الكشف عن مساوئ
شعر المتنبي
تأليف
الصاحب إسماعيل بن عباد
تحقيق
الدكتور جميل عبد الله عويضة
2009م / 1430 هـ
الصاحب بن عباد :
عصره :
الدولة البويهية :
بلغت الدولة البويهية التي حكمت منطقة فارس والعراق في القرنين الرابع والخامس الهجريين مبلغا عظيما من الجاه والسلطان، وخضع لنفوذها خلفاء الدولة العباسية في الفترة التي امتدت بين سنتي (334 - 447هـ = 945 – 1055م) وأطلق على هذه الفترة عصر نفوذ البويهيين؛ حيث أصبح الخليفة العباسي مجردا من كل سلطان، ليس له من رسوم الخلافة سوى الدعاء على المنابر وكتابة اسمه على السّكة، وتعيين القضاة وخطباء المساجد.
وزراء بني بويه
وكان "بنو بويه" يحبّون العلم والأدب، ويستعينون بالعلماء والكتاب والشعراء في المناصب الكبرى بدولتهم كالوزارة التي تولاها نفر من سدنة العلم وأعلام الأدب والكتابة كأبي الفضل بن العميد الذي وَلِي الوزارة لركن الدولة البويهي سنة (328هـ = 939م) وظل في منصبه ثلاثون عاما، وكان يُضرب به المثل في البلاغة والفصاحة حتى لقب بالجاحظ الثاني، وقيلت فيه العبارة السائرة: "بُدئت الكتابة بعبد الحميد وانتهت بابن العميد". والمقصود بعبد الحميد هنا هو "عبد الحميد بن يحيى" كاتب مروان بن محمد آخر خلفاء بني أمية.
وبعد وفاة أبي الفضل ابن العميد خلفه ابنه أبو الفتح في الوزارة، وكان كاتبا بليغا وسياسيا ماهرا، ويضاف إليهما الصاحب بن عباد وزير مؤيد الدولة البويهي.
وكان هؤلاء الوزراء من أصحاب الكفايات النادرة، التي تجمع إلى جانب الفطنة والذكاء والبلاغة والفصاحة مقدرةً فذة على إدارة شئون الدولة، وتسيير أمورها، وضبط أحوالها المالية، وقيادة جيوشها في المعارك، فكان الوزير منهم يجمع في منصبه اختصاصات وزارات عدة كالخارجية والداخلية والمالية والحربية، وهو أمر لم تشهده الوزارة من قبل.
الصاحب في عصره (1) :
__________
(1) مصادر ترجمة الصاحب:
يتيمة الدهر في محاسن أهل العصر 3/188 ـ 286 ، معجم الأدباء 6/168 ـ 317 ، نزهة الألباء في طبقات الأدباء ، 238 ـ 240
إنباه الرواة على أنباه النحاة 1/236 ـ 238 ، بغية الوعاة في طبقات اللغويين والنحاة 1/449 ـ 451 ، تاريخ ابن خلدون 4/466 ، تاريخ أبي الفداء 2/130 ، تاريخ ابن كثير 11/314 ـ 317 ، تلخيص ابن مكتوم ، ص 38 ، وفيات الأعيان وأنباء أبناء الزمان 1/228 ـ 233 ، الفهرست ، ص194، روضات الجنات ، ص 104 ـ 110 ، كشف الظنون ، ص 619 ، 901 ، 1376 ،1621 . مرآة الجنان 2/421 ـ 4424 ، المستفاد من ذيل تاريخ بغداد ، ص 86 ـ 89 ، معاهد التنصيص 4/111ـ 136 ، النجوم الزاهرة 4/169 ـ 171، الكامل في التاريخ 7/471 ـ 472، شذرات الذهب في أخبار من ذهب3/113 ـ 116 ، المنتظم لابن الجوزي 7/179 ، نهاية الأرب 3/108 ، لسان الميزان 1/413 ، سفينة البحار ـ القمي 2/13، أعيان الشيعة ـ العاملي 12/240 ، الكنى والألقاب 2/365 ، فرج المهموم في تاريخ علماء النجوم 1/73/ المكتبة الشاملة ، معجم المؤلفين 2/274 / المكتبة الشاملة ، هدية العارفين 2/209(1/1)
... هو كافي الكفاة أبو القاسم إسماعيل بن أبي الحسن عباد بن العباس بن عباد بن أحمد بن إدريس الطالقاني .
أفرد غير واحد من رجال التأليف كتابا في ترجمته منهم:
- مهذب الدين محمد بن علي الحلي المزبدي المعروف بأبي طالب الخيمي له كتاب [الديوان المعمور في مدح الصاحب المذكور].
2 - الشيخ محمد علي بن الشيخ أبي طالب الزاهدي الجيلاني المولود سنه 1103هـ والمتوفى سنة 1181هـ .
3 - السيد أبو القاسم أحمد بن محمد الحسني الحسيني الاصبهاني، له كتاب [رسالة الإرشاد في أحوال الصاحب بن عباد] ألفها سنة 1259.
4 - خليل مردم بك له كتاب : الصاحب بن عباد .
5 ـ محمد حسن آل ياسين له كتاب : الصاحب بن عباد : حياته وأدبه .
6 ـ بدوي طبانة – الصاحب بن عباد الوزير الأديب العالم .
وبعد هذه الشهرة الواسعة فليس علينا إلا سرد ترجمة بسيطة هي جماع ما في هذه الكتب.
ولد الصاحب في إحدى كور فارس باصطخر ، أو بطالقان في (16 من ذي القعدة سنة 326 هـ = 14 من أكتوبر سنة 938م ) ،وأخذ العلم والأدب عن والده ، الذي كان كاتبًا ماهرًا، ولي الوزارة لركن الدولة البويهي، وقبل أن يكون وزيرا كان من أهل العلم والفضل، سمع من علماء بغداد وأصفهان والري، وروى عنه جماعة من العلماء، وعني بتربية ابنه، وتعهده بالتعليم والتثقيف؛ حتى يكون كاتبا مثله، يتصل ببلاط الملوك، ويخلفه في الوزارة.
واتصل إسماعيل بن عباد بأبي الفضل بن العميد الوزير المعروف، وتتلمذ على يديه، وتدرب على طريقته في الكتابة والقيام بأعمال الوزارة، وكان دائم الصحبة له حتى لُقِّب بالصاحب، كما تتلمذ على يد العالم الكبير أبي الحسين أحمد بن فارس، المتوفى سنة (375هـ = 985م)، وتوثقت بينهما أسباب الصلة والمودة، حتى إن ابن فارس لمّا ألّف كتابه في فقه اللغة أطلق عليه لقب تلميذه، فسماه الصاحبي، وأهداه إليه بعدما أصبح وزيرًا معروفًا.(1/2)
واتّصل بأبي الفضل العباس بن محمد النحوي الملقب بعرام، وأبي سعيد السيرافي وأبي بكر بن مقسم، والقاضي أبي بكر أحمد بن كامل بن شجرة، و عبد الله بن جعفر بن فارس ويروي عن الأخيرين.
قال السمعاني: إنه سمع الأحاديث من الاصبهانيين والبغداديين والرازيين وحدث، وكان يحث على طلب الحديث وكتابته، وروى عن ابن مردويه أنه سمع الصاحب يقول: من لم يكتب الحديث لم يجد حلاوة الاسلام.
وكان يملي الحديث على خلق كثير فكان المستملي الواحد ينضاف إليه الستة كل يبلغ صاحبه، فكتب عنه الناس الكثير الطيب منهم: القاضي عبد الجبار. والشيخ عبد القاهر الجرجاني. وأبو بكر بن المقري. والقاضي أبو الطيب الطبري. وأبو بكر بن علي الذكواني. وأبو الفضل محمد بن محمد بن إبراهيم النسوي الشافعي.
ثم شاع نبوغه في العلوم وتضلعه في فنون الأدب، واعترف به الشاهد والغائب, وأطراه الحر العاملي في (أمل الآمل) بأنه محقق متكلم عظيم الشأن جليل القدر في العلم.(1/3)
كما أن الثعالبي في (فقه اللغة) جعله أحد أئمتها الذين اعتمد عليهم في كتابه أمثال الليث، والخليل، وسيبويه، وخلف الأحمر، وثعلب، وابن الكلبي، وابن دريد، وعده الأنباري أيضا من علماء اللغة فأفرد له ترجمته في كتابه: طبقات الأدباء النحاة، وكذلك السيوطي في (بغية الوعاة) في طبقات اللغويين والنحاة، وقال ابن الجوزي في (المنتظم): كان يخالط العلماء والأدباء ويقول لهم: نحن بالنهار سلطان وبالليل إخوان، وسمع الحديث وأملى، وروى أبو الحسن علي بن محمد الطبري المعروف بكيا قال: سمعت أبا الفضل زيد بن صالح الحنفي يقول: لما عزم الصاحب إسماعيل بن عباد على الإملاء وكان حينئذ في الوزارة خرج يوما متطلسا متحنكا بزي أهل العلم فقال: قد علمتم قدمي في العلم فأقروا له بذلك. فقال: وأنا متلبس بهذا الأمر وجميع ما أنفقته من صغري إلى وقتي هذا من مال أبي وجدي، ومع هذا فلا أخلو من تبعات، أشهد الله وأشهدكم أني تائب إلى الله من كل ذنب أذنبته. واتخذ لنفسه بيتا وسماه بيت التوبة، ولبث أسبوعا على ذلك، ثم أخذ خطوط الفقهاء بصحة توبته، ثم خرج فقعد للإملاء وحضر الخلق الكثير وكان المستملي الواحد ينضاف إليه ستة كل يبلغ صاحبه، فكتب الناس حتى القاضي عبد الجبار، وكان الصاحب ينفذ كل سنة إلى بغداد خمسة آلاف دينار تفرق في الفقهاء وأهل الأدب وكان لا تأخذه في الله لومة لائم].
ثقافة متنوعة :
لم يكن الصاحب كاتبا موهوبا ووزيرا قديرا فحسب، وإنما جمع إلى ذلك مشاركة في علوم كثيرة؛ فله معرفة ورواية في الحديث النبوي؛ إذ سمع الحديث من أعلامه في العراق والري وأصبهان، وترجم له الحافظ الكبير أبو نعيم الأصبهاني في كتابه "ذكر أخبار أصبهان"، باعتباره محدثا لا رجل دولة، وذكر في أخباره أنه كان يناظر ويدرس ويملي الحديث.(1/4)
ووصف الصاحب بأنه كان من أفقه علماء الشيعة، وعقد له في وقت من الأوقات مجلس للإملاء وإلقاء الدرس، فاحتفل الناس لحضوره واحتشد لسماعه وجوه الأمراء وكبار العلماء، وكان ممن يكتب عنه القاضي عبد الجبار الهمذاني وأمثاله من كبار الفقهاء والمحدثين، وإلى جانب ذلك كان إماما في اللغة، متمكنا من علومها وأدواتها، يَشهد له بذلك المعجم الكبير الذي ألفه، والمعروف باسم المحيط، وقد رتب مواده اللغوية وفق ترتيب مخارج الحروف، مثلما فعل الخليل بن أحمد في معجمه العين؛ أول المعاجم العربية، وقد نشر هذا العمل الكبير في العراق.
كما وصف بأنه كان عالما بعلم النجوم ، وصحة حكمه بها (1) .
واعترافا بعلمه وأدبه ألف له غير واحد من الأعلام الأفذاذ تآليف قيمة منهم :
1 - أبو جعفر القمي ألف له كتابه [عيون أخبار الرضا]
2 - الحسين بن علي بن الحسين بن موسى بن بابويه القمي كتابه [نفي التشبيه] كذا في لسان الميزان ، نقلا عن فهرست النجاشي، ويظهر من النجاشي إنه غيره ولم يسمه.
3 - الشيخ الحسن بن محمد القمي ألف له كتابه [تاريخ قم] .
4 - أبو الحسن أحمد بن فارس الرازي اللغوي كتابه [الصاحبي].
5 - القاضي علي بن عبد العزيز الجرجاني كتابه [التهذيب].
6 - أبو جعفر أحمد بن أبي سليمان داود الصواف المالكي، ألف للصاحب كتابه [الحجر] ووجهه إليه فقال الصاحب: ردوا الحجر من حيث جاء. ثم قبله ووصله عليه (2) .
وللصاحب آثار خالدة في العلم والأدب منها:
1 - كتاب أسماء الله وصفاته.
2 - كتاب نهج السبيل في الأصول.
3 - كتاب الإمامة في تفضيل أمير المؤمنين.
4 - كتاب الوقف والابتداء.
5 - كتاب المحيط في اللغة في عشر مجلدات (3) .
6 - كتاب الزيدية.
__________
(1) انظر فرج المهموم في تاريخ علماء النجوم لابن طاووس 1/73 / المكتبة الشاملة .
(2) انظر ترجمته في الديباج المذهب في معرفة أعيان علماء المذهب 1/167ـ 168
(3) كذا في معجم الأدباء ، وفي كشف الظنون : في سبع مجلدات(1/5)
7 - كتاب المعارف في التاريخ.
8 - كتاب الوزراء.
9 - كتاب القضاء والقدر.
10 - كتاب الروزنامجه. ينقل عنه الثعالبي في (يتيمة الدهر).
11 - كتاب أخبار أبي العيناء.
12 - كتاب تاريخ الملك واختلاف الدول.
13 - كتاب الزيديين.
14 - كتاب جوهرة الجمهرة لابن دريد.
15 - كتاب الاقناع في العروض.
16 - كتاب نقض العروض.
17 - كتاب ديوان رسائله في عشر مجلدات.
18 - كتاب الكافي في الرسائل وفنون الكتابة.
19 - كتاب الأعياد وفضائل النيروز.
20 - كتاب ديوان شعره.
21 - كتاب الشواهد.
22 - كتاب التذكرة.
23 - كتاب التعليل.
24 - كتاب الأنوار.
25 - كتاب الفصول المهذبة للعقول.
26 - كتاب رسالة الإبانة عن مذهب أهل العدل.
27 - كتاب في الطب.
28 - كتاب في الطب أيضا.
29 - كتاب الكشف عن مساوي شعر المتنبي . قال الثعالبي في (اليتيمة): ولما عمل الصاحب هذه الرسالة عمل القاضي أبو الحسن علي بن عبد العزيز الجرجاني كتابه (الوساطة) بين المتنبي وخصومه في شعره، وقال فيه بعض أدباء نيسابور:
أيا قاضيا قد دنت كتبه وإن أصبحت داره شاحطه
كتاب (الوساطة) في حسنه لعقد معاليك كالواسطه
30 - رسالة في فضل سيدنا عبد العظيم الحسني المدفون بالري.
31 - كتاب السفينة نسبها إليه الثعالبي في تتمة اليتيمة.
32 - كتاب مفرد في ترجمة الشافعي محمد بن إدريس إمام الشافعية كما في (الكواكب الدرية) ص 263.
وذكر حسين محفوظ أنه رأى من تآليف الصاحب ما يلي:
1 - الفصول الأدبية والمراسلات العبادية، مرتبة على خمسة عشر بابا في كل باب خمسة عشر فصلا، والنسخة مؤرخة بسنة 628.
2 - رسالة في الهداية والضلالة، مخطوطة بالخط الكوفي، نسخت من نسخة المؤلف وعليها خطه.
3 - الأمثال السائرة من شعر أبي الطيب المتنبي، وهي 372 بيتا .(1/6)
والقارئ جد عليم بأن مؤلف هذه الكتب المتنوعة أحد أفذاذ العلم الذين لم يعدهم أي مقام منيع من الفنون، فهو فيلسوف متكلم فقيه محدث مؤرخ لغوي نحوي أديب كاتب شاعر، فما ظنك بمثله من نابغة جمع الشوارد، وألف بين متفرقات العلوم، وهل تجده إلا في الذروة والسنام من الفضل الظاهر، فحق له هذا الصيت الطاير. والذكر السائر مع الفلك الدائر.
كانت للصاحب مكتبة عامرة وقد نوه بها لما أرسل إليه صاحب خراسان الملك نوح بن منصور الساماني في السير يستدعيه إلى حضرته، ويرغبه في خدمته وبذل البذول السنية، فكان من جملة أعذاره قوله: ثم كيف لي بحمل أموالي مع كثرة أثقالي؟ وعندي من كتب العلم خاصة ما يحمل على أربعمائة حمل أو أكثر .
في (معجم الأدباء) قال أبو الحسن البيهقي: وأنا أقول: بيت الكتب الذي بالري دليل على ذلك بعد ما أحرقه السلطان محمود بن سبكتكين فإني طالعت هذا البيت فوجدت فهرست تلك الكتب عشر مجلدات، فإن السلطان محمود لما ورد إلى الري قيل له: إن هذه الكتب كتب الروافض وأهل البدع فاستخرج منها كل ما كان في علم الكلام وأمر بحرقه.
يظهر من كلام البيهقي هذا أن عمدة الكتب التي أحرقت هي خزانة كتب الصاحب ، وكان خازن تلك المكتبة ومتوليها أبو بكر محمد بن إبراهيم بن علي المقري (1) المتوفى سنة 381 هـ ، وأبو محمد عبد الله الخازن بن الحسن الاصبهاني.
وزارته ، صلاته ، مادحوه :
__________
(1) ترجمته في الوافي بالوفيات(1/7)
التحق الصاحب بن عباد بمؤيد الدولة ابن ركن الدولة البويهي أمير الري وأصفهان، وعمل له كاتبا، وظل مقدما عنده، ثم ولي له منصب الوزارة في سنة (366هـ = 976م)، وظل في الوزارة حتى وفاة مؤيد الدولة سنة (373هـ = 983م)، ثم أقره أخوه "فخر الدولة" على وزارته، وقد نجح الصاحب في إدارة شئون الدولة وتدبير أمورها على خير وجه، وجمع إلى جانب ما يتمتع به من ثقافة موفورة وعمل غزير وقدرة عالية على كتابة الرسائل الديوانية –كفاية حربية وموهبة عسكرية؛ فكان قائدا شجاعا حتى إنه فتح في خلال وزارته خمسين قلعة حصينة، وكان إداريا عظيما؛ فظلت الأنظمة الإدارية التي استحدثها تطبق في عهد من خلفه الوزراء.
