مقدّمة المحقّق
بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ
الحمد لله ربّ العالمين، والصلاة والسلام على سيّد المرسلين، نبيّنا محمد وعلى آله وصحبه أجمعين، وبعد، فمنذ أن فتح العرب بلاد الأندلس عام 92 للهجرة نجد أن تلك الأصقاق قد شهدت نزوح كثير من القبائل العربية إليها حيث ألقت هناك عصا الترحال واستقرّ بها النّوى، ومكّنها ذلك فيما بعد من إحداث نهضة أدبية سرعان ما نمت وتطوّرت وعرفت في عصر الدولة الأموية التي أنشئت هناك على أنقاض الدولة الأموية التي انهارت في المشرق العربى تحت ضربات العباسيين، أوج ازدهارها، وقمّة عطائها، وقد ظهر في تلك الديار النائية التي لم تفقد في يوم من الأيام صلتها بالمشرق الأم، كثير من العلماء والأدباء الذين حاكوا بنتاجهم أكثر من ظهر في المشرق العربي من نتاج، والتزموا بأذواقهم الذوق الأدبي اسائد آنذاك، حتى أنّ الصاحب بن عباد بعد اطلاعه على «العقد الفريد» نراه يقول: «هذه بضاعتنا ردّت إلينا» ، ومن هؤلاء الأدباء الكثر، صاحب العقد أبو عمر شهاب الدين أحمد بن محمد بن عبد ربه بن حبيب بن حدير بن سالم القرطبي، الذي كان مولى هشام بن عبد الرحمن بن معاوية بن هشام بن عبد الملك بن مروان.
ولد الرجل في مدينة قرطبة في العاشر من شهر رمضان سنة 246 هـ- الموافق للتاسع والعشرين من تشريع الثاني سنة 860 م. وقرطبة حيث ولد ابن عبد ربّه من أعظم المدن الأندلسيّة، وكانت عظيمة الشبه بمدينة بغداد حاضرة العباسيين، وعنها يقول المقّري صاحب نفح الطيب: «يحكى أنّ العمارة في مباني قرطبة والزاهرة والزهراء اتصلت إلى أنه كان يمشى فيها بضوء لمن قطف بيده ما يمنحونه منه، ونهرها
€(المقدمة/1)
إن صغر عندها عن عظمه عند اشبيلية فإنّ لتقارب برّيه هنا لك، وتقطّع غدره ومروجه معنى آخر، وحلاوة أخرى، وزيادة أنس، وكثرة آمان من الغرق، وفي جوانبه من البساتين والمروج ما زاده نضارة وبهجة.
في هذه البيئة المليئة بالعطر والورود والأفياء نشأ صاحب العقد، وأمضى سحابة شبابه مستمتعا بطبيعة بلاده وأجوائها المساعدة على النظم واللهو والغناء، ولذا فقد أولع الرجل بسماع الغناء والطرب اللذين شاعا في المدن الأندلسيّة أيّما شيوع، حتّى أصبحت بلاطات الأمراء مسارح للمغنّيات والقيان اللواتي كنّ يفدن إلى هناك من مختلف الأقطار العربية في بداية الأمر كالجارية العجفاء، وقد استأثرت قرطبة باستقبال روّاد هذا الفن، ثم انتقل مركز الغناء إلى اشبيلية حتى ظنّ أنّها عاصمة هذا الفنّ. وتفرّدت قرطبة بالعلم والفقه، وأصبحت عاصمة الأدب وحاضنة علوم الدين.
وكان طبيعيّا أن يتأثر أديبنا بطبيعة بلاده، ويساير تلك الموجة العارمة من الطرب واللهو والعبث والمجون، فشرب الخمرة، وطرب لسماع الأصوات العذبة، وهذا ما يمكننا أن نستشفّه من خلال شعره المبثوث في ثنايا عقده. ومن الواضح أنّ الرجل قد تاب عن غيّه وعاد إلى رشده خلال العقد الرابع من عمره، فطرق باب الفقه، وتتلمذ على شيوخ عدة نذكر منهم الخشني، وابن وضاح، وبقي بن مخلد، وفي تلك الحقبة من الزمن كانت دراسة الفقه مدخلا وممهدا لتسلّم المراكز الرفيعة، فامتلأت المدن الأندلسية التي خضعت للحكم العربي وخاصة قرطبة بالعلماء والأدباء والفقهاء..
ويظهر أنّ صاحب العقد كان على صلة مع أمراء عصره، فقد مدح أمير قرطبة محمد بن عبد الرحمن الحكم، كما كان على صلة بابنه المنذر أيضا، وفي هذه الحقبة من تاريخ الأندلس كثرت الفتن، حتى أن أحد قوّاد الفتنة، عمر بن حفصون، قد هدّد السلطة الأمويّة، وقد نعته ابن عبد ربه، بالمارق الفاسق..
واتصل صاحب العقد كذلك بالقائد العربي ابراهيم بن الحجاج الذي جعل أمارته في أشبيلية، وكان كريما سخيّا على الأدباء والشعراء، فوفد إلى بلاطه معظم علماء الأندلس وشعرائها.
€(المقدمة/2)
وأقام الرجل كذلك علاقات طيبة مع عبد الرحمن بن محمد الملقّب بالملك الناصر، الذي بنى مدينة الزهراء، ومدحه بقصائد كثيرة منها قصيدته الرائعة التي أدرجها في المجلد الثالث من العقد. وابن عبد ربه الذي يقول فيه الثعالبي النيسابوري صاحب يتيمة الدهر إنّه «أحد محاسن الأندلس علما وفضلا وأدبا ومثلا، وشعره في نهاية الجزالة والحلاوة، وعليه رونق البلاغة والطلاوة» أصيب آخر أعوامه بالفالج، كما أصيب الجاحظ من قبله، وأبو الفرج الأصبهاني من بعده، وتوفي يوم الأحد لثنتي عشرة ليلة بقيت من جمادي الأولى سنة 328 هجرية وهو ابن إحدى وثمانين سنة وثمانية أشهر وثمانية أيّام ودفن في اليوم التالي لوفاته ...
هذه لمحة موجزة عن حياة الرجل، أما عن أعماله الأدبية فقد كان «العقد» أكثر كتبه شهرة، وقد تحدّث نفسه عن تسميته بهذا الاسم فقال: «وسمّيته كتاب العقد الفريد لما فيه من مختلف جواهر الكلام، مع دقة المسلك وحسن النظام» وقد اعتمد كما لاحظنا في تأليفه واختياره لموضوعاته وأخباره على مصادر كثيرة، منها ما هو ديني كالقرآن والانجيل والتوراة، والحديث النبويّ الشّريف، ومنها ما هو أدبيّ وتاريخيّ، كعيون الأخبار، والمعارف لابن قتيبة، والحيوان، والبخلاء، والبيان والتبيين، للجاحظ، والكامل للمبرّد وكليلة ودمنة والأدب الكبير والصغير لابن المقفّع، والأمالي لأبي عليّ القالي، ودواوين كثيرة لشعراء جاهليين وإسلاميين، وغير ذلك من الكتب التي تناولتها يداه ...
وقد قسّم الرجل كتابه إلى فنون عديدة، وضمّنه خمسة وعشرين كتابا انفرد كلّ كتاب منها باسم جوهرة من جواهر العقد «بحيث يقع على كلّ من جانبي واسطة العقد، اثنتا عشرة جوهرة، كلّ منها سمّيت باسم التي تقابلها من الجانب الآخر، وبذلك تكون أولى جواهر العقد وآخره على اسم واحد، ففي العقد لؤلؤتان وزبرجدتان وياقوتتان وجمانتان وهلمّ جرّا» وقد أشار ابن عبد ربّه في مقدمة كتابه إلى ذلك فقال: «وجزّأته على خمسة وعشرين كتابا كلّ كتاب منها جزآن، فتلك خمسون جزءا في خمسة وعشرين كتابا» .
€(المقدمة/3)
أمّا الموضوعات التيّ تناولها العقد، فقد تنوّعت وتوزّعت بين السياسة والسلطات، والحروب ومدار أمرها، والأمثال والمواعظ، والتّعازي والمراثي وكلام الأعراب وخطبهم وأنسابهم وعلومهم وأدابهم وأيّامهم واخبار مشهوريهم من الخلفاء والقادة، هذا فضلا عن تضمينه كتابه كثيرا من الآيات القرآنية والأحاديث النبوية، وكثيرا من الأشعار والأخبار التاريخية، وإثباته لنفسه كثيرا من القصائد التي وردت على شكل معارضات لشعر كبار الشعراء في الموضوعات التي استشهد بأشعارهم عليها.
وقد صاغ صاحب العقد موضوعاته وما تضمّنها من معلومات بأسلوب أدبيّ، واضح بحيث نراه يهذّب كلّ ما جمعه، ويصفّيه من الأسانيد التاريخية لأنّ غايته من تأليف كتابه كانت أدبيّة بحتة، هذا ونلاحظ في كتابه ميلا إلى الفكاهة والدّعابة، ونزوعا إلى القصص والنّوادر والنكات، فنراه في كتابه يذكر الكثير من ذلك أو لا يستنكف عن ذكر بذيء اللفظ وسافل المعنى، ورغم كلّ ذلك فإنّ المسحة الأدبيّة تبدو قويّة في كتابه بحيث يشعر بها كلّ من يقرأ العقد أو يتصفّحه فقد أراد الرجل أن يكون كتابه «مجموعة من متخيّر الآداب ومحصول جوامع البيان» وقد وفّق إلى ذلك وسبق الكثيرين ممّن ألفّوا على شاكلة كتابه، وامتاز على غيره بالوضوح والسهولة وحسن الترتيب والتنسيق حتى غدا كتابه كلّا متماسكا وسفرا جامعا لأكثر علوم عصره إن لم نقل كلّها، هذا وقد تضمّن العقد «ما لا يقل» عن عشرة آلاف بيت من الشعر لأكثر من مئتي شاعر من العصر الجاهلي والأموي والعباسي، وربّما يصعب أن نذكر شاعرا معروفا لا نرى عنه خبرا أو نتفا من شعره، استشهد بها ابن عبد ربه لمناسبة ما فضلا عن تخصيصه كتابا لأعاريض الشعر وعلل القوافي، كما تضمّن العقد خطبا كثيرة ورسائل عديدة لكثير من الأدباء والمتراسلين..
كذلك فإنّ في العقد فصولا نقدية قيّمة نقلها من الكتب السابقة لكتابه ويجدر بمن يتعاطى مهنة الأدب أن يطلع عليها للإفادة منها، كما أن فيه فصولا دينية قيّمة، فقد ذكرنا من قبل أنّ الرجل كان فقيها، فلا غرو إذا ظهرت في كتابه الثقافة الدينية بمختلف فروعها، ونستطيع في هذا المجال أن نلاحظ أخبار كثير من الائمة الذين تقدّموه كما نلاحظ كثيرا من أقوالهم وأحكامهم وفتاويهم في بعض المسائل.
€(المقدمة/4)
بعد هذا العرض الموجز لما تضمّن العقد من مادة غنيّة ومتنوعة، نستطيع القول:
إنّ العقد كتاب عظيم النفع جليل القيمة، وافر المعلومات واسع الأفق، بحيث نراه يتحوّل بجهد صاحبه إلى سفر موسوعيّ ضخم يتضمّن كثيرا من المعارف والعلوم والآداب، التي رتبها ابن عبد ربه ونسّقها بحيث غدت متّصلة العرى متآلفة الموضوعات متماسكة الحلقات، تشهد للرجل بحسن البراعة والاختيار، كما تشهد له بالعلم والمعرفة وسعة الاطلاع، فالرجل في مصنّفه لم يكن مجرّد ناقل ومبوّب، بل كان صاحب رأي وصاحب ذوق يطلان في كثير من الآماكن بشكل واضح وجلّي، فضلا عن كونه شاعرا بارعا قويّ الديباجة، سلس الأسلوب دقيق المعاني، ولكن مع ميل إلى تقليد المشارقة، والعمل على محاكاتهم وإظهار التفوّق عليهم في أغلب الأحيان.
وهكذا فإنّ العقد بجواهره النفيسة التي تشعّ كثيرا من الأصواء والمعارف، كتاب ينبغي الاقتناء له والاستفادة من ألقه الرائع بين السطور والكلمات.
والله من وراء القصد.
د. مفيد محمد قميحة(المقدمة/5)
الجزء الأول
[مقدمة المؤلف]
بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ
[ربّ يسّر وأعن قال أبو عمرو أحمد بن عبد ربّه الأندلسيّ، رحمه الله] :
الحمد لله الأوّل بلا ابتداء، الآخر بلا انتهاء؛ المنفرد بقدرته، المتعالي في سلطانه؛ الذي لا تحويه الجهات ولا تنعته الصّفات؛ ولا تدركه العيون، ولا تبلغه الظنّون؛ الباديء بالإحسان، العائد بالامتنان؛ الدالّ على بقائه بفناء خلقه، وعلى قدرته بعجز كلّ شيء سواه؛ المغتفر إساءة المذنب بعفوه، وجهل المسيء بحمله؛ الذي جعل معرفته اضطرارا، وعبادته اختيارا؛ وخلق الخلق من [بين] ناطق معترف بوحدانيّته، وصامت متخشّع لربوبيّته؛ لا يخرج شيء عن قدرته، ولا يعزب «1» عن رؤيته؛ الذي قرن بالفضل رحمته، وبالعدل عذابه؛ فالناس مدينون بين فضله وعدله، آذنون بالزّوال، آخذون في الانتقال؛ من دار بلاء، إلى دار جزاء.
أحمده على حلمه بعد علمه، وعلى عفوه بعد قدرته؛ فإنّه رضي الحمد ثمنا لجزيل نعمائه، وجليل آلائه «2» ؛ وجعله مفتاح رحمته، وكفاء نعمته، وآخر دعوى أهل جنّته، بقوله جلّ وعزّ: وَآخِرُ دَعْواهُمْ أَنِ الْحَمْدُ لِلَّهِ رَبِّ الْعالَمِينَ
«3»(1/3)
وصلّى الله على [سيّدنا محمّد] النبيّ المكرّم، الشافع المقرّب، الذي بعث آخرا واصطفي أوّلا، وجعلنا من أهل طاعته، وعتقاء شفاعته.
وبعد: فإنّ أهل كلّ طبقة، وجهابذة «1» كلّ أمّة؛ قد تكلّموا في الأدب وتفلسفوا في العلوم على كلّ لسان، ومع كلّ زمان؛ وإنّ كلّ متكلّم منهم قد استفرغ غايته وبذل مجهوده في اختصار بديع معاني المتقدّمين، واختيار جواهر ألفاظ السالفين؛ وأكثروا في ذلك حتى احتاج المختصر منها إلى اختصار، والمتخيّر إلى اختيار.
ثم إني رأيت آخر كلّ طبقة، وواضعي كلّ حكمة ومؤلّفي كل أدب، أعذب ألفاظا وأسهل بنية وأحكم مذهبا وأوضح طريقة من الأوّل، لأنه ناكص متعقّب «2» ، والأوّل باديء متقدّم.
فلينظر الناظر إلى الأوضاع المحكمة والكتب المترجمة بعين إنصاف، ثم يجعل عقله حكما عادلا [وفيصلا] قاطعا؛ فعند ذلك يعلم أنها شجرة باسقة الفرع، طيّبة المنبت، زكيّة التّربة، يانعة الثّمرة. فمن أخذ بنصيبه منها كان على إرث من النّبوّة، ومنهاج من الحكمة؛ لا يستوحش صاحبه، ولا يضلّ من تمسّك به.
وقد ألّفت هذا الكتاب وتخيّرت جواهره من متخيّر جواهر الآداب ومحصول جوامع البيان، فكان جوهر الجوهر ولباب الّلباب؛ وإنّما لي فيه تأليف [الأخبار، وفضل] الاختيار، وحسن الاختصار، وفرش في صدر كلّ كتاب؛ وما سواه فمأخوذ من أفواه العلماء، ومأثور عن الحكماء والأدباء. واختيار الكلام أصعب من تأليفه. وقد قالوا: اختيار الرجل وافد عقله «3» . وقال الشاعر:
قد عرفناك باختيارك إذ كا ... ن دليلا على الّلبيب اختياره(1/4)
وقال أفلاطون: عقول الناس مدوّنة في أطراف أقلامهم، وظاهرة في حسن اختيارهم.
فتطلّبت نظائر الكلام وأشكال المعاني وجواهر الحكم وضروب الأدب ونوادر الأمثال، ثم قرنت كلّ جنس منها إلى جنسه، فجعلته بابا على حدته؛ ليستدلّ الطالب للخبر على موضعه من الكتاب، ونظيره في كلّ باب.
وقصدت من جملة الأخبار وفنون الآثار أشرفها جوهرا، وأظهرها رونقا، وألطفها معنى، وأجزلها لفظا، وأحسنها ديباجة، وأكثرها طلاوة وحلاوة؛ آخذا بقول الله تبارك وتعالى: الَّذِينَ يَسْتَمِعُونَ الْقَوْلَ فَيَتَّبِعُونَ أَحْسَنَهُ
«1» .
وقال يحيى بن خالد: الناس يكتبون أحسن ما يسمعون، ويحفظون أحسن ما يكتبون: ويتحدّثون بأحسن ما يحفظون.
وقال ابن سيرين: العلم أكثر من أن يحاط به فخذوا من كلّ شيء أحسنه.
وفيما بين ذلك سقط الرأي، وزلل القول؛ ولكلّ عالم هفوة [ولكلّ جواد كبوة] ، ولكل صارم «2» نبوة.
وفي بعض الكتب: انفرد الله تعالى بالكمال، ولم يبرأ أحد من النّقصان.
وقيل للعتّابي: هل تعلم أحدا لا عيب فيه؟ قال: إنّ الذي لا عيب فيه لا يموت [أبدا] ، ولا سبيل إلى السّلامة من ألسنة العامّة.
وقال العتّابي: من قرض شعرا أو وضع كتابا فقد استهدف للخصوم واستشرف للألسن، إلا عند من نظر فيه بعين العدل، وحكم بغير الهوى، وقليل ما هم.
وحذفت الأسانيد من أكثر الأخبار طلبا للاستخفاف والإيجاز، وهربا من(1/5)
التثقيل والتّطويل؛ لأنها أخبار ممتعة وحكم ونوادر، لا ينفعها الإسناد باتّصاله، ولا يضرّها ما حذف منها.
وقد كان بعضهم يحذف أسانيد الحديث من سنّة متّبعة، وشريعة مفروضة؛ فكيف لا نحذفه من نادرة شاردة، ومثل سائر، وخبر مستطرف، [وحديث يذهب نوره إذا طال وكثر] .
سأل حفص بن غياث الأعمش عن إسناد حديث. فأخذ بحلقه وأسنده إلى حائط وقال: هذا إسناده! وحدّث ابن السّمّاك بحديث، فقيل له: ما إسناده؟ فقال: هو من المرسلات عرفا «1» .
[وروى الأصمعيّ خبرا، فسئل عن إسناده. فقال: هو من الآيات المحكمات التي لا تحتاج إلى دليل وحجّة] .
وحدّث الحسن البصريّ بحديث، فقيل له: يا أبا سعيد، عمّن؟ قال: وما تصنع بعمّن يا بن أخي؟ أمّا أنت فنالتك موعظته، وقامت عليك حجّته.
وقد نظرت في بعض الكتب الموضوعة فوجدتها غير متصرّفة في فنون الأخبار، ولا جامعة لجمل الآثار؛ فجعلت هذا الكتاب كافيا [شافيا] جامعا لأكثر المعاني التي تجري على أفواه العامّة والخاصّة. وتدور على ألسنة الملوك والسّوقة. وحلّيت كلّ كتاب منها بشواهد من الشّعر، تجانس الاخبار في معانيها، وتوافقها في مذاهبها؛ وقرنت بها غرائب من شعري، ليعلم الناظر في كتابنا هذا أن لمغربنا على قاصيته «2» ، وبلدنا على انقطاعه، حظّا من المنظوم والمنثور.(1/6)
وسمّيته كتاب (العقد الفريد) لما فيه من مختلف جواهر الكلام، مع دقة السّلك وحسن النّظام؛ وجزّاته على خمسة وعشرين كتابا، كل كتاب منها جزآن، فتلك خمسون جزءا في خمسة وعشرين كتابا [و] قد انفرد كلّ كتاب منها باسم جوهرة من جواهر العقد، فأوّلها:
كتاب اللؤلؤة في السلطان.
ثم كتاب الفريدة في الحروب [ومدار أمرها] .
ثم كتاب الزّبر جدة في الأجواد والأصفاد.
ثم كتاب الجمانة في الوفود.
ثم كتاب المرجانة في مخاطبة الملوك.
ثم كتاب الياقوتة في العلم والأدب.
ثم كتاب الجوهرة في الأمثال.
ثم كتاب الزّمردة في المواعظ والزّهد.
ثم كتاب الدّرّة في التعازي والمراثي.
ثم كتاب اليتيمة في النسب [وفضائل العرب] .
ثم كتاب المسجدة في كلام الأعراب.
ثم كتاب المجنّبة في الأجوبة.
ثم كتاب الواسطة في الخطب.
ثم كتاب المجنّبة الثانية في التّوقيعات والفصول والصّدور وأخبار الكتبة.
ثم كتاب المسجدة الثانية في الخلفاء وتواريخهم وأيامهم.
ثم كتاب اليتيمة الثانية في أخبار زياد والحجّاج [والطالبيّين والبرامكة] .
ثم كتاب الدرة الثانية في أيام العرب ووقائعهم.
ثم كتاب الزّمرّدة الثانية في فضائل الشّعر ومقاطعه ومخارجه.
ثم كتاب الجوهرة الثانية في أعاريض الشّعر وعلل القوافي.(1/7)
ثم كتاب الياقوتة الثانية في [علم] «1» الألحان واختلاف الناس فيه.
ثم كتاب المرجانة الثانية في النّساء وصفاتهنّ.
ثم كتاب الجمانة الثانية في المتنبّئين والممرورين والبخلاء والطّفيليّين.
ثم كتاب الزّبرجدة الثانية في بيان طبائع الإنسان وسائر الحيوان [وتفاضل البلدان] .
ثم كتاب الفريدة الثانية في الطّعام والشراب.
ثم كتاب اللؤلؤة الثانية في [النّتف والهدايا و] الفكاهات والملح.(1/8)
كتاب اللّؤلؤة في السلطان
فرش الكتاب
: السلطان زمام الأمور، ونظام الحقوق، وقوام الحدود والقطب الذي عليه مدار [الدين و] الدنيا. وهو حمى الله في بلاده وظلّه الممدود على عباده، به يمتنع حريمهم، وينتصر مظلومهم، وينقمع ظالمهم «1» ، ويأمن خائفهم.
للحكماء
: قالت الحكماء: إمام عادل، خير من مطر وابل «2» . وإمام غشوم، خير من فتنة تدوم. ولما يزع الله بالسلطان أكثر مما يزع بالقرآن «3» .
وقال وهب بن منبّه: فيما أنزل الله على نبيه داود عليه السّلام: إني أنا الله مالك الملوك، قلوب الملوك بيدي. فمن كان لي على طاعة جعلت الملوك عليهم رحمة، ومن كان لي على معصية جعلت الملوك عليهم نقمة.
فحق على من قلّده الله أزمّة حكمه، وملّكه أمور خلقه، واختصه بإحسانه، ومكّن له في سلطانه، أن يكون من الاهتمام بمصالح رعيّته، والاعتناء بمرافق أهل طاعته، بحيث وضعه الله من الكرامة، وأجرى عليه من أسباب السعادة.
قال الله عز وجل: الَّذِينَ إِنْ مَكَّنَّاهُمْ فِي الْأَرْضِ أَقامُوا الصَّلاةَ وَآتَوُا الزَّكاةَ وَأَمَرُوا بِالْمَعْرُوفِ وَنَهَوْا عَنِ الْمُنْكَرِ وَلِلَّهِ عاقِبَةُ الْأُمُورِ
«4» .(1/9)
للنبي صلّى الله عليه وآله وسلّم
وقال النبي صلّى الله عليه وآله وسلّم: «عدل ساعة في حكومة خير من عبادة ستين سنة» . وقال صلّى الله عليه وآله وسلّم.
كلّكم راع، وكلّ راع مسئول عن رعيته.
وقال الشاعر:
فكلّكم راع ونحن رعيّة ... وكلّ يلاقي ربّه فيحاسبه
ومن شأن الرعيّة قلة الرضى عن الأئمة، وتحجّر العذر عليهم «1» ، وإلزام اللأئمة لهم ورب ملوم لا ذنب له. ولا سبيل إلى السلامة من ألسنة العامة إذ كان رضى جملتها، وموافقة جماعتها من المعجز الذي لا يدرك والممتنع الذي لا يملك.
ولكلّ حصته من العدل، ومنزلته من الحكم. فمن حقّ الإمام على رعيته أن يقضي عليهم بالأغلب من فعله والأعمّ من حكمه، ومن حق الرعيّة على إمامها حسن القبول لظاهر طاعتها وإضرابه صفحا عن مكاشفتها، كما قال زياد لما قدم العراق واليا عليها: أيها الناس، قد كانت بين وبينكم إحن «2» ، فجعلت ذلك دبر «3» أذني وتحت قدمي، فمن كان محسنا فليزدد في إحسانه، ومن كان مسيئا فلينزع عن إساءته. إني لو علمت أنّ أحدكم قد قتله السّل من بغضي لم أكشف له قناعا ولم أهتك له سترا حتى يبدي صفحته لي «4» .
لابن عمر
: وقال عبد الله بن عمر: إذا كان الإمام عادلا فله الأجر وعليك الشكر، وإذا كان الإمام جائرا فله الوزر وعليك الصبر.
لكعب الأحبار
: وقال كعب الأحبار: مثل الإسلام والسلطان والناس: مثل الفسطاط والعمود(1/10)
والأوتاد. فالفسطاط الإسلام، والعمود السلطان، والأوتاد الناس. ولا يصلح بعضهم إلا ببعض.
وقال الأفوه الأودي:
لا يصلح الناس فوضى لا سراة لهم ... ولا سراة إذا جهّالهم سادوا «1»
والبيت لا يبتنى إلا له عمد ... ولا عماد إذا لم ترس أوتاد
وإن تجمّع أوتاد وأعمدة ... يوما فقد بلغوا الأمر الذي كادوا
نصيحة السلطان ولزوم طاعته
قال الله تبارك وتعالى: يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا أَطِيعُوا اللَّهَ وَأَطِيعُوا الرَّسُولَ وَأُولِي الْأَمْرِ مِنْكُمْ
«2» وقال أبو هريرة: لما نزلت هذه الآية أمرنا بطاعة الأئمة. وطاعتهم من طاعة الله، وعصيانهم من عصيان الله.
للنبي صلّى الله عليه وآله وسلّم:
وقال النبي صلّى الله عليه وآله وسلّم: «من فارق الجماعة أو خلع يدا من طاعة مات ميتة جاهليّة» .
وقال صلّى الله عليه وآله وسلّم: «الدين النصيحة، الدين النصيحة، الدين النصيحة. قالوا: لمن يا رسول الله؟ قال: لله ولرسوله ولأولي الأمر منكم» .
فنصح الإمام ولزوم طاعته فرض واجب وأمر لازم، ولا يتم إيمان إلّا به، ولا يثبت إسلام إلا عليه.
مما وصى به العباس ابنه حين قدمه عمر
: الشعبي عن ابن عباس رضي الله عنهما، قال: قال لي أبي: أرى هذا الرجل- يعني عمر بن الخطاب- يستفهمك ويقدّمك على الأكابر من أصحاب محمّد صلّى الله عليه وآله وسلّم. وإني(1/11)
موصيك بخلال أربع: لا تفشينّ له سرّا، ولا يجرّبنّ عليك كذبا، ولا تطو عنه نصيحة، ولا تغتابنّ عنده أحدا.
قال الشعبي: فقلت لابن عباس: كل واحدة خير من ألف. قال: إي والله، ومن عشرة آلاف.
لرجل من الهند ينصح ملكا
: وفي كتاب للهند «1» : أنّ رجلا دخل على بعض ملوكهم فقال: أيها الملك، إنّ نصيحتك واجبة في الصغير الحقير والكبير الخطير، ولولا الثقة بفضيلة رأيك، واحتمالك ما يشقّ «2» موقعه [من الأسماع والقلوب] «3» في جنب صلاح العامة وتلافي الخاصة، لكان خرقا مني «4» أن أقول؛ ولكنا إذا رجعنا إلى أنّ بقاءنا موصول ببقائك، وأنفسنا متعلقة بنفسك، لم نجد بدّا من أداء الحق إليك وإن أنت لم تسلني ذلك، فإنه يقال: من كتم السلطان نصيحته، والأطباء مرضه، والإخوان بثّه «5» ، فقد أخلّ بنفسه؛ وأنا أعلم أنّ كل كلام يكرهه سامعه لا يتشجّع عليه قائله، إلا أن يثق بعقل المقول؛ فإنه إذا كان عاقلا احتمل ذلك؛ لأنه ما كان فيه من نفع فهو للسامع دون القائل. وإنّك أيها الملك ذو فضيلة في الرأي وتصرّف في العلم، ويشجعني ذلك على أن أخبرك بما تكره، واثقا بمعرفتك نصيحتي لك وإيثاري إيّاك على نفسي.
ابن عتبة ينصح الوليد
: وقال عمرو بن عتبة للوليد حين تغيّر الناس عليه: يا أمير المؤمنين، إنه ينطقني الأنس بك، وتسكتني الهيبة لك، وأراك تأمن أشياء أخافها عليك، أفأسكت مطيعا أم أقول مشفقا؟ قال: كلّ مقبول منك، ولله فينا علم غيب نحن صائرون إليه. فقتل بعد ذلك بأيام.(1/12)
لابن صفوان في خالصة السلطان
: وقال خالد بن صفوان: من صحب السلطان بالصحّة والنصيحة أكثر عدوّا ممن صحبه بالغش والخيانة؛ لأنّه يجتمع على الناصح عدوّ السلطان وصديقه بالعداوة والحسد، فصديق السلطان ينافسه في مرتبته، وعدوّه يبغضه لنصيحته.
ما يصحب به السلطان
لابن المقفع في خادم السلطان:
قال ابن المقفع: ينبغي لمن خدم السلطان ألا يغتر به إذا رضي ولا يتغيّر له إذا سخط، ولا يستثقل ما حمّله، ولا يلحف في مسألته. وقال أيضا: لا تكن صحبتك للسلطان إلا بعد رياضة «1» منك لنفسك على طاعتهم. فإن كنت حافظا إذا ولّوك، حذرا إذا قرّبوك، أمينا إذا أئتمنوك ذليلا إذا صرموك «2» ، راضيا إذا أسخطوك، تعلّمهم وكأنك متعلّم منهم، وتؤدّبهم وكأنك متأدب بهم، وتشكرهم ولا تكلفهم الشكر. وإلا فالبعد منهم كلّ البعد، والحذر منهم كل الحذر.
وقال المأمون: الملوك تتحمّل كل شيء إلا ثلاثة أشياء: القدح في الملك، وإفشاء السر، والتعرّض للحرم.
وقال ابن المقفع: إذا نزلت من السلطان بمنزلة الثقة فلا تلزم الدعاء له في كل كلمة؛ فإنّ ذلك يوجب الوحشة ويلزم الانقباض «3» .
وقال الأصمعي: توصلت بالملح وأدركت بالغريب «4» .
وقال أبو حازم الأعرج لسليمان بن عبد الملك: إنما السلطان سوق، فما نفق عنده حمل إليه.(1/13)
وصاة أبي سفيان وزوجه لابنهما معاوية حين عمل لعمر
: ولما قدم معاوية من الشام، وكان عمر قد استعمله عليها، دخل على أمه هند؛ فقالت له: يا بنيّ، إنه قلما ولدت حرة مثلك، وقد استعملك هذا الرجل، فأعمل بما وافقه أحببت ذلك أم كرهته. ثم دخل على أبيه أبي سفيان؛ فقال له: يا بنيّ، إنّ هؤلاء الرهط «1» من المهاجرين سبقونا وتأخرنا عنهم، فرفعهم سبقهم وقصّر بنا تأخّرنا، فصرنا أتباعا وصاروا قادة؛ وقد قلّدوك جسيما من أمرهم؛ فلا تخالفن أمرهم، فإنك تجري إلى أمد لم تبلغه، ولو قد بلغته لتنفّست «2» فيه.
قال معاوية: فعجبت من اتفاقهما في المعنى على اختلافهما في اللفظ.
لا برويز ينصح صاحب بيت ماله
: وقال أبرويز لصاحب بيت المال: إني لا أعذرك في خيانة درهم، ولا أحمدك على صيانة ألف ألف؛ لأنك إنما تحقن بذلك دمك وتقيم أمانتك، فإنك إن خنت قليلا خنت كثيرا. واحترس من خصلتين: النّقصان فيما تأخذ، والزيادة فيما تعطي؛ واعلم أني لم أجعلك على ذخائر الملك وعمارة المملكة والعدّة على العدوّ، إلا وأنت عندي آمن من موضعه الذي هو فيه، وخواتمه التي هي عليه، فحقّق ظني باختياري إياك أحقق ظنّك في رجائك إياي؛ ولا تتعوّض بخير شرّا، ولا برفعة ضعة، ولا بسلامة ندامة، [ولا بأمانة خيانة] «3» .
ليزيد بن معاوية ينصح سلما حين ولاه خراسان
: ولما ولّى يزيد بن معاوية سلم بن زياد خراسان قال له: إنّ أباك كفى أخاه عظيما، وقد استكفيتك صغيرا؛ فلا تتكلنّ على عذر مني فقد اتكلت على كفاية منك.
وإياك مني قبل أن أقول إياي منك؛ فإن الظن إذا أخلف مني فيك أخلف منك فيّ؛ وأنت في أدنى حظك فاطلب أقصاه، وقد أتعبك أبوك فلا تريحن نفسك.(1/14)
لعمر بن الخطاب ومعاوية حين قدم عليه الشام
: قال يزيد: حدّثني أبي أنّ عمر بن الخطاب لما قدم الشام قدم على حمار ومعه عبد الرحمن بن عوف على حمار، فتلقّاهما معاوية في موكب ثقيل، فجاوز عمر معاوية حتى أخبر به، فرجع إليه. فلما قرب منه نزل إليه، فأعرض عنه، فجعل يمشي إلى جنبه راجلا. فقال له عبد الرحمن بن عوف: أتعبت الرجل. فأقبل عليه عمر فقال:
يا معاوية، أنت صاحب الموكب آنفا مع ما بلغني من وقوف ذوي الحاجات ببابك؟
قال: نعم يا أمير المؤمنين. قال: ولم ذاك؟ قال: لأنا في بلد لا نمتنع فيها من جواسيس العدوّ ولا بدّ لهم مما يرهبهم من هيبة السلطان؛ فإن أمرتني بذلك أقمت عليه، وإن نهيتني عنه انتهيت. فقال: لئن كان الذي تقول حقا فإنه رأي أريب «1» ؛ وإن كان باطلا خدعة أديب، وما آمرك به ولا أنهاك عنه. فقال عبد الرحمن بن عوف: لحسن ما صدر هذا الفتى عما أوردته فيه! فقال: لحسن موارده جشّمناه ما جشّمناه «2» .
الربيع الحارثي في حضرة ابن الخطاب
: وقال الربيع بن زياد الحارثيّ: كنت عاملا لأبي موسى الأشعري على البحرين.
فكتب إليه عمر بن الخطاب يأمره بالقدوم عليه هو وعمّاله وأن يستخلفوا من هو من ثقاتهم حتى يرجعوا. فلما قدمنا أتيت يرفأ «3» ، فقلت: يا يرفأ، ابن سبيل مسترشد، أخبرني أيّ الهيئات أحبّ إلى أمير المؤمنين أن يرى فيها عمّاله؟ فأومأ إلى الخشونة. فأخذت خفّين مطارقين «4» ، ولبست جبّة صوف، ولثت رأسي. بعمامة دكناء. ثم دخلنا على عمر، فصفّنا بين يديه وصعّد فينا نظره وصوّب «5» ، فلم تأخذ عينه أحدا غيري، فدعاني؛ فقال: من أنت؟ قلت: الربيع بن زياد الحارثي. قال: وما تتولى من أعمالنا؟ قلت: البحرين. قال: فكم ترزق؟ قلت: خمسة دراهم في كل(1/15)
يوم. قال: كثير! فما تصنع بها؟ قلت: أتقوّت منها شيئا وأعود بباقيها على أقارب لي، فما فضل منها فعلى فقراء المسلمين. فقال: لا بأس، ارجع إلى موضعك؛ فرجعت إلى موضعي من الصف. ثم صعّد فينا وصوّب، فلم تقع عينه إلا عليّ، فدعاني؛ فقال: كم سنوك؟ فقلت: ثلاث وأربعون سنة قال: الآن حين استحكمت.
ثم دعا بالطعام، وأصحابي حديثو عهد بلين العيش وقد تجوّعت له، فأتي بخبز يابس وأكسار بعير «1» ، فجعل أصحابي يعافون ذلك، وجعلت آكل فأجيد الأكل. فنظرت فإذا به يلحظني من بينهم، ثم سبقت مني كلمة تمنيت أني سخت في الأرض ولم ألفظ بها، فقلت: يا أمير المؤمنين، إن الناس يحتاجون إلى صلاحك، فلو عمدت إلى طعام هو ألين من هذا. فزجرني وقال: كيف قلت؟ قلت: أقول: لو نظرت يا أمير المؤمنين إلى قوتك من الطحين فيخبز لك قبل إرادتك إياه بيوم، ويطبخ لك اللحم كذلك، فتؤتى بالخبز ليّنا وباللحم غريضا. فسكّن من غربه وقال: هذا قصدت؟
قلت: نعم. قال: يا ربيع، إنا لو نشاء لملأنا هذه الرّحاب من صلائق وسبائك وصناب، ولكني رأيت الله تعالى نعى على قوم شهواتهم فقال: أَذْهَبْتُمْ طَيِّباتِكُمْ فِي حَياتِكُمُ الدُّنْيا وَاسْتَمْتَعْتُمْ بِها
«2» ثم أمر أبا موسى أن يقرّني وأن يستبدل بأصحابي!
ابن عبد ربه يفسر غريب الخبر
: قوله «لثتها على رأسي» . يقال: رجل ألوث، إذا كان شديدا، وذلك من اللوث؛ ورجل ألوث، إذا كان أهوج، مأخوذ من الّلوثة. يقال: (لثت عمامة على رأسي) يقول: أدرتها بعضها على بعض على غير استواء.
وقوله «صلائق» هي شيء يعمل من اللحم، فمنها ما يطبخ ومنها ما يشوى، يقال: صلقت اللحم، إذا طبخته، وصلقته إذا شويته.
وقوله «غريضا» يقول طريا. يقال: لحم غريض، تراد به الطراوة قال العتابي:(1/16)
إذا ما فاتني لحم غريض ... ضربت ذراع بكري فاشتويت
و «سبائك» يريد الحوّارى من الخبز، وذلك أنه يسبك فيؤخذ خالصه، والعرب تسمي الرقاق: السبائك.
و «الصناب» طعام يؤخذ من الزبيب والخردل، ومنه قيل للفرس: صنابي إذا كان في لونه حمرة. قال جرير:
تكلّفني معايش آل يزيد ... ومن لي بالمرقّق والصّناب
وقوله: «أكسار بعير» فالكسر والقصل والجزل: العظم يفصل ما عليه من اللحم.
وقوله «نعى على قوم شهواتهم» أي عابهم بها ووبّخهم.
زياد أول من استن ترك السلام على قادم عند السلطان
: ومما يصحب به السلطان: ألا يسلّم على قادم بين يديه، وإنما استنّ ذلك زياد بن أبيه؛ وذلك أن عبد الله بن عباس قدم على معاوية وعنده زياد؛ فرحّب به معاوية وألطفه وقرّب مجلسه ولم يكلّمه زياد شيئا فابتدأه ابن عباس وقال: ما حالك أبا المغيرة! كأنك أردت أن تحدث بيننا وبينك هجرا. قال: لا، ولكنه لا يسلّم على قادم بين يدي أمير المؤمنين. فقال له ابن عباس: ما ترك الناس التحية بينهم بين يدي أمرائهم. فقال له معاوية: كفّ عنه يا بن عباس، فإنك لا تشاء أن تغلب إلا غلبت.
ترك أبي مسلم السلام على المنصور بحضرة السفاح
: دخل أبو مسلم على أبي العباس وعنده المنصور. فسلم على أبي العباس. فقال له: يا أبا مسلم؛ هذا أبو جعفر! فقال له: يا أمير المؤمنين. هذا موضع لا يقضى فيه إلا حقك!(1/17)
معاوية وابن العاص بين يدي عمر حين مقدمهما من الشام ومصر
: أبو حاتم عن العتبي قال: قدم معاوية من الشام، وعمرو بن العاص من مصر على عمر بن الخطاب؛ فأقعدهما بين يديه وجعل يسائلهما عن أعمالهما، إلى أن اعترض عمرو في حديث معاوية، فقال له معاوية: أعملي تعيب وإليّ تقصد؟ هلم تخبر أمير المؤمنين عن عملي وأخبره عن عملك! قال عمرو: فعلمت أنه بعملي أبصر مني بعمله، وأنّ عمر لا يدع أول هذا الحديث حتى يصير إلى آخره؛ فأردت أن أفعل شيئا أشغل به عمر عن ذلك، فرفعت يدي فلطمت معاوية. فقال عمر: تالله ما رأيت رجلا أسفة منك! قم يا معاوية فاقتص منه. قال معاوية: إن أبي أمرني ألّا أقضي أمرا دونه. فأرسل عمر إلى أبي سفيان. فلما أتاه ألقى له وسادة وقال: قال رسول الله صلّى الله عليه وسلّم: «إذا أتاكم كريم قوم فأكرموه» . ثم قصّ عليه ما جرى بين عمرو ومعاوية. فقال:
لهذا بعثت إليّ؟ أخوه وابن عمه؛ وقد أتى غير كبير، وقد وهبت ذلك له.
لبعضهم في تلمس الحيلة لنصيحة السلطان
: وقالوا: ينبغي لمن صحب السلطان أن لا يكتم عنه نصيحة وإن استثقلها، وليكن كلامه له كلام رفق لا كلام خرق، حتى يخبره بعيبه من غير أن يواجهه بذلك ولكن يضرب له الأمثال، ويخبره بعيب غيره ليعرف عيب نفسه.
وقالوا: من تعرّض للسلطان ازدراه، ومن تطامن له تخطّاه «1» . فشبهوا السلطان في ذلك بالريح الشديد التي لا تضر بما لان وتمايل معها من الحشيش والشجر، وما استهدف لها قصمته «2» . قال الشاعر:
إن الرّياح إذا ما أعصفت قصفت ... عيدان نبع ولا يعبأن بالرّتم «3»
لشبيب في مسايرة السلطان
: وقال شبيب بن شيبة: ينبغي لمن ساير خليفة أن يكون بالموضع الذي إذا أراد(1/18)
الخليفة أن يسأله عن شيء لم يحتج إلى أن يلتفت، ويكون من ناحية إذا التفت لم تستقبله الشمس.
وزير للهند بين الملك والملكة
: وقرأت في كتاب للهند أنه أهدي لملك ثياب وحلى، فدعا بامرأتين له، وخيّر أحظاهما عنده بين اللباس والحلى. وكان وزيره حاضرا فنظرت المرأة كالمشيرة له، فغمزها باللباس تغضينا «1» بعينه، فلحظه الملك. فاختارت الحلية لئلا يفطن للغمزة وصار اللباس للأخرى. فأقام الوزير أربعين سنة كاسرا عينه لئلا تقرّ في نفس الملك، وليظن أنها عادة وخلقة.
اختيار السلطان لأهل عمله
لابن هبيرة يوصي مسلم بن سعيد حين وجهه إلى خراسان
: لما وجّه عمر بن هبيرة مسلم بن سعيد إلى خراسان قال له: أوصيك بثلاثة:
حاجبك، فإنه وجهك الذي به تلقى الناس: إن أحسن فأنت المحسن، وإن أساء فأنت المسيء؛ وصاحب شرطتك، فإنه سوطك وسيفك: حيث وضعتهما فأنت وضعتهما؛ وعمّال القدر «2» قال: وما عمال القدر؟ قال: أن تختار من كل مورة «3» رجالا لعملك، فإن أصابوا فهو الذي أردت، وإن أخطئوا فهم المخطئون وأنت المصيب.
اختيار ابن أرطاة بين إياس والقاسم
: وكتب عمر بن عبد العزيز إلى عدي بن أرطاة: أن اجمع بين إياس بن معاوية والقاسم بن ربيعة الجوشنيّ فولّ القضاء أنفذهما؛ فجمع بينهما، فقال له إياس: أيها الرجل، سل عني وعن القاسم فقيهي البصرة: الحسن وابن سيرين- وكان القاسم يأتي(1/19)
الحسن وابن سيرين وكان إياس لا يأتيهما- فعلم القاسم أنه إن سألهما أشارا به. فقال القاسم: لا تسأل عني ولا عنه؛ فو الله الذي لا إله إلا هو إنّ إياس بن معاوية أفقه مني وأعلم بالقضاء؛ فإن كنت كاذبا فما ينبغي أن توليني، وإن كنت صادقا فينبغي لك أن تقبل قولي. فقال له إياس: إنك جئت برجل فوقفته على شفير «1» جهنم فنجّى نفسه منها بيمين كاذبة يستغفر الله منها وينجو مما يخاف. فقال له عدي: أما إذ فهمتها فأنت لها. فاستقضاه.
بين عدي وإياس في القراء
: وقال عدي بن أرطاة لإياس بن معاوية: دلّني على قوم من القرّاء أولّهم. فقال له:
القرّاء ضربان: فضرب يعملون للآخرة ولا يعملون لك. وضرب يعملون للدنيا. فما ظنك بهم إذا أمكنتهم منها؟ ولكن عليك بأهل البيوتات الذين يستحيون لأحسابهم فولّهم.
أبو قلابة والقضاء
: أيوب السّختياني، قال: طلب أبو قلابة لقضاء البصرة، فهرب إلى الشام فأقام حينا ثم رجع. قال أيوب: فقلت له: لو أنك وليت القضاء وعدلت كان لك أجران.
قال: يا أيوب، إذا وقع السابح في البحر فكم عسى أن يسبح.
تولية عبد الملك الشعبي على قضاء البصرة
: وقال عبد الملك بن مروان لجلسائه: دلّوني على رجل أستعمله. فقال له روح ابن زنباع: أدلك يا أمير المؤمنين على رجل إن دعوتموه أجابكم، وإن تركتموه لم يأتكم، ليس بالملحف طلبا، ولا بالممعن هربا: عامر الشّعبي؛ فولاه قضاء البصرة.
عمر بن عبد العزيز يسأل أبا مجلز عمّن يوليه خراسان
: وسأل عمر بن عبد العزيز أبا مجلر «2» عن رجل يولّيه خراسان. فقال له: ما(1/20)
تقول في فلان؟ قال: مصنوع له وليس بصاحبها. قال: ففلان؟ قال: سريع الغضب بعيد الرضا، يسأل الكثير ويمنع القليل، يحدس أخاه وينافس أباه ويحقر مولاه. قال:
ففلان؟ قال: يكافىء الأكفاء ويعادي الأعداء ويفعل ما يشاء. قال: ما في واحد من هؤلاء خير.
عمر ورجل طلب عملا
: وأراد عمر بن الخطاب أن يستعمل رجلا، فبدر الرجل يطلب منه العمل فقال عمر: والله لقد أردتك لذلك، ولكن من طلب هذا الأمر لم يعن عليه.
وطلب رجل من النبي صلّى الله عليه وسلّم أن يستعمله. فقال: «إنا لا نستعمل على عملنا من يريده» .
وطلب العباس عم النبي صلّى الله عليه وسلّم إلى النبي ولاية. فقال: «يا عم، نفس تحييها خير من ولاية لا تحصيها» .
وقال أبو بكر الصديق رضي الله عنه لخالد بن الوليد: فرّ من الشرف يتبعك الشرف؛ واحرص على الموت توهب لك الحياة.
وتقول النصارى: لا يختار للجثلقة «1» إلا زاهدا فيها غير طالب لها.
توليه ابن هبيرة لإياس
: وقال إياس بن معاوية: أرسل إليّ ابن هبيرة فأتيته، فساكتني فسكتّ، فلما أطلت قال: هيه. قلت: سل عما بدا لك. قال: أتقرأ القرآن؟ قلت: نعم. قال: أتفرض الفرائض؟ قلت: نعم. قال: أتعرف من أيام العرب شيئا؟ قلت: نعم. قال: أتعرف من أيام العجم شيئا؟ قلت: أنا بها أعرف. قال: إني أريد أن أستعين بك على عملي.
قلت: إن فيّ خلالا «2» ثلاثا لا أصلح معها للعمل. قال: ما هي؟ قلت: أنا دميم كما ترى، وأنا حديد، وأنا عيّ «3» . قال: أما دمامتك فإني لا أريد أن أحاسن الناس(1/21)
بك. وأما العيّ فإني أراك تعرب عن نفسك، وأما الحدّة فإن السوط يقوّمك. [قم قد ولّيتك] قال: فولّاني وأعطاني مائة درهم، فهي أوّل مال تموّلته.
وقال الأصمعي: ولي سليمان بن حبيب المحاربي قضاء دمشق لعبد الملك والوليد وسليمان وعمر بن عبد العزيز ويزيد وهشام.
وأراد عمر بن عبد العزيز مكحولا على القضاء فأبى عليه. قال له: وما يمنعك قال مكحول: قال رسول الله صلّى الله عليه وسلّم: «لا يقضي بين الناس إلا ذو شرف في قومه، وأنا مولى» .
توليه ابن الخطاب للمغيرة مكان ابن أبي وقاص على الكوفة
: ولما قدم رجال الكوفة على عمر بن الخطاب يشكون سعد بن أبي وقّاص، قال: من يعذرني من أهل الكوفة، وإن وليت عليهم التقيّ ضعّفوه، وإن وليت عليهم القويّ فجّروه «1» ؟ فقال له المغيرة: يا أمير المؤمنين، إن التقيّ الضعيف له تقواه وعليك ضعفه، والقويّ الفاجر لك قوّته وعليه فجوره. قال: صدقت، فأنت القويّ الفاجر فاخرج إليهم. فلم يزل عليهم أيام عمر وصدرا من أيام عثمان وأيام معاوية، حتى مات المغيرة «2» .
حسن السياسة وإقامة المملكة
للحجاج يصف سيرته للوليد
: كتب الوليد ن عبد الملك إلى الحجاج بن يوسف يأمره أن يكتب إليه بسيرته، فكتب إليه: إني أيقظت رأيي وأنمت هواي، فأدنيت السيّد المطاع في قومه، ووليت المجرّب «3» الحازم في أمره، وقلّدت الخراج الموفّر لأمانته، وقسمت لكل خصم من(1/22)
نفسي قسما أعطيه حظّا من لطيف عنايتي ونظري؛ وصرفت السيف إلى النّطف «1» المسيء، والثواب إلى المحسن البريء؛ فخاف المريب صولة العقاب، وتمسك المحسن بحظه من الثواب.
لأردشير يوصي ابنه
: وقال أردشير لابنه: يا بني، إنّ الملك والعدل أخوان لا غنى بأحدهما عن صاحبه فالملك أسّ والعدل حارس، وما لم يكن أسّ فمهدوم، وما لم يكن له حارس فضائع.
يا بنيّ اجعل حديثك مع أهل المراتب، وعطيتك لأهل الجهاد، وبشرك لأهل الدين، وسرّك لمن عناه ما عناك من ذوي العقول «2» .
للحكماء في واجب السلطان
: وقالت الحكماء: مما يجب على السلطان العدل في ظاهر أفعاله لإقامة أمر سلطانه، وفي باطن ضميره لإقامة أمر دينه؛ فإذا فسدت السياسة ذهب السلطان. ومدار السياسة كلها على العدل والإنصاف، لا يقوم سلطان لأهل الكفر والإيمان إلا بهما ولا يدور إلا عليهما، مع ترتيب الأمور مراتبها وإنزالها منازلها. وينبغي لمن كان سلطانا أن يقيم على نفسه حجة الرعية. ومن كان رعية أن يقيم على نفسه حجة السلطان.
وليكن حكمة على غيره بمثل حكمه على نفسه؛ فإنما يعرف حقوق الأشياء من عرف مبلغ حدودها ومواقع أقدارها. ولا يكون أحد سلطانا حتى يكون قبل ذلك رعيّة.
وقال عبد الملك بن مروان لبنيه: كلكم يترشح لهذا الأمر، ولا يصلح له منكم إلا من كان له سيف مسلول، ومال مبذول، وعدل تطمئن إليه القلوب.
لبعض الملوك يصف سياسه
: ووصف بعض الملوك سياسته فقال: لم أهزل في وعد ولا وعيد، ولا أمر ولا نهي(1/23)
ولا عاقبت للغضب. واستكفيت «1» ، وأثبت «2» على الغناء لا للهوى. وأودعت القلوب هيبة لم يشبها مقت «3» ، وودّا لم تشبه جرأة. وعممت بالقوت، ومنعت الفضول.
لأعرابي في وصف أمير
: وذكر أعرابي أميرا فقال: كان إذا ولى لم يطابق بين جفونه، وأرسل العيون على عيونه «4» ؛ فهو غائب عنهم شاهد معهم؛ فالمحسن راج والمسيء خائف.
وقال عمر بن الخطاب رضي الله عنه: لا يصلح لهذا الأمر إلا اللين في غير ضعف، القويّ في غير عنف.
بين الوليد بن عبد الملك وأبيه في السياسة
: وقال الوليد بن عبد الملك لأبيه: يا أبت، ما السياسة؟ قال: هيبة الخاصة مع صدق مودّتها واقتياد قلوب العامة بالإنصاف لها، واحتمال هفوات الصنائع «5» .
لأرسطو طاليس يوصي الإسكندر
: وكتب أرسطو طاليس إلى الإسكندر: أملك الرعية بالإحسان إليها تظفر بالمحبة منها، فإنّ طلبك ذلك منها بإحسانك أدوم بقاء منه باعتسافك «6» . واعلم أنك إنما تملك الأبدان فاجمع لها القلوب بالمحبة؛ واعلم أن الرعية إذا قدرت أن تقول قدرت أن تفعل؛ فاجهد ألّا تقول تسلم من أن تفعل.
وقال أردشير لأصحابه: إني إنما أملك الأجساد لا النيّات، وأحكم بالعدل لا بالرضى، وأفحص عن الأعمال لا عن السرائر.(1/24)
وكان عمرو بن العاص يقول في معاوية: اتقوا أدم «1» قريش وابن كريمهما، من يضحك في الغضب، ولا ينام إلا على الرضى، ويتناول ما فوقه من تحته «2» .
لمعاوية في سياسته
: وقال معاوية: إني لا أضع سيفي حيث يكفيني سوطي، ولا أضع سوطي حيث يكفيني لساني، ولو أنّ بيني وبين الناس شعرة ما انقطعت. فقيل له: وكيف ذلك؟
قال: كنت إذا مدوها أرخيتها، وإذا أرخوها مددتها.
لعمرو بن العاص في معاوية وسياسته
: وقال عمرو بن العاص: رأيت معاوية في بعض أيامنا بصفّين خرج في عدّة لم أره خرج في مثلها، فوقف في قلب عسكره فجعل يلحظ ميمنته فيرى الخلل، فيبدر إليه من يسدّه. ثم يفعل ذلك بميسرته، فتغنيه اللحظة عن الإشارة. فدخله زهو مما رأى، فقال: يا بن العاص، كيف ترى هؤلاء وما هم عليه؟ فقلت: والله يا أمير المؤمنين لقد رأيت من يسوس الناس بالدين والدنيا فما رأيت أحدا أوتي له من طاعة رعيّته ما أوتي لك من هؤلاء. فقال: أفتدري متى يفسد هذا وفي كم ينتقض جميعه؟ قلت: لا.
قال: في يوم واحد. قال: فأكثرت التعجب. قال: أي والله وفي بعض يوم. قلت:
وكيف ذلك يا أمير المؤمنين؟ قال: إذا كذبوا في الوعد والوعيد، وأعطو على الهوى لا على الغناء: فسد جميع ما ترى.
لابن عباس يوصي الحسن
: وكتب عبد الله بن عباس إلى الحسن بن علي إذ ولاه الناس أمرهم بعد علي رضي الله عنه: أن شمّر للحرب «3» ، وجاهد عدوّك، واشتر من الظّنين «4» دينه بما لا يثلم «5»(1/25)
دينك، وولّ أهل البيوتات تستصلح به عشائرهم.
للحكماء في السياسة
: وقالت الحكماء: أسوس الناس لرعيته من قاد أبدانها بقلوبها، وقلوبها بخواطرها.
وخواطرها بأسبابها من الرغبة والرهبة.
لأبرويز يوصي ابنه شيرويه
: وقال أبرويز لابنه شيرويه: لا توسّعن على جندك سعة يستغنون بها عنك ولا تضيّقنّ عليهم ضيقا يضجون به منك؛ ولكن أعطهم عطاء قصدا؛ وامنعهم منعا جميلا، وابسط لهم في الرجاء، ولا تبسط لهم في العطاء.
بين المنصور وقواده
: ونحو هذا قول المنصور لبعض قوّاده. صدق الذي قال: أجع كلبك يتبعك، وسمّنه يأكلك. فقال له أبو العباس الطّوسيّ: يا أمير المؤمنين، أما تخشى إن أجعته أن يلوّح له غيرك برغيف فيتبعه ويدعك.
لأبرويز ينصح ابنه شيرويه
: وكتب أبرويز إلى ابنه شيرويه من الحبس: اعلم أنّ كلمة منك تسفك دماء وأخرى تحقن دماء، وأنّ سخطك سيف مسلول على من سخطت عليه، وأن رضاك بركة مستفيضة على من رضيت عنه، وأنّ نفاذ أمرك مع ظهور كلامك. فاحترس في غضبك من قولك أن يخطىء. ومن لونك أن يتغيّر، ومن جسدك أن يخفّ؛ فإن الملوك تعاقب حزما وتعفو حلما. واعلم أنك تجلّ عن الغضب، وأن ملكك يصغر عن رضاك، فقدّر لسخطك من العقاب كما تقدر لرضاك من الثواب «1» .(1/26)
من خطبة لسعيد ابن سويد
: وخطب سعيد بن سويد بمحص، فحمد الله وأثنى عليه، ثم قال: أيها الناس إنّ للإسلام حائطا منيعا، وبابا وثيقا. فحائط الإسلام الحق وبابه العدل، ولا يزال الإسلام منيعا ما اشتدّ السلطان، وليست شدة السلطان قتلا بالسيف ولا ضربا بالسوط ولكن قضاء بالحق وأخذ بالعدل.
لابن الحكم في الحاقد على السلطان
: وقال عبد الله بن الحكم إنه قد يضطغن على السلطان رجلان: رجل أحسن في محسنين فأثيبوا وحرم، ورجل أساء في مسيئين فعوقب وعفي عنهم؛ فينبغي للسلطان أن يحترس منهما.
لأبرويز يوصي ابنه شيرويه
: وفي التاج: كتب أبرويز لابنه شيرويه يوصيه: ليكن من تختاره لولايتك امرءا كان في ضعة فرفعته، أو ذا شرف كان مهملا فاصطنعته. ولا تجعله امرءا أصبته بقعوبة فاتضع لها، ولا امرءا اطاعك بعد ما أذللته. ولا أحدا ممن يقع بقلبك أن إزالة سلطانك أحبّ إليه من ثبوته؛ وإياك أن تستعمله ضرعا غمرا «1» كثيرا اعجابه بنفسه، قليلا تجربته في غيره. ولا كبيرا مدبرا قد أخذ الدهر من عقله كما أخذت السنّ من جسمه.
بسط المعدلة وردّ المظالم
إنصاف المأمون أمة من ابنه
: الشّيباني قال: حدّثنا محمد بن زكريا عن عباس بن الفضل الهاشمي عن قحطبة بن حميد قال: إني لواقف على رأس المأمون يوما وقد جلس للمظالم، فكان آخر من(1/27)
تقدم إليه- وقد همّ بالقيام- امرأة عليها هيئة السفر، وعليها ثياب رثة، فوقفت بين يديه فقالت السلام عليك يا أمير المؤمنين ورحمة الله وبركاته، فنظر المأمون إلى يحيى ابن أكثم، فقال لها يحيى: وعليك السلام يا أمة الله، تكلمي في حاجتك. فقالت:
يا خير منتصف يهدى له الرّشد ... ويا إماما به قد أشرق البلد
تشكو إليك عميد القوم أرملة ... عدّي عليها فلم يترك لها سبد «1»
وابتزّ منّي ضياعي بعد منعتها ... ظلما وفرّق مني الأهل والولد «2»
فأطرق المأمون حينا، ثم رفع رأسه إليها وهو يقول:
في دون ما قلت زال الصّبر والجلد ... عني وأقرح منّي القلب والكبد «3»
هذا أذان صلاة العصر فانصر في ... وأحضري الخصم في اليوم الّذي أعد
والمجلس السّبت إن يقض الجلوس لنا ... ننصفك منه وإلّا المجلس الأحد
قال: فلما كان يوم الأحد جلس، فكان أول من تقدّم إليه تلك المرأة، فقالت:
السلام عليك يا أمير المؤمنين ورحمة الله وبركاته. فقال: وعليك السلام، أين الخصم؟
فقالت: الواقف على رأسك يا أمير المؤمنين. وأومأت إلى العباس ابنه. فقال: يا أحمد بن أبي خالد، خذ بيده فأجلسه معها مجلس الخصوم. فجعل كلامها يعلو كلام العباس، فقال لها أحمد بن أبي خالد: يا أمة الله، إنك بين يدي أمير المؤمنين، وإنك تكلمين الأمير، فاخفضي من صوتك. فقال المأمون: دعها يا أحمد، فإن الحق أنطقها وأخرسه. ثم قضى لها برد ضيعتها إليها، وظلم العباس بظلمه لها، وأمر بالكتاب لها إلى العامل الذي ببلدها أن يوغر لها ضيعتها «4» ويحسن معاونتها، وأمر لها بنفقة.
الحكم على هشام في خصومة بينه وبين إبراهيم بن محمد
: العتبي قال: إني لقاعد عند قاضي هشام بن عبد الملك إذ أقبل إبراهيم بن محمد ابن(1/28)
طلحة وصاحب حرس هشام، حتى قعدا بين يديه، فقال: إن أمير المؤمنين جرّاني «1» في خصومة بينه وبين إبراهيم. فقال القاضي: شاهديك على الجراية. قال أتراني قلت على أمير المؤمنين ما لم يقل، وليس بيني وبينه إلا هذه السّترة؟ قال: بلى، ولكنه لا يثبت الحق لك ولا عليك إلا ببينة. قال: فقام الحرسيّ فدخل إلى هشام فأخبره، فلم نلبث أن قعقعت الأبواب «2» وخرج الحرسي فقال: هذا أمير المؤمنين. وخرج هشام، فلما نظر إليه القاضي قام، فأشار إليه وبسط له مصلى، فقعد عليه وإبراهيم بين يديه، وكنا حيث نسمع بعض كلامهم ويخفى عنّا بعضه. قال: فتكلما وأحضرا البيّنة.
فقضى القاضي على هشام. فتكلم إبراهيم بكلمة فيها بعض الخرق «3» ، فقال: الحمد لله الذي أبان للناس ظلمك. فقال له هشام: لقد هممت أن أضربك ضربة ينتثر منها لحمك عن عظمك. قال: أما والله لئن فعلت لتفعلنه بشيخ كبير السن قريب القرابة واجب الحق. فقال هشام: استرها عليّ! قال: لا ستر الله عليّ إذا ذنبي يوم القيامة إن سترتها. قال: فإني معطيك عليها مائة ألف. قال إبراهيم: فسترتها عليه حياته ثمنا لما أخذت منه، وأذعتها بعد مماته تزيينا له.
الحجاج وسليك ابن سلكة
: قال: وورد على الحجاج بن يوسف سليك بن سلكة «4» فقال: أصلح الله الأمير، أرعني سمعك «5» ، واغضض عني بصرك، واكفف عني غربك «6» ؛ فإن سمعت خطأ أو زلال دونك والعقوبة. قال: قل. فقال: عصى عاص من عرض العشيرة؛ فخلّق على اسمي «7» وهدم منزلي، وحرمت عطائي. قال: هيهات! أو ما سمعت قول الشاعر:(1/29)
جانيك من يجني عليك وقد ... تعدي الصّحاح مبارك الجرب
ولربّ مأخوذ بذنب عشيره ... ونجا المقارف صاحب الذّنب
قال: أصلح الله الأمير، إني سمعت الله عز وجل قال غير هذا. قال: وما ذاك؟
قال: قال الله تعالى: يا أَيُّهَا الْعَزِيزُ إِنَّ لَهُ أَباً شَيْخاً كَبِيراً فَخُذْ أَحَدَنا مَكانَهُ إِنَّا نَراكَ مِنَ الْمُحْسِنِينَ قالَ مَعاذَ اللَّهِ أَنْ نَأْخُذَ إِلَّا مَنْ وَجَدْنا مَتاعَنا عِنْدَهُ إِنَّا إِذاً لَظالِمُونَ
«1» . فقال الحجاج: عليّ بيزيد بن أبي مسلم. فمثل بين يديه، فقال: افكك لهذا عن اسمه، واصكك له بعطائه، وابن له منزله، ومر مناديا ينادي: صدق الله وكذب الشاعر.
وقال معاوية: إني لأستحي أن أظلم من لا يجد عليّ ناصرا إلا الله.
لعمر بن عبد العزيز يوصي عاملا
: وكتب إلى عمر بن عبد العزيز بعض عماله يستأذنه في تحصين مدينته. فكتب إليه:
حصّنها بالعدل ونقّ طرقها من الظلم.
للمهدي يوصي ابن أبي الجهم
: وقال المهدي للربيع بن أبي الجهم- وهو والي أرض فارس: يا ربيع، آثر الحق، والزم القصد، وابسط العدل، وارفق بالرعية، واعلم أن أعدل الناس من أنصف من نفسه «2» ، وأجورهم من ظلم الناس لغيره.
بين ابن عامر وابن أصبغ
: وقال ابن أبي الزناد: عن هشام بن عروة قال: استعمل ابن عامر عمرو بن أصبغ على الأهواز، فلما عزله قال له: ما جئت به؟ قال له ما معي إلا مائة درهم وأثواب.(1/30)
قال: كيف ذلك؟ قال: أرسلتني إلى بلد أهله رجلان: رجل مسلم له ما لي وعليه ما عليّ، ورجل له ذمة الله ورسوله، فو الله ما دريت أين أضع يدي. قال: فأعطاه عشرين ألفا. وقال جعفر بن يحيى: الخراج عمود الملك، وما استغزر بمثل العدل، ولا استنزر بمثل الظلم «1» .
وقال النبي صلّى الله عليه وسلّم: «الظلم ظلمات يوم القيامة» .
صلاح الرعية بصلاح الإمام
قال الحكماء: الناس تبع لإمامهم في الخير والشر.
وقال أبو حازم الأعرج: الإمام سوق، فما نفق عنده جلب إليه.
عمر بن الخطاب وتاج كسرى وسواريه
: ولما أتي عمر بن الخطاب رضي الله عنه بتاج كسرى وسواريه. قال: إن الذي أدّى هذا لأمين. قال له رجل: يا أمير المؤمنين، أنت أمين الله، يؤذّون إليك ما أدّيت إلى الله تعالى، فإن رتعت رتعوا «2» .
ومن أمثالهم في هذا قولهم: إذا صلحت العين صلحت سواقيها.
الأصمعي قال: يقال: صنفان إذا صلحا صلح الناس: الأمراء والفقهاء.
بين مروان ووكيله
: اطلع مروان بن الحكم على ضيعة له بالغوطة، فأنكر منها شيئا، فقال لوكيله:
ويحك! إني لأظنك تخونني. قال: أتظن ذلك ولا تستيقنه. قال: وتفعله؟ قال: نعم والله، إني لأخونك، وإنك لتخون أمير المؤمنين، وإن أمير المؤمنين ليخون الله؛ فلعن الله شر الثلاثة.(1/31)
قولهم في الملك وجلسائه ووزرائه
للحكماء في الملك والوزراء
: قالت الحكماء: لا ينفع الملك إلا بوزرائه وأعوانه ولا ينفع الوزراء والأعوان إلا بالمودّة والنصيحة، ولا تنفع المودة والنصيحة إلا مع الرأي والعفاف. ثم على الملوك بعد ألّا يتركوا محسنا ولا مسيئا مّا دون جزاء؛ فإنهم إذا تركوا ذلك، تهاون المحسن، واجترأ المسيء، وفسد الأمر، وبطل العمل.
للأحنف في فساد البطانة
: وقال الأحنف بن قيس: من فسدت بطانته «1» كان كمن غصّ بالماء، ومن غص بالماء فلا مساغ له، ومن خانه ثقاته فقد أتي من مأمنه «2» .
وقال العباس بن الأحنف:
قلبي إلى ما ضرّني داعي ... يكثر أحزاني وأوجاعي
كيف احتراسي من عدوّي إذا ... كان عدوّي بين أضلاعي
وقال آخر:
كنت من كربتي أفرّ إليهم ... فهم كربتي فأين الفرار
لعدي بن زيد
: وأول من سبق إلى هذا المعنى عديّ بن زيد في قوله للنعمان بن المنذر:
لو بغير الماء حلقي شرق ... كنت كالغصّان بالماء اعتصاري «3»
وقال آخر:
إلى الماء يسعى من يغصّ بريقه ... فقل أين يسعى من يغصّ بماء(1/32)
لابن العاص في العدل
: وقال عمرو بن العاص: لا سلطان إلا برجال، ولا رجال إلا بمال، ولا مال إلا بعمارة، ولا عمارة إلا بعدل.
وقالوا: إنما السلطان بأصحابه كالبحر بأمواجه.
قالوا: ليس شيء أضر بالسلطان من صاحب يحسن القول ولا يحسن الفعل ولا خير في القول إلا مع الفعل، ولا في المال إلا مع الجود، ولا في الصدق إلا مع الوفاء، ولا في الفقه إلا مع الورع، ولا في الصدقة إلا مع حسن النية، ولا في الحياة إلا مع الصحة.
قالوا: إن السلطان إذا كان صالحا ووزراؤه وزراء سوء امتنع خيره من الناس ولم يستطع أحد أن ينتفع منه بمنفعة. وشبهوا ذلك بالماء الصافي يكون فيه التمساح، فلا يستطيع أحد أن يدخله وإن كان محتاجا إليه.
صفة الإمام العادل
كتاب الحسن البصري إلى عمر بن عبد العزيز في وصف الإمام العادل
: كتب عمر بن عبد العزيز رضي الله عنه لما ولي الخلافة إلى الحسن بن أبي الحسن البصري أن يكتب إليه بصفة الإمام العادل فكتب إليه الحسن رحمه الله:
اعلم يا أمير المؤمنين أن الله جعل الإمام العادل قوام كلّ مائل «1» ، وقصد كل جائر، وصلاح كل فاسد، وقوة كل ضعيف، ونصفة كل مظلوم، ومفزع كل ملهوف «2» . والإمام العادل يا أمير المؤمنين كالراعي الشفيق على إبله الرفيق بها، الذي يرتاد لها أطيب المرعى، ويذودها عن مراتع الهلكة، ويحميها من السباع، ويكنّها من أذى الحرّ والقرّ «3» . والإمام العادل يا أمير المؤمنين، كالأب الحاني على(1/33)
ولده، يسعى لهم صغارا، ويعلمهم كبارا، يكتسب لهم في حياته، ويدخر لهم بعد مماته. والإمام العادل يا أمير المؤمنين، كالأمام الشفيقة البرة الرفيقة بولدها، حملته كرها ووضعته كرها، وربّته طفلا، تسهر بسهره، وتسكن بسكونه، ترضعه تارة وتفطمه أخرى، وتفرح بعافيته وتغتم بشكايته. والإمام العادل يا أمير المؤمنين، وصيّ اليتامى، وخازن المساكين، يربّي صغيرهم، ويمون كبيرهم. والإمام العادل يا أمير المؤمنين، كالقلب بين الجوارح: تصلح الجوارح بصلاحه وتفسد بفساده. والإمام العادل يا أمير المؤمنين، هو القائم بين الله وبين عباده، يسمع كلام الله ويسمعهم، وينظر إلى الله ويريهم، وينقاد إلى الله ويقودهم. فلا تكن يا أمير المؤمنين فيما ملّكك الله عز وجل كعبد ائتمنه سيّده واستحفظه ماله وعياله، فبدّد المال، وشرّد العيال، فأفقر أهله وفرّق ماله.
واعلم يا أمير المؤمنين أن الله أنزل الحدود ليزجر بها عن الخبائث والفواحش فكيف إذا أتاها من يليها؟ وأن الله أنزل القصاص حياة لعباده، فكيف إذا قتلهم من يقتصّ لهم؟ واذكر يا أمير المؤمنين الموت وما بعده، وقلة أشياعك عنده وأنصارك عليه؛ فتزوّد له ولما بعده من الفزع الأكبر.
واعلم يا أمير المؤمنين أن لك منزلا غير منزلك الذي أنت فيه، يطول فيه ثواؤك، ويفارقك أحبّاؤك، يسلمونك في قعره فريدا وحيدا. فتزوّد له ما يصحبك يَوْمَ يَفِرُّ الْمَرْءُ مِنْ أَخِيهِ، وَأُمِّهِ وَأَبِيهِ، وَصاحِبَتِهِ وَبَنِيهِ
«1» .
واذكر يا أمير المؤمنين إِذا بُعْثِرَ ما فِي الْقُبُورِ، وَحُصِّلَ ما فِي الصُّدُورِ
«2» فالأسرار ظاهرة، والكتاب لا يُغادِرُ صَغِيرَةً وَلا كَبِيرَةً إِلَّا أَحْصاها
«3» .
فالآن يا أمير المؤمنين، وأنت في مهل، قبل حلول الأجل، وانقطاع الأمل، لا تحكم يا أمير المؤمنين في عباد الله بحكم الجاهلين، ولا تسلك بهم سبيل الظالمين ولا(1/34)
تسلّط المستكبرين على المستضعفين، فإنهم لا يرقبون في مؤمن إلّا «1» ولا ذمّة، فتبوء بأوزارك وأوزار مع أوزارك، وتحمل أثقالك وأثقالا مع أثقالك. ولا يغرّنك الذين يتنعمون بما فيه بؤسك، ويأكلون الطيبات في دنياهم بإذهاب طيباتك في آخرتك.
ولا تنظرنّ إلى قدرتك اليوم، ولكن انظر إلى قدرتك غدا وأنت مأسور في حبائل الموت، وموقوف بين يدي الله تعالى في مجمع من الملائكة والنبيين والمرسلين، وقد عَنَتِ الْوُجُوهُ لِلْحَيِّ الْقَيُّومِ
«2» .
إني يا أمير المؤمنين، وإن لم أبلغ بعظتي ما بلغه أولو النّهى من قبلي، فلم آلك «3» شفقة ونصحا، فأنزل كتابي إليك كمداوي حبيبه يسقيه الأدوية الكريهة لما يرجو له في ذلك من العافية والصحة. والسلام عليك يا أمير المؤمنين ورحمة الله وبركاته.
هيبة الإمام في تواضعه
لابن السماك
: قال ابن السماء لعيسى بن موسى: تواضعك في شرفك أكبر من شرفك! وقال عبد الملك بن مروان: أفضل الرجال من تواضع عن رفعة، وزهد عن قدرة، وأنصف عن قوّة.
النجاشي وقد ولد له ولد
: ذكر عن النجاشي أمير الحبشة أنه أصبح يوما جالسا على الأرض والتاج على رأسه، فأعظم ذلك أساقفته؛ فقال لهم: إني وجدت فيما أنزل الله تعالى على المسيح عليه السلام، يقول له: إذا أنعمت على عبدي نعمة فتواضع إليّ أتممتها عليه، وإني ولد لي الليلة غلام، فتواضعت لذلك شكرا لله تعالى.(1/35)
لبعض الشعراء في التواضع
: وقال ابن قتيبة: لم يقل بيت أبدع من قول الشاعر لبعض خلفاء بني أمية:
يغضي حياء ويغضى من مهابته ... فلا يكلّم إلّا حين يبتسم «1»
وأحسن منه عندي قول الآخر:
فتى زاده عزّ المهابة ذلّة ... فكلّ عزيز عنده متواضع
وقال أبو العتاهية:
يا من تشرّف بالدّنيا وزينتها ... ليس التّشرّف رفع الطّين بالطين «2»
إذا أردت شريف النّاس كلّهم ... فانظر إلى ملك في زيّ مسكين
ذاك الّذي عظمت والله نعمته ... وذاك يصلح للدّنيا وللدّين
وقال الحسن بن هانيء في هيبة السلطان مع محبة الرعية:
إمام عليه هيبة ومحبة ... ألا بأبي ذاك الحبيب المحبّب
وقال آخر في الهيبة وإن لم تكن في طريق السلطان:
بنفسي من لو مرّ برد بنانه ... على كبدي كانت شفاء أنامله
ومن هابني في كلّ شيء وهبته ... فلا هو يعطيني ولا أنا سائله
ولابن هرمة في المنصور:
له لحظات عن حفافي سريره ... إذا كرّها فيها عقاب ونائل «3»
كريم له وجهان وجه لدى الرضى ... أسيل ووجه في الكريهة باسل «4»
فأم الذي آمنت آمنة الرّدي ... وأم الذي أو عدت بالثّكل ثاكل
وليس بمعطي العفو من غير قدرة ... ويعفو إذا ما مكّنته المقاتل
وقال آخر في الهيبة:
أهاشم يا فتى دين ودنيا ... ومن هو في الّلباب من اللباب «5»(1/36)
أهابك أن أبوح بذات نفسي ... وتركي للعتاب من العتاب
وقال أشجع بن عمرو في هيبة السلطان:
منعت مهابتك النّفوس حديثها ... بالشّيء تكرهه وإن لم تعلم
ومن الولاة مفخّم لا يتّقى ... والسّيف تقطر شفرتاه من الدّم
وقال أيضا لهرون الرشيد:
وعلى عدوّك يا بن عمّ محمّد ... رصدان: ضوء الصّبح والإضلام
فإذا تنبّه رعته، وإذا غفا ... سلّت عليه سيوفك الأحلام «1»
وقال الحسن بن هانيء في الهيبة فأفرط:
ملك تصوّر في القلوب مثاله ... فكأنّه لم يخل منه مكان
ما تنطوي عنه القلوب بفجرة ... إلّا يكلّمه بها الّلحظان «2»
حتى الّذي في الرّحم لم يك صورة ... لفؤاده من خوفه خفقان
فمجاز هذا البيت في إفراطه أن الرجل إذا خاف شيئا أو أحبّه أحبه بسمعه وبصره وشعره وبشره ولحمه ودمه وجميع أعضائه، فالنّطف التي في الأصلاب داخلة في هذه الجملة.
قال الشاعر:
ألا ترثي لمكتئب ... يحبّك لحمه ودمه
وقال المكفوف في آل محمد:
أحبّكم حبّا على الله أجره ... تضمّنه الأحشاء واللحم والدم
ومثل هذا قول الحسن بن هانيء:
وأخفت أهل الشرك حتى إنّه ... لتخافك النّطف التي لم تخلق(1/37)
فإذا خافه أهل الشرك خافته النطف التي في أصلابهم، على المجاز الذي ذكرناه.
ومجاز آخر: أنّ النطف التي أخذ الله ميثاقها يجوز أن يضاف إليها ما هي لا بد فاعلة من قبل أن تفعله، كما جاء في الأثر: إن الله عز وجل عرض على آدم ذريته فقال: هؤلاء أهل الجنة وبعمل أهل الجنة يعملون، وهؤلاء أهل النار وبعمل أهل النار يعملون.
شعر للمؤلف في الهيبة
: وها أنا أقول في الهيبة:
يا من يجرّد من بصيرته ... تحت الحوادث صارم العزم
رعت العدوّ فما مثلت له ... إلا تفزّع منك في الحلم
أضحى لك التّدبير مطّردا ... مثل اطّراد الفعل للإسم
رفع الحسود إليك ناظره ... فرآك مطّلعا مع النّجم
للأخطل في معاوية
: أبو حاتم سهل بن محمد قال: أنشدني العتبي للأخطل في معاوية:
تسمو العيون إلى إمام عادل ... معطى المهابة نافع ضرّار
وترى عليه إذا العيون لمحنه ... سيما الحليم وهيبة الجبار
حسن السيرة والرفق بالرعية
مما جاء في الكتاب والسنة في معنى هذا العنوان
: قال الله تعالى لنبيه صلّى الله عليه وسلّم فيما أوصاه به من الرفق بالرعية: وَلَوْ كُنْتَ فَظًّا غَلِيظَ الْقَلْبِ لَانْفَضُّوا مِنْ حَوْلِكَ
«1» .(1/38)
وقال النبي صلّى الله عليه وسلّم: «من أعطي حظّه من الرفق فقد أعطي حظّه من الخير كله، ومن حرم حظه من الرفق فقد حرم حظه من الخير كله» .
مشورة سالم وابن كعب على عمر بن عبد العزيز حين ولي الخلافة
: ولما استخلف عمر بن عبد العزيز أرسل إلى سالم بن عبد الله ومحمد بن كعب.
فقال لهما: أشيرا عليّ. فقال له سالم: اجعل الناس أبا وأخا وابنا، فبرّ أباك، واحفظ أخاك، وارحم ابنك. وقال محمد بن كعب: أحبب للناس ما تحب لنفسك واكره لهم ما تكره لنفسك، واعلم أنك أول خليفة يموت.
بين عمر بن عبد العزيز وابنه في الرفق
: وقال عبد الملك بن عمر بن عبد العزيز لأبيه عمر: يا أبت، مالك لا تنفذ في الأمور، فو الله لا أبالي في الحق لو غلت بي وبك القدور. قال له عمر: لا تعجل يا بني، فإن الله تعالى ذم الخمر في القرآن مرتين وحرّمها في الثالثة، وأنا أخاف أن أحمل الناس على الحق جملة فيدفعوه وتكون فتنة.
من عمر إلى ابن أرطاة في الرفق
: وكتب عمر بن عبد العزيز إلى عديّ بن أرطأة: أما بعد، فإن أمكنتك القدرة على المخلوق فاذكر قدرة الخالق عليك، واعلم أن مالك عند الله مثل ما للرعية عندك.
مما وصى المنصور به ابنه
: وقال المنصور لولده عبد الله المهدي: لا تبرم «1» أمرا حتى تفكر فيه؛ فإن فكرة العاقل مرآته تريه حسناته وسيآته؛ واعلم أن الخليفة لا يصلحه إلا التقوى، والسلطان لا تصلحه إلا الطاعة، والرعية لا يصلحها إلا العدل وأولى الناس بالعفو أقدرهم على العقوبة، وأنقص الناس عقلا من ظلم من هو دونه.(1/39)
وصية خالد القسري لبلال
: وقال خالد بن عبد الله القسريّ لبلال بن أبي بردة: لا يحملنّك فضل المقدرة على شدّة السطوة، ولا تطلب من رعيّتك إلا ما تبذله لها؛ ف إِنَّ اللَّهَ مَعَ الَّذِينَ اتَّقَوْا وَالَّذِينَ هُمْ مُحْسِنُونَ
«1» .
وقال أبو عبد الله كاتب المهديّ: ما أحوج ذا القدرة والسلطان إلى قرين «2» يحجزه، وحياء يكفّه، وعقل يعقله «3» ، وإلى تجربة طويلة، وعين حفيظة، وأعراق تسري إليه، وأخلاق تسهّل الأمور عليه؛ وإلى جليس شفيق، وصاحب رقيق، وإلى عين تبصر العواقب، وقلب يخاف الغير. ومن لم يعرف لؤم الكبر لم يسلم من فلتات اللسان، ولم يتعاظم ذنبا وإن عظم، ولا ثناء وإن سمح «4» .
وكتب أردشير إلى رعيّته: من أردشير المؤيد ملك الملوك ووارث العظماء، إلى الفقهاء الذين هم حملة الدين، والأساورة الذين هم حفظة البيضة «5» ، والكتّاب الذين هم زينة المملكة، وذوي الحرث الذين هم عماد البلاد: السلام عليكم، فإنا بمحمد الله إليكم سالمون؛ فقد وضعنا عن رعيّتنا بفضل رأفتنا بها إتاوتها الموضوعة عليها «6» ، ونحن مع ذلك كاتبون إليكم بوصية فاحفظوها: لا تستشعروا الحقد فيدهمكم العدو، ولا تحتكروا فيشملكم القحط؛ وتزوّجوا في الأقارب فإنه أمس للرحم وأثبت للنسب، ولا تعدّوا هذه الدنيا شيئا؛ فإنها لا تبقي على أحد، ولا ترفضوها فإن الآخرة لا تدرك إلا بها.
وصية مروان ابن الحكم لعبد العزيز ابنه حين ولاه مصر
: ولما انصرف مروان بن الحكم من مصر إلى الشام استعمل عبد العزيز ابنه على(1/40)
مصر، وقال له حين ودّعه: أرسل حكيما ولا توصه. أي بنيّ، انظر إلى عمّالك، فإن كان لهم عندك حقّ غدوة فلا تؤخرهم إلى عشية، وإن كان لهم عشية فلا تؤخرهم إلى غدوة، وأعطهم حقوقهم عند محلها تستوجب بذلك الطاعة منهم. وإياك أن يظهر لرعيتك منك كذب، فإنهم إن ظهر لهم منك كذب لم يصدّقوك في الحق. واستشر جلساءك وأهل العلم؛ فإن لم يستبن لك فاكتب إليّ يأتك رأيي فيه إن شاء الله تعالى.
وإن كان بك غضب على أحد من رعيتك فلا تؤاخذه به عند سورة الغضب «1» ، واحبس عنه عقوبتك حتى يسكن غضبك ثم يكون منك ما يكون وأنت ساكن الغضب منطفىء الجمرة، فإن أول من جعل السجن كان حليما ذا أناة «2» . ثم انظر إلى ذوي الحسب والدين والمروءة فليكونوا أصحابك وجلساءك؛ ثم ارفع منازلهم منك على غيرهم، على غير استرسال ولا انقباض، أقول هذا وأستخلف الله عليك.
من معاوية إلى زياد في رجل فر إليه
: قال أبو بكر بن أبي شيبة عن عبد الله بن مجالد عن الشعبي، قال: قال زياد: ما غلبني أمير المؤمنين معاوية في شيء من السياسة إلا مرة واحدة، استعملت رجلا فكسر خراجه، فخشي أن أعاقبه ففرّ إليه واستجار به فأمنه؛ فكتبت إليه: إن هذا أدب سوّأ من قبلي. فكتب إليّ: إنه لا ينبغي أن نسوس الناس سياسة واحدة، لا نلن جميعا فتمرح الناس في المعصية، ولا نستبد جميعا فنحمل الناس على المهالك. ولكن تكون أنت للشدة والغلظة وأكون أنا للرأفة والرحمة.
ما يأخذ به السلطان من الحزم والعزم
قالت الحكماء: أحزم الملوك من قهر جدّه هزله: وغلب رأيه هواه، وجعل له الفكر صاحبا يحسّن له العواقب، وأعرب عن ضميره فعله، ولم يخدعه رضاه عن سخطه ولا غضبه عن كيده.(1/41)
وصية عبد الملك لولي عهده الوليد
: وقال عبد الملك بن مروان لابنه الوليد وكان ولي عهده: يا بنيّ، اعلم أنه ليس بين السلطان وبين أن يملك الرعية أو تملكه إلا حرفان: حزم وتوان.
لبعضهم في اليسير من الزلل
: وقالوا: ينبغي للعاقل ألّا يستصغر شيئا من الخطأ والزلل، فانه متى ما استصغر الصغير يوشك أن يقع في الكبير؛ فقد رأينا الملك يؤتى من العدوّ المحتقر، ورأينا الصحة تؤتى من الدواء اليسير، ورأينا الأنهار تتدفق من الجداول الصغار.
في الذم يكون من الرعية
: وقالوا: لا يكون الذم من الرعية لراعيها إلا لأحد ثلاثة: كريم قصّر به عن قدره فاحتمل لذلك ضغنا، أو لئيم بلغ به ما لا يستحق فأورثه ذلك بطرا «1» ، أو رجل منع حظّه من الإنصاف فشكا تفريطا.
من كلام للهند في الملوك
: وفي كتاب الهند: خير الملوك من أشبه النسر حوله الجيف لا من أشبه الجيف حولها النسور.
وقيل لملك سلب ملكه: ما الذي سلبك ملكك؟ قال: دفع شغل اليوم إلى غد، والتماس عدّة بتضييع عدد، واستكفاء كلّ مخدوع عن عقله. والمخدوع عن عقله من بلغ قدرا لا يستحقه، وأثيب ثوابا لا يستوجبه.
لابن أبي طالب في الفرص
: وقال علي بن أبي طالب رضي الله عنه: انتهزوا هذه الفرص فإنها تمرّ مرّ السحاب، ولا تطلبوا أثرا بعد عين.(1/42)
شي عن عمر ولعائشة فيه
: وكان عمر بن الخطاب رضي الله عنه أحزم الخلفاء، وكانت عائشة رضي الله عنها إذا ذكر عمر تقول: كان والله أحوزيّا «1» نسيج وحده، قد أعدّ للأمور أقرانها «2» .
وقال المغيرة بن شعبة: ما رأيت أحدا هو أحزم من عمر: كان والله له فضل يمنعه أن يخدع، وعقل يمنعه أن يخدع.
وقال عمر: لست بخبّ والخبّ لا يخدعني «3» .
عمر وعامل البحرين
: ومر عمر ببنيان يبنى، بآجرّ وجصّ، فقال: لمن هذا؟ قيل: لعاملك على البحرين. فقال: أبت الدراهم إلا أن تخرج أعناقها «4» ، فأرسل إليه فشاطره ماله.
عمرو ابن أبي وقاص
: وكان سعد بن وقاص يقال له المستجاب، لقول النبي صلّى الله عليه وسلّم: «اتقوا دعوة سعد» .
فلما شاطره عمر ماله، قال له سعد: لقد هممت. قال له عمر: بأن تدعو عليّ. قال:
نعم. قال إذا لا تجدني بدعاء ربي شقيا.
ابن أبي وقاص وشاعر هجاه
: وهجا رجل من الشعراء سعد بن أبي وقاص يوم القادسية، فقال:
ألم تر أنّ الله أظهر دينه ... وسعد بباب القادسيّة معصم «5»
فأبنا وقد آمت نساء كثيرة ... ونسوة سعد ليس فيهنّ أيّم «6»
فقال سعد: اللهم اكفني يده ولسانه. فقطعت يده وبكم لسانه.(1/43)
عمرو أبو موسى الأشعري وأبو هريرة والحارث
: ولما عزل عمر أبا موسى الأشعريّ عن البصرة وشاطره ماله وعزل أبا هريرة عن البحرين وشاطره ماله، وعزل الحارث بن كعب بن وهب وشاطره ماله، دعا أبا موسى فقال له: ما جاريتان بلغني أنهما عندك، إحداهما تدعى عقيلة والأخرى من بنات الملوك؟ قال: أما عقيلة فجارية بيني وبين الناس، وأما التي هي من بنات الملوك فإني أردت بها غلاء الفداء. قال: فما جفنتان تعملان عندك؟ قال: رزقي شاة في كل يوم، فيعمل نصفها غدوة ونصفها عشية. قال: فما مكيالان بلغني أنهما عندك؟ قال: أمّا أحدهما فأوفّي أهلي به وديني، وأمّا الآخر فيتعامل الناس به. قال:
ادفع لنا عقيلة، والله إنك لمؤمن لا تغلّ أو فاجر مبلّ «1» ؛ ارجع إلى عملك عاقصا بقرنك مكتسعا بذنبك «2» ؛ والله إن بلغني عنك أمر لم أعدك.
ثم دعا أبا هريرة فقال له: هل علمت من حين أني استعملتك على البحرين وأنت بلا نعلين، ثم بلغني أنك ابتعت أفراسا بألف دينار وستمائة دينار؟ قال: كانت لنا أفراس تناتجت. وعطايا تلاحقت. قال قد حسبت لك رزقك ومؤونتك وهذا فضل فأدّه. قال: ليس لك ذلك. قال: بلى والله وأوجع ظهرك! ثم قام إليه بالدّرّة فضربه حتى أدماه، ثم قال: إيت بها. قال: احتسبتها عند الله. قال: ذلك لو أخذتها من حلال وأديتها طائعا، أجئت من أقصى حجر بالبحرين يجبي «3» الناس لك لا لله ولا للمسلمين؟ ما رجعت بك أميمة إلا لرعية الحمر. وأميمة أم أبي هريرة.
وفي حديث أبي هريرة قال: لما عزلني عمر عن البحرين قال لي: يا عدوّ الله وعدوّ كتابه، سرقت مال الله؟ قال: فقلت: ما أنا عدوّ الله ولا عدوّ كتابه، ولكني عدوّ من عاداهما، وما سرقت مال الله. قال: فمن أين اجتمعت لك عشر آلاف؟ قلت:(1/44)
خيل تناتجت، وعطايا تلاحقت، وسهام تتابعت. قال: فقبضها مني، فلما صليت الصبح استغفرت لأمير المؤمنين. فقال لي بعد ذلك: ألا تعمل؟ قلت لا. قال: قد عمل من هو خير منك يوسف صلوات الله عليه. قلت: يوسف نبيّ وأنا ابن أميمة، أخشى أن يشتم عرضي، ويضرب ظهري، وينزع مالي.
قال: ثم دعا عمر الحارث بن وهب، فقال: ما قلاص وأعبد بعتها بمائتي دينار؟
قال: خرجت بنفقة معي فتجرت فيها. فقال: أما والله ما بعثناكم لتتّجروا في أموال المسلمين، أدّها. فقال: أما والله لا عملت عملا بعدها! قال: انتظر حتى أستعملك!
بين عمر بن الخطاب وابن العاص
: وكتب عمر بن الخطاب إلى عمرو بن العاص. وكان عامله على مصر: من عبد الله عمر بن الخطاب إلى عمرو بن العاص، سلام عليك، أما بعد. فإنه بلغني أنه فشت لك فاشية «1» من خيل وإبل وغنم وبقر وعبيد، وعهدي بك قبل ذلك أن لا مال لك.
فاكتب إليّ من أين أصل هذا المال ولا تكتمه.
فكتب إليه: من عمرو بن العاص إلى عبد الله عمر بن الخطاب أمير المؤمنين، سلام عليك، فإني أحمد إليك الله الذي لا إله إلا هو. أما بعد: فإنه أتاني كتاب أمير المؤمنين يذكر فيه ما فشا لي، وأنه يعرفني قبل ذلك لا مال لي. وإني أعلم أمير المؤمنين أني بأرض السّعر فيه رخيص، وأني أعالج من الحرفة والزراعة ما يعالج أهله، وفي رزق أمير المؤمنين سعة. والله لو رأيت خيانتك حلالا ما خنتك؛ فأقصر أيها الرجل، فإن لنا أحسابا هي خير من العمل لك، إن رجعنا إليها عشنا بها.
ولعمري إن عندك من لا يذم معيشته ولا تذم له [وذكرت أن عندك من المهاجرين الأولين من هو خير مني] «2» فأنّى كان ذلك ولم يفتح قفلك ولم نشركك في عملك؟(1/45)
فكتب إليه عمر: أما بعد، فإني والله ما أنا من أساطيرك التي تسطر ونسقك الكلام في غير مرجع، وما يغني عنك أن تزكّي نفسك. وقد بعثت إليك محمد بن مسلمة فشاطره مالك؛ فإنكم أيها الرّهط الأمراء جلستم على عيران المال، لم يعوزكم عذر، تجمعون لأبنائكم، وتمهّدون لأنفسكم. أما إنكم تجمعون العار وتورّثون النار.
والسلام.
فلما قدم عليه محمد بن مسلمة صنع له عمرو طعاما كثيرا. فأبى محمد بن مسلمة أن يأكل منه شيئا. فقال له عمرو: أتحرّمون طعامنا؟ فقال: لو قدّمت إليّ طعام الضيف أكلته، ولكنك قدّمت إليّ طعاما هو تقدمة شر. والله لا أشرب عندك ماء. فاكتب لي كل شيء هو لك ولا تكتمه. فشاطره ماله بأجمعه، حتى بقيت نعلاه، فأخذ إحداهما وترك الأخرى! فغضب عمرو بن العاص فقال: يا محمد بن مسلمة، قبح الله زمانا عمرو بن العاص لعمر بن الخطاب فيه عامل. والله إني لأعرف الخطاب يحمل فوق رأسه حزمة من الحطب وعلى ابنه مثلها، وما منهما إلا في نمرة «1» لا تبلغ رسغيه؛ والله ما كان العاص بن وائل يرضى أن يلبس الديباج مزوّرا «2» بالذهب.
قال له محمد: اسكت، والله إن عمر لخير منك، وأما أبوك وأبوه ففي النار، والله لولا الزمان الذي سبقك به لألفيت مقتعد شاة يسرك غزرها «3» ويسوءك بكؤها «4» .
فقال عمرو: هي عندك بأمانة الله. فلم يخبر بها عمر.
وأبو سفيان في مال وأدهم
: ومن حديث زيد بن أسلم عن أبيه قال: بعث معاوية إلى عمر بن الخطاب وهو على الشام بمال وأدهم، وكتب إلى أبيه أبي سفيان أن يدفع ذلك إلى عمر- يعني بالأدهم القيد- وكتب إلى عمر يقول: إني وجدت في حصون الروم جماعة من أسارى(1/46)
المسلمين مقيدين بقيود حديد- أنفذت منها هذا ليراه أمير المؤمنين- وكانت العرب قبل ذلك تقيد بالقيد. قال جرير: ... أو لجدل الأداهم «1» .
فخرج الرسول حتى قدم على أبي سفيان بالمال والأدهم. قال: فذهب أبو سفيان بالأدهم والكتاب إلى عمر واحتبس المال لنفسه. فلما قرأ عمر الكتاب، قال: فأين المال يا أبا سفيان؟ قال: كان علينا دين ومعونة، ولنا في بيت المال حق، فإذا أخرجت لنا شيئا قاصصتنا به. فقال عمر: اطرحوه في الأدهم حتى يأتي بالمال. قال:
فأرسل أبو سفيان من أتاه بالمال. فأمر عمر بإطلاقه من الأدهم. قال: فلما قدم الرسول على معاوية قال له: رأيت أمير المؤمنين أعجب بالأدهم؟ قال: نعم، وطرح فيه أباك. قال: ولم؟ قال: جاءه بالأدهم وحبس المال؛ قال: إي والله، والخطّاب لو كان لطرحه فيه!
عمر وأبو سفيان في مال حاول إخفاءه
: زار أبو سفيان معاوية بالشام، فلما رجع من عنده دخل على عمر فقال: أجزنا أبا سفيان. قال: ما أصبنا شيئا فنجيزك به. فأخذ عمر خاتمة فبعث به إلى هند، وقال للرسول: قال لها: يقول لك أبو سفيان: انظري إلى الخرجين اللذين جئت بهما فأحضريهما. فما لبث عمر أن أتي بخرجين فيهما عشرة آلاف درهم، فطرحهما عمر في بيت المال. فلما ولي عثمان ردّهما عليه. فقال أبو سفيان: ما كنت لآخذ مالا عابه عليّ عمر.
عمر وعتبة في مال وجده معه
: ولما ولّى عمر بن الخطاب عتبة بن أبي سفيان الطائف وصدقاتها ثم عزله، تلقّاه في بعض الطريق، فوجد معه ثلاثين ألفا، فقال: أنى لك هذا؟ قال: والله ما هو لك(1/47)
ولا للمسلمين، ولكنه مال خرجت به لضيعة أشتريها. فقال عمر: عاملنا وجدنا معه مالا، ما سبيله إلا بيت المال. ورفعه؛ فلما ولي عثمان قال لعتبة: هل لك في هذا المال، فإني لم أر لأخذ ابن الخطاب فيه وجها؟ قال: والله إن بنا إليه لحاجة، ولكن لا تردّ علي من قبلك فيردّ عليك من بعدك.
عمر وأبو سفيان في رجل دعا بدعاء الجاهلية
: القحذمي «1» قال: ضرب عمر رجلا بالدرّة، فنادى: يا لقصيّ! فقال أبو سفيان:
يا بن أخي، لو قبل اليوم تنادي قصيّا لأتتك منها الغطاريف «2» . فقال له عمر:
اسكت لا أبالك. قال أبو سفيان: ها، ووضع سبّابته على فيه.
كتاب يزيد إلى مروان يأمره بالبيعة
: خليفة بن خياط قال: كتب يزيد بن الوليد المعروف بالناقص- وإنما قيل له الناقص لفرط كماله- إلى مروان بن محمد- وبلغه عنه تلكؤ في بيعته-: أما بعد، فإني أراك تقدّم رجلا وتؤخر أخرى. فإذا أتاك كتابي هذا فاعتمد على أيهما شئت والسلام. فأتته بيعته.
أبو غسان وأهل مرو حين منعوا المال
: ولما منع أهل مرو أبا غسان الماء وزوجّته «3» إلى الصحارى، كتب إليهم أبو غسان:
إلى بني الأستاه من أهل مرو؛ ليمسيني الماء أو لتصبّحنكم الخيل. فما أمسى حتى أتاه الماء. فقال: الصدق ينبيء عنك لا الوعيد.
كتاب ابن طاهر إلى الحسن التغلبي
: وكتب عبد الله بن طاهر الخراسانيّ إلى الحسن بن عمر التغلبيّ: أما بعد، فقد بلغني ما كان من قطع الفسقة الطريق ما بلغ، فلا الطريق تحمي، ولا اللصوص(1/48)
تكفي، ولا الرعية ترضي، وتطمع بعد هذا في الزيادة! إنك لمفسح الأمل. وايم الله لتكفيني من قبلك أو لأوجّهن إليك رجالا لا تعرف مرّة من جهم ولا عديّ من رهم، ولا حول ولا قوة إلا بالله.
كتاب الحجاج إلى قتيبة في أمر وكيع
: وكتب الحجاج بن يوسف إلى قتيبة بن مسلم واليه بخراسان: أما بعد، فإن وكيع ابن حسان كان بالبصرة منه ما كان، ثم صار لصا بسجستان، ثم صار إلى خراسان، فإذا أتاك كتابي هذا: فاهدم بناءه، واحلل لواءه. وكان على شرطة قتيبة فعزله.
وولى الضّبيّ عمّ مسعود بن الخطاب.
كتاب الحجاج إلى قوم يفسدون في الأرض
: وبلغ الحجاج أن قوما من الأعراب يفسدون الطريق، فكتب إليهم: أما بعد، فإنكم قد استخفّتكم الفتنة، فلا عن حق تقاتلون. ولا عن منكر تنهون، وإني أهم أن ترد عليكم مني خيل تنسف الطارف والتالد «1» ، وتدع النساء أيامى والأبناء يتامى والديار خرابا! فلما أتاهم كتابه كفّوا عن الطريق.
التعرّض للسلطان والردّ عليه
قالت الحكماء: من تعرّض للسلطان أراده، ومن تطامن «2» له تخطاه. وشبهوه في ذلك بالريح العاصفة التي لا تضر بما لان لها من الشجر ومال معها من الحشيش. وما استهدف لها من الدوح العظام قصفته. قال الشاعر:
إنّ الرياح إذا ما أعصفت قصفت ... عيدان نبع ولا يعبأن بالرّتم «3»
وقال حبيب بن أوس، وهو أحسن ما قيل في السلطان:(1/49)
هو السّيل إن واجهته انقدت طوعه ... وتقتاده من جانبيه فيتبع
وقال آخر:
هو السّيف إن لا ينته لان متنه ... وحدّاه إن خاشنته خشنان
بين معاوية وأبي الجهم
: وقال معاوية لأبي الجهم العدويّ: أنا أكبر أم أنت؟ فقال: لقد أكلت في عرس أمّك يا أمير المؤمنين. قال: عند أيّ أزواجها؟ قال: عند حفص بن المغيرة. قال: يا أبا الجهم، إيّاك والسلطان، فإنه يغضب غضب الصبيّ ويأخذ أخذ الأسد.
وأبو الجهم هو القائل في معاوية:
ونغضبه لنخبر حالته ... فنخبر منهما كرما ولينا
نميل على جوانبه كأنّا ... نميل إذا نميل على أبينا
معاوية وعقيبة الأسدي
: وقدم عقيبة الأسدي على معاوية ودفع إليه رقعة فيها هذه الأبيات:
معاوي إنّنا بشر فأسجح ... فلسنا بالجبال ولا الحديد «1»
أكلتم أرضنا فجردتموها ... فهل من قائم أو من حصيد
أتطمع بالخلود إذا هلكنا ... وليس لنا ولا لك من خلود
فهبنا أمة هلكت ضياعا ... يزيد أميرها وأبو يزيد
فدعا به معاوية فقال: ما جرّأك عليّ؟ قال: نصحتك إذا غشوك؛ وصدقتك إذ كذبوك. فقال: ما أظنك إلا صادقا، وقضى حوائجه.
ومن حديث زياد عن مالك بن أنس قال: خطب أبو جعفر المنصور، فحمد الله وأنثى عليه ثم قال: أيها الناس، اتقوا الله. فقال إليه رجل من عرض الناس فقال:(1/50)
أذكرك الله الذي ذكّرتنا به يا أمير المؤمنين. فأجابه أبو جعفر بلا فكرة ولا رويّة:
سمعا وطاعة لمن ذكّر بالله، وأعوذ بالله أن اذكّر به وأنساه فتأخذني العزة بالإثم ل قَدْ ضَلَلْتُ إِذاً وَما أَنَا مِنَ الْمُهْتَدِينَ
«1» . وأما أنت، فو الله ما الله أردت بها، ولكن ليقال: قال فعوقب فصبر! وأهون بها لو كانت، وأنا أحذّركم أيها الناس أختها؛ فإن الموعظة علينا نزلت، ومنا أخذت. ثم رجع إلى موضعه من الخطبة.
الرشيد ومعترض عليه في خطبته
: وقام رجل إلى هارون الرشيد وهو يخطب بمكة، فقال: كَبُرَ مَقْتاً عِنْدَ اللَّهِ أَنْ تَقُولُوا ما لا تَفْعَلُونَ
«2» فأمر به فضرب مائة سوط، فكان يئنّ الليل كله ويقول:
الموت! الموت. فأخبر هارون أنه رجل صالح، فأرسل إليه فاستحلّه، فأحلّه.
الوليد ومعترض عليه في خطبته
: المدائني قال: جلس الوليد بن عبد الملك على المنبر يوم الجمعة حتى اصفرّت الشمس، فقام إليه رجل فقال: يا أمير المؤمنين، إن الوقت لا ينتظرك، وإنّ الرب لا يعذرك. قال: صدقت، ومن قال مثل مقالتك فلا ينبغي له أن يقوم مثل مقامك.
من ها هنا من أقرب الحرس يقوم إليه فيضرب عنقه؟
مخاطر بين معاوية وزياد
: الرياشيّ عن الأصمعي قال: خاطر رجل رجلا أن يقوم إلى معاوية إذا سجد فيضع يده على كفله ويقول: سبحان الله يا أمير المؤمنين! ما أشبه عجيزتك بعجيزة أمّك هند! ففعل ذلك. فلما انفتل معاوية عن صلاته قال:
يا بن أخي، إن أبا سفيان كان إلى ذلك منها أميل؛ فخذ ما جعلوا لك. فأخذه.(1/51)
ثم خاطر أيضا أن يقوم إلى زياد وهو في الخطبة فيقول له: أيها الأمير، من أبوك؟ ففعل. فقال له زياد: هذا يخبرك- وأشار إلى صاحب الشّرطة- فقدّمه فضرب عنقه. فلما بلغ ذلك معاوية قال: ما قتله غيري، ولو أدبته على الأولى ما عاد إلى الثانية.
وخاطر رجل أن يقوم إلى عمرو بن العاص وهو في الخطبة فيقول: أيها الأمير، أمك؟ ففعل. فقال له: النابغة بنت عبد الله، أصابتها رماح العرب فبيعت فبعكاظ، فاشتراها عبد الله بن جدعان للعاص بن وائل، فولدت فأنجبت، فإن كانوا جعلوا لك شيئا فخذه.
بين معاوية وخريم
: دخل خريم الناعم على معاوية بن أبي سفيان: فنظر معاوية إلى ساقيه فقال: أيّ ساقين! لو أنهما على جارية! فقال له خريم: في مثل عجيزتك يا أمير المؤمنين! قال:
واحدة بأخرى والبادىء أظلم.
تحلّم السلطان على أهل الدين والفضل إذا اجترءوا عليه
أبو جعفر مع مالك وابن طاوس
: زياد عن مالك بن أنس قال: بعث أبو جعفر المنصور إليّ وإلى ابن طاوس؛ فأتيناه فدخلنا عليه، فإذا هو جالس على فرش قد نضّدت، وبين يديه أنطاع قد بسطت، وجلاوزة «1» بأيديهم السيوف يضربون الأعناق، فأومأ إلينا أن اجلسا، فجلسنا. فأطرق عنا طويلا، ثم رفع رأسه والتفت إلى ابن طاوس فقال له: حدّثني عن أبيك. قال: نعم، سمعت ابي يقول: قال رسول الله صلّى الله عليه وسلّم: «إن أشد الناس عذابا(1/52)
يوم القيامة رجل أشركه الله في حكمه فأدخل عليه الجور في عدله» . فأمسك ساعة؛ قال مالك: فضممت ثيابي من ثيابه مخافة أن يملأني من دمه. ثم التفت إليه أبو جعفر فقال: عظني يا بن طاوس قال: نعم يا أمير المؤمنين، [إنّ] الله تعالي يقول أَلَمْ تَرَ كَيْفَ فَعَلَ رَبُّكَ بِعادٍ. إِرَمَ ذاتِ الْعِمادِ. الَّتِي لَمْ يُخْلَقْ مِثْلُها فِي الْبِلادِ. وَثَمُودَ الَّذِينَ جابُوا الصَّخْرَ بِالْوادِ. وَفِرْعَوْنَ ذِي الْأَوْتادِ. الَّذِينَ طَغَوْا فِي الْبِلادِ. فَأَكْثَرُوا فِيهَا الْفَسادَ. فَصَبَّ عَلَيْهِمْ رَبُّكَ سَوْطَ عَذابٍ. إِنَّ رَبَّكَ لَبِالْمِرْصادِ
«1» قال مالك:
فضممت ثيابي من ثيابه مخافة أن يملأني من دمه. فأمسك ساعة حتى اسود ما بيننا وبينه، ثم قال: يا بن طاوس ناولني هذه الدواة. فأمسك عنه. ثم قال: ناولني هذه الدواة. فأمسك عنه؛ فقال: ما يمنعك أن تناولنيها؟ قال: أخشى أن تكتب بها معصية لله فأكون شريكك فيها. فلما سمع ذلك قال: قوما عني. قال ابن طاوس: ذلك ما كنا نبغي منذ اليوم.
قال مالك: فما زلت أعرف لابن طاوس فضله.
أبو هريرة ومروان حين أبطأ بالجمعة
: أبو بكر بن أبي شيبة قال: قام أبو هريرة إلى مروان بن الحكم وقد أبطأ بالجمعة فقال له: أتظل عند ابنة فلان تروّحك بالمراوح وتسقيك الماء البارد، وأبناء المهاجرين والأنصار يصهرون من الحرّ؟ لقد هممت أن أفعل وأفعل، ثم قال:
اسمعوا من أميركم.
بين أبي جعفر وابن أبي ذئب
: فرج بن سلام عن أبي حاتم عن الأصمعي قال: حدّثني رجل من أهل المدينة كان ينزل بشقّ بني زريق، قال: سمعت محمد بن إبراهيم يحدّث قال: سمعت أبا جعفر بالمدينة وهو ينظر فيما بين رجل من قريش وأهل بيت من المهاجرين بالمدينة ليسوا من(1/53)
قريش؛ فقالوا لأبي جعفر: اجعل بيننا وبينه ابن أبي ذئب. فقال أبو جعفر لابن أبي ذئب: ما تقول في بني فلان؟ قال: أشرار من أهل بيت أشرار. قالوا: اسأله يا أمير المؤمنين عن الحسن بن زيد. وكان عامله على المدينة. قال: ما تقول في الحسن بن زيد؟ قال: يأخذ بالإحنة «1» ويقضي بالهوى. فقال الحسن: يا أمير المؤمنين، والله لو سألته عن نفسك لرماك بداهية أو وصفك بشّر، قال: ما تقول فيّ؟ قال: أعفني.
قال: لا بدّ أن تقول. قال: لا تعدل في الرعية، ولا تقسم بالسويّة. قال: فتغير وجه أبي جعفر. فقال ابراهيم بن يحي بن محمد بن علي صاحب الموصل: طهّرني بدمه يا أمير المؤمنين. قال: اقعد يا بنيّ، فليس في دم رجل يشهد أن لا إله إلا الله طهور.
قال: ثم تدارك ابن أبي ذئب الكلام فقال: يا أمير المؤمنين، دعنا مما نحن فيه؛ بلغني أنّ لك ابنا صالحا بالعراق، يعني المهدي قال: أما إنك قلت ذلك، إنه الصّوام القوّام البعيد ما بين الطرفين «2» قال: ثم قام ابن أبي ذئب فخرج، فقال أبو جعفر: أما والله ما هو بمستوثق العقل، ولقد قال بذات نفسه.
قال الاصمعي: ابن أبي ذئب، من بني عامر بن لؤي، من أنفسهم.
المأمون والحارث بن مسكين
: قال: ودخل الحارث بن مسكين على المأمون فسأله عن مسألة فقال: أقول فيها كما قال مالك بن أنس لأبيك هارون الرشيد، وذكر قوله فلم يعجب المأمون. فقال: لقد تيّست فيها وتيّس مالك. قال الحارث بن مسكين: فالسامع يا أمير المؤمنين من التّيسين أتيس؛ فتغيّر وجه المأمون. وقام الحارث بن مسكين فخرج وتندّم على ما كان من قوله، فلم يستقرّ في منزله حتى أتاه رسول المأمون، فأيقن بالشر ولبس ثياب أكفانه؛ ثم أقبل حتى دخل عليه، فقرّبه المأمون من نفسه، ثم أقبل عليه بوجهه فقال له: يا هذا، إن الله قد أمر من هو خير منك بإلانة القول لمن هو شرّ مني، فقال(1/54)
لنبيه موسى صلّى الله عليه وسلّم إذ أرسله إلى فرعون: فَقُولا لَهُ قَوْلًا لَيِّناً لَعَلَّهُ يَتَذَكَّرُ أَوْ يَخْشى
«1» قال: يا أمير المؤمنين، أبوء «2» بالذنب، وأستغفر الرب. قال: عفا الله عنك، انصرف إذا شئت.
المنصور وأبو سفيان الثوري
: وأرسل أبو جعفر إلى سفيان الثّوريّ، فلما دخل عليه قال: عظني ابا عبد الله.
قال: وما عملت فيما علمت فأعظك فيما جهلت؟ فما وجد له المنصور جوابا.
أبو النضر وعامل للخليفة
: ودخل أبو النضر سالم مولي عمر بن عبد الله على عامل للخليفة، فقال له أبا النضر، إنّا تأتينا كتب من عند الخليفة فيها وفيها، ولا نجد بداّ من إنفاذها، فما ترى؟ قال له أبو النضر؛ قد أتاك كتاب من الله تعالى قبل كتاب الخليفة؛ فأيّهما اتبعت كنت من أهله.
ونظير هذا القول ما رواه الأعمش عن الشّعبيّ. أنّ زيادا كتب إلى الحكم بن عمرو الغفاريّ، وكان على الصائفة «3» : إن أمير المؤمنين معاوية كتب إليّ يأمرني أن أصطفي له الصفراء والبيضاء، فلا تقسم بين الناس ذهبا ولا فضة [واقسم ما سوى ذلك] فكتب إليه: «إني وجدت كتاب الله قبل كتاب أمير المؤمنين. والله لو أن السموات والأرض كانتا رتقا «4» على عبد فاتقى الله لجعل له منها مخرجا» ثم نادى في الناس فقسّم فيهم ما اجتمع له من الفيء.
ابن هبيرة والحسن البصري والشعبي
: ومثله قول الحسن حين أرسل إليه ابن هبيرة وإلى الشعبي فقال له: ما ترى أبا سعيد في كتب تأتينا من عند يزيد بن عبد الملك فيها بعض ما فيها، فإن أنفذنها(1/55)
وافقت سخط الله، وإن لم أنفذها خشيت على دمي؟ فقال له الحسن: هذا عندك، الشعبيّ فقيه الحجاز. فسأله فرقّق له الشعبيّ وقال له: قارب وسدّد، فإنما أنت عبد مأمور، ثم التفت ابن هبيرة إلى الحسن وقال: ما تقول يا أبا سعيد؟ فقال الحسن: يا ابن هبيرة، خف الله في يزيد ولا تخف يزيد في الله. يا بن هبيرة، إن الله مانعك من يزيد وإن يزيد لا يمنعك من الله. يا بن هبيرة، لا طاعة لمخلوق في معصية الخالق، فانظر ما كتب إليك فيه يزيد فاعرضه على كتاب الله تعالى، فما وافق كتاب الله تعالى فأنفذه، وما خالف كتاب الله فلا تنفذه؛ فإن الله أولى بك من يزيد، وكتاب الله أولى بك من كتابه. فضرب ابن هبيرة بيده على كتف الحسن وقال: هذا الشيخ صدقني وربّ الكعبة. وأمر للحسن بأربعة آلاف، وللشعبي بألفين؛ فقال الشعبي:
رققنا فرقق لنا. فأما الحسن فأرسل إلى المساكين، فلما اجتمعوا فرّقها، وأما الشعبي فإنه قبلها وشكر عليها.
معاوية والأحنف في استخلاف يزيد
: ونظير هذا: قول الأحنف بن قيس لمعاوية حين شاوره في استخلاف يزيد.
فسكت عنه، فقال: مالك لا تقول؟ فقال: إن صدقناك أسخطناك، وإن كذبناك أسخطنا الله، فسخط أمير المؤمنين أهون علينا من سخط الله! فقال له: صدقت.
كتاب أبي الدرداء إلى معاوية
: وكتب أبو الدرداء إلى معاوية: أما بعد. فإنه من يلتمس رضا الله بسخط الناس كفاه الله مؤونة الناس، ومن التمس رضا الناس بسخط الله وكله الله إلى الناس.
كتاب عائشة إلى معاوية
: وكتبت عائشة رضي الله عنها إلى معاوية: أما بعد فإنه من يعمل بمساخط الله يصر حامده من الناس ذامّا له. والسلام.(1/56)
هشام وناصح نصحه بأربع
: أبو الحسن المدائني قال: خرج الزّهري يوما من عند هشام بأربع، قيل له: وما هن؟ قال: دخل رجل على هشام فقال: يا أمير المؤمين، احفظ عني أربع كلمات فيهن صلاح ملكك واستقامة رعيتك. فقال: هاتهن. فقال: لا تعدنّ عدة لا تثق من نفسك بإنجازها. قال: هذه واحدة فهات الثانية. قال لا يغرّنك المرتقى وإن كان سهلا إذا كان المنحدر وعرا. قال: هات الثالثة. قال: واعلم أن للأعمال جزاء فاتق العواقب. قال: هات الرابعة. قال: واعلم أن الأمور بغتات فكن على حذر.
قعد معاوية بالكوفة يبايع الناس على البراءة من علي بن أبي طالب رضي الله عنه، فقال له رجل: يا أمير المؤمنين، نطيع أحياءكم ولا نتبرأ من موتاكم! فالتفت إلى المغيرة فقال له: هذا رجل فاستوص به خيرا.
عبد الملك والحارث في ابن الزبير
: وقال عبد الملك بن مروان للحارث بن عبد الله بن أبي ربيعة: ما كان يقول الكذّاب في كذا وكذا؟ - يعني ابن الزبير-؛ فقال: ما كان كذابا. فقال له يحيى بن الحكم: من أمّك يا حار؟ قال: هي التي تعلم. قال له عبد الملك: اسكت فهي أنجب من أمّك.
الوليد ابن عبد الملك والزهري
: دخل الزهري على الوليد بن عبد الملك، فقال له: ما حديث يحدّثنا به أهل الشام؟ قال: وما هو يا أمير المؤمنين؟ قال يحدّثوننا أن الله إذا استرعى عبدا رعية كتب له الحسنات ولم يكتب له السيئات. قال: باطل يا أمير المؤمنين، أنبىّ خليفة أكرم على الله أم خليفة غير نبي؟ قال بل نبيّ خليفة. قال: فإن الله يقول لنبيه داود:
يا داوُدُ إِنَّا جَعَلْناكَ خَلِيفَةً فِي الْأَرْضِ فَاحْكُمْ بَيْنَ النَّاسِ بِالْحَقِّ وَلا تَتَّبِعِ الْهَوى فَيُضِلَّكَ عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ، إِنَّ الَّذِينَ يَضِلُّونَ عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ لَهُمْ عَذابٌ شَدِيدٌ(1/57)
بِما نَسُوا يَوْمَ الْحِسابِ
«1» فهذا وعيد يا أمير المؤمنين لنبيّ خليفة؛ فما ظنك بخليفة غير نبيّ؟ قال: إن الناس ليغروننا عن ديننا.
بين ابن يسار وعبد الملك
: الأصمعي عن إسحاق بن يحيى عن عطاء بن يسار قال: قلت للوليد بن عبد الملك:
قال عمر بن الخطاب: «وددت أني خرجت من هذا الأمر كفافا «2» لا عليّ ولا لي» .
فقال: كذبت. فقلت: أو كذّبت! فما أفلّت منه إلا بجريعة الذّقن «3» .
المشورة
قال النبي صلّى الله عليه وسلّم: «ماندم من استشار، ولا شقي من استخار» .
من كلام الله تعالى
: وقد أمر الله تعالى نبيه عليه الصلاة والسلام بمشاورة من هو دونه في الرأي، فقال: وَشاوِرْهُمْ فِي الْأَمْرِ؛ فَإِذا عَزَمْتَ فَتَوَكَّلْ عَلَى اللَّهِ
«4» .
عثمان وثقيف لما همت بالارتداد
: ولما همّت ثقيف بالارتداد بعد موت النبي صلّى الله عليه وسلّم استشاروا عثمان بن أبي العاصي، وكان مطاعا فيهم؛ فقال لهم لا تكونوا آخر العرب إسلاما وأولهم ارتدادا؛ فنفعهم الله برأيه.
لبعض الحكماء فيما ينفع ويضر
: وسئل بعض الحكماء: أيّ الأمور أشدّ تأييدا للفتى وأيها أشد إضرارا به؟ فقال:
أشدها تأييدا له ثلاثة أشياء: مشاورة العلماء، وتجربة الأمور، وحسن التثبّت.(1/58)
وأشدها إضرارا به ثلاثة أشياء: الاستبداد، والتهاون، والعجلة.
بين حكيم وحكيم
: وأشار حكيم على حكيم برأي فقبله منه. فقال له: لقد قلت بما يقول به الناصح الشفيق الذي يخلط حلو كلامه بمرّه، وسهله بوعره، ويحرّك الإشفاق منه ما هو ساكن من غيره، وقد وعيت النصح وقبلته؛ إذ كان مصدره من عند من لا يشكّ في مودّته وصفاء غيبه ونصح جيبه. وما زلت بحمد الله إلى الخير طريقا واضحا، ومنارا بيّنا.
للراسبي في الرأي الفطير
: وكان عبد الله بن وهب الراسبيّ يقول: إياكم والرأي الفطير. «1» وكان يستعيذ بالله من الرأي الدّبريّ «2» الخمير.
لعلي في رأي الشيخ
: وكان علي بن أبي طالب رضي الله عنه يقول: رأي الشيخ أحسن من مشهد الغلام.
لابن هبيرة يوصي ابنه
: وأوصى ابن هبيرة ولده فقال: لا تكن أول مشير، وإياك والهوى والرأي الفطير.
ولا تشيرنّ على مستبد [ولا على وغد ولا على مسكون ولا على لجوج، وخف الله في موافقة هوى المستشير] «3» ، فإن التماس موافقته لؤم، والاستماع منه خيانة.(1/59)
لعامر بن الظرب
: وكان عامر بن الظرب حكيم العرب يقول: دعوا الرأي يغبّ حتى يختمر، وإياكم والرأي الفطير. يريد الأناة في الرأي والتثبّت فيه.
ومن أمثالهم في هذا قولهم: لا رأي لمن لا يطاع.
للمهلب في الرأي
: وكان المهلّب يقول: إن من البليّة أن يكون الرأي بيد من يملكه دون من يبصره.
لعبسّي في الحزم
: العتبي قال: قيل لرجل من عبس: ما أكثر صوابكم؟ قال: نحن ألف رجل وفينا حازم واحد، فنحن نشاوره، فكأنّنا ألف حازم.
قال الشاعر:
الرأي كالليل مسودّ جوانبه ... والليل لا ينجلي إلّا بإصباح
فاضمم مصابيح آراء الرجال إلى ... مصباح رأيك تزود ضوء مصباح
عبد الله بن عبد الأعلى بعد سخط الخليفة عليه
: العتبي قال: أخبرني من رأى عبد الله بن عبد الأعلى وهو أول داخل على الخليفة وآخر خارج من عنده. قال: ثم رأيته وإنه ليتّقي كما يتّقي البعير الأجرب، فقال لي:
يا أخا العراق، اتّهمنا القوم في سريرتنا، ولم يقبلوا منا علانيتنا، ومن ورائهم وورائنا حكم عدل.
لسبيع في أهل اليمامة
: ومن أحسن ما قيل فيمن أشير عليه فلم يقبل، قول سبيع لأهل اليمامة بعد إيقاع(1/60)
خالد بهم: يا بني حنيفة، بعدا لكم كما بعدت عاد وثمود. «1» أما والله لقد أنبأتكم بالأمر قبل وقوعه، كأنّي أسمع جرسه وأبصر غيبه، ولكنكم أبيتم النصيحة فاجتنيتم الندامة. وإنّي لمّا رأيتكم تتهمون النّصيح وتسفّهون الحليم، استشعرت منكم اليأس وخفت عليكم البلاء. والله ما منعكم الله التوبة ولا أخذكم على غرّة، «2» ولقد أمهلكم حتى ملّ الواعظ ووهن الموعوظ، وكنتم كأنما يعنى بما أنتم فيه غيركم، فأصبحتم وفي أيديكم من تكذيبي التصديق، ومن نصيحتي الندامة؛ وأصبح في يدي من هلاككم البكاء، ومن ذلّكم الجزع. وأصبح ما فات غير مردود، وما بقي غير مأمون.
وقال القطاميّ في هذا المعنى:
ومعصية الشّفيق عليك ممّا ... يزيدك مرّة منه استماعا
وخير الأمر ما استقبلت منه ... وليس بأن تتبّعه اتّباعا
كذاك وما رأيت الناس إلا ... إلى ما جرّ غاويهم سراعا
تراهم يغمزون من استركّوا ... ويجتنبون من صدق المصاعا «3»
وكان يقال: لا تستشر معلما ولا حائكا ولا راعي غنم ولا كثير القعود مع النساء.
وأنشد في المعلمين:
وكيف يرجّى العقل والرأي عند من ... يروح إلى أنثى ويغدو إلى طفل
وكان يقال: لا تشاور صاحب حاجة يريد قضاءها.
وكان يقال: لا رأي لحاقن ولا حازق: وهو الذي ضغطه الخف. ولا الحاقب وهو الذي يجد رراّ في بطنه.
وينشد في الرأي بعد فوته:
وعاجز الرأي مضياع لفرصته ... حتى إذا فات أمر عاتب القدرا(1/61)
شعر للمؤلف
: ومن قولنا في هذا المعنى:
فلئن سمعت نصيحتي وعصّيتها ... ما كنت أول ناصح معصيّ
وقال حبيب في بني تغلب عند إيقاع مالك بن طوق بهم:
لم يألكم مالك صفحا ومغفرة ... لو كان ينفخ قين الحيّ في فحم «1»
حفظ الأسرار
قالت الحكماء: صدرك أوسع لسرك من صدر غيرك.
وقالوا: سرّك من دمك. يعنون أنه ربما كان في إفشائه سفك دمك.
وكتب عبد الملك بن مروان إلى الحجاج بن يوسف:
ولا تفش سرّك إلّا إليك ... فإنّ لكلّ نصيح نصيحا
وإنّي رأيت غواة الرجا ... ل لا يتركون أديما صحيحا «2»
وقالت الحكماء: ما كنت كاتمه من عدوّك فلا تطلع عليه صديقك.
وقال عمرو بن العاص: ما استودعت رجلا سراّ فأفشاه فلمته؛ لأني كنت أضيق صدرا منه حين استودعته إياه حين أفشاه.
وقال الشاعر:
إذا ضاق صدر المرء عن سرّ نفسه ... فصدر الذي يستودع السرّ أضيق
لبعض الأعراب
: قيل لأعرابي: كيف كتمانك للسر؟ قال: أجحد المخبر وأحلف للمستخبر.(1/62)
وقيل لآخر: كيف كتمانك للسر؟ قال: ما قلبي له إلا قبر.
وقال المأمون: الملوك تحتمل كل شيء إلا ثلاثة أشياء: القدح في الملوك، وإفشاء السر، والتعرّض للحرّم.
وقال الوليد بن عتبة لأبيه: إن أمير المؤمنين أسرّ إليّ حديثا، أفلا أحدثك به؟
قال لا، يا بني، إنه من كتم سره كان الخيار له، [ومن أفشاه كان الخيار عليه «1» ] فلا تكن مملوكا بعد أن كنت مالكا.
ملك من ملوك العجم استشار وزيريه
: وفي التاجر أنّ بعض ملوك العجم استشار وزيريه، فقال أحد هما: لا ينبغي للملك أن يستشير منّا أحدا إلا خاليا به؛ فإنه أموت للسر، وأحزم للرأي، وأجدر بالسلامة، وأعفى لبعضنا من غائلة بعض؛ «2» فإن إفشاء السرّ إلى رجل واحد أوثق من إفشائه إلى اثنين، وإفشاءه إلى ثلاثة كإفشائه إلى جماعة؛ لأن الواحد رهن بما أفشي إليه، والثاني مطلق عنه ذلك الرهن. والثالث علاوة فيه. فإذا كان السر عند واحد كان أحرى أن لا يظهره رغبة ورهبة، وإن كان عند اثنين دخلت على الملك الشبهة، واتسعت على الرجلين المعاريض. فإن عاقبهما عاقب اثنين بذنب واحد، وإن اتهمهما اتهم بريئا بخيانة مجرم، وإن عفا عنهما كان العفو عن أحدهما ولا ذنب له، وعن الآخر ولا حجة معه.
لعمر بن ابي ربيعة في السر
: ومن أحسن ما قالت الشعراء في السر قول عمر بن أبي ربيعة:
فقالت وأرخت جانب الستر: إنما ... معي فتحدّث غير ذي رقبة أهلي
فقلت لها: ما بي لهم من ترقّب ... ولكنّ سرّي ليس يحمله مثلي(1/63)
وقال أبو محجن الثقفي:
لا تسألي الناس عن مالي وكثرته ... وسائلي الناس عن بأسي وعن خلقي
قد أطعن الطّعنة النّجلاء عن عرض ... وأكتم السّرّ فيه ضربة العنق «1»
وقال الحطيئة يهجو:
أغربالا إذا استودعت سرا ... وكانونا على المتحدّثينا
الإذن
بين زياد وحاجبه
: قال زياد لحاجبه عجلان: كيف تأذن للناس؟ قال: على البيوتات، ثم على الأسنان، ثم على الآداب. قال: فمن تؤخّر؟ قال: من لا يعبأ الله بهم. قال: ومن هم؟ قال: الذين يلبسون كسوة الشتاء في الصيف وكسوة الصيف في الشتاء.
لسعيد بن عتبة في بعده عن الآذن
: وكان سعيد بن عتبة بن حصين إذا حضر باب أحد من السلاطين جلس جانبا؛ فقيل له: إنك لتتباعد من الآذن جهدك؛ قال: لأن أدعى من بعيد خير من أن أقصى من قريب. ثم قال «2» :
وإنّ مسيري في البلاد ومنزلي ... هو المنزل الأقصى إذا لم أقرّب
ولست وإن أدنيت يوما ببائع ... خلاقي ولا ديني ابتغاء التّحبّب
وقد عدّه قوم تجارة رابح ... ويمنعني من ذاك ديني ومنصبي
وقال آخر:
رأيت أناسا يسرعون تبادرا ... إذا فتح البواب بابك إصبعا
ونحن جلوس ساكنون رزانة ... وحلما إلى أن يفتح الباب أجمعا «3»(1/64)
بين معاوية وابن الأشعث في الدخول على الملوك
: ووقف الأحنف بن قيس ومحمد بن الأشعث بباب معاوية، فأذن للأحنف، ثم أذن لابن الأشعث، فأسرع في مشيته حتى تقدم الأحنف ودخل قبله. فلما رآه معاوية غمّه ذلك وأحنقه، فالتفت إليه فقال: والله إني ما أذنت له قبلك وأنا أريد أن تدخل قبله، وإنا كما نلي أموركم نلي ادابكم، ولا يزيد متزيّد في خطوه إلا لنقص يجده من نفسه.
وقال همام الرقاشي «1» :
أبلغ أبا مسمع عنّي مغلغلة ... وفي العتاب حياة بين أقوام
قدّمت قبلي رجالا ما يكون لهم ... في الحقّ أن يلجوا الأبواب قدّامى
لو عدّ قبر وقبر كنت أقربهم ... قربى وأبعدهم من منزل الذّام
حتى جعلت إذا ما حاجة عرضت ... بباب قصرك أدلوها بأقوام «2»
لمعاوية في آذنه
: قيل لمعاوية: إن آذنك يقدم معارفه في الإذن على وجوه الناس. قال: وما عليه؟
إنّ المعرفة لتنفع في الكلب العقور والجمل الصّئول «3» ؛ فكيف في رجل حسيب ذي كرم ودين؟
للحكماء في الوصول إلى المراد
: وقالت الحكماء: لا يواظب أحد على باب السلطان فيلقي عن نفسه الأنفة ويحتمل الأذى ويكظم الغيظ إلا وصل إلى حاجته.
وقالت الحكماء: لا يواظب أحد على باب السلطان فيلقي عن نفسه الأنفة ويحتمل الأذى ويكظم الغيظ إلا وصل إلى حاجته.
وقالوا: من أدمن قرع الباب يوشك أن يفتح له.(1/65)
وقال الشاعر «1» :
كم من فتى قصّرت في الرزق خطوته ... أصبته بسهام الرزق قد فلجا
إنّ الأمور إذا انسدّت مسالكها ... فالصبر يفتق منها كلّ ما ارتتجا «2»
لا تيأسنّ وإن طالت مطالبة ... إذا استعنت بصبر أن ترى فرجا
أخلق بذي الصبر أن يحظى بحاجته ... ومدمن القرع للأبواب أن يلجا «3»
بين رجل وروح
: ونظر رجل إلى روح بن حاتم واقفا في الشمس عند باب المنصور؛ فقال له: لقد طال وقوفك في الشمس. فقال: ذلك ليطول جلوسي في الظل.
بين رجل والحسن بن عبد الحميد
: ونظر آخر إلى الحسن بن عبد الحميد يزاحم الناس على باب محمد بن سليمان، فقال: أمثلك يرضى بهذا! فقال:
أهين لهن نفسي لأكرمها بهم ... ولا يكرم النّفس الذي لا يهينها
من كلام للهند
: وفي كتاب للهند: إن السلطان لا يقرّب الناس لقرب آبائهم ولا يبعدهم لبعدهم، ولكن ينظر ما عند كل رجل منهم، فيقرّب البعيد لنفعه، ويبعد القريب لضرّه.
وشبّهوا ذلك بالجرذ الذي هو في البيت مجاور، فمن أجل ضرّه نفي، والبازي الذي هو وحشيّ، فمن أجل نفعه اقتني.
بين النبي صلّى الله عليه وسلّم ومستأذن
: استأذن رجل على النبي صلّى الله عليه وسلّم وهو في بيت فقال: أألج؟ فقال النبي صلّى الله عليه وسلّم لخادمه:
«اخرج إلى هذا فعلّمه الاستئذان وقل له يقول: السلام عليكم، أأدخل» ؟(1/66)
وقال النبي صلّى الله عليه وسلّم: «الاستئذان ثلاث، فإن أذن لك وإلا فارجع» .
وقال علي بن أبي طالب رضي الله عنه. الأولى إذن، والثانية مؤامرة، والثالثة عزمة، إما أن يأذنوا وإما أن يرجع.
الحجاب
زياد وحاجبه
: قال زياد لحاجبه: يا عجلان، إني وليتك حجابتي وعزلتك عن أربع: هذا المنادي إلى الله في الصلاة والفلاح، لا تحجبه عني فلا سلطان لك عليه، وطارق الليل لا تحجبه، فشر ما جاء به، ولو كان خيرا، ما جاء به تلك الساعة؛ ورسول الثغر «1» فإنه إن أبطأ ساعة أفسد عمل سنة، فأدخله عليّ وإن كنت في لحافي، وصاحب الطعام، فإن الطعام إذا أعيد تسخينه فسد.
ووقف أبو سفيان بباب عثمان بن عفان وقد اشتغل ببعض مصالح المسلمين فحجبه؛ فقال له رجل وأراد أن يغريه: يا أبا سفيان ما كنت أرى أن تقف بباب مضريّ فيحجبك، فقال أبو سفيان: لا عدمت من قومي من أقف ببابه فيحجبني.
أبو الدرداء بباب معاوية
: استأذن أبو الدرداء على معاوية فحجبه؛ فقال: من يغش أبواب الملوك يقم ويقعد، ومن يجد بابا مغلقا يجد إلى جانبه بابا مفتوحا، إن دعا أجيب وإن سأل أعطي.
قال محمود الوراق:
شاد الملوك قصورهم فتحصّنوا ... من كلّ طالب حاجة أو راغب
غالوا بأبواب الحديد لعزّها ... وتنوّقوا في قبح وجه الحاجب «2»(1/67)
فإذا تلطّف للدّخول عليهم ... راج تلقّوه بوعد كاذب
فاطلب إلى ملك الملوك ولا تكن ... بادي الضراعة طالبا من طالب
بين سعيد بن مسلم وأبي هفان في الحجاب
: سعيد بن مسلم، قال: كنت واليا بإرمينية، فغبر «1» أبو هفان أياما ببابي. فلما وصل إليّ مثل قائما بين السماطين وقال: والله إني لأعرف أقواما لو علموا أن سفّ التراب يقيم من أود «2» أصلابهم لجعلوه مسكة لأرماقهم إيثارا للتنزه عن عيش رقيق الحواشي. أما والله إني لبعيد الوثبة، بطيء العطفة. إنه والله لا يثنيني عنك إلا ما يصرفك عني، ولأن أكون مقلا مقرّبا أحبّ إليّ من أن أكون مكثرا مبعدا؛ والله ما نسأل عملا لا نضبطه، ولا مالا إلا ونحن أكثر منه؛ وهذا الأمر الذي قد صار إليك وفي يديك قد كان في يدي غيرك، فأمسوا والله حديثا، إن خيرا فخير إن شرا فشر. فتحبب إلى عباد الله بحسن البشر ولين الجانب وتسهيل الحجاب، فإن حبّ عباد الله موصول بحب الله، وبغضهم موصول ببغضه، لأنهم شهداء الله على خلقه، ورقباؤه على من اعوجّ عن سبيله.
بين أبي مسهر وابن عبد كان
: أبو مسهر قال: أتيت أبا جعفر محمد بن عبد الله بن عبد كان فحجبني، فكتبت إليه:
إنّي أتيتك للتّسليم أمس فلم ... تأذن عليك لي الأستار والحجب
وقد علمت بأني لم أردّ ولا ... والله ما ردّ إلا العلم والأدب
فأجابني ابن عبد كان، فقال:
لو كنت كافأت بالحسنى لقلت كما ... قال ابن أوس وفيما قاله أدب «3»
«ليس الحجاب بمقص عنك لي أملا ... إنّ السماء ترجّي حين تحتجب»(1/68)
ابن منصور ورجل من خاصته حجب عنه
: وقف بباب محمد بن منصور رجل من خاصته فحجب عنه؛ فكتب إليه:
على أي باب أطلب الإذن بعد ما ... حجبت عن الباب الذي أنا حاجبه
وقف أبو العتاهية إلى باب بعض الهاشميين فطلب الإذن، فقيل له: تكون لك عودة، فقال:
لئن عدت بعد اليوم إنّي لظالم ... سأصرف وجهي حيث تبغي المكارم
متى يظفر الغادي إليك بحاجة ... ونصفك محجوب ونصفك نائم؟
ونظير هذا المعنى للعتابي حيث يقول:
قد أتيناك للسّلام مرارا ... غير من منّا بذاك المزار
فإذا أنت في استتارك بالّلي ... ل على مثل حالنا بالنهار
أبو دلف ورجل حجب عنه
: وقف رجل بباب أبي دلف، فقام به حينا لا يصل إليه، فتلطّف في رقعة وأوصلها إليه، وكتب فيها:
إذا كان الكريم له حجاب ... فما فضل الكريم على اللئيم؟
فأجابه:
إذا كان الكريم قليل مال ... ولم يعذر تعلّل بالحجاب
وأبواب الملوك محجّبات ... فلا تستعظمن حجّاب بابي
وقال حبيب الطائي في الحّجاب:
سأترك هذا الباب ما دام إذنه ... على ما أرى، حتى يلين قليلا
فما خاب من لم يأته متعمّدا ... ولا فاز من قد نال منه وصولا
ولا جعلت أرزاقنا بيد أمريء ... حمى بابه من أن ينال دخولا
إذا لم نجد للإذن عندك موضعا ... وجدنا إلى ترك المجيء سبيلا(1/69)
وأنشد أبو بكر العطار:
ما لك قد حلت عن وفائك واستبدلت يا عمرو شيمة كدره
لستم ترجّون للحساب ولا ... يوم تكون السماء منفطره «1»
قد كان وجهي لديك معرفة ... فاليوم أضحى بابا من النكره
وقال غيره:
أتيتك للتسليم؛ لا أنني امرؤ ... أردت بإتيانيك أسباب نائلك
فألفيت بوابا ببابك مغرما ... بهدم الذي وطدته من فضائلك «2»
وقد قال قوم: حاجب المرء عامل ... على عرضه؛ فاحذر خيانة عاملك
وقال الحسن بن هانيء:
أيها الراكب المغذّ إلى الفض ... ل ترفّق فدون فضل حجاب «3»
ونعم هبك قد وصلت إلى الفض ... ل فهل في يديك إلا التراب!
وقال آخر- وهو محمود البغدادي:
حجابك من مهابته عسير ... وخيرك في اليدين غدا يسيرا
خرجت كما دخلت إليك إلّا ... ترابا صار في خفّي كثيرا
وقال العتابي:
حجابك ليس يشبهه حجاب ... وخيرك دون مطلبه السّحاب
ونومك نوم من ورد المنايا ... فليس له إلى الدنيا إياب
وقال غيره:
أنا بالباب واقف منذ أصبح ... ت على السّرج ممسكا بعناني
وبعين البواب كلّ الذي بي ... ويراني كأنه لا يراني(1/70)
وقال غيره:
إذا ما أتيناه في حاجة ... رفعنا الرقاع له بالقصب
له حاجب دونه حاجب ... وحاجب حاجبه محتجب «1»
بين أبي بشير وبعض كتاب العسكر
: قال أبو بشير «2» : حجبني بعض كتاب العسكر، فكتبت إليه: إن من لم يرفعه الإذن لم يضعه الحجاب، وأنا أرفعك عن هذه المنزلة، وأرغب بك عن هذه الخليقة.
وكل من قام في منزلك، عظم قدره أو صغر. وحاول حجاب الخليفة، أمكنه:
فتأمّل هذه الحال وانظر إليها بعين الفهم ترها في أقبح صورة وأدنى منزلة.
لابن عبد ربه:
وقد قلت في ذلك:
إذا كنت تأتي المرء تعظم حقّه ... ويجهل منك الحقّ فالهجر أوسع
وفي النّاس أبدال وفي الهجر راحة ... وفي النّاس عمّن لا يواتيك مقنع
وإنّ امرءا يرضى الهوان لنفسه ... حريّ بجدع الأنف والأنف أشنع «3»
وقال آخر:
يا أبا موسى وأنت فتى ... ماجد حلو ضرائبه «4»
كن على منهاج معرفة ... إنّ وجه المرء حاجبه
فبه تبدو محاسنه ... وبه تبدو معايبه(1/71)
وأنشد حسين الجمل، وبكر إلى باب سليمان بن وهب فحجبه الحاجب وأدخل ابن سعوة وحمدويه:
ولعمري لئن حجبنا عن الشّي ... خ فلا عن وجه هناك وجيه
لا ولا عن طعامه التافه النّز ... ر الذي حوله لطام بنيه «1»
بل حجبنا به عن الخسف والمس- خ وذاك التّبريق والتّمويه
فجزى الله حاجبا لك فظّا ... كل خير عنّا إذا يجزيه
إنّ ذبحي نذالة قد تأتّي ... من صباحي بقبح تلك الوجوه
وقال أحمد بن محمد البغدادي في الحسن بن وهب الكاتب:
ومستنب عن الحسن بن وهب ... وعمّا فيه من كرم وخير «2»
أتاني كي أخبّره بعلمي ... فقلت له سقطت على خبير
هو الرّجل المهذّب غير أنيّ ... أراه كثير إرخاء السّتور
وأكثر ما يغنّيه فتاه ... حسين حين يخلو بالسّرور
«ولولا الريح أسمع أهل حجر ... صليل البيض تقرع بالذّكور» «3»
ومن قولنا في هذا المعنى:
ما بال بابك محروسا ببوّاب ... يحميه من طارق يأتي ومنتاب «4»
لا يحتجب وجهك الممقوت عن أحد ... فالمقت يحجبه من غير حجّاب «5»
فاعزل عن الباب من قد ظلّ يحجبه ... فإنّ وجهك طلّسم على الباب «6»
وقف حبيب الطائي بباب مالك بن طوق فحجب عنه؛ فكتب إليه يقول:
قل لابن طوق رحى سعد إذا خبطت ... نوائب الدّهر أعلاها وأسفلها «7»(1/72)
أصبحت حاتمها جودا، وأحنفها ... حلما، وكيّسها علما، ودغفلها «1»
مالي أرى القبة البيضاء مقفلة ... دوني وقد طال ما استفتحت مقفلها
أظنّها جنّة الفردوس معرضة ... وليس لي عمل زاك فأدخلها
باب الوفاء والغدر
بين مروان وعبد الحميد الكاتب
: قال مروان بن محمد لعبد الحميد الكاتب حين أيقن بزوال ملكه: قد احتجت إلى أن تصير مع عدّوي وتظهر الغدر بي؛ فإن إعجابهم بأدبك وحاجتهم إلى كتابتك تدعوهم إلى حسن الظنّ بك، فإن استطعت أن تنفعني في حياتي، وإلا لم تعجز عن حفظ حرمتي بعد مماتي. فقال عبد الحميد: إن الذي أمرت به أنفع الأشياء لك وأقبحها بي، وما عندي غير الصبر معك حتى يفتح الله عليك أو أقتل معك. وأنشأ يقول:
أسرّ وفاء ثم أظهر غدرة ... فمن لي بعذر يوسع الناس ظاهره
عبد الملك بعد قتله ابن سعيد
: أبو الحسن المدائني قال: لما قتل عبد الملك بن مروان عمرو بن سعيد بعد ما صالحه وكتب له أمانا وأشهد شهودا. قال عبد الملك بن مروان لرجل كان يستشيره ويصدر عن رأيه إذا ضاق به الأمر: ما رأيك في الذي كان مني؟ قال: أمر قد فات دركه «2» ! قال: لتقولنّ! قال حزم لو قتلته وحييت. قال: أو لست بحيّ؟ فقال: ليس بحيّ من أوقف نفسه موقفا لا يوثق له بعهد ولا بعقد. قال عبد الملك: كلام لو سبق سماعه فعلي لأمسكت.(1/73)
أبو جعفر وابن هبيرة
: المدائني قال: لما كتب أبو جعفر أمان ابن هبيرة واختلف فيه الشهود أربعين يوما «1» ركب في رجال معه حتى دخل على المنصور، فقال: إن دولتكم هذه جديدة، فأذيقوا الناس حلاوتها وجنّبوهم مرارتها، لتسرع محبتكم إلى قلوبهم ويعذب ذكركم على ألسنتهم، وما زلت منتظرا لهذه الدعوة. فأمر أبو جعفر برفع الستر بينه وبينه، فنظر إلى وجهه وباسطه بالقول حتى اطمأنّ قلبه. فلما خرج قال أبو جعفر لأصحابه:
عجبا من كل من يأمرني بقتل مثل هذا! ثم قتله بعد ذلك غدرا.
أبو جعفر وسلم في قتل أبي مسلم
: وقال أبو جعفر لسلم بن قتيبة: ما ترى في قتل أبي مسلم؟ قال: لو كان فيهما آلهة إلا الله لفسدتا، قال: حسبك الله أبا أمية.
قال أبو عمرو بن العلاء: كانت بنو سعد بن تميم أغدر العرب، وكانوا يسمون الغدر في الجاهلية كيسان، فقال فيهم الشاعر:
إذا كنت في سعد وخالك منهم ... غريبا، فلا يغررك خالك من سعد
إذا ما دعوا كيسان كانت كهولهم ... إلى الغدر أدنى من شبابهم المرد
الولاية والعزل
قال النبي صلّى الله عليه وسلّم: «ستحرصون على الإمارة ثم تكون حسرة وندامة؛ فنعمت المرضعة وبئست الفاطمة» .
لابن شعبة في حب الولاية وكراهيتها
: وقال المغيرة بن شعبة: أحب الإمارة لثلاث وأهجرها لثلاث: أحبها لرفع(1/74)
الأولياء، ووضع الأعداء واستر خاص الأشياء. وأكرهها لروعة البريد، وموت العزل «1» ، وشماتة العدوّ.
بين ابن شبرمة وأبيه في موكب طارق
: وقال ولد ابن شبرمة القاضي: كنت جالسا مع أبي قبل أن يلي القضاء. فمرّ به طارق بن أبي زياد في موكب نبيل، وهو والي البصرة، فلما رآه أبي تنفس الصعداء وقال:
أراها وإن كانت تحبّ كأنها ... سحائب صيف عن قريب تقشّع «2»
ثم قال: اللهم لي ديني ولهم دنياهم: فلما ابتلى بالقضاء قلت له: يا أبت، أتذكر يوم طارق؟ قال: يا بنيّ، إنهم يجدون خلفا من أبيك، وإن أباك لا يجد خلفا منهم: إن أباك حط في أهوائهم، وأكل من حلوائهم!
لابن الحسن في رجل غيرته الولاية
: قيل لعبد الله بن الحسن: إنّ فلانا غيّرته الولاية. قال: من ولي ولاية يراها أكبر منه تغيّر لها، ومن ولي ولاية يرى نفسه أكبر منها لم يتغيّر لها.
بين عمر والمغيرة حين عزله
: ولما عزل عمر بن الخطاب المغيرة بن شعبة عن كتابة أبي موسى، قال له: أعن عجز أم خيانة يا أمير المؤمنين؟ قال: لا عن واحدة منهما، ولكني أكره أن أحمل فضل عقلك على العامة.
دعوة ابن عمر على زياد
: وكتب زياد إلى معاوية: قد أخذت العراق بيميني وبقيت شمالي فارغة- يعرّض له(1/75)
بالحجاز- فبلغ ذلك عبد الله بن عمر، فرفع يده إلى السماء وقال: اللهم اكفنا شمال زياد: فخرجت في شماله قرحة فقتلته.
بين ابن الخطاب وأبي هريرة
: ولقي عمر بن الخطاب أبا هريرة، فقال له: ألا تعمل؟ قال: لا أريد العمل.
قال: قد طلب العمل من هو خير منك يوسف عليه الصلاة والسلام، قال: اجْعَلْنِي عَلى خَزائِنِ الْأَرْضِ إِنِّي حَفِيظٌ عَلِيمٌ
«1» .
خالد القسري وتوليته بلالا
: المدائني قال: كان بلال بن أبي بردة ملازما لباب خالد بن عبد الله القسريّ، فكان لا يركب خالد إلا رآه في موكبه، فبرم به «2» ، فقال الرجل من الشرط: إيت ذلك الرجل صاحب العمامة السوداء فقل له: يقول لك الأمير: مالزومك بابي وموكبي؟ لا أوّليك ولاية أبدا. فأتاه الرسول فأبلغه. فقال له بلال: هل أنت مبلغ عني الأمير كما بلغتني عنه؟ قال: نعم. قال: قل له: والله لئن وليتني لا عزلتني.
فأبلغه ذلك. فقال خالد: ماله قاتله الله! إنه ليعد من نفسه بكفاية. فدعاه فولّاه.
بين عمر وطالب عمل
: وأراد عمر بن الخطاب أن يستعمل رجلا، فبادر الرجل فطلب منه العمل، فقال له عمر: والله لقد كنت أردتك لذلك، ولكن من طلب هذا الأمر لم يعن عليه.
بين النبي صلّى الله عليه وسلّم والعباس
: وطلب العباس عم النبي صلّى الله عليه وسلّم من النبي ولاية، فقال له: «يا عم، نفس تحييها، خير من ولاية لا تحصيها» .(1/76)
بين النبي صلّى الله عليه وسلّم ورجل طلب عملا
: وطلب رجل من أصحاب النبي صلّى الله عليه وسلّم عملا، فقال له: «إنا لا نستعين على عملنا بمن يريده» .
وتقول النصارى: لا نختار للجثلقة إلا زاهدا فيها غير طالب لها.
لزياد في أغبط الناس عيشا
: وقال زياد لأصحابه: من أغبط الناس عيشا؟ قالوا: الأمير وأصحابه! قال: كلا، إنّ لأعواد المنبر لهيبة، ولقرع لجام البريد لفزعة؛ ولكن أغبط الناس عيشا رجل له دار يجري عليه كراؤها «1» ، وزوجة قد وافقته في كفاف من عيشه، لا يعرفنا ولا نعرفه؛ فإن عرفنا وعرفناه أفسدنا عليه آخرته ودنياه.
بين معاوية والمغيرة حين كبر
: وكتب المغيرة بن شعبة إلى معاوية حين كبر وخاف أن يستبدل به:
أما بعد، فقد كبرت سنّي، ورقّ عظمي، واقترب أجلي، وسفّهني سفهاء قريش، فرأي أمير المؤمنين في عمله موفّق.
فكتب إليه معاوية: أمّا ما ذكرت من كبر سنّك، فأنت أكلت شبابك؛ وأما ما ذكرت من اقتراب أجلك، فإني لو أستطيع دفع المنية لدفعتها عن آل أبي سفيان؛ وأما ما ذكرت من سفهاء قريش، فحلماؤها أحلّوك ذلك المحل؛ وأما ما ذكرت من العمل، ف «ضحّ رويدا يدرك الهيجا حمل» «2» وهذا مثل، وقع وقع تفسيره في كتاب الأمثال.
فلما انتهى الكتاب إلى المغيرة كتب إليه يستأذنه في القدوم عليه، فأذن له فخرج(1/77)
وخرجنا معه، فلما دخل عليه قال له: يا مغيرة، كبرت سنك ورقّ عظمك ولم يبق منك شيء، ولا أراني إلا مستبدلا بك. قال المحدّث عنه: فانصرف إلينا ونحن نرى الكآبة في وجهه، فأخبرنا بما كان من أمره. قلنا له: فما تريد أن تصنع؟ قال:
ستعلمون ذلك. فأتى معاوية فقال له: يا أمير المؤمنين، إنّ الأنفس ليغدى عليها ويراح، ولست في زمن أبي بكر ولا عمر، فلو نصبت لنا علما من بعدك نصير إليه! فإني قد كنت دعوت أهل العراق إلى بيعة يزيد. فقال: يا أبا محمد، انصرف إلى عملك ورم هذا الأمر لابن أخيك. فأقبلنا نرّكض على النّجب «1» ، فالتفت فقال:
والله لقد وضعت رجله في ركاب طويل ألقى عليه أمة محمد صلّى الله عليه وسلّم.
باب من أحكام القضاة
قال عمر بن عبد العزيز: إذا كان في القاضي خمس خصال فقد كمل: علم بما كان قبله، ونزاهة عن الطمع، وحلم عن الخصم، واقتداء بالأئمة، ومشاورة أهل العلم والرأي.
وقال عمر بن عبد العزيز: إذا أتاك الخصم وقد فقئت عينه، فلا تحكم له حتى يأتي خصمه؛ فلعله قد فقئت عيناه جميعا.
كتاب عمر بن الخطاب إلى معاوية في القضاء
: وكتب عمر بن الخطاب إلى معاوية في القضاء كتابا يقول فيه: إذا تقدّم إليك الخصمان فعليك بالبيّنة العادلة أو اليمين القاطعة، وإدناء الضعيف حتى يشتدّ قلبه وينبسط لسانه؛ وتعاهد الغريب! فإنك إن لم تتعاهده سقط حقّه ورجع إلى أهله؛ وإنما ضيّع حقّه، من لم يرفق به: وآس بين الناس في لحظك وطرفك، وعليك بالصلح بين الناس ما لم يتبين لك فصل القضاء.(1/78)
العتبي قال: تنازع إبراهيم بن المهديّ هو وبختيشوع الطبيب بين يدي أحمد بن أبي دواد القاضي في مجلس الحكم في عقار بناحية السّواد؛ فزرى عليه ابن المهدي وأغلظ له بين يدي أحمد بن أبي دواد، فأحفظه ذلك «1» ، فقال: يا إبراهيم، إذا نازعت أحدا في مجلس الحكم فلا أعلمن أنك رفعت عليه صوتا، ولا أشرت إليه بيد، وليكن قصدك أمما، وطريقك نهجا، وريحك ساكنة؛ ووفّ مجالس الحكومة حقوقها مع التوقير والتعظيم والتوجيه إلى الواجب؛ فإن ذلك اشبه بك، وأشكل لمذهبك في محتدك «2» وعظم خطرك؛ ولا تعجل؛ فربّ عجلة تهب ريثا. والله يعصمك من الزلل، وخطل القول والعمل «3» ، ويتم نعمته عليك كما أتمها على أبويك من قبل، إن ربك حكيم عليم. قال إبراهيم: أصلحك الله، أمرت بسداد، وحضضت على رشاد. ولست بعائد إلى ما يثلم مروءتي عندك «4» ، ويسقطني من عينك، ويخرجني عن مقادر الواجب إلى الاعتذار؛ فها أنذار معتذر إليك من هذه البادرة اعتذار مقرّ بذنبه، باخع «5» بجرمه وتلك عادة عندنا منك، وحسبنا الله ونعم الوكيل. وقد وهبت حقي من هذا العقار لبختيشوع! فليت ذلك يقوم بأرش «6» الجناية؛ ولن يتلف مال أفاد موعظة، وبالله التوفيق.
كتاب عمر بن الخطاب إلى أبي موسى الأشعري في القضاء
: وكتب عمر بن الخطاب إلى أبي موسى الأشعري، رواها ابن عيينة: أما بعد فإنّ القضاء فريضة محكمة، وسنة متّبعة؛ فافهم إذا أدلى إليك الخصم؛ فإنه لا ينفع تكلم بحق لا نفاذ له، آس بين الناس في مجلسك ووجهك؛ حتى لا يطمع شريف في حيفك «7» ولا يخاف ضعيف من جورك. البينة على من ادّعى واليمين على من أنكر(1/79)
والصلح جائز بين المسلمين إلا صلحا أحلّ حراما أو حرّم حلالا. ولا يمنعك قضاء قضيت به بالأمس ثم راجعت فيه نفسك وهديت فيه لرشدك أن ترجع عنه؛ فإن الحق قديم والرجوع إليه خير من التمادي على الباطل. الفهم الفهم فيما يتلجلج في صدرك مما لم يبلغك به كتاب الله ولا سنة نبيه صلّى الله عليه وسلّم. واعرف الأمثال والأشباه، وقس الأمور عند ذلك ثم اعمد إلى أحبّها عند الله ورسوله وأشبهها بالحق؛ واجعل للمدعي أمدا ينتهي إليه، فإن أحضر بيّنته أخذت له بحقه وإلا وجّهت عليه القضاء؛ فإن ذلك أجلى للعمى وأبلغ في العذر. والمسلمون عدول «1» بعضهم على بعض، إلا مجلودا في حدّ، أو مجرّبا عليه شهادة زور، أو ظنينا في ولاء أو قرابة أو نسب؛ فإنّ الله تولّى منكم السرائر، ودرأ «2» عنكم بالبينات والأيمان؛ ثم إياك والتأذّي بالناس والتنكر للخصوم في مواطن الحقوق التي يوجب الله بها الأجر ويحسن بها الذخر، فإنه من تخلص نبته فيما بينه وبين الله ولو على نفسه يكفيه الله ما بينه وبين الناس، ومن تزيّن للناس بما يعلم الله خلافه منه هتك الله ستره.
وله أيضا يوصيه
: وكتب عمر بن الخطاب رضي الله عنه إلى أبي موسى الأشعري: أما بعد؛ فإنّ للناس نفرة عن سلطانهم؛ فاحذر أن تدركني وإيّاك عمياء مجهولة، وضغائن محمولة، وأهواء متّبعة، ودنيا مؤثرة. أقم الحدود واجلس للمظالم ولو ساعة من النهار وأخف الفسّاق واجعلهم يدا يدا ورجلا رجلا، وإذا كانت بين القبائل نائرة «3» فنادوا يا لفلان! فإنما تلك نجوى من الشيطان، فاضربهم بالسيف حتى يفيئوا «4» إلى أمر الله وتكون دعواتهم إلى الله والإسلام واستدم النعمة بالشكر، والطاعة بالتألّف، والمقدرة بالعفو والنّصرة بالتواضع والمحبة للناس. وبلغني أن ضبّة تنادى: يا لضبّة.
والله ما علمت أن ضبة ساق الله بها خيرا قط ولا صرف بها شرّا. فإذا جاءك كتابي(1/80)
هذا فأنهكهم عقوبة حتى يفرقوا إن لم يفقهوا، وألصق بغيلان بن خرشة من بينهم:
وعد مرضى المسلمين، واشهد جنائزهم، وباشر أمورهم، وافتح بابك لهم؛ فإنما أنت رجل منهم غير أن الله جعلك أثقلهم حملا وقد بلغ أمير المؤمنين أنه فشت لك ولأهل بيتك هيئة في لباسك ومطعمك ومركبك ليس للمسلمين مثلها؛ فإيّاك يا عبد الله أن تكون كالبهيمة: همّها في السّمن والسّمن حتفها. واعلم أن العامل إذا زاغ زاغت رعيته، وأشقى الناس من يشقى به الناس. والسلام.
ابن الخطاب وابن العاص والغزو في البحر
: أراد عمر بن الخطاب أن يغزو قوما في البحر، فكتب إليه عمرو بن العاص وهو عامله على مصر: يا أمير المؤمنين، إنّ البحر خلق عظيم، يركبه خلق صغير، دود على عود. فقال عمر: لا يسألني الله عن أحد أحمله فيه.
للشعبي قال: كنت جالسا عند شريح إذ دخلت عليه امرأة تشتكي زوجها وهو غائب وتبكي بكاء شديدا، فقلت: أصلحك الله، ما أراها إلا مظلومة. قال: وما علمك؟ قلت: لبكائها. قال: لا تفعل؛ فإن إخوة يوسف جاءوا أباهم عشاء يبكون، وهم له ظالمون.
الحسن ورجل رد إياس شهادته
: وكان الحسن بن أبي الحسن، لا يرى أن يرد شهادة رجل مسلم إلا أن يجرّحه المشهود عليه؛ فأقبل إليه رجل فقال: يا أبا سعيد، إنّ إياسا ردّ شهادتي. فقام معه الحسن إليه فقال: يا أبا وائلة، لم رددت شهادة هذا المسلم وقد قال رسول الله صلّى الله عليه وسلّم:
من صلى صلاتنا واستقبل قبلتنا فهو المسلم: له مالنا وعليه ما علينا؟ فقال: يا أبا سعيد، إن الله يقول: مِمَّنْ تَرْضَوْنَ مِنَ الشُّهَداءِ
«1» وهذا لا يرضى.(1/81)
من عدل شريح القاضي
: ودخل الأشعث بن قيس على شريح القاضي في مجلس الحكومة، فقال: مرحبا وأهلا بشيخنا وسيدنا، وأجلسه معه. فبينما هو جالس عنده إذ دخل رجل يتظلم من الأشعث. فقال له شريح: قم فاجلس مجلس الخصم وكلّم صاحبك. قال بل أكلّمه من مجلسي. فقال له: لتقومنّ أو لآمرنّ من يقيمك. فقال له الأشعث: لشدّ ما ارتفعت؟ قال: فهل رأيت ذلك ضرّك؟ قال: لا. قال: فأراك تعرف نعمة الله على غيرك وتجهلها على نفسك.
إياس ورده لشهادة ابن أبي سود
وأقبل وكيع بن أبي سود صاحب خراسان ليشهد عند إياس بشهادة، فقال:
مرحبا وأهلا بأبي مطرّف وأجلسه معه، ثم قال له ما جاء بك؟ قال لأشهد لفلان.
فقال: مالك وللشهادة! إنما يشهد الموالي والتجار والسّوقة. قال صدقت، وانصرف من عنده فقيل له: خدعك، إنه لا يقبل شهادتك. قال: لو علمت ذلك لعلوته بالقضيب.
عدي بن أرطاة وشريح
: دخل عديّ بن أرطأة على شريح فقال: أين أنت أصلحك الله؟ قال: بينك وبين الجدار. قال: إني رجل من أهل الشام. قال: نائي المحلّ سحيق الدار. قال: قد تزوجت عندكم. قال: بالرفاء والبنين. قال: وولد لي غلام. قال: ليهنك الفارس.
قال: وأوردت أن أرحّلها. قال: الرجل أحقّ بأهله. قال: وشرطت لها دارها، قال:
الشرط أملك. قال: فاحكم الآن بيننا. قال: قد فعلت. قال: على من قضيت؟ قال:
على ابن أمك. قال: بشهادة من؟ قال: بشهادة ابن أخت خالتك؛ يريد إقراره على نفسه.(1/82)
شريح ورجل يخاصم في سنور
: سفيان الثوري قال: جاء رجل يخاصم إلى شريح في سنّور، قال: بيّنتك. قال:
ما أجد بينة في سنور ولدت عندنا. قال شريح: فاذهبوا بها إلى أمها فأرسلوها، فإن استقرت واستمرت ودرّت فهي سنورك، وإن هي اقشعرت وازبأرّت «1» فليست بسنورك.
سفيان الثوري قال: جاء رجل إلى شريح فقال: ما تقول في شاة تأكل الدّبى «2» ؟
فقال: لبن طيّب وعلّف مجّان.
لشريح وقد سئل حكما
: وقيل لشريح: أيهما أطيب الجوز ينق أو اللّازينق؟ قال: لست أحكم على غائب.
الشعبي في الفصل بين رجل وامرأته
: ودخل رجل على الشّعبي في مجلس القضاء ومعه امرأة، وهي من أجمل النساء فاختصما إليه؛ فأدلت المرأة بحجتها وقرّبت بينّتها. فقال للزوج: هل عندك من مدفع؟ فأنشأ يقول:
فتن الشّعبيّ لمّا ... رفع الطّرف إليها
فتنته بدلال ... وبخطّي حاجبيها
قال للجلواز قرّبها ... وأحضر شاهديها «3»
فقضى جورا على الخصم ... ولم يقض عليها
قال الشعبي: فدخلت على عبد الملك بن مروان، فلما نظر إليّ تبسم وقال:
فتن الشّعبيّ لما ... رفع الطّرف إليها(1/83)
ثم قال: ما فعلت بقائل هذه الأبيات؟ قلت: أوجعته ضربا يا أمير المؤمنين؛ بما انتهك من حرمتي في مجلس الحكومة وبما افتري به عليّ! قال: أحسنت.
تم الجزء الثاني من كتاب اللؤلؤة في السلطان. ولله المنة يتلوه إن شاء الله تعالى «كتاب الفريدة في الحروب» وهو الجزء الثالث من قسمة خمسة وعشرين من قسمة للمؤلف والحمد لله أولا وآخرا. وصلواته على سيدنا محمد وآله وصحبه وسلم.(1/84)
كتاب الفريدة في الحروب ومدار أمرها
فرش كتاب الحروب
قال أبو عمر أحمد بن محمد بن عبد ربه
: قد مضى قولنا في السلطان وتعظيمه وما على الرعية من لزوم طاعته وإدامة نصحيته، وما على السلطان من العدل في رعيته والرفق بأهل مملكته. ونحن قائلون بعون الله وتوفيقه في الحروب ومدار أمرها، وقود الجيوش وتدبيرها، وما على المدبّر لها من أعمال الخدمة، وانتهاز الفرصة، والتماس الغرّة، وإذكاء العيون، وإفشاء الطلائع، واجتناب المضايق، والتحفظ في البيات. هذا بعد معرفة أحكامها، وإحكام معرفته، وطول تجربته لها، ولمقاساة الحروب ومعاناة الجيوش، وعلمه أن لا درع كالصبر، ولا حصن كاليقين. ثم نذكر كرم الإقدام ومحمود عاقبته، ولؤم الفرار ومذموم مغبّته، والله المعين.
صفة الحروب
الحرب: رحى، ثفالها «1» الصبر؛ وقطبها المكر، ومدارها الاجتهاد، وثقافها الأناة «2» ، وزمامها الحذر. ولكل شيء من هذه ثمرة: فثمرة المكر الظفر، وثمرة الصبر التأييد، وثمرة الاجتهاد التوفيق، وثمرة الأناة اليمن، وثمرة الحذر السلامة؛ ولكل(1/85)
مقام مقال، ولكل زمان رجال والحرب بين الناس سجال «1» ، والرأي فيها أبلغ من القتال.
قال عمر بن الخطاب لعمرو بن معد يكرب: صف لنا الحرب. قال: مرّة المّذاق، إذا كشفت عن ساق؛ من صبر فيها عرف، ومن نكل عنها تلف، ثم أنشأ يقول:
الحرب أوّل ما تكون فتيّة ... تسهى بزينتها لكلّ جهول
حتى إذا حميت وشبّ ضرامها ... عادت عجوزا غير ذات خليل «2»
شمطاء جزّت رأسها وتنكّرت ... مكروهة للشّمّ والتقبيل «3»
وقيل لعنترة الفوارس: صف لنا الحرب. فقال: أوّلها شكوى، وأوسطها نجوى، وآخرها بلوى.
وقال الكميت:
والناس في الحرب شتّى وهي مقبلة ... ويستوون إذا ما أدبر القبل
كلّ بأمسيّها طبّ مولّية ... والعالمون بذي غدويّها قلل «4»
وقال نصر بن سيار صاحب خراسان يصف الحرب ومبتدأ أمرها:
أرى خلل الرّماد وميض نار ... ويوشك أن يكون له ضرام
فإنّ النّار بالعودين تذكى ... وإنّ الحرب أولها الكلام
من حكمة لسليمان
: وفي حكمة سليمان بن داود عليهما السلام: الشر حلو أوله، مرّ آخره.
للعرب
: والعرب تقول: الحرب غشوم؛ لأنها تنال غير الجاني.(1/86)
وقال حبيب «1» :
والحرب تركب رأسها في مشهد ... عدل السّفيه به بألف حليم
في ساعة لو أنّ لقمانا بها ... وهو الحيكم لكان غير حكيم
وقال أكثم بن صيفيّ حكيم العرب: لا حلم لمن لا سفيه له.
ونحو هذا هول الأحنف بن قيس: ما قلّ سفهاء قوم قطّ إلا ذلّوا.
وقال: لأن يطيعني سفهاء قومي أحبّ إليّ من أن يطيعني حلماؤهم.
وقال: أكرموا سفهاءكم فإنهم يكفونكم النار والعار.
للنابغة الجعدي ودعوة النبي صلّى الله عليه وسلّم
: وقال النابغة الجعدي:
ولا خير في حلم إذا لم تكن له ... بوادر تحمي صفوه أن يكدّرا
وأنشد هذا الشعر للنبي صلّى الله عليه وسلّم، فلما انتهى إلى هذا البيت. قال له النبي صلّى الله عليه وسلّم: لا يفضض الله فاك. فعاش ثلاثين ومائة سنة لم تسقط له ثنيّة.
وقال النابغة الذّبياني يصف الحرب:
تبدو كواكبه والشمس طالعة ... لا النّور نور ولا الإظلام إظلام
يريد بقوله: «تبدو كواكبه والشمس طالعة، شدة الهول والكرب، كما تقول العامة: أريته النجوم وسط النهار. قال الفرزدق:
أريك نجوم الليل والشمس حيّة
وقال طرفة بن العبد:
وتريك النّجم يجري بالظّهر(1/87)
وإليه ذهب جرير في قوله:
والشمس طالعة ليست بكاسفة ... تبكي عليك نجوم الليل والقمرا
يقول: إن الشمس طالعة وليست بكاسفة نجوم الليل، لشدة الغم والكرب الذي فيه الناس.
لابن عبد ربه
: ومن قولنا في صفة الحرب:
ومغبرّ السماء إذا تجلّى ... يغادر أرضه كالأرجوان
كأنّ نهاره ظلماء ليل ... كواكبه من السّمر اللّدان «1»
سموت له سموّ النّقع فيه ... بكلّ مدلّق سلب السّنان «2»
وكل مشطّب المتنين صاف ... كلون الملح منصلت يمان «3»
وفي صفة المعترك:
ومعترك تهزّ به المنايا ... ذكور الهند في أيدي ذكور «4»
لوامع يبصر الأعمى سناها ... ويعمى دونها طرف البصير
وخافقة الذّوائب قد أنافت ... على حمراء ذات شبا طرير «5»
يحوّم حولها عقبان موت ... تخطّفت القلوب من الصّدّور
بيوم راح في سربال ليل ... فما عرف الأصيل من البكور
وعين الشمس ترنو في قتام ... رنوّ البكر من بين السّتور «6»
فكم قصّرت من عمر طويل ... به، وأطلت من عمر قصير(1/88)
العمل في الحروب
قيل لأكثم بن صيفيّ: صف لنا العمل في الحرب. قال أقلّوا الخلاف على أمراتكم، فلا جماعة لمن اختلف عليه. واعلموا أن كثرة الصياح من الفشل؛ فتثبّتوا؛ فإن أحزم الفريقين الرّكين. وربّ عجلة تعقب ريثا. وادّرعوا الّليل فإنه أخفى للويل، وتحفّظوا من البيات.
وقال شبيب الحروريّ: الليل يكفيك الجبان ونصف الشجاع. وكان إذا أمسى يقول لأصحابه: أتاكم المدد.
وقالت عائشة رضي الله تعالى عنها يوم الجمل، وسمعت منازعة أصحابها وكثرة صياحهم: المنازعة في الحرب خور «1» ، والصياح فيها فشل، وما برأيي خرجت مع هؤلاء.
وقال عتبة بن ربيعة لأصحابه يوم بدر لما رأى عسكر رسول الله صلّى الله عليه وسلّم: أما ترونهم خرسا لا يتكلّمون، يتلمّظون تلمّظ الحيات «2» .
لابن أبي طالب في العواقب
: وقال علي بن أبي طالب رضي الله عنه: من أكثر النظر في العواقب لم يشجع.
وقال النعمان بن مقرّن لأصحابه عند لقاء العدوّ: إني هازّ لكم الراية، فليصلح كلّ رجل منكم من شأنه وليشدّ على نفسه وفرسه؛ ثم إني هازّها لكم الثانية. فلينظر كل رجل منكم موقع سهمه وموضع عدوّه ومكان فرصته؛ ثم إني هازّها لكم الثالثة وحامل، فاحملوا على اسم الله.(1/89)
لعمر بن الخطاب في ابن مقرن
: وللنعمان بن مقرّن هذا؛ يقول عمر بن الخطاب رضي الله عنه إذ تكاملت [الخيل] وتطلع الصحابة إلى التقدم عليها: لأقلّدنّ أعنّتها رجلا يكون غدا لأول أسنّة يلقاها، فقلدها النعمان بن مقرن.
لعلي في الفرصه
: وقال علي رضي الله عنه: انتهزوا الفرصة فإنها تمرّ مرّ السحاب، ولا تطلبوا أثرا بعد عين.
وقال بعض الحكماء: انتهز الفرصة فإنها خلسة: وثب عند رأس الأمر ولا تثب عند ذنبه؛ وإياك والعجز فإنه أذلّ مركب، والشفيع المهين فإنه أضعف وسيلة.
لابن مسلم في ابن أبي سود
وخرجت خارجة بخراسان على قتيبة بن مسلم فأهمه ذلك، فقيل له: ما يهمّك منهم؟ وجّه إليهم وكيع بن أبي سود فإنه يكفيهم. فقال: لا، إن وكيعا رجل به كبر يحتقر أعداءه، ومن كان هكذا قلت مبالاته بأعدائه فلم يحترس منهم. فيجد عدوّه غرّة منه «1» .
لبعض الملوك في الحزم
: وسئل بعض الملوك عن وثائق الحزم في القتال فقال: مخاتلة العدو «2» عدن الريف وإعدادا العيون «3» على الرّصد، وإعطاء المبلّغين على الصدق، ومعاقبة المتوصّلين بالكذب، وألّا تخرج هاربا إلى قتال؛ ولا تضيّق أمانا على مستأمن، ولا تشدهنّك «4» الغنيمة عن المحاذرة.(1/90)
للعجم في أشد الأمور تدريبا
: وفي بعض كتب العجم: إن حكيما سئل عن أشد الأمور تدريبا للجنود وشحذا لها. فقال: تعوّد القتال، وكثرة الظّفر، وأن يكون لها موادّ من ورائها.
بين معاوية وعمرو بن العاص
: وقال عمرو بن العاص لمعاوية: والله ما أدري يا أمير المؤمنين أشجاع أنت أم جبان؟ فقال معاوية:
شجاع إذا ما أمكنتني فرصة ... وإن لم تكن لي فرصة فجبان
وقال الأحنف بن قيس: إن رأيت الشر يتركك إن تركته، فاتركه.
قال هدبة العذري:
ولا أتّمنى الشرّ والشرّ تاركي ... ولكن متى أحمل على الشرّ أركب «1»
ولست بمفراح إذا الدهر سرّني ... ولا جازع من صرفه المتقلّب
الصبر والإقدام في الحرب
جمع الله تبارك وتعالى تدبير الحرب في آيتين من كتابه فقال تعالى: يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِذا لَقِيتُمْ فِئَةً فَاثْبُتُوا وَاذْكُرُوا اللَّهَ كَثِيراً لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ وَأَطِيعُوا اللَّهَ وَرَسُولَهُ وَلا تَنازَعُوا فَتَفْشَلُوا وَتَذْهَبَ رِيحُكُمْ وَاصْبِرُوا إِنَّ اللَّهَ مَعَ الصَّابِرِينَ
«2» .
للعرب في الشجاعة
: وتقول العرب: الشجاعة وقاية والجبن مقتلة. واعتبر من ذلك أن من يقتل مدبرا أكثر ممن يقتل مقبلا.(1/91)
لأبي بكر يوصي خالدا
: ولذلك قال أبو بكر رضي الله تعالى عنه لخالد بن الوليد: احرص على الموت توهب لك الحياة.
للعرب
: والعرب تقول: الشجاع موقّى والجبان ملقّى.
وقال أعرابي: الله مخلف ما أتلف الناس. والدهر متلف ما جمعوا، وكم من منية علّتها طلب الحياة، وحياة سببها التعرّض للموت.
لخالد في الصبر
: وكان خالد بن الوليد يسير في صفوف يذمّر «1» الناس ويقول: يا أهل الإسلام:
إن الصبر عز، وإن الفشل عجز، وإن مع الصبر النصر.
وكتب أنو شروان إلى مرازبته: عليكم بأهل السخاء والشجاعة؛ فإنهم أهل حسن الظنّ بالله.
وقالت الحكماء: استقبال الموت خير من استدباره.
وقال حسان بن ثابت:
ولسنا على الأعقاب تدمى كلومنا ... ولكن على أعقابنا تقطر الدّما «2»
وقال العلوي في هذا المعنى:
محرّمة أكفال خيلي على القنا ... ودامية لبّاتها ونحورها
حرام على أرماحنا طعن مدبر ... وتندقّ منها في الصدور صدورها «3»(1/92)
وكانوا يتمادحون بالموت قعصا «1» ويتهاجمون بالموت على الفراش، ويقولون فيه:
مات فلان حتف أنفه. وأول من قال ذلك النبيّ عليه الصلاة والسلام.
عبد الله بن الزبير في مقتل أخيه مصعب
: وخطب عبد الله بن الزّبير الناس لما بلغه قتل مصعب أخيه، فقال: إن يقتل فقد قتل أبوه وأخوه وعمه، إنا والله لا نموت حتفا ولكن قعصا بأطراف الرماح وموتا تحت ظلال السيوف؛ وإن يقتل مصعب فإن في آل الزبير خلفا منه. وقال السموأل بن عادياء:
وما مات منّا سيّد حتف أنفه ... ولا طلّ منّا حيث كان قتيل «2»
تسيل على حدّ الظّبات نفوسنا ... وليس على غير السّيوف تسيل «3»
وقال آخر:
وإنا لتستحلي المنايا نفوسنا ... ونترك أخرى مرّها فنذوقها
وقال الشّنفري:
فلا تدفنوني، إنّ دفني محرّم ... عليكم ولكن خامري أمّ عامر
إذا حملت رأسي وفي الرأس أكثري ... وغودر عند الملتقى ثمّ سائري
هنا لك لا أبغي حياة تسرّني ... سجيس الّليالي مبسلا بالجزائر «4»
قوله «خامري أم عامر» : هي الضبع. يعني: إذا قتلتموني فلا تدفنوني ولكن ألقوني إلى التي يقال لها: خامري أمّ عامر، وهي الضبع. وهذا اللفظ بعيد من المعنى.(1/93)
لعلي بن أبي طالب
: وقال أمير المؤمنين علي بن أبي طالب عليه السلام- وقيل له: أتقتل أهل الشام بالغداة وتظهر بالعشيّ في ازار ورداء؟ فقال: أبالموت تخوّفوني؟ فو الله ما أبالي أسقطت على الموت أم سقط عليّ.
وقال لابنه الحسن عليهما السلام: لا تدعونّ أحدا إلى المبارزة، وإن دعيت إليها فأجب، فإن الداعي إليها باغ والباغي مصروع.
وقال عليّ بن أبي طالب رضي الله تعالى عنه: بقية السيف أنمى عددا، وأطيب ولدا. يريد أن السيف إذا أسرع في أهل بيت كثر عددهم ونما ولدهم.
ومما يستدل به على صدق قوله: ما عمل السيف في آل الزبير وآل أبي طالب وما أكثر من عددهم.
وقال أبو دلف العجليّ:
سيفي بليلي قبسي ... وفي نهاري أنسي «1»
إنّي فتى عوّدني ... مهري ركوب الغلس
يحمدني سيفني كما ... يحمد كرّي فرسي
وقال محمد بن عبد الله بن طاهر صاحب خراسان:
لست لريحان ولا راح ... ولا على الجار بنفّاح «2»
فإن أردت الآن لي موقفا ... فبين أسياف وأرماح
ترى فتى تحت ظلال القنا ... يقبض أرواحا بأرواح
وقال أشهب بن رميلة:
أسود شرى لاقت أسود خفيّة ... تلاقوا على جرد بماء الأساود «3»(1/94)
للمهلب في أعجب ما رأى في حرب الأزارقة
: وقيل للمهلب بن أبي صفرة: ما أعجب ما رأيت في حرب الأزارقة؟ قال: فتى كان يخرج إلينا منهم في كل غداة فيقف فيقول:
وسائلة بالغيب عنّي ولو درت ... مقارعتي الأبطال طال نحيبها
إذا ما التقينا كنت أوّل فارس ... يجود بنفس أثقلتها ذنوبها
ثم يحمل فلا يقوم له شيء إلا أقعده، فإذا كان من الغد عاد لمثل ذلك.
بين هشام وأخيه مسلمة في الذعر
: وقال هشام بن عبد الملك لأخيه مسلمة: يا أبا سعد، هل دخلك ذعر قط لحرب أو عدوّ؟ قال: ما سلمت في ذلك من ذعر ينبّه على حيلة، ولم يغشني ذعر قطّ سلبني رأيي. قال هشام: صدقت هذه والله البسالة.
وقيل لعنترة: كم كنتم يوم الفروق «1» ؟ قال: كنّا مائة لم نكثر فنتكل، ولم نقلّ فنذلّ.
ما كان يتمثل به ابن المهلب
: وكان يزيد بن المهلّب يتمثل كثيرا في الحرب بقول حصين بن الحمام:
تأخّرت أستقي الحياة فلم أجد ... لنفسي حياة مثل أن أتقدّما
وقالت الخنساء:
نهين النّفّوس وبذل النفو ... س يوم الكريهة أبقى لها
وقيل لعبّاد بن الحصين، وكان من أشدّ أهل البصر: في أيّ عدّة كنت تريد أن تلقى عدوّك؟ قال: في أجل مستأخر.
وكان مما يتمثل به معاوية رضي الله تعالى عنه يوم صفّين:(1/95)
أبت لي شيمتي وأبى بلائي ... وأخذي الحمد بالثّمن الرّبيح
وإقدامي على المكروه نفسي ... وضربي هامة البطل المشيح
وقولي كلّما جشأت وجاشت ... مكانك تحمدي أوّ تستريحي «1»
لأدفع عن مآثر صالحات ... وأحمي بعد عن عرض صحيح
ونظير هذا قول قطريّ بن الفجاءة:
[اقول لها وقد طارت شعاعا] «2» ... من الأبطال ويحك لا تراعي
فإنّك لو سألت حياة يوم ... سوى الأجل الذي لك لم تطاعي
لابن أبي طالب في صفين
: وكان علي بن أبي طالب رضي الله عنه يخرج كل يوم بصفّين حتى يقف بين الصفّين ويقول:
أيّ يومي من الموت أفرّ ... يوم لا يقدر أو يوم قدر
يوم لا يقدر لا أرهبه ... ومن المقدور لا ينجى الحذر
ومثله قول جرير:
قل للجبان إذا تأخّر سرجه ... هل أنت من شرك المنيّة ناج «3»
وهذا البيت في شعره الذي أوله:
هاج الفراق لقلبك المهتاج
ومدح فيه الحجاج، فلما أنشده:
قل للجبان إذا تأخّر سرجه(1/96)
قال له: جرّأت عليّ الناس يا بن اللّخناء! قال: والله ما ألقيت لها بالا أيها الأمير إلا وقتي هذا.
عاصم بن الحدثان والفرزدق
: وكان عاصم بن الحدثان عالما ذكيّا، وكان رأس الخوارج بالبصرة، وربما جاء الرسول منهم من الجزيرة يسأله عن الأمر يختصمون فيه، فمرّ به الفرزدق، فقال لابنه: أنشد أبا فراس، فأنشده:
وهم إذا كسروا الجفون أكارم ... صبر وحين تحلّل الأزرار «1»
يغشون حومات المنون وإنّها ... في الله عند نفوسهم لصغار
يمشون بالخطّيّ لا يثنيهم ... والقوم إن ركبوا الرماح تجار «2»
فقال له الفرزدق: ويحك! اكتم هذا لا يسمعه النساجون فيخرجوا علينا بحفوفهم «3» فقال أبوه: هو شاعر المؤمنين وأنت شاعر الكافرين.
ونظير هذا مما يشجّع الجبان قول عنترة الفوارس:
بكرت تخوّفني الحتوف كأنّني ... أصبحت عن غرض الحتوف بمعزل «4»
فأجبتها: إنّ المنيّة منهل ... لا بدّ أن أسقي بكأس المنهل
فاقني حياءك لا أبا لك واعلمي ... أنّي امرؤ سأموت إن لم أقتل «5»
ومن أحسن ما قالوه في الصبر، قول نهشل بن حريّ بن ضمرة النهشليّ:
ويوم كأنّ المصطلين بحرّه ... وإن لم تكن نار وقوف على جمر «6»
صبرنا له حتى يبوخ، وإنما ... تفرّج أيام الكريهة بالصّبر «7»(1/97)
وأحسن من هذا عندي قول حبيب:
فأثبت في مستنقع الموت رجله ... وقال لها من تحت إخمصك الحشر
تردّى ثياب الموت حمرا فما أتى ... لها الليل إلا وهي من سندس خضر
وأحسن من هذا قوله:
يستعذبون مناياهم كأنهم ... لا يخرجون من الدنيا إذا قتلوا
وقوله في المعنى:
قوم إذا لبسوا الحديد حسبتهم ... لم يحسبوا أنّ المنيّة تخلق
انظر بحيث ترى السّيوف لوامعا ... أبدا وفوق رءوسهم تتألّق
وقال الجحّاف بن حكيم:
شهدن مع النبيّ مسوّمات ... حنينا وهي دامية الحوامي «1»
ووقعة راهط شهدت وحلّت ... سنابكهنّ بالبلد الحرام
تعرّض للطّعان إذا التقينا ... خدودا لا تعرّض للّطام
أخذه من قولهم: ضربة بسيف في عزّ، خير من لطمة في ذلّ.
