مُصطفى خضر
ديوانُ الزُّخرفِ الصغيرُ
وبآخره نصٌ للجنون
- شعر -
من منشورات اتحاد الكتاب العرب
1997
تصميم الغلاف للفنانة : وجدان ديركي
( كُتبت قصائد هذه المجموعة بين
عامي 1992 - 1996).
ماعدا النص الذي كتب معظمه نثراً
تحت عنوان (نصّ للجنون) في عام 1990،
وأعيد النظر فيه صيف 1995).
((
( الإهداء
إلى السيدة :
سهام حمود كنعان؛ أمّ ميلاد.
أوّل المكان
سمَّ باللهِ على هذا المكانِ العربيّْ
فهو الأكثرُ خيراً وبهاءً
منذ آرامَ وآشورَ وأكادَ وفينيق وسومرْ!
ذهبٌ ينضجُ في قبتهِ، أغصانُ ماسٍ وجمانْ
وعلى تربتهِ زوجانِ كانا يعملانْ
ومنَ الزوجينِ كانتْ أمةٌ تخلفُ،
كانتْ سورٌ تُتلى، وتُنشرْ..
وأنا كائنُها الأولُ من ماءٍ وطينْ
متُّ من قبلُ، ومن بعدُ، لأبعثْ!
سمِّ باللهِ على هذا المكانِ العربيّْ
كلُّ ما فيهِ حضورٌ آدميّْ
تحملُ الأرضُ به، يولدُ، يحيا، ويورَّثْ..
كائناتٌ حرةٌ، سبعةُ أنهارٍ، فضاءٌ،
مدنٌ سبعٌ بناها الماءُ،
... والشمسُ تربي العالمينْ!
*
سمَّ بالله على هذا المكانِ العربيّْ
وابتدىء فيه حواراً أبدياً بين شكٍ ويقينْ!
(((
جنون آخر للسرد
كلُّ شيء قابلٌ للسَّردِ:
إعلامٌ وأفلامٌ، حدودٌ وسجونٌ،
سنداتٌ وأحتفالاتٌ، ديونٌ وشعاراتٌ..
مماليكُ من الفضةِ، أنسابٌ من الطينِ وأسرى أمبراطوريّة...
ألقابُ حكامٍ توشيها نياشينُ من القشِ..
مديحٌ لطباعِ الماسِ.. حربُ الجوعِ.. جوعُ الحربِ..
والمسرحُ تعلو رتبٌ فيهِ، ويحلو لعبُ!
نكراتٌ تتآوى وشخوصٌ وظلالٌ.. مسرحٌ يضطربُ!
*
ربما ينتظرُ المخرجُ أن يخلوَ بالنص قليلاً،
ثمّ يغتالُ المؤلفْ!
ربما يقترحُ النوعَ الذي يقتسمُ الأدوارَ،
إذْ ضاقَ بأهواءٍ الشخوصْ!
ربما يفتقرُ الآنَ إلى ذاكرةٍ تلهمهُ في كل موقفْ
ويرى أي احتمالٍ رغبةً.. فوضى.. خليطاً من نصوصْ!
ربما يبحثُ ما بين مجازٍ ومجازٍ عن فضاءٍ لحداثهْ!
ويرى في حبكةٍ فاسدةٍ وضعاً شحيحاً وهزيلاً ومملاً..(1/1)
ربما يختصر الأبطالَ والجوقةَ في اثنينِ، ثلاثهْ..
قبل أن تختلطَ الصالةُ: جمهوراً وتمثيلاً وإيماءً وقولاً..
ربما يلغي شخوصاً وحواراً ونشيدا..
قبلَ أن يعترَض الراوي على الدور الذي يلعبهُ التاريخُ
أو تفسدَ تلك الفرحةُ المضطربه!
ربما يبدو لهُ الصمتُ مهماً ومفيدا..
*
ما الذي يفعلهُ المخرج إذ ضقتُ بدورٍ
ضاقَ بي، ثم كسرتُ الخشبهْ!
ليس في العرضِ إذاً ما يدهشُ الآنَ، ويُبهجْ!
إنما المخرجُ يلهو، يتسلى..
وأنا كنتُ وحيداً وحدةَ النصِ،
غريباً غربةَ العرضِ..
وكنتُ المتفرجْ
بينما تختلطُ الفرجةُ بالحربِ التي أهزمُ فيها
بين أبطالٍ وقتلى!
***
كلُّ شيء قابل للسردِ!
والشِّعر الذي يُكتمُ، يُعلَنْ
والفتى ماتَ بداءٍ الشعرِ؛ ما دوّنَ منهُ، أو يُدوَّنْ!
ربما يبتدىءُ المشهدُ بالنثرِ؛
فتلهو امرأةٌ هاربةٌ من لحمها؛
تصغي لأوجاعِ زبونٍ باغتتْ عيناهُ عينيها،
ورنَّ المعدنُ النادرُ مثلَ الفحلِ...
كانتْ شبكاتٌ وأنابيبُ وأسلاكٌ، وآلاتٌ..
شرايينُ وأعصابٌ.. فحومٌ وشحومْ
تزحمُ المشهدَ، والنصُّ يعومْ!
*
هذه المادةُ للفتنةِ في المشهدِ!
هذا عالمٌ يمتلكُ الجسمَ الذي يمتلكُ الروحَ،
وللسرد جنونٌ آخرُ!
ومفاتيحُ وديكورٌ... فضاءٌ وتخومْ..
مدخلاتٌ.. فجواتٌ.. مشهدٌ آخرُ
للأنثى التي تُلقحها صاعقةٌ،
ثم تزفُّ الصاعقة
عتباتٍ ومهوداً وأسرّهْ
وعلى سرتها شمسٌ أشاعتْ مدناً أولى،
أفاءتْ بين كفيها وعولٌ وأيائلْ
وإلى الثديينِ يأوي سربُ أطفالٍ،
وفي العينينِ قدّاسُ سنابلْ
ومن الفرجِ الذي ضوأ بالفطرةِ
ينبوعٌ ونهرٌ وجداولْ..
وأنا العاشقُ وهي العاشقة
بيننا تنضجُ بذرهْ
تنتمي الآن إلى تربةِ آرامَ وبابلْ
برهةٌ فيها لحبٍ ولميلادٍ، لحلمٍ، لمسرّةْ
عصفتْ بالعاشقينِ الحالمينِ المتعبينْ
منذُ فينيقَ وآشورَ وأكادَ وعيلامَ وسومرْ
تنحني آلهةٌ من مطرٍ فيها لشعبٍ من مطرْ
وتضمُّ الرافدينْ
في عيونٍ من مطرْ!
***
كلُّ شيءٍ قابلٌ للسردٍ:(1/2)
هذا مشهدٌ أولُ، ثانٍ..
ما الذي يجمعُ بين المشهدينْ؟
والفتى يغلبهُ الداءُ، ويدعوهُ إلى أرضٍ وفطرهْ!
كلُّ شيء واضحٌ كالنثرِ؛
للتاريخُ أنقاضٌ، وللأنقاضِ روحٌ كالنهارْ
وأنا أدخلُ في التجربة الآنَ!
وللروحِ سلالاتٌ وأنسابٌ،
سجلاتٌ من الآجرِ،
أعمالٌ من الفخارِ،
شعبٌ أرختهُ مكتباتٌ من غضارْ!
وأراني في احتفالاتِ عصافيرَ من التربةِ،
أصحو بين أشجارِ رخامٍ وعظامٍ وغبارْ..
وأسمّي بشموسٍ تملأُ الشرق المقدَّسْ!
وأريدُ الآنَ أن يتئم كرمٌ، ويفورَ العرسُ بالخمرِ،
وأن تُخصبَ أمّاتٌ،
وأن تزكوَ أرضٌ بإناثٍ وقبابٍ وبيوتْ..
وأريدُ الآنَ أن يبتسمَ الوالدُ للأمِ،
وأن يضحكَ طفلٌ لحليبٍ ورغيفٍ وثمارْ..
وأريدُ الآنَ أن أحيا!
وللمتعةِ أقواسٌ، بها يغتسلُ اللحمُ المدنَّسْ!
*
مشهدٌ أولُ.. ثانٍ.. وأعاني
فرحاً يخفقُ كالينبوعِ،
مثلَ القمحِ أنمو في خطا طفلٍ،
وفي بستانِ ليلِ الشرقِ أغرسْ!
وأنا أنضجُ مثلَ الخبزِ في كفَ عروسٍ،
حملتْ، إذ لقحتْ في ليلةِ العيدِ،
بمولودٍ ملاكٍ لا يموتْ!
بيدٍ تمسح أعضائي، تنميني، وألعبْ
وتسوّيني فتياً وقوياً ورقيقاً..
كيف لا أحيا إذاً كلّ الحياةْ!
وأحبُّ الحبَّ كلهْ
إذْ أرادتني محبّاً ودليلاً ورفيقاً..
وأنا ما زلتُ أُصلبْ!
***
كلُّ شيء قابلٌ للسردِ!
هل أقوى على نسيانِ تاريخٍ من الشرقِ،
وللأرضِ ينابيعُ تقودُ الحربَ،
أنهارٌ تمطتْ في سراويلِ ضفافْ
وعذارى من شعاعٍ بين أثلامٍ من التربةِ،
فتيانٌ، سيوفٌ وأهلهْ
وخيولٌ وغمامٌ ويمامٌ وخرافْ..
فمتى أحلمُ بالمعنى،
وللشاعر أن يخلوَ بالرؤيا،
وأن يكتشفَ الآنَ لرؤياهُ طريقا..
***
كلُّ شيءٍ قابلٌ للسردِ، أو للنقضِ..
تحتَ الأرضِ، فوقَ الأرضِ..
هذا مشهدٌ للرفضِ..
هذا مشهدٌ أولُ، ثانٍ، ثالثٌ..
مسرحنا ضاقَ بأبطالٍ وأدوارٍ وأشخاصٍ،
بجمهورٍ ونصٍ ورواةٍ وحوارٍ وحواةْ!
كانَ فيهِ قمرٌ أسودُ جزءاً من إضاءهْ
كشفتْ في منحنى الجسمِ أقاليمَ،(1/3)
استعارت نخلةً، سيفاً، كتاباً وعباءهْ..
والفتى ينذرُ بالسوقِ، التي ينذرهُ المصرفُ فيها،
إذْ هوى المسرحُ، وأنهار.. تهدمْ!
وانتهى السردُ الذي أنتجهُ،
والصوت يُكتمْ!
*
كلُّ شيءٍ قابلٌ للفرجةِ الآنَ!
وهذا مشهدٌ أولُ، ثانٍ.. وإلخِ..
والفتى ماتَ بداءِ الشعر في حاضرِهِ!
ولهُ أن يصمتَ الآنَ، ويهزمْ!
****
كلُّ شيءٍ قابلٌ للسردِ، يحلو، يُختصرْ
وأريدُ الآنَ أن أفرحَ بالشعرِ،
وأن أفتتحَ الآنَ نشيداً عربياً
منذُ آرامَ وآشورَ وأكادَ وفينيقَ وسومرْ
تنحني آلهةٌ من مطرٍ فيهِ لشعبٍ من مطرْ!
وتضمّ النيلَ، تأوي في عيونِ الرافدينْ!
*
كلُّ شيءٍ بينَ بينْ
كلُّ شيءٍ قابلٌ للسردِ: نصٌ، مسرحٌ،
حربٌ وإخراجٌ وتصديرٌ وإنتاجٌ،
رواياتٌ وأبطالٌ.. شخوصٌ من حجرْ!
كلُّ شيءٍ مُنتظرْ!
(((
قصيدةُ الزخرف
(قصيدة في أربع حركات)
1- مديح أول لأنثى الشرق
هذه سيدةٌ من حجرٍ، تخرجُ!
في طلعتها نحلٌ كثيرٌ يضطربْ
قلبها من حنطةٍ تنبضُ، تجنيها عصافيرُ اللعبْ
وإلى الثديينِ يأوي طفلها،
يغفو، ويصحو، ويثبْ...
هذه السيدة الخضراءُ، عذراءُ الجهاتْ
وعروسُ التربةِ الأولى، وأمُّ الجمهراتِ التائههْ
نهضتْ مثقلةَ الشعر ندى أو فاكههْ
والخطا تخضرّ بالماءِ، فيخضرٌّ طريقٌ ونباتْ
هذه وارثةٌ كبرى، ونارُ الشجرهْ!
حجرٌ أم خشبٌ؟ سنبلةٌ أم ثمرهْ؟
قبةٌ للنحلِ كانتْ، قبلةً منتظرهْ..
لمَ لا أولدُ، أحيا، وأحبّْ
وأنا من حجرٍ يدنو، وينأى بين عينيها،
يتيماً أتجلى، ووحيداً أحتجبْ
فأرى ما لا يرى في كلمهْ
وفضائي دونتهُ آلههْ
ورواهُ السحرةْ!
*
فلأحاول أيَّ معنى في الجسدْ
ولأحاولْ هذه الرؤيا التي لما تزلْ منقسمةْ!
ولأحاولْ جسداً يخرجُ من أعضائهِ،
تاريخهُ من تربةٍ تنمو، فينمو متَّحدْ
وهو يحيا، فيعاني... يتحولْ!
ولأحاولْ هذه الأرضَ التي كانتْ تعاني، وتضيقْ..
ما الذي تنجبهُ بعد رمادٍ ونثارٍ وحريقْ؟
كل شيءٍ يتناهى، يتبدلْ!
غسقٌ، قبرٌ جماعيٌ، عظامٌ، مستحاثاتٌ،(1/4)
خلايا، سنبلاتٌ من دمِ، طينٌ عتيقْ..
كلُّ شيء ينحني فيها، ويذهلْ
بعد أهوالِ الحريقْ!
جبهةٌ للأبِ، ثديُ الأمِ، وجهُ الطفلِ،
ماءُ العينِ، أوراقُ الكتابهْ
فخذٌ من فضةٍ، عذرةُ قمحٍ، سرةُ الماءٍ، سريرٌ كوكبيْ
طائرٌ من حطبٍ، نطفةُ نارٍ، طرقٌ، رعدٌ وبرقٌ وبريقْ..
وأنا هشَّمني وقتي،
وضيّعتُ الأدلاءَ، فضيعتُ الطريقْ!
آهِ من وقتي، ومن زادِ الطريقْ!
شهوةُ الشعر انتهتْ بين جنونٍ وخطابهْ..
*
هو ذا الشرق الذي يجمع، منذوراً ومسحوراً، أثاثهْ
هو ذا الشرق، الذي ألغى تخومَهْ
لم يزلْ يدعو إناثهْ
لحضورٍ ذكريٍّ وغيابٍ أنثويْ
هو اذا الشرقُ الذي يطمسُ في السرّ أو الجهرِ تراثهْ
بعد أن يحتفلَ الجمعُ بماءٍ وفروجٍ وثديّْ!
ويلبي الروحَ: روحَ الشعبِ، روحَ النبعِ، نبعَ الروحِ،
روح السحرِ، سحرَ الروحِ، أو روح الأمومهْ!
فانتظر في بابلَ الأنثى التي أهّلتِ الفطرةَ والبذرةَ،
إذْ أهلتِ التربةَ والعصفور والينبوع والضفة والنهر..الخ
ثم كان الشعر مثل السحرِ والسحرُ كمثلِ الشعرِ..
كانت برهةٌ فيها تكاثرنا كمثل الملحِ..
إذ كرّمتِ الخلق بشرقٍ آدميٍّ وإلهٍ آدميّْ!
غيرَ أن الوقتَ ضدُّ الشعرِ:
الأنثى الإلههْ
وقوى الأرض التي شفتْ، وحلّتْ في متاههْ!
كلٌّ شيءٍ سلعٌ تطفو، ويطفو زبدٌ فوق الزبدْ!
ولأجربْ أن أرى طوفاننا الآخرَ..
هل يبقى أحدْ؟
*
امتدحْ خلقاً جديداً، وامتدحْ هذا الجسدْ!
جسدٌ يخرجُ من أعضائهٍ عريانَ إلا من دمٍ
تاريخهُ آلهةٌ من حجرٍ أو من خشبْ...
امتدحْ نسلَ دماغٍ معدنيّْ
ربما أعلنهُ فقهُ الحداثهْ
أمبراطور رمادٍ أو ذهبْ!
*
كلُّ شيءٍ هو ضدُّ الشعرِ:
تاريخُ القنانهْ
ونضوجُ الديكتاتورياتِ، تلقيحُ النفاياتِ، نظامُ الفضلاتْ
دولٌ تغلي بأرقامِ الولادات وأرقامِ الوفياتِ،
محطاتٌ، طقوسٌ ورموزٌ.. شبكاتْ!
رغبةُ التسعيرِ والتصديرِ، إفلاسُ التقانهْ!
مشيخاتٌ وإماراتٌ.. حروبٌ، فلسفاتٌ..
نظرياتٌ وشعرٌ.. قيمٌ في سلةٍ للمهملاتْ..(1/5)
بورجوازيونَ للبيعِ وصرافونَ، تجارٌ، مغنّونَ،
وأعضاءٌ من المعدنِ، نفطٌ..
وقوى صاعدةٌ، هابطةٌ.. مصطلحاتٌ. هندساتْ..
دبلوماسيونَ من حبرٍ، عبيدٌ، نخبٌ، دولارُ نثرٍ،
سلطةٌ، آلهةٌ منفيةٌ، سوقٌ وثرواتٌ،
عباداتٌ وأنسابٌ، قصورٌ وبيوتْ..
ثورةٌ، مؤتمراتٌ، طبقاتْ..
كائنٌ يحيا وحيداً، كائنٌ حيٌّ يموتْ!
*
هذه السلطة للنثرِ إذاً، كانتْ تقامْ!
كلُّ شيءٍ هو ضدُّ الشعرِ:
تشكيلُ نظامٍ عالميٍ، ونظامْ
ملتقى الأمراضِ، تاريخٌ جماعيٌ قديمٌ وحديثْ
اقتصادْ وسياساتٌ.. مجاعاتٌ وإعلامٌ خبيثْ
فرضياتٌ وعريٌ وحلولٌ واختباراتٌ وجنسٌ...رأسمالٍ وطنيّْ
وعروضٌ وتفاعيلُ وديوانُ خطابٍ بربريّْ!
وأراني حالماً، مختلفاً بين مقامٍ ومقامْ
وأراني عالماً ينشر ضدّه
وأرى سيدةً من حجر بين إناثٍ من حجرْ
والفتى يرعى نقوشاً دونتها الشمسُ، أحياها المطرْ!
هذه السلطةُ للنثرِ إذاً، للنثرٍ وحدهْ!
*
هكذا أحيا لأدهشْ!
وأرى.. ماذا أرى؟
آهِ مما لا أرى!
كلُّ شيءٍ ينتهي من داخلٍ، يخلو، يشوشْ!
كلُّ شيءٍ ينتهي مثلَ غبارٍ أو نثارْ!
هذه سيدةٌ من حجرٍ أو من غضارْ
مهرةٌ طالعةٌ، نحلةُ بيتٍ، نخلةٌ عاليةٌ،
تخضرُّ، أخضرُّ، ويخضرُّ رواقٌ وجدارْ..
هي جمهوريتي الأولى، ومأوى لصغارٍ وكبارْ!
ربما يحتفلُ الشعر بعينيها، بثدييها، بزنديها،
بكفيها، بفخذيها... ويدعوهُ حضورٌ مبتكرْ!
ما الذي يفعلهُ الشعر لأرضٍ تحتضرْ؟
والفتى من حجرٍ، يخلو بأنثى من حجرْ!
*
آهِ، لو أني حجرْ!
2- مديح ثانٍ لأنثى الشرق
هذه سيدةٌ من حجرٍ، تخرجُ
في طلعتها نحلٌ كثيرٌ يضطربْ
وبها يفتتحُ الرؤيا حوارٌ ولعبْ!
***
عتباتٌ حملتني للجذورْ:
عروةٌ ممفيس للنيلِ، وعمريتُ بذورْ
ومن البحرِ جناحانِ لصيدا ولصورْ..
كلُّ تلكَ الأبجدياتِ تفورْ!
كرخامٍ قمريٍ بعلبكْ
نينوى قربانُ صلصالٍ، وفي تدمرَ أجزاءُ ضحايا ونذورْ
جذوةٌ بابلُ من طينٍ، وقرطاجةُ حقٌّ من بخورْ..(1/6)
فانتظر في بابلَ الأنثى التي تسعى، وترعى كائناتْ!
هل هو الشرقُ الذي لا يمتلكْ؟
مدنٌ بحريةٌ، نهريةٌ، تجري، فيجري النيلُ
في الأردنِ، أو دجلةَ، يدعوه الفراتْ
وأنا تلبسني الأنثى التي ألبسها شهوةَ خلقٍ،
بين آجرٍ وفخار وأحجارٍ وطينْ!
لمَ لا أبعثُ ما بين قديمٍ وجديدْ
وبأرضٍ بُسطتْ كنتُ أسميّ، أستعينْ؟
أهو الشرقُ الذي يحجبه عصرُ جليدٍ وحديدْ!
كلُّ شيء هو للبيعِ: جماعاتٌ وأحجارٌ، فصولٌ وطلولْ
كائناتٌ من إناثٍ وذكورْ
وحضورٌ في غيابٍ، كغيابٍ في الحضورْ!
كلُّ شيء ينحني الأسلافُ والأحفادُ فيهِ،
يتجلى الشكُّ فيهِ باليقينْ!
كلُّ شيءٍ ينحني ميتاً، وهذا الشرقُ بيتْ
ينحني، تخرجُ من أعضائهِ آلهةٌ من حجرٍ أو من خشبْ!
بعد رؤيا من لهبْ!
آهِ من ميتٍ وميتٍ!
هل أسمي ميتةَ الكائنِ يقظة
وأسمي غيبةَ الكائنِ لحظهْ
وأراها فكرةً تحبسُ فكرهْ!
ما الذي يولدُ في هذا الحريقْ؟
بذرةٌ، ماءٌ، دمٌ، نارٌ وفطرهْ..
أيُّ صوتٍ؟ أيّ معنى؟ أيّ تيهْ
أيُّ وقتٍ لسياسيٍ عريقْ!
أيُّ وقتٍ لوليٍ وفقيهْ!
*
فلأحاول أن أرى المعنى الذي ينمو، يربيه جسدْ!
ولأحاول لغةً تنمو، فينمو متّحدْ!
يطلعُ التاريخُ من أعضائهِ، بعد لقاحٍ وولادهْ
ويؤاخي حجرٌ فيه البذورْ..
ولأجربْ أن أرى.. ماذا أرى؟
برهةٌ كانت لطفلٍ وضمادٍ وقماطْ
ثم كانتْ لحروبٍ وإبادهْ..
ثم كان الشعر، والشعر إلى الأرضِ يُخاطْ
ثم كانتْ كلماتٌ تتلوى، وتعاني، وتثور!
