مَلْحَمَةُ الشَّام
لفضيلة الشيخ
سفر بن عبدالرحمن الحوالي
يا شام هل يحجز الأشواق قضبان ؟ ... أم يحجب الطيف أسوار وجدران
قد استوينا فكل رهن محبسه ... للظلم من حوله سوط وسجان
لنا إذا هبت الأنسام لاعجة ... من حرقة الوجد فالأكباد نيران
يغشى الأسى ناظرينا كلما ومضت ... في الأفق بارقة تخبو وتزدان
إذا تألق في عليائها أملٌ ... هوى إليه هوى وانساب ألحان
لا عتب أن فرقتنا للنوى سبل ... فالدهر ذو دولة والوصل ميان
وهكذا تنضب الأرواح نازفة ... بكل جرح مرارات وأشطان
لم يبق إلا صبابات نجاذبها ... لا ترتوى فالجوى باليأس حران
نباكر الغم في الإصباح متقداً ... وفي العشية آهات وأشجان
تطير أرواحنا شوقاً ولو قدرت ... طارت إليكم مع الأرواح أبدان
أنتم ندامى الهوى ما للهوى بدل ... منكم إذا سامر المشتاق ندمان
لسنا من الحب في شيء لو انصرفت ... عنكم صبابتنا أو ضل وجدان
نسلو الحياة ولا نسلو تذكركم ... وهل تداوى بغير الذكر ولهان
وحسبكم أنكم في القلب مسكنكم ... حيث الأسى راتع واليأس حيران
عسى تراسل أشواق يعللنا ... وربما خفتت بالشوق أحزان
أواصر الحب كل الحب تجمعنا ... رغم القيود أما قد قال حسان :
[ إما سألت فإنا معشر نجب ... الأزد نسبتنا والماء غسان ]
وكل ناعورة بالشام نادبة ... عهد الوصال فهل للهيض جبران
* * ... *
الله أكبر ! هذا الظلم فرقنا ... وللمقادير إيلاف وإظعان
كأنه لم يكن بالمرج مرتعنا ... ولم يكن في ربى جيرون جيران
ولم يكن في الثغور الغر مرصدنا ... وفي المضائق حراس وسكان
وفي السواحل نيران وأربطة ... وفي الجزيرة أحباب وإخوان
وفي المدائن أنساب مؤلفة ... وفي العشائر أصهار وأختان
وأعذب الحب ما كانت موارده ... بالقدس أواه هل للقدس نسيان
* * ... * *
يا شام يا معقل الإسلام ما ركضت ... بلق الخيول ومد الظل أفنان
إذا تضاءل هذا الحب عن بلد ... ففي مرابعكم فيء وأكنان
تالله ما الغوطة الغناء منيتنا ... وفي مسارحها للحسن غزلان
ولا رسوم لأجداد بساحتكم ... إذ كان يملكها أزد وزهران
ولا صبا بردى يسبي مشاعرنا ... لكنما حبكم دين وإيمان(1/1)
* * ... * *
من البراق أصول الحبّ قد بزغت ... وقد أضاءت لها بصرى وحوران
إذا سرى الطيف منكم وانثنى سحراً ... يهيج بالقلب للإسراء عنوان
لله حب رسول الله أسسه ... وهل لنا غيره أس وأركان
وقام من بعده الصديق يورده ... والشرق والغرب نيران وصلبان
بعزمةٍ عقد الرايات مرتقباً ... بشرى الرسول وأمضى وهو عجلان
وقال : (( إن لم نبادرهم بمعمعة ... تنسى الحلوم فلا كنا ولا كانوا ))
والدهر ما عزم الصديق مرتجف ... والأرض مائدة والبحر طوفان
إذا تحنن فالإعصار مرحمة ... وإن توعد فالأنسام حسبان
يعطي وليس لمخلوق عليه يد ... إنفاقه حسبة والعتق إحسان
دع ليلة الغار فالقرآن خلدها ... تقاصرت همم عنها وأزمان
* * ... *
والروم قد أثخنت في الفرس عن حنق ... فالشام قلب وباقي الملك جثمان
حلاوة النصر لازالت تداعبها ... ونشوة النصر في الطغيان طغيان
لكن قلب هرقل واهن وجل ... تصارعت فيه أنوار وأوثان
لديه من سابق الأخبار عن سلفٍ ... من النبوات آيات وبرهان
شمس الرسالة هذا حين مطلعها ... فلتبتهج بسنا الرحمن أكوان