ومن أحسن ما وصفت به رجال الحرب قول الشاعر «2» :
رويدا بني شيبان بعض وعيدكم ... تلاقوا غدا خيلي على سفوان «3»
تلاقوا رجالا لا تحيد عن الوغى ... إذا الخيل جالت في فنا الميدان
إذا استنجدوا لم يسألوا من دعاهم ... لأيّة أرض أو لأيّ مكان
ونظير هذا قول الآخر:
قوم إذا نزل الغريب بدارهم ... تركوه ربّ صواهل وقيان «4»(1/98)
وإذا دعوتهم ليوم كريهة ... سدّوا شعاع الشمس بالفرسان
لا ينكتون الأرض عند سؤالهم ... لتطلّب العلّات بالعيدان «1»
بل يسفرون وجوههم فترى لها ... عند السّؤال كأحسن الألوان
ومن أحسن المحدّثين تشبيها في الحرب، مسلم بن الوليد الأنصاري في قوله ليزيد بن مزيد:
تلقي المنيّة في أمثال عدّتها ... كالسّيل يقذف جلمودا بجلمود
تجود بالنفس إذ ضنّ الجواد بها ... والجود بالنّفس أقصى غاية الجود
وقوله أيضا:
موف على مهج في يوم ذي رهج ... كأنّه أجل، يسعى إلى أمل «2»
ينال بالرّفق ما تعيا الرجال به ... كالموت مستعجلا يأتي على مهل
وقال أبو العتاهية:
كأنّك عند الكرّ في الحرب إنّما ... تفرّ عن السّلم الذي من ورائكا
كأنّ المنايا ليس تجري لدى الوغى ... إذا التقت الأبطال إلّا برأيكا
فما آفة الآجال غيرك في الوغى ... وما آفة الأموال غير حبائكا «3»
وقال زيد الخيل:
وقد علمت سلامة أنّ سيفي ... كريه كلّما دعيت نزال
أحادثه بصقل كلّ يوم ... وأعجمه بهامات الرجال
وقال أبو محلّم السعديّ:
تقول وصكّت وجهها بيمينها ... أبعلي هذا بالرّحى المتقاعس «4»(1/99)
فقلت لها لا تعجلي وتبيّني ... بلائي إذا التفّت عليّ الفوارس
ألست أردّ القرن يركب ردعه ... وفيه سنان ذو غرارين نائس «1»
إذا هاب أقوام تقحّمت غمرة ... يهاب حميّاه الألدّ المداعس «2»
لعمر أبيك الخير إنّي لخادم ... لضيفي وإنّي إن ركبت لفارس
وقال آخر يمدح المهلّب بالصبر:
وإذا جددت فكلّ شيء نافع ... وإذا حددت فكلّ شيء ضائر «3»
وإذا أتاك مهلّبيّ في الوغى ... في كفّه سيف فنعم الناصر
ومن قولنا في القائد أبي العباس في الحرب:
نفسي فداؤك والأبطال واقفة ... والموت يقسم في أرواحها النّقما
شاركت صرف المنايا في نفوسهم ... حتى تحكّمت فيها مثل ما احتكما
لو تستطيع العلا جاءتك خاضعة ... حتى تقبّل منك الكفّ والقدما
ومن قولنا في وصف الحرب:
سيوف يقيل الموت تحت ظباتها ... لها في الكلى طعم وبين الكلي شرب «4»
إذا اصطفّت الرايات حمرا متونها ... ذوائبها تهفو فيهفو لها القلب
ولم تنطق الأبطال إلّا بفعلها ... فألسنها عجم وأفعالها عرب
إذا ما التقوا في مأزق وتعانقوا ... فلقياهم طعن وتعنيقهم ضرب
ومن قولنا في رجال الحرب وأنّ الوغى قد أخذت منهم ومن أجسامهم فهي مثل السيوف في رقّتها وصلابتها:
سيف تقلّد مثله ... عطف القضيت على القضيب(1/100)
هذا تجزّ به الرّقا ... ب وذا تجرّ به الخطوب
ومن قولنا أيضا:
تراه في الوغى سيفا صقيلا ... يقلّب صفحتي سيف صقيل
ومن قولنا أيضا:
سيف عليه نجاد سيف مثله ... في حدّه للمفسدين صلاح
ومن قولنا أيضا في الحرب وذكر القائد:
مقيلك تحت أظلال العوالي ... وبيتك فوق صهوات الجياد
تبختر في قميص من دلاص ... وترفل في رداء من نجاد «1»
كأنّك للحروب رضيع ثدي ... غذتك بكلّ داهية نآد «2»
فكم هذا التّمني للمنايا ... وكم هذا التّجلّد للجلاد
لئن عرف الجهاد بكلّ عام ... فإنّك طول دهرك في جهاد
وإنّك حين أبت بكلّ سعد ... كمثل الرّوح آب إلى الفؤاد
رأينا السّيف مرتديا بسيف ... وعاينّا الجواد على الجواد
وقد وصفنا الحرب بتشبيه عجيب لم يتقدّم عليه، ومعنى بديع لا نظير له، فمن ذلك قولنا:
وجيش كظهر اليمّ تنفحه الصّبا ... يعبّ عبابا من قنا وقنابل «3»
فتنزل أولاه وليس بنازل ... وترحل أخراه وليس براحل
ومعترك ضنك تعاطت كماته ... كئوس دماء من كلى ومفاصل
يديرونها راحا من الرّوح بينهم ... ببيض رقاق أو بسمر ذوابل «4»(1/101)
وتسمعهم أمّ المنيّة وسطها ... غناء صليل البيض تحت المناصل «1»
ومن قولنا في هذا المعنى:
سيف من الحتف تردّى به ... يوم الوغى سيف من الحزم
مواصلا أعداءه عن قلى ... لا صلة القربى ولا الرّحم «2»
وصل يحنّ الإلف من بغضه ... شوقا إلى الهجران والصّرم
حتى إذا نادمهم سيفه ... بكلّ كأس مرّة الطّعم
ترى حميّاها بها ماتهم ... تغور بين الجلد والعظم «3»
على أهازيج ظبا بينها ... ما شئت من حذف ومن خرم «4»
طاعوا له من بعد عصيانهم ... وطاعة الأعداء عن رغم
وكم أعدّوا واستعدّوا له ... هيهات ليس الخضم كالقضم «5»
ومن قولنا في شبهه:
كم ألحم السّيف في أبناء ملحمة ... ما منهم فوق متن الأرض ديّار «6»
وأورد النّار من أرواح مارقة ... كادت تميّز من غيظ لها النّار «7»
كأنّما صال في ثنيي مفاضته ... مستأسد حنق الأحشاء هدّار «8»
لما رأى الفتنة العمياء قد رحبت ... منها على النّاس آفاق وأقطار
وأطبقت ظلم من فوقها ظلم ... ما يستضاء بها نور ولا نار
قاد الجياد إلى الأعداء سارية ... قباّ طواها كطيّ العصب إضمار «9»(1/102)
ملمومة تتبارى في ململمة ... كأنّها لاعتدال الخلق أفهار «1»
تزورّ عند احتماس الطّعن أعينها ... وهنّ من فرجات النّقع نظاّر «2»
تفوت بالثّأر أقواما وتدركه ... من آخرين إذ لم يدرك الثّار
فانساب ناصر دين الله يقدمهمّ ... وحوله من جنود الله أنصار
كتائب تتبارى حول رايته ... وجحفل كسواد الليل جرّار
قوم لهم في مكرّ اللّيل غمغمة ... تحت العجاج وإقبال وإدبار «3»
يستقبلون كراديسا مكردسة ... كما تدافع بالتّيّار تيّار «4»
من كلّ أروع لا يرعى لهاجسة ... كأنّه مخدر في الخيل هصّار «5»
في قسطل من عجاج الحرب مدّ له ... بين السماء وبين الأرض أستار
فكم بساحتهم من شلو مطّرح ... كأنه فوق ظهر الأرض إجّار «6»
كأنّما رأسه أفلاق حنظلة ... وساعداه إلى الزّندين جمّار «7»
وكم على النّهر أوصالا مفرّقة ... تقّسمتها المنايا فهي أشطار
قد فلّقت بصفيح الهند هامهم ... فهنّ بين حوامي الخيل أعشار»
ومن قولنا في الحروب:
وحومة عادرت فرسانها ... في مبرك للحرب جعجاع «9»
مستلحم بالموت مستشعر ... مفرّق للشّمل جمّاع(1/103)
وبلدة صحصحت منها الرّبا ... لفيلق كالسّيل دفّاع «1»
كأنّما باضتّ نعام الفلا ... منهم بهام فوق أدراع
تراهم عند احتماس الوغى ... كأنّهم جنّ بأجراع «2»
بكلّ مأثور على متنه ... مثل مدبّ النّمل في القاع
يرتدّ طرف العين من حدّه ... عن كوكب للموت لمّاع
ومن قولنا في الحروب:
وربّ ملتفّة العوالي ... يلتمع الموت في ذراها «3»
إذا توطّت حزون أرض ... طحطحت الشّمّ من رباها «4»
يقودها منه ليث غاب ... إذا رأى فرصة قضاها
تمضي بآرائه سيوف ... يستبق الموت في ظباها «5»
بيض تحلّ القلوب سودا ... إذا انتضى عزمه انتضاها «6»
تتبعه الطّير في الأعادي ... تجني كلا العشب من كلاها «7»
أقدم إذا كاع كلّ ليث ... عن حومة الموت إذا رآها «8»
فأقحم الخيل في غمار ... تفغر بالموت لهوتاها «9»
عنت له أوجه المنايا ... فعافها القوم واشتهاها(1/104)
فرسان العرب في الجاهلية والإسلام
ابن مكدم وقول حسان فيه
: كان فارس العرب في الجاهلية ربيعة بن مكدّم. من بني فراس بن غنم بن مالك ابن كنانة، وكان يعقر على قبره في الجاهلية. ولم يعقر على قبر أحد غيره. وقال حسان بن ثابت وقد مرّ على قبره:
نفرت قلوصي من حجارة حرّة ... بنيت على طلق اليدين وهوب
لا تنفري يا ناق منه فإنّه ... شرّيب خمر مسعر لحروب
لولا السّفار وطول قفر مهمه ... لتركتها تحبو على عرقوب «1»
فراس بن غنم وكلمة لعلي فيهم
: وكان بنو فراس بن غنم بن كنانة أنجد العرب. كان الرجل منهم يعدل عشرة من غيرهم. وفيهم يقول عليّ بن أبي طالب رضي الله عنه لأهل الكوفة: من فاز بكم فقد فاز بالسهم الأخيب، أبدلكم الله بي من هو شرّ لكم، وأبدلني بكم من هو خير منكم. وددت والله أنّ لي بجميعكم- وأنتم مائة ألف- ثلاثمائة من بني فراس بن غنم.
ومن فرسان العرب في الجاهلية عنترة الفوارس، وعتيبة بن الحارث بن شهاب؛ وأبو براء عامر بن مالك ملاعب الأسنة، وزيد الخيل، وبسطام بن قيس، والأحيمر السعدي، وعامر بن الطّفيل، وعمرو بن عبد ودّ، وعمرو بن معد يكرب.
وفي الإسلام أمير المؤمنين علي بن أبي طالب عليه السلام، والزبير، وطلحة، ورجال الأنصار: عبد الله بن خازم السّلمي، وعباد بن الحصين، وعمير بن الحباب، وقطريّ بن الفجاءة، والحريش بن هلال السعدي، وشبيب الحروريّ.(1/105)
للعرب في بعض فرسانهم
: وقالوا: ما استحيا شجاع قطّ أن يفرّ من عبد الله بن خازم وقطريّ بن الفجاءة، صاحب الأزارقة.
وقالوا: ذهب حاتم بالسخاء، والأحنف بالحلم، وخريم بالنعمة، وعمير بن الحباب بالشدّة.
ابن خازم مع ابن زياد في جرذ
: وبينا عبد الله بن خازم عند عبيد الله بن زياد إذ دخل عليه بجرذ أبيض، فعجب منه عبيد الله، وقال: هل رأيت يا أبا صالح أعجب من هذا؟ ونظر إليه، فإذا عبد الله قد تضاءل حتى صار كأنه فرخ، واصفرّ كأنه جرادة ذكر فقال عبيد الله:
أبو صالح يعصى الرحمن، ويتهاون بالسلطان، ويقبض على الثعبان، ويمشي إلى الليث، ويلقى الرماح بنحره، وقد اعتراه من جرذ ما ترون، أشهد أن الله على كل شيء قدير.
وكان شبيب الحروريّ: يصيح في جنبات الجيش فلا يلوي أحد على أحد. وفيه يقول الشاعر:
إنّ صاح يوما حسبت الصّخر منحدرا ... والريح عاصفة والموج يلتطم
ولما قتل أمر الحجاج بشق صدره. فإذا له فؤاد مثل فؤاد الجمل. فكانوا إذا ضربوا به الأرض ينزو كما تنزو المثانة المنفوخة «1» .
لابن عباس في الأنصار
: ورجال الأنصار أشجع الناس؛ قال عبد الله بن عباس: ما استلّت السيوف، ولا زحفت الزحوف، ولا أقيمت الصفوف، حتى أسلم ابنا قيلة: يعني الأوس والخزرج، وهما الأنصار من بني عمرو بن عامر من الأزد.(1/106)
أبو براء لما أسن
: العتبي: لما أسنّ أبو براء عامر بن مالك وضعّفه بنو أخيه وخرّفوه. ولم يكن له ولد يحميه، أنشأ يقول:
دفعتكم عنيّ وما دفع راحة ... بشيء إذا لم تستعن بالأنامل
يضعّفني حلمي وكثرة جهلكم ... عليّ وأنّي لا أصول بجاهل «1»
لعلي في همدان
: وقال علي بن أبي طالب رضي الله عنه، إذ رأى همدان وغناءها في الحرب يوم صفين:
ناديت همدان والأبواب مغلقة ... ومثل همدان سنّى فتحة الباب «2»
كالهندوانيّ لم تفلل مضاربه ... وجه جميل وقلب غير وجّاب «3»
وقال ابن برّاقة الهمداني:
كذبتم وبيت الله لا تأخذونها ... مراغمة ما دام للسيف قائم «4»
متى تجمع القلب الذّكيّ وصارما ... وأنفا حمياّ تجتنبك المظالم
وكنت إذا قوم غزوني غزوتهم ... فهل أنا في ذا يا لهمدان ظالم
وقال تأبط شرا:
قليل التّشكّي للمهمّ يصيبه ... كثير النوى شتّ الهوى والمسالك
يبيت بموماة ويضحى بغيرها ... جحيشا ويعروري ظور المهالك «5»
إذا حاص عينيه كرى النوم لم يزل ... له كاليء من قلب شيحان فاتك «6»(1/107)
ويجعل عينيه ربيئة قلبه ... إلى سلّة من حدّ أخلق باتك «1»
إذا هزّه في عظم قرن تهلّلت ... نواجذ أفواه المنايا الضّواحك
وقال أبو سعيد المخزومي- وكان شجاعا:
وما يريد بنو الأغبار من رجل ... بالجمر مكتحل بالنبل مشتمل «2»
لا يشرب الماء إلّا من قليب دم ... ولا يبيت له جار على وجل «3»
ونظير هذا قول بشّار العقيلي:
فتى لا يبيت على دمنة ... ولا يشرب الماء إلا بدم «4»
بين ابن الزبير والأشتر
: وقال عبد الله بن الزّبير: التقيت بالأشتر النخعي يوم الجمل، فما ضربته ضربة حتى ضربني خمسا أو ستا، ثم أخذ برجلي فألقاني في الخندق، وقال: والله لولا قرابتك من رسول الله صلّى الله عليه وسلّم ما اجتمع منك عضو إلى آخر.
جائزة عائشة لمن بشرها بنجاة ابن الزبير
: وقال أبو بكر بن أبي شيبة: أعطت عائشة الذي بشّرها بحياة ابن الزّبير إذ التقى مع الأشتر عشرة آلاف.
لمنعم في أخيه
: وذكر متمّم بن نويرة أخاه مالكا وجلده، فقال: كان يخرج في الليلة الصّنّبر «5» ، عليه الشملة الفلوت، بين المزادتين على الجمل الثّفال «6» ، ومعتقل الرّمح الخطيّ.
قالوا: وأبيك إن هذا لهو الجلد.(1/108)
من عمر إلى ابن مقرن في الصائفة
: وكتب عمر بن الخطاب إلى النعمام بن مقرّن وهو على الصائفة: أن استعين في حربك بعمرو بن معد يكرب، وطليحة الأزري، ولا تولّهما من الأمر شيئا؛ فإن كل صانع أعلم بصناعته.
وقال عمرو بن معد يكرب يصف صبره وجلده في الحرب:
أعاذل عدّتي بزّي ورمحي ... وكلّ مقلّص سلس القياد «1»
أعاذل إنما أفنى شبابي ... إجابتي الصّريخ إلى المنادي «2»
مع الأبطال حتى سلّ جسمي ... وأقر عاتقي حمل النّجاد
ويبقى بعد حلم القوم حلمي ... ويفنى قبل زاد القوم زاديّ
ومن عجب عجبت له حديث ... بديع ليس من بدع السّداد
تمنّى أن يلاقيني أبيّ ... وددت وأينما منّي ودادي
تمنّاني وسابغتي قميصي ... كأنّ قتيرها حدق الجراد «3»
وسيف لابن ذي كنعان عندي ... تخيّر نصله من عهد عاد
فلو لاقيتني للقيت ليثا ... هصورا ذا ظبا وشبا حداد «4»
ولا ستيقنت أنّ الموت حقّ ... وصرّح شحم قلبك عن سواد
أريد حياته ويريد قتلي ... عذيرك من خليلك من مراد
ومن قوله في قيس بن مكشوح المرادي:
تمنّاني على فرس ... عليه جالس أسده
عليّ مفاضة كالنّهي ... أخلص ماءه جدده «5»
فلو لاقيتني للقي ... ت ليثا فوقه لبده(1/109)
سبنتي ضيغما هصرا ... صلخدا ناشزا كتده «1»
يسامي القرن إن فرن ... تيمّمه فيعتضده «2»
فيأخذه فيرديه ... فيخفضه فيقتصده»
فيدمغه فيحطمه ... فيخصمه فيزدرده
المكيدة في الحرب
قال النبي صلّى الله عليه وسلّم: الحرب خدعة.
وقال المهلّب لبنيه: عليكم بالمكيدة في الحرب فإنها أبلغ من النجدة.
وكان المهلّب يقول: أناة في عواقبها فوت، خير من عجلة في عواقبها درك «4» .
وقال مسلمة بن عبد الملك: ما أخذت أمرا قط بحزم فلمت نفسي فيه وإن كانت العاقبة عليّ، ولا أخذت أمرا قطّ وضيّعت الحزم فيه إلا لمت نفسي عليه وإن كانت لي العاقبة.
وسئل بعض أهل التمرس بالحرب: أيّ المكايد فيها أحزم؟ قال: إذكاء العيون «5» ، وإفشاء الغلبة، واستطلاع الأخبار؛ وإظهار السرور، وإماتة الفرق «6» ، والاحتراس من البطانة «7» من غير إقصاء لمن يستنصح، ولا استناد لمن يستغشّ، وإشغال الناس عما هم فيه من الحرب بغيره.
وفي كتاب للهند: الحازم يحذر عدوّه على كل حال: يحذر المواثبة إن قرب، والغارة إن بعد، والكمين إن انكشف، والاستطراد إن ولّى.
بين المأمون والفضل بن سهل في رأي فات الأمين
: قال المأمون للفضل بن سهل: قد كان لأخي رأي لو عمل به لظفر. فقال له(1/110)
الفضل: ما هو يا أمير المؤمنين؟ قال لو كتب إلى أهل خراسان وطبرستان والري ودنياوند أنه قد وهب لهم الخراج لسنة، لم نخل نحن من إحدى خصلتين: إما رددنا فعله ولم نلتفت إليه فعصانا أهل هذه البلدان وفسدت نياتهم فانقطعوا عن معاونتنا.
وإما قبلناه وأمضيناه فلا نجد ما نعطي منه من معنا، وتفرّق جندنا ووهى أمرنا.
فقال الفضل: الحمد لله الذي ستر هذا الرأي عنه وعن أصحابه.
وكتب الحجاج إلى المهلب يستعجله في حرب الأزارقة، فكتب إليه: إن من البلية أن يكون الرأي بيد من يملكه دون من يبصره.
لبعض أهل التمرس
: وكان بعض أهل التمرس يقول لأصحابه: شاوروا في حربكم الشجعان من أولي العزم، والجبناء من أولى الحزم؛ فإن الجبان لا يألو «1» برأيه ما يقي مهجكم، والشجاع لا يعدو ما يشدّ نصرتكم؛ ثم خلّصوا من بين الرأيين نتيجة تحمل عنكم معرّة الجبان «2» ، وتهوّر الشجعان، فتكون أنفذ من السهم الزالج «3» ، والحسام الوالج «4» .
بين الاسكندر ومؤدبه في مدينة فتحها
: وكان الإسكندر لا يدخل مدينة إلا هدمها وقتل أهلها، حتى مرّ بمدينة كان مؤدّبه فيها؛ فخرج إليه، فألطفه الإسكندر وأعظمه. فقال له: أصلح الله الملك، إن أحقّ من زيّن لك أمرك، وأعانك على كل ما هويت لأنا، وإن أهل هذه المدينة قد طمعوا فيك لمكاني منك، فأحب أن تشفّعني فيهم، وألّا تخالفني في كل ما سألتك لهم. فأعطاه من العهود والمواثيق على ذلك ما لا يقدر على الرجوع عنه. فلما توثّق منه قال: فإن حاجتي إليك أن تهدمها وتقتل أهلها. قال: ليس إلى ذلك سبيل، ولا بد من مخالفتك. فقال له: ارحل عنا.(1/111)
سعيد بن العاص وحصن فتحه
: قيل: صالح سعيد بن العاص حصنا من حصون فارس على ألّا يقتل منهم رجلا واحدا، فقتلهم كلهم إلا رجلا واحدا.
عمرو بن العاص وعلم قيسارية
: ابن الكلبي قال: لما فتح عمرو بن العاص قيساريّة سار حتى نزل غزّة، فبعث إليه علجها «1» : أن ابعث إليّ رجلا من أصحابك أكلّمه. ففكّر عمرو وقال: ما لهذا أحد غيري. قال: فخرج حتى دخل على العلج فكلمه فسمع كلاما لم يسمع قطّ مثله.
فقال العلج: حدّثني: هل في أصحابك أحد مثلك؟ قال لا تسأل عن هذا، إني هيّن عليهم إذ بعثوا بي إليك وعرّضوني لما عرّضوني له، ولا يدرون ما تصنع بي. قال:
فأمر له بجائزة وكسوة، وبعث إلى البواب: إذا مر بك فاضرب عنقه وخذ ما معه.
فخرج من عنده فمرّ برجل من نصاري غسّان فعرفه؛ فقال: يا عمرو قد أحسنت الدخول فأحسن الخروج. ففطن عمرو لما أراده، فرجع. فقال له الملك: ما ردّك إلينا؟ قال: نظرت فيما أعطيتني فلم أجد ذلك يسع بني عمي، فأردت أن آتيك بعشرة منهم تعطيهم هذه العطية، فيكون معروفك عند عشرة خيرا من أن يكون عند واحد. فقال: صدقت. أعجل بهم. وبعث إلى البواب أن خلّ سبيله. فخرج عمرو وهو يلتفت، حتى إذا أمن قال: لا عدت لمثلها أبدا. فلما صالحه عمرو ودخل عليه العلج قال له: أنت هو؟ قال: نعم، على ما كان من غدرك.
عمر والهرمزان
: وقال: ولما أتي بالهرمزان أسيرا إلى عمر بن الخطاب قيل له: يا أمير المؤمنين، هذا زعيم العجم وصاحب رستم «2» فقال له عمر: أعرض عليك الإسلام نصحا لك في(1/112)
عاجلك وآجلك. قال: يا أمير المؤمنين، إنما أعتقد ما أنا عليه ولا أرغب في الإسلام. فدعا له عمر بالسيف. فلما همّ بقتله قال: يا أمير المؤمنين، شربة من ماء أفضل من قتلي على ظمأ. فأمر له بشربة من ماء. فلما أخذها قال: أنا آمن حتى أشربها؟ قال: نعم. فرمى بها وقال: الوفاء يا أمير المؤمنين نور أبلج. قال: صدقت، لك التوقف عنك والنظر في أمرك؛ ارفعا عنه السيف. فلما رفع عنه. قال: الآن يا أمير المؤمنين أشهد أن لا إله إلا الله وأن محمدا عبده ورسوله، وما جاء به حق من عنده. قال عمر: أسلمت خير إسلام، فما أخّرك؟ قال كرهت أن تظن أني أسلمت جزعا من السيف وإيثارا لدينه بالرهبة. فقال عمر: إن لأهل فارس عقولا بها استحقوا ما كانوا فيه من الملك. ثم أمر به أن يبرّ ويكرم، فكان عمر يشاوره في توجيه العساكر والجيوش لأهل فارس.
معن ونفر من الأسرى
: وهذا نظير فعل الأسير الذي أتى به معن بن زائدة في جملة الأسرى. فأمر بقتلهم، فقال له: أتقتل الأسرى عطاشا يا معن فأمر بهم فسقوا، فلما شربوا قال:
أتقتل أضيافك يا معن؟ فخلى سبيلهم.
ملك من ملوك العجم
: وذكروا: أن ملكا من ملوك العجم كان معروفا ببعد الغور «1» ويقظة الفطنة وحسن السياسة، وكان إذا أراد محاربة ملك من الملوك وجه إليه من يبحث عن أخباره وأخبار رعيته قبل أن يظهر محاربته، فيكشف عن ثلاث خصال من حاله؛ فكان يقول لعيونه: انظروا، هل ترد على الملك أخبار رعيته على حقائقها أم يخدعه عنها المنهي ذلك إليه؟ وانظروا إلى الغنى في أي صنف هو من رعيته، أفيمن اشتدّ أنفه وقلّ شرههه، أم فيمن قلّ أنفه واشتدّ شرهه؟ وانظروا في أي صنف من رعيته(1/113)
القوّام بأمره؟ أفيمن نظر ليومه وغده، أم من شغله يومه عن غده؟ فإن قيل له: لا يخدع عن أخباره؛ والغنى فيمن قلّ شرهه واشتد انفه، والقوّام بأمره من نظر ليومه وغده، قال: اشتغلوا عنه بغيره. وإن قيل له ضدّ ذلك قال: نار كانة تنتظر موقدا، وأضغان مزملة «1» تنتظر مخرجا، اقصدوا له، فلا حين أحين من سلامة مع تضييع، ولا عدوّ أعدى من أمن أدّى إلى اغترار.
وقيعة ملك الهياطلة بيزدجرد
: كانت ملوك العجم قبل ملوك الطوائف تنزل بلخ، ثم نزلت بابل، ثم نزل أردشير ابن بابك فارس، فصارت دار مملكتهم، وصار بخراسان ملوك الهياطلة وهم الذين قتلوا فيروز بن يزدجرد بن بهرام ملك فارس، وكان غزاهم؛ فكاده ملك الهياطلة بأن عمد إلى رجل ممن عرفه بالمكايدة وحسن الإدارة، فأظهر السخط عليه وأوقع به على أعين الناس توقيعا قبيحا ونكّل به تنكيلا شديدا. ثم أرسله وقد واطأه «2» على أمر أبطنه معه وظاهره عليه فخرج حتى أتى فيروز في طريقه، فأظهر النزوع «3» إليه والاستنصار به من عظيم ما ناله. فلما رأى فيروز ما به من التوقيع والنكاية فيه، وثق به واستنام إليه. فقال: أنا أدلك أيها الملك على غرة القوم وعورتهم وأعلمك مكان غفلتهم. فسلك به سبيل مهلكة معطشة؛ ثم خرج إليه ملك الهياطلة فأسره وأكثر أصحابه، فسألهم أن يمنوا عليه وعلى من معه، وأعطاهم موثقا لا يغزوهم أبدا، ونصب لهم حجرا جعله حدا بينه وبينهم، وحلف لهم ألّا يجاوزه هو ولا جنوده، وأشهد الله عليه وعلى من حضر من قرابته وأساورته؛ فمنّوا عليه وأطلقوه ومن معه.
فلما عاد إلى مملكته أخذته الأنفة مما أصابه، فعاد إلى غزوهم ناكثا لعهده غادرا بذمته، إلا أنه تلطف في ذلك بحيلة ظنّها مجزئة في أيمانه، فجعل الحجر الذي نصبه لهم على فيل في مقدّمة عسكره، وتأوّل في ذلك أنه لا يجاوزه فلما صار إليهم ناشدوه(1/114)
الله وذكّروه الأيمان به، وما جعل على نفسه من عهده وذمته، فأبى إلا لجاجا «1» ونكثا. فواقعوه فظفروا به فقتلوه وقتلوا حماته واستباحوا عسكره.
للنبي صلّى الله عليه وسلّم
: أسامة بن زيد الّليثي قال: كان النبي صلّى الله عليه وسلّم «إذا غزا أخذ طريقا وهو يريد أخرى، ويقول: الحرب خدعة» .
مالك الخثعمي وتسميته بالثعلب
: زياد عن مالك بن أنس قال: كان مالك بن عبد الله الخثعميّ، وهو على الصائفة.
يقوم في الناس كلما أراد أن يرحل؛ فيحمد الله تعالى ويثني عليه ثم يقول. إني دارب «2» بالغداة إن شاء الله تعالى درب كذا. فتتفرق الجواسيس عنه بذلك؛ فإذا أصبح الناس سلك بهم طريقا أخرى. فكانت تسميه الروم: الثعلب.
وصايا أمراء الجيوش
كتب عمر بن عبد العزيز إلى الجراح: إنه بلغني أن رسول الله صلّى الله عليه وسلّم كان إذا بعث جيشا أو سريّة قال: اغزوا بسم الله، وفي سبيل الله، تقاتلون من كفر بالله، لا تغلّوا ولا تغدروا ولا تمثّلوا ولا تقتلوا امرأة ولا وليدا. فإذا بعثت جيشا أو سرية فمرهم بذلك.
وكان عمر بن الخطاب يقول عند عقد الألوية: بسم الله وبالله وعلى عون الله.
امضوا بتأييد الله. وما النصر إلا من عند الله ولزوم الحقّ والصبر. فقاتلوا في سبيل الله من كفر بالله، ولا تعتدوا إن الله لا يحب المعتدين. ولا تجبنوا عند اللقاء، ولا تمثّلوا عند القدرة، ولا تسرفوا عند الظهور، ولا تقتلوا هرما ولا امرأة ولا وليدا،(1/115)
وتوقّوا قتلهم إذا التقى الزحفان، وعند شنّ الغارات.
أبو بكر يوصي يزيد بن أبي سفيان
: ولما وجّه أبو بكر رضي الله عنه يزيد بن أبي سفيان إلى الشام شيّعه راجلا. فقال له يزيد: إما أن تركب وإما أن أنزل. فقال: ما أنت بنازل وما أنا براكب. إني أحتسب خطاي «1» هذه في سبيل الله. ثم قال: إنك ستجد قوما حبسوا أنفسهم لله، فذرهم وما حبسوا أنفسهم له- يعني الرهبان- وستجد قوما فحصوا «2» عن أوساط رؤسهم الشّعر، فاضرب ما فحصوا عنه بالسيف. ثم قال له: إني موصيك بعشر: لا تغدر، ولا تمثّل، ولا تقتل هرما ولا امرأة ولا وليدا، ولا تقرن شاة ولا بعيرا إلا ما أكلتم، ولا تحرقنّ نخلا، ولا تخرّبن عامرا، ولا تغلّ ولا تبخس.
أبو بكر يوصي خالد بن الوليد
: وقال أبو بكر رضي الله عنه لخالد بن الوليد، حين وجهه لقتال أهل الردّة: سر على بركة الله، فإذا دخلت أرض العدوّ فكن بعيدا من الحملة، فإني لا آمن عليك الجولة، واستظهر بالزاد، وسر بالأدلاء، ولا تقاتل بمجروح، فإنّ بعضه ليس منه؛ واحترس من البيات، فإنّ في العرب غرّة «3» ؛ وأقلل من الكلام، فإنما لك ما وعي عنك؛ واقبل من الناس علانيتهم، وكلهم إلى الله في سرائرهم، وأستودعك الله الذي لا تضيع ودائعه.
من خالد إلى مرازبة فارس
: كتب خالد بن الوليد إلى مرازبة فارس مع ابن نفيلة الغساني: الحمد لله الذي فضّ حزمتكم «4» ، وفرّق جمعكم، وأوهن بأسكم، وسلب ملككم، وأذلّ عزكم؛ فإذا أتاكم كتابي هذا فابعثوا إليّ بالرّهن، واعتقدوا منا الذمة، وأجيبوا إلى الجزية، وإلا(1/116)
والله الذي لا إله إلا هو، لأسيرن إليكم بقوم يحبون الموت كما تحبون الحياة، ويرغبون في الآخرة كما ترغبون في الدنيا.
من عمر إلى ابن أبي وقاص
: كتب عمر بن الخطاب إلى سعد بن أبي وقاص- رضي الله عنهما- ومن معه من الأجناد:
أما بعد؛ فإني آمرك ومن معك من الأجناد بتقوى الله على كل حال؛ فإن تقوى الله أفضل العدّة على العدوّ، وأقوى المكيدة في الحرب، وآمرك ومن معك أن تكونوا أشدّ احتراسا من المعاصي منكم من عدوّكم، فإن ذنوب الجيش أخوف عليهم من عدوّهم، وإنما ينصر المسلمون بمعصية عدوّهم لله، ولولا ذلك لم تكن لنا بهم قوة؛ لأن عددنا ليس كعددهم، ولا عدّتنا كعدّتهم، فإذا استوينا «1» في المعصية كان لهم الفضل علينا في القوة، وإلا ننصر عليهم بفضلنا لم نغلبهم بقوتنا. واعلموا أن عليكم في مسيركم حفظة من الله يعلمون ما تفعلون، فاستحيوا منهم، ولا تعملوا بمعاصي الله وأنتم في سبيل الله؛ ولا تقولوا إن عدوّنا شر منا فلن يسلّط علينا وإن أسأنا؛ فربّ قوم سلّط عليهم شر منهم، كما سلط على بني إسرائيل لما عملوا بمساخط الله كفّار المجوس فَجاسُوا خِلالَ الدِّيارِ وَكانَ وَعْداً مَفْعُولًا
«2» . واسألوا الله العون على أنفسكم كما تسألونه النصر على عدوّكم. أسأل الله ذلك لنا ولكم. وترفّق بالمسلمين في مسيرهم، ولا تجشّمهم مسيرا يتعبهم، ولا تقصر بهم عن منزل يرفق بهم، حتى يبلغوا عدوّهم والسفر لم ينقص قوتهم، فإنهم سائرون إلى عدو مقيم حامي الأنفس والكراع «3» . وأقم بمن معك في كل جمعة يوما وليلة، حتى تكون لهم راحة يجمّون «4» فيها أنفسهم، ويرمّون «5» أسلحتهم وأمتعتهم. ونحّ منازلهم عن قرى أهل(1/117)
الصلح والذمة، فلا يدخلها من أصحابك إلا من تثق بدينه. ولا يرزأ أحدا من أهلها شيئا: فإن لهم حرمة وذمة ابتليتم بالوفاء بها كما ابتلوا بالصبر عليها، فما صبروا لكم فتولّوهم خيرا، ولا تستبصروا على أهل الحرب بظلم أهل الصلح. وإذا وطئت أدنى أرض العدو فأذك العيون بينك وبينهم، ولا يخف عليك أمرهم وليكن عندك من العرب أو من أهل الأرض من تطمئن إلى نصحه وصدقه، فإنّ الكذوب لا ينفعك خبره وإن صدقك في بعضه، والغاشّ عين عليك وليس عينا لك. وليكن منك عند دنوّك من أرض العدو أن تكثر الطلائع وتبث السرايا بينك وبينهم. فتقطع السرايا أمدادهم ومرافقهم، وتتبع الطلائع عوراتهم. وانتق للطلائع أهل الرأي والبأس من أصحابك، وتخيّر لهم سوابق الخيل، فإن لقوا عدوّا كان أول ما تلقاهم القوة من أصحابك، وتخيّر لهم سوابق الخيل؛ فإن لقوا عدوّ كان أول ما تلقاهم القوة من رأيك. واجعل أمر السرايا إلى أهل الجهاد والصبر على الجلاد، ولا تخص بها أحدا بهوى، فيضيع من رأيك وأمرك أكثر مما حابيت «1» به أهل خاصتك. ولا تبعثن طليعة ولا سرية في وجه تتخوّف فيه غلبة أو ضيعة ونكاية «2» ؛ فإذا عاينت العدو فاضمم إليك أقاصيك وطلائعك وسراياك، واجمع إليك مكيدتك وقوّتك، ثم لا تعاجلهم المناجزة، ما لم يستكرهك قتال، حتى تبصر عورة عدوك ومقاتله، وتعرف الأرض كلها كمعرفة أهلها، فتصنع بعدوّك كصنعه بك، ثم أذك أحراسك على عسكرك، وتحفّظ من البيات «3» جهدك. ولا تؤت بأسير له عهد إلا ضربت عنقه، لترهب بذلك عدوّ الله وعدوك. والله ولي أمرك ومن معك، ووليّ النصر لكم على عدوّكم، والله المستعان.
عبد الملك يوصي أميره إلى أرض الروم
: وأوصى عبد الملك بن مروان أميرا سيره إلى أرض الروم فقال: أنت تاجر الله لعباده، فكن كالمضارب الكيّس «4» الذي إن وجد ربحا تجر وإلا تحفّظ برأس المال.(1/118)
ولا تطلب الغنيمة حتى تحرز السلامة. وكن من احتيالك على عدوّك أشدّ حذرا من احتيال عدوّك عليك.
زياد يوصي قواده
: وكان زياد يقول لقواده: تجنّبوا اثنين لا تقاتلوا فيهما العدو: الشتاء، وبطون الأودية.
بين الوليد وعباد في زياد
: وأغزى الوليد بن عبد الملك جيشا في الشتاء، فغنموا وسلموا. فقال لعبّاد: يا أبا حرب، أين رأي زياد من رأينا؟ فقال: يا أمير المؤمنين، قد أخطأت، وليس كل عورة تصاب.
معاوية وقد أراد استعمال ابن خالد ثم الغامدي
: العتبي قال: جاشت الرّوم وغزت المسلمين برا وبحرا، فاستعمل معاوية على الصائفة عبد الرحمن بن خالد بن الوليد، فلما كتب له عهده قال: ما أنت صانع بعهدي؟ قال: أتخذه إماما لا أعصيه. قال: أردد عليّ عهدي. ثم بعث إلى سفيان ابن عوف الغامديّ فكتب له عهده، ثم قال له: ما أنت صانع بعهدي؟ قال: أتخذه إماما أمام الحزم، فإن خالفه خالفته. فقال معاوية: هذا الذي لا يكفكف من عجلة، ولا يدفع في ظهره من خور «1» ، ولا يضرب على الأمور ضرب الجمل الثفال «2» .
دريد وابن عوف النصري
: وقال دريد بن الصمّة لمالك بن عوف النّصري، قائد هوازن، يوم حنين: يا مالك، إنك قد أصبحت رئيس قومك، وإنّ هذا يوم له ما بعده من الأيام، مالي أسمع رغاء البعير، ونهيق الحمير، وبكاء الصغير، ويعار الشاء؟ قال: سقت مع الناس(1/119)
أبناءهم ونساءهم وأموالهم. قال: ولم؟ قال: أردت أن أجعل خلف كل رجل أهله وماله ليقاتل عنهم. فأنقض به»
، وقال: راعي ضأن الله! وهل يردّ المنهزم شيء؟
إنها إن كانت لك لم ينفعك إلا رجل بسيفه ورمحه، وإن كانت عليك، فضحت في أهلك ومالك؛ ويحك! إنك لم تصنع بتقديم البيضة بيضة هوازن «2» إلى نحور الخيل شيئا، ارفعهم إلى متمنّع بلادهم وعليا قومهم، ثم الق الصّبّاء «3» على متون الخيل؛ فإن كانت لك لحق بك من وراءك، وإن كانت عليك كنت قد أحرزت أهلك ومالك. قال: لا والله لا أفعل ذلك؛ إنك قد كبرت وذهل عقلك. قال دريد: هذا يوم أشهده ولم يفتني. ثم أنشأ يقول:
يا ليتني فيها جذع ... أخبّ فيها وأضع «4»
أقود وطفاء الزّمع ... كأنّها شاة صدع «5»
لقتيبة ينصح أصحابه
: وكان قتيبة بن مسلم يقول لأصحابه: إذا غزوتم، فأطيلوا الأظفار، وقصّروا الشعور، والحظوا الناس شزرا «6» ، وكلّموهم رمزا، واطعنوهم وخزا «7» .
لأبي مسلم ينصح قواده
: وكان أبو مسلم يقول لقواده: أشعروا قلوبكم الجرأة فإنها من أسباب الظفر، وأكثروا ذكر الضغائن فإنها تبعث على الإقدام، والزموا الطاعة فإنها حصن المحارب.(1/120)
وكان سعيد بن زيد يقول لبنيه: قصّروا الأعنّة، واشحذوا الأسنة، تأكلوا القريب، ويرهبكم البعيد.
المنصور وعيسى ابن موسى
: وقال عيسى بن موسى: لما وجهني المنصور إلى المدينة لمحاربة عبد الله بن الحسن، جعل يوصيني ويكثر، فقلت: يا أمير المؤمنين، إلى متى توصيني؟
إنّي أنا ذاك الحسام الهندي ... أكلت جفني وفريت غمدي «1»
فكلّ ما تطلب عندي عندي
المحاماة عن العشيرة ومنع المستجير
لجعيل يصف لعبد الملك قومه
: قال عبد الملك بن مروان لجعيل بن علقمة الثعلبي: ما مبلغ عزّكم؟ قال: لم يطمع فينا ولم يؤمن منّا. قال: فما مبلغ حفظكم؟ قال: يدفع الرجل منّا عمن استجار به غير قومه كدفاعه عن نفسه. قال عبد الملك: مثلك من يصف قومه.
لابن مطاع
: وقال عبد الملك بن مروان لابن مطاع العنزي: أخبرني عن مالك بن مسمع قال له: لو غضب مالك لغضب معه مائة ألف سيف لا يسألونه في أي شيء غضب. قال عبد الملك: هذا والله السّودد.
قال: ولم يل قطّ مالك بن مسمع ولا أسماء بن خارجة شيئا للسلطان.
للعرب في الدفاع عن الجار
: وكانت العرب تمتدح بالذّبّ «2» عن الجار، فيقولون: فلان منيع الجار حامي(1/121)
الذمار «1» . نعم، حتى كان فيهم من يحمي الجراد إذا نزل في جواره، فسمّي مجير الجراد.
وقال مروان بن أبي حفصة يمدح معن بن زائدة ويصف مفاخر بني شيبان ومنعهم لمن استجار بهم:
هم القوم إن قالوا أصابوا وإن دعوا ... أجابوا، وإن أعطوا أطابوا وأجزلوا
هم يمنعون الجار حتّى كأنّما ... لجارهم بين السّماكين منزل «2»
وقال آخر:
هم يمنعون الجار حتّى كأنّه ... كثيبة زور بين خافيتي نسر «3»
معاوية وهانيء في مال اختانه ابن شهاب
: وذكر أن معاوية ولّى كثير بن شهاب المذحجيّ خراسان، فاختان مالا كثيرا. ثم هرب فاستتر عند هانيء بن عروة المرادي. فبلغ ذلك معاوية فهدر دم هانيء. فخرج هانيء إلى معاوية، فكان في جواره. ثم حضر مجلسه وهو لا يعرفه. فلما نهض الناس ثبت مكانه، فسأله معاوية عن أمره، فقال: أنا هانيء بن عروة، فقال: إنّ هذا اليوم ليس باليوم الذي يقول فيه أبوك:
أرجّل جمّتي وأجرّ ذيلي ... وتحمل شكّتي أفق كميت «4»
وأمشي في سراة بني غطيف ... إذا ما ساءني أمر أبيت «5»
قال: أنا والله يا أمير المؤمنين اليوم أعزّ مني ذلك اليوم. قال: بم ذلك؟ قال:
بالإسلام. قال: أين كثير بن شهاب؟ قال: عندي وعندك يا أمير المؤمنين. قال:
انظر إلى ما اختانه فخذ منه بعضا وسوّغه بعضا، وقد أمّنّاه ووهبناه لك.(1/122)
مقتل محمد ابن أبي بكر
: الشيباني قال: لما نزل محمد بن أبي بكر مصر وصيّر إليه معاوية معاوية بن حديج الكندي. تفرّق عن محمد من كان معه، فتغيّب فدلّ عليه، فأخذه فضرب عنقه وبعث برأسه إلى معاوية. فكان أول رأس طيف به في الإسلام. وكان محمد بن جعفر بن أبي طالب معه، فاستجار بأخواله من خثعم فغيّبوه؛ وكان سيّد خثعم يومئذ رجلا في ظهره بزخ «1» من كسر أصابه، فكان إذا مشى ظنّ الجاهل أنه يتبختر في مشيته، فذكر لمعاوية أنه عنده، فقال له: أسلم إلينا هذا الرجل. فقال: ابن أختنا لجأ إلينا لنحقن دمه، فدعه عنك يا أمير المؤمنين. قال: والله لا أدعه حتى تأتيني به. قال: لا والله لا آتيك به. قال: كذبت، والله لتأتينّي به، إنك ما علمت لأوره «2» . قال:
أجل، إني لأوره حين أقاتلك على ابن عمك لتحقن دمه، وأقدّم ابن عمي دونه تسفك دمه. فسكت عنه معاوية وخلّى بينه وبينه.
المهدي ومعن في رجل أهدر دمه
: الشيباني قال: قال سعيد بن سلم: أهدر المهدي دم رجل من أهل الكوفة فأقام الرجل حينا متواريا، ثم إنه ظهر بمدينة السلام، فكان ظاهرا كغائب، خائفا مترقبا.
فبينا هو يمشي في بعض نواحيها إذ بصر به رجل من أهل الكوفة فعرفه فأهوى إلى مجامع ثوبه وقال هذا بغية أمير المؤمنين. فأمكن الرجل من قياده ونظر إلى الموت أمامه. فبينا هو على تلك الحالة إذ سمع وقع الحوافر من وراء ظهره، فالتفت فإذا معن بن زائدة، فقال: يا أبا الوليد، أجرني أجارك الله. فوقف وقال للرجل الذي تعلق به: ما شأنك؟ قال: بغية أمير المؤمنين الذي أهدر دمه وأعطى لمن دلّ عليه مائة ألف. فقال: يا غلام، انزل عن دابتك واحمل أخانا. فصاح الرجل: يا معشر الناس، يحال بيني وبين من طلبه أمير المؤمنين. قال له معن: اذهب فأخبره أنه عندي.
فانطلق إلى باب أمير المؤمنين فأخبر الحاجب، فدخل إلى المهدي فأخبره، فأمر بحبس(1/123)
الرجل ووجّه إلى معن من يحضر به، فأتته رسل أمير المؤمنين وقد لبس ثيابه وقرّبت إليه دابته، فدعا أهل بيته ومواليه فقال: لا يخلصنّ «1» إلى هذا الرجل وفيكم عين تطرف. ثم ركب ودخل حتى سلم على المهدي، فلم يردّ عليه، فقال: يا معن، أتجير عليّ؟ قال: نعم يا أمير المؤمنين. قال: ونعم أيضا! واشتدّ غضبه. فقال معن: يا أمير المؤمنين، قتلت في طاعتكم باليمن في يوم واحد خمسة عشر ألفا، ولي أيام كثيرة قد تقدّم فيها بلائي وحسن غنائي، فما رأيتموني أهلا أن تهبوا لي رجلا واحدا استجار بي؟ فأطرق المهدي طويلا ثم رفع رأسه وقد سرّي عنه «2» ، فقال: قد أجرنا من أجرت. قال معن: فإن رأى أمير المؤمنين أن يصله- فيكون قد أحياه وأغناه- فعل.
قال: قد أمرنا له بخمسة آلاف. قال: يا أمير المؤمنين، إنّ صلات الخلفاء على قدر جنايات الرعية وإن ذنب الرجل عظيم؛ فأجزل له الصلة. قال: قد أمرنا له بمائة ألف. قال: فتعجّلها يا أمير المؤمنين بأفضل الدعاء. ثم انصرف ولحقه المال؛ فدعا الرجل فقال له: خذ صلتك والحق بأهلك، وإياك ومخالفة خلفاء الله تعالى.
الجبن والفرار
لعمرو بن معديكرب في الفزعات
: قال عمرو بن معديكرب: الفزعات ثلاث: فمن كانت فزعته في رجليه فذلك الذي لا تقلّه رجلاه، ومن كانت فزعته في رأسه فذلك الذي يفرّ عن أبويه، ومن كانت فزعته في قلبه فذلك الذي يقاتل.
وقال الأحنف: أسرع الناس إلى الفتنة، أقلهم حياء من الفرار.
وقالت عائشة أم المؤمنين: إنّ لله خلقا قلوبهم كقلوب الطير، كلما خفقت الريح خفقت معها؛ فأفّ للجبناء! وقال الشاعر:(1/124)
يفرّ جبان القوم عن أمّ نفسه ... ويحمي شجاع القوم من لا يناسبه
ويرزق معروف الجواد عدوّه ... ويحرم معروف البخيل أقاربه «1»
وقال خالد بن الوليد عند موته: لقد لقيت كذا وكذا زحفا، وما في جسمي موضع شبر إلا وفيه ضربة أو طعنة أو رمية؛ ثم هأنذا أموت حتف نفسي كما يموت العير «2» ؛ فلا نامت أعين الجبناء.
للفرار السلمي في الفرار
: ومن أشعار الفرّارين الذين حسّنوا فيها الفرار على قبحه حتى حسن، قول الفرّار السلمي «3» :
وكتيبة لبّستها بكتيبة ... حتى إذا التبست أملت بها يدي «4»
وتركتهم تقص الرماح ظهورهم ... من بين مقتول وآخر مسند «5»
هل ينفعنّي أن تقول نساؤهم ... وقتلت دون رجالها: لا تبعد
للحارث بن هشام في الفرار
: وقال أبو عبيدة معمر بن المثنّى: ما اعتذر أحد من الفرّارين بأحسن مما اعتذر به الحارث بن هشام حيث يقول:
الله يعلم ما تركت قتالهم ... حتى رموا مهري بأشقر مزبد
وعلمت أنّي إن أقاتل واحدا ... أقتل ولا يضرر عدوّي مشهدي
فصدفت عنهم والأحبّة فيهم ... طمعا لهم بعقاب يوم مرصد «6»
وهذا الذي سمعه صاحب رتبيل فقال: يا معشر العرب، حسّنتم كلّ شيء فحسن حتى الفرار.(1/125)
وبعد هذا يأتي قول حسان في ذلك.
وأسلم الحارث يوم فتح مكة وحسن إسلامه، وخرج في زمن عمر إلى الشام من مكة بأهله وماله، فاتبعه أهل مكة يبكون، فرقّ وبكى وقال: أما لو كنا نستبدل دارا بدارنا، أو جارا بجارنا، ما رأينا بكم بدلا؛ ولكنها النّقلة إلى الله فلم يزل هناك مجاهدا حتى مات.
وقال آخر:
قامت تشجّعني هند وقد علمت ... أنّ الشّجاعة مقرون بها العطب
لا والذي منع الأبصار رؤيته ... ما يشتهي الموت عندي من له أدب
للحرب قوم أضلّ الله سعيهم ... إذا دعتهم إلى نيرانها وثبوا
ولست منهم ولا أهوى فعالهم ... لا القتل يعجبني منها ولا السّلب
وقال محمود الوراق:
أيها الفارس المشيخ المغير ... إنّ قلبي من السلاح يطير «1»
ليس لي قوّة على رهج الخي ... ل إذا ثوّر الغبار مثير «2»
واستدارت رحى الحروب بقوم ... فقتيل وهارب وأسير «3»
حيث لا ينطق الجبان من الذّعر ... ويعلو الصّياح والتّكبير
أنا في مثل ذا وهذا بليد ... ولبيب في غيره نحرير «4»
وقال أيمن بن خريم:
إنّ للفتنة ميطا بيّنا ... فرويد الميط منها يعتدل «5»
فإذا كان عطاء فأتهم ... وإذا كان قتال فاعتزل
إنما يوقدها جهّالها ... حطب النّار فدعها تشتعل(1/126)
لصاحب كليلة ودمنة
: ومما يحتج به الفارّون: ما قاله صاحب كليلة ودمنة: إن الحازم يكره القتال ما وجد بدّا منه؛ لأن النفقة «1» فيه من النفس، والنفقة في غيره من المال.
أخذ هذا المعنى حبيب فنظمه في شعره حيث يقول:
كم بين قوم إنّما نفقاتهم ... مال وقوم ينفقون نفوسا
ومن الفرّارين عبد الرحمن بن محمد بن الأشعث؛ فرّ من الأزارقة وكان في عشرة آلاف، وكان قد بعث إليه المهلّب: يا بن أخي، خندق على نفسك وعلى أصحابك، فإني عالم بأمر الخوارج، ولا تغترّ. فبعث إليه: أنا أعلم بهم منك، وهم أهون عليّ من ضرطة الجمل فبيّته قطريّ صاحب الأزارقة فقتل من أصحابه خمسمائة، وفرّ لا يلوي على أحد. فقال فيه الشاعر:
تركت ولداننا تدمى نحورهم ... وجئت منهزما يا ضرطة الجمل
ومن الفرارين أمية بن عبد الله بن خالد بن أسيد؛ فرّ يوم مرداء هجر من أبي فديك، فسار من البحرين إلى البصرة في ثلاثة أيام، فجلس يوما بالبصرة فقال:
سرت على فرسي «المهرجان» من البحرين إلى البصرة في ثلاثة أيام. فقال له بعض جلسائه: أصلح الله الأمير، فلو ركبت «النّيروز» لسرت إليها في يوم واحد. فلما دخل عليه أهل البصرة لم يروا كيف يكلّمونه، ولا ما يلقونه من القول، أيهنّئونه أم يعزّونه؛ حتى دخل عليه عبد الله بن الأهتم فاستشرف «2» الناس له، وقالوا: ما عسى أن يقال للمنهزم؟ فسلم ثم قال: مرحبا بالصابر المخذول، الذي خذله قومه. الحمد لله الذي نظر لنا عليك ولم ينظر لك علينا فقد تعرّضت للشهادة جهدك، ولكن علم الله حاجة أهل الإسلام إليك، فأبقاك لهم بخذلان من معك لك. فقال أمية بن عبد الله: ما وجدت أحدا أخبرني عن نفسي غيرك. وفيه يقول الشاعر:(1/127)
إذا صوّت العصفور طار فؤاده ... وليث حديد النّاب عند الثّرائد «1»
الحجاج وخيل لأمية
: أتى الحجاج بدواب من دواب أمية قد وسم على أفخاذها: «عدّة» فأمر الحجاج أن يكتب تحت ذلك: «للفرار» .
وقال أبو دلامة: كنت مع مروان»
أيام الضحاك الحروري، فخرج فارس منهم فدعا إلى البراز، فخرج إليه رجل، فقتله، ثم ثان، ثم ثالث. فانقبض الناس عنه، وجعل يدنو ويهدر كالفحل المغتلم «3» ، فقال مروان: من يخرج إليه وله عشرة آلاف؟
قال: فلما سمعت عشرة آلاف هانت عليّ الدنيا وسخوت بنفسي في سبيل عشرة آلاف وبرزت إليه. فإذا عليه فرو قد بلّه المطر فارمعلّ «4» ، ثم أصابته الشمس فاقفعلّ «5» ، وله عينان تتقدان كأنّهما جمرتان؛ فلما رآني فهم الذي أخرجني، فأقبل نحوي وهو يرتجز ويقول:
وخارج أخرجه حبّ الطّمع ... فرّ من الموت وفي الموت وقع
من كان ينوي أهله فلا رجع
فلما رأيته قنّعت رأسي ووليت هاربا ومروان يقول: من هذا الفاضح؟ لا يفوتكم! فدخلت في غمار الناس.
لأعرابي في الغزو
: وقيل لأعرابي: ألا تغزو العدوّ؟ قال: وكيف يكونون لي عدوّا وما أعرفهم ولا يعرفونني؟(1/128)
وقيل للآخر: ألا تغزو العدوّ؟ قال: والله إني لأبغض الموت على فراشي، فكيف أخبّ «1» إليه ركضا!
لحسان يعير الحارث بن هشام
: ومما قيل في الفرّارين الجبناء من الشعر قول حسان بن ثابت يعيّر الحارث بن هشام بفراره يوم بدر، وقد تقدم ذكر ذلك:
إن كنت كاذبة الذي حدّثتني ... فنجوت منجى الحارث بن هشام
ترك الأحبّة لم يقاتل دونهم ... ونجا برأس طمرّة ولجام «2»
ملأت به الفرجين فامتدّت به ... وثوى أحبّته بشرّ مقام
وقال بعض العراقيين في رجل أكول جبان:
إذا صوّت العصفور طار فؤاده ... وليث حديد الناب عند الثّرائد
وقال فيه:
ضعيف القلب رعديد ... عظيم الخلق والمنظر «3»
رأى في النوم عصفورا ... فوارى نفسه أشهر
وقال آخر:
لو جرت خيل نكوصا ... لجرت خيل ذفافه «4»
هي لا خيل رجاء ... لا ولا خيل مخافه
وقال آخر:
خرجنا نريد مغارا لنا ... وفينا زياد أبو صعصعه
فستّة رهط به خمسة ... وخمسة رهط به أربعه(1/129)
ولم يقل أحد في وصف الجبن والفرار مثل قول الطرمّاح في بني تميم:
تميم بطرق اللؤم أهدى من القطا ... ولو سلكت سبل المكارم ضلّت
ولو أنّ برغوثا على ظهر قملة ... رأته تميم يوم زحف لولّت
ولو جمعت يوما تميم جموعها ... على ذرّة معقولة لا شملّت «1»
وليس يعاب الشجاع والبهمة البطل بالفرّة الواحدة تكون منه خاصة لا عامة؛ كما قال زفر بن الحارث وفرّ يوم مرج راهط عن أبيه وأخيه فقال:
أيذهب يوم واحد إن أسأته ... بصالح أيّامي وحسن بلائيا «2»
ولم تر مني زلّة قبل هذه ... فراري وتركي صاحبيّ ورائيا
وفرّ عمرو بن معديكرب من عباس بن مرداس وأسر أخته ريحانة: وفيها يقول عمرو:
أمن ريحانة الدّاعي السّميع ... يؤرّقني وأصحابي هجوع
وفرّ عن بني عبس وفيهم زهير بن جذيمة العبسي وولده شأس بن زهير وقيس بن زهير! فقال فيهم:
أجاعلة أمّ الثوير خزاية ... عليّ فراري إذ لقيت بني عبس «3»
لقيت أبا شأس وشأسا ومالكا ... وقيسا فجاشت من لقائهم نفسي «4»
لقونا فضمّوا جانبينا بصادق ... من الطعن مثل النار في الحطب اليبس
ولما دخلنا تحت فيء رماحهم ... خبطت بكفّي أطلب الأرض بالّلمس «5»
وليس يعاب المرء من جبن يومه ... إذا عرفت منه الشجاعة بالأمس
وقال أيضا:(1/130)
ولقد أجمع رجليّ بها ... حذر الموت وإنّي لفرور
ولقد أعطفها كارهة ... حين للنفس من الموت هرير «1»
كلّ ما ذلك منّي خلق ... وبكلّ أنا في الرّوع جدير
وابن صبح سادرا يودعني ... ماله في الناس ما عثت مجير «2»
وقال الحارث لامرأته، وذلك أنها نظرت إليه وهو يحدّ حربة يوم فتح مكة فقالت له: ما تصنع بهذه؟ قال: أعددتها لمحمد وأصحابه. فقالت: ما أرى يقوم لمحمد وأصحابه شيء. قال: والله إني لأرجو أن أخدمك بعضهم! ثم أنشأ يقول:
إن يقبلوا اليوم فما بي علّه ... هذا سلاح كامل وألّه «3»
وذو غرارين سريع السّله
فلما لقيهم خالد يوم الخندمة «4» انهزم الرجل، فلامته امرأته، فقال:
إنك لو شاهدت يوم الخندمه ... إذ فرّ صفوان وفرّ عكرمه
وأبو يزيد قائم كالموتمه ... ولحقتنا بالسيوف المسلمه «5»
يفلقن كلّ ساعد وجمجمه ... ضربا فلا تسمع إلّا غمغمه «6»
لهم نهيت خلفنا وهمهمه ... لم تنطقي في اللوم أدنى كلمه «7»
بين ابن زياد وابن زرعة
: وكان أسلم بن زرعة وجّهه عبيد الله بن زياد لحرب أبي بلال الخارجي في ألفين، وأبو بلال في أربعين رجلا: فشدّوا عليه شدّة رجل واحد فانهزم هو وأصحابه، فلما(1/131)
دخل على ابن زياد عنّفه في ذلك وقال: ويلك! أتمضي في ألفين وتنهزم عن أربعين؟
فخرج عنه وهو يقول: لأن يذمّني ابن زياد حيّا خير من أن يمدحني وأنا ميت- وفي رواية أخرى: أن يشتمني الأمير وأنا حيّ أحبّ إليّ من أن يدعو لي وأنا ميت. فقال شاعر الخوارج.
أألفا مؤمن فيما زعمتم ... ويهزمهم بآسك أربعونا
كذبتم، ليس ذلكم كذاكم ... ولكنّ الخوارج مؤمنونا
هم الفئة القليلة قد علمتم ... على الفئة الكثيرة ينصرونا
ومثل ذلك قول عبد الله بن مطيع بن الأسود العدوي، وكان فرّ يوم الحرّة من جيش مسلم بن عقبة، فلما كان أيام حصار الحجاج بمكة لعبد الله بن الزّبير جعل يقاتل أهل الشام ويقول:
أنا الذي فررت يوم الحرّه ... والشيخ لا يفر إلا مرّه
فاليوم أجزي فرّة بكرّه ... لا بأس بالكرّة بعد الفرّه
فلم يزل يقاتل حتى قتل.
وأحسن ما قيل في الفرار كله ما قاله قيس بن الحطيم:
إذا ما فررنا كان أسوا فرارنا ... صدود الخدود وازورار المناكب
أجالدهم يوم الحديقة حاسرا ... كأنّ يدي بالسيف مخراق لاعب «1»
وفرّ عتيبة بن الحارث بن هشام يوم ثبرة عن ابنه حزرة وقال:
يا حسرتي لقد لقيت حسره ... يا لتميم غشيتني عبره
نعم الفتى غادرته بثبره ... نجّيت نفسي وتركت حزره
هل يترك الحرّ الكريم بكره «2»(1/132)
وفرّ أبو خراش الهذلي من فائد وأصحابه، ورصدوه بعرفات فقال:
وفوني وقالوا يا خويلد لا ترع ... فقلت وأنكرت الوجوه هم هم
وقلت وقد جاوزت أصحاب فائد ... أأعجزت أولى الخيل أم أنا أحلم
فلولا ادّراك الشرّ قامت حليلتي ... تخيّر من خطّابها وهي أيّم «1»
ولولا ادّراك الشرّ أتلفت مهجتي ... وكان خراش يوم ذلك ييتم
وفرّ خبيب بن عوف يوم مرداء هجر من أبي فديك، فقال:
بذلت لهم يا قوم حولي وقوّتي ... ونصحي وما ضمّت يداي من التبر
فلما تناهى الأمر بي من عدوكم ... إلى مهجتي ولّيت أعداءكم ظهري
وطرت ولم أحفل ملامة عاجز ... يقيم لأطراف الرّدينية السّمر
فلو كان لي روحان عرّضت واحدا ... لكلّ ردينيّ وأبيض ذي أثر «2»
رجع بنا القول إلى الفرّارين والجبناء وما قيل فيهم.
للفرزدق في خالد ابن أسيد
: فرّ خالد بن عبد الله بن أسيد عن مصعب بن الزبير يوم الجفرة بالبصرة، فقال فيه الفرزدق:
وكلّ بني السّوداء قد فرّ فرّة ... فلم يبق إلّا فرّة في است خالد
فضحتم أمير المؤمنين وأنتم ... تمرّون سودانا غلاظ السّواعد
وقيل لرجل جبان في بعض الوقائع: تقدّم. فأنشأ يقول:
وقالوا تقدّم، قلت لست بفاعل ... أخاف على فخّارتي أن تحطّما
فلو كان لي رأسان أتلفت واحدا ... ولكنّه رأس إذا راح أعقما
فلو كان مبتاعا لدى السوق مثله ... فعلت ولم أحفل بأن أتقدّما
فأوتم أولادا وأرمل نسوة ... فكيف على هذا ترون التقدّما(1/133)
بين هند وابن زنباع
: وقالت هند بنت النعمان بن بشير لزوجها روح بن زنباع: كيف سودك قومك وأنت جبان غيور؟ قال: أما الجبن، فإن لي نفسا واحدة فأنا أحوطها، وأما الغيرة فما أحق بها من كانت له امرأة حمقاء مثلك، مخافة أن تأتيه بولد من غيره فترمي به في حجره.
وقال كعب بن زهير:
بخلا علينا وجبنا من عدؤكم ... لبئست الخلّتان البخل والجبن
فضائل الخيل
قال النبي صلّى الله عليه وسلّم في صفة الخيل: «أعرافها أدفاؤها «1» ، وأذنابها مذابّها «2» والخيل معقود في نواصيها الخير إلى يوم القيامة» .
وقال النبي صلّى الله عليه وسلّم: «عليكم بإناث الخيل فإنّ بطونها كنز؛ وظهورها حرز، وأصحابها معانون عليها» .
وسأل رجل النبي صلّى الله عليه وسلّم فقال: إني أريد أن أشتري فرسا أعدّه في سبيل الله. فقال له: اشتره أدهم أو كميتا أقرح أرثم، أو محجلا مطلق اليمين «3» ، فإنها ميامين الخيل.
وقيل لبعض الحكماء: أي الأموال أشرف؟ قال: فرس تتبعها فرس في بطنها فرس.(1/134)
صفة جياد الخيل
للنبي صلّى الله عليه وسلّم
: كان رسول الله صلّى الله عليه وسلّم يستحب من الخيل الشقر.
وقال: «لو جمعت خيل العرب في صعيد واحد ما سبقها إلا أشقر» .
وسأله رجل: أيّ المال خير؟ قال: سكة مأبورة، ومهرة مأمورة «1» .
وكان عليه الصلاة والسلام يكره الشّكال «2» في الخيل.
لبعضهم
: وقالوا: إنما سميت خيلا لاختيالها.
ووصف أعرابيّ فرسا فقال: إذا تركته نعس، وإذا حرّكته طار.
وأرسل مسلم بن عمرو لابن عم له بالشام يشتري له خيلا، فقال له: لا علم لي بالخيل. فقال: ألست صاحب قنص؟ قال: بلى. قال: فانظر، كل شيء تستحسنه في الكلب فاطلبه في الفرس. فأتي بخيل لم يكن في العرب مثلها.
وقال بعض الضّبّيّن في وصف فرس:
متقاذف عبل الشّوى شنج النّسا ... سبّاق أندية الجياد عميثل «3»
وإذا تعلّل بالسّياط جيادها ... أعطاك نائله ولم يتعلّل
بين المهدي وابن دراج في أفضل الخيل
: سأل المهدي مطر بن درّاج عن أي الخيل أفضل؟ قال: الذي إذا استقبلته قلت نافر، وإذا استدبرته قلت زاخر «4» ، وإذا استعرضته قلت زافر «5» . قال: فأيّ هذه(1/135)
أفضل؟ قال: الذي طرفه إمامه، وسوطه عنانه.
وقال آخر: الذي إذا مشى ردى «1» ، وإذا عدا دحا «2» ، وإذا استقبل أقعى، وإذا استدبر جبّى «3» ، وإذا استعرض استوى.
بين معاوية وصعصعة
: وسأل معاوية بن أبي سفيان صعصعة بن صوحان: أي الخليل أفضل؟ قال: الطويل الثلاث، القصير الثلاث، العريض الثلاث، الصافي الثلاث. قال: فسّر لنا. قال: أما الطويل الثلاث، فالأذن والعنق والحزام؛ وأما القصير الثلاث، فالصّلب والعسيب والقضيب؛ وأما العريض الثلاث، فالجبهة والمنخر والورك؛ وأما الصافي الثلاث، فالأديم والعين والحافر.
بين عمر بن الخطاب وعمرو بن معديكرب في عراب الخيل
: وقال عمر بن الخطاب لعمرو بن معديكرب: كيف معرفتك بعراب الخيل؟ قال:
معرفة الإنسان بنفسه وأهله وولده. فأمر بأفراس فعرضت عليه، فقال: قدّموا إليها الماء في التّراس «4» ، فما شرب ولم يكتف «5» فهو من العراب، وما ثنى سنبكه «6» فليس منها.
قلت: إنما المحفوظ أن عمر شك في العتاق والهجن، فدعا سلمان بن ربيعة الباهلي فأخبره، فدعا سلمان بطست من ماء فوضع بالأرض، ثم قدّم إليه الخيل فرسا فرسا، فما ثنى سنبكه وشرب هجنه، وما شرب ولم يثن عرّبه.(1/136)
وقال حسان بن ثابت يصف طول عنق الفرس:
بكلّ كميت جوزه نصف خلقه ... أقبّ طوال مشرف في الحوارك «1»
وقال زهير:
وملجمنا ما إن ينال قذاله ... ولا قدماه الأرض إلا أنامله «2»
وقال آخر:
له ساقا ظليم خا ... ضب فوجيء بالرّعب «3»
حديد الطّرف والمنك ... ب والعرقوب والقلب
وقال آخر «4» :
هريت قصير عذار الّلجام ... أسيل طويل عذار الرسن «5»
لم يرد بقوله «قصير عذار اللجام» قصر خدّه، وإنما أراد طويل شق الفم؛ وأراد بطول عذار الرسن، طول الخدّ.
وقال آخر:
بكلّ هريت نقيّ الأديم ... طويل الحزام قصير الّلبب «6»
لأبي عبيدة في عتاقه الفرس
: وقال أبو عبيدة: يستدلّ على عتاقة الفرس جحافله وأرنبته، وسعة منخريه، وعرى نواهقه «7» ، ودقّة حقويه وما ظهر من أعالي أذنيه، ورقة سالفتيه وأديمه، ولين(1/137)
شعره. وأبين من ذلك كله لين شكير «1» ناصيته وعرفه.
وكانوا يقولون: إذا اشتد نفسه، ورحب متنفّسه، وطال عنقه، واشتد حقوه، وانهرت شدقه، وعظمت فخذاه، وانشبخت «2» أنساؤه، وعظمت فصوصه، وصلبت حوافره ووقحت: ألحق بجياد الخيل.
قيل لرجل من بني أسد: أتعرف الفرس الكريم من المقرف «3» ؟ قال نعم: أما الكريم فالجواد الجيد، الذي نهز نهز العير «4» ، وأنّف تأنيف السّير، الذي إذا عدا اسلهب «5» ، وإذا قيّد اجلعبّ «6» ، وإذا انتصب اتلأبّ «7» .
وأما المقرف فإنه الذّلول الحجبة، الضخم الأرنبة، الغليظ الرقبة، الكثير الجلبة، الذي إذا أرسلته قال أمسكني، وإذا أمسكته قال أرسلني.
وكان محمد بن السائب الكلبي يحدث أنّ الصّافنات «8» الجياد المعروضة على سليمان ابن داود عليهما السلام كانت ألف فرس ورثها عن أبيه، فلما عرضت عليه ألهته عن صلاة العصر حتى توارث الشمس بالحجاب، فعرقبها إلا أفراسا لم تعرض عليه، فوفد أقوام من الأزد، وكانوا أصهاره، فلما فرغوا من حوائجهم، قالوا: يا نبيّ الله، إنّ أرضنا شاسعة فزوّدنا زادا يبلّغنا. فأعطاهم فرسا من تلك الخيل، وقال: إذا نزلتم منزلا فاحملوا عليه غلاما واحتطبوا؛ فإنكم لا تورون ناركم حتى يأتيكم بطعامكم. فساروا بالفرس، فكانوا لا ينزلون منزلا إلا ركبه أحدهم للقنص فلا يفلته شيء وقعت عينه من ظبي أو بقر أو حمار، إلى أن قدموا إلى بلادهم فقالوا:
«ما فرسنا إلا زاد الراكب، فسموه زاد الراكب، فأصل فحول العرب من نتاجه.(1/138)
ويقال إن «أعوج» كان منها، وكان فحلا لهلال بن عامر أنتجته أمه ببعض بيوت الحيّ، فنظروا إلى طرف يضع جحفلته على كاذتها- على الفخذ مما يلي الحياء- فقالوا: أدركوا ذلك الفرس لا ينزو على فرسكم، لعظم، «أعوج» وطول قوائمه فقاموا إليه فوجدوا المهر، فسموه أعوج.
وأخبرنا فرج بن سلام عن أبي حاتم عن الأصمعي قال: أغير على أهل النسار «1» وأعوج موثق بثمامة، «2» فجال صاحبه في متنه ثم زجره فاقتلع الثمامة، فخرجت تحف في متنه كالخدروف «3» وراءه، فعدا بياض يومه وأمسى يتعشى من جميم قباء «4» .
وقال الشاعر في وصف فرس:
وأحمر كالدّيباج أمّا سماؤه ... فريّا، وأمّا أرضه فمحول
قوله: سماؤه: أعلاه. وأرضه: أسفله، يريد قوائمه.
وللطائي نظير هذا حيث يقول:
مبتلّ متن وصهوتين إلى ... حوافر صلبة له ملس
فهو لدى الرّوع والجلائب ذو ... أعلى مندّى وأسفل يبس
أو أدهم فيه كمتة أمم ... كأنّه قطعة من الغلس «5»
صهصلق في الصّهيل، تحسبه ... أشرج حلقومه على جرس
وقال حبيب أيضا يصف فرسا أهداه إليه الحسن بن وهب الكاتب.
ما مقرب يختال في أشطانه ... ملآن من صلف به وتلهوق «6»
بجوافز حفر وصلب صلّب ... وأشاعر شعر وحلق أحلق «7»(1/139)
وبشعلة تبدو كأنّ حلولها ... في صهوتيه بدوّ شيب المفرق
ذو أولق تحت العجاج وإنّما ... من صحّة إفراط ذاك الأولق «1»
تغرى العيون به ويفلق شاعر ... في نعته عفوا وليس بمفلق
بمصعّد من نعته ومصوّب ... ومجمّع من حسنه ومفرّق
قد سالت الأوضاح سيل قرارة ... فيه فمفترق عليه وملتقي «2»
صافي الأديم كأنّما ألبسته ... من سندس ثوبا ومن إستبرق
مسودّ شطر مثل ما اسودّ الدّجى ... مبيضّ شطر كالبيضاض المهرق «3»
فكأن فارسه يصرّف إذ بدا ... في متنه ابنا للصّباح الأبلق
إمليسة إمليدة لو علّقت ... في صهوتيه العين لم تتعلّق «4»
يرقى وما هو بالسّليم ويغتدي ... دون السلاح سلاح أروع مملق «5»
لبعض الشعراء في أبي دلف
: وقال أبو سويد: شهد أبو دلف وقعة البذّ «6» وتحته فرس أدهم وعليه نضح الدم، فاستوقفه رجل من الشعراء وأنشد:
كم ذا تجرّعه المنون ويسلم ... لو يستطيع شكا إليك الأدهم
في كلّ منبت شعرة من جلده ... نمق ينمّقه الحسام المخذم «7»
وكأنّما عقد النّجوم بطرفه ... وكأنه بعرى المجرّة ملجم «8»
وكأنّه بين البوارق لقوة ... شقراء كاسرة طوت ما تطعم «9»
ما تدرك الأرواح أدنى سيره ... لا بل يفوت الرّيح فهو مقدّم(1/140)
رجعته أطراف الأسنة أشقرا ... واللون أدهم حين ضرّجه الدّم
قال: فأمر له بعشرة آلاف.
لابن عبد ربه في وصف الفرس
: ومن قولنا في وصف الفرس:
ومقربة يشقرّ في النّقع كمتها ... ويخضرّ حينا كلما بلّها الرّشّح «1»
تطير بلا ريش إلى كلّ صيحة ... وتسبح في البرّ الذي ما به سبح
وقال عديّ بن الرّقاع:
يخرجن من فرجات النّقع دامية ... كأنّ آذانها أطراف أقلام
وطلب البحتري الشاعر من سعيد بن حميد بن عبد الحميد الكاتب فرسا ووصف له أنواعا من الخيل في شعره فقال:
لأكلّفنّ العيس أبعد همّة ... يجري إليها خائف أو مرتجي
وإلى سراة بني حميد إنهم ... أمسوا كواكب أشرقت في مذحج
والبيت لولا أنّ فيه فضيلة ... تعلو البيوت بفضلها لم يحجج
فأعن على غزو العدوّ بمنطو ... أحشاؤه طيّ الرّداء المدرج
إمّا بأشقر ساطع أغشى الوغى ... منه بمثل الكوكب المتأجّج
متسربل شية طلت أعطافه ... بدم فما تلقاه غير مضرّج «2»
أو أدهم صافي الأديم كأنّه ... تحت الكميّ مظهّر بيرندج «3»
ضرم يهيج السّوط من شؤبوبه ... هيج الجنائب من حريق العرفج «4»
خفّت مواقع وطئه فلو انه ... يجري برملة عالج لم يرهج «5»(1/141)
أو أشهب يقق يضيء وراءه ... متن كمتن اللّجة المترجرج «1»
تخفى الحجول ولو بلغن لبانه ... في أبيض متألق كالدّملج «2»
أوفى بعرف أسود متفرّد ... فيما يليه وحافر فيروزجي
أو أبلق ملأ العيون إذا بدا ... من كلّ لون معجب بنموذج
جذلان تحسده الجياد إذا مشى ... عنقا بأحسن حلّة لم تنسج «3»
وعريض أعلى المتن لو علّيته ... بالزئبق المنهال لم يتدحرج
خاضت قوائمه الوثيق بناؤها ... أمواج تحنيت بهنّ مدرّج «4»
ولأنت أبعد في السّماحة همة ... من أن تضنّ بملجم أو مسرج
لامريء القيس
: وأول من شبّه الخيل بالظباء والسّرحان والنعامة، وتبعه الشعراء وحذوا حذوه وعلى مثاله- امرؤ القيس بن حجر:
له أيطلا ظبي وساقا نعامة ... وإرخاء سرحان وتقريب تتفل «5»
كأنّ على المتنين منه إذا انتحى ... مداك عروس أو صلاية حنظل «6»
مكرّ مفرّ مقبل مدبر معا ... كجلمود صخر حطّه السّيل من عل
درير كخذروف الوليد أمرّه ... تتابع كفّيه بخيط موصّل «7»
كميت يزلّ اللبد عن حال متنه ... كما زلّت الصّفواء بالمتنزّل «8»(1/142)
فأخذت الشعراء هذا التشبيه من امريء القيس فحذوا عليه، فقال طفيل الخيل:
إنّي وإن قالّ مالي لا يفارقني ... مثل النّعامة في أوصالها طول
تقريبها المرطى والجوز معتدل ... كأنّه سبد بالماء مغسول «1»
أو ساهم الوجه لم تقطع أباجله ... يصان وهو ليوم الرّوع مبذول «2»
بين عبد الملك بن مروان وأصحابه
: وقال عبد الملك بن مروان لأصحابه: أي المناديل أفضل؟ فقال بعضهم: مناديل مصر التي كأنها غرقئ «3» البيض. وقال بعضهم: مناديل اليمن التي كأنها أنوار الربيع.
فقال: ما صنعتم شيئا، أفضل المناديل مناديل عبدة بن الطّبيب حيث يقول:
لمّا نزلنا ضربنا ظلّ أخبية ... وفار باللحم للقوم المراجيل
وردا وأشقر لم ينهئه طابخه ... ما قارب النّضج منها فهو مأكول «4»
وقد وثبنا على عوج مسوّمة ... أعرافهنّ لأيدينا مناديل «5»
سوابق الخيل
قال الأصمعي: ما سبق في الرهان فرس أهضم قطّ. وأنشد لأبي النّجم:
منتفج الجوف عريض كلكله «6»
لأبي النجم في فرس هشام
: قال: وكان هشام بن عبد الملك رجلا مسبّقا لا يكاد يسبق، فسبقت له فرس أنثى وصلّت أختها، ففرح لذلك فرحا شديدا، وقال: عليّ بالشعراء. قال أبو النجم:(1/143)
فدعينا فقيل لنا: قولوا في هذا الفرس وأختها. فسأل أصحاب النشيد النّظرة حتى يقولوا. فقلت له: هل لك في رجل ينقدك إذا استنسئوك «1» ؟ قال: هات. فقلت من ساعتي:
أشاع للغرّاء فينا ذكرها ... قوائم عوج أطعن أمرها
وما نسينا بالطريق مهرها ... حين نقيس قدره وقدرها
وصبره إذا عدا وصبرها ... والماء يعلو نحره ونحرها
ملمومة شدّ المليك أسرها ... أسفلها وبطنها وظهرها «2»
قد كاد هاديها يكون شطرها ... لا تأخذ الحلبة إلا سؤرها «3»
قال أبو النجم: فأمر لي بجائزة وانصرفت.
بين الرشيد والأصمعي في فرس سابق
: أبو القاسم جعفر بن أحمد بن محمد، وأبو الحسن علي بن جعفر البصري، قالا:
حدثنا أبو سعيد عبد الملك بن قريب الأصمعي: أن هارون الرشيد ركب في سنة خمس وثمانين ومائة إلى الميدان لشهود الحلبة. قال الأصمعي: فدخلت الميدان لشهودها فيمن شهد من خواص أمير المؤمنين؛ والحلبة يومئذ أفراس للرشيد ولولديه الأمين والمأمون، ولسليمان بن أبي جعفر المنصور ولعيسى بن أبي جعفر فجاء فرس أدهم يقال له الربيذ لهرون الرشيد سابقا؛ فابتهج لذلك ابتهاجا علم ذلك في وجهه، وقال عليّ بالأصمعي. فنوديت له من كل جانب، فأقبلت سريعا حتى مثلت بين يديه، فقال: يا أصمعي، خذ بناصية الربيذ ثم صفه من قونسه إلى سنبكه؛ فإنه يقال إن فيه عشرين اسما من أسماء الطير. قلت: نعم يا أمير المؤمنين؛ وأنشدك شعرا جامعا لها من قول أبي حزرة. قال: فأنشدنا لله أبوك. قال: فأنشدته:
وأقبّ كالسّرحان تمّ له ... ما بين هامته إلى النّسر
الأقب: اللاحق المخطف البطن، وذلك يكون من خلقة وربما حدث من هزال أو(1/144)
بعد قود؛ والأنثى قبّاء، والجمع قبّ، والمصدر القبب. والسّرحان: الذئب، شبهه في ضموره وعدوه به، وجمعه سراحين: وقد قالوا: سراح. والهامة: أعلى الرأس، وهي أم الدماغ، وهي من أسماء الطير. والنسر: هو ما ارتفع من بطن الحافر من أعلاه كأنه النّوى والحصى، وهو من أسماء الطير، وجمعه نسور.
رحبت نعامته ووفّر فرخه ... وتمكن الصّردان في النحر
رحبت: اتسعت. ونعامته: جلدة رأسه التي تغطي الدماغ، وهي من أسماء الطير.
وقوله «ووفّر فرخه» الفرخ: هو الدماغ، وهو من أسماء الطيور، ووفّر أي تمّم؛ يقال: وفّرت الشيء ووفرته، بالتخفيف، موفور. والصردان: عرقان في أصل اللسان، ويقال إنهما عرقان أخضران مكتنفان باطن اللسان، منهما الرّيق ونفس الرئة؛ وهما من أسماء الطير. وفي الظهر صرد أيضا، وهو بياض يكون في موضع السرج من أثر الدّبّر؛ يقال: فرس صرد إذا كان ذلك به. والنحر: موضع القلادة من الصدر، وهو البرك.
وأناف بالعصفور من سعف ... هام أشمّ موثّق الجذر
أناف: أشرف. والعصفور: أصل منبت الناصية. والعصفور أيضا: عظم ناتيء في كل جبين. والعصفور: من الغرر أيضا، وهي التي سالت ودّقت ولم تجاوز إلى العينين ولم تستدر كالقرحة؛ وهو من أسماء الطير. والسّعف، يقال: فرس بيّن السّعف، وهو الذي سالت ناصيته. وهام: أي سائل منتشر. وأشمّ: مرتفع؛ والشّمم في الأنف:
ارتفاع قصبته. ويروى: هاد أشم. يريد عنقا مرتفعا، وجمعه هواد. وقوله: موثّق، أي شديد قويّ. والجذر: الأصل من كل شيء. قال الأصمعي وغيره: هو بالفتح.
وقال أبو عمرو بن العلاء: هو بالكسر.
وازدان بالدّيكين صلصله ... ونبت دجاجته عن الصّدر
ازدان: افتعل، من قولك زان يزين، وكان الأصل: ازتان، فقلبت التاء دالا لقرب مخرجها من مخرج الزاي، وكذلك ازداد، من زاد يزيد. والديكان: واحد هما ديك، وهو العظم الناتيء خلف الأذن، وهو الذي يقال له الخششاء والخشّاء.
والصلصل: بياض في طرف الناصية: ويقال: هو أصل الناصية: والدجاجة: اللحم(1/145)
الذي على زوره بين يديه؛ والديك والصلصل والدجاجة: من أسماء الطير.
والناهضان أمرّ جلزهما ... فكأنما عثما على كسر
الناهضان: واحدهما ناهض، وهو لحم المنكبين؛ ويقال: هو اللحم الذي يلي العضدين من أعلاهما؛ والجمع نواهض؛ ويقال في الجمع: أنهض، على غير قياس.
والناهض: فرخ القطا، وهو من أسماء الطير. وقوله: أمرّ جلزهما: أي فتل وأحكم؛ يقال أمررت الحبل فهو ممرّ، أي فتلته؛ والجلز: الشدّ. وقوله:
فكأنما عثما على كسر
أي كأنهما كسرا ثم جبرا؛ يقال: عثمت يده. والعثم: الجبر على عقدة وعوج؛ وعثمان: فعلان منه.
مسحنفر الجنبين ملتئم ... ما بين شيمته إلى الغرّ
مسحنفر الجنبين: أي منتفخهما. ملتئم: أي معتدل. وشيمته: نحره والشيمة أيضا:
من قولك: فرس أشيم: بيّن الشّيمة، وهي بياض فيه؛ ويقال: أن تكون شامة أو شام في جسده. والغرّ في الطير الذي يسمى الرخمة، وهي عضلة الساق.
وصفت سماناه وحافره ... وأديمه ومنابت الشّعر
السّماني: طائر، وهو موضع من الفرس لا أحفظه، إلا أن يكون أراد السّمامة، وهي دائرة تكون في سالفة الفرس، وهو عنقه. والسّمامة من الطير أيضا. والأديم:
الجلد.
وسما الغراب لموقعيه معا ... فأبين بينهما على قدر
سما الغراب: أي ارتفع. والغراب: رأس الورك. ويقال للصّلوين: الغرابان، وهما مكتنفا عجب الذنب. ويقال: هما أعالي الوركين. والموقعان منه: في أعالي الخاصرتين. فأبين: أي فرّق بينهما. على قدر، أي على استواء واعتدال.
واكتنّ دون قبيحه خطّافه ... ونأت سمامته عن الصّقر
اكتنّ، أي استتر. والقبيح: ملتقى الساقين، ويقال إنه مركّب الذراعين في العضدين. والخطّاف: من أسماء الطير، وهو حيث أدركت عقب الفارس إذا حرّك(1/146)
رجليه، ويقال لهذين الموضعين من الفرس: المركلان. ونأت. أي بعدت، والسّمامة:
دائرة تكون في عنق الفرس، وقد ذكرناها، وهي من أسماء الطير. والصقر: أحسبها دائرة في الرأس، وما وقفت عليها، وهي من أسماء الطير.
وتقدّمت عنه القطاة له ... فنأت بموقعها عن الحرّ
القطاة: مقعد الرّدف، وهي من أسماء الطير؛ والحرّ: من الطير، يقال: إنه ذكر الحمام. وهي من الفرس: سواد يكون في ظاهر أذنبه.
وسما على نقويه دون حداته ... خربان بينهما مدى الشّبر
النّقوان: واحد هما نقو، والجمع أنقاء. وهو عظم ذو مخ، وإنما عنى ها هنا عظام الوركين؛ لأن الخرب هو الذي تراه مثل المدهن في ورك الفرس. وهو من الطير: ذكر الحبارى. والحدأة: من الطير: وأصله الهمز ولكنه خفّف، وهي سالفة الفرس، وجمعها حداء، على وزن فعال، كما تقول: عظاءة وعظاء؛ ويقال: عظاية.
وإذا فتحت الفاء قلت حدأة، وهو الفأس ذات الرأسين، وجمعها حدأ، مثل نواة ونوى، وقطاة وقطا.
يدع الرّضيم إذا جرى فلقا ... بتوائم كمواسم سمر
الرّضيم: الحجارة. والفلق: المكسورة فلقا. بتوائم: جمع توأم، وقد قالوا: تؤام، على وزن فعال، جمع توأم؛ وهي على غير قياس. يقول: هي مثنى مثنى، يعني حوافره. والمواسم: جمع ميسم الحديد، أي إنها كمواسم الحديد في صلابتها. وقوله سمر: أي لون الحافر، وهو أصلب الحوافر.
ركّبن في محض الشّوى سبط ... كفت الوثوب مشدّد الأسر
الشوى ها هنا: القوائم، والواحدة شواة؛ ويقال: فرس محض الشوى، إذا كانت قوائمه معصوبة. سبط: سهل. كفت الوثوب. أي مجتمع، من قولك: كفتّ الشيء، إذا جمعته وتمّمته. مشدّد الأسر: أي الخلق.
قال الأصمعي: فأمر لي بألف درهم.(1/147)
لأبي العتاهية في المشمر فرس الرشيد
: وسبق يوما فرس للرشيد، يسمى المشمّر. وكان أجراه مع أفراس للفضل وجعفر ابني يحيى بن خالد البرمكي. فقال أبو العتاهية:
جاء المسمّر والأفراس يقدمها ... هونا على سرعة منها وما انتهرا «1»
وخلّف الريح حسرى وهي تتبعه ... ومرّ يختطف الأبصار والنظرا
لأبي النجم في الحلبة
: وقال أبو النجم في شعر يصف الفرس، وهو أجود شعر يصف الحلبة:
ثمّ سمعنا برهان نأمله ... قيد له من كلّ أفق جحفله
فقلت للسّائس قده أعجله ... واغد لعنّا في الرّهان نرسله «2»
نعلو به الحزن ولا نسهّله ... إذا علا الأخشب صاح جندله «3»
ترنّم النّوّح يبكي مثكله ... كأنّ في الصّوت الذي يفصّله
زمّار دفّ يتغنى جلجله ... حتى وزدنا المصر يطوى قنبله «4»
طيّ التّجار العصب إذ تنخّله ... وقد رأينا فعلهم فنفعله «5»
نطويه والطّيّ الرقيق يجدله ... نضمّر الشّحم ولسنا نهزله
حتى إذا الليل تولّى أثجله ... واتّبع الأيدي منه أرجله «6»
قمنا على هول شديد وجله ... نمدّ حبلا فوق خطّ نعدله «7»
نقول قدّم ذا وهذا أدخله ... وقام مشقوق القميص يعجله
فوق الخماسيّ قليلا يفضله ... أدرك عقلا والرّهان عمله «8»(1/148)
حتى إذا أدرك خيلا مرسله ... ثار عجاج مستطير قسطله «1»
تنفش منه الخيل ما لا تغزله ... مراّ يغطّيها ومراّ تنعله
مرّ القطا انصبّ عليه أجدله ... وهو رخيّ البال سام وهله «2»
قدّمه مثلا لمن يمتثله ... تطيره الجنّ وحينا ترجله
تسبح أخراه ويطفو أوله ... ترى الغلام ساجيا ما يركله «3»
يعطيه ما شاء وليس يسأله ... كأنّه من زبد يسربله
في كرسف النّدّاف لولا بلله ... تخال مسكا عله معلله «4»
ثم تناولنا الغلام تنزله ... عن مفرع الكتفين حلو عطله «5»
منتفج الجوف عريض كلكله ... فوافت الخيل ونحن نشكله «6»
والجنّ عكّاف به تقبّله
وقال آخر في فرس أبي الأعور السّلمي:
مرّ كلمع البرق سام ناظره ... تسبح أولاه ويطفو آخره
فما يمسّ الأرض منه حافره
قول هذا أشبه من قول أبي النجم: لأنه يقول:
تسبح أخراه ويطفو أوّله
وقال الأصمعي: إذا كان الفرس كما قال أبو النجم فحمار الكسّاح «7» أسرع منه.
لأن اضطراب مؤخره قبيح.
وقال الأصمعي: كان أبو النجم وصّافا للخيل إلا أنه غلط في هذا البيت، وقد غلط رؤبة أيضا في الفرس فقال يصف قوائمه:
يهوين شتّى ويقعن وفقا «8»(1/149)
ولما أنشده مسلم بن قتيبة، قال له: أخطأت في هذا يا أبا الجحاف، جعلته مقيّدا.
قال: قرّبني من ذنب البعير.
وأنشد الأصمعي:
قد أطرق الحيّ على سابح ... أسطع مثل الصّدع الأجرد
لمّا أتيت الحيّ في متنه ... كأنّ عرجونا بمثنى يدي «1»
أقبل يختال على شأوه ... يضرب في الأقرب والأبعد
كأنّه سكران أو عابس ... أو ابن ربّ حدث المولد
وقال غيره:
أما إذا استقبلته فكأنه ... جذع سما فوق النّخيل مشذّب
وإذا اعترضت له استوت أقطاره ... وكأنّه، مستدبرا، متصوّب
وقال ابن المعتز:
وقد يحضر الهيجاء في شنج النّسا ... تكامل في أسنانه فهو قارح «2»
له عنق يغتال طول عنانه ... وصدر إذا أعطيته الجري سابح
إذا مال عن أعطافه قلت شارب ... عناه بتصريف المدامة طافح
وقال أيضا:
ولقد وطئت الغيث يحملني ... طرف كلون الصّبح حين وقد
يمشي ويعرض في العنان كما ... صدف المعشّق بالدلال وصد «3»
طارت به رجل مرصّعة ... رجّامة لحصى الطريق ويد «4»
فكأنه موج يسيل إذا ... أطلقته وإذا حبست جمد(1/150)
الحلبة والرهان
والحلبة: مجمع الخيل، ويقال: مجتمع الخيل، ويقال: مجتمع الناس للرهان؛ وهو من قولك: حلب بنو فلان على بني فلان وأحلبوا: إذا اجتمعوا. ويقال منه: حلب الحالب اللبن في القدح: أي جمعه فيه. والمقوس: الحبل الذي يمدّ في صدور الخيل عند الإرسال للسياق. والمنصبة: الخيل حين تنصب للإرسال.
وأصل الرهان من الرهن، لأن الرجل يراهن صاحبه في المسابقة، يضع هذا رهنا وهذا رهنا، فأيهما سبق فرسه أخذ رهنه ورهن صاحبه. والرهان، مصدر راهنته مراهنة ورهانا، كما تقول: قاتلته مقاتلة وقتالا. وهذا كان من أمر الجاهلية، وهو القمار المنهيّ عنه. فإن كان الرهن من أحد هما بشيء مسمّى على أنه إن سبق لم يكن له شيء، وإن سبقه صاحبه أخذ الرهن، فهذا حلال؛ لأن الرهن إنما هو من أحد هما دون الآخر؛ وكذلك إن جعل كل واحد منهما رهنا وأدخلا بينهما محلّلا، وهو فرس ثالث يكون مع الأولين، ويسمى أيضا الدّخيل ولا يجعل لصاحب الثالث شيء، ثم يرسلون الأفراس الثلاثة، فإن سبق أحد الأوّلين أخذ رهنه ورهن صاحبه فكان له طيبا، وإن سبق الدخيل أخذ الرهنين جميعا، وإن سبق هو لم يكن عليه شيء. ولا يكون الدخيل إلا رائعا جوادا، لا يأمنان أن يسبقهما؛ وإلا فهذا قمار، لأنهما كأنهما لم يدخلا بينهما محلّلا.
قال الأصمعي: السابق من الخيل: الأول، والمصلّي: الثاني الذي يتلوه. قال: وإنما قيل له مصلّ، لأنه يكون عند صلوي السابق، وهما جانبا ذنبه عن يمينه وشماله؛ ثم الثالث والرابع لا اسم لواحد منهما إلى العاشر، فإنه يسمّى سكيتا.
قال أبو عبيدة: لم نسمع في سوابق الخيل ممن يوثق بعلمه اسما لشيء منها إلا الثاني والعاشر؛ فإن الثاني اسمه المصلّي، والعاشر السّكيت؛ وما سوى ذينك يقال له الثالث والرابع، وكذلك إلى التاسع، ثم السّكيت ويقال السّكّيت، بالتشديد والتخفيف، فما جاء بعد ذلك لم يعتدّ به. والفسكل- بالكسر- الذي يجيء آخر(1/151)
الخيل، والعامة تسميه الفسكل- بالضم.
وقال أبو عبيدة: القاشور، الذي يجيء في الحلبة آخر الخيل، وهو الفسكل، وإنما قيل للسّكيت؛ سكيت لأنه آخر العدد الذي يقف العادّ عليه. والسّكت: الوقوف، هكذا كانوا يقولون، فأما اليوم فقد غيّروا.
وكان من شأنهم أن يمسحوا على وجه السابق. قال جرير:
إذا شئتم أن تمسحوا وجه سابق ... جواد، فمدّوا في الرّهان عنانيا
ومن قولنا في هذا المعنى:
وإذا جياد الخيل ما طلها المدى ... وتقطّعت في شأوها المبهور «1»
خلّوا عناني في الرّهان ومسّحوا ... منّي بغرّة أبلق مشهور «2»
وصف السلاح
درع عليّ
: كانت درع عليّ صدرا لا ظهر لها، فقيل له في ذلك؛ فقال: إذا استمكن عدوّي من ظهري فلا يبق.
ورؤي الجراح بن عبد الله قد ظاهر بين درعين، فقيل له في ذلك؛ فقال: لست أقي بدني وإنما أقي صبري «3» .
واشترى زيد بن حاتم أدراعا وقال: إني لست أشتري أدراعا وإنما أشتري أعمارا.
وقال حبيب بن المهلّب لبنيه: لا يقعدنّ أحدكم في السوق، فإن كنتم لا بدّ فاعلين، فإلى زراد، أو سرّاج، أو ورّاق.(1/152)
بين عمر بن الخطاب وعمرو بن معد يكرب في الصمصامة
: العتبي قال: بعث عمر بن الخطاب إلى عمرو بن معد يكرب أن يبعث إليه بسيفه المعروف بالصّمصامة، فبعث به إليه، فلما ضرب به وجده دون ما كان يبلغه عنه، فكتب إليه في ذلك، فرّد عليه: إنما بعثت إلى أمير المؤمنين بالسيف، ولم أبعث بالساعد الذي يضرب به.
وسأله عمر بن الخطاب يوما عن السلاح، فقال: يسأل أمير المؤمنين عما بدا له.
قال: ما تقول في التّرس؟ قال: هو المجنّ الدائر، وعليه تدور الدوائر. قال: فما تقول في الرّمح؟ قال: أخوك وربما خانك فانقصف. قال: فالنّبل؟ قال: منايا تخطي وتصيب. قال: فما تقول في الدّرع؟ قال: مثقلة للراجل، متعبة للفارس، وإنها لحصن حصين. قال: فما تقول في السيف؟ قال: هناك لا أمّ لك يا أمير المؤمنين، فضربه عمر بالدّرة وقال: بل لا أمّ لك. قال: الحمى أضرعتني لك «1» .
لابن يامين في الصمصامة
: الهيثم بن عدي قال: وصف سيف عمرو بن معد يكرب الذي يقال له الصّمصامة لموسى الهادي، فدعا به فوضع بين يديه مجرّدا، ثم قال لحاجبه: إيذن للشعراء. فلما دخلوا أمرهم أن يقولوا فيه، فبدرهم ابن يامين «2» فقال:
حاز صمصامة الزّبيديّ عمرو ... من جميع الأنام موسى الأمين
سيف عمرو وكان فيما سمعنا ... خير ما أغمدت عليه الجفون
أخضر المتن بين حدّيه نور ... من فرند تمتدّ فيه العيون
أوقدت فوقه الصواعق نارا ... ثم ساطت به الذّعاف القيون «3»
فإذا ما سللته بهر الشم ... س ضياء فلم تكد تستبين(1/153)
فكأنّ الفرند والرّونق الجا ... ري في صفحتيه ماء معين
وكأن المنون نيطت إليه ... فهو من كل جانبيه منون «1»
نعم مخراق ذي الحفيظة في الهي ... جاء يسطو به ونعم القرين
ما يبالي من انتضاه لحرب ... أشمال سطت به أم يمين
فأمر له ببدرة وخرجوا.
الزبير بن العوام وسيف
: وضرب الزبير بن العوام يوم الخندق عثمان بن عبد الله بن المغيرة فقطّه إلى القربوس؛ فقالوا: ما أجود سيفك! فغضب- يريد أن العمل ليده لا لسيفه- وقال:
متى تلقني يعدو ببزّي مقلّص ... كميت بهيم أو أغرّ محجّل «2»
تلاق امرء إن تلقه فبسيفه ... تعلّمك الأيام ما كنت تجهل
وقال أبو الشّيص:
ختلته المنون بعد اختيال ... بين صفّين من قنّا ونصّال «3»
في رداء من الصفيح صقيل ... وقميص من الحديد مذال «4»
لأبي الأغر يوصي ابنه
: وبلغ أبا الأغر التميميّ أنّ أصحابه بالبادية قد وقع بينهم شر، فوجّه إليهم ابنه الأغرّ وقال: يا بنيّ، كن يدا لأصحابك على من قاتلهم، وإياك والسيف فإنه ظلّ الموت، واتق الرّمح فإنه رشاء المنيّة «5» ، ولا تقرب السهام فإنها رسل لا تؤامر مرسلها. قال: فماذا أقاتل؟ قال: بما قال الشاعر:
جلاميد يملأن الأكفّ كأنّها ... رءوس رجال حلّقت بالمواسم(1/154)
وذكر أعرابيّ قوما تحاربوا فقال: أقبلت الفحول، تمشي مشي الوعول، فلما تصافحوا بالسيوف، فغرت «1» المنايا أفواهها.
وقال آخر يذكر قوما أسروا: استنزلوهم عن الجياد بليّنة الخرصان «2» ، ونزعوهم نزع الدّلاء بالأشطان «3» .
وقال أعرابي في آخرين ابتغوا قوما أغاروا عليهم، فقال: احتثّوا كل جماليّة عيرانة «4» ، كيما يخصفون أخفاف المطيّ بحوافر الخيل، حتى أدركوهم بعد ثالثة، فجعلوا المرّان أرشية المنايا فاستقوا بها أرواحهم.
ومن أحسن ما قيل في السيف قول حبيب:
ونبّهن مثل السيف لو لم تسلّه ... يدان لسلّته ظباه من الغمد
وقال في صفة الرماح:
مثقّفات سلبن الروم زرقتها ... والعرب ألوانها والعاشق القضفا «5»
ومن الإفراط القبيح قول النابغة في وصف السيف:
يقدّ السّلوقيّ المضاعف نسجه ... ويوقد في الصّفّاح نار الحباحب «6»
فذكر أنه يقدّ الدرع المضاعف نسجه، والفارس، والفرس، ويقع بها في الأرض فيقدح النار من الحجارة.
وأقبح منه في الإفراط قول الآخر:
تظل تحفر عنه إن ضربت به ... بعد الذراعين والقيدين والهادي «7»(1/155)
وقد جمع العلويّ وصف الخيل والسلاح كله فأحسن وجوّد حيث يقول:
بحسبي من مالي من الخيل أعيط ... سليم الشّظى عاري النّواهق أمعط «1»
وأبيض من ماء الحديد مهنّد ... وأسمر عسّال الكعوب عنطنط «2»
وبيضاء كالضّحضاح زغف مفاضة ... يكفّتها عنّي نجاد مخطّط «3»
ومعطوفة الأطراف كبداء سمحة ... منفّجة الأعضاد صفراء شوحط «4»
فيا ليت مالي غير ما قد جمعته ... على لجّة تيّارها يتغطغط «5»
ويا ليتني أمسي على الدّهر ليلة ... وليس على نفسي أمير مسلّط
لابن عبد ربه
: ومن قولنا في وصف الرمح والسيف:
بكلّ ردينيّ كأنّ سنانه ... شهاب بدا في ظلمة اللّيل ساطع
تقاصرت الآجال في طول متنه ... وعادت به الآمال وهي فجائع
وساءت ظنون الحرب في حسن ظنّه ... فهنّ ظبات للقلوب قوارع «6»
وذي شطب تقضي المنايا بحكمه ... وليس لما تقضي المنيّة دافع
فرند إذا ما اعتنّ للعين راكد ... وبرق إذا ما اهتز بالكفّ لامع
يسلّل أرواح الكماة انسلاله ... ويرتاع منه الموت والموت رائع
إذا ما التقت أمثاله في وقيعة ... هنالك ظنّ النفس بالنفس واقع
ومن قولنا في وصف السيف:(1/156)
بكلّ مأثور على متنه ... مثل مدب النّمل بالقاع
يرتدّ طرف العين من حدّه ... عن كوكب للموت لمّاع
وقال إسحاق بن خلف البهراني في صفة السيف:
ألقى بجانب خصره ... أمضي من الأجل المتاح
وكأنما ذرّ الهبا ... عليه أنفاس الرّياح «1»
ومن جيد صفات السيف قول الغنوي:
حسام غداة الرّوع ماض كأنّه ... من الله في قبض النفوس رسول
كأنّ على إفرنده موج لجّة ... تقاصر في ضحضاحه وتطول
كأنّ جيوش الذّرّ كسّرن فوقه ... قرون جراد بينهن ذحول «2»
النزع بالقوس
إبراهيم الشيباني قال: كان رجل من أهل الكوفة قد بلغه عن رجل من أهل لسلطان أنه يعرض له ضيعة بواسط في مغرم لزمه للخليفة؛ فحمل وكيلا له على بغل وأترع «3» له خرجا بدنانير، وقال له: اذهب إلى واسط فاشتر لي هذه الضيعة المعروضة، فإن كفاك ما في هذا الخرج وإلا فاكتب إلى أمدّك بالمال. فخرج، فلما أصحر عن البيوت، لحق به أعرابي راكب على حمار معه قوس وكنانة؛ فقال له: إلى أين تتوجه؟ فقال: إلى واسط. قال: فهل لك في الصّحبة؟ قال: نعم. فسارا حتى فوّزا، فعنت لهما ظباء، فقال له الأعرابي: أيّ هذه الظباء أحبّ إليك: المتقدم منها أم المتأخر فأزكّيه «4» لك؟ قال له: المتقدم. فرماه فخرمه بالسهم، فاشتويا وأكلا، فاغتبط الرجل بصحبة الأعرابي، ثم عنّ له زفّة قطا، فقال: أيها تريد فأصرعها لك؟(1/157)
فأشار إلى واحدة منها فرماها فأقصدها، ثم اشتويا وأكلا، فلما انقضى طعامهما فوّق له الأعرابي سهما ثم قال له: أين تريد أن أصيبك؟ فقال له: اتق الله واحفظ زمام الصحبة. قال: لابد منه! قال له: اتق الله ربك واستبقني، ودونك البغل والخرج فإنه مترع مالا. قال: فاخلع ثيابك. فانسلخ من ثيابه ثوبا ثوبا حتى بقي مجرّدا. قال له:
اخلع أمواقك «1» . وكان لابسا خفّين طائفيّين، فقال له: اتق الله فيّ ودع لي الخفين أتبلّغ بهما من الحرّ، فإن الرّمضاء تحرق قدميّ. قال: لا بدّ منه. قال فدونك الخف فاخلعه. فلما تناول الخفّ، ذكر الرجل خنجرا كان معه في الخف، فاستخرجه ثم ضرب به صدره فشقه إلى عانته، وقال له: الاستقصاء فرقة. فذهبت مثلا. وكان هذا الأعرابي من رماة الحدق «2» .
بين لص ورام
: وحدّث العتبي عن بعض أشياخه قال: كنت عند المهاجر بن عبد الله والى اليمامة، فأتي بأعرابي كان معروفا بالسرق فقال له: أخبرني عن بعض عجائبك. قال: عجائبي كثيرة، ومن أعجبها أنه كان لي بعير لا يسبق، وكانت لي خيل لا تلحق، فكنت أخرج فلا أرجع خائبا، فخرجت يوما فاحترشت «3» ضبّا، فعلّقته على قتبي، ثم مررت بخباء ليس فيه إلا عجوز ليس معها غيرها، فقلت: يجب أن يكون لهذه رائحة من غنم وإبل. فلما أمسيت إذا بإبل مائة، وإذا شيخ عظيم البطن، شثن الكفين «4» ، ومعه عبد أسود، فلما رآني رحب بي، ثم قام إلى ناقة فاحتلبها، وناولني العلبة. فشربت ما يشرب الرجل، فتناول الباقي فضرب به جبهته، ثم احتلب تسع أينق فشرب ألبانهن، ثم نحر حوارا «5» فطبخه، فأكلت شيئا، وأكل الجميع حتى ألقى عظامه بيضا، وجثا على كومة من البطحاء وتوسدها ثم غط غطيط البكر. فقلت:(1/158)
هذه والله الغنيمة، ثم قمت إلى فحل إبله فخطمته «1» : ثم قرنته ببعيري وصحت به، فاتّبعني الفحل واتّبعته الأبل إربابا به في قطار «2» ، فصارت خلفي كأنها حبل ممدود؛ فمضيت أبادر ثنيّة بيني وبينها مسيرة ليلة للمسرع، ولم أزل أضرب بعيري، مرة بيدي، ومرة برجلي، حتى طلع الفجر؛ فأبصرت الثنية، وإذا عليها سواد، فلما دنوت منه إذا الشيخ قاعد وقوسه في حجره! فقال: أضيفنا؟ قلت: نعم! قال: أتسخو نفسك عن هذه الإبل؟ قلت: لا. فأخرج سهمّا كأنه لسان كلب، ثم قال: انظره بين أذني الضبّ المعلّق في القتب. ثم رماه فصدع عظمه عن دماغه، فقال لي: ما تقول؟
قلت: أنا على رأيي الأول. قال: انظر هذا السهم الثاني في فقرة ظهره الوسطى، ثم رمى به فكأنما قدّره بيده ثم وضعه بأصبعه، ثم قال: رأيك؟ فقلت: إني أحب أن أستثبت. قال: انظر هذا السهم الثالث في عكوة ذنبه، والرابع والله في بطنك. ثم رماه فلم يخطيء العكوة؛ قلت: أنزل آمنا؟ قال: نعم. فدفعت إليه خطام فحله وقلت: هذه إبلك لم تذهب منها وبرة. وأنا أنظر متى يرميني بسهم يقصد به قلبي؛ فلما تباعدت قال: أقبل! فأقبلت والله فرقا من شره لا طمعا في خيره. فقال: ما أحسبك تجشمت الليلة ما تجشمت إلا من حاجة! قلت نعم. قال: فاقرن من هذه الإبل بعيرين وامض لطيّتك. قال: قلت: أما والله لا أمضي حتى أخبرك عن نفسك؛ فلا والله ما رأيت أعرابيا قط أشدّ ضرسا، ولا أعدى رجلا، ولا أرمى يدا، ولا أكرم عفوا، ولا أسخى نفسا، منك. فصرف وجهه عني حياء وقال: خذ الإبل برمتها مباركا لك فيها.
للنبي صلّى الله عليه وسلّم في الرمي
: وقال النبي صلّى الله عليه وسلّم: «اركبوا وارموا؛ وأن ترموا أحبّ إليّ من أن تركبوا» .
وقال: «كل لهو المؤمن باطل إلا في ثلاث: تأديبه فرسه ورميه عن كبد قوسه، وملاعبته امرأته؛ فإنه حق. إن الله ليدخل الجنة بالسهم الواحد عامله المحتسب،(1/159)
والقويّ به في سبيل الله، أي والرامي به في سبيل الله» .
وروي عن عقبة بن عامر قال: سمعت رسول الله صلّى الله عليه وسلّم يقول وهو قائم على المنبر:
وَأَعِدُّوا لَهُمْ مَا اسْتَطَعْتُمْ مِنْ قُوَّةٍ
«1» . ألا إنّ القوة الرمي. ألا إنّ القوة الرمي.
ألا إنّ القوة الرمي.
وكان أرمى أصحاب رسول الله صلّى الله عليه وسلّم سعد بن أبي وقاص؛ لأن رسول الله صلّى الله عليه وسلّم دعا له فقال: اللهم سدّد رميته، وأجب دعوته. فكان لا يردّ له دعاء، ولا يخيب له سهم.
النبي صلّى الله عليه وسلّم ورماة من أسلم
: وذكر أسامة بن زيد: أنّ شيوخا من أسلم حدّثوه، أنّ رسول الله صلّى الله عليه وسلّم جاءهم وهم يرمون ببطحان، فقال رسول الله صلّى الله عليه وسلّم: ارموا يا بني إسمعيل، فقد كان أبوكم راميا، وأنا مع ابن الأدرع. فتعدّى القوم فقالوا: يا رسول الله، من كنت معه فقد نضل «2» . قال رسول الله صلّى الله عليه وسلّم: أرموا وأنا معكم كلكم. فانتضلوا ذلك اليوم ثم رجعوا بالسواء؛ ليس لأحد على أحد منهم فضل.
لعمر بن الخطاب
: وقال عمر: ائتزروا وارتدوا، وانتعلوا واحتفوا، وارموا الأغراض، والقوا الرّكب، وانزوا على الخيل نزوا «3» ، وعليكم بالمعدّيّة- أو قال: بالعربية- ودعوا التنعّم وزيّ العجم.
وقال أيضا: لن تخور قواكم ما نزوتم ونزعتم. يعني نزوتم على ظهور الخيل ونزعتم بالقسيّ.(1/160)
لرجل من البادية يذمر قومه
: وجنى قوم من أهل اليمامة «1» جناية، فأرسل السلطان إليهم جندا من محاربة بن زياد. فقام رجل من أهل البادية يذمّر أصحابه فقال: يا معشر العرب، ويا بني المحصنات، قاتلوا عن أحسابكم وأنسابكم؛ فو الله لئن ظهر هؤلاء عليكم لا يدعون بها لبنة حمراء ولا نخلة خضراء إلا وضعوها بالأرض، ولا عتراكم من نشّاب معهم في جعاب كأنها أيور الفيلة ينزعون في قسّي كأنها الغبط «2» ، تئطّ «3» إحداهن أطيط الزّرنوق «4» ، يمعط «5» أحدهم فيها حتى يتفرّق شعر إبطيه، ثم يرسل نشّابة كأنها رشاء منقطع، فما بين أحدكم وبين أن تنفضخ عينه أو ينصدع قلبه منزلة. فخلع قلوبهم فطاروا رعبا.
مشاورة المهدي لأهل بيته في حرب خراسان
هذا ما تراجع فيه المهديّ ووزراؤه، وما دار بينهم من تدبير الرأي في حرب خراسان، أيام تحاملت عليهم العمال وأعنفت، فحملتهم الدالة وما تقدّم لهم من المكانة على أن نكثوا بيعتهم، ونقضوا موثقهم، وطردوا العمال، والتووا بما عليهم من الخراج. وحمل المهديّ ما يحب من مصلحتهم ويكره من عنتهم على أن أقال عثرتهم «6» ، واغتفر زلّتهم، واحتمل دالّتهم؛ تطوّلا بالفضل، واتساعا بالعفو، وأخذا بالحجة، ورفقا بالسياسة؛ ولذلك لم يزل مذ حمّله الله أعباء الخلافة، وقلّده أمور(1/161)
الرعية، رفيقا بمدار سلطانه، بصيرا بأهل زمانه، باسطا للمعدلة في رعّيته؛ تسكن إلى كنفه، وتأنس بعفوه، وتثق بحلمه؛ فإذا وقعت الأقضية اللازمة، والحقوق الواجبة، فليس عنده هوادة ولا إغضاء ولا مداهنة «1» ؛ أثرة للحق، وقياما بالعدل، وأخذا بالحزم. فدعا أهل خراسان الاغترار بحلمه، والثقة بعفوه، أن كسروا الخراج، وطردوا العمال، وسألوا ما ليس لهم من الحقّ؛ ثم خلطوا احتجاجا باعتذار، وخصومة بإقرار، وتنصّلا باعتلال. فلما انتهى ذلك إلى المهدي، خرج إلى مجلس خلّائه، وبعث إلى نفر من لحمته ووزرائه، فأعلمهم الحال، واستنحصهم للرعية؛ ثم أمر الموالي بالابتداء؛ وقال للعباس بن محمد: أي عم، تعقّب قولنا، وكن حكما بيننا.
وارسل إلى ولديه موسى وهارون فأحضرهما الأمر، وشاركهما في الرأي. وأمر محمد ابن الليث بحفظ مراجعتهم وإثبات مقالتهم في كتاب.
فقال سلّام صاحب دار المظالم: أيها المهدى، إن في كل أمر غاية، ولكل قوم صناعة، استفرغت رأيهم، واستغرقت أشغالهم، واستنفدت أعمارهم، وذهبوا بها وذهبت بهم، وعرفوا بها وعرفت بهم؛ ولهذه الأمور التي جعلتنا فيها غاية وطلبت معونتنا عليها: أقوام من أبناء الحرب، وساسة الأمور، وقادة الجنود، وفرسان الهزاهز «2» ، وإخوان التجارب، وأبطال الوقائع، الذين رشحتهم سجالها، وفيّأتهم ظلالها، وعضّتهم شدائدها، وقرمتهم نواجذها «3» ؛ فلو عجمت ما قبلهم، وكشفت ما عندهم، لوجدت نظائر تؤيّد أمرك، وتجارب توافق نظرك، وأحاديث تقوّي قلبك. فأما نحن معاشر عمّا لك، وأصحاب دو اوينك، فحسن بنا وكثير منّا أن نقوم بثقل ما حمّلتنا من عملك، واستودعتنا من أمانتك، وشغلتنا به من إمضاء عدلك وإنفاذ حكمك، وإظهار حقك.
فأجابه المهدي: إن في كل قوم حكمة، ولكل زمان سياسة، وفي كل حال تدبير يبطل الآخر الأوّل؛ ونحن أعلم بزماننا وتدبير سلطاننا.(1/162)
قال: نعم أيها المهدي، أنت متسع الرأي، وثيق العقدة قوي المنّة «1» ، بليغ الفطنة، معصوم النية، محضور الرّويّة، مؤيّد البديهة، موفّق العزيمة، معان بالظفر، مهديّ إلى الخير؛ إن هممت ففي عزمك مواقع الظنّ، وإن أجمعت صدع فعلك ملتبس الشك، فاعزم يهد الله إلى الصواب قلبك، وقل ينطق الله بالحق لسانك، فإن جنودك جمة، وخزائنك عامرة، ونفسك سخية، وأمرك نافذ.
فأجابه المهدي: إن المشاورة والمناظرة بابا رحمة ومفتاحا بركة، لا يهلك عليهما رأي، ولا يتفيّل «2» معهما حزم؛ فأشيروا برأيكم، وقولوا بما يحضركم؛ فإني من ورائكم، وتوفيق الله من وراء ذلك.
قال الربيع: أيها المهدي، إنّ تصاريف وجوه الرأي كثيرة، وإن الإشارة ببعض معاريض القول «3» يسيرة؛ ولكنّ خراسان أرض بعيدة المسافة، متراخية الشّقة، متفاوتة السّبل، فإذا ارتأيت من محكم التّدبير، ومبرم التقدير، ولباب الصواب. رأيا قد أحكمه نظرك، وقلّبه تدبيرك، فليس وراءه مذهب لحجة طاعن، ولا دونه متعلق لخصومة عائب، ثم خبّت «4» البرد به، وانطوت الرسل عليه. كان بالحرى ألّا يصل إليهم محكمه إلا وقد حدث منهم ما ينقضه؛ فما أيسر أن ترجع إليك الرسل وترد عليك الكتب بحقائق أخبارهم، وشوارد آثارهم، ومصادر أمورهم؛ فتحدث رأيا غيره، وتبتدع تدبيرا سواه، وقد انفرجت الحلق «5» ، وتحلّلت العقد، واسترخى الحقاب «6» ، وامتد الزمان. ثم لعلّما موقع الآخرة كمصدر الأولى. ولكن الرأي لك أيها المهدي وفّقك الله، أن تصرف إجالة النظر، وتقليب الفكر فيما جمعتنا له واستشرتنا فيه من التدبير لحربهم والحيل في أمرهم، إلى الطلب لرجل ذي دين(1/163)
فاضل، وعقل كامل، وورع واسع، ليس موصوفا بهوى في سواك، ولا متهما في أثرة عليك، ولا ظنينا على دخلة مكروهة، ولا منسوبا إلى بدعة محذورة، فيقدح في ملكك، ويربّض الأمور لغيرك، ثم تسند إليه أمورهم، وتفوض إليه حربهم، وتأمره في عهدك ووصيتك إياه بلزوم أمرك ما لزمه الحزم، وخلاف نهيك إذا خالفه الرأي، عند استحالة الأمور واستدارة الأحوال التي ينقص أمر الغائب عنها، ويثبت رأي الشاهد لها، فإنه إذا فعل ذلك فواثب أمرهم من قريب، وسقط عنه ما يأتي من بعيد، تمت الحيلة، وقويت المكيدة، ونفذ العمل، وأحد النظر إن شاء الله.
قال الفضل بن العباس: أيها المهدي، إن وليّ الأمور، وسائس الحروب، ربما نحّى جنوده، وفرّق أمواله، في غير ما ضيق أمر حزبه. ولا ضغطة حال اضطرّته، فيقعد عند الحاجة إليها ويعد التفرقة لها عديما منها، فاقدا لها، لا يثق بقوة، ولا يصول بعدّة، ولا يفزع إلى ثقة. فالرأي لك أيها المهدي وفقك الله، أن تعفي خزائنك من الإنفاق للأموال، وجنودك من مكابدة الأسفار، ومقارعة الأخطار وتغرير القتال.
ولا تسرع للقوم في الإجابة إلى ما يطلبون، والإعطاء لما يسألون، فيفسد عليك أدبهم، وتجرّيء من رعيتك غيرهم؛ ولكن اغزهم بالحيلة، وقاتلهم بالمكيدة، وصارعهم باللين، وخاتلهم بالرفق «1» ، وأبرق لهم بالقول، وأرعد نحوهم بالفعل، وابعث البعوث، وجند الجنود وكتّب الكتائب، واعقد الألوية، وانصب الرايات، وأظهر أنك موجّه إليهم الجيوش مع أحنق «2» قوادك عليهم، وأسوئهم أثرا فيهم، ثم ادسس الرسل، وابثث الكتب، وضع بعضهم على طمع من وعدك، وبعضا على خوف من وعيدك، وأوقد بذلك وأشباهه نيران التحاسد فيهم، واغرس أشجار التنافس بينهم، حتى تملأ القلوب من الوحشة، وتنطوي الصدور على البغضة، ويدخل كلّا من كلّ الحذر والهيبة؛ فإن مرام الظفر بالغيلة، والقتال بالحيلة، والمناصبة بالكتب، والمكايدة بالرسل، والمقارعة بالكلام اللطيف المدخل في القلوب، القوي الموقع من النفوس، المعقود بالحجج، الموصول بالحيل، المبنيّ على الّلين، الذي(1/164)
يستميل القلوب، ويسترقّ العقول، ويسبي الآراء، ويستميل الأهواء، ويستدعي المواتاة «1» - أنفذ من القتال بظبات السيوف وأسنة الرماح: كما أن الوالي الذي يستنزل طاعة رعيّته بالحيل، ويفرّق كلمة عدوه بالمكايدة، أحكم عملا وألطف نظرا وأحسن سياسة من الذي لا ينال ذلك إلا بالقتال، والإتلاف للأموال، والتغرير والخطار.
وليعلم المهدي- وفقه الله- أنه إن وجه لقتالهم رجلا، لم يسر لقتالهم إلا بجنود كثيفة تخرج على حال شديدة، وتقدم على أسفار ضيقة، وأهوال متفرّقة، وقواد غششة «2» ، إن ائتمنهم استنفدوا ماله، وإن استنصحهم كانوا عليه لا له.
قال المهدي: هذا رأي قد أسفر نوره، وبرق ضوؤه، وتمثل صوابه للعيون، وتجسد حقه في القلوب، ولكن فوق كلّ ذي علم عليم.
ثم نظر إلى ابنه عليّ فقال: ما تقول؟
قال علي: أيها المهدي، إن أهل خراسان لم يخلعوا من طاعتك يدا، ولم ينصبوا من دونك أحدا يكدح في تغيير ملكك، ويربّض «3» الأمور لفساد دولتك؛ ولو فعلوا لكان الخطب أيسر، والشأن أصغر، والحال أدل؛ لأن الله مع حقه الذي لا يخذله، وعند موعده الذي لا يخلفه: ولكنهم قوم من رعيتك، وطائفة من شيعتك، الذين جعلك الله عليهم واليا، وجعل العدل بينك وبينهم حاكما، طلبوا حقا، وسألوا إنصافا؛ فإن أجبت إلى دعوتهم، ونفست عنهم قبل أن تتلاحم منهم حال، أو يحدث من عندهم فتق، أطعت أمر الرب، وأطفأت نائرة الحرب «4» ، ووفّرت خزائن المال، وطرحت تغرير «5» القتال؛ وحمل الناس محمل ذلك على طبيعة جودك وسجيّة حلمك، وإسجاح خليقتك «6» ، ومعدلة نظرك؛ فأمنت أن تنسب إلى ضعفة، وأن يكون ذلك لهم فيما بقي دربة. وإن منعتهم ما طلبوا، ولم تجبهم إلى ما سألوا،(1/165)
اعتدلت بك وبهم الحال، وساويتهم في ميدان الخطاب. فما أرب المهدي أن يعمد إلى طائفة من رعيته: مقرّين بمملكته، مذعنين لطاعته، لا يخرجون أنفسهم عن قدرته، ولا يبرئونها من عبوديّته، فيملّكهم أنفسهم، ويخلع نفسه عنهم، ويقف على الجدل معهم، ثم يجازيهم السوء في جد المقارعة، ومضمار المخاطرة؟ أيريد المهدي- وفقه الله- الأموال؟ فلعمري لا ينالها ولا يظفر بها إلا بإنفاق أكثر مما يطلب منهم، وأضعاف ما يدّعي قبلهم؛ ولو نالها فحملت إليه، أو وضعت بخرائطها بين يديه، ثم تجافى لهم عنها، وطال عليهم بها، لكان مما إليه ينسب وبه يعرف، من الجود الذي طبعه الله عليه، وجعل قرّة عينه ونهمة نفسه فيه. فإن قال المهدي: هذا رأي مستقيم سديد في أهل الخراج الذين شكوا ظلم عمّالنا وتحامل ولاتنا، فأما الجنود الذين نقضوا مواثيق العهود، وأنطقوا لسان الإرجاف «1» ، وفتحوا باب المعصية، وكسروا قيد الفتنة؛ فقد ينبغي لهم أن أجعلهم نكالا لغيرهم؛ وعظة لسواهم. فيعلم المهدي أنه لو أتى بهم مغلولين في الحديد، مقرّنين في الأصفاد، ثم اتسع لحقن دمائهم عفوه، ولإقالة عثرتهم صفحه، واستبقاهم لما هم فيه من حربه، أو لمن بإزائهم من عدوّه، لما كان بدعا من رأيه، ولا مستنكرا من نظره. لقد علمت العرب أنه أعظم الخلفاء والملوك عفوا، وأشدّها وقعا، وأصدقها صولة، وأنه لا يتعاظمه عفو، ولا يتكاءده «2» صفح، وإن عظم الذنب وجلّ الخطب. فالرأي للمهدي- وفقه الله تعالى- أن يحل عقدة الغيظ بالرجاء لحسن ثواب الله في العفو عنهم، وأن يذكر أولى حالاتهم وضيعة عيالاتهم، برّا بهم، وتوسّعا لهم، فإنهم إخوان دولته، وأركان دعوته، وأساس حقه، الذين بعزتهم يصول، وبحجتهم يقول. وإنما مثلهم فيما دخلوا فيه من مساخطه، ونعرّضوا له من معاصيه، وانطووا فيه عن إجابته؛ ومثله في قلة ما غيّر ذلك من رأيه فيهم، أو نقل من حاله لهم، أو تغيّر من نعمته بهم- كمثل رجلين أخوين متناصرين متوازرين، أصاب أحدهما خبل عارض «3» ، ولهو حادث، فنهض(1/166)
إلى أخيه بالأذى، وتحامل عليه بالمكروه؛ فلم يزدد أخوه إلا رقّة له، ولطفا به، واحتيالا لمداواة مرضه، ومراجعة حاله، عطفا عليه، وبرّا به، ومرحمة له.
فقال المهدي: أما عليّ فقد نوى اللّيان، وفضّ القلوب عن أهل خراسان، ولكل نبأ مستقر وسوف تعلمون. ثم قال: ما ترى يا أبا محمد؟ يعني موسى ابنه.
فقال موسى: أيها المهدي، لا تسكن إلى حلاوة ما يجري من القول على ألسنتهم، وأنت ترى الدماء تسيل من خلل فعلهم. والحال من القوم تنادي بمضمرة شرّ، وخفيّة حقد، قد جعلوا المعاذير عليها سترا، واتخذوا العلل من دونها حجابا، رجاء أن يدافعوا الأيام بالتأخير، والأمور بالتطويل، فيكسروا حيل المهدي فيهم، ويثنوا جنوده عنهم، حتى يتلاحم أمرهم، وتتلاحق مادّتهم، وتستفحل حربهم، وتستمرّ الأمور بهم؛ والمهديّ من قوتهم في حال غرة «1» ! ولباس أمنة، قد فتر «2» لها، وأنس بها، وسكن إليها. ولولا ما اجتمعت له قلوبهم، وبردت عليه جلودهم، من المناصبة بالقتال، والإضمار للقراع، عن داعية ضلال أو شيطان فساد، لرهبوا عواقب أحوال الولاة، وغبّ سكون الأمور. فليشدد المهدي- وفقه الله- أزره لهم، ويكتّب كتائبه نحوهم، وليضع الأمر على أشدّ ما يحضره فيهم، وليوقن أنه لا يعطيهم خطة يريد بها صلاحهم إلا كانت دربة لفسادهم، وقوة على معصيتهم، وداعية إلى عودتهم، وسببا لفساد من بحضرته من الجنود، ومن ببابه من الوفود الذين إن أقرّهم على تلك العادة، وأجراهم على ذلك الأدب لم يبرح في فتق حادث، وخلاف حاضر، لا يصلح عليه دين، ولا تسقيم به دنيا. وإن طلب تغييره بعد استحكام العادة، واستمرار الدّربة، لم يصل إلى ذلك بالعقوبة المفرطة، والمئونة الشديدة. والرأي للمهدي- وفقه الله- ألّا يقيل عثرتهم، ولا يقبل معذرتهم، حتى تطأهم الجيوش، وتأخذهم السيوف.
ويستحرّ «3» بهم القتل، ويحدق بهم الموت، ويحيط بهم البلاء، ويطبق عليهم الذل.(1/167)
فإن فعل المهديّ بهم ذلك كان مقطعة لكل عادة سوء فيهم، وهزيمة لكل بادرة شرّ منهم. واحتمال المهدي مؤونة غزوتهم هذه يضع عنه غزوات كثيرة، ونفقات عظيمة.
قال المهدي: قد قال القوم فاحكم يا أبا الفضل.
فقال العباس بن محمد: أيها المهدي، أما الموالي فأخذوا بفروع الرأي، وسلكوا جنبات الصواب، وتعدّوا أمورا قصّر بنظرهم عنها أنه لم تأت تجاربهم عليها.
وأما الفضل فأشار بالأموال ألا تنفق، والجنود ألا تفرّق، وبأن لا يعطى القوم ما طلبوا، ولا يبذل لهم ما سألوا، وجاء بأمر بين ذلك، استصغارا لأمرهم واستهانة بحربهم، وإنما يهيج جسيمات الأمور صغارها.
وأما عليّ فأشار باللين وإفراط الرفق. وإذا جرّد الوالي لمن غمط «1» أمره وسفه حقّه، اللين بحتا، والخير محضا، لم يخلطهما بشدة تعطف القلوب على لينه، ولا بشر يحيشهم «2» إلى خيره؛ فقد ملّكهم الخلع لعذرهم «3» ووسّع لهم الفرجة لثنى أعناقهم، فإن أجابوا دعوته، وقبلوا لينه من غير ما خوف اضطرهم، ولا شدة حال أخرجتهم، لم يزل ذلك يهيج عزة في نفوسهم، ونزوة في رءوسهم، يستدعون بها البلاء إلى أنفسهم؛ ويصرفون بها رأي المهدي فيهم. وإن لم يقبلوا دعوته، ويسرعوا لإجابته بالّلين المحض والخير الصّراح، فذلك ما عليه الظنّ بهم، والرأي فيهم، وما قد يشبه أن يكون من مثلهم؛ لأن الله تعالى خلق الجنة وجعل فيها من النعيم المقيم والملك الكبير ما لا يخطر على قلب بشر، ولا تدركه الفكر، ولا تعلمه نفس؛ ثم دعا الناس إليها ورغّبهم فيها؛ فلولا أنه خلق نارا جعلها لهم رحمة يسوقهم بها إلى الجنة، لما أجابوا ولا قبلوا.
وأما موسى فأشار بأن يعصبوا بشدّة لا لين فيها، وأن يرموا بشرّ لا خير معه.(1/168)
وإذا أضمر الوالي لمن فارق طاعته وخالف جماعته، الخوف مفردا والشرّ مجردا، ليس معهما طمع يكسرهم، ولا لين يثنيهم، امتدت الأمور بهم، وانقطعت الحال منهم إلى أحد أمرين: إما أن تدخلهم الحميّة من الشدة، والأنفة من الذلّة، والامتعاض «1» من القهر، فيدعوهم ذلك إلى التمادي في الخلاف، والاستبسال في القتال، والاستسلام للموت؛ وإما أن ينقادوا بالكره، ويذعنوا بالقهر، على بغضة لازمة، وعداوة باقية، تورث النفاق، وتعقب الشقاق، فإذا أمكنتهم فرصة، أو ثابت لهم قدرة، أو قويت لهم حال، عاد أمرهم إلى أصعب وأغلظ وأشدّ مما كان.
وقال: في قول الفضل أيها المهدي، أكفى دليل، وأوضح برهان، وأبين خبر بان. قد اجتمع رأيه، وحزم نظره على الإرشاد ببعثة الجيوش، إليهم، وتوجيه البعوث نحوهم، مع إعطائهم ما سألوا من الحق، وإجابتهم إلى ما سألوه من العدل.
قال المهدي: ذلك رأي.
قال هارون: خلطت الشدة أيها المهدي باللين، فصارت الشدة أمرّ فطام لما تكره، وعاد اللين أهدى قائد إلى ما تحب؛ ولكن أرى غير ذلك.
قال المهدي: لقد قلت قولا بديعا، وخالفت به أهل بيتك جميعا، والمرء متّهم بما قال، وظنين بما ادّعى، حتى يأتي ببينة عادلة، وحجة ظاهرة، فاخرج عما قلت.
قال هارون: أيها المهدي، إن الحرب خدعة، والأعاجم قوم مكرة، وربما اعتدلت الحال بهم، واتفقت الأهواء منهم، فكان باطن ما يسرّون على ظاهر ما يعلنون؛ وربما افترقت الحالان، وخالف القلب اللسان، فانطوى القلب على محجوبة تبطن، واستسرّ بمدخولة لا تعلن؛ والطبيب الرفيق بطبّه، البصير بأمره، العالم بمقدّم يده، وموضع ميسمه «2» ، لا يتعجل بالدواء حتى يقع على معرفة الداء؛ فالرأي للمهدي- وفقه الله- أن يفرّ «3» باطن أمرهم فرّ المسنّة، ويمخض ظاهر حالهم(1/169)
محض السّقاء، بمتابعة الكتب، ومظاهرة الرسل، وموالاة العيون، حتى تهتك حجب غيوبهم، وتكشف أغطية أمورهم؛ فإن انفرجت الحال له وأفضت الأمور به إلى تغيير حال أو داعية ضلال، اشتملت الأهواء عليه، وانقاد الرجال إليه، وامتدت الأعناق نحوه، بدين يعتقدونه. وإثم يستحلّونه، عصبهم بشدّة «1» . لا لين فيها، ورماهم بعقوبة لا عفو معها، وإن انفرجت الغيوب، واهتصرت السّتور، ورفعت الحجب، والحال فيهم مريعة «2» ، والأمور بهم معتدلة، عن أرزاق يطلبونها، وأعمال ينكرونها، وظلامات يّدعونها، وحقوق يسألونها، بماتّة سابقتهم، ودالّة مناصحتهم.
فالرأي للمهدي- وفقه الله- أن يتسع لهم بما طلبوا، ويتجافى لهم عما كرهوا، ويشعب «3» من أمرهم ما صدعوا، ويرتق من فتقهم ما فتقوا؛ ويولّي عليهم من أحبّوا، ويداوي بذلك مرض قلوبهم، وفساد أمورهم؛ فإنما المهدي وأمته وسواد أهل مملكته بمنزلة الطبيب الرفيق، والوالد الشفيق، والراعي الحدب، الذي يحتال لمرابض غنمه، وضوالّ رعيته، حتى يبرىء المريضة من داء علتها، ويرد الضالّة إلى أنس جماعتها. ثم إن خراسان بخاصة لهم ذالّة محمولة، وماتّة مقبولة، ووسيلة معروفة، وحقوق واجبة؛ لأنهم أيدي دولته، وسيوف دعوته، وأنصار حقه، وأعوان عدله.
فليس من شأن المهدي الاضطغان عليهم، ولا المؤاخذة لهم، ولا التوعّر بهم «4» ، ولا المكافأة بإساءتهم؛ لأن مبادرة حسم الأمور ضيعفة قبل أن تقوى، ومحاولة قطع الأصول ضئيلة قبل أن تغلظ، أحزم في الرأي وأصحّ في التدبير، من التأخير لها والتهاون بها، حتى يلتئم قليلها بكثيرها، وتجتمع أطرافها إلى جمهورها.
قال المهدي: ما زال هارون يقع وقع الحيا، حتى خرج خروج القدح مما قال، وانسلّ انسلال السيف فيما ادعى، فدعوا ما قد سبق موسى فيه أنه هو الرأي، وثنّى بعده هارون، ولكن من لأعنّة الخيل، وسياسة الحرب، وقيادة الناس، إن أمعن بهم اللجاج، وأفرطت بهم الدالّة؟ «5»(1/170)
قال صالح: لسنا نبلغ أيها المهدي بدوام البحث وطول الفكر أدنى فراسة رأيك، وبعض لحظات نظرك؛ وليس ينفضّ عنك من بيوتات العرب ورجالات العجم، ذو دين فاضل ورأي كامل، وتدبير قويّ، تقلده حربك، وتستودعه جندك، ممن يحتمل الأمانة العظيمة، ويضطلع بالأعباء الثقيلة. وأنت بحمد الله ميمون النقيبة، مبارك العزيمة، مخبور التجارب، محمود العواقب، معصوم العزم؛ فليس يقع اختيارك ولا يقف نظرك على أحد تولّيه أمرك وتسند إليه ثغرك إلا أراك الله ما تحب، وجمع لك منه ما تريد.
قال المهدي: إني لأرجو ذلك. لقديم عادة الله فيه، وحسن معونته عليه. ولكن أحب الموافقة على الرأي، والاعتبار للمشاورة في الأمر المهم.
قال محمد بن الليث: أهل خراسان- أيها المهدي- قوم ذو وعزة ومنعة، وشياطين خدعة زرع الحمية فيهم نابتة، وملابس الأنفة عليهم ظاهرة، فالرّويّة عنهم عازبة «1» ، والعجلة فيهم حاضرة، تسبق سيولهم مطرّهم، وسيوفهم عذلهم، لأنهم بين سفلة لا يعدو مبلغ عقولهم منظر عيونهم، وبين رؤساء لا يلجمون إلا بشدّة ولا يفطمون إلا بالقهر؛ وإن ولّى المهدي عليهم وضيعالم تنقد له العظماء، وإن ولّى أمرهم شريفا تحامل على الضعفاء. وإن أخّر المهديّ أمرهم ودافع حربهم حتى يصيب لنفسه من حشمه ومواليه، أو بني عمه أو بني أبيه، ناصحا يتفق عليه أمرهم، وثقة تجتمع له أملاؤهم «2» ، بلا أنفة تلزمهم، ولا حميّة تدخلهم، ولا عصبية تنفّرهم، تنفست الأيام بهم، وتراخت الحال بأمرهم، فدخل بذلك من الفساد الكبر والضياع العظيم ما لا يتلافاه صاحب هذه الصفة وإن جدّ ولا يستصلحه وإن جهد، إلا بعد دهر طويل، وشر كبير. وليس المهدي- وفقه الله- فاطما عاداتهم ولا قارعا صفاتهم «3» بمثل أحد رجلين لا ثالث لهما، ولا عدل في ذلك بهما: أحدهما لسان ناطق موصول بسمعك،(1/171)
ويد ممثّلة لعينك، وصخرة لا تزعزع، وبهمة لا ينثني «1» ، وبازل لا يفزعه صوت الجلجل «2» ، نقيّ العرض، نزيه النفس، جليل الخطر، قد اتضعت الدنيا عن قدره، وسما نحو الآخرة بهمّته، فجعل الغرض الأقصى لعينه نصبا، والغرض الأدنى لقدمه موطئا، فليس يغفل عملا، ولا يتعدّى أملا وهو رأس مواليك، وأنصح بني أبيك رجل قد غذّي بلطيف كرامتك، ونبت في ظل دولتك ونشأ على قويم أدبك؛ فإن قلدته أمرهم، وحمّلته ثقلهم، وأسندت إليه ثغرهم: كان قفلا فتحه أمرك، وبابا أغلقه نهيك، فجعل العدل عليه وعليهم أميرا، والإنصاف بينه وبينهم حاكما. وإذا حكم النصفة وسلك المعدلة فأعطاهم مالهم وأخذ منهم ما عليهم، غرس لك في الذي بين صدورهم، وأسكن لك في السّويداء داخل قلوبهم طاعة راسخة العروق، باسقة الفروع، متمثّلة في حواشي عوامّهم، متمكنّة من قلوب خواصهم، فلا يبقى فيهم ريب إلا نفوه، ولا يلزمهم حق إلا أدّوه، وهذا أحد هما.
والآخر عود من غيضتك، ونبعة «3» من أرومتك، فتيّ السنّ، كهل الحلم، راجح العقل، محمود الصّرامة، مأمون الخلاف، يجرّد فيهم سيفه، ويبسط عليهم خيره بقدر ما يستحقون، وعلى حسب ما يستوجبون، وهو فلان أيها المهدي، فسلّطه- أعزك الله- عليهم، ووجّهه بالجيوش إليهم، ولا تمنعك ضراعة سنّه «4» وحداثة مولده؛ فإن الحلم والثقة مع الحداثة خير من الشك والجهل مع الكهولة؛ وإنما أحداثكم أهل البيت فيما طبعكم الله عليه واختصّكم به من مكارم الأخلاق، ومحامد الفعال، ومحاسن الأمور، وصواب التدبير، وصرامة الأنفس، كفراخ عتاق الطير «5» المحكمة لأخذ الصيد بلا تدريب، والعارفة لوجوه النفع بلا تأديب؛ فالحلم والعلم والعزم والحزم(1/172)
والجود والتؤدة والرفق ثابت في صدوركم، مزروع في قلوبكم، مستحكم لكم، متكامل عندكم، بطبائع لازمة، وغرائز ثابتة.
قال معاوية بن عبد الله: أفتاء «1» أهل بيتك أيها المهدي في الحلم على ما ذكر، وأهل خراسان في حال عزّ على ما وصف. ولكن إن ولّى المهديّ عليهم رجلا ليس بقديم الذّكر في الجنود، ولا بنبيه الصوت في الحروب، ولا بطويل التجربة للأمور، ولا بمعروف السياسة للجيوش والهيبة في الأعداء، دخل من ذلك أمران عظيمان، وخطران مهولان: أحدهما أن الأعداء يغتمزونها منه، ويحتقرونها فيه، ويجترءون بها عليه في النّهوض به والمقارعة له والخلاف عليه، قبل الاختبار لأمره، والتكشّف لحاله، والعلم بطباعه. والأمر الآخر أن الجنود التي يقول، والجيوش التي يسوس، إذا لم يختبروا منه البأس والنجدة، ولم يعرفوه بالصّوت والهيبة؛ انكسرت شجاعتهم، وماتت نجدتهم، واستأخرت طاعتهم إلى حين اختبارهم ووقوع معرفتهم. وربما وقع البوار قبل الاختبار. وبباب المهدي- وفقه الله- رجل مهيب نبيه حيك صيّت «2» ، له نسب زاك وصوت عال، قد قاد الجيوش، وساس الحروب، وتألف أهل خراسان واجتمعوا عليه بالمقة «3» ، ووثقوا به كل الثّقة، فلو ولّاه المهدي أمرهم لكفاه الله شرهم.
قال المهدي: جانبت قصد الرّميّة، وأبيت إلا عصبية، إذ رأي الحدث من أهل بيتنا كرأي عشرة حلماء من غيرنا، ولكن أين تركتم ولي العهد؟
قالوا: لم يمنعنا من ذكره إلا كونه شبيه جدّه، ونسيج وحده، ومن الدين وأهله بحيث يقصر القول عن أدنى فضله، ولكن وجدنا الله عز وجل قد حجب عن خلقه، وستر من دون عباده، علم ما تختلف به الأيام، ومعرفة ما تجري به المقادير، من حوادث الأمور وريب المنون، المخترمة لخوالي القرون ومواضي الملوك؛ فكرهنا(1/173)
شسوعه «1» عن محلة الملك، ودار السلطان، ومقرّ الإمامة والولاية، وموضع المدائن والخزائن، ومستقرّ الجنود، وموضع الوجوه، ومجمع الأموال التي جعلها الله قطبا لمدار الملك، ومصيدة لقلوب الناس، ومثابة لإخوان الطمع، وثوّار الفتن، ودواعي البدع، وفرسان الضلال، وأبناء المروق؛ وقلنا: إن وجّه المهدي وليّ عهده فحدث في جيوشه وجنوده ما قد حدث بجنود الرسل من قبله، لم يستطع المهدي أن يعقبه بغيره، إلا أن ينهض إليهم بنفسه؛ وهذا خطر عظيم، وهول شديد؛ وإن تنفّست الأيام بمقامه، واستدامت الحال بأيامه، حتى يقع عرض لا يستغني فيه، أو يحدث أمر لابد فيه منه، صار ما بعده مما هو أعظم هولا وأجل خطرا. له تبعا وبه متّصلا.
قال المهدي: الخطب أيسر مما تذهبون إليه؛ وعلى غير ما تصفون الأمر عليه، نحن أهل البيت. نجري من أسباب القضايا ومواقع الأمور على سابق من العلم، ومحتوم من الأمر، قد أنبأت به الكتب، وتتابعت عليه الرسل، وقد تناهى ذلك بأجمعه إلينا، وتكامل بحذافيره «2» عندنا، فبه ندبّر، وعلى الله نتوكل: إنه لا بدّ لوليّ عهدي- ووليّ عهدي عقبي بعدي- أن يقود إلى خراسان البعوث، ويتوجّه نحوها بالجنود.
أما الأول فإنه يقدّم إليهم رسله، ويعمل فيهم حيله، ثم يخرج نشطا إليهم، حنقا عليهم، يريد ألّا يدع أحدا من إخوان الفتن، ودواعي البدع، وفرسان الضلال، إلا توطّأه بحرّ القتل، وألبسه قناع القهر، وطوّقه طوق الذّل. ولا أحدا من الذين عملوا في قصّ جناح الفتنة، وإخماد نار البدعة، ونصرة ولاة الحق، إلا أجرى عليهم ديم فضله، وجداول بذله، فإذا خرج مزمعا به مجمعا عليه؛ لم يسر إلا قليلا حتى يأتيه أن قد عملت حيله؛ وكدحت كتبه؛ ونفذت مكايده؛ فهدأت نافرة القلوب، ووقعت طائرة الأهواء «3» ، واجتمع عليه المختلفون بالرضا؛ فيميل نظرا لهم وبرّا بهم وتعطّفا عليهم، إلى عدوّ قد أخاف سبيلهم، وقطع طريقهم، ومنع حجّاجهم بيت الله(1/174)
الحرام، وسلب تجارهم رزق الله الحلال.
وأما الآخر فإنه يوجه إليهم من يعتقد له الحجة عليهم بإعطاء ما يطلبون، وبذل ما يسألون، فإذا سمحت الفرق بقرانها له، وجنح أهل النواحي بأعناقهم نحوه، فأصغت إليه الأفئدة، واجتمعت له الكلمة، وقدمت عليه الوفود، قصد لأول ناحية بخعت «1» بطاعتها، وألقت بأزمتها، فألبسها جناح نعمته، وأنزلها ظلّ كرامته، وخصّها بعظيم حبائه، ثم عمّ الجماعة بالمعدلة؛ وتعطّف عليهم بالرحمة، فلا تبقى فيهم ناحية دانية، ولا فرقة قاصية، إلا دخلت عليها بركته، ووصلت إليها منفعته، فأغنى فقيرها، وجبر كسيرها، ورفع وضيعها، وزاد رفيعها، ما خلا ناحيتين: ناحية يغلب عليهم الشقاء وتستميلهم الأهواء فتستخف بدعوته، وتبطيء عن إجابته، وتتثاقل عن حقه، فتكون آخر من يبعث، وأبطأ من يوجّه، فيضطمر عليها موجده، «2» ويبتغي لها علة، لا يلبث أن يجدها بحقّ يلزمهم؛ وأمر يجب عليهم، فتستلحمهم الجيوش، وتأكلهم السيوف، ويستحرّفيهم القتل، ويحيط بهم الأسر، ويفنيهم التتبّع، حتى يخرب البلاد، ويؤتم الأولاد. وناحية لا يبسط لهم أمانا، ولا يقبل لهم عهدا، ولا يجعل لهم ذمة؛ لأنهم أول من فتح باب الفرقة، وتدرّع جلباب الفتنة، وربض «3» في شقّ العصا. ولكنه يقتل أعلامهم، ويأسر قوّادهم، ويطلب هرّابهم في لجج البحار، وقلل الجبال، وخمر الأودية، وبطون الأرض، تقتيلا وتغليلا وتنكيلا؛ حتى يدع الدّيار خرابا، والنّساء أيامى. وهذا أمر لا نعرف له في كتبنا وقتا، ولا نصحّح منه غير ما قلنا تفسيرا.
وأما موسى ولي عهدي، فهذا أوان توجّهه إلى خراسان، وحلوله بجرجان؛ وما قضى الله له من الشخوص «4» إليها والمقام فيها، خير للمسلمين مغبّة، وله بإذن الله عاقبة، من المقام بحيث يغمر في لجج بحورنا ومدافع سيولنا ومجامع أمواجنا،(1/175)
فيتصاغر عظيم فضله، ويتذأب «1» مشرق نوره، ويتقلل كثير ما هو كائن منه فمن يصحبه من الوزراء ومن يختار له من الناس؟
قال محمد بن الليث: أيها المهدي، إن وليّ عهدك أصبح لأمتك وأهل ملتك علما قد تثنّت نحوه أعناقها، ومدّت سمته أبصارها، وقد كان لقرب داره منك، ومحلّ جواره لك، عطل الحال، غفل الأمر، واسع العذر، فأما إذا انفرد بنفسه، وخلا بنظره، وصار إلى تدبيره، فإن من شأن العامة وأمراء الأمة أن تتفقد مخارج رأيه، وتستنصت لمواقع آثاره، وتسأل عن حوادث أحواله، في برّه ومرحمته، وإقساطه ومعدلته، وتدبيره وسياسته، ووزرائه وأصحابه، ثم يكون ما سيق إليهم أغلب الأشياء عليهم، وأملك الأمور بهم، وألزمها لقلوبهم، وأشدّها استمالة لرأيهم، وعطفا لأهوائهم. فلا يفتأ المهدي- وفقه الله- ناظرا له فيما يقوّي عمد مملكته، ويسدّد أركان ولايته، ويستجمع رضا أمته، بأمر هو أزين لحاله، وأظهر لجماله، وأفضل مغبّة لأمره، وأجلّ موقعا في قلوب رعيته، وأحمد حالا في نفوس أهل ملّته. ولا أوقع مع ذلك باستجماع الأهواء له؛ وأبلغ في استعطاف القلوب عليه، من مرحمة تظهر من فعله، ومعدلة تنتشر عن أثره، ومحبة للخير وأهله، وأن يختار المهديّ- وفقه الله- من خيار أهل كل بلدة، وفقهاء أهل كلّ مصر. أقواما تسكن العامة إليهم إذا ذكروا، وتأنس الرعية بهم إذا وصفوا، ثم تسهّل لهم عمارة سبل الإحسان؛ وفتح باب المعروف كما قد كان فتح له وسهل عليه.
قال المهدي: صدقت ونصحت. ثم بعث في ابنه موسى؛ فقال: أي بنيّ، إنك قد أصبحت لسمت عيون العامة نصبا «2» ، ولمثنى أعطاف الرعية غاية، فحسنتك شاملة، وإساءتك نامية، وأمرك ظاهر. فعليك بتقوى الله وطاعته، فاحتمل سخط الناس فيهما، ولا تطلب رضاهم بخلافهما؛ فإن الله عزّ وجلّ كافيك من أسخطه عليك إيثارك رضاه؛ وليس بكافيك من يسخطه عليك إيثارك رضا من سواه.
ثم اعلم أن لله تعالى في كل زمان عترة من رسله، وبقايا من صفوة خلقه، وخبايا(1/176)
لنصرة حقه، يجدّد حبل الإسلام بدعواهم ويشيد أركان الدين بنصرتهم، ويتخذهم لأولياء دينه أنصارا، وعلى إقامة عدله أعوانا، يسدّون الخلل، ويقيمون الميل، ويدفعون عن الأرض الفساد؛ وإنّ أهل خراسان أصبحوا أيدي دولتنا، وسيوف دعوتنا الذين نستدفع المكاره بطاعتهم، ونصرف نزول العظائم بمناصحتهم، وندافع ريب الزمان بعزائمهم، ونزاحم ركن الدهر ببصائرهم. فهم عماد الأرض إذا أرجفت كنفها «1» ، وحتوف الأعداء إذا أبرزت صفحتها، وحصون الرعية إذا تضايقت الحال بها؛ قد مضت لهم وقائع صادقات؛ ومواطن صالحات، أخمدت نيران الفتن، وقصمت دواعي البدع، وأذلّت رقاب الجبّارين، ولم ينفكّوا كذلك ما جروا مع ريح دولتنا، وأقاموا في ظلّ دعوتنا، واعتصموا بحبل طاعتنا التي أعزّ الله بها ذلّتهم، ورفع بها ضعتهم، وجعلهم بها أربابا في أقطار الأرضين، وملوكا على رقاب العالمين، بعد لباس الذّل، وقناع الخوف، وإطباق البلاء، ومحالفة الأسى، وجهد البأس والضر.
فظاهر عليهم لباس كرامتك، وأنزلهم في حدائق نعمتك. ثم اعرف لهم حقّ طاعتهم، ووسيلة دالّتهم، وماتة «2» سابقتهم، وحرمة مناصحتهم، بالإحسان إليهم، والتوسعة عليهم، والإثابة لمحسنهم، والإقالة لمسيئهم.
أي بنيّ؛ ثم عليك العامة. فاستدع رضاها بالعدل عليها. واستجلب مودّتها بالإنصاف لها، وتحسّن بذلك لربك، وتزيّن به في عين رعيّتك، واجعل عمال القدر، وولاة الحجج، مقدّمة بين يدي عملك، ونصفة منك لرعيتك؛ وذلك أن تأمر قاضي كل بلد، وخيار أهل كل مصر، أن يختاروا لأنفسهم رجلا تولّيه أمرهم، وتجعل العدل حاكما بينه وبينهم، فإن أحسن حمدت، وإن أساء عذرت. هؤلاء عمال القدر؛ وولاة الحجج. فلا يضيعنّ عليك ما في ذلك- إذا انتشر في الآفاق وسبق إلى الأسماع- من انعقاد ألسنة المرجفين، وكبت قلوب الحاسدين، إطفاء نيران الحروب، وسلامة عواقب الأمور، ولا ينفكنّ في ظل كرامتك نازلا، وبعرا «3» حبلك متعلّقا،(1/177)
رجلان: أحدهما كريمة من كرائم رجالات العرب، وأعلام بيوتات الشرف، له أدب فاضل، وحلم راجح، ودين صحيح. والآخر له دين غير مغموز، وموضع غير مدخول، بصير بتقليب الكلام، وتصريف الرأي، وأنحاء الأدب، ووضع الكتب، عالم بحالات الحروب، وتصاريف الخطوب، يضع آدابا نافعة، وآثارا باقية، من تجميل محاسنك، وتحسين أمرك، وتحلية ذكرك. فتستشيره في حربك، وتدخله في أمرك. فرجل أصبته كذلك فهو يأوى إلى محلّتي، ويرعى في خضرة جناني؛ ولا تدع أن تختار لك من فقهاء البلدان، وخيار الأمصار. أقواما يكونون جيرانك وسمارك، وأهل مشاورتك فيما تورد، وأصحاب مناظرتك فيما تصدر. فسر على بركة الله، أصحبك الله من عونه وتوفيقه دليلا يهدي إلى الصواب قلبك، وهاديا ينطق بالخير لسانك.
وكتب في شهر ربيع الآخرة سنة سبعين ومائة ببغداد «1» .
باب في مداراة العدوّ
في كتاب للهند: أن العدو الشديد الذي لا تقوى له لا تردّ بأسه عنك بمثل الخشوع والخضوع له، كما أنّ الحشيش إنما يسلم من الريح العاصفة بلينه وانثنائه معها.
وقالوا: ازفن «2» للقرد في دولته.
أخذه الشاعر فقال:
لا تعبدن صنما في فاقة نزلت ... وازفن بلا حرج للقرد في زمنه
وقال أحمد بن يوسف الكاتب: إذا لم تقدر أن تعضّ يد عدوّك فقبّلها.(1/178)
وقال سابق البلويّ:
وداهن إذا ما خفت يوما مسلّطا ... عليك، ولن يحتال من لا يداهن «1»
وقالت الحكماء: رأس العقل مغافصة «2» الفرصة عند إمكانها. والانصراف عما لا سبيل إليه.
وقال الشاعر:
بلاء ليس يشبهه بلاء ... عداوة غير ذي حسب ودين
يبيحك منه عرضا لم يصنه ... ويرتع منك في عرض مصون
التحفظ من العدوّ وإن أبدى لك المودّة
قالت الحكماء: احذر الموتور ولا تطمئن إليه، وكن أشدّ ما تكون حذرا منه ألطف ما يكون مداخلة لك؛ فإنما السلامة من العدوّ بتباعدك منه، وانقباضك عنه.
وعند الأنس إليه والثقة [به] تمكّنه من مقاتلك.
قالوا: لا تطمئنّ إلى العدو وإن أبدى لك المقاربة، وإن بسط لك وجهه وخفض «3» لك جناحه؛ فإنه يتربّص بك الدوائر، ويضمر لك الغوائل ولا يرتجي صلاحا إلا في فسادك، ولا رفعة إلا بسقوط جاهك.
للاخطل يحذر بني أمية
: كما قال الأخطل:
بني أميّة إني ناصح لكم ... فلا يبيتنّ فيكم آمنا زفر «4»
وأتخذوه عدوّا إنّ شاهده ... وما تغيّب من أخلاقه دعر «5»(1/179)
إنّ الضّغينة تلقاها وإن قدمت ... كالعرّ يكمن حينا ثم ينتشر «1»
وفي كتاب الهند: الحازم يحذر عدوّه على كل حال: يحذر المواثبة إن قرب والمعاودة إن بعد، والكمين إن انكشف، والاستطراد إن ولّى، والكرّة إن فرّ.
وأوصى بعض الحكماء ملكا فقال: لا يكوننّ العدوّ الذي كشف لك عن عداوته بأخوف عندك من الظنين الذي يستتر لك بمخاتلته، فإنه ربما تخوّف الرجل السّمّ الذي هو أقتل الأشياء، وقتله الماء الذي هو محيي الأشياء؛ وربما تخوّف أن تقتله الملوك التي تملكه، ثم تقتله العبيد التي يملكها.
ولم يقل أحد في العدوّ المندمل «2» على العداوة مثل قول الأخطل:
إنّ الضغينة تلقاها وإن قدمت ... كالعرّ يكمن حينا ثم ينتشر
وقد أشار الحسن بن هانيء إلى هذا المعنى فأجاده حيث يقول:
وابن عمّ لا يكاشفنا ... قد لبسناه على غمره «3»
كمن الشنآن فيه لنا ... ككمون النار في حجره «4»
وشبهوا العدوّ إذا كان هذا فعله بالحية المطرقة. قال ابن أخت تأبّط شرّا:
مطرق يرشح موتا كما ... أطرق أفعى ينفث السّم صلّ»
بين معاوية وابن الزبير
: وقال عبد الله بن الزّبير لمعاوية- ويقال معاوية قالها لعبد الله بن الزبير-: مالي أراك تطرق إطراق الأفعوان في أصول الشجر.
وفي كتاب الهند: إذا أحدث لك العدوّ صداقة لعلة ألجأته إليك، فمع ذهاب(1/180)
العلّة رجوع العداوة، كالماء تسخّنه فإذا أمسكت عنه عاد إلى أصله باردا والشجرة المرّة لو طليتها بالعسل لم تثمر إلا مرّا.
وقال دريد:
وما تخفى الضغينة حيث كانت ... ولا النّظر المريض من الصحيح
وقال زهير:
وما يك في صديق أو عدوّ ... تخبّرك العيون عن القلوب
وقيل لزياد: ما السرور؟ قال: من طال عمره حتى يرى في عدوه ما يسرّه.
باب من أخبار الأزارقة
كان أول من خرج من الخوارج بعد قتل عليّ رضي الله عنه، حوثرة الأقطع؛ فإنه خرج إلى النّخيلة واجتمع إليه جماعة من الخوارج، ومعاوية بالكوفة، وقد بايعه الحسن والحسين وقيس بن سعد بن عبادة؛ ثم خرج الحسن يريد المدينة؛ فوجه إليه معاوية وقد تجاوز في طريقه، يسأله أن يكون المتولّي لمحاربتهم. فقال الحسن عليه السلام: والله لقد كففت عنك لحقن دماء المسلمين، وما أحسب ذلك يسعني؛ فكيف أن أقاتل قوما أنت أولى بالقتال منهم؟ فلما رجع الجواب إليه وجّه إليهم جيشا أكثره من أهل الكوفة، ثم قال لأبي حوثرة. تقدّم فاكفني أمر ابنك. فسار إليه أبوه، فدعاه إلى الرجوع، فأبى، فداوره فصمّم. فقال له: أي بنيّ، أجيئك بابنك لعلّك تراه فتحنّ إليه! فقال له: يا أبت، أنا والله إلى طعنة نافذة أتقلّب فيها على كعوب الرمح أشوق مني إلى ابني. فرجع إلى معاوية فأخبره، فقال: يا أبا حوثرة، جار هذا جدا. فلما نظر حوثرة إلى أهل الكوفة قال: يا أعداء الله! أنتم بالأمس تقاتلون معاوية لتهدّوا سلطانه. واليوم تقاتلون معه لتشدّوا سلطانه؟ ثم جعل يشدّ عليهم ويقول:
احمل على هذي الجموع حوثرة ... فعن قريب ستنال المغفرة(1/181)
فحمل عليه رجل من طيء فقتله، فرأي أثر السجود قد لوّح جبهته، فندم على قتله:
مرداس ومقتله
: وكان مرداس أبو بلال قد شهد صفّين مع علي بن أبي طالب رضي الله عنه، وأنكر التحكيم، وشهد النّهروان ونجا فيمن نجا. فلما خرج من حبس ابن زياد ورأى شدّة الطلب للشّراة «1» ، عزم على الخروج، فقال لأصحابه: إنه والله ما يسعنا المقام مع هؤلاء الظالمين، تجري علينا أحكامهم، مجانبين للعدل مفارقين للفضل. والله إن الصبر على هذا لعظيم، وإنّ تجريد السيف وإخافة السبيل لشديد؛ ولكنا ننتبذ «2» عنهم ولا نجرّد سيفنا ولا نقاتل إلا من قاتلنا. فاجتمع إليه أصحابه زهاء ثلاثين رجلا، منهم: حريث بن حجل وكهمس بن طلق الصّريمي، فأرادوا أن يولّوا أمرهم حريثا فأبى، فولوا أمرهم مرداسا، فلما مضى بأصحابه لقيهم عبد الله بن رباح الأنصاري، وكان له صديقا؛ فقال له: يا بن أخي، أين تريد؟ فقال: أريد أهرب بديني ودين أصحابي من أحكام هؤلاء الجورة. قال له: أعلم أحد بكم؟ قال: لا. قال: فارجع.
قال: أو تخاف عليّ مكروها؟ قال: نعم، وأن يؤتى بك. قال: فلا تخف. فإني لا أجرد سيفا ولا أخيف أحدا ولا أقاتل إلا من قاتلني.
ثم مضى حتى نزل آسك؛ فمرّ به مال يحمل إلى ابن زياد وقد بلغ أصحابه الأربعين، فحطّ ذلك المال فأخذ منه عطاءه وأعطيات أصحابه وترك ما بقي، وقال:
قولوا لصاحبكم إنما أخذنا أعطياتنا. فقال له أصحابه: لماذا تترك الباقي؟ قال: إنهم يقسمون هذا الفيء كما يقيمون الصلاة، فلا تقاتلوهم ما داموا على الصلاة.
فوجّه إليهم ابن زياد أسلم بن زرعة الكلابيّ في ألفين، فلما وصل إليهم، قال له مرداس: اتق الله يا أسلم، فإنا لا نريد قتالا ولا نروّع أحدا؛ وإنما هربنا من الظّلم،(1/182)
ولا نأخذ من الفيء إلا أعطياتنا، ولا نقاتل إلا من قاتلنا. قال: لابد من ردّكم إلى ابن زياد. قال: وإن أراد قتلنا؟ قال: وإن أراد قتلكم. قال: فتشرك في دمائنا؟
قال: نعم. فشدّوا عليه شدّة رجل واحد فهزموه وقتلوا أصحابه.
ثم وجه إليهم ابن زياد عبّادا، فقاتلهم يوم الجمعة حتى كان وقت الصلاة، فناداهم أبو بلال: يا قوم، هذا وقت الصلاة فوادعونا حتى نصلّي [وتصلوا] «1» .
فوادعوهم؛ فلما دخلوا في الصلاة شدّوا عليهم فقتلوهم، وهم بين راكع وساجد وقائم في الصلاة وقاعد. فقال عمران بن حطّان يرثي أبا بلال:
يا عين بكّي لمرداس ومصرعه ... يا ربّ مرادس اجعلني كمرداس
أبقيتني هائما أبكي لمرزئتي ... في منزل موحش من بعد إيناس «2»
أنكرت بعدك ما قد كنت أعرفه ... ما الناس بعدك يا مرداس بالناس
إمّا شربت بكأس دار أوّلها ... على القرون فذاقوا جرعة الكاس
فكلّ من لم يذقها شارب عجلا ... منها بأنفاس ورد بعد أنفاس
وليس في الفرق كلها وأهل البدع أشد بصائر من الخوارج، ولا أكثر اجتهادا، ولا أوطن «3» أنفسا على الموت؛ منهم الذي طعن فأنفذه الرمح فجعل يسعى إلى قاتله ويقول: عجلت إليك ربّ لترضى.
ولما مالت الخوارج إلى أصبهان حاصرت بها عتّاب بن ورقاء سبعة أشهر يقاتلهم في كل يوم وكان مع عتّاب بن ورقاء رجل يقال له: شريح. ويكنى أبا هريرة، فكان يخرج إليهم في يوم فيناديهم:
يا بن أبي الماحوز والأشرار ... كيف ترون يا كلاب النار «4»
شدّ أبي هريرة الهرّار ... يعروكم بالليل والنّهار
وهو من الرّحمن في جوار(1/183)
فتعاظمهم ذلك. فكمن له عبيدة بن هلال فضربه، واحتمله أصحابه، فظنّت الخوارج أنه قد قتل، فكانوا إذا تواقفوا ينادونهم: ما فعل الهرار؟ فيقولون: ما به من بأس. حتى أبلّ «1» من علّته، فخرج إليهم فقال؛ يا أعداء الله! أترون بي بأسا؟
فصاحوا: قد كنا نرى أنك لحقت بأمك الهاوية في النار الحامية.
فلما طال الحصار على عتّاب، قال لأصحابه: ما تنتظرون؟ إنكم والله ما تؤتون من قلّة؛ وإنكم فرسان عشائركم؛ ولقد حاربتموهم مرارا فانتصفتم منهم؛ وما بقي من هذا الحصار إلا أن تفنى ذخائرهم فيموت أحدكم فيدفنه صاحبه، ثم يموت هو فلا يجد من يدفنه! فقاتلوا القوم وبكم قوة، من قبل أن يضعف أحدكم عن أن يمشي إلى قرنه.
فلما أصبح صلى بهم الصبح، ثم خرج إلى الخوارج وهم غارّون، وقد نصب لواء لجارية يقال لها ياسمين، فقال: من أراد البقاء فليلحق بلواء ياسمين! ومن أراد الجهاد فليلحق بلوائي. قال: فخرج في ألفين وسبعمائة فارس، فلم تشعر بهم الخوارج حتى غشوهم. فقاتلوهم بجد لم تر الخوارج مثله، فقتلوا أميرهم الزبير بن عليّ، وانهزمت الخوارج، فلم يتبعهم عتّاب بن ورقاء.
وخرج قريب بن مرة الأزدي وزحّاف الطائي، وكانا مجتهدين بالبصرة في أيام زياد فاعترضا الناس، فلقيا شيخا ناسكا من بني ضبيعة بن ربيعة بن نزار فقتلاه، وتنادى الناس، فخرج رجل من بني قطيعة من الأزد بالسيف، فناداه الناس من بعض البيوت: الحرورية الحرورية! انج بنفسك. فنادوه: لسنا حروريّة نحن الشّرط. فوقف فقتلوه.
وبلغ أبا بلال خبرهما، وكان على دين الخوارج إلا أنه كان لا يرى اعتراض الناس، فقال: قريب، لا قرّبه الله من الخير، وزخّاف، لا عفا الله عنه، فلقد ركباها عشواء مظلمة «2» .(1/184)
ثم جعلا لا يمرّان بقبيلة إلا قتلا من وجدا فيها، حتى مرّا ببني عليّ بن سود، من الأزد، وكانوا رماة، وكان فيهم مائة يجيدون الرمي، فرموهم رميا شديدا، فصاحوا: يا بني عليّ، البقيا، لا رماء بيننا. فقال رجل منهم:
لا شيء للقوم سوى السهام ... مشحوذة في غلس الظلام
فهربت عنهم الخوارج؛ فاشتقّوا مقبرة بني يشكو حتى خرجوا إلى مزينة، واستقبلهم الناس فقتلوا عن آخرهم.
زياد والخوارج
: ثم عاد الناس إلى زياد، فقال: ألا ينهى كلّ قوم سفهاءهم؟ فكانت القبائل إذا أحست بخارجي فبهم أوثقوه وأتوا به زيادا، منهم من يحبسه ومنهم من يقتله.
ولزياد أخرى في الخوارج: أنه أتي بامرأة منهم، فقتلها ثم عرّاها، فلم تخرج النساء إلا بعد زياد، وكنّ إذا أرغمن على الخروج قلن: لولا التّعرية لسارعنا.
ومن مشاهير فرسان الخوارج: عمرو القنا، من بني سعد بن زيد مناة؛ وعبيدة بن هلال، من بني يشكر بن بكر بن وائل، وهو الذي طعن صاحب المهلّب في فخذه؛ فشكّها مع السرج؛ وهما اللذان يقول فيهما ابن المنجب السدوسي من فرسان المهلّب، وكان قال له مولاه خلاج: وددت أنّا فضضنا عسكرهم حتى أصير إلى مستقرّهم فأستلب منه جاريتين، إحداهما لك والأخرى لي:
أخلاج إنك لن تعانق طفلة ... شرقا بها الجاديّ كالتّمثال «1»
حتى تعانق في الكتيبة معلما ... عمرو القنا وعبيدة بن هلال «2»
وترى المقعطر في الكتيبة مقدما ... في عصبة قسطوا مع الضّلّال «3»(1/185)
والمقعطر: من مشاهير فرسانهم، وقطريّ، أنجدهم قاطبة؛ وصالح بن مخراق، من بهمهم، وكذلك سعد الطلائع.
للمهلب في نفر من الخوارج
: ولما اختلف أمر الخوارج وانحاز قطريّ فيمن معه وبقي عبد ربّه، قال المهلّب لأصحابه: إن الله تعالى قد أراحكم من أقران أربعة: قطريّ بن الفجاءة، وصالح بن مخراق، وعبيدة بن هلال، وسعد الطلائع؛ وإنما بين أيديكم عبد ربه في خشار «1» من خشار الشيطان.
تعطش الخوارج إلى القتال
: وكانت الخوارج تقاتل على السوط يؤخذ منها والعلق الخسيس «2» أشدّ قتال، وسقط في بعض أيامهم رمح لرجل من مراد من الخوارج، فقاتلوا عليه حتى كثر الجراح والقتل، وذلك مع المغرب، والمرادي يرتجز:
الّليل ليل فيه ويل ويل ... وسال بالقوم الشّراة السّيل
إن جاز للأعداء فينا قول
وتفرقت مقالة الخوارج على أربعة أضرب: فقال نافع بن الأزرق: باستعراض الناس والبراءة من عثمان وعليّ وطلحة والزبير، واستحلال الأمانة وقتل الأطفال.
وقال أبو بيهس هيصم بن جابر الضّبعيّ: إن أعداءنا كأعداء الرسول صلّى الله عليه وسلّم: يحلّ لنا المقام فيهم كما أقام رسول الله صلّى الله عليه وسلّم وأقام المسلمون بين المشركين. وأقول: إن مناكحتهم ومواريثهم تجوز، لأنهم منافقون يظهرون الإسلام وإن حكمهم عند الله حكم المشركين.
وقال عبد الله بن إباض: لا نقول فيمن خالفنا إنه مشرك، لأن معهم التوحيد(1/186)
والإقرار بالكتاب والرسول، وإنما هم كفّار للنّعم، ومواريثهم ومناكحهم والإقامة معهم: حلّ، ودعوة الإسلام تجمعهم.
وقالت الصّفريّة بقول عبد الله بن إباض، ورأت القعود، حتى صار عامتهم قعدا، وإنما سمّوا صفرية لاصفرار وجوههم، وقيل: لأنهم أصحاب ابن الصّفّار.(1/187)
كتاب الزبرجدة في الاجواد والأصفاد
فرش كتاب الزبرجدة
قال الفقيه أبو عمر أحمد بن محمد بن عبد ربه، تغمده الله برحمته: قد مضى قولنا في الحروب وما يدخلها من النقص والكمال، وتقدّم الرجال، على منازلهم من الصبر والجلد، والعدّة والعدد.
ونحن قائلون بعون الله وتوفيقه في الأجواد والأصفاد، إذ كان أشرف ملابس الدنيا وأزين حللها وأجلبها لحمد، وأدفعها لذمّ، وأسترها لعيب: كرم طبيعة يتحلى بها السمح السريّ، والجواد السخي. ولو لم يكن في الكرم إلا أنه صفة من صفات الله تعالى، تسمّى بها، فهو الكريم عز وجل. ومن كان كريما من خلقه، فقد تسمّى باسمه، واحتذى على صفته.
وقال النبي صلّى الله عليه وسلّم: «إذا أتاكم كريم قوم فأكرموه» .
وفي الحديث المأثور: «الخلق عيال الله، فأحبّ الخلق إلى الله أنفعهم لعياله» .
وقال الحسن والحسين عليهما السلام لعبد الله بن جعفر: إنك قد أسرفت في بذل المال. قال: بأبي وأمي أنتما، إنّ الله قد عوّدني أن يتفضّل عليّ، وعوّدته أن أتفضل على عباده، فأخاف أن أقطع العادة فيقطع عني.
وقال المأمون لمحمد بن عبّاد المهلّبي: أنت متلاف «1» ! قال: منع الجود سوء ظّن(1/188)
بالمعبود. يقول الله عز وجل: وَما أَنْفَقْتُمْ مِنْ شَيْءٍ فَهُوَ يُخْلِفُهُ وَهُوَ خَيْرُ الرَّازِقِينَ
«1» .
وقال النبي صلّى الله عليه وسلّم: «أنفق بلالا ولا تخش من ذي العرش إقلالا» .
مدح الكرم وذمّ البخل
قال النبي صلّى الله عليه وسلّم: «اصطناع المعروف يقي مصارع السوء» .
وقال عليه الصلاة والسلام: «إن الله يحب الجود ومكارم الأخلاق ويبغض سفسافها «2» » .
وقال النبي صلّى الله عليه وسلّم لقوم من العرب: «من سيّدكم؟ قالوا الجدّ بن قيس على بخل فيه.
فقال صلّى الله عليه وسلّم: وأي داء أدوأ من البخل» .
وقال الله تعالى: وَمَنْ يُوقَ شُحَّ نَفْسِهِ فَأُولئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ
«3» .
وقال أكثم بن صيفيّ حكيم العرب: ذلّلوا أخلاقكم للمطالب، وقودوها إلى المحامد، وعلّموها المكارم، ولا تقيموا على خلق تذمّونه من غيركم، وصلوا من رغب إليكم، وتحلّوا بالجود يكسبكم المحبة، ولا تعتقدوا البخل فتتعجلوا الفقر.
أخذه الشاعر فقال:
أمن خوف فقر تعجّلته ... وأخّرت إنفاق ما تجمع
فصرت الفقير وأنت الغنيّ ... وما كنت تعدو الذي تصنع
سخى وبخيل
: وكتب رجل من البخلاء إلى رجل من الأسخياء يأمره بالإبقاء على نفسه ويخوّفه الفقر. فردّ عليه: الشَّيْطانُ يَعِدُكُمُ الْفَقْرَ وَيَأْمُرُكُمْ بِالْفَحْشاءِ وَاللَّهُ يَعِدُكُمْ مَغْفِرَةً(1/189)
مِنْهُ وَفَضْلًا
«1» وإني أكره أن أترك أمرا قد وقع، لأمر لعله لا يقع.
من خطبة لخالد القسري
: وكان خالد بن عبد الله القسري يقول على المنبر: أيها الناس، عليكم بالمعروف؛ فإن الله لا يعدم فاعله جوازيه؛ وما ضعفت الناس عن أدائه قوي الله على جزائه.
أخذه من قول الحطيئة:
من يفعل الخير لا يعدم جوازيه ... لا يذهب العرف بين الله والناس «2»
وأخذه الحطيئة من بعض الكتب القديمة: يقول الله تعالى فيما أنزله على داود عليه السلام: من يفعل الخير يجده عندي، لا يذهب العرف بيني وبين عبدي.
من خطبة لسعيد بن العاص
: وكان سعيد بن العاص يقول على المنبر: من رزقه الله رزقا حسنا فلينفق منه سرّا وجهرا، حتى يكون أسعد الناس به؛ فإنما يترك ما يترك لأحد رجلين: إمّا لمصلح فلا يقل عليه شيء، وإما لمفسد فلا يبقى له شيء.
أخذخ الشاعر فقال:
أسعد بمالك في الحياة فإنّما ... يبقى خلافك مصلح أو مفسد
فإذا جمعت لمفسد لم يغنه ... وأخو الصلاح قليله يتزيّد
قال أبو ذر: إن لك في مالك شريكين: الحدثان «3» والوارث: فإن استطعت ألّا تكون أبخس الشركاء حظاّ فافعل.
وقال بزرجمهر الفارسي: إذا أقبلت عليك الدنيا فأنفق منها، فإنها لا تفنى؛ وإذا أدبرت عنك فأنفق منها فإنها لا تبقى.(1/190)
أخذ الشاعر هذا المعنى فقال:
لا تبخلنّ بدنيا وهي مقبلة ... فليس ينقصها التّبذير والسّرف
وإن تولّت فأحرى أن تجود بها ... فالحمد منها إذا ما أدبرت خلف
لكسرى في الأسخياء
: وكان كسرى يقول: عليكم بأهل السخاء والشجاعة، فإنهم أهل حسن الظنّ بالله تعالى، ولو أنّ أهل البخل لم يدخل عليهم من ضرر بخلهم ومذمّة الناس لهم وإطباق «1» القلوب على بغضهم، إلا سوء ظنهم بربّهم في الخلف، لكان عظيما وأخذ هذا المعنى محمود الورّاق فقال:
من ظنّ بالله خيرا جاد مبتدئا ... والبخل من سوء ظنّ المرء بالله
بين موسى والهادي وابن يزيد
: محمد بن يزيد بن عمرة بن عبد العزيز قال: خرجت مع موسى الهادي أمير المؤمنين من جرجان، فقال لي: إمّا أن تحملني وإما أن أحملك. ففهمت ما أراد، فأنشدته أبيات ابن صرمة الأنصاري.
أوصيكم بالله أوّل وهلة ... وأحسابكم، والبرّ بالله أوّل
وإن قومكم سادوا فلا تحسدوهم ... وإن كنتم أهل السيادة فاعدلوا
وإن أنتم أعوزتم فتعفّفوا ... وإن كان فضل المال فيكم فأفضلوا
فأمر لي بعشرين ألفا.
وقال عبد الله بن عباس: سادات الناس في الدنيا الأسخياء، وفي الآخرة الأتقياء.
قال أبو مسلم الخولاني: ما شيء أحسن من المعروف إلا ثوابه، وما كلّ من قدر على المعروف كانت له نيّة؛ فإذا اجتمعت القدرة والنية تمت السعادة. وأنشد:(1/191)
إنّ المكارم كلّها حسن ... والبذل أحسن ذلك الحسن
كم عارف بي لست أعرفه ... ومخبّر عنّي ولم يرني
يأتيهم خبري وإن بعدت ... داري وبوعد عنهم وطني
إني لحرّ المال ممتهن ... ولحرّ عرضي غير ممتهن «1»
وقال خالد بن عبد الله القسري: من أصابه غبار مركبي فقد وجب عليّ شكره.
وقال عمرو بن العاص: والله لرجل ذكرني، ينام على شقّة ثمرة وعلى شقة أخرى، يراني موضعا لحاجته، لأوجب عليّ حقا إذا سألنيها مني إذا قضيتها له.
وقال عبد العزيز بن مروان: إذا أمكنني الرجل من نفسه حتى أضع معروفي عنده، فيده عندي أعظم من يدي عنده. وأنشد لابن عباس رضي الله تعالى عنهما:
إذا طارقات الهمّ ضاجعت الفتى ... وأعمل فكر الّليل والّليل عاكر «2»
وباكرني في حاجة لم يكن لها ... سواي ولا من نكبة الدّهر ناصر
فرجت بمالي همّه عن خناقه ... وزاوله الهمّ الطّروق المساور
وكان له فضل عليّ بظنّه ... بي الخير إنّي للّذي ظنّ شاكر
لأبي عقيل في مروان
: وقيل لأبي عقيل البليغ العراقي: كيف رأيت مروان بن الحكم عند طلب الحاجة إليه؟ قال: رأيت رغبته في الإنعام فوق رغبته في الشكر، وحاجته إلى قضاء الحاجة أشدّ من حاجة صاحب الحاجة.
وقال زياد: كفى بالبخل عارا أن اسمه لم يقع في حمد قطّ، وكفى بالجود مجدا أن اسمه لم يقع في ذم قط.
وقال آخر:(1/192)
ألا تراني وقد قطّعتني عذلا ... ماذا من الفضل بين البخل والجود
إلّا يكن ورق يوما أراح به ... للخابطين فإني ليّن العود
لا يعدم السائلون الخير أفعله ... إمّا نوالا وإما حسن مردود
قوله «إلا يكن ورق» يريد المال، وضربه مثلا. ويقال: أتى فلان فلانا يختبط ما عنده. والاختباط: ضرب الشجر ليسقط الورق لتأكله السائبة، فجعل طالب الرزق مثل الخابط.
قال أسماء بن خارجة: ما أحب أن أردّ أحدا في حاجة طلبها، لأنه لا يخلو أن يكون كريما فأصون له عرضه، أو لئيما فأصون عرضي منه.
وقال أرسطا طاليس: من انتجعك «1» من بلاده فقد ابتدأك بحسن الظن بك والثقة بما عندك.
الترغيب في حسن الثناء واصطناع المعروف
قال النبي صلّى الله عليه وسلّم: «إذا أردتم أن تعلموا ما للعبد عند ربّه فانظروا ما يتبعه من حسن الثناء» .
من عمر إلى أبي موسى
: وكتب عمر بن الخطاب رضي الله عنه إلى أبي موسى الأشعري: اعتبر منزلتك من الله بمنزلتك من الناس، واعلم أنّ مالك عند الله مثل ما للناس عندك.
وقيل لبعض الحكماء: ما أفادك الدهر؟ قال: العلم به. قيل: فما أحد الأشياء؟
قال: أن تبقي للإنسان أحدوثة حسنة.
وقال بعض أهل التفسير في قول الله تعالى وَاجْعَلْ لِي لِسانَ صِدْقٍ فِي الْآخِرِينَ
«2» إنه أراد حسن الثناء من بعده.(1/193)
وقال أكثم بن صيفي: إنما أنتم أخبار فطيّبوا أخباركم.
أخذ هذا المعنى حبيب الطائي فقال:
وما ابن آدم إلّا ذكر صالحة ... أو ذكر سيئة يسرى بها الكلم
أما سمعت بدهر باد، أمّته ... جاءت بأخبارها من بعدها أمم «1»
وقال أبو بكر محمد بن دريد:
وإنّما المرء حديث بعده ... فكن حديثا حسنا لمن وعى
وقالوا: الأيام مزارع، فما زرعت فيها حصدته.
لابن عبد ربه
: ومن قولنا في هذا المعنى وغيره من مكارم الأخلاق:
يا من تجلّد للزّما ... ن أما زمانك منك أجلد
سلّط نهاك على هوا ... ك وعدّ يومك ليس من غد
إن الحياة مزارع ... فازرع بها ما شئت تحصد
والناس لا يبقى سوى ... آثارهم والعين تفقد
أو ما سمعت بمن مضى ... هذا يذمّ وذاك يحمد
المال إن أصلحته ... يصلح وإن أفسدت يفّسد
وقال الأحنف بن قيس: ما ادّخرت الآباء للأبناء، ولا أبقت الموتى للأحياء، شيئا أفضل من اصطناع المعروف عند ذوي الأحساب.
وقالوا: تربيب المعروف أولى من اصطناعه؛ لأنّ اصطناعه نافلة، «2» وتربيبه فريضة.
وقالوا: أحي معروفك بإماتة ذكره، وعظّمه بالتّصغير له.(1/194)
وقالت الحكماء: من تمام كرم المنعم التغافل عن حجته، والاقرار بالفضيلة لشاكر نعمته.
وقالوا: للمعروف خصال ثلاث: تعجيله وتيسيره وستره، فمن أخلّ بواحدة منها فقد بخس «1» المعروف حقه وسقط عنه الشكر.
وقيل لمعاوية: أي الناس أحب إليك؟ قال: من كانت له عندي يد صالحة. قيل:
فإن لم تكن له؟ قال: فمن كانت لي عنده يد صالحة.
وقال النبي صلّى الله عليه وسلّم: «من عظمت نعمة الله عنده عظمت مؤونة الناس عليه، فإن لم يقم بتلك المؤونة عرّض النعمة للزوال» .
عروة بن أدية في صلبه
: أبو اليقظان قال: أخذ عبيد الله بن زياد عروة بن أديّة أخا أبي بلال، وقطع يده ورجله، وصلبه على باب داره؛ فقال لأهله وهو مصلوب: انظروا إلى هؤلاء الموكلين بي فأحسنوا إليهم، فإنهم أضيافكم.
ابن المبارك عن حميد عن الحسن قال: لأن أقضي حاجة لأخ لي، أحبّ إليّ من عبادة سنة.
بين السندي وكوفي ذي مروءة
: وقال إبراهيم بن السّندي: قالت لرجل من أهل الكوفة، من وجوه أهلها، كان لا يجف لبده «2» ، ولا يستريح قلبه، ولا تسكن حركته في طلب حوائج الرجال وإدخال المرافق على الضّعفاء وكان رجلا مفوّها؛ فقلت له: أخبرني عن الحالة التي خفّفت عنك النّصب «3» وهوّنت عليك التعب في القيام بحوائج الناس، ما هي؟ قال قد والله(1/195)
سمعت تغريد الطير بالأسحار، في فروع الأشجار، وسمعت خفق أوتار العيدان، وترجيع أصوات القيان، فما طربت من صوت قط، طربي من ثناء حسن بلسان حسن على رجل قد أحسن، ومن شكر حرّ المنعم حرّ، ومن شفاعة محتسب لطالب شاكر. قال إبراهيم: فقلت له: لله أبوك! لقد حشيت كرما.
لجعفر بن محمد
: إسماعيل بن مسرور عن جعفر بن محمد «1» قال: إن الله خلق خلقا من رحمته برحمته لرحمته، وهم الذين يقضون الحوائج للناس، فمن استطاع منكم أن يكون منهم فليكن.
الجود مع الإقلال
قال الله تبارك وتعالى فيما حكاه عن الأنصار: وَيُؤْثِرُونَ عَلى أَنْفُسِهِمْ وَلَوْ كانَ بِهِمْ خَصاصَةٌ، وَمَنْ يُوقَ شُحَّ نَفْسِهِ فَأُولئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ
»
وقال النبي صلّى الله عليه وسلّم: «أفضل العطية ما كان من معسر إلى معسر» .
وقال عليه الصلاة والسلام: «أفضل العطية جهد المقلّ» .
وقالت الحكماء: القليل من القليل أحمد من الكثير إلى الكثير.
أخذ هذا المعنى حبيب فنظمه في أبيات كتب بها إلى الحسن بن وهب الكاتب وأهدى إليه قلما:
قد بعثنا إليك أكرمك الله ب ... يء فكن له ذا قبول
لا تقسه إلى ندى كفّك الغم ... ر ولا نيلك الكثير الجزيل «3»
واستجز قلّة الهديّة منّي ... إنّ جهد المقلّ غير قليل(1/196)
وقالوا: جهد المقلّ أفضل من غني المكثر.
وقال صريع الغواني:
ليس السّماح لمكثر في قومه ... لكن لمقتر قومه المتحّمد
لأبي هريرة في جعفر بن أبي طالب
: وقال أبو هريرة: ما وددت أن أحدا ولدتني أمّه إلا أم جعفر بن أبي طالب؛ تبعته ذات يوم وأنا جائع، فلما بلغ الباب التفت فرآني، فقال لي: ادخل، فدخلت؛ ففكّر حينا فما وجد في بيته شيئا إلا نحيا «1» كان فيه سمن مرّة، فأنزله من رف لهم، فشقّه بين أيدينا، فجعلنا نلعق ما كان فيه من السمن والزيت، وهو يقول:
ما كلّف الله نفسا فوق طاقتها ... ولا تجود يد إلّا بما تجد
وقيل بعض الحكماء: من أجود الناس؟ قال: من جاد من قلّة، وصان وجه السائل عن المذلّة.
وقال حماد عجرد:
أورق بخير تؤمّل للجزيل فما ... ترجى الثّمار إذا لم يورق العود
إنّ الكريم ليخفي عنك عسرته ... حتى تراه غنياّ وهو مجهود
بثّ النّوال ولا تمنعك قلّته ... فكلّ ما سدّ فقرا فهو محمود «2»
وللبخيل على أمواله علل ... زرق العيون عليها أوجه سود
وقال حاتم:
أضاحك ضيفي قبل إنزال رحله ... ويخصب عندي والمحلّ جديب
وما الخصب للأضياف أن يكثر القرى ... ولكنّما وجه الكريم خصيب(1/197)
وقال عبد الملك بن مروان: ما كنت أحب أنّ أحدا ولدني من العرب إلا عروة بن الورد لقوله:
أتهزأ مني سمنت وأن ترى ... بجسمي مسّ الجوع والجوع جاهد
لأني امرؤ عافى إنائي شركة ... وأنت امرؤ عافى إنائك واحد
أقسّم جسمي في جسوم كثيرة ... وأحسو قراح الماء والماء بارد «1»
ومن أحسن ما قيل في الجود مع الإقلال قول صريع:
فلو لم يكن في كفّه غير روحه ... لجاد بها فليتّق الله سائله
ومن أفرط ما قيل في الجود قول بكر بن النطّاح:
أقول لمرتاد النّدى عند مالك ... تمسّكّ بجدوى مالك وصلاته «2»
فتى جعل الدّنيا وقاء لعرضه ... فأسدى بها المعروف قبل عداته «3»
فلو خذلت أمواله جود كفّه ... لقاسم من يرجوه شطر حياته
وإن لم يجز في العمر قسم لمالك ... وجاز له أعطاه من حسناته
وجاد بها من غير كفر بربّه ... وأشركه في صومه وصلاته
وقال آخر في هذا المعنى وأحسن:
ملأت يدي من الدنيا مرارا ... وما طمع العواذل في اقتصادي
ولا وجبت عليّ زكاة مال ... وهل تجب الزّكاة على الجواد
العطية قبل السؤال
قال سعيد بن العاص: قبح الله المعروف إن لم يكن ابتداء من غير مسألة، فالمعروف عوض من مسألة الرجل إذا بذل وجهه، فقلبه خائف، وفرائصه ترعد، وجبينه يرشح؛ لا يدري أيرجع بنجح الطلب، أم بسوء المنقلب، قد انتقع «4» لونه،(1/198)
وذهب دم وجهه. اللهم فإن كانت الدنيا لها عندي حظّ فلا تجعل لي حظا في الآخرة.
وقال أكثم بن صيفي: كل سؤال وإن قلّ أكثر من كل نوال وإن جلّ.
وقال عليّ بن أبي طالب رضي الله عنه لأصحابه: من كانت له إليّ منكم حاجة فليرفعها في كتاب، لأصون وجوهكم عن المسألة.
حبيب قال:
عطاؤك لا يفنى ويستغرق المنى ... وتبقى وجوه الرّاغبين بمائها «1»
وقال حبيب أيضا:
ذلّ السّؤال شجا في الحلق معترض ... من دونه شرق من خلفه جرض «2»
ما ماء كفّك إن جادت وإن بخلت ... من ماء وجهي إذا أفنيته عوض
إنّي بأيسر ما أدنيت منبسط ... كما بأكثر ما أقصيت منقبض
وقالوا: من بذل إليك وجهه فقد وفّاك عن نعمتك.
وقالوا: أكمل الخصال ثلاث: وقار بلا مهابة، وسماح بلا طلب مكافأة، وحلم بغير ذلّ.
وقالوا: السخي من كان مسرورا ببذله، متبرعا بعطائه، لا يلتمس عرض دنيا فيحبط عمله، ولا طلب مكافأة فيسقط شكره، ولا يكون مثله فيما أعطى مثل الصائد الذي يلقي الحب للطائر: لا يريد نفعها ولكن نفع نفسه.
بين ابن أبي سبرة وأبي الأسود
: نظر المنذر بن أبي سبرة إلى أبي الأسود الدؤلي وعليه قميص مرقوع، فقال له: ما أصبرك على هذا القميص؟ فقال له: ربّ مملوك لا يستطاع فراقه. فبعث إليه(1/199)
بتخت من ثياب. فقال أبو الأسود:
كساني ولم أستكسه فحمدته ... أخ لك يعطيك الجزيل وناصر
وإنّ أحقّ الناس إن كنت شاكرا ... بشكرك من أعطاك والعرض وافر
بين معاوية وابن صوحان في الجود
: وسأل معاوية صعصعة بن صوحان: ما الجود؟ فقال: التبرّع بالمال، والعطّية قبل السؤال.
لابن عبد ربه
: ومن قولنا في هذا المعنى:
كريم على العلّات جزل عطاؤه ... ينيل وإن لم يعتمد لنوال «1»
وما الجود من يعطي إذا ما سألته ... ولكنّ من يعطي بغير سؤال
وقال بشّار العقيلي:
مالكيّ ينشقّ عن وجهه الجد ... ب كما انشقت الدّجى عن ضياء
فثجوج السماء فيض يديه ... لقريب ونازح الدار ناء «2»
ليس يعطيك للرّجاء وللخو ... ف ولكن يلذّ طعم العطاء
لا ولا أن يقال شيمته الجو ... د ولكن طبائع الآباء
وقال آخر:
إن بين السّؤال والإعتذار ... خطّة صعبة على الأحرار
وقال حبيب:
لئن جحدتك ما أوليت من نعم ... إني لفي اللؤم أمضى منك في الكرم(1/200)
أنسى ابتسامك والألوان كاسفة ... تبسّم الصّبح في داج من الظّلم «1»
رددت رونق وجهي في صحيفته ... ردّ الصّقال بهاء الصّارم الخذم «2»
وما أبالي وخير القول أصدقه ... حقنت لي ماء وجهي أم حقنت دمي!
