسنّ ولد عبد الملك، وكان يحبه، فتراخى في تأديبه لشدة حبه إياه فكان لحّانا «1» .
وقال عبد الملك: أضرنا في الوليد حبّنا له فلم نوجّهه إلى البادية.
وقال الوليد يوما وعنده عمر بن عبد العزيز: يا غلام، ادع لي صالح. فقال الغلام: يا صالحا! فقال له الوليد: انقص ألفا. فقال له عمر بن عبد العزيز: وأنت يا أمير المؤمنين فزد ألفا!.
وكان الوليد عند أهل الشام أفضل خلفائهم وأكثرهم فتوحا وأعظمهم نفقة في سبيل الله، بنى مسجد دمشق، ومسجد المدينة، ووضع المنابر وأعطى المجذومين «2» حتى أغناهم عن سؤال الناس، وأعطى كل مقعد خادما وكلّ ضرير قائدا، وكان يمر بالبقال فيتناول قبضة فيقول: بكم هذه؟ فيقول: بفلس. فيقول: زد فيها فإنك تربح..
ومرّ الوليد بمعلم كتّاب فوجد عنده صبيّة، فقال: ما تصنع هذه عندك؟ فقال أعلمها الكتابة والقرآن. قال: فاجعل الذي يعلمها أصغر منها سنّا.
وشكا رجل من بني مخزوم دينا لزمه، فقال: نقضه عنك إن كنت لذلك(5/171)
مستحقا. قال: يا أمير المؤمنين، وكيف لا أكون مستحقا في منزلتي وقرابتي؟ قال:
قرأت القرآن؟ قال. لا! قال: ادن مني. فدنا منه؛ فنزع العمامة عن رأسه بقضيب في يده، ثم قرعه «1» به قرعة، وقال لرجل من جلسائه: ضمّ إليك هذا العلج «2» ولا تفارقه حتى يقرأ القرآن. فقام إليه آخر فقال يا أمير المؤمنين، اقض ديني! فقال له:
أتقرأ القرآن؟ قال: نعم. فاستقرأه عشرا من الأنفال وعشرا من براءة؛ فقرأ، فقال:
نعم، نقضي دينك وأنت أهل لذلك.
وركب الوليد بعيرا وحاد يحدو بين يديه، والوليد يقول:
يأيها البكر الذي أراكا ... ويحك تعلم الذي علاكا
خليفة الله الذي امتطاكا ... لم يحب بكر مثل ما حباكا
ولاية سليمان بن عبد الملك
أبو الحسن المدائني قال: ثم بويع سليمان بن عبد الملك في ربيع الأول سنة ست وتسعين.
ومات سنة تسع وتسعين بدابق يوم الجمعة لعشر خلون من صفر، وهو ابن ثلاث وأربعين، وصلى عليه عمر بن عبد العزيز. وكانت ولايته سنتين وعشرة أشهر ونصفا.
ولد سليمان بن عبد الملك بالمدينة في بني حديلة، ومات بدابق من أرض قنسرين وكان سليمان فصيحا جميلا وسيما، نشأ بالبادية عند أخواله بني عبس.
وكانت ولايته يمنا وبركة، افتتحها بخير وختمها بخير: فأما افتتاحه فيها بخير فردّ المظالم وأخرج المسجونين، وبغزاة مسلمة بن عبد الملك الصائفة حتى بلغ القسطنطينية؛ أما ختمها بخير فاستخلافه عمر بن عبد العزيز.(5/172)
ولبس يوما واعتم بعمامة، وكانت عنده جارية حجازية، فقال لها: كيف ترين الهيئة؟ فقال: أنت أجمل العرب لولا ... قال: عليّ ذلك لتقولنّ. قالت:
أنت نعم المتاع لو كنت تبقى ... غير أن لا بقاء للإنسان
أنت خلو من العيوب وممّا ... يكره الناس غير أنك فان!
قال: فتنغص عليه ما كان فيه، فما لبث بعدها إلا أياما حتى توفي رحمه الله! وتفاخر ولد لعمر بن عبد العزيز وولد لسليمان بن عبد الملك، فذكر ولد عمر فضل أبيه وخاله، فقال له ولد سليمان: إن شئت أقلّ وإن شئت أكثر؛ فما كان أبوك إلا حسنة من حسنات أبي.
محمد بن سليمان قال: فعل سليمان في يوم واحد ما لم يفعله عمر بن عبد العزيز في طول عمره: أعتق سبعين ألفا ما بين مملوك ومملوكة وبتّتهم- أي كساهم- والبتّ:
الكسوة.
ولد لسليمان: أيوب، وأمه أم أبان بنت الحكم بن العاص، وهو أكبر ولد سليمان وولي عهده، فمات في حياة سليمان، وله يقول جرير:
إنّ الإمام الذي ترجى فواضله ... بعد الإمام وليّ العهد أيّوب
وعبد الواحد، وعبد العزيز، أمهما أم عامر بنت عبد الله بن خالد بن أسيد وفي عبد الواحد يقول القطامي:
أهل المدينة لا يحزنك حالهم ... إذا تخطّأ عبد الواحد الأجل
قد يدرك المتأني بعض حاجته ... وقد يكون مع المستعجل الزّلل «1»
ولما مات أيوب وليّ عهد سليمان بن عبد الملك؛ قال ابن عبد الأعلى يرثيه، وكان من خواصه:
ولقد أقول لذي الشماتة إذ رأى ... جزعي ومن يذق الحوادث يجزع(5/173)