"ساعير" و"الطور" للإسلام تقدمةٌ ... والنور تعلنه في الأرض "فاران"
والله يختار مما شاء مرسله ... والخلق ليس لهم رأي ولا شان
والملك في فرع إسماعيل منتقل ... حتماً ولو كرهت روم ويونان
ملك الختان بدا في الأفق شاهده ... فبان أن الملوك القلف قد بانوا
وأخمدت نار كسرى حين مشرقه ... واهتز بالشرفات الشم إيوان
تلا كتاب رسول الله في أدب ... وقال للروم والأرصاد حيطان :
(( هذا الرسول الذي كنا نؤمله ... العين نائمة والقلب يقظان
وهذه الشام للمبعوث عاصمة ... للسيف ظل وللزيتون أغصان
إن اتبعناه فالدنيا لنا تبع ... وسائر الناس خدام وولدان
وإن أبينا فأمر الله غالبنا ... وملكنا ضائع والسعي خسران ))
* * ... * *
نعمْ ! "هرقلُ" لقد أسمعتَ ذا صمم ... لو كان للقوم آذان وإذعان
أبت بطارقة الرومان موعظة ... وغلّ أحلامهم كبر وبهتان
والكبر ما كان في طياته حسد ... فشر وادٍ تردى فيه إنسان
إلا "ضغاطر " إن الله أكرمه ... وقال : (( يا قوم إن الحق فرقان(1/2)
محمد نحن في الأسفار نعرفه ... فكيف يوبقنا في الكفر نكران
تواترت عندنا أنباء بعثته ... فالخلق ينتظرون الإنس والجان
لولاه ما هاجر الأحبار واصطبروا ... على لظى يثرب والشام جنان
وللنبوة أعلام إذا نشرت ... أصغى وأبصرها بكم وعميان
وحي يصدق بعضاً بعضه أبداً ... توراة موسى وإنجيل وقرآن
والحق أوله مهد لآخره ... جبريل ناموسه والرُّسْل إخوان
تقدس الله أن يدعى له ولد ... أو أن يكون له ندٌ وأعوان
وكلكم عارف ما قلت فاتبعوا ... حكيمة النمل إذ وافى سليمان
فأشعياء حكى أوصاف طلعته ... كما حكى صورة بالرسم فنان
ودانيال فقد جاءت نبوته ... نصاً كما يبصر الإنسانَ إنسان
وفي المزامير يأتي أحمد فإذا ... كل الجزائر والأنهار خضعان
وسوف تُخدِمه أقيالَها سبأ ... وسوف تتحفه بالورد لبنان
ويهرع الناس نحو البيت عارية ... أطرافهم ولهم عج وألحان
تهدى إليه قرابين مقلدة ... تسوقها حسبة مصر ومديان
وفي شكيم له جيش ذوو غرر ... يقتص مما أراقت قبل رومان
وأرض بابل يعنو سحرها هلعاً ... إذا ترنم بالتهليل عربان
هم أمة الحمد والتكبير ديدنهم ... إذا علوا شرفاً أو لاح علوان
وفي النهار ليوث لا يساورها ... غمر وهم في ظلام الليل رهبان
هذا هو الملكوت الحق قد بزغت ... أنواره فالدجى المبهور وسنان
كأنني أبصر الأملاك تحمله ... وهم صفوف لمبداه وفرقان
وذا المبارك باسم الرب مقدمه ... بنوره محفل الأملاك زهوان
تمت على الحجر المرفوض نعمته ... فصار تاج الذرى والدين بنيان
أيخفض الله بنياناً ونرفعه؟ ... ويصطفي الله مختاراً ونختان
ويبتلي الله تقوانا فيلبسها ... من التعصب إغماط وشنآن ))
* * ... * *
فمزقوه وقد كان الإمام لهم ... لكن تملكهم بغي وأضغان
كانت دمشق ترى هذا وتسمعه ... كذاك أصغت لقول الحبر جولان
وكل مؤتمر في أي محتضر ... غير السقيفة أسمارٌ وبطلان
بكى هرقل ولكن كان ذا جلد ... وقال قولة نصح وهو لهفان
(( يا أيها الروم إن لم تسلموا فلنا ... في الصلح خير وبعض المر حلوان
وملك أحمد حد الشمس مبلغه ... والترك من جنده والصين أقنان(1/3)
وسوف تسجد روما وهي صاغرة ... مهما تقادم أجيال وأزمان ))
قالوا : أندفع للأعراب جزيتنا ... أبناء هاجر هم للروم عبدان
