وأما «أى» فإنه سؤال عن تصور حقيقة البعضية كما قال تعالى: أَيُّ الْفَرِيقَيْنِ خَيْرٌ مَقاماً
[مريم: 73] والمعنى أنحن، أم أصحاب محمد صلى الله عليه وآله، وقال الله تعالى:
قُلِ ادْعُوا اللَّهَ أَوِ ادْعُوا الرَّحْمنَ أَيًّا ما تَدْعُوا فَلَهُ الْأَسْماءُ الْحُسْنى
[الإسراء: 110] يعنى من هذه الذات المتصورة، أو هذه الصفات المتصورة.
وأما «كم» فإنها سؤال عن تصور حقيقة العدد، قال الله تعالى: وَكَمْ مِنْ مَلَكٍ فِي السَّماواتِ
[النجم: 26] وقال تعالى: وَكَمْ أَهْلَكْنا مِنَ الْقُرُونِ
[الإسراء: 17] وقال تعالى:
وَكَمْ قَصَمْنا مِنْ قَرْيَةٍ
[الأنبياء: 11] .
وأما كيف، فإنها سؤال عن حقيقة الحال وتصوره، قال الله تعالى: أَلَمْ تَرَ كَيْفَ فَعَلَ رَبُّكَ
[الفيل: 1] وقال تعالى: فَكَيْفَ إِذا جِئْنا مِنْ كُلِّ أُمَّةٍ بِشَهِيدٍ
[النساء: 41] وأما «أين» فإنه سؤال عن تصور حقيقة المكان، قال الله تعالى: أَيْنَ شُرَكاؤُكُمُ
[الأنعام: 22] وقال تعالى أَيْنَ ما كُنْتُمْ تَعْبُدُونَ (92)
[الشعراء: 92] وأما «أيان» ، فإنه سؤال عن تصور حقيقة الزمان المستقبل، قال تعالى: يَسْئَلُونَكَ عَنِ السَّاعَةِ أَيَّانَ مُرْساها
[الأعراف:
187] وقيل إنه مختص بالأمور الهائلة العظيمة.
وأما «متى» ، فإنه مختص بتصور حقيقة الزمان، قال الله تعالى: وَيَقُولُونَ مَتى هذَا الْوَعْدُ إِنْ كُنْتُمْ صادِقِينَ (71)
[النمل: 71] وقال تعالى: وَيَقُولُونَ «1» مَتى هُوَ
[الإسراء: 51] فهذا كله حكم هذه الأسماء إذا كانت مستعملة فى الطلب.
القسم الثانى فى بيان ما يكون دالّا على التصور والتصديق جميعا،
وهذا هو الهمزة، فإفادتها للتصور فى مثل قولك: أإدامك زيت أم عسل؟ وأعمامتك قطن أم حرير؟ وأما كونها سؤالا عن التصديق ففى نحو قولك: أقام زيد؟ وأزيد قاعد؟ ونحو أأنت راكب؟ ففى الأول يكون الجواب بذكر حقيقة الشىء وتصور ماهيته، وفى الثانى يكون الجواب بذكر حصول الصفة أو نفيها، وهذه هى فائدة التصور والتصديق، وقد يكون سؤالا عن العلة فى نحو قولك:
أللعالم صانع، ولهذا تجيبه بذكر المؤثر أو عدمه.(3/159)
القسم الثالث أن يكون موضوعا للسؤال عن التصديق لا غير،
وهو هل، فإنك تقول هل قام زيد أو قعد، وهل عمرو خارج، ويكون بمعنى «قد» قال الله تعالى: هَلْ أَتى عَلَى الْإِنْسانِ حِينٌ مِنَ الدَّهْرِ
[الإنسان: 1] فهذا تقرير الكلام على كون هذه الآلات دالة على الطلب، وكيفية استعمالها فيه، وقد ترد مستعملة فى غير الطلب على جهة المجاز، فالهمزة قد تستعمل للتقرير كقوله تعالى: أَلَمْ نَشْرَحْ لَكَ صَدْرَكَ (1)
[الشرح: 1] وقوله تعالى: أَلَمْ نُرَبِّكَ فِينا وَلِيداً
[الشعراء: 18] وللإنكار كقوله تعالى: أَغَيْرَ اللَّهِ تَدْعُونَ
[الأنعام: 40] وقوله تعالى: أَلَيْسَ اللَّهُ بِكافٍ عَبْدَهُ
[الزمر: 36] وللتكذيب كقوله تعالى: أَفَأَصْفاكُمْ رَبُّكُمْ بِالْبَنِينَ
[الإسراء: 40] وقد ترد للتهكم كقوله تعالى: قالُوا يا شُعَيْبُ أَصَلاتُكَ تَأْمُرُكَ أَنْ نَتْرُكَ ما يَعْبُدُ آباؤُنا
[هود: 87] وهل قد تستعمل بمعنى قد، كما أشرنا إليه، وقد ترد «ما» للتعجب كقوله تعالى: ما لِيَ لا أَرَى الْهُدْهُدَ
[النمل: 20] وتستعمل «من» للتعظيم كقراءة ابن عباس فى قوله تعالى: وَلَقَدْ نَجَّيْنا بَنِي إِسْرائِيلَ مِنَ الْعَذابِ الْمُهِينِ (30) مِنْ فِرْعَوْنَ
[الدخان: 30- 31] بدليل: إِنَّهُ كانَ عالِياً مِنَ الْمُسْرِفِينَ (31)
[الدخان: 31] وللتحقير كقولك: من هذا، تحقيرا لحاله، ومن التعظيم قوله تعالى: مَنْ ذَا الَّذِي يُقْرِضُ اللَّهَ قَرْضاً حَسَناً
[البقرة: 245] و «كم» تستعمل للاستبطاء كقولك: كم دعوتك، و «أنى» تستعمل للاستبعاد كقوله تعالى: أَنَّى لَهُمُ الذِّكْرى
[الدخان: 13] .
الضرب الرابع: التمنى
وهو عبارة عن توقع أمر محبوب فى المستقبل، والكلمة الموضوعة له حقيقة هى «ليت» وحدها، وقد يقع التمنى «بهل» كقوله تعالى: فَهَلْ لَنا مِنْ شُفَعاءَ فَيَشْفَعُوا لَنا
[الأعراف: 53] و «بلو» كقوله تعالى: قالَ لَوْ أَنَّ لِي بِكُمْ قُوَّةً
[هود: 80] وليس من شرط المتمنى أن يكون ممكنا بل يقع فى الممكن وغير الممكن، قال الله تعالى: يا لَيْتَ لَنا مِثْلَ ما أُوتِيَ قارُونُ
[القصص: 79] وقال تعالى: أَوْ نُرَدُّ فَنَعْمَلَ غَيْرَ الَّذِي كُنَّا نَعْمَلُ
[الأعراف: 53] وقال تعالى: يا لَيْتَنِي كُنْتُ مَعَهُمْ
[النساء: 73] فأما لولا، ولوما، وهلا، وألا، بقلب(3/160)
الهاء همزة، فإنها مركبة من لو، وهل، مزيدتين معهما، ما، ولا، لإفادة التحضيض فى الأفعال المضارعة فى نحو قولك: هلا تقوم، ولوما تقوم، والتوبيخ فى الماضى كقولك:
هلا قمت، وألّا خرجت، ففى الأول حث على الفعل ليفعله فى المستقبل، وفى الثانى توبيخ على الفعل، لم لم يفعله، وتنديم له على تركه، والعرض هو نحو قولك: ألا تنزل فتصيب خيرا، وهو مولّد عن الاستفهام، خلا أنه لما توجه بحكم قرينة الحال أنه ليس الغرض هو الاستعلام، وإنما المقصود منه: ألا تحب النزول مع تحياته، فلهذا كان عرضا، وأما لعل، فهو للتوقع فى مرجو أو مخوف، فالمرجو فى مثل قوله تعالى: لَعَلِّي أَبْلُغُ الْأَسْبابَ (36) أَسْبابَ السَّماواتِ
[غافر: 36- 37] والمخوف فى مثل قوله تعالى: وَما يُدْرِيكَ لَعَلَّ السَّاعَةَ قَرِيبٌ 17
[الشورى: 17] قد تستعمل لعل فى التمنى فى مثل قوله:
«لعلى أزورك فتكرمنى» فهى مولدة للتمنى، والسبب فى ذلك هو بعد المرجو عن الحصول، فلهذا أشبه المتمنى لما كان قد يكون فى الممكن وغير الممكن، والسبب فى خروج بعض هذه المعانى إلى بعض، هو تقاربها، والمعتمد فى ذلك على قرائن الأحوال فلأجل ذلك يجوز استعمال بعضها مكان بعض.
الضرب الخامس النداء
وهو من جملة المعانى الإنشائية الطلبية، ولهذا فإنه إذا قيل: يا زيد، لم يقل فيه: صدقت أو كذبت لما كان إنشاء، وحروفه يا، وأخواتها، فمنها ما يستعمل للقريب كالهمزة، ومنها ما يستعمل للبعيد كأيا، ومنها ما يستعمل فيهما جميعا، وهو «يا» كما هو مقرر فى علم الإعراب، ومعنى النداء هو التصويت بالمنادى لإقباله عليك، هذا هو الأصل فى النداء، وقد تخرج صيغة النداء إلى أن يكون المراد منها غير الإقبال، بل يراد منها التخصيص، كقولك: أما أنا فأفعل كذا أيها الرجل، ونحن نفعل كذا أيها القوم، واللهم اغفر لنا أيتها العصابة، ولم يعنو بالرجل، والقوم، إلا أنفسهم، وهكذا مرادهم بأنا، ونحن، فلو كان منادى لكان المقصود غيره، كما إذا قلت: يا زيد، فإن المنادى الطالب هو غير المنادى المطلوب، فهذا ما أردنا ذكره من الأمور الإنشائية الطلبية والله أعلم.(3/161)
دقيقة
اعلم أن الخبر والإنشاء متضادان، لأن الخبر ما كان محتملا للصدق والكذب، والإنشاء ما ليس يحتمل صدقا ولا كذبا، فلا يجوز فى صيغة واحدة أن تكون حاملة إنشاء وخبرا، لما ذكرناه من التناقض بينهما، نعم قد ترد صيغة الخبر والمقصود بها الإنشاء، إما لطلب الفعل، وإما لإظهار الحرص على وقوعه، وهذا كقوله تعالى: وَالْوالِداتُ يُرْضِعْنَ أَوْلادَهُنَّ حَوْلَيْنِ كامِلَيْنِ
[البقرة: 233] ونحو قوله تعالى: وَمَنْ دَخَلَهُ كانَ آمِناً
[آل عمران: 97] فليس واردا على جهة الإخبار فيهما جميعا، لأنه يلزم منه الكذب، وهو محال فى كلامه تعالى، لأن كثيرا من الوالدات لا ترضع الحولين، بل تزيد وتنقص، وهكذا قد يدخل البيت من هو خائف، فلهذا وجب تأويله على جهة الإنشاء، والمعنى فيه، لترضع الوالدات أولادهن حولين على جهة الندب والإرشاد إلى المصالح، وهكذا قوله: وَمَنْ دَخَلَهُ كانَ آمِناً
معناه ليأمن من دخله، ومخالفة الأوامر لا فساد فيها، ولا يلزم عليه محال، بخلاف الأخبار فإنه يلزم من مخالفتها الكذب، ولا يرد الإنشاء، ويكون فى معنى الخبر إلا على جهة الندرة فى مثل قولك: وجدت الناس «اخبر تقله» أى وجدت الناس يقال عندهم هذا القول، والسر فى ذلك هو أن الإنشاء إذا ورد بمعنى الخبر فليس فيه مبالغة، بخلاف عكسه، فإنه يفيد المبالغة، وهو الدوام والاستمرار كما مثلناه فى الآيتين اللتين تلوناهما، وتحت هذه الأمور التى ذكرناها من هذا القسم فى المسائل الخبرية والطلبية، من المعانى القرآنية، والأسرار التنزيلية، مما يكون متعلقا بفن المعانى ما لا يحصى عده، ولا يحصر حده، يدريه كل ألمعىّ نحرير، ويفهمه كل ذكى بصير، ولا يزداد على كثرة الرد والمطالعة إلا وضوحا وتقريرا.(3/162)
النظر الثالث فى التعلقات الفعلية
اعلم أن الفعل يذكر وله تعلقات تخصه، من الذكر والحذف، والشرط، ويذكر الفاعل، وله تعلقات تخصه أيضا، ويذكر المفعول، وله تعلقات من الذكر والحذف، فهذه ضروب ثلاثة نذكر ما يخص كل واحد منها، وإنما صدرنا هذا النظر بذكر تعلقات الأفعال، لما كان أصل التعلق لها، فلهذا كان مصدّرا بها والله الموفق.
الضرب الأول فى بيان ما يكون مختصا بالأفعال أنفسها،
والأصل هو ذكر الفعل، لأنه هو الأصل فى البيان، كقوله تعالى: وَجاءَ رَبُّكَ
[الفجر: 22] وقال الله تعالى: وَقالَ رَبُّكُمُ ادْعُونِي أَسْتَجِبْ لَكُمْ
[غافر: 60] ، فَاذْكُرُونِي أَذْكُرْكُمْ
[البقرة: 152] إلى غير ذلك من الآيات التى يذكر فيها الفعل، مما لا يحصى كثرة، ولكن يعرض له التقديم والتأخير، والحذف، وتعلق الشرط به، فهذه حالات ثلاث نذكرها بمعونة الله.
الحالة الأولى: تقديمه وتأخيره،
وذلك يكون على أوجه ثلاثة، الوجه الأول أن يكون مؤخرا، وإنما حسن فيه ذلك لأمرين، أما أولا: فلأن تقديم المفعول ربما كان من أجل الاهتمام به، والعناية بذكره، ومثال هذا من يكون له محبوب يتغيب عنه، فيقال له: ما تتمنى، فيقول معاجلا وجه الحبيب أتمنى، وكمن يمرض كثيرا فيقال له: ما تسأل الله تعالى، فيجيب تعجلا للإجابة: العافية أسأل، وأما ثانيا: فبأن يكون أصل الكلام هو التقديم، لكن فى مقتضى الحديث ما يقتضى تأخيره لعارض لفظى، ففى هذين الوجهين إنما حسن تأخيره من جهة الاهتمام بغيره، فهذا كان أحق بالذكر، وإذا حسن تقديم مفعوله كان مؤخرا، وثانيها: تقديمه وهو الأصل كقولك: ضربت زيدا، وأكرمته، فتقدم الفعل لما كان الأصل هو تقديمه، قال الله تعالى: وَعَدَ اللَّهُ الَّذِينَ آمَنُوا
[المائدة: 9] وقال الله تعالى: وَرَدَّ اللَّهُ الَّذِينَ كَفَرُوا بِغَيْظِهِمْ
[الأحزاب: 25] إلى غير ذلك، وهو كثير، فاكتفينا بالأمثلة القليلة، فحصل من مجموع ما ذكرناه أن الفعل إذا كان مقدما فهو الأصل، لأنه عامل، ومن حق العامل أن يكون مقدما على معموله، وإذا كان مؤخرا فهو على خلاف الأصل لغرض وفائدة كما نبهنا عليه، وثالثها توسطه بين مفعوليه، وإنما كان كذلك من أجل الاهتمام بالمقدم منهما.(3/163)
الحالة الثانية: حذفه،
وهو يكون على أوجه ثلاثة، أولها
[الوجه الاول] أن يكون جوابا
كقولك: من جاءك، فتقول زيد، أى جاءنى زيد، وإنما جاز حذفه لأجل القرينة الحالية، فلأجل هذا كانت مغنية عن ذكره، قال الله تعالى: وَلَئِنْ سَأَلْتَهُمْ مَنْ خَلَقَ السَّماواتِ وَالْأَرْضَ لَيَقُولُنَّ اللَّهُ
[الزمر: 38] وتقديره خلقهن الله، وقال تعالى: وَلَئِنْ سَأَلْتَهُمْ مَنْ نَزَّلَ مِنَ السَّماءِ ماءً فَأَحْيا بِهِ الْأَرْضَ مِنْ بَعْدِ مَوْتِها لَيَقُولُنَّ اللَّهُ
[العنكبوت: 63] والمعنى نزله الله فهذان الفعلان قد حذفا، اتكالا على القرينة الدالة عليهما
[الوجه الثانى] وثانيها أن يكون المسلط على حذفه هو كثرة الاستعمال مع قيام حرف الجر مقامه،
ومثال ذلك قولنا «بسم الله» فإنه إنما يذكر للتبرك عند كل فعل من الأفعال، فإن الفعل ههنا يكون محذوفا، لما ذكرناه من الكثرة، وهكذا فى مثل قولهم «بالرفاء والبنين» دعاء للعرس، والمعنى نكحت، أو تزوجت بالرفاء والبنين،
[الوجه الثالث] وثالثها أن يكون هناك ما يدل على الفعل المحذوف،
مما يشعر بالفعل، كحرف الشرط فى نحو قولهم «إن ذو لوثة لآنا» والمعنى إن لان ذو لوثة لانا، وقولهم «لو ذات سوار لطمتنى» والتقدير لو لطمتنى ذات سوار، قال الله تعالى: قُلْ لَوْ أَنْتُمْ تَمْلِكُونَ خَزائِنَ رَحْمَةِ رَبِّي
[الإسراء: 100] لأن التقدير فيه: لو تملكون، فلما حذف الفعل انفصل الضمير لا محالة، وقوله تعالى: يَسْتَفْتُونَكَ قُلِ اللَّهُ يُفْتِيكُمْ فِي الْكَلالَةِ إِنِ امْرُؤٌ هَلَكَ
[النساء: 176] أى هلك امرؤ هلك، والذى جرّا على حذفه هو دلالة حرف الشرط عليه، لأن الشرط إنما يتصل بالفعل لا غير ويختص به.
الحالة الثالثة: تعلق الشرط به،
واعلم أن جميع الشروط كلها مختصة بالأفعال، لأنها تتجدد، والأفعال متجددة، فلا جرم ناسب معناها الفعل فاختصت به، فإن الشرطية، لا تقع إلا فى المواضع المحتملة المشكوك فيها، قال الله تعالى: وَإِنْ جَنَحُوا لِلسَّلْمِ فَاجْنَحْ لَها
[الأنفال: 61] وقال تعالى: وَإِنْ يُكَذِّبُوكَ فَقَدْ كُذِّبَتْ رُسُلٌ مِنْ قَبْلِكَ
[فاطر: 4] وقال تعالى: فَإِنْ جاؤُكَ فَاحْكُمْ بَيْنَهُمْ
[المائدة: 42] فإن استعملت فى مقام القطع، فإما أن يكون على جهة التجاهل وأنت قاطع بذلك الأمر، ولكنك ترى أنك جاهل به، وإما على أن المخاطب ليس قاطعا بالأمر، وإن كنت قاطعا به، كقولك لمن يكذبك فيما تقوله وتخبر به: إن صدقت فقل لى ماذا تفعل، وإما لتنزيل المخاطب منزلة الجاهل، لعدم جريه على موجب العلم، وهذا كما يقول الأب لابن لا يقوم بحقه: إن كنت أباك فاحفظ لى صنيعى فيك.(3/164)
وأما «إذا» فإنها تكون شرطا فى الأمور الواضحة كقوله تعالى: ثُمَّ إِذا أَذاقَهُمْ مِنْهُ رَحْمَةً إِذا فَرِيقٌ مِنْهُمْ بِرَبِّهِمْ يُشْرِكُونَ (33)
[الروم: 33] وتقول إذا طلعت الشمس جئتك، وقال تعالى: وَإِذا جاءَهُمْ أَمْرٌ مِنَ الْأَمْنِ أَوِ الْخَوْفِ أَذاعُوا بِهِ
[النساء: 83] .
و «من» للتعميم فى أولى العلم، قال الله تعالى: مَنْ يَعْمَلْ سُوءاً يُجْزَ بِهِ
[النساء:
123] وقال تعالى: فَمَنْ يَعْمَلْ مِثْقالَ ذَرَّةٍ خَيْراً يَرَهُ (7) وَمَنْ يَعْمَلْ مِثْقالَ ذَرَّةٍ شَرًّا يَرَهُ (8)
[الزلزلة: 7- 8] .
و «أى» لتعميم ما تضاف إليه فى أولى العلم وغيرهم، قال الله تعالى: ثُمَّ لَنَنْزِعَنَّ مِنْ كُلِّ شِيعَةٍ أَيُّهُمْ أَشَدُّ عَلَى الرَّحْمنِ عِتِيًّا (69)
[مريم: 69] لأن تقديره ننزعه، فى أحد وجوهها و «متى» للتعميم فى الأوقات المستقبلة، وتستعمل مجردة عن «ما» وتستعمل مؤكدة «بما» كقولك: متى ما تأتنى آتك.
و «أين» لتعميم الأمكنة، قال الله تعالى: أَيْنَما تَكُونُوا يُدْرِكْكُمُ الْمَوْتُ
[النساء: 87] وقال تعالى: يْنَ ما تَكُونُوا يَأْتِ بِكُمُ اللَّهُ جَمِيعاً
[البقرة: 148] .
و «أنى» لتعميم الأحوال، كقولك: أنى تكن أكن و «حيثما» لتعميم الأمكنة، قال الله تعالى: وَحَيْثُ ما كُنْتُمْ فَوَلُّوا وُجُوهَكُمْ شَطْرَهُ
[البقرة: 144] .
و «ما» تكون للتعميم فى كل الأشياء قال الله تعالى: وَما تَفْعَلُوا مِنْ خَيْرٍ فَإِنَّ اللَّهَ بِهِ عَلِيمٌ (215)
[البقرة: 215] وقال تعالى: وَما تُقَدِّمُوا لِأَنْفُسِكُمْ مِنْ خَيْرٍ تَجِدُوهُ
[المزمل: 20] و «مهما» أعم، قال الله تعالى: مَهْما تَأْتِنا بِهِ مِنْ آيَةٍ لِتَسْحَرَنا بِها فَما نَحْنُ لَكَ بِمُؤْمِنِينَ (132)
[الأعراف: 132] .
وأما «لو» فهى للشرط فى الماضى دالة على امتناع الشىء لامتناع غيره قال الله تعالى:
لَوْ كانَ فِيهِما آلِهَةٌ إِلَّا اللَّهُ لَفَسَدَتا
[الأنبياء: 22] أى امتنع الفساد لامتناع وجود الآلهة.
وأما «إمّا» المكسورة، فهى «إن» أكدت «بما» فأكد شرطها بالنون المؤكدة، قال الله تعالى فَإِمَّا تَرَيِنَّ مِنَ الْبَشَرِ أَحَداً
[مريم: 26] وأما المفتوحة فهى للتفصيل، وفيها معنى الشرط، قال الله تعالى: فَأَمَّا الَّذِينَ شَقُوا فَفِي النَّارِ
[هود: 106] وَأَمَّا الَّذِينَ سُعِدُوا فَفِي الْجَنَّةِ خالِدِينَ
[هود: 108] فهذا كلام فيما يختص بالفعل نفسه من هذه الأمور.(3/165)
الضرب الثانى فى بيان الأمور المختصة بالفاعل نفسه
وتعرض له أحوال لابد من ذكرها، أما حذفه فقليل ما يوجد، لأنه صار معتمدا للحديث، وقد جاء حذفه مع قيام الدلالة عليه فى نحو قوله تعالى: ثُمَّ بَدا لَهُمْ مِنْ بَعْدِ ما رَأَوُا الْآياتِ لَيَسْجُنُنَّهُ حَتَّى حِينٍ (35)
[يوسف: 35] أى بدا لهم سجنه، وفى ضمير الشأن والقصة، فى مثل كان زيد قائم، أى الأمر والشأن، وإنما جاز حذفه لما كانت هذه الجملة قائمة مقامه، وسادة مسدّه ومفسرة له، وفى مثل: نعم رجلا زيد، لأن التقدير فيه: نعم الرجل رجلا زيد، وإنما جاز حذفه، لمكان ما ذكر من التفسير بقولنا: رجلا، ولا يجوز الإقدام على حذفه إلا مع قرينة تدل عليه دلالة ترشد إليه، والأقرب أن يقال فى نعم وبئس، وضمير الشأن، إنه مضمر وليس محذوفا، لأن ما يقتضى الإضمار حاصل وهو الفعل، فلهذا كان جعله مضمرا أحق.
وأما ذكره فهو الأكثر المطرد، إما ظاهرا كقوله تعالى: وَرَدَّ اللَّهُ الَّذِينَ كَفَرُوا بِغَيْظِهِمْ
[الأحزاب: 25] وإما مضمرا كقوله تعالى: اذْكُرُوا نِعْمَتِيَ الَّتِي أَنْعَمْتُ عَلَيْكُمْ
[البقرة: 40] وإما مشارا إليه كقولك جاءنى هذا، وإما موصولا كقوله تعالى: قالَ الَّذِي عِنْدَهُ عِلْمٌ مِنَ الْكِتابِ
. [النمل: 40] وأما تقديمه على الفعل فلا يجوز عند الأكثر من النحاة، لأن الفعل عامل فيه، ومن حق العامل أن يكون سابقا على معموله، فأما المفعول فإنما جاز تقديمه وتأخيره لدلالة دلت عليه.(3/166)
الضرب الثالث فى بيان الأمور المختصة بالمفعول
أما ذكره فمن أجل البيان، كقوله تعالى: اذْكُرُوا نِعْمَتِيَ
[البقرة: 40] ، فَاذْكُرُونِي أَذْكُرْكُمْ وَاشْكُرُوا لِي
[البقرة: 152] وقوله تعالى: وَسْئَلْهُمْ عَنِ الْقَرْيَةِ
[الأعراف: 163] ، فَسْئَلْ بَنِي إِسْرائِيلَ
[الإسراء: 101] ظاهرا ومضمرا، ومشار إليه، كقولك: اضرب هذا، وموصولا كقوله تعالى: فَسْئَلِ الَّذِينَ يَقْرَؤُنَ الْكِتابَ
[يونس: 94] .
وأما حذفه فهو على نوعين، فالنوع الأول أن يحذف لفظا ويراد معنى وتقديرا، وهذا كقوله تعالى: فَلَوْ شاءَ لَهَداكُمْ أَجْمَعِينَ (149)
[الأنعام: 149] والتقدير فيه لو شاء هدايتكم لهداكم، لكنه حذف لما كان سياق الكلام دالا عليه، وهكذا قوله تعالى: (وما عملت أيديهم) «1» أى عملته، وقوله تعالى: وَرَبُّكَ يَخْلُقُ ما يَشاءُ وَيَخْتارُ ما كانَ لَهُمُ الْخِيَرَةُ
[القصص: 68] والتقدير ما كان لهم الخيرة فيه، وقد يحذف للتعميم مع إفادة الاختصار، كقول من قال: قد كان منك ما يؤلم أى كل أحد، وعليه دل قوله تعالى:
وَاللَّهُ يَدْعُوا إِلى دارِ السَّلامِ
[يونس: 25] أى كل أحد، فحذف لدلالة الكلام عليه، ومن هذا ما يكون محذوفا على طريق الاختصار، نحو أصغيت إليه، أى أذنى، ومنه قوله تعالى: أَرِنِي أَنْظُرْ إِلَيْكَ
[الأعراف: 143] أى أرنى ذاتك، وقد يحذف رعاية للفاصلة كقوله تعالى: ما وَدَّعَكَ رَبُّكَ وَما قَلى (3)
[الضحى: 2] والتقدير وما قلاك، لكنه حذفه ليطابق ما قبله من الفاصلة، وقد يحذف لاستهجان ذكره كما حكى عن عائشة رضى الله تعالى عنها أنها قالت: ما رأيت منه ولا رأى منى، والمراد العورة، فهذا تقدير ما يحذف لفظا، ويراد من جهة المعنى.