وقد أَعْلَت هذه الملكات الخاصة من شأن الوزير النابه؛ فوثق به الأميران: مؤيد الدولة وأخوه فخر الدولة، وأطلقا يده في إدارة شئون البلاد التابعة لهما، وفرضت كفايته وخبرته احترام كبار رجال الدولة له، حتى قيل إن قواد بني بويه وحكامهم كانوا يقفون ببابه، ومن يُؤْذَن له في الدخول عليه يظن أنه قد بلغ الآمال وأقبلت عليه الدنيا.
وبلغ من علوّ مكانته وتأثيره في سياسة الدولة أن الأمير عضد الدولة أعظم أمراء دولة بني بويه كان يقول لجلسائه: إنه لا يحسد أحدا من الملوك إلا أخاه مؤيد الدولة؛ لتولي الصاحب بن عباد الوزارة له، وكان الأمير عضد الدولة – الذي كان يحكم العراق وما حولها – يخرج بنفسه لاستقبال الصاحب إذا قدم إليه؛ فقد خرج في سنة (370هـ = 980م) على رأس كبار رجال دولته إلى خارج مدينة بغداد لاستقبال الصاحب بن عباد وإكرامه.
قال أبو بكر الخوارزمي: الصاحب نشأ من الوزارة في حجرها، ودب ودرج من وكرها، ورضع أفاويق درها، وورثها عن آبائه كما قال أبو سعيد الرستمي في حقه:
ورث الوزارة كابرا عن كابر موصولة الاسناد بالإسناد
يروي عن العباس عباد وزارته وإسماعيل عن عباد(1/8)
وهو أول من لقب بالصاحب من الوزراء لأنه كان يصحب أبا الفضل بن العميد فقيل له: صاحب ابن العميد، ثم أطلق عليه هذا اللقب لما تولى الوزارة وبقي علما عليه، وذكر الصابي في كتاب التاجي: أنه إنما قيل له الصاحب لأنه صحب مؤيد الدولة ابن بويه منذ الصبى وسماه الصاحب فاستمر عليه هذا اللقب واشتهر به ثم سمي به كل من ولي الوزارة بعده.
إستكتبه مؤيد الدولة من 347 تقريبا إلى سنة 366 وسافر معه إلى بغداد سنة 347 حتى استوزره من سنة 366، إلى وفاة مؤيد الدولة سنة 373 ثم استوزره أخوه فخر الدولة، وسافر معه إلى الري عاصمة مملكته، ولم يؤل الصاحب جهدا في خدمة أميره وتوسيع مملكته قال الحموي: فتح الصاحب خمسين قلعة سلمها إلى فخر الدولة لم يجتمع عشر منها لأبيه ولا لأخيه.
وله أيام وزارته عطائه الجزل، وسيب يده المتدفق، وبرء المتواصل إلى العلماء والشعراء، قال الثعالبي: حدثني عون بن الحسين قال: كنت يوما في خزانة الخلع للصاحب فرأيت في ثبت حسابات كاتبها - وكان صديقي - مبلغ عمائم الخز التي صارت تلك الشتوة للعلويين والفقهاء والشعراء خاصة غير الخدم والحاشية ثمانمائة وعشرين، وكان ينفذ إلى بغداد في السنة خمسة آلاف دينار تفرق على الفقهاء والأدباء، وكانت صلاته وصدقاته وقرباته في شهر رمضان تبلغ مبلغ ما يطلق منها في جميع شهور السنة، فكان لا يدخل عليه في شهر رمضان أحد كائنا من كان فيخرج من داره إلا بعد الإفطار عنده، وكانت داره لا تخلو في كل ليلة من لياليه من ألف نفس مفطرة فيها (1) .
__________
(1) يتيمة الدهر 3/(1/9)
كان عهده أخصب عهد للعلم والأدب بتقريبه رجالات الفضيلة وتشويقه إياهم وتنشيطهم لنشر بضائعهم الثمينة حتى نفق سوقها، وراج أمرها، وكثر طلابها، و نبغ روادها، فكانت قلائد الدرر منها تقابل بالبدر والصرر فمدحه على فضله المتوفر. وجوده المديد الوافر خمسمائة شاعر، تجد مدائحهم مبثوثة في الدواوين والمعاجم، قال الحموي، حدث ابن بابك قال: سمعت الصاحب يقول: مدحت والعلم عند الله بمائة ألف قصيدة شعرا عربية وفارسية. وقد خلدت تلك القصائد له على صفحة الدهر ذكرا لا يبلى، وعظمة لا يخلقها مر الجديدين ومن أولئك الشعراء:
1 - أبو القاسم الزعفراني عمر بن إبراهيم العراقي ، له قصائد في الصاحب منها نونية مطلعها :
سواك يعد الغنى واقتنى ويأمره الحرص أن يخزنا
وأنت ابن عباد ن المرتجى تعد نوالك نيل المنى
2 - أبو القاسم عبد الصمد بن بابك يمدح الصاحب بقصيدة أولها :
خلعت قلائدها عن الجوزاء عذراء رقصها لعاب الماء
3 - أبو القاسم عبد العزيز بن يوسف الوزير من آل بويه له قصيدة منها:
أقول وقلبي في ذراك مخيم وجسمي جنيب للصبا والجنائب
يجاذب نحو الصاحب الشوق مقودي وقد جاذبتني عنه أيدي الشواذب
4 - الوزير أبو العباس الضبي المتوفى 398 هـ ، له قصايد في مدح المترجم.
5 - الكاتب أبو القاسم علي بن القاسم القاشاني كتب إلى الصاحب بقصيدة أولها :
إذا الغيوم أرجفن باسقها وحف أرجاءها بوارقها
6 - أبو الحسن محمد بن عبد الله السلامي العراقي المتوفى سنة 394 له في الصاحب قصيدة أولها:
رقى العذال أم خدع الرقيب سقت ورد الخدود من القلوب
وله فيه أرجوزة منها:
فما تحل الوزراء ما عقد بجهدهم ما قاله وما اجتهد
شتان ما بين الأسود والنقد هل يستوي البحر الخضم والثمد
أمنيتي من كل خير مستعد أن يسلم الصاحب لي طول الأبد
7 - القاضي أبو الحسن علي بن العزيز الجرجاني المتوفى سنة 392 له من قصيدة في الصاحب قوله.(1/10)
أو ما انثنيت عن الوداع بلوعة ملأت حشاك صبابة وغليلا؟!
ومدامع تجري فيحسب أن في آماقهن بنان إسماعيلا؟!
يا أيها القرم الذي بعلوه نال العلاء من الزمان السولا
قسمت يداك على الورى أرزاقها فكنوك قاسم رزقها المسئولا
وله فيه قصايد كثيرة أخرى.
8 - أبو الحسن علي بن أحمد الجوهري الجرجاني ، له قصايد كثيرة في الصاحب همزية. رائية. فائية. بائية وغيرها.
9 - أبو الفياض سعد بن أحمد الطبري، له في الصاحب قصايد منها ميمية أولها:
الدمع يعرب ما لا يعرب الكلم والدمع عدل وبعض القول متهم
10 - أبو هاشم محمد بن داود بن أحمد بن داود بن أبي تراب علي بن عيسى بن محمد البطحائي بن القاسم بن الحسن بن زيد بن الحسن بن علي بن أبي طالب عليه السلام.المعروف بالعلوي الطبري له شعر كثير في الصاحب وللصاحب فيه كذلك.
11 - أبو بكر محمد بن العباس الخوارزمي له قصايد في الصاحب ومن قصيدة يمدحه:
ومن نصر التوحيد والعدل فعله وأيقظ نوام المعالي شمائله
ومن ترك الأخيار ينشد أهله أحل أيها الربع الذي خف آهله
12 - أبو سعد نصر بن يعقوب له قصيدة في الصاحب مطلعها:
أبي لي أن أبالي بالليالي وأخشى صرفها فيمن يبالي
13 - السيد أبو الحسين علي بن الحسين بن علي بن الحسين بن القاسم بن محمد بن القاسم بن الحسن بن علي بن أبي طالب عليه السلام صهر الصاحب له قصيدة تربو على الستين بيتا يمدح بها الصاحب خالية من حرف الواو، ذكر الثعالبي في يتيمة الدهر منها 20 بيتا، ومؤلف (الدرجات الرفيعة) 14 بيتا أولها.
برق ذكرت به الحبائب لما بدى فالدمع ساكب
14 - أبو عبد الله الحسين بن أحمد الشهير بابن الحجاج البغدادي المتوفى 391 هـ ، له فائية يمدح بها الصاحب أولها:
أيها السائل عني أنا في حال طريفه
وأخرى مطلعها:
ساق على حسن وجهها تلفي وسرها ما رأته العين من دنفي
وله نونية في مدحه أولها:
يا عذولي أما أنا فسبيلي إلى العنا
وحديثي من حقه في الزمان أن يدونا(1/11)
15 - أبو الحسن علي بن هارون بن المنجم له قصيدة في الصاحب يصف بها داره بقوله:
وأبوابها أثوابها من نقوشها فلا ظلم إلا حين ترخى ستورها
16 - الشيخ أبو الحسن بن أبي الحسن صاحب البريد ابن عمة الصاحب له قصيدة يصف بها دارا بناها المترجم بإصبهان وانتقل إليها:
دار على العز والتأييد مبناها وللمكارم والعلياء مغناها
17 - أبو الطيب الكاتب له في وصف دار الصاحب بإصبهان قصيدة مطلعها:
ودار ترى الدنيا عليها مدارها تحوز السماء أرضها وديارها
18 - أبو محمد ابن المنجم له رائية يصف بها دار الصاحب مستهلها:
هجرت ولم أنو الصدود ولا الهجرا ولا أضمرت نفسي الصروف ولا الغدرا
19 - أبو عيسى ابن المنجم يمدح الصاحب بقصيدة يصف داره ويقول:
هي الدار قد عم الأقاليم نورها ولو قدرت بغداد كانت تزورها
20 - أبو القاسم عبيد الله بن محمد بن المعلى يصف دار الصاحب بقصيدة أولها:
بي من هواها وإن أظهرت لي جلدا وجد يذيب وشوق يصدع الكبدا
21 - أبو العلاء الأسدي يمدحه بقصيدة ويصف داره مطلعها:
واسعد بدارك إنها الخلد والعيش فيها ناعم رغد
22 - أبو الحسن الغويري له قصايد في الصاحب منها قصيدة يصف بها داره بإصبهان أولها:
دار غدت للفضل داره أفلاك أسعده مداره
23 - أبو سعيد الرستمي محمد بن محمد بن الحسن الاصبهاني مدح الصاحب بقصائد منها بائية مستهلها:
عقني بالعقيق ذاك الحبيب فالحشى حشوه الجوى والنحيب
وله من قصيدة لامية يمدح بها الصاحب قوله:
أفي الحق أن يعطى ثلاثون شاعرا ويحرم ما دون الرضا شاعر مثلي؟!
كما ألحقت واو بعمرو زيادة وضويق باسم الله في ألف الوصل
24 - أبو محمد عبد الله بن أحمد الخازن الاصبهاني له قصايد يمدح بها الصاحب أجودها قصيدة مطلعها:
هذا فؤادك نهبى بين أهواء وذاك رأيك شورى بين آراء
25 - أبو الحسن علي بن محمد البديهي وهو الذي قال فيه صاحبنا المترجم:
تقول البيت في خمسين عاما فلم لقبت نفسك بالبديهي(1/12)
له قصائد يمدح بها الصاحب منها لامية أولها:
قد أطعت الغرام فاعص العذولا ما عسى عائب الهوى أن يقولا
26 - أبو إبراهيم إسمعيل بن أحمد الشاشي العامري، له قصايد صاحبية منها بائية أولها:
سرينا إلى العليا فقيل كواكب وثرنا إلى الجلي فقيل قواضب
27 - أبو طاهر بن أبي الربيع عمرو بن ثابت له صاحبيات منها جيمية أولها:
أما لصحابي بالعذيب معرج على دمن أكنافها تتأرج
28 - أبو الفرج الحسين بن محمد بن هند وله صاحبيات منها قصيدة أولها:
لها من ضلوعي أن يشب وقودها ومن عبراتي أن تفض عقودها
29 - العميري قاضي قزوين، أهدى إلى الصاحب كتبا وكتب معها:
العميري عبد كافي الكفاة وإن اعتد في وجوه القضاة
خدم المجلس الرفيع بكتب مفعمات من حسنها مترعات
فوقع الصاحب بقوله:
قد قبلنا من الجميع كتابا ورددنا لوقتها الباقيات
لست أستغنم الكثير فطبعي قول خذ ليس مذهبي قول هات
30 - أبو الرجاء الأهوازي مدح الصاحب لما ورد الصاحب الأهواز ومن قصيدته:
إلى ابن عباد أبي القاسم الصاحب إسماعيل كافي الكفاة
وتشرب الجند هنيئا بها من بعد ماء الري ماء الفرات (1)
31 - أبو منصور أحمد بن محمد اللجيمي الدينوري له شعر يمدح به الصاحب.
32 - أبو النجم أحمد الدامغاني المعروف ب (شصت كله) المتوفى سنة 432 له قصيدة بالفارسية مدح بها الصاحب.
33 - الشريف الرضي ، مدح الصاحب بدالية سنة 375هـ ، ولم ينفذها إليه، وأخرى سنة 385 قيل وفاة الصاحب بشهر وأنفذها إليه.
34 - القاضي أبو بكر عبد الله بن محمد بن جعفر الأسكي، له شعر في الصاحب ومنه قوله:
كل بر ونوال وصله واصل منك إلى معتزله
يا بن عباد ستلقى ندما لفراق الجيرة المرتحله
__________
(1) جاء في معجم الأدباء ج 6 ص 254 (من بعد ماء الري ماء الصراة) والصواب ما أثبتناه(1/13)
35 - أبو القاسم غانم بن محمد بن أبي العلا الاصبهاني، له صاحبيات مدحا ورثاء قال الثعالبي في تتميم يتيمته: كان يساير الصاحب يوما فرسم له وصف فرس كان تحته فقال مرتجلا:
طرف تحاول شأوه ريح الصبا سفها فتعجز أن تشق غباره
بارى بشمس قميصه شمس الضحى صبغا ورض حجاره بحجاره
36 - أبو بكر محمد بن أحمد اليوسفي الزوزني له صاحبية أولها:
أطلع الله للمعالي سعودا وأعاد الزمان غضا جديدا
ومنها:
بعث الدهر جنده وبعثنا نحوه دعوة الإله جنودا
يا عميد الزمان إن الليالي كدن يتركن كل قلب عميدا
حادثات أردن إحداث هدم لعلاه فأحدثت تشييدا
وله من أخرى قوله:
سلام عليها إن عيني عندما أشارت بلحظ الطرف تخضب عندما
37 - أبو بكر يوسف بن محمد بن أحمد الجلودي الرازي له قصيدة صاحبية منها قوله:
رياض كأن الصاحب القرم جادها بأنوائه أو صاغها من طباعه
يجلي غيابات الخطوب برأيه كما صدع الصبح الدجى بشعائه
ومنها:
سحاب كيمناه وليل كبأسه وبرق كماضية وخرق كباعه
38 - أبو طالب عبد السلام بن الحسين المأموني، قال فريد وجدي في (دائرة المعارف) (1) : مدح الصاحب بقصايد فأعجبه نظمه توفي سنة 383هـ .
39 - أبو منصور الجرجاني، كتب إلى الصاحب قوله:
قل للوزير المرتجى كافي الكفاة الملتجى
إني رزقت ولدا كالصبح إذ تبلجا
لا زال في ظلك ظل المكرمات والحجى
فسمه وكنه مشرفا متوجا
فوقع الصاحب تحتها بقوله:
هنئته هنئته شمس الضحى بدر الدجا
فسمه محسنا وكنه أبا الرجا
40 - الأوسي مدح الصاحب ببائية أنشدها بين يديه فلما بلغ إلى قوله :
لما ركبت إليك مهري أنعلت بدر السماء وسمرت بكواكب
قال له الصاحب. لم أنثت المهر؟ ولم شبهت النعل بالبدر ولا يشبهه؟ ولو شبهته بالهلال لكان أحسن فإنه علي هيئته فقال: الأوسي: أما تأنيث المهر فلأني عنيت المهرة؟ وأما تشبيهي النعل ببدر السماء فلأني أردت النعل المطبقة.
__________
(1) دائرة المعارف 6/20(1/14)
41 - إبراهيم بن عبد الرحمن المعري مدح الصاحب بقصيدة منها:
قد ظهر الحق وبان الهدى لمن له عينان أو قلب
مثل ظهور الشمس في حجبها إذ رفعت عن نورها الحجب
بالملك الأعظم مستبشر شرق بلاد الله والغرب
42 - محمد بن يعقوب أحد أئمة النحو كتب إلى الصاحب كما في (دمية القصر) (1) :
قل للوزير أدام الله نعمته مستخدما لمجاري الدهر والقدر
أردت عبدا وقد أعطيته ولدا فسمه بأسم من بالعرب مفتخر
وإن وصلت له تشريف كنيت جمعت بالطول بين الروض والمطر
لا زال ظلك ممدودا ومنتشرا فإنه خير ممدود ومنتشر
هنيته ابنا يشيع الأنس في البشر هنيت مقدم هذا الصارم الذكر
43 - محمد بن علي بن عمر أحد أعيان الري قرأ على الصاحب ومدحه برائية.
والأدباء يعبرون عن المترجم وأبي إسحاق الصابي بالصادين كما وقع في قول الشيخ أحمد البربير المتوفى سنة 1226 في كتابه (الشرح الجلي) يمدح كاتبا مليحا.