فقال : (( يا ليتني عبدٌ لأعسفهم ... ملكاً ولا ملك لي فيكم ولاشان
وكنت ألثم من خير الورى قدماً ... يحيى بقبلتها روح ووجدان
وقد تمنى مسيح الله خدمته ... وحمل نعليه والإنجيل برهان ))
* * ... * *
ثم انثنى من وراء الدرب مكتئباً ... إذ أقبلت لجنود الله فرسان
وكان ما كان مما الدهر سجله ... وشاهدت آيه حمص وبيسان
ملاحم الحق واليرموك رايتها ... فاضت بها من روابي الشام شطآن
وكلما أوقد الرومان ملحمة ... هوى لنا شهب وانقض عقبان
جئنا صقوراً على شقر مضمرة ... وهم على الدهم يوم الروع غربان
قد انتضينا سيوف الحق ليس لها ... في النقع إلا جسوم الروم أجفان
وللبطولات أصداء مزلزلة ... سارت بها في فجاج الأرض ركبان
فما تظن بجيش في ذؤابته ... أصحاب بدر وسيف الله أركان
ملائك الله بالإرعاب تنصرهم ... لهم من الذكر أحراز وأحصان
تمضي القرون ونون الدهر عاجزة ... عن كتب أمجادهم والسطر عيان
* * ... * *
ودِّعْ - هرقلُ - وداعاً لا لقاء له ... ضاع الهوى فقد الأحلام هيمان
ودع على حسرة ما كنت تعشقه ... مراتع العز حيث الملك جذلان
غال الحقيقة قوم أُترعوا بطراً ... كما قد اغتالها في الدير رهبان
فاقنع بمشطور ملك الروم ما بقيت ... من البطاقة أطلال وعنوان
ومن يعظم رسول الله يجز به ... دنياً إذا فاته دين ورضوان
والحمد لله صان الله ملتنا ... من مثل ماعاث "قسطنطين" أو جان
وأورث الله أرض الأنبياء لنا ... والسيف للسيف أكفاء وأقران
والروم ما شئت من رأي ومن عدد ... لكنما الأمر توفيق وخذلان
وإنما خذل الرحمن مجمعهم ... كيلا يمن على الإسلام منان
وكي يظلوا عدوا دائمًا أبداً ... لايستكين لهم حقدٌ وأضغان
* * ... * *
والشام بالشوق قد أخفت شماتتها ... والحب يوقده للصب كتمان
يا شام قد لاحت البشرى على ظمأ ... واستشرف الفجر أكمام وسيقان
حان اللقاء فتيهي وارقصي جذلاً ... فموكب الشوق للأعراس بستان
أبو عبيدة والتقوى تجلله ... هشت لملقاه آكام ووديان(1/4)
وعانقته دمشق وهي غارقة ... في سكرة الحب والمشتاق نشوان
قالت : ((ألا أرتوي من مبسم سقطت ... منه فدى لرسول الله أسنان
هذا العفاف وهذا الزهد أذكرني ... يحيى الرسول فقل لي كيف أزدان
يا حبذا النور نور الله يغمرني ... وحبذا الجند جند الله من كانوا
هذا الحواري لاما كنت أحسبه ... إذ للنواقيس في الأرجاء إعلان
هذا الأمين كنوز الأرض تطلبه ... وكم سباها من الأحبار خوان ))
والزهد في الفاتحين الغر منقبة ... ما نالها قط عربيد ودنان
سل الفتوح التي كانت شريعتها ... ما سار "اسكندرٌ" أو سن "ساسان"
يا من وساد ته ترس ومسكنه ... خص ومزوده ملح وأشنان
ما الشام قبلك إلا مقبر خربٌ ... تناثرت فيه أشلاء وأكفان
نور من الرحمة المهداة مقتبس ... أضاء والشام أدغال وغيران
إذا تزينت الدنيا بكى فرقاً ... متاعها عنده زور وبهتان
* * ... * *
رديفه سيد الفتيان قاطبة ... من حشو بردته علم وإيمان
أغر أبيض يحكي البرق مبسمه ... وكل منطقه در وعقيان
الذاكر الله إن قاموا وإن هجعوا ... الذكر روح له والصوم ريحان
قل يا معاذ فأبنائي تلامذة ... إذا نطقت وزهر الربع آذان
* * ... * *
وهامت الشام شوقاً أن ترى عمراً ... هو الزعيم وهذا الصحب أعوان