استنجاح الحوائج
عادتهم في ذلك
: كانوا يستفتحون حوائجهم بركعتين يقولون فيهما: اللهم بك أستنجح، وباسمك أستفتح، وبمحمد نبيّك إليك أتوجه، اللهم ذلّ لي صعوبته، وسهّل لي حزونته، وارزقني من الخير أكثر مما أرجو، واصرف عنّي من الشر أكثر مما أخاف.
وقال النبي صلّى الله عليه وسلّم: «استعينوا على حوائجكم بالكتمان لها، فإنّ كل ذي نعمة محسود» .
وقال خالد بن صفوان: لا تطلبوا الحوائج في غير حينها، ولا تطلبوها من غير أهلها، فإنّ الحوائج تطلب بالرجاء، وتدرك بالقضاء.
وقال: مفتاح نجح الحاجة الصبر على طول المدة. ومغلاقها اعتراض الكسل دونها.
قال الشاعر:
إني رأيت وفي الأيام تجربة ... للصبر عاقبة محمودة الأثر
وقلّ من جدّ في أمر يحاوله ... واستصحب الصّبر إلا فاز بالظّفر
ومن أمثال العرب في هذا: من أدمن قرع الباب يوشك أن يفتح له.
أخذ الشاعر هذا المعنى فقال:
إن الأمور إذا انسدّت مسالكها ... فالصبر يفتق منها كل ما ارتتجا «3»(1/201)
لا تيأسنّ وإن طالت مطالبة ... إذا تضايق أمر أن ترى فرجا
أخلق بذي الصّبر أن يحظى بحاجته ... ومدمن القرع للأبواب أن يلجا «1»
وقال خالد بن صفوان: فوت الحاجة خير من طلبها إلى غير أهلها، وأشدّ من المصيبة سوء الخلف منها.
وقالوا: صاحب الحاجة مبهوت، وطلب الحوائج كلّها تعزير «2» .
وقالت: الحكماء: لا تطلب حاجتك من كذّاب؛ فإنه يقرّ بها بالقول ويبعدها بالفعل؛ ولا من أحمق، يريد نفعك فيضرّك؛ ولا من رجل له أكلة من جهة رجل، فإنه لا يؤثر حاجتك على أكلته.
وقال دعبل بن علي الخزاعي:
جئتك مسترفدا بلا سبب ... إليك إلّا بحرمة الأدب «3»
فاقض ذمامي فإنني رجل ... غير ملحّ عليك في الطّلب
وقال شبيب بن شيبة: إني لأعرف أمرا لا يتلاقى به اثنان إلا وجب النّجح بينهما. قيل له: وما ذاك؟ قال: العقل؛ فإن العاقل لا يسأل ما لا يمكن، ولا يردّ عما يمكن.
وقال الشاعر:
أتيتك لا أدلي بقربى ولا يد ... إليك سوى أنّي بجودك واثق
فإن تولني عرفا أكن لك شاكرا ... وإن قلت لي عذرا أقل أنت صادق «4»
وقال الحسن بن هانيء:
فإن تولني منك الجميل فأهله ... وإلا فإنّي عاذر وشكور(1/202)
وقال آخر:
لعمرك ما أخلقت وجها بذلته ... إليك ولا عرضته للمعاير
فتى وفّرت أيدي المكارم عرضه ... عليه وخلّت ماله غير وافر
بين ابن واسع وأمير
: ودخل محمد بن واسع على بعض الأمراء فقال: أتيتك في حاجة فإن شئت قضيتها وكنا كريمين، وإن شئت لم تقضها وكنّا لئيمين. أراد: إن قضيتها كنت أنت كريما بقضائها وكنت أنا كريما بسؤالك إباها؛ لأني وضعت الطّلبة في موضعها؛ فإن لم تقضها كنت أنت لئيما بمنعك وكنت أنا لئيما بسوء اختياري لك.
وسرق حبيب هذا المعنى فقال:
عيّاش إنك للّئيم وإنّني ... مذ صرت موضع مطلبي للئيم
عبد الله بن طاهر وسوار القاضي
: ودخل سوار القاضي على عبد الله بن طاهر صاحب خراسان فقال: أصلح الله الأمير:
لنا حاجة والعذر فيها مقدّم ... خفيف معنّاها مضاعفة الأجر «1»
فإن تقضها فالحمد لله وحده ... وإن عاق مقدور ففي أوسع العذر «2»
قال له: ما حاجتك أبا عبد الله؟ قال: كتاب لي: إن رأى الأمير أكرمه الله- أن ينفذه في خاصته، كتب إلى موسى بن عبد الملك في تعجيل أرزاقي. قال: أو غير ذلك أبا عبد الله؟ نعجّلها لك من مالك، وإذا وددت كنت مخيّرا بين أن تأخذ أو تردّ. فأنشد سوار يقول:
فبابك أيمن أبوابهم ... ودارك مأهولة عامره
وكفّك حين ترى المجتدي ... ن أندى من الّليلة الماطره(1/203)
وكلبك آنس بالمعتفين ... من الأمّ بابنتها الزّائره «1»
أبو حازم الأعرج وسلطان في حاجة
: ودخل أبو حازم الأعرج على بعض أهل السلطان فقال: أتيتك في حاجة رفعتها إلى الله قبلك، فإن يأذن الله في قضائها قضيتها وحمدناك، وإن لم يأذن في قضائها لم تقضها وعذرناك.
وفي بعض الحديث: «اطلبوا الحوائج عند حسان الوجوه» .
أخذه الطائي فنظمه في شعره فقال:
قد تأوّلت فيك قول رسول الله ... إذ قال مفصحا إفصاحا
إن طلبتم حوائجا عند قوم ... فتنقّوا لها الوجوه الصّباحا
فلعمري لقد تنقّيت وجها ... ما به خاب من أراد النّجاحا
بين المنصور وطالب حاجة
: قال المنصور لرجل دخل عليه: سل حاجتك فإنك لست تقدر على هذا المقام في كل حين. قال: يبقيك الله يا أمير المؤمنين، ما أستقصر عمرك ولا أخاف بخلك، وإنّ عطاءك لشرف، وإن سؤالك لزين، وما بامريء بذل إليك وجهه نقص ولا شين «2» . فوصله وأحسن إليه.
استنجاز المواعد
كلمات في معنى هذا العنوان
: من أمثالهم في هذا: أنجز حرّ ما وعد.
وقالوا: وعد الكريم نقد، ووعد اللئيم تسويف.
وقال الزّهري: حقيق على من أورق بوعد أن يثمر بفعل.(1/204)
وقال المغيرة: من أخر حاجة فقد ضمنها.
وقال الموبذان الفارسي: الوعد السحابة، والإنجاز المطر.
وقال غيره: المواعيد رءوس الحوائج والإنجاز أبدانها.
وقال عبد الله بن عمر: خلف الوعد ثلث النفاق، وصدق الوعد ثلث الإيمان، وما ظنّك بشيء جعله الله مدحة في كتابه، وفخرا لأنبيائه، فقال تعالى: وَاذْكُرْ فِي الْكِتابِ إِسْماعِيلَ إِنَّهُ كانَ صادِقَ الْوَعْدِ
«1» .
لجبار في عامر ابن الطفيل
: وذكر جبار بن سلمى عامر بن الطّفيل فقال: كان والله إذا وعد الخير وفى، وإذا وعد الشر أخلف. وهو القائل:
ولا يرهب ابن العمّ ما عشت صولتي ... ويأمن منّي سطوة المتهدّد «2»
وإني وإن أوعدته أو وعدته ... ليكذب إيعادي ويصدق موعدي
وقال ابن أبي حازم:
إذا قلت في شيء «نعم» فأتمّه ... فإنّ «نعم» دين على الحرّ واجب
وإلا فقل «لا» تسترح وترح بها ... لئلا يقول الناس إنك كاذب
ولو لم يكن في خلف الوعد إلا قول الله عز وجل: يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لِمَ تَقُولُونَ ما لا تَفْعَلُونَ كَبُرَ مَقْتاً عِنْدَ اللَّهِ أَنْ تَقُولُوا ما لا تَفْعَلُونَ
«3» لكفى.
وقال عمر بن الحارث: كانوا يفعلون ولا يقولون، ثم صاروا يقولون ويفعلون، ثم صاروا يقولون ولا يفعلون، ثم صاروا لا يقولون ولا يفعلون، فزعم أنهم ضنّوا بالكذب فضلا عن الصدق.(1/205)
وفي هذا المعنى يقول الحسن بن هانىء:
قال لي ترضى بوعد كاذب؟ ... قلت إن لم يك شحم فنفش «1»
ومثله قول عباس بن الأحنف، ويقال إنها لمسلم بن الوليد صريع الغواني:
ما ضرّ من شغل الفؤاد ببخله ... لو كان علّلني بوعد كاذب «2»
صبرا عليك فما أرى لي حيلة ... إلّا التّمسّك بالرجاء الخائب
سأموت من كمد وتبقى حاجتي ... فيما لديك ومالها من طالب
بين عبد الملك وابن أم الحكم
: قال عبد الرحمن بن أم الحكم لعبد الملك بن مروان في مواعيد وعدها إياه فمطله «3» بها: نحن إلى الفعل أحوج منا إلى القول، وأنت بالإنجاز أولى منك من المطل، واعلم أنك لا تستحق الشكر إلا بإنجازك الوعد واستتمامك المعروف.
بين عيسى بن موسى وابن معن
: القاسم بن معن المسعودي قال: قلت لعيسى بن موسى: أيها الأمير، ما انتفعت بك منذ عرفتك، ولا أوصلت لي خيرا منذ صحبتك. قال: ألم أكلّم لك أمير المؤمنين في كذا وأسأله لك كذا؟ قال: قلت: بلى، فهل استنجزت ما وعدت، واستتممت ما بدأت؟ قال: حال من دون ذلك أمور قاطعة، وأحوال عاذرة. قلت: أيها الأمير، فما زدت على أن نبّهت العجز من رقدته، وأثرت الحزن من ربضته، إنّ الوعد إذا لم يشفعه إنجاز يحقّقه، كان كلفظ لا معنى له، وجسم لا روح فيه.
وقال عبد الصمد بن الفضل الرقاشي لخالد بن ديسم عامل الرّي:
أخالد إن الريّ قد أجحفت بنا ... وضاق علينا رحبها ومعاشها
وقد أطمعتنا منك يوما سحابة ... أضاءت لنا برقا وأبطا رشاشها(1/206)
فلا غيمها يصحو فييئس طامعا ... ولا ماؤها يأتي فتروى عطاشها
بين بشار وسلم
: وقال سعيد بن سلم: وعد أبي بشارا العقيلي حين مدحه بالقصيدة التي يقول فيها:
صدّت بخدّ وجلت عن خدّ ... ثم انثنت كالنّفس المرتدّ «1»
فكتب إليه بشار بالغد:
ما زال ما منّيتني من همّي ... الوعد فأرح من غمّي
إن لم ترد مدحي فراقب ذمّي
فقال له أبي: يا أبا معاذ، هلا استنجزت الحاجة بدون الوعيد! فإذا لم تفعل فتربّص ثلاثا وثلاثا؛ فإني والله ما رضيت بالوعد حتى سمعت الأبرش الكلبي يقول لهشام: يا أمير المؤمنين؛ لا تصنع إليّ معروفا حتى تعدني؛ فإنه لم يأتني منك سيب «2» على غير وعد إلا هان عليّ قدره وقلّ مني شكره. فقال له هشام: لئن قلت ذلك لقد قاله سيد أهلك أبو مسلم الخولاني: «إن أوقع المعروف في القلوب، وأبرده على الأكباد معروف منتظر، بوعد لا يكدّره المطل» .
يحيى بن خالد وقضاء الحوائج
: وكان يحيى بن خالد بن برمك لا يقضي حاجة إلا بوعد، ويقول: من لم يبت على سرور الوعد لم يجد للصنيعة طعما.
وقالوا: الخلف ألأم من البخل لأنه من لم يفعل المعروف لزمه ذمّ اللؤم وحده، ومن وعد وأخلف لزمه ثلاث مذمّات: ذمّ اللؤم، وذمّ الخلف، وذمّ الكذب.
وقال زياد الأعجم:
لله درّك من فتى ... لو كنت تفعل ما تقول(1/207)
لا خير في كذب الجوا ... د وحبّذا صدق البخيل
استبطأ حبيب الطائي الحسن بن وهب في عدة وعدها إياه، فكتب إليه أبياتا يستعجله بها؛ فبعث إليه بألف درهم وكتب إليه:
أعجلتنا فأتاك عاجل برّنا ... قلّا ولو أخّرته لم يقلل
فخذ القليل وكن كمن لم يسأل ... ونكون نحن كأننا لم نفعل
ابن دأب عند المهدي
: وقال عبد الملك بن مالك الخزاعي: دخلت على أمير المؤمنين المهدي وعنده ابن دأب وهو ينشد قول الشماخ:
وأشعث قد قدّ السّفار قميصه ... يجرّ شواء بالعصا غير منضج «1»
دعوت إلى ما نابني فأجابني ... كريم من الفتيان غير مزلّج»
فتى يمريء الشّيزى ويروي سنانه ... ويضرب في رأس الكميّ المدجّج «3»
فتى ليس بالرّاضي بأدني معيشة ... ولا في بيوت الحيّ بالمتولّج
فرفع المهديّ رأسه إليّ وقال: هذه صفتك أبا العباس. فقلت: بك نلتها يا أمير المؤمنين. قال: فأنشدني. فأنشدته قول المسموءل:
إذا المرء لم يدنس من الّلؤم عرضه ... فكلّ رداء يرتديه جميل
وإن هو لم يحمل على النّفس ضيمها ... فليس إلى حسّن الثّناء سبيل «4»
إذا المرء أعيته المروءة يافعا ... فمطلبها كهلا عليه ثقيل «5»
تعيّرنا أنا قليل عدادنا ... فقلت لها إنّ الكرام قليل
وما ضرّنا أنّا قليل وجارنا ... عزيز وجار الأكثرين ذليل
ونحن أناس لا نرى القتل سبّة ... إذا ما رأته عامر وسلول «6»(1/208)
يقترب حب الموت آجالنا لنا ... وتكرهه آجالهم فتطول
وما مات منّا سيّد حتف أنفه ... ولا طلّ منّا حيث كان قتيل «1»
تسيل على حدّ السّيوف نفوسنا ... وليست على غير السّيوف تسيل
وننكر إن شئنا على الناس قولهم ... ولا ينكرون القول حين نقول
فنحن كماء المزن ما في نصابنا ... كهام ولا فينا يعدّ بخيل «2»
وأسيافنا في كلّ شرق ومغرب ... بها من قراع الدارعين فلول «3»
فقال: أحسنت، اجلس، بهذا بلغتم، سل حاجتك. قلت: يا أمير المؤمنين، تكتب لي العطاء ثلاثين رجلا من أهلي. قال: نعم، عليّ إذا وعدت، فقلت: يا أمير المؤمنين، إنك متمكّن من القدرة وليس دونك حاجز عن الفعل؛ فما معنى العدة؟
فنظر إلى ابن دأب يريد منه كلاما في فضل الموعد، فقال ابن دأب:
حلاوة الفعل بوعد ينجز ... لا خير في العرف كنهب ينهز «4»
فضحك المهدي وقال:
الفعل أحسن ما يكو ... ن إذا تقدّمه ضمان
للمهلب يوصي بنيه
: وقال المهلب بن أبي صفرة لبنيه: يا بنيّ، إذا غدا عليكم الرجل وراح مسلّما فكفى بذلك تقاضيا.
وقال الشاعر:
أروح بتسليمي عليك وأغتدي ... وحسبك بالتّسليم منّي تقاضيا
وقال آخر:(1/209)
كفاك مخبرا وجهي بشاني ... وحسبك أن أراك وأن تراني
وما ظنّي بمن يعنيه أمري ... ويعلم حاجتي ويرى مكاني
وكتب العتابي إلى بعض أهل السلطان: أما بعد؛ فإن سحاب وعدك قد أبرقت، فليكن وبلها سالما من علل المطل. والسلام.
وكتب الجاحظ إلى رجل وعده: أما بعد فإن شجرة وعدك قد أورقت فليكن ثمرها سالما من جوائح المطل «1» . والسلام.
عبد الله بن طاهر ودعبل
: وعد عبد الله بن طاهر دعبلا بغلام، فلما طال عليه تصدّى له يوما وقد ركب إلى باب الخاصّة، فلما رآه قال: أسأت الاقتضاء، وجهلت المأخذ، ولم تحسن النظر، ونحن أولى بالفضل؛ فلك الغلام والدابة متى ننزل إن شاء الله تعالى. فأخذ بعنانه دعبل وأنشده:
يا جواد الّلسان من غير فعل ... ليت في راحتيك جود الّلسان
عين مهران قد لطمت مرارا ... فاتّق ذا الجلال في مهران
عرت عينا فدع لمهران عينا ... لا تدعه يطوف في العميان
قال: فنزل له عن دابته، وأمر له بالغلام.
أبان وخلف ابن خليفة
: وسأل خلف بن خليفة أبان بن الوليد جارية، فوعده بها وأبطأت عليه، فكتب إليه:
أرى حاجتي عند الأمير كأنّها ... تهمّ زمانا عنده بمقام
وأحصر من إذ كاره إن لقيته ... وصدق الحياء ملجم بلجام
أراها إذا كان النهار نسيئة ... وبالّليل تقضى عند كلّ منام «2»(1/210)
فياربّ أخرجها فإنك مخرج ... من الميت حيّا مفصحا بكلام
فتعلم ما شكري إذا ما قضيتها ... وكيف صلاتي عندها وصيامي
وكتب أبو العتاهية إلى رجل وعده بعدة ومطله بها.
لا جعل الله لي إليك ولا ... عندك ما عشت حاجة أبدا
ما جئت في حاجة أسرّ بها ... إلا تثاقلت ثمّ قلت غدا
وكتب دعبل إلى رجل وعده وعدا وأخلفه:
أحسبت أرض الله ضيّقة ... عني فأرض الله لم تضق
وجعلتني فقعا بقرقرة ... فوطئتني وطئا على حنق «1»
فإذا سألتك حاجة أبدا ... فاضرب بها قفلا على غلق
وأعدّ لي غلّا وجامعة ... فاجمع يديّ بها إلى عنقي «2»
ما أطول الدّنيا وأوسعها ... وأدلّني بمسالك الطّرق
لابن عبد ربه
: ومن قولنا في رجل كتب إليّ بعدة في صحيفة ومطلني بها:
صحيفة طابعها الّلوم ... عنوانها بالجهل مختوم
يهدى لها والخلف في طيّها ... والمطل والتّسويف والّلوم
من وجهه نحس ومن قربه ... رجس ومن عرفانه شوم
لا تهتضم إن بتّ ضيفا له ... فخبزه في الجوف هاضوم «3»
تكلمه الألحاظ من رقّة ... فهو بلحظ العين مكلوم «4»
لا تأتدم شيئا على أكله ... فإنه بالجوع مأدوم «5»(1/211)
وقلت فيه:
صحيفة كتبت ليت بها وعسى ... عنوانها راحة الرّاجي إذا يئسا
وعد له هاجس في القلب قد برمت ... أحشاء صدري به من طول ماهجسا «1»
براعة غرّني منها وميض سني ... حتى مددت إليها الكفّ مقتبسا «2»
فصادفت حجرا لو كنت تضربه ... من لؤمه بعصا موسى لما انبجسا «3»
كأنما صيغ من بخل ومن كذب ... فكان ذاك له روحا وذا نفسا
وقلت فيه:
رجاء دون أقربه السّحاب ... ووعد مثل ما لمع السراب
وتسويف يكلّ الصّبر عنه ... ومطل ما يقوم له حساب «4»
وأيام خلت من كلّ خير ... ودنيا قد توزّعها الكلاب
لطيف الاستمناح
قالت الحكماء: لطيف الاستمناح سبب النجاح، والأنفس ربما انطلقت وانشرحت بلطيف السؤال، وانقبضت وامتنعت بجفاء «5» السائل؛ كما قال الشاعر:
وجفوتني فقطعت عنك فوائدي ... كالدّرّ يقطعه جفاء الحالب
وقال العتابي: إن طلبت حاجة إلى ذي سلطان فأجمل في الطلب إليه، وإياك والإلحاح عليه؛ فإنّ إلحاحك يكلم «6» عرضك ويريق ماء وجهك، فلا تأخذ منه عوّضا لما يأخذ منك؛ ولعلّ الإلحاح يجمع عليك إخلاق ماء الوجه، وحرمان النجاح؛ فإنه ربما ملّ المطلوب إليه حتى يستخف بالطالب.(1/212)
وقال الحسن بن هانيء:
تأنّ مواعيد الكرام فربّما ... حملت من الإلحاح سمحا على بخل
وقال آخر:
إن كنت طالب حاجة فتجمّل ... فيها بأحسن ما طلبت وأجمل
إنّ الكريم أخا المروءة والنّهى ... من ليس في حاجاته بمثقّل
بين مروان ابن أبي حفصة وابن يزيد
: وقال مروان بن أبي حفصة: لقيت يزيد بن مزيد وهو خارج من عند المهدي فأخذت بعنان دابّته وقلت له: إني قلت فيك ثلاثة أبيات أريد بكل بيت منها مائة ألف. قال: هات لله أبوك، فأنشأت أقول:
يا أكرم الناس من عجم ومن عرب ... بعد الخليفة يا ضرغامة العرب «1»
أفنيت مالك تعطيه وتنهبه ... يا آفة الفضة البيضاء والذهب
إنّ السنان وحدّ السيف لو نطقا ... لأخبرا عنك في الهيجاء بالعجب
عبد الملك ونفر من بني أمية
: المدائني قال: قدم قوم من بني أمية على عبد الملك بن مروان، فقالوا: يا أمير المؤمنين، نحن ممن تعرف، وحقّنا ما لا ينكر، وجئناك من بعيد، ونمتّ «2» بقريب، ومهما تعطنا فنحن أهله.
الرشيد وعبد الملك بن صالح
: دحل عبد الملك بن صالح على الرشيد فقال: أسألك بالقرابة والخاصة أم بالخلافة والعامة؟ قال: بل بالقرابة والخاصة. قال: يداك يا أمير المؤمنين أطلق من لساني بالمسألة، فأعطاه وأجزل له.(1/213)
ودخل أبو الرّيان على عبد الملك بن مروان، وكان عنده أثيرا، فرآه خائرا «1» ، فقال: يا أبا الريان، مالك خائرا؟ قال: أشكو إليك الشرف يا أمير المؤمنين! قال:
كيف ذلك؟ قال: نسأل ما لا نقدر عليه ونعتذر فلا نعذر. قال عبد الملك: ما أحسن ما استمنحت واعتررت «2» يا أبا الريّان. أعطوه كذا وكذا.
الحجاج والشعبي
: العتّابي قال: كتب الشّعبي إلى الحجاج يسأله حاجة، فاعتلّ عليه «3» ، فكتب إليه الشّعبي: والله لا عذرتك وأنت والي العراقين وابن عظيم القريتين. فقضى حاجته.
وكان جدّ الحجاج لأمه عروة بن مسعود الثقفي.
معاوية وابن زرارة
: العتبي قال: قدم عبد العزيز بن زرارة الكلابي على أمير المؤمنين معاوية فقال: إني لم أزل أهزّ ذوائب الرّحال إليك، فلم أجد معوّلا إلا عليك، أمتطي الليل بعد النهار، وأسم «4» المجاهل بالآثار، يقودني إليك أمل، وتسوقني بلوى، والمجتهد يعذر، وإذا بلغتك فقطني «5» . فقال: احطط عن راحلتك.
يزيد بن المهلب وكريز
: ودخل كريز بن زفر بن الحارث على يزيد بن المهلب فقال: أصلح الله الأمير، أنت أعظم من أن يستعان بك ويستعان عليك، ولست تفعل من الخير شيئا إلا وهو يصغر عنك وأنت أكبر منه، ولا العجب أن تفعل، ولكن العجب ألا تفعل. قال:
سل حاجتك. قال: حملت عن عشيرتي عشر ديات. قال: قد أمرت لك بها وشفعتها بمثلها.(1/214)
حاتم الطائي وسائل حاجة
: العتبي عن أبيه قال: أتى رجل إلى حاتم الطائي فقال: إنها وقعت بيني وبين قوم ديات، فاحتملتها في مالي وأملي، فعدمت مالي وكنت أملي، فإن تحملها عني فربّ همّ قد فرجته، وغمّ كفيته، ودين قضيته، وإن حال دون ذلك حائل لم أذمّ يومك، ولم أيأس من غدك. فحملها عنه.
خالد القسري وسائل
: المدائني قال: سأل رجل خالدا القسري حاجة، فاعتل عليه، فقال له: لقد سألت الأمير من غير حاجة. قال: وما دعاك إلى ذلك؟ قال: رأيتك تحب من لك عنده حسن بلاء؛ فأردت أن أتعلّق منك بحبل مودة. فوصله وحباه وأدنى مكانه.
المنصور والهجري
: الأصمعي قال: دخل أبو بكر الهجريّ على المنصور، فقال: يا أمير المؤمنين نغض فمي «1» ، وأنتم أهل البيت بركة، فلو أذنت لي فقبّلت رأسك لعل الله يشدّد لي منه! قال: اختر منها أو من الجائزة. فقال: يا أمير المؤمنين. أهون عليّ من ذهاب درهم من الجائزة ألّا تبقى حاكّة في فمي. فضحك المنصور وأمر له بجائزة.
أبو دلف وجار له
: وذكروا أن جارا لأبي دلف ببغداد لزمه كبير دين فادح، حتى احتاج إلى بيع داره، فساوموه بها، فسألهم ألفي دينار؛ فقالوا له: إنّ دارك تساوي خمسمائة. قال:
وجواري من أبي دلف بألف وخمسمائة! فبلغ أبا دلف؛ فأمر بقضاء دينه وقال له: لا تبع دارك ولا تنتقل من جوارنا.(1/215)
قيس بن سعد وامرأة
: ووقفت امرأة على قيس بن سعد بن عبادة فقالت: أشكو إليك قلة الجرذان.
قال: ما أحسن هذه الكناية! املأوا لها بيتها خبزا ولحما وسمنا.
المنصور وأزهر السمان
: إبراهيم بن أحمد عن الشّيباني قال: كان أبو جعفر المنصور أيام بني أمية إذا دخل البصرة دخل مستترا، فكان يجلس في حلقة أزهر السمان المحدّث، فلما أفضت الخلافة إليه قدم عليه أزهر، فرحّب به وقرّبه، وقال له: ما حاجتك يا أزهر؟ قال:
داري متهدمة، وعليّ أربعة آلاف درهم، وأريد لو أن ابني محمدا بنى بعياله «1» .
فوصله باثنى عشر ألفا، وقال: قد قضينا حاجتك يا أزهر؛ فلا تأتنا طالبا. فأخذها وارتحل. فلما كان بعد سنة أتاه، فلما رآه أبو جعفر قال: ما جاء بك يا أزهر؟ قال:
جئتك مسلما. قال: إنه يقع في خلد أمير المؤمنين أنك جئت طالبا. قال: ما جئت إلا مسلّما. قال: قد أمرنا لك باثنى عشر ألفا، واذهب فلا تأتنا طالبا ولا مسلّما.
فأخذها ومضى؛ فلما كان بعد سنة أتاه، فقال: ما جاء بك يا أزهر؟ قال: أتيت عائدا، قال: إنه يقع في خلدي أنك جئت طالبا. قال: ما جئت إلا عائدا. قال: قد أمرنا لك باثنى عشر ألفا، واذهب فلا تأتنا طالبا ولا مسلما ولا عائدا. فأخذها وانصرف؛ فلما مضت السنة أقبل، فقال له: ما جاء بك يا أزهر؟ قال: دعاء كنت أسمعك تدعو به يا أمير المؤمنين، جئت لأكتبه. فضحك أبو جعفر وقال: إنه دعاء غير مستجاب، وذلك أني قد دعوت الله به ألا أراك فلم يستجب لي، وقد أمرنا لك باثنى عشر ألفا وتعال متى شئت، فقد أعيتني فيك الحيلة.
ابن المهلب وأعرابي
: أقبل أعرابي إلى داود بن المهلب فقال له. إني مدحتك فاستمع. قال: على رسلك «2» ! ثم دخل بيته وتقلّد سيفه وخرج، فقال: قل، فإن أحسنت حكّمناك، وإن(1/216)
أسأت قتلناك! فأنشأ يقول:
أمنت بداود وجود يمينه ... من الحدث المخشيّ والبؤس والفقر
فأصبحت لا أخشى بداود نبوة ... من الحدثان إذ شددت به أزري»
له حكم لقمان وصورة يوسف ... وحكم سليمان وعدل أبي بكر
فتى تفرق الأموال من جود كفّه ... كما يفرق الشيطان من ليلة القدر «2»
فقال: قد حكمناك؛ فإن شئت على قدرك، وإن شئت على قدري. قال: بل على قدري. فأعطاه خمسين ألفا، فقال له جلساؤه: هلا احتكمت على قدر الأمير؟ قال:
لم يك في ماله ما يفي بقدره! قال له داود: أنت في هذه أشعر منك في شعرك. وأمر له بمثل ما أعطاه.
الرشيد وإسحاق الموصلي
: الأصمعي قال: كنت عند الرشيد إذ دخل عليه إسحاق بن إبراهيم الموصلي فأنشده:
وآمرة بالبخل قلت لها اقصري ... فليس إلى ما تأمرين سبيل
فعالي فعال المكثرين تجمّلا ... ومالي كما قد تعلمين قليل
فكيف أخاف الفقر أو أحرم الغنى ... ورأي أمير المؤمنين جميل
فقال له الرشيد: لله درّ أبيات تأتينا بها! ما أحسن أصولها وأبين فصولها، وأقلّ فضولها! يا غلام أعطه عشرين ألفا. قال: والله لا أخذت منها درهما واحدا! قال:
ولم؟ قال: لأن كلامك والله يا أمير المؤمنين خير من شعري! قال: أعطوه أربعين ألفا. قال الأصمعي: فعلمت والله أنه أصيد لدراهم الملوك مني.(1/217)
معاوية وزيد ابن منية
: العتبي عن أبيه قال: قدم زيد بن منية من البصرة على معاوية، وهو أخو يعلي بن منية صاحب الجمل، جمل عائشة رضي الله عنها، ومتولي تلك الحروب، ورأس أهل البصرة؛ وكانت ابنة يعلي عند عتبة بن أبي سفيان؛ فلما دخل على معاوية شكا دينه، فقال: يا كعب، أعطه ثلاثين ألفا. فلما ولّى قال: وليوم الجمل ثلاثين ألفا أخرى، ثم قال له: الحق بصهرك- يعني عتبة- فقدم عليه مصر. فقال: إني سرت إليك شهرين، أخوض فيهما المتالف «1» ، ألبس أردية الليل مرّة، وأخوض في لجج السراب أخرى، موقرا «2» من حسن الظن بك، وهاربا من دهر قطم «3» ، ومن دين لزم، بعد غنى جدعنا به أنوف الحاسدين. فقال عتبة: إن الدهر أعاركم غنى، وخلطكم بنا ثم استردّ ما أمكنه أخذه، وقد أبقى لكم منّا ما لا ضيعة معه، وأنا رافع يدي ويدك بيد الله، فأعطاه ستين ألفا كما أعطاه معاوية.
ابن سويد وأبو ساسان
: إبراهيم الشيباني قال: قال عبد الله بن علي بن سويد بن منجوف: أعدم أبي إعدامة بالبصرة وأنفض «4» ، فخرج إلى خراسان فلم يصب بها طائلا. فبينا هو يشكو تعزّر الأشياء عليه، إذ عدا غلامه على كسوته وبغلته فذهب بهما، فأتى أبا ساسان حضين ابن المنذر الرقاشي فشكا إليه حاله، فقال له: والله يا بن أخي، ما عمّك ممن يحمل محاملك، ولعلّي أن أحتال لك. فدعا بكسوة حسنة فألبسني إياها، ثم قال: امض بنا. فأتى باب والى خراسان، فدخل وتركني بالباب، فلم ألبث أن خرج الحاجب فقال: أي عليّ بن سويد؟ فدخلت إلى الوالي، فإذا حضين على فراش إلى جانبه، فسلمت على الوالي فردّ عليّ، ثم أقبل عليه حضين فقال: أصلح الله الأمير، هذا علي(1/218)
ابن سويد بن منجوف سيد فتيان بكر بن وائل وابن سيد كهولها، وأكثر الناس مالا حاضرا بالبصرة وفي كل موضع ملكت به بكر بن وائل مالا، وقد تجمّل بي إلى الأمير في حاجة. قال: هي مقضية. قال: فإنه يسألك أن تمدّ يدك في ماله ومراكبه وسلاحه إلى ما أحببت. قال: لا والله لا أفعل ذلك به، نحن أولى بزيادته. قال: فقد أعفيناك من هذه إذ كرهتها، فهو يسألك أن تحمّله حوائجك بالبصرة. قال: إن كانت حاجة فهو فيها ثقة، ولكن أسألك أن تكلّمه في قبول معونة منا؛ فإنا نحب أي يرى على مثله من أثرنا. فأقبل عليّ فقال: يا أبا الحسن، عزمت عليك ألّا تردّ على عمّك شيئا أكرمك به. فسكت. قال: فدعا لي بمال ودوابّ وكسا ورقيق، فلما خرجت قلت: أبا ساسان، لقد أوقفتني على خطة ما وقفت على مثلها قط. قال:
اذهب إليك يا بن أخي، فعمّك أعلم بالناس منك؛ إن الناس إن علموا لك غرارة «1» من مال حثوا «2» لك أخرى وإن يعلموك فقيرا تعدّوا عليك مع فقرك.
المهدي وأبو دلامة
: إبراهيم الشيباني قال: ولد لأبي دلامة ابنة ليلا، فأوقد السّراج وجعل يخيط خريطة من شقق، فلما أصبح طواها بين أصابعه وغدا بها إلى المهدي فاستأذن عليه، وكان لا يحجب عليه، فأنشده:
لو كان يقعد فوق الشمس من كرم ... قوم لقيل اقعدوا يا آل عبّاس
ثم ارتقوا من شعاع الشمس في درج ... إلى السماء فأنتم أكرم الناس
قال له المهدي: أحسنت والله أبا دلامة، فما الذي غدا بك إلينا؟ قال: ولدت لي جارية يا أمير المؤمنين. قال: فهل قلت فيها شعرا؟ قال: نعم قلت:
فما ولدتك مريم أمّ عيسى ... ولم يكفلك لقمان الحكيم
ولكن قد تضمّك أمّ سوء ... إلى لبّاتها وأب لئيم «3»(1/219)
قال فضحك المهدي وقال: فما تريد أن أعينك به في تربيتها أبا دلامة؟ قال: تملأ هذه يا أمير المؤمنين. وأشار إليه بالخريطة بين إصبعيه. فقال المهدي: وما عسى أن تحمل هذه؟ قال: من لم يقنع بالقليل لم يقنع بالكثير. فأمر أن تملأ مالا، فلما نشرت أخذت عليهم صحن الدار، فدخل فيها أربعة آلاف درهم.
وكان المهدي قد كسا أبا دلامة ساجا «1» ، فأخذ به وهو سكران، فأتي به إلى المهدي؛ فأمر بتمزيق الساج عليه وأن يحبس في بيت الدّجاج؛ فلما كان في بعض الليل وصحا أبو دلامة من سكره ورأى نفسه بين الدّجاج، صاح: يا صاحب البيت! فاستجاب له السجان، قال: مالك يا عدوّ الله؟ قال: ويلك! من أدخلني مع الدّجاج؟
قال: أعمالك الخبيثة! أتي بك أمير المؤمنين وأنت سكران، فأمر بتمزيق ساجك وحبسك مع الدّجاج. قال له: ويلك! أو تقدر على أن توقد لي سراجا وتجيئني بدواة وورق ولك سلبي «2» هذا. فأتاه بدواة وورق؛ فكتب أبو دلامة إلى المهديّ:
أمن صهباء صافية المزاج ... كأنّ شعاعها لهب السّراج
تهشّ لها النفوس وتشتهيها ... إذا برزت ترقرق في الزّجاج
وقد طبخت بنار الله حتّى ... لقد صارت من النّطف النّضاج «3»
أمير المؤمنين فدتك نفسي ... علام حبستني وخرقت ساجي
أقاد إلى السجون بغير ذنب ... كأنّي بعض عمّال الخراج
ولو معهم حبست لهان وجدي ... ولكنّي حبست مع الدّجاج
دجاجات يطيف بهنّ ديك ... ينادي بالصّياح إذا يناجي
وقد كانت تخبّرني ذنوبي ... بأنّي من عذابك غير ناجي
على أنيّ وإن لاقيت شراّ ... لخيرك بعد ذاك الشرّ راجي
ثم قال أوصلها إلى أمير المؤمنين. فأوصلها إليه السجّان، فلما قرأها أمر بإطلاقه(1/220)
وأدخله عليه، فقال له: أين بت الليلة أبا دلامة؟ قال: مع الدجاج يا أمير المؤمنين.
قال: فما كنت تصنع؟ قال: كنت أقاقي معهن حتى أصبحت. فضحك المهدي وأمر له بصلة جزيلة، وخلع عليه كسوة شريفة.
بين أبي دلامة وعيسى بن موسى
: وكتب أبو دلامة إلى عيسى بن موسى وهو والي الكوفة رقعة فيها هذه الأبيات:
إذا جئت الأمير فقل سلام ... عليك ورحمة الله الرّحيم
فأمّا بعد ذاك فلي غريم ... من الأنصار قبح من غريم
لزوم ما علمت لباب داري ... لزوم الكلب أصحاب الرّقيم «1»
له مئة عليّ ونصف أخرى ... ونصف النصف في صكّ قديم
دراهم ما انتفعت بها ولكن ... وصلت بها شيوخ بني تميم
أتوني بالعشيرة يسألوني ... ولم أك في العشيرة باللئيم
قال: فبعث إليه بمائة ألف درهم.
أبو دلف وأبو دلامة
: ولقي أبو دلامة أبو دلف في مصاد له وهو والي العراق، فأخذ بعنان فرسه وأنشده:
إني حلفت لئن رأيتك سالما ... بقرى العراق وأنت ذو وفر
لتصلينّ علي النبيّ محمّد ... ولتملأنّ دراهما حجري «2»
فقال: أمّا الصلاة على النبيّ فنعم، صلّى الله عليه وسلّم. وأما الدراهم، فلمّا نرجع إن شاء الله تعالى. قال: له: جعلت فداك. لا تفرق بينهما. فاستلفها له وصبّت في حجره حتى أثقلته.(1/221)
أبو دلامة والمهدي
: ودخل أبو دلامة على المهدي، فأنشده أبياتا أعجب بها، فقال له: سلني أبا دلامة واحتكم وأفرط ما شئت. فقال: كلب يا أمير المؤمنين أصطاد به. قال: قد أمرنا لك بكلب، وهاهنا بلغت همتك، وإلى هاهنا انتهت أمنيتك؟ قال: لا تعجل عليّ يا أمير المؤمنين، فإنه بقي علي. قال: وما بقي عليك؟ قال: غلام يقود الكلب. قال:
وغلام يقود الكلب. قال: وخادم يطبخ الصّيد. قال: وخادم يطبخ الصيد. قال: ودار نسكنها. قال: ودار تسكنها. قال: وجارية نأوي اليها. قال: وجارية تأوي إليها.
قال: قد بقي الآن المعاش. قال: قد أقطعناك ألفي جريب «1» عامرة وألفي جريب غامرة. قال: وما الغامرة يا أمير المؤمنين؟ قال: التي لا تعمر. قال: أنا أقطع أمير المؤمنين خمسين ألفا من فيافي بني أسد. قال: قد جعلتها كلّها لك عامرة. قال: فيأذن لي أمير المؤمنين في تقبيل يده؟ قال: أما هذه فدعها. قال: ما منعتني شيئا أيسر على أمّ ولدي فقدا منه.
أبو دلامة والمنصور
: ودخل أبو دلامة على أبي جعفر المنصور يوما وعليه قلنسوة طويلة، وكان قد أخذ أصحابه بلباسها وأخذهم بلبس دراريع، عليها مكتوب بين كتفي الرجل:
فَسَيَكْفِيكَهُمُ اللَّهُ وَهُوَ السَّمِيعُ الْعَلِيمُ
«2» وأمرهم بتعليق السيوف على أوساطهم.
فدخل عليه أبو دلامة في ذلك الزّيّ، فقال له: كيف أصبحت أبا دلامة؟ قال: بشرّ حال يا أمير المؤمنين. قال: كيف ذلك؟ ويلك. قال: وما ظنّك يا أمير المؤمنين بمن أصبح وجهه في وسطه، وسيفه على استه، وقد نبذ كتاب الله وراء ظهره؟ قال:
فضحك أبو جعفر وأمر بتغيير ذلك، وأمر لأبي دلامة بصلة.(1/222)
هو والمنصور أيضا
: وأوصل أبو دلامة إلى العبّاس بن منصور رقعة فيها هذه الأبيات:
قف بالديار وأيّ الدهر لم تقف ... على منازل بين السّهل والنجف
وما وقوفك في أطلال منزلة ... لولا الذي استحدثت في قلبك الكلف «1»
إن كنت أصبحت مشغوفا بجارية ... فلا وربّك لا يشفيك من شغف
ولا يزيدك إلّا العلّ من أسف ... فهل لقلبك من صبر على الأسف «2»
هذي مقالة شيخ من بني أسد ... يهدي السّلام إلى العبّاس في الصّحف
تخطّها من جواري المصر كاتبة ... قد طالما ضربت في اللام والألف
وطالما اختلفت صيفا وشاتية ... إلى معلّمها بالّلوح والكتف
حتى إذا ما استوى الثّديان وامتلأت ... منها وخيفت على الإسراف والقرف «3»
صينت ثلاث سنين ما ترى أحدا ... كما تصان ببحر درّة الصّدف
بينا الفتى يتمشّى نحو مسجده ... مبادرا لصلاة الصّبح بالسّدف «4»
حانت له نظرة منها فأبصرها ... مطلّة بين سجفيها من الغرف
فخرّ في التّرب ما يدري غداتئذ ... أخرّ منكشفا أو غير منكشف
وجاءه القوم أفواجا بمائهم ... لينضحوا الرجل المغشىّ بالنّطف «5»
فوسوسوا بقران في مسامعه ... خوفا من الجنّ والإنسان لم يخف ...
... شيئا، ولكنه من حبّ جارية ... أمسى وأصبح من موت على شرف
قالوا لك الخير ما أبصرت قلت لهم ... جنّيّة أقصدتني من بني خلف
أبصرت جارية محجوبة لهم ... تطلّعت من أعالي القصر ذي الشّرف
فقلت: أيّكم والله يأجره ... يعير قوّته منّي إلى ضعفي
فقام شيخ بهيّ من تجارهم ... قد طالما خدع الأقوام بالحلف(1/223)
فابتاعها لي بألفي أحمر فغدا ... بها إليّ فألقاها على كتفي
فبتّ ألثمها طورا وتلثمني ... طورا ونفعل بعض الشيء في الّلحف
بتنا كذلك حتى جاء صاحبها ... يبغي الدنانير بالميزان ذي الكفف «1»
وذاك حقّ علي «زند» وكيف به ... والحقّ في طرف والعين في طرف «2»
وبين ذاك شهود لم أبال بهم ... أكنت معترفا أم غير معترف
فإن تصلني قضيت القوم حقّهم ... وإن تقل لا فحقّ القوم في تلف
فلما قرأ العباس الأبيات أعجب بها واستظرفها وقضى عنه ثمن الجارية. واسم أبي دلامة زند.
جعفر بن يحيى وعبد الملك بن صالح
: إبراهيم بن المهدي قال: قال لي جعفر بن يحيى يوما: إني استأذنت أمير المؤمنين في الحجامة وأردت أن أخلوا وأفرّ من أشغال الناس وأتروّح، فهل أنت مساعدي قلت:
جعلني الله فداك، أنا أسعد الناس بمساعدتك وآنس بمخالاتك «3» . قال: بكّر إليّ بكور الغراب. قال فأتيت عند الفجر الثاني، فوجدت الشمعة بين يديه، وهو قاعد ينتظرني للميعاد. قال فصيلنا ثم أفضنا في الحديث حتى جاء وقت الحجامة فأتى بحجّام فحجّمنا في ساعة واحدة، ثم قدّم إلينا طعام فطعمنا، فلما غسلنا أيدينا خلع علينا ثياب المنادمة، وضمّخنا بالخلوق «4» ، وظللنا بأسرّ يوم مرّ بنا، ثم إنه ذكر حاجة فدعا الحاجب، فقال: إذا جاء عبد الملك القهرماني فأذن له. فنسي الحاجب.
وجاء عبد الملك بن صالح الهاشمي على جلالته وسنّه وقدره وأدبه، فأذن له الحاجب.
فما راعنا إلا طلعة عبد الملك. فتغير لذلك جعفر بن يحيى وتنغّص عليه ما كان فيه.
فلما نظر عبد الملك إليه على تلك الحالة، دعا غلامه فدفع إليه سيفه وسواده وعمامته،(1/224)
ثم جاء ووقف على باب المجلس، وقال: اصنعوا بي ما صنعتم بأنفسكم. قال: فجاء الغلام فطرح عليه ثياب المنادمة، ودعا بالطعام فطعم. ثم جاء بالشراب فشرب ثلاثا، ثم قال: ليخفّف عنيّ فإنه شيء ما شربته قط. فتهلل وجه جعفر بن يحيى: جعلني الله فداك، قد نفصّلت عنيّ فإنه شيء ما شربته قط. فتهلل وجه جعفر وفرح. وكان الرشيد قد عتب على عبد الملك بن صالح ووجد «1» عليه، فقال له جعفر بن يحيى: جعلني الله فداك، قد تفضّلت وتطوّلت وأسعدت، فهل من حاجة تبلغها مقدرتي، أو تحيط بها نعمتي، فأقضيها لك مكافأة لما صنعت؟ قال: بلى، إن قلب أمير المؤمنين عاتب عليّ فسله الرضا عني. قال: قد رضي عنك أمير المؤمنين. ثم قال: عليّ أربعة آلاف دينار.
قال: حاضرة، ولكن من مال أمير المؤمنين. أحبّ اليك. قال: وابني إبراهيم أحب أن أشدّ ظهره بصهر من أولاد أمير المؤمنين. قال. قد زوّجه أمير المؤمنين عائشة. قال:
وأحب أن تخفق الألوية على رأسه. قال: قد ولّاه أمير المؤمنين مصر. قال:
وانصرف عبد الملك ونحن نعجب من إقدامه على قضاء الحوائج من غير استئذان أمير المؤمنين. فلما كان من الغد وقفنا على باب الرشيد ودخل جعفر، فلم نلبث أن دعي بأبي يوسف القاضي ومحمد بن الحسن وإبراهيم بن عبد الملك، فعقد النكاح وحملت البدر إلى منزل عبد الملك؛ وكتب سجلّ إبراهيم على مصر.. وخرج جعفر فأشار إلينا، فلما صار إلى منزله ونحن خلفه، نزل ونزلنا بنزوله؛ فالتفت إلينا، فقال:
تعلقت قلوبكم بأوّل أمر عبد الملك فأحببتم معرفة آخره، وإني لما دخلت على أمير المؤمنين مثلت بين يديه وابتدأت القصة من أولها؛ فجعل يقول: أحسن والله، فما صنعت؟ فأخبرته بما سأل وبما أجبته به، فجعل يقول في ذلك: أحسنت: أحسنت! وخرج إبراهيم واليا على مصر.
ذو حاجة على باب ملك من الأكاسرة
: وقدم رجل على ملك من ملوك الأكاسرة، فمكث ببابه حينا لا يصل إليه، فتلطف في رقعة أوصلها إليه، وفيها أربعة أسطر:(1/225)
في السطر الأول: الضّر والأمل أقدماني عليك.
والسطر الثاني: الفقر لا يكون معه صبر على المطالبة.
والسطر الثالث: الانصراف بلا فائدة فتنة وشماتة للعدوّ.
والسطر الرابع: فإما نعم مثمرة، وإما لا مريحة.
فلما قرأها وقّع تحت كل سطر منها بألف مثقال وأمر له بها.
يحيى بن خالد وشاعر
: وقد دخل رجل من الشعراء على يحيى بن خالد بن يرمك فأنشده:
سألت النّدى هل أنت حرّ؟ فقال لا ... ولكنّني عبد ليحيي بن خالد
فقلت شراء قال لا بل وراثة ... توارثني عن والد بعد والد
فأمر له بعشرة آلاف.
خالد القسري وأعرابي
: ودخل أعرابيّ على خالد بن عبد الله القسريّ فأنشده:
أخالد إني لم أزرك لخلّة ... سوى أنني عاف وأنت جواد «1»
أخالد بين الحمد والأجر حاجتي ... فأيّهما تأتي فأنت عماد
فأمر له بخمسة آلاف درهم.
العباس القائد وابن عبد ربه
: ومن قولنا في هذا المعنى- ودخلت على أبي العبّاس القائد فأنشدته:
الله جرّد للنّدى والباس ... سيفا فقلّده أبا العبّاس
ملك إذا استقبلت غرّة وجهه ... قبض الرّجاء إليك روح الياس(1/226)
وجه عليه من الحياء سكينة ... ومحبّة تجري من الأنفاس
وإذا أحبّ الله يوما عبده ... ألقى عليه محبّة للناس
ثم سألته حاجة فيها بعض الغلظ، فتلكأ عليّ. فأخذت سحاية «1» من بين يديه فوقّعت فيها على البديهة:
ما ضرّ عندك حاجتي ما ضرّها ... عذرا إذا أعطيت نفسك قدرها
انظر إلى عرض البلاد وطولها ... أو لست أكرم أهلها وأبرّها
حاشى لجودك أن يوعّر حاجتي ... ثقتي بجودك سهّلت لي وعرها
لا يجتني حلو المحامد ماجد ... حتى يذوق من المطالب مرّها
فقضى الحاجة وسارع إليها.
المتوكل وعبد الله ابن يحيى
: وأبطأ عبد الله بن يحيى عن الديوان، فأرسل إليه المتوكل يتعرّف خبره، فكتب إليه:
عليل من مكانين ... من الإفلاس والدّين
ففي هذين لي شغل ... وحسبي شغل هذين
فبعث إليه بألف دينار.
الفضل بن يحيى ومستمنح
: عبد الله بن منصور قال: كنت يوما في مجلس الفضل بن يحيى، فأتاه الحاجب فقال: إن بالباب رجلا قد أكثر في طلب الإذن وزعم أن له يدا يمتّ بها فقال:
أدخله. فدخل رجل جميل الوجه رثّ الهيئة، فسلّم فأحسن. فأومأ إليه بالجلوس فجلس؛ فلما علم أنه قد انطلق وأمكنه الكلام، قال له: ما حاجتك؟ قال له: قد(1/227)
أعربت بها رثاثة هيئتي، وضعف طاقتي! قال: أجل، فما الذي تمتّ به؟ قال: ولادة تقرب من ولادتك، وجوار يدنو من جوارك، واسم مشتق من اسمك. قال: أمّا الجوار فقد يمكن أن يكون كما قلت، وقد يوافق الاسم الاسم، ولكن ما علمك بالولادة؟ قال: أعلمتني أمي أنها لما وضعتني قيل إنه ولد الليلة ليحيى بن خالد غلام وسمّي الفضل؛ فسّمتني فضيلا، إعظاما لا سمك أن تلحقني بك. فتبسم الفضل وقال: كم أتى عليك من السنين؟ قال: خمس وثلاثون. قال: صدقت، هذا المقدار الذي أتيت عليه، فما فعلت أمّك؟ قال: توفيت رحمها الله، قال: فما منعك عن اللّحوق بنا فيما مضى؟ قال: لم أرض نفسي للقائك، لأنها كانت في عامّية وحداثة تقعدني عن لقاء الملوك. قال: يا غلام أعطه لكل عام مضى من سنيه ألفا، وأعطه من كسوتنا ومراكبنا ما يصلح له. فلم يخرج من الدار إلا وقد طاف به إخوانه وخاصة أهله.
من حبيب إلى ابن أبي دواد
: وكتب حبيب بن أوس الطائي إلى أحمد بن أبي دواد:
اعلم وأنت المرء غير معلّم ... وافهم جعلت فداك غير مفهّم
أنّ اصطناع العرف ما لم توله ... مستكملا كالثّوب ما لم يعلم «1»
والشّكر ما لم يستثر بصنيعة ... كالخطّ تقرؤه وليس بمعجم «2»
وتفنّني في القول إكثار وقد ... أسرجت في كرم الفعال فألجم
وقال دعبل بن علي الخزاعي في طاهر بن الحسين صاحب خراسان:
أيا ذا اليمنين والدّعوتين ... ومن عنده العرف والنّائل
أترضى لمثلي أنّي مقيم ... ببابك مطّرح خامل
رضيت من الودّ والعائدات ... ومن كلّ ما امّل الآمل
بتسليمة بين خمس وستّ ... إذا ضمّك المجلس الحافل
وما كنت أرضى بذا من سواك ... أيرضى بذا رجل عاقل(1/228)
وإن ناب شغل ففي دون ما ... تدبّره شغل شاغل
عليك السلام فإني امرؤ ... إذا ضاق بي بلد راحل
بين زياد وضبيّ
: الأصمعي قال: نظر زياد إلى رجل من ضبّة يأكل أكلا قبيحا، وهو أقبح الناس وجها، فقال: يا أخا ضبّة، كم عيالك؟ قال: سبع بنات أنا أجمل منهن وجها، وهنّ آكل مني. فضحك زياد وقال: لله درك! ما ألطف سؤالك! افرضوا له ولكل واحدة منهن مائة وخادما، وعجّلوا له ولهن بأرزاقهن. فخرج الضّبي وهو يقول:
إذا كنت مرتاد السماحة والنّدى ... فناد زيادا أو أخا لزياد
يجبك امرؤ يعطي على الحمد ماله ... إذا ضنّ بالمعروف كلّ جواد
وما لي لا أثني عليك وإنّما ... طريفي من معروفكم وتلادي «1»
ووقف دعبل ببعض أمراء الرقّة، فلما مثل بين يديه قال: أصلح الله الأمير، إني لا أقول كما قال صاحب معن:
بأيّ الخلّتين عليك أثني ... فإني عند منصرفي مسؤل
أبالحسنى وليس لها ضياء ... عليّ فمن يصدّق ما أقول
أم الأخرى ولست لها بأهل ... وأنت لكلّ مكرمة فعول
ولكني أقول:
ماذا أقول إذا أتيت معاشري ... صفرا يداي من الجواد المجزل
إن قلت أعطاني كذبت وإن أقل ... ضنّ الأمير بماله لم يجمل
ولأنت أعلم بالمكارم والعلا ... من أن أقول فعلت ما لم تفعل
فاختر لنفسك ما أقول، فإننّي ... لا بدّ مخبرهم وإن لم أسأل
قال له: قاتلك الله! وأمر له بعشرة آلاف درهم.
بشر بن مروان وابن عبدل
: العتبي قال: دخل ابن عبدل على عبد الملك بن مبشر بن مروان لما ولي الكوفة،(1/229)
فقعد بين السماطين «1» ثم قال: أيها الأمير، إني رأيت رؤيا فأذن لي في قصصها. فقال:
قل. فقال:
أغفيت قبل الصّبح نوم مسهّد ... في ساعة ما كنت قبل أنامها
فرأيت أنك رعتني بوليدة ... مفلوجة حسن عليّ قيامها»
وببدرة حملت إليّ وبغلة ... شهباء ناجية يصرّ لجامها «3»
قال له عبد الملك بن بشر بن مروان: كل شيء رأيت فهو عندي إلا البغلة، فإنها دهماء فارهة «4» . قال: امرأتي طالق ثلاثا إن كنت رأيتها إلّا دهماء، إلّا أني غلطت.
علي الأرميني والبطين
: الشيباني عن البطين الشاعر قال: قدمت على علي بن يحيى الأرمينيّ فكتبت إليه:
رأيت في النّوم أنّي راكب فرسا ... ولي وصيف وفي كفي دنانير
فقال قوم لهم حذق ومعرفة ... رأيت خيرا وللأحلام تعبير
رؤياك فسّر غدا عند الأمير تجد ... تعبير ذاك وفي الفأل التّباشير
فجئت مستبشرا مستشعرا فرحا ... وعند مثلك لي بالفعل تيسير
قال: فوقّع لي في أسفل كتابي: أَضْغاثُ أَحْلامٍ وَما نَحْنُ بِتَأْوِيلِ الْأَحْلامِ بِعالِمِينَ
«5» ثم أمر لي بكل شيء ذكرته في أبياتي ورأيته في منامي.
وقال بشار العقيلي:
حتى متى ليت شعري يا بن يقطين ... أثني عليك بما لا منك توليني
أما علمت جزاك الله صالحة ... عني وزادك خيرا يا بن يقطين
أنّي أريدك للدّنيا وزينتها ... ولا أريدك يوم الدّين للدّين(1/230)
وقال آخر في مثل هذا المعنى:
يا بن العلاء ويا بن القرم مرداس ... إني لأطريك في أهلي وجلّاسي «1»
أثني عليك ولي حال تكذّبني ... فيما أقول فأستحيي من الناس
حتى إذا قيل: ما أعطاك من صفد ... طأطأت من سوء حالي عندها راسي «2»
الأخذ من الأمراء
لعثمان في جائزة السلطان
: حدّثنا جعفر بن محمد، عن يزيد بن سمعان، عن عبد الله بن ثور، عن عبد الحميد ابن وهب، عن أبي الخلال، قال: سألت عثمان بن عفّان عن جائزة السلطان، فقال:
لحم طريّ ذكي.
عكرمة والجائزة
: جعفر بن محمد، عن يحيى بن محمد العامريّ، عن المعتمر، عن عمران بن حدير، قال: انطلقت أنا ورجل إلى عكرمة، فرأى الرجل عليه عمامة متخرّقة، فقال الرجل:
عندنا عمائم، ألا نبعث إليك بعمامة منها؟ قال عكرمة: إنا لا نقبل من الناس شيئا، إنما نقبل من الأمراء.
الحسن البصري وخميصته
: وقال هشام بن حسان: رأيت على الحسن البصري خميصة «3» لها أعلام يصلّي فيها، أهداها إليه مسلمة بن عبد الملك.
وكان النبي صلّى الله عليه وسلّم يلبس خفّين أسودين أهداهما إليه النجاشي صاحب الحبشة.
وقال نافع: كان عبد الله بن عمر يقبل هدايا أهل الفتنة، مثل المختار وغيره.
ودخل مالك بن أنس على هارون الرشيد فشكا إليه دينا لزمه فأمر له بألف دينار(1/231)
عين. فلما وضع يديه للقيام، قال: يا أمير المؤمنين، وزوّجت ابني محمدا فصار عليّ فيه ألف دينار. قال: ولابنه محمد ألف دينار.
قال: فلقد مات مالك وتركها لوارثه في مزود.
وقال الأصمعي: حدّثني إسحاق بن يحيى بن طلحة قال: كان الربيع بن خثيم في ألف ومائة من العطاء فكلم فيه أبي معاوية فألحقه بألفين؛ فلما حضر العطاء نودي الربيع بن خثيم، فقيل له: في ألفين. فقعد، فنظروا فوجدوا على اسمه مكتوبا: كلّم فيه يحيى بن طلحة أمير المؤمنين فألحقه بألفين.
وقال رجل لإبراهيم بن أدهم: يا أبا إسحاق، كنت أريد أن تقبل مني هذه الجبة كسوة. قال: إن كنت غنيا قبلتها منك، وإن كنت فقيرا لم أقبلها منك. قال: فإني غني. قال: وكم مالك؟ قال: ألفا دينار. قال: فأنت تودّ أنها أربعة آلاف؟ قال:
نعم. قال: فأنت فقير، لا أقبلها منك.
وأمر إبراهيم بن الأغلب المعروف بزيادة الله، بمال يقسم على الفقهاء، فكان منهم من قبل ومنهم من لم يقبل، فكان أسد بن الفرات فيمن قبل، فجعل زيادة الله يغمص «1» على كل من قبل منهم، فبلغ ذلك أسد بن الفرات، فقال: لا عليه، إنما أخذنا بعض حقوقنا والله سائله عما بقى! وقد فخرت العرب بأخذ جوائز الملوك وكان من أشرف ما يتموّلونه، فقال ذو الرمة:
وما كان مالي من تراث ورثته ... ولا دية كانت ولا كسب مأثم
ولكن عطاء الله من كلّ رحلة ... إلى كلّ محجوب السّرادق خضرم «2»
وقال آخر يهجو مروان بن أبي حفصة ويعيبه بأخذه من العامة ويفخر بأنه لا يأخذ إلا من الملوك، فقال:(1/232)
عطايا أمير المؤمنين، ولم تكن ... مقصّمة من هؤلاء وأولئكا
وما نلت حتّى شبت إلا عطيّة ... تقوم بها مصرورة في ردائكا
تفضيل بعض الناس على بعض في العطاء
ذكر عمر بن الخطاب رضي الله عنه الفقراء فقال: إن سعيد بن خذيم منهم.
فأعطاه ألف دينار، وقال: سمعت رسول الله صلّى الله عليه وسلّم يقول: «إذا أعطيت فأغن» .
وقدم على رسول الله صلّى الله عليه وسلّم وفد من العرب فأعطاهم وفضل رجلا منهم؛ فقيل له في ذلك، فقال: كل القوم عيال عليه.
الرسول صلّى الله عليه وسلّم والعباس بن مرداس
: وأعطى النبي صلّى الله عليه وسلّم يوم حنين المؤلّفة قلوبهم، فأعطى الأقرع بن حابس التميمي.
وعيينة بن حصن الفزاري، مائة من الإبل، وأعطى العبّاس بن مرداس السّلمي خمسين؛ فشق ذلك عليه، فقال أبياتا. فأتاه بها وأنشده إياها وهي:
أيذهب نهبي ونهب العبي ... د بين عيينة والأقرع
ولا كان حصن ولا حابس ... يفوقان مرداس في مجمع
وما كنت غير امريء منهم ... ومن تضع اليوم لم يرفع
فقال رسول الله صلّى الله عليه وسلّم لبلال: اقطع عني لسان العباس. فأعطاه حتى أرضاه.
الرسول صلّى الله عليه وسلّم وصفوان بن أمية
: وقال صفوان بن أمية: لقد غزوت مع رسول الله صلّى الله عليه وسلّم وما خلق الله خلقا أبغض إليّ منه فما زال يعطيني حتى ما خلق الله خلقا أحبّ إليّ منه. وكان صفوان بن أمية من المؤلّفة قلوبهم.(1/233)
شكر النعمة
سليمان التّميميّ قال: إن الله أنعم على عباده بقدر قدرته، وكلّفهم من الشكر بقدر طاقتهم.
وقالوا: مكتوب في التوراة: اشكر لمن أنعم عليك، وأنعم على من شكرك.
وقالوا: كفر النعمة يوجب زوالها، وشكرها يوجب المزيد فيها.
وقالوا: من حمدك فقد وفّاك حقّ نعمتك.
وجاء في الحديث: «من نشر معروفا فقد شكره، ومن ستره فقد كفره» .
وقال عبد الله بن عباس: لو أن فرعون مصر أسدى إليّ يدا صالحة لشكرته عليها.
وقالوا: إذا قصرت يداك عن المكافأة فليطل لسانك بالشكر.
وقالوا: ما نحل الله تعالى عباده شيئا أقلّ من الشكر، واعتبر ذلك بقول الله عز وجل: وَقَلِيلٌ مِنْ عِبادِيَ الشَّكُورُ
«1» .
الواقدي ويحيى البرمكي في قوم جاءوا يشكرونه
: محمد بن صالح الواقدي قال: دخلت على يحيى بن خالد البرمكي، فقلت: إن ها هنا قوما جاءوا يشكرون لك معروفا. فقال: يا محمد، هؤلاء يشكرون معروفا، فكيف لنا بشكر شكرهم.
للنبي صلّى الله عليه وسلّم في شكر النعمة وكفرها
: وقال النبي صلّى الله عليه وسلّم: ما أنعم الله على عبده نعمة فرأى عليه أثرها إلا كتب: حبيب الله شاركا لأنعمه. وما أنعم الله على عبده نعمة فلم ير أثرها عليه إلا كتب: بغيض الله كافرا لأنعمه.(1/234)
بين عدي بن أرطاة وعمر بن عبد العزيز
: وكتب عديّ بن أرطاة إلى عمر بن عبد العزيز: إني بأرض كثرت فيها النّعم، وقد خفت على من قبلي من المسلمين قلّة الشكر والضعف عنه فكتب إليه عمر رضي الله عنه: إن الله تعالى لم ينعم على قوم نعمة فحمدوه عليها إلا كان ما أعطوه أكثر مما أخذوا. واعتبر ذلك لقول الله تعالى: وَلَقَدْ آتَيْنا داوُدَ وَسُلَيْمانَ عِلْماً وَقالا الْحَمْدُ لِلَّهِ
«1» . فأي نعمة أفضل مما أوتي داود وسليمان.
بين النبي صلّى الله عليه وسلّم عائشة في أبيات لابن جناب
: وسمع النبي صلّى الله عليه وسلّم عائشة رضي الله عنها تنشد أبيات زهير بن جناب:
إرفع ضعيفك لا يحر بك ضعفه ... يوما فتدركه عواقب ما جنى «2»
يجزيك أو يثنى عليك فإنّ من ... أثنى عليك بما فعلت كمن جزى
فقال النبي عليه الصلاة والسلام: صدق يا عائشة، لا شكر الله من لا يشكر الناس.
الخشني قال: أنشدني الرياشي:
إذا أنا لم أشكر على الخير أهله ... ولم أذمم الجبس اللئيم المذمّما «3»
ففيم عرفت الخير والشّرّ باسمه ... وشقّ لي الله المسامع والفما
وأنشدني في الشكر:
سأشكر عمرا ما تراخت منيّتي ... أيادي لم تمنن وإن هي جلّت
فتى غير محجوب الغنى عن صديقه ... ولا مظهر الشّكوى إذا النّعل زلّت
رأى خلّتي من حيث يخفى مكانها ... فكانت قذى عينيه حتى تجلّت «4»(1/235)
قلة الكرام في كثرة اللئام
قال النبي صلّى الله عليه وسلّم: الناس كإبل مائة لا تكاد تجد فيها راحلة.
وقالت الحكماء: الكرام في اللئام كالغرة في الفرس.
وقال الشاعر:
تفاخرني بكثرتها قريط ... وقلّ والد الحجل الصقور
فإن أك في شراركم قليلا ... فإنّي في خباركم كثير
بغاث الطّير أكثرها فراخا ... وأم الصّقر مقلات نزور «1»
وقال السموأل:
تعيّرنا أنّا قليل عديدنا ... فقلت لها إنّ الكرام قليل
وما ضرّنا أنّا قليل وجارنا ... عزيز وجار الأكثرين ذليل
وقال حبيب:
ولقد نكون ولا كريم نناله ... حتى نخوض إليه ألف لئيم
وقال ابن أبي حازم:
وقالوا: لو مدحت فتى كريما ... فقلت وكيف لي بفتى كريم
بلوت ومرّ بي خمسون حولا ... وحسبك بالمجرّب من عليم
فلا أحد يعدّ ليوم خير ... ولا أحد يعود على عديم «2»
وقال دعبل:
ما أكثر الناس لا بل ما أقلّهم ... والله يعلم أنّي لم أقل فندا «3»
إني لأغلق عيني ثم أفتحها ... على كثير ولكن ما أرى أحدا(1/236)
وأحسن ما قيل في هذا المعنى قول حبيب الطائي:
إنّ الجياد كثير في البلاد وإن ... قلّوا، كما غيرهم قلّ وإن كثروا
لا يدهمنّك من دهمائهم عجب ... فإنّ جلّهم أو كلهم بقر
وكلّما أضحت الأخطار بينهم ... هلكى تبيّن من أضحى له خطر
لو لم تصادف شيات البهم أكثر ما ... في الخيل لم تحمد الأوضاح والغرر «1»
لكسرى في الشح
: الأصمعي قال: قال كسرى. أي شيء أضرّ؟ فأجمعوا على الفقر. فقال كسرى:
الشحّ أضرّ منه، لأن الفقير يجد الفرجة فيتسع.
من جاد أولا وضنّ آخرا
نزل أعرابيّ برجل من أهل البصرة، فأكرمه وأحسن إليه ثم أمسك، فقال الأعرابي:
تسرّى فلما جاذب المرء نفسه ... رأى أنّه لا يستقيم له السّرو «2»
وكان يزيد بن منصور يجري لبشّار العقيلي وظيفة في كل شهر، ثم قطعها عنه؛ فقال:
أبا خالد ما زلت سابح غمرة ... صغيرا فلما شبت خيّمت بالشّاطي «3»
جريت زمانا سابقا ثم لم تزل ... تأخّر حتى جئت تقطو مع القاطي «4»
كسنّور عبد الله بيع بدرهم ... صغيرا، فلما شبّ بيع بقيراط(1/237)
وقال مسلم بن الوليد صريع الغواني لمحمد بن منصور بن زياد:
أبا حسن قد كنت قدّمت نعمة ... وألحقت شكرا ثم أمسكت وانيا «1»
فلا ضير لم تلحقك مني ملامة ... أسأت بنا عودا وأحسنت باديا
فأقسم لا أجزيك بالسّوء مثله ... كفى بالذي جازيتني لك جازيا
وقال سليمان الأعمى، وهو أخو صريع الغواني، في سليمان بن علي:
يا سوءة يكبر الشيطان إن ذكرت ... منها العجائب جاءت من سليمانا
لا تعجبنّ بخير زلّ عن يده ... فالكوكب النحس يسقي الأرض أحيانا
من ضن أولا ثم جاد آخرا
قدم الحارث بن خالد المخزوميّ على عبد الملك فلم يصله، فرجع وقال فيه:
صحبتك إذ عيني عليها غشاوة ... فلما انجلت قطّعت نفسي ألومها
حبست عليك النّفس حتّى كأنّما ... بكفّيك يجري بؤسها ونعيمها
فبلغ قوله عبد الملك، فأرسل إليه فردّه وقال: أرأيت عليك غضاضة «2» من مقامك ببابي؟ قال: لا، ولكني اشتقت إلى أهلي ووطني، ووجدت فضلا من القول فقلت، وعليّ دين لزمني. قال: وكم دينك؟ قال ثلاثون ألفا. قال: فقضاء دينك أحبّ إليك أم ولاية مكة؟ قال: بل ولاية مكة. فولاه إياها.
وقدم الحطيئة المدينة فوقف إلى عتيبة بن النهاس العجليّ، فقال: أعطني. فقال:
مالك عندي حقّ فأعطيكه، وما في مالي فضل عن عيالي فأعود به عليك. فخرج عنه مغضبا، وعرّفه به جلساؤه، فأمر بردّه، ثم قال له: يا هذا، إنك وقفت إلينا فلم تستأنس ولم تسلّم، وكتمتنا نفسك، كأنك الحطيئة؟ قال: هو ذلك. قال: اجلس فلك عندنا كلّ ما تحب، فجلس فقال له: من أشعر الناس؟ قال الذي يقول:(1/238)
ومن يجعل المعروف من دون عرضه ... يفره ومن لا يتّق الشّتم يشتم «1»
يعني زهيرا. قال: ثم من؟ قال: الذي يقول:
من يسأل الناس يحرموه ... وسائل الله لا يخيب
يعني عبيدا. قال: ثم من؟ قال: أنا ...
فقال لوكيله: خذ بيد هذا فامض به إلى السوق، فلا يشيرون إلى شيء إلا اشتريته له. فمضى معه إلى السوق، فعرض عليه الخزّ والقز، فلم يلتفت إلى شيء منه. وأشار إلى الأكسية والكرابيس الغلاظ والأقبية، فاشترى له منها حاجته؛ ثم قال: أمسك.
قال: فإنه قد أمرني أن أبسط يدي بالنفقة. قال: لا حاجة لي أن يكون له على قومي يد أعظم من هذه. ثم أنشأ يقول:
سئلت فلم تبخل ولم تعط طائلا ... فسيّان لا ذمّ عليك ولا حمد
وأنت امرؤ لا الجود منك سجيّة ... فتعطي وقد يعدي على النائل الوجد «2»
من مدح أميرا فخيبه
قال سعيد بن سلم: مدحني أعرابيّ فأبلغ، فقال:
ألا قل لساري الّليل لا تخش ضلّة ... سعيد بن سلم نور كلّ بلاد
لنا سيّد أربى على كلّ سيد ... جواد حثا في وجه كل جواد
قال: فتأخّرت عنه قليلا، فهجاني فأبلغ، فقال:
لكلّ أخي مدح ثواب علمته ... وليس لمدح الباهلّي ثواب
مدحت سعيدا والمديح مهزّة «3» ... فكان كصفوان عليه تراب
ومدح الحسن بن رجاء أبا دلف فلم يعطه شيئا؛ فقال:(1/239)
أبا دلف ما أكذب الناس كلّهم ... سواي فإنّي في مديحك أكذب
وقال آخر في مثل هذا المعنى:
إنّي مدحتك كاذبا فأثبتني ... لمّا مدحتك ما يثاب الكاذب
وقال آخر في مثل هذا المعنى:
لئن أخطأت في مدحك ما أخطأت في منعي
لقد أحللت حاجاتي ... بواد غير ذي زرع
ومدح حبيب الطائي عيّاش بن لهيعة، وقدم عليه مصر واستسلفه مائتي مثقال، فشاور فيها زوجته، فقالت له: هو شاعر، يمدحك اليوم ويهجوك غدا؛ فاعتلّ عليه واعتذر إليه ولم يقض حاجته، فقال فيه:
عيّاش، إنّك للئيم وإنّني ... مذ صرت موضع مطلبي للئيم
ثم هجاه حتى مات، وهجاه بعد موته فقال فيه:
لا سقيت أطلالك الدّاثرة ... ولا انقضت عثرتك العاثره
يا أسد الموت تخلّصته ... من بين فكّي أسد القاصره «1»
لابن عبد ربه
: ومن قولنا في هذا المعنى- وسألت بعض موالي السلطان إطلاق محبوس فتلكأ فيه، فقلت:
حاشا لمثلك أن يفكّ أسيرا ... أو أن يكون من الزّمان مجيرا
ليست قوافي الشّعر فيك مدارعا ... سودا وضلّت أوجها وصدورا
هلّا عطفت برحمة لما دعت ... ويلا عليك مدائحي وثبورا «2»
لو أنّ لؤمك عاد جودا عشره ... ما كان عندك حاتم مذكورا(1/240)
ربيعة الرقي ويزيد بن حاتم
: قال: ومدح ربيعة الرقي يزيد بن حاتم الأزدي، وهو والي مصر، فاستبطأه ربيعة، فشخص عنه من مصر وقال:
أراني ولا كفران لله راجعا ... بخفّي حنين من نوال ابن حاتم «1»
فبلغ قوله يزيد بن حاتم، فأرسل في طلبه فردّ إليه. فلما دخل عليه قال له: أنت القائل:
أراني ولا كفران لله راجعا
قال: نعم. قال: فهل قلت غير هذا؟ قال: لا والله. قال: لترجعن بخفّي حنين مملوءة مالا فأمر بخلع نعليه وملئت له مالا؛ فقال فيه لما عزل عن مصر وولي يزيد بن أسيد السّلمي مكانه:
بكى أهل مصر بالدّموع السّواجم ... غداة غدا منها الأغرّ ابن حاتم «2»
وفيها يقول:
لشتّان ما بين اليزيدين في الندى ... يزيدين سليم والأغرّ ابن حاتم
فهمّ الفتى الأزديّ إنفاق ماله ... وهمّ الفتى القيسي جمع الدّراهم
فلا يحسب التّمتام أنّي هجوته ... ولكنّني فضّلت أهل المكارم «3»
أجواد أهل الجاهلية
الذين انتهى إليهم الجود في الجاهلية ثلاثة نفر: حاتم بن عبد الله بن سعد الطائي، وهرم بن سنان المرّي، وكعب بن مامة الإيادي.(1/241)
شيء عن حاتم
: ولكن المضروب به المثل حاتم وحده، وهو القائل لغلامه يسار، وكان إذا اشتدّ البرد وكلب الشتاء أمر غلامه فأوقد نارا في يفاع من الأرض لينظر إليها من أضلّ الطريق ليلا فيصمد نحوه، فقال في ذلك:
أوقد فإنّ الّليل ليل قرّ ... والريح يا موقد ريح صرّ «1»
علّ يرى نارك من يمرّ ... إن جلبت ضيفا فأنت حرّ
وقالوا: لم يكن حاتم ممسكا شيئا ما عدا فرسه وسلاحه، فإنه كان لا يجود بهما.
ومرّ حاتم في سفره على عنزة وفيهم أسير، فاستغاث بحاتم ولم يحضره فكاكه، فاشتراه من العنزيّين وأطلقه وأقام مكانه في القيد حتى أدّى فداءه.
وقالت نوار امرأة حاتم: أصابتنا سنة اقشعرّت لها الأرض واغبرّ أفق السماء، وراحت الإبل حدبا حدابير»
، وضنت المراضع على أولادها فما تبضّ «3» بقطرة، وحلقت «4» السنة المال وأيقنّا بالهلاك. فو الله إنا لفي ليلة صنّبر «5» بعيدة ما بين الطرفين، إذ تضاغى صبيتنا جوعا: عبد الله وعديّ وسفّانة: فقام حاتم إلى الصّبيّين وقمت أنا إلى الصّبية، فو الله ما سكتوا إلا بعد هدأة من الليل، وأقبل يعلّلني بالحديث. فعرفت ما يريد فتناومت، فلما تهوّرت النجوم إذا شيء قد رفع كسر البيت ثم عاد، فقال: من هذا؟ قالت: جارتك فلانة، أتيتك من عند صبية يتعاوون عواء الذئاب، فما وجدت معوّلا إلا عليك يا أبا عديّ، فقال: أعجليهم فقد أشبعك الله وإياهم: فأقبلت المرأة تحمل اثنين ويمشي بجانبها أربعة؛ كأنها نعامة حولها رئالها؛ فقام إلى فرسه فوجأ لبته بمدية فخرّ، ثم كشطه عن جلده، ودفع المدية إلى المرأة فقال لها: شأنك؛ فاجتمعنا على اللحم نشوي ونأكل، ثم جعل يمشي في الحى(1/242)
يأتيهم بيتا بيتا فيقول: هبّوا أيها القوم، عليكم بالنار. فاجتمعوا والتفع في ثوبه ناحية ينظر إلينا، فلا والله إن ذاق منه مزعة وإنه لأحوج إليه منّا؛ فأصبحنا وما على الأرض من الفرس إلّا عظم وحافر. فأنشأ حاتم يقول:
مهلا نوار أقلّي الّلوم والعذلا ... ولا تقولي لشيء فات ما فعلا
ولا تقولي لمال كنت مهلكه ... مهلا وإن كنت أعطي الأنس والخبلا «1»
يرى البخيل سبيل المال واحدة ... إنّ الجواد يرى في ماله سبلا
ورئي حاتم يوما يضرب ولده لما رآه يضرب كلبة كانت تدلّ عليه أضيافه وهو يقول:
أقول لابني وقد سطت يديه ... بكلبة لا يزال يجلدها «2»
أوصيك خيرا بها فإن لها ... عندي يدا لا أزال أحمدها
تدل ضيفي عليّ في غلس اللي ... ل إذا النار نام موقدها
ذكرت طيء عند عديّ بن حاتم أن رجلا يعرف بأبي الخيبريّ مر بقبر حاتم فنزل به وجعل ينادي: أبا عدي: أقر أضيافك. قال: فيقال له: مهلا ما تكلم من رمّة بالية؟ فقال: إن طيئا يزعمون أنه لم ينزل به أحد إلا قراه، كالمستهزيء فلما كان في السحر وثب أبو خيبري يصيح: واراحلتاه: فقال له أصحابه: ما شأنك؟
قال: خرج والله حاتم بالسيف حتى عقر ناقتي وأنا أنظر إليها. فتأملوا راحلته فإذا هي لا تنبعث. فقالوا: قد والله أقراك. فنحروها وظلوا يأكلون من لحمها، ثم أردفوه وانطلقوا، فبينما هم في مسيرهم إذ طلع عليهم عديّ ابن حاتم ومعه جمل قد قرنه ببعيره، فقال إن حاتما جاء في النوم فذكر لي قولك وأنه أقراك وأصحابك راحلتك، وقال أبياتا ردّدها عليّ حتى حفظتها، وهي:
أبا الخيبريّ وأنت امرؤ ... حسود العشيرة شتّامها
فماذا أردت إلى رمّة ... بداوية صخب هامها «3»(1/243)
أتبغي أذاها وإعسارها ... وحولك غوث وأنعامها
وإنّا لنطعم أضيافنا ... من الكوم بالسيف نعتامها «1»
وأمرني بدفع راحلة عوض راحلتك، فخذها؛ فأخذها.
ولحاتم بن عبد الله أيضا:
أماويّ قد طال التجنّب والهجر ... وقد عذرتنا في طلابكم العذر
أماويّ إنّ المال غاد ورائح ... ويبقى من المال الأحاديث والذّكر
أماويّ إمّا مانع فمبيّن ... وإما عطاء لا ينهنهه الزّجر
أماويّ إني لا أقول لسائل ... إذا جاء يوما حلّ في مالي النّزر «2»
أماويّ ما يغنى الثّراء عن الفتى ... اذا حشرجت يوما وضاق بها الصدر
أماويّ إن يصبح صداي بقفرة ... من الأرض لا ماء لديّ ولا خمر
تري أنّ ما أنفقت لم يك ضرّني ... وأنّ يدي مما بخلت به صفر
إذا أنا دلاني الذين يلونني ... بمظلمة زلج جوانبها غبر «3»
وراحوا سراعا ينفضون أكفّهم ... يقولون قد أدمى أضافرنا الحفر
أماويّ إنّ المال مال بذلته ... فأوّله شكر وآخره ذكر
وقد يعلم الأقوام لو أنّ حاتما ... أراد ثراء المال كان له وفر
فإنّي وجدّي ربّ واحد أمّه ... أجرت فلا قتل عليه ولا أسر
ولا أظلم ابن العمّ إن كان إخوتي ... شهودا وقد أودى بإخوته الدّهر
غنينا زمانا بالتّصعلك والغنى ... وكلّا سقاناه بكاسيهما الدهر
فما زادنا بأوا على ذي قرابة ... غنانا، ولا أزرى بأحلامنا الفقر «4»
وأما هرم بن سنان فهو صاحب زهير الذي يقول فيه:
متى تلاق على علاته هرما ... تلق السّماحة في خلق وفي خلق(1/244)
وكان سنان أبو هرم سيد غطفان، وماتت أمه وهي حامل به، وقالت: إذا أنا مت فشقّوا بطني فإن سيد غطفان فيه. فلما ماتت شقوا بطنها فاستخرجوا منها سنانا. وفي بني سنان يقول زهير:
قوم أبوهم سنان حين تنسبهم ... طابوا وطاب من الأولاد ما ولدوا
لو كان يقعد فوق الشمس من كرم ... قوم بأوّلهم أو مجدهم، قعدوا
جنّ إذا فزعوا إنس إذا أمنوا ... مرزّءون بهاليل إذا قصدوا «1»
محسّدون على ما كان من نعم ... لا ينزع الله منهم ماله حسدوا
وقال زهير في هرم بن سنان:
وأبيض فيّاض يداه غمامة ... على معتفيه ما تغبّ نوائله «2»
تراه إذا ما جئته متهلّلا ... كأنّك تعطه الذي أنت سائله
أخو ثقة لا تتلف الخمر ماله ... ولكنه قد يتلف المال نائله
أخذ الحسن بن هانيء هذا المعنى فقال:
فتى لا تغول الخمر شحمة ماله ... ولكن أياد عوّدّ وبوادي
وقال زهير في هرم بن سنان وأهل بيته:
إليك أعملتها فتلا مرافقها ... شهرين يجهض من أرحامها العلق «3»
حتى دفعن إلى حلو شمائله ... كالغيث ينبث في آثاره الورق
من أهل بيت يرى ذو العرش فضلهم ... يبنى لهم في جنان الخلد مرتفق
المطعمون إذا ما أزمة أزمت ... والطّيّبون ثيابا كلّما عرقوا
كأنّ آخرهم في الجود أوّلهم ... إنّ الشّمائل والأخلاق تتّفق
إن قامروا قمروا أو فاخروا فخروا ... أو ناضلوا نضلوا أو سابقوا سبقوا «4»(1/245)
تنافس الأرض موتاهم إذا دفنوا ... كما تنوفس عند الباعة الورق «1»
وقال فيهم أيضا:
وفيهم مقامات حسان وجوههم ... وأندية ينتابها القول والفعل
على مكثريهم حقّ من يعتفيهم ... وعند المقلّين السماحة والبذل
فما كان من خير أتوه فإنّما ... توارثه آباء أبائهم قبل
وهل ينبت الخطّيّ إلّا وشيجه ... وتغرس إلّا في منابتها النخل «2»
وأما كعب بن مامة الإياديّ فلم يأت عنه إلا ما ذكر من إيثاره رفيقه النّمريّ بالماء حتى مات عطشا ونجا النّمريّ، وهذا أكثر من كل ما أثنى لغيره. وله يقول حبيب:
يجود بالنّفس إن ضنّ البخيل بها ... والجود بالنّفس أقصى غاية الجود
وله ولحاتم الطائي يقول:
كعب وحاتم اللذان تقسّما ... خطط العلا من طارف وتليد
هذا الذي خلف السحاب ومات ذا ... في الجدّ ميتة خضرم صنديد «3»
إلّا يكن فيها الشّهيد فقومه ... لا يسمحون به بألف شهيد
أجواد أهل الإسلام
وأما أجواد أهل الإسلام فأحد عشر رجلا في عصر واحد، لم يكن قبلهم ولا بعدهم مثلهم.
فأجواد الحجاز ثلاثة في عصر واحد: عبيد الله بن العباس، وعبد الله بن جعفر، وسعيد بن العاص.
وأجواد البصرة خمسة في عصر واحد وهم: عبد الله بن عامر بن كريز، وعبيد الله(1/246)
ابن أبي بكرة مولى رسول الله صلّى الله عليه وسلّم، ومسلم بن زياد، وعبيد الله بن معمر القرشي ثم التيمي. وطلحة الطلحات، وهو طلحة بن عبد الله بن خلف الخزاعي، وله يقول الشاعر يرثيه، ومات بسجستان وهو وال عليها.
نضّر الله أعظما دفنوها ... بسجستان طلحة الطّلحات
وأجواد أهل الكوفة ثلاثة في عصر واحد، وهم: عتّاب بن ورقاء الرّياحي وأسماء ابن خارجة الفزاريّ. وعكرمة بن ربعي الفيّاض.
فمن جود عبيد الله بن عباس
أنه أول من فطّر جيرانه. وأول من وضع الموائد على الطرق، وأول من حيّا على طعامه، وأول من أنهبه، وفيه يقول شاعر المدينة:
وفي السّنة الشهباء أطعمت حامضا ... وحلوا ولحما تامكا وممزّعا «1»
وأنت ربيع لليتامى وعصمة ... إذا المحل من جوّ السّماء تطلّعا
أبوك أبو الفضل الذي كان رحمة ... وغوثا ونورا للخلائق أجمعا
ومن جوده أنه أتاه رجل وهو بفناء داره فقام بين يديه فقال: يا بن عباس إن لي عندك يدا وقد احتجت إليها. فصعّد فيه بصره وصوبّه «2» ، فلم يعرفه، ثم قال له: ما يدك عندنا؟ قال: رأيتك واقفا بزمزم وغلامك يمتج «3» لك من مائها والشمس قد صهرتك، فظلّلتك بطرف كسائي حتى شربت. قال: إني لأذكر ذلك وإنه يتردّد بين خاطري وفكري. ثم قال لقيّمه: ما عندك؟ قال: مائتا دينار وعشرة آلاف درهم.
قال: ادفعها إليه وما أراها تفي بحق يده عندنا. فقال له الرجل: والله لو لم يكن لإسماعيل ولد غيرك لكان فيه ما كفاه، فكيف وقد ولد سيد الأولين والآخرين محمدا صلّى الله عليه وسلّم، ثم شفع بك وبأبيك.(1/247)
ومن جوده أيضا: أنّ معاوية حبس عن الحسين بن عليّ صلاته حتى ضاقت عليه حاله، فقيل [له] : لو وجّهت إلى ابن عمك عبيد الله، فإنه قد قدم بنحو من ألف ألف درهم. فقال الحسين: وأين تقع ألف ألف من عبيد الله؟ فو الله لهو أجود من الريح إذا عصفت، وأسخى من البحر إذا زخر. ثم وجه إليه مع رسوله بكتاب ذكر فيه حبس معاوية عنه صلاته وضيق حاله وأنه يحتاج إلى مائة ألف درهم. فلما قرأ عبيد الله كتابه، وكان من أرقّ الناس قلبا وألينهم عطفا. انهملت عيناه ثم قال: ويلك يا معاوية مما اجترحت يداك «1» من الإثم حين أصبحت ليّن المهاد رفيع العماد، والحسين يشكو ضيق الحال وكثرة العيال. ثم قال لقهرمانه: احمل إلى الحسين نصف ما أملكه من فضّة وذهب وثوب ودابة، وأخبره أني شاطرته مالي، فإن أقنعه ذلك وإلا فارجع واحمل إليه الشطر الآخر. فقال له القيم: فهذه المؤن التي عليك من أين تقوم بها؟ قال: إذا بلغنا ذلك دللتك على أمر يقيم حالك! فلما أتى الرسول برسالته إلى الحسين قال: إنا لله! حملت «2» والله على ابن عمي وما حسبته يتسع لنا بهذا كله.
فأخذ الشطر من ماله. وهو أول من فعل ذلك في الإسلام.
ومن جوده أن معاوية بن أبي سفيان أهدى إليه وهو عنده بالشام من هدايا النّيروز حللا كثيرة ومسكا وآنية من ذهب وفضة، ووجّهها مع حاجبه، فلما وضعها بين يديه نظر إلى الحاجب وهو ينظر إليها، فقال: هل في نفسك منها شيء؟ قال:
نعم والله، إنّ في نفسي منها ما كان في نفس يعقوب من يوسف عليهما السلام.
فضحك عبيد الله وقال: فشأنك بها فهي لك. قال: جعلت فداك، أخاف أن يبلغ ذلك معاوية فيجد عليّ. قال: فاختمها بخاتمك وادفعها إلى الخازن، فإذا حان خروجنا حملها إليك ليلا. فقال الحاجب: والله لهذه الحيلة في الكرم أكثر من الكرم، ولوددت أني لا أموت حتى أراك مكانه- يعني معاوية- فظنّ عبيد الله أنها مكيدة منه، قال: دع عنك هذا الكلام، فإنا قوم نفي بما وعدنا ولا ننقص ما أكدنا.(1/248)
ومن جوده أيضا أنه أتاه سائل وهو لا يعرفه فقال له: تصدّق، فإني نبّئت أن عبيد الله بن عباس أعطى سائلا ألف درهم واعتذر إليه! فقال له: وأين أنا من عبيد الله؟ قال أين أنت منه في الحسب أم كثرة المال؟ قال: فيهما. قال: أما الحسب في الرجل فمروءته وفعله، وإذا شئت فعلت، وإذا فعلت كنت حسيبا. فأعطاه ألفي درهم واعتذر له من ضيق الحال: فقال له السائل: إن لم تكن عبيد الله بن عباس فأنت خير منه، وإن كنت هو فأنت اليوم خير منك أمس. فأعطاه ألفا أخرى.
فقال السائل: هذه هزة كريم حسيب، والله لقد نقرت «1» حبة قلبي فأفرغتها في قلبك، فما أخطأت إلا باعتراض الشك بين جوانحي.
ومن جوده أيضا: أنه جاءه رجل من الأنصار فقال: يا بن عم رسول الله، إنه ولد لي في هذه الليلة مولود، وإني سمّيته باسمك تبرّكا مني به، وإن أمه ماتت. فقال عبيد الله: بارك الله لك في الهبة، وأجزل لك الأجر على المصيبة. ثم دعا بوكيله فقال: انطلق الساعة فاشتر للمولود جارية تحضنه، وادفع إليه مائتي دينار للنفقة على تربيته. ثم قال للأنصاري. عد إلينا بعد أيام، فإنك جئتنا وفي العيش يبس وفي المال قلّة. قال الأنصاري: لو سبقت حاتما بيوم واحد ما ذكرته العرب أبدا، ولكنه سبقك فصرت له تاليا، وأنا أشهد أنّ عفوك أكثر من مجهوده، وطلّ كرمك أكثر من وابله.
جود عبد الله بن جعفر
ومن جود عبد الله بن جعفر أن عبد الرحمن بن أبي عمّار دخل على نخّاس يعرض قيانا له؛ فعلق واحدة منهن، فشهر بذكرها حتى مشى إليه عطاء وطاووس ومجاهد يعذلونه، فكان جوابه أن قال:
يلومني فيك أقوام أجالسهم ... فما أبالي أطار الّلوم أم وقعا(1/249)
فانتهى خبره إلى عبد الله بن جعفر، فلم يكن له هم غيره، فحج فبعث إلى مولى الجارية فاشتراها منه بأربعين ألف درهم، وأمر قيّمة جواريه أن تزيّنها وتحلّيها ففعلت؛ وبلغ الناس قدومه فدخلوا عليه، فقال: مالي لا أرى ابن أبي عمار زارنا؟
فأخبر الشيخ، فأتاه مسلّما. فلما أراد أن ينهض استجلسه، ثم قال: ما فعل حبّ فلانة؟ قال: في اللحم والدم والمخ والعصب. قال: أتعرفها لو رأيتها؟ قال: لو أدخلت الجنة لم أنكرها. فأمر بها عبد الله أن تخرج إليه، وقال له: إنما اشتريتها لك، وو الله ما دنوت منها، فشأنك بها مباركا لك فيها. فلما ولى قال: يا غلام، احمل معه مائة ألف درهم ينعم بها معها. قال: فبكى عبد الرحمن فرحا وقال: يأهل البيت، لقد خصّكم الله بشرف ما خصّ به أحدا قبلكم من صلب آدم، فتهنئكم هذه النعمة، وبورك لكم فيها.
ومن جوده أيضا أنه أعطى امرأة سألته مالا عظيما، فقيل له: إنها لا تعرفك وكان يرضيها اليسير. قال: إن كان يرضيها اليسير فإني لا أرضى إلا بالكثير، وإن كانت لا تعرفني فأنا أعرف نفسي.
جود سعيد بن العاص
ومن جود سعيد بن العاص أنه مرض وهو بالشام، فعاده معاوية ومعه شر حبيل بن السّمط، ومسلم بن عقبة المرّي، ويزيد بن شجرة الرّهاوي. فلما نظر سعيد معاوية وثب عن صدر مجلسه إعظاما لمعاوية، فقال له معاوية: أقسمت عليك أبا عثمان ألا تتحرّك، فقد ضعفت بالعلة. فسقط؛ فتبادر معاوية: نحوه حتى حنا عليه، وأخذ بيده فأقعده على فراشه وقعد معه، وجعل يسائله عن علّته ومنامه وغذائه، ويصف له ما ينبغي أن يتوقّاه، وأطال القعود معه؛ فلما خرج التفت إلى شرحبيل بن السّمط، ويزيد ابن شجرة، فقال: هل رأيتما خللا في مال أبي عثمان؟ فقالا: ما رأينا شيئا ننكره.
فقال لمسلم بن عقبة: ما تقول؟ قال: رأيت. قال: وما ذاك؟ قال: رأيت على حشمه ومواليه ثيابا وسخة، ورأيت صحن داره غير مكنوس، ورأيت التجّار يخاصمون(1/250)
قهرمانه. قال: صدقت، كل ذلك قد رأيته. فوجه إليه مع مسلم بثلاثمائة ألف، فسبق رسول يبشّره بها ويخبره بما كان. فغضب سعيد وقال للرسول: إن صاحبك ظن أنه أحسن فأساء، وتأوّل فأخطأ؛ فأما وسخ ثياب الحشم فمن كثرة حركته اتسخ ثوبه، وأما كنس الدار فليست أخلاقنا أخلاق من جعل داره مرآته وتزيّنه لبسه، ومعروفه عطره، ثم لا يبالي بمن مات هزلا من ذي لحمة أو حرمة. وأما منازعة التجار قهرماني فمن كثرة حوائجه وبيعه وشرائه؛ لم يجد بدّا من أن يكون ظالما أو مظلوما. وأما المال الذي أمر به أمير المؤمنين فوصلته كل ذي رحم قاطعة وهنأته كرامته المنعم بها عليه، وقد قبلناه وأمرنا لصاحبك منه بمائة ألف، ولشر حبيل بن السّمط بمثلها، وليزيد بن شجرة بمثلها، وفي سعة الله وبسط يد أمير المؤمنين ما عليه معوّلنا.
فركب مسلم بن عقبة إلى معاوية فأعلمه، فقال: صدق ابن عمي فيما قال، وأحطأت فيما انتهيت إليه، فاجعل نصيبك من المال لروح بن زنباع عقوبة لك، فإنه من جنى جناية عوقب بمثلها، كما أنه من فعل خيرا كوفيء عليه.
ومن جوده أيضا أن معاوية كان يداول بينه وبين مروان بن الحكم في ولاية المدينة، فكان مروان يقارضه «1» ، فلما دخل على معاوية قال له: كيف تركت أبا عبد الملك؟ يعني مروان. قال: تركته منفّذا لأمرك، مصلحا لعملك. قال معاوية: إنه كصاحب الخبزة: كفي إنضاجها فأكلها! قال: كلا يا أمير المؤمنين؛ إنه من قوم لا يأكلون إلا ما حصدوا، ولا يحصدون إلا ما زرعوا. قال: فما الذي باعد بينك وبينه؟ قال خفته على شرفي وخافني على مثله. قال: فأي شيء كان له عندك؟ قال:
أسوؤه حاضرا وأسرّه غائبا. قال: يا أبا عثمان، تركتنا في هذه الحروب. قال: حملت الثقل وكفيت الحزم. قال: فما أبطأ بك؟ قال غناؤك عني أبطأني عنك، وكنت قريبا لو دعوت لأجبناك، ولو أمرت لأطعناك. قال: ذلك ظنّنا بك. فأقبل معاوية على أهل الشام فقال يأهل الشام، هؤلاء قومي وهذا كلامهم. ثم قال: أخبرني عن مالك،(1/251)
فقد نبّئت أنك تتحرّى فيه. قال: يا أمير المؤمنين، لنا مال يخرج لنا منه فضل، فإذا كان ما خرج قليلا أنفقناه على قلّته، وإن كان كثيرا فكذلك، غير أنا لا ندّخر منه شيئا عن معسر ولا طالب ولا مستحمل، ولا نستأثر منه بفلذة لحم ولا مزعة «1» شحم. قال: فكم يدوم لك هذا؟ قال: من السّنة نصفها. قال: فما تصنع في باقيها؟
قال: نجد من يسلفنا ويسارع إلى معاملتنا. قال: ما أحد أحوج إلى أن يصلح من شأنه منك. قال: إن شأننا لصالح يا أمير المؤمنين، ولو زدت في مالي مثله ما كنت إلا بمثل هذه الحال. فأمر له معاوية بخمسين ألف درهم، وقال: اشتر بها ضيعة تعينك على مروأتك. فقال سعيد: بل أشترى بها حمدا وذكرا باقيا. أطعم بها الجائع، وأزوج بها الأيّم، وأفكّ بها العاني «2» ، وأواسي بها الصديق، ما وأصلح بها حال الجار فلم تأت عليه ثلاثة أشهر وعنده منها درهم. فقال معاوية: ما فضيلة بعد الإيمان بالله هي أرفع في الذكر ولا أنبه في الشرف من الجود، وحسبك أن الله تبارك وتعالى جعل الجود أحد صفاته.
ومن جوده أيضا ما حكاه الأصمعي، قال: كان سعيد بن العاص يسمر معه سماره إلى أن ينقضي حين من الليل، فانصرف عنه القوم ليلة ورجل قاعد لم يقم، فأمر سعيد بإطفاء الشمعة وقال: حاجتك يافتى؟ فذكر أنّ عليه دينا أربعة آلاف درهم.
فأمر له بها، وكان إطفاؤه للشمعة أكثر من عطائه.
جود عبيد الله بن أبي بكرة
ومن جود عبيد الله بن أبي بكرة أنه أدلى إليه رجل بحرمة، فأمر له بمائة ألف درهم، فقال: أصلحك الله، ما وصلني أحد بمثلها قط، ولقد قطعت لساني عن شكر غيرك، وما رأيت الدنيا في يد أحد أحسن منها في يدك، ولولا أنت لم تبق لها بهجة إلا أظلمت، ولا نور إلا انطمس.(1/252)
جود عبد الله بن معمر القرشي التيمي
ومن جود عبيد الله بن معمر القرشي، أن رجلا أتاه من أهل البصرة كانت له جارية نفيسة قد أدّبها بأنواع الأدب حتى برعت وفاقت في جميع ذلك، ثم إنّ الدهر قعد بسيّدها ومال عليه. وقدم عبيد الله بن معمر البصرة من بعض وجوهه، فقالت لسيّدها: إني أريد أن أذكر لك شيئا أستحي منه، إذ فيه جفاء مني، غير أنه يسهّل ذلك عليّ ما أرى من ضيق حالك وقلة مالك وزوال نعمتك، وما أخافه عليك من الاحتياج وضيق الحال، وهذا عبيد الله بن معمر قدم البصرة، وقد علمت شرفه وفضله وسعة كفّه وجود نفسه، فلو أذنت لي فأصلحت من شأني ثم تقدمت بي إليه وعرضتني عليه هدية، رجوت أن يأتيك من مكافأته ما يقيلك الله به وينهضك إن شاء الله. قال: فبكى وجدا عليها وجزعا لفراقها منه، ثم قال لها: لولا أنك نطقت بهذا ما ابتدأتك به أبدا. ثم نهض بها حتى أوقفها بين يدي عبيد الله فقال: أعزك الله، هذه ارية ربّيتها ورضيت بها لك، فاقبلها مني هدية. فقال: مثلي لا يستهدي من مثلك؛ فهل لك في بيعها فأجزل لك الثمن عليها حتى ترضى؟ قال: الذي تراه.
قال: يقنعك مني عشر بدر في كل بدرة عشرة آلاف درهم؟ قال: والله يا سيدي ما امتد أملي إلى عشر ما ذكرت، ولكن هذا فضلك المعروف وجودك المشهور. فأمر عبيد الله بإخراج المال حتى صار بين يدي الرجل وقبضه، وقال للجارية: ادخلي الحجاب. فقال سيدها: أعزك الله! لو أذنت لي في وداعها! قال: نعم. فوقفت وقام، وقال لها وعيناه تدمعان:
أبوح بحزن من فراقك موجع ... أقاسي به ليلا يطيل تفكّري
ولولا قعود الدهر بي عنك لم يكن ... يفرّقنا شيء سوى الموت فاعذري
عليك سلام لا زيارة بيننا ... ولا وصل إلا أن يشاء ابن معمر
قال عبيد الله بن معمر: قد شئت ذلك، فخذ جاريتك وبارك الله لك في المال.
فذهب بجاريته وماله فعاد غنيّا.(1/253)
فهؤلاء أجواد الإسلام المشهورون في الجود المنسوبون إليه، وهم أحد عشر رجلا كما ذكرنا وسمّينا، وبعدهم طبقة أخرى من الأجواد، قد شهروا بالجود وعرفوا بالكرم، وحمدت أفعالهم، وسنذكر ما أمكننا ذكره منها إن شاء الله تعالى.
الطبقة الثانية من الأجواد
فمنهم الحكم بن حنطب
قيل لنصيب بن رباح: خرف شعرك أبا محجن! قال لا، ولكن خرف الكرم؛ لقد رأيتني ومدحت الحكم بن حنطب، فأعطاني ألف دينار ومائة ناقة وأربعمائة شاة.
وسأل أعرابي الحكم بن حنطب، فأعطاه خمسمائة دينار، فبكى الأعرابي، فقال:
ما يبكيك يا أعرابي؟ لعلك استقللت ما أعطيناك! قال: لا والله، ولكني أبكي لما تأكل الأرض منك، ثم أنشأ يقول:
وكأنّ آدم حين حان وفاته ... أوصاك وهو يجود بالحوباء «1»
ببنيه أن ترعاهم فرعيتهم ... فكفيت آدم علية الأبناء «2»
العتبي قال: أخبرني رجل من أهل منبج، قال: قدم علينا الحكم بن حنطب وهو مملق «3» فأغنانا! قال له: كيف أغناكم وهو مملق؟ قال: علّمنا المكارم، فعاد غنيّنا على فقيرنا.
ومنهم معن بن زائدة
وكان يقال فيه: حدّث عن البحر ولا حرج، وحدّث عن معن ولا حرج.
وأتاه رجل يسأله أن يحمله، فقال: يا غلام، أعطه فرسا وبرذونا وبغلا وعيرا وبعيرا وجارية. وقال: لو عرفت مركوبا غير هؤلاء لأعطيتك.(1/254)
العتبي قال: لما قدم معن بن زائدة البصرة واجتمع إليه الناس، أتاه مروان بن أبي حفصة فأخذ بعضادتي «1» الباب، فأنشده شعره الذي قاله فيه:
فما أحجم الأعداء عنك بقيّة ... عليك، ولكن لم يروا فيك مطمعا
له راحتان الحتف والجود فيهما ... أبى الله إلّا أن يضرّ وينفعها
ومنهم يزيد بن المهلب
وكان هشام بن حسّان إذا ذكره قال: والله إن كانت السفن لتجري في جوده.
وقيل ليزيد بن المهّلب: مالك لا تبني دارا؟ قال: منزلي دار الإمارة أو الحبس.
ولما أتى يزيد بن عبد الملك برأس يزيد بن المهلب، نال منه بعض جلسائه فقال له: مه «2» ! إن يزيد بن المهلّب طلب جسيما وركب عظيما ومات كريما.
ودخل الفرزدق على يزيد بن المهلّب في الحبس فأنشده:
صحّ في قيدك السماحة والمج ... د وفكّ العناة والإفضال
قال: أتمدحني وأنا في هذه الحال؟ قال. أصبتك رخيصا فاشتريتك. فأمر له بعشرة آلاف.
وقال سليمان بن عبد الملك لموسى بن نصير: اغرم»
ديتك خمسين مرة. قال: ليس عندي ما أغرم. قال: والله لتغرمن ديتك مائة مرة. قال يزيد بن المهلّب: أنا أغرمها عنه يا أمير المؤمنين. قال: اغرم. فغرمها عنه مائة ألف.
العتبي قال: أخبرني عوانة قال: استعمل الوليد بن عبد الملك عثمان بن حيّان المرّي على المدينة وأمره بالغلظة على أهل الظّنة؛ فلما استخلف سليمان أخذه بألفي ألف درهم؛ فاجتمعت القيسية في ذلك فتحمّلوا شطرها وضاقوا ذرعا بالشطر الثاني.(1/255)
ووافق ذلك استعمال سليمان يزيد بن المهلب على العراق. فقال عمر بن هبيرة: عليكم بيزيد بن المهلّب، فما لها أحد غيره! فتحملوا إلى يزيد وفيهم عمر بن هبيرة، والقعقاع بن حبيب، والهذيل بن زفر بن الحارث، وانتهوا إلى رواق يزيد. قال يحيى ابن أقتل- وكان حاجبا ليزيد بن المهلب وكان رجلا من الأزد- فاستأذنت لهم فخرج يزيد إلى الرواق فقرّب ورحّب، ثم دعا بالغداء، فأتوا بطعام ما أنكروا منه أكثر مما عرفوا، فلما تغدّوا تكلم عثمان بن حيّان وكان لسنا مفوّها، وقال: زادك الله في توفيقك أيها الأمير، إن الوليد بن عبد الملك وجهني إلى المدينة عاملا عليها، وأمرني بالغلظة على أهل الظنّة والأخذ عليهم؛ وإن سليمان أغرمني غرما، والله ما يسعه مالي ولا تحمله طاقتي؛ فأتيناك لتحمل من هذا المال ما خفّ عليك، وما بقي والله ثقيل عليّ. ثم تكلم كل منهم بما حضره، وقد اختصرنا كلامهم.
فقال يزيد بن المهلب: مرحبا بكم وأهلا، إن خير المال ما قضي فيه الحقوق وحملت به المغارم، وإنما لي من المال ما فضل عن إخواني، وايم الله لو علمت أن أحدا أملأ بحاجتكم مني لهديتكم إليه فاحتكموا وأكثروا. فقال عثمان بن حيان:
النصف أصلح الله الأمير. قال: نعم وكرامة، اغدوا علي مالكم فخذوه.
فشكروا له وقاموا فخرجوا. فلما صاروا على باب السرادق قال عمر بن هبيرة:
قبّح الله رأيكم، والله ما يبالي يزيد أنصفها تحمّل أم كلّها. فمن لكم بالنصف الباقي؟ قال القوم: هذا والله الرأي! وسمع يزيد مناجاتهم، فقال لحاجبه: انظر يا يحيى إن كان بقي على القوم شيء فليرجعوا، فرجعوا إليه وقالوا: أقلنا «1» قال: قد فعلت. قالوا: فإن رأيت أن تحملها كلّها فأنت أهلها، وإن أبيت فما لها أحد غيرك، قال: قد فعلت.
وغدا يزيد بن المهلب إلى سليمان فقال: يا أمير المؤمنين، أتاني عثمان بن حيّان وأصحابه. قال: أمسك في المال؟ قال: نعم. قال سليمان: والله لآخذنّه منهم. قال(1/256)
يزيد: إني قد حملته. قال: فأدّه: قال يزيد والله ما حملته إلا لأؤدّيه ثم قال: يا أمير المؤمنين، إن هذه الحمالة وإن عظم خطبها، فحمدها والله أعظم منها، ويدي مبسوطة بيدك، فابسطها لسؤالها. ثم غدا يزيد بالمال على الخزّان فدفعه إليهم فدخلوا على سليمان فأخبروه بقبض المال، فقال: وفت يمين سليمان احملوا إلى أبي خالد ماله.
فقال عدي بن الرقاع العاملي:
ولله عينا من رأى كحمالة ... تحمّلها كبش العراق يزيد
الأصمعي قال: قدم على يزيد بن المهلّب قوم من قضاعة من بني ضبّة، فقال رجل منهم:
والله ما ندري إذا ما فاتنا ... طلب إليك من الّذي نتطلب؟
ولقد ضربنا في البلاد فلم نجد ... أحدا سواك إلى المكارم ينسب
فاصبر لعادتنا التي عوّدتنا ... أو لا فأرشدنا إلى من نذهب؟
فأمر له بألف دينار؛ فلما كان في العام المقبل وفد عليه فقال:
مالي أرى أبوابهم مهجورة ... وكأنّ بابك مجمع الأسواق
أرجوك أم خافوك أم شاموا النّدى ... بيديك فاجتمعوا من الآفاق
إنّي رأيتك للمكارم عاشقا ... والمكرمات قليلة العشّاق
فأمر له بعشرة آلاف درهم.
ومر يزيد بن المهلّب في طريق البصرة بأعرابيّة، فأهدت إليه عنزا، فقبلها وقال لابنه معاوية: ما عندك من نفقة؟ قال: ثمانمائة درهم. قال: ادفعها إليها! قال إنها لا تعرفك ويرضيها اليسير قال: إن كانت لا تعرفني فأنا أعرف نفسي، وإن كان يرضيها اليسير فأنا لا أرضى إلا بالكثير.(1/257)
ومنهم يزيد بن حاتم
وكتب إليه رجل من العلماء يستوصله، فبعث إليه ثلاثين ألف درهم، وكتب إليه: «أما بعد، فقد بعثت إليك بثلاثين ألفا، لا أكثّرها امتنانا، ولا أقلّلها تجبّرا، ولا أستثيبك عليها ثناء، ولا أقطع لك بها رجاء، والسلام» .
وكان ربيعة الرّقي قد قدم مصر فأتى يزيد بن حاتم الوردي فلم يعطه شيئا، فشغل عنه ببعض الأمر، فخرج وهو يقول:
أراني ولا كفران لله راجعا ... بخفي حنين من نوال ابن حاتم
فسأل عنه يزيد، فأخبر أنه قد خرج وقال كذا، وأنشد البيت؛ فأرسل في طلبه فأتي به، فقال: كيف قلت؟ فأنشده البيت: فقال شغلنا عنك! ثم أمر بخفّيه فخلعتا من رجليه وملئتا مالا، وقال: ارجع بهما بدلا من خفّي حنين! فقال فيه لما عزل عن مصر وولي مكانه يزيد بن حاتم:
بكى أهل مصر بالدّموع السّواجم ... غداة غدا منها الأغرّ ابن حاتم
وفيها يقول:
لشتّان ما بين اليزيدين في النّدى ... يزيد سليم والأغرّ ابن حاتم
فهمّ الفتى الأزديّ إتلاف ماله ... وهمّ الفتى القيسيّ جمع الدّراهم
فلا يحسب التّمتام أنّي هجوته ... ولكنّني فضّلت أهل المكارم
وخرج إليه رجل من الشعراء يمدحه، فلما بلغ مصر وجده قد مات؛ فقال فيه:
لئن مصر فاتتني بما كنت أرتجي ... وأخلفني منها الذي كنت آمل
فما كلّ ما يخشى الفتى بمصيبه ... ولا كلّ ما يرجو الفتى هو نائل
وما كان بيني لو لقيتك سالما ... وبين الغنى إلا ليال قلائل(1/258)
ومنهم أبو دلف
واسمه القاسم بن إسماعيل، وفيه يقول عليّ بن جبلة:
إنما الدنيا أبو دلف ... بين مبداه ومحتضره «1»
فإذا ولّي أبو دلف ... ولّت الدنيا على أثره
وقال فيه رجل من شعراء الكوفة:
الله أجرى من الأرزاق أكثرها ... على العباد، على كفي أبي دلف
بارى الرياح فأعطى وهي جارية ... حتى إذا وقفت أعطى ولم يقف «2»
ما خطّ «لا» كاتباه في صحيفته ... يوما كما خطّ «لا» في سائر الصحف
فأعطاه ثلاثين ألفا.
ومدحه آخر فقال فيه:
يشبهه الرّعد إذا الرعد رجف ... كأنه البرق إذا البرق خطف
كأنه الموت إذا الموت أزف ... تحمله إلى الوغى الخيل القطف «3»
إن سار سار المجد أو حلّ وقف ... انظر بعينيك إلى أسنى الشّرف
هل ناله بقدرة أو بكلف ... خلق من الناس سوى أبي دلف
فأعطاه خمسين ألفا.
ومن أخبار معن بن زائدة
شيء عنه:
قال شراحيل بن معن بن زائدة: حج هارون الرشيد وزميله أبو يوسف القاضي، وكنت كثيرا ما أسايره، إذ عرض له أعرابيّ من بني أسد فأنشده شعرا مدحه فيه(1/259)
وأفرط، فقال له هارون: ألم أنهك عن مثل هذا في مدحك يا أخا بني أسد؟ إذا قلت فينا فقل كقول القائل في أب هذا:
بنو مطر يوم اللقاء كأنهم ... أسود لها في غيل خفّان أشبل «1»
هم يمنعون الجار حتّى كأنّما ... لجارهم بين السّماكين منزل «2»
بهاليل في الإسلام سادوا ولم يكن ... كأوّلهم في الجاهليّة أوّل
وما يستطيع الفاعلون فعالهم ... وإن أحسنوا في النائبات وأجملوا
هم القوم إن قالوا أصابوا وإن دعوا ... أجابوا وإن أعطوا أطابوا وأجزلوا
ومنهم خالد بن عبد الله القسري
وهو الذي يقول فيه الشاعر:
... إلى خالد حتى أنخن بخالد ... فنعم الفتى يرجى ونعم المؤمّل
بينا خالد بن عبد الله القسري جالس في مظلة له، إذ نظر إلى أعرابي يخب «3» به بعيره مقبلا نحوه؛ فقال لحاجبه. إذا قدم فلا تحجبه. فلما قدم أدخله عليه، فسلّم وقال:
أصلحك الله قلّ ما بيدي ... فما أطيق العيال إذ كثروا
أناخ دهر ألقى بكلكله ... فأرسلوني إليك وانتظروا «4»
فقال خالد: أرسلوك وانتظروا؟ والله لا تنزل حتى تنصرف إليهم بما يسرّهم.
وأمر له بجائزة عظيمة وكسوة شريفة.
ومنهم عديّ بن حاتم
دخل عليه ابن دارة فقال: إني مدحتك. قال: أمسك حتى آتيك بمالي ثم امدحني على حسبه، فإني أكره ألا أعطيك ثمن ما تقول، لي ألف شاة، وألف درهم، وثلاثة(1/260)
أعبد، وثلاث إماء، وفرسي هذا حبس في سبيل الله، فامدحني على حسب ما أخبرتك. فقال:
تجن قلوصي في معدّ، وإنّما ... تلاقي الرّبيع في ديار بني ثعل
وأبقى الليالي من عديّ بن حاتم ... حساما كنصل السيف سلّ من الخلل «1»
أبوك جواد لا يشقّ غباره ... وأنت جواد لست تعذر بالعلل
فإن تفعلوا شرّا فمثلكم اتّقي ... وإن خيرا فمثلكم فعل
قال له عدي: أمسك؛ لا يبلغ مالي أكثر من هذا.
أصفاد الملوك على المدح
سعيد بن مسلم الباهلي قال: قدم على الرشيد أعرابي من باهلة وعليه جبة حبرة، ورداء يمان قد شدّه على وسطه ثم ثناه على عاتقه، وعمامة قد عصبها على فوديه وأرخى لها عذبة «2» من خلفه، فمثل بين يدي الرشيد، فقال سعيد: يا أعرابي، خذ في شرف أمير المؤمنين. فاندفع في شعره. فقال الرشيد: يا أعرابي، أسمعك مستحسنا وأنكرك متّهما؛ فقل لنا بيتين في هذين- يعني محمدا الأمين وعبد الله المأمون ابنيه، وهما عن حفافيه، فقال: يا أمير المؤمنين، حملتني على الوعر القردد «3» ورجعتني عن السّهل الجدد «4» ، روعة الخلافة، وبهر الدرجة، ونفور القوافي على البديهة؛ فأرودني «5» تتألف لي نوافر ويسكن روعي. قال: قد فعلت، وجعلت اعتذارك بدلا من امتحانك. قال: يا أمير المؤمنين، نفّست الخناق، وسهلت ميدان السباق؛ فأنشأ يقول:(1/261)
بنيت لعبد الله ثمّ محمد ... ذرا قبة الإسلام فاخضرّ عودها
هما طنباها، بارك الله فيهما ... وأنت أمير المؤمنين عمودها «1»
فقال الرشيد: وأنت يا أعرابي، بارك الله فيك! فسل ولا تكن مسألتك دون إحسانك. قال الهنيدة «2» يا أمير المؤمنين. فأمر له بمائة ناقة وسبع خلع.
المهدي ومروان ابن أبي حفصة
: وقال مروان بن أبي حفصة: دخلت على المهديّ فاستنشدني، فأنشدته الشعر الذي أقول فيه:
طرقتك زائرة فحيّ خيالها ... بيضاء تنشر بالخباء دلالها
قادت فؤادك فاستقاد ومثلها ... قاد القلوب إلى الصّبا فأمالها
حتى انتهيت إلى قولي:
شهدت من الأنفال آخر آية «3» ... بتراثهم فرجوتهم إبطالها
هل تطمسون من السماء نجومها ... بأكفّكم أو تسترون هلالها
أو تجحدون مقالة عن ربّكم ... جبريل بلّغها النبيّ فقالها
قال: وأنشدته أيضا شعري الذي أقول فيه:
يا بن الذي ورث النبيّ محمدا ... دون الأقارب من ذوي الأرحام
الوحي بين بني البنات وبينكم ... قطع الخصام فلات حين خصام
ما للنساء مع الرّجال فريضة ... نزلت بذلك سورة الأنعام
أنّى يكون وليس ذاك بكائن ... لبني البنات وراثة الأعمام(1/262)
ألغى سهامهم الكتاب فحاولوا ... أن يشرعوا فيها بغير سهام
ظفرت بنو ساقي الحجيج بحقّهم ... وغررتم بتوهّم الأحلام
قال مروان بن أبي حفصة: فلما أنشدت المهديّ الشعرين قال: وجب حقّك على هؤلاء- وعنده جماعة من أهل بيته- قد أمرت لك بثلاثين ألفا، وفرضت على موسى خمسة آلاف، وعلى هارون مثلها، وعلى عليّ أربعة آلاف، وعلى العبّاس كذا، وعلى فلان كذا فحسبت سبعين ألفا. قال: فأمر بالثلاثين ألفا فأتى بها، ثم قال: اغد على هؤلاء وخذ ما فرضت لك. فأتيت موسى فأمر لي بخمسة آلاف، وأتيت هارون فأمر لي بمثلها، وأتيت عليا، قال: قصّر بي دون إخوتي فلن أقصّر بنفسي. فأمر لي بخمسة آلاف فأخذت من الباقين سبعين ألفا.
عبد الملك وأعشى ربيعة
: ودخل أعشى ربيعة على عبد الملك بن مروان، وعن يمينه الوليد وعن يساره سليمان؛ فقال له عبد الملك: ماذا بقي يا أبا المغيرة؟ قال: مضى ما مضى وبقي ما بقي. وأنشأ يقول:
وما أنا في حقّي ولا في خصومتي ... بمهتضم حقّي ولا قارع سني «1»
ولا مسلم مولاي من سوء ما جنى ... ولا خائف مولاي من سوء ما أجني
وفضلي في الأقوام والشّعر أنني ... أقول الذي أعني وأعرف ما أعني
وأنّ فؤادي بين جنبيّ عالم ... بما أبصرت عيني وما سمعت أذني
وإني وإن فضّلت مروان وابنه ... على الناس، قد فضّلت خير أب وابن
فضحك عبد الملك وقال للوليد وسليمان: أتلوماني على هذا؟ وأمر له بعشرة آلاف.(1/263)
عبد الرحمن بن الحكم والفرزدق
: العتبي قال: دخل الفرزدق على عبد الرحمن الثقفي بن أم الحكم، فقال له عبد الرحمن: أبا فراس، دعني من شعرك الذي لا يأتي آخره حتى ينسى أوله، وقل فيّ بيتين يعلقان «1» أفواه الرواة، وأعطيكها عطية لم يعطها أحد قبلي فغدا عليه وهو يقول:
وأنت ابن بطحاوي قريش فإن تشأ ... فكن من ثقيف سيل ذي حدب غمر «2»
وأنت ابن فرع ماجد لعقيلة ... تلقّت له الشمس المضيئة بالبدر
قال: أحسنت، وأمر له بعشرة آلاف.
الفضل بن يحيى وفتى من التجار
: أبو سويد قال: أخبرني الكوفي قال: اعترض الفضل بن يحيى بن خالد في وقت خروجه إلى خراسان فتى من التجار كان شخص إلى الكوفة فقطع به وأخذ جميع ما كان معه، فأخذ بعنان دابة الفضل وقال:
سأرسل بيتا ليس في الشّعر مثله ... يقطّع أعناق البيوت الشّوارد
أقام النّدى والبأس في كلّ منزل ... أقام به الفضل بن يحيى بن خالد
قال فأمر له بمائة ألف درهم.
زبيدة وابن أبي حفصة في أبيات مدح بها الأمين
: العتبي: قال أبو الجنوب مروان بن أبي حفصة أبياتا ورفعها إلى زبيدة ابنة جعفر يمتدح ابنها محمدا، وفيها يقول:
لله درّك يا عقيلة جعفر ... ماذا ولدت من العلا والسّؤدد «3»(1/264)
إنّ الخلافة قد تبيّن نورها ... للناظرين على جبين محمد
فأمرت أن يملأ فمه درّا.
الحسن بن سهل وعلي بن جبلة
: وقال الحسن بن رجاء الكاتب: قدم علينا علي بن جبلة إلى عسكر الحسن بن سهل، والمأمون هناك بانيا على خديجة بنت الحسن بن سهل، والمعروفة ببوران، ونحن إذ ذاك نجري على نيّف وسبعين ألف فلاح. وكان الحسن بن سهل مع المأمون يتصبّح؛ فكان الحسن يجلس للناس إلى وقت انتباهه، فلما قدم علي بن جبلة نزل بي، فقلت له: قد قوي شغل الأمير. قال: إذا لا أضيع معك! قلت: أجل. فدخلت على الحسن بن سهل في وقت ظهوره فأعلمته مكانه؛ فقال: ألا ترى ما نحن فيه؟ قلت:
لست بمشغول عن الأمر له. فقال: يعطى عشرة آلاف إلى أن نتفرّغ له. فأعلمت علي بن جبلة؛ فقال في كلمة له:
أعطيتني يا وليّ الحقّ مبتدئا ... عطيّة كافأت حمدي ولم ترني
ما شمت برقك حتى نلت ريّقه ... كأنّما كنت بالجدوى تبادرني «1»
ابن طوق ورجل عرض له
: عرض رجل لابن طوق وقد خرج متنزها في الرحبة فناوله رقعة فيها جميع حاجته؛ فأخذها فإذا فيها:
جعلتك دنياي فان أنت جدت لي ... بخير وإلا فالسّلام على الدّنيا
فقال: والله لأصدقنّ ظنك. فاعطاه حتى أغناه.
عبد الله بن طاهر ودعبل بن علي
: عرض دعبل بن علي الشاعر لعبد الله بن طاهر الخراساني وهو راكب في حرّاقة له في دجلة، فأشار إليه برقعة، فأمر بأخذها، فإذا فيها:(1/265)
عجبت لحرّاقة بن الحس ... ين كيف تسير ولا تغرق
وبحران من تحتها واحد ... وآخر من فوقها مطبق
وأعجب من ذاك عيدانها ... إذا مسّها كيف لا تورق
فأمر له بخمسة آلاف درهم وجارية وفرس.
وخرج عبد الله بن طاهر فتلقاه دعبل برقعة فيها:
طلعت قناتك بالسّعادة فوقها ... معقودة بلواء ملك مقبل «1»
تهتزّ فوق طريدتين كأنّما ... تهفو يقصّ لها جناحا أجدل «2»
ربح البخيل على احتيال عرضه ... بندى يديك ووجهك المتهلّل
لو كان يعلم أنّ نيلك عاجل ... ما فاض منه جدول في جدول
فأمر له بخمسة آلاف.
ووقف رجل من الشعراء إلى عبد الله بن طاهر فأنشده:
إذا قيل: أيّ فتى تعلمون ... أهشّ إلى البأس والنائل
وأضرب للهام يوم الوغى ... وأطعم في الزمن الماحل؟
أشار إليك جميع الأنام ... إشارة غرقى إلى ساحل
فأمر له بخمسة آلاف درهم.
أحمد بن مطير قال: أنشدت عبد الله بن طاهر أبياتا كنت مدحت بها بعض الولاة، وهي:
له يوم بؤس فيه للناس أبؤس ... ويوم نعيم فيه للناس أنعم
فيقطر يوم الجود من كفّه النّدى ... ويقطر يوم البؤس من كفّه الدّم
فلو أنّ يوم البؤس لم يثن كفّه ... على الناس لم يصبح على الأرض مجرم
ولو أنّ يوم الجود فرّغ كفّه ... لبذل النّدى ما كان بالأرض معدم(1/266)
فقال لي عبد الله: كم أعطاك؟ قلت: خمسة آلاف. قال: فقبلتها؟ قلت: نعم. قال لي: أخطأت؛ ما ثمن هذه إلا مائة ألف.
أبو جعفر وحماد عجرد
: ودخل حماد عجرد على أبي جعفر بعد موت أبي العبّاس أخيه فأنشده:
أبوك بعد أبي العبّاس إذ بانا ... يا أكرم الناس أعراقا وعيدانا
لو مجّ عود على قوم عصارته ... لمجّ عودك فينا المسك والبانا «1»
فأمر له بخمسة آلاف درهم.
سعيد بن خالد وموسى شهوات
: القحذمي قال: جاء موسى شهوات إلى سعيد بن خالد بن عمرو بن عثمان، فقال:
إن هنا جارية تعشّقتها، وأبوا أن ينقصوني عن مائتي دينار. فقال: بورك فيه فذهب إلى سعيد بن خالد بن أسيد، وأمّه عائشة بنت طلحة الطلحات فدعا بمطرف «2» خزّ فبسطه وعقد في كل ركن من أركانه مائة دينار، وقال لموسى. خذ المطرف بما فيه. فأخذه، ثم غدا عليه فأنشده:
أبا خالد أعني سعيد بن خالد ... أخا العرف، لا أعني ابن بنت سعيد
ولكنّني أعني ابن عائشة الذي ... أبو أبويه خالد بن أسيد
عميد النّدى ما عاش يرضى به النّدى ... فإن مات لم يرض النّدى بعميد
دعوه دعوه إنّكم قد رقدتم ... وما هو عن أحسابكم برقود
للزبيري في آل مروان
: العتبي قال: سمعت عمي ينشد لأبي العباس الزبيرى:
وكلّ خليفة ووليّ عهد ... لكم يا آل مروان الفداء
إمارتكم شفاء حيث كانت ... وبعض امارة الأقوام ذاء(1/267)
فأنتم تحسنون إذا ملكتم ... وبعض القوم إن ملكوا أساءوا
أأجعلكم وغيركم سواء ... وبينكم وبينهم الهواء
هم أرض لأرجلكم وأنتم ... لأيديهم وأرجلهم سماء
فقلت له: كم أعطى عليها؟ قال: عشرين ألفا.
أبو مسلم ورؤبة
: الأصمعي قال: حدثني رؤبة قال: دخلت على أبي مسلم صاحب الدعوة، فلما أبصرني نادى: يا رؤبة. فأجبته:
لبّيك إذ دعوتني لبّيكا ... أحمد ربّا ساقني إليكا
الحمد والنّعمة في يديكا
قال: بل في يدي الله تعالى. قلت له: وأنت إذا أنعمت أجدت. ثم قلت: يأذن لي أمير المؤمنين في الإنشاد؟ قال: نعم؛ فأنشدته:
ما زال يأتي الملك في أقطاره ... وعن يمينه وعن يساره
مشمّرا لا يصطلي بناره ... حتى أقرّ الملك في قراره
فقال: يا رؤبة، إنك أتيتنا وقد شفّ المال واستنفده الإنفاق، وقد أمرنا لك بجائزة، وهي تافهة يسيرة، ومنك العود وعلينا المعوّل، والدهر أطرق مستتبّ «1» ، فلا تجعل بيننا وبينك الأسدّة «2» . قال رؤبة: فقلت: الذي أفادني الأمير من كلامه أكثر من الذي أفادني من ماله.
ودخل نصيب بن رباح على هشام فأنشده:
إذا استبق الناس العلا سبقتهم ... يمينك عفوا ثمّ صلّت شمالكا
فقال هشام: بلغت غاية المدح فسلني. فقال: يا أمير المؤمنين، يداك بالعطيّة أطلق(1/268)
من لساني بالمسألة. قال: لا بد أن تفعل. قال: لي ابنة نفضت عليها من سوادي فكسّدها، فلو أنفقها أمير المؤمنين بشيء يجعله لها. قال: فأقطعها أرضا، وأمر لها بحلي وكسوة. فنفقت السوداء.
عبد الله بن جعفر ونصيب
: الرياشي عن الأصمعي قال: مدح نصيب بن رباح عبد الله بن جعفر فأمر له بمال كثير وكسوة شريفة ورواحل موقرة «1» برّا وتمرا؛ فقيل له: أتفعل هذا بمثل هذا العبد الأسود؟ قال: أما لئن كان عبدا إن شعره فيّ لحرّ؛ ولئن كان أسود إنّ ثناءه لأبيض، وإنما أخذ مالا يفنى وثيابا تبلى ورواحل تنضى «2» ، وأعطى مديحا يروى وثناء يبقى.
هشام وأبو النجم
: وذكروا عن أبي النجم العجلي أنه أنشد هشاما شعره الذي يقول فيه:
الحمد لله الوهوب المجزل
وهو من أجود شعره، حتى انتهى إلى قوله:
والشمس في الجوّ كعين الأحول
وكان هشام أحول، فأغضبه ذلك، فأمر به فطرد. فأمّل أبو النجم رجعته، فكان يأوي إلى المسجد، فأرق هشام ذات ليلة فقال لحاجبه: أبغني رجلا عربيا فصيحا يحدّثني وينشدني. فطلب له ما سأل، فوجد أبا النجم، فأتى به، فلما دخل عليه قال:
أين تكون منذ أقصيناك؟ قال: حيث ألفاني رسولك. قال: فمن كان أبا النجم مثواك؟ قال: رجلين، أتغدّى عند أحد هما وأتعشّى عند الآخر. قال: فما لك من الولد؟ قال: ابنتان، قال أزوجتهما؟ قال: زوّجت إحدا هما. قال: فبم أوصيتها ليلة أهديتها؟ قال: قلت لها:(1/269)
سبّي الحماة وابهتي عليها ... وأن أبت فازدلفي إليها «1»
ثم اقرعي بالعود مرفقيها ... وجدّدي الخلف به عليها
لا تخبري الدهر بذاك ابنيها
فقال: فهل أوصيتها بعد هذا؟ قال: نعم.
أوصيت من برّة قلبا برّا ... بالكلب خيرا والحماة شرّا
لا تسأمي خنقا لها وجرّا ... والحيّ عمّيهم بشرّ طرّا
وإن كسوك ذهبا ودرّا ... حتى يروا حلو الحياة مرّا
قال هشام: ما هكذا أوصى يعقوب ولده. قال أبو النجم: ولا أنا كيعقوب، ولا ولدي كولده. قال: فما حال الأخرى؟ قال هي ظلامة التي أقول فيها:
كأنّ ظلامة أخت شيبان ... يتيمة ووالداها حيّان
الرّأس قمل كلّه وصئبان ... وليس في الرجلين إلّا خيطان
فهي التي يذعر منها الشّيطان
قال هشام لحاجبه: ما فعلت بالدنانير التي أمرتك بقبضها؟ قال: هي عندي، وهي خمسمائة دينار. قال له: ادفعها لأبي النّجم ليجعلها في رجلي ظلامة مكان الخيطين.
مروان بن محمد وطريح وذو الرمة
: أبو عبيدة قال: حدّثني يونس بن حبيب قال: لما استخلف مروان بن محمد دخل عليه الشعراء يهنئونه بالخلافة، فتقدّم إليه طريح بن إسماعيل الثقفي، خال الوليد بن يزيد، فقال: الحمد لله الذي أنعم بك على الإسلام إماما، وجعلك لأحكام دينه قواما، ولأمة محمد المصطفى جنّة «2» ونظاما. ثم أنشده شعره الذي يقول فيه:
تسوء عداك في سداد ونعمة ... خلافتنا تسعين عاما وأشهرا(1/270)
فقال مروان: كم الأشهر؟ قال: وفاء المائة يا أمير المؤمنين، تبلغ فيها أعلى درجة وأسعد عاقبة في النصرة والتمكين. فأمر له بمائة ألف درهم.
ثم تقدّم إليه ذو الرّمة متحانيا كبرة، قد انحلّت عمامته منحدرة عن وجهه، فوقف يسوّيها، فقيل له: تقدّم. قال: إني أجلّ أمير المؤمنين أن أخطب بشرفه مادحا بلوثة عمامتي. فقال مروان: ما أملت أنه أبقت لنا منك ميّ ولا صيدح»
في كلامك إمتاعا. قال: بلى والله يا أمير المؤمنين؛ أرد منه قراحا، والأحسن امتداحا، ثم تقدّم فأنشد شعرا يقول فيه:
فقلت لها سيري، أمامك سيّد ... تفرّع من مروان أو من محمّد
فقال له: ما فعلت مي؟ فقال:
طويت غدائرها ببرد بلى ... ومحا التّراب محاسن الخدّ
فالتفت مروان إلى العباس بن الوليد، فقال: أما ترى القوافي تنثال انثيالا؟ يعطى بكل من سمّى من آبائي ألف دينار. قال ذو الرمة: لو علمت لبلغت به عبد شمس.
المنصور وابن هرمة
: الربيع حاجب المنصور قال: قلت يوما للمنصور: إن الشعراء ببابك وهم كثيرون، طالت أيامهم ونفدت نفقاتهم. فقال: اخرج إليهم فاقرأ عليهم السلام، وقل لهم من مدحني منكم فلا يصفني بالأسد، فإنما هو كلب من الكلاب؛ ولا بالحيّة، فإنما هي دويّبة منتنة تأكل التراب؛ ولا بالجبل، فإنما هو حجر أصم؛ ولا بالبحر، فإنما هو غطامط لجب «2» ؛ ومن ليس في شعره هذا فليدخل؛ ومن كان في شعره فلينصرف. فانصرفوا كلهم إلا إبراهيم بن هرمة، فإنه قال له. أنا له يا ربيع، فأدخلني. فأدخله، فلما مثل بين يديه، قال المنصور: يا ربيع، قد علمت أنه لا(1/271)
يجيبك أحد غيره؛ هات يا بن هرمة. فأنشده قصيدته التي يقول فيها:
له لحظات عن حفافي سريره ... إذا كرّها فيها عذاب ونائل
لهم طينة بيضاء من آل هاشم ... إذا اسودّ من كوم التراب القبائل
إذا ما أبى شيئا مضى كالذي أبى ... وإن قال إنّي فاعل فهو فاعل
فقال: حسبك! ها هنا بلغت، هذا عين الشعر، قد أمرت لك بخمسة آلاف درهم. فقمت إليه وقبلت رأسه وأطرافه ثم خرجت، فلما كدت أن أخفى على عينيه سمعته يقول: يا إبراهيم! فأقبلت إليه فزعا، فقلت: لبيك فداك أبي وأمي. قال:
احتفظ بها فليس لك عندنا غيرها! فقلت: بأبي وأمي أنت، أحفظها حتى أوافيك بها على الصراط بخاتم الجهبذ «1» .
جعفر وابن الجهم
: علي بن الحسين قال؛ أنشد عليّ بن الجهم جعفرا المتوكل شعره الذي أوله:
هي النفس ما حمّلتها تتحمّل
وكان في يد المتوكل جوهرتان، فأعطاه التي في يمينه؛ فأطرق متفكّرا في شيء يقوله ليأخذ التي في يساره، فقال: مالك مفكرا؟ إنما تفكر فيما تأخذ به الأخرى! خذها لا بورك لك فيها! فأنشأ يقول:
بسرّ من را إمام عدل ... تعرف من بحره البحار
يرجى ويخشى لكلّ أمر ... كأنّه جنّة ونار
الملك فيه وفي بنيه ... ما اختلف الليل والنهار
يداه في الجود ضرّتان ... عليه كلتاهما تغار
لم تأت منه اليمين شيئا ... إلا أتت مثله اليسار
وقال آخر في الهول:(1/272)
إذا سألت النّدى عن كلّ مكرمة ... لم تلف نسبتها إلّا إلى الهول
لو زاحم الشمس ألفى الشمس مظلمة ... لو زاحم الصّمّ ألجاها إلى الميل «1»
أمضى من الدهر إن نابته نائبة ... وعند أعدائه أمضى من السّيل
ودخل شاعر من أهل الريّ. يقال له أبو يزيد، على عبد الله بن طاهر صاحب خراسان، فأنشده:
اشرب هنيئا عليك التاج مرتفقا ... من شادمهر ودع غمدان لليمن «2»
فأنت أولى بتاج الملك تلبسه ... من هوذة بن عليّ وابن ذي يزن
فأمر له بعشرة آلاف درهم.
ودخلت ليلى الأخيليّة على الحجّاج فأنشدته:
إذا ورد الحجّاج أرضا مريضة ... تتّبع أقصى دائها فشفاها
شفاها من الداء العضال الذي بها ... غلام إذا هزّ القناة سقاها «3»
فقال لها: لا تقولي غلام، ولكن قولي: همام. ثم قال: أي النساء أحبّ إليك أنزلك عندها؟ قالت: ومن نساؤك أيها الأمير؟ قال: أم الجلاس بنت سعيد بن العاص الأموية، وهند بنت أسماء بن خارجة الفزارية، وهند بنت المهلب بن أبي صفرة العتكيّة. قالت: القيسية أحبّ إليّ. فلما كان من الغد دخلت عليه. قال: يا غلام، أعطها خمسمائة. قالت: أيها الأمير، أحسبها أدما «4» . قال قائل: إنما أمر لك بشاء. قالت: الأمير أكرم من ذلك. فجعلها إبلا على استحياء، وإنما كان أمر لها بشاء أوّلا.(1/273)
كتاب الجمانة في الوفود
فرش الكتاب الوفود
قال الفقيه أبو عمر أحمد بن محمد بن عبد ربّه:
قد مضى قولنا في الأجواد والأصفاد «1» على مراتبهم ومنازلهم، وما جروا عليه، وما ندبوا إليه من الأخلاق الجميلة، والأفعال الجزيلة. ونحن قائلون بعون الله وتوفيقه في الوفود الذين وفدوا على النبي صلّى الله عليه وسلّم، وعلى الخلفاء والملوك؛ فإنها مقامات فضل، ومشاهد حفل؛ يتخيّر لها الكلام، وتستهذب الألفاظ، وتستجزل المعاني. ولا بد للوافد عن قومه أن يكون عميدهم وزعيمهم الذي عن قوّته ينزعون «2» ، وعن رأيه يصدرون؛ فهو واحد يعدل قبيلة، ولسان يعرب عن ألسنة، وما ظنّك بوافد قوم يتكلّم بين يدي النبي صلّى الله عليه وسلّم أو خليفته، أو بين يدي ملك جبار في رغبة أو رهبة، فهو يوطد لقومه مرّة ويتحفّظ من أمامه أخرى. أتراه مدّخرا نتيجة من نتائج الحكمة، أو مستبقيا غريبة من غرائب الفطنة؛ أم تظن القوم قدّموه لفضل هذه الخطة إلا وهو عندهم في غاية الحذلقة «3» والّلسن، ومجمع الشعر والخطابة. ألا ترى أنّ قيس بن عاصم المنقريّ لمّا وفد على النبي صلّى الله عليه وسلّم بسط له رداءه وقال: هذا سيد الوبر. ولما توفي قيس بن عاصم قال فيه الشاعر «4» :
عليك سلام الله قيس بن عاصم ... ورحمته ما شاء أن يترحّما(1/274)
تحيّة من ألبسته منك نعمة ... إذا زار عن شحط بلادك سلّما «1»
وما كان قيس هلكه هلك واحد ... ولكنه بنيان قوم تهدّما
وفود العرب على كسرى
ابن الفطامي عن الكلبيّ قال: قدم النعمان بن المنذر على كسرى وعنده وفود الروم والهند والصين، فذكروا من ملوكهم وبلادهم. فافتخر النعمان بالعرب وفضّلهم على جميع الأمم، لا يستثنى فارس ولا غيرها، فقال كسرى وأخذته عزة الملك: يا نعمان، لقد فكرت في أمر العرب وغيرهم من الأمم، ونظرت في حال من يقدم عليّ من وفود الأمم، فوجدت الروم لها حظّ في اجتماع ألفتها، وعظم سلطانها، وكثرة مدائنها، ووثيق بنيانها: وأنّ لها دينا يبيّن حلالها وحرامها ويردّ سفيهها ويقيم جاهلها.
ورأيت الهند نحوا من ذلك في حكمتها وطبّها، مع كثرة أنهار بلادها وثمارها، وعجيب صناعاتها، وطيّب أشجارها، ودقيق حسابها، وكثرة عددها. وكذلك الصين في اجتماعها. وكثرة صناعات أيديها في آلة الحرب وصناعة الحديد، وفروسيّتها وهمتها، وأنّ لها ملكا يجمعها. والترك والخزر على ما بهم من سوء الحال في المعاش، وقلّة الريف والثمار والحصون، وما هو رأس عمارة الدنيا من المساكن والملابس، لهم ملوك تضمّ قواصيهم وتدبّر أمرهم. ولم أر للعرب شيئا من خصال الخير في أمر دين ولا دنيا، ولا حزم ولا قوة، مع أن مما يدل على مهانتها وذلّها وصغر همتها، ومحلّتهم التي هم بها مع الوحوش النافرة، والطير الحائرة، يقتلون أولادهم من الفاقة، ويأكل بعضهم بعضا من الحاجة، قد خرجوا من مطاعم الدنيا وملابسها، ومشاربها ولهوها ولذّاتها، فأفضل طعام ظفر به ناعمهم لحوم الإبل التي يعافها كثير من السباع لثقلها وسوء طعمها وخوف دائها، وإن قرى أحدهم ضيفا عدّها مكرمة، وإن أطعم أكلة عدّها غنيمة؛ تنطق بذلك أشعارهم، وتفتخر بذلك رجالهم، ما خلا هذه التّنوخيّة التي(1/275)
أسس جدّي اجتماعها، وشدّ مملكتها، ومنعها من عدوّها؛ فجرى لها ذلك إلى يومنا هذا، وإنّ لها مع ذلك آثارا ولبوسا، وقرى وحصونا، وأمورا تشبه بعض أمور الناس- يعني اليمن- ثم لا أراكم تستكينون على ما بكم من الذلّة والقلّة والفاقة والبؤس، حتى تفتخروا وتريدوا أن تنزلوا فوق مراتب الناس.
قال النعمان: أصلح الله الملك، حقّ لأمة الملك منها أن يسمو فضلها، ويعظم خطبها، وتعلو درجتها. إلا أنّ عندي جوابا في كل ما نطق به الملك، في غير ردّ عليه، ولا تكذيب له، فإن أمّنني من غضبه نطقت به.
قال كسرى: قل فأنت آمن.
قال النعمان: أمّا أمتك أيها الملك فليست تنازع في الفضل، لموضعها الذي هي به من عقولها وأحلامها، وبسطة محلّها، وبحبوحة عزّها، وما أكرمها الله به من ولاية آبائك وولايتك. وأما الأمم التي ذكرت، فأيّ أمة تقرنها بالعرب إلا فضلتها.
قال كسرى: بماذا؟
قال النعمان: بعزّها ومنعتها وحسن وجوهها وبأسها وسخائها وحكمة ألسنتها وشدة عقولها وأنفتها ووفائها:
فأما عزّها ومنعتها؛ فإنها لم تزل مجاورة لآبائك الذين دوّخوا البلاد، ووطّدوا الملك، وقادوا الجند، لم يطمع فيهم طامع، ولم ينلهم نائل، حصونهم ظهور خيلهم، ومهادهم الأرض، وسقوفهم السماء، وجنّتهم «1» السيوف، وعدّتهم الصبر. إذ غيرها من الأمم إنما عزّها الحجارة والطين وجزائر البحور.
وأما حسن وجوهها وألوانها فقد يعرف فضلهم في ذلك على غيرهم من الهند، والصين المنحفة، والترك المشوّهة، والروم المقشّرة.(1/276)
وأما أنسابها وأحسابها، فليست أمة من الأمم إلا وقد جهلت آباءها وأصولها وكثيرا من أوّلها، حتى إنّ أحدهم ليسأل عمن وراء أبيه دنيا فلا ينسبه ولا يعرفه وليس أحد من العرب إلا يسمّي آباءه أبا فأبا، حاطوا بذلك أحسابهم، وحفظوا به أنسابهم، فلا يدخل رجل في غير قومه: ولا ينتسب إلى غير نسبه، ولا يدعى إلى غير أبيه.
وأما سخاؤها، فإنّ أدناهم رجلا الذي تكون عنده البكرة والناب عليها بلاغه «1» في حموله وشبعه وريّه، فيطرقه الطارق «2» الذي يكتفي بالفلذة «3» ويجتزيء بالشّربة فيعقرها له ويرضى أن يخرج عن دنياه كلها فيما يكسبه حسن الأحدوثة وطيب الذكر.
وأما حكمة ألسنتهم فإن الله تعالى أعطاهم في أشعارهم ورونق كلامهم وحسنه ووزنه وقوافيه، مع معرفهم بالأشياء، وضربهم للأمثال، وإبلاغهم في الصفات ما ليس لشيء من ألسنة الأجناس. ثم خيلهم أفضل الخيل، ونساؤهم أعفّ النساء، ولباسهم أفضل اللباس ومعادنهم الذهب والفضة، وحجارة جبالهم الجزع «4» ، ومطاياهم التي لا يبلغ على مثلها سفر، ولا يقطع بمثلها بلد قفر.
وأما دينها وشريعتها، فإنهم متمسّكون به، حتى يبلغ أحدهم من نسكه بدينه أن لهم أشهرا حرما، وبلدا محرما، وبيتا محجوجا ينسكون فيه مناسكهم، ويذبحون فيه ذبائحهم، فيلقى الرجل قاتل أبيه أو أخيه، وهو قادر على أخذ ثأره وإدراك رغبته منه، فيحجزه كرمه ويمنعه دينه عن تناوله بأذى.
وأما وفاؤها، فإنّ أحدهم يلحظ اللحظة ويوميء الإيماءة فهي ولث «5» وعقدة لا يحلّها إلا خروج نفسه، وإنّ أحدهم ليرفع عودا من الأرض فيكون رهنا بدينه فلا(1/277)
يغلق رهنه ولا تخفر ذمته، وإن أحدهم ليبلغه أن رجلا استجار به، وعسى أن يكون نائيا عن داره، فيصاب، فلا يرضى حتى يفنى تلك القبيلة التي أصابته أو تفنى قبيلته لما خفر من جواره؛ وإنه ليلجأ إليهم المجرم المحدث من غير معرفة ولا قرابة، فتكون أنفسهم دون نفسه، وأموالهم دون ماله.
وأما قولك أيها الملك: يئدون أولادهم، فإنما يفعله من يفعله منهم بالإناث أنفة من العار وغيرة من الأزواج.
أما قولك: إنّ أفضل طعامهم لحوم الإبل على ما وصفت منها، فما تركوا ما دونها إلا احتقارا له، فعمدوا إلى أجلّها وأفضلها، فكانت مراكبهم وطعامهم مع أنها أكثر البهائم شحوما، وأطيبها لحوما، وأرقّها ألبانا، وأقلها غائلة، وأحلاها مضغة، وإنه لا شيء من الّلحمان يعالج ما يعالج به لحمها إلا استبان فضلها عليه.
وأما تحاربهم وأكل بعضهم بعضا، وتركهم الانقياد لرجل يسوسهم ويجمعهم؛ فإنما يفعل ذلك من يفعله من الأمم إذا أنست من نفسها ضعفا وتخوّفت نهوض عدوها إليها بالزحف، وإنه إنما يكون في المملكة العظيمة أهل بيت واحد يعرف فضلهم على سائر غيرهم، فيلقون إليهم أمورهم، وينقادون لهم بأزمّتهم: وأما العرب فإن ذلك كثير فيهم، حتى لقد حاولوا أن يكونوا ملوكا أجمعين، مع أنفتهم من أداء الخراج والوطف «1» بالعسف.
وأما اليمن التي وصفها الملك فإنما أتى جدّ الملك وليّها الذي أتاه عند غلبة الحبش له على ملك متّسق؛ وأمر مجتمع؛ فأتاه مسلوبا طريدا مستصرخا، وقد تقاصر عن إيوائه، وصغر في عينه ما شيّد من بنائه. ولولا ما وتر «2» به من يليه من العرب لمال إلى مجال، ولوجد من يجيد الطعان ويغضب للأحرار من غلبة العبيد الأشرار.
قال: فعجب كسرى لما أجابه النعمان به؛ وقال: إنك لأهل لموضعك من الرياسة(1/278)
في أهل إقليمك ولما هو أفضل. ثم كساه من كسوته، وسرّحه إلى موضعه من الحيرة.
فلمّا قدم النعمان الحيرة وفي نفسه ما فيها مما سمع من كسرى من تنقص العرب وتهجين أمرهم، بعث إلى أكثم بن صيفيّ وحاجب بن زرارة التميميّين، وإلى الحارث ابن عباد وقيس بن مسعود البكريّين، وإلى خالد بن جعفر، وعلقمة بن معد يكرب الزّبيدي، والحرث بن ظالم المرّي؛ فلما قدموا عليه في الخورنق، قال لهم: قد عرفتم هذه الأعاجم وقرب جوار العرب منها، وقد سمعت من كسرى مقالات تخوّفت أن يكون لها غور، وأن يكون إنما أظهرها لأمر أراد أن يتخذ به العرب خولا «1» كبعض طماطمته «2» في تأديتهم الخراج إليه، كما يفعل بملوك الأمم الذين حوله.
فاقتصّ عليهم مقالات كسرى وما ردّ عليه؛ فقالوا: أيها الملك، وفّقك الله، ما أحسن ما رددت، وأبلغ ما حججته به؛ فمرنا بأمرك، وادعنا إلى ما شئت.
قال: إنما أنا رجل منكم، وإنما ملكت وعززت بمكانكم وما يتخوّف من ناحيتكم، وليس شيء أحبّ إليّ مما سدّد الله به أمركم، وأصلح به شأنكم، وأدام به عزّكم؛ والرأي أن تسيروا بجماعتكم أيها الرهط وتنطلقوا إلى كسرى، فإذا دخلتم نطق كل رجل منكم بما حضره، ليعلم أنّ العرب الرهط وتنطلقوا إلى كسرى، فإذا دخلتم نطق كل رجل منكم بما حضره، ليعلم أنّ العرب على غير ما ظن أو حدّثته نفسه؛ ولا ينطق رجل منكم بما يغضبه، فإنه ملك عظيم السلطان، كثير الأعوان مترف معجب بنفسه، ولا تنخزلوا «3» له انخزال الخاضع الذليل، وليكن أمر بين ذلك، تظهر به وثاقة حلومكم، وفضل منزلتكم، وعظمة أخطاركم؛ وليكن أول من يبدأ منكم بالكلام أكثم بن صيفي، لسنيّ حاله، ثم تتابعوا على الأمر من منازلكم التي وضعتكم بها؛ فإنما دعاني إلى التّقدمة بينكم علمي بميل كل رجل منكم على التقدم قبل صاحبه؛ فلا يكوننّ ذلك منكم فيجد في آدابكم مطعنا؛ فإنه ملك مترف، وقادر مسلّط.(1/279)
ثم دعا لهم بما في خزائنه من طرائق حلل الملوك، كل رجل منهم حلّة، وعمّمه عمامة، وختّمه بياقوتة؛ وأمر لكل رجل منهم بنجيبة مهرية وفرس نجيبة، وكتب معهم كتابا:
أما بعد، فإن الملك ألقى إليّ من أمر العرب ما قد علم، وأجبته بما قد فهم بما أحببت أن يكون منه على علم، ولا يتلجلج في نفسه أن أمة من الأمم التي احتجزت دونه بمملكتها، وحمت ما يليها بفضل قوّتها، تبلغها في شيء من الأمور التي يتعزّز بها ذو والحزم والقوة والتدبير والمكيدة. وقد أوفدت أيها الملك رهطا من العرب؛ لهم فضل في أحسابهم وأنسابهم وعقولهم وآدابهم؛ فليسمع الملك، وليغمض عن جفاء إن ظهر من منطقهم، وليكرمني بإكرامهم وتعجيل سراحهم، وقد نسبتهم في أسفل كتابي هذا إلى عشائرهم.
فخرج القوم في أهبهتم حتى وقفوا بباب كسرى بالمدائن، فدفعوا إليه كتاب النعمان، فقرأه وأمر بإنزالهم إلى أن يجلس لهم مجلسا يسمع منهم. فلما أن كان بعد ذلك بأيام، أمر مرازبته «1» ووجوه أهل مملكته، فحضروا وجلسوا على كراسيّ عن يمينه وشماله؛ ثم دعا بهم على الولاء والمراتب التي وضعهم النعمان بها في كتابه؛ وأقام التّرجمان ليؤدي إليه كلامهم، ثم أذن لهم في الكلام.
فقام أكثم بن صيفيّ فقال: إن أفضل الأشياء أعاليها، وأعلى الرجال ملوكها، وأفضل الملوك أعمّها نفعا، وخير الأزمنة أخصبها، وأفضل الخطباء أصدقها.
الصدق منجاة، والكذب مهواة، والشرّ لجاجة «2» ، والحزم مركب صعب، والعجز مركب وطيء. آفة الرأي الهوى، والعجز مفتاح الفقر، وخير الأمور الصبر. حسن الظن ورطة، وسوء الظن عصمة. إصلاح فساد الرعية خير من إصلاح فساد الراعي.
من فسدت بطانته كان كالغاصّ بالماء. شر البلاد بلاد لا أمير بها. شر الملوك من(1/280)
خافه البريء. المرء يعجز لا المحالة. أفضل الأولاد البررة. وخير الأعوان من لم يراء «1» بالنصيحة. أحقّ الجنود بالنصر من حسنت سريرته. يكفيك من الزاد ما بلّغك المحلّ. حسبك من شرّ سماعة. الصمت حكم وقليل فاعله. البلاغة الإيجاز. من شّدد نفر، ومن تراخى تألف.
فتعجب كسرى من أكثم، ثم قال: ويحك يا أكثم! ما أحكمك وأوثق كلامك لولا وضعك كلامك في غير موضعه.
قال أكثم: الصدق ينبيء عنك لا الوعيد.
قال كسرى: لو لم يكن للعرب غيرك لكفى.
قال أكثم: ربّ قول أنفذ من صول.
ثم قام حاجب بن زرارة التميمي، فقال ورى زندك، وعلت يدك، وهيب سلطانك. إن العرب أمة قد غلظت أكبادها، واستحصدت مرّتها «2» ، ومنعت درّتها «3» ؛ وهي لك وامقة «4» ما تألفتها، مسترسلة ما لا ينتها، سامعة ما سامحتها، وهي العلقم مرارة، والصاب غضاضة، والعسل حلاوة، والماء الزلال سلاسة. نحن وفودها إليك، وألسنتها لديك؛ ذمّتنا محفوظة، وأحسابنا ممنوعة، وعشائرنا فينا سامعة مطيعة؛ إن نؤب لك حامدين خيرا فلك بذلك عموم محمدتنا، وإن نذم لم نخص بالذمّ دونها.
قال كسرى: يا حاجب، ما أشبه حجر التلال بألوان صخرها.
قال حاجب: بل زئير الأسد بصولتها.
قال كسرى: وذلك.(1/281)
ثم قام الحارث بن عباد البكري فقال: دامت لك المملكة باستكمال جزيل حظّها، وعلوّ ثنائها. من طال رشاؤه كثر متحه «1» ، ومن ذهب ماله قلّ منحه. تناقل الأقاويل يعرّف اللّب؛ وهذا مقام سيوجف «2» بما ينطق فيه الرّكّب، وتعرف به كنه حالنا العجم والعرب؛ ونحن جيرانك الأدنون، وأعوانك المعينون، خيولنا جمّة، وجيوشنا فخمة، إن استنجدتنا فغير ربض «3» ، وإن استطرقتنا فغير جهض»
، وإن طلبتنا فغير غمض، لا ننثني لذعر، ولا نتنكّر لدهر، رماحنا طوال، وأعمارنا قصار.
قال كسرى: أنفس عزيزة، وأمة والله ضعيفة.
قال الحارث: أيها الملك، وأنى يكون لضعيف عزّة، أو لصغير مرّة؟
قال كسرى: لو قصر عمرك لم تستول على لسانك نفسك.
قال الحارث: أيها الملك، إن الفارس إذا حمل نفسه على الكتيبة مغرّرا بنفسه على الموت، فهي منية استقبلها، وحياة استدبرها؛ والعرب تعلم أني أبعث الحرب قدما، وأحبسها وهي تصرّف بهم، حتى إذا جاشت نارها، وسعرت لظاها، وكشفت عن ساقها، جعلت مقادها رمحى، وبرقها سيفي، ورعدها زئيري، ولم أقصّر عن خوض خضاخضها «5» ، حتى أنغمس في غمرات لججها، وأكون فلكا لفرساني إلى بحبوحة كبشها، فأستمطرها دما، وأترك حماتها جزر السباع وكلّ نسر قشعم «6» .
ثم قال كسرى لمن حضره من العرب: أكذلك هو؟(1/282)
قالوا: فعاله أنطق من لسانه.
قال كسرى: ما رأيت كاليوم وفدا أحشد، ولا شهودا أوفد.
ثم قام عمرو بن الشريد السّلمي فقال: أيها الملك نعم بالك، ودام في السرور حالك؛ إنّ عاقبة الكلام متدبّرة، وأشكال الأمور معتبرة، وفي كثير ثقلة، وفي قليل بلغة، وفي الملوك سورة العزّ «1» ، وهذا منطق له ما بعده، شرف فيه من شرف، وخمل فيه من خمل، لم نأت لضيمك، ولم نفد لسخطك، ولم نتعرّض لرفدك. إنّ في أموالنا مرتقدا، وعلى عزنا معتمدا؛ إن أورينا نارا أثقبنا، وإن أود «2» دهر بنا اعتدلنا، إلا أنّا مع هذا لجوارك حافظون، ولمن رامك مكافحون، حتى يحمد الصّدر، ويستطاب الخبر.
قال كسرى: ما يقوم قصد منطقك بإفراطك، ولا مدحك بذمّك.
قال عمرو: كفى بقليل قصدي هاديا، وبأيسر إفراطي مخبرا، ولم يلم من عزفت «3» نفسه عما يعلم، ورضي من القصد بما بلغ.
قال كسرى: ما كل ما يعرف المرء ينطق به. اجلس.
ثم قام خالد بن جعفر الكلابيّ فقال: أحضر الله الملك إسعادا، وأرشده إرشادا؛ إنّ لكل منطق فرصة، ولكل حاجة غصة، وعيّ المنطق أشدّ من عيّ السكوت، وعثار القول أنكى من عثار الوعث «4» ، وما فرصة المنطق عندنا إلا بما نهوى، وغصة المنطق بما لا نهوى غير مستساغة، وتركي ما أعلم من نفسي ويعلم من سمعني أنني له مطيق أحبّ إليّ من تكلّفي ما أتخوّف ويتخوفّ مني. وقد أوفدنا إليك ملكنا النعمان، وهو لك من خير الأعوان، ونعم حامل المعروف والإحسان. أنفسنا بالطاعة لك باخعة «5» ، ورقابنا بالنصيحة خاضعة، وأيدينا لك بالوفاء رهينة.(1/283)
قال له كسرى: نطقت بعقل، وسموت بفضل، وعلوت بنبل.
ثم قام علقمة بن علاثة العامريّ فقال: أنهحت لك سبل الرشاد، وخضعت لك رقاب العباد: إن للأقاويل مناهج، وللآراء موالج، وللعويص مخارج؛ وخير القول أصدقه، وأفضل الطلب أنجحه. إنّا وإن كانت المحبّة أحضرتنا، والوفادة قرّبنا، فليس من حضرك منا بأفضل ممن عزب «1» عنك، بل لو قست كلّ رجل منهم وعلمت منهم ما علمنا، لوجدت له في آبائه دنيا أندادا وأكفاء، كلهم إلى الفضل منسوب، وبالشرف والسودد موصوف، وبالرأي الفاضل والأدب النافذ معروف، يحمى حماه، ويروى نداماه، ويذود أعداه؛ لا تخمد ناره، ولا يحترز منه جاره. أيها الملك، من يبل العرب يعرف فضلهم؛ فاصطنع العرب، فإنها الجبال الرواسي عزّا، والبحور الزواخر طميّا «2» ، والنجوم الزواهر شرفا، والحصى عددا؛ فإن تعرف لهم فضلهم يعزوّك، وإن تستصرخهم لا يخذلوك.
قال كسرى- وخشي أن يأتي منه كلام يحمله على السخط عليه: حسبك، أبلغت وأحسنت.
ثم قام قيس بن الشّيباني فقال: أطاب الله بك المراشد، وجنّبك المصائب، ووقاك مكروه الشّصائب «3» ؛ ما أحقّنا إذ أتيناك بإسماعك ما لا يحنق صدرك، ولا يزرع لنا حقدا في قلبك؛ لم نقدم أيها الملك لمساماة، ولم ننتسب لمعاداة، ولكن لتعلم أنت ورعيتك ومن حضرك من وفود الأمم أنّا في المنطق غير محجمين، وفي اليأس غير مقصرين؛ إن جورينا فغير مسبوقين، وإن سومينا فغير مغلوبين.
قال كسرى: غير أنكم إذا عاهدتم غير وافين. وهو يعرّض به في تركه الوفاء بضمانه السّواد «4» .(1/284)
قال قيس: أيا الملك، ما كنت في ذلك إلا كواف غدر به، أو كخافر «1» أخفر بذمته.
قال كسرى: ما يكون لضعيف ضمان، ولا لذليل خفارة.
قال قيس: أيها الملك، ما أنا فيما خفر من ذمتي، أحقّ بإلزامي العار منك فيما قتل من رعيتك، وانتهك من حرمتك.
قال كسرى: ذلك، لأن من ائتمن الخانة، واستنجد الأثمة، ناله من الخطأ ما نالني، وليس كلّ الناس سواء؛ كيف رأيت حاجب بن زرارة لم يحكم قواه فيبرم، ويعهد فيوفى، ويعد فينجز؟
قال: وما أحقّه بذلك وما رأيته إلا لي.
قال كسرى: القوم يزل فأفضلها أشدّها.
ثم قام عامر بن الطّفيل العامريّ فقال: كثر فنون المنطق، وليس القول أعمى من حندس «2» الظّلماء، وإنما الفخر في الفعال، والعزّ في النجدة؛ والسّودد مطاوعة القدرة. وما أعلمك بقدرنا، وأبصرك بفضلنا؛ وبالحري «3» إن أدالت الأيام، وثابت الأحلام، أن تحدث لنا أمورا لها أعلام.
قال كسرى: وما تلك الأعلام؟
قال: مجتمع الأحياء من ربيعة ومضر، على أمر يذكر.
قال كسرى: وما الأمر الذي يذكر؟
قال: مالي علم بأكثر مما خبّرني به مخبر.(1/285)
قال كسرى: متى تكاهنت يا بن الطّفيل؟
قال: لست بكاهن، ولكني بالرمح طاعن.
قال كسرى: فإن أتاك آت من جهة عينك العوراء ما أنت صانع؟
قال: ما هيبتي في قفاي بدون هيبتي في وجهي، وما أذهب عيني عيث «1» ولكن مطاوعة العيث.
ثم قام عمرو بن معد يكرب الزّبيدي فقال: إنما المرء بأصغريه: قلبه ولسانه فبلاغ المنطق الصواب، وملاك النّجعة الارتياد، وغفو الرأي خير من استكراه الفكرة، وتوقّف الخبرة خير من اعتساف الحيرة، فاجتبذ «2» طاعتنا بلفظك، واكتظم «3» بادرتنا بحلمك، وألن لنا كنفك «4» يسلس لك قيادنا، فإنّا أناس لم يوقس «5» صفاتنا قراع مناقير من أراد لنا قضما، ولكن منعنا حمانا من كل من رام لنا هضما.
ثم قام الحارث بن ظالم المرّي فقال: إنّ من آفة المنطق الكذب، ومن لؤم الأخلاق الملق «6» ، ومن خطل الرأي خفة الملك المسلّط، فإن أعلمناك أن مواجهتنا لك عن ائتلاف، وانقيادنا لك عن تصاف، ما أنت لقبول ذلك منا بخليق، ولا للاعتماد عليه بحقيق، ولكن الوفاء بالعهود، وإحكام ولث العقود، والأمر بيننا وبينك معتدل، ما لم يأت من قبلك ميل أو زلل.
قال كسرى: من أنت؟
قال: الحارث بن ظالم.
قال: إن في أسماء آبائك لدليلا على قلة وفائك، وأن تكون أولى بالغدر، وأقرب من الوزر.(1/286)
قال الحارث: إنّ في الحق مغضبة، والسّرو التغافل «1»
، ولن يستوجب أحد الحلم إلا مع القدرة، فلتشبه أفعالك مجلسك.
قال كسرى: هذا فتى القوم.
ثم قال كسرى: قد فهمت ما نطقت به خطباؤكم، وتفنّن فيه متكلّموكم ولولا أني أعلم أن الأدب لم يثقّف أودكم، ولم يحكم أمركم، وأنه ليس لكم ملك يجمعكم فتنطقون عنده منطق الرعية الخاضعة الباخعة، فنطقتم بما استولى على ألسنتكم، وغلب على طباعكم، لم أجز لكم كثيرا مما تكلمتم به. وإني لأكره أن أجبّه «2»
وفودي أو أحنق صدورهم، والذي أحبّ هو إصلاح مدبركم، وتألف شواذّكم، والإعذار إلى الله فيما بيني وبينكم؛ وقد قبلت ما كان في منطقكم من صواب. وصفحت عما كان فيه من خلل؛ فانصرفوا إلى ملككم فأحسنوا مؤازرته والتزموا طاعته، واردعوا سفهاءكم وأقيموا أودهم، وأحسنوا أدبهم، فإن في ذلك صلاح العامّة.
وفود حاجب بن زرارة على كسرى
العتبي عن أبيه: أن حاجب بن زرارة وفد على كسرى لما منع تميما من ريف العراق، فاستأذن عليه، فأوصل إليه فقال: أسيّد العرب أنت؟ قال: لا. قال: فسيّد مضر؟ قال: لا. قال: فسيّد بني أبيك أنت؟ قال: لا. ثم أذن له فدخل عليه. قال:
من أنت؟ قال: سيد العرب! قال: أليس قد أوصلت إليك: أسيّد العرب أنت؟
فقلت: لا، حتى اقتصرت بك على بني أبيك، فقلت: لا؟ قال له: أيها الملك، لم أكن كذلك حتى دخلت عليك، فلما دخلت عليك صرت سيد العرب. قال كسرى:
زه «3»
! املئوا فاه درّا. ثم قال: إنكم معشر العرب غدر، فإن أذنت لكم أفسدتم البلاد، وأغرتم على العباد، وأذيتموني. قال حاجب: فإني ضامن للملك ألّا يفعلوا.(1/287)
قال: فمن لي بأن تفي أنت؟ قال: أرهنك قوسي. فلما جاء بها ضحك من حوله وقالوا: لهذه العصا يفي! قال كسرى: ما كان ليسلمها لشيء أبدا. فقبصها منه، وأذن لهم أن يدخلوا الريف.
ومات حاجب بن زرارة، فارتحل عطارد بن حاجب إلى كسرى يطلب قوس أبيه؛ فقال له: ما أنت الذي رهنتها! قال: أجل. قال: فما فعل؟ قال. هلك، وهو أبي، وقد وفى له قومه ووفى هو للملك. فردّها عليه وكساه حلة.
فلما وفد إلى النبي صلّى الله عليه وسلّم عطارد بن حاجب، وهو رئيس تميم، وأسلم على يديه، أهداها للنبي صلّى الله عليه وسلّم، فلم يقبلها؛ فباعها من رجل من اليهود بأربعة آلاف درهم.
ثم إن مضر أتت النبي صلّى الله عليه وسلّم فقالوا: يا رسول الله، هلك قومك وأكلتهم الضّبع.
يريدون الجوع- والعرب يسمّون السّنة الضّبع والذئب. قال جرير:
من ساقه السنة الحصّاء والذّيب «1»
فدعا لهم النبي صلّى الله عليه وسلّم فأحيوا، وقد كان دعا عليهم فقال: اللهم اشدد وطأتك على مضر، وابعث عليهم سنين كسني يوسف.
وفود أبي سفيان إلى كسرى
الأصمعي قال: حدثنا عبد الله بن دينار عن عبد الله بن بكر المرّي، قال: قال أبو سفيان: أهديت لكسرى خيلا وأدما، فقبل الخيل وردّ الأدم، وأدخلت عليه فكأنّ وجهه وجهان من عظمه، فألقى إليّ مخدّة كانت عنده، فقلت: واجوعاه! أهذه حظّى من كسري بن هرمز؟ قال: فخرجت من عنده، فما أمرّ على أحد من حشمه إلا أعظمها، حتى دفعت إلى خازن له: فأخذها وأعطاني ثمانمائة إناء من فضة وذهب.
قال الأصمعي؛ فحدثت بهذا الحديث النّوشجان الفارسي، فقال: كانت وظيفة المخدّة ألفا، إلا أن الخازن اقتطع منها مائتين.(1/288)
وفود حسان بن ثابت على النعمان بن المنذر
قال: وفد حسان بن ثابت على النعمان بن المنذر، قال: فلقيت رجلا ببعض الطريق، فقال لي: أين تريد؟ قلت: هذا الملك. قال: فإنك إذا جئته متروك شهرا، ثم تترك شهرا آخر، ثم عسى أن يأذن لك؛ فإن أنت خلوت به وأعجبته فأنت مصيب منه خيرا، وإن رأيت أبا أمامة النابغة فاظعن «1»
؛ فإنه لا شيء لك! قال:
فقدمت عليه، ففعل بي ما قال، ثم خلوت به وأصبت مالا كثيرا ونادمته فبينما أنا معه إذا رجل يرتجز حول القبة ويقول:
أنام أم يسمع ربّ القبّه ... يا أوهب الناس لعنس صلبه «2»
ضرّابة بالمشفر الأذبّه ... ذات هيات في يديها جذبه «3»
فقال النعمان: أبو أمامة، ائذنوا له فدخل فحيّاه وشرب معه، ووردت النّعم السود. ولم يكن لأحد من العرب بعير أسود غيره ولا يفتحل أحد فحلا أسود.
فاستأذنه النابغة في الإنشاد، فأذن له، فأنشده قصيدته التي يقول فيها:
فإنك شمس والملوك كواكب ... إذا طلعت لم يبد منهنّ كوكب
فأمر له بمائة ناقة من الإبل السّود برعاتها؛ فما حسدت أحدا قط حسدي له في شعره وجزيل عطائه.
وفود قريش على سيف بن ذي يزن بعد قتله الحبشة
نعيم بن حمّاد قال: أخبرنا عبد الله بن المبارك، عن سفيان الثّوري، قال: قال ابن عباس: لما ظفر سيف بن ذي يزن بالحبشة، وذلك بعد مولد النبي صلّى الله عليه وسلّم، أتته وفود العرب وأشرافها وشعراؤها تهنئه وتمدحه وتذكر ما كان من بلائه وطلبه بثأر قومه،(1/289)
فأتاه وفد قريش، فيهم: عبد المطلب بن هاشم، وأمية بن عبد شمس، وأسد بن عبد العزّى، وعبد الله بن جدعان، فقدموا عليه وهو في قصر له يقال له غمدان، وله يقول أبو الصلت، والد أمية ابن أبي الصلت:
لم يدرك الثأر أمثال ابن ذي يزن ... لجّج في البحر للأعداء أحوالا «1»
أتى هرقل وقد شالت نعامته ... فلم يجد عنده القول الذي قالا «2»
ثم انثنى نحو كسرى بعد تاسعة ... من السّنين لقد أبعدت إيغالا
حتى أتى ببني الأحرار يقدمهم ... إنك عمري لقد أسرعت إرقالا «3»
من مثل كسرى وبهرام الجنود له ... ومثل وهرز يوم الجيش إذ جالا
لله درهم من عصبة خرجوا ... ما إن رأينا لهم في الناس أمثالا
صيدا جحاجحة، بيضا خصارمة ... أسدا تربّب في الغابات أشبالا «4»
أرسلت أسدا على سود الكلاب فقد ... غادرت أوجههم في الأرض أفلالا»
اشرب هنيئا عليك التاج مرتفقا ... في رأس غمدان دارا منك محلالا
ثم اطل بالمسك إذ شالت نعامتهم ... وأسبل اليوم في برديك إسبالا «6»
تلك المكارم لا قعبان من لبن ... شيبا بماء فعادا بعد أبوالا «7»
فطلبوا الإذن عليه، فأذن لهم، فدخلوا، فوجدوه متضمّخا بالعنبر، يلمع وبيص المسك في مفرق رأسه، وعليه بردان أخضران قد ائتزر بأحدهما وارتدى بالآخر، وسيفه بين يديه، والملوك عن يمينه وشماله، وأبناء الملوك والمقاول.
فدنا عبد المطلب فاستأذنه في الكلام، فقال له: قل. فقال: إنّ الله تعالى أيها(1/290)
الملك أحلّك محلا رفيعا صعبا منيعا، باذخا «1»
شامخا؛ وأنبتك منبتا طابت أرومته، وعزّت جرثومته «2»
، ونبل أصله، وبسق فرعه، في أكرم معدن، وأطيب موطن؛ فأنت أبيت الّلعن رأس العرب، وربيعها الذي به تخصب، وملكها الذي به تنقاد، وعمودها الذي عليه العماد، ومعقلها الذي إليه يلجأ العباد، سلفك خير سلف، وأنت لنا بعدهم خير خلف، ولن يهلك من أنت خلفه، ولن يخمل من أنت سلفه. نحن أيها الملك أهل حرم الله وذمّته وسدنة «3»
بيته، أشخصنا إليك الذي أنهجك لكشف الكرب الذي فدحنا، فنحن وفد التهنئة لا وفود المرزئة.
قال: من أنت أيها المتكلم.
قال: أنا عبد المطلب بن هاشم.
قال: ابن أختنا؟ قال: نعم. فأدناه وقرّبه؛ ثم أقبل عليه وعلى القوم وقال: مرحبا وأهلا، وناقة ورحلا، ومستناخا سهلا، وملكا ربحلا «4»
، يعطي عطاء جزلا.
فذهبت مثلا.
وكان أول ما تكلم به قد سمع الملك مقالتكم، وعرف قرابتكم، وقبل وسيلتكم فأهل الشرف والنباهة أنتم، ولكم القربى ما أقمتم، والحباء إذا ظعنتم.
قال: ثم استنهضوا إلى دار الضيافة والوفود، وأجريت عليهم الأنزال. فأقاموا ببابه شهرا لا يصلون إليه ولا يأذن لهم في الانصراف. ثم انتبه إليهم انتباهة، فدعا بعبد المطلب من بينهم، فخلا به وأدنى مجلسه، وقال: يا عبد المطلب، إني مفوّض إليك من سرّ علمي أمرا غيرك كان لم أبح له به، ولكنّني رأيتك موضعه فأطلعتك عليه؛ فليكن مصونا حتى يأذن الله فيه؛ فإنّ الله بالغ أمره: إني أجد في العلم المخزون؛ والكتاب المكنون الذي ادخرناه لأنفسنا، واحتجبناه دون غيرنا، خبرا(1/291)
عظيما، وخطرا جسيما، فيه شرف الحياة، وفضيلة الوفاة، للناس كافة، ولرهطك عامة، ولنفسك خاصة.
قال عبد المطلب: مثلك أيها الملك من برّ وسرّ وبشّر، ما هو؟ فداك أهل الوبر، زمرا بعد زمر.
قال ابن ذي يزن: إذا ولد مولود بتهامة، بين كتفيه شامة، كانت له الإمامة، إلى يوم القيامة.
قال عبد المطلب: أبيت اللعن، لقد أبت بخير ما آب به أحد؛ فلولا إجلال الملك لسألته أن يزيدني في البشارة ما أزداد به سرورا.
قال ابن ذي يزن: هذا حينه الذي يولد فيه أو قد ولد، يموت أبوه وأمه، ويكفله جدّه وعمه؛ قد وجدناه مرارا، والله باعثه جهارا، وجاعل له منّا أنصارا، يعزّ بهم أولياءه، ويذلّ بهم أعداءه، ويفتتح كرائم الأرض، ويضرب بهم الناس عن عرض «1»
؛ يخمد النّيران، ويكسر الأوثان، ويعبد الرحمن، قوله حكم وفصل؛ وأمره حزم وعدل، يأمر بالمعروف ويفعله، وينهى عن المنكر ويبطله.
فقال عبد المطلب: طال عمرك، ودام ملكك، وعلا جدّك، وعز فخرك؛ فهل الملك يسرّني بأن يوضح فيه بعض الإيضاح؟
فقال ابن ذي يزن: والبيت ذي الطّنب، والعلامات والنّصب، إنك يا عبد المطلب، لجدّه من غير كذب. فخرّ عبد المطلب ساجدا.
قال ابن ذي يزن: ارفع رأسك؛ ثلج صدرك، وعلا أمرك؛ فهل أحسست شيئا مما ذكرت لك؟
قال عبد المطلب: أيها الملك، كان لي ابن كنت له محبا، وعليه حدبا مشفقا،(1/292)
فزوجته كريمة من كرائم قومه، يقال لها آمنة بنت وهب بن عبد مناف، فجاءت بغلام بين كتفيه شامة، فيه كلّ ما ذكرت من علامة؛ مات أبوه وأمه وكفلته أنا وعمّه.
قال ابن ذي يزن: إن الذي قلت لك كما قلت، فاحفظ ابنك واحذر عليه اليهود؛ فإنهم له أعداء، ولن يجعل الله لهم سبيلا، اطو ما ذكرت لك، دون هؤلاء الرهط الذين معك، فإني لست آمن أن تدخلهم النّفاسة، من أن تكون لكم الرّياسة، فيبغون له الغوائل، وينصبون له الحبائل، وهم فاعلون وأبناؤهم. ولولا أني أعلم أن الموت مجتاحي قبل مبعثه، لسرت بخيلي ورجلي حتى أصير بيثرب دار مهاجره؛ فإني أجد في الكتاب الناطق، والعلم السابق، أن يثرب دار هجرته، وبيت نصرته؛ ولولا أني أتوقّى عليه الآفات، وأحذر عليه العاهات، لأعلنت على حداثة سنّه أمره، وأوطأت أقدام العرب عقبه؛ ولكني صارف إليك ذلك عن غير تقصير مني بمن معك.
ثم أمر لكل رجل منهم بعشرة أعبد، وعشر إماء سود، وخمسة أرطال فضة، وحلّتين من حلل اليمن، وكرش «1»
مملوءة عنبرا، وأمر لعبد المطلب بعشرة أضعاف ذلك، وقال: إذا حال الحول فأنبئني بما يكون من أمره.
فما حال الحول حنى مات ابن ذي يزن، فكان عبد المطلب بن هشام يقول: يا معشر قريش، لا يغبطني رجل منكم بجزيل عطاء الملك فإنه إلى نفاد، ولكن يغبطني بما يبقى لي ذكره وفخره العقبي. فإذا قالوا له: وما ذاك؟ قال: سيظهر بعد حين.
وفود عبد المسيح على سطيح
جرير بن حازم عن عكرمة عن ابن عباس، قال: لما كان ليلة ولد النبي صلّى الله عليه وسلّم، ارتجّ إيوان كسرى، فسقطت منه أربع عشرة شرفة؛ فعظم ذلك على أهل مملكته،(1/293)
فما كان أوشك أن كتب إليه صاحب اليمن يخبره أن بحيرة ساوة غاضت تلك الليلة، وكتب إليه صاحب السّماوة يخبره أن وادي السماوة انقطع تلك الليلة، وكتب إليه صاحب طبريّة أن الماء لم يجر تلك الليلة في بحيرة طبرية؛ وكتب إليه صاحب فارس يخبره أن بيوت النيران خمدت تلك الليلة، ولم تخمد قبل ذلك بألف سنة.
فلما تواترت الكتب أبرز سريره وظهر لأهل مملكته، فأخبرهم الخبر؛ فقال الموبذان «1»
: أيها الملك، إني رأيت تلك الليلة رؤيا هالتني. قال له: وما رأيت؟ قال:
رأيت إبلا صعابا، تقود خيلا عرابا، قد اقتحمت دجلة، وانتشرت في بلادنا. قال:
رأيت عظيما، فما عندك في تأويلها؟ قال: ما عندي فيها ولا في تأويلها شيء، أرسل إلى عاملك بالحيرة، يوجّه إليك رجلا من علمائهم، فإنهم أصحاب علم بالحدثان.
فبعث إليه عبد المسيح بن نفيلة الغساني: فلما قدم عليه أخبره كسري الخبر. فقال له:
أيها الملك. والله ما عندي فيها ولا في تأويلها شيء ولكن جهّزني إلى خال لي بالشام، يقال له سطيح، قال: جهّزوه. فلما قدم على سطيح وجده قد احتضر؛ فناداه فلم يجبه، وكلمه فلم يردّ عليه، فقال عبد المسيح:
أصمّ أم يسمع غطريف اليمن ... يا فاصل الخطّة أعيت من ومن «2»
أتاك شيخ الحيّ من آل سنن ... أبيض فضفاض الرّداء والبدن
رسول قيل العجم يهوي للوثن ... لا يرهب الوعد ولا ريب الزّمن «3»
فرفع إليه رأسه، وقال: عبد المسيح، على جمل مشيح، إلى سطيح، وقد أوفى على الضريح؛ بعثك ملك بني ساسان، لارتجاج الإيوان، وخمود النيران، ورؤيا الموابذان؛ رأى إبلا صعابا، تقود خيلا عرابا. قد اقتحمت في الواد، وانتشرت في البلاد يا عبد المسيح، إذا ظهرت التّلاوة، وفاض وادي السّماوة، وغاضت بحيرة ساوة وظهر صاحب الهراوة، وخمدت نار فارس، فليست بابل للفرس مقاما، ولا الشام(1/294)
لسطيح شاما. يملك منهم ملوك وملكات، عدد سقوط الشّرفات، وكل ما هو آت آت. ثم قال:
إن كان ملك بني ساسان أفرطهم ... فإنّ ذا الدّهر أطوار دهارير «1»
منهم بنو الصرح بهرام وإخوته ... والهرمزان وسابور وسابور
فربّما أصبحوا منهم بمنزلة ... يهاب صولهم الأسد المهاصير «2»
حثّوا المطيّ وجدّوا في رحالهم ... فما يقوم لهم سرح ولا كور «3»
والناس أولاد علات فمن علموا ... أن قد أقلّ فمحقور ومهجور
والخير والشرّ مقرونان في قرن ... فالخير متّبع والشرّ محذور «4»
ثم أتى كسرى فأخبره، فغمه ذلك. ثم تعزّى فقال: إلى أن يملك منا أربعة عشر ملكا يدور الزمان. فهلكوا كلهم في أربعين سنة.
وفود همدان على النبي صلّى الله عليه وسلّم
قدم مالك بن نمط في وفد همدان على رسول الله صلّى الله عليه وسلّم، فلقوه مقبلا من تبوك، فقال مالك بن نمط: يا رسول الله نصيّة «5»
من همدان، من كل حاضر وباد، أتوك على قلص نواج، متصلة بحبائل الإسلام، لا تأخذهم في الله لومة لائم، من مخلاف خارف ويام وشاكر، عهدهم لا ينقض، عن سنّة ماحل «6»
ولا سوداء عنقفير «7»
، ما أقامت لعلع، وما جرى اليعفور بصلّع «8» .(1/295)
فكتب إليهم النبي صلّى الله عليه وسلّم: هذا كتاب من محمد رسول الله إلى مخلاف خارف، وأهل جناب الهضب، وجفاف الرمل، مع وفدها ذي المشعار مالك بن نمط ومن أسلم من قومه، أن لهم فراعها ووهاطها وعزازها، ما أقاموا الصلاة وآتوا الزكاة، يأكلون علافها، ويرعون عفاها، لنا من دفئهم وصرامهم ما سلموا بالميثاق والأمانة، ولهم من الصدقة الثّلب «1»
والناب والفصيل والفارض الداجن والكبش الحوري؛ وعليهم الصّالغ «2» والقارح.
وفود النخع على النبي صلى الله عليه وسلم
قدم أبو عمرو النّخعي على النبي صلّى الله عليه وسلّم فقال: يا رسول الله، إني رأيت في طريقي هذه رؤيا، رأيت أتانا تركتها في الحيّ ولدت جديا أسفع أحوى «3» . فقال رسول الله صلّى الله عليه وسلّم: هل لك من أمة تركتها مصرّة «4» حملا؟ قال: نعم، تركت أمة لي أظنها قد حملت؟ قال: فقد ولدت غلاما وهو ابنك. قال: فما باله أسفع أحوى؟ قال:
ادن منّي. فدنا منه؛ فقال: هل بك برص تكتمه؟ قال نعم، والذي بعثك بالحق ما رآه مخلوق ولا علم به. قال: فهو ذلك. قال: ورأيت النّعمان بن المنذر عليه قرطان ودملجان ومسكتان. قال: ذلك ملك العرب عاد إلى أفضل زيّه وبهجته. قال:
ورأيت عجوزا شمطاء تخرج من الأرض قال: تلك بقيّه الدنيا. قال: ورأيت نارا خرجت من الأرض فحالت بيني وبين ابن لي يقال له عمرو، ورأيتها تقول: لظى لظى! بصير وأعمى! أطعموني! آكلكم آكلكم! أهلككم ومالكم. فقال النبي صلّى الله عليه وسلّم:
تلك فتنة في آخر الزمان. قال: وما الفتنة يا رسول الله؟ قال: يقتل الناس إمامهم ثم(1/296)
يشتجرون «1» اشتجار أطباق الرأس- وخالف رسول الله صلّى الله عليه وسلّم بين أصابعه- يحسب المسيء أنه محسن، ودم المؤمن عند المؤمن أحلى من شرب الماء.
وفود كلب على النبي صلّى الله عليه وسلّم
قدم قطن بن حارثة العليمي في وفد كلب على النبي صلّى الله عليه وسلّم، فذكر كلاما، فكتب له رسول الله صلّى الله عليه وسلّم كتابا نسخته:
هذا كتاب من محمد رسول الله لعمائر كلب وأحلافها، ومن ظأره «2» الإسلام من غيرها، مع قطن بن حارثة العليمي، بإقامة الصلاة لوقتها، وإيتاء الزكاة لحقها، في شدة عقدها، ووفاء عهدها، بمحضر شهود من المسلمين: سعد بن عبادة، وعبد الله ابن أنيس، ودحية بن خليفة الكلبي، عليهم في الهمولة الراعية البساط الظّؤار «3» ، في كلّ خمسين ناقة غير ذات عوار «4» ، والحمولة المائرة لهم لاغية، وفي الشّويّ الوريّ «5» مسنّة حامل أو حائل، وفيما سفى الجدول من العين المعين العشر من ثمرها مما أخرجت أرصها، وفي العذى «6» شطره بقيمة الأمين، فلا تزاد عليهم وظيفة ولا يفرّق. يشهد الله تعالى على ذلك ورسوله.
وكتب ثابت بن قيس بن شمّاس.
وفود ثقيف على النبي صلّى الله عليه وسلّم
وفدت ثقيف على النبي صلّى الله عليه وسلّم، فكتب لهم كتابا حين أسلموا: أن لهم ذمة الله، وأن واديهم حرام، عضاهه «7» وصيده وظلم فيه، وأن ما كان لهم من دين إلى أجل فبلغ(1/297)
أجله فإنه لياط «1» مبرّأ من الله ورسوله، وأن ما كان لهم من دين ومن رهن وراء عكاظ، فإنه يقضى إلى رأسه ويلاط بعكاظ ولا يؤخّر.
وفود مذحج على النبي صلّى الله عليه وسلّم
وفد ظبيان بن حدّاد في سراة مذحج على النبي صلّى الله عليه وسلّم، فقال بعد السلام على رسول الله صلّى الله عليه وسلّم، والثناء على الله عزّ وجل بما هو أهله.
الحمد لله الذي صدع الأرض بالنبات، وفتق السماء بالرّجع»
. ثم قال: نحن قوم من سراة مذحج من يحابر بن مالك. ثم قال: فتوقّلت «3» بنا القلاص؛ من أعالى الحوف ورءوس الهضاب، ترفعها عرر «4» الرّبا وتخفضها بطنان الرقاق، وتلحقها دياجي الدّجى. ثم قال: وسروات الطائف كانت لبني مهلائيل بن قينان: غرسوا وديانه وذلّلوا خشانه، ورعوا قربانه. ثم ذكر نوحا حين خرج من السفينة بمن معه، قال فكان أكثر بنيه بناتا. وأسرعهم نباتا، عاد وثمود، فرماهم الله بالدّمالق «5» ، وأهلكهم بالصواعق. ثم قال: وكانت بنو هانيء من ثمود تسكن الطائف، وهم الذين خطّوا مشاربها، وأتّوا جداولها، وأحيوا غراسها، ورفعوا عريشها. ثم قال: وإن حمير ملكوا معاقل الأرض وقرارها، وكهول الناس وأغمارها، ورءوس الملوك وغرارها، فكان لهم البيضاء والسوداء، وفارس الحمراء، والجزية الصفراء؛ فبطروا النّعم، واستحقوا النّقم، فضرب الله بعضهم ببعض. ثم قال: وإن قبائل من الأزد نزلوا على عهد عمرو بن عامر، ففتحوا فيها الشرائع، وبنوا فيها المصانع، واتخذوا الدسائع «6» ؛ ثم ترامت مذحج بأسنّتها، وتنزّت بأعنّتها: فغلب العزيز أذلها، وقتل(1/298)
الكثير أقلّها. ثم قال: وكان بنو عمرو بن جذيمة يخبطون عضيدها «1» ، ويأكلون حصيدها، ويرشّحون خضيدها «2» .
فقال رسول الله صلّى الله عليه وسلّم. إنّ نعيم الدنيا أقلّ وأصغر عند الله من خرء بعيضة، ولو عدلت عند الله جناح ذباب لم يكن لكافر منها خلاق، ولا لمسلم منها لحاق.
وفود لقيط بن عامر بن المنتفق على النبي صلّى الله عليه وسلّم
وفد لقيط بن عامر بن المنتفق على النبي صلّى الله عليه وسلّم ومعه صاحب له يقال له نهيك بن عاصم بن مالك بن المنتفق.
قال لقيط: فخرجت أنا وصاحبي حتى قدمنا المدينة لانسلاخ رجب، فأتينا رسول الله صلّى الله عليه وسلّم، فوافيناه حين انصرف من صلاة الغداة، فقام في الناس خطيبا، فقال: أيها الناس، ألا إني قد خبأت لكم صوتي منذ أربعة أيام، لتسمعوا الآن، ألا فهل من امريء قد بعثه قومه؟ - فقالوا: اعلم لنا ما يقول رسول الله صلّى الله عليه وسلّم- ألا، ثم لعله أن يلهيه حديث نفسه أو حديث صاحبه أو يلهيه ضالّ، ألا وإني مسئول هل بلّغت، ألا اسمعوا ألا اجلسوا.