لله كاتبا الذي أنا رقه وهو الذي لا زال قرة عيني
في ميم مبسمه ولام عذاره ما بات ينسخ بهجة الصادين
شعره :
للصاحب شعر جيد في المديح والوصف والغزل والإخوانيات، وقد جمع أشعاره "محمد آل ياسين"، ونشرها في النَّجف بالعراق، وسنشير هنا إلى شيء مما تفرّد به ، من ذلك أنه رحمه الله قال قصيدة معراة من الألف التي هي أكثر الحروف دخولا في المنثور والمنظوم وأولها :
قد ظل يجري صدري من ليس يعدوه فكري
وهي في مدح أهل البيت عليهم السلام في سبعين بيتا فتعجب الناس ، وتداولتها الرواة فسارت مسير الشمس في الآفاق ، فاستمر الصاحب على تلك الطريقة، وعمل قصائد كل واحدة منها خالية من حرف واحد من حروف الهجاء وبقيت عليه واحدة تكون خالية من الواو فانبرى صهره أبو الحسين علي لعملها وقال قصيدة ليست فيها واو ومدح الصاحب بها وأولها:
برق ذكرت به الحبائب لما بدا فالدمع ساكب
و كان للصاحب خاتمان نقش أحدهما هذه الكلمات:
على الله توكلت وبالخمس توسلت
ونقش الآخر:
__________
(1) دمية القصر 1/301(1/15)
شفيع إسماعيل في الآخرة محمد والعترة الطاهرة
وله أيضا إسهامات في النقد الأدبي، ققد ترك رسالة بعنوان "الكشف عن مساوئ المتنبي"، وهي لا تخلو من نظرات نقدية صائبة، وإن شابها تحامُل على الشاعر الكبير، وهي التي نقوم بتحقيقها في هذا الكتاب ، مع رسالة أخرى .
الصاحب ومذهبه :
يشير كثير من الشعر الذي نسب إلى الصاحب ـ إن صحّت نِسبته إليه ـ أنه كان من علية الشيعة الإمامية ، كما يشهد بذلك نثره، وقد نص على مذهبه هذا السيد رضي الدين ابن طاووس في كتاب (اليقين) ، وذكر المجلسي الأول أنه من أفقه فقهاء أصحابنا، واقتفى أثره ولده في مقدمات البحار، فصرح بأنه كان من الإمامية ، وعده القاضي الشهيد في مجالسه من وزراء الشيعة، ويقول الحر العاملي في أمل الآمل. إنه كان شيعيا إماميا، وعده ابن شهر آشوب في المعالم من شعراء أهل البيت المجاهرين، وقال الشهيد الثاني : من أصحابنا، و في (معاهد التنصيص): إنه كان شيعيا جلدا كآل بويه معتزليا، والشيخ المفيد فيما حكاه عنه ابن حجر في (لسان الميزان) ، ورسالته في أحوال عبد العظيم الحسني المندرجة في خاتمة (المستدرك) من جملة الشواهد أيضا، وفي (لسان الميزان) : كان الصاحب إمامي المذهب و أخطأ من زعم أنه كان معتزليا ، وقد قال عبد الجبار القاضي لما تقدم الصلاة عليه : ما أدري كيف أصلي على هذا الرافضي. وعن ابن أبي طي: إن الشيخ المفيد شهد بأن الكتاب الذي نسب إلى الصاحب في الاعتزال وضع على لسانه ونسب إليه وليس هو له.(1/16)
وهناك نقول تفيد اعتناق الصاحب مذهب الاعتزال تارة ، وتمذهبه بالشافعية أخرى، وبالحنفية طورا، وبالزيدية مرة، وقد جاء في ( لسان الميزان ) أنه كان شافعيا في الفروع ، معتزليا في الأصول ، وإن كان النص على تشيعه أكثر وأوكد ، وربما كان في تعصبه للجاحظ الذي هو من أركان المعتزلة مدعاة للقول بأنه معتزلي ، غير أنا نظن ظناً مُسامتاً لليقين أن هذا التعصب كان لأدبه لا لمذهبه ، كتعصب الشريف الرضي للصابي ، وربما لأن الصاحب كغيره من أعلام الإمامية كان يوافق المعتزلة في بعض المسائل كمسألة العدل التي تطابقت آراء الشيعة والمعتزلة فيها على مجابهة الأشاعرة في الجبر واستلزامه تجوير الحق تعالى، وإن افترقا من ناحية أخرى في باب التفويض وأمثال هذه، فقد كان يصعب على الباحث التمييز بين الفريقين فيرمى كل فريق باسم قسيمه .
ومن أبدع التناقض قول أبي حيان : إنه كان يتشيع لمذهب أبي حنيفة ومقالة الزيدية ، وقد أبان عن مذهبه في شعره ومنه قوله:
إن المحبة للوصي فريضة أعني أمير المؤمنين عليا
قد كلف الله البرية كلها واختاره للمؤمنين وليا
نوادر فيها المكارم:
1 - يحكى أن الصاحب استدعى في بعض الأيام شرابا فأحضروا قدحا فلما أراد أن يشربه قال له بعض خواصه: لا تشربه فإنه مسموم - وكان الغلام الذي ناوله واقفا - فقال للمحذر: ما الشاهد على صحة قولك؟ فقال: تجربه في الذي ناولك إياه. قال: لا أستجيز ذلك ولا استحله. قال: فجر به في دجاجة قال: التمثيل بالحيوان لا يجوز. ورد القدح وأمر بقلبه، وقال: للغلام انصرف عني ولا تدخل داري، وأمر بإقرار جارية وجرايته عليه، وقال لا يدفع اليقين بالشك، والعقوبة بقطع الرزق نذالة.
2 - كتب إليه بعض العلويين يخبره بأنه قد رزق مولودا ويسأله أن يسميه ويكنيه فوقع في رقعته:(1/17)
أسعدك الله بالفارس الجديد، والطالع السعيد، فقد والله ملأ العين قرة، و النفس مسرة مستقرة، والاسم علي ليعلي الله ذكره، والكنية أبو الحسن ليحسن الله أمره، فإني أرجو له فضل جده، وسعادة جده، وقد بعثت لتعويذه دينارا من مائة مثقال، قصدت به مقصد الفال، رجاء أن يعيش مائة عام، ويخلص خلاص الذهب الأبرز من نوب الأيام، والسلام.
3 - كتب بعض أصحاب الصاحب إليه رقعة في حاجة فوقع فيها، ولما ردت إليه لم ير فيها توقيعا، وقد تواترت الأخبار بوقوع التوقيع فيها، فعرضها على أبي العباس الضبي فم أزال يتصفحها حتى عثر بالتوقيع وهو ألف واحدة، وكان في الرقعة:
فإن رأى مولانا أن ينعم بكذا؟ فعل. فأثبت الصاحب أمام (فعل) ألفا يعني: أفعل.
4 - كتب الصاحب إلى أبي هاشم العلوي وقد أهدى إليه في طبق فضة عطرا:
العبد زارك نازلا برواقكا يستنبط الاشراق من إشراقكا
فاقبل من الطيب الذي أهديته ما يسرق العطار من أخلاقكا
والظرف يوجب أخذه مع ظرفه فأضف به طبقا إلى أطباقكا
5 - نظر أبو القاسم الزعفراني يوما إلى جميع من فيها من الخدم والحاشية عليهم الخزوز الفاخرة الملونة فاعتزل ناحية وأخذ يكتب شيئا فسأل الصاحب عنه، فقيل: إنه في مجلس كذا يكتب. فقال: علي به. فاستهل الزعفراني ريثما يكمل مكتوبه فأعجله الصاحب، وأمر بأن يؤخذ ما في يده من الدرج، فقام الزعفراني إليه وقال:أيد الله الصاحب.
اسمعه ممن قاله تزدد به عجبا فحسن الورد في أغصانه
قال: هات يا أبا القاسم. فأنشده أبياتا منها:
سواك يعد الغنى ما اقتنى ويأمره الحرص أن يخزنا
وأنت ابن عبادٍ المرتجى تعد نوالك نيل المنى
وخيرك من باسط كفه وممن ثناها قريب الجنى
غمرت الورى بصنوف الندى فأصغر ما ملكوه الغنى
وغادرت أشعرهم مفحما وأشكرهم عاجزا الكنا
أيا من عطاياه تهدي الغنى إلى راحتي من نأى أو دنا
كسوت المقيمين والزائرين كسى لم يخل مثلها ممكنا
وحاشية الدار يمشون في ضروب من الخز إلا أنا(1/18)
ولست أذكر لي جاريا على العهد يحسن أن يحسنا
فقال الصاحب قرأت في أخبار معن بن زائدة: أن رجلا قال له: احملني أيها الأمير، فأمر له بناقة وفرس وبغلة وحمار وجارية، ثم قال له: لو علمت أن الله تعالى خلق مركوبا غير هذه لحملتك عليه، وقد أمرنا لك من الخز بجبة، وقميص. ودراعة. وسراويل وعمامة. ومنديل. ومطرف. ورداء. وجورب، ولو علمنا لباسا آخر يتخذ من الخز لأعطيناكه، ثم أمر بإدخاله الخزانة، وصب تلك الخلع عليه، وتسليم ما فضل عن لبسه في الوقت إلى غلامه.
6 - كتب أبو حفص الوراق الاصبهاني إلى الصاحب: لولا أن الذكرى أطال الله بقاء مولانا الصاحب الجليل - تنفع المؤمنين: وهزة الصمصام تعين المصلتين لما ذكرت ذاكرا، ولا هززت ماضيا، ولكن ذا الحاجة لضرورته يستعجل النجح،
ويكد الجواد السمح، وحال عبد مولانا أدام الله تأييده في الحنطة مختلفة، وجرذان داره عنها منصرفة، فإن رأى أن يخلط عبده بمن أخصب رحله، ولم يشد رحله؟ فعل إن شاء الله تعالى، فوقع الصاحب فيه:
أحسنت أبا حفص قولا، وسنحسن فعلا، فبشر جرذان دارك بالخصب: و أمنها من الجدب، فالحنطة تأتيك في الأسبوع، ولست عن غيرها من النفقة بممنوع إن شاء الله تعالى.
7 - عن أبي الحسن العلوي الهمداني الشهير بالوصي إنه قال: لما توجهت تلقاء الري في سفارتي إليها من جهة السلطان فكرت في كلام ألقى به الصاحب، فلم يحضرني ما أرضاه، حين استقبلني في العسكر، وأفضى عناني إلى عنانه جرى على لساني:
(ما هذا بشر إن هذا إلا ملك كريم). فقال: إني لأجد ريح يوسف لولا أن تفندوني، ثم قال: مرحبا بالرسول ابن الرسول، الوصي ابن الوصي.
8 - مرض الصاحب في الأهواز بإسهال فكان إذا قام عن الطست ترك إلى جانبه عشرة دنانير، حتى لا يتبرم به الخدم، فكانوا يودون دوام علته، ولما عوفي تصدق بنحو من خمسين ألف دينار.
9 - في (اليتيمة) عن أبي نصر ابن المرزبان إنه قال: كان الصاحب إذا شرب ماء بثلج أنشد على أثره:(1/19)
قعقعة الثلج بماء عذب تستخرج الحمد من أقصى القلب
ثم يقول: أللهم جدد اللعن على يزيد.
10 - في (معجم الأدباء) كان ابن الحضيري يحضر مجلس الصاحب بالليالي فغلبته عينه ليلة فنام وخرجت منه ريح لها صوت، فخجل وانقطع عن المجلس، فقال الصاحب: أبلغوه عني:
يا بن الحضيري لا تذهب على خجل لحادث كان مثل الناي والعود
فإنها الريح لا تسطيع تحبسها إذ لست أنت سليمان بن داود
من غرر كلام الصاحب التي تجري مجرى الأمثال
ـ من استماح البحر العذب، استخرج اللؤلؤ الرطب.
ـ من طالت يده بالمواهب، إمتدت إليه ألسنة المطالب.
ـ من كفر النعمة، استوجب النقمة.
ـ من نبت لحمه على الحرام، لم يحصده غير الحسام.
ـ من غرته أيام السلامة، حدثته ألسن الندامة.
ـ من لم يهزه يسير الإشارة، لم ينفعه كثير العبارة.
ـ رب لطائف أقوال، تنوب عن وظائف أموال.
ـ الصدر يطفح بما جمعه، وكل إناء مؤد ما أودعه.
ـ اللبيب تكفيه اللمحة، وتغنيه اللحظة عن اللفظة.
ـ الشمس قد تغيب ثم تشرق، والروض قد يذبل ثم يورق.
ـ البدر يأفل ثم يطلع، والسيف ينبو ثم يقطع.
ـ العلم بالتذاكر، والجهل بالتناكر.
ـ إذا تكرر الكلام على السمع، تقرر في القلب.
ـ الضمائر الصحاح أبلغ من الألسنة الفصاح.
ـ الشيئ يحسن في إبانه، كما أن الثمر يستطاب في أوانه.
ـ الآمال ممدودة، والعواري مردودة.
ـ الذكرى ناجعة، وكما قال الله تعالى نافعة.
ـ متن السيف لين، ولكن حده خشن، ومتن الحية ألين، ونابها أخشن
ـ عقد المنن في الرقاب لا يبلغ إلا بركوب الصعاب.
ـ بعض الحلم مذلة، وبعض الاستقامة مزلة.
ـ كتاب المرء عنوان علقه، بل عيار قدره، ولسان فضله، بل ميزان علمه.
ـ إنجاز الوعد من دلائل المجد واعتراض المطل من إمارات البخل، وتأخير الاسعاف من قرائن الأخلاف.
ـ خير البر ما صفا وضفا، وشره ما تأخر وتكدر.
ـ فراسة الكريم لا تبطي، وقيافة الشر لا تخطي.
ـ قد ينبح الكلب القمر؟ فليلقم النابح الحجر.(1/20)
ـ كم متورط في عثار رجاء أن يدرك بثار.
ـ بعض الوعد كنقع الشراب، وبعضه كلمع السراب.
ـ قد يبلغ الكلام حيث تقصر السهام.
ـ ربما كان الاقرار بالقصور أنطق من لسان الشكور.
ـ ربما كان الامساك عن الاطالة أوضح في الابانة والدلالة.
ـ لكل امرئ أمل، ولكل وقت عمل.
ـ إن نفع القول الجميل، والأنفع السيف الصقيل.
ـ شجاع ولا كعمرو، مندوب ولا كصخر.
ـ لا يذهبن عليك تفاوت ما بين الشيوخ والأحداث، والنسور والبغاث.
ـ كفران النعم عنوان النقم.
ـ جحد الصنائع داعية القوارع.
ـ تلقي الاحسان بالجحود تعريض النعم للشرود.
ـ قد يقوى الضعيف، ويصحو النزيف، ويستقيم المائد، ويستيقظ الهاجد.
ـ للصدر نفثة إذا أحرج، وللمرء بثة إذا أحوج.
ـ ما كل امرء يستجب للمراد، ويطيع يد الارتياد.
ـ قد يصلي البرئ بالقسيم، ويؤخذ البر بالأثيم.
ـ ما كل طالب حق يعطاه، ولا كل شائم مزن يسقاه.
وقد أكثر الثعالبي في ذكر أمثال هذه الكلم الحكمية في (يتيمة الدهر) و ذكرها الأمين العاملي في (أعيان الشيعة).
وفاته:(1/21)
توفي الصاحب ليلة الجمعة الرابع والعشرين من صفر سنة 385 بالري ولما توفي عطلت المدينة وأسواقها، واجتمع الناس على باب قصره، ينتظرون خروج جنازته، وحضر فخر الدولة وسائر القواد، وقد غيروا بزاتهم، فلما خرج نعشه من الباب على أكتاف حامليه للصلاة عليه قام الناس بأجمعهم إعظاما، وصاحوا صيحة واحدة، وقبلوا الأرض، وخرقوا ثيابهم، ولطموا وجوههم، وبلغوا في البكاء و النحيب عليه جهدهم، وصلى عليه أبو العباس الضبي، ومشى فخر الدولة أمام الجنازة وقعد في بيته للعزاء أياما، وبعد الصلاة عليه علق نعشه بالسلاسل في بيت إلى أن نقل إلى اصفهان فدفن في قبة هناك تعرف بباب درية (1) ، قال ابن خلكان: وهي عامرة إلى الآن وأولاد بنته يتعاهدونها بالتبييض. وقال السيد في (روضات الجنات) قلت: بل وهي عامرة إلى الآن، وكان أصابها تشعث وانهدام فأمر الإمام العلامة محمد إبراهيم الكرباسي في هذه الأيام بتجديد عمارتها، ولا يدع زيارتها مع ما به من العجز في الأسبوع والشهر والشهرين، وتدعى في زماننا بباب الطوقچي والميدان العتيق، و الناس يتبركون بزيارته، ويطلبون عند قبره الحوائج من الله تعالى.
قال الثعالبي : لما كنّى المنجمون عما يعرض عليه له في سنة موته قال الصاحب من الرجز (2) :
يا مالك الأرواح والأجسام وخالق النجوم والأحكام
مدبر الضياء والظلام لا المشترى أرجوه للانعام
ولا أخاف الضر من بهرام وإنما النجوم كالأعلام
والعلم عند الملك العلام يا رب فاحفظني من الأسقام
ووقني حوادث الأيام وهجنة الأوزار والآثام
هبني لحب المصطفى المعتام وصنوه وآله الكرام
ورثي الصاحب بقصايد كثيرة منها نونية أبي منصور أحمد بن محمد اللجيمي ( من الوافر ) و منها (3) :
أكافينا العظيم إذا وردنا ومولانا الجسيم إذا فقدنا
__________
(1) بفتح الدال المهملة وكسر الراء كذا ضبطت في أعيان الشيعة، وفي يتيمة الدهر 4/409 بالذال المجمعة .
(2) يتيمة الدهر 3/278
(3) يتيمة الدهر 4/409(1/22)
أردنا منك ما أبت الليالي فأبطل ما أرادت ما أردنا
شققت عليك جيبي غير راض به لك فاتخذت الوجد خدنا
ولو أني قتلت عليك نفسي لكان إلى قضاء الحق أدنى
أفدنا شرح أمر فيه لبس فإنا صائبا كنا استفدنا
ألم تلك منصفا عدلا؟ فأني عمرت حفيرة وقلبت مدنا
وكيف تركت هذا الخلق حالت خلائقهم فليس كما عهدنا؟!