*
كل شيءٍ هو ضدُّ الشعرِ:
وجهٌُ وقناعٌ ونهوضٌ وانحطاطْ
كائناتٌ، نكراتٌ وشخوصْ
وعباراتُ حوارٍ وخطابٍ ونصوصْ..
كلُّ شيء هو ضدُّ الشعرِ:
فحلٌ، مستبدٌّ، وبغيٌّ، وخصيّْ..
ما الذي تفعلهُ بعض التفاعيل لشرقٍ عربيّْ؟
ما الذي تفعلهُ ضدَّ بغاةٍ ورعاةٍ وطغاةٍ ولصوصْ؟
تطعمُ الجائعَ من سنبلةٍ جفّتْ،
وتكسو عارياً من بردةٍ رثتْ،
وتسقي ظامئاً من دمعةٍ شحّتْ،
وتلك الجمهراتُ احتشدت جوعى وقتلى..
خلفّ أرضٍ من رمادٍ وسماءٍ من رمادْ!(1/7)
كيف تهديها الصراطْ؟
*
.. ولأجربْ أن أرى الشرقَ الذي كنتُ وريثهْ!
تظلمُ الرؤيةُ فيهِ، يظلمُ اللحمُ، يبادْ
بين طينٍ عربيٍ وفضاءٍ معدنيّْ!
أيُّ معنى يرثُ اللحمُ المهشَّمْ
والسلالاتُ التي تحيا لتعدمْ
انتمتْ، ثم اهتدتْ، ثم انتهتْ، لم تتأخرْ
وحدها، لم تتقدمْ!
أيّ معنى يرثُ الكائنُ في رؤيا حديثهْ
ربما تغلقُ باباً لخلاصٍ دنيويّْ
وأنا لم أتغيرْ!
*
هكذا أحملُ قرباني، وأجثو لرمادٍ ملكيّْ
وألبي، وأصلي.. فلتحلَّ البركهْ
ولتعرسْ عتباتٌ آدميّهْ!
خمرةٌ، خبزٌ وملحٌ، نهرُ أطفالٍ وفتيانٍ..
وأسرابُ صبايا.. وحجيجٌ في المكانْ!
معبدٌ ينهضُ، آجرُّ دمٍ، عرسُ دمٍ،
شمسُ دمٍ تصحبٌ أنثى الحيوانْ..
يطلعُ التاريخُ من أعضائهِ الأولى الخفيهْ..
من قناةٍ طُمستْ، من فحمِ قدّاسٍ، ومن خاتمِ رملٍ...
من كسورِ وعقودٍ ملكيّهْ!
يطلعُ التاريخُ من قلبِ وريثٍ حجريّْ
من كوى قمحٍ، ومن أحشاءِ صلصالٍ، ومن جزءِ نواةٍ أو خليهْ..
يطلعُ التاريخُ من مقبرةٍ في مقبرهْ
ولتكنْ مقبرةً مشتركهْ
صعدتْ منها أثينا، ثم روما..
صعدَ الغربُ من الشرقِ!
فهل يبتدىءُ الشرقُ من الغربِ حوارهْ؟
يطلعُ التاريخُ من محرقةٍ أو محبرهْ
من دمٍ يجري، ومن ماءٍ العبارهْ!
*
كلّ تلكَ الأمكنهْ
قوةُ الأفكارٍ فيها..
كلُّ تلك الأزمنهْ
هجرةُ الأحياءٍ فيها..
رسلٌ، آلهةٌ، جلجلةُ، بيتٌ عتيقٌ، جامعٌ،
شعرٌ ونثرٌ ورسالاتٌ.. إله أحدُ
وترابٌ وهواءٌ.. فيزياءُ.. كيمياءُ.. وحضارهْ!
كلُّ تلكَ الأمكنهْ
لم تزلْ تشهدُ فيها الأزمنهْ!
كيف لا يُبعثُ فيها الجسدُ؟
يطلعُ التاريخ من بابلَ أوبكةَ، من طيبةَ أو صورَ،
ومن سورةِ بغدادَ، ومن سفرِ دمشقْ
يطلعُ التاريخُ من غربٍ وشرقْ!
***
هذه الشمسُ إذاً لما تغبْ
خلفَ رؤيا لم تزلْ مُنقسمهْ!
فانتظرْ في بابلَ الأنثى التي تنضجُ، تحلو، وتضيءْ
وانتظرْ في بابلَ الأنثى التي تأتي، ولا تأتي..
وفي وقتٍ حديثٍ وجريءٍ وبريء
برهةٌ كانتْ لخلقٍ ولعبْ!(1/8)
ولتحاولْ أن ترى المعنى..
فماذا سترى؟
هل ترى الوقتَ البديلْ؟
أترى ما لا يُرى في كلمهْ؟
يطلعُ التاريخُ من جوف الثرى
فتلكنْ /أنتَ/ الدليلْ!
3- سيرة حجرٍ أول
حجرٌ أم كائنٌ ينمو، فتنمو كلماتْ
حجرٌ ينضجُ فيهِ كوكبٌ أخضرُ، يصحو،
إذ صحتْ ذاكرةٌ فيهِ، وكانتْ كائناتْ..
حجرٌ كالطفلِ يلعبْ
وكعذراءَ من الضوءٍ، كبركانٍ مذهَّبْ
شكلتْ أعراقهُ شمسٌ، وأحيتهُ سورْ
سورٌ تُقرأُ، تكتبْ
سورٌ ربّتْ قناديلَ من الفخارِ، جمعاً من دمٍ،
أوراقَ صلصالٍ، وجوهاً ونقوشاً، حجراتْ
حجراتٍ منذ آرامَ وآكادَ وآشورَ وفينيقَ وسومرْ
حجراتٌ لم يزلْ للنورِ فيها شرفةٌ أولى
وللشرقِ كوى أو عتباتْ..
لم تزلْ أنثاهُ تجلوها، تعدْ
لم يزلْ يوجزها ماءٌ، فتحلو، وتلدْ
ثم تجري مهرةً من ذهبٍ،
تدنو، فتنأى.. تُنتظرْ!
أهي أنثى من حجرْ
بذرةٌ أولى أفاقت أم خليهْ؟
نخلةٌ، زيتونةٌ، مشكاةُ بيتٍ، وقمرْ
قمرٌ كان فتى تنقرُ عينيه طيورُ الأبديهْ!
أهي أنثى نزفت، واعتدلتْ، ثم استجابت للنهرْ
نهرٌ من حجرٍ بين إناثٍ من حجرْ
وذكورٍ من حجرْ!
آهِ! هل يبقى من الشرقِ سوى هذا الحجرْ!
*
حجرٌ أم أبجديهْ
يهتدي صوتي إليهِ الانَ!
كمْ كانَ قوياً ذلك الصوتُ الإلهيُّ!
وكم كان بسيطاً، واضحاً، مشتركاً..
أكثرُ من زرعٍ ومن حرثٍ ومن ماءٍ نما فيهِ..
وكانتْ مدنٌ بحريةٌ، نهريةٌ،
تفرحُ بالأيدي التي تمتلكُ الكرمةَ والينبوعَ والقمحَ،
وكانتْ تربةٌ رقتْ، وشفّتْ عن إناث الحيوانْ!
وجرتْ أماتُها واضحةً، غامضةً، بين مكانٍ ومكانْ...
وجرى خيرٌ كثيرٌ لا نهائيٌّ
جرتْ روحُ نهارٍ لا نهائيّ مبينْ
وفضائي كلهُ من أرجوانْ!
وأراني بينَ جمع الحاضرينَ الغائبينَ الحالمينْ!
وعليَّ الآنَ أن أحيا، وإن متُّ،
وأن أبعثَ في البذرةِ، والماءُ دليلي الأزليّْ
وعليَّ الآن أن أصغيَ للصوتِ القويّْ
وأنا من مادةٍ أولى صليبٌ بابليٌّ، وهلالٌ بدويّْ!
*
آهِ! ماذا يفعلُ التاريخُ بالبيتِ الذي يعرفني منذ الصِّغَرْ؟(1/9)
ما الذي تفعلهُ بالطفلِ أرضٌ من مطرْ؟
لمَ لا يكتملُ الجسمُ، وهذا الشرقُ يدعوهُ بنوهْ
لحوارٍ دنيويٍّ وسلامٍ دنيويّْ!
*
هذه أمكنةٌ لم تتغيرْ
منذ آرام وآشورَ وأكادَ وفينيقَ وعيلامَ وسومرْ
أنحني فيها على أجزاءِ وجهٍ ووجوهْ
أسندُ التاريخَ بالأنقاضِ في أرض الحجرْ!
وأنا الوجهُ الذي هُشِّمَ مثلهْ!
*
حجرٌ أمْ متَّحدْ
هل أسميهِ فضاءً
ويسميني الجسدْ!
جسدٌ قُرِّب له
برعمٌ أو سنبلهْ..
يولدُ الكائن فيهِ،
ثم يبني منزلهْ!
جسدٌ أم حجرٌ، أم آيةٌ مكتملهْ!
حجرٌ أم كائنٌ؟
نسلٌ، سلالاتٌ، مياهْ..
وأنا فيهِ أم الآخرُ؟
هل كنتُ وحيداً أم كثيراً؟
ومن الغائبُ فيهِ؟ ومن الحاضرُ؟
للماءٍ قوى أولى، وللحلمِ قواهْ..
وأراني، وأراهْ
عالماً تبعثهُ أنقاضهُ، يَغلبُ، يُغْلبْ...
*
هذه الأرضُ كمثلِ الكلمهْ
ينتهي فيها ترابٌ، برعمٌ، قمحٌ وكوكبْ
ينتهي ماءٌ، هواءٌ، وأشعهْ
هذه الأرضُ التي تأخذني آخذُها،
بين شهودٍ وشهادهْ
تنتهي مضطرمَةْ!
كلُّ شيءٍ لا نهائيٌّ، نهائيٌّ... حياةٌ وولادهْ!
*
حجرٌ أم كائنٌ أنمو معهْ
حجرٌ أم ذكرٌ.. أنثى وماءْ!
أيّها الشرقُ الذي أنمو بهِ، يا ابن الحجرْ!
كيف لا يكتملُ الجسمُ بأرضٍ وسماءْ!
*
آهِ، لو أني حجرْ!
4- أنشودة الجسم الحجريّ
ما الذي يمتلكُ الروحَ؟
وهل كانَ الفتى من حجرٍ حقّاً؟
وكيفَ امتلكتهُ، وحدهُ، أنثى الحجرْ؟
ما الذي تفعلهُ أنثاهُ في صمتٍ،
فينحلُّ شعاعاً من حجرْ؟
جسمها يقطر بالماءٍ، وللينبوعِ في الثديين عروهْ
غيمةٌ تهطلُ، ناقوسُ ندى، قبةُ شهوهْ..
نخلةٌ يثقلها الطلُّ، إذا توجها إكليلُ شمسٍ ومطرْ!
جسمها من لغةٍ في حجرٍ للسالفينْ
دونتهُ هجرةٌ أولى، وهجرهْ..
هجرةٌ واضحةٌ، غامضةٌ، مختلفهْ..
وانتمى بالشكِ وجهٌ لليقينْ
نبذتهُ، جذبتهُ المعرفهْ
وانتهى أرضاً وفكرهْ
بينما يستكشفُ الجسمُ رمادهْ!
*
هكذا يبتكرُ الفخذانِ أقواساً من الشهوةِ،
حلّتْ، ونأتْ، واضطربتْ مؤتلفهْ..
كيف لا تحلو الولادهْ!(1/10)
كائنٌ يلبسُ آخرْ
ينحني، يأوي إليهِ الماءُ، ينمو، يتكاثرْ...
أهو الجسمُ أم الماءُ؟
دمٌ أمْ شرنقهْ؟
تلتقي الأنهارُ والأفكارُ فيهِ، وسلالاتُ فروعٍ وينابيعُ..
برايا وفجاجْ..
وبذورٌ وطيورٌ ومصابيحُ وأختامُ ترابٍ وزجاجْ...
معبدٌ، أعمدةٌ، أجنحةٌ، نورٌ، قبابٌ، أروقهْ...
أهوَ الماءُ الذي صار كثيراً
بعد أن كانَ وحيداً وصغيراً!
أهو الماء أم الجسمُ،
وفيهِ ملتقى من زخرفٍ أو من ذهبْ
لم يزلْ يرعى بنيهِ!
هل أكنّيهِ بأرضٍ عسلتْ سرتُها خضراءَ،
أو كوّرتِ الثديين من قمحٍ
وبطناً من زبيبٍ أو رطبْ!
هل أكنيهِ؟ أكنّي أمّةً محترقهْ!
*
أهو الجسمُ أم الفكرةُ؟
آهٍ، هذه مائدةٌ للماءٍ كانتْ،
واستوتْ، وابتكرتْ من واحدٍ أو واحدهْ!
ثمّ رقَّ الجسمُ كالماءٍ، جرى بين اليدينْ!
فجواتٌ واحتمالاتُ، إشاراتٌ وتجريبٌ، بياضٌ وتخومْ..
ثم شفَّ الجسمُ عن أرضٍ، عن الأرضِ التي شفتْ جسومْ
وجرتْ كلُّ المياهْ
واهتدى غيثٌ إلى فرجِ الحياهْ
بين ثديينِ وفخذينِ وساقينِ ونارٍ خالدهْ!
علّهُ يغسلُ ماءَ القدمينْ!
***
أهو الجسمُ أم الكرمةُ؟
فيها أتأمتْ كلُّ الكرومْ!
كرمةٌ أخصبها قطفٌ، تجلتْ في قمرِ
وهي من مملكةِ الينبوعِ، من روحِ النهرْ..
كم نمتْ في حجرِ الروحِ، وكم صلى لعينيها، لثدييها،
رعاةٌ وبداةٌ ودراويشُ.. وغنى حالمونْ
ووحوشٌ وبغاةٌ وطغاةٌ طيبونْ!
وأراها.. شرّقتْ، أو غرّبتْ.. بعد غياب وسفرْ!
كرمةٌ تنضجُ، إذ أسقتْ نديماً، وأوتْ في دمهِ،
تسلمهُ الروحَ، ولما تغتصبْ!
تفضحُ العنقودَ في برهةِ سكرٍ،
وهي من نسلِ العنبْ!
آهٍ من برهةٍ سكرٍ ولهبْ!
آهِ من نارِ الحقبْ!
آهِ من غيمةِ عريٍ وغيومْ!
كلما ضقتُ بسري نبذتني خمرةٌ،
تشربني بين هدوءٍ وغضبْ!
وأنا أصغي إلى الجسم الذي يسكنهُ غيري،
وبي يقرؤهُ، يكتبهُ فيما كتبْ!
شهوةُ الأعضاءِ للأعضاءِ فيهِ، للتعري، للخصابْ
لم يزلْ يلقحهُ تاريخهُ خلفَ لباسٍ وقناعٍ وخضابٍ وحجابْ!
أيُّ جسمٍ من حجرْ!(1/11)
أيُّ جسمٍ مثقلٍ، طاغٍ، حنونْ!
وحدهُ يخرجُ من قافلةِ الأنقاضِ أنثى من حجرْ..
وأنا يعصف بي عشقٌ قديمٌ، لا نهائيٌ، مجونْ
وبي الشعرُ انتظارٌ لجنونٍ و جنونْ!
*
كلُّ شيءٍ يجعل الشعر وحيداً، غامضاً، مضطربا:
تاجٌ من الياقوتِ، إيوانٌ من الفضةِ،
ديوانٌ من الرقشِ أو النقشِ،
سماءٌ من قوى حالمةٍ أو غاشمهْ...
كلُّ شيء يجعلُ الشعر بعيداً، ضائعاً بين المداخلْ:
سلطةٌ من حجرٍ تهوي، تماثيلُ، هياكلْ..
غربةُ التشبيهِ والتمثيلِ، تخييلٌ، مجازٌ ومجازْ..
فكرةٌ غائبةٌ، حاضرةٌ، كاملةٌ، منقسمهْ
ودياناتٌ،مصحاتٌ، رساميلُ، بنوكُ
وجماعاتٌ من القمح أو الملحِ، شعوبٌ، جنرالاتٌ،
دراويشُ، بهاليلُ، رعايا وملوكْ..
دولٌ من ورقٍ، أرضٌ من الموتى، وموتُ بامتيازْ!
هذه البرهةُ للشعر إذاً
لما تزلْ دائمةً... للصلبوتْ!
طلعتْ عشتارُ أو مريمُ فيها، وأطلتْ فاطمهْ
وأنا وحدي مع الشعر أغني، كي أموتْ!
*
أهوالشرق الذي يسجنهُ الزخرفُ،
إذ دجنهُ المتحفُ..
هل يفرحُ أم يجزعُ؟ هل يخدعُ أم يخضعُ؟
والشمسُ التي تحفظهُ تملاُ قلبَ الأمكنهْ!
فليكنْ للسحرِ وقتٌ آخرُ
وأنا الغائبُ، وهوالحاضرُ!
لم يزلْ في نينوى مكتبةٌ أولى،
وفي بابلَ مثوى رقمٍ أو جسدٍ..
من دمِ تموزَ أضاءتْ مئذنهْ
واهتدى وجهي إلى وجهِ الحسينْ
وأنا تخفقُ روحي مثلَ عصفور الحجرْ!
وأنا الشاهدُ في برهةِ عشقٍ والشهيدْ!
واهتدى الشرقُ إلى نجمتهِ الأنثى، أوالنجمِ الذكرْ
وتآوينا، تقاربنا معاً، مختلفينْ!
*
أيُّ تاريخٍ أعانيهِ إذاً؟ أيةُ شهوهْ؟
ما الذي يفعلهُ السحرُ؟ وماذا يفعلُ الشعر بنا؟
لابدَّ من موتٍ، ومن بعثٍ قريبٍ أو بعيدْ
وموادُ الروح رخوهْ!
***
ضاقَ بالمعنى فضاءْ
كلّهُ يحتجبُ
ولدتْ فيهِ عبارهْ
بين رمزٍ وإشارهْ
وانحرافٍ وخفاءْ!
أيُّ كشف يُستضاءْ
وتضلُّ العربُ!
ما الذي يضطربُ؟
زخرفٌ أم لعِبُ؟
***
كلُّ أنثى حملتْ من قبلُ، من بعدُ، أراها..
كنتُ في السرِ، أو الجهرِ، فتاها..(1/12)
لم تزلْ تنجبني في كلّ جسمٍ دنيويّْ
خبرتْ كوكبهُ، أمسِ، فتوحُ الآدميّينَ،
وإشراقاتُ صوفيينَ، أهوالُ محبينَ...
وفيهِ الاحتمالاتُ: فيوضٌ وخيالٌ وتضادٌ وضلالٌ
وعباراتُ حضورٍ، وامتلاءٌ بغيابٍ، وانتشاءْ...
منذ أن حولَّهُ التاريخُ نصّاً للفجيعهْ!
*
أيُّ سحرٍ يجعلُ الجسمَ الذي يتلفُ كالأشياءِ، خبزاً...
ومن المفردِ جمعاً،
ومن الكائنِ رمزاً...
وهو التربةُ والماءُ!
هو الروحُ التي تلبسُ جسمَ الروحِ أو جسمَ الطبيعهْ!
هذه سنبلةٌ تنبضُ، أو تنهضُ،
كانتْ وحدها الخبزَ، وصارتْ كالحياةْ!
لم تزلْ تنضجُ بالمعنى، تُزفُّ الأرضُ فيها للسماءْ!
حلَّ فيها ملتقى الأرزاقِ والأفكارِ،
ميراثُ الجماعاتِ، جنون الشعراءْ!
***
كيف لا أبتدىءُ التشكيكَ والتفكيكَ من سنبلةٍ أو من حجرْ؟
ما الذي يمتلكُ الروحَ؟
وللشرقِ، الذي يمتلكُ التاريخَ، أنقاضٌ تتوَّجْ!
والفتى من حجرِ يخلو بأنثى من حجرْ!
*
أيها الوقتُ المضرجْ:
ما الذي يبقى لمن يحيا إذاً، كي يُحتضرْ!
*
آهِ، لو أني حجرْ!
(((
رباعيات الزخرف
-1-
منذ آشورَ وأكادَ وفينيقَ وعيلامَ وسومرْ
كانتِ الأنثى..
وألقى بمنيٍّ ذكرٌ، والشرقُ أخضرَْ!
كان قداسٌ، وصار الجسمُ أكثرْ
لمَ لا يكثرُ فيهِ وارثوهُ، ثم يكبرْ!
-2-
كانتِ الشمسُ تربي كائناتِ من غضارْ
كان تاريخٌ من التربةِ يصحو بين أوراقِ غبارٍ وحجارْ!
عالمٌ تغرسُ فيه الروحُ خضراءَ، ويخضرُّ فضاءٌ بانتظارْ..
ما الذي ينتظرُ العالمُ؟
هل يسعى بأحفادٍ من الماءِ، يلبيهِ صغارٌ وكبارْ!
-3-
ربما يحتفلُ الشرقُ بأنثاهُ، وتخضرُّ طلولْ
هي مأوى لعرافاتٍ، ومثوى لكهاناتٍ، وهجراتٌ تطولْ
أرختها شرفاتٌ وينابيعُ، عظامٌ ونقوشٌ وأصولْ
كيف لا يحتفلُ الشرق بفرسانٍ،
ويزهو بدروعٍ وسيوفٍ ورماحٍ وخيولْ!
-4-
كانتِ الأرضُ التي تنجبني تغفو،
وتصحو بين عينيَّ، وتحلو في يديّْ
عرفتْ بعضَ جنوني، وأنا أحنو عليها، بينما تحنو عليّْ
وحضوري كانَ فيها كغيابي الآدميّْ(1/13)
ربما ضاقتْ بإشراقي السماويِّ
وما ضاقتْ بموتي الدنيويّْ!
-5-
لم تكنْ عشتارُ ترعاني، ولم تحملْ بي العذراءُ،
لم تقبلْ بموتي فاطمهْ..
غير أني قسمتني فئةٌ باغيةٌ أو غاشمهْ
ثم كانتْ رؤيتي فاتحةً أو خاتمهْ!
ضاقَ بي جسمٌ، وكانتْ عترتي ظالمةً أو آثمهْ!
-6-
هل يشيعُ الصمتُ إذ ماتَ الكلامْ
ثم كانتْ سلطةٌ تكتشفُ اللذةَ في جمهرةٍ تصغي إليها،
وتنامْ!
سلطةٌ للبطلِ الأولِ في معركةِ أولى،
تلبيها تفاعيلُ احتفالاً بمقالٍ ومقامْ!
أهي حربٌ، وتخاضُ الآنَ من أجلِ السلامْ؟
-7-
هذه الحربُ انتهتْ من قبلُ، من بعدُ،
فهل أَقتِلُ،أُقتَلْ؟
ربّةُ الهيكلِ شاختْ، وهي في مزبلةٍ،
كانت لأرامَ فضاءً من دياناتٍ وورشاتٍ،
وشرقٌ آسيويٌّ كلهُ عرشٌ وهيكلْ!