وأما النوع الثانى وهو ما يحذف ويجعل كأنه صار نسيا منسيا، فهو على وجهين، أحدهما أن يجعل الفعل المذكور كناية عنه متعديا كقول البحترى:
شجو حسّاده وغيظ عداه ... أن يرى مبصر ويسمع واعى «2»(3/167)
فجعل قوله: أن يرى مبصر ويسمع واعى، كناية عن الفعل ومفعوله، وعلى هذا يكون المعنى أن يكون ذا رؤية وذا سمع فيدرك محاسنه وأوصافه الظاهرة وأخباره الدالة على استحقاقه للإمامة والخلافة، فلا يكون منازعا فيها، وثانيهما أن يكون المراد ذكر الفعل مطلقا من غير تفريع على ذكر متعلقاته، كقوله تعالى: أَمَّنْ هُوَ قانِتٌ آناءَ اللَّيْلِ ساجِداً وَقائِماً يَحْذَرُ الْآخِرَةَ وَيَرْجُوا رَحْمَةَ رَبِّهِ قُلْ هَلْ يَسْتَوِي الَّذِينَ يَعْلَمُونَ
[الزمر: 9] ومن هذا قولهم: فلان يعطى ويمنع، ويصل ويقطع، فالغرض هو ذكر الفعل من غير حاجة إلى أمر سواه، فهذا ما أردنا ذكره فى التعلقات الفعلية.(3/168)
النظر الرابع فى الفصل والوصل
ولهما محل عظيم فى علم المعانى، وواقعان منه فى الرتبة العلياء، ونحن الآن نشير إلى زبد منهما مما يتعلق بغرضنا، أما الفصل فهو فى لسان علماء البيان، عبارة عن ترك الواو العاطفة بين الجملتين، وربما أطلق الفصل على توسط الواو بين الجملتين، والأمر فى ذلك قريب بعد الوقوف على حقيقة المعانى، لكن ما قلناه أصدق فى اللقب من جهة أن الجملة الثانية منفصلة عما قبلها، فلا تحتاج إلى واصل هو الواو، فلأجل هذا كان ما ورد من غير واو بين الجملتين أحق بلقب الفصل، وهذا يرد فى التنزيل على أوجه نذكرها، أولها أن تكون الجملة واردة على تقدير سؤال يقتضيه الحال، فلأجل هذا وردت هذه الجملة مجردة عن الواو، جوابا له، ومثاله قوله تعالى فى قصة موسى عليه السلام مع فرعون: قالَ فِرْعَوْنُ وَما رَبُّ الْعالَمِينَ (23)
[الشعراء: 23] فإنما جاءت من غير واو على تقدير سؤال تقديره، فماذا قال فرعون، لما دعاه موسى إلى الله تعالى، قال فرعون: وَما رَبُّ الْعالَمِينَ (23)
ثم قال موسى: قالَ رَبُّ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ وَما بَيْنَهُمَا إِنْ كُنْتُمْ مُوقِنِينَ (24)
[الشعراء: 24] وإنما جاءت من غير واو لأنها على تقدير سؤال كأنه قال: فما قال موسى، قال: الآية، وهلم جرا إلى آخر الآيات التى أتت من غير واو كقوله تعالى: قالَ لِمَنْ حَوْلَهُ أَلا تَسْتَمِعُونَ (25) قالَ رَبُّكُمْ وَرَبُّ آبائِكُمُ الْأَوَّلِينَ (26) قالَ إِنَّ رَسُولَكُمُ الَّذِي أُرْسِلَ إِلَيْكُمْ لَمَجْنُونٌ (27) قالَ رَبُّ الْمَشْرِقِ وَالْمَغْرِبِ وَما بَيْنَهُما إِنْ كُنْتُمْ تَعْقِلُونَ (28) قالَ لَئِنِ اتَّخَذْتَ إِلهَاً غَيْرِي لَأَجْعَلَنَّكَ مِنَ الْمَسْجُونِينَ (29) قالَ أَوَلَوْ جِئْتُكَ بِشَيْءٍ مُبِينٍ (30) قالَ فَأْتِ بِهِ إِنْ كُنْتَ مِنَ الصَّادِقِينَ (31)
[الشعراء: 25- 31] فانظر إلى مجىء القول من غير واو على جهة الاتصال بما قبله على تقدير السؤال الذى ذكرناه، وهكذا ورد فى سورة الذاريات قال الله تعالى: إِذْ دَخَلُوا عَلَيْهِ فَقالُوا سَلاماً قالَ سَلامٌ
[الذاريات: 25] ثم قال فَقَرَّبَهُ إِلَيْهِمْ قالَ أَلا تَأْكُلُونَ (27)
[الذاريات: 27] وهذا من الاختصار العجيب اللائق بالتنزيل، وثانيها: أن تكون الجملة الثانية واردة على جهة الإيضاح والبيان بالإبدال، كقوله تعالى: بَلْ قالُوا مِثْلَ ما قالَ الْأَوَّلُونَ (81) قالُوا أَإِذا مِتْنا وَكُنَّا تُراباً وَعِظاماً أَإِنَّا لَمَبْعُوثُونَ (82)
[المؤمنون: 81- 82] فالقول الأول هو الثانى، أورد على جهة الشرح والبيان، لما دل عليه الأول وقوله تعالى: وَاتَّقُوا الَّذِي أَمَدَّكُمْ بِما(3/169)
تَعْلَمُونَ (132) أَمَدَّكُمْ بِأَنْعامٍ وَبَنِينَ (133) وَجَنَّاتٍ وَعُيُونٍ (134)
[الشعراء: 132- 134] فانظر كيف شرح الإمداد الثانى، إيضاحا للأول وتقوية لأمره، وقوله تعالى: قالَ يا قَوْمِ اتَّبِعُوا الْمُرْسَلِينَ (20) اتَّبِعُوا مَنْ لا يَسْئَلُكُمْ أَجْراً وَهُمْ مُهْتَدُونَ (21)
[يس: 20- 21] فالاتباع الثانى وارد على جهة الإيضاح، هكذا القول فى كل جملة أتت عقب أخرى على الإبدال منها، فإنها تأتى من غير واو لما ذكرناه. وثالثها: أن تكون الجملة الأولى واردة على جهة الخفاء، والمقام مقام رفع لذلك اللبس، فتأتى الجملة الثانية على جهة الكشف والإيضاح لما أبهم من قبل، ومثاله قوله تعالى: وَمِنَ النَّاسِ مَنْ يَقُولُ آمَنَّا بِاللَّهِ وَبِالْيَوْمِ الْآخِرِ وَما هُمْ بِمُؤْمِنِينَ (8)
[البقرة: 8] ثم قال: يُخادِعُونَ اللَّهَ وَالَّذِينَ آمَنُوا وَما يَخْدَعُونَ إِلَّا أَنْفُسَهُمْ
[البقرة: 9] فجرد قوله يُخادِعُونَ اللَّهَ
عن الواو، إرادة لإيضاح ما سلف من قوله: وَمِنَ النَّاسِ مَنْ يَقُولُ آمَنَّا بِاللَّهِ وَبِالْيَوْمِ الْآخِرِ وَما هُمْ بِمُؤْمِنِينَ (8)
ومراده أن كل ما كان قولا باللسان من غير اعتقاد فى القلب فهو خداع لا محالة، وهذه هى حالتهم فيما صدر منهم من الإيمان باللسان، وقوله تعالى: فَوَسْوَسَ إِلَيْهِ الشَّيْطانُ قالَ يا آدَمُ
[طه: 120] فأتى بقوله: قالَ يا آدَمُ
مجردا عن الواو، تنبيها على إيضاح الوسوسة وكشف غطاها وشرح تفاصيلها، ولو أتى بالواو لم يعط هذا المعنى لما فيها من إيهام التغاير المؤذن بعدم الكشف والإعراض عن التقرير، ورابعها: أن تكون الجملة الثانية واردة على جهة رفع التوهم عن الجملة الأولى عن أن تكون مسوقة على جهة التجوّز والسهو والنسيان، ومثاله قوله تعالى فى صدر سورة البقرة الم (1) ذلِكَ الْكِتابُ
[البقرة: 1- 2] فلما كانت هذه الجملة واردة على جهة الإيضاح بأن هذا القرآن قد بلغ أعلى مراتب الكمال، وسيقت على المبالغة بإعظامه، وأنه لا رتبة فوقه، حيث صدّر السورة بالأحرف المقطعة، إشعارا ببلاغته، وجىء باسم الإشارة مع اللام تنبيها على ما تضمنته من البعد، على صفة الإغراق فى وصفه، فلما كان الأمر فيه هكذا، سبق إلى فهم السامع أن ما يرقى به من هذه السمات البالغة، إنما هى على جهة الخرف والسهو والذهول، وأنه لا حقيقة لها، أراد رفع الوهم بما عقبه من الجمل المرادفة، فلهذا وردت من غير واو، إشعارا بما ذكرناه، فقال لا رَيْبَ فِيهِ
[البقرة: 2] أى ليس أهلا لأن يكون مرتابا فيه، وأن يكون محطا للريبة ومحلّا لها، ثم أردفه بقوله تعالى: هُدىً لِلْمُتَّقِينَ (2)
[البقرة: 2] أى إنه هاد لأهل التقوى معطيا لهم حظ الهداية به، ومن هذا قوله تعالى: ما هذا بَشَراً
[يوسف: 31] ثم قال إِنْ هذا إِلَّا(3/170)
مَلَكٌ كَرِيمٌ (31)
[يوسف: 31] فقوله: إِنْ هذا إِلَّا مَلَكٌ كَرِيمٌ (31)
سيق من أجل رفع الوهم بالجملة الأولى، غير أن تكون على ظاهرها من الدلالة على الإغراق فى مدحه، ومنه قوله تعالى: كَأَنْ لَمْ يَسْمَعْها كَأَنَّ فِي أُذُنَيْهِ وَقْراً
[لقمان: 7] فقوله كَأَنَّ فِي أُذُنَيْهِ وَقْراً
إنما ورد على جهة الاتصال من غير واو، تقريرا لما سبق من الجملة الأولى من عدم السماع، وإيضاحا لها. وخامسها أن تكون الجملة الثانية واردة على إرادة قطع الوهم على ما قبلها من الجمل السابقة، ومثاله قوله تعالى: اللَّهُ يَسْتَهْزِئُ بِهِمْ
[البقرة: 15] فإنما وردت من غير واو، دلالة على أن عطفها على ما تقدم من الجملة السابقة متعذر، فلهذا وردت من غير واو، رفعا لهذا التوهم وقطعا له، ويجوز أن تكون واردة على جهة الاستئناف، تنبيها على البلاغة بمطابقة محزّها ومفصلها، وإعلاما من الله تعالى بأنهم من أجل خداعهم ومكرهم مستحقون من الله تعالى غاية الخزى والنّكال، وتسجيلا عليهم بأن الله تعالى هو المتولى لذلك دون سائر المؤمنين، ونبّه بالفعل المضارع فى قوله: يَسْتَهْزِئُ
بحدوث الاستهزاء وتجدده، فأما قوله تعالى: إِنَّما نَحْنُ مُسْتَهْزِؤُنَ (14)
[البقرة: 14] فإنما أتى من غير واو، لاندراجه على جهة البيان تحت قولهم: إِنَّا مَعَكُمْ
[البقرة: 14] أى إنا معكم على الموافقة على ذنبكم فى التكذيب والجحود غير مفارقين لكم مستمرين على اليهودية، وكوننا معهم ليس على جهة التصديق، إنما كان على جهة الاستهزاء والسخرية بما هم عليه من الإيمان، فبهذا يكون ورود الفصل فى كتاب الله تعالى، ولله در لطائف التنزيل، لقد أطلعت طلابها على مطالع أنوارها، وأوضحت لهم المنار، فاستضاءوا بضوء شموسه وأنوار أقمارها، وأما الوصل فهو عطف الجملة على الجملة، والمفرد على مثله، بجامع ما، وهو قد يرد لرفع الإيهام، كقولك: لا، وأيدك الله، فالواو ههنا جاءت لرفع الوهم عن أن يكون دعاء عليه فى ظاهر الأمر كما ترى، وكما يرد فى المفرد فقد يرد فى الجمل، فهذان ضربان، نذكر ما يتعلق بكل واحد منهما بمعونة الله تعالى.(3/171)
الضرب الأول فى بيان عطف المفردات بعضها على بعض بالواو
وإنما قدمناه فى الترتيب من جهة أن المفرد سابق على الجملة المركبة، ونذكر فيه من التنزيل آيتين، الآية الأولى قوله تعالى فى سورة الغاشية أَفَلا يَنْظُرُونَ إِلَى الْإِبِلِ كَيْفَ خُلِقَتْ (17) وَإِلَى السَّماءِ كَيْفَ رُفِعَتْ (18)
[الغاشية: 17- 18] إلى آخر الآية، فعطف بعض هذه المفردات على بعض، ولا بد هناك من رعاية الملائمة والمناسبة فى تقديم بعضها على بعض لئلا يخلو التنزيل عن أسرار معنوية، ودقائق خفية، يتفطّن لها أهل البراعة، ويقصر عن إدراكها من لا حظورة له فى معرفة هذه الصناعة، فلابد من أن يكون لتقديم المعطوف عليه على المعطوف وجه يسوّغه، وإلا كان لغوا، ولهذا ضعف، زيد قائم وعمرو باع داره، إذ لا علقة بين هاتين الجملتين تكون سببا لعطف إحداهما على الأخرى، ولهذا عيب على أبى تمام قوله:
لا والّذى هو عالم أنّ النّوى ... صبر وأنّ أبا الحسين كريم «1»
إذ لا مناسبة بين مرارة النوى، وكرم أبى الحسين، فأما الآية فلنشر إلى الأسرار التى لأجلها قدّم بعضها على بعض، فأما تقديم الإبل، فإنما كان ذلك من أجل أن الخطاب للعرب من أهل البلاغة، فمن أجل ذلك كان الاستجلاء على حسب ما يألفونه، وذلك أن العرب أكثر تعويلهم فى معظم تصرفاتهم على المواشى فى المطاعم والمشارب والمراكب، وأعمها نفعا هى الإبل، لأن أكثر المنافع هذه لا تصلح إلا فيها على العموم، مع ما اختصت به من الخلق العظيم والإحكام العجيب، فمن أجل ذلك صدرها بالنظر فيها لذلك، ثم إنه أردفها بذلك النظر فى خلق السموات، ووجه الملائمة بينهما، هو أن قوام هذه الأنعام ومادة المواشى، إنما هو بالرعى وأكل الخلى، وكان ذلك لا يكون إلا بنزول المطر من السماء، مع ما اختصت به من التأليف الباهر والامتداد العظيم، والسعة الكلية، فمن أجل ذلك عقّب بها ذكر الإبل، إشارة إلى ما قلناه، ثم أردف ذلك بذكر النظر فى(3/172)
الجبال وما تضمنته من العجائب العظيمة من أجل أنهم إذا قعدوا فى البرارى وبطون الأودية، لا يأمنون التخطف لهذه الأنعام والنفوس والأموال، فأشار إليها لما فيها من التحفظ على أموالهم ونفوسهم، بارتفاعها وكونها شوامخ لا يوصل إليها لعلوها وارتفاعها، فعقب بها ذكر السماء، لما أشرنا إليه، ووجه آخر وهو أنها لما كانت فى غاية الارتفاع والسمو أشبهت السماء فى علوها وارتفاعها، فلهذا عقبها بها، ثم أردفها بذكر الأرض، ومنبها على ما لهم فيها من المعاش والاستقرار بأنواع الارتفاقات التى لا يعلم تفاصيلها إلا الله تعالى من الأرزاق والثمار والفواكه والمعادن ومجارى العيون والأمواه، وغير ذلك، فأشار الله تعالى إلى هذه العجائب الأربعة، لمّا كانت من أعظم الآيات الباهرة، وقد عددنا هذه فى عطف المفردات نظرا إلى عطف المجرورات بعضها على بعض وكان ما بعدها منفصلا عنها، فهذا هو الذى حسن منه، والأقرب أن يكون من الجمل، لأن ما تقدم من المجرورات هو متعلق بالجمل بعدها، فلهذا كان معدودا من الجمل، الآية الثانية ذكرها فى سورة آل عمران وهى قوله تعالى: زُيِّنَ لِلنَّاسِ حُبُّ الشَّهَواتِ مِنَ النِّساءِ وَالْبَنِينَ وَالْقَناطِيرِ الْمُقَنْطَرَةِ مِنَ الذَّهَبِ وَالْفِضَّةِ وَالْخَيْلِ الْمُسَوَّمَةِ وَالْأَنْعامِ وَالْحَرْثِ
[آل عمران: 14] فانظر إلى عجائب هذه الآية ولطافة معناها فى تقديم بعضها على بعض، فلما كانت الآية مسوقة من أجل تزيين المشتهيات فى أفئدة بنى آدم واستيلائها عليها قدّم ما هو الأدخل فى ذلك، فصدرها بذكر النساء، تنبيها على أن لا مشتهى يغلب على العقول مثلهن على القلوب من توقان النفوس إليهن وعن هذا قال صلّى الله عليه وسلّم: ما رأيت أغلب لذوى العقول من النساء، وعن إبليس: ما نصبت فخا أثبت فى نفسى من فخ أنصبه بامرأة، وفى هذا دلالة على استيلائهن على العقول، لأنهن أدخل فى المشتهيات، ثم عقّبه بذكر البنين لما كانوا مما يلى النساء فى الرقة والرحمة والشفقة والحنو، مع المشاكلة فى الخلقة والصورة، ثم أردف ذلك بالأموال الذهبية والفضية، لما يحصل فيها من اللذة والسرور والاطمئنان وانشراح الصدور بها والاستطالة والقوة، كما يحصل بالأبناء، ولكن الأولاد أدخل فرحا وأشد محبة، وأكثر بهم رحمة ورأفة، وقوله: «القناطير المقنطرة» مبالغة فى وصفها، كما(3/173)
قالوا: إبل مؤبلة، وظلف ظالف، أى شديد، ثم عقب ذلك بذكر الخيل، لما يحصل بها من الجمال والهيئة الحسنة والقوة والاستطالة على الأعداء بالقهر، وأردفها بذكر الأنعام لما يحصل بها من المنافع، وهى دون منافع الخيل، وأتبعها بذكر الحرث، وختم هذه المنافع بذكره، لأن كل واحد من هذه الأشياء على مرتبة فى السبق على قدر حالها فى الجمال والمنفعة، وقد أشار الله تعالى إلى ترتيبها كما سردها، تنبيها على أن ما تقدم منها فهو أحق من غيره، لاختصاصه بما اختص به، ولنقتصر على هذا القدر من التنبيه على درجات الفصل وأغفلنا ذكر ما يتعلق بهاتين الآيتين من العلوم المعنوية والعلوم البيانية، وما يليق بهما من علم البديع، ميلا إلى الاختصار، وهذا من مغاصات بحار التنزيل المحصّلة لخالص عقيانه، وأسماط عقوده المؤلفة من درره وحصيد مرجانه، وقد استخرجها النقاد والغاصة، واستولوا على لباب تلك الأسرار. وأحاطوا منها بالخلاصة.(3/174)
الضرب الثانى فى بيان عطف الجمل بعضها على بعض
وما هذا حاله فهو كثير الدّور فى كتاب الله تعالى، ولابد أن يكون بينهما نوع ملاءمة لأجله جاز عطف إحداها على الأخرى، كقوله تعالى: يُخادِعُونَ اللَّهَ وَهُوَ خادِعُهُمْ
[النساء: 142] وقوله تعالى: يُراؤُنَ النَّاسَ وَلا يَذْكُرُونَ اللَّهَ إِلَّا قَلِيلًا (142)
[النساء: 142] ونحو قوله تعالى: وَكُلُوا وَاشْرَبُوا وَلا تُسْرِفُوا
[الأعراف: 31] فأما قوله تعالى: إِنَّهُ «1» لا يُحِبُّ الْمُسْرِفِينَ (31)
[الأعراف: 31] فإنما ورد من غير ذكر الواو، لما كان واردا على جهة التعليل، فلهذا لم ترد فيه واو، كقوله تعالى: لِكَ بِأَنَّهُمْ شَاقُّوا اللَّهَ
[الأنفال: 13] ومن هذا قوله تعالى: إِذَا السَّماءُ انْفَطَرَتْ (1) وَإِذَا الْكَواكِبُ انْتَثَرَتْ (2) وَإِذَا الْبِحارُ فُجِّرَتْ (3) وَإِذَا الْقُبُورُ بُعْثِرَتْ (4)
[الانفطار: 1- 4] فهذه الأمور كلها عطف بعضها على بعض بجامع يجمعها، وهو كونها من أمارات القيامة، ومن هذا قوله تعالى: كَذَّبَتْ قَبْلَهُمْ قَوْمُ نُوحٍ وَأَصْحابُ الرَّسِّ وَثَمُودُ (12) وَعادٌ وَفِرْعَوْنُ وَإِخْوانُ لُوطٍ (13) وَأَصْحابُ الْأَيْكَةِ وَقَوْمُ تُبَّعٍ
[ق: 12- 14] فإنما جاز العطف فى هؤلاء بعضهم على بعض، باعتبار أمر جامع، وهو تكذيب الرسل وجحد ما جاءوا به من المعجزات الظاهرة، فهم وإن اختلفوا وتباينوا فهم متفقون فيما ذكرناه، وهكذا قوله تعالى: وَجَعَلَ الظُّلُماتِ وَالنُّورَ
[الأنعام: 1] إنما عطف أحدهما على الآخر باعتبار كونهما ضدين، والضد ملازم لضده، فهذا هو الذى سوغ العطف فيهما، ولا تزال فى تصفحك لآى التنزيل، واستهلال أسراره تطلع على فوائد جمة، ونكت غزيرة.(3/175)
النظر الخامس فى الإيجاز والإطناب والمساواة
اعلم أن الكلام بالإضافة إلى معناه كالقميص بالإضافة إلى قد من هو له، فربما كان على قدر قدّه من غير زيادة ولا نقصان، وهذا هو المساواة، وتارة يكون زائدا على قده وهذا هو الإطناب، وربما نقص عن قده، وهذا هو الإيجاز، فإذن الكلام لا يخلو عن هذه الأنواع الثلاثة، ونحن نذكرها.
النوع الأول الإيجاز
وهو فى مصطلح أهل هذه الصناعة عبارة عن تأدية المقصود من الكلام بأقل عبارة متعارف عليها، ثم إنه يأتى على وجهين، أحدهما القصر، وهو الإتيان بلفظ قليل تحته معان جمة، وهذا كقوله تعالى: وَلَكُمْ فِي الْقِصاصِ حَياةٌ
[البقرة: 179] فإنه قد دلّ على معناه بأوجز عبارة وأخصرها، وقد فاق على ما أثر عن العرب فى معناه من قولهم: «القتل أنفى للقتل» من أوجه، من جهة إيجازه، فإن حروفه عشرة، وما قالوه أربعة عشر حرفا، ومن جهة سلامته عن التكرار، ومن جهة تصريحه بالمقصود، وهو لفظ الحياة، ومن جهة بلاغة معناه، فإن تنكير الحياة أعظم جزالة، وأبلغ فخامة، وغير ذلك من الأوجه التى تميز بها عن غيره، وكقوله تعالى: مَنْ يَعْمَلْ سُوءاً يُجْزَ بِهِ
[النساء: 123] فهذا كلام مختصر وجيز دال على معناه بحيث لا يدرك إيجازه، ولا ينال كنهه، ومنه قوله تعالى:
فَمَنْ يَعْمَلْ مِثْقالَ ذَرَّةٍ خَيْراً يَرَهُ (7) وَمَنْ يَعْمَلْ مِثْقالَ ذَرَّةٍ شَرًّا يَرَهُ (8)
[الزلزلة: 7- 8] وثانيهما إيجاز بالحذف، ومثاله قوله تعالى: وَسْئَلِ الْقَرْيَةَ الَّتِي كُنَّا فِيها وَالْعِيرَ الَّتِي أَقْبَلْنا فِيها
[يوسف: 82] فإن الغرض أهل القرية، ويتبع فى ذلك الأمور المحذوفة من حذف علة، أو جواب شرط، كقوله تعالى: وَلَوْ أَنَّما فِي الْأَرْضِ مِنْ شَجَرَةٍ أَقْلامٌ وَالْبَحْرُ يَمُدُّهُ مِنْ بَعْدِهِ سَبْعَةُ أَبْحُرٍ ما نَفِدَتْ كَلِماتُ اللَّهِ
[لقمان: 27] المعنى لتنفد كلمات الله ما نفدت، ومنه قوله تعالى: وَلَوْ أَنَّ قُرْآناً سُيِّرَتْ بِهِ الْجِبالُ أَوْ قُطِّعَتْ بِهِ الْأَرْضُ أَوْ كُلِّمَ بِهِ الْمَوْتى
[الرعد: 31] التقدير لكان هذا القرآن، وقوله تعالى: وَلَوْ تَرى إِذْ وُقِفُوا عَلَى النَّارِ
[الأنعام: 27] التقدير فيه لشاهدوا ما تقصر العبارة عن كنهه، أو لتحسّروا وانقطعت أفئدتهم، لأن المقام مقام تهويل، فلا بد من تقديره كما ترى، وكقوله تعالى:(3/176)
وَإِذا قِيلَ لَهُمُ اتَّقُوا ما بَيْنَ أَيْدِيكُمْ وَما خَلْفَكُمْ لَعَلَّكُمْ تُرْحَمُونَ (45)
[يس: 45] التقدير فيه أعرضوا عن استماعه ونكصوا عن قبوله، ويدل عليه ما بعده، ومن أراد الاطلاع على حقيقة البلاغة من الإيجاز بالحذف، فعليه بتلاوة سورة يوسف، فإنه يجد هناك ما فيه شفاء لكل علة، وبلال لكل غلّة.
النوع الثانى الإطناب
وهو تأدية المقصود من الكلام بأكثر من عبارة متعارف عليها، ثم إنه يأتى على أوجه ثلاثة، أولها أن يكون مجيئه على جهة التفصيل، ومثاله قوله تعالى: قُولُوا آمَنَّا بِاللَّهِ وَما أُنْزِلَ إِلَيْنا وَما أُنْزِلَ إِلى إِبْراهِيمَ وَإِسْماعِيلَ وَإِسْحاقَ وَيَعْقُوبَ وَالْأَسْباطِ وَما أُوتِيَ مُوسى وَعِيسى وَما أُوتِيَ النَّبِيُّونَ مِنْ رَبِّهِمْ
[البقرة: 136] فهذا وما شاكله فيه تفصيل بالغ وتعديد لمن يجب الإيمان به من الأنبياء، وما أوتوا من الكتب المنزلة على أتم وجه وأبلغه، ولو آثر إيجازه لقال: قولوا آمنا بالله وبجميع رسله وما أوتوا، لكنه بسطه على هذا البسط العجيب، لما فيه من وفائه بالإيمان بالله وبرسله وما اشتمل عليه من ذكر هذه الزوائد المؤكدة، ومنه قوله تعالى: إِنَّ فِي خَلْقِ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ وَاخْتِلافِ اللَّيْلِ وَالنَّهارِ وَالْفُلْكِ الَّتِي تَجْرِي فِي الْبَحْرِ بِما يَنْفَعُ النَّاسَ وَما أَنْزَلَ اللَّهُ مِنَ السَّماءِ مِنْ ماءٍ فَأَحْيا بِهِ الْأَرْضَ بَعْدَ مَوْتِها وَبَثَّ فِيها مِنْ كُلِّ دَابَّةٍ وَتَصْرِيفِ الرِّياحِ وَالسَّحابِ الْمُسَخَّرِ بَيْنَ السَّماءِ وَالْأَرْضِ لَآياتٍ لِقَوْمٍ يَعْقِلُونَ (164)
[البقرة: 164] فلينظر الناظر، وليحكّ قريحته بالتأمل البالغ فيما اشتملت عليه هذه الآية الباهرة من شرح عجائب هذه المخلوقات، واختلاف أنواع المكونات، وترتيبها على هذه الهيئة التى تعجز عن إدراكها القوى البشرية، فقد نزلها على مراتب ثلاث.
المرتبة الأولى الإشارة إلى المكونات السماوية
وما اشتملت عليه من عجائب الملكوت وإتقان الصنعة، وبديع الحكمة فى تكوينها ورفعها، وما فيها من المخلوقات العظيمة فى أطباقها من أصناف الملائكة وحشوها بهم فى أرجائها، مع ما اختصوا به من عظم الخلق ونيل الزلفى والقرب إلى الله تعالى، وأنه لا خلق أعظم ولا أرفع منزلة عند الله تعالى منهم، لما خصهم به من امتثال أمره والاعتراف بعظمته.
المرتبة الثانية الإشارة إلى المكونات الأرضية
وما اشتملت عليه من الاختصاص بمنافع الخلق من(3/177)
أنواع الحيوانات والنبات والفواكه والأشجار والمعادن، وأنها صارت موضعا ومستقرا لهم يتقلبون فى منافعهم ودفع مضارهم عليها، وسهل لهم من سلوك مناكبها فى البر والبحر.
المرتبة الثالثة الإشارة إلى المكونات الحاصلة بين السماء والأرض
من نزول الأمطار لإحياء الأرض ونمو الثمار والزروع وتصريف الرياح فى مهابّها للمصالح الأرضية كلها، واختلاف الليل والنهار وما ناط بالسماء من هذه الكواكب النيرة، الشمس والقمر والنجوم، وجعلها إعلاما للخلق، واهتداء إلى مصالحهم، وما بث فيها من الحيوانات العظيمة على اختلاف أجناسها وأنواعها، فقد أشار إلى ما ذكرناه من هذه التفاصيل فى هذه الآية على أتم نظام وأعجب سياق، ولو آثر الإيجاز على ذلك لقال تعالى (إنّ فى خلق المكونات لآيات للعقلاء) وثانيها مجيئه على جهة التتميم ومثاله قوله تعالى: حافِظُوا عَلَى الصَّلَواتِ وَالصَّلاةِ الْوُسْطى
[البقرة: 238] فقوله: وَالصَّلاةِ الْوُسْطى
إطناب على جهة التتميم لما قبله، ومنه قوله تعالى: مَنْ كانَ عَدُوًّا لِلَّهِ وَمَلائِكَتِهِ وَرُسُلِهِ وَجِبْرِيلَ وَمِيكالَ
[البقرة: 98] فذكره لهما إطناب على جهة التتميم لما سبق، وقوله تعالى: رَبِّ اشْرَحْ لِي صَدْرِي (25) وَيَسِّرْ لِي أَمْرِي (26)
[طه: 25- 26] فإنما كرر ذكر الجار والمجرور فى قوله «لى» إطنابا على جهة التتمة والتكملة لما قبله، وثالثها مجيئه على جهة التذييل، ومعناه تعقيب جملة بجملة توكيدا لمعنى الأولى وإيضاحا لها، ومثاله قوله تعالى: وَقُلْ جاءَ الْحَقُّ وَزَهَقَ الْباطِلُ إِنَّ الْباطِلَ كانَ زَهُوقاً (81)
[الإسراء: 81] فقوله: إن الباطل كان زهوقا، خارج مخرج المثل تقريرا لما سلف من ذكر الجملتين قبله، وقوله تعالى: ذلِكَ جَزَيْناهُمْ بِما كَفَرُوا وَهَلْ نُجازِي «1» إِلَّا الْكَفُورَ (17)
[سبأ: 17] فقوله: وَهَلْ نُجازِي
وارد على جهة الإطناب، تذييلا لما قبله من الجملة على جهة الإيضاح، وهكذا يكون ورود الإطناب فى شرح حقائق الوعد لأهل الجنة، والوعيد لأهل النار بذكر ما يليق بكل واحد منهما من الأوصاف، وإذا أمعنت فيه فكرتك، وجدته كما شرحت لك من الإطناب الطويل والشرح الكثير.(3/178)
النوع الثالث المساواة
هى فى مصطلح فرسان البيان عبارة عن تأدية المقصود بمقدار معناه من غير زيادة فيه ولا نقصان عنه، ثم إنها جارية على وجهين، أحدهما أن يكون مساواة مع الاختصار، وهذا نحو أن يتحرى البليغ فى تأدية معنى كلامه أوجز ما يكون من الألفاظ القليلة الأحرف، والكثيرة المعانى، التى يتعسر تحصيلها على من دونه فى البلاغة، ومن هذا قوله تعالى: هَلْ جَزاءُ الْإِحْسانِ إِلَّا الْإِحْسانُ (60)
[الرحمن: 60] وقوله تعالى: وَهَلْ نُجازِي «1» إِلَّا الْكَفُورَ (17)
[سبأ: 17] فهذه أحرف قليلة تحتها فوائد غزيرة، ونكت كثيرة، فهذا نوع من المساواة، وثانيهما أن يكون المقصود المساواة من غير تحرّ ولا طلب اختصار، ويسمى «المتعارف» والوجهان محمودان فى البلاغة جميعا، خلا أن الأول أدل على البلاغة وأقوى على تحصيل المراد، ولهذا فإنك ترى أهل البلاغة متفاوتين فى ذلك، فأعظمهم قدرا فيها من كان يمكنه تأدية مقصوده فى أخصر لفظ وأقله، وهذا لا يكون إلا لمن كان له موقع فيها بحيث يمكنه التقصير والاختصار فى لفظ قليل، ولنقتصر على هذا القدر من العلوم المعنوية، ففيه كفاية للمطلوب، فأما التقديم، والتأخير، والتعريف، والتنكير، والإظهار، والإضمار، فى المسند والمسند إليه، فهو وإن كان جزءا من العلوم المعنوية، لكنا قد أوردناه فى الإسناد، وذكرنا هذه الأحوال، وأظهرنا التفرقة بينها، وقررنا الوجه الذى لأجله جىء بها، فلهذا كان ذكرها هناك مغنيا عن الإعادة والله أعلم.(3/179)
القسم الثانى ما يتعلق بالعلوم البيانية
وهو فى مصطلح أرباب هذه الصناعة، عبارة عن إيراد المعنى الواحد بطرق مختلفة بالزيادة فى وضوح الدلالة وبالنقصان عنها، ومثاله أنك إذا أردت أن تحكى عن زيد بأنه شجاع، فبالطريق اللغوية أن تقول: زيد شجاع يشبه الأسد فى شجاعته، وإذا أردت الإتيان بهذا المعنى على طريق البلاغة، فإنك تقول فيه: رأيت الأسد وكأن زيدا الأسد، فالأول هو الاستعارة، والثانى على طريق التشبيه، فعلم البيان إنما يكون متناولا للدلالة الثانية، لأن فيها تحصيل الزيادة والنقصان فى المعنى المقصود، وفائدته الاحتراز عن الخطأ فى مطابقة الكلام لتمام المراد منه، فصارت الدلائل ثلاثا، دلالة المطابقة، وهى الدلالة اللغوية، كدلالة لفظ الإنسان والفرس على هاتين الحقيقتين المخصوصتين، وهى دلالة لغوية تختلف باختلاف الاصطلاحات والأوضاع، ودلالة الالتزام، وهى التى تدل على أمر خارج غير المسمى، ومثاله دلالة لفظ الفرس، والإنسان، على ما يكون لازما لهما عقلا، نحو الكون فى الجهة والحصول فى الأماكن، فهذه دلالة التزامية لأنه لا ينفك عما ذكرناه، ودلالة التضمن، وهى الدلالة على جزء من أجزائه، كدلالة الفرس والإنسان على أجزائهما.
واعلم أن المقصود الأعظم من هذه القاعدة هو بيان أن القرآن قد نزل فى أعلى طبقات الفصاحة، وأن كل كلام غيره وإن بلغ كل غاية فى البلاغة، فإنه لا يدانيه، ولا يماثله وأن الثقلين من الجن والإنس لو اجتمعوا على أن يأتوا بمثله، أو بسورة منه، أو بآية، ما قدروا، كما حكى الله تعالى من تصديق هذه المقالة بقوله تعالى قُلْ لَئِنِ اجْتَمَعَتِ الْإِنْسُ وَالْجِنُّ عَلى أَنْ يَأْتُوا بِمِثْلِ هذَا الْقُرْآنِ لا يَأْتُونَ بِمِثْلِهِ وَلَوْ كانَ بَعْضُهُمْ لِبَعْضٍ ظَهِيراً (88)
[الإسراء: 88] وقد حصل عجز الخلق عن الإتيان بمثله قطعا كما سنقرره بعد هذا بمشيئة الله تعالى، سواء أكان العجز بالإضافة إلى ما تضمنه من علوم المعانى، أم كان العجز بالإضافة إلى ما تضمنه من علوم البيان، وقد مر الكلام على ما تضمنه من علوم المعانى، والذى نذكره ههنا هو ما تضمّنه من علوم البيان، فنذكر ما تضمنه من التشبيه، ثم نردفه(3/180)
بما تضمنه من الاستعارة، ثم نذكر على إثره ما تضمنه من الكناية، ثم نذكر التمثيل، ونختم الكلام فيه بالأسرار التى تضمنها من الحقائق والمجازات، وقد أشرنا فى أول الكتاب إلى حقائق هذه الأشياء فى تقرير قواعدها، والذى نشير إليه ههنا هو أنه قد فاق فى هذه المعانى على غيره، وأن شيئا من الكلام المتقدم لا يدانيه ولا يقاربه فيها، ليحصل الناظر من ذلك على كونه قد بلغ الغاية بحيث لا غاية فوقه، وأنه فائت لكلام أهل البلاغة فى جميع أحواله.(3/181)
النظر الأول فى التشبيه
يتحصل المقصود منه بأن نرسم الكلام فى أربعة أطراف.
الطرف الأول فى بيان آلاته
وهى الكاف، وكأنّ ومثل، فالكاف فى نحو قوله تعالى: فَجَعَلَهُمْ كَعَصْفٍ مَأْكُولٍ (5)
[الفيل: 5] ونحو قوله تعالى: أَعْمالُهُمْ كَرَمادٍ اشْتَدَّتْ بِهِ الرِّيحُ فِي يَوْمٍ عاصِفٍ
[إبراهيم: 18] وقوله تعالى: كَماءٍ أَنْزَلْناهُ مِنَ السَّماءِ فَاخْتَلَطَ بِهِ نَباتُ الْأَرْضِ
[يونس: 24] .
وأما «كأن» فكقوله تعالى: كَأَنَّهُنَّ الْياقُوتُ وَالْمَرْجانُ (58)
[الرحمن: 58] وقوله تعالى:
كَأَنَّهُنَّ بَيْضٌ مَكْنُونٌ (49)
[الصافات: 49] .
وأما «مثل» فكقوله تعالى: مَثَلُهُمْ كَمَثَلِ الَّذِي اسْتَوْقَدَ ناراً
[البقرة: 17] وقوله تعالى:
إِنَّما مَثَلُ الْحَياةِ الدُّنْيا كَماءٍ أَنْزَلْناهُ مِنَ السَّماءِ
[يونس: 24] وقوله تعالى: مَثَلُ الَّذِينَ حُمِّلُوا التَّوْراةَ ثُمَّ لَمْ يَحْمِلُوها كَمَثَلِ الْحِمارِ يَحْمِلُ أَسْفاراً
[الجمعة: 5] فحاصل الأمر أن التشبيه بالإضافة إلى آلته، يرد على وجهين، أحدهما أن يكون واردا على جهة الإنشاء، كقوله تعالى: كَأَنَّهُنَّ الْياقُوتُ وَالْمَرْجانُ (58)
وغير ذلك، والغرض بكونه إنشاء، أنه لا يحتمل صدقا ولا كذبا، وثانيهما أن يكون واردا على جهة الإخبار، كقوله تعالى: مَثَلُهُمْ كَمَثَلِ الَّذِي اسْتَوْقَدَ ناراً
وقوله تعالى: فَمَثَلُهُ كَمَثَلِ الْكَلْبِ
[الأعراف: 176] إلى غير ذلك مما يكون واردا على طريقة الإخبار، وهما مستويان فى الإفادة لمقصود التشبيه وإن اختلفا فيما ذكرته.
الطرف الثانى فى بيان الغرض من التشبيه
اعلم أن الغرض من حال التشبيه أن يكون المشبه به أعظم حالا من المشبه فى كل أحواله، وقد يأتى على العكس كقول من قال:
وبدا الصّباح كأنّ غرته ... وجه الخليفة حين يمتدح «1»
فبالغ حتى جعل المشبه أعلى حالا من المشبه به، فى الوضوح والجلاء، لأن الغالب فى(3/182)
العادة هو تشبيه بياض الوجه بغرة الفجر، فأما ههنا فعلى العكس من ذلك، وقد يرد لأغراض كثيرة، أولها التقرير والتمكين فى النفس، كمن يراه يسعى فى أمر لا طائل فيه ولا ثمرة له، فيقال له: ما سعيك فى هذا الأمر إلا كمن يرقم على الماء ويخطّ على الهواء، فيترك الأمر لعدم فائدته وبطلان جدواه، وثانيها أن يكون المقصود بيان جنس المشبه، إما فى علو نفسه، كتشبيه بعض الأشخاص بالملائكة، لطهارة نفسه وعفة أثوابه قال:
فلست لإنسىّ ولكن لملأك ... تنزّل من جوّ السماء يصوب «1»
وإما فى نزول همته، كتشبيه بعض الأشخاص بالسباع، كما شبه الله المنافقين فى ذهابهم عن الدين، وضعف أفهامهم عن قبول الحق بقوله: كَأَنَّهُمْ حُمُرٌ مُسْتَنْفِرَةٌ (50) فَرَّتْ مِنْ قَسْوَرَةٍ (51)
[المدثر: 50- 51] فمثل حالهم فى نفارهم عن الحق وبعدهم عن قبوله، كمثل حمير الوحش عند نفارها ودهشها وقلقها، برؤية بعض الآساد، فما تتمالك فى الهرب، ولا ترعوى عند رؤيته، وتركب الصعب والذّلول، وهكذا حال اليهود، فإنه تعالى مثلهم فيما حملوا من أحكام التوراة ثم أعرضوا عنها وتركوها وراء ظهورهم، بحمار يحمل كتبا كثيرة فوق ظهره، لا يدرى ما اشتملت عليه من أنواع الهداية، فهكذا حال اليهود يتلون التوراة وهم أبعد الناس عن العمل بها، وعن المواظبة على ما تضمنته من الأوامر والنواهى، وثالثها ضعف الإيمان ورقته وتلاشى أمره، وعدم الثبوت عليه، وأنه يضمحل عن القلوب بأدنى شىء، كما ضربه الله مثلا لمن هذه حاله فى ضعف إيمانه، وأنه على غير قرار من أمره فيه، وأنه على شرف الانقلاب إلى الكفر، بغزل العنكبوت وبيتها، فإنه من أضعف الأشياء قواما، وأرقها حالة، يتغير بقوة الريح، فضلا عما وراء ذلك من الأمور الصلبة التى تقاربه، فهكذا حال من لا وثاقة له فى الدين، فإنه عن قريب ينكص على عقبيه، ورابعها التلاشى فى البطلان، كما قال الله تعالى: فَمَثَلُهُ كَمَثَلِ صَفْوانٍ عَلَيْهِ تُرابٌ فَأَصابَهُ وابِلٌ فَتَرَكَهُ صَلْداً لا يَقْدِرُونَ عَلى شَيْءٍ مِمَّا كَسَبُوا
[البقرة: 264] وضربه الله تعالى مثلا لبطلان أعمال الكفرة وأنه لا فائدة فيما عملوه ولا جدوى له، بالتراب الدقيق الواقع على حجر صلد أملس، فيصيبه المطر، فإنه أسرع شىء فى الذهاب، وأبطل ما يكون عند وقوع الماء عليه، فهكذا حال الكفر، فإنه إذا صادف الأعمال من غير قرار على الإيمان، فإنه يبطلها ويذهبها لا محالة، وخامسها قوله تعالى: أَوْ كَصَيِّبٍ مِنَ(3/183)
السَّماءِ فِيهِ ظُلُماتٌ وَرَعْدٌ وَبَرْقٌ يَجْعَلُونَ أَصابِعَهُمْ فِي آذانِهِمْ مِنَ الصَّواعِقِ حَذَرَ الْمَوْتِ
[البقرة: 19] فالغرض مما ذكره من التشبيه، هو تشبيه حال الكفار فيما هم فيه من الكفر، والتمادى على الجحود، والإصرار، بمن أصابته هذه الأمور الهائلة، فهو على قلق وخوف وإشفاق على نفسه مع الغم والألم مما يلاقى من هذه الأشياء النازلة به، فهكذا حال الكفار فيما وقعوا فيه من ظلم الكفر وحيرته، لا يأمنون مما يقع عليهم من الحوائج العظيمة، والإيلامات المهلكة، فهكذا ترى جميع التشبيهات الواقعة فى التنزيل، فإن لها مقاصد عظيمة، ومضمّنة لأغراض دقيقة يعقلها من ظفر فى هذه الصناعة بأوفر حظ وكان له فيها أدنى ذوق، وحام حول تلك الدقائق بذهن صاف عن كدور البلادة، فعن قريب يحصل على البغية بلطف الله تعالى وحسن توفيقه.