تملكنا اللئام وصيرونا عبيدا بعد ما كنا عبدنا
لئن بلغت رزيته قلوبا فذبن أو أعينا منا فجدنا
لما بلغت حقائقها ولكن على الأيام نعرف من فقدنا
وله في رثائه من قصيدة ( من الطويل ) (1) :
مضى من إذا ما أعوز العلم والندى أصيبا جميعا من يديه وفيه
مضى من إذا أفكرت في الخلق كلهم رجعت ولم أظفر له بشبيه
ثوى الجود والكافي معا في حفيرة ليأنس كل منهما بأخيه
هما اصطحبا حيين ثم تعانقا ضجيعين في قبر بباب ذريه
وقد يعزى بعض هذه الأبيات إلى أبي القاسم بن أبي العلاء الاصبهاني مع حكاية طيف عنه.
ومنها نونية أبي القاسم بن أبي العلاء الاصبهاني ( من البسيط ) (2) منها :
يا كافي الملك ما وفيت حظك من وصف وإن طال تمجيد وتأبين
فقت الصفات فما يرثيك من أحد إلا وتزيينه إياك تهجين
ما مت وحدك لكن مات من ولدت حواء طرا بل الدنيا بل الدين
هذي نواعي العلا مذ مت نادبة من بعد ما ندبتك الخرد العين
تبكي عليك العطايا والصلات كما تبكي عليك الرعايا والسلاطين
قام السعاة وكان الخوف أقعدهم فاستيقظوا بعد ما مات الملاعين
لا يعجب الناس منهم إن هم انتشروا مضى سليمان وانحل الشياطين
ومنها دالية أبي الفرج بن ميسرة ( من الوافر ) (3) منها :
ولو قبل الفداء لكان يفدى وإن حل المصاب على التفادي
ولكن المنون لها عيون تكد لحاظها في الانتقاد
فقل للدهر: أنت أصبت فالبس برغمك دوننا ثوبي حداد
إذا قدمت خاتمة الرزايا فقد عرضت سوقك للكساد
__________
(1) يتيمة الدهر 4/409
(2) يتيمة الدهر 3/280
(3) يتيمة الدهر 3/280(1/23)
ومنها دالية لأبي سعيد الرستمي ( من الطويل ) منها (1) :
أبعد ابن عباس يهش إلى السرى أخو أمل أو يستماح جواد؟!
أبى الله إلا أن يموتا بموته فما لهما حتى المعاد معاد
ومنها لأمية أبي الفياض سعيد بن أحمد الطبري (2) ( من الوافر ) ومنها :
خليلي كيف يقبلك المقيل؟ ودهرك لا يَقيل ولا يُقيل
ينادي كل يوم في بنيه ألا هبوا فقد جد الرحيل
كأن مثال من يفنى ويبقى رعيل سوف يتلوه رعيل
فهم ركب وليس لهم ركاب وهم سفر وليس لهم قفول
حياتي بعده موت وحي وعيشي بعده سم قتول
عليك صلاة ربك كل حين تهب بها من الخلد القبول
ومنها ميمية أبي القاسم غانم بن محمد بن أبي العلا الاصبهاني يقول فيها (3) :
مضى نجل عباد المرتجى فمات جميع بني آدم
أوارى بقبرك أهل الزمان فيرجح قبرك بالعالم
وله من قصيدة أخرى في رثاء الصاحب يقول فيها (4) :
هي نفس فرقتها زفراتي ودماء أرقتها عبراتي
لشباب عذب المشارع ماض ومشيب جذب المراتع آت
زمن أذرت الجفون عليه من شؤوني ما كان ذوب حياتي
تتلاقى من ذكره في ضلوعي ودموعي مصايف ومشاتي
بل ندى الصاحب الجليل أبي القاسم نجل الأمير كافي الكفاة
تتبارى كلتا يديه عطايا ومنايا حتما لعاف وعات
ومنها تائية رثاه بها صهره السيد أبو الحسن علي بن الحسين الحسني ومنها (5) .
ألا إنها أيدي المكارم شلت ونفس المعالي إثر فقدك سُلَّت
حرام على الظلماء إن هي قُوضت وحَجر على شمس الضحى إن تجلت
لتبك على كافي الكفاة مآثر تباهي النجوم الزهر في حيث حلت
لقد فدحت فيه الرزايا وأوجعت كما عظمت منه العطايا وجلت
ألا هل أتى الآفاق آيةُ غُمة أطلت؟! ونُعمي أي دهر تولت؟!
وهل تعلم الغبراء ماذا تضمنت وأعواد ذاك النعش ماذا أقلت؟!؟!
__________
(1) يتيمة الدهر 3/280
(2) وهي قصيد تزيد على الأربعين بيتا ، انظر : يتيمة الدهر 3/280 ـ 282 ،
(3) تتمة يتيمة الدهر ، ص 139 ـ 140
(4) تتمة يتيمة الدهر ، ص 140
(5) معجم الأدباء 6/263 ـ 264(1/24)
فلا أبصرت عيني تهلل بارق يحاكي ندى كفيك إلا استهلت
ولو قبلت أرواحنا عنك فدية لجدنا بها عند الفداء وقلت
وقال أبو الحسن محمد بن الحسين الحسني المعروف بالوصي الهمداني في رثائه (1) ( من مجزوء الكامل ) :
مات الموالي والمحب لأهل بيت أبي تراب
قد كان كالجبل المنيع لهم فصار مع التراب
وله في رثائه أيضاً ( من الكامل ) (2) :
نوم العيون على الجفون حرام ودموعهن مع الدماء سجام
تبكي الوزير سليل عباد العلا والدين والقرآن والاسلام
تبكيه مكة والمشاعر كلها وحجيجها والنسك والإحرام
تبكيه طيبة والرسول ومن بها وعقيقها والسهل والأعلام
كافي الكفاة قضى حميدا نحبه ذاك الإمام السيد الضرغام
مات المعالي والعلوم بموته فعلى المعالي والعلوم سلام
ورثاه الشريف الرضي بقصيدة لامية شرحها أبو الفتح عثمان بن جني المتوفى 392هـ في مجلد واحد (3) أولها ) من الكامل ) :
أَكَذا المَنونُ تُقَنطِرُ الأَبطالا أَكَذا الزَمانُ يُضَعضِعُ الأَجيالا
أَكَذا تُصابُ الأُسدُ وَهيَ مُذِلَّةٌ تَحمي الشُبولَ وَتَمنَعُ الأَغيالا
أَكَذا تُقامُ عَنِ الفَرائِسِ بَعدَما مَلَأَت هَماهِمُها الوَرى أَوجالا
أَكَذا تُحَطُّ الزاهِراتُ عَنِ العُلى مِن بَعدِ ما شَأَتِ العُيونَ مَنالا
ومر أبو العباس الضبي بباب الصاحب بعد وفاته فقال ( من الخفيف ) (4) :
أيها الباب لم علاك اكتئاب؟! أين ذاك الحجاب والحجاب؟!
أين من كان يفزع الدهر منه؟! فهو اليوم في التراب تراب
__________
(1) يتيمة الدهر3/286
(2) يتيمة الدهر3/286
(3) انظر معجم الأدباء 12/112 ، ولنشر القصيدة في ديوان الشريف وفي غير واحد من أمات الكتب نكتفي بذكر ما ذكرناه منها ، وتبلغ أبياتها [ 112 ] بيتا .
(4) يتيمة الدهر 3/285 ـ 286(1/25)
ولأبي حيان التوحيدي المتوفى سنة 380 هـ رسالة [مثالب الوزيرين] (1) ألفها في تعيير المترجم الصاحب وأبي الفضل ابن العميد وقد سلب عنهما مالهما من المآثر والفضائل، وبالغ في التعصب عليهما، وجاء بأمر خداج، وأتى بمنكر من قول وزور، وفاحشة مبينة، وما أنصف وما أبر بإجماع المؤرخين.
شعر المتنبي في ميزان الصاحب بن عبَّاد
السُّخْر لون من الأدب قديم، رافق الشعر العربي منذ قام على قدميه، ومرده إلى نوع من الاستخفاف لا يجد صاحبه سبيلاً للتعبير عنه إلا بالصور المضحكة، وهو بذلك أشد وقعاً في النفس من الهجاء الصريح القائم على التحقير المباشر. فقد يقذف الشاعر أو الكاتب مهجوه بلاذع الكلام، فينال من نفسه أكثر مما ينال من خصمه، إذ يسجل عليها الانسياق لسلطان من الغضب تضعف إرادته عن تصريفه، ولكنه حين يعمد إلى السخر فإنما يدلل على هدوء في أعصابه، يمكن له من تتبع نقائص الخصم في أناة، توهمك بأنه لا يريد تشفياً ولا انتقاماً، وإنما يريد عرض واقع من حق الناس كلهم أن يشركوه في تعرفه.. ولهذا كان السخر فناً جميلاً يحقق من المتعة للقارئ والأديب ما لا تحققه فنون التعبير الأخرى.
ومع ذلك فللسخر ضروب تتفاوت في ميزان الجمال، تفاوت النفوس الساخرة، وكثير من الأدباء لا يجد القدرة على إحسانه، لأن نفسه من النوع الذي لا يأتلف غير الجد، فإذا راح يؤلف الصورة أضحكك من نفسه أكثر مما يضحكك من خصمه. وإلى جانب هؤلاء آخرون فطروا على هذه الموهبة، فهم لا يجدون نصَباً ولا التواءً في حوك ما يقصدون إليه، فإذا هم يتحفونك بما يهزأ طرباً، وربما لا يعجزون أن يهزوا خصومهم بمثل هذا الطرب.
__________
(1) نشرت في [الامتاع والمؤانسة] ص 53 - 67(1/26)
وللسخر الجميل صور ماتعة في القرآن الكريم، وفي كثير من النصوص العربية، قديماً وحديثاً، تأتي حيناً هادئة رخية، وتأتي حيناً آخر عنيفة قوية، وفي كلتا الحالتين تعمل عملها في تحريك المشاعر وتحقيق الغرض. ومن الذين أحسنوا هذا الفن "الحطيئة" و"الأخطل" و"بشار" و"ابن الرومي" و"المعري"، ثم "الجاحظ" و"ولي الدين يكن". وهناك واحد من أدباء العصر العباسي لم يشتهر أمره بين الساخرين وقد ضرب فيه بسهم وافر، يجعله واحداً من هؤلاء الذين يُرْضُون هواة هذا الفن. ذلك هو الصاحب إسماعيل بن عباد من تابعي القرن الرابع.
وقد رأيت أن أقف حديثي هذا على عرض نماذج من سخره البارع الذي ينم عن ثقافة أدبية عميقة، وتصرف حاذق في فن القول.
ولد إسماعيل بن عباد عام 326هـ وتوفي عام 385هـ ونشأ في جو من العلم والأدب أحاطه به والده، ثم اتصل بأكابر علماء عصره وأدبائه، فأفاد ثروة وافرة من الثقافة إلى جانب ذخيرة من الخلق والعقل والصفات الكريمة، مما رفعه إلى مرتبة الوزراء، فكان يمين (ركن الدين بن بويه) ثم (فخر الدولة) أخيه مدى ثماني عشرة سنة وكان شديد الإخلاص لهما، نافذ الأمر عندهما، ومؤيد الدولة هو الذي أطلق عليه لقب (الصاحب).(1/27)
أما ثقافته فحسبنا شاهداً على قيمتها قول عدوه (أبي حيان) في كتابه (الإمتاع) الذي حشاه بالطعن على الصاحب، يقول أبو حيان: "كان الصاحب كثير المحفوظ حاضر الجواب، فصيح اللسان قد نتف من كل أدب شيئاً، ومن كل فَن طرفاً، حسن القيام بالعروض والقوافي، يقول الشعر وليس بزالٍّ وبديهته غزار".. ولا شك أن مثل هذه الثقافة تؤهل صاحبها للكلام في الشعر، ونقد معانيه وأساليبه، وتُسعفه بما يعوز الناقد من فنون الكلام، عندما يتناول أحد الشعراء بتعديل أو تجريح . وبهذا السلاح من الذكاء المثقف اقتحم الصاحب ابن عباد حرم المتنبي، فراح ينقب بين ثناياه لاستقصاء سقطاته، في ألوان من السخر الناجح، لا يتمالك قارئه إلا أن يقابله بالإعجاب الكثير، والضحك الوفير.
أبت عنجهية المتنبي وكبرياؤه إلا أن تترفعا عن مديح الصاحب، وهو الذي كان بابه ملاذ المئات من شعراء التكسب، فأثار بذلك حفيظة ابن عباد، وهاج نقمته، فكان لا مندوحة له عن تتبع عيوبه، ليسهم مع خصومه في الغض من قيمته، فراح يستقصي مواطن ضعفه، في إنصاف حيناً وفي جور حيناً آخر، وكان لمالئ الدنيا وشاغل الناس أنصاره المعجبون، الذين لا يعدمون القدرة على الذياد عن حياضه، لذلك وجب على الصاحب الواثق من نفسه ألاّ يكتفي بالقول يرسله في مجالسه الخاصة، فعمد إلى القلم، وإذا هو يخرج لنا رسالته التي يسميها: "الكشف عن مساؤئ شعر المتنبي" والرسالة هذه صغيرة لا يتجاوز ما يخص المتنبي فيها الخمس عشرة من الصفحات، ولكنها ذخيرة من بلاغة الصاحب ومقدرته في النقد الساخر ... تقرؤها اليوم فتستعيد جو الحياة الأدبية الماتعة التي كانت تظل عهد كاتبها، وتتبين من خلالها دفقات من جيّد الكلام تكاد تكون نسيج وحدها في كل ما عرفه الأدب العربي من هذا الفن.
ولنأخذ الآن في عرض طائفة من هذا السخر الطريف.
يقول المتنبي في مدح سيف الدولة:
نحن من ضايق الزمان له فيك ... وخانته قربك الأيام(1/28)
فيمسك الصاحب بتلابيبه ثم يقول: "إنه بيت، رقية العقرب أقرب إلى الأفهام منه، فإن قوله: (فيك) لو وقع في عبارات الجنيد والشبلي لتناءت عنه المتصوفة دهراً ...
ورقية العقرب هذه تذكرنا قول ابن الرومي في شعر البحتري:
رقى العقارب أو هذر البناة إذا ... أضحواعلى شعف الجدران في صخب
ويقلِّب الصاحب نظره في رثاء المتنبي لأم سيف الدولة، وفيه من الفخامة ما يليق بجلال الملوك، فإذا هو يقذف بالقهقهات المثيرة هنا وهناك، ثم يسجل ملاحظته في مثل هذه الكلمات: يقول الصاحب: ولما أبدع (المتنبي) في هذه المرثية واخترع قال:
صلاة الله خالقنا حنوط ... على الوجه المكفن بالجمال
وقد زعم بعض من يغلو في المتنبي أن هناك استعارة، فقلت: صدقت. ولكنها استعارة حداد في عرس. ولا يفوتنا غرابة (الحداد في عرس) فهي من ابتداع الصاحب، فيما أظن، وقد بقيت ملكه حتى أخذها شاعر حديث فقال:
ضحك الأمس، فرنّت في الدجى ... ضحكة الثاكل في ليلة عرس
ويقرأ الصاحب قول أبي الطيب:
إن كان مثلك كان أو هو كائن ... فبرئت حينئذ من الإسلام
فلا يهمه ما في البيت من سخف المعنى والمبنى، بمقدار ما تسوؤه لفظة (حينئذ) لذلك يكشف عورتها وهو ينادي (إنها ههنا أنفر من عيَر منفلت !).
وهكذا هو يصنع في ذلك البيت الآخر الذي يتساءل به المتنبي عن الطلول:
أسائلها عن المتديريها ... فما تدري، ولا تُذْري دموعا
فإذا هو يقبض على هذه (المتديريها) بكلتا يديه، ويقول: "لو وقعت هذه اللفظة في بحر صاف لكدرته ولو ألقي ثقلها على جبل سام لهدته ! ... "
ولَكَم ثار فضول الناس حول قول المتنبي الآخر:
أُحاد أم سداس في أُحاد ... ليَُيْلَتُنا المنوطة بالتنادي !(1/29)
فلم ينتهوا إلى الكلمة الأخيرة فيه حتى اليوم، ولكن الصاحب لا يرى فيه إلا نوعاً من الهذر يجمع من الحساب ما لا يدرك بالارتماطيقي، وبالأعداد الموضوعة للموسيقى، ثم يجهز عليه بهذه الطعنة النجلاء إذ يقول: "هذا كلام الحكل ورطانة الزط.. وما ظنك بممدوح قد تهيأ للسماع من مادحه فصك سمعه بهذه الألفاظ الملفوظة، والمعاني المنبوذة! ... "
وقد يقع الصاحب على كلمة بارعة قالها أحد النقاد في شعر المتنبي، فيكتفي بها معبراً عن رضاه، كما صنع في هذا البيت:
فما للنوى، جُد النوى، قطع النوى ... كذاك النوى قطاعة لوصال
فيورد عنه كلمة أحد شيوخ الأدب إذ يقول: "لو سلط الله على هذا البيت شاة لأكلت هذا النوى كله ! ... "
ثم استمع إلى قول المتنبي هذا:
إذا كان بعض الناس سيفاً لدولة ... ففي الناس بوقات لها وطبول
وقديماً شغل الشراح عن معنى هذا البيت بالجدل على (بوقات).. بعضهم يصححها وبعضهم يخطئها، أما الصاحب فينصرف عن كل ذلك ليقول: "إن هذا التحاذق كغزل العجائز، ودلال الشيوخ ! ... ".
ويحلق الصاحب في فن التعبير، حين يقع على قول المتنبي:
جواب مُسائلي: أله نظير؟ ... ولا لك في سؤالك لا.. ألا لا
فإذا هو يعقب عليه بهذا السهم الذي شَفَى به واشتفى . يقول: "لقد سمعت بالتمتام ولم أسمع باللألاء، حتى رأيت هذا المتكلف المتعسِّف، الذي يقف حيث يعرف".