فجلس الناس وقمت أنا وصاحبي، حتى إذا فرغ لنا فؤاده وبصره، قلت: يا رسول الله، ما عندك من علم الغيب؟ فضحك لعمر الله وهزّ رأسه، وعلم أني أبتغي سقطه؛ فقال: ضنّ ربّك بمفاتيح خمس من الغيب لا يعلمهن إلا الله- وأشار بيده- قلت: وما هي؟ قال: علم المنيّة، قد علم متى منيّة أحدكم ولا تعلمونه؛ وعلم ما في غد وما أنت طاعم غدا، ولا تعلمه، وعلم المنيّ حين يكون في الرّحم، قد علمه ولا(1/299)
تعلمونه؛ وعلم الغيث، يشرف عليكم آزلين مسنتين «1» فيظلّ يضحك، قد علم أن عونكم قريب.
قال لقيط: قالت: لن نعدم من رب يضحك خيرا.
وعلم يوم الساعة. قلت: يا رسول الله، إني سائلك عن حاجتي فلا تعجلني.
قال: سل عما شئت.
قال: قلت: يا رسول الله، علّمنا مما لا يعلم الناس ومما تعلم؛ فإنا من قبيل لا يصدّقون تصديقنا أحدا؛ من مذحج التي تدنو إلينا، وخثعم التي توالينا، وعشيرتنا التي نحن منها.
قال رسول الله صلّى الله عليه وسلّم: تلبثون ما لبثتم، ثم يتوفّى نبيّكم ثم تلبثون حتى تبعث الصيحة، فلعمر إلهك ما تدع على ظهرها من شيء إلا مات، والملائكة الذين عند ربك؛ فيصبح ربّك يطوف في الأرض وقد خلت عليه البلاد، فيرسل ربّك السماء بهضب «2» من عند العرش، فلعمر إلهك ما تدع على ظهرها من مصرع قتيل، ولا مدفن ميّت، إلا شقّت القبر عنه حتى تخلقه من قبل رأسه فيستوي جالسا، ثم يقول ربك: مهيم «3» - لما كان فيه- فيقول: يا رب، أمس! اليوم! والعهده بالحياة يحسبه حديث عهد بأهله.
فقلت: يا رسول الله، كيف يجمعنا بعد ما تفرقنا الرياح والبلى والسباع؟
قال: أنبئك بمثل ذلك في إلّ «4» الله، أشرفت على الأرض وهي مدرة «5» يابسة فقلت: لا تحيا هذه أبدا، ثم ارسل ربّك عليها السماء فلم تلبث إلا أياما حتى أشرفت(1/300)
عليها وهي شربة واحدة «1» ، ولعمر إلهك لهو أقدر على أن يجمعكم من الماء على أن يجمع نبات الأرض، فتخرجون من الأصواء- قال ابن إسحاق: الأصواء أعلام القبور- ومن مصارعكم، فتنظرون إليه وينظر إليكم.
قال: قلت: يا رسول الله، وكيف، نحن ملء الأرض وهو شخص واحد ننظر إليه وينظر إلينا؟
قال: أنبئك بمثل ذلك في إلّ الله: الشمس والقمر آية منه صغيرة ترونهما ويريانكم ساعة واحدة، ولعمر إلهك لهو أقدر على أن يراكم وتروه من أن تروهما ويرياكم، لا تضارون في رؤيتهما.
قال: قلت: يا رسول الله، فما يفعل بنا ربنا إذا لقيناه؟
قال: تعرضون عليه بادية له صفحاتكم لا يخفي عليه منكم خافية، فيأخذ ربك بيده غرفة من الماء، فينضح بها قبلكم، فلعمر إلهك ما تخطيء وجه أحدكم منها قطرة. فأما المسلم فتدع وجهه مثل الرّيطة «2» البيضاء، وأما الكافر فتخطمه «3» بمثل الحمم «4» الأسود. ثم ينصرف نبيّكم ويتفرق على أثره الصالحون. قال: فتسلكون جسرا من النار، فيطأ أحدكم الجمر يقول: حس! يقول ربك: أو إنّه؟ فتطّلعون على حوض الرسول لا يظمأ والله ناهله، فلعمر إلهك ما يبسط أحد منكم يده إلا وضع عليها قدح يطهره من الطّوف «5» والبول والأذى، وتحبس الشمس والقمر ولا ترون منهما واحدا.
قال: قلت: يا رسول الله، فبم نبصر يومئذ؟(1/301)
قال: بمثل بصرك ساعتك هذه؛ وذلك قبل طلوع الشمس في يوم أشرقته الأرض وواجهته الجبال.
قال: قلت: يا رسول الله، فبم نجزى من سيّئاتنا وحسناتنا؟
قال: الحسنة بعشر أمثالها، والسيئة بمثلها، إلا أن يعفو.
قال: قلت: يا رسول الله، فلما الجنة وما النار؟
قال: لعمر إلهك إنّ للنار لسبعة أبواب، ما منها بابان إلّا يسير الراكب بينهما سبعين عاما. وإن للجنة لثمانية أبواب، ما منها بابان إلّا يسير الراكب بينهما سبعين عاما.
قال: قلت: يا رسول الله، فعلام نطّلع من الجنة؟
قال: على أنها من عسل مصفّى، وأنهار من كأس ما بها من صداع ولا ندامة وأنهار من لبن لم يتغيّر طعمه، وماء غير آسن وفاكهة لعمر إلهك ما تعلمون، وخير من مثله معه، وأزواج مطهّرة.
قال: قلت: يا رسول الله، أو لنا فيها أزواج؟ أو منهن صالحات؟
قال: الصالحات للصالحين، تلذّون بهن مثل لذاتكم في الدنيا، ويلذذن بكم، غير أن لا توالد.
قال لقيط: قلت: أقصى ما نحن بالغون ومنتهون إليه، فلم يجبه النبي صلّى الله عليه وسلّم.
قال: قلت: يا رسول الله، علام أبايعك؟ قال: فبسط إليّ يده وقال: على إقامة الصلاة، وإيتاء الزكاة، وزيال الشّرك «1» ، وألّا تشرك بالله إلها غيره.
قال: فقلت: وإنّ لنا ما بين المشرق والمغرب؟.
فقبض صلّى الله عليه وسلّم يده وظن أني مشترط شيئا لا يعطينيه.
قال: قلت نحلّ منها حيث شئنا، ولا يجزي عن امرىء إلا نفسه؟ فبسط إليّ يده(1/302)
وقال: ذلك لك: حلّ حيث شئت، ولا يجزي عنك إلا نفسك. قال: فانصرفنا عنه.
وفود قيلة على النبي صلّى الله عليه وسلّم
خرجت قيلة بنت مخرمة التميمية تبغي الصّحبة إلى رسول الله صلّى الله عليه وسلّم، وكان عمّ بناتها، وهو أثوب بن أزهر، قد انتزع منها بناتها، فبكت جويرية منهن حديباء قد أخذتها الفرصة «1» ، عليها سبيّج من صوف، فرحمتها فذهبت بها. فبينما هما ترتكان «2» الجمل إذ انتفخت منه الأرنب؛ فقالت الحديباء: الفصية. والله لا يزال كعبك أعلى من كعب أثوب. ثم سنح الثعلب، فسمّته اسما غير الثعلب نسيه ناقل الحديث. ثم قالت فيه مثل ما قالت في الأرنب، فبينما هما ترتكان الجمل إذ برك الجمل وأخذته رعدة. فقالت الحديباء: أخذتك والأمانة إخذة أثوب. قالت قيلة:
فقلت لها: فما أصنع، ويحك! قالت: قلّبي ثيابك ظهورها لبطونها، وادّحرجي ظهرك لبطنك، وقلّبي أحلاس «3» جملك. ثم خلعت سبيّجها فقلبته، ثم ادحرجت ظهرها لبطنها، فلما فعلت ما أمرتني به انتفض الجمل، ثم قام فنأج «4» وبال، فقالت: أعيدي عليه أداتك. ففعلت، ثم خرجنا نرتك، فإذا أثوب يسعى وراءنا بالسيف صلتا، فوألنا إلى حواء ضخم فداراه، حتى ألقى الجمل إلى رواقه الأوسط، وكان جملا ذلولا، واقتحمت داخله وأدركني بالسيف، فأصابت ظبته طائفة من قرون رأسيه؛ ثم قال: ألقي إليّ ابنة أخي يادفار «5» . فألقيتها إليه. فجعلها على منكبه وذهب بها.
وكنت أعلم به من أهل البيت، وخرجت إلى أخت لي ناكح في بني شيبان أبتغي الصحبة إلى رسول الله صلّى الله عليه وسلّم. فينما أنا عندها تحسب أني نائمة، إذ جاء زوجها من السامر، فقال لها: وأبيك لقد وجدت لقيلة صاحب صدق. قالت أختي: من هو؟(1/303)
قال: حريث بن حسّان الشّيباني، وافد بكر بن وائل عاويا ذا صياح. فقالت أختي:
الويل لي، لا تخبرها فتتبع أخا بكر بن وائل بين سمع الأرض وبصرها، ليس معها أحد من قومها. قال: لا ذكرته.
قالت: وسمعت ما قالا: فغدون إلى جملي فشددت عليه، ثم نشدت عنه فوجدته غير بعيد. فسألته الصّحبة فقال: نعم وكرامة، وركابه مناخة عنده.
قالت: فسرت معه صاحب صدق؛ حتى قدمنا على رسول الله صلّى الله عليه وسلّم وهو يصلي بالناس صلاة الغداة: قد أقيمت حين شق الفجر، والنجوم شابكة في السماء، والرجال لا تكاد تعارف من ظلمة الليل؛ فصففت مع الرجال؛ وأنا امرأة قريبة عهد بجاهلية؛ فقال الرجل الذي يليني من الصف: امرأة أنت أم رجل؟ فقلت: لا بل امرأة. فقال:
إنك كدت تفتنيني، فصلّي في النساء وراءك. فإذا صفّ من نساء قد حدث عند الحجرات لم أكن رأيته إذ دخلت؛ فكنت فيهن؛ حتى إذا طلعت الشمس دنوت؛ فجعلت إذا رأيت رجلا ذا رواء وذا قشر «1» طمح إليه بصري لأرى رسول الله فوق الناس، حتى جاء رجل؛ فقال: السلام عليك يا رسول الله. فقال: وعليك السلام ورحمة الله. وعليه تعني النبي صلّى الله عليه وسلّم- أسمال ملّيتين، كانتا مزعفرتين وقد نفضتا؛ ومعه عسيّب نخلة مقشوّ «2» غير خوصتين من أعلاه: وهو قاعد القرفصاء. فلما رأيت رسول الله صلّى الله عليه وسلّم متخشّعا في الجلسة أرعدت من الفرق، فقال جليسه: يا رسول الله، أرعدت المسكينة. فقال رسول الله، ولم ينظر إلي وأنا عند ظهره: يا مسكينة، عليك السكينة.
قالت: فلما قالها صلّى الله عليه وسلّم أذهب الله ما كان دخل في قلبي من الرعب.
وتقدّم صاحبي أول رجل فبايعه على الإسلام عليه وعلى قومه، ثم قال: يا رسول الله، اكتب بيننا وبين تميم كتابا بالدّهناء لا يجاوزها إلينا منهم إلا مسافر أو مجاوز.(1/304)
قال: يا غلام، اكتب له بالدّهناء.
قالت: فلما رأيته أمر بأن يكتب له؛ شخص بي. وهي وطني وداري؛ فقلت: يا رسول الله؛ إنه لم يسألك السويّة من الأرض إذ سألك؛ إنما هذه الدهناء مقيّد الجمل ومرعى الغنم؛ ونساء بني تميم وأبناؤها وراء ذلك. فقال: أمسك يا غلام، صدقت المسكينة المسلم أخو المسلم، يسعهما الماء والشجر. ويتعاونان على الفتّان «1» .
فلما رأى حريث أن قد حيل دون كتابه، قال كنت أنا وأنت كما قال في المثل:
حتفها تحمل ضأن بأظلافها! فقلت: أما والله ما علمت إن كنت لدليلا في الظلماء، جوادا لدى الرّحل، عفيفا عن الرفيقة حتى قدمنا على رسول الله صلّى الله عليه وسلّم ولكن لا تلمني أن أسأل حظي إذ سألت حظّك. قال: وأيّ حظ لك في الدهناء لا أبالك.
قلت مقّيد جملي تريده لجمل امرأتك! فقال: لا جرم إني أشهد رسول الله أني لك أخ ما حييت؛ إذ أثنيت عليّ عنده. فقلت: أمّا إذ بدأتها فلن أضيعها.
فقال رسول الله صلّى الله عليه وسلّم: أيلام ابن هذه أن يفصل الخطة، وينتصر من وراء الحجزة. فبكيت ثم قلت: فقد والله ولدته يا رسول الله حراما، فقاتل معك يوم الرّبذة، ثم ذهب يمتري من خيبر، فأصابته حمّاها فمات فقال: لو لم تكوني مسكينة لجررناك على وجهك. أيغلب أحيدكم على أن يصاحب صويحبه في الدنيا معروفا، فإذا حال بينه وبينه من هو أولى به استرجع ثم قال: ربّ آسني لما أمضيت، وأعنّي على ما أبقيت. فو الذي نفس محمد بيده إنّ أحدكم ليبكي فيستعبر له صويحبه؛ فيا عباد الله لا تعذّبوا إخوانكم ثم كتب لها في قطعة أدم أحمر: لقيلة والنسوة من بنات قيلة يظلمن حقّا، ولا يكرهن على منكح، وكل مؤمن مسلم لهن نصير أحسنّ ولا تسئن.(1/305)
كتاب رسول الله صلّى الله عليه وسلّم لأكيدر دومة
من محمد رسول الله صلّى الله عليه وسلّم لأكيدر دومة، حين أجاب إلى الإسلام، وخلع الأنداد والأصنام، مع خالد بن الوليد سيف الله في دومة الجندل وأكنافها:
إن لنا الضاحية من الضّحل والبور والمعامي وأغفال الأرض والحلقة والسّلاح والحافر والحصن، ولكم الضّامنة من النخل والمعين من المعمور، لا تعدل سارحتكم ولا تعد فاردتكم «1» ، ولا يحظر عليكم النبات. تقيمون الصلاة لوقتها، وتؤتون الزكاة لحقها، عليكم بذلك عهد الله والميثاق، ولكم به الصدق والوفاء. شهد الله ومن حضر من المسلمين.
كتابه صلّى الله عليه وسلّم لوائل بن حجر الحضرمي
من محمد رسول الله إلى الأقيال العباهلة «2» والارواع المشابيب «3» من أهل حضر موت بإقامة الصلاة، وايتاء الزكاة: في التيعة «4» شاة، لا مقوّرة الألياط ولا ضناك، وانطوا الشّبجة «5» والتيمة لصاحبها، وفي السيّوب الخمس؛ لا خلاط، ولا وراط،(1/306)
ولا شناق، ولا شغار «1» ، ومن أجبى فقد أربى «2» ، وكل مسكر حرام.
حديث جرير بن عبد الله البجلي
قدم جرير بن عبد الله البجليّ على رسول الله صلّى الله عليه وسلّم: فسأله عن منزله ببيشة، فقال سهل ودكداك «3» ، وسلم وأراك، وحمّض وعلاك، إلى نخلة ونخلة، ماؤها ينبوع، وجنابها مريع، وشتاؤها ربيع.
فقال رسول الله صلّى الله عليه وسلّم: إنّ خير الماء الشّبم «4» ، وخير المال الغنم، وخير المرعى الأراك، والسلّم إذا أخلف كان لجينا، وإذا أسقط كان درينا «5» ، وإذا أكل كان لبينا.
وفي كلامه عليه السلام: إن الله خلق الأرض السّفلى من الزبد الجفاء والماء والكباء.
حديث عياش بن أبي ربيعة
بعث رسول الله صلّى الله عليه وسلّم عيّاش بن أبي ربيعة إلى بني عبد كلال وقال له: خذ كتابي بيمينك وادفعه بيمينك في أيمانهم، فهم قائلون لك اقرأ. فاقرأ: لَمْ يَكُنِ الَّذِينَ كَفَرُوا مِنْ أَهْلِ الْكِتابِ وَالْمُشْرِكِينَ مُنْفَكِّينَ
«6» . فإذا فرغت منها فقل: آمن محمد وأنا أول المؤمنين. فلن تأتيك حجة إلا وقد دحضت ولا كتاب زخرف إلا وذهب(1/307)
نوره ومحّ «1» لونه، وهم قارئون، فإذا رطنوا فقد ترجموا. فقل: حسن، آمنت بالله وما أنزل من كتاب الله. فإذا أسلموا فسلهم فضبهم الثلاثة التي إذا تخصّروا بها سجد لهم، وهي الأثل قضيب ملمع ببياض، وقضيب ذو عجر كأنه من خيزران، والأسود البهيم، كأنه من ساسم «2» . ثم اخرج بها فحرّقها في سوقهم.
حديث راشد بن عبد ربه السلمي
عبد الله بن الحكم الواسطيّ عن بعض أشياخ أهل الشام، قال: قال استعمل رسول الله صلّى الله عليه وسلّم أبا سفيان بن حرب على نجران، فولّاه الصلاة والحرب، ووجّه راشد بن عبد ربه أميرا على القضاء والمظالم. قال راشد بن عبد ربه:
ضحا القلب عن سلمى وأقصر شأوه ... وردّت عليه ما نفته تماضر
وحكّمه شيب القذال عن الصبا ... وللشّيب عن بعض الغواية زاجر
فأقصر جهلي اليوم وارتدّ باطلي ... عن الجهل لما ابيض منّي الغدائر
على أنه قد هاجه بعد صحوة ... بمعرض ذي الآجام عيس بواكر
ولما دنت من جانب الغوط أخصبت ... وحلّت ولا قاها سليم وعامر
وخبّرها الرّكبان أن ليس بينها ... وبين قرى بصرى ونجران كافر
فألقت عصاها واستقرّت بها النّوى ... كما قرّ عينا بالإياب المسافر «3»
وفود نابغة بني جعدة على النبي صلّى الله عليه وسلّم
وفد أبو ليلى نابغة بني جعدة على النبي صلّى الله عليه وسلّم، فأنشده شعره الذي يقول فيه:
بلغنا السماء مجدنا وسناؤنا ... وإنا لنبغي فوق ذلك مظهرا(1/308)
قال له النبي صلّى الله عليه وسلّم: إلى أين أبا ليلى؟ قال: إلى الجنة. قال النبي صلّى الله عليه وسلّم: إن شاء الله.
فلما انتهى إلى قوله:
ولا خير في حلم إذا لم تكن له ... بوادر تحمي صفوه أن يكدّرا
قال له النبي صلّى الله عليه وسلّم: لا يفضض الله فاك! فعاش مائة وثلاثين سنة لم تنفضّ له سنّ، وبقي حتى وفد على عبد الله بن الزبير في أيامه بمكة وامتدحه، فقال له: يا أبا ليلى، إنّ أدنى وسائلك عندنا الشعر، لك في مال الله حقّان: حق برؤيتك رسول الله صلّى الله عليه وسلّم، وحقّ بشركتك أهل الإسلام في فيئهم. ثم أحسن صلته وأجازه.
وفود طهفة بن أبي زهير النهدي على رسول الله صلّى الله عليه وسلّم
لما قدمت وفود العرب على النبي صلّى الله عليه وسلّم، قام طهفة ابن أبي زهير، فقال: يا رسول الله، أتيناك من غوري تهامة بإكوار الميس «1» ، ترمى بنا العيس، نستحلب الصبيّر، ونستخلب الخبير؛ ونستعضد البرير، ونستخيل الرّهام «2» ، ونستخيل الجهام «3» ، من أرض غائلة النّطاء، «4» ، غليظة الوطاء، قد نشف المدهن «5» ويبس الجعثن «6» ، وسقط الأملوج «7» ، ومات العسلوج «8» ؛ وهلك الهديّ، ومات الودي «9» ، برئنا يا رسول الله من الوثن والعنن «10» ، وما يحدث الزمن؛ لنا دعوة السلام، وشريعة الإسلام، ما طمى(1/309)
البحر، وقام تعار؛ ولنا نعم همّل أغفال، ما تبضّ ببلال؛ ووقير «1» كثير الرّسل، قليل الرّسل، أصابتها سنيّة حمراء مؤزلة «2» . ليس بها علل ولا نهل.
فقال رسول الله صلّى الله عليه وسلّم: اللهم بارك لهم في محضها ومخضها ومذقها «3» ، وابعث راعيها في الدّثر «4» ، بيانع الثمر، وافجر له الثّمد «5» ، وبارك له في المال والولد، من أقام الصلاة كان مسلما، ومن آتى الزكاة كان محسنا، ومن شهد أن لا إله إلا الله كان مخلصا. لكم يا بني نهد، ودائع الشّرك، ووضائع الملك، لا تلطط «6» في الزكاة، ولا تلحد في الحياة، ولا تثاقل عن الصلاة.
وكتب معه كتابا إلى بني نهد: بسم الله الرحمن الرحيم. من محمد رسول الله إلى بني نهد بن زيد، السلام على من آمن بالله ورسوله، لكم يا بني نهد في الوظيفة الفريضة، ولكم الفارض «7» والفريش، وذو العنّان الرّكوب والفلو الضبيس «8» ، لا يمنع سرحكم، ولا يعضد طلحكم، ولا يحبس درّكم، ما لم تضمروا الإمآق «9» ، وتأكلوا الرّباق «10» . من أقر بما في هذا الكتاب فله من رسول الله صلّى الله عليه وسلّم الوفاء بالعهد والذمة، ومن أبى عليه فعليه الرّبوة.
وفود جبلة بن الأيهم على عمر بن الخطاب رضي الله عنه
العجلي قال: حدّثني أبو الحسن عليّ بن أحمد بن عمرو بن الأجدع الكوفي؟؟؟
قال: حدّثني إبراهيم بن عليّ مولى بني هاشم، قال: حدّثنا ثقات شيوخنا أن؟؟؟ بن(1/310)
الأيهم بن أبي شمر الغسّاني لما أراد أن يسلم كتب إلى عمر بن الخطاب من الشام يعلمه بذلك ويستأذنه في القدوم عليه. فسرّ بذلك عمر والمسلمون، فكتب إليه أن اقدم ولك مالنا وعليك ما علينا، فخرج جبلة في خمسمائة فارس من عكّ وجفنة، فلما دنا من المدينة ألبسهم ثياب الوشي المنسوج بالذهب والفضة، ولبس يومئذ جبلة تاجه وفيه قرط مارية، وهي جدّته فلم يبق يومئذ بالمدينة أحدّ إلا خرج ينظر اليه، حتى النساء والصبيان، وفرح المسلمون بقدومه وإسلامه، حتى حضر الموسم من عامه ذلك مع عمر ابن الخطاب؛ فبينا هو يطوف بالبيت إذ وطيء على إزاره رجل من بني فزارة فحلّه، فالتفت إليه جبلة مغضبا. فلطمه فهشم أنفه، فاستعدى عليه الفزاري عمر بن الخطاب. فبعث إليه فقال: ما دعاك يا جبلة إلى أن لطمت أخاك هذا الفزاري فهشمت أنفه؟
فقال: إنّه وطيء إزاري فحلّه، ولولا حرمة هذا البيت لأخذت الذي فيه عيناه.
فقال له عمر: أمّا أنت فقد أقررت. إمّا أن ترضيه وإلا أقدته «1» منك قال: أتقيده مني وأنا ملك وهو سوقة؟ قال: يا جبلة، إنه قد جمعك وإيّاه الإسلام، فما تفضله بشيء إلا [بالتّقى] بالعافية. قال: والله لقد رجوت أن أكون في الإسلام أعزّ مني في الجاهلية. قال عمر: دع عنك ذلك. قال: إذن أتنصّر. قال: إن تنصّرت ضربت عنقك. قال: واجتمع قوم جبلة وبنو فزارة فكادت تكون فتنة، فقال جبلة: أخّرني إلى غد يا أمير المؤمنين. قال: ذلك لك.
فلما كان جنح الليل خرج جبلة وأصحابه، فلم يئن «2» حتى دخل القسطنطينية على هرقل، فتنصّر وأقام عنده، وأعظم هرقل قدوم جبلة، وسر بذلك وأقطعه الأموال والأرضين والرّباع.
ثم بعث عمر بن الخطاب رسولا إلى هرقل يدعوه إلى الإسلام، فأجابه إلى المصالحة على غير الإسلام، فلما أراد أن يكتب جواب عمر قال للرسول: ألقيت ابن عمك هذا(1/311)
الذي ببلدنا- يعني جبلة- الذي أتانا راغبا في ديننا؟ قال: ما لقيته.
قال: القه، ثم ائتني أعطك جواب كتابك.
وذهب الرسول إلى باب جبلة، فإذا عليه من القهارمة والحجاب والبهجة وكثرة الجمع مثل ما على باب هرقل.
قال الرسول: فلم أزل أتلطف في الإذن حتى أذن لي، فدخلت عليه، فرأيت رجلا أصهب اللحية ذا سبال؛ وكان عهدي به أسمر أسود اللحية والرأس. فنظرت إليه فأنكرته، فإذا هو قد دعا بسحالة الذهب «1» فذرّها في لحيته حتى عاد أصهب، وهو قاعد على سرير من قوارير، قوائمه أربعة أسود من ذهب، فلما عرفني رفعني معه في السرير، فجعل يسائلني عن المسلمين، فذكرت خيرا، وقلت: قد أضعفوا أضعافا على ما تعرف. فقال: كيف تركت عمر بن الخطاب؟ قلت: بخير. فرأيت الغم قد تبيّن فيه لما ذكرت له من سلامة عمر. قال: فانحدرت عن السرير. فقال: لم تأبى الكرامة التي أكرمناك بها؟ قلت: إنّ رسول الله صلّى الله عليه وسلّم نهى عن هذا.
قال: نعم، صلّى الله عليه وسلّم، ولكن نقّ قلبك من الدّنس ولا تبال علام قعدت. فلما سمعته يقول: صلّى الله عليه وسلّم طمعت فيه، فقلت له: ويحك يا جبلة! ألا تسلم وقد عرفت الإسلام وفضله؟ قال: أبعد ما كان مني؟
قلت: نعم، قد فعل رجل من بني فزارة أكثر مما فعلت: ارتد عن الإسلام وضرب وجوه المسلمين بالسيف، ثم رجع إلى الإسلام وقبل ذلك منه وخلّفته بالمدينة مسلما.
قال: ذرني من هذا؛ إن كنت تضمن لي أن يزوّجني عمر ابنته ويولّيني الأمر بعده رجعت إلى الإسلام. قلت: ضمنت لك التزويج ولم أضمن لك الإمرة.
قال: فأومأ إلى خادم بين يديه، فذهب مسرعا، فإذا خدم قد جاءوا يحملون الصناديق فيها الطعام، فوضعت، ونصبت موائد الذهب وصحاف الفضة، وقال لي:(1/312)
كل، فقبضت يدي. وقلت: إن رسول الله صلّى الله عليه وسلّم نهى عن الأكل في آنية الذهب والفضة. فقال نعم صلّى الله عليه وسلّم، ولكن نقّ قلبك وكل فيما أحببت. قال: فأكل في الذهب والفضة وأكلت في الخليج «1» ؛ فلما رفع الطعام جيء بطساس الفضة وأباريق الذهب، وأومأ إلى خادم بين يديه، فمرّ مسرعا، فسمعت حسّا، فالتفتّ، فإذا خدم معهنّ الكراسي مرصّعة بالجواهر، فوضعت عشرة عن يمينه وعشرة عن يساره، ثم سمعت حسّا، فإذا عشر جوار قد أقبلن مطمومات الشعر «2» متكسرات في الحلى عليهن ثياب الديباج، فلم أر وجوها قط أحسن منهن، فأقعدهنّ على الكراسيّ عن يمينه؛ ثم سمعت حسّا، فإذا عشر جوار أخرى، فأجلسهن على الكراسيّ عن يساره؛ ثم سمعت حسّا، فإذا جارية كأنها الشمس حسنا؛ وعلى رأسها تاج، على ذلك التاج طائر لم أر أحسن منه، وفي يدها اليمنى جام «3» فيها مسك وعنبر، وفي يدها اليسرى جامة فيها ماء ورد، فأومأت إلى الطائر أو قال: فصفرت بالطائر، فوقع في جام ماء الورد فاضطرب فيه، ثم أومأت إليه أو قال: فصفرت به، فطار حتى نزل على صليب في تاج جبلة؛ فلم يزل يرفرف حتى نفض ما في ريشه عليه. وضحك جبلة من شدّة السرور حتى بدت أنيابه؛ ثم التفت إلى الجواري اللواتي عن يمينه، فقال: بالله أطربنني؛ فاندفعن يتغنين يخفقن بعيدانهن ويقلن:
لله درّ عصابة نادمتهم ... يوما بجلّق في الزمان الأوّل
يسقون من ورد البريص عليهم ... بردى يصفّق بالرّحيق السّلسل «4»
أولاد جفنة حول قبر أبيهم ... قبر ابن مارية الكريم المفضل
يغشون حتى ما تهرّ كلابهم ... لا يسألون عن السّواد المقبل
بيض الوجوه أعفّة أحسابهم ... شمّ الأنوف من الطّراز الأوّل
قال: فضحك حتى بدت نواجذه، ثم قال: أتدري من قائل هذا؟ قلت: لا. قال:(1/313)
قائله حسان بن ثابت شاعر رسول الله صلّى الله عليه وسلّم.
ثم التفت إلى الجواري اللاتي عن يساره، فقال: بالله أبكيننا. فاندفعن يتغنين ويخفقن بعيدانهن ويقلن:
لمن الدار أقفرت بمعان ... بين أعلى اليرموك فالخمان «1»
ذاك مغنى لآل جفنة في الدّه ... ر محلا لحادث الأزمان
قد أراني هناك دهرا مكينا ... عند ذي التاج مقعدي ومكاني
ودنا الفصح فالولائد ينظم ... ن سراعا أكلّة المرجان
لم يعلّلن بالمغافر والصّم ... غ ولا نقف حنظل الشّريان «2»
قال: فبكى حتى جعلت الدموع تسيل على لحيته؛ ثم قال: أتدري من قائل هذا؟
قلت: لا أدري. قال: حسان بن ثابت. ثم أنشأ يقول:
تنصّرت الأشراف من عار لطمة ... وما كان فيها لو صبرت لها ضرر
تكنّفني منها لجاج ونخوة ... وبعت لها العين الصحيحة بالعور
فيا ليت أمي لم تلدني وليتني ... رجعت إلى الأمر الذي قال لي عمر
ويا ليتني أرعى المخاض بقفرة ... وكنت أسيرا في ربيعة أو مضر
ويا ليت لي بالشام أدنى معيشة ... أجالس قومي ذاهب السمع والبصر
ثم سألني عن حسان: أحيّ هو؟ قلت: نعم، تركته حيّا. فأمر لي بكسوة ومال ونوق موقرة براّ. ثم قال لي: إن وجدته حيّا فادفع إليه الهدية واقرئه سلامي، وإن وجدته ميتا فادفعها إلى أهله وانحر الجمال على قبره.
فلما قدمت على عمر أخبرته خبر جبلة وما دعوته إليه من الإسلام والشرط الذي شرطه وأني ضمنت له التزويج ولم أضمن له الإمرة، فقال: هلا ضمنت له الإمرة؛ فإذا أفاء الله به إلى الإسلام قضى عليه بحكمه عز وجل.(1/314)
ثم ذكرت له الهدية التي أهداها إلى حسّان بن ثابت، فبعث إليه وقد كفّ بصره، فأتي به وقائد يقوده، فلما دخل قال: يا أمير المؤمنين، إني لأجد رياح آل جفنة عندك! قال: نعم. هذا رجل أقبل من عنده. قال: هات يا بن أخي إنه كريم من كرام مدحتهم في الجاهلية فحلف ألّا بلقى أحدا يعرفني إلا أهدى إليّ معه شيئا. فدفعت إليه الهدية. المال والثياب، وأخبرته بما كان أمر به في الإبل إن وجد ميتا. فقال:
وددت أني كنت ميتا فنحرت على قبري.
قال الزبير: وانصرف حسان وهو يقول:
إنّ ابن جفنة من بقيّة معشر ... لم تغذهم آباؤهم باللوم
لم ينسني بالشّام إذ هو ربّها ... ملكا ولا متنصرا بالرّوم
يعطي الجزيل ولا يراه عنده ... إلا كبعض عطيّة المذموم
فقال له رجل كان في مجلس عمر: أتذكر ملوكا كفرة أبادهم الله وأفناهم؟ قال:
ممن الرجل؟ قال: مزني. قال: أما والله لولا سوابق قومك مع رسول الله صلّى الله عليه وسلّم لطوّقتك طوق الحمامة.
قال: ثم جهزني عمر إلى قيصر وأمرني أن أضمن لجبلة ما اشترط به.
قلما قدمت القسطنطينية وجدت الناس منصرفين من جنازته، فعلمت أن الشقاء غلب عليه في أمّ الكتاب.
وفود الأحنف على عمر بن الخطاب رضي الله عنه
المدائني قال: قدم الأحنف بن قيس التميمي على عمر بن الخطاب رضي الله عنه، في أهل البصرة وأهل الكوفة، فتكلموا عنده في أنفسهم وما ينوب كلّ واحد منهم، وتكلم الأحنف فقال:
يا أمير المؤمنين، إن مفاتيح الخير بيد الله، وقد أتتك وفود أهل العراق، وإنّ(1/315)
إخواننا من أهل الكوفة والشام ومصر نزلوا منازل الأمم الخالية، والملوك الجبابرة، ومنازل كسرى وقيصر وبني الأصفر «1» ، فهم من المياه العذبة والجنان المخصبة في مثل حولاء السّلى وحدقة البعير «2» ، تأتيهم ثمارهم غضّة لم تتغيّر؛ وإنا نزلنا أرضا نشاشة طرف في فلاة وطرف في ملح أجاج، جانب منها منابت القصب، وجانب سبخة نشّاشة لا يجف ترابها، ولا ينبت مرعاها، تأتينا منافعها في مثل مريء النعامة، يخرج الرجل الضعيف منّا يستعذب الماء من فرسخين، وتخرج المرأة بمثل ذلك ترنّق «3» ولدها ترنيق العنز، تخاف عليه العدوّ والسبع، فإلا ترفع خسيستنا. وتنعش ركيستنا «4» ، وتجبر فاقتنا، وتزيد في عيالنا عيالا، وفي رجالنا رجالا، وتصفّر درهمنا، وتكبّر قفيزنا، وتأمر لنا بحفر نهر نستعذب به الماء هلكنا.
قال عمر: هذا والله السيد! هذا والله السيد! قال الأحنف: فما زلت أسمعها بعدها.
فأراد زيد بن جبلة أن يضع منه، فقال: يا أمير المؤمنين، إنه ليس هناك، وأمّه باهليّة.
قال عمر: هو خير منك إن كان صادقا. يريد: إن كانت له نيّة.
فقال الأحنف:
أنا ابن الباهليّة أرضعتني ... بثدي لا أجدّ ولا وخيم «5»
أغضّ على القذى أجفان عيني ... إذا شرّ السّفيه إلى الحليم «6»
قال فرجع الوفد واحتبس الأحنف عنده حولا وأشهرا، ثم قال: إن رسول الله(1/316)
صلّى الله عليه وسلّم حذّرنا كل منافق صنع اللسان، وإني خفتك فاحتبستك، فلم يبلغني عنك إلا خير؛ رأيت لك جولا «1» ومعقولا؛ فارجع إلى منزلك واتق الله ربك. وكتب إلى أبي موسى الأشعري أن يحتفر لهم نهرا.
وفود الأحنف وعمرو بن الأهتم على عمر بن الخطاب رضي الله عنه
العتبي عن أبيه قال: وفد الأحنف وعمرو بن الأهتم على عمر بن الخطاب رضي الله عنه، فأراد أن يقرع بينهما في الرياسة، فلما اجتمعت بنو تميم، قال الأحنف:
ثوى قدح عن قومه طالما ثوى ... فلمّا أتاهم قال قوموا تناجزوا
فقال عمرو بن الأهتم: إنا كنّا وأنتم في دار جاهليّة فكان الفضل فيها لمن جهل، فسفكنا دماءكم، وسبينا نساءكم، وإنّا اليوم في دار الإسلام والفضل فيها لمن حلم؛ فغفر الله لنا ولك.
قال: فغلب يومئذ عمرو بن الأهتم على الأحنف ووقعت القرعة لآل الأهتم فقال عمرو بن الأهتم:
لمّا دعتني للرّياسة منقر ... لدى مجلس أضحى به النّجم باديا
شددت لها أزري وقد كنت قبلها ... لأمثالها ممّا أشدّ إزاريا
وعمرو بن الأهتم: هو الذي تكلم بين يدي رسول الله صلّى الله عليه وسلّم، وسأله عن الزبرقان، فقال عمرو: مطاع في أدنيه، شديد العارضة، مانع لما وراء ظهره.
فقال الزبرقان: والله يا رسول الله إنه ليعلم مني أكثر مما قال، ولكن حسدني.
قال: أما والله يا رسول الله، إنه لزمر «2» المروءة، ضيّق العطن «3» ؛ أحمق الوالد(1/317)
لئيم الخال؛ والله ما كذبت في الأولى ولقد صدقت في الأخرى؛ رضيت عن بن عمي فقلت أحسن ما علمت ولم أكذب، وسخطت عليه فقلت أقبح ما علمت ولم أكذب.
فقال رسول الله صلّى الله عليه وسلّم: إنّ من البيان لسحرا.
وفود عمرو بن معديكرب على عمر بن الخطاب رضي الله عنه إذ أوفده سعد
لما فتحت القادسيّة على يدي سعد بن أبي وقّاص، أبلى فيها عمرو بن معديكرب بلاء حسنا، فأوفده سعد على عمر بن الخطاب رضي الله عنه، وكتب إليه معه بالفتح وأثنى في الكتاب على عمرو؛ فلما قدم على عمر بن الخطاب سأله عن سعد، فقال:
أعرابي في نمرته «1» ، أسد في تأمورته «2» ، نبطي في جبايته، يقسم بالسويّة، ويعدل في القضية وينفل «3» في السريّة؛ وينقل إلينا حقنا نقل الذّرة. فقال عمر: لشدّ ما تقارضتما الثناء. وكان عمر قد كتب إلى سعد يوم القادسيّة أن يعطي الناس على قدر ما معهم من القرآن؛ فقال سعد لعمرو بن معديكرب ما معك من القرآن؟ قال: ما معي شيء. قال: إن أمير المؤمنين كتب إليّ أن أعطي الناس على قدر ما معهم من القرآن. فقال عمرو:
إذا قتلنا ولا يبكي لنا أحد ... قالت قريش ألا تلك المقادير
نعطي السّويّة من طعن له نفذ ... ولا سويّة إذ تعطى الدنانير
قال: فكتب سعد بأبياته إلى عمر، فكتب إليه أن يعطى على مقاماته في الحرب.(1/318)
وفود أهل اليمامة على أبي بكر الصديق رضي الله عنه
وفد أهل اليمامة على أبي بكر الصديق رضي الله عنه، بعد إيقاع خالد وقتله مسليمة الكذاب، فقال لهم أبو بكر: ما كان يقول صاحبكم؟ قالوا: أعفنا يا خليفة رسول الله. قال: لا بد أن تقولوا. قالوا: كان يقول: يا ضفدع كم تنقّين. لا الشراب تمنعين، ولا الماء تكدّرين، لنا نصف الأرض ولقريش نصفها، ولكن قريش قوم لا يعدلون. فقال لهم أبو بكر: ويحكم! ما خرج هذا من إلّ ولا بر، فأين ذهب بكم؟ قال أبو عبيد؛ الإل: الله تعالى. والبر الرجل الصالح.
وفود عمرو بن معديكرب على مجاشع بن مسعود
وفد عمرو بن معديكرب الزّبيدي على مجاشع بن مسعود السّلمي- وكانت بين عمرو وبين سليم حروب في الجاهلية- فقدم عليه البصرة يسأله الصلة، فقال له: اذكر حاجتك. فقال له: حاجتي صلة مثلي. فأعطاه عشرة آلاف درهم، وفرسا من بنات الغبراء، وسيفا جرازا «1» ، ودرعا حصينة، وغلاما خبازا؛ فلما خرج من عنده. قال له أهل المجلس: كيف وجدت صاحبك؟ قال لله بنو سليم! ما أشد في الهيجاء لقاءها، وأكرم في الّلأواء «2» عطاءها، وأثبت في المكرمات بناءها. والله يا بني سليم، لقد قاتلناكم في الجاهلية فما أجبنّاكم، ولقد هاجيناكم فما أفحمناكم، ولقد سألناكم فما أبخلناكم:
فلله مسئولا نوالا ونائلا ... وصاحب هيج يوم هيج مجاشع(1/319)
وفود الحسن بن علي رضي الله عنهما على معاوية رضي الله عنه
أبو بكر بن أبي شيبة قال: وفد الحسن بن علي رضي الله عنهما على معاوية بعد عام الجماعة، فقال له معاوية: والله لا حبونّك بجائزة ما أجزت بها أحدا قبلك ولا أجيز بها أحدا بعدك. فأمر له بمائة ألف.
وفي بعض الحديث إن النبي صلّى الله عليه وسلّم دخل على ابنته فاطمة، فوجد الحسن طفلا يلعب بين يديها، فقال لها: إن الله تعالى سيصلح على يدي ابنك هذا بين فئتين عظيمتين من المسلمين.
وفود زيد بن منية على معاوية رحمه الله
العتبي قال: قدم زيد بن منية على معاوية من البصرة- وهو أخو يعلى ابن منية صاحب جمل عائشة، ومتولي تلك الحروب، ورأس أهل البصرة. وكان عتبة بن أبي سفيان قد تزوّج ابنة يعلي بن منية- فلما دخل على معاوية شكا إليه دينا لزمه. فقال:
يا كعب، أعطه ثلاثين ألفا. فلما ولّى قال: وليوم الجمل ثلاثين ألفا أخرى. ثم قال له الحق بصهرك- يعني عتبة- فقدم عليه مصر، فقال: إنّي سرت إليك شهرين، أخوض فيهما المتالف، ألبس أردية الليل مرّة، وأخوض في لجج السراب أخرى، موقرا من حسن الظن بك، وهاربا من دهر قطم، ودين لزم، بعد غنى جدعنا به أنوف الحاسدين، فلم أجد إلا إليك مهربا وعليك معوّلا. فقال عتبة: مرحبا بك وأهلا؛ إن الدهر أعاركم غنى، وخلطكم بنا، ثم استردّ ما أمكنه أخذه، وقد أبقى لكم منّا ما لا ضيعة معه، وأنا واضع يدي ويدك بيد الله فأعطاه ستين ألفا، كما أعطاه معاوية رحمه الله.(1/320)
وفود عبد العزيز بن زرارة على معاوية رحمه الله
العتبي عن أبيه قال: وفد عبد العزيز بن زرارة على معاوية وهو سيّد أهل الكوفة. فلما أذن له وقف بين يديه، وقال: يا أمير المؤمنين، لم أزل أهز ذوائب الرّحال إليك؛ إذ لم أجد معوّلا إلا عليك، امتطى الليل بعد النهار، وأسم المجاهل بالآثار، يقودني إليك أمل، وتسوقني بلوى، والمجتهد يعذر، وإذ بلغتك فقطني.
فقال معاوية: احطط عن راحلتك رحلها.
وخرج عبد العزيز بن زرارة مع يزيد بن معاوية إلى الصائفة، فهلك هناك؛ فكتب به يزيد بن معاوية إلى معاوية، فقال لزرارة: أتاني اليوم نعي سيد شباب العرب. قال زرارة: يا أمير المؤمنين، هو ابني أو ابنك. قال: بل ابنك. قال:
للموت ما تلد الوالدة.
أخذه سابق البربري فقال:
وللموت تغذو الولدات سخالها ... كما لخراب الدهر تبنى المساكن
وقال آخر:
للموت يولد منّا كلّ مولود ... لا شيء يبقى ولا يفنى بموجود
وفود عبد الله بن جعفر على يزيد بن معاوية
المدائني قال: قدم عبد الله بن جعفر على يزيد بن معاوية، فقال له: كم كان عطاؤك؟ فقال له: ألف ألف. قال: قد أضعفناها لك. قال: فداك أبي وأمي وما قلتها لأحد قبلك! قال: أضعفناها لك ثانية. فقيل ليزيد: أتعطي رجلا واحدا أربعة آلاف ألف؟ فقال: ويحكم، إنما أعطيتها أهل المدينة أجمعين، فما يده فيها إلّا عارية.
فلما كان في السنة الثانية قدم عبد الله بن جعفر، وقدم مولى له يقال له نافع،(1/321)
كانت له منزلة من يزيد بن معاوية. قال نافع: فلما قدمنا عليه أمر لعبد الله بن جعفر بألف ألف، وقضى عنه ألف ألف، ثم نظر إليّ فتبسم، فقلت: هذه لتلك الليلة.
وكنت سامرته ليلة في خلافة معاوية وأسمعته فيها، فذكرته بها وقدمت عليه هدايا من مصر كثيرة، فأمر بها لعبد الله بن جعفر؛ وكانت له مائة ناقة، فقلت لابن جعفر: لو سألته منها شيئا نحتلبه في طريقنا؟ ففعل، فأمر بصرفها كلها إليه. فلما أراد الوداع أرسل إليّ فدخلت عليه، فقال: ويلك! إنما أخّرتك لأتفرغ إليك، هات قول جميل.
خليليّ فيما عشتما هل رأيتما ... قتيلا بكى من حبّ قاتله قبلي
قال؛ فأسمعته، فقال: أحسنت والله؛ هات حاجتك! فما سألته شيئا إلا أعطانيه، فقال: إن يصلح الله هذا الأمر من قبل ابن الزبير تلقنا بالمدينة؛ فإن هذا لا يحسن إلا هناك. فمنع والله من ذلك شؤم ابن الزبير.
وفود عبد الله بن جعفر على عبد الملك بن مروان
قال بديح: وفد عبد الله بن جعفر على عبد الملك بن مروان، وكان زوّج ابنته أم كلثوم من الحجاج على ألفي ألف في السر وخمسمائة ألف في العلانية، وحملها إليه إلى العراق، فمكثت عنده ثمانية أشهر. قال بديح: فلما خرج عبد الله بن جعفر إلى عبد الملك بن مروان، خرجنا معه حتى دخلنا دمشق، فإنا لنحطّ رحالنا إذ جاءنا الوليد بن عبد الملك على بغلة وردة ومعه الناس، فقلنا: جاء إلى ابن جعفر ليحييه ويدعوه إلى منزله. فاستقبله ابن جعفر بالترحيب، فقال له: لكن أنت لا مرحبا بك ولا أهلا! فقال: مهلا يا بن أخي، فلست أهلا لهذه المقالة منك. قال: بلى، ولشرّ منها، قال: وفيم ذلك؟ قال: إنك عمدت إلى عقيلة نساء العرب، وسيدة بني عبد مناف، ففرشتها عبد ثقيف يتفخّذها. قال: وفي هذا عتب عليّ يا بن أخي؟ قال: وما أكثر من هذا؟ قال: والله إنّ أحق الناس أن لا يلومني في هذا لأنت وأبوك؛ إن كان من(1/322)
البلكم من الولاة ليصلون رحمي، ويعرفون حقي، وإنك وأباك منعتماني ما عند كما حتى ركبني من الدّين ما والله لو أن عبدا مجدّعا حبشيّا أعطاني بها ما أعطاني عبد ثقيف لزوّجتها؛ فإنما فديت بها رقبتي من النار. قال: فما راجعه كلمة حتى عطف عنانه، ومضى حتى دخل على عبد الملك- وكان الوليد إذا غضب عرف ذلك في وجهه- فلما رآه عبد الملك قال: مالك أبا العباس؟ قال: إنك سلّطت عبد ثقيف وملّكته ورفعته حتى تفخّذ نساء عبد مناف، وأدركته الغيرة. فكتب عبد الملك إلى الحجّاج يعزم عليه ألّا يضع كتابه من يده حتى يطلّقها ... فما قطع الحجّاج عنها رزقا ولا كرامة يجريها عليها حتى خرجت من الدنيا. قال: وما زال واصلا لعبد الله بن جعفر حتى هلك. قال بديح: فما كان يأتي علينا هلال إلا وعندنا غير مقبلة من الحجاج، عليها لطف وكسوة وميرة، حتى لحق عبد الله بن جعفر بالله.
ثم استأذن ابن جعفر على عبد الملك، فلما دخل عليه استقبله عبد الملك بالترحيب، ثم أخذ بيده فأجلسه معه على سريره، ثم سأله فألطف المسألة، حتى سألة عن مطعمه ومشربه. فلما انقضت مسألته، قال له يحيى بن الحكم: أمن خبثة كان وجهك يا أبا جعفر؟ قال: وما خبثة؟ قال: أرضك التي جئت منها. قال: سبحان الله، رسول الله صلّى الله عليه وسلّم يسميها طيبة وتسميها خبثة؟ لقد اختلفتما في الدنيا وأظنكما في الآخرة مختلفين.
فلما خرج من عنده هيّأ له ابن جعفر هدايا وألطافا. فقلت لبديح: ما قيمة ذلك؟ قال: قيمته مائة ألف. من وصفاء ووصائف وكسوة وحرير ولطف من لطف الحجاز. قال: فبعثني بها، فدخلت عليه وليس عنده أحد. فجعلت أعرض عليه شيئا شيئا. قال: فما رأيت مثل إعظامه لكل ما عرضت عليه من ذلك، وجعل يقول كلما أريته شيئا: عافى الله أبا جعفر! وما رأيت كاليوم، وما نريد أن يتكلف لنا شيئا من هذا، وإن كنا لمتذمّمين محتشمين. قال: فخرجت من عنده وأذن لأصحابه.
والله لبينا أنا عند بن جعفر أحدّثه عن تعجب عبد الملك وإعظامه لما أهدى(1/323)
إليه، إذا بفارس قد أقبل علينا، فقال أبا جعفر، إن أمير المؤمنين يقرأ السلام عليك، ويقول لك: جمعت له وخش رقيق الحجاز وأبّاقهم وحبست عنا فلانة، فابعث بها إلينا- وذلك أنه حين دخل عليه أصحابه جعل يحدّثهم عن هدايا ابن جعفر ويعظمها عندهم، فقال له يحيى بن الحكم: وماذا أهدى إليك ابن جعفر؟ جمع لك وخش رقيق الحجاز وأبّاقهم وحبس عنك فلانة. قال: ويلك، وما فلانة هذه؟
قال: ما لم يسمع واد أحد بمثلها قطّ جمالا وكمالا وخلقا وأدبا، لو أراد كرامتك بعث بها إليك. قال: وأين تراها. وأين تكون؟ قال: هي والله معه، وهي نفسه التي بين جنبيه- فلما قال الرسول ما قال، وكان ابن جعفر في أذنه بعض الوقر، إذا سمع ما يكره تصامّ، فأقبل عليه فقال: ما يقول يا بديح؟ قال: قلت: فإنّ أمير المؤمنين يقرأ السلام ويقول: إنه جاءني بريد من ثغر كذا يقول: إن الله نصر المسلمين وأعزهم. قال: اقرأ أمير المؤمنين السلام، وقل له: أعز الله نصرك، وكبت عدوك.
فقال الرسول: يا أبا جعفر، إني لست أقول هذا. وأعاد مقالته الأولى. فسألني فصرفته إلى وجه آخر. فأقبل عليّ الرسول، فقال: يا ماصّ ... أبرسل أمير المؤمنين تهكّم، وعن أمير المؤمنين تجيب هذا الجواب؟ أما والله لأطلّنّ دمك. فانصرف، وأقبل عليّ بن جعفر فقال: من ترى صاحبنا؟ قال: صاحبك بالأمس. قال: أظنه! فما الرأي عندك؟ قلت: يا أبا جعفر، قد تكلّفت له ما تكلفت، فإن منعتها إياه جعلتها سببا لمنعك، ولو طلب أمير المؤمنين إحدى بناتك ما كنت أرى أن تمنعها إياه. قال: ادعها لي فلما أقبلت. رحّب بها ثم أجلسها إلى جنبه، ثم قال: أما والله ما كنت أظن أن يفرق بيني وبينك إلا الموت. قالت: وما ذاك؟ قال: إنه حدث أمر، وليس والله كائنا فيه إلا ما أحببت، جاء الدهر فيه بما جاء. قالت: وما هو؟ قال:
إن أمير المؤمنين بعث يطلبك. فإن تهوى فذاك، وإلا والله لم يكن أبدا. قالت: ما شيء لك فيه هوى ولا أظنّ فيه فرجا عنك إلا فديته بنفسي، وأرسلت عينها بالبكاء. فقال لها: أما إذا فعلت فلا ترينّ مكروها: فمسحت عينيها، وأشار إليّ فقال: ويحك يا بديح استحثها قبل أن تتقدّم إليّ من القوم بادرة. قال: ودعا بأربع(1/324)
وصائف ودعا من صاحب نفقته بخمسمائة دينار، ودعا مولاة له كانت تلي طيبه، فدحست لها ربعة عظيمة مملوءة طيبا، ثم قال: عجّلها ويلك. فخرجت أسوقها حتى انتهيت إلى الباب؛ وإذا الفارس قد بلّغ عني، فما تركني الحجّاب أن تمس رجلاي الأرض حتى أدخلت على عبد الملك وهو يتلظّى، فقال لي يا ماصّ، وكذا أنت المجيب عن أمير المؤمنين والمتهكم برسله؟ قلت: يا أمير المؤمنين، إيذن لي أتكلم. قال: وما تقول يا كذا وكذا؟ قلت: إيذن لي جعلني الله فداك أتكلم. قال:
تكلم. قلت: يا أمير المؤمنين، أنا أصغر شأنا، وأقل خطرا من أن يبلغ كلامي من أمير المؤمنين ما أرى، وهل أنا إلا عبد من عبيد أمير المؤمنين، نعم، قد قلت ما بلغك، وقد يعلم أمير المؤمنين إنّما نعيش في كنف هذا الشيخ، وأنّ الله لم يزل إليه محسنا، فجاءه من قبلك شيء ما أتاه قطّ مثله، إنما طلبت نفسه التي بين جنبيه، فأجبت بما بلغك لأسهّل الأمر عليه؛ ثم سألني فأخبرته واستشارني فأشرت عليه، وها هي ذه قد جئتك بها. قال: أدخلها ويلك! قال: فأدخلتها عليه وعنده مسلمة ابنه، غلام ما رأيت مثله ولا أجمل منه حين اخضرّ شاربه. فلما جلست وكلّمها أعجب بكلامها، فقال: لله أبوك، أمسكك لنفسي أحبّ إليك أم أهبك لهذا الغلام، فإنه ابن أمير المؤمنين، قالت: يا أمير المؤمنين، لست لك بحقيقة، وعسى أن يكون هذا الغلام لي وجها. قال: فقام من مكانه ما راجعها، فدخل، وأقبل عليها مسلمة فقال:
يا لكاع «1» ، أعلى أمير المؤمنين تختارين؟ قالت: يا عدوّ نفسه إنما تلومني أن اخترتك؟ لعمر الله لقد قال رأي من اختارتك. قال: فضيّقت والله مجلسه. واطّلع علينا عبد الملك قد ادهن بدهن وارى الشيب، وعليه حلة تتلألأ كأنها الذهب، بيده مخصرة «2» يخطر بها، فجلس مجلسه على سريره، ثم قال: إيها، لله أبوك، أمسكك لنفسي أحبّ لك أم أهبك لهذا الغلام؟ قالت: ومن أنت أصلحك الله؟ قال لها الخصيّ: هذا أمير المؤمنين! قالت: لست مختارة على أمير المؤمنين أحدا. قال: فأين(1/325)
قولك آنفا؟ قالت: رأيت شيخا كبيرا، وأرى أمير المؤمنين أشبّ الناس وأجملهم، ولست مختارة عليه أحدا، قال: دونكها يا مسيلمة قال بديح، فنشرت عليه الكسوة والدنانير التي معي، وأريته الجواري والطّيب. قال: عافى الله ابن جعفر! أخشي ألا يكون لها عندنا نفقة وطيب وكسوة؟ فقلت: بلى، ولكنه أحبّ أن يكون معها ما تكتفي به حتى تستأنس. قال: فقبضها مسلمة، فلم تلبث عنده إلا يسيرا حتى هلكت.
قال بديح: فو الله الذي ذهب بنفس مسلمة، ما جلست معه مجلسا ولا وقفت موقفا أنازعه فيه الحديث، إلا قال: ابغني مثل فلانة. فأقول: ابغني مثل ابن جعفر.
قال: فقلت لبديح: ويلك! فما أجازه به؟ قال: قال حين دفع إليه حاجته ودينه:
لأجيزنك جائزة لو نشر لي مروان من قبره ما زدته عليها. فأمر له بمائة ألف. وايم الله إني لا أحسبه أنفق في هديته ومسيره ذلك وجاريته التي كانت عدل نفسه مائتي ألف.
وفود الشعبي على عبد الملك بن مروان
كتب عبد الملك بن مروان إلى الحجاج بن يوسف: أن ابعث إليّ رجلا يصلح للدين والدنيا، أتخذه سميرا وجليسا وخليّا. فقال الحجاج: ما ماله إلا عامر الشّعبي.
وبعث به إليه؛ فلما دخل عليه وجده قد كبا مهتما، فقال: ما بال أمير المؤمنين؟ قال ذكرت قول زهير «1» :
كأنّي وقد جاوزت سبعين حجّة ... خلعت بها عني عذار لجامي
رمتني بنات الدهر من حيث لا أرى ... فكيف بمن يرمى وليس برامي
فلو أنني أرمى بنبل رأيتها ... ولكنّني أرمى بغير سهام
على الراحتين تارة وعلى العصا ... أنوء ثلاثا بعدهنّ قيامي «2»
قال له الشّعبي: ليس كذلك يا أمير المؤمنين، ولكن كما قال لبيد بن ربيعة، وقد بلغ سبعين حجة:(1/326)
كأني وقد جاوزت سبعين حجة ... خلعت بها عن منكبيّ ردائيا
خليفة الله ماذا تأمرنّ بنا ... لسنا إليكم ولا في دار منتظر
ما زلت بعدك في همّ يؤرّقني ... قد طال في الحيّ إصعادي ومنحدري
لا ينفع الحاضر المجهود بادينا ... ولا يعود لنا باد على حضر
إنّا لنرجو إذا ما الغيث أخلفنا ... من الخليفة ما نرجو من المطر
نال الخلافة إذ كانت له قدرا ... كما أتى ربّه موسى على قدر
هذى الأرامل قد قضّيت حاجتها ... فمن لحاجة هذا الأرمل الذّكر
فقال: يا جرير، والله لقد وليت هذا الأمر وما أملك إلا ثلاثمائة، فمائة أخذها عبد الله، ومائة أخذتها أم عبد الله، يا غلام أعطه المائة الباقية.
فقال: والله يا أمير المؤمنين، إنها لأحبّ مال إليّ كسبته. ثم خرج، فقالوا له: ما وراءك؟ قال ما يسوءكم! خرجت من عند أمير يعطي الفقراء ويمنع الشعراء، وإني عنه لراض. ثم أنشأ يقول:
رأيت رقى الشيطان لا تستفزّه ... وقد كان شيطاني من الجنّ راقيا
وفود الحجاج بابراهيم بن محمد بن طلحة على عبد الملك بن مروان
عمران بن عبد العزيز قال: لما ولي الحجاج بن يوسف الحرمين بعد قتله ابن الزبير، استخلص إبراهيم بن محمد بن طلحة فقرّبه وعظّم منزلته. فلم تزل تلك حاله عنده حتى خرج إلى عبد الملك بن مروان، فخرج معه معادلا، لا يقصّر له في برّ ولا إعظام، حتى حضر به عبد الملك. فلما دخل عليه لم يبدأ بشيء بعد السلام إلا أن قال له: قدمت عليك أمير المؤمنين برجل الحجاز، لم أدع له بها نظيرا في الفضل والأدب والمروءة وحسن المذهب، مع قرابة الرحم، ووجوب الحق، وعظم قدر الأبوّة، وما بلوت منه في الطاعة والنصيحة وحسن الموازرة، وهو إبراهيم بن محمد بن طلحة، وقد(1/327)
أحضرته بابك ليسهل عليه إذنك، وتعرف له ما عرّفتك. فقال: أذكرتنا رحما قريبة وحقا واجبا، يا غلام، إيذن لإبراهيم بن محمد بن طلحة. فلما دخل عليه أدناه عبد الملك حتى أجلسه على فراشه، ثم قال له: يا بن طلحة، إنّ أبا محمد ذكّرنا ما لم نزل نعرفك به في الفضل والأدب والمروءة وحسن المذهب، مع قرابة الرحم ووجوب الحق وعظم قدر الأبوة، وما بلاه منك في الطاعة والنصيحة وحسن الموازرة، فلا تدعنّ حاجة في خاصة نفسك وعامّتك إلا ذكرتها. فقال: يا أمير المؤمنين، إن أول الحوائج، وأحقّ ما قدّم بين يدي الأمور، ما كان لله فيه رضا، ولحق نبيه صلّى الله عليه وسلّم أداء، ولك فيه ولجماعة المسلمين نصيحة، وعندي نصيحة لا أجد بداّ من ذكرها، ولا أقدر على ذلك إلا وأنا خال، فأخلني يا أمير المؤمنين ترد عليك نصيحتي. قال:
دون أبي محمد؟ قال: نعم، دون أبي محمد؟ قال عبد الملك للحجاج: قم. فلما خطرف «1» السّتر أقبل عليّ فقال: يا بن طلحة، قل نصيحتك. فقال: تالله يا أمير المؤمنين، لقد عمدت إلى الحجاج في تغطرسه وتعجرفه وبعده من الحق وقربه من الباطل، فوليته الحرمين، وهما ما هما، وبهما ما بهما من المهاجرين والأنصار، والموالي الأخيار، يطؤهم بطغام «2» أهل الشام، ورعاع لا روية لهم في إقامة حق ولا في إزاحة باطل، ويسومهم الخسف، ويحكم فيهم بغير السّنة بعد الذي كان من سفك دمائهم، وما انتهك من حرمهم؛ ثم ظننت أن ذلك فيما بينك وبين الله زاهق، وفيما بينك وبين نبيك غدا إذا جاثاك «3» للخصومة بين يدي الله في أمته. أما والله لا تنجو هنالك إلا بحجة. فاربع «4» على نفسك أودع. فقال له عبد الملك: كذبت ومنت «5» وظنّ بك الحجاج ما لم يجده فيك؛ وقد يظنّ الخير بغير أهله؛ قم فأنت الكاذب المائن. قال:
فقمت وما أعرف طريقا. فلما خطرفت الستر لحقني لاحق فقال: احبسوا هذا، وقال للحجاج: ادخل. فدخل، فمكث مليّا من النهار لا أشك أنهما في أمري، ثم خرج(1/328)
الآذن فقال: ادخل يا بن طلحة. فلما كشف لي الستر لقيني الحجاج وهو خارج وأنا داخل؛ فاعتنقني وقبّل ما بين يعينيّ، وقال: أمّا إذا جزى الله المتواخيين خيرا بفضل تواصلهما، فجزاك الله عني أفضل الجزاء؛ فو الله لئن سلمت لك لأرفعنّ ناظرك، ولأعلينّ كعبك، ولأتبعنّ الرجال غبار قدميك. قال: فقلت: يهزأ بي وحقّ الكعبة!.
فلما وصلت إلى عبد الملك، أدناني حتى أدناني عن مجلسي الأول؛ ثم قال: يا بن طلحة، لعلّ أحدا شاركك في نصيحتك هذه! قلت: والله يا أمير المؤمنين، ما أعلم أحدا أنصع عندي يدا ولا أعظم معروفا من الحجّاج. ولو كنت محابيا أحدا لغرض دنيا لحابيته. ولكني آثرت الله ورسوله، وآثرتك والمؤمنين عليه. قال: قد علمت أنك لم ترد الدنيا، ولو أردتها لكانت لك في الحّجاج، ولكن أردت الله والدار الآخرة. وقد عزلته عن الحرمين لما كرهت من ولايته عليهما، وأعلمته أنك استنزلتني له عنهما استقلالا لهما؛ وولّيته العراقين وما هنالك من الأمور التي لا يدحضها إلا مثله، وأعلمته أنك استدعيتني إلى ولايته عليهما استزادة له، لألزمه بذلك من حقّك ما يؤدّي إليك عني اجر نصيحتك. فاخرج معه فإنك غير ذامّ لصحبته فخرجت مع الحجاج وأكرمني أضعاف إكرامه.
وفود رسول المهلب على الحجاج بقتل الأزارقة
أبو الحسن المدائني قال: لما هزم المهلب بن أبي صفرة قطريّ بن الفجاءة صاحب الأزارقة، بعث إلى مالك بن بشير فقال له: إني موفدك إلى الحجاج فسر فإنما هو رجل مثلك. وبعث إليه بجائزة، فردّها وقال: إنما الجائزة بعد الاستحقاق. وتوجّه.
فلما دخل على الحجّاج، قال له: ما اسمك؟ قال: مالك بن بشير. قال: ملك وبشارة.
كيف تركت المهلّب؟ قال: أدرك ما أمّل وأمّن من خاف. قال: كيف هو بجنده؟
قال: والد رؤوف: قال: فكيف جنده له؟ قال: أولاد بررة. قال: كيف رضاهم(1/329)
عنه؟ قال: وسعهم بالفضل وأقنعهم بالعدل. قال: فكيف تصنعون إذا لقيتم عدوّكم؟
قال: نلقاهم بحدنا فنطمع فيهم، ويلقونا بحدّهم فيطمعون فينا. قال: كذلك الحدّ إذا لقي الحدّ. قال: فما حال قطريّ؟ قال: كادنا ببعض ما كدناه. قال: فما منعكم من اتّباعه؟ قال: رأينا المقام من ورائه خيرا من اتّباعه. قال: فأخبرني عن ولد المهلب.
قال: أعباء القتال بالليل، حماة السّرح بالنهار. قال: أيّهم أفضل؟ قال: ذلك إلى أبيهم. قال: لتقولن. قال: هم كحلقة مضروبة لا يعرف طرفاها. قال: أقسمت عليك هل روّأت «1» في هذا الكلام؟ قال: ما أطلع الله على غيبه أحدا. فقال الحجاج لجلسائه: هذا والله الكلام المطبوع لا الكلام المصنوع.
وفود جرير على عبد الملك بن مروان
لما مدح جرير بن الخطفي الحجّاج بن يوسف بشعره الذي يقول فيه:
من سدّ مطّلع النّفاق عليكم ... أم من يصول كصولة الحجّاج
وبشعره الذي يقول فيه:
أم من يغار على النّساء حفيظة ... إذ لا يثقن بغيرة الأزواج «2»
وقوله:
دعا الحجّاج مثل دعاء نوح ... فأسمع ذا المعارج فاستجابا
قال له الحجاج: إن الطاقة تعجز عن المكافأة، ولكني موفدك على أمير المؤمنين عبد الملك بن مروان، فسر إليه بكتابي هذا فسار إليه؛ ثم استأذنه في الإنشاد فأذن له، فقال:
أتصحو أم فؤادك غير صاحي(1/330)
قال له عبد الملك: بل فؤادك. فلما انتهى إلى قوله:
تعزّت أمّ حزرة ثم قالت: ... رأيت الواردين ذوي امتياج «1»
ثقي بالله ليس له شريك ... ومن عند الخليفة بالنّجاح
سأشكر إن رددت إليّ ريشي ... وأثبتّ القوادم في جناحي «2»
ألستم خير من ركب المطايا ... وأندى العالمين بطون راح
ارتاح عبد الملك، وكان متكئا فاستوى جالسا، وقال: من مدحنا منكم فليمدحنا بمثل هذا أو ليسكت! ثم قال له: يا جرير، أترى أم حزرة ترويها مائة ناقة؟؟؟ نعم كلب؟ قال: إذا لم تروها يا أمير المؤمنين فلا أرواها الله. فأمر له بمائة ناقة من نعم كلب. كلها سود الحدقة. فقال: يا أمير المؤمنين، إنها أبّاق «3» ونحن مشايخ وليس بأحدنا فضل عن راحلته، فلو أمرت بالرّعاء. فأمر له بثمانية من الرعاء، وكانت بين يدي عبد الملك صحاف من فضة يقرعها بقضيب في يده، فقال له جرير: والمحلب يا أمير المؤمنين، وأشار إلى صحفة منها؛ فنبذها إليه بالقضيب، قال: خذها لا نفعتك! ففي ذلك يقول جرير.
أعطوا هنيدة يحدوها ثمانية ... ما في عطائهم من ولا سرف «4»
وفود جرير عن أهل الحجاز على عمر بن عبد العزيز رضي الله عنه
قدم جرير بن الخطفي على عمر بن عبد العزيز رضي الله عنه، عن أهل الحجاز، فاستأذنه في الشعر، فقال: مالي وللشعر يا جرير؟ إني لفي شغل عنه! قال يا أمير المؤمنين، إنها رسالة عن أهل الحجاز. قال: فهاتها إذا. فقال:(1/331)
كم من ضرير أمير المؤمنين لدى ... أهل الحجاز دهاه البؤس والضرر
أصابت السّنة الشّهباء ما ملكت ... يمينه فحناه الجهد والكبر «1»
ومن قطيع الحشا عاشت مخبّأة ... ما كانت الشمس تلقاها ولا القمر
لما اجتلتها صروف الدهر كارهة ... قامت تنادي بأعلى الصوت: يا عمر!
وفود دكين الراجز على عمر بن عبد العزيز رضي الله عنه
قال دكين بن رجاء الفقيمي الراجز: مدحت عمر بن عبد العزيز وهو والي المدينة، فأمر لي بخمس عشرة ناقة كرائم صعابا، فكرهت أن أرمي بها الفجاج فتنتشر عليّ، ولم تطب نفسي ببيعها، فقدمت علينا رفقة من مصر، فسألتهم الصّحبة، فقالوا: إن خرجت الليلة. فقلت: إني لم أودّع الأمير ولابدّ وداعه.
قالوا: فإن الأمير لا يحجب عن طارق ليل. فاستأذنت عليه، فأذن لي وعنده شيخان لا أعرفهما. فقال لي: يا دكين، إن لي نفسا توّاقة، فإن أنا صرت إلى أكثر مما أنا فيه فبعين ما أرينّك. قلت له: أشهد لي بذلك أيها الأمير. قال: إني أشهد الله. قلت:
ومن خلقه! قال: هذين الشيخين. قلت لأحدهما: من أنت يرحمك الله أعرفك؟ قال:
سالم بن عبد الله. فقلت: لقد استسمنت الشاهد. وقلت للآخر: من أنت يرحمك الله؟
قال: أبو يحيى مولى الأمير. وكان مزاحم يكنى أبا يحيى. قال دكين: فخرجت بهن إلى بلدي، فرمى الله في أذنابهنّ بالبركة، حتى اتخذت منهنّ الضياع والرّباع والغلمان.
فإني لبصحراء فلج «2» ، إذا بريد يركض إلى الشام، فقلت له: هل من مغرّبة خبر؟
قال: مات سليمان بن عبد الملك. قلت: فمن القائم بعده؟ قال: عمر بن عبد العزيز.
قال: فأنخت قلوصي فألقيت عليها أداتي وتوجهت عنده؛ فلقيت جريرا في الطريق(1/332)
جائيا من عنده، فقلت: من أين أبا حزرة؟ قال: من عند أمير يعطي الفقراء ويمنع الشعراء قلت: فما ترى فإني خرجت إليه؟ قال: عوّل عليه في مال ابن السبيل كما فعلت. فانطلقت فوجدته قاعدا على كرسيّ في عرصة «1» داره، قد أحاط الناس به فلم أجد إليه سبيلا للوصول، فناديت بأعلى صوتي:
يا عمر الخيرات والمكارم ... وعمر الدّسائع العظائم «2»
إني امرؤ من قطن بن دارم ... أطلب حاجي من أخي مكارم
إذ ننتجي والليل غير نائم ... في ظلمة الليل وليلي عاتم
عند أبي يحيى وعند سالم
فقام أبو يحيى ففرّج لي، وقال: يا أمير المؤمنين، إن لهذا البدويّ عندي شهادة عليك. قال: أعرفها، ادّن مني يا دكين، أنا كما ذكرت لك أن لي نفسا توّاقة، وأن نفسي تاقت إلى أشرف منازل الدنيا، فلما أدركتها وجدتها تتوق إلى الآخرة؛ والله ما رزأت من أمور الناس شيئا فأعطيك منه، وما عندي إلا ألفا درهم، أعطيك أحدهما. فأمر لي بألف درهم. فو الله ما رأيت ألفا كانت أعظم بركة منها.
وفود كثير والأحوص ونصيب على عمر بن عبد العزيز رضي الله عنه
حماد الراوية قال: قال لي كثير عزّة: ألا أخبرك عما دعاني إلى ترك الشعر؟ قلت:
نعم. قال: شخصت أنا والأحوص ونصيب إلى عمر بن عبد العزيز رضي الله عنه، وكل واحد منا يدل عليه بسابقة وإخاء قديم، ونحن لا نشك أن سيشركنا في خلافته، فلما رفعت لنا أعلام خناصرة «3» ، لقينا مسلمة بن عبد الملك، وهو يومئذ(1/333)
فتى العرب، فسلّمنا فردّ، ثم قال: ما بلغكم أن إمامكم لا يقبل الشعر؟ قلنا: ما توضّح إلينا خبر حتى انتهينا إليك. ووجمنا وجمة عرف ذلك فينا. فقال: إن يك ذو دين بني مروان قد وليّ وخشيتم حرمانه، فإن ذا دنيانا قد بقي، ولكم عندي ما تحبون، وما ألبث حتى أرجع إليكم وأمنحكم ما أنتم أهله.
فلما قدم كانت رحالنا عنده بأكرام منزول عليه؛ فأقمناه عنده أربعة أشهر يطلب لنا الإذن هو وغيره، فلا يؤذن لنا؛ إلى أن قلت في جمعة من تلك الجمع لو أني دنوت من عمر فسمعت كلامه فحفظته، كان ذلك رأيا. ففعلت، فكان مما حفظت من كلامه: «لكل سفر زاد لا محالة، فتزوّدوا لسفركم من الدنيا إلى الآخرة بالتقوى، وكونوا كمن عاين ما أعدّ الله له من ثوابه أو عقابه، فترغبوا وترهبوا، ولا يطولنّ عليكم الأمد فتقسو قلوبكم وتنقادوا لعدوّكم في كلام كثير لا أحفظه، ثم قال:
«أعوذ بالله أن آمركم بما أنهى عنه نفسي، فتخسر صفقتي، وتظهر عيلتي، وتبدو مسكنتي، في يوم لا ينفع فيه إلا الحق والصدق» ! ثم بكى حتى ظننت أنه قاض نحبه، وارتجّ المسجد وما حوله بالبكاء، وانصرفت إلى صاحبيّ فقلت لهما: خذا في شرج «1» من الشّعر غير ما كنا نقول لعمر وآبائه؛ فإن الرجل آخريّ وليس بدنيوي.
إلى أن استأذن لنا مسلمة في يوم جمعة بعد ما أذن للعامة. فلما دخلت سلّمت ثم قلت: يا أمير المؤمنين، طال الثّواء وقلّت الفائدة، وتحدّث بجفائك إيانا وفود العرب.
قال: يا كثيّر، إِنَّمَا الصَّدَقاتُ لِلْفُقَراءِ وَالْمَساكِينِ وَالْعامِلِينَ عَلَيْها وَالْمُؤَلَّفَةِ قُلُوبُهُمْ وَفِي الرِّقابِ وَالْغارِمِينَ وَفِي سَبِيلِ اللَّهِ وَابْنِ السَّبِيلِ
«2» أفي واحد من هؤلاء أنت؟
قلت: بلى، ابن سبيل منقطع به، وأنا صاحبك. قال: ألست صاحب أبي سعيد؟
قلت: بلى، قال: ما أرى ضيف أبي سعيد منقطعا به. قلت: يا أمير المؤمنين، أتأذن لي في الإنشاد؟ قال: نعم، ولا تقل ولا تقل إلا حقا. فقلت:
وليت فلم تشتم علياّ ولم تخف ... برياّ ولم تقبل إشارة مجرم(1/334)
وصدّقت بالفعل المقال مع الذي ... أتيت فأمسى راضيا كلّ مسلم
ألا إنما يكفي الفتى بعد زيغه ... من الأود الباقي ثقاف المقوّم «1»
وقد لبست لبس الهلوك ثيابها ... تراءى لك الدنيا بكفّ ومعصم «2»
وتومض أحيانا بعين مريضة ... وتبسم عن مثل الجمان المنظّم
فأعرضت عنها مشمئزا كأنّما ... سقتك مدوفا من سمام وعلقم «3»
وقد كنت من أجبالها في ممنّع ... ومن بحرها في مزيد الموج مفعم
وما زلت تواقا إلى كلّ غاية ... بلغت بها أعلى البناء المقوّم
فلما أتاك الملك عفوا ولم يكن ... لطالب دنيا بعده من تقدّم
تركت الذي يفنى وإن كان مونقا ... وآثرت ما يبقى برأي مصمّم
وأضررت بالفاني وشمّرت للذي ... أمامك في يوم من الشرّ مظلم
ومالك إذا كنت الخليفة مانع ... سوى الله من مال رغيب ولادم
سما لك همّ في الفؤاد مؤرّق ... بلغت به أعلى المعالي بسلّم
فما بين شرق الأرض والغرب كلّها ... مناد ينادي من فصيح وأعجم
يقول أمير المؤمنين ظلمتني ... بأخذ لدينار ولا أخذ درهم
ولا بسط كفّ لامريء غير مجرم ... ولا السّفك منه ظالما ملء محجم
ولو يستطيع المسلمون لقسّموا ... لك الشّطر من أعمارهم غير ندّم
فأربح بها من صفقة لمبايع ... وأعظم بها أعظم بها ثم أعظم
قال: فأقبل عليّ وقال: إنك مسئول عما قلت. ثم تقدّم الأحوص فاستأذنه في الإنشاد، فقال: قل، ولا تقل إلا حقّا. فقال:
وما الشّعر إلا حكمة من مؤلّف ... بمنطق حقّ أو بمنطق باطل
فلا تقبلن إلّا الذي وافق الرّضا ... ولا ترجعنّا ءالنّساء الأرامل
رأيناك لم تعدل عن الحقّ ممنة ... ولا شأمة فعل الظّلوم المخاتل «4»(1/335)
ولكن أخذت الحقّ جهدك كلّه ... تقدّ مثال الصالحين الأوائل
فقلنا ولم نكذب بما قد بدا لنا ... ومن ذا يردّ الحقّ من قول قائل
ومن ذا يردّ السّهم بعد مضائه ... على فوقه إذ عار من نزع نابل «1»
ولولا الذي قد عوّدتنا خلائف ... غطاريف كانوا كالّليوث البواسل
لما وخدت شهرا برحلي شملّته ... تقدّ متان البيد بين الرّواحل «2»
ولكن رجونا منك مثل الذي به ... حبينا زمانا من ذويك الأوائل
فإن لم يكن للشّعر عندك موضع ... وإن كان مثل الدّرّ في نظر قائل
وكان مصيبا صادقا لا يعيبه ... سوى أنه يبنى بناء المنازل
فإنّ لنا قربى ومحض مودّة ... وميراث آباء مشوا بالمناصل
فذادوا عدوّ السلم عن عقر دارهم ... وأرسوا عمود الدين بعد التّمايل
وقبلك ما أعطى الهنيدة جلّة ... على الشعر كعبا من سديس وبازل «3»
رسول الإله المستضاء بنوره ... عليه السلام بالضّحى والأصائل
فقال: إنك مسئول عما قلت. ثم تقدم نصيب فاستأذنه في الإنشاد؛ فلم يأذن له، وأمره بالغزو إلى دابق. فخرج إليها وهو محموم. وأمر لي بثلاثمائة، وللأحوص بمثلها، ولنصيب بمائة وخمسين.
وفود الشعراء على عمر بن عبد العزيز رضي الله عنه
ابن الكلبي: لما استخلف عمر بن عبد العزيز رضي الله عنه، وفدت إليه الشعراء كما كانت تفد إلى الخلفاء قبله؛ فأقاموا ببابه أياما لا يأذن لهم بالدخول، حتى قدم عون بن عبد الله بن عتبة بن مسعود على عمر بن عبد العزيز، وعليه عمامة قد أرخى طرفيها، وكانت له منه مكانة، فقال جرير:(1/336)
يأيها الرّجل المرخي عمامته ... هذا زمانك إنّي قد مضى زمني
أبلغ خليفتنا إن كنت لاقيه ... أني لدي الباب كالمصفود في قرن «1»
وحش المكانة من أهلي ومن ولدي ... نائي المحلّة عن داري وعن وطني
قال: نعم أبا حزرة ونعمى عين. فلما دخل على عمر قال: يا أمير المؤمنين، إن الشعراء ببابك؛ وأقوالهم باقية؛ وسنانهم مسنونة. قال: يا عون، مالي وللشعراء؟ قال:
يا أمير المؤمنين، إن النبي صلّى الله عليه وسلّم قد مدح وأعطى، وفيه أسوة لكل مسلم. قال: ومن مدحه؟ قال: عباس بن مرداس؛ فكساه حلّة قطع بها لسانه. قال: وتروي قوله؟
قلت: نعم:
رأيتك يا خير البريّة كلّها ... نشرت كتابا جاء بالحقّ معلما
ونوّرت بالبرهان أمرا مدمّسا ... وأطفأت بالبرهان نارا مضرّما «2»
فمن مبلغ عنيّ النبيّ محمدا ... كلّ امريء يجزي بما قد تكلما
تعالى علواّ فوق عرش إلهنا ... وكان مكان الله أعلى وأعظما
قال: صدقت؛ فمن بالباب منهم؟ قال: ابن عمك عمر بن أبي ربيعة. قال: لا قرّب الله قرابته، ولا حيّا وجهه! أليس هو القائل؟
ألا ليت أنّي يوم حانت منيّتي ... شممت الذي ما بين عينيك والفم
وليت طهوري كان ريقك كله ... وليت حنوطي من مشاشك والدم «3»
ويا ليت سلّمى في القبور ضجيعتي ... هنالك أو في جنة أو جهنّم
فليته والله تمنى لقاءها في الدنيا، ويعمل عملا صالحا. والله لا دخل عليّ أبدا فمن بالباب غير من ذكرت؟ قلت: جميل بن معمر العذري. قال: هو الذي يقول:
ألا ليتنا نحيا جميعا وإن نمت ... يوافي لدى الموتى ضريحي ضريحها(1/337)
فما أنا في طول الحياة براغب ... إذا قيل قد سوّى عليها صفيحها
أظلّ نهاري لا أراها ويلتقي ... مع الليل روحي في المنام وروحها
اعزب به؛ فو الله لا دخل عليّ أبدا. فمن غير من ذكرت؟ قلت: كثير عزة.
قال: هو الذي يقول:
رهبان مدين والذين عهدتهم ... يبكون من حذر العذاب قعودا
لو يسمعون كما سمعت حديثها ... خرّوا لعزّة. راكعين سجودّا
اعزب به. فمن بالباب غير من ذكرت؟ قلت: الأحوص الأنصاري. قال: أبعده الله ومحقه، أليس هو القائل وقد أفسد على رجل من أهل المدينة جارية هرب بها منه:
الله بيني وبين سيدها ... يفرّ عني بها وأتّبع
اعزب به. فمن بالباب غير من ذكرت؟ قلت: همام بن غالب الفرزدق. قال:
أليس هو القائل يفخر بالزنا:
هما دلّتاني من ثمانين قامة ... كما انقضّ باز أقتم الرّيش كاسره
فلما استوت رجلاي في الارض قالتا ... أحيّ يرجّى أم قتيل نحاذره
وأصبحت في القوم الجلوس وأصبحت ... مغلّقة دوني عليها دساكره «1»
فقلت ارفعوا الأسباب لا يشعروا بنا ... وولّيت في أعقاب ليل أبادره
اعزب به. فو الله لا دخل عليّ أبدا، فمن بالباب غير من ذكرت؟ قلت: الأخطل التغلبي. قال: أليس هو القائل:
فلست بصائم عمري ... ولست بآكل لحم الأضاحي
ولست بزاجر عنسا بكورا ... إلى بطحاء مكّة للنّجاح
ولست بقائم كالعير يدعو ... قبيل الصبح جيّ على الفلاح
ولكني سأشربها شمولا ... وأسجد عند منبلج الصباح(1/338)
اعزب به. فو الله لا وطيء لي بساطا أبدا وهو كافر؛ فمن بالباب غير من ذكرت؟ قلت: جرير بن الخطفي. قال: أليس هو القائل:
لولا مراقبة اليعون أريننا ... مقل المها وسوالف الآرام «1»
هل ينهينك أن قتلن مرقّشا ... أو ما فعلن بعروة بن حزام
ذمّ المنازل بعد منزلة الّلوى ... والعيش بعد أولئك الأقوام
طرقتك صائدة القلوب وليس ذا ... حين الزّيارة فارجعي بسلام
فإن كان ولا بد فهذا. فأذن له؛ فخرجت إليه فقلت: ادخل أبا حزرة. فدخل وهو يقول:
إنّ الذي بعث النبيّ محمدا ... جعل الخلافة في إمام عادل
وسع الخلائق عدله ووفاؤه ... حتى ارعوى وأقام ميل المائل
والله أنزل في القران فريضة ... لابن السبيل وللفقير العائل
إني لأرجو منك خيرا عاجلا ... والنّفس مولعة بحبّ العاجل
فلما مثل بين يديه قال: اتق الله يا جرير ولا تقل إلا حقا. فأنشأ يقول:
كم باليمامة من شعثاء أرملة ... ومن يتيم ضعيف الصوت والنظر
ممن يعدّك تكفي فقد والده ... كالفرخ في العيشّ لم ينهض ولم يطر
يدعوك دعوة ملهوف كأنّ به ... خبلا من الجنّ أو مساّ من النّشر «2»
خليفة الله ماذا تأمرنّ بنا ... لسنا إليكم ولا في دار منتظر
ما زلت بعدك في هم يؤرّقني ... قد طال في الحيّ إصعادي ومنحدري
لا ينفع الحاضر المجهود بادينا ... ولا يعود لنا باد على حضر
إنّا لنرجو إذا ما الغيث أخلفنا ... من الخليفة ما نرجو من المطر
نال الخلافة إذ كانت له قدرا ... كما أتى ربّه موسى على قدر
هذي الأرامل قد قضّيت حاجتها ... فمن لحاجة هذا الأرمل الذّكر(1/339)
فقال: يا جرير، والله لقد وليت هذا الأمر وما أملك إلا ثلاثمائة، فمائة أخذها عبد الله، ومائة أخذتها أمر عبد الله، يا غلام أعطه المائة الباقية.
فقال: والله يا أمير المؤمنين، إنها لأحبّ مال إليّ كسبته. ثم خرج، فقالوا له: ما وراءك؟ قال ما يسوءكم! خرجت من عند أمير يعطي الفقراء ويمنع. الشعراء، وإني عنه لراض. ثم أنشأ يقول:
رأيت رقى الشيطان لا تستفزّه ... وقد كان شيطاني من الجنّ راقيا «1»
وفود نابغة بني جعدة على ابن الزبير رحمه الله تعالى
الزبير بن بكار قاضي الحرمين، قال: أقحمت السّنة نابغة بني جعدة، فوفد إلى ابن الزّبير، فدخل عليه في المسجد الحرام، ثم أنشده:
حكيت لنا الصّدّيق لمّا وليتنا ... وعثمان والفاروق فارتاح معدم
وسوّيت بين الناس في الحقّ فاستووا ... فعاد صباحا حالك الّلون مظلم
أتاك أبو ليلى يجوب به الدّجى ... دجى الليل جوّاب الفلاة عثمثم «2»
لتجبر منه جانبا زعزعت به ... صروف الليالي والزّمان المصمّم
فقال له ابن الزبير: هوّن عليك أبا ليلى، فالشعر أدنى وسائلك عندنا؛ أما صفوة أموالنا فلآل الزبير، وأما عفوته «3» فإن بني أسد وتيما تشغلها عنك، ولكن لك في مال الله سهمان: سهم برؤيتك رسول الله صلّى الله عليه وسلّم، وسهم بشركتك المسلمين في فيئهم. ثم أخذ بيده ودخل به دار النّعم، فأعطاه قلائص سبعا، وجملا رحيلا، وأوقر «4» له(1/340)
الركاب برّا وتمرا وثيابا. فجعل النابغة يستعجل فيأكل الحبّ صرفا. فقال ابن الزبير: ويح أبي ليلى! لقد بلغ به الجهد. قال النابغة: أشهد لسمعت رسول الله صلّى الله عليه وسلّم يقول: ما ولّيت قريش فعدلت، واسترحمت فرحمت، وحدثت فصدقت، ووعدت خيرا فأنجزت، فأنا والنبيون فرّاط القاصفين.
قال الزبير بن بكار: الفارط: الذي يتقدم إلى الماء يصلح الرّشاء والدّلاء والقاصف: الذي يتقدم لشراء الطعام.
وفود أهل الكوفة على ابن الزبير رحمه الله تعالى
قال: لما قتل مصعب بن الزبير المختار بن أبي عبيد، خرج حاجّا فقدم على أخيه عبد الله بن الزّبير بمكة ومعه وجوه أهل العراق، فقال له: يا أمير المؤمنين جئتك بوجوه أهل العراق، لم أدع لهم بها نظيرا، لتعطيهم من هذا المال. قال: جئتني بعبيد أهل العراق لأعطيهم مال الله. والله لا فعلت. فلما دخلوا عليه وأخذوا مجالسهم، قال لهم: يا أهل الكوفة، وددت والله أن لي بكم من أهل الشام صرف الدينار والدرهم، بل لكل عشرة رجلا. قال عبيد الله بن ظبيان: أتدري يا أمير المؤمنين ما مثلنا ومثلك فيما ذكرت؟ قال: وما ذلك؟ قال: فإن مثلنا ومثلك ومثل أهل الشام كما قال أعشى بكر من وائل:
علّقتها عرضا وعلّقت رجلا ... غيري وعلّق أخرى غيرها الرّجل «1»
أحببناك نحن، وأحببت أنت أهل الشام، وأحبّ أهل الشام عبد الملك.
ثم النصرف القوم من عنده خائبين. فكاتبوا عبد الملك بن مروان وغدروا بمصعب بن الزبير.(1/341)
وفود رؤبة على أبي مسلم
الأصمعي قال: حدّثنا رؤبة قال: قدمت على أبي مسلم صاحب الدعوة، فأنشدته، فناداني: يا رؤبة، فنوديت له من كل مكان: يا رؤبة! فأجبت:
لبّيك إذ دعوتني لبّيكا ... أحمد ربّا ساقني إليكا
الحمد والنّعمة في يديكا
قال: بل في يدي الله عز وجل. قلت: وأنت لما أنعمت حمدت. ثم استأذنت في الإنشاد فأذن لي، فأنشدته:
ما زال يأتي الملك من أقطاره ... وعن يمينه وعن يساره
مشمّرا لا يصطلي بناره ... حتى أقرّ الملك في قراره
فقال: إنك أتيتنا وقد شفّ «1» المال واستنفضه الإنفاق، وقد امرنا لك بجائزة وهي تافهة يسيرة، ومنك العود وعلينا المعوّل، والدهر أطرق مستتبّ «2» ، فلا تلق بجنبيك الأسدّة «3» .
قال: فقلت: الذي أفادني الأمير من كلامه أحبّ إليّ من الذي أفادني من ماله.
وفود العتابي على المأمون
الشّيباني قال: كان كلثوم العتابي أيام هارون الرشيد في ناحية المأمون، فلما خرج إلى خراسان شيّعه إلى قومس حتى وقف على سنداد كسرى، فلما حاول وداعه قال له المأمون: لا تدع زيارتنا إن كان لنا من هذا الأمر شيء. فلما أفضت الخلافة إلى المأمون وفد إليه العتابي زائرا، فحجب عنه، فتعرّض ليحيى بن أكثم فقال: أيها القاضي، إن رأيت أن تذكّر بي أمير المؤمنين. فقال له يحيى: ما أنا بالحاجب. قال(1/342)
له: قد علمت، ولكنك ذو فضل وذو الفضل معوان. فدخل على المأمون فقال: يا أمير المؤمنين، أجرني من العتابي ولسانه فلم يأذن له وشغل عنه، فلما رأى العتابي جفاءه قد تمادى. كتب إليه:
ما على ذا كنا افترقنا بسندا ... د ولا هكذا رأينا الإخاء
لم أكن أحسب الخلافة يزدا ... د بها ذو الصفاء إلا صفاء
تضرب الناس بالمثقّفة السّم ... ر على غدرهم وتنسى الوفاء
فلما قرأ أبياته دعا به، فلما دنا منه سلّم بالخلافة ووقف بين يديه، فقال: يا عتابي، بلغتنا وفاتك فغمّتنا، ثم انتهت إلينا وفادتك فسرّتنا. فقال: يا أمير المؤمنين، لو قسم هذا البرّ على أهل منى وعرفات لوسعهم؛ فإنه لا دين إلا بك، ولا دنيا إلا معك! قال: سل حاجتك. قال: يدك بالعطية أطلق من لساني بالمسألة فأحسن جائزته.
وانصرف.
وفود أبي عثمان المازني على الواثق
أبو عثمان بكر بن محمد قال: وفدت على الواثق، فلما دخلت وسلمت قال:
هل خلّيت وراءك أحدا يهمك أمره؟ قلت أخيّة لي ربّيتها فكأنها بنتي. قال:
ليت شعري. ما قالت حين فارقتها؟ قال: أنشدتني قول الأعشى:
تقول ابنتي يوم جدّ الرحيل ... أرانا سواء ومن قد يتم
أبانا، فلا رمت من عندنا ... فإنا نخاف بأن تخترم «1»
أرانا إذا أضمرتك البلا ... د نجفى وتقطع منّا الرّحم «2»
قال: ليت شعري، ما قلت لها؟ قال: أنشدتها يا أمير المؤمنين قول جرير:
ثقي بالله ليس له شريك ... ومن عند الخليفة بالنّجاح(1/343)
قال: أتاك النجاح. وأمر له بعشرة آلاف درهم. ثم قال: حدّثني حديثا ترويه عن أبي مهديّة مستظرفا. قلت: يا أمير المؤمنين، حدّثني الأصمعي قال: قال لي أبو مهدية: بلغني أن الأعراب والأعزاب سواء في الهجاء. قلت: نعم. قال: فاقرأ:
الْأَعْرابُ أَشَدُّ كُفْراً وَنِفاقاً
ولا تقرأ: الأعراب، ولا يغرّنك العزب وإن صام وصلى! فضحك الواثق حتى شغر برجله «1» ، وقال: لقد لقي أبو مهدية من العزبة شرا. وأمر لي بخمسمائة دينار.
الوافدات على معاوية وفود سودة ابنة عمارة على معاوية
عامر الشعبي قال: وفدت سودة بنت عمارة بن الأشتر الهمدانية على معاوية بن أبي سفيان، فاستأذنت عليه فأذن لها، فلما دخلت عليه سلّمت عليه، فقال لها: كيف أنت يا بنة الأشتر؟ قالت: بخير يا أمير المؤمنين. قال لها: أنت القائلة لأخيك:
شمّر كفعل أبيك يا بن عمارة ... يوم الطّعان وملتقى الأقران
وانصر عليّا والحسين ورهطه ... واقصد لهند وابنها بهوان
إنّ الإمام أخا النبيّ محمد ... علم الهدى ومنارة الإيمان
فقد الجيوش وسر أمام لوائه ... قدما بأبيض صارم وسنان
قالت: يا أمير المؤمنين، مات الرأس، وبتر الذنب؛ فدع عنك تذكار ما قد نسي. قال: هيهات، ليس مثل مقام أخيك ينسى. قالت: صدقت والله يا أمير المؤمنين، ما كان أخي خفيّ المقام، ذليل المكان، ولكن كما قالت الخنساء:
وإنّ صخرا لتأتمّ الهداة به ... كأنّه علم في رأسه نار
وبالله أسأل يا أمير المؤمنين إعفائي مما استعفيته. قال: قد فعلت، فقولي حاجتك. قالت: يا أمير المؤمنين، إنك للناس سيد، ولأمورهم مقلّد، والله سائلك(1/344)
عما افترض عليك من حقّنا، ولا تزال تقدم علينا من ينهض بعزّك، ويبسط سلطانك، فيحصدنا حصاد السّنبل، ويدوسنا دياس البقر، ويسومنا الخسيسة، ويسألنا الجليلة؛ هذا ابن أرطاة قدم بلادي، وقتل رجالي، وأخذ مالي، ولولا الطاعة لكان فينا عزّ ومنعة، فإما عزلته فشكرناك، وإما لا فعرفناك! فقال معاوية: إياي تهدّدين بقومك؟ والله لقد هممت أن أردّك إليه على قتب «1» أشرس فينفّذ حكمه فيك. فسكتت، ثم قالت:
صلّى الإله على روح تضمّنه ... قبر فأصبح فيه العدل مدفونا
قد حالف الحقّ لا يبغي به ثمنا ... فصار بالحقّ والإيمان مقرونا
قال: ومن ذلك؟ قالت: علّي بن أبي طالب رحمه الله تعالى. قال: ما أرى عليك منه أثرا! قالت: بلى، أتيته يوما في رجل ولاه صدقاتنا فكان بيننا وبينه ما بين الغثّ «2» والسمين، فوجدته قائما يصلي، فانفتل من الصلاة ثم قال برأفة وتعطّف: ألك حاجة؟ فأخبرته خبر الرجل. فبكى، ثم رفع يديه إلى السماء فقال: اللهم إني لم آمرهم بظلم خلقك، ولا ترك حقّك. ثم أخرج من جيبه قطعة من جراب فكتب فيه:
بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ*
... قَدْ جاءَتْكُمْ بَيِّنَةٌ مِنْ رَبِّكُمْ، فَأَوْفُوا الْكَيْلَ وَالْمِيزانَ وَلا تَبْخَسُوا النَّاسَ أَشْياءَهُمْ
... وَلا تَعْثَوْا فِي الْأَرْضِ مُفْسِدِينَ، بَقِيَّتُ اللَّهِ خَيْرٌ لَكُمْ إِنْ كُنْتُمْ مُؤْمِنِينَ وَما أَنَا عَلَيْكُمْ بِحَفِيظٍ
«3» . إذا أتاك كتابي هذا فاحتفظ بما في يديك حتى يأتي من يقبضه منك. والسلام.
فعزله يا أمير المؤمنين. ما خزمه بخزام «4» ، ولا ختمه بختام.
فقال معاوية: اكتبوا لها بالإنصاف لها والعدل عليها. فقالت: ألي خاصّة أم لقومي عامة؟ قال: وما أنت وغيرك؟ قالت: هي والله إذا الفحشاء واللؤم، إن لم(1/345)
يكن عدلا شاملا، وإلا يسعني ما يسع قومي. قال: هيهات! لمّظكم «1» ابن أبي طالب الجرأة على السلطان، فبطيئا ما تفطمون، وغركم قوله:
فلو كنت بوّابا على باب جنّة ... لقلت لهمدان ادخلوا بسلام
وقوله:
ناديت همدان والأبواب مغلقة ... ومثل همدان سنّى فتحة الباب «2»
كالهندوانيّ لم تفلل مضاربه ... وجه جميل وقلب غير وجّاب «3»
اكتبوا لها بحاجتها.
وفود بكارة الهلالية على معاوية
محمد بن عبد الله الخزاعي عن الشّعبي قال: استأذنت بكارة الهلالية على معاوية بن أبي سفيان، فأذن لها، وهو يومئذ بالمدينة، فدخلت عليه، وكانت امرأة قد أسنّت وعشى «4» بصرها وضعفت قوتها، ترعش بين خادمين لها؛ فسلّمت وجلست. فردّ عليها معاوية السلام، وقال: كيف أنت يا خالة؟ قالت: بخير يا أمير المؤمنين. قال:
غيّرك الدهر! قالت. كذلك هو ذو غير، من عاش كبر ومن مات قبر. قال عمرو ابن العاص: هي والله القائلة يا أمير المؤمنين:
يا زيد دونك فاستشر «5» من دارنا ... سيفا حساما في التّراب دفينا
قد كنت أذخره ليوم كريهة ... فاليوم أبرزه الزمان مصونا
قال مروان: وهي والله القائلة يا أمير المؤمنين:
أترى ابن هند للخلافة مالكا ... هيهات ذاك وإن أراد بعيد(1/346)
منّتك نفسك في الخلاء ضلالة ... أغراك عمرو للشّقا وسعيد
قال سعيد بن العاصي: هي والله القائلة:
قد كنت أطمع أن أموت ولا أرى ... فوق المنابر من أميّة خاطبا
فالله أخّر مدّتي فتطاولت ... حتى رأيت من الزمان عجائبا
في كلّ يوم للزمان خطيبهم ... بين الجميع لآل أحمد عائبا
ثم سكتوا. فقالت: يا معاوية، كلامك أعشى بصري وقصّر حجّتي، أنا والله قائلة ما قالوا، وما خفي عليك مني أكثر. فضحك وقال: ليس يمنعنا ذلك من برّك.
اذكري حاجتك قالت: أمّا الآن فلا.
وفود الزرقاء على معاوية
عبيد الله بن عمرو الغسّاني عن الشّعبي قال: حدّثني جماعة من بني أمية ممن كان يسمر مع معاوية قالوا: بينما معاوية ذات ليلة مع عمرو وسعيد وعتبة والوليد، إذ ذكروا الزرقاء ابنة عدي بن غالب بن قيس الهمدانية، وكانت شهدت مع قومها صفّين، فقال: أيّكم يحفظ كلامها؟ قال بعضهم: نحن نحفظه يا أمير المؤمنين. قال:
فأشيروا عليّ في أمرها. فقال بعضهم: نشير عليك بقتلها. قال: بئس الرأي أشرتم به عليّ؛ أيحسن بمثلي أن يتحدّث عنه أنه قتل امرأة بعد ما ظفر بها.
فكتب إلى عامله بالكوفة أن يوفدها إليه مع ثقة من ذوي محارمها وعدّة من فرسان قومها، وأن يمهّد لها وطاء لينا، ويسترها بستر خصيف «1» ، ويوسّع لها في النفقة؛ فأرسل إليها عامله فأقرأها الكتاب، فقالت: إن كان أمير المؤمنين جعل الخيار إليّ فإني لا آتيه، وإن كان حتم فالطاعة أولى. فحملها وأحسن جهازها على ما أمر به.(1/347)
فلما دخلت على معاوية قال: مرحبا وأهلا، قدمت خير مقدم قدمه وافد! كيف حالك؟
قالت: بخير يا أمير المؤمنين، أدام الله لك النعمة.
قال: كيف كنت في مسيرك؟ قالت: ربيبة بيت أو طفلا ممهدا.
قال: بذلك أمرناهم، أتدرين فيم بعثت إليك؟ قالت: أنى لي بعلم ما لم أعلم. قال:
ألست الراكبة الجمل الأحمر، والواقفة بين الصفّين يوم صفين تحضّين على القتال وتوقدين الحرب؟ فما حملك على ذلك؟
قالت: يا أمير المؤمنين، مات الرأس، وبتر الذنب، ولم يعد ما ذهب، والدهر ذو غير، ومن تفكر أبصر، والأمر يحدث بعده الأمر.
قال لها معاوية: صدقت، أتحفظين كلامك يومئذ؟
قالت: لا والله لا أحفظه، ولقد أنسيته.
قال: لكني أحفظه، لله أبوك حين تقولين: أيها الناس، ارعووا وارجعوا، إنكم قد أصبحتم في فتنة غشّتكم «1» جلابيب الظّلم، وجارت بكم عن قصد المحجّة، فيالها فتنة عمياء، صمّاء بكماء، لا تسمع لناعقها، ولا تنساق لقائدها، إن المصباح لا يضيء في الشمس، ولا تنير الكواكب مع القمر، ولا يقطع الحديد إلا الحديد، ألا من استرشدنا أرشدناه، ومن سألنا أخبرناه. أيها الناس، إن الحق كان يطلب ضالته فأصابها، فصبرا يا معشر المهاجرين والأنصار على الغصص، فكأن قد اندمل شعب الشّتات «2» ، والتأمت كلمة العدل، ودمغ الحقّ باطله؛ فلا يجهلنّ أحد فيقول: كيف العدل وأنّى؟ ليقض الله أمرا كان مفعولا. ألا وإنّ خضاب النساء الحنّاء، وخضاب الرجال الدماء، ولهذا اليوم ما بعده:
والصبر خير في الأمور عواقبا(1/348)
إيها في الحرب قدما غير ناكصين «1» ولا متشاكسين.
ثم قال لها: والله يا زرقاء لقد شركت عليا في كل دم سفكه.
قالت: أحسن الله بشارتك، وأدام سلامتك؛ فمثلك بشّر بخير وسرّ جليسه.
قال أو يسرّك ذلك؟ قالت: نعم والله، لقد سررت بالخبر فأنّي لي بتصديق الفعل.
فضحك معاوية وقال: والله لوفاؤكم له بعد موته أعجب من حبكم له في حياته.
اذكري حاجتك.
قالت يا أمير المؤمنين، آليت على نفسي ألّا أسأل أميرا أعنت عليه أبدا، ومثلك أعطى عن غير مسألة، وجاد عن غير طلبة.
قال: صدقت! وأمر لها وللذين جاءوا معها بجوائز وكسا.
وفود أم سنان بنت خيثمة على معاوية رحمه الله
سعيد بن حذافة قال: حبس مروان بن الحكم هو والي المدينة غلاما من بني ليث في جناية جناها، فأتته جدة الغلام أمّ أبيه، وهي أم سنان بنت خيثمة بن خرشة المذحجية، فكلّمته في الغلام فأغلظ لها مروان. فخرجت إلى معاوية، فدخلت عليه فانتسبت فعرفها، فقال لها: مرحبا يا بنة خيثمة، ما أقدمك أرضنا وقد عهدتك تشتميننا وتحضّين علينا عدوّنا؟ قالت: إن لبنى عبد مناف أخلاقا طاهرة وأعلاما ظاهرة وأحلاما وافرة، لا يجهلون بعد علم، ولا يسفهون بعد حلم، ولا ينتقمون بعد عفو، وإن أولى الناس بالتباع ما سنّ آباؤهم لأنت. قال: صدقت! نحن كذلك، فكيف قولك:
عزب الرّقاد فمقلتي لا ترقد ... والليل يصدر بالهموم ويورد
يا آل مذحج لا مقام فشمّروا ... إنّ العدوّ لآل أحمد يقصد(1/349)
هذا عليّ كالهلال تحفّه ... وسط السّماء من الكواكب أسعد
خير الخلائق وابن عمّ محمّد ... إن يهدكم بالنّور منه تهتدوا
ما زال مذ شهد الحروب مظفّرا ... والنّصر فوق لوائه ما يفقد
قالت: كان ذلك يا أمير المؤمنين، وأرجو أن تكون لنا خلفا بعده فقال رجل من جلسائه: كيف يا أمير المؤمنين وهي القائلة:
إمّا هلكت أبا الحسين فلم تزل ... بالحقّ تعرف هاديا مهديّا-
فاذهب عليك صلاة ربّك ما دعت ... فوق الغصون حمامة قمريّا
قد كنت بعد محمّد خلفا كما ... أوصى إليك بنا فكنت وفيّا
فاليوم لا خلف يؤمّل بعده ... هيهات نأمل بعده إنسيّا
قالت: يا أمير المؤمنين، لسان نطق، وقول صدق؛ ولئن تحقق فيك ما ظننّا فحظك الأوفر. والله ورّثك الشّنآن «1» في قلوب المسلمين إلّا هؤلاء. فأدحض «2» مقالتهم، وأبعد منزلتهم، فإنك إن فعلت ذلك تزدد من الله قربا، ومن المؤمنين حبا.
قال: وإنك لتقولين ذلك؟ قالت سبحان الله! والله ما مثلك مدح بباطل. ولا اعتذر إليه بكذب؛ وإنك لتعلم ذلك من رأينا وضمير قلوبنا. كان والله عليّ أحبّ إلينا منك، وأنت أحبّ إلينا من غيرك. قال: ممن؟ قالت: من مروان بن الحكم وسعيد ابن العاص. قال: وبم استحققت ذلك عندك؟ قالت: بسعة حلمك وكريم عفوك.
قال: فإنهما يطمعان في ذلك. قالت: هما والله من الرأي على ما كنت عليه لعثمان بن عفان رحمه الله. قال: والله لقد قاربت، فما حاجتك؟
قالت: يا أمير المؤمنين، إن مروان تبنّك «3» بالمدينة تبنّك من لا يريد منها البراح، لا يحكم بعدل، ولا يقضي بسنّة، يتتبع عثرات المسلمين، ويكشف عورات المؤمنين، حبس ابن ابني، فأتيته، فقال كيت وكيت فألقمته أخشن من الحجر،(1/350)
وألعقته أمرّ من الصّاب ثم رجعت إلى نفسي باللائمة، وقلت: لم لا أصرف ذلك إلى من هو أولى بالعفو منه؟ فأتيتك يا أمير المؤمنين، لتكون في أمري ناظرا، وعليه معديا.
قال: صدقت! لا أسألك عن ذنبه والقيام بحجته. اكتبوا لها باطلاقه.
قالت: يا أمير المؤمنين؛ وأنّى لي بالرجعة وقد نفد زادي، وكلّت راحلتي؟ فأمر لها براحلة وخمسة آلاف درهم.
وفود عكرشة بنت الأطرش على معاوية رحمه الله تعالى
أبو بكر الهذلي عن عكرمة قال: دخلت عكرشة بنت الأطرش بن رواحة على معاوية متوكّئة على عكاز لها، فسلّمت عليه بالخلافة ثم جلست؛ فقال لها معاوية: الآن يا عكرشة صرت عندك أمير المؤمنين؟ قالت: نعم، إذ لا عليّ حيّ قال: ألست المقلّدة حمائل السيوف بصفّين، وأنت واقفة بين الصّفين تقولين: أيها الناس، عليكم أنفسكم لا يضرّكم من ضلّ إذا اهتديتم إن الجنة لا يرحل عنها من أوطنها، ولا يهرم من سكنها، ولا يموت من دخلها؛ فابتاعوها بدار لا يدوم نعيمها، ولا تنصرم همومها، وكونوا قوما مستبصرين في دينهم مستظهرين بالصبر على طلب حقهم؛ إن معاوية دلف «1» إليكم بعجم العرب غلف «2» القلوب، لا يفقهون الإيمان ولا يدرون ما الحكمة؛ دعاهم بالدنيا فأجابوه، واستدعاهم إلى الباطل فلبّوه، فالله الله عباد الله في دين الله؛ إياكم والتواكل، فإن ذلك ينقض عرى الإسلام، ويطفيء نور الحق هذه بدر الصغرى، والعقبة الأخرى. يا معشر المهاجرين والأنصار، امضوا على بصيرتكم، واصبروا على عزيمتكم، فكأني بكم غدا ولقد لقيتم أهل الشام كالحمر الناهقة تصقع «3» صقع البقر، وتروث روث العتاق.(1/351)
فكأني أراك على عصاك هذه وقد انكفأ عليك العسكران يقولون: هذه عكرشة بنت الأطرش بن رواحة. فإن كدت لتقتلين أهل الشام لولا قدر الله، وكان أمر الله قدرا مقدورا، فما حملك على ذلك؟ قالت: يا أمير المؤمنين قال الله تعالى: يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تَسْئَلُوا عَنْ أَشْياءَ إِنْ تُبْدَ لَكُمْ تَسُؤْكُمْ
«1» وإن اللبيب إذا كره أمرا لا يحب إعادته، قال: صدقت، فاذكري حاجتك. قالت: إنه كانت صدقاتنا تؤخذ من أغنيائنا فتردّ على فقرائنا؛ وإنّا قد فقدنا ذلك، فما يجبر لنا كسير؛ ولا ينعش لنا فقير؛ فإن كان ذلك عن رأيك فمثلك تنبّه من الغفلة وراجع التوبة، وإن كان عن غير رأيك فما مثلك استعان بالخونة ولا استعمل الظّلمة.
قال معاوية: يا هذه، إنه ينوبنا من أمور رعيّتنا أمور تنبثق، وبحور تنفهق «2» .
قالت: يا سبحان الله. والله ما فرض الله لنا حقا فجعل فيه ضررا على غيرنا، وهو علام الغيوب.
قال معاوية: يا أهل العراق، نبّهكم عليّ بن أبي طالب فلم تطاقوا! ثم أمر بردّ صدقاتهم فيهم وإنصافهم.
قصة درامية الحجونية مع معاوية رحمه الله تعالى
سهل بن أبي سهل التميمي عن أبيه قال: حج معاوية، فسأله عن امرأة من بني كنانة كانت تنزل بالحجون، يقال له دارمية الحجونية؛ وكانت سوداء كثيرة اللحم، فأخبر بسلامتها؛ فبعث إليها فجيء بها؛ فقال: ما حالك يا بنة حام؟ فقالت: لست لحام إن عبتني؛ أنا امرأة من بني كنانة. قال: صدقت. أتدرين لم بعثت إليك؟
قالت: لا يعلم الغيب إلا الله. قال: بعثت إليك لأسألك: علام أحببت علياّ وأبغضتني؛ وواليته وعاديتني؟ قالت: أو تعفني. قال: لا أعفيك. قالت: أما إذ أبيت، فإني أحببت عليّا على عدله في الرعية، وقسمه بالسويّة؛ وأبغضتك على قتال(1/352)
من هو أولى منك بالأمر، وطلبتك ما ليس لك بحق. وواليت عليّا على ما عقد له رسول الله صلّى الله عليه وسلّم من الولاء، وحبّه المساكين. وإعظامه لأهل الدين. وعاديتك على سفكك الدماء، وجورك في القضاء، وحكمك بالهوى.
قال: فلذلك انتفح بطنك، وعظم ثدياك، وربت عجيزتك «1» ، قالت: يا هذا، بهند والله كان يضرب المثل في ذلك لا بي. قال معاوية: يا هذه اربعي «2» ، فإنا لم نقل إلا خيرا؛ إنه إذا انتفخ بطن المرأة تمّ خلق ولدها، وإذا عظم ثدياها تروّى رضيعها. وإذا عظمت عجيزتها رزن مجلسها. فرجعت وسكنت. قال لها: ويا هذه، هل رأيت عليا؟ قالت: إي والله. قال: فيكيف رأيته؟ قال: رأيته والله لم يفتنه الملك الذي فتنك، ولم تشغله النعمة التي شغلتك. قال: فهل سمعت كلامه؟ قالت:
نعم والله، فكان يجلو القلوب من العمى كما يجلو الزيت صدأ الطّست. قال:
صدقت! فهل لك من حاجة؟ قالت: أو تفعل إذا سألتك؟ قال: نعم. قالت: تعطيني مائة ناقة حمراء فيها فحلها وراعيها. قال: تصنعين بها ماذا؟
قالت: أغذو بألبانها الصّغار، وأستحيي بها الكبار، وأكتسب بها المكارم، وأصلح بها بين العشائر.
قال: فإن أعطيتك ذلك فهل أحلّ عندك محل علي بن أبي طالب؟
قالت: ماء ولا كصدّاء «3» ، ومرعى ولا كالسّعدان «4» ، وفتى ولا كمالك، يا سبحان الله، أو دونه؟ فأنشأ معاوية يقول:
إذا لم أعد بالحلم منّي عليكم ... فمن ذا الذي بعدي يؤمّل للحلم
خذيها هنيئا واذكري فعل ماجد ... جزاك على حرب العداوة بالسلم-
ثم قال: أما والله لو كان عليّ حيا ما أعطاك منها شيئا.
قالت: لا والله، ولا وبرة واحدة من مال المسلمين.(1/353)
وفود أم الخير بنت حريش على معاوية
عبيد الله بن عمر الغساني عن الشعبي، قال: كتب معاوية إلى واليه بالكوفة أن يحمل إليه أمّ الخير بنت الحريش بن سراقة البارقي برحلها، وأعلمه أنه مجازيه بالخير خيرا وبالشر شراّ بقولها فيه، فلما ورد عليه كتابه ركب إليها فأقرأها كتابه؛ فقالت: أما أنا فغير زائغة عن طاعة، ولا معتّلة بكذب، ولقد كنت أحبّ لقاء أمير المؤمنين لأمور تختلج في صدري.
فلما شيّعها وأراد مفارقتها قال لها: يا أم الخير، إن أمير المؤمنين كتب إليّ أنه مجازيني بالخير خيرا وبالشر شرا؛ فمالي عندك؟ قالت: يا هذا لا يطمعنك برّك بي أن أسرك بباطل. ولا تؤيسك معرفتي بك أن أقول فيك غير الحق.
فسارت خير مسير حتى قدمت على معاوية. فأنزلها مع الحرم؛ ثم أدخلها في اليوم الرابع وعنده جلساؤه؛ فقالت: السلام عليك يا أمير المؤمنين ورحمة الله وبركاته.
فقال لها: وعليك السلام يا أم الخير، بحقّ ما دعوتني بهذا الاسم. قالت: يا أمير المؤمنين، مه، فإن بديهة السلطان مدحضة لما يحب علمه، ولكلّ أجل كتاب. قال:
صدقت! فكيف حالك يا خالة؟ وكيف كنت في مسيرك؟ قالت: لم أزل يا أمير المؤمنين في خير وعافية حتى صرت إليك؛ فأنا في مجلس أنيق، عند ملك رفيق. قال معاوية: بحسن نيتي ظفرت بكم. قالت: يا أمير المؤمنين، يعيذك الله من دحض المقال وما تردي عاقبته. قال: ليس هذا أردنا. أخبرينا كيف كان كلامك إذ قتل عمار بن ياسر؟ قالت: لم أكن زوّرته «1» قبل، ولا روّيته بعد؛ وإنما كانت كلمات نفثها لساني عند الصدمة؛ فإن أحببت أن أحدث لك مقالا غير ذلك فعلت. فالتفت معاوية إلى جلسائه فقال: أبكم يحفظ كلامها؟ فقال رجل منهم: أنا أحفظ بعض كلامها يا أمير المؤمنين. قال: هات. قال: كأني بها وعليها برد زبيديّ كثيف بين النسيج، وهي على جمل أرمك «2» وقد أحيط حولها، وبيدها سوط منتشر الضفيرة، وهي كالفحل يهدر في شقشقته «3» ، تقول:(1/354)
يا أيّها النّاس اتّقوا ربّكم، إنّ زلزلة السّاعة شيء عظيم! إن الله قد أوضح لكم الحق، وأبان الدليل، وبين السبيل، ورفع العلم، ولم يدعكم في عماء مدلهمة: فأين تريدون رحمكم الله؟ أفرارا عن أمير المؤمنين، أو فرارا من الزحف، أم رغبة عن الإسلام، أم ارتدادا عن الحق؟ أما سمعتم الله جل ثناؤه يقول: وَلَنَبْلُوَنَّكُمْ حَتَّى نَعْلَمَ الْمُجاهِدِينَ مِنْكُمْ وَالصَّابِرِينَ وَنَبْلُوَا أَخْبارَكُمْ
«1» .
ثم رفعت رأسها إلى السماء وهي تقول: اللهم قد عيل الصبر، وضعف اليقين، وانتشرت الرعبة، وبيدك يا ربّ أزمّة القلوب، فاجمع اللهم بها الكلمة على التقوى، وألف القلوب على الهدى، واردد الحق إلى أهله. هلمّوا رحمكم الله إلى الإمام العادل والرضيّ التقيّ، والصديق الأكبر؛ إنها إحن بدرية، وأحقاد جاهلية، وضغائن أحدية وثب بها واثب حين الغفلة، ليدرك ثارات بني عبد شمس.
ثم قالت: فَقاتِلُوا أَئِمَّةَ الْكُفْرِ إِنَّهُمْ لا أَيْمانَ لَهُمْ لَعَلَّهُمْ يَنْتَهُونَ
«2» . صبرا يا معشر المهاجرين والأنصار، قاتلوا على بصيرة من ربكم، وثبات من دينكم؛ فكأني بكم غدا ولقد لقيتم أهل الشام كحمر مستنفرة، فرّت من قسورة «3» ، لا تدري أين يسلك بها من فجاج الأرض، باعوا الآخرة بالدنيا، واشتروا الضلالة بالهدى وباعوا البصيرة بالعمى وعما قليل ليصبحنّ نادمين، حتى تحلّ بهم الندامة فيطلبون الإقالة، ولات حين مناص. إنه من ضلّ والله عن الحق وقع في الباطل. ألا إن أولياء الله استصغروا عمر الدنيا فرفضوها، واستطابوا الآخرة فسعوا لها فالله الله أيها الناس، قبل أن تبطل الحقوق، وتعطّل الحدود، ويظهر الظالمون، وتقوى كلمة الشيطان؛ فإلى أين تريدون رحمكم الله عن ابن عم رسول الله صلّى الله عليه وسلّم وصهره وأبي سبطيه، خلق من طينته، وتقرّع من نبعته «4» ، وخصّه بسرّه، وجعله باب مدينته، وأعلم بحبه المسلمين، وأبان ببغضه المنافقين؛ ها هو ذا مفلق الهام، ومكسّر الأصنام؛ صلى(1/355)
والناس مشركون، وأطاع والناس كارهون، فلم يزل في ذلك حتى قتل مبارزي بدر، وأفنى أهل أحد، وهزم الأحزاب، وقتل الله به أهل خيبر، وفرّق به جمع هوازن؛ فيالها من وقائع زرعت في قلوب نفاقا، وردّة وشقاقا، وزادت المؤمنين إيمانا، وقد اجتهدت في القول؛ وبالغت في النصيحة، وبالله التوفيق، والسلام عليكم ورحمة الله.
فقال معاوية: يا أم الخير، ما أردت بهذا الكلام الا قتلي، ولو قتلتك ما حرجت في ذلك.
قالت: والله ما يسوءني أن يجري قتلي علي يدي من يسعدني الله بشقائه.
قال:: هيهات يا كثيرة الفضول. ما تقولين في عثمان بن عفان رحمه الله؟
قالت: وما عسيت أن أقول في عثمان، استخلفه الناس وهم به راضون، وقتلوه وهم له كارهون.
قال معاوية: يا أم الخير؛ هذا أصلك الذي تبنين «1» .
قالت: لكن الله يشهد وكفى بالله شهيدا؛ ما أردت بعثمان نقصا، ولكن كان سابقا إلى الخير، وإنه لرفيع الدرجة غدا.
قال: فما تقولين في طلحة بن عبيد الله؟ قالت: وما عسى أن أقول في طلحة؟
اغتيل من مأمنه، وأتي من حيث لم يحذر، وقد وعده رسول الله صلّى الله عليه وسلّم الجنة.
قال: فما تقولين في الزبير؟ قالت: وما أقول في ابن عمة رسول الله صلّى الله عليه وسلّم وحواريّه، وقد شهد له رسول الله صلّى الله عليه وسلّم بالجنة، وقد كان سبّاقا إلى كل مكرمة في الإسلام، وأنا أسألك بحق الله يا معاوية، فإنّ قريشا تحدّثت أنك أحلمها: أن تسعني بفضل حلمك، وأن تعفيني من هذه المسائل، وتسألني عما شئت من غيرها.
قال نعم ونعمة عين، قد أعفيتك منها. ثم أمر لها بجائزة رفيعة وردّها مكرمة.(1/356)
وفود أروى بنت عبد المطلب علي معاوية رحمه الله
العباس بن بكار قال: حدّثني عبد الله بن سليمان المدني وأبو بكر الهذلي، أن أروى بنت الحارث بن عبد المطلب دخلت على معاوية وهي عجوز كبيرة؛ فلما رآها معاوية قال: مرحبا بك وأهلا يا عمة، فكيف كنت بعدنا؟
فقالت: يا بن أخي، لقد كفرت يد النعمة، وأسأت لابن عمك الصحبة، وتسمّيت بغير اسمك، وأخذت غير حقك، من غير دين كان منك ولا من آبائك، ولا سابقة في الإسلام، بعد أن كفرتم برسول الله صلّى الله عليه وسلّم، فأتعس الله منكم الجدود «1» ، وأضرع «2» منكم الخدود، وردّ الحقّ إلى أهله ولو كره المشركون، وكانت كلمتنا هي العليا، ونبينا صلّى الله عليه وسلّم هو المنصور، فولّيتم علينا من بعده، تحتجون بقرابتكم من رسول الله صلّى الله عليه وسلّم ونحن أقرب إليه منكم وأولى بهذا الأمر؛ فكنا فيكم بمنزلة بني إسرائيل في آل فرعون، وكان علي بن أبي طالب رحمه الله بعد نبينا بمنزلة هارون من موسى، فغايتنا الجنة وغايتكم النار.
فقال لها عمرو بن العاص: كفى أيتها العجوز الضالة، وأقصري عن قولك مع ذهاب عقلك، إذ لا تجوز شهادتك وحدك.
فقالت له وأنت يا بن النباغة «3» تتكلم! وأمك كانت أشهر امرأة تغنى بمكة، وآخذهن لأجرة! اربع على طلعك، واعن بشأن نفسك؛ فو الله ما أنت من قريش في اللباب من حسبها ولا كريم منصبها؛ ولقد ادعاك خمسة نفر من قريش، [كلهم يزعم أنه أبوك] فسئلت أمك عنهم، فقالت: كلهم أتاني، فانظروا أشبههم به فألحقوه به، فغلب عليك شبه العاص بن وائل فلحقت به.(1/357)
فقال مروان: كفى أيتها العجوز، وأقصدي لما جئت له. فقالت: وأنت أيضا يا بن الزرقاء تتكلم! ثم التفتت إلى معاوية فقالت: والله ما جرّأ عليّ هؤلاء غيرك، وإن أمك القائلة في قتل حمزة:
نحن جزيناكم بيوم بدر ... والحرب بعد الحرب ذات سعر
ما كان لي عن عتبة من صبر ... فشكر وحشيّ على دهري
حتى ترمّ أعظمي في قبري «1»
فأجابتها بنت عمي وهي تقول:
خزيت في بدر وبعد بدر ... يا بنة جبّار عظيم الكفر
فقال: معاوية عفا الله عما سلف يا عمة! هات حاجتك.
قالت: مالي إليك حاجة، وخرجت عنه.
تم الجزء الأوّل بعون الله وتوفيقه ويليه- إن شاء الله تعالى- الجزء الثاني وأوّله: «كتاب المرجانة في مخاطبة الملوك»(1/358)
الجزء الثانى
كتاب المرجانة في مخاطبة الملوك
فرش كتاب المرجانة في مخاطبة الملوك
قال أبو عمر أحمد بن محمد بن عبد ربّه:
قد مضى قولنا في الوفود والوافدات، ومقاماتهم بين يدي نبي الله صلى الله عليه وآله وسلم، وبين يدي الخلفاء والملوك. ونحن قائلون بعون الله وتوفيقه وتأييده وتسديده في مخاطبة الملوك، والتزلّف إليهم بسحر البيان، الذي يمازج الرّوح لطافة، ويجري مع النفس رقّة. والكلام الرقيق مصايد القلوب، وإن منه لما يستعطف المستشيط «1» غيظا، والمندمل حقدا، حتى يطفىء جمرة غيظه، ويسل «2» دفائن حقده.
وإن منه لما يستميل قلب اللئيم، ويأخذ بسمع الكريم وبصره. وقد جعله الله تعالى بينه وبين خلقه وسيلة نافعة. وشافعا مقبولا؛ قال تبارك وتعالى: فَتَلَقَّى آدَمُ مِنْ رَبِّهِ كَلِماتٍ فَتابَ عَلَيْهِ إِنَّهُ هُوَ التَّوَّابُ الرَّحِيمُ
«3» .
وسنذكر في كتابنا هذا إن شاء الله تعالى من تخلّص من أنشوطة الهلاك، وتفلّت من حبائل المنيّة، بحسن التنصّل، ولطيف التّوصّل، ولين الجواب، ورقيق الاستعتاب؛ حتى عادت سيئاته حسنات، وعيض بالثواب بدلا من العقاب وحفظ هذا الباب أوجب على الإنسان من حفظ عرضه، وألزم له من قوام بدنه.(2/3)
البيان
كنه البيان:
كلّ شيء كشف لك قناع المعنى الخفي حتى يتأدّى إلى الفهم ويتقبّله العقل، فذلك البيان الذي ذكره الله في كتابه، ومنّ به على عباده؛ فقال تعالى:
الرَّحْمنُ عَلَّمَ الْقُرْآنَ. خَلَقَ الْإِنْسانَ عَلَّمَهُ الْبَيانَ
«1» .
وسئل النبي صلّى الله عليه وسلم: فيم الجمال؟ فقال «في اللسان» . يريد البيان.
وقال صلّى الله عليه وسلم: «إنّ من البيان لسحرا» .
وقالت العرب: أنفذ من الرّميّة كلمة فصيحة.
وقال الراجز:
لقد خشيت أن تكون ساحرا ... راوية مرّا ومرّا شاعرا «2»
وقال سهل بن هارون: العقل رائد الروح؛ والعلم رائد العقل، والبيان ترجمان العلم.
وقالوا: البيان بصر والعيّ عمى، كما أنّ العلم بصر والجهل عمى؛ والبيان من نتاج العلم. والعيّ من نتاج الجهل.
وقالوا: ليس لمنقوص البيان بهاء. ولو حكّ بيافوخه «3» عنان السماء.
وقال صاحب المنطق: حدّ الإنسان: الحيّ الناطق المبين.
وقال: الروح عماد البدن، والعلم عماد الروح، والبيان عماد العلم.
تبجيل الملوك وتعظيمهم
قال النبيّ صلّى الله عليه وسلم: «إذا أتاكم كريم قوم فأكرموه» .(2/4)
وقالت العلماء: لا يؤمّ ذو سلطان في سلطانه، ولا يجلس على تكرمته إلا بإذنه.
وقال زياد بن أبيه: لا يسلّم على قادم بين يدي أمير المؤمنين.
وقال يحيى بن خالد بن برمك: مساءلة الملوك عن حالها من سجيّة النّوكى «1» ؛ فإذا أردت أن تقول: كيف أصبح الأمير؟ فقل: صبّح الله الأمير بالنعمة والكرامة.
وإذا كان عليلا فأردت أن تسأله عن حاله، فقل: أنزل الله على الأمير الشفاء والرحمة؛ فإن الملوك لا تسأل ولا تشمّت ولا تكيّف. وأنشد:
إن الملوك لا يخاطبونا ... ولا إذا ملّوا يعاتبونا
وفي المقال لا ينازعونا ... وفي العطاس لا يشمّتونا
وفي الخطاب لا يكيّفونا ... يثنى عليهم ويبجّلونا
فافهم وصاتي لا تكن مجنونا
ابن صبيح والفضل بن يحى في علته
: اعتلّ الفضل بن يحيى، فكان إسماعيل بن صبيح الكاتب إذا أتاه عائدا لم يزد على السلام عليه والدّعاء له، ويخفّف في الجلوس، ثم يلقى حاجبه فيسأله عن حاله ومأكله ومشربه ونومه. وكان غيره يطيل الجلوس. فلما أفاق من علّته قال: ما عادني في علّتي هذه إلا إسماعيل بن صبيح.
بين معاوية وأصحابه
: وقال أصحاب معاوية له: إنّا ربما جلسنا عندك فوق مقدار شهوتك، فنريد أن تجعل لنا علامة نعرف بها ذلك فقال: علامة ذلك أن أقول: إذا شئتم وقيل ذلك ليزيد، فقال: إذا قلت: على بركة الله.
وقيل ذلك لعبد الملك بن مروان، فقال: إذا وضعت الخيزرانة في يدي.(2/5)
في خدمة الملوك
: ومن تمام خدمة الملوك أن يقرّب الخادم إليه نعليه ولا يدعه يمشي إليهما، ويجعل النعل اليمنى مقابلة الرجل اليمنى، واليسرى مقابلة اليسرى، وإذا رأى متّكأ يحتاج إلى إصلاح أصلحه قبل أن يؤمر؛ فلا ينتظر في ذلك أمره؛ ويتفقّد الدواة قبل أن يأمره، وينفض عنها الغبار إذا قرّبها إليه. وإن رأى بين يديه قرطاسا قد تباعد عنه قرّبه ووضعه بين يديه على كسره.
الحجاج والشعبي:
ودخل الشعبي على الحجاج، فقال له: كم عطاءك؟ قال: ألفين. قال: ويحك! كم عطاؤك؟ قال: ألفان. قال: فلم لحنت فيما لا يلحن فيه مثلك؟ قال: لحن الأمير فلحنت، وأعرب الأمير فأعربت؛ ولم أكن ليلحن الأمير فأعرب أنا عليه، فأكون كالمقرّع «1» له بلحنه، والمستطيل عليه بفضل القول قبله! فأعجبه ذلك منه ووهبه مالا.
قبلة اليد
عبد الرحمن بن أبي ليلى عند عبد الله بن عمر، قال: كنا نقبّل يد النبي صلى الله عليه وسلم.
ومن حديث وكيع بن سفيان، قال: قبّل أبو عبيدة يد عمر بن الخطاب.
ومن حديث الشّعبي قال: لقي النبي عليه الصلاة والسلام جعفر بن أبي طالب فالتزمه وقبّل ما بين عينيه.
قال إياس بن دغفل: رأيت أبا نضرة يقبّل خدّ الحسين.
الشيباني عن أبي الحسن عن مصعب قال: رأيت رجلا دخل على عليّ بن الحسين في المسجد فقبّل يده ووضعها على عينيه؛ فلم ينهه.(2/6)
العتبي قال: دخل رجل على عبد الملك بن مروان فقبّل يده، وقال: يدك يا أمير المؤمنين أحقّ يد بالتقبيل، لعلوّها في المكارم، وطهرها من المآثم؛ وأنك تقلّ التّثريب «1» ، وتصفح عن الذنوب؛ فمن أراد بك سوءا جعله الله حصيد سيفك، وطريد خوفك.
بين المنصور وأبي بكر الهجري:
الأصمعي قال: دخل أبو بكر الهجريّ على المنصور، فقال: يا أمير المؤمنين، نغض «2» فمي، وأنتم أهل البيت بركة، فلو أذنت فقبلت رأسك، لعل الله يمسك عليّ ما بقي من أسناني. قال: اختر بينها وبين الجائزة. فقال: يا أمير المؤمنين، أيسر عليّ من ذهاب الجائزة ألّا تبقى في فمي حاكّة. فضحك المنصور وأمر له بجائزة.
بين سليمان وجعفر بن يحيى:
ودخل جعفر بن يحيى في زيّ العامة وكتمان النباهة على سليمان صاحب بيت الحكمة، ومعه ثمامة بن أشرس، فقال ثمامة: هذا أبو الفضل. فنهض إليه سليمان فقبّل يده وقال له: بأبي أنت، ما دعاك إلى أن تحمّل عبدك هذه المنّة التي لا أقوم بشكرها، ولا أقدر أن أكافيء عليها.
عبد الله بن عباس وزيد بن ثابت:
الشّعبي قال: ركب زيد بن ثابت، فأخذ عبد الله بن عبّاس بركابه، فقال له: لا تفعل يا بن عمّ رسول الله صلّى الله عليه وسلم. قال: هكذا أمرنا أن نفعل بعلمائنا. قال له زيد:
أرني يدك. فأخرج إليه يده، فأخذها وقبّلها، وقال: هكذا أمرنا رسول الله صلّى الله عليه وسلم أن نفعل بأهل بيت نبيّنا.(2/7)
أنواع القبل:
وقالوا قبلة الإمام في اليد، وقبلة الأب في الرأس، وقبلة الأخ في الخدّ، وقبلة الأخت في الصدر، وقبلة الزوجة في الفم.
من كره من الملوك تقبيل اليد
هشام ورجل قبل يده:
العتبي قال: دخل رجل على هشام بن عبد الملك فقبّل يده، فقال أفّ له، إن العرب قبّلت الأيدي إلا هلوعا «1» ، ولا فعلته العجم إلا خضوعا.
واستأذن رجل المأمون في تقبيل يده، فقال له: إنّ قبلة اليد من المسلم ذلّة، ومن الذّمّيّ خديعة؛ ولا حاجة بك أن تذلّ، ولا بنا أن نخدع.
بين المهدي وأبي دلامة في مثله:
واستأذن أبو دلامة الشاعر المهديّ في تقبيل يده، فقال: أمّا هذه فدعها قال: ما منعت عيالي شيئا أيسر فقدا عليهم من هذه.
حسن التوقيع في مخاطبة الملوك
قال هارون الرشيد لمعن بن زائدة: كيف زمانك يا معن؟ قال: يا أمير المؤمنين، أنت الزمان؛ فإن صلحت صلح الزمان، وإن فسدت فسد الزمان.
بين الرشيد وابن سلم في مثله:
وهذا نظير قول سعيد بن سلم، وقد قال له أمير المؤمنين الرشيد: من بيت قيس في الجاهلية؟ قال: يا أمير المؤمنين، بنو فزارة. قال: فمن بيتهم في الإسلام؟ قال: يا أمير المؤمنين، الشريف من شرّفتموه. قال: صدقت! أنت وقومك.(2/8)
ودخل معن بن زائدة على أبي جعفر، فقال له كبرت يا معن. قال: في طاعتك يا أمير المؤمنين. قال: وإنك لجلد! قال: على أعدائك يا أمير المؤمنين. قال: وإنّ فيك لبقيّة. قال هي لك يا أمير المؤمنين. قال: أي الدولتين أحب إليك أو أبغض، أدولتنا أم دولة بني أمية؟ قال: ذلك إليك يا أمير المؤمنين، إن زاد برك على برهم كانت دولتك أحبّ إليّ، وإن زاد برهم على برك كانت دولتهم أحبّ إليّ. قال: صدقت.
قال هارون الرشيد لعبد الملك بن صالح، أهذا منزلك؟ قال: هو لأمير المؤمنين ولي به. قال: كيف ماؤه؟ قال: أطيب ماء. قال: فكيف هواؤه؟ قال: أصحّ هواء.
قال أبو جعفر المنصور لجرير بن يزيد: إني أردتك لأمر. قال: يا أمير المؤمنين قد أعدّ الله لك مني قلبا معقودا بطاعتك، ورأيا موصولا بنصيحتك، وسيفا مشهورا على عدوّك؛ فإذا شئت فقل.
وقال المأمون لطاهر بن الحسين: صف لي ابنك عبد الله. قال: يا أمير المؤمنين إن مدحته عبته، وإن ذممته اغتبته، ولكنه قدح «1» في كفّ مثقّف ليوم نضال في خدمة أمير المؤمنين.
وأمر بعض الخلفاء رجلا بأمر؛ فقال: أنا أطوع لك من الرّداء، وأذلّ لك من الحذاء.
وقال آخر: أنا أطوع لك من يدك، وأذلّ لك من نعلك.
وهذا قاله الحسن بن وهب لمحمد بن عبد الملك الزيات.
وقال المنصور لمسلم بن قتيبة: ما ترى في قتل أبي مسلم؟ قال: لَوْ كانَ فِيهِما آلِهَةٌ إِلَّا اللَّهُ لَفَسَدَتا
«2» . قال: حسبك أبا أمية.
وقال المأمون ليزيد بن مزيد: ما أكثر الخلفاء في ربيعة! قال: بلى، ولكنّ منابرهم الجذوع.(2/9)
وقال المنصور لإسحاق بن مسلم: أفرطت في وفائك لبني أمية. قال: يا أمير المؤمنين، إنه من وفى لمن لا يرجى كان لمن يرجى أوفى.
الرشيد وابن صالح:
وقال هارون لعبد الملك بن صالح: صف لي منبج. قال: رقيقة الهواء، لينة الوطاء. قال: فصف لي منزلك بها. قال: دون منازل أهلي، وفوق منازل أهلها. قال:
ولم وقدرك فوق أقدارهم؟ قال: ذلك خلق أمير المؤمنين أتأسّى به، وأقفو أثره، وأحذو مثاله.
المأمون وغلام في الديوان:
ودخل المأمون يوما بيت الديوان، فرأى غلاما جميلا على أذنه قلم، فقال: من أنت يا غلام؟ قال: أنا الناشيء في دولتك، والمتقلّب في نعمتك، والمؤمّل لخدمتك، الحسن بن رجاء. قال المأمون: بالإحسان في البديهة تفاضلت العقول؛ ارفعوا هذا الغلام فوق مرتبته.
المتوكل وابن الجهم في رأس إسحاق بن اسماعيل:
علي بن يحيى قال: إني عند المتوكل حين دخل عليه الرسول برأس إسحاق بن إسماعيل، فقام علي بن الجهم يخطر «1» بين يدي المتوكل ويقول:
أهلا وسهلا بك من رسول ... جئت بما يشفي من الغليل
برأس إسحق بن إسماعيل
فقال المتوكل: قوموا التقطوا هذا الجوهر لئلا يضيع.
ودخل عقّال بن شبّة على أبي عبيد الله كاتب المهدي، فقال: يا بن عقّال، لم أرك منذ اليوم! قال: والله إني لألقاك بشوق، وأغيب عنك بتوق «2» .(2/10)
وقال عبد العزيز بن مروان لنصيب بن رباح- وكان أسود-: يا نصيب هل لك فيما يثمر المحادثة؟ يريد المنادمة. فقال: أصلح الله الامير، اللون مرمّد، والشعر مفلفل، ولم أقعد إليك بكريم عنصر، ولا بحسن منظر، وإنما هو عقلي ولساني؛ فإن رأيت ألّا تفرق بينهما فافعل.
ولما ودّع المأمون الحسن بن سهل عند مخرجه من مدينة السلام، قال له: يا أبا محمد، ألك حاجة تعهد إليّ فيها؟ قال: نعم يا أمير المؤمنين، أن تحفظ عليّ من قلبك ما لا أستعين على حفظه إلا بك.
وقال سعيد بن مسلم بن قتيبة للمأمون: لو لم أشكر الله إلا على حسن ما أبلاني في أمير المؤمنين من قصده إليّ بحديثه، وإشارته إليّ بطرفه، لكان ذلك من أعظم ما توجبه النّعمة، وتفرضه الصنيعة. قال المأمون: ذلك والله لأن الأمير يجد عندك من حسن الإفهام إذا حدثت، وحسن الفهم إذا حدّثت، ما لا يجده عند غيرك.
مدح الملوك والتزلف إليهم
في سير العجم أن أردشير بن يزدجرد لما استوثق له أمره، جمع الناس فخطبهم خطبة حضّهم فيها على الألفة والطاعة، وحذّرهم المعصية ومفارقة الجماعة، وصنّف لهم الناس أربعة أصناف، فخروا له سجّدا، وتكلم متكلّمهم، فقال: لا زلت أيها الملك محبوّا من الله بعز النصر، ودرك الأمل «1» ، ودوام العافية، وتمام النّعمة، وحسن المزيد؛ ولا زلت تتابع لديك المكرمات، وتشفع إليك الذّمامات، حتى تبلغ الغاية التي يؤمن زوالها، ولا تنقطع زهرتها، في دار القرار التي أعدّها الله لنظرائك من أهل الزّلفى عنده، والحظوة لديه، ولا زال ملكك وسلطانك باقيين بقاء الشمس والقمر، زائدين زيادة البحور والأنهار، حتى تستوى أقطار الأرض كلها في علوّك عليها، ونفاذ أمرك فيها؛ فقد أشرق علينا من ضياء نورك ما عمّنا عموم ضياء الصبح،(2/11)
ووصل إلينا من عظيم رأفتك ما اتصل بأنفسنا اتصال النسيم: فأصبحت قد جمع الله بك الأيادي بعد افتراقها، وألف بين القلوب بعد تباغضها، وأذهب عنا الإحن والحسائك «1» بعد توقّد نيرانها، بفضلك الذي لا يدرك بوصف، ولا يحدّ بنعت.
فقال أردشير: طوبي للممدوح إذا كان للمدح مستحقّا، وللداعي إذا كان للإجابة أهلا.
دخل حسّان بن ثابت على الحارث الجفنيّ فقال: أنعم صباحا أيها الملك، السماء غطاؤك، والأرض وطاؤك ووالدي ووالدتي فداؤك. أنّى يناوئك المنذر «2» ؟ فو الله لقذالك أحسن من وجهه، ولأمّك أحسن من أبيه، ولظلّك خير من شخصه، ولصمتك أبلغ من كلامه، ولشمالك خير من يمينه. ثم أنشأ يقول:
ونبّئت أنّ أبا منذر ... يساميك للحدث الأكبر
قذالك أحسن من وجهه ... وأمّك خير من المنذر
ويسرى يديك إذا أعسرت كيمنى يديه فلا تمتر «3» ودخل خالد بن عبد الله القسريّ على عمر بن عبد العزيز لما ولي الخلافة، فقال:
يا أمير المؤمنين، من تكون الخلافة قد زانته فأنت قد زنتها، ومن تكون شرّفته فأنت قد شرفتها، وأنت كما قال الشاعر:
وإذا الدّرّ زان حسن وجوه ... كان للدّرّ حسن وجهك زينا
فقال عمر بن عبد العزيز رحمه الله: أعطي صاحبكم مقولا ولم يعط معقولا.
المأمون ومادح له عند دخوله بغداد:
ذكر ابن أبي طاهر قال: دخل المأمون بغداد، فتلقاه وجوه أهلها، فقال له رجل(2/12)
منهم: يا أمير المؤمنين، بارك الله لك في مقدمك، وزاد في نعمتك، وشكرك عن رعيّتك، تقدّمت من قبلك، وأتبعت من بعدك، وآيست أن يعاين مثلك أما فيما مضى فلا نعرفه، وأما فيما بقى فلا نرجوه؛ فنحن جميعا ندعو لك، ونثني عليك.
خصب لنا جنابك، وعذب شرابك. وحسنت نظرتك، وكرمت مقدرتك. جبرت الفقير «1» ، وفككت الأسير، فأنت يا أمير المؤمنين كما قال الأول:
ما زلت في البذل للنوال وإطلاق لعان بجرمه علق «2»
حتى تمنى البراء أنهم ... عندك أسرى في القيد والحلق
بين خالد القسري وبعضهم في مثله:
ودخل رجل على خالد بن عبد الله القسري فقال: أيها الأمير، إنك لتبذل ما جلّ، وتجبر ما اعتلّ، وتكثر ما قل، ففضلك بديع، ورأيك جميع.
وقال رجل للحسن بن سهل: لقد صرت لا أستكثر كثيرك ولا أستقلّ قليلك! قال: وكيف ذلك؟ قال: لأنك أكثر من كثيرك، وأنّ قليلك أكثر من قليل غيرك.
وقال خالد بن صفوان لوال دخل عليه: قدمت فأعطيت كلّا بقسطه من نظرك ومجلسك، وصلاتك وعداتك، حتى كأنك من كل أحد، أو كأنك لست من أحد! وقال الرشيد لبعض الشعراء: هل أحدثت فينا شيئا؟ قال: يا أمير المؤمنين، المديح كله دون قدرك، والشعر فيك فوق قدري، ولكني أستحسن قول العتّابي:
ماذا عسى مادح يثني عليك وقد ... ناداك في الوحي تقديس وتطهير
فتّ الممادح إلا أنّ ألسننا ... مستنطقات بما تخفي الضّمايير
لابن صفوان في مدح رجل:
مدح خالد بن صفوان رجلا فقال: قريع المنطق، جزل الألفاظ، عربيّ اللسان،(2/13)
قليل الحركات، حسن الإشارات، حلو الشمائل، كثير الطّلاوة، صموتا قئولا، يهنأ الجرب، ويداوي الدّبر «1» ، ويقلّ المحزّ، ويطبّق المفصل. لم يكن بالزّمر «2» في مروءته، ولا بالهذر «3» في منطقه، متبوعا غير تابع.
كأنه علم في رأسه نار «4»
الرشيد وسهل بن هارون:
دخل سهل بن هارون على الرشيد، فوجده يضاحك ابنه المأمون، فقال: اللهم زده من الخيرات، وابسط له في البركات، حتى يكون كلّ يوم من أيامه موفيا على أمسه، مقصّرا عن غده. فقال له الرشيد: يا سهل، من روى من الشعر أحسنه وأجوده، ومن الحديث أصحّه وأبلغه، ومن البيان أفصحه وأوضحه، إذا رام أن يقول لم يعجزه؟ قال سهل: يا أمير المؤمنين، ما ظننت أحدا تقدّمني سبقني إلى هذا المعنى. فقال: بل أعشى همدان حيث يقول:
وجدتك أمس خير بني لؤيّ ... وأنت اليوم خير منك أمس
وأنت غدا تزيد الخير ضعفا ... كذاك تزيد سادة عبد شمس
المأمون وسهل ابن هارون:
وكان المأمون قد استثقل سهل بن هارون، فدخل عليه يوما والناس عنده على منازلهم، فتكلم المأمون بكلام ذهب فيه كل مذهب، فلما فرغ أقبل سهل بن هارون على ذلك الجمع فقال: مالكم تسمعون ولا تعون، وتفهمون ولا تعجبون، وتعجبون ولا تصفون؟ أما والله إنه ليقول ويفعل في اليوم القصير مثل ما قالت وفعلت بنو مروان في الدهر الطويل، عربكم كعجمهم، وعجمهم كعرب بني تميم؛ ولكن كيف يشعر بالدواء من لا يعرف الداء؟ قال: فرجع له المأمون إلى رأيه الأول.(2/14)
الحجاج وزياد العتكي:
وكان الحجاج بن يوسف يستثقل زياد بن عمرو العتكيّ، فلما أثنى الوفد على الحجاج عند عبد الملك بن مروان، قال زياد: يا أمير المؤمنين، إنّ الحجاج سيفك الذي لا ينبو «1» ، وسهمك الذي لا يطيش، وخادمك الذي لا تأخذه فيك لومة لائم.
فلم يكن بعد ذلك عند الحجاج أحد أخفّ ولا أحبّ إليه منه.
لابن شيبة في صالح بن المنصور:
حدّث الشّيباني قال: أقام المنصور صالحا ابنه فتكلم في أمر فأحسن؛ فقال شبيب ابن شيبة: تالله ما رأيت كاليوم أبين بيانا، ولا أعرب لسانا، ولا أربط جأشا، ولا أبلّ ريقا، ولا أحسن طريقا. وحق لمن كان المنصور أباه، والمهدي أخاه، أن يكون كما قال زهير:
هو الجواد فإن يلحق بشأوهما ... على تكاليفه فمثله لحقا «2»
أو يسبقاه على ما كان من مهل ... فمثل ما قدّما من صالح سبقا
لابن شيبة في الخلافة:
وخرج شبيب بن شيبة من دار الخلافة يوما، فقيل له: كيف رأيت الناس؟ قال:
رأيت الداخل راجيا، والخارج راضيا.
لبعض الخلفاء في ابن شيبة:
وقيل لبعض الخلفاء: إن شبيب بن شيبة يستعمل الكلام ويستعدّ له، فلو أمرته يصعد المنبر فجأة لافتضح. قال: فأمر رسولا فأخذ بيده فصعده المنبر: فحمد الله وأثنى عليه، وصلى على النبي صلّى الله عليه وسلم، ثم قال: ألا إن لأمير المؤمنين أشباها أربعة: فمنها الأسد الخادر «3» ، والبحر الزاخر، والقمر الباهر، والربيع الناضر؛ فأما الأسد الخادر(2/15)
فأشبه منه صولته ومضاءه، وأما البحر الزاخر فأشبه منه جوده وعطاءه، وأما القمر الباهر فأشبه منه نوره وضياءه، وأما الربيع الناضر فأشبه منه حسنه وبهاءه. ثم نزل.
بين عبد الملك وذي حاجة:
قال عبد الملك بن مروان لرجل دخل عليه: تكلم بحاجتك. قال: يا أمير المؤمنين، بهر «1» الدرجة وهيبة الخلافة يمنعاني من ذلك. قال: فعلى رسلك، فإنا لا نحبّ مدح المشاهدة، ولا تزكية اللقاء. قال: يا أمير المؤمنين، لست أمدحك، ولكن أحمد الله على النعمة فيك. قال: حسبك فقد أبلغت.
ودخل رجل على المنصور، فقال له: تكلّم بحاجتك. فقال: يبقيك الله يا أمير المؤمنين. قال: تكلّم بحاجتك، فإنك لا تقدر على هذا المقام كل حين. قال والله يا أمير المؤمنين، ما أستقصر أجلك، ولا أخاف بخلك، ولا أغتنم مالك؛ وإنّ عطاءك لشرف، وإن سؤالك لزين، وما لامريء بذل وجهه إليك نقص ولا شين. قال:
فأحسن جائزته وأكرمه.
بين المأمون والعماني:
حدّث إبراهيم بن السّندي قال: دخل العمانيّ على المأمون، وعليه قلنسوة طويلة وخف ساذج، فقال له: إيّاك أن تنشدني إلّا وعليك عمامة عظيمة الكور «2» وخفان رائقان. قال: فغدا عليه في زي الأعراب فأنشده، ثم دنا فقبّل يده وقال: قد والله يا أمير المؤمنين أنشدت يزيد بن الوليد، وإبراهيم بن الوليد، ورأيت وجوههما، وقبّلت أيديهما، وأخذت جوائزهما؛ وأنشدت مروان وقبّلت يده وأخذت جائزته، وأنشدت المنصور ورأيت وجهه وقبّلت يده وأخذت جائزته، وأنشدت المهديّ ورأيت وجهه وقبلت يده وأخذت جائزته، إلى كثير من أشباه الخلفاء، وكبراء الأمراء والسادة الرؤساء، فلا والله يا أمير المؤمنين ما رأيت فيهم أبهى منظرا، ولا أحسن وجها، ولا(2/16)
أنعم كفّا، ولا أندى راحة «1» منك يا أمير المؤمنين. قال: فأعظم له الجائزة على شعره، وأضعف له على كلامه وأقبل عليه بوجهه وبشره، فبسطه حتى تمنى جميع من حضره أنهم قاموا مقامه.
عمر بن عبد العزيز ووفد العراق ومحمد القرظي:
حدّث العتبي عن سفيان بن عيينة قال: قدم على عمر بن عبد العزيز ناس من أهل العراق، فنظر إلى شاب منهم يتحوّش «2» للكلام، فقال: أكبروا أكبروا. فقال:
يا أمير المؤمنين، إنه ليس بالسنّ، ولو كان الأمر كله بالسنّ لكان في المسلمين من هو أسنّ منك. فقال عمر: صدقت رحمك الله، تكلم. فقال: يا أمير المؤمنين، إنّا لم نأتك رغبة ولا رهبة؛ أما الرغبة فقد دخلت علينا منازلنا وقدمت علينا بلادنا؛ وأما الرهبة فقد أمننا الله بعدلك من جورك. قال: فما أنتم؟ قال: وفد الشكر. قال: فنظر محمد بن كعب القرظي إلى وجه عمر يتهلل، فقال: يا أمير المؤمنين؛ لا يغلبنّ جهل القوم بك معرفتك بنفسك؛ فإن ناسا خدعهم الثناء وغرّهم شكر الناس فهلكوا، وأنا أعيذك بالله أن تكون منهم. فألقى عمر رأسه على صدره.
التنصل والاعتذار
قال النبي صلّى الله عليه وسلم: «من لم يقبل من متنصّل «3» عذرا، صادقا كان أو كاذبا، لم يرد عليّ الحوض» .
وقال: «المعترف بالذنب كمن لا ذنب له. وقال: الاعتراف يهدم الاقتراف» «4» .
وقال الشاعر:
إذا ما امرؤ من ذنبه جاء تائبا ... إليك فلم تغفر له فلك الذّنب(2/17)
واعتذر رجل إلى إبراهيم بن المهدي. فقال: عذرتك غير معتذر، إن المعاذير يشوبها الكذب.
واعتذر رجل إلى جعفر بن يحيى، فقال: قد أغناك الله بالعذر عن الاعتذار، وأغنانا بحسن النية عن سوء الظن.
وقال إبراهيم الموصلي: سمعت جعفر بن يحيى يعتذر إلى رجل من تأخر حاجة ضمنها له، وهو يقول: أحتجّ إليك بغالب القضاء، وأعتذر إليك بصادق النّيّة.
وقال رجل لبعض الملوك: أنا من لا يحاجّك عن نفسه، ولا يغالطك في جرمه، ولا يلتمس رضاك إلا من جهة عفوك، ولا يستعطفك إلا بالإقرار بالذنب، ولا يستميلك إلا بالاعتراف بالزّلّة.
وقال الحسن بن وهب:
ما أحسن العفو من القادر ... لا سيّما عن غير ذي ناصر
إن كان لي ذنب ولا ذنب لي ... فما له غيرك من غافر
أعوذ بالود الذي بيننا ... أن يفسد الأوّل بالآخر
وكتب الحسن بن وهب إلى محمد بن عبد الملك الزيات:
أبا جعفر، ما أحسن العفو كلّه ... ولا سيّما عن قائل ليس لي عذر
وقال آخر:
اقبل معاذير من يأتيك معتذرا ... إن برّ عندك فيما قال أو فجرا
فقد أطاعك من أرضاك ظاهره ... وقد أجلّك من يعصيك مستترا
خير الخليطين من أغضى لصاحبه ... ولو أراد انتصارا منه لانتصرا «1»
وقالت الحكماء: ليس من العدل سرعة العذل «2» .
وقال الأحنف بن قيس: ربّ ملوم لا ذنب له.(2/18)
وقال آخر:
لعلّ له عذرا وأنت تلوم
وقال حبيب:
البرّ بي منك وطّي العذر عندك لي ... فيما أتاك فلم تقبل ولم تلم
وقام علمك بي فاحتجّ عندك لي ... مقام شاهد عدل غير متّهم
وقال آخر:
إذا اعتذر الجاني محا العذر ذنبه ... وكلّ امريء لا يقبل العذر مذنب
ومن قولنا في هذا المعنى:
عذيري من طول البكا لوعة الأسى ... وليس لمن لا يقبل العذر من عذر
وقال آخر:
فهبني مسيئا كالّذي قلت ظالما ... فعفو جميل كي يكون لك الفضل
فإن لم أكن للعفو عندك للّذي ... أتيت بهه أهلا فأنت له أهل
ومن الناس من لا يرى الاعتذار، ويقول: إياك وما يعتذر منه.
وقالوا: ما اعتذر مذنب إلا ازداد ذنبا.
وقال الشاعر محمود الوراق:
إذا كان وجه العذر ليس ببيّن ... فإنّ اطّراح العذر خير من العذر
بين عبد الملك وابن شهاب الزهري:
قال ابن شهاب الزهري: دخلت على عبد الملك بن مروان في رجال من أهل المدينة، فرآني أحدثهم سنا؛ فقال لي: من أنت؟ فانتسبت له. فقال: لقد كان أبوك وعمك نعّاقين «1» في فتنة ابن الأشعث. فقلت: يا أمير المؤمنين، إنّ مثلك إذا عفا لم(2/19)
يعدّد، وإذا صفح لم يثرّب. فأعجبه ذلك، وقال: أين نشأت؟ قلت: بالمدينة. قال:
عند من طلبت؟ قلت: سعيد بن المسيّب، وسليمان بن يسار، وقبيصة بن ذؤيب.
قال: فأين أنت من عروة بن الزبير، فإنه بحر لا تكدّره الدّلاء. فلما انصرفت من عنده لم أبارح عروة بن الزبير حتى مات.
بين محمد بن سليمان وابن السماك:
ودخل ابن السماك على محمد بن سليمان بن علي، فرآه معرضا عنه، فقال: مالي أرى الأمير كالعاتب عليّ؟ قال: ذلك لشيء بلغني عنك كرهته. قال: إذا لا أبالي.
قال: ولم؟ قال: لأنه إذا كان ذنبا غفرته، وإن كان باطلا لم تقبله.
بين المنصور وجرير بن عبد الله:
دخل جرير بن عبد الله على أبي جعفر المنصور، وكان واجدا عليه، فقال له:
تكلم بحجّتك. فقال: لو كان لي ذنب تكلّمت بعذري، ولكن عفو أمير المؤمنين أحبّ إليّ من براءتي.
الهادي ومذنب:
وأتي موسى الهادي برجل، فجعل يقرعه بذنوبه. فقال: يا أمير المؤمنين، إن اعتذاري مما تقرّعني به ردّ عليك، وإقراري به يلزمني ذنبا لم أجنه، ولكن أقول:
فإن كنت ترجو في العقوبة راحة ... فلا تزهدن عند المعافاة في الأجر
بين المأمون وابن الفارسي:
سعي بعبد الملك بن الفارسي إلى المأمون، فقال له المأمون: إن العدل من عدّله أبو العباس، وقد كان وصفك بما وصف به، ثم أتتني الأخبار بخلاف ذلك. فقال: يا أمير المؤمنين، إن الذي بلغك عني تحميل عليّ، ولو كان كذلك لقلت: نعم، كما بلغك. فأخذت بحظّي من الله في الصدق، واتكلت على فضل أمير المؤمنين في سعة عفوه. قال: صدقت.(2/20)
المأمون وابن يوسف في حكاية ضده:
محمد بن القاسم الهاشمي أبو العيناء، قال: كان أحمد بن يوسف الكاتب قد تولى صدقات البصرة، فجار فيها وظلم، فكثر الشاكي له والداعي عليه، ووافى باب أمير المؤمنين زهاء خمسين رجلا من جلة البصريين: فعزله المأمون، وجلس لهم مجلسا خاصا وأقام أحمد بن يوسف لمناظرتهم، فكان مما حفظ من كلامه أن قال:
يا أمير المؤمنين، لو أن أحدا ممن ولي الصدقات سلم من الناس لسلم رسول الله صلّى الله عليه وسلم، قال الله عز وجل: وَمِنْهُمْ مَنْ يَلْمِزُكَ فِي الصَّدَقاتِ فَإِنْ أُعْطُوا مِنْها رَضُوا وَإِنْ لَمْ يُعْطَوْا مِنْها إِذا هُمْ يَسْخَطُونَ
«1» .
فأعجب المأمون جوابه. واستجزل مقاله، وخلّى سبيله، محمد بن القاسم الهاشمي أبو العيناء قال: قال لي أبو عبد الله أحمد بن أبي داود:
دخلت على الواثق، فقال لي: ما زال قوم في ثلبك ونقصك! فقلت: يا أمير المؤمنين، لكلّ امريء منهم ما اكتسب من الإثم والذي تولّى كبره منهم له عذاب عظيم، والله وليّ جزائه، وعقاب أمير المؤمنين من ورائه، وما ذل من كنت ناصره، ولا ضاع من كنت حافظه، فماذا قلت لهم يا أمير المؤمنين؟ قال: قلت أبا عبد الله.
وسعى إليّ بعيب عزّة معشر ... جعل الإله خدودهنّ نعالها
قال أبو العيناء: قلت لأحمد بن أبي داود: إن قوما تظافروا عليّ! قال: يَدُ اللَّهِ فَوْقَ أَيْدِيهِمْ
«2» قلت: إنهم عدد وأنا واحد! قال: كَمْ مِنْ فِئَةٍ قَلِيلَةٍ غَلَبَتْ فِئَةً كَثِيرَةً
«3» قلت: إن للقوم مكرا! قال: وَلا يَحِيقُ الْمَكْرُ السَّيِّئُ إِلَّا بِأَهْلِهِ
«4» .
قال أبو العيناء: فحدّثت بهذا الحديث أحمد بن يوسف الكاتب، فقال: ما يرى ابن أبي داود إلا أنّ القرآن أنزل عليه.(2/21)
بين قتيبة بن مسلم ونهار بن توسعة:
قال: وهجا نهار بن توسعة قتيبة بن مسلم، وكان ولي خراسان بعد يزيد بن المهلّب، فقال:
كانت خراسان أرضا إذ يزيد بها ... وكلّ باب من الخيرات مفتوح
فبدّلت بعده قردا نطوف به ... كأنما وجهه بالخلّ منضوح «1»
فطلبه فهرب منه، ثم دخل عليه بكتاب أمّه؛ فقال: ويحك! بأي وجه تلقاني؟
قال: بالوجه الذي ألقى به ربّي، وذنوبي إليه أكثر من ذنوبي إليك. فقرّبه ووصله وأحسن إليه.
المنصور وابن فضالة:
وأقبل المنصور يوما راكبا والفرج بن فضالة جالس عند باب الذّهب، فقام الناس إليه ولم يقم. فاستشاط المنصور غيظا وغضبا، ودعا به فقال: ما منعك من القيام مع الناس حين رأيتني؟ قال: خفت أن يسألني الله تعالى: لم فعلت؟ ويسألك عنه: لم رضيت؟ وقد كرهه رسول الله صلّى الله عليه وسلم فسكن غضبه وقرّبه وقضى حوائجه.
المأمون وابن أكثم:
يحيى بن أكثم، قال: إني عند المأمون يوما، حتى أتي برجل ترعد فرائصه «2» ، فلما مثل بين يديه قال له المأمون: كفرت نعمتي ولم تشكر معروفي! قال: يا أمير المؤمنين، وأين يقع شكري في جنب ما أنعم الله بك عليّ؟ فنظر إليّ وقال متمثّلا:
فلو كان يستغني عن الشكر ماجد ... لكثرة مال أو علوّ مكان
لما ندب الله العباد لشكره ... فقال اشكروا لي أيها الثّقلان «3»(2/22)
ثم التفت إلى الرجل فقال له: هلّا قلت كما قال أصرم بن حميد:
رشحت حمدي حتى إنّني رجل ... كلّي بكلّ ثناء فيك مشتغل
خوّلت شكري ما خوّلت من نعم ... فخرّ شكري لما خوّلتني خول «1»
الاستعطاف والاعتراف
بين المهدي وابن داود:
لما سخط المهدي على يعقوب بن داود، قال له: يا يعقوب، قال: لبيك يا أمير المؤمنين تلبية مكروب لموجدتك. قال: ألم أرفع من قدرك إذ كنت وضيعا، وأبعد من ذكرك إذ كنت خاملا، وألبسك من نعمتي ما لم أجد لك بها يدين من الشكر؛ فكيف رأيت الله أظهر عليك وردّ إليك منك؟ قال: إن كان ذلك بعلمك يا أمير المؤمنين فتصديق معترف منيب، وإن كان مما استخرجته دفائن الباغين فعائد بفضلك. فقال: والله لولا الحنث «2» في دمك بما تقدّم لك، لألبستك منه قميصا لا تشدّ عليه زرّا. ثم أمر به إلى الحبس، فتولّى وهو يقول: الوفاء يا أمير المؤمنين كرم، والمودّة رحم، وأنت بهما جدير.
أخذت الشعراء معنى قوله «ألبستك منه قميصا لا يشدّ عليه زرّا» فقال معلّى الطائي:
طوّقته بحسام طوق داهية ... ما يستطيع عليه شدّ أزرار
وقال حبيب:
طوّقته بالحسام طوق ردي ... أغناه عن مسّ طوقه بيده
وقال:
طوّقته بالحسام منصلتا ... آخر طوق يكون في عنقه(2/23)
ليزيد بن مزيد أمام الرشيد:
ولما رضي الرشيد عن يزيد بن مزيد أذن له بالدخول عليه فلما مثل بين يديه قال:
الحمد لله الذي سهّل لي سبيل الكرامة بلقائك، وردّ عليّ النعمة بوجه الرضا منك؛ وجزاك الله يا أمير المؤمنين في حال سخطك جزاء المحسنين المرغبين «1» وفي حال رضاك جزاء المنعمين المتطولّين؛ فقد جعلك الله وله الحمد تثبت تحرّجا عند الغضب، وتمتنّ تطوّلا «2» بالنعم، وتستبقي المعروف عند الصنائع تفضلا بالعفو.
المأمون وإبراهيم بن المهدي:
لما ظفر المأمون بإبراهيم بن المهدي، وهو الذي يقال له ابن شكلة، أمر بإدخاله عليه. فلما مثل بين يديه قال: وليّ الثأر محكم في القصاص، والعفو أقرب للتقوى، [والقدرة تذهب الحفيظة، ومن مدّ له الاعتذار في الأمل هجمت به الأناة على التلف] «3» ؛ وقد جعل الله كلّ ذنب دون عفوك، فإن صفحت فبكرمك، وإن أخذت فبحقّك.
قال المأمون: إني شاورت أبا إسحاق والعبّاس في قتلك، فأشارا عليّ به.
قال: أما أن يكونا قد نصحاك في عظم قدر الملك ولما جرت عليه عادة السياسة، فقد فعلا؛ ولكنك أبيت أن تستجلب النصر إلا من حيث عوّدك الله. ثم استعبر باكيا.
قال له المأمون: ما يبكيك.
قال: جذلا، إذ كان ذنبي إلى من هذه صفته. ثم قال: يا أمير المؤمنين، إنه وإن كان جرمي يبلغ سفك دمي، فحلم أمير المؤمنين وتفضّله يبلغاني عفوه، ولي بعدهما شفاعة الإقرار بالذنب، وحرمة الأب بعد الأب.(2/24)
قال المأمون: لو لم يكن في حقّ نسبك ما يبلغ الصفح عن زلّتك، لبلّغك إليه حسن توصلك ولطف تنصّلك.
فكان تصويب إبراهيم لرأي أبي إسحق والعباس ألطف في طلب الرضا ودفع المكروه عن نفسه من تخطئتهما.
المأمون وإسحاق بن العباس:
وقال المأمون لإسحاق بن العباس: لا تحسبني أغفلت إجلابك مع ابن المهلّب وتأييدك لرأيه وإيقادك لناره.
قال: يا أمير المؤمنين، والله لإجرام قريش إلى رسول الله صلّى الله عليه وسلم أعظم من جرمي إليك، ولرحمي أمسّ من أرحامهم، وقد قال كما قال يوسف لإخوته: لا تَثْرِيبَ عَلَيْكُمُ الْيَوْمَ يَغْفِرُ اللَّهُ لَكُمْ وَهُوَ أَرْحَمُ الرَّاحِمِينَ
«1» وأنت يا أمير المؤمنين أحقّ وارث لهذه المنة وممتثل بها.
قال: هيهات. تلك أجرام جاهلية عفا عنها الإسلام، وجرمك جرم في إسلامك وفي دار خلافتك.
قال: يا أمير المؤمنين، فو الله للمسلم أحقّ بإقالة العثرة وغفران الزّلة من الكافر، هذا كتاب الله بيني وبينك. يقول الله تعالى: وَسارِعُوا إِلى مَغْفِرَةٍ مِنْ رَبِّكُمْ وَجَنَّةٍ عَرْضُهَا السَّماواتُ وَالْأَرْضُ أُعِدَّتْ لِلْمُتَّقِينَ، الَّذِينَ يُنْفِقُونَ فِي السَّرَّاءِ وَالضَّرَّاءِ وَالْكاظِمِينَ الْغَيْظَ وَالْعافِينَ عَنِ النَّاسِ وَاللَّهُ يُحِبُّ الْمُحْسِنِينَ
«2» فهي للناس يا أمير المؤمنين سنّة دخل فيها المسلم والكافر، والشريف والمشروف.
قال: صدقت. اجلس. وريت بك زنادي «3» ، فلا قدح ناري من الغابرين «4» من أهلك أمثالك.(2/25)
العتبي عن أبيه قال: قبض مروان بن محمد بن معاوية بن عمر بن عتبة ما له بالفرسان «1» فقال: إني قد وجدت قطيعة عمك لأبيك «إني أقطعتك بستاني» .
والبستان لا يكون إلا عامرا، وأنا مسلم إليك الغامر «2» وقابض منك العامر. فقال:
يا أمير المؤمنين، إن سلفك الصالح لو شهدوا مجلسنا هذا كانوا شهودا على ما ادعيته، وشفعاء فيما طلبته، يسألونك بإحسانك إليّ مكافأة إحسان سلفي إليهم فشفع فينا الأموات، وأحفظ منا القرابات، واجعل مجلسك هذا مجلسا يلزم من بعدنا شكره. قال: لا والله، إلا أن أجعلها طعمة مني لك، لا قطيعة من عمك لأبيك.
قال: قد قبلت ذلك. ففعل.
عبد الملك وابن عتبة وخالد بن يزيد:
العتبي قال: أمر عبد الملك بن مروان بقطع أرزاق آل أبي سفيان وجوائزهم لموجدة وجدها على خالد بن يزيد بن معاوية. فدخل عليه عمرو بن عتبة. فقال: يا أمير المؤمنين. إن أدنى حقّك متعب. وبعضه فادح لنا، ولنا مع حقك علينا حق عليك، بإكرام سلفنا لسلفك. فانظر إلينا بالعين التي نظروا بها إليهم، وضعنا بحيث وضعتنا الرّحم منك.
قال عبد الملك: إنما يستحق عطيتي من استعطاها، فأما من ظن أنه يكتفي بنفسه فسنكله إلى نفسه. ثم أمر له بعطيّة.
وبلغ ذلك خالدا فقال: أبالحرمان يهدّدني؟ يد الله فوق يده باسطة، وعطاء الله دونه مبذول. فأما عمرو فقد أعطى من نفسه أكثر مما أخذ لها.
سليمان بن علي وابن عتبة إمام المسودة:
العتبي قال: حدثنا طارق بن المبارك، عن عمرو بن عتبة، قال: جاءت دولة(2/26)
المسوّدة وأنا حديث السنّ كثير العيال متفرّق المال، فجعلت لا أنزل قبيلة من قبائل العرب إلا شهرت فيها. فلما رأيت أمري لا يكتتم، أتيت سليمان بن علي فاستأذنت عليه قرب المغرب، فأذن لي وهو لا يعرفني؛ فلما صرت إليه قلت: أصلحك الله! لفظتني البلاد إليك، ودلني فضلك عليك؛ فإما قبلتني غانما، وإما رددتني سالما.
قال: ومن أنت؟ فانتسبت له؛ فعرفني. وقال: مرحبا، اقعد فتكلم غانما سالما.
قلت: أصلحك الله! إن الحرم التي أنت أقرب الناس إليهن معنا، وأولى الناس بهن بعدنا، قد خفن بخوفنا، ومن خاف خيف عليه. قال: فاعتمد سليمان على يديه وسالت دموعه على خديه، ثم قال: يا ابن أخي، يحقن الله دمك، ويستر حرمك، ويسلم مالك إن شاء الله؛ ولو أمكنني ذلك في جميع قومك لفعلت. فلم أزل في جوار سليمان آمنا.
وكتب سليمان إلى أبي العباس أمير المؤمنين: أما بعد. يا أمير المؤمنين، فإنا إنما حاربنا بني أمية على عقوقهم ولم نحاربهم على أرحامهم، وقد دفت إليّ منهم دافّة «1» لم يشهروا سلاحا، ولم يكثروا جمعا، وقد أحسن الله إليك فأحسن. فإن رأى أمير المؤمنين أن يكتب لهم أمانا ويأمر بإنفاذه إليّ فليفعل.
فكتب لهم كتابا منشورا وأنفذه إلى سليمان بن علي، في كل من لجأ إليه من بني أمية، فكان يسميه أبو مسلم: كهف الأبّاق «2» .
الرشيد وعبد الملك بن صالح:
دخل عبد الملك بن صالح يوما على الرشيد، فلم يلبث في مجلسه أن التفت الرشيد فقال متمثّلا:
أريد حياته ويريد قتلي ... عذيرك من خليلك من مراد(2/27)
ثم قال: أما والله لكأني أنظر إلى شؤبوبها قد همع «1» ، وعارضها قد لمع «2» ، وكأني بالوعيد قد وقع، فأقلع عن براجم «3» بلا معاصم، وجماجم بلا غلاصم «4» ، فمهلا مهلا؛ فبي والله يسهل لكم الوعر، ويصفو لكم الكدر، وألقت إليكم الأمور مقاليد أزمّتها، فالتدارك التدارك قبل حلول داهية، خبوط باليد لبوط بالرّجل.
قال عبد الملك: أفذّا «5» ما تكلمت أم توءما يا أمير المؤمنين؟ قال: بل فذّا.
قال: اتق الله في ذي رحمك وفي رعيتّك التي استرعاك الله، ولا تجعل الكفر مكان الشكر، ولا العقاب موضع الثواب؛ فقد محضت لك النصيحة وأديت لك الطاعة، وشددت أواخي ملكك بأثقل من ركني يلملم «6» ، وتركت عدوّك سبيلا تتعاوره «7» الأقدام، فالله الله في ذي رحمك أن تقطعه بعد أن وصلته؛ إنّ الكتاب لنميمة واش وبغي باغ؛ ينهش اللحم، ويلغ «8» في الدم، فكم ليل تمام فيك كابدته، ومقام ضيق فرّجته، وكنت كما قال الشاعر أخو بني كلاب:
ومقام ضيّق فرّجته ... بلساني ومقامي وجدل
لو يقوم الفيل أو فيّاله ... زلّ عن مثل مقامي وزحل
فرضي عنه ورحّب به، وقال وريت بك زنادي.
الرشيد وعبد الملك بن صالح:
والتفت الرشيد يوما إلى عبد الملك بن صالح فقال: أكفرا بالنعمة، وغدرا بالإمام؟(2/28)
قال: لقد بؤت إذا بأعباء الندم، وسعيت في استجلاب النّقم؛ وما ذلك يا أمير المؤمنين، إلا بغي باغ نافسني فيك بقديم الولاية، وحقّ القرابة، يا أمير المؤمنين، إنك خليفة الله ورسوله صلّى الله عليه وسلم في أمته، وأمينه على رعيته، لك عليها فرض الطاعة وأداء النصيحة؛ ولها عليك التثبّت في حادثها، والعدل في حكمها.
فقال له هارون: تضع لي من لسانك، وترفع عليّ من جنانك بحيث يحفظ الله لي عليك! هذا قمامة كاتبك يخبرني بفعلك.
فقال عبد الملك: أحقا يا قمامة؟
قال: نعم لقد أردت ختل «1» أمير المؤمنين والغدر به.
فقال عبد الملك: كيف لا يكذب عليّ من خلفي من بهتني «2» في وجهي؟
قال الرشيد: هذا ابنك شاهد عليك.
قال: يا أمير المؤمنين، هو بين مأمور أو عاق؛ فإن كان مأمورا فمعذور، وإن كان عاقّا فما أخاف من عقوقه أكثر.
وقال له الرشيد يوما وكان معتلا عليه: أتبقّون بالرّقّة؟ قال: نعم، ونبرغث! قال: يا بن الفاعلة! ما حملك على أن سألتك عن مسألة فرددت عليّ في مسألتين؟ وأمر به إلى الحبس؛ فلم يزل في حبسه حتى أطلقه الأمين.
لعبد الملك بن صالح بعد خروجه من السجن:
إبراهيم بن السّندي قال: سمعت عبد الملك بن صالح يقول بعد إخراج المخلوع له من الحبس، وذكر الرشيد وفعله به، فقال: والله إن الملك لشيء ما نويته ولا تمنّيته، ولا نصبت له ولا أردته، ولو أردته لكان إليّ أسرع من الماء إلى الحدور «3» ، ومن النار إلى يبس العرفج «4» ؛ وإني لمأخوذ بما لم أجن، ومسئول عما لم أعرف، ولكن حين رآني للملك قمينا «5» ، وللخلافة خطيرا، ورأى لي يدا تنالها إذا مدّت،(2/29)
وتبلغها إذا بسطت، ونفسا تكمل لخصالها، وتستحقها بفعالها- وإن كنت لم أجن تلك الخصال، ولم أصطنع تلك الفعال، ولم أترشّح لها في السر، ولا أشرت إليها في الجهر- ورآها تحنّ إليّ حنين الوالدة الوالهة، وتميل ميل الهلوك؛ وخاف أن ترغب إلى خير مرغب، وتنزع إلى أخصب منزع، عاقبني عقاب من سهر في طلبها، وجهد في التماسها، فإن كان إنما حسبني أني أصلح لها وتصلح لي، وأليق بها وتليق بي، فليس ذلك بذنب جنيته فأتوب منه، ولا تطاولت له فأحطّ نفسي عنه؛ وإن زعم أنه لا صرف لعقابه، ولا نجاة من عذابه، إلا أن أخرج له من حدّ العلم والحلم والحزم؛ فكما لا يستطيع المضياع أن يكون مصلحا، كذلك لا يستطيع العاقل أن يكون جاهلا.
وسواء عليه أعاقبني على علمي وحلمي، أم عاقبني على نسبي وسني، وسواء عليه عاقبني على جمالي أو عاقبني على محبة الناس لي. ولو أردتها لأعجلته عن التفكير، وشغلته عن التدبير، ولما كان فيها من الخطب إلا اليسير.
ابن مسلم حين بلغه غضب الخليفة على رجاء:
إبراهيم بن السّندي قال: كنت أساير سعد بن سلم، حتى قيل له: إن أمير المؤمنين قد غضب على رجاء بن أبي الضحّاك وأمر بأخذ ماله، فارتاع بذلك وجزع، فقيل له: ما يروعك منه؟ فو الله ما جعل الله بينكما نسبا ولا سببا. فقال: بلى، النّعمة نسب بين أهلها، والطاعة سبب مؤكّد بين الأولياء.
وبعث بعض الملوك إلى رجل وجد عليه: فقال لما مثل بين يديه: أيها الأمير، إن الغضب شيطان فاستعذ بالله منه؛ وإنما خلق العفو للمذنب، والتجاوز للمسيء، فلا تضق عما وسع الرعيّة من حلمك وعفوك. فعفا عنه وأطلق سبيله.
ولما اتهم قتيبة بن مسلم أبا مجلز على بعض الأمر، قال: أصلح الله الأمير، وأستغفر الرب، أسأل العافية! قال: قد عفونا عنك.
وأرسل بعض الملوك في رجل أراد عقوبته، فلما مثل بين يديه قال: أسألك بالذي(2/30)
أنت بين يديه أذلّ مني بين يديك؛ وهو على عقابك أقدر منك على عقابي، إلا نظرت في أمري نظر من برئى أحبّ إليه من سقمي، وبراءتي أحبّ إليه من جرمي.
وقال خالد بن عبد الله لسليمان بن عبد الملك حين وجد عليه: يا أمير المؤمنين، إن القدرة تذهب الحفيظة؛ وأنت تجلّ عن العقوبة ونحن مقرّون بالذنب؛ فإن تعف عنّي فأهل ذلك أنت، وإن تعاقبني فأهل ذلك أنا.
وأمر معاوية بن أبي سفيان بعقوبة روح بن زنباع، فقال له: أنشدك الله يا أمير المؤمنين ألا تضع مني خسيسة أنت رفعتها، أو تنقض منّي مريرة أنت أبرمتها «1» ، أو تشمت بي عدوّا أنت وقمته «2» ، إلّا أتى حلمك وصفحك على خطئي وجهلي. فقال معاوية: خلّيا عنه، إذا أراد الله أمرا يسّره.
وجد عبد الملك بن مروان على رجل فجفاه واطّرحه، ثم دعا به ليسأله عن شيء، فرآه شاحبا ناحلا؛ فقال له: مذ متى اعتللت؟ فقال:
ما مسّني سقم ولكنّني ... جفوت نفسي إذ جفاني الأمير
وآليت ألا أرضى عنها حتى يرضى عني أمير المؤمنين. فأعاده إلى نفسه.
وقعد الحسن بن سهل لنعيم بن حازم، فأقبل إليه حافيا حاسرا وهو يقول: ذنبي أعظم من السماء، ذنبي أعظم من الأرض. فقال له الحسن: على رسلك أيها الرجل، لا بأس عليك، قد تقدمت لك طاعة، وحدثت لك توبة، وليس للذنب بينهما موضع، ولئن وجد موضعا فما ذنبك في الذنوب بأعظم من عفو أمير المؤمنين في العفو.
المأمون وهاشمي أذنب:
أذنب رجل من بني هاشم ذنبا إلى المأمون، فعاتبه فيه. فقال: يا أمير المؤمنين، من حمل مثل دالّتي، ولبس ثوب حرمتي، ومتّ «3» بمثل قرابتي، اغتفر له فوق زلّتي.(2/31)
قال: صدقت يا بن عمي. وصفح عنه.
واعتذر رجل إلى المأمون من ذنب فقال له: إني وإن كانت زلتي قد أحاطت بحرمتي فإن فضلك محيط بها. وكرمك موقوف عليها.
أخذه صريع الغواني فقال:
إن كان ذنبي قد أحاط بحرمتي ... فأحط بذنبي عفوك المأمولا.
المنصور ويزيد ابن هبيرة:
ودخل يزيد بن عمر بن هبيرة على أبي جعف المنصور بعد ما كتب أمانه، فقال:
يا أمير المؤمنين، إنّ إمارتكم بكر ودولتكم جديدة، فأذيقوا الناس حلاوتها، وجنّبوهم مرارتها، تخفّ على قلوبهم طاعتكم، وتسرع إلى أنفسهم محبّتكم، وما زلت مستبطئا لهذه الدعوة. فلما قام قال أبو جعفر: عجبا من كل من يأمر بقتل هذا! ثم قتله بعد ذلك غدرا.
المنصور بعد هزيمة عبد الله بن علي:
الهيثم بن عدي قال: لما انهزم عبد الله بن علي من الشام، قدم على المنصور وفد منهم، فتكلموا عنده، ثم قام الحارث فقال: يا أمير المؤمنين، إنا لسنا وفد مباهاة، وإنما نحن وفد توبة، ابتلينا بفتنة استخفّت كريمنا، واستفزّت حليمنا، ونحن بما قدّمنا معترفون، ومما سلف منا معتذرون. فإن تعاقبنا فقد أجرمنا وإن تعف عنا فطالما أحسنت إلى من أساء منا.
فقال المنصور للحرسيّ: هذا خطيبهم! وأمر بردّ ضياعه عليه بالغوطة.
لتميم بن جميل بين يدي المعتصم:
قال أحمد بن أبي دواد: ما رأينا رجلا نزل به الموت فما شغله ذلك ولا أذهله عما كان يحب أن يفعله، إلا تميم بن جميل؛ فإنه كان تغلّب على شاطيء الفرات؛ وأوفى(2/32)
به الرسول باب أمير المؤمنين المعتصم في يوم الموكب حين يجلس للعامة، ودخل عليه، فلما مثل بين يديه، دعا بالنّطع والسيف، فأحضرا، فجعل تميم بن جميل ينظر إليها ولا يقول شيئا، وجعل المعتصم يصعّد النظر فيه ويصوّبه، وكان جسيما وسيما، ورأى أن يستنطقه لينظر أين جنانه ولسانه من منظره. فقال: يا تميم، إن كان لك عذر فأت به، أو حجة فأدل بها.
فقال: أما إذ قد أذن لي أمير المؤمنين فإني أقول: الحمد لله الذي أحسن كلّ شيء خلقه، وبدأ خلق الإنسان من طين، ثم جعل نسله من سلالة من ماء مهين. يا أمير المؤمنين، إن الذنوب تخرس الالسنة، وتصدع الأفئدة، ولقد عظمت الجريرة وكبر الذنب، وساء الظنّ، ولم يبق إلا عفوك أو انتقامك، وأرجو أن يكون أقربهما منك وأسرعهما إليك أولاهما بامتنانك، وأشبههما بخلائقك. ثم أنشأ يقول:
أرى الموت بين السّيف والنطع كامنا ... يلاحظني من حيثما أتلفّت
وأكبر ظنّي أنّك اليوم قاتلي ... وأيّ امريء ممّا قضى الله يفلت
ومن ذا الذي يدلي بعذر وحجة ... وسيف المنايا بين عينيه مصلت «1»
يعزّ على الأوس بن تغلب موقف ... يسلّ عليّ السيف فيه وأسكت
وما جزعي من أن أموت وإنّني ... لأعلم أنّ الموت شيء موقّت
ولكنّ خلفي صبية قد تركتهم ... وأكبادهم من حسرة تتفتّت
كأني أراهم حين أنعى إليهم ... وقد خمشوا تلك الوجوه وصوّتوا
فإن عشت عاشوا خافضين بغبطة ... أذود الرّدى عنهم وإن متّ موّتوا
فكم قائل لا يبعد الله روحه ... وآخر جذلان يسرّ ويشمت
قال: فتبسم المعتصم وقال: كاد والله يا تميم أن يسبق السيف العذل، اذهب، فقد غفرت لك الصبوة «2» ، وتركتك للصبّية.(2/33)
المهدي وأبو عبيد الله بعد قتل ابنه:
وحكي أن أمير المؤمنين المهدي قال لأبي عبيد الله لما قتل ابنه: إنه لو كان في صالح خدمتك وما تعرّفناه من طاعتك، وفاء يجب به الصفح عن ولدك، ما تجاوز أمير المؤمنين ذلك به إلى غيره؛ ولكنه نكص «1» على عقبيه وكفر بربّه. قال أبو عبيد الله: رضانا عن أنفسنا وسخطنا عليها موصول برضاك وسخطك، ونحن خدم نعمتك، تثيبنا على الإحسان فنشكر، وتعاقبنا على الإساءة فنصبر.
المنصور وجعفر ابن محمد:
أبو الحسن المدائني قال: لما حج المنصور مرّ بالمدينة، فقال للربيع الحاجب: عليّ بجعفر بن محمد، قتلني الله إن لم أقتله. فمطل «2» به، ثم ألحّ عليه فحضر، فلما كشف الستر بينه وبينه ومثل بين يديه، همس جعفر بشفتيه، ثم تقرّب وسلّم، فقال: لا سلّم الله عليك يا عدوّ الله، تعمل عليّ الغوائل في ملكي؟ قتلني الله إن لم أقتلك. قال: يا أمير المؤمنين، إنّ سليمان صلّى الله على محمد وعليه، أعطي فشكر، وإن أيوب ابتلي فصبر، وإن يوسف ظلم فغفر؛ وأنت على إرث منهم، وأحقّ من تأسّى بهم. فنكس أبو جعفر رأسه مليا. وجعفر واقف، ثم رفع رأسه فقال: إليّ أبا عبد الله، فأنت القريب القرابة، وذو الرّحم الواشجة «3» السليم الناحية، القليل الغائلة «4» . ثم صافحه بيمينه، وعانقه بشماله، وأجلسه معه على فراشه وانحرف له عن بعضه، وأقبل عليه بوجهه يحادثه ويسائله. ثم قال: يا ربيع، عجّل لأبي عبد الله كسوته وجائزته وإذنه.
قال الربيع: فلما حال الستر بيني وبينه أمسكت بثوبه، فقال: ما أرانا يا ربيع إلا وقد حبسنا. فقلت: لا عليك! هذه منّي لا منه. فقال: هذه أيسر، سل حاجتك.
فقلت له: إني منذ ثلاث أدفع عنك وأداري عليك، ورأيتك إذ دخلت همست(2/34)
بشفتيك، ثم رأيت الأمر انجلى عنك، وأنا خادم سلطان ولا غنى لي عنه، فأحبّ منك أن تعلّمنيه. قال: نعم، قلت: «اللهم احرسني بعينك التي لا تنام، واكنفني بحفظك الذي لا يرام، ولا أهلك وأنت رجائي، فكم من نعمة أنعمتها عليّ قلّ لك عندها شكري فلم تحرمني، وكم من بليّة ابتليت بها قللّ عندها صبري فلم تخذلني، بك أدرأ «1» في نحره، وأستعيذ بخيرك من شرّه، فإنك على كل شيء قدير، وصلى الله على سيدنا محمد وآله وسلّم» .
سليمان بن عبد الملك ويزيد بن راشد:
المدائني قال: لما قام يزيد بن راشد خطيبا، وكان فيمن دعا إلى خلع سليمان بن عبد الملك والبيعة لعبد العزيز بن الوليد. فنذر سليمان قطع لسانه. فلما أفضت الخلافة إليه، دخل عليه يزيد بن راشد، فجلس على طرف البساط مفكرا، ثم قال: يا أمير المؤمنين، كن كنبيّ الله صلّى الله عليه وسلم: ابتلي فصبر، وأعطي فشكر، وقدر فغفر، قال: ومن أنت؟ قال: يزيد بن راشد. فعفا عنه.
الرشيد ورجل حبسه:
حبس الرشيد رجلا، فلما طال حبسه كتب إليه: إن كل يوم يمضي من نعيمك يمضي من بؤسي مثله، والأمد قريب والحكم لله، فأطلقه.
أسد القسري ودهقان يعذب:
ومر أسد بن عبد الله القسريّ وهو والي خراسان، بدار من دور الاستخراج، ودهقان «2» يعذّب في حبسه، وحول أسد مساكين يستجدونه. فأمر لهم بدراهم تقسم فيهم. فقال الدهقان: يا أسد، إن كنت تعطي من يرحم فارحم من يظلم فإن السموات تنفرج لدعوة المظلوم. يا أسد، أحذر من ليس له ناصر إلا الله، واتق من(2/35)
لا جنّة «1» له إلا الابتهال إلى الله. إن الظلم مصرعه وخيم، فلا يغترّ بإبطاء الغياث من ناصر متى شاء أن يجيب أجاب، وقد أملى لقوم ليزدادوا إثما. فأمر أسد بالكفّ عنه.
المأمون ورجل من خاصته:
عتب المأمون على رجل من خاصّته، فقال: يا أمير المؤمنين، إن قديم الحرمة، وحديث التّوبة يمحوان ما بينهما من الإساءة. فقال: صدقت. ورضي عنه.
ملك من ملوك فارس وصاحب مطبخه:
وكان ملك من ملوك فارس عظيم المملكة شديد النّقمة، وكان له صاحب مطبخ، فلما قرّب إليه طعامه صاحب المطبخ سقطت نقطة من الطعام على يديه، فزوى لها الملك وجهه؛ وعلم صاحب المطبخ أنه قاتله، فكفأ الصحفة على يديه. فقال الملك: عليّ به، فلما أتاه قال له: قد علمت أن سقوط النقطة أخطأت بها يدك، فما عذرك في الثانية؟ قال: استحييت للملك أن يقتل مثلي في سني وقديم حرمتي في نقطة، فأردت أن أعظم ذنبي ليحسن به قتلي، فقال له الملك: لئن كان لطف الاعتذار ينجيك من القتل ما هو بمنجيك من العقوبة، اجلدوه مائة جلدة وخلّوه.