مدنٌ، مرفأُ جنسٍ، طرقٌ للروحِ، ماءٌ ودمٌ،
آلهةٌ تلعبُ، تعملْ..
وأنا أدخلُ في تجربةٍ، تجذبني سوقٌ، وأرحلْ!
-8-
حجرٌ أم مُتحفُ
وحدهُ يُكتشفُ
ينتمي للأرضِ فيه سلفُ
أهو الياءُ، ونحنُ الألفُ!
-9-
احتفالٌ، مهرجانٌ، قبةٌ، مذبحةٌ أو مأتمُ
جمهراتٌ كلها تنهزمُ
إذ هوى، بين فضاءٍ ذكري وفضاءٍ أنثوي، طوطمُ
كيف لا تضطربُ الأفكارُ والأشياءُ في الروحِ،
وهذا عالمٌ يُختتمُ!
-10-
آهِ، كم ضاقَ الهواءْ!
أهو تموزُ الذي يطلعُ في كفيهِ قبرٌ،
وعلى جبهتهِ قمحٌ وماءْ!
أهو تموزُ الذي يرقى إلى جلجلةٍ خضراءَ
شخصاً من دماءْ!
أهوَ الطفلُ الجليليُّ الذي أبصرهُ،
أم شاهدي من كربلاءْ!
-11-
برهةٌ للسردِ؛ فيها ينتهي نصٌّ، فهل يبدأُ نصُّ؟
كلُّ شيءٍ هونصٌّ: اضطراب الكائنِ الأولِ،
عجزٌ بيولوجيٌ، جلوسُ اللامبالاةِ، فراغٌ في نظامٍ ما،
شخوصٌ واختزالٌ وحكاياتٌ وقصُّ..
برهةٌ للسردِ، والغائبُ شخصُ
فهلِ التاريخُ نَقصُ؟
-12-
لم أزلْ بين جنونينِ: خطابٍ وكتابْ
ولشرقِ الأرضِ برنامجهُ:
جندٌ وإعلامٌ، غلافٌ وطنيٌّ وشعارٌ وجوابْ..
لم أزلْ بين جنونينِ!
وللبذرةِ أن تحيا، وللفكرةِ وجهٌ وحجابْ!(1/14)
فلمنْ أبحثُ عن أنشودةٍ بين الجنونينِ،
وما بينَ الجنونينِ ذهانٌ وعصابٌ واضطرابْ!
-13-
كان ماءٌ.. كانتِ الأرضُ.. وكانتْ نينوى، بابلُ، ممفيسُ..
وكانتْ برهةٌ مختلفهْ!
حمورابي في رقيمٍ، وابن رشدٍ تحت جذعِ الفلسفهْ
والغزالي وحدهُ يصحو على فقهٍ نمتهُ معرفهْ...
كانَ ما كانَ... وهذا قارىءٌ أولُ يتلو مصحفهْ!
-14-
حجرٌ، طينٌ، غضارٌ وزجاجٌ، شاطىءٌ، بحرٌ ومرفأْ
سفنٌ، ماءٌ، فجاجٌ ومحاريثُ وأقوامٌ، زراعاتٌ...
شعوبٌ، أمةٌ من تربةٍ خضراءَ تبدأْ
كيف لا يلقحُها التاريخُ،
والتاريخُ من بذرتها ينمو، وينشأْ..
برهةٌ للعينِ، للروحِ... اقتربْ منها،
استعذْ باللهِ.. سمِ الآنَ.. واقرأْ!
-15-
هل جرى غيرُ دمي بين رقيمٍ ورقيمْ
كلُّ وقتٍ كنتُ فيهِ، منذُ أن كنتُ، أقيمْ
وأراني أتجلى في رضيعٍ وفطيمٍ وشهيدٍ ويتيمْ
غير أني لا أرى المعنى القديمْ!
-16-
هكذا أولد ما بين جنونينِ، وأحيا في جنونينِ إذاً
ومن الأرضِ قماطي،وهيَ الآنَ كفنْ
جُلبتْ روحيَ فيها؛ من ظهورٍ لظهورٍ تُفتتنْ
وهنا ينتجها سلمٌ كمثلِ الحربِ، تغشاها فتنْ!
-17-
بيننا ذاكرةٌ تحتشدُ الآنَ بأجناسٍ ونسلٍ وسلالاتٍ..
بصناع وفلاحينَ.. فيها تتآوى طبقاتٌ وفئاتْ
وملوكٌ ومماليكُ وتجارٌ ورباتٌ وأربابٌ..
دراويشُ، بهاليلُ، رعاةٌ وبداةٌ ومساكينُ وجوعى وطغاةْ!
هذه ذاكرةٌ ملءُ جهاتٍ وجهاتْ
أخذتْ بالسحرِ في أجزاءِ شعرٍ، واهتدت في كلماتْ!
-18-
في حضورِ الشمسِ والأرضِ، وفي برهةِ عصفٍ وخطرْ
في حضورٍ الشرقٍ والأنثى التي هيَّجها ماءُ الذكرْ
في حضورٍ الكائنِ الميتِ، وشبهِ الكائنِ الحيّ،
وشبهِ السحر والساحر، والقادةُ والجندُ حجرْ
ماالذي تفعلهُ أنشودةٌ كانتْ تغنيّ لقمرْ؟
-19-
ينبغي أن يُبلغَ الشعرُ إلى الجسمِ أو التربةِ والروحِ أو العينِ رسالهْ
ينبغي أن يطرحَ الشعرُ على العابدِ والعبدِ سؤالهْ
ينبغي للشِّعر أن يستكشفَ الأنثى التي تشبهُ أرضاً من جمانٍ،(1/15)
إذْ دنتْ مثلَ شعاعٍ، ونأتْ مثلَ غزالهْ..
ينبغي للشِّعر أن يسحرَ شيئاً ما،
فهل يبيضُّ مثل النثرِ في ضجةِ إعلانٍ وإعلامِ مقالهْ؟
-20-
ينبغي أن يحملَ الشعرُ لجمعِ الآدميينَ عزاءً،
كسرةَ الخبزِ، نبيذاً، زهرةً مرتبكهْ...
ينبغي أن يوغلَ الشاعرُ في الحلمِ وحيداً وكثيراً،
فيرى في الأرضِ جمهوريةً مشتركهْ!
ما الذي يفعلهُ الشعر، وهذا جسدٌ مستهلكٌ كالروحِ،
روحٌ كلها مستهلكهْ!
-21-
برهةٌ للتسميهْ!
هل أسمي كلَّ تلك الأفضيهْ
عالماً للفعلِ أو للتعريهْ
وأكونُ الأضحيهْ!
-22-
ربما لم يبقَ للشرقِ سوى بعضِ هجاءٍ وجنونْ
فلمن تطلعُ رباتُ حكاياتٍ ورباتُ فصولٍ ومياهٍ وحقولٍ..
يتبرجنَ، ويطلبنَ فحولاً من رمادٍ،
ويصلينَ، ويفتحنَ الحصونْ!
هذه السوقُ يسودُ الآنَ فيها آخرونْ
ويموتُ الشرقُ فيها كي يكونْ!
-23-
برهةٌ كانتْ لماءٍ وبذورْ
برهةٌ كانتْ لخلقٍ وحضورْ
وأنا مثلُ هشيمٍ وكسورْ!
كيف لا تستيقظُ الأرضُ الجذورْ!
-24-
تنحني أرضٌ شهيدهْ!
تنحني أنثى وحيدهْ..
ينحني الكائنُ في رؤيا جديدهْ..
فلماذا تنحني هذي القصيدةْ!
(((
قصيدة اللّعب
للفتى أن يلعبَ الآنَ كثيراً أو قليلاً..
وعليهِ، وحدهُ، أن يهتكَ السرَّ،
وأن يدخلَ في تجربةٍ أولى شهيداً أو قتيلاً..
فانتظر وقتاً قصيراً أو طويلاً
قبلَ أن تُختتم اللعبةُ بالغشِ،
وأن ترمي بالأوراقِ أيدي اللاعبينْ
وأقرعِ الطبلةَ، وليتحدِ الطبالُ بالطبلةِ،
ولتسمعْ صراخاً وغناءً وهتافاً وعويلاً..
وابتدىءْ بالسكر تلكَ البرهةَ المنتظرهْ
قبل أن يمتزجَ الخمار بالكرمةِ، والروحُ بجسمٍ تستعينْ!
***
للفتى أن يلعبَ الآنَ، ويهزأْ..
كلُّ ما يطمسُ معناهُ مجزأْ
ينتهي إما وضيعاً أو نبيلاً
والفتى هُشّمَ مثلَ الخبزِ،
إذْ تقطعهُ الأيدي على مائدةٍ
يحتفلُ الجمعُ بما تحملهُ من خمرةٍ جفتْ،
ومن طعمِ ثمارٍ فسدتْ، أو من مياهٍ عكرهْ!
والفتى يصحو على خطوِ إناث من رمادٍ،
يتعرينَ، ويكشفنَ حجاباً مستحيلاً...
*(1/16)
أهو شيءٌ يتلاشى، يتوهجْ
رغبةٌ أم رعدةٌ في اللحمِ، واللعبةُ تبدأْ..
يقظةٌ أم لا مبالاةٌ، وعجزٌ أم قنوطٌ؟
جمهراتٌ تنتهي، تكتمُ، تحلجْ...
وفئاتٌ وقوى تصعدُ، تهوي، تتأججْ..
والفتى بين إشارات غيابٍ وعباراتِ غيابٍ
يتخفى، يتجلى، يتسلى، يتفرجْ!
لمن الإيقاعُ؟ أينَ الحركهْ؟
إنها جثتنا الباقيةُ المشتركهْ
وعلى الأرضِ سلامٌ، بركهْ...
فمنِ العاشقُ والمعشوقُ والعشقُ المتوَّجْ؟
ومن اللاعبُ؟ هل كانَ ضعيفاً وهزيلاً؟
تنتهي اللعبةُ بالغشِ
إذا ما ابتدأتْ بالغشِّ أحياناً،
وهذي كائناتٌ وشخوصٌ من ورقْ
غسقٌ يرمي بها في لعبةٍ طالتْ، ويذروها غسقْ!
*
للفتى أن يضحكَ الآنَ كثيراً أو قليلاً
وعليهِ الآن أن يفرحَ بالوقتِ،
وما يلقحهُ دهرٌ، وينتجْ!
للفتى أن يتخفى فارغاً، منفصلاً، منقسماً،
منتفخاً، رثاً، شحيحاً وضئيلاً..
كانتِ القوةُ في كفيهِ، والشهوةُ في عينيهِ،
والأرضُ أفاقتْ مثقلهْ
تنحني كالسنبلهْ
ينحني فيها ترابٌ وبناتٌ وهواءٌ،
ينحني ماءٌ، فضاءٌ، حيوانْ..
ينحني العالمُ إذْ أنجبهُ عشقٌ عميمٌ لا نهائيٌّ، ويبرأْ..
كلُّ زوجينِ عناقٌ في لباسِ الدمِ، والفطرةُ تنشأْ
كلُّ زوجينِ معاً يتحدانْ
والفتى يحلمُ، والأزواجُ من كلّ مكانْ...
ما الذي يقرؤهُ، إذ قيلَ: اقرأْ!
ما الذي يجعلُ من حلمٍ ترابيٍ دليلا؟
كلُّ ما قيلَ، وما يُفعلُ.. هل كانَ دخيلا؟
... ... *
للفتى أن يلعبَ الآنَ كثيراً أو قليلا!
من يسمي كل شيءٍ باسمهِ؟
هذا حضورٌ وثنيّْ
كلُّ وجه زائفِ فيهِ.. متى كانَ أصيلا؟
زخرفٌ، نقشٌ، طلاءٌ، وغلافٌ بدويّْ..
فَمَنِ الزيتُ أو الماءُ؟
من التربةُ والينبوعُ والغيمةُ والعنقودُ،
والفصلُ الذي كانَ جميلاً وبخيلا..
*
للفتى أن يتغيرْ!
وليسمّ هذه الضوضاءَ صمتاً،
وليسمّ الضجةَ الأخرى هديلاً أو صهيلا!
وله أن يمدحَ الثروةَ والسلطةَ والنثرَ، ويسخرْ
وله أن يضحكَ الآنَ من الشِّعر،
ومن نصٍ قديمٍ وحديثٍ ومكررْ!(1/17)
ولهُ أن يحزنَ الآن كينبوعٍ نما في القفرِ،
ماأسقى تراباً أو نخيلا..
ولهُ أن يصمتَ الآن كمثلِ النايِ،
إذ ضاقت بهِ روحُ المغنّي،
واكتفى بالصمتِ والشيءِ المقدرْ!
ويرى في برهةٍ حلَّتْ بديلا..
*
كلُّ ما كانَ جليلاً ربما لم يكنِ الآنَ جليلا..
تمتِ اللعبةُ، والوقتُ تأخرْ!
للفتى أن يلعبَ الآن كثيراً أو قليلا
كلُّ شيء قيلَ من قبلُ يقالُ الآنَ!
فأصبرْ يا فتى صبراً جميلا..
هكذا أحلم..
هكذا أفتتحُ الآنَ نشيداً عربياً غامضاً، مضطرباً، مختلفاً...
أمتدحُ المهدَ الذي يحلمُ فيهِ الطفلُ بالبحرِقريباً من يديهْ!
ويرى ماءً كثيراً يهجمُ البحرُ عليهْ!
ويرى الحبرَ على دفترهِ يشحنُ بالماشيةِ الزورقَ،
يحصي حيواناتِ بياضٍ وسوادٍ ملأتْ أرصفةَ الميناءِ،
والبحارُ، مثلُ الخرقةِ الرثةِ، يقعي فوقَ بطنٍ،
يعصرُ الخمرةَ في حوضِ ضحى؛ أسماكه تطفو..وللحلم بقيهْ!
***
كيف لا أمتدحُ المهد الذي يحلمُ فيهِ الطفلُ بالبحرِ،
وفي المهدِ الذي يغفو كبحرٍ،
طلعتْ جنيةٌ خضراءُ تغريهِ بحلوى، وهديهْ!
وإذا ما اضطربَ الطفلُ بأغصانٍ من الرغبةِ،
فليبتدىءِ اللعبةَ في النصِ الذي توجزهُ الحمى،
ويلهو بمجازٍ، ويؤدي دورهُ في مسرحِ الخفةِ..
ولتكتمل السلطةُ بالنثرِ!
ففيه تهتدي أنثى إلى رائحةِ الفحلِ الذي ضاقَ به جثمانُهُ،
إذ أسلمَ الثروةَ للروحِ الخفيهْ!
وعلىالشاعرِ أن يبقى ضحيهْ!
*
هكذا أفتتحُ الآنَ نشيداً عربياً من موادِ السحرِ
في فينيقَ أو أكادَ، في ممفيسَ أو عيلامَ، في بابلَ أو صورَ...
وكانَ الطفلُ يغفو هادئاً كالبحرِ،
كانتْ جمهراتُ الحلمِ في دورةٍ ماءٍ قمريهْ!
ثم كانت ظلمةٌ إذ كان نور،
ومن الظلمةِ والنورِ استوت أرضٌ، تسمى عربيهْ
نزفتْ نسوتها، أحداقهنَّ امتزجتْ بالدمِ،
أو أعضاؤهنَّ انفجرتْ في هيكل يغلي بجمهور النفاياتِ،
إذا ما صعدَ الترتيلُ والتهليلُ والتغبيرُ والتكبيرُ،
والآلهةُ الأولى تآوتْ في إلهٍ أحدٍ،(1/18)
واكتشفتْ هذا الفضاءَ الذكريّ الأنثويَّ،
اتحدتْ في جسدٍ، وابتكرتْ ماءَ الخليهْ!
ونمتْ في المسرحِ السحري بحراً آدمياً بعيونٍ آدميهْ!
وأباحَ البحرُ للحبرِ الذي حررهُ الطفلُ على دفترهِ أجنحةً
تحملهُ نحو صباحِ الأبجديهْ!
*
لمَ لا يفرحُ بالحلمِ الذي ينتجُ بحراً،
يجعلُ المهدَ على هيئةِ عرشٍ ذهبيّْ!
لمَ لا ينعمُ بالنومٍ القويّْ
وعلى دفترهِ تاجٌ وسيفٌ.. صولجانْ
وأثاثٌ من عقيقٍ وجمانْ!
*
لمَ لا يحلمُ بالبحرِ وبالأرضِ إذاً؟
هل يخرجُ الشاعرُ من روحٍ الطللْ
فيرى مثلَ سواه ما يرى، أو يُعتقلْ
ويرى البيتَ الذي يهجرهُ نحلٌ، ويكويهِ عسلْ
وتلبيهِ وجوهٌ حفظتهُ، ومقلْ
وأكفٌّ من حليبٍ وقبلْ!
وعلى الشاعرِ أن يبقى قوياً كالجبل!
*
كيف لا أفتتحُ الآنَ نشيداً عربياً غامضاً، مضطرباً، مختلفاً،
تعلنهُ مكتبةُ الصلصالِ، والشمسُ تربي أفقاً
تاريخهُ المائيُ من حرثٍ يضمُ العالمينْ!
نينوى مأواهُ أو بغدادُ، في طيبةَ أو بابلَ يثوي..
وبه يكتملُ الجسمُ الخرافيُّ الدفينْ!
يملأ الشرقَ جناحاهُ ببحرٍ وسماءٍ
إذ خطا الشاعرُ في يمٍّ، لهُ الحظوةُ:
حقاتُ بخورٍ ومحفاتُ عطورٍ ورحى من أرجوانْ
وخرافٌ وحبوبٌ وطيورٌ وثمارٌ وحقولْ!
*
... وعلى دفترهِ الطفلُ غفا
متعباً، مبتسماً بين هدوءٍ وذهولْ!
وإذا بالصوتِ يدعوهُ: أفقْ، يا مصطفى!
واقترب مني قليلاً.. اقتربْ، واقرأ!
وللحقِ فضاءٌ
كانَ مثلَ الشرقِ ينشقُّ عن النورِ،
عن النورِ حضورْ..
وعلى الشاعرِ أن يقرأ فيهِ
ويرى أسلافهُ، ثم بنيهِ!
كانَ فيهِ موقفٌ للعشق بين الرتقِ والفتقِ إذاً،
لا يستوي من يخلقُ الآنَ، ومن يخلقُ!
والأرضُ أفاقتْ في جذورٍ وبذورْ..
وعلى الطفلِ الذي يحلمُ وحدهْ
أن يرى في الأرضِ مهدهْ!
*
هي رؤيا ابتدأتْ، ثم انتهتْ، واكتملتْ ملأى..
وكانتْ فارغهْ!
فلمنْ افتتحُ الآنَ نشيداً عربياً غامضاً، مضطرباً، مختلفاً..
آهٍ،
وآهٍ من جنونٍ
في
اللغهْ!
(((
موت النصّ(1/19)
كلُّ هذا النصِ وجهٌ أم قناعٌ؟
واحتفال الجمعِ فيه مرضٌ أم لعبةٌ
تملي على الكائنِ شيئاً تدعيهِ كلمهْ!
سلطةٌ يلغو بها الغائبُ، يلهو،
ثم يسهو، وينامْ..
قبلَ أن يعروَهُ برءٌ شبيهٌ بالسقامْ!
ولهُ أن يخلطَ الإيقاعَ بالإيقاعِ،
أن يجمعَ أشكالَ نثارٍ وركامْ..
قبل أن يحتكمَ المتنُ إلى حاشيةٍ محتدمهْ
قبل أن تُستهلكُ الذاكرةُ المنقسمهْ!
قبل أن ينفجرَ الشاعرُ في النصِ، ويطويهِ قتامْ!
قبل أن تمتصَّ ألفاظٌ دمهْ!
قبل أن يختلطَ النسيانُ بالذكرى،
ولا يشهدَ في أجزاءِ مرآةٍ غريمهْ!
*
أيَّ معنى تنتجُ الرؤيا الكتيمهْ؟
كل ما قيلَ، وما كانَ، كلامٌ في كلامْ!
والجماهيرُ، التي تعلكُ في وحشتها سيرتها،
تعيا بما ترأى، وتسلو، وتلامْ..
إنما يغلبها شيءٌ تراهُ ذهباً،
معدنهُ هذا الرغامْ!
ثم يشويها على نارِ حلالٍ وحرامْ!
هل يسلي روحها الضدُّ الذي يكتملُ التاريخُ فيهِ
بنظامٍ عالميٍ، ونظامْ...
*
الجماهير إذاً منهزمه
عبأتها شبكاتٌ، واهتدت للسوقِ روحٌ هرمهْ!
وتغنتْ، ثم حنتْ، ثم حلتْ في بيوتٍ وخيامْ
ثم كانَ البدءُ إذ آن الختامْ!
الجماهيرُ التي تفتتحُ النصَّ بأسماءٍ وأجناسٍ،
وتحيا وحدها متهمهْ!
وتعاني، بعد أن تفسدها أوبئةٌ، طيبَ مقام
لم يطبْ فيهِ المقامْ...
وحدها تدخلُ في تجربةٍ ، تختلُّ ما بين اضطرابٍ وزحامْ!
لمَ لا تنقذها رؤيا، ويحميها سلامْ!
*
بيئةٌ ساحرةٌ، مسحورةٌ، أولى، قديمهْ
رثَّ فيها كلُّ وجهٍ، كلُّ صوتٍ..
نزفتْ حنجرةٌ فاسدةٌ أو وخمهْ
خرجتْ من عالم النصِ.. وكانت صرخةٌ مضطرمهْ!
*
هذه الصرخةُ ليستْ صرخةَ الطفلِ،
إذا ما انشقت الرحمُ عن الضوءِ،
وليستْ من خصابٍ يفتحُ الكوةَ للشمسِ،
وليست قمراً يقسمُ فخذين على مذبحِ عشقِ،
ليستِ الماءَ الذي يقذفهُ الينبوعُ،
إذ طيرتِ الشهوةُ سرباً من حمامْ
واهتدت للمهدِ في ليلِ قوى حالمةٍ أو هائمهْ!
هذه الصرخةُ من نثرٍ نبيلٍ وجميلٍ
جمعتْ أوراقه في حجرةِ الحبرِ احتفالاً بالمقامْ..(1/20)
ربما تضطربُ الانَ بنارِ الشعر والرؤيا..
وللشاعرِ أن يغرقَ في كأسِ مدامْ
عله تشربهُ الخمرُ، وينسى التمسيهْ
قبل أن يستكشفَ اسمهْ!
*
أيُّ وقتٍ لنشيد دائمٍ أولحياةٍ دائمهْ!
ما الذي ينضجُ فيهِ؟
حيلةٌ أم لعبةٌ؟ أضحوكةٌ أم ألهيهْ؟
هذه برهةُ رؤيا واهمهْ!
لمَ لا ينكرُ حلمهْ!
كلُّ ماكانَ كلامٌ في كلامْ
هذه اللذةُ في ثرثرةٍ كانتْ خداعاً..
هذه السلطةُ تهمهْ!