ويتابع الصاحب الساخر سقطات أبي الطيب، أو ما يراه هو سقطات، بهذا المبضع الذي لا يرحم، فما إن يصل إلى قوله:
عَظُمتَ فَلَمّا لَم تُكَلَّم مَهابَةً ... تَواضَعتَ وَهوَالعُظمُ عُظماًعَنِ العُظمِ
حتى يصرخ "ما أكثر عظام هذا البيت !..".
وما أروع عبارته حين يعرض لقول أبي الطيب، في وصف أسير أخذ منه الخوف حتى هبط إلى مرتبة الأطفال في اللفائف:
فغدا أسيراً قد بللت ثيابه ... بدم، وبل ببوله الأفخاذا
فكأنه حسب الأسنة حلوة ... أو ظنها البرنيّ والآذاذا(1/30)
وإذا علمت أن (البرني والآذاذ) من التمر أدركت جودة التعليق الذي أتحفنا به الصاحب عندما قال: "لا أدري أكان في الحرب أم في سوق التمارين في البصرة ... ".
ولا ينكر ناقد منصف أنَّ الصاحب لم يكن عادلاً في جميع نقده للمتنبي، فشذ ما جار عليه، وكثيراً ما أبرز لآلئه في صورة الخرز.. ولكنه لم يعدم التوفيق في كثير من تجريحه. ولعل أفضل ما يقع عليه قارئ هذه الرسالة، تلك النفحة التي بلغ بها قمة السخر الفني، حين يعرض قول أبي الطيب:
لو استطعت ركبت الناس كلهم ... إلى سعيد بن عبد الله بعُرانا
ثم يعقب عليه بهذه الوخزة البارعة: "ومن الناس أمه ... فهل ينشط لركوبها؟! والممدوح أيضاً لعل له عصبة لا يحب أن يُركبوا إليه ! ... ".
وبعد فهذه طائفة من طرائف تلك الرسالة التي تنفس عنها صدر ذلك الأديب الناقم من كبرياء أبي الطيب.
وليس الصاحب بن عباد هو الناقم الوحيد الذي دفعه المتنبي إلى صفوف أعدائه بتعاليه وتعاظمه وعنجهيته، ولكنه واحد من الذين يحسنون الرمي عن خبرة.. فليس بوسعه أن يحشره بين عضاريط الفسطاط وشُوَيْعري بغداد ...
ونحن إذ نستعرض غمزاته هذه لا يسعنا أن نؤيده في كل ما ذهب إليه من رأي في النماذج التي تناولها من شعر أبي الطيب، ففي كثير من مآخذه تحامل بيّن، لا يمكن الزعم بأن الناقد على جهل منه، ولذلك اكتفينا من تلك الغمزات بما هو أقرب إلى الإنصاف، وقليل من التروي في تقييم هذه الأبيات المجروحة يؤكد صدق ما أطلقة الصاحب عليها من الأحكام ...(1/31)
ومن الحق أن نقول: "إن الصاحب لم يستسلم لهواه بإزاء أبي الطيب، إلى الحد الذي يخرجه عن كل تقدير له، فإلى جانب هذه الطعنات القليلة، إنصاف غير قليل، عالج به مجموعة من أمثال المتنبي، في كتاب خاص، لم يبخس فيه الشاعر الحكيم حقه، وهو نفسه لا يهجم على المتنبي في رسالته الساخرة هذه الهجوم المنكر لعبقريته، وإنما دفعه إلى تأليفها حديث دار بينه وبين بعض المتعصبين لأبي الطيب، فقد سأله هذا عن رأيه في شعره فأجابه بما يلي: "إنه بعيد المرمى كثير الإصابة، إلا أنه ربما يأتي بالفقرة الغراء مشفوعة بالكلمة العوراء.. فلم يرق ذلك للسائل، بل تحداه أن يثبت زعمه كتابة، فاضطر الصاحب إلى تأليف هذه الرسالة تسويغاً لما ذهب إليه ... "
على أن من طرائف القدر أن يُبْتلى الصاحب نفسه بمثل ما ابتُلِيَ به المتنبي من خصومته ... فلقد رماه الدهر بباقعة من فطاحل كتاب العربية، لا يعجزه أن يجعل من الحق باطلاً، ومن الباطل حقاً.. ذلك هو أبو حيان، صاحب كتاب (الإمتاع والمؤانسة) الذي خص الصاحب بصفحات من النقمة المبدعة، توشك أن تجعل منه ضحكة الأبد.
بسم الله الرحمن الرحيم
أمَّا بعد ...(1/32)
أطال الله مدَّتك ، وأدام في العلوم رغبتك ، فالهوى مَركِب يَهوِي بصاحبه ، وظَهْر يعْثَر براكبه ، وليس من الحزم أنْ يُزرِي العالم على نفسه بالعَصيَّة ، ويضع من علمه بالحميَّة ، فالناس مع اختلافهم ، وتباين أصنافهم متّفقون على أنَّ تغليب الأهواء ، يطمس أعين الآراء ، وأنَّ الميل عن الحق يُبهم سبيل الصدق ، وكنت ذاكرت بعض من يتوسّم بالأدب الأشعار ، وقائلها ، والمجودين فيها ، فسألني عن المتنبي ، فقلت : إنه بعيد المرمى في شعره ، كثير الإصابة في نظمه ، إلاّ أنه / ربما يأتي بالفقرة الغراء ، مشفوعة بالكلمة العوراء ، 2 ب فرأيته قد هاج وانزعج ، وحمي وتأجج ، وادّعى أنَّ شعره مستمر النظام ، متناسب الأقسام ، ولم يرض حتى تحدَّاني ، فقال : إنْ كان الأمر كما زعمت فأثبت في ورقة ما تنكره ، وقيد بالخطبة ما تذكره ؛ لتتصفحه العيون ، وتسبكه العقول ، ففعلتُ ، وإنْ لم يكن تطلّب العثرات من شيمتي ، ولا تتبع الزلاّت من طريقتي ، وقد قيل : أيّ عالم لا يهفو ، وأيّ صارم لا ينبو، وجواد لا يكبو ، وإنما فعلتُ ما فعلتُ لئلا يُقدِّر هذا المعترض أني ممن يَروي ، قبل أن يُروَى ، ويُخبِر قبل أن ُيَخبُر، فاسمع وأنصت ، واعدل وأنصف ، فما أوردت فيه إلاّ قليلا ، ولا ذكرت من عظيم عيوبه إلاّ يسيرا ، وقد بُلينا بزمن ، زمن يكاد المنسم فيه يعلو الغارب ، ومُنِّينا بأعيار أغمار ، اغترّوا بممادح الجهَّال ، لا يضرعون لمن حلب الأدب أفاويقه ، والعلم أشطره ، لاسيما على الشعر، فهو فوق الثريا ، وهم دون الثرى، وقد يوهمون أنهم يعرفون ، فإذا حكموا رأيت بهائم مُرسَّنة / وأنعاما مجفلة ، وها أنا منذ عشرين سنة أجالس 3 أ الشعراء ، وأكاثر الأدباء ، وأباحث الفضلاء ، وعشرين أخرى آخذ عن رواة محمد بن يزيد المبرد ، وأكتب عن أصحاب أحمد بن يحيى ثعلب ، فما رأيت مَنْ يعرف الشعر حق معرفته، وينقده نقد جهابذته ، غير الأستاذ الرئيس أبي الفضل بن العميد ،(1/33)
أدام الله أيامه ، وحصّن لديه أنعامه ، فإنه يتجاوز نقد الأبيات إلى نقد الحروف والكلمات ، ولا يرضى بتهذيب المعنى حتى يطالب بتخيُّر القافية والوزن ، وعن مجلسه أعزه الله تعالى أخذت ما أتعاطى من هذا الفن ، وبأطراف كلامه تعلّقت فيما أتحلّى من هذا الجنس ، وقد قال أبو عثمان الجاحظ : طلبت علم الشعر عند الأصمعي فوجدته لا يعرف إلاّ غريبه ، فرجعت إلى الأخفش فلقيته لا يُتقن إلاّ إعرابه ، فعطفت على أبي عبيدة فرأيته لا ينقد إلاّ ما اتّصل بالأخبار ، وتعلّق بالأيام والأنساب ، فلم أظفر بما أردت إلاّ عند أدباء الكتاب ، كالحسن بن وهب ، ومحمد بن عبد الملك / الزيات ، فلله أبو عثمان ، لقد غاص على سرّ الشعر ، واستخرج أدقّ مِن الشَّعْر 3ب وفي هذا النمط ما حدثني محمد بن يوسف الحمادي ، قال : حضرت مجلس عبيد الله بن طاهر ، وقد حضره البحتري ، فقال : يا أبا عبادة مُسلم أشعر أم أبو نواس ، فقال : بل أبو نواس ؛ لأنه يتصرف في كل طريق ، ويتنوع في كل مذهب ، إنْ شاء جدّ ، وإنْ شاء هَزَل ، ومُسلم يلزم طريقا واحدا ، لا يتعداه ، ويتحقق بمذهب لا يتخطاه ، فقال له عُبيد الله : إن أحمد بن يحيى ثعلباً لا يوافقك على هذا ، فقال : أيها الأمير ، ليس هذا من علم ثعلب وأحزابه ممن يحفظ الشعر ولا يقوله ، وإنما يعرف الشعر مَنْ دُفع إلى مضائقه ، فقال : وَرَيتُ بك زِنادي ، يا أبا عبادة إنّ حكمك في أبي نواس ومُسلم وافق حكم أبي نواس في جرير والفرزدق ، فإنه سُئل عنهما ففضّل جريراً ، فقيل له : إنّ أبا عبيدة لا يوافقك على هذا ، فقال : ليس هذا من علم أبي عبيدة ، إنما يعرف الشعر مَنْ دفع مضائقه ، ومن أحسن ما قيل في انتقاد / 4 أ الشعر ما أنشدنيه أبو الحسن علي بن هارون بن المنجم النديم ، قال : أنشدني عمّي أبو أحمد لنفسه :(1/34)
... ... رُبَّ شِعرٍ نَقَدتُهُ مِثلَ ما يَنـ قُدُ رَأسُ الصيارِفِ الدينارا (1)
... ... ثمَّ أَرسَلتهُ فَكانَت مَعانيـ ـهِ وَأَلفاظُهُ مَعاً أَبكارا
... ... لَو تَأَتّى لِقالَةِ الشِعرِ ما أُسـ قِطَ مِنهُ حَلوا بِهِ الأَشعارا
... ... وَأَجَلُّ الكَلامِ ما يَستَعيرُ النـ ناسُ مِنهُ وَلَم يَكُن مُستَعارا
وأنشدني في معنى خبر أبي عبادة مع عبيد الله ، عبد الرحمن بن أبي عبد الرحمن الأهوازي لنفسه في مُعلِّم أزرى على شعره :
... ... يَعيبُ الأحمقُ المغرورُ شِعري ... وهَجوي في بلادتِه يسيرُ (2)
ويزعُمُ أنَّه نقَّادُ شعرٍ هو الحادي، وليس له بعير!
والأصل في هذا قول بعضهم (3) :
__________
(1) الأبيات من الخفيف ، وهي ليحيى بن علي المنجم 241 - 300 هـ / 855 - 912 م
وهو : يحيى بن علي بن يحيى بن أبي منصور أبو أحمد. أديب متكلم، من فضلاء المعتزلة، مولده ووفاته ببغداد. نادم الموفق بالله العباسي وعدة خلفاء آخرهم المكتفي، وله مع المعتضد حوادث ونوادر، وكان آل المنجم من بيوت العلم في العراق. صنف كتباً منها (كتاب النغم -ط)، و(الباهر في أخبار شعراء مخضرمي الدولتين الأموية والعباسية)، تممه ابنه أحمد وأضاف إليه بضعة شعراء.
ديوانه / الموسوعة الشعرية ، وسنشير للموسوعة الشعرية فيما يأتي بالحرف ( م ) .
(2) من الوافر ، والبيت الثاني ذكره الراغب الأصفهاني في محاضرات الأدباء ومحاورات الشعراء والبلغاء ، ص 266 ( م ) .
(3) من الطويل ، لمروان بن أبي حفصة 105 - 182 هـ / 723 - 798 م :
مروان بن سلمان بن يحيى بن أبي حفصة، كنيته أبو الهيندام أو أبو السمط، ولقبه ذو الكمر. شاعر عالي الطبقة، كان جدّه أبو حفصة مولى لمروان بن الحكم أعتقه يوم الدار، ولد باليمامة من أسرة عريقة في قول الشعر، وأدرك العصرين الأموي والعباسي، وقد وفد على المهدي فمدحه ثم الهادي من بعده ثم إلى مديح هارون الرشيد ومدح البرامكة وزراء الرشيد. وعلى كثرة ما أصابه من خلفاء بني العباس وعلى يساره، فقد كان بخيلاً بخلاً شديداً، ضربت به الأمثال ورويت عنه الحكايات. ويمتاز شعره بالعراقة والجودة ومتانة الألفاظ وسداد الرأي ودافع بشعره عن العباسيين ودعى إليهم واحتج على خصومهم وعارضهم. وقد دفع ثمن تعصبه للعباسيين حياته، إذ اغتاله بعض المتطرفين من الشيعة العلويين ببغداد. ، ديوانه ( م ) .(1/35)
... ... زَوامِلُ لِلإَشعارِ لا عِلمَ عِندَهُم بِجَيِّدِها إِلّا كَعِلمِ الأَباعِرِ
... ... لَعَمرُكَ ما يَدري البَعيرُ إِذا غَدا بِأَوساقِهِ أَو راحَ ما في الغَرائِرِ
وفي اشتمال الشعر على الفاخر ، وقول ابن الرومي أنشدنيه / أبو الحسين بن حاجب 4 ب النعمان ، قال : أنشدني أبو عثمان الناجم ، قال : أنشدني علي بن العباس لنفسه :
يا عائب الشِّعر؛ مهلا فعيبُكَ الشِّعرَ عَيْبُ! (1)
الشِّعرُ كالشَّعْرِ فيه مَع الشَّبيبةِ شيبُ!
وأنا أقدِّم شذورا سمعتها من الأستاذ الرئيس ، أدام الله علوَّه في نقد الشعر ، تدلّ على ما بعدها ، وتبني عمَّا قبلها ، وأين مَنْ يفهم هذه الإشارة ، ويعلم ما وراءها من النُّكت الدَّالة ، أنشدت يوما بحضرته كلمة أبي تمام (2) التي أولها :
شَهِدتُ لَقَد أَقوَت مَغانيكُمُ بَعدي وَمَحَّت كَما مَحَّت وَشائِعُ مِن بُردِ
حتى انتهيت إلى قوله :
كَريمٌ مَتى أَمدَحهُ أَمدَحهُ وَالوَرى مَعي وَمَتى ما لُمتُهُ لُمتُهُ وَحدي
فقال : هل تعرف في هذا البيت عيبا ، فقلت : بَلى ، قابل المدح باللوم ، فلم يوفِّ التطبيق حظه ، إذ حقّ المدح أنْ يُقابل بالهجو والذم ، على أنه قد رُوي : ومتى ما لمته لمتُه وحدي ، فقال أيّده الله : غير هذا أردت ، قلت : ما أعرف ، قال : أحد ما يحتاج / إليه في الشعر 5أ سلامة حروف اللفظ من الثقل ، وهو التكرير في : أمدحه أمدحه ، مع الجمع بين الحاء والهاء مرتين ، وهما من حروف الحلق ، خارج عن حدّ الاعتدال ، نافر كل النفار ، فقلت : هذا مما لا يدركه ، ولا يعلمه إلاّ مَنْ انقادت وجوه العلم له ، وأنهضها إلى ذُراها طبعه .
... وكنا يوما نتذاكر في مجلسه أعلاه الله ، فجرى ذكر قول الشاعر :
أعاتبكم يا أم عمرو لحبكم ... ألا إنما 0000 مَنْ لا يعاتب
__________
(1) من المجتث ، و البيتان في محاضرات الأدباء ، ص 254 ( م ) .
(2) من الطويل ، ديوانه ، ص 120(1/36)
فاستحسنه الحاضرون، وأُعجبوا به ، وأثنوا على قائله ، فقال أيّده الله : إنّ من انتقاد الشعر أنْ يُنقَد ما في القافية من حركة وحرف ، فقلت : كره سيدنا السِّناد (1) في ( تب ] مِن يُعاتب ، كونه في سائر الأبيات كسرة ، فقال : ما أردت غيره ، فهذا قول مَن له بكل طرف من أطراف الفضل طرف موكل ، وناظر منفقد ، وكنت أقرأ عليه شعر ابن المعتز مُتخيِّرا الأنفس فالأنفس ، فابتدأت قصيدة على المديد الأول ، فرسم تجاوزها ، وقدّرته يحفظها ، ولا يرضاها فسألته عنها ، فقال : هذا الوزن / لا يقع طلبه للمحدثين جيد الشعر ، فتتبعتُ 5ب عدّة قصائد على هذا الضرب ، فوجدتها في نهاية الضعف .