يا شام قد أقبل الفاروق فابتهجي ... فالجو من عبق الفاروق ريان
والأرض تهتز رعباً من جلالته ... ومن مهابته في السحب رعدان
سكينة الحق تعلو وجهه أبداً ... فلا يواجهه في الدرب شيطان
وأينما سار في مغناك موكبه ... طابت بممشاه أعطاف وأردان
محدَّث ملهمٌ جمٌّ مناقبه ... العبقرية من سيماه تزدان
أستغفر الله هل شعري يحيط به ... وصفاًولو أن هذا البحر ديوان
وهو الذي طالما جادت فراسته ... رأياً فوافقه بالوحي قرآن
يا حظ "جابية" بالركب قد شرفت ... وسائر الشام إصغاء وإذعان
هنالك ارتجل الفاروق رائعةً ... فيها من الحق دستور وتبيان
جلَّى من الخطة البيضاء منهجها ... هو اجتماع وإخلاص وإيقان
* * ... * *
وفجأة ضج هذا العرس وانقلبت ... أفراحه مأتماً تغشاه أحزان
نادى بلال فأبكى الشام قاطبة ... الصوت مختنق والحلق غصان(1/5)
أثار ذكرى رسول الله فانتحبت ... وهل لذكرى رسول الله سلوان
لم يستطع لاسمه لفظاً وحق له ... إذ لوعة الحزن في الأحشاء نيران
فتلك أصداؤه في الشام ما سكنت ... السهل مستعبر والسفح حنان
من كان في الملأ الأعلى أحبته ... فلا يعلله في الأرض خلان
رمضاء مكة تتلو بعده "أحد" ... و" الله أكبر " في الآفاق رنان
وصخرة القدس تدري أن فارسها ... نظير يوشع لاروم وكلدان
لما تسلمها الفاروق طهرها ... كما على الطهر أبقاها سليمان
* * ... * *
يا فاتح القدس إن القدس قد سلبت ... وغالها بعدكم "ليفي" و"دايان"
وباعها الزمرة المستسلمون كما ... باع الحطيم بزق الخمر "غبشان"
الله والناس والتاريخ يلعنهم ... فهم على الذل أعيار وأنتان
لا دينَ لا غيرةٌ لا عقلَ لا رشدٌ ... العار مكسبهم والدرب غيان
على اليهود هم الأغمار خانعة ... لكن على قومهم عبس وذبيان
الخزي والخسر والشحناء ديدنهم ... لا يستقيم لهم أمر ولا شان
محض العداوة للإسلام يجمعهم ... وهم من الكفر أصناف وألوان
ولا تراهم على خير قد اتفقوا ... وهم على الشر أنصار وأعوان
مما أراقوا ومما أهدروا وطغوا ... ضجت إلى الله أفواه وأوطان
كل القداسات داسوها بأرجلهم ... باسم السلام وكم ذلوا وكم هانوا
حادوا عن الرشد قصداً واستبد بهم ... في لجة التيه إيغال وإمعان
* * ... * *
أعفّ عن ذكرهم إذ نحن في سمر ... عن الأُلى ذكرهم روح وريحان
صحابة المصطفى خير الورى أثراً ... ما رام منزلهم إنس ولا جان
لهم أحاديث في الإخلاص لو قرئت ... على الجلاميد أمست وهي كثبان
لو لا الرسول لما كانوا أساتذة ... والناس من حولهم للمجد صبيان
هم زينة الدهر والتاريخ يلبسهم ... تاجاً يرصعه در ومرجان
لولا الرسول لما كانوا عباقرة ... فالوحي للفطرة الصماء بركان
هم الهداة الأُلى من نور حكمتهم ... عم الحضارة إنصاف وعرفان
* * ... * *
إن الحضارة روح ليس ما نحتت ... من التماثيل يونان ورومان
أين التسامح أين العدل إن صدقوا ... أين المواثيق هل للكفر ميزان
تلك الشعارات زيف يخدعون به ... وهم على الظلم والعدوان أخدان(1/6)
أين المآذن في أرجاء أندلس ... إذ ظل بالشام أديار وصلبان
إنا على العهد لانختان ذمتنا ... ولا نجور وإن جاروا وإن خانوا
منّا تعلَّمتِ الدنيا كرامتها ... إذ الفرنجة قطعان وغيلان
متى رعوا حرمة أو راقبوا ذمماً ... روس وصرب وإيطال وأسبان ؟!!