فلماذا لا يموتُ النصُّ، والمعنى حطامْ
*
ما الذي يفعلهُ السِّحرُ؟
وهل تجدي تميمهْ؟
ليكنْ فيءٌ وضوءٌ، وليكن ظلٌّ ونورْ
ووضوحٌ وغموضٌ وخطابٌ وحجابٌ،
وانزياحٌ واختلافٌ، وغيابٌ وحضور،
إنما أشياؤنا، أعضاؤنا، كاملةٌ أو سالمهْ!
*
هذه اللعبةُ تمتْ، وانتهتْ،
وابتدأت في الخاتمهْ!
*
كيف لا تكتملُ الآنَ الجريمهْ!
ثنائيات صدى آخر
-1-
تلك جمهوريتي الأولى، وأشعاري رعيهْ
كلماتٌ، وحروفٌ، وعباراتُ بياضٍ وسوادٍ..
وقوى سريةٌ أو علنيهْ!
-2-
كلماتي، وحدها، ممتلكاتي!
ربما تمتلكُ المعنى.. تسميني..
ومازلتُ أسمي كلماتي كائناتي!
-3-
أهو النصُّ أم الكائنُ يحيا
بين فعلٍ وجنونٍ... بين إشراقٍ ورؤيا..
-4-
أي وقتٍ للكتابهْ
رثَّ فيه كلُّ شيءٍ: هيجاناتٌ، إشاراتٌ، سؤالٌ وإجابهْ..
-5-
كلُّ ما قيلَ يقالُ الآنَ، أو سوفَ يقالُ..
خدعةٌ أم لعبةٌ تحلو، يشيعُ الزيفُ فيها،
ثم يطويها غرورٌ وضلالُ..
-6-
لتكن مختلفاً! كنت كثيراً أو وحيداً!
ولتكن مختلفاً، ولتشطب الآن قديماً وجديداً..
-7-
كان للتاريخِ مطبخ
تخرجُ السلطةُ منهُ، وتؤرخْ!
-8-
لك عنواناتُ فصلٍ عربيٍ، لطختهُ بالفراغاتِ السياساتُ،
فغطى، بالوجوهِ الأقنعهْ!
هذه بيئتك الأولى: قصورٌ وفراغٌ، مشيخاتٌ وإماراتٌ
كوى للصرفِ، جنسٌ، رأسمالٍ... متعةٌ أو منفعهْ!
-9-
كائنٌ من ذهبٍ، عيناهُ، كفاهُ وزنداهُ وفخذاهُ.. إلخ!
من ذهبٍ يقطرُ جسمهْ!
كائنٌ ينقرضُ الآن.. فهل ينقرضُ اسمهْ؟
-10-
يقبلُ الكائنُ، يجثو، ويقوَّضْ!
كيف ينهض؟
-11-(1/21)
أيُّ صوتٍ سوف يجلو هذه الغمةَ؟
أين احتجبت تلك المعاني؟
"كل شيءٍ باطلٌ!" قيلَ إذاً من قبلُ،
ثم اضطربت رؤيا، ليشقى الجسمُ، والروحُ تعاني!
-12-
ما الذي يختارهُ القلبُ أو العينُ هنا؟ أيةُ شهوهْ!
كل ما ترأى مشاعٌ: سلطةٌ، ملكيةٌ، روحٌ وثروهْ!
-13-
مدنٌ سفلى، قلاعٌ وقصورٌ، كائناتٌ دنيويهْ
نزفت، شحتْ، ورثتْ، واستبيحتْ..
وتآوت في خليهْ!
-14-
منجمٌ للروحِ. احفر فيهِ تُغلبْ!
ليس هذا الوقتُ للصلبِ.. ولكنْ! سوف تُصلبْ!
-15-
كم نشيدٍ رددتهُ حاشيهْ
واستوتْ، واعتدلتْ للطاغيهْ!
-16-
كلُّ من يحترفُ الآنَ البطولهْ
ضحكت منهُ الطفولهْ!
-17-
لمَ لا تُظلمُ تلكَ الطبقهْ
والقوى داهشةٌ، محترقهْ..
-18-
أهو الشرقُ الذي تنكرهُ حنجرةٌ أو ذاكرهْ!
وقواهُ هرمتْ غائبةً أو حاضرهْ..
-19-
عتباتٌ دونتها شرفةُ الطينِ، سياجُ الضوءِ،
بستانٌ من العطرِ، بخورٌ بابليٌّ، وصباحٌ من حجرْ..
ألفتها قوةٌ أو لذةٌ، والشرقُ أنثى وذكرْ!
-20-
كانَ في المشهدِ أبطالٌ، عصاباتٌ، لصوصٌ، خونهْ..
ثم كانَ الشعرُ إذ ضاق به صدر المغني..
كيف يهجو زمنهْ؟
-21-
لم أكن وحدي معهْ!
وأنا أنتظر الآن شهودي، وألبي مطلعهْ!
-22-
بيئةٌ من ذهبٍ، مضطربهْ
كنت فيها لاعباً، أم كنتَ فيها حلبةً للغلبهْ!
-23-
كم جميلٌ أن أرى العالمَ في وجهٍ،
وأن تنبضَ بالقمح يدٌ طيبةٌ،
أن يخفقَ القلبُ العجوزْ!
كم جميلٌ أن أرى جسماً غفا يصغي إلى جسمٍ
وأن يبتكرَ الشاعرُ أرضاً من رموز!
-24-
هذه ذاكرةٌ من حجرٍ، تدعو إليها العالمين!
ما الذي يطلعُ فيها، ويبينْ؟
-25-
هذه الأنثى التي آخذها، تأخذني، بيتي،
تسوي كائناً من كائنينْ!
وأراني توءمينِ امتزجا، إذ دهشا،
وارتعشا، وانقسما متحدينْ!
-26-
يقفُ الشاعرَ وسطَ المقبرهْ!
وعلى جبهتهِ شوكٌ، بعينيه دمٌ،
في كفهِ محبرةٌ أو حنجرهْ!
-27-
كلُّ وقتٍ كان وقتهْ
ربما يذبح صوتهْ!
-28-
زخرفٌ يخرجُ من كل جههْ
فيلاقي شبههْ!
-29-
تعلنُ الحاشيهْ(1/22)
رغبةَ الطاغيهْ!
-30-
كلُّ ما يجمعني يقسمني بين الملأ!
فلمن أكسرُ وجهي، ثم يعلوهُ صدأ؟
-31-
إعترفْ بالسرِ للخمرةِ، أو بالعشقِ للمعشوقِ،
فالشاهدُ يهذي، إذ تجلى، ويبوح!
وليكن في برهةِ السكر غموضٌ ووضوحْ!
-32-
.. ومن الزائرُ؟
أنا أم آخرُ؟
-33-
كانتِ السنبلهْ
تفتحُ البابَ لهْ!
-34-
يُطرحُ التاريخُ في مدخلِ مذبح!
وتلذُّ العينُ بالرؤيةِ، والنظرةُ تفضحْ..
-35-
هي برههْ
ويرى العاشقُ وجههْ!
-36-
أتريدُ الآنَ أن أحيا، فأحيا لأريدكْ!
كلما غبتُ، وما غبتُ، ستلقاني شهيدكْ!
-37-
كم جميلٌ أن أرى مستقبلَ الأرضِ،
وأن تبنيَ فيه كلماتي مدناً للحالمين المتعبينْ!
كم جميلٌ أن أرى جسمي جسوماً،
وأنا أخرجَ من عصري الرماديّ الخرافيّ الدفينْ!
(((
برهة الفتنة
هو نصٌّ أم جسدْ
مفرداً يمتلكُ الجمعَ الذي يبصرُ فيه غدهُ أو بعد غدْ!
ربما تختلط الأجزاء فيهُ إذ دنا، ثم ابتعد
فترى جمهرةٌ في القربِ بُعدهْ!
ثم تبني مسجدهْ!
غيبةٌ تعلنُ دوماً مولدهْ!
وكمثلِ الطفلِ يغفو حالماً فوق مخدَّهْ
وعلى طلعتهِ كان تويجُ النور يلهو مثلَ وردهْ!
يتعرى، إذ جرى بالماءِ يوماً، وركدْ!
*
هونصٌّ أم جسدْ
قمرٌ من فضةٍ كان أقامَ الليلَ فيهِ، وسجدْ
يجمعُ الوالد والوالدةَ الآنَ ببيتٍ وولدْ!
وبه يفتتحُ الجمعُ كتاباً..
باسمهِ يدخلُ شيخٌ جنّةً، ثم يخلّدْ
ويرى ما لا يرى، ما ليس يُوجد!
*
جسدٌ في النصِّ، نصٌّ في الجسدْ
ربما يخرجٌ من ماءٍ وطينٍ،
يُسمعُ الصمَّ، ويهدي العميَ، يدعوهمْ،
ويدعو لهمُ بالخمر أكواباً، وفيها ما يلذُّ العينَ،
أو يفتنُ النفسَ بقربٍ ومودَّهْ!
ويلاقي عاشقيهِ، ثم يبلو وارثيهِ،
جسدٌ يشبهُ ضدهْ!
كلُّ عضوٍ فيهِ من حبرٍ،
وبين الحبرِ والبحرِ الذي ليس يرى
برزخٌ ورشاتٍ، سياساتُ بلدْ
وبها من فتنة ما لا يُحدّْ!
لمنِ الربحُ إذاً، والنصُّ يلهو بغثاءٍ وزبدْ!
*
آهِ من هذا الجسدْ!
هل يرى في برهةِ الفتنة عبدهْ(1/23)
ظالماً، أو مظلماً، يظلمُ وحدهْ!
(((
فتق ورتق
ليس للعاشق أن يكتمَ سرهْ
ليس للعارفِ أن تبرأ بلواهُ الجميلهْ
ليس للشاهدِ إلا أن يقولَ الكلمهْ
ليس للشاعرِ إلا أن يرى الموتَ المقدرْ
بينما يحفرُ قبرهْ!
لمَ لا يشهدُ كوناً يجعلُ الحق دليلهْ
ومتى يقوى على نسلِ المجاري الوخمهْ
وهل الشعرُ الذي يأتيهِ، كالنثر، مزوَّرْ!
ربما كان على الشاعر أن يشرب كأسهْ!
كيف لا يعلنُ وجه العاشقِ الذابلُ حبَّهْ؟
أهو وقتٌ للشفافيةِ، إذ حل غريباً، أو ترحلْ..
ولماذا ينبغي أن يغمضَ الشاهدُ عينيهِ، ويُنهبْ؟
ومتى يبتدىء الشاعرُ عصياناً نبيلاً وخطيراً؟
هل يرى العاشق أرضاً، غير أرض العشقِ، رحبهْ
يشهدُ العارفُ ما يشهدُ فيها، يتحولْ...
ويرى الشاعر فيها غمةً أو محنةً.. يصمتُ، يُغلبْ..
وعليهِ أن يرى ضوءاً صغيراً..
قبل أن يفقد رأسهْ!
*
هكذا يضطربُ العاشقُ، أو ينتظرُ العارفُ،
أو يُحتضرُ الشاهدُ، أويكتشفُ الشاعرُ حبسهْ!
هكذا يختتم العالمُ عرسهْ!
ينتهي الشعر فقيراً..
وأخيراً ينتهي الشِّعرُ.. أخيراً!
(((
فحم 1996
كلُّ ما ينتجهُ الفحمُ تقاليدُ من الفوضى،
سياساتٌ من النثرِ...
وفي كلّ طريقِ شركٌ،
كلُّ احتفالٍ، كلُّ تحديثٍ، كمينْ!
وعلى خارطةِ الفحم حروبٌ لا تبينْ
ووجوهٌ تعرف الرهبةَ والضيقَ،
ويرعاها عداءٌ وارتيابٌ وادعاءٌ ونزقْ!
ثم تدعى لحوارٍ من ورقْ
بين كونٍ وشعوبٍ من ورقْ!
*
أيُّ إعلانٍ جميلٍ عن هلاكٍ همجيّْ!
واتفاقياتُ موتٍ تتخفى في مهاراتٍ وقدراتٍ من المعدن،
والكائنُ مجموعُ خرقْ!
آهِ! ما جدوى الحنينْ
أيُّ شعرٍ خبرتهُ وردةُ المطاطِ،
والينبوعُ يجري في زجاجاتٍ،
فيسقي طفلُ أنبوبٍ بها الفحمَ القويّْ!
*
كلُّ ما ينتجهُ الفحمُ إذاً عضو جنونٍ آدميّْ
وعلى اللقمةِ أن تقسوَ أحياناً، ففي المجرى تلينْ!
(((
أطوار
1- تحوّل أوّل
هذه أرضٌ من الفضةِ، أرضٌ من ذهبْ
غُمرتْ بالماسِ والياقوتِ.. وشاها الزمردْ(1/24)
كلُّ ما فيها نبيلٌ وجميلٌ وثمينْ!
كائناتٌ بمزاجِ المعدنِ النادر فيها
أكلتْ أسلافها، ثم بنيها..
كلُّها تُحشرُ في يومٍ عظيمٍ.. كلها تركعُ، تسجد!
هذه الأرضُ من الفضةِ كانتْ، من ذهب
أخرجوا منها، أدخلوها، ظالمين
وسيصلى كلُّ من يدخلها، يخرجُ منها، نارها ذات لهبْ!
2- تحول ثانٍ
ينتمي الجمعُ إلى أرضٍ وشمسٍ وسماءٍ وهواءٍ وجذورٍ وبذورْ
ويؤاخي نينوى، طيبةَ، عمريتَ، وممفيسَ، وصورْ..
فلماذا ينحني بين فضاءٍ من قرى أو مدنِ
ينحني للمعدنِ!
ولماذا ينحني كلُّ وريثْ
لدماغٍ رأسماليّ حديثْ!
*
ما الذي كانَ؟ وماذا سيكونْ؟
هو ذا الشعرُ يريدُ الآنَ أن يكسرَ شيئاً ما،
ويدعو لجنونٍ، ثم يدعوهُ الجنونْ!
3- غير المرئيّ
أيُّ مرئيٍ تجلى غير مرئيّ،
وبينَ الجسمِ والمعنى حجابْ!
كيف لا تمتلك العينُ سوى الطيفِ،
إذا تُوجتِ الحضرةُ بالدهشةِ،
ثم اختلطتْ بالشهوةِ اللذةُ..
كانَ الجسمُ مرئياً، تخفى غيرَ مرئيّ،
ولم تكتملِ الرؤيةُ إلا بالغيابْ!
4- تحولات اسم
كلُّ جسمٍ فيه قمّصتُ، بكل اسمٍ أكنَّى
وإذا ضاقَ بي اسمٌ،
لم يضقْ جسمٌ بمعنى..
كلُّ تاريخٍ لهُ، والروحُ لهْ!
وفضائي عربيٌّ منذ آرامَ،
فضائي توءمُ الروحِ التي تنتجُ
حلماً، لغةً، علماً، وفنا..
وأنا أكتشفُ الآنَ معانيهِ، وأبني منزلهْ!
5- تحولات جسم
إنّ شعباً بين أجزائي وأعضائي يقيمْ
يولدُ الكائنُ فيهِ، ثم يحيا، ثم تحيا أبجديهْ
دوّنتها منذُ آرامَ عبارهْ
واهتدتْ فيها خليةْ
هُشمتْ بين رقيمٍ ورقيمْ
وبشرقِ الأرضِ شمسٌ وسماءٌ وحضارهْ..
لم لا يمتلكُ العالمُ رؤيا؟
لم لا يطلعُ في نصٍ جديدٍ وقديمْ؟
(((
خماسيات تكوين آخر
1-تشكيل
أيُّ قصرٍ حملتْ أحجارهُ الأنهارُ
تبنيهِ أكفٌّ ويوشيهِ ذهبْ!
ورشةٌ من تربةٍ تحفظهُ،
آلهةٌ من حجرٍ أو من خشبْ..
طلعتْ نجمتهُ في ليل آرامَ،
وأغوتْ كل فتيانِ العربْ!
أيُّ قصرِ كانت الجنُّ على شرفتهِ،
والجندُ فوقَ السورِ كالمعدنِ يسعونَ،(1/25)
وكانت عرباتٌ الشرقِ تجري بقرابينَ،
وتصحو أضحياتٌ بين جفناتِ العنبْ!
وكأنَّ الشرقَ روحٌ من هواءٍ أو لهبْ!
2- تشكيل آخر
كانتِ الآلهةُ الأولى التي تأوي إليها سبعةُ الأنهارِ
تغفو في سماءِ المدنِ السبعِ
وتصفو في بحارٍ سبعةٍ...
كانتْ عيونٌ ووجوهٌ وفروجٌ وثديّْ!ّ
ثم كانت رحمٌ طيبةٌ تحملُ بالطفلِ المعافى والقويّْ..
كانتِ الأنثى التي تنمو مع التربةِ روحاً تتجلى،
فإذا ما انغلقت أرضٌ عليها وعليّْ
يتلقاني فضاءٌ نبويّْ..
فلماذا أُغلبُ الآنَ وحيداً؟
ما الذي يطمسُ وجهي العربيّْ؟
3- نقش
هو ذا الكائنُ! من هجرتهِ عادَ،
استوى حراً.. نما ملتهبا..
دونته أرضُ آرام هوى أو حكمةً أو لعبا..
وهوتْ أعضاؤهُ.. ثم خبا!
وتحولنا معاً نوراً وناراً ورماداً وترابا..
وتحولنا فصولاً ونقوشاً..
وانتهينا رقماً أوكتبا!
وأنا أسندهُ، يسندني محترقاً، منطفئاً، مضطربا..
4- نقش آخر
كانَ ماءٌ.. كانت الشمسُ..
وكانَ الطينُ يغلي، ويعاني!
ذكرٌ، أنثى، هنا يمتزجانِ
جبلا في برهةٍ أجتْ بعطرٍ وبخورٍ ولبانِ..
وإذا ما اتصلا.. وانفصلا.. يتحدانِ
وردةً كاملةً ملءَ المكانِ!
5- وريث
حجرٌ تتجهُ الروحُ إليهِ، ينتمي خلقٌ كثيرٌ..
وإلى الخلقِ انتميتْ!
تشرقُ الشمسُ عليهِ،
وكأنَّ الميتَ حيٌّ، أو كأنَّ الحيَّ ميتْ!
حجرٌ جسمٌ، وجسمٌ هو بيتْ
يهدمُ الغائبُ والحاضرُ فيهِ مابنيتْ..
وأنا دونتهُ في ورقِ الحلمِ،
وبالحلمِ اكتفيتْ!
6- وريث آخر
ليكنْ للوارثِ الضائعِ إقليمٌ، سلالاتٌ، عروشٌ،
وجماهيرُ من القرمز، ألقابٌ وسلطانٌ وقوهْ!
ولتكنْ مائدةٌ تسخو على الجوعى،
دراويشُ من القشِ، تراتيلُ دخانٍ وأناشيدُ أبوهْ..
هذه أمكنةٌ من زخرفٍ، سالتْ بثروهْ
تنجدُ العابدَ في حربِ عدوٍ، لم يجد فيها عدوَّهْ!
وليكن للخمرِ أعراسٌ،
فبعد السكرِ صحوهْ!
7- تاريخ آخر
. وأخيراً كان تاريخٌ حديثٌ وصناعاتٌ، زراعاتٌ وتجّارٌ،
ومأوى لسلاحِ الحاميهْ!(1/26)
ثم كانت مدنٌ من معدنٍ، أضرحةٌ من سنبلاتٍ،
وتلاميدُ من الحبرِ، بيوتٌ وسجونٌ وقبابٌ داميهْ..
ثم كانت حيواناتٌ ولودٌ وقرونٌ وجلودٌ
ثم كانت سلطةٌ من رخوياتٍ..
وكانت كلّ دنياً فانيهْ
وتجلى بطلٌ في طاغيهْ!
8- آخر التاريخ
عالمٌ يولدُ في صبح وكالاتٍ،
ويحبو في ليالي شركاتٍ،
ثم يخطو برقى مؤتمراتٍ وملاعبْ!
عالمٌ تقبرُ فيهِ كائناتٌ وكواكبْ!
تنعمُ الأحلافُ والأحزابُ فيهِ،
لم يضقْ يوماً بمغلوبٍ وغالبْ..
وهو يأوي في حقولٍ من نفاياتٍ ومثوى لتجاربْ!
لمَ لا يلهو إذاً،
ثم يحاربْ!
9- شعر آخر
أنظرِ الآن إلى الشعر الذي لا يُمتلك
كان منه قمرٌ، ظلٌّ، ندى..
قيثارةٌ من حطبٍ، أرضٌ من العشاقِ،
أنثى من بناتِ الجنِّ، ورشاتٌ من الحلمِ.. إلخ
والشعرُ، كالسحرِ، ملكْ!
فلكٌ يولدُ فيهِ من فلكْ!
غامضاً أو واضحاً يأتيكَ. وهو الآن لكْ!
فابتسم، وأفرح بهِ،
وأضحك بما تحملهُ إذ حملكْ!
10- جسم آخر
للتعري برهةٌ مبتكرهْ!
تغلبُ الساحرَ والمسحورَ والسحرَ، وتنفي السحرهْ
سقطتْ أقنعةٌ فيها،
اهتدى اللحمُ إلى سر سريرٍ غامضٍ أو موحشٍ،
ثم أضاءتْ عرباتٌ، عتباتٌ، وخيولٌ خطرهْ!
وانتمى اثنانِ إلى الواحدِ!
حنتْ، ثم أنت كوةٌ أو قنطرهْ!
واحتمى الجسمُ بجسمٍ.. آهِ، ماأرحبهُ! ما أكثرهْ!
11- آخر الشّعر
إنه العالمُ حلوٌ لحبيبي!
كوكبٌ، ماءٌ، خروفٌ، طفلةٌ، طفلٌ، رغيفٌ..
وسماءٌ ويمامٌ وشعاعٌ وغمامٌ وندى جسمٍ ووردهْ!
والفتى يلقي برأسٍ، ضاقَ بالدنيا على زهرِ مخدهْ
إذ رأى فيما يرى النائمُ، أوراقَ نفاياتٍ
توشّي عالماً ينتجُ ضدهْ!
كيف لا يهجرهُ النومٌ، ولا يجزعُ إذ غابَ حبيبٌ، وسلاهُ،
وسلا شعراً وقرباً ومودهْ..
ورأى الشعر الذي يُغلبُ وحدهْ!
12- ماء آخر
سلطةُ الروح تجلتْ قبل قداسِ الجسدْ
واهتدت أنثى إلى الماءِ، وكانت من زبدْ
واهتدى العرّافُ والخزّافُ للطينِ..
وكانتْ عتباتٌ لجنينٍِ ووليدٍ وفطيمٍ وولد!ّ
أهو الماء أحدْ!(1/27)
كيف لا تطلع شمسُ الشعر والخلق،
إذا ضاقَ هواءٌ، وفسد!
13- نثر آخر
يهجمُ النثرُ على جمهرةٍ مضطربهْ!
هذه خطوتهُ واسعةٌ، قامتهُ منتصبهْ!