__________
(1) كتبت : التسناد ، والصواب ما أثبتماه ، قال أبو عبيدة: من عُيوب الشِّعر السناد، وهو اختلاف الأرداف. وقال محمد بن سلام الجمحي: السِّنَاء في القافية مثل شَيْبٍ وشِيبٍ. تهذيب اللغة ( سند )(1/37)
... وجرى حديث أبي عبادة البحتري ، وهو يوفيه حقه الذي استوجبه ؛ لجزالة لفظه ، وبشاشة نسجه ، وغزارة طبعه ، وحلاوة شعره ، فذكر القاضي أبو بكر الجعابي (1) سبطاً لأبي عمر ، قاضي القضاة ، وإنفاذه إليه ما استدركه في شعر البحتري ، وطعن به عليه ، وأنه ينقبض عن إظهاره ؛ لشغف سيدنا بأشعاره ، فقال الاستاذ : نحن وإن عرفنا للبحتري فضله ، فما ندّعي العصمة له ، وفي شعره الكسر والإحالة واللحن ، ثم أقبل عليّ فقال : تعرف للبحتري ما خرج فيه عن الوزن ؟ فقلت بَلَى ، أنشدني أبو الغوث لأبيه من قصيدة :
وأحق الأيام بالأنس أن يؤ ثر فيه يوم المهرجان الكبير (2)
فقال سيدنا أردت غير هذا ، فقلت : لا أعرف ، فأنشد قصيدته التي أولها :
... ... ظَلَمَ الدَهرُ فيكُمُ وَأَساءَ فَعَزاءً بَني حُمَيدٍ عَزاءَ (3)
/ إلى أنْ انتهى إلى قوله : ... ... ... ... ... ... ... ... 6أ
... ... وَلِماذا تَتَبَّعُ النَّاس شَيئاً جَعَلَ اللَهُ الفِردَوسَ مِنهُ بَواءَ (4)
__________
(1) الحافظ الجعابي : محمد بن عمر بن محمد بن سلم ابو بكر الجعابي التميمي البغدادي الحافظ قاضي الموصل. صحب ابن عقدة وسمع كثيراً وصنف الأبواب والشيوخ والتاريخ وتشيعه مشهور. روى عنه الدارقطني وغيره وكان يفضل الحفاظ بأنه كان يسوق الألفاظ من المتون على ما هي عليه وأكثر الحفاظ يتسمحون في ذلك. وكان إماماً في المعرفة بعلل الحديث وثقات الرجال ومواليدهم ووفياتهم وما يطعن به على كل واحد منهم ولم يبق في زمانه من يتقدمه في الدنيا. ولما مات أوصى أن تحرق كتبه فأحرقت وفيها كتب الناس. وتوفي سنة خمس وخمسين وثلاث مائة. الوافي بالوفيات ، ص 2943 ـ 2944 ( م ) .
(2) العمدة في محاسن الشعر وآدابه ونقده 2/249
(3) من الخفيف ، ديوان البحتري ، 2/42
(4) من الخفيف ، ديوان البحتري 2/43 ، وفيه : ولماذا تتبع النفس(1/38)
فقلت هو كما قال سيدنا ؛ لأن البيت من الخفيف ، وفيه زيادة سبب ، فقال : ننشده : جعل الله الخلد منه جزاء ، ثم ابتدأ يذكر سقطات البحتري ، وعَدَّ ما حِرْتُ فيه ، وعجزت عن حصره وحفظه ، وجعل يذكر إلى أن أنشد قصيدته التي أولها :
مَتى تَسأَلي عَن عَهدِهِ تَجِديهِ (1)
إلى أن ذكر قوله :
... ... أَبا غالِبٍ بِالجودِ تَذكُرُ واجِبي إِذا ما عنى الباخِلينَ نَسيهِ (2) ...
فإنّ قوله نَسيه مختل الإعراب ، بعيد من الصواب ، وذكر من قصيدته التي افتتاحها :
عَذيرُي مِن نَأيٍ غَداً وَبِعادِ (3)
ركاكة ، قوله :
... ... عَلى بابِ قِنَّسرينَ وَاللَيلُ لاطِخٌ جَوانِبَهُ مِن ظُلمَةٍ بِمِدادِ (4)
وأنشد من قصيدته في إسحاق بن كنداج :
... ... وُجوهُ حُسّادِكَ مُسوَدَّةٌ أَم صُبِغَت بَعدِيَ بِالزاجِ (5)
فإن هذين التشبيهين غير رائعين ، ولا بارعين ، وقال في أثناء هذا المجلس : ما علمت أنَّ في طبع البحتري تكلّفا / إلى أن قرأت قصيدته في صفة الديوان : 6ب
صُنتُ نَفسي عَمّا يُدَنِّسُ نَفسي (6)
وسمعته أيده الله يُنْشِد أبيات أبي تمام التي أولها :
__________
(1) صدر بيت من الطويل ، وتمامه : مَتى تَسأَلي عَن عَهدِهِ تَجِديهِ مَلِيّاً بِوَصلِ الحَبلِ لَم تَصِليهِ
ديوان البحتري 1/223 .
(2) ديوان البحتري 1/224 ، والرواية فيه : أَبو غالِبٍ بِالجودِ يَذكُرُ واجِبي إِذا ما غَبِيُّ الباخِلينَ نَسيهِ
(3) صدر بيت من الطويل ، وروايته في ديوان البحتري 1/362 : عَذيرُكَ مِن نَأيٍ غَداً وَبِعادِ وَسَيرِ مُحِبٍّ لا يَسيرُ بِزادِ
(4) من الطويل ، ديوان البحتري 1/362
(5) من السريع ، ديوانه ( م ) . ولم أجده في المطبوع من نسخة دار الكتب
(6) صدر بيت من الخفيف ، ديوان البحتري 1/160 ، وتمامه : صُنتُ نَفسي عَمّا يُدَنِّسُ نَفسي وَتَرَفَّعتُ عَن جَدا كُلِّ جِبسِ(1/39)
أَمّا وَقَد أَلحَقتَني بِالمَوكِبِ (1)
فأنشد :
... ... أَبرَزْتَ لي عَن صفحةِ الماءِ الَّذي قَد كُنتُ أَعهَدُهُ كَثيرَ الطُحلُبِ (2)
فقلت : زيَّن سيدنا هذا الشعر بإقامته الصفحة مقام الجلدة ، فقال : كذا يلزم لمثل أبي تمام إذا أمكن إصلاح بيت بلفظة ، وتهذيب قصيدة بكلمة .
... وسمعته أيّده الله يقول : إنَّ أكثر الشعراء ليس يدرون كيف يجب أن يوضع الشعر ، ويُبتدأ النسج ؛ لأنّ حقّ الشعر أن يُتأمّل الغرض الذي قصده ، والمعنى الذي اعتمده ، وينظر في أي الأوزان أن يكون أحسن استمرارا ، ومع أي القوافي يحصل اجمل اطّرادا ، فيركب مركبا لا يخشى انقطاعه والتياثه عليه ، فقلت : لو مَثل سيدنا هذا لكان أقرب إلى القلب ، وأوقع في النفس ، فقال : نعم ، هذا البحتري أراد مدح أبي الخطاب الطائي ، وقد كان الخطاب (3) آلافا وأضعفها ، وجارى ابن / بسطام بها ، فنظر البحتري وقد جازاه أضعافا7أ ، وجعل مائته آلافا ، وقد كان يكفي أنْ يزيده إلى الآحاد أنصافا ، فبنى قصيدته على هذه القافية حتى اتَّسق له ما أحب ، وبلغ ما طلب ، فقال (4) :
... ... قَضَيتَ عَنّي اِبنَ بِسطامٍ صَنيعَتَهُ عِندي وَضاعَفتَ ما أَولاهُ أَضعافا
... ... وَكانَ مَعروفُهُ قَصداً لديَّ وَما جارَيتُ عَني تَبذيراً وَإِسرافا (5)
... ... مِئونَ عَيناً تَوَلَّيتَ الثَوابَ بِها حَتّى اِنثَنَت لِأَبي العَبّاسِ آلافا
__________
(1) صدر بيت من الكامل ، ديوان أبي تمام ، ص 40 ، وتمامه : أَمّا وَقَد أَلحَقتَني بِالمَوكِبِ وَمَدَدتَ مِن ضَبعي إِلَيكَ وَمَنكِبي
(2) من الكامل ، ديوان أبي تمام ، ص 40 ، ورواية الديوان : أَبدَيتَ لي عَن جِلدَةِ الماءِ الَّذي قَد كُنتُ أَعهَدُهُ كَثيرَ الطُحلُبِ
(3) ربما هنا كلمة ناقصة بمعنى أعطاه
(4) من البسيط ، ديوان البحتري 1/320 ـ 321
(5) رواية الديوان : وَكانَ مَعروفُهُ قَصداً إِلَيَّ وَما جازَيتُهُ عَنهُ تَبذيراً وَإِسرافا .(1/40)
... ... قَد كانَ يَكفيهِ فيما (1) قَدَّمَت يَدُهُ رِباً يَزيدُ إِلى الآحادِ أَنصافا
وذكر أيده الله يوما الشعر ، فقال : ما يُحتاج إليه فيه حسن المطالع والمقاطع ، فإن فلاناً أنشدني في يوم نيروز قصيدة أولها :
... ... لا تَقُلْ بُشْرى ولكن بُشْرَيان غُرّة الداعي ويومُ المِهْرَجان (2)
فنفر من قوله : لا تقل بشرى أشدّ نفار ، وقال : أعمى ويبتدئ بهذا في يوم مهرجان ، ولو تتبعت ما علقت ، وحفظت عن الأستاذ الرئيس في هذا الباب ، لاحتجت إلى عقد كتاب / مفرد ، ولعلّي أفعل ذلك فيما بعد ، وهو مع هذا الفضل الباهر ، والعلم الزاخر ، يرى 7ب قليل الأدب من غيره كثيرا ، بل لا يرى قليلا ، وذكر يوما أستاذنا أبا بكر بن الخياط النحوي فقال : ما أنت وذاك ، إنه جاءني يوما باختيارات له ، فكنت أرى المقطوعة بعد المقطوعة ، لا تدخل في مرتضى الشعر ، فأعجبت من إيراده واختياره إياها ، فسألته عنها ، فقال : لم يُقل في معناها غيرها ؛ فاخترتها لانفرادها في بابها .
... وذكر أيّده الله اختيارات الشعر فقال : ليس فيها أحسن من كتاب الحماسة ، ولقد نظرت في الدواوين لأجد ما يلحق بكل باب منه فلم أر ما يستحق الإضافة إليه ، قال : وخير الاختيارات بعدها اختيارات المفضل بإسقاط قصيدتي المرقش .
__________
(1) في الديوان مما .
(2) من الرمل ، لأبي مقاتل الضرير ، انظر : الصناعتين ، ص 634 ( م ) ، البصائر والذخائر ، ص 742 ( م )، البديع في البديع ( م )(1/41)
والآن حتى أعود إلى ذكر المتنبي فأخرج بعض الأبيات التي يستوي الرّيّض والمرتاض في المعرفة بسقوطها دون المواضع التي تخفى على كثير من الناس لغموضها ، فأمَّا السرقة فما يُعاب بها ؛ لاتّفاق شعر الجاهلية والإسلام / عليها ، ولكن يُعاب أنه كان يأخذ من 8 أ الشعراء (1) المحدثين كالبحتري وغيره جلّ المعاني ، ثم يقول : لا أعرفهم ، ولم أسمع بهم ، ثم ينشد أشعارهم ، فيقول : هذا شعر عليه أثر التوليد ، ولا عجب ، فهذا الصولي كان كثير الرواية ، حسن الأدب ، إلاّ أنه ساقط الشعر ، يقول في كتاب الخلفاء ، وقد حشاه بشعره : إنما أثبت شعري ليعلم الناس أنّ في زمانهم مَنْ إنْ لم يسبق البحتري انتصف منه ، وليس في الإعجاب بالنفس نهاية ، وكان بعض الناس يقول : إني أُجاري البحتري وأُناوئه وأُناقضه وأُساويه ، فأمل الأستاذ الرئيس في ذلك قوله :
البُحتريُّ يَرومُ غايةَ شِعرِهِ من لا يُقيم لنفسِهِ مِصْراعاً (2)
أَنَّى يَرومُ مَنَالَه ولو ابتغَى تَقْويم قَافيةٍ له ما اسْطاعا
جَذَب العَلاءُ بضَبْعِهِ فأَحلَّه بينَ المَجَرَّةِ والسِّماك رِبَاعا
وغَدَوْتَ ملتزِمَ الحضيض فكلَّما فَرَعَ العُلا باعاً هَبَطتَ ذِراعا
والله ولي التوفيق ، وأول حديث المتنبي أن لا دليل / أدل على تفاوت الطبع من جمع 8 ب الإحسان والإساءة في بليت ، كقوله (3) :
بَليتُ بِلى الأَطلالِ إِن لَم أَقِف بِها
وهذا كلام مستقيم لو لم يعقبه بقوله :
وُقوفَ لئيم (4) ضاعَ في التَربِ خاتَمُه
__________
(1) كتبت : الشعر ، وما أثبتناه هو الصحيح .
(2) من الكامل ، وقد نسبها أبو حيان التوحيدي في مثالب الوزيرين ، ص 407 ( م ) لأبي الفضل .
(3) من الطويل ، ديوان المتنبي 2/3
(4) في الديوان : شحيح(1/42)
فإنَّ الكلام إذا استُشِفَّ جيده ووسطه وتردّيه ، كان هذا الكلام من أرذل ما يقع لصبيان الشعراء ، وولدان الأدباء ، وأعجب من هذا هجومه على باب قد أولته الألسنة ، وتناولته القرائح ، واعتورته الطباع بإساءة لا إساءة بعدها ، سقوط لفظ ، وتهافت معنى ، فليت شعري ما الذي أعجبه من هذا النظم ، وراقه من هذا السبك ، لولا اضطراب في النقد ، وإعجاب بالنفس .
... ومن شعره الذي يتباهى به بالسلاسة ، وخلوه من الشراسة الموجودة في طبعه ، بيت رقية العقرب أقرب إلى الإفهام منه ، وهوز قوله (1) :
... ... نَحنُ مَن ضايَقَ الزَمانُ لَهُ فيـ كَ وَخانَتهُ قُربَكَ الأَيّامُ
فإنَّ قوله : له فيك ، لو وقع في عبارات الجنيد والشبلي / لتنازعته المتصوفة دهرا بعيدا. 9أ
... ولقد مرّت عليّ مرثيّة له في أمِّ (2) سيف الدولة تدل على فساد الحسن على سوء أدب النفس ، وما ظنك بمن يخاطب ملكا في أمّة بقوله (3) :
رِواقُ العِزِّ فَوقكَ (4) مُسبَطِرٌّ
ولعل لفظة الاسبطرار في مراثي النساء من الخذلان الصَّفيق الدقيق المنيّر ، نعم هذه القصيدة يظن المتعصبون له أنها من شعره بمثابة [يَا أَرْضُ ابْلَعِي مَاءَكِ] (5) من القرآن [فَاصْدَعْ بِمَا تُؤْمَرُ ] (6) من الفرقان ، وفيها يقول (7) :
وَهَذا أَوَّلُ الناعينَ طُرّاً لِأَوَّلِ مَيتَةٍ في ذا الجَلالِ
ومَنْ سمع باسم الشعر عرف تردده في انهتاك الستر ، ولما أبدع في هذه المرثية واخترع قال (8) :
... ... صَلاةُ اللَهِ خالِقِنا حَنوطٌ عَلى الوَجهِ المُكَفَّنِ بِالجَمالِ
__________
(1) من الخفيف ، ديوان المتنبي 2/8
(2) كتبت : في أمر ، وهو خطأ .
(3) من الوافر ، ديوان المتنبي 2/13 ، وتمامه : وَمُلكُ عَلِيٍّ اِبنِكِ في كَمالِ
(4) في الديوان : حولك
(5) هود 44
(6) الحجر 94 ، وكتبت واصدع ، بالواو ، وهو خطأ
(7) من الوافر ، ديوان المتنبي 2/12
(8) من الوافر ، ديوان المتنبي 2/13(1/43)
وقد قال بعض من يغلو فيه : هذه استعارة ، فقلت : صدقت ، ولكنها استعارة حِداد في عرس ، ولمَّا أحبّ تقريظ المتوفاة ، والإفصاح عن أنها من الكريمات ، أعمل دقائق / 9 ب فكره واستخرج زبد شعره ، فقال:
... ... وَلا مَن في جَنازَتِها تِجارٌ يَكونُ وَداعُهم خفق النِعالِ (1)
ولعل هذا البيت عنده ، وعند كثير ممن يقول بإمامته أحسن من قول الشاعر (2) :
... ... أَرادوا لِيُخفوا قَبرَهُ عَن عَدُوِّهِ فَطيبُ تُرابِ القَبرِ دَلَّ عَلى القَبرِ
وكان الناس يستبشعون قول مسلم (3) :
سُلَّتْ وسُلّتْ ثم سُلَّ سَليلُها
حتى جاء هذا المبدع بقوله (4) :
... ... وَأَفجَعُ مَن فَقَدنا مَن وَجَدنا قُبَيلَ الفَقدِ مَفقودَ المِثالِ
فالمصيبة في الراثي أعظم منها في المرثي ، وأطمُّ ما يتعاطاه التفاصح بالألفاظ النافرة ، والكلمات الشاذة ، حتى كأنه وليد خِباء ، أو غذيّ لبن ، ولم يطأ الحضر ، ولم يعرف المدر ، فمن ذلك قوله (5) :
... ... أَيَفطِمُهُ الترابُ قَبلَ فِطامِهِ وَيَأكُلُهُ قَبلَ البُلوغِ إِلى الأَكلِ
وما أدري كيف عشق التراب حتى جعله عوذة لشعره ، ولمَّا سمع الشعراء قبله قد أبدعوا ، فقالوا (6) : ... ... ... ... ... ... ... ... ... ...
/ ... ... بيد السماك خطامها وزمامها ... وله على ظهر المجرَّة كوكب ... 10أ
تشبه بهم فجعل البنين حلواء ، فقال (7) :
وَقَد ذُقتُ حَلواءَ البَنينَ عَلى الصِبا فَلا تَحسَبَنّي قُلتُ ما قُلتُ عَن جَهلِ
__________
(1) رواية ديوان المتنبي 2/14 : يَكونُ وَداعُها نَفضَ النِعالِ
(2) من الطويل لصريع الغواني ، ديوانه ( م )
(3) من الكامل ، ديوانه ( م ) . وتمامه : فأتى سَليلُ سَليلِها مسْلولا
(4) من الوافر ، ديوان المتنبي 2/15
(5) من الطويل ، ديوان المتنبي 2/29 ، وفيه : التَورابُ
(6) لم أتمكن من معرفة قائله .