الطرف الثالث فى كيفية التشبيه
وهو فى وروده يكون على أوجه أربعة، أولها أن يكونا- أعنى المشبه والمشبه به جميعا- مدركين بالحسّ، وهذا نحو تشبيه الخدّ بالورد، والشعر الفاحم بالليل، ومن هذا قوله تعالى: كَأَنَّهُنَّ الْياقُوتُ وَالْمَرْجانُ (58)
[الرحمن: 58] وقوله تعالى: كَأَنَّهُنَّ بَيْضٌ مَكْنُونٌ (49)
[الصافات: 49] . وغير ذلك مما يكون طريقه الحس والمشاهدة، وهو أجلى ما يكون من التشبيهات، لقوته وظهور طريقه، وثانيها أن يكونا جميعا عقليين من غير إحساس، كالعلم بالحياة، فيشبه العلم بالحياة لما فيه من النفع فى الآخرة، ويشبه الجهل بالموت، لما فيه من خمول الذكر، وقد أشار الله تعالى إلى هذا بقوله: أَوَمَنْ كانَ مَيْتاً فَأَحْيَيْناهُ وَجَعَلْنا لَهُ نُوراً يَمْشِي بِهِ فِي النَّاسِ كَمَنْ مَثَلُهُ فِي الظُّلُماتِ لَيْسَ بِخارِجٍ مِنْها
[الأنعام: 122] فالإحياء، والإماتة، هنا مجاز فى العلم والجهل، وأن المقصود من الآية، تفاوت ما بين الحالتين، بين من أحياه الله تعالى بالعلم، وبين من أماته الله تعالى بالجهل، كما أن من كان فى الظلمة ليس حاله كحال من هو فى النور، يتصرف ويتقلب، وثالثها أن يكون أحدهما حسيا، والآخر عقليا، كالمنيّة بالسّبع، فالمنية ههنا هى المشبهة وهى عقلية، بالسّبع، وهو حسى، قال:
وإذا المنيّة أنشبت أظفارها ... ألفيت كلّ تميمة لا تنفع «1»
ورابعها أن يكون المشبه حسيّا والمشبة به عقليا كالعطر بخلق الكريم ومنه قوله تعالى: أَوْ(3/184)
كَظُلُماتٍ فِي بَحْرٍ لُجِّيٍ
[النور: 40] فشبه حال الكفرة فيما هم فيه من الكفر والجحود والإصرار والتمادى على الباطل، بظلمات بعضها فوق بعض فلا يدرك لها حالة فى النور ولا يهتدى إليه.
الطرف الرابع فى حكم التشبيه
وربما كان قريبا، وربما كان بعيدا، وتارة يكون واضحا، ومرة يكون خفيا، وربما كان غريبا وحشيا، وربما كان مألوفا، وقد قررنا أمثلة البعيد والقريب، والواضح الجلى، فى قاعدة التشبيه فى صدر هذا الكتاب فأغنى عن تكريره، واعلم أن جميع التشبيهات الواردة فى كتاب الله تعالى خالية عن هذه الشوائب كلها، أعنى الغرابة والبعد فى مفرداتها ومركباتها لا يعترضها شىء من هذه العوارض فى التشبيهات الواردة فى غيرها، والحمد لله.
فأما المفردة فهى كل ما كان التشبيه فيها حاصلا باعتبار صورة بصورة، أو معنى بمعنى من غير زيادة، وهذا كقوله تعالى: فَكانَتْ وَرْدَةً كَالدِّهانِ (37)
[الرحمن: 37] فشبه السماء يوم القيمة بالدهان، وهو الجلد الأحمر ونحو قوله تعالى: فَلَمَّا رَآها تَهْتَزُّ كَأَنَّها جَانٌ
[النمل: 10] فشبه العصا بالجان لا غير، من غير زيادة وهى كثيرة فى القرآن، أعنى التشبيهات المفردة، وهى فى ورودها على جهة القرب فى تشبيهها غير بعيدة ومألوفة غير مستنكرة، قد حازت من اللطافة والرقة ما لا يخفى حاله على ناظر، ومثال البعيد تشبيه الفحم إذا كان فيه جمر، ببحر من مسك موجه ذهب، ونحو تشبيه الدم بنهر من ياقوت، فما هذا حاله يصعب وجوده إلا على جهة التصور، ومثال الخفى تشبيه الأمور المحسوسة بالمعانى، كما شبّهت النجوم فى الظلام بالسنن خالطتهن البدعة، فما هذا حاله من التشبيهات خال عن تشبيهات القرآن العظيم وبمعزل عنها كما قلناه.
«وأما» المركبة فكقوله تعالى: وَمَثَلُ كَلِمَةٍ خَبِيثَةٍ كَشَجَرَةٍ خَبِيثَةٍ
[إبراهيم: 26] وقوله تعالى: وَمَثَلُ الَّذِينَ كَفَرُوا كَمَثَلِ الَّذِي يَنْعِقُ بِما لا يَسْمَعُ
[البقرة: 171] وقوله تعالى:
مَثَلُ الَّذِينَ حُمِّلُوا التَّوْراةَ ثُمَّ لَمْ يَحْمِلُوها كَمَثَلِ الْحِمارِ يَحْمِلُ أَسْفاراً
[الجمعة: 5] وحاصل المركبة أنها فى مقصود التشبيه، تشبيه أمرين بأمرين، أو أكثر، إلى غير ذلك من التركيبات، ومن تشبيه المفرد بالمركب قوله تعالى: مَثَلُ نُورِهِ كَمِشْكاةٍ فِيها مِصْباحٌ الْمِصْباحُ فِي زُجاجَةٍ الزُّجاجَةُ كَأَنَّها كَوْكَبٌ دُرِّيٌ
[النور: 35] فشبه النور المفرد بالمشكاة المركبة من هذه الأجزاء والأوصاف، فأما تشبيه المركب بالمفرد فلم أجد فى القرآن مثالا له، وما ذاك إلا(3/185)
لقلتّه وغرابته، وهو موجود فى الشعر على جهة الندرة، فقد حصل لك مما ذكرنا أن التشبيهات الواردة فى القرآن جامعة للأوصاف التامة المعتبرة فى البلاغة ليس فيها غرابة ولا بعد عن المألوف، والله أعلم بالصواب.
النظر الثانى من علوم البيان فى الاستعارة
اعلم أن الاستعارة من أشرف ما يعد فى القواعد المجازية، وأرسخها عرقا فيه، ولا خلاف بين علماء البيان فى كونها معدودة من المعانى المجازية، وإنما الخلاف إنما وقع فى قاعدة التشبيه، هل يعد من المجاز أولا، وفيه خلاف قد شرحناه، وأظهرنا وجه الحق فى ذلك، فأغنى عن تكريره، وقد أشرنا إلى بدائع أسراره من قبل، والذى نذكر ههنا هو كيفية وقوعها فى التنزيل، وهى واقعة على أضرب أربعة.
الضرب الأول منها استعارة المحسوس للمحسوس
وهذا كقوله تعالى: وَاشْتَعَلَ الرَّأْسُ شَيْباً
فالمستعار هو النار، والمستعار له، هو الشيب بواسطة الانبساط والإسراع فالطرفان محسوسان كما ترى، والجامع بينهما محسوس، ولكنه فى النار أظهر، ويلحق بهذا الضرب قوله تعالى: إِذْ أَرْسَلْنا عَلَيْهِمُ الرِّيحَ الْعَقِيمَ (41)
[الذاريات: 41] فالمستعار له هو الريح، والمستعار منه هو المرأة، والجامع بينهما عدم الإنتاج وظهور الأثر، فالطرفان ههنا حسيان، لكن الجامع بينهما أمر عقلى، بخلاف الأولى، فإن الجامع أمر حسى كما أوضحناه، ومن هذا قوله تعالى: وَآيَةٌ لَهُمُ اللَّيْلُ نَسْلَخُ مِنْهُ النَّهارَ
[يس: 37] فالمستعار له هو ظهور النهار من الليل وظلمته، والمستعار منه هو ظهور المسلوخ من جلده، فالطرفان حسيان كما ترى، والجامع بينهما ما يعقل من ترتيب أحدهما على الآخر، ومنه قوله تعالى: فَجَعَلْناها حَصِيداً كَأَنْ لَمْ تَغْنَ بِالْأَمْسِ
[يونس: 24] فالمستعار له هو الأرض المتزخرفة المتزينة بالنبات، والمستعار منه هو نباتها، وهما حسيان، والجامع بينهما الهلاك، وهو أمر معقول غير محسوس، ومن هذا قوله تعالى: حَتَّى جَعَلْناهُمْ حَصِيداً خامِدِينَ (15)
[الأنبياء: 15] فأصل الخمود للنار، فالمستعار منه هو للنار، والمستعار له هو القوم المهلكون، والجامع بينهما هو الهلاك، ونحو قوله تعالى:(3/186)
وَاخْفِضْ لَهُما جَناحَ الذُّلِّ مِنَ الرَّحْمَةِ
[الإسراء: 24] فالمستعار منه هو الطائر، والمستعار له هو الولد، والجامع بينهما هو لين العريكة وانحطاط الجانب، وهو معقول غير محسوس، ومن هذا قوله تعالى: إِلَّا جَعَلَتْهُ كَالرَّمِيمِ (42)
[الذاريات: 42] والرميم هو العظم البالى، استعير للإهلاك، والأمثلة فى التنزيل أكثر من أن تحصى بجانب الاستعارة.
الضرب الثانى استعارة معقول من معقول بواسطة أمر معقول
وهذا كقوله تعالى: مَنْ بَعَثَنا مِنْ مَرْقَدِنا
[يس: 52] فالمستعار هو الرقاد، والمستعار له هو الموت، والجامع بينهما هو سكون الأطراف وبطلان الحركة، وهكذا قوله تعالى:
وَلَمَّا سَكَتَ عَنْ مُوسَى الْغَضَبُ
[الأعراف: 154] فوصف الغضب بالسكوت على جهة الاستعارة، فالمستعار هو السكوت، والمستعار له هو الغضب، والجامع بينهما هو زوال الغضب، كما أن السكوت زوال الكلام، وهذه كلها أمور عقلية، ومن هذا قوله تعالى:
تَكادُ تَمَيَّزُ مِنَ الْغَيْظِ
[الملك: 8] فالتّميز ههنا هو شدة الغضب، فالمستعار منه هو حالة الإنسان عند غضبه، استعيرت للنار عند شدة تلهبها، والجامع بينهما هو الحالة المتوهّمة عند شدة الغيظ، فهى مستعارة للنار، اللهم أجرنا منها برحمتك الواسعة.
ومن هذا قوله تعالى: وَقَدِمْنا إِلى ما عَمِلُوا مِنْ عَمَلٍ فَجَعَلْناهُ هَباءً مَنْثُوراً (23)
[الفرقان: 23] ففيه استعارتان، الأولى فيهما قوله تعالى: وَقَدِمْنا
فإنما يستعمل فى حق الغائب، فاستعير لعرض أعمال الكفار على الله تعالى، والجامع بينهما أمر معقول، وهو تصييرها إلى البطلان والتلاشى، والثانية قوله تعالى: فَجَعَلْناهُ هَباءً مَنْثُوراً (23)
والهباء حقيقته، الغبار الثائر من الأرض عند دخول الشمس من الكوة، وهو مستعار للأعمال الباطلة، والجامع بينهما هو التلاشى والبطلان، وهذان المثالان حسيان، لكنا إنما أوردناهما فى هذا الضرب وإن كان استعارة المعقول من المعقول، لما كان الجامع بينهما أمرا معقولا كما ترى.
الضرب الثالث استعارة المحسوس للمعقول
ومثاله قوله تعالى: بَلْ نَقْذِفُ بِالْحَقِّ عَلَى الْباطِلِ فَيَدْمَغُهُ
[الأنبياء: 18] والغرض من هذا(3/187)
إثبات الصفات المحسوسة للأمور المعقولة على جهة الاستعارة، وبيانه هو أن القذف والدمغ من صفات الأجسام، يقال دمغه إذا هاض قحف رأسه، وقذفه بالحجر، إذا رماه به، وقد استعير ههنا للحق والباطل، والجامع بينهما هو الإعدام والذهاب، ومن هذا قوله تعالى: فَاصْدَعْ بِما تُؤْمَرُ
[الحجر: 94] والصدع من صفات الأجسام، يقال انصدع الإبريق والقارورة، وقد استعير ههنا لوضوح أمر الرسول صلّى الله عليه وسلّم فيما جاء به من الحق وإظهار النبوة، والجامع بينهما هو التفرقة بين الحق والباطل وإزالة التباس أحدهما بالآخر، ومن هذا قوله تعالى: وَزُلْزِلُوا حَتَّى يَقُولَ الرَّسُولُ
[البقرة: 214] فالزلزلة حقيقتها هى الاضطراب فى الأجسام، وقد استعيرت ههنا للفشل والاضطراب فى الأحوال، والجامع بينهما هو تغير الأحوال، وهكذا قوله تعالى: فَنَبَذُوهُ وَراءَ ظُهُورِهِمْ
[آل عمران: 187] فحقيقة النبذ إنما يكون مستعملا فى طرح الشىء من أعلى إلى أسفل، ثم استعمل مجازا على جهة الاستعارة فى إلقاء ما حملوه من التكاليف عن أنفسهم بترك الامتثال، والجامع بينهما هو الإعراض عما ألزموا به من تلك الأمور كلها، إلى غير ذلك من الاستعارات الرائقة من محسوس بمعقول.
الضرب الرابع استعارة المعقول للمحسوس
ومثاله قوله تعالى: إِنَّا لَمَّا طَغَى الْماءُ حَمَلْناكُمْ فِي الْجارِيَةِ (11)
[الحاقة: 11] فالطغيان هو التكبر والاستعلاء بغير حق وهما أمران معقولان، ثم استعير الطغيان للماء، وهو محسوس، والجامع بينهما هو الخروج عن الحد فى الاستعلاء على جهة الإضرار، ومن هذا قوله تعالى بِرِيحٍ صَرْصَرٍ عاتِيَةٍ (6)
[الحاقة: 6] فالعتو هو التكبر، وهو من الأمور المعقولة، استعير ههنا للريح، وهى محسوسة، والجامع بينهما هو الإضرار الخارج عن حد العادة، ولنقتصر على هذا القدر من لطيف الاستعارة ففيه كفاية لما أردناه ههنا.(3/188)
النظر الثالث من علوم البيان فى أسرار الكناية
اعلم أن الكناية فى لسان علماء البيان ما عوّل عليه الشيخ عبد القاهر الجرجانى، وحاصل ما قاله هو أن يريد المتكلم إثبات معنى من المعانى، فلا يذكر باللفظ الموضوع له بل يأتى بتاليه، فيومىء به إليه ويجعله دليلا عليه، وتلخيص ما قاله هو اللفظ الدال على ما أريد به بالحقيقة والمجاز جميعا، ومثاله قولهم: فلان كثير رماد القدر، فإن هذا الكلام عند إطلاقه قد دل على حقيقته ومجازه معا، فإنه دال على كثرة الرماد، وهو حقيقته، وقد دل على كثرة الضّيفان، وهذا مجازه، وهذا يخالف الاستعارة، فإنك إذا قلت: جاءنى الأسد، وأنت تريد الإنسان، فإنه دال على المجاز لا غير، والحقيقة متروكة، وهذه هى التفرقة بين الكناية والاستعارة، والتفرقة بين التعريض والكناية، هو أن الكناية دالة على ما تدل عليه بجهة الحقيقة والمجاز جميعا، بخلاف التعريض، فإنه غير دالّ على ما يدل عليه حقيقة ولا مجازا، وإنما يدل عليه بالقرينة، فافترقا، وأمثلة الكناية كثيرة فى كتاب الله تعالى ولكنا نقتصر منها على قوله تعالى: وَلا يَغْتَبْ بَعْضُكُمْ بَعْضاً أَيُحِبُّ أَحَدُكُمْ أَنْ يَأْكُلَ لَحْمَ أَخِيهِ مَيْتاً فَكَرِهْتُمُوهُ
[الحجرات: 12] فهذه الآية الكريمة قد اشتملت على أسرار فى الكناية قد أشرنا إليها ورمزنا إلى مقاصدها فى قاعدة الكناية من الكتاب، ومن ذلك قوله تعالى:
كانا يَأْكُلانِ الطَّعامَ
[المائدة: 75] فهو دال على ما وضع له فى أصله من إفادته لحقيقة الأكل، ولكنه مقصود به قضاء الحاجة، وهو مجاز فى حقه، فلهذا قلنا بأن الكناية دالة على حقيقة الكلام ومجازه، ومن ذلك قوله تعالى: وَأَوْرَثَكُمْ أَرْضَهُمْ وَدِيارَهُمْ وَأَمْوالَهُمْ وَأَرْضاً لَمْ تَطَؤُها
[الأحزاب: 27] فقوله: وَأَرْضاً لَمْ تَطَؤُها
كما يحتمل الحقيقة وهى الأرض المنبتة فهو يحتمل أن يراد به المجاز، وهو الفروج التى ملكهم إيّاها بالاسترقاق، فلهذا أحل الوطء، ويصدق هذه الكناية قوله تعالى: نِساؤُكُمْ حَرْثٌ لَكُمْ فَأْتُوا حَرْثَكُمْ أَنَّى شِئْتُمْ
[البقرة: 223] فأما التعريض فهو كما أشرنا إليه دال بالقرينة وليس دالا على حقيقة ولا مجاز، وهذا كقوله تعالى فى قصة إبراهيم عليه السلام: قالُوا أَأَنْتَ فَعَلْتَ هذا بِآلِهَتِنا يا إِبْراهِيمُ (62) قالَ بَلْ فَعَلَهُ كَبِيرُهُمْ هذا فَسْئَلُوهُمْ إِنْ كانُوا يَنْطِقُونَ (63)
[الأنبياء: 62- 63] فهذه الآية إنما وردت كناية وتعريضا بحالهم، وتهكما واستهزاء بعقولهم، ولم يرد إسناد(3/189)
الفعل إلى كبيرهم فذلك مستحيل لكونه جمادا، ولكنه أراد التسفيه لحلومهم، والاستضعاف لعقولهم، كأنه قال: يا جهال البرية، كيف تعبدون ما لا يسمع ولا يعقل ولا يجيب سؤالا ولا يحير جوابا، وتجعلونه شريكا لخالق السماء والأرض فى العبادة، فإن كان كما تزعمون فهو إنما فعله كبيرهم فاسألوهم إن كانوا ينطقون، ومن ذلك قوله تعالى: إِنَّ الَّذِينَ تَدْعُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ لَنْ يَخْلُقُوا ذُباباً وَلَوِ اجْتَمَعُوا لَهُ وَإِنْ يَسْلُبْهُمُ الذُّبابُ شَيْئاً لا يَسْتَنْقِذُوهُ مِنْهُ ضَعُفَ الطَّالِبُ وَالْمَطْلُوبُ (73) ما قَدَرُوا اللَّهَ حَقَّ قَدْرِهِ
[الحج: 73- 74] فهذه الآية إنما وردت على جهة التعريض بحال الكفار من عبدة الأوثان والأصنام، وأن من هذا حاله فى الضعف والهوان والعجز كيف يستحق أن يكون معبودا، وأن توجه إليه العبادة، وهو لا يستنقذ شيئا من أضعف الحيوانات، ولا يقدر على دفعه لو أراد به سوءا، فهذه فى دلالتها على ما تدل عليه لم تبق عليهم فى النعى شيئا، ولا تركت عليهم بقية فى نقص عقولهم، والازدراء بأحلامهم، والتسفيه لما هم عليه من ذلك، فصدر الآية بما هو المقصود على جهة التأكيد بقوله: إِنَّ الَّذِينَ تَدْعُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ
[الأعراف: 194] ولم يقل إن هذه الأوثان، تقريرا بالصلة والموصول لما هم عليه من اتخاذهم شركاء، واسم الأوثان والأصنام لا يؤدى هذا المعنى، ثم عقبها بالنفى على جهة التأكيد بلن فى المستقبل بقوله: لَنْ يَخْلُقُوا ذُباباً
دلالة على العجز وإظهارا فى أن من هذا حاله فلا يستحق أن يكون معبودا، ولا يستأهل الشركة فى الإلهية، ثم بالغ فى استحالة الخلق منهم للذباب بقوله تعالى: وَلَوِ اجْتَمَعُوا لَهُ
لأن بالأجتماع تكون المظاهرة حاصلة، فإذا كان الإياس من خلقه مع الاجتماع، فهو مع الانفراد أحق لا محالة، ثم أكد ذلك بقوله: وَإِنْ يَسْلُبْهُمُ الذُّبابُ شَيْئاً لا يَسْتَنْقِذُوهُ مِنْهُ
يشير بذلك إلى أنهم عاجزون عن خلق الذباب وتدبيره نهاية العجز، ويدل على ذلك أنهم لو أخذ منهم الذباب شيئا على جهة السلب والاستيلاء ما قدروا على أخذه والانتصار منه، وهذا هو النهاية فى تقاصر الهمم وحقارتها وأنهم فى الحقيقة جامعون بين خصلتين، كل واحدة منهما كافية فى العجز، فضلا عن اجتماعهما، إحداهما عدم القدرة على خلق الذباب، والثانية عدم الانتصار منه إذا رام أخذ شىء منهم، وخلاصة هذا الكلام وغايته، أنه يستحيل عليهم بإدخال النقص فى حلومهم وضلالهم عن الحق فيما جاءوا من عبادة هذه الأصنام، أن أذل المخلوقات وأحقرها وأضعفها حالة، وأصغرها حجما، يقهرها ويسلبها ويأخذ(3/190)
متاعها لا تنتصر منه، وأدخل من هذا فى العجز أنه قادر على سلبهم فلا يمتنعون منه، ثم قال: ضَعُفَ الطَّالِبُ وَالْمَطْلُوبُ (73)
[الحج: 73] فعقّب هذه الآية دلالة على الاستواء فى الضعف بالإضافة إلى جلال الله تعالى وعظم قدرته وأن الكل، من الذباب والأصنام ضعيفة حقيرة بل لا متنع أن يكون الذباب أتم خلقا لكونه حيوانا قادرا، والأصنام جمادا لا حراك بها، ولا شك أن خلق الحيوان أتم من خلق الجماد وأكمل حالة، وحكى عن ابن عباس: أنهم كانوا يطلون الأصنام بالزعفران، ويضعون على رءوسها العسل، فيأتى الذباب فيقع على رءوسها من الكوى فلا تنتصر منه، ثم قال: ما قَدَرُوا اللَّهَ حَقَّ قَدْرِهِ
[الحج: 74] فى ادعاء الشركة بينه وبين الأصنام فى استحقاق الإلهية والعبادة، فجعلها ختاما لما قدم من حكاية حالهم فى نهاية الضعف والعجز، ولنقتصر على هذا القدر من التنبيه على ما اشتملت عليه هذه الآية، وتحتها من الأسرار واللطافة ما لو ذكرناه لسودنا أوراقا كثيرة ولم نذكر منه أطرافا.(3/191)
النظر الرابع من علوم البيان فى ذكر التمثيل
اعلم أن التمثيل نوع من أنواع البيان. وهو مخالف للتشبيه، فإن التشبيه إنما يكون فى المظهر الأداة، وهذا نوع من الاستعارة، وهو معدود من أنواع المجاز، وإنما قلنا إنه من الاستعارة من جهة أن الاستعارة حاصلة فيه، وإنما تقع التفرقة من جهة أن الوجه الجامع، إن كان منتزعا من عدة أمور فهو التمثيل، وإن كان مأخوذا من أمر واحد فهو الاستعارة، ثم إنه قد يتفاوت فى الحسن، لأنه يستعمل على وجهين: أحدهما أن لا يظهر وجه التشبيه فى الأستعارة، بل يكون تقدير التشبيه فيها عسرا صعبا، فما هذا حاله يعد من أحسن الاستعارة وهذا كقوله تعالى: فَأَذاقَهَا اللَّهُ لِباسَ الْجُوعِ وَالْخَوْفِ
[النحل:
112] وقوله تعالى: وَاخْفِضْ لَهُما جَناحَ الذُّلِّ مِنَ الرَّحْمَةِ
[الإسراء: 24] فما هذا حاله استعارة لا يظهر فيها وجه التشبيه، فلو أردت التكلّف فى إظهار وجه المشابهة لخرج الكلام عن حد البلاغة، وكلما ازدادت الاستعارة خفاء ازدادت حسنا ورونقا، وهذا هو مجراها الواسع المطّرد، وثانيهما أن يكون هناك مشبه ومشبه به من غير ذكر أداة التشبيه، فما هذا حاله من الاستعارة دون الأول فى الحسن، والتمثيل فى القرآن كقوله تعالى: صُمٌّ بُكْمٌ عُمْيٌ فَهُمْ لا يَرْجِعُونَ (18)
[البقرة: 18] فالآية إنما جاءت مسوقة على أن حال هؤلاء الكفار قد بلغوا فى الجهل المفرط والعمى المستحكم فى الإصرار والجحود على ما هم عليه من الكفر والعناد، بمنزلة من هو أصم أبكم أعمى، فلا يهتدى إلى الحق ولا يرعوى عما هو عليه من الباطل، ومنه قوله تعالى: أَفَرَأَيْتَ مَنِ اتَّخَذَ إِلهَهُ هَواهُ وَأَضَلَّهُ اللَّهُ عَلى عِلْمٍ وَخَتَمَ عَلى سَمْعِهِ وَقَلْبِهِ وَجَعَلَ عَلى بَصَرِهِ غِشاوَةً
[الجاثية: 23] فحاصل الأمر أن كل من انقاد لهواه، وأعرض عن حكم عقله فى كل أحواله، وصار العقل منقادا فى حكمة الذل موطوءا بقدم الهوى، فإنه ينزل فيما هو فيه منزلة من ختم على سمعه وقلبه وجعل على بصره غشاوة، فهو معرض عما يأتيه من الحق صادف عنه وهكذا قوله تعالى: خَتَمَ اللَّهُ عَلى قُلُوبِهِمْ وَعَلى(3/192)
سَمْعِهِمْ وَعَلى أَبْصارِهِمْ غِشاوَةٌ
[البقرة: 7] فما هذا حاله معدود فى التمثيل، وتقريره أنهم لما نكصوا عن قبول الحق وأعرضوا عما جاء به الرسول من نور الهدى، صاروا فى حالتهم هذه بمنزلة من ختم على قلبه وسمعه وجعل على بصره غشاوة، فمن هذا حاله لا اهتداء له إلى الحق ولا طريق إليه، فهكذا حال التمثيل فى جميع مجاريه يكون مخالفا للتشبيه المظهر الأداة، ومخالفا للاستعارة أيضا، فيكون على ما ذكرناه من أحد نوعى الاستعارة، وهو الذى يكون الوجه الجامع منتزعا من عدة أمور، وإذا وقفت على حقيقة الأمر فيه فلا عليك فى التلقيب، وفيما ذكرناه كفاية فى التنبيه على ما أردنا ذكره من العلوم البيانية مع ما سلف ذكره فى أول الكتاب، والله الموفق للصواب.(3/193)
القسم الثالث من علوم البلاغة علم البديع
اعلم أن هذا الفن من التصرف فى الكلام مختص بأنواع التركيب، ولا يكون واقعا فى المفردات، وهو خلاصة علمى المعانى والبيان ومصاص سكّرهما، وقد قررنا فيما سبق ماهية الفصاحة والبلاغة. فأغنى عن ذكرهما.
وعلم البديع هو تابع للفصاحة والبلاغة، فإذن هو صفو الصفو وخلاص الخلاص، وبيان ذلك هو أن العلوم الأدبية بالإضافة إلى حاجته إليها وترتّبه عليها على خمس مرات، كل واحدة منها أخص من الأخرى، وهو الغاية التى تنتهى إليه كلها إذ «ليس وراء عبّادان قرية» .
المرتبة الأولى علم اللغة
وهو علم الألفاظ المجردة الموضوعة للدلالة على معانيها المفردة كالإنسان، والفرس، والجدار، وغير ذلك، فإنه لا يستفاد منه إلا ما ذكرناه من المعانى المفردة من غير زيادة عليه.
المرتبة الثانية علم التصريف
وهو علم جليل القدر من علوم الأدب متعلّقه العلم بتصحيح الألفاظ، وهو أخص من علم اللغة، لأن متعلقه ليس إلا سلامة الألفاظ ومعرفة أصليّها من زائدها وصحيحها من عليلها، وإجراء إعلالها على القوانين المألوفة.
المرتبة الثالثة علم الإعراب
وهو أخص مما سبقه، لأن ما سبقه من علم اللغة والتصريف، يختصان بالأمور المفردة، وهذا مختص بالكلم المركبة، لأن الإعراب لا يستحق إلا بعد العقد والتركيب، فمن أجل ذلك كان أخص حكما فيهما لما ذكرناه، ومحصوله فائدة التركيب وهو إفادة الكلام.
المرتبة الرابعة علم المعانى
وهو أخص من علم الإعراب من جهة أن علم الإعراب تحصل فائدته بمطلق التركيب، وعلم المعانى له فائدة وراء ما ذكرناه من التركيب، وهو ما يتعلق بالأمور الخبرية، من تعريفها، وتنكيرها، وتقديمها، وتأخيرها، وفصلها، ووصلها، وبالأمور الطلبية الإنشائية، كالأوامر، والنواهى، والتمنى، والترجى، والدعاء، والنداء، والعرض، فانظر فيها أخص من النظر فى علم الإعراب كما ترى.(3/194)
المرتبة الخامسة علم البيان
وهو أخص من علم المعانى، لأن حاصل دلالته على ما يدل عليه، ليس من جهة الإنشاء، ولا من جهة الخبر، ولكن من دلالة أخص من ذلك، وهى دلالة اللفظ على معناه، إما بحقيقته، بتشبيه، أو غير تشبيه، وإما من جهة مجازه، إما بطريق الاستعارة، أو بطريق الكناية، أو بطريقة التمثيل كما مر تقريره، وهى التى تكسب الكلام الذوق والحلاوة، والرونق والطلاوة، فى البلاغة والفصاحة، فإذا تمهدت هذه القاعدة، فاعلم أن علم البديع حاصله معرفة مقصود بلاغة الكلام وفصاحته، وهذا لا يحصل بتمامه وكماله إلا بإحراز ما سلف من العلوم الأدبية، فهو خلاصتها وصفوها ونقاوتها، وهى وصلة إليه، وأنا الآن أعلو ذروة لا ينال حضيضها فى ضرب مثال لهذه العلوم من الأمثلة الحسنة، يظهر به جوهرها ويروق حسنها، فأقول هذه العلوم الأدبية بمنزلة عقد نفيس مؤلف من الدرر واللآلىء سالمة جواهره من الصدع والانشقاق، مؤلف تأليفا بديعا، فتارة يجعل طوقا فى العنق، وتارة إكليلا على الجبين، وتارة يكون وشاحا على الخصر، موضوعا على شكل يتلاءم تأليفه، فالكلم اللغوية المفردة بمنزلة اللآلىء والدّرر المبددة، وعلم التصريف هو سلامته عن الشقوق والانصداع، وتأليفها هو بمنزلة علم الإعراب، فإذا جعلت طوقا، أو إكليلا، أو قرطا ورعاثا، فهو بمنزلة علم المعانى، فإذا جعل الإكليل على الجبين، وجعل الطوق فى العنق، والقرط فى الأذن، فهو بمنزلة علم البيان، فإذا جعل الإكليل على الجبين مطولا بطوله، والطوق على تدوير العنق، وجعلت على المساحة اللائقة بلبسها، كانت بمنزلة علم البديع، ألا ترى أنه لو وضع الإكليل معترضا على الخد، لم يكن ملائما لحقيقة تأليفه، فكل واحد من هذه العلوم على محلّ ومنزلة فى الحاجة منها، كما فصلته لك كما أن كل واحدة من هذه المزايا فى العقد على حظّ ومرتبة فيه، بحيث لو أخلّ بها، فات الغرض المقصود به، فهذا هو المثال الكاشف عن حال هذا العلم بالإضافة إلى العلوم الأدبية، وهو مطابق لما ذكرت من العقد المؤلف على الحد الذى قررته، فليكن من الناظر تأمّله بعين الإنصاف، فإذا عرفت هذا فلنذكر علم البديع وأسراره، وهى منقسمة إلى ما يكون متعلقا بالفصاحة اللفظية، وإلى ما يكون متعلقا بالفصاحة المعنوية، فهذان طرفان نذكر ما يتعلق بكل واحد منهما من الأمثلة والله تعالى الموفق للصواب.(3/195)
الطرف الأول فى بيان ما يتعلق بالفصاحة اللفظية
اعلم أنا إنما جعلنا هذا الطرف متعلقه الفصاحة اللفظية، لما كان أمره وشأنه متعلقا بالألفاظ ومشاكلة الكلم وازدواج الألفاظ، فلأجل هذا جعلناه متعلقا باللفظ، وجملة ما نذكر من ذلك ضروب عشرة.