وعلى أرضٍ من الأسرارِ يختالُ فتى،
ثم يشدُّ الخيلَ والليلَ إلى مركبةٍ أو عربهْ!
يهجمُ الآنَ على الينبوعِ والوردةِ والزائر والبابِ ...الخ
ثم يسدّ العتبهْ!
يخلطُ الإيقاعَ بالتشكيلِ والزخرفَ بالمتعةِ،
والمتعةَ بالثرثرةِ، البطلانَ بالحقِّ، الهوى بالغلبهْ!
14- آخر التشكيل
إنها السوقُ إذاً... مدخلنا للورقاتِ الساحرهْ
لشعوبٍ هُشمت غائبةً أو حاضرهْ!
إنها اللعبةُ!
ولتنقلبِ الأدوارُ، ولتختلطِ الأدوارُ..
فاللعبةُ، تبقى بيننا زائفةً: رابحةً أو خاسرهْ!
ومن النقطةِ خطٌّ، ومن القوسِ شعاعٌ، وترٌ، قنطرةٌ، أو دائرهْ..
تزحفُ الأشكالُ بالأشكالِ والأوراقُ بالأوراقِ والأدوارُ بالأدوارِ.
تمحو كلَّ شيءٍ.. ثم تلغي الذاكرهْ!
15- تكوين آخر
خرّبَ الطائر عشهْ!
ومن الحبة ترجى.. كان للزوجينِ قشهْ!
كلُّ فعلٍ يتلاشى.. كلُّ دهشهْ..
كان ميتٌ يدفنُ الأمواتَ، إذ غادر نعشهْ!
فمتى يبتدىءُ الخلقُ برعشهْ؟
(((
بيضة النصّ
ما الذي يكتمهُ، يعلنُه، نصٌّ مزورْ؟
ولماذا اختلطتْ أجزاؤهُ، وارتكبتْ أعضاؤهُ؟
أيُّ حضورٍ جسديٍّ كان في وحدتهِ؟
كيف انتهت جذوتهُ؟ أين فتونُهْ؟
أهونصٌّ يكتبُ الكائنَ، أم يكتبهُ الكائنُ،
والجملةُ فيهِ تتداعى، وتُبعثرْ!
ربما تلهمهُ جنيةٌ مزهوةٌ، ثم تخونُهْ!
*
قيلَ: اختر فكرةً، وأحشدْ مجازاً،
وتجاوزْ مطلقاتٍ وتقاليدَ وأجناساً وأنواعاً،
وأوّل بالعباراتِ رموزاً وإشارات، خطوطاً واحتمالاتٍ،
وللقول الذي يخترقُ الشائعَ والسائدَ رؤياهُ،وللقولِ جنونُهْ!
ثم أكتبْ كلَّ مايكتبهُ الآخرُ، مالم يكتبِ الآخرُ،
ثم ابتكرِ البرهةَ من داخلِ إيقاعٍ حديثٍ،
تنتجِ الرؤيا التي ضاقتْ بما كنت، وما سوفَ تكونُهْ!
وافترضْ مطلقكَ الخاص الذي دونتهُ، أوتستعينهْ!(1/28)
ولتفرِّخْ بيضةُ النصِ الذي تنشئهُ، ثم تدينُهْ!
*
آهِ، ياجنيةً تضحكُ من شعرٍ، ومن نثرٍ، وتسخرْ!
ما الذي لم يتغير؟
عالمٌ يُبعثُ أم وقتٌ مقدرْ؟
(((
لعبة الأيام العجيبات
هكذا، ياأمَّ ميلادٍ، ترينَ الشعر يشكو من فسادٍ وغلطْ!
وترينَ اللعبةَ الآنَ فقطْ!
انتهتْ، وابتدأتْ، مضطربهْ!
فلماذا ينبغي أن ألعب الآن، وإن وزِّعتِ الأدوارُ بين اللاعبينْ؟
ضاقتِ الحلبةُ بالعبدانِ من كلِ القبائلْ..
بهلوانٌ ومريدونَ من القشِ، دمى رثت، وفئرانٌ.. قططْ..
وشخوصٌ من رمادٍ، ومغنّونَ من الفحمِ وأوراقُ غبارٍ... كتبهْ..
وعلى التاريخِ أن يرقد في هيئةِ بهلولٍ، يسلي اللاعبينْ
حالماً، أو متعباً، بين سلاسلْ..
ولمن سوف تكونُ الغلبهْ
بعد أن تنتهيَ اللعبةُ، والجمعُ يصيحْ!
ولماذا تأسف الروحُ على دورٍ صغيرٍ أو شحيحْ
وأدوسُ الوردةُ الأولى التي تنبضُ فيّْ!
هكذا، يا أم ميلادٍ، ترينْ الحزنَ، يدعوهُ إليّْ
حجرٌ منفردٌ، نخلةُ بيتٍ، داليهْ
تربةٌ مفردةٌ، جمهورُ إعصارٍ، وينبوعٌ جريحْ
قبةٌ من سنبلاتٍ، ماءُ أيامٍ عجيباتٍ وأوراقُ هواءْ،
قمرٌ للشعرِ، عصفورٌ من الحبرِ، ودارٌ عاليهْ..
مكتباتٌ وتلاميذٌ وعمالٌ.. بيوتٌ.. أمهاتٌ وفطورٌ وعشاءٌ والخ!
*
ليس في اللعبةِ ما يغري إذاً، أو يُمتدحْ!
وإذا ما انغلقتْ، واختتمتْ، ثم انتهتْ،
تحلو، ويعدو لاعبوها.. تُفتححْ!
ما الذي تمتلىءُ الروحُ به؟ حزنٌ وشكّ ويقين!
هكذا، يا أمّ ميلادٍ، سأختارُ جنوني الداخليّْ
قبل أن أرمي بالقلبِ الذي أمسكهُ بين يديّْ!
وعليَّ الآنَ أن أحلمَ بالشعر قليلاً..
فإذا غادرتُ أرضي، ما الذي يجمعُ أعضائي بأرضٍ ثانيهْ؟
وأنا لم أخلعِ الوجه الذي كانَ دليلاً
إنما أسلمتهُ للهاويهْ!
*
هكذا، يا أمَّ ميلادٍ، سنبقى حالمينْ!
(((
لذّة الروح
لأجربْ أن أرى الكرمةَ والعنقودَ، والمنزلَ بالأولادِ،
والأنثى التي يخفقُ ثدياها انتظاراً لوليدْ..
ولأجربْ أن أرى الينبوعَ والمجرى،(1/29)
وللبذرةِ مأوى من ترابٍ وفضاءٌ من لهبْ!
ولأجربْ أن أرى النخلةَ، إذ حان قطافٌ للرطبْ!
ولأجرب أن أرى الموقد والجمرةَ..
أن أصغى للصوتِ الجديدْ!
ولأجربْ أن أرى في نشوةِ الناي مداراً للقصبْ..
ولأجربْ أن أرى مستقبلاً مختلفاً للأرضِ،
يبنيهِ شقيٌّ! ووحيدٌ ويتيمٌ وغريبٌ وشريدٌ وشهيدْ...
هذه الرؤيةُ تدعوني إليها لذةٌ تطلعُ
خضراءَ وحمراءَ وزرقاءَ وبيضاءَ.. إلخ،
إذ عبقت، وامتلأت، في كل شيء!
ربما يتئمُ نخلٌ وكرومٌ ومياهٌ وحصيدٌ وبيوتٌ وإناثْ...
ربما يحنو على أعراقهِ المعدنُ، والطينُ يوشيهِ ذهب!
حمأةٌ، ماءٌ، نسيمٌ، غيمةٌ، ظلٌّ...
ممراتٌ إلى الدهشةِ... أنوارٌ وفيءْ...
قبةٌ من متعةٍ أو بهجةٍ، رفقٌ، أمانٌ وسكينهْ...
كوكبٌ يُلهمهُ الوقتُ، وفيهِ عرفَ الشاعرُ والشعرُ يقينهْ!
كوكبٌ يُبعثُ في كل الجهاتْ!
لمَ لا تتسعُ الأرضُ لخلقٍ وانبعاثْ!
وأنا آمنتُ باللهِ!
لماذا كلُّ هذا العيدِ في الأرضِ؟
لماذا كلُّ تلكِ العظمهْ!
كوكبٌ يستيقظُ الآنَ أمِ الرؤيا اهتدتْ للشعرِ؟
والشعرُ اهتدى للكلمهْ!
وأنا في أسرةٍ من تربةٍ حالمةٍ، ساحرةٍ، مضطرمهْ...
*
لأجرب برهة تصفو ، وتحلو تتجلى في حوارٍ جسديّْ
ينتمي للحلمِ، ينمو بالحياةْ...
*
الحوارُ، الآنَ، يُحييه جسد،
جسدٌ حيٌّ، بهيٌّ ونقيٌّ... علنيّْ!
فلأسبح بارئهْ!
إنما الفكرةُ أن يتحدَ العاشقُ والمعشوقُ والعشقُ،
وأن يحيا وحيدٌ في كثيرٍ، وكثيرٌ في أحد!
كلُّ موتٍ طارىءٍ.. شهوتهُ زائفةٌ أو طارئهْ!
... ولأجربْ لذةَ الروحِ التي يحتفلُ الكونُ بمعناها،
فيدعوها إلى ميلادهِ في كلَّ بيتٍ وبلدْ!
*
أيُّ قداسِ قديمِ وحديثٍ للجسدْ!
آهِ! ماذا يجدُ الكائنُ فيهِ، أو وجدْ؟
(((
اضطراب أول
ربما أفتحُ عينيَّ على جمعٍ كثير،
غير أني لا أرى إلا شخوصاً من قماشٍ وخيوطْ
ربما يفتتحُ الحبرُ كلاماً هو مثلُ الثرثرةْ!
ربما ينفتحُ النصُّ على أكثرَ من معنى، ولا معنى لهُ
فهو غريبٌ وشحيحٌ وفقيرْ..(1/30)
ربما تحتشدُ الآنَ شعاراتٌ، وتطفو سلعٌ
بين خروقٍ وشقوقٍ، وصعودٍ وهبوطْ..
نُضِّدتْ، وانغلقتْ، فانفتحتْ، فيها احتمالاتٌ:
غموضٌ، حيرةٌ، شكٌ، قنوطْ...
ربما كانَ فضاءٌ، أرختهُ مقبرهْ!
***
هكذا يبتدىءُ الجمهورُ تتويجَ بطولاتٍ جديدهْ!
جرسٌ، طبلٌ، مزادٌ، ضحكاتٌ وضجيجٌ، خطواتٌ وقُبلْ..
ربما يسقطُ تاريخُ البطلْ!
فليضفَّر له إكليلٌ من الشعر أو النثر،
لتحفظهُ قلوبٌ ومقل..
وليكن صمتٌ، فللطاغوت جندٌ من عسلْ!
وأنا أسخرُ في الداخلِ من عمرٍ أفلْ!
*
هكذا تضطربُ الآنَ قصيدهْ!
(((
طريق (قاف)
قلْ: هو الشرقُ رفيقٌ ورقيقٌ وطليقْ!
وقواهُ انغلقتْ، فانعتقتْ، إذ أُطلقتْ،
مقدورها أن تستفيقْ!
قبةٌ للرزق فيه، قبلةٌ للحقِّ،
للقارىء أن يشقى بما يلقاهُ فيهِ، ويضيق...
وهل ا لشرقُ هو المطلقُ؟
وقتي مغلقٌ فيهِ!
وفيه انقسمَ العاشقُ والمعشوقُ والعشقُ،
عليهِ افترق الخلقُ،
وبين الرتقِ والفتقِ حريقْ؟
*
... وقلِ: الشرقُ هوالمخلوقُ من قبلُ،
وقلْ: يبقى إلى قمةِ (قافٍ) طرقٌ..
يبقى طريقْ!
*
آهِ! ما أقسى الطريقْ!
(((
اختيار في عامٍ ما..
كيف تختارُ؟ وماذا يتغيرْ؟
سلطةٌ أم فكرةٌ أجّلتِ المعنى؟
وكانت ثروةٌ خرّبتِ الكائنَ،
كانت غمةٌ أو محنةٌ،
ثم انحنى شعرٌ أمامَ الطاغيهْ!
وتهاوتْ مدنٌ مثلَ قصورٍ وعروشٍ خاويهْ!
ثم لم يبقَ سوى حلمٍ مصغَّر!
كيف تختارُ؟ وماذا سوف تختارُ إذاً؟
هذه أقنعةٌ شاعتْ... فماذا يفعلُ الكائنُ؟
والوجهُ قفا، والروحُ شيءٌ،
وعلى الأرضِ عفنْ!
والجماهيرُ استجابتْ لوثنْ!
واهتدتْ، منذ أُضلتْ، بحرابِ الحاميهْ!
فلماذا أنتَ تختارُ الشجنْ؟
*
اقتربْ من هذه الأرضِ التي ورِّثتَ من قبلُ،
وأقبلْ، وابنِ بالأنثى التي كانت لباساً لكَ،
وادخل بيتها، خذها، تأمل آيةَ القارىء والعاشقِ،
واقرأ باسم طفلٍ يلدُ الآنَ، ولا تجزعْ!
ومنها خرجت ذريةٌ أولى، ومن تربتها
كانَ قماطٌ وكفنْ!
*
كيف تختارُ؟ وماذا سوف تختارُ؟(1/31)
ألا تمتلكُ السرَّ الذي يمتلكُ المعنى، وفيهِ تُمتحنْ!
آهِ، لم يبقَ سوى أن تُعلنَ العصيانَ،
لم يبقَ سوى الشعرِ الذي لا ينتهي إن ضقتَ، أو ضعتَ،
فهل يحملُ رؤيا هاديهْ؟
كيف تختارُ، وفي كلِ اختيارٍ هاويهْ!
((
مشروع سيرةٍ غير ذاتية
لم لا يفتتحُ البيتُ الذي يجمعنا وقتاً حديثاً للغناءْ
وعلى الزوجينِ أن يحلمَ كلٌ منهما فيهِ
بخبزٍ وبملحٍ ونبيذٍ ونشيدْ
ويذوقا ثمرِ الأيدي، ويرتاحا قليلا..
ينبغي أن يدركا ينبوعَ ماءْ
ينبغي أن يُعرِسا لابنِ شهيدْ
ينبغي أن يفرحا لابنٍ وبنتٍ وحفيدْ
ويضما أملاً كانَ جميلاً وجليلا
بعد عمرٍ شُرِّدا فيهِ، وفيهِ اضطهدا،
إذ شرّقا أو غرّبا، جاعا وضاعا، اختلفا متَّحدينْ!
*
كيف لا يحلم زوجانِ، ولا يغتسلانِ الآنَ من همٍ قديمٍ وجديدْ
ولماذا ينبغي أن يغسلا حتى الهواءْ
ويناما، ويفيقا متعبينْ!
*
ما الذي يفعلهُ زوجانِ ضاقا بسلالاتٍ ونسلٍ ووراثهْ؟
ومتى يمتلكُ الكائنُ في داخلهِ أيَّ فضاءْ؟
ولماذا امتهنتْ أرضٌ من الموتى الأمومهْ؟
هكذا تلتقطُ الكفُّ ثماراً وحبوباً من نفاياتٍ،
وكانت لذةٌ يشعلها قنصٌ ورعيٌ وحراثهْ
قبل أن ينشغل المخُّ بنصٍ واحتمالاتٍ وإعلامِ حداثهْ
قبل أن يختتمَ التلفازُ إرسالاً بهيجاً
شوشتهُ حالةُ الجوِ وأصباغُ المذيعهْ
قبل أن يمتدحَ المذياعُ أبناءَ الحكومهْ
قبل أن تلغيَ أبحاثٌ من الأسمنتِ ألطافَ الطبيعهْ
قبل أن يهجمَ نثرٌ وحواسيبُ وفحمٌ وأنابيبُ وثروهْ..
*
لم لا يعترفُ الزوجانِ بالسلطةٍ للثروةِ،
والثروةُ كالدولةِ سلطاناً وقوهْ!
وهي مأوى طبقاتٍ وفئاتٍ تتآخى،
وهي مثوى جمهراتٍ عاطلهْ!
ربما تحترفُ التسمينَ والتدجينَ والتحسينَ،
أو تمتهنُ التشكيلَ والتأويلَ والتهليلَ،
أو تفترضُ التحديثَ والتأثيثَ والتأنيثَ،
وهي الثروةُ الغاصبةُ المغتصبهْ!
وعلى الزوجينِ أن يرقدَ كلٌّ منهما في عتبهْ!
وإذا ما اعترفا بالمجدِ للسلطةِ، أو هاما بها،
أو أسرفا في رحلةِ العمرِ السعيدْ(1/32)
فليناما قانعينْ
وليموتا راضيينْ
والمدى شرفةُ بيتٍ خربهْ!
*
لمَ لم يبقَ لزوجينِ قريبينِ، بعيدينِ، انتظارٌ لحلمْ؟
ما الذي يفعلُ بالزوجين قرنٌ آفلٌ أو قابلٌ،
ينضجُ فيهِ أمبراطورُ النظُمْ!
ولماذا يحلمُ الزوجانِ بالعشقِ الذي لما يدُم!
... وسلامٌ هي حتى مطلعِ القرنِ الجديدْ!
(((
مقام اللّذة
كان طورٌ لرضاعٍ، ثم طورٌ لفطامٍ فنماءٍ،
ثم طورٌ لفتوهْ
تستوي روحُ الفتى فيهِ،
يرى فيما يرى الحالمُ جسماً من يواقيتَ وماسٍ وذهبْ
كيفَ لم يبصرهُ من قبلُ؟
وكيف اكتشفَ الثروةَ فيهِ بين إشراقٍ وخلوهْ؟
ولماذا اقتربت منهُ يداهُ فاحتجبْ؟
لمَ لا يودعهُ في مصرفٍ،
والمصرفُ اليومَ فضاءٌ وبطاقاتٌ وكواتٌ وقوهْ!
ولماذا لا يرى فيما يرى الحاكمُ إيذاناً بثروهْ!
*
حلمٌ أم تعبٌ... وهمٌ ونزوهْ!
*
للضرورات كنوزْ..
والمقامُ ابتذلت فيه المعاني، افتضحتْ فيهِ الرموزْ...
فليكنْ طورٌ لسلطانٍ وإيمانٍ،
وطورٌ تُنتجُ الشهوةُ فيهِ لذةً،
أو تنتجُ اللذةُ شهوهْ!
(((
أغنية حجرٍ حيّ
هذه سيدةٌ من حجرٍ، تطلعُ من أرضِ الخرافهْ
ناولتني خبزها، أسقتْ عروقي خمرةً أولى،
وعرّتني يداها... غسلتني، طيبّتني، لبستني..
ربما كنتُ فتاها!
وأراني واحداً في مخدعِ الحبِ المدمّى
فلماذا لا أعاني بعضَ وهجٍ، بعضَ حمى..
وأسمي كلَّ ما ليس يُسمى
بعد أن حوصرتِ الروحُ بنثرٍ وفحومٍ وشحومٍ وكثافهْ!
*
هذه سيدةٌ من حجرٍ تطلعُ من أبهاءِ تاريخٍ خفيّْ
ربما صادفتها في أي بيتٍ عربيّْ
ربما هِمت بها من قبلُ، من بعدُ...
وكم ضعتُ! فهل كنتُ ضحيهْ؟
ربما ساكنتها مأوى قديماً أوحديثا...
ربما صادفتها في بعضِ حاراتِ دمشقْ!
ربما كانت من الشرقِ، وفي الشرقِ صباباتٌ وأوهامٌ وعشقْ!
وأنا العاشقُ مقتولاً، وفي الأحجارِ حيّْ!
ربما كنتُ وريثا..
*
هذه سيدةٌ من حجرٍ، أم أنها الرؤيا الشقيهْ
بعد وقتٍ من جنون أو عرافهْ!
هذه سيدةٌ من حجرٍ، أم مادةٌ للشعرِ حلتْ،
دوّنتها عتباتٌ مشرقيهْ!(1/33)
وعلى أطلالها الروحُ تسلَّمْ
وبها تفتتحُ الروحُ فضاءً
يلتقي الشاعرُ والنحويُّ والصوفيُّ والبهلولُ فيهِ،
وإليهِ ينتمي العاشقُ،
أو يخلو بهِ القارىءُ،
أو يأوي إليهِ المتكلِّمْ....
*
آهِ من تاريخِ أرضٍ حجريّْ!
آهِ من عالمِ أرضٍ حجريهْ!
(((
مقام للشعر
ليس للشعر مكانٌ ينتمي فيه إلى التاريخِ،
والتاريخُ أوراقٌ من القرمزِ، أحجارُ دمٍ أو أرجوانْ..
سيجتهُ بالرقى الأيدي،
ولم يبقَ من الأسلافِ إلا رقمٌ، أو كتلةٌ من لغةٍ..
لم يبقَ حتى حنجرهْ!
فلماذا يخرجُ الشاعر من قبرٍ ليلقى مقبرهْ؟
ولماذا هامَ في منديلِ عشقٍ وكتابٍ من تعاويذَ ودنيا من غزلْ
وهو يطفو بين أشكالِ كلامٍ وعلاقاتِ عملْ!
ولماذا فتنتهُ ريشةٌ أو محبرهْ؟
ومتى يشرقُ في معنى وسرٍ وبيانْ؟
ليس للشعر مكانْ!
وأنا لستُ أنا.. لم أكنِ البذرةَ من قبلُ،
ولم يبقَ سوى حلمٍ تجلى خلفَ نارٍ ودخانْ..
ما الذي يسندني؟
لم يبقَ إلا حائطٌ يهوي، وتهوي قنطرهْ!
ليس للشاعرِ وجهٌ أو لسانٌ أو يدانْ..
وعليهِ أن يرى أرضاً كأنثى حيوانْ..
نزفتْ، إذ لُقِّحتْ، أو أنتجتْ حقلَ جثثْ
بينما يُغلبُ شعبٌ من ترابٍ وهواءٍ وحبوبٍ ومياهٍ،
وتوافيهِ حروبٌ وسياساتٌ بورشاتٍ من النثرِ،
بفحمٍ وشعاراتٍ، بكلسٍ ودعاياتٍ..
فهل يصحبُ رؤياهُ هوى أم هذيانْ؟
أفسادٌ أم عبثْ؟
فيه باختْ فرجةٌ، واكتملتْ:
ضمٌ وشمٌّ نشيدٌ ومديحٌ وقبلْ..
أهو العالم يغفو، ثم يصحو بين أشكالِ الخبثْ!
فضلاتٌ ونفاياتٌ... عقودٌ.. شركاتٌ...
وعلى الروبوتِ أن ينتجَ مشروعَ نظامٍ وبطلْ!
*
ليسَ للشعرِ إذاً شُغلٌ!
وفي المسرحِ لم يبقَ سوى السطحِ من الديكورِ لهْ!