(7) من الطويل ، ديوانه ( م ) ، ولم أجده في طبعة دار الكتب العلمية(1/44)
وما زلنا نتعجب من قول أبي تمام (1) :
لا تَسقِني ماءَ المُلامِ
فخفّ علينا بحلواء البنين ، وما قال أبو بكر الصديق رضي الله عنه : ما مِن طامَّة إلاّ فوقها طامة .
... وما زال يسمع الشريفة في الشعر ، كقول النابغة (2) :
إذَاً فلا رَفَعَتْ سَوْطي إلىَّ يَدِي
وكقول الأشتر (3) :
... ... بَقَّيتُ وَفرِي وَانحَرَفتُ عَنِ العُلَى وَلَقِيتُ أضيَافِي بِوَجهِ عَبُوسِ
إلى كثير من هذا الجنس للمتقدمين والمخضرمين والمحدثين ، فأراد التشبه بهم ، والصبّ على قوالبهم ، فقال (4) :
... ... إِن كانَ مِثلُكَ كانَ أَو هُوَ كائِنٌ فَبَرِئتُ حينَئذٍ مِنَ الإِسلامِ
وحينئذ ها هنا من عِير منفلت .
... ومن ابتدآ ته العجيبة في التسلية عن المصيبة :
... ... لا يُحزِنُ اللَهُ الأَميرَ فَإِنَّني لآخُذُ مِن حالاتِهِ بِنَصيبِ (5)
__________
(1) من الكامل ، ديوان أبي تمام ، ص 14 ، وتمامه : لا تَسقِني ماءَ المُلامِ فَإِنَّني صَبٌّ قَدِ اِستَعذَبتُ ماءَ بُكائي
(2) من البسيط ، ديوان النابغة الذبياني ، ص 36 ، وتمامه : ما قُلتُ مِن سَيِّئٍ مِمّا أَتَيتَ بِهِ إِذاً فَلا رَفَعَت سَوطي إِلَيَّ يَدي
(3) من الكامل ، ديوانه ( م ) مالك الأشتر ? - 37 هـ / ? - 657 م
مالك بن الحارث بن عبد يغوث النخعي المعروف بالأشتر.
أمير من كبار الشجعان، كان رئيس قومه، أدرك الإسلام، وأول ما عرف عنه أنه حضر خطبة (عمر) في الجابية، سكن الكوفة وكان له نسل فيها، وشهد اليرموك وذهبت عينه فيها، وكان ممن ألّب على (عثمان) وحضر حصره في المدينة، وشهد يوم الجمل وأيام صفين مع علي، وولاه علي (مصر) فقصدها فمات في الطريق، فقال علي: رحم الله مالكاً فلقد كان لي كما كنت لرسول الله، له شعر جيد ويعد من الفرسان الأجواد العلماء الفصحاء، ولمحمد تقي الحكيم (مالك الأشتر- ط).
(4) من الكامل ، ديوان المتنبي 2/186
(5) من الطويل ، ديوان المتنبي 2/73 ، وفيه : سَآخُذُ(1/45)
/ ولا أدري لِمَ لا يحزن سيف الدولة ، إذ أخذ أبو الطيب بنصيب من القلق ، أترى 10 ب هذه التسلية أحسن عند أمَته أم قول أوس (1) :
... ... أَيَّتُها النَفسُ أَجمِلي جَزَعا إِنَّ الَّذي تَحذَرينَ قَد وَقَعا
ومن تعقيده الذي لا يشق غباره ، ولا تدرك آثاره :
... ... وَلِلتَركُ لِلإِحسانِ خَيرٌ لِمُحسِنٍ إِذا جَعَلَ الإِحسانَ غَيرَ رَبيبِ (2)
وما أشك أنّ هذا البيت أوقع عند حمله عرشه من قول حبيب (3) :
... ... إِساءَةَ الحادِثاتِ اِستَبطِني نَفَقاً فَقَد أَزالكِ إِحسانُ اِبنِ حَسّانِ
... وسأله سيف الدولة عن صفة فرس يقوده إليه ، أو يحمله عليه ، فقال أبياتا منها :
... ... وَمِنَ اللَفظِ لَفظَةٌ تَجمَعُ الوَصـ فَ وَذاكَ المُطَهَّمُ المَوصوفُ (4)
ومَن هذا وصفه يُقاد إليه المركب من مربط التجار .
... وكنت أتعجب من كلام أبي (5) يزيد البسطامي في المعرفة ، وألفاظه المعقدة ، وكلماته المبهمة ، حتى سمعت قول / شاعرنا هذا في صفة فرس : 11أ
سَبوحٌ لَها مِنها عَليها شَواهِدُ (6)
وما أحسن ما قال الأصمعي لمن أنشده : ...
__________
(1) من المنسرح ، ديوان أوس بن حجر ، ص 53
أوس بن حَجَر : 95 - 2 ق. هـ / 530 - 620 م
أوس بن حجر بن مالك التميمي أبو شريح. شاعر تميم في الجاهلية، أو من كبار شعرائها، أبوه حجر هو زوج أم زهير بن أبي سلمى، كان كثير الأسفار، وأكثر إقامته عند عمرو بن هند في الحيرة. عمّر طويلاً ولم يدرك الإسلام. في شعره حكمة ورقة، وكانت تميم تقدمه على سائر الشعراء العرب. وكان غزلاً مغرماً بالنساء.
(2) من الطويل ، ديوان المتنبي 2/74
(3) من البسيط ، ديوان أبي تمام ، ص 306 ، وفيه : فَقَد أَظَلَّكَ إِحسانُ اِبنِ حَسّانِ
(4) من الخفيف ، ديوان المتنبي 2/31 ، وفيه : المَعروفُ
(5) كتبت : أبا ، وهو خطأ .
(6) عجز بيت من الطويل ، ديوان المتنبي 2/70 : وصدره : وَتُسعِدُني في غَمرَةٍ بَعدَ غَمرَةٍ(1/46)
فما للنّوَى، جَدَّ النّوى، قَطعَ النّوى كذاك النّوى قطّاعةٌ لوِصالِ (1)
لو سلَّط الله على هذا البيت شاة لأكلت هذا النوى كله .
ولم نزل مستحسنين لجمع الأسامي في الشعر ، كقول الشاعر ، حيث قال :
... ... إنْ يَقْتُلوكَ فَقَدْ ثَلَلْتَ عُرُوشَهُمْ بعُتَيْبَةَ بنِ الحارثِ بنِ شهَابِ (2)
وقول الآخر (3) :
عباد بنَ أَسماءَ بنِ زَيدِ بنِ قارِبٍ
واحتذى هذا الفاضل حذوهم على مثالهم ، وطرقهم ، فقال (4) :
... ... وَأَنتَ أَبو الهَيجا اِبنُ حَمدانَ يا اِبنَهُ تَشابَهَ مَولودٌ كَريمٌ وَوالِدُ
... ... وَحَمدانُ حَمدونٌ وَحَمدونُ حارِثٌ وَحارِثُ لُقمانٌ وَلُقمانُ راشِدُ
وهذه من الحكمة التي ذخرها أرسطاطاليس ، وأفلاطون لهذا الخلف الصالح ، وليس على حسن الاستنباط قياس .
... ومن بدائهه الظريفة عند متعلقي حبله ، وفواتحه البديعة عند ساكني ظله :
/ ... ... شَديدُ البُعدِ مِن شُربِ الشُمولِ تُرُنجُ الهِندِ أَم طَلعُ النَخيلِ (5) 11ب
فلا أدري استهلال الأبيات أحسن ، أم المعنى أبدع ، أم قوله : ترنج أفصح .
... ومن لغاته الشاذة ، وكلماته النادّة :
__________
(1) من الكامل ، وهو مجهول القائل ، يتيمة الدهر 1/165
(2) من الكامل ، وهو لربيعة من بني نصر بن قُعَين يرثي ذؤاباً ابنه، ويقال: قائله داود بن ربيعة الأَسدي ، معاهد التنصيص ، ص 1698 ( م ) .
(3) من الطويل ، لدريد بن الصمة ، ديوانه ( م ) . وله بيتان ، وهذا الشطر صدر أحدهما ، وعجز الآخر ، وهما :
... ... قَتَلنا بِعَبدِ اللَهِ خَيرَ لِداتِهِ ذُؤابَ بنَ أَسماءَ بنِ زَيدِ بنِ قارِبِ
... ... ذُؤابَ بنَ أَسماءَ بنِ زَيدِ بنِ قارِبٍ مَنيَّتُهُ أَجرى إِلَيها وَأَوضَعا
... وعباد ، ليس صحيحا.
(4) من الطويل ، ديوان المتنبي 2/72.
(5) من الوافر ، ديوان 2/94 ، وفيه : أو طلع . والمكتوب : الخميل ، وليس النخيل ، وهو خطأ .(1/47)
كُلُّ آخائِهِ كِرامُ بَني الدُنـ يا وَلَكِنَّهُ كَريمُ الكِرامِ (1)
ولو وقع الآخاء في زائية الشماخ (2) لاستثقل ، فكيف مع أبيات منها :
قَد سَمِعنا ما قُلتَ في الأَحلامِ وَأَنَلناكَ بَدرَةً في المَنامِ
والكلام إذا لم يتناسب زيَّفه جهابذته ، وبهرجه نقّاده ، وله بيت لا يُدرى أمدح القائل به أم رقاه وهو :
شَوائِلَ تَشوالَ العَقارِبِ بِالقَنا لَها مَرَحٌ مِن تَحتِهِ وَصَهيلُ (3)
فلم يرض بأن سرق من بشار قوله :
وَالخَيلُ شائِلَةٌ لِشَقِّ غُبارِها كَعَقارِبٍ قَد رُفِّعَت أَذنابُها (4)
حتى ضيّع التشبيه الصائب بين ألفاظ كالمصائب ، والذي لا امتري فيه أنّ عالما من المناضلين عنه عندهم أنّ شوائل تشوال أبدع في صفة الخيل من قول امرئ القيس :
/ ... ... لَهُ أَيطَلا ظَبيٍ وَساقا نَعامَةٍ وَإِرخاءُ سِرحانٍ وَتَقريبُ تَتفُلِ 12أ
... ومن أوابده التي لا يسمع طول الدهر مثالها قوله في سيف الدولة :
... ... إِذا كانَ بَعضُ الناسِ سَيفاً لِدَولَةٍ فَفي الناسِ بوقاتٌ لَها وَطُبولُ (5)
وهذا التحاذق كغزل العجائز قبحا ، ودلال الشيوخ سماجة ، ولكن بقي أنْ يوجد مَن يسمع ، وفي هذه القصيدة يقول (6) :
... ... فَإِن تَكُنِ الدَولاتُ قِسماً فَإِنَّها لِمَن وَرَدَ المَوتَ الزُؤامَ تَدولُ
فإن قوله الدولات ، وتدول من الألفاظ التي لو رُزق فضل السكوت عنها لجاز ، ومن افتتاحه الذي يفتح طرق الكرب ، ويُغلق أبواب القلب ، قوله :
__________
(1) من الخفيف ، ديوان المتنبي 2/103 ، والذي فيه : آبائه ، وليس آخائه .
(2) وهي الزائية التي من الطويل و مطلعها :
... ... عَفا بَطنُ قَوٍّ مِن سُلَيمى فَعالِزُ فَذاتُ الغَضا فَالمُشرِفاتُ النَواشِزُ
... ديوان الشماخ ( م ) .
(3) من الطويل ، ديوان المتنبي 2/108
(4) من الكامل ، ديوان بشار ( م ) . ، وفيه : تشق غبارها .
(5) من الطويل ، ديوان المتنبي 2/112
(6) من الطويل ، ديوان المتنبي 2/113(1/48)
... ... أَراعَ كَذا كُلَّ المُلوكِ هُمامُ وَسَحَّ لَهُ رُسلَ المُلوكِ غَمامُ (1)
ولو لم يتكلم في الشعر إلاّ مَن هو من أهله لما سمع مثل هذا ، ولكن الكلام قد جرى فيه مجرى الكلام في سعد وبلال ، والخليديّة والكتيفيّة (2) ، ومن مبادئه التي تجمع استكراه الألفاظ ، وسقوط المعنى قوله :
/ ... ... وَما مَطَرَتنيهِ مِنَ البيضِ وَالقَنا وَرومِ العِبِدَّى هاطِلاتُ غَمامِهِ (3) 12 ب
ومن إسرافه الذي لا يُصبر عنه قوله :
... ... يا مَن يُقَتِّلُ مَن أَرادَ بِسَيفِهِ أَصبَحتُ مِن قَتلاكَ بِالإِحسانِ (4)
فإنه أخذ قول الشاعر (5) :
أَصلَحتَني بِالجودِ بَل أَفسَدتَني
__________
(1) من الطويل ، ديوان المتنبي 2/143
(2) يقصد سهولة اللفظ في سعد وبلال ، وثقله في الخليدية والكتيفية .
(3) من الطويل ، ديوان المتنبي 2/158
(4) من الكامل ، ديوان المتنبي 2/176
(5) صدر بيت من الكامل ، لطريح بن إسماعيل الثقفي ، وتمامه : وَتَرَكتَني أَتَسَخَّطُ الإِحسانا .
وهو طُريح بن إسماعيل بن عبيد بن أُسَيد بن علاج بن أبي سلمة بن عبد العُزى (? - 165 هـ / ? - 781 م من ثقيف)، أبو الصلت. شاعر الوليد بن يزيد الأموي وخليله. وفي نهاية الأرب أن جدّه (سعيد بن عبيد) هو الذي رمى أبا سفيان بن حرب يوم الطائف فقلع عينه وفي الأغاني أن جد أمه (سباع بن عبد العزى) قتله حمزة بن عبد المطلب يوم أحد. نشأ في الطائف ثم رحل إلى دمشق ووفد على الوليد بن يزيد بن عبد الملك وكانت بينهما خؤولة، فقر به الوليد وأغدق عليه فمدحه طريح بشعره. وبعد مقتل الوليد سنة 126هـ انتهى ذكر الشاعر وقد أغفلت المصادر العلاقة بين طريح وغيره من الشعراء الذين التفوا حول الوليد مثل النابغة الشيباني وإسماعيل بن يسار وابن هرمة القرشي. ويقال أنه بقي إلى أول الدولة العباسية فمدح المنصور والسفاح. ديوانه ( م ) .(1/49)
فجعل الإفساد قتلاً بحرفيَّة وتهوُّراً ، هذا ومذهب الشعراء المدح بالأحياء عند العطاء ، وبالأمانة عند منع الحباء ، ولهذا استحسن قول الشاعر (1) :
شَتَانَ بين محمدٍ ومحمدٍ حيٌّ أماتَ وميِّتٌ أحياني
فصحبتُ حَيّا في عطايا ميتٍ وبقيتُ مشتملاً على الخسران
ومن هؤلاء العوام الذين يتهالكون فيه مَن هذا عنده أبدع من قول البحتري (2) :
... ... أَخجلتني بِنَدى يَدَيكَ فَسَوَّدَت ... ما بَينَنا تِلكَ اليَدُ البَيضاءُ
... ... صِلَةٌ غَدَت في الناسِ وَهيَ قَطيعَةٌ عَجَباً بِبِرٌّ راحَ وَهوَ جَفاءُ
ومن ركيك صنعته في وصف شعره ، والزراية على غيره أنّ بعضا من القريض هذاء ليس شيئا ، وبعضه أحكام / ومن هذا نتيجة قريحته في نعت الشعر كيف يطمع له فيه 13 أ بادِّعاء السبق لولا التقليد الذي صار آفة العقول ، وعاهة الألباب ، ومما لم أقدّره يلج سمعا ، أو يرِد أُذنا قوله :
... ... جَوابُ مُسائِلي أَلَهُ نَظيرٌ وَلا لَكَ في سُؤالِكَ لا أَلا لا (3)
وقد سمعت بالتمتام ، ولم أسمع بالألاء حتى رأيت هذا المتكلف المتعسف ، الذي لا يقف حيث يعرف ، ومن استرساله إلى الاستعارة التي لا يرضاها عاقل ، ولا يلتفت إليها فاضل :
... ... في الخَدِّ أَن عَزَمَ الخَليطُ رَحيلاً مَطَرٌ تَزيدُ بِهِ الخُدُودُ مُحولا (4)
فالمحول في الخدود من البديع المردود ، ثم لهذا الابتداء في القصيدة من العيوب ما يضيق الصدور ، ومن مدحه ببعد الغور ، وقد غوّر فيه لعمري وما أنجد ، قوله (5) :
... ... تَتَقاصَرُ الأَفهامُ عَن إِدراكِهِ مِثلَ الَّذي الأَفلاكُ فيهِ وَالدُنا
__________
(1) من الكامل ، وقد نسبه الثعالبي في لباب الآداب ، ص 339 ( م ) لمخيم الراسبي ، وهو في خزانة الأدب 6/298 بلا عزو .
(2) من الكامل ، ديوان البحتري 2/319.
(3) من الوافر ، ديوان المتنبي 1/186
(4) من الكامل ، ديوان المتنبي 1/189
(5) من الكامل ، ديوان المتنبي 1/196(1/50)
فالمصرعان لتنافيهما يتبرأ أحدهما من صاحبه تبرّأ من آل أبي سفيان ، وآل مروان ، ثم الدنا من الألفاظ التي لا يبالي الإنسان أنْ تعدم من شعره ، ومن شعره الذي / يدخل في 13 ب الغرائم ، ويكتب في الطلسمات :
لَم تَرَ مَن نادَمتُ إِلّاكا لا لِسِوى وُدِّكَ لي ذاكا (1)
وأحسب أنه بهذا البيت أشد سرورا من أم الواحد بواحدها ، وقد آب بعد فقد ، أو بُشِّرتْ به بعد ثكل .
... ومن أبياته السنيّة الجماعيّة :
... ... لَعَظُمتَ حَتّى لَو تَكونُ أَمانَةً ما كانَ مُؤتَمَناً بِها جِبرينُ (2)
وقلب هذه اللام نون أبغض من وجه المُنوِّن ، ولا أحسب جبريل عليه السلام يرضى منه بهذا المجان .