الضرب الأول منها التجنيس
وهو على تنوعه عبارة عن اتفاق اللفظين فى وجه من الوجوه مع اختلاف معانيهما، وهو عظيم الموقع فى البلاغة، جليل القدر فى الفصاحة، ولولا ذلك لما أنزل الله كتابه المجيد على هذا الأسلوب، واختاره له كغيره من سائر أساليب الفصاحة، ثم ينقسم إلى كامل، وإلى ناقص، فالكامل هو أن تتفق الكلمتان فى الوزن، والحركات والسكنات، ويقع الاختلاف فى المعانى، ولم يقع فى كتاب الله تعالى تجنيس كامل إلا فى قوله تعالى:
وَيَوْمَ تَقُومُ السَّاعَةُ يُقْسِمُ الْمُجْرِمُونَ ما لَبِثُوا غَيْرَ ساعَةٍ
[الروم: 55] وأما الناقص فأبنيته كثيرة ومضطرباته واسعة، فمنه التجنيس الناقص، وهو أن تكون إحدى الكلمتين مشتملة على لفظ الأخرى مع زيادة، ومثاله قوله تعالى: وَالْتَفَّتِ السَّاقُ بِالسَّاقِ (29) إِلى رَبِّكَ يَوْمَئِذٍ الْمَساقُ (30)
[القيامة: 29- 30] فزيادة الميم فى المساق هو الذى أوجب كونه جناسا ناقصا، وهذا يقال له «المذيّل» أيضا، ومنه «المصحّف» وهو أن تتفق الكلمتان خطا لا لفظا، ومثاله قوله تعالى وَهُمْ يَحْسَبُونَ أَنَّهُمْ يُحْسِنُونَ صُنْعاً (104)
[الكهف: 104] ومنه «المضارع» وهو أن تتفق الكلمتان فى حرف واحد، سواء وقع أولا أو آخرا أو وسطا، ومثاله قوله تعالى وَإِذا جاءَهُمْ أَمْرٌ مِنَ الْأَمْنِ
[النساء: 83] فقد اتفق الأمر والأمن، فى الهمزة والميم، ومنه «المتوازن» وهو أن تتفق الكلمتان فى الوزن ويختلفا فيما عداه، ومثاله قوله تعالى: وَنَمارِقُ مَصْفُوفَةٌ (15) وَزَرابِيُّ مَبْثُوثَةٌ (16)
[الغاشية: 15- 16] ومنه «المعكوس» ومثاله قوله تعالى: وَكُلٌّ فِي فَلَكٍ يَسْبَحُونَ (40)
[يس: 40] ومعنى العكس فى هذا أنه يقرأ من آخره كما يقرأ من أوله ونحو قوله تعالى: وَرَبَّكَ فَكَبِّرْ (3)
[المدثر: 3] وقد يجىء العكس على غير هذا فى الكلم فى مثل قولهم: «عادات السادات سادات العادات» ومنه «الاشتقاقى» وهو أن تتفق الكلمتان(3/196)
فى معنى واحد يجمعهما، ومثاله قوله تعالى: فَأَقِمْ وَجْهَكَ لِلدِّينِ الْقَيِّمِ
[الروم: 43] وقوله تعالى: وَجَنَى الْجَنَّتَيْنِ دانٍ (54)
[الرحمن: 54] وقوله تعالى: فِطْرَتَ اللَّهِ الَّتِي فَطَرَ النَّاسَ عَلَيْها
[الروم: 30] ونحو قوله تعالى: فَرَوْحٌ وَرَيْحانٌ
[الواقعة: 89] فهذا ما أردنا ذكره من التجنيس.
الضرب الثانى التسجيع
وهو فى كتاب الله تعالى أكثر من أن يعد ويحصى، وهو فى النثر نظير التقفية فى الشعر، ويرد تارة طويلا، وتارة قصيرا، ومرة على جهة التوسط، فهذه وجوه ثلاثة، أولها القصير، كقوله تعالى فى سورة المدثر: وَرَبَّكَ فَكَبِّرْ (3) وَثِيابَكَ فَطَهِّرْ (4) وَالرُّجْزَ فَاهْجُرْ (5)
[المدثر: 3- 5] ، إلى آخر الآيات بعد قوله: يا أَيُّهَا الْمُدَّثِّرُ (1) قُمْ فَأَنْذِرْ (2)
[المدثر: 1- 2] وقوله تعالى: وَالنَّجْمِ إِذا هَوى (1) ما ضَلَّ صاحِبُكُمْ وَما غَوى (2) وَما يَنْطِقُ عَنِ الْهَوى (3) إِنْ هُوَ إِلَّا وَحْيٌ يُوحى (4)
[النجم: 1- 4] وثانيها الطويل، ومثاله قوله تعالى: فى سورة الملك الَّذِي خَلَقَ الْمَوْتَ وَالْحَياةَ لِيَبْلُوَكُمْ أَيُّكُمْ أَحْسَنُ عَمَلًا وَهُوَ الْعَزِيزُ الْغَفُورُ (2) الَّذِي خَلَقَ سَبْعَ سَماواتٍ طِباقاً ما تَرى فِي خَلْقِ الرَّحْمنِ مِنْ تَفاوُتٍ فَارْجِعِ الْبَصَرَ هَلْ تَرى مِنْ فُطُورٍ (3)
[الملك: 2- 3] وثالثها أن يكون متوسطا، ومثاله قوله تعالى: يْسَ لَهُمْ طَعامٌ إِلَّا مِنْ ضَرِيعٍ (6) لا يُسْمِنُ وَلا يُغْنِي مِنْ جُوعٍ (7)
[الغاشية: 6- 7] وقوله تعالى: أَفَلا يَنْظُرُونَ إِلَى الْإِبِلِ كَيْفَ خُلِقَتْ (17) وَإِلَى السَّماءِ كَيْفَ رُفِعَتْ (18)
[الغاشية: 17- 18] وأكثر العلماء على حسن استعماله، ولهذا ورد القرآن على استعماله، ومنهم من أنكره، ثم إن الفواصل التى تكون مقررة عليها الآى، أقلّها فاصلتان، ويردان على أوجه ثلاثة، أولها أن تكونا متساويتين فى أنفسهما من غير زيادة ولا نقصان، وهذا كقوله تعالى: وَالْعادِياتِ ضَبْحاً (1) فَالْمُورِياتِ قَدْحاً (2) فَالْمُغِيراتِ صُبْحاً (3)
[العاديات: 1- 3] وقوله تعالى: فَأَمَّا الْيَتِيمَ فَلا تَقْهَرْ (9) وَأَمَّا السَّائِلَ فَلا تَنْهَرْ (10)
[الضحى: 9- 10] وثانيها أن تكون الفقرة الثانية أطول من الأولى، ومثاله قوله تعالى: بَلْ كَذَّبُوا بِالسَّاعَةِ وَأَعْتَدْنا لِمَنْ كَذَّبَ بِالسَّاعَةِ سَعِيراً (11) إِذا رَأَتْهُمْ مِنْ مَكانٍ بَعِيدٍ سَمِعُوا لَها تَغَيُّظاً وَزَفِيراً (12) وَإِذا أُلْقُوا مِنْها مَكاناً ضَيِّقاً مُقَرَّنِينَ دَعَوْا هُنالِكَ ثُبُوراً (13)
[الفرقان: 11- 13] فالثانية كما ترى أطول من الأولى، وثالثها عكس هذا، وهو أن تكون الثانية أقصر من الأولى، وهو معيب عند جماهير أهل هذه الصناعة، ولا يكاد يوجد من هذا الضرب شىء فى القرآن، وإنما أكثر وروده على الوجهين الآخرين.(3/197)
الضرب الثالث لزوم ما لا يلزم
ويقال له الإعنات أيضا، وقد ورد فى كتاب الله تعالى، وحاصله أن يلتزم الناثر حرفا مخصوصا مع اتفاق الكلمتين فى الأعجاز، ومثاله قوله تعالى: وَالطُّورِ (1) وَكِتابٍ مَسْطُورٍ (2)
[الطور: 1- 2] فالتزم وجود الواو مع التزام الراء فى آخر السجعتين، ونحو قوله تعالى اقْرَأْ بِاسْمِ رَبِّكَ الَّذِي خَلَقَ (1) خَلَقَ الْإِنْسانَ مِنْ عَلَقٍ (2)
[العلق: 1- 2] وقوله تعالى: فَأَمَّا الْيَتِيمَ فَلا تَقْهَرْ (9) وَأَمَّا السَّائِلَ فَلا تَنْهَرْ (10)
[الضحى: 9- 10] وقوله تعالى:
فِي سِدْرٍ مَخْضُودٍ (28) وَطَلْحٍ مَنْضُودٍ (29)
[الواقعة: 28- 29] وهو كما يرد فى النثر، فهو وارد فى النظم، وقد ذكرناه أمثلته فيما تقدم فأغنى عن التكرير.
الضرب الرابع رد العجز على الصدر
وهو أن يأتى فى آخر الكلام بما يوافق أوله ومثاله قوله تعالى: وَتَخْشَى النَّاسَ وَاللَّهُ أَحَقُّ أَنْ تَخْشاهُ
[الأحزاب: 37] وقوله تعالى: لا تَفْتَرُوا عَلَى اللَّهِ كَذِباً فَيُسْحِتَكُمْ بِعَذابٍ وَقَدْ خابَ مَنِ افْتَرى (61)
[طه: 61] فهذه أمثلة لرد العجز على الصدر مع الزيادة، وقد يكون الاتفاق على جهة المساواة، كقولهم الحيلة ترك الحيلة، والقتل أنفى للقتل.
الضرب الخامس المطابقة
ويقال الطباق أيضا، والتضاد، والتكافؤ والمقابلة وحاصله الإتيان بالنقيضين والضدين ومثاله قوله تعالى: إِنَّ اللَّهَ يَأْمُرُ بِالْعَدْلِ وَالْإِحْسانِ وَإِيتاءِ ذِي الْقُرْبى وَيَنْهى عَنِ الْفَحْشاءِ وَالْمُنْكَرِ وَالْبَغْيِ
[النحل: 90] فانظر إلى ما تضمنته هذه الآية من المقابلات الحالية، والمتضادات المتكافئة، فالأمر قد اشتمل على ثلاث مقابلات، والنهى قد اشتمل على عكسها وضدها، ثم إن الأمر فى نفسه يقتضى النهى كما ترى، وقوله تعالى: وَاعْبُدُوا اللَّهَ وَلا تُشْرِكُوا بِهِ شَيْئاً
[النساء: 36] فالأمر يقتضى النهى، والعبادة نقيضها الشرك إلى غير ذلك من التقابل العجيب الذى اشتمل عليه القرآن.(3/198)
الضرب السادس الترصيع
وهو من علم البديع بمحل ومكان رفيع، ولم يرد فى القرآن شىء منه على علو قدره وظهور بلاغته، وهو قليل نادر لصعوبة الأمر فيه، ولولا ما ورد من اختلاف الجمعين فى الأبرار، والفجار، وفى قوله: لَفِي نَعِيمٍ (13)
لكان ترصيعا فى قوله تعالى: إِنَّ الْأَبْرارَ لَفِي نَعِيمٍ (13) وَإِنَّ الْفُجَّارَ لَفِي جَحِيمٍ (14)
[الانفطار: 13- 14] فإنه لو أبدل الفجار بلفظ يوازن الأبرار وأبدل لفظ فى، لكان ترصيعا، لكن لما ورد هكذا لم يعد ترصيعا، فلو قال مثلا:
إن الأبرار لفى نعيم، وإن الأشرار لمن جحيم، لكان ترصيعا، ولكنه جمع الفجار، للكثرة وجمع الأبرار للقلة، فأخرجه عما يرد من الترصيع تنبيها على قلة أهل الإيمان وكثرة أهل الفجور، وقد عرفت مثاله لو ورد على ما قلناه.
الضرب السابع اللف والنشر
وهو ذكر الشيئين على جهة الاجتماع مطلقين من غير تقييد، ثم يرمى بما يليق بكل واحد منهما اتكالا على قريحة السامع، بأن يلحق بكل واحد منهما ما يستحقه، ومثاله قوله تعالى: وَمِنْ رَحْمَتِهِ جَعَلَ لَكُمُ اللَّيْلَ وَالنَّهارَ لِتَسْكُنُوا فِيهِ وَلِتَبْتَغُوا مِنْ فَضْلِهِ
[القصص: 73] فجمع أولا بين الليل والنهار بواو العطف ثم إنه بعد ذلك أضاف إلى كل واحد منهما ما يليق به، فأضاف السكون إلى الليل، من جهة أن تصرف الخلق يقل ليلا لأجل ما يعتريهم من النوم، ثم قال بعد ذلك: وَلِتَبْتَغُوا مِنْ فَضْلِهِ
أضافه إلى النهار، لأن ابتغاء الأرزاق إنما يكون نهارا بالتصرف والاحتيال، واكتفى فى البيان والتفصيل بما يظهر من قرينة الحال فى معرفة حكم كل واحد منهما كما مر بيانه.
الضرب الثامن الموازنة
وهو اتفاق آخر الفقرتين فى الوزن، وإن لم يتجانسا فى الأحرف، ومثاله قوله تعالى:
وَآتَيْناهُمَا الْكِتابَ الْمُسْتَبِينَ (117) وَهَدَيْناهُمَا الصِّراطَ الْمُسْتَقِيمَ (118)
[الصافات: 117- 118] فقوله(3/199)
المستبين، والمستقيم، وزنهما واحد كما ترى، ونحو قوله تعالى: لِيَكُونُوا لَهُمْ عِزًّا (81)
[مريم: 81] ثم قال بعد ذلك: وَيَكُونُونَ عَلَيْهِمْ ضِدًّا (81)
[مريم: 82] فالعز والضد مستويان فى الزنة، وهكذا قوله تعالى: تَؤُزُّهُمْ أَزًّا (83)
[مريم: 83] مع قوله: إِنَّما نَعُدُّ لَهُمْ عَدًّا (84)
[مريم: 84] وهو كثير الورود فى كتاب الله تعالى.
الضرب التاسع المقابلة
وحاصلها مقابلة اللفظ بمثله، ثم هى تأتى على وجهين، أحدهما مقابلة المفرد بالمفرد، ومثاله قوله تعالى: هَلْ جَزاءُ الْإِحْسانِ إِلَّا الْإِحْسانُ (60)
[الرحمن: 60] وقوله تعالى: مَنْ كَفَرَ فَعَلَيْهِ كُفْرُهُ
[الروم: 44] وقوله تعالى: وَجَزاءُ سَيِّئَةٍ سَيِّئَةٌ مِثْلُها
[الشورى: 40] وثانيهما مقابلة الجملة بالجملة، ومثاله قوله تعالى: وَمَكَرُوا وَمَكَرَ اللَّهُ وَاللَّهُ خَيْرُ الْماكِرِينَ (54)
[آل عمران: 54] وقوله تعالى: قُلْ إِنْ ضَلَلْتُ فَإِنَّما أَضِلُّ عَلى نَفْسِي
[سبأ: 50] فما هذا حاله من المقابلة فى الوجهين جميعا له حظ فى البلاغة، ومقصد عظيم لا يخفى على من له أدنى ذوق مستقيم.
الضرب العاشر الترديد
وفائدته أن تورد اللفظة لمعنى من المعانى، ثم تردها بعينها وتعلّق بها معنى آخر، ومثاله قوله تعالى: حَتَّى نُؤْتى مِثْلَ ما أُوتِيَ رُسُلُ اللَّهِ
الله أعلم حيث يجعل رسالاته [الأنعام: 124] وهو كثير دوره فى المنظوم والمنثور من كلام الفصحاء، وقد يحصل فى مصراع واحد كما قال بعض الشعراء:
ليس بما ليس به بأس باس ... ولا يضرّ المرء ما قال الناس «1»
فانظر إلى تكرير هذه اللفظة وترديدها، وإفادتها لمعان مختلفة، ولنقتصر على هذا القدر من الفصاحة اللفظية.(3/200)
الطرف الثانى فى بيان ما يتعلق بالفصاحة المعنوية
وإنما أوردنا هذا بيانا للفصاحة المعنوية لما كان متعلّقا بالمعانى دون الألفاظ، وجملة ما نورده من ذلك ضروب عشرة، ففيها كفاية فى غرضنا.
الضرب الأول التتميم
وهو الإتيان بجملة عقيب كلام متقدم لإفادة التوكيد له والتقرير لمعناه، ومثاله قوله تعالى: ذلِكَ جَزَيْناهُمْ بِما كَفَرُوا
وهل يجازى إلا الكفور (17) [سبأ: 17] فقوله: وهل يجازى إنما ورد على جهة التوكيد لما مضى من الكلام الأول، وقوله تعالى: وَما جَعَلْنا لِبَشَرٍ مِنْ قَبْلِكَ الْخُلْدَ
[الأنبياء: 34] ثم قال: أَفَإِنْ مِتَّ فَهُمُ الْخالِدُونَ (34)
[الأنبياء: 34] فأورده على جهة توكيد الكلام الأول، ثم قال: كُلُّ نَفْسٍ ذائِقَةُ الْمَوْتِ
[آل عمران: 185] تأكيدا ثانيا لما سلف من الجملة الأولى والله أعلم بالصواب.
الضرب الثانى الائتلاف والملائمة
وهو أن يكون اللفظ ملائما للمعنى، فإذا كان الموضع موضعا للوعد والبشارة، كان اللفظ رقيقا ومثاله قوله تعالى: يُبَشِّرُهُمْ رَبُّهُمْ بِرَحْمَةٍ مِنْهُ وَرِضْوانٍ وَجَنَّاتٍ لَهُمْ فِيها نَعِيمٌ مُقِيمٌ (21)
[التوبة: 21] وقوله تعالى: نَصْرٌ مِنَ اللَّهِ وَفَتْحٌ قَرِيبٌ وَبَشِّرِ الْمُؤْمِنِينَ (13)
[الصف:
13] فانظر إلى هذه الألفاظ، كيف رقت وكان فيها من السلاسة ما لا يخفى، وإذا كان الموضع موضعا للوعيد والنذارة، وكان اللفظ جزلا، ومثاله قوله تعالى: وَلَوْ تَرى إِذْ وُقِفُوا عَلَى النَّارِ فَقالُوا يا لَيْتَنا نُرَدُّ وَلا نُكَذِّبَ بِآياتِ رَبِّنا
[الأنعام: 27] وقوله تعالى: وَيَوْمَ يُنادِيهِمْ فَيَقُولُ أَيْنَ شُرَكائِيَ الَّذِينَ كُنْتُمْ تَزْعُمُونَ (62)
[القصص: 62] فانظر إلى التفاوت بين المقامين فى الجزالة، والرقة، وكل واحد منهما ملائم للمعنى الذى جىء به من أجله، وهكذا تجد ألفاظ القرآن على هذه الصفة، وهذا إنما يدرك بالقريحة الصافية، والذوق السليم.(3/201)
الضرب الثالث الجمع والتفريق
وهما أيضا من أوصاف البلاغة، فأما الجمع فكقوله تعالى: زُيِّنَ لِلنَّاسِ حُبُّ الشَّهَواتِ مِنَ النِّساءِ وَالْبَنِينَ وَالْقَناطِيرِ الْمُقَنْطَرَةِ مِنَ الذَّهَبِ وَالْفِضَّةِ وَالْخَيْلِ الْمُسَوَّمَةِ وَالْأَنْعامِ وَالْحَرْثِ
[آل عمران: 14] وقوله تعالى: الْمالُ وَالْبَنُونَ زِينَةُ الْحَياةِ الدُّنْيا وَالْباقِياتُ الصَّالِحاتُ خَيْرٌ عِنْدَ رَبِّكَ
[الكهف: 46] فهذه الأمور قد جمعها، وأما التفريق فكقوله تعالى:
فَأَمَّا الَّذِينَ شَقُوا فَفِي النَّارِ لَهُمْ فِيها زَفِيرٌ وَشَهِيقٌ (106)
[هود: 106] ، وَأَمَّا الَّذِينَ سُعِدُوا فَفِي الْجَنَّةِ
[هود: 108] وقوله تعالى: فَأَمَّا الَّذِينَ اسْوَدَّتْ وُجُوهُهُمْ أَكَفَرْتُمْ
[آل عمران: 106] وَأَمَّا الَّذِينَ ابْيَضَّتْ وُجُوهُهُمْ فَفِي رَحْمَتِ اللَّهِ
[آل عمران: 107] إلى غير ذلك من أفانين الجمع والتفريق، وهما كثيرا الورود فى كتاب الله تعالى.
الضرب الرابع التهكم
وهو إنما يكون عن شدة الغضب، ومثاله قوله تعالى: فَبَشِّرْهُمْ بِعَذابٍ أَلِيمٍ (21)
[آل عمران: 21] فالبشارة إنما تورد فى الأمور السارة اللذيذة، وقد أوردها هنا فى عكسها تهكما بهم وغضبا عليهم، ونحو قوله تعالى: إِنَّكَ لَأَنْتَ الْحَلِيمُ الرَّشِيدُ (87)
[هود:
87] فالغرض من مقصودهم إنك السفيه الجاهل، ولكنهم أخرجوه على هذا المخرج تهكما به، وإنزالا لدرجته عندهم، ووروده فى القرآن أكثر من أن يحصى على أفانين مختلفة، وقد أشرنا إليها فيما سبق.
الضرب الخامس التسجيل
وهو عبارة عن تطويل الكلام لإفادة مدح أو ذم، ومثاله الآيات الواردة فى عبدة الأوثان والأصنام، فإن الله تعالى ما ذكرهم إلا وسجّل عليهم بالنّعى لأفعالهم والذم لمقالتهم، والاستهجان لعقولهم، والإنزال لدرجاتهم، وهذا كقوله تعالى: إِنَّ الَّذِينَ تَدْعُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ عِبادٌ أَمْثالُكُمْ
[الأعراف: 194] وقوله تعالى: إِنَّ الَّذِينَ(3/202)
تَدْعُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ لَنْ يَخْلُقُوا ذُباباً وَلَوِ اجْتَمَعُوا لَهُ وَإِنْ يَسْلُبْهُمُ الذُّبابُ شَيْئاً لا يَسْتَنْقِذُوهُ مِنْهُ
[الحج: 73] فهذا كله مثال فى تسجيل الذم، وأما التسجيل فى المدح، فكالأوصاف التى ذكرها الله وأطنب فى شرحها فى حق أهل الإيمان، كالآيات التى فى فواتح سورة البقرة فى صفة المتقين، والآيات التى فى صدر سورة المؤمنين، فهذا كله معدود فى التسجيل.
الضرب السادس الإلهاب والتهييج
وهما عبارتان عن الحثّ على الفعل لمن لا يخلو عن الإتيان به، وعلى ترك الفعل لمن لا يتصور منه تركه، ومثاله قوله تعالى: لَئِنْ أَشْرَكْتَ لَيَحْبَطَنَّ عَمَلُكَ وَلَتَكُونَنَّ مِنَ الْخاسِرِينَ (65)
[الزمر: 65] وقوله تعالى: بَلِ اللَّهَ فَاعْبُدْ وَكُنْ مِنَ الشَّاكِرِينَ (66)
[الزمر: 66] ، فَاعْبُدِ اللَّهَ مُخْلِصاً لَهُ الدِّينَ (2)
[الزمر: 2] وقوله تعالى: فَأَقِمْ وَجْهَكَ لِلدِّينِ حَنِيفاً
[الروم: 30] وقوله: فَاسْتَقِمْ كَما أُمِرْتَ
[هود: 112] وقوله تعالى فَلا تَكُونَنَّ مِنَ الْجاهِلِينَ (35)
[الأنعام: 35] فهذا كله وارد على جهة الحث لرسول الله صلّى الله عليه وسلّم والتحذير له عن مواقعة هذه الأفعال.
الضرب السابع التلميح
وهو عبارة عن الإشارة فى أثناء الكلام إلى الأمثال السائرة، ومثاله قوله تعالى:
كَمَثَلِ الْعَنْكَبُوتِ
[العنكبوت: 41] وقوله تعالى: فَمَثَلُهُ كَمَثَلِ الْكَلْبِ
[الأعراف:
176] وقوله: كَمَثَلِ الْحِمارِ يَحْمِلُ أَسْفاراً
[الجمعة: 5] فما هذا حاله إذا ورد فى الكلام فإنه يكسبه بلاغة ورشاقة، ويزيده وضوحا ويصير كالشّامة فى بدن الإنسان ويزيده فى الأذهان قبولا ونضارة.
الضرب الثامن جودة المطالع والاستفتاحات للكلام
اعلم أن ما هذا حاله تتفاوت الناس فيه كثيرا، فإنه إذا كان حسنا كان مفتاحا للبلاغة،(3/203)
وديباجة للبراعة، ولهذا فإنك تجد الافتتاحات فى القرآن الكريم على أحسن ما يكون وأبلغه، للملائمة المقصود بالسورة من إيقاظ كقوله تعالى: يا أَيُّهَا الْمُزَّمِّلُ (1)
[المزمل: 1] ، يا أَيُّهَا الْمُدَّثِّرُ (1)
[المدثر: 1] ، يا أَيُّهَا النَّاسُ اتَّقُوا رَبَّكُمُ
[النساء: 1] ، يا أَيُّهَا النَّبِيُّ اتَّقِ اللَّهَ
[الأحزاب: 1] ، وغير ذلك، أو بشارة كقوله تعالى: قَدْ أَفْلَحَ الْمُؤْمِنُونَ (1)
[المؤمنون: 1] أو إنذار كقوله تعالى: يا أَيُّهَا النَّاسُ اتَّقُوا رَبَّكُمْ إِنَّ زَلْزَلَةَ السَّاعَةِ شَيْءٌ عَظِيمٌ (1)
[الحج: 1] وهكذا جميع السور فإنها دالة على المقصود فى الابتداء.
الضرب التاسع التخلص
وهو عبارة عن الخروج إلى المقصد المطلوب عقيب ما ذكره من قبل، ومثاله قوله تعالى فى سورة المدثر: يا أَيُّهَا الْمُدَّثِّرُ (1) قُمْ فَأَنْذِرْ (2)
[المدثر: 1- 2] ثم تخلص بعد ذلك إلى ما هو المقصود بقوله: ذَرْنِي وَمَنْ خَلَقْتُ وَحِيداً (11)
[المدثر: 11] فلما اتعظ الرسول بالأمر بالإنذار، عقبه بالوعيد الشديد للوليد بن المغيرة بقوله: ذَرْنِي وَمَنْ خَلَقْتُ وَحِيداً (11)
إلى آخر الآيات وهكذا فى كل سورة تجده يتخلص إلى المقصود بأعجب خلاص كما قال تعالى فى سورة النور: سُورَةٌ أَنْزَلْناها وَفَرَضْناها
[النور: 1] ثم تخلّص بذكر حكم الزانية والزانى إلى ما هو المقصود بعد ما قدم ما قدمه من ذكر السورة المفروضة المحكمة.
الضرب العاشر الاختتامات
وهو عبارة عن توخّى المتكلم ختم كلامه بما يشعر بالنجاح والتمام لغرضه، وهذا تجده فى القرآن على أحسن شىء وأعجبه، فإن الله تعالى ختم سورة البقرة، بالدعاء، والإيمان بالله تعالى والتصديق لرسله، وختم سورة آل عمران بالتنبيه على النظر فى المخلوقات والأمر بالصبر والمصابرة والمرابطة إلى غير ذلك من جميع السور، فإنك تجدها ملائمة، وتجد المطالع والمقاصد والخواتيم كلها مسوقة على أعجب نظام وأكمله، ولنقتصر على هذا القدر من تعريف ما وقع من علم البديع فى كتاب الله تعالى، وقد أشرنا إلى هذه الأساليب فى أول الكتاب بأكثر من هذا وقررناه بالأمثلة، فأغنى عن الإطالة.(3/204)
خاتمة لما أوردناه فى هذا الفصل
اعلم أن المقصود بما ذكرناه هو بيان أن القرآن فى أعلا طبقات الفصاحة وقد مهّدنا طريقه، وذكرنا أنه حاصل على الوجوه اللائقة بالبلاغة والأسرار المتعلقة بالفصاحة بحيث لا تتصور فى غيره إلا وهى فيه أتم وأخلق، ولا توجد فى غيره إلا وهى فيه أقدم، وأسبق، وما ذاك إلا لأنه لم تصغه أسلات الألسنة، ولا أنضج بنار الفكرة، وإنما هو كلام سماوى ومعجز إلهى، ما زالت رحال الخواطر الذكية معقولة بفنائه لتطّلع على رموزه، وما برحت الأنظار الصافية مأسورة فى رق ملكه لتقع على أدنى جوهر كنوزه، فأبى الله من ذلك إلا ما سمح به للخاصة من أوليائه، والمرموقين بعين المحبة والمودة من أصفيائه، الذين شغلوا أنفسهم، وأتعبوا خواطرهم فى إدراك سرّه وتحقيقه، وتعطشوا لنيل مخزون تلك الأسرار، فسقوا من صفو رحيقه وجهدوا أنفسهم فى إدراكها، وأظمأوا هو اجرهم فى طلبها حتى صاروا أئمة مقصودين، وسادة معدودين: وَالَّذِينَ جاهَدُوا فِينا لَنَهْدِيَنَّهُمْ سُبُلَنا وَإِنَّ اللَّهَ لَمَعَ الْمُحْسِنِينَ (69)
[العنكبوت: 69] ونخوض الآن فى الكلام فى إعجاز القرآن بمعونة الله تعالى.(3/205)
الفصل الثانى فى بيان كون القرآن معجزا
اعلم أن الكلام فى هذا الفصل وإن كان خليقا بإيراده فى المباحث الكلامية، والأسرار الإلهية، لكونه مختصا بها ومن أهم قواعدها، لما كان علامة دالة على النبوة وتصديقا لصاحب الشريعة، حيث اختاره الله تعالى بيانا لمعجزته، وعلما دالا على نبوته، وبرهانا على صحة رسالته، لكن لا يخفى تعلّقه بما نحن فيه تعلقا خاصا، والتصاقا ظاهرا، فإن الأخلق بالتحقيق أنا إذا تكلمنا على بلاغة غاية الإعجاز بتضمنه لأفانين البلاغة، فالأحق هو إيضاح ذلك، فنظهر وجه إعجازه، وبيان وجه الإعجاز، وإبراز المطاعن التى للمخالفين، والجواب عنها، والذى يقضى منه العجب، هو حال علماء البيان، وأهل البراعة فيه عن آخرهم، وهو أنهم أغفلوا ذكر هذه الأبواب فى مصنفاتهم بحيث إن واحدا منهم لم يذكره مع ما يظهر فيه من مزيد الاختصاص وعظم العلقة، لأن ما ذكروه من تلك الأسرار المعنوية، واللطائف البيانية من البديع وغيره، إنما كانت وصلة وذريعة إلى بيان السر واللّباب، والغرض المقصود عند ذوى الألباب، إنما هو بيان لطائف الإعجاز، وإدراك دقائقه، واستنهاض عجائبه، فكيف ساغ لهم تركها وأعرضوا عن ذكرها، وذكروا فى آخر مصنفاتهم ما هو بمعزل عنها، كذكر مخارج الحروف وغيرها مما ليس مهمّا، وإنما المهم ما ذكرناه، ثم لو عذرنا من كان منهم ليس له حظ فى المباحث الكلامية، ولا كانت له قدم راسخة فى العلوم الإلهية، وهم الأكثر منهم كالسكاكى، وابن الأثير، صاحب التبيان، وغيرهم ممن برّز فى علوم البيان، وصبغ بها يده، وبلغ فيها جدّه وجهده، فما بال من كان له فيها اليد الطولى، كابن الخطيب الرازى، فإنه أعرض عن ذلك فى كتابه المصنف فى علم البيان، فإنه لم يتعرض لهذه المباحث، ولا شم منها رائحة، ولكنه ذكر فى صدر كتاب النهاية كلاما قليلا فى وجه الإعجاز لا ينقع من غلّة، ولا ينفع من علّة، فإذا تمهد هذا فاعلم أن الذى يدل على إعجاز القرآن مسلكان.
المسلك الأول منهما من جهة التحدّى،
وتقريره هو أنه عليه السلام تحدّى به العرب الذين هم النهاية فى الفصاحة والبلاغة، والغاية فى الطلاقة والذّلاقة، وهم قد عجزوا عن معارضته، وكلما(3/206)
كان الأمر فيه كما ذكرناه فهو معجز، وإنما قلنا: إنه عليه السلام تحدّاهم بالقرآن لما تواتر من النقل بذلك فى القرآن، وقد نزلهم الله فى التحدّى على ثلاث مراتب، الأولى بالقرآن كله، فقال تعالى: قُلْ لَئِنِ اجْتَمَعَتِ الْإِنْسُ وَالْجِنُّ عَلى أَنْ يَأْتُوا بِمِثْلِ هذَا الْقُرْآنِ لا يَأْتُونَ بِمِثْلِهِ وَلَوْ كانَ بَعْضُهُمْ لِبَعْضٍ ظَهِيراً (88)
[الإسراء: 88] الثانية بعشر سور منه كما قال تعالى:
أَمْ يَقُولُونَ افْتَراهُ قُلْ فَأْتُوا بِعَشْرِ سُوَرٍ مِثْلِهِ مُفْتَرَياتٍ
[هود: 13] الثالثة بسورة واحدة كما قال تعالى: فَأْتُوا بِسُورَةٍ مِنْ مِثْلِهِ وَادْعُوا شُهَداءَكُمْ مِنْ دُونِ اللَّهِ
[البقرة: 23] ثم قال بعد ذلك: فَإِنْ لَمْ تَفْعَلُوا وَلَنْ تَفْعَلُوا
[البقرة: 24] فنفى القدرة لهم على ذلك بقضية عامة، وأمر حتم لا تردّد فيه، فدلّت هذه الآيات على التحدى، مرة بالقرآن كله، ومرة بعشر سور، ومرة بسورة واحدة، وهذا هو النهاية فى بلوغ التحدى، وهذا كقول الرجل لغيره: هات قوما مثل قومى، هات كنصفهم، هات كربعهم، هات كواحد منهم، وإنما قلنا: إنهم عجزوا عن معارضته لأن دواعيهم متوفّرة على الإتيان بها، لأنه عليه السلام كلف العرب ترك أديانهم، وحطّ رئاستهم، وأوجب عليهم ما يتعب أبدانهم، وينقص أموالهم، وطالبهم بعداوة أصدقائهم، وصداقة أعدائهم، وخلع الأنداد والأصنام من بين أظهرهم، وكانت أحب إليهم من أنفسهم من أجل الدين، ولا شك أن كل واحد من هذه الأمور مما يشق على القلوب تحمله، ولا سيما على العرب مع كثرة حميّتهم، وعظيم أنفتهم، ولا شك أن الإنسان إذا استنزل غيره عن رئاسته، ودعاه إلى طاعته، فإن ذلك الغير يحاول إبطال أمره بكل ما يقدر عليه ويجد إليه سبيلا، ولما كانت معارضة القرآن بتقدير وقوعها مبطلة لأمر الرسول صلّى الله عليه وسلّم، علمنا لا محالة قطعا توفّر دواعى العرب عليها، وإنما قلنا: إنه ما كان لهم مانع عنها لأنه صلّى الله عليه وسلّم ما كان فى أول أمره بحيث تخاف قهره كل العرب، بل هو الذى كان خائفا منهم، وإنما قلنا: إنهم لم يعارضوه لأنهم لو أتوا بالمعارضة لكان اشتهارها أحق من اشتهار القرآن، لأن القرآن حينئذ يصير كالشبهة، وتلك المعارضة كالحجة، لأنها هى المبطلة لأمره، ومتى كان الأمر كما قلناه وكانت الدواعى متوفرة على إبطال أبهة المدعى وإبطال رونقه، وإزالة بهائه، كان اشتهار المعارضة أولى من اشتهار الأصل، فلما لم تكن مشتهرة علمنا لا محالة بطلانها، وأنها ما كانت، وإنما قلنا إن كل من توفرت دواعيه إلى الشىء ولم يوجد مانع منه، ثم لم يتمكن من فعله، فإنه يكون عاجزا، لأنه لا معنى للعجز إلا ذاك، وبهذا الطريق نعرف عجزنا عن كل ما(3/207)
نعجز عنه كخلق الصور والصفات، ويؤيد ما ذكرناه من عجزهم ويوضحه، أنهم عدلوا عن المعارضة 7 لى تعريض النفس للقتل، مع أن المعارضة عليهم كانت أسهل وما ذاك إلا لما أحسوا به من العجز من أنفسهم عنها، فثبت بما ذكرناه كون القرآن معجزا، وتمام تقرير هذه الدلالة بإيراد الأسئلة الواردة عليها والانفصال عنها.