المأمون ومحمد بن عبد الملك:
الشيباني قال: دخل محمد بن عبد الملك بن صالح على المأمون حين قبض ضياعهم، فقال: يا أمير المؤمنين، محمد بن عبد الملك بين يديك، ربيب دولتك، وسليل نعمتك؛ وغصن من أغصان دوحتك؛ أتأذن في الكلام؟ قال: نعم قال: نستمنح الله حياطة ديننا ودنيانا، ورعاية أدنانا وأقصانا ببقائك؛ ونسأله أن يزيد في عمرك من أعمارنا، وفي أثرك من آثارنا، ويقيك الأذى بأسماعنا وأبصارنا. هذا مقام العائذ بفضلك، الهارب إلى كنفك وظلّك، الفقير إلى رحمتك وعدلك. ثم تكلم في حاجته، فقضاها.(2/36)
عبيد بن أيوب والحجاج:
وقال عبيد بن أيوب، وكان يطلبه الحجاج لجناية جناها، فهرب منه وكتب إليه:
أذقني طعم النوم أو سل حقيقة ... علي فإن قامت ففصّل بنانيا «1»
خلعت فؤادي فاستطار فأصبحت ... ترامى به البيد القفار تراميا «2»
ولم يقل أحد في هذا المعنى أحسن من قول النابغة الذبياني للنّعمان بن المنذر:
أتاني أبيت اللّعن أنك لمتني ... وتلك التي تستكّ منها المسامع
فبتّ كأنّي ساورتني ضئيلة ... من الرّقش من أنيابها السّمّ ناقع «3»
أكلّفتني ذنب امريء وتركته ... كذي العرّ يكوى غيره وهو راتع «4»
فإنّك كالليل الذي هو مدركي ... وإن خلت أنّ المنتأى عنك واسع
وقال فيه أيضا:
ولست بمستبق أخا لا تلمّه ... على شعث أي الرجال المهذّب؟ «5»
فإن أك مظلوما فعبد ظلمته ... وإن تك ذا عتب فمثلك يعتب
حلفت فلم أترك لنفسك ريبة ... وليس وراء الله للمرء مذهب
لئن كنت قد بلّغت عنّي جناية ... لمبلغك الواشي أغشّ وأكذب
ألم تر أنّ الله أعطاك سورة ... ترى كلّ ملك دونها يتذبذب «6»
فإنّك شمس والملوك كواكب ... إذا طلعت لم يبد منهنّ كوكب
وقال ابن الطّثرية:
فهنّي امرءا إمّا بريئا علمته ... وإما مسيئا تاب منه وأعتبا(2/37)
وكنت كذي داء تبغّى لدائه ... طبيبا فلمّا لم يجده تطبّبا
وقال الممزّق العبدي لعمرو بن هند:
تروح وتغدو ما يحلّ وضينها ... إليك ابن ماء المزن وابن محرّق «1»
أحقا أبيت الّلعن إنّ ابن مزننا ... على غير إجرام بريقي مشرّقي
فإن كنت مأكولا فكن خير آكل ... وإلّا فأدركني ولمّا أمزّق
فأنت عميد الناس مهما تقل نقل ... ومهما تضع من باطل لا يلحّق
وتمثل بهذه الأبيات عثمان بن عفان في كتابه إلى علي بن أبي طالب يوم الدار.
لابن الزيات يستعطف المتوكل:
وكتب محمد بن عبد الملك الزيات، لما أحسّ بالموت وهو في حبس المتوكل، برقعة إلى المتوكل، فيها:
هي السبيل فمن يوم إلى يوم ... كأنّه ما تريك العين في النّوم
لا تعجلن رويدا إنّما دول ... دنيا تنقّل من قوم إلى قوم
إنّ المنايا وإنّ أصبحت ذا فرح ... تحوم حولك حوما أيّما حوم
فلما وصلت إلى المتوكل وقرأها أمر بإطلاقه، فوجدوه ميتا.
وقال عمرو بن معاوية بن عمرو بن عتبة للمنصور، وقد أراد عقوبة رجل: يا أمير المؤمنين، إن الانتقام عدل، والتجاوز فضل، والمتفضّل قد جاوز حدّ المنصف، ونحن نعيذ أمير المؤمنين أن يرضي لنفسه أوكس «2» النصيبين دون أن يبلغ أرفع الدرجات.
أبو مسلم وبعض قواده:
جرى بين أبي مسلم صاحب الدعوة وقائد من قواده يقال لهم شهرام، كلام، فقال(2/38)
له قائده كلمة فيها بعض الغلظ، ثم ندم على ما كان منه، فجعل يتضرع ويتنصّل إليه. فقال له أبو مسلم: لا عليك، لسان سبق، ووهم أخطأ، إنما الغضب شيطان، وإنما جرّأتك عليّ لطول احتمالي عنك، فإن كنت للذنب متعمّدا ففقد شاركتك فيه، وإن كنت مغلوبا فإن العذر يسعك، وقد عفونا على كل حال. فقال: أصلح الله الأمير، إنّ عفو مثلك لا يكون غرورا. قال: أجل. قال: فإنّ عظم الذنب لا يدع قلبي يسكن. وألح في الاعتذار. فقال له أبو مسلم: عجبا لك! إنك أسأت فأحسنت، فلما أحسنت أسيء.
المأمون وأبو دلف وقد رضي عنه:
دخل أبو دلف على المأمون، وقد كان عتب عليه ثم أقاله، فقال له وقد خلا مجلسه؛ قل أبا دلف، وما عسيت أن تقول وقد رضي عنك أمير المؤمنين وغفر لك ما فعلت؟ فقال: يا أمير المؤمنين.
ليالي تدني منك بالبشر مجلسي ... ووجهك من ماء البشاشة يقطر
فمن لي بالعين التي كنت مرّة ... إليّ بها في سالف الدهر تنظر
قال المأمون: لك بها رجوعك الى المناصحة، وإقبالك على الطاعة. ثم عاد له إلى ما كان عليه.
بين المأمون وأبي دلف:
وقال له المأمون يوما: أنت الذي تقول:
إنّي امرؤ كسرويّ الفعال ... أصيف الجبال وأشتو العراقا
ما أراك قدّمت لحقّ طاعة، ولا قضيت واجب حرمة! قال له يا أمير المؤمنين إنما هي نعمتك ونحن فيها خدمك، وما هراقة دمي في طاعتك إلا بعض ما يجب لك.
ودخل أبو دلف على المأمون. فقال: أنت الذي يقول فيك ابن جبلة:
إنّما الدنيا أبو دلف ... بين باديه ومحتضره(2/39)
فإذا ولّى أبو دلف ... ولّت الدنيا على أثره
فقال: يا أمير المؤمنين، شهادة زور، وكذب شاعر، وملق مستجد «1» ؛ ولكني الذي يقول فيه أبن أخيه:
ذريني أجوب الأرض في طلب الغنى ... فما الكرخ بالدنيا ولا الناس قاسم
الكرخ: منزل أبي دلف. وكان اسمه قاسم بن عبد الله.
المنصور ومعن بن زائدة:
وقال المنصور لمعن بن زائدة: ما أظنّ ما قيل عنك من ظلمك أهل اليمن واعتسافك عليهم إلا حقا؟ قال: كيف ذلك يا أمير المؤمنين؟ قال: بلغني عنك أنك أعطيت شاعرا لبيت قاله ألف دينار. وأنشده البيت، وهو:
معن بن زائدة الذي زيدت به ... فجرا إلى فجر بنو شيبان
قال: نعم يا أمير المؤمنين، قد أعطيته ألف دينار، ولكن على قوله:
ما زلت يوم الهاشميّة معلما ... بالسيف دون خليفة الرحمن
فمنعت حوزته وكنت وقاءه ... من وقع كلّ مهنّد وسنان
قال: فاستحيا المنصور وجعل ينكت «2» بالمخصرة، ثم رفع رأسه وقال: اجلس أبا الوليد.
عبد الملك وأعرابي سرق:
أتي عبد الملك بن مروان بأعرابيّ سرق، فأمر بقطع يده، فأنشأ يقول:
يدي يا أمير المؤمنين أعيذها ... بعفوك أن تلقى مكانا يشينها
ولا خير في الدنيا وكانت حبيبة ... إذا ما شمالي فارقتها يمينها
فأبى إلا قطعه؛ فقالت أمه: يا أمير المؤمنين، واحدي وكاسبي. قال: بئس(2/40)
الكاسب كان لك، وهذا حدّ من حدود الله. قالت: يا أمير المؤمنين، اجعله من بعض ذنوبك التي تستغفر الله منها! فعفا عنه.
تذكير الملوك بذمام متقدم
المأمون وابن أشرس:
قال ثمامة بن أشرس للمأمون لما صارت إليه الخلافة: كان لي أملان: أمل لك وأمل بك، فأمّا أملي لك فقد بلغته، وأما أملي بك فلا أدري ما يكون منك فيه.
قال: يكون أفضل ما رجوت وأمّلت. فجعله من سمّاره وخاصّته.
يزيد بن عبد الملك والأبرش:
الأصمعي قال: لما مات يزيد بن عبد الملك وصارت الخلافة إلى هشام بن عبد الملك، خرّ أصحابه سجودا، إلا الأبرش الكلبي. فقال له: يا أبرش، ما منعك أن تسجد كما سجدوا؟ قال: يا أمير المؤمنين، لأنك ذهبت عنا وتركتنا: قال: فإن ذهبت بك معي؟ قال: أو تفعل يا أمير المؤمنين؟ قال: نعم. قال: فالآن طاب السجود، ثم سجد.
أبو جعفر ورجل من إخوانه يهنئه بالخلافة:
ولما صارت الخلافة إلى ابي جعفر كتب إليه رجل من إخوانه:
إنّا بطانتك الألى ... كنا نكابد ما تكابد
ونرى فنعرف بالعدا ... وة والعباد لمن تباعد
ونبيت من شفق علي ... ك ربيئة والليل هاجد «1»
هذا أوان وفاء ما ... سبقت به منك المواعد(2/41)
لحبيب:
فوقّع أبو جعفر على كل بيت منها: صدقت صدقت. ثم دعا به وألحقه في خاصته. وقال حبيب الشاعر في هذا المعنى:
وإنّ أولى الموالي أن تواسيه ... عند السرور لمن واساك في الحزن
إنّ الكرام إذا ما أسهلوا ذكروا ... من كان يألفهم في الموطن الخشن
حسن التخلص من السلطان
العباس بن سهل وعثمان بن حيان:
أبو الحسن المدائني قال: كان العباس بن سهل والي المدينة لعبد الله بن الزبير، فلما بايع الناس عبد الملك بن مروان، ولّى عثمان بن حيّان المرّي وأمره بالغلظة على أهل الظنّة «1» . فعرض يوما بذكر الفتنة وأهلها، فقال له قائل: هذا العباس بن سهل على ما فيه، كان مع الزبير وعمل له. فقال عثمان بن حيّان: ويلي! والله لأقتلنّه.
قال العبّاس: فبلغني ذلك، فتغيّبت حتى أضرّ بي التغيّب، فأتيت ناسا من جلسائه فقلت لهم: مالي أخاف وقد أمّنني عبد الملك بن مروان؟ فقالوا: والله ما يذكرك إلا تغيّظ عليك، وقلّما كلّم على طعامه في ذنب إلا انبسط، فلو تنكّرت وحضرت عشاءه وكلمته.
قال: ففعلت، وقلت على طعامه، وقد أتي بجفنة ضخمة ذات ثريد ولحم: «والله لكأني أنظر إلى جفنة حيّان بن معبد، والناس يتكاوسون «2» عليها، وهو يطوف في حاشيته يتفقّد مصالحها، يسحب أردية الخزّ، حتى إن الحسك ليتعلق به فما يميطه «3» ، ثم يؤتى بجفنة تهادى بين أربعة ما يستقلّون بها إلا بمشقّة وعناء، وهذا بعد ما يفرغ الناس من الطعام ويتنّحون عنه، فيأتي الحاضر من أهله، والطاريء من أشراف(2/42)
قومه، وما بأكثرهم من حاجة إلى الطعام، وما هو إلا الفخر بالدنوّ من مائدته والمشاركة ليده.
قال: هيه! أنت رأيت ذلك؟ قلت: أجل والله. قال لي: من أنت؟ قلت: وأنا آمن؟ قال: نعم. قلت: العباس بن سهل بن سعد الأنصاري. قال: مرحبا وأهلا، أهل الشرف والحق. قال: فلقد رأيتني بعد ذلك وما بالمدينة رجل أوجه مني عنده.
فقيل له بعد ذلك: أنت رأيت حيّان بن معبد يسحب أردية الخز ويتكاوس الناس على مائدته؟ فقال: والله لقد رأيته ونزلنا ذلك الماء وغشينا وعليه عباءة ذكوانيّة، فلقد جعلنا نذوده عن رحلنا مخافة أن يسرقه.
بين المختار وسراقة:
أبو حاتم قال: حدثنا أبو عبيدة قال: أخذ سراقة بن مرداس البارقي أسيرا يوم جبّالة السّبيع، فقدّم في الأسرى إلى المختار؛ فقال سراقة:
امنن عليّ اليوم يا خير معدّ ... وخير من لبّى وصلّى وسجد
فعفا عنه المختار وخلّى سبيله.
ثم خرج مع إسحاق بن الأشعث فأتي به المختار أسيرا. فقال له: ألم أعف عنك ثم خرج مع إسحاق بن الأشعث فأتي به المختار أسيرا. فقال له: ألم أعف عنك وأمن عليك؟ أما والله لأقتلنّك. قال: لا والله لا تفعل إن شاء الله. قال: ولم؟ قال:
لأنّ أبي أخبرني أنك تفتح الشام حتى تهدم مدينة دمشق حجرا حجرا وأنا معك، ثم أنشده:
ألا أبلغ أبا إسحاق أنّا ... حملنا حملة كانت علينا
خرجنا لا نرى الضّعفاء منّا ... وكان خروجنا بطرا وحينا «1»
تراهم في مصفّهم قليلا ... وهم مثل الدّبى لما التقينا «2»(2/43)
فأسجح إذ قدرت فلو قدرنا ... لجرنا في الحكومة واعتدينا «1»
تقبّل توبة منّي فإني ... سأشكر إن جعلت النّقد دينا
قال: فخلىّ سبيله.
ثم خرج إسحاق بن الأشعث ومعه سراقة، فأخذ أسيرا وأتي به المختار، فقال:
الحمد لله الذي أمكنني منك يا عدوّ الله. هذه ثالثة. فقال سراقة: أمّا والله ما هؤلاء الذين أخذوني! فأين هم ... لا أراهم؟ إنا لما التقينا رأينا قوما عليهم ثياب بيض، وتحتهم خيل بلق «2» تطير بين السماء والأرض.
فقال المختار خلوا سبيله ليخبر الناس.
ثم دعا لقتاله فقال:
ألا من مبلغ المختار عنّي ... بأنّ البلق دهم مصمتات «3»
أرى عينيّ ما لم ترأياه ... كلانا عالم بالتّرّهات «4»
كفرت بوحيكم وجعلت نذرا ... عليّ قتالكم حتى الممات
معن بن زائدة وبعض الأسرى:
كان معن بن زائدة قد أمر بقتل جماعة من الأسرى، فقام إليه أصغر القوم فقال له: يا معن، أتقتل الأسرى عطاشا؟ فأمر لهم بالماء؛ فلما سقوا قال: يا معن: أتقتل ضيفانك؟ فأمر معن بإطلاقهم.
عمر بن الخطاب والهرمزان:
لما أتي عمر بن الخطاب بالهرمزان أسيرا، دعاه إلى الإسلام، فأبى عليه. فأمر(2/44)
بقتله، فلما عرض عليه السيف قال: لو أمرت لي يا أمير المؤمنين بشربة من ماء، فهو خير من قتلي على الظمأ. فأمر له بها؛ فلما صار الإناء بيده قال: أنا آمن حتى أشرب؟
قال: نعم. فألقى الإناء من يده وقال: الوفاء يا أمير المؤمنين نور أبلج. قال: لك التوقّف حتى أنظر في أمرك، ارفعا عنه السيف. فلما رفع عنه قال: الآن أشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأنّ محمدا عبده ورسوله. فقال له عمر: ويحك! أسلمت خير إسلام، فما أخّرك؟ قال: خشيت يا أمير المؤمنين أن يقال إن إسلامي إنما كان جزعا من الموت. فقال عمر: إن لفارس حلوما بها استحقّت ما كانت فيه من الملك. ثم كان عمر يشاوره بعد ذلك في إخراج الجيوش إلى أرض فارس ويعمل برأيه.
الحجاج وبعض من أسر مع ابن الأشعث:
لما أتي الحجاج بالأسرى الذين خرجوا مع ابن الأشعث، أمر بقتلهم؛ فقال رجل أصلح الله الأمير، إن لي حرمة. قال: وما هي؟ قال: ذكرت في عسكر ابن الأشعث فشتمت في أبويك، فعرضت دونهما؛ فقلت: لا والله ما في نسبه مطعن، فقولوا فيه ودعوا نسبه. قال ومن يعلم ما ذكرت؟ [قال] فالتفتّ إلى أقرب الأسرى إليّ فقلت: هذا يعلمه. قال له الحجاج: ما تقول فيما يقول؟ قال: صدق- أصلح الله الأمير- وبرّ. قال: خليا عن هذا لنصرته، وعن هذا لحفظ شهادته.
روح بن حاتم وبعض المتلصصين:
عمرو بن بحر الجاحظ قال: أتي روح بن حاتم برجل كان متلصّصا في طريق الرّقاق، فأمر بقتله؛ فقال: أصلح الله الأمير، لي عندك يد بيضاء. قال: وما هي؟
قال: إنك جئت يوما إلى مجمع موالينا بني نهشل والمجلس محتفل، فلم يتحفّز لك أحد فقمت من مكاني حتى جلست فيه، ولولا محض كرمك، وشرف قدرك.
ونباهة أوّليّتك، ما ذكّرتك هذه عند مثل هذا. قال ابن حاتم: صدق، وأمر بإطلاقه وولاه تلك الناحية وضمّنه إياها.(2/45)
ولما ظفر المأمون بأبي دلف، وكان يقطع في الجبال، أمر بضرب عنقه؛ فقال: يا أمير المؤمنين دعني أركع ركعتين. قال: افعل. فركع وحبّر أبياتا، ثم وقف بين يديه فقال:
بع بي النّاس فإنّي ... خلف ممّن تبيع
واتّخذني لك درعا ... قلصت عنه الدّرّوع «1»
وارم بي كلّ عدوّ ... فأنا السّهم السّريع
فأطلقه وولّاه تلك الناحية، فأصلحها.
معاوية وأسير من أهل العراق:
أتي معاوية يوم صفّين بأسير من أهل العراق، فقال: الحمد لله الذي أمكنني منك! قال: لا تقل ذلك يا معاوية، فإنها مصيبة! قال: وأي نعمة أعظم من أن أمكنني الله من رجل قتل جماعة من أصحابي في ساعة واحدة؟ اضرب عنقه يا غلام! فقال الأسير: اللهم اشهد أن معاوية لم يقتلني فيك، ولا لأنك ترضى بقتلي: وإنما يقتلني في الغلبة على حطام هذه الدنيا؛ فإن فعل فافعل به ما هو أهله، وإن لم يفعل فافعل به ما أنت أهله.
قال له: ويحك! لقد سببت فأبلغت، ودعوت فأحسنت؛ خلّيا عنه.
مصعب بن الزبير ورجل من أصحاب المختار:
أمر مصعب بن الزبير برجل من أصحاب المختار أن تضرب عنقه، فقال أيها الأمير، ما أقبح بك أن أقوم يوم القيامة إلى صورتك هذه الحسنة، ووجهك هذا الذي يستضاء به، فأتعلق بأطرافك وأقول: أي ربّ، سل هذا فيم قتلني؟ قال:
أطلقوه. قال: اجعل ما وهبت لي من حياتي في خفض. قال: أعطوه مائة ألف. قال(2/46)
الأسير: بأبي أنت وأمي، أشهد أن لقيس الرّقيات منها خمسين ألفا. قال: ولم؟ قال:
لقوله فيك:
إنّما مصعب شهاب من الله ... تجلّت عن وجهه الظّلماء
ملكه ملك رحمة ليس فيه ... جبروت يخشى ولا كبرياء
يتّقي الله في الأمور وقد أف ... صلح من همه الاتّقاء
فضحك مصعب وقال: أرى فيك موضعا للصنيعة. وأمر بلزومه وأحسن إليه؛ فلم يزل معه حتى قتل.
عبد الملك ورجل أمر بقتله:
أمر عبد الملك بقتل رجل، فقال: يا أمير المؤمنين، إنك أعزّ ما تكون أحوج ما تكون إلى الله. فعفا عنه.
الحجاج وأسرى من الخوارج:
أتي الحجاج بأسرى من الخوارج، فأمر بضرب أعناقهم فقدم فيهم شاب فقال:
والله يا حجاج لئن كنا أسأنا في الذنب فما أحسنت في العفو. فقال: أفّ لهذه الجيف.
ما كان فيهم من يقول مثل هذا؟ وأمسك عن القتل.
وأتي الحجاج بأسرى، فأمر بقتلهم، فقال له رجل منهم: لا جزاك الله يا حجاج عن السّنّة خيرا؛ فإن الله تعالى يقول: فَإِذا لَقِيتُمُ الَّذِينَ كَفَرُوا فَضَرْبَ الرِّقابِ حَتَّى إِذا أَثْخَنْتُمُوهُمْ فَشُدُّوا الْوَثاقَ فَإِمَّا مَنًّا بَعْدُ وَإِمَّا فِداءً
«1» . فهذا قول الله في كتابه.
وقد قال شاعركم فيما وصف به قومه من مكارم الأخلاق:
وما نقتل الأسرى ولكن نفكّهم ... إذا أثقل الأعناق حمل القلائد
فقال الحجاج: ويحكم! أعجزتم أن تخبروني بما أخبرني هذا المنافق؟ وأمسك عمن بقي.(2/47)
الحجاج وحرورية:
الهيثم بن عدي قال: أتي الحجاج بحروريّة، فقال لأصحابه: ما تقولون في هذه؟
قالوا: اقتلها. أصلح الله الأمير، ونكّل بها غيرها! فتبسّمت الحرورية. فقال لها: لم تبسّمت؟ فقالت: لقد كان وزراء أخيك فرعون خير من وزرائك يا حجاج:
استشارهم في قتل موسى فقالوا: أرجه وأخاه، وهؤلاء يأمرونك بتعجيل قتلي، فضحك الحجاج وأمر بإطلاقها.
قال معاوية ليونس الثقفي: اتق الله؛ لأطيرنّك طيرة بطيئا وقوعها، قال: أليس بي وبك المرجع إلى الله؟ قال: نعم. قال: فأستغفر الله.
ودخل رجل من بني مخزوم على عبد الملك بن مروان، وكان زبيريا، فقال له عبد الملك: أليس الله قد ردّك على عقبيك؟ قال: ومن ردّ إليك يا أمير المؤمنين فقد ردّ على عقبيه، فسكت عبد الملك وعلم أنه أخطأ.
دخل يزيد بن أبي مسلم على سليمان بن عبد الملك؛ فقال له سليمان: على امريء أمّرك وجرّأك وسلّطك على الأمة لعنة الله، أتظن الحجاج استقرّ في قعر جهنم أم هو يهوي فيها؟ قال: يا أمير المؤمنين، إن الحجاج يأتي يوم القيامة بين أخيك وأبيك، فضعه من النار حيث شئت.
قال عبيد الله بن زياد لقيس بن عباد: ما تقول فيّ وفي الحسين؟ قال: أعفني عافاك الله. قال: لا بدّ أن تقول. قال: يجيء أبوه يوم القيامة فيشفع له، ويجيء أبوك فيشفع لك.
قال: قد علمت غشّك وخبثك، لئن فارقتني يوما لأضعنّ أكثرك شعرا بالأرض.
الحجاج وابن يعمر في الحسين:
الأصمعي قال: بعث الحجاج إلى يحيى بن يعمر، فقال له: أنت الذي تقول إنّ(2/48)
الحسين بن علي ابن عمّ رسول الله صلّى الله عليه وسلم ابن رسول الله؟ لتأتينّي بالمخرج مما قلت أو لأضربنّ عنقك! فقال له ابن يعمر: وإن جئت بالمخرج فأنا آمن؟ قال: نعم. قال:
اقرأ: وَتِلْكَ حُجَّتُنا آتَيْناها إِبْراهِيمَ عَلى قَوْمِهِ نَرْفَعُ دَرَجاتٍ مَنْ نَشاءُ إِنَّ رَبَّكَ حَكِيمٌ عَلِيمٌ وَوَهَبْنا لَهُ إِسْحاقَ وَيَعْقُوبَ كُلًّا هَدَيْنا وَنُوحاً هَدَيْنا مِنْ قَبْلُ وَمِنْ ذُرِّيَّتِهِ داوُدَ وَسُلَيْمانَ وَأَيُّوبَ وَيُوسُفَ وَمُوسى وَهارُونَ وَكَذلِكَ نَجْزِي الْمُحْسِنِينَ، وَزَكَرِيَّا وَيَحْيى وَعِيسى
«1» فمن أبعد «2» : عيسى من إبراهيم، أو الحسين من محمد صلّى الله عليه وسلم؟
وإنما هو ابن بنته، فقال له الحجاج: والله لكأني ما قرأت هذه الآية قط، وولاه قضاء بلده، فلم يزل بها قاضيا حتى مات.
الحجاج وابن أبي ليلى:
أبو بكر ابن شيبة بإسناده قال: دخل عبد الرحمن بن أبي ليلى على الحجاج، فقال لجلسائه: إن أردتم أن تنظروا إلى رجل يسبّ أمير المؤمنين عثمان بن عفان فهذا عندكم، يعني عبد الرحمن، فقال عبد الرحمن: معاذ الله أيها الأمير أن أكون أسبّ أمير المؤمنين، إنه ليحجزني عن ذلك ثلاث آيات في كتاب الله: قال الله تعالى:
لِلْفُقَراءِ الْمُهاجِرِينَ الَّذِينَ أُخْرِجُوا مِنْ دِيارِهِمْ وَأَمْوالِهِمْ يَبْتَغُونَ فَضْلًا مِنَ اللَّهِ وَرِضْواناً وَيَنْصُرُونَ اللَّهَ وَرَسُولَهُ أُولئِكَ هُمُ الصَّادِقُونَ
«3» فكان عثمان منهم. ثم قال: وَالَّذِينَ تَبَوَّؤُا الدَّارَ وَالْإِيمانَ مِنْ قَبْلِهِمْ يُحِبُّونَ مَنْ هاجَرَ إِلَيْهِمْ وَلا يَجِدُونَ فِي صُدُورِهِمْ حاجَةً مِمَّا أُوتُوا وَيُؤْثِرُونَ عَلى أَنْفُسِهِمْ وَلَوْ كانَ بِهِمْ خَصاصَةٌ، وَمَنْ يُوقَ شُحَّ نَفْسِهِ فَأُولئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ
«4» فكان أبي منهم. ثم قال: وَالَّذِينَ جاؤُ مِنْ بَعْدِهِمْ يَقُولُونَ رَبَّنَا اغْفِرْ لَنا وَلِإِخْوانِنَا الَّذِينَ سَبَقُونا بِالْإِيمانِ وَلا تَجْعَلْ فِي قُلُوبِنا غِلًّا لِلَّذِينَ آمَنُوا رَبَّنا إِنَّكَ رَؤُفٌ رَحِيمٌ
«5» فكنت أنا منهم. فقال: صدقت.(2/49)
الحجاج وعاصم بن أبي وائل:
أبو عوانة عن عاصم بن أبي وائل قال: بعث إليّ الحجاج فقال لي: ما اسمك؟
قلت: ما أرسل إليّ الأمير حتى عرف اسمي! قال: متى هبطت هذا البلد؟ قلت:
حين هبط أهله. قال: ما تقرأ من القرآن؟ قلت: أقرأ منه ما إذا تبعته كفاني. قال:
إني أريد أن أستعين بك في عملي. قلت: إن تستعين بي تستعن بكبير أخرق «1» ، ضعيف يخاف أعوان السوء؛ وإن تدعني فهو أحبّ إليّ، وإن تقحمني أتقحّم. قال:
إن لم أجد غيرك أقحمتك، وإن وجدت غيرك لم أقحمك. قلت؛ وأخرى أكرم الله الأمير: إني ما علمت الناس هابوا أميرا قط هيبتهم لك والله إني لأتعارّ «2» من الليل فما يأتيني النوم من ذكرك حتى أصبح؛ هذا ولست لك على عمل. قال: هيه! كيف قلت؟ فأعدت عليه؛ فقال: إني والله لا أعلم على وجه الأرض خلقا هو أجرأ على دم مني، انصرف. قال: فقمت فعدلت عن الطريق كأني لا أبصر؛ فقال: أرشدوا الشيخ.
الحجاج وأسرى الجماجم:
لما أتي الحجاج بأسرى الجماجم، أتي فيهم بعامر الشّعبي، ومطرّف بن عبد الله الشّخّير وسعيد بن جبير، وكان الشعبي ومطرّف يريان التّقيّة، وكان سعيد بن جبير لا يراها، وكان قد تقدم كتاب عبد الملك بن مروان إلى الحجاج في أسرى الجماجم، أن يعرضهم على السيف. فمن أقرّ منهم بالكفر في خروجهم علينا فيخلّي سبيله، ومن زعم أنه مؤمن فيضرب عنقه. فقال الحجاج للشعبي: وأنت ممن ألّب علينا مع ابن الأشعث؟ اشهد على نفسك بالكفر. فقال: أصلح الله الأمير، نبا «3» بنا المنزل، وأحزن بنا الجناب، واستحلسنا «4» الخوف، واكتحلنا السهر، وخبطتنا فتنة لم نكن فيها بررة أتقياء، ولا فجرة أقوياء. قال: لله أبوك! لقد صدقت: ما بررتم بخروجكم علينا ولا قويتم، خلّوا سبيل الشيخ.(2/50)
ثم قال للمطرّف: أتقر على نفسك بالكفر؟ قال: أصلح الله الأمير، إن من شق العصا، وسفك الدماء، ونكث البيعة، وفارق الجماعة، وأخاف المسلمين لجدير بالكفر. فخلّى سبيله.
ثم قال لسعيد بن جبير: أتقرّ على نفسك بالكفر؟ قال: ما كفرت منذ آمنت بالله. فضرب عنقه.
ثم استعرض الأسرى، فمن أقرّ بالكفر خلّى سبيله، ومن أبى قتله، حتى أتي بشيخ وشاب، فقال للشاب: أكافر أنت؟ قال: نعم، قال: لكن الشيخ لا يرضى بالكفر. فقال له الشيخ: أعن نفسي تخادعني يا حجاج؟ والله لو علمت أعظم من الكفر لقلته. فضحك الحجاج وخلّى سبيله.
فلما مات الحجاج وقام سليمان، قال الفرزدق:
لئن نفّر الحجّاج آل معتّب ... لقوا دولة كان العدوّ يدالها
لقد أصبح الأحياء منهم أذلة ... وموتاهم في النّار كلحا سبالها «1»
وكانوا يرون الدائرات بغيرهم ... فصار عليهم بالعذاب انفتالها
ألكني إلى من كان بالصّين أو رمى ... به الهند ألواح عليها جلالها «2»
هلمّ إلى الإسلام والعدل عندنا ... فقدمات عن أهل العراق خبالها «3»
سليمان بن عبد الملك وابن الرقاع:
لما ولي سليمان بن عبد الملك كتب إلى عامله بالأردن: اجمع يدي عديّ بن الرقاع إلى عنقه، وابعث به إليّ على قتب بلا وطاء، ووكّل به من ينخس به ففعل ذلك.
فلما انتهى إلى سليمان بن عبد الملك ألقى بين يده إلقاء لا روح فيه، فتركه حتى ارتدّ إليه روحه، ثم قال له: أنت أهل لما نزل بك. ألست القائل في الوليد:(2/51)
معاذ ربّي أن نبقى ونفقده ... وأن نكون لراع بعده تبعا
قال: لا والله يا أمير المؤمنين، ما هكذا قلت، وإنما قلت:
معاذ ربّي أن نبقى ونفقدهم ... وأن نكون لراع بعدهم تبعا
فنظر إليه سليمان واستضحك، فأمر له بصلة وخلّى سبيله.
شريك والربيع بين يدي المهدي:
العتبي قال: كان بين شريك القاضي والربيع حاجب المهدي، معارضة؛ فكان الربيع يحمل عليه المهديّ فلا يلتفت إليه، حتى رأى المهديّ في منامه شريكا القاضي مصروفا وجهه عنه، فلما استيقظ من نومه دعا الربيع وقصّ عليه رؤياه. فقال: يا أمير المؤمنين، إن شريكا مخالف لك وإنه فاطميّ محض. قال المهدي: عليّ به؛ فلما دخل عليه قال له: يا شريك، بلغني أنك فاطميّ. قال له شريك: أعيذك بالله يا أمير المؤمنين أن تكون غير فاطمي، إلا أن تعني فاطمة بنت كسري. قال: ولكني أعني فاطمة بنت محمد صلّى الله عليه وسلم. قال: أفتلعنها يا أمير المؤمنين؟ قال: معاذ الله! قال: فماذا تقول فيمن يلعنها؟ قال: عليه لعنة الله. قال: فالعن هذا- يعني الربيع- فإنه يلعنها، فعليه لعنة الله. قال الربيع: لا والله يا أمير المؤمنين، ما ألعنها. قال له شريك: يا ماجن، فما ذكرك لسيدة نساء العالمين وابنة سيّد المرسلين في مجالس الرجال؟ قال المهدي: دعني من هذا، فإني رأيتك في منامي كأنّ وجهك مصروف عنّي وقفاك إليّ، وما ذلك إلا بخلافك عليّ، ورأيت في منامني كأني أقتل زنديقا. قال شريك:
إن رؤياك يا أمير المؤمنين ليست برؤيا يوسف الصّدّيق صلوات الله على محمد وعليه، وإن الدماء لا تستحل بالأحلام، وإنّ علامة الزندقة بيّنة. قال: وما هي؟ قال:
شرب الخمر، والرّشا في الحكم، ومهر البغيّ. قال: صدقت والله أبا عبد الله! أنت والله خير من الذي حملني عليك.
ودخل شريك القاضي على المهديّ، فقال له الربيع: خنت مال الله ومال أمير المؤمنين. قال: لو كان ذلك لأتاك سهمك.(2/52)
الحجاج وجامع المحاربي:
العتبي قال: دخل جامع المحاربي على الحجاج- وكان جامع شيخا صالحا خطيبا لبيبا جريئا على السلطان وهو الذي قال للحجاج إذ بنى مدينة واسط بنيتها في غير بلدك، وتورثها غير ولدك- فجعل الحجاج يشكو سوء طاعة أهل العراق وقبح مذهبهم. فقال له جامع: أما إنه لو أحبّوك لأطاعوك، على أنهم ما شنئوك لنسبك، ولا لبلدك، ولا لذات نفسك؛ فدع عنك ما يبعدهم منك إلى ما يقرّبهم إليك، والتمس العافية ممن دونك، تعطها ممن فوقك، وليكن إيقاعك بعد وعيدك، ووعيدك بعد وعدك. قال الحجاج: ما أرى أن أردّ بني الّلكيعة «1» إلى طاعتي إلا بالسيف. قال: أيها الأمير، إنّ السيف إذا لاقى السيف ذهب الخيار. قال الحجاج:
الخيار يومئذ لله. قال: أجل، ولكنك لا تدري لمن يجعله الله. فغضب وقال: يا هناه «2» ، إنك من محارب. فقال جامع:
وللحرب سمّينا وكنّا محاربا ... إذا ما القنا أمسى من الطّعن أحمرا
فقال الحجاج: والله لقد هممت بأن أخلع لسانك فأضرب به وجهك. قال جامع:
إن صدقناك أغضبناك، وإن غششناك أغضبنا الله فغضب الأمير أهون علينا من غضب الله. قال: أجل، وسكن. وشغل الحجاج ببعض الأمر، فانسل جامع، فمرّ بين الصفوف من أهل الشام حتى جاوزها إلى صفوف العراق، فأبصر كبكبة «3» فيها جماعة من بكر العراق، وقيس العراق. وتميم العراق، وأزد العراق؛ فلما رأوه اشرأبّوا «4» إليه وقالوا له: ما عندك دفع الله عنك؟ قال: ويحكم! عمّوه بالخلع كما يعمكم بالعداوة، ودعوا التعادي ما عاداكم؛ فإذا ظفرتم تراجعتم وتعاديتم. أيها التميمي، هو أعدي لك من الأزديّ، أيها القيسيّ هو أعدى لك من التّغلبيّ. وهل ظفر بمن ناوأه منكم إلا بمن بقي معه منكم.
وهرب جامع من فوره ذلك إلى الشام، واستجار بزفر بن الحارث فأجاره.(2/53)
الرشيد ومسلم بن الوليد وابن أبي شيخ:
العتبي قال كان هارون الرشيد يقتل أولاد فاطمة وشيعتهم. وكان مسلم بن الوليد، صريع الغواني، قد رمي عنده بالتّشيّع، فأمر بطلبه، فهرب منه، ثم أمر بطلب أنس بن شيخ كاتب البرامكة فهرب منه، ثم وجد هو ومسلم بن الوليد عند قينة ببغداد فلما أتي بهما قيل له: يا أمير المؤمنين، قد أتي بالرجلين. قال: أيّ الرجلين؟ قيل: أنس بن أبي شيخ، ومسلم بن الوليد. فقال: الحمد لله الذي أظفرني بهما! يا غلام. أحضرهما. فلما دخلا عليه نظر إلى مسلم وقد تغيّر لونه؛ فرقّ له وقال:
إيه يا مسلم، أنت القائل:
أنس الهوى ببني عليّ والحشا ... وأراه يطمح عن بني العباس
قال: بل أنا الذي أقول يا أمير المؤمنين:
أنس الهوى ببني العمومة في الحشا ... مستوحشا من سائر الإيناس
وإذا تكاملت الفضائل كنتم ... أولى بذلك يا بني العباس
قال: فعجب هارون من سرعة بديهته، وقال له بعض جلسائه: استبقه يا أمير المؤمنين فإنه من أشعر الناس، وامتحنه فسترى منه عجبا. فقال له: قل شيئا في أنس. فقال: يا أمير المؤمنين، أفرخ روعي «1» ، أفرخ الله روعك يوم الحاجة إلى ذلك، فإني لم أدخل على خليفة قط. ثم أنشأ يقول:
تلمّظ السيف من شوق إلى أنس ... فالموت يلحظ والأقدار تنتظر «2»
فليس يبلغ منه ما يؤمّله ... حتى يؤامر فيه رأيك القدر
أمضى من الموت يعفو عند قدرته ... وليس للموت عفو حين يقتدر
قال: فأجلسه هارون وراء ظهره، لئلا يرى ما همّ به، حتى إذا فرغ من قتل أنس قال له: أنشدني أشعر شعر لك. فكلما فرغ من قصيدة قال له زد؛ حتى قال له(2/54)
أنشدني التي تقول فيها «الوحل» فإني رويتها وأنا صغير. فأنشده شعره الذي أوله:
أديرا عليّ الرّاح لا تشربا قبلي ... ولا تطلبا من عند قاتلتي ذحلي «1»
حتى انهى إلى قوله:
إذا ما علت منا ذؤابة شارب ... تمشّت به مشي المقيّد في الوحل
فضحك هارون وقال: ويحك يا مسلم! أما رضيت أن قيدته حتى يمشي في الوحل! ثم أمر له بجائزة وخلّى سبيله.
بين كسري ويوشت بعد مقتل الفلهذ:
قال كسري ليوشت المغني- وقد قتل الفلهذ تلميذه-: كنت أستريح منك إليه ومنه إليك، فأذهب حسدك ونغل «2» صدرك شطر تمتّعي، وأمر أن يطرح تحت أرجل الفيلة. فقال: أيها الملك، إذا كنت أنا قد أذهبت شطر تمتّعك وأذهبت أنت الشطر الآخر، أليس جنايتك على نفسك مثل جنايتي عليك؟ قال كسري: دعوه؛ فما دلّه على هذا الكلام إلا ما جعل له من طول المدة.
الرشيد ويعقوب ابن صالح:
يعقوب بن صالح بن علي بن عبد الله بن عباس، قال: دخلت يوما على الرشيد أمير المؤمنين وهو متغيّظ متّربّد «3» ، فندمت على دخولي عليه، وقد كنت أفهم غضبه في وجهه، فسلّمت فلم يردّ؛ فقلت: داهية نآد «4» . ثم أومأ إليّ فجلست. فالتفت إليّ وقال: لله عبد الله بن معاوية بن عبد الله بن جعفر بن أبي طالب، فلقد نطق بالحكمة حيث يقول:
يا أيّها الزّاجري عن شيمتي سفها ... عمدا عصيت مقام الزاجر النّاهي(2/55)
أقصر فإنك من قوم أرومتهم ... في اللؤم فافخر بهم ما شئت أو باهي
يزين الشّعر أفواها إذا نطقت ... بالشّعر يوما وقد يزري بأفواه
قد يرزق المرء لا من فضل حيلته ... ويصرف الرّزق عن ذي الحيلة الدّاهي
لقد عجبت لقوم لا أصول لهم ... أثروا وليسوا وإن أثروا بأشباه
ما نالني من غنى يوما ولا عدم ... إلّا وقولي عليه «الحمد لله»
فقلت: يا أمير المؤمنين، ومن ذا الذي بلغت عليه المقدرة أن يسامي مثلك أو يدانيه؟ قال: لعله من بني أبيك وأمك.
توسط مسلمة بين هشام والكميت:
كان الكميت بن زيد يمدح بني هاشم ويعرّض ببني أمية، فطلبه هشام فهرب منه عشرين سنة، لا يستقرّ به القرار من خوف هشام، وكان مسلمة بن عبد الملك له على هشام حاجة في كلّ يوم يقضيها له ولا يردّه فيها. فلما خرج مسلمة بن عبد الملك يوما إلى بعض صيوده، أتى الناس يسلّمون عليه، وأتاه الكميت بن زيد فيمن أتى، فقال: السلام عليك أيها الأمير ورحمة الله وبركاته، أما بعد:
قف بالدّيار وقوف زائر ... وتأنّ إنّك غير صاغر
حتى انتهى إلى قوله:
يا مسلم بن أبي الولي ... د لميّت إن شئت ناشر «1»
علقت حبالي من حبا ... لك ذمّة الجار المجاور
فالآن صرت إلى أمّي ... ة والأمور إلى المصاير
والآن كنت به المصي ... ب كمهتد بالأمس حائر
فقال مسلمة: سبحان الله! من هذا الهندكيّ الجلحاب «2» ، الذي أقبل من(2/56)
أخريات الناس فبدأ بالسلام، ثم أما بعد، ثم الشعر؟ قيل له: هذا الكميت ابن زيد.
فأعجب به لفصاحته وبلاغته. فسأله مسلمة عن خبره وما كان فيه طول عيبته. فذكر له سخط أمير المؤمنين عليه؛ فضمن له مسلمة أمانه، وتوجه به حتى أدخله على هشام، وهشام لا يعرفه. فقال الكميت: السلام عليك يا أمير المؤمنين ورحمة الله وبركاته، الحمد لله- قال هشام: نعم، الحمد لله، يا هذا- قال الكميت: مبتديء الحمد ومبتدعه، الذي خص بالحمد نفسه، وأمر به ملائكته، وجعله فاتحة كتابه، ومنتهى شكره، وكلام أهل جنته؛ أحمده حمد من علم يقينا، وأبصر مستبينا؛ وأشهد له بما شهد به لنفسه قائما بالقسط، وحده لا شريك له، وأشهد أنّ محمدا عبده العربيّ، ورسوله الأميّ، أرسله والناس في هبوات «1» حيرة، ومدلهمّات ظلمة، عند استمرار أبهة الضلال، فبلّغ عن الله ما أمر به، ونصح لامته، وجاهد في سبيله، وعبد ربّه حتى أتاه اليقين، صلى الله عليه وسلم.
«ثم إني يا أمير المؤمنين تهت في حيرة، وحرت في سكرة، ادلأمّ «2» بي خطرها، وأهاب بي داعيها، وأجابني غاويها؛ فاقطوطيت «3» إلى الضلالة، وتسكّعت في الظّلمة والجهالة، حائرا عن الحق، قائلا بغير صدق. فهذا مقام العائذ، ومنطق التائب، ومبصر الهدى بعد قول العمى، ثم يا أمير المؤمنين، كم من عاثر أقلتم عثرته، ومجترم عفوتم عن جرمه.
فقال له هشام وأيقن أنه الكميت: ويحك! من سنّ لك الغواية وأهاب بك في العماية؟
قال: «الذي أخرج أبي آدم من الجنة فنسي ولم يجد له عزما. وأمير المؤمنين كريح رحمة أثارت سحابا متفرّقا، فلفقت بعضه إلى بعض حتى التحم فاستحكم، وهدر(2/57)
رعده، وتلألأ برقه؛ فنزل الأرض فرويت واخضلّت واخضرت وأسقيت، فروي ظمآتها، وامتلأ عطشانها. فكذلك نعدّك أنت يا أمير المؤمنين أضاء الله بك الظلمة الداجية بعد العموس «1» فيها، وحقن بك دماء قوم أشعر خوفك قلوبهم، فهم يبكون لما يعلمون من حزمك وبصيرتك، وقد علموا أنك الحرب وابن الحرب، إذا احمرّت الحدق، وعضّت المغافر بالهام «2» . عزّ بأسك، واستربط جأشك، مسعار هتّاف، وكافّ بصير بالأعداء، مغري الخيل بالنّكراء، مستغن برأيه عن رأي ذوي الألباب، برأي أريب، وحلم مصيب. فأطال الله لأمير المؤمنين البقاء، وتمّم عليه النعماء. ودفع به الأعداء.
فرضي عنه هشام وأمر له بجائزة.
خلاص ابن هبيرة من خالد القسري:
العتبي قال: لما أتي بابن هبيرة إلى خالد بن عبد الله القسري وهو والي العراق، أتي به مغلولا مقيّدا في مدرعة. فلما صار بين يدي خالد ألقته الرجال إلى الأرض، فقال: أيها الأمير، إن القوم الذين أنعموا عليك بهذه النعمة قد أنعموا بها على من قبلك، فأنشدك الله أن تستنّ فيّ بسنّة يستنّ بها فيك من بعدك، فأمر به إلى الحبس.
فأمر ابن هبيرة غلمانه فحفروا له تحت الأرض سردابا حتى خرج الحفر تحت سريره، ثم خرج منه ليلا وقد أعدّت له أفراس يداولها، حتى، أتى مسلمة بن عبد الملك، فاستجار به فأجاره، واستوهبه مسلمة من هشام بن عبد الملك، فوهبه إياه.
فلما قدم خالد بن عبد الله القسريّ على هشام، وجد عنده ابن هبيرة، فقال له:
إباق العبد أبقت «3» . قال له: حين نمت نومة الأمة. فقلل الفرزدق في ذلك:
لمّا رأيت الأرض قد سدّ ظهرها ... فلم يبق إلا بطنها لك مخرجا(2/58)
دعوت الّذي ناداه يونس بعدما ... ثوى في ثلاث مظلمات ففرّجا
فأصبحت تحت الأرض قد سرت ليلة ... وما سار سار مثلها حين أدلجا «1»
خرجت ولم تمنن عليك شفاعة ... سوى حثّك التّقريب من آل أعجوجا
ودخل الناس على ابن هبيرة بعد ما أمّنه هشام بن عبد الملك يهنئونه ويحمدون له رأيه، فقال متمثلا:
من يلق خيرا يحمد الناس أمره ... ومن يغو لا يعدم على الغيّ لائما
ثم قال لهم: ما كان قولكم لو عرض لي أو أدركت في طريقي؟
ومثل هذا قول القطامي:
والنّاس من يلق خيرا قائلون له ... ما يشتهي ولأمّ المخطيء الهبل «2»
لخصي مسلمة عن خلاص ابن هبيرة:
عبد الله بن سوّار قال: قال لي الربيع الحاجب: أتحب أن تسمع حديث ابن هبيرة مع مسلمة؟ قلت: نعم. قال: فأرسل لخصيّ كان لمسلمة يقوم على وضوئه فجاءه.
فقال: حدّثنا حديث ابن هبيرة مع مسلمة. قال: كان مسلمة بن عبد الملك يقوم من الليل فيتوضّأ ويتنفّل حتى يصبح، فدخل على أمير المؤمنين؛ فإني لأصبّ الماء على يديه من آخر الليل وهو يتوضأ؛ إذ صاح صائح من وراء الرّواق: أنا بالله وبالأمير.
فقال مسلمة: صوت ابن هبيرة! اخرج إليه. فخرجت إليه ورجعت فأخبرته. فقال:
أدخله. فدخل فإذا رجل يميد نعاسا، فقال: أنا بالله وبالأمير. قال: أنا بالله وأنت بالله. ثم قال: أنا بالله وبالأمير. قال: أنا بالله وأنت بالله. حتى قالها ثلاثا ثم قال: أنا بالله. فسكت عنه ثم قال لي: انطلق به فوضّئه وليصلّ، ثم اعرض عليه أحبّ الطعام إليه فأته به، وافرش له في تلك الصّفّة- لصفّة بين يدي بيوت النساء- ولا توقظه حتى يقوم متى قام. فانطلقت به فتوضأ وصلّى، وعرضت عليه الطعام فقال: شربة(2/59)
سويق «1» ، فشرب. وفرشت له فنام. وجئت إلى مسلمة فأعلمته. فغدا إلى هشام فجلس عنده، حتى إذا حان قيامه قال: يا أمير المؤمنين، لي حاجة. قال: قضيت، إلا أن تكون في ابن هبيرة. قال: رضيت يا أمير المؤمنين. ثم قام منصرفا؛ حتى إذا كاد أن يخرج من الإيوان. رجع فقال: يا أمير المؤمنين ما عوّدتني أن تستثني في حاجة من حوائجي؛ وإني أكره أن يتحدّث الناس أنك أحدثت عليّ الاستثناء. قال: لا أستثني عليك. قال: فهو ابن هبيرة فعفا عنه.
فضيلة العفو الترغيب
المأمون وصاحب وضوئه:
كان للمأمون خادم، وهو صاحب وضوئه. فبينما هو يصب الماء على يديه إذ سقط الإناء من يده، فاغتاظ المأمون عليه. فقال: يا أمير المؤمنين، إن الله يقول:
وَالْكاظِمِينَ الْغَيْظَ
«2» . قال: قد كظمت غيظي عنك. قال: وَالْعافِينَ عَنِ النَّاسِ
«3» . قال: قد عفوت عنك. قال: وَاللَّهُ يُحِبُّ الْمُحْسِنِينَ
«4» . قال: اذهب فأنت حر.
ابن حيوة وعمر ابن عبد العزيز في رجل عوقب:
أمر عمر بن عبد العزيز بعقوبة رجل، فقال له رجاء بن حيوة يا أمير المؤمنين، إن الله قد فعل ما تحبّ من الظّفر؛ فافعل ما يحبّه من العفو.
عبد الله بن علي وعبد الله بن حسن في قتل بني أمية:
الأصمعي قال: عزم عبد الله بن عليّ على قتل بني أمية بالحجاز. فقال له عبد الله ابن حسن بن حسن بن علي بن أبي طالب، رضي الله عنهم: إذا أسرعت بالقتل في أكفائك فمن تباهي بسلطانك؟ فاعف يعف الله عنك.(2/60)
ابن خريم والمهدي:
دخل ابن خريم على المهدي، وقد عتب على بعض أهل الشام وأراد أن يغزيهم جيشا، فقال يا أمير المؤمنين، عليك بالعفو عن الذنب، والتجاوز عن المسيء، فلأن تطيعك العرب طاعة محبّة، خير لك من أن تطيعك طاعة خوف.
المهدي وابن السّماك في رجل أمر بضرب عنقه:
أمر المهدي بضرب عنق رجل، فقام إليه ابن السماك فقال: إن هذا الرجل لا يجب عليه ضرب العنق. قال: فما يجب عليه؟ قال: تعفو عنه، فإن كان من أجر كان لك دوني، وإن كان من وزر كان عليّ دونك. فخلّى سبيله.
الشعبي وابن هبيرة في محبوسين:
كلّم الشعبيّ ابن هبيرة في قوم حبسهم فقال: إن كنت حبستهم بباطل فالحقّ يطلقهم، وإن كنت حبستهم بحقّ فالعفو يسعهم.
أبو سفيان وحيّان من قريش بينهما دماء:
العتبي قال: وقعت دماء بين حيّين من قريش، فأقبل أبو سفيان؛ فما بقي أحد واضع رأيه إلا رفعه. فقال: يا معشر قريش، هل لكم في الحق أو فيما هو أفضل من الحق؟ قالوا: وهل شيء أفضل من الحق؟ قال: نعم، العفو. فتهادن القوم واصطلحوا.
وقال هزيم بن أبي طحمة ليزيد بن عاتكة بعد ظفره بيزيد بن المهلب: ما ظلم أحد ظلمك، ولا نصر نصرك؛ فهل لك في الثالثة نقلها؟ قال: وما هي؟ قال: ولا عفا عفوك.(2/61)
أبو جعفر وابن فضالة في رجل معاقب:
وقال المبارك بن فضالة: كنت عند أبي جعفر جالسا في السّماط، إذ أمر برجل أن يقتل؛ فقلت: يا أمير المؤمنين، قال رسول الله صلّى الله عليه وسلم: إذا كان يوم القيامة مناد بين يدي الله: ألا من كانت له عند الله يد فليتقدّم فلا يتقدم إلا من عفا عن مذنب.
فأمر بإطلاقه.
وقال الأحنف بن قيس: أحقّ الناس بالعفو أقدرهم على العقوبة.
وقال النبي صلّى الله عليه وسلم: «أقرب ما يكون العبد من غضب الله إذا غضب.
وتقول العرب في أمثالها: ملكت فأسجح. وارحم ترحم. وكما تدين تدان. ومن بر يوما برّ به.
بعد الهمة وشرف النفس
دخل نافع بن جبير بن مطعم على الوليد، وعليه كساء غليظ، وخفّان جاسيان «1» ، فسلّم وجلس، فلم يعرفه الوليد؛ فقال لخادم بين يديه: سلّ هذا الشيخ من هو. فسأله، فقال له: اعزب «2» . فعاد إلى الوليد فأخبره. فقال: عد إليه واسأله، فعاد اليه، فقال له مثل ذلك. فضحك الوليد وقال له: من أنت؟ قال: نافع بن جبير ابن مطعم.
وقال زياد بن ظبيان لابنه عبيد الله: ألا أوصي بك الأمير زيادا؟ قال: يا أبت، إذا لم يكن للحيّ إلا وصية المّيت فالحيّ هو الميّت.
وقال معاوية لعمرو بن سعيد: الى من أوصي بك أبوك؟ قال: إن أبي أوصى إليّ ولم يوص بي! قال وبم أوصى إليك؟ قال: ألّا يفقد إخوانه منه إلا وجهه.
وقال مالك بن مسمع لعبيد الله بن زياد بن ظبيان: ما في كنانني سهم أنا به أوثق مني بك. قال: وإني لفي كنانتك: أما والله لئن كنت فيها قائما لأطولنّها ولئن كنت فيها قاعدا لأخرقنّها. قال: كثّر الله مثلك في العشيرة. قال: لقد سألت الله شططا.(2/62)
وقال يزيد بن المهلّب: ما رأيت أشرف نفسا من الفرزدق، هجاني ملكا ومدحني سوقة.
وقدم عبيد الله بن زياد بن ظبيان على عتّاب بن ورقاء الرّياحي وهو والي خراسان، فأعطاه عشرين ألفا؛ فقال له: والله ما أحسنت فأحمدك، ولا أسأت فألومك؛ وإنك لأقرب البعداء، وأحبّ البغضاء.
وعبيد الله بن زياد بن ظبيان هذا هو القائل: والله ما ندمت على شيء قط ندمي على عبد الملك بن مروان، إذ أتيته برأس مصعب بن الزبير فخرّ لله ساجدا ألّا أكون قد ضربت عنقه فأكون قد قتلت ملكين من ملوك العرب في يوم واحد.
من همة ابن علفة:
ومن أشرف الناس همة عقيل بن علّفة المرّيّ؛ وكان أعرابيا يسكن البادية وكان يصهر إليه الخلفاء، وخطب إليه عبد الملك بن مروان ابنته لأحد أولاده فقال له جنّبني هجناء «1» ولدك.
عمر بن عبد العزيز وعقيل بن علفة:
وقال عمر بن عبد العزيز لرجل من بني أمية كان له أخوال في بني مرة. قبح الله شبها غلب عليك من بني مرة. فبلغ ذلك عقيل بن علّفة، فأقبل إليه فقال له قبل أن يبتدئه بالسلام: بلغني يا أمير المؤمنين أنك غضبت على رجل من بني عمك له أخوال في بني مرة، فقلت: قبح الله شبها غلب عليك من بني مرة! وأنا أقول: قبح الله ألأم الطّرفين، ثم انصرف.
فقال عمر بن عبد العزيز: من رأى أعجب من هذا الشيخ الذي أقبل من البادية ليست له حاجة إلا شتمنا ثم انصرف؟ فقال له رجل من بني مرة: والله يا أمير المؤمنين ما شتمك، وما شتم إلا نفسه، نحن والله ألأم الطرفين.(2/63)
من غيرة عقيل:
أبو حاتم السّجستاني عن محمد بن العتبي بن عبد الله، قال: سمعت أبي يحدّث عن أبي عمرو المرّي، قال: بنو عقيل بن علّفة بن مرة بن غطفان يتنقّلون وينتجعون الغيث فسمع عقيل بن علّفة بنتا له ضحكت فشهقت في آخر ضحكها! فاخترط السيف وحمل عليها وهو يقول:
فرقت إنّي رجل فروق ... لضحكة آخرها شهيق
وقال عقيل:
إني وإن سيق إليّ المهر ... ألف وعبدان وذود عشر «1»
أحبّ أصهاري إليّ القبر
وقال الأصمعي: كان عقيل بن علّفة المريّ رجلا غيورا؛ وكان يصهر إليه الخلفاء، وإذا خرج يمتار «2» خرج بابنته الجرباء معه، قال: فنزلوا ديرا من ديرة الشام، يقال له دير سعد، فلما ارتحلوا قال عقيل:
قضت وطرا من دير سعد وطالما ... على عرض ناطحنه بالجماجم
ثم قال لابنه: يا عملس أجز. فقال:
فأصبحن بالموماة يحملن فتية ... نشاوى من الإدلاج ميل العمائم «3»
ثم قال لابنته: يا جرباء أجيزي. فقالت:
كأنّ الكرى أسقاهم صرخدية ... عقارا تمشّى في المطا والقوائم «4»
قال: وما يدريك أنت ما نعت الخمر؟ فأخذ السيف وهوى نحوها؛ فاستعانت بأخيها عملس، فحال بينه وبينها، قال: فأراد أن يضربه، قال: فرماه [عملس](2/64)
بسهم فاختلّ «1» فخذيه فبرك، ومضوا وتركوه، حتى إذا بلغوا أدنى ماء للأعراب، قالوا لهم: إنا أسقطنا جزورا فأدركوها وخذوا معكم الماء. ففعلوا، فإذا عقيل بارك وهو يقول:
إنّ بنّي زمّلوني بالدّم ... شنشنة أعرفها من أخزم
من يلق أبطال الرجال يكلم
والشنشنة الطبيعة. وأخزم فحل معروف. وهذا مثل للعرب.
الأوس والخزرج:
ومن أعزّ الناس نفسا وأشرفهم همما: الأنصار، وهم الأوس والخزرج ابنا قيلة، لم يؤدّوا إتاوة قطّ في الجاهلية إلى أحد من الملوك، وكتب إليهم تبّع يدعوهم إلى طاعته ويتوعّدهم إن لم يفعلوا؛ فكتبوا إليه:
العبد تبّع كم يروم قتالنا ... ومكانه بالمنزل المتذلّل
إنّا أناس لا ينام بأرضنا ... عض الرسول ببظر أمّ المرسل
فغزاهم تبّع أبو كرب، فكانوا يقاتلونه نهارا ويخرجون إليه القرى ليلا، فتذمّم من قتالهم ورحل عنهم.
ودخل الفرزدق على سليمان بن عبد الملك، فقال له: من أنت؟ وتجهّم له كأنه لا يعرفه. فقال له الفرزدق: وما تعرفني يا أمير المؤمنين؟ قال: لا. قال: أنا من قوم منهم أوفى العرب، وأسود العرب، وأجود العرب، وأحلم العرب، وأفرس العرب، وأشعر العرب. قال: والله لتبيننّ ما قلت أو لأوجعن ظهرك ولأهدمن دارك.
قال: نعم يا أمير المؤمنين؛ أما أوفى العرب فحاجب بن زرارة الذي رهن قوسه عن جميع العرب فوفى بها، وأما أسود العرب فقيس بن عاصم الذي وفد على رسول(2/65)
الله صلّى الله عليه وسلم فبسط له رداءه وقال: هذا سيّد الوبر. وأما أحلم العرب فعتّاب بن ورقاء الرّياحي. وأما أفرس العرب فالحريش بن هلال السّعديّ، وأما أشعر العرب فهأنذا بين يديك يا أمير المؤمنين.
فاغتّم سليمان مما سمع من فخره ولم ينكره، وقال ارجع على عقبيك، فما لك عندنا شيء من خير. فرجع الفرزدق وقال:
أتيناك لا من حاجة عرضت لنا ... إليك، ولا من قلّة في مجاشع
وقال الفرزدق في الفخر:
بنو دارم قومي ترى حجزاتهم ... عتاقا حواشيها رقاقا نعالها «1»
يجرّون هدّاب اليمان كأنّهم ... سيوف جلا الأطباعّ عنها صقالها «2»
وقال الأحوص في الفخر؛ وهو أفخر بيت قالته العرب:
ما من مصيبة نكبة أرمى بها ... إلا تشرّفني وترفع شاني
وإذا سألت عن الكرام وجدتني ... كالشمس لا تخفى بكلّ مكان
بردا محرق وعامر بن أحيمر:
وقال أبو عبيدة: اجتمعت وفود العرب عند النّعمان بن المنذر، فأخرج إليهم بردى محرق. وقال: ليقم أعزّ العرب قبيلة فليلبسهما. فقام عامر بن أحيمر السّعدي فأتزر بأحدهما وارتدى بالآخر؛ فقال له النعمان: بم أنت أعزّ العرب؟ فقال: العز والعدد من العرب في معدّ، ثم في نزار، ثم في تميم، ثم في سعد، ثم في كعب، ثم في عوف، ثم في بهدلة؛ فمن أنكر هذا من العرب فلينافرني. فسكت الناس.
ثم قال النعمان: هذه حالك في قومك، فكيف أنت في نفسك وأهل بيتك؟ قال:
أنا أبو عشرة، وخال عشرة، وعم عشرة؛ وأما أنا في نفسي فهذا شاهدي. ثم وضع(2/66)
قدمه في الأرض ثم قال: من أزالها عن مكانها فله مائة من الإبل. فلم يقم إليه أحد.
فذهب بالبردين. ففيه يقول الفرزدق:
فما ثمّ في سعد ولا آل مالك ... غلام إذا ما سيل لم يتبهدل
لهم وهب النّعمان بردي محرّق ... بمجد معدّ والعديد المحصّل
بيت سعد مناة وشعر أوس فيهم:
وفي أهل هذا البيت من سعد بن زيد مناة، كانت الإفاضة في الجاهلية. ومنهم بنو صفوان الذين يقول فيهم أوس بن مغراء السّعديّ:
ولا يريمون في التّعريف موقفهم ... حتى يقال أجيزوا آل صفوانا
ما تطلع الشمس إلّا عند أوّلنا ... ولا تغيّب إلّا عند أخرانا
وقال الفرزدق في مثل هذا المعنى:
ترى الناس ما سرنا يسيرون خلفنا ... وإن نحن أومأنا إلى الناس وقفوا
لهنيدة في الفخر:
وكانت هنيدة بنت صعصعة عمة الفرزدق تقول: من جاءت من نساء العرب بأربعة كأربعتي يحلّ لها أن تضع خمارها عندهم، فصرمتي «1» لها: أبي صعصعة، وأخي غالب، وخالي الأقرع بن حابس، وزوجي الزّبرقان بن بدر! فسمّيت ذات الخمار.
وممن شرفت نفسه وبعدت همته، طاهر بن الحسين الخراساني، وذلك أنه لما قتل محمد بن زبيدة، وخاف المأمون أن يغدر به، امتنع عليه بخراسان ولم يظهر خلعه.
وقال دعبل بن علي الخزاعي يفتخر بقتل طاهر بن الحسين محمدا، لأنه كان مولى خزاعة، ويقال إنه خزاعي:(2/67)
أيسومني المأمون خطّة عاجز ... أو ما رأى بالأمس رأس محمد!
يوفي على رأس الخلائق مثل ما ... توفي الجبال على رءوس الفدفد «1»
إنّي من القوم الذين هم هم ... قتلوا أخاك وشرّفوك بمقعد
رفعوا محلّك بعد طول خموله ... واستنقذوك من الحضيض الأوهد «2»
وقال طاهر بن الحسين:
غضبت على الدّنيا فأنهبت ما حوت ... وأعتبتها منّي بإحدى المتالف «3»
قتلت أمير المؤمنين وإنّما ... بقيت عناء بعده للخلائف
وأصبحت في دار مقيما كما ترى ... كأنّي فيها من ملوك الطوائف
وقد بقيت في أمّ رأسي فتكة ... فإمّا لرشد أو لرأي مخالف
فأجابه محمد بن يزيد بن مسلمة:
عتبت على الدّنيا فلا كنت راضيا ... فلا أعتبت إلّا بإحدى المتالف
فمن أنت أو ما أنت يا فقع قرقر ... إذا أنت منّا لم تعلّق بكانف «4»
فنحن بأيدينا هرقنا دماءنا ... كثول تهادى الموت عند التزاحف «5»
ستلعم ما تجني عليك وما جنت ... يداك فلا تفخر بقتل الخلائف
وقد بقيت في أم رأسك فتكة ... سنخرجها منه بأسمر راعف
وقال عبد الله بن طاهر:
مدمن الإغضاء موصول ... ومديم العتب مملول
ومدين البيض في تعب ... وغريم البيض ممطول
وأخو الوجهين حيث رمى ... بهواه فهو مدخول «6»(2/68)
أقصري عما طمحت له ... ففراغي عنك مشغول
سائلي عمّن تسائلني ... قد يردّ الخير مسئول
أنا من تعرف نسبته ... سلفي الغرّ البهاليل «1»
سل بهم تنبيك نجدتهم ... مشرفيّات مصاقيل «2»
كلّ عضب مشرب علقا ... وغرار الحدّ مفلول «3»
مصعب جدّي نقيب بني ... هاشم والأمر مجبول
وحسين رأس دعوتهم ... بعده، والحقّ مقبول
وأبي من لا كفاء له ... من يسامى مجده قولوا
صاحب الرأي الذي حصلت ... رأيه للقوم المحاصيل
حلّ منهم بالذّرا شرفا ... دونه عزّ وتبجيل
تفصح الأنباء عنه إذا ... أسكت الأنباء مجهول
سل به الجبار يوم غدا ... حوله الجرد الأبابيل «4»
إذ علت مفرقه يده ... نوطها أبيض مصقول «5»
أبطن المخلوع كلكله ... وحواليه المقاويل «6»
فثوى والتّرب مصرعه ... غال عنه ملكه غول
قاد جيشا نحو بابله ... ضاق عنه العرض والطّول
وهبوا لله أنفسهم ... لا معازيل ولا ميل «7»
ملك تجتاح صولته ... ونداه الدهر مبذول
نزعت منه تمائمه ... وهو مرهوب ومأمول «8»
وتره يسعى إليه به ... ودم يجنيه مطلول «9»(2/69)
فأجابه محمد بن يزيد بن مسلمة، وكان من أصحابه وآثرهم عنده، ثم اعتذر إليه وزعم أنه لم يدعه إلى إجابته إلا قوله:
من يسامي مجده قولوا
فأمر له بمائة ألف وزاده أثرة ومنزلة:
لا يرعك القال والقيل ... كلّ ما بلّغت تضليل
ما هوى لي كنت أعرفه ... بهوى غيرك موصول
أيخون العهد ذو ثقة ... لا يخون العهد متبول «1»
حمّلتني كلّ لائمة ... كلّ ما حمّلت محمول
واحكمي ماشئت واحتكمي ... فحرامي لك تحليل
أين لي عنك إلى بدل ... لا بديل منك مقبول
ما لداري منك مقفرة ... وضميري منك مأهول
وبدت يوم الوداع لنا ... غادة كالشمس عطبول «2»
تتعاطى شدّ مئزرها ... ونطاق الخصر محلول
شملنا إذ ذاك مجتمع ... وجناح البين مشكول «3»
ثم ولّت كي تودّعنا ... كحلها بالدمع مغسول
أيّها البادي بطيّته ... ما لأغلاطك تحصيل
قد تأوّلت على جهة ... ولنا ويحك تأويل
إنّ دلّيلاك يوم غدا ... بك في الحين لضلّيل
قاتل المخلوع مقتول ... ودم القاتل مطلول
قد يخون الرّمح عامله ... وسنان الرّمح مصقول
وينال الوتر طالبه ... بعد ما تسلوا المثاكيل «4»(2/70)
يا أخا المخلوع طلت يدا ... لم يكن في باعها طول
وبنعماه الذي كفرت ... جالت الخيل الأبابيل
وبراع غير ذي شفق ... فعلت تلك الأفاعيل
يا بن بنت النار موقدها ... ما لحاذيه سراويل
من حسين من أبوه ومن ... مصعب غالتهم غول
إنّ خير القول أصدقه ... حين تصطتكّ الأقاويل «1»
مراسلات الملوك
العتبي عن أبيه، قال: أهدي ملك اليمن عشر جزائر إلى مكة، وأمر أن ينحرها أعزّ قرشيّ؛ فقدمت وأبو سفيان عروس بهند بنت عتبة، فقالت له: أيها الرجل، لا يشغلنّك النساء عن هذه المكرمة التي لعلها أن تفوتك. فقال لها: يا هذه، دعي زوجك وما يختاره لنفسه! والله ما نحرها غيري إلا نحرته! فكانت في عقلها حتى خرج أبو سفيان في اليوم السابع فنحرها.
بين قيصر ومعاوية:
زهير عن أبي الجويرية الجرميّ، قال: كتب قيصر إلى معاوية: أخبرني عمن لا قبلة له، وعمّن لا أب له، وعمن لا عشيرة له، وعمن سار به قبره، وعن ثلاثة أشياء لم تخلق في رحم، وعن شيء، ونصف شيء، ولا شيء؛ وابعث إليّ في هذه القارورة ببزر كلّ شيء.
فبعث معاوية بالكتاب والقارورة إلى ابن عباس، فقال: أمّا من لا قبلة له فالكعبة. وأما من لا أب له فعيسى. وأما من لا عشيرة له فآدم. وأما من سار به قبره فيونس. وأما ثلاثة أشياء لم تخلق في رحم، فكبش إبراهيم، وناقة ثمود، وحيّة موسى. وأما شيء، فالرجل له عقل يعمل بعقله؛ وأما نصف شيء، فالرجل ليس له(2/71)
عقل ويعمل برأي ذوي العقول، وأما لا شيء، فالذي ليس له عقل يعمل به ولا يستعين بعقل غيره. وملأ القارورة ماء وقال: هذا بزر كلّ شيء.
فبعث به إلى معاوية، فبعث به معاوية إلى قيصر؛ فلما وصل إليه الكتاب والقارورة، قال: ما خرج هذا إلا من أهل بيت النبوّة.
من ملك الهند إلى عمر بن عبد العزيز:
نعيم بن حماد قال: بعث ملك الهند إلى عمر بن عبد العزيز كتابا فيه:
من ملك الأملاك الذي هو ابن ألف ملك، والذي تحته ابنة ألف ملك، والذي في مربطه ألف فيل، والذي له نهران ينبتان العود والألوّة والجوز والكافور، والذي يوجد ريحه على مسيرة اثني عشر ميلا، إلى ملك العرب الذي لا يشرك بالله شيئا.
أما بعد، فإني قد بعثت إليك بهدية، وما هي بهدية ولكنّها تحية؛ قد أحببت أن تبعث إليّ رجلا يعلّمني ويفهمني الإسلام. والسلام.
يعني بالهدية: الكتاب.
بين ملك الروم والوليد في هدم كنيسة دمشق:
الرياشي قال: لما هدم الوليد كنيسة دمشق، كتب إليه ملك الروم:
إنك هدمت الكنيسة التي رأى أبوك تركها، فإن كان صوابا فقد أخطأ أبوك، وإن كان خطأ فما عذرك.
فكتب إليه: وَداوُدَ وَسُلَيْمانَ إِذْ يَحْكُمانِ فِي الْحَرْثِ إِذْ نَفَشَتْ فِيهِ غَنَمُ الْقَوْمِ وَكُنَّا لِحُكْمِهِمْ شاهِدِينَ، فَفَهَّمْناها سُلَيْمانَ وَكُلًّا آتَيْنا حُكْماً وَعِلْماً
«1» .(2/72)
وكتب ملك الروم إلى عبد الملك بن مروان: أكلت لحم الجمل الذي هرب عليه أبوك من المدينة. لأغزينّك جنودا مائة ألف ومائة ألف.
فكتب عبد الملك إلى الحجاج أن يبعث إلى عبد الله بن الحسن ويتوعده ويكتب إليه بما يقول. ففعل، فقال عبد الله بن الحسن: «إن لله عزّ وجل لوحا محفوظا يلحظه كل يوم ثلاثمائة لحظة، ليس منها لحظة إلا يحيي فيها ويميت ويعز ويذلّ ويفعل ما يشاء، وإني لأرجو أن يكفينيك منها بلحظة واحدة!» فكتب به الحجاج إلى عبد الملك بن مروان، وكتب به عبد الملك إلى ملك الروم.
فلما قرأه قال: ما خرج هذا إلا من كلام النبوة.
بعث ملك الهند إلى هارون الرشيد بسيوف قلعيّة، وكلاب سيورية، وثياب من ثياب الهند.
فلما أتته الرسل بالهدية أمر الأتراك فصفّوا صفين ولبسوا الحديد حتى لا يرى منهم إلا الحدق، وأذن للرّسل فدخلوا عليه، فقال لهم: ما جئتم به؟ قالوا: هذه أشرف كسوة بلدنا. فأمر هارون القطّاع بأن يقطع منها جلالا وبراقع كثيرة لخيله فصلّب الرّسل على وجوههم، وتذمّموا ونكسوا رءوسهم. ثم قال لهم الحاجب: ما عندكم غير هذا؟ قالوا له: هذه سيوف قلعية لا نظير لها. فدعا هارون بالصّمصامة سيف عمرو بن معد يكرب، فقطعت به السيوف بين يديه سيفا سيفا كما يقطّ الفجل، من غير أن تنثني له شفرة، ثم عرض عليهم حدّ السيف فإذا لا فلّ فيه؛ فصلّب القوم على وجوههم.
ثم قال لهم: ما عندكم غير هذا؟ قالوا: هذه كلاب سيورية لا يلقاها سبع إلا عقرته. فقال لهم هارون: فإن عندي سبعا، فإن عقرته فهي كما ذكرتم. ثم أمر بالأسد فأخرج إليهم، فلما نظروا إليه هالهم، وقالوا: ليس عندنا مثل هذا السّبع في بلدنا! قال لهم هارون: هذه سباع بلدنا. قالوا فنرسلها عليه. وكانت الأكلب ثلاثة، فأرسلت عليه فمزّقته، فأعجب بها هارون، وقال لهم، تمنّوا في هذه الكلاب ما شئتم(2/73)
من طرائف بلدنا. قالوا ما نتمنى إلا السيف الذي قطعت به سيوفنا. قال لهم: هذا مما لا يجوز في ديننا أن نهاديكم بالسلاح، ولولا ذلك ما بخلنا به عليكم، ولكن تمنوا غير ذلك ما شئتم. قالوا: ما نتمنى إلا به. قال: لا سبيل إليه. ثم أمر لهم بتحف كثيرة، وأحسن جائزتهم.
بين المأمون وطاهر بن الحسين:
أبو جعفر البغدادي قال: لما انقبض طاهر بن الحسين بخراسان عن المأمون وأخذ حذره، أدّب له المأمون وصيفا بأحسن الآداب، وعلّمه فنون العلم، ثم أهداه إليه مع ألطاف كثيرة من طرائف العراق وقد واطأه على أن يسمّه، وأعطاه سمّ ساعة، ووعده على ذلك بأموال كثيرة؛ فلما انتهى إلى خراسان وأوصل إلى طاهر الهدية، قبل الهدية وأمر بإنزال الوصيف في دار، وأجرى عليه ما يحتاج إليه من التوسعة في النّزالة، وتركه أشهرا. فلما برم «1» الوصيف بمكانه، كتب إليه:
يا سيدي، إن كنت تقبلني فاقبلني، وإلا فردّني إلى أمير المؤمنين.
فأرسل إليه وأوصله إلى نفسه. فلما انتهى إلى باب المجلس الذي كان فيه، أمره بالوقوف عند باب المجلس، وقد جلس على لبد أبيض وقرّع رأسه وبين يديه مصحف منشور، وسيف مسلول. فقال: قد قبلنا ما بعث به أمير المؤمنين غيرك، فإنا لا نقبلك، وقد صرفناك إلى أمير المؤمنين. وليس عندي جواب أكتبه إلا ما ترى من حالي. فأبلغ أمير المؤمنين السلام وأعلمه بالحال التي رأيتني فيها.
فلما قدم الوصيف على المأمون وكلمه بما كان من أمره ووصف له الحالة التي رآه فيها، شاور وزراءه في ذلك وسألهم عن معناه. فلم يعلمه واحد منهم. فقال المأمون:
لكني قد فهمت معناه: أما تقريعه رأسه وجلوسه على اللّبد الأبيض، فهو يخبرنا أنه عبد ذليل؛ وأما المصحف المنشور، فإنه يذكّرنا بالعهود التي له علينا؛ وأما السيف(2/74)
المسلول، فإنه يقول: إن نكثت تلك العهود فهذا يحكم بيني وبينك. أغلقوا عنا باب ذكره ولا تهيجوه في شيء مما هو فيه.
فلم يهجه المأمون حتى مات طاهر بن الحسين، وقام عبد الله بن طاهر مكانه:
فكان أخفّ الناس على المأمون.
وكتب طاهر بن الحسين إلى المأمون في إطلاق ابن السّندي من حبسه، وكان عامله على مصر فعزله عنها وحبسه؛ فأطلقه له وكتب إليه:
أخي أنت ومولاي ... فما ترضاه أرضاه
وما تهوى من الأمر ... فإنّي أنا أهواه
لك الله على ذاك ... لك الله لك الله(2/75)
كتاب الياقوتة في العلم والادب
فرش كتاب الياقوتة في العلم والأدب
قال أبو عمر أحمد بن محمد بن عبد ربه: قد مضى قولنا في مخاطبة الملوك ومقاماتهم وما تفنّنوا فيه من بديع حكمهم، والتزلف إليهم بحسن التوصّل ولطيف المعاني، وبارع منطقهم واختلاف مذاهبهم.
ونحن قائلون بحمد الله وتوفيقه في العلم والأدب؛ فإنهما القطبان اللذان عليهما مدار الدين والدنيا، وفرق ما بين الإنسان وسائر الحيوان، وما بين الطبيعة الملكية والطبيعة البهيمية؛ وهما مادّة العقل، وسراج البدن، ونور القلب، وعماد الروح؛ وقد جعل الله بلطيف قدرته وعظيم سلطانه بعض الأشياء عمدا لبعض ومتولدا من بعض. فإجالة الوهم فيما تدركه الحواس تبعث خواطر الذّكر، وخواطر الذكر تنبّه رويّة الفكر.
ورويّة الفكر تثير مكامن الإرادة، والإرادة تحكم أسباب العمل. فكل شيء يقوم في العقل ويمثل في الوهم يكون ذكرا، ثم فكرا، ثم إرادة، ثم عملا. والعقل متقبل للعلم، لا يعمل في غير ذلك شيئا.
والعلم علمان: علم حمل، وعلم استعمل؛ فما حمل منه ضرّ، وما استعمل نفع.
والدليل على أن العقل إنما يعمل في تقبّل العلوم كالبصر في تقبّل الألوان والسمع في تقبل الأصوات: أنّ العاقل إذا لم يعلّم شيئا كان كمن لا عقل له. والطفل الصغير لو لم تعرّفه أدبا وتلقّنه كتابا كان كأبله البهائم وأضلّ الدّوابّ فإن زعم زاعم فقال: إنا نجد عاقلا قليل العلم، فهو يستعمل عقله في قلة علمه فيكون أسدّ رأيا وأنبه فطنة وأحسن موارد ومصادر من الكثير العلم مع قلة العقل. فإن حجتنا عليه ما قد ذكرناه(2/76)
من حمل العلم واستعماله؛ فقليل العلم يستعمله العقل خير من كثيره يحفظه القلب.
قيل للمهلب: بم أدركت ما أدركت؟ قال: بالعلم. قيل له: فإنّ غيرك قد علم أكثر مما علمت ولم يدرك ما أدركت. قال: ذلك علم حمل وهذا علم استعمل.
وقد قالت الحكماء: العلم قائد والعقل سائق والنفس ذود؛ فإذا كان قائد بلا سائق هلكت، وإن كان سائق بلا قائد أخذت يمينا وشمالا، وإذا اجتمعا أنابت «1» طوعا أو كرها.
فنون العلم
قال سهل بن هارون وهو عند المأمون: من أصناف العلم ما لا ينبغي للمسلمين أن ينظروا فيه، وقد يرغب عن بعض العلم كما يرغب عن بعض الحلال.
فقال المأمون: قد يسمّي بعض الناس الشيء علما وليس بعلم، فإن كان هذا أردت فوجهه الذي ذكرت.
ولو قلت أيضا إن العلم لا يدرك غوره، ولا يسبر قعره، ولا تبلغ غايته، ولا تستقصى أصوله، ولا تنضبط أجزاؤه، صدقت؛ فإن كان الأمر كذلك فابدأ بالأهمّ فالأهم، والأوكد فالأوكد، وبالفرض قبل النّفل «2» ، يكن ذلك عدلا قصدا ومذهبا جميلا.
وقد قال بعض الحكماء: لست أطلب العلم طمعا في غايته والوقوف على نهايته، ولكن التماس ما لا يسع جهله. فهذا وجه لما ذكرت.
وقال آخرون: علم الملوك النسب والخبر، وعلم أصحاب الحروب درس كتب الأيام والسّير، وعلم التجار الكتاب والحساب. فأما أن يسمّى الشيء علما وينهى عنه(2/77)
من غير أن يسأل عما هو أنفع منه، فلا.
وقال محمد بن إدريس رضي الله عنه: العلم علمان: علم الأبدان، وعلم الأديان.
وقال عبد الله بن مسلم بن قتيبة: من أراد أن يكون عالما فليطلب فنّا واحدا، ومن أراد أن يكون أديبا فليتفنّن في العلوم.
وقال أبو يوسف القاضي: ثلاثة لا يسلمون من ثلاثة: من طلب الدّين بالفلسفة لم يسلم من الزّندقة، ومن طلب المال بالكيمياء لم يسلم من الفقر، ومن طلب غرائب الحديث لم يسلم من الكذب.
وقال ابن سيرين رحمه الله تعالى: العلم أكثر من أن يحاط به، فخذوا من كل شيء أحسنه.
وقال ابن عباس رضي الله عنهما: كفاك من علم الدين أن تعرف ما لا يسع جهله وكفاك من علم الأدب أن تروي الشاهد والمثل.
وقال الشاعر:
وما من كاتب إلّا ستبقى ... كتابته وإن فنيت يداه
فلا تكتب بكفّك غير شيء ... يسرّك في القيامة أن تراه
وقال الأصمعي: وصلت بالملح «1» ونلت بالغريب.
وقالوا: من أكثر من النحو حمّقه، ومن أكثر من الشعر بذّله «2» ، ومن أكثر من الفقه شرّفه.
وقال أبو نواس الحسن بن هانيء:
كم من حديث معجب عندي لكا ... لو قد نبذت به إليك لسرّكا
ممّا تخيّره الرّواة مهذّب ... كالدّرّ منتظما بنحر فلّكا «3»
أتتبّع العلماء أكتب عنهم ... كيما أحدّث من لقيت فيضحكا(2/78)
الحضّ على طلب العلم
قال النبي صلّى الله عليه وسلم: «لا يزال الرجل عالما ما طلب العلم، فإذا ظنّ أنه قد علم فقد جهل» .
وقال عليه الصلاة والسلام: «الناس عالم ومتعلّم، وسائرهم همج» .
وعنه صلّى الله عليه وسلم: «إن الملائكة لتضع أجنحتها لطالب العلم. رضا بما يطلب. ولمداد جرت به أقلام العلماء خير من دماء الشهداء في سبيل الله» .
وقال داود لابنه سليمان عليهما السلام: لفّ العلم حول عنقك، واكتبه في ألواح قلبك.
وقال أيضا: اجعل العلم مالك والأدب حليتك.
وقال علي بن أبي طالب رضي الله عنه: قيمة كل إنسان ما يحسن.
وقيل لأبي عمرو بن العلاء: هل يحسن بالشيخ أن يتعلم؟ قال: إن كان يحسن به أن يعيش فإنه يحسن به أن يتعلم.
وقال عروة بن الزّبير رحمه الله تعالى لبنيه: يا بنيّ، اطلبوا العلم، فإن تكونوا صغار قوم لا يحتاج إليكم فعسى أن تكونوا كبار قوم آخرين لا يستغنى عنكم.
وقال ملك الهند لولده، وكان له أربعون ولدا: يا بنيّ، أكثروا من النظر في الكتب، وازدادوا في كل يوم حرفا؛ فإنّ ثلاثة لا يستوحشون في غربة: الفقيه العالم، والبطل الشجاع، والحلو اللسان الكثير مخارج الرأي.
وقال المهلب لبنيه: إياكم أن تجلسوا في الأسواق إلا عند زرّاد أو ورّاق.
أراد الزّرّاد للحرب، والورّاق للعلم.
وقال الشاعر:
نعم الأنيس إذا خلوت كتاب ... تلهو به إن خانك الأحباب
لا مفشيا سرّا إذا استودعته ... وتفاد منه حكمة وصواب(2/79)
وقال آخر:
ولكل طالب لذة متنزّه ... وألذّ نزهة عالم في كتبه
ومر رجل بعبد الله بن عبد العزيز بن عبد الله بن عمر، وهو جالس في المقبرة وبيده كتاب، فقال له: ما أجلسك ههنا؟ قال: إنه لا أوعظ من قبر، ولا أمتع من كتاب.
وقال رؤبة بن العجّاج: قال لي النّسّابة البكري: يا رؤبة، لعلك من قوم إن سكتّ عنهم لم يسألوني، وإن حدّثتهم لم يفهموني؟ قلت: إني أرجو ألا أكون كذلك. قال:
فما آفة العلم ونكده وهجنته؟ قلت: تخبرني! قال: آفته النسيان، ونكده الكذب، وهجنته نشره عند غير أهله.
وقال عبد الله بن عباس رضوان الله عليهما: منهومان لا يشبعان: طالب علم وطالب دنيا.
وقال: ذللت طالبا فعززت مطلوبا.
وقال رجل لأبي هريرة: أريد أن أطلب العلم وأخاف أن أضيعه. قال: كفاك بترك طلب العلم إضاعة له.
وقال عبد الله بن مسعود: إن الرجل لا يولد عالما، وإنما العلم بالتعلّم. وأخذه الشاعر فقال:
تعلّم فليس المرء يولد عالما ... وليس أخو علم كمن هو جاهل
ولآخر:
تعلّم فليس المرء يخلق عالما ... وما عالم أمرا كمن هو جاهله
ولآخر:
ولم أر فرعا طال إلا بأصله ... ولم أر بدء العلم إلّا تعلّما(2/80)
وقال آخر:
العلم يحيى قلوب الميّتين كما ... تحيا البلاد إذا ما مسّها المطر
والعلم يجلو العمى عن قلب صاحبه ... كما يجلّي سواد الظّلمة القمر
وقال بعض الحكماء: اقصد من أصناف العلم إلى ما هو أشهى لنفسك، وأخف على قلبك؛ فإنّ نفاذك فيه، على حسب شهوتك له وسهولته عليك.
فضيلة العلم
لعلي بن أبي طالب:
حدثنا أيوب بن سليمان قال: حدثنا عامر بن معاوية عن أحمد بن عمران الأخنس عن الوليد بن صالح الهاشمي، عن عبد الله بن عبد الرحمن الكوفي، عن أبي مخنف، عن كحيل النّخعي، قال: أخذ بيدي عليّ بن أبي طالب كرم الله وجهه، فخرج بي إلى ناحية الجبّانة، فلما أصحر «1» تنفّس الصّعداء، ثم قال: يا كميل، إن هذه القلوب أوعية، فخيرها أوعاها فاحفظ عني ما أقول لك:
الناس ثلاثة: عالم ربّاني، ومتعلّم على سبيل نجاة، وهمج رعاع، أتباع كلّ ناعق، مع كلّ ريح يميلون، لم يستضيئوا بنور العلم، ولم يلجئوا إلى ركن وثيق.
يا كميل، العلم خير من المال: العلم يحرسك وأنت تحرس المال، والمال تنقصه النفقة، والعلم يزكو على الإنفاق، ومنفعة المال تزول بزواله.
يا كميل، محبة العلم دين يدان به، به يكسب الإنسان الطاعة في حياته، وجميل الأحدوثة بعد وفاته، والعلم حاكم والمال محكوم عليه.
يا كميل، مات خزّان المال وهم أحياء، والعلماء باقون ما بقي الدهر، أعيانهم مفقودة، وأمثالهم في القلوب موجودة ها إن ها هنا لعلما جمّا- وأشار بيده إلى صدره- لو وجدت له حملة، بلى أجد لقنا «2» غير مأمون عليه، يستعمله آلة الدين(2/81)
للدنيا، ويستظهر بحجج الله على أوليائه، وبنعمه على عباده؛ أو منقادا لحملة الحقّ ولا بصيرة له في أحنائه «1» ، ينقدح الشك في قلبه لأول عارض من شبهة. لا إلى هؤلاء ولا إلى هؤلاء، أو منهوما باللذة، سلس القياد للشهوة، أو مغرما بالجمع والادخار ليسا من رعاة الدين في شيء أقرب شبها بهما الأنعام السائمة. كذلك يموت العلم بموت حامليه. اللهم بلى، لا تخلو الأرض من قائم بحجة الله إما ظاهرا مشهورا، أو خائفا مغمورا، لئلا تبطل حجج الله وبيناته؛ وكم ذا، وأين؟ أولئك والله الأقلّون عددا؛ والأعظمون عند الله قدرا؛ بهم يحفظ الله حججه حتى يودعوها نظراءهم؛ ويزرعوها في قلوب أشباههم، هجم بهم العلم على حقيقة الإيمان حتى باشروا روح اليقين؛ فاستلانوا ما استخشن المترفون، وأنسوا بما استوحش منه الجاهلون، وصحبوا الدنيا بأبدان أرواحها معلقة بالرفيق الأعلى.
يا كميل، أولئك خلفاء الله في أرضه، والدعاة إلى دينه، آه آه. شوقا إليهم.
انصرف إذا شئت.
قيل للخليل بن أحمد: أيهما أفضل: العلم أو المال؟ قال العلم. قيل له: فما بال العلماء يزدحمون على أبواب الملوك والملوك لا يزدحمون على أبواب العلماء؟ قال: ذلك لمعرفة العلماء بحقّ الملوك وجهل الملوك بحق العلماء.
وقال النبي صلّى الله عليه وسلم: «فضل العلم خير من فضل العبادة» .
وقال عليه الصلاة والسلام: «إنّ قليل العمل مع العلم كثير، كما أنّ كثيره مع الجهل قليل» .
وقال عليه الصلاة والسلام: «يحمل هذا العلم من كلّ خلف عدوله «2» ، ينفون عنه تحريف القائلين، وانتحال المبطلين، وتأويل الجاهلين» .
وقال الأحنف بن قيس: كاد العلماء أن يكونوا أربابا، وكلّ عز لم يؤكّد بعلم فإلى ذلّ ما يصير.(2/82)
وقال أبو الأسود الدؤلي: الملوك حكام على الدنيا، والعلماء حكام على الملوك.
وقال أبو قلابة: مثل العلماء في الأرض مثل النجوم في السماء: من تركها ضلّ، ومن غابت عنه تحيّر.
وقال سفيان بن عيينة: إنما العالم مثل السراج: من جاءه اقتبس «1» من علمه، ولا ينقصه شيئا، كما لا ينقص القابس من نور السراج شيئا.
وفي بعض الأحاديث: إن الله لا يقتل نفس التقّي العالم جوعا.
وقيل للحسن بن أبي الحسن البصري: بم صارت الحرفة مقرونة مع العلم، والثروة مقرونة مع الجهل؟ فقال: ليس كما قلتم، ولكن طلبتم قليلا في قليل فأعجزكم؛ طلبتم المال وهو قليل، في أهل العلم وهم قليل، ولو نظرتم إلى من احترف من أهل الجهل لوجدتموهم أكثر.
وقال الله تبارك وتعالى: إِنَّما يَخْشَى اللَّهَ مِنْ عِبادِهِ الْعُلَماءُ
«2» ووَ ما يَعْقِلُها إِلَّا الْعالِمُونَ
«3» .
وقيل: لا تمنعوا العلم أهله فتظلموهم، ولا تعطوه غير أهله فتظلموه. ولبعضهم:
من منع الحكمة أربابها ... أصبح في الحكم لهم ظالما
وواضع الحكمة في غيرهم ... يكون في الحكم لها غاشما
سمعت يوما مثلا سائرا ... وكنت في الشعر له ناظما
لا خير في المرء إذا ما غدا ... لا طالبا علما ولا عالما
وقيل لبعض العلماء. كيف رأيت العلم؟ قال: إذا اغتممت سلوتي، وإذا سلوت لذتي.
وأنشد لسابق البربري:
العلم يزن وتشريف لصاحبه ... والجهل والنّوك مقرونان في قرن «4»(2/83)
ولغيره:
وإذا طلبت العلم فاعلم أنّه ... حمل فأبصر أيّ شيء تحمل
وإذا علمت بأنّه متفاضل ... فاشغل فؤادك بالذي هو أفضل
الأصمعي قال: أول العلم الصمت، والثاني الاستماع، والثالث الحفظ، والرابع العمل، والخامس نشره.
ويقال: العالم والمتعلم شريكان، والباقي همج.
وأنشد:
لا ينفع العلم قلبا قاسيا أبدا ... ولا يلين لفكّ الماضغ الحجر
وقال معاذ بن جبل: تعلموا العلم فإن تعلمه حسنة، وطلبه عبادة، وبذله لأهله قربة. والعلم منار سبيل أهل الجنة، والأنيس في الوحشة، والصاحب في الغربة، والمحدّث في الخلوة، والدليل على السراء والضراء، والزّين عند الأخلاء، والسلاح على الأعداء. يرفع الله به قوما فيجعلهم قادة أئمة، تقتفى آثارهم، ويقتدى بفعالهم.
والعلم حياة القلب من الجهل، ومصباح الأبصار من الظّلمة، وقوة الأبدان من الضعف؛ يبلغ بالعبد منازل الأخيار، والدرجات العلا في الدنيا والآخرة؛ الفكر فيه يعدل الصيام، ومذاكرته القيام، وبه توصل الأرحام، ويعرف الحلال من الحرام.
ولابن طباطبا العلويّ:
حسود مريض القلب يخفي أنينه ... ويضحي كئيب البال عندي حزينه
يلوم على أن رحت في العلم طالبا ... أجّمع من عند الرجال فنونه
فأملك أبكار الكلام وعونه ... وأحفظ مما أستفيد عيونه «1»
ويزعم أن العلم لا يجلب الغنى ... ويحسن بالجهل الذميم ظنونه
فيا لائمي دعني أغالي بقيمتي ... فقيمة كلّ الناس ما يحسنونه(2/84)
ضبط العلم والتثبت فيه
قيل لمحمد بن عبد الله بن عمر رضي الله عنه: ما هذا العلم الذي بنت «1» به عن العالم؟ قال: كنت إذا أخذت كتابا جعلته مدرعة.
وقيل لرقبة بن مصقلة: ما أكثر شكك! قال: محاماة عن اليقين.
وسأل شعبة أيوب السّختياني عن حديث، فقال: أشك فيه: فقال: شكّك أحبّ إليّ من يقيني.
وقال أيوب: إنّ من أصحابي من أرتجي بركة دعائه ولا أقبل حديثه.
وقالت الحكماء: علّم علمك من يجهل، وتعلّم ممن يعلم، فإذا فعلت ذلك حفظت ما علمت؛ وعلمت ما جهلت.
وسأل إبراهيم النّخعي عامرا الشّعبي عن مسألة؛ فقال: لا أدري. فقال: هذا والله العالم؛ سئل عما لا يدري، فقال: لا أدري.
وقال مالك بن أنس: إذا ترك العالم «لا أدري» أصيبت مقاتله.
وقال عبد الله بن عمرو بن العاص: من سئل عما لا يدري، فقال: لا أدري، فقد أحرز نصف العلم.
وقالوا: العلم ثلاثة: حديث مسند، وآية محكمة، ولا أدري؛ فجعلوا «لا أدري» من العلم، إذا كان صوابا من القول.
وقال الخليل بن أحمد: إنك لا تعرف خطأ معلّمك حتى تجلس عند غيره..
وكان الخليل قد غلبت عليه الإباضيّة «2» حتى جالس أيوب.
وقالوا: عواقب المكاره محمودة.
وقالوا: الخير كلّه فيما أكرهت النفوس عليه.(2/85)
انتحال العلم
قال بعض الحكماء: لا ينبغي لأحد أن ينتحل العلم، فإن الله عز وجل يقول:
وَما أُوتِيتُمْ مِنَ الْعِلْمِ إِلَّا قَلِيلًا
«1» وقال عز وجل: وَفَوْقَ كُلِّ ذِي عِلْمٍ عَلِيمٌ
«2» .
وقد ذكر عن موسى بن عمران عليه السلام، أنه لما كلمه الله تعالى تكليما، ودرس التوراة وحفظها، حدثته نفسه أن الله لم يخلق خلقا أعلم منه، فهوّن الله إليه نفسه بالخضر عليه السلام.
وقال مقاتل بن سليمان وقد دخلته أبّهة العلم: سلوني عما تحت العرش إلى أسفل من الثرى. فقام إليه رجل من القوم فقال: ما نسألك عما تحت العرش ولا أسفل من الثرى، ولكن نسألك عما كان في الأرض وذكره الله في كتابه: أخبرني عن كلب أهل الكهف، ما كان لونه؟ فأفحمه.
وقال قتادة: ما سمعت شيئا قط ولا حفظت شيئا قطّ فنسيته. ثم قال: يا غلام، هات نعلي. فقال: هما في رجليك. ففضحه الله.
وأنشد أبو عمرو بن العلاء في هذا المعنى:
من تحلّى بغير ما هو فيه ... فضحته شواهد الإمتحان
وفي هذا المعنى:
من تحلّى بغير ما هو فيه ... شان ما في يديه ما يدّعيه
وإذا قلّل الدعاوى لما في ... هـ أضافوا إليه ما ليس فيه
ومحلّ الفتى سيظهر للنا ... س وإن كان دائبا يخفيه
وبحسب الذي ادّعى ما عداه ... أنّه عالم بما يفتريه(2/86)
وقال شبيب بن شيبة لفتى من دوس: لا تنازع من فوقك، ولا تقل إلا بعلم، ولا تتعاط ما لم تبل «1» ، ولا يخالف لسانك ما في قلبك، ولا قولك فعلك، ولا تدع الأمر إذا أقبل، ولا تطلبه إذا أدبر.
وقال قتادة: حفظت ما لم يحفظ أحد، وأنسيت ما لم ينس أحد: حفظت القرآن في سبعة أشهر، وقبضت على لحيتي وأنا أريد قطع ما تحت يدي فقطعت ما فوقها.
ومر الشعبيّ بالسّدّي وهو يفسّر القرآن، فقال: لو كان هذا الساعة نشوان يضرب على استه بالطبل، أما كان أحسن له؟
وقال بعض المنتحلين:
يجهّلني قومي وفي عقد مئزري ... تمنّون أمثالا لهم محكم العلم
وما عنّ لي من غامض العلم غامض ... مدى الدهر إلا كنت منه على فهم
وقال عديّ بن الرّقاع:
وعلمت حتى ما أسائل عالما ... عن علم واحدة لكي أزدادها
شرائط العلم وما يصلح له
وقالوا: لا يكون العالم عالما حتى تكون فيه ثلاث خصال: لا يحتقر من دونه، ولا يحسد من فوقه، ولا يأخذ على العلم ثمنا.
وقالوا: رأس العلم الخوف من الله تعالى.
وقيل للشعبي: أفتني «2» أيّها العالم! فقال: إنما العالم من اتقى الله.
وقال الحسن: يكون الرجل عالما ولا يكون عابدا، ويكون عابدا ولا يكون عاقلا.
وكان مسلم بن يسار عالما عابدا عاقلا.(2/87)
وقالوا: ما قرن شيء إلى شيء، أفضل من حلم إلى علم. ومن عفو إلى قدرة.
وقالوا: من تمام آلة العالم أن يكون شديد الهيبة، رزين المجلس، وقورا صموتا، بطيء الالتفات، قليل الإشارات، ساكن الحركات، لا يصخب ولا يغضب، ولا يبهر «1» في كلامه، ولا يمسح عثنونه «2» عند كلامه في كل حين؛ فإن هذه كلّها من آفات العيّ.
وقال الشاعر:
مليء ببهر والتفات وسعلة ... ومسحة عثنون وفتل الأصابع
ومدح خالد بن صفوان رجلا، فقال: كان بديع المنطق، جزل الألفاظ، عربيّ اللسان، قليل الحركات، حسن الإشارات، حلو الشمائل، كثير الطلاوة، صموتا وقورا، يهنأ الجرب، ويداوي الدّبر، ويقلّ الحزّ، ويطبّق المفصل؛ لم يكن بالزمر المروءة، ولا الهذر المنطق، متبوعا غير تابع.
كأنّه علم في رأسه نار
وقال عبد الله بن المبارك في مالك بن أنس رضي الله عنه:
يأبى الجواب فما يراجع هيبة ... فالسائلون نواكس الأذقان
هدي الوقار وعزّ سلطان التّقى ... فهو المهيب وليس ذا سلطان
وقال عبد الله بن المبارك فيه أيضا:
صموت إذا ما الصمت زيّن أهله ... وفتّاق أبكار الكلام المختّم
وعى ما وعى القرآن من كلّ حكمة ... وسيطت له الآداب باللحم والدم «3»(2/88)
بين عبد الملك ورجل:
ودخل رجل على عبد الملك بن مروان، وكان لا يسأله عن شيء إلا وجد عنده منه علما، فقال له: أنّى لك هذا؟ فقال: لم أمنع قطّ يا أمير المؤمنين علما أفيده، ولم أحتقر علما أستفيده، وكنت إذا لقيت الرجل أخذت منه وأعطيته.
وقالوا: لو أنّ أهل العلم صانوا علمهم لسادوا أهل الدنيا، لكن وضعوه غير موضعه فقصّر في حقّهم أهل الدنيا.
حفظ العلم واستعماله
قال عبد الله بن مسعود: تعلّموا، فإذا علمتم فاعملوا.
وقال مالك بن دينار: العالم إذا لم يعمل بعلمه زلّت موعظته عن القلب. كما يزل الماء عن الصّفا «1» .
وقالوا: لولا العمل لم يطلب العلم، ولولا العلم لم يطلب العمل.
وقال الطائي:
ولم يحمدوا من عالم غير عامل ... ولم يحمدوا من عامل غير عالم
وقال عمر بن الخطاب رضوان الله عليه: أيها الناس، تعلموا كتاب الله تعرفوا به، واعملوا به تكونوا من أهله.
وقالوا: الكلمة إذا خرجت من القلب وقعت في القلب، وإذا خرجت من اللسان لم تجاوز الآذان.
وروى زياد عن مالك، قال: كن عالما، أو متعلّما، أو مستمعا؛ وإياك والرابعة فإنها مهلكة؛ ولا تكون عالما حتى تكون عاملا، ولا تكون مؤمنا حتى تكون تقيّا.
وقال أبو الحسن: كان وكيع بن الجرّاح يتحفظ كل يوم ثلاثة أحاديث.
وكان الشعبي والزهري يقولان: ما سمعنا حديثا قط وسألنا إعادته.(2/89)
رفع العلم وقولهم فيه
قال عبد الله بن مسعود: تعلموا العلم قبل أن يرفع.
وقال النبي صلى الله عليه وسلّم: «إن الله لا يقبض العلم انتزاعا ينتزعه من الناس، ولكن يقبضه بقبض العلماء» .
وقال عبد الله بن عباس رضوان الله عليهما، لما ووري زيد بن ثابت في قبره: من سرّه أن يرى كيف يقبض العلم فهكذا يقبض.
تحامل الجاهل على العالم
قال النبي صلّى الله عليه وسلّم: «ويل لعالم أمر من جاهله» .
وقالوا: إذا أردت أن تفحم عالما فأحضره جاهلا.
وقالوا: لا تناظر جاهلا ولا لجوجا: فإنه يجعل المناظرة ذريعة إلى التعلّم بغير شكر.
قال النبي صلّى الله عليه وسلم: «ارحموا عزيزا ذلّ، ارحموا غنيا افتقر، ارحموا عالما ضاع بين جهّال» .
وجاء كيسان إلى الخليل بن أحمد يسأله عن شيء؛ ففكر فيه الخليل ليجيبه، فلما استفتح الكلام قال له: لا أدري ما تقول. فأنشأ الخليل يقول:
لو كنت تعلم ما أقول عذرتني ... أو كنت أجهل ما تقول عذلتكا
لكن جهلت مقالتي فعذلتني ... وعلمت أنّك جاهل فعذرتكا
قال حبيب:
وعاذل عذلته في عذله ... فظنّ أنّي جاهل من جهله
ما غبن المغبون مثل عقله ... من لك يوما بأخيك كلّه «1»(2/90)
تبجيل العلماء وتعظيمهم
زيد بن ثابت وابن عباس:
الشعبي قال: ركب زيد بن ثابت، فأخذ عبد الله بن عباس بركابه؛ فقال: لا تفعل يا بن عمّ رسول الله صلّى الله عليه وسلم. فقال: هكذا أمرنا أن نفعل بعلمائنا. قال زيد: أرني يدك. فلما أخرج يده قبّلها، وقال: هكذا أمرنا أن نفعل بابن عمّ نبيّنا.
وقالوا: خدمة العالم عبادة.
وقال علي بن أبي طالب رضوان الله عليه: من حقّ العالم عليك إذا أتيته أن تسلّم عليه خاصة وعلى القوم عامّة، وتجلس قدّامه، ولا تشير بيدك، ولا تغمز بعينك؛ ولا تقول: قال فلان خلاف قولك، ولا تأخذ بثوبه، ولا تلحّ عليه في السؤال؛ فإنما هو بمنزلة النخلة المرطبة التي لا يزال يسقط عليك منها شيء.
وقالوا: إذا جلست إلى العالم فسل تفقها ولا تسل تعنتا «1» .
عويص المسائل
الأوزاعيّ عن عبد الله بن سعد عن الصّنابحيّ عن معاوية بن أبي سفيان قال: نهى رسول الله صلّى الله عليه وسلم عن الأغلوطات.
قال الأوزاعي: يعني صعاب المسائل.
وكان ابن سيرين إذا سئل عن مسألة فيها أغلوطة قال للسائل: أمسكها حتى تسأل عنها أخاك إبليس.
وسأل عمرو بن قيس مالك بن أنس عن محرم نزع نابي ثعلب، فلم يردّ عليه شيئا.(2/91)
وسأل عمر بن الخطاب رضي الله عنه عليّ بن أبي طالب كرّم الله وجهه فقال: ما نقول في رجل أمه عند رجل آخر؟ فقال: يمسك عنها. أراد عمر: أن الرجل يموت وأمه عند رجل آخر، وقول علي «يمسك عنها» يريد: يمسك عن أم الميت حتى تستبريء من طريق الميراث.
وسأل رجل عمر بن قيس عن الحصاة يجدها الإنسان في ثوبه أو في خفه أو في جبهته من حصى المسجد، فقال: ارم بها. قال الرجل: زعموا أنها تصيح حتى تردّ إلى المسجد. فقال: دعها تصيح حتى ينشقّ حلقها. فقال الرجل: سبحان الله! ولها حلق؟ قال: فمن أين تصيح.
وسأل رجل مالك بن أنس عن قوله تعالى: الرَّحْمنُ عَلَى الْعَرْشِ اسْتَوى
«1» كيف هذا الاستواء؟ قال: الاستواء معقول. والكيف مجهول؛ ولا أظنك إلا رجل سوء.
وروى مالك بن أنس الحديث عن رسول الله صلّى الله عليه وسلم أنه قال: «إذا استيقظ أحدكم من نومه فلا يدخل يده في الإناء حتى يغسلها؛ فإن أحدكم لا يدري أين باتت يده، فقال له رجل: فكيف نصنع في المهّراس أبا عبد الله؟ - والمهراس: حوض مكة الذي يتوضأ الناس فيه- فقال: من الله العلم، وعلى الرسول البلاغ، ومنا التسليم. أمروا الحديث.
وقيل لابن عباس رضي الله عنهما: ما تقول في رجل طلّق امرأته عدد نجوم السماء؟ قال: يكفيه منها كوكب الجوزاء.
وسئل عليّ بن أبي طالب رضوان الله عليه: أين كان ربنا قبل أن يخلق السماء والأرض؟ فقال: أين توجب المكان، وكان الله عز وجل ولا مكان.(2/92)
التصحيف
وذكر الأصمعي رجلا بالتصحيف، فقال: كان يسمع فيعي غير ما يسمع، ويكتب غير ما وعى، ويقرأ في الكتاب غير ما هو فيه.
وذكر آخر رجلا بالتصحيف فقال: كان إذا نسخ الكتاب مرتين عاد سريانيّا.
طلب العلم لغير الله
قال النبيّ صلّى الله عليه وسلم: «إذا أعطي الناس العلم ومنعوا العمل وتحابّوا بالألسن، وتباغضوا بالقلوب، وتقاطعوا في الأرحام- لعنهم الله فأصمّهم وأعمى أبصارهم» .
وقال النبي صلّى الله عليه وسلم: «ألا أخبركم بشرّ الناس؟ قالوا: بلى يا رسول الله. قال: العلماء إذا فسدوا» .
وقال الفضيل بن عياض: كان العلماء ربيع الناس، إذا رآهم المريض لم يسرّه أن يكون صحيحا، وإذا نظر إليهم الفقير لم يودّ أن يكون غنيا؛ وقد صاروا اليوم فتنة للناس.
وقال عيسى بن مريم عليه السلام: سيكون في آخر الزمان علماء يزهّدون في الدنيا ولا يزهدون، ويرغّبون في الآخرة ولا يرغبون؛ ينهون عن إتيان الولاة ولا ينتهون، يقرّبون الأغنياء، ويبعدون الفقراء، ويتبّسطون للكبراء، وينقبضون عن الفقراء:
أولئك إخوان الشياطين وأعداء الرحمن.
وقال محمد بن واسع: لأن تطلب الدنيا بأقبح مما تطلب به الآخرة، خير من أن تطلبها بأحسن مما تطلب به الآخرة.
وقال الحسن: العلم علمان: علم في القلب، فذاك العلم النافع، وعلم في اللسان، فذاك حجة الله على عباده.(2/93)
وقال النبي صلّى الله عليه وسلم: «إن الزبانية «1» لا تخرج إلى فقيه ولا إلى حملة القرآن إلا قالوا لهم: إليكم عنا، دونكم عبدة الأوثان. فيشتكون إلى الله، فيقول: ليس من علم كمن لم يعلم.
وقال مالك بن دينار: من طلب العلم لنفسه فالقليل منه يكفيه، ومن طلبه للناس فحوائج الناس كثيرة.
وقال ابن شبرمة: ذهب العلم إلا غبّرات «2» في أدعية سوء.
وقال النبي صلّى الله عليه وسلم: «من طلب العلم لأربع دخل النار: من طلبه ليباهي به العلماء، وليماري «3» به السفهاء، وليستميل به وجوه الناس إليه، أو ليأخذ به من السلطان» .
وتكلم مالك بن دينار فأبكى أصحابه، ثم افتقد مصحفه، فنظر إلى أصحابه وكلهم يبكي، فقال: ويحكم! كلكم يبكي. فمن أخذ المصحف!؟.
قال أحمد بن أبي الحواريّ: قال لي أبو سليمان في طريق الحج: يا أحمد، إن الله قال لموسى بن عمران: مر ظلمة بني اسرائيل ألا يذكروني، فإني لا أذكر من ذكرني منهم إلا بلعنة حتى يسكت! ويحك يا أحمد! بلغني أنه من حجّ بمال من غير حلّه ثم لبّى قال الله تبارك وتعالى: لا لبّيك ولا سعديك حتى تؤدي ما بيديك، فما يؤمّننا أن يقال لنا ذلك؟
باب من أخبار العلماء والأدباء
أملى أبو عبد الله محمد بن عبد السلام الخشني، أنّ عبد الله بن عباس سئل عن أبي بكر رضي الله عنه، فقال: كان والله خيرا كله مع الحدّة التي كانت فيه. قالوا:
فأخبرنا عن عمر رضوان الله عليه. قال: كان والله كالطير الحذر الذي نصب فخ له فهو يخاف أن يقع فيه. قالوا: فأخبرنا عن عثمان رضوان الله عليه. قال: كان والله(2/94)
صوّاما قوّاما. قالوا: فأخبرنا عن علي بن أبي طالب رضوان الله عليه. قال: كان والله ممن حوى علما وحلما، حسبك من رجل أعزّته سابقته، وقدّمته قرابته من رسول الله صلّى الله عليه وسلم، فقلّما أشرف على شيء إلا ناله. قالوا يقال: إنه كان محدودا. قال: أنتم تقولونه.
للحسن البصري وعلي بن أبي طالب:
وذكروا أن رجلا أتى الحسن فقال: أبا سعيد، إنهم يزعمون أنك تبغض عليا! فبكى حتى اخضلّت لحيته، ثم قال: كان علي بن أبي طالب سهما صائبا من مرامي الله على عدوّه، وربّاني هذه الأمة، وذا سابقتها، وذا فضلها، وذا قرابة قريبة من رسول الله صلّى الله عليه وسلم، لم يكن بالنّئومة «1» عن أمر الله، ولا بالملولة في حق الله، ولا بالسّروفة لمال الله؛ أعطى القرآن عزائمه ففاز منه برياض مونقة، وأعلام بيّنة. ذاك عليّ بن أبي طالب يا لكع.
وسل خالد بن صفوان عن الحسن البصري، فقال: كان أشبه الناس علانية بسريرة، وسريرة بعلانية وآخذ الناس لنفسه بما يأمر به غيره، يا له من رجل استغنى عما في أيدي الناس من دنياهم. واحتاجوا إلى ما في يديه من دينهم.
ودخل عروة بن الزبير بستانا لعبد الملك بن مروان، فقال عروة: ما أحسن هذا البستان! فقال له عبد الملك: أنت والله أحسن منه؛ إن هذا يؤتي أكله كلّ عام، وأنت تؤتي أكلك كلّ يوم.
وقال محمد بن شهاب الزهري: دخلت على عبد الملك بن مروان في رجال من أهل المدينة، فرآني أحدثهم سنا، فقال لي: من أنت؟ فانتسبت إليه، فعرفني؛ فقال: لقد كان أبوك وعمك نعاقين في فتنة ابن الزبير! قلت: يا أمير المؤمنين، مثلك إذا عفا لم يعد، وإذا صفح لم يثرّب. قال لي: أين نشأت؟ قلت: بالمدينة، قال: عند من(2/95)
طلبت؟ قلت: عند ابن يسار، وابن أبي ذؤيب، وسعيد بن المسيّب. قال لي: وأين كنت من عروة بن الزبير، فإنه بحر لا تكدّره الدّلاء.
وذكر الصحابة عند الحسن البصري، فقال: رحمهم الله، شهدوا وغبنا، وعلموا وجهلنا؛ فما اجتمعوا عليه اتبعنا، وما اختلفوا فيه وقفنا.
وقال جعفر بن سليمان: سمعت عبد الرحمن بن مهدي يقول: ما رأيت أحدا أقشف من شعبة، ولا أعبد من سفيان، ولا أحفظ من ابن المبارك.
وقال: ما رأيت مثل ثلاثة: عطاء بن أبي رباح بمكة، ومحمد بن سيرين بالعراق، ورجاء بن حيوة بالشام.
وقيل لأهل مكة: كيف كان عطاء بن أبي رباح فيكم؟ فقالوا: كان مثل العافية التي لا يعرف فضلها حتى تفقد.
وكان عطاء بن أبي رباح أسود أعور أفطس أشلّ أعرج، ثم عمى. وأمّه سوداء تسمّى بركة.
وكان الأحنف بن قيس: أعور أعرج ولكنه إذا تكلم جلا عن نفسه.
وقال الشعبي: لولا أني زوحمت في الرّحم ما قامت لأحد معي قائمة. وكان توأما.
وقيل لطاووس: هذا قتادة يريد أن يأتيك. قال ائن جاء لأقومنّ. قيل: إنه فقيه.
قال: إبليس أفقه منه؛ قال؛ رَبِّ بِما أَغْوَيْتَنِي
«1» .
وقال الشعبي: القضاة أربعة: عمر، وعلي، وأبو موسى، وعبد الله.
وقال الحسن: ثلاثة صحبوا النبي صلّى الله عليه وسلم: الابن والأب والجد؛ عبد الرحمن بن أبي بكر بن أبي قحافة، ومعن بن يزيد بن الأخنس السّلمي.(2/96)
وكان عبيد الله بن عبد الله بن عتبة بن مسعود فقيها شاعرا، وكان أحد السبعة من فقهاء المدينة.
وقال الزهري: كنت إذا لقيت عبيد الله بن عبد الله، فكأنما أفجر به بحرا.
وقال عمر بن عبد العزيز: وددت لو أن لي مجلسا من عبيد الله بن عبد الله بن عتبة بن مسعود لم يفتنى.
ولقيه سعيد بن المسيّب فقال له: أنت الفقيه الشاعر؟ قال: لا بد للمصدور «1» أن ينفث.
وكتب عبيد الله بن عبد الله إلى عمر بن عبد العزيز وبلغه عنه شيء يكرهه:
أبا حفص أتاني عنك قول ... قطعت به وضاق به جوابي
أبا حفص فلا أدري أرغمي ... تريد بما تحاول أم عتابي «2»
فإن تك عاتبا نعتب وإلّا ... فما عودي إذا بيراع غاب
وقد فارقت أعظم منك رزءا ... وواريت الأحبّة في التّراب
وقد عزّوا عليّ وأسلموني ... معا فلبست بعدهم ثيابي
وكان خالد بن يزيد بن معاوية أبو هاشم، عالما كثير الدراسة للكتب وربما قال الشعر، ومن قوله:
هل أنت منتفع بعل ... مك مرّة والعلم نافع
ومن المشير عليك بالرأ ... ي المسدّد أنت سامع
الموت حوض لا مجا ... لة فيه كلّ الخلق شارع
ومن التّقى فازرع فإن ... ك حاصد ما أنت زارع
وقال عمر بن عبد العزيز: ما ولدت أمية مثل خالد بن يزيد، ما استثنى عثمان ولا غيره.(2/97)
وكان الحسن في جنازة فيها نوائح، ومعه سعيد بن جبير، فهم سعيد بالانصراف، فقال له الحسن: إن كنت كلما رأيت قبيحا تركت له حسنا أسرع ذلك في دينك.
وعن عيسى بن إسماعيل عن ابن عائشة عن ابن المبارك، قال: علمني سفيان الثوريّ اختصار الحديث.
وقال الأصمعي: حدثنا شعبة قال: دخلت المدينة فإذا لمالك حلقة وإذا نافع قد مات قبل ذلك بسنة، وذلك سنة ثماني عشرة ومائة.
وقال أبو الحسن بن محمد: ما خلق الله أحدا كان أعرف بالحديث من يحيى ابن معين؛ كان يؤتي بالأحاديث قد خلطت وقلبت فيقول: هذا الحديث لذا، وذا لهذا.
فيكون كما قال.
وقال شريك: إني لأسمع الكلمة فيتغير لها لوني.
وقال ابن المبارك: كل من ذكر لي عنه وجدته دون ما ذكر، إلا حيوة بن شريح، وأبا عون.
وكان حيوة بن شريح يقعد للناس، فتقول له أمه: قم يا حيوة ألق الشعير للدجاج. فيقوم.
وقال أبو الحسن: سمع سليمان التّيمي من سفيان الثوري ثلاثة آلاف حديث.
وكان يحيى بن اليمان يذهب بابنه داود كل مذهب، فقال له يوما: كان رسول الله صلّى الله عليه وسلم، ثم كان عبد الله، ثم كان علقمة، ثم كان إبراهيم، ثم كان منصور، ثم كان سفيان، ثم كان وكيع؛ قم يا داود. يعني أنه أهل للإمامة ومات داود سنة أربع ومائتين.
وقال الحسن: حدثني أبي، قال: أمر الحجاج أن لا يؤمّ بالكوفة إلا عربيّ وكان يحيى بن وثّاب يؤمّ قومه بني أسد، وهو مولى لهم؛ فقالوا: اعتزل. فقال: ليس عن(2/98)
مثلي نهى، أنا لاحق بالعرب. فأبوا؛ فأتى الحجاج فقرأ، فقال: من هذا؟ فقالوا يحيى بن وثاب. قال: ماله؟ قالوا: أمرت أن لا يؤمّ إلا عربيّ، فنحّاه قومه. فقال:
ليس عن مثل هذا نهيت، يصلي بهم. قال: فصلّى بهم الفجر والظهر والعصر والمغرب والعشاء. ثم قال: اطلبوا إماما غيري: إنما أردت أن لا تستذلّوني، فأمّا إذ صار الأمر إليّ فأنا أؤمكم؟ لا ولا كرامة.
وقال الحسن: كان يحيى بن اليمان يصلي بقومه، فتعصب عليه قوم منهم، فقالوا:
لا تصلّ بنا! لا نرضاك، إن تقدّمت نحّيناك! فجاء بالسيف فسل منه أربع أصابع ثم وضع في المحراب، وقال: لا يدنو مني أحد إلا ملأت السيف منه. فقالوا: بيننا وبينك شريك. فقدّموه إلى شريك فقالوا: إن هذا كان يصلي بنا وكرهناه. فقال لهم شريك: من هو؟ فقالوا: يحيى بن اليمان. فقال: يا أعداء الله! وهل بالكوفة أحد يشبه يحيى! لا يصلّي بكم غيره. فلما حضرته الوفاة قال لابنه داود: يا بنيّ كاد ديني يذهب مع هؤلاء، فإن اضطرّوا إليك بعدي فلا تصلّ بهم.
وقال يحيى بن اليمان: تزوجت أمّ داود، وما كان عندي ليلة العرس إلا بطّيخة، أكلت أنا نصفها وهي نصفها، وولّدت داود، فما كان عندنا شيء تلفه فيه، فاشتريت له كساء بحبّتين فلففناه فيه.
وقال الحسن بن محمد: كان لعليّ ضفيرتان، ولابن مسعود ضفيرتان.
وذكر عبد الملك بن مروان روحا فقال: ما أعطي أحد ما أعطي أبو زرعة:
أعطي فقه الحجاز. ودهاء أهل العراق، وطاعة أهل الشام.
وروي أن مالك بن أنس كان يذكر عليا وعثمان وطلعة والزبير، فيقول: والله ما اقتتلوا إلا على الثريد الأعفر «1» .
ذكر هذا محمد بن يزيد في الكامل؛ قال: وأما أبو سعيد الحسن البصري فإنه كان(2/99)
ينكر الحكومة ولا يرى رأيهم، وكان إذا جلس فتمكن في مجلسه ذكر عثمان فترّحم عليه ثلاثا، ولعن قتلته ثلاثا، ثم يذكر عليّا فيقول: لم يزل عليّ أمير المؤمنين صلوات الله عليه مظفّرا مؤيّدا بالنّعم حتى حكم. ثم يقول: ولم تحكّم والحق معك! ألا تمضي قدما لا أبالك؟
وهذ الكلمة وإن كان فيها جفاء فإن بعض العرب يأتي بها على معنى المدح فيقول: انظر في أمر رعيتك لا أبالك! وقال أعرابي:
ربّ العباد مالنا ومالكا ... قد كنت تسقينا فقد بدالكا
أنزل علينا الغيث لا أبالكا!
وقال ابن أبي الحواريّ: قلت لسفيان: بلغني في قول الله عز وجل: إِلَّا مَنْ أَتَى اللَّهَ بِقَلْبٍ سَلِيمٍ
«1» أنه الذي يلقى الله وليس في قلبه أحد غيره. قال: فبكى وقال: ما سمعت منذ ثلاثين سنة أحسن من هذا.
وقال ابن المبارك: كنت مع محمد بن النضر الحارثي في سفينة، فقلت: بأي شيء أستخرج منه الكلام؟ فقلت: ما تقول في الصوم في السفر؟ قال: إنما هي المبادرة يا بن أخي. فجاءني والله بفتيا غير فتيا إبراهيم والشعبي.
وقال الفضيل بن عياض: اجتمع محمد بن واسع ومالك بن دينار في مجلس بالبصرة؛ فقال مالك بن دينار: ما هو إلا طاعة الله أو النار. فقال محمد بن واسع لمن كان عنده: كنا نقول: ما هو إلا طاعة الله أو النار. فقال محمد بن واسع لمن كان عنده: كنا نقول: ما هو إلا عفو الله أو النار. قال مالك بن دينار: إنه ليعجبني أن تكون للإنسان معيشة قدر ما يقوته.
فقال محمد بن واسع: ما هو إلا كما تقول، ليس يعجبني أن يصبح الرجل وليس له غداء، ويمسى وليس له عشاء، وهو مع ذلك راض عن الله عز وجل.(2/100)
فقال مالك: ما أحوجني إلى أن يعظني مثلك.
وكان يجلس إلى سفيان فتى كثير الفكرة، طويل الإطراق، فأراد سفيان أن يحركه ليسمع كلامه، فقال: يا فتى، إنّ من كان قبلنا مرّوا على خيل عتاق «1» وبقينا على حمير دبرة. قال: يا أبا عبد الله، إن كنا على الطريق فما أسرع لحوقنا بالقوم.
وقال الأصمعي: عن شعبة قال: ما أحدّثكم عن احد ممن تعرفون وممن لا تعرفون إلا وأيوب وينس وابن عون مسليمان خير منهم.
قال الأصمعي: وحدّثني سلام بن أبي مطيع قال: أيوب أفقههم، وسليمان التيمي أعبدهم، ويونس أشدّهم زهدا عند الدراهم، وابن عون أضبطهم لنفسه في الكلام.
الأصمعي قال: حدثنا نافع بن أبي نعيم عن ربيعة بن أبي عبد الرحمن قال: ألف عن ألف خير من واحد عن واحد، فلان عن فلان ينتزع السنّة من أيديكم.
وكان إبراهيم النّخعي في طريق، فلقيه الأعمش فانصرف معه، فقال له: يا إبراهيم إن الناس إذا رأونا قالوا: أعمش وأعور! قال: وما عليك أن يأثموا ونؤجر؟
قال: وما عليك أن يسلّموا ونسلم.
ابراهيم النخعي وابن جبير:
وروى سفيان الثوري عن واصل الأحدب، قال: قلت لإبراهيم: إن سعيد بن جبير يقول: كلّ امرأة أتزوّجها طالق، ليس بشيء. فقال له إبراهيم: قل له ينقع استه في الماء البارد. قال: فقلت لسعيد ما أمرني به؛ فقال: قل له: إن مررت بوادي النّوكي فاحلل به.
وقال محمد بن مناذر:(2/101)
ومن يبغ الوصاة فإنّ عندي ... وصاة للكهول وللشّباب
خذوا عن مالك وعن ابن عون ... ولا ترووا أحاديث بن داب «1»
وقال آخر:
أيّها الطالب علما ... إيت حمّاد بن زيد
فاقتبس حلما وعلما ... ثم قيّده بقيد «2»
وقيل لأبي نواس: قد بعثوا في أبي عبيدة والأصمعي ليجمعوا بينهما. قال أما أبو عبيدة فإن مكّنوه من سفره قرأ عليهم أساطير الأولين، وأما الأصمعي فبلبل في قفص يطربهم بصفيره.
وذكروا عند المنصور محمد بن إسحاق وعيسى بن دأب، فقال: أما ابن إسحاق فأعلم الناس بالسيرة؛ وأما ابن دأب فإذا أخرجته عن داحس والغبراء لم يحسن شيئا.
وقال المأمون رحمه الله تعالى: من أراد لهوا بلا حرج، فليسمع كلام الحسن الطالبي.
وسئل العتّابي عن الحسن الطالبي، فقال: إن جليسه لطيب عشرته لأطرب من الإبل على الحداء، ومن الثّمل على الغناء.
قولهم في حملة القرآن
وقال رجل لإبراهيم النّخعي: إني أختم القرآن كل ثلاث. قال: ليتك تختمه كل ثلاثين وتدري أيّ شيء تقرأ.
للنبي صلى الله عليه وسلم:
وقال الحارث الأعور: حدّثني علي بن أبي طالب رضي الله عنه قال: سمعت(2/102)
رسول الله صلّى الله عليه وسلم يقول: «كتاب الله فيه خبر ما قبلكم، ونبأ ما بعدكم، وحكم ما بينكم؛ هو الفصل ليس بالهزل، هو الذي لا تزيغ به الأهواء «1» ، ولا يشبع منه العلماء، ولا يخلق «2» على كثرة الرد، ولا تنقضي عجائبه؛ هو الذي من تركه من جبّار قصمه الله، ومن ابتغى الهدى في غيره أضلّه الله؛ هو حبل الله المتين، والذّكر العظيم، والصراط المستقيم» . خذها إليك يا أعور.
وقيل للنبي صلّى الله عليه وسلم: عجّل عليك الشيب يا رسول الله. قال: شيبتني هود وأخواتها.
وقال عبد الله بن مسعود: الحواميم «3» ديباج القرآن.
وقال: إذا رتعت رتعت في رياض دمثات «4» أتأنق فيهن.
وقالت عائشة رضي الله تعالى عنها: كانت تنزل علينا الآية في عهد رسول الله صلّى الله عليه وسلم، فنحفظ حلالها وحرامها وأمرها وزجرها، قبل أن نحفظها.
وقال صلّى الله عليه وسلم: سيكون في أمتي قوم يقرأون القرآن لا يجاوز تراقيهم «5» ، يمرقون من الدين كما يمرق السهم من الرّميّة، هم شرّ الخلق والخليقة.
وقال: إن الزبانية لأسرع إلى فسّاق حملة القرآن منهم إلى عبدة الأوثان، فيشكون إلى ربهم فيقول: ليس من علم كمن لا يعلم.
وقال الحسن: حملة القرآن ثلاثة نفر: رجل اتخذه بضاعة ينقله من مصر إلى مصر يطلب به ما عند الناس، ورجل حفظ حروفه وضيّع حدوده، واستدرّ به الولاة، واستطال به على أهل بلده. وقد كثر هذا الضرب في حملة القرآن لا كثّرهم الله عز وجل. ورجل قرأ القرآن فوضع دواءه على داء قلبه، فسهر ليلته، وهملت عيناه؛(2/103)
تسربل الخشوع، وارتدى الوقار، واستشعر الحزن. ووالله لهذا الضرب من حملة القرآن أقلّ من الكبريت الأحمر، بهم يسقي الله الغيث، وينزل النّصر، ويدفع البلاء.
العقل
قال سحبان وائل: العقل بالتجارب؛ لأن عقل الغريزة سلّم إلى عقل التجربة.
ولذلك قال علي بن أبي طالب رضوان الله عليه: رأي الشيخ خير من مشهد الغلام.
وعلى العاقل أن يكون عالما بأهل زمانه، مالكا للسانه، مقبلا على شانه.
وقال الحسن البصري: لسان العاقل من وراء قلبه؛ فإذا أراد الكلام تفكّر، فإن كان له قال وإن كان عليه سكت؛ وقلب الأحمق من وراء لسانه، فإذا أراد أن يقول قال، فإن كان له سكت، وإن كان عليه قال.
بين سليمان بن عبد الملك ورجل أعجب بكلامه:
وقال محمد بن الغاز: دخل رجل على سليمان بن عبد الملك، فتكلم عنده بكلام أعجب سليمان، فأراد أن يختبره لينظر أعقله على قدر كلامه أم لا. فوجده مضعوفا.
فقال: فضل العقل على المنطق حكمة، وفضل المنطق على العقل هجنة، وخير الأمور ما صدّق بعضها بعضا؛ وأنشد:
وما المرء إلّا الأصغران: لسانه ... ومعقوله، والجسم خلق مصوّر
فإن تر منه ما يروق فربّما ... أمرّ مذاق العود والعود أخضر «1»
ومن أحسن ما قيل في هذا المعنى قول زهير:
وكائن ترى من معجب لك صامت ... زيادته أو نقصه في التكلّم
لسان الفتى نصف ونصف فؤاده ... فلم يبق إلا صورة اللحم والدّم(2/104)
وقال علي رضي الله عنه: العقل في الدّماغ، والضّحك في الكبد، والرأفة في الطّحال، والصوت في الرئة.
وسئل المغيرة بن شعبة عن عمر بن الخطّاب رضوان الله عليه، فقال: كان والله أفضل من أن يخدع، وأعقل من أن يخدع. وهو القائل: لست بخبّ «1» ، والخبّ لا يخدعني.
وقال زياد: ليس العاقل الذي إذا وقع في الأمر احتال له، ولكن العاقل يحتال للأمر حتى لا يقع فيه.
وقيل لعمر بن العاص: ما العقل؟ فقال: الإصابة بالظن، ومعرفة ما يكون بما قد كان.
وقال عمر بن الخطاب رضي الله عنه: من لم ينفعه ظنّه لم ينفعه يقينه.
وقال علي بن أبي طالب رضي الله عنه، وذكر ابن عباس رضي الله عنهما، فقال:
لقد كان ينظر إلى الغيب من ستر رقيق.
وقالوا: العاقل فطن متغافل.
وقال معاوية: العقل مكيال ثلثه فطنة وثلثاه تغافل.
وقال المغيرة بن شعبة لعمر بن الخطاب رضي الله عنه إذ عزله عن كتابة أبي موسى، أعن عجز عزلتني أم عن خيانة؟ فقال: لا عن واحدة منهما، ولكني كرهت أن أحمل على العامة فضل عقلك.
وقال معاوية لعمرو بن العاص: ما بلغ من عقلك؟ قال: ما دخلت في شيء قطّ إلا خرجت منه. فقال معاوية: لكني ما دخلت في شيء قط وأردت الخروج منه.(2/105)
وقال الأصمعي: ما سمعت الحسن بن سهل مذ صار في مرتبة الوزارة يتمثل إلا بهذين البيتين:
وما بقيت من اللّذّات إلا ... محادثة الرّجال ذوي العقول
وقد كانوا إذا ذكروا قليلا ... فقد صاروا أقلّ من القليل
وقال محمد بن عبد الله بن طاهر- ويروي لمحمود الوراق-:
لعمرك ما بالعقل يكتسب الغنى ... ولا باكتساب المال يكتسب العقل
وكم من قليل المال يحمد فضله ... وآخر ذو مال وليس له فضل
وما سبقت من جاهل قطّ نعمة ... إلى أحد إلّا أضرّ بها الجهل
وذو الّلبّ إن لم يعط أحمدت عقله ... وإن هو أعطى زانه القول والفعل
وقال محمد بن مناذر:
وترى الناس كثيرا فإذا ... عدّ أهل العقل قلّوا في العدد
لا يقلّ المرء في القصد ولا ... يعدم القلّة من لم يقتصد
لا تعد شرّا وعد خيرا ولا ... تخلف الوعد وعجّل ما تعد
لا تقل شعرا ولا تهمم به ... وإذا ما قلت شعرا فأجد
ولآخر:
يعرف عقل المرء في أربع ... مشيته أولها والحرك
ودور عينيه، وألفاظه ... بعد عليهنّ يدور الفلك
وربّما أخلفن إلّا التي ... آخرها منهنّ سمّين لك
هذي دليلات على عقله ... والعقل في أركانه كالملك
إن صحّ صح المرء من بعده ... ويهلك المرء إذا ما هلك
فانظر إلى مخرج تدبيره ... وعقله ليس إلى ما ملك
فربما خلّط أهل الحجا ... وقد يكون النّوك في ذي النّسك «1»(2/106)
فإن إمام سال عن فاضل ... فادلل على العاقل لا أمّ لك
هوذة وكسرى:
وكان هوذة بن علي الحنفيّ يجير لطيمة كسرى في كل عام- واللطيمة عير تحمل الطيب والبزّ- فوفد على كسرى، فسأله عن بنيه، فسمّى له عددا. فقال:
أيهم أحبّ إليك؟ قال: الصغير حتى يكبر، والغائب حتى يرجع، والمريض حتى يفيق «1» . فقال له: ما غذاؤك في بلدك؟ قال: الخبز. فقال كسرى لجلسائه: هذا عقل الخبز. يفضّله على عقول أهل البوادي الذين غذاؤهم اللبن والتمر.
وهوذة بن علي الحنفيّ هو الذي يقول فيه أعشى بكر:
من ير هوذة يسجد غير متّئب ... إذا تعصّب فوق التاج أو وضعا «2»
له أكاليل بالياقوت فصّلها ... صوّاغها لا ترى عيبا ولا طبعا
وقال أبو عبيدة عن أبي عمرو: لم يتتوّج معدّيّ قط، وإنما كانت التيجان لليمن.
فسألته عن هوذة بن علي الحنفي، فقال: إنما كانت خرزات تنظم له.
وقد كتب النبي صلّى الله عليه وسلم إلى هوذة بن علي يدعوه إلى الاسلام كما كتب إلى الملوك.
وفي بعض الحديث: إن الله عز وجل لما خلق العقل قال: أقبل! فأقبل، ثم قال له:
أدبر! فأدبّر. فقال: وعزتي وجلالي، ما خلقت خلقا أحبّ إليّ منك، ولا وضعتك إلا في أحبّ الخلق إليّ. ولما خلق الحمق قال له: أقبل. فأدبر. ثم قال له: أدبر.
فأقبل. فقال: وعزتي وجلالي، ما خلقت خلقا أبغض إليّ منك، ولا وضعتك إلا في أبغض الخلق إليّ.
وبالعقل أدرك الناس معرفة الله عز وجل؛ ولا يشكّ فيه أحد من أهل العقول؛ يقول الله عز وجل في جميع الأمم: وَلَئِنْ سَأَلْتَهُمْ مَنْ خَلَقَهُمْ لَيَقُولُنَّ اللَّهُ
«3» .(2/107)
وقال أهل التفسير في قول الله: قَسَمٌ لِذِي حِجْرٍ
«1» قالوا: لذي عقل.
وقالوا: ظن العاقل كهانة.
وقال الحسن البصري: لو كان للناس كلّهم عقول خربت الدنيا.
وقال الشاعر:
يعدّ رفيع القوم من كان عاقلا ... وإن لم يكن في قومه بحسيب
وإن حلّ أرضا عاش فيها بعقله ... وما عاقل في بلدة بغريب
وقالوا: العاقل بقي ماله بسلطانه، ونفسه بماله، ودينه بنفسه.
وقال الأحنف بن قيس: أنا للعاقل المدبر أرجى مني للأحمق المقبل.
قال: ولما أهبط الله عز وجل آدم عليه السلام إلى الأرض، أتاه جبريل عليه السلام، فقال له: يا آدم إن الله عز وجل قد حباك بثلاث خصال لتختار منها واحدة وتتخلى عن اثنتين؛ قال: وما هن؛ قال: الحياء والدين والعقل قال آدم: اللهم إني اخترت العقل. فقال جبريل عليه السلام للحياء والدين: ارتفعا؛ قالا: لن نرتفع.
قال جبريل عليه السلام: أعصيتما؟ قالا: لا، ولكنا أمرنا ألّا نفارق العقل حيث كان.
وقال صلّى الله عليه وسلم: لا تقتدوا بمن ليست له عقدة.
قال: وما خلق الله خلقا أحب إليه من العقل.
وكان يقال: العقل ضربان: عقل الطبيعة وعقل التجربة، وكلاهما يحتاج إليه ويؤدي إلى المنفعة.
وكان يقال: لا يكون أحد أحبّ إليك من وزير صالح وافر العقل كامل الأدب(2/108)
حنيك السن «1» بصير بالأمور، فإذا ظفرت به فلا تباعده، فإن العاقل ليس بمانعك نصيحته وإن جفت.
وكان يقال: غريزة قعل لا يضيع معها عمل.
وكان يقال: أجل الأشياء أصلا وأحلاها ثمرة: صالح الأعمال، وحسن الأدب، وعقل مستعمل.
وكان يقال: التجارب ليس لها غاية والعاقل منها في الزيادة. ومما يؤكد هذا قول الشاعر:
ألم تر أنّ العقل زين لأهله ... وأنّ كمال العقل طول التجارب
ومكتوب في الحكمة: إنّ العاقل لا يغترّ بمودّة الكذوب ولا يثق بنصيحته.
ويقال: من فاته العقل والفتوّة فرأس ماله الجهل.
ويقال: من عيّر الناس الشيء، ورضيه لنفسه فذاك الأحمق نفسه.
وكان يقال: العاقل دائم المودّة، والأحمق سريع القطيعة.
وكان يقال: صديق كل امريء عقله، وعدوّه جهله.
وكان يقال: المعجب لحوح والعاقل منه في مؤونة. وأما العجب فإنه الجهل والكبر.
وقيل: أولى الناس بالعفو أقدرهم على العقوبة، وأنقص الناس عقلا من ظلم من هو دونه.
ويقال: ما شيء بأحسن من عقل زانه حلم، وحلم زانه علم، وعلم زانه صدق، وصدق زانه عمل، وعمل زانه رفق.
وكان عمر بن الخطاب رضي الله عنه يقول: ليس العاقل من عرف الخير من(2/109)
الشر، بل العاقل من عرف خير الشّرّين.
ويقال: عدوّ عاقل أحبّ إليّ من صديق جاهل.
وكان يقال: الزم ذا العقل وذا الكرم واسترسل إليه «1» ، وإياك وفراقه إذا كان كريما، ولا عليك أن تصحب العاقل وإن كان غير محمود الكرم، لكن احترس من شين أخلاقه وانتفع بعقله؛ ولا تدع مواصلة الكريم وإن لم تحمد عقله، وانتفع بكرمه وانفعه بعقلك، وفرّ الفرار كله من الأحمق اللئيم.
وكان يقال: قطيعة الأحمق مثل صلة العاقل.
وقال الحسن: ما أودع الله تعالى امرءا عقلا ما إلا استنقذه به يوما ما.
وأتى رجل من بني مجاشع إلى النبي صلّى الله عليه وسلم فقال: يا رسول الله ألست أفضل قومي؟
قال النبي صلّى الله عليه وسلم: إن كان لك عقل فلك فضل، وإن كان لك تقى فلك دين، وإن كان لك مال فلك حسب، وإن كان لك خلق فلك مروءة.
بين صفوان بن أمية وعمر:
قال: تفاخر صفوان بن أمية مع رجل، فقال صفوان: أنا صفوان بن أمية، بخ بخ «2» . فبلغ ذلك عمر بن الخطاب رضي الله عنه، فقال: ويلك! إن كان لك دين فإنّ لك حسبا، وإن كان لك عقل فإن لك أصلا، وإن كان لك خلق فلك مروءة، وإلا فأنت شرّ من حمار.
وقال النبي صلّى الله عليه وسلم: كرم الرجل دينه، ومروءته عقله، وحسبه خلقه.
وقال: وكّل الله عز وجل الحرمان بالعقل، ووكّل الرزق بالجهل؛ ليعتبر العاقل فيعلم أنّ ليس له في الرزق حيلة.(2/110)
وقال بزرجمهر: لا ينبغي للعاقل أن يزل بلدا ليس فيه خمسة: سلطان قاهر، وقاض عدل، وسوق قائمة، ونهر جار، وطبيب عالم.
وقال أيضا: العاقل لا يرجو ما يعنّف برجائه، ولا يسأل ما يخاف منعه، ولا يمتهن ما لا يستعين بالقدرة عليه.
سئل أعرابي: أي الأسباب أعون على تذكية العقل، وأيّها أعون على صلاح السيرة؟ فقال: أعونها على تذكية العقل التعلّم، وأعونها على صلاح السيرة القناعة.
وسئل عن أجود المواطن أن يختبر فيه العقل؛ فقال: عند التدبير.
وسئل: هل يعمل العاقل بغير الصواب؟ فقال: ما كل ما عمل بإذن العقل فهو صواب.
وسئل: أيّ الأشياء أدل على عقل العاقل؟ قال: حسن التدبير. وسئل: أيّ منافع العقل أعظم؟ قال: اجتناب الذنوب.
وقال بزرجمهر: أفره «1» ما يكون من الدواب لا غنى بها عن السوط، وأعفّ من تكون من النساء لا غنى بها عن الزوج، وأعقل من يكون من الرجال لا غنى به عن مشورة ذوي الألباب.
سئل أعرابي عن العقل متى يعرف؟ قال: إذا نهاك عقلك عما لا ينبغي فأنت عاقل.
وقال النبي صلّى الله عليه وسلم: العقل نور في القلب نفرّق به بين الحق والباطل، وبالعقل عرف الحلال والحرام، وعرفت شرائع الإسلام ومواقع الأحكام، وجعله الله نورا في قلوب عباده يهديهم إلى هدى، ويصدّهم عن ردى.
ومن جلالة قدر العقل أنّ الله تعالى لم يخاطب إلا ذوي العقول. فقال عز وجل:(2/111)
إِنَّما يَتَذَكَّرُ أُولُوا الْأَلْبابِ
«1» . وقال: لِيُنْذِرَ مَنْ كانَ حَيًّا
«2» . أي عاقلا.
وقال: إِنَّ فِي ذلِكَ لَذِكْرى لِمَنْ كانَ لَهُ قَلْبٌ
«3» . أي لمن كان له عقل.
وقال النبي صلّى الله عليه وسلم: العاقل يحلم عمن ظلم، ويتواضع لمن هو دونه، ويسابق إلى البرّ من فوقه. وإذا رأى باب برّ انتهزه، وإذا عرضت له فتنة اعتصم بالله وتنكّبها «4» .
وقال صلّى الله عليه وسلم: قوام المرء عقله، ولا دين لمن لا عقل له.
وإذا كان العقل أشرف أعلاق النفس، وكان بقدر تمكّنه فيها يكون سموّها لطلب الفضائل وعلوها لابتغاء المنازل، كانت قيمة كل امريء عقله، وحليته التي يحسن بها في أعين الناظرين فضله.
ولعبد الله بن محمد:
تأمّل بعينيك هذا الأنام ... وكن بعض من صانه نبله
فحلية كلّ فتى فضله ... وقيمة كلّ امرء عقله
ولا تتّكل في طلاب العلا ... على نسب ثابت أصله
فما من فتى زانه أهله ... بشيء وخالفه فعله
ويقال: العقل إدراك الأشياء على حقائقها فمن أدرك شيئا على حقيقته فقد كمل عقله.
وقيل: العقل مرآة الرجل.
أخذه بعض الشعراء فقال:
عقل هذا المرء مرآ ... ة ترى فيها فعاله
فإذا كان عليها ... صدأ فهو جهاله(2/112)
وإذا أخلصه الله صقالا «1» وصفا له ... فهي تعطي كلّ حيّ ناظر فيها مثاله
ولآخر:
لا تراني أبدا أك ... رم ذا المال لماله
لا ولا تزرى بمن يع ... قل عندي سوء حاله
إنما أقضي على ذا ... ك وهذا بفعاله
أنا كالمرآة ألقى ... كلّ وجه بمثاله
كيفما قلّبني الدّه ... ر يجدني من رجاله
ولبعضهم:
إذا لم يكن للمرء عقل فإنّه ... وإن كان ذا نبل على الناس هيّن
وإن كان ذا عقل أجلّ لعقله ... وأفضل عقل عقل من يتديّن
وقال آخر:
إذا كنت ذا عقل ولم تك ذا غنى ... فأنت كذي رحل وليس له بغل
وإن كنت ذا مال ولم تك عاقلا ... فأنت كذي بغل وليس له رحل
ويقال: إنّ العقل عين القلب، فإذا لم يكن للمرء عقل كان قلبه أكمه «2» . وقال صالح بن جناح:
ألا إنّ عقل المرء عينا فؤاده ... وإن لم يكن عقل فلا يبصر القلب
وقال بعض الفلاسفة: الهوى مصاد العقل.
ولعبد الله بن محمد: ثلاث من كنّ فيه حوى الفضل وإن كان راغبا عن سواها:
صحة العقل، والتمسك بالعدل، وتنزيه نفسه عن هواها.
ولمحمد بن الحسين بن دريد:
وآفة العقل الهوى فمن علا ... على هواه عقله فقد نجا(2/113)
وقال بعض الحكماء: ما عبد الله بشيء أحبّ إليه من العقل، وما عصي بشيء أحبّ إليه من السّتر.
وقال مسلمة بن عبد الملك: ما قرأت كتابا قط لأحد إلا عرفت عقله منه.
وقال يحيى بن خالد: ثلاثة أشياء تدل على عقول أربابها: الكتاب يدل على عقل كاتبه، والرسول يدل على عقل مرسله، والهديّة تدل على عقل مهديها.
بين عمر بن عبد العزيز ورجل من أعوانه:
واستعمل عمر بن عبد العزيز رجلا، فقيل له: إنه حديث السن ولا نراه يضبط عملك؛ فأخذ العهد منه وقال: ما أراك تضبط عملك لحداثتك؛ فقال الفتى:
وليس يزيد المرء جهلا ولا عمى ... إذا كان ذا عقل، حداثة سنّه
فقال عمر: صدق، وردّ عليه عهده.
وقال جثّامة بن قيس يصف عاقلا:
بصير بأعقاب الأمور كأنّما ... تخاطبه من كلّ أمر عواقبه
ولغيره في المعنى:
بصير بأعقاب الأمور كأنّما ... يرى بصواب الرأي ما هو واقع
وقال شبيب بن شيبة لخالد بن صفوان: إني لأعرف أمرا لا يتلاقى فيه اثنان إلا وجب النّجح بينهما؛ قال له خالد: ما هو؟ قال العقل، فإنّ العاقل لا يسأل إلا ما يجوز، ولا يردّ عما يمكن. فقال له خالد: نعيت اليّ نفسي، إنّا أهل بيت لا يموت منا أحد حتى يرى خلفه.
وقال عبد الله بن الحسين لابنه محمد: يا بني، احذر الجاهل وإن كان لك ناصحا كما تحذر العاقل إذا كان لك عدوّا؛ ويوشك الجاهل أن تورّطك مشورته في بعض(2/114)
اغترارك «1» فيسبق إليك مكر العاقل؛ وإيّاك ومعاداة الرجال، فإنك لا تعدمنّ منها مكر حليم عاقل، أو معاندة جاهل.
وقال أمير المؤمنين علي بن أبي طالب صلوات الله عليه: لا مال أعود من عقل، ولا فقر أضرّ من جهل.
ويقال: لا مروءة لمن لا عقل له.
وقال بعض الحكماء: لو استغنى أحد عن الأدب لاستغنى عنه العاقل، ولا ينتفع بالأدب من لا عقل له، كما لا ينتفع بالرياضة إلا النجيب.
وكان يقال: بالعقل تنال لذة الدنيا، لأنّ العاقل لا يسعى إلا في ثلاث: مزيّة لمعاش، أو منفعة لمعاد، أو لذة في غير محرم.
ولبعضهم:
إذا أحببت أقواما فلاصق ... بأهل العقل منهم والحياء
فإنّ العقل ليس له إذا ما ... تفاضلت الفضائل من كفاء «2»
لمحمد بن يزيد:
وأفضل قسم الله للمرء عقله ... وليس من الخيرات شيء يقاربه
إذا أكمل الرحمن للمرء عقله ... فقد كملت أخلاقه ومآربه
يعيش الفتى بالعقل في الناس إنّه ... على العقل يجري علمه وتجاربه
ومن كان غلّابا بعقل ونجدة ... فذو الجدّ في أمر المعيشة غالبه
فزين الفتى في الناس صحة عقله ... وإن كان محصورا عليه مكاسبه
وشين الفتى في الناس قلّة عقله ... وإن كرمت أعراقه ومناسبه «3»
ولبعضهم:(2/115)
العقل يأمر بالعفاف وبالتّقي ... وإليه يأوي الحلم حين يؤول «1»
فإن استطعت فخذ بفضلك فضله ... إن العقول يرى لها تفضيل
ولبعضهم:
إذا جمّع الآفات فالبخل شرّها ... وشرّ من البخل المواعيد والمطل «2»
ولا خير في عقل إذا لم يكن غنى ... ولا خير في غمد إذا لم يكن نصل
وإن كان للإنسان عقل فعقله ... هو النّصل والإنسان من بعده فضل
ولبعضهم:
يمثل ذو العقل في نفسه ... مصائبه قبل أن تنزلا
فإن نزلت بغتة لم ترعه ... لما كان في نفسه مثّلا «3»
رأى الهمّ يفضي إلى آخر ... فصيّر آخره أوّلا
وذو الجهل يأمن أيّامه ... وينسى مصارع من قد خلا «4»
الحكمة
قال النبي صلّى الله عليه وسلم: ما أخلص عبد العمل لله أربعين يوما إلا ظهرت ينابيع الحكمة من قلبه على لسانه.
وقال عليه الصلاة والسلام: الحكمة ضالة «5» المؤمن، يأخذها ممن سمعها ولا يبالي من أيّ وعاء خرجت.
وقال عليه الصلاة والسلام: لا تضعوا الحكمة عند غير اهلها فتظلموها، ولا تمنعوها أهلها فتظلموهم.
وقال الحكماء: لا يطلب الرجل حكمة إلا بحكمة عنده.(2/116)
وقالوا: إذا وجدتم الحكمة مطروحة على السكك «1» فخذوها.
وفي الحديث: خذوا الحكمة ولو من ألسنة المشركين.
وقال زياد: أيها الناس، لا يمنعكم سوء ما تعلمون منا أن تنتفعوا بأحسن ما تسمعون منا؛ فإن الشاعر يقول:
اعمل بعلمي وإن قصّرت في عملي ... ينفعك قولي ولا يضررك تقصيري
نوادر من الحكمة
قيل لقسّ بن ساعدة: ما أفضل المعرفة؟ قال: معرفة الرجل نفسه.
قيل له: فما أفضل العلم؟ قال: وقوف المرء عند علمه. قيل له: فما أفضل المروءة؟ قال: استبقاء الرجل ماء وجهه.
وقال الحسن: التقدير نصف الكسب، والتّؤدة «2» نصف العقل، وحسن طلب الحاجة نصف العلم.
وقالوا: لا عقل كالتدبير، ولا ورع كالكف، ولا حسب كحسن الخلق، ولا غنى كرضا عن الله، وأحقّ ما صبر عليه ما ليس إلى تغييره سبيل.
وقالوا: أفضل البرّ الزحمة، ورأس المودة الاسترسال، ورأس العقوق مكاتمة الأدنين «3» ، ورأس العقل الإصابة بالظن.
وقالوا: التفكّر نور والغفلة ظلمة، والجهالة ضلالة، والعلم حياة، والأول سابق، والآخر لاحق، والسعيد من وعظ بغيره.
ابن الظرب وحمة في مجلس ملك حمير:
حدّث أبو حاتم قال: حدثني أبو عبيدة قال: حدّثني غير واحد من هوازن من أولى العلم، وبعضهم قد أدرك أبوه الجاهلية- قالوا: اجتمع عمرو بن الظّرب(2/117)
العدواني، وحممة بن رافع الدّوسي- ويزعم النّسّاب أن ليلى بنت الظّرب أم دوس، وزينب بنت الظرب أمّ ثقيف- عند ملك من ملوك حمير، فقال: تساءلا حتى أسمع ما تقولان. فقال عمرو لحممة: أين تحبّ أن تكون أياديك؟ قال: عند ذي الرّثية العديم، وعند ذي الخلّة الكريم، والمعسر الغريم، والمستضعف الهضيم. قال: من أحقّ الناس بالمقت «1» ؟ قال: الفقير المختال، والضعيف الصّوّال، والعيّ القوّال. قال: فمن أحقّ الناس بالمنع؟ قال: الحريص الكاند، والمستميد الحاسد، والملحف الواجد «2» .
قال: من أجدر الناس بالصنيعة؟ قال: من إذا أعطي شكر، وإذا منع عذر، وإذا مطل صبر، وإذا قدم العهد ذكر. قال: من أكرم الناس عشرة؟ قال: من إذا قرب منح، وإذا بعد مدح وإذا ظلم صفح، وإذا ضويق سمح. قال: من ألأم الناس؟
قال: من إذا سأل خضع، وإذا سئل منع، وإذا ملك كنع، ظاهره جشع، وباطنه طبع. قال: فمن أحلم الناس؟ قال: من عفا إذا قدر، وأجمل إذا انتصر، ولم تطغه عزة الظّفر: قال: فمن أحزم الناس؟ قال: من أخذ رقاب الامور بيديه، وجعل العواقب نصب عينيه، ونبذ التهيّب دبر أذنيه «3» . قال: فمن أخرق الناس؟ قال: من ركب الخطار، واعتسف العثار «4» ، وأسرع في البدار «5» قبل الاقتدار. قال: من أجود الناس؟ قال: من بذل الموجود، ولم يأس على المعهود. قال: من أبلغ الناس؟
قال: من جلّى المعنى المزيز باللفظ الوجيز، وطبّق المفصل قبل التحريز. قال: من أنعم الناس عيشا؟ قال: من تحلّى بالعفاف، ورضي بالكفاف، وتجاوز ما يخاف إلى ما لا يخاف. قال: فمن أشقى الناس؟ قال: من حسد على النّعم، وسخط على القسم، واستشعر النّدم، على فوت ما لم يحتم. قال: من أغنى الناس، قال: من استشعر اليأس، وأظهر التجمّل للناس، واستكثر قليل النعم، ولم يسخط على القسم.
قال: فمن أحكم الناس؟ قال: من صمت فادّكر، ونظر فاعتبر، ووعظ فازدجر.
قال: من أجهل الناس؟ قال: من رأى الخرق مغنما، والتجاوز مغرما.(2/118)
لأبي عبيد في تفسير غريب ما سبق:
وقال أبو عبيدة: الخلّة: الحاجة، والخلّة: الصداقة. والكاند: الذي يكفر النعمة، والكنود:
الكفور. والمستعيد: مثل المستمير، وهو المستعطي، ومنه اشتقاق المائدة لأنها تماد.
وكنع: تقبّض، يقال منه: تكنّع جلده، إذا تقبّض، يريد أنه ممسك بخيل. والجشع:
أسوأ الحرص. والطّبع: الدّنس. والاعتساف: ركوب الطريق على غير هداية، وركوب الأمر على غير معرفة. والمزيز: من قولهم: هذا أمزّ من هذا، أي أفضل منه وأزيد. والمطبّق من السيوف: الذي يصيب المفاصل لا يجاوزها.
وقال عمرو بن العاص: ثلاث لا أناة «1» فيهن: المبادرة بالعمل الصالح، ودفن الميت، وتزويج الكفء.
وقال: ثلاثة لا يندم على ما سلف إليهم: الله عز وجل فيما عمل له، والمولى الشّكور فيما أسدي إليه «2» ، والأرض الكريمة فيما بذر فيها.
وقالوا: ثلاثة لا بقاء لها: ظلّ الغمام، وصحبة الأشرار؛ والثناء الكاذب.
وقالوا: ثلاثة لا تكون إلا في ثلاثة. الغنى في النفس، والشرف في التواضع، والكرم في التقوى.
وقالوا: ثلاثة لا تعرف إلا في ثلاثة: ذو اليأس لا يعرف إلا عند الّلقاء، وذو الأمانة لا يعرف إلا عند الأخذ والعطاء، والإخوان لا يعرفون إلا عند النوائب «3» .
وقالوا: من طلب ثلاثة لم يسلم من ثلاثة: من طلب المال بالكيمياء لم يسلم من الإفلاس؛ ومن طلب الدين بالفلسفة لم يسلم من الزندقة، ومن طلب الفقه بغرائب الحديث لم يسلم من الكذب.
وقالوا: عليكم بثلاث: جالسوا الكبراء، وخالطوا الحكماء، وسائلوا العلماء.
وقالوا عمر بن الخطاب رضوان الله عليه: أخوف ما أخاف عليكم: شحّ مطاع،(2/119)
وهوى متّبع، وإعجاب المرء بنفسه.
واجتمعت علماء العرب والعجم على أربع كلمات: لا تحمل على ظنّك ما لا تطيق:
ولا تعمل عملا لا ينفعك، ولا تغترّ بامرأة، ولا تثق بمال وإن كثر.
وقال الرياحيّ في خطبته بالمربد: يا بني رياح، لا تحقروا صغيرا تأخذون عنه، فإني أخذت من الثعلب روغانه «1» ، ومن القرد حكايته، ومن السّنّور ضرعه «2» ، ومن الكلب نصرته، ومن ابن آوى حذره؛ ولقد تعلمت من القمر سير الليل، ومن الشمس ظهور الحين بعد الحين.
وقالوا: ابن آدم هو العالم الكبير الذي جمع الله فيه العالم كلّه، فكان فيه بسالة الليث، وصبر الحمار، وحرص الخنزير، وحذر الغرب، وروغان الثعلب، وضرع السّنّور، وحكاية القرد، وجبن الصّفرد «3» .
ولما قتل كسري بزرجمهر وجد في منطقته مكتوبا: إذا كان الغدر في الناس طباعا فالثقة بالناس عجز، وإذا كان القدر حقّا فالحرص باطل، وإذا كان الموت راصدا فالطمأنينة حمق.
وقال أبو عمرو بن العلاء: خذ الخير من أهله. ودع الشر لأهله.
وقال عمر بن الخطاب رضي الله عنه: لا تنهكوا وجه الأرض فإن شحمتها في وجهها.
وقال: بع الحيوان أحسن ما يكون في عينك.
وقال: فرّقوا بين المنايا، واجعلوا من الرأس رأسين، ولا تلبثوا بدار معجزة.
وقالوا: إذا قدمت المصيبة تركت التّعزية، وإذا قدم الإخاء سمج الثناء «4» .(2/120)
وفي كتاب للهند: ينبغي للعاقل أن يدع التماس ما لا سبيل إليه، وإلا عدّ جاهلا، كرجل أراد أن يجري السفن في البرّ والعجل في البحر، وذلك ما لا سبيل إليه.
وقالوا: إحسان المسيء أن يكفّ عنك أذاه، وإساءة المحسن أن يمنعك جدواه.
وقال الحسن البصري: اقدعوا «1» هذه النفوس فإنها طلعة، وحادثوها بالذّكر فإنها سريعة الدّثور؛ فإنكم إلا تقدعوها تنزع بكم إلى شر غاية.
يقول: حادثوها بالحكمة كما يحادث السيف بالصّقال، فإنها سريعة الدّثور: يريد الصدأ الذي يعرض للسيف. واقدعوها: من قدعت أنف الجمل، إذا دفعته، فإنها طلعة: يريد متطلّعة إلى الأشياء.
قال أردشير بن بابك: إنّ للآذان مجّة وللقلوب مللا؛ ففرّقوا بين الحكمتين يكن ذلك استحماما.
البلاغة وصفتها
قيل لعمرو بن عبيد: ما البلاغة؟ قال: ما بلّغك الجنّة وعدل بك عن النار. قال السائل: ليس هذا أريد. قال: فما بصّرك مواضع رشدك، وعواقب غيّك. قال:
ليس هذا أريد. قال: من لم يحسن أن يسكت لم يحسن أن يسمع، ومن لم يحسن أن يسمع لم يحسن أن يسأل، ومن لم يحسن أن يسأل لم يحسن أن يقول. قال: ليس هذا أريد. قال: قال النبي صلى الله عليه وسلم: إنا معشر النبيين بكاء- أي قليلو الكلام، وهو جمع بكيء. وكانوا يكرهون أن يزيد منطق الرجل على عقله- قال السائل:
ليس هذا أريد. قال: فكأنك تريد تخيّر الألفاظ في حسن إفهام؟ قال: نعم. قال:
إنك إن أردت تقرير حجّة الله في عقول المكلّفين وتخفيف المئونة على المستمعين، وتزيين المعاني في قلوب المستفهمين، بالألفاظ الحسنة، رغبة في سرعة استجابتهم، ونفي الشواغل عن قلوبهم، بالموعظة الناطقة عن الكتاب والسنة، كنت قد أوتيت فصل الخطاب.(2/121)
وقيل لبعضهم: ما البلاغة؟ قال: معرفة الوصل من الفصل.
وقيل لآخر: ما البلاغة؟ قال: إيجاز الكلام، وحذف الفضول، وتقريب البعيد.
وقيل لبعضهم: ما البلاغة؟ قال ألّا يؤتى القائل من سوء فهم السامع، ولا يؤتى السامع من سوء بيان القائل.
وقال معاوية لصحار العبديّ: ما البلاغة؟ قال: أن تجيب فلا تبطيء، وتصيب فلا تخطيء. ثم قال: أقلني «1» يا أمير المؤمنين. قال: قد أقلتك. قال: ألّا تبطيء ولا تخطيء.
قال أبو حاتم: استطال الكلام الأول فاستقال وتكلم بأوجز منه.
وسمع خالد بن صفوان رجلا يتكلم ويكثر، فقال: اعلم رحمك الله أن البلاغة ليست بخفة اللسان وكثرة الهذيان، ولكنها بإصابة المعنى والقصد إلى الحجة فقال له:
أبا صفوان، ما من ذنب أعظم من اتفاق الصّنعة.
وتكلم ربيعة الرأي يوما فأكثر، وإلى جنبه أعرابيّ، فالتفت إليه فقال: ما تعدّون البلاغة يا أعرابيّ؟ قال: قلة الكلام وإيجاز الصواب. قال: فما تعدّون العيّ؟ قال: ما كنت فيه منذ اليوم، فكأنما ألقمه حجرا.
ومن أمثالهم في البلاغة قولهم: يقل الحزّ ويطبّق المفصل. وذلك أنهم شبهوا البليغ الموجز الذي يقل الكلام ويصيب الفصول والمعاني، بالجزار الرفيق الذي يقلّ حزّ اللحم ويصيب مفاصله.
ومثله قولهم:
يضع الهناء مواضع النّقب
أي لا يتكلم إلا فيما يجب فيه الكلام، مثل الطالي الرفيق الذي يضع الهناء مواضع النّقب. والهناء: القطران. والنّقب: الجرب.(2/122)
وقولهم: قرطس «1» فلان فأصاب الثغرة، وأصاب عين القرطاس. كل هذا مثل للمصيب في كلامه الموجز في لفظه.
قيل للعتابي: ما البلاغة؟ قال: إظهار ما غمض من الحق، وتصوير الباطل في صورة الحق.
وقيل لأعرابيّ: من أبلغ الناس؟ قال: أسهلهم لفظا وأحسنهم بديهة.
وقيل لآخر: ما البلاغة؟ قال: نشر الكلام بمعانيه إذا قصر، وحسن التأليف له إذا طال.
وقيل لآخر ما البلاغة؟ فقال: قرع الحجة ودنوّ الحاجة.
وقيل لآخر ما البلاغة؟ قال: الإيجاز في غير عجز، والإطناب في غير خطل «2» .
قيل لغيره: ما البلاغة؟ قال: إقلال في إيجاز، وصواب مع سرعة جواب.
قيل لليوناني: ما البلاغة؟ قال: تصحيح الأقسام واختيار الكلام.
وقيل لبعضهم: من أبلغ الناس؟ قال: من ترك الفضول واقتصر على الإيجاز.
وكان يقال: رسول الرجل مكان رأيه، وكتابه مكان عقله.
وقال جعفر بن محمد عليه السلام: سمّي البليغ بليغا لأنه يبلغ حاجته بأهون سعيه.
وسئل بعض الحكماء عن البلاغة فقال: من أخذ معاني كثيرة فأدّاها بألفاظ قليلة، وأخذ معاني قليلة فولّد منها لفظا كثيرا، فهو بليغ.
وقالوا: البلاغة ما حسن من الشعر المنظوم نثره، ومن الكلام المنثور نظمه.
وقالوا: البلاغة ما كان من الكلام حسنا عند استماعه، موجزا عند بديهته.
وقيل: البلاغة لمحة دالّة على ما في الضمير.
وقال بعضهم: إذا كفاك الايجاز فالإكثار عيّ، وإنما يحسن الإيجاز إذا كان هو البيان.
ولبعضهم:(2/123)
خير الكلام قليل ... على كثير دليل
والعيّ معنى قصير ... يحويه لفظ طويل
وقال بعض الكتاب: البلاغة معرفة الفصل من الوصل. وأحسن الكلام القصد وإصابة المعنى.
قال الشاعر:
وإذا نطقت فلا تكن أسرا ... واقصد فخير الناس من قصدا «1»
وقال آخر:
وما أحد يكون له مقال ... فيسلم من ملام أو أثام «2»
وقال:
الدهر ينقص تارة ويطول ... والمرء يصمت مرّة ويقول
والقول مختلف إذا حصّلته ... بعض يردّ وبعضه مقبول
وقال:
إذا وضح الصواب فلا تدعه ... فإنّك كلّما ذقت الصوابا ...
وجدت له على الّلهوات بردا ... كبرد الماء حين صفا وطابا «3»
وقال آخر:
ليس شأن البليغ إرساله القو ... ل بطول الإسهاب والإكثار
إنما شأنه التلطّف للمعنى بحسن الإيراد والإصدار «4»(2/124)
وجوه البلاغة
البلاغة تكون على أربعة أوجه: تكون باللفظ والخط والإشارة والدلالة. وكل منها له حظ من البلاغة والبيان، وموضع لا يجوز فيه غيره.
ومنه قولهم: لكل مقام مقال؛ ولكل كلام جواب؛ ورب إشارة أبلغ من لفظ.
فأما الخط والإشارة فمفهومان عند الخاصة وأكثر العامة؛ وأما الدلالة فكل شيء دلّك على شيء فقد أخبرك به، كما قال الحكيم: أشهد أن السموات والأرض آيات دالّات، وشواهد قائمات، كلّ يؤدّي عنك الحجة، ويشهد لك بالرّبوبية.
وقال الآخر: سل الأرض: من غرس أشجارك، وشقّ أنهارك، وجنى ثمارك؟
فإن لم تجبك إخبارا أجابتك اعتبارا «1» .
وقال الشاعر:
لقد جئت أبغي مجيرا ... فجئت الجبال وجئت البحورا
فقال لي البحر إذ جئته ... فكيف يجير ضرير ضريرا
وقال آخر:
نطقت عينه بما في الضمير
وقال نصيب بن رباح:
فعاجوا فأثنوا بالذي أنت أهله ... ولو سكتوا أثنت عليك الحقائب «2»
يريد: لو سكتوا لأثنت عليك حقائب الإبل التي يحتقبها الرّكب من هباتك وهذا الثناء إنما هو بالدلالة باللفظ.
وقال حبيب:(2/125)
الدار: ناطقة وليست تنطق ... بدثورها أنّ الجديد سيخلق «1»
وهذا في قديم الشعر وحديثه وطارف «2» الكلام وتليده أكثر من أن يحيط به وصف أو يأتي من ورائه نعت.
وقال رجل للعتّابي: ما البلاغة؟ قال: كل من بلّغك حاجته، وأفهمك معناه بلا إعادة ولا حبسة ولا استعانة، فهو بليغ. قالوا: قد فهمنا الإعادة والحبسة، فما معنى الاستعانة؟ قال: أن يقول عند مقاطع كلامه: اسمع منّي، وافهم عني؛ أو يمسح عثنونه «3» ، أو يفتل أصابعه، أو يكثر التفاته من غير موجب، أو يتساعل من غير سعلة أو ينبهر «4» في كلامه.
وقال الشاعر:
مليء ببهر والتفات وسعلة ... ومسحة عثنون وفتل الأصابع
وهذا كله من العيّ.
وقال أبرويز لكاتبه: اعلم أن دعائم المقالات أربع، إن التمس لها خامسة لم توجد، فإن نقصت منها واحدة لم تتمّ؛ وهي: سؤالك الشيء، وسؤالك عن الشيء، وأمرك بالشيء، وإخبارك عن الشيء؛ فإذا طلبت فأسجح «5» ، وإذا سألت فأوضح، وإذا أمرت فأحكم، وإذا أخبرت فحقّق، واجمع الكثير مما تريد في القليل مما تقول.
يريد الكلام الذي تقل حروفه وتكثر معانيه.
وقال ربيعة الرأي: إني لأسمع الحديث عطلا فأشنّفه «6» وأقرّطه فيحسن، وما(2/126)
زدت فيه شيئا ولا غيّرت له معنى.
وقالوا: خير الكلام ما لم يحتج بعده إلى كلام.
وقال يحيى: الكلام ذو فنون، وخيره ما وفق له القائل، وانتفع به السامع.
وللحسن بن جعفر:
عجبت لإدلال العييّ بنفسه ... وصمت الذي قد كان بالحق أعلما
وفي الصمت ستر العييّ وإنّما ... صحيفة لبّ المرء أن يتكلما «1»
وصف أعرابي بليغا فقال: كأن الألسن ريضت «2» فما تنعقد إلا على ودّه، ولا تنطق إلا ببيانه.
وصف أبو الوجيه بلاغة رجل فقال: كان والله يشول «3» بلسانه شولان البروق، ويتخلل به تخلل الحيّة.
وللعرب من موجز اللفظ ولطيف المعنى فصول عجيبة، وبدائع غريبة. وسنأتي على صدر منها إن شاء الله.
فصول من البلاغة
قدم قتيبة بن مسلم خراسان واليا عليها، فقال: من كان في يده شيء من مال عبد الله بن خازم فلينبذه، ومن كان في فيه فليلفظه، ومن كان في صدره فلينفثه.
فعجب الناس من حسن ما فصّل.
وقيل لابن السّمّال الأسدي أيام معاوية: كيف تركت الناس؟ قال: تركتهم بين مظلوم لا ينتصف، وظالم لا ينتهي.
وقيل لشبيب بن شيبة عند باب الرشيد رحمه الله تعالى: كيف رأيت الناس؟ قال:
رأيت الداخل راجيا والخارج راضيا.(2/127)
وقال حسان بن ثابت في عبد الله بن عباس:
إذا قال لم يترك مقالا لقائل ... بملتقطات لا ترى بينها فصلا
كفى وشفى ما في النفوس فلم يدع ... لذي إربة في القول جذّا ولا هزلا
ولقي الحسين بن عليّ رضوان الله عليهما الفرزدق في مسيره إلى العراق؛ فسأله عن الناس؛ فقال: القلوب معك، والسيوف عليك، والنصر في السماء.
وقال مجاشع النهشلي: الحق ثقيل؛ فمن بلغه اكتفى، ومن جاوزه اعتدى.
وقيل لأمير المؤمنين علي بن أبي طالب عليه السلام: كم بين المشرق والمغرب؟
فقال مسيرة يوم الشمس: قيل له: فكم بين السماء والأرض؟ قال: مسيرة ساعة لدعوة مستجابة.
وقيل لأعرابي: كم بين موضع كذا إلى موضع كذا؟ قال: بياض يوم وسواد ليلة.
وشكا قوم إلى المسيح عليه السلام ذنوبهم، فقال: اتركوها تغفر لكم.
وقال علي بن أبي طالب رضي الله عنه: قيمة كل إنسان ما يحسن.
وقيل لخالد بن يزيد بن معاوية: ما أقرب شيء؟ قال: الأجل. قيل له: فما أبعد شيء؟ قال: الأمل. قيل له: فما أوحش شيء؟ قال: الميّت. قيل له: فما أنس شيء؟
قال: الصاحب المواتي.
مرّ عمرو بن عبيد بسارق يقطع، فقال: سارق السريرة «1» قطع سارق العلانية.
وقيل للخليل بن أحمد: مالك تروي الشعر ولا تقوله؟ قال: لأني كالمسنّ: أشحذ ولا أقطع.
وقيل لعقيل بن علّفة: مالك لا تطيل الهجاء؟ قال: يكفيك من القلادة ما أحاط بالعنق.
ومر خالد بن صفوان برجل صلبه الخليفة، فقال: أنبتته الطاعة وحصدته المعصية.(2/128)
ومرّ أعرابيّ برجل صلبه السلطان، فقال: من طلّق الدنيا فالآخرة صاحبته، ومن فارق الحقّ فالجذع راحلته «1» .
النعمان وعدي بن زيد:
ومن النطق بالدلالة ما حدّث به العباس بن الفرج الريّاشي قال: نزل النعمان بن المنذر ومعه عديّ بن زيد العباديّ في ظل شجرة مورقة ليلهو النعمان هناك، فقال له عدي: أبيت اللعن، أتدري ما تقول هذه الشجرة؟ قال: ما تقول: قال: تقول:
ربّ شرب قد أناخوا حولنا ... يمزجون الخمر بالماء الزّلال
ثم أضحوا عصف الدهر بهم ... وكذاك الدهر حال بعد حال
فتنغّص على النعمان ما هو فيه.
وقال ابن الأعرابي: قلت للفضل: ما الإيجاز عندك؟ قال: حذف الفضول، وتقريب البعيد.
وقال رجل لخالد بن صفوان: إنك لتكثر. قال: أكثر لضربين: أحدهما فيما لا تغني فيه القلة، والآخر لتمرّس اللسان، فإن حبسه يورث العقلة «2» .
وكان خالد بن صفوان يقول: لا تكون بليغا حتى تكلّم أمتك السوداء في الليلة الظلماء في الحاجة المهمّة بما تكلم به في نادي قومك.
وإنما اللسان عضو إذا مرّنته مرن، وإذا تركته لكن «3» كاليد التي تخشنها بالممارسة، والبدن الذي تقويه برفع الحجر وما أشبهه، والرّجل إذا عوّدت المشي مشت.
بين نوفل وامرأته:
وكان نوفل بن مساحق إذا دخل على امرأته صمت، فإذا خرج عنها تكلم. فقالت له: إذا كنت عندي سكتّ، وإذا كنت عند الناس تنطق! قال: إني أجلّ عن دقيقك وتدقّين عن جليلي.(2/129)
وذكر شبيب بن شيبة خالد بن صفوان فقال: ليس له صديق في السر ولا عدو في العلانية.
وهذا كلام لا يعرف قدره إلا أهل صناعته.
ووصف رجل آخر فقال: أتيناه فأخرج لسانه كأنه مخراق لاعب «1» .
ودخل معن بن زائدة على المنصور يقارب خطوه، فقال المنصور: لقد كبرت سنك؛ قال: في طاعتك؛ قال: وإنك لجلد؛ قال: على أعدائك؛ قال: أرى فيك بقية؛ قال: هي لك.
وكان عبد الله بن العباس بليغا، فقال فيه معاوية:
إذا قال لم يترك مقالا ولم يقف ... لعيّ ولم يثن اللسان على هجر «2»
يصرّف بالقول اللسان إذا انتحى ... وينظر في أعطافه نظر الصّقر
وتكلم صعصعة بن صوحان عند معاوية فعرق، فقال له معاوية: بهرك القول؟
قال: الجياد نضّاحة «3» بالعرق.
وكتب ابن سيابة إلى عمرو بن بانة: إنّ الدهر قد كلح «4» فجرح، وطمح فجمح، وأفسد ما صلح، فإن لم تعن عليه فضح.
ومدح رجل من طيء كلام رجل فقال: هذا الكلام يكتفى بأولاه، ويشتفى بأخراه.
ووصف أعرابيّ رجلا فقال: إنّ رفدك لنجيح، وإنّ خيرك لصريح، وإنّ منعك لمريح.
ودخل إياس بن معاوية الشام وهو غلام، فقدّم خصما له إلى قاض لعبد الملك، وكان خصمه شيخا كبيرا. فقال له القاضي: أتقدّم شيخا كبيرا؟ فقال له إياس:(2/130)
الحق أكبر منه؟ قال له: اسكت؛ قال: فمن ينطق بحجتي؟ قال: ما أظنك تقول حقا حتى تقوم؛ قال: أشهد أن لا إله إلا الله. فقام القاضي فدخل على عبد الملك فأخبره بالخبر. فقال: اقض حاجته الساعة وأخرجه من الشأم حتى لا يفسد عليّ الناس.
ومن الأسجاع قول ابن القرّيّة، وقد دعي لكلام فاحتبس القول عليه، فقال: قد طال السّمر، وسقط القمر، واشتدّ المطر فما انتظر. فأجابه فتى من عبد القيس: قد طال الأرق، وسقط الشفق، فلينطق من نطق.
كتاب من عمرو بن مسعدة إلى المأمون:
قال أحمد بن يوسف الكاتب: دخلت على المأمون وبيده كتاب لعمرو بن مسعدة، وهو يصعّد في ذراه، ويقوم مرة ويقعد أخرى، ففعل ذلك مرارا، ثم التفت إليّ فقال: أحسبك مفكرا فيما رأيت؟ قلت: نعم، وقى الله عز وجل أمير المؤمنين المكاره، فقال: ليس بمكروه، ولكن قرأت كلاما نظير خبر خبّرني به الرشيد، سمعته يقول: إن البلاغة لتقارب من المعنى البعيد وتباعد من حشو الكلام، ودلالة بالقليل على الكثير. فلم أتوهّم أن هذا الكلام يستتبّ على هذه الصفة حتى قرأت هذا الكتاب، فكان استعطافا على الجند، وهو:
«كتابي إلى أمير المؤمنين أيده الله، ومن قبلي من أجناده وقوّاده في الطاعة والانقياد على أفضل ما تكون عليه طاعة جند تأخرت أرزاقهم واختلت أحوالهم» .
فأمر بإعطائهم ثمانية أشهر.
ووقع جعفر البرمكي إلى كتّابه: إن استطعتم أن تكون كتبكم توقيعات فافعلوا.
وأمره هارون الرشيد أن يعزل أخاه الفضل عن الخاتم ويأخذه إليه عزلا لطيفا فكتب إليه: قد رأى أمير المؤمنين أن ينقل خاتم خلافته من يمينك إلى شمالك.
فكتب إليه الفضل: ما انتقلت عني نعمة صارت إليك ولا خصّتك دوني.
ووقّع جعفر في رقعة رجل تنصّل إليه من ذنب: تقدمت لك طاعة، وظهرت(2/131)
منك نصيحة، كانت بينهما نبوة «1» ، ولن تغلب سيئة حسنتين.
قال الفضل بن يحيى لأبيه: مالنا نسدي إلى الناس المعروف فلا نرى من السرور في وجوههم عند انصرافهم ببّرنا، ما نراه في وجوههم عند انصرافهم ببر غيرنا؟
فقال له يحيى: إن آمال الناس فينا أطول منها في غيرنا، وإنما يسرّ الإنسان بما بلّغه أمله.
قيل ليحيى: ما الكرم؟ قال ملك في زي مسكين؛ قيل: فما الفرعنة؟ قال:
مسكين في بطش عفريت. قيل: فما الجود؟ قال: عفو بعد قدرة.
من بلاغة المأمون:
أتي المأمون برجل قد وجب عليه الحدّ، فقال وهو يضرب: قتلتني يا أمير المؤمنين؛ قال الحقّ قتلك: قال: ارحمني.؛ قال: لست أرحم بك ممن أوجب عليك الحد.
وسأل المأمون عبد الله بن طاهر في شيء، فأسرع في ذلك؛ فقال له المأمون: فإنّ الله عز وجل قد قطع عذر العجول بما مكنه من التثبّت، وأوجب الحجة على القلق بما بصّره من فضل الأناة. قال: أتأذن لي يا أمير المؤمنين أن أكتبه؟ قال: نعم، فكتبه.
بين المأمون وإبراهيم بن المهدي:
قال إبراهيم بن المهدي: قال لي المأمون: أنت الخليفة الأسود؟ قلت: يا أمير المؤمنين، أنت مننت علي بالعفو، وقد قال عبد بني الحسحاس:
أشعار عبد بني الحسحاس قمن له ... عند الفخار مقام الأصل والورق
إن كنت عبدا فنفسي حرّة كرما ... أو أسود الجلد إني أبيض الخلق
فقال المأمون: يا عم، خرّجك الهزل إلى الجد، ثم أنشأ يقول:(2/132)
ليس يرزي السواد بالرجل الشّهم ولا بالفتى الأديب الأريب
إن يكن للسواد منك نصيب ... فبياض الأخلاق منك نصيبي
وقال المأمون: استحسن من قول الحكماء: الجود بذل الموجود، والبخل بطر «1» بالمعبود عز وجل.
من بلاغة زبيدة:
قالت أم جعفر زبيدة بنت جعفر للمأمون حين دخلت عليه بعد قتل ابنها: الحمد لله الذي ادخرك لي لمّا أثكلني ولدي، ما ثكلت ولدا كنت لي عوضا منه. فلما خرجت قال المأمون لأحمد بن أبي خالد: ما ظننت أن نساء جبلن على مثل هذا الصبر.
وقال أبو جعفر لعمرو بن عبيد: أعنّي بأصحابك يا أبا عثمان. قال: ارفع علم الحقّ يتبعك أهله.
آفات البلاغة
لأبي داود الإيادي:
قال محمد بن منصور كاتب إبراهيم، وكان شاعرا راويا، وطالبا للنحو علّامة- قال: سمعت أبا داود الإيادي، وجرى شيء من ذكر الخطب وتمييز الكلام، فقال:
تلخيص المعاني رفق، والاستعانة بالغريب عجز، والتشادق «2» في غير أهل البادية نقص، والنظر في عيوب الناس عيّ، ومسّ اللحية هلك، والخروج مما بني عليه الكلام إسهاب.
قال: وسمعته يقول: رأس الخطابة الطّبع، وعمودها الدربة [وجناحاها رواية(2/133)
الكلام] «1» ، وحليها الإعراب، وبهاؤها تخيّر اللفظ، والمحبة مقرونة بعلّة الاستكراه.
وأنشدني بيتا في خطباء إياد:
يومون باللفظ الخفيّ وتارة ... وحي الملاحظ خيفة الرّقباء
للفضل في الإيجاز:
وقال ابن الأعرابي: قلت للفضل: ما الإيجاز عندك؟ قال حذف الفضول، وتقريب البعيد.
وتكلم ابن السماك يوما وجارية له تسمع؛ فلما دخل قال لها: كيف سمعت كلامي؟ قالت: ما أحسنه لولا أنك تكثر ترداده! قال: أردّده حتى يفهمه من لم يفهمه. قالت: إلى أن يفهمه من لم يفهمه يكون قد ملّه من فهمه.
باب الحلم ودفع السيئة بالحسنة
قال الله تعالى: وَلا تَسْتَوِي الْحَسَنَةُ وَلَا السَّيِّئَةُ، ادْفَعْ بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ فَإِذَا الَّذِي بَيْنَكَ وَبَيْنَهُ عَداوَةٌ كَأَنَّهُ وَلِيٌّ حَمِيمٌ وَما يُلَقَّاها إِلَّا الَّذِينَ صَبَرُوا وَما يُلَقَّاها إِلَّا ذُو حَظٍّ عَظِيمٍ
«2» .
وقال رجل لعمرو بن العاص: والله لأتفرّغنّ لك. قال: هنا لك وقعت في الشّغل.
قال: كأنك تهدّدني، والله لئن قلت لي كلمة لأقولنّ لك عشرا. قال: وأنت والله لئن قلت لي عشرا لم أقل لك واحدة.
وقال رجل لأبي بكر رضي الله عنه: والله لأسبّنّك سبّا يدخل القبر معك. قال:
معك يدخل لا معي.
وقيل لعمرو بن عبيد: لقد وقع فيك اليوم أبو أيوب السختياني حتى رحمناك.
قال: إياه فارحموا.(2/134)
وشتم رجل الشّعبي، فقال له: إن كنت صادقا فغفر الله لي، وإن كنت كاذبا فغفر الله لك.
وشتم رجل أبا ذرّ، فقال: يا هذا، لا تغرق في شتمنا ودع للصّلح موضعا، فإنا لا نكافيء من عصى الله فينا بأكثر من أن نطيع الله فيه.
ومرّ المسيح بن مريم عليه الصلاة والسلام بقوم من اليهود فقالوا له شرّا، فقال خيرا. فقيل له: إنهم يقولون شرّا وتقول لهم خيرا. فقال: كلّ واحد ينفق مما عنده.
وقال الشاعر:
ثالبني عمرو وثالبته ... فأثّم المثلوب والثّالب «1»
قلت له خيرا وقال الخنى ... كلّ على صاحبه كاذب «2»
وقال آخر:
وذي رحم قلّمت أظفار ضغنه ... بحلمي عنه حين ليس له حلم
إذا سمته وصل القرابة سامني ... قطيعتها تلك السّفاهة والإثم «3»
فداريته بالحلم والمرء قادر ... على سهمه ما كان في كفّه السهم
عن النبي صلّى الله عليه وسلم: ما تجرّع عبد في الدنيا جرعة أحبّ إلى الله من جرعة غيظ ردّها بحلم، أو جرعة مصيبة ردّها بصبر.
وكتب رجل إلى صديق له وبلغه أنه وقع فيه:
لئن ساءني أن نلتني بمساءة ... لقد سرّني أنّي خطرت ببالكا
وأنشد طاهر بن عبد العزيز:
إذا ما خليلي أسا مرّة ... وقد كان من قبل ذا مجملا «4»
تحمّلت ما كان من ذنبه ... فلم يفسد الآخر الأوّلا(2/135)
صفة الحلم وما يصلح له
من حلم الأحنف:
قيل للأحنف بن قيس: ممن تعلمت الحلم؟ قال: من قيس بن عاصم المنقري؛ رأيته قاعدا بفناء داره، محتبيا بحمائل سيفه يحدث قومه، حتى أتي برجل مكتوف ورجل مقتول؛ فقيل له: هذا ابن أخيك قتل ابنك. فو الله ما حلّ حبوته «1» ولا قطع كلامه. ثم التفت إلى ابن أخيه وقال له: يا بن أخي، أثمت بربّك، ورميت نفسك بسهمك، وقتلت ابن عمّك. ثم قال لابن له آخر: قم يا بنيّ فوار أخاك، وحلّ كتاف ابن عمك، وسق إلى أمّه مائة ناقة دية ابنها فإنها غريبة. ثم أنشأ يقول:
إني امرو لا يطّبي حسبي «2» ... دنس يهجّنه ولا أفن «3»
من منقر في بيت مكرمة ... والغصن ينبت حوله الغصن
خطباء حين يقول قائلهم ... بيض الوجوه أعفّة لسن
لا يفطنون لعيب جارهم ... وهم لحفظ جواره فطن
وقال رجل للأحنف بن قيس: علّمني الحلم يا أبا بحر. قال: هو الذّل يا بن أخي، أفتصبر عليه؟
وقال الأحنف: لست حليما ولكنّي أتحالم.
وقيل له: من أحلم: أنت أم معاوية؟ قال: تالله ما رأيت أجهل منكم؛ إنّ معاوية يقدر فيحلم، وأنا أحلم ولا أقدر؛ فكيف أقاس عليه أو أدانيه؟
وقال هشام بن عبد الملك لخالد بن صفوان: بم بلغ فيكم الأحنف ما بلغ؟ قال:
إن شئت أخبرتك بخلّة «4» ، وإن شئت بخلّتين، وإن شئت بثلاث. قال: فما الخلّة؟(2/136)
قال: كان أقوى الناس على نفسه. قال: فما الخلّتان؟ قال: كان موقّي الشر، ملقّى الخير. قال: فما الثلاث؟ قال: كان لا يجهل، ولا يبغي، ولا يبخل.
وقيل لقيس بن عاصم: ما الحلم؟ قال: أن تصل من قطعك، وتعطي من حرمك، وتعفو عمّن ظلمك.
وقالوا: ما قرن شيء إلى شيء أزين من حلم إلى علم، ومن عفو إلى قدرة.
وقال لقمان الحكيم: ثلاثة لا تعرفهم إلا في ثلاثة: لا تعرف الحليم إلا عند الغضب. ولا الشجاع إلا عند الحرب، ولا تعرف أخاك إلا إذا احتجت إليه. وقال الشاعر:
ليست الأحلام في حين الرضا ... إنما الأحلام في حين الغضب
وفي الحديث: «أقرب ما يكون المرء من غضب الله إذا غضب» .
وقال الحسن: المؤمن حليم لا يجهل وإن جهل عليه. وتلا قول الله عز وجل:
وَإِذا خاطَبَهُمُ الْجاهِلُونَ قالُوا سَلاماً
«1» .
وقال معاوية: إني لأستحي من ربي أن يكون ذنب أعظم من عفوي، أو جهل أكبر من حلمي، أو عورة لا أواريها بستري.
وقال مؤرّق العجلي: ما تكلمت في الغضب بكلمة ندمت عليها في الرضا.
وقال يزيد بن أبي حبيب: إنما غضبي في نعليّ، فإذا سمعت ما أكره أخذتهما ومضيت.