فلماذا الشعرُ والمعنى؟
وماذا ستربّي كلماتٌ أتأمتْ أرجوحةً أو سنبلهْ؟
وأنا لستُ أنا.. ما كنتُ حراً وقوياً وعلياً كجبلْ!
هو سحرٌ أم كلامٌ محتملْ!
ليسَ للشعرِ ضرورهْ..
ينتهي التاريخُ أو يبتدىءُ التاريخُ،
والشاعرُ ما زال غريباً ووحيدا(1/34)
بينما المخرجُ يدعوهُ، ويدعوني، لدورٍ مبتذلْ!
ربما كانَ شهيداً.. ربما كنتُ شريداً وطريدا..
فمتى يستيقظُ الشاعرُ والشعرُ جذورهْ؟
ومتى يبتدىءُ الشاعر والشعرُ حضورهْ؟
((
سيناريو لأشياء مختلفة
1- أنثى البذرة
ما الذي يمتلكُ الأنثى التي ضاعفتِ البذرةَ؟
من يكتشفُ الماءَ الذي تخلو بهِ،
ثمّ تربي جسداً أولَ بالخبزِ وبالملحِ،
فينمو بين كفيها.. يؤاخي بين ينبوعٍ ونهرِ!
وإذا ما نبّهتْ أعضاءهُ تحلو، وتلهو... ثم تجري
مهرةً من زخرفٍ يرقبها صمتي وفقري..
وأنا بذرتها أم سرُّها تعلنهُ، والأرضُ سري!
ما الذي يمتلكُ الأنثى التي تبتكرُ التاريخَ من عصرٍ لعصرِ!
2- نثر للصمت
ضاقَ بالعشقِ وبالعاشقِ وقتٌ وعبارهْ!
قبةٌ للشِّعرِ أم للنثرِ؟
للجسمِ الذي يلغي حضورهْ
أم لنصٍ شكلتهُ لغةٌ صادقةٌ أو مُستعارهْ!
كان معنى يهتدي بالصمتِ،
والعالمُ يغلي بالذكورهْ!
فبمن تحتفلُ الرؤيا، وتتلوها بشارهْ؟
أيُّ صمتٍ يؤذنُ الآنَ ببدءٍ عربيٍّ،
ومن الصمتِ إشارهْ!
3- عري أول
هل أنا العاشقُ حقاً، وهي كانتْ عاشقهْ!
وأنا البيتُ الذي تحفظهُ أو عتبهْ
أم أنا الجسمُ الذي تضمرهُ في روحها المضطربهْ!
ما الذي أحرثهُ فيها، وهل أحرثها حقاً؟
وفي تربتها تبذرني
كشهابٍ أنجبتهُ صاعقهْ!
ربما ألبسها، تلبسني، أخلعها، تخلعني..
وأراها تتجلى وحدها محتجبهْ!
4- أول اللعب
كانَ صمتٌ واعتباط وارتباكٌ وقنوطٌ..
كانتِ البرهةُ عجزا..
ثم كانت برهةٌ من ذهبِ أو من جمانْ
يدخلُ العاشقُ فيها.. يتآوى عاشقانْ!
واحدٌ في اثنينِ كانا، اتحدا، وامتزجا،
واكتشفا بيتاً وكنزا..
وأفاقا يلعبانْ..
أهما من توءمٍ يطلعُ منهُ توءمانْ؟
فمن الرمزُ إذاً؟
أنثى اطمأنتْ لذكرْ
بالذراري يستوي، أو يبتكرْ
لم يزلْ تاريخهُ الأولُ رمزا..
وعلى الأنثى التي تصحبهُ أن تملأ الآنَ المكانْ!
5- فضاء للاختلاف
لتكنْ مختلفاً في موقفِ الغربةِ..
فيهِ تنتمي الروحُ إلى معنى قديمٍ وحديثٍ(1/35)
يعرجُ العاشقُ في قبّتهِ إذ كانتِ الهجرةُ في الداخلِ!
والخلوةُ تدعوهُ إلى الصحوةِ، والحضرةُ كالغيبةِ،
فيها انتهتِ الشهوةُ، شفّتْ كبياضٍ،
غمرَ الأعضاءَ والأجزاءَ والأشياءَ،
والحالُ هي الحالُ!
فهذا اسمُ عُطلتهُ مادةٌ ما،
وهو الياءُ، ومنهُ الألفُ!
*
لتكنْ مختلفاً بين وضوحٍ وغموضٍ،
بعد أن تنحنيَ الفكرةُ للسلطة، والسلطةُ للثروةِ!
هذا الجسمُ كاللاشيءِ، فيه اختلف المعنى،
وكانتْ كِلمٌ تختلفُ!
لتكنْ مختلفاً بعد حضورٍ وغيابٍ..
ربما تأتلفُ!
6- وردة الينبوع
وردةٌ نبهّتِ الينبوعَ، والتربةُ يعروها لهبْ
والأميراتُ الصغيراتُ اقتربنَ الآنَ في حقلِ القصبْ
وبخفينِ من الطينِ انحنى الطفلُ، الذي ضيعتهُ يوماً، عليّْ
بينما طيّرتِ الماءَ أكفٌّ بعنادٍ وغضبْ
والندى يقطرُ ما بينَ وجوهٍ وثديّْ..
للهوى كلُّ مدى، أو للمدى كلُّ هوى،
والصوتُ رجعٌ وصدى، أنشودةٌ خلفَ كوى
فيها ارتوى جسمُ الفتى، ثم اكتوى..
والضحى يلهو خفيفاً بالذهبْ
مثلَ طفلٍ حملَ الأرغفةَ الأولى من الشمسِ، ويدعوها إليّْ!
فانحنت، تضطربُ الكرمةُ بالخمرةِ، ما بين يديّْ
وأنا أشربُ كأسي، ثم أزكو في قناديلِ عنبْ!
آهِ من طفلٍ مضى في الأرضِ،
والينبوعُ شحَّ الآنَ،
والليلُ اقتربْ!
7- سيناريو حلم
كانَ لي أكثرُ من حلمٍ، وما زالَ..
ولم أحفل بتلك الفرجةِ المضطربهْ..
وأنا ماهمتُ بالجمهورِ، بالحلبةِ،
لم أخسر، ولم أربحْ، وما كنتُ شريكاً في رهانْ!
ثم لم يبق سوى أغنيةٍ أهمسها، تهمسني،
تهمسنا نافذةٌ أو عتبهْ..
والأميراتُ اللواتي كنَّ في البالِ، يغادرنَ زماناً طيباً كانَ..
وكانْ!
ربما أبحثُ عن مصباحِ شعرٍ هشمتهُ يدُ طفلٍ،
ربما أوقظُ جنيَّاً من الذاكرةِ الأولى،
وأصحو بين رؤيا ورمادٍ ودخانْ!
8- تربة الشعر
أهي التربة بيت وقماطٌ وسريرْ
تبحثُ النحلةُ فيها عن خطا دوّنتُها ما بين حقلٍ وقفيرْ
إذكوتني لذةٌ أبحثُ عنها،
وكوتني شهوةٌ تبحثُ عني!(1/36)
ربما ضيعتُ ما ضيعتهُ، كيما أغني
فأعِنّي، أيها الشعرُ، أعنّي!
آهِ من حلمٍ صغيرْ،
آهِ من فقري، ومن شعري، ومنيّ!
9- أول السحر أوآخره
هذهِ ساحرةٌ أعرفها من قبلُ،
والجسمُ وديعٌ، يانعٌ، حلوٌ، خجولْ..
خطفتني في الحكاياتِ، وردتني إليها
وبعينيها فضاءٌ وشموسٌ وفصولْ!
وهي أنثى الماءِ والجمرِ معاً، عذراءُ ينبوعٍ، وخضراءُ، بتولْ..
وهي رؤيا افتتحت بالخلوةِ الشعرَ..
ولكنْ! أيُّ رؤيا!
حملتْ كل طفولاتي، وغابتْ،
وعرا الروحَ اضطرابٌ وارتباكٌ وذهولْ!
هذه ساحرةٌ تحيا معي الآن!
فهلْ أحيا لتحيا؟
10 - سنبلة الأسئلة
ما الذي يفعلهُ الكائنُ إن ضاقتْ به أرضٌ؟
وماذا يفعلُ الطفلُ إذا ضلَّ طريقهْ؟
لم لاتضطربُ الوردةُ في كفِ فتاةٍ،
ويرى العاشقُ فيها ثمراتٍ وحديقهْ؟
ولماذا سقطتْ أنشودةُ الجمهور إذ كرّرتِ الصمتَ؟
متى ينتبهُ القمحُ إلى الملحِ الذي يفسدُ؟
هل يكتشفُ القارىء معناهُ؟
متى يختارهُ المعنى فيختارُ الحقيقهْ؟
ولماذا يهدمُ الشاعر ما يبني،
ويبني بالعباراتِ حضورهْ
بحروفٍ من سوادٍ وبياضٍ ونقاطٍ مهملهْ!
وهل الموتُ ضرورهْ
أوّلتهُ، وأشاعتهُ حياةٌ،
ثم لم يبقَ لها معنى سواهْ!
ومتى يستيقظ الشعرُ إذا قام المغني من ثراهْ؟
لمَ لا تبتكرُ التاريخَ أنثى
ضمَّها بيتٌ قديمٌ وحديثٌ، صار رثَّا
وانتهتْ في أفقٍ من أسئلهْ!
أيَّ وقتٍ سنرّبيهِ، وفيهِ سوف تنمو سنبلهْ!
11- وردة الذهب
لكَ تلكَ الوردةُ الأولى كأنثى من لهبْ
بكرتْ عشتارُ فيها، واستوت في مخدعِ اللذةِ،
والعاشقُ يأوي بين ثديينِ من الماءِ،
ويجثو تحت ينبوعٍ جرى، ثم تلقّى ما انسكبْ!
وردةٌ ما انفتحتْ، ما انغلقتْ،
إلا ليخضرَّ نسيجٌ وقماشٌ وعُرى
وردةٌ تنهضُ في قلبِ الثرى
ويربيها الذّهبْ!
12- قبر آخر
لمَ لا يجمعنا مأوى سوى قبرٍ جماعيٍّ،
وللكائنِ حفرهْ
قطرةٌ من مطر أو من دمٍ تحيي عظاماً بليت فيها
فهل تطلعُ في جذرٍ وينبوعٍ وبذره؟(1/37)
ومتى ينشقّ بيتٌ عن وريثٍ، لم تزل تغلبهُ الأنقاضُ،
أنقاضٌ من الأسلاف، أسلافٌ من الأنقاضِ،
والأرضُ التي يكبرُ فيها اقتسمتْ من قبلُ، أو من بعدُ،
ضاقتْ بالتماثيل التي يحرسها العبدانُ والسادةُ والأغرابُ،
والأوثانُ، إذ خالطها الكهانُ، يعروها هوى الألقابِ والأنسابِ،
والوقتُ الذي دونهُ الأعرابُ كالنسلِ الذي يرشحُ بالألفاظِ،
والوجهُ الذي مثل القفا، سيَّجهُ الرُحَّلُ والبدوُ بماءِ الشَّعرِ!
والشعرُ حدودٌ وسدودٌ ومهودٌ، ربما تختلُّ فيه لغةٌ،
تطمسُ معناها رموزٌ وكناياتٌ، تشابيهُ، استعاراتٌ..
فمنْ يجمعُ أعضائي وأجزائي على هيئةِ زهرهْ
أو على هيئةِ زلزالٍ لطيفٍ علنيّْ!
*
آهِ من قبرٍ جماعيٍ قديمٍ وحديثٍ، عربيّْ!
13- فضاء حجر
كلُّ وجهٍ تنتمي أمكنةٌ فيهِ
إلى أرض من الشمسِ، وأرضٍ من مطرْ!
تربةٌ بابلُ، آشورُ صخورٌ،
نينوى أم بعلبكُّ اقترنتْ بالضوءِ،
ثم انحدرتْ صورُ إلى البحرِ،
وللأهرامِ حفريّاتُ روحٍ معلنهْ..
فمن الطائرُ بين الأمكنهْ
والفتى من حجرٍ يُبعثُ حياً
بين أرضٍ من حجرْ
وفضاءٍ من حجرْ!
14- آخر الدنيا
أنتَ لم تهجمْ على دنيا سعيدهْ..
وانتهى أكثرُ من خمسينَ عاما
كنتَ فيها تغلقُ المعنى الذي تفتحهُ أنثى،
وتجلوهُ قصيدهْ!
وترى اللذةَ في السلطةِ والمتعةَ في الشيءِ،
ترى سحرَ حضورٍ دنيويّْ!
وإذا ما ضاقتِ الروحُ بجسمٍ ضاقَ بالدنيا هياماً ووهاماً..
وانتهت مثلَ طريدهْ
ما الذي ينتجهُ طينٌ مدمَّى، عربيّْ؟
ما الذي يفعلهُ الشعر الذي يأكلُ ما يأكلهُ،
والشمسُ مالتْ للغيابْ!
ولماذا كنتَ ما كنتَ!
مريداً أو شهيداً، ثائراً أو مستهاما..
*
أيها الشيخُ الذي لطخه حبرٌ خفيّْ
أنتَ لم تهجمْ على الدنيا!
فهل كانَ الذي حاولتهُ إلا كلاما..
أهي الفكرةُ وهمٌ أم حجابْ..
وعلى الدنيا التي تهجرنا، نهجرها، كانتْ سلاما!
15- آخر الانتظار
انتظر بعد ثلاثٍ برهةً للصلبوتْ!
انتظر قبلَ صياحِ الديك؟ِ شيئا!
انتظر حادثةً محتملهْ!
*(1/38)
هكذا يضطربُ العالمُ في شبهِ هدوءٍ وسكوتْ..
تنتهي منظومةٌ، أو نظمٌ، جزءاً فجزءا..
ينتهي الكائنُ، والقتلى انتهوا، والقتلهْ!
وإذا الحضرةُ كالغيبةِ!
فيها يلدُ الآنَ، ويحيا، كي يموتْ!
ينتهي جوعانَ، ظمآنَ، وعريانَ.. وكلُّ الأرضِ لهْ!
فمتى يُبعثُ فيها؟ هل يربي وردةً أوسنبلهْ؟
ومتى يبني عليها الملكوتْ؟
*
انتظر! ثم انتظر كارثةً مثقلةً بالأخيلهْ!
(((
نصٌّ للجنون في أربع لوحات
أو
سيرة مقهى، سيرة نصّ ،
سيرة شخص...
1- كائنات مقهى الفرح
جسدٌ يضطربُ، تكتبهُ أو يكتبكَ، وتمحوهُ أو يمحوك!فهل تبدأ تأويله، أم يبدأ تأويلك؟
جسدٌ مؤقتٌ تنتمي إليه، ولا تنتمي.. يشبهُ نصاً ما، وخطابه بلا معنى.. شافاً وكتيماً ينفتحُ، وينغلقُ!
وأيَّ مقامٍ تمتلكُ العبارةُ؟ وأيَّ موقفٍ يمتلكُ الوقتُ؟
جسدٌ هو أم فضاءٌ؟
يفتتحُ برهةً لكلامٍ نمتِ احتمالاته، ويتغيرُ، فيؤجلُ فيه النثرُ الشعرَ، وتدوّن أجزاءهِ لغةٌ ما.. يختلطُ الساكنُ فيها بالمتحرك.. فكيف يؤثثُ بديلهُ، نقيضه، هويته؟
هذه هي برهتهُ المضادةُ:
يتداخلُ فيه البياضُ والسوادُ.. تتآكلُ أبجديةٌ من رُقٌمٍ وقناطرَ وأقواسٍ.. وبين كائناتِ مقهى الفرحِ يعلنُ النثرُ سلطته!
جسدٌ ماديٌ أوشبهُ ماديٍ يدخلُ في لعبة الحديثِ والحداثة..يتكيفُ مع تحولاتهِ مختلفةً وغير مختلفةٍ... وأيةُ احتمالاتٍ تتوقعها منه لغةٌ مرئيةٌ أو غيرُ مرئيةٍ؟
في مقامِ الرؤيةِ يضيقُ النثرُ بالشعرِ! وعلى رصيفِ مقهى الفرح يضيق الشعرُ بالنثر!
خذ قهوتك إذاً، وأسلمْ عينيكَ لأبعادٍ كثيرة.. أشعةٌ تتهشمٌ بين السراي والسور والحديدِ والنخيلِ.. سروٌ وصنوبرٌ ودفلى بالأبيضِ والأسودِ.. جمهراتٌ وشاخصاتٌ وحافلاتٌ بالأسود والأبيضِ.. وجوهٌ وعيونٌ، مقدماتٌ ومؤخراتٌ، تتقنعُ بالطيفِ.. نكراتٌ بالأسود والأبيض يكتمل فيها النثر!
تأمل وحشية هذا الغسق، بربريةَ هذا الوقتِ..(1/39)
عين على الوجهِ، عينٌ على القفا، والعالمُ الصغيرُ يتسعُ معناهُ، فيضيقُ.. يتآوى فيهِ آدميونَ وآدمياتٌ، مهملونَ ومهملاتٌ حالمونَ وحالماتٌ، صابرونَ وصابراتٌ.. وينتظر فيه ما لا يُنتظر آباءُ وأمهاتٌ، بنونَ وبناتٌ.. إلخ. ومن زوجين وحيدين أو كثيرين يكتملُ المذكرُ بالمؤنثُ والمؤنثُ بالمذكرِ والشعرُ بالنثرِ، يؤنثُ نصٌّ أعضاءَهُ، ويذكرها، ويؤسسُ جسدٌ للجسد المضاد.. وفي برهةٍ مضادةٍ يتناسلُ هواءٌ معدنيٌّ بأدمغةٍ معدنية، وليتكاثرْ أنسيٌّ وجنٌّ وحيوانٌ وطيرٌ وبذرةٌ..
عينٌ على قطعةِ النردِ، وعينٌ تحكُّ المكانَ بلذةٍ بريئةٍ!
يخرجُ المكانُ من المكانِ.. يدخلُ الكلامُ في الكلامِ.. يتغيرُّ الشكلُ من داخلٍ، ومن خارجٍ، وتفسدُ الجهاتُ.. فهل يتحول جسدٌ أم تنقرضُ لغةٌ، والوقتُ هو الوقتُ؟
عينٌ على الخارجِ: عجوزٌ يستندُ إلى عكازِة الضرورةِ.. ولدٌ يتأمل ساعةَ الميدانِ، ويرددُ: (اللهُ يخليك! خلني أمسح حذاءك).. برجٌ أسمنتيٌّ، برجانِ، ثلاثةٌ، أبراجٌ تحتلُّ فضاءَ البلدةِ.. مرايا بناء (بلازا) تتشحُ بأطمارٍ.. تتسخُ نجمتا مطعم "طليطلة" وفي جنينة " الدبابير " شخص يبسط كتباً عتيقة وجديدةً، والفتى بدفتر وقلمٍ وممحاةٍ يعلكُ حلماً لذيذاً... ومن شجرةِ الرصيفِ تطلعُ جنيةٌ، وأنتَ تتأملُ الوقتَ!
( عاشق النبيِ يصلّي عليهِ..)
أهيَ جنيتكَ الأولى أيها البهلول؟
يخرجُ الأنسُ من الجنِ، كما تخرجُ الجنُّ من الأنسِ، ويخرجُ الحيُّ من الميتِ.. يخرجُ الشعرُ من النثرِ أو النثرُ من الشعر، كما يخرجُ اللاشيءُ من الشيءِ!
العينُ على الخارجِ أو في الداخلِ، فخذ قهوتكَ إذاً..قطعةُ النرد ترتمي على أكثر من وجهٍ.. ورقُ اللعبِ يمشطُ الأكفَّ، يوزعُ الأصابعَ.. مجذوبٌ يقبلُ جبينَ زبونٍ، ويهتفُ: أعطني خمسَ ليراتٍ! ويرتفعُ أذانُ المغربِ، يشفُّ عن معنى ما، فلمَ لا تنتجُ قوةُ الروحِ جسداً مختلفاً؟ وهل تعكسُ شهوةُ الجسدِ روحاً مختلفةً؟(1/40)
عتبةٌ وعتباتٌ، ممرٌ وممراتٌ، شاخصاتٌ وأشخاصٌ.. وهذا المكانُ كلهُ للروحِ وللجسد!
وفي برهةٍ غامضة تطلعُ جنيتكَ الأولى من شجرةِ الرصيف:
عينانِ كوكبانِ، جديلةُ سنابلَ على ثديينِ، عنقُ ماءٍ، سرة مسكٍ، فخذانِ من طيب.. إلخ ويعبقُ المكانُ برائحةِ الغيابِ!
أهيّ جنيتكَ الأولى حقاً؟
ومنذ ثلاثةِ عقودٍ أو أكثر انتعلت خفاً سحرياً، غبتما في حلك شارع (المتنبي)، وهمتما في خلوة (الدبلان)، وافترقتما على طريق (الشام) بعد أن اختفلتما قرب (القلعة).. فهل تكلمتما على الشعر وحده؟ وهل كانت حلمتْ بالثروةِ، والوقتُ ليسَ وقتكَ!
العينُ في الداخلِ، أو على الخارجِ.. يقايضُ بهلولٌ الشعرَ بالنثر.. يبايعُ سلطة النردِ في برهةٍ مضادة.. حداثةٌ متوحشةٌ تهجمُ على الداخلِ أو على الخارجِ، وفي مرآةِ الشارعِ تتثاءبُ جنيةٌ أولى تفوحُ من فمها رائحةُ الثومِ، والشهوةُ غامضةٌ وواضحةٌ!
جسدٌ تكتبهُ ويكتبكَ.. تمحوه ويمحوكَ.. يشبهُ نصاً ما يؤجلُ فيهِ الأصلُ النهاية!
خذ قهوتك إذاً قبلَ أذانِ المغربِ أو بعدهُ! ومنذُ بضعةِ أعوامٍ اعتادتْ زوجك عبارةً ترددها: إذاً سألَ أحدٌ عني فأنا في مقهى الفرحِ؟
هذه كائنات الغسقِ عتيقةٌ وجديدةٌ، قديمةٌ وحديثةٌ!
وفي المكان رائحة اللقاحِ بقهوةٍ وشاي وتبغ وتنباكٍ.. وفي الفضاء رائحةُ عسلٍ أيضاً.. الوارثونَ والوارثات، على أرصفةٍ وشوارعَ، وأذانُ المغربِ يرتفعُ جميلاً وجليلاً، بعيداً وقريباً.. يتوقفُ نردٌ، يهدأ بيدقٌ، يجتمعُ ورقٌ.. وتتجهُ خطا قلقةٌ إلى جامعِ في منعطفٍ.. يطمئنُّ الماءُ لسيرتهِ، ويكررُ الكلامُ حركاتهِ.. الجسدُ هو الجسدُ، والوقتُ في الثروةِ، والثروةُ في الوقت!