العدل في القول والأحكام شرعتنا ... إن الهوى للضمير الحي فتان
هم أمنع الناس من ظلم الملوك لهم ... إلا علينا فإن الظلم إحسان
وإن تر الروم فيما بينهم عدلوا ... فهم على غيرهم بغي وعدوان
فانظر لأذنابهم في الشرق إن حكموا ... روم ولكنهم سمر وسودان
وإنما اقتبسوا من ضوء سيرتنا ... ما أيقنوا أنه للملك أركان
لولا المساواة والشورى لما غلبوا ... ولا استقر لهم في الأرض عمران
ونحن لما انحرفنا صار حاضرنا ... في الجاهلية حالاً كالذي كانوا
نقدس "الفرد " أياً كان منهجه ... "الفرد " نصب وكل الناس سُدّان
فدينهم دينه والشرع شرعته ... ولغوه سنّةٌ والأمر قرآن
* * ... * *
يا شام معذرة زاغ الحديث بنا ... والهم في النفس أشتات وأشجان
أكْرِمْ بقوم شروا لله أنفسهم ... فالملك عارية والروح قربان
نالوا الشهادة إذ قامت وسائلها ... بكل جنب فطاعون وطعان
في المرج رهط وفي عَمْواس طائفة ... حُمَّ القضاء وما للقوم أكفان
ما مات قوم أبو الدرداء خَالِفُهم ... أنسى بحكمته ما قال لقمان
سل قلعة النصر والإصرار هل بقيت ... من آل حاميم أصداء وبنيان
إذ جاء من طيبة الغراء مصحفها ... لما اعتنى بكتاب الله عثمان
الله يجزيه خيراً ما سمى أحد ... وما تألق بالترتيل نعمان
لولاه كنا كأهل الدير إن قرأوا ... "متى" يكذبه "يوحنا" و"سمعان"
هذا الحكيم أبو الدرداء يقرئه ... والناس للمشرع المورود زلفان
معلم الخير بالإحسان يذكره ... في البر نمل وفي اللجات حيتان
بكت دمشق زماناً من مواعظه ... وفي القلوب ينابيع وصلدان
وإن ألمت به في الرأي معضلة ... يمده خابر الأديان "سلمان"
القول إن قال أمثال مصرفة ... والفعل للمقتدى هدى وإحسان
يجلو قلوبا ًيغشِّى الران رونقها ... ويرتقي بالتي في نورها غان
* * ... * *(1/7)
والتابعون من الآفاق قد وفدوا ... أزد وقيس وأنمار وخولان
فللجوامع أحبار محلقة ... وللرباط صناديد وفرسان
حياك يا أمة التوحيد ما طربت ... ورق وما ثملت بالشدو أفنان
ولى هرقل وولاها معاوية ... فعلَّم الروم أن اليأس سلوان
الحلم شيمته والغزو همته ... أرسى السفين كأن البحر قيعان
ما بين شاتية تغدو وصائفة ... ما فل عزم ولا وافاه خذلان
والصافنات أبو أيوب يزجرها ... وللمنايا أخاديد ٌوخلجان
يا أشرف الصحب داراً طاب مضطجعٌ ... بساحة الروم نائى الدار ضحيان
جعلته معلماً يذكي عزائمنا ... إذا تخبطها دنيا وشيطان
ثم انبرى الخثعمي الشهم يوردها ... أصفى الموارد عزاً وهو نهلان
لله هذا الفتى ما كان أعظمه ... لانت صخور الرواسي وهو صوان
ستون عاماً قضاها في مرابطه ... لم توقد النار إلا وهو يقظان
وفي جنادة للأعداء مأسدة ... والغامدي الأبي القرم سفيان
وهل رأيت حبيباً حبه لهب ... إذا أديرت رحاها فهو طحان
يا شام ساء صباح الروم قد نزلت ... بساحة الروم أهوال وشجعان
ما أصبحت بالكماة الشم مترعة ... وعسها الليل ألا وهي جبان
* * ... * *
وظل ديدننا هذا وديدنهم ... حتى اعترانا البلى والسعد ظعان
هنا استبدت بنور الحق غاشية ... وسنة الله أن الزيغ غشيان
ومن يزيد إلى الحجاج ما فتئت ... تشكو من الظلم أنحاء وأعيان
والظلم شؤم وشر الظلم ما ولغت ... فيه الملوك وأثرى منه سلطان
والناس إن بايعوا والسيف يخفقهم ... فلفظهم مادح والقلب لعان
والناس تخدع من بالزيف يخدعها ... تطيعه صورة والسر عصيان
والكسروية في الإسلام محدثة ... أكلما مات حرب قام مروان
وفي أمية للإسلام مأثرة ... كما لهم ثلمة والله ديان
إن كفَّر الله عنهم بعض ماعقدوا ... واستأثروا فبما أمضى سليمان
لكن للعدل كرات وإن ندرت ... تذكر الناس بالشورى متى بانوا
* * ... * *
وكان أول وعد صادق عمراً ... تبارك الله عين العدل إنسان