وقالوا: إذا غضب الرجل فليستلق على قفاه، وإذا عيي «2» فليراوح رجليه.
وقيل للأحنف: ما الحلم؟ فقال: قول إن لم يكن فعل، وصمت إن ضرّ قول.(2/137)
وقال علي بن أبي طالب رضي الله عنه: من لانت كلمته وجبت محبته.
وقال: حلمك على السفيه يكثّر أنصارك عليه.
وقال الأحنف: من لم يصبر على كلمة سمع كلمات.
وقال: رب غيظ تجرعته مخافة ما هو أشدّ منه. وأنشد:
رضيت ببعض الذّلّ خوف جميعه ... كذلك بعض الشّرّ أهون من بعض
وأسمع رجل عمر بن عبد العزيز ما يكره، فقال: لا عليك، إنما أردت أن يستفزّني الشيطان بعزة السلطان، فأنال منك اليوم ما تناله مني غدا. انصرف إذا شئت.
وقال الشاعر في هذا المعنى:
لن يدرك المجد أقوام وإن كرموا ... حتى يذلوا وإن عزّوا لأقوام
ويشتموا فترى الألوان كاسفة ... لا ذلّ عجز ولكن ذلّ أحلام «1»
ولآخر:
إذا قيلت العوراء أغضى كأنه ... ذليل بلا ذلّ ولو شاء لا نتصر «2»
ومن أحسن بيت في الحلم قول كعب بن زهير:
إذا أنت لم تعرض عن الجهل والخنا ... أصبت حليما أو أصابك جاهل
وقال الأحنف: آفة الحلم الذّل.
وقال: لا حلم لمن لا سفيه له.
وقال: ما قلّ سفهاء قوم إلا ذلوا. وأنشد:
لا بد للّسودد من رماح ... ومن رجال مصلتي السّلاح(2/138)
يدافعون دونه بالرّاح ... ومن سفيه دائم النّباح
وقال النابغة الجعديّ:
ولا خير في حلم إذا لم تكن له ... بوادر تحمي صفوه أن يكدّرا
ولا خير في جهل إذا لم يكن له ... حليم إذا ما أورد الأمر أصدرا «1»
ولما أنشد هذين البيتين للنبي صلّى الله عليه وسلم، قال: لا يفضض الله فاك. فعاش مائة وسبعين سنة لم تنقض له ثنيّة.
وقالوا: لا يظهر الحلم إلا مع الانتصار، كما لا يظهر العفو إلا مع الاقتدار.
وقال الأصمعي: سمعت أعرابيا يقول: كان سنان بن أبي حارثة أحلم من فرخ الطائر. قلت: وما حلم فرخ الطائر؟ قال: إنه يخرج من بيضة في رأس نيق «2» ، ولا يتحوّل حتى يتوفر ريشه ويقوى على الطيران.
وللأشنندانيّ:
وفي اللين ضعف والشراسة هيبة ... ومن لا يهب يحمل على مركب وعر
وللفقر خير من غنى في دناءة ... وللموت خير من حياة على صغر «3»
وما كلّ حين ينفع الحلم أهله ... ولا كلّ حال يقبح الجهل بالصبر
وما بي على من لان لي من فظاظة ... ولكنني فظّ أبيّ على القسر «4»
وقال آخر في مدح الحلم:
إني أرى الحلم محمودا عواقبه ... والجهل أفنى من الأقوام أقواما
ولسابق:
ألم تر أن الحلم زين مسوّد ... لصاحبه والجهل للمرء شائن(2/139)
فكن دافنا للجهل بالحلم تسترح ... من الجهل إنّ الحلم للجهل دافن
ولغيره:
ألا إنّ حلم المرء أكبر نسبة ... يسامي بها عند الفخار كريم
فيا ربّ هب لي منك حلما فإننّي ... أرى الحلم لم يندم عليه حليم
وقال بعض الحكماء: ما حلا عندي أفضل من غيظ أتجرّعه.
وقال بعضهم:
وفي الحلم روع للسفيه عن الأذى ... وفي الخرق إغراء فلا تك أخرقا «1»
فتندم إذ لا تنفعنك ندامة ... كما ندم المغبون لما تفرّقا
وقال عليّ عليه السلام: أول عوض الحليم عن حلمه أنّ الناس أنصاره على الجاهل.
سئل كسرى أنو شروان: ما قدر الحلم؟ فقال: وكيف تعرف قدر ما لم ير كماله أحد.
وقال معاوية لخالد بن المعمّر: كيف حبّك لعلي بن أبي طالب عليه السلام؟ قال:
أحبه لثلاث خصال: على حلمه إذا غضب، وعلى صدقه إذا قال، وعلى وفائه إذا وعد.
وكان يقال: ثلاث من كن فيه استكمل الإيمان: من إذا غضب لم يخرجه غضبه عن الحق، ومن إذا رضي لم يخرجه رضاه إلى الظلم والباطل، ومن إذا قدر لم يتناول ما ليس له.
وقال عمر بن الخطاب رضي الله عنه: إذا سمعت الكلمة تؤذيك فطأطيء لها حتى تتخطاك.
وقال الحسن: إنما يعرف الحلم عند الغضب. فإذا لم تغضب لم تكن حليما. وقال الشاعر:(2/140)
وليس يتمّ الحلم للمرء راضيا ... إذا هو عند السخط لم يتحلّم
كما لا يتمّ الجود للمرء موسرا ... إذا هو عند العسر لم يتجشم «1»
وقال بعض الحكماء: إن أفضل واد ترى به الحلم، فإذا لم تكن حليما فتحلّم؛ فقلّما تشبّه رجل بقوم إلا كان منهم.
وقال بعضهم: الحلم عدّة على السفيه، لأنك لا تقابل سفيها بالإعراض «2» عنه والاستخفاف بفعله إلا أذللته.
ويقال: ليس الحليم من ظلم فحلم حتى إذا قدر انتقم، ولكن الحليم من ظلم فحلم ثم قدر فعفا.
وللأحنف، أو غيره:
ولربما ضحك الحليم من الأذى ... وفؤاده من حرّه يتأوّه
ولربما شكل الحليم لسانه ... حذر الجواب وإنّه لمفوّه «3»
وقيل: ما استسبّ اثنان إلا غلب ألأمهما.
وقال الأحنف: وجدت الحلم أنصر لي من الرجال.
وقال بعضهم: إياك وعزة الغضب، فإنها تصيّرك إلى ذلّ الاعتذار.
وقيل: من حلم ساد، ومن تفهّم ازداد.
وقال الأحنف: ما نازعني أحد قطّ إلا أخذت أمري بإحدى ثلاث: إن كان فوقي عرفت قدره، وإن كان دوني أكرمت نفسي عنه، وإن كان مثلي تفضّلت عليه.
ولقد أحسن الذي أخذ هذا المعنى فنظمه فقال:(2/141)
إذا كان دوني من بليت بجهله ... أبيت لنفسي أن تقارع بالجهل
وإن كان مثلي ثم جاء بزلّة ... هويت لصفحي أن يضاف إلى العدل
وإن كنت أدنى منه قدرا ومنصبا ... عرفت له حقّ التقدّم والفضل
وفي مثله قال بعض الشعراء:
سألزم نفسي الصفح عن كلّ مذنب ... وإن كثرت منه إليّ الجرائم
وما الناس إلّا واحد من ثلاثة ... شريف ومشروف ومثل مقاوم
فأما الذي فوقي فأعرف فضله ... وأتبع فيه الحقّ والحقّ قائم
وأما الذي دوني فإن قال صنت عن ... إجابته نفسي وإن لام لائم
وأما الذي مثلي فإن زلّ أو هفا ... تفضّلت إن الفضل للحرّ لازم
ولأصرم بن قيس، ويقال إنها لعلي عليه السلام:
أصمّ عن الكلم المحفظات ... وأحلم والحلم بي أشبه «1»
وإنّي لأترك جلّ الكلام ... لئلا أجاب بما أكره
إذا ما اجتررت سفاه السفيه ... عليّ فإنّي أنا الأسفه
فلا تغترر برواء الرجال ... وما زحزحوا لك أو موّهوا «2»
فكم من فتى يعجب الناظرين ... له ألسن وله أوجه
ينام إذا حضر المكرمات ... وعند الدناءة يستنبه
وللحسن بن رجاء:
أحبّ مكارم الأخلاق جهدي ... وأكره أن أجيب وأن أجابا
وأصفح عن سباب الناس حلما ... وشرّ الناس من يهوى السّبابا
ومن هاب الرجال تهيّبوه ... ومن حقر الرجال فلن يهابا
ومن قضت الرجال له حقوقا ... ولم يقض الحقوق فما أصابا(2/142)
وقال محمد بن علي رضوان الله عنهما: من حلم وقى عرضه، ومن جادت كفّه حسن ثناؤه، ومن أصلح ماله استغنى، ومن احتمل المكروه كثرت محاسنه، ومن صبر حمد أمره، ومن كظم فشا «1» إحسانه، ومن عفا عن الذنوب كثرت أياديه، ومن اتقى الله كفاه ما أهمه.
بين علي وكبير من الفرس:
وسأل أمير المؤمنين عليّ عليه السلام كبيرا من كبراء الفرس: أي شيء لملوككم كان أحمد عندكم؟ قال: كان لأردشير فضل السبق في المملكة، غير أن أحمدهم سيرة أنو شروان. قال: فأي أخلاقه كان أغلب عليه؟ قال: الحلم والأناة. قال: هما توأمان ينتجهما علو الهمة.
ولمحمود بن الحسن الوراق:
إنّي وهبت لظالمي ظلمي ... وغفرت ذاك له على علم
ورأيته أسدى إليّ يدا ... لمّا أبان بجهله حلمي
رجعت إساءته عليه وإح ... ساني إليّ مضاعف الغنم
وغدوت ذا أجر ومحمدة ... وغدا بكسب الظلم والإثم
وكأنّما الإحسان كان له ... وأنا المسيء إليه في الحكم
وما زال يظلمني وأرحمه ... حتى رثيت له من الظلم
ولمحمد بن زياد يصف حلماء:
نخالهم في الناس صمّا عن الخنا ... وخرسا عن الفحشاء عند التهاجر
ومرضى إذا لوقوا حياء وعفّة ... وعند الحفاظ كاللّيوث الخوادر «2»
كأنّ لهم وصما يخافون عاره ... وما ذاك إلّا لاتّقاء المعاير «3»(2/143)
وله أيضا:
وأرفع نفسي عن نفوس وربّما ... تذلّلت في إكرامها لنفوس
وإن رامني يوما خسيس بجهله ... أبى الله أن أرضى بعرض خسيس
وقال وهب: مكتوب في الإنجيل: لا ينبغي لإمام أن يكون جائرا ومنه يلتمس العدل، ولا سفيها ومنه يقتبس الحلم.
ولبعضهم:
وإذا استشارك من تودّ فقل له ... أطع الحليم إذا الحليم نهاكا
واعلم بأنك لن تسود ولن ترى ... سبل الرشاد إذا أطعت هواكا
وقال آخر:
وكن معدنا للحلم واصفح عن الأذى ... فإنّك راء ما علمت وسامع
وأحبب إذا أحببت حبّا مقاربا ... فإنك لا تدري متى أنت نازع «1»
وأبغض إذا أبغضت غير مباين ... فإنك لا تدري متى أنت راجع
باب السودد
قيل لعدي بن حاتم: ما السّودد؟ قال: السيد: الأحمق في ماله، الذليل في عرضه، المطّرح لحقده.
وقيل لقيس بن عاصم: بم سوّدك قومك؟ قال: بكفّ الأذى، وبذل النّدى، ونصر المولى.
وقال رجل للأحنف: بم سوّدك قومك وما أنت بأشرفهم بيتا، ولا أصبحهم وجها، ولا أحسنهم خلقا؟ قال: بخلاف ما فيك يا بن أخي. قال: وما ذاك؟ قال:(2/144)
بتركي من أمرك ما لا يعنيني كما عناك من أمري ما لا يعنيك.
وقال عمر بن الخطاب رضي الله عنه لرجل: من سيّد قومك؟ قال: أنا. قال:
كذبت لو كنت كذلك لم تقله.
أوس وحاتم بين يدي النعمان:
وقال ابن الكلبي: قدم أوس بن حارثة بن لأم الطائي، وحاتم بن عبد الله الطائي، على النعمان بن المنذر، فقال لإياس بن قبيصة الطائي أيهما أفضل؟ قال: أبيت اللعن أيها الملك! إني من أحدهما، ولكن سلهما عن أنفسهما فإنهما يخبرانك. فدخل عليه أوس: فقال: أنت أفضل أم حاتم؟ فقال: أبيت اللعن! إنّ أدنى ولد حاتم أفضل مني، ولو كنت أنا وولدي ومالي لحاتم لأنهبنا في غداة واحدة.
ثم دخل عليه حاتم، فقال له: أنت أفضل أم أوس؟ فقال: أبيت اللعن! إنّ أدنى ولد لأوس أفضل مني. فقال النعمان: هذا والله السودد. وأمر لكل منهما بمائة من الإبل.
وسأل عبد الملك بن مروان روح بن زنباع عن مالك بن مسمع، فقال: لو غضب مالك لغضب معه مائة ألف سيف لا يسأله واحد منهم لم غضبت؟ فقال عبد الملك هذا والله السودد.
أبو سفيان وجزائر ملك اليمن:
وقال أبو حاتم عن العتبي: أهدى ملك اليمن سبع جزائر إلى مكة، وأوصى أن ينحرها أعزّ قرشيّ بها، فأتت وأبو سفيان عروس بهند. فقال له هند: يا هذا، لا تشغلك النساء عن هذه الأكرومة التي لعلك أن تسبق إليها. فقال لها: يا هذه، ذري زوجك وما اختار لنفسه. فو الله لا نحرها أحد إلا نحرته! فكانت في عقلها «1» حتى خرج إليها بعد السابع فنحرها.(2/145)
لهند في ابنها معاوية:
ونظر رجل إلى معاوية وهو غلام صغير، فقال: إني أظن أن هذا الغلام سيسود قومه. فسمعته أمّه هند، فقالت: ثكلته إذا إن لم يسد إلا قومه.
وقال الهيثم بن عديّ: كانوا يقولون: إذا كان الصبي سائل الغرّة «1» ، طويل العزلة «2» ، ملتاث الإزرة «3» ، فذلك الذي لا يشك في سودده.
ودخل ضمرة بن ضمرة على النّعمان بن المنذر، وكان به دمامة شديدة، فالتفت النّعمان إلى أصحابه وقال: تسمع بالمعيديّ خير من أن تراه. فقال: أيها الملك، إنما المرء بأصغريه قلبه ولسانه، فإن قال قال ببيان، وإن قاتل قاتل بحنان. قال:
صدقت! وبحقّ سوّدك قومك.
وقيل لعرابة الأوسيّ: بم سوّدك قومك؟ قال: بأربع خلال: أنخدع «4» لهم في مالي، وأذلّ لهم في عرضي، ولا أحقر صغيرهم، ولا أحسد كبيرهم.
وفي عرابة الأوسيّ يقول الشماخ بن ضرار:
رأيت عرابة الأوسيّ يسمو ... إلى الخيرات منقطع القرين
إذا ما راية رفعت لمجد ... تلقّاها عرابة باليمين
وقالوا: يسود الرجل بأربعة أشياء: بالعقل، والأدب، والعلم، والمال.
وكان سلم بن نوفل سيد بني كنانة، فوثب رجل على ابنه وابن أخيه فجرحهما، فأتي به. فقال له: ما أمّنك من انتقامي؟ قال: فلم سوّدناك إذا، إلا أن تكظم الغيظ وتحلم عن الجاهل. وتحتمل المكروه. فخلّى سبيله. فقال فيه الشاعر:
يسوّد أقوام وليسوا بسادة ... بل السيّد الصّنديد سلم بن نوفل(2/146)
وقال ابن الكلبي: قال لي خالد العنبري: ما تعدّون السّودد؟ قلت: أمّا في الجاهلية فالرّياسة، وأما في الإسلام فالولاية، وخير من ذا وذلك التقوى. قال: صدقت. كان أبي يقول: لم يدرك الأوّل الشرف إلا بالعقل، ولم يدرك الآخر إلا بما أدرك به الأول. قلت له: صدق أبوك، وإنما ساد الأحنف ابن قيس بحلمه، ومالك بن مسمع بحبّ العشيرة له، وقتيبة بن مسلم بدهائه؛ وساد المهلّب بهذه الخلال كلها.
الأصمعي قال: قيل لأعرابي يقال له منتجع بن نبهان: ما السّميدع؟ قال: السيد الموطأ الأكناف.
وكان عمر بن الخطاب يفرش له فراش في بيته في وقت خلافته، فلا يجلس عليه أحد إلا العباس بن عبد المطلب، وأبو سفيان بن حرب.
قال النبي صلّى الله عليه وسلم لأبي سفيان: كل الصّيد في جوف الفرا؛ والفرا: الحمار الوحشي، وهو مهموز، وجمعه فراء. ومعناه أنه في الناس مثل الحمار الوحشي في الوحش.
رأي عمرو بن العاص في أخيه هشام:
ودخل عمرو بن العاص مكة، فرأى قوما من قريش قد تحلّقوا حلقة، فلما رأوه رموا بأبصارهم إليه، فعدل إليهم فقال: أحسبكم كنتم في شيء من ذكري. قالوا:
أجل، كنا نماثل بينك وبين أخيك هشام. أيكما أفضل. فقال عمرو. إن لهشام عليّ أربعة: أمه ابنة هشام بن المغيرة، وأمّي من قد عرفتم. وكان أحبّ الناس إلى أبيه مني، وقد عرفتم معرفة الوالد بالولد. وأسلم قبلي. واستشهد وبقيت.
قال قيس بن عاصم لبنيه لما حضرته الوفاة: احفظوا عني، فلا أحد أنصح لكم مني؛ إذا أنا متّ فسوّدوا كباركم ولا تسوّدوا صغاركم فيحقر الناس كباركم.
وقال الأحنف بن قيس: السودد مع السواد.
وهذا المعنى يحتمل وجهين من التفسير: أحدهما أن يكون أراد بالسواد سواد(2/147)
الشعر، يقول: من لم يسد مع الحداثة لم يسد مع الشيخوخة؛ والوجه الآخر أن يكون أراد بالسواد سواد الناس ودهماءهم، يقول: من لم يطر له اسم على ألسنة العامة بالسّودد لم ينفعه ما طار له في الخاصة.
وقال أبان بن مسلمة «1» :
ولسنا كقوم محدثين سيادة ... يرى مالها ولا تحسّ فعالها
مساعيهم مقصورة في بيوتهم ... ومسعاتنا ذبيان طرّا عيالها
لابن عيينة بعد موت نظرائه:
الهيثم بن عديّ قال: لما انفرد سفيان بن عيينة ومات نظراؤه من العلماء، تكاثر الناس عليه، فأنشد يقول:
خلت الدّيار فسدت غير مسوّد ... ومن الشّقاء تفرّدي بالسّودد
سودد الرجل بنفسه
قال النبي صلّى الله عليه وسلم: من أسرع به عمله لم يبطيء به حسبه، ومن أبطأ به عمله لم يسرع به نسبه.
وقال قسّ بن ساعدة: من فاته حسب نفسه لم ينفعه حسب أبيه.
وقالوا: إنما الناس بأبدانهم.
وقال الشاعر:
نفس عصام سوّدت عصاما ... وعلّمته الكرّ والإقداما
وقال عبد الله بن معاوية:
لسنا وإن كرمت أوائلنا ... يوما على الأحساب نتكل
نبني كما كانت أوائلنا ... تبني ونفعل مثل ما فعلوا(2/148)
وقال قس بن ساعدة: لأقضين بين العرب بقضية لم يقض بها أحد قبلي ولا يردّها أحد بعدي: أيّما رجل رمى رجلا بملامة دونها كرم فلا لوم عليه، وأيما رجل ادّعى كرما دونه لؤم فلا كرم له.
وقالت عائشة رضي الله عنها: كل كرم دونه لؤم فاللؤم أولى به، وكل لؤم دونه كرم فالكرم أولى به، تريد أن أولى الأمور بالإنسان خصال نفسه، وإن كان كريما وآباؤه لئام لم يضره ذلك، وإن كان لئيما وآباؤه كرام لم ينفعه ذلك.
وقال عامر بن الطفيل العامريّ:
وإنّي وإن كنت ابن سيّد عامر ... وفارسها المشهور في كلّ موكب
فما سوّدتني عامر عن وراثة ... أبى الله أن أسمو بجدّ ولا أب
ولكنّني أحمي حماها وأتّقي ... أذاها وأرمي من رماها بمنكبي «1»
وتكلم رجل عند عبد الملك بن مروان بكلام ذهب فيه كلّ مذهب. فأعجب عبد الملك ما سمع من كلامه، فقال له: ابن من أنت؟ قال: أنا ابن نفسي يا أمير المؤمنين، التي بها توصلت إليك. قال: صدقت.
فأخذ الشاعر هذا المعنى، فقال:
ما لي عقلي وهمّتي حسبي ... ما أنا مولى ولا أنا عربي
إذا انتمى منتم إلى أحد ... فإنّني منتم إلى أدبي
وقال بعض المحدّثين:
رأيت رجال بني دالق ... ملوكا بفضل تجاراتهم
وبربرنا عند حيطانهم ... يخوضون في ذكر أمواتهم
وما الناس إلا بأبدانهم ... وأحسابهم في حرّ أماتهم «2»(2/149)
المروءة
قال النبي صلّى الله عليه وسلم: لا دين إلا بمروءة.
وقال ربيعة الرأي: المروءة ست خصال: ثلاثة في الحضر، وثلاثة في السفر. فأما التي في السفر: فبذل الزاد، وحسن الخلق، ومداعبة الرفيق، وأما التي في الحضر:
فتلاوة القرآن، ولزوم المساجد، وعفاف الفرج.
وقال عمر بن الخطاب رضي الله عنه: المروءة مروءتان: مروءة ظاهرة، ومروءة باطنة. فالمروءة الظاهرة الرياش «1» ، والمروءة الباطنة العفاف.
وقدم وفد على معاوية، فقال لهم: ما تعدّون المروءة؟ قالوا: العفاف وإصلاح المعيشة. قال اسمع يا يزيد.
وقيل لأبي هريرة: ما المروءة؟ قال: تقوى الله وتفقّد الضّيعة.
وقيل للأحنف: ما المروءة؟ قال: العفة والحرفة.
وقال عبد الله بن عمر رضي الله عنهما: إنّا معشر قريش لا نعدّ الحلم والجود سوددا، ونعدّ العفاف وإصلاح المال مروءة.
وقال الأحنف: لا مروءة لكذوب، ولا سودد لبخيل، ولا ورع لسيّىء الخلق.
وقال النبي صلّى الله عليه وسلم: «تجاوزوا لذوي المروءات عن عثراتهم» فو الذي نفسي بيده، إنّ أحدهم ليعثر وإن يده لبيد الله.
وقال العتبي عن أبيه لا تتمّ مروءة الرجل إلا بخمس: أن يكون عالما صادقا عاقلا ذا بيان مستغنيا عن الناس.
وقال الشاعر:
وما المرء إلا حيث يجعل نفسه ... ففي صالح الأخلاق نفسك فاجعل
وقيل لعبد الملك بن مروان: أكان مصعب بن الزّبير يشرب الطّلاء «2» ؟ فقال: لو علم مصعب أن الماء يفسد مروءته ما شربه.(2/150)
وقالوا: من أخذ من الديك ثلاثة أشياء، ومن الغراب ثلاثة أشياء، تمّ بها أدبه ومروءته: من أخذ من الديك سخاءه وشجاعته وغيرته. ومن الغراب بكوره لطلب الرزق وشدّة حذره وستر سفاده «1» .
طبقات الرجال
قال خالد بن صفوان: الناس ثلاث طبقات: طبقة علماء، وطبقة خطباء، وطبقة أدباء، ورجرجة «2» بين ذلك، يغلون الأسعار، ويضيّقون الأسواق، ويكدرون المياه.
وقال الحسن: الرجال ثلاثة: فرجل كالغذاء لا يستغنى عنه، ورجل كالدواء لا يحتاج إليه إلا حينا بعد حين، ورجل كالدّاء لا يحتاج إليه أبدا.
وقال مطرّف بن عبد الله بن الشّخّير: الناس ثلاثة: ناس، ونسناس، وناس غمسوا في ماء الناس.
وقال الخليل بن أحمد: الرجال أربعة: فرجل يدري ويدري أنه يدري، فذلك عالم فسلوه؛ ورجل يدري ولا يدري أنه يدري، فذلك الناسي فذكّروه، ورجل لا يدري ويدري أنه لا يدري، فذلك الجاهل فعلّموه: ورجل لا يدري ولا يدري أنه لا يدري، فذلك الأحمق فارفضوه.
وقال الشاعر:
أليس من البلوى بأنّك جاهل ... وأنّك لا تدري بأنك لا تدري
إذا كنت لا تدري ولست كمن درى ... فكيف إذن تدري بأنك لا تدري
ولآخر:
وما الدّاء إلّا أن تعلّم جاهلا ... ويزعم جهلا أنّه منك أعلم(2/151)
وقال علي بن أبي طالب رضي الله عنه: الناس ثلاثة: عالم ربّاني؛ ومتعلّم على سبيل نجاة، ورعاع همج يميلون مع كل ريح.
وقالت الحكماء: الإخوان ثلاثة: فأخ يخلص لك ودّه، ويبذل لك رفده ويستفرغ في مهمّك جهده؛ وأخ ذو نيّة، يقتصر بك على حسن نيته دون رفده ومعونته؛ وأخ يتملّق لك بلسانه ويتشاغل عنك بشأنه ويوسعك من كذبه وأيمانه.
وقال الشّعبي: مرّ رجل بعبد الله بن مسعود، فقال لأصحابه: هذا لا يعلم، ولا يعلم أنه لا يعلم، ولا يتعلّم ممن يعلم.
وقال النبي صلّى الله عليه وسلم: كن عالما أو متعلّما، ولا تكن الثالثة فتهلك.
الغوغاء
الغوغاء: الدّبا. وهي صغار الجراد، وشبّه بها سواد الناس.
وذكر الغوغاء عند عبد الله بن عباس، فقال: ما اجتمعوا قط إلا ضرّوا، ولا افترقوا إلا نفعوا. قيل له: قد علمنا ما ضرّ اجتماعهم، فما نفع افتراقهم؟ قال:
يذهب الحجّام إلى دكانه، والحدّاد إلى أكياره «1» ، وكل صانع إلى صناعته.
ونظر عمر بن الخطاب رضي الله عنه إلى قوم يتبعون رجلا أخذ في ريبة؛ فقال:
لا مرحبا بهذه الوجوه التي لا ترى إلا في شر.
وقال حبيب بن أوس الطائي:
إن شئت أن يسودّ ظنّك كلّه ... فأجله في هذا السّواد الأعظم «2»
وقال دعبل:
ما أكثر النّاس لا بل ما أقلّهم ... الله يعلم أنّي لم أقل فندا
إنّي لأفتح عيني حين أفتحها ... على كثير ولكن لا أرى أحدا(2/152)
الثقلاء
قالت عائشة رضي الله عنها: نزلت آية في الثقلاء: فَإِذا طَعِمْتُمْ فَانْتَشِرُوا وَلا مُسْتَأْنِسِينَ لِحَدِيثٍ
«1» .
وقال الشّعبي: من فاتته ركعتا الفجر فليلعن الثّقلاء.
وقيل لجالينوس: بم صار الرجل الثّقيل أثقل من الحمل الثقيل، فقال: لأنّ الرجل الثقيل إنما ثقله على القلب دون الجوارح، والحمل الثقيل يستعين فيه القلب بالجوارح.
وقال سهل بن هارون، من ثقل عليك بنفسه، وغمّك بسؤاله، فأعره أذنا صمّاء، وعينا عمياء.
وكان أبو هريرة إذا استثقل رجلا قال: اللهم اغفر له وأرحنا منه.
وكان الأعمش إذا حضر مجلسه ثقيل يقول:
فما الفيل تحمله ميّتا ... بأثقل من بعض جلّاسنا
وقال أبو حنيفة للأعمش وأتاه عائدا في مرضه: لولا أن أثقل عليك أبا محمد لعدتك والله في كل يوم مرتين. فقال له الأعمش. والله يا بن أخي أنت ثقيل عليّ وأنت في بيتك، فكيف لو جئتني في كل يوم مرتين.
وذكر رجل ثقيلا كان يجلس إليه، فقال: والله إنّي لأبغض شقّي «2» الذي يليه إذا جلس إليّ.
ونقش رجل على خاتمه: أبرمت «3» فقم. فكان إذا جلس إليه ثقيل ناوله إياه وقال: اقرأ ما على هذا الخاتم.
وكان حماد بن سلمة إذا رأى من يستثقله قال: رَبَّنَا اكْشِفْ عَنَّا الْعَذابَ إِنَّا مُؤْمِنُونَ
«4» .(2/153)
وقال بشّار العقيلي في ثقيل يكنى أبا عمران:
ربّما يثقل الجليس وإن كا ... ن خفيفا في كفّة الميزان
ولقد قلت إذ أظلّ على القو ... م ثقيل يربي على ثهلان «1»
كيف لا تحمل الأمانة أرض ... حملت فوقها أبا عمران
ولآخر:
أنت يا هذا ثقيل ... وثقيل وثقيل
أنت في المنظر إنسا ... ن وفي الميزان فيل
وقال الحسن بن هانيء في رجل ثقيل:
ثقيل يطالعنا من أمم ... إذا سرّه رغم أنفي ألم «2»
أقول له إذ بدا لا بدا ... ولا حملته إلينا قدم
فقدت خيالك لا من عمى ... وصوت كلامك لا من صمم
وله فيه:
وما أظنّ القلاص منجيتي ... منك ولا الفلك أيّها الرجل
ولو ركبت البراق أدركني ... منك على نأي دارك الثّقل «3»
هل لك فيما ملكته هبة ... تأخذه جملة وترتحل
وله فيه:
يا من على الجلّاس كالفتق ... كلامك التخديش في الحلق
هل لك في مالي وما قد حوت ... يداي من جلّ ومن دقّ
تأخذه منّي كذا فدية ... واذهب ففي البعد وفي السّحق
وله فيه:(2/154)
ألا يا جبل المقت الّ ... ذى أرسى فما يبرح
لقد أكثرت تفكيري ... فما أدري لما تصلح
فما تصلح أن تهجى ... ولا تصلح أن تمدح
أهدى رجل من الثقلاء إلى رجل من الظرفاء جملا، ثم نزل عليه حتى أبرمه، فقال فيه:
يا مبرما أهدى جمل ... خذ وانصرف ألفي جمل
قال وما أوقارها؟ قلت زبيب وعسل «1»
قال ومن يقودها ... قلت له ألفا رجل
قال ومن يسوقها ... قلت له ألفا بطل
قال وما لباسهم ... قلت حليّ وحلل
قال وما سلاحهم ... قلت سيوف وأسل «2»
قال عبيد لي إذن ... قلت نعم ثم خول
قال بهذا فاكتبوا ... إذن عليكم لي سجلّ
قلت له ألفي سجلّ ... فاضمن لنا أن ترتحل
قال وقد أضجرتكم ... قلت أجل ثم أجل
قال وقد أبرمتكم ... قلت له الأمر جلل «3»
قال وقد أثقلتكم ... قلت له فوق الثّقل
قال فإنّي راحل ... قلت العجل ثم العجل
يا كوكب الشّؤم ومن ... أربى على نحس زحل
يا جبلا من جبل ... في جبل فوق جبل
وقال الحمدوني في رجل بغيض مقيت.
أبا بن البغيضة وابن البغيض ... ومن هو في البغض لا يلحق(2/155)
سألتك بالله إلّا صدقت ... وعلمي بأنّك لا تصدق
أتبغض نفسك من بغضها ... وإلّا فأنت إذن أحمق
وله فيه:
في حريم النّاس إذ كن ... ت من النّاس تعدّ
ولقد أنبئت إبلي ... س إذا راك يصدّ «1»
ولحبيب الطائي في مثله، أي في رجل مقيت:
يا من تبرّمت الدّنيا بطلعته ... كما تبرّمت الأجفان بالرّمد
يمشي على الأرض مختالا فأحسبه ... لبغض طلعته يمشي على كبدي
لو أنّ في الأرض جزءا من سماجته ... لم يقدم الموت إشفاقا على أحد
وللحسن بن هانيء في الفضل الرقاشي:
رأيت الرّقاشيّ في موضع ... وكان إليّ بغيضا مقيتا
فقال اقترح بعض ما تشتهي ... فقلت اقترحت عليك السّكوتا
وانشدني الشعبي:
إني بليت بمعشر ... نوكى أخفّهم ثقيل
بله إذا جالستهم ... صدئت لقربهم العقول
لا يفهموني قولهم ... ويدقّ عنهم ما أقول
فهم كثير بي كما ... أنّي بقربهم قليل
وقال العتبي: كتب الكسائيّ إلى الرقاشيّ:
شكوت إلينا مجانينكم ... وأشكو إليك مجانيننا
وأنشأت تذكر قذّاركم ... فأنتن وأقذر بمن عندنا
فلولا السلامة كنا كهم ... ولولا البلاء لكانوا كنا «2»(2/156)
وقال حبيب الطائي:
وصاحب لي مللت صحبته ... أفقدني الله شخصه عجلا
سرقت سكّينه وخاتمه ... أقطع ما بيننا فما فعلا
وقال حبيب:
يا من له في وجهه إذ بدا ... كنوز قارون من البغض
لو فرّ شيء قطّ من شكله ... فرّ إذن بعضك من بعض
كونك في صلب أبينا الذي ... أهبطنا جمعا إلى الأرض
وقال أبو حاتم: وأنشدني أبو زيد الأنصاري النحوي صاحب النوادر:
وجه يحيى يدعو إلى البصق فيه ... غير أنّي أصون عنه بصاقي
قال أبو حاتم: وأنشدني العتبي:
له وجه يحلّ البصق فيه ... ويحرم أن يلقّى بالتّحيّه
قال: وأنشدني:
قميص أبي أميّة، ما علمتم ... وأوسخ منه جلد أبي أميّة
التفاؤل بالأسماء
سأل عمر بن الخطاب رضي الله عنه رجلا أراد أن يستعين به على عمل، عن اسمه واسم أبيه؛ فقال: ظالم بن سراقة. فقال؛ تظلم أنت ويسرق أبوك! ولم يستعن به في شيء.
وأقبل رجل إلى عمر بن الخطاب، فقال له عمر: ما اسمك؟ فقال: شهاب بن حرقة. قال: ممن؟ قال: من أهل حرّة النار. قال؛ وأين مسكنك؟ قال: بذات لظى.
قال: اذهب فإن أهلك قد احترقوا. فكان كما قال عمر رضي الله عنه.
ولقي عمر بن الخطاب رضي الله عنه مسروق بن الأجدع، فقال له من أنت؟(2/157)
قال: مسروق بن الأجدع. قال سمعت رسول الله صلّى الله عليه وسلم يقول: الأجدع شيطان.
للنبي صلّى الله عليه وسلم في البريد:
وروى سفيان عن هشام الدستوائي عن يحيى بن أبي كثير، قال: كتب رسول الله صلّى الله عليه وسلم إلى أمرائه: لا تبردوا بريدا إلا حسن الوجه حسن الاسم.
الحجاج ورسول المهلب:
ولما فرغ المهلّب بن أبي صفرة من حرب الأزارقة. وجّه بالفتح إلى الحجاج رجلا يقال له مالك بن بشير؛ فلما دخل على الحجاج قال له: ما اسمك؟ قال: مالك بن بشير. قال: ملك وبشارة.
وقال الشاعر:
وإذا تكون كريهة فرّجتها ... أدعو بأسلم مرّة ورباح
يريد التطيّر بأسلم ورباح، للسلامة والرّبح.
من تفاؤل الرسول صلّى الله عليه وسلم:
الرياشي عن الأصمعي قال: لما قدم رسول الله صلّى الله عليه وسلم المدينة، نزل على رجل من الأنصار، فصاح الرجل بغلاميه: يا سالم، ويا يسار! فقال رسول الله صلّى الله عليه وسلم: سلمت لنا الدار في يسر.
الرسول صلّى الله عليه وسلم وحزن بن أبي وهب:
وقال سعيد بن المسيّب بن حزن بن أبي وهب المخزومي: قدم جدّي حزن بن أبي وهب على النبي صلّى الله عليه وسلم؛ فقال له: كيف اسمك؟
قال: حزن! قال له رسول الله صلّى الله عليه وسلم: بل سهل. قال: ما كنت لأدع اسما سمتني به أمي. قال سعيد: فإنا لنجد تلك الحزونة «1» في(2/158)
أخلاقنا إلى اليوم.
العرب والغراب:
وإنما تطيّرت العرب من الغراب للغربة، إذ كان اسمه مشتقا منها. وقال أبو الشيص:
أشاقك والليل ملقي الجران ... غراب ينوح على غصن بان «1»
وفي نعبات الغراب اغتراب ... وفي البان بين بعيد التّداني
ولآخر في السّفرجل:
أهدي إليه سفرجلا فتطيّرا ... منه فظلّ مفكّرا مستعبرا
خوف الفراق لأنّ شطر هجائه ... سفر وحقّ له بأن يتطيّرا
ولآخر في السّوسن:
يا ذا الذي أهدى لنا السّوسنا ... ما كنت في إهدائه محسنا
شطر اسمه سوء فقد سؤتني ... يا ليت أنّي لم أر السّوسنا
ولآخر في الأترجّ:
أهدى إليه حبيبه أترجّة ... فبكى وأشفق من عيافة زاجر «2»
خاف التّبدّل والتّلوّن إنّها ... لونان باطنها خلاف الظّاهر
وقال الطائي في الحمام:
هنّ الحمام فإن كسرت عيافة ... من حائهنّ فإنهنّ حمام
وكان أشعب يختلف إلى قينة بالمدينة، فلما أراد الخروج سألها أن تعطيه خاتم ذهب في يدها ليذكرها به. قالت: إنه ذهب، وأخاف أن تذهب؛ ولكن [خذ] هذا العود، فعلك أن تعود.(2/159)
باب الطيرة
قال النبي صلّى الله عليه وسلم: ثلاثة لا يكاد يسلم منهن أحد: الطّيرة، والظنّ، والحسد. قيل:
فما المخرج منهن يا رسول الله؟ قال: إذا تطيرت فلا ترجع، وإذا ظننت فلا تحقّق، وإذا حسدت فلا تبغ.
وقال أبو حاتم: السانح ما ولّاك ميامنه، والبارح ما ولّاك مياسره، والجابه ما استقبلك من تجاهك، والقعيد الذي يأتيك من خلفك.
وقال النبي صلّى الله عليه وسلم: لا عدوى «1» ولا طيرة.
وقال: ليس منا من تطيّر.
وقال: إذا رأى أحدكم الطيرة فقال: اللهم لا طير إلا طيرك، ولا خير إلا خيرك، ولا إله غيرك، لم تضرّه.
وقد كانت العرب تتطير، ويأتي ذلك في أشعارهم، وقال بعضهم:
وما صدقتك الطّير يوم لقيتنا ... وما كان من دلّاك فينا بخابر
وقال حسان رضي الله تعالى عنه:
يا ليت شعري وليت الطّير تخبرني ... ما كان بين عليّ وابن عفّانا
لتسمعنّ وشيكا في ديارهم ... الله أكبر يا ثارات عثمانا
وقال الحسن بن هانيء:
قام الأمير بأمر الله في البشر ... واستقبل الملك في مستقبل الثّمر
فالطير تخبرنا والطير صادقة ... عن طيب عيش وعن طول من العمر
قتيبة وشيء من تطيّره:
وقال الشّيباني: لما قدم قتيبة بن مسلم واليا على خراسان، قام خطيبا، فسقطت(2/160)
المخصرة من يده، فتطيّر به أهل خراسان؛ فقال: أيها الناس، ليس كما ظننتم، ولكنه كما قال الشاعر:
فألقت عصاها واستقرّت بها النّوى ... كما قرّ عينا بالإياب المسافر
اتخاذ الإخوان وما يجب لهم
روى الأوزاعي عن يحيى بن أبي كثير أنّ داود قال لابنه سليمان- عليهما السلام:
يا بنيّ، لا تستقل عدوّا واحدا ولا تستكثر ألف صديق، ولا تستبدل بأخ قديم أخا مستحدثا ما أستقام لك.
وفي الحديث المرفوع: المرء كثير بأخيه.
وقال شبيب بن شيبة: إخوان الصفا خير من مكاسب الدنيا، هم زينة في الرخاء، وعدّة في البلاء، ومعونة على الأعداء.
وأنشد ابن الأعرابي:
لعمرك ما مال الفتى بذخيرة ... ولكنّ إخوان الصّفاء الذّخائر
وقال الأحنف بن قيس: خير الإخوان ما إن استغنيت عنه لم يزدك في المودّة، وإن احتجت إليه لم ينقصك منها، وإن كوثرت عضّدك، وإن استرفدت رفدك.
وأنشد:
أخوك الذي إن تدعه لملمّة ... يجبك وإن تغضب إلى السيف يغضب
ولآخر:
أخاك أخاك إنّ من لا أخا له ... كساع إلى الهيجا بغير سلاح
وإنّ ابن عمّ المرء فاعلم جناحه ... وهل ينهض البازي بغير جناح
ومما يجب للصديق على الصديق النصيحة جهده؛ فقد قالوا: صديق الرجل مرآته، تريه حسناته وسيآته.(2/161)
وقالوا: الصديق من صدقك ودّه، وبذل لك رفده.
وقالوا: خير الإخوان من أقبل عليك إذا أدبر الزمان عنك.
وقال الشاعر «1» :
فإنّ أولي الموالي أن تواليه ... عند السّرور لمن واساك في الحزن
إنّ الكرام إذا ما أسهلوا ذكروا ... من كان يألفهم في المنزل الخشن
ولآخر:
الصبر من كرم الطّبيعه ... والمنّ مفسدة الصّنيعه «2»
ترك التّعهّد للصّدي ... ق يكون داعية القطيعه
أنشد محمد بن يزيد المبرد لعبد الصمد بن المعذّل في الحسن بن إبراهيم:
يا من فدت نفسه نفسي ومن جعلت ... له وقاء لما يخشى وأخشاه
أبلغ أخاك وإن شطّ المزار به ... أنّي وإن كنت لا ألقاه ألقاه «3»
وأنّ طرفي موصول برويته ... وإن تباعد عن مثواي مثواه
الله يعلم أنّي لست أذكره ... وكيف يذكره من ليس ينساه
عدّوا فهل حسن لم يحوه حسن ... وهل فتى عدلت جدواه جدواه
فالدهر يفنى ولا تفنى مكارمه ... والقطر يحصى ولا تحصى عطاياه
لبعض الولاة في الأصدقاء:
وقيل لبعض الولاة: كم صديقا لك؟ قال: لا أدري؛ الدنيا مقبلة عليّ والناس كلهم أصدقائي، وإنما أعرف ذلك إذا أدبرت عني.
ولما صارت الخلافة إلى المنصور كتب إليه رجل من إخوانه كتابا فيه هذه الأبيات:(2/162)
إنّا بطانتك الألى ... كنا نكابد ما تكابد
ونرى فنعرف بالعدا ... وة والبعاد لمن تباعد
ونبيت من شفق علي ... ك ربيئة والليل هاجد «1»
فلما وصلت الأبيات إلى أبي جعفر وقع على كل بيت منها: صدقت. ودعا به فألحقه بإخوانه.
معاتبة الصديق واستبقاء مودّته
قالت الحكماء: مما يجب للصديق على الصديق، الإغضاء عن زلاته، والتجاوز عن سيآته، فإن رجع وأعتب وإلا عاتبته بلا إكثار؛ فإن كثرة العتاب مدرجة للقطيعة.
وقال علي بن أبي طالب رضي الله عنه: لا تقطع أخاك على ارتياب، ولا تهجره دون استعتاب.
وقال أبو الدرداء: من لك بأخيك كلّه؟
وقالوا: أيّ الرجال المهذّب؟
وقال بشّار العقيلي:
إذا أنت لم تشرب مرارا على القذى ... ظمئت، وأيّ الناس تصفو مشاربه «2»
وقالوا: معاتبة الأخ خير من فقده.
وقال الشاعر:
إذا ذهب العتاب فليس ودّ ... ويبقى الودّ ما بقي العتاب
ولمحمد بن أبان:(2/163)
إذا أنا لم أصبر على الذّنب من أخ ... وكنت أجازيه فأين التفاضل
إذا ما دهاني مفصل فقطعته ... بقيت ومالي للنهوض مفاصل
ولكن أداويه، فإن صحّ سرّني ... وإن هو أعيا كان فيه تحامل
وقال الأحنف: من حقّ الصديق أن يتحمل ثلاثا: ظلم الغضب، وظلم الدّالّة «1» ، وظلم الهفوة.
لعبد الله بن معاوية:
ولست ببادي صاحبي بطيعة ... ولست بمفش سرّه حين يغضب
عليك بإخوان الثّقات فإنهم ... قليل فصلهم دون من كنت تصحب
وما الخدن إلا من صفا لك ودّه ... ومن هو ذو نصح وأنت مغيّب «2»
فضل الصداقة على القرابة
قيل لبزرجمهر: من أحب إليك: أخوك أم صديقك؟ فقال: ما أحب أخي إلا إذا كان لي صديقا.
وقال أكثم بن صيفي: القرابة تحتاج إلى مودّة، والمودّة لا تحتاج إلى قرابة.
وقال عبد الله بن عباس: القرابة تقطع والمعروف يكفر، وما رأيت كتقارب القلوب.
وقالوا: إياكم ومن تكرهه قلوبكم، فإن القلوب تحازي القلوب. وقال عبد الله بن طاهر الخراساني:
أميل مع الرّفاق على ابن أمّي ... وأحمل للصّديق على الشقيق
وإن ألفيتني ملكا مطاعا ... فإنك واجدي عبد الصديق
أفرّق بين معروفي ومنّي ... وأجمع بين مالي والحقوق(2/164)
وقال حبيب الطائي:
ولقد سبرت الناس ثم خبرتهم ... وبلوت ما وضعوا من الأسباب «1»
فإذا القرابة لا تقرّب قاطعا ... وإذا المودّة أقرب الأنساب
وللمبرّد:
ما القرب إلا لمن صحّت مودّته ... ولم يخنك وليس القرب للنسب
كم من قريب دويّ الصدر مضطغن ... ومن بعيد سليم غير مقترب
وقالت الحكماء: ربّ أخ لك لم تلده أمّك.
وقالوا: القريب من قرب نفعه.
وقالوا: ربّ بعيد أقرب من قريب.
وقال آخر:
ربّ غريب ناصح الجيب ... وابن أب متّهم الغيب
أخو ثقة يسرّ ببعض شأني ... وإن لم تدنه منّي قرابه
أحبّ إليّ من ألفي قريب ... تبيت صدورهم لي مسترابه «2»
وقال آخر:
فصل حبال البعيد إن وصل ال ... حبل وأقص القريب إن قطعه
قد يجمع المال غير آكله ... ويأكل المال غير من جمعه
فارض من الدهر ما أتاك به ... من قرّ عينا بعيشه نفعه
وقال:
لكل ضيق من الهموم سعه ... والليل والصبح لا بقاء معه
لا تحقرنّ الفقير علّك أن ... تركع يوما والدهر قد رفعه(2/165)
وقال ابن هرمة:
لله درّك من فتى فجعت به ... يوم البقيع حوادث الأيام
هشّ إذا نزل الوفود ببابه ... سهل الحجاب مؤدّب الخدّام «1»
وإذا رأيت صديقه وشقيقه ... لم تدر أيّهما أخو الأرحام
التحبب إلى الناس
في الحديث المرفوع: أحبّ الناس إلى الله أكثرهم تحبّبا إلى الناس.
وفيه أيضا: إذا أحب الله عبدا حبّبه إلى الناس.
ومن قولنا في هذا المعنى:
وجه عليه من الحياء سكينة ... ومحبّة تجري مع الأنفاس
وإذا أحبّ الله يوما عبده ... ألقى عليه محبّة للناس.
وكتب عمر بن الخطاب رضي الله عنه إلى سعد بن أبي وقاص: إن الله إذا أحب عبدا حبّبه إلى خلقه. فاعتبر منزلتك من الله بمنزلتك من الناس. واعلم أنّ مالك عند الله مثل ما للناس عندك.
وقال أبو دهمان لسعيد بن مسلم، ووقف إلى بابه فحجبه حينا ثم أذن له، فمثل بين يديه وقال: إن هذا الأمر الذي صار إليك وفي يديك، قد كان في يدي غيرك، فأمسى والله حديثا، إن خيرا فخير وإن شراّ فشرّ. فتحبّب إلى عباد الله بحسن البشر، وتسهيل الحجاب، ولين الجانب؛ فإنّ حبّ عباد الله موصول بحبّ الله، وبغضهم موصول ببغض الله؛ لأنهم شهداء الله على خلقه، ورقباؤه على من اعوجّ عن سبيله.
وقال الجارود: سوء الخلق يفسد العمل كما يفسد الخلّ العسل.(2/166)
وقيل لمعاوية: من أحب الناس إليك؟ قال: من كانت له عندي يد صالحة. قيل له: ثم من؟ قال: من كانت لي عنده يد صالحة.
وقال محمد بن يزيد النّحويّ: أتيت الخليل، فوجدته جالسا على طنفسة صغيرة، فوسّع لي وكرهت أن أضيّق عليه. فانقبضت، فأخذ بعضدي وقرّبني إلى نفسه، وقال: إنه لا يضيق سمّ الخياط «1» بمتحابّين، ولا تسع الدنيا متباغضين.
ومن قولنا في هذا المعنى:
صل من هويت وإن أبدى معاتبة ... فأطيب العيش وصل بين إلفين
واقطع حبائل خدن لا تلائمه ... فربّما ضاقت الدنيا بإثنين
صفة المحبة
لابن طاهر يصف الحب للمأمون:
أبو بكر الورّاق قال: سأل المأمون عبد الله بن طاهر ذا الرياستين عن الحب، ما هو؟ فقال: يا أمير المؤمنين، إذا تقادحت «2» جواهر النفوس المتقاطعة بوصل المشاكلة، انبعثت منها لمحة نور تستضيء بها بواطن الأعضاء، فتتحرّك لإشراقها طبائع الحياة، فيتصوّر من ذلك خلق حاضر للنفس، متصل بخواطرها، يسمى الحب.
وسئل حمّاد الراوية عن الحب، ما هو؟ قال: الحب شجرة أصلها الفكر، وعروقها الذكر، وأغصانها السهر، وأوراقها الأسقام، وثمرتها المنيّة.
وقال معاذ بن سهل: الحب أصعب ما ركب، وأسكر ما شرب، وأفظع ما لقي، وأحلى ما اشتهي، وأوجع ما بطن، وأشهى ما علن.
وهو كما قال الشاعر:(2/167)
وللحبّ آفات إذا هي صرّحت ... تبدّت علامات لها غرر صفر «1»
فباطنه سقم وظاهره جوى ... وأوّله ذكر وآخره فكر «2»
وقالوا: لا يكن حبّك كلفا «3» ، ولا بغضك سرفا «4» .
وقال بشّار العقيلي:
هل تعلمين وراء الحبّ منزلة ... تدني إليك، فإنّ الحبّ أقصاني
وقال غيره:
أحبّك حبّا لو تحبّين مثله ... أصابك من وجد عليّ جنون
لطيفا مع الأحشاء أمّا نهاره ... فدمع وأما ليله فأنين
مواصلتك لمن كان يواصل أباك
من حديث ابن أبي شيبة عن النبي صلّى الله عليه وسلم: لا تقطع من كان يواصل أباك، تطفي بذلك نوره؛ فإن ودّك ودّ أبيك.
وقال عبد الله بن مسعود: من برّ الحيّ بالميت ان يصل من كان يصل أباه.
وقال أبو بكر: الحب والبغض يتوارثان.
ومن أمثالهم في هذا المعنى: لا تقتن من كلب سوء جروا.
وقال الشاعر:
ترجو الوليد وقد أعياك والده ... وما رجاؤك بعد الوالد الولد!
واجتمع عند ملك من ملوك العرب تميم بن مرّ وبكر بن وائل؛ فوقعت بينهما منازعة ومفاخرة، فقالا: أيها الملك، أعطنا سيفين نتجالد بهما بين يديك، حتى تعلم(2/168)
أيّنا أجلد. فأمر الملك فمنحت لهما سيفان من عودين، فأعطاهما إياهما، فجعلا يضطربان مليّا من النهار؛ فقال بكر بن وائل:
لو كان سيفانا حديدا قطّعا
قال تميم بن مر:
أو نحتا من جندل تصدّعا
وحال الملك بينهما، فقال تميم بن مر لبكر بن وائل:
أساجلك العداوة ما بقينا
فقال له بكر:
وإن متنا نورّثها البنينا
فيقال إن عداوة بكر وتميم من أجل ذلك إلى اليوم.
عداوة تميم وبكر وشعر ابن حلزة:
أبو زيد: قال أبو عبيدة. بني دكّان بسجستان، بنته بكر بن وائل، فهدمته تميم؛ ثم بنته تميم فهدمته بكر؛ فتواقعوا في ذلك أربعا وعشرين وقعة، فقال ابن حلّزة اليشكري في ذلك:
قرّبي يا خليّ ويحك درعي ... لقحت حربنا وحرب تميم «1»
إخوة قرّشوا الذّنوب علينا ... في حديث من دهرهم وقديم «2»
طلبوا صلحنا ولات أوان ... إنّ ما يطلبون فوق النّجوم(2/169)
الحسد
قال علي رضي الله عنه: لا راحة لحسود، ولا إخاء لملول. ولا محبّ لسّيء الخلق.
وقال الحسن: ما رأيت ظالما أشبه بمظلوم من حاسد: نفس دائم، وحزن لازم، وغمّ لا ينفذ.
وقال النبي صلّى الله عليه وسلم: كاد الحسد يغلب القدر.
وقال معاوية: كلّ الناس أقدر أرضيهم، إلا حاسد نعمة، فإنه لا يرضيه إلا زوالها.
وقال الشاعر:
كلّ العداوة قد ترجى إماتتها ... إلّا عداوة من عاداك من حسد
وقال عبد الله بن مسعود: لا تعادوا نعم الله! قيل له ومن يعادي نعم الله؟ قال:
الذين يحسدون الناس على ما آتاهم الله من فضله. يقول الله في بعض الكتب: الحسود عدوّ نعمتي، متسخّط لقضائي، غير راض بقسمتي.
ويقال: الحسد أول ذنب عصي الله به في السماء، وأول ذنب عصي الله به في الأرض؛ فأمّا في السماء فحسد إبليس لآدم، وأمّا في الأرض فحسد قابيل هابيل.
وقال بعض أهل التفسير في قوله تعالى: رَبَّنا أَرِنَا الَّذَيْنِ أَضَلَّانا مِنَ الْجِنِّ وَالْإِنْسِ نَجْعَلْهُما تَحْتَ أَقْدامِنا لِيَكُونا مِنَ الْأَسْفَلِينَ
«1» . إنه أراد بالذي من الجن إبليس، والذي من الإنس قابيل. وذلك أن إبليس أول من سنّ الكفر، وقابيل أول من سنّ القتل؛ وإنما كان أصل ذلك كله الحسد.
ولأبي العتاهية:(2/170)
يا ربّ إنّ الناس لا ينصفونني ... وكيف ولو أنصفتهم ظلموني
وإن كان لي شيء تصدّوا لأخذه ... وإن جئت أبغي سيبهم منعوني «1»
وإن نالهم بذلي فلا شكر عندهم ... وإن أنا لم أبذل لهم شتموني
وإن طرقتني نقمة فرحوا بها ... وإن صحبتني نعمة حسدوني
سأمنع قلبي أن يحنّ إليهم ... وأحجب عنهم ناظري وجفوني
قيس بن زهير وغطفان:
أبو عبيدة معمر بن المثنّى قال: مرّ قيس بن زهير ببلاد غطفان، فرأى ثروة وعددا، فكره ذلك، فقيل له: أيسوءك ما يسرّ الناس؟ قال: إنك لا تدري أنّ مع النعمة والثروة التحاسد والتخاذل، وأن مع القلة التحاشد والتناصر.
قال: وكان يقال: ما أثرى قوم قطّ إلا تحاسدوا وتجادلوا.
وقال بعض الحكماء: ألزم الناس كآبة أربعة: رجل حديد، ورجل حسود، وخليط الأدباء وهو غير أديب، وحكيم محقّر لدى الأقوام.
علي بن بشر المروزي قال: كتب إليّ ابن المبارك هذه الأبيات:
كلّ العداوة قد ترجى إماتتها ... إلا عداوة من عاداك من حسد
فإن في القلب منها عقدة عقدت ... وليس يفتحها راق إلى الأبد «2»
إلّا الإله فإن يرحم تحلّ به ... وإن أباه فلا ترجوه من أحد
سئل بعض الحكماء: أي أعدائك لا تحبّ أن يعود لك صديقا؟ قال: الحاسد الذي لا يرده إلى مودتي إلا زوال نعمتي.
وقال سليمان التّيمي: الحسد يضعف اليقين، ويسهر العين، ويكثر الهمّ.
الأحنف بن قيس، صلى على حارثة بن قدامة السّعدي، فقال: رحمك الله، كنت(2/171)
لا تحسد غنيا، ولا تحقر فقيرا.
وكان يقال: لا يوجد الحر حريصا، ولا الكريم حسودا.
وقال بعض الحكماء: أجهد البلاء أن تظهر الخلّة، وتطول المدة، وتعجزّ الحيلة، ثم لا تعدم صديقا مولّيا، وابن عم شامتا، وجارا حاسدا، ووليا قد تحوّل عدوا، وزوجة مختلعة «1» ، وجارية مستبيعة «2» ، وعبدا يحقرك وولدا ينتهرك؛ فانظر أين موضع جهدك في الهرب.
لرجل من قريش:
حسدوا النّعمة لمّا ظهرت ... فرموها بأباطيل الكلم
وإذا ما الله أسدى نعمة ... لم يضرها قول أعداء النّعم
وقيل: إذا سرّك أن تسلم من الحاسد فعمّ عليه أمرك.
وكانت عائشة رضي الله عنها تتمثّل بهذين البيتين:
إذا ما الدهر جرّ على أناس ... حوادثه أناخ بآخرينا
فقل للشامتين بنا أفيقوا ... سيلقى الشامتون كما لقينا
ولبعضهم:
إياك والحسد الذي هو آفة ... فتوقّه وتوقّ غرّة من حسد «3»
إنّ الحسود إذا أراك مودّة ... بالقول فهو لك العدوّ المجتهد
إبليس ونوح:
الليث بن سعد قال: بلغني أن إبليس لقى نوحا صلّى الله عليه وسلم، فقال له إبليس: اتق الحسد والشحّ، فإني حسدت آدم فخرجت من الجنّة، وشحّ آدم على شجرة واحدة(2/172)
منع منها حتى خرج من الجنة.
وقال الحسن: أصول الشر وفروعه ستة: فالأصول الثلاثة: الحسد، والحرص، وحب الدنيا، والفروع كذلك: حب الرياسة، وحب الثناء، وحب الفخر.
وقال الحسن: يحسد أحدهم أخاه حتى يقع في سريرته وما يعرف علانيته، ويلومه على ما لا يعلمه منه، ويتعلم منه في الصداقة ما يعيّره به إذا كانت العداوة؛ والله ما أرى هذا بمسلم.
ابن أبي الدّنيا قال: بلغني عن عمر بن ذرّ أنه قال: اللهم من أرادنا بشر فاكفناه بأيّ حكميك شئت، إما بتوبة وإما براحة.
قال بان عباس: ما حسدت أحدا ما حسدت على هاتين الكلمتين.
وقال ابن عباس: لا تحقرنّ كلمة الحكمة أن تسمعها من الفاجر؛ فإنما مثله كما قال الأوّل: ربّ رمية من غير رام.
وقال بعض الحكماء: ما أمحق «1» للإيمان ولا أهتك للستر من الحسد، وذلك أنّ الحاسد معاند لحكم الله، باغ على عباده، عات على ربه، يعتدّ نعم الله نقما، ومزيده غيرا، وعدل قضائه حيفا، للناس حال وله حال، ليس يهدأ ليله، ولا ينام جشعه، ولا ينفعه عيشه، محتقر لنعم الله عليه، متسخّط ما جرت به أقداره، لا يبرد غليله، ولا تؤمن غوائله «2» ، إن سالمته وترك «3» ، وإن واصلته قطعك، وإن صرمته «4» سبقك.
ذكر حاسد عند بعض الحكماء فقال: يا عجبا لرجل أسلكه الشيطان مهاوي الضلالة، وأورده قحم الهلكة «5» ، فصار لنعم الله تعالى بالمرصاد، إن أنالها من أحبّ(2/173)
من عباده، أشعر قلبه الأسف على ما لم يقدر له، وأغاره «1» الكلف بما لم يكن ليناله.
أنشدني فتى بالرملة:
اصبر على حسد الحسود ... فإنّ صبرك قاتله
كالنار تأكل بعضها ... إن لم تجد ما تأكله
وقال عبد الملك بن مروان للحجاج: إنه ليس من أحد إلا وهو يعرف عيب نفسه، فصف لي عيوبك. قال: أعفني يا أمير المؤمنين. قال: لست أفعل. قال: أنا لحوح، لدود، حقود، حسود. قال: ما في إبليس شرّ من هذا.
وقال المنصور لسليمان بن معاوية المهلّبي: ما أسرع حسد الناس إلى قومك! فقال:
يا أمير المؤمنين:
إنّ العرانين تلقاها محسّدة ... ولا ترى للئام الناس حسّادا «2»
وأنشد أبو موسى لنصر بن سيار:
إنّي نشأت وحسّادي ذوو عدد ... ياذا المعارج لا تنقص لهم عددا «3»
إن تحسدوني على حسن البلاء بهم ... فمثل حسن بلائي جرّ لي حسدا
وقال آخر:
إن يحسدوني فإنّي غير لائمهم ... قبلي من الناس أهل الفضل قد حسدوا
فدام لي ولهم ما بي وما بهم ... ومات أكثرنا غيظا بما يجد
وقال آخر:
إنّ الغراب وكان يمشي مشية ... فيما مضى من سالف الأحوال
حسد القطاة فرام يمشي مشيها ... فأصابه ضرب من العقّال
فأضلّ مشيته وأخطأ مشيها ... فلذاك كنّوه أبا مرقال(2/174)
وقال حبيب الطائي:
وإذا أراد الله نشر فضيلة ... طويت أتاح لها لسان حسود
لولا اشتعال النار فيما جاورت ... ما كان يعرف طيب عرف العود «1»
وقال محمد بن مناذر:
يا أيّها العائبي وما بي من ... عيب ألا ترعوي وتزدجر
هل لك عندي وتر فتطلبه ... أم أنت ممّا أتيت معتذر «2»
إن يك قسم الإله فضّلني ... وأنت صلد ما فيك معتصر
فالحمد والشكر والثناء له ... وللحسود التراب والحجر
فما الذي يجتني جليسك أو ... يبدو له منك حين يختبر
اقرأ لنا سورة تذكّرنا ... فإنّ خير المواعظ السّور
أوصف لنا الحكم في فرائضنا ... ما تستحقّ الانثى أو الذّكر
أو ارو فقها تحيا القلوب به ... جاء به عن نبيّنا الأثر
أو من أحاديث جاهليّتنا ... فإنها حكمة ومختبر
أو ارو عن فارس لنا مثلا ... فإنّ أمثالها لنا عبر
فإن تكن قد جهلت ذاك وذا ... ففيك للناظرين معتبر
فغنّ صوتا تشجى القلوب به ... وبعض ما قد أتيت يغتفر «3»
بصري يحسده قومه:
الأصمعي قال: كان رجل من أهل البصرة بذيّا شرّيرا، يؤذي جيرانه ويشتم أعراضهم؛ فأتاه رجل فوعظه فقال له: ما بال جيرانك يشكونك؟ قال: إنهم يحسدونني! قال له: على أيّ شيء يحسدونك؟ قال: على الصّلب! قال: وكيف ذاك؟
قال أقبل معي. فأقبل معه إلى جيرانه، فقعد متحازنا؛ فقالوا: مالك! قال: طرق(2/175)
الليلة كتاب معاوية أن أصلب أنا ومالك بن المنذر، وفلان، وفلان. فذكر رجالا من أشراف أهل البصرة؛ فوثبوا عليه وقالوا: يا عدوّ الله! أنت تصلب مع هؤلاء ولا كرامة لك؟ فالتفت إلى الرجل فقال: أما تراهم قد حسدوني على الصّلب؟ فكيف لو كان خيرا.
وقيل لأبي عاصم النبيل: إن يحيى بن سعيد يحسدك وربما قرّضك «1» . فأنشأ يقول:
فلست بحيّ ولا ميّت ... إذا لم تعاد ولم تحسد
محاسدة الأقارب
كتب عمر بن الخطاب رضي الله عنه إلى أبي موسى الأشعري: مر ذوي القرابات أن يتزاوروا ولا يتجاوروا.
وقال أكثم بن صيفي: تباعدوا في الديار تقاربوا في المودّة.
وقالوا: أزهد الناس في عالم أهله.
فرج بن سلام قال: وقف أمية بن أبي الأسكر على ابن عم له فقال:
نشدتك بالبيت الذي طاف حوله ... رجال بنوه من لؤيّ بن غالب
فإنك قد جرّبتني فوجدتني ... أعينك في الجلّى وأكفيك جانبي «2»
وإن دبّ من قوم إليك عداوة ... عقاربهم دبّت إليهم عقاربي
قال: نعم، كذلك أنت. قال: فما بال مئبرك «3» لا يزال إليّ دسيسا؟ قال: لا أعود! قال: قد رضيت وعفا الله عما سلف.
وقال يحيى بن سعيد: من أراد أن يبين عمله ويظهر علمه، فليجلس في غير مجلس رهطه.(2/176)
وقالوا: الأقارب هم العقارب.
وقيل لعطاء بن مصعب: كيف غلبت على البرامكة وكان عندهم من هو آدب منك؟ قال: كنت بعيد الدار منهم، غريب الاسم، عظيم الكبر، صغير الجرم، كثير الالتواء، فقرّبني إليهم تباعدي منهم، ورغّبهم فيّ رغبتي عنهم، وليس للقرباء ظرافة الغرباء.
وقال رجل لخالد بن صفوان: إني أحبك. قال: وما يمنعك من ذلك ولست لك بجار ولا أخ ولا ابن عم؟ يريد أنّ الحسد موكّل بالأدنى فالأدنى.
الشيباني قال: خرج أبو العباس أمير المؤمنين متنزّها بالأنبار، فأمعن في نزهته وانتبذ من أصحابه، فوافى خباء لأعرابي؛ فقال له الأعرابي: ممن الرجل؟ قال: من كنانة. قال: من أيّ كنانة؟ قال: من أبغض كنانة إلى كنانة. قال: فأنت إذا من قريش؟ قال: نعم. قال: فمن أيّ قريش؟ قال: من أبغض قريش إلى قريش. قال:
فأنت إذا من ولد عبد المطلب؟ قال: نعم. قال: فمن أي ولد عبد المطلب أنت؟
قال: من أبغض ولد عبد المطلب إلى ولد عبد المطلب. قال: فأنت إذا أمير المؤمنين! السلام عليك يا أمير المؤمنين ورحمة الله وبركاته.
فاستحسن ما رأى منه وأمر له بجائزة.
وقال ذو الإصبع العدواني:
لي ابن عم على ما كان من خلق ... محاسد لي أقليه ويقليني «1»
أزرى بنا أنّنا شالت نعامتنا ... فخالني دونه أو خلته دوني «2»
يا عمرو إلا تدع شتمي ومنقصتي ... أضربك حتى تقول الهامة اسقوني «3»
ماذا عليّ وإن كنتم ذوي رحمي ... ألّا أحبّكم إن لم تحبوني
لا أسأل الناس عما في ضمائرهم ... ما في ضميري لهم من ذاك يكفيني(2/177)
وقال آخر:
مهلا بني عمّنا، مهلا موالينا ... لا تنبشوا بيننا ما كان مدفونا
لا تطمعوا أن تهينونا ونكرمكم ... وأن نكفّ الأذى عنكم وتؤذونا
الله يعلم أنّا لا نحبّكم ... ولا نلومكم إن لم تحبّونا
وقال آخر:
ولقد سبرت الناس ثم خبرتهم ... ووصفت ما وصفوا من الأسباب
فإذا القرابة لا تقرّب قاطعا ... وإذا المودة أقرب الأنساب
المشاكلة ومعرفة الرجل لصاحبه
قالوا: أقرب القرابة المشاكلة. وقالوا: الصاحب المناسب.
وقال حبيب:
وقلت أخي، قالوا أخ من قرابة؟ ... فقلت لهم إنّ الشكول أقارب «1»
وقال أيضا:
ذو الودّ مني وذو القربى بمنزلة ... وإخوتي أسوة عندي وإخواني
عصابة جاورت آدابهم أدبي ... فهم وإن فرّقوا في الأرض جيراني
وقال أيضا:
إن نفترق نسبا يؤلّف بيننا ... أدب أقمناه مقام الوالد
أو نختلف فالوصل منا ماؤه ... عذب تحدّر من غمام واحد
وقال آخر:
إنّ النفوس لأجناد مجندة ... بالإذن من ربّنا تجري وتختلف «2»
فما تعارف منها فهو مؤتلف ... وما تناكر منها فهو مختلف(2/178)
وقال رسول الله صلّى الله عليه وسلم: «الأنفس أجناد مجندة، وإنها لتتشامّ في الهوى كما تتشامّ الخيل؛ فما تعارف منها ائتلف، وما تناكر منها اختلف» .
وقال صلّى الله عليه وسلم: «الصاحب رقعة في الثوب، فلينظر الإنسان بم يرقع ثوبه.
وقال عليه الصلاة والسلام: امتحنوا الناس بإخوانهم» .
وقال الشاعر:
فاعتبروا الأرض بأشباهها ... واعتبروا الصاحب بالصاحب
وقالوا: كل إلف إلى إلفه ينزع.
وقال الشاعر:
والإلف ينزع نحو الآلفين كما ... طير السماء على ألّافها تقع
قال امرؤ القيس:
أجارتنا إنا غريبان ها هنا ... وكلّ غريب للغريب نسيب
وقال آخر:
إذا كنت في قوم فصاحب خيارهم ... ولا تصحب الأردى فتردى مع الرّدي
عن المرء لا تسأل وسل عن قرينه ... فكلّ قرين بالمقارن يقتدي
وقال آخر:
اصحب ذوي الفضل وأهل الدين ... فالمرء منسوب إلى القرين
سليمان عليه السلام وحديث النسر والقصر:
أيوب عن سليمان قال: حدثنا أبان بن عيسى عن أبيه عن ابن القاسم، قال: بينما سليمان بن داود عليهما السلام تحمله الريح إذ مر بنسر واقع على قصر، فقال له: كم لك مذ وقعت ها هنا؟ قال: سبعمائة سنة. قال: فمن بنى هذا القصر؟ قال: لا(2/179)
أدري، هكذا وجدته. ثم نظر فإذا فيه كتاب منقور بأبيات من شعر، وهي «1» :
خرجنا من قرى اصطخر ... إلى القصر فقلناه
فلا تصحب أخا السّوء ... وإيّاك وإيّاه
فكم من جاهل أردى ... حكيما حين آخاه
يقاس المرء بالمرء ... إذا ما المرء ما شاه
وفي الناس من الناس ... مقاييس وأشباه
وفي العين غنى للع ... ين أن تنطق أفواه
السعاية والبغي
قال الله تعالى ذكره: يا أَيُّهَا النَّاسُ إِنَّما بَغْيُكُمْ عَلى أَنْفُسِكُمْ
«2» .
وقال عز وجل: ... ثُمَّ بُغِيَ عَلَيْهِ لَيَنْصُرَنَّهُ اللَّهُ
«3» .
وقال الشاعر:
فلا سبق إلى أحد ببغي ... فإنّ البغي مصرعه وخيم
وقال العتابي:
بغيت فلم تقع إلّا صريعا ... كذاك البغي يصرع كل باغ
للمأمون يوصي بعض ولده:
وقال المأمون يوما لبعض ولده: إياك أن تصغى لاستماع قول السّعاة، فإنه ما سعى رجل برجل إلا انحط من قدره عندي ما لا يتلافاه أبدا.
ووقّع في رقعة ساع: سننظر أصدقت أم كنت من الكاذبين.(2/180)
ووقّع في رقعة رجل سعى إليه ببعض عماله: قد سمعنا ما ذكره الله عزّ وجل في كتابه، فانصرف رحمك الله.
فكان إذا ذكر عنده السعاة قال: ما ظنّكم بقوم يلعنهم الله على الصدق.
وسعى رجل إلى بلاد بن أبي بردة، فقال له: انصرف حتى أكشف عما ذكرت. ثم كشف عن ذلك فإذا هو لغير رشدة؛ فقال: أنا أبو عمرو، ما كذبت ولا كذبت.
للنبي صلّى الله عليه وسلم:
حدّثني أبي عن جدي أنّ رسول الله صلّى الله عليه وسلم قال: «الساعي لغير رشدة» «1» .
عبد الملك ورجل سعى إليه:
وسأل رجل عبد الملك الخلوة، فقال لأصحابه: إذا شئتم فقوموا. فلما تهيّأ الرجل للكلام قال له: إياك أن تمدحني؛ فأنا أعلم بنفسي منك، أو تكذبني، فإنه لا رأي لكذوب؛ أو تسعى إليّ بأحد. وإن شئت أقلتك. قال: أقلني.
ودخل رجل على الوليد بن عبد الملك، وهو والي دمشق لأبيه، فقال: للأمير عندي نصيحة. فقال: إن كانت لنا فاذكرها، وإن كانت لغيرنا فلا حاجة لنا فيها.
قال: جار لي عصى وفرّ من بعثه «2» . قال: أما أنت فتخبر أنك جار سوء؛ فإن شئت أرسلنا معك، فإن كنت صادقا أقصيناك، وإن كنت كاذبا عاقبناك، وإن شئت تاركناك، قال: تاركني.
من سير العجم:
وفي سير العجم: أنّ رجلا وشى برجل إلى الإسكندر، فقال: أتحب أن تقبل منه عليك ومنك عليه؟ قال: لا. قال: فكف عن الشرّ يكفّ عنك الشر.(2/181)
وقال الشاعر:
إذا الواشي بغى يوما صديقا ... فلا تدع الصّديق لقول واش
وقال ذو الرياستين: قبول النميمة شرّ من النميمة؛ لأن النميمة دلالة والقبول إجازة، وليس من دلّ على شيء كمن قبله وأجازه.
ذكر السّعاة عند المأمون فقال: لو لم يكن في عيبهم إلا أنهم أصدق ما يكونون أبغض ما يكونون إلى الله تعالى لكفاهم.
وعاتب مصعب بن الزبير الأحنف في شيء، فأنكره، فقال: أخبرني الثقة. قال:
كلا، إنّ الثقة لا يبلّغ.
وقد جعل الله السامع شريك القائل فقال: سَمَّاعُونَ لِلْكَذِبِ أَكَّالُونَ لِلسُّحْتِ
«1» .
وقيل: حسبك من شرّ سماعه.
وقال الشاعر:
لعمرك ما سبّ الأمير عدوّه ... ولكنّما سبّ الأمير المبلّغ
وقال آخر:
لا تقبلنّ نميمة بلّغتها ... وتحفّظنّ من الذي أنباكها
لا تنقشنّ برجل غيرك شوكة ... فتقي برجلك رجل من قد شاكها «2»
إنّ الذي أنباك عنه نميمة ... سيدبّ عنك بمثلها قد حاكها
وقال دعبل:
وقد قطع الواشون ما كان بيننا ... ونحن إلى أن يوصل الحبل أحوج
رأوا عورة فاستقبلوها بألبهم ... فلم ينههم حلم ولم يتحرّجوا «3»
وكانوا أناسا كنت آمن غيبهم ... فراحوا على ما لا نحبّ فأدلجوا «4»(2/182)
الغيبة
قال النبي صلّى الله عليه وسلم: إذا قلت في الرجل ما فيه فقد اغتبته، وإذا قلت ما ليس فيه فقد بهتّه «1» .
ومرّ محمد بن سيرين بقوم، فقال إليه رجل منهم فقال: أبا بكر، إنا قد نلنا منك فحلّلنا فقال: إني لا أحلّ ما حرّم الله عليك، فأما ما كان إليّ فهو لك.
وكان رقبة بن مصقلة جالسا مع أصحابه، فذكروا رجلا بشيء، فاطلع ذلك الرجل، فقال له بعض أصحابه: ألا أخبره بما قلنا فيه لئلا تكون غيبة؟ قال: أخبره حتى تكون نميمة.
اغتاب رجل رجلا عند قتيبة بن مسلم، فقال له قتيبة: أمسك عليك أيها الرجل، فو الله لقد تلمّظت «2» بمضغة طالما لفظها الكرام.
محمد بن مسلم الطائفي قال: جاء رجل إلى ابن سيرين فقال له: بلغني أنك نلت مني. قال: نفسي أعزّ عليّ من ذلك.
وقال رجل لبكر بن محمد بن عصمة. بلغني أنك تقع فيّ! قال أنت إذا عليّ أكرم من نفسي.
ووقع رجل في طلحة والزبير عند سعد بن أبي وقّاص، فقال له: اسكت، فإنّ الذي بيننا لم يبلغ ديننا.
وعاب رجل رجلا عند بعض الأشراف، فقال له: قد استدللت على كثرة عيوبك بما تكثر من عيوب الناس؛ لأنّ طالب العيوب إنما يطلبها بقدر ما فيه منها ...
أما سمعت قول الشاعر:
لا تهتكن من مساوي النّاس ما ستروا ... فيهتك الله سترا من مساويكا
واذكر محاسن ما فيهم إذا ذكروا ... ولا تعب أحدا منهم بما فيكا
وقال آخر:(2/183)
لا تنه عن خلق وتأتي مثله ... عار عليك إذا فعلت عظيم
إبدأ بنفسك فانهها عن غيّها ... فإذا انتهت عنه فأنت حكيم
وقال محمد بن السماك: تجنّب القول في أخيك لخلّتين: أمّا واحدة فلعلك تعيبه بشيء هو فيك، وأما الأخرى فإن يكن الله عافاك مما ابتلاه كان شكرك الله فيه على العافية تعييرا لأخيك على البلاء.
وقيل لبعض الحكماء: فلان يعيبك! قال: إنما يقرض الدرهم الوازن.
وقيل لبزرجمهر: هل تعلم أحدا لا عيب فيه؟ قال: إن الذي لا عيب فيه لا يموت.
وقيل لعمرو بن عبيد: لقد وقع فيك أيوب السّختياني حتى رحمناك. قال: إياه فارحموا.
وقال ابن عباس: اذكر أخاك إذا غاب عنك بما تحب أن يذكرك به، ودع منه ما تحب أن يدع منك.
النبي صلّى الله عليه وسلم وابن الحضرمي:
وقدم العلاء بن الحضرميّ على النبي صلّى الله عليه وسلم، فقال له: هل تروي من الشعر شيئا؟
قال: نعم. قال: فأنشدني. فأنشده:
تحبّب ذوي الأضغان تسب نفوسهم ... تحبّبك القربى فقد ترقع النّعل
وإن دحسوا بالكره فاعف تكرّما ... وإن غيّبوا عنك الحديث فلا تسل «1»
فإنّ الّذي يؤذيك منه سماعه ... وإن الّذي قالوا وراءك لم يقل
فقال النبي عليه السلام: إن من الشعر لحكمة.
وقال الحسن البصريّ: لا غيبة في ثلاثة: فاسق مجاهر بالفسق، وإمام جائر وصاحب بدعة لم يدع بدعته.(2/184)
وكتب الكسائيّ إلى الرقاشيّ:
تركت المسجد الجام ... ع والتّرك له ريبه
فلا نافلة تقضي ... ولا تقضي لمكتوبه
وأخبارك تأتينا ... على الأعلام منصوبه
فإن زدت من الغيب ... ة زدناك من الغيبه
مداراة أهل الشر
وقال النبي عليه الصلاة والسلام: «شرّ الناس من اتّقاه الناس لشرّه» .
وقال عليه الصلاة والسلام: «إذا لقيت اللئيم فخالفه، وإذا لقيت الكريم فخالطه» .
وقال أبو الدّرداء: إنا لنكشر «1» في وجوه قوم وإن قلوبنا لتلعنهم.
وسئل شبيب بن شيبة عن خالد بن صفوان، فقال: ليس له صديق في السرّ ولا عدو في العلانية.
وقال الأحنف. ربّ رجل لا تغيب فوائده وإن غاب، وآخر لا يسلم منه جليسه وإن احترس.
وقال كثير بن هراسة: إن من الناس ناسا ينقصونك إذا زدتهم، وتهون عندهم إذا خاصصتهم، ليس لرضاهم موضع تعرفه، ولا لسخطهم موضع تحذره. فإذا عرفت أولئك بأعيانهم فابذل لهم موضع المودّة، واحرمهم موضع الخاصة، يكن ما بذلت لهم من المودّة حائلا دون شرّهم، وما حرمتهم من الخاصة قاطعا لحرمتهم.
وأنشد العتبي:
لي صديق يرى حقوقي عليه ... نافلات وحقّه الدّهر فرضا «2»
لو قطعت البلاد طولا إليه ... ثمّ من بعد طولها سرت عرضا
لرأى ما فعلت غير كثير ... واشتهى أن يزيد في الأرض أرضا(2/185)
وفي هذه الطبقة من الناس يقول دعبل الخزاعي:
اسقهم السّمّ إن ظفرت بهم ... وامزج لهم من لسانك العسلا
كتب سهل بن هارون إلى موسى بن عمران في أبي الهذيل العلاف.
إنّ الضمير إذا سألتك حاجة ... لأبي الهذيل خلاف ما أبدي
فألن له كنفا ليحسن ظنه ... في غير منفعة ولا رفد
حتّى إذا طالت شقاوة جدّه ... وعناؤه فاجبهه بالرّدّ
وقال صالح بن عبد القدوس:
تجنب صديق السّوء واصرم حباله ... وإن لم تجد عنه محيصا فداره «1»
ومن يطلب المعروف من غير أهله ... يجده وراء البحر أو في قراره
ولله في عرض السّموات جنّة ... ولكنّها محفوفة بالمكاره
وقال آخر:
بلاء ليس يشبهه بلاء ... عداوة غير ذي حسب ودين
يبيحك منه عرضا لم يصنه ... ليرتع منك في عرض مصون
عرض على أبي مسلم صاحب الدعوة فرس جواد، فقال لقوّاده: لماذا يصلح مثل هذا الفرس؟ قالوا: إنا نغزو عليه العدو. قال: لا، ولكن يركبه الرجل فيهرب عليه من جار السّوء.
ذمّ الزمان
قالت الحكماء: جبل الناس على ذمّ زمانهم وقلة الرضا عن أهل عصرهم.
فمنه قولهم: رضا الناس غاية لا تدرك.
وقولهم: لا سبيل إلى السلام من ألسنة العامة.
وقولهم: الناس يعيّرون ولا يغفرون، والله يغفر ولا يعيّر.(2/186)
وفي الحديث: «لو أن المؤمن كالقدح لقال الناس ليس ولولا ... !» .
وقال الشاعر:
من لابس الناس لم يسلم من الناس ... وضرّسوه بأنياب وأضراس «1»
لعائشة في لبيد:
هشام بن عروة عن أبيه عن عائشة أنها قالت: رحم الله لبيدا، كان يقول:
ذهب الذين يعاش في أكنافهم ... وبقيت خلف كجلد الأجرب
فكيف لو أبصر زماننا هذا؟
قال عروة: ونحن نقول: رحم الله عائشة، فكيف لو أدركت زماننا هذا.
وكان بعضهم يقول: ذهب الناس وبقي النسناس «2» ، فكيف لو أدرك زماننا هذا؟
دخل مسلم بن يزيد بن وهب على عبد الملك بن مروان، فقال له عبد الملك: أيّ زمان أدركت أفضل، وأيّ الملوك أكمل؟ قال: أما الملوك فلم أر إلا حامدا أو ذامّا، وأما الزمان فيرفع أقواما ويضع أقواما، وكلهم يذمّ زمانه، لأنه يبلي جديدهم، ويفرّق عديدهم، ويهرم صغيرهم، ويهلك كبيرهم.
وقال الشاعر:
أيا دهر إن كنت عاديتنا ... فما قد صنعت بنا ما كفاكا
جعلت الشّرار علينا خيارا ... وولّيتنا بعد وجه قفاكا
وقال آخر:
إذا كان الزمان زمان تيم ... وعكل فالسلام على الزمان
زمان صار فيه الصدر عجزا ... وصار الزّجّ قدّام السّنان «3»(2/187)
لعل زماننا سيعود يوما ... كما عاد الزمان على بطان «1»
أبو مياس وقوم يذكرون الزمان:
أبو جعفر الشيباني قال: أتانا يوما أبو ميّاس الشاعر ونحن في جماعة فقال: ما أنتم فيه وما تتذاكرون؟ قلنا: نذكر الزمان وفساده. قال: كلا، إنما الزمان وعاء، وما ألقي فيه من خير أو شرّ كان على حاله. ثم أنشأ يقول:
أرى حللا تصان على أناس ... وأخلاقا تداس فما تصان
يقولون الزمان به فساد ... وهم فسدوا وما فسد الزمان
أنشد فرج بن سلام:
هذا الزمان الذي كنّا نحذّره ... فيما يحدّث كعب وابن مسعود
إن دام ذا الدهر لم نحزن على أحد ... يموت منّا ولم نفرح بمولود
وقال حبيب الطائي:
لم أبك في زمن لم أرض خلّته ... إلا بكيت عليه حين ينصرم
وقال آخر في طاهر بن الحسين:
إذا كانت الدنيا تنال بطاهر ... تجنّبت منها كلّ ما فيه طاهر
وأعرضت عنها عفّة وتكرّما ... وأرجأتها حتى تدور الدوائر
وقال مؤمن بن سعيد في معقل الضبيّ وابن أخيه عثمان:
لقد ذلّت الدنيا وقد ذلّ أهلها ... وقد ملها أهل النّدى والتفضّل
إذا كانت الدنيا تميل بخيرها ... إلى مثل عثمان ومثل المحول
ففي است امّ دنيانا وفي است امّ خيرها ... وفي است امّ عثمان وفي است امّ معقل
وقال محمد بن مناذر:(2/188)
يا طالب الأشعار والنحو ... هذا زمان فاسد الحشو
نهاره أوحش من ليله ... ونشوه من أخبث النشو
فدع طلاب النحو لا تبغه ... ولا تقل شعرا ولا ترو
فما يجوز اليوم إلّا امرؤ ... مستحكم العزف أو الشّدو
أو طرمذان قوله كاذب ... لا يفعل الخير ولا ينوي «1»
ومن قولنا في هذا المعنى:
رجاء دون أقربه السّحاب ... ووعد مثل ما لمع السّراب
ودهر سادت العبدان فيه ... وعاثت في جوانبه الذّئاب
وأيام خلت من كلّ خير ... ودنيا قد توزّعها الكلاب
كلاب لو سألتهم ترابا ... لقالوا: عندنا انقطع التّراب
تعاقب من أساء القول فيهم ... وإن يحسن فليس له ثواب
للجاحظ في ذم الزمان:
كتب عمرو بن بحر الجاحظ إلى بعض إخوانه في ذم الزمان:
بسم الله الرحمن الرحيم. حفظك الله حفظ من وفّقه للقناعة، واستعمله بالطاعة كتبت إليك وحالي حال من كثفت غمومه، وأشكلت عليه أموره، واشتبه عليه حال دهره، ومخرج أمره، وقلّ عنده من يثق بوفائه، أو يحمد مغبّة إخائه، لاستحالة زماننا، وفساد أيامنا، ودولة أنذالنا، وقدما كان من قدّم الحياء على نفسه، وحكّم الصدق في قوله، وآثر الحقّ في أموره، ونبذ المشتبهات عليه من شئونه. تمت له السلامة، وفاز بوفور حظّ العافية، وحمد مغبّة مكروه العاقبة، فنظرنا إذ حال عندنا حكمه، وتحولت دولته. فوجدنا الحياء متصلا بالحرمان، والصدق آفة على المال، والقصد في الطلب بترك استعمال القحة «2» وإخلاق العرض من طريق التوكل دليلا(2/189)
على سخافة الرأي؛ إذ صارت الحظوة الباسقة والنّعمة السابغة «1» في لؤم النية، وتناول الرّزق من جهة محاشاة الوقار، وملابسة معرّة العار.
ثم نظرنا في تعقّب المتعقّب لقولنا، والكاشر لحجتنا، فأقمنا له علما واضحا، وشاهدا قائما، ومنارا بيّنا؛ إذ وجدنا من فيه السّفوليّة الواضحة، والمثالب الفاضحة، والكذب المبرّح، والخلف المصرّح، والجهالة المفرطة، والركاكة المستخفّة، وضعف اليقين والاستيثاب «2» ، وسرعة الغضب والخفة قد استكمل سروره، واعتدلت أموره، وفاز بالسهم الأغلب، والحظّ الأوفر، والقدر الرفيع، والجواب الطائع، والأمر النافذ، إن زلّ قيل حكم، وإن أخطأ قيل أصاب، وإن هذى في كلامه وهو يقظان قيل رؤيا صادقة في سنة «3» مباركة.
فهذه حجتنا- أبقاك الله- على من زعم أن الجهل يخفض، وأن الحمق يضع، وأن النّوك يردي وأن الكذب يضر، وأن الخلف يزري.
ثم نظرنا في الوفاء والأمانة، والنّبل والبراعة وحسن المذهب، وكمال المروءة، وسعة الصدر، وقلة الغضب، وكرم الطبيعة، والفائق في سعة علمه، والحاكم على نفسه، والغالب لهواه؛ فوجدنا فلان بن فلان، ثم وجدنا الزمان لم ينصفه من حقّه، ولا قام له بوظائف فرضه؛ ووجدنا فضائله القائمة له قاعدة به. فهذا دليل على أن الطّلاح أجدى من الصّلاح، وأن الفضل قد مضى زمانه، وعفت آثاره «4» ، وصارت الدائرة عليه كما كانت الدائرة على ضده؛ ووجدنا العقل يشقى به قرينه، كما أنّ الجهل والحمق يحظى به خدينه ووجدنا الشعر ناطقا على الزمان، ومعربا عن الأيام، حيث يقول:
تحامق مع الحمقى إذا ما لقيتهم ... ولاقهم بالجهل فعل أخي الجهل(2/190)
وخلّط إذا لاقيت يوما مخلّطا ... يخلّط في قول صحيح وفي هزل «1»
فإنّي رأيت المرء يشقى بعقله ... كما كان قبل اليوم يسعد بالعقل
فبقيت أبقاك الله مثل من أصبح على أوفاز «2» ، ومن النّقلة على جهاز، لا تسوغ له نهمة ولا يطعم عينيه غمضة، في أهاويل يباكره مكروهها وتراوحه عقابيلها «3» فلو أن الدعاء أجيب والتضرّع سمع، لكانت الهدّة العظمى، والرجفة الكبرى؛ فليت الذي يا أخي ما أستبطئه من النفخة، ومن فجأة الصيحة، قضي فحان، وأذن به فكان؛ فو الله ما عذّبت أمة برجفة ولا ريح ولا سخطة، عذاب عيني برؤية المغايظة المضنية، والأخبار المهلكة، كأن الزمان توكل بعذابي، أو انتصب لإيلامي؛ فما عيش من لا يسرّ بأخ شقيق، ولا خدن شفيق، ولا يصطبح في أول نهاره إلا برؤية من تكره رؤيته، ونغمة من تغمّه طلعته فبدّل الله لي- أي أخي- بالمسكن مسكنا، وبالربع ربعا! فقد طالت الغمة، وواطنت الكربة، وادلهمّت الظّلمة، وخمد السراج، وتباطأ الانفراج، السلام.
فساد الإخوان
قال أبو الدرداء: كان الناس ورقا لا شوك فيه، فصاروا شوكا لا ورق فيه.
وقيل لعروة بن الزّبير: ألا تنتقل إلى المدينة؟ قال: ما بقي بالمدينة إلا حاسد على نعمة، أو شامت بمصيبة.
الخشني «4» ، قال: أنشدني الرياشي:
إذا ذهب التّكرّم والوفاء ... وباد رجاله وبقي الغثاء «5»
وأسلمني الزّمان إلى رجال ... كأمثال الذّئاب لها عواء(2/191)
صديق كلّما استغنيت عنهم ... وأعداء إذا جهد البلاء
إذا ما جئتهم يتدافعوني ... كأنّي أجرب آذاه داء
أقول ولا ألام على مقال ... على الإخوان كلّهم العفاء «1»
وقالت الحكماء: لا شيء أضيع من مودة من لا وفاء له، واصطناع من لا شكر عنده. والكريم يودّ الكريم عن لقية واحدة، واللئيم لا يصل أحدا إلا عن رغبة أو رهبة.
وفي كتاب للهند: إن الرجل السّوء لا يتغير عن طبعه، كما أن الشجرة المرّة لو طليتها بالعسل لم تثمر إلا مرّا.
وسمع رجل أبا العتاهية ينشد:
فارم بطرفك حيث شئ ... ت فلا ترى إلّا بخيلا
وقال أيضا في هذا المعنى:
لله درّ أبيك أيّ زمان ... أصبحت فيه وأيّ أهل زمان
كلّ يوازنك المودّة جاهدا ... يعطي ويأخذ منك بالميزان
فإذا رأى رجحان حبّة خردل ... مالت مودّته إلى الرّجحان
وقال:
أرى قوما وجوههم حسان ... إذا كانت حوائجهم إلينا
وإن كانت حوائجنا إليهم ... يقبّح حسن أوجههم علينا
فإن منع الأشحّة ما لديهم ... فإنّا سوف نمنع ما لدينا
وقال:
موالينا إذا احتاجوا إلينا ... وليس لنا احتياج للموالي(2/192)
للبكري:
وخليل لم أخنه ساعة ... في دمي كفّيه ظلما قد غمس
كان في سرّي وجهري ثقتي ... لست عنه في مهمّ أحترس
ستر البغض بألفاظ الهوى ... وادّعى الودّ بغشّ ودلس «1»
إن رآني قال لي خيرا وإن ... غبت عنه قال شرّا ودحس «2»
ثم لمّا أمكنته فرصة ... حمل السيف على مجرى النّفس
وأراد الرّوح لكن خانه ... قدر أيقظ من كان نعس
وأنشد العتبي:
إذا كنت تغضب من غير ذنب ... وتعتب من غير جرم عليّا
طلبت رضاك فإن عزّني ... عددتك ميتا وإن كنت حيّا
فلا تعجبنّ بما في يديك ... فأكثر منه الذي في يديّا
وقال ابن أبي حازم:
وصاحب كان لي وكنت له ... أشفق من والد على ولد
كنّا كساق تسعى بها قدم ... أو كذراع نيطت إلى عضد
حتّى إذا دانت الحوادث من ... عظمي وحلّ الزّمان من عقدي «3»
ازورّ عنّي وكان ينظر من ... طرفي ويرمي بساعدي ويدي «4»
وقال:
وخلّ كان يخفض لي جناحا ... أفاد غنى فنابذني جماحا «5»
فقلت له ولي نفس عزوف ... إذا حميت تقحّمت الرّماحا «6»
سأبدل بالمطامع فيك يأسا ... وباليأس استراح من استراحا(2/193)
وقال عبد الله بن معاوية بن عبد الله بن جعفر:
وأنت أخي ما لم تكن لي حاجة ... فإن عرضت أيقنت أن لا أخاليا
فلا زاد ما بيني وبينك بعدما ... بلوتك في الحاجات إلّا تماديا
كلانا غنيّ عن أخيه حياته ... ونحن إذا متنا أشدّ تغانيا
وعين الرّضا عن كلّ عيب كليلة ... كما أنّ عين السّخط تبدي المساويا
وقال البحتري:
أشرّق أم أغرّب يا سعيد ... وأنقص من ذمامي أو أزيد
عدتني عن نصيبين العوادي ... فبختي أبله فيها بليد «1»
وخلّفني الزّمان على رجال ... وجوههم وأيديهم حديد
لهم حلل حسنّ فهنّ بيض ... وأخلاق سمجن فهنّ سود
ألا ليت المقادر لم تقدّر ... ولم تكن العطايا والجدود «2»
وقال ابن أبي حازم:
وقالوا: لو مدحت فتى كريما ... فقلت وكيف لي بفتى كريم!
بلوت ومرّ بي خمسون حولا ... وحسبك بالمجرّب من عليم
فلا أحد يعدّ ليوم خير ... ولا أحد يعود على عديم «3»
وقال:
قد بلوت الناس طرّا ... لم أجد في الناس حرّا
صار حلو الناس في العي ... ن إذا ما ذيق مرّا
وقال:
من سلا عنّي أطلق ... ت حبالي من حباله
أو أجدّ الوصل سارعت ... ت بجهدي في فصاله(2/194)
إنما أحذوا على فع ... ل صديقي بمثاله
غير مستجد إذا ازورّ ك ... أنيّ من عياله
لن يراني أبدا أع ... ظم ذا مال لماله
لا ولا أزرى بمن يع ... قل عندي سوء حاله «1»
إنّما أقضي على ذا ... ك وهذا بفعاله
كيفما صرّفني الده ... ر فإني من رجاله
ومن قولنا في هذا المعنى:
أبا صالح جاءت على الناس غفلة ... على غفلة ماتت بكلّ كريم
فليت الألى بانوا يفادون بالألى ... أقاموا، فيفدى ظاعن بمقيم «2»
ويا ليتها الكبرى فتطوى سماؤنا ... لها وتمدّ الأرض مدّ أديم «3»
فما الموت إلا عيش كلّ مبخّل ... وما العيش إلا موت كلّ ذميم
وأعذر ما أدمى الجفون من البكا ... كريم رأى الدنيا بكفّ لئيم
ومثله في هذا المعنى:
أبا صالح، أين الكرام بأسرهم ... أفدني كريما فالكريم رضاء
أحقّا يقول الناس في جود حاتم ... وإبن سنان كان فيه سخاء «4»
عذيري من خلق تخلّق منهم ... غباء ولؤم فاضح وجفاء
حجارة بخل ما تجود وربّما ... تفجّر من صمّ الحجارة ماء
ولو أنّ موسى جاء يضرب بالعصا ... لما انبجست من ضربه البخلاء «5»
بقاء لئام الناس موت عليهم ... كما أنّ موت الأكرمين بقاء
عزيز عليهم أن تجود أكفّهم ... عليهم من الله العزيز عفاء(2/195)
ومثله قولنا في هذا المعنى:
ساق ترنّح يشدو فوقه ساق ... كأنّه لحنين الصوت مشتاق
يا ضيعة الشّعر في بله جرامقة ... تشابهت منهم في الّلؤم أخلاق «1»
غلّت بأعناقهم أيد مقفّعة ... لا بوركت منهم أيد وأعناق «2»
كأنّما بينهم في منع سائلهم ... وحبس نائلهم عهد وميثاق
كم سقتهم بأماديحي وقدتهم ... نحو المعالي فما انقادوا ولا انساقوا
وإن نبابي في ساحاتهم وطن ... فالأرض واسعة والناس أفراق
ما كنت أول ظمآن بمهمهة ... يغرّه من سراب القفر رقراق
رزق من الله أرضاهم وأسخطني ... والله للأنوك المعتوه رزّاق
يا قابض الكفّ لا زالت مقبّضة ... فما أناملها للناس أرزاق
وغب إذا شئت حتى لا ترى أبدا ... فما لفقدك في الأحشاء إقلاق
ولا إليك سبيل الجود شارعة ... ولا عليك لنور المجد إشراق «3»
لم يكتنفني رجاء لا ولا أمل ... إلا تكنّفه ذلّ وإملاق
وقال مؤمّل بن سعيد في هذا المعنى:
إنّما أزرى بقدري أنّني ... لست من نابه أهل البلد
ليس منهم غير ذي مقلية ... لذوي الألباب أو ذي حسد «4»
يتحامون لقائي مثل ما ... يتحامون لقاء الأسد
طلعتي أثقل في أعينهم ... وعلى أنفسهم من أحد
لو رأوني وسط بحر لم يكن ... أحد يأخذ منهم بيدي(2/196)
باب في الكبر
قال النبي صلّى الله عليه وسلم: «يقول الله تبارك وتعالى: العظمة إزاري، والكبرياء ردائي، فمن نازعني واحدا منهما قصمته وأهنته» .
وقال عليه السلام: «لا يدخل حضرة القدس متكبر» .
وقال: «فضل الإزار في النار. معناه: من سحب ذيله في الخيلاء قاده ذلك إلى النار» .
ونظر الحسن إلى عبد الله بن الأهتم يخطر «1» في المسجد، فقال: انظروا إلى هذا؛ ليس منه عضو إلا والله عليه نعمة وللشيطان فيه لعنة.
وقال سعد بن أبي وقّاص لابنه: يا بنيّ، إياك والكبر، وليكن فيما تستعين به على تركه علمك بالذي منه كنت، والذي إليه تصير. وكيف الكبر مع النطفة التي منها خلقت، والرّحم التي منها قذفت، والغذاء الذي به غذيت.
وقال يحيى بن حيّان: الشريف إذا تقوّى تواضع، والوضيع إذا تقوّى تكبّر.
وقال بعض الحكماء: كيف يستقر الكبر فيمن خلق من تراب، وطوي على القذر، وجرى مجرى البول! وقال الحسن: عجبا لابن آدم، كيف يتكبّر وفيه تسع سموم كلها يقذر.
وذكر الحسن المتكبرين فقال: يلفى أحدهم ينص «2» رقبته نصا، ينفض مذرويه «3» ، ويضرب أصدريه، يملخ في الباطن ملخا «4» ، يقول: ها أنا ذا فاعرفوني! قد عرفناك يا أحمق! مقتك الله ومقتك الصالحون.
ووقف عيينة بن حصن بباب عمر بن الخطّاب رضي الله عنه، فقال: استأذنوا لي(2/197)
على أمير المؤمنين وقولوا: هذا ابن الأخيار بالباب. فأذن له؛ فلما دخل عليه قال له:
أنت ابن الأخيار؟ قال: نعم. قال له: بل أنت ابن الأشرار، وأما ابن الأخيار فهو يوسف بن يعقوب بن إسحاق بن إبراهيم.
وقيل لعبيد الله بن ظبيان: كثّر الله في العشيرة أمثالك. فقال: لقد سألتم الله شططا «1» .
وقيل لرجل من عبد الدّار عظيم الكبر: ألا تأتي الخليفة. قال: أخشى ألا يحمل الجسر شرفي.
وقيل له: ألا تلبس؟ فإنّ البرد شديد. قال: حسبي يدفئني.
للحجاج في أربعة:
قيل للحجاج: كيف وجدت منزلك بالعراق أيها الأمير؟ قال: خير منزل، لو أدركت بها أربعة نفر لتقرّبت إلى الله سبحانه وتعالى بدمائهم. قيل له: ومن هم؟
قال مقاتل بن مسمع، ولي سجستان فأتاه الناس فأعطاهم الأموال، فلما قدم البصرة بسط له الناس أرديتهم فمشى عليها. فقال: لمثل هذا فليعمل العاملون. وعبيد الله بن ظبيان، خطب خطبة أوجز فيها، فناداه الناس من أعراض المسجد: كثّر الله فينا أمثالك. قال: لقد كلّفتم ربّكم شططا. ومعبد بن زرارة، كان ذات يوم جالسا على طريق؛ فمرّت به امرأة فقالت: يا عبد الله، أين الطريق لمكان كذا؟ فقال: لمثلي يقال يا عبد الله؟ ويلك!. وأبو السّمّاك الحنفي، أضلّ ناقته فقال: والله لئن لم يردد عليّ ناقتي لا صلّيت أبدا.
وقال ناقل الحديث: ونسي الحجاج نفسه وهو خامس هؤلاء الأربعة، بل هو أشدّهم كبرا، وأعظمهم إلحادا، حين كتب إلى عبد الملك في عطسة عطسها فشمّته «2» أصحابه وردّ عليهم: بلغني ما كان من عطاس أمير المؤمنين وتشميت أصحابه له(2/198)
وردّه عليهم، فيا ليتني كنت معهم فأفوز فوزا عظيما.
وكتابه إليه: إنّ خليفة الرجل في أهله أكرم عليه من رسوله إليهم، وكذلك الخلفاء يا أمير المؤمنين أعلى منزلة من المرسلين.
العتبي قال: رأيت محرزا مولى باهلة يطوف على بغلة بين الصفا والمروة، ثم رأيته بعد ذلك على جسر بغداد راجلا، فقلت له: أراجل أنت في مثل هذا الموضع؟ قال:
نعم، إني ركبت في موضع يمشي الناس فيه، فكان حقيقا على الله أن يرجلني في موضع يركب الناس فيه.
وقال بعض الحكماء لابنه: يا بني، عليك بالترحيب والبشر، وإياك والتقطيب والكبر؛ فإن الأحرار أحب إليهم أن يلقوا بما يحبون ويحرموا من أن يلقوا بما يكرهون ويعطوا؛ فانظر إلى خصلة غطت على مثل اللؤوم فالزمها، وانظر إلى خصلة عفّت على مثل الكرم فاجتنبها. ألم تسمع إلى قول حاتم الطائي:
أضاحك ضيفي قبل إنزال رحله ... ويخصب عندي والمحل جديب
وما الخصب للأضياف أن يكثر القرى ... ولكنّما وجه الكريم خصيب
وقال محمود الوراق:
التّيه مفسدة للدين منقصة ... للعقل مجبلة للذم والسّخط
منع العطاء وبسط الوجه أحسن من ... بذل العطاء بوجه غير منبسط
وقال أيضا:
بشر البخيل يكاد يصلح بخله ... والتّيه مفسدة لكلّ جواد
ونقيصة تبقى على أيامه ... ومسبّة في الأهل والأولاد
وقال آخر في الكبر:
مع الأرض يا ابن الأرض في الطيران ... أتأمل أن ترقى إلى الدّبران «1»(2/199)
فو الله ما أبصرت يوما محلّقا ... ولو حلّ بين الجدي والسرطان «1»
حماه مكان البعد من أن تناله ... بسهم من البلوى يد الحدثان «2»
التسامح مع النعمة والتذلل مع المصيبة
قالوا: من عزّ بإقبال الدهر ذلّ بإدباره.
وقالوا: من أبطره الغنى أذلّه الفقر.
وقالوا: من ولي ولاية يرى نفسه أكبر منها لم يتغيّر لها، ومن ولي ولاية يرى ولايته أكبر من نفسه تغيّر لها.
وقال يحيى بن حيّان: الشريف إذا تقوّى تواضع والوضيع إذا تقوّى تكبر.
وقال كسرى: احذروا صولة الكريم إذا جاع، واللئيم إذا شبع.
وكتب على بن الجهم إلى ابن الزيات:
أبا جعفر عرّج على خلطائكا ... وأقصر قليلا من مدى غلوائكا
فإن كنت قد أوتيت في اليوم رفعة ... فإنّ رجائي في غد كرجائكا
وقال عبد العزيز بن زرارة الكلابيّ:
لقد عجبت منه الّليالي لأنّه ... صبور على عضلاء تلك البلابل «3»
إذا نال لم يفرح وليس لنكبة ... ألّمت به بالخاشع المتضائل
وقال الحسن بن هانيء:
ولقد حزنت فلم أمت حزنا ... ولقد فرحت فلم أمت فرحا
وكتب عقيل بن أبي طالب إلى أخيه عليّ بن أبي طالب عليه السلام يسأله عن حاله، فكتب إليه عليّ رضي الله عنه:(2/200)
فإن تسألنّي كيف أنت فإنّني ... جليد على عضّ الزّمان صليب «1»
عزيز عليّ أن ترى بي كآبة ... فيفرح واش أو يساء حبيب
باب في التواضع
قال النبي صلّى الله عليه وسلم: «من تواضع لله رفعه الله» .
قالت الحكماء: كلّ نعمة يحسد عليا إلا التواضع.
وقال عبد الملك بن مروان، رفعه إلى النبي صلّى الله عليه وسلم: «أفضل الرجال من تواضع عن رفعة، وزهد عن قدرة، وأنصف عن قوّة» .
وقال ابن السماك لعيسى بن موسى: تواضعك في شرفك أكبر من شرفك.
من تواضع النجاشي:
وأصبح النّجاشي يوما جالسا على الأرض والتاج عليه، فأعظمت بطارقته ذلك وسألوه عن السبب الذي أوجبه؛ فقال: وجدت فيما أنزل الله على المسيح: إذا أنعمت على عبدي نعمة فتواضع أتممتها عليه. وإنه ولد لي هذه الليلة غلام فتواضعت شكرا لله.
عمر وامرأة من قريش:
خرج عمر بن الخطاب رضي الله عنه، ويده على المعلّى بن الجارود العبدي، فلقيته امرأة من قريش فقالت له: يا عمر، فوقف لها. فقالت: كنا نعرفك مدّة عميرا، ثم صرت من بعد عمير عمر، ثم صرت من بعد عمر أمير المؤمنين. فاتق الله يا بن الخطاب وانظر في أمور الناس، فإنه من خاف الوعيد قرب عليه البعيد، ومن خاف الموت خشي الفوت. فقال المعلي: إيها يا أمة الله! لقد أبكيت أمير المؤمنين.
فقال له عمر: اسكت. أتدري من هذه ويحك؟ هذه خولة بنت حكيم التي سمع الله(2/201)
قولها من سمائه، فعمر أحرى أن يسمع قولها ويقتدي به.
وقال أبو عبّاد: ما جلس إليّ رجل قط إلّا خيّل إليّ أني سأجلس إليه.
وسئل الحسن عن التواضع فقال: هو أن تخرج من بيتك فلا تلقى أحدا إلا رأيت له الفضل عليك.
وقال رجل لبكر بن عبد الله: علّمني التواضع. فقال: إذا رأيت من هو أكبر منك فقل: سبقني إلى الإسلام والعمل الصالح، فهو خير مني؛ وإن رأيت أصغر منك فقل: سبقته إلى الذنوب والعمل السيء، فأنا شرّ منه.
وقال أبو العتاهية:
يا من تشرّف بالدّنيا وزينتها ... ليس التّشرّف رفع الطين بالطّين
إذا أردت شريف النّاس كلّهم ... فانظر إلى ملك في زيّ مسكين
ذاك الذي عظمت في الناس همته ... وذاك يصلح للدنيا وللدّين
الرفق والأناة
قال النبي صلّى الله عليه وسلم: «من أوتي حظّه من الرفق فقد أوتي حظّه من خير الدنيا والآخرة» .
وقالت الحكماء: يدرك بالرفق ما لا يدرك بالعنف، ألا ترى أن الماء على لينه يقطع الحجر على شدّته.
وقال أشجع بن عمرو السلمي لجعفر بن يحيى بن خالد:
ما كان يدرك بالرجال ولا ... بالمال ما أدركت بالرفق
وقال النابغة:
الرّفق يمن والأناة سعادة ... فاستأن في رفق تلاق نجاحا
وقالوا: العجل بريد الزّلل.
أخذ القطامي التغلبيّ هذا المعنى فقال:
قد يدرك المتأنّي بعض حاجته ... وقد يكون مع المستعجل الزّلل(2/202)
وقال عديّ بن زيد:
قد يدرك المبطيء من حظّه ... والحين قد يسبق جهد الحريص «1»
استراحة الرجل بمكنون سره إلى صديقه
تقول العرب: أفضيت إليك بشقوري «2» ، وأطلعتك على عجري وبجري «3» ، ولو كان في جسدي برص ما كتمته.
وقال الله تبارك وتعالى: لِكُلِّ نَبَإٍ مُسْتَقَرٌّ
«4» .
وقالت الحكماء: لكل سرّ مستودع.
وقالوا: مكاتمة الأدنين صريح العقوق.
وقال الشاعر:
وأبثثت عمرا بعض ما في جوانحي ... وجرعته من مرّ ما أتجرّع
ولا بدّ من شكوى إلى ذي حفيظة ... إذا جعلت أسرار نفس تطلّع «5»
وقال حبيب:
شكوت وما الشّكوى لمثلي عادة ... ولكن تفيض النفس عند امتلائها
وأنشد أبو الحسن محمد البصريّ:
لعب الهوى بمعالمي ورسومي ... ودفنت حيّا تحت ردم همومي
وشكوت همّي حين ضقت ومن شكا ... همّا يضيق به فغير ملوم
وقال آخر:
إذا لم أطق صبرا رجعت إلى الشكوى ... وناديت تحت الليل يأسا مع النجوى(2/203)
وأمطرت صحن الخدّ غيثا من البكا ... على كبد حرّى لتروى فما تروى «1»
الاستدلال باللحظ على الضمير
قالت الحكماء: العين باب القلب؛ فما كان في القلب ظهر في العين.
لعثمان بن إبراهيم:
أبو حاتم عن الأصمعي عن يونس بن مصعب عن عثمان بن إبراهيم بن محمد، قال:
إني لأعرف في العين إذا عرفت، وأعرف فيها إذا أنكرت، وأعرف فيها إذا لم تعرف ولم تنكر؛ أما إذا عرفت فتحواصّ «2» ، وأما إذا أنكرت فتجحظ «3» وأما إذا لم تعرف ولم تنكر فتسجو «4» .
وقال صريع الغواني:
جعلنا علامات المودّة بيننا ... مصايد لحظ هنّ أخفى من السّحر
فأعرف فيها الوصل في لين طرفها ... وأعرف فيها الهجر في النّظر الشّزر «5»
وقال محمود الوراق:
إنّ العيون على القلوب شواهد ... فبغيضها لك بيّن وحبيبها
وإذا تلاحظت العيون تفاوضت ... وتحدّثت عما تجنّ قلوبها «6»
ينطقن والأفواه صامتة فما ... يخفى عليك بريئها ومريبها(2/204)
وقال ابن أبي حازم:
خذ من العيش ما كفي ... ومن الدّهر ما صفا
عين من لا يحبّ وصلك تبدي لك الجفا ومن قولنا في هذا المعنى:
صادق في الحبّ مكذوب ... دمعه للشوق مسكوب
كلّ ما تطوي جوانحه ... فهو في العينين مكتوب «1»
وقال الحسن بن هانيء:
وإنّي لطير العين بالعين زاجر ... فقد كدت لا يخفى عليّ ضمير
الاستدلال بالضمير على الضمير
كتب حكيم إلى حكيم: إذا أردت معرفة مالك عندي فضع يدك على صدرك، فكما تجدني كذلك أجدك.
وقالوا: إياكم ومن تبغضه قلوبكم، فإن القلوب تجازي الفلوب. وقال ذو الإصبع:
لا أسأل الناس عما في ضمائرهم ... ما في ضميري لهم من ذاك يكفيني
قال محمود الوراق:
لا تسألنّ المرء عمّا عنده ... واستمل ما في قلبه من قلبكا
إن كان بغضا كان عندك مثله ... أو كان حبّا فاز منك بحبّكا
الإصابة بالظنّ
قيل لعمرو بن العاص: ما العقل؟ قال: الإصابة بالظنّ، ومعرفة ما يكون بما قد كان.
وقال عمر بن الخطاب: من لم ينفعه ظنه لم ينفعه يقينه.(2/205)
وقال علي بن أبي طالب رضي الله عنه: لله درّ ابن عباس، إن كان لينظر إلى الغيب من ستر رقيق.
وقال الشاعر:
وقلّما يفجأ المكروه صاحبه ... حتى يرى لوجوه الشّرّ أسبابا
وإنما ركّب الله العقل في الإنسان دون سائر الحيوان ليستدلّ بالظاهر على الباطن ويفهم الكثير بالقليل.
ومن قولنا في هذا المعنى:
يا غافلا ما يرى إلّا محاسنه ... ولو درى ما رأى إلا مساويه
انظر إلى باطن الدّنيا فظاهرها ... كلّ البهائم يجري طرفها فيه
تقديم القرابة وتفضيل المعارف
قال الشّيباني: أول من آثر القرابة والأولياء عثمان بن عفان رضي الله عنه.
وقال: كان عمر يمنع أقاربه ابتغاء وجه الله. ولا يرى أفضل من عمر.
وقال لما آوى طريد النبي صلّى الله عليه وسلم: ما نقم الناس على أن وصل رحما وقرّب عمّا.
وقيل لمعاوية بن أبي سفيان: إن آذنك يقدّم معارفه وأصدقاءه في الإذن على أشراف الناس ووجوههم. فقال ويلكم، إن المعرفة لتنفع في الكلب العقور والجمل الصّئول «1» ؛ فكيف في رجل حسيب ذي كرم ودين.
وقال رجل لزياد: أصلح الله الأمير، إن هذا يدلّ «2» بمكانة يدّعيها منك. قال:
نعم، وأخبرك ما ينفعه من ذلك، إن كان الحقّ له عليك أخذتك به أخذا شديدا، وإن كان عليه قضيته عنه.(2/206)
وقال الشاعر:
أقول لجاري إذا أتاني مخاصما ... يدلّ بحقّ أو يدلّ بباطل
إذا لم يصل خيري وأنت مجاوري ... إليك فما شرّي إليك بواصل
لعبد الله القسري حين ولي قضاء البصرة:
العتبي قال: ولي عبد الله بن خالد بن عبد الله القسري قضاء البصرة، فكان يحابي أهل مودّته، فقيل له: أيّ رجل أنت لولا أنك تحابي. قال: وما خير الصديق إذا لم يقطع لصديقه قطعة من دينه.
وولي ابن شبرمة قضاء البصرة وهو كاره، فأحسن السيرة، فلما عزل اجتمع إليه أهل خاصته ومودته، فقال لهم: والله لقد وليت هذه الولاية وأنا كاره، وعزلت عنها وأنا كاره، وما بي في ذلك إلا مخافة أن يلي هذه الوجوه من لا يعرف حقها. ثم تمثّل بقول الشاعر:
فما السّجن أبكاني ولا القيد شفّني ... ولا أنني من خشية الموت أجزع «1»
بلى إنّ أقواما أخاف عليهم ... إذا متّ أن يعطو الذي كنت أمنع
وتقول العامة: محبة السلطان أردّ عليك من شهودك.
وقال الشاعر:
إذا كان الأمير عليك خصما ... فليس بقابل منك الشّهودا
وقال زياد: أحبّ الولاية لثلاث، وأكرهها لثلاث: أحبّها لنفع الأولياء، وضرّ الأعداء، واسترخاص الأشياء. وأكرهها لروعة البريد، وخوف العزل، وشماتة العدو.
ويقول الحكماء: أحقّ من شاركك في النعمة شركاؤك في المصيبة.
أخذه الشاعر فقال:(2/207)
وإنّ أولى الموالي أن تواسيه ... عند السّرور لمن واساك في الحزن
إنّ الكرام إذا ما أسهلوا ذكروا ... من كان يألفهم في المنزل الخشن
وقال حبيب:
قبح الإله عداوة لا تتّقى ... ومودّة يدلى بها لا تنفع
فضل العشيرة
قال علي بن أبي طالب رضي الله عنه: عشيرة الرجل خير للرجل من الرجل للعشيرة، إن كف عنهم يدا واحدة كفّوا عنه أيديا كثيرة، مع مودتهم وحفاظهم ونصرتهم، إن الرجل ليغضب للرجل لا يعرفه إلا بنسبه. وسأتلو عليكم في ذلك آيات من كتاب الله تعالى؛ قال الله عز وجل فيما حكاه عن لوط: لَوْ أَنَّ لِي بِكُمْ قُوَّةً أَوْ آوِي إِلى رُكْنٍ شَدِيدٍ
«1» يعني العشيرة، ولم يكن للوط عشيرة، فو الذي نفسي بيده ما بعث الله نبيا من بعده إلا في ثروة من قومه، ومنعة من عشيرته. ثم ذكر شعيبا إذ قال له قومه: إِنَّا لَنَراكَ فِينا ضَعِيفاً وَلَوْلا رَهْطُكَ لَرَجَمْناكَ
«2» وكان مكفوفا، والله ما هابوا إلا عشيرته.
وقيل لبزرجمهر: ما تقول في ابن العم؟ قال: هو عدوّك وعدوّ عدوّك.
الدّين
من حديث عائشة عن النبي صلّى الله عليه وسلم أنه قال: الدّين ينقص ذا الحسب.
وقال عمر ألا إن الأسيفع «3» أسيفع جهينة رضي من دينه وأمانته أن يقال سبق الحاج. ألا وإنه قد ادّان معرضا، وأصبح قد رين «4» به، فمن كان له عنده شيء(2/208)
فليأتنا بالغداة نقسم ماله بين غرمائه، ثم إياكم والدّين، فإن أوله هم وآخره حزن.
وقال مولى قضاعة:
فلو كنت مولى قيس عيلان لم تجد ... عليّ لإنسان من النّاس درهما
ولكنّني مولى قضاعة كلّها ... فلست أبالي أن أدين وتغرما
وقال آخر:
إذا ما قضيت الدين بالدين لم يكن ... قضاء ولكن كان غرما على غرم
وقال سفيان الثوري: الدّين همّ بالليل وذلّ بالنهار، فإذا أراد الله أن يذل عبدا جعله قلادة في عنقه.
ورأى عمر بن الخطاب رضي الله عنه رجلا متقنّعا، فقال له: كان لقمان الحكيم يقول: القناع ريبة بالليل ذلّ بالنهار. فقال الرجل لقمان الحكيم لم يكن عليه دين.
وقال المقنّع الكندي:
يعاتبني في الدّين قومي وإنّما ... تداينت في أشياء تكسبهم حمدا
إذا أكلوا لحمي وفرت لحومهم ... وإن هدموا مجدي بنيت لهم مجدا
مجانبة الخلف والكذب
قال النبي صلّى الله عليه وسلم: «الكذب مجانب الإيمان» .
وقالت الحكماء: ليس لكذّاب مروءة.
وقالوا: من عرف بالكذب لم يجز صدقه.
وقال النبي صلّى الله عليه وسلم: «لا يجوز الكذب في جدّ ولا هزل» .
وقال: لا يكون المؤمن كذابا.
وقال عبد الله بن عمر: خلف الوعد ثلث النفاق.
وقال حبيب الطائي في عياش:(2/209)
يا أكثر وعدا حشوه خلف ... وأكثر الناس قولا حشوه كذب
ومن قولنا في هذا المعنى:
صحيفة أفنيت ليت بها وعسى ... عنوانها راحة الرّاجي إذا يئسا
وعد له هاجس في القلب قد برمت ... أحشاء صدري به من طول ما انجسا
مواعد غرّني منها وميض سنا ... حتى مددت إليها الكفّ مقتبسا «1»
فصادمت حجرا لو كنت تضربه ... من لؤمه بعصا موسى لما انبجسا
كأنّما صيغ من بخل ومن كذب ... فكان ذاك له روحا وذا نفسا
التنزه عن استماع الخنا والقول به
اعلم أنّ السامع شريك القائل في الشر؛ قال الله: سَمَّاعُونَ لِلْكَذِبِ
«2» .
وقال العتبي: حدّثني أبي عن سعد القصير قال: نظر إليّ عمرو بن عتبة ورجل يشتم رجلا بين يدي؛ فقال لي: ويلك! - وما قال لي «ويلك» قبلها- نزّه سمعك عن استماع الخنا كما تنزّه لسانك عن الكلام به؛ فإن السامع شريك القائل، وإنه عمد إلى شرّ ما في وعائه فأفرغه في وعائك؛ ولو ردّت كلمة جاهل في فيه لسعد رادّها كما شقي قائلها.
باب في الغلوّ في الدين
توفّي رجل في عهد عمر بن ذرّ ممن أسرف على نفسه في الذنوب، وجاوز في الطّغيان، فتجافى الناس عن جنازته، فحضرها عمر بن ذرّ وصلّى عليه، فلما أدلي في قبره قال: يرحمك الله أبا فلان، صحبت عمرك بالتوحيد، وعفرت «3» وجهك لله بالسجود، فإن قالوا مذنب وذو خطايا، فمن منا غير مذنب وذي خطايا.(2/210)
ومن حديث أبي هريرة عن النبي صلّى الله عليه وسلم قال: «إنّ الله أمر المؤمنين بما أمر به المرسلين، فقال: يا أَيُّهَا الرُّسُلُ كُلُوا مِنَ الطَّيِّباتِ وَاعْمَلُوا صالِحاً
«1» وقال: يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا كُلُوا مِنْ طَيِّباتِ ما رَزَقْناكُمْ
«2» ثم ذكر الرجل يرى أشعث أغبر يمد يديه إلى السماء يقول: يا ربّ يا ربّ، ومطعمه حرام ومشربه حرام وملبسه حرام؛ فأنّي يستجاب له؟» .
قال النبي صلّى الله عليه وسلم: «إنّ الله بعثني بالحنيفية السمحة ولم يبعثني بالرّهبانية المبتدعة، سنّتي الصلاة والنوم، والإفطار والصوم؛ فمن رغب عن سنّتي فليس مني» .
وقال صلّى الله عليه وسلم: «إنّ هذا الدين متين فأوغل «3» فيه برفق؛ فإنّ المنبتّ «4» لا أرضا قطع ولا ظهرا أبقى» .
وقال علي بن أبي طالب رضي الله عنه: خير هذه الأمة هنا النّمط الأوسط، يرجع إليهم الغالي ويلحق بهم التالي.
وقال مطرّف بن عبد الله بن الشّخّير لابنه، وكان قد تعبّد: يا بنيّ، إنّ الحسنة بين السيئتين- يعني الدين: بين الإفراط والتقصير- وخير الأمور أوسطها، وشر السّير الحقحقة «5» .
وقال سلمان الفارسي: القصد والدّوام، وأنت الجواد السابق.
وقالوا: عامل البرّ كآكل الطعام: إن أكل منه قوتا عصمه، وإن أسرف منه أبشمه «6» .
وفي بعض الحديث: أنّ عيسى بن مريم عليه السلام لقي رجلا، فقال له: ما(2/211)
تصنع؟ قال: أتعبّد. قال: فمن يعود عليك؟ قال: أخي. قال: هو أعبد منك.
ونظير هذا أنّ رفقة من الأشعريّين كانوا في سفر، فلما قدموا قالوا: ما رأينا يا رسول الله بعدك أفضل من فلان؛ كان يصوم النهار، فإذا نزلنا قام من الليل حتى نرتحل. قال: فمن كان يمهن له ويكفله؟ قالوا: كلنا. قال: كلكم أفضل منه.
وقيل للزهري: ما الزهد في الدنيا؟ قال: إنه ما هو بتشعيث الّلمّة، ولا قشف الهيئة، ولكنه ظلف «1» النفس عن الشهوة.
عليّ بن عاصم عن أبي إسحاق عن الشيباني قال: رأيت محمد بن الحنفية واقفا بعرفات على برذون وعليه مطرف خزّ أصفر.
السّدّيّ عن ابن جريج عن عثمان بن أبي سليمان أنّ ابن عباس كان يرتدي رداء بألف.
إسماعيل بن عبد الله بن جعفر عن أبيه قال: رأيت رسول الله صلّى الله عليه وسلم عليه ثوبان مصبوغان بالزعفران: رداء وعمامة.
وقال معمر: رأيت قميص أيوب السختياني يكاد يمسّ الأرض، فسألته عن ذلك، فقال: إن الشّهرة كانت فيما مضى في تذييل القميص وإنها اليوم في تشميره.
أبو حاتم عن الأصمعي: أن ابن عون اشترى برنسا. فمرّ على معاذة العدويّة، فقالت: مثلك يلبس هذا؟ فذكرت ذلك لابن سيرين، فقال: أفلا أخبرتها أن تميما الدّاريّ اشترى حلّة بألف يصلّي فيها! قدم حمّاد بن سلمة البصرة، فجاءه فرقد السّبخيّ وعليه ثياب صوف، فقال له حماد: دع عنك نصرانيّتك هذه! فقال له: لقد رأيتنا ننظر إبراهيم فيخرج إلينا وعليه معصفرة «2» ، ونحن نرى أن الميتة قد حلّت له.(2/212)
أبو الحسن المدائني قال: دخل محمد بن واسع على قتيبة بن مسلم والي خراسان في مدرعة صوف، فقال له: ما يدعوك إلى لباس هذه؟ فسكت! فقال له قتيبة:
أكلّمك فلا تجيبني؟ قال: أكره أن أقول زهدا فأزكّي نفس، أو أقول فقرا فأشكو ربي؛ فما جوابك إلا السكوت.
قال ابن السماك لأصحاب الصوف: والله لئن كان لباسكم وفقا لسرائركم لقد أحببتم أن يطّلع الناس عليها، وإن كان مخالفا لقد هلكتم.
وكان القاسم بن محمد يلبس الخزّ وسالم بن عبد الله يلبس الصوف ويقعدان في مسجد المدينة؛ فلا ينكر هذا على هذا ولا ذا على هذا.
ودخل رجل على محمد بن المنكدر فوجده قاعدا على حشايا مضاعفة وجارية تغلّفه بالغالية «1» ؛ فقال: رحمك الله! جئت أسألك عن شيء وجدتك فيه- يريد التّزيّن- قال: على هذا أدركت الناس.
وصلّى الأعمش في مسجد قوم فأطال بهم الإمام، فلما فرغ قال له: يا هذا، لا تطل صلاتك؛ فإنه يكون خلفك ذو الحاجة والكبير والضعيف. قال الإمام: وإنها لكبيرة إلا على الخاشعين. فقال له الأعمش: أنا رسول الخاشعين إليك، إنهم لا يحتاجون إلى هذا منك.
الربيع بن زياد وعلي في عاصم:
العتبي قال: أصابت الربيع بن زياد نشّابة «2» في جبينه، فكانت تنتقض عليه كل عام. فأتاه عليّ بن أبي طالب عائدا، فقال: كيف تجدك يا أبا عبد الرحمن؟ قال:
أجدني لو كان لا يذهب ما بي إلا بذهاب بصري لتمنيت ذهابه. قال: وما قيمة بصرك عندك؟ قال: لو كانت لي الدنيا فديته بها. قال: لا جرم، يعطيك الله على(2/213)
قدر الدنيا، لو كانت لك لأنفقتها في سبيل الله. إن الله يعطي على قدر الألم والمصيبة، وعنده بعد تضعيف كثير.
وقال له الربيع: يا أمير المؤمنين، إني لأشكو إليك عاصم بن زياد. قال: وماله؟
قال: لبس العباء، وترك الملاء، وغمّ أهله، وأحزن ولده. قال: عليّ عاصما. فلما أتاه، عبس في وجهه، وقال: ويلك يا عاصم! أترى الله أباح لك اللذات وهو يكره منك أخذك منها؟ أنت أهون على الله من ذلك. أو ما سمعته يقول: مَرَجَ الْبَحْرَيْنِ يَلْتَقِيانِ بَيْنَهُما بَرْزَخٌ لا يَبْغِيانِ
«1» حتى قال: يَخْرُجُ مِنْهُمَا اللُّؤْلُؤُ وَالْمَرْجانُ
«2» . وتالله لا بتذال نعم الله بالفعال أحبّ إليّ من ابتذالها بالمقال، وقد سمعته يقول: وَأَمَّا بِنِعْمَةِ رَبِّكَ فَحَدِّثْ
«3» وقوله: قُلْ مَنْ حَرَّمَ زِينَةَ اللَّهِ الَّتِي أَخْرَجَ لِعِبادِهِ وَالطَّيِّباتِ مِنَ الرِّزْقِ
«4» .
قال عاصم: فعلام اقتصرت أنت يا أمير المؤمنين على لبس الخشن وأكل الحشف «5» ؟
قال: إن الله افترض على أئمة العدل أن يقدّروا أنفسهم بالعوام، لئلا يشنع «6» بالفقير فقره.
قال: فما خرج حتى لبس الملاء وترك العباء.
النبي صلّى الله عليه وسلم وعبد الله ابن عمرو وقد شكته زوجه:
محمد بن حاطب الجمي قال: حدّثني من سمع عمرو بن شعيب، وكنت سمعته أنا وأبي جميعا، قال: حدّثني عمرو بن شعيب عن أبيه عن جده عن عبد الله بن مسعود، قال: أتى رسول الله صلّى الله عليه وسلم ذات يوم أم عبد الله بن عمرو ابن العاص،(2/214)
وكانت امرأته تلطف برسول الله صلّى الله عليه وسلم، فقال: كيف أنت يا أم عبد الله؟ قالت:
كيف أكون وعبد الله بن عمرو رجل قد تخلّى من الدنيا! قال لها. كيف ذلك؟
قالت: حرّم النوم فلا ينام، ولا يفطر، ولا يطعم اللحم، ولا يؤدّي إلى أهله حقّهم.
قال: فأين هو؟ قالت: خرج ويوشك أن يرجع الساعة. قال: فإذا رجع فاحبسيه عليّ. فخرج رسول الله صلّى الله عليه وسلم، وجاء عبد الله وأوشك رسول الله صلّى الله عليه وسلم في الرّجعة، فقال يا عبد الله بن عمرو، ما هذا الذي بلغني عنك أنك لا تنام. قال: وما ذاك يا رسول الله؟ قال: بلغني أنك لا تنام ولا تفطر. قال: أردت بذلك الأمن من الفزع الأكبر. قال: وبلغني أنك لا تطعم اللحم. قال: أردت بذلك ما هو خير منه في الجنة؟ قال: وبلغني أنك لا تؤدّي إلى أهلك حقّهم. قال: أردت بذلك نساء هنّ خير منهن. فقال رسول الله صلّى الله عليه وسلم: يا عبد الله بن عمرو، إن لك في رسول الله أسوة حسنة؛ فرسول الله يصوم ويفطر، ويأكل اللحم، ويؤدّي إلى أهله حقوقهم. يا عبد الله بن عمرو، إن لله عليك حقا، وإن لبدنك عليك حقا، وإن لأهلك عليك حقا.
فقال: يا رسول الله، ما تأمرني أن أصوم؟ خمسة أيام وأفطر يوما؟ قال: لا. قال:
فأصوم أربعة وأفطر يوما؟ قال: لا. قال: فأصوم ثلاثة وأفطر يوما؟ قال: لا. قال:
فيومين وأفطر يوما؟ قال: لا. قال: فيوما؟
قال: ذلك صيام أخي داود. يا عبد الله بن عمرو؛ كيف بك إذا بقيت في حثالة من الناس قد مرجت «1» عهودهم ومواثيقهم فكانوا هكذا؟ وخالف بين أصابعه.
قال: فما تأمرني به يا رسول الله؟ قال: تأخذ ما تعرف وتدع ما تنكر، وتعمل بخاصة نفسك، وتدع الناس وعوام أمرهم. قال: ثم أخذ بيده وجعل يمشي به حتى وضع يده في يد أبيه، وقال له: أطع أباك.
فلما كان يوم صفّين قال له أبوه عمرو بن العاص: يا عبد الله، اخرج فقاتل.
فقال: يا أبتاه، أتأمرني أن أخرج فأقاتل وقد سمعت من رسول الله صلّى الله عليه وسلم ما سمعت(2/215)
وعهد إليّ ما عهد؟ قال: أنشدك الله، ألم يكن آخر ما قال لك أن أخذ بيدك فوضعها في يدي وقال: أطع أباك؟ قال: اللهم بلى. قال: فإني أعزم عليك فلتخرج فتقاتل، قال: فخرج فقاتل متقلّدا بسيفين.
القول في القدر
لمحمد بن المنكدر:
أتى قوم من أهل القدر محمد بن المنكدر، فقالوا له: أنت الذي تقول إن الله يعذّب الخلق على ما قدّر عليهم؟ فصرف وجهه عنهم ولم يجبهم، فقالوا له: أصلحك الله! إن كنت لا تجيبنا فلا تخلنا من بركة دعائك؛ فقال: اللهم لا تردنا بعقوبتك، ولا تمكر بنا في حيلتك، ولا تؤاخذنا بتقصيرنا عن رضاك، قليل أعمالنا تقبل، وعظيم خطايانا تغفر، أنت الله الذ لم يكن شيء قبلك، ولا يكون شيء بعدك، ولي الأشياء، ترفع بالهدى من تشاء، لا من أحسن استغنى عن عونك، ولا من أساء غلبك، ولا استبدّ شيء عن حكومتك وقدرتك، لا ملجأ إلا إليك؛ فكيف لنا بالمغفرة وليست إلا في يديك؟ وكيف لنا بالرحمة وليست إلا عندك؟ حفيظ لا ينسى، وقديم لا يبلى، حيّ لا يموت؛ بك عرفناك، وبك اهتدينا إليك، ولولا أنت لم ندر ما أنت، سبحانك وتعاليت.
فقال القوم: قد والله أخبر وما قصّر.
وقال: ذكر القدر في مجلس الحسن البصري، فقال: إنّ الله خلق الخلق للابتلاء، لم يطيعوه بإكراه، ولم يعصوه بغلبة، لم يهملهم من الملك، وهو القادر على ما أقدرهم عليه، والمالك لما ملّكهم إياه، فإن يأتمر العباد بطاعة الله لم يكن مثبّطا لهم «1» . بل يزيدهم هدى إلى هداهم، وتقوى إلى تقواهم؛ وإن يأتمروا بمعصية الله كان الله قادرا على صرفهم إن شاء، وإن خلّى بينهم وبين المعصية فمن بعد إعذار وإنذار.(2/216)
غيلان وربيعة:
مروان بن موسى قال: حدّثنا أبو ضمرة أنّ غيلان قدم بكلمة قد صاغها حتى وقف على ربيعة، فقال له: أنت الذي تزعم أنّ الله أحبّ أن يعصى؟ فقال له ربيعة:
أنت الذي تزعم أن الله يعصى كرها؟ فكأنما ألقمه حجرا.
قيل لطاووس: هذا قتادة يحب أن يأتيك. فقال: إن جاء لأقومنّ. قيل له: إنه فقيه. قال: إبليس أفقه منه. قال: رَبِّ بِما أَغْوَيْتَنِي
«1» .
وقيل للشعبي: رأيت قتادة؟ قال: نعم. رأيت كناسة بين حشّين «2» .
القدر هو العلم والكتاب والكلمة والإذن والمشيئة.
قال الأصمعي: سألت أعرابيا فقلت له: ما فضل بني فلان على بني غلان؟ قال:
الكتاب، يعني القدر.
وقال الله عزّ وجل: إِنَّا كُلَّ شَيْءٍ خَلَقْناهُ بِقَدَرٍ
«3» . وقال: كُلٌّ فِي كِتابٍ مُبِينٍ
«4» . وقال: وَلَقَدْ سَبَقَتْ كَلِمَتُنا لِعِبادِنَا الْمُرْسَلِينَ
«5» . يعني القدر، وقال:
وَلَوْلا كَلِمَةٌ سَبَقَتْ مِنْ رَبِّكَ لَكانَ لِزاماً
«6» .
للخشني في الأعشى ولبيد:
قال الخشني أبو عبد الله محمد بن عبد السلام: شاعران من فحول الجاهلية ذهب أحدهما في بيته مذهب العدليّة والآخر ذهب مذهب الجبريّة، فالذي ذهب مذهب العدلية فأعشى بكر حيث يقول:(2/217)
استأثر الله بالوفاء وبالععدل وولّى الملامة الرجلا والذي ذهب مذهب الجبرية فلبيد بن ربيعة حيث يقول:
إنّ تقوى ربّنا خير نفل ... وبإذن الله ريث وعجل
من هداه سبل الخير اهتدى ... ناعم البال ومن شاء أضلّ
لإياس بن معاوية:
وقال إياس بن معاوية: كلمت الفرق كلّها ببعض عقلي، وكلمت القدريّ بعقلي كلّه، فقلت له: دخولك فيما ليس لك ظلم منك؟ قال: نعم. قلت: فإن الأمر كله لله.
ومن قول الله عز وجل في القدر: قُلْ فَلِلَّهِ الْحُجَّةُ الْبالِغَةُ فَلَوْ شاءَ لَهَداكُمْ أَجْمَعِينَ
«1» . وقال: يَمُنُّونَ عَلَيْكَ أَنْ أَسْلَمُوا قُلْ لا تَمُنُّوا عَلَيَّ إِسْلامَكُمْ بَلِ اللَّهُ يَمُنُّ عَلَيْكُمْ أَنْ هَداكُمْ لِلْإِيمانِ إِنْ كُنْتُمْ صادِقِينَ
«2» .
ابن شهاب قال: أنزل الله على نبيه آية في القدرية: الَّذِينَ قالُوا لِإِخْوانِهِمْ وَقَعَدُوا لَوْ أَطاعُونا ما قُتِلُوا قُلْ فَادْرَؤُا عَنْ أَنْفُسِكُمُ الْمَوْتَ إِنْ كُنْتُمْ صادِقِينَ
«3» .
وقال: قُلْ لَوْ كُنْتُمْ فِي بُيُوتِكُمْ لَبَرَزَ الَّذِينَ كُتِبَ عَلَيْهِمُ الْقَتْلُ إِلى مَضاجِعِهِمْ
«4» .
وقال محمد بن سيرين: ما ينكر القدرية أن يكون الله علم من خلقه علما فكتبه عليهم.
وقال رجل لعلي بن أبي طالب رضي الله عنه: ما تقول في القدر؟ قال: ويحك! أخبرني عن رحمة الله، أكانت قبل طاعة العباد؟ قال: نعم قال عليّ: أسلم صاحبكم وقد كان كافرا. فقال الرجل له: أليس بالمشيئة الأولى التي أنشأني بها أقوم وأقعد،(2/218)
وأقبض وأبسط؟ قال له علي: إنك بعد في المشيئة أما إني أسألك عن ثلاث، فإن قلت في واحدة منهن: لا، كفرت؛ وإن قلت: نعم، فأنت أنت. فمدّ القوم أعناقهم ليسمعوا ما يقول؛ فقال له علي: أخبرني عنك، أخلقك الله كما شئت أو كما شاء؟
قال: بل كما شاء. قال: فخلقك الله لما شئت أو لما شاء؟ قال: بل لما شاء. قال فيوم القيامة تأتيه بما شئت أو بما شاء؟ قال: بل بما شاء، قال: قم فلا مشيئة لك.
هشام وغيلان والأوزاعي:
قال هشام بن محمد السائب الكلبي: كان هشام بن عبد الله قد أنكر على غيلان التكلم في القدر، وتقدّم إليه في ذلك أشدّ التقدم، وقال له في بعض ما توعّده به من الكلام: ما أحسبك تنتهي حتى تنزل بك دعوة عمر بن عبد العزيز إذ احتجّ عليك في المشيئة بقول الله عز وجل: وَما تَشاؤُنَ إِلَّا أَنْ يَشاءَ اللَّهُ
«1» فزعمت أنك لم تلق لها بالا. فقال عمر: اللهم إن كان كاذبا فاقطع يده ورجله ولسانه، واضرب عنقه.
فانته أولى لك، ودع عنك ما ضرّه إليك أقرب من نفعه. فقال له غيلان، لحينه وشقوته: ابعث إليّ يا أمير المؤمنين من يكلمني ويحتجّ عليّ، فإن أخذته حجتي أمسكت عني فلا سبيل لك إليّ، وإن أخذتني حجته فسألتك بالذي أكرمك بالخلافة إلا نفّذت فيّ ما دعا به عمر عليّ. فغاظ قوله هشاما. فبعث إلى الأوزاعي فحكى له ما قال لغيلان وما ردّ غيلان عليه؛ فالتفت إليه الأوزاعي فقال له: أسألك عن خمس أو ثلاث؟ فقال غيلان؛ عن ثلاث. قال الأوزاعي: هل علمت أن الله أعان على ما حرّم؟ قال غيلان: ما علمت وعظمت عنده. قال: فهل علمت أن الله قضى على ما نهى؟ قال غيلان: هذه أعظم، مالي بهذا من علم. قال: فهل علمت أن الله حال دون ما أمر؟ قال غيلان: حال دون ما أمر؟ ما علمت. قال الأوزاعي: هذا مرتاب من أهل الزّيغ. فأمر هشام بقطع يده ورجله، ثم ألقى به في الكناسة. فاحتوشه «2» الناس يعجبون من عظيم ما أنزل الله به من نقمته. ثم أقبل رجل كان كثيرا ما ينكر عليه(2/219)
المتكلم في القدر، فتخلل الناس حتى وصل إليه، فقال: يا غيلان، اذكر دعاء عمر.
فقال غيلان: أفلح إذا هشام، إن كان الذي نزل بي دعاء عمر أو بقضاء سابق فإنه.
لا حرج على هشام فيما أمر به فبلغت كلمته هشاما، فأمر بقطع لسانه وضرب عنقه، لتمام دعوة عمر. ثم التفت هشام إلى الأوزاعي وقال له قد قلت يا أبا عمرو ففسّر، فقال: نعم؛ قضى على ما نهى عنه: نهى آدم عن أكل الشجرة، وقضى عليه بأكلها.
وحال دون ما أمر، أمر إبليس بالسجود لآدم وحال بينه وبين ذلك. وأعان على ما حرّم، حرّم الميتة وأعان المضطر على أكلها.
ابن أبي عروبة وقتادة:
الرياشيّ عن سعيد بن عامر عن جويرية عن سعيد بن أبي عروبة قال: لما سألت قتادة عن القدر قال: رأي العرب تريد أم رأي العجم؟ فقلت: بل رأي العرب.
قال: فإنه لم يكن أحد من العرب إلا وهو يثبت القدر، وأنشد:
ما كان قطعي هول كلّ تنوفة ... إلّا كتابا قد خلا مسطورا «1»
وقال أعرابيّ: الناظر في قدر الله كالناظر في عين الشمس، يعرف ضوءها ولا يختم على حدودها.
وقال: كعب بن زهير:
لو كنت أعجب من شيء لأعجبني ... سعي الفتى وهو مخبوء له القدر
يسعى الفتى لأمور ليس يدركها ... فالنفس واحدة والهم منتشر
والمرء ما عاش ممدود له أمل ... لا تنتهي العين حتى ينتهي الأثر
وقال آخر:
والجدّ أنهض بالفتى من عقله ... فانهض بجدّ في الحوادث أو ذر
ما أقرب الأشياء حين يسوقها ... قدر وأبعدها إذا لم تقدر(2/220)
بين النبي صلّى الله عليه وسلم وقدري:
عبد الرحمن القصير قال: حدّثنا يونس بن بلال عن يزيد بن أبي حبيب أنّ رجلا قال للنبي صلّى الله عليه وسلم: يا رسول الله، أيقدّر الله عليّ الشرّ ثم يعذّبني عليه؟ قال: «نعم. وأنت أظلم» .
وحدّثني أبو عبد الرحمن المقري، يرفعه إلى أبي هريرة، عن عمر بن الخطاب رضي الله عنه عن رسول الله صلّى الله عليه وسلم: «لا تجالسوا أهل القدر ولا تفاتحوهم» .
ومن حديث عبد الله بن مسعود، قال: ما كان كفر بعد نبوّة قط إلا كان مفتاحه التكذيب بالقدر.
أبو العتاهية وابن أشرس بين يدي المأمون:
ثمامة بن أشرس قال: دخل أبو العتاهية على المأمون لما قدم العراق، فأمر له بمال وجعل يحادثه، فقال له يوما: ما في الناس أجهل من القدريّة. فقال له المأمون: أنت بصناعتك أبصر، فلا تتخطاها إلى غيرها. قال له: يا أمير المؤمنين، أجمع وبين من شئت منهم. فأرسل إليّ، فدخلت عليه، فقال لي: هذا يزعم أنك وأصحابك لا حجّة عندكم. قلت: فليسأل عما بدا له. فحرّك أبو العتاهية يده وقال: من حرّك هذه؟ قلت: من ناك أمّه! فقال: يا أمير المؤمنين، شتمني. قلت له: نقضت أصلك يا ماص بظر أمّه! فضحك المأمون. فقلت له: يا جاهل! تحرّك يدك ثم تقول: من حرّكها؟ فإن كان الله حرّكها فلم أشتمك؛ وإن كنت أنت المحرّك لها فهو قولي.
قال له المأمون: عندك زيادة في المسألة.
قال الكندي في الفن التاسع من التوحيد: اعلم أنّ العالم كله مسوس بالقضاء والقدر- أعني بالقضاء- ما قسم لكل معلول مما هو أصلح وأحكم، وأتقن في بنية الكل، لأنه جل ثناؤه خلق وأبدع مضطرا ومختارا بتمام القدرة، فلما كان المختار غير تام الحكمة؛ لأنّ تمام الحكمة لمبدع الكل، كان لو أطلق واختياره لاختار كثيرا مما(2/221)
فيه فساد الكل، فقدّر جل ثناؤه بنية للكل تقديرا محكما، فصيّر بعضه سوانح لبعض «1» ، يختار بإرادته ومشيئته غير مقهور مما هو أصلح وأحكم في بنية الكل؛ فتقدير هذه السوانح هو القدر. فبالقضاء والقدر ساس جلّ ثناؤه جميع ما أبدع، فهذه السياسة المحكمة المتقنة التي لا يدخلها زلل ولا نقص. فاتضح أنّ كل معلول فيما قسم له ربّه من الأحوال لا خارج عنها، وأنّ بعض ذلك باضطرار وبعضه باختيار، وأن المختار عن سوانح قدره اختار، وبإرادته لا بالكره منه فعل.
سئل أعرابيّ عن القدر فقال: ذاك علم اختصمت فيه الظنون، وكثر فيه المختلفون، والواجب علينا أن نردّ ما أشكل من حكمه إلى ما سبق من علمه.
واصطحب مجوسيّ وقدري في سفر، فقال القدري للمجوسي: مالك لا تسلم قال: إن أذن الله في ذلك كان. قال: إنّ الله قد أذن، إلا أن الشيطان لا يدعك.
قال: فأنا مع أقواهما.
وقال رجل لهشام بن الحكم: أنت تزعم أنّ الله في فضله وكرمه وعدله كلّفنا ما لا نطيقه ثم يعذّبنا عليه؟ قال هشام: قد والله فعل، ولكن لا نستطيع أن نتكلم.
عمر بن عبيد وابن مسكين:
اجتمع عمرو بن عبيد مع الحارث بن مسكين بمنى، فقال له: إنّ مثلي ومثلك لا يجتمعان في مثل هذا الموضع فيفترقان من غير فائدة؛ فإن شئت فقل، وإن شئت فأنا أقول. قال له: قل. قال: هل تعلم أحدا أقبل للعذر من الله عز وجل؟ قال: لا. قال:
فهل تعلم عذرا أبين من عذر من قال «لا أقدر» فيما تعلم أنت أنه لا يقدر عليه؟
قال: فلم لا يقبل؟ من لا أقبل للعذر منه، عذر من لا أبين من عذره؟ فانقطع الحارث بن مسكين فلم يردّ شيئا.(2/222)
ردّ المأمون على الملحدين وأهل الأهواء
قال المأمون للثّنوي الذي تكلم عنده: أسألك عن حرفين لا أزيد عليهما: هل ندم مسيء قط على إساءته؟ قال: بلى. قال: فالندم على الإساءة إساءة أم إحسان؟ قال: بل إحسان. قال: فالذي ندم هو الذي أساء أم هو غيره؟ قال: بل هو الذي أساء. قال:
فأرى صاحب الخير هو صاحب الشرّ قال: فإني أقول: الذي ندم غير الذي أساء.
قال: فندم على شيء كان منه أم على شيء كان من غيره. فسكت.
وقال له أيضا: أخبرني عن قولك باثنين، هل يستطيع أحدهما أن يخلق خلقا لا يستعين فيه بصاحبه؟ قال: نعم. قال: فما تصنع باثنين؟ واحد يخلق كل شيء خير لك وأصحّ.
وقال المأمون للمرتدّ الخراساني الذي أسلم على يديه وحمله معه إلى العراق فارتدّ عن الإسلام، أخبرني: ما الذي أوحشك مما كنت به آنسا من ديننا؟ فو الله لأن أستحييك بحق أحبّ إليّ من أن أقتلك بحق، وقد صرت مسلما بعد أن كنت كافرا، ثم عدت كافرا بعد أن صرت مسلما. فإن وجدت عندنا دواء لدائك تداويت به، وإن أخطأك الشفاء ونبا عليك الدواء، كنت قد أبليت العذر في نفسك ولم تقصّر في الاجتهاد لها، فإن قتلناك قتلناك في الشريعة، وترجع أنت في نفسك إلى الاستبصار واليقين ولم تفرّط في الدخول من باب الحزم. قال المرتد: أوحشني منكم ما رأيت من الاختلاف في دينكم. قال المأمون: لنا اختلافان: أحدهما كاختلافنا في الأذان، والتكبير في الجنائز، وصلاة العيدين والتشهد، والتسليم من الصلاة، ووجوه القراءات، واختلاف وجوه الفتيا، وما أشبه ذلك؛ وهذا ليس باختلاف، وإنما هو تخيير وتوسعة وتخفيف من السنّة؛ فمن أذن مثنى وأقام مثنى لم يأثم، ومن ربّع لم يأثم.
والاختلاف الآخر كنحو اختلافنا في تأويل الآية من كتاب الله، وتأويل الحديث عن نبينا، مع اجتماعنا على أصل التنزيل، واتفاقنا على عين الخبر؛ فإن كان إنما أوحشك هذا فينبغي أن يكون اللفظ بجميع التوراة والإنجيل متّفقا على تأويله كما(2/223)
يكون متّفقا على تنزيله، ولا يكون بين اليهود والنصارى اختلاف في شيء من التأويلات ولو شاء الله أن ينزل كتبه مفسرة، ويجعل كلام أنبيائه ورسله لا يختلف في تأويله لفعل؛ ولكنّا لم نجد شيئا من أمور الدين والدّنيا وقع إلينا على الكفاية إلا مع طول البحث والتّحصيل والنظر، ولو كان الأمر كذلك لسقطت البلوى والمحن، وذهب التفاضل والتباين، ولما عرف الحازم من العاجز، ولا الجاهل من العالم، وليس على هذا بنيت الدنيا. قال المرتد: أشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأن المسيح عبد الله، وأن محمدا صادق، وأنك أمير المؤمنين.
بينه وبين علي ابن موسى:
وقال المأمون لعليّ بن موسى الرّضا: بم تدّعون هذا الأمر. قال: بقرابة عليّ من رسول الله صلّى الله عليه وسلم وبقرابة فاطمة منه. فقال له المأمون: إن لم يكن ها هنا إلا القرابة فقد خلف رسول الله صلّى الله عليه وسلم من أهل بيته، من كان أقرب إليه من علي أو من في مثل قعدده «1» ، وإن كان بقرابة فاطمة من رسول الله صلّى الله عليه وسلم، فإن الحق بعد فاطمة للحسن والحسين، وليس لعليّ في هذا الأمر حقّ وهما حيّان، فإذا كان الأمر كذلك فإن عليا قد ابتزّهما حقّهما وهما صحيحان، واستولى على ما لا يجب له.
فما أجابه عليّ بن موسى بشيء.
من واصل إلى ابن عبيد:
كتب واصل بن عطاء الغزّال إلى عمرو بن عبيد:
أما بعد، فإن استلاب نعمة العبد بيد الله، وتعجيل المعاقبة بيد الله، ومهما يكن ذلك فباستكمال الآثام، والمجاورة للجدال الذي يحول بين المرء وقلبه، وقد عرفت ما كان يطعن به عليك وينسب إليك ونحن بين ظهراني الحسن بن أبي الحسن رحمه الله، لاستبشاع قبح مذهبك، نحن ومن قد عرفته من جميع أصحابنا، ولمّه «2» إخواننا(2/224)
الحاملين الواعين عن الحسن؛ فلله تلكم لمّة وأوعياء وحفظة، ما أدمت الطبائع «1» ، وأرزن المجالس، وأبين الزّهد وأصدق الألسنة، اقتدوا والله بمن مضى شهابهم، وأخذوا بهديهم؟ عهدي والله بالحسن وعهدهم أمس في مسجد رسول الله صلّى الله عليه وسلم بشرقي الأجنحة، وآخر حديث حدّثنا إذ ذكر الموت وهول المطلع، فأسف على نفسه واعترف بذنبه، ثم التفت والله يمنة ويسرة معتبرا باكيا؛ فكأني أنظر إليه يمسح مرفضّ العرق عن جبينه، ثم قال: اللهم إني قد شددت وضين «2» راحلتي، وأخذت في أهبة سفري إلى محل القبر وفرش العفر «3» ، فلا تؤاخذني بما ينسبون إليّ من بعدي. اللهم إني قد بلّغت ما بلغني عن رسولك، وفسّرت من محكم تأويلك ما قد صدّقه حديث نبيك؛ ألا وإني خائف عمرا! ألا وإني خائف عمرا! شكاية لك إلى ربّه جهرا، وأنت عن يمين أبي حذيفة أقربنا إليه؛ وقد بلغني كبير ما حمّلته نفسك، وقلّدته عنقك، من تفسير التنزيل، وعبارة التأويل؛ ثم نظرت في كتبك، وما أدّته إلينا روايتك من تنقيص المعاني، وتفريق المباني، فدلّت شكاية الحسن عليك بالتحقيق بظهور ما ابتدعت، وعظيم ما تحمّلت؛ فلا يغررك أي أخي تدبير من حولك، وتعظيمهم طولك «4» ، وخفضهم أعينهم عنك إجلالا لك، غدا والله تمضي الخيلاء والتفاخر، وتجزى كلّ نفس بما تسعى. ولم يكن كتابي إليك، وتجليبي عليك، إلا ليذكّرك بحديث الحسن رحمه الله، وهو آخر حديث حدّثناه. فأدّ المسموع وانطق بالمفروض، ودع تأويلك الأحاديث على غير وجهها، ركن من الله وجلا «5» فكأنّ قد.
ما جاء في ذم الحمق والجهل
قال النبي صلّى الله عليه وسلم «الجاهل يظلم من خالطه، ويعتدي على من هو دونه، ويتطاول على من هو فوقه، ويتكلّم بغير تمييز، وإن رأى كريمة أعرض عنها، وإن عرضت فتنة أردته وتهوّر فيها» .(2/225)
وقال أبو الدّرداء: علامة الجاهل ثلاث: العجب، وكثرة المنطق، وأن ينهى عن شيء ويأتيه.
وقال أردشير: حسبكم دلالة على عيب الجاهل أنّ كل الناس تنفر منه وتغضب من أن تنسب إليه.
وكان يقال: لا تغررك من الجاهل قرابة ولا أخوّة ولا إلف؛ فإنّ أحقّ الناس بتحريق النار أقربهم منها.
وقيل: خصلتان تقرّبانك من الأحمق: كثرة الالتفات، وسرعة الجواب.
وقيل: لا تصطحب الجاهل، فإنه يريد أن ينفعك فيضرّك.
ولبعضهم:
لكلّ داء دواء يستطبّ به ... إلّا الحماقة أعيت من يداويها
ولأبي العتاهية:
احذر الأحمق أن تصحبه ... إنّما الأحمق كالثّوب الخلق
كلّما رقّعته من جانب ... زعزعته الرّيح يوما فانخرق
أو كصدع في زجاج فاحش ... هل ترى صدع زجاج يلتصق
فإذا عاتبته كي يرعوي ... زاد شرّا وتمادى في الحمق
أصناف الإخوان
قال العتابي: الإخوان ثلاثة أصناف: فرع بائن من أصله، وأصل متّصل بفرعه، وفرع لبس له أصل. فأما الفرع البائن من أصله، فإخاء بني على مودّة ثم انقطعت فحفظ على ذمام الصّحبة. وأما الأصل المتصل بفرعه، فإخاء أصله الكرم وأغصانه التقوى. وأما الفرع الذي لا أصل له، فالموّه الظاهر الذي ليس له باطن.
وقال النبي صلّى الله عليه وسلم: «الصاحب رقعة في قميصك فانظر بم ترقعه» .
وقالوا: من علامة الصديق أن يكون لصديق صديقه صديقا، ولعدوّه عدوّا.(2/226)
وفد دحية الكلبي على عليّ رضي الله عنه، فما زال يذكر معاوية ويطريه في مجلسه؛ فقال عليّ عليه السلام:
صديق عدوّي داخل في عداوتي ... وإنّي لمن ودّ الصديق ودود
فلا تقربن منّي وأنت صديقه ... فإنّ الّذي بين القلوب بعيد
وفي هذا المعنى قول العتّابي:
تودّ عدوّي ثم تزعم أنّني ... صديقك إنّ الرأي عنك لعازب
وليس أخي من ودّني رأي عينه ... ولكن أخي من ودّني وهو غائب
وقال آخر:
ليس الصديق الذي إن زلّ صاحبه ... يوما رأى الذنب منه غير مغفور
وإن أضاع له حقّا فعاتبه ... فيه أتاه بتزويق المعاذير
إنّ الصديق الذي ألقاه يعذر لي ... ما ليس صاحبه فيه بمعذور
وقال آخر:
كم من أخ لك لم يلده أبوكا ... وأخ أبوه أبوك قد يجفوكا
صاف الكرام إذا أردت إخاءهم ... واعلم بأنّ أخا الحفاظ أخوكا
والناس ما استغنيت كنت أخاهم ... وإذا افتقرت إليهم رفضوكا
وقال بعضهم:
أخوك الذي إن قمت بالسيف عامدا ... لتضربه لم يستغشّك في الودّ
ولو جئت تبغي كفّه لتبينها ... لبادر إشفاقا عليك من الردّ
يرى أنه في الودّ كان مقصّرا ... على أنّه قد زاد فيه على الجهد
وقال آخر:
إن كنت متّخذا خليلا ... فتنقّ وانتقد الخليلا «1»(2/227)
من لم يكن لك منصفا ... في الودّ فابغ به بديلا
ولقلّما تلقى الليئم عليك إلّا مستطيلا «1» وللعطويّ:
صن الودّ إلّا عن الأكرمين ... ومن بمؤاخاته تشرف
ولا تغترر من ذوي خلّة ... بما موّهوا لك أو زخرفوا
فكم من أخ ظاهر ودّه ... ضمير مودّته أجيف «2»
إذا أنت عاتبته في الإخا ... ء تنكر منه الذي تعرف
وكتب العباس بن جرير إلى الحسن بن مخلد:
إرع الإخاء أبا محمّد للذي يصفو وصنه
وإذا رأيت منافسا ... في نيل مكرمة فكنه
إن الصّديق هو الذي ... يرعاك حيث تغيب عنه
فإذا كشفت إخاءه ... أحمدت ما كشّفت عنه
مثل الحسام إذا انتضا ... هـ أخو الحفيظة لم يخنه «3»
يسعى لما تسعى له ... كرما وإن لم تستعنه
ولآخر:
خير إخوانك المشارك في المر وأين الشريك في المرّ أينا الذي إن شهدت زادك في السرّ وإن غبت كان أذنا وعينا ولآخر:
ومن البلاء أخ جنايته ... علق بنا ولغيرنا سلبه «4»
وقال آخر:(2/228)
إذا رأيت انحرافا من أخي ثقة ... ضاقت عليّ برحب الأرض أوطاني
فإن صددت بوجهي كي أكافئه ... فالعين غضبى وقلبي غير غضبان
وكتب بعضهم إلى محمد بن بشار:
من لم يردك فلا ترد ... هـ وكن كمن لم تستفده
باعد أخاك لبعده ... وإذا دنا شبرا فزده
كم من أخ لك يا بن بشّار وأمّك لم تلده
وأخي مناسبة يسو ... ءك عيبه لم تفتقده
فأجابه محمد بن بشار:
غلط الفتى في قوله ... من لم يردك فلا ترده
من نافس الإخوان لم ... يبد العتاب ولم يعده
عاتب أخاك إذا هفا ... واعطف بودّك واستعده «1»
وإذا أتاك بعيبه ... واش فقل لم تعتمده
ومما يستجلب الإخاء والمودة ولين الكلمة
قال علي بن أبي طالب كرم الله وجهه: من لانت كلمته وجبت محبته.
وينشد:
«كيف أصبحت كيف أمسيت» ممّا ... ينبت الوّدّ في فؤاد الكريم
وعلى الصديق ألّا يلقى صديقه إلا بما يحب، ولا يؤذي جليسه فيما هو عنه بمعزل، ولا يأتي بما يعيب مثله، ولا يعيب ما يأني شكله.
وقد قال المتوكل الّليثي:
لا تنه عن خلق وتأتي مثله ... عار عليك إذا فعلت عظيم(2/229)
وقال عمر بن الخطاب رضي الله عنه: ثلاث يثبتن لك الودّ في صدر أخيك: أن تبدأه بالسلام، وتوسع له في المجلس، وتدعوه بأحبّ الأسماء إليه.
وقال: ليس شيء أبلغ في خير ولا شرّ من صاحب.
وقال الشاعر:
إن كنت تبغي المرء أو أصله ... وشاهدا يخبر عن غائب
فاعتبر الأرض بأشباهها ... واعتبر الصاحب بالصاحب
لعدي بن زيد:
عن المرء لا تسأل وأبصر قرينه ... فكل قرين بالمقارن يقتدي «1»
ولعمرو بن جميل التّغلبي:
سأصبر من صديقي إن جفاني ... على كلّ الأذى إلّا الهوانا «2»
فإنّ الحرّ يأنف في خلاء ... وإن حضر الجماعة أن يهانا
بين مطيع وخاطب مودة:
قال رجل لمطيع بن إياس: جئتك خاطبا مودتك. فقال له: قد زوجتك، على شرط أن تجعل صداقها ألّا تسمع فيّ مقالة الناس.
ويقال في المثل: من لم يزدرد الريق «3» لم يستكثر من الصديق.
وما أحسن ما قال إبراهيم بن عباس:
يا صديقي الذي بذلت له الو ... دّ وأنزلته على أحشائي
إنّ عينا أقذيتها لتراعي ... ك على ما بها من الأقذاء «4»
ما بها حاجة إليك ولكن ... هي معقودة بحبل الوفاء(2/230)
ولابن أبي حازم:
ارض من المرء في مودّته ... بما يؤدّي إليك ظاهره
من يكشف الناس لم يجد أحدا ... تصحّ منه له سرائره
يوشك ألّا تتمّ وصل أخ ... في كلّ زلّاته تنافره
إن ساءني صاحبي احتملت وإن ... سرّ فإني أخوه شاكره
أصفح عن ذنبه وإن طلب ال ... عذر فإني عليه عاذره
ولغيره:
إنّي إذا أبطأت عنك فلم أزل ... لأحداث دهر لا يزال يعوق
لقد أصبحت نفسي عليك شفيقة ... ومثلي على أهل الوفاء شفيق
أسرّ بما فيه سرورك إنّني ... جدير بمكنون الإخاء حقيق «1»
عدوّ لمن عاديت سلم مسالم ... لكلّ امريء يهوى هواك صديق
ولأبي عبد الله بن عرفة:
هموم رجال في أمور كثيرة ... وهمّي من الدّنيا صديق مساعد
يكون كروح بين جسمين فرّقا ... فجساهما جسمان والرّوح واحد
وقال بعض الحكماء: الإخاء جوهرة رقيقة، وهي ما لم توقّها وتحرسها معرّضة للآفات. فرض الإخاء بالحدّ له «2» حتى تصل إلى قربه، وبالكظم «3» حتى يعتذر إليك من ظلمك، وبالرّضى حتى لا تستكثر من نفسك الفضل ولا من أخيك التقصير.
ولمحمود الوراق:
لا برّ أعظم من مساعدة ... فاشكر أخاك على مساعدته(2/231)
وإذا هفا فأقله هفوته ... حتى يعود أخا كعادته
فالصفح عن زلل الصّديق وإن ... أعياك خير من معاندته
ولعبد الصمد بن المعذّل:
من لم يردك ولم ترده ... لم يستفيدك ولم تفده
قرّب صديقك ما نأى ... وزد التّقارب واستزده
وإذا وهت أركان ... من أخي ثقة فشده «1»
باب من أخبار الخوارج
الخوارج وعلي بن أبي طالب:
لما خرجت الخوارج على عليّ بن أبي طالب رضي الله عنه، وكانوا من أصحابه، وكان من أمر الحكمين ما كان واختداع عمرو لأبي موسى الأشعري، قالوا: لا حكم إلا لله. فلما سمع عليّ رضي الله عنه نداءهم. قال: كلمة حق يراد بها باطل، وإنما مذهبهم ألّا يكون أمير، ولا بد من أمير برّا كان أو فاجرا. وقالوا لعليّ: شككت في أمرك، وحكّمت عدوّك في نفسك. وخرجوا إلى حروراء، وخرج إليهم عليّ رضي الله عنه، فخطبهم متوكّئا على قوسه، وقال:
هذا مقام من فلج فيه فلج يوم القيامة «2» ، أنشدكم الله، هل علمتم أن أحدا كان أكره للحكومة مني؟ قالوا: اللهم لا. قال: أفعلمتم أنكم أكرهتموني عليها حتى قبلتها؟ قالوا اللهم نعم. قال: فعلام خالفتموني ونابذتموني؟ قالوا: إنا أتينا ذنبا عظيما فتبنا إلى الله منه، فتب إلى الله منه. واستغفره نعد إليك. فقال علي: إني أستغفر الله من كل ذنب. فرجعوا معه وهم في ستة آلاف. فلما استقرّوا بالكوفة أشاعوا أنّ عليّا رجع عن التحكيم وتاب منه ورآه ضلالا. فأتى الأشعث بن قيس عليّا رضي الله عنه،(2/232)
فقال: يا أمير المؤمنين، إن الناس قد تحدّثوا أنك رأيت الحكومة ضلالا والإقامة عليها كفرا وتبت. فخطب عليّ الناس فقال: من زعم أنّي رجعت عن الحكومة فقد كذب، ومن رآها ضلالا فهو أضلّ منها. فخرجت الخوارج من المسجد فحكمت، فقيل لعليّ: إنهم خارجون عليك. فقال: لا أقاتلهم حتى يقاتلوني، وسيفعلون.
فوجّه إليهم عبد الله بن العباس، فلما صار إليهم رحّبوا به وأكرموه، فرأى منهم جباها قرحت «1» لطول السجود، وأيديا كثفنات «2» الإبل، وعليهم قمص مرحضة «3» ، وهم مشمّرون. قالوا: ما جاء بك يا بن عباس؟ قال: جئتكم من عند صهر رسول الله صلّى الله عليه وسلم وابن عمه، وأعلمنا بربّه وسنة نبيّه، ومن عند المهاجرين والأنصار: فقالوا: إنا أتينا عظيما حين حكّمنا الرجال في دين الله؛ فإن تاب كما تبنا ونهض لمجاهدة عدوّنا رجعنا. فقال ابن عباس: نشدتكم الله إلا ما صدقتم أنفسكم، أما علمتم أن الله أمر بتحكيم الرجال في أرنب تساوي ربع درهم تصاد في الحرم، وفي شقاق رجل وامرأته؟ فقالوا: اللهم نعم. قال: فأنشدكم الله هل علمتم أن رسول الله صلّى الله عليه وسلم أمسك عن القتال للهدنة بينه وبين أهل الحديبية؟ قالوا: نعم، ولكن عليّا محا نفسه من خلافة المسلمين. قال ابن عباس: ليس ذلك يزيلها عنه وقد محا رسول الله صلّى الله عليه وسلم اسمه من النبوة، وقال سهيل بن عمرو: لو علمت أنك رسول الله ما حاربتك فقال للكاتب: اكتب «محمد بن عبد الله» . وقد أخذ عليّ على الحكمين ألا يجورا، وإن يجورا فعليّ أولى من معاوية وغيره. قالوا: إنّ معاوية يدّعي مثل دعوى عليّ، قال: فأيهما رأيتموه أولى فولّوه. قالوا: صدقت. قال ابن عباس: ومتى جار الحكمان فلا طاعة لهما ولا قبول لقولهما. فاتبعه منهم ألفان وبقي أربعة آلاف.
فصلى بهم صلواتهم ابن الكواء وقال: متى كانت حرب فرئيسكم شبث بن ربعيّ الرّياحي. فلم يزالوا على ذلك حتى اجتمعوا على البيعة لعبد الله بن وهب الرّاسبي،(2/233)
فخرج بهم إلى النّهروان، فأوقع بهم عليّ، فقتل منهم ألفين وثمانمائة، وكانّ عددهم ستة آلاف. وكان منهم بالكوفة زهاء ألفين ممن يسرّ أمره؛ فخرج منهم رجل بعد أن قال علي رضي الله عنه: ارجعوا وادفعوا إلينا قاتل عبد الله ابن خبّاب. قالوا: كلنا قتله وشرك في دمه.
وذلك أنهم لما خرجوا إلى النهروان لقوا مسلما ونصرانيا، فقتلوا المسلم وأوصوا بالنّصراني خيرا، وقالوا: احفظوا ذمّة نبيكم. ولقوا عبد الله ابن خبّاب، وفي عنقه المصحف ومعه امرأته وهي حامل، فقالوا: إن هذا الذي في عنقك يأمرنا بقتلك.
فقال لهم: أحيوا ما أحيا القرآن، وأميتوا ما أمام القرآن. قالوا: حدّثنا عن أبيك.
قال: حدثني أبي قال: سمعت رسول الله صلّى الله عليه وسلم يقول: تكون فتنة يموت فيها قلب الرجل كما يموت بدنه، يمسي مؤمنا ويصبح كافرا، فكن عبد الله المقتول ولا تكن عبد الله القاتل. قالوا: فما تقول في أبي بكر وعمر؟ فأثنى خيرا، قالوا: فما تقول في الحكومة والتحكيم؟ قال: أقول إن عليا أعلم بالله منكم وأشدّ توقّيا على دينه وأبعد بصيرة. قالوا: إنك لست تتبع الهدى، بل الرجال على أسمائها. ثم قرّبوه إلى شاطيء البحر فذبحوه، فامذقرّ دمه- أي جرى مستقيما على دفة- وساموا «1» رجلا نصرانيا بنخلة- فقال: هي لكم هبة. قالوا: ما كنا نأخذها إلا بثمن. فقال: ما أعجب هذا! أتقتلون مثل عبد الله بن خبّاب ولا تقبلون منا جنى نخلة إلا بثمن.
فرقهم:
ثم افترقت الخوارج على أربعة أضرب: الإباضية، أصحاب عبد الله بن إباض والصّفرية واختلفوا في تسميتهم. فقال قوم: سمّوا بابن الصفّار. وقال قوم: نهكتهم العبادة فاصفرّت وجوههم. ومنهم البيهسية: وهم أصحاب ابن بيهس. ومنهم الأزارقة، أصحاب نافع بن الأزرق الحنفي، وكانوا قبل على رأي واحد لا يختلفون إلّا في الشيء الشاذ.(2/234)
هم وابن الزبير:
فبلغهم خروج مسلم بن عقبة إلى المدينة وقتله أهل حرّة، وأنه مقبل إلى مكة، فقالوا: يجب علينا أن نمنع حرم الله منهم ونمتحن ابن الزبير، فإن كان على رأينا تابعناه. فلما صاروا إلى ابن الزبير عرّفوه أنفسهم وما قدموا له، فأظهر لهم أنه على رأيهم، حتى أتاهم مسلم بن عقبة وأهل الشام، فدافعوه إلى أن يأتي رأي يزيد بن معاوية، ولم يتابعوا ابن الزبير؛ ثم تناظروا فيما بينهم، فقالوا: ندخل إلى هذا الرجل فننظر ما عنده، فإن قدّم أبا بكر وعمر وبرىء من عثمان وعليّ وكفّر أباه وطلحة بايعناه؛ وإن تكن الأخرى ظهر لنا ما عنده فتشاغلنا بما يجدي علينا. فدخلوا على ابن الزبير وهو متبذّل «1» وأصحابه متفرّقون عنه، فقالوا له: إنا جئناك لتخبرنا رأيك، فإن كنت على صواب بايعناك، وإن كنت على خلاف دعوناك إلى الحق؛ ما تقول في الشيخين؟ قال: خيرا، قالوا: فما تقول في عثمان الذي حمى الحمى «2» ، وآوى الطريد، وأظهر لأهل مصر شيئا وكتب بخلافه، وأوطأ آل بني معيط رقاب الناس وآثرهم بفيء المسلمين؛ وفي الذي بعده الذي حكّم الرجال في دين الله وأقام على ذلك غير تائب ولا نادم؛ وفي أبيك وصاحبه وقد بايعا عليّا، وهو إمام عادل مرضي لم يظهر منه كفر، ثم نكثا بيعته وأخرجا عائشة تقاتل، وقد أمرها الله وصواحبها أن يقرن «3» في بيوتهن، وكان لك في ذلك ما يدعوك إلى التوبة؛ فإن أنت قبلت كلّ ما نقول لك الزّلفى عند الله، والنصر على أيدينا إن شاء الله، ونسأل الله لك التوفيق، وإن أبيت خذلك الله وانتصر منك بأيدينا.
فقال ابن الزبير: إن الله أمر وله العزّة والقدرة في مخاطبة أكفر الكافرين وأعتى العاتين بأرقّ من هذا القول؛ قال لموسى وأخيه صلى الله عليهما: اذْهَبا إِلى فِرْعَوْنَ إِنَّهُ طَغى، فَقُولا لَهُ قَوْلًا لَيِّناً لَعَلَّهُ يَتَذَكَّرُ أَوْ يَخْشى
«4» . وقال رسول الله صلّى الله عليه وسلم: لا(2/235)
تؤذوا الأحياء بسبّ الموتى. فنهى عن سبّ أبي جهل من أجل عكرمة ابنه، وأبو جهل عدوّ الله ورسوله، والمقيم على الشرك، والجادّ في محاربة رسول الله صلّى الله عليه وسلم قبل الهجرة والمحارب له بعدها، وكفى بالشرك ذنبا؛ وقد كان يغنيكم عن هذا القول الذي سمّيتم فيه طلحة وأبي أن تقولوا: أتبرأ من الظالمين؟ فإن كانا منهم دخلا في غمار الناس «1» ، وان لم يكونا منهم لم تحفظوني بسبّ أبي وصاحبه، وأنتم تعلمون أن الله جلّ وعزّ قال للمؤمن في أبويه: وَإِنْ جاهَداكَ عَلى أَنْ تُشْرِكَ بِي ما لَيْسَ لَكَ بِهِ عِلْمٌ فَلا تُطِعْهُما وَصاحِبْهُما فِي الدُّنْيا مَعْرُوفاً
«2» وقال: وَقُولُوا لِلنَّاسِ حُسْناً
«3» . وهذا الذي دعوتم إليه أمر له ما بعده، وليس يقنعكم إلا التوقيف والتّصريح، ولعمري إنّ ذلك أحرى بقطع الحجج، وأوضح لمنهاج الحق، وأولى بأن يعرف كلّ صاحبه من عدوّه. فروحوا إليّ من عشيّتكم هذه أكشف لكم ما أنا عليه إن شاء الله تعالى.
خطبة ابن الزبير فيهم:
فلما كان العشي راحوا إليه، فخرج إليهم وقد لبس سلاحه، فلما رأى ذلك نجدة «4» ، قال: هذا خروج منابذ «5» لكم. فجلس على رفع من الأرض فحمد الله وأثنى عليه وصلى على نبيّه، ثم ذكر أبا بكر وعمر أحسن ذكر، ثم ذكر عثمان في السنين الأوائل من خلافته؛ ثم وصلهن بالسّنين التي أنكروا سيرته فيها فجعلها كالماضية، وأخبر أنه آوى الحكم بن أبي العاصي بإذن رسول الله صلّى الله عليه وسلم، وذكر الحمى وما كان فيه من الصلاح، وأنّ القوم استعتبوه من أمور ما كان له أن يفعلها أولا مصيبا ثم أعتبهم بعد ذلك محسنا. وأن أهل مصر لما أتوه بكتاب ذكروا أنه منه بعد أن ضمن لهم العتبى ثم كتب ذلك الكتاب بقتلهم. فدفعوا الكتاب إليه، فحلف بالله(2/236)
أنه لم يكتبه ولم يأمر به؛ وقد أمر الله عزّ وجلّ بقبول اليمين ممن ليس له مثل سابقته، مع ما اجتمع له من صهر رسول الله صلّى الله عليه وسلم، ومكانه من الإمامة، وأن بيعة الرضوان تحت الشجرة إنما كانت بسببه، وعثمان الرجل الذي لزمته يمين لو حلف عليها حلف على حق، فافتداها بمائة ألف ولم يحلف، وقد قال رسول الله صلّى الله عليه وسلم: من حلف بالله فليصدق، ومن حلف بالله فليقبل. وعثمان أمير المؤمنين كصاحبيه. وأنا وليّ وليّه وعدوّ عدوّه، وأبي وصاحبه صاحبا رسول الله صلّى الله عليه وسلم ورسول الله يقول عن الله عز وجل أحد لما قطعت أصبع طلحة: سبقته إلى الجنة. وقال: أوجب طلحة. وكان الصّديق إذا ذكر يوم أحد قال: ذلك يوم كله أو جلّه لطلحة. والزبير حواريّ رسول الله صلّى الله عليه وسلم وصفوته، وقد ذكر أنه في الجنة. وقال عز وجل: لَقَدْ رَضِيَ اللَّهُ عَنِ الْمُؤْمِنِينَ إِذْ يُبايِعُونَكَ تَحْتَ الشَّجَرَةِ
«1» . وما أخبرنا بعد أنه سخط عليهم؛ فإن يكن ما صنعوا حقّا فأهل ذلك هم، وإن يكن زلّة ففي عفو الله تمحيصها «2» ، وفيما وفّقهم له من السابقة مع نبيهم صلّى الله عليه وسلم، ومهما ذكرتموهما به فقد بدأتكم بأمّكم عائشة، فإن أبى آب أن تكون له أمّا، نبذ اسم الإيمان عنه؛ وقد قال جلّ ذكره: النَّبِيُّ أَوْلى بِالْمُؤْمِنِينَ مِنْ أَنْفُسِهِمْ وَأَزْواجُهُ أُمَّهاتُهُمْ
«3» . فنظر بعضهم إلى بعض ثم انصرفوا عنه.
كتاب ابن الأزرق إلى ابن الزبير:
وكتب بعد ذلك نافع بن الأزرق إلى عبد الله بن الزّبير يدعوه إلى أمره: أما بعد، فإني أحذّرك من الله: يوم تجد كلّ نفس ما عملت من خير محضرا وما عملت من سوء تودّ لو أن بينها وبينه أمدا بعيدا، ويحذّركم الله نفسه، فاتق الله ربّك ولا تتولّ الظالمين، فإن الله يقول: وَمَنْ يَتَوَلَّهُمْ (مِنْكُمْ) فَإِنَّهُ مِنْهُمْ
«4» وقال: لا يَتَّخِذِ الْمُؤْمِنُونَ الْكافِرِينَ أَوْلِياءَ مِنْ دُونِ الْمُؤْمِنِينَ وَمَنْ يَفْعَلْ ذلِكَ فَلَيْسَ مِنَ اللَّهِ فِي شَيْءٍ
«5» ، وقد حضرت عثمان يوم قتل. فلعمري لئن كان قتل مظلوما لقد كفر(2/237)
قاتلوه وخاذلوه، ولئن كان قاتلوه مهتدين، وإنهم لمهتدون، لقد كفر من تولّاه ونصره ولقد علمت أنّ أباك وطلحة وعليّا كانوا أشدّ الناس عليه، وكانوا في أمره بين قاتل وخاذل، وأنت تتولى أباك وطلحة وعثمان، فكيف ولاية قاتل متعمّد ومقتول في دين واحد؟ ولقد ولي علي بعده فنفى الشّبهات، وأقام الحدود، وأجرى الأحكام مجاريها، وأعطى الأمور حقّها فيما عليه وله، فبايعه أبوك وطلحة، ثم خلعا بيعته ظالمين له، وإن القول فيك وفيهما لكما قال ابن عباس رحمه الله: إن يكن عليّ في وقت معصيتكم ومحاربتكم له كان مؤمنا لقد كفرتم بقتال المؤمنين وأئمة العدل، ولئن كان كافرا كما زعمتم وفي الحكم جائرا لقد بؤتم «1» بغضب من الله لفراركم من الزحف، ولقد كنت له عدوّا، ولسيرته عائبا، فكيف توليته بعد موته.
بين نجدة وابن الأزرق:
وكتب نجدة. وكان من الصّفرية القعدية، إلى نافع بن الأزرق لمّا بلغه عنه استعراضه للناس وقتله الأطفال، واستحلاله الأمانة:
بسم الله الرحمن الرحيم، أما بعد، فإن عهدي بك وأنت لليتيم كالأب الرحيم، وللضعيف كالأخ البرّ، لا تأخذك في الله لومة لائم، ولا ترى معونة ظالم؛ كذلك كنت أنت وأصحابك. أما تذكر قولك: لولا أني أعلم أن للإمام العادل مثل أجر جميع رعيته ما توليت أمر رجلين من المسلمين، فلما شريت نفسك في طاعة ربك ابتغاء رضوانه، وأصبت من الحق فصّه «2» وركبت مرّه، تجرّد لك الشيطان فلم يكن أحد أثقل وطأة عليه منك ومن أصحابك، فاستمالك واستغواك، فغويت وأكفرت الذين عذرهم الله في كتابه من قعد المسلمين وضعفتهم، فقال جل ثناؤه، وقوله الحق ووعده الصدق: لَيْسَ عَلَى الضُّعَفاءِ وَلا عَلَى الْمَرْضى وَلا عَلَى الَّذِينَ لا يَجِدُونَ ما يُنْفِقُونَ حَرَجٌ إِذا نَصَحُوا لِلَّهِ وَرَسُولِهِ
«3» ثم سمّاهم أحسن الأسماء فقال: ما عَلَى(2/238)
الْمُحْسِنِينَ مِنْ سَبِيلٍ
«1» استحللت قتل الأطفال، وقد نهى رسول الله صلّى الله عليه وسلم عن قتلهم، وقال جل ثناؤه: وَلا تَزِرُ وازِرَةٌ وِزْرَ أُخْرى
«2» وقال في القعد خيرا، وفضّل الله من جاهد عليهم، ولا يدفع منزلة أكثر الناس عملا منزلة من هو دونه.
إلا إذا اشتركا في أصل. أو ما سمعت قوله تبارك وتعالى: لا يَسْتَوِي الْقاعِدُونَ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ غَيْرُ أُولِي الضَّرَرِ وَالْمُجاهِدُونَ فِي سَبِيلِ اللَّهِ
«3» فجعلهم الله من المؤمنين، وفضّل عليهم المجاهدين بأعمالهم. ورأيت من رأيك أن لا تؤدّي الأمانة إلى من يخالفك، والله يأمرك أن تؤدّي الأمانات إلى أهلها. فاتق الله وانظر لنفسك، واتق يَوْماً لا يَجْزِي والِدٌ عَنْ وَلَدِهِ وَلا مَوْلُودٌ هُوَ جازٍ عَنْ والِدِهِ شَيْئاً
«4» فإن الله بالمرصاد، وحكمه العدل. وقوله الفصل. والسلام.
فكتب إليه نافع بن الأزرق:
بسم الله الرحمن الرحيم، أما بعد، فقد أتاني كتابك تعظني فيه وتذكرني، وتنصح لي وتزجرني، وتصف ما كنت عليه من الحق، وما كنت أوثره من الصواب؛ وأنا أسأل الله أن يجعلني من الذين يستمعون القول فيتّبعون أحسنه، وعبت عليّ ما دنت به من إكفار القعد، وقتل الأطفال، واستحلال الأمانة. وسأفسّر لك لم ذلك إن شاء الله: أما هؤلاء القعد فليسوا كمن ذكرت ممن كان بعهد رسول الله صلّى الله عليه وسلم، لأنهم كانوا بمكة مقهورين محصورين، لا يجدون إلى الهرب سبيلا، ولا إلى الاتصال بالمسلمين طريقا؛ وهؤلاء قد فقهوا في الدين، وقرءوا القرآن، والطريق لهم نهج واضح. وقد عرفت ما يقول الله فيمن كان مثلهم، إذ قال: إِنَّ الَّذِينَ تَوَفَّاهُمُ الْمَلائِكَةُ ظالِمِي أَنْفُسِهِمْ قالُوا فِيمَ كُنْتُمْ قالُوا كُنَّا مُسْتَضْعَفِينَ فِي الْأَرْضِ قالُوا أَلَمْ تَكُنْ أَرْضُ اللَّهِ واسِعَةً فَتُهاجِرُوا فِيها
«5» . وقال: فَرِحَ الْمُخَلَّفُونَ بِمَقْعَدِهِمْ خِلافَ رَسُولِ اللَّهِ
«6» . وقال: وَجاءَ الْمُعَذِّرُونَ مِنَ الْأَعْرابِ لِيُؤْذَنَ لَهُمْ. وَقَعَدَ الَّذِينَ(2/239)
كَذَبُوا اللَّهَ وَرَسُولَهُ. سَيُصِيبُ الَّذِينَ كَفَرُوا مِنْهُمْ عَذابٌ أَلِيمٌ
«1» . فانظر إلى أسمائهم وسماتهم.
وأما أمر الأطفال فإن نبي الله نوحا عليه السلام كان أعرف بالله يا نجدة مني ومنك، فقال: رَبِّ لا تَذَرْ عَلَى الْأَرْضِ مِنَ الْكافِرِينَ دَيَّاراً إِنَّكَ إِنْ تَذَرْهُمْ يُضِلُّوا عِبادَكَ وَلا يَلِدُوا إِلَّا فاجِراً كَفَّاراً
«2» فسماهم بالكفر وهم أطفال وقبل أن يولدوا؛ فكيف جاز لك في قوم نوح ولا يجوز في قومنا والله يقول: أَكُفَّارُكُمْ خَيْرٌ مِنْ أُولئِكُمْ أَمْ لَكُمْ بَراءَةٌ فِي الزُّبُرِ
«3» وهؤلاء كمشركي العرب، لا تقبل منهم جزية، وليس بيننا وبينهم إلا السيف أو الإسلام.
وأما استحلال الأمانات ممن خالفنا فإن الله عز وجل أحل لنا أموالهم، كما أحل لنا دماءهم، فدماؤهم حلال طلق، وأموالهم فيء للمسلمين، فاتق الله وراجع نفسك، فإنه لا عذر لك إلّا بالتوبة، ولا يسعك خذلاننا والقعود دوننا، وترك ما نهجناه لك من طريقتنا ومقالتنا. والسلام على من أقرّ بالحق وعمل به.
مرداس وابن زياد:
وكان مرداس أبو بلال من الخوارج، وكان مستترا، فلما رأى جدّ ابن زياد في قتل الخوارج وحبسهم، قال لأصحابه: إنه والله لا يسعنا المقام بين هؤلاء الظالمين، تجري علينا أحكامهم مجانبين للعدل، مفارقين للعقل؛ والله إنّ الصبر على هذا لعظيم، وإن تجريد السيف وإخافة السبيل لعظيم، ولكنا لا نبتدئهم، ولا نجرّد سيفا، ولا نقاتل إلا من قاتلنا. فاجتمع أصحابه وهم ثلاثون رجلا، فأرادوا أن يولّوا أمرهم حريث بن حجل، فأبى. فولّوا أمرهم مرداسا أبا بلال. فلما مضى بأصحابه لقيه عبد الله بن رباح الأنصاريّ، وكان له صديقا، فقال له: يا أخي، قال نعم؟
قال: أريد أن أهرب بديني ودين أصحابي هؤلاء من أحكام الجورة والظلمة. فقال(2/240)
له: أعلم بكم أحد؟ قال: لا. قال: فارجع. قال: أو تخاف عليّ مكروها؟ قال: نعم وأن يؤتى بك. قال: فلا تخف؛ فإني لا أجرّد سيفا، ولا أخيف أحدا، ولا أقاتل إلا من قاتلني.
ثم مضى حتى نزل آسك وهو موضع دون خراسان، فمر به مال يحمل لابن زياد، وقد بلغ أصحابه أربعين رجلا، فحط ذلك المال، وأخذ منه عطاءه وأعطيات أصحابه، وردّ الباقي على المرسل، وقال: قولوا لصاحبكم إنما قبضنا أعطياتنا. فقال بعض أصحابه، فعلام ندع الباقي؟ فقال: إنهم يقسمون هذا الفيء كما يقيمون الصلاة، فلا نقاتلهم.
ولأبي بلال مرداس هذا أشعار في الخروج؛ منها قوله:
أبعد ابن وهب ذي النّزاهة والتّقى ... ومر ماض في تلك الحروب المالكا
أحبّ بقاء أو أرجّي سلامة ... وقد قتلوا زيد بن حصن ومالكا
فيا ربّ سلّم نيّتي وبصيرتي ... وهب لي البقا حتى ألاقي أولئكا
وقالوا إن رجلا من أصحاب زياد، قال: خرجنا من جيش نريد خراسان، فمررنا بآسك، فإذا نحن بمرداس وأصحابه وهم أربعون رجلا، فقال: أقاصدون لقتالنا أنتم؟ قلنا: لا، إنما نريد خراسان. قال: فأبلغوا من لقيتم أنا لم نخرج لنفسد في الأرض ولا لنروّع أحدا، ولكن هربنا من الضرر، ولسنا نقاتل إلا من يقاتلنا؛ ولا نأخذ من الفيء إلا أعطياتنا. ثم قال: أندب لنا أحد؟ فقلنا: نعم، أسلم بن زرعة الكلابي. قال: فمتى ترونه يصل إلينا؟ قلنا له: يوم كذا وكذا. فقال أبو بلال حسبنا الله ونعم الوكيل.