عينٌ في الداخل، أو على الخارج.. عينا مجذوب على فنجانِ قهوتكَ.. خذ قهوتك إذاً، وأنت تدخنُ، وحدث، وأشكرْ...(1/41)
خذ العالمَ، خذ الحياةَ بالشعرِ وبالنثر، الأنقاضُ القديمةُ تؤرخُ لأنقاضٍ حديثةٍ.. جسدٌ يضطربُ، وينحني غسقٌ على كائناتٍ تنحني فيه دائماً!
كفُّ طفلٍ تقبضُ على يد أمهِ.. بطنُ الأم في لباسِ الحملِ، والأبُ يشمُّ تويجَ رأس ابنهِ التوءم فرحاً، والابنُ الآخرُ يمدُّ لسانه لزبونٍ، والبنتُ الصغيرةُ تنفجرُ ضحكتها كوردةٍ مرئيةٍ، أما جنيتك الأولى فيشفُّ جسدها عن قميصٍ، والوقتُ ليس وقتكَ!
*
العالمُ كلهُ لكَ.. فهل صليتَ على النبيِ؟
على وجهكَ نورٌ، والأرضُ تتسعُ لتضيقَ، تتحولُ شرفةً أو رصيفاً أو كرسياً، تتآوى أمام كرة تلفارز على عشاءٍ شبهِ علني، يؤاكل فيه الشعر النثر، وينحني الوقتُ للمتعةِ!
وفي غيابٍ يشبه الحضور، أو حضورٍ يشبه الغيابَ، وفي وضوحٍ يشبه الغموض، أو غموضٍ يشبه الوضوحَ تكتملُ سيادةُ النصِ.. وتستعينُ على الوضوحِ بالغموضِ! بين الغموضِ والوضوحِ تستعينُ بالنثرِ على الشعرِ.. تسمي بسلطةِ جسدٍ مرئي أو غير مرئيٍ، وبسلطةٍ جسدِ مرئيةٍ أو غير مرئيةٍ!
خذ قهوتك إذاً.. لا ثروةَ في هذا النصِ، ولا ثورةَ فيه.. فأيةُ احتمالاتٍ تنتظرُ من كتابةٍ تشبهُ الكتابةَ، والوقتُ هو وقتُ الآخرِ، وكلُّ شيء ساكن!
ليسَ في الأعضاءِ شهوةٌ بعدُ، ليسَ في الأشياء قوةٌ أيضاً.. والنثرُ في الشعر، والشعرُ في النثرِ!
الجنيةُ لم تطلعْ من شجرةٍ رصيفٍ أو مرآةِ شارعٍ.. لم تثمر شجرةٌ من شرقٍ أو غربٍ.. لم تخضر شجرةٌ في المكانِ.. لم تتفتحْ زهرةٌ..
تكلم وحدك على المقدر والمقدور، وأسلم عينيك لهذه التطورات...
بين الحلم والجنون هذه البرهة من يقين! ولكل غسق جمهراته، ولكل وقت نكراته، أما الجسد فمؤقت كهذا النص، تنتمي إليه، ولا تنتمي.. وكل شيء يتعطل!
يرتفع أذان المغرب في أكثر من فضاء..(1/42)
الرصيف شطّ، والشارع بحر، والعينان مجذافان.. لم يغير النهر مجراه، والأنقاض تتجاور في المكان، والأعضاء المهشمة لم تلتئم بعد.. فلم لا يتحد الشعر بالنثر والنثر بالشعر؟ وكيف لا يختلط المذكر بالمؤنث والمؤنث بالمذكر؟ وأية عناصر تنتج جسداً مختلفاً؟ وأي خطاب ينمو في هذا النص، والوقت هو وقت الآخر، الوقت ليس وقتي!
إذا سأل أحدٌ عني فأنا في مقهى الفرحِ، أجمعُ موادَ ذاكرةٍ من جمهورية حجرٍ أسود وأبيضَ وخلايا صلصالٍ وأقواسِ قمحٍ وقناطر ضوءٍ ومنحنيات نحل وأفراسِ شهبٍ وعصافير ماءٍ وأعشابِ رعدٍ وثلجٍ ومطرٍ.. أجمعُ مواد جسدٍ من خشب وطينٍ وحجرٍ.. إلخ، أجمعُ موادَ الشعرِ في النثرِ، وأنا أتأملُ، وأتألمُ..
هكذا تسوي يدانِ من طبيعةٍ وفطرةِ خميرةً مختلفةً وغيرَ مختلفةٍ، ويفتتحُ الهواءُ كله المكان كله.. ومن كل زوجينِ ينمو ورثةٌ.. تتسعُ أرضٌ... تمتد سماءٌ..
عينٌ على الداخلِ وعلى الخارجِ، والجسدُ تبدأ تأويله، أو يبدأ تأويلك.. فخذ قهوتكَ على رصيفِ مقهى الفرحِ وفكر -إذاً أردتَ- بقوةَ الروحِ، والعالمُ ليس لكَ وحدكِ.. العالمُ ليسَ لهم وحدهم!
((
2- حديث الأعرابي
لم تنضجِ الفكرةُ بعدُ!
النصُّ الذي تحاولهُ حتى الآنَ قناعٌ، والقصيدةُ التي تتوقعُ أن تكتبها جزءٌ من حلمٍ، والجمرةُ في يدٍ وفمٍ ودماغٍ.. أما العينُ التي ترى في الخارج فلا ترى من الداخلِ، وقد تأخر الحلمُ كثيراً، وعليكَ أن تحلمَ، فلا تحزنْ أو تفرحْ..
بعد خمسةِ عقودٍ وأكثر ليس لسلطةٍ ما معنى، (سلطةُ الحلم أو سلطةُ الفكرةِ..)، وبعد خمسة عقودٍ وأكثر لا تنفعك ثروةٌ تأخرتْ، وتتأخرُ قليلاً أو كثيراً..(1/43)
ولا معنى لأيةِ علاقة حبٍ مع فتاةٍ مريضةٍ أو سيدةٍ محترمةٍ، وبعد أن تتآكل شبهُ جماعة تحتويك، لا حاجةَ لقرابةٍ قديمةٍ أو لصحبةٍ حديثةٍ وعابرةٍ عقدتها مصادفةً. وبعد لقاحٍ وخصابٍ وولادةٍ سترى السوقَ تأكلُ بنيكَ وبني بنيك، فلا تطرب لإنجابٍ أخير. وتلك الجنيةُ التي تتكلمُ طفولتكُ عليها لعبةٌ شعرية مملةٌ!
تأخرتِ الفكرةُ إذاً، والقصيدةُ التي تحاولها لا تأتيك، فتحالفْ مع نثر العالم!
وعلى رصيف مقهى الفرح تستطيعُ أن تدرّبَ عينيكَ على الرؤيةِ، وتستطيعُ أن تتحولَ إلى نكرة بين نكراتٍ في برهةٍ لا قوةَ فيها ولاولايةَ.. وبين رؤيا وحمى قد يفاجئك شخصٌ من الأعرابِ بنبأٍ ونبوءةٍ!
المقهى من داخلٍ ومن خارج كمثل بيتٍ، تنتمي إليه كائناتهُ ولا تنتمي.. العالمُ بعضهُ أوكلهُ تضطربُ فيه حيواناتهُ، يروّجُ وجوهاً كمثل نقودٍ مزّروةٍ يحشو بها رجالٌ محترمون، أعضاءهم الداخليةَ!
ألاحظ في المكانِ سلطةَ نصٍ شبه قديمةٍ وشبه حديثةٍ. ويضغطُ نثرٌ اعتياديٌ أدمغة السادة.. وتنتشر روائح كريهةٌ ونتنةٌ في فضاءِ روحٍ عامةٍ، تقولُ شخوصه ما يقالُ وما لا يقالُ..
هي سيرةُ محنةٍ ومجاعةٍ يترجلُ من داخلها عبادٌ صامتونَ وثرثارونَ وصابرونَ ومتعبونَ ونادمونَ، بكوفياتٍ وقبعاتٍ ومناديلَ مزركشةٍ، بين نخلاتِ زينةٍ وأعمدةِ كهرباء..
تبعثرُ ساعةُ الميدانِ الرئيسِ أسنانها وعقاربها وأهلّتها، فأعتقلُ ناقتي، وأتأملُ على كرسي الانتظار سماءً من قشٍ وتبنٍ ورمادٍ.. أعاينُ أثلاماً من تبغٍ وتنباكٍ ونردٍ وورق لعبٍ وشطرنجٍ وقهوةٍ وشايٍ.. فلم لا أعاني مع أبطالِ برهةٍ أخيرةٍ ومتأخرةٍ فتوحاتٍ تتجعدُ فيها أوراقُ كلامٍ تشحنه مطبعةٌ شبهُ حديثةٍ بعصافير ميتةٍ ورئاتِ أطفالٍ؟
ولمَ لا تدهشني رؤيا غامضةٌ، وأنا على كرسىّ الانتظارِ، يحدثني فيها شخصٌ من الأعرابِ عن غمةٍ لا تنكشفُ، وحياةٍ كمثلٍ الموتِ، ويتكلمُ على جمهراتِ عباد تعدمُ تحت الأرضِ!(1/44)
تختلطُ أقنعةٌ بوجوهٍ، يدونُ نصٌ مقدسٌ نصاً مدنساً، وتتداخلُ نصوصٌ مرئيةٌ وغيرُ مرئيةٍ، يهربها لصوصٌ مبهمون!
يهتف بي شخصٌ من الأعرابِ: لا تقرأ، ولا تكتبْ! فما تكسبهُ من شعر يشبه النثر، أو من نثر يشبه الشعرَ، لا يساوي ثمنَ ابتسامةٍ أصطنعها في أذنِ مكتبِ عقاراتٍ أو أعلافٍ أو خضرٍ.. ويقول لي: هذا الوقتُ ليس وقتكَ!
لكلِّ كائنٍ قناعهُ، فاختر قناعاً، به تسعى على طرقٍ تزدحمُ بمخبولين ودراويشَ ومقامرينَ وعاطلينَ ومبتورينَ.. وضع رأسك بين رؤوس ملأٍ يتكيفُ مع أصفادهِ وسلاسلهِ وأقفاصهِ وبيارقهِ وأوسمتهِ.. ولكلٍ عضوٍ ما كسبَ! هل كانَ الأعرابيُّ شخصاً انتظرته من قبلُ، يخاطبني، ولا أراهُ، وأخاطبهُ فلا يراني!
وكيفَ تحوّلَ رصيفُ مقهى الفرحِ إلى رصيفٍ من نوع حديثٍ، وأنا أبتلعُ تظاهرةَ حزنٍ وفرحٍ على كرسىّ انتظارٍ.. وانتميت إلى عالم لستُ منهُ، ولا مكانَ لي فيه.. لم أكن فيهِ من قبلُ والآنَ!
أكتشفُ نصوصاً غير مرئيةٍ في برهةٍ جسديةٍ، إذ صعبت الولادةُ من تحتُ وفوقُ.. ويتفسحُ لحمُ مؤسسةٍ شبهِ حديثةٍ تعرضُ أدمغةَ فقراءَ وأجراء ومتسولينَ وقديسينَ ومماليك ومملوكينَ..
وبين فيءٍ وضوءٍٍ يرتفعُ أذانٌ، ويعلو صوتُ الباعة!
هو ذا كوكبٌ شبهُ أرضيٍّ مختلٍ للبيعِ، ولابد أن يختزلهُ مختبرٌ للرؤيا!
*
في مختبر للرؤيا سلع موتى وأحياء من كل فصيلة ونوع وجنس، وفيه صيارفة بوجوه كمثل الأصابع، وبأصابع كمثل أظافر معدن، وفيه كل شيء للبيع: عبارة حبّ... جناح زهرة.. خلية دماغ.. قوائم غزالة.. خميرة يد.. مدية فكرة.. شعاع عين.. إلخ! ويخيل إليّ أن ثلاجة الدينونة تفتتح فصلها الأخير بمباراة قصيرة تستشهد فيها جمهرات تشاركني بطولتي، وأشاركها استشهادها!
وبعد نشيد فرح مؤقت طارىء يستوي المرئي وغير المرئي، يستوي شهداء وقتلة، ويتآخى عارفون وجاهلون!(1/45)
ليكن إذاً هذا النثر الاعتيادي فاتحة لجنون، يخوط نصوصاً تنطوي فسيفساء آثارها على بدو وحضر، تنظم عواصمهم قداساً إباحياً يلهو بتماثيله!
وفي مختبر الرؤيا مشروعُ إنسانٍ يبتلعُ في نصه شبهُ النثر شبه الشعر، وتجابه الألفُ الياء، والحياةُ التي كمثلِ الموتِ ترضى بموتٍ كمثلِ الحياةِ، وكل شيء للبيعِ، والعالمُ سوقٌ تنتجُ فيه الثورةُ الثروةَ.. السوقُ بيانٌ، والبيانُ كلامٌ!
أستطلعُ النثر على رصيف مقهى الفرح في وجوهِ المارةِ ودليلِ الأسرةِ وسيرةِ قبيلةٍ أهليةٍ.. وألاحظهُ في عيونِ الصباحِ وأطباق العشيةِ، في وجوهِ أكفٍ وأصابعَ وأظافرَ وأسنانِ شحنةِ أرزٍ فاسدةٍ.. وهكذا أحررُ ميراثه الجميلَ من تفاعليه بكثيرٍ من الغموضِ، وبقليلٍ من الوضوح يلطخُ عنواناتهِ بياضٌ يهبني قليلاً من الفوضى وكثيراً من العدم!
ولابد أن تؤرخ مدائحُ ومقاماتٌ وليلاتٌ ذهبيةٌ بطولة أفواهٍ رسميةٍ وشبه رسميةٍ وشهادةُ أعضاءَ معلومةٍ ومجهولةٍ!
أهذا هو العالم حقاً؟ وهل كنتُ مشروعَ إنسانٍ عطّلت سلالمهُ فكرةً تكتملُ بسلطةِ الجنونِ؟
لابدَّ من موتٍ آخر، ولابد من ولادةٍ أيضاً.. وعليَّ أن أشرب كأسي وحدي أو مع غيري.. ينبغي أن ألتحق بأرضٍ لم أورثْ فيها ينبوعاً أو بيتاً أو حقلاً.. ينبغي أن أستكشف تربةً لم تورثني قبراً.. وينبغي أن أتكلم على العشق والعاشقِ والمعشوقِ والشهادةِ والشاهدِ والمشهودِ، كي أنسى لذةَ بلاغةٍ تصحبها شهوةُ كتابةٍ.. وعلي أن أخلو بنصٍّ لا وحدةَ فيه ولا كثرةَ!
تفقسُ إشاراتٌ وعباراتٌ.. ترنُ أصواتٌ وأصداءُ، بعد أن دقت ساعةُ الميدانِ الكبرى.. تتجعّدُ أقوالٌ وضحكاتٌ وقهقهاتٌ تفوحُ رائحةُ رجالٍ وأشباهِ فحولٍ، أما عيونُ النسوةِ فتئنُّ خلف عربات السوقِ!
لا نعمة في هذه الخلوةِ على رصيفِ مقهى الفرحِ، فأية بركةٍ في حلمٍ لا قوةَ فيه ولا ولاية؟(1/46)
أشهدُ جمهراتٍ من أرانبَ وفئران.. تتناذرُ سفاراتٌ ومبادىءٌ وراياتٌ.. يرتفعُ أذانُ المغرب بدراويشه وبهاليلهِ إلى سماءٍ سابعةٍ، ويأخذني صوت المؤذن، بينما يهتف بي شخصٌ من الأعراب: اُهجمْ على الحياة، يا فتى!
أدخلُ السوق إذاً وكل شيءٍ للبيع: جمجمةُ قديسٍ، رداءُ أمبراطورٍ، أسنانُ مومسٍ، لباسُ يرقةٍ، قبعةُ عصفورٍ، أعضاءُ ينبوعٍ، عذرةُ ثمرةٍ.. إلخ، تفتتح جوقاتٌ شبه علنيةٍ وشبه سريةٍ مزادَ رخوياتٍ تكشفُ عوراتها عن أميراتٍ صغيراتٍ تفتحت أحواضهن عن زهراتِ فضةٍ وياقوتٍ وذهبٍ.. وفي أقفاصِ السوقِ أقنعة كهنةٍ ووجوهُ حكامٍ وعيونُ ساسةٍ وأصابعُ شعرٍ ونثرٍ.. وعلى درجاتها مدائحُ ومعلقاتٌ شبهُ قديمةٍ وشبهُ حديثةٍ!
أتكيفُ مع مختبر للرؤيا، وأسلمُ عينيَّ للكون والفساد.. أصغي لحديثِ شخصٍ من الأعرابِ نبّهَ خلوتي، وأنا أعقل ناقتي على رصيف مقهى الفرح!
كل عضو فاسد، كل جزءٍ ينحطُّ.. الكوكبُ الآدميُّ يتآكلُ من داخلٍ،/ ومن خارجٍ.. تنحني سماءٌ، تنحني أرضٌ، وينحني فضاءٌ بينهما.. كل أنثى تدشن جبانةً لذكرٍ، وكلُّ ذكرٍ يتذوق لحم أنثاه ميتةً، وللسلطةِ شرائعُ تتعفنُ قطعانها!(1/47)
غموضٌ جميلٌ يسقطُ فيه كلُّ شيء. وأقولُ: أيُّ نصٍ يؤاكلُ جنونهُ، وأقولُ، هذا موتُ اللغة.. ويضحك الأعرابيُّ من خلوتي في الحزن والفرح! ولكنْ! هل ينبغي أن أتفاءل قليلاً أو كثيراً، وبعد إشارة أو إشارتين أو ثلاث، وبعد بضعة عقود لابد أن تجيء جنيةٌ أولى، وتمسحَ على جبيني، ونتباوح، وترش قبضة ترابٍ على جسدينا، وتهتفُ: فلأكن أرضاً، ولتكن فلاحاً يحرثني! وأخضرُّ، وتخضرُّ، ويخضرُّ حائطٌ وسريرٌ وعتبةٌ وماءٌ، وإذ بذريّة ذكورٍ وإناثٍ تضاعفُ بلاداً فقيرةً وشحيحةً، نمت فيها بذورٌ وجذورٌ.. وتقول لي سترى بنيك وبني بنيك، وستشبع من عشرةِ الأرض والنساء، فأرتجفُ، وأتعرّقُ، وأدهش.. يغمرني ظلُّ نورٍ وظلٌّ من دخانٍ.. أنظرُ وأحدقُ، وأغمضُ عينيَّ.. أفتحهما فلا أرى أحداً!
أهو مختبرٌ للرؤيا أم مقامٌ في الجنون؟! أهي غيبةٌ أولى أم ظهورٌ آخرُ؟
ويسلمني رصيفُ مقهى الفرحِ إلى حياةٍ لا بطولةَ فيها ولا شهادةَ.. تحترقُ عباراتٌ وإشاراتٌ ورموزٌ.. فماذا يلدُ من تحت؟ ما الذي يلدُ من فوق؟
تتهشمُ وجوهٌ وأكفٌ وعيونٌ وأقدامٌ وأنابيبُ اختبارٍ.. تتراكضُ فئرانٌ وأرانبُ وحوجلاتٌ.. ملكوتٌ شبه آدميٍ يشهدُ على نهايتِه!
*
لكَ في الأرض والسماءِ حضورٌ،
وبكَ العصرُ ينتهي والأصولُ
كيف ألقاكَ، إذ حللتَ، وأصفو،
لمَ لا أهتدي، وأنتَ الدليلُ؟
لا أسميكَ، والوضوحُ غموضٌ،
أو أكنّيكَ، والتجلي حلولُ!
أنا لم أكتمل، ووجهكَ وجهي،
لغةٌ جُسِّدتْْ، ورؤيا بتولُ..
*
لم تنضجْ الفكرةُ بعدُ إذاً. ولم يكتمل نصٌّ بين دهشة وحيرةٍ وشكٍ وتساؤلٍ.. فأية عينٍ تدربها؟ وأيُّ دماغ تربيه؟ وكيف يدفنُ الأمواتُ موتاهم؟
يخيلُ إليَّ أن شخصاً من الأعراب بعباءةٍ من نورٍ ينبهُ خلوتي على رصيف مقهى الفرح، ويطالبني أن أهجم على الحياةِ بين جمهراتٍ تتفسخ تحت الأرضِ وفوقَ الأرض.!
وأتوقعُ أن أكتب قصيدةً أنا قارئها الوحيد الذي ينتجها بعد أن يهجر خلوته على رصيف مقهى الفرح!(1/48)
وقد أستمرُّ في محاولةِ نصٍّ مجنونٍ!
((
3- البهلول والعالم
... وبعد بضعةِ عقودٍ ينبغي أن أنتظر على رصيفِ مقهى الفرحِ ذبيحةً من قهوةٍ فحسب!
ينبغي أن أنتمي إلى معدنٍ نادرٍ ونبيلٍ وجميلٍ يروِّجُ نكراتِ السوق. وأستطيعُ أن أثرثر مع عصافيري الصغيرةِ عن إخفاقٍ شخصيٍّ.. ينبغي أن أحتفل بنثرِ العالمِ!
وأستطيعُ أن أتكلّم على مطبخ شعريّ حديثٍ، طهاةُ عروضهِ أوزانهم منكسرةٌ ومتكسرةٌ ومتداخلةٌ..وبعد بضعةِ عقودٍ ينبغي أن أتلكم على ثورةٍ ما كانتْ في مخيلةِ سلطةٍ ما، ولم تكنْ في مخيلتي..
وفي برهةٍ أخيرةٍ ومتأخرةٍ تبلى ذاكرةٌ من بيانٍ مبينٍ.. ويقتسمُ ورثةٌ من أنسٍ وجنٍ رغيفي!
يتهشمُ الجسدُ الوحيدُ والكثيرُ.. وتهبطُ فحولُ الظلِّ الحارةُ على الأحياء والأشياءِ.. وبين ثرثرةٍ داخليةٍ وحوارِ لاعبِ شطرنحٍ مع مربعاتِ بياضٍ وسوادٍ يلتبسُ كلامٌ!
وعلى رصيف مقهى الفرح بهلولٌ وحيدٌ تخطفُ عينيهِ فراشاتُ دخانٍ وغزلانُ رمادٍ.. فماذا يفعلُ بحداثةِ هذا المكانِ كلها؟ وماذا يفعلُ بهذا الجنون كلَّه؟
فلأمتدح انحطاط الجسد! ولأتكيف مع نصٍ منفردٍ ومجتمعٍ!
لا فعلَ، ولا حركةً، ولا إيقاعَ.. بين الحلمِ والرؤيا تسقطُ فكرةٌ.. بين يقينٍ وظنٍ تتلاشى كلمةٌ.. بين صمتٍ وصوتٍ تنتهي شبهُ كتابةٍ.. بين شهوةٍ ومتعةٍ تتآوى قطعانُ ذكورٍ وإناثٍ.. وبين حياةٍ وشبه حياةٍ ينهزمُ الجسدُ كله!
... وفي برهةٍ أخيرةٍ ومتأخرةٍ ألاحظُ أمكنةً حديثةً ومعادنَ هشةً ورديئةً ووجوهاً خبيثةً، وأختنقُ برائحةِ الشعرِ والنثرِ.