اعلم أن للملاحدة لعنهم الله وأبادهم، أسئلة ركيكة على كون القرآن معجزا، ولابد من إيرادها، وإظهار الجواب عنها، وجملة ما نورده من ذلك أسئلة ثمانية.
السؤال الأول: منها قولهم: لا نسلّم أن القرآن معجز، وعمدتكم فى إعجازه إنما هو التحدى وقررتم التحدى على تلك الآيات التى تلوتموها، ونحن ننكر تواترها، فإن المتواتر من القرآن إنما هو جملته دون الآحاد منه، ويؤيد ما ذكرناه، ما وقع من التردد والاختلاف فى مفرداته، دون جملته، بدليل أمور ثلاثة، أما أولا فلأنه نقل عن ابن مسعود رضى الله عنه أنه أنكر الفاتحة والمعوذتين أنها من القرآن، وبقى هذا الإنكار إلى زمن أبى بكر، وعمر، وعثمان، وأما ثانيا فلما وقع من الخلاف الشديد فى بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ (1)
[الفاتحة: 1] هل هى من القرآن أولا، وقد أثبتها ابن مسعود فى صدر سورة براءة، ونفاها أبى بن كعب وزيد بن ثابت، وأما ثالثا فلما يحكى عن أبى بن كعب، أنه أثبت فى القرآن آية القنوت وهى قوله: «اللهمّ اهدنى فيمن هديت» وقوله:
«لو أنّ لابن آدم واديين من ذهب لابتغى لهما ثالثا» «1» ونفى ذلك ابن مسعود وغيره فهذه الأمور كلها دالة على أنه غير متواتر فى تفاصيله، وآيات التحدى من جملة التفاصيل، فلهذا لم يحكم بثبوتها فى المصحف، فلا يكون فيها دلالة.
وجوابه من وجهين: أما أولا فلأنا نقول القرآن بجملته وتفاصيله كلها منقول بالتواتر، سواء، من غير تردد فى ذلك، والبرهان على ذلك هو أنا نعلم بالضرورة من غير شك، أن فى هذا الزمان لو حاول أحد أن يدخل فيه حرفا ليس منه أو يخرج منه حرفا هو فيه، لوقف على موضع الزيادة والنقصان، جميع الصبيان، فضلا عن أكابر العلماء وأفاضل الناس، فكيف تصح هذه الدعوى، بأن تكون تفاصيله غير متواترة.
وأما ثانيا: فلأنا نعلم بالضرورة أن حال الناس فى التشدد عن المنع من تغيير القرآن وتبديله فى عهد الصحابة رضى الله عنهم، إن لم يكن أقوى من حال زماننا هذا، فإنه ما(3/208)
كان أقل منه، فإذا لم يؤثر فيه خلاف وتردد فى زماننا فهكذا حال من قبل، وهذا يبطل كلام الملاحدة فى أنه غير متواتر التفاصيل.
قولهم: إن ابن مسعود أنكر الفاتحة والمعوذتين أنها من القرآن، قلنا: هذه الرواية عن ابن مسعود من باب الآحاد فلا تعارض ما كان مقطوعا به، وأيضا فإنه لم ينكر نزولهما من عند الله، وأنه جاء بهما جبريل، ولكن ادّعى أن المعوذتين نزلتا عوذة للحسنين، وأن الفاتحة إنما أنزلت من أجل الصلاة تفتتح بها، ولم ينكر ما ذكرناه من ثبوت أحكام القرآن فيها، فهو يسلّم أنها من القرآن بالمعنى الذى ذكرناه، وينكر كتبها فى جملة القرآن، وهذا خلاف لفظى لا طائل وراءه.
قولهم: الناس قد اختلفوا فى التسمية، قلنا: خلاف من خالف فى أنها ليست من القرآن ليس ينكر أنّ جبريل نزل بها ولا أن الرسول صلّى الله عليه وسلّم كان يقرؤها، ولكن زعم أنها للتبرك، والفصل بين السور، فقد أقرّ بكونها من القرآن بالمعنى الذى ذكرناه، وزعم أن فيها غرضا آخر، وهو مساعد له.
قولهم: إن أبيّا أثبت آية القنوت، وقوله: «ولو أن لابن آدم واديين من ذهب ... »
قلنا هذه الرواية من باب الآحاد فلا تعارض القواطع، ثم إنه ولو كتبها فى المصحف لم يثبت عنه أنها من جملته، وعلى الجملة فما ذكروه أمور خيالية وهمية، ولا تعارض الأمور القطعية.
السؤال الثانى: هب أنا سلّمنا أن آيات التحدى متواترة، فلا نسلّم دلالتها على التحدى، وبيانه هو أنه لو كان الغرض من إيرادها استدلاله بالقرآن على كونه نبيّا لاشتهر ذلك من نفسه كاشتهار أصل نبوته، ولكنه لم ينقل عن أحد من أهل الأخبار، أنه استدل على مخالفيه بالقرآن، ولم ينقل عن أحد ممن آمن به أنه آمن به لدليل القرآن، فعلمنا بذلك أنه ما كان يعوّل فى إثبات نبوته على القرآن، وإذا صح ذلك علمنا أن الغرض بإيراده هذه الآيات ما يذكره كل واحد من الخطباء والشعراء، من الدعاوى العظيمة والافتخارات التى لا حقيقة لها بحال.
وجوابه من وجهين: أما أولا: فلأنا نعلم بالضرورة، أنه كان يغشى محافلهم ويتلو عليهم القرآن، ويقرع مسامعهم، ولا وجه لذلك إلا أنه يتحداهم به ويوجب عليهم طاعته، وهذا أمر ظاهر لا يمكن جحده ولا إنكاره.
وأما ثانيا: فهب أنا سلّمنا أنه لم ينقل ما ذكرناه، ولكنه استغنى بما فى القرآن من آيات(3/209)
التحدى عما كان منه من ذلك إذ لا فائدة فى تكريره.
السؤال الثالث: سلمنا وقوع التحدى، ولكن هل وصل خبر التحدى إلى كل العالم، أو إلى بعضه، وباطل أن يكون واصلا إلى كله، لأنا نعلم بالضرورة أن أهل الهند والصين والروم، وسائر الأقاليم البعيدة، ما كانوا يعلمون وجود محمد صلّى الله عليه وسلّم فى الدنيا، فضلا عن أن يقال: إنهم عالمون بتحديه بالقرآن، وباطل أن يكون واصلا إلى بعضهم، لأنهم ولو عجزوا عن المعارضة فإنه لا يكفى فى صحة دعوى النبوة، عجزهم عن معارضته، لأنهم بعض الخلق، وعجز بعض الخلق لا يكون عجزا لجميعهم، وإلا لزم فى بعض الحذاق فى صناعته إذا تحدى أهل قريته، ثم عجزوا عن ذلك، أن يكون نبيا لمكان دعواه، وهذا ظاهر الفساد وهذا يبطل ما ذكرتموه من التحدى بالقرآن.
وجوابه من وجهين: أما أولا فلأنا نعلم بالضرورة أن العرب الذين قرع أسماعهم التحدى، وخوطبوا به «العين للعين» كانوا لا محالة أقدر على معارضته من غيرهم، لاختصاصهم بما لم يختص به غيرهم من سائر الأقاليم من الفصاحة والبلاغة، فلما عرفنا عجزهم كان غيرهم لا محالة أعجز من ذلك لما ذكرناه، وأما ثانيا فهب أن خبر تحدّيه بالقرآن ما وصل إلى كل العالم فى زمانه، لكن لا شك فى وصوله إليهم الآن، مع أنهم لم يعارضوه، وفى هذا دلالة على صحة نبوته، ويؤيد ما ذكرناه أنا نرى من يصنف كتابا فى أى علم كان، ويظن أنه قد أتى فيه باليد البيضاء، فلا يلبث إلا مقدار ما يصل إلى الأقاليم والبلاد، ويحصل بعد ذلك ما يبطله ويدل على تناقضه وضعفه على القرب لأجل شدة الحرص على ذلك، وهذا ظاهر فى جميع التصانيف كلها، فلو كان ثم معارضة توجد للقرآن، لكانت قد حصلت فى هذه الأزمان المتمادية، والسنين المتطاولة، ولا شك فى بلوغه لهذه الأقاليم التى زعمتم، وفى هذا بطلان ما زعمتموه.
السؤال الرابع: سلّمنا تواتره إلى كافة الخلق، لكنا لا نسلم توفر دواعيهم إلى المعارضة، وبيان ذلك بأوجه ثلاثة، أما أولا: فلعلهم اعتقدوا أن المعارضة لا تبلغ فى قطع المادة وحسم الشّغب وإبطال أمره، مبلغ الحرب، فلا جرم عدلوا إلى الحرب، وأما ثانيا: فلأنا لا نمنع أن يكونوا عدلوا إلى الحرب لأنهم لو عارضوا لكان الخلاف غير منقطع بوقوعها، لجواز أن يقول قوم: إنها معارضة، ويقول قوم آخرون: إنها ليست معارضة، ويتوقف فريق ثالث، لالتباس الأمر فيه، فيشتد الخلاف ويعظم الخطب، وفى أثناء ذلك الخلاف لا(3/210)
يمتنع اشتداد شوكته، فلأجل الخوف من ذلك، عدلوا إلى الحرب، وأما ثالثا: فلأنه يحتمل أن يكون عدولهم عن المعارضة، لأن التحدى إنما وقع بمثله، ولم يعرفوا حقيقة المماثلة، هل تكون بالفصاحة، أو البلاغة، أو بالنظم، أو بهذه الأمور كلها، أو فى الإخبار عن العلوم الغيبية، أو فى استخراج الأسرار الدقيقة، أو غير ذلك مما يكون القرآن مشتملا عليه، فلهذا عدلوا عن المعارضة، فصح بما ذكرناه أن دواعيهم إلى المعارضة غير متوفرة لأجل هذه الاحتمالات التى ذكرناها.
وجوابه أنا قد أوضحنا توفر دواعيهم إلى معارضته بما لا مدفع له إلا بالمكابرة، ويؤيد ما ذكرناه ويوضحه، أن الأمر المطلوب إذا كان لتحصيله طرق كثيرة وكانت معلومة فى نفسها، ثم بعضها يكون أسهل وأقرب فى تحصيل المقصود، فإنا نعلم من حال العاقل اختيار الطريق الأسهل، وقد علمنا بالضرورة أن أسهل الطرق فى دفع من يدعى مرتبة عظيمة على غيره، معارضتها بمثلها إن كانت المعارضة ممكنة، ونعلم أن هذا العلم الضرورى حاصل لكل العقلاء، حتى نعلم أن طفلا من الأطفال لو ادعى على غيره من سائر الأطفال شيلان حجر، أو طفر جدول، أو رمى غرض، فإنهم يتسارعون إلى معارضته بمثل دعواه، وهذه الجملة تفيد توفر دواعى العرب على إبطال أمر الرسول صلّى الله عليه وسلّم بمعارضة دعواه بمثلها لو كانت ممكنة لهم، فإذا كان هذا حاصلا فى حق الأطفال، فكيف من بلغ حالة عظيمة فى الحنكة والتجربة.
قولهم: أولا لعلهم اعتقدوا أن المعارضة لا تحسم دعواه، قلنا هذا فاسد، لأنهم فى استعمال الحرب غير واثقين بحصول المطلوب، لأنهم غير واثقين بالظفر عليه، بخلاف المعارضة، فإنهم ليسوا على خطر منها، لأنهم واثقون ببطلان أمره عند وقوعها، وقولهم ثانيا: لو عارضوا لكان الخلاف غير منقطع بوقوعها، قلنا هذا فاسد أيضا: فإنه ليس الغرض هو حصول المماثلة من كل الوجوه، لأنه لا يدرك مماثلة الكلامين من جميع الوجوه إلا بالقطع بالاشتراك فى كل الأحكام، وهذا مما يعلمه الله دون غيره، بل المقصود من التحدى، إنما هو الإتيان بما يظن كونه مثلا، أو قريبا من المثل، وأمارة ذلك وقوع الاختلاف بين الناس فى كونه مثلا، أو غير مثل، وقولهم ثالثا: إنهم لم يعرفوا حقيقة المثل الذى طلبه فيه المعارضة هل هو الفصاحة، أو الأسلوب، أو الإخبار عن علوم الغيب؟
قلنا هذا فاسد لأمرين، أما أولا فلأنه لو اشتبه عليهم لاستفهموه عما يريد، لكن الأمر فى(3/211)
ذلك معلوم لهم، فلهذا لم يعالجوه فى شىء من ذلك، لتحققهم أنهم لو أتوا بما يماثله، لبطل أمره، فسكوتهم عنه دلالته على تحققهم من ذلك، وأما ثانيا فلأن الرسول صلّى الله عليه وسلّم أطلق التحدى ولم يخصه بشىء من دون شىء، اتكالا منه على ما يعلم من ذلك بمجرى العادة واطرادها فى التحدى بين الشعراء والخطباء، فلأجل ذلك لم يكن محتاجا إلى تفسير المقصود.
السؤال الخامس: سلمنا توفر دواعيهم إلى المعارضة كما قلتم، لكن لا نسلم ارتفاع المانع عن المعارضة كما قلتم، فلم ينكرون على من يقول إنه منعهم عن المعارضة اشتغالهم عنها بالحروب العظيمة، فإن فيها شغلا عن كل شىء، أو يقول خوفهم من أصحاب الرسول صلّى الله عليه وسلّم وأنصاره وأعوانه، لأن قوة الدولة والشوكة تمنع من ذلك، ولهذا فإن ابن عباس رضى الله عنه لم يمكنه إظهار مذهبه فى العول أيام عمر خوفا من سطوته، ولا شك أن الخوف مانع عما يريده الإنسان فى أكثر أحواله.
وجوابه من أوجه ثلاثة: أما أولا: فلأن المعارضة للقرآن إنما هى من قبيل الكلام، والحرب غير مانعة من وجود الكلام، ولهذا فإنهم كانوا والحرب قائمة يتمكنون من الأشعار والخطب فى المحافل، فكيف يقال إن الحرب مانعة من وجود المعارضة، وأما ثانيا:
فلأن الحرب لم تكن دائمة، وإنما كانت فى وقت دون وقت، فلم لا يشتغلون بالمعارضة فى أوقات الفراغ عن الحرب، وأما ثالثا: فلأنه عليه السلام ما كان يحارب كل العرب، ولا شك أن الفصحاء منهم كانوا قليلين، فكان الواجب على الشجعان الاشتغال بالحرب، وأن يقعد أهل الفصاحة للاشتغال بالمعارضة، ومن وجه رابع: وهو أنه ما حاربهم قبل الهجرة فكان ينبغى لهم الاشتغال بالمعارضة، إذ لا حرب هناك قائمة بينهم وبينه، ومن وجه خامس: وهو أنه كان يجب عليهم أن يقولوا إنك شغلتنا بالحرب عن معارضتك، فاترك الحرب حتى نتمكن من معارضتك، وهم لم يقولوا ذلك ولا خطر لأحد منهم على قلب، وفى هذا دلالة على أنه لا مانع لهم من المعارضة بحال.
السؤال السادس: سلمنا أنه لا مانع لهم من المعارضة، وأن دواعيهم متوفرة إليها، فلم قلتم باستحالة تأخر المعارضة والحال هذه، وبيان ذلك أن الفعل عند توفر الدواعى وزوال الموانع، لا يخلو الحال هناك، إما أن يجب الفعل أو لا يجب، فإن وجب لزم الجبر وهو فاسد عندكم، وإما أن لا يجب الفعل والحال ما قلناه، فلم يلزم من توفر الداعى وزوال الموانع وجود المعارضة، وعند هذا لا يكون تأخرهم عنها دلالة على عجزهم عنها، لجواز كونهم قادرين عليها ولا يلزم وقوعها.(3/212)
وجوابه: أنا نقول قد تقرر فى القضايا بالعقلية، وثبت بالأدلة القطعية، أن القادر متى توفرت دواعيه على الفعل، ولم يكن هناك مانع فإنه يجب وقوعه، ومتى خلص الصارف فإنه يتعذر وقوعه، وهذا معلوم بأوائل العقول لا شك فيه.
قوله: إذا وجب الفعل عند الداعية، وجب الجبر، وهو فاسد.
قلنا: هذا خطأ، فإن الوجوب له معنيان، أحدهما أن الفعل واجب على معنى أن عدمه مستحيل، وهذا هو الذى يبطل الاختيار، ونحن لا نعتقده، وثانيهما أن يكون الغرض بالوجوب هو أولوية الوقوع والحصول، لا على معنى أنه يستحيل خلافه، ولكن على معنى أنه أحق بالوجود عند تحقق الداعية، هذا ملخص ما قاله الشيخ محمود الخوارزمى الملاحمى فى تفسير الوجوب، لئلا يبطل الاختيار، والمختار أن الفعل عند تحقق الداعية وخلوصها، واجب الحصول على معنى أنه يستحيل خلافه بالإضافة إلى الداعية، وواجب الحصول وجوبا لا يستحيل خلافه بالإضافة إلى القدرة، ومع هذا التوجيه لا يبطل الاختيار، وعلى كلا الوجهين، فإنا نعلم توفر دواعيهم إلى تحصيل المعارضة، وأنه يجب وقوعها وحصولها منهم إذا كانت ممكنة، فلما لم تقع مع توفر الداعى دل على أن الوجه فى تأخرها عدم الإمكان لا محالة.
السؤال السابع: سلمنا توفر دواعيهم إلى المعارضة وأنها واجبة الوقوع عند توفر الدواعى إليها، ولكنا لا نسلم أنها غير واقعة فما برهانكم على ذلك.
وجوابه من أوجه أربعة: أما أولا: فلأن ما هذا حاله لا يخفى وقوعه لو وقع كسائر الأمور العظيمة التى لا تخفى، بل نقول إن هذه المعارضة يجب أن تكون أكثر اشتهارا من القرآن، لأن القرآن يصير هو الشبهة، وهذه المعارضة هى الدلالة فتكون أحق بالاشتهار لما ذكرناه، وأما ثانيا: فلأن غير القرآن من القصائد فى الجاهلية والإسلام لم يخف حاله، وأنه ظاهر، فكيف حال ما يكون معارضا للقرآن وهو بالاشتهار لا محالة أحق، وأما ثالثا: فلأن خرافات «مسيلمة» قد نقلت مع ركتها وضعف حالها وقدرها، وقد اهتم العلماء فى نقلها، فكيف حال ما هو أدخل منها فى التحقق، وأما رابعا فلأن حرص المخالفين على نقل هذه المعارضة شديد، كاليهود والنصارى، وسائر الملل الكفرية، من الملاحدة وغيرهم، لما فيه من التنويه بإبطال أمره صلّى الله عليه وسلّم، فلا جرم يزداد الحرص وتعظم الدواعى، لأن فيها إبطال أمره على سهولة بوقوع هذه المعارضة.(3/213)
السؤال الثامن: سلمنا أنها لو كانت واقعة لاشتهرت اشتهارا عظيما، لكنا لا نسلم أنها غير مشتهرة، بل قد وقع هناك معارضات للقرآن، فإن العرب قد عارضوه بالقصائد السبع وعارضه «مسيلمة» الكذاب بكلامه الذى يحكى عنه، وعارضه النضر بن الحارث بأخبار الفرس وملوك العجم، وعارضه ابن المقفع من كلامه وقابوس بن وشمكير، والمعرى، فكيف يقال إن المعارضة ما وقعت.
وجوابه هو أن النظار من أهل الفصاحة والبلاغة مجمعون على أن المعارضة بين الكلامين إنما تكون معارضة إذا كان بينهما مقاربة ومداناة بحيث يلتبس أحدهما بالآخر أو يكون أحدهما مقاربا للآخر، وكل عاقل يعلم بالضرورة أن هذه القصائد السبع ليس بينها وبين القرآن مقاربة ولا مداناة، بحيث يشتبه أحدهما بالآخر، وكيف لا وهذه القصائد من فن الشعر، والقرآن ليس من فنون الشعر فى ورد ولا صدر، فلا يجوز كونها معارضة له، وأما ما حكى عن النضر بن الحارث، فإنما نقل حكايات ملوك العجم، وليس من أسلوب القرآن، فلا يكون معارضا له، وأما ما يحكى عن «مسيلمة» الكذاب فهو بالخلاعة أحق منه بالمعارضة، لنزول قدره، وتمكنه فى الحماقة، لأن من حق ما يكون معارضا، أن يكون بينه وبين المعارض مقاربة ومداناة، بحيث يشتبه الأمر فيهما، فأما إذا كان الكلامان فى غاية البعد والانقطاع، فلا يعد أحدهما معارضا للآخر، ولنقتصر على هذا القدر من الأسئلة الواردة على الإعجاز ففيها كفاية فى مقدار غرضنا، لأن الكلام فى هذا الكتاب له مقصد آخر، وهو كالمنحرف عن هذه المقاصد، فإنه إنما يليق استقصاؤها بالمباحث الكلامية، وقد أشرنا فى الكتب العقلية إلى حقائقها وأشرنا إلى الأجوبة عنها وبالله التوفيق.
لا يقال: فلعل العرب إنما عجزوا عن معارضة القرآن ليس لأنهم غير قادرين عليها، وإنما تأخروا عن المعارضة، لعدم علمهم بما اشتمل عليه القرآن، من شرح حقائق صفات الله تعالى، والبعث والنشور وأحكام الآخرة، وأحوال الملائكة، وغير ذلك مما لا مدخل لأفهامهم فى تعقله وإتقانه، لأنا نقول هذا فاسد لأمرين: أما أولا فهب أن العرب كانوا غير عالمين بحقائق هذه الأشياء، لكن اليهود كانوا بين أظهرهم وكان عليهم السؤال عنها، ثم يكسونها عبارات يعارضون بها القرآن، وأما ثانيا فلأن اليهود أنفسهم كان فيهم فصحاء، فكان يجب مع علمهم بها أن يعارضوه، فلما لم تكن هناك معارضة لا من جهة اليهود، ولا من جهة غيرهم، دل على بطلانها وتعذرها، فهذا ما أردنا ذكره على هذا المسلك من الأسئلة والأجوبة عنها والله أعلم.(3/214)
المسلك الثانى فى الدلالة على أن القرآن معجز من جهة العادة.
وتقريره أن الإتيان بمثل كل واحدة من سور القرآن، لا يخلو حاله إما أن يكون معتادا، أو غير معتاد، فإن كان معتادا كان سكوت العرب مع فصاحتهم وشدة عداوتهم للرسول صلّى الله عليه وسلّم ومع توفر دواعيهم على إبطال أمره، والقدح فى دعواه بمبلغ جهدهم وجدهم، يكون لا محالة من أبهر المعجزات، وأظهر البينات على عجزهم عن الإتيان بمثل سورة منه، وأما إن لم يكن معتادا، كان القرآن معجزا، لخروجه عن المألوف والمعتاد، فثبت بما ذكرناه أن القرآن سواء كان خارقا للعادة أو لم يكن خارقا، فإنه يكون معجزا، وهذه نكتة شريفة حاسمة لأكثر أسئلة المنكرين التى يوردونها على كونه خارقا للعادة كما ترى.(3/215)
الفصل الثالث فى بيان الوجه فى إعجاز القرآن
اعلم أن الكلام فى الوجه الذى لأجله كان القرآن معجزا دقيق، ومن ثم كثرت فيه الأقاويل واضطربت فيه المذاهب، وتفرقوا على أنحاء كثيرة، فلنذكر ضبط المذاهب، ثم نردفه بذكر ما تحتمله من الفساد، ثم نذكر على أثره المختار منها، فهذه مباحث ثلاثة.
المبحث الأول فى الإشارة إلى ضبط المذاهب فى وجه الإعجاز
فنقول كون القرآن معجزا ليس يخلو الحال فيه، إما أن يكون لكونه فعلا من المعتاد، أو لكونه فعلا لغير المعتاد، فالأول هو القول بالصرفة، ومعنى ذلك أن الله تعالى صرف دواعيهم عن معارضة القرآن مع كونهم قادرين عليها، فالإعجاز فى الحقيقة إنما هو بالصرفة على قول هؤلاء، كما نسحقق خلافهم فى الرد عليهم بمعونة الله تعالى، ونذكر من قال بهذه المقالة، وإن كان الوجه فى إعجازه هو الفعل لغير المعتاد، فهو قسمان:
القسم الأول أن يكون لأمر عائد إلى ألفاظه من غير دلالتها على المعانى،
ثم هذا يكون على وجهين، أحدهما أن يكون مشترطا فيهم اجتماع الكلمات وتأليفها، وهذا هو قول من قال: الوجه فى إعجازه هو اختصاصه بالأسلوب المفارق لسائر الأساليب الشعرية والخطابية، وغيرهما، فإنه مختص بالفواصل والأسجاع، فمن أجل هذا جعلنا هذا الوجه مختصا بتأليف الكلمات، وثانيهما أن يكون إعجازه لأمر راجع إلى مفردات الكلمات دون مؤلفاتها، وهذا هو رأى من قال: إنه إنما صار معجزا من أجل الفصاحة بالبراءة عن الثقل والسلامة عن التعقيد، واختصاصه بالسلاسة فى ألفاظه.
القسم الثانى أن يكون إعجازه إنما كان لأجل الألفاظ باعتبار دلالتها على المعانى،
وهذا هو قول من قال: إن القرآن إنما كان معجزا لأجل تضمنه من الدلالة على المعنى، وهذا القسم يمكن تنزيله على أوجه ثلاثة.(3/216)
الوجه الأول: أن تكون تلك الدلالة على جهة المطابقة وفيه مذاهب ثلاثة، أولها أن يكون لأمر حاصل فى كل ألفاظه، وهذا هو قول من قال: إن وجه إعجازه، هو سلامته عن المناقضة فى جميع ما تضمنه، وثانيها أن يكون لأمر حاصل فى كل ألفاظه وأبعاضها، وهذا هو قول من قال: إن إعجازه إنما كان لما فيه من بيان الحقائق والأسرار، والدقائق مما يكون العقل مشتغلا بدركها، فإن العلماء من لدن عصر الصحابة رضى الله عنهم إلى يومنا هذا ما زالوا يستنهضون منه كل سر عجيب، ويستنبطون من ألفاظه كل معنى لطيف غريب، فهذا هو الوجه فى إعجازه على رأى هؤلاء، وثالثها أن يكون وجه إعجازه لأمر حاصل فى مجموع ألفاظه وأبعاضها، مما لا يستقل بدركه العقل، وهذا هو قول من قال إن الوجه فى إعجازه ما تضمنه من الأمور الغيبية، واللطائف الإلهية، التى لا يختص بها سوى علامها، فهذه هى أقسام دلالة المطابقة، تكون على هذه الأوجه الثلاثة التى رمزنا إليها.
الوجه الثانى: أن تكون تلك الدلالة على جهة الالتزام، وهذا مذهب من يقول: إن القرآن إنما كان معجزا لبلاغته، وفسر البلاغة باشتمال الكلام على وجوه الاستعارة، والتشبيه المضمر الأداة، والفصل، والوصل، والتقديم، والتأخير، والحذف، والإضمار، والإطناب، والإيجاز، وغير ذلك من فنون البلاغة.
الوجه الثالث أن تكون تلك الدلالة من جهة تضمنه لما يتضمنه من الأسرار المودعة تحت ألفاظه التى لا تزال على وجه الدهر غضة طرية يجتليها كل ناظر، ويعلو ذروتها كل خريت ماهر، فظهر بما لخصناه من الحصر أن كون القرآن معجزا إما أن يكون للصرفة، أو للنظم، أو لسلامة ألفاظه من التعقيد، أو لخلوه عن التناقض، أو لأجل اشتماله على المعانى الدقيقة، أو لاشتماله على الإخبار بالعلوم الغيبية، أو لأجل الفصاحة والبلاغة، أو لما يتركب من بعض هذه الوجوه، أو من كلها، كما فصلناه من قبل، ونحن الآن نذكر كل واحد من هذه الأقسام كلها، ونبطله سوى ما نختاره منها والله الموفق.(3/217)
المبحث الثانى فى إبطال كل واحد من هذه الأقسام التى ذكرناها سوى ما نختار منها
وجملة ما نذكره من ذلك مذاهب:
المذهب الأول منها الصرفة
وهذا هو رأى أبى إسحاق النظام، وأبى إسحاق النصيبى، من المعتزلة واختاره الشريف المرتضى من الإمامية، واعلم أن قول أهل الصرفة يمكن أن يكون له تفسيرات ثلاثة، لما فيه من الإجمال وكثرة الاحتمال كما سنوضحه.
التفسير الأول أن يريدوا بالصرفة أن الله تعالى سلب دواعيهم إلى المعارضة، مع أن أسباب توفر الدواعى فى حقهم حاصلة من التقريع بالعجز، والاستنزال عن المراتب العالية، والتكليف بالانقياد والخضوع، ومخالفة الأهواء.
التفسير الثانى أن يريدوا بالصرفة أن الله تعالى سلبهم العلوم التى لا بد منها فى الإتيان بما يشاكل القرآن ويقاربه، ثم إن سلب العلوم يمكن تنزيله على وجهين، أحدهما أن يقال: إن تلك العلوم كانت حاصلة لهم على جهة الاستمرار، لكن الله تعالى أزالها عن أفئدتهم ومحاها عنهم، وثانيهما أن يقال: إن تلك العلوم ما كانت حاصلة لهم، خلا أن الله تعالى صرف دواعيهم من تجديدها، مخافة أن تحصل المعارضة.
التفسير الثالث أن يراد بالصرفة أن الله تعالى منعهم بالإلجاء على جهة القسر عن المعارضة، مع كونهم قادرين وسلب قواهم عن ذلك، فلأجل هذا لم تحصل من جهتهم المعارضة، وحاصل الأمر فى هذه المقالة: أنهم قادرون على إيجاد المعارضة للقرآن، إلا أن الله تعالى منعهم بما ذكرناه، والذى غر هؤلاء حتى زعموا هذه المقالة، ما يرون من الكلمات الرشيقة، والبلاغات الحسنة، والفصاحات المستحسنة، الجامعة لكل الأساليب البلاغية فى كلام العرب الموافقة لما فى القرآن، فزعم هؤلاء أن كل من قدر على ما ذكرناه من تلك الأساليب البديعة، لا يقصر عن معارضته، خلا ما عرض من منع الله إياهم بما ذكرناه من الموانع، والذى يدل على بطلان هذه المقالة براهين.
البرهان الأول منها: أنه لو كان الأمر كما زعموه، من أنهم صرفوا عن المعارضة مع تمكنهم منها، لوجب أن يعلموا ذلك من أنفسهم بالضرورة، وأن يميزوا بين أوقات(3/218)
المنع، والتخلية، ولو علموا ذلك لوجب أن يتذاكروا فى أى حال هذا المعجز على جهة التعجب، ولو تذاكروه لظهر وانتشر على حد التواتر، فلما لم يكن ذلك دل على بطلان مذاهبهم فى الصرفة لا يقال: إنه لا نزاع فى أن العرب كانوا عالمين بتعذر المعارضة عليهم، وأن ذلك خارج عن العادة المألوفة لهم، ولكنا نقول من أين يلزم أنه يجب أن يتذاكروا ذلك ويظهروه، حتى يبلغ حد التواتر، بل الواجب خلاف ذلك، لأنا نعلم حرص القوم على إبطال دعواه، وعلى تزييف ما جاء به من الأدلة، فاعترافهم بهذا العجز من أبلغ الأشياء فى تقرير حجته، فكيف يمكن أن يقال بأن الحريص على إخفاء حجة خصمه يجب عليه الاعتراف بأبلغ الأشياء فى تقرير حجته، وهو إظهاره وإشهاره، لأنا نقول هذا فاسد، فإن المشهور فيما بين العوام فضلا عن دهاة العرب، أن بعض من تعذر عليه بعض ما كان مقدورا له، فإنه لا يتمالك فى إظهار هذه الأعجوبة والتحدث بها، ولا يخفى دون هذه القضية، فضلا عنها، فكان من حقهم أن يقولوا: إن كل واحد منا يقدر على هذه الفصاحة، ولكن صار ذلك الآن متعذرا علينا، لأنك سحرته عن الإتيان بمثله، فلما لم يقولوا ذلك، دل على فسادها.
البرهان الثانى لو كان الوجه فى إعجازه هو الصرفة كما زعموه، لما كانوا مستعظمين لفصاحة القرآن، فلما ظهر منهم التعجب لبلاغته وحسن فصاحته، كما أثر عن الوليد بن المغيرة حيث قال: إن أعلاه لمورق وإن أسفله لمغدق، وإن له لطلاوة وإن عليه لحلاوة، فإن المعلوم من حال كل بليغ وفصيح سمع القرآن يتلى عليه فإنه يدهش عقله ويحير لبه، وما ذاك إلا لما قرع مسامعهم من لطيف التأليف، وحسن مواقع التصريف فى كل موعظة، وحكاية كل قصة، فلو كان كما زعموه من الصرفة، لكان العجب من غير ذلك، ولهذا فإن نبيا لو قال:
إن معجزتى أن أضع هذه الرمانة فى كفى، وأنتم لا تقدرون على ذلك، لم يكن تعجب القوم من وضع الرمانة فى كفه، بل كان من أجل تعذره عليهم، مع أنه كان مألوفا لهم ومقدورا عليه من جهتهم، فلو كان كما زعمه أهل الصرفة، لم يكن للتعجب من فصاحته وجه، فلما علمنا بالضرورة إعجابهم بالبلاغة، دل على فساد هذه المقالة.
البرهان الثالث الرجع بالصرفة التى زعموها، وهو أن الله تعالى أنساهم هذه الصيغ فلم يكونوا ذاكرين لها بعد نزوله، ولا شك أن نسيان الأمور المعلومة فى مدة يسيرة، يدل على نقصان العقل، ولهذا فإن الواحد إذا كان يتكلم بلغة مدة عمره، فلو أصبح فى بعض(3/219)
الأيام لا يعرف شيئا من تلك اللغة، لكان ذلك دليلا على فساد عقله وتغيره، والمعلوم من حال العرب أن عقولهم ما زالت بعد التحدى بالقرآن وأن حالهم فى الفصاحة والبلاغة بعد نزوله كما كان من قبل، فبطل ما عول عليه أهل الصرفة، وكلامهم يحتمل أكثر مما ذكرناه من الفساد، وله موضع أخص به، فلا جرم اكتفينا ههنا بما أوردناه.