الراشد الماجد الميمون طائره ... عليه من سمة الفاروق تيجان
فاعجب له عمراً يقفو خطى عمر ... كما همى صيِّبٌ يتلوه هتان
يا واعظاً وعظ الدنيا بسيرته ... روح من الرشد لاحيف وإدهان(1/8)
والظالمون لهم يوم سيفجؤهم ... إذا تسربلهم نار وقطران
* * ... * *
تاريخنا هكذا حيناً عمالقة ... غر وحيناً طواغيت وأوثان
هذا يبيت ثقيلاًمن مظالمها ... وذاك للرد والإنصاف سهران
وكم توثب فينا ثعلب خَتِلٌ ... ودبر الملك قينات وخصيان
وكم تحكم باسم الدين طاغية ... وكم تحكم باسم العلم كهان
وكم رأيت دعاة الحق يقذفهم ... بلعام واستخدم الأشراف دهقان
إذا تأله فرعونٌ على ملأ ... فهل يلام على الإفساد هامان ؟
وأغفل الناس من تغلي رعيته ... غيظاً ويحسب أن الصمت إذعان
والناس ينسون إلا من يجرعهم ... مرارة الظلم ما للظلم نسيان
يدسه الجد للأحفاد مستعراً ... والأم ترضعه والثدي لقان
إذا الفراعين سنوا الظلم فلسفة ... تلطخت فيه أقلام وأذقان
باسم السياسة حل الظلم بل نسخت ... من الشريعة أعلام وأمتان
الرعب يستلب الأحلام يقظتها ... وبهرج الزيف للأنظار دخان
* * ... * *
ومرَّ دهر ودنيا الشام خاملة ... منذ استبدت برأس الأمر بغدان
حتى اقتضت سنة الرحمن أن طرقت ... أبوابها من جيوش الكفر صلبان
وما الفرنجة إلا معشر همج ... أخنى عليه دهور وهو وسنان
والدين للناس مفتاح يحركه ... باسم التعصب صديق وشيطان
وربما اعتذر الشيطان ـ سيدهم ـ ... مما افترى "بطرس" وأفتات " أُربان "
* * ... * *
والترك لما تخلى العرب قد ورثوا ... عبء الجهاد فما هانوا ولا لانوا
شجاعة الترك بالإسلام قد زكيت ... ليست كما ربها خان وخاقان
هم المغاوير لا ريث ولا وجل ... هم العماليق خيال وسفان
لا ترتوي من دماء الروم أنفسهم ... بل نابهم لهث عنها وإدمان
فإن شككت فسل عنهم عطارفة ... لما تعاورها روس وشيشان
هم وحدهم قد أذاقوا الروس ملحمة ... والروس للغرب كل الغرب أقران
والشام أبطالها من حاط ساحتها ... ولا تبالي متى جاءوا ومن كانوا
* * ... * *
وهكذا جاء نور الدين فابتهجت ... في السهل عرس وفي الأبراج أحضان
أتى إلى حلب الشهباء ينقذها ... إذ كان لطخها بالرفض رضوان
وجاء بالسنة الغراء يبعثها ... هداً لكفر العبيديين إذخانوا
خمسون حصناً بحد السيف حررها ... وكلها بالعلوج الشقر ملآن(1/9)
قد عاهد الله أيماناً مغلظة ... وهو الصدوق وإن لم تعط أيمان
ألا يرى ساعة في الدهر مبتسماً ... ولا يقر له حال ولا شأن
مادام في حوزة الكفار مسلمة ... يسومها الفحش دعار ومجان
ولا يظلله سقف ولا كنف ... ما قام للسيف إعمال وإثخان
ما نال من بيت مال المسلمين يداً ... وإنما رزقه بالوقف دكان
وزوجه تنسج الأستار صائمة ... نهارها وهي للإفطار أثمان
دار الحديث بناها فهي سامقة ... والعلم أس وباقي الأمر بنيان
ألغى المكوس وأقصى من تأولها ... والسحت مهما طغى غبن وخسران
والعدل والنصر مصفودان في قرن ... ومنتهى الظلم إدبار وخذلان
شر الملوك الذي يختان أمته ... في رزقها فهو مكاس ومنان
قل للمرائي بلا جهد ولانصب ... أقصر ـ لُعنت ـ فخير منك قزمان
* * ... * *
وحسب محمود الأواب مفخرة ... أن الرسول أتاه وهونعسان
وقال شأنك والعلجين إنهما ... راما أذاي كما يندس ثعبان
فجاء طيبة يحدو العيس جاهدة ... وأحبط المكر فوراً وهو غيران
وحاط أطهر رمسٍ من قواعده ... فالردم من آنك والقطر أركان
تباً لروما فقد شابت ذرى أحدٍ ... لمكرها واقشعرت منه لبنان
* * ... * *
واعجب وإن شئت قل لي كله عجب ... لمنبر صاغه تقوى وإيمان
عشرون عاماً ونورالدين يحمله ... وللمهندس تجديد وإتقان