وأتوقعُ زلزالاً ما، وأحسُّ أن شيئاً سيسقطُ في جهةٍ ما من العالم!(1/49)
هكذا أفترضُ أنني أشكّل فقهَ جسدٍ آخرَ، وأزعمُ أنني أطوّرُ نصاً غير مشتركٍ مع الآخرِ... أمحو أسمائي، بعضها أوكلها.. أدخلُ في تجربةٍ، وأخرجُ منها.. أفترضُ أنني أكتملُ أكثر مما ينبغي، وأتفكك أكثر مما ينبغي، وأتقنّع بخطابٍ يلغي اللغة واللغة المضادة والبديلة.. لا خصوبة فيهِ ولا كثافة ولا شفافية!
ألطخُ بياضاً نما فيهِ الشبيهُ والضدُّ. ويتراكمُ ورقٌ، يتناسلُ، يضاعفُ البياضَ، وللبياضِ أحوالهُ ومواقفُه!
تتداخل أعضاءُ، تتخارجُ أجزاءُ، تختلط موادُ وعناصرُ، ويدونُ جمهورُ المجازِ نصاً اعتباطياً.. فأيةُ أبجديةٍ أنتمي إليها؟
غائبٌ أنا.. وأزعمُ حضوراً في العالمينَ... أنقسمُ، وأدعي حضور الجسدِ.. أثرثرُ، وأعلنُ: هذه لغتي!
أحلمُ بمتّحدٍ، وأستعيرُ أمكنةً بدلاً من أرضي، وأستعينُ بلسانِ الآخرينَ على لغتي، وبحياةِ الغيرِ على حياتي.. فأيُّ معنى يعينه فضائي؟
تلك شجرةٌ مرئيةٌ وغيرُ مرئيةٍ، لا شرقيةٌ ولا غربيةٌ، أراها، ولا أراها، تكادُ تضيءُ الأحياءَ والأشياءَ، يتآكلُ تحتها السالفونَ، وينحني حفدةٌ، وتهرُّ أغصاناً وأوراقاً وبراعمَ وثمراً.. وبالنثرِ يحشو أعرابٌ حديثونَ أقمطةً وأدمغةً وأكفاناً، وعلى رصيفِ مقهى الفرح يبشرُ بهلولٌ بالفرح!
آهِ، يا أبتِ: هل العالمُ جميلٌ ورديءٌ إلى هذا الحد؟
أعنّي إذاً على أرانبِ مؤسسةٍ حديثةٍ وفئرانها!
أعني على خبث الباعةِ وأقنعةِ الحريةِ ومعلّباتِ الحداثةِ ومجاعة التقدم... أَعِنْ شبه مجتمعٍ وشبه شعبٍ وشبه الأشباهِ وشبه الأصفار على الحزن مرةً وعلى الفرح مرتين!
يلهثُ أعرابيٌّ، ويتساءل منتشياً بحداثةِ نفطٍ وعظام موتى: من أين طريقُ الشام، يا ولدُ؟ ويتساءل ضدّي: من أين هذه الثروة كلها؟ ويتساءلُ شبيهي: هل الثروةُ هي الثورةُ؟(1/50)
وأتساءلُ عن جنية صحبتني منذ طفولتي، وخيول اسمنتٍ تحاصرُ آدميينَ من اسمنت يتنفسّون هواءً اسمنتياً، ويتزاوجون بين نبات اسمنتي وماء اسمنتي، وتلك قطعان ذكور وإناثٍ تتساءلُ عن أخبارِ الساعةِ.. فعمَّ يتساءلونَ؟ وأيُّ نبأٍ عظيمٍ عن السلامِ والتسليمِ والعربِ والمسلمين؟
.... ومنذ أكثر من ثلاثة عقودٍ وأنا أرتّب أجزاء الجسدِ!
ومنذ أكثر من خمسةِ عقودٍ وأنا أشقى، وأردّدُ مقطعاً من أغنية شائعةٍ (نور جمالك آيةٌ.. أيةٌ من الله.. آمنتُ بالله) .
ومنذ أكثر من ثلاثة عقودٍ أرتّب أجزاء قصيدةٍ امتلكتني، وأقاتل أشباحاً من بينها الدهرُ، وأتغير، وأسلمُ وجهي لهذه التطورات!
هل هذا وجهي حقاً! ومتى رهنتُ قميصي؟ وأين اختفت جنيتي؟ ومن أكلني؟ وهل هذه الحداثة كلها بلدتي؟
يحتشدُ الجمهورُ والمكانِ بالنثر وبالشعرِ، ولا مادةَ في هذا الكلام، ولا رؤيا في تلك العبارة.. لا وقت لحكمةٍ أو غوايةٍ.. وللثروةِ المفاجئةِ ماضهيا القريبُ أو البعيدُ.. ولا أصدقاء في هذه الممراتِ السعيدة المنغلقة والمنفتحةِ.. لا أصدقاء لتلك الأضرحة!
وأي نصٍ تنتجهُ مذبحة شعرية، وغزالاتُ الكسوفِ تلطخُ أرصفة منها رصيفُ مقهى الفرح، وأنا أنتظرُ القرن الحادي والعشرين متأخراً قليلاً أو كثيراً.. تنتظره معي قصيدةٌ لم أكتبها بعد!
ماذا أفعل بهذا النثر كله إذاً؟
أختتمٌ به غسقاً أخيراً من رمادِ القرن العشرين، وأنا أتساءلُ: هل ينبغي أن أواجه هذا الفرح كله بقليلٍ من الحزنِ؟(1/51)
ليكن ما يكونُ! أستعينُ بالشبيه وبالضدّ، وأفرحُ، فالعالمُ يحب الفرحانَ.. أمتدحُ أيَّ نشاطْ.. أصغي لأية ذاكرةٍ، والأسلافُ ينقرضُ بعضهم بذوراً وعناصر ونسجاً، وبعضهم الآخرُ يبوِّبُ تاريخ ممالكه وصحاراه.. يعده، يرتبهُ، يخلخلهُ، يهتكهُ، ليمسخَ فيما بعدُ.. ويتشردُ في عالم اعتباطي أو اتفاقيٍ أو احتماليٍ.. يختلف.. يتماثلُ.. يتعددُ.. يتنوعُ، ولا يتكاملُ..وفي برهة أخيرةٍ ومتأخرةٍ يتناسلُ الجميعُ في غيابِ المذكر والمؤنث! يتشكل جسدٌ من خارج،لا هيئة له، ولا شكل.. لا جنس، لا نوع، ولا فصيلة... تنفصلُ أجزاء مؤنثةٌ عن أجزاء مذكرةٍ.. وتُفرجُ عن ذاكرةٍ على هيئة هذه المقهى الرثةِ!
وفي برهة أخيرةٍ ومتأخرةٍ يؤجلُ الكلامُ رموزهُ، ويتقنعُ الكائنُ بحركةٍ تنمو من خارجهِ، والنص الكثيفُ، الكتيمُ، شبهُ المغلقِ، يربي خطوطاً وفواصل وشقوقاً وخروقاً، تتدفق حيواناتُهُ بالسوادِ، تفاجئهُ عيونٌ، يفاجىء بعضها بعضاً، والخطا تتجاذبُ وتتنابذُ، تتصلُ وتنفصلُ.. تقلصُ الكونَ وتقصيهِ أكثر مما ينبغي!
فهل تكفي بضعة عقودٍ لتأمل وجهٍ جميلٍ أو لتربيةِ جسدٍ أو لكتابة قصيدةٍ أتوقعُ منها الآن أن تقولَ الحقيقةَ!
في هذه البرهة الأخيرةِ والمتأخرةِ أدونُ عالماً تتجاورُ فيهِ كرسيُّ خيزران وطاولةُ نرد وشطرنجٌ ونرجيلةٌ وورقُ لعبٍ وقهوةٌ وشايٌ.. يتجاورُ فيه بهاليلُ ومجاذيبُ ودراويشُ.. وأتأمل الثروة، أو أكتشفُ كذبة سوداء وبيضاءَ.. أمتدحُ معدناً نادراً ونبيلاً وثميناً وجميلاً امتلكه أسلافي وأهلي من قبل!
وأهجو المنفعة واللذة والضرورة.. وأعلن ساعة الرتقِ والفتق والوصلِ والفصل.... ومنذ بضعة عقودٍ أدركُ أن هذه الأرض هي أرضي أولاً وأن هذه السماء هي سمائي أولاً!
ومنذُ بضعةِ عقودٍ أحاولُ فكرةً مختلفةً أوكلاماً مختلفاً أو كتابةً مختلفةً، وأنا أشقى، وأعلمُ أن هذا الوقت ليس وقتي(1/52)
أدخلْ في التجربة، وأخرجْ منها، وانقطعْ، واتصلْ، وانقسمْ، واجتمعْ، فأيةُ علاقةٍ بينك وبين العالمِ؟
وأية ثورةٍ تنتظرُ على رصيفِ مقهى الفرحِ، والثروةُ هي الثورةُ، ولا ثورةَ في هذا النص، ولا ثروة فيه
واين تحلمُ بلقاء جنيتك، والعالمُ لا يؤثثهُ فاشلونَ وخائبونَ ومتعبونَ ومرضى وعرافون وسحرةٌ وكهنةٌ والحياةُ الدنيا للخبيثين، والخبيثات، كما للطيبين والطيبات...
أنتظر مصادفةً تمر بك فيها جنيتك الأولى، كما مر بك اعرابيٌ حديثٌ وجميلٌ، متأخرٌ وأخيرٌ، وسألك: من أين طريقُ الشام؟
*
تلكَ السيدةُ الطالعةُ بالندى المؤنث كله ترّن في خطواتها أجراسُ متعةٍ مرئيةٍ، وتهطلُ من أساورها حمائم مفضضةٌ، تنزفُ أجنحتها مسكاً وتوابلَ. وفي خفين من حركةٍ توشوشُ العيون، والأهدابُ تقطرُ بحبرِ رغبةٍ خفيةٍ !
تلك السيدة الطالعةُ في نهايةِ الغسق تمتلكُ ما لا يمتلكُ، وما لم يمتلك من قبلُ، تظهر بوجوهٍ متشابهةٍ ومختلفة، تراها ولا تراها، تأتي ولا تأتي، والقرن العشرون قد ينتهي صامتاً ومشوشاً وغامضاً ومخيفاً أيضاً، فمن ينتهي معه؟
وفي برهة أخيرة ومتأخرةٍ كيف تواجه العالم؟ أتتحول أكثر غيبة وخفاءً؟ ولم تصنفُ كائناتك النادرة والنبيلة القديمة والجديدة؟ وهل تغير لغتك أصواتاً ومقاطع وجذوراً؟
ولماذا تغير وجهك معلوماً ومجهولاً؟.
ومن يتعدد في الجهاتِ، ويتنوعُ في الوقتِ، والكلامُ من داخلٍ تفسدهُ كتابةٌ من خارجٍ
بين الصوت والصمت يتلاشى كلامٌ.. بين كلامٍ ونصٍ تفسدُ كتابةٌ، وبين كتابة وشبه كتابةٍ يشيعُ نثرُ الحياةِ.. بين برهةٍ وبرهةٍ أخرى ينهزمُ معنى؟
من أين تبتدىءُ قصيدةٌ بديلةٌ إذاً؟ وكيف أربي جسداً حديثاً؟ وماذا أفعلُ بهذه الأنقاضِ كلها؟(1/53)
أصواتٌ وذبذباتٌ.. ضجيجٌ وصرخاتٌ.. سكناتٌ وحركاتٌ.. أسرارٌ ورموزٌ.. كلها تتآلف مع فسادِ جسدٍ، تتنضدُ بين شبهٍ واختلافٍ، والعالمُ ينطوي على تاريخهِ، ويتفجر أوينفجرُأما أنتَ فتقوضُ تاريخكَ، وتتحولُ إلى موضوع
كيف يبتدىء فقهُ الجسد؟ ومتى يؤلفُ لغتهُ، ومنذ بضعةِ عقودٍ وأنت تتساءلُ: هل أنا من هذا العالم حقاً؟ وكيف أكونُ في العالم إذاً؟
((
4- سيرة نصَ، سيرة شخص..
هي سيرةٌ مقهى الفرح، أم سيرة نصٍ، أم سيرةُ شخصٍ؟
تلك كائناتُ مقهى الفرحِ، وتلك سيرتها!
للشخوص أدمغةٌ مطاطٍ، تحلمُ بمعدنٍ نادرٍ ونبيلٍ وجميلٍ ولا تكفُّ عن ثرثرةٍ شبهِ شعريةِ تراكمت فيها كلماتْ!
وتلك سوقٌ أيضاً! بالجملة البيعُ فيها وبالمفرق!
أتحب أن تعطي الجائع رغيفاً، أنت لا تملكهُ، وتحاولُ أن تسقي العطشانَ، ولا ماءَ في هذه البِّربةِ، وتريدُ أن تهدي عارياً لباسك، ولا رداء عليكَ!
لم تتكلّفُ هذا النثر كله، ولابد أن تختتم نصاً لالذة فيهِ، ولامتعةَ؟ وينبغي أن تختتم سيرة مقهى لابلاغةَ فيها ولا إعجاز، ولك أن تهتدي إلى جنيتك الأولى ذات حلمٍ!
ماذا تفعلُ بهذه الأوبئة كلها، ومنذ بضعة عقودٍ وأنت تلاحظُ، وترى، وتعاني.. فهل يؤرخُ الماء ذريةً مختلفةً؟ ومتى تقوى تربةٌ على الحياةِ بدماغها الصغيرِ والبسيط؟ ومن يرث الأرض حقاً؟
بين حركة وسكون ينمو إيقاعٌ.. بين إيقاع ومخيلةٍ تتحرك عبارةٌ.. بين مخيلةٍ وعبارةٍ ينفتحُ فضاءٌ.. بين عبارةٍ وفضاءٍ يتكاثر نصٌّ.. بين نصٍ وشخصٍ تتنضدُ شبهُ كتابةٍ!(1/54)
وبعد أكثر من خمسة عقودٍ يخيلُ إليَّ أن بركاناً ما يقودُ كائناته إلى موتٍ كمثل الحياةِ بعد حياةٍ كمثل الموتِ.. تأخذني رعدةٌ، وأشفُّ كمثلِ عنقودِ عنبٍ، وأتهشمُ كمثلِ رغيفٍ.. يهاجمُ ذاكرتي أسراب جوعى ومرضى وأسمالُ بهاليل ومجاذيب ودروايش وأثلامٌ من أوردةِ أطفالٍ جافة وعيونُ عاشقاتٍ صغيراتٍ ذابلاتٍ.. وتفاجئني لغةٌ هي شبه ثرثرةٍ وكتابةٌ تتحولُ شبه نصٍ في شبهِ مكانٍ يسمى مقهى الفرح، وفي لائحة أسعاره يسمى مقهى الشرق..
أتصحرُ، وأسمَّمُ، وأتحللُ.. أهبطُ بين إشاراتٍ ورموزٍ تضارعُ خطاباً شبه حديثٍ، مفرداتهُ من معجم قبيلةٍ العربِ شبهِ الحديثة!
وبعد أكثر من خمسة عقودٍ عليَّ أن أهذي بوردة أسمنتٍ وقمر سياجٍ حديديٍّ وأمومة رصيفٍ وأنوثة توتياء.. إلخ!
وينبغي أن أكتشفَ أنوالاً من حجرٍ وماءٍ وعتبات ترابٍ ونباتٍ وحيوان، أكيفُ هواءها مع تماثيل ورقمٍ ومدافنَ، وينبغي أن أرتّب مائدةً من دهشة الطين وطيور الصلصال وأعضاء الخشب، قبل أن أكفَّ عن هذيانٍ طارىء!
هكذا ينتهي شبهُ نصٍ إذاً، يتآكلُ شبهُ كلامٍ، وتعلنُ شهوتها لغةٌ، والبياضُ كمثلِ السكونِ، وهذا خطاب يقوضهُ وارثوهُ، يشيع بلاغتهُ.. يتدربُ فيه على النثر شخصٌ يربي وريثه!
ولي أفقٌ من رمادٍ وقمح، يسيجهُ إخوةٌ وبنونَ، خلايا تسورها عاملاتٌ من النحل، والبيتُ تملؤهُ أمهاتٌ.. ولي جمهراتٌ من الماءِ، منحنيات حليب!
الرؤيا في الداخل ثرثرةٌ في الخارج، والنرد تزوّدهُ حيّاتُ مخيلةٍ بالشعر الدارج، والوحش تروضهُ ذاكرةُ الفحل، تدبّرُ فيه هندسةُ الروحِ جنوناً مختلفاً، والنصُّ يرتبُ شبه النثر وشبه الشعر وحيداً، أعزل غير مبالٍ..
*بعد أكثر من خمسة عقودٍ عليك بجرعةِ تفاؤل.ٍ وتناولْ فحلاً من القهوةِ على رصيف مقهى الفرح!
وفاوض أدمغة مطاطٍ تحتلُّ بياضاً يحاكمهُ سادةٌ، يحكمه باعةٌ، يتجولُ فيه ساسةٌ، كما يتجوّل شيءٌ غامضٌ في رأسك الصغير!(1/55)
بين وهم وهذيان يلتبسُ واقعٌ... بين واقعٍ وخلقٍ تفترضُ فكرةً... بين فكرةٍ وثروةٍ تلدُ سوقٌ، وبين سوقٍ وثورةٍ يتشكل عالم آخرُ!
هي برهةٌ أخيرةٌ ومتأخرةٌ للجنونِ!
ومنذ أكثر من بضعة عقودٍ أربّي نحلاً يضطرب في بيتٍ تثقله براعمُ، ويبشرُ بطفلٍ اسمه الينبوعُ... ويخيل إليَّ أنني التصق بالأرض أكثر فأكثر !
ما الذي فعلتهُ حتى الآن؟ ولماذا خرّب نثرُ العالم حواسي؟ وكيف ينتمي جسدٌ إلى مائهِ؟
ينبغي أن أختتم سيرة هذا النص أخيراً..
ينبغي أن أغلق سيرةَ مقهى يسمى مقهى الفرح أومقهى الشرق! ولابد من وقتٍ آخر!
لمن هذه الرؤيا، وقد أظلمت رؤيا
أرى أيّ وجه، بينما لا أرى وجها..
ولي شبهٌ يحيا كثيراً ، ولا أحيا
أرى شخصهُ مثلي، وما كان لي شبها!
*
لم تكتمل السيرةُ بعدُ! والفكرةُ لم تنضجْ أيضاً!
فأيُّ مختبرٍ أدخلُ فيه لأخرج منه؟
ولماذا أحاولُ نصاً يدعو كائناته الصغيرةَ إلى جنونٍ ما؟
(((
المحتوى :
أوّل المكان ...
جنون آخر للسرد ...
قصيدةُ الزخرف ( قصيدة في أربع حركات ) ...
1- مديح أول لأنثى الشرق ...
2- مديح ثانٍ لأنثى الشرق ...
3- سيرة حجرٍ أول ...
4- أنشودة الجسم الحجريّ ...
رباعيات الزخرف ...
قصيدة اللّعب ...
هكذا أحلم.. ...
موت النصّ ...
ثنائيات صدى آخر ...
برهة الفتنة ...
فتق ورتق ...
فحمٌ 1996 ...
أطوار ...
1- تحوّل أوّل ...
2- تحول ثانٍ ...
3- غير المرئيّ ...
4- تحولات اسم ...
5- تحولات جسم ...
خماسيات تكوين آخر ...
1-تشكيل ...
2- تشكيل آخر ...
3- نقش ...
4- نقش آخر ...
5- وريث ...
6- وريث آخر ...
7- تاريخ آخر ...
8- آخر التاريخ ...
9- شعر آخر ...
10- جسم آخر ...
11- آخر الشّعر ...
12- ماء آخر ...
13- نثر آخر ...
14- آخر التشكيل ...
15- تكوين آخر ...
بيضة النصّ ...
لعبة الأيام العجيبات ...
لذة الروح ...
اضطراب أول ...
طريق (قاف) ...
اختيار في عامٍ ما.. ...
مشروع سيرةٍ غير ذاتية ...
مقام اللذة ...
أغنية حجرٍ حيّ ...
مقام الشعر ...
سيناريو لأشياء مختلفة ...
1- أنثى البذرة ...
2- نثر للصمت ...
3- عري أول ...
4- أول اللعب ...
5- فضاء للاختلاف ...(1/56)
6- وردة الينبوع ...
7- سيناريو حلم ...
8- تربة الشعر ...
9- أول السحر أوآخره ...
10 - سنبلة الأسئلة ...
11- وردة الذهب ...
12- قبر آخر ...
13- فضاء حجر ...
14- آخر الدنيا ...
15- آخر الانتظار ...
نصٌّ للجنون في أربع لوحات أو
(سيرة مقهى، سيرة نصّ، سيرة شخص)... ...
1- كائنات مقهى الفرح ...
2- حديث الأعرابي ...
3- البهلول والعالم ...
4- سيرة نصَ، سيرة شخص.. ...
(((
للشاعر
- فارس الرؤيا (قصائد 1959-1967) - مخطوط.
- من أين تبتدىء القصيدة، اتحاد الكتاب العرب، 1983.
- المرثية الدائمة، وزارة الثقاقة، 1984.
- رماد الكائن الشعريّ، اتحاد الكتاب العرب، 1985.
- دفتر النهار (قصائد للأطفال)، دار الحقائق، 1986.
- جمهورية الأرض، اتحاد الكتاب العرب، 1987.
- أنشودة الأرض (قصائد للأطفال)، دار الحقائق، 1987.
- العين والفضاء، اتحاد الكتاب العرب، 1988.
- الشعر والهوية، (دراسة)، دار الذاكرة، 1990.
- طفولة هذا المكان، دار الذاكرة، 1991.
- فضاء للجماعة، اتحاد الكتاب العرب، 1993.
- الحداثة كسؤال هوية (دراسة)، 1996، اتحاد الكتاب العرب.
(
رقم الايداع في مكتبة الأسد الوطنية :
ديوان الزخرف الصغير :شعر / مصطفى خضر -[دمشق]: اتحاد الكتاب العرب، 1997- 160ص ؛ 24سم .
بآخره نص للجنون في أربع لوحات .
1- 811.9 خ ض ر د ... ... ... 2- العنوان ... 3-خضر
ع-99/6/1997 ... ... ... ... مكتبة الأسد
(
ديوان الزخرف الصغير- شعر- مصطفى خضر
تعالج قصائد هذا الكتاب، القضايا والمسائل التي يعاني منها الإنسان العربي كالتمزق القومي، والحصار الذي تضربه القوى الخارجية على المجتمع والفرد معاً، بروح شعرية يتعانق فيها المنظور الفلسفي مع المنظور الانفعالي الجمالي. حيث حوّل الشاعر الكثير من المفردات اللاشعرية فأصبحت ذات طبيعة شعرية معبرة..(1/57)