وندب عبيد الله بن زياد أسلم بن زرعة الكلابي، ووجّهه إليهم في ألفين، فلما صار إليهم صاح به أبو بلال: اتّق الله يا أسلم فإنا لا نريد قتالا ولا نحتجز مالا، فما الذي تريد؟ قال: أريد أن أردّكم إلى ابن زياد. قال: إذا يقتلنا. قال: وإن قتلكم. قال:
أفتشركه في دمائنا؟ قال: نعم، إنه محق وأنتم مبطلون. قال: أبو بلال: وكيف هو(2/241)
محق وهو فاجر يطيع الظّلمة؟
ثم حملوا عليه حملة رجل واحد، فانهزم هو وأصحابه. فلما ورد على ابن زياد غضب عليه غضبا شديدا، وقال: انهزمت وأنت في ألفين عن أربعين رجلا! قال له أسلم: والله لأن تذمّني حيّا أحبّ إليّ من أن تحمدني ميتا. وكان إذا خرج إلى السوق ومر بالصبيان صاحوا به: أبو بلال: وراءك! حتى شكا إلى ابن زياد، فأمر الشرط أن يكفّوا الناس عنه.
ردّ عمر بن عبد العزيز رضي الله عنه على شوذب الخارجي
الهيثم بن عديّ قال: أخبرني عوانة بن الحكم عن محمد بن الزّبير قال: بعثني عمر ابن عبد العزيز مع عون بن عبد الله بن مسعود إلى شوذب الخارجي وأصحابه، إذ خرجوا بالجزيرة، وكتب معنا كتابا إليهم. فقدمنا عليهم ودفعنا كتابه إليهم. فبعثوا معنا رجلا من بني شيبان ورجلا فيه حبشية يقال له شوذب، فقدما معنا على عمر وهو بخناصرة «1» ، فصعدنا إليه، وكان في غرفة ومعه ابنه عبد الملك وحاجبه مزاحم، فأخبرناه بمكان الخارجيّين. فقال عمر: فتّشوهما لا يكن معهما حديد، وأدخلوهما. فلما دخلا قالا: السلام عليكم. ثم جلسا. فقال لهما عمر: أخبراني: ما الذي أخرجكم عن حكمي هذا وما نقمتم؟ فتكلم الأسود منهما، فقال: إنا والله ما نقمنا عليك في سيرتك وتحرّيك العدل والإحسان إلى من ولّيت ولكن بيننا وبينك أمر إن أعطيتناه فنحن منك وأنت منا، وإن منعتناه فلست منا ولسنا منك. قال عمر: ما هو؟ قال: رأيناك خالفت أهل بيتك وسميتها مظالم، وسلكت غير طريقهم، فإن زعمت أنك على هدى وهم على ضلال فالعنهم وابرأ منهم، فهذا الذي يجمع بيننا وبينك أو يفرّق.
فتكلم عمر فحمد الله وأثنى عليه، ثم قال: إني قد علمت أو ظننت أنكم لم(2/242)
تخرجوا مخرجكم هذا لطلب الدنيا ومتاعها، ولكنكم أردتم الآخرة فأخطأتم سبيلها، وإني سائلكما عن أمر، فبالله اصدقاني فيه مبلغ علمكما. قالا: نعم. قال:
أخبراني عن أبي بكر وعمر، أليسا من اسلافكما ومن تتوليان وتشهدان لهما بالنجاة؟
قالا: اللهم نعم. قال: فهل علمتما أن أبا بكر حين قبض رسول الله صلّى الله عليه وسلم فارتدت العرب قاتلهم، فسفك الدماء، وأخذ الأموال، وسبى الذراري؟ قالا: نعم. قال: فهل علمتم أن عمر قام بعد أبي بكر فردّ تلك السبايا إلى عشائرها؟ قالا: نعم. قال: فهل بريء عمر من أبي بكر أو تبرءون أنتم من واحد منهما؟ قالا: لا. قال: فأخبراني عن أهل النّهروان، أليسوا من صالحي أسلافكم وممن تشهدون لهم بالنجاة؟ قالا: نعم.
قال: فهل تعلمون أن أهل الكوفة حين خرجوا كفّوا أيديهم، فلم يسفكوا دما، ولم يخيفوا آمنا، ولم يأخذوا مالا؟ قالا: نعم. قال: فهل علمتم أن أهل البصرة حين خرجوا مع مسعر بن فديك استعرضوا الناس يقتلونهم، ولقوا عبد الله ابن خبّاب بن الأرتّ صاحب رسول الله صلّى الله عليه وسلم فقتلوه وقتلوا جاريته، ثم قتلوا النساء والأطفال، حتى جعلوا يلقونهم في قدور الأقط «1» وهي تفور؟ قالا: قد كان ذلك. قال: فهل بريء أهل الكوفة من أهل البصرة؟ قالا: لا. قال: فهل تبرءون من إحدى الفئتين؟ قالا:
لا. قال: أفرأيتم الدين، أليس هو واحدا أم الدين اثنان؟ قالا: بل واحد. قال: فهل يسعكم منه شيء يعجزني؟ قالا: لا. قال: فكيف وسعكم أن تولّيتم أبا بكر وعمر، وتولى كلّ واحد منهما صاحبه، وتوليتم أهل الكوفة والبصرة، وتولى بعضهم بعضا؛ وقد اختلفوا في أعظم الأشياء: في الدماء والفروج والأموال، ولا يسعني إلا لعن أهل بيتي والتبرؤ منهم أو رأيت لعن أهل الذنوب فريضة مفروضة لا بد منها؛ فإن كان ذلك فمتى عهدك بلعن فرعون وقد قال: أنا ربكم الأعلى؟ قال: ما أذكر أني لعنته. قال: ويحك! أيسعك ألّا تلعن فرعون وهو أخبث الخلق، ولا يسعني إلا أن ألعن أهل بيتي والبراءة منهم؟ ويحكم! إنكم قوم جهال، أردتم أمرا فأخطأتموه، فأنتم تردّون على الناس ما قبل منهم رسول الله صلّى الله عليه وسلم. بعثه الله إليهم وهم عبدة(2/243)
أوثان، فدعاهم إلى أن يخلعوا الأوثان، وأن يشهدوا أن لا إله إلا الله وأنّ محمدا عبده ورسوله، فمن قال ذلك حقن بذلك دمه، وأحرز ماله «1» ، ووجبت حرمته، وأمن به عند رسول الله صلّى الله عليه وسلم، وكان أسوة المسلمين، وكان حسابه على الله. أفلستم تلقون من خلع الأوثان، ورفض الأديان، وشهد أن لا إله إلا الله وأن محمدا رسول الله، تستحلون دمه وماله، ويلعن عندكم، ومن ترك ذلك وأباه، من اليهود والنصارى وأهل الأديان فتحرّموه دمه وماله ويأمن عندكم؟ فقال الأسود: ما سمعت كاليوم أحدا أبين حجة، ولا أقرب مأخذا، أما أنا فأشهد أنك على الحق، وأني بريء ممن بريء منك! فقال عمر لصاحبه: يا أخا بني شيبان، ما تقول أنت؟
قال: ما أحسن ما قلت ووصفت! غير أني لا أفتات «2» على الناس بأمر حتى ألقاهم بما ذكرت وأنظر ما حجّتهم. قال: أنت وذاك! فأقام الحبشي مع عمر وأمر له بالعطاء، فلم يلبث أن مات، ولحق الشيبانيّ بأصحابه فقتل معهم بعد وفاة عمر.
القول في أصحاب الأهواء
وذكر رجل عند النبي صلّى الله عليه وسلم، فذكروا فضله وشدة اجتهاده في العبادة، فبينما هم في ذكره حتى طلع عليهم الرجل؛ فقالوا: يا رسول الله، هو هذا. فقال رسول الله صلّى الله عليه وسلم: أما إني أرى بين عينيه سفعة «3» من الشيطان! فأقبل الرجل حتى وقف فسلّم عليهم، فقال هل حدثتك نفسك إذ طلعت علينا أنه ليس في القوم أحسن منك؟
قال: نعم. ثم ذهب إلى المسجد يصفّ «4» بين قدميه يصلي، فقال النبي صلّى الله عليه وسلم: أيكم يقوم إليه فيقتله؟ فقال أبو بكر: أنا يا رسول الله. فقام إليه فوجده يصلّي، فهابه فانصرف. قال: ما صنعت؟ قال: وجدته يصلي يا رسول فهبته. فقال النبي صلّى الله عليه وسلم:
أيكم يقوم إليه فيقتله؟ قال عمر: أنا يا رسول الله. فقام إليه فوجده يصلي، فهابه(2/244)
فانصرف. فقال: يا رسول الله، وجدته يصلي فهبته، فقال رسول الله صلّى الله عليه وسلم: أيكم يقوم إليه فيقتله؟ فقال عليّ: أنا يا رسول الله. قال: أنت له إن أدركته. فقام إليه فوجده قد انصرف؛ فقال النبي عليه الصلاة والسلام: هذا أول قرن «1» يطلع في أمتي، لو قتلتموه ما اختلف بعده اثنان؛ إنّ بني إسرائيل افترقت على اثنتين وسبعين فرقة، وإن هذه الأمة ستفترق على ثلاث وسبعين فرقة، كلها في النار إلا فرقة واحدة، وهي الجماعة.
الرافضة
وإنما قيل لهم رافضة لأنهم رفضوا أبا بكر وعمر، ولم يرفضهما أحد من أهل الأهواء غيرهم، والشيعة دونهم، وهم الذين يفضلون عليا على عثمان ويتولّون أبا بكر وعمر، فأما الرافضة فلها غلّو شديد في عليّ، ذهب بعضهم مذهب النصارى في المسيح، وهم السّبئية أصحاب عبد الله بن سبأ، عليهم لعنة الله. وفيهم يقول السيد الحميري:
قوم غلوا في عليّ لا أبا لهم ... وأجشموا أنفسا في حبّه تعبا «2»
قالوا هو الله جلّ الله خالقنا ... من أن يكون له ابن أو يكون أبا
وقد أحرقهم علي رضي الله عنه بالنار.
المغيرة بن سعد والأعمش
ومن الروافض المغيرة بن سعد مولى بجيلة، قال الأعمش: دخلت على المغيرة بن سعد فسألته عن فضائل علي، فقال: إنك لا تحتملها! قلت: بلى. فذكر آدم صلوات الله عليه، فقال: عليّ خير منه! ثم ذكر من دونه من الأنبياء، فقال: عليّ خير منهم!(2/245)
حتى انتهى إلى محمد صلّى الله عليه وسلم، فقال: عليّ مثله. فقلت: كذبت عليك لعنة الله. قال: قد أعلمتك أنك لا تحتملها.
ومن الروافض من يزعم أن عليّا رضي الله عنه في السحاب، فإذا أظلّت عليهم سحابة قالوا: السلام عليك يا أبا الحسن! وقد ذكرهم الشاعر فقال:
برئت من الخوارج لست منهم ... من الغزّال منهم وابن باب «1»
ومن قوم إذا ذكروا عليّا ... يردّون السلام على السحاب
ولكنّي أحبّ بكلّ قلبي ... وأعلم أنّ ذاك من الصواب
... رسول الله والصّدّيق حقّا ... به أرجو غدا حسن الثواب
وهؤلاء من الرافضة يقال لهم المنصورية، وهم أصحاب أبي منصور الكسف وإنما سمى الكسف لأنه كان يتأوّل في قول الله عز وجل: وَإِنْ يَرَوْا كِسْفاً مِنَ السَّماءِ ساقِطاً يَقُولُوا سَحابٌ مَرْكُومٌ
«2» فالكسف عليّ، وهو السحاب.
وكان المغيرة بن سعد من السبئية الذين أحرقهم عليّ رضي الله تعالى عنه بالنار، وكان يقول: لو شاء عليّ لأحيى عادا وثمودا وقرونا بعد ذلك كثيرا، وخرج لخالد ابن عبد الله، فقتله خالد وصلبه بواسط عند قنطرة العاشر.
ومن الروافض كثّير عزّة الشاعر، ولما حضرته الوفاة، دعا ابنة أخ له فقال: يابنة أخي، إن عمك كان يحب هذا الرجل فأحبّيه- يعني عليّ بن أبي طالب رضي الله عنه- فقالت: نصيحتك يا عمّ مردودة عليك، أحبه والله خلاف الحبّ الذي أحببته أنت. فقال لها: برئت منك. وأنشد يقول:
برئت إلى الإله من ابن أروى ... ومن قول الخوارج أجمعينا
ومن عمر برئت ومن عتيق ... غداة دعي أمير المؤمنينا
ابن أروى: عثمان.(2/246)
والروافض كلها تؤمن بالرّجعة، وتقول: لا تقوم الساعة حتى يخرج المهدي وهو محمد بن علي، فيملؤها عدلا كما ملئت جورا، ويحيى لهم موتاهم فيرجعون إلى الدنيا، ويكون الناس أمة واحدة، وفي ذلك يقول الشاعر:
ألا إنّ الأئمة من قريش ... ولاة العدل أربعة سواء
علي والثلاثة من بنيه ... هم الأسباط ليس بهم خفاء
فسبط سبط إيمان وبرّ ... وسبط غيّبته كربلاء
أراد بالأسباط الثلاثة: الحسن والحسين ومحمد بن الحنفية، وهو المهدي الذي يخرج في آخر الزمان.
ومن الروافض السيد الحميري، وكان يلقى له وسائد في مجلس الكوفة يجلس عليها، وكان يؤمن بالرّجعة، وفي ذلك يقول:
إذا ما المرء شاب له قذال ... وعلّله المواشط بالخضاب «1»
فقد ذهبت بشاشته وأودى ... فقم بأبيك وابك على الشباب
فليس بعائد ما فات منه ... إلى أحد إلى يوم المآب
إلى يوم يؤوب الناس فيه ... إلى دنياهم قبل الحساب
أدين بأن ذاك كذاك حقا ... وما أنا في النّشور بذي ارتياب
لأنّ الله خبّر عن رجال ... حيوا من بعد دس في التراب
وقال يرثي أخاه:
يا بن أمي فدتك نفسي ومالي ... كنت ركني ومفزعي وجمالي
ولعمري لئن تركتك ميتا ... رهن رمس ضنك عليك مهال «2»
لو شيكا ألقاك حيّا صحيحا ... سامعا مبصرا على خير حال
قد بعثتم من القبور فأبتم ... بعد ما رمّت العظام البوالي «3»(2/247)
أو كسبعين وافدا مع موسى ... عاينوا هائلا من الأهوال
حين راموا من خبثهم رؤية الله ... وأنّى برؤية المتعالي
فرماهم بصعقة أحرقتهم ... ثم أحياهم شديد المحال «1»
المأمون ورجل من الحسبانية:
دخل رجل من الحسبانية على المأمون، فقال: لثمامة بن أشرس: كلّمه، فقال له:
ما تقول؟ وما مذهبك؟ فقال: أقول إن الأشياء كلها على التوهّم والحسبان، وإنما يدرك منها الناس على قدر عقولهم، ولا حقّ في الحقيقة. فقام إليه ثمامة فلطمه لطمة سوّدت وجهه. فقال: يا أمير المؤمنين، يفعل بي مثل هذا في مجلسك؟ فقال له ثمامة:
وما فعلت بك؟ قال: لطمتني، قال: ولعل إنما دهنتك بالبان. ثم أنشأ يقول:
ولعلّ آدم أمّنا ... والأبّ حوّا في الحساب
ولعلّ ما أبصرت من ... بيض الطّبور هو الغراب
وعساك حين قعدت قم ... ت وحين جئت هو الذّهاب
وعسى البنفسج زنبقا ... وعسى البهار هو السّذاب «2»
وعساك تأكل من خرا ... ك وأنت تحسبه كباب
ابن عباس ورافضي:
ومن حديث ابن أبي شيبة أن عبد الله بن شدّاد قال: قال لي عبد الله بن عباس:
لأخبرنك بأعجب شيء: قرع اليوم عليّ الباب رجل لمّا وضعت ثيابي للظهيرة، فقلت: ما أتى به في مثل هذا الحين إلا أمر مهم، أدخلوه. فلما دخل قال: متى يبعث ذلك الرجل؟ قلت: أي رجل؟ قال: عليّ بن أبي طالب. قلت: لا يبعث حتى يبعث الله من في القبور. قال: وإنك لتقول بقول هذه الجهلة! قلت: أخرجوه عنّي لعنه الله.(2/248)
ومن الروافض: الكيسانية، قلت: وهم أصحاب المختار بن أبي عبيد، ويقولون إن اسمه كيسان.
ومن الرافضة الحسينية، وهم أصحاب إبراهيم بن الأشتر، وكانوا يطوفون بالليل في أزقّة الكوفة وينادون: يا ثارات الحسين. فقيل لهم الحسينية.
ومن الرافضة الغرابية، سميت بذلك لقولهم: عليّ أشبه بالنبي من الغراب بالغراب.
ومن الرافضة الزيدية، وهم أصحاب زيد بن عليّ المقتول بخراسان، وهم أقلّ الرافضة غلوّا، غير أنهم يرون الخروج مع كل من خرج.
الرافضة والشعبي:
مالك بن معاوية قال: قال لي الشّعبي وذكرنا الرافضة: يا مالك، لو أردت أن يعطوني رقابهم عبيدا وأن يلمئوا بيتي ذهبا على أن أكذبهم على عليّ كذبة واحدة لفعلوا، ولكني والله لا أكذب عليه أبدا، يا مالك، إني درست الأهواء كلها، فلم أر قوما أحمق من الرافضة؛ فلو كانوا من الدواب لكانوا حميرا، أو كانوا من الطير لكانوا رخما «1» : ثم قال: أحذرك الأهواء المضلّة، شرّها الرافضة، فإنها يهود هذه الأمة، يبغضون الإسلام كما يبغض اليهود النصرانية، ولم يدخلوا في الإسلام رغبة ولا رهبة من الله، ولكن مقتا لأهل الإسلام وبغيا عليهم، وقد حرّقهم عليّ بن أبي طالب رضي الله عنه بالنار، ونفاهم إلى البلدان، منهم عبد الله بن سبأ، نفاه إلى ساباط، وعبد الله بن سباب، نفاه إلى الجازر «2» وأبو الكروّس؛ وذلك أن محنة الرافضة محنة اليهود، قالت اليهود: لا يكون الملك إلا في آل داود، وقالت الرافضة:
لا يكون الملك إلا في آل علي بن أبي طالب. وقالت اليهود: لا يكون جهاد في سبيل الله حتى يخرج المسيح المنتظر. وينادي مناد من السماء. وقالت الرافضة: لا جهاد في(2/249)
سبيل الله حتى يخرج المهدي وينزل سبب من السماء. واليهود يؤخرون صلاة المغرب حتى تشتبك النجوم، وكذلك الرافضة. واليهود لا ترى الطلاق الثلاث شيئا، وكذا الرافضة. واليهود لا ترى على النساء عدّة، وكذلك الرافضة: واليهود تستحل دم كلّ مسلم، وكذلك الرافضة، واليهود حرّفوا التوراة، وكذلك الرافضة حرّفت القرآن واليهود تبغض جبريل وتقول: هو عدوّنا من الملائكة، وكذلك الرافضة تقول: غلط جبريل في الوحي إلى محمد بترك علي بن أبي طالب. واليهود لا تأكل لحم الجزور، وكذلك الرافضة. ولليهود والنصارى فضيلة على الرافضة في خصلتين: سئل اليهود:
من خير أهل ملّتكم؟ فقالوا: أصحاب موسى: وسئلت النصارى، فقالوا: أصحاب عيسى. وسئلت الرافضة: من شر أهل ملتكم؟ فقالوا: أصحاب محمد: أمرهم بالاستغفار لهم فشتموهم، فالسيف مسلول عليهم إلى يوم القيامة، لا تثبت لهم قدم، ولا تقوم لهم راية، ولا تجتمع لهم كلمة، دعوتهم مدحورة، وكلمتهم مختلفة، وجمعهم مفرّق. كلما أوقدوا نارا للحرب أطفأها الله.
وذكرت الرافضة يوما عند الشعبي فقال: لقد بغّضوا إلينا حديث عليّ ابن أبي طالب.
وقال الشعبي: ما شبّهت تأويل الروافض في القرآن إلا بتأويل رجل مضعوف من بني مخزوم من أهل مكة، وجدته قاعدا بفناء الكعبة. فقال: يا شعبي ما عندك في تأويل هذا البيت؟ فإن بني تميم يغلطون فيه، يزعمون أنه مما قيل في رجل منهم، وهو قول الشاعر:
بيتا زرارة محتب بفنائه ... ومجاشع وأبو الفوارس نهشل «1»
فقلت له: وما عندك أنت فيه؟ قال: البيت هو هذا البيت- وأشار بيده إلى الكعبة- وزرارة الحجر، زرّر حول البيت. فقلت: فمجاشع؟ قال: زمزم جشعت بالماء. قلت: فأبو الفوارس؟ قال: هو أبو قبيس جبل مكة. قلت: فنهشل؟ ففكر فيه طويلا، ثم قال: أصبته، هو مصباح الكعبة، طويل أسود وهو النهشل.(2/250)
قولهم في الشيعة
قال أبو عثمان بن بحر الجاحظ، أخبرني رجل من رؤساء التجار قال: كان معنا في السفينة شيخ شرس الأخلاق، طويل الإطراق، وكان إذا ذكر له الشيعة غضب واربد وجهه وزوى «1» من حاجبيه، فقلت له يوما: يرحمك الله، ما الذي تكرهه من الشيعة، فإني رأيتك إذا ذكروا غضبت وقبضت؟ قال: ما أكره منهم إلا هذه الشّين في أول اسمهم، فإني لم أجدها قطّ إلا في كل شرّ وشؤم وشيطان وشغب وشقاء وشنار «2» وشرر وشين وشوك وشكوى وشهوة وشتم وشح. قال أبو عثمان: فما ثبت لشيعيّ بعدها قائمة.
باب من كلام المتكلمين
دخل الموبذ على هشام بن الحكم، والموبذ هو عالم الفرس، فقال له: يا هشام، حول الدنيا شيء؟ قال: لا. قال: فإن أخرجت يدي فثمّ شيء يردّها؟ قال هشام:
ليس ثمّ شيء يردّها ولا شيء تخرج يدك فيه. قال: فكيف أعلم هذا؟ قال له:
يا موبذ، أنا وأنت على طرف الدنيا، فقلت لك: يا موبذ، إني لا أرى شيئا. فقلت لي: ولم لا ترى؟ فقلت ليس ها هنا ظلام يمنعني. فقلت لي أنت: يا هشام، إني لا أرى شيئا. فقلت لك: ولم لا ترى؟ قلت: ليس ضياء أنظر به. فهل تكافأت الملّتان في التناقض؟ قال: نعم. قال: فإذا تكافأتا في التناقض لم تتكافآ في الإبطال أن ليس شيء؟ فأشار الموبذ بيده أن أصبت.
قال رجل لبعض ولاة بني العباس: أنا أجعل هشام بن الحكم أن يقول في علي رضي الله عنه إنه ظالم؛ فقال: إن فعلت ذلك فلك كذا وكذا. ثم أحضر هشام، فقال له: نشدتك الله أبا محمد، أما تعلم أن عليّا نازع العباس عند أبي بكر؟ قال: نعم.(2/251)
قال: فمن الظالم منهما؟ فكره أن يقول العباس، فيواقع «1» سخط الخليفة، أو يقول عليّ؛ فينقص أصله، فقال: ما منهما ظالم؟ قال: فكيف يتنازع اثنان في شيء لا يكون أحدهما ظالما؟ قال: قد تنازع الملكان عند داود عليه السلام وما فيهما ظالم، ولكن لينبّها داود على الخطيئة، وكذلك هذان أرادا تنبيه أبي بكر من خطيئته، فأسكت الرجل، وأمر الخليفة لهشام بصلة عظيمة.
دخل إبراهيم النّظّام على أبي الهذيل العلّاف، وقد أسنّ وبعد عهده بالمناظرة، وإبراهيم حدّث السنّ. فقال: أخبرني عن قراركم: أن يكون جوهرا مخافة أن يكون جسما؛ فهل قررتم ألا يكون جوهرا مخافة أن يكون عرضا، والعرض أضعف من الجوهر؟ فبصق أبو الهذيل في وجهه. فقال له إبراهيم: قبّحك الله من شيخ، ما أضعف صحتك وأسفه حلمك.
قال: لقي جهم رجلا من اليونانيين؛ فقال له: هل لك أن تكلمني وأكلمك عن معبودك هذا، أرأيته قط؟ قال: لا؛ قال: فلسمته؟ قال: لا؛ قال: فذقته؟ قال: لا؛ قال: فمن أين عرفته وأنت لم تدركه بحسّ من حواسّك الخمس وإنما عقلك معبّر عنها فلا يدرك إلا ما أوصلت إليه من جميع المعلومات؟ قال: فتلجلج جهم ساعة، ثم استدرك فعكس المسألة عليه فقال له: ما تقرّ أن لك روحا؟ قال: نعم؛ قال: فهل رأيته أو ذقته أو سمعته أو شممته أو لمسته؟ قال: لا؛ قال: فكيف علمت أن لك روحا؟ فأقرّ له اليوناني.
باب في الحياء
قال النبي صلّى الله عليه وسلم: الحياء خير كله. الحياء شعبة من الإيمان. وقال عليه السلام: إن الله تبارك وتعالى يحب الحيي الحليم المتعفف، ويكره البذيء السّئّال الملحف «2» .
وقال عون بن عبد الله: الحياء والحلم والصمت من الإيمان.(2/252)
وقال ابن عمر: الحياء والإيمان مقرونان جميعا. فإذا رفع أحدهما ارتفع الآخر معه.
وقال: مكتوب في التوراة: إذا لم تستح فاصنع ما تشاء. وقال: أحيوا الحياء بمجالسة من يستحيا منه.
وذكر أعرابي رجلا حيّا فقال: لا تراه الدهر إلا كأنه لا غني به عنك، وإن كنت إليه أحوج، وإن أذنبت غفر وكأنه المذنب، وإن أسأت إليه أحسن وكأنه المسيء.
لليلى الأخيلية:
فتى هو أحيا من فتاة حييّة ... وأشجع من ليث بخفّان خادر «1»
ولابن قيس أيضا:
تخالهم للحلم صمّا عن الخنا ... وخرسا عن الفحشاء عند التهاجر
ومرضى إذا لوقوا حياء وعفّة ... وعند الحفاظ كالّليوث الخوادر «2»
وقال الشعبي: تعاشر الناس فيما بينهم زمانا بالدين والتقوى، ثم رفع ذلك فتعاشروا بالحياء والتذمّم، ثم رفع ذلك، فما يتعاشر الناس إلا بالرغبة والرهبة.
وسيجيء ما هو شرّ من ذلك.
وقيل: الحياء يزيد في النّبل.
ولبعضهم:
فلا وأبيك ما في العيش خير ... ولا الدنيا إذا ذهب الحياء
وقال آخر:
إذا رزق الفتى وجها وقاحا ... تقلّب في الأمور كما يشاء «3»(2/253)
ولم يك للدواء ولا لشيء ... تعالجه به فيه غناء
وربّ قبيحة ما حال بيني ... وبين ركوبها إلّا الحياء
وقال عليّ بن أبي طالب كرم الله وجهه: قرنت الهيبة بالخيبة، والحياء بالحرمان.
وقد قيل:
ارفع حياءك فيما جئت طالبه ... إنّ الحياء مع الحرمان مقرون
وفي المثل: كثرة الحياء من التخنّث «1» .
قال الحسن: من استتر بالحياء لبس الجهل سرباله، فقطّعوا سرابيل الحياء، فإنه من رقّ وجهه رق علمه.
وصف رجل الحياء عند الأحنف فقال: إنّ الحياء ليتم لمقدار من المقادير، فما زاد على ذلك فسمه بما أحببت.
وقال بعضهم:
إنّ الحياء مع الحرمان مقترن ... كذاك قال أمير المؤمنين علي
واعلم بأن من التخنيث أكثره ... فارفعه في طلب الحاجات والأمل
وللشمّاخ:
أجامل أقواما حياء وقد أرى ... صدورهم باد عليّ مراضها
ولابن أبي حازم:
وإني ليثنيني عن الجهل والخنا ... وعن شتم ذي القربي خلائق أربع:
حياء، وإسلام، وتقوى، وأنّني ... كريم ومثلي قد يضر وينفع
وقال آخر:
إذا حرم المرء الحياء فإنّه ... بكل قبيح كان منه جدير
له قحة في كلّ أمر وسرّه ... مباح وجدواه جفا وغرور «2»(2/254)
يرى الشّتم مدحا والدناءة رفعة ... وللسمع منه في العظات نفور
فرجّ الفتى ما دام حيّا فإنّه ... إلى خير حالات المنيب يصير
باب جامع الآداب
آداب الله لنبيّه صلى الله عليه وسلم
لابن عبد ربه:
قال أبو عمر أحمد بن محمد: أوّل ما نبدأ به: أدب النبي صلّى الله عليه وسلم، ثم أدبه صلّى الله عليه وسلم لأمّته، ثم الحكماء والعلماء.
وقد أدّب الله نبيّه بأحسن الآداب كلها، فقال له: وَلا تَجْعَلْ يَدَكَ مَغْلُولَةً إِلى عُنُقِكَ وَلا تَبْسُطْها كُلَّ الْبَسْطِ فَتَقْعُدَ مَلُوماً مَحْسُوراً
«1» فنهاه عن التقتير كما نهاه عن التبذير، وأمر بتوسّط الحالتين؛ كما قال عز وجل: وَالَّذِينَ إِذا أَنْفَقُوا لَمْ يُسْرِفُوا وَلَمْ يَقْتُرُوا وَكانَ بَيْنَ ذلِكَ قَواماً
«2» .
وقد جمع الله تبارك وتعالى لنبيّه صلّى الله عليه وسلم جوامع الكلم في كتابه المحكم، ونظم له مكارم الأخلاق كلها في ثلاث كلمات، فقال: خُذِ الْعَفْوَ وَأْمُرْ بِالْعُرْفِ وَأَعْرِضْ عَنِ الْجاهِلِينَ
«3» ففي أخذه العفو صلة من قطعه، والصفح عمّن ظلمه؛ وفي الأمر بالمعروف تقوى الله، وغضّ الطّرف عن المحارم، وصوّن اللسان عن الكذب، وفي الإعراض عن الجاهلين تنزيه النفس عن مماراة السفيه ومنازعة اللجوج.
ثم أمره تبارك وتعالى فيما أدبه، باللين في عريكته، والرّفق بأمته، فقال:
وَاخْفِضْ جَناحَكَ لِمَنِ اتَّبَعَكَ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ
«4» وقال: وَلَوْ كُنْتَ فَظًّا غَلِيظَ الْقَلْبِ لَانْفَضُّوا مِنْ حَوْلِكَ
«5» وقال تبارك وتعالى وَلا تَسْتَوِي الْحَسَنَةُ وَلَا(2/255)
السَّيِّئَةُ ادْفَعْ بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ فَإِذَا الَّذِي بَيْنَكَ وَبَيْنَهُ عَداوَةٌ كَأَنَّهُ وَلِيٌّ حَمِيمٌ، وَما يُلَقَّاها إِلَّا الَّذِينَ صَبَرُوا وَما يُلَقَّاها إِلَّا ذُو حَظٍّ عَظِيمٍ
«1» .
فلما وعى عن الله عز وجل وكملت فيه هذه الآداب، قال الله تبارك وتعالى:
لَقَدْ جاءَكُمْ رَسُولٌ مِنْ أَنْفُسِكُمْ عَزِيزٌ عَلَيْهِ ما عَنِتُّمْ حَرِيصٌ عَلَيْكُمْ بِالْمُؤْمِنِينَ رَؤُفٌ رَحِيمٌ. فَإِنْ تَوَلَّوْا فَقُلْ حَسْبِيَ اللَّهُ لا إِلهَ إِلَّا هُوَ عَلَيْهِ تَوَكَّلْتُ وَهُوَ رَبُّ الْعَرْشِ الْعَظِيمِ
«2» .
باب آداب النبي صلى الله عليه وسلم لأمّته
قال النبي صلّى الله عليه وسلم فيما أدّب به أمته وحضّها عليه من مكارم الأخلاق وجميل المعاشرة وإصلاح ذات البين وصلة الأرحام: أوصاني ربّي بتسع وأنا أوصيكم بها، أوصاني بالإخلاص في السرّ والعلانية، والعدل في الرضا والغضب، والقصد في الغنى والفقر، وأن أعفو عمّن ظلمني، وأعطي من حرمني، وأصل من قطعني، وأن يكون صمتي فكرا، ونطقي ذكرا، ونظري عبرا.
وقد قال صلّى الله عليه وسلم: نهيتكم عن قيل وقال وإضاعة المال وكثرة السؤال.
وقد قال صلّى الله عليه وسلم: لا تقعدوا على ظهور الطرق، فإن أبيتم فغضّوا الأبصار، وأفشوا السلام، واهدوا الضال، وأعينوا الضعيف.
وقال صلّى الله عليه وسلم: أوكوا «3» السّقاء، وأكفئوا «4» الإناء، وأغلقوا الأبواب، وأطفئوا المصباح؛ فإن الشيطان لا يفتح غلقا ولا يحلّ وكاء ولا يكشف الإناء.(2/256)
وقال صلّى الله عليه وسلم: ألا أنبئكم بشرّ الناس؟ قالوا: بلى يا رسول الله قال: من أكل وحده، ومنع رفده، وجلد عبده.
ثم قال: ألا انبئكم بشّر من ذلك؟ قالوا: بلى يا رسول الله. قال: من يبغض الناس ويبغضونه.
وقال حصّنوا أموالكم بالزكاة، وداووا مرضاكم بالصّدقة، واستقبلوا البلاء بالدعاء.
وقال: ما قلّ وكفى خير مما كثر وألهى.
وقال: المسلمون تتكافأ دماؤهم، ويسعى بذمّتهم أدناهم، وهم يد على من سواهم.
وقال: اليد العليا خير من اليد السفلى وابدأ بمن تعول.
وقال: لا تجن يمينك على شمالك. ولا يلدغ المؤمن من جحر مرتين.
وقال: المرء كثير بأخيه.
وقال افصلوا بين حديثكم بالاستغفار، واستعينوا على قضاء حوائجكم بالكتمان.
وقال: أفضل الأصحاب من إذا ذكرت أعانك، وإذا نسيت ذكرك.
وقال: لا يؤمّ ذو سلطان في سلطانه ولا يجلس على تكرمته إلا بإذنه.
وقال صلّى الله عليه وسلم: يقول ابن آدم: مالي مالي! وإنما له من ماله ما أكل فأفنى، أو لبس فأبلى، أو وهب فأمضى.
وقال: ستحرصون على الإمارة، فنعمت المرضعة وبئست الفاطمة.
وقال: لا يحكم الحاكم بين اثنين وهو غضبان.
وقال: لو تكاشفتم ما تدافنتم، وما هلك امرؤ عرف قدره.(2/257)
وقال: الناس كإبل مائة لا تكاد تجد فيها راحلة. والناس كلّهم سواء كأسنان المشط.
وقال: رحم الله عبدا قال خيرا فغنم، أو سكت فسلم.
وقال: خير المال سكّة مأبورة «1» ، ومهرة مأمورة. وخير المال عين ساهرة لعين نائمة.
وقال في إناث الخيل: بطونها كنز، وظهورها حرز.
وقال: ما أملق «2» تاجر صدوق، وما أقفر بيت فيه خلّ.
وقال: قيّدوا العلم بالكتابة.
وقال: زر غباّ «3» تزدد حبّا.
وقال: علّق سوطك حيث يراه أهلك.
باب في آداب الحكماء والعلماء
منه في فضيلة الأدب
أوصى بعض الحكماء بنبيه فقال: الأدب أكرم الجواهر طبيعة، وأنفسها قيمة، يرفع الأحساب الوضيعة، ويفيد الرّغائب الجليلة، ويعزّ بلا عشيرة، ويكثر الأنصار بغير رزية؛ فالبسوه حلّة، وتزيّنوه حلية؛ يؤنسكم في الوحشة ويجمع لكم القلوب المختلفة.
ومن كلام عليّ عليه السلام، فيما يروي عنه أنه قال: من حلم ساد، ومن ساد استفاد، ومن استحيا حرم، ومن هاب خاب، ومن طلب الرياسة صبر على السياسة،(2/258)
ومن أبصر عيب نفسه عمي عن عيب غيره، ومن سلّ سيف البغي قتل به، ومن احتفر لأخيه بئرا وقع فيها، ومن نسي زلته استعظم زلّة غيره، ومن هتك حجاب غيره انهتكت عورات بينه، ومن كابر في الأمور عطب، ومن اقتحم الّلجج غرق، ومن أعجب برأيه ضلّ، ومن استغنى بعقله زلّ، ومن تجبّر على الناس ذلّ، ومن تعمّق في العمل ملّ، ومن صاحب الأنذال حقّر، ومن جالس العلماء وقّر، ومن دخل مداخل السوء اتّهم، ومن حسن خلقه سهلت له طرقه. ومن حسن كلامه كانت الهيبة أمامه، ومن خشي الله فاز؛ ومن استقاد الجهل ترك طريق العدل، ومن عرف أجله قصر أمله، ثم أنشأ يقول:
إلبس أخاك على عيوبه ... واستر وغطّ على ذنوبه
واصبر على بهت السّفي ... هـ وللزّمان على خطوبه «1»
ودع الجواب تفضّلا ... وكل الظلوم إلى حسيبه «2»
وقال شبيب بن شيبة: اطلبوا الأدب فإنه مادة العقل، ودليل على المروءة، وصاحب في الغربة، ومؤنس في الوحشة، وحلية في المجلس، ويجمع لكم القلوب المختلفة.
وقال عبد الملك بن مروان لبنيه: عليكم بطلب الأدب؛ فإنّكم إن احتجتم إليه كان لكم مالا، وإن استغنيتم عنه كان لكم جمالا.
وقال بعض الحكماء: اعلم أنّ جاها بالمال إنما يصحبك ما صحبك المال، وجاها بالأدب غير زائل عنك.
وقال ابن المقفّع: إذا أكرمك الناس لمال أو لسلطان فلا يعجبك ذلك: فإن الكرامة تزول بزوالها، ولكن ليعجبك إذا أكرموك لدين أو أدب.(2/259)
وقال الأحنف بن قيس: رأس الأدب المنطق، ولا خير في قول إلا بفعل ولا في مال إلا بجود، ولا في صديق إلا بوفاء، ولا في فقه إلا بورع؛ ولا في صدق إلا بنيّة.
وقال مصقلة الزّبيري: لا يستغنى الأديب عن ثلاثة واثنين: فأمّا الثلاثة: فالبلاغة والفصاحة وحسن العبارة. وأما الاثنان فالعلم بالأثر والحفظ للخير.
وقالوا: الحسب محتاج إلى الأدب، والمعرفة محتاجة إلى التجربة.
وقال بزرجمهر: ما ورّث الآباء الأبناء شيئا خيرا من الأدب لأنّ بالأدب يكسبون المال وبالجهل يتلفونه.
وقال الفضيل بن عياض: رأس الأدب معرفة الرجل قدره.
وقالوا: حسن الخلق خير قرين، والأدب خير ميراث، والتوفيق خير قائد.
وقال سفيان الثّوري: من عرف نفسه لم يضره ما قال الناس فيه.
وقال أنو شروان للموبذ، وهو العالم بالفارسية: ما كان أفضل الأشياء؟ قال الطبيعة النقية تكتفي من الأدب بالرائحة، ومن العلم بالإشارة؛ وكما يموت البذر في السّباخ «1» ، كذلك تموت الحكمة بموت الطبيعة. قال له: صدقت، ونحن لهذا قلّدناك ما قلدناك.
وقيل لأردشير: الأدب أغلب أم الطبيعة؟ فقال: الأدب زيادة في العقل ومنبهة للرأي، ومكسبة للصواب، والطبيعة أملك، لأن بها الاعتقاد ونماء الفراسة وتمام الغذاء.
وقيل لبعض الحكماء: أيّ شيء أعون للعقل بعد الطبيعة المولودة؟ قال: أدب مكتسب.(2/260)
وقالوا: الأدب أدبان: أدب الغريزة، وهو الأصل؛ وأدب الرواية، وهو الفرع.
ولا يتفرع شيء إلا عن أصله، ولا ينمى الأصل إلا باتصال المادة.
وقال الشاعر:
ولم أر فرعا طال إلا بأصله ... ولم أر بدء العلم إلّا تعلّما
وقال حبيب:
وما السيف إلا زبرة لو تركته ... على الحالة الأولى لما كان يقطع «1»
وقال آخر:
ما وهب الله لامريء هبة ... أفضل من عقله ومن أدبه
هما حياة الفتى فإن فقدا ... فإن فقد الحياة أحسن به
وقال ابن عباس: كفاك من علم الدين أن تعرف ما لا يسعك جهله، وكفاك من علم الأدب أن تروي الشاهد والمثال.
قال ابن قتيبة: إذا أردت أن تكون أديبا فتفنن في العلوم.
وقالت الحكماء: إذا كان الرجل طاهر الأثواب، كثير الآداب، حسن المذهب؛ تأدّب بأدبه وصلح لصلاحه جميع أهله وولده.
وقال الشاعر:
رأيت صلاح المرء يصلح أهله ... ويفسدهم ربّ الفساد إذا فسد
يعظّم في الدنيا لفضل صلاحه ... ويحفظ بعد الموت في الأهل والولد
وسئل ديو جانس: أي الخصال أحمد عاقبة؟ قال: الإيمان بالله عز وجل، وبرّ الوالدين، ومحبة العلماء، وقبول الأدب.
روى عن رسول الله صلّى الله عليه وسلم أنه قال من لا أدب له لا عقل له.
وقالوا: الأدب يزيد العاقل فضلا ونباهة، ويفيده رقة وظرفا.(2/261)
وفي رقة الأدب
قال أبو بكر بن أبي شيبة: قيل للعباس بن عبد المطلب، أنت أكبر أم رسول الله صلّى الله عليه وسلم؟ قال: هو أكبر مني وأنا أسنّ منه.
وقيل لأبي وائل: أيكما أكبر؛ أنت أم الربيع بن خثيم؟ قال أنا أكبر منه سنا وهو أكبر مني عقلا.
وقال أبان بن عثمان لطويس المغني: أنا أكبر أم أنت؟ قال: جعلت فداك! لقد شهدت زفاف أمّك المباركة.
وقيل لعمر بن ذر: كيف برّ ابنك بك؟ قال: ما مشيت نهارا قطّ إلا مشى خلفي، ولا ليلا إلا مشى أمامي ولا رقي علّيّة وأنا تحته.
ومن حديث عائشة، قالت: ما رأيت رسول الله صلّى الله عليه وسلم يبجّل أحدا تبجيله لعمّه العباس.
وكان عمر وعثمان إذا لقيا العباس نزلا إعظاما له إذا كان راكبين.
الرياشي عن الأصمعي قال: قال هارون الرشيد لعبد الملك بن صالح: أهذا منزلك.
وقد تقدم هذا الخبر في الخبر الذي فيه مخاطبة الملوك، وكذلك قول الحجاج للشعبي: كم عطاءك.
ومن قولنا في رقة الأدب:
أدب كمثل الماء لو أفرغته ... يوما لسال كما يسيل الماء
من أدب علي ابن يحيى:
أحمد بن أبي طاهر قال: قلت لعلي بن يحيى: ما رأيت أكمل أدبا منك! قال:(2/262)
كيف لو رأيت إسحاق بن إبراهيم! فقلت ذلك لإسحاق بن إبراهيم، فقال: كيف لو رأيت إبراهيم بن المهدي! فقلت ذلك لإبراهيم، فقال: كيف لو رأيت جعفر بن يحيى.
وقال عبد العزيز بن عمر بن عبد العزيز: قال لي رجاء بن حيوة: ما رأيت أكرم أدبا، ولا أكرم عشرة من أبيك؛ سمرت عنده ليلة، فبينا نحن كذلك إذ عشى «1» المصباح ونام الغلام. فقلت: يا أمير المؤمنين، قد عشى المصباح ونام الغلام، فلو أذنت لي أصلحته! فقال: إنه ليس من مروءة الرجل أن يستخدم ضيفه، ثم حط رداءه عن منكبيه، وقام إلى الدبّة «2» فصبّ من الزيت في المصباح، وأشخص الفتيلة، ثم رجع. وأخذ رداءه وقال: قمت وأنا عمر ورجعت وأنا عمر.
عمر بن الخطاب ورجل أحدث صوتا في المسجد:
العتبي عن أبيه قال: صوّت رجل عند عمر بن الخطاب في المسجد. فلما كانت الصلاة قال عمر: عزمت على صاحب الصوت إلا قام فتوضأ. فلم يقم أحد. فقال جرير بن عبد الله: يا أمير المؤمنين، اعزم علينا كلّنا أن نقوم فنتوضأ قال: صدقت! ولا علمتك إلا سيّدا في الجاهلية، فقيها في الإسلام، قوموا فتوضئوا.
الشحام والحسن:
الرياشي عن الأصمعي قال: حدّثني عثمان الشحّام، قال: قلت للحسن: يا أبا سعيد. قال: لبيك. قلت: أتقول لي لبيك؟ قال: إني أقولها لخادمي.
وقال الشاعر:
يا حبّذا حين تمسي الرّيح باردة ... وادي أشيّ وفتيان به هضم «3»(2/263)
مخدّمون، كرام في مجالسهم ... وفي الرّحال إذا رافقتهم خدم
وما أصاحب من قوم فأذكرهم ... إلا يزيدهم حبا إليّ هم
الأدب في الحديث والاستماع
وقالت الحكماء: رأس الأدب كلّه حسن الفهم والتفهّم، والإصغاء للمتكلّم.
وذكر الشعبي قوما فقال: ما رأيت مثلهم أسدّ «1» تناوبا في مجلس، ولا أحسن فهما من محدّث.
وقال الشعبي فيما يصف به عبد الملك بن مروان: والله ما علمته إلا آخذا بثلاث، تاركا لثلاث: آخذا بحسن الحديث إذا حدّث، وبحسن الاستماع إذا حدّث، وبأيسر المؤونة إذا خولف؛ تاركا لمجاوبة اللئيم، ومماراة «2» السفيه، ومنازعة اللجوج.
وقال بعض الحكماء لابنه: يا بنيّ، تعلم حسن الاستماع كما تتعلم حسن الحديث؛ وليعلم الناس أنك أحرص على أن تسمع منك على أن تقول؛ فاحذر أن تسرع في القول فيما يجب عنه الرجوع بالفعل، حتى يعلم الناس أنك على فعل ما لم تقل أقرب منك إلى قول ما لم تفعل.
قالوا: من حسن الأدب ألّا تغالب أحدا على كلامه، وإذا سئل غيرك فلا تجب عنه، وإذا حدّث بحديث فلا تنازعه إياه، ولا تقتحم عليه فيه، ولا تره أنك تعلمه، وإذا كلّمت صاحبك فأخذته حجتك فحسّن مخرج ذلك عليه ولا تظهر الظفر به، وتعلم حسن الاستماع، كما تعلّم حسن الكلام.
وقال الحسن البصري: حدّثوا الناس ما أقبلوا عليكم بوجوهكم.
وقال أبو عبّاد الكاتب: إذا أنكر المتكلم عين السامع فليسأله عن مقاطع حديثه،(2/264)
والسبب الذي أجرى ذلك له؛ فإن وجده يقف على الحق أتمّ له الحديث، وإلا قطعه عنه وحرمه مؤانسته، وعرّفه ما في سوء الاستماع من الفسولة «1» والحرمان للفائدة.
الأدب في المجالسة
للنبي صلى الله عليه وسلم:
ومن حديث أبي بكر بن أبي شيبة أنّ النبي صلى الله عليه وسلم قال: لا يقم الرجل للرجل عن مجلسه ولكن ليوسّع له.
وكان عبد الله بن عمر إذا قام له الرجل عن مجلسه لم يجلس فيه. وقال: لا يقم أحد عن مجلسه؛ ولكن افسحوا يفسح الله لكم.
أبو أمامة قال: خرج إلينا النبي صلّى الله عليه وسلم فقمنا إليه؛ فقال: لا تقوموا كما يقوم العجم لعظمائها. فما قام إليه أحد منا بعد ذلك.
ومن حديث ابن عمر أن النبي صلّى الله عليه وسلم قال: إن خرجت عليكم وأنتم جلوس فلا يقومنّ أحد منكم في وجهي؛ وإن قمت فكما أنتم، وإن جلست فكما أنتم. فإن ذلك خلق من أخلاق المشركين.
وقال صلّى الله عليه وسلم: الرجل أحق بصدر دابّته وصدر مجلسه وصدر فراشه. ومن قام عن مجلسه ورجع إليه فهو أحق به.
وقال صلّى الله عليه وسلم: إذا جلس إليك أحد فلا تقم حتى تستأذنه.
وجلس رجل إلى الحسن بن عليّ- عليهما الرضوان- فقال له: إنك جلست إلينا ونحن نريد القيام، أفتأذن؟
وقال سعيد بن العاص: ما مددت رجلي قطّ بين يدي جليس، ولا قمت عن مجلسي حتى يقوم.(2/265)
وقال إبراهيم النّخعي: إذا دخل أحدكم بيتا فليجلس حيث أجلسه أهله.
وطرح أبو قلابة لرجل جلس إليه وسادة فردّها، فقال: أما سمعت الحديث: لا تردّ على أخيك كرامته.
وقال على بن أبي طالب رضوان الله عليه: لا يأبى الكرامة إلا حمار.
وقال سعيد بن العاص: لجليسي عليّ ثلاث: إذا دنا رحّبت به، وإذا جلس وسّعت له، وإذا حدّث أقبلت عليه.
وقال: إني لأكره أن يمر الذباب بجليسي مخافة أن يؤذيه.
معاوية والأحنف:
الهيثم بن عدي عن عامر الشعبي قال: دخل الأحنف بن قيس على معاوية؛ فأشار إليه إلى وسادة، فلم يجلس عليها؛ فقال له: ما منعك يا أحنف أن تجلس على الوسادة؟ فقال: يا أمير المؤمنين، إن فيما أوصى به قيس بن عاصم ولده أن قال: لا تسع للسلطان حتى يملّك ولا تقطعه حتى ينساك، ولا تجلس له على فراش ولا وسادة، واجعل بينك وبينه مجلس رجل أو رجلين.
وقال الحسن: مجالسة الرجل من غير أن يسأل عن اسمه واسم أبيه، مجالسة النوكي.
ولذلك قال شبيب بن شيبة لأبي جعفر، ولقيه في الطواف وهو لا يعرفه، فأعجبه حسن هيئته وسمته: أصلحك الله، إني أحب المعرفة، وأجلّك عن المسألة. فقال: أنا فلان بن فلان.
قال زياد: ما أتيت مجلسا قط إلا تركت منه ما لو جلست فيه لكان لي، وترك ما لي أحبّ إليّ من أخذ ما ليس لي.(2/266)
وقال: إياك وصدور المجالس وإن صدّرك صاحبها؛ فإنها مجالس قلعة «1» .
وقال الشعبي: لأن أدعى من بعد إلى قرب أحبّ إليّ من أن أقصى من قرب إلى بعد.
ابن طاهر وابو السمراء:
وذكروا أنه كان يوما أبو السّمراء عند عبد الله بن طاهر، وعنده إسحاق بن إبراهيم، فاستدنى عبد الله إسحاق فناجاه بشيء، وطالت النجوى بينهما ... قال:
فاعترتني حيرة فيما بين القعود على ما هما عليه والقيام، حتى انقطع ما بينهما وتنحى إسحاق إلى موقفه، ونظر عبد الله إليّ. فقال: يا أبا السمراء:
إذا النجيّان سرّا عنك أمرهما ... فانزح بسمعك تجهل ما يقولان «2»
ولا تحمّلهما ثقلا لخوفهما ... على تناجيهما بالمجلس الدّاني
فما رأيت أكرم منه ولا أرفق أدبا، ترك مطالبتي في هفوتي بحق الأمراء، وأدّبني أدب النظراء.
وقال النبي صلّى الله عليه وسلم: إنما أحدكم مرآة أخيه، فإذا رأى عليه أذى فليمطه «3» عنه، وإذا أخذ أحدكم عن أخيه شيئا فليقل: لا بك السوء، وصرف الله عنك السوء.
وقالوا: إذا اجتمعت حرمتان أسقطت الصغرى الكبرى.
وقال المهلب بن أبي صفرة: العيش كله في الجليس الممتع.
الأدب في المماشاة
وجه هشام بن عبد الملك ابنه على الصائفة، ووجه معه ابن أخيه، وأوصى كلّ واحد منهما بصاحبه، فلما قدم عليه قال لابن أخيه: كيف رأيت ابن عمّك؟ فقال:(2/267)
إن شئت أجملت وإن شئت فسّرت. قال: بل أجمل. قال: عرضت بيننا جادّة «1» فتركها كلّ واحد منا لصاحبه، فما ركبناها حتى رجعنا إليك.
وقال يحيى بن أكثم: ما شيت المأمون يوما من الأيام في بستان مؤنسة بنت المهدي، فكنت من الجانب الذي يستره من الشمس فلما انتهى إلى آخره وأراد الرجوع. أردت أن أدور إلى الجانب الذي يستره من الشمس، فقال: لا تفعل، ولكن كن بحالك حتى أسترك كما سترتني! فقلت: يا أمير المؤمنين، لو قدرت أن أقيك حرّ النار لفعلت، فكيف الشمس؟ فقال: ليس هذا من كرم الصّحبة. ومشى ساترا لي من الشمس كما سترته.
وقيل لعمر بن ذرّ: كيف برّ ابنك بك؟ قال: ما مشيت نهارا قط إلا مشى خلفي، ولا ليلا إلا مشى أمامي، ولا رقي سطحا وأنا تحته.
وقيل لزياد: إنك تستخلص حارثة بن زيد وهو يواقع الشارب. فقال: وكيف لا أستخلصه وما سألته عن شيء قطّ إلا وجدت عنده منه علما، ولا استودعته سرّا قط فضيّعه، ولا راكبني قط فمّست ركبتي ركبته.
بين الهادي وابن يزيد في سفر:
محمد بن يزيد بن عمر بن عبد العزيز قال: خرجت مع موسى الهادي أمير المؤمنين من جرجان، فقال لي: إمّا أن تحملني وإمّا أن أحملك، فعلمت ما أراد، فأنشدته أبيات ابن صرمة:
أوصيكم بالله أوّل وهلة ... وأحسابكم والبرّ بالله أوّل
وإن قومكم سادوا فلا تحسدوهم ... وإن كنتم أهل السّيادة فاعدلوا
وإن أنتم أعوزتم فتعفّفوا ... وإن كان فضل المال فيكم فأفضلوا
وإن نزلت إحدى الدّواهي بقومكم ... فأنفسكم دون العشيرة فاجعلوا
وإن طلبوا عرفا فلا تحرموهم ... وما حملوكم في الملمّات فاحملوا(2/268)
قال: فأمر لي بعشرين ألف درهم.
بين الهادي وابن سلم وعبد الله ابن مالك:
وقيل إن سعيد بن سلم راكب موسى الهادي والحربة بيد عبد الله بن مالك، وكانت الريح تسفى «1» التراب، وعبد الله يلحظ موضع مسير موسى فيتكلف أن يسير على محاذاته، وإذا حاذاه ناله ذلك التراب، فلما طال ذلك عليه أقبل على سعيد ابن سلم فقال: أما ترى ما نلقى من هذا الخائن؟ قال: والله يا أمير المؤمنين ما قصّر في الاجتهاد، ولكن حرم التوفيق.
باب السلام والإذن
قال النبي صلّى الله عليه وسلم: أطيبوا الكلام، وأفشوا السلام «2» ، وأطعموا الأيتام، وصلّوا بالليل والناس نيام.
وقال صلّى الله عليه وسلم: إنّ أبخل الناس الذي يبخل بالسلام.
وأتى رجل النبي صلّى الله عليه وسلم، فقال: عليك السلام يا رسول الله. فقال: لا تقل: عليك السلام؛ فإنها تحية الموتى، وقل: السلام عليك.
عمر بن عبد العزيز وجماعة سلموا عليه:
وقال صاحب حرس عمر بن عبد العزيز: خرج عمر في يوم عيد وعليه قميص كتّان وعمامة على قلنسوة لاطئة «3» ، فقمت إليه وسلّمت عليه، فقال: مه، أنا واحد وأنتم جماعة؛ السلام عليّ والردّ عليكم. ثم سلّم ورددنا عليه، ومشى فمشينا معه إلى المسجد.(2/269)
وقال النبي صلّى الله عليه وسلم: يسلّم الماشي على القاعد، والراكب على الراجل، والكبير على الصغير.
ودخل رجل على النبي صلّى الله عليه وسلم، فقال له: أبي يقرئك السلام. فقال: عليك وعلى أبيك السلام.
ابن مسعود وابن الخطاب والأسود:
إبراهيم عن الأسود قال: قال عبد الله بن مسعود: إذا لقيت عمر فاقرأ عليه السلام. قال: فلقيته فأقرأته السلام، فقال: عليك وعليه السلام.
سليمان بن هشام وابن مهران
دخل ميمون بن مهران على سليمان بن هشام وهو والي الجزيرة، فقال: السلام عليكم. فقال له سليمان: ما منعك أن تسلّم بالإمرة؟ فقال: إنما يسلّم على الوالي بالإمرة إذا كان عنده الناس.
الحسن وإبراهيم وابن مهران:
أبو بكر بن أبي شيبة قال: كان الحسن وإبراهيم وميمون بن مهران يكرهون أن يقول الرجل، حياك الله. حتى يقول السلام.
وسئل عبد الله بن عمر عن الرجل يدخل المسجد أو البيت ليس فيه أحد، قال:
يقول: السلام علينا وعلى عباد الله الصالحين.
ومر رجل بالنبي صلّى الله عليه وسلم وهو يبول، فسلّم علي، فلم يردّ عليه السلام.
وقال رجل لعائشة: كيف أصبحت؟ قالت: بنعمة من الله.
وقال رجل لشريح: كيف أصبحت؟ قال: أصبحت طويلا أملي، قصيرا أجلي، سيّئا عملي.(2/270)
وقيل لسفيان الثوري: كيف أصبحت؟ قال: أصبحت في دار حارت فيها الأدلّاء.
واستأذن رجل من بني عامر على النبي صلّى الله عليه وسلم وهو في بيت، فقال: ألج؟ فقال النبي صلّى الله عليه وسلم لخادمه: اخرج إلى هذا فعلّمه الاستئذان، وقل له يقول: السلام عليكم، أدخل؟
جابر بن عبد الله قال: استأذنت على النبي صلّى الله عليه وسلم، فقال: من أنت؟ فقلت: أنا.
قال: أنا أنا! وقال النبي صلّى الله عليه وسلم: الاستئذان ثلاثة؛ فإن أذن لك وإلا فارجع.
وقال علي بن أبي طالب رضي الله عنه: الأولى إذن، والثانية مؤامرة، والثالثة عزيمة؛ إما أن يأذنوا، وإما أن يردّوا.
باب في تأديب الصغير
قالت الحكماء: من أدّب ولده صغيرا سرّ به كبيرا.
وقالوا: أطبع الطين ما كان رطبا، وأعمر العود ما كان لدنا.
وقالوا: من أدّب ولده غمّ حاسده.
وقال ابن عباس: من لم يجلس في الصغر حيث يكره، لم يجلس في الكبر حيث يحبّ.
قال الشاعر:
إذا المرء أعيته المروءة ناشئا ... فمطلبها كهلا عليه شديد
وقالوا: ما أشدّ فطام الكبير، وأعسر رياضة «1» الهرم.(2/271)
قال الشاعر:
وتروض عرسك بعد ما هرمت ... ومن العناء رياضة الهرم
كتب شريح إلى معلم ولده:
ترك الصّلاة لأكلب يسعى بها ... يبغي الهراش مع الغواة الرّجّس
فليأتينّك غدوة بصحيفة ... كتبت له كصحيفة المتلمّس «1»
فإذا أتاك فعضّه بملامة ... أوعظه موعظة الأديب الكيّس
فإذا هممت بضربه فبدرّة ... وإذا بلغت ثلاثة لك فاحبس
واعلم بأنّك ما أتيت فنفسه ... مع ما يجرّعني أعزّ الأنفس
لابن عبد القدوس:
وقال صالح بن عبد القدّوس:
وإنّ من أدّبته في الصّبا ... كالعود يسقى الماء في غرسه
حتى تراه مورقا ناضرا ... بعد الذي أبصرت من يبسه
والشيخ لا يترك أخلاقه ... حتى يوارى في ثرى رمسه
إذا ارعوى عاد له جهله ... كذي الضّنى عاد إلى نكسه «2»
ما تبلغ الأعداء من جاهل ... ما يبلغ الجاهل من نفسه
وقال عمرو بن عتبة لمعلّم ولده: ليكن أول إصلاحك لولدي إصلاحك نفسك، فإنّ عيونهم معقودة بعينك، فالحسن عندهم ما صنعت، والقبيح عندهم ما تركت؛ علّمهم كتاب الله ولا تكرههم عليه فيملّوه، ولا تتركهم منه فيهجروه. روّهم من الحديث أشرفه، ومن الشعر أعفّه، ولا تنقلهم من علم إلى علم حتى يحكموه، فإنّ(2/272)
ازدحام الكلام في القلب مشغلة للفهم. وعلّمهم سنن الحكماء، وجنّبهم محادثة النساء، ولا تتكل على عذر مني لك، فقد اتكلت على كفاية منك.
باب في حب الولد
أرسل معاوية إلى الأحنف بن قيس، فقال: يا أبا بحر، ما تقول في الولد؟ قال:
ثمار قلوبنا، وعماد ظهورنا، ونحن له أرض ذليلة، وسماء ظليلة، فإن طلبوا فأعطهم، وإن غضبوا فأرضهم، يمنحوك ودّهم، ويحبوك جهدهم؛ ولا تكن عليهم ثقيلا فيملوا حياتك، ويحبّوا وفاتك. فقال: لله أنت يا أحنف. لقد دخلت عليّ وإني لمملوء غضبا على يزيد، فسللته من قلبي.
فلما خرج الأحنف من عنده بعث معاوية إلى يزيد بمائتي ألف درهم ومائتي ثوب.
فبعث يزيد إلى الأحنف بمائة ألف درهم ومائة ثوب، شاطهره إياها.
وكان عبد الله بن عمر يذهب بولده سالم كل مذهب، حتى لامه الناس فيه، فقال:
يلومونني في سالم وألومهم ... وجلدة بين العين والأنف سالم
وقال: إنّ ابني سالما ليحب الله حبّا لو لم يخفه لم يعصه.
وكان يحيى بن اليمان يذهب بولده داود كل مذهب؛ حتى قال يوما: أئمة الحديث أربعة: كان عبد الله، ثم كان علقمة، ثم كان إبراهيم، ثم أنت يا داود.
وقال: تزوّجت أم داود، فما كان عندنا شيء ألفّه فيه، حتى اشتريت له كسوة بدانق «1» .
وقال زيد بن علي لابنه: يا بنيّ، إن الله لم يرضك لي فأوصاك بي، ورضيني لك فحذّرنيك. واعلم أن خير الآباء للأبناء من لم يدعه الحبّ إلى التفريط، وخير الأبناء(2/273)
للآباء من لم يدعه التقصير إلى العقوق.
وفي الحديث المرفوع: ريح الولد من ريح الجنة.
وفي أيضا: الأولاد من ريحان الله.
وقال النبي صلّى الله عليه وسلم لما بشّر بفاطمة: ريحانة أشمّها ورزقها على الله.
ودخل عمرو بن العاص على معاوية وبين يديه بنته عائشة، فقال: من هذه؟
فقال: هذه تفاحة القلب! فقال له: انبذها عنك، فو الله إنهن ليلدن الأعداء، ويقرّبن البعداء، ويورثن الضغائن. قال: لا تقل ذاك يا عمرو، فو الله ما مرض المرضى، ولا ندب الموتى، ولا أعان على الأحزان مثلهن. وربّ ابن أخت قد نفع خاله.
لحطان:
وقال حطّان بن المعلي الطائي:
لولا بنيّات كزغب القطا ... حططن من بعض إلى بعض «1»
لكان لي مضطرب واسع ... في الأرض ذات الطّول والعرض
وإنّما أولادنا بيننا ... أكبادنا تمشي على الأرض
وقال عبيد الله بن أبي بكرة: موت الولد صدع في الكبد، لا ينجبر آخر الأبد.
ونظر عمر بن الخطاب إلى رجل يحمل طفلا على عنقه، فقال: ما هذا منك؟
قال: ابني يا أمير المؤمنين! قال أما إنه إن عاش فتنك، وإن مات حزنك.
وكانت فاطمة بنت رسول الله صلّى الله عليه وسلم ترقّص الحسين بن علي رضي الله عنهما وتقول:
وا بأبي شبه النّبي ... ليس شبيها بعلي(2/274)
وكان الزبير يرقص عروة ويقول:
أبيض من آل أبي عتيق ... مبارك من ولد الصّدّيق
ألذّه كما ألذّ ريقي
وقال أعرابيّ وهو يرقّص ولده:
أحبّه حبّ الشّحيح ماله ... قد كان ذاق الفقر ثم ناله
إذا يريد بذله بدا له
وقال آخر وهو يرقّص ولده:
أعرف منه قلّة النّعاس ... وخفّة من رأسه في راسي
وكان رجل من طيء يقطع الطريق، فمات وترك بنيّا رضيعا، فجعلت أمّه ترقّصه وتقول:
يا ليته قد قطع الطريقا ... ولم يرد في أمره رفيقا
وقد أخاف الفجّ والمضيقا ... فقلّ أن كان به شفيقا
وقال عبد الملك: أضرّ بنا في الوليد حبّنا له فلم نؤدّبه، وكأن الوليد أدّبنا.
وقال هارون الرشيد لابنه المعتصم: ما فعل وصيفك فلان؟ قال: مات فاستراح من الكتّاب. قال: وبلغ منك الكتّاب هذا المبلغ. والله لا حضرته أبدا. ووجهه إلى البادية فتعلم الفصاحة، وكان أمّيا، وهو المعروف بابن ماردة.
إبراهيم عليه السلام وملك الموت:
وفي بعض الحديث أن إبراهيم خليل الرحمن كان من أغير الناس، فلما حضرته الوفاة دخل عليه ملك الموت في صورة رجل أنكره، فقال له: من أدخلك داري؟
قال: الذي أسكنك فيها منذ كذا وكذا سنة. قال: ومن أنت؟ قال: أنا ملك الموت، جئت لقبض روحك. قال: أتاركي أنت حتى أودّع ابني إسحاق؟ قال: نعم. فأرسل(2/275)
إلى إسحاق. فلما أتاه أخبره، فتعلّق إسحاق بأبيه وجعل يتقطع عليه بكاء، فخرج عنهما ملك الموت. وقال: يا رب، ذبيحك إسحاق متعلق بخليلك! فقال له الله: قل له إني قد أمهلتك. ففعل، وانحل إسحاق عن أبيه، ودخل إبراهيم بيتا ينام فيه؛ فقبض ملك الموت روحه وهو نائم.
باب الاعتضاد بالولد
قال الله تبارك وتعالى فيما حكاه عن عبده زكريا ودعائه إليه في الولد: وَزَكَرِيَّا إِذْ نادى رَبَّهُ رَبِّ لا تَذَرْنِي فَرْداً وَأَنْتَ خَيْرُ الْوارِثِينَ
«1» .
وقال: وَإِنِّي خِفْتُ الْمَوالِيَ مِنْ وَرائِي وَكانَتِ امْرَأَتِي عاقِراً فَهَبْ لِي مِنْ لَدُنْكَ وَلِيًّا يَرِثُنِي وَيَرِثُ مِنْ آلِ يَعْقُوبَ وَاجْعَلْهُ رَبِّ رَضِيًّا
«2» .
والموالي ها هنا: بنو العم.
وقال الشاعر:
من كان ذا عضد يدرك ظلامته ... إنّ الذليل الذي ليست له عضد
تنبو يداه إذا ما قل ناصره ... ويأنف الضّيم إن أثرى له عدد «3»
العتبي قال: لما أسنّ أبو براء عامر بن مالك وضعّفه بنو أخيه وخرّفوه ولم يكن له ولد يحميه، أنشأ يقول:
دفعتكم عنّي وما دفع راحة ... بشيء إذا لم تستعن بالأنامل
يضعّفني حلمي وكثرة جهلكم ... عليّ وأني لا أصول بجاهل
وقال آخر:
تعدو الذّئاب على من لا كلاب له ... وتتّقي سورة المستنفر الحامي «4»(2/276)
باب في التجارب والتأدّب بالزمان
قالت الحكماء: كفى بالتجارب تأديبا، وبتقلب الأيام عظة.
وقالوا: كفى بالدهر مؤدّبا وبالعقل مرشدا.
وقال حبيب:
أحاولت إرشادي فعقلي مرشدي ... أم استمت تأديبي فدهري مؤدّبي «1»
وقال إبراهيم بن شكلة:
من لم يؤدّبه والداه ... أدّبه الليل والنهار
كم قد أذلّا كريم قوم ... ليس له منهما انتصار
من ذا يد الدهر لم تنلّه ... أو اطمأنّت به الدّيار
كلّ عن الحادثات مغض ... وعنده للزمان ثار
وقال آخر:
وما أبقت لك الأيام عذرا ... وبالأيام يتّعظ اللبيب
وقالوا: كفى بالدهر مخبرا بما مضى عما بقي.
وقالوا: كفي مخبرا لذوي الألباب ما جرّبوا.
وقالوا لعيسى ابن مريم عليهما السلام: من أدّبك؟ قال: ما أدّبني أحد؛ رأيت الجهل قبيحا فاجتنبته.
باب في صحبة الأيام بالموادعة
قالت الحكماء: اصحب الأيام بالموادعة، ولا تسابق الدهر فتكبو «2» .
وقال الشاعر:(2/277)
من سابق الدهر كبا كبوة ... لم يستقلها من خطا الدهر
فاخط مع الدهر إذا ما خطا ... واجر مع الدهر كما يجري
وقال بشار العقيلي:
أعاذل إنّ العسر سوف يفيق ... وإنّ يسارا من غد لخليق «1»
وما كنت إلّا كالزمان إذا صحا ... صحوت وإن ماق الزمان أموق «2»
وقال آخر:
تحامق مع الحمقى إذا ما لقيتهم ... ولاقهم بالجهل فعل ذوي الجهل
وخلّط إذا لاقيت يوما مخلّطا ... يخلّط في قول صحيح وفي هزل
فإني رأيت المرء يشقى بعقله ... كما كان قبل اليوم يسعد بالعقل
وقال الآخر:
إن المقادير إذا ساعدت ... ألحقت العاجز بالحازم
وقال الآخر:
والسبب المانع حظّ العاقل ... هو الذي سبّب حظّ الجاهل
ومن أمثالهم في ذلك قولهم: تطامن لها تخطك «3» .
ومن قولنا في هذا المعنى:
تطامن للزمان يجزك عفوا ... وإن قالوا ذليل قل ذليل
وقال حبيب:
وكانت لوعة ثم اطمأنّت ... كذاك لكلّ سائلة قرار
وقال حبيب:(2/278)
ماذا يريك الدهر من هوانه ... ازفن لقرد السّوء في زمانه «1»
ولآخر:
الدهر لا يبقى على حالة ... لا بدّ أن يقبل أو يدبر
فإن تلقّاك بمكروهه ... فاصبر فإن الدهر لا يصبر
اصبر لدهر نال من ... ك فهكذا مضت الدّهور
فرحا وحزما مرة ... لا الحزن دام ولا السّرور
ولآخر:
عفا الله عمّن صيّر الهمّ واحدا ... وأيقن أنّ الدائرات تدور
تروح لنا الدّنيا بغير الذي غدت ... وتحدث من بعد الأمور أمور
وتجري الليالي باجتماع وفرقة ... وتطلع فيها أنجم وتغور
وتطمع أن يبقى السّرور لأهله ... وهذا محال أن يدوم سرور
ولآخر:
سأنتظر الأيام فيك لعلّها ... تعود إلى الوصل الذي هو أجمل
باب التحفظ من المقالة القبيحة وإن كانت باطلا
قالت الحكماء: إياك وما يعتذر منه.
وقالوا: من عرّض نفسه للتهم فلا يأمن من إساءة الظن.
وقالوا: حسبك من شرّ سماعه.
وقالوا: كفى بالقول عارا وإن كان باطلا.(2/279)
وقال الشاعر:
ومن دعا الناس إلى ذمّه ... ذمّوه بالحقّ وبالباطل
مقالة السّوء إلى أهلها ... أسرع من منحدر سائل
وقال آخر:
قد قيل ذلك إن حقّا وإن كذبا ... فما اعتذارك من قول إذا قيلا
وقال أرسطاطاليس للإسكندر: إن الناس إذا قدروا أن يقولوا قدروا أن يفعلوا، فاحترس من أن يقولوا تسلم من أن يفعلوا.
وقال امرؤ القيس:
وجرح اللّسان كجرح اليد
وقال الأخطل:
والقول ينفذ ما لا تنفذ الإبر
وقال يعقوب الحمدوني:
وقد يرجى لجرح السيف برء ... ولا برء لما جرح اللّسان
ولآخر:
قالوا ولو صحّ ما قالوا لفزت به ... من لي بتصديق ما قالوا وتكذيبي
باب الأدب في تشميت العطاس
للنبي صلى الله عليه وسلم:
ومن حديث أبي بكر بن أبي شيبة قال: قال النبي صلّى الله عليه وسلم: لا تشمّت العاطس حتى يحمد الله، فإن لم يحمده فلا تشمّته.
وقال: إذا عطس أحدكم فحمد الله فشمّتوه، وإن لم يحمد الله فلا تشمّتوه.(2/280)
وقال عليّ رضي الله عنه: يشمّت العاطس إلى ثلاث، فإن زاد فهو داء يخرج من رأسه.
عطس ابن عمر، فقالوا له: يرحمك الله. فقال: يهديكم الله ويصلح بالكم.
وعطس عليّ بن أبي طالب فحمد الله، فقيل له: يرحمك الله. فقال: يغفر الله لنا ولكم.
وقال عمر بن الخطاب رضي الله عنه: إذا عطس أحدكم فشمّتوه ثلاثا، فإن زاد فقولوا: إنك مضنوك «1» .
وقال بعضهم: التشميت مرة واحدة.
باب الإذن في القبلة
عبد الرحمن بن أبي ليلى عن عبد الله بن عمر، قال: كنا نقبّل يد النبي صلّى الله عليه وسلم.
وكيع عن سفيان قال: قبّل أبو عبيدة يد عمر بن الخطاب.
ومن حديث الشّعبي قال: لقي النبي صلّى الله عليه وسلم جعفر بن أبي طالب، فالتزمه وقبّل بين عينيه.
وقال إياس بن دغفل: رأيت أبا نضرة يقبّل خدّ الحسن.
الشّيباني عن أبي الحسن عن مصعب قال: رأيت رجلا دخل على عليّ بن الحسين رضي الله عنهما في المسجد فقبّل يده ووضعها على عينيه، ولم ينهه.
العتبي قال: دخل رجل على هشام بن عبد الملك فقبّل يده، فقال: أفّ له. إنّ العرب ما قبّلت الأيدي إلا هلوعا ولا قبلتها العجم إلا خضوعا.
واستأذن رجل المأمون في تقبيل يده، فقال: إنّ القبلة من المؤمن ذلّة، ومن الذّميّ خديعة؛ ولا حاجة بك أن تذلّ، ولا حاجة بنا أن نخدع.
واستأذن أبو دلامة المهديّ في تقبيل يده فمنعه، فقال: ما منعتني شيئا أيسر على عيالي فقدا من هذه.(2/281)
الهجري والمنصور:
الأصمعي قال: دخل أبو بكر الهجري على المنصور، فقال: يا أمير المؤمنين، نغض فمي، وأنتم أهل بيت بركة، فلو أذنت لي فقبّلت رأسك لعلّ الله كان يمسك على ما بقي من أسناني. قال: اختر بينها وبين الجائزة. فقال: يا أمير المؤمنين، إن أهون عليّ من ذهاب درهم من الجائزة ألّا تبقى في فمي حاكةّ. فضحك المنصور وأمر له بجائزة.
وقالوا: قبلة الإمام في اليد، وقبلة الأب في الرأس، وقبلة الأخ في الخد، وقبلة الأخت في الصدر، وقبلة الزوجة في الفم.
باب الأدب في العيادة
مرض أبو عمرو بن العلاء، فدخل عليه رجل من أصحابه، فقال له: أريد أن أساهرك الليلة. قال له: أنت معافى وأنا مبتلي، فالعافية لا تدعك أن تسهر، والبلاء لا يدعني أن أنام. وأسأل الله أن يهب لأهل العافية الشكر، ولأهل البلاء الصبر.
ودخل كثير عزّة على عبد العزيز بن مروان وهو مريض، فقال: لو أن سرورك لا يتمّ إلا بأن تسلم وأسقم لدعوت ربي أن يصرف ما بك إليّ، ولكن أسأل الله لك أيها الأمير العافية، ولي في كنفك النعمة. فضحك وأمر له بجائزة. فخرج وهو يقول:
ونعود سيّدنا وسيّد غيرنا ... ليت التّشكّي كان بالعوّاد
لو كان يقبل فدية لفديته ... بالمصطفى من طارفي وتلادي «1»
وكتب رجل من أهل الأدب إلى عليل:
نبّئت أنّك معتلّ فقلت لهم ... نفسي الفداء له من كلّ محذور(2/282)
يا ليت علّته بي ثمّ كان له ... أجر العليل وأنّي غير مأجور
وكتب آخر إلى عليل:
وقيناك لو يعطى الهوى فيك والمنى ... لكان بنا الشكوى وكان لك الأجر
بين يحيى بن خالد وشاعر اعتل:
وكان شاعر يختلف إلى يحيى بن خالد بن برمك ويمتدحه، فغاب عنه أياما لعلة عرضت له، فلم يفتقده يحيى ولم يسأل عنه؛ فلما أفاق الرجل من علّته كتب إليه:
أيّهذا الأمير أكرمك الل ... هـ وأبقاك لي بقاء طويلا
أجميلا تراه أصلحك الل ... هـ لكيما أراه أيضا جميلا
أنّني قد أقمت عنك طويلا ... لا ترى منفذا إليّ رسولا
الذنب فما علمت سوى الشّك ... ر لما قد أوليتنيه جزيلا
أم ملالا فما علمتك للحا ... فظ مثلي على الزّمان ملولا
قد أتى الله بالصّلاح فما أن ... كرت ممّا عهدت إلّا قليلا
وأكلت الدّرّاج وهو غذاء ... أفلت علّتي عليه أفولا «1»
وكأنّي قدمت قبلك آتي ... ك غدا إن أجد إليك سبيلا
فكتب إليه الوزير يعتذر:
دفع الله عنك نائبة الده ... ر وحاشاك أن تكون عليلا
أشهد الله ما علمت وماذا ... ك من العذر جائزا مقبولا
ولعلّي لو قد علمت لعاود ... تك شهرا وكان ذاك قليلا
فاجعلنّ لي إلى التّعلّق بالعذ ... ر سبيلا إن لم أجد لي سبيلا
فقديما ما جاء ذو الفضل بالفض ... ل وما سامح الخليل خليلا
وكتب المعتصم إلى عبد الله بن طاهر:(2/283)
أعزز عليّ بأن أراك عليلا ... أو أن يكون بك السّقام نزيلا
فوددت أنّي مالك لسلامتي ... فأعيرها لك بكرة وأصيلا
فتكون تبقى سالما بسلامتي ... وأكون ممّا قد عراك بديلا
هذا أخ لك يشتكي ما تشتكي ... وكذا الخليل إذا أحبّ خليلا
ومرض يحيى بن خالد، فكان إسماعيل بن صبيح الكاتب إذا دخل عليه يعوده وقف عند رأسه ودعا له، ثم يخرج فيسأل الحاجب عن منامه وشرابه وطعامه؛ فلما أفاق قال يحيى بن خالد: ما عادني في مرضي هذا إلا إسماعيل بن صبيح.
وقال الشاعر:
عيادة المرء يوم بين يومين ... وجلسة لك مثل الّلحظ بالعين
لا تبرمنّ مريضا في مساءلة ... يكفيك من ذاك تسآل بحرفين «1»
وقال بكر بن عبد الله لقوم عاوده في مرضه فأطالوا الجلوس عنده: المريض يعاد والصحيح يزار.
وقال سفيان الثوري: حمق القرّاء أشدّ على المرضى من أمراضهم: يجيئون في غير وقت ويطيلون الجلوس.
ودخل رجل على عمر بن العزيز يعوده في مرضه، فسأله عن علّته، فلما أخبره قال: من هذه العلة مات فلان، ومات فلان. فقال له عمر: إذا عدت المرضى فلا تنع إليهم الموتى، وإذا خرجت عنا فلا تعد إلينا.
وقال ابن عباس: إذا دخلتم على الرجل وهو في الموت فبشّروه ليلقى ربّه وهو حسن الظن، ولقّنوه الشهادة، ولا تضجروه.
ومرض الأعمش فأبرمه الناس بالسؤال عن حاله، فكتب قصته في كتاب وجعله عند رأسه، فإذا سأله أحد قال: عندك القصة في الكتاب فاقرأها.(2/284)
ولبعضهم:
مرض الحبيب فعدته ... فمرضت من حذري عليه
وأتى إليّ يعودني ... فبرئت من نظري إليه
ومرض محمد بن عبد الله بن طاهر، فكتب إلى أخيه عبيد الله بن عبد الله:
إنّي وجدت على جفا ... ئك من فعالك شاهدا
إنّي اعتللت فما فقد ... ت سوى رسولك عائدا
ولو اعتللت فلم أجد ... سببا إليك مساعدا
لاستشعرت عيني الكرى ... حتّى أعودك راقدا
فأجابه:
كحلت مقلتي بشوك القتاد ... لم أذق حرقة لطعم الرّقاد «1»
يا أخي الباذل المودّة والنّا ... زل من مقلتي مكان السّواد
منعتني عليك رقّة قلبي ... من دخولي إليك في العوّاد
لو بأذني سمعت منك أنينا ... لتفرّى مع الأنين فؤادي «2»
ولمحمد بن يزيد:
يا عليلا أفديك من ألم الع ... لة هل لي إلى الّلقاء سبيل
إن يحل دونك الحجاب فما يح ... جب عنّي بك الضّنى والعويل
وأنشد محمد بن يزيد، قال: أنشدني أبو دهمان لنفسه وقد دخل على بعض الأمراء يعوده:
بأنفسنا لا بالطّوارف والتّلد ... نقيك الذي تخفي من السّقم أو تبدي
بنا معشر العوّاد ما بك من أذى ... فإن أشفقوا ممّا أقول فبي وحدي
وكتب أبو تمام الطائي إلى مالك بن طوق في شكاة له:(2/285)
كم لوعة للنّدى وكم قلق ... للحمد والمكرمات من قلقك
ألبسك الله منه عافية ... في نومك المعتري وفي أرقك
تخرج من جسمك السّقام كما ... أخرج ذمّ الفعال من خلقك
ودخل محمد بن عبد الله على المتوكل في شكاة له يعوده، فقال:
الله يدفع عن نفس الإمام لنا ... وكلّنا للمنايا دونه غرض
فليت أنّ الذي يعروه من مرض ... بالعائدين جميعا لا به المرض
فبالإمام لنا من غيرنا عوض ... وليس في غيره منه لنا عوض
فما أبالي إذا ما نفسه سلمت ... لو باد كلّ عباد الله وانقرضوا
وقال آخر في بعض الأمراء:
واعتلّ فاعتلّت الدنيا لعلّته ... واعتلّ فاعتلّ فيه البأس والكرم
لمّا استقلّ أنار المجد وانقشعت ... عنه الضبابة والأحزان والسّقم «1»
وبلغ قيسا مجنون بني عامر أن ليلى بالعراق مريضة: فقال:
يقولون ليلى بالعراق مريضة ... فما لك تجفوها وأنت صديق
شفى الله مرضى بالعراق فإنّني ... على كلّ شاك بالعراق شفيق
ولمحمد بن عبد الله بن طاهر:
ألبسك الله منه عافية ... تغنيك عن دعوتي وعن جلدك
سقمك ذا لا لعلّة عرضت ... بل سقم عينيك ردّ في جسدك
فيا مريض الجفون أحي فتى ... قتلته بالجفون لا بيدك
وقال غيره:
يا أملي، كيف أنت من ألمك ... وكيف ما تشتكيه من سقمك
هذان يومان لي أعدّهما ... مذ لم تلح لي بروق مبتسمك(2/286)
حسدت حمّاك حين قيل لها ... بأنها قبّلتك فوق فمك
ولسحيم عبد بني الحسحاس:
تجمّعن شتّى من ثلاث وأربع ... وواحدة حتى كملن ثمانيا
واقبلن من أقصى الخيام يعدنني ... ألا إنما بعض العوائد دائيا
وللعباس بن الأحنف:
قالت مرضت فعدتها فتبرّمت ... وهي الصحيحة والمريض العائد
والله لو قست القلوب كقلبها ... ما رقّ للولد الضعيف الوالد
وقال الواثق:
لا بك السّقم ولكن كان بي ... وبنفسي وبأمّي وأبي
قيل لي إنّك صدّعت فما ... خالطت سمعي حتى دير بي «1»
وأنشد محمد بن يزيد المبرّد لعلية بنت المهدي:
تمارضت كي أشجى وما بك علّة ... تريدين قتلي قد ظفرت بذلك
وقولك للعوّاد كيف ترونه ... فقالوا قتيلا قلت أهون هالك
لئن ساءني أن نلتني بمساءة ... لقد سرّني أنّي خطرت ببالك
ومن قولنا في هذا المعنى:
روح الندى بين أثواب العلا وصب ... يعتنّ في جسد للمجد موصوب «2»
ما أنت وحدك مكسوّ شحوب ضنى ... بل كلّنا بك من مضنى ومشحوب
يا من عليه حجاب من جلالته ... وإن بدا لك يوما غير محجوب
ألقى عليك يدا للضّرّ كاشفة ... كشّاف ضرّ نبيّ الله أيّوب
ومثله من قولنا:(2/287)
لا غرو إن نال منك السّقم والضرر ... قد تكسف الشمس لا بل يخسف القمر
يا غرّة القمر الذاوي غضارتها ... فدّى لنورك منّي السمع والبصر
إن يمس جسمك مدهوكا بصالية ... فهكذا يوعك الضّرغامة الهصر «1»
أن الحسام فإن تفلل مضاربه ... فقبله ما يفلّ الصارم الذّكر «2»
روح من المجد في جثمان مكرمة ... كأنما الصبح من خدّيه ينفجر
لو غال مجلوده شيء سوى قدر ... أكبرت ذاك ولكن غاله القدر
ومن قولنا في هذا المعنى:
لا غرو إن نال منك السّقم ما سألا ... قد يكسف البدر أحيانا إذا كملا
ما تشتكي علة في الدهر واحدة ... إلا اشتكى الجود من وجد بها عللا
الأدب في الاعتناق
سفيان بن عيينة ومالك:
أبو بكر بن محمد قال: حدثنا سعيد بن إسحاق عن ابن يونس المديني قال: كنت جالسا عند مالك بن أنس، فإذا سفيان بن عيينة يستأذن بالباب، فقال مالك: رجل صالح صاحب سنّة، أدخلوه. فدخل فقال: السلام عليكم ورحمة الله وبركاته. فردّ السلام، فقال: سلام خاص وعام عليك يا أبا عبد الله ورحمة الله. فقال مالك:
وعليك السلام يا أبا محمد ورحمة الله. فصافحه مالك وقال: يا أبا محمد، لولا أنها بدعة لعانقناك. فقال سفيان: قد عانق من هو خير منا، رسول الله صلّى الله عليه وسلم. فقال مالك: جعفرا؟ قال: نعم. فقال مالك: ذاك حديث خاص يا أبا محمد ليس بعام.
فقال سفيان: ما عمّ جعفرا يعمّنا وما خصه يخصنا إذا كنا صالحين؛ أفتأذن لي أن أحدّث في مجلسك؟ قال: نعم يا أبا محمد. فقال: حدّثني عبد الله بن طاوس عن أبيه(2/288)
عن عبد الله بن عباس: أنه لما قدم جعفر من أرض الحبشة اعتنقه النبي صلّى الله عليه وسلم، وقبل بين عينيه وقال: جعفر أشبه الناس بي خلقا وخلقا.
باب الأدب في إصلاح المعيشة
قالوا: من أشبع أرضه عملا أشبعت بيته خبزا.
وقالوا: يقول الثوب لصاحبه: أكرمني داخلا أكرمك خارجا.
وقالت عائشة: المغزل بيد المرأة أحسن من الرمح بيد المجاهد في سبيل الله.
وقال عمر بن الخطاب: لا تنهكوا وجه الأرض فإن شحمها في وجهها.
وقال: فرّقوا بين المنايا واجعلوا الرأس رأسين.
وقال: أملكوا العجين فإنه أحد الرّيعين.
وقال أبو بكر لغلام له كان يتجر بالثياب: إذا كان الثوب سابغا «1» فانشره وأنت قائم، وإذا كان قصيرا فانشره وأنت جالس، وإنما البيع مكاس «2» .
وقال عبد الملك بن مروان: من كان في يده شيء فليصلحه، فإنه في زمان إن احتاج فيه فأول ما يبدل دينه.
باب الأدب في المؤاكلة
قال النبي صلّى الله عليه وسلم: إذا أكل أحدكم فليأكل بيمينه وليشرب بيمينه، فإن الشيطان يأكل بشماله ويشرب بشماله.
بلال والجارود:
محمد بن سلام الجمحي قال: قال بلاد بن أبي بردة. وهو أمير على البصرة، للجارود بن أبي سبرة الهذلي: أتحضر طعام هذا الشيخ؟ يعني عبد الأعلى بن عبد الله(2/289)
ابن عامر؛ قال: نعم. قال: فصفه لي. قال: نأتيه فنجده منبطحا، يعني نائما، فنجلس حتى يستيقظ، فيأذن فنساقطه الحديث، فإن حدّثناه أحسن الاستماع؛ وإن حدّثنا أحسن الحديث، ثم يدعو بمائدته، وقد تقدّم إلى جواريه وأمهات أولاده ألّا تلفظ واحدة منهن إذا وضعت مائدة، ثم يقبل خبّازه فيمثل بين يديه قائما، فيقول له: ما عندك؟ فيقول: عندي كذا وكذا. فيعدّد ما عنده. يريد بذلك أن يحسن كلّ رجل نفسه وشهوته على ما يريد من الطعام. وتقبل الألوان من ها هنا ومن ها هنا فتوضع على المائدة، ثم يؤتى بثريدة شبهاء «1» من الفلفل رقطاء «2» من الحمّص، ذات حفافين من العراق «3» ، فيأكل معذرا، حتى إذا ظن أن القوم قد كادوا يمتلئون، جثا على ركبتيه؛ ثم استأنف الأكل معهم.
قال ابن أبي بردة: لله درّ عبد الأعلى، ما أربط جأشه على وقع الأضراس.
وحضر أعرابي سفرة هشام بن عبد الملك؛ فبيناه يأكل معه إذ تعلقت شعرة في لقمة الأعرابي، فقال له هشام: عندك شعرة في لقمتك يا أعرابي. فقال: وإنك لتلاحظني ملاحظة من يرى الشعرة في لقمتي! والله لا أكلت عندك أبدا، ثم خرج وهو يقول:
وللموت خير من زيارة باخل ... يلاحظ أطراف الأكيل على عمد
بين المنصور وأعرابي:
محمد بن زيد قال: أكل قائد لأبي جعفر المنصور معه يوما، وكان على المائدة محمد المهديّ وصالح ابناه، فبينا الرجل يأكل من ثريدة بين أيديهم، إذ سقط بعض الطعام من فيه في الغضّارة «4» ، فكأن المهدي وأخاه عافا الأكل معه، فأخذ أبو جعفر الطعام(2/290)
الذي سقط من فم الرجل فأكله، فالتفت إليه الرجل فقال: يا أمير المؤمنين، أما الدنيا فهي أقلّ وأيسر من أن أتركها لك، والله لأتركن في مرضاتك الدنيا والآخرة.
المنصور وهاشمي والربيع حاجبه:
وحدّث إبراهيم بن السندي قال: كان فتى من بني هاشم يدخل على المنصور كثيرا، يسلم من بعيد وينصرف، فأتاه يوما فأدناه، ثم دعاه إلى الغذاء. فقال: قد تغدّيت! فأمهله الرّبيع حاجب المنصور حتى ظن أنه لم يفهم الخطيئة، فلما انصرف وصار وراء الستر دفعه في قفاه، فلما رأى من الحاجب دفعه في قفاه، شكا الفتى حالته وما ناله إلى عمومته، فأقبلوا من غد إلى أبي جعفر، وقالوا: إن الربيع نال من هذا الفتى كذا وكذا. فقال لهم أبو جعفر: إن الربيع لا يقدم على مثل هذا إلا وفي يده حجة، فإن شئتم أمسكنا عن ذلك وأغضينا، وإن شئتم سألته وأسمعتكم. قالوا:
بل يسأله أمير المؤمنين ونسمع. فدعاه فسأله، فقال: إن هذا الفتى كان يأتي فيسلّم وينصرف من بعيد؛ فلما كان أمس أدناه أمير المؤمنين حتى سلّم من قرب؛ وتبذّل بين يديه ودعاه إلى غدائه؛ فبلغ من جهله بحق المرتبة التي أحلّه فيها أن قال: قد تغديت. وإذا هو ليس عنده لمن أكل مع أمير المؤمنين وشاركه في يده إلا سدّ خلّة الجوع، ومثل هذا لا يقوّمه القول دون الفعل. فسكت القوم وانصرفوا.
وقال بكر بن عبد الله: أحق الناس بلطمة من أتى طعاما لم يدع إليه، وأحق الناس بلطمتين من يقول له صاحب البيت: اجلس ها هنا. فيقول: لا، ها هنا، وأحق الناس بثلاث لطمات من دعي إلى طعام فقال لصاحب المنزل: ادع ربة البيت تأكل معنا.
وقال أبو عثمان عمرو بن بحر الجاحظ: لا ينبغي للفتى أن يكون مكحلا؛ ولا مقبّبا، ولا مكوكبا، ولا شكامدا، ولا حرامدا، ولا تقامدا. ثم فسره فقال: أما المكحل، فالذي يتعرق العظم حتى يدعه كأنه مكحلة عاج، والمقّبب، فالذي يركّب(2/291)
اللحم بين يديه حتى يجعله كأنه قبة؛ والمكوكب، الذي يبصق في الطست وينخم فيها حتى يصير بصاقه كأنه الكواكب في الطست: والحرامد، الذي يأتي في وقت الغداء والعشاء فيقول: ما تأكلون؟ فيقولون من بغضه: سمّا! فيدخل يده ويقول: في حرامّ العيش بعدكم؛ والشّكامد. الذي يتبع اللقمة بأخرى قبل أن يسيغها فيخنق، كأنه ديك قد ابتلع فأرة، والنقامد، الذي يضع الطعام بين يديه ويأكل من بين يدي غيره.
ومن الأدب: أن يبدأ صاحب الطعام بغسل يده قبل الطعام، ثم يقول لجلسائه: من شاء منكم فليغسل. فإذا غسل بعد الطعام: فليقدّمهم ويتأخر.
أدب الملوك
قال العلماء: لا يؤمّ ذو سلطان في سلطانه ولا يجلس على تكرمته إلا بإذنه.
وقال زياد: لا يسلّم على قادم بين يدي أمير المؤمنين.
ودخل عبد الله بن عباس على معاوية وعنده زياد، فرحّب به معاوية ووسع له إلى جنبه، وأقبل عليه يسائله ويحادثه وزياد ساكت، فقال له ابن عباس: كيف حالك أبا المغيرة، كأنك أردت أن تحدث بيننا وبينك هجرة؟ فقال: لا، ولكنه لا يسلّم على قادم بين يدي أمير المؤمنين. قال ابن عباس: ما أدكرت الناس إلا وهم يسلمون على إخوانهم بين يدي أمرائهم. فقال له معاوية: كفّ عنه يا بن عباس، فإنك لا تشاء أن تغلب إلا غلبت.
الشيباني قال: بصق ابن مروان فقصّر في بصقته، فوقعت في طرف البساط فقام رجل من المجلس فمسحه بكمه، فقال عبد الملك بن مروان: أربعة لا يستحى من خدمتهم: الإمام، والعالم، والوالد، والضعيف.
وقال يحيى بن خالد: مساءلة الملوك عن حالها من تحية النّوكى، فإذا أردت أن تقول: كيف أصبح الأمير، فقل: صبّح الله الأمير بالنعمة والكرامة. وإن كان عليلا فأردت أن تسأله عن حاله، فقل: أنزل الله على الأمير الشفاء والرحمة.(2/292)
وقالوا: إذا زادك الملك إكراما فزده إعظاما، وإذا جعلك عبدا فاجعله ربّا ولا تديمن النظر إليه، ولا تكثر من الدعاء له في كلّ كلمة ولا تتغيّر له إذا سخط ولا تغترّ به إذا رضي، ولا تلحف في مسألته.
وقالوا: الملوك لا تسأل ولا تشمّت، ولا تكيّف.
وقال الشاعر:
إن الملوك لا يخاطبونا ... ولا إذا ملّوا يعاتبونا
وفي المقال لا تنازعونا ... وفي العطاس لا يشمّتونا
وفي الخطاب لا يكيّفونا ... يثنى عليهم ويبجّلونا
فافهم وصاتي لا تكن مجنونا
وقالوا: من تمام خدمة الملوك أن يقرّب الخادم إليه نعليه، ولا يدعه يمشي إليهما، ويجعل النعل اليمنى قبالة الرجل اليمنى، واليسرى قبالة الرجل اليسرى؛ وإذا رأى متكأ يحتاج إلى إصلاح أصلحه، ولا ينتظر فيه أمره، ويتفقد الدواة قبل أن يأمره، وينفض عنها الغبار إذا قرّبها إليه، وإن رأى بين يديه قرطاسا قد تباعد عنه قرّبه إليه ووضعه بين يديه على كسره.
وقال أصحاب معاوية لمعاوية: إنا ربما جلسنا عندك فوق مقدار شهوتك، فأنت تكره أن تستخفّنا فتأمرنا بالقيام، ونحن نكره أن نثقل عليك في الجلوس، فلو جعلت لنا علامة نعرف بها ذلك؟ فقال: علامة ذلك أن أقول: إذا شئتم.
وقيل مثل ذلك ليزيد بن معاوية، فقال: إذا قلت: على بركة الله.
وقيل مثل ذلك لعبد الملك بن مروان، فقال: إذا وضعت الخيزرانة.
وما سمعت بألطف معنى، ولا أكمل أدبا، ولا أحسن مذهبا في مساءلة الملوك من شبيب بن شيبة وقوله لأبي جعفر: أصلحك الله، إني أحب المعرفة وأجلك عن السؤال. فقال له: فلان بن فلان.(2/293)
باب الكناية والتعريض
ومن أحسن الكناية اللطيفة عن المعنى الذي يقبح ظاهره: قيل لعمر بن عبد العزيز، وقد نبت له حبن «1» تحت أنتييه «2» : أين نبت بك هذا الحبن؟ قال: بين الرانفة «3» والصّفن «4» .
وقال آخر، ونبت به حبن في أبطه، أين نبت بك هذا الحبن؟ قال: تحت منكبي.
وقد كنى الله تعالى في كتابه عن الجماع بالملامسة، وعن الحدث بالغائط فقال:
أَوْ جاءَ أَحَدٌ مِنْكُمْ مِنَ الْغائِطِ أَوْ لامَسْتُمُ النِّساءَ
«5» - والغائط: الفحص، وجمعه غيطان- وَقالُوا مالِ هذَا الرَّسُولِ يَأْكُلُ الطَّعامَ
«6» وإنما كنى به عن الحدث.
وقال تعالى: وَاضْمُمْ يَدَكَ إِلى جَناحِكَ تَخْرُجْ بَيْضاءَ مِنْ غَيْرِ سُوءٍ
«7» فكنى عن البرص.
ودخل الربيع بن زياد على النعمان بن المنذر وبه وضح، فقال: ما هذا البياض بك؟ فقال: سيف الله جلاه.
ودخل حارثة بن بدر على زياد وفي وجهه أثر، فقال زياد: ما هذا الأثر الذي في وجهك؟ قال: ركبت فرسي الأشقر فجمح بي. فقال: أما إنك لو ركبت الأشهب لما فعل ذلك. فكنى حارثة بالأشقر عن النبيذ، وكنى زياد بالأشهب عن اللبن.
وقال معاوية للأحنف بن قيس: أخبرني عن قول الشاعر:(2/294)
إذا ما مات ميت من تميم ... وسرّك أن يعيش فجىء بزاد
بخبز أو بتمر أو بسمن ... أو الشّيء الملفّف في البجاد «1»
تراه يطوف في الآفاق حرصا ... ليأكل رأس لقمان بن عاد
ما هذا الشيء الملفف في البجاد؟ قال الأحنف: السخينة «2» يا أمير المؤمنين. قال معاوية: واحدة بأخرى والبادي أظلم.
السخينة: طعام كانت تعمله قريش من دقيق، وهو الحريرة، فكانت تسبّ به؛ وفيه يقول حسان بن ثابت:
زعمت سخينة أن ستغلب ربّها ... وليغلبنّ مغالب الغلّاب
وقال آخر:
تعشوا من حريرتهم فناموا
ولما عزل عثمان بن عفان عمرو بن العاص عن مصر وولّاها ابن أبي سرح دخل عمرو على عثمان وعليه جبة محشوّة، فقال له عثمان: ما حشو جبتك يا عمرو؟ قال:
أنا. قال: قد علمت أنك فيها. ثم قال له: يا عمرو، أشعرت أن اللّقاح «3» درّت بعدك ألبانها؟ فقال: لأنكم أعجفتم «4» أولادها.
فكنّى عثمان عن خراج مصر بالّلقاح، وكنّى عمرو عن جور الوالي بعده وأنه حرم الرزق أهل العطاء ووفّره على السلطان، بالإعجاف.
وكان في المدينة رجل يسمى جعدة، يرجّل شعره ويتعرّض للنساء المعزبات، فكتب رجل من الأنصار كان في الغزو إلى عمر بن الخطاب رضي الله عنه:
ألا أبلغ أبا حفص رسولا ... فدى لك من أخي ثقة إزاري
قلائصنا هداك الله إنّا ... شغلنا عنكم زمن الحصار(2/295)
يعقّلهنّ جعد شيظميّ ... وبئس معقّل الذّود الظّؤار «1»
فكنى بالقلائص عن النساء، وعرّض برجل يقال له جعدة. فسأل عنه عمر فدلّ عليه، فجزّ شعره ونفاه عن المدينة.
وسمع عمر بن الخطاب امرأة في الطواف تقول:
فمنهنّ من تسقى بعذب مبرّد ... نقاخ فتلكم عند ذلك قرّت «2»
ومنهنّ من تسقى بأخضر آجن ... أجاج ولولا خشية الله فرّت
ففهم شكواها، فبعث إلى زوجها فوجده متغيّر الفم، فخيّره بين خمسمائة درهم وطلاقها. فاختار الدراهم، فأعطاه وطلّقها.
ودخل على زياد رجل من أشراف البصرة، فقال. أين مسكنك من البصرة؟ قال:
في وسطها قال له: كم لك من الولد؟ قال: تسعة. فلما خرج من عنده قيل له: إنه ليس كذلك في كل ما سألته، وليس له من الولد إلا واحد، وهو ساكن في طرف البصرة. فلما عاد إليه سأله زياد عن ذلك، فقال له: ما كذبتك. لي تسعة من الولد، قدّمت منهم ثمانية فهم لي، وبقي معي واحد، فلا أدري ألي يكون أم عليّ؛ ومنزلي بين المدينة والجبّانة؛ فأنا بين الأحياء والأموات، فمنزلي في وسط البصرة. قال:
صدقت.
الكناية يورّى بها عن الكذب والكفر
لما هزم الحجاج عبد الرحمن بن الأشعث وقتل أصحابه وأسر بعضهم، كتب إليه عبد الملك بن مروان أن يعرض الأسرى على السيف، فمن أقرّ منهم بالكفر خلّى سبيله، ومن أبي يقتله. فأتي منهم بعامر الشّعبي، ومطرّف بن عبد الله بن الشّخّير،(2/296)
وسعيد بن جبير. فأما الشعبي ومطرّف فذهبا إلى التعريض والكناية ولم يصرّحا بالكفر، فقبل كلامهما وعفا عنهما؛ وأما سعيد بن جبير فأبى ذلك فقتل.
وكان مما عرّض به الشعبي فقال: أصلح الله الأمير، نبا المنزل، وأحزن بنا الجناب، واستحلسنا «1» الخوف، واكتحلنا السهر، وخبطتنا فتنة لم نكن فيها بررة أتقياء، ولا فجرة أقوياء. قال: صدق. والله ما برّوا بخروجهم علينا ولا قووا، خليا عنه. ثم قدم إليه مطرّف بن عبد الله، فقال له الحجاج: أتقرّ على نفسك بالكفر؟
قال: إنّ من شق العصا، وسفك الدماء، ونكث البيعة، وأخاف المسلمين، لجدير بالكفر. قال: خلّيا عنه. ثم قدّم إليه سعيد بن جبير؛ فقال له: أتقرّ على نفسك بالكفر؟ قال: ما كفرت بالله مذ آمنت به. قال: اضربوا عنقه.
ولما ولي الواثق وأقعد للناس أحمد بن أبي داود للمحنة في القرآن ودعا إليه الفقهاء، أتي فيهم بالحارث بن مسكين، فقيل له: اشهد أن القرآن مخلوق! قال: أشهد أن التوراة والإنجيل والزبور والقرآن، هذه الأربعة مخلوقة. ومدّ أصابعه الأربع؛ فعرّض بها وكنّى عن خلق القرآن وخلّص مهجته من القتل. وعجز أحمد بن نصر فقيه بغداد عن الكناية فأباها، فقتل وصلب.
ودخل بعض النّساك على بعض الخلفاء فدعاه إلى طعامه، فقال: الصائم لا يأكل يا أمير المؤمنين، وما أزكّي نفسي، بل الله يزكّي من يشاء. وإنما كره طعامه.
ابن عرباض والخوارج:
الأصمعي عن عيسى بن عمر قال: بينما ابن عرباض يمشي مقدّما بطنه، إذ استقبلته الخوارج يحزّون الناس بسيوفهم؛ فقال لهم: هل خرج إليكم في اليهود شيء؟
قالوا: لا. قال: فامضوا راشدين. فمضوا وتركوه.
ولقي شيطان الطاق رجلا من الخوارج وبيده سيف؛ فقال له الخارجي: والله(2/297)
لأقتلنّك أو تبرأ من عليّ. فقال: أنا من عليّ ومن عثمان بريء يريد أنه من عليّ، وبريء من عثمان.
أبو بكر بن أبي شيبة قال: قال الوليد بن عقبة على المنبر بالكوفة: أقسم على من سمّاني أشعر بركا «1» إلا قام. فقام إليه رجل من أهل الكوفة فقال له: ومن هذا الذي يقوم إليك فيقول: أنا الذي سميتك أشعر بركا؟ وكان هو الذي سمّاه بذلك.
وقال معاوية لصعصعة بن صوحان: اصعد المنبر فالعن عليّا. فامتنع من ذلك وقال: أو تعفيني؟ قال: لا. فصعد المنبر فحمد الله وأثنى عليه ثم قال: معاشر الناس، إن معاوية أمرني أن ألعن عليّا، فالعنوه لعنه الله.
الكناية عن الكذب في طريق المدح
ابن الهيثم وغلام سكران:
المدائنيّ قال: أتي العريان بن الهيثم بغلام سكران، فقال له: من أنت؟ فقال:
أنا ابن الذي لا ينزل الدهر قدره ... وإن نزلت يوما فسوف تعود
ترى الناس أفواجا إلى ضوء ناره ... فمنهم قيام عندها وقعود
فظنه ولدا لبعض الأشراف، فأمر بتخليته، فلما كشف عنه قيل له: إنه ابن باقلّائي.
عيسى بن موسى وابن شبرمة في متهم:
ودخل رجل على عيسى بن موسى وعنده ابن شبرمة القاضي، فقال له: أتعرف هذا الرجل؟ وكان رمي عنده بريبة: فقال: إن له بيتا وقدما وشرفا. فخلّى سبيله.
فلما انصرف ابن شبرمة قال له أصحابه: أكنت تعرف هذا الرجل؟ قال: لا، ولكني عرفت أن له بيتا يأوي إليه، وقدما يمشي عليها، وشرفه أذناه ومنكباه.(2/298)
خاطب لبائع سنانير:
وخطب رجل لرجل إلى قوم، فسألوه: ما حرفته؟ فقال: نخاس الدواب.
فزوّجوه، فلما كشف عنه وجدوه يبيع السنانير؛ فلما عنّفوه في ذلك قال: أو السّنانير دوابّ؟ ما كذبتكم في شيء.
ودخل معلّى الطائي على ابن السّريّ يعوده في مرضه. فأنشده شعرا يقول فيه:
فأقسم إن منّ الإله بصحّة ... ونال السّريّ بن السّريّ شفاء «1»
لأرتحلنّ العيس شهرا بحجّة ... وأعتق شكرا سالما وصفاء «2»
فلما خرج من عنده قال له أصحابه: والله ما نعلم عبدك سالما، ولا عبدك صفاء، فمن أردت أن تعتق؟ قال: هما هرّتان عندي، والحجّ فريضة واجبة، فما عليّ في قولي شيء إن شاء الله تعالى.
باب في الكناية والتعريض في طريق الدعابة
سئل ابن سيرين عن رجل، فقال: توفيّ البارحة. فلما رأى جزع السائل قال:
اللَّهُ يَتَوَفَّى الْأَنْفُسَ حِينَ مَوْتِها وَالَّتِي لَمْ تَمُتْ فِي مَنامِها
«3» وإنما أردت بالوفاة النوم.
ومرض زياد، فدخل عليه شريح القاضي يعوده، فلما خرج بعث إليه مسروق بن الأجدع يسأله: كيف تركت الأمير؟ قال: تركته يأمر وينهي. فقال مسروق: إن شريحا صاحب تعريض، فاسألوه. فسألوه. قال: تركته يأمر بالوصية، وينهي عن البكاء.
وكان سنان بن مكمّل النّميري يساير عمر بن هبيرة الفزاري يوما على بغلة فقال له ابن هبيرة: غضّ من عنان بغلتك. فقال: إنها مكتوبة، أصلح الله الأمير. أراد(2/299)
ابن هبيرة قول جرير:
فغضّ الطرف إنك من نمير ... فلا كعبا بلغت ولا كلابا
وأراد سنان قول الشاعر:
لا تأمننّ فزاريّا خلوت به ... على قلوصك واكتبها بأسيار «1»
ومر رجل من بني نمير برجل من بني تميم على يده باز، فقال التميمي للنّميري:
هذا البازي؟ قال له النّميري: نعم، وهو يصيد القطا. أراد التميميّ قول جرير:
أنا البازي المطل على نمير ... أتحت له من الجوّ انصبابا «2»
وأراد النميري قول الطّرمّاح:
تميم بطرق الّلؤم أهدى من القطا ... ولو سلكت سبل المكارم ضلّت
ابن يزيد الهلالي ومحاربي:
ودخل رجل من محارب على عبد الله بن يزيد الهلالي وهو والي أرمينية، وقريب منه غدير فيه ضفادع، فقال عبد الله بن يزيد: ما تركتنا شيوخ محارب ننام الليلة! فقال له المحاربي: أصلح الله الأمير، أو تدري لم ذلك؟ قال: ولم؟ قال: لأنها أضلت برقعا لها. قال قبّحك الله، وقبّح ما جئت به، أراد ابن يزيد الهلالي قول الأخطل:
تنقّ بلا شيء شيوخ محارب ... وما خلتها كانت تريش ولا تبري
ضفادع في ظلماء ليل تجاوبت ... فدلّ عليها صوتها حيّة البحر
وأراد المحاربي قول الشاعر:
لكلّ هلاليّ من الّلؤم برقع ... ولابن هلال برقع وقميص
وقال معاوية لعبد الرحمن بن الحكم: استعرض لي هذين الفرسين فقال: أحدهما(2/300)
أجش «1» والآخر هزيم «2» . يعني قول النّجاشي:
ونجّى ابن هند سابح ذو علالة ... أجشّ هزيم والرّماح دواني «3»
فقال معاوية: أما إنّ صاحبها على ما فيه لا يشبّب بكنائنه. وكان عبد الرحمن يرمى بكنّته.
وشاور زياد رجلا من ثقاته في امرأة يتزوجها، فقال: لا خير لك فيها، إني رأيت رجلا يقبلها، فتركه وخالفه إليها وتزوجها، فلما بلغ زيادا خبره أرسل إليه وقال له: أما قلت لي إنك رأيت رجلا يقبلها؟ قال: نعم، رأيت أباها يقبلها.
وقال أعرابي لعمر بن الخطاب: يا أمير المؤمنين، احملني وسحيما على جمل. فقال:
نشدتك الله يا أعرابي، أسحيم هذا زق؟ قال: نعم. ثم قال: من لم ينفعه ظنّه لم ينفعه يقينه.
وودّع رجل رجلا كان يبغضه، فقال: امض في سرّ من حفظ الله، وحجاب من كلاءته «4» . ففطن له الرجل، فقال: رفع الله مكانك، وشدّ ظهرك، وجعلك منظورا إليك.
الشيباني قال: كان ابن أبي عتيق صاحب هزل ولهو، واسمه عبد الله بن محمد بن أبي بكر الصديق، رضي الله عنهم وكانت له امرأة من أشراف قريش، وكان لها فتيات يغنّين في الأعراس والمآتم، فأمرت جارية منهن أن تغني بشعر لها قالته في زوجها، فتغنت الجارية وهو يسمع:
ذهب الإله بما تعيش به ... وقمرت لبّك أيّما قمر «5»
أنفقت مالك غير محتشم ... في كلّ زانية وفي الخمر(2/301)
فقال للجارية: لمن هذا الشعر؟ قالت: لمولاتي. فأخذ قرطاسا فكتبه وخرج به، فإذا هو بعبد الله بن عمر بن الخطاب، فقال: يا أبا عبد الرحمن، قف قليلا أكلّمك.
فوقف عبد الله بن عمر، قال: ما ترى فيمن هجاني بهذا الشعر؟ وأنشد البيتين. قال:
أرى أن تعفو وتصفح. قال: أما والله لئن لقيته لأنيكنّه! فأخذ ابن عمر ينكله ويزجره، وقال: قبّحك الله! ثم لقيه بعد ذلك بأيام، فلما أبصره ابن عمر أعرض عنه بوجهه، فاستقبله ابن أبي عتيق فقال له: سألتك بالقبر ومن فيه إلا سمعت مني حرفين. فولاه قفاه وأنصت له، قال: علمت أبا عبد الرحمن أني لقيت قائل ذلك الشعر ونكته. فصعق عبد الله ولبط «1» به فلما رأى ما نزل به دنا من أذنه وقال:
أصلحك الله، إنها امرأتي. فقام ابن عمر وقبل ما بين عينيه.
باب في الصمت
كان لقمان الحكيم يجلس إلى داود صلى الله عليه وسلم مقتبسا، وكان عبدا أسود، فوجده وهو يعمل درعا من حديد، فعجب منه، ولم ير درعا قبل ذلك، فلم يسأله لقمان عما يعمل، ولم يخبره داود، حتى تمت الدرع بعد سنة، فقاسها داود على نفسه، وقال: زرد طافا ليوم قرافا. تفسيره: درع حصينة ليوم قتال؛ فقال لقمان: الصمت حكم وقليل فاعله.
وقال أبو عبيد الله كاتب المهديّ: كن على التماس الحظ بالسكوت أحرص منك على التماسه بالكلام؛ إن البلاء موكّل بالمنطق.
وقال أبو الدّرداء: أنصف أذنيك من فيك، فإنما جعل لك أذنان اثنتان وفم واحد لتسمع أكثر مما تقول.
ابن عوف عن الحسن، قال: جلسوا عند معاوية فتكلموا وسكت الأحنف فقال معاوية: مالك لا تتكلم أبا بحر، قال: أخافك إن صدقت وأخاف الله إن كذبت.(2/302)
وقال المهلّب بن أبي صفرة: لأن أرى لعقل الرجل فضلا على لسانه أحبّ إليّ من أن أرى للسانه فضلا على عقله.
وقال سالم بن عبد الملك: فضل العقل على اللسان مروءة، وفضل اللسان على العقل هجنة «1» .
وقالوا: من ضاق صدره اتسع لسانه، ومن كثر كلامه كثر سقطه ومن ساء خلقه قل صديقه.
وقال هرم بن حيّان: صاحب الكلام بين منزلتين: إن قصّر فيه خصم «2» ، وإن أغرق فيه أثم «3» .
وقال شبيب بن شيبة: من سمع الكلمة يكرهها فسكت عنها انقطع ضرّها عنه.
وقال أكثم بن صيفي: مقتل الرجل بين فكّيه.
وقال جعفر بن محمد بن علي بن الحسين بن علي بن أبي طالب، رضي الله عنهم:
يموت الفتى من عثرة بلسانه ... وليس يموت المرء من عثرة الرّجل
فعثرته من فيه ترمي برأسه ... وعثرته بالرّجل تبرا على مهل
وقال الشاعر:
الحلم زين والسّكوت سلامة ... فإذا نطقت فلا تكن مكثارا
ما إن ندمت على سكوتي مرّة ... إلا ندمت على الكلام مرارا
وقال الحسن بن هانيء:
خلّ جنبيك لرامي ... وامض عنّي بسلام
مت بداء الصّمت خير ... لك من داء الكلام
ربّ لفظ ساق آجا ... ل فئام وفئام «4»
إنما السالم من ألج ... م فاه بلجام(2/303)
وقال بعض الحكماء: حظّي من الصمت لي، ونفعه مقصور عليّ وحظي من الكلام لغيره، ووباله راجع عليّ.
وقالوا: إذا أعجبك الكلام فاصمت.
وقال رجل لعمر بن عبد العزيز: متى أتكلم؟ قال: إذا اشتهيت أن تصمت. قال:
فمتى أصمت؟ قال: إذا اشتهيت أن تتكلم.
وقال النبي صلّى الله عليه وسلم: ما أعطي العبد شرّا من طلاقة اللسان.
وسمع عبد الله بن الأهتم رجلا يتكلم فيخطىء، فقال: بكلامك رزق الصمت المحبة.
باب في المنطق
قال الذين فضّلوا المنطق: إنما بعثت الأنبياء بالكلام ولم يبعثوا بالسكوت؛ وبالكلام وصف فضل الصمت ولم يوصف القول بالصمت؛ وبالكلام يؤمر بالمعروف وينهى عن المنكر ويعظّم الله ويسبّح بحمده. والبيان من الكلام هو الذي منّ الله به على عباده فقال: خَلَقَ الْإِنْسانَ عَلَّمَهُ الْبَيانَ
«1» والعلم كله لا يؤدّيه إلى أوعية القلوب الا اللسان؛ فنفع المنطق عامّ لقائله وسامعه، ونفع الصمت خاصّ لفاعله.
واعد شيء قيل في الصمت والمنطق، قولهم: الكلام في الخير كلّه أفضل من الصمت. ولصمت في الشر كلّه أفضل من الكلام.
قال عبد الله بن المبارك صاحب الرّقائق يرثي مالك بن أنس المدني:
صوت إذا ما الصّمت زيّن أهله ... وفتّاق أبكار الكلام المختّم «2»
وعي ما وعى القرآن من كلّ حكمة ... ونيطت له الآداب باللحم والدّم «3»
وقال عمر بن الخطاب: ترك الحركة غفلة.(2/304)
وقال بكر بن عبد الله المزني: الصمت حبسة.
وقالوا: الصمت نوم، والكلام يقظة.
وقالوا: ما شيء ثنى إلا قصر، إلا الكلام فإنه كلما ثني طال.
وقال الشاعر:
الصمت شيمته فإن ... أبدى مقالا كان فصلا
أبدى السكوت فإن تكلّم لم يدع في القول فضلا
باب في الفصاحة
محمد بن سيرين قال: ما رأيت على امرأة أجمل من شحم، ولا رأيت على رجل أجمل من فصاحة.
وقال الله تبارك وتعالى فيما حكاه عن نبيه موسى صلّى الله عليه وسلم واستيحاشه لعدم الفصاحة:
وَأَخِي هارُونُ هُوَ أَفْصَحُ مِنِّي لِساناً فَأَرْسِلْهُ مَعِي رِدْءاً يُصَدِّقُنِي
«1» .
آفات المنطق
تكلم ابن السماك يوما وجارية له تسمع كلامه، فلما دخل قال لها: كيف سمعت كلامي؟ قالت: ما أحسنه لولا أنك تردّده. قال: أردّده ليفهمه من لم يفهمه. قالت:
إلى أن يفهمه من لم يفهمه يملّه من فهمه.
الأصمعي قال: قال معاوية يوما لجلسائه: أيّ الناس أفصح؟ فقال رجل من السماط: يا أمير المؤمنين، قوم قد ارتفعوا عن رتّة العراق، وتياسروا عن كشكشة بكر، وتيامنوا عن شنشنة تغلب، ليس فيهم غمغمة قضاعة، ولا طمطمانية حمير.
قال: من هم؟ قال: قومك يا أمير المؤمنين، قريش. قال: صدقت! فمن أنت؟ قال:
من جرم. قال الأصمعي: جرم فصحاء الناس.(2/305)
وهذا الحديث قد وقع في فضائل قريش؛ وهذا كان موضعه فذكرناه.
قال أبو العباس محمد بن يزيد النّحوي: التمتمة في المنطق: التردّد في التاء.
والعقلة: هي التواء اللسان عند إرادة الكلام. والحبسه: تعذر الكلام عند إرادته.
والّلفف: إدخال حرف في حرف. والطمطمة: أن يكون الكلام مشبها لكلام العجم.
والّلكنة: أن تعترض عند الكلام اللغة الأعجمية- وسنفسر هذا حرفا حرفا وما قيل فيه إن شاء الله- والّلثغة أن يعدل بحرف إلى حرف. والغنّة: أن يشرب الحرف صوت الخيشوم؛ والخنة، أشد منها. والترخيم: حذف الكلام. والفأفأة: التردّد في الفاء؛ يقال: رجل فأفاء، تقديره فاعال: ونظيره من الكلام، ساباط، وخاتام، وقال الراجز:
يا ميّ ذات الجورب المنشقّ ... أخذت خاتامي بغير حقّ
وقال آخر:
ليس بفأفاء ولا تمام ... ولا محبّ سقط الكلام
والرّتة، كالرّتج: تمنّع أول الكلام، فإذا جاء منه شيء اتصل به. والغمغمة: أن تسمع الصوت ولا تبين لك تقطيع الحروف.
وأما الرّتة فإنها تكون غريزية. وقال الراجز:
يا أيّها المخلّط الأرتّ
ويقال إنها تكثر في الأشراف. وأما الغمغمة. فإنها قد تكون من الكلام وغيره، لأنها صوت من لا يفهم تقطيع حروفه. قال عنترة:
وصاحب ناديته فغمغما ... يريد لبّيك وما تكلّما
قد صار من خوف الكلام أعجما
وأما كشكشة تميم: فإن بني عمرو بن تميم إذا ذكرت كاف المؤنث فوقفت عليها أبدلت منها شينا، لقرب الشين من الكاف في المخرج، وقال راجزهم:
هل لك أن تنتفعي وأنفعش ... وتدخلي الذي معي في اللذمعش(2/306)
وأما كسكسة بكر فقوم منهم يبدلون من الكاف سينا كما فعل التميميون في الشين. وأما طمطمانية حمير ففيها يقول عنترة:
تأوى له قلص النّعام كما أوت ... حزق يمانية لأعجم طمطم
وكان صهيب أبو يحيى رحمه الله يرتضخ لكنة رومية.
وقال رسول الله صلّى الله عليه وسلم: صهيب سابق الروم.
وكان عبيد الله بن زياد يرتضخ لكنة فارسية من قبل زوج أمه شيرويه الأسواريّ.
وكان زياد الأعجم، وهو رجل من عبد القيس، يرتضخ لكنة أعجمية، وأنشد المهلّب في مدحه إياه:
فتى زاده السّلتان في الحمد رغبة ... إذا غيّر السّلتان كلّ خليل
يريد: السلطان؛ وذلك أن بين التاء والطاء نسبا، لأن التاء من مخرج الطاء. وأما الغنة فتستحسن من الجارية الحديثة السن. قال ابن الرقاع في الظبية:
تزجي أغنّ كأنّ إبرة روقه ... قلم أصاب من الدّواة مدادها «1»
وقال ابن المقفع: إذا كثر تقليب اللسان رقّت حواشيه ولانت عذبته.
وقال العتّابي: إذا حبس اللسان من الاستعمال اشتدّت عليه مخارج الحروف. وقال الراجز:
كأنّ فيه لغفا إذا نطق ... من طول تحبيس وهمّ وأرق
باب في الإعراب واللحن
أبو عبيدة قال: مر الشعبي بقوم من الموالي يتذاكرون النحو، فقال لهم: لئن أصلحتموه إنكم لأول من أفسده.
قال أبو عبيدة: ليته سمع لحن صفوان وخالد بن صفوان وخاقان والفتح بن(2/307)
خاقان والوليد بن عبد الملك.
وقال عبد الملك بن مروان: اللحن في الكلام أقبح من التّفتيق في الثوب، والجدريّ في الوجه.
وقيل له لقد عجل عليك الشيب يا أمير المؤمنين، قال: شيّبني ارتقاء المنابر وتوقّع اللحن.
وقال الحجاج لابن يعمر: أتسمعني ألحن؟ قال: ألا ربما سبقك لسانك ببعضه في آن وآن. قال: فإذا كان ذلك فعرّفني.
وقال المأمون لأبي علي المعروف بأبي يعلي المنقريّ: بلغني أنك أمّيّ، وأنك لا تقيم الشعر، وأنك تلحن في كلامك. فقال: يا أمير المؤمنين، أمّا اللحن فربما سبقني لساني بالشيء منه، وأما الأمّية وكسر الشعر فقد كان النبي صلّى الله عليه وسلم أميا وكان لا ينشد الشعر. قال المأمون: سألتك عن ثلاث عيوب فيك فزدتني عيبا رابعا، وهو الجهل.
يا جاهل، إن ذلك في النبي صلّى الله عليه وسلم فضيلة، وفيك وفي أمثالك نقيصة، وإنما منع ذلك النبي صلّى الله عليه وسلم لنفي الظّنّة عنه، لا لعيب في الشعر والكتاب، وقد قال تبارك وتعالى:
وَما كُنْتَ تَتْلُوا مِنْ قَبْلِهِ مِنْ كِتابٍ وَلا تَخُطُّهُ بِيَمِينِكَ إِذاً لَارْتابَ الْمُبْطِلُونَ
«1» .
وقال عبد الملك بن مروان: الإعراب جمال للوضيع، واللحن هجنة على الشريف وقال: تعلموا النحو كما تتعلمون السنن والفرائض.
وقال رجل للحسن: إن لنا إماما يلحن. قال: أميطوه «2» .
وقال الشاعر:
النحو يبسط من لسان الألكن ... والمرء تكرمه إذا لم يلحن «3»(2/308)
فإذا طلبت من العلوم أجلّها ... فأجلّها منها مقيم الألسن
وقال آخر:
الشّعر صعب وطويل سلّمه ... إذا ارتقى فيه الذي لا يعلمه
زلّت به إلى الحضيض قدمه ... يريد أن يعربه فيعجمه
وقال رجل للحسن: يا أبو سعيد، فقال: أحسب أن الدوانيق «1» شغلتك عن أن تقول يا أبا سعيد.
وكان عمر بن عبد العزيز جالسا عند الوليد بن عبد الملك، وكان الوليد لحّانا، فقال: يا غلام، ادع لي صالح. فقال الغلام: يا صالحا. قال له الوليد: انقص ألفا.
فقال عمر: وأنت يا أمير المؤمنين فزد ألفا.
ودخل على الوليد بن عبد الملك رجل من أشراف قريش، فقال له الوليد: من ختنك «2» ؟ قال له: فلان اليهودي. فقال: ما تقول؟ ويحك! قال: لعلك إنما تسأل عن ختني يا أمير المؤمنين، هو فلان بن فلان.
وقال عبد الملك بن مروان: أضرّ بنا في الوليد حبّنا له فلم نلزمه البادية.
وقد يستثقل الإعراب في بعض المواضع كما يستخف اللحن في بعضها.
وقال مالك بن أسماء بن خارجة الفزاري:
منطق بارع ويلحن أحيا ... نا وخير الكلام ما كان لحنا
وذلك أنه من حكى نادرة مضحكة، وأراد أن يوفي حروفها حظّها من الإعراب، طمس حسنها وأخرجها عن مقدارها؛ ألا ترى أن مزّيدا المديني أكل طعاما فكظّه «3» وقيل له: ألا تقيء؟ فقال: وما أقيء، خبز نقي ولحم طري! مرتي(2/309)
طالق، لو وجدت هذا قيئا لأكلته.
قال: وكذلك يستقبح الإعراب في غير موضعه، كما استقبح من عيسى بن عمر إذ قال وابن هبيرة يضربه بالسياط، والله إن كانت إلا أثيّابا في أسيفاط «1» قبضها عشّاروك «2» .
وحكي عن بعض المعربين للحن أنّ جارية له غنّته:
إذا ما سمعت اللوم فيها رفضته ... فيدخل من أذن ويخرج من أخرى
فقال لها: من أخرى يا فاعلة، أما علّمتك أنّ (من) تخفض؟
وقال رجل لشريح: ما تقول في رجل توفّي وترك أبا وأخيه؟ فقال له: أباه وأخاه. فقال: كم لأباه وأخاه؟ قال: لأبيه وأخيه. قال: أنت علّمتني، فما أصنع؟
وقال بعض الشعراء. وأدرك عليه رجل من المتفصّحين، يقال له حفص، لحنا في شعره، وكان حفص به اختلاف في عينه وتشويه في وجهه، فقال فيه.
لقد كان في عينيك يا حفص شاغل ... وأنف كمثل الطّود عما تتبّع «3»
تتبّع لحنا من كلام مرقّش ... وخلقك مبنيّ من اللحن أجمع
فعينك إقواء وأنفك مكفأ ... ووجهك إيطاء فما فيك مرقع «4»
باب في اللحن والتصحيف
أبو حنيفة:
وكان أبو حنيفة لحانا، على أنه كان في الفتيا ولطف النظر واحد زمانه.(2/310)
وسأله رجل يوما فقال له: ما تقول في رجل تناول صخرة فضرب بها رأس رجل فقتله، أتقيده به؟ قال: لا، ولو ضربه بأبا قبيس.
وكان بشر المريسيّ يقول لجلسائه: قضى الله لكم الحوائج على أحسن الوجوه وأهنؤها. فسمع قاسم التّمّار قوما يضحكون، فقال: هذا كما قال الشاعر:
إنّ سليمى والله يكلؤها ... ضنّت بشيء ما كان يرزوها
وبشر المريسي رأس في الرأي، وقاسم التمار متقدم في أصحاب الكلام؛ واحتجاجه لبشر أعجب من لحن بشر.
ودخل شبيب بن شيبة على إسحاق بن عيسى يعزيه عن طفل أصيب به؛ فقال في بعض كلامه: أصلح الله الأمير، إنّ الطفل لا يزال محبنطيا على باب الجنة يقول: لا أدخل حتى يدخل أبواي. قال إسحاق بن عيسى: سبحان الله! ماذا جئت به؟ إنما هو محبنطي؛ أما سمعت قول الراجز:
إنّي إذا أنشدت لا أحبنطي ... ولا أحب كثرة التمطّي
قال شبيب: ألي يقال مثل هذا وما بين لا بتيها أعلم مني بها! فقال له إسحاق:
وهذه أيضا، أللبصرة لابتان يالكع! فأبان بتقريعه عواره فأخجله، فسكت.
قوله: المحبنطي: الممتنع امتناع طلب لا امتناع إباء، وهو بالطاء غير معجمة، ورواه شبيب بالظاء المعجمة. وقوله «ما بين لا بتيها» خطأ؛ إذ ليس للبصرة لابتان، وإنما اللابة للمدينة والكوفة. واللابة: الحرّة، وهي الأرض ذات الحجارة السود.
نوادر الكلام
يقال ماء نقاخ، للماء العذب. وماء فرات، وهو أعذب العذب. وماء قعاع وهو شديد الملوحة. وماء حراق، وهو الذي يحرق من ملوحته. وماء شروب، وهو دون(2/311)
لعذب قليلا وماء مسوس، وهو دون الشروب. وماء شريب، وهو دون العذب.
اجتمع المفضّل الضّبي وعبد الملك بن قريب الأصمعي، فأنشد المفضل:
تصمت بالماء تولبا جذعا «1»
فقال الأصمعي: تولبا جدعا. والجدع السيء الغذاء. فضجّ المفضل وأكثر. فقال له الأصمعي: لو نفخت في الشّبّور «2» ما نفعك. تكلم بكلام النّمل وأصب.
وقال مروان بن أبي حفصة في قوم من رواة الشعر لا يعلمون ما هو، على كثرة استكثارهم من روايته:
زوامل للأشعار لا علم عندهم ... بجيّدها إلّا كعلم الأباعر «3»
لعمرك ما يدري البعير إذا غدا ... بأوساقه أوراح ما في الغرائر «4»
باب نوادر من النحو
للخليل:
قال الخليل بن أحمد: أنشدني أعرابي:
وإنّ كلابا هذه عشر أبطن ... وأنت بريء من قبائلها العشر
قال: فجعلت أعجب من قوله «عشر أبطن» فلما رأى عجبي قال: أليس هكذا قول الآخر:
وكان مجنّي دون من كنت أتّقي ... ثلاث شخوص كاعبان ومعصر «5»
وقال أبو زيد: قلت للخليل: لم قالوا في تصغير واصل: أويصل، ولم يقولوا(2/312)
وويصل؟ قال: كرهوا أن يشبّه كلامهم بنبيح الكلاب.
وقال أبو الأسود الدؤلي: من العرب من يقول: لولاي لكان كذا وكذا.
وقال الشاعر:
وكم موطن لولاي طحت كما هوى ... بأجرماه من قنّة النّيق منهوي «1»
وكذلك «لولا أنتم، ولولاكم» : ابتداء وخبره محذوف.
وقال أبو زيد: وراء وقدّام لا يصرفان لأنهما مؤنثان؛ وتصغير قدّام قديدمة، وتصغير وراء وريئة؛ وقدّام خمسة أحرف، لأن الدال مشدّدة، فأسقطوا الألف لأنها زائدة، ولئلا يصغر إسم على خمسة أحرف.
أبو حاتم قال: يقال أمّ بينة الأمومة، وعمّ بيّن العمومة. ويقال: مأموم، إذا شجّ أم رأسه. ورجل مموم. إذا أصابه الموم «2» .
يقول المازني: يقال في حسب الرجل أرفة «3» ووصمة وأبنة؛ وكذلك يقال للعصا إذا كان فيها عيب.
ويقال: قذيت عينه، إذا أصابها الرمد.
وقد يقال في التقديم والتأخير مثل قول الشاعر.
شرّ يوميها وأخزاه لها ... ركبت هند بحدج جملا «4»
يريد: ركبت هند بحدج جملا في شرّ يوميها، نصب لأنه ظرف.
وقد يسمّى الشيء باسم الشيء إذا جاوره: قال الفرزدق:(2/313)
أخذنا بآفاق السماء عليكم ... لنا قمراها والنجوم الطوالع
قوله: لنا قمراها، يريد الشمس والقمر.
وكذلك قول الناس العمرين: أبي بكر وعمر.
الرياشي: يقال: أخذ قضّتها وكعبتها، إذا أخذ عذرتها.
قال أبو عبيدة: المعيون: الذي له منظر ولا مخبر. والمعين: الذي قد أصيب بالعين. والمعين: الماء الظاهر.
أبو عبيدة قال: سمعت رؤبة يقول: أنا ريّق، يريد على الريق.
الأصمعي قال: لقي أبو عمرو بن العلاء عيسى بن عمر؛ فقال له: كيف رحلك؟
قال: ما تزداد إلا مثالة «1» . قال: فما هذه المعيوراء التي تركض؟ يريد: ما هذه الحمير التي تركب؟
يقال: معيوراء، ومشيوخاء، ومعوّداء.
قال الأصمعي: إنما يقال: اقرأ عليه السلام؛ وأنشد:
اقرأ على عصر الشباب تحيّة ... وإذا لقيت ددا فقطني من دد «2»
وقال الفرزدق:
وما شبق القيسيّ من ضعف عقله ... ولكن طفت علماء قلفة خالد «3»
أراد: على الماء، فحذف. وهذا آخر كتاب سيبويه.
وقال بعض الوراقين:
رأيت يا حمّاد في الصيد ... أرانبا تؤخذ بالأيدي(2/314)
إنّ ذوي النّحو لهم أنفس ... معروفة بالمكر والكيد
يضرب عبد الله زيدا وما ... يريد عبد الله من زيد
وأنشد أبو زيد الأنصاري:
يا قرط حيي لا أبا لكم ... يا قرط إنّي عليكم خائف حذر
قلتم له اهج تميما لا أبا لكم ... في فمّ قائل هذا التّرب والحجر
فإنّ بيت تميم ذو سمعت به ... بيت به رأست في عزّها مضر
«ذو» هنا في مكان «الذي» لا يتغير عن حاله في جميع الإعراب؛ وهذه لغة طيء، تجعل «ذو» في مكان «الذي» .
وقال الحسن بن هانيء:
حبّ المدامة ذو سمعت به ... لم يبق فيّ لغيرها فضلا
وبعض العرب يقول: «لا أباك» في مكان «لا أبا لك» مضافا؛ ولذلك ثبتت الألف، ولو كانت غير معربة لقلت «لا أب لك» بغير ألف. وليس في الإضافة شيء يشبه هذا، لأنه حال بين المضاف والمضاف إليه.
لبعض الشعراء:
وقال الشاعر:
أبالموت الّذي لا بدّ أنّي ... ملاق لا أباك تخوّفيني!
وقال آخر:
وقد مات شمّاخ ومات مزرّد ... وأيّ كريم لا أباك مخلّد
وأنشد الفراء لابن مالك العقيلي:
إذا أنا لم أومن عليك ولم يكن ... لقاؤك إلّا من وراء وراء
هذا مثل قولهم: بين بين.(2/315)
وقال محمود الوراق:
مزج الصّدود وصاله ... نّ فكان أمرا بين بين
وقال الفرزدق:
وإذا الرّجال رأوا يزيد رأيتهم ... خضع الرّقاب نواكس الأبصار
قال أبو العباس محمد بن يزيد النحوي: في هذا البيت شيء مستظرف عند أهل النحو. وذلك أنه جمع «فاعل» على «فواعل» وإذا كان هذا، لم يكن بين المذكر والمؤنث فرق؛ لأنك تقول: ضاربة وضوارب، ولا يقال في المذكر فواعل إلا في موضعين، وذلك قولهم فوارس وهوالك، ولكنه اضطر في الشعر فأخرجه عن الأصل، ولولا الضرورة ما جاز له.
وقال أبو غسان رفيع بن سلمة تلميذ أبي عبيدة المعروف بدماذ، يخاطب أبا عثمان النحوي المازنيّ:
تفكّرت في النّحو حتّى ملل ... ت وأتعبت نفسي له والبدن
وأتعبت بكرا وأصحابه ... بطول المسائل في كلّ فن
سوى أنّ بابا عليه العفا ... للفاء يا ليته لم يكن
فكنت بظاهره عالما ... وكنت بباطنه ذا فطن
وللواو باب إلى جنبه ... من المقت أحسنه قد لعن
إذا قلت هاتوا لماذا يقا ... ل لست بآتيك أو تأتين
أجيبوا: لما قيل هذا كذا ... على النّصب قالوا لإضمار أن
وما إن رأيت لها موضعا ... فأعرف ما قيل إلّا بأن
فقد خفت يا بكر من طول ما ... أفكر في أمر «أن» أن أجن
باب في الغريب والتقعيب
دخل أبو علقمة على أعين الطبيب، فقال: أصلحك الله، أكلت من لحوم هذه(2/316)
الجوازل، فطسئت طسأة «1» ، فأصابني وجع بين الوابلة «2» ودأية العنق «3» ، فلم يزل ينمو ويربو حتى خالط الخلب «4» والشراسيف «5» ؛ فهل عندك دواء؟ قال نعم: خذ خربقا «6» وسلفقا وشبرقا فزهزقه وزقزقه «7» واغسله بماء ذوب واشربه. فقال له أبو علقمة: لم أفهمك. فقال: ما أفهمتك إلا كما أفهمتني!.
وقال له مرة أخرى: إني أجد معمعة وقرقرة. فقال: أما المعمعة فلا أعرفها، وأما القرقرة فضراط لم ينضج.
وقال أبو الأسود الدؤلي لأبي علقمة: ما حال ابنك؟ قال: أخذته الحمّى فطبخته طبخا، ورضخته رضخا «8» ، وفتخته فتخا «9» ، فتركته فرخا. قال: فما فعلت زوجته التي كانت تشارّه «10» وتهارّه «11» وتمارّه «12» وتزارّه «13» ؟ قال: طلّقها فتزوجت بعده فحظيت وبظيت «14» . قال: فما بظيت؟ فقال له: حرف من الغريب لم يبلغك.
فقال: يا بن أخي، كل حرف لا يعرفه عمّك فاستره كما تستر السّنور خرأها.
أبو علقمة وحجام:
ودعا أبو علقمة بحجام يحجمه، فقال له: أنق غسل المحاجم، واشدد قضب الملازم، وأرهف ظبات المشارط، وأسرع الوضع، وعجل النزع؛ وليكن شرطك وخزا، ومصّك نهزا، ولا تردّن آتيا، ولا تكرهن آبيا.(2/317)
فوضع الحجّام محاجمه في جونته «1» ومضى عنه.
أبو المكنون وأعرابي:
وسمع أعرابي أبا المكنون النحويّ في حلقته وهو يقول في دعاء الاستسقاء: اللهم ربّنا وإلهنا ومولانا، فصلّ على محمد نبينا، اللهم ومن أراد بنا سوءا فأحط ذلك السوء به كإحاطة القلائد بأعناق الولائد، ثم أرسخه على هامته كرسوخ السّجّيل «2» على أصحاب الفيل؛ اللهم اسقنا غيثا مغيثا مريثا مريعا مجلجلا مسحنفرا «3» هزجا، سحاّ «4» سفوحا، طبقا غدقا مثعنجرا «5» نافعا لعامّتنا وغير ضار لخاصتنا. فقال الأعرابي: يا خليفة نوح، هذا الطوفان وربّ الكعبة، دعني حتى آوي إلى جبل يعصمني من الماء.
وسمعه مرة أخرى يقول في يوم برد: إن هذا يوم بلّة عصبصب «6» ، بارد هلّوف «7» . فارتعد الأعرابي وقال: والله هذا مما يزيدني بردا.
وخطب أبو بكر المنكور فأغرب في خطبته وتقعّر في كلامه؛ وعند أصل المنبر رجل من أهل الكوفة يقال له حنش؛ فقال لرجل إلى جنبه: إني لأبغض الخطيب يكون فصيحا بليغا متقعّرا. وسمعه أبو بكر المنكور الخطيب. فقال له: ما أحوجك يا حنش إلى مدحرج مفتول لين الجلاد لدن المهزّة عظيم الثمرة «8» ، تؤخذ به من مغرز العنق إلى عجب الذنب «9» ، فتعلى فتكثر له رقصاتك من غير جذل.(2/318)
وقال حبيب الطائي:
فما لك بالغريب يد ولكن ... تعاطيك الغريب من الغريب
أما لو أنّ جهلك عاد علما ... إذا لرسخت في علم الغيوب
ومن قولنا نمدح رجلا باستسهال اللفظ وحسن الكلام:
قول كأنّ فريده ... سحر على ذهن اللّبيب
لا يشمئزّ على اللّسان ... ولا يشذ عن القلوب
لم يغل في شنع اللّغا ... ت ولا توحّش بالغريب
سيف تقلّد مثله ... عطف القضيب على القضيب
هذا تجذّ به الرّقا ... ب وذا تجذّ به الخطوب «1»
باب في تكليف الرجل ما ليس من طبعه
قالوا ليس الفقه بالتفقّه؛ ولا الفصاحة بالتفصّح؛ لأنه لا يزيد متزيّد في كلامه إلا لنقص يجده في نفسه، ومما اتفقت عليه العرب والعجم قولهم: الطبع أملك.
وقال حفص بن النّعمان: المرء يصنع نفسه، فمتى ما تبله «2» ينزع إلى العرق. وقال العرجيّ:
يا أيّها المتحلّي غير شيمته ... ومن شمائله التّبديل والملق «3»
ارجع إلى خلقك المعروف ديدنه ... إنّ التخلّق يأتي دونه الخلق
وقال آخر:
ومن يبتدع ما ليس من خيم نفسه ... يدعه ويغلبه على النّفس خيمها «4»
وقال آخر:
كل امريء راجع يوما لشيمته ... وإن تخلّق أخلاقا إلى حين(2/319)
وقال الخريمي:
يلام أبو الفضل في جوده ... وهل يملك البحر ألّا يفيضا
وقال آخر:
ولائمة لامتك يا فيض في النّدى ... فقلت لها هل يقدح اللوم في البحر
أرادت لتثني الفيض عن عادة الندى ... ومن ذا الذي يثني السحاب عن القطر
وقال حبيب:
تعوّد بسط الكفّ حتى لو أنّه ... ثناها لقبض لم تجبه أنامله
وقال آخر:
وقفّع أطرافهم قبضها ... فإن طلبوا بسطها تنكسر «1»
وقالوا: إن ملكا من ملوك فارس كان له وزير حازم مجرّب، فكان يصدر عن رأيه ويتعرّف اليمن في مشورته، ثم إنه هلك ذلك الملك وقام بعده ولد له، معجب بنفسه مستبد برأيه فلم ينزل ذلك الوزير منزلته ولا اهتبل «2» رأيه ومشورته؛ فقيل له: إن أباك كان لا يقطع أمرا دونه. فقال: كان يغلط فيه، وسأمتحنه بنفسي.
فأرسل إليه فقال له: أيّهما أغلب على الرجل: الأدب أو الطبيعة؟ فقال له الوزير:
الطبيعة أغلب، لأنها أصل والأدب فرع، وكلّ فرع يرجع إلى أصله. فدعا الملك بسفرته، فلما وضعت أقبلت سنانير بأيديها الشمع فوقفت حول السفرة، فقال للوزير: اعتبر خطأك وضعف مذهبك؛ متى كان أبو هذه السنانير شمّاعا؟ فسكت عنه الوزير وقال: أمهلني في الجواب إلى الليلة المقبلة. فقال: ذلك لك. فخرج الوزير فدعا بغلام له، فقال: التمس لي فأرا واربطه في خيط وجئني به. فأتاه به الغلام، فعقده في سبنيّة «3» وطرحه في كمّه، ثم راح من الغد إلى الملك، فلما حضرت سفرته أقبلت السنانير بالشمع حتى حفّت بها، فحل الوزير الفأر من سبنيّته ثم ألقاه إليها؛(2/320)
فاستبقت السنانير إليه ورمت بالشمع، حتى كاد البيت يضطرم عليهم نارا فقال الوزير: كيف رأيت غلبة الطبع على الأدب ورجوع الفرع إلى أصله؟ قال: صدقت، ورجع إلى ما كان أبوه عليه معه.
فإنما مدار كل شيء على طبعه، والتكلف مذموم من كل وجه. قال الله لنبيه صلّى الله عليه وسلم: قل يا محمد: «وما أنا من المتكلفين» .
وقالوا: من تطبّع بغير طبعه نزعته العادة حتى تردّه إلى طبعه، كما أن الماء إذا أسخنته وتركته ساعة عاد إلى طبعه من البرودة، والشجرة المرة لو طلبتها بالعسل لا تثمر إلا مرا.
باب في ترك المشاراة والمماراة
«1» دخل السائب بن صيفي على النبي صلّى الله عليه وسلم، فقال: أتعرفني يا رسول الله؟ قال:
وكيف لا أعرف شريكي في الجاهلية الذي كان لا يشاري ولا يماري؟
وقال ابن المقفع: المشاراة والمماراة يفسدان الصداقة القديمة ويحلان العقدة الوثيقة؛ وأيسر ما فيهما أنهما ذريعة إلى المنافسة والمغالبة.
وقال عبد الرحمن بن أبي ليلى: لا تمار أخاك، فإما أن تغضبه وإما أن تكذبه.
وقال الشاعر:
فإياك إياك المراء فإنه ... إلى السّبّ دّهاء وللصرم جالب «2»
وقال عبد الله بن عباس: لا تمار فقيها ولا سفيها، فإنّ الفقيه يغلبك والسفيه يؤذيك.
وقال النبي صلّى الله عليه وسلم: «سباب المؤمن فسوق، وقتاله كفر» .(2/321)
باب في سوء الأدب
دخل عروة بن مسعود الثّقفي على النبي صلّى الله عليه وسلم: فجعل يحدّثه ويشير بيده إليه حتى تمس لحيته، والمغيرة بن شعبة واقف على رأس رسول الله صلّى الله عليه وسلم بيده السيف، فقال له:
اقبض يدك عن لحية رسول الله صلّى الله عليه وسلم قبل أن لا ترجع إليك! فقبض يده عروة.
وعروة هذا عظيم القريتين الذي قالت فيه قريش: لَوْلا نُزِّلَ هذَا الْقُرْآنُ عَلى رَجُلٍ مِنَ الْقَرْيَتَيْنِ عَظِيمٍ
«1» ويقال: إنه الوليد بن المغيرة المخزومي.
النبي صلّى الله عليه وسلم ووفد تميم:
ولما قدم وفد تميم على النبي صلّى الله عليه وسلم ناداه رجل منهم من وراء الجدار: يا محمد، اخرج إلينا. فأنزل الله تعالى: إِنَّ الَّذِينَ يُنادُونَكَ مِنْ وَراءِ الْحُجُراتِ أَكْثَرُهُمْ لا يَعْقِلُونَ
«2» وفي قراءة ابن مسعود: (بنو تميم أكثرهم لا يعقلون) وأنزل الله في ذلك: لا تَجْعَلُوا دُعاءَ الرَّسُولِ بَيْنَكُمْ كَدُعاءِ بَعْضِكُمْ بَعْضاً
«3» .
أبو بكر وبائع ثوب:
ونظر أبو بكر الصديق رضي الله عنه إلى رجل يبيع ثوبا، فقال له: أتبيع الثوب؟ قال: لا عافاك الله! قال. لقد علمتم لو تتعلمون: قل: لا، وعافاك الله.
وخطب الحسن في دم، فأجابه صاحب الدم فقال: قد وضعت ذلك الدم لله ولوجوهكم. قال له الحسن: ألا قلت: قد وضعت ذلك الدم لله خالصا؟
وذكر أعرابي رجلا بسوء الأدب فقال: إن حدثته سابقك إلى ذلك الحديث وإن تركته أخذ في التّرّهات «4» .(2/322)
ودخل بعض الرواة على المهدي، فقال له: أنشدني قول زهير:
لمن الديار بقنّة الحجر
فأنشدها حتى أتى على آخرها. فقال له المهدي: ذهب والله من كان يقول هذا.
فقال له: كما ذهب والله من كان يقال فيه، فاستجهله واستحمقه.
المأمون وقطرب:
ولما رفع قطرب النحويّ كتابه في القرآن إلى المأمون، أمر له بجائزة وأذن له، فلما دخل عليه قال: قد كانت عدة أمير المؤمنين أرفع من جائزته، فغضب المأمون وهمّ به، فقال له سهل بن هارون: يا أمير المؤمنين، إنه لم يقل بذات نفسه، وإنما غلب عليه الحصر «1» : ألا تراه كيف يرشح جبينه ويكسر أصابعه! فسكن غضب المأمون واستجهله واستحمقه.
وكان الحسن اللؤلؤي ليلة عند المأمون بالرّقّة وهو يسامره، إذ نعس المأمون والحسن يحدّثه، فقال له: نعست يا أمير المؤمنين فانتبه! فقال: سوقي وربّ الكعبة! يا غلام، خذ بيده.
ودخل أبو النجم على هشام بن عبد الملك بأرجوزته التي أوّلها:
الحمد لله الوهوب المجزل
وهي من أجود شعره! فلما أتى على قوله:
والشمس في الجوّ كعين الأحول
غضب هشام، وكان أحول، فأمر بصفع قفاه وإخراجه.
ودخل كثيّر عزّة على يزيد بن عبد الملك، فبينا هو يحدّثه إذ قال: يا أمير المؤمنين، ما معنى قول الشمّاخ:(2/323)
إذا الأرطى توسّد أبرديه ... خدود جوازيء بالرّمل عين «1»
فقال يزيد: وماذا على أمير المؤمنين ألّا يعرف ما قال هذا الأعرابي الجلف مثلك؟
واستحمقه وأمر بإخراجه.
ودخل كثير عزة على عبد العزيز بن مروان فأنشده مدحته التي يقول فيها:
وأنت فلا تفقد ولا زال منكم ... إمام يحيّا في حجاب مسدّن «2»
أشمّ من الغادين في كلّ حلّة ... يميسون في صبغ من العصب متقن
لهم أزر حمر الحواشي يطونها ... بأقدامهم في الحضرميّ الملسّن «3»
فاستحسنها وقال له: سل حاجتك! فقال: توليني مكان ابن رمّانة كاتبك. فقال له: ويلك! ذا كاتب وأنت شاعر! فكيف تقوم مقامه وتسدّ مسدّه؟ فلما خرج من عنده ندم وقال:
عجبت لأخذي خطّة العجز بعدما ... تبيّن من عبد العزيز قبولها
لئن عاد لي عبد العزيز بمثلها ... وأمكنني منها إذا لا أقولها
[فهل أنت إن راجعتك القول مرّة ... بأحسن منها عائد فمنيلها؟]
ووقف الأحنف بن قيس ومحمد بن الأشعث بباب معاوية، فأذن للأحنف ثم لمحمد ابن الأشعث، فأسرع محمد في مشيته حتى دخل قبل الأحنف، فلما رآه معاوية قال له:
والله إني ما أذنت له قبلك وأنا أريد أن تدخل قبله، وإنّا كما نلي أموركم كذلك نلي أدبكم، ولا تزيّد متزيّد في أمره إلا لنقص يجده في نفسه.(2/324)
وقال عبد الملك بن مروان: ثلاثة لا ينبغي للعاقل أن يستخفّ بهم: العلماء، والسلطان، والإخوان؛ فمن استخف بالعلماء أفسد دينه، ومن استخف بالسلطان أفسد دنياه، ومن استخف بالإخوان أفسد مروءته.
بين عمر بن عبد العزيز وأبي الزناد كاتبه:
وقال أبو الزناد: كنت كاتبا لعمر بن عبد العزيز، فكان يكتب إلى عبد الحميد عامله على المدينة في المظالم، فيراجعه فيها؛ فكتب إليه: إنه يخيل إليّ أني لو كتبت إليك أن تعطي رجلا شاة، لكتبت إليّ: أضأنا أم معزا؟ ولو كتبت إليك بأحدهما لكتبت إليّ: أذكرا أم أنثى؟ ولو كتبت إليك بأحدهما لكتبت: أصغيرا أم كبيرا؟
فإذا كتبت إليك في مظلمة فلا تراجعني فيها.
أبو جعفر وابن قتيبة:
وكتب أبو جعفر إلى سالم بن قتيبة، يأمره بهدم دور من خرج مع إبراهيم بن عبد الله وعقر نخلهم. فكتب إليه: بأي نبدأ، بالدّور أو بالنخل؟ فكتب إليه أبو جعفر: إني لو أمرتك بإفساد تمرهم، لكتبت [إليّ] : بأي ذلك نبدأ، بالصّيحانيّ أم بالبرنيّ. وعزله وولى محمد بن سليمان.
ولمحمود الورّاق:
كم قد رأيت مساءة ... من حيث تطمع أو تسرّا
ولربما طلب الفتى ... لأخيه منفعة فضرّا
ودخل عدي بن أرطاة على شريح القاضي: فقال له: أين أنت أصلحك الله؟
قال: بينك وبين الحائط، قال: اسمع مني، قال: قل نسمع، قال: إني رجل من أهل الشام، قال: مكان سحيق، قال: وتزوّجت عندكم، قال: بالرفاه والبنين، قال: وولد لي غلام، قال: ليهنك الفارس، قال: وأردت أن أرحلها، قال: الرجل أحق بأهله، قال: وشرطت لها دارها، قال الشرط أملك، قال: فاحكم الآن بيننا، قال: قد(2/325)
فعلت، قال: فعلى من حكمت؟ قال: علي ابن أمك، قال: بشهادة من؟ قال: بشهادة ابن أخت خالتك.
أراد شريح إقراره على نفسه بالشرط؛ فكان شريح صاحب تعريض عويص.
ودخل شريك بن عبد الله على اسماعيل وهو يتبخر بعود؛ فقال للخادم: جئنا بعود لأبي عبد الله. فجاء ببربط «1» ، فقال اسماعيل: اكسره. وقال لشريك: أخذوا البارحة في الحرس رجلا ومعه هذا البربط.
وقال بعض الشعراء في عيّ الخادم:
ومتى أدعها بكأس من الما ... ء بصحفة وزبيب
وقال حبيب في بني تغلب من أهل الجزيرة يصفهم بالجفاء وقلّة الأدب مع كرم النفوس:
لا رقّة الحضر الّلطيف غذتهم ... وتباعدوا عن فطنة الأعراب
فإذا كشفتهم وجدت لديهم ... كرم النّفوس وقلّة الآداب
وكان فتى يجالس الشعبي، وكان كثير الصمت، فالتفت إلى الشعبي، فقال له: إني لأجد في قفاي حكّة، أفتأمرني بالحجامة؟ فقال الشعبي: الحمد لله الذي حوّلنا من الفقه إلى الحجامة.
قال: وأتى أحمد بن الخصيب بعض المتظلمين يوما، فأخرج رجله من الركاب فركله بها. فقال فيه الشاعر:
قل للخليفة: يا بن عم محمد ... اشكل وزيرك إنّه ركّال «2»
وبعث رجل من التجار وكيلا له إلى رجل من الأشراف يقتضيه مالا عليه، فرجع إليه مضروبا؛ فقال له: ويلك! مالك؟ قال: سبّك، فسببته، فضربني- قال:
وما قال لك؟ قال: قال أدخل أير الحمار في حر امّ من أرسلك! قال: دعني من(2/326)
افترائه عليّ وسبه لي، وأخبرني كيف جعلت أنت لأير الحمار من الحرمة ما لم تجعله لحر أمّ من أرسلك؟ هلا قلت: أير الحمار في هن أمّ من أرسلك.
باب في تحنك الفتى
قيل لعمر بن الخطاب: إن فلانا لا يعرف الشرّ. قال: ذلك أحرى أن يقع فيه.
وقال سفيان الثوري: من لم يحسن أن يتغنّى لم يحسن أن يتقرّا.
وقال عمرو بن العاص: ليس العاقل الذي يعرف الخير من الشر، وإنما العاقل الذي يعرف خير الشّرّين.
ومثل ذلك قول الشاعر:
رضيت ببعض الذّلّ خوف جميعه ... كذلك بعض الشرّ أهون من بعض
وسئل المغيرة بن شعبة عن عمر بن الخطاب، قال: كان والله له فضل يمنعه من أن يخدع، وعقل يمنعه من أن ينخدع.
وقال إياس: لست بخب «1» لا يخدعني.
وتجادل ابن سيرين والحسن، وكان الحسن يرى كلّ مسلم جائز الشهادة حتى يظهر عليه سقطة أو يجرّحه المشهود عليه، وكان إياس لا يرى ذلك؛ فأقبل رجل إلى الحسن فقال: يا أبا سعيد! إنّ إياسا ردّ شهادتي. فقام معه الحسن إليه فقال: يا أبا واثلة، لم رددت شهادة هذا المسلم، وقد قال رسول الله صلّى الله عليه وسلم: من صلّى صلاتنا واستقبل قبلتنا فهو المسلم، له ما لنا وعليه ما علينا. فقال له إياس: يا أبا سعيد يقول الله تعالى: مِمَّنْ تَرْضَوْنَ مِنَ الشُّهَداءِ
«2» وهذا ما لا نرضاه.
عامر بن عبد الله وسرقة عطائه:
وكان عامر بن عبد الله بن الزبير في غاية الفضل والدين، وكان لا يعرف الشر، فبينا هو جالس في المسجد إذ أتي بعطائه، فقام إلى منزله فنسيه، فلما صار إلى بيته ذكره، فقال لخادمه: اذهب إلى المسجد فأتني بعطائي. فقال له: وأين نجده؟ قال:
سبحان الله! أو بقي أحد يأخذ ما ليس له.(2/327)
وقال أبو أيوب: من أصحابي من أرتجى بركة دعائه ولا أقبل شهادته.
وذكرت فاطمة بنت الحسين عليهما السلام عند عمر بن عبد العزيز، وكان لها معظما، فقيل: إنها لا تعرف الشر. فقال عمر: عدم معرفتها بالشر جنّبها الشر.
وكانوا يستحسنون الحنكة للفتى والصّبوة «1» للحديث، ويكرهون الشيب قبل أوانه، ويشبّهون ذلك بيبوس الثمرة قبل نضجها، وإنّ ذلك لا يكون إلا من ضرر فيها.
فأنفع الإخوان مجلسا، وأكرمهم عشرة، وأشدهم حذقا، وأنبههم نفسا، من لم يكن بالشاطر المتفتّك، ولا الزاهد المتنسّك، ولا الماجن المتطرّف، ولا العابد المتقشّف. ولكن كما قال الشاعر:
يا هند هل لك في شيخ فتى أبدا ... وقد يكون شباب غير فتيان
وقال آخر:
وفتى وهو قد أناف على الخم ... سين يلقاك في ثياب غلام
وقال آخر:
فللنسك منّي جانب لا أضيعه ... وللهو منّي والبطالة جانب
وقال حبيب:
كهل الأناة فتى الشّذاة إذا غدا ... للرّوع كان القشعم الغطريفا «2»
ومن قولنا في هذا المعنى:
إذا جالس الفتيان ألفيته فتى ... وجالس كهل الناس ألفيته كهلا
ونظيره قول ابن حطّان:
يوما يمان إذا لاقيت ذا يمن ... وإن لقيت معدّيّا فعدنان(2/328)
وقول عمران بن حطان هذا يحتمل غير هذا المعنى، إلا أن هذا أقرب إليه وأشبه به، لأنه أراد أنه مع اليماني يماني، ومع العدناني عدناني، فيحتمل أن ذلك لخوف منه أو مساعدة؛ وكل ذلك داخل في باب الحنكة والحذق والتجربة.
وقالوا: اصحب البرّ لتتأسّى به، والفاجر لتتحنّك به.
وقالوا: من لم يصحب البرّ والفاجر ولم يؤدبه الرخاء والشدة، ولم يخرج من الظل إلى الشمس مرة، فلا ترجه.
ومن هذا قولهم: حلب فلان الدهر أشطره، وشرب أفاويقه. إذا فهم خيره وشرّه، فإذا نزل به الغنى عرفه ولم يبطره، وإذا نزل به البلاء صبر له ولم ينكره.
وقال هدبة العذريّ:
ولست بمفراح إذا الدهر سرّني ... ولا جازع من صرفه المتقلب
ولا أتمنى الشرّ والشرّ تاركي ... ولكن متى أحمل على الشرّ أركب
وقال عبد العزيز بن زرارة في هذا المعنى:
قد عشت في الدهر أطوارا على طرق ... شتّى فصادفت منه اللين والفظعا
كلّا عرفت فلا النّعماء تبطرني ... ولا تخشّعت من لأوائه جزعا «1»
لا يملأ الأمر صدري قبل وقعته ... ولا أضيق به ذرعا إذا وقعا
وقال آخر:
فإن تهدموا بالغدر داري فإنّها ... تراث كريم لا يخاف العواقبا
إذا همّ ألقي بين عينيه عزمه ... وأضرب عن ذكر العواقب جانبا
ولم يستشر في أمره غير نفسه ... ولم يرض إلّا قائم السيف صاحبا «2»
سأغسل عنّي العار بالسيف جالبا ... عليّ قضاء الله ما كان جالبا
وسئلت هند عن معاوية، فقالت: والله لو جمعت قريش من أقطارها ثم رمي به(2/329)
في وسطها لخرج من أيّ أعراضها شاء.
وهذا نظير قول الشاعر:
برئت إلى الرحمن من كلّ صاحب ... أصاحبه إلّا عراك بن نائل
وعلمي به بين السّماطين أنّه ... سينجو بحّق أو سينجو بباطل
وقال آخر:
لئن كنت محتاجا إلى الحلم إنّني ... إلى الجهل في بعض الأحايين أحوج
وما كنت أرضى الجهل خدنا وصاحبا ... ولكنّني أرضى به حين أحرج
فإن قال قوم إنّ فيه سماجة ... فقد صدقوا، والذّلّ بالحرّ أسمج
ولي فرس للحلم بالحلم ملجم ... ولي فرس للجهل بالجهل مسرج
فمن شاء تقويمي فإني مقوّم ... ومن شاء تعويجي فإني معوّج «1»
وقال معاوية بن سفيان بن عوف الغامدي: هذا الذي لا يكفكف من عجلة، ولا يدفع في ظهره من بطء، ولا يضرب على الأمور ضرب الجمل الثّفال «2» .
وقال الحسن بن هانيء:
من للجذاع إذا الميدان ما طلها ... بشأو مطّلع الغايات قد قرحا «3»
من لا يفصفص منه البؤس أنمله ... ولا يصعّد أطراف الرّبى فرحا
وقال جرير:
وابن الّلبون إذا مالزّ في قرن ... لم يستطع صولة البزل القناعيس «4»(2/330)
باب في الرجل النفاع الضرار
يقال: إنه لخرّاج ولّاج، وأنه لحوّل قلّب؛ وإذا كان متصرفا في أموره نفاعا لأوليائه، ضرّارا لأعدائه. وإذا كان على غير ذلك قيل: ما يحلى ولا يمرّ ولا يعدّ في العير ولا في النّفير، وما فيه خير يرجى ولا شرّ يتّقى.
وقال بعضهم: لا يرضى العاقل أن يكون إلا إماما في الخير أو الشر. وقال الشاعر:
إذا أنت لم تنفع فضرّ فإنّما ... يرجّى الفتي كيما يضرّ وينفعا
وقال حبيب:
ولم أر نفعا عند من ليس ضائرا ... ولم أر ضرّا عند من ليس ينفع
وسمع أعرابي رجلا يقول: ما أتى فلان بيوم خير قط. فقال: إن لا يكن أتى بيوم خير فقد أتى بيوم شر.
وقال الشاعر:
وما فعلت بنو ذبيان خيرا ... ولا فعلت بنو ذبيان شرّا
وقال آخر:
قبح الإله عداوة لا تتّقى ... وقرابة يدلى بها لا تنفع
وفخر رجل فقال: أبي الذي قتل الملوك وغصب المنابر، وفعل وفعل! فقال له رجل: لكنه أسر وقتل وصلب. فقال دعني من أسره وقتله وصلبه؛ أبوك [هل] حدّث نفسه بشيء من هذا قط.
وقال رجل «1» يذم قومه، وأغارت بنو شيبان على إبله فاستنجدهم فلم ينجدوه، وكان فيهم ضعف، فقال فيهم:(2/331)
لو كنت من مازن لم تستبح إبلي ... بنو اللقيطة من ذهل بن شيبانا
إذا لقام بنصري معشر خشن ... عند الحفيظة إن ذو لوثة لانا «1»
لا يسألون أخاهم حين يندبهم ... في النّائبات على ما قال برهانا
قوم إذا الشّرّ أبدى ناجذيه لهم ... طاروا إليه زرافات ووحدانا «2»
لكنّ قومي وإن كانوا ذوي عدد ... ليسوا من الشّرّ في شيء وإن هانا
يجزون من ظلم أهل الظلم مغفرة ... ومن إساءة أهل السوء إحسانا
كأن ربّك لم يخلق لخشيته ... سواهم من جميع الناس إنسانا
فليت لي بهم قوما إذا ركبوا ... شنّوا الإغارة فرسانا وركبانا
ولم يرد بهذا أنه وصفهم بالحلم ولا بالخشية لله؛ وإنما أراد به الذلّ والعجز؛ كما قال النجاشي في رهط تميم بن مقبل:
قبيلته لا يخفرون بذمة ... ولا يظلمون الناس حبّة خردل
ولا يردون الماء إلا عشيّة ... إذا صدر الورّاد عن كلّ منهل «3»
وكل من نفع في شيء فقد ضرّ في شيء.
وكذلك قول أشجع بن عمرو:
يصاد أعناقا بمنصله ... ويفكّ أعناقا من الرقّ «4»
وقال الحسن بن هانيء:
يرجو ويخشى حالتيك الورى ... كأنّك الجنّة والنّار
ومن قولنا في هذا المعنى:
من يرتجى غيرك أو يتّقى ... وفي يديك الجود والباس(2/332)
ما عشت عاش الناس في نعمة ... وإن تمت مات بك الناس
وقال آخر:
وليس فتى الفتيان من راح واغتدى ... لشرب صبوح أو لشرب غبوق «1»
ولكن فتى الفتيان من راح واغتدى ... لضرّ عدوّ أو لنفع صديق
باب في طلب الرغائب واحتمال المغارم
في كتاب للهند: من لم يركب الأهوال لم ينل الرغائب، ومن ترك الأمر الذي لعله أن ينال منه حاجته، مخافة ما لعله يوقّاه، فليس ببالغ جسيما؛ وإن الرجل ذا المروءة ليكون خامل الذّكر خافض المنزلة، فتأبى مروءته إلا أن يستعلي ويرتفع كالشّعلة من النار التي يصونها صاحبها وتأبى إلا ارتفاعا، وذو الفضل لا يخفى فضله وإن أخفاه، كالمسك الذي يختم عليه ثم لا يمنع ذلك ريحه من التّذكّي والظهور.
ومن قولنا في هذا المعنى:
ختمت فارة مسك ... فأبت إلّا التذكي «2»
ليس يخفى فضل ذي الفض ... ل بزور أو بإفك
والذي برّز في الفض ... ل غنيّ عن مزكي
ربما غمّ هلال ال ... فطر في ليلة شكّ
ثم جلّى وجهه النّو ... ر فجلّى كلّ حلك «3»
إنّ ظهر اليمّ لا تر ... كبه من غير فلك
ونظام الدرّ لا تع ... قده من غير سلك
ليس يصفو الذهب الا ب ... ريز إلّا بعد سبك(2/333)
هذه جملة أمثا ... ل فمن شاء فيحكي
أبطلت كلّ يم ... انيّ وشاميّ ومكّي
ليس ذا من صوغ عي ... نيّ ولا من نسج عكي
وقالوا لا ينبغي للعاقل أن يكون إلا في إحدى منزلتين: إما في الغاية من طلب الدنيا، وإما في الغاية من تركها. ولا ينبغي له أن يرى إلا في مكانين: إما مع الملوك مكرما، وإما مع العبّاد متبتّلا «1» . ولا يعدّ الغرم غرما إذا ما ساق غنما، ولا الغنم غنما إذا ما ساق غرما.
معاوية وعسكر علي يوم صفين:
ونظر معاوية إلى عسكر عليّ رضي الله عنه يوم صفين، فقال: من طلب عظيما خاطر بعظيمته. وأشار إلى رأسه.
وقال حبيب الطائي:
أعاذلتي ما أخشن الليل مركبا ... وأخشن منه في الملمات راكبه
ذريني وأهوال الزمان أقاسها ... فأهواله العظمى تليها رغائبه
وقال كعب بن زهير:
وليس لمن لم يركب الهول بغية ... وليس لرحل حطّه الله حامل
إذا أنت لم تعرض عن الجهل والخنا ... أصبت حليما أو أصابك جاهل
وقال الشمّاخ:
فتى ليس بالرّاضي بأدنى معيشة ... ولا في بيوت الحيّ بالمتولّج
فتى يملأ الشّيزى ويروي سنانه ... ويضرب في رأس الكميّ المدّحج «2»(2/334)
وقال امرؤ القيس:
فلو أنّ ما أسعى لأدنى معيشة ... كفاني ولم أطلب قليل من المال
ولكنّما أسعى لمجد مؤثّل ... وقد يدرك المجد المؤثّل أمثالي»
وقال آخر:
لولا شماتة أعداء ذوي حسد ... أو أن أنال بنفعي من يرجّيني
لما خطبت من الدنيا مطالبها ... ولا بذلت لها عرضي ولا ديني
لكن منافسة الأعداء تحملني ... على أمور أراها سوف ترديني «2»
وكيف لا كيف أن أرضى بمنزلة ... لا دين عندي ولا دنيا تواتيني
وقال الحطيئة في هجائه الزّبرقان بن بدر:
دع المكارم لا ترحل لبغيتها ... واقعد فإنك أنت الطاعم الكاسي
فاستعدى عليه عمر بن الخطاب وأسمعه الشعر، فقال: ما أرى بما قال بأسا.
قال: والله يا أمير المؤمنين ما هجيت ببيت قطّ أشدّ منه. فأرسل إلى حسان فسأله:
هل هجاه؟ فقال: ما هجاه، ولكنه سلح عليه.
لشاعر محدث:
وقد أخذ هذا المعنى من الحطيئة بعض المحدثين. فقال:
إني وجدت من المكارم حسبكم ... أن تلبسوا خزّ الثياب وتشبعوا
فإذا تذوكرت المكارم مرّة ... في مجلس أنتم به فتقنّعوا
وقالوا: من لم يركب الأهوال لم ينل الرغائب، ومن طلب العظائم خاطر بعظيمته.
وقال يزيد بن عبد الملك، لما أتي برأس يزيد بن المهلب، فنال منه بعض جلسائه، فقال: إن يزيد ركب عظيما، وطلب جسيما، ومات كريما.(2/335)
لبعض الشعراء:
وقال بعض الشعراء:
لا تقنعنّ ومطلب لك ممكن ... فإذا تضايقت المطالب فاقنع
ومما جبل عليه الحرّ الكريم ألّا يقنع من شرف الدنيا والآخرة بشيء مما انبسط له، أملا فيما هو أسنى منه درجة وأرفع منزلة؛ ولذلك قال عمر بن عبد العزيز لدكين الراجز: إنّ لي نفسا توّاقة؛ فإذا بلغك أني صرت إلى أشرف من منزلتي هذه؛ فبعين ما أرينّك. قال له ذلك وهو عامل المدينة لسليمان بن عبد الملك. فلما صارت إليه الخلافة قدم عليه دكين. فقال له: أنا كما أعلمتك أنّ لي نفسا توّاقة؛ وأنّ نفسي تاقت إلى أشرف منازل الدنيا فلما بلغتها وجدتها تتوق إلى أشرف منازل الآخرة.
ومن الشاهد لهذا المعنى، أنّ موسى صلوات الله عليه لما كلمه الله تكليما، سأله النظر إليه. إذ كان ذلك لو وصل إليه أشرف من المنزلة التي نالها، فانبسط أمله إلى ما لا سبيل إليه. ليستدل بذلك أنّ الحرّ الكريم لا يقنع بمنزلة إذا رأى ما هو أشرف منها.
ومن قولنا في هذا المعنى:
والحرّ لا يكتفي من نيل مكرمة ... حتى يروم التي من دونها العطب «1»
يسعى به أمل من دونه أجل ... إن كفّه رهب يستدعه رغب
لذاك ما سال موسى ربّه أرني ... أنظر إليك وفي تسآله عجب
يبغي التزيّد فيما نال من كرم ... وهو النجيّ لديه الوحي والكتب
وقال تأبّط شرّا في ابن عم له يصفه بركوب الأهوال وبذل الأموال:
وإني لمهد من ثنائي فقاصد ... به لابن عمّ الصّدق شمس بن مالك
أهزّ به في ندوة الحيّ عطفه ... كما هزّ عطفي بالهجان الأوارك «2»(2/336)
قليل التشكّي للمهمّ يصيبه ... كثير النّوى شتّى الهوى والمسالك
يظل بموماة ويمسى بغيرها ... وحيدا ويعروري ظهور المهالك «1»
ويسبق وفد الريح من حيث ينتحي ... بمنخرق من شدّه المتدارك «2»
إذا خاط عينيه كرى النوم لم يزل ... له كاليء من قلب شيحان فاتك «3»
ويجعل عينيه ربيئة قلبه ... إلى سلّة من جفن أخلق بانك «4»
إذا هزّه في عظم قرن تهلّلت ... نواجذ أفواه المنايا الضّواحك
وقال غيره من الشعراء [بل هي له أيضا] :
إذا المرء لم يحتل وقد جدّ جدّه ... أضاع وقاسى أمره وهو مدبر
ولكن أخو الحزم الذي ليس نازلا ... به الأمر إلا وهو للقصد مبصر
فذاك قريع الدهر ما عاش حوّل ... إذا سدّ منه منخر جاش منخر «5»
باب الحركة والسكون
قال وهب بن منبه: مكتوب في التوراة: ابن آدم؛ خلقت من الحركة للحركة، فتحرّك وأنا معك.
وفي بعض الكتب: ابن آدم؛ امدد يدك إلى باب من العمل أفتح لك بابا من الرزق.
وشاور عتبة بن ربيعة أخاه شيبة بن ربيعة في النّجعة «6» ؛ وقال: إني قد أجدبت، ومن أجدب انتجع. فذهبت مثلا. قال له شيبة: ليس من العز أن تتعرض للذل(2/337)
فذهبت مثلا. فقال عتبة: لن يفرس الليث الطّلا «1» وهو رابض. فذهبت مثلا.
أخذه حبيب فقال:
أراد بأن يحوي الغنى وهو وادع ... ولن يفرس الليث الطّلا وهو رابض
وقيل لأعشى بكر: إلى كم هذه النّجعة والاغتراب؟ أما ترضى بالخفض والدعة؟
فقال: لو دامت الشمس عليكم لمللتموها: أخذه حبيب فقال:
وطول مقام المرء في الحيّ مخلق ... لديباجتيه فاغترب تتجدّد
فإنّي رأيت الشّمس زيدت محبة ... إلى الناس أن ليست عليهم بسرمد «2»
قال أبو سعيد أحمد بن عبد الله المكيّ: سمعت الشافعي يقول: قلت بيتين من الشعر. وأنشدنا:
إني أرى نفسي تتوق إلى مصر ... ومن دونها خوض المهامه والقفر
فو الله ما أدري إلى الخفض والغنى ... أقاد إليها أم أقاد إلى قبري «3»
فدخل مصر فمات.
وقال موسى بن عمران عليه السلام: لا تذموا السفر، فإني أدركت فيه ما لم يدركه أحد. يريد أن الله عز وجل كلّمه فيه تكليما.
وقال المأمون: لا شيء ألذّ من سفر في كفاية، لأنك في كل يوم تحلّ محلة لم تحلها، وتعاشر قوما لم تعاشرهم.
وقال الشاعر:
لا يمنعنّك خفض العيش في دعة ... من أن تبدّل أوطانا بأوطان
تلقى بكلّ بلاد إن حللت بها ... أهلا بأهل وإخوانا بإخوان(2/338)
مع أن المقام بالمقام الواحد يورث الملالة.
وقال النبي صلّى الله عليه وسلم «زر غبّا» تزدد حبّا «1» .
وقالت الحكماء: لا تنال الراحة إلا بالتّعب، ولا تدرك الدّعة إلا بالنّصب.
وقال حبيب:
بصرت بالرّاحة العظمى فلم ترها ... تنال إلّا على جسر من التّعب
وقال أيضا:
على أنّني لم أحو وفرا مجمّعا ... ففزت به إلا بشمل مبدّد
ولم تعطني الأيام نوما مسكّنا ... ألذّ به إلا بنوم مشرّد
وقال أيضا:
وركب كأطراف الأسنّة عرّسوا ... على مثلها والليل تسطو غياهبه «2»
لأمر عليهم أن تتمّ صدوره ... وليس عليهم أن تتمّ عواقبه
وبعد فهل يجوز في وهم أو يتمثل في عقل أو يصحّ في قياس، أن يحصد زرع بغير بذر، أو تجنى ثمرة بغير غرس، أو يوري زند بغير قدح، أو يثمر مال بغير طلب؟.
ولهذا قال الخليل بن أحمد: لا تصل إلى ما تحتاج إليه إلا بالوقوف على ما لا تحتاج إليه، فقال له أبو شمر المتكلّم: فقد احتجت إذا إلى ما لا تحتاج إليه، إذ كنت لا تصل إلى ما تحتاج إليه إلا به. قال الخليل: ويحك! وهل يقطع السيف الحسام إلا بالضرب، أو يجري الجواد إلا بالرّكض، أو هل تنال نهاية إلا بالسعي إليها والإيضاع نحوها. وقد يكون الإكداء «3» مع الكد، والخيبة مع الهيبة.(2/339)
وقال الشاعر:
وما زلت أقطع عرض البلاد ... من المشرقين إلى المغربين
وأدّرع الخوف تحت الرّجاء ... وأستصحب الجدي والفرقدين «1»
وأطوي وأنشر ثوب الهموم ... إلى أن رجعت بخفيّ حنين «2»
إلى أن أكون على حالة ... مقلا من المال صفر اليدين
فقير الصّديق غنيّ العدو ... قليل الجداء عن الوالدين
ومثل هذا قليل في كثير، وإنما يحكم بالأعم والأغلب، والنّجع مع الطلب والحرمان للعجز أصحب.
لحبيب:
وقد شرح حبيب هذا المعنى فقال:
همّ الفتى في الأرض أغصان الغنى ... غرست وليست كلّ حين تورق
للحمدوني:
وقال إسماعيل بن إبراهيم الحمدوني في المطالب:
لك ألحاظ مراض ودلّ ... غير أنّ الطّرف عنها أكلّ «3»
وأرى خدّيك وردا نضيرا ... قد جاءه من دمع عينّي طلّ
عذبة الألفاظ لو لم يشنها ... كرّ تفنيد بسمعي يضل «4»
إنّ عزّى التي أنفت بي ... عن سواها كثرها لي قلّ
ظلت في أفياء ظلك حتى ... ظلّ فوقي للمتالف ظلّ «5»(2/340)
إن أولى منك بي لمرام ... لا يجلّ الهول حيث يحلّ
ما مقامي وحسامي قاطع ... وسناني صارم ما يفلّ
وسناني مثل روضة حزن ... أضحكتها ديمة تستهلّ
ودليلي بين فكّيّ يعلو ... كلّ صعب ريّض فيذلّ «1»
ثملا من خمرة العجز أسقى ... نهلا من بعده لي علّ «2»
إن يكن قربك عندي جليلا ... فأقلّ الحزم منه أجلّ
أقعيدا للقعيدة إلفا ... كلّ إلف بي لعدمي مخلّ
ويك ليس اللّيث للّيث يضحي ... مخرجا من غيله وهو كلّ «3»
فاتركي عتبا ولوما ودعي ... وعلى الإقتار عينك سجل
هو سيف غمده بردتاه ... ينتضيه الحزم حين يسلّ
لا يشكّ السّمع حين يراه ... أنّه بالبيد سمع أزلّ «4»
بين ثوبيه أخو عزمات ... يتّقيها الحادث المصمئلّ «5»
ليس تنبو بي رجال وبيد ... إنّ لبابي منزل ومحل
فأقلي بعض عذل مقل ... لا يرى صرف الزمان يقلّ
إنّ وخد العيش إثمار رزق ... يجتنيها المسهب المشمعلّ «6»
لا تفليّ حدّ عزمي بلوم ... إنّني للعزم والدر خلّ
فالفتى من ليس يرعى حماه ... طمعا يوما له مستزلّ
من إذا خطب أظلّ عليه ... فله صبر عليه مظلّ(2/341)
يصحب الليل الوليد إلى أن ... يهرم الليل وما إن يملّ
ويرى السير قد يلجلج منه ... مضغة لكنّها لا تصلّ «1»
شمّرت أثوابه تحت ليل ... ثوبه ضاف عليه رفلّ «2»
سأضيع النّوم كيما تريني ... ومضيعي معظم لي مجلّ
فابتناء العزّ هدم المهاري ... وانحلال العدم سير وحلّ «3»
باب التماس الرزق وما يعود على الأهل والولد
قال النبي صلّى الله عليه وسلم: «العائد على أهله وولده كالمجاهد المرابط في سبيل الله» .
وقال صلّى الله عليه وسلم: «اليد العليا خير من اليد السفلى، وابدأ بمن تعول» .
وقال عمر بن الخطاب: لا يقعد أحدكم عن طلب الرزق ويقول اللهم ارزقني، وقد علم أن السماء لا تمطر ذهبا ولا فضة، وإن الله تعالى إنما يرزق الناس بعضهم من بعض. وتلا قول الله جل وعلا فَإِذا قُضِيَتِ الصَّلاةُ فَانْتَشِرُوا فِي الْأَرْضِ وَابْتَغُوا مِنْ فَضْلِ اللَّهِ وَاذْكُرُوا اللَّهَ كَثِيراً لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ
«4» .
وقال محمد بن إدريس الشافعي: احرص على ما ينفعك، ودع كلام الناس، فإنه لا سبيل إلى السلامة من ألسنة العامة.
ومثله قول مالك بن دينار: من عرف نفسه لم يضره ما قال الناس فيه.
طاهر بن عبد العزيز: أخبرنا علي بن عبد العزيز قال: أنشدنا أبو عبيد القاسم بن سلام:(2/342)
لا ينقص الكامل من كماله ... ما ساق من خير إلى عياله
وقال عمر بن الخطاب: يا معشر القرّاء، التمسوا الرزق ولا تكونوا عالة على الناس.
وقال أكثم بن صيفي: من ضيّع زاده اتكل على زاد غيره.
وقال النبيّ صلّى الله عليه وسلم: «خيركم من لم يدع آخرته لدنياه ولا دنياه لآخرته» .
وقال عمرو بن العاص: اعمل لدنياك عمل من يعيش أبدا، واعمل لآخرتك عمل من يموت غدا.
للنبي صلّى الله عليه وسلم في متعبد:
وذكر رجل عند النبي صلّى الله عليه وسلم بالاجتهاد في العبادة والقوّة على العمل، وقالوا:
صحبناه في سفر، فما رأينا بعدك يا رسول الله أعبد منه، كان لا ينفتل من صلاة، ولا يفطر من صيام. قال النبي صلّى الله عليه وسلم: فمن كان يمونه ويقوم به؟ قالوا: كلنا. قال كلّكم أعبد منه.
ومر المسيح برجل من بني إسرائيل يتعبّد، فقال: ما تصنع؟ قال: أتعبّد. قال:
ومن يقوم بك؟ قال: أخي. قال: أخوك أعبد منك.
وقد جعل الله طلب الرزق مفروضا على الخلق كله: من الإنس، والجنّ، والطير، والهوام، منهم بتعليم، ومنهم بإلهام؛ وأهل التحصيل والنظر من الناس يطلبونه بأحسن وجوهه من التصرف والتحرّز، وأهل العجز والكسل يطلبونه بأقبح وجوهه، من السؤال والاتكال والخلابة «1» والاحتيال.(2/343)
باب فضل المال
قال الله تعالى الْمالُ وَالْبَنُونَ زِينَةُ الْحَياةِ الدُّنْيا وَالْباقِياتُ الصَّالِحاتُ خَيْرٌ عِنْدَ رَبِّكَ ثَواباً وَخَيْرٌ أَمَلًا
» .
وقال النبيّ صلّى الله عليه وسلم للمجاشعي: «إن كان لك مال فلك حسب، وإن كان لك خلق فلك مروءة، وإن كان لك دين فلك كرم» .
وقال عمر بن الخطاب: حسب الرجل ماله، وكرمه دينه، ومروءته خلقه.
وفي كتاب الأدب للجاحظ: اعلم أن تثمير المال آلة للمكارم، وعون على الدّين، وتأليف للإخوان؛ وأن من فقد المال قلّت الرغبة إليه والرهبة منه، ومن لم يكن بموضع رغبة ولا رهبة استهان الناس به؛ فاجهد جهدك كله في أن تكون القلوب معلّقة منك برغبة أو رهبة في دين أو دنيا.
وقال حكيم لابنه: يا بنيّ، عليك بطلب المال؛ فلو لم يكن فيه إلا أنه عزّ في قلبك وذل في قلب عدوّك لكفى.
وقال عبد الله بن عبّاس: الدنيا العافية. والشباب الصحة، والمروءة الصبر، والكرم التقوى، والحسب المال.
وكان سعد بن عبادة يقول: اللهم ارزقني جدا ومجدا، فإنه لا مجد إلا بفعال، ولا فعال إلا بمال.
وقالت الحكماء: لا خير فيمن لا يجمع المال يصون به عرضه، ويحمي به مروءته، ويصل به رحمه.
وقال عبد الرحمن بن عوف: يا حبذا المال أصون به عرضي وأتقرّب به إلى ربي.
وقال سفيان الثوري: المال سلاح المؤمن في هذا الزمان.(2/344)
وقال النبي صلّى الله عليه وسلم: «نعم العون على طاعة الله الغنى. ونعم السّلّم إلى طاعة الله الغنى» .
وتلا وَلَوْ أَنَّهُمْ أَقامُوا التَّوْراةَ وَالْإِنْجِيلَ وَما أُنْزِلَ إِلَيْهِمْ مِنْ رَبِّهِمْ لَأَكَلُوا مِنْ فَوْقِهِمْ وَمِنْ تَحْتِ أَرْجُلِهِمْ
«1» وقوله اسْتَغْفِرُوا رَبَّكُمْ إِنَّهُ كانَ غَفَّاراً، يُرْسِلِ السَّماءَ عَلَيْكُمْ مِدْراراً وَيُمْدِدْكُمْ بِأَمْوالٍ وَبَنِينَ
«2» .
وقال خالد بن صفوان لابنه: يا بني، أوصيك باثنين لن تزال بخير ما تمسكت بهما: درهمك لمعاشك، ودينك لمعادك.
وقال عروة بن الورد:
ذريني للغنى أسعى فإنّي ... رأيت الناس شرّهم الفقير
وأحقرهم وأهونهم عليهم ... وإن أمسى له كرم وخير «3»
يباعده القريب وتزدريه ... حليلته وينهره الصغير
وتلقى ذا الغنى وله جلال ... يكاد فؤاد صاحبه يطير
قليل ذنبه والذنب جمّ ... ولكن للغني ربّ غفور
لبعض الشعراء:
وقال آخر:
سأكسب مالا أو أموت ببلدة ... يقلّ بها قطر الدّموع على قبري
وقال آخر:
سأعمل نصّ العيس حتى يكفّني ... غنى المال يوما أو غنى الحدثان «4»
فللموت خير من حياة يرى لها ... على المرء بالإقلال وسم هوان «5»(2/345)
إذا قال لم يسمع لحسن مقاله ... وإن لم يقل قالوا عديم بيان
كأنّ الغنى في أهله بورك الغنى ... بغير لسان ناطق بلسان
الرياشي قال: أنشدنا أبو بكر بن عيّاش:
حيران يعلم أن المال ساق له ... ما لم يسقه له دين ولا خلق
لولا ثلاثون ألفا سقتها بدرا ... إلى ثلاثين ألفا ضاقت الطّرق «1»
فمن يكن عن كرام الناس يسألني ... فأكرم الناس من كانت له ورق
وقال آخر:
أجلّك قوم حين صرت إلى الغنى ... وكلّ غنى في العيون جليل
ولو كنت ذا فقر ولم تؤت ثروة ... ذللت لديهم والفقير ذليل
وقال محمود الورّاق:
أرى كلّ ذي مال يبرّ لماله ... وإن كان لا أصل هناك ولا فضل
فشرّف ذوي الأموال حيث لقيتهم ... فقولهم قول وفعلهم فعل
وأنشد أبو محلّم لرجل من ولد طلبة بن قيس بن عاصم:
وكنت إذا خاصمت خصما كببته ... على الوجه حتى خاصمتني الدراهم
فلما تنازعنا الخصومة غلّبت ... عليّ وقالوا قم فإنّك ظالم
وأنشدني الرياشي:
لم يبق من طلب الغنى ... إلّا التعرّض للحتوف «2»
فلأقذفنّ بمهجتي ... بين الأسنّة والسّيوف
ولأطلبنّ ولو رأيت الموت يلمع في الصّفوف وكان لأحيحة بن الجلاح بالزّوراء ثلاثمائة ناضح «3» .. فدخل بستانا له، فمرّ(2/346)
بتمرة فلقطها فعوتب في ذلك، فقال: تمرة إلى تمرة تمرات، وجمل إلى جمل ذود «1» .
ثم أنشأ يقول:
إنّي مقيم على الزّوراء أعمرها ... إنّ الكريم على الإخوان ذو المال
فلا يغرّنك ذو قربى وذو نسب ... من ابن عم ومن عم ومن خال
كلّ النداء إذا ناديت يخذلني ... إلّا ندائي إذا ناديت يا مالي
لابن عبد ربه:
ومن قولنا في هذا المعنى:
دعني أصن حرّ وجهي عن إذالته ... وإن تغرّبت عن أهلي وعن ولدي «2»
قالوا نأيت عن الإخوان قلت لهم ... ما لي أخ غير ما تطوى عليه يدي
كان الرماحس بن حفصة بن قيس وابن عم له يدعى ربيعة بن الورد يسكنان الأردن. وكان ربيعة بن الورد موسرا، والرّماحس معسرا كثيرا ما يشكو إليه الحاجة، ويعطف عليه ربيعة بعض العطف، فلما أكثر عليه كتب إليه:
إذا المرء لم يطلب معاشا لنفسه ... شكا الفقر أو لام الصديق فأكثرا
وصار على الأدنين كلّا وأوشكت ... صلات ذوي القربى له أن تنكرا «3»
فسر في بلاد الله والتمس الغنى ... تعش ذا يسار أو تموت فتعذرا
فما طالب الحاجات من حيث تبتغى ... من المال إلّا من أجدّ وشمّرا «4»
ولا ترض من عيش بدون ولا تنم ... وكيف ينام الليل من كان معسرا
وقال بعض الحكماء: المال يوقّر الدّنيّ، والفقر يذل السّني. وأنشد:
أرى ذا الغنى في الناس يسعون حوله ... فإن قال قولا تابعوه وصدّقوا(2/347)
فذلك دأب الناس ما كان ذا غنى ... فإن زال عنه المال يوما تفرّقوا
وأنشد:
ما الناس إلا مع الدنيا وصاحبها ... فحيثما انقلبت يوما به انقلبوا
يعظّمون أخا الدنيا فإن وثبت ... يوما عليه بما لا يشتهي وثبوا
صنوف المال
قال معاوية لصعصعة بن صوحان: إنما أنت هاتف بلسانك، لا تنظر في أود «1» الكلام ولا في استقامته: فإن كنت تنظر في ذلك فأخبرني عن أفضل المال.