من العراق إلى الأعماق يصحبه ... وما رقاه – على الإطلاق- سحبان
والجيش يسأل هذا ما يراد به ؟ ... إذ جاز في الشرع للإحسان إعلان
وإنما كان نذراً لايبوح به ... للقدس أواه هل للقدس جيران
قد رام أمراً فكان الموت سابقه ... ونية الخير بالإنجاز صنوان
وهذه الأمة العصماء ما شهدت ... إلا بحق وفي الأخبار تبيان
باسم الشهيد لنور الدين قد لهجت ... وللكرامات في الأرواح وجدان
ومن أتى الله بالإخلاص أورثه ... لسان صدق وعقبى الذكر رضوان
* * ... * *
مرحى فهذا صلاح الدين ينجزه ... نعم الخليفة للإسلام معوان
أقام حطين في التاريخ ملحمة ... يشدو بها في فضاء الدهر أكوان
يا فارس القدس أرض الفتح تُقْطِعُها ... وما لنفسك مثل الجند بستان ؟
كم مات من هو أدنى منك مملكة ... وكنزه العين أحمال وأطنان(1/10)
وأنت ترحل لا كنز ولا نشب ... ولاعقار ولاقصر ولاخان
المال كالعمر في درب الجهاد مضى ... فيء ووقف وأنفال وسلبان
نفسي فداء يمين منك قد فلقت ... بالسيف "أرناط" والمنذور عطشان
لو افتدى بكنوز الأرض ما قُبلت ... إن نال عرض رسول الله فتان
أسرت أقيال أوربا وتعتقهم ... فشأنك الدهر غلاب ومنان
أخلاقكم هزمتهم قبل رايتكم ... فهل تزكى بريطان وألمان
لايُبعد الله عكا إنها شهدت ... أن الوفاء مع الأنذال خسران؟
* * ... * *
إذا قدرنا فإن الصفح شيمتنا ... وهم إذا قدروا غدر وختلان
وحيثما لاح في أرجائها ذهب ... أو أبصروا النفط فالقديس قرصان
"غورو" و"ريموند" و "اللنبي" وصاحبه ... كلٌّ على الغي سفاح وخوان
قوم تراهم وحوش الحرب ما غلبوا ... وهم إذا عجزوا للسلم حملان
ألا تراهم وقد قامت قيامتهم ... لما تطلع للإسلام بلقان
خاطوا الأحابيل باسم السلم واجتمعت ... رغم العداوات أحلاف وأديان
لادين للغرب إلا حرب ملتنا ... وما عدا ذاك لا تسأل بما دانوا
يأبى السلاح ويعطي القوت تعمية ... فالقوم صنفان جزار وتبان
وهيئة الأمم النكراء مسرحهم ... ومن وراء خيال الظل أرسان
ونحن نشكو إلى الجزار خادمه ... كيلا يقال " أصوليون " " أفغان "!!
* * ... * *
الشام أكثر أرض الله معرفة ... بغدرهم إذ غزاها منه غزوان
ومثلهم ما تغشى الشام من محن ... لما تجبر هولاكو وقازان
وأقبل الجحفل الجرار من تتر ... كأنما أُشعلت في الأرض نيران
ولم تر الشام من يحمي محارمها ... بل فر بالخزي نواب وسلطان
فقام بالأمر حبر الدهر أجمعه ... دمشق مدرجُهُ والأم حرَّان
قام ابن تيمية في نصر ملتنا ... كصاحب الغار والردات ألوان
ما شاءت الشام من سيف ومن قلم ... ما يشتهي المجد مغوار وميزان
الجهبذ البارع الماضي مهنُده ... لمنهج الوحي حفاظ وصوان
الفلسفات تهاوت عند صولته ... كما تهاوى أمام الضيغم الضان
وحطم المنطق المفتون ناظره ... وكل ما أسست للشرك يونان
وللنصارى صراخ عند جولته ... وللروافض نوَّاح وأنَّان
وللتصوف أرصاد مسننة ... مثل الشهاب إذا ما ند شيطان(1/11)
إذا تأنق في المنقول مجتهد ... وإن تعمق في المعقول ربان
كم جاء من بعده في العلم من علم ... فلم يقاربه فيما رام إنسان
والكل من بحره الزخار مغترف ... تفيض منه الروايا وهو ملآن
"درء التعارض" و"المنهاج" شاهدة ... وفي "الجواب "أعاجيب وبرهان
وفي الفتاوى كنوز طاب معدنها ... وفي " البيان " على التعطيل بركان
وفهمه في كتاب الله معجزة ... تحيّر العقل تأويل وتبيان
والفقه بالحجة البيضاء حرره ... فقوله الفصل والمعيار قبّان
ماذا تُعدِّد من جُلَّى مناقبه ... وهل يقوم لموج البحر حسبان
* * ... * *
وهكذا الشام ما شاخت ولا عقمت ... إذا تدفق بالإسلام شريان
عهدي بها وعرى التوحيد تجمعها ... وشأنها اليوم أحزاب وأديان
فللنصارى حكومات وألوية ... وللقرامطة الأنتان سلطان