المذهب الثانى قول من زعم أن الوجه فى إعجازه إنما هو الأسلوب،
وتقريره أن أسلوبه مخالف لسائر الأساليب الواقعة فى الكلام، كأسلوب الشعر، وأسلوب الخطب والرسائل، فلما اختص بأسلوب مخالف لهذه الأساليب، كان الوجه فى إعجازه، وهذا فاسد لأوجه، أولها أنا نقول: ما تريدون بالأسلوب الذى يكون وجها فى الإعجاز، فإن عنيتم به أسلوبا أى أسلوب كان، فهو باطل، فإنه لو كان مطلق الأسلوب معجزا لكان أسلوب الشعر معجزا، وهكذا أسلوب الخطب والرسائل، يلزم كونه معجزا، وإن عنيتم أسلوبا خاصا، وهو ما اختص به من البلاغة والفصاحة، فليس إعجازه من جهة الأسلوب، وإنما وجه إعجازه الفصاحة والبلاغة كما سنوضحه من بعد هذا عند ذكر المختار، وإن عنيتم بالأسلوب أمرا آخر غير ما ذكرناه فمن حقكم إبرازه حتى ننظر فيه فنظهر صحته أو فساده، وثانيها أن الأسلوب لا يمنع من الإتيان بأسلوب مثله، فلو كان الأمر كما زعمتموه، جازت معارضة القرآن بمثله، لأن الإتيان بأسلوب يماثله سهل ويسير على كل أحد، وثالثها أنه لو كان الإعجاز إنما كان من جهة الأسلوب لكان ما يحكى عن «مسيلمة» الكذاب معجزا وهو قوله: إنا أعطيناك الجواهر، فصل لربك وجاهر، وقوله:
والطاحنات طحنا، والخابزات خبزا، لأن ما هذا حاله مختص بأسلوب لا محالة، فكان يكون معجزا، وأنه محال، ومن وجه رابع، وهو أنه لو كان وجه إعجازه الأسلوب، لما وقع التفاوت بين قوله تعالى: وَلَكُمْ فِي الْقِصاصِ حَياةٌ
[البقرة: 179] وبين قول الفصحاء من العرب «القتل أنفى للقتل» لأنهما مستويان فى الأسلوب، فلما وقع التفاوت بينهما دل على بطلان هذه المقالة والله أعلم.(3/220)
المذهب الثالث قول من زعم أن وجه إعجازه إنما هو خلوه عن المناقضة،
وهذا فاسد لأوجه، أما أولا فلأن الإجماع منعقد على أن التحدى واقع بكل واحدة من سور القرآن، وقد يوجد فى كثير من الخطب، والشعر، والرسائل، ما يكون فى مقدار سورة خاليا عن التناقض، فيلزم أن يكون معجزا، وأما ثانيا فلأنه لو كان الأمر كما قالوه فى وجه الإعجاز، لم يكن تعجبهم من أجل فصاحته، وحسن نظمه، ولوجب أن يكون تعجبهم من أجل سلامته عما قالوه، فلما علمنا من حالهم خلاف ذلك بطل ما زعموه، وأما ثالثا فلأن السلامة عن المناقضة ليس خارقا للعادات، فإنه ربما أمكن كثيرا فى سائر الأزمان، وإذا كان معتادا لم يكن العلم بخلو القرآن عن المناقضة والاختلاف معجزا، لما كان معتادا، ومن حق ما يكون معجزا أن يكون ناقضا للعادة، وأيضا فإنا نقول جعلكم الوجه فى إعجازه خلوه عن المناقضة والاختلاف ليس علما ضروريا، بل لا بد فيه من إقامة الدلالة، فيجب على من قال هذه المقالة تصحيحها بالدلالة لتكون مقبولة، وهم لم يفعلوا ذلك.
المذهب الرابع قول من زعم أن الوجه فى الإعجاز اشتماله على الأمور الغيبية بخلاف غيره،
وهذا فاسد أيضا لأمرين، أما أولا فلأن الإجماع منعقد على أن التحدى واقع بجميع القرآن، والمعلوم أن الحكم والآداب وسائر الأمثال ليس فيها شىء من الأمور الغيبية، فكان يلزم على هذه المقالة أن لا يكون معجزا وهو محال، وأما ثانيا فلأن ما قالوه يكون أعظم عذرا للعرب فى عدم قدرتهم على معارضته، فكان من حقهم أن يقولوا: إنا متمكنون من معارضة القرآن، ولكنه اشتمل على ما لا يمكننا معرفته من الأمور الغيبية، فلما لم يقولوا ذلك دل على بطلان هذه المقالة.
المذهب الخامس قول من زعم أن الوجه فى الإعجاز هو الفصاحة،
وفسر الفصاحة بسلامة ألفاظه عن التعقيد الحاصل فى مثل قول بعضهم:
وقبر حرب بمكان قفر ... وليس قرب قبر حرب قبر «1»(3/221)
وهذا فاسد لأمرين، أما أولا فلأن أكثر كلام الناس خال عن التعقيد فى الشعر والخطب، والرسائل، فيلزم كونها معجزة، وأما ثانيا فلأنه لو كان الأمر كما زعموه لم يفترق الحال بين قوله تعالى: وَمِنْ آياتِهِ الْجَوارِ فِي الْبَحْرِ كَالْأَعْلامِ (32) إِنْ يَشَأْ يُسْكِنِ الرِّيحَ فَيَظْلَلْنَ رَواكِدَ عَلى ظَهْرِهِ إِنَّ فِي ذلِكَ لَآياتٍ لِكُلِّ صَبَّارٍ شَكُورٍ (33) أَوْ يُوبِقْهُنَّ بِما كَسَبُوا وَيَعْفُ عَنْ كَثِيرٍ (34)
[الشورى: 32- 34] وبين قول من قال: وأعظم العلامات الباهرة جرى السفن على الماء، فإما أن يريد هبوب الريح فتجرى بها، أو يريد سكون الريح فتركد على ظهره، أو يريد إهلاكها بالإغراق بالماء، لأن ما هذا حاله من المعارضة سالم عن التعقيد، فكان يلزم أن يكون هذا الكلام معارضا للآية، لاشتراكها فى الخفة والبراءة عن الثقل والتعقيد، ومن وجه ثالث وهو أنه كان يلزم أن لا يقع تفاوت بين قوله تعالى: وَلَكُمْ فِي الْقِصاصِ حَياةٌ
[البقرة: 179] وبين قول العرب «القتل أنفى للقتل» لاشتراكهما جميعا فى السلامة عن الثقل وهذا فاسد.
المذهب السادس قول من زعم أن الوجه فى الإعجاز إنما هو اشتماله على الحقائق وتضمنه للأسرار والدقائق التى لا تزال غضة طرية على وجه الدهر، وما تنال لها غاية، ولا يوقف لها على نهاية، بخلاف غيره من الكلام، فإن ما هذا حاله غير حاصل فيه،
فلهذا كان وجه إعجازه، وهذا فاسد أيضا لأمرين، أما أولا فلأن الأصل فى وجه الإعجاز أن يكون القرآن متميزا به لا يشاركه فيه غيره، وما ذكرتموه من هذه الخصلة فإنها مشتركة، وبيانه هو أنا نرى بعض من صنف كتابا فى العلوم الإسلامية واعتنى فى قبصه واختصاره، فإن من بعده لا يزال يجتبى منه الفوائد فى كل وقت ويستنبطها من ألفاظه وصرائحه كما نرى ذلك فى الكتب الأصولية والكتب الدينية والفقهية، وسائر علوم الإسلام، وإذا كان الأمر كما قلناه وجب الحكم بإعجازها وهم لا يقولون به، وأما ثانيا فلأن قوله تعالى: وَإِلهُكُمْ إِلهٌ واحِدٌ
[البقرة: 163] وقوله تعالى فَاعْلَمْ أَنَّهُ لا إِلهَ إِلَّا اللَّهُ
[محمد: 19] وقوله تعالى:
قُلْ هُوَ اللَّهُ أَحَدٌ (1)
[الإخلاص: 1] صريحة فى إثبات الوحدانية لله تعالى بظاهرها وصريحها، وما عدا ذلك من المعانى لا يخلو حاله، إما أن يستقل العقل بدركه أولا يستقل بدركه، فإن استقل بدركه فقد أحاط به كغيره من سائر الكلام، فلا تفرقة بينه وبين غيره، وإن كان لا يستقل العقل بدركه، فذلك هو الأمور الغيبية، وهى باطلة بما أسلفناه على(3/222)
من قال بها فحصل من مجموع ما ذكرناه ههنا أنه لا وجه لجعل دلالته على الأسرار والمعانى وجها فى إعجازه لأن غيره مشارك له فى هذه الخصلة، وما وقعت فيه الشركة فلا وجه لاختصاصه وجعله وجها فى كونه معجزا.
المذهب السابع قول من زعم أن الوجه فى إعجازه هو البلاغة،
وفسر البلاغة باشتماله على وجوه الاستعارة، والتشبيه، والفصل، والوصل، والتقديم، والتأخير، والإضمار، والإظهار، إلى غير ذلك، وهؤلاء إن أرادوا بما ذكروه أنه صار فصيحا بالإضافة إلى ألفاظه، وبليغا بالإضافة إلى معانيه، ومختصا بالنظم الباهر، فهذا جيد لا غبار عليه كما سنوضحه عند ذكر المختار، وإن أرادوا أنه بليغ بالإضافة إلى معانيه دون ألفاظه، فهو خطأ، فإنه صار معجزا باعتبار ألفاظه ومعانيه جميعا، وغالب ظنى أن هذا المذهب يحكى عن أبى عيسى الرمانى.
المذهب الثامن قول من زعم أن الوجه فى إعجازه هو النظم،
وأراد أن نظمه وتأليفه هو الوجه الذى تميز به من بين سائر الكلام فهؤلاء أيضا يقال لهم ما تريدون باختصاصه بالنظم، فإن عنيتم به أن نظمه هو المعجز من غير أن يكون بليغا فى معانيه، ولا فصيحا فى ألفاظه، فهو خطأ، فإن الإعجاز شامل له بالإضافة إلى كلا الأمرين جميعا، وإن عنيتم أنه مختص بالبلاغة والفصاحة، خلا أن اختصاصه بالنظم أعجب وأدخل، فلهذا كان الوجه فى إعجازه فهذا خطأ، فإن مثل هذا لا يدرك بالعقل، أعنى تميزه بحسن النظم عن حسن البلاغة والفصاحة، وأيضا فإن ما ذكروه تحكم لا مستند له عقلا ولا نقلا، وأيضا فإنا نقول: هل يكون النظم وجها فى الإعجاز مع ضم البلاغة والفصاحة إليه، أو يكون وجها من دونهما، فإن قالوا بالأول فهو جيد، ولكن لم قصروه على النظم وحده ولم يضموهما إليه؟ وإن قالوا: إنه يكون منفردا بالإعجاز من دونهما، فهذا خطأ أيضا، فإن نظم القرآن لو انفرد عن بلاغته وفصاحته لم يكن معجزا بحال.(3/223)
المذهب التاسع مذهب من قال: إن وجه إعجازه إنما هو مجموع هذه الأمور كلها،
فلا قول من هذه الأقاويل إلا هو مختص به، فلا جرم جعلنا الوجه فى إعجازه مجموعها كلها، وهذا فاسد، فإنا قد أبطلنا رأى أهل الصرفة، وزيفنا كلامهم، فلا وجه لعده من وجوه الإعجاز، وهكذا فإنا قد أبطلنا قول من زعم أن الوجه فى إعجازه اشتماله على الإخبار بالأمور الغيبية، وأبطلنا قول أهل الأسلوب وغيره من سائر الأقاويل، فلا يجوز أن تكون معدودة فى وجوه الإعجاز، لأن الأمور الباطلة لا يجوز أن تكون عللا للأحكام الصحيحة، ومن وجه ثان وهو أن الفصاحة والبلاغة إذا كانتا حاصلتين فيه فهما كافيتان فى الإعجاز، فلا وجه لعد غيرهما معهما.
المذهب العاشر أن يكون الوجه فى إعجازه إنما هو ما تضمنه من المزايا الظاهرة والبدائع الرائقة
فى الفواتح، والمقاصد، والخواتيم فى كل سورة، وفى مبادىء الآيات، وفواصلها، وهذا هو الوجه السديد فى وجه الإعجاز للقرآن كما سنوضح القول فيه بمعونة الله تعالى، فهذا ما أردنا ذكره من المذاهب فى الوجه الذى لأجله صار القرآن معجزا للخلق كلهم.
المبحث الثالث فى بيان المختار من هذه الأقاويل
والذى نختاره فى ذلك ما عول عليه الجهابذة من أهل هذه الصناعة الذين ضربوا فيها بالنصيب الوافر، واختصوا بالقدح المعلى والسهم القامر، فإنهم عولوا فى ذلك على خواص ثلاثة هى الوجه فى الإعجاز.
الخاصة الأولى الفصاحة فى ألفاظه على معنى أنها بريئة عن التعقيد، والثقل، خفيفة على الألسنة تجرى عليها كأنها السلسال، رقة وصفاء وعذوبة وحلاوة.
الخاصة الثانية البلاغة فى المعانى بالإضافة إلى مضرب كل مثل، ومساق كل قصة، وخبر، وفى الأوامر والنواهى، وأنواع الوعيد، ومحاسن المواعظ، وغير ذلك مما اشتملت عليه العلوم القرآنية، فإنها مسوقة على أبلغ سياق.
الخاصة الثالثة جودة النظم وحسن السياق، فإنك تراه فيما ذكرناه من هذه العلوم(3/224)
منظوما على أتم نظام وأحسنه وأكمله فهذه هى الوجه فى الإعجاز، والبرهان على ما ادعيناه من ذلك هو أن الآيات التى يذكر فيه التحدى واردة على جهة الإطلاق ليس فيها تحد بجهة دون جهة، لأنه لم يذكر فيها أنه تحداهم، لا بالبلاغة ولا بالفصاحة، ولا بجودة النظم والسياق، ولا بكونه مشتملا على الأمور الغيبية، ولا لاشتماله على الأسرار والدقائق، وتضمنه المحاسن والعجائب، ولا أشار إلى شىء خاص يكون مقصدا للتحدى، وإنما قال: بمثله، وبسورة، وبعشر سور على الإطلاق، ثم إن العرب أيضا ما استفهموه عما يريد بتحديهم فى ذلك، ولا قالوا ما هو المطلوب فى تحدينا، بل سكتوا عن ذلك، فوجب أن يكون سكوتهم عن ذلك لا وجه له إلا لما قد علم من اطراد العادات المقررة بين أظهرهم أن الأمر فى ذلك معلوم أنه لا يقع إلا بما ذكرناه من البلاغة والفصاحة وجودة السياق والنظم، فإن المعلوم من حال الشعراء والخطباء، وأهل الرسائل والكلام الواقع فى الأندية المشهورة والمحافل المجتمعة، أنهم إذا تحدى بعضهم بعضا فى شعر، أو خطبة أو رسالة، فإنه لا يتحداه إلا بمجموع ما ذكرناه من هذه الأمور الثلاثة ولم يعهد قط فى الأزمنة الماضية والآماد المتمادية، أن أحدا تحدى أحدا منهم برقة شعره، ولا باشتماله على أمور محجوبة، ولا بعدم التناقض فيها، وفى هذا دلالة كافية على أن تعويلهم فى التحدى إنما هو على ما ذكرناه فيجب حمل القرآن فى الآيات المطلقة عليه، وفى ذلك حصول ما أردناه، وتمام تقرير هذه الدلالة بإيراد الأسئلة عليها والانفصال عنها.
السؤال الأول منها قد زعمتم أن وجه إعجاز القرآن إنما هو الفصاحة، والبلاغة، والنظم، وحاصل هذه الأمور كلها إما أن تكون راجعة إلى مفردات الكلم، أو تكون راجعة إلى مركباتها، ولا شك أن العرب قادرون على المفردات لا محالة ولا شك أن كل من قدر على المفردات فهو قادر على مركباتها، فلو كان كما ذكرتموه لكان العرب قادرين على المعارضة، وهذا يدل على أن وجه إعجازه ليس أمرا راجعا إلى البلاغة، والفصاحة، والنظم، وهذا هو المطلوب.
وجوابه إنما يكون بعد تمهيد قاعدة، وهو أن التفاوت بين الكتابين فى الجودة والكتابة إنما يكون من جهة العلم بإحكام التأليف بين الحروف وتنزيلها على أحسن هيئة فى الإيقاع، فمن كان أجود علما بإحكام التأليف كانت كتابته أعجب، ومن كان عادما للعلم بما ذكرناه نقص إتقان كتابته، فكل واحد منهما قد أحرز ما تحتاج إليه الكتابة من الآلات(3/225)
كالقلم والدواة، والقرطاس، واليد، وغير ذلك مما يكون شرطا فى الكتابة، ولم يتميز أحدهما عن الآخر إلا بما ذكرناه من العلم بإحكام التأليف، وهكذا حال أهل الحرف والصناعات فإنهم كلهم متمكنون من أصول الصناعات وما تحتاج إليها، كالصناعة للذهبيات والفضيات، والحاكة للديباج، فإن تفاوتهم إنما يظهر فى ما ذكرناه لا غير فإذا عرفت هذا فالعرب لا محالة قادرون على مفردات هذه الكلم، الموضوعة، وقادرون على حسن التأليف لهذه الكلمات، لكنهم غير قادرين على كل تأليف، فإن من التأليف ما لا زيادة عليه فى الإعجاب، وهو المعجز، ومنه ما تنقص رتبته عن ذلك، وليس معجزا، وعلى هذا يكون المعجز إنما كان من جهة عدم العلم بإحكام تأليف هذه الكلمات، فقد ملكوا القدرة على آحادها، وملكوا القدرة على نوع من تأليفها مما لم يكن معجزا، فأما ما كان معجزا من التأليف فلم يكونوا مالكين له فحصل من مجموع ما ذكرناه أن الإعجاز ليس إلا تأليف هذه الكلمات على حد لا غاية فوقه، فإلى هذا يرجع الخلاف، ويحصل التحقق بأن عجزهم إنما كان من جهة عدم العلم بهذا التأليف المخصوص فى الكلام، لا يقال فحاصل هذا الجواب أن الله تعالى لم يخلق فيهم العلم بإحكام التأليف الذى يحتاج إليه فى كون الكلام معجزا، وهذا قول بمقالة أهل الصرفة، فإن حاصل مذهبهم هو أن الله تعالى سلبهم الداعى إلى معارضة القرآن، وأعدم عنهم العلوم التى لأجلها يقدرون على المعارضة، وأنتم قد زيفتم هذه المقالة وأبطلتموها، فقد وقعتم فيما فررتم منه لأنا نقول هذا فاسد فإنا نقول إنهم عادمون لهذه العلوم قبل المعجز وبعده، وأنها غير حاصلة لهم فى وقت من الأوقات فلهذا استحال منهم معارضة القرآن كما قررناه من قبل، بخلاف مقالة أهل الصرفة فإن عندهم أن علوم التأليف كانت حاصلة معهم قبل ظهور المعجز، لكن الله تعالى سلبهم إياها كما مر تقريره، فلهذا كان ما ذكرناه مخالفا لما قالوه.
السؤال الثانى: لو كانت الفصاحة هى الوجه فى كون القرآن معجزا لما كان فيه دلالة على صدق رسول الله صلّى الله عليه وسلّم وقد تقرر كونه دالا على صدقه فيجب أن لا يكون الوجه فى إعجازه هى الفصاحة، بل الصرفة كما تقول أصحابها، أو وجه آخر غير الفصاحة، وإنما قلنا: إنه لو كان الوجه فى إعجازه الفصاحة لما كان فيه دلالة على الصدق، فلأن الدلالة على الصدق، إنما تقع إذا كانت موجودة من جهة الله تعالى إلا أنه تعالى ليس فاعلا(3/226)
للفصاحة من جهة أن الفصاحة المرجع بها إلى خلوص الكلام من التعقيد، والبلاغة ترجع إلى مطابقة الكلام وحسن تأليفه، وهذه كلها مقدورة لنا، ولهذا بطل أن يكون الإعجاز حاصلا بها، فإذن لا بد من أن يكون وجه الإعجاز متعلقا بقدره الله تعالى، لأنه هو المتولى لصدق أنبيائه، فكل ما كان من المعجزات لا يقدر كونه من جهته، فإنه لا يكون فيه دلالة على صدق من ظهر عليه، وإنما قلنا: 7 ن فيه دلالة على الصدق، وهذا ظاهر لا يمكن إنكاره، فإن القرآن من أبهر الأدلة على صدق صاحب الشريعة صلوات الله عليه، فلو كان وجه إعجازه هو الفصاحة لم يكن فيه دلالة على الصدق، لأن الفصاحة والبلاغة المرجع بهما إلى انتظام الكلام على وجه مخصوص لا مزيد عليه، وما من وجه من وجوه النظم إلا وهو مقدور للعباد بكل حال، وهذا يبطل كونه دالا على صدقه، وقد تقرر كونه دليلا على الصدق، فبطل كون إعجازه هو الفصاحة.
وجوابه أنا قد قررنا أن الوجه فى إعجازه هو الفصاحة والبلاغة مع النظم بما لا مطمع فى إعادته. قوله لو كانت الفصاحة وجها فى إعجازه لما كان له دلالة على الصدق، قلنا:
هذا فاسد فإن النظم وإن كان مقدورا لنا، لكنه قد يقع على وجه لا يمكن كونه مقدورا لنا ولهذا فإن العلم مقدور لنا، والفعل من جنس العلوم، وقد استحال كونها مقدورة للعباد، لما كانت واقعة على وجه يستحيل وقوعه فى حق العباد، فإن جنس الحركة مقدور لنا، وحركة المرتعش وإن كانت من جنس الحركة، لكنها لما وقعت على وجه يتعذر على العباد جاز الاستدلال بها على الله تعالى، فهكذا حال البلاغة، فإنها وإن كانت من قبيل النظم والتأليف. وهو مقدور لنا، لكنه لما وقع على وجه يتعذر تحصيله من جهتنا، كان دليلا على الصدق من هذه الجهة، فحصل من مجموع ما ذكرناه أن القرآن دال على صدق من ظهر على يده، وما ذاك إلا لكونه مختصا بالوقوع من جهة الله تعالى مع كون جنسه من مقدور العباد، وفيه دلالة على صدقه كما نقوله فى سائر المعجزات الدالة على صدقه، وإن لم يكن لها تعلق بمقدور العباد، كإطعام الخلق الكثير، من الطعام اليسير، ونبوع الماء من بين أصابعه، إلى غير ذلك من المعجزات الباهرة له عليه الصلاة والسلام.
السؤال الثالث: هو أن الصحابة رضى الله عنهم لما اهتموا بجمع القرآن بعد رسول الله صلّى الله عليه وسلّم وكانوا يطلبون الآية، والآيتين، ممن كان يحفظها منهم، فإن كان الراوى مشهور(3/227)
العدالة قبلوها منه، وإن كان غير مشهور العدالة لم يقبلوها منه، وطلبوا على ذلك بينة، فلو كان الوجه فى إعجازه هو الفصاحة كما زعمتم، لكان متميزا عن سائر الكلام وكان لا وجه للسؤال لما يظهر من التمييز، وفى هذا دلالة على أن وجه إعجازه هو الصرفة، أو غيرها، دون الفصاحة.
وجوابه من وجهين، أما أولا: فلأنا لا نسلم أن الرسول صلّى الله عليه وسلّم توفاه الله تعالى ولم يكن القرآن مجموعا، بل ما مات عليه السلام إلا بعد أن جمعه جبريل، وهذه الرواية موضوعة مختلفة لا نسلمها، ولهذا قال لما نزل صدر سورة براءة «أثبتوها فى آخر سورة الأنفال» فما قالوه منكر ضعيف، وأما ثانيا فلأن الاختلاف إنما وقع فى كتب القرآن وجمعه فى الدفاتر، فأما جمعه فمما لم يقع فيه تردد أنه كان فى أيام الرسول صلّى الله عليه وسلّم، ولهذا فإن المصاحف قد كانت كثرت بعد الرسول صلّى الله عليه وسلّم، فلما وقع فيه الخلاف، فعل «عثمان» فى خلافته ما فعل من محوها كلها، وكتبه مصحفه الذى كتبه.
السؤال الرابع: هو أن ابن مسعود رضى الله عنه اشتبه عليه الفاتحة والمعوذتان، هل هن من القرآن أو لا، فلو كان الوجه فى الإعجاز هو الفصاحة لكان لا يلتبس عليه شىء من ذلك.
وجوابه من وجهين: أما أولا: فلأن ابن مسعود لم ينكر كونها نزلت من اللوح المحفوظ، وأن جبريل أتى بها من السماء فهن قرآن بهذه المعانى، وإنما أنكر كتبها فى المصاحف وقال هن واردات على جهة التبرك والاستعاذة، فلهذا كن قرآنا بما ذكرناه من المعانى، ولم يكن قرآنا لورودها لهذا المقصد الخاص، وهذا فى التحقيق يؤول إلى العبادة، والمقاصد المعنوية متفق عليها كما ترى، وأما ثانيا فلأن هذا رأى لابن مسعود فلا يكون مقبولا، والحق فى المسألة واحد، فخطؤه فيها كخطإ غيره ممن خالف دلالة قاطعة، ولنقتصر على هذا القدر من الأسئلة ففيه كفاية لغرضنا، واستقصاء الكلام على مثل هذه القاعدة، إنما يليق بالمباحث الكلامية، والمقاصد الدينية، وإن نفس الله لنا فى المهلة، وتراخت مدة الإمهال، ألفنا كتابا نذكر فيه كيفية دلالة المعجز على صدق من ظهر على يده، ونجيب فيه عن شكوك المخالفين بمعونة الله تعالى، فالنية صادقة فى ذلك إن شاء الله تعالى.(3/228)
تنبيه
نجعله خاتمة للكلام فى الوجه الذى لأجله حصل الإعجاز، اعلم أن القرآن إنما صار معجزا لكونه دالا على تلك المحاسن والمزايا التى لم يختص بها غيره من سائر الكلام، ولا يجوز أن تكون راجعة إلى الدلالات الوضعية، سواء كانت باعتبار دلالتها على معانيها الوضعية، أو مجردة عنها، وقد ذهب إلى ذلك أقوام.
وهو فاسد لأمرين، أما أولا: فلأن الكلمة الواحدة قد تكون فصيحة إذا وقعت فى محل، وغير فصيحة إذا وقعت فى محل آخر، فلو كان الأمر فى الفصاحة والبلاغة راجعا إلى مجرد الألفاظ الوضعية، لما اختلف ذلك بحسب اختلاف المواضع، وأما ثانيا فلأن الاستعارة، والتشبيه، والتمثيل، والكناية، من أعظم قواعد الفصاحة وأبلغها. وإنما كانت كذلك باعتبار دلالتها على المعانى لا باعتبار ألفاظها. فصارت الدلالة على وجهين:
الوجه الأول دلالة وضعية، وهذه لا تعلق لها بالبلاغة والفصاحة كما مهدنا طريقه، وثانيهما الدلالة المعنوية، ودلالتها إما بالتضمن، أو بالالتزام، وهما عقليان من جهة أن حاصلهما، هو انتقال الذهن من مفهوم اللفظ إلى ما يلازمه، ثم تلك الملازمة إما أن تكون دلالة على جزء المفهوم، أو تكون دلالة على معنى يصاحب المفهوم، فالأول هو الدلالة التضمنية، والثانى هو الدلالة الخارجية وهما جميعا من اللوازم، ثم إن تلك اللوازم تارة تكون قريبة، وتارة تكون بعيدة، فمن أجل ذلك صح تأدية المعانى بطرق كثيرة، بعضها أكمل من بعض، وتارة تزيد، ومرة تنقص، فلأجل هذا اتسع نطاق البلاغة وعظم شأنه، وارتفع قدره وعلا أمره، فربما علا قدر الكلام فى بلاغته حتى صار معجزا لا رتبة فوقه، وربما نزل الكلام حتى صار ليس بينه وبين نعيق البهائم إلا مزية التأليف والتركيب، وربما كان متوسطا بين الرتبتين، وقد يوصف اللفظ بالجودة، لكونه متمكنا فى أسلات الألسنة غير ناب عن مدارجها، ولا قلق على سطح اللسان، جيدا سبكه صحيحا طابعه، وأنه فى حق معناه من غير زيادة عليه ولا نقصان عنه، وقد يذمونه بنقائض هذه الصفات بأنه معقد جرز، وأنه لتعقيده استهلك المعنى، يمشى اللسان إذا نطق به كأنه مقيد، وحشى، نافر، نازل القدر، طويل الذيول من غير فائدة، ولا معنى تحته، وقد يصفون(3/229)
المعنى بالجودة، بأنه قريب جزل، يسبق إلى الأذهان، قبل أن يسبق إلى الآذان، ولا يكون لفظه أسبق إلى سمعك من معناه إلى قلبك، حتى كأنه يدخل إلى الأذن بلا إذن، وقد يذمونه بكونه ركيكا نازل القدر، بعيدا عن العقول، وهلم جرا إلى سائر ما ذكرناه من جهة المعنى على هذه المزايا موجودة فيه على أكمل شىء وأتمه، فلله دره من كتاب اشتمل على علوم الحكمة وضم جوامع الخطاب، وأودع ما لم يودع غيره من الكتب المنزلة من حقائق الإجمال ودقائق الأسرار المفصلة، وإذا أردت أن تكحل بصرك بمرود التخييل والاطلاع على لطائف الإجمال والتفصيل، فاتل قصة زكرياء عليه السلام، وقف عندها وقفة باحث وهى قوله تعالى: قالَ رَبِّ إِنِّي وَهَنَ الْعَظْمُ مِنِّي وَاشْتَعَلَ الرَّأْسُ شَيْباً
[مريم: 4] فإنك تجد كل جملة منها بل كل كلمة من كلماتها تحتوى على لطائف، وليس فى آى القرآن المجيد حرف إلا تحته سر ومصلحة فضلا عما وراء ذلك، والكلام فى تقرير تلك اللطائف الإجمالية، وما يتلوها من الأسرار التفصيلية، مقرر فى معرفة حد الكلام وأصله، وأن كل مرتبة من مراتب الإجمال متروكة فى الآية وسياقها، وجملة ما نورده من ذلك درجات عشر، كل واحدة منها على حظ من الإجمال، بعدها درجة أخرى على حظ من التفصيل، حتى تكون الخاتمة هو ما اشتمل عليه سياقها المنظوم على أحسن نظام، وصار واقعا فى تتميم بلاغتها أحسن تمام.
الدرجة الأولى: نداء الخفية، فإنه دال على ضعف الحال وخطاب المسكنة والذل حتى لا يستطيع حراكا وهو من لوازم الشيخوخة والهزال، لما فيه من التصاغر للجلال والعظمة بخفض الصوت فى مقام الكبرياء، وعظم القدرة فهذه الجملة مذكورة كما قررناه، وهى مناسبة لحاله، ولهذا صدرها فى أول قصته لما فيها من ملائمة الحال وهضم النفس، واستصغارها، وافتتاحها بذكر العبودية يؤكد ما ذكرناه ويؤيده.
الدرجة الثانية: كأنه قال، يا رب إنه قد دنا عمرى وانقضت أيام شبابى، فإن انقضاء العمر دال على الضعف، والشيخوخة لا محالة، لأن انقضاء الأيام والليالى هو الموصل إلى الفناء والضعف وشيب الرأس، ثم إن هذه الجملة صارت متروكة لتوخى مزيد التقرير إلى ما هو أكثر تفصيلا منها مما يكون بعدها.
الدرجة الثالثة: كأنه قال قد شخت فإن الشيخوخة دالة على ضعف البدن وشيب الرأس، لأنها هى السبب فى ذلك لا محالة.(3/230)
الدرجة الرابعة: كأنه قال وهنت عظام بدنى، جعله كناية عن ضعف حاله، ورقة جسمه، ثم تركت هذه الجملة إلى جملة أخرى أكثر تفصيلا منها.
الدرجة الخامسة: كأنه قال أنا وهنت عظام بدنى، فأعطيت مبالغة، لما قدم المبتدأ ببناء الكلام عليه كما ترى.
الدرجة السادسة: كأنه قال إنى وهنت العظام من بدنى فأضاف إلى نفسه، تقريرا مؤكدا «بإن» للأمر، واختصاصها بحاله، ثم تركت هذه الجملة بجملة غيرها.
الدرجة السابعة: كأنه قال إنى وهنت العظام منى، فترك ذكر البدن، وجمع العظام، إرادة لقصد شمول الوهن للعظام ودخوله فيها.
الدرجة الثامنة: ترك جمع العظام إلى إفراد العظم، واكتفى بإفراده فقال: إنى وهن العظم منى.
الدرجة التاسعة: ترك الحقيقة، وهى قوله أشيب، أو شاب رأسى، لما علم أن المجاز أحسن من الحقيقة، وأكثر دخولا فى البلاغة منها، ثم تركت هذه الجملة بجملة أخرى غيرها.
الدرجة العاشرة: أنه عدل عن المجاز إلى الاستعارة فى قوله: وَاشْتَعَلَ الرَّأْسُ شَيْباً
[مريم: 4] وهى من محاسن المجاز، ومن مثمرات البلاغة، وبلاغتها قد ظهرت من جهات ثلاث.
الجهة الأولى إسناد الاشتعال إلى الرأس لإفادة شمول الاشتعال بجميع الرأس، بخلاف ما لو قال: اشتعل شيب رأسى، فإنه لا يؤدى هذا المعنى بحال، فاشتعل رأسى وزان اشتعلت النار فى بيتى، واشتعل رأسى شيبا، وزان اشتعل بيتى نارا.
الجهة الثانية الإجمال والتفصيل فى نصب التمييز، فإنك إذا نصبت شَيْباً
كان المعنى مخالفا لما إذا رفعته، فقلت: اشتعل شيب رأسى، لما فى النصب من المبالغة دون غيره.
الجهة الثالثة تنكير قوله شيبا، لإفادة المبالغة، ثم إنه ترك لفظ (منى) فى قوله واشتعل الرأس شيبا، اتكالا على قوله: وَهَنَ الْعَظْمُ مِنِّي
ثم إنه أتى به فى الأول، بيانا للحال وإرادة للاختصاص بحاله فى إضافته إلى نفسه، ثم عطف الجملة الثانية على الجملة الأولى بلفظ الماضى، لما بينهما من التقارب والملائمة، فانظر إلى هذا السياق المثمر المورق، وجودة هذا الرصف المعجب المونق، كيف ترك جملة إلى جملة، إرادة للإجمال بعده(3/231)
التفصيل، من أجل إيثار البلاغة حتى انتهى إلى خلاصها، ودهن لبها ومصاصها. وهو جوهر الآية ونظامها بأوجز عبارة وأخصرها، وأظهر بلاغة وأبهرها واعلم أن الذى فتق أكمام هذه اللطائف حتى تفتحت أزرار أزهارها، وتعانقت أغصانها وتأنقت أفنانها، وتناسبت محاسن آثارها، هو مقدمة الآية وديباجتها، فإنه لما افتتح الكلام فى هذه القصة البديعة بالاختصار العجيب، بأن طرح حرف النداء من قوله «رب» وياء النفس من المضاف، أشعر أولها بالغرض، فلأجل تأسيس الكلام على الاختصار عقبه بالاختصار والإجمال، واكتفى بذكر هاتين الجملتين عما وراءهما من تلك المراتب العشر التى نبهنا عليها والحمد لله.(3/232)
الفصل الرابع فى إيراد المطاعن التى يزعمونها على القرآن والجواب عنها
اعلم أن للمخالفين لنا فى كلام الله تعالى اعتراضات ومطاعن يرومون بذلك إبطاله وإبطال دلالته، لما كان من أعظم حجج الله على خلقه، فلأجل هذا كثرت عنايتهم بالطعن فيه، ومطاعنهم فيه من جهات عشرين.