فقال: والله يا أمير المؤمنين، إني لأدع الكلام حتى يختمر في صدري، فما أرهف «2» به ولا أتلهّق «3» فيه حتى أقيم أوده، وأحرّر متنه، وإن أفضل المال لبرّة سمراء في تربة غبراء؛ أو نعجة صفراء في روضة خضراء؛ أو عين خرّارة في أرض خوّارة. قال معاوية: لله أنت، فأين الذهب والفضة. قال: حجران يصطكّان، إن أقبلت عليهما نفدا، وإن تركتهما لم يزيدا.
وقيل لأعرابية: ما تقولين في مائة من المعز؟ قالت: قنى. قيل لها: فمائة من الضأن؟ قالت غنى. قيل لها: فمائة من الإبل؟ قالت: منى.
وقال عبد الله بن الحسن: غلّة الدور مسألة، وغلة النّخل كفاف، وغلة الحبّ ملك.
للنبي صلّى الله عليه وسلم:
وفي الحديث: «أفضل أموالكم: فرس في بطنها فرس يتبعها فرس، وعين ساهرة لعين نائمة» .(2/348)
وأنشد فرج بن سلام لبعض العراقيين:
ولقد أقول لحاجب نصحا له ... خلّ العروض وبع أرضا «1»
إني رأيت الأرض يبقى نفعها ... والمال يأكل بعضه بعضا
واحذر أناسا يظهرون محبّة ... وعيونهم وقلوبهم مرضى
حتى إذا أمكنتهم من فرصة ... تركوا الخداع وأظهروا البغضا
تدبير المال
قالوا: لا مال لأخرق «2» ، ولا عيلة على مصلح، وخير المال ما أطعمك لا ما أطعمته.
وقال صاحب كليلة ودمنة: لينفق ذو المال ماله في ثلاثة مواضع: في الصدقة إن أراد الآخرة: وفي مصانعة السلطان إن أراد الذكر؛ وفي النساء إن أراد نعيم العيش.
وقال: إن صاحب الدنيا يطلب ثلاثة ولا يدركها إلا بأربعة؛ فأما الثلاثة التي يطلب: فالسّعة في المعيشة، والمنزلة في الناس، والزاد إلى الآخرة، وأما الرابعة التي تدرك بها هذه الثلاثة: فاكتساب المال من أحسن وجوهه، وحسن القيام عليه، ثم التّثمير له، ثم إنفاقه فيما يصلح المعيشة ويرضي الأهل والإخوان ويعود في الآخرة نفعه. فإن أضاع شيئا من هذه الأربعة لم يدرك شيئا من هذه الثلاثة. إن لم يكتسب لم يكن له مال يعيش به؛ وإن كان ذا مال واكتساب ولم يحسن القيام عليه يوشك أن يفنى ويبقى بلا مال، وإن هو أنفقه ولم يثمّره لم تمنعه قلة الإنفاق من سرعة النفاد.
كالكحل الذي إنما يؤخذ منه على الميل مثل الغبار، ثم هو مع ذلك سريع نفاده. وإن هو اكتسب وأصلح وثمّر ولم ينفق الأموال في أبوابها؛ كان بمنزلة الفقير الذي لا مال له، ثم لا يمنع ذلك ماله من أن يفارقه ويذهب حيث لا منفعة فيه؛ كحابس الماء(2/349)
في الموضع الذي تنصبّ فيه المياه، إن لم يخرج منه بقدر ما يدخل فيه؛ مصل «1» وسال من نواحيه، فيذهب الماء ضياعا.
وهذا نظير قول الله تعالى: وَالَّذِينَ إِذا أَنْفَقُوا لَمْ يُسْرِفُوا وَلَمْ يَقْتُرُوا وَكانَ بَيْنَ ذلِكَ قَواماً
«2» . وقوله عز وجل لنبيه صلّى الله عليه وسلم: وَلا تَجْعَلْ يَدَكَ مَغْلُولَةً إِلى عُنُقِكَ وَلا تَبْسُطْها كُلَّ الْبَسْطِ فَتَقْعُدَ مَلُوماً مَحْسُوراً
«3» .
ونظر عبد الله بن عباس إلى درهم بيد رجل، فقال له: إنه ليس لك حتى يخرج من يدك. يريد أنه لا ينتفع به حتى ينفقه ويستفيد غيره مكانه.
قال الحطيئة:
مفيد ومتلاف إذا ما سألته ... تهلّل واهتزّ اهتزاز المهنّد
وقال مسلم بن الوليد:
لا يعرف المال إلّا ريث ينفقه ... أو يوم يجمعه للنّهب والبدد
وقال آخر:
مهلك مال ومفيد مال
وقال سفيان الثوري: من كان في يده شيء فليصلحه؛ فإنه في زمان إن احتاج فيه، فأول ما يبذله دينه.
وقال المتلمّس:
وحبس المال أيسر من بغاه ... وضرب في البلاد بغير زاد
وإصلاح القليل يزيد فيه ... ولا يبقى الكثير مع الفساد(2/350)
سعد القصير قال: ولأني عتبة أمواله بالحجاز، فلما ودّعته قال لي: يا سعد، تعاهد صغير مالي فيكثر، ولا تضيّع كثيره فيصغر، فإنه ليس يشغلني كثير مالي عن إصلاح قليله، ولا يمنعني قليل ما في يدي عن الصبر على كثير ما ينوبني. قال: فقدمت المدينة، فحدّثت بها رجالات قريش ففرّقوا بها الكتب على الوكلاء.
الإقلال
قال أرسطاطاليس: الغنى في الغربة وطن والمقل في أهله غريب.
أخذه الشاعر فقال:
لعمرك ما الغريب بذي التّنائي ... ولكنّ المقلّ هو الغريب
إذا ما المرء أعوز ضاق ذرعا ... بحاجته وأبعده القريب
وقال إبراهيم الشيباني: رأيت في جدار من جدر بيت المقدس بيتين مكتوبين بالذهب:
فكلّ مقلّ حين يغدو لحاجة ... إلى كلّ من يلقى من الناس مذنب
وكان بنو عمي يقولون مرحبا ... فلما رأوني مقترا مات مرحب
ومن قولنا في هذا المعنى:
أعاذل قد المت ويك فلومي ... وما بلغ الإشراك ذنب عديم
لقد أسقطت حقّي عليك صبابتي ... كما أسقط الإفلاس حقّ غريم «1»
وأعذر ما أدمى الجفون من البكا ... كريم رأى الدّنيا بكفّ لئيم
أرى كلّ فدم قد تبجّح في الغنى ... وذو الطرف لا تلقاه غير عديم «2»
وقال الحسن بن هانيء:
الحمد لله ليس لي نشب ... فخفّ ظهري وملّني ولدي «3»(2/351)
من نظرت عينه إليّ فقد ... أحاط علما بما حوته يدي
وكان أبو الشّمقمق الشاعر أديبا طريفا محارفا «1» صعلوكا متبرّما، قد لزم بيته في أطمار مسحوقة، وكان إذا استفتح عليه أحد بابه خرج، فنظر من فرج الباب، فإن أعجبه الواقف فتح له، وإلّا سكت عنه، فأقبل إليه بعض إخوانه فدخل عليه، فلما رأى سوء حاله، قال له: أبشر أبا الشمقمق، فإنا روينا في بعض الحديث أن العارين في الدنيا هم الكاسون يوم القيامة. قال: إن كان والله ما تقول حقا لأكوننن بزّازا يوم القيامة، ثم أنشأ يقول.
أنا في حال تعالى لله ... ربي أيّ حال
ولقد أهزلت حتى ... محت الشمس خيالي
من رأى شيئا محالا ... فأنا عين المحال
ليس لي شيء إذ قي ... ل لمن ذا قلت ذا لي
ولقد أفلست حتى ... حلّ أكلي لعيالي
في حر امّ الناس طرّا ... من نساء ورجال
لو أرى في الناس حرّا ... لم أكن في ذا المثال
وقال أيضا:
أتراني أرى من الدهر يوما ... لي فيه مطيّة غير رجلي
كلما كنت في جميع فقالوا ... قرّبوا للرّحيل قرّبت نعلي
حيثما لا أخلّف رحلا ... من رآني فقد رآني ورحلي
وقال أيضا:
لو قد رأيت سريري كنت ترحمني ... الله يعلم مالي فيه تلبيس «2»
والله يعلم مالي فيه شابكة ... إلّا الحصيرة والأطمار والدّيس «3»(2/352)
وقال أيضا:
برزت من المنازل والقباب ... فلم يعسر على أحد حجابي
فمنزلي الفضاء وسقف بيتي ... سماء الله أو قطع السّحاب
فأنت إذا أردت دخلت بيتي ... عليّ مسلّما من غير باب
لأني لم أجد مصراع باب ... يكون من السّحاب إلى التّراب
ولا انشقّ الثرى عن عود تخت ... أؤمّل أن أشدّ به ثيابي
ولا خفت الإباق على عبيدي ... ولا خفت الهلاك على دوابي «1»
ولا حاسبت يوما قهرمانا ... محاسبة فأغلط في حسابي «2»
وفي ذا راحة وفراغ بال ... فدأب الدهر ذا أبدا ودابي
وفي كتاب للهند: ما التّبع والإخوان والأهل والأصدقاء والأعوان والحشم إلا مع المال، وما أرى المروءة يظهرها إلا المال، ولا الرأي والقوة إلا المال، ووجدت من لا مال له إذا أراد أن يتناول أمرا قعد به العدم، فيبقى مقصّرا عما أراد، كالماء الذي يبقى في الأودية من مطر الصيف، فلا يجري إلى بحر ولا نهر، بل يبقى مكانه حتى تنشفه الأرض؛ ووجدت من لا إخوان له لا أهل له. ومن لا ولد له لا ذكر له، ومن لا عقل له لا دنيا له ولا آخرة له، ومن لا مال له لا شيء له؛ لأن الرجل إذا افتقر رفضه إخوانه وقطعه ذو رحمه، وربما اضطرته الحاجة لنفسه وعياله إلى التماس الرزق بما يغرّر فيه بدينه ودنياه، فإذا هو قد خسر الدنيا والآخرة، فلا شيء أشدّ من الفقر، والشجرة النابتة على الطريق المأكولة من كل جانب أمثل حالا من الفقير المحتاج إلى ما في أيدي الناس. والفقر داع صاحبه إلى مقت الناس، ومتلف للعقل والمروءة، ومذهب للعلم والأدب، ومعدن للتهمة، ومجمع للبلايا؛ ووجدت الرجل إذا افتقر أساء به الظنّ من كان له مؤتمنا، وليس من خصلة هي للغنىّ مدح وزين إلا وهي للفقير ذمّ وشين؛ فإن كان شجاعا قيل أهوج، وإن كان جوادا قيل(2/353)
مفسد، وإن كان حليما قيل ضعيف، وإن كان وقورا قيل بليد، وإن كان صموتا قيل عييّ، وإن كان بليغا قيل مهذار «1» ؛ فالموت أهون من الفقر الذي يضطرّ صاحبه إلى المسألة، ولا سيما مسألة اللئام؛ فإنّ الكريم لو كلّف أن يدخل يده في فم تنّين ويخرج منه سمّا فيبتلعه، كان أخفّ عليه من مسألة البخيل اللئيم.
السؤال
قال النبي صلّى الله عليه وسلم: «لأن يأخذ أحدكم أحبله فيحتطب بها على ظهره أهون عليه من أن يأتي رجلا أعطاه الله من فضله فيسأله. أعطاه أو منعه» .
وقالوا: من فتح على نفسه بابا من السؤال، فتح الله عليه سبعين بابا من الفقر.
وقال أكثم بن صيفي: كل سؤال وإن قل أكثر من كل نوال وإن جلّ.
ورأى علي بن أبي طالب كرّم الله وجهه رجلا يسأل بعرفات فقنّعه بالسوط، وقال: ويلك! في مثل هذا اليوم تسأل أحدا غير الله.
وقال عبد الله بن عباس: المساكين لا يعودون مريضا، ولا يشهدون جنازة، ولا يحضرون جمعة، وإذا اجتمع الناس في أعيادهم ومساجدهم يسألون الله من فضله، اجتمعوا يسألون الناس ما في أيديهم.
وقال النعمان بن المنذر: من سأل فوق حقه استحق الحرمان، ومن ألحف في مسألته استحق المطل. والرفق يمن، والخرق شؤم، وخير السخاء ما وافق الحاجة، وخير العفو مع القدرة.
وقال شريح: من سأل حاجة فقد عرّض نفسه على الرق، فإن قضاها المسئول منه استعبده بها، وإن ردّه عنها رجع كلاهما ذليلا، هذا بذلّ البخل، وذاك بذلّ الردّ.(2/354)
وقال حبيب:
ذل السؤال شجى في الحلق معترض ... من دونه شرق من خلفه جرض «1»
ما ماء كفّك إن جادت وإن بخلت ... من ماء وجهي إن أفتيته عوض
الخشني قال: قال أبو غسّان: أخبرني أبو زيد قال: سأل سائل بمسجد الكوفة وقت الظهر فلم يعط شيئا، فقال: اللهم إنك بحاجتي عالم لا تعلّم، أنت الذي لا يعوزك نائل، ولا يحفيك سائل «2» ، ولا يبلغ مدحك قائل؛ أسألك صبرا جميلا، وفرجا قريبا، وبصرا بالهدى، وقوة فيما تحب وترضى. فتبادروا إليه يعطونه. فقال:
والله لا رزأتكم»
الليلة شيئا وقد رفعت حاجتي إلى الله. ثم خرج وهو يقول:
ما نال باذل وجهه بسؤاله ... عوضا ولو نال الغنى بسؤال
وإذا النّوال مع السؤال وزنته ... رجح السؤال وشال كلّ نوال «4»
وقال مسلم بن الوليد:
سل الناس إني سائل الله وحده ... وصائن عرضي عن فلان وعن فلا
وقال عبيد بن الأبرص:
من سأل الناس يحرموه ... وسائل الله لا يخيب
وقال ابن أبي حازم:
لطيّ يوم وليلتين ... ولبس ثوبين باليين «5»
أهون من منّة لقوم ... أغضّ منها جفون عيني
إني وإن كنت ذا عيال ... قليل مال كثير دين
لأحمد الله حين صارت ... حوائجي بينه وبيني
ومن قولنا في هذا المعنى:(2/355)
سؤال الناس مفتاح عتيد ... لباب الفقر فاتلف بالسؤال
وروي أشعب الطماع عن عبد الله بن عمر عن النبي صلّى الله عليه وسلم أنه قال: يحشر الله عز وجل يوم القيامة قوما عارية وجوههم قد أذهب حياءها كثرة السؤال.
سؤال السائل من السائل
مدح أبو الشمقمق مروان بن أبي حفصة. فقال له أبو الشمقمق: أنت شاعر وأنا شاعر، وغايتنا كلنا السؤال.
وذكر أعرابي رجلا بالسؤال، فقال: إنه أسأل من ذي عصوين.
وقال حبيب:
لم يخلق الرحمن أحمق لحية ... من سائل يرجو الغنى من سائل
الأصمعي عن عيسى بن عمر النحوي قال: قدمت من سفر فدخل عليّ ذو الرّمة الشاعر، فعرضت لأن أعطيه شيئا، فقال: كلا، أنا وأنت نأخذ ولا نعطي.
الشيب
قال قيس بن عاصم: الشيب خطام المنية «1» .
وقال غيره: الشيب نذير الموت.
وقال النميري: الشيب عنوان الكبر.
وقال المعتمر بن سليمان: الشيب موت الشّعر، وموت الشّعر علّة لموت البشر.
وقال أعرابي: كنت أنكر البيضاء فصرت أنكر السوداء، فيا خير مبدول ويا شرّ بدل.
وقيل للنبي صلّى الله عليه وسلم: عجل عليك الشيب يا رسول الله! قال: شيّبتني هود وأخواتها.(2/356)
وقيل لعبد الملك بن مروان: عجل عليك الشيب يا أمير المؤمنين! قال: شيّبتني ارتقاء المنابر وتوقّع الّلحن.
وقيل لرجل من الشعراء: عجل عليك الشيب. فقال: وكيف لا يعجل وأنا أعصر قلبي في عمل لا يرجى ثوابه، ولا يؤمن عقابه.
وقال حبيب الطائي:
غدا الشيب مختطا بفوديّ خطّة ... طريق الرّدى منها إلى النفس مهيع «1»
هو الزّور يجفى والمعاشر يجتوى ... وذو الإلف يقلى والجديد يرقّع «2»
له منظر في العين أبيض ناصع ... ولكنّه في القلب أسود أسفع «3»
وقال محمود الوراق:
بكيت لقرب الأجل ... وبعد فوات الأمل
ووافد شيب طرا ... بعقب شباب رحل
شباب كأن لم يكن ... وشيب كأن لم يزل
طواك بشير البقا ... وجاء بشير الأجل
وقال أيضا:
لا تطلبنّ أثرا بعين ... فالشّيب إحدى الميتتين
أبدى مقابح كلّ شين ... ومحا محاسن كلّ زين
فإذا رأيت الغانيا ... ت رأين منك غراب بين
ولربما نافسن في ... ك وكنّ طوعا لليدين
أيام عمّمك الشّبا ... ب وأنت سهل العارضين «4»(2/357)
حتى إذا نزل المشي ... ب وصرت بين عمامتين
سوداء حالكة وبي ... ضاء المناشر كالّلجين
مزج الصّدود وصا ... لهنّ فكنّ أمرا بين بين
وصبرن ما صبر السّوا ... د على مصانعة ودين
حتى إذا شمل المشي ... ب فحاز قطر الحاجبين
قفّين شرّ قفيّة ... وأخذن منك الأطيبين
فاقن الحياء وسلّ نف ... سك أو فناد الفرقدين «1»
ولئن أصابتك الخطو ... ب بكلّ مكروه وشين
فلقد أمنت بأن يصي ... بك ناظر أبدا بعين
وقال حبيب الطائي:
نظرت إليّ بعين من لم يعدل ... لمّا تمكّن حبّها من مقتلي
لمّا رأت وضح المشيب بلمّتي ... صدّت صدود مجانب متحمّل
فجعلت أطلب وصلها بتلطف ... والشيب يغمزها بألّا تفعلي
وقال آخر:
صدّت أمامة لمّا جئت زائرها ... عنّي بمطروفة إنسانها غرق «2»
وراعها الشيب في رأسي فقلت لها ... كذاك يصفرّ بعد الخضرة الورق
وقال محمد بن أمية:
رأين الغواني الشّيب لاح بعارضي ... فأعرضن عنّي بالخدود النّواضر
وكنّ إذا أبصرنني أو سمعن بي ... دنون فرقّعن الكوي بالمحاجر «3»
وقال العلوي:(2/358)
عيّرتني بشيب رأسي نوار ... يا بنة العمّ ليس في الشيب عار
إنما العار في الفرار من الزّح ... ف إذا قيل أين أين الفرار
ومن قولنا في الشيب:
بدا وضح الشيب على عذاري ... وهل ليل يكون بلا نهار
شريت سواد ذا ببياض هذا ... فبدّلت العمامة بالخمار
وألبسني النّهى ثوبا جديدا ... وجرّدني من الثّوب المعار
وما بعت الهوى بيعا بشرط ... ولا استثنيت فيه بالخيار
ومن قولنا فيه:
قالوا شبابك قد ولّى فقلت لهم ... هل من جديد على كرّ الجديدين
صل من هويت وإن أبدى معاتبة ... فأطيب العيش وصل بين إلفين
واقطع حبائل خدن لا تلائمه ... فربما ضاقت الدّنيا على اثنين
ومن قولنا فيه:
جار المشيب على رأسي فغيرّه ... لما رأى عندنا الحكام قد جاروا
كأنّما جنّ ليل في مفارقه ... فاعتاقه من بياض الصّبح إسفار «1»
ومن قولنا فيه:
سواد المرء تنفده الليالي ... وإن كانت تصير إلى نفاد
فأسوده يعود إلى بياض ... وأبيضه يعود إلى سواد
ومن قولنا أيضا:
أطلال لهوك قد أقوت مغانيها ... لم يبق من عهدها إلا أثافيها «2»
هذي المفارق قد قامت شواهدها ... على فنائك والدّنيا تزكّيها
الشّيب سفتجة فيها معنونة ... لم يبق للموت إلّا أن يسجّيها «3»(2/359)
ومن قولنا أيضا:
نجوم في المفارق ما تغور ... ولا يجري بها فلك يدور
كأنّ سواد لمّته ظلام ... أغار من المشيب عليه نور
ألا إنّ القتير وعيد صدق ... لنا لو كان يزجرنا القتير «1»
نذير الموت أرسله إلينا ... فكذّبنا بما جاء النّذير
وقلنا للنّفوس لعلّ عمرا ... يطول بنا وأطوله قصير
متى كذبت مواعدها وخانت ... فأوّلها وآخرها غرور
لقد كاد السّلو يميت شوقي ... ولكن قلّما فطم الكبير
كأني لم أرق بل لم يرقني ... شموس في الأكلّة أو بدور
ولم ألق المنى في ظلّ لهو ... بأقمار سحائبها السّتور
ولآخر:
والشيب تنغيص الصّبا ... فاقض اللبانة في الشباب «2»
وقال ابن عباس: الدنيا الصحة والشباب.
ولبعضهم:
في كلّ يوم أرى بيضاء قد طلعت ... كأنّما طلعت في ناظر البصر
لئن قصصتك بالمقراض عن نظري ... لما قصصتك عن همّي ولا فكري
ولابن المعتز:
جاء المشيب فما تعست به ... ومضى الشباب فما بكاي عليه
وقال أيضا:
ماذا تريدين من جهلي وقد غبرت ... سنوّ شبابي وهذا الشيب قد وخطا «3»(2/360)
أرقع الشعرة البيضاء ملتقطا ... فيصبح الشيب للسوداء ملتقطا
وسوف لا شك يعييني فأتركه ... فطالما أعمل المقراض والمشطا
الشباب والصحة
قال أبو عمرو بن العلاء: ما بكت العرب شيئا ما بكت على الشباب وما بلغت به ما يستحقّه.
وقل الأصمعي: أحسن أنماط الشعر المراثي والبكاء على الشباب:
وقيل لكثيّر عزة: مالك لا تقول الشعر؟ قال: ذهب الشباب فما أطرب، ومات عبد العزيز فما أرغب.
وقال عبد الله بن عباس: الدنيا العافية، والشباب الصحة.
وقال محمود الوراق:
أليس عجيبا بأن الفتى ... يصاب ببعض الذي في يديه
فمن بين باك له موجع ... وبين مغرّ مغذّ إليه «1»
ويسلبه الشيب شرخ الشباب ... فليس يعزّيه خلق عليه
وقال ابن أبي حازم:
ولّى الشّباب فخلّ الدمع ينهمل ... فقد الشباب بفقد الروح متصل
لا تكذبنّ فما الدنيا بأجمعها ... من الشباب بيوم واحد بدل
وقال جرير:
ولّى الشباب حميدة أيامه ... لو كان ذلك يشترى أو يرجع
وقال صريع الغواني:
واها لأيّام الصّبا وزمانه ... لو كان أسعف بالمقام قليلا
سل عيش دهر قد مضت أيامه ... هل يستطيع إلى الرجوع سبيلا(2/361)
وقال الحسن بن هانيء:
وأراني إذ ذاك في طاعة الجه ... ل وفوقي من الصّبا إمراء «1»
ترب عيش لريطي فضل ذيل ... ولرأسي ذؤابة فرعاء «2»
بقناع من الشباب جديد ... لم ترقّعه بالخضاب النساء
قبل أن يلبس المشيب عذاريّ ... وتبلى عمامتي السوداء
وقال أعرابي:
لله أيام الشباب وعصره ... لا يستعار جديده فيعار
ما كان أقصر ليله ونهاره ... وكذلك أيام السرور قصار
ومن قولنا في الشباب:
ولّى الشباب وكنت تسكن ظلّه ... فانظر لنفسك أيّ ظل تسكن
ونهى المشيب عن الصّبا لو أنه ... يدلي بحجته إلى من يلقن
ومن قولنا فيه:
قالوا شبابك قد مضت أيامه ... بالعيش قلت وقد مضت أيامي
لله أيّة نعمة كان الصبا ... لو أنها وصلت بطول دوام
حسر المشيب قناعه عن وجهه ... وصحا العواذل بعد طول ملام «3»
فكأنّ ذاك العيش ظلّ غمامة ... وكأنّ ذاك اللهو طيف منام
ومن قولنا فيه:
ولو شئت راهنت الصبابة والهوى ... وأجريت في اللذات من مئتين
وأسلبت من ثوب الشباب، وللصبا ... عليّ رداء معلّم الطرفين «4»
وقال آخر:(2/362)
إنّ شرخ الشباب والشّعر الأس ... ود ما لم يعاص كان جنونا «1»
وقال آخر:
قالت عهدتك مجنونا فقلت لها ... إن الشباب جنون برؤه الكبر
ومن قولنا في الشباب:
كنت إلف الصبا فودّعني ... وداع من بان غير منصرف
أيام لهوي كظلّ إسحلة ... وإذ شبابي كروضة أنف «2»
ومن قولنا في الشباب:
شبابي كيف صرت إلى نفاد ... وبدّلت البياض من السواد
وما أبقى الحوادث منك إلّا ... كما أبقت من القمر الدّادي «3»
فراقك عرّف الأحزان قلبي ... وفرّق بين جفني والرّقاد
فيا لنعيم عيش قد تولّى ... ويا لغليل حزن مستفاد
كأنّي منك لم أربع بربع ... ولم أرتد به أحلى مراد
سقى ذاك الثّرى وبل الثّريّا ... وغادى نبته صوب الغوادي «4»
فكم لي من غليل فيه خاف ... وكم لي من عويل فيه بادي
زمان كان فيه الرّشد غيّا ... وكان الغيّ فيه من الرّشاد
يقبّلني بدلّ من قبول ... ويسعدني بوصل من سعاد
وأجنبه فيعطيني قيادا ... ويجنبني فأعطيه قيادي
الخضاب
قال النبي صلّى الله عليه وسلم: «غيّروا هذا الشّيب. وجنبو السواد» .
وكان أبو بكر يخضب بالحناء والكتم «5» .(2/363)
وقال مالك بن أسماء بن خارجة لجاريته: قومي اخضبي رأسي ولحيتي. فقالت:
دعني، قد عييت مما أرقّعك. فقال مالك بن أسماء.
عيّرتني خلقا أبليت جدته ... وهل رأيت جديدا لم يعد خلقا
ودخل أبو الأسود الدؤلي على معاوية وقد خضب؛ فقال: لقد أصبحت يا أبا الأسود جميلا؛ فلو علّقت تميمة «1» . فأنشأ أبو الأسود يقول:
أفنى الشباب الذي فارقت بهجته ... مرّ الجديدين من آت ومنطلق
لم يبقيا لي من طول اختلافهما ... شيئا يخاف عليه لذعة الحدق
وذكر عن الأصمعي قال: بلغني عن بعض العرب فصاحة، فأتيته فوجدته يخضب، فقال: يا بن أخي، ما الذي أقصدك إليّ؟ قلت: الاستئناس بك والاستماع من حديثك. قال: يا بن أخي، قصدتني وأنا أخضب، والخضاب من مقدّمات الضعف، ولطالما فزّعت الوحوش، وقدت الجيوش، ورويت السيف، وقريت الضيف، وحميت الجار، وأبيت العار، وشربت الراح، وجالست الملاح، وعاديت القروم، وعلوت الخصوم؛ واليوم يا بن أخي الكبر وضعف البصر تركا من بعد الصّفو الكدر. وأنشأ يقول:
شيب نعلّله كيما نسرّ به ... كهيئة الثوب مطويّا على خرق
فكنت كالغصن يرتاح الفؤاد به ... فصرت عودا بلا ماء ولا ورق
صبرا على الدهر إن الدهر ذو غير ... وأهله منه بين الصفو والرّنق «2»
ودخل معاوية على ابن جعفر يعوده؛ فوجده مفيقا وعنده جارية في حجرها عود؛ فقال: ما هذا يا بن جعفر؟ فقال: هذه جارية أروّيها رقيق الشّعر فتزيده حسنا بحسن نغمتها. قال: فلتقل. فحركت عودها وغنت! وكان معاوية قد خضب.(2/364)
أليس عندك شرّ للتي جعلت ... ما ابيضّ من قادمات الرّيش كالحمم «1»
وجدّدت منك ما قد كان أخلقه ... ريب الزمان وصرف الدهر والقدم
فحرّك معاوية رجله؛ فقال له ابن جعفر: لم حرّكت رجلك يا أمير المؤمنين؟
قال: كل كريم طروب.
وقال محمود الوراق في الخضاب:
للضيف أن يقرى ويعرف حقّه ... والشيب ضيفك فاقره بخضاب
وافى بأكذب شاهد ولربّما ... وافى المشيب بشاهد كذّاب
فافسخ شهادته عليك بخضبه ... تنفي الظنون به عن المرتاب
فإذا دنا وقت المشيب فخلّه ... والشيب يذهب فيه كلّ ذهاب
وقال آخر:
وقائلة تقول: وقد رأتي ... أرفّع عارضيّ من القتير
عليك الخطر علّك أن تدنّى ... إلى بيض ترائبهن حور «2»
فقلت لها المشيب نذير عمري ... ولست مسوّدا وجه النذير
وقال غيره:
إنّ شيئا صلاحه بخضاب ... لعذاب موكّل بعذاب
فو حقّ الشباب لولا هوى البي ... ض وأن تشمئزّ نفس الكعاب «3»
لأرحت الخدين من وضر الخط ... ر واذنت بانقضاء الشباب»
وقال غيره:
بكرت تحسّن لي سواد خضابي ... لكأنّ يعيدني لشبابي «5»(2/365)
وإذا أديم الوجه أخلقه البلى ... لم ينتفع فيه بحسن خضاب
ماذا ترى يجدي عليك سواده ... وخلاف ما يرضيك تحت ثيابي
ما الشيب عندي والخضاب لواصف ... إلّا كشمس جلّلت بسحاب
تخفي قليلا ثم يقشعها الصّبا ... فيصير ما سترت به لذهاب
ومن قولنا في هذا المعنى:
أصمّم في الغواية أم أنابا ... وشيب الرأس قد أنضى الشّبابا «1»
إذا نصل الخضاب بكى عليه ... ويضحك كلما وصل الخضابا «2»
كأنّ حمامة بيضاء ظلّت ... تقاتل في مفارقه غرابا
فضيلة الشيب
قال النبي صلّى الله عليه وسلم: «من شاب شيبة في الإسلام كان له نورا يوم القيامة» .
وقال ابن أبي شيبة: نهى رسول الله صلّى الله عليه وسلم عن نتف الشيب وقال: «هو نور المؤمن» .
وقالوا: أول من رأى الشيب إبراهيم خليل الرحمن، فقال: يا ربّ، ما هذا؟ قال له: هذا الوقار. قال: ربّ زدني وقارا.
وقال أبو نواس:
يقولون في الشّيب الوقار لأهله ... وشيبي بحمد الله غير وقار
وقال غيره:
يقولون هل بعد الثّلاثين ملعب ... فقلت وهل قبل الثلاثين ملعب
لقد جلّ قدر الشّيب إن كان كلّما ... بدت شيبة يعرى من الّلهو مركب
أبو دلف والمأمون:
دخل أبو دلف على المأمون، وعنده جارية [له] ، وقد ترك الخضاب أبو دلف،(2/366)
فغمز المأمون الجارية، فقالت له: شبت أبا دلف، إنا لله وإنا إليه راجعون لا عليك! فسكت أبو دلف، فقال له المأمون: أجبها أبا دلف. فأطرق ساعة، ثم رفع رأسه.
فقال:
تهزّأت أن رأت شيبي فقلت لها ... لا تهزئي من يطل عمر به يشب
شيب الرّجال لهم زين ومكرمة ... وشيبكنّ لكنّ الويل فاكتئبي
فينا لكنّ وإن شيب بدا أرب ... وليس فيكنّ بعد الشّيب من أرب
وقال محمود الوراق:
وعائب عابني بشيب ... لم يعد لمّا ألمّ وقته «1»
فقلت للعائبي بشيبي ... يا عائب الشّيب لا بلغته
أنشدني أبو عبد الله الإسكندارني، معلم الإخوة:
ومما زاد في طول اكتئابي ... طلائع شيبتين ألمتا بي
فأمّا شيبة ففزعت منها ... إلى المقراض من حبّ التصابي
وأما شيبة فعفوت عنها ... لتشهد بالبراء من الخضاب!
وقال محمود بن مناذر:
لا سلام على الشّباب ولا حيّ ... االإله الشّباب من معهود
قد لبست الجديد من كلّ شيء ... فوجدت الشّباب شرّ جديد
صاحب ما يزال يدعو إلى العي ... ب وما من دعا له برشيد
ولنعم المنيب والوازع الشّي ... ب ونعم المفاد للمستفيد «2»
كبرة السنّ
قيل لأعرابي قد أخذته كبرة السن: كيف أصبحت؟ فقال: أصبحت تقيّدني(2/367)
الشعرة وأعثر بالبعرة؛ قد أقام الدهر صعري بعد أن أقمت صعره «1» .
وقال آخر: لقد كنت أنكر البيضاء، فصرت أنكر السوداء، فيا خير مبدول ويا شرّ بدل.
معاوية والمستوغر:
ودخل المستوغر بن ربيعة على معاوية بن أبي سفيان وهو ابن ثلاثمائة سنة؛ فقال:
كيف تجدك يا مستوغر؟ فقال: أجدني يا أمير المؤمنين قد لان مني ما كنت أحب أن يشتد، واشتد مني ما كنت أحب أن يلين، وابيض مني ما كنت أحب أن يسودّ، واسودّ مني ما كنت أحب أن يبيض، ثم أنشأ يقول:
سلني أنبّئك بآيات الكبر ... نوم العشاء وسعال بالسّحر
وقلّة النّوم إذا الليل اعتكر ... وقلة الطّعم إذا الزّاد حضر
وسرعة الطرف وتحميج النظر ... وتركك الحسناء في قبل الظهر «2»
والناس يبلون كما يبلى الشّجر
وقال أعرابي:
أشكو إليك وجعا بركبتي ... وهدجانا لم يكن في مشيتي «3»
كهدجان الرّأل خلف الهيقت «4»
وقال آخر:
وللكبير رثيات أربع ... الرّكبتان والنّسا والأخدع «5»
وقال جرير:(2/368)
تحنّ العظام الرّاجفات من البلى ... وليس لداء الركبتين طبيب
وقال أعرابي في امرأة:
يا بكر حوّاء من الأولاد ... وأقدم العالم في البلاد
عمرك ممدود إلى التّناد ... فحدّثينا بحديث عاد «1»
ومبتدا فرعون ذي الأوتاد ... وكيف جاء السيل بالأطواد
وقال آخر:
إذا عاش الفتى سبعين عاما ... فقد ذهب المسرّة والفتاء
كان في غطفان نصر بن دهمان؛ قاد غطفان وسادها حتى خرف وعمّر تسعين ومائة سنة، حتى اسود شعره ونبتت أضراسه وعاد شابا؛ فلا يعرف في العرب أعجوبة مثله.
وقال محمد بن مناذر في رجل من المعمّرين:
إنّ معاذ بن مسلم رجل ... قد ضجّ من طول عمره الأبد
قد شاب رأس الزمان واكتهل الده ... ر وأثواب عمره جدد
يا نسر لقمان كم تعيش وكم ... تسحب ذيل الحياة يا لبد «2»
قد أصبحت دار آدم خربت ... وأنت فيها كأنّك الوتد
تسأل غربانها إذا حجلت ... كيف يكون الصّداع والرمد
عبد الملك والشعبي:
ودخل الشعبي على عبد الملك بن مروان، فوجده قد كبا مهتما، فقال: ما بال أمير المؤمنين؟ قال: يا شعبي؛ ذكرت قول زهير:
كأنّي وقد جاوزت سبعين حجّة ... خلعت بها عني عذار لجامي
رمتني بنات الدهر من حيث لا أرى ... فكيف بمن يرمى وليس برام(2/369)
فلو أنني أرمى بنبل رأيتها ... ولكنّني أرمى بغير سهام
على الراحتين تارة وعلى العصا ... أنوء ثلاثا بعدهنّ قيامي
قال له الشعبي: ليس كذلك يا أمير المؤمنين، ولكن كما قال لبيد بن ربيعة، وقد بلغ سبعين سنة:
كأني وقد جاوزت سبعين حجّة ... خلعت بها عن منكبيّ ردائيا
فلما بلغ سبعا وسبعين سنة قال:
باتت تشكّي إليّ النفس مجهشة ... وقد حملتك سبعا بعد سبعينا
فإن تزادي ثلاثا تبلغي أملا ... وفي الثلاث وفاء للثمانينا
فلما بلغ مائة سنة قال:
ولقد سئمت من الحياة وطولها ... وسؤال هذا الخلق كيف لبيد
فلما بلغ مائة سنة وعشرا قال:
أليس في مائة قد عاشها رجل ... وفي تكامل عشر بعدها عمر
فلما بلغ ثلاثين ومائة وقد حضرته الوفاة قال:
تمنى ابنتاي أن يعيش أبوهما ... وهل أنا إلّا من ربيعة أو مضر
فقوما فقولا بالذي تعلمانه ... ولا تخمشا وجها ولا تحلقا شعر
وقولا هو المرء الذي لا صديقه ... أضاع ولا خان الخليل ولا غدر
إلى الحول ثم اسم السلام عليكما ... ومن يبك حولا كاملا فقد اعتذر
قال الشعبي: فلقد رأيت السرور في وجه عبد الملك طمعا أن يعيشها.
وقال لبيد أيضا:
أليس ورائي إن تراخت منيّتي ... لزوم العصا تحنى عليها الأصابع
أخبّر أخبار القرون التي مضت ... أدبّ كأنّي كلّما قمت راكع(2/370)
فأصبحت مثل السيف أخلق جفنه ... تقادم عهد القين والنّصل قاطع «1»
ويقال: مكتوب في الزبور: من بلغ السبعين اشتكى من غير علة.
وقال محمد بن حسان النبطي: لا تسأل نفسك العام ما أعطتك في العام الماضي.
وقال معاوية لما أسنّ: ما مرّ شيء كنت أستلذه وأنا شاب فأجده اليوم كما أجده، إلا اللبن والحديث الحسن.
عاش ضرار بن عمر حتى ولد له ثلاثة عشر ذكرا، فقال: من سرّه بنوه ساءته نفسه.
وقال ابن أبي فنن:
من عاش أخلقت الأيام جدّته ... وخانه ثقتاه السمع والبصر
قالت عهدتك مجنونا فقلت لها ... إنّ الشباب جنون برؤه الكبر
قال أبو عبيدة: قيل لشيخ: ما بقي منك؟ قال: يسبقني من أمامي، ويدركني من خلفي، وأذكر القديم، وأنسى الحديث، وأنعس في الملا، وأسهر في الخلا، وإذا قمت قربت الأرض مني، وإذا قعدت تباعدت عني.
وقال حميد بن ثور الهلالي:
أرى بصري قد رابني بعد صحّة ... وحسبك داء أن تصحّ وتسلما
وقال آخر:
كانت قناتي لا تلين لغامز ... فألانها الإصباح والإمساء «2»
ودعوت ربي بالسلامة جاهدا ... ليصحّني فإذا السلامة داء
وقال أبو العتاهية، ويروى للقطامي:
أسرع في نقص امريّ تمامه
وقالت الحكماء: ما زاد شيء إلا نقص، ولا قام إلا شخص.(2/371)
وقال بعض المحدثين:
ألست ترى أن الزمان طواني ... وبدّل عقلي كلّه وبراني «1»
تحيّفني عضوا فعضوا فلم يدع ... سوى اسمي صحيحا وحده ولساني «2»
ولو كانت الأسماء يدخلها البلى ... إذا بلي اسمي لامتداد زماني
وما لي لا أبلى لسبعين حجّة ... وسبع أتت من دونها سنتان
إذا عنّ لي شيء تخيّل دونه ... شبيه ضباب أو شبيه دخان
وقال الغزّال:
أصبحت والله محمودا على أمد ... من الحياة قصير غير ممتد
حتى بقيت بحمد الله في خلف ... كأنّني بينهم من وحشة وحدي
وما أفارق يوما من أفارقه ... إلّا حسبت فراقي آخر العهد
وقال آخر:
يا من لشيخ قد تخدّد لحمه ... أفنى ثلاث عمائم ألوانا «3»
سوداء حالكة وسحق مفوّف ... وأجدّ لونا بعد ذاك هجانا «4»
قصر الليالي خطوه فتدانى ... وحنين قائم صلبه فتحانى
صحب الزمان على اختلاف فنونه ... فأراه منه شدّة وليانا
والموت يأتي بعد ذلك كلّه ... وكأنّما يعني بذاك سوانا
وقال سفيان الثوري في مدح كبره:
إنّي وإن كان مسّني كبر ... على ما قد ترين من كبري
أعرف من قبل أن تفارقني ... موقع سهمي والسهم في الوتر
من صحب من ليس من نظرائه لخصال فيه
كان حارثة بن بدر الغداني فارس بني تميم، وكان شاعرا أديبا ظريفا، وكان(2/372)
يعاقر الشراب ويصحب زيادا، فقيل لزياد: إنك تصحب هذا الرجل وليس من شاكلتك. إنه يعاقر الشراب. فقال: كيف لا أصحبه ولم أسأله عن شيء قط إلا وجدت عنده منه علما، ولا مشى أمامي فاضطرني أن أناديه، ولا مشى خلفي فاضطرني أن التفت إليه، ولا راكبني فمسّت ركبتي ركبته. فلما هلك زياد قال فيه حارثة بن بدر:
أبا المغيرة والدّنيا مغرّرة ... وإنّ من غرّت الدنيا لمغرور
قد كان عندك للمعروف معرفة ... وكان عندك للتنكير تنكير
لو خلّد الخير والإسلام ذا قدم ... إذا لخلّدك الإسلام والخير «1»
وتمام هذه الأبيات قد وقعت في الكتاب الذي أفردناه للمراثي.
وكان زياد لا يداعب أحد في مجلسه ولا يضحك، فاختصم إليه بنو راسب وبنو الطفاوة في غلام أثبته هؤلاء وهؤلاء، فتحيّر زياد في الحكم، فقال له حارثة، بن بدر: عندي أكرم الله الأمير في هذا الغلام أمر، إن أذن لي الأمير تكلمت به فيه.
قال: وما عندك فيه؟ قال: أرى أن يلقى في دجلة، فإن رسب فهو لبني راسب، وإن طفا فهو لبني الطفاوة! فتبسم زياد وأخذ نعليه ودخل، ثم خرج فقال لحارثة: ما حملك على الدعابة في مجلسي؟ قال: طيبة حضرتني، أصلح الله الأمير خفت أن تفوتني، قال: لا تعد إلى مثلها.
ابن زياد وحارثة وأبو الأسود:
ولما ولي عبيد الله بن زياد بعد موت أبيه، اطّرح حارثة بن بدر وجفاه، فقال له حارثة: مالك لا تنزلني التي كان ينزلني أبوك؟ أتدّعي أنك أفضل منه أو أعقل؟
قال له: إنّ أبي كان برع في الفضل بروعا لا تضره صحبة مثلك. وأنا حدث أخشى أن تحرقني بنارك؛ فإن شئت فاترك الشراب وتكون أول داخل وآخر خارج.
قال: والله ما تركته لله فكيف أتركه لك؟ قال: فتخير بلدا أولّيكه. فاختار سرّق(2/373)
من أرض العراق، فولاه إياها. فكتب إليه أبو الأسود الدؤلي وكان صديقا له:
أحار بن بدر قد وليت ولاية ... فكن جرذا فيها تخون وتسرق
وباه تميما بالغنى، إنّ للغنى ... لسانا به المرء الهيوبة ينطق «1»
وما الناس إلّا اثنان إمّا مكذّب ... يقول بما يهوى وإمّا مصدّق
يقولون أقوالا ولا يحكمونها ... فإن قيل يوما حقّقوا لم يحقّقوا
فدع عنك ما قالوا ولا تكترث بهم ... فحظّك من مال العراقين سرّق
فوقّع في أسفل كتابه: لا بعد عليك الرشد.
ابن الوليد البجلي وابن بيض:
وكان ابن الوليد البجلي، وهو ابن أخت خالد بن عبد الله القسري، ولي أصبهان، وكان رجلا متسمّتا «2» متصلّحا، فقدم عليه حمزة بن بيض وبن عوف في صحبته، فقيل له: إن حمزة لا يصحب مثلك؛ لأنه صاحب كلاب ولهو. فبعث إليه ثلاثة آلاف درهم وأمره بالانصراف. فقال فيه:
يا بن الوليد المرتجى سيبه ... ومن يجلّي الحدث الحالكا
سبيل معروفك منّي على ... بال فما بالي على بالكا
حشو قميصى شاعر مفلق ... والجود أمسى حشو سربالكا
يلومك النّاس على صحبتي ... والمسك قد يستصحب الرّامكا «3»
إن كنت لا تصحب إلّا فتى ... مثلك لن تؤتى بأمثالكا
هبني امرء اجئت أريد الهدى ... فجد على جهلي بإسلامكا
قال له: صدقت! وقرّبه وحسنت عنده منزلته.
وكان عبد الرحمن بن الحكم الأمير قد عتب على ندمائه، فأمر نصرا الفتى(2/374)
بإسقاطهم من ديوان عطائه ولم يستبدل بهم؛ فلما كان بعد أيام استوحش لهم، فقال لنصر: قد استوحشنا لأصحابنا أولئك! فقال له نصر: قد نالهم من سخط الأمير ما فيه أدب لهم؛ فإن رأى أن يرسل فيهم أرسلت. قال: أرسل. فأقبل القوم وعليهم كآبة السخط، فأخذوا مجالسهم ولم ينشرحوا ولا خاضوا فيما كانوا يخوضون فيه، فقال الأمير لنصر: ما يمنع هؤلاء من الانشراح؟ قال: عليهم أبقى الله الأمير وجمة «1» السخط الذي نالهم، قال: قل لهم: قد عفونا فلينشرحوا. قال: فقام عبد الرحمن بن الشمر الشاعر المتنجم، فجثا بين يديه، ثم أنشده شعرا له أقذع فيه على بعض أصحابه إلا أنه ختمه ببيتين بديعين، وهما:
فيا رحمة الله في خلقه ... ومن جوده أبدا يسكب
لئن عفت صحبة أهل الذّنوب ... لقلّ من الناس من تصحب
وأحسن ما قيل في هذا المعنى قول النابغة:
ولست بمستبق أخا لا تلمّه ... على شعث أيّ الرّجال المهذّب؟ «2»
قولهم في القرآن
كتب المريسيّ إلى أبي يحيى منصور بن محمد: اكتب: القرآن خالق أو مخلوق؟
فكتب إليه: عافانا الله وإياك من كل فتنة، وجعلنا وإياك من أهل السنة، وممن لا يرغب بنفسه عن الجماعة، فإنه إن تفعل فأعظم بها منّة، وإن لا تفعل فهي الهلكة، ونحن نقول: إن الكلام في القرآن بدعة، يتكلف المجيب ما ليس عليه، ويتعاطى السائل ما ليس له، وما نعلم خالقا إلا الله، وما سوى الله فمخلوق؛ والقرآن كلام الله، فانته بنفسك إلى أسمائه التي سماه الله بها فتكون من المهتدين، ولا تسمّ القرآن باسم من عندك فتكون من الضالّين. جعلنا الله وإياك من الذين يخشون ربهم بالغيب وهم من الساعة مشفقون.(2/375)
تم الجزء الثاني من العقد الفريد ويليه الجزء الثالث(2/376)
الجزء الثالث
كتاب الجوهرة في الامثال
قال أبو عمر أحمد بن محمد بن عبد ربه:
قد مضى قولنا في العلم والأدب وما يتولّد منهما وينسب إليهما من الحكم النادرة، والفطن البارعة.
ونحن قائلون بعون الله وتوفيقه في الأمثال، التي هي وشي الكلام وجوهر اللفظ، وحلى المعاني، والتي تخيّرتها العرب، وقدّمتها العجم، ونطق بها كلّ زمان وعلى كل لسان. فهي أبقى من الشّعر، وأشرف من الخطابة، لم يسر شيء مسيرها، ولا عمّ عمومها، حتى قيل: أسير من مثل.
وقال الشاعر:
ما أنت إلا مثل سائر ... يعرفه الجاهل والخابر «1»
وقد ضرب الله عز وجل الأمثال في كتابه، وضربها رسول الله صلّى الله عليه وسلم في كلامه.
قال الله عزّ وجلّ: يا أَيُّهَا النَّاسُ ضُرِبَ مَثَلٌ فَاسْتَمِعُوا لَهُ
«2» وقال: وَضَرَبَ اللَّهُ مَثَلًا رَجُلَيْنِ
«3» . ومثل هذا كثير في آي القرآن.
فأول ما نبدأ به: أمثال رسول الله صلّى الله عليه وسلم، ثم أمثال العلماء، ثم أمثال أكثم بن صيفي(3/3)
وبزرجمهر الفارسي؛ وهي التي كان يستعملها جعفر بن يحيى في كلامه؛ ثم أمثال العرب التي رواها أبو عبيد، وما أشبهها من أمثال العامة: ثم الأمثال التي استعملها الشعراء في أشعارهم في الجاهلية والإسلام.
أمثال رسول الله صلّى الله عليه وسلم
قال النبي صلّى الله عليه وسلم: ضرب الله مثلا صراطا مستقيما، وعلى جنبي الصراط أبواب مفتحة، وعلى الأبواب ستور مرخيّة، وعلى رأس الصراط داع يقول: ادخلوا الصراط ولا تعوجّوا. فالصراط الإسلام، والسوران: حدود الله، والأبواب المفتحة: محارم الله، والداعي القرآن.
وقال صلّى الله عليه وسلم: مثل المؤمن كالخامة «1» من الزرع: يقلبها الريح مرة كذا ومرة كذا.
ومثل الكافر مثل الأرزة «2» المجذية على الأرض، يكون انجعافها بمرّة.
وسأله حذيفة: أبعد هذا الشر خير يا رسول الله؟ فقال: جماعة على أقذاء، وهدنة على دخن.
وقوله حين ذكر الدنيا وزينتها، فقال: إن ممّا ينبت الربيع ما يقتل حبطا أو يلّم «3» .
وقال لأبي سفيان: أنت أبا سفيان كما قالوا: كلّ الصيد في جوف الفرا «4» .
وقال حين ذكر الغلو في العبادة: إن المنبتّ لا أرضا قطع ولا ظهرا أبقى.
وقال صلّى الله عليه وسلم: إياكم وخضراء الدّمن. قالوا: وما خضراء الدمن؟ قال: المرأة الحسناء في المنبت السوء.(3/4)
وذكر الرّبا في آخر الزمان، وافتتان الناس به، فقال: من لم يأكله أصابه غباره.
وقال: الإيمان قيد الفتك.
وقال صلّى الله عليه وسلم: الولد للفراش وللعاهر الحجر.
وقال في فرس: وجدته بحرا.
وقال: إن من البيان لسحرا.
وقال: لا ترفع عصاك عن أهلك.
وقال صلّى الله عليه وسلم: لا يلدغ المؤمن من جحر»
مرتين.
وقال: الحرب خدعة.
وله صلّى الله عليه وسلم: أمثال كثيرة غير هذه، ولكنّا لم نذهب في كل باب إلى استقصائه، وإنما ذهبنا إلى أن نكتفي بالبعض، ونستدل بالقليل على الكثير، ليكون أسهل مأخذا للحفظ، وأبرأ «2» من الملالة والهرب. وتفسيرها:
أما المثل الأوّل، فقد فسّره النبي صلّى الله عليه وسلم.
وأما قوله: «المؤمن كالخامة والكافر كالأرزة، فإنه شبّه المؤمن في تصرف الأيام به وما يناله من بلائها، بالخامة من الزرع يقلبها الرّيح مرة كذا ومرة كذا- والخامة في قول أبي عبيد: القصبة الرطبة في الزرع؛ والأرزة: واحدة الأرز، وهو شجر له ثمر يقال له الصنوبر. والمجذبة: الثابتة، وفيها لغتان: جذا يجذو، وأجذى يجذى.
والانجعاف: الانقلاع، يقال جعفت الرجل، إذا قلعته وصرعته وضربت به الأرض.
وقوله لحذيفة: هدنة على دخن وجماعة على أقذاء «3» . أراد ما تنطوي عليه القلوب من الضغائن والأحقاد، فشبّه ذلك بإغضاء الجفون على الأقذاء. والدخن: مأخوذ من الدخان، جعلا مثله لما في الصدور من الغل.
وقوله: إنّ مما ينبت الربيع ما يقتل حبطا أو يلم. فالحبط- كما ذكر أبو عبيدة عن(3/5)
الأصمعي: أن تأكل الدابة حتى ينتفخ بطنها وتمرض منه، يقال: حبطت الدابة تحبط حبطا. وقوله: أو يلم. معناه: أو يقرب من ذلك. ومنه قوله: إذ ذكر أهل الجنة فقال: إن أحدهم إذا نظر إلى ما أعدّ الله له في الجنة فلولا أنه شيء قضاه الله له لألّم أن يذهب بصره، يعني لما يرى فيها. يقول: لقرب أن يذهب بصره.
وقوله لأبي سفيان: كل الصيد في جوف الفرا. فمعناه أنك في الرجال كالفرا في الصيد، وهو الحمار الوحشي، وقال له ذلك يتألّفه على الإسلام.
وقوله حين ذكر الغلو في العبادة: إن المنبتّ لا أرضا قطع ولا ظهرا أبقى. يقول:
إن المغذّ «1» في السير إذا أفرط الإغذاذ عطبت راحلته من قبل أن يبلغ حاجته أو يقضي سفره، فشبّه بذلك من أفرط في العبادة حتى يبقى حسيرا.
وقوله في الربا: من لم يأكله أصابه غباره. إنما هو مثل لما ينال الناس من حرمته، وليس هناك غبار.
وقوله: الإيمان قيّد الفتك. أي منع منه كأنه قيد له. وفي حديث آخر: لا يفتك مؤمن.
وقوله في فرس: وجدته بحرا. وإن من البيان لسحرا؛ إنما هو تمثيل لا على التحقيق.
وكذلك قوله: الولد للفراش وللعاهر الحجر. معناه أنه لا حق له في نسب الولد.
وقوله صلّى الله عليه وسلم: لا ترفع عصاك عن أهلك. إنما هو الأدب بالقول، ولم يرد ألا ترفع عنها العصا.
وقوله: لا يلدغ المؤمن من جحر مرتين. معناه أن لدغ مرة يحفظ من أخرى.
وقوله: الحرب خدعة. يريد أنها بالمكر والخديعة.(3/6)
أمثال روتها العلماء
ابن بشير على منبر الكوفة:
خطب النعمان بن بشير على منبر بالكوفة فقال: يأهل الكوفة، إني وجدت مثلي ومثلكم كالضّبع والثعلب أتيا الضبّ في جحره، فقالا: أبا حسل «1» . قال: أجبتكما قالا: جئناك نختصم. قال: في بيته يؤتى الحكم. قالت الضبع: فتحت عيبتي، قال:
فعل النساء فعلت. قالت: فلقطت تمرة. قال: حلوا جنيت. قالت: فاختطفها ثعالة.
قال: نفسه بغى ثعالة اسم الثعلب، الذكر والأنثى قالت: فلطمته لطمة. قال: حقا قضيت. قالت: فلطمني أخرى. قال: كان حرّا فانتصر. قالت: فاحكم الآن بيننا.
قال: حدّث امرأة حديثين فإن لم تفهم فأربعة.
ابن الزبير وأهل العراق:
وقال عبد الله بن الزبير لأهل العراق: وددت والله لو أن لي بكم من أهل الشام صرف الدينار بالدرهم. قال له رجل منهم: أتدري يا أمير المؤمنين ما مثلنا ومثلكم ومثل أهل الشام؟ قال: وما ذلك؟ قال: ما قاله أعشى بكر حيث يقول:
علّقتها «2» عرضا وعلقت رجلا غيري وعلّق أخرى غيرها الرجل.
أحببناك نحن، وأحببت أنت أهل الشام، وأحب أهل الشام عبد الملك بن مروان.
مثل في الرياء «3»
فخ الإسرائيلي والعصفورة:
يحيى بن عبد العزيز: قال: حدّثني نعيم عن إسماعيل عن رجل من ولد أبي بكر الصدّيق رضوان الله عليه، عن وهب بن منبه قال: نصب رجل من بني إسرائيل(3/7)
فخّا، فجاءت عصفورة فنزلت عليه، فقالت: ما لي أراك منحنيا؟ قال: لكثرة صلاتي انحنيت. قالت: فمالي أراك بادية «1» عظامك؟ قال: لكثرة صيامي بدت عظامي.
قالت: فمالي أرى هذا الصّوف عليك؟ قال: لزهادتي في الدنيا لبست الصوف.
قالت: فما هذه العصا عندك؟ قال: أتوكّأ عليها وأقضي بها حوائجي. قالت: فما هذه الحبّة في يدك؟ قال: قربان إن مرّ بي مسكين ناولته إياه. قالت: فإني مسكينة! قال:
فخذيها. فدنت فقبضت على الحبة، فإذا الفخ في عنقها. فجعلت تقول: قعي قعي.
تفسيره: لا غرّني ناسك مراء بعدك أبدا.
اسرائيلي وقبرة:
داود بن أبي هند عن الشّعبي: أن رجلا من بني إسرائيل صاد قبّرة، فقالت: ما تريد أن تصنع بي؟ قال: أذبحك فآكلك! قالت: والله ما أشفي من قرم «2» ولا أغني من جوع، ولكني أعلمك ثلاث خصال هي خير لك من أكلي: أما الواحدة فأعلمكها وأنا في يدك، والثانية إذا صرت على هذه الشجرة، والثالثة إذا صرت على الجبل.
فقال: هات الأولى، قالت: لا تتلهفن على ما فاتك. فخلّى عنها؛ فلما صارت فوق الشجرة قال: هات الثانية. قالت: لا تصدّقن بما لا يكون أنه يكون. ثم طارت فصارت على الجبل، فقالت: يا شقيّ! لو ذبحتني لأخرجت من حوصلتي درّة فيها زنة عشرين مثقالا. قال: فعضّ على شفتيه وتلهّف ثم قال: هات الثالثة. قالت له: أنت قد نسيت الاثنتين، فكيف أعلّمك الثالثة؟ ألم أقل لك لا تتلهفنّ على ما فاتك؟ فقد تلهفت عليّ إذ فتّك، وقلت لك. لا تصدقن بما لا يكون، أنه يكون! فصدقت! أنا وعظمي وريشي لا أزن عشرين مثقالا، فكيف يكون في حوصلتي ما يزنها؟
من أمثال الهند:
وفي كتاب للهند: مثل الدنيا وآفاتها ومخاوفها والموت والمعاد الذي إليه مصير الإنسان:(3/8)
قال الحكيم: وجدت مثل الدنيا والمغرور بالدنيا المملوءة آفات، مثل رجل ألجأه خوف إلى بئر تدلّى فيها وتعلق بغصنين نابتين على شفير البئر، ووقعت رجلاه على شيء فمدّهما. فنظر فإذا بحيّات أربع قد أطلعن رءوسهنّ من جحورهنّ، ونظر إلى أسفل البئر فإذا بثعبان فاغرفاه نحوه، فرفع بصره إلى الغصن الذي يتعلق به فإذا في أصله جرذان أبيض وأسود يقرضان الغصن دائبين لا يفتران؛ فبينما هو مغتم بنفسه وابتغاء الحيلة في نجاته، إذ نظر فإذا بجانب منه جحر نحل قد صنعن شيئا من عسل، فتطاعم منه فوجد حلاوته، فشغلته عن الفكر في أمره والتماس النجاة لنفسه، ولم يذكر أن رجليه فوق أربع حيات لا يدري من تساوره منهنّ، وأن الجرذين دائبان في قرض الغصن الذي يتعلق به، وأنهما إذا قطعاه وقع في لهوة «1» التنين. ولم يزل لاهيا غافلا حتى هلك.
قال الحكيم: فشبهت الدنيا المملوءة آفات وشرورا ومخاوف بالبئر؛ وشبهت الأخلاط التي بني جسد الإنسان عليها، من المرّتين والبلغم والدم بالحيات الأربع وشبهت الحياة بالغصنين اللذين تعلق بهما وشبهت الليل والنهار ودورانهما في إفناء الأيام والأجيال بالجرذين الأبيض والأسود اللذين يقرضان الغصن دائبين لا يفتران؛ وشبهت الموت الذي لا بد منه بالتنين الفاغر «2» فاه؛ وشبهت الذي يرى الإنسان ويسمع ويطعم ويلبس فيلهيه ذلك عن عاقبة أمره وما إليه مصيره بالعسيلة التي تطاعمها.
من ضرب به المثل من الناس
قالت العرب: أسخى من حاتم، وأشجع من ربيعة بن مكدّم، وأدهى من قيس ابن زهير. وأعزّ من كليب بن وائل. وأوفى من السّموأل. وأذكى من إياس بن معاوية. وأسود من قيس بن عاصم. وأمنع من الحارث بن ظالم. وأبلغ من سحبان ابن وائل. وأحلم من الأحف بن قيس وأصدق من أبي ذرّ الغفاريّ. وأكذب من(3/9)
مسيلمة الحنفي. وأعيا من باقل «1» . وأمضى من سليك «2» المقانب. وأنعم من خريم الناعم. وأحمق من هبنّقة. وأفتك من البرّاض «3» .
من يضرب به المثل من النساء
يقال: أشأم من البسوس. وأحمق من دغة. وأمنع من أمّ قرفة وأقود من ظلمة، وأبصر من زرقاء اليمامة.
البسوس: جارة جسّاس بن مرة بن ذهل بن شيبان، ولها كانت الناقة التي قتل من أجلها كليب بن وائل، وبها ثارت الحرب بين بكر بن وائل وتغلب، التي يقال لها حرب البسوس.
وأم قرفة: امرأة مالك بن حذيفة بن بدر الفزاري، وكان يعلّق في بيتها خمسون سيفا كل سيف منها لذي محرم لها.
ودغة: امرأة من عجل بن لجيم: تزوجت في بني العنبر بن عمرو بن تميم.
وزرقاء بني نمير: امرأة كانت باليمامة تبصر الشّعرة البيضاء في اللبن، وتنظر الراكب على مسيرة ثلاثة أيام، وكانت تنذر قومها الجيوش إذا غزتهم، فلا يأتيهم جيش إلا وقد استعدوا له، حتى احتال لها بعض من غزاهم، فأمر أصحابه فقطعوا شجرا أمسكوه أمامهم بأيديهم، ونظرت الزرقاء فقالت: إني أرى الشجر قد أقبل إليكم. قالوا لها: قد خرفت ورق عقلك وذهب بصرك. فكذبوها، وصبّحتهم الخيل وأغارت عليهم وقتلت الزرقاء. قال: فقوّروا عينيها فوجدوا عروق عينيها قد غرقت في الإثمد من كثرة ما كانت تكتحل به.
وظلمة: امرأة من هذيل زنت أربعين عاما، فلما عجزت عن الزنا والقود اتخذت(3/10)
تيسا وعنزا، فكانت تنزي «1» التيس على العنز، فقيل لها، لم تفعلين ذلك؟ قالت:
حتى أسمع أنفاس الجماع.
ما تمثلوا به من البهائم
قالوا: أشجع من أسد. وأجبن من الصّافر. وأمضى من ليث عفرّين «2» . وأحذر من غراب. وأبصر من عقاب. وأزهى من ذباب. وأذلّ من قراد بمنسم «3» . وأسمع من فرس. وأنوم من فهد. وأعمر من ضبّ. وأجبن من صفرد «4» . وأحقد من جمل. وأضرع من سنّور. وأسرق من زبابة. وأصبر من عود وأظلم من حيّة. وأحنّ من ناب «5» . وأكذب من فاختة. وأعزّ من بيض الأنوق. وأجوع من كلبة حومل «6» .
وأعزّ من الأبلق «7» العقوق «8» .
الصفار: ذو الصفير من الطير. العود: المسن من الجمال. الأنوق: طير يقال إنه يبيض في الهواء، والزّبابة: الفأرة تسرق دود الحرير، وفاختة: طير يطير بالرطب في غير أيامه.
ما يضرب به المثل من غير الحيوان
قالوا: أهدى من النّجم. وأجود من الدّيم. وأصبح من الصّبح. وأسمح من البحر. وأنور من النهار. وأسود من اللّيل. وأمضى من السّيل. وأحمق من رجلة «9» .
وأحسن من دمية. وأنزه من روضة. وأوسع من الدّهناء «10» . وآنس من جدول.(3/11)
وأضيق من قرار حافر. وأوحش من مفازة. وأثقل من جبل. وأبقى من الوحي «1» في صمّ الصّلاب. وأخفّ من ريش الحواصل.
ومما ضربوا به المثل
قولهم: قوس حاجب. وقرط مارية. وحجّام «2» ساباط. وشقائق النعمان. وندامة الكسعيّ. وحديث خرافة. وكنز النّطف. وخفّا حنين. وعطر منشم.
أما قوس حاجب. فقد فسرنا خبره في كتاب الوفود.
وأما قرط مارية فإنها مارية بنت ظالم بن وهب بن الحارث بن معاوية الكندي وأختها هند الهنود امرأة حجر آكل المرار. وابنها الحارث الأعرج الذي ذكره النابغة بقوله:
والحارث الأعرج خير الأنام
وإيّاها يعني حسان بن ثابت بقوله:
أولاد جفنة حول قبر أبيهم قبر ابن مارية الكريم المفضل وأما حجّام ساباط، فإنه كان يحجم الجيوش بنسيئة إلى انصرافهم، من شدة كساده؛ وكان فارسيّا. وساباط. هو ساباط كسرى.
ونسب شقائق النعمان إليه، لأن النعمان بن المنذر أمر بأن تحمى وتضرب قبته فيها استحسانا لها، فنسبت إليه، والعرب تسميها الشّقر.
وأما خرافة؛ فإنّ أنس بن مالك يروي عن النبي صلّى الله عليه وسلم أنه قال لعائشة رضي الله عنها: إنّ من أصدق الأحاديث حديث خرافة، وكان رجلا من بني عذرة سبته الجن، وكان معهم، فإذا استرقوا السمع أخبروه، فيخبر به أهل الأرض فيجدونه كما قال.(3/12)
وأما كنز النّطف، فهو رجل من بني يربوع كان فقيرا يحمل الماء على ظهره فينطف، أي يقطر؛ وكان أغار على مال بعث به باذان من اليمن إلى كسرى، فأعطى منه يوما حتى غربت الشمس، فضربت به العرب المثل في كثرة المال.
وأما خفّا «1» حنين، فإنه كان إسكافا من أهل الحيرة، ساومه أعرابيّ بخفين فاختلفا حتى أغضبه، فأراد أن يغيظ الأعرابيّ، فلما ارتحل أخذ أحد الخفين فألقاه في طريق الأعرابي، ثم ألقى الآخر بموضع آخر على طريقه. فلما مر الأعرابي، بالخف الأول، قال ما أشبه هذا بخف حنين! لو كان معه صاحبه لأخذته. فلما مرّ بالآخر ندم على ترك الأول فأناخ راحلته، وانصرف إلى الأول وقد كمن له حنين، فوثب على راحلته وذهب بها؛ وأقبل الأعرابيّ ليس معه غير خفى حنين. فذهبت مثلا.
وأما عطر منشم، فإنها كانت امرأة تبيع الحنوط «2» في الجاهلية، فقيل للقوم إذا تحاربوا: دقّوا عطر منشم. يراد بذلك طيب الموتى.
وأما ندامة الكسعي، فإنه رجل رمى فأصاب، فظن أنه أخطأ فكسر قوسه، فلما علم ندم على كسر قوسه. فضرب به المثل.
أمثال أكثم بن صيفي وبزرجمهر الفارسي
العقل بالتّجارب. الصاحب مناسب. الصديق من صدّق عينيه. الغريب من لم يكن له حبيب، ربّ بعد أقرب من قريب. القريب من قرب نفعه. لو تكاشفتم ما تدافنتم «3» . خير أهلك من كفاك. وخير سلاحك ما وقاك. خير إحوانك من لم تخبره. ربّ غريب ناصح الجيب «4» ؛ وابن أب متهم الغيب. أخوك من صدقك.
الأخ مرآة أخيه. إذا عزّ أخوك فهن. مكره أخوك لا بطل. تباعدوا في الديار(3/13)
وتقاربوا في المحبة. أيّ الرجال المهذّب. من لك بأخيك كلّه. إنك إن فرّجت لاق فرجا. أحسن يحسن إليك. ارحم ترحم. كما تدين تدان. من ير يوما ير به، والدهر لا يغترّ به. عين عرفت فذرفت. في كلّ خبرة عبرة. من مأمنه يؤتى الحذر.
لا يعدو المرء رزقه وإن حرص. إذا نزل القدر عمي البصر: وإذا نزل الحين نزل بين الأذن والعين. الخمر مفتاح كلّ شرّ. الغناء رقية الزّناء. القناعة مال لا ينفد.
خير الغنى غنى النفس. منساق إلى ما أنت لاق. خذ من العافية ما أعطيت، ليس الإنسان إلا القلب واللسان. إنما لك ما أمضيت. لا تتكلف ما كفيت. القلم أحد اللسانين. قلّة العيال أحد اليسارين. ربما ضاقت الدنيا باثنين. لن تعدم الحسناء ذامّا.
لم يعدم الغاوي لائما. لا تك في أهلك كالجنازة. لا تسخر من شيء فيحور بك.
أخّر الشرّ فإن شئت تعجّلته. صغير الشرّ يوشك أن يكبر. يبصر القلب ما يعمى عنه البصر. الحرّ حرّ وإن مسّه الضرّ «1» . العبد عبد وإن ساعده جد. من عرف قدره استبان أمره. من سرّه بنوه ساءته نفسه. من تعظّم على الزمان أهانه. من تعرّض للسلطان أذراه ومن تطامن «2» له تخطّاه. من خطا يخطو. كلّ مبذول مملول. كلّ ممنوع مرغوب فيه. كل عزيز تحت القدرة ذليل. لكلّ مقام مقال. لكلّ زمان رجال. لكل أجل كتاب. لكل عمل ثواب. لكل نبإ مستقر. لكل سرّ مستودع.
قيمة كلّ إنسان ما يحسن. اطلب لكل غلق مفتاحا. أكثر في الباطل يكن حقا.
عند القنط»
يأتي الفرج. عند الصباح يحمد السّرى. الصدق منجاة والكذب مهواة. الاعتراف يهدم الاقتراف. ربّ قول أنفذ من صول. ربّ ساعة ليس بها طاعة. ربّ عجلة تعقب ريثا. بعض الكلام أقطع من الحسام. بعض الجهل أبلغ من الحلم. ربيع القلب ما اشتهى. الهوى شديد العمى. الهوى الإله المعبود. الرأي نائم والهوى يقظان، غلب عليك من دعا إليك. لا راحة لحسود، ولا وفاء لملول. لا سرور كطيب النفس. العمر أقصر من أن يحتمل الهجر. أحق الناس بالعفو أقدرهم(3/14)
على العقوبة. خير العلم ما نفع. خير القول ما اتّبع. البطنة «1» تذهب الفطنة. شرّ العمى عمى القلب. أوثق العرى كلمة التقوى. النساء حبائل الشيطان. الشباب شعبة من الجنون، الشقيّ من شقي في بطن أمّه. السعيد من وعظ بغيره. لكل امرىء في بدنه شغل. من يعرف البلاء يصبر عليه. المقادير تريك ما لا يخطر ببالك. أفضل الزّاد ما تزوّد للمعاد. الفحل أحمى للشول «2» . صاحب الحظوة غدا من بلغ المدى.
عواقب الصبر محمودة. لا تبلغ الغايات بالأماني. الصريمة على قدر العزيمة. الضعيف يثني أو يذمّ. من تفكر اعتبر. كم شاهد لك لا ينطق، ليس منك من غشّك. ما نظر لآمرىء مثل نفسه. ما سدّ فقرك إلا ملك يمينك. ما على عاقل ضيعة. الغنى في الغربة وطن. والمقلّ في أهله غريب. أول المعرفة الاختبار. يدك منك وإن كانت شلّاء. أنفك منك وإن كان أجدع. من عرف بالكذب لم يحز صدقه، ومن عرف بالصدق جاز كذبه. الصحة داعية السّقم. الشباب داعية الهرم. كثرة الصياح من الفشل. إذا قدمت المصيبة تركت التعزية. إذا قدم الإخاء سمج الثناء. العادة أملك من الأدب. الرفق يمن والخرق شؤم. المرأة ريحانة وليست بقهرمانة «3» . الدّالّ على الخير كفاعله. المحاجزة قبل المناجزة. قبل الرماية تملأ الكنائن. لكل ساقطة لاقطة.
مقتل الرجل بين فكّيه. ترك الحركة غفلة. الصّمت حبسة. من خير خبر أن يسمع بمطر. كفى بالمرء خيانة أن يكون أمينا للخونة. قيّدوا النّعم بالشكر. من يزرع المعروف يحصد الشكر. لا تغترّ بمودّة الأمير إذا غشّك الوزير. أعظم من المصيبة سوء الخلف منها. من أراد البقاء فليوطّن نفسه على المصائب. لقاء الأحبّة مسلاة للهم. قطيعة الجاهل كصلة العاقل. من رضي على نفسه كثر الساخط عليه. قتلت أرض جاهلها، وقتل أرضا عارفها. أدوأ الداء الخلق الدّنيّ واللسان البذيّ. إذا جعلك السلطان أخا فاجعله ربّا. احذر الأمين ولا تأمن الخائن. عند الغاية يعرف السبق. عند الرّهان يحمد المضمار. السؤال وإن قلّ أكثر من النوال وإن جل. كافىء المعروف(3/15)
بمثله أو انشره. لا خلة «1» مع عيلة «2» . لا مروءة مع ضر. ولا صبر مع شكوى. ليس من العدل سرعة العذل. عبد غيرك حر مثلك. لا يعدم الخيار من استشار. الوضيع من وضع نفسه. المهين من نزل وحده. من أكثر أهجر «3» . كفى بالمرء كذبا أن يحدّث بكل ما سمع. كل إناء ينضح بما فيه. العادة طبع ثان.
ومن أمثال العرب
مما روى أبو عبيد
جرّدناها من الآداب التي أدخل فيها أبو عبيد إذ كنا قد أفردنا للأدب والمواعظ كتبا غير هذا، وضممنا إلى أمثلة العرب القديمة ما جرى على ألسنة العامة من الأمثال المستعملة، وفسرنا من ذلك ما احتاج إلى التفسير. فمن ذلك قولهم:
في حفظ اللسان
لعمر بن عبد العزيز: التقيّ ملجم.
لأبي بكر الصدّيق: إن البلاء موكّل بالمنطق.
لابن مسعود: ما شيء أولى بطول سجن من لسان.
لأنس بن مالك: لا يكون المؤمن مؤمنا حتى يحترز من لسانه ولسان غيره. احذر لسانك لا يضرب عنقك. جرح اللسان جرح اليد. رب كلام أقطع من حسام.
القول ينفذ ما لا تنفذ الإبر.
قال الشاعر:
وقد يرجى لجرح السيف برء «4» ... ولا برء لما جرح اللسان
اجتلبنا هذا البيت لأنه قد صار مثلا سائرا للعامة. وجعلنا لأمثال الشعراء في آخر كتابنا هذا بابا.(3/16)
وقال أكثم بن صيفي: مقتل الرجل بين فكّيه.
وقال: ربما أعلم فأذر. يريد أنه يدع ذكر الشيء وهو به عالم؛ لما يحذر من عاقبته.
إكثار الكلام وما يتقى منه
قالوا: من ضاق صدره اتّسع لسانه. من أكثر أهجر- أي خرج إلى الهجر، وهو القبيح من القول.
وقالوا: المكثار كحاطب ليل، وحاطب الليل ربما نهشته الحية أو لسعته العقرب في احتطابه ليلا.
وقالو: أوّل العييّ الاختلاط، «1» وأسوأ القول الإفراط.
في الصمت
قالوا: الصّمت حكم «2» وقليل فاعله.
وقالوا: عيّ صامت خير من عيّ ناطق، والصمت يكسب أهله المحبّة.
وقالوا: استكثر من الهيبة الصّموت؛ والندم على السّكوت خير من الندم على الكلام.
وقالوا: السّكوت سلامة.
القصد في المدح
منه قولهم: من حفّنا «3» أو رفّنا «4» فليقتصد. يقولون: من مدحنا فلا يغلون في ذلك.
وقولهم: لا تهرف بما لا تعرف والهرف: الإطناب في المدح والثناء.
ومنه قولهم: شاكه أبا يسار من دون ذا ينفق الحمار.
أخبرنا أبو محمد الأعرابي عن رجل من بني عامر بن صعصعة قال: لقي أبو يسار رجلا بالمربد يبيع حمارا ورجل يساومه؛ فجعل أبو يسار يطرى الحمار؛ فقال المشتري:(3/17)
أعرفت الحمار؟ قال: نعم. قال: كيف سيره؟ قال: يصطاد به النّعام معقولا. قال له البائع: شاكه أبا يسار، من دون ذا ينفق الحمار. والمشاكهة: المقاربة والقصد.
صدق الحديث
منه قولهم: من صدق الله نجا.
ومنه قولهم: سبّني واصدق.
وقالوا: الكذب داء والصّدق شفاء.
وقولهم: لا يكذب الرائد أهله معناه أن الذي يرتاد لأهله منزلا لا يكذبهم فيه.
وقولهم: صدقني سنّ بكره. أصله أنّ رجلا ابتاع من رجل بعيرا، فسأله عن سنّه.
فقال له: إنه بازل «1» . فقال له: أنخه. فلما أناخه قال: هدع هدع. وهذه لفظة تسكّن بها الصغار من الإبل. فلما سمع المشتري هذه الكلمة قال: صدقني سنّ بكره.
ومنه قولهم: القول ما قالت حذام. وهي امرأة لجيم بن صعب، والد حنيفة وعجل، ابني لجيم، وفيها قال:
إذا قالت حذام فصدّقوها ... فإنّ القول ما قالت حذام
من أصاب مرة وأخطأ مرة
منه قولهم: شخب في الإناء. وشخب «2» في الأرض. شبّه بالحالب الجاهل الذي يحلب شخبا في الإناء وشخبا في الأرض.
وقولهم: يشج «3» مرة ويأسو «4» أخرى.
وقولهم: سهم لك وسهم عليك.(3/18)
وقولهم: اطرقي وميشي. والميش أن يخلط الشعر بالصوف. والمطراقة: العود الذي يضرب به بين ما خلط.
سوء المسألة وسوء الاجابة
قالوا: أساء سمعا فأساء جابة. هكذا تحكى هذه الكلمة، «جابة» بغير ألف، وذلك أنه اسم موضوع يقال: أجابني فلان جابة حسنة، فإذا أرادوا المصدر قالوا:
إجابة، بالألف.
وقالوا: حدّث امرأة حديثين فإن لم تفهم فأربعة. كذا في الأصل؛ والذي أحفظ:
فاربع، أي أمسك.
وقولهم: إليك يساق الحديث.
من صمت ثم نطق بالفهاهة
قالوا: سكت ألفا ونطق خلفا. الخلف من كل شيء: الرديء.
المعروف بالكذب يصدق مرة
قولهم: من الخواطيء سهم صائب. وربّ رمية من غير رام.
وقولهم: قد يصدق الكذوب.
المعروف بالصدق يكذب مرة
قالوا: لكلّ جواد كبوة، «1» ولكلّ صارم نبوة «2» ، ولكلّ عالم هفوة «3» ، وقد يعثر الجواد، ومن لك بأخيك كلّه، وأيّ الرجال المهذب.(3/19)
كتمان السر
قالوا: صدرك أوسع لسرّك.
وقالوا: لا تفش سرّك إلى أمة، ولا تبل على أكمة. يقول لا نفش سرك إلى امرأة فتبديه، ولا تبل على مكان مرتفع فتبدو عورتك.
ويقولون إذا أسروا إلى الرجل: اجعل هذا في وعاء غير سرب «1» .
وقولهم سرّك من دمك.
وقيل لأعرابي: كيف كتمانك السر؟ فقال: ما صدري إلا قبر.
انكشاف الأمر بعد اكتتامه
قولهم: حصحص «2» الحقّ.
وقولهم: أبدى الصريح عن الرّغوة. وفي الرغوة ثلاث لغات: فتح الراء، وضمها، وكسرها.
وقولهم: صرح «3» المحض «4» عن الزّبد.
وقالوا: أفرخ القوم بيضتهم. أي أخرجوا فرختها، يريدون أظهروا سرهم.
وقولهم: برح «5» الخفاء وكشف الغطاء.
إبداء السر
قالوا: أفضيت إليك بشقوري. أي أخبرتك بأمري، وأطلعتك على سري.
وقولهم: أخبرتك بعجري وبجري. أي أطلعتك على معايبي، والعجر: العروق المتعقدة، وأما البجر فهي في البطن خاصة.
وتقول العامة: لو كان في جسدي برص ما كتمته.(3/20)
الحديث يتذكر به غيره
قالوا: الحديث ذو شجون: وهذا المثل لضبّة بن أدّ وكان له ابنان: سعد وسعيد، فخرجا في طلب إبل لهما، فرجع سعد ولم يرجع سعيد، فكان ضبه كلما رأى رجلا مقبلا قال: أسعد أم سعيد، فذهبت مثلا. ثم إن ضبة بينما هو يسير يوما ومعه الحارث بن كعب في الشهر الحرام إذ أتى على مكان، فقال له الحارث: أترى هذا الموضع! فإني لقيت فتى هيئته كذا وكذا، فقتلته وأخذت منه هذا السيف. فإذا بصفة سعيد، فقال له ضبة: أرني السيف أنظر إليه. فناوله إياه فعرفه فقال له: إن الحديث ذو شجون. ثم ضربه به حتى قتله. فلامه الناس في ذلك، وقالوا: أقتلت في الشهر الحرام؟ قال: سبق السيف العذل. فذهبت مثلا.
ومنه: ذكّرتني الطّعن وكنت ناسيا. وأصل هذا أن رجلا حمل ليقتل رجلا، وكان بيد المحمول عليه رمح، فأنساه الدهش والجزع ما في يده، فقال له الحامل:
ألق الرمح. قال الآخر: فإن رمحي لمعي، ذكّرتني الطعن وكنت ناسيا. ثم كز «1» على صاحبه فهزمه أو قتله. ويقال: إن الحامل: صخر بن معاوية السلمي أخو الخنساء والمحمول عليه: يزيد بن الصّعق.
العذر يكون للرجل ولا يمكن أن يبديه
منه قولهم: ربّ سامع خبري لم يسمع عذري. وربّ ملوم لا ذنب له. ولعلّ له عذرا وأنت تلوم.
وقولهم: المرء أعلم بشأنه.
الاعتذار في غير موضعه
منه قولهم: ترك الذنب أيسر من التماس العذر، وترك الذنب أيسر من طلب التوبة.(3/21)
التعريض بالكناية
ومنه قولهم: أعن صبوح «1» ترقق «2» .
ومنه قولهم: إياك أعني واسمعي يا جارة.
المنّ بالمعروف
قالوا: شوا أخوك حتى إذا أنضج رمّد.
وقولهم: فضل القول على الفعل دناءة، وفضل الفعل على القول مكرمة.
الحمد قبل الاختبار
لا تحمدن أمة عام اشترائها ولا حرّة عام بنائها «3» .
وقولهم: لا تهرف قبل أن تعرف. يقول: لا تمدح قبل أن تختبر.
وقولهم: أول المعرفة الاختبار.
إنجاز الوعد
قالوا: أنجز حرّ ما وعد.
وقولهم: العدة عطيّة.
وقولهم: من أخّر حاجة فقد ضمنها.
وقالوا: وعد الحرّ فعل، ووعد اللّئيم تسويف.
وقالت العامة: الوعد من العهد.
التحفظ من المقالة القبيحة وإن كانت باطلا
حسبك من شرّ سماعه. وما اعتذارك من شيء قيل.(3/22)
بالخير
منه قولهم للقادم من سفره: خير ما ردّ في أهل ومال؛ أي جعلك الله كذلك.
وقولهم: بلغ الله بك أكلأ العمر. أي أقصاه.
وقولهم: نعم عوفك. أي نعم بالك.
وقولهم في النكاح: على بدء الخير واليمن.
وقولهم: بالرّفاء والبنين. يريد بالرفاء: الكثرة، يقال منه: رفأته، إذا دعوت له بالكثرة.
وقولهم: هنّئت ولا تنكه. أي أصابك خير ولا أصابك ضر.
وقولهم: هوت «1» أمّه، وهبلته «2» أمّه. يدعون عليه وهم يريدون الحمد له.
ونحوه قاتله الله، وأخزاه الله، إذا أحسن. ومنه قول امرىء القيس:
ماله لا عدّ من نفره
تعيير الإنسان صاحبه بعيبه
قالوا: رمتني بدائها وانسلّت.
وقولهم: عيّر بجير بجره، «3» نسي بجير خبره.
وقولهم: محترس من مثله وهو حارس.
وقولهم: تبصر القذى في عين أخيك ولا تبصر الجذع في عينك.
الدعاء على الإنسان
منه قولهم: فاها لفيك. يريد: الأرض لفيك.
وقولهم: بفيك الحجر، وبفيك الأثلب «4» .
وقولهم: لليدين وللفم.(3/23)
ولما أتي علي بن أبي طالب رضي الله عنه بسكران في رمضان، وقال له: لليدين وللفم؛ أو لداننا صيام وأنت مفطر. وضربه مائة سوط.
ومنه قولهم: لجنبه فليكن الوجه. يريد الصرعة.
ومنه قولهم: من كلا جانبيك لا لبّيك، أي لا كانت لك تلبية ولا سلامة من كلا جانبيك. والتلبية: الإقامة بالمكان.
وقولهم: بك لا بظبي. وقال الفرزدق:
أقول له لمّا أتاني نعيه ... به لا بظبي بالصّريمة أعفرا»
ومنه قولهم: جدع الله مسامعه.
وقولهم: عقرا حلقا، يريد عقره الله وحلقه.
ومنه قولهم: لا لعا «2» له: أي لا أقامه الله.
قال الأخطل:
ولا لعا لبني ذكوان إذ عثروا
ولحبيب:
صفراء صفرة صحّة قد ركّبت ... جثمانه في ثوب سقم أصفر
قتلته سرّا ثمّ قالت جهرة ... قول الفرزدق لا بظبي أعفر
رمى الرجل غيره بالمعضلات
منه قولهم: رماه بأقحاف «3» رأسه، ورماه بثالثة الأثافي، يريد قطعة من الجبل يجعل إلى جنبها أثفيّتان وتكون هي الثالثة.
ومنه: يا للعضيهة «4» والأفيكة «5» ، إذا رماه بالبهتان.
وقولهم: كأنما أفرغ عليه ذنوبا «6» ، إذا كلمه كلمة يسكته بها.(3/24)
المكر والخلابة
منه قولهم: فتل في ذروته، أي خادعه حتى أزاله عن رأيه.
قال أبو عبيد: ويروى عن الزبير حين سأل عائشة الخروج إلى البصرة فأبت عليه:
فما زال يفتل في الذّروة والغارب حتى أجابته.
وقولهم: ضرب «1» أخماسا لأسداس، يريدون المناكرة.
وقال آخر:
إذا أراد امرؤ مكرا جنى عللا ... وظلّ يضرب أخماسا لأسداس
ومنه قولهم: الذّئب يأدو للغزال، أي يختله ليوقعه.
اللهو والباطل
منه قولهم: جاء فلان بالتّره «2» . وجري فلان السّمّه «3» ، وهما من أسماء الباطل.
وقال صلّى الله عليه وسلم: ما أنا من دد ولا دد منّي، وفيه ثلاث لغات: دد، وددا: مثل قفا.
وددن: مثل حزن.
خلف الوعد
منه قولهم: ما وعده إلا برق خلّب، وهو الذي لا مطر معه.
ومنه ما وعده إلا وعد عرقوب. وهو رجل من العماليق أتاه أخوه يسأله فقال:
إذا أطلعت هذه النخلة فلك طلعها، فأتاه للعدة، فقال: دعها حتى تصير بلحا. فلما أبلحت قال: دعها حتى تصير رطبا. فلما أرطبت قال: دعها حتى تصير تمرا. فلما أتمرت عمد إليها عرقوب فجزها ولم يعط أخاه شيئا، فصارت مثلا سائرا في الخلف.
قال الأعشى:(3/25)
وعدت وكان الخلف منك سجيّة ... مواعيد عرقوب أخاه بيثرب
اليمين الغموس
منه قولهم: جذّها جذّ العير الصّليانة «1» . وذلك أن العير ربما اقتلع الصّليانة إذا ارتعاها.
ومنه الحديث المرفوع: اليمين الغموس تدع الدّيار بلاقع. قال أبو عبيد: اليمين الغموس هي المصبورة «2» التي يوقف عليها الرجل فيحلف بها؛ وسميت غموسا لغمسها حالفها في المأثم.
ومنه قولهم: اليمين حنث أو مندمة.
وقال النبي صلّى الله عليه وسلم: من كان حالفا فليحلف بالله.
أمثال الرجال واختلاف نعوتهم
في الرجل المبرّز في الفضل
قولهم: ما يشقّ غباره، وأصله السابق من الخيل.
وقولهم: جري المذكي حسرت «3» عنه الحمر، أي كما يسبق الفرس القارح الحمر.
وقولهم: جري المذكّيات غلاء «4» أو غلاب «5» .
وقولهم: ليست له همّة دون الغاية القصوى.
الرجل النبيه الذكر
قولهم: ما يحجر فلان في العكم: الجوالق، يريد أنه لا يخفي مكانه.
وقولهم: ما يوم حليمة بسر وكانت فيه وقعة مشهورة قتل فيها المنذر بن ماء السماء، فضربت مثلا لكل أمر مشهور.(3/26)
وقولهم: أشهر من أبلق «1» .
وقولهم: وهل يخفى على الناس النهار.
ومثله: وهل يخفى على الناظر الصبح.
وقولهم: وهل يجهل فلانا إلا من يجهل القمر.
الرجل العزيز يعز به الدليل
منه قولهم: إنّ البغاث بأرضنا تستنسر. البغاث؛ صغار الطير، تستنسر: تصير نسورا.
وقولهم: لا حر بوادي عوف. يريدون عوف بن محلّم الشيباني، وكان منيعا.
وقولهم: تمرّد مارد وعزّ الأبلق. مارد: حصن بدومة الجندل، والأبلق: حصن السموأل.
وقولهم: من عزّ بزّ «2» ، ومن قلّ ذلّ. ومن أمر فلّ «3» . أمر: كثر.
الرجل الصعب
منه قولهم: فلان ألوى بعيد المستمرّ.
وقولهم: ما بللت منه بأفوق ناصل. وأصله السهم المكسور الفوق الساقط النصل، يقول: فهذا ليس كذلك.
وقولهم: ما يقعقع «4» لي بالشنان «5» .
وقولهم: ما يصطلى بناره.
وقولهم: ما تقرن به الصّعبة «6» .(3/27)
النجد يلقى قرنه
منه قولهم:
إن كنت ريحا فقد لاقيت إعصارا
والحديد بالحديد يفلح. والفلح: الشق. ولا يفل الحديد إلا الحديد. والنّبع يقرع بعضه بعضا. ورمي فلان بحجره، أي قرن بمثله.
الأريب الداهي
هو هتر «1» أهتار، وصلّ أصلال. أصله من الحيات، شبه الرجل بها.
ومثله: حية ذكر، وحية واد.
وقولهم: هو عضلة «2» من العضل. وهو باقعة «3» من البواقع. وحوّل قلّب. ومؤدم مبشر. يقول: فيه لين الأدمة، وخشونة البشرة.
وفلان يعلم من حيث تؤكل الكتف.
التنبيه بلا منظر ولا سابقة
قال أبو عبيد: هو الذي تسميه العرب الخارجيّ، يريدون: خرج من غير أولية كانت له، قال الشاعر:
ألا يامرو لست بخارجيّ ... وليس قديم مجدك بانتحال
وقولهم: تسمع بالمعيدي خير من أن تراه. وهو تصغير رجل منسوب إلى معد.
وقالوا:
نفس عصام سوّدت عصاما(3/28)
الرجل العالم النحرير
قالوا: إنه لنقّاب. وهو الفطن الذكيّ.
وقالوا: إنه لعض. وهو العالم النّحرير.
وقولهم: أنا جذيلها المحكك، وعذيقها المرجّب.
قال الأصمعي: الجذيل: تصغير الجذل، وهو عود ينصب للإبل الجرباء، لتحتك به من الجرب، فأراد أن يشفى برأيه. والعذيق: تصغير عذق، والعذق- بالفتح- النخلة نفسها، فإذا مالت النخلة الكريمة بنوا من جانبها المائل بناء مرتفعا يدعمها لكيلا تسقط، فذلك الترجيب، وصغرهما للمدح.
ومثله قولهم: إنه لجذل حكاك.
ومنه قولهم: عنيّته تشفى الجرب. والعنية: شيء تعالج به الإبل إذا جربت.
وقولهم: لذي الحلم قبل اليوم ما تقرع العصا.
وأول من قرعت له العصا سعد بن مالك الكناني، ثم قرعت لعامر بن الظرب العدواني، وكان حكم في الجاهلية فكبر حتى أنكر عقله، فقال لبنيه: إذا أنا زغت «1» فقوموني. كان إذا زاغ قرعت له العصا، فينزع عن ذلك.
ومنه قولهم: إنه لألمعيّ. وهو الذي يصيب بالظن.
وقولهم: ما حككت قرحة إلا أدميتها.
وقولهم: الأمور تشابه مقبلة وتظهر مدبرة. ولا يعرفها مقبلة إلا العالم النّحرير «2» ، فإذا أدبرت عرفها الجاهل والعالم.
الرجل المجرب
منه قولهم: إنه لشراب بأنقع «3» . أي معاود للخير والشر.(3/29)
وقولهم: إنه لخرّاج ولّاج.
وقولهم: حلب الدّهر أشطره. وشرب أفاويقه. أي اختبر من الدهر خيره وشره.
فالشطر هو شطر الحلبة. والفيقة: ما بين الحلبتين.
وقولهم: رجل منجّذ. وهو المجرب، وأصله من النواجذ؛ يقال: قد عضّ على ناجذه، إذا استحكم.
وقولهم: أوّل الغزو أخرق.
وقولهم: لا تعدو إلا بغلام وقد غذا.
وقولهم: زاحم بعود أو دع.
وقولهم: العوان «1» لا تعلّم الخمرة.
وقالت العامة: الشارف «2» لا يصفّر له.
الذب «3» عن الحرم
قالوا: الفحل يحمي شوله. والخيل تجري على مساويها. يقول: إن الخيل وإن كانت لها عيوب فإن كرمها يحملها على الجرى.
وقولهم: النساء لحم على وضم «4» إلا ما ذبّ عنه.
وقولهم: النساء حبائل الشيطان.
وقولهم: كلّ ذات صدار «5» خالة. يريد أنه يحميها كما يحمي خالته.
الصلة والقطيعة
منه قولهم: لا خير لك فيمن لا يرى لك ما يرى لنفسه.
وقولهم: إنما يضنّ بالضّنين.
وقولهم: خلّ سبيل من وهي سقاؤه.(3/30)
وقولهم: ألق حبله على غاربه.
وقولهم: لو كرهتني يدي قطعتها.
الرجل يأخذ حقه قسرا
منه قولهم: يركب الصّعب من لا ذلول له.
وقولهم: مجاهرة إذا لم أجد مختلا. يقول: آخذ حقي قسرا علانية إذا لم أصل إليه بالستر والعافية.
وقولهم: حلبتها بالسّاعد الأشدّ. يقول: أخذتها بالقوّة والشدّة إذا لم أقدر عليها بالرفق.
وقولهم: التجلّد خير من التبلّد، والمنيّة خير من الدّنيّة، ومن عزّ برّ.
الإطراق حتى تصاب الفرصة
منه قولهم: مخرنبق لينباع. مخرنبق: مطرق. لينباع: لينبعث. يقول: سكت حتى يصيب فرصته فيثب عليها.
وقولهم: تحسبها حمقاء وهي باخس.
وقولهم: خيره في صدره.
وقولهم: أحمق بلغ. يقول: مع حمقه يدرك حاجته
الرجل الجلد المصحح
أطرّي فإنك ناعلة. أصله أن رجلا قال لراعية له كانت ترعى في السهولة وتترك الحزونة، فقال لها: أطرّي. أي: خذي طرر الوادي. وهي نواحيه. فإنك ناعلة.
يريد: فإن عليك نعلين.
وقولهم: به داء ظبي. معناه أنه ليس بالظبي داء وقالوا: الشجاع موقّى.(3/31)
الذل بعد العز
منه قولهم: كان جملا فاستنوق. أي صار ناقة.
وقولهم: كان حمارا فاستأتن. أي صار أتانا.
وقولهم: الحور «1» بعد الكور» .
وقولهم: ذل لو أجد ناصرا. أصله أن الحارث بن أبي شمر الغساني، سأل أنس بن أبي الحجير عن بعض الأمر، فأخبره؛ فلطمه الحارث، فقال أنس: ذل لو أجد ناصرا. فلطمه ثانية، فقال: لو نهيت الأولى لم تلطم الثانية. فذهبتا مثلين.
الانتقال من ذل إلى عز
منه قولهم: كنت كراعا فصرت ذراعا.
وقولهم: كنت عنزا فاستتيست.
وقولهم: كنت بغاثا «3» فاستنسرت. أي صرت نسرا.
تأديب الكبير
قالوا: ما أشدّ فطام الكبير.
وقولهم: عود يقلّح. أي جمل مسنّ تنقى أسنانه.
وقالوا: من العناء رياضة الهرم.
قال الشاعر:
وتروض عرسك بعد ما هرمت ... ومن العناء رياضة الهرم
وقولهم: أعييتني بأشر «4» ، فكيف بدردر. يقول أعييتني وأنت شابة، فكيف إذا بدت درادرك، وهي مغارز الأسنان.(3/32)
الذليل المستضعف
منه قولهم: فلان لا يعوي، ولا ينبح من ضعفه. يقول: لا يتكلم بخير ولا شر.
وقولهم: أهون مظلوم سقاء مروّب. وهو السقاء الذي يلفّ حتى يبلغ أوان المخض.
وقالوا: أهون مظلوم عجوز معقومة.
وقولهم: لقد ذلّ من بالت عليه الثعالب.
الذليل يستعين بأذل منه
قالوا: عبد صريخه أمة.
وقولهم: مثقل استعان بذقنه. وأصله: البعير يحمل عليه الحمل الثقيل فلا يقدر على النهوض به، فيعتمد على الأرض بذقنه.
وقولهم: العبد من لا عبد له.
الأحمق المائق
قالوا: عدوّ الرجل حمقه، وصديقه عقله.
وقولهم: خرقاء عيّابة. وهو الأحمق الذي يعيب الناس.
وقالوا في الرجل إذا اشتدّ حمقه جدا: ثأطة مدّت بماء. الثأطة الحمأة، فإذا أصابها الماء ازدادت فسادا ورطوبة.
الذي تعرض له الكرامة فيختار الهوان
منه قولهم: تجنّب روضة وأحال يعدو. يقول: ترك الخصب واختار الشقاء.
وقولهم: لا يخلو مسك السوء من عرف السوء. يقول: لا يكن جلد رذل إلا والريح المنتنة موجودة فيه.
ومنه قول العامة: قيل للشقيّ هلمّ إلى السعادة. قال: حسبي ما أنا فيه. ومنه قول العامة:
إن الشقيّ بكلّ حبل يختنق
وقولهم: لا يعدم الشقيّ مهيرا. أي لا يعدم الشقي رياضة مهر.(3/33)
الرجل تريد إصلاحه وقد أعياك أبوه قبله
منه قولهم: لا تقتن من كلب سوء جروا.
وقال الشاعر:
ترجو الوليد وقد أعياك والده ... وما رجاؤك بعد الوالد الولدا
الواهن العزم الضعيف الرأي
منه قولهم: ماله أكل ولا صيّور. أي ليس له رأي ولا قوّة.
قال الأصمعي: طلب أعرابي ثوبا من تاجر، فقال: أعطني ثوبا له أكل. يعني قوة وحصافة «1» .
ومنه قولهم: هو إمّعة. وهو إمّرة. قال أبو عبيد: هو الرجل الذي لا رأي له ولا عزم، فهو يتابع كل أحد على رأيه، ولا يثبت على شيء، وكذلك الإمّرة، الذي يتابع كل أحد على أمره.
ومنه قولهم: بنت الجبل. ومعناه الصدى يجيبك من الجبل، أي هو مع كل متكلم يجيبه بمثل كلامه.
الذي يكون ضارا ولا نفع عنده
منه قولهم: المغزى تبهى ولا تبنى. قال أبو عبيد: معناه أن المعزى لا تكون منها الأبنية، وهي بيوت الأعراب، وإنما تكون من وبر الإبل، وصوف الضأن، ولا تكون من الشعر، وربما صعدت المعزى إلى الخباء فخرقته، فذلك قولهم تبهى، يقال:
أبهيت البيت، إذا خرقته، فإذا انخرق قيل بيت باه.
الرجل يكون ذا منظر ولا خير فيه
ومنه قولهم: ترى الفتيان كالنخل، وما يدريك ما الدخل.
وقال الحجاج لعبد الرحمن بن الأشعث: إنك لمنظراني. قال: نعم ومخبراني.(3/34)
أمثال الجماعات وحالاتهم من اجتماع الناس وافتراقهم
قال الأصمعي: ويقال: لن يزال الناس بخير ما تباينوا، فإذا تساووا هلكوا قال أبو عبيد: معناه أن الغالب على الناس الشر، والخير في القليل من الناس فإذا كان التساوي فإنما هو من الشر.
ومن أشد العجائب قول القائل: سواسية كأسنان الحمار.
ومنه قولهم: الناس سواء كأسنان المشط.
وقولهم: الناس أشباه وشتى في الشيم «1» .
وقولهم: الناس أخياف. أي مفترقون في أخلاقهم، وكلّهم يجمعه بيت الأدم.
والأخيف من الخيل: الذي إحدى عينيه زرقاء، والأخرى كحلاء.
ومنه قولهم: بيت الإسكاف فيه من كلّ جلد رقعة.
المتساويان في الخير والشر
هما كفرسي رهان. وكركبتي بعير. وهما زندان «2» في وعاء. وهذا في الخير وأما في الشر؛ فيقال: هما كحماري العباديّ. حين قال له: أيّ حماريك شر؟
قال: هذا ثم هذا.
الفاضلان وأحدهما أفضل
منه قولهم: مرعى ولا كالسّعدان «3» .
وقولهم: ماء ولا كصدّاء: ركية ذات ماء عذب.
وقولهم: فتى ولا كمالك «4» .
وقولهم: في كلّ الشجر نار وآستمجد «5» المرخ والعفار «6» . وهما أكثر الشجر نارا.(3/35)
الرجل يرى لنفسه فضلا على غيره
منه قولهم: كلّ مجر بالخلاء يسرّ. وأصله: الذي يجري فرسه في المكان الخالي فهو يسر بما يرى منه.
المكافأة
منه قولهم: سنة بتلك.
وقولهم: أضىء لي، أقدح لك. أي كن لي أكن لك.
وقولهم: اسق رقاش «1» سقاية. يقول: أحسنوا لها إنها محسنة.
الأمثال في القربى
التعاطف بين ذوي الأرحام
قال الكلبي: منه قولهم: يا بعضي دع بعضا. وأصل هذا أن زرارة بن عدس زوّج ابنته من سويد بن ربيعة، فكان له منها تسعة بنين. وأن سويدا قتل أخا صغيرا لعمرو بن هند الملك وهرب ولم يقدر عليه ابن هند؛ فأرسل إلى زرارة أن ائتني بولده من ابنتك؛ فجاء بهم، فأمر عمرو بقتلهم، فتعلقوا بجدهم زرارة؛ فقال: يا بعضي دع بعضا. فذهبت مثلا.
ومن أمثالهم في التحنن على الأقارب
قولهم: لكن على بلدح «2» قوم عجفي.
وقولهم: لكنّ بالاثلاث لحم لا يظلّل.
وأصل هذا أن بيهسا الذي يلقّب بنعامة كان بين أهل بيته وبين قوم حرب، فقتلوا سبعة إخوة لبيهس وأسروا بيهسا، فلم يقتلوه وارتحلوا به، فنزلوا منزلا في سفرهم ونحروا جزورا في يوم شديد الحر، فقال بعضهم: ظللوا لحم جزوركم لئلا يفسد. فقال بيهس: لكن بالأثلاث لحم لا يظلل. يعني لحم إخوته القتلى. ثم ذكروا(3/36)
كثرة ما غنموا، فقال بيهس: لكن على بلدح قوم عجفي. ثم إنه أفلت، أو خلوا سبيله، فرجع إلى أمه، فقالت: أنجوت من بينهم؟ وكانت لا تحبه؛ فقال لها: لو خيّرت لاخترت فلما لم يكن لها ولد غيره رقت له وتعطفت عليه. فقال بيهس:
الثّكل أرأمها «1» .
فذهبت كلماته هذه الأربع كلها أمثالا.
ومنه قولهم: لا يعدم الحوار «2» من أمّه حنّة.
وقولهم: لا يضرّ الحوار ما وطئته أمّه.
وقولهم: بأبي أوجه اليتامى.
حماية القريب وإن كان مبغضا
من ذلك قولهم: آكل لحمي ولا أدعه يؤكل.
ومنه: لا تعدم من ابن عمّك نصرا.
وقولهم: الحفائظ «3» تحلّل الأحقاد..
وقولهم في ابن العم: عدوّك وعدوّ عدوّك.
وقولهم: كفّك منك وإن كانت شلاء.
وقولهم: انصر أخاك ظالما أو مظلوما.
إعجاب الرجل بأهله
منه قولهم: كلّ فتاة بأبيها معجبة.
وقولهم: القرنبى «4» في عين أمها حسنة.
وقولهم: زيّن في عين والد ولده.
وقولهم: حسن في كلّ عين من تودّ.
وقولهم: من يمدح العروس إلّا أهلها.(3/37)
تشبيه الرجل بأبيه
منه قولهم: من أشبه أباه فما ظلم.
وقولهم: العصيّة من العصا.
وقولهم: ما أشبه حجل الجبال بألوان صخرها.
وقولهم: ما أشبه الحول «1» بالقبل «2» . وما أشبه الليلة بالبارحة.
وقولهم: شنشنة «3» أعرفها من أخزم. يقال هذا في الولد إذا كان فيه طبيعة من أبيه.
قال زهير:
وهل ينبت الخطّيّ «4» إلا وشيجه «5» ... وتغرس إلّا في منابتها النخل
ومنه قول العامة: لا تلد الذئبة إلّا ذئبا.
وقولهم: حذو النعل بالنعل. وحذو القذّة بالقذّة، والقذة: الريشة من ريش السهم تحذى على صاحبتها.
تحاسد الأقارب
من ذلك قولهم: الأقارب هم العقارب.
وقال عمر: تزاوروا ولا تجاوروا.
وقال أكثم: تباعدوا في الدّيار تقاربوا في المحبة.
قال رسول الله صلّى الله عليه وسلم لأبي هريرة: زر غبّا «6» تزدد حبا.
ومنه قولهم: فرّق بين معد تحابّ. يريد أن ذوي القربى إذا تدانوا تحاسدوا وتباغضوا.(3/38)
قولهم في الأولاد
قالوا: من سرّه بنوه ساءته نفسه. أي من يرى فيهم ما يسره يرى في نفسه ما يسوءه.
وقولهم:
إنّ بنيّ صبية صيفيون ... أفلح من كان له ربعيّون
الولد الصيفي: الذي يولد للرجل وقد أسن. والربعى: الذي يولد له في عنفوان شبابه؛ أخذ من ولد البقرة الربعي والصيفي.
ويقال للمرأة إذا تبنّت غير ولدها: ابنك من دمي عقبيك.
الرجل يؤتى من حيث أمن
قالوا: من مأمنه يؤتى الحذر.
وقال عدّي بن زيد العبادي:
لو بغير الماء حلقي شرق ... كنت كالغصّان بالماء اعتصاري «1»
قال الأصمعي: هذا من أشرف أمثال العرب. يقول: إن كل من شرق بالماء لا مستغاث له.
وقال الآخر:
كنت من كربتي «2» أفرّ إليهم ... فهم كربتي فأين الفرار
ومثله قول عباس بن الأحنف:
قلبي إلى ما ضرّني داع ... يهيج أحزاني وأوجاعي
كيف احتراسي من عدوّي إذا ... كان عدوي بين أضلاعي
وقال آخر:(3/39)
من غصّ داوى بشرب الماء غصتّه ... فكيف يصنع من قد غص بالماء
الأمثال في مكارم الأخلاق
الحلم
قال أبو عبيد: من أمثالهم في الحلم: إذا نزا «1» بك الشّرّ فاقعد. أي فاحلم ولا تسارع إليه.
ومنه قول الآخر: الحليم مطيّة الجهول.
وقولهم: لا ينتصف حليم من جاهل.
وقولهم: أخّر الشّرّ فإن شئت تعجّلته.
وقولهم في الحليم: إنه لواقع الطّير، ولساكن الرّيح.
وقولهم في الحلماء: كأنما على رءوسهم الطّير.
ومنه قولهم: ربما أسمع فأذر.
وقولهم: حلمي أصمّ وأذني غير صمّاء.
العفو عند المقدرة
منه قولهم: ملكت فأسجح. وقد قالته عائشة رضوان الله عليها لعلي بن أبي طالب كرم الله وجهه يوم الجمل حين ظهر على الناس فدنا من هودجها وكلّمها فأجابته ملكت فأسجح. أي ظفرت فأحسن. فجهزها بأحسن الجهاز. وبعث معها أربعين امرأة- وقال بعضهم: سبعين- حتى قدمت المدينة.
ومنه قولهم: إن المقدرة تذهب الحفيظة.
وقولهم: إذا ارجحنّ شاصيا فارفع يدا. يقول: إذا رأيته قد خضع واستكان فاكفف عنه. والشاصي: الرافع رجله.(3/40)
المساعدة وترك الخلاف
من ذلك قولهم إذا عز أخوك فهن.
وقولهم: لولا الوئام هلك اللّئام. الوئام: المباهاة. يقول: لولا المباهاة لم يفعل الناس خيرا.
مداراة الناس
قالوا: إذا لم تغلب فاخلب. يقول: إذا لم تغلب فاخدع ودار وألطف.
وقولهم: إلّا حظيّة فلا أليّة. معناه: إن لم يكن حظوة فلا تقصير. وألا يألوا، ويأتلي: أي يقصّر. ومنه قول الله عز وجل: وَلا يَأْتَلِ أُولُوا الْفَضْلِ مِنْكُمْ وَالسَّعَةِ
«1» .
وقولهم: سوء الاستمساك خير من حسن الصّرعة.
ومنه قول أبي الدرداء: إنّا لنبشّ في وجوه قوم وإنّ قلوبنا لتلعنهم.
ومنه قول رسول الله صلّى الله عليه وسلم: «شرار النّاس من داراه الناس لشرّه» .
ومنه قول شبيب بن شيبة في خالد بن صفوان: ليس له صديق في السّرّ ولا عدو في العلانية. يريد أن الناس يدارونه لشرّه، وقلوب الناس تبغضه.
مفاكهة «2» الرجل أهله
منه قولهم: كلّ امريء في بيته صبي. يريد حسن الخلق والمفاكهة.
ومنه قول أمير المؤمنين عمر بن الخطاب: إنّا إذا خلونا قلنا.
ومنه قول النبي صلّى الله عليه وسلم: «خياركم خيركم لأهله» .
ومنه قول معاوية: انهنّ يغلبن الكرام ويغلبهنّ اللئام.(3/41)
اكتساب الحمد واجتناب الذم
قالوا: الحمد مغنم والذّمّ مغرم.
وقولهم: إن قليل الذّمّ غير قليل.
وقولهم: إنّ خيرا من الخير فاعله، وإنّ شرا من الشرّ فاعله.
وقولهم:
الخير يبقى وإن طال الزّمان به ... والشرّ أخبث ما أوعيت من زاد «1»
الصبر على المصائب
من ذلك قولهم:
هوّن عليك ولا تولع بإشفاق
وقولهم: من أراد طول البقاء فليوطّن «2» نفسه على المصائب.
وقولهم: المصيبة للصّابر واحدة وللجازع اثنتان.
وقال أكثم بن صيفي: حيلة من لا حيلة له الصّبر.
وذكروا عن بعض الحكماء أنه أصيب بابن له، فبكى حولا ثم سلا، فقيل له:
مالك لا تبكي؟ قال: كان جرحا فبريء.
قال أبو خراش الهذلي:
بلى إنها تعفو الكلوم «3» وإنما ... توكّل بالأدنى وإن جلّ ما يمضي
ومنه قولهم: لا تلهّف على ما فات.
الحض على الكرم
منه قولهم: اصطناع المعروف يقي مصارع السوء.
وقولهم: الجود محبّة والبخل مبغضة.(3/42)
وقول الحطيئة:
من يفعل الخير لا يعدم جوازيه ... لا يذهب العرف بين الله والناس
الكريم لا يجد
منه قولهم: بيتي يبخل لا أنا.
وقولهم: بالساعد تبطش الكفّ.
وقولهم:
ما كلّف الله نفسا فوق طاقتها ... ولا تجود يد إلا بما تجد
وقال آخر:
يرى المرء أحيانا إذا قلّ ماله ... من الخير تارات ولا يستطيعها
متى ما يرمها قصّر الفقر كفّه ... فيضعف عنها والغنيّ يضيعها
القناعة والدعة
منه قولهم:
وحسبك من غنى شبع وريّ
وقولهم: يكفيك ما بلّغك المحلّ.
وقال الشاعر:
من شاء أن يكثر أو يقلّا ... يكفيه ما بلّغه المحلّا
الصبر على المكاره تحمده العواقب
قالوا: عواقب المكاره محمودة.
وقالوا: عند الصباح يحمد القوم السّرى «1» .(3/43)
وقولهم: لا تدرك الراحة إلا بالتعب.
أخذه حبيب فقال:
على أنني لم أحو مالا مجمّعا ... ففزت به إلا بشمل مبدّد
ولم تعطني الأيام نوما مسكّنا ... ألذّ به إلا بنوم مشرّد
وأحسن منه قوله أيضا:
بصرت بالراحة العليا فلم ترها ... تنال إلا على جسر من التعب
الانتفاع بالمال
قالوا: خير مالك ما نفعك، ولم يضع من مالك ما وعظك.
ونظر ابن عباس إلى درهم بيد رجل، فقال: إنه ليس لك حتى يخرج من يدك.
وقولهم: تقتير المرء على نفسه توفير منه على غيره.
قال الشاعر:
أنت للمال إذا أمسكته ... فإذا أنفقته فالمال لك
المتصافيان
منه قولهم: هما كندماني جذيمة.
قال الكلبي: هو جذيمة الأبرش الملك، ونديماه رجلان من بلقين يقال لهما: مالك، وعقيل. بلقين: يريد من بني القين.
وقولهم:
وكلّ أخ مفارقه أخوه ... لعمر أبيك إلا الفرقدان
ومنه قولهم: هما أطول صحبة من ابني شمام. وهما جبلان.
خاصة الرجل
منه قولهم: عيبة الرجل. يريدون خاصته وموضع سره.
ومنه الحديث في خزاعة: كانوا عيبة رسول الله صلّى الله عليه وسلم. مؤمنهم وكافرهم.(3/44)
من يكسب له غيره
منه قولهم: ليس عليك غزله فاسحب وجر.
وقولهم: ربّ ساع لقاعد.
وقولهم: خير المال عين ساهرة لعين نائمة.
المروءة مع الحاجة
منه قولهم: تجوع الحرة ولا تأكل بثدييها.
وقولهم: شرّ الفقر الخضوع، وخير الغنى القناعة.
ومنه الحديث المرفوع: «أجملوا في الطّلب» .
قال الشاعر:
فإذا افتقرت فلا تكن ... متخشّعا وتجمّل «1»
ومنه قول هدبة العذري:
ولست بمفراح إذا الدهر سرّني ... ولا جازع من صرفه المتقلّب
ولا أتمنى الشر والشرّ تاركي ... ولكن متى أحمل على الشرّ أركب
المال عند من لا يستحقه
منه قولهم: خرقاء وجدت صوفا. عبد ملك عبدا فأولاه تبّا» .
وقولهم: من يطل ذيله يتمنطق به. ومرعى ولا أكولة «3» . وعشب ولا بعير. يعني مال ولا منفق.
الحض على الكسب
منه قولهم: اطلب تظفر.
وقولهم: من عجز عن زاده اتّكل على زاد غيره.(3/45)
وقولهم: من العجز نتجت الفاقة.
وقولهم: لا يفترس الليث الظبي وهو رابض.
وقول العامة: كلب طواف خير من أسد رابض.
وقولهم:
أوردها سعد وسعد مشتمل ... يا سعد لا تروى على ذاك الإبل «1»
الخبير بالأمر البصير به
منه قولهم: على الخبير سقطت.
وقولهم: كفى قوما بصاحبهم خبيرا.
وقولهم: لكل أناس في جملهم خبر.
وقولهم: على يديّ دار الحديث.
وقولهم: تعلّمني بضبّ أنا حرشته «2» . يقول: أتخبرني بأمر أنا وليته.
وقولهم: ولّ القوس باريها.
وقولهم: الخيل أعلم بفرسانها.
وقولهم: كل قوم أعلم بصناعتهم.
وقولهم: قتل أرضا عالمها، وقتلت أرض جاهلها.
الاستخبار عن علم الشيء وتيقنه
من ذلك قولهم: ما وراءك يا عصام. أول من تكلم به النابغة الذبياني لعصام صاحب النعمان، وكان النعماني مريضا فكان إذا لقيه النابغة قال له: ما وراءك يا عصام؟
وقولهم:
سيأتيك بالاخبار من لم تزوّد(3/46)
وقولهم: إليك يساق الحديث.
انتحال العلم بغير آلته
منه قولهم: لكالحادي وليس له بعير.
وقال الحطيئة:
لكالماشي وليس له حذاء
وقولهم: إنباض «1» بغير توتير «2» . وكقابض على الماء.
أخذه الشاعر فقال:
ومن يأمن الدنيا يكن مثل قابض ... على الماء خانته فروج الأصابع
وخرقاء ذات نيقة «3» . يضرب للرجل الجاهل بأمر يدّعي معرفته.
من يوصي غيره وينسى نفسه
يا طبيب طبّ لنفسك.
ومنه: لا تعظيني وتعظعظي «4» . أي: لا توصيني وأوصي نفسك.
الأخذ في الأمور بالاحتياط
منه قولهم: أن ترد الماء بماء أكيس.
وقول العامة: لا تصبّ ماء حتى تجد ماء.
وقولهم: عش ولا تغترّ. يقول: عش إبلك، ولا تغتر بما تقدم عليه.
ويروى عن ابن عباس وابن عمر وابن الزبير أن رجلا أتاهم، فقال: كما لا ينفع مع الشرك عمل، كذلك لا يضر مع الإيمان تقصير. فكلهم قال: عش ولا تغترّ.(3/47)
وقولهم: ليس بأوّل من غرّه السّراب.
وقولهم: اشتر لنفسك وللسّوق.
ومنه الحديث المرفوع عن الرجل الذي قال: أرسل ناقتي وأتوكل. قال: «اعقلها وتوكّل» .
الاستعداد للأمر قبل نزوله
منه قولهم: قبل الرمي يراش السهم.
وقولهم: قبل الرّماية تملأ الكنائن «1» .
وقولهم: خذ الأمر بقوابله. أي: باستقباله قبل أن يدبر.
وقولهم: شرّ الرّأي الدبريّ «2» .
وقولهم: المحاجزة قبل المناجزة.
وقولهم: التقدم قبل التندّم.
وقولهم: يا عاقد اذكر حلّا.
وقولهم: خير الأمور أحمدها مغبّة.
وقولهم: ليس للدهر بصاحب. من لم ينظر في العواقب.
طلب العافية بمسالمة الناس
قولهم: من سلك الجدد «3» أمن العثار. واحذر تسلم.
ومنه قولهم: جرّ له الخطير ما انجرّ لك. الخطير: زمام الناقة.
ومنه قولهم: لا تكن أدنى العيرين إلى السهم. يقول: لا تكن أدنى أصحابك إلى موضع التلف، وكن ناحية أو وسطا.
قال كعب: إنّ لكل قوم كلبا فلا تكن كلب أصحابك.
وتقول العامة: لا تكن لسان قوم.(3/48)
توسط الأمور
من ذلك قولهم: لا تكن حلوا فتسترط، ولا مرا فتعقى. أي تلفظ. يقال: أعقي الشيء، إذا اشتدّت مرارته. قال الشاعر
ولا تك آنيا حلوا فتحسى ... ولا مرا فتنشب في الحلاق
وتقول العامة: لا تكن حلوا فتؤكل، ولا مرا فتلفظ. وتوسّط الأمور أدنى إلى السلامة.
ومنه قول مطرّف بن عبد الله بن الشخّير: الحسنة بين السيئتين. وخير الأمور أوساطها، وشرّ السير الحقحقة «1» . قوله: بين السيئتين؛ يريد بين المجاوزة والتقصير.
ومنه قولهم: بين الممخّة «2» والعجفاء، يريد بين السمين والمهزول.
ومنه قول علي بن أبي طالب رضي الله عنه: خير الناس هذا النّمط الأوسط، يلحق بهم التالي ويرجع إليهم الغالي.
الإنابة بعد الإجرام
منه قولهم: أقصر لمّا أبصر.
ومنه: أتبع السيئة الحسنة، والتائب من الذنب كمن لا ذنب له، والندم توبة، والاعتراف يهدم الاقتراف.
مدافعة الرجل عن نفسه
جاحس فلان عن خيط رقبته. وخيط الرقبة: النخاع، يقول: دافع عن دمه ومهجته.
وقالت العامة:
وأيّة نفس بعد نفسك تنفع(3/49)
ومنه: أدفع عن نفسي إذا لم يكن عنها دافع.
قولهم في الانفراد
الذئب خاليا أسد، يقول: إذا وجدك خاليا اجترأ عليك.
ومنه الحديث المأثور: الوحيد شيطان.
وفي الحديث الآخر: عليكم بالجماعة: فإن الذئب إنما يصيب من الغنم الشاردة.
من ابتلى بشيء مرة مخافة أخرى
منه الحديث المرفوع: لا يلسع المؤمن من جحر مرتين. يريد أنه إذا لسع مرة تحفظ أخرى.
وقولهم: من لدغته الحية يفرق من الرّسن «1» .
وقولهم:
من يشتري سيفي وهذا أثره
يضرب هذا المثل للذي قد اختبر وجرّب.
وقولهم:
كلّ الحذاء يحتذي الحافي الوقع
الوقع: الذي يمشي في الوقع، وهي الحجارة. قال أعرابي:
يا ليت لي نعلين من جلد الضبع ... كلّ الحذاء يحتذي الحافي الوقع
اتباع الهوى
قال ابن عباس: ما ذكر الله الهوى في شيء إلا ذمه.
قال الشّعبي: قيل له هوى؛ لأنه يهوى به.(3/50)
ومن أمثالهم فيه: حبّك الشيء يعمي ويصم.
وقالوا: الهوى إله معبود.
الحذر من العطب
قالوا: إنّ السلامة منها ترك ما فيها.
وقولهم: أعور عينك والحجر.
وقولهم: الليل وأهضام الوادي. وأصله أن يسير الرجل ليلا في بطون الأودية.
حذّره ذلك.
وقولهم: دع خيرها لشرّها.
وقولهم: لا تراهن على الصّعبة.
وقولهم: أعذر من أنذر.
حسن التدبير والنهي عن الخرق
الرّفق يمن والخرق شؤم. وربّ أكلة تحرم أكلات.
وقولهم: قلب الأمر ظهرا لبطن.
وقولهم: ضرب وجه الأمر وعينه، وأجر الأمور على أذلالها. أي على وجوهها.
وقولهم: وجّه الحجر وجهة ما له.
وقولهم: ولي حارّها من ولي قارّها «1» .
المشورة
قالوا: أوّل الحزم المشورة.
ومنه لا يهلك امرؤ عن مشورة.
قال ابن المسيّب: ما استشرت في أمر واستخرت وأبالي على أيّ جنبيّ سقطت.(3/51)
الجد في طلب الحاجة
أبل عذرا وخلاك ذمّ. يقول: إنما عليك أن تجتهد في الطلب وتعذر، لكيلا تذم فيها وإن لم تكن تقضى الحاجة.
ومنه:
هذا أوان الشّدّ فاشتدّي زيم «1»
وقولهم: درّب عليه جروتك. أي وطّن عليه نفسك.
ومنه اجمع عليه جراميزك «2» ، واشدد له حيازيمك «3» .
وقولهم: شمّر ذيلا، وادّرع ليلا.
ومنه: ايت به من حسّك وبسّك «4» .
ومنه قول العامة: جيء به من حيث أيس وليس. والأيس: الموجود. والليس:
المعدوم.
التأني في الأمر
من ذلك قولهم: ربّ عجلة تعقب ريثا.
وقولهم: المنبتّ «5» لا أرضا قطع ولا ظهرا «6» أبقى.
وقال القطامي:
قد يدرك المتأني بعض حاجته ... وقد يكون مع المستعجل الزّلل
ومنه: ضحّ رويدا. أي لا تعجل. والرّشف أنقع. أي أروى يقال: شرب حتى نقع.
ومنه: لا يرسل السّاق إلا ممسكا ساقا.(3/52)
سوء الجوار
ومنه قولهم: لا ينفعك من جار سوء توقّ، والجار السوء قطعة من نار.
ومنه: هذا أحقّ منزل بترك.
ومنه قولهم: الجار قبل الدار، الرفيق قبل الطريق.
ومنه قولهم: بعت جاري ولم أبع داري. يقول: كنت راغبا في الدار، إلا أني بعتها بسبب الجار السوء.
سوء المرافقة
أنت تئق وأنا مئق فمتى نتّفق. التئق: السريع الشر. والمئق: السريع البكاء؛ وقال:
الممتلىء من الغضب. والتئق والمئق مهموزان.
وقولهم: ما يجمع بين الأروى «1» والنّعام. يريد أن مسكن الأروى الجبل ومسكن النعام الرمل. والأروى، جمع أرويّة.
ومنه: لا يجتمع السّيفان في غمد.
ومنه: لا يلطاط هذا بصفري. أي لا يلصق بقلبي.
العادة
قالوا: العادة أملك من الأدب.
وقالوا: عادة السّوء شرّ من المغرم.
وقالوا: أعط العبد ذراعا يطلب باعا.
ترك العادة والرجوع إليها
منه قولهم: عاد فلان في حافرته. أي في طريقته. ومنه قوله تعالى: أَإِنَّا لَمَرْدُودُونَ فِي الْحافِرَةِ
«2» . ومنه: رجع فلان على قروائه «3» . ومنه الحديث: «لا ترجع هذه الأمّة عن قروائها» .(3/53)
اشتغال الرجل بما يعنيه
منه: كلّ امريء في شأنه ساع.
وقولهم: همّك ما أهمّك. همّك ما أدأنك.
وقولهم: ولي حارّها من تولّى قارّها.
قلة الاكتراث
منه قولهم: ما أباليه بالة، اسمح يسمح لك.
وسئل ابن عباس عن الوضوء من اللبن؟ فقال: ما أباليه بالة.
وقولهم: الكلاب على البقر. يقول: خلّ الكلاب وبقر الوحش.
قلة اهتمام الرجل بصاحبه
هان على الأملس «1» ما لاقى الدّبر «2» .
وقولهم: ما يلقى الشّجيّ من الخليّ. قال أبو زيد. الشجي مخفف، والخلى: مشدد.
ومنه قول العامة: هان على الصّحيح أن يقول للمريض: لا بأس عليك.
الجشع والطمع
منه قولهم: تقطّع أعناق الرّجال المطامع.
ومنه قولهم: غثّك خير لك من سمين غيرك.
وقولهم: المسألة. خموش «3» في وجه صاحبها.
وقال أبو الأسود في رجل دنيء: إذا سئل أرز «4» وإذا دعي انتهز.
ومنه قول عون بن عبد الله: إذا سأل ألحف، وإذا سئل سوّف.(3/54)
الشره للطعام
منه قولهم: وحمى ولا حبل. أي لا يذكر شيء إلا اشتهاه، كشهوة الحبلى وهي الوحمى.
ومنه: المرء توّاق إلى ما لم ينل.
وقولهم: يبعث الكلاب على مرابضها. أي يطردها طمعا أن يجد شيئا يأكله من تحتها.
ومنه قولهم: أراد أن يأكل بيدين.
ومنه الحديث المرفوع: «الرّغبة شؤم» .
الغلط في القياس
مثل قولهم: ليس قطا مثل قطيّ. «1»
وقال ابن الأسلت:
ليس قطا مثل قطيّ ولا ... المرعيّ في الأقوام كالراعي
ومنه قولهم: مذكّية تقاس بالجذاع. يضرب لمن يقيس الكبير بالصغير والمذكية هي المسنة من الخيل.
وضع الشيء في غير موضعه
منه: كمستبضع «2» التّمر إلى هجر، وهجر: معدن التمر.
قال الشاعر:
فإنا ومن يهدي القصائد نحونا ... كمستبضع تمرا إلى أهل خيبر
ومنه قولهم: كمعلّمة أمها الرّضاعا.
ومنه الحديث المرفوع: «ربّ حامل فقه إلى من هو أفقه منه» .(3/55)
وفيمن وضع الشيء في غير موضعه: ظلم من استرعى الذّئب الغنم.
وقال ابن هرمة:
كتاركة بيضها بالعراء ... وملحفة بيض أخرى جناحا
يصف النعامة التي تحضن بيض غيرها وتضيع بيضها.
كفران النعمة
منه: سمّن كلبك يأكلك. أحشّك وتروثني. قال في مخاطبة فرسه: أأعلفك الحشيش وتروثي عليّ.
ومنه قول الآخر:
أعلّمه الرّماية كلّ يوم ... فلما اشتدّ ساعده رماني.
التبذير
منه قولهم: لا ماءك أبقيت، ولا درنك أنقيت «1» .
وقولهم: لا أبوك نشر ولا التّراب نفذ. أصل هذا المثل لرجل قال: ليتني أعرف قبر أبي حتى آخذ من ترابه على رأسي.
التهمة
منه قولهم: عسى الغوير أبؤسا. والأبؤس جمع بأس، قال ابن الكلبي: الغوير؛ ماء معروف لكلب. وهذا مثل تكلمت به الزباء، وذلك أنها وجهت قصيرا للخمي بالعير ليجلب لها من بزّ العراق، وكان يطلبها بدم جذيمة الأبرش، فجعل الأحمال صناديق، وجعل في كل صندوق رجلا معه السلاح، ثم تنكب بهم الطريق وأخذ على الغوير فسألت عن خبره، فأخبرت بذلك، فقالت: عسى الغوير أبؤسا. تقول عسى أن يأتي الغوير بشر، واستنكرت أخذه على غير الطريق ومنه: سقطت به النّصيحة على الظّنّة، أي نصحته فاتهمك.
ومنه: لا تنقش «2» الشّوكة بمثلها، فإن ضلعها معها. يقول: لا تستعن في حاجتك(3/56)
بمن هو للمطلوب منه الحاجة أنصح منه لك.
تأخير الشيء وقت الحاجة إليه
منه: لا عطر بعد عروس، وأصل هذا أن عروسا أهديت فوجدها الرجل نفلة»
، فقال لها: أين الطيب؟ قالت: ادخرته. قال: لا عطر بعد عروس.
وقولهم: لا بقاء للحميّة بعد الحرمة؛ يقول: إنما يحمي الإنسان حريمه، فإذا ذهب فلا حمية له.
الإساءة قبل الإحسان
منه: يسبق درّته غراره؛ الغرار: قلة اللبن. والدرة: كثرته. ويسبق سيله مطره.
البخل
ما عنده خير ولا مير «2» . سواء هو والعدم. والعدم والعدم، لغتان.
ما بضّ حجره. والبض أقل السيلان.
ما تبل إحدى يديه الأخرى.
الجبن
إنّ الجبان حتفه من فوقه، ومثله في القرآن: يَحْسَبُونَ كُلَّ صَيْحَةٍ عَلَيْهِمْ
«3» .
ومنه: كلّ أزب «4» نفور. وقفّ شعره. واقشعرّت ذؤابته. معناه: قام شعره من الفرع.
وشرق بريقه.
الجبان يواعد بما لا يفعل
الصّدق ينبي عنك لا الوعيد. ينبي: يدفع عنك من ينبو.
ومنه: أوسعتهم شتما وأودوا بالإبل.(3/57)
وقيل لأعرابي خاصم امرأته إلى السلطان: كبّها الله لوجهها. فقال: ولو أمر بي إلى السّجن.
الاستغناء بالحاضر عن الغائب
قولهم: إن ذهب عير «1» فعير في الرّباط «2» .
ومنه:
إذا غاب منها كوكب لاح كوكب
وقولهم: رأس برأس وزيادة خمسمائة، قالها الفرزدق في رجل كان في جيش، فقال: من جاء برأس فله خمسمائة درهم: فبرز رجل وقتل رجلا من العدو، فأعطاه خمسمائة درهم؛ ثم برز ثانية، فقتل، فبكى عليه أهله، فقال لهم الفرزدق: أما ترضون رأسا برأس وزيادة خمسمائة؟
المقادير
منه قولهم: المقادير تريك ما لا يخطر ببالك.
وقولهم: إذا نزل القدر غشّى البصر. وإذا نزل الحين غطّى العين. ولا يغني حذر من قدر. من مأمنه يؤتى الحذر.
وقولهم: وكيف توقّى ظهر ما أنت راكبه.
الرجل يأتي إلى حتفه
منه قولهم: أتتك بحائن رجلاه. لا تكن كالباحث عن المدية.
وقولهم: حتفها تحمل ضأن بأظلافها.(3/58)
ما يقال للجاني على نفسه
يداك أوكتا وفوك نفخ. وأصله أن رجلا نفخ زقّا وركبه في النهر، فانحل الوكاء وخرجت الريح وغرق الرجل. فاستغاث بأعرابي على ضفة النهر، فقال: يداك أوكتا وفوك نفخ.
جالب الشر إلى أهله
منه قولهم: دلّت على أهلها براقش. وبراقش كلبة لحي من العرب مرّ بهم جيش ليلا ولم ينتبهوا لهم، فنبحت براقش فدلت عليهم.
وقالوا: كانت عليهم كراغبة البكر. يعنون ناقة ثمود.
وقال الأخطل:
ضفادع في ظلماء ليل تجاوبت ... فدل عليها صوتها حيّة البحر
تصرف الدهر
منه قولهم: مرة عيش ومرّة جيش.
ومنه: اليوم خمر وغدا أمر: قاله امرؤ القيس، أو مهلهل أخو كليب، لما أتاه موت أخيه وهو يشرب.
وقالوا: عش رجبا تر عجبا.
وقالوا: أتى الأبد على لبد «1» .
وقال الشاعر:
فيوم علينا ويوم لنا ... ويوم نساء ويوم نسرّ
وقولهم: من يجتمع تتقعقع عمده. وأنشد:
أجارتنا من يجتمع يتفرق ... ومن يك رهنا للحوادث يغلق(3/59)
الأمر الشديد المعضل
منه قولهم: أظلم عليه يومه، وأين يضع المخنوق يده.
ومنه قولهم: لو كان ذا حيلة لتحوّل.
ومنه قولهم: رأى الكوكب ظهرا. قال طرفة:
وتريه النّجم يهوي بالظّهر
هلاك القوم
منه قولهم: طارت بهم العنقاء. وطارت بهم عقاب ملاع. يقال ذلك في الواحد والجمع. وأحسبها معدولة عن مليع «1» .
والمنايا على الحوايا. قال أبو عبيد: يقال إن الحوايا في هذا الموضع مركب من مراكب النساء، واحدتها حويّة، وأحسب أصلها أنّ قوما قتلوا، فحملوا على الحوايا، فظنّ الراءون أنّ فيها نساء، فلما كشفوا عنها أبصروا القتلى، فقالوا ذلك؛ فصارت مثلا.
ومنه: أتتهم الدّهيم ترمي بالرّضف «2» . معناه الداهية العظيمة.
وهذا أمر لا ينادى وليده. معناه أن الأمر اشتد حتى ذهلت المرأة أن تدعو وليدها.
ومنه: التقت حلقتا البطان «3» . وبلغ السيل الزّبى. وجاوز الحزام الطببين.
وتقول العامة: بلغ السّكّين العظم.
إصلاح ما لا صلاح له
منه قولهم:
كدابغة وقد حلم الأديم(3/60)
حلم: فسد. وكتب الوليد بن عقبة إلى معاوية بهذا البيت:
فإنك والكتاب إلى عليّ ... كدابغة وقد حلم الأديم
في شعر له.
صفة العدوّ
يقال في العدوّ: هو أزرق العين. وإن لم يكن أزرق. وهو أسود الكبد. وأصهب السّبال «1» .
البخيل يعتل بالعسر
منه قولهم: قبل البكاء كان وجهك عابسا.
ومنه: قبل النفاس كنت مصفرّة.
اغتنام ما يعطي البخيل وإن قل
منه: خذ من الرّضفة «2» ما عليها. وخذ من جذع ما أعطاك.
قال ابن الكلبي: وأصل هذا المثل أنّ غسان كانت تؤدّي إلى ملوك سليح دينارين كل سنة عن كل رجل، وكان الذي يلي ذلك سبطة بن المنذر السّليحي. فجاء سبطة إلى جذع بن عمرو الغّساني يسأله الدينارين. فدخل جذع منزله واشتمل على سيفه، ثم خرج فضرب به سبطة حتى سكت، ثم قال له: خذ من جذع ما أعطاك! فامتنعت غسّان من الدينارين بعد ذلك، وصار الملك لها حتى أتى الإسلام.
البخيل يمنع غيره ويجود على نفسه
منه قولهم: سمنكم هريق في أديمكم.
ومنه: يا مهدي المال كل ما أهديت.(3/61)
ومنه قول العامة: الحمار جلبه والجمار أكله.
موت البخيل وماله وافر
منه: مات فلان عريض البطان «1» . ومات ببطنته لم يتغضغض منها شيء.
والتغضغض: النقصان.
البخيل يعطي مرة
منه قولهم: ما كانت عطيّته إلا بيضة العقر. وهي بيضة الديك.
قال الزبيري: الدّيك ربما باض بيضة.
وأنشد لبشار:
قد زرتني زورة في الدهر واحدة ... ثنّي ولا تجعليها بيضة الدّيك
ومنه قول الشاعر:
لا تعجبنّ لخير زل من يده ... فالكوكب النحس يسقي الأرض أحيانا
ومنه قولهم: من الخواطىء سهم صائب.
والليل طويل وأنت مقمر. وأصل هذا أنّ سليك بن سلكة، كان نائما مشتملا، فجثم رجل على صدره. وقال له: استأسر. فقال له: الليل طويل وأنت مقمر. ثم قال له: استأسر يا خبيث. فضمه ضمة ضرط منها، فقال له: أضرطا وأنت الأعلى.
فذهبت أيضا مثلا.
طلب الحاجة المتعذّرة
منه قولهم: تسألني برامتين «2» سلجما. وأصله أن امرأة تشهّت على زوجها سلجما وهو ببلد قفر، فقال هذه المقالة؛ والسلجم: اللفت.(3/62)
ومنه: شر ما نال امرؤ ما لم ينل.
ومنه: السائل فوق حقّه مستحقّ الحرمان.
ومنه قولهم:
إنك إن كلّفتني ما لم أطق ... ساءك ما سرّك مني من خلق
الرضا بالبعض دون الكل
منه: قد يركب الصّعب من لا ذلول له.
وقولهم: خذ من جذع ما أعطاك.
وقولهم: خذ ما طفّ لك. أي ارض بما أمكنك.
ومنه قولهم: زوج من عود خير من قعود.
وقولهم: ليس الرّيّ [عن] التّشافّ. أي ليس يروي الشارب بشرب الشفافة كلها، وهي بقية الماء في الإناء، ولكنه يروي قبل بلوغ ذلك.
وقولهم: لم يحرم من فصد له. ومعناه أنهم كانوا إذا لم يقدروا على قرى الضيف فصدوا له بعيرا وعالجوا دمه بشيء حتى يمكن أن يأكله.
ومنه قول العامة: إذا لم يكن شحم فنفس. أصل هذا أن امرأة لبست ثيابا، ثم مشت وأظهرت البهر في مشيتها بارتفاع نفسها، فلقيها رجل، فقال لها: إني أعرفك مهزولة، فمن أين هذا النفس؟ قالت: إن لم يكن شحم فنفس، وقال ابن هانىء:
قال لي: ترضى بوعد كاذب ... قلت إن لم يك شحم فنفس
التنوّق في الحاجة
منه قولهم: فعلت فيها فعل من طبّ لمن حبّ.
ومنه قولهم: جاء تضبّ لثاته على الحاجة. معناه لشدة حرصه عليها.
وقال بشر بن أبي حازم:(3/63)
خيل تضبّ لثاتها للمغنم «1»
استتمام الحاجة
أتبع الفرس لجامها. يريد أنك قد جدت بالفرس واللجام أيسر خطبا. فأتمّ الحاجة.
ومنه: تمام الرّبيع الصّيف. وأصله في المطر؛ فالربيع أوله، والصيف آخره.
المصانعة في الحاجة
من يطلب الحسناء يعط مهرها.
وقولهم: المصانعة تيسّر الحاجة، ومن اشترى فقد اشتوى. يقول: من اشترى لحما فقد أكل شواء.
تعجيل الحاجة
قولهم: السّراج من النّجاح، والنّفس مولعة بحبّ العاجل.
الحاجة تمكن من وجهين
منه قولهم: كلا جانبي هرشى لهنّ طريق. هرشى: عقبة.
ومنه: هو على حبل ذراعك. أي لا يخالفك.
من منع حاجة فطلب أخرى
منه قولهم: إلّاده فلاده. قال ابن الكلبي: معناه أنّ كاهنا تقاضى إليه رجلان من العرب. فقالا: أخبرنا في أي شيء جئناك؟ قال: في كذا وكذا. قالا: إلّاده. أي انظر غير هذا النظر. قال: إلّاده فلاده. ثم أخبرهما بها. قال الأصمعي: معناه إن لم يكن هذا الآن فلا يكون بعد الآن.(3/64)
الحاجة يحول دونها حائل
منه قولهم: قد علقت دلوك دلو أخرى.
وقولهم: الأمر يحدث دونه الأمر.
وقولهم: أخلف رويعيا «1» مظنّه «2» . وأصله أن راعيا اعتاد مكانا، فجاء يرعاه، فوجده قد تغير وحال عن عهده.
ومنه قولهم: سدّ ابن بيض الطريق سدّا. وابن بيض: رجل عقر ناقة في رأس ثنية فسدّ بها الطريق.
اليأس والخيبة
منه قولهم: من لي بالسانح بعد البارح. أي من لي باليمن بعد الشؤم.
وقولهم: جاء بخفّي حنين. وقد فسرناه في الكتاب الذي قبل هذا.
ومنه: أطال الغيبة وجاء بالخيبة.
ونظير هذا قولهم: سكت ألفا ونطق خلفا. أي أطال السكوت وتكلم بالقبيح، وهذا المثل يقع في باب العيّ، وله هاهنا وجه أيضا.
وقال الشاعر:
وما زلت أقطع عرض البلاد ... من المشرقين إلى المغربين
وأدّرع الخوف تحت الدّجى ... وأستصحب النّسر والفرقدين «3»
وأطوي وأنشر ثوب الهموم ... إلى أن رجعت بخفّي حنين
طلب الحاجة في غير موضعها
قالوا: لم أجد لشفرتي محزا «4» .
وقولهم: كدمت غير مكدم «5» .(3/65)
وقولهم: نفخت لو تنفخ في فحم.
وقالت العامة: يضرب في حديد بارد.
طلب الحاجة بعد فوتها
منه قولهم: لا تطلب أثرا بعد عين.
وقولهم: الصّيف ضيّعت الّلبن. معناه أن الرجل إذا لم يطرق ماشيته في الصيف كان مضيّعا لألبانها عند الحاجة.
الرضا من الحاجة بتركها
منه قولهم: من نجا برأسه فقد ربح.
وقولهم:
رضيت من الغنيمة بالإياب «1»
وقول العامة: الهزيمة مع السّلامة غنيمة.
وقال امرؤ القيس:
وقد طوّفت في الآفاق حتى ... رضيت من الغنيمة بالإياب
وقال آخر:
الليل داج والكباش تنتطح ... فمن نجا برأسه فقد ربح
من طلب الزيادة فانتقص
منه: كطالب القرن [جدعت] أذنه.
وقولهم: كطالب الصّيد في عرّيسة «2» الأسد.
وقولهم: سقط العشاء بها على سرحان. يريد دابة خرجت تطلب العشاء فصادفت ذئبا.(3/66)
ونظير هذا من قولنا:
طلبت بك التّكثير فازددت قلّة ... وقد يخسر الإنسان في طلب الرّبح
الخلاء بالحاجة
منه قولهم:
خلا لك الجوّ فبيضي واصفري
ومنه: رمي بريشك على غاربك. وهذا المثل قالته عائشة لابن أخت ميمونة زوج النبي صلّى الله عليه وسلم: ذهبت والله ميمونة ورمي بريشك على غارك.
إرسالك في الحاجة من تثق به
أرسل حكيما ولا توصه
وقولهم: الحريص يصيد لك لا الجواد. يقول: إن الذي يحرص بحاجتك هو الذي يقوم بها، لا القويّ عليها ولا هوى له فيها.
ومنه: لا يرحّلنّ رحلك من ليس معك.
ومنه في هذا المعنى: الحاجة يجعلها نصب عينيه، ويحملها بين أذنه وعاتقه ولم يجعلها بظهر.
قضاء الحاجة قبل السؤال
منه قولهم: لا تسأل الصّارخ وانظر ماله. يريد: لم يأتك مستصرخا إلا من ذعر أصابه، فأغثه قبل أن يسألك.
ومنه: كفى برغائها مناديا.
ومنه يخبر عن مجهوله معلومه.
وقولهم: في عينه فراره «1» . يعنون في نظرك إلى الفرس ما يغنيك عن أن تفرّه.(3/67)
الانصراف بحاجة تامة مقضية
جاء فلان ثانيا من عنانه. فإن جاء بغير قضاء حاجة، قالوا: جاء يضرب أصدريه، أي عطفيه.
وجاء وقد لفظ لجامه. وجاء سبهللا «1» .
فإن جاء بعد شدة قيل: جاء بعد اللتيّا والتي. وجاء بعد الهياط المياط «2» .
تجديد الحزن بعد أن يبكي منه
منه قولك: حرّك لها حوارها تحنّ. وهذا المثل يروى عن عمرو بن العاص أنه قال لمعاوية حين أراد أن يستنصر أهل الشام: أخرج إليهم قميص عثمان رضوان الله عليه الذي قتل فيه. ففعل ذلك معاوية. فأقبلوا يبكون. فعندها قال عمرو: حرّك لها حوارها «3» تحنّ.
جامع أمثال الظلم
منه قولهم: الظّلم مرتعه وخيم.
وفي الحديث: «الظّلم ظلمات يوم القيامة» .
ومنه: إنّك لا تجني من الشّوك العنب.
وقولهم: الحرب غشوم.
الظلم من نوعين
منه: أحشفا وسوء كيلة.
ومنه: أغدّة كغدّة البعير، وموت في بيت سلوليّة.
وهذا المثل لعامر بن الطفيل حين أصابه الطاعون في انصرافه عن النبي صلّى الله عليه وسلم، فلجأ إلى امرأة من سلول فهلك عندها.(3/68)
ومنه: أغيرة وجبنا. قالته امرأة من العرب لزوجها تعيّره حين تخلّف عن عدوّه في منزله، ورآها تنظر إلى القتال فضربها. فقالت: أغيرة وجبنا؟
وقولهم: أكسفا وإمساكا. أصله الرجل يلقاك بعبوس وكلوح مع بخل ومنع.
وقولهم: يا عبرى «1» مقبلة وسهرى «2» مدبرة. يضرب للأمر الذي يكره من وجهين.
ومنه قول العامة:
كالمستغيث من الرّمضاء بالنار
وقولهم: للموت يفزع وللموت بدر.
وقولهم: كالأشقر «3» : إن تقدّم نحر، وإن تأخّر عقر.
وقولهم: كالأرقم «4» إن يقتل ينقم، وإن يترك يلقم. يقول: إن قتلته كان له من ينتقم له منك، وإن تركته قتلك.
ومنه: هو بين حاذف وقاذف. الحاذف: الضارب بالعصا، والقاذف: الرامي بالحجر.
من يزاد غما على غمه
منه قولهم: ضغث على إبّالة. الضغث: الحزمة الصغيرة من الحطب، والإبالة:
الكبيرة.
ومنه قولهم: كفت إلى وئيّة. الكفت القدر الصغيرة، والوئيّة: القدر الكبيرة.
يضرب للرجل يحمل البلية الكبيرة ثم يزيد إليها أخرى صغيرة.
ومنه قولهم: وقعوا في أمّ جندب، إذا ظلموا.
المغبون في تجارته
منه قولهم: صفقة لم يشهدها حاطب. وأصله أن بعض أهل حاطب باع بيعة غبن بها.(3/69)
ومنه قولهم: أعطاه اللّفاء «1» غير الوفاء.
سرعة الملامة
منه: ليس من العدل سرعة العذل.
ومنه: ربّ ملوم لا ذنب له.
وقولهم: الشّعير يؤكل ويذمّ.
وقول العامة: أكلا وذمّا.
وقول الحجاج: قبّح والله منّا الحسن.
الكريم يهتضمه اللئيم
لو ذات سوار «2» لطمتني.
ومنه: ذلّ لو أجد ناصرا.
الانتصار من الظلم
هذه بتلك، والبادي أظلم.
ومنه: من لم يذد عن حوضه يهدّم.
الظلم ترجع عاقبته على صاحبه
قالوا: من حفر مغوّاة وقع فيها. والمغواة: البئر تحفر للذئاب، ويجعل فيها جدي ليسقط الذئب فيها ليصيده، فيصطاد.
ومنه: يعدو على كلّ امريء ما يأتمر.
ومنه: عاد الرّمي على النّزعة. وهم الرماة يرجع عليهم رميهم.
وتقول العامة: كالباحث عن المدية.
ومنه قولهم: رمي بحجره، وقتل بسلاحه.(3/70)
المضطر إلى القتال
مكره أخوك لا بطل.
قد يحمل العير من ذعر على الأسد
المأخوذ بذنب غيره
جانيك من يجني عليك.
ومنه: كذي»
العرّ يكوى غيره وهو راتع ومنه: كالثّور يضرب لمّا عافت البقر.
يعني: عافت الماء.
وقال أنس بن مدرك:
إني وقتلى سليكا ثم أعقله ... كالثور يضرب لما عافت البقر «2»
يعني ثور الماء. وهو ثورانه، يقال: ثار الماء ثورا وثورانا.
ومنه قولهم: كلّ شاة برجلها تناط «3» . يريد: لا يؤخذ رجل بغير ذنبه.
المتبرىء من الشيء
ما هو من ليله ولا سمره. ما هو من بزّي ولا من عطري. مالي فيه ناقة ولا جمل.
ومنه قولهم: برئت منه إلى الله.
ومنه: لست منك ولست مني. وما أنا من دد ولا الدّد «4» منّي.(3/71)
سوء معاشرة الناس
قالوا: الناس شجرة بغي. لا سبيل إلى السلامة من ألسنة العامة. ورضا الناس غاية لا تدرك.
ومنه الحديث المرفوع: «الناس كإبل مائة لا تكاد تجد فيها راحلة» .
ومنه قولهم: الناس يعيّرون ولا يغفرون، والله يغفر ولا يعيّر.
وقال مالك بن دينار: من عرف نفسه لم يضره قول الناس فيه.
وقول أبي الدرداء: إن قارضت الناس قارضوك، وإن تركتهم لم يتركوك.
الجبان وما يذم من أخلاقه
منه قولهم: إنّ الجبان حتفه من فوقه. وهو قول عمر بن مامة:
لقد وجدت الموت قبل ذوقه ... إنّ الجبان حتفه من فوقه
قال أبو عبيد: أحسبه أراد أن حذره وتوقّيه ليس بدافع عنه المنيّة. وهذا غلط من أبي عبيد عندي، والمعنى فيه أنه وصف نفسه بالجبن، وأنه وجد الموت قبل يذوقه، وهذا من الجبن، ثم قال: إنّ الجبان حتفه من فوقه يريد أنه نظر إلى منيته كأنما تحوم على رأسه.
كما قال تبارك وتعالى في المنافقين إذ وصفهم بالجبن: يَحْسَبُونَ كُلَّ صَيْحَةٍ عَلَيْهِمْ هُمُ الْعَدُوُّ
«1» .
وقال جرير للأخطل يعيّره إيقاع قيس بهم:
حملت عليك رجال قيس خيلها ... شعثا عوابس تحمل الأبطالا
ما زلت تحسب كلّ شيء بعدهم ... خيلا تكر عليكم ورجالا
ولو كان الأمر كما ذهب إليه أبو عبيد ما كان معناه يدخل في هذا الباب؛ لأنه باب الجبان وما يذم من أخلاقه، وليس الأخذ في الحذر من الجبن في شيء، لأن أخذ(3/72)
الحذر محمود وقد أمر الله به، والجبن مذموم من كل وجه.
ومنه الشعر الذي تمثّل به سعد بن معاذ يوم الخندق:
لبّث قليلا يدرك الهيجا جمل ... ما أحسن الموت إذا حان الأجل
ومنه قولهم: كلّ أزبّ نفور. وإنما يقال في الأزبّ من الإبل لكثرة شعره، ويكون ذلك في عينيه، فكلما رآه ظنّ أنه شخص يطلبه فينفر من أجله.
ومنه قولهم: بصبصن «1» إذ حدين بالأذناب.
ومنه قولهم:
دردب «2» لمّا عضّه الثقاف «3»
وقولهم: حال الجريض «4» دون القريض. وهذا المثل لعبيد بن الأبرص، قاله للنعمان بن المنذر بن ماء السماء حين أراد قتله فقال له: أنشدني شعرك.
أقفر من أهله ملحوب «5»
فقال عبيد: حال الجريض دون القريض.
ومنه: قفّ شعره، واقشعرّت ذؤابته. معناه قام شعره من الفزع.
إفلات الجبان بعد إشفائه
منه قولهم: أفلت وانحصّ «6» الذّنب.
ومنه: أفلت وله حصاص «7» .
ويروى في الحديث: «إن الشيطان إذا سمع الأذان أدبر وله حصاص» .
ومنه أفلتني جريعة الذّقن. إذا كان منه قريبا كقرب الجرعة من الذقن، ثم أفلته.(3/73)
ومنه قول العامة: إن يفلّت الطير فقد ذرق «1» .
وقولهم: أفلت وقد بلّ النّيفق «2» . الذي تسميه العامة: النّيفق.
الجبان يتهدد غيره
منه قولهم: جاء فلان ينفض مذرويه. أي يتوعد ويتهدّد. والمذروان: فرعا الأليتين. ولا يكاد يقال هذا إلا لمن يتهدد بلا حقيقة.
ومنه: أبرق لمن لا يعرفك. واقصد بذرعك. ولا تبق إلا على نفسك.
تصرف الدهر
منه: من يجتمع تتقعقع «3» عمده. أي أن الاجتماع داعية الافتراق.
ومنه: كل ذات بعل ستئيم «4» .
ومنه البيت السائر:
وكل أخ مفارقه أخوه ... لعمر أبيك إلا الفرقدان
ومنه: لم يفت من لم يمت.
الاستدلال بالنظر عن الضمير
منه قولهم: شاهد البغض اللحظ. وجلّى محبّ نظره.
قال زهير:
فإن تك في صديق أو عدوّ ... نخّبرك العيون عن الضمير
وقال ابن أبي حازم:
خذ من العيش ما كفى ... ومن الدهر ما صفا(3/74)
عين من لا يحبّ وص ... لك تبدي لك الجفا
نفي المال عن الرجل
منه قولهم: ماله سعنة «1» ولا معنة «2» . معناه لا شيء له.
ومنه: ماله هلع ولا هلّعة. وهما الجدي والعناق «3» .
ومنه: ماله هارب ولا قارب، معناه ليس له أحد يهرب منه، ولا أحد يقرب إليه؛ فليس له شيء.
وقولهم: ماله عافطة ولا نافطة؛ وهما الضائنة والماعزة. وما به نبض ولا حبض.
قال الأصمعي: النبض: المتحرك، ولا أعرف الحبض.
وقال غيره: النبض والحبض في الوتر، والنبض: تحرك الوتر، والحبض: صوته.
قال:
والنبل يهوى نبضا وحبضا
ومنه قولهم: ماله سبد ولا لبد. هما الشعر والصوف.
ولم يعرف الأصمعي السّعنة والمعنة.
إذا لم يكن في الدار أحد
منه قولهم: ما بالدار شفر «4» ؛ ولا بها دعوي؛ ولا بها دبّي. معناه ما بها من يدعو ومن يدب، وما بها من غريب. ولا بها دوري ولا طوري؛ وما بها وابر، وما بها صافر، ولا بها ديّار، وما بها نافخ ضرمة «5» ، وما بها أرم. معنى هذا كله ما بها أحد، ولا يقال منها شيء في الإثبات والإيجاب، وإنما يقولونها في النفي والجحد.(3/75)
اللقاء وأوقاته
ومنه: لقيت فلانا أوّل عين. يعني أوّل شيء.
وقال أبو زيد: لقيته أوّل عائنة. ولقيته أوّل وهلة. ولقيته أوّل ذات يدين. ولقيته أوّل صوك وأول بوك «1» . فإن لقيته فجأة من غير أن تريده، قلت: لقيته نقابا؛ ولقيته التقاطا، إذا لقيته من غير طلب. وقال الراجز:
ومنهل وردته التقاطا
وإن لقيته مواجهة قلت: لقيته صفاحا. ولقيته كفاحا. ولقيته كفّة كفّة.
قال أبو زيد: فإن عرض لك من غير أن تذكره قلت: رفع رفعا؛ وأشبّ لي إشبابا. فإن لقيته وليس بينك وبينه أحد، قلت: لقيته صحرة بحرة. وهي غير مجراة. فإن لقيته في مكان قفر لا أنيس به قلت: لقيته صحرة بحرة أصمت، غير مجرى أيضا. ولقيته بين سمع الأرض وبصرها. فإن لقيته قبل الفجر قلت: لقيته قبل [كلّ] صبح ونفر. النفر: التفرق. وإن لقيته بالهاجرة قلت: لقيته صكة عميّ.
وصكة «2» أعمى.
قال رؤبة يصف الفلاة إذا لمعت بالسراب في الهاجرة:
شبيهة بسهم قوس لمعا ... صكّ عمي زاجرا قد برعا «3»
فإن لقيته في اليومين والثلاثة قلت: لقيته في الفرط. ولا يكون الفرط في أكثر من خمس عشرة ليلة. فإن لقيته بعد شهر ونحوه، قلت: لقيته في عفر. فإن لقيته بعد الحول ونحوه قلت: لقيته عن هجر. فإن لقيته بعد أعوام قلت: لقيته ذات العويم.
فإن لقيته في الزمان قلت: لقيته ذات الزّمين. والغب في الزيارة، وهو الإبطاء فيها.
والاعتمار في الزيارة. وهو التردّد فيها.(3/76)
في ترك الزيارة
منه قولهم: لا آتيك ما حنت النّيب. وما أطت «1» الإبل. وما اختلف الدرّة والجرّة.
وما اختلف الملوان. وما اختلف الجديدان. ولا آتيك السّمر والقمر وأبد الأبد.
ويقال: أبد الآبدين. ودهر الداهرين. وحتى يرجع السّهم إلى فوقه «2» . وحتى يرجع اللبن في الضّرع. ولا آتيك سنّ الحسل.
تفسيره: النيب: جمع ناب، وهي المسنة من الإبل. والدرة: الحلبة من اللبن.
والجرة: من اجترار البعير. والملوان والجديدان: الليل والنهار. والحسل: هو ولد الضب. يقول: حتى تسقط أسنانه، ولا تسقط أبدا حتى يموت.
استجهال الرجل ونفي العلم عنه
منه قولهم: ما يعرف الحوّ من اللوّ. وما يعرف الحيّ «3» من الّليّ «4» . ولا هريرا «5» من غرير «6» . ولا قبيلا من دبير. وما يعرف أيّ طرفيه أطول وأكبر. وما يعرف هرّا من برّ، أي ما يعرف من يهرّه ممن يبّره. والقبيل: ما أقبلت به من فتل الحبل، والدبير:
ما أدبرت به منه، وأي طرفه أطول: أنسب أبيه أم نسب أمه.
أمثال مستعملة في الشعر
قال الأصمعي: لم أجد في شعر شاعر بيتا أوّله مثل وآخره مثل إلا ثلاثة ابيات:
منها بيت الحطيئة:
من يفعل الخير لا يعدم جوازيه ... لا يذهب العرف بين الله والناس
وبيتان لامرىء القيس:(3/77)
وأفلتهنّ علباء جريضا «1» ... ولو أدركنه صفر الوطاب
وقاهم جدّهم ببني أبيهم ... وبالأشقين ما كان العقاب
ومثل هذا كثير في القديم والحديث، ولا أدري كيف أغفل القديم منه الأصمعي.
فمنه قول طرفة:
ستبدي لك الأيام ما كنت جاهلا ... ويأتيك بالأخبار من لم تزوّد
وفي هذا مثلان من أشرف الأمثال. ويقال إن رسول الله صلّى الله عليه وسلم سمع هذا البيت، فقال: «إن معناه من كلام النبوّة» ؛ ومن ذلك قول الآخر:
ما كلّف الله نفسا فوق طاقتها ... ولا تجود يد إلا بما تجد
ومن ذلك قول الحسن بن هانيء:
أيها المنتاب عن عقره ... لست من ليلي ولا سمره
لا أذود الطير عن شجر ... قد بلوت المرّ من ثمره
إن العرب تقول: انتاب فلان عن عقره: أي تباعد عن أصله. لست من ليلي ولا سمره: مثل ثان، وليس في البيت الثاني إلا مثل واحد.
ومن قولنا في بيت أوّله مثل وآخره مثل:
قد صرّح الأعداء بالبين ... وأشرق الصبح لذي العين
وبعده أبيات في كل بيت منها مثل، وذلك قولنا:
وعاد من أهواه بعد القلى ... شقيق روح بين جسمين «2»
وأصبح الداخل في بيننا ... كساقط بين فراشين
قد ألبس البغضاء من ذا وذا ... لا يصلح الغمد لسيفين(3/78)
ما بال من ليست له حاجة ... يكون أنفا بين عينين
ومن قولنا الذي هو أمثال سائرة:
قالوا شبابك قد ولّى فقلت لهم ... هل من جديد على كرّ الجديدين
صل من هويت وإن أبدى معاتبة ... فأطيب العيش وصل بين إلفين
واقطع حبائل خلّ لا تلائمه ... فربما ضاقت الدنيا على اثنين»
وقلت بعد هذا في المدح:
فكّرت فيك أبحر أنت أم قمر ... فقد تحيّر فكري بين هذين
إن قلت بحرا وجدت البحر منحسرا ... وبحر جودك ممتدّ العبابين
أو قلت بدرا رأيت البدر منتقصا ... فقلت شتّان ما بين البديرين
ومن الأمثال التي لم تأت إلا في الشعر أو في قليل من الكلام، من ذلك قول الشاعر:
ترجو النجاة ولم تسلك مسالكها ... إنّ السفينة لا تجري على اليبس
وقال آخر:
متى تنقضي حاجات من ليس صابرا ... على حاجة حتى تكون له أخرى
قيل ولما بلغ حاتما قول المتلمّس:
وأعلم علم صدق غير ظنّ ... لتقوى الله من خير العتاد
وحفظ المال أيسر من بغاه ... وسير في البلاد بغير زاد «2»
وإصلاح القليل يزيد فيه ... ولا يبقى الكثير مع الفساد
قال: قطع الله لسانه! يحمل الناس على البخل؛ ألا قال:
لا الجود يفني المال قبل فنائه ... ولا البخل في مال الشحيح يزيد
فلا تلتمس مالا بعيش مقتّر ... لكل غد رزق يعود جديد «3»(3/79)
وقال غيره:
إذا كنت لا أعفو عن الذنب من أخ ... وقلت أكافيه فأين التفاضل
فإن أقطع الإخوان في كل عسرة ... بقيت وحيدا ليس لي من أواصل
ولكنني أغضي الجفون على القذى ... وأصفح عما رابني وأجامل
متى ما يربني مفصل فقطعته ... بقيت ومالي للنهوض مفاصل
ولكن أداويه فإن صحّ سرّني ... وإن هو أعيا كان فيه التجامل
وقال:
يديفون لي سمّا وأسقيهم الحيا ... ويقرونني شرا وشري مؤخّر «1»
كأني سلبت القوم نور عيونهم ... فلا العذر مقبول ولا الذنب يغفر
وقد كان إحساني لهم غير مرة ... ولكن إحسان البغيض مكفّر «2»
ولغيره:
لم يبق من طلب الغنى ... إلا التعرّض للحتوف
فلأقبلنّ وإن رأيت ... الموت يلمع في الصفوف
إني امرؤ لم أوت من ... أدب ولا حظّ سخيف
لكنه قدر يزو ... ل من القويّ إلى الضعيف(3/80)
كتاب الزمردة في المواعظ والزهد
لابن عبد ربه:
قال أحمد بن عبد ربه: قد مضى قولنا في الأمثال، وما تفننوا فيها على كل لسان، ومع كل زمان؛ ونحن نبدأ بعون الله وتوفيقه بالقول في الزهد ورجاله المشهورين به، ونذكر المنتخل من كلامهم، والمواعظ التي وعظت بها الأنبياء، واستخلصتها الآباء للأبناء، وجرت بين الحكماء والأدباء؛ ومقامات العبّاد بين أيدي الخلفاء.
فأبلغ المواعظ كلها كلام الله تعالى الأعز الذي لا يأتيه الباطل من بين يديه ولا من خلفه تنزيل من حكيم حميد. قال الله تبارك وتعالى: ادْعُ إِلى سَبِيلِ رَبِّكَ بِالْحِكْمَةِ وَالْمَوْعِظَةِ الْحَسَنَةِ وَجادِلْهُمْ بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ إِنَّ رَبَّكَ هُوَ أَعْلَمُ بِمَنْ ضَلَّ عَنْ سَبِيلِهِ وَهُوَ أَعْلَمُ بِالْمُهْتَدِينَ وَإِنْ عاقَبْتُمْ فَعاقِبُوا بِمِثْلِ ما عُوقِبْتُمْ بِهِ وَلَئِنْ صَبَرْتُمْ لَهُوَ خَيْرٌ لِلصَّابِرِينَ وَاصْبِرْ وَما صَبْرُكَ إِلَّا بِاللَّهِ وَلا تَحْزَنْ عَلَيْهِمْ وَلا تَكُ فِي ضَيْقٍ مِمَّا يَمْكُرُونَ إِنَّ اللَّهَ مَعَ الَّذِينَ اتَّقَوْا وَالَّذِينَ هُمْ مُحْسِنُونَ
«1» .
وقال جل ثناؤه: كَيْفَ تَكْفُرُونَ بِاللَّهِ وَكُنْتُمْ أَمْواتاً فَأَحْياكُمْ ثُمَّ يُمِيتُكُمْ ثُمَّ يُحْيِيكُمْ ثُمَّ إِلَيْهِ تُرْجَعُونَ
«2» .
وقال: أَوَلَمْ يَرَ الْإِنْسانُ أَنَّا خَلَقْناهُ مِنْ نُطْفَةٍ فَإِذا هُوَ خَصِيمٌ مُبِينٌ وَضَرَبَ لَنا مَثَلًا وَنَسِيَ خَلْقَهُ قالَ مَنْ يُحْيِ الْعِظامَ وَهِيَ رَمِيمٌ قُلْ يُحْيِيهَا الَّذِي أَنْشَأَها أَوَّلَ مَرَّةٍ(3/81)
وَهُوَ بِكُلِّ خَلْقٍ عَلِيمٌ
«1» .
فهذه أبلغ الحجج وأحكم المواعظ.
ثم مواعظ الأنبياء صلوات الله عليهم، ثم مواعظ الآباء للأبناء، ثم مواعظ الحكماء والأدباء، ثم مقامات العبّاد بين أيدي الخلفاء، ثم قولهم في الزهد ورجاله المعروفين به، ثم المشهورين من المنتسبين إليه.
والموعظة ثقيلة على السمع محرّجة «2» على النفس، بعيدة من القبول، لاعتراضها الشهوة، ومضادّتها الهوى، الذي هو ربيع القلب، ومراد الروح، ومربع اللهو، ومسرح الأماني؛ إلا من وعظه علمه، وأرشده قلبه؛ وأحكمته تجربته قال الشاعر:
لن ترجع الأنفس عن غيّها ... حتى يرى منها لها واعظ
وقالت الحكماء: السعيد من وعظ بغيره. لا يعنون من وعظه غيره، ولكن من رأى العبر في غيره فاتعظ بها في نفسه. ولذلك كان يقول الحسن: اقدعوا هذه النفوس فإنها طلعة «3» ، وحادثوها بالذّكر «4» فإنها سريعة الدثور، واعصوها فإنها إن أطيعت نزعت إلى شرّ غاية.
وكان يقول عند انقضاء مجلسه وختم موعظته: يا لها من موعظة لو صادفت من القلوب حياة.
لابن السماك:
وكان ابن السماك يقول إذا فرغ من كلامه: ألسن تصف، وقلوب تعرف، وأعمال تخالف.
وقال يونس بن عبيد: لو أمرنا بالجزع لصبرنا. يريد ثقل الموعظة على السمع،(3/82)
وجنوح النفس إلى مخالفتها. ومنه قولهم:
أحبّ شيء إلى الإنسان ما منعا
وقولهم:
والشيء يرغب فيه حين يمتنع
والموعظة مانعة لك مما تشتهي، حاملة لك على ما تكره، إلا أن تلقاها بسمع قد فتقته العبرة، وقلب قدحت فيه الفكرة، ونفس لها من علمها زاجر، ومن عقلها رادع؛ فيفتح لك باب التوبة، ويوضح لك سبيل الإنابة.
للنبي صلّى الله عليه وسلم:
قال النبي صلّى الله عليه وسلم: حفّت الجنة بالمكاره، وحفّت النار بالشهوات. يريد أن الطريق إلى الجنة احتمال المكروه في الدنيا، والطريق إلى النار ركوب الشهوات.
وخير الموعظة ما كانت من قائل مخلص، إلى سامع منصف.
لبعضهم:
وقال بعضهم: الكلمة إذا خرجت من القلب وقعت في القلب، وإذا خرجت من اللسان لم تجاوز الآذان.
وقالوا: ما أحسن التاج! وهو على رأس الملك أحسن. وما أحسن الدرّ، وهو على نحر الفتاة أحسن. وما أحسن الموعظة! وهي من الفاضل التقيّ أحسن.
لزياد:
وقال زياد: أيها الناس، لا يمنعكم سوء ما تعلمون منا، أن تنتفعوا بأحسن ما تسمعون منا. قال الشاعر:
اعمل بقولي وإن قصّرت في عملي ... ينفعك قولي ولا يضررك تقصيري(3/83)
لابن عباس في كلام لعلي:
وقال عبد الله بن عباس: ما انتفعت بكلام أحد بعد رسول الله صلّى الله عليه وسلّم ما انتفعت بكلام كتبه إليّ عليّ بن أبي طالب رضي الله عنه، كتب إليّ:
أما بعد: فإن المرء يسرّه إدراك ما لم يكن ليفوته، ويسوءه فوت ما لم يكن ليدركه. فليكن سرورك بما نلت من أمر آخرتك، وليكن أسفك على ما فاتك منها، وما نلت من أمر دنياك فلا تكن به فرحا. وما فاتك فلا تأس عليه جزعا. وليكن همك ما بعد الموت.
حكيم بباب بعض الملوك:
وقف حكيم بباب بعض الملوك فحجب، فتلطّف برقعة وأوصلها إليه، وكتب فيها هذا البيت:
ألم تر أنّ الفقر يرجى له الغنى ... وأنّ الغنى يخشى عليه من الفقر
فلما قرأ البيت لم يلبث أن انتعل وجعل لاطئة «1» على رأسه، وخرج في ثوب فضال «2» ، فقال له: والله ما اتعظت بشيء بعد القرآن اتّعاظى ببيتك هذا! ثم قضى حوائجه.
مواعظ الأنبياء عليهم السلام
للنبي صلّى الله عليه وسلم:
قال أبو بكر بن أبي شيبة يرفعه إلى النبي صلّى الله عليه وسلم «يكفي أحدكم من الدنيا قدر زاد الراكب» .(3/84)
وقال صلّى الله عليه وسلم: «ابن آدم. اغتنم خمسا قبل خمس: شبابك قبل هرمك، وصحّتك قبل سقمك، وغناك قبل فقرك، وفراغك قبل شغلك، وحياتك قبل موتك» .
عبد الله بن سلام قال: لما قدم علينا رسول الله صلّى الله عليه وسلم المدينة أتيته، فلما رأيت وجهه علمت أنه ليس بوجه كذّاب؛ فسمعته يقول: «أيها الناس، أطعموا الطّعام، وأفشوا السلام، وصلّوا والناس نيام» .
لعيسى عليه السّلام:
وقال عيسى بن مريم عليه السّلام: ألا أخبركم بخيركم مجالسة؟ قالوا: بلى يا روح الله. قال: من تذكّركم بالله رؤيته، ويزيد في عملكم منطقه، ويشوّقكم إلى الجنة عمله.
وقال عيسى بن مريم عليه السّلام للحواريين: ويلكم يا عبيد الدنيا! كيف تخالف فروعكم أصولكم، وأهواؤكم عقولكم. قولكم شفاء يبرىء الدّاء، وفعلكم داء لا يقبل الدّواء. لستم كالكرمة التي حسن ورقها، وطاب ثمرها، وسهل مرتقاها.
ولكنكم كالسمرة «1» التي قلّ ورقها، وكثر شوكها، وصعب مرتقاها. ويلكم يا عبيد الدنيا! جعلتم العمل تحت أقدامكم من شاء أخذه، وجعلتم الدنيا فوق رؤوسكم لا يمكن تناولها؛ فلا أنتم عبيد نصحاء، ولا أحرار كرام. ويلكم يا أجراء السوء! الأجر تأخذون، والعمل تفسدون، سوف تلقون ما تحذرون، إذا نظر ربّ العمل في عمله الذي أفسدتم، وأجره الذي أخذتم.
وقال عليه السّلام للحواريين: اتخذوا المساجد بيوتا، والبيوت منازل، وكلوا بقل البرية، واشربوا الماء القراح، وانجوا من الدنيا سالمين.
وقال عليه السّلام للحواريّين: لا تنظروا في أعمال الناس كأنكم أرباب، وانظروا في أعمالكم كأنكم عبيد؛ فإنما الناس رجلان: مبتلى ومعافى؛ فارحموا أهل البلاء،(3/85)
واحمدوا الله على العافية.
وقال عليه السّلام لهم أيضا: عجبا لكم، تعملون للدنيا وأنتم ترزقون فيها بغير عمل؛ ولا تعملون للآخرة وأنتم لا ترزقون فيها إلا بعمل.
وقال يحيى بن زكريا عليه السّلام للمكذّبين من بني إسرائيل: يا نسل الأفاعي، من دلّكم على الدخول في المساخط الموبقة بكم؟ ويلكم! تقرّبوا بعمل صالح، ولا تغرّنكم قرابتكم من إبراهيم عليه السّلام. فإن الله قادر على أن يستخرج من هذه الجنادل «1» نسلا لإبراهيم. إن الفأس قد وضعت في أصول الشجر، فأخلق بكلّ شجرة مرّة الطعم أن تقطع وتلقى في النار.
وقال شعياء لبني إسرائيل: إذ أطلق الله لسانه بالوحي: إن الدابة تزداد على كثرة الرياضة لينا، وقلوبكم لا تزداد على كثرة الموعظة إلا قسوة. إنّ الجسد إذا صلح كفاه القليل من الطعام، وإن القلب إذا صحّ كفاه القليل من الحكمة. كم من سراج قد أطفأته الريح، وكم عابد قد أفسده العجب. يا بني إسرائيل، اسمعوا قولي، فإن قائل الحكمة وسامعها شريكان، وأولاهما بها من حقّقها بعمله.
وقال المسيح صلّى الله عليه وسلم: إن أولياء الله لا خوف عليهم ولا هم يحزنون، الذين نظروا إلى باطن الدنيا إذ نظر الناس إلى ظاهرها، وإلى آجلها إذ نظروا إلى عاجلها، فأماتوا منها ما خشوا أن يميتهم، وتركوا ما علموا أن سيتركهم؛ هم أعداء لما سالم الناس، وسلم لما عادى الناس، لهم خير، وعندهم الخبر العجيب، بهم نطق الكتاب وبه نطقوا، وبهم علم الهدى وبه عملوا، لا يرون أمانا دون ما يرجون، ولا خوفا دون ما يحذرون.
داود عليه السّلام:
وهب بن منبه قال: قال داود عليه السّلام: يا رب، ابن آدم ليس منه شعرة إلا(3/86)
وتحتها لك نعمة وفوقها لك نعمة، فمن أين يكافئك بما أعطيته؟ فأوحى الله إليه: يا داود، إنّي أعطي الكثير، وأرضى من عبادي بالقليل، وأرضى من شكر نعمتي بأن يعلم العبد أن ما به من نعمة فمن عندي لا من عند نفسه.
إبراهيم عليه السّلام:
ولما أمر الله عز وجل إبراهيم صلّى الله عليه وسلم بذبح ولده وأن يجعله قربانا، أسرّ ذلك إلى خليل له يقال له العازر، وكان له صديقا؛ فقال له الصديق إن الله لا يبتلي بمثل هذا مثلك، ولكنه يريد أن يختبرك أو يختبر بك؛ وقد علمت أنه لا يبتليك بمثل هذا ليفتنك، ولا ليضلك ولا ليعنتك، ولا لينقض به بصيرتك وإيمانك ويقينك؛ فلا يرو عنّك هذا، ولا يسوأن بالله ظنّك؛ وإنما رفع الله اسمك في البلاء عنده على جميع أهل البلايا، حتى كنت أعظمهم محنة في نفسك وولدك. ليرفعك بقدر ذلك في المنازل والدرجات والفضائل: فليس لأهل الصبر في فضيلة الصبر إلا فضل صبرك، وليس لأهل الثواب في فضيلة الثواب إلا فضل ثوابك. وليس هذا من وجوه البلاء الذي يبتلي الله به أولياءه؛ لأن الله أكرم في نفسه، وأعدل في حكمه وأرحم بعباده من أن يجعل ذبح الولد الطّيب بيد الوالد النبي المصطفى. وأنا أعوذ بالله أن يكون هذا مني حتما على الله أو ردّا لأمره، أو سخطا لحكمه، ولكن هذا الرجاء فيه والظنّ به؛ فإن عزم ربّك على ذلك فكن عند أحسن علمه بك؛ فإني أعلم أنه لم يعرّضك لهذا البلاء الجسيم، والخطب العظيم، إلا لحسن علمه بك، وصدقك وتصبّرك؛ ليجعلك إماما؛ ولا حول ولا قوة إلا بالله العلي العظيم.
ومن وحي الله تعالى إلى أنبيائه
أوحى الله عز وجل إلى نبي من أنبيائه: إني أنا الله مالك الملوك؛ قلوب الملوك بيدي؛ فمن أطاعني جعلت الملوك عليه رحمة؛ ومن عصاني جعلت الملوك عليه نقمة «1» .(3/87)
المسيح عليه السّلام:
ومما أنزل الله على المسيح في الإنجيل: شوّقناكم فلم تشتاقوا؛ ونحنا لكم فلم تبكوا؛ يا صاحب الخمسين، ما قدّمت وما أخّرت؟ يا صاحب الستين، قد دنا حصادك! يا صاحب السبعين، هلمّ إلى الحساب.
وفي بعض الكتب القديمة المنزلة: يقول الله عز وجل يوم القيامة: يا عبادي طالما ظمئتم، وتقلّصت في الدنيا شفاهكم، وغارت أعينكم عطشا وجوعا: فكلوا واشربوا هنيئا بما أسلفتم في الأيام الخالية.
وأوحى الله تعالى إلى نبيّ من أنبيائه: هب لي من قلبك الخشوع، ومن نفسك الخضوع، ومن عينيك الدّموع؛ وسلني فأنا القريب المجيب.
وفي بعض الكتب: عبدي، كم أتحبّب إليك بالنعم وتتبغّض إليّ بالمعاصي؛ خيري إليك نازل، وشرّك إليّ صاعد.
وأوحى الله إلى نبيّ من أنبيائه: إن أردت أن تسكن غدا حظيرة القدس، فكن في الدنيا فريدا، وحيدا، طريدا، مهموما، حزينا؛ كالطير الوحدانيّ: يظل بأرض الفلاة، ويرد ماء العيون، ويأكل من أطراف الشجر؛ فاذا جنّ عليه الليل أوى وحده، واستيحاشا من الطير واستئناسا بربه.
ومما أوحى الله إلى موسى في التوراة: يا موسى بن عمران، يا صاحب جبل لبنان، أنت عبدي وأنا إلهك الدّيّان، لا تستذلّ الفقير، ولا تغبط الغني بشيء يسير، وكن عند ذكري خاشعا، وعند تلاوة وحي طائعا؛ أسمعني لذاذة التوراة بصوت حزين.
موسى عليه السّلام:
وقال وهب بن منبّه: أوحى الله إلى موسى عند الشجرة: لا تعجبنّك زينة فرعون ولا ما متّع به، ولا تمدّنّ إلى ذلك عينك؛ فإنها زهرة الحياة الدنيا وزينة المترفين؛ ولو شئت أن أوتيك زينة يعلم فرعون حين ينظر إليها أن مقدرته تعجز عنها فعلت؛(3/88)
ولكني أرغبتك عن ذلك وأزويته عنك؛ فكذلك أفعل بأوليائي؛ إني لأذودهم عن نعيمها. ولذاذتها كما يذود الراعي الشفيق غنمه عن مراتع الهلكة؛ وإني لأحميهم عيشها وحلوتها، كما يحمي الراعي ذوده عن مبارك العرّ «1» .
يوسف عليه السّلام:
وذكر عن وهب بن منبه أن يوسف لما لبث في السجن بضع سنين، أرسل الله جبريل إليه بالبشارة بخروجه، فقال: أما تعرفني أيها الصّدّيق؟ قال يوسف: أرى صورة طاهرة وروحا طيبا لا يشبه أرواح الخاطئين. قال جبريل: أنا الروح الأمين، رسول رب العالمين. قال يوسف: فما أدخلك مداخل المذنبين، وأنت سيد المرسلين، ورأس المقرّبين؟ قال: ألم تعلم أيها الصديق أن الله يطهر البيوت بطهر النبيين. وأن البقعة التي تكون فيها هي أطهر الأرضين، وأنّ الله قد طهّر بك السجن وما حوله يا ابن الطاهرين. قال يوسف: كيف تشبهني بالصالحين، وتسميني بأسماء الصادقين، وتعدّني مع آبائي المخلصين، وأنا أسير بين هؤلاء المجرمين؟ قال جبريل: لم يكلم قلبك الجزع، ولم يغيّر خلفك البلاء، ولم يتعاظمك السجن، ولم تطأ فراش سيّدك، ولم ينسك بلاء الدنيا بلاء الآخرة، ولم تنسك نفسك أباك، ولا أبوك ربّك، وهذا الزمان الذي يفكّ الله فيه عنقك، ويعتق فيه رقبتك، ويبيّن للناس فيه حكمتك، ويصدّق رؤياك، وينصفك ممن ظلمك، ويجمع لك أحبتك ويهب لك ملك مصر تملك ملوكها، وتذل جبابرتها، وتصغّر عظماءها، ويذلّ لك أعزتها. ويخدمك سوقتها «2» ، يخوّلك خولها، ويرحم بك مساكينها، ويلقي لك المودة والهيبة في قلوبهم، ويجعل لك اليد العليا عليهم، والأثر الصالح فيهم، ويرى فرعون حلما يفزع منه حتى يسهر ليله، ويذهب نومه، ويغمّى عليه، تفسيره وعلى السحرة والكهنة، ويعلّمك تأويله.(3/89)
مواعظ الحكماء
لعلي:
قال علي بن أبي طالب كرّم الله وجهه: أوصيكم بخمس لو ضربت عليها آباط «1» الإبل لكان قليلا: لا يرجونّ أحدكم إلا ربّه، ولا يخافنّ إلا ذنبه، ولا يستحي إذا سئل عما لا يعلم أن يقول لا أعلم، وإذا لم يعلم الشيء أن يتعلّمه. واعلموا أنّ الصبر من الإيمان بمنزلة الرأس من الجسد، فإذا قطع الرأس ذهب الجسد.
وقال أيضا: من أراد الغنى بغير مال، والكثرة بلا عشيرة، فليتحوّل من ذل المعصية إلى عزّ الطاعة؛ أبى الله إلا أن يذل من عصاه.
للحسن:
وقال الحسن: من خاف الله أخاف الله منه كل شيء، ومن خاف الناس أخافه الله من كل شيء.
لبعضهم:
وقال بعضهم: من عمل لآخرته كفاه الله أمر دنياه، ومن أصلح ما بينه وبين الله أصلح الله ما بينه وبين الناس، ومن أخلص سريرته أصلح الله علانيته.
كلمات أربع للعرب والعجم:
قال العتبي: اجتمعت العرب والعجم على أربع كلمات، قالوا: لا تحملن على قلبك ما لا تطيق، ولا تعملن عملا ليس لك فيه منفعة، ولا تثق بامرأة، ولا تغتر بمال وإن كثر.
لأبي بكر في موته يوصي عمر:
وقال أبو بكر الصدّيق لعمر بن الخطاب رضي الله عنهما عند موته حين استخلفه:(3/90)
أوصيك بتقوى الله؛ فإنّ لله عملا بالليل لا يقبله بالنهار، وعملا بالنهار لا يقبله بالليل؛ وإنه لا يقبل نافلة «1» حتى تؤدّى الفرائض. وإنما ثقلت موازين من ثقلت موازينه يوم القيامة باتّباعهم الحق وثقله عليهم؛ وحقّ لميزان لا يوضع فيه إلا الحق أن يكون ثقيلا. وإنما خفت موازين من خفّت موازينه يوم القيامة باتباعهم الباطل في الدنيا وخفّته عليهم؛ وحق لميزان لا يوضع فيه إلا الباطل أن يكون خفيفا. وإن الله ذكر أهل الجنة فذكرهم بأحسن أعمالهم، وتجاوز عن سيئاتهم، فإذا سمعت بهم قلت: إني أخاف ألّا أكون من هؤلاء. وذكر أهل النار بأقبح أعمالهم، وأمسك عن حسناتهم؛ فإذا سمعت بهم قلت: أنا خير من هؤلاء وذكر آية الرحمة مع آية العذاب:
ليكون العبد راغبا راهبا، لا يتمنى على الله غير الحق. فإذا حفظت وصيتي فلا يكونن غائب أحبّ إليك من الموت، وهو آتيك؛ وإن ضيعت وصيتي فلا يكونن غائب أكره إليك من الموت، ولن تعجزه.
الحسن وابن الأهتم:
ودخل الحسن بن أبي الحسن على عبد الله بن الأهتم يعوده في مرضه؛ فرآه يصوّب بصره في صندوق في بيته ويصعّده، ثم قال: أبا سعيد، ما تقول في مائة ألف في هذا الصندوق لم أؤدّ منها زكاة ولم أصل منها رحما؟ قال: ثكلتك أمك! ولمن كنت تجمعها؟ قال: لروعة الزمان؛ وجفوة السلطان؛ ومكاثرة العشيرة. قال: ثم مات، فشهده الحسن. فلما فرغ من دفنه قال: انظروا إلى هذا المسكين! أتاه شيطانه فحذّره روعة زمانه، وجفوة سلطانه، ومكاثرة عشيرته، عما رزقه الله إياه وغمره فيه؛ انظروا كيف خرج منها مسلوبا محزونا، ثم التفت إلى الوارث فقال: أيها الوارث، لا تخدعنّ كما خدع صويحبك بالأمس، أتاك هذا المال حلالا فلا يكوننّ عليك وبالا. أتاك عفوا صفوا، ممن كان له جموعا منوعا؛ من باطل جمعه، ومن حق منعه؛ قطع فيه لجج «2» البحار، ومفاوز القفار، لم تكدح فيه بيمين، ولم يعرق لك فيه جبين. إن يوم(3/91)
القيامة يوم ذو حسرات، وإن من أعظم الحسرات غدا أن ترى مالك في ميزان غيرك. فيالها عثرة لا تقال. وتوبة لا تنال.
لحكيم يعظ قوما:
ووعظ حكيم قوما فقال: يا قوم، استبدلوا العوارى «1» بالهبات تحمدوا العقبى، واستقبلوا المصائب بالصبر تستحقوا النّعمى، واستديموا الكرامة بالشكر تستوجبوا الزيادة. واعرفوا فضل البقاء في النعمة والغنى في السلامة قبل الفتنة الفاحشة، والمثلة «2» البينة، وانتقال العمل، وحلول الأجل؛ فإنما أنتم في الدنيا أغراض المنايا، وأوطان البلايا، ولن تنالوا نعمة إلا بفراق أخرى، ولا يستقبل منكم معمّر يوما من عمره إلا بانتقاص آخر من أجله، ولا يحيا له أثر إلا مات له أثر، فأنتم أعوان الحتوف على أنفسكم، وفي معاشكم أسباب مناياكم، لا يمنعكم شيء منها، ولا يشغلكم شيء عنها، فأنتم الأخلاف بعد الأسلاف، وستكونون أسلافا بعد الأخلاف، بكل سبيل منكر صريع منعفر، وقائم ينتظر، فمن أي وجه تطلبون البقاء، وهذان الليل والنهار لم يرفعا شيئا قط إلا أسرعا الكرة في هدمه، ولا عقدا أمرا إلا رجعا في نقضه.
لأبي الدرداء:
وقال أبو الدّرداء: يا أهل دمشق، مالكم تبنون ما لا تسكنون، وتأملون ما لا تدركون، وتجمعون ما لا تأكلون؟ هذه عاد وثمود قد ملئوا ما بين بصرى وعدن أموالا وأولادا، فمن يشتري مني ما تركوا بدرهمين.
لابن شبرمة:
وقال ابن شبرمة: إذا كان البدن سقيما لم ينجع في الطعام ولا الشراب، وإذا كان(3/92)
القلب مغرما بحب الدنيا لم تنجع فيه الموعظة.
لابن خثيم:
وقال الربيع بن خثيم: أقلل الكلام إلا من تسع: تكبير، وتهليل، وتسبيح، وتحميد، وسؤالك الخير، وتعوّذك من الشر، وأمرك بالمعروف، ونهيك عن المنكر، وقراءتك القرآن.
لحكيم يعظ:
قال رجل لبعض الحكماء: عظني! قال: لا يراك الله بحيث نهاك، ولا يفقدك من حيث أمرك.
وقيل لحكيم: عظني! قال: جميع المواعظ كلّها منتظمة في حرف واحد. قال: وما هو؟ قال: تجمع على طاعة الله فإذا أنت قد حويت المواعظ كلها.
أبو جعفر وسفيان:
وقال أبو جعفر لسفيان: عظني! قال: وما عملت فيما علمت فأعظك فيما جهلت؟
الرشيد وابن السماك:
قال هارون لابن السمّاك: عظني! قال: كفى بالقرآن واعظا. يقول الله تبارك وتعالى: أَلَمْ تَرَ كَيْفَ فَعَلَ رَبُّكَ بِعادٍ، إِرَمَ ذاتِ الْعِمادِ الَّتِي لَمْ يُخْلَقْ مِثْلُها فِي الْبِلادِ، وَثَمُودَ الَّذِينَ جابُوا الصَّخْرَ بِالْوادِ، وَفِرْعَوْنَ ذِي الْأَوْتادِ، الَّذِينَ طَغَوْا فِي الْبِلادِ، فَأَكْثَرُوا فِيهَا الْفَسادَ، فَصَبَّ عَلَيْهِمْ رَبُّكَ سَوْطَ عَذابٍ، إِنَّ رَبَّكَ لَبِالْمِرْصادِ
«1» .
مكاتبة جرت بين الحكماء
بين حكيمين:
عتب حكيم على حكيم، فكتب المعتوب عليه إلى العاتب: يا أخي، إن أيام العمر أقصر من أن تحتمل الهجر. فرجع إليه.(3/93)