وللدروز بروز في محافلها ... وللروافض نواب وأعيان
أما اليهود فقل عنهم ولا حرج ... الدهر يعجب والتاريخ سكران
لولا حجارة أرض الطهر ما عرفوا ... طعم العقاب ولا أصغوا ولا هانوا
ثارت تزمجر والتكبير يرفعها ... وهز نخوتها قهر وعدوان
هَبْ الحكومات بالإرهاب تخنقها ... أليس في صمتنا للرفض عنوان
ربائب الروم بالقومية استتروا ... خانوا الشعوب وهم لله خوان
يشكون بالذل مما سامهم "نتن " ... وهم من الأصل أعيار وأنتان
كم أضجر الناس عهد الشجب كم لعنوا ... أبواق من نددوا باللفظ أو دانوا
وللبيانات أسجاع مكررة ... يقيء منها على الإعلام أذهان
ثم انتكسنا فلاشجب ولاأمل في ... الشجب فالأمر تهويد وإذعان
أستغفرالله بل شجب وولولة ... إذا تخبط "رابين "و "كاهان "
وأصبح الهيكل الموهوم كعبتهم ... وشيكل النحس للبترول أثمان
والبعث لابعث بل خسف ومهلكة ... بئس الشعارات إلحاد وكفران
الكفر محكمة التفتيش تحرسه ... والناس صنفان ثوار وثيران
قامت على نحلة التثليث دعوتهم ... فللأقانيم أشكال وألوان
سودٌ خياناتهم حمرٌ جناياتهم ... وحسبهم إن إحداها "حزيران"
فروا وهم في ذرى الجولان – يا عجباً - ... من اليهود وهم في السهل ما بانوا
وأعلنوا أنها في يومها سقطت ... والساقطون هم الحكام إذ خانوا(1/12)
لم يسكتوا وضباب الرعب يغمرهم ... عند النزال ولاهم للحمى صانوا
وللعمائم تطبيل وبهرجة ... يغار إبليس منها وهو فتان
وربما أخَّر الدجال مخرجه ... إذ لا مكان له والقوم جيران
* * ... * *
أهذه الشام أم عيناك زائغة ... وربما زاغ طرف وهو يقظان
وشْيٌ بديع كسوناه حضارتنا ... كيف انطوى فهو أطمار وخلقان
فانفض يديك من الدنيا وزينتها ... فإنما هي أطياف وأطيان
واتل الرثاء على الأطلال مفتتحاً ... (( لكل شيء إذا ما تم نقصان))
مهما غلا الدمع فالمأساة ترخصه ... أو لم تجد فاستدن فالصب يدّان
أهل الصبابة دعواهم مُزَوَّقة ... لولا المدامع ما بروا ولا مانوا
واعجب لنا كيف صار الضيم يجمعنا ... فنحن في القيد أقران وإخوان
وانظر إلى موطن الأبدال مرتهناً ... يلهو بمغناه دجال وزفان
يقول يارب هذا الليل أثقلني ... فهل له آخر بالفجر مزدان
وهل إلى رمق بالبشر معتنق ... يزفه مورد بالعز ريان
أو تنقضي هذه الأحشاء ذاوية ... وتنضب الروح والمشتاق ولهان
* * ... * *
لا، ليس لليأس درب في مشاعرنا ... مهما تناوب للأرزاء حدثان
بقية السيف بالأبطال ممرعة ... والثأر جرح فإعصار فطوفان
وللبطولة عشق لا يبدده ... وصل ولا يعتريه الدهر سلوان
وللعقيدة آساد مشمرة ... لكن تكنفها قهر وطغيان
هم الأحبة إن زاروا وإن هجروا ... هم الأخلاء إن حلوا وإن بانوا
أرض البطولات يا اسمى معاقلنا ... إذا (ألمَّ بدين الله ) عدوان
ذات القرون إذا حانت ملاحمها ... ففي رحابك فسطاط وميدان
نجوز تيه الفيافي كي ننازلها ... ونمتطي البحر نصوا وهو هيجان
ونركب الخيل عريا وهي حانقة ... وللمنايا كلاليب وأشطان
نقارع الموت والأهوال محدقة ... ونعتلي الريح والأجواء نيران
أتعجبين لأن الكفر أوثقتنا ... حينا وقد شهدت بالنصر أحيان
أم تجزعين لأن الظلم فرقنا ... أللمشاعر حراس وخزان ؟!
هذي الحدود رماح في محاجرنا ... فليزعموا أن هذا القلب أوطان
من وقعوا "سايكس بيكو" وإخوتها ... متى اعترفنا بهم ؟! هل نحن قطعان
الحمد لله حبل الله يجمعنا ... فلا تفرقنا قيس وقحطان(1/13)
أم تعتبين فبعض الصفح موجدة ... للمستهام وبعض العتب غفران
والله لا نستقيل الحب ما برحت ... منا على البعد أكباد وأجفان
فليكتب الأرز ولتملل ضمائرنا ... ما شئت من موثق وليشهد البان
~ ~ ~ ~ ~ ~ ... ~ ~ ~ ~ ~ ~(1/14)