الجهة الأولى: من حيث حقيقته،
وحاصل ما قالوه: هو أن القرآن كلام الله تعالى، وليس يخلو الحال فى بيان ماهيته، إما أن يكون المرجع بحقيقته إلى أنه معنى قائم بذاته تعالى موجب لذاته المتكلمية كما هو رأى قدماء الأشعرية، كالإسفرائينى، والنجارية، والكلابية، وإلى هذا ذهب القاضى الباقلانى منهم، وإما أن يكون المرجع بالكلام إلى حالة الله تعالى، وهى المتكلمية، كما هو رأى المتأخرين من الأشعرية، له تعلقات كتعلقات العالمية، وهذه المذاهب فاسدة عندكم، وإما أن يكون المرجع بحقيقة الكلام إلى هذه الأحرف والأصوات المقطعة، كما هو رأى المعتزلة وأئمة الزيدية، وقد أفسدوه بأنا نعلم ماهية الكلام قبل إيجاد هذه الأحرف والأصوات، ونتصور ماهيته، وفى هذا دلالة على أنه أمر مخالف للأصوات والحروف، وإما أن يراد بحقيقة الكلام، أمر آخر وراء ما ذكرناه، فلابد من إبرازه لنعلم صحته أو فساده، فقد وضح بما ذكرناه، أن حقيقة الكلام مشكلة فلابد من الإحاطة بها، لأن الكلام فى كونه حجة قائمة على الخلق فرع تصور ماهيته، ولم يفرغ من ذلك.
والجواب عما أوردوه من ذلك: هو أنا إذا قررنا ماهية الكلام بطلت هذه المذاهب كلها، والبرهان القاطع على أن الكلام هو هذه الأحرف المقطعة، أن المعقول من ماهية الكلام هو ما ذكرناه كما أن المعقول من ماهية الأسود، هو حصول السواد فى المحل، فلو عزلنا عن أنفسنا العلم بهذه الأحرف، لم نعقل حقيقة الكلام ولهذا فإن الكتابة لا يسمونها كلاما وكذا الإشارة، لعدم النطق بهذه الأحرف فحصل من هذا أن تقطيع هذه الأصوات هى الأصل فى كون الكلام كلاما، وأن إطلاق الكلام على ما ليس بهذه الصفة إنما كان على جهة المجاز كما يقول القائل فى نفسى كلام، فمن أدرك ما ذكرناه فقد أحاط بماهية الكلام، ومن لا يفهم هذه الأحرف فإنه بمعزل عن فهم ماهية الكلام، ويؤيد ما ذكرناه(3/233)
أن جميع من تكلم فى ماهية الكلام فإنه لا بد من ذكر ما قلناه من الأصوات المقطعة والحروف المنظومة من أئمة الأدب وأهل اللغة، وأهل النحو، والتصريف، وأهل علم البيان، والعروضيين وغيرهم ممن كان مختصا بالكلام، فإنه لا يورد فى ماهيته إلا ما ذكرناه من هذه الأصوات وهذه الحروف، وفى هذه دلالة قاطعة على أنها أصل فى معقول معناه، وقاعدة فى فهم ماهيته، فلا يخطر ببال أحد منهم سوى ذلك.
الجهة الثانية من حيث القدم،
الملاحدة، وحاصل ما قالوه هو أن بعض أهل القبلة من المسلمين قد زعم كونه قديما، وهؤلاء هم الأشعرية على طبقاتهم، فإنهم قد اتفقوا على أن كلام الله تعالى قديم لا أول له، ومهما كان قديما فإنه لا يفيد فائدة، ولا يوجد منه شىء من الأحكام، لأن الكلام إنما يعقل معناه إذا كان مؤلفا من هذه الأحرف، فأما إذا كان قديما لم يعقل تقدم بعضه على بعض، فإذا كان قديما كان عريّا عن الفائدة لا يمكن أن يحتج به ولا يكون فيه دلالة فمهما جوز قدمه بطل الاحتجاج به.
والجواب عما أورده هؤلاء إنما هو ببيان حقيقة الكلام، فإذا تقرر أنه هذه الأصوات والأحرف المقطعة فأمارة الحدوث فيها ظاهر من جهة أن المسبوق منها محدث لتقدم غيره عليه، والمتقدم على المحدث بأوقات يجب القضاء بحدوثه، لأن من حق القديم أن يكون سابقا على الحوادث بما لا نهاية له، فإذا كان لتقدمه غاية، كان محدثا، واعلم أنه لا خلاف فى كون هذه الحروف المقطعة والأصوات المنتظمة محدثة، لظهور أمارة الحدوث فيها، لجواز العدم عليها، وتقدم بعضها على بعض، وكل ما ذكرناه علامة الحدوث ودليل عليه، فلهذا قلنا: إن كلام الله تعالى محدث لما كان معقول الكلام هو هذه الأصوات من غير زيادة، وهكذا حال جميع الفرق، فإنهم لا يخالفوننا فى حدوث هذه الأحرف، وإنما يحكى الخلاف عن الأشعرية وجميع فرق المجبرة من النجارية، والكلابية، فإنهم متفقون على قدمه، وزعموا على هذا أن كلام الله تعالى شىء مغاير لهذه الأحرف والأصوات المقطعة ووصفوه بالقدم، وحاصل قولهم: أن الكلام معنى قديم قائم بالذات، فإذا تقرر كون الكلام ما وصفناه من هذه الأحرف وأن ما قالوه غير معقول، ثبت حدوثه لا محالة، فإذن الخلاف بيننا وبين جميع طبقات المجبرة فى قدم القرآن مرتد إلى ماهية الكلام، فإن كان(3/234)
الحق ما قلناه: من أنه هذه الأحرف المقطعة فالقرآن محدث، وجميع كلام الله تعالى، وإن قدرنا أن حقيقة الكلام ما قالوه من كونه صفة قائمة بالذات لم نمنع قدمه إذا قامت عليه دلالة، فأما مع الإقرار أو قيام البرهان على أن معقول الكلام هو هذه الأحرف المقطعة فلا سبيل للقول بقدمه على حال، لأن ذلك غير معقول أصلا.
الجهة الثالثة من الطعن
ذهب أكثر الأشعرية إلى أن كلام الله تعالى متحد غير متعدد، وأنه معنى واحد قرآن، وتوراة وإنجيل وزبور، وأمر ونهى، ووعد، ووعيد، إلى غير ذلك من الأوجه المختلفة فى الكلام، وزعم فريق من الأشعرية وهم الأقلون أن كلام الله تعالى متعدد إلى وجوه خمسة: أمر، ونهى، ودعاء، ونداء، وخبر، وهو محكى عن أبى إسحاق الإسفرائينى منهم، وهو فى هذين الوجهين لا تعقل دلالته بحال، لأنه إذا كان متحدا لم يعقل فيه أمر ونهى، لأن الشىء الواحد لا يكون على هذه الأوجه، لما فيها من التناقض، وإن كان متعددا إلى هذه الأوجه الخمسة فهو خطأ أيضا، إذ لا دلالة على حصره فى هذه الأوجه، فإذن لا يتم كون القرآن دالا على الأحكام الشرعية إلا بعد إبطال هذين المذهبين، لأنهما مهما صحا بطلت دلالته فهذا من أعظم المطاعن على الاستدلال به.
والجواب أنا قد قررنا أن ماهية الكلام ومعقوله إنما هو هذه الأصوات المقطعة من غير زيادة على ذلك، وأن حقيقته غير مختلفة، شاهدا وغائبا، لأن ماهيات الأشياء وحقائقها لا تختلف باعتبار الشاهد والغائب، وإذا كان الأمر فيها كما قلناه فلا معنى لقول من قال: إن الكلام متحد، أو متعدد، بل يجب أن يكون لكل من هذه المعانى صيغة تدل عليه، ولا وجه لكونه حقيقة واحدة متحدة، ولا وجه أيضا لقصره على خمسة معان كما زعموه، وإنما بنوا هذه المقالة فى التعدد والاتحاد، على أن ماهية الكلام وحقيقته آئلة إلى أنه مغاير لهذه الأصوات المقطعة، وأنه معنى حاصل فى النفس، فلأجل هذا قالوا فيه بالتعدد والاتحاد، فإذا بطل كون الكلام معنى واحدا بطل ما بنى عليه من التعدد والاتحاد، ويدل على بطلان هذه المقالة أن كلام الله إذا كان معنى واحدا على زعمهم فكيف يعقل تعدده، وأن يكون خمس كلمات أمرا، ونهيا، ودعاء، ونداء، وخبرا، وفى هذا جمع بين النقيضين، فلا يكون مقبولا، لأنه من حيث إنه واحد فلا يعقل تعدده، ومن حيث إنه خمس كلمات يكون متعددا، فيكون متعددا غير متعدد وهو محال، فبطل ما قالوه.(3/235)
الجهة الرابعة من الطعن على كونه حجة،
وحاصلها أن القرآن إنما يستقيم كونه حجة، إذا تقرر كونه من جهة الله تعالى، ومن الجائز أن يكون ألقاه إلى الرسول صلّى الله عليه وسلّم بعض الملائكة، أو بعض الجن، أو الشياطين فلا يستقيم كونه حجة إلا بعد بطلان هذا الاحتمال.
والجواب عما ذكروه من هذا الاحتمال البعيد يجرى على وجهين، الوجه الأول منهما إجمالى، وذلك من أوجه ثلاثة أولها أنا لو ساعدناكم على ذلك، وكان مدعى النبوة كاذبا، لوجب على الله تعالى أن يمنعه من ذلك لئلا يفضى إلى الإضلال بالخلق، والتلبيس عليهم فى أحوال دينهم، لأن الحكمة مانعة، فإن الله تعالى لا يجوز أن يسلط الشّبه على وجه لا يمكننا حالها، وثانيها أنا لو جوزنا ذلك لجاز أن يكون جرى الشمس، والقمر والنجوم، والأفلاك كلها، وجرى الفلك فى البحر وغير ذلك من الأمور الهائلة لواحد من هذه الاحتمالات، وخلاف ذلك معلوم بالضرورة، وثالثها أن هذه الوجوه لو كانت محتملة لذكرتها العرب فى القدح فى نبوته، لأن من المعلوم ضرورة حرصهم على ما كان مبطلا لدعواه فلما لم يذكروا شيئا من هذه الاحتمالات دل على بطلانها وفسادها. الوجه الثانى منهما تفصيلى: وذلك يكون من أوجه، أولها أنا نعلم بالضرورة علما لا مرية فيه، أن محمدا صلّى الله عليه وسلّم هو الآتى بالقرآن، فإذا كان ما ذكرتموه من الاحتمال يدفع هذا العلم، وجب القضاء بفساده، وثانيها أنه لا طريق إلى إثبات الجن، والملائكة، والشياطين، إلا بالسمع، فكيف يصح الطعن فى النبوة والقرآن بما لا يكون ثابتا إلا بعد ثبوتهما، وثالثهما أنه قد تحدى جميع الخلق الأحمر، والأسود، والجن، والشياطين، بالقرآن، وادعى عجزهم عنه، فلو كان ذلك من فعلهم لتوفرت دواعيهم إلى معارضته، لأن كل من نسب إلى العجز عن الشىء وكان قادرا عليه، فإنه لا بد من أن يكون إثباته كما قررناه فى حال الإنس، ورابعها أنه كان ينهى عن متابعة الشياطين، ويأمر بلعنهم والبراءة منهم، ويحذر عن ملابستهم فى المطاعم، والمشارب، والمساكن، فلو كان الفاعل للقرآن هو الجن والشياطين لاستحال منهم نصرته مع شدة عداوته لهم، وأمره بالبعد عنهم واللعن لهم، وخامسها أن القرآن الذى ظهر على يد محمد صلّى الله عليه وسلّم، لو جاز إسناده إلى الجن كما زعموه، لجاز ذلك فى كل كتاب يدعى كل إنسان أن تصنيفه، أن يكون ذلك الكتاب من قبيل الجن، وعند هذا يلزم فى هذه الكتب المشهورة أن لا تكون مضافة إلى قائليها لمثل ما ذكروه فى القرآن، وهذا يؤدى إلى التشكيك فى الأمور الضرورية وهو محال، فبطل ما قالوه.(3/236)
الجهة الخامسة من الاعتراض والطعن من جهة الصدق
وحاصل هذه الجهة أن القرآن إنما يراد لكونه حجة مقطوعا به، وذلك لا يحصل إلا مع القطع بكونه صدقا، والعلم بصدقه متوقف على العلم بأن الله تعالى صادق فى خبره، لأنا لو جوزنا على الله الكذب لم نقطع بصدق القرآن، فإذن لابد من الدلالة على صدق الله تعالى ليحصل العلم بصدق القرآن، وأنتم لم تفرغوا من بيان هذه القاعدة، وهى من أهم القواعد على صدق القرآن وكونه حجة على الأحكام الشرعية والأسرار الدينية وصحة ما تضمنه من العلوم.
والجواب عما أوردوه أن الذى يدل على صدق الله تعالى عندنا هو ما تقرر من قواعد الحكمة، وحاصلها أن الله تعالى حكيم لا يجوز عليه الكذب، لأنه قد فقد داعيه إلى فعل الكذب، وهو الجهل والحاجة، وخلص صارفه عنه، وهو كونه عالما بقبحه، فيجب على هذا أن لا يفعله الله تعالى كما نقوله فى سائر الأمور القبيحة، فإن عمدتنا فى أن الله تعالى لا يفعلها، هو ما ذكرناه من تقرير قاعدة الحكمة، وهذا هو الأصل فى تنزيهه عن كل قبيح وعن الإخلال بكل واجب، فأما الأشعرية فلهم على أن الله صادق مسلكان:
المسلك الأول منهما أن الرسول صلّى الله عليه وسلّم أخبر عن كونه صادقا «1» ، فيجب القضاء بصدقه، وأخبر عن كون الكذب ممتنعا على الله تعالى،
وما ذكروه فاسد جدا لا يليق ذكره بأهل الفطانة ولولا أن ابن الخطيب أورده لما أوردناه، لما اشتمل عليه من الضعف والركة، وبيانه أن صدق الرسول صلّى الله عليه وسلّم متوقف على دلالة المعجز على صدقه، والمعجز قائم مقام التصديق بالقول، فإذن صدق الرسول صلّى الله عليه وسلّم مستفاد من تصديق الله، وتصديق الله إياه إنما يدل على صدقه، لو ثبت كونه تعالى صادقا، إذ لو جاز عليه الكذب لم يلزم من تصديقه تعالى أن يكون صادقا كما لا يلزم من تصديق الواحد منا غيره كون ذلك الغير صادقا، لأجل جواز الكذب علينا، فإذن العلم بصدق الرسول صلّى الله عليه وسلّم موقوف على العلم بصدق الله تعالى، فلو وقف العلم بصدق الله على العلم بصدق الرسول صلّى الله عليه وسلّم لزم الدور، وأنه محال لما ذكرناه.
المسلك الثانى هو أن كلام الله تعالى قائم بنفسه،
ويستحيل الكذب فى الكلام النفسى، لأنه يقوم(3/237)
بالنفس على وفق العلم من غير مخالفة، فمهما كان الجهل على الله تعالى محالا، كان الكذب عليه محالا، وهذا فاسد أيضا لأمرين، أما أولا فلأنهم ما أقاموا برهانا قاطعا على أن كل من استحال فى حقه الجهل فإنه يستحيل من جهته الكذب، وأن يكون مخبرا بالخبر النفسى على خلاف ما هو به، وهذه القضية غير معلومة بالضرورة، فلا بد فيها من إقامة الدلالة، وأما ثانيها فهب أنا سلمنا أنه يستحيل عليه الكذب فى الكلام القائم بنفسه، فلم لا يجوز أن يكون كاذبا فى الكلام الذى نسمعه ونقرؤه الذى بين أظهرنا، فهذان المسلكان هما العمدة لهم فى تقرير صدق الله تعالى، وقد عرفت ما فيهما من الفساد، وليس العجب من قدماء الأشعرية فى إيراد هذه الأمور الركيكة، وإنما العجب من ابن الخطيب فى إيراده لمثل ذلك مع أنه الرجل فيهم والمتولى على دقائق علم الكلام والمتبحر فى مغاصاته.
الجهة السادسة من الطعن على القرآن بأنه قد أتى بمثله
وحاصل هذه المقالة أن كل من قرأ سورة البقرة وجميع القرآن، فإنه قد أتى بمثله، وما هذا حاله فلا يكون معجزا، وإنما قلنا: إن كل من قرأه فقد أتى بمثله، لأنا نعلم بالضرورة أنه لا معنى للكلام إلا الأصوات المقطعة تقطيعا مخصوصا الموضوعة لإفادة معانيها، ونعلم بالضرورة أن الأصوات الحاصلة فى لهوات زيد غير الأصوات الحاصلة فى لهوات عمرو، وإذا تقرر ذلك حصل غرضنا من أن كل من قرأ القرآن فقد أتى بمثله فلا يكون معجزا بحال.
والجواب من وجهين، أما أولا فما هذا حاله من الكلام ركيك جدا، فإنا نعلم بالضرورة أن كل من أنشأ رسالة أو خطبة، أو قال قصيدة، أو غير ذلك من سائر الكلام، ثم أنشأها إنسان آخر فحفظها ورواها مرة أخرى فإنه لا تكون قراءته لتلك الرسائل، والقصائد، والخطب، إتيانا بما يعارضها، وإنما هى مضافة إلى قائلها، وما يكون من جهة القارىء فإنما يكون على جهة الاحتذاء، دون الابتداء والإنشاء، وهذا ظاهر لا يشك فيه أحد من النظار والفصحاء ثم إنهم يقولون للكلام إضافتان، فالإضافة الأولى إلى من ابتدأه وأنشأه، وهذه هى الإضافة الحقيقية، والإضافة الأخرى، وهى لمن حفظه وحكاه، ونعلم قطعا أن كل من قال:
قفانبك من ذكرى حبيب ومنزل ... بسقط اللوى بين الدخول فحومل «1»
لا يكون معارضا لامرىء القيس فيما قاله من هذه القصيدة، بل إنما جاء بها على جهة(3/238)
الاحتذاء لقائلها، وهذا الجواب على رأى من قال: الحرف هو الصوت من غير مغايرة بينهما، وهو المختار، لأنه لو كان أحدهما غير الآخر، لصح انفراد الحرف عن الصوت، إذ لا ملازمة بينهما فتوجد أحرف قولنا: الْحَمْدُ لِلَّهِ رَبِّ الْعالَمِينَ (2)
[الفاتحة: 2] ولا توجد أصواتها، أو توجد هذه الأصوات المقطعة ولا توجد أحرفها، وهذا لا وجه له، وأما ثانيا فإنه يأتى على رأى من قال: الحرف غير الصوت كما هو محكى عن الشيخين، أبى الهذيل، وأبى على الجبائى، والسبب فى هذه المقالة لهما هو ما ذكرناه من هذه الشبهة، وعلى هذا فإن الحاكى وإن أتى بالصوت، فإنه غير آت بالحرف، فيكون الإعجاز بالحرف دون الصوت، ولعمرى إن الجواب عن الشبهة على هذا القول سهل، لكن هذا القول محال وخطأ لما ذكرناه، والجواب عنها يكون بما أشرنا إليه وبالله التوفيق.
الجهة السابعة من الطعن فى القرآن بالإضافة إلى ألفاظه والاختلاف فيها
يكون على أوجه أربعة، أولها فى نفس الألفاظ كقراءة من قرأ (وتكون الجبال كالصوف المنفوش (5)) [القارعة: 5] بدل كَالْعِهْنِ
وقراءة (فامضوا إلى ذكر الله) [الجمعة: 9] بدل فَاسْعَوْا
وقراءة (فكانت كالحجارة أو أشد قسوة) [البقرة: 74] بدل فَهِيَ كَالْحِجارَةِ
وقراءة (فاقطعوا أيمانهما) [المائدة: 38] عوض أَيْدِيَهُما
وقراءة مالِكِ يَوْمِ الدِّينِ (4)
[الفاتحة: 4] بدل ملك إلى غير ذلك من الاختلاف فى ألفاظه وثانيها فى ترتيب ألفاظه كقوله تعالى: ضُرِبَتْ عَلَيْهِمُ الذِّلَّةُ وَالْمَسْكَنَةُ
[البقرة: 61] وقرىء (ضربت عليهم المسكنة والذلة) وقرىء: (وجآءت سكرة الحق بالموت) عوض قوله: وَجاءَتْ سَكْرَةُ الْمَوْتِ بِالْحَقِ
[ق: 19] وقوله تعالى: فَتَلَقَّى آدَمُ مِنْ رَبِّهِ كَلِماتٍ
[البقرة: 37] برفع «آدم» وقرىء فَتَلَقَّى آدَمُ مِنْ رَبِّهِ كَلِماتٍ
برفع «كلمات» فإذا رفع «كلمات» كانت مقدمة، وغيرها مؤخر، لأنها فاعلة، وإذا رفع «آدم» كان مقدما وغيره مؤخر، وثالثها الزيادة كقوله تعالى: (النبى أولى بالمؤمنين من أنفسهم وأزواجه أمهاتهم وهو أب لهم) [الأحزاب: 6] وقال تعالى: (إن الذين ينادونك من وراء الحجرات بنو تميم أكثرهم لا يعقلون) [الحجرات: 4] وقوله تعالى: (له تسع وتسعون نعجة أنثى) [سورة ص: 23] وقوله تعالى: (والسارقون والسارقات) [المائدة: 38] ورابعها ما يقع من اختلاف الحركات كقوله تعالى رَبَّنا باعِدْ
[سبأ: 19] على لفظ الماضى وقرىء باعِدْ
بلفظ الأمر، فالعين تارة تكون مفتوحة، وتارة تكون مكسورة، والمعنى مختلف فى ذلك، وقوله تعالى لَقَدْ(3/239)
جاءَكُمْ رَسُولٌ مِنْ أَنْفُسِكُمْ
[التوبة: 128] قرىء بضم الفاء جمع نفس، وقرىء بفتحها يعنى أعلاها، وقوله تعالى هَلْ يَسْتَطِيعُ رَبُّكَ
[المائدة: 112] برفع «الرب» على الفاعلية وقرىء هَلْ يَسْتَطِيعُ رَبُّكَ
بنصبه على المفعولية، فهذه الاختلافات واقعة فيه، فلو كان القرآن من جهة الله تعالى لما وقع فيه هذا الاختلاف، لقوله تعالى: وَلَوْ كانَ مِنْ عِنْدِ غَيْرِ اللَّهِ لَوَجَدُوا فِيهِ اخْتِلافاً كَثِيراً (82)
[النساء: 82] فعدم الخلاف دليل على أنه من الله، ووجود الخلاف ينفيه، وقد وجد كما ذكرناه، فيجب نفيه عنه.
والجواب من أوجه ثلاثة، أما أولا فلأن وجود الخلاف إنما يكون دالا على أنه ليس من جهة الله تعالى أن لو قال «ولو كان من عند الله لما وجدوا اختلافا» فأما وقد قال وَلَوْ كانَ مِنْ عِنْدِ غَيْرِ اللَّهِ لَوَجَدُوا فِيهِ اخْتِلافاً
فلا يلزم مع اختلافه أن لا يكون من عند الله، كما لو قال القائل: لو كان هذا سوادا لكان لونا، فإنه لا يلزم من عدم كونه سوادا أن لا يكون لونا، فهكذا ما نحن فيه، فلا يلزم من وقوع الاختلاف أن لا يكون من جهة الله تعالى، وأما ثانيا فلأن الآية لم تدل إلا على عدم الاختلاف مطلقا، وليس فيها دلالة على عدم الاختلاف من كل الوجوه، أو من بعض الوجوه لكنا نحملها على عدم الاختلاف من بعض الوجوه، وهو عدم الاختلاف فى فصاحته، فإنها شاملة له من جميع الوجوه، وبها تميز عن سائر الكتب، فإن الظاهر من حال من صنف كتابا طويلا على مثل طوله، أن لا يبقى كلامه فى الفصاحة على حد واحد ونظم متفق، بل يكون كلامه فى بعض المواضع صحيحا وفى بعضها ركيكا فاسدا بخلاف القرآن، فإنه حاصل على طريقة واحدة فى البلاغة والفصاحة، وحسن الانتظام وجودة الاتساق، وأما ثالثا فلأنا نسلم وقوع الاختلاف فيه كما ذكروه فى أحرف القرآن المختلفة، ولكنه حق وصواب، ولهذا جاء فى الحديث عن الرسول صلّى الله عليه وسلّم: «نزل القرآن من سبع سموات على سبعة أحرف كل حرف منها شاف كاف» «1» ، وهذه الأحرف السبعة عبارة عن اللغات، لكن منها ما كان متواتر النقل، وهو ما كان عن القراء السبعة، ومنها ما يكون منقولا بالآحاد، وكله حاصل من جهة الرسول ونزل به جبريل، وأخذه من اللوح المحفوظ، فإذن حصول هذا الاختلاف لا يمنع من كونه قرآنا، ولا من كونه نازلا من السماء على ألسنة الملائكة والرسل، وفى ذلك بطلان ما قالوه والحمد لله.(3/240)
الجهة الثامنة من الطعن على القرآن بظهور المناقضة فيه
وهذا ظاهر لمن تأمله، فإن آيات التنزيه لذاته عن مشابهة الممكنات كقوله تعالى: لَيْسَ كَمِثْلِهِ شَيْءٌ وَهُوَ السَّمِيعُ الْبَصِيرُ (11)
[الشورى: 11] تناقضها آيات التشبيه كقوله تعالى: وَيَبْقى وَجْهُ رَبِّكَ
[الرحمن:
27] وقوله تعالى: بَلْ يَداهُ مَبْسُوطَتانِ
[المائدة: 64] وآيات الجهة كقوله تعالى: وَجاءَ رَبُّكَ
[الفجر: 22] وقوله تعالى: عَلَى الْعَرْشِ اسْتَوى (5)
[طه: 5] وهكذا آيات الجبر فى مثل قوله تعالى: خَلَقَ كُلَّ شَيْءٍ
[الأنعام: 102] وقوله تعالى: وَما تَشاؤُنَ إِلَّا أَنْ يَشاءَ اللَّهُ
[الإنسان: 30] وقوله تعالى: وَاللَّهُ خَلَقَكُمْ وَما تَعْمَلُونَ (96)
[الصافات: 96] تناقض آيات التنزيه عن خلق القبائح كقوله تعالى: إِنَّ اللَّهَ لا يَظْلِمُ النَّاسَ شَيْئاً
[يونس:
44] وقوله تعالى: وَلا يَظْلِمُ رَبُّكَ أَحَداً (49)
[الكهف: 49] إلى غير ذلك من الآيات المتناقضة فى ظواهرها.
والجواب عما أوردوه أن برهان العقل قد دل على تنزيه الله تعالى فى ذاته عن مشابهة الممكنات، ودل على تنزيهه عن نسبة القبيح إليه، فإذا ورد فى الشرع ما يناقض قاعدة العقل، يجب تأويله على ما يكون موافقا للعقل، لأن هذه الظواهر محتملة، ومادل عليه العقل غير محتمل، فيجب تنزيل المحتمل على ما يكون محتملا، يؤيد ما ذكرناه ويوضحه أن البراهين العقلية لا يخلو حالها، إما أن تكون محتملة للخطأ، أو غير محتملة، فإن كان الأول، لزم تطرق الخطأ إلى الأمور السمعية كلها، لأنه لا يمكن القطع بكون الكتاب والسنة حجة إلا بالعقل، فالقدح فى الأصل يتضمن لا محالة القدح فى الفرع، وإن كان الثانى فنقول حمل الكلام على المجاز محتمل فى جميع هذه الظواهر، وحمل الأدلة العقلية على غير مدلولها غير محتمل، فإذا تعارضا كان التصرف فى المحتمل أحق من التصرف فى غير المحتمل، فهذا القانون كاف فى دفع التناقض عن الظواهر القرآنية، ويجب ردها إليه فأما تأويل كل آية على حيالها، والجواب عما ورد من ظواهر الآى المتناقضة، فالكلام فيه طويل، وقد أفرد لها العلماء كتبا، وقد أوردها الشيخ العالم النحرير الطريثيثى فى كتابه فأغنى ذلك عن إيرادها.
الجهة التاسعة من الطعن على القرآن فى وصفه
وحاصل ما قالوه فى هذه وهى مخالفة لما(3/241)
قبلها من المناقضة، فإن تلك المناقضة فيه على زعمهم من جهة معناه، وهذه من جهة وصفه، وذلك أن الله تعالى وصف كتابه الكريم بالبيان، حيث قال تِبْياناً لِكُلِّ شَيْءٍ
[النحل: 89] وبالنور فى قوله تعالى: وَلكِنْ جَعَلْناهُ نُوراً
[الشورى: 52] وبالبراءة عن التعقيد فى قوله تعالى فَصَّلْناهُ تَفْصِيلًا (12)
[الإسراء: 12] وقوله تعالى: كِتابٌ أُحْكِمَتْ آياتُهُ ثُمَّ فُصِّلَتْ
[هود: 1] إلى غير ذلك من الآيات الدالة على أنه لا لبس فيه ولا تعقيد فى ألفاظه، وقد رأيناه على خلاف ذلك، فيجب أن لا يكون كلام الله تعالى، وإنما قلنا: إنه ليس كذلك لأمور ثلاثة، أما أولا فلأن الحروف التى فى أوائل السور من المفردة نحو ق
ون
والمثناة نحو حم*
وطس
والمثلثة نحو الر
والم
والرباعية نحو المر
والمص
والخماسية نحو حم عسق
وكهيعص
غير معلوم المراد منها، وأما ثانيا فلأن أكثر المفسرين اضطربوا فى تفسير الآيات اضطرابا عظيما، وذكروا فى كل آية وجوها مختلفة، ولا يتمكنون من القطع بتفسير واحد، والقدح فيما عداه، وأما ثالثا فلأنه لا يوجد فيه آية دالة على شىء إلا والمنكر لذلك الشىء يعارضها بآية أخرى، ويذكر لها تأويلا يمنع من دلالتها على ذلك الشىء وهذه الأمور كلها دالة على أنه فى غاية التعقيد والإبهام ينقض بعضه بعضا.
والجواب عما أوردوه أن القرآن كما وصفه الله تعالى فى غاية البيان، لما تضمنه من الحقائق، وأشير إليه من مشكلات الدقائق، واضحة جلية.
قوله الحروف التى فى أوائل السور غير مفهومة، قلنا: قد ذكر العلماء فيها وجوها كثيرة، إما أنها أسماء للسور، وإما أنها وردت على جهة الإفحام لمن تحدّى بالقرآن، وإما لغير ذلك من الأسرار، فكيف أنها لا تعقل معانيها، ويكفى وجه من هذه الأوجه فى 7 خراجها عن كونها غير معقولة المعانى.
وقوله: إن أكثر المفسرين اضطربوا فى تفسير الآيات كلها، قلنا: التفاسير المختلفة ليس يخلو حالها، إما أن تكون مشتركة فى معنى واحد، فيكون ذلك المعنى هو المقصود لله تعالى لاتفاقهم عليه، وإن لم يكن الأمر فيه كما أشرنا إليه فمن جوز حمل الكلام المشترك على كلا مفهوميه، فإنه يحمله عليهما جميعا، فيكونان مقصودين على هذا، ومن لم(3/242)
يجوز ذلك فإنه يطلب مرجحا لأحد المعنيين على الآخر، فإن وجد مرجحا حمل عليه وكان المرجوح غير مقصود لله تعالى، وإن لم يجد مرجحا وجب التوقف، وهذا لا ينافى وصف القرآن بكونه بيانا ونورا وضياء من جهة أن وصف الكتاب بالبيان لا ينافى كون بعض آياته مفتقرا إلى البيان، وقوله لا توجد فيه آية دالة على معنى إلا ويوجد فيه ما يعارض ذلك المعنى على المناقضة، قلنا: إن كان للعقل فيها حكم وتصرف فالمقصود من الآية لله تعالى هو ما طابق العقل، لأنه لا يمكن معارضة العقل فيما دل عليه، وإن لم يكن للعقل فيه حكم كان الأمر فيه على ما ذكرناه فى حكم التفاسير المختلفة، فلا وجه لتكريره.
الجهة العاشرة فى الطعن على القرآن من مخالفة اللغة العربية
وذلك من أوجه ثلاثة، أما أولا فقوله تعالى: إِنْ هذانِ لَساحِرانِ
[طه: 63] والقياس فيه إن هذين لساحران، وأما ثانيا فقوله تعالى: وَمَكَرُوا مَكْراً كُبَّاراً (22)
[نوح: 22] والقياس كبيرا، لأن كبارا لم يعهد فى لغة قريش، وأما ثالثا فلأن الهمزة واردة فى كتاب الله تعالى، وليس من لغة قريش، ووجه الاستدلال بما ذكرناه هو أن هذه الأمور الثلاثة غير واردة فى لغة قريش، والقرآن لا شك فى كونه واردا على لغتهم، لأن الله تعالى يقول: وَما أَرْسَلْنا مِنْ رَسُولٍ إِلَّا بِلِسانِ قَوْمِهِ
[إبراهيم: 4] وهو غير وارد على لغة قوم الرسول صلّى الله عليه وسلّم لما ذكرناه.
والجواب عما زعموه من وجهين، أما أولا فلأن المقاييس النحوية تابعة للأمور اللغوية، فيجب تنزيلها على ما كان واقعا فى اللغة، فإذا ورد ما يخالف الأقيسة النحوية من جهة الفصحاء وجب تأويله، ويطلب له وجه فى مقاييس النحو، ولا يجوز رده لأجل مخالفته للنحو، ولهذا فإنه لما أنكر على الفرزدق ما يأتى من العويص فى شعره المخالف لظاهر الإعراب عيب عليه فى ذلك فقال على أن أقول، وعليكم أن تحتجوا فدل ذلك على ما ذكرناه، وأما ثانيا فلأنه لو كان لحنا كما زعموا، لكان من أعظم المطاعن للعرب عليه، لكونه مخالفا لما عليه أهل اللغة العالية فلما لم يثلموا فيه شيئا دل ذلك على أنه قد طابق اللغة وأنه لا مطعن فيه بحال، قوله: إِنْ هذانِ لَساحِرانِ
[طه: 63] قلنا لأئمة العربية فيه تأويلات كثيرة قوية تخرجه عما زعمتموه من اللحن، وقوله: وَمَكَرُوا مَكْراً كُبَّاراً (22)
[نوح: 22] وقلنا كُبَّاراً
وإن لم يكن فى لغة قريش، لكنه وارد فى لغة العرب، فلا مطعن به لأنه فصيح، وإن لم يكن أفصح، فبطل ما توهموه، وقوله الهمزة واردة فى القرآن وليست من لغة قريش، والقرآن وارد على لغتهم لقوله: بِلِسانِ قَوْمِهِ
[إبراهيم: 4](3/243)
قلنا: العرب كلهم قوم الرسول صلّى الله عليه وسلّم لأنه منهم، فالهمزة وإن لم ترد فى لغة قريش، لكنهم التزموا تخفيفها، والعرب جوزوا فيها الوجهين جميعا، ومن أراد الاطلاع على أسرارها فى التفاصيل فعليه بالكتب التفسيرية، فإنه يجد فيها ما يكفى ويشفى، والحمد لله رب العالمين.
الجهة الحادية عشرة من الطعن على القرآن بالإضافة إلى ما يكون متكررا فيه
اعلم أن التكرير وارد فيه على وجهين، أحدهما أن يكون من جهة اللفظ كالذى أورده فى سورة الرحمن من قوله تعالى: فَبِأَيِّ آلاءِ رَبِّكُما تُكَذِّبانِ (13)
[الرحمن: 13] وكما ورد فى سورة القمر من قوله تعالى: فَكَيْفَ كانَ عَذابِي وَنُذُرِ (16)
[القمر: 16] وكما ورد فى سورة المرسلات من قوله تعالى وَيْلٌ يَوْمَئِذٍ لِلْمُكَذِّبِينَ (15)
[المرسلات: 15] وكما ورد فى سورة النساء من قوله تعالى: إِنَّ اللَّهَ لا يَغْفِرُ أَنْ يُشْرَكَ بِهِ وَيَغْفِرُ ما دُونَ ذلِكَ لِمَنْ يَشاءُ
[النساء: 116] فهذا تكرير من جهة اللفظ، وثانيهما أن يكون التكرير من جهة المعنى، وهذا نحو قصة موسى، وفرعون، فإنها واردة فى سور كثيرة، وكما ورد فى قصة آدم وإبليس فإنها وردت فى مواضع من القرآن، فقالوا إن هذا التكرير لغير فائدة لا يليق بما كان بالغا فى الفصاحة كل غاية فلو كان القرآن على ما قلتموه من ذلك لم يكن فيه تكرير.