... ومن وسائط مقته قوله يحكي جورَ السلاف ، ويستأذن بالانصراف :
نالَ الَّذي نِلتُ مِنهُ مِنّي لِلَّهِ ما تَصنَعُ الخُمورُ (3)
وَذا اِنصِرافي إِلى مَحَلّي أَآذِنٌ أَيُّها الأَميرُ
ولعمري إنّ الخمرة إذا دبّت في الكريم سلَّست طبعه ، وأظهرت مثل هذا اللفظ له ، وكنتُ أقرأ كُنَّتِ الألفاظ ، فلم أر أجمع من قوله :
... ... الحازِمَ اليَقِظَ الأَغَرَّ العالِمَ الـ فَطِنَ الأَلَدَّ الأَريَحِيَّ الأَروَعا (4)
/ ... ... الكاتِبَ اللَبِقَ الخَطيبَ الواهِبَ ال نَدُسَ اللَبيبَ الهِبرِزِيَّ المِصقَعا 14أ
ولو كان هذا شعرا لخف إلاّ ربح مرّ ، وريح الكدّ ، ومن اضطرابه في ألفاظه مع فساد أغراضه :
قَد خَلَّفَ العَبّاسُ غُرَّتَكَ اِبنَهُ مَرأىً لَنا وَإِلى القِيامَةِ مَسمَعا (5)
وللشعراء فن في اشتقاق أسماء الممدوحين ، كقول علي بن العباس :
__________
(1) من السريع ، ديوان المتنبي 1/ 199
(2) من الكامل ، ديوان المتنبي 1/201
(3) من مجزوء البسيط ، ديوان المتنبي 1/203 ، وقد كتب : فأذن ، وما أثبتناه من الديوان ، وهو الصواب . ، وفي الديوان : وفي انصرافي .
(4) من الكامل ، ديوان المتنبي 1/163
(5) من الكامل ، ديوان المتنبي 1/164(1/51)
... ... كأنَّ أباه يوم سمَّاهُ صاعداً رأى كيفَ يَرْقَى في المعالي ويَصْعدُ (1)
فقتل المتنبي في حبل اختنق به ، وقال :
... ... في رُتبَةٍ حَجَبَ الوَرى عَن نَيلِها وَعَلا فَسَمَّوهُ عَلِيَّ الحاجِبا (2)
ومن عيوب قصائده التي تحير الأفهام ، وتفوت الأوهام ، ويجمع من الحساب ما لا يدرك ، وبالأعداد الموضوعة :
... ... أُحادٌ أَم سُداسٌ في أُحادِ لُيَيلَتُنا المَنوطَةُ بِالتَنادِ (3)
وهذا كلام الحكل (4) ، ورطانة الزط ، وقد تشمر للسماع من مادحه ، فصل سمعه بهذه الألفاظ ، ومن مُساءلته للطلول البالية ، وكلامه أشدّ منها بلىً ، وأكثر أخلاقاً :
/ ... ... أُسائِلُها عَنِ المُتَدَيِّريها فَلا تَدري وَلا تُذري دُموعاً (5) 14ب
فإن لفظة المتدير لو وقعت في بحر صافٍ لكدّرته ، ولو ألقى ثقلها على جبل سام لهدّته ، وليس للمقت غاية ، ولا للبرد نهاية ، وهاهنا بيت نرضى باتباعه فيه ، وما ظنك بمحكم مناوئه ثقة بظهور حقه ، وإيراء زنده ، وإنْ لم يكن التحكيم بعد أبي موسى من مقتضى الحزم ، وموجب العزم ، وهو :
... ... أَطَعناكَ طَوعَ الدَهرِ يا اِبنَ اِبنِ يوسُفٍ لِشَهوَتِنا وَالحاسِدو لَكَ بِالرُغمِ (6)
وإنْ كنا قد حكمناهم فيما يبعدهم من أن يفضِّلوا هذا على قول أبي عبادة :
عَرَفَ العالِمونَ فَضلَكَ بِالعِلـ مِ وَقالَ الجُهّالُ بِالتَقليدِ (7)
نعم ، ونقدمه على قوله :
... ... لا أَدَّعي لِأَبي العَلاءِ فَضيلَةً حَتّى يُسَلِّمَها إِلَيهِ عِداهُ (8)
__________
(1) من الطويل ، ديوان ابن الرومي ( م ) .
(2) من الكامل ، ديوان المتنبي 1/155
(3) من الوافر ، ديوان المتنبي 1/129
(4) الحكل : الذي في لسانه حكة ، أي عجمة . أساس البلاغة ( حكل )
(5) من الوافر ، ديوان المتنبي 1/133
(6) من الطويل ، ديوان المتنبي 1/127
(7) من الخفيف ، ديوان البحتري 2/281
(8) من الكامل ، ديوان البحتري 1/280(1/52)
وبلغني أنه كان إذا أنشد شعر أبي تمام ، قال هذا نسجٌ مهلهل ، وشعر مولّد ، وما أعرف طائيكم هذا ، وهو دائما / يسرق منه ، ويأخذ عنه ، ثم يأخذ ما يسرقه في أقبح معنى 15أ
كخريدة ألبست عباءة ، وعروس جلِّيت في مسوح ، ولولا خوف تضييع الأوقات لأطلتُ في هذا المكان ، ومما يتصل بالفن المتقدم :
... ... عَظُمتَ فَلَمّا لَم تُكَلَّم مَهابَةً تَواضَعتَ وَهوَ العُظمُ عُظماً عَنِ العُظمِ (1)
فما أكثر عظام هذا البيت مع أنه قول الطائي :
... ... تَعَظَّمتَ عَن ذاكَ التَعَظُّمِ مِنهُمُ وَأَوصاكَ نُبلُ القَدرِ أَلّا تَنَبَّلا (2)
وكان الرجل مجربا فقال في وصف الحروب ، وما نتج من رعب القلوب :
... ... فَغَدا أَسيراً قَد بَلَلتَ ثِيابَهُ بِدَمٍ وَبَلَّ بِبَولِهِ الأَفخاذا (3)
... ... فَكَأَنَّهُ حَسِبَ الأَسِنَّةَ حُلوَةً أَو ظَنَّها البَرنِيَّ وَالآزاذا
فلا أدري أكان في الحرب أم في سوق التماري في البصرة .
... ومن افتخاره بنفسه ، وما عظم الله من قدره :
... ... أَنا عَينُ المُسَوَّدِ الجَحجاحِ هَيَّجَتني كِلابُكُم بِالنُباحِ (4)
ولا أدري أهذا البيت أشرف أم قول الفرزدق :
/ ... ... إِنَّ الَّذي سَمَكَ السَماءَ بَنى لَنا بَيتاً دَعائِمُهُ أَعَزُّ وَأَطوَلُ (5) 15ب
... ... بَيتاً زُرارَةُ مُحتَبٍ بِفِنائِهِ وَمُجاشِعٌ وَأَبو الفَوارِسِ نَهشَلُ
وعهدت الأدباء عندهم أنّ أبا تمام أفرط في قوله :
... ... شابَ رَأسي وَما رَأَيتُ مَشيبَ الـ رَأسِ إِلّا مِن فَضلِ شَيبِ الفُؤادِ (6)
فعمد هذا إلى المعنى فأخذه ، ونقل الشيب إلى الكبد ، وجعله خضابا ، ونصولا ، فقال :
__________
(1) من الطويل ، ديوان1/127
(2) من الطويل ، ديوان أبي تمام ، ص 237
(3) من الكامل ، ديوان المتنبي ( م ) ، ولم أجده في طبعة دار الكتب العلمية . وهو في التبيان في شرح الديوان المنسوب لأبي البقاء العكبري 2/84
(4) من الخفيف ، ديوان المتنبي 1/99
(5) من الكامل ، ديوان الفرزدق ، ص 489
(6) من الخفيف ، ديوان أبي تمام ، ص 77(1/53)
... ... إِلّا يَشِب فَلَقَد شابَت لَهُ كَبِدٌ شَيباً إِذا خَضَّبَتهُ سَلوَةٌ نَصَلا (1)
ومن معانيه التي تنبئ عن هوسه ، وعشقه لنفسه قوله :
... ... لِجِنِّيَّةٍ أَم غادَةٍ رُفِعَ السَجفُ لِوَحشِيَّةٍ لا ما لِوَحشِيَّةٍ شَنفُ (2)
وفي هذه القصيدة سقطة عظيمة ، لا يفطن لها إلاّ مَنْ جمع في علم وزن الشعر بين العروض والذوق ، وهو :
... ... تَفَكُّرُهُ عِلمٌ وَمَنطِقُهُ حُكمٌ وَباطِنُهُ دينٌ وَظاهِرُهُ ظَرفُ (3)
وذلك أنّ سبيل عروض الطويل أن تقع مفاعلن ، وليس يجوز أن تأتي مفاعيلن إلاّ إذا كان البيت مُصرَّعاً ، اللهم إلاّ أنْ يضعه عروضي لتمام الدائرة ، فهذه العروض قد ألزمت / 16 أ
القبض لعلل ليس هذا موضع ذكرها ، ونحن نحاكمه إلى كل شعر للقدماء والمجدثين على بحر الطويل ، فلم نجد له على خطئه مساعدا ، ومنها بيت قد حشا تضاعيفه بالضعف ، وهو :
وَلا الضِعفَ حَتّى يَتبَعَ الضِعفَ ضِعفُهُ وَلا ضِعفَ ضِعفِ الضِعفِ بَل مِثلَهُ أَلفُ (4)
وهؤلاء المتعصبون له يصح عندهم أن ينقش هذا البيت على صدور الكواعب ، وله وقد غاص :
... ... لَو لَم تَكُن مِن ذا الوَرى الَّذي مِنكَ هو عَقِمَت بِمَولِدِ نَسلِها حَوّاءُ (5)
وأنا أقول ليت حواء عقمت ولم تأت بمثله ، بل ليت آدم أُجفِر (6) ولم يكن من نسله ، وما أظرف قول الشاعر (7) :
فَرَحمَةُ اللَهِ عَلى آدَمٍ رَحمَةَ مَن عَمَّ وَمَن خَصَّصا
لَو كانَ يَدري أَنَّهُ خارِجٌ مِثلُكَ في أَبنائِهِ لَاِختَصى
ومن تصريفه الحسن وضعه التقييس مكان موضع القياس :
__________
(1) من البسيط ، ديوان المتنبي 1/59
(2) من الطويل ، ديوان المتنبي 1 149
(3) من الطويل ، ديوان المتنبي 1/151
(4) من الطويل ، ديون المتنبي 1/152 .
(5) من الكامل ، ديوان المتنبي 1/174 .
(6) أجفر : انقطع عن الجماع ، لسان العرب ( جفر )
(7) من السريع ، لأبي نواس ، ديوانه ، ص 333(1/54)
بَشَرٌ تَصَوَّرَ غايَةً في آيَةٍ تَنفي الظُنونَ وَتُفسِدُ التَقِيّسا (1)
ويليه بيت إنْ لم يستحِ أصحابه منه سلمناه لهم ، وهو :
/ ... ... وَبِهِ يُضَنُّ عَلى البَرِيَّةِ لا بِها وَعَلَيهِ مِنها لا عَلَيها يوسى 16ب
وليس بالحلو قوله :
... صَدَقَ المُخَبِّرُ عَنكَ دونَكَ وَصفُهُ مَن بِالعِراقِ يَراكَ في طَرَسوسا
ومما انتصف فيه عند نفسه ، فكان الباحث لمديته ، والكاشف لعورته :
... رَماني خِساسُ الناسِ مِن صائِبِ اِستِهِ وَآخَرُ قُطنٌ مِن يَدَيهِ الجَنادِلُ (2)
وقد كنت أسمع رواية المعلى للخليل بن أحمد :
لِكِن جَهِلتَ مَقالَتي فَعَذَلتَني وَعَلِمتُ أَنَّكَ جاهِلٌ فَعَذَرتُكا (3)
واقتفاه فقال :
وَمِن جاهِلٍ بي وَهوَ يَجهَلُ جَهلَهُ وَيَجهَلُ عِلمي أَنَّهُ بِيَ جاهِلُ (4)
ورأيت مَنْ يشغف بهذا البيت أشد مِن شغفنا بقول حبيب بن أوس :
أَبا جَعفَرِ إِنَّ الجَهالَةَ أُمُّها وَلودٌ وَأُمُّ العِلمِ جَدّاءُ حائِلُ (5)
ومن إفصاحه من عظيم مَحَلِّه ، وإبانته عن علوِّ هِمته قوله :
/ ... وَرُبَّما أُشهِدُ الطَعامَ مَعي مَن لا يُساوي الخُبزَ الَّذي أَكَلَه (6) 17أ
وما أدري إلى أين ينخفض قائل هذا المقال في سقوط النفس والسفالة ، ومن تشبيهاته المتناسقة في الخذلان قوله :
وَشَوقٍ كَالتَوَقُّدِ في فُؤادِ كَجَمرٍ في جَوانِحَ كَالمِحاشِ (7)
ومن مجازاته التي خلقها خلقا متفاوتا تخفيفه الغاش ، وهذا مما لا أعلم سامعا باسم الأدب يسوغه ، أو يسمح فيه ؛ فيجوِّزه ، وذلك في قوله (8) :
كَأَنَّكَ ناظِرٌ في كُلِّ قَلبٍ فَما يَخفى عَلَيكَ مَحَلُّ غاشِ
__________
(1) من الكامل ، ديوان المتنبي 1/102
(2) من الطويل ، ديوان المتنبي 1/102
(3) من الكامل ، للخليل بن أحمد ، ديوانه ( م ) .
(4) من الطويل ، ديوان1/77
(5) من الطويل ، ديوان أبي تمام ، ص 241
(6) من المنسرح ، ديوان المتنبي 1/288
(7) من الوافر ، ديوان المتنبي 1/281
(8) من الوافر ، ديوان المتنبي 1/283(1/55)
وإذا جاز هذا جاز عباس والشماخ بن ضرار ، ولا يزال يركب القوافي الصعبة تقرنا لعريكته السمحة ، فيبتدئ زائيته بقوله :
كَفِرِندي فِرِندُ سَيفي الجُرازِ (1)
حتى امتدّ به النفس قال (2) :
تَقضَمُ الجَمرَ وَالحَديدَ الأَعادي دونَهُ قَضمَ سُكَّرِ الأَهوازِ
وهذا السكر إذا جمع إلى البرني والأزاذ فيما تقدم من / شعره تمّ الأمر ، وليس العجب 17ب منه ، ولكن ممن يظنه معصوما ، لا يُرى له زلل ، ولا يوجد في شعره خلل ، وفي هذه يصف الممدوح ، ومعرفته بالمديح ، فيقول (3) :
مَلِكٌ مُنشِدُ القَريضِ لَدَيهِ واضِعُ الثَوبِ في يَدَي بَزّازِ
وفي أقل ما ذكرنا غنى للمصنف ، وإنْ لم يكن في أكثر منه كفاية للمتعسف ، ومما دلّنا به على حفظ الغريب قوله :
جَخَفَت وَهُم لا يَجخفُونَ بِهابِهِم شِيَمُ عَلى الحَسَبِ الأَغَرِّ دَلائِلُ (4)
يريد بالجخف البذخ والفخر ، من قول الشاعر (5) :
أَيُوعِدُنِي بِجَخفِ أبي عُميرٍ ... ... وقد أَفحمتُ شاعرَ كُلِّ حيّ
ومن قول الآخر :
جَخفاً إذا ما كنت في الحيّ (6)
وليس هذا إلاّ كلام صبية ، وله يريد أن يزيد على الشعراء في وصف المطايا ، فأتى بأخزى الخزايا .
لَوَ اِستَطَعتُ رَكِبتُ الناسَ كُلَّهُمُ إِلى سَعيدِ اِبنِ عَبدِ اللَهِ بُعرانا (7)
__________
(1) صدر بيت من الخفيف ، وتمامه : لَذَّةُ العَينِ عُدَّةٌ لِلبَراز .
ديوان المتنبي 1/246
(2) ديوان المتنبي 1/248
(3) ديوان المتنبي 1/249
(4) من الكامل ، ديوان المتنبي 1/225، وفيه : جفخت ، ولا يجخفون ، وجفخ ، وجخف بمعنى واحد . الصحاح ( جفخ )
(5) من الوافر ، مجهول القائل .
(6) لم أتمكن من معرفة قائله ، ولا تمامه .
(7) من البسيط ، ديوان المتنبي 1/227(1/56)
ومن الناس أُمُّه ، فهل ينشط لركوبها ، والممدوح أيضا ، لعلّ له عصبة لا يحب أن يركبوا إليه ، فهل في الأرض / أفحش من هذا التسحب وأوضع من هذا التسبّط ، وكانت 18أ الشعراء تضف المازر ؛ تنزيها لألفاظها عما يُستبشع ذكره ، حتى تخطَّى هذا الشاعر المطبوع إلى التصريح الذي لم يهتد له غيره ، فقال :
إِنّي عَلى شَغَفي بِما في خُمرِها لَأَعِفُّ عَمّا في سَراويلاتِها (1)
وكثير من العهر أحسن من عفافه .
... هذا ما لو أتيت بنظائر ما أخرجت من شعره لأضجرت القارئ ، وأمللت السامع ، وإن دام هؤلاء الأغمار على النقار ، لم يعدموا المادة ، ولم يفقدوا الزيادة ، انتهى .
/ تمّ هذا الكتاب بعون الله تعالى وحسن توفيقه ... ... ... 18ب
في 15 جماد ثاني سنة 97
على يد كاتبه الفقير إلى الله
مصطفى فهمي الحلبي
وصار نسخ هذا الكتاب
من الكتبخانة الخديوية
الكائنة بسراي درب
الجماهير
وصلى الله
على سيدنا
محمد
وسلم
__________
(1) من الكامل ، ديوان المتنبي 1/230 ، وفيه : على سرابيلاتها .(1/57)