والجواب من أوجه ثلاثة: أما أولا فلأن الله تعالى إنما كرر هذه القصص على جهة الشرح لفؤاد الرسول صلّى الله عليه وسلّم والتسلية له عما كان يصيبه من تكذيب قريش، فلهذا كررت القصص، وأما ثانيا فإنه إنما كرر القصص لفوائد تحصل عند تكررها وما هذا حاله فليس تكرارا فى الحقيقة وأما ثالثا فلأن الله تعالى لما تحدى العرب بالإتيان بمثل القرآن ربما توهم متوهم أن الإتيان بمثله مستحيل من جهة الله تعالى، فلا جرم كرر القصص ليعلم أنه غير مستحيل من جهته، وإنما الاستحالة كانت متعلقة بالخلق دونه، فهذه الأمور كلها دالة على جواز التكرير بمثل هذه الأغراض الحسنة، ومن وجه آخر هو أن التكرير إنما ورد لتأكيد الزجر والوعيد كقوله تعالى: كَلَّا سَوْفَ تَعْلَمُونَ (3) ثُمَّ كَلَّا سَوْفَ تَعْلَمُونَ (4) كَلَّا لَوْ تَعْلَمُونَ
[التكاثر: 3- 5] ثم إن التأكيد مستحسن فى لغة العرب، فلهذا وردت هذه التكريرات على جهة التأكيد، ولو كان ما أتى به مخالفا لأساليب العرب فى كلامهم، لكان ذلك من أعظم المطاعن لهم، فلما سكتوا عن ذلك، دل على بطلان ما زعموه من الطعن بالتكرير.(3/244)
الجهة الثانية عشرة من المطاعن على القرآن ما تضمنه من الأمور الخبرية التى هى على خلاف مخبراتها فيكون من جملة الأكاذيب،
وهذا كقوله تعالى وَلَهُ أَسْلَمَ مَنْ فِي السَّماواتِ وَالْأَرْضِ طَوْعاً وَكَرْهاً
[آل عمران: 83] ولا شك أنه ليس جميع الناس مسلمين، بل أكثرهم كافرون، فقد أخبر بما ليس صدقا، وهكذا قوله تعالى: وَلِلَّهِ يَسْجُدُ ما فِي السَّماواتِ وَما فِي الْأَرْضِ مِنْ دابَّةٍ وَالْمَلائِكَةُ وَهُمْ لا يَسْتَكْبِرُونَ (49)
[النحل: 49] ولا شك أن أكثر الناس غير ساجد لله تعالى، بل إما لأنه لا يسجد أصلا، وإما لأنه يسجد لغيره.
والجواب عما أوردوه أن ما هذا حاله من دسائس الملاحدة وكذبهم على الله تعالى، ومحبة للتحريف فى كتاب الله تعالى، وتدرجا إلى إغواء الخلق وميلهم عن الدين، بأن يأتوهم من حيث لا يشعرون، فأما الإسلام فالغرض به الانقياد لأمر الله تعالى فى التكوين والإرادة من غير مخالفة عند حصول الداعية إلى إيجاد المصلحة، وما هذا حاله فإنه يكون عاما لجميع من فى السموات والأرض من المخلوقات، أعنى الانقياد للإرادة والتكوين، وأما قوله تعالى: وَلِلَّهِ يَسْجُدُ ما فِي السَّماواتِ وَما فِي الْأَرْضِ
فالغرض بالسجود ههنا، هو الخضوع والذلة لأمره، ولما ينفذ فيه من الأقضية الواقعة على أمره، فالسجود حقيقة إنما يعقل من جهة الملائكة والثقلين، الجن والإنس، وما عداهم إنما دخل على جهة التغليب فى الخطاب، أو يكون الغرض من سجود من لا يتأتى منه السجود إنما هو الإذعان والانقياد لأوامره ونواهيه فى إيجاده وتكوينه، وتفريقه وإذهابه، فإنه لا مانع لأمره، ولا معقب لحكمه، وهكذا القول فيما يوردونه من هذه المطاعن الركيكة، والمساعى السخيفة، تجرى على نحو ما ذكرناه والذى حملهم على هذه المطاعن الركيكة هو ما هم عليه من عداوة الإسلام وأهله، فيريدون كيده بأى حيلة يجدون إليها سبيلا، ولجهلهم بالمجازات الرشيقة، والاستعارات الأنيقة التى أنكرتها طباعهم، ولم تتسع لها حواصلهم، وهكذا يفعل الله بمن لم يرد توفيقه، فنعوذ بالله من خبال العقل وتهمة الجهل.
الجهة الثالثة عشرة من المطاعن على القرآن سوء الترتيب والنظم
وهذا كقوله تعالى إِيَّاكَ نَعْبُدُ وَإِيَّاكَ نَسْتَعِينُ (5)
[الفاتحة: 5] فقدم العبادة على الاستعانة وكان من حقه العكس، من جهة أن الاستعانة هى نوع من الألطاف، ومن حقها التقدم على الفعل، لأنها داعية إليه.
وكقوله تعالى: وَكَمْ مِنْ قَرْيَةٍ أَهْلَكْناها فَجاءَها بَأْسُنا
[الأعراف: 4] كان الأحسن فى الترتيب، وكم من قرية جاءها بأسنا فأهلكناها، ومن حق ما يكون معجزا أن يكون(3/245)
حاصلا على الانتظام العجيب، فوروده على هذه الصفة لا محالة يقدح فى إعجازه.
والجواب عن قوله تعالى: إِيَّاكَ نَعْبُدُ
أنه إنما قدم العبادة على الاستعانة من جهة أن الاهتمام كان من أجل العبادة، فلهذا قدمها لأن العبادة من جهتهم، والإعانة إنما هى حاصلة من جهته، فكأن الذى يكون من جهته حاصل لا محالة غير متأخر لقوة الداعية إليه، بخلاف الذى يكون من جهتهم، فإنه ربما وقع، وربما لم يقع، فمن أجل ذلك كانت العناية بتقديم العبادة أعظم، ومن وجه آخر، وهو أن تقديم الوسيلة ربما كان أدخل فى إنجاح المطلوب وأسرع إلى تحصيله.
فأما قوله تعالى وَكَمْ مِنْ قَرْيَةٍ أَهْلَكْناها
[الأعراف: 4] فقد ذكر المفسرون فيها وجوها، إما على أن التقدير فيها «وكم من قرية أردنا إهلاكها فجاءها بأسنا» فالعطف لمجىء البأس إنما كان على الإرادة، وهى سابقة لا محالة، وإما على أن التقدير، وكم من قرية أهلكناها فحكمنا بمجىء البأس بعد الإهلاك، لأن الحكم بمجىء البأس لا يكون إلا بعد وقوعه وحصوله، وإما على أن الإهلاك ومجىء البأس فى الحقيقة أمر واحد، وحقيقة واحدة يجوز تقديم أحدهما على الآخر من غير ترتيب بينهما، وعلى هذا تقول: وكم من قرية أهلكناها فجاءها بأسنا، وكم من قرية جاءها بأسنا فأهلكناها، فلا يعقل بينهما ترتيب، لما كانت حقيقتهما واحدة، كما تقول سرت إلى السوق فجئته وجئت السوق فسرت إليه، فالقرآن الكريم لا يخلو عن هذه اللطائف والأسرار الجارية على القوانين الإعرابية، والأسرار الأدبية، بحيث لا يخالفها من تفطن لها منه وأخذها أخذ مثلها مع استيلائه على حقائق هذين العلمين علم المعانى وعلم البيان.
الجهة الرابعة عشرة من المطاعن على القرآن كونه موضحا للأمور الواضحة،
وهذا كقوله تعالى: فَصِيامُ ثَلاثَةِ أَيَّامٍ فِي الْحَجِّ وَسَبْعَةٍ إِذا رَجَعْتُمْ تِلْكَ عَشَرَةٌ كامِلَةٌ
[البقرة: 196] هذا حاله فهو جلى لا يحتاج إلى بيان، لأن الثلاثة إلى السبعة، هى عشرة أعداد لا محالة، فقوله تِلْكَ عَشَرَةٌ كامِلَةٌ
خلو عن الفائدة، وما هذا حاله فإنه لا يليق بما كان معجزا، ثم إذا كان بهذه الحالة فكيف زعمتم أنه تؤخذ منه الأسرار الدقيقة، وتستنبط منه المعانى الغريبة فما هذا حاله فى الكلام لا يكون خليقا بما ذكرتموه.
والجواب عما أوردوه من أوجه ثلاثة، أما أولا فلأن الإيضاح والبيان مقصدان من مقاصد الفصاحة والبلاغة، وقد تكلم علماء البيان فيهما جميعا، وأنهما مما يزيد الكلام(3/246)
حسنا، ويكسبانه رشاقة، فكيف يكونان معدودين من آفات الكلام ورذائله، فما هذا حاله فهو جهل بمواقع البلاغة، ومحاسن الفصاحة، وهما أيضا معدودان من أنواع البديع، أعنى المبالغة فى البيان والإيضاح، ويعدون ما كان غريبا وحشيا، فيه عنجهانية، ومن الكلام المجانب لمحاسن الفصاحة، وأما ثانيا فلأن ما هذا حاله فإنه يستحسنه الكتاب وأهل العلم بالحساب وهو أنهم إذا ذكروا عددين، ثم ضموا أحدهما إلى الآخر، فلا بد من ذكر تلك الجملة، التى يؤولان إليها عند اجتماعهما، ويسمون ذلك الفذلكة، فإذا قال: عندى له عشرون، وثلاثون، وخمسون، قال: فالجملة مائة كاملة، فما ذكروه جهل بهذه المقاصد وعدم إحاطة بما اشتملت عليه الأسرار القرآنية من المحاسن التى تفطن لها الأذكياء، وتقاعد عن فهمها الأغمار الأغبياء، وأما ثالثا فلأن المعيب بالإيضاح، إما أن يكون هو ذكر العشرة بعد ذكر السبعة، والثلاثة، فهذا خطأ قد ذكرنا وجهه على العلم بالأمور الحسابية، وإما أن يكون العيب بالإيضاح هو قوله عشرة كاملة، فإنه لا فائدة فى ذكر الكمال، فهذا خطأ أيضا، فإنه إنما ذكر الكمال اعتناء بصومها وحتما على عدم التفريق بينها، ولو أطلق وصف العشرة من غير وصف الكمال، لتوهم جواز الفصل بينها عند العودة إلى الأهل، ويجوز أن يكون أتى بها على جهة التأكيد المعنوى، كقوله تعالى: فَإِذا نُفِخَ فِي الصُّورِ نَفْخَةٌ واحِدَةٌ (13)
[الحاقة: 13] وقوله تعالى: فَدُكَّتا دَكَّةً واحِدَةً (14)
[الحاقة: 14] فإن ذكر الوحدة إنما كان على جهة التأكيد من جهة المعنى بالصفة، ولو أوفوا النظر حقه لما عولوا على هذه الأنظار الركيكة، والمقاصد الفاسدة.
الجهة الخامسة عشرة من الطعن على القرآن بالإضافة إلى المقصود منه؛
وحاصل ما قالوه أن الغرض بالقرآن إنما هو هداية الخلق وتعريفهم الأحكام الشرعية، والتفرقة بين الحلال والحرام، وإعلامهم بما يجوز على الله، وما يجب، وما يستحيل، إلى غير ذلك من المقاصد العظيمة، والمنافع الجزلة، وهذا إنما يحصل إذا كان كله محكما يفهم المراد من ظاهره، لكن قد تقرر اشتماله على الأمور المتشابهة التى قصد بها خلاف ظواهرها فلو كان المقصود به هداية الخلق وإعلامهم بأحكام الأفعال العملية، لكان يجب أن يكون كله محكما، فلما ورد فيه المتشابه دل على أنه المقصود منه ليس هداية الخلق لأنه صار سببا للزلل، ومنشأ لضلال من يضل من الفرق، وأكثر ضلال أكثر الفرق، ما كان إلا من جهته، ولا وجه لذلك إلا الخطاب بالمتشابه.(3/247)
والجواب أن الله تعالى لم يجعل كتابه الكريم حاصلا على جهة الإحكام، ولا على جهة المتشابه مطلقا، وإنما خلطه بالمحكم مرة، وبالمتشابه أخرى، فقال تعالى: مِنْهُ آياتٌ مُحْكَماتٌ هُنَّ أُمُّ الْكِتابِ وَأُخَرُ مُتَشابِهاتٌ
[آل عمران: 7] وما ذاك إلا من أجل فوائد نذكرها بمعونة الله تعالى.
الأولى الدعاء إلى النظر والحث عليه فى القرآن العظيم للمحق والمبطل، جميعا، فأما المحق فيزداد بالنظر قوة وانشراحا فى صدره، وسعة فى أمره، بإبطال الشبهة، وتجلى الحق له، وأما المبطل فلأنه بطول تأمله ربما زال عن باطله ورجع إلى الحق، فلو كان جميعه محكما لم يحصل هذا الوجه، لأن المحكم إنما يكون بالتنصيص عليه، وما كان حاصلا بالنص لا يفتقر إلى تأمل ونظر.
الفائدة الثانية أن القرآن إنما كان مشتملا على المحكم، والمتشابه، لأن ذلك يدعو الناظر إلى الميز بينهما، وفصل أحدهما عن الآخر، فإذا فعل ذلك دعاه إلى التمييز فى أدلة العقول بين الحق والباطل، وهذه فائدة عظيمة لا يخفى موقعها، فيكون نظره فى متشابه القرآن ومحكمه على جهة الإرهاص لأدلة العقل، ويميز الحق عن الشبهة فيها.
الفائدة الثالثة أن القرآن إذا كان مخلوطا بالمحكم والمتشابه، فإن ما هذا حاله يدعو إلى مراجعة العلماء ويعرف جليلة ذلك من جهتهم، ومجالسة العلماء ومحادثتهم هو زيادة فى الدين وتحفظ عليه، فيرتد عن العمى، ويسترشد إلى الهدى، ولهذا ودد الشرع تأكيدا لذلك حيث قال: جالسوا العلماء تعلموا.
الفائدة الرابعة أن القرآن إذا كان غير وارد بالأمرين جميعا، أعنى المحكم والمتشابه، كان أقرب إلى الاتكال على الحمل على ظاهره، بخلاف ما إذا ورد مجموعا من الأمرين، فإنه يكون أقرب إلى ترك التقليد، إذ ليس اتباع المحكم أولى وأحق من اتباع المتشابه، فإذا كان لا ترجيح هناك بالإضافة إلى التقليد، وجب إهماله والاتكال على النظر المخلص عن ورط الحيرة بالتقليد.
الفائدة الخامسة أن الله تعالى إذا كان يعلم أنه إذا خلط محكمه بمتشابهه، ازداد الثوب والأجر بكثرة النظر وإتعاب الفكرة جاز له تعريضهم لذلك فيصلون بذلك إلى درجات لا تنال إلا بالنظر، فهذه الفوائد كلها حاصلة فيما ذكرناه من الخطاب بالمتشابه وإذا كانت حاصلة بطل قولهم: إنه لا غرض لله تعالى فى الخطاب بالمتشابه.(3/248)
الجهة السادسة عشرة فى الطعن على القرآن بكونه مستبهما لا يعقل معناه
. وبيانه أن الصحابة رضى الله عنهم، وهم الغواصون على علوم القرآن، والمحيطون بعلوم الشريعة، كانوا عاجزين عن إدراك حقائقه وتفاصيلها، فإذا كانوا عاجزين فغيرهم أعجز، وإنما قلنا إنهم قد عجزوا عن إدراك معانيه، لما روى عن أمير المؤمنين كرم الله وجهه: أنه لما سأله ابن الكواء وكان أحد أمرائه عن قوله تعالى: وَالذَّارِياتِ ذَرْواً (1)
[الذاريات: 1] غضب عليه، فلما ألح عليه، قال: هى الرياح، وعن أبى بكر أنه امتنع عن التفسير، وأما عمر فروى أنه سئل عن قوله تعالى: وَالنَّازِعاتِ غَرْقاً (1)
[النازعات: 1] فضرب السائل على أم رأسه، وحرم كلامه فكلامهم هذا فيه دلالة على أن معانيه غير معقولة، وأنها غير مدركة لأحد من العقلاء، وهذا يبطل المقصود به ويحط من إعجازه.
والجواب عما زعموه هو أن الصحابة رضى الله عنهم أعرف بكتاب الله تعالى وأكثر إحاطة بعلوم السنة، ومنهم تؤخذ أسرارها، وعنهم تصدر جميع الأحكام والأقضية فى مصادر الشريعة ومواردها، والقرآن والسنة فى أيامهم غضان طريان، لقربهم من الرسول صلّى الله عليه وسلّم ومشافهتهم له بأحكام الوقائع كلها، ولسنا نبعد أن يتعذر عليهم الإحاطة ببعض دقائق القرآن وأسراره، ويختص الله تعالى بالعلم بها ورسوله، ولكنا نقول: إن أكثر معانى القرآن حاصلة فى حقهم يعرفونها ويفتون بها ويفصلون الخصومات والشجار الحاصلين بين الخلق، بما يفهمونه من عمومات القرآن وظاهره، فأما ما عرض من أمير المؤمنين من الإنكار وغيره كأبى بكر وعمر فإنما كان ذلك إذا كانت الرواية صحيحة لأحوال عارضة وما أفتوا به وعملوا عليه أكثر مما سكتوا وتوقفوا فيه، وكيف لا وقد قال أمير المؤمنين: سلونى قبل أن تفقدونى، فو الله إنى بطرق السماء لأعلم منى بطرق الأرض، وقال الرسول صلّى الله عليه وسلّم «أنا مدينة العلم وعلى بابها، فمن أراد المدينة فليأتها من بابها» «1» ، فمن هذا حاله فى العلم كيف يقال إنه غير محيط بأسرار كتاب الله تعالى وغير مشتمل على تفاصيلها فبطل ما توهموه.
الجهة السابعة عشرة من الطعن على القرآن من جهة فائدته؛
وحاصل ما قالوه هو أن المقصود بالقرآن إنما هو إظهار الدلالة على نبوة الرسول صلّى الله عليه وسلّم ودلالته على ذلك ليس إلا من(3/249)
جهة كونه خارقا للعادة مطابقا لدعواه، ولا شك أن الفعل الخارق للعادة لا يدل على النبوة، ولهذا فإنه يحكى عن ابن زكريا المتطبب الرازى أنه قال: إن رجلا كان يتكلم من إبطه فجاءنى يوما يشكو علة به فمازحه بعض جلسائى، وقال قل للصبى يشكو، فرد يده إلى إبطه وشكا إليه بكلام، كأنه كلام إنسان رقيق الصوت به علة، وهو كلام مفهوم، ثم إن أحدا لم يفعل ذلك، ثم إن ما هذا حاله غير دال على نبوته، وحكى ابن زكريا أن رجلا كان لا يأكل الطعام سبعة وعشرين يوما، ومثل هذا خارق للعادة، ولا يكون دالا على النبوة، فهكذا حال القرآن وإن خرق العادة، لا يكون دالا على نبوته عليه السلام.
والجواب عما زعموه أن ما ذكروه إنما يتقرر الجواب عليه إذا فرقنا بين المعجزة، والشعوذة، والتفرقة بينهما إنما تليق بالمباحث الكلامية، وقد فصلنا ذلك تفصيلا شافيا، فأغنى عن الإعادة، فأما ما قالوه من الكلام فى الإبط، فإنما كان الأمر كذلك من إحداث الأصوات المقطعة المتولدة عن الاعتمادات على الاصطكاك، فلا يمتنع إذا أدخل يده فى إبطه أن يضغط على شىء من الأصابع على كيفية مخصوصة، فيتولد الصوت المقطع عن الاعتماد، كما تقول فى هذه الألحان الطيبة، والأوتار الموترة على تأليف مخصوص فإنه يحصل منها تقطيعات عظيمة، تكاد أن تلحق بالقراءة لمكان تقطيعها وحاصل هذه الأمور كلها أنها مفتقرة إلى الآلات بحيث لا يمكن حصولها إلا بها، بخلاف ما ذكرناه من المعجزات الباهرة فإنها غير مفتقرة إلى الآلة، ولهذا فإن انقلاب العصا حية، ما كان بحيلة، ولا بإعمال قوة، ولا بأدوات، ولا بتحصيل آلات كما يفعله أهل الشعوذة، ومن كان ماهرا فى دقائق الحيل كأصحاب النّيرنجات وأهل الطلسمات فإنهم يعملون الحيل فى مزج قوى الجواهر لتحصل منها أمور غريبة وهذه هى النيرنجات كما يفعله أهل خفة اليد، وأما الطلسمات فحاصلها مزج القوى الفعالة السماوية بالأرض المنفعلة الأرضية، كنقش خاتم عند طلوع كوكب، فيحصل من استعماله على أمور غريبة، وكل ذلك لابد فيه من إعمال القوى وكد الحواس فى استخراج قوانينه واستنهاض غرائبه، فأما المعجزات السماوية فمما لا يحتاج فيها إلى استعمال شىء من الأشياء لكونها قد وقعت على وجه أدهش العقول، وحير الألباب، واضطرها إلى معرفة صدق من ظهرت عليه من غير كلفة ولا مشقة هناك، إلا ما كان من الجحود والعناد، فأما ما يحكى ممن كان لا يأكل الطعام أياما كثيرة، فذلك إنما كان من جهة الرياضة وقد حكى عن هذا الرجل فى ذلك بعد ما(3/250)
امتحنت قوته بجذب قوسين، فقال إنما كان هذا من أجل الاعتياد والرياضة، والغرض أنه ألفه وراض نفسه بترك الطعام قليلا قليلا حتى صار إلى هذه الغاية، والرياضة تقضى بأكثر من هذا المقدار.
الجهة الثامنة عشرة فى الطعن على القرآن بعدم الثمرة فيه،
وحاصل ما قالوه هو أن الله تعالى إنما أنزل القرآن منة عظيمة على الخلق، وتعريفا لهم بما كلفهم من التكاليف الشرعية، وعلمهم فيه من الحلال والحرام، والأمر والنهى، وغير ذلك من سائر التكاليف، وهذا غير حاصل من جهة العباد، وبيانه هو أن القدرة غير صالحة للضدين، وإذا كان الأمر كذلك كان الفعل واجبا، فلا يتناوله التكليف بحال أصلا، ثم إن سلمنا أنها صالحة للضدين، فلابد من تحصيل الداعية لاستحالة حصول الفعل من غير داع، ثم إذا حصلت الداعية، فإما أن يجب الفعل أولا يجب، فإن لم يجب، احتاج إلى مرجح آخر، فيتسلسل إلى ما لا غاية له، وهو محال، وإما أن يجب الفعل عند حصول الداعية، وعند هذا يجب الفعل، ويبطل التكليف، وعلى كلا الوجهين يكون الفعل واجبا، فلا يتناوله التكليف، بل تكون الأفعال كلها من جهة الله تعالى، ولا يتعلق فعل بالعبد، وفى ذلك بطلان التكليف وطى بساطه، وفى هذا بطلان ثمرة القرآن وإبطال الغرض الذى أنزل من أجله.
والجواب عما أوردوه من هذه الشبهة هو مبنى على قاعدة الجبر، وفيه بطلان الأمر والنهى، والوعد والوعيد، وإرسال الرسل، وبطلان المدح والذم، وما هذا حاله فبطلانه معلوم بالضرورة.
قوله القدرة غير صالحة للضدين، قلنا: إذا كانت غير صالحة فإنها موجبة لمقدورها، وفيه وقوع المحذور الذى ذكرناه من بطلان الشرائع والأمر والنهى، وإبطال إرسال الرسل إلى غير ذلك، من الشناعات، فيجب القضاء ببطلانه.
قوله إن سلمنا كونها صالحة للضدين فلابد من الداعية وهى أيضا موجبة للفعل، قلنا:
هذا فاسد أيضا، فإن الداعى غير موجب للفعل أصلا بالإضافة إلى القدرة، وإنما هو موجب للفعل بالإضافة إلى الداعى، ومثل هذا لا يبطل الاختيار، وكل هذا يليق استقصاؤه بالمباحث الكلامية، والقواعد الدينية، فإنه من أهم مقاصدها، وأعلى مراتبها، فإذا تقرر ذلك من ثبوت الاختيار للعبد، بطل ما قالوه من أن القرآن لا ثمرة له.
الجهة التاسعة عشرة من المطاعن على القرآن من جهة كتبه فى المصاحف؛
قالوا: روى(3/251)
أن الصحابة رضى الله عنهم اختلفوا فى كتبه فى المصاحف اختلافا شديدا، وزيف كل واحد منهم مصحف الآخر وأنكره، وفى هذا دلالة على أنهم على غير حقيقة فى نقله، وعلى غير ثقة من أمره، فاشتهر أن عثمان حرق مصحف عبد الله بن مسعود فى خلافته، وقال ابن مسعود: لو تملكت كما ملكوا لصنعت بمصحفهم مثل ما صنعوا، وكان ابن مسعود يطعن فى زيد بن ثابت ويذمه، حتى قال: إنه قرأ القرآن وإنه لفى صلب كافر، يعنى «زيدا» وروى ابن عمر أن عمر وضع القرآن فى مصحف وهو المصحف الذى كان عند «حفصة» وهو الذى أرسل مروان، وهو والى المدينة إلى عبد الله بن عمر يوم ماتت «حفصة» يطلب ذلك المصحف منه، فبعث ابن عمر به إليه، فأمر بإحراقه مخافة الاختلاف، فما ذكرناه دال على تفرقهم فيه، واختلافهم فى حاله، وأنه غير متواتر النقل ولا مقطوع بأصله.
والجواب أن المصاحف المشهورة ثلاثة، مصحف ابن مسعود، ومصحف أبى بن كعب، ومصحف زيد بن ثابت فأما ابن مسعود فإنه قرأ القرآن بمكة، وعرضه على الرسول صلّى الله عليه وسلّم هناك، وأما أبى بن كعب، فإنه قرأه بعد الهجرة وعرضه على الرسول صلّى الله عليه وسلّم فى ذلك الوقت، وأما زيد بن ثابت فإنه قرأه على الرسول صلّى الله عليه وسلّم بعدهما وكان عرضه على الرسول صلّى الله عليه وسلّم متأخرا عن الكل، وكان آخر العرض قراءة زيد، وبها كان يقرأ رسول الله صلّى الله عليه وسلّم، وبها كان يصلى إلى أن انتقل إلى جوار رحمة الله تعالى، ومن المعلوم أنه كان يقرأ الآية الواحدة فى الصلاة بالأحرف المختلفة، فلما كان الأمر كما قلناه: اختار المسلمون ما كان آخرا، وكان ذلك اختيار رسول الله صلّى الله عليه وسلّم، واختيار الله له، فلما كان ابن مسعود أقدم الثلاثة كان السامعون لحرف عبد الله أقل من السامعين لحرف أبى بن كعب، والسامعون لحرف أبى أقل من السامعين لحرف زيد، ولا شك أن الحرف الواحد كلما كان أكثر استفاضة كان أحق بالقبول، فلأجل ذلك اتفقوا على حرف زيد لما ذكرناه، ثم إن سائر الحروف وإن كانت صحيحة، خلا أنهم خافوا من وقوع الاختلاف فى الروايات للقرآن، ويخرج القرآن عن أن يكون منقولا بالتواتر، فرأو بعد ذلك أن الأصوب حمل الناس على ذلك الحرف، ومنعهم عن القراءة بسائر الأحرف لئلا يكون القرآن فى محل الخلاف، ثم إن بعضهم رأى قراءة القرآن بسائر الأحرف وهى القراءات الشاذة، ولا مضرة فيه، ومنهم من منع من ذلك، فلأجل ذلك تكلم بعضهم فى مصحف الآخر، وذلك مما لا(3/252)
يقضى بالقدح فى أصل القرآن، فصار الذى فى أيدى القراء السبعة فى زماننا هذا، هو حرف واحد وهو المتواتر، وما عداه فإنه باقى الأحرف السبعة التى نزل القرآن بها، وهو الشاذة المنقولة بالآحاد، وقد ذكرها المفسرون وتكلموا على معانيها، فبطل بما ذكرناه، ما وجهوه فى هذه الشبهة على القرآن بحمد الله.
الجهة العشرون من المطاعن على القرآن من جهة قصوره؛
وحاصل ما قالوه هو أن القرآن قد دل ظاهره على أن الجن والإنس لا يأتون بمثله كما قال تعالى: قُلْ لَئِنِ اجْتَمَعَتِ الْإِنْسُ وَالْجِنُّ عَلى أَنْ يَأْتُوا بِمِثْلِ هذَا الْقُرْآنِ لا يَأْتُونَ بِمِثْلِهِ وَلَوْ كانَ بَعْضُهُمْ لِبَعْضٍ ظَهِيراً (88)
[الإسراء: 88] وما ذلك إلا لعلو شأنه وارتفاع قدره ومكانه، ثم إنا نرى فيه مالا يليق بهذا الوصف من وجهين، أحدهما: أنه خال عن أكثر المسائل الكلامية، نحو مسألة الحيز، والخلاء، وحقيقة الحركة والسكون، والزمان، والمكان، وعلوم الحساب، والهندسة والطب، وعلم النجوم إلى غير ذلك من المسائل الدقيقة، وثانيهما أنا نراه خاليا عن أكثر المسائل الشرعية، كدقائق علم الفرائض والوصايا، والحيض، والقراض، والمساقاة، والإجارة، والاستيلاد إلى غير ذلك من المسائل الفقهية، والأسرار الشرعية، وقد قال تعالى: ما فَرَّطْنا فِي الْكِتابِ مِنْ شَيْءٍ
[الأنعام: 38] .
وقال تعالى: وَلا رَطْبٍ وَلا يابِسٍ إِلَّا فِي كِتابٍ مُبِينٍ (59)
[الأنعام: 59] وما ذكرناه يناقض هذا العموم ويبطله.
والجواب عما زعموه أن القرآن لم يدل بظاهره على اشتماله على كل العلوم فيكون طعنا عليه، فأما قوله تعالى: وَكُلَّ شَيْءٍ أَحْصَيْناهُ فِي إِمامٍ مُبِينٍ (12)
[يس: 12] وقوله تعالى:
وَلا رَطْبٍ وَلا يابِسٍ إِلَّا فِي كِتابٍ مُبِينٍ (59)
[الأنعام: 59] وقوله تعالى: ما فَرَّطْنا فِي الْكِتابِ مِنْ شَيْءٍ
[الأنعام: 38] فإن المراد به اللوح المحفوظ، ثم إنا نقول: الغرض بهذه العمومات هو ما يحتاجه الخلق فى إصلاح أديانهم من العلوم، وما هذا حاله فإنه قد تضمنه القرآن، إما بظاهره، وإما بنصه، وإما من جهة قياسه، وكله دال عليه القرآن من هذه الخصال التى ذكرناها، وليس فى هذا إلا أن العموم مخصوص، وهذا لا مانع منه، فإن أكثر(3/253)
العمومات الشرعية مخصوص، إلا عمومين، أحدهما قوله تعالى: وَما مِنْ دَابَّةٍ فِي الْأَرْضِ إِلَّا عَلَى اللَّهِ رِزْقُها
[هود: 6] وثانيهما قوله تعالى: وَهُوَ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمٌ (29)
[البقرة: 29] وما عداهما عمومات مخصوصة، فإن هذه العمومات إنما تتناول ما يتعلق بأحوال المكلفين دون من سواهم، فهذا ما أردنا ذكره من الكلام على هذه المطاعن وفيها كثرة، ومن أحاط علما بما ذكرنا، هان عليه إبطال ما يرد عليه من ذلك ثم أقول معاشر الملاحدة الطاعنين فى التنزيل، الحائدين عن جادة الحق والمائلين عن سواء السبيل، ما دهاكم، وما الذى اعتراكم، أنى تؤفكون، ما لكم كيف تحكمون، زعمت الملاحدة العماة، الراكبون فى الضلالة كل مهواة، أن الحق ما زينته كواذب الأوهام، وأن الباطل ما قامت عليه واضحات الأعلام، استحسانا لترجيحات الأوهام والظنون، وما لهم به من علم إن هم إلا يظنون، ولو اتبع الحق أهواءهم لفسدت السموات والأرض ومن فيهن بل أتيناهم بالحق فهم عن ذكرهم معرضون، تالله لقد عدلوا عن الارتواء من نمير سلساله، وحادوا عن الكروع من بارد زلاله، ونكصوا عن التفيؤ فى ممدود ظلاله، فماذا عليهم لو آمنوا بالله وصدقوا بمحكم فرقانه، واستضاءوا فى ظلم الحيرة بشعاع شمسه ونور برهانه، ولكن لووا رءوسهم صادين، وشمخوا بآنافهم مستكبرين، ونفخ الشيطان فى مناخرهم وألقاهم فى الضلالة، ومهاوى العماية، عن آخرهم، فيا لله الملاحدة، ضل سعيها، ما تنقم منا إلا أن آمنا بآيات ربنا لما جاءتنا، وأكذبنا أمانى الشبهات حين استهوتنا، وأنسنا أنوار المعرفة فاتبعناها، وشمنا بوارق الهداية فانتجعناها، وقلنا واثقين بالله: إنّ هدى الله هو الهدى، وما لنا أن لا نتوكّل على الله وقد هدانا سبلنا، وبلغنا من عرفان الحقيقة أملنا، يا حسرة عليهم، حين تنقطع عنهم أسباب الأهواء المحرفة، وتسلمهم الأضاليل المزخرفة وَيَوْمَ يُنادِيهِمْ فَيَقُولُ أَيْنَ شُرَكائِيَ الَّذِينَ كُنْتُمْ تَزْعُمُونَ (74) وَنَزَعْنا مِنْ كُلِّ أُمَّةٍ شَهِيداً فَقُلْنا هاتُوا بُرْهانَكُمْ فَعَلِمُوا أَنَّ الْحَقَّ لِلَّهِ وَضَلَّ عَنْهُمْ ما كانُوا يَفْتَرُونَ (75)
[القصص: 74- 75] ، اللهم اشرح صدورنا بكتابك الكريم لمعرفة حقائقه، وثبتنا عن الزلل فى مسالكه ومداحض مزالقه، ونور بصائرنا بالاطلاع على لطائفه، وأشحذ عزائم أفئدتنا(3/254)
للاستكثار من مزيد عوارفه، وأعنا على إدراك دقائق أسراره ومعانيه، وقونا بألطافك الخفية على إحراز مغاصات درره ولآلئه، فننعم فى رياضه، ونكرع فى موارده وحياضه حتى نلقاك بوجوه مسفرة، ضاحكة مستبشرة، فائزين بجوارك فى دار مقامك، مبتهجين بعفوك ظافرين بإكرامك، ونعوذ بك أن نكون من التاركين لذكره، وأن نكون ممن رفضه وجعله وراء ظهره، فنرتد فى الحافرة، ونرجع بصفقة خاسرة، واختم أعمالنا بالخاتمة الحسنى، ووفقنا لإحراز رضوانك الأسنى، إنك على كل شىء قدير، وبالإجابة حقيق جدير، ولا حول ولا قوة إلا بالله العلى العظيم.